وقد ورد في دابة العنبر حديث صحيح وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاث مائة رجل سرية وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه فأجهدهم الجوع حتى أن الرجل كان يقتات في اليوم والليلة بتمرة واحدة فبينما هم يسيرون على ساحل البحر إذ أصابوا دابة العنبر مثل الكثيب الأضخم ميتة فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وكانوا يغترفون من وقب عينيها الدهن بالقلال، وأخذ أبا عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في الوقب، واخذ ضلعا من أضلاعها فنصبه ثم ادخل اعظم بعير واركبه أطول رجل وأمره يدخل تحت الضلع فلم يبلغ رأسه منقعره. ولما رجعوا تزودوا من لحم السمكة حتى أوصلتهم إلى المدينة. فلما قدموا حكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رزق ساقه الله إليكم. فهل معكم شيء فتطعمونا؟ فأرسلوا إليه منه فأكل.
وقال قوم: أن العنبر زبل هذه الدابة. صفحة 133 - 134 من كتابه (نخبة الدهر وعجائب البر والبحر) المطبوع في بطرسبورغ سنة 1281هو1865م.
ومن نصه نفهم امتياز العنبر الذي يلقى على الشاطئ الحظرمي على غيره.
وللمسعودي إشارات إلى مرامي العنبر بالشواطئ الحضرمية والإبل المعنبرة فليراجعها من أحب.
ولا أعرف عن الإبل المعنبرة شيئا اليوم. أما مرامي العنبر فلا تزال القياطس البحرية تكرم شواطئنا الحضرمية بمبراتها الودية في كل حين.
وهذه الإبل المعنبرة هي التي أشاد بذكرها التاريخ في سرعة السير كما تحدثت عنها الأسفار الأدبية. قال البعيث الحنفي:
وهاجرة يشوي مهاها سمومها ... طبخت بها عيرانة واشتويتها
مفرجة منفوجة حضرمية ... مساندة سر المهاري انتقيتها
فطرت بها شجعاء قرماء جرشعا ... إذا عد مجد العيس قدم بيتها
وجدت أباها رائيضيها وأمها ... فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها
وقال جرير:
وكيف ولا اشد حبال رحل ... أروم إلى زيارتك المراما
من العيدي في نسب المهارى ... تطير على أخشتها اللغاما(690/30)
وتعرف عنقهن على نحولٍ ... وقد لحقت شمائلها انضماما
وقد غالى في القول أبو الشمقمق وجاوز الطرف إذ جعل نعليه تسابق الإبل المهرية على شدة سرعتها في السير، ولندعه يحدثنا كما شاء له ظرفه وأدبه قال:
رحل المطي إليك طلاب الندى ... ورحلت نحوك ناقتي نعليه
إذ لم يكن لي يا يزيد مطيتي ... فجعلتها لك في السفار مطية
تحدى أمام اليعملات وتفتلي ... في السير تترك خلفها المهرية؟!
من كل طاوئة الصُوى مزورة ... قطعاً لكل تنوفة روسيه
فإذا ركبت بها طريقا عامراً ... تنساب تحتي كانسياب الحية
لولا الشراك لقد خشيت جماحها ... وزمامها من أن تمس يدي؟!
تنتاب أكرم وائلا في بيتها ... حسباً وقبة مجدها مبنية
أعني يزيدا سيف آمحمد ... فراج كل شديدة مخفيه
يوماه يوم للمواهب والندى ... خضل ويوم دم وخطف منيه
ولقد أتيتك واثقا بك عالما ... أن لست تسمع مدحة بنسيه
ويقصد الشاعر بيزيد: يزيد بن المؤيد الشيباني، وكان واليا على اليمن.
علي عبود العلوي(690/31)
دعبل الشاعر الشجاع الوفي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
يتربص الرجل أن تضع زوجه حملها ليتخير لوليدها احسن الأسماء، فإن كان من التقاة الهداة تيمن باسم من يرى فيه الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، وان كان من الأثرياء أو السراة دارت بخلده أسماء الأغنياء والأشراف ينتقي منهم من يرى مسماه المثل فيما يستهويه، ولا احسب والدا أو والدة يختاران لوليدهما اسماً قبيحاً أو لقبا مستهجنا لا سيما والأسماء بغير ثمن، إلا إذا جاء ذلك ساعة دعابة أو مرح أو عقب واقعة أو حادث كأبي الشيص وخندف وثعلب وغيرها من الألقاب والكنى والأسماء.
وإذن فلم سمى أبو دعبل ابنه بهذا الاسم؟ ألأنه رأى فيه منة وصلابة؛ حتى انه ليشبه الناقة القوية الضارعة؟ أو لأنه لاحظ المنفعة والفائدة، فللناقة لدى العرب من الفوائد مالها، فهي عماد حياة العربي، كما إن الثور كان قديما رأس مال المصري. لعل أبا دعبل لاحظ الأمرين معا؛ فقد كان دعبل قوي الأسر طويل الجسم، ولا بد أن يكون قد توسم فيه سراوة طبع وصفاء ذهن، أو على الأقل هذا ما يراه كل والد في ولده متى أهل، فكرمه بهذا الاسم. ولقد وصف العرب الناقة ومنحوها من الصفات والنعوت ما أفعمت به أشعارهم، وهذه معلقة طرفة ابن العبد ابرز محاسنها وصف ناقته وصفا دقيقا في نحو ثلاثين بيتا، فلم يترك عضوا إلا أبدع في تصويره؛ فمن ذلك قوله يصف خدها وعينيها ولعلهما اقل أعضائها حسنا:
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يحرد
وعينان كالماويتين استكنتا ... بكهفي حجاجي صخرة قلت موردي
وننتقل من سبب تسميته إلى حياته ونشأته الشعرية التي تبين صفتيه اللتين سنتحدث عنهما.
ولد دعبل في العصر الذهبي لدولة بني العباس، فالملك ثابت الأساس موطد الاركان، لا يعرفون لبني أمية شأنا ولا يخافون من بني عليّ نقضاً، فالأولون قبع بعضهم في دورهم يبغون نجاة ويطلبون سلامة وأمناً، وبعضهم هجر جزيرة العرب، ونزح من المشرق إلى المغرب؛ فأسس ملكا وبنى دولة، وأما الآخرون فاكتفوا بتلك الإمامة الوهمية يتوارثونها(690/32)
إماما عن امام، وشب دعبل عن الطوق، واصطنع الشعر يعرضه على شعراء عصره، وكان مسلم بن الوليد أدناهم إلى نفسه؛ فما زال هذا شأنه حتى أمره أستاذه بإذاعة شعره؛ لأنه آنس منه إجادة، ورأى فيه روعة، وكان أبدع ما انشد ما قاله في مدح آل علي وذكر مناقبهم، وتعداد آثارهم، ورثاء قتلاهم، والتحسر على صرعاهم حتى صار بحق شاعرهم الذائد عن حياضهم، والثابت على ولائه لهم، لا يخشى في حبهم لوما ولا يخاف من إعلانه سخطا، بل هو بادي الخلفاء العداء، فالملك لله وحده، وأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة؛ فماذا يبعث في نفسه الهلع وهو ينصر آل الرسول؟ ولكن أليس الرعديد الخوار قرأ هذه الآية كما قرأها دعبل؟ لقد قرأها ولكن هلعه أنساه إياها، وذكره بقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فهو يتقي الشر ويتحاشى أن يقع فيه، ولكن دعبلا كان يرى في نصرة آل علي يدعو لله ويدفع عن آل رسول الله، فإن فاته زخرف الدنيا؛ لم يفته اجر الآخرة؛ إلى انه يتصف بخلال نبيلة عدا الشجاعة في الحق، والجرأة في الذود عنه شجاعة وجرأة يحسبهما الجبان طيشا وحمقا ويراهما الشهم النبيل رجولة ومنة، ولله قول القائل فإنه ليصور في وصفه دعبلا:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
كانت حياة دعبل أصدق مثل على أن الآجال موقوتة لا تستأخر ولا تستقدم، فإنه عادى أولي البطش والطول، وبادي البغضاء ذوي القوة والحول عداوة لدودة لا تعرف هوادة، يذمهم ويقذع في ذمه، ويهجوهم ويفحش في هجوه، غير عابئ بما قد يصيبه فأرض الله واسعة وإذا قلته دار أقلته ديار، وحسبه أن يجد من يقاسمه زاده ويشاطره رأيه، روى عنه انه قال: (لي خمسون سنة احمل خشبتي على ظهري أدور على من يصلبني عليها فلا أجد من يفعل ذلك).
والسر في شجاعته انه كان أول أمره وبدء نشأته من قطاع الطريق وولغة دماء البشر، ويميل إلى إشهار الشر، ورفع يد البغي في وجوه من يحاولون مساءته، قال له أبو خالد الخزاعي: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد، ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله طريد شريد، هارب خائف، فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك؟ فقال له: ويحك! إني تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على رهبة، ولا يبالي(690/33)
بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة، ولم يكن ذلك فيه انتفع بقوله، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المفرع أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. وقال أبو خالد. فضحكت من قوله وقلت: والله هذا مقال من لا يموت حتف أنفه!).
بهذه النفسية الحانقة على البشر كان يعيش، وبهذا المنظار الأسود الذي يرى به الناس صعاليك أوغادا كان يرى كثرة مباشريه ومعاصريه، فكيف يموت حتف انفه؟
لقد تحققت كهانة صاحبه، فقد مات مقتولا بعد أن طارده الخلفاء والوزراء، وانتهت حياته على يد اتباع مالك بن طوق أمير عرب الشام في قرية من القرى الأهواز اغتالوه بها، وانتقموا لعداته وهم كثرة منه.
وفي دعبل صفة أخرى غير الشجاعة، تلك هي الوفاء الصادق الذي لا يعرف فيه مينا، والإخلاص الراسخ لا يشوبه خداع أو ختل، وفاء لآل علي على ضعفهم، ونصرهم بشعره طوال حياته على غير خلق الشعراء، وليعذرنا سادتنا شعراء عصرنا الذين تستولي عليهم عواطفهم، وتتملكهم أهواؤهم، فمن اجزل لهم صلته حمدوه ومدحوه، ومن قبض دونهم يده نبذوه وذموه، وله في ذكرهم والإشادة بهم والتنبيه على شأنهم ووجوب إعظامهم قصائد رائعة وأبيات خالدة تدل على أن نظمه فيها كان صادرا عن شعور حار ووجدان متدفق وعاطفة حافزة، بل تدل على أنه كان رجل عقيدة ورأي وإيمان ومذهب، لا تأخذ منه زعازع أو أعاصير، ولا يبلبل إيمانه مآسي ومحن، ومن قصائده الباقية على الدهر قصيدته التي وهب له من اجلها على بن موسى الرضا عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه أريد على بيعيها بثلاثين ألف درهم، فأبى أن يساوم فيها، فقطع الراغبون فيها عليه طريقه ليأخذوها قسرا فقال لهم: (إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم). فدفعوا له فيها المبلغ السالف، فحلف إلا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه كما واحدا، فكان بين أكفانه، وأول القصيدة هو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات(690/34)
لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالركن والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر ... وحمزة والسجاد زي الثفنات
ديار عفاها كل جون مباكر ... ولم تعف للأيام والسنوات
ومنها:
ألم تر أني من ثلاثين حجة ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما ... وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد حفل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة ... وبنت رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم ... أكفاً عن الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد ... لقطع قلبي إثرهم حسرات
خروج إمام لا محالة خارج ... يقوم على اسم الله والحرمات
وهي قصيدة طويلة تسيل عيون أبياتها بالعبرات، وتصطخب أمواج بحرها بالحسرات، فإذا كفكف من دمعه وهدأ من روعه، فلأنه ينتظر أن يستأمن الدهر فيؤمنه، ويستكشف المحن فتنكشف، فهو ينشد:
فيا نفس طيبي، ثم يا نفس ابشري ... فغير بعيد كل ما هو آت
فإن قرب الرحمن من تلك مدتي ... وآخر من عمري لطول حياتي
شفيت ولم اترك لنفسي رزية ... ورويت منهم منصلي وقناتي
أحاول نقل الشمس من مستقرها ... واسمع أحجارا من الصلدات
ولقد رثي الحسين رضي الله عنه رثاء يدمي العيون ويفتت الأكباد حتى لكأنه حضر مصرعه، وشاهد
موقعه، فمن ذلك قوله:
رأس ابن بنت محمد ووصيه ... يا للرجال - على قناة ترفع
والمسلمون بمنظر ومسمع ... لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى ... وأنمت عينا لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عماية ... واصم نعيك كل أذن تسمع(690/35)
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مظجع ولخط قبرك موضع
هذه الأمثلة تدل على أن الرجل كان لا يخشى في رأيه لوما، ولا يرهب أحدا؛ فإنه ليهجو في سبيل مدحه آل علي بن العباس بشر القول ومقذع الهجاء. وأرى أن المأمون لم يكن ليقسو عليه لأنه عرف فيه خلتي الشجاعة والوفاء فأجله أعظمه، وكان كثيرا ما يستنشده شعره.
عبد العظيم علي قناوي(690/36)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
ولما أظهر الله الإسلام تنفست هذه الفئات المضطهدة الصعداء، وأخذت تسير بسيره، وتترسم خطاه، وإذ آنست فيه إلى ظل نظام عادل، فقد أخذت تؤسس في كل حاضرة من حواضر الإسلام مدارس للعلم ومجالس للعلماء، واهم هذه المدارس على الإطلاق هي مدرسة الإسكندرية المشهورة.
وباتساع رقعة الإسلام أخذ الخلفاء يستعينون بهؤلاء العلماء على تنظيم شؤون إمبراطوريتهم السياسية، ولما ترافدت عليهم - أي الخلفاء - الفتوح، ودانت لهم الأقطار أخذوا يتطلعون إلى موارد العلم والمدنية والثقافة، ولم يفتهم قط أن يستعينوا بعلم هذه الطبقات الراقية التي خضعت لسلطانهم، ودخلت في حوزتهم، وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نجمل العوامل الرئيسية التي عملت في تنشئة الفكر العربي وإعداده إعدادا علميا صحيحا لتلقي الحضارة في خمسة عوامل هامة وهي:
أولا - النساطرة - وقد استعان هؤلاء على نشر أفكارهم في بلاد العرب بتعاليم منتزعة من الفلسفة اليونانية حتى كان كل نسطوري يحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، وهم إلى جانب ذلك أول مدرسة تهذب فيها الفكر العربي باحتكاكه بالثقافة اليونانية، وأول من خدم الطب في العصور الأولى.
ثانيا - اليعاقبة، وإليهم يرجع الفضل الأول في إدخال الأفلاطونية الجديدة، ومذهب الباطنية في جو الثقافة العربية.
ثالثا - الزرادتشيون في بلاد فارس، واهم مدارسهم هي مدرسة جنديسابور التي أسسها (كسرى انوشروان (وكانت تضم طائفة من العلماء الذين شردهم الإمبراطور (بوستيانوس) حين أمر بإغلاق جميع المدارس والهياكل في أثينا. وكانت تدرس في هذه المدرسة الكتب اليونانية والسريانية والفلسفة الهندية وآدابها وعلومها، وفي هذه المدرسة أيضا ازدهر الطب ونما إذ تخلص من ضغط الكنيسة، وتحرر من قيود العلوم اللاهوتية، واشتهر في هذه المدرسة قبل الإسلام الحارث بن كلدة الطبيب المشهور، وابنه النضر، وقد ذكره ابن سينا مع الذين هزموا يوم بدر، ثم أُسر وقتله علي بن أبي طالب صبراً.(690/37)
رابعا - مدرسة حران الوثنية، ولسنا نعرف مؤسس هذه المدرسة ولا كيفية نشأتها، والذي وصلنا إلينا عن حران أنها كانت مثابة لتعاليم الديانة اليونانية القديمة بعد أن طغت عليها المسيحية بالعالم اليوناني. والراجح أن حران قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة، وان هذه المدرسة أيضا كانت متأثرة إلى حد بعيد بتعاليم الأفلاطونية الجديدة كما وصفها (فرفوريوس الصوري).
خامسا - العبرانيون، وأهم مدارسهم في صور، وبانباديئا وكانت عاكفة على درس شرائعهم التقليدية، ولئن ورث العبرانيون عن النساطرة نزعة إلى علم الطب إلا انهم لم يتفقوا عليهم قط، وقد ذكر (لكلارك) في كتابه تاريخ الطب عند العرب في القرن العاشر 29 طالبا مسيحيا، على حين لم يذكر سوى ثلاثة من أطباء اليهود وأربعة من وثني حران.
والى جانب هذه العوامل الرئيسية التي استمد منها فكر العربي أسلوب دراسة الحضارتين القديمتين اليونانية والرومانية، فقد كانت هناك مراكز هامة أخرى بالثقافة اليونانية فقد ذكر (دييل) انه كان في كل من أنطاكيه والرها، ونصيبين - وذكر أيضا حران - أبان الفتح الإسلامي مدارس راقية احسن أساتذتها فهم الثقافة الإغريقية وفلسفة ارسطو، والعلوم والطب المعروفة عند القدماء. وقال أيضا: (إن خلفاء بني أمية كانوا يرجعون إلى هؤلاء الأساتذة ليستعينوا على نقل أهم كتب اليونان والبيزنطيين العلمية والأدبية إلى السريانية والعربية.
العرب والترجمة:
بعد أن تثقف العرب على يد هؤلاء الأساتذة وجهوا همهم إلى دراسة الحضارتين: اليونانية والرومانية دراسة مستقلة، واستخراج أهم روائعهما التي قد تفيدهم في بناء حضارتهم. فعكفوا على دراسة المؤلفات القديمة، واجتهدوا في تفهمها وشرحها ثم علقوا عليها ذيولا إضافية، ظهر فيها طابع العبقرية الإسلامية، وعدلوا فيها ونقدوها، وزادوا من عندهم أشياء جديدة وكان لهم نظر صائب في إمازة الغث من السمين، والوضع من الأصل. ومن الذين اشتهروا في ميدان الترجمة كان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان المعروف بحكيم آل مروان، فقد ترجم كثيرا من كتب الفلاسفة، ولا سيما كتب علوم الطب والنجوم والكيمياء والآلات، والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني (وكانت الترجمة أحيانا من(690/38)
اليونانية إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية) ويقال أن خالدا هذا كان أول من انشأ دار كتب في الإسلام، وقد أنشأها في دمشق.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز، ترجم كتاب الطب الذي ألفه اهرن بن أعين، إلى اللغة العربية بأمر هذا الخليفة الصالح.
ويقسم بعضهم تاريخ الترجمة عند العرب إلى قسمين: أما الأول فيبتدأ من 132 هـ - 198هـ أي منذ بداية خلافة السفاح إلى خاتمة عصر الأمين، وفي هذا العصر ظهرت العبقرية العربية واضحة جلية لا سيما في الكتب التي ترجمها عبد الله ابن المقفع إلى العربية.
العصر المأموني:
أما القسم الثاني من تاريخ الترجمة عند العرب فيبتدأ بتسلم المأمون ذروة الخلافة ويعرف بالعصر المأموني، ويضاهي هذا العصر في تاريخ الحضارة العربية، بتقدم العلوم فيه وازدهارها، عصر بركليس في أثينا. واهم ما يمتاز به هو إنشاء بيت الحكمة التي أقامها الخليفة المأمون في بغداد، فجمعت في خزائنها اشهر الكتب العلمية القديمة، وضمت بين جدرانها كبار المشتغلين بالعلوم والفلسفة والنقل. وكان يتولى الهيمنة على إدارة دار الكتب هذه الوزير المعروف، سهل بن هارون، وجاء في بعض الروايات أن يحيى بن أبى منصور الموصلي المنجم المعروف، ومحمد بن موسى الخوارزمي صاحب الازياج المشهورة والمصور الأرضي البديع الصنع، كانا من خزنة بيت الحكمة المأمون. وكان علاّن الشعوبي، والفضل بن توبخت، وأولاد شاكر من الذين يترددون على هذه الدار أما للمطالعة، أو للنسخ والترجمة والتأليف.
وفي هذا الدور أيضا بعث المأمون إلى حاكم صقلية المسيحي يأمره بأن يرسل إليه جميع الكتب العلمية والفلسفية الموجودة في مكتبة صقلية الشهيرة، فتردد هذا في إرسالها، وضن بها كل الضن ولما ألح عليه الخليفة في الطلب جمع كبار رجالات الدولة واستشارهم في الأمر، فأشار عليه المطران الأكبر بقوله (أرسلها إليه فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها) فعمل الحاكم بمشورته، وهي إن دلت على شيء فلا تدل إلا على مقدار كراهية رجال الاكليروس للعلم ونفورهم من ظل العلماء.(690/39)
وفي هذا الدور أيضا جمع المأمون بعض حكماء عصره، على صنعة الصورة التي نسبت إليه ودعيت بالصورة المأمونية صوروا فيها العلم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي احسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس. وقد وضع له علماء رسم الأرض - وكانوا على ما يرويه الزهري سبعين رجلا من فلاسفة العراق، كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على التعرف إلى البلاد التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وعنى بالطبيعة والرياضيات فوق عنايته بالطب ومعرفة العقاقير والنبات والحيوان، وفتح المأمون باب العقل والتفكير الحر على مصراعيه في جميع البحوث.
وفي عصر المأمون أيضا تأسست أول مدرسة للترجمة في العلم العربي، وكانت تتألف من حنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين، وابن أخته حبيش الاعسم الدمشقي وغيرهم. وقد أسس المأمون هذه المدرسة في بغداد، فقامت خير قيام بنقل جميع المتون اليونانية المشهورة إلى اللسان العربي، وكانت هذه المدرسة أيضا تشرف على إصلاح جميع ما ينقله الغير إلى اللسان العربي. ومن الكتب التي ترجمها وعلق عليها حنين بن اسحق بأمر الخليفة المأمون: كتاب الإساغوجي لفرفوريوس وارمانوطيقا لأرسطاطاليس، وجزءا من الاناليطيقا وجزءا من الميتافزيقا، وتلخيصات نقولاوس الدمشقي وتعليقات الاسكندر الافروديسي والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وديوشقورس وبولس الاجانيطي، وأبقراط.
ويروى أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل. وقال أبو سليمان المنطقي انو بني شاكر، وهم محمد واحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة: منهم حنين بن اسحق، ثابت بن أبي قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.
وكان يتمتع حنين بن اسحقبمكانة سامية عند خلفاء بني العباس، إذ احلوه منزلة سامية من الإجلال والاحترام وكان أبوه صيدليا في جند يسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل ابن بختيشوع واشتهر في زمن المأمون وعاش إلى زمان المتوكل.(690/40)
وقد ترجم ابنه اسحق بن حنين مقالة ارسطوطاليس في الروح وقد علق عليها فيما بعد الافروديسي، وتعد هذه الترجمة النادرة اليوم من أهم المراجع لدرس الفلسفة في عصرنا الحاضر، ويعلل الأديب الأستاذ إسماعيل مظهر هذه الظاهرة باتجاه الفكر بالأزمنة الحديثة إلى درس ألبي سيكولوجيا وابتعاده عن درس المنطق.
يقول القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: (. . . ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وارسطوطاليس، وابقراط وجالينوس واقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة فإستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها. فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حظ الناس على قراءتها، ورغبهم في تعليمها، وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرهم ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ وأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصناعة العملية والتباهي بأخلاق النفس، والتفاخر بالقوى إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها، وتفضلهم في كثير منها، فلهذا السبب كان أهل العلم في كل زمان هم مصابيح الدجى، وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم).
وقد بلغ من اهتمام المأمون بالعلوم وحثه على طلبها أن اصبح يضرب به المثل في عظم الحركة العلمية، حتى لقد مثله (نولدكه) بأنوشروان وغيره من رسل الثقافة العامة.
يقول الدكتور طوطح في رسالته الإنجليزية عن حالة التعليم عند العرب: (انه بينما كان شارلمان يتعلم القراءة مكبا على مطالعة رسائله مع أترابه في مدرسة القصر كان المأمون يعالج الفلسفة بمناقشة اقضيتها هناك في بغداد). وقال إن المأمون أوفد عميد بيت الحكمة إلى بلاد اليونان لنقل حكمة اليونان وعلوم اليونان إلى اللغة العربية.
على إنه ليس في وسعنا أن نصور عصر المأمون الذهبي في مثل هذه الكلمة العجلى، وحسبنا أن نختم الكلام فيه بعبارة السير وليم مويز الموجزة البليغة إذ يقول: لقد كان المأمون عاملا من عوامل النهضة العلمية، على حين كان الملوك المعاصرون له في أوربا(690/41)
في الدرك الأسفل من الجهالة، ولقد كان عصره يحاكي عصر بركليس في أثينا من جميع الوجوه.
الجامعات العربية:
وقد أنشأ العرب في فتوحهم عدة جامعات كبرى، وكانت جامعاتهم في البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة وقرطبة وبلرم وسالرنو واشبيلية تغص بالعلماء والمتعلمين الذين كانوا يقصدونها من أقصى أطراف العالم الغربي الاوربي، وفي عهد الخليفتين: عبد الرحمن الثالث والحكم بن عبد الرحمن، بلغت مدارس قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة، وكان فيها إلى جانب هذه المدارس أيضا مكتبة حافلة يقال إنها حوت خمسمائة ألف مجلد.
يقول دوزي لم يكن في كل الأندلس أمي واحد يوم لم يكن في أوربا من يلم بالقراءة والكتابة إلا الطبقة العليا من القسوس، وكان العلماء والأدباء والفلاسفة فيها يختلفون إلى مختلف المجامع - كالمجامع العلمية اليوم - للتفاهم والمناظرة.
وقد كان طلبة العلم من مسيحي أوربا يفدون أفواجا على جامعة قرطبة لتلقي العلم فيها، وعن طريق هذه الجامعة الشهيرة انتقلت الفلسفة العربية إلى مختلف أقطار أوربا وظهر أثرها واضحا بليغا في جامعات باريس واكسفورد، وايطاليا الشمالية وسائر أقطار أوربا الغربية ومن الذين تأثرت الحركة الفكرية في أوربا ببحوثهم؛ كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد مولود قرطبة؛ فقد ألف هذا العبقري الفذ في الفلسفة الطبيعية وفي المادة والقوة، وقدم العالم، والطب والرياضيات والفلك؛ وعدل تعاليم الفيلسوف ارسطاطاليس الفلسفية وفصل بها بين اللاهوت والعلم فحسبه قومه كافرا ونبذه بعضهم ولكن (لاوي بن جرسون) ترجم كتاباته إلى اللاتينية وشاركه في ذلك ابن نربون فوصلت كتابات ابن رشد الفيلسوف العربي إلى العالم اللاتيني سنة 1250 فأستند إليها الطبيعيون، والعلماء، والفلاسفة، والاشتراكيون واعتمدها دانس سكوتش كما اعتمد ارسطو؛ وحتى قال بعض علماء الغرب، إنما ابن رشد كان خميرة أوربا، وقد رسخت قدمه في جامعات شمالي إيطاليا ثلاثمائة عام، ومن اتباعه بطرس أبو تسيس وجونجندن واوربانس في بولونيا، وبولس في فنيسيا سنة 1428 م، وكاجاتانوس النيسيسي حتى أن الفيلسوفة السيدة كسندرا فيدال دافعت عن ابن رشد، وقد تسربت فلسفته أيضا إلى جامعتي بولونيا وبدوي.(690/42)
ومن مشهوري العرب والإسلام الذين نبغوا في هذه المدارس أيضا نذكر الطبيب ابن سيناء، والفيلسوف
الفارابي، وابن باجة، وسنعود لدراستهم في غير هذا الصدد وفي غير هذا المكان.
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(690/43)
بعد الوداع. . .!
للأستاذ محمد عبد الرحيم إدريس
بعد ذاكَ الوداع سرتُ وحيداً ... أذرَعُ الأرض مستهاماً شريدا
يا لبؤس الوَداع يُطلقُ في القلب اضطراباً وفي الخُطى تقْيدا
يا لتلك الكأس المريرة أحسُو ... ها برغمي وانثَني عِرْبيدا!
يا لسخر الأقدار عند وداعي ... تسأل القلب أين يمضي وحيدا؟!
وتعدُّ الدِّيارَ لي وكأني ... سألاقي بها حبيباً جديداً
كلُّ دار تزور عني وتنأى ... أيُّ دار تضُمُّ هذا الطَّريدا؟
كلُّ دارٍ ما لم تكن أنت فيها ... طلَلٌ يسقم الفؤاد العميدا
كل دار تَضيَّفَتْني وحيدا ... أطعمْتَني الأشجان والتسهيدا
يا رياح الشتاء هذا شراعي ... قد ترامى على يديك شهيدا
أبعديه عن كل شطِّ عزاءٍ ... واقذِفيه باليأس جهْماً عنيدا
أسلميه إلى العباب المدَوِّي ... واطرَحيه عن الحياة بعيدا!
أمطريه أسىً وظلمة ليْلٍ ... وهَبيه صواعقاً ورعودا
أو دعيه يمضي إلى الهمِّ طوْعاً ... انه عن صخوره لن يحيدا
واحملي للفناء قلبي وصُبَّي ... فوق هذا الصِّبا الوريف الوعيدا
وابعدي عن فمي كُؤُوس دموعي ... فلقد ارْتوِي وأمضِي سعيدا!
بعد هذا النَّوى دفنتُ بِنفسي ... أملاً كنتُ أشتهي أن أرودا
كنت أرجو أن لا فراق على الدهر بغير الردى عبوسا مريدا
كنت أرجو حتى غِلاَب المنيَّا ... ت بذكرى تُضفي علينا الخُلودا
غير أني أرى سراب الأماني ... ثمناً للفراقِ كان زهيدا!
(الإسكندرية)
محمد عبد الرحيم إدريس(690/44)
البريد الأدبي
جوائز فؤاد الأول وفاروق الأول:
صدر مرسوم ملكي بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول، وهذا نصه بعد الديباجة:
1 - تنشأ ثلاث جوائز سنوية تسمى جوائز فؤاد الاول، وتكون كل منها 1000 جنيه مصري، وتمنح لصاحب احسن عمل أو إنتاج في الآداب والقانون والعلوم.
2 - تنشأ ثلاث جوائز سنوية تسمى جوائز فاروق الأول قيمة كل منها 1000 جنيه مصري تمنحها وزارة المعارف العمومية لصاحب احسن عمل أو إنتاج في فرع من الفروع الرئيسية للعلوم.
3 - يكون منح الجوائز المنصوص عليها في المادتين الأولى والثانية وفقا للشروط الملحقة بهذا المرسوم.
4 - على وزير المعارف العمومية تنفيذ هذا المرسوم الذي يعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
شروط منح الجوائز
وورد في الملحق المشار إليه في المرسوم عن شروط منح هذه الجوائز أنها تمنح سنويا للمصريين عن إنتاجهم في الموضوعات الآتية: الآداب، القانون، العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية، علوم الحياة (البيولوجيا)، العلوم الكيميائية، العلوم الجيولوجية.
وتشمل جائزة الآداب: الآداب البحتة مثل الأدب القصصي، الأدب التصويري، الأدب الاجتماعي، الشعر، البحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية) والتاريخ والجغرافيا، والفلسفة والآثار.
وتشمل جائزة القانون: القانون الخاص، ويشمل القانون المدني والقانون التجاري وأوضاع التقاضي، والعلوم الجنائية، وتشمل القانون الجنائي والإجراءات الجنائية وعلم الإجرام. القانون العام، ويشمل القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون الدولي. وتشمل جوائز العلوم: العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية مثل علم الطبيعة التجريبي وعلم الطبيعة النظري والعلوم الإحصائية وعلم طبيعة الأجرام السماوية (الاستروفيزيقا) والهيدوليكا(690/45)
والميكانيكا والكهرباء وعلوم الحياة مثل النبات والحيوان والفسيولوجيا والطفيليات والتشريح البشري والحيواني والطب وفروعه والأحياء المائية والعلوم الكيميائية مثل الكيمياء العضوية وغير العضوية والكيمياء الحيوية والتغذية، والعلوم الجيولوجية وتشمل علم الطبيعيات الأرضية (الجيوفيزيقا).
وتؤلف لهذه الجوائز لجنة دائمة مكونة من وزير المعارف رئيسا، وستة أعضاء يمثلون الفروع المختلفة، ويكون تعينهم بمرسوم، ومدة عضويتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
وتختار اللجنة الدائمة في كل عام لجاناً لفحص الإنتاج المقدم في كل مادة، ويجوز أن يختار لهذه اللجان بعض أعضاء اللجنة الدائمة، ويكون تعيين أعضاء هذه اللجان بقرار يصدر من وزير المعارف، ويمنح أعضاء لجان الفحص مكافآت يحددها وزير المعارف. هذا، ويعلن سنويا عن مسابقة في كل من المواد الست المذكورة في البند الأول، ويخصص لكل منها جائزة مقدارها 1000 جنيه مصري، وللمؤلف أن يتقدم بإنتاجه إلى المسابقة بنفسه، أو أن تتقدم به بعض الجهات أو الهيئات العلمية والأدبية، ومع هذا فيصح للجنة الدائمة المنصوص عنها في البند الخامس أن تدخل في المسابقة من تلقاء نفسها التآليف التي ترى أنها جديرة بالنظر، ولو لم يتقدم بها المؤلف، أو من يقوم مقامه.
وتحدد اللجنة الدائمة في كل عام فرعا أو أكثر من الآداب والقانون والعلوم تخصص للإنتاج فيها جوائز العام، وتعلن عن ذلك قبل الموعد المحدد لتقديم المؤلفات بستة شهور على الأقل.
ويشترط في الإنتاج الذي يقدم في المسابقة في كل عام ما يأتي:
أن يكون ذا قيمة علمية أو فنية ممتازة تظهر فيه دقة البحث والابتكار، وتهدف خاصة إلى ما يفيد مصر والإنتاج القومي.
وأن يكون قد سبق نشره ولم يمضي على نشره أول مرة أكثر من خمس سنوات من تاريخ الإعلان.
وأن يكون باللغة العربية الفصحى.
ولا يجوز التقدم من جديد بإنتاج سبق تقديمه.
ويقدم الإنتاج لنيل جوائز فؤاد الأول قبل اليوم الأول من شهر يناير من كل عام.(690/46)
ولنيل جوائز فاروق الأول قبل اليوم الأول من شهر أكتوبر من كل عام.
وتمنح الجائزة كاملة لأحسن إنتاج يقدم في موضوع المسابقة. ومع ذلك فيجوز - إذا رأت اللجنة أن إنتاجين متقاربين ولا يمتاز أحدهما عن الآخر امتيازا ظاهرا - أن تقسم الجائزة بينهما بالتساوي، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقسم الجائزة إلى أكثر من ذلك.
ويجوز للجنة أن توصي بأن يوفد إلى الخارج على نفقة الدولة من يدل إنتاجه على امتياز ظاهر، سواء ممن نالوا الجوائز أو لم ينالوها، وذلك تمكينا له من الاتصال بالمعاهد العلمية أو الهيئات العالية لاستكمال البحث أو الاستزادة منه.
وإذا لم تمنح الجائزة المقررة للمسابقة في مادة من المواد في عام ما استبقيت إلى العام الذي يليه. وفي هذه الحالة يعلن عن المسابقة في الفرع الذي خصصت له جائزة العام مع الفرع الآخر.
ويجوز أن يتقدم شخص واحد بأكثر من إنتاج في سنة واحدة.
هذا ويحدد وزير المعارف الفروع التي تخصص للإنتاج فيها جوائز سنة 1947، ويحدد موعد الإعلان عنها وموعد تقديم الإنتاج.
أبو شأس الشاعر:
نقل الأديب شكري محمود أحمد (في عدد الرسالة 688) بضع مقطوعات من شعر أبي شأس، من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، والديارات للشابشتي، ووجد بعضها منسوبا إلى أبي نواس في ديوانه، فتسرع الأديب شكري وادعى إن أبا شأس هذا هو أبو نواس نفسه، وان الناسخ صحف هذا الاسم (أبا نواس) فصيره (أبا شاس)، وان ابن فضل الله العمري، واحمد زكي باشا، وحبيب الزيات، لم يفطنوا لهذا التصحيف، وقال انه لم يعثر له على ذكر في أي مصدر آخر. .
ولو رجع الأديب إلى مظان أسماء الشعراء لتحقق أن هناك شعراء يكنون بأبي شأس، منهم أبو شأس التميمي وأبو شأس الطبري، المذكوران في (معجم الشعراء للمرزباني) المطبوع بالقاهرة.
وهنالك شعراء يتسمون بشأس، منهم شأس بن نهار بن الأسود بن عبد القيس، وهو الممزق العبدي الشاعر المشهور، على ما في تاج العروس شرح القاموس، وقد ذكره الامدي في(690/47)
كتابه (المؤتلف والمختلف) المطبوع مع (معجم الشعراء) وأورد له شعرا.
وأما نسبة بعض الأبيات إلى أبى نواس ايضا، فهذا يقع كثيرا، فكم من شعر لشعراء مشهورين مفيقين نراه منسوبا إلى غيرهم تعمدا أو خطأ.
زكي الحافظ الفيومي
الإمام الواعظ أحمد الغزالي:
نشر الأستاذ علي سامي النشار مدرس الفلسفة بجامعة فاروق بحثا قيما عن أحمد الغزالي في مجلة الأزهر جزء ثلاثة مجلد أربع عشر - وقد صرح في آخره بعدم عثوره على مؤلف له بقوله: (وليس بين أيدينا أيضا كتب بأحمد الغزالي لتبين لنا عقيدته. . .).
وإني قد عثرت أخيرا على مؤلف صغير الحجم للإمام المذكور - ضمن مجموعة لأبى حامد يسمى (كتاب التجريد في كلمة التوحيد) يحتوي على فصول صغيرة غير مرقومة، وكلها شروح وتعليقات على كلمة التوحيد - لا اله إلا الله - وتمتاز هذه الفصول على تنوعها بغلبة الوعظ عليها، ومزجها بالكتاب الكريم والسنة النبوية والحكم المأثورة.
وهي تدل على تبحر الشيخ وعلو كعبه. إذ أن في هذه الفصول تحقيقات صوفية وخواطر ربانية وأسرارا روحية!
ولعل في نقل فقرات من فصول هذا الكتاب ما ينير الطريق لمن يريد البحث عن عقيدة الإمام. جاء في مقدمة كتابه:
قال الشيخ الأجل جمال الإسلام أحمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه في الحديث الصحيح والنقل الوارد الصحيح عن سيد البشر محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذلك خبرا عن الله تعالى: لا اله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي. قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه لا اله إلا الله هي الحصن الأكبر وهي علم التوحيد؛ من تحصن بحصنها فقد حصل سعادة الأبد ونعيم السرمد، ومن تخلف عن التحصن بها فقد حصل شقاوة الأبد وعذاب السرمد. ومهما تكن هذه الكلمة حصنا دائرا على دائرة قلبك وروحها نقطة تلك الدائرة وسلطانها حارسا يمنع نفسك وهواك وشيطانك من الدخول إلى تلك النقطة فأنت خارج الحصن ومجرد قولك لا يزن مثقال ذرة، ولا يعدل جناح بعوضة.(690/48)
فأنظر ما هو نصيبك من هذه الكلمة فإن كان نصيبك روحها ومعناها (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) وهو نصيب سيد الخلائق محمد صلى الله عليه وسلم ومائة ألف نبي ونيف وعشرين ألف نبي فقد حزت ذخر الكونين وفزت بسعادة الدارين. . . الخ.
وفي الفصل الثالث إذا قلت لا اله إلا الله إن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في القلب فأنت منافق، وان كان مسكنها منك القلب فأنت مؤمن، وان كان مسكنها منك الروح فأنت عاشق، وان كان مسكنها منك السر فأنت مكاشف. فالإيمان الأول إيمان العوام والثاني إيمان الخواص والثالث إيمان خواص الخواص. . . الخ
وفي الفصل الحادي عشر افتح بصر بصيرتك فانه ليس في الوجود شيء إلا وهو يقول لا اله إلا الله (وان من شيء إلا يسبح بحمده (الآية) يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) يدل بوجوده على موجده وبخلقه على خالقه. . .
وفي الفصل الخامس عشر: اجعل رأس مال بضاعتك التوحيد، وملاذ أمرك التجريد، واجعل غناك افتقارك وعزك انكسارك، وذكرك شعارك، ومحبتك دثارك، وتقواك إزارك، فإن كنت مفتقرا إلى زاد وراحلة وخفير فأجعل زادك الافتقار، ومطيتك الانكسار، وخفيرك الاذكار، وانيسك المحبة ومقصد سفرك القربة. فإن ربحت فقد ربحت. . . الخ.
وفي الفصل السابع عشر: متى تتنبه من سنة غفلتك، وتصحو من خمار سكرتك؛ فتفهم ما تذكر وتعلم ما تقول، أمرت بالفهم ثم بالذكر، وأمرت بالعلم ثم بالقول فما لم تعلم لا تقل وما لم تفهم لا تذكر. إذا قلت لا اله إلا الله وأنت غافل القلب غائب الفهم ساهي السر فلست بذاكر (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) إذا ذكرته فلتكن كلك قلبا، وإذا نطقت به فلتكن كلك لسانا، وإذا سمعت فلتكن كلك سمعا؛ وإلا فأنت تضرب في حديد بارد:
إذا ذكرتك كاد الشوق يقتلني ... وغفلتي عنك أحزان وأوجاع
فصار كلي قلوبا فيك واعية ... للسقم فيها وللآلام إسراع
وفي الفصل السادس والعشرين: اعلم أن شجرة لا اله إلا الله شجرة السعادة فإن غرستها في منبت التصديق وسقيتها من ماء الإخلاص وراعيتها بالعمل الصالح رسخت عروقها وثبت ساقها واخضرت اوراقها، واينعت ثمارها وتضاعف أكلها. . . الخ.(690/49)
وفي الفصل الثلاثين: أعرف عبدي؛ خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من اجلي فاشتغلت بالنعمة عن المنعم وبالعطاء عن المعطي. فما أديت شكر نعمته ولا راعيت حرمة عطاءه، كل نعمة شغلتك عني فهي نقمة، وكل عطية الهتك عني فهي بلية. . . الخ.
وفي الفصل الحادي والثلاثين: عبدي أنا الذي افعل ما أشاء واحكم ما اريد؛ اعطي لا لباعث، وامنع لا لحادث، واسعد لا لعلة، واخلق لا لقلة، وابتلي بالشكر لا لحاجة، وقد خلت الأحدية وتقدست الصمدية عن البواعث العلل، لو كانت الإرادة هي عن باعث لكان محمولا، ولو كانت عن حادث لكان معلولا وليس بمحمول ولا معلول؛ بل خالق البواعث والعلل (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
وفي الفصل الثاني والثلاثين: عبدي ليس في الوجود إلا أنا فلا تشتغل إلا بي ولا تقبل إلا علي إن حصلت لك فقد حصل كل شيء وان فتك فقد فات كل شيء. . . الخ.
على أن عقيدة الشيخ الواعظ فياحة كالعطر؛ شذاها في ثنايا كتابه الصغير، ويؤيد هذا قول الأستاذ انه تبحر في علوم الشريعة ثم دخل طريق القوم عن دراية، وقد عهد إليه أخوه بالتدريس في النظامية؛ كما يدل على سمو رتبته في الطريق ما قاله في أخيه عندما سئل عنه. كل هذه دلائل على سلامة عقيدة الشيخ من كل زيغ.
وفي الحق إن هذا الواعظ الصوفي صنو أخيه، وان كان اقل منه شهرة. يعرف ذلك كل من سلك طريق القوم، وكل ميسر لما خلق له!
هذه كلمة ما أردت بها إلا وجه الحق. وفقنا الله جميعا للصواب.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
اللائحة الداخلية لمجلة الأزهر:
تألفت في يوم الأربعاء 24 من أبريل سنة 1946 لجنة لوضع نظام لمجلة الأزهر برياسة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق شيخ الجامع الأزهر وقررت ما يلي:
أولا - تنظيم مجلة الأزهر بحيث تصلح لحمل رسالة الجامع الأزهر والتعبير عنها اكمل تعبير.(690/50)
ثانيا - أن تكون المجلة من غزارة المادة وتنوع البحوث بحيث تشغل الاتجاهات الثقافية والإصلاحية للجامع الأزهر.
ثالثا - أن يكون لها ملحق يكتب بلغة أجنبية في موضوع يهم من لا يعرف العربية من المسلمين وغيرهم أو يشتمل على طبعة مستقلة لبعض المخطوطات العربية القيمة أو لما يظهر في المجلة من بحوث.
رابعا - أن تظهر المجلة في نحو مائة صفحة في أول كل شهر عربي ما عدا شهري الحر الشديد، وتكون سنتها عشرة اشهر. ورأت اللجنة أن تحدد أغراض المجلة والموضوعات التي تنشر فيها على النحو التالي:
أغراض المجلة هي: الدفاع عن الإسلام وبيان فضائله والتعبير عن مساهمة الأزهر في العناية بالدراسات الإسلامية عناية إنشائية وتكون حلقة اتصال بين الأزهر وسائر الجامعات والمعاهد العلمية من جهة، وبين الأزهر والرأي العام المثقف من جهة اخرى، وتكون أداة تعليم للأزهريين وأداة توجيه ديني وإصلاحي للمسلمين.
القصص
التجربة. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
رآها تسير في بوليفار غامبيتا بباريس، وبرفقتها رجل سمين مترهل يكبرها بعشرين حولا على وجه التقريب، فظنها ابنته. . . ومما عزز فيه هذا الظن أن الرجل كان يسير إلى جانبها بخطوات آلية متئدة. . . في حين أن الفتاة كانت كتلة من النشاط والحيوية. . . وتسير وكأنها تقوم بحركات من الرقص الإيقاعي. . . وكان الهواء يعبث بشعرها الذهبي فيتطاير السنة هي أشبه بألسنة اللهيب. . . أما عيناها المتقدتان فكانتا لا تفتآن تتطلعان هنا وهناك.
ولما وقع نظرها عليه ابتسمت له، وظلت تتطلع فيه حتى صار خلفها، ثم أدارت رأسها نحوه ثلاث مرات. . . أما هو فقد آنسته عنايتها هذه به، فتتبع أثرها إلى أن ولجت مع الرجل فندقا صغيرا، ويبدوان الفتاة أحست أن الفتى قد اقتفى أثرها مستجيبا لندائها،(690/51)
فالتفتت إلى الوراء وهي تعبر عتبة الفندق وأومأت له برأسها، فأدرك بأن عليه أن ينتظر.
وبعد عشر دقائق نفرت الفتاة من الفندق، فاقترب منها الفتى، وصافحها كما لو أنه ربي وإياها. . . وصافحته هي كما لو انه عزيز على قلبها كان غائبا فأتى. . . وسارا جنبا إلى جنب. . . ثم بادرها الكلام بقوله:
أظن أنكما لستما من باريس؟
كلا، نحن من النورماندي.
ويلوح لي انه والدك. . . أليس كذلك؟
كلا إنه زوجي. . .
ماذا. . . زوجك؟. . . أنت فتاة يانعة يافعة وهو رجل يكبرك جدا، وسمين، ومترهل، وعديم الحيوية، فكيف قبلت به بعلا لك؟
كنت جاهلة ولم افقه معنى الزواج فوقعت في احبولة، وزوجت به. . . والآن أفقت إلى نفسي. . . فرأيت أنني في واد، وفتى أحلامي في واد آخر.
ولم أتيتما إلى باريس؟
لأنني أردت المجيء إلى مدينة النور هذه، مدينة اللهو والحب الاعمى، فطالما طالعت في الصحف الباريسية إعلانات وأخبارا مثيرة، فصممت على أن آتي إلى باريس بأية وسيلة كانت لأمتع نفسي بملاذها. . . ولأختبر آثامها ولوفي أيام قلائل!. . . فاختلقت المرض.
اعترت الفتى الدهشة من مسلك هذه الفتاة الجامحة. . . ففكر في أن يردعها عن غيها، ولكن الشيطان شدد عليه الوطأة، وزين له الإثم الذي هي تسعى إليه. . . فقال لها مبتسما: أبمأذونية أنت في هذه الساعة؟
قالت - أستحصلت على أذن من زوجي لمدة أربع ساعات لازور صديقة لي هنا، فالساعة الآن الخامسة، وعلي أن أعود إلى الفندق في تمام الساعة التاسعة مساء.
حملق الفتى في وجهها، وحملقت في وجهه، وشد على يدها وشدت على يده، فتأبط ذراعها وسارا في (بوليفار غامبيتا الطويل. . . ثم راح يسرد لها منهاجه لاستغلال هذه الساعات المعدودات على اكمل وجه، وقال - نذهب الآن إلى جامع باريس، فنأكل كبابا وبقلاوة، ثم نذهب إلى مقهى فنحتسي بعض المشروب، ثم نزور دار السينما. . . ثم نعرج على فندق(690/52)
لأخذ شيء ما. . . ثم نعود إلى فندقك في تمام الساعة التاسعة، أتوافقين؟
جدا. . . جدا. . . انه لمنهج ممتع.
يالها من أويقات عذبة سنقضيها معا في باريس.
هذا جل ما أتمناه. . . فأنت الطبيب الذي أسعى إليه. . .
أستمكثان طويلا في عاصمة النور؟. . .
ثلاثة أيام فقط.
شيء مؤسف حقا!
لماذا؟
أتسألين لماذا أيضا. . . انه ليشق علي أن أفارق هذا الجمال، وهذا الصبا، بمثل هذه السرعة.
أيهمك أمري بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة؟
احتار الفتى بما يجيب. . . أيقول لها انه لا يهتم بأمرها، فربما تعتبر ذلك إهانة لها وتنفر منه، أم يقول لها بأن أمرها يهمه جدا، فتعتبر ذلك إطراء، وترضى عليه؟. . . وبعد تردد قليل قال:
يهمني أمرك جدا يا عزيزتي. . . وثقي بأنني لن أنساك ما دمت على قيد الحياة، وسأراسلك دائما. بل سأبذل أقصى جهدي لكي أزورك في بلدك، كوني عند حسن ظنك بي. . .
وما إن سمعت الفتاة هذا الكلام حتى امتقع وجهها. وانطوت على نفسها، وهي تفكر في أمر غامض. . . وكان لسان حالها يقول:
هل ارتكاب الإثم في باريس يتطلب حبا؟. . . إنني لم آت إلى عاصمة اللهو والملذات لكي أجد لي زوجا ثانيا. . . إنني لا أود شخصا ليراسلني ويتتبعني من مكان إلى آخر. . . إنني تصورت اللذة الباريسية بمثابة كأس من الخمرة يحتسى على عجل، وينتهي الأمر أما وان هذه اللذة ستسبب لي متاعب ومراسلات ومطاردات فهذا ما لا أريده البتة.
ولما مرا بكنيسة في حيّ (مون مارتر) قالت الفتاة:
أتأذن لي بالدخول إلى الكنيسة قليلا؟. . .(690/53)
فأنتفض الفتى، وقال - أتريدين الصلاة؟!.
قالت - اجل. . . لخمس دقائق فقط. . . انتظرني عند باب الكنيسة، كما انتظرتني عند باب الفندق.
مضت خمس دقائق، فصارت عشرا، وخمس عشرة. . . فانزعج الفتى ودخل الكنيسة فرأى في طرفها الأيمن جماعة من النسوة الضالات، والرجال الضالين، وأمامهم قسيس يتلو عليهم فقرات من الإصحاح الرابع لرسالة يعقوب فيقول:
(أيها الزناة والزواني!. . . أما تعلمون إن محبة العالم عداوة الله. . . قاوموا إبليس فيهرب منكم. . . اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. . . نقُّوا أيديكم أيها الخطاة، وطهروا قلوبكم يا ذوي الرأيين، اكتئبوا ونوحوا وابكوا. . . ليتحول ضحككم إلى نواح، وفرحكم إلى غم. . . اتضعوا قدام الرب فيرفعكم).
أندس الفتى بين هذا الرهط من الناس باحثا عن فتاته، إلا انه لم ير لها أثرا. . . ثم أجال نظره في أرجاء الكنيسة، فلمح أن لها بابا اخر، فأشتبه بأن الفتاة أخطأت المخرج، فلحق بها. . . وإذ بلغ الباب وجده قسيسا يحاول إغلاقه فاستوقفه بلطف وقال له: عم مساء أيها الأب!
عم مساء يا بني.
أبانا. . . ألم تر فتاة خرجت من هذا الباب قبل دقائق معدودات. . . وهي تلبس قبعة قش واسعة الأطراف، مطوقة بشريط اخضر ينتهي بباقة صغيرة من الورد؟. . .
فأشاح القس بوجهه عن الفتى، وقطب حاجبيه. . . ثم قال:
أهذا أنت؟. . . اذهب في سبيلك يا بني. . . ولا تسخر نفسك لتجارب الشيطان. . . اجل. . . رايتها، واعترفت!. . . واغلق باب الكنيسة في وجهه. . .
نجاتي صدقي(690/54)
العدد 691 - بتاريخ: 30 - 09 - 1946(/)
الآراء الخاطفة. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
الحركات الخاطفة معروفة في ميادين الأدب كما عرفت قديما وحديثا في ميادين الحروب.
وهي تنجح في هذه الميادين كما تنجح في تلك الميادين، فليست الأناة لازمة في كل عمل، وليس البطء في التفكير مطلوبا من كل أحد:
وربما فات قوما جل أمرهم ... من التأني وكان الأمر لو عجلوا
كما قيل بحق وصواب.
ولكن الحركات الخاطفة قد تنهزم في ميادين الأدب كما تنهزم في ميادين القتال، لأنها لا تصلح لكل موضع ولا تنتصر على جميع الأعداء.
وعيبها الأكبر في الآراء الأدبية أنها سريعة الرواج سريعة الإقناع، وأنها تجتذب أليها (على وجه السرعة) أولئك الذين ينفرون من التمحيص لأنهم لا يستطيعونه أو لا يجدون له متسعا من الفراغ، فيقبلون كل ما قيل ويصدقون في معظم الأحوال ما هو حقيق بالتكذيب والإعراض.
ومن هذه الآراء الخاطفة آراء بعض الناقدين المحدثين في أدب الصحافة أو فيما يكتبه الأدباء في الصحف والمجلات. فعند هؤلاء الناقدين المحدثين أن الأديب لا ينبغي أن يكتب للصحف والمجلات، وأنه لا يكتب فيها شيئا يستحق أن يعيش إلى غير الأجل الموقوت الذي يقدر لأخبار الصحافة وحوادث اليوم أو الشهر أو العام على ابعد الآجال.
وفي هذا الرأي آفة الآراء الخاطفة جمعاء.
فهو صحيح وغير صحيح، أو هو لا يقبل كله ولا يرفض كله، ولكنه يروج بصوابه وخطئه عند من (يخطفون) الآراء ويقابلون عجلة التفكير بعجلة الإصغاء.
فهذا الرأي صحيح إذا كانت كلمة (الكتابة) تشمل التفكير والتجربة والدراسة والمراجعة وتدوين الكلام على الأوراق.
فالكاتب الذي يفكر ويجرب ويدرس ويراجع في الساعة التي يدون فيها كلامه على الورق يخطئ في حق الأدب وفي حق نفسه ولا يستحق البقاء بعد طي الصحيفة التي يكتب فيها بساعات أو أيام.(691/1)
ولكنه إذا كان يودع الصحيفة ثمرة التفكير الصحيح والتجربة الطويلة والدرس الدقيق والمراجعة المتوالية، فما هو الفارق بين إيداع هذه الثمرة في صفحات مجلة أو صفحات كتاب؟ وما هو وجه الخطأ في تعويد القارئ الصحفي أن يطالع الموضوعات المدروسة إلى جانب الموضوعات العابرة وأحاديث الفضول والسمر الرخيص؟
لا فارق في هذه الحالة بين أدب الكتب أدب الصحافة، ولا خطأ في اقتران الجد بالهزل لأنه خير من استئثار الهزل وحده بعقول القراء (الصحفيين).
ومن الواجب هنا أن نفرق بين تفكير وتفكير، وبين إسراع وإسراع، وبين ثمرة وثمرة.
فإذا كان الكاتب يفهم في أسبوع ما ليس يفهمه الكاتب الآخر في سنة أو بضع سنوات فليس هذا البطيء بالمزية المحمودة ولا ذلك الإسراع بالذنب المعيب.
وليست السلحفاة افضل من العصفور لأنها سلحفاة ولا العصفور أعجز من السلحفاة لأنه عصفور.
وإنما المعول على (الثمرة) لا على الزمن الذي تصل فيه هذه الثمرة إلى آكليها. فإذا وصلت إليهم في القطار السريع فليس حتما لزاما عليهم أن يردوها إلى البستان ليحملها إليهم بائع يمشي على قدميه!
كذلك لا يعاب الأديب لأنه يكتب في الموضوعات الهينة أو موضوعات الصحافة على اختلاف مواعيدها، فأما المعول على ما يقول في موضوعاتها لا عناوين تلك الموضوعات، وربما كتب بعضهم في الحروب العالمية فضاعت في قراءته اللحظات فضلا عن الساعات، وكتب بعضهم في لعب الأطفال فكانت كتابته أحق بالقراءة والحفظ من كتابة ذلك في حروب الأمم وقيام الدولات أو سقوط الدولات.
ولم نر من الأدباء المعاصرين من طرق هذا البحث فأحسن فيه كما احسن الأستاذ محمد روحي فيصل في مقاله بمجلة (الفكر) السورية حين قال: (. . . أرى مع ذلك أن الصحافي إذا استأنى في تحقيق كلمته، وجرى فيما يكتب على مهل وعناية، وحلل البواعث وتصور النتائج واحب وكره وخاصم في المثل الأعلى كان أديبا بأدق ما في الأدب من الخصائص، كما إن الأديب إذا أسرع في تركيز صوره وعرض تصويره سار إلى الصحافة وهو لا يدري).(691/2)
وهذا هو الرأي السديد في موضوع الأدب والصحافة كما نراه، ولو عاد إلينا الجاحظ والأصفهاني وابن سينا وأدباء العربية الأقدمون أجمعين لرأوه مثلنا بلا خلاف في الجملة أو التفصيل، لأننا لا نحسبهم قضوا في تدوين مصنفاتهم المرسلة وقتا أطول من الوقت الذي يقضيه الصحفي اليوم في كتابة مقال، ولكنهم قضوا الوقت الطويل في الجمع والتحصيل، فهان عليهم بعد ذلك أمر التدوين والتسجيل.
وعلى ذكر الكتابة المرسلة نذكر الآراء (الخاطفة) التي تقال هذه الأيام عن السجع والترسل في بعض الموضوعات.
فقد تلقف بعضهم كلام الناقدين في نقد السجع فحسب أن السجع معيب على كل حال، وانه أسلوب قديم لا يطرقه الكتاب المحدثون ولا يوافق كتابة العصر الحديث!
وكنا قد تناولنا كاتبا منهم بالتسخيف والتفنيد في عبارات مسجوعة، فظن انه (أديب حديث) لأنه لا يسجع وأننا أناس جامدون لأننا نستخدم السجع في بعض العبارات!
ونحن نتعمد السجع أحيانا للسخرية أو للتوكيد والتقرير، ونفهم لماذا يعيبه الناقدون فنفهم انه أسلوب يطرق في هذا العصر كما يطرق في كل زمان، لان السجع لا يعاب لذاته، ولكنه يعاب لان المتقيدين به يهملون المعنى في سبيل القافية أو الفاصلة، فيعاب عليهم هذا الإهمال، ولو كان مجرد العناية بالقافية عيبا لعيب الشعر كله في اللغة العربية على التخصيص، لأنه يجمع القافية والوزن معا وينفرد الكلام المنثور بالقوافي دون الأوزان.
أما إذا اتفق السجع والمعنى فلماذا يعاب؟ بل لماذا لا يستحسن ويطلب في الكلام المنثور؟ انه زيادة فيه وليس بنقص، ومزية فيه وليس بعيب، ومطلب يراد وليس بمأخذ يجتنب، ولنا أن نتحدى من ينكره في بعض عباراتنا أن يمحوه ويرسل الكلام في موضعه، فإن لم يكن الترسل في هذه الحالة هو المخل بالمعنى فهو المحق في نقده ونحن المبطلون!
ومن هذه الآراء (الخاطفة) نقد الناقدين (الخاطفين) لوصف الناقة أو وصف الصحراء في عصرنا الحديث.
عز عليهم أن يفهموا لماذا عيب هذا على الشعراء المتقدمين فحسبوا انه منقود على الإطلاق، وإن آية التحريم قد نزلت على وصف النوق والصحراوات إلى أبد الأبيد
وليس الأمر كذاك(691/3)
فإنما يعاب وصف الناقة على المحاكاة كما تعاب المحاكاة في وصف الطيارة من احدث طراز، وكما تعاب المحاكاة في وصف القنبلة الذرية، وكل مخترع يأتي بعد القنبلة الذرية، ولو أتى بعدها بعدة قرون.
والجبال أقدم من الناقة، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟ والبحار أقدم من الجبال، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟ والكواكب والشموس أقدم من الجبال ومن البحار ومن الأرض نفسها، فهل يحرم وصفها على الشعراء والكتاب؟
والعجب أن تخفى هذه الحقيقة البينة على أحد ممن يفقهون الشعر أو لا يفقهونه! فكيف خفيت على أولئك النقاد؟
ما نخالها خفيت عليهم ألا انهم حسبوا أن الناقة (أداة مواصلات)، ووصفها الشعراء الأقدمون لأنها أداة مواصلات. فلا يحسن بالشعراء المحدثين أن يتركوا أدوات مواصلاتهم ليصفوا النوق في الصحراء.
والناقة ليست بأداة مواصلات وكفى، إلا إذا كان راكبها جمّالا وكفى.
ولكنها حيوان وراكبها إنسان، وشأن الحيوان والإنسان باق في الشعر وفي الإحساس والتعبير عن الإحساس إلى آخر الزمان.
وهي بهذه المثابة أحدث من طيارة اليوم وطيارة القرن الثلاثين وما بعد القرن الثلاثين.
وكذلك الصحراء وأهل الصحراء، وكذلك كل بقعة من بقاع الأرض وكل مطلع من مطالع السماء.
فالشاعر الذي تروعه الصحراء ولا ينظم فيها أعرق في المحاكاة والتقليد من الشعراء المتقدمين، والأديب الذي يحسب أن الطيارة قد نسخت الناقة والجواد وسائر المطايا الحية لا يحس الحياة ولا الأحياء.
وهذه تعقيبات تقال، ولا بد أن تقال وتعاد على تلك الآراء الخاطفة التي تروج بين خطاف الآراء والمذاهب في هذه الآونة، ولكنها ليست بالتعقيبات الخاطفة كما يرى القراء.
عباس محمود العقاد(691/4)
القَِيم. . .
للأستاذ عبد المنعم خلاف
من ذا الذي يستطيع أن يرد على الناس إيمانهم (بالقيم) العظيمة التي تعمر الوجود؛ وكانت تعمر القلوب إلى ما قبل هذا العصر المادي، عصر زوال الحدود وكثير من الفروق القديمة بين الأشياء والأمور؟ إنها رسالة المخلصين للحياة لرد الإيمان بالحياة نفسها إلى قلوب أوشكت أن تفقد إحساسها بالحياة. . .
إن الكون العظيم قائم على نِسَبٍ ثابتة، وحدود واضحة بين الجمال والقبح، والصحة والفساد، والنظام والفوضى، وكانت عقول الناس وطباعهم متأثرة بما في طبيعة الكون من هذه النسب والحدود. لا تحاول طمسها بفلسفتها، ولا تغييرها بمقدرتها العلمية؛ لان الكون المادي ظل في قوالبه القديمة وحدوده الجامدة، لا يستطيع الناس الخلط بينها إلى أن أتى هذا العصر الذي زالت فيه الكثير من الحدود والمسافات بين الأشياء والأمكنة فزالت الحدود كذلك بين الخير والشر والجمال والقبح أو خيل للناس أنها زالت، واتسع مدى الخلط والتأويل، لأن رجال الأخلاق لم يسايروا المنطق العصري فيجعلوا الحكم النفسي على (قيم) الأمور متمشيا مع الفهم العلمي الجديد لها. وهذا كله نتيجة لتخلف الروح تخلفا بعيدا عن سيرة الحياة المادية وقد صار الناس لا يتذوقون الأشياء المادية تذوقا روحيا يضفي عليها ظلال التأويل، ويخلع عليها لونا من حياة القلوب نفسها فيخرجها في هالة روحية وطاقة نفسية.
خذ أمثلة: الانتقال السريع بالطيران، والاتصال الخاطف باللاسلكي، والمقدرة الساحقة بالكهرباء والفولاذ والقوى الذرية. . إنها أعمال واقعية الآن، وكانت إلى ما قبيل الربع الأول من هذا القرن أحلاما إنسانية خالدة لا تقترب من خيال الناس إلا حيث يدور حديث الآلهة والكائنات القادرة التي تتصل بالآلهة. . . والتي لا سدود ولا قيود في عالمها.
والآن بعد أن صارت هذه الأعمال من أعمال الإنسان ابن العجز القديم، صار يفعلها وهو في ذهول عن (قيمة) ما يفعل، كأنها لم تكن يوما ما أحلاما عن عالم الآلهة! وإني اعتقد أن أزمات الحياة الآن ناشئة عن هذا الذهول الشنيع الناشئ من إهمال الوعاظ والأخلاقيين والمربين أن يحملوا هذه المقدرة الإنسانية الأخيرة مجالا عظيما من مجالات الوعظ(691/5)
والإرشاد لأيقاظ الإنسان أولا إلى (قيمة) ما يفعله الآن.
ونحن إذا أفلحنا في أن نجعل الفرد الإنساني يتذوق هذه الأعمال المادية اليومية التي يفعلها تذوقا روحيا يجعله يتلفت بالفكر والقلب إلى قيمتها، نفلح لا شك في أن نعود به إلى رؤية (القيم) العظيمة الخالدة التي تعمر الوجود، وكانت تعمر القلوب أيام العجز قبل التسلط المادي الأخير.
وبديهي أن الطفل الناشئ في هذا العصر بين القطارات والطائرات والبرقيات وعالم الكهرباء ينشأ وهو يرى هذه الأشياء كأنها أشياء طبيعية لا تسترعي انتباهه، ولا تثير اهتمامه، لأنه ألفها من منذ نشأته؛ فيمر عليها مخدرا بالألفة، ولا يعرف لها قيمة تجعله يلتفت إلى (الإنسانية) التفاته خاصة يدرك بها تفردها وامتيازها.
ومن هنا ينشأ الذهول عن (القيم) الثابتة التي في الوجود؛ كالحق، والخير، والجمال، والمروءة، والإيمان، وغير أولئك من معايير الحياة القديمة التي كانت تسجد على أقدامها قلوب الناس أيام العجز.
وما أدري: لعل هذا الكائن الإنساني سيأتي عليه عصر سيشعر فيه بقدرة فائقة، ولعله حينئذ يستحي كما يستحي الخلائق العقلاء الكاملون أن يعتدوا على (قيم) الحق والخير. لان حياة الإنسان القادر لا تستقيم ولا تستمر إن لم يقمها على الحق والخير، والحق والخير هما أساس هذا الوجود الذي نعيش فيه، ولا يعمى عنهما وعن أخواتهما كائن يخلف الله في الأرض تلك الخلافة الواسعة.
والحياة الفردية والحياة الاجتماعية قد اثر فيهما فقد (القيم) الآن تأثيرا خطيرا هو الذي يجعلهما على قلق واضطراب وتقطع أمر. فلست ترى الفرد الذي يستحي من نفسه إذا فعل القبيح أو الضار حينما يخلو بتلك النفس اللوامة؛ لأنه صار يرى الأعمال بدون (قيمتها)، وصارت الفلسفات الأبيقورية والميكيافللية تمهد له وتبرر عمله، وتسعفه بالأعذار الكاذبة الخادعة، فلا يسمع لضميره صوتا ينكر عليه، لأنه فقد الحساسية بالقيمة الخلقية للأعمال، وأسعفته الحريات التي صارت شعار العصر، واختلطت فيها حرية الفكر والرأي بحرية الطباع، وحرية الطباع معناها الانطلاق وراء البدوات والنزوات، والبدوات والنزوات هي امتداد حياة الطفولة التي لا تدرك (قيم) الأشياء، وامتداد طيشها الذي لا(691/6)
يحسب حساب عواقب الأعمال والأقوال.
ولست ترى كذلك الآن الدولة التي تحترم العهد والكلمة والشرف لان فقد (القيم) قد انتقل إلى المجال الدولي كذلك كنتيجة طبيعية للحياة الفردية الحالية. وهي حالة بالغة الخطورة إن لم يتداركها المربون والمفكرون بالسعي المتواصل لرد (القيم) إلى مكانها من القلوب والأشياء، وخلع القداسة على كل حرمات الحياة، وإحاطة النظم والقوانين والعقائد السامية بهالة من الاحترام والاعتبار؛ حتى تحد من الفجور الذي يصحب القدرة المالية الفائقة، وتكفكف من غلواء الغرور الذي تبعثه السيطرة على القوى. ذلك الغرور الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية توشك أن تتنكر لرسالتها الإنسانية، وتغفل عن تاريخ أبطالها العالميين حين اهتدت إلى سر القنبلة الذرية الذي جعل لها المقام الأول في التسلح والمقدرة على البطش. فهي الآن تسير في سياستها العالمية تحت تأثير غرورها بأنها حائزة أسرار ذلك الطارق العنيف الذي جعل اليابان تركع على قدميها اثر ضربتين اثنتين من ذلك الطارق.
فقيمة رسالتها الإنسانية قد أثر فيها زيادة مقدرتها المادية، وقوتها المحاربة، لأنها خطت خطوة واسعة في العلم لم يصحبها خطوة موازية في الروح التي تخلع القيم على الأشياء، وان رد القيمة الخلقية للأعمال والأشياء رسالة تحتاج إلى معجزات من الجهاد الموصول والإخلاص الإنساني والاستمداد من رب الحياة الذي جعل في الإنسانية مرونة تجعلها تدرك رشد أمرها وتكيف حياتها حسب مصلحتها، وتخرج من الأهوال وفيها بقايا حياة تسمح بتجديد شعلتها، وامتداد وجودها في كل الظروف والأحوال.
وأعظم أسلحة الجهاد في هذا السبيل هو التفاؤل والتأميل، وعدم اليأس من روح الله؛ مع اليقين الثابت بأنه ما خلقنا إلا للخير ولو بدا في ثياب الشر لدى أنظارنا القصيرة.
عبد المنعم خلاف(691/7)
هَْزلٌ. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
يخيل إلى أن بين قلمي والليل صبابة أو هوى قديما. فطالما رأيتني اعقد الرأي والعزم نهارا على شئ اجعل الكتابة له قيدا إذا جنّ الليل، فما أكاد احمل القلم وابدأ حتى أرى القلم ينقض عليّ رأيي وعزمي ويمضي إلى حيث شاء كما شاء، فما يبقى من آية النهار المبصرة شيئا إلا طمسه أو إزالة أو نكّر من معارفه. وما أظنّ إلا أن كل كاتب قد ابتلى من قلمه بمثل الذي ابتليت به أو بشيء يقاربه. ومن اعسر شئ ألقاه من هذا القلم ربما بدأت الكتابة، فإذا هو مطواع حثيث ماض لا يتوقف، وإذا كلمة مرسلة إليه ليقيدها، فإذا هو كالفرس الحرون قد ركب رأسه وأبى اباء، فلا أزال أترفق به واستحثه وأديره بين أناملي ليلين ما استعصى من طباعه، ولكنه يأبى إلا لجاجة وعنادا، ثم ينزع إلى وجه غير الذي أردت، وإذا أنا مضطر أن أعود من حيث بدأ هو لا من حيث أردت أنا أن ابدأ، وعندئذ يمضى على هواه وعلى ما خيّلت. وقد عرفت ذلك من عاداته قديما، فما يكاد يفعل ذلك حتى أثوب به إلى ورقة أخرى فإبداء الكتابة من حيث أراد، وأمري لله.
أفتراني أخطئ إذا أنا زعمت إن لقلم الكاتب شخصية مستقلة بل منفصلة تكاد أحيانا تغلب حامله على رأيه وعلى تقديره وعلى عزائمه؟ أم الإنسان المفكر صاحب العقل شئ آخر غير الإنسان الكاتب حامل القلم؟ فهو حين يفكر يعطي أفكاره من الحرية والسعة والحماسة ما يجعلها اقدر على التصرف في وجوده الرأي وشعابه ونواحيه، فإذا حمل القلم ليملي عليه بعض أفكاره، استقل قلمه بالفكرة بعد الفكرة يزنها ويقدرها على قدر عقله هو لا على عقل حامله، فربما عرض له أن ينبذ منها أو ينتقَّصها أو يتجافى عن طريقها فيسد عليها المسالك ويضرب عليها بالأسداد، ثم يشرع إلى وجه غير الذي يراد له؟ أم الإنسان إذا فكر ثم أراد أن يكتب وحمل القلم صار هو نفسه شخصا أخر غير الإنسان المفكر بغير قلم محمول؟ كل ذلك ممكن، ولكنه على كل حال متعبة وشقاء لحامل القلم ما بعده شقاء ولا تعب.
وأعرف رجلا من أصدقائي الكتاب، إذا حمل القلم وكتب كلمات ألقى قلمه ضجرا يائسا متململا من عسر المدخل الذي دخل به على ما أراد، فإذا عاد القلم إلى جماحه وتعذره، ولا يزال كذلك مرة بعد مرة حتى يرى قلمه قد رضى وأطاع ومضى إلى أخر حرف في المقالة(691/8)
غير متوقف ولا متلعثم، وقد قال لي: انه ربما مضت الأيام على ذلك الحِران، مع انه يعلم مستيقنا إن الفكرة كانت قد اختمرت واستوت وتهيأت له من قبل أن يحمل القلم بأيام، وانه كان يظن انه لن يحمل قلمه حتى يراه قد انساب انسيابا لا يعوقه شئ، فإذا فرغ من كتابة ما أراد لم يجد انه زاد قليلا ولا كثيرا عما كان فكر فيه وعزم على كتابته. فأي سر هذا الذي ينطوي عليه القلم حتى يكون هو المتصرف الذي لا يرد لما أراده أمر؟ قد تقول: انه الحالة النفسية التي يكون عليها الكاتب؛ وقد تقول: إنه الجو الذي تعيش فيه الكلمات التي ينبغي استنفارها من مكامنها؛ وقد تقول أشياء كثيرة من هذا وأمثاله، ولكن يبقى انك لا تكاد تميز بعد الكتابة شيئا من الاختلاف عما كنت قد فكرت فيه وأدرته في نفسك وعرفت انه قد أطاع لك، فمن أين جاء هذا التوقف العجيب الذي تعتاده بعض الأقلام؟!
وأنا قد جربت نفسي، فرأيتني إذا أردت أن اكتب أحيانا شعرا يدور في قلبي ويلح على خاطري، فأمسكت أي الأقلام وقعت عليه يدي، فإذا هو عصيٌّ عنيد لا تلين له سنٌّ - أو قناة على ما يقولون - فإذا ألقيته وحملت القلم الذي اعتدت زمانا أن اكتب به الشعر، أو الذي اعتاد هو أن يكتب لي الشعر، انطلق على سجيته طيعا رفيقا سهل المقادة حسن التهدي إلى قبله الشعر. فاحب الآراء إليّ أن اجعل للقلم شخصية منفصلة تعين الكاتب أو تعانده، فذلك أشبه بالسلطان العريض الذي فرضته الأقلام على الحياة، والذي لولاه لعاش الإنسان ومات وكأنه لم يوجد قط.
كنت أردت أن اكتب شيئا عن المتنبي وعن حكمته وبصره الحياة وبالناس وبما يعتلج في القلوب على اختلافها , وذلك لحديث جرى بيني وبين أحد ضيوف مصر من أهل العراق. وأردت أن أقارن بين ما يسمونه شعر الحكمة، وبين حكمة المتنبي في شعره، وأين وقع منه سائر الشعراء؛ فما كدت ابدأ حتى عرضت لي أبيات المتنبي التي يقول فيها:
إنما انفسُ الأنيس سباعٌ ... يتفارسنَ جهرةً واغتيالا
من أطاق التماس شئٍ غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفَر الرئبالا
وذكرت عندئذ ذلك البيت الذي أحيته أم كلثوم حين غنت في شعر شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا(691/9)
وما استعصى على قومٍ منالٌ ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
وأردت أن أعرض للفرق بين القولين، وبين العبارتين، وبين القوتين، وبين البيانين. فأي دقة وأي هداية كانت لهذا الرجل الفذ الذي لو احتلت على بعض ألفاظه أن تجد لها بديلا في كلامه لأفسدت معنى البيت وقوته وعبارته وبيانه! فخذ مثلا لفظ (الأنيس)، وتخير ما شئت من حروف اللغة وضعه حيث وضع المتنبي لفظه، وأقرا وانظر وتدبر، هل يليق أو يسوغ أو يلين أو يستقر في مكانه من البيت؟ ضع مكانه (الإنس) أو (البشر) أو (الناس) أو (الأنام) أو ما شئت، سواء استقام الوزن أو لم يستقم، تجد الفرق بين الاختيارين عظيما واسعا. فهو قد اختار اللفظ والبناء الذي يدل دلالة على المؤانسة والرقة والتلطف وإظهار المودة والظرف وحلاوة الشمائل ولين الطباع، ليظهر لك أنها تخفي تحت هذا كله طباعا وحشية ضارية مترفقة حينا وباغية أحيانا فمهد للصورة التي أرادها باللفظ الذي لا يستغني عنه في دقة الصورة وحسن بيانها. فأين هذا من ضعف شوقي الذي لم يزد على أن جمع كلمات رص بعضها إلى بعض لا حاصل لها ولا خير فيها. وما قيمة ذكر الركاب، مع الإقدام والاستعصاء والمنال؟ وأما البيت الأول (وما نيل المطالب)، فهو كلام عامي دائر على الألسنة، ولا فضل فيه، بل هو أشبه بتقرير ضعيف عن معنى ليس بشيء.
وعندئذ عرض لي أنا أن هذا الفعل من شوقي هزل للمعاني، وهزل في طِلابَها، وهزل في أدراكها على وجهها. وإذا هذا القلم يسألني - أو يأبى ألا أن يذكرني - بان الهزل الذي كان فيه شوقي خير من كل هذا الهزل الذي أصبحنا وأمسينا نعيش فيه. فالدنيا تجد من حولنا ونحن نهزل، ولا نكاد نجد من كبار رجالنا أحدا قد نهض به جَدُّه وجِدُّه في ناحية إلا وقد سقط به هزله في ناحية أخرى. وان اشد البلاء من مثل هذا الرجل أن يلبس عليه حتى يظن أن هذا الهزل هو أجد الجد، لأنه ظن انه ما بلغ إلا بجدٍّ كان فيه طبيعة مغروزة فظن حتى صار ظنه حقا عنده.
ولسنا نحب أن نطعن على الرجال بالحق فضلا عن الباطل، ولكن بلادنا في كل مكان من مصر إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى بلاد الهند إلى أند ونسيا إلى الجزائر وتونس ومراكش؛ قد أحست شعوبها أن ساعة الجد قد آذنت ودنت، وأنها ساعة إذا أفلتت فلن تعود إلا بلاء وعناء وشقاء. ومع ذلك فالرجال والزعماء وأصحاب الرأي أيضا،(691/10)
وهو اشد البلاء، قد ركَّبوا في رؤوسهم أذنا من طين وأذنا من عجين - كما يقول المثل العامي - فما يسمعون حسيس النار التي تشتعل في صدور أبناء هذا الشرق ألا كحشرجة الميت، فهم يعالجون أمورنا على صورة من اليأس والملل، كأنما يرجون الظفر بأي شئ كان، ماداموا يحسبون انهم إذا رفعوا لأعين الناس هذا الذي ظفروا به، وقالوا لهم لقد ظفرنا لكم بخير ما ترجون، صدّقهم الناس وصفقوا لهم ومشوا في ركاب مجدهم، وجأروا إلى الله بالشكر على ما انعم على أيديهم. فهم ليسوا طلاب حق ضائع بل طلاب مجد كاذب، يظنون انهم يختمون به أعمالهم الصالحات.
فأي هزل كهزل رجال الهند مثلا، وهم الذين عركوا ساسة الإنجليز مائة وخمسين عاما أو تزيد، ولقوا من خداعهم وكذبهم وتغريرهم وقسوتهم وشناعة أحقادهم مالا ينسى مواجعه ألا غِرٌّ غافل؟ وإذا الذين كانوا بالأمس نار الثورة وضرامها قد رضوا أن يستمتعوا بالحكم ويصيروا وزراء في شعب مستعبد تدوسه أقدام الغاصبين، وهو لا يزال يسمع منهم أن الهند جزء لا يتجزأ من هذه الأمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها - فأي هزل اسخف وابعد في الغفلة والسذاجة وسوء التقدير من هذا الحكم؟ وفيم يدلس هؤلاء على إخوانهم الذين لا يعرفون كما يعرفون من خبايا النيات البريطانية التي تدس لهم السم في الدسم؟ أو لم تكفهم العبرة التي لا تزال أختهم مصر ترفل في أغلالها منذ سنة 1924 إلى يوم الناس هذا، حين قبل رجال الثورة إن يكونوا للناس حكاما تحت ظلال الغصب والاحتلال؟
وأي هزل اشد على النفس الشاعرة مرارة وغضاضة من رجال قاموا من غفلتم ومنامهم يسمعون الشعب كله ينادي (الجلاء ووحدة وادي النيل)، أي ينادي بالحق الطبيعي الذي لا يحتاج إلى تفسير ولا بيان ولا شروط، والذي ظلت مصر الصابرة تهمس به أحيانا وتصرخ به أحيانا أخرى منذ سنة 1882، وإذا هم يطالبون بالذي يطالب به الشعب، ولكنهم لا يلبثون ألا قليلا حتى يرضوا لأنفسهم أن يدخلوا من باب المفاوضة مع البريطانيين، فلما دخلوا داروا فيها كما تدور بهم، وهم كانوا أولى الناس بان يعرفوا بعد طول التجربة ما عرفه الشاب مصطفى كامل إذ قال لهم: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأنه أدرك إن المفاوضة معناها أن ينزل الضعيف عن أكثر حقه للقوى الطائش الباغي؛ فما(691/11)
ظنك به وهو ليس بقوي طائش باغ وحسب، بل أيضاً منصور مظفر قد خرج من الحرب وهو يظن أن الدنيا له، وانه وان كان ضعيفا بين الأقوياء، إلا انه هو الجبار العظيم بين الضعفاء؟ وانه سوف ينال من الأقوياء والضعفاء بحيلته وسياسته ما لا ينال بالعنف، فلذلك آثر طريق المفاوضة، واتخذ أعوانه لينيموا الشعب إليها حتى يهدأ ويسكن ويظن انه بالغ ما يريد؛ لان الدنيا تغيرت، ولان العالم في حاجة إلى نظام جديد ليس بينه وبين القديم شبه. وظلت المفاوضات اشهرا وهي تسير فينا على عكازتين كأنها هي الأخرى من ذوي العاهات الذين خلفتهم الحرب عرجا وظلَّعا أو شرا من ذلك. فأي هزل هذا؟
أي هزل هذا الذي يؤمن به رجال يخالهم الناس من أصحاب العقل والحكمة وسداد الرأي في المعضلات؟ وماذا فعلوا منذ بدءوا إلا إن قدم الإنجليز مشروعا وقدموا مشروعا؟ ولا يزالون على ذلك إلى يومنا هذا. فهم إنما يتقارضون كلاما لا يغنى عنهم ولا عن مصر. وفيم يتفاوضون؟ ألا أن الحق بيّن والغصب بيّن، فقولوا لأصحابكم الذين تفاوضون إن مصر لا تريد إلا تحقيق هذه الكلمات: (الجلاء ووحدة وادي النيل). إننا نريد مصرنا وسوداننا، إننا لا نريد منكم إلا أن تدعونا وشأننا، اخرجوا من بلادنا، فارقونا. قولوا ذلك وعلموا الشعوب بأيمانكم وإصراركم أن تكون اشد إصرارا وأيمانا وأوفى شجاعة واقدر صبرا، وإلا سوف يأتي يوم يجدُّ فيه الشعب جدَّه، فإذا الذي ظننتم انه مجد لكم هو ابغض شئ إلى الشعب، واعلموا انه لا مجد إلا بفعال، والهزل مخبثة للفعال، فجدوا إذن وعودوا إلى الإنجليز من حيث بدءوا بكم.
إن هذا الذي يحدث في الهند وفي مصر حسرة للنفوس تطوي تحتها أسوا مغبة، فهل من رجال ينقذون بلادهم من شر هذه الموبقة المستطيرة؟ إن الحكام والمفاوضين طلاب المجد لن يذوقوا لذة المجد حتى يكون الشعب هو الذي يذوق لهم طعمه، فإذا إستكرهه، فلا تخدعنهم الحلاوة التي يجدونها في ألسنتهم، فإنها مرارة الدهر وذل الأبد. ورحم الله المتنبي:
من أطاق التماس شئ غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
فعلام المفاوضة، وفيم السعي إلى الحكم؟
محمود محمد شاكر(691/12)
من أحاديث الإذاعة:
عيدي الذي فقدته
للأستاذ علي الطنطاوي
يا آنسين بالعيد، يا فرحين به، هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وان انتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وان من نعم (المذياع) انه لا يدري المتكلم فيه من ينصت له، ومن يَشغب عليه، ولا يسمع مدحا ولا قدحا، وما يرى إلا (العلبة) يكلمها، وما ترد علبة متكلم جوابا. . .
ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي. هذا رجل لا يتكلم ألا عن نفسه. فكذلكم الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون ألا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرّ به آثارهم: ما هذا؟ أن في هذا التعبير عما أحس به؛ انه وصف لي أنا وحدي. . . وما هو له وحده؛ انه وصف لكل نفس بشرية. . .
إلا ما اعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون. . .
يا سادة: انه كان لي في حياتي عيد واحد، ولكن طمس القدم صورته في نفسي فلا أرى منها إلا ملامح. لقد وجدت عيدي في (صُرْماية حمراء) أصبحت يوما فلقيتها إلى جانب الفراش، وكنا نبسط الفرش، وننام على الأرض؛ لم تكن قد انتشرت هذه الأسرّة وعمت، لم تكن إلا للأكابر، ولقيت معها (قمبازا) من (الألاجة) له خطوط حمر على أديم اخضر كأنه حقل قد نبتت فيه سطور من شقائق النعمان، وعقالا (مقصباً) كأنما قد نسج بخيوط الذهب، يبرق كأنه تاج ملك جديد. وعباءة رقيقة فيها مناطق حمر، وأخر بيض، وحواش من القصب اللماع؛ لها طُرَر مختلفات الألوان. . . تخطف ببريقها النظر.
فلم اصدق أن كل ذلك لي أنا، وسالت متحققا. فقالوا: انه لك، انه لباس العيد. قلت: وما العيد؟ قالوا: العيد. ألا تعرف العيد؟ فلم اعرفه، ولكني قنعت بما وجدت من نعمائه وتخيلته ضيفا جميلا نزل البلد. . .
وذهبنا نبصر العيد، ومشينا في الطرقات، وإذا الوجوه باسمات الثغور، منبسطات القسمات(691/14)
فكان أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف والظرف، ولم نر نحن الصغار من يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها، أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أُسلّم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقودا (نحاسات) صفرا لامعات كالدنانير، و (متاليك) جددا، ولم تكن قد عرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها، فاجتمع لدي مبلغ من المال، هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة رجال (الشركة الخماسية) في دمشق، ولكني أخذته حلالا بطيب نفس، واخذوا هم ما أخذوه حراما انتزعوه من فم الأرملة واليتيم؛ فكان بردا على قلوبهم وسلاما في لهب هذه الحرب، ولكنه سيكون من بعد نارا آكله في أكبادهم، وسمَّا هاريا في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيما متسعرا يوم المآب. . . فارتقبوا - أثرياء الحرب - أنا معكم من المرتقبين!
وكانت دارنا في (العُقَيبة) فكان أول ما لقيت من العيد (جامع التوبة)؛ هذا الجامع المأنوس الذي يملا جوّه دائما خشوع وأنس، ولم اكن ادري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي، وذهبنا إلى (الأموي)، وكان صوت التكبير ينبعث منه قويا مجلجلا، كأنه هدير (بردى) عند شلال (التكية) فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم اعلم ما هي؛ شعرت بالحماسة التي تغلى منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيدا بشريا أروع منه روعة أو اشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمت بعد إن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون، وتساقط الأسوار، وتفتح لهم به أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه (الأخوان المسلمون في مصر) شعارا لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قلادة أمجادنا التي طوقنا بها عنق الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض فتردده معهم الجبال والأودية. والمدن والقرى: الله أكبر، الله وأكبر، لا اله إلا الله - الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد!
ودخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه، أو ما كنت اسر به، وجدت - ولم أكن ادري - متعة الدين والدنيا إذا اجتمعنا: الكثرة والألفة والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر،(691/15)
والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار، وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في (المشهد) بالأزر البيض والملاءات الساترة، ما يظهر منها عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة.
كذلك كان بلدنا قبل أن تصله هذه (الحضارة) الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نقدم عليها، جامدين لم نعرف هذا الميع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البالوعة. . . أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها (المائعون)؟!
ثم أممنا (مقبرة الدحداح) فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه، وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة دار الوحشة والعبرة قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها (الدُّويخات) منصوبات، و (القلاّبات) قائمات، والعربات الصغار مزينات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصب وذو الطرد وذو الحواشي، راكبون على أفراس (الدويخة) تدور بهم، أو جالسون في سرر (القلابة) تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التل، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشرط الحرير يخيل للرائي من كثرته انه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسرادقات، وباعة (القضامة) و (اللب) و (عرق السوس) يجولون بين الناس ينادون اعجب النداء، وبياع (الفول النابت) قد أوقد ناره ورفع قدره، ونصب مائدته، وحف به الصبيان والبنات، وصاحب (صندوق الدنيا) قد حط صندوقه، وقعد حول الأولاد، ينظرون فإذا هم يسيحون في البلاد، ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع؛ فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمر الأحلام لم يخلف ألا ذكرى مشوبة بألم الفقدان.
كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد. أنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
صبركم أيها المستمعون، ودعوني اطل وقوفي على هذه المقبرة، فأنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أو تصدقون إذا قلت لكم أن لهذه المقبرة صورا في نفسي أحلى من صور الرياض، وذكريات اجمل من ذكريات الحب؟ وان نهرها هذا(691/16)
الصغير القذر اعز عليه من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه ألوا طية أفخم في عيني من أسرة (اوريان بالأس) و (شبرد)؟
إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، أن لها تاريخا في نفسي، يعرف أكثره أخي أنور العطار. فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري، فما احسن أنا تخليدها، لا أطيق أن أفي لها هذا الوفاء؟ سلوه أنسى ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها، والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا ألا عيون النجم، وما تسمعنا ألا الشواهد الشواخص. . ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى ألا ظلاما متراكبا، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام. . . ليالي كنا نعود وقد برح بنا ألام، وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قراها الناس فرأوها ندية للدمع، فياضة بالحزن. فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ماله لا ينظم إلا الشعر الباكي، ما دروا أن هذا الشعر قد نظمت حباته على قبر الوالدين، في ليالي اليتم الكوالح. . .
مساكين الأدباء. يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم، ليقيموا منها تماثيل الأدب فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملُّونها كما يمل الصبي لعبته فيرمونها فيحطمونها، ويفتشون عن لعبة جديدة. . .
مساكين الأدباء!
يا سادة:
لقد مشيت بعد في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياما قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا، ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجة التي كانت للصرماية الحمراء والعقال المقصّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع؟ أفتغيرت الدنيا أم قد أضعت عيدي؟(691/17)
أتغيرت الدنيا يا ناس أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرأة من أدران حضارة الغرب؟ تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان. . . تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جوابا واحدا: رحم الله تلك الأيام لقد كانت أيام انشراح. . .
كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة، لا يختلفون على مذهب اجتماعي ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلموه لله لا للشهادات، وان طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن ارادوا تسلية ولهوا، قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذروان، ينصبون سماورات الشاي، وسماط الآكل، وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخورا ولا (نادي دمشق)، المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا الآخرة لا الدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف ولا يراهن أحد في الطريق؛ إلا خارجات لضرورة لابد منها، ومعهن الزوج أو الأب، يسبقهن وهن يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور، ولا أماكن العصيان، ولا (دوحة الأدب)، ولا يخطر على بالهن إن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها (فرق مرشدات). . .
كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعيادا؛ فأين أعيادنا نحن؟ أربحنا من هذه المدنية. . . وهذا العلم. . . أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا؟
يا سادة:
إننا صرنا اليوم نلبس (البذلة) بدل (القنباز)، وننام على السرير، ونأكل بالشوكة والسكين، ونقرأ أخبار أمريكا واوربا، ونتكلم في الجغرافية والكيمياء وفي السياسة، ونركب السيارة والطيارة، ونسمع الرادّ ونبصر أفلام السينما، هذا الذي ربحناه ولكنا خسرنا التقى والعفاف والاطمئنان، لقد كان أجدادنا ابعد عن حضارة اوربا، ولكنهم كانوا أرضى لله منا، واقرب إليه، وكانوا أقوم أخلاقا، واطهر قلوبا، وأصفى سرائر، واصدق معاملة وكانوا أسعد منا في الحياة. . .(691/18)
لا يا سادة: أنى لم أعد أجد للأعياد بهجة، فردوا إلي ماضي، أرجعوني إلى عيد الصرماية، والمقبرة، والمسجد، فإني لم الق السعادة إلا فيه، أنقذوني من هذا العلم وهذه الحضارة، فأنا جامد، أنا رجعي، رجعي، رجعي!!
والعفو يا سادة: لقد نقصت عليكم بهذا الحديث القاتم المضطرب عيدكم لقد نسيت قواعد الآداب الاجتماعية فكدرتكم يوم الصفاء، وكنت عندكم فاسد الذوق سيئ الاختيار، فلا تؤاخذوني. . . واقبلوا على عيدكم وسروركم، ودعوني ابكي يوم العيد ماضيات أيامي. وكل عام وأنتم بخير!
علي الطنطاوي(691/19)
مدارس للسخط. . .؟!
للأستاذ سيد قطب
قال لي صاحبي: أما تفتأ هكذا ساخطا على جميع المظاهر والأوضاع؟ أرح أعصابك يا أخي، ودع الخلق للخالق. انه لا فائدة. لا فائدة من كل هذه الصرخات!!!
قلت لصاحبي: أما أنا فسأظل ساخطا، أعلن سخطي على كل شائه من المظاهر والأوضاع. ولن أدع الخلق للخالق، لان الخالق هو الذي يقول: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) ويصف قوما ضعفوا واضمحلوا فيقول عن سبب الاضمحلال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون!) وأما انه لا فائدة هناك، فأنا لست يائسا ولا متشائما، واعتقادي الكامل إن هذا الكون الوسيع لا يضيع صوتا واحدا ينطلق فيه بدعوة الحق، ولا بد أن يردد صدى هذا الصوت في يوم من الأيام، طالت أو قصرت به الأعوام.
وقلت لصاحبي: إنه لو وكل إليّ الأمر لأنشأت ضعف هذه المدارس التي تنشئها الدولة لأعلّم فيها هذا الشعب شيئا واحدا هو السخط! السخط على الأوضاع والمظاهر الشائهة التي تسيطر على حياة هذا الجيل في كل اتجاه. فالسخط هو دليل الحيوية الكامنة، والرضى بهذه الحال المائلة هو نوع من اليأس والتشاؤم يقتل الأمم أو يؤدي بها إلى الاضمحلال.
أجل، لو وكل إليّ الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة في هذا البلد، أولئك الذين يتخاصمون فيتشاتمون، ويتهم بعضهم بعضا بكل كبيرة: بالخيانة. بالرشوة. بفساد الذمة. . . إلى آخر هذه الجعبة من الشتائم والتهم النكراء، حتى إذا ارتفعت لهم تلك العصا السحرية، عصا دار الحماية التي هي دار السفارة، أو دار السفارة التي هي دار الحماية، نسوا كل ما قيل، واتحدوا وائتلفوا، وصافح بعضهم البعض، وابتسم بعضهم لبعض، وأثنى بعضهم على بعض، والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون الجميع كاذبين في الماضي، أما أن يكون الجميع كاذبين في الحاضر، وهم في كل الأحوال لا يؤمنون على مصير هذا الوطن، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم. . . كلهم جميعا بدون استثناء!
ومدرسة للسخط على أولئك الكتاب والصحفيين، الذين يقال عنهم انهم قادة الرأي في البلاد،(691/20)
وانهم أباء الشعب الروحيين، أولئك الذين يسخرون أقلامهم وذممهم وضمائرهم لهذا الجيل من الساسة، فيضربون بأقلامهم ذات اليمين وذات الشمال، وينهشون سمعة هذا السياسي أو ذاك، ثم يعودون فيبيضون ما سودوا وقد يقفون مادحين في حفلات تكريم تقام لأولئك الساسة الذين قالوا عنهم من قبل: انهم مجرمون قذرون منحطون منخوبو الضمائر فأسدوا الذمم، لا استصلاح لهم بحال من الأحوال! والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون هؤلاء القادة الروحيون كاذبين في الماضي، وأما أن يكونوا كاذبين في الحاضر. وهم في كل حال لا يؤمنون على قيادة الشعب الروحية، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم بين حال وحال!
ومدرسة للسخط على أولئك الوزراء الذين تطول ألسنتهم وتطول أقلامهم وهم يتطلعون إلى الكرسي المسحور، فتتفتق قرائحهم عن خطط وبرامج للإصلاح الاجتماعي، وللنهضة الفكرية وللقضية الوطنية، ولإصلاح أداة الحكم، ولتطهير الدواوين، ولمكافحة اللجان. . . إلى أخر ما تهديهم إليه اللهفة على ذلك الكرسي المسحور، حتى إذا جلسوا في ذلك الكرسي، ند عنهم جميع ما اعدوا من خطط، وما نسقوا من برامج، ونفث فيهم ذلك الكرسي اللعين سحره الذي يعمى ويصم، ويفسد الذمة، ويكبت الضمير. . . ثم يطيح به الكرسي اللعين فيصحو من سبات، ويجد له بعد ذلك عينا يفتحها ولسانا يديره لإعادة الاسطوانة من جديد! والشعب ينظر ويعجب: أما أن يكون هؤلاء كاذبين في الأولى، وأما أن يكونوا كاذبين في الثانية. وهم في كل حال لا يؤمنون على مصالح هذا الشعب، وتلك ذممهم وهذه ضمائرهم في جميع الأحوال!
ومدرسة للسخط على أولئك الباشوات وغير الباشوات الذين يلحقون بعضوية الشركات ليكونوا ستارا لهذه الشركات في استغلال الشعب واستغفاله، ثم يدعون أن الشركات إنما قدرت فيهم الكفاية الممتازة (ما يأكلون في بطونهم إلا النار)!
ومدرسة للسخط على أولئك (الارستقراط) الذين يعلمون من هم، ويعرفون ينابيع ثروتهم أو ثروة آبائهم وأجدادهم، ونصفهم يعلمون إن أصلهم القريب جارية أو معتوقة، ونصفهم الآخر - إلا عددا يعد على الأصابع - يعرفون انهم هم أو آباؤهم أو أجدادهم على أكثر تقدير أدوا ثمن هذا الثراء أعراضا أو خدمات لا يقوم بها الرجل الشريف للاحتلال ولغير الاحتلال. . .(691/21)
ومع هذا كله يزمون أنوفهم اشمئزازا من (الفلاحين) ومن (أبناء الشعب) على وجه العموم، لأنهم ليسوا من (أولاد الذوات) وليسوا (ارستقراط)! والشعب ينظر ويعجب: أكان حتما على هذا الشعب كله أن يكون أبناء جواري ومعاتيق، أو أن يقوم بخدمات لا يقوم بها الشرفاء للاحتلال وغير الاحتلال؟
ومدرسة للسخط على أولئك الذين ليسوا (ارستقراط)، إنما هم من أبناء الشعب، علمهم الشعب، وارتفع بهم إلى مقاعد الوزارة وغير الوزارة، وقد يكونوا ممن تعلموا بالمجان لضيق ذات اليد والعجز عن أداء نفقات التعليم، ثم هم بعد ذلك يتسخطون على (مجانية التعليم)، لأنها تزحم المدارس بأولاد الفقراء، ولأنها تمزج بين أبنائهم وأبناء الفقراء، ولأنها تعلم أولادهم أخلاق الفقراء!
(يا دم)! باللغة العامية الفصيحة! شيئا من الحياء يا هؤلاء! شيئا من الاعتراف بالجميل للشعب صاحب الجميل!!
وتنشئ الدولة مدارس خاصة لأبناء الأغنياء ومن يتشبهون بالأغنياء. . . لماذا؟ لأنهم مالوا بأبنائهم إلى المدارس الأجنبية فرارا من أبناء الشعب في المدارس المجانية!!
وماذا على الدولة وماذا على الشعب حين يذهب هؤلاء إلى الجحيم لا إلى المدارس الأجنبية؟ أنه لا خير فيهم لهذا الشعب هنا أو هناك! انهم خوارج عليه لأنهم يتبرءون منه، فليذهبوا حيث يشاءون، ولتسر الدولة في الطريق المرسوم لتعميم المجانية، فهو طريق إجباري مهما عارض فيه المعارضون، لان المستقبل لن يسمح بفوارق الطبقات!
ومدرسة للسخط على محطة الإذاعة، تلك المحطة التي تنقل ما في المواخير والصالات، وما في الأفلام السينمائية، وهي لا ترتفع عن المواخير والصالات، تنقله إلى كل بيت، والى كل سمع، شاء من في البيوت أم أبوا، ورضى الناس أم كرهوا، ولا تدع هذا الهراء القذر محدودا في الصالة أو الفيلم يراه من يشاء، ويذهب إليه من يشاء، بل تفرضه فرضا على البيوت، حتى إذا كان فيها بقية من إنسانية أو حياء، قضت على هذه البقية الباقية من الإنسانية ومن الحياء، وهي تصنع كل يوم هذه الجريمة وتنفق عليها من جيب هذا الشعب الذي تفتت كيانه في كل لحظة من اللحظات!
ومدرسة للسخط على تلك الصحافة الداعرة، التي تسمى نفسها (صحافة ناجحة) لأنها تنادي(691/22)
الغريزة الحيوانية وتستثيرها في كل سطر وفي كل صورة، وهو عمل رخيص لا يحتاج إلى براعة صحفية، عمل يقوم به مديرو المواخير فيطاردهم بوليس الآداب في كل مكان! ودع عنك ما يقوم به بعض هذه الصحف من دعاية للاستعمار ولخدام الاستعمار، وما يثبطون به عزائم المصريين كلما هموا للجهاد في سبيل قضيتهم الكبرى. وما كانت هذه الصحف في حاجة إلى تلك الدعاية السافرة أو المستترة، فهي بما تنشر من صور داعرة، وبما تثير من غرائز هابطة، تقتل في الأمة كل نخوة وكل شرف وكل قوة، وتهيئها للاستغراق في لذائذ حيوانية، لا تسال بعدها عن وطن ولاعن استقلال!
وأخيرا مدرسة للسخط على هذا الشعب الذي يسمح بكل هذه (المساخر)، ويتقبل كل تلك الأوضاع، دون أن ينتفض فينبذ هؤلاء وأولئك جميعا، وينفض يده من رجال السياسة المضللين، ورجال الأدب والصحافة المأجورين، ورجال الحكم المدلسين، ومن الاستقراط والمتسقرطين! ومن دعاة المواخير: في محطة الإذاعة، وفي السينما، وفي الصحف، وفي المواخير!
مدارس للسخط! ما أحوج الشعب منها إلى الكثير، انه لأحوج إليها من الطعام والشراب. . . فمن ينشئها؟!
أينشئها هذا الجيل من الشباب المائع المسترخي إلا النادر القليل؟. . . كلا! إنما تنشئها الأقلام المخلصة، الأقلام التي تواجه الحقائق، ولا تنفر منها، ولا تخشى عاقبة الجهر بها، الأقلام التي لا تيئس ولا تمل، ولا تؤمن بأنه لا فائدة!
وأنها لفريضة على كل صاحب قلم، ولن تضيع صرخة واحدة في الهواء، فالهواء احفظ للأصداء، والأجواء حفية بالدعاء، ومن لم توقظه الدعوة، فلتوقظه الصيحة. . .
ولا يأس مع الحياة!
سيد قطب(691/23)
الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
(إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف.
لا ينهض رواج الرذيلة في هذا العصر المادي دليلا على رجحان كفتها في ميزان الأخلاق، إذ ما يزال للفضائل القدح المعلى، ولا يزال الفضلاء - على قلة فيهم وضعف - اقدر الناس على الجهر بالدعوة إلى مذهبهم، وأقومهم بالحجة في الإنابة عن صحة مأخذهم. . . وحسب الرذيلة من ضعة إنها مقرونة أبدا بالتواري، محجبة بقناع التخفي، لا تحيا إلا في مدلهمٍّ من الظلام، ولا تنشط إلا على غفلة من العقل، وغفوة من سلطان الضمير.
والخلق النفسي قسمان: فطري وكسبي. وليس لنا من أمر الخلق الفطري شئ ألا أن نشكر واهبة على ثمرات خيره، ونستعيذ به من بائقات شره. أما الثاني، وهو ما تنهيا النفس لاكتسابه من صفات خلقية، فذلك الذي يتسع معه مجال الحديث، بل من اجله سن الباحثون قوانين الأخلاق وقواعد السياسة والتربية، وسائر علوم الاجتماع.
ولا يكاد يتصور لهذه العلوم وجود إلا مع الاعتراف بأهمية الصفات الكسبية للنفس كدعامة من دعامتيها، وعنصر - بالغ الأهمية - من عنصريها.
ولقد أخذ ابن مسكويه على منكري (التطبع) قولهم، وأبلغ - ولم يبالغ - في تقدير الخلق الكسبي، وما تتهيأ له النفس من قبول التحول، والانصياع إلى ضروب التأديب والتهذيب. يقول في فصل من كتابه (تهذيب الأخلاق): اختلف القدماء في الخلق فقال بعضهم: الخلق
خاص بالنفس غير الناطقة. وقال بعضهم: قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ. ثم اختلف الناس أيضاً اختلافا ثانيا فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه. وقال آخرون: ليس شئ من الأخلاق طبيعيا للإنسان، ولا نقول انه غير طبيعي. وذلك أنّا مطبوعون على قبول الخلق، بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا. وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانا، ولان الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، والى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين، والى ترك الأحداث(691/24)
والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا - انتهى قول ابن مسكويه.
ويقول الغزالي في مثل هذا المعنى: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسنوا أخلاقكم! وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الإستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأديب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد؛ وكل ذلك تغيير للأخلاق؟
وإذا نحن أدركنا هذا القول تسنى لنا أن نفهم الحكمة الجليلة التي ينطوي عليها قول الرسول عليه الصلوات: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه. فلتحلم والتعلم والتبصر والتوقي والتورع والتصبر والتكرم والتعفف وغيرها من هذه الصفات التي تنطوي في صيغتها على معنى التكلف إنما هي معدودة من أهم مقومات الخلق النفسي ومن اخطر العناصر في تكوينه. وهي إلى ذلك وسيلة ميسورة إلى ترقي النفس في مدارج الفضيلة واكتسابها ما حرمته بالفطرة من أسباب الخير. ثم هي مقوية للفضائل ومتقوية بها، لما هنالك من واشج العلاقة بين القسيمين. يقول أبو علي القالي في أماليه: العقل عقلان: فعقل تفرد الله بصنعه، وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته. ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب، فإذا اجتمعا في الجسد قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة نور البصر.
الحلم والتحلم:
قال ابن مسكويه: الحلم فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكون شَغِبه، ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.
وواضح أن الحلم - كخلق فطري - يؤدي إلى طمأنينة النفس. على أن هذه الطمأنينة من ناحيتها تكسب النفس صفة الحلم وتمكِّن لها منه، والحلم المكتسب هو (التحلم) نفسه.
فطمأنينة النفس نتيجة للحلم وسبب للتحلم، ومن هنا يصعب الفصل بين الخلقين ولكنه لا يستحيل، لان الحلم إذا جاء عفو الطبع، وبدون تكلف له ولا تحامل على النفس فيه، فالتحلم لا يكون إلا نتيجة مران وثمرة ممارسة ومعاناة. وليس من شك في أن الأول يفضل(691/25)
الأخير، كما يفضل الأصل الفرع، ويشأو السابق اللاحق.
والغزالي يردف التحلم (كظم الغيظ)، فهما عنده شئ واحد يقل في الرتبة عن الحلم، ولكنه يتحول إلى الحلم نفسه بطول المجاهدة التي تفضي إلى الاعتياد. فهذا الفيلسوف لا يكاد يتصور للحلم وضعا إيجابيا أو مظهرا مستقلا، إلا إن يكون صورة كاملة استوفت خطوطها وألوانها من مظاهر للتحلم توالت على النفس وتعددت صورها حتى استوفت فيها خلقا كاملا تصقله المجاهدة وتهذبه الدربة وفرط المعاناة؛ واليك عبارته: (اعلم أن الحلم افضل من كظم الغيظ، لان كظم الغيظ عبارة عن التحلم (أي تكلف الحلم)، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ، وان هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفا.).
ويبدو أن ابن مسكويه كان أدق فهما من الغزالي لحقيقة الحلم وموضعه من التحلم، عندما جعل الحلم خلقا أساسيا في بعض النفوس، ثم أوضح إمكان اكتسابه بالمعالجة فيسمى حينئذ تحلما. وهو يقول في الكشف عن حقيقة الحلم: متى كانت حركة النفس العصبية معتدلة، تطيع النفس العاقلة فيما تقسطه لها، فلا تهيج في غير حينها، ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها، حدثت عنها فضيلة الحلم، وتتبعها فضيلة الشجاعة، ثم بين السبيل لبلوغ فضيلة التحلم عند فقد الحلم بقوله: من أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه، أو على من لا يستحقه، أو زيادة على ما يجب منه، فليقابل ذلك بالتعرض لسفيه يعرف بالبذاء، ثم ليتحمله، وليتذلل لمن يعرف بالخيرية ممن كان لا يتواضع له قبل ذلك.
على أن من الإنصاف للغزالي أن نقول: انه كان فيلسوفا (عمليا) في مقارنته بين الحلم والتحلم، فهو لا يكاد يعترف ألا بالتحلم أصلا وفرعا، لأنه محله التجربة ومظهر المجاهدة والمعاناة، وفلسفة الغزالي الخلقية كلها تقوم على هذا الأساس. أما ابن مسكوية ففيلسوف (نظري) عميق الفكرة، يجرد الحلم أصلا قائما بذاته، ثم يلتقي مع الغزالي في بسط قضية التحلم، وبيان السبيل إلى بلوغه تكلفا.
فمن المجاز إذن - لا الحقيقة - أن نقول مع الغزالي: إن كظم الغيظ واعتياد التحلم يصبح(691/26)
(حلما طبيعيا) - وان كانت هذه العبارة هي افضل ما يجري على لسان مربٍّ يعني بتهذيب الأخلاق وهداية الناس إلى سبيل الفضائل، بتيسير وسائلها لهم، وتهوين مشقة إحرازها عليهم.
فضيلة الحلم:
بان الحلم إذن بفضل له ومزية، وطال على التحلم قدر ما يطول اصل على فرع، وأول - في الكون - على أخير. وما ثمة شك في أن الحلم أثنت على تتابع المثيرات، وابلغ في الدلالة على كرم النفس، وصفاء موردها من نبع الفضيلة.
وليس يتصل الحلم بنفس إلا وقد تم لها إلى جانبه حظها من التحلم، إن لم يكن في الأول الغناء كله عن الثاني. والنفس بعد من نتيجة التحلم على شك، تسعى إليه فتبلغ حينا وتقصر أحيانا، وأنها لتلقى فيه من البلاء ما يضجرها منه مرة، وقد يصرفها عنه أخرى.
وأين في الناس مثل عمر الذي كان يبلغ بالتحلم حد الحلم دون مجهود، حتى ليلقى الرجل السكران مرة فيزمع أخذه وتعزيره، ويشتمه السكران فيرجع عنه، ثم يسأل عن ذلك فيقول: انه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أرد أن اضرب مسلما حمية لنفسي؟!
وفي كتاب الأحياء أن اشجَّ عبد القيس وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ راحلته ثم عقلها، وطرح عنه ثوبين كانا عليه، واخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع. ثم اقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: إن فيك يا اشج خلقين يحبهما الله ورسوله. قال: ما هما بابي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة! فقال: خلتان تخلقتُهما، أم خلقان جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. فقد كان رسول الله عليه الصلوات إذن اعلم الناس بفرق ما بين الحلم والتحلم، وبعد ما بين الطبيعة والتطبع، وانه ليمتدح صاحبه - فيثلج قلبه، ويستحمده ربه - حين يجيبه عن سؤاله بقوله: بل خلقان جبلك الله عليهما!
هذا، والحلم سيد الأخلاق - كما يقولون - لأنه السجية النبيلة التي لا تليق ألا بالملوك والأمراء، ولا تأخذ أروع زينتها إلا حين يصطنعها السَّراة والوجوه وأعيان الناس. روى(691/27)
أن عليا (عليه الرضوان) سأل رجلا من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة. قال: أنو شروان. فقال علي: أي أخلاقه كانت اغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي: هما قوام الملك، نتيجتهما علو الهمة!
ولقد بلغ بعض الملوك والرؤساء من الحلم مبالغ تثير الدهشة وتستخرج العجب؛ وليس يعزى هذا إلى طبيعة فيهم بأكثر مما يعزى إلى الظروف التي أحاطت بهم. ونحن نحب أن نقف قليلا عند بعض من طارت شهرتهم بالحلم، وأخذوا من التحلم بأسباب قوية، فنتبين مظاهر هذين الخلقين فيهم، ونلمس البواعث عليهما، والمقاصد الخفية أو الظاهرة الدافعة إليهما. . .
(يتبع)
محمود عزت عرفة(691/28)
الأدب في سير الأعلام
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .).
للأستاذ محمود الخفيف
في ميدان السياسة:
وعاب خصوم ملتن عليه قبوله منصبا في حكومة مغتصب جمع السلطة كلها في يده، وقالوا كيف يفعل هذا نصير للحرية، واستخرجوا من ذلك أن دفاعه عن الحرية لم يكن إلا زعما فحسب؛ بل وذهبوا إلى أكثر من هذا فرموه بالتبجح أو بالغفلة إذ يحل لنفسه من التعصب ما يحرم مثله على غيره فهو في منصبه يرد على مخالفي الحكومة، ويعنفهم ويسخر من آرائهم، وماذا يكون التعصب إن لم يكن فعله هذا تعصبا؟ ويزيدون على هذا انه إن جاز ذلك من ذي جهالة ضيق الأفق فهو لا يليق من رجل يزعم انه يتحلى بالأدب وينتسب إلى الفن. . .
وهذا كلام يشبه بادي الرأي أن يكون حقا، ولكنه لا يلبث عند رده إلى الواقع والاعتبار في أحكامه أن تتزايل عنه شبهة الحق؛ فأما عن التعصب في ذاته عيبا، بل إن التعصب للرأي محمدة ما دام يؤمن المرء بما يقول، ويشعر انه يدافع عن حق، والمعول هنا على نيته لا على خطئه أو صوابه، فإن لم يتبين حقيقة ما ينتوى فمدار الحكم على القضية المتنازع فيها، ويستحيل أن يخفى وجه الحق في قضية يتناولها متخاصمان يبذل كلاهما أقصى جهده في إثبات ما يحاول الأخر نفيه، أو نفي ما يعمل خصمه على إثباته. طالما إن الوقائع غير خافية، وكان الأمر أمر اعتبار وتدبر ورد إلى قواعد مقررة؛ فإن جهل الخصمان بعض الوقائع أو جهلاها كلها انتفى التدليس عنهما جميعا، وان غابت عن أحدهما كان الثاني هو المدلس، وان لم يمكن اتهامه بالتعصب حتى يتبين تدليسه؛ وإنما يكون التعصب مذمة إذا أصر المرء على رأيه وهو يعلم كما يعلم خصمه انه باطل. أو إذا تبين له وجه الحق فكبر عليه أن يرجع أليه وتمادى فيما انساق فيه أول الأمر بجهالة.(691/29)
وكان ملتن يؤمن أن حكومة كرمول تنصر الحق والحرية فالدفاع عنها دفاع عنهما، ولا عبرة عنده بشكل الحكومة الاستبدادي، وقد تحقق له ما كن يتمناه من نتيجة، وطالما كان يؤمن ملتن دون أن يعميه غرض خاص بعدالة كرمول، وبعده عن المطامع الذاتية، وإباحته الحرية للناس فليس يعيبه أن يتعصب له، وإنما يلحقه العيب إذا تبين له تحرف كرمول عن الصواب في أمر وتحيزه لرأيه وظل على ولائه له؛ وما فعل ملتن شيئا من ذلك. بل لقد عارض كرمول، وأنكر من تصرفاته ما سيأتي بيانه في موضعه. . .
واتخذ ملتن أهبته للدفاع عن الحكومة في كل موقف تحتاج فيه إلى الدفاع، وكانت أول خطوة له في هذا المضمار الطويل ذي المسالك الوعرة ما كتبه بعنوان (ملاحظات) في صدد صلح كِلْكِنِي الذي عقده كرمول مع الأيرلنديين، فاخذ يمن عليهم ملتن بما يلقون من عدالة وتسامح ما كانوا ليظفروا بمثلها على يد شارل، وقد حسن وقع هذه الملاحظات في نفس كرمول، ونفوس أعضاء حكومته وأنصاره.
وكانت حكومة كرمول في اشد الحاجة إلى مثل هذا الثناء فهي في الواقع تستند إلى أقلية الشعب، وتعتمد في بقائها على الجيش المنتصر، وعلى شخصية كرمول الذي لقب حامي الجمهورية وان كان ملكا في حقيقة الأمر ينقصه التاج؛ وكانت أغلبية الشعب قد أسخطها القضاء على الملكية، وبات الناس يتوجسون خيفة من انفراد كرمول بالسلطة على هذا النحو دون البرلمان، واخذ البرسبتيرينز في داخل البلاد يكرهون هذه الحكومة إلى الناس خفيه، بينما كان الرأي العام في أوربا يعلن استنكاره وسخطه عليها. . .
وفي شهر أغسطس سنة 1649 نشر في الناس كتاب غفل من اسم مؤلفة عنوانه (أيكون باسِلَيِكْ - صورة جلالته المقدسة في عزلته وآلامه)؛ وتلقفت الأيدي هذا الكتاب، وكان الناس قد أحزنهم وآلمهم إعدام الملك على الرغم مما كان من طغيانه وعقد ألسنتهم الرعب والدهشة؛ وسرعان ما نفدت طبعته فأعيد طبعه وأعيد حتى لقد بلغ خمسين مرة في تلك السنة، وذهبت الظنون بالناس كل مذهب من يكون مؤلف هذا الكتاب، وشاع فيهم انه من وضع الملك نفسه كتبه قبيل إعدامه؛ وقد ادعى تأليفه فيما بعد أحد رجال الدين واسمه دكتور جودن وتقرب به إلى الملكية العائدة، وزعم انه اعتمد في تأليفه على مذكرات كتبها شارل بخطه في أخريات أيامه؛ وخلاصة الكتاب إن الملك ذهب ضحية العدوان والبطش(691/30)
وقد ظل مؤمنا بربه صابرا حتى قتل مظلوما.
ومهما يكن من أمر تأليفه فقد ذاع الكتاب في الأمة على نحو لم يعرف الناس له شبيها من قبل، وهال الحكومة الأمر فتلفتت تبحث عمن يرد عنها هذه الموجة العاتية، وفكرت في أول الأمر في سِلْدِن وكان من اشهر رجال عصره مهارة وعلما، ولكنها اتجهت أخيرا إلى ملتن.
وما أهل أكتوبر حتى كان ملتن على الرغم مما كان يعاني من ضعف بصره قد رد بكتاب بلغ نيفا ومائتين وأربعين صفحة، سماه (أيكون اوكلاستسي) أي محطم الأيقون؛ وفيه استعراض ما جاء في ذلك الكتاب فصلا واخذ يفند كل رأي فيه ويسفه كل حجة في بلاغة وتحمس وتدفق على نحو ما فعل في خصوما ته وردوده السالفة. . .
وقد افتتح ملتن كتابه بقوله انه مما يجمل بالمرء أن يتعقب مساوئ رجل هوى من مثل تلك المنزلة العليا التي تبوأها شارل وبخاصة بعد أن دفع ثمن ما اقترف، ولكن كتابه على الرغم من هذه الفاتحة لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما فعل شارل إلا أحصاها، ثم راح يعيب على هؤلاء الذين يمجدون ذكرى هذا الملك الذي صنع بحرية بلاده ما لم يصنعه في إنجلترا ملك قبله، ورأى إن الذين يفعلون ذلك إنما يبرهنون به على انهم غير جديرين بالحرية التي حاربوا من اجلها واخلق بهم أن يعودوا إلى الأغلال فمثلهم كمثل عدد من الوحوش الثائرة المقتتلة لا تسكن حتى تكبل أرجلها وتغل أعناقها، وتنم هذه اللهجة القاسية عن مقدار حنقه على من أحزنهم إعدام شارل، والكتاب في جملته وفي روحه العامة لا يعدو عن كونه مجادلة حزبية وخصومة جامحة لا كما تكون الخصومات في الرأي بين العلماء ولذلك فهو لا يشرف رجلا مثل ملتن إن لم يك كفيلا بان ينتقص من قدره. . .
من أجل هذا لا يسع المرء ألا أن يحس آسفا عميقا لانصرافه عن الشعر والفن فذلك ما خلق له، إما هذه الخصومات السياسية وما ينفق فيها من جهد ويحتمل من عناء فما اقلها عودا إلا على الذين طلبوها ليحتموا بها، وما أثقلها وأرذلها وقعا في نفوس الذين يقدرون ملتن حق قدره كشاعر، والذين تهفو قلوبهم إلى أمثال ما غنى من قبل من الحان بلغ بها ذروة الإجادة، وتجاوز بها أقصى ما بلغه شاعر من سحر الفن.
ويحلوا الخصوم ملتن أن يأخذوا عليه مأخذين يتصلان بالآداب والفن في كتاب أيكون(691/31)
اوكلاستسي، فأما أولهما فقد نسبوا أليه انه تهكم على شارل أن جعل وليم شكسبير قرينه المقرب في عزلته آخر حياته، وأما ثاني المأخذين فقريب من الأول وخلاصته إن ملتن تزمت البيوريتانز خصوم الفن إذ يعيب على الملك انه اخذ فقرة من قصيدة اركاديا لسير فيليب سدني فجعل هذه الفقرة صلاته، ويرى انه مما يشين الملك أن يتخذ صلاته من قصيدة كهذه وان كانت لها في ذاتها قيمتها وبراعتها في ساعة عصيبة كالتي كان فيها، ويصف ملتن تلك القصيدة كأثر فني بأنها من قصائد الحب العابثة.
ويرى مارك باتيسون أن المأخذ الأول لا أساس له وإنما جرده إلى سوء الفهم، فما سخر ملتن من شارل وإنما كان يقتبس ملتن فقرة من مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير يوضح بها معنى يريده. فذكر في صدد ذلك انه لا يقتبس من كاتب ممن لا يحسن الملك مصاحبتهم، وإنما يقتبس ممن يعرف الجميع انه كان رفيقه المقرب في عزلته ألا وهو وليم شكسبير.
ولكن باتيسون لا يعفى ملتن من المآخذ الثاني، ويقول إن فيه شاهدا على أن مؤلف الأليجروا قد تأثرت الناحية الفنية فيه تأثرا غير قليل بما اندفع فيه من الخصومات الدينية والسياسية وألا فكيف يحقر قصيدة كهذه فينسبها إلى العبث واللهو.
وما كاد يستريح ملتن من عناء رده حتى وجد نفسه كما وجدت الحكومة نفسها تلقاء هجوم آخر لا يقل عنفا عن سالفة ويزيد عليه في سعة انتشاره، وما احدث في أوربا وفي إنجلترا من قوة الأثر وشدة الدوي، وقد انبعثت هذه الصيحة من هولندا هذه المرة في كتاب ألفه باللاتينية علم من أعلام الأدب الأفذاذ هو الأستاذ سلامسيس أحد رجال جامعة ليدن وجعل عنوانه: (دفاع عن الملك شارل الأول).
وبيان ذلك أن شارل الثاني كان يعيش في مدينة هيج، وكان على مقربة منه سلامسيس في جامعة ليدن، وكان هذا الأستاذ اقدر معاصريه على الكتابة باللاتينية لغة العالم يومئذ كما هو الحال في الفرنسية اليوم، فاستعانة شارل ليدافع عن أبيه، وقبل سلامسيس ذلك عن طيب خاطر لأنه كره إعدام الملك في إنجلترا كرها شديدا.
وكان الأدباء القادرون على الكتابة، وعلى الأخص كتابة اللاتينية عدة الملوك والأمراء وذوي المكانة في ذلك القرن، وكان لبضاعتهم سوق يعظم فيه الربح، وكان لهم قدرهم(691/32)
وعظيم خطرهم لا عند الجمهور ولكن عند الحكام. فبهم يجتذب الرأي العام ولأقلامهم المشروعة مثل ما للسيوف من اثر أو كانت ابعد من ذلك شانا، وكان المتبع أن يستأجر الحكام هؤلاء الكتاب ليصنعوا ما تصنع الصحافة اليوم من دفاع وتهيئة للأذهان، ونشر لما يراد نشره من الآراء.
وكان سلامسيس قمة من القمم الشوامخ تتنازعه الجامعات والعواصم ويحب البابا أن يستأثر به فيبقيه عنده في روما، بينما يعمل الملوك على إغرائه بزيارتهم والإقامة عندهم، وكان هذا الرجل واسع الأفق، قلما وجد ند له فيما قرأ ودرس من الكتب؛ لذلك كانت استجابته لشارل الثاني كسبا عظيما لهذا الذي يهمه الدفاع عن أبيه، وقد كتب دفاعه ولم يأخذ عليه أجرا كما يرجح أكثر المؤرخين، ونستطيع أن نتصور مبلغ ما أحدثه كتاب مثل كتابه من أثر في إنجلترا وفي أوربا، كما نستطيع أن نتصور فداحة العبء الذي ألقي على عاتق ملتن وان المرض ليخترم جسمه يومئذ وإن العمى ليتهدد ناظريه.
وصل كتاب سلامسيس إنجلترا في أواخر سنة 1649، وسرعان ما اصدر مجلس الدولة قرارا يحرم تداوله، وفي يناير سنة 1650 انتدب ملتن ليكتب ردا على هذا الكتاب فما أهل شهر مارس حتى نشر ملتن، وهو لا يقوى على فتح عينيه كتابا عنوانه (دفاع عن الشعب الإنجليزي)، وقد ازدادت بهذا الكتاب شهرة ملتن في أوربا جميعا وعظم قدره في الأوساط الأدبية كلها، وكانت دهشة الناس من شجاعته أكثر من إعجابهم بوطنيته فانه لم يحجم عن منازلة ذلك المارد الأوربي سلامسيس، وان يجعل عدته اللاتينية، وقد حسب خصمه إن لن يقدر عليه أحد، فإذا به حيال قوة لا ريب فيها، وفصاحة لا يستطيع أن ينكرها إلا الجاحدون.
احتشد ملتن لكتابه وبذل قصارى جهده على الرغم من إلحاح العلة عليه وطغيان الغشاوة على ناظريه، ليظهر لأوربا انه أعلى من سلامسيس في اللاتينية كعبا وأطول منه باعا؛ ولقد بلغ في كثير من مواضع الكتاب غاية ما تمنى، ولكنه كان في مواضع أخرى كالمغنى الذي يكلف نفسه ما لا تطيق ليأتي بخير ما عنده، فما يعود من ذلك الجهد إلا بانقطاع نفسه واحتباس صوته؛ ولقد وجد ملتن في الرد على سلامسيس العظيم فرصة يلفت فيها أوربا إلى مقدرته ويقنعها بضلاعته وتمكنه واتساع أفق ثقافته، لذلك أسرف في التحمس وبالغ في(691/33)
سوق العبارات الضخمة وتأنق وتعمق وتعالى وحلق، وكان في بعض المواطن إلى الخطيب الذي نسى نفسه اقرب منه إلى الكاتب الذي حذق فنه.
على أن ما بذل من طاقة في هذا السبيل قد سبب له كثيرا من الضعف في نواحي القياس والبرهان والاستيعاب والشمول والإحاطة بموضوع الدفاع وحسن ترتيبه وتسلسل سياقه؛ هذا إلى أن اهتمامه بأطهار عيوب سلامسيس وتصيد أخطائه وتعقب متناقضاته والسخرية منه قد صرفه كثيراً عن غايته، ثم إن توجيه المطاعن الشخصية إلى خصمه وإسرافه في ذلك إلى مدى من الفحش بعيد البس كتابه كثيرا من السخف والحق به غير قليل من الفسولة.
ولم يعف ملتن شارل الأول في هذا الكتاب كذلك من التحقير والإهانة وهو في لحده، فشبهه بنيرون طاغية روما، ونسب إليه كثيرا من الفجور والفسوق واتهمه بتهمة نكراء هي دسه السم لأبيه، إلى غير ذلك مما يبعد كل البعد عن اللياقة. . .
وأنكر ملتن ما ادعاه الملوك لأنفسهم من حق الهي، فليس يستند هذا الزعم إلى أساس معقول، ولا هو مما يتفق مع ما يتصف به الله من عدالة وحكمة، فالله عدو الظلم ونصير الحرية، وهو يحب الأحرار من عباده ويرفع منزلتهم؛ وقد جاء المسيح لنصرة الحرية، وإلا فهل يرضى الله أن تقوم الحكومات لتكون كل منها أداة للطغيان، وكيف يقبل أن يفرض على الناس طاعة هذه الحكومات ويقر خضوعهم للظلم والبطش؟ وما فعل الشعب الإنجليزي أكثر من ثورته على الطغيان وتقريره مبادئ الحرية ليعيش الناس في كنف هذه المبادئ آمنين مطمئنين لا يأتيهم الخوف من أي مكان. .
ويمجد ملتن حكومة كرمول وما فعلت في سبيل الحرية وما ظفرت به من نصر لن يظفر بمثله إلا الأنجاد الميامين أولو العزم والبطولة، ولكنه يصارحها انه لا يزال أمامها ما يقتضيها جهودا وبطولة ليست اقل مما بذلت، فعليها أن تقضي على ما يتهدد كيان البلاد من المساوئ الداخلية كالجشع والطمع وأنانية ذوي الثراء وبغيهم، حتى يتمتع بالسلام والأمن في كنف الحرية؛ وتنطوي عباراته هذه على شئ من الوعيد يتهدد به خصوم الحكومة من طرف خفي، فقد كان ملتن ضيق العطن بهؤلاء الخصوم شديدا عليهم يتمنى لو ابتلعتهم الأرض وسعيهم وما يمكرون!(691/34)
وسخر ملتن من شارل الثاني وسماه شارل الصغير وبالغ في تحقير دعوته سلامسيس للدفاع عن أبيه ونعت من التفوا حوله بأنهم حفنة من الصعاليك يتصايحون ولاهم لهم إلا التصايح والعواء.
إما ما قذف به سلامسيس من مطاعن، فقد تجاوز في ذلك كل حد، فلم يتورع عن شئ مما يمس العرض والشرف، ونال بسهامه زوجته وسخر منها كما سخر من زوجها ووصفه بأنه مطية لهذه الزوجة التي تملك زمامه فلا يملك لنفسه بين يديها ضرا ولا نفعا؛ هذا إلى ما رماه به من الجهل والغباء والغرور والادعاء والحمق والعبودية وما أليها من ألفاظ السباب ومرادفاتها مما نعجب كيف تسنى أن يصدر مثله من رجل كملتن فضلا عن أن يعد هذا دفاعا عن قضيته، ولكنها فيما يبدو طريقة ذلك العصر وأسلوبه في الجدل والخصام. . .
وبلغ الغضب كل مبلغ بسلامسيس، ونال من نفسه فرح حاسديه لما أصابه أكثر مما نالت مطاعن ملتن، فقد اشمت ملتن به الأعداء وأضحكهم منه، وكان يبالغ هؤلاء الحاسدون في إعناته فيثنون على ملتن ويعجبون بعبقريته وضلاعته في اللاتينية وآدابها، وانبرى فريق من محبيه يسفهون هؤلاء ويوجهون المطاعن إلى ملتن؛ وبرز لهؤلاء أنصار ملتن فكالوهم صاعا بصاع، وهكذا تشعبت المعركة إلى معارك حتى كاد ينسى الدفاع عن شارل والدفاع عن الشعب الإنجليزي.
ونفّس سلامسيس عن نفسه بكتاب ثان بلغ ثلاثمائة صفحة ولكنه مات سنة 1654، ولم ينشر كتابه إلا سنة 1660 بعد عودة الملكية إلى إنجلترا، وقد نسى الناس هذا الموضوع، ومن شاء إن يقف على مبلغ حنق سلامسيس على خصمه، فليقرأ ما جاء في هذا الكتاب من مطاعن، فقد كال لملتن بنفس كيله فهو عنده الأحمق المفتون الذي يظن في نفسه الملاحة، وما هو إلا وحش قذر، وان خير ما يجب أن يصنع به هو أن يشنق على أعلى مشنقة ثم يوضع رأسه فوق برج لندن، وأباح سلامسيس لنفسه أن يعير ملتن بما أصابه من عمى كأنما هو أمر يدخل في مسئوليته، ومما قاله في هذا الصدد نعته ملتن بأنه الرجل الذي لم تكن له بصيرة، حتى فقد بصره كذلك، وان من اقبح الأمور وأرذلها أن يعيب المرء على خصمه عاهة لحقته ولا يد له فيها وليس وراء ذلك سخف فيما نعتقد، وما نظن إلا أن سلامسيس قد مسه الخبل من فرط ما ملأه من غيظ فطوعت له نفسه أن يقول هذا(691/35)
الكلام، وهكذا احتدمت الخصومة بين الرجلين حتى قال هوبز: انه عاجز عن أن يقطع أيهما كان احسن لغة وأيهما كان أسوأ جدلا؛ ويرى دكتور جونسون على الرغم من شدة وطأته، إذ ينقد ملتن انه كان ابلغ من سلامسيس. ويرى مثل هذا الرأي مارك باتيسون، ويزيد عليه أن ملتن كان أقوى فهما وارجح عقلا من خصمه وان كان على سعة اطلاعه اقل منه قراءة ومعرفة بالكتب. . .
وقد مات سلامسيس بعد رد ملتن عليه بنحو ثلاث سنوات، ومع ذلك فقد أذاع أنصار ملتن ومنهم ابن أخته انه مات كمدا، ومن اعجب الأمور وادعاها إلى الأسف أن يقر ملتن هذا الزعم ويجعله من دواعي فخره، وأنها لسقطة تحسب على الشاعر العظيم، وكم نود لو أن تاريخه قد خلا منها، فهي لا تقل عن سقطة خصمه، إذ عيره بفقد ناظريه. . .
(يتبع)
الخفيف(691/36)
بريطانيا وممتلكاتها الحرة
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
لا تزال شركات الأنباء العالمية توافينا بآراء غريبة لساسة البلدان التي تسمى ممتلكات بريطانيا الحرة حول المسائل السياسية الكبرى. ووجه الغرابة - ولو في إذهابنا وتصوراتنا - هو أن وجهة نظرهم لا تتقيد مطلقا بوجهة نظر ساسة إنجلترا ذاتها، أي قد تختلف معها، وهذا مما قد يتنافى منطقيا مع مجرد تبعيتها لها. لذلك يبدو من المهم لنا ونحن في فترة نضج سياسي أن نلقى بعض الضوء على النظام البرلماني في الإمبراطورية البريطانية من هذه الناحية:
من المصطلح عليه أن النظام البرلماني البريطاني من أكثر نظم الحكم السائدة الآن نجاحا بدليل انه في خلال الثلاثة قرون الأخيرة لم يحدث أي انقلاب برلماني في الإمبراطورية الشاسعة الأرجاء، بينما حدثت انقلابات كثيرة، بل ثورات دموية أحيانا في كثير من أقطار العالم، ومن بينها أقطار صغيرة المساحة والممتلكات والشعوب. ولا شك إن معظم هذا النجاح راجع إلى الصلات السليمة الوثيقة بين بريطانيا وممتلكاتها الحرة لسببين بسيطين:
الأول: إن شعوب هذه الممتلكات تمت غالبا إلى اصل بريطاني، ولذا تهدف بالفطرة لغرض واحد هو الصالح الإمبراطوري العام.
والثاني: أن إنجلترا تفهم معنى الحرية الرأي بين شعوبها، فأتاحت لها حكومات نيابية لا تقل قوة وقيمة وممارسة عن حكومة الدولة، وتشرف عليها جمعيات عمومية منتخبة على هيئة برلمانات تشبه مجلس العموم كذلك، وتقوم بأعمال مماثلة لأعماله ولها وسائلها الخاصة وأغراضها وذاتيتها المستقلة عنه، ولا ترتبط معه إلا بعلاقات استشارية متبادلة.
غاية ما في الأمر أن هذه العلاقات وطيدة ومحترمة، واهم من ذلك انهم يعملون جميعا على رعايتها وصيانتها وتنميتها بإخلاص لا حد له.
وليس أدل على ذلك من انهم - تحقيقا لهذا - انشئوا لجنة دائمة تمثل كل أطراف المملكة المتحدة اسمها الجمعية البرلمانية الإمبراطورية تسير طبقا للائحة عامة وهي المرجع الوحيد لكل ما يتصل بالممتلكات الحرة. ومن الغريب أن هذه اللائحة التي تنظم الروابط بين وحدات الإمبراطورية ليس لديها القوة التنفيذية التي تجبر أي وحدة منها على(691/37)
عدم الانفصال عن الإمبراطورية إذا رغبت في ذلك! ومع هذا لم تتولد مثل هذه الرغبة بشكل جدي حاسم في أي جزء من الأجزاء، لا لشيء إلا لأن اللائحة أولا تتجنب كل ما يتعارض مع مبدأ المساواة التامة بين الجميع. وثانيا توجه المجموعة بأكملها توجيها عاما مركزا حول الضرورات فقط، ولا شأن لها بالتفاصيل التي قد يتشعب منها خلاف ما. وهذا هو السبب في أن كل جزء من أجزاء الممتلكات الحرة يخضع لنفوذ هيئة خاصة به تدير شؤونه وحدها كاتحاد أمريكا الشمالية في كندا والاتحاد الأسترالي العام في استراليا، وهكذا في جنوب أفريقيا ونيوزيلندة أكثر من هذا، فإنه عند وضع (اللائحة) أصرت كل وحدة على إثبات رغبتها في الاحتفاظ دائما بحقوقها كقوة خارجية تكاد تكون أجنبية لا يربطها بالتاج ألا حق الولاء. وآذن لا نستغرب حين نعلم إن كل ما يربط بين نيوزيلندة وبين الإمبراطورية مثلا اتفاقية تسمى لتنظيم الملاحة التجارية لا غير. وهكذا في سائر الأجزاء، لكل جزء رابطة خاصة به على حدة.
ويحسن هنا أن ننوه بأن كثيرا من البريطانيين حاولوا إدماج هذه المجموعات في (بريطانيا ألام)، أو ما يطلقون عليه وكانت أهم محاولة عملية في عام 1910 عندما ألقى المستر إمري محاضرة خاصة بذلك على مسمع من ممثلي الجمعية الإمبراطورية الملكية ودعا إلى الاتحاد الشامل من جميع الوجوه، وانتهز فرصة حفلات التتويج التي كانت تقام في ذاك الحين، وطالب بتمثيل البرلمانات الحرة فيها تمثيلا له صبغة رسمية، وفعلا حظيت دعوته بنجاح يذكر كان من نتائجه عقب ذلك إنشاء لجنة تنسيق خاصة ظلت تعمل على تسهيل الاتصالات وتقريب وجهات النظر بدرجة محسوسة النفع.
وبعد الحرب الكوكبية 1914 - 1918 نمت الدعوة نموا كبيرا إلى أن عقد لتنسيقها أول مؤتمر للممتلكات الحرة فيما وراء البحار في مقر اتحاد جنوب أفريقيا عام 1924. ثم عقدت بعد ذلك عدة مؤتمرات في مختلف أنحاء الإمبراطورية , وأسفرت عن اتفاقيات ذات قيمة كاتفاقيات (إتاوة) المعروفة باسمها
ولكن يظهر أن فكرة الاتحاد التام قد وصلت عند هذا الحد إلى نهايتها القصوى، أي دون أن يحدث الاندماج المنشود، بل بقيت كل الممتلكات الحرة محافظة تماما على استقلالها التقليدي، وان كانت وجهات النظر قد وضحت وتقاربت تقاربا يضمن عدم الانفصال(691/38)
ويضمن حتى عدم احتماله.
هذه هي على وجه الإجمال علاقة بريطانيا بممتلكاتها الحرة، وهي علاقة يمكن اعتبارها انفصالية بمقدار ما هي اتصالية، ومع هذا يتبادلون الرأي بإخلاص وثقة فيما يتعلق بمصالحهم المشتركة ويعملون معا وقبل كل شئ على صيانة الإمبراطورية.
عجيب جدا هذا النظام، واعجب منه نجاحه الرائع. ولعله لا عجب إلا في أدمغتنا المتأثرة بشر أنواع الحزبية والفردية في الشرق المنكود.
وليس معنى ذلك انه نظام مثالي لا وجه لنقده. . . فلكم تعرض في إنجلترا ذاتها لمهاجمات كثير من المفكرين أمثال (كارليل الذي كان يتساءل متهكما عما إذا كان من المستطاع تصوره عقلا إن حوالي 600 إنسان مهما بلغوا من الحكمة والحنكة والخبرة يمكنهم وحدهم أن يحكموا ويتحكموا في أكبر إمبراطورية بنزاهة وعدم انحراف!
غير إن الواقع الذي لا تجدي فيه المكابرة قد اثبت نجاح هذا النظام نجاحا يعتبر نموذجيا إذا قيس بفشل معظم النظم الأخرى وانهيارها، حتى في البلاد التي أحكمت وضعها وتطبيقها كألمانيا وإيطاليا وغيرهما.
عبد الفتاح البارودي(691/39)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- 4 -
دعوى باطلة:
ويظن بعض المتدلين من المتعصبين على العرب انه لم يكن للمسلمين من فضل على الحضارة إلا ما كان من حفظهم للثقافة اليونانية. فهم لذلك حفظة أكثر منهم مبتكرين؛ والفساد في هذا الظن ظاهر كل الظهور. فإن المسلمين وان نقلوا الكتب اليونانية، وحفظوا الثقافة الإغريقية من الضياع حتى تسلمتها منهم أوربا في العصور المتأخرة الحديثة، واعتمدوها في بناء ثقافتهم؛ فقد كان لهم إلى جانب ذلك كله مناح ثقافية خاصة بهم، لم يعتمدوها بها على غيرهم، وهم من ناحية ما انشئوا وابتكروا قد عجلوا في سير الحضارة الأوربية الحاضرة. حتى لقد قال فيهم برناردشو: (لو لم يكن المسلمون في التاريخ لتأخرت الحضارة عدة قرون، ولما قطعت هذا الشوط العظيم إلا بعد أجيال طويلة والحق في هذا القول بين جلي؛ فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالا عظيما، وتتلمذوا على فلاسفتهم وعلمائهم؛ وتأثروا بأساليبهم الفكرية إلى حد كبير، حتى إن (ريموند) الذي كان مطرانا لطليطلة قد أسس في القرن الثاني عشر جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية وما زالت جامعات باريس حتى اليوم تدرس تلامذتها وطلابها منطق أسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية، وتعتمد إلى حد كبير على شروح العرب وتعاليمهم على جميع الكتب الفلسفية الهامة التي ترجموها، ولقد كان فردريك الثاني يعرف اللغة العربية فاطلع لذلك على الفلسفة العربية في مصادرها الأصلية، وبلغ به حد التعجب بفلاسفة المسلمين أن انشأ سنة 1224 مجمعا في نابولي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية ليطلع عليها جمهور المثقفين في أوربا وبأمره أيضاً سافر ميخائيل سكوت إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو.
(وما كاد ينتهي القرن الثالث عشر إلا وجميع كتب هذا الفيلسوف المشهور قد ترجمت إلى اللاتينية، وقبل ذلك بقليل: كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا لتدرس في(691/40)
باريس. ومما لا مريه فيه أن قادة الفكر الأوربي الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية العظيمة قد تأثروا بهذه الكتب تأثرا عظيما، واستفادوا منها مادة جزلة، وتدل التحقيقات الهامة أن روجر بيكون قد تثقف بالثقافة الأندلسية الإسلامية، ودرس فلسفة ابن رشد واعتمد ابن الهيثم في تأليف كتابه (البصريات).
وسنحاول في الفقرات التالية إن نبين مواطن الابتكار في الثقافة الإسلامية في كل مبحث من بحوث العلم. فذلك اقرب إلى الإقناع، وأوضح حجة في دفع مفتريات الخصوم.
في علم الرياضيات والفلك:
لقد أدى العرب إلى العلوم الرياضية خدمات جلى ليس من ينكرها إلا أن يكون مجانفا للحق. فهم الذين وضعوا أساس حساب المثلثات، ولولا العرب لبقى علم الجبر مجهولا في العالم الأوربي؛ إذ وضعوا مبادئه وأقاموا أساسه، وما تزال بحوثهم فيه حتى اليوم هي القاعدة الأساسية التي قام عليها، وما زال الأوربيون حتى ألان يعتمدون تأليف الخوارزمي الجليلة في العلوم الرياضية إلى حد كبير، ولقد عدل العرب كثيرا من كتب اليونان الهندسية والحسابية؛ ولم يكتفوا في ترجمتها بمجرد النقل الحرفي، بل انهم علقوا عليها شروحا إضافية قيمة، وما زال (الصفر) و (الكسور العشرية) و (نظرية الأسس) تحمل طابع العبقرية الإسلامية، وتشهد بطول باعهم في الابتكار والإبداع، ومهما يفاخر الغربيون بعلمائهم؛ فلن يجدوا فيهم من يدانى الكندي بغزارة علمه وكثرة بحوثه. فقد ألف هذا العالم الجليل ما يناهز المائتين والثلاثين (230) كتابا في مختلف البحوث الرياضية، والطبيعية، والهندسية. يقول سيديليو: (إن مؤلفات الكندي تصطبغ بطابع العبقرية العجيبة)، وقد عده (كاردانو الإيطالي) من اشهر عباقرة العالم المشهورين.
ولقد جمع العرب بين مختلف العلوم الرياضية، واحسنوا تبويبها تبويبا علميا صحيحا، وطبقوا الهندسة على المنطق، واعترف بفضلهم على الجبر العالم المشهور (كاجوري) فقال: (إن العقل ليحار حيال مآثر العرب في الجبر. . . وان حل المعادلات التكعيبية بواسطة قطع المخروط لمن اعظم الأعمال التي قام بها العرب. . .).
ويعد ابن البناء المراكشي في الطراز الأول من مفكري العالم الرياضيين. فقد ألف أكثر من ثمانين كتابا في الرياضيات وعلم الهيئة، وقد شهد بفضله معظم علماء أوروبا وخاصة(691/41)
(لالاند) و (سارطون)، ومن كتبه المشهورة كتاب: (الحصار الصغير) و (رفع الحجاب)، وقد ظلت أوروبا حتى نهاية القرن السادس عشر تدرس كتابه (تلخيص أعمال الحساب) في مدارسها، وقد حاز هذا الكتاب أيضاً اهتمام العلماء في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ ويقول فيه سارطون: (انه من افضل الكتب التي وضعت في الحساب)، وقد بحث فيه الجذور الصماء والكسور المتسلسلة بحثا وفيا، وجعل العقل يقرب من فهمها بعد أن كانت عليه طلاسم وألغازا. ومن مشاهير العرب أيضاً (البيروني) وقد شهد بنبوغه وتفوقه العالم الألماني (شاد) فقال: (إن البيروني اعظم عقلية عرفها التاريخ).
وأما في تاريخ علم الهيئة والفلك فللعرب فيه صفحة مشرقة وأثار جليلة. يقول لامبرو: (أننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد الكثيرين من العرب في هذا الفن) وأول من اعتنى من الخلفاء بهذا العلم الجليل وحض الناس عليه هو أبو جعفر المنصور.
قال الأستاذ نللينو: (وما اقتصر الخليفة المنصور على مجرد أحكام النجوم؛ بل انه منذ تأسيس بغداد بسنين قليلة قد بادر إلى إحياء علم الهيئة المحض)، وبلغ من شغف المنصور بهذا العلم أن كان يصطحب معه دائما المنجم الفارسي المشهور (نوبخت) واشتهر في زمنه المنجم الذائع الصيت (ما شاء الله) الذي ألف في الإسطرلاب ودائرته النحاسية (وأحمد بن محمد ألنهاوندي) صاحب الزيج (المستقبل)، وفي زمن المأمون اشتهر يحيى بن أبي منصور صاحب الزيج المشهور، وعلي بن عيسى، وعلي بن البحتري وفي زمنه أيضاً أصلحت غلطات المجسطي لبطليموس، أنشئ أول مرصد على جبل قيون في دمشق، وأخر في الشماسية في بغداد.
ومن علماء الفلك العرب المشهورين: ثابت بن قره، والمهاني والبلخى، وحنين بن اسحق، والعبادي، والبتاني الذي عده (لالاند) من العشرين فلكيا المشهورين في العالم؛ ولو شئنا أن نحصي جميع علماء العرب الفلكيين لضاق بنا المقام، وطال بنا الحديث، وليست هذه الكلمة العجلى بالتي تتسع لذلك.
والعرب أول من أوجد بطريقة علمية صحيحة طول درجة من خط نصف النهار، وأول من عرف كيفية الرسم على سطح الكرة وقالوا بكروية الأرض واستدارتها وبدورانها على محورها بعد أن كان يظن أنها منبسطة وثابتة، وقد استطاعوا بفضل ما كان لديهم من(691/42)
الأدوات أن يحققوا طول محيط الأرض ومقدار ارتفاع القطب، ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر كما حققوا أيضاً طول البحر المتوسط الذي حققه بطليموس بـ12 درجة فأرجعوه إلى 54 أولا ثم إلى 42 أي إلى مقداره الصحيح تقريبا، وعملوا الازياج الدقيقة والعظيمة النفع، كما ضبطوا حركة أوج الشمس، وتداخل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أخر، واكتشفوا بعض أنواع الخلل في حركة القمر واخترعوا الإسطرلاب والمربع ذا الثقب، ورسموا خرائط للنجوم المنظورة مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية، ووضعوا جداول للجاذبية النوعية وعرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة وعرفوا الاعتدالين وسبقوا غيرهم إلى اختراع (الموار) واستعمال الساعة الرقاصة، وحسب ألبتاني الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 درجة و35 دقيقة، ودقق في حساب طول السنة الشمسية وفي حساب أهليليجية فلك الشمس، فاستطاع أن يجد بعد الشمس عن مركز الأرض في بعديها الأبعد والأقرب، وحقق مواقع كثير من النجوم، وقال بعض علماء العرب بانتقال نقطة الرأس والذنب للأرض، ورصد الاعتدالين الربيعي والخريفي، وكتبوا عن كلف الشمس، وأوحت بحوثهم في علم الفلك إلى كبلر أن يكتشف الحكم الأول من أحكامه الثلاثة الشهيرة وهي اهليليجية أفلاك السيارات وبالجملة (فقد طهروا هذا العلم من ادرأن المنجمين والخزعبلات وأرجعوه إلى ما تركه علماء اليونان علما رياضيا مبنيا على الرصد والحساب والفروض التي تعلل الظواهر والحركات الفلكية).
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(691/43)
البريد الأدبي
لا غير:
إلى الأستاذ الشيخ عبد الرحمن القلهود في طرابلس الغرب. إذا لحن إمامان (لاغير) - ودع علة التلحين - فقد غنى به وأجازه أئمة سميت طائفة منهم في تلك (الجريدة) الطويلة وسردت مقالاتهم.
وإذا لم أجد نصا عربيا قديما تطمئن النفس إليه كل الاطمئنان فقد اطلع أولئك الإثبات الثقاة على ما لم اطلع عليه أو رأوا - وكل واحد منهم أكبر من (مجمع لغوي) رجاله أربعون أو مائة - رأوا أن يقولوا فقالوا. وفي هذا اللسان القوي الجريء المتقدم السائر مع الزمان ألوف من الكلمات والتراكيب المولدة. وأبناء العرب عرب وان غير الدهر والبيئة سحنتهم. . . وتلحين الإمامين (السيرافي وابن هشام) أورده صاحب التاج ثم قال:
(. . . فلا يكون - يعني لا غير - لحنا، وهو الصواب الذي نقلوه في كتب العربية وحققوه).
وبعد فها هو ذا الأمام ابن الحريري الذي اعتاد - سامحه الله - تخطئة الصحيح يقول في (الدرة) ص 15: (ويقولون اجتمع فلان مع فلان فيوهمون فيه، والصواب أن يقال اجتمع فلان وفلان، لان لفظة اجتمع على وزن افتعل، وهذا النوع من وجوه افتعل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضاً على وزن تفاعل مثل تخاصم وتجادل يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد، فمتى اسند الفعل منه إلى أحد الفاعلين لزم إن يعطف عليه الأخر بالواو لا غير).
وروي الإمام الرازي في (مفاتيح الغيب) ج4ص424 عند تفسير القول الكريم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا اله إلا هو، سبحانه عما يشركون) هذه الفائدة:
(قال أبو عبيده: الأحبار الفقهاء، واختلفوا في واحدة فبعضهم يقول حبر، وقال الأصمعي: لا ادري اهو الحبر أو الحبر، وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر، وكان الليث وابن السكيت يقولان: حبر وحبر للعالم ذميا كان أو مسلما بعد أن يكون من أهل الكتاب).(691/44)
وفي آمالي الأمام القالي ج3ص142:
(إبراهيم بن عثمان العذري وكان ينزل الكوفة قال: رأيت عمر بن ميسرة وكان كهيئة الخيال، كأنه صبغ بالورس، لا يكاد يكلم أحدا ولا يجالسه، وكانوا يرون انه عاشق، فكانوا يسألونه عن علته فيقول:
يسائلني ذو اللب عن طول علتي ... وما أنا بالمبدي لذي اللب علتي
سأكتمها صبرا على حر جمرها ... واسترها إذ كان في الستر راحتي
صبرت على دائي احتسابا ورغبة ... ولم اك أحدوثات أهلي وخلتي
فما اظهر أمره، ولا علم أحد بقصته حتى حضره الموت، فقال: إن العلة التي كانت بي من اجل فلانة ابنة عمي، والله ما حجبني عنها، والزمني الضر إلا خوف الله (عز وجل) لا غير، فمن بلى في هذه الدنيا بشيء فلا يكن أحد أوثق بسره من نفسه، ولولا إن الموت نازل بي الساعة ما حدثتكم، فأقرئوها مني السلام، ومات من ساعته.
واختتم هذه الأسطر بالثناء على أدب الأستاذ القلهود وشكره على حسن ظنه بهذا الضعيف وسؤال حضرته للاستفادة من فضلها عن هذه الفاء في جواب الشرط في هذه الجملة: (وأنها إن اقتنعت أمثالي من المقلدين فلم تقنع أمثال السيرافي وابن هشام من زعماء النحو المجتهدين) وعن معنى هذه الجملة: (فيا حبذا لو أن الأستاذ أعاد الكرة واستظهر دواوين العرب ورسائلهم فربما يعثر فيها على شواهد أخرى) وعن ورود مثل هذا التركيب (فيا حبذا لو أن الأمر كذا وكذا) في كلام قديم أو مولد متقدم أو متأخر.
قد ذكرتني (حبذا) بقول الشاعر:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
محمد إسعاف النشاشبي
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
أشكر لك أيها الكاتب الألمعي ما وجهته آلي من لطيق كلماتك، واراني مضطرا إلى أن ارجع إلى أسلوب الأستاذ الخولي - وان كان المقال الثالث عند صاحب الرسالة وأظنه ينشر في هذا العدد - أعود إلى أسلوبه لتعلم أنت وليعلم قراء (الرسالة) إني ما تجنيت، وما(691/45)
كان لي أن أتجنى، بل حرصت الحرص كله على توخي الأمانة والدقة فلم أزد حرفا على كلماته، وإنما نقلتها بنصها وفصها كما يقولون.
وإذا كنت تستبعد أن يتوهم الأستاذ إن الله سبحانه وتعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم (يا أخي) فاعلم إن الله - في لسان الشيخ - قال لعيسى عليه السلام (يا سيدي) واليك نص عباراته (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) هذه الآية وما قبلها وما بعدها تدور على شكل حوار خيالي بين عيسى وبين الله سبحانه وتعالى. المقصود بهذا الكلام من يعتقدون بألوهية المسيح وكان المسالة هكذا: انتم تعتقدون إن المسيح اله وتعبدونه فمن أمركم بذلك؟ هذا هو عيسى. أأنت قلت للناس انك إله؟! أبدا لم اقل لهم ذلك. طيب قولهم يا سيدي إياك ينكسفوا).
ولعل أهون من ذلك شرحه لكلام سيدنا أبي بكر بعد وفاة رسول الله، وما كان من قراءته آية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) قال الأستاذ (وكان أبو بكر يريد أن يقول: يا سي عمر الدنيا بخير، والأمانة لا تزال في أعناق الموجودين ومحمد يموت زيه زي غيره).
ولعل مما يؤسف ويمض ألا يخلو فصل من هذه المذكرات من عبارة أو عبارات عامية ركيكة كأن من الحتم لإفهام طلاب الجامعة اللجوء إلى اللغة العامية، وأني لأعرف أن إدارة الأزهر حظرت على المدرسين إلقاء الدروس باللغة العامية، ومازال التفتيش في الأزهر بعد هذا من اقبح عيوب المدرس.
على أني - يا صاحب القلم الفاضل - أطلعتك واطلعت قراء (الرسالة) على عامية مبكية لأنها تتصل بكتاب الله واحب أن أطلعك على عامية مضحكة، يقول الأستاذ ممهدا للكلام في الفصل والوصل: (تقول للخادم مثلا خد تعريفه، وهات بنكلة شقة عيش وبمليم كرات وبمليم سلطة قوطة وبمليم طعمية بل أكثر من هذا تعد له على أصابعك ليفهم هذه الأشياء، وان كنت حدء (يريد حدق يعني متنبهيها) تقول هات العيش الأول لأنه حايقابل بتاع العيش أول ما يخرج وبعدين تحود على شمالك تلاقي بتاع الطعمية هات منه بمليم سلطة، وبمليم طعمية، وهكذا تسرد الحوادث، وتشير إليها في كلامك فمن الجائز أن تراعى القرابات والمناسبات إذا كان حدء. فإذا كان بتاع الكرات فريح (يريد بجانب) بتاع الطعمية(691/46)
يقوم يذكره بعده على طول علشان الواد ما ينساش. . وهكذا).
وأني لاعتذر إلى صاحب (الرسالة) من نشر مثل هذه التفاهات في مجلته، غير إن الانتصاف للغتنا العربية يدعونا إلى ذلك.
وليس شينا - كما أشرت إلى ذلك في مقالي السابق - أن يأمر الأستاذ طلبته عند المراجعة أن يمروا بالقلم على بعض هذا فأنَّا نعيب عليه أولا أن تدرس البلاغة العربية بهذا الأسلوب وثانيا أن يدون مثل هذا في مذكرات، ومعروف إن طلبة الجامعة يدونون مذكراتهم مما يلقفونه من أفواه أساتذتهم.
أما عن ظرف الفقهاء فأني قد ذكرت حينذاك أنني إنما اذكر نماذج ولا أريد الاستقصاء والحق إن الاستقصاء يحتاج إلى زمن طويل والى مجهود قد لا تسمح به شواغل الدرس، وحسبك أن تقرأ كتابي الأغاني ونفح الطيب لترى فيهما كل طريفة مستحبة من ملح علمائنا وفقهائنا، وربما استطاع الكاتب أن يتحدث عن أشخاص من الفضلاء الذين شهروا بالظرف فأبى السائب المخزومي وابن آبي عتيق، أما أن يستقصي هذا الفصل في العربية، فذلك شأو بعيد. والى الأستاذ تحياتي.
علي العماري
مدرس بالأزهر(691/47)
محطة
الشرق الأدنى للإذاعة العربية
تذيع على أربع موجات قصيرة طولها
25 ر 44و62 ر 48و36 ر 90 متراً
خمس مسابقات أدبية جديدة:
يسر محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية أن تعلن افتتاحها باب المسابقات الأدبية الجديدة التي ستفصل فيها لجان مؤلفة من كبار رجال الأدب في العالم العربي.
وستكون هذه المسابقات شهرية تتناول في كل شهر ابتداء من نوفمبر موضوعا خاصا، وذلك حسب الترتيب التالي: -
مسابقة الأحاديث - مسابقة القصة - مسابقة الزجل - مسابقة الشعر - مسابقة الترجمة.
شروط مسابقة الأحاديث:
أولا: مواضيع الأحاديث المتسابقة - تقتصر الأحاديث على معالجة المواضيع الخمسة التالية: الأدب، الاجتماع، الثقافة، الفنون والعلوم.
ثانيا: أن يكون الحديث قد كتب خصيصاً لهذه المسابقة، وإلا يكون مقتبساً عن أية مجلة أو كتاب، أو أية مخطوطة أخرى أو مترجما، أو سبق أن نشر أو أذيع.
ثالثا: أن يستوعب الحديث ما لا يقل عن صفحتين عاديتين (فولسكاب) مطبوعتين على الآلة الكاتبة، وألا يزيد على ثلاث صفحات.
رابعا: موعد إذاعة النتائج: آخر موعد لقبول الأحاديث المتسابقة في العاشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1946. أي إن الحديث إذا وصلنا في العاشر من الشهر المذكور فسندرجه في مسابقة هذا الشهر (نوفمبر)، وإن جاء متأخراً عن التاريخ المذكور أدرجناه في مسابقة الأحاديث التالية.
خامسا: تختار المحطة لجنة خاصة للفصل في الأحاديث المتسابقة، واختيار ثلاثة أحاديث فائزة.(691/48)
سادسا: الجوائز: خمسة عشر جنيها فلسطينيا جائزة الحديث الفائز الأول. وعشرة جنيهات فلسطينية جائزة الحديث الفائز الثاني وخمسة جنيهات جائزة الحديث الفائز الثالث.
سابعا: تعقد لجنة التحكيم جلستها أمام الميكرفون، وتذيع النتيجة التي توصلت إليها يوم الجمعة 29 نوفمبر (تشرين ثاني) سنة 1946 الساعة 00ر6 مساء حسب توقيت فلسطين.
شروط مسابقة القصة:
أولا: موضوع القصة مطلق. ولكن يشترط أن تكون القصة نفسها قد كتبت خصيصاً للإذاعة وان لا تكون مترجمة أو مقتبسة أو منشورة من قبل.
ثانيا: تبقى القصة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتيجة المسابقة، وبعد ذلك، يحق لصاحبها التصرف بها.
ثالثا: يجب أن لا تزيد القصة على أربع صفحات عادية حجم (فولسكاب) وان لا تقل عن ثلاثة.
رابعا: ترسل القصة مطبوعة على أربع نسخ على أن لا يذكر الكاتب أسمه على إحدى هذه النسخ، بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.
خامساً: تقبل القصص حتى اليوم الخامس والعشرين من نوفمبر 1946 وكل قصة تصل بعد 25 نوفمبر 1946 تؤجل للمسابقة التالية.
سادساً: ترسل القصص إلى (محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية) يافا - فلسطين برسم (مسابقة القصة).
سابعا: تعلن اللجنة القصص الفائزة في جلسة مذاعة يوم
الجمعة 27121946 الساعة 00ر6 مساء حسب توقيت
فلسطين.
ثامنا: ينال الفائز الأول جائزة مالية قدرها ثلاثون جنيها فلسطينيا والثاني ينال جائزة مالية قدرها خمسة عشر جنيها فلسطينيا والثالث ينال جائزة مالية قدرها عشرة جنيهات فلسطينية.
تاسعا: ترسل الجوائز على أثر إذاعة النتائج.(691/49)
شروط مسابقة الزجل:
أولا: يجب أن تعالج المقطوعة أحد المواضيع الأربعة التالية: -
الراديو 2 - الريف 3 - القنبلة الذرية 4 - نهضة المرأة في الشرق.
ثانيا: أن لا يقل عدد الأبيات عن خمسة وعشرين بيتاً، ولا يزيد على أربعين بيتا.
ثالثا: أن ترسل المقطوعة مطبوعة على أربع نسخ وان لا يذكر الناظم اسمه على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.
رابعا: تقبل أزجال هذه المسابقة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1946.
خامسا: ترسل الأزجال إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا فلسطين - برسم مسابقة الزجل.
سادسا: تعلن اللجنة الأزجال الفائزة في جلسة مذاعة يوم الجمعة 31 يناير سنة 1947.
سابعا: تحكم في هذه المسابقة لجنتان واحدة للزجل المصري والثانية للزجل اللبناني والسوري وما كان قريبا منه.
ثامنا: توزع الجوائز كما يلي:
الجائزة الأولى ثلاثون جنيها فلسطينياً وتقسم إلى جائزتين متساويتين كل منهما خمسة عشر جنيها فلسطينيا تعطى الواحدة للفائز الأول في نوع الزجل المصري، وتعطى الثانية للفائز الأول في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.
الجائزة الثانية خمسة عشر جنيها فلسطينيا وتقسم أيضاً إلى جائزتين متساويتين كل منهما سبعة جنيهات ونصف الجنيه الفلسطيني، تعطى الواحدة للفائز الثاني في نوع الزجل المصري وتعطى الثانية للفائز الثاني في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.
الجائزة الثالثة عشرة جنيهات فلسطينية وتقسم إلى جائزتين متساويتين أيضا، كل منهما خمسة جنيهات فلسطينية تدفع إحداها للفائز الثالث في نوع الزجل المصري والأخرى تدفع للفائز الثالث في نوع الزجل اللبناني أو السوري أو ما كان قريبا منه.
تاسعا: ترسل النتائج على اثر إذاعة النتائج.(691/50)
عاشرا: يحق للمحطة أن تلحن وتذيع ما تشاء من الأزجال الفائزة دون مقابل.
أحد عشر: تبقى الأزجال الفائزة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لأصحابها التصرف بها.
اثنا عشر: ستقام مسابقة أخرى يعلن عنها فيما بعد لنوع الزجل العراقي الحجازي أو ما كان قريبا منه.
شروط مسابقة الشعر:
أولا: يجب أن تعالج القصيدة أحد المواضيع الأربعة آلاتية:
1 - نهضة الشرق العربي 2 - ملهمتي 3 - اليتيم 4 - الطبيعة الغاضبة.
ثانيا: أن لا يقل عدد أبيات القصيدة عن خمسة وعشرون بيتا ولا يزيد عن أربعين بيتا.
ثالثا: أن ترسل القصيدة مطبوعة على أربع نسخ وان لا يذكر اسم الناظم على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه كاملين مكتوبين على ورقة منفصلة.
رابعا: تقبل قصائد هذه المسابقة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر يناير سنة 1947.
خامسا: ترسل القصائد إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا - فلسطين، باسم مسابقة الشعر.
سادسا: تعلن اللجنة القصائد الفائزة في جلسة مذاعة يوم الجمعة 28 فبراير سنة 1947.
سابعا: توزع الجوائز كما يلي: -
الجائزة الأولى 30 (ثلاثون جنيها فلسطينيا).
الجائزة الثانية 15 (خمسة عشر جنيها فلسطينيا).
الجائزة الثالثة 10 (عشرة جنيهات فلسطينية).
ثامنا: ترسل الجوائز على اثر إذاعة النتائج.
تاسعا: يحق للمحطة أن تلحن وتذيع ما تشاء من القصائد الفائزة من دون مقابل.
عاشرا: تبقى القصائد الفائزة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لأصحابها التصرف بها.
شروط مسابقة الترجمة:(691/51)
أولا: يجب إن تكون القطعة الترجمة نثرية أما من الأدب الإنجليزي أو من الأدب الفرنسي، وان تكون من أدب القرن التاسع عشر، أو أدب القرن العشرين.
ثانيا: يذكر اسم المؤلف والمرجع الذي اخذ منه المترجم، ترسل نسخة مطبوعة من الأصل المترجم عنه.
ثالثا: يجب أن لا تزيد الترجمة العربية على آلف وخمسمائة كلمة وان لا تقل عن ستمائة كلمة.
رابعا: ترسل المقطوعة مطبوعة على أربع نسخ على أن لا يذكر المترجم اسمه على هذه النسخ بل يرفق اسمه وعنوانه مكتوبين على ورقة منفصلة.
خامسا: تبقى القطعة المترجمة ملكا للإذاعة مدة ثلاثة اشهر من تاريخ إعلان نتائج المسابقة، وبعد ذلك يحق لصاحبها التصرف بها.
سادسا: تقبل القطع المترجمة حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر فبراير سنة 1947.
سابعا: ترسل هذه القطع المترجمة إلى محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية - يافا - فلسطين، باسم مسابقة الترجمة.
ثامنا: تعلن اللجنة القطع الفائزة بالترجمة، في جلسة مذاعة يوم الجمعة 28 مارس (آذار) سنة 1947.
تاسعا: توزع الجوائز كما يلي:
للفائز الأول 30 (ثلاثون جنيها فلسطينيا).
للفائز الثاني 15 (خمسة عشرة جنيها فلسطينيا).
للفائز الثالث 10 (عشرة جنيهات فلسطينية).
عاشرا: توزع الجوائز على اثر إذاعة النتائج.
ملاحظة هامة - لا يجوز للمشترك أن يشترك بأكثر من قطعة واحدة أو موضوع واحد في المسابقة الواحدة.(691/52)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/53)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/54)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/55)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/56)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/57)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/58)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/59)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(691/62)
العدد 692 - بتاريخ: 07 - 10 - 1946(/)
بين جِيلَين. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
انتفض شعر المتنبي فرمى إلي بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية:
سُبِقنا إلى الدُّنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ
تملَّكها الآتَي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ
أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الفاني الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة!! ولعلّ ملك الموت يحارُ أحياناً حْيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلَّف بقضائه، ولعله يرى أحياناً أنه يزيلُ خيراً كثيراً ليخَلُفه شرُّ كثير، فهو يتردّد تردُّد المتحسّر على ذاهبٍ هو أولى بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مندوحة ولا مهرباً؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلفها ودرِب عليها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، وعلى الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق ميسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديماً كثيراً على جديد كثير، ولآثر ناساً على ناس وحياةً على حياةٍ. ولقد أرثي أحياناً لهذا المخلوق البائس الذي يسَّرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولا ريب يرى ما لا نرى ويحس ولانحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحناناً لما سوف تتجرّعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أخرى لم يبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الأوقات، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش!
وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عملة لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أترى أنامله ترتجف من الإشفاق والضنّ والبُقْيا على هذا السراج الذي أمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا(692/1)
الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيراً، ولا يوقَّر كبيراً، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خبئ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجُّله ونوقره، هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كأن أولاهما بالتجلّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضياً عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق.
فلو أن هذا المَلك كان ميسَّراً لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوباً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحياناً على أن يُبْقي على بعضنا ويعجل أحياناً في القضاء على بعضٍ آخر نظنُّ، ويظنُّ معنا، أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكون زِحاماً من الزِّحامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثُر به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممَّهدة من نواحيها لا يلقى لاحقٌ عَنتاً من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقاً خالياً لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة في إصلاح الفاسد والفكر في أسباب الفساد، وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضي عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة. وكذلك تنقطع مادة الحياة، ويتفانَى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالسُّخط والطمع. بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج، أما موت التسخُّط والطمع فهو إلى الخير أقرب، لأنه يبقي البقية الصالحة التي تستمرَ ٌّ بها الحياة متجددة على وجه الدهر.
ومن أجل ذلك قُدّر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ يولد وفي إهابه حبْ التملك والتسلط والأثرةِ والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره، وكذلك الطفل. وقُدّرِ للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية، وقد نَفضَ عن نفسه أحبَّ أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد(692/2)
والإيثارَ وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره، وكذلك الشيخ. فإذا الآتي متمَلَّك سالب، وإذا الماضي مفارق سليب.
فهذا هو تاريخ الصراع بين أجيال الناس كلهم، والأمم جميعها، والآراء بأسرها، والمذاهب برُمَتها؛ إلى آخر هذا الحشد مما يقع عليه الخلاف في هذه الحياة الدنيا، وليس يكون فيها شيء إلا كان مظنّة للخلاف. وهذا الصراع المُفنى هو نفسه سرْ القوة المحْيية، وهذا الجهاد المتواصل في طلب الغلبة والظهور، والنصر بين السالب والمسلوب، هو الحياة. وهذا العناء الشديد الذي يلقاه الشباب حين يحتدم الصدام بينهم وبين أهل السنِّ من قدماء الأحياء هو تكملة الإنسان الجديد الذي يريد أن يتملك مواطئ أقدام الإنسان القديم الذي كتب عليه أن يرحل ويُفسح الطريق لمن هو أولى منه بالعيش وعليه أقدر.
وقديماً قال القائل:
لكلّ جديد لَذَّةٌ، غيرَ أنني ... وجدت جديدَ الموت غير لذيذ
فيأتي الآتي إلى جديد الحياة، فإذا هو بها مشغوف لهيفٌ، وإذا هو نفسه جديد، فهو معجب بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره؛ وإذا سرُّ كل (آت) هو جدته الموفورة، وسرُّ الضعف في كل (ماض) هو جدّته البالية. وللجديد نخوة ونشوة وإرباء على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط منِ نزَال دامِ مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود: ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها.
ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاء لها إلا مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخّيل إلى أن جبارنا هذا الشابَّ لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جباراً سبقه إلى الدنيا فعرفها وخبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله(692/3)
بين اللهو والعبث والآراء غير الممحصة، وأخْذ الدنيا على أهون وجهيها وأيسرهما، وعلى أن الصدق فيما قاله أسخف قائل: (اضحك يضحك لك العام)!!
ليس معنى الصراع بين الجديد والقديم: هو أن ينازل أصغر الخصمين وأقلهما تجربة، أكبرهما وأوفاهما تجربة، وهو يضمر له في نفسه الإزْراءَ به والتحقير له والاستهانة به وبسابقته في الحياة، كلا، بل هو يحرص أشد الحرص على فهم خصمه، وعلى معرفة حيله، وعلى درس قوته ومواطن الضعف فيها، وعلى أساليب معالجة للأشياء التي حازها بالنصر والغلبة على من سبقه. وذلك يقتضيه أن يجعل صدر أيامه وريِّق شبابه وقفاً على الدرس والتحصيل ورياضة النفس، وتربية القُوَى، وتعهُّد نفسه في مراشدها وتجنيبها مغاويها، فإذا فعل كان أهلا لمن ينازله، وكان خليقاً أن يكتب له النصر عليه، ولكن شاء الله أن يسلك جبارنا الشاب أضلَّ الطريقين.
فماذا كانت العقبى؟ بقينا إلى زمن نرى فيه الشيوخ الذين أكلَ الدهر جِدَّتهم، وأبلى هممهم، وأفنى حوافزهم، وقطع دابر الحماسة من نفوسهم، هم الذين يتولون تصريف الأمر في غدِنا تصريفَ العاجز، ويدبرون سياستنا للمستقبل تدبير الذاهل، ويسيرون بهذا الشرق كله إلى رَدَغةٍ موحلة يرتطم في أوحالها الشيب والشبان جميعاً. وإلا فأين الشباب المبشر بالخير المهدى إلى طريق الرشاد، ليكون لشيوخنا إذا عجزوا عضداً، وإذا قصِّروا باعاً، وإذا سقطوا خلفاً؟
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير، ولكن لا أرى أحدَا
ومعاذ الله أن أكون ممن يُخْلي هذه الأمم من رجال شبان يدخل في أطواقهم أن يغيروا وجه هذا الغد الذي نستقبله، ومعاذ الله أن يلمّ بي اليأس ويتداخلني القنوط، فإني لأرى فيهم رجالا لوهم صرفوا عاماً أو عاملين في التأهب لصراع الغد، أي لصراع الحياة، أي لإنقاذ بلادنا من خوَرالشيخوخة، وجبن الهرم، وعجز السنِّ، وضعف الكِبرَ الطاحن، ومن غرور هذه جميعاً بسالف تجربتها واحتناكها، لأدركنا البغية التي يظن شيوخنا أنها محال، وأنها طَفْرة، وأنها جرأة وتقحم، وارتماء في مهاوي الهلاك.
أو ليس من أكبر العار في هذا الزمن أن يكون الشرق الذي بلغ بفتيانه قديماً ما بلغ، هو اليوم مبتلى بفتيانه أشد البلاء؟ أليس من الخزي أن يعرف أحدنا كيف تعاون شبابنا قديماً(692/4)
وكهولنا وشيوخنا على فتح الدنيا، فإذا خَلَفهم يتعاونون جميعاُ شيوخاً وشباباُ وكهولا على ترك بلادهم وأرضهم لقمة سائغة لكل طامع، ولحماً ممزقاً بين يدي كل جزَّار وإن هان؟
إن علينا نحن الشباب أن نوقر شيوخنا ونجلَّهم ونستفيد من تجاربهم، وعلينا أن ننازلهم ونصارعهم، ونأخذ من أيديهم المرتعشة ما يستقرُّ في راحاتنا الثابتة التي لا تخافُ ولا تتهيب. علينا أن نأخذ حقنا أخْذ الكريم المقتدر، من أقران نصارعهم ليموتوا موت الكريم البذَّال. وعلى هذا الصراع بين جيلينا يتوقف أمر الخير الذي نبتغيه، والاستقلال الذي نجاهد في سبيله، والعزة التي نسعى إلى اقتحام أهوالها.
وعلى شيوخنا أن يعلموا أنه لا بد لهم من شباب شديد الأسر يشد أزرهم إذا ضعفوا، ويخلفهم إذا هلكوا ولكنهم غفلوا زماناً فتركوا النشء ينشأ بين أحضانهم، فلم يسدّدُوه ولم يعاونوه ولم يعدُّوه لغدهم، وقلبوا آية الحياة وبدَّلوا معناها، فكانوا هم الصبيان حين تخلقوا بأخلاق الصبيان، وأصرُّوا على حبّ التملك والتسلط والأثرة والعناد واللجاج في كبير الأمر وصغيره!
هذه الأيام تمضي بنا سِراعاً، فلنقدّر لغدٍ، فإن مستقبل الشرق معقود بنواصي شبابه، فإذا نَفضَ عن نفسه غبار الكسل والمجاتة واللهو، كان إلى النصر أسرع ساعٍ، وعلى الدنيا الجديدة أكرم وافد.
محمود محمد شاكر(692/5)
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
المذهب الرمزي كما أفهمه:
يقف الشاعر على الطريق فتمر به مائة امرأة، ما فيهن إلا جميلة فتانَة تستهوي القلب وتستميل الفؤاد، وما واحدة منهن تشبه في جمالها الأخرى، فلكل (جمال) طعم في الذوق، وأثر في النفس، ومعنى في الحسّ. ويسمع مائة صوت ما فيها إلا مطرب يهز ويثير، ولكنّ للبيات (طرباً) ليس للرصد، وفي الصبا ما ليس في النهاوند. ويشمّ عشر زهرات فلا يجد فيهن إلا طيباً وعطراً، ولكن أثر الياسمين في النفس غير أثر الورد، وفي الزنبق ما ليس في البنفسج؛ وربما رأى المرأة أو سمع النغمة في حال، فأثارت في نفسه عواطف لا تثيرها في حال أخرى، فإذا جاء يصورها بالألفاظ هذا العالم الزاخر من (المشاعر) والخواطر لم يجد لهذه الآلاف المؤلفة، من (المشاعر) المختلفة، والخواطر المتباينة، إلا ألفاظاً قليلة لا تقوم لهذه الكثرة، ضيقة لا تتسع لشيء من هذه التفاصيل، ميتة لا تستطيع أن تجاري هذه القافلة الحية المتوثبة من الخواطر والأحلام الإنسانية. . .
ويقرأ القصة من القصص، أو الأبيات من الشعر، فتنقله إلى دنيا أخرى يرى فيها ما لا تراه عيون أكثر الناس، ويدرك من جمالها وسحرها ما لا تدركه قلوبهم، فإذا عمد إلى حصر هذه الدنيا في نطاق من الألفاظ تفلتت منه ومضت، كما يمضي عبق الزهر إذ ينبثّ في الجو، وهبط من بعدها إلى أرض الحقيقة الصلدة، كما هبط آدم من جنته إلى الأرض. . .
ويسمع الأغنية الحالمة تخرج من قلب عاشق مشوق، فتطفو على وجه النسيم العليل، في الليل الساجي، ينادي بها الليل، والليل معرض لا يجيب، فتَهز الأغنية إذ يسمعها (شاعريته) فتسقط أنضج ثمارها وأحلاها؛ فإذا راح يجمعها ليودعها ظروف الألفاظ، طارت من بين أصابعه كأنها حباب الخمر، أو خيوط النور. . .
ويحلم نائماً أو مستيقظاً فيجد لهذه الرؤى والأحلام متعة وجمالا يملأ جوانب نفسه، ويصل إلى قرارة قلبه، ويصحو منها ولذتها في حسّه، وأثرها في نفسه، وبقاياها في ذاكرته، فإذا أراد أن يضع وصفها على لسانه، خانته الألفاظ ساعة الشدة، وفرّت منه ولم تسعفه. . .(692/6)
فماذا يصنع الشاعر؟
أيقنع من الشعر بوصف الحالات النفسية الواضحة الدانية، ويدع كل سامٍ منها رفيع، أو غامض معقد؛ وتصوير مشاهد الطبيعة الجامدة دون أن يفيض عليها أفكاره وأحلامه وذكرياته؟ إنه إن فعل كان كمن يأخذ الأصداف والديدان من شاطئ البحر مجتزئاً بها عن كل ما في البحر من لآلئ وأسماك، فماذا يصنع؟
فكر في ذلك ناس من شعراء أوربة فرأوا أن الخصلة من شعر الحبيب، تذكر المحب بأيام الغرام، وتتلو عليه وهي خرساء لا تنطق تفاصيل أحداثها حتى كأنه قد رجع إليها؛ والنشيد الحربي يقص على الجندي الهرم أنباء معاركه التي خاضها؛ وصورة برج إيفل يعيد للباريسي النازح ذكريات بلده الذي فارقه، وما خصلة من الشعر وما النشيد وما الصورة؟ إنها رمز تستدعي في الذهن صوراً وحقائق على طريق (تداعي الأفكار) كما تذكر صورة الكعبة بالحج، و (جون بول) بإنكلترا، والأهرام بمصر. . . فلماذا لا نرمز لكل حالة نفسية غامضة برمز يذكر القارئ بحالة مثلهاكان وجدها، اعتماداً على (تداعي الأفكار) وعلى أن نفوس البشر متشابهات في الجملة في حالاتها الكبرى؟
وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك فنشأ ما ندعوه بالمذهب الرمزي فليس الشعر عند الرمزيين أن تصف الحبيب بل ما يثير في نفسك الحبيب من عواطف، ولا أن تصور مشهد الطبيعة بل ما يبعث المشهد فيك من خواطر. وإذا كانت هذه العواطف والخواطر غامضة، فليكن الشعر غامضاً مثلها، على أن يثير في السامع أمثالها، ويحضر له نظائرها. وأول شرط للشعر عندهم هو أن يكون وقعه في الأذن جميلا بارعاً، وأن يكون لألفاظه رنين اللحن الموسيقي. والشرط الثاني هو أن يعلو بسامعه، ويحمله إلى أسمى الحالات النفسية. قال عميد الرمزيين بول فرلين (الشعر ما انبعث من قرارة النفس، ورفَع إلى ذروة السماء، وكان موسيقياً قبل كل شيء).
وهذي غاية ما نظر إلى أبعد منها أديب، ولكن هل بلغ الأدباء الرمزيون هذه الغاية؟
الجواب: لا، وإن نهاية ما وصلوا إليه أن جاءوا بشعر في ألفاظه موسيقية وجمال، يلوح من ورائها معنى فيه من (تلك) الحالات النفسية غموضها، ولكن ليس فيه سموّها ولا عظمتها، ولا يدني منها ولا يوصل القارئ إليها.(692/7)
هذا ما عندهم؛ فما الذي عندنا؟
الذي رأيناه عندنا إلى الآن: أفكار مهوّشة مضطربة في رؤوس أحب أصحابها التعبير عن أفكارهم بالشعر، ولم يؤتوا ملكته، ولا أعدّوا له عدته، ولم يعطهم الله (شعور) الشاعر، ولطف حسّه، وصفاء نفسه، فاستعاضوا عن ذلك كله بالانتماء إلى المذهب الرمزي. . . ولا يكلف ذلك من يريده إلا أن يكتب في رأس قصيدته. . . أو مصيبته التي يحب أن ينزلها بالقراء، كلمة (من الشعر الرمزي) وأن يلقى صحفياً أحمق ينشرها له. . .
وكل الذي قرأناه إلى الآن من هذا الشعر. . . الرمزي، قطع هي أبعد عن الموسيقى من بُعد الأرض عن السحاب، وبُعد أصحابها عن الشعر، وهي تنزل بقارئها إلى أحظ دركات الاشمئزاز و (القرف. . .) بدلا من أن ترفعه إلى السماء التي ينظر إليها (فيرلين) عميد الرمزيين الأصليين لا القردة المقَّلدين. . .
لا. لا هذه ولا تلك، فالرمزية الحقيقية حلم جميل ولكنه منافٍ لطبائع الأشياء فلا يتحقق أبداً، ورمزية أصحابنا. . .
(تهريج) ثقيل، وتقليد بشع، وعدوان على الفن، فلا تدخل حرم الشعر أبداً. . .
إنها رطانة بحروف عربية، و (شعر. . .) ولكن لا شعور فيه ولا موسيقى ولا حياة.
عوَدة إلى (حرية الكتابة):
دفع إليّ أمس صديقي الأستاذ مظهر العظمة عدداٍ ً من مجلة الثقافة فقال:
- أنظر ما في هذا العدد.
فنظرت فإذا أناألقى أسماء جديدة لم أسمع بها قط قبل اليوم، فلا أحمد أمين، ولا فريد أبو حديد، ولا أحمد زكي؛ ولكن صدقي إسماعيل (؟)، وخالد حمد (؟)، وعمر كركوتلي (؟) فأنعمت النظر فإذا هي (ثقافة) أخرى، غير (الثقافة) المصرية المعروفة، تصدر في (دير الزور) من أعمال الشام، وإذا أصحابها قد سرقوا أسم مجلة الثقافة وحجمها وشكل غلافها وترتيبها حتى ليظن القارئ أنها هي، مع أنها منها كخريطة مصر بالنسبة إلى مصر. . .
فرددتها إليه، وقلت له:
- ألم تسمع أن المكتوب يقرأ من عنوانه، فدعني بالله منها لا أريد أن تَغْشي نفسي.
قال: لا والله، إلا أن تقرأ هذا.(692/8)
وأشار إلى فقرة قرأت فيها ما نصه بحروفه:
(أيها السادة! الممعن في الأدب العربي من إنتاج العصور وجماع الفنون يلمح خطاً واحداً تنتظم فيه كل الألوان والأغراض هو خط السكون، والممعن في الأدب الفرنسي يلمح خطاً واحداً يناقض ما تقدمه هو خط الحركة).
قلت له:
لقد قرأت، فقل لي ماذا تريد من رجل جاهل بالأدب العربي وبالأدب الفرنسي، ويريد مع ذلك أن يتعالم وأن يتشبه بالباحثين؟ أيمكن أن يفتح عليه إلا بهذا الهذَر الذي لا معنى له أبداً إلا (الدعاية) المضحكة لفرنسة التي قطع رأسها في بلادنا، وبقيت أذنابها تتحرك كما يتحرك ذّنب (سام أبرص) بعد دعسه بالحذاء؟. . . وهذه ثمرة (حرية الكتابة)، فمادام كل دعيّ في الأدب أحمق يستطيع أن يكتب ما توحيه إليه حماقته، ومادام كل رجل معه ثمن الورق وأجرة المطبعة يستطيع أن ينشئ صحيفة أو مجلة تنشر كتابات الأدعياء والحمقى، فارتقب العجب العجاب، من هذا (الأدب. . .) الجديد، وهذه (المجلات. . .) المحدثة التي لا آسف على شيء إلا على أنها لم تلحق الأديب الكبير أبا العبر الذي كان يقف على جسر بغداد فيكتب كل ما يسمع من كلام المجتازين في صحيفة معه، ثم يشقها ويخالف بين أجرائها ويقرأ ما تحصل معه، فيأتي بالأعاجيب، إذن لكانت تنشر له، وتقدمه وتفضله على سائر الكتاب، لأن مقياس الجودة عند أصحاب هذه المجلات الجدّة والمخالفة، وآثار ابن العبر هذا جديدة لم يسبق إليها، مخالفة لكلام العقلاء جميعاً.
قال: أرجو أن تتم المحاضرة.
قلت: أعوذ بالله، ماذا عملت معك حتى تعاقبني بقراءتها؟
قال: لابد.
وأخذ يتلو عليّ تتمة هذا الهذر:
(السكون والحركة هذا هو كل ما استطعت الحصول عليه من وراء دراستي للأدب العربي والأدب الفرنسي).
قلت: يظهر أن هذا الرجل قد أطال الدراسة للأدبين، وسهر فيها الليالي مادام (كل) ما استطاع الحصول عليه (من وراء. . .) هذه الدراسة، هو السكون والحركة، وما السكون(692/9)
والحركة؟ العلم عند الله، فهذا شيء يدق عن إفهام أمثالنا من عباد الله المساكين، ويعلو عن مداركم. . .
وجعل يقرأ أشياء من هذا الباب، وأنا لا أكاد أفهم منها إلا مفردات الألفاظ، أما الجمل وما يراد من إيرادها، فكان يخفى عنى، حتى وصل إلى قوله:
(. . . وفي أزهارشرْ (بودلير) و (لاأخلاقية) أندره جيد، وإباحية فيكتور مرغريت الأدب الحر والفن الثائر).
فقلت له: وصلنا. هذا هو المقصد! إنه ينقم من الأدب العربي خلوّه من هذه (ألا أخلاقية) وهذه (الإباحية) مع أنه لم يخل منها، ولكن هذا الجاهل لم يسمع كما يبدو باسم بشار وأبي نواس، وأبو نواس هو أمام أندره جيد في (مذهبه. . .).
هذا هو مقصد هؤلاء الذين سماهم الأستاذ سيد قطب أولاداً لا أعراض لهم، كما جاء في إحدى مقالاته العظيمة التي جعل عنوانهم (من لغو الصيف) وهي والله الجدّ كل الجد، ليست باللغو ولا باللهو، وهي من خير ما جرت به الأقلام في هذا العصر. هذا هو مقصدهم: الإباحية!
إنه لا يغيظهم شيء ما يغيظهم أن يكون في الكتاب من يدعو إلى الأخلاق ومن يحارب الإباحية. . .
إننا نحاربها يا أولاد، لأن لنا أعراضا، وأن لنا بنات وأخوات، أما أنتم فلا بنات لكم ولاأخوات، ولو كنَّ لكم لما باليّم والله بأعراض بناتكم وأخواتكم، ولكشفتموهنّ على البلاج ولجعلتموهن (مرشدات). إنكم تؤثرون لذة الإباحية والانطلاق على شرف العفاف والحرمان، ثم إنكم جاهلون تقولون ما لا تفهمون، وتهرفون بما لا تعرفون، أفسدتم بكتاباتكم هذه ملكة البيان في نفوس النشء، وأفسدتم خلق العفاف في قلوبهم، وأفسدتم ميزان المنطق في رؤوسهم، وتلقون مع ذلك مجلات تنشر لكم ما تكتبون. . .
إني أعود مرة ثانية فأقول: إن المصيبة ليست بهذا الدعي الجاهل ذنب فرنسا صاحب هذا الهذيان ولا بأمثاله، ولكن المصيبة في (حرية الكتابة) فمتى يصحو رجال الحكومات، ويتنبه العقلاء، فيكفوا هؤلاء الأولاد الذين لا أعراض لهم، عنا وعن أعراضنا؟
متى؟ متى؟ أبعد خراب البصرة؟!(692/10)
علي الطنطاوي(692/11)
الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى
بحث للعلامة الأثري أربيك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
عهد الإقطاع:
يطلق عادة على الدولة الوسطى - وتشمل بمعناها المحدود الأسرة الثانية عشرة (2000 - 1788 ق. م) - عهد الإقطاع أي أن نظام المجتمع كان يشبه ذلك النظام الذي ساد في أوربا في العصور الوسطى - فهناك على رأس الحكومة يقوم الملك، وهو لا يزال نظرياً مصدر السلطات كلها، والكاهن الأكبر لكل الآلهة، والمشرَّع الوحيد - ويليه عدد كبير من الأمراء المحليين يتسلمون أراضيهم منه، ويدينون له بالولاء، ولكنهم مستقلون عنه في إماراتهم استقلالا يكاد يكون تاماً. على أنه لا ينبغي أن نغالي في الفرق بين هذه الأحوال وتلك التي سادت في عهد الدولة القديمة. فالفرق كان فرقاً في الكمية أكبر منه فرقاً في الكيفية.
ففي أواخر الأسرة السادسة سقطت مصر في فوضى شديدة نظراً لعجز الملوك عن الإشراف على الأمراء الأقوياء وضبطهم، ثم لإغارة قبائل (عامو) الأسيوية على الدلتا. فاستقل أمراء المقاطعات وصاروا يتنازعون فيما بينهم، فاضطرب الأمن واختلت أحوال البلاد؛ لذلك كان تاريخ تلك السنوات مظلماً، وعندما ينبثق النور نجد الحكم في يد أسرة من الأمراء مقرها هيراقليوبوليس في مصر الوسطى - وقد ذكر مانيتون أنهم كونوا الأسرتين التاسعة والعاشرة - ونجد في الجنوب أسرة أخرى تقوم بالحكم في طيبة. هذه هي الأسرة الحادية عشرة، وقد عاصرت الهيراقليوبوليسيين مدة ما، ولابد أن نزاعاً شديداً قام بين هاتين الأسرتين ثم انتهى بانتصار الجنوب انتصاراً حاسما.
ولما تولى الحكم الطيبيون ملوك الأسرة الثانية عشرة، واجهتهم حالة تختلف كل الاختلاف عن تلك التي صادفت الملك مينا عندما وحد القطرين - فقد انتهز الأمراء المحليون سنوات الاضطراب وعادوا إلى توطيد سلطتهم، وتقوية نفوذهم حتى تجرأ أمراء (مقاطعة الأرنب) على قطع المرمر من محاجر حاتنوب، وكان هذا الحق مقصوراً على الملك وحده، وزيادة(692/12)
على ذلك أخذوا يؤرخون نقوشهم التذكارية هناك بتاريخ سنوات حكمهم الشخصي - قد وحد أوائل ملوك هذه الأسرة الجديدة تلك العناصر المتفرقة، ولكنهم لم يستطيعوا التغلب عليها فقبلوا حلاَّ وسطاً وذلك أنهم مقابل الولاء الذي طلبوه من هؤلاء الأمراء سمحوا لهم أو على الأقل لم ينكروا عليهم درجة كبيرة من الاستقلال المحلي.
إخضاع أمراء الإقطاع:
ولم يشعر الطيبيون أنهم في مركز قوي يسمح لهم بإخضاع أولئك الأتباع المشاكسين حتى تولى الحكم سنوسرت الثالث - كما يتبين ذلك من توقف الأمراء فجأة عند بناء مقابرهم الصخرية في عهده بجهات البرشة وبني حسن ومير - ثم عاد الأمراء إلى تقوية نفوذهم في عهد أمنمحيت الرابع. فعادت الفوضى الداخلية إلى البلاد مرة أخرى، ووقعت فريسة في أيدي الغزاة الأسيويين المعروفين بالهكسوس.
وبمقتضى هذا النظام الإقطاعي كانت سلطة الأمير في إقطاعيته تكاد تكون هي السلطة العليا. أجل كان بديهياً أنه عندما تخلو إقطاعية من أميرها تعود أسميا لفرعون كي يهبها مرة أخرى، ولكن لعله كان من الصعب عليه أن يرفض الوارث الشرعي حقه فيها، وقد وضح أحد أمراء أسيوط في العقود الكثيرة التي عقدها مع كهنة المعبد المحلى - كي يتولوا تقديم القرابين لمقبرته بعد موته - الفرق بين ميراثه عن أبيه، وبين أملاكه بحكم وظيفته كأمير فالأولى يتصرف فيها بلا قيد ولا شرط حتى عن المستقبل، والثانية لا يستطيع أن يتصرف فيها بعد موته - وظل للملك كما كان الحال في عهد الدولة القديمة - حقوق مالية في كل أقليم، وكان موظفو الخزينة العليا يجمعون الضرائب.
القانون:
كان الوزير ساعد الملك الأيمن في كل المسائل الإدارية والقضائية، ولا نعرف عن نظم القضاء نفسها أكثر مما نعرفه عنها في عهد الدولة القديمة؛ بل ولا نستطيع أن نقول إلى أي حد كانت هناك مجموعة من القوانين التي تعالج الجرائم الجنائية - بيد أن معلوماتنا عن القانون المدني أحسن وأوفر، فنجد بين نقوش مِتِن سلسلة من الوصايا تنتسب إلى حكم سنفرو أحد ملوك الأسرة الثالثة، وهي على رغم قدمها تدل على الدرجة الراقية التي(692/13)
وصلها قانون العقار إذ ذاك، وبين النقوش الواردة على جدران مقابر الأسرة الخامسة وصايا كثيرة عن أراض نظير خدمات جنائزية يقوم بها الموصى إليه لصاحب الوصية - كذلك تحوي أوراق البردي التي عثر عليها في اللاهون عدداً من العقود والوصايا مكتوبة بأسلوب راق وتعبيرات فنية تدل على أن كتابها محامون فنيون ولو أن هؤلاء لم يتمتعوا بلقب غير لقب الكاتب وهو بالهيروغليفية (سش).
وأهم الوثائق كلها هيالواردة في نقوش مقبرة الأمير حبفظا أمير أسيوط السالف الذكر، وفيها يعقد بصفته رئيس كهنة معبد ابْواوِت إله أسيوط المحلي عشرة عقود مع الكهنة يتنازل فيها عن جزء من نصيبه الحالي في القرابين التي تقدم إلى المعبد مقابل خدمات يقوم بها الكهنة له بعد موته، وهنا نجد التمييز القانوني بين ما يملكه الشخص بصفته الفردية وما يملكه بصفته موظفاً، وبين هذه العقود واحد يعقده الأمير بين نفسه بصفته الفردية وبين رئيس كهنة أبْواوِت بصفته موظفاً، وغني عن الذكر أن رئيس الكهنة هنا هو حبفظا نفسه
تدل هذه الوصايا والعقود على أن قانون العقار كان موجوداً ومحترماً في مصر في عهد الدولة الوسطى. والغالب أن القانون الجنائي لم يكن أقل تقدماً. ولا غضاضة علينا في أن نجرؤ فنظن بأن الأربعين درجاً التي حوت هذا القانون والتي كانت تبسط أمام الوزير في محكمة في أيام الأسرة الثامنة عشرة كانت موجودة بشكل ما أيام الأسرة الثانية عشرة.
الديانة والأخلاق:
ما مبلغ دلالة هذا النظام القانوني على وجود قانون خلقي؛ ثم إلى أي حد كان لهذا - إن وجد - أساساً دينياً؟ هذه أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، وإن الصورة الناقصة التي لدينا عن الديانات المصرية أيام الدولتين القديمة والوسطى تمثلها كأنها شيء شكلي غير شخصي، فمعبود الشمس (رع) الذي علت منزلته حوالي بداية الأسرة الخامسة، وكان مندمجاً مع المعبود حوريس في شكل (رع حوريس الأفق) اندمج مرة أخرى بالإله آمون إله طيبة لما ارتقت منزلته بارتقاء الأسرة الثانية عشرة الطيبية الحكم، وسمي (آمون رع).
ولكن مما لا ريب فيه أن كان هذا الإله للمصري العادي شيئاً بعيداً غامضاً؛ فقد كان اهتمامه الديني مركزاً في إله مدينته أو إقليمه. بل وهنا أيضاً كانت الديانة مجرد احترام(692/14)
للتقاليد والطقوس أكثر من كونها صادرة من الضمير، فالنقوش التي دونها الأمراء على جدران مقابرهم، وتباهوا فيها بأعمالهم في حياتهم قلما تشير أو قد لا تشير بالمرة إلى أداء العمل الطيب لذاته أو لأن الآلهة تحض عليه. كذلك تعطينا أوراق البردي التعليمية الفكرة نفسها فحيثما تحث على اتباع الأمانة تحض عليها لمجرد أنها (تفيد) صاحبها.
وفي الوقت نفسه يمكننا أن نتتبع في الدولة الوسطى بداية ظهور مقياس خلقي واعتقاد الحساب في الآخرة، وهذا راجع إلى حد ما إلى انتشار عقيدة أوزيريس الذي اعتقد فيه أهل الدولة الوسطى أنه يسكن أبيدوس كإله الموتى، فنرى في النقوش الواردة على توابيت هذه الفترة أول إشارات إلى هذا الإله بأنه القاضي الذي يعرف الحق من الباطل، وهذه فكرة لم تبلغ تطورها التام إلا في عهد الدولة الحديثة فقط؛ فلم تكن هناك في الدولة الوسطى قائمة الآثام المعروفة التي كان يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس بالاعتراف السلبي.
ولكن ما مقدار هذا الخوف من حساب الآخرة؟ أليس من المرجع أن القوم في الدولة الوسطى اعتقدوا كما اعتقد خلفهم في الدولة الحديثة بصحة التعاويذ السحرية التي كانت تدفن مع الميت سواء أكانت في شكل نقوش على تابوته أم كانت لفة من ورق البردي، واعتبروها حامية كافية له ضد عواقب حياة أثيمة؟ وإذا فرضنا أن نشأة الاعتقاد في الحساب في الآخرة تدل على نهوض وازع خلقي ألا يظهر كأن السحر سرعان ما قدم مسكنا دفع ذلك الرادع الثائر إلى النوم مرة أخرى؟
الواقع أن هذه أسئلة يصعب الإجابة عليها نظراً لقلة الأدلة التي لدينا فمن الصعب أن نقرر شيئاً حاسماً في هذه المسألة في حالة أمة تعيش الآن ناهيك بشعب مضى فإن هذا عادة يكاد يكون من المستحيل.
العناية بنظام الري:
وإذا انتقلنا من هذه الناحية الخلقية من الحياة المصرية إلى الناحية المادية واجهتنا مسألة أسهل. فهنا مع أن أحوال المعيشة العامة لم تتغير في بعض نواحيها عما كانت عليه أيام الدولة القديمة إلا أنه من الممكن أن نذكر تقدماً جد عليها، ويرجع هذا التقدم إلى أمرين أولهما: نمو التجارة الخارجية، وثانيهما: تحول الفراعنة عن تسخير الرعيّة في أعمال لا فائدة منها أي في بناء الأهرام، إلى العمل النافع الذي يعود على البلاد بالخير وهو تحسين(692/15)
نظام الري. وسنبحث هذا الموضوع الآن، أما الأمر الأول فسنؤجل التكلم عنه إلى مكان آخر في هذا البحث.
لما كانت واحة الفيوم في منخفض عن سطح البحر كان فيضان النيل يعمها كل عام ويحولها إلى بحيرة عظيمة، وفطن ملوك الأسرة الثانية عشرة إلى خزن كمية عظيمة في تلك الجهات، وتصريفها وقت التحاريق كي تطول مدة ري الوجه البحري - أي إن الفكرة كانت تشبه الفكرة الخاصة بخزان أسوان الحديث. ولا يعرف بالضبط مَن مِن فراعنة الأسرة الثانية عشرة نفذ هذا المشروع، وإن كان قد جرى العرف على نسبته إلى أمنمحيت الثالث - وقد عمل المشروع على كسب أراض شاسعة للزراعة من تلك المساحات الهائلة التي كان يغمرها ماء الفيضان عند مدخل الفيوم، وذلك ببناء سور عظيم.
الحالة الاجتماعية:
الرقيق: سرعان ما ظهرت نتائج هذه الإصلاحات في زيادة رفاهية البلاد. نعم إن الرفيق لم تتغير حاله عما كانت عليه أيام الدولة القديمة، والواقع أنها قلما تغيرت طول عصور التاريخ المصري.
الأشراف:
أما النبيل المصري فقد عاش عيشة الترف والمتعة، واقترن بها في بعض الأحوال عناية طيبة وشفقة بأولئك الذين يخضعون لسلطته. هذا طبعاً إذا صدقنا النقوش الواردة على مقابر الأشراف. ففيها نقرأ أن النبيل كان يطعم الجوعان ويكسو العريان، وينقل في سفينته عبر النيل من ليست له سفينة - وفي وقت المحن كان يمد إقليمه بالغلال، ولعل دعواه في أنه لم يسلب أرملة أو يغضب حق يتيم لم تكن مجرد عبارات تقليدية ترددها النقوش - قد أولع الأشراف بالرياضة فكان النبيل يخرج على قدميه لصيد ما يجده من حيوان في الصحراء؛ أو يركب قارباً من البردي يمخر به المستنقعات لصيد السمك بالحراب أو وحش الطير بعصا صغيرة.
ظهور الطبقة الوسطى:
كان ظهور طبقة متوسطة وفيرة العدد من أهم المميزات الاجتماعية للدولة الوسطى، ولهذه(692/16)
الطبقة مقابر كثيرة في أبيدوس حيث تخيل المصريون وجود قبر الإله العظيم أزيريس وتمنى كل مصري صالح أن يدفن على مقربة منه. وكان إذا أدرك استحالة ذلك قام على الأقل بالحج إليه أو أوصى بأن تحمل جثته بعد تحنيطها إلى أبيدوس لتحضر احتفالاً دينياً قبل أن ترقد في مقرها النهائي في مدينته أو إقليمه - وهكذا كانت أبيدوس مركزاً دينياً في القطر المصري.
(للبحث بقية)
أحمد نجيب هاشم(692/17)
فرويد ونظرية التحليل النفساني
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
مذهب فرويد أو فلسفته من المذاهب التي لقيت رواجاً عظيماً في العصر الحاضر، وأحدثت انقلاباً في علم النفس، وانقسم العلماء بالنسبة لآرائه إلى فريقين: معسكر الأنصار والمحبذين والتلاميذ، ومعسكر المنكرين والناقدين. ومن تلامذته الذين خرجوا عليه وكونوا مذاهب جديدة في تفسير الحياة الإنسانية (أدلر ويونج).
ويرمي فرويد - كما يرمي غيره من علماء النفس - إلى تفسير الأعمال الصادرة عن الإنسان، فليس هنالك عمل نفسي مهما خيل إلينا أنه تافه يخلو من معنى. فإذا بدا لنا أخذ هذه الأعمال عبثاً، فواجبنا أن نسعى إلى كشف العلة في حدوثه، والغرض الذي يرمي إليه، والنزعة التي دفعت إليه.
ونضرب مثلا لما قدمنا يوضح ما يذهب إليه فرويد قبل أن ندخل في صميم نظريته: دخلت خطيبة إلى الحمام وخلعت خاتم الخِطبة ونسيت أن تلبسه ثانياً، ثم أخذت تبحث عنه ولم تهتد إلى مكانه. نسيان الخاتم سلوك صدر عن الفتاة قد يفسره البعض أنه راجع إلى الشرود أو الانشغال أو الصدفة. وكثير من الناس لا يجدون تعليلا لهذا العمل. أما فرويد فيجعل السبب في ذلك رغبة الفتاة عن خطيبها وعدم رضائها عن الزواج، فتحركها هذه الرغبة الباطنة التي لاتشعربها، لأنها موجودة في اللاشعور إلى نسيان الخاتم، وهو رمز الزواج.
هذه النظرة إلى الأعمال الإنسانية علمية وديناميكية.
فهي علمية لأن فرويد يحاول ربط المظاهر بالأسباب كما يجرى في عالم الطبيعة. فهي نظرة جبرية وليس هذا مما يعاب على فرويد، بل على العكس مما يمدح به محاولته هذا التفسير الجبري الذي بدونه لا يستقيم العلم الصحيح، بل يخرج علم النفس من ميدان العلوم.
وهي نظرة ديناميكية، لأنه يجعل للنفس الإنسانية قوى متحركة يصدر عنها السلوك. وفي ذلك يقول في كتابه (مدخل إلى التحليل النفساني) ما يأتي:
(ليس غرضنا أن نصف ونرتب المظاهر فحسب، بل نريد أيضاً أن نراها علامات على(692/18)
حركة القوى العاملة في النفس، كأنها مظاهر ميول لها غرض محدود، سواء أكانت هذه الميول تعمل في اتجاه واحد أم في اتجاهات متعارضة. إننا نسعى وراء تكوين نظرة ديناميكية للمظاهر النفسية)
وقد أوردت هذا النص لعلة، ذلك أن أحد الباحثين في علم النفس، وهو الدكتور يوسف مراد المدرس بكلية الآداب قال في كتابه (شفاء النفس) ص95 ما يأتي:
(تمتاز فلسفة فرويد بكونها ميكانيكية جبرية، فإنها تنظر إلى الإنسان كأنه آلة عديمة الحرية خاضعة كل الخضوع لقوى خفية لا يمكن التغلب عليها إلا بالحيلة). وقال في مكان آخر: (أما فلسفة ادلر، فهي على نقيض فلسفة فرويد، تمتاز بكونها غائية اختيارية تفاؤلية. ونعلم أن المذهب الغائي على نقيض المذهب الميكانيكي) ص97 - 98. فهو يجعل مذهب فرويد ميكانيكياً
ويقول الطبيبان ريجي وهسنار في كتابهما التحليل النفساني ص15: (إن نظرية فرويد تمثل الحياة النفسية في نظرة موضوعية على طريقة النظر إلى الوقائع العلمية، كما تمثلها مذهباً يتطور باستمرار، يحتوي على قوى أولية متعارضة أو مكونة أو منتجة. ونستطيع تطبيق اصطلاح علم النفس الديناميكي على هذه النظرة الديناميكية للعقل)
وقد أخطأ الدكتور يوسف مراد خطأ آخر ص97: (وأخيراً يجب أن نشير إلى الشجاعة التي واجه بها فرويد المشكلة الجنسية وإلى الدقة الفائقة التي حلل بها مختلف مظاهر الوظيفة الجنسية، غير أنه أسرف، وخاصة تلامذته، في إرجاع كل ظاهرة سلوكية إلى الغريزة الجنسية)
وليس الأمر كذلك عند فرويد، لأنه لا يرجع كل شيء إلى الغريزة الجنسية، بل بعض تلامذته، وأولئك الذين كتبوا عنه كتابات شعبية تحمل معنى التعميم والتبسيط. وقد دافع فرويد عن نفسه ضد الذين يخطئون فهمه فقال: (لقد كررت وأعلنت بكل وضوح ما استطعت إلى ذلك سبيلا، بمناسبة الأمراض النفسية الانتقالية، أنني أميز تماماً بين الغريزة الجنسية وبين الغريزة النفسية وأن اللبيد يعني نشاط الغريزة الجنسية. إنه يونج - لا أنا - الذي يجعل من اللبيد مساوياً للدافع الغريزي لجميع القوى النفسية).
وقال فرويد في موضع آخر: (لم يغفل التحليل النفساني مطلقاً وجود ميول غير جنسية،(692/19)
وقد أقام التحليل النفساني بناءه على مبدأ الفصل التام الواضح بين الميول الجنسية والميول المتصلة بالذات أو الأنا وقد أثبت التحليل دون انتظار الاعتراضات الموجهة إليه، أن الأمراض النفسية ليست نتيجة الغريزة الجنسية، بل نتيجة الصراع بين الأنا والغريزة الجنسية
وهنا نجد أن الدكتور يوسف مراد في خطأ ثالث إذ يقول: (إذ ليس هذا رأي فرويد كما رأينا، لأن المرض قد يقع نتيجة الصراع بين الغريزة الجنسية والأنا في حالة الشعور، وقد يكون الصراع في اللاشعور فقط. فالعنين الذي يشعر بعجزه عن مباشرة المرأة يضطرب نفسانياً لشعوره بالضعف).
والغريب أن الدكتور يوسف مراد أنصف نظرية فرويد ص86 بقوله: (والواقع أن المشكلة النظرية التي أثارها التعارض بين فرويد وادلر لا تزال حتى الآن متعلقة. بل يبدو أن النزاع بين الفريقين يزداد عنفاً ويتجاوز حدود المناقشة العلمية الهادئة إلى أساليب التهكم والتحقير). ثم عاد وحقر نظريته بما يخرج عن الأسلوب العلمي.
وأذكر الآن حالة مريض عالجته على طريقة فرويد لأثبت صحة نظريته. جاءني شاب يشكو ضيقاً وقلقاً وتبرماً وانصرافاً عن الاستذكار، وتبلغ سنه اثنين وعشرين عاماً، يعيش مع أخيه الأكبر، يتناول من والده مرتباً لمصروفه الشخصي أربعة جنيهات في الشهر. سألته عن أحوال الجنسية فقال: إنه يتصل بالعاهرات، ولكنه لا يستطيع الزواج نظراً للظروف الاجتماعية إذ لا يزال طالباً، ولا يستطيع الصبر عن المرأة. وبالبحث اتضح أن ضميره يؤنبه على هذه الصلة غير الشريفة، فهناك صراع بين الغريزة الجنسية وبن نفسه الخلقية، وكلاهما كان في مستوى الشعور، وحلت المشكلة بتعليمه التسامي بالغريزة الجنسية نحو الموسيقى التي برع فيها.
وحيث كان فرويد يجعل للغريزة الجنسية أهمية كبيرة في حياة الإنسان، ويجعل لتجارية الماضية المسجلة في اللاشعور أثراً في سلوكه الحاضر، فقد بحث في الحياة الجنسية للفرد منذ ولادته، حتى دور المراهقة، وافترض أن الرضيع يشعر بلذة جنسية من امتصاص ثدي أمه ومن إخراج الفضلات ومن الملامسة مما لا يتسع تفصيله الآن
وإنما نذكر أهم الاعتراضات العلمية التي توجه إلى نظرية فرويد لتكون ماثلة بالبال(692/20)
وأولها أن نسبة لذة جنسية إلى الرضيع والصغير فيها شيء كثير من الإسراف والغلو بل الجرأة. ثم إن فرويد يقيم بناء نظريته على دراسة المرضى والشواذ، ويتخذ من هؤلاء سبيلا إلى أحكام عامة يصدرها على سواد الناس وهم الأغلبية، فيحكم بالخاص على العام، وبالشاذ على السليم. كما أنه لا يعني أن تفسر شخصية الإنسان في ضوء الغريزة الجنسية، ولو عكسنا لأصبنا الحق، فتصبح الغريزة الجنسية وما يتبعها من مظاهر إحدى وظائف الفرد التي تدخل في حسابنا، وليست كل وظائفه على رأي المغالين في مذهب فرويد.
أحمد فؤاد الأهواني(692/21)
الخائبون. . .!
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
إن أولئك الذين يقسمون الحياة إلى قسمين: ملهاة، ومأساة، قصيرو النظر؛ فالحياة أكبر من هذين، وهي تحويهما لأنها أوسع من أن تحِد بحالتين فقط، وإن كانت هاتان الحالتان تمثلان طرفي نقيض
وحيث تنتهي الملهاة تبدأ المأساة في حياة كل فرد أو مجموع، كما أن نهاية المأساة قد تكون بداية لملهاة جديدة. . . وهكذا
والناجحون في الحياة هم أناس رأوا منها جانباً واحداً فقط. وبينهم وبين أن يدركوا معنى الحياة بصورة شاملة عبور الجانب الآخر. .
ولا يضير هذه القاعدة أن يعيش في الدنيا أناس جربوا النجاح حتى آخر لحظة من حياتهم، أو أن يكون هناك آخرون لم يصادفوا غير الفشل. فالواقع أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها.
ويجب أن نفسر ما نرمي إليه من النجاح أو الفشل في الحياة الفردية، فقد يفهم كثير من الناس من النجاح جانباً واحداً مثلا، وقد يكون هذا الجانب هو الثروة عند الفقراء، أو الصحة عند المعلولين، أو سواء الخلقة عند المشوهين.
ولكن النجاح الذي نرمي إليه هو قدرة الفرد أو المجموع على بلوغ مثل أعلى لا يتقيد بحاجات الفرد الزمنية أو المادية، وينطوي على فكرة سامية وهدف مقصود.
والخائبون في بلوغ هذا الهدف، مع استمرار كدهم، هم الذين يستحقون العناية، لأنهم بذلوا جهدهم كله، وما زالوا يبذلون. . .
قيل إن غادة جميلة لم يأسر قلبها حب، ولم تجرب بعد زكامه، اختصم حولها رجلان كان كل واحد منهما يظهر لها أقصى غاية الحب والتضحية. . . فحارت في أمرها، ولم تجد في قلبها هوى معيناً نحو أحدهما على التخصيص فصممت على أمر!
قالت لهما: إنها لا تشعر بميل قطعي إلى أحدهما، ولكنها ستهب نفسها للفائز منهما في صراع ينشب بين الاثنين، يقرر الغلبة لواحد منهما!
واصطرع العاشقان وتمت العملية بفوز الفائز. . .!(692/22)
والتفت هذا مفتوح الذراعين ليحتضن أمنيته في الحياة. . . فما راعه إلا أن رآها منكبة على العاشق المصروع، تضمد له أوجاعه، وتهب له قلبها!!
فلما سئلت: لماذا غيرت رأيها؟ أجابت بأنها لا تستطيع إلا أن تحترم ذلك الذي أفنى كل جهده في سبيل الحصول عليها، ولم يبق لديه بعد ذلك شيء يغنيه!!
وهذه المرأة سليمة الشعور، قويمة العاطفة، وهي خير مثال يضرب لفكرة تقدير (البطل الخائب)، وإن كان هو في هذا المثال قد خرق القاعدة فنال ما تمناه بسهولة. . .
والنجاح السهل الذي يخيل لبعض الناس أنه ميزة يمتاز بها بعض من حبتهم الطبيعة ما يسمونه (الحظ)، وقد شوه الواقع تشويهاً، وأصبح من جملة الشرور البشرية التي يكابد منها كل فرد في كل مجموع!
النجاح السهل هو ما يريده كل الناس في كل الأزمان، لأنه خير اختصار للمجهود الشاق الذي ينبغي على الحي أن يبذله في سبيل حياته!
وأسطورة (الحظ) هي الحلم الذي يطرق أخيلة الطامحين بعد كل كابوس!
وليس معنى هذا أن ليس هناك (حظ) في الدنيا، ففيها كثير من الحظوظ والمحظوظين، ولكنهم - هنا أيضاً - القلة التي تثبت القاعدة ولا تنفيها.
ومن هذه الأسطورة نشأت شرور (الحياة الحالمة) التي تبدأ بالمراهقة، وقد تنتهي بالسجن والعذاب، أو بشفاء المسؤوليات التي لا يستطيع الفرد أن يضطلع بها.
والحالمون هم أولئك الناس الذين يريدون أن يختصروا الطريق إلى غاية معينة لكي ينصرفوا - من بعدها - إلى المثل الأعلى الذي يسعون إليه، فلا تنتهي حياتهم قبل أن يقطعوا الطريق، وتلتاث أفكارهم في الصراع على الآونة الحاضرة، ويصبح المستقبل عندهم أبعد من الماضي.
والمقامرون هم خير مثال لذوي الحياة الحالمة إذ كان مثلهم الأعلى هو الثروة! والموسوسون هم خير مثال لأولئك الذين يريدون السعادة الطهرية من أقرب طريق!
أما شر ما يمكن أن يصنعه (الحالم) في الدنيا، فهو بعد أن يتحقق حلمه الأول
فليست هناك قوة تقنع الإنسان بعد تحقيق أول حلم له بأنه غير موهوب وذي رسالة ينبغي عليه أن يؤديها(692/23)
ومن هنا يبدأ النزاع الأبدي بين المنطق والواقع، ويشتد الصراع بين قوة دافعة، وبين واقع واقف كالجدار
ونحل النكبة عند اختراق أول جدار، لأنه يفك أسر جميع ما في الفرد من قوات مخزونة لكي يندفع إلى الأمام
ولا تنتهي حياة كهذه إلا بكارثة، وأهون الكوارث في هذا المضمار هي الكارثة تقتصر على الشخص الفرد نفسه، ولا يشترك معه آخرون
وما هذه الحرب التي نكابد شرورها إلا نتيجة كابوس طويل لرجل حالم تحقق حلمه الأول!
الخيبة مرحلة من مراحل الحياة يجب أن يتخطاها الفرد لكي يكون ذا تجربة
ولا يضير هذه القاعدة قول (أوسكار وايلد) إن: (التجربة هي اللفظة التي اصطلح الناس على تسمية أخطائهم بها)
فالواقع أن الخطأ كالخطيئة، وكما أن الخطيئة عمل إيجابي قائم بذاته، فكذلك الفضيلة، وكل فضيلة مبنية على السلب فهي شق ينبغي تكملته
وكل نجاح سهل يحصل عليه الإنسان، فهو الشق الناقص من حياته، وينبغي تكملته
ومن لم يصطرع في حياته تهشم عند أول صراع بعد نجاحه
وليس انتحار الموسرين والأصحاء والموهوبين إلا لأنهم حازوا أكبر نجاح بأقل خذلان، ولأنهم اصطدموا بالواقع لأول مرة في حياتهم، جاءت الرجة أقوى مما يتحملون
ولهذا فلن يكون مما يضير الإنسان الكامل الإنسانية أن يكون (خائباً)!
عبد الوهاب الأمين(692/24)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 27 -
في ميدان السياسة:
ورضيت حكومة كرمول عن ملتن أعظم الرضاء وأصبح لديها المكين الأمين، ورفع كتابه ذكره في أنحاء أوربا، ومما ساعد على ذلك أن كثيرين كانوا يضيقون بترفع سلامسيس وصلفه ونظرته إلى الكتاب والأدباء جميعاً نظرة الزعيم الذي لا يرضي منهم بغير الإذعان له، وساعد عليه كذلك أن الناس عادة ينجذبون إلى الكاتب الجديد الذي يظهره موقف كهذا الموقف. هذا إلى أن ملتن كان يتغنى بالحرية ويدافع عن حق الشعب فتشيع في عبارته حرارة الوطنية، وهو إنجليزي يناضل عن بني جنسه، بينما يرى الناس سلامسيس يعمل لحساب غيره في قضية لا يربطه بها رباط إلا استجابة لشارل الثاني، وشتان بين موقفه وموقف خصمه. . .
وأصبح مقر ملتن في ديوان الحكومة كما أصبح بيته قبلة الزائرين من ذوي المكانة وأعلام الأدب من الإنجليز وغير الإنجليز من الأجانب الذين يهبطون إنجلترا، ولا ريب أن هذا قد أثلج فؤاده وأبهج نفسه، فما أشد ولوعه بنباهة الشأن وبعد الصيت!!
ويزعم جونسون أن ملتن قد نال جزاءاً على صنيعه ألف جنيه صرفت له بإذن من البرلمان، ولكن بايتسون ينكر هذا الزعم ويقول: إن جونسون هو المسؤول عن شيوعه في كل ما كتب عن ملتن من تراجم، فهو خالق هذا الزعم؛ والحق أني لم أجد فيما زعم جونسون برهاناً لزعمه ولا فيما أنكر بايتسون دليلا لإنكاره، ولعل جونسون تأثر بما قاله سلامسيس إذ أنه اتهم ملتن فيما اتهمه به بأنه مأجور يكتب ما يكتب لاعن عقيدة ولكن عن(692/25)
رغبة في الكسب، ويعتمد بايتسون في نفيه هذا عن ملتن على مجرد استبعاد حدوثه، فما يتفق هذا وما طبع عليه ملتن من كبرياء واعتزاز
على أن ملتن في الواقع قد ثمن ما كتب، ودفع ذلك الثمن غالياً لا يقوم بمال ولا بشيء من أعراض هذه الحياة، وأي شيء أغلى عليه من ناظريه؟ لقد كان ذلك المجاهد الحر يشكو العلة في عينيه منذ بضع سنين، وكانت تنتابهما غشاوة من حين إلى حين؛ وفي سنة 1650 ذهب النور من عينه اليسرى، وحذره الطبيب ملحاً، وما برح يكرر عليه أنه إذا أجهد عينه اليمنى، فهي ذاهبة كأختها لا محالة، ولكنه جاد على وطنه بما بقي من بصره، قال في ذلك بعد أن وقعت الكارثة بسنتين أي سنة 1654: (لقد كان علي أن أختار بين أن أنكص عن واجب سام أو أفقد بصري، وفي هذه الحالة ما كنت لأستطيع أن أصيخ إلى الطبيب. . . ولم يك في وسعي إلا أن أستجيب إلى ذلك المرشد القائم في داخلي، ذلك الذي لست أدري ما هو، والذي تحدث إليّ من السماء، واعتبرت في نفسي أن كثيرين قد اشتروا ما هو أقل خيراً من هذا بضر هو أعظم مما يتهددني من ضر، كهؤلاء الذين يبذلون نفوسهم مثلا ليشتروا المجد فحسب؛ وعلى ذلك فقد جمعت عزمي على أن أبذل ما بقي من بصري على قلته في أداء أعظم ما في طوقي أداؤه من خدمة للصالح العام)
ولقد أقبل المجاهد المصمم لم ينكص عن جهاده، وإنه ليعلم أن ذهاب بصره هو عقباه التي لامحيص عنها؛ وما دخلت سنة 1652 حتى حلت به الكارثة وا أسفاه، فحيل بينه وبين النور، وغشيته الظلمة، وهو لا يزال من عمره في الثالثة والأربعين وباتت عيناه اللتان كانتا أجمل ما في محياه الأبلج الحلو أقوى دواعي الحزن والألم لكل من تطلع إلى ذلك المحيا الكريم؛ وكانت الأرض يومئذ تأخذ زخرفها وتتزين للربيع، ولكن الشاعر الذي عشقت روحه الجمال لن يرى بعد اليوم جمالا لربيع!
وما نحسب أن في تاريخه على ما يزخر به من الشواهد على شجاعته شاهداً هو أجل من هذا أو أصدق منه أو أبعد أثراً في النفوس، وإنا لنحس حياله مثل ما نحسه حيال فارس ترك في الميدان شلوا من أشلاءه: أو سقى أرض وطنه بفيض من دمه!
ولأن فقد البصر يحول بين عامة الناس وبين متع الحياة، فذهاب بصر الشاعر أو الكاتب معناه الحيلولة بينه وبين طلب الحكمة، وهذا أوجع في نفسه وآلم لخاطره من حرمانه من(692/26)
اللهو ومن زينة الدنيا؛ ولنا أن نتصور وقع هذا في نفس كنفس ملتن، ذلك الذي ما انصرف يوماً عن القراءة والدرس على الرغم من كثرة شواغله وتعدد مشاكله!
البطل الضرير
أحاطت الظلمة بالشاعر العظيم، فهل ذهبت نفسه حسرات على ما أصابه؟ كلا، بل تماسك للخطب وقد أُنْذِرَ قبل وقوعه، وتذرع بالصبر، وإنه لذو كبرياء حتى على الدهر وأرزائه؛ وما كان لروح مثل روحه أن تهن مهما كرثته الأهوال ونزل به ما يعيا به الرجال!
وراح البطل يتلمس العزاء لنفسه، فكان عزاؤه الذي اطمأنت إليه روحه أنه أدى لوطنه صنيعاً جليل القدر بكتابه الذي رد به على سلامسيس، فليس ضاره بعد ذلك أن يذهب في سبيل صنيعه بصره. . .
وثمة عزاء آخر يدلنا على شدة اهتمام ملتن بنفسه وفرط اتجاه فكره إلى ذاته، وعظم انطواء شعوره على ما عسى أن يكون شعور الناس نحو شخصه لا في جوهره فحسب، ولكن في مظهره كذلك؛ وذلك ما أحس به من ارتياح، إذ علم أن ذهاب بصره لم يؤثر في مظهر عينيه؛ عبر عن ذلك الارتياح في قوله: (إن عيني لم يمسسهما في مظهرهما ضر، وإنهما لتلتمعان بضوء لم تحجبه غشاوة، ومثلهما في ذلك مثل عيني من يبصر بصراً تاماً، وهذه هي الناحية الوحيدة التي أجدني فيها على الرغم مني منافقاً)؛ وفي إشارته إلى ما عده نفاقاً منه سخرية عذبة وتهكم لا يخلو من مرارة. . .
ولندع ملتن نفسه يفصح عما جال في خاطره نتيجة لما أصابه، فقد عبر عن ذلك أبلغ تعبير وأصدقه في مقطوعة من مقطوعاته؛ وأشار إليه إشارة رائعة في مقطوعة أخرى، قال في الأولى: (إذا أنا تفكرت كيف انطفأ من حولي الضوء قبل أن أقضي نصف أيامي في هذه الدنيا الواسعة المظلمة، وكيف عطلت فيَّ تلك الملكة الوحيدة التي يعد تعطليها موتاً من الموت، بينما أجد نفسي أكثر نزوعاً لأن أخدم بها خالقي وأن أقدم حسابي الحق بين يديه، خشية أن يحق عليَّ لومه؛ إذا أنا تفكرت في ذلك تساءلت في حماقة: هل جعل الله النهار للعمل، بينما أحرم هكذا من الضوء؟ ولكن الصبر كي يقضي على هذه الشكوى لا يلبث أن يجيبني: إن الله غني عن عمل الإنسان وعن مواهبه فإن الذين يذعنون لسلطانه الرحيم خير إذعان هم الذين يخدمونه خير خدمة، وإن مكانته لهي مكانة الملك المهيمن،(692/27)
يجرى بأمره الألوف في البر والبحر دائبين، وكذلك يخدمه من هم واقفون لأمره منتظرون). . . وقال ملتن في المقطوعة الأخرى يخاطب صديقه سيريك سكنر: (أي سيريك، منذ ثلاث سنوات وهاتان العينان وهما من النور سليبتان، ولو أنهما سليمتان في مظهرهما الخارجي من العيب ومن الغشاوة قد نسيتا إبصارهما، ولا يقع في مقلتيهما المكفوفتين منظر لشمس ولا لقمر ولا لنجم خلال العام ولا لرجل ولا لامرأة، ومع ذلك فلست أشكو يد الله ولا مشيئته، لا ولا ينقضي شيء من حماسة القلب ومن الأمل، بل أحتمل وأمضي قدماً، ولعلك تسأل: ماذا يعينني؟ إلا إنه شعوري أيها الصديق بأني فقدتهما مرهقاً بالعمل في سبيل الدفاع عن الحرية، ذلك العمل النبيل، عملي الذي ترن به أوربا من جانب إلى جانب؛ وإن هذا الخاطر لخليق أن يقودني في متاهة هذه الدنيا، فأسير به رضيَّ النفس، ولو أنني أعمى ولم يتح لي غيره رائداً أسمى)
واختير له في أبريل سنة 1652 مساعد يصرف شؤون وظيفته بأمره، ويقرأ له ما يقتضيه عمله من قراءة، ويكتب ما يميله عليه مما يستدعي العمل أن يدون؛ وأقبل ملتن على عمله كأن لم يعقه عنه عائق، يشعر من يدانيه أنه رخي البال مطمئن الخاطر، لا يفتر اهتمامه بالسياسة، ولا يتخاذل عزمه أو تتطامن كبرياؤه. . .
وفي مايو استطاع ملتن ولم يمض شهر على مصيبته أن ينظم مقطوعة وجهها إلى كرمول عنوانها (إلى اللورد جنرال كرمول) ولم يك كرمول يومئذ قد سمي حامي الجمهورية بعد، وإنما كان بسبيل أن يحمل هذا اللقب، إذ كان ينظر إليه كأعظم رجل في الدولة، وألزم شخصية لسلامتها إذ ذاك، وقد نجاها بعد هزيمة الملك مما كان يتحيفها من مهالك، فأعاد النظام إلى أيرلندة سنة 1649، وهزم الملكين في إسكتلندة سنة 1650 والتي تليها وأجبر شارل الثاني على الفرار إلى فرنسا؛ وبذلك قبض على أزمة الحكم في المملكة جميعاً، ولم يبق يستدعي حكمته وهمته إلا ما يتصل بالناحية الدينية، فقد كثرت الفرق والطوائف التي يخشى من اختلافها بعضها مع بعض، فهناك قساوسة شارل الأول، وهناك البرسبتيرينز ثم المستعلون؛ وتركت بعض الكنائس بغير رعاة من هؤلاء ولا من هؤلاء؛ ودعا فريق إلى أشراف الدولة على الكنيسة بحيث يتمشى النظام السياسي الجديد مع نظام ديني يشاكله، ورغب فريق آخر إلى القضاء على الكنيسة الإنجليكانية، أي كنيسة الدولة الباقية من عهد(692/28)
شارل، واقترح بعض المستقلين وضع نظام جديد لكنيسة لا يقبل فيها رجل من رجال الدين إلا إذا أقر خمسة عشر مبدءاً أساسياً وضعها هؤلاء، وإذ ذاك لم يرض ملتن عن هذه القيود، واهتاجه الحنين إلى الدفاع عن الحرية، وتخالجه السخط على هؤلاء الذين يريدون شراً بالحرية الدينية في عهد الحرية السياسية، فنظم مقطوعة يناشد ملتن أن يتجه من شؤون الحرب إلى شؤون السلم ليدافع عن الحرية الدينية في مهارة وجدارة، كما دافع عن الحرية السياسية!
وكأنما كان بين ملتن وبين القدر ثأر، فلم يكد يفيق مما غشيه ويذهب عنه روعه، حتى روع بموت وحيده الطفل فأرمض جوانحه الحزن، وكان لا يذكر ولده أو يقع في سمعه إشارة إليه من قريب أو من بعيد إلا تبادر دمعه فامتلأت به عيناه الكفيفتان فما استطاع - وهو القوي الجلد - أن يحبسه! وضربه الدهر ضربة أخرى ولما يرقأ دمعه، إذ ماتت زوجته بعد ابنها بشهر وبعض شهر في يونيو سنة 1652، وقد وضعت له أنثى فتركتها في سرير الوضع ووسدت التراب وهي بعد في السادسة والعشرين وقد مضى على زواجها بملتن تسع سنوات، وعاشت معه نحو سبع سنوات بعد أن صلحت ذات بينهما
وهكذا تتوالى عليه المحن وتتنوع صروف الدهر فتمحصه وتثبت فؤاده، ويجمع في حياته بين وجهي الشجاعة، فله إلى جانب إقدامه وحميته عظم صبره وصرامة عزيمته!
وحق له أن يستريح من السياسة ومتاعبها، وأن يطلب العزاء في قيثارة وله في هوميروس من قبله أسوة، وما يكون له بعد ما حاق به عزاء إلا الشعر، لعله يقضي منه مأرب صباه ومنزع هواه بعد أن شغلته عنه الحوادث سنوات طويلة
ولكن البطل الضرير لم يكد ينزع إلى الراحة ويستثني نسائم الشعر، حتى انبعثت صيحة جديدة من نفس المكان الذي انبعثت منه الصيحة الأولى، فنشر في هيج كتاب جديد باللاتينية سماه صاحبه (استصراخ دم الملك السماء على الخائنين من الإنجليز) وأخذ مؤلفه يسخط على كرمول وجنوده في عبارات شديدة تجد مثالا لها في قوله: (إن جريمة اليهود بصلب المسيح ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بإعدام شارل الأول)؛ ثم راح يمتدح سلامسيس ويطنب في مدحه ويغلو في ذلك غلواً كثيراً؛ وبقدر ما أسبغ على سلامسيس من مدح كانت سهامه التي قذفت بها ملتن، فهو عنده دودة تدب من كومة قمامة، وهو أحط من(692/29)
القرد وأكثر ضآلة من البقعة، وهو أرنب فاتر وصعلوك جائع هزيل، وإنه لجاهل طرد من كمبردج لاستهتاره وتبذله. وفر إلى إيطاليا لما لحقه من عار إلى غير ذلك من عبارات أقل ما توصف به أنها البذاءة في أشنع صورها وأرذلها.
(يتبع)
الخفيف(692/30)
الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 2 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
معاوية بن أبي سفيان:
استبد معاوية بأمر الشام بعد إذ جنح إليه سواده، وقامت بنصرته أجناده؛ فناوأ بهم (علياً) على عرش الخلافة، وأضرم على أهل البيت وأبناء العراق من شيعة أمير المؤمنين نار حرب عوان أعادت أيام الجاهلية جذَعة بعد أن عفَّت على تراثها أخوة الإسلام، ومسحت جراحها يد الشريعة السمحة. ومهما يكن من شأن معاوية فلقد كان صحابياً جليلا عامر القلب بالإيمان، زاخر النفس بالورع والتقوى، أشدَّ ما يكون خليفة حدباً على الإسلام والمسلمين، وأعظم ما يكون خشية على هذه البنَّيِة الناهضة أن تتصدع وتنهار، وهو يرى جوائح الحرب تعصف بقوائمها وتتحيف من دعائمها.
ولعله كان بسبيل أن يراجع أمر نفسه، ويتدبر السبيل للخروج بالمسلمين من هذا المأزق الذي التاثوا فيه عندما قُتل (علي) بيد ابن ملجم، فاستقر زمام الأمور بيد معاوية، وتدلت إليه قطوف النصر ثمراً جنياً.
ولم يصعب عليه بعد ذلك أن يعالج أمر الحسن بن عليّ بما يكفيه مؤنة قتاله ويدفع عنه شرَّ خلافه؛ فالتأمت صفوف المسمين وأغمدت سيوفهم، وسمى معاوية هذا العام عام الجماعة وكانت مسرته بالغة بما آل إليه أمر هذا الخُلْف، وثقته في مستقبله عظيمة عظَم قوته في حاضره، ثابتة ثبات كفاحه في ماضيه؛ حتى لأقبل غداة النصر على أعدائه من بني هاشم باسط اليدين بالمنحة وبالعفو وهو يقول:
يا بني هاشم: والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم(692/31)
علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة.
سلك معاوية نهجاً من التسامح امتلك به القلوب، وبقدر اطمئنانه على ملكه كان تسامحه وإغضاؤه، وعلى حسب مقدرته على الأخذ كان جنوحه إلى الإهمال والترك. يقول في خطبة له مشهورة ألقاها بالمدينة عام الجماعة: (والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دَبْر أذني وتحت قدمي).
وكأنما كان يخجل معاوية أن يحول بين أعدائه وما يتشهَّون من تناوله بألسنتهم؛ بعد إذ تناولهم هو وجنوده غير راحمين طعناً وضرباً بأطراف الرماح وأسنة السيوف. ولقد دخل وهو خليفة على صعصعة بن صوحان العبدي - وكان سجيناً عنده - فقال له صعصعة في حوار بينهما غير راهبٍ منه ولا خاش: أما والله مالك في يوم بدرٍ مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: (لا حلّي ولا سيري) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟
فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلتُ جهلهُمو حلماً ومغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
. . . لقتلتكم!
ولقد أسبغ معاوية عطفه على أهل الشام لسابق مأثرتهم عنده، وزادهم على العفو واسع العطية وجميل الإقبال، حتى لأفضل مرة بمائة ألف على أبي جهم بن حذيفة حين قال له: نحن عندك يا أمير المؤمنين كما قال عبد المسيح لابن عبد كلال:
نميل على جوانبه كأنَّا ... نميل - إذا نميل - على أبينا
نقلَّبه لنخبرَ حالتْيِهِ ... فنخبر منهما كرماً ولينا
وقسم مرة قُطُفاً (جمع قطيفة) فأعطى شيخاً من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه، فحلف أن يضرب بها رأس معاوية فأتاه فأخبره، فقال له معاوية: أوفِ بنذرك، وليرفق الشيخ بالشيخ!
كان تحلّم معاوية إذن تكفيراً لما سبق من ضروب الأذى أو وفاء لما مضى من سوالف الجميل. . . ولقد أراب ذلك كثيراً من المؤرخين - ممن سجلوا حوادث عصره - حتى لاتَّهموه في هذا الحلم المتصنع، ولم يثبتوه له كفضيلة يحمد عليها؛ وكان ذلك إما حقداً عليه(692/32)
وغمطاً لحقه، وإما توسعاً في استنباط سريرة نفسه، واستكناه بواعث تصرفه؛ جرياً على سنة المتفلسفين والنقدة من أمثال الجاحظ؛ فقد ورد في كتابه البيان والتبيين إنه قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما! فقال: لو كان حليما ما سفه الحق ولا قاتل علياً، ولو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلا الأكفاء. ثم يقول الجاحظ: وأصوب من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا أسمع، ومن تعرض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يظهر حلمه؛ وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.
وكيفما كان الرأي في حلم معاوية فقد وطد بهذا الخلق الكريم ملكه، ومسح ببلسمه الجراح التي أسال دماءها؛ ولم يكن ليلومه على هذا التصرف إلا غِرٌّ مأفون، أو نزق أرعن سفيه، وكذلك كان ابنه يزيد الذي عتب على أبيه يوماً فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفتُ أن يعد ذلك جبناً (!!) فأجاب الوالد الحصيف: ليس مع الحلم ندامة ولا مذمة. . .
أبو جعفر المنصور:
يعد الناس أبا جعفر مؤسساً لملك بني العباس، بما بذل في ذلك من همة وأنفق من جهد. . . لكن سبقه إلى تبوَّئ عرش الخلافة أخوه أبو العباس السفاح، ومن ثم يصطلح المؤرخون على تلقب أبي جعفر بالمؤسس الثاني للدولة العباسية، ولقد أفضي اللواء إلى يده بعد أخيه فنهض بأعباء الكفاح وحده، وعنف على مناوئيه عنفاً مزق به أديمهم وفلَّ حدهم، إذا كانوا من القوة ومن الكثرة - وهو الضعيف بجدة ملكه القليل بعدة أنصاره - بحيث لا تجدي مع مثلهم المهادنة، أو تدفع من بأسهم المطاولة والمصانعة. كان ملك بني العباس كنبتة غضة لا تكاد تنهض على ساقها لتأخذ حظها من الغذاء والنماء؛ إلا أن يحيطها بسياج متين من القوة والبطش يرد عنها كيد الموتورين من بقايا آل مروان، وثورة الحاقدين من شيعة آل هاشم، وسائر من يتربصون به الدوائر من العرب. ولم تكن قد تهيأت بعدُ لخلفاء بني العباس تلك القداسة التي حظوا بها على تطاول السنين، وإنما كانت أكثر العيون تنظر إليهم كدهماء ارتفعوا على ظبات السيوف إلى تلك المكانة العلية التي بلغوها، فلا غرو إذن أن تكون ظبات السيوف وحدها هي التي تحفظ عليهم هذه المكانة، وتقرها فيهم وفي أحفادهم من بعدهم. قال عبد الصمد بن علي العباسي للمنصور يوماً: لقد هجمت بالعقوبة(692/33)
حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْلَ رمحهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء. فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة!
تلك كانت سياسة المنصور التي أخذ نفسه باتباعها مواجهة منه للمخاطر التي تتهدد ملكه؛ ولقد بعثته الريبة على أن يبسط يده بالعدوان إلى أقرب الناس إليه، من وزرائه وخاصته وأعوانه فضلا عن أعدائه والخارجين عليه. فاستقام للمنصور الأمر، وعنتْ له لوجوه رغبة منها أو كرهاً، حتى لعادت إلى نفسه بعد حين تلك الطمأنينة التي تفئُ معها النفوس إلى جانب من الحلم والإسجاح. . .
وكأنما كانت نفس المنصور قد غثيت لمنظر هذه الدماء التي أفاضها أنهاراً؛ أو عادت إليه ثقته ووقاره بعد أن طاحت بهما رهبة الحوادث، أو هو قد بلغ من نفسه هذا الزجر والتقريع الذي كان يلقاه به أمثال عبد الصمد بن علي من فضلاء أصحابه، وذوي الرأي والنصيحة فيهم؛ أو كأنما استشعر المنصور قلق الرعية من هذا الكابوس الجاثم فوق صدورها، ورأى مرجل الحفيظة والسخط يغلى في قلوب الناس فمال إلى شيء من التحلّم بقدر ما استراحت إلى ذلك نفسه، وكان عجيباً - عند النظرة غير الدقيقة - أن يصدر مثله عن مثله!
ولعله كان لا يزال يعالج هذا الأمر من نفسه، ويتكلف الدربة عليه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه. . . عندما اعترضه المعترض في خطبة له وهو يذكّر بالله تعالى فقال: أذكرك من ذكَّرتنا به يا أمير المؤمنين!
فكان من جوابه أن هشَّ للاعتراض وبش، وذكر الله واستعاذ به ثم قال: وما أنت يا قائلها فوالله ماالله أردتَ بهذا، ولكن ليقال قام فلان فقال، فعوقب فصبر، وأهونْ بها من قائل لو كانت. وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفيما ثبتت. . . ثم أخذ بقائم سيفه وقال: إن بكم داء هذا شفاءه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فما بعد الوعيد إلا الإيقاع؛ وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله.
كان المنصور - وقد ظفر برؤوس أعدائه - لا يضيره أن يعفو عن أذنابهم، وأن يضفي ثوب حلمه على من نهض مع الرؤساء من أوشاب الناس وعامتهم، لأن إشمال العقوبة لا(692/34)
يخلو من الظلم، والعفو عن العامة - وهم سريعو النفرة سريعو الفيئة - أقوم بأسباب الملك وأجمع لشمل الرعية، وأكفل بتقدم الحياة وانتظام العمران.
قال المنصور يوماً لجعفر الصادق: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي - يعني عند ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي فيهم - وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور عيونهم ويجمر نخلهم. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين! إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأنهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون. فقال أبو جعفر: إن أحداً لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم! وإنما قلتُ هممت ولم ترني فعلت. وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم. . .
وتحقيقاً لهذه الأغراض البعيدة نفسها كان عفو المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، فإنه كان ممن شق عصا الطاعة، وداهن في شأن إبراهيم بن عبد الله العلوي. فلما صار إلى المنصور أمر الربيعَ فخلع سواده، ووقف به على رؤوس اليمانية في المقصورة في يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين، قد عرفتم ما كان من إحساني إليه وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغدر والبغي وشق العصا ومعاونة الأعداء. . . وقد رأى أمير المؤمنين أن يهب مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم!
وحمل إلى المنصور عبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مِغْداق فقال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحداً من آل قحطبة بل أهب مسيئهم لمحسنهم وغادرهم لوفيهم.
وعفا المنصور عن عمه عبد الله بن علي بعد أن تمت هزيمته على يد أبي مسلم الخراساني، واكتفى باعتقاله حتى مات في محبسه.
وهكذا بدا المنصور قاسياً شديد القسوة، ثم تكلف من التحلّم ما أفضى به إلى قريب من الحلم، عندما استتب له الأمر وبلغت الطمأنينة من نفسه مبلغها.
(يتبع)
محمود عزت عرفة(692/35)
علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين
للأستاذ كامل السيد شاهين
مدرسة الرسالة، لها طابعها الخاص، في المساجلة والنقاش على هذا أسست، وامتحنتها الأيام بضروب من المحن، فثبتت على الزعازع، وانتصرت على الأغراض والأهواء. يعلم ذلك من تابع (الرسالة) منذ مولدها الميمون إلى حاضرها الزاهر.
فالرسالة للجميع بلا تفضيل ولا إيثار. لأن البحث والدرس يلدان الحقيقة التي كانت نشدة أصحاب العقول منذ خلقت الفلسفة وبهما تقررت الحقائق وثبتت، ولم يسفها التضليل مع السافيات.
إذا تقرر هذا، فليسمح لي الزميلان: الطنطاوي والعماري، أن ألفت نظرهما في رفق إلى مزالق ما كنت أحب لهما أن يتورطا فيها، أو ينحدرا إليها فقد راع الأول أن يقول أستاذ البلاغة في الجامعة (الله يقول لنبيه: يا أخي أنت حارق نفسك ليه؟). وراح يزعم أن هذا إشراك وكفر، ويستعدى على الجامعة والجامعين، ويثير الناس ليداركوا أبناءهم أن يجرفهم تيار الشرك والإلحاد!
بالله هوِّن عليك يا علي!، فليس ثمة شرك ولا كفر، وأنت أخبرُ الناس بذلك، وأدراهم أن هذه الكلمة قد فقدت حقيقتها في أفواه الناس، ألم تسمع إلى الفلاح يهز حماره، ويقول يا أخي سِرْ! أفتراه قصد أخوة النسب أو الرضاع، أو الآدمية، أو الحمارية. لا: إنما هي كلمة تحننٍ وتعطف! وشبيه بهذا قول السائق لحصانه: يا شيخ! والنظائر في هذا أكثر من أن تحصى.
فلا تُرَعْ، ولا تستنفر وأبق على الجامعة والجامعيين، ودَعْ حديث الكفر والإلحاد فقد جنت مصر ثمراً مراً في دهر طويل، كانت حَرِيّة أن تصرفه فيما يفيد ويغنى!
ثم اللغة العربية، ليست لغة الإيمان والإسلام، فقد سبقت الإيمان والتوحيد بقرون طويلة، فإن أبيْتَ إلا أن تخرُج لغة مؤمنة مسِلمة موحدة، فدونك فامنع دراستها في كلية اللغة ودار العلوم بمصر، ودار العلوم ببغداد، وأنشئ لك اللغة المباركة التي ولدت مسلمة وشبت مسلمة، ثم أدعنا، وأنا - إن شاء الله - لمستجيبون! وأظن هذه لمحة دالّة في علاقة اللغة بالإيمان والإسلام. فإن غُمْت فسنفرد لها مقالا خاصاً يضم الشتيت ويجمع المتفرق.(692/36)
وأما أنت يا عماري، فكنت بمنجاة من اللوم، إذ عرضت للأسلوب الذي تدرس به البلاغة في الجامعة فلكل امرئ فيما يحاول مذهب، وما كنت أحب أنه سيغريك نقدد الأسلوب بنقد الآراء، فأما إذا انحدرت إلى هذا فهُلمّ!:
(1) تقول: (إن الفكرة المتسلطة علي في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعاً لمعان نفسية).
إي نعم، يا علي، أأنت قرأت تعريف البلاغة؟ إن الذي لا يخلف فيه اثنان هو أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولا أزيد بياناً ولا بسطاً، ولكن هذه المطابقة لا تكون إلا إدراك المتكلم لنفسية السامع وما تحوي من ملابسات، فهذا هو فحوى كلام الأستاذ الخولي، أفتماري في هذا؟ إذن فهات تعريفك أنت لعلم البلاغة فأنا منتظرون!.
(2) تقول: (أن الأستاذ لا يؤمن بالماديات الصرفة، ولايستحسن تشبيه الفرس بالثلج في البياض)؛ فهو ذاك يا صاح! فإنه لا يجمل إلا حيث يكون للبياض مزية كالمساعدة على الاختفاء، وعدم ظهوره في آل الصحراء، فأما إذا لم تعتبر هذه المزية فلا فضل لأبيض على أبلق أو كميت! وذلك هو ما قصد إليه الأستاذ من تنبيهه على تفاهة التفضيل المقتضى للتشبيه في بيت ابن الزَّبير الأسدي.
(3) عاب أستاذ الجامعة البيتين:
ولازوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها بين قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
وخلاصة العيب أن الشاعر شبه صورة بصورة في الوضع واللون، ولم يلتفت إلى ما وراء ذلك من إيحاءات وأفاعيل، ينتظرها السامع من شاعر!
وقد خالف عليه الأستاذ العماري بأن الفن يوجد في المعاني كما يوجد في الماديات.
وليس هذا بالكلام يصغى إليه، فالماديات بحتة لا تأثير لها وإنما التأثير لما يتعلق بها من مِعانٍ، أفإن قلت: إن تمثال الزهرة كالزهرة كنت مشبهاً تشبيهاً مصيباً مؤثراً، لا إنه لاعتبار إلا لما يوحيه ويستلزمه هذا التشبيه من دقة الصناعة والمهارة في المشاكهة بين زهرة الورق أو الصلصال وأختها الطبيعية الحية.
يا سيدي: إن مثل التشبيه في البيتين في خلوه من الروح كمثل من يرى بقعاً من دم قتيل(692/37)
أو طائر منثورة على الرمال، ثم يسير فيجد خرزات حمراً مستديرة فيفاجأ السامع: أتدري؟! إن بقع الدم التي رأينا كهذه الخرزات احمرارها احمرارها، واستدارتها استدارتها، وحجمها حجمها، وانتثارها على غير نظام انتثارها! أفيعجبك هذا ويكون تشبيهاً غريباً عجيباً مصيباً مستحقاً للإطراء والثناء؟!
أحسب أن لا!.
ذلك أن السامع حين يُذكر الدم تعتريه الرهبة والإشفاق والرثاء لصاحب الدم المطلول، وحب التشفي ممن سفكه، ولا يخطر له ببال أنه مستدير أحمر منثور على غير نظام.
فمثل هذا التشبيه عبث ولغو وشعبذة، وسقوط بالقيم الفنية للشعر إلى حد سخيف!.
وهمسة أهمسها، لا بل مجلجلة أعلنها لا متردداً ولا هائباً، تلك: أن الثقة بأذواق النقاد القدامى يجب ألا تطرد، وأن استشهادهم يجب أن يكون موضع نظر جديد، وأن الاستشهاد بآرائهم يجب أن يعرض على محك التمحيص. ذلك بأنهم - على جلالتهم - قد شملهم ذوق العصر ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضة طرية، عطلا من زينة وحلية، وأثر البيئة أثر جليل في الأذواق والعقول، ومن ثم كانت تفاهة الإستشهادات، والتخريجات، وكان لجوءهم إلى الفلسفة والناحية العقلية هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، واتخذوا المبالغة أساساً للتفضيل، ولم تظهر لهم الزينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصّيغ والألوان والشعبذة اللفظية. إذا ثبت هذا فأعفني - عافاك الله - من استحسان البلاغيين، وعدم استحسانهم، فنحن نسأل الذواقين من أمراء البيان. فطه حسين والزيات، والعقاد، وأحمد أمين، وخليل مطران، أولئك المحكَّمون ترضى حكومتهم. فأما السعد والخطيب فلا نعيبهما ولكن نقول غلبت عليهما شقوة العصر وفساد الذوق، وقوة الفلسفة!.
فكلام عبد القاهر في أن التباعد كلما زاد كان موجباً لارتياح النفس ليس مطرداً، وليس أدل على هذا مما سقته لك مثلا من تشبيه الدم بالخرز الحمر.
(4) وأما حسد جرير لعدي بن الرقاع العاملي عندما أنشد:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فناحيته أنه أعرابي لا يعرف التحبير، ولم يخبر من المدنية ما يطوع له أن يعرف قراطيسها، ومحابرها وأقلامها، فظن جرير أنه لن يهتدي إلى شيء يشبه به رُوق الأغن،(692/38)
فلما أصابه حسده جرير. ألا تراه يقول: (قلت: قد وقع! ما عساه يقول؟ وهو أعرابي جلف جاف!).
فأنت قد وقعت - يا علي - في سِرّ حسَد جرير، ولم تدره فظننت أنه إنما حسده لأنه كان تشبيهاً بارعاً مصيباً له تأثيره وجماله، وما هو بذاك.
(القاهرة)
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية(692/39)
جنازة. . .!
للأستاذ عثمان حلمي
ولقد تبعتُ ضحىً جنازة راحل ... لمنازل في القفر غيرِ أواهلِ
ووقفت فيمن شيَّعوه بساحة ... لم تخفَ وحشَتها على متجاهل
الراقدون بتربها تحت الثرى ... ما بين أحجار وتحت جنادل
والنائمون بها ولا من موقظ ... يُرجى ولا صبح يلوح لآمل
ستر التراب عن العيون بلاءهم ... وأظلهم تحت البلاء الشامل
وسرى البلى فيهم فلم يترك لهم ... غير العظام عليهمُ كدلائل
فعجبت للإنسان كيف يغرُّه ... بحياته محضُ الغرور الباطل
لما نظرت إلى اللحود وكم طوت ... من عالِم جمَّ الذكاء وجاهل
أو ذي يسار جنب عاف معدم ... أو عاشق دفنوه جنب العاذل
ضم التراب شتاتهم فأواخر ... يمضون فيمن ضمَّ إثر أوائل
لم يُجزع الأضدَاد قربُ مباين ... فيه ولا الأشباه بعدُ مُشاكل
خلطوا فتلك على الزمان جماجم ... من فوقها أقدام جيل زائل
وتفتتوا حتى تخال جميع ما ... في الأرض دمّ مفاصل وأنامل
وقرأت ما كتب الألى فوق الألى ... دفنوهمو من خلة وشمائل
أحست أني قد دفنت بجنبهم ... ما كان بي من غيرتي ودخائل
ومضى الذي قد كان أثقل مهجتي ... من كلّ هّمٍ بالتوافه شاغلي
أنظر فهذا دون طرفك ثاكل ... يبكي ابنه واعذر فؤاد الثاكل
وابن هنا يبكي أباه وأمه ... وبدمعه معنى الغرور الشامل
ولسوف يتلوا نعيُه نعْيَيهما ... في ذات يوم للنعاة مماثل
وتقرِّب الأيام بينهم إذا ... وصلوا تباعاً نحو هذا الساحل
من مات هذا اليوم ساوى من قضى ... في موته أيام دهر كامل
أنظر فهذا القبر كاد لطول ما ... هجروه يبدي لهفة المتسائل
أين الذين بكوا عليه وما لهم ... شحّوا فما زاروه زورة باخل(692/40)
محتْ الليالي كلَّ وجد منهمو ... والبينُ أبرأ كلَّ حزن قاتل
عثمان حلمي(692/41)
الكتب
القاهرة الجديدة
للأستاذ نجيب محفوظ
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
قصة رائعة من صميم الحياة المصرية وضعها الفنان الموهوب الأستاذ نجيب محفوظ، وقد استهدف فيها عدة آراء عالجها بأسلوب يتفق وكل رأي، فهو ساخر حيناً؛ جادٌّ حيناً آخر، رائع في الحينين. وللأستاذ نجيب ريشة لا تخطئ النأمة الخالجة في شخصياته، وهو واثق من فنه فتراه لا يقصر هذه الريشة على شخص واحد بل يطلقها على أشخاص كثيرين يرسمهم فتعرفهم وتعيش معهم وتحس إحساسهم فتصبح شريراً مع الشرّير خيّراً مع الخير مندفعاً متأججاً مع المندفع المتأجج.
وشخصيات الرواية مركَّزة في أربعة شبان وفتاة. أما الشبان فتجمعهم رابطة الدراسة في الجامعة فهم جميعا في الليسانس كما يجمعهم اتحاد السكن. ثم تنشعب بهم مسالك الخلق فلا مواءمة ولا انسجام؛ فأحدهم - وهو من طارده الأستاذ نجيب وجعله بطلا لقصته - شاب في الرابعة والعشرين من عمره ذو منبت يابس وتربية وضيعة تأصلت في نفسه، واجتمع الفقران، فغدا ولا أصل يتكئ عليه، ولا مال يتستر به. فكفر بالأخلاق، وأصبح مثله الأعلى (طظ) التي يلجأ إليها كلما اكفهرت الحياة وأغلقت شعابها دونه. (فطظ) في الأخلاق، (وطظ) في الفضيلة (وطظ) في القوم، وليس (طظ) في شيء واحد هو نفسه، وعلى هذا النهج سار، وعن طريقه وصل إلى زوجته وهي فتاة القصة، وعن سببها تم تعيينه. فهي عشيقة موظف ضخم، زلّ وأراد أن يتمادى فاتخذ من (الطظ) ستاراً. فقبل قائلاً: طظ. . .
وهذه الفتاة هي ابنة بائع سجائر مواجه للجامعة ذات أم عاهرة، ووالد من حزب الطظ محتاج إلى المال فحرض ابنته لتأتي له به. فتمنعت أول الأمر، وانصاعت لحب عفيف بينها وبين أحد الشبان الأربعة هو علي. . . شاب جميل ذو أصل ليس بالهين، ومال يكفيه ذلة السؤال، له آراؤه الملحدة، ولكن عن عقيدة، وله أيضاً مثله العليا التي يسعى لتحقيقها؛ فهو اشتراكي يفخر بغناه واشتراكيته، ولا يمنعه الإلحاد ولا الاشتراكية من أن يكون عفيفاً(692/42)
في حبه، قوياً في خلقه ذا نجدة عند الشدة، وهو بعدُ صافي القلب لا يحمل ضغينة ولا موجدة على عكس زميله محجوب طظ. . . أحبت إحسان علياً وإن لم يملك الحب لها، وأحبها هو وتمكن الحب منه، ولكن ما لبث أن فجع في حبه حين تعرض لفتاته الموظف الضخم الذي أغرى بماله. . . فطمع والدها، وشجع ابنته ودفعها فسقطت وحاولت أن تقنع نفسها أنها إنما تضحي من أجل والديها واخوتها. . . سقطت ووجدت زوجها شاباً ساقطاً لا ضمير له؛ عرفته أيام كان تلميذاً. فهو صديق لعلي، وهو بعينه الأستاذ محجوب طظ الذي لا مانع لديه من أن يغذي قرنين ينبتان في رأسه مادام في الأمر منفعة له، وطظ في الكرامة. . . تزوجت محجوباً وعُين وارتفع ومازال في ارتفاع سادراً عن كل شيء غير معني بأبيه مدقع الفقر الذي أعياه المرض فقعد عن العمل، ومحجوب مادام لا يهمه الوالد فالأصدقاء لا قيمة لهم، ولتتقطع وشائج الزمالة، وليغضب مأمون للأخلاق ماشاء، وليحزن علي على حبيبته مادام محجوب يرتفع كل يوم. . . وفي نشوة الارتفاع ركل محجوب سالماً الأخشيدي، وهو الذي قدمه إلى الموظف الكبير، وقد كان أثيراً عنده قبل أن يأتي محجوب فانتقم الأخشيدي لنفسه، ودبر المؤامرة فعصفت بالموظف الكبير، وكان قد أصبح وزيراً، وعصفت بمحجوب وزوجه فذهب وكأنما أراد الأستاذ نجيب أن يهمس في أذنه: (طظ في طظك، ولتحيى الأخلاق!).
أما مأمون فشاب ملؤه الإيمان بالدين وبالقضية العربية أخره المرض وهو طفل عن الالتحاق بالمدرسة، وعندما التحق أخذ نفسه بالشدة، فكان الأول دائماً، وكانت حياته سائرة على نظام رتيب، وإنك لتجده كل خميس ذاهباً إلى مصر الجديدة حيث خطيبته التي تزوجها بعد حصوله على الليسانس وسافر معها إلى باريس في بعثة علمية.
وأما الرابع فهو أحمد طالب صحفي لا يلعب كثيراً على مسرح الرواية، ولا نعرف له رأياً لأنه صحفي والصحفي في رأيه - ولعل هذا هو رأيه الوحيد الذي أذاعه - لا يصح أن يقول رأياً، وهكذا اجتمع هؤلاء الأصدقاء وليس من يجمعهم سوى درس في الصباح ومسكن في المساء.
ولا يقتصر الأستاذ نجيب على هؤلاء بل هناك أشخاص كثيرون غيرهم كوالدي محجوب وحمد يس بك وأسرته ذات الماضي المتواضع، والحاضر الأرستقراطي، وإن لمحجوب(692/43)
معها لشأناً في حالي فقره وغناه، وهناك أيضاً جامعة أعقاب السجاير التي أبرز الأستاذ لها صورة واضحة تلمسها في وصفه لها وحديثها هي مع محجوب فتسمعها تقول: وجب، وغير ذلك من ألفاظ تكمل الصورة وتوضحها، وهناك عفت وغيره من أصدقاء محجوب في أيام العز. . . تمر الريشة على كل هؤلاء فتبرز معارف وجوههم وخلجات نفوسهم نابضة بإحساسهم غير مغفلة شيئاً.
وتدور حوادث القصة في سنة 1930، والناحية القصصية فيها أبرز منها في قصة خان الخليلي وقد كانت هذه الأخيرة أشبه بمعرض صور رائع منها بقصة، وإن لم يفقدها هذا شيئاً من روعتها وقوتها. . .
وواضح أن الأستاذ نجيباً أوجد علياً ومأموناً وأحمد في قصته الجديدة ليثبت أن الأخلاق وإن هتكت عند محجوب فهي مصونة عند أصدقائه، وقد تعرض الأستاذ نجيب في قصته هذه لنواح اجتماعية عديدة يغض من رونقها كثرة تردادها إذ نحن الآن ففي حاجة إلى العلاج أكثر من حاجتنا إلى الشكوى، وإن بالقصة لفتات فنية رائعة ننتظرها من الأستاذ نجيب الذي خطا بالقصة المصرية خطوات واسعة نحو الكمال، وهذا أمر لا نستغربه عليه فهو فنان موهوب بفطرته جشع في القراءة العربية والغربية. . . وعسى أن لا يتأخر إنتاجه القادم. فنحن في شوق منتظرون. . .
ثروت أباظة
نفحات من سيرة السيدة زينب
إن أعصى ما يتكاءَدُ المصلحين، تلك العادات التي امتزجت بدماء العامة، والقصائد التي أشربتها نفوسهم، فتمكنت فيها على مر الأيام.
وإنه لمن الجهل والسفاهة، تجدي هذه العادات العقائد ومهاجمتها في عنف، بل الواجب علاجها بالحكمة، والاحتيال لاقتلاعها؛ أو توجيهها وجهة نافعة.
وقد أتخذ الأستاذ أحمد الشرباصي في كتابه (نفحات من سيرة السيدة زينب) خطة جديدة في (التربية الشعبية) ودرج على غير المنهج المتبع في الثورة بعقائد الناس. بل تناول مسألة الموالد، والأذكار، والتوسل، والتشيع، والتمسح بالأضرحة، والنذور، بروح جديدة، هي(692/44)
روح عالم النفس الحاذق، هي روح (الإعلاء) التي تعالج بها الغرائز وتهذب، ويحد من جموحها وطغواها، وتجعلها أداة صلاح وخير!.
والكتاب بعد ذلك عرض تاريخي أنيق لحياة هذه السيدة الكريمة، وتوجيه نافع للشباب الذي يريد أن يحيا حياة طيبة، ولا يستخذى أمام القوى الطاغية ومثل عال في التضحية والجهاد.
فللوعاظ والمرشدين وللمؤرخين المعنيّين بتحقيق حياة الشخصيات الإسلامية البارزة، ولمن يريد أن يهتدي بهدى جديد في التربية الشعبية، ولمن يبتغي الأسوة والقدوة في حيوات عترة النبي الكريم.
لهؤلاء جميعاً وضع هذا الكتاب، جامعاً بين دقة البحث، وطلاوة الأدب، وتأثير الوعظ واستخلاص العبر.
كامل السيد شاهين(692/45)
القصص
لا قدر الله. . .!
للروائي الإنجليزي أوسبرت سيتويل
لست أعرف بعد كيف ستنتهي هذه القصة، فإن ما سأقصه عليك إنما حدث صباح أمس، قبل أن أغادر السفينة في السويس.
جلست على كرسي طويل من القماش، وإلى جانبي أكداس من الكتب وصحفة حساء فارغة، أتطاول ببصري إلى الفضاء المكلل بالغمام، الفضاء الخاوي الذي لم يخفف من وطأته على الصدر سمك يتواثب فيسلي المسافرين. بدا كل شيء دفيئاً رطباً بالغ الرطوبة. وكانت حافة السماء تتدلى منها أعلام مهلهلة من السحب، وقد ذابت فيها حافة البحر. وكان الرجل الجالس بجواري قد بسط على حجره كتاباً مفتوحاً، وإلى جانبه أيضاً عدة كتب، وكان هو الآخر يحملق بنظرة ثابتة إلى المنظر المائي الخاوي. كان البحر يثير روحاً من الكآبة والاغتمام، لا يساعد على احتمالها إلا ما تبعثه في النفس من الفتور والكسل، وأنها تولج اليوم في اليوم فتحمل أناسا كثيرين على الاعتقاد بأنهم لابد قد تمتعوا بالرحلة مادام الوقت قد مر بهذه السرعة. كان من الواضح أن هذه الروح الكئيبة المغتمة تخيم علي وعلى جاري أيضاً. كان جاري طويل القامة نحيفاً دقيق اليدين، وكان يبدو على خلقته حساسية بالغة الارهاف، وساءلت نفسي من تراه يكون. . . لم تكن الكتب التي بجواره تساعدني على إجابة هذا السؤال، إذ كانت متنوعة: ترجمة لمجموعة شعر إغريقية، ورواية عصرية، وكتاب علمي، ودراسة لسيرة أحد السياسيين، ومجموعة من القصص القصيرة الحديثة. ثم لاحظت معها كتاباً من كتبي، وهو ذلك المسمى (الرجل الذي فقد نفسه) وبغتة حوَّل عينيه عن الماء وخاطبني قائلا: (أتحب البحر؟). فأجبت: (نعم أنا أحبه، نوعاً من الحب، على الرغم من ملاله، وما يبعث في لسوء الحظ من الرعب. أنني بحار ماهر، ولكن حين يتمدد الآخرون في فرشهم الخشبية يتمنون لو أنهم يغرقون، أتمدد أنا على فراشي الخشبي، مرتدياً جميع ملابسي، أبتهل إلى الله ألا أغرق، وأفكر في الخضم الشاسع من المياه الذي يتلاشى فيه رأس الإنسان فلا يكاد يكون شيئاً. ذلك هو السبب في أنني أفضل البحر الأبيض المتوسط، حيث نكون عادة على مرأى من البر. . . لكن يبدو أنه قد(692/46)
اختفى كلية في هذا اليوم. . . بل ليتني أبلغ قناة السويس، فإني أرتقب أن أحظى بوقت ممتع).
قال: (نعم أنا أعرف هذا الشعور، فإنه يداخلني أنا أيضاً بعض الشيء. وما دمت أنت كاتباً، فسأقص عليك قصة عنه ولكن أرجو ألا تكون ممن يؤمنون بالطيرة والفال
ربما لا تستحق هذه القصة أن تسمى قصة في واقع الأمر. هي شاهد أكثر منها قصة، أو هي برهان على إحدى النظريات. . . هذه النظرية، أو المغزى، هي تلك النظرية القديمة البديهية التي شغف أحد الروائيين المحدثين بترددها، وهي أن ما تشعر به يكون أشد صدقاً، ولا بد أن يكون دائماً أشد صدقاً، من مجرد الفكرة التي تدور بخلدك. أو بعبارة أخرى، اعتمد في حكمك على اللمس، لا على البصر. ولكن الناس في هذه الأيام تعوزهم الشجاعة التي تجعلهم يعملون كما يشعرون، فهم يعملون طبقاً للعقل، ثم يحاولون أن يخترعوا تفسيراً منطقياً فيما بعد، يفسرون به الأشياء الفذة التي تحدث لهم. لكن لا جدوى من وراء هذا مطلقاً
كانت السفينة مبحرة إلى أمريكا الجنوبية. غادرت تلبري في عصر يوم ممطر من أيام ديسمبر، ولكن في اليوم التالي كان البحر هادئاً كأنه بركة زرقاء في فصل الصيف. واستمر كذلك ثلاثة أيام، حتى عندما عبرنا خليج بسكاي. ولكن برغم هدوء البحر تأخرنا عن الوصول إلى لشبونة، حتى إذا وصلنا إليها اخذ موظفو الميناء يتجادلون جدالا لا ينتهي، كأنهم عقدوا العزم أن نتأخر عن الإقلاع من الميناء. وقفت أرقب المسافرين النازلين وأستمع إلى المشاجرة البرتغالية الصاخبة تعلو وتتناثر كأنها صواريخ مبتلة، بين وكيل السفينة وأحد موظفي الجمرك. . . لم يكن بين المسافرين الجدد من يلفت النظر إلا امرأة إنكليزية وزوجها. كانت جميلة حقاً، ولكن جمالها كان من نوع عجيب، كأنها إلهة القدر الإغريقية. كانت عيناها واسعتين ذواتي زرقة عميقة، يمكن أن تقرأ فيهما معاني كثيرة، أحدها صادق وكثير منها كاذبة. كانت قسماتها المذعورة الحجرية كأنها تمثال كلاسيكي، يكمن فيه شيء من المأساة. ثم إني ظننت أو الأحرى أن أقول أحسست أن بقسماتها شيئاً من حورية البحر. إذ انتمت عيناها إلى البحر. . . كان زوجها إلى جانبها يبدو عادي المظهر. لكن منظرها الفذ كان مقتصراً على محياها، أما ملابسها فكأنها(692/47)
اختيرت بحيث تمحو الأثر الذي يخلفه جمالها العجيب، وتحط من سموه وتجعله عادياً مألوفاً.
في الصباح التالي كنت جالساً على ظهر السفينة، كما أنا جالس الآن معك، فوجدتني مجاوراً لهما. وبعد أن بعثنا برهة بكتبنا عبثاً يشابه في اضطرابه حركة السفن واهتزازها - حقاً إن هناك رابطة قوية بين دوار البحر والكتب المطبوعة - بدأنا نتحدث قليلاً. وحين تحدثا لم يتركا في النفس أثرا غير عادي، وكان صوتها هادئاً مليئاً بالاهتمام ثابت النبرات وإن كان فارغاً بعض الشيء، ولم يكن به أي عنصر غريب من المأساة أو من النبوءة. ولكن برغم ذلك عرفت، بل شعرت وأحسست، بأنها كانت تصلها بتلك العناصر الغريبة صلات وثيقة. تجاذبنا أطراف الحديث ساعتين أو أكثر، وكان البحر قبل ذلك هادئاً كالبساط، ولكنه بدأ في خلال محادثتنا تظهر عليه علائم التغير الأكيدة. وكأنه كان يحاول اختبار قواه ليستخدمها في مناسبة مقبلة. فصفرت في جنباته رياح هينة، وأخذت السفينة هزةٌ أثارت المزاح والضحك المعهودين بين الشبان من المسافرين الذين كانوا يتنقلون على ظهر السفينة في جلبة، وضاعفت من حماسة اللاعبين في لعبهم المختلفة، فازدادوا مرحاً، حتى يخفون ما شعروا به من بداية التقزز والغثاثة. . . تسألني عم كنا نتحدث؟. . . قد نسيت، ولكنها كانت أشياء مختلفة، من السياسة، والأسفار، والكتب الكتب البريئة المملة.
ولكن كلما مرت دقيقة ازداد التحدث صعوبة، إذ ارتفعت بين آونة وأخرى أصوات الأشياء المتصادمة، ازدادت الريح دوياً، وإن كان الركن الذي انتحيناه محمياً هادئاً بعض الشيء. . . أخبرتني أنهما كانا ذاهبين إلى بونس أيرس، حيث يمكثان أسبوعاً، ثم يعودان إلى وطنهما مباشرة. فإن المستر روفني - وهذا اسم زوجها - كان مريضاً، وقد نصحه الطبيب بالقيام بهذه الرحلة البحرية. وقال الزوج: (لقد حاولت أن أثني زوجتي عن المجيء، ولكنها ألحت. أنا لم أغرك بالمجيء يا حبيبتي، أليس كذلك؟ لقد بذلت كل جهدي لمنعك).
كلا، لست أستطيع أن أتذكر كل المحادثة بجلاء، وإنما أتذكر شيئاً أو شيئين من هذا القبيل. أتذكر المسز روفني تقول، بصوتها الحازم الذي لا يقبل أي سخف أو عبث، والذي كان مع ذلك فارغاً بدرجة عجيبة، ذلك الصوت الذي نطق بالأشياء كأنه لا يعنيها - أتذكرها تقول:(692/48)
(مهما يكن من شيء. فأنا مؤمنة بالقضاء والقدر. أنت لن تستطيع النجاة مما سيحدث لك فهذا هذا، وما عليك إلا أن تتقبله بأحسن ما في استطاعتك. لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، إذا كانت كلاب الصيد تطارده). . . أنا أتذكر ذلك جيداً، فإن هذه الملاحظة، برغم أنها شيء معهود طالما سمعناه على الرغم منا، ضايقتني إذ ذاك أشد مضايقة، حتى كدت لا أكتم سخطي؛ إذ وجدتها لا تنسجم مع ذلك الجمال العجيب، أو ذلك الوجه الذي كان يبدو مترقباً لحد الانفعالات العاطفية العظمى - وكنت واثقاً أن هذا الانفعال هو الخوف - فما يجئ هذا الانفعال حتى يصير ذلك الوجه آية رائعة من التعبير. . . ولكن ما أكثر ما ينطق الناس في هذا المجال بأفكار تخيب ظن المرء إذ لا يجدها تنسجم معهم. . . ثم إنها استرسلت تتحدث عن الأسواق في مقاطعات إنكلترة، وأسلمت نفسها إلى نوبات طفيفة من الاعتداد بالذات لم تنسجم معها أيضاً.
ولكني ساءلت نفسي في ذلك الوقت: أكانت حقاً نوبات من الاعتداد بالنفس؟ لقد شعرت بأنها أدخلتها في الحديث لا لتحدث وقعاً على نفسي بل لتدخل الراحة والاطمئنان على نفسها هي. فإن مثل هذا الاعتداد بالنفس يرتبط بالحياة اليومية، والحياة اليومية هي عادة خالية من البطولة والبسالة ومن النكبات والمآسي، كما أن الأفكار التي عبرت هي عنها كانت أفكار الحياة اليومية العادية. وقد تشبثت هي بهذه الأفكار لأنها كانت تتوق أشد توق إلى أن تقنع نفسها بأن حياتها ليست في حقيقتها إلا من ذلك النوع العادي، وأنه ليس من وجود فعلى لتلك النكبة العظيمة والمأساة القديمة التي ترتبط بها والتي هربت منها. فكل فكرة عبرت عنها، وكل مناسبة أشارت إليها، كانت كأنها تقرص نفسها لتتأكد من أنها صاحية ومن أن الكابوس المخيف قد زال. . .
ازداد الطقس اضطراباً، ولم أرهما بعد ذلك في ذلك اليوم. فقد تضاعفت حدة الزوبعة فلم يعد أحد ليجد متعة في الرحلة البحرية. بل لم يعد من المستطاع أن ينام المرء، وإن كانت الزوابع في العادة تجعلني أستغرق في النوم. فإن طرق عينك السبات لحظة واحدة في الليل فلا بد أن يوقظك في الحال صوت الأبواب تنفتح وتنصفق وتتصادم، أو يوقظك إحساس عجيب بأن الروح نفسها، تلك الذات النفسانية التي بني حولها الجسد، قد تنقلت من مقرها بعض الشيء. . . يسائل المسافرون أنفسهم، كعادتهم في خلال رحلة بحرية: (لم قمت بهذه(692/49)
الرحلة؟) ولكني لم أشعر إلا بشعور واحد، شعور طالما أحسست به في المحيط الأطلنطي، وإن كنت قد قمت فيه برحلات كثيرة لم يكن عنها من محيد، ذلك الشعور هو الرعب. لم يغلبني دوار البحر، وإنما شعرت بالرعب من تلك الأودية الباردة في أعماق المياه تحت سطح البحر، تلك الأودية اللانهائية المتعرجة التي أخبرنا بأنهافي عمقها تماثل جبال البر في علوها. . . (وبهذه الناسبة (سامحني لقطعي حبل قصتي) ألم يزد الطقس اضطرابا منذ بدأنا حديثنا، أم ليس هذا إلا وهماً من أوهام مخيلتي؟)
فاضطررت إلى أن أعترف بأن الطقس قد تغير؛ فقد بدأت السفينة تترنحبصورة غير منتظرة.
(لقد ظننت كذلك) قال ذلك وتوقف برهة، ثم استرسل: (على أية حال ستكون القناة هادئة. . . ولكن لأستمر في قصتي: من حسن الحظ أنني كنت سأغادر السفينة في ماديرا، ولم يكن دونها إلا رحلة يومين. ولكن كم تشوقت إليها في ذينك اليومين، تلك الدرة البديعة المستقرة في وسط المحيط تحت غطاء سحاب الأطلنطي). .
كان اليوم التالي سيئاً للغاية، بحيث لم يعد المرء يهتم بشيء ما لا بالطعام ولا بالشراب ولا بالنوم ولا بالمسافرين: ولكني لاحظت مع ذلك أن المستر روفني جلس إلى طعام الغداء وحيداً. . . وفي الصباح التالي بدا كأن الزوبعة قد هدأت قليلاً، وفي أثناء تجوالي على ظهر السفينة قابلته.
صحت بحماسة كاذبة: (صباح الخير. . .! كيف أنت في هذا الصباح. . . يؤسفني أن أراك وحيداً).
فأجاب: (نعم إنه شيء مقلق. كم تمنيت أن يكون الطقس لطيفاً. . . فإننا نقترب من ماديرا الآن، وينبغي أن لا يكون الطقس هكذا. . . إنني أصارحك بأنه يزعجني. . . ليس ذلكلن زوجتي غير متعودة على الأسفار البحرية - فإنها الآن لا تشعر بالدوار - بل الحق أن الرعب يتملكها في أي سفينة!)
قلت: (ليس هذا شيئاً مخجلاً، فأنا أيضاً مرتعب. . . وأعتقد أن كثيرين جداً من الناس هم أيضاً كذلك، لو أنهم اعترفوا بالحقيقة!)
أجاب: (قد يكون هذا صحيحاً. . . ولكن الأمر مختلف بالنسبة إليها فإن آخر رحلة بحرية(692/50)
قامت بها كانت في (التيتانيك) وقد غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة، ولم تنج هي إلا بمعجزة. . . ولسنين عديدة رفضت أن تركب على سطح سفينة على الإطلاق، بل إنها أبت أن تقوم برحلة القناة الإنكليزية التي لا تستغرق إلا ساعة واحدة، مع إنها قبل ذلك كانت مغرمة بباريس. . . وسأذكر لك شيئاً غريباً: قد يكون البحر هادئاً بالغ الهدوء، ولكن ما تكاد تضع قدمها على سطح السفينة حتى تبدأ الزوبعة، بداية لا شك فيها. لقد شاهدت ذلك يحدث في القناة الإنكليزية عشرات المرات، حتى إنني كثيراً ما تمنيت إني لم أحملها على تغيير عزمها والمجيء معي، حتى لتلك المسافة القصيرة. . . ما كان ينبغي أبداً أن أسمح لها بالمجيء في هذه الرحلة. . . كان ينبغي أن أحظر ذلك حظراً باتاً، من البداية. . . ولكنها كانت قلقة البال علي - فقد كنت مريضاً زمناً طويلاً، وأولئك الأطباء الملاعين قالوا أن رحلة بحرية طويلة هي الشيء الوحيد الذي يرد إليّ العافية - فألحت هي وأصرت. ولم أستطع منعها، فقد بدا كما لو كان من المحتم أن تجيء، وإن ارتاعت هي من ذلك، لو كنت تفهم ما أعني. . .)
وإذن فهذا هو السر! لا غرابة إذن أن تكون مرتاعة، حتى على أشد المياه ضحولة. تذكرت تلك السفينة الفاخرة في رحلتها البكر، وتذكرت اليدين اللاعبتين، والاصطدام المفاجئ الرهيب، والسكون الشامل، حين وصلتها رياح التدمير، ثم تذكرت الاضطراب والفوضى في الماء، والتلاقي الغريب الصامت في الدروب العميقة الخضراء بين الأمواج، حين ترنح القادرون على السباحة إلى أعلى وإلى أسفل، أو اصطدموا الواحد بالآخر كأنهم سدادات الفلين، ولكن لم يستطيعوا تخاطباً، إذ كانت أصواته قد ضاعت تحت صوت المحيط، فبدوا وكأن بعضهم لبعض عدو. . . إذن فهذا هو السر. . .! هذا هو معنى تينك العينين الواسعتين، كعيني تمثال في ضياء الشمس الباهر، ذلك هو المعنى المختفي تحت كلماتها العارضة، السخيفة الجادة معاً: (لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، وإذا كانت كلاب الصيد تطارده). كلا، ولا الإنسان يستطيع النجاة، إذا كانت قطعان الشر والهلاك تصاحب مجيئه وذهابه.
في عصر ذلك اليوم وصلنا إلى ماديرا. فودعت المستر روفني وزوجته. وعلى رغم أنهما كانا مشغولين مع أهل الجزيرة الذين هاجموها يريدون أن يبيعوا لهما ما يحملون من(692/51)
الأقمشة المطرزة والزهور والنعال والصناديق المصنوعة من خشب النخل، ونماذج العربات التي تجرها الثيران، وملابس سكان الجزيرة - فأنهما لوحا لي بأيديهما - إذ غادرت السفينة في زورق إلى البر. ولاحظت مرة أخرى خلو وجهها من التعبير خلواً عجيباً، وذلك شيء إن أنعمت النظر فيه تجلى لك رعب أشد من الرعب. ثم ظننت أنها نظرت إلى البر نظرة المتلهف المشتاق، ولكني كنت أبعد من أن أرى بوضوح. . . مهما يكن من الأمر فأنهما الآن سالمان، فإن بقية الرحلة، خصوصاً في هذا الوقت من السنة، هادئة في المنطقة الحارة، تتجلى فيها الحدائق العميقة الزرقاء المتألقة تحت المياه، وتقفز الأسماك الطائرة فوقهما كما تثب العصافير فوق أرض البستان.
مضى أسبوعان، قبل أن أقرأ في صحيفة هذا الخبر: (إعصار في المحيط الأطلنطي الجنوبي. أمواج المد تطغي على المدن الساحلية. باخرة بريطانية تغرق على مقربة من (ريك). غرق جميع المسافرين). وفي الحال تذكرت المسز روفني. . . إذن قد انتهى الأمر الآن. . . إنها كانت تنتمي إلى البحر بكيفية ما. . . ولا بد أن يستردها البحر إلى أحضانه. لقد كانت تعرف ذلك دائماً، وإن لم يستطع عقلها تصديق ذلك أحياناً. مهما يكن من شيء، فقد انتهى الأمر، كائناً ما كان مغزاه. انتهى طراد طويل، لا يستطيع المرء أن يتعرف على بدايته، أو لعله ليس إلا الفصل الأوسط في درامة تستغرق عدة قرون، أو عدة أحقاب. . . ساءلت نفسي: ترى كيف كانت هيئة ذلك الوجه الجميل في النهاية، وإلى أي حد جعلت صوتها هادئاً عملياً وهي تحدث زوجها للمرة الأخيرة، عارفة ما يخبئ لها القدر. . . ولكن الواقع كثيراً ما يختلف عن النبوءة، وهذا ما حدث في هذه الآونة. . . فأنني عاودت قراءة الصحيفة، فقرأت في أخبار آخر ساعة: (إنقاذ أحد المسافرين. اتفاق غريب. . . المسز روفني التيأنقذت عصر أمس في حالة إنهاك، يتحقق أنها أحد الذين نجوا من التيتانيك، حين غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة. ويخشى أن المستر روفني، المشهور في عالم الرياضة، وجميع المسافرين الآخرين والبحارة، قد غرقوا). . . إذن فالبحر لم يستردها بعد، والثعلب قد نجى مرة أخرى، يا للمسكينة! لم يتم الفصل الأخير بعد.
لعلك تعتقد أنني من المؤمنين بالخرافات إذ أشعر بما أشعر الأن؟ ولكن الحياة تبدو أقرب إلى الفهم حين يؤمن المرء بالخرافات. . . على أية حال، قد حدث ذلك منذ ثلاث عشرة(692/52)
سنة. . . وأستعيذ بالله، أنها فوق هذه السفينة، مسافرة إلى سيلان لترى أبنها. لقد تحدثت إليها هذا الصباح، هي كأنها لم تكبر يوماً واحد. ولكن ماذا ينبغي أن يفعل المرء: (أيجيب غريزة الإيمان بالخرافات أم يتحداها؟. . . إنني أجبن من أن أرتكب سخف مغادرة هذه السفينة من السويس).
توقف عن الحديث، واستغرق في الصمت والتفكير ولكنني جاهدت حتى نزلت إلى قاع السفينة، متشبثاً بكل ما وقعت عليه يدي حتى لا أفقد توازني، وهناك أرسلت رسالة برقية.
(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)
أوسبرت سيتويل(692/53)
العدد 693 - بتاريخ: 14 - 10 - 1946(/)
الضد والنقيض في الفلسفة المادية الثنائية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناولت في كتابي الأخير عن ابن سينا خلاصة الفلسفة المادية الثنائية فقلت في تلخيصها إن (من قوانينها اجتماع الأضداد فيها ريثما يتغلب ضد منها على ضده بغير انقطاع لهذه المغالبة الدائمة، وإن الصفة الكمية فيها تتحول إلى الصفة (الكيفية) فتنشأ الحياة كما ينشأ العقل من هذا التحول، إما على التدريج وإما طفرة كما يظهر بعض أنواع النبات من الأنواع الأخرى، فلا توجد كيفية إلا وهي نتيجة التغير في الكمية، ولا توجد حالة قط إلا وهي تنطوي على ما يتاقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه. . .)
وقد كانت هذه النبذة موضع ملاحظة بين بعض المشتغلين بالمباحث الفلسفية، لأنهم وهموا أن إيراد النقيض والضد في عبارة واحدة يدل على استخدامها بمعنى واحد. وهما مختلفان
وتصحيح هذا الوهم أن النقيض يأتي بمعنى الضد، لأن كل نقيض لشيء من الأشياء فهو ضده بلا استثناء، ولا خطأ إذن من الوجهة العامة في الجمع بين الكلمتين في سياق واحد، ولا حرج من التخصيص بعد التعميم على الإجمال
نقول هذا من الوجهة العامة التي لا ترتبط بالفلسفة الثنائية المادية أو بغيرها من الفلسفات
أما إذا رجعنا إلى مصطلحات الفلسفة المادية الثنائية فهنالك يبدو جلياً أن أصحاب تلك الملاحظة لم يطلعوا على بحث واحد من بحوثها المطولة في مراجعها المعتمدة؛ لأن شرائح الفلسفة المادية الثنائية قد استخدموا في هذا الباب كل مصطلح يخطر على البال في معنى المخالفة والمباينة
فاستخدموا معنى التناقض في كل شرح من شروحهم المطولة
واستخدموا معنى التضاد (أو التقابل)
واستخدموا معنى
واستخدموا معنى
واستخدموا في جميع هذه الأحوال كلمة التنافي أو التناسخ أو التناقض في أقوى
فمن أمثلة استخدامهم لمعنى التناقض شعارهم الذي اقتبسوه من هيجل حيث يقول بالنص(693/1)
الإنجليزي:
وترجمتها: (أن التناقض هو جذر كل حركة وحيوية)
ومن أمثلته قانونهم الثالث الذي يقولون فيه بالنص الإنجليزي:
وترجمته: (إن كل حال أو وجه من أحوال التطور ووجوهه يعتبر تركيبة تقرر النقائض المطوية في التركيبة السابقة)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التضاد قانونهم الأول الذي نصه
وترجمته: (قانون الاتحاد والتنازع في الأضداد)
ومن أمثلته قول لينين في شرح هيجل بنصه الإنجليزي:
وترجمته: (إن التطور في الواقع إنما هو التنازع بين الأضداد)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التقابل قول كارل ماركس في شرح نشأة رأس المال:
وترجمته: (إن المركب ينقض المقرر كما ينقض ما يقابله ويتغلب عليهما)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى المغايرة كلام الفيلسوف الشيوعي شرح هيجل: (إن الثنائية هي تغاير أبدي في الصور)
أما التنافي أو التناسخ أو التناقض، فأكثر من أن يؤتى له بشاهد أو بضعة شواهد، وحسبك منه نص القانون الثالث، وهو قانون نفي النفي أو نسخ النسخ أو نقض النقض كما يسمونه: يخلو مبحث واحد من مباحث شرائحهم من تكرار هذه الكلمة عشرات المرات في كل سياق
فنحن قد لخصنا مذهب القوم بعباراته، ولم تأت بكلمة من عندنا في معناها اللغوي أو معناها المنطقي أو اصطلاحها الفلسفي الذي أرادوه، وقد ذكرنا النقائض والأضداد لأنهم أكثروا من ذكرها في أمهات كتبهم ومطولات شروحهم، ولم يدعوا لوناً من ألوانها في التعبير الفلسفي والتعبير اللغوي إلا ذكروه وكرروه(693/2)
ولم يخطئ القوم في استخدام هذه المصطلحات، أنها تلزمهم جميعاً في مواضعها وتفيدهم في تفسير أطوار المادة وأطوار المجتمع الاقتصادية على اختلافها وتعاقب مظاهرها وصفحاتها
ولكنهم إذا استغنوا عن بعض هذه المصطلحات فهم أحوج ما يكونون إلى مصطلحين منها، وهما النقائض والأضداد
فلا يخفى أن مذهب القوم يدور على الحتم واللزوم، وقد سماه بعضهم بالحتمية المادية لأنه لا يسمح بفكرة المشيئة الإلهية التي تقضي بالإرادة والاختيار في تدبير هذا العالم
فالحالة المادية تخرج نقيضها على سبيل الحتم واللزوم لا على سبيل المشيئة والتدبير، ولهذا وجب عندهم أن تخرج نقيضاً واحداً لا اختيار فيه، ولو كانت تخرج شيئاً في طبيعية الأضداد المتعددة لاقتضى ذلك مشيئة تميز بين الأضداد وترجح بعضها على بعض في التطور من حال إلى حال. ولا يخفى أن الشيء قد تكون له أضداد كثيرة غير أضداد التقابل ولا يكون له غير نقيض واحد ليس يقبل التعدد والتكرار
فذكر النقيض في مذهبهم لازم على قدر ما في هذا المذهب من الحتم واللزوم
أما الأضداد فلزومها عندهم أن الحالة اللاحقة تنقض الحالة السابقة، ولكن السابقة لا تنقض اللاحقة ولا تبطلها ولا تنفيها. فهي مضادة لها وليست ناقضة لها أو واقفة عندها موقف النقيض من النقيض
ومثال ذلك في مذهب القوم أن طور الصناعات البخارية ينقض طور الصناعات اليدوية لأنها تأتي بعدها. ولكن الصناعات اليدوية لا تنقض الصناعات البخارية التي تعقبها، وكذلك عصر المدن التجارية ينقض عصر الإقطاع، ولكن عصر الإقطاع لا ينقض عصر المدن التجارية، وقس على ذلك جميع الأدوار في ترتيب التطور الاقتصادي، أو ترتيب التطور في مادة الكون على التعميم.
فإذا تعددت هذه الحالات، فالأصح أن تسمى كلها أضداداً بعضها لبعض، لأن هذه الصفة تصدق عليها جميعاً بلا استثناء، ولكنك لا تسمي السابق منها ناقضاً لما يأتي بعده ولا مناقضاً له إلا في عالم العقل دون عالم الواقع الذي يفسره الماديون الثنائيون.
وبعد، فهذه همسة في الآذان المفتحة، وعركة في الآذان المغلقة، وقد يفتح العرك ما استغلق(693/3)
من الآذان!!
عباس محمود العقاد(693/4)
بين الفكر والعمل
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كلما استعرضت ما يقال في الأندية الثقافية والمعاهد العلمية، وما يكتب في الصحف والمجلات حول الأخلاق والمثل العليا، ووازنت بينه وبين حياة الواقع وما تندفع إليه مراكب الحياة العملية من الانحدار والسوء. . . كدت أميل إلى أن الكلام في المثل العليا ليس إلا لإدراكها في عالم الفكر فقط، وأننا لا نملك قدرة عملية على تحقيقها، وأن الكلام فيها ليس إلا لحملنا على الإيمان بأن هناك عالماً للكمال الذي في آجل حياتنا، فيجب أن نؤمن به للآجل لا للحاضر. وكدت أميل إلى أن الكلام في تلك المثل ليس إلا صناعة اتخذناها للارتزاق كما اتخذنا صناعة الأحذية ودبغ الجلود للارتزاق أيضاً. . . لما رأيته من أن كثيراً من المتكلمين يؤجرون كما يؤجر الراقصون والمغنون وغيرهم من محترفي الفنون الذين يستعان بهم للترويح عن النفس وللزينة وتجميل الحياة، و (للاستعراض) والترف الذهني واستعمال ما يسمونه (حرية الفكر). . .
ولكن. . . هل هذه الظاهرة - ظاهرة بعد حياة الواقع عن حياة الفكر - مطردة في جميع الأمم؟ إننا نعلم أن هناك أمماً أدركت في حياة الواقع كثيراً من أحلام الكمال، أو اتجهت نحو الكمال أو سددت وقاربت إن لم تكن أدركت، وأن العزيمة الصادقة والإرادة القوية والإخلاص للجمال والنظام صفات جديرة أن تنزل بعض سماء ما في عالم النفس والفكر من أحلام الكمال إلى عالم الواقع وتجسيمها.
والحق أن كثيراً من حقائق الأخلاق اليوم في بعض الأمم كانت أحلاماً بالأمس، وأن ضمير تلك الأمم قد صقل بالخير واقتنع به وارتاح إليه وبني حياة الاجتماع عليه.
والحق كذلك أن تعاليم الخير صار ينادى بها الآن - ولو نظرياً - في معاهد جميع الأمم.
وانظروا: هل في الأرض إلا أمم وأفراد ترفع رؤوسها نحو الحريات والكرامات تطلبها لنفسها بالدم والرأي والسلم والثورة؟ وهل فيها صرخات وهتافات بكلمات الحق والعدالة يطلبها المستضعفون لأنفسهم وللناس، ويتشدق بها الأقوياء والمتسلطون كحلية يزينون بها صوالج دولهم، ويجملون بها الأحاديث عن سلطانهم، ويزعمون أنهم حماتها وأساتها والمجاهدون لها في مجال سطوتهم؟(693/5)
فماذا يدل عليه ذلك غير أن (سطح الحياة الإنسانية) ابتدأ يغلي ويفور ويشتد ويقذف وينضج؟ إن كل وحدة إنسانية تطلب الآن لنفسها ولقومها حقوق الحياة الكريمة الطيبة، لأنها تريد أن (تعيش) في عصر أصبحت فيه الحياة جديرة بأن (تعاش) بعد أن فتح العلم آفاقها ومهد مسالكها ووسع رحابها وأمدها بروح من قدرة الله وجدد ديباجتها وملكها مفاتيح كنوز الصحة والثروة ومقامع المرض والفقر والجهالة، وأفاض عليها بركات من السماء والأرض، وإنما يسيء إلى الحياة شيء واحد يشوه وجهها ويطمس سحرها، وهو أنانية بعض الأقوام!
هو الاستعمار الجشع: سواء كان استعمار طبقة لطبقة أم قوم لقوم أم فرد لفرد. فهو الشيء الوحيد الكافر بروح هذا العصر والناشز في انسجامه والمشوه لوجهه!
ولو أحسنا الإدراك والتفريق بين الأفكار التي للعمل والأفكار التي للترف الذهني، وعرفنا كيف نقدم الاستفادة بأفكار العمل في الأمم الشارعة في النهوض على غيرها من الأفكار لأنها أساس حياة الاجتماع ووسيلة بعث الثقة في نفوس الأفراد وتأمين حياتهم وحل مشكلات (عيشهم) لوفرنا على أنفسنا أزمات وشدائد تثير في نفوسنا الشك في حديث المثل العليا وتوهي عوامل الثقة والطمأنينة إلى الحياة.
وأعنى بأفكار العمل الأفكار التي هي أمهات الأخلاق والعلوم والأعمال الصالحة، وهي الأفكار التي درَّجت الإنسانية ونقلتها من طفولتها وأقامت الحرمة والقداسة حول أصول حياتها، وهي تشمل أيضاً العلوم والمعارف الطبيعية التي تمهد الحياة المادية تمهيداً يسمح باستقرار العيش ورفاهته والإقبال على الحياة في ثقة بها واستمتاع بطيباتها
وهي أفكار يجب الحرص عليها دائماً في كل عصر لحفظ الاجتماع واحترام حرمات الإنسان والاستمساك بقيم الحق والخير في حياته، وهي أيضاً أفكار لا يجوز مطلقاً أن يعفى من العلم بها والعمل بمقتضاها أي فرد في الدولة، بل والمحيط الإنساني، لأنها (القاسم المشترك) في جميع النفوس، والميراث الواحد الذي انحدر إلينا جميعاً من تاريخ جهاد الإنسانية في سبيل الحق والكمال والألفة والوحدة.
فنحن لا يؤكل بعضنا بعضاً في الأسرة، ولا يجامل بعضنا بعضاً في القبيلة والأمة، ولا نتراحم بالمعنى الواسع في الإنسانية، ولا نسعى لترقيها وإسعادها بالعلوم والمعارف إلا(693/6)
تحت تأثير القديم العميق لمواريث هذه الأفكار العلمية التي هي في مبتدأ أمرها فيض من روح الخير في الطبيعة البشرية ومن هدى (الدين) الذي قاد هذا الطبع الخيّر في ظلمات التاريخ، حتى وصل الإنسان إلى عصر رشده وقدرته.
وقد يعتري نفوسنا بعض الانقباض والاستثقال لتلك الأفكار العلمية وما يتابعها من تكليف نظراً لما يلابسها من قيود ومضايقات تقيد حرية الطبع والهوى الذي لا يعرف إلا الانطلاق وإشباع الشهوات، ولكن هذه القيود نفسها لازمة لتحقيق حرية الطبع وحرية الفكر في حدود المعقول؛ لأن القيود التي تفرضها الجماعة في الواقع إنما هي لحفظ الحريات الفردية في حدود خاصة غير مختلطة، ولن تتحقق لأي فرد حريته الضرورية إذا أطلقنا لكل فرد حريته الطبيعية؛ لأن الحريات عندئذ تتصادم وتتنازع، ويتغلب قوىّ واحد يسلب الجميع حرياتهم ويستعبدهم، ويتمتع هو وحده بإشباع هواء الطليق الذي لا حدود له، ويترتب على هذه النتيجة السيئة جميع الحالات السيئة في حياة الاجتماع، والتي كانت طابع عصور الاستبداد والمظالم والجهالات والضياع في مجرى التاريخ.
أما أفكار (الترف الذهني) فمرتبتها بعد تلك، وخاصة في بدء النهضات كما قدمنا؛ ولكن مع الأسف قد ذهب كثير من رواد الفكر والإصلاح في مصر من عصر إسماعيل للآن إلى أن جلبوا لأمتهم الأزهار وتركوا الثمار، وفتنوا بالألوان والأضواء وتركوا جواهر الأشياء.
وكان إدراك (محمد علي) الكبير أصح من إدراكهم، وجهده أقرب إلى طبيعة الأشياء من جهدهم. إذ عنى ببناء أساس النهضة المصرية العمليةعلى الأفكار العلمية قبل أن يعنى بالترف الذهني. فأسرع الخطى بمصر، وبعث الثقة في نفوس أبنائها، والخوف في قلوب أعدائها.
وكذلك فعلت اليابان في بدء نهضتها؛ إذ كانت تكثر من إرسال البعوث إلى المصانع والمعامل الأوربية وتقلل من البعوث النظرية للآداب والفنون والفلسفات.
وكان من نتائج الاتجاه إلى الترف الذهني أن وجدنا في مصر الطبقة المثقفة الأولى طبقة أوربية أو أمريكية بالفكر والسلوك الظاهري وهم مصريون باللون والجنس والانتساب، وقد انفصلوا بأفكارهم وحياتهم عن أمتهم، وضاقوا بالمتخلفين منها ذرعا، ووجدت بينهم وبين السواد الأعظم هوة واسعة سحيقة، وحين يحاولون إصلاحها يكون أول ما يتوجهون(693/7)
إليه أن يجلبوا لها آخر ألوان الإصلاح والترف في الأمم العريقة في النهضة والرقي، قبل أن يقيموا أسباب الحياة الصالحة على قواعد بسيطة عريضة تتسع للشمول. فصاروا يهتمون بالقرى النموذجية، والمناظر الاستعراضية وفنون الحياة الأمريكية والأوربية، ويتحدثون عن أحدث ألوان الحياة ويتركون الحديث عن قراهم ودساكرهم التي كان سكانها من آثار الأزل السحيق والماضي الواغل في القدم!
وبديهي أن إصلاحا على هذا الأسلوب يكون كإلقاء قطعة من السكر في بحر من الملح!
وكل يوم يمر على أمة بدون أن تعلم ما استجد في العالم من الكشوف والمخترعات يجعلها أمة بائدة ضعيفة متخلفة وراء الأمم العالمة. . .
فما بالنا بالأمم الواقفة عند خطوات آبائها الأولين من آلاف السنين كالمستنقعات الآسنة التي تزيدها حرارة شمس كل يوم جديد عفونة!
عبد المنعم خلاف(693/8)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 3 -
وماذا يقول الأستاذ في قول الله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)؟ لقد ذكر أن تشبيه زرقة البنفسج بأوائل النار في أطراف الكبريت ليس شيئاً لأنه ينقلنا من جو الزهر والجمال إلى جو اللهب والاختناق، ولم ينظر إلى فنّية التشبيه، ولا إلى ندرته. فهل يقول في هذا التشبيه في الآية الكريمة إنه ليس شيئاً أيضاً؛ لأن القمر مسكنه في السماء والعرجون مسكنه في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من فصيلة النبات، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة؟ وهل تخسر البلاغة القرآنية شيئاً إذا وقف الأمر عند حد تشبيه القمر حين يحتضر في آخر الشهر فيدق وينحني ويصفر بالعرجون المحول الذي دق وانحنى واصفر، ولا يلاحظ شيء وراء ذلك مما توجبه صورة العرجون وبيئته وتفاهته؟
لابد إذن أن نكون مع علماء البلاغة حين يرون أن القصد من التشبيه ليس فقط إثارة جو عام بين المشبه والمشبه به أو أنه منبع لمعان تتداعى يجب أن نتلمس آثارها في النفس، ويكفي أن نقول معهم إن التشبيه بالمحس المشاهد يحدث نوع اطمئنان، وأن السامع قبل أن تذكر له التشبيه قد يكون الكلام عنده غامضاً مضطرباً حتى إذا شبهت استقر القول في نفسه، وأنت قد تبالغ في القول ولا تدع مزيداً في الإسراف فلا يكون ما يكون حين تشبه بشيء مُحَسّ فتقول مثلاً: يوم بلغ في القصر نهايته، وليس وراء هذا القصر قصر، وما علمت يوماً أقصر منه، ولكن هذه العبارات مجتمعة لا تفيد ما يفيده قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب
(سالفة الذباب: ناصية مقدم العنق).
وكما أن للتشبيه هذا الأثر فكذلك التمثيل، فحين يقول ابن الرومي:
وإذا امرؤ مدح امرءواً لنواله ... وأطال فيه فقد أطال هجاءه
تأخذ السامع موجة من الشك في صدق هذا المعنى، ولكنه حين يسمع قوله بعده:
لو لم يقدر فيه بُعد المستقى ... عند الورود لَما أطال رشاءه(693/9)
ويرى أنه شبهه بالبئر فيها الماء كلما كان أبعد احتاج أن يطيل المانح حبله. حينئذ تتبدد الشكوك من نفسه، ويذهب الاستغراب عن وعيه وحسه. وإنما سقت هذه الجملة من القول لأطيل التعجب من الأستاذ كيف ينكر على البيانين أن يجعلوا من أغراض التشبيه بيان إمكان المشبه أي بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك إذا كان أمراً غريباً يمكن أن ينازع فيه، فيعلق على قول المتنبي:
فان نفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
بقوله: كلامهم في أن الغرض من هذا التشبيه بيان أن وجود المشبه ممكن: مرفوض؛ لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش، ولكنه يفرض نفسه على الناس، وكل ما هنالك أن الناس من طبيعتهم إنكار هذا الامتياز، والمعنى فيه شيء من الغرابة في أنه واحد منهم وفاق عليهم. فقال هذا لا غرابة فيه؛ لأن له نظائر وشواهد. اه.
وهذا كلام غريب جداً ووجه غرابته أمران:
أحدهما أنه ينفي الشيء ثم يثبته في وقت واحد وسطر واحد؛ فهو يرفض كلامهم بدعوى أن الشعراء قوم متغطرسون يفرضون أنفسهم على الأجيال وعلى الأذواق وعلى الطبائع، ولكنه يحس أن من طبائع الناس إنكار هذا الامتياز؛ فالشاعر يقول لا غرابة. ولا يقصد العلماء من إمكان ثبوت المشبه أكثر من أن المتكلم يأتي بقضية تقرب إلى الأذهان أن هذا جائز ما دام شبيهه واقعا. وربما كان من الخير أن نسمع للشيخ عبد القاهر الجرجاني يحدثنا في أسرار البلاغة عن هذا الغرض من التشبيه فقد يكون في كلامه مقنع. (فان قلت إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال الريب في الأكثر، أتقول إن التمثيل إنما أنس به لأنه يصحح المذكور والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك. فالجواب أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على ضربين: غريب بديع يمكن أن يخالف فيه ويدعي امتناعه نحو قوله: فان تفق. . . البيت، وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة بل صار كأنه جنس برأسه، فإذا قال: (فإن المسك بعض دم الغزال) فقد احتج لدعواه وأبان أن لِما ادَّعاه أصلا في الوجود. والضرب الثاني ألا يكون المعنى الممثل غريباً يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بينة. نظير ذلك أن ينفى عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة(693/10)
ويدعى أنه لا يحصل منه على طائل ثم يمثل في ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه، وليس بعجيب أن يخيب سعي الإنسان حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البينة على صدق المدعي لوجدانه).
ولنخرج قليلاً عن مناقشة الآراء العلمية لنتحدث في شيء من البساطة عن دقة الشيخ في تعبيراته، والمعلوم لكل من يدرس كتب المتقدمين أنهم يدققون كل التدقيق في وضع الألفاظ، وهم في ذلك أشبه برجال القانون لا يدعون لفظة تؤدي غير معناها ولا فوق معناها، ولعلهم أفادوا كثيراً في هذه الناحية من دراسة المنطق، ولذلك نجد الشرائح وأصحاب الحواشي من المتأخرين عنوا عناية خاصة بنقد التعابير والألفاظ. والحق أن العلوم المقعدة في حاجة إلى هذه الدقة حتى تكون التصاريف والمصطلحات وافية بالغرض. عرض لي كل ذلك حين ابتدأت أقرأ مذكرات الأستاذ في علم البيان فما كدت أنتهي من السطرين الأولين حتى وجدت أغلاطاً أربعاً، وليست هي أغلاطاً لغوية ولا أغلاطاً نحوية حتى يمكن التسامح فيها، ولكنها أغلاط علمية لو فهمها الطلاب على ما هي عليه لفهموا حقائقها مغلوطة محرفة قال:
(هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض. فعلم البيان هو الذي يبين درجات هذا الوضوح. فالجملة تتكون من أجزاء سليمة وهذا ما يكفله علم النحو؛ صالحة للسكنى، وهذا ما يكفله علم المعاني. هذه الجملة ذاتها يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط، وهذا ما يكفله علم البيان).
فأولاً - ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات وضوح التعابير، وإنه لمن تنقص هذا العلم أن نقول إن مباحثه تقتصر على معرفة أن مهزول الفصل أوضح من كثير الرماد في الدلالة على الكرم، أو أن التشبيه والاستعارة مختلفان في وضوح الدلالة؛ ولكن هذا العلم له أبحاث كثيرة قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها.
وثانياً - قوله: (الجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو). فالنحوي لا يبحث في سلامة المفردات وإنما يبحث هذا علم التصريف، ووظيفة النحوي سلامة التراكيب.
وثالثاً - كون الجملة صالحة للسكنى ليست وظيفة علم المعاني، ولكن صاحب المعاني(693/11)
يعنيه إذا أردنا أن نلجأ إلى التعبير بالمبنى أن يعرف هل هذا البناء مطابق للمواصفات التي وضعها المهندسون، أو غير مطابق، كما يعنيه أن يعرف هل هو ملائم للمكان والبيئة أو غير ملائم.
أما الغلطة الرابعة - فقوله: إن هذه الجملة يمكن أن تعرض عرضاً متنوع الأنماط. والذي يدقق في هذا الكلام يجده عليلاً؛ ذلك أن الجملة نفسها لا تعرض وإنما يعرض المعنى فإذا عبر شاعر عن طول الليل بقوله:
أضلَّ النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وعبر الآخر بقوله:
حدثوني عن النهار حديثاً ... أوْصِفوه فقد نسيت النهارا
وعبر الثالث بقوله:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فهذه التعابير كلها ليست عرضاً لجملة واحدة، وإنما هي عرض لمعنى واحد.
ينكر الأستاذ على علماء البلاغة جعلهم أداة التشبيه ركناً، ويرى أن ذلك إغراق منهم في الماديات، ومتابعة مسرفة للتصوير العقلي أدى إلى نسيان الناحية الأدبية في التشبيه، وهي أن أفضل التشبيه ما يقوم على إيهام أن المشبه هو المشبه به، وهذا لا يكون إلا بحذف الأداة.
ولا معنى لهذا الكلام إلا أنه كلام فحسب، علماء البلاغة وضعوا لها ضوابط، ورأوا أن من أحكام هذه الضوابط أن تكون أداة التشبيه ركناً من أركانه لمّا رأوا أنها لا تنفك عن التشبيه مطلقاً، فهي إما مذكورة وإما مقدرة، والتشبيه البليغ لم يبن على نسيان الأداة أو إعدامها، وإنما بني على حذفها في اللفظ، وهذا الحذف اللفظي كاف في إيهام أن المشبه هو المشبه به.
وإذا كان التشبيه إلحاق أمر بأمر، وكانت اللغة وضعت أداة لهذا الإلحاق فلا يمكن أن يتخلى الإلحاق عن أداته مطلقاً ما دامت طبيعة اللغة تأبى هذا التخلي بل وطبيعة الناس كذلك. فأنت عندما تسمع كلمة تشبيه يتبادر إلى ذهنك أول ما يتبادر أن هناك أداة ألحقت شيئاً بشيء وشبهته به، والحمل لا يمكن إلا أن يكون كذلك. تقول محمد كريم فتحمل كريماً(693/12)
على محمد لأنه صفة، ولكنك إذا قلت محمد حاتم تريد تشبيهه به في الكرم لا يمكن إلا أن تلاحظ أن هنا أداة صححت الجمل، وإلا كنت حاملاً ذاتاً على ذات وطبيعة اللغة تأباه. وقد فطن علماء البيان لمكان الأداة في التشبيه، ورتبوا عليها أحكاماً هي في غاية الدقة والضبط؛ فرأوا أنه إذا لم يمكن تقديرها مطلقاً كان الكلام استعارة، وإذا أمكن بسهولة دار الأمر بين كون الكلام تشبيهاً أو استعارة، وهو ما يسمونه التشبيه البليغ. فإذا أمكن تقدير بعض الأدوات دون بعض كان إطلاق التشبيه على الكلام مقبولاً؛ فان غمض مكان الكاف وكأن بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيه بصفة لا تكون في ذلك الجنس وأمر خاص غريب كقوله:
شمس تألق والفراق غروبها ... عنا وبدر الصدود كسوفه
فهو أقرب إلى أن نسميه استعارة؛ فإنه قد غمض تقدير حرف التشبيه فيه إذ لا تصل إلى الكاف حتى تبطل بنية الكلام، وتبدل صورته. وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو ما يختل به تقدير التشبيه فيقرب حينئذ من القبيل الذي تطلق عليه الاستعارة من بعض الوجوه كقوله:
أسد دم الأسد الهزبْر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد
لا سبيل لك إلى أن تقول هو كالأسد وهو كالموت لما يكون في ذلك من التناقض.
وأيا ما كان فلا معنى لأن ننكر شيئاً يقره المنطق والعقل واللغة والذوق. ولا أحب أن أختم قولي فيما كتبه الشيخ تعليقاً على بعض مباحث البيان حتى ألفت نظر القارئ إلى ما يلجأ إليه الأستاذ من تكلف الشطط في تأويل النصوص الأدبية وبيان مواضع البلاغة فيها. مثل يقول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ويقول الأستاذ: (التركيب يفهم على أنه صورة ملونة. الغبار تكاثف حتى أظلم ووصل إلى السواد القاتم، وليس تشبيه مثار النقع بالليل لمحض القتام، وإنما ملحوظ فيه أيضاً الحيرة والظلام والخطورة والاضطراب وهذا ما يطلب في القتال بالسيوف؛ فإذا أضفنا إلى هذا الحالة النفسية لمن يقاتل بالسلاح الأبيض نجد أنه يعتقد أنه معرض للموت بشهاب ممزق، ولذا قال في السيوف ليل تهاوى كواكبه).(693/13)
فهذا كلام يقوله من لا يحسب لعقول الناس حساباً فمن أين له أن بشار لاحظ في تشبيه الغبار بالليل الحيرة والظلال والخطورة؟! ومن أين له أنه لاحظ أن المقاتلة يتوهمون أنهم معرضون لشهاب ممزق؟! ومتى فكر القاتل في رجم السماء وهو مشغول عنها برجم الأرض؟
المسألة بسيطة جداً: يريد الشاعر أن يمثل جماعة يقاتلون وقد عقد الغبار فوق رؤوسهم ظلاماً كما يقول أبو الطيب:
نثرت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا
ثم تصور سيوفاً بيضاً لوامع مستطيلة تعلو وتهبط وتجيء وتذهب، تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض. فالتمس لذلك شبهاً فوجده في ليل مظلم تتساقط كواكبه، وما أظنه خطر على باله شيء ممّا يقول الأستاذ، ولكنها دعوى التجديد.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة(693/14)
الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 3 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه)
حديث شريف
المأمون:
يرتفع الستار بعد موت الرشيد عن مشهدين متنائيين - أحدهما في بغداد والثاني في مرو - بينهما متسع من الأرض فسيح تخب الدسيسة فيه وتضع.
ولم يكن هذا النزاع بين الأمين والمأمون إلا مظهراً لنزاع أشد وأروع بين حاشيتيهما في حاضرتي العراق وخرا سان، وكان على رأس الأولى الفضل بن الربيع يشد أزره فريق من دعاة السوء وأرباب المطامع. . . وعلى رأس الثانية الفضل بن سهل يكتنفه الشيعة من أهل خرا سان، وقد وطدوا عزمهم على تقويض العرش العباسي ببغداد وإسناد الخلافة إلى العلويين، (والعجيب أن المأمون أصبح يرى هذا الرأي. بل هو يضعه موضع التنفيذ كما سترى).
ولم يكن بين الأخوين من العداوة الشخصية ما يبلغ حد القتال، ولكنَّ بُعد ما بينهما أفسح المجال للدسائس والوشايات، وكان الأمين ضعيف المنَّة فاشل الرأي يصيخ لإغراء وزيره، ودسِّ رجال حاشيته، فنادى بخلع أخيه من ولاية العهد وجعلها لابنه موسى (الناطق بالحق).
وكان خليقاً بالمأمون أن يرفض هذا التبديل، وأن يأبى التنازل عن حق كفله له أبوه الرشيد بإشهادين أودعهما البيت الحرام. . . وكان قد أزالهما الأمين عن موضعهما بإشارة خبيثة من الفضل.
تحركت جيوش جرارة من بغداد منذ عام 195 هـ بقيادة: علي بن عيسى، وعبد الرحمن(693/15)
بن جبلة، وابن مزيد، وابن قحطبة على التوالي. فانبرى لقتالها رجلا المأمون: طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين.
وبعد حروب امتدت ثلاثة أعوام وطئت عساكر المأمون أرض بغداد، وقتل الأمين بأيدي الخراسانيين، وحمل رأسه إلى أخيه مع بقية شارات الملك، وكان هذا القتل على غير رغبة المأمون. . .
تولّى كبرَه رجال طاهر من الفرس حين أسلم الأمين نفسه إلى هرثمة بن أعين. وليس من شك في أن الأمين أيضاً كان يظنّ بأخيه أن يقتل فيما لو أظفره الله به. وآنا لنراه يوصي. قائد جيوشه (علي بن عيسى بن ماهان) يوم وجّهه من بغداد إلى خراسان فيقول:
إذا شخصته - يعني عبد الله المأمون - فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فان غره الشيطان فناصبك العداء فاحرص على أن تأسره أسراً!
وتقول زبيدة أم الأمين في وصيتها للقائد (علي): اعرف لعبد الله حق والده وأخوُّته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيرهَ، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غلّ. . . ولا تركب قبله، ولا تستقل دابتك حتى تأخذ بركابه، وان شتمك فاحتمل منه، وان سفه عليك فلا ترادِّ. . . ثم هي ترفع إليه قيداً من الفضة وتقول: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد!
فلمّا تمّ النصر للمأمون، واستولى على عرش بغداد قال لجلسائه مرة وهو يثلب الفضل بن الربيع ويعدد مخازيه: كان صغوه إلى المخلوع، فحمله على أن أغراه بي ودعاه إلى قتلي، وحرّك الآخر ما يحرك القرابة والرحم الماسّة فقال: أما القتل فلا أقتله، ولكن أجعله بحيث إذا قال لم يُطع، وإذا دعا لم يُجب. فكان أحسن حالاتي عنده أن وجّه مع علي بن عيسى قيد فضة بعد ما تنازعا في الفضة والحديد؛ ليقيدني به، وذهب عنه قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه، لينصرنّه الله).
كان المأمون يعرف عن أخيه فسول الرأي وسهولة الانقياد لمن أحاط به من بطانة السوء، ولعله لو وقع في أسره لكان أقصى ما يفعله معه أن يقيده بهذا القيد من الفضة الذي أعدّه له، ثم يحمله حتى يطرحه عند أمه زبيدة فيقول لها: - أدّبي ولدك يا أماه بما أساء، فلقد خان عهد أبينا الرشيد، وأصاخ إلى من يريدون بأسرتنا وبملكنا شراً. . .
ولكن جرت الأمور بغير ما قدّر هؤلاء جميعاً، وطاح رأس الأمين على مذبح هذه الفتنة(693/16)
الغشوم، والتفت المأمون حوله فإذا سكون شامل وصمت رهيب؛ وإذا أعداؤه ما بين قتيل قد كُفي شرّه، أو هارب يتلمس التخفّي ويطلب أسباب النجاة، ولم تنشط نفس المأمون إلى ورود بغداد واعتلاء عرشها الدامي إلا بعد انطواء ست سنين على مقتل أخيه (من 198 إلى 204 هـ)، وكأنّما كانت نفسه قد ملّت القتل وبرمت بالقتال، وامتلأ قلبه بالسكون وبالطمأنينة، وبالفلسفة والتأمل الصامت؛ فجنح إلى العفو والمسامحة، وشغل عن كثير من مطامع الحياة وأهواء السياسة والمجتمع، ولنصرف بجهده إلى العلم ومدارسته وتشجيع المشتغلين به، وحثّهم على التوفّر عليه، كما هو معلوم من سيرته. . .
وكان عفوه عمّن دخلوا في فتنة الأمين شاملاً، واتبّع ذلك عفوه عن عمّه إبراهيم بن المهدي الذي ادّعى الخلافة (عام 201 هـ) قبل مقدم المأمون إلى بغداد، وكان سبب قيام ابن المهدي في بغداد ما أجمع عليه العباسيون من خلع المأمون عندما اختار لولاية عهده علياً الرضي بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق من العلويين وظهر الفضل بن الربيع وقتئذٍ - وكان مختفياً منذ مقتل الأمين - فانظم إلى ابن المهدي متحدّياً المأمون للمرة الثانية، وكان من العجيب أن يشمله العفو رغم كل ذلك. ولما مثل بين يدي المأمون في ذلّته وانكساره قال له: يا فضل، أكان من حقّي عليك وحقّ آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك، أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ فقال: يا أمير المؤمنين: إن عذري بحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا حفّته العيوب وقبّحته الذنوب؟ فلا يضق عنّي من عفوك ما وسع غيري منك، فأنت كما قال الشاعر فيك:
صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو ولم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكُره مسلما
فأسبل المأمون عليه توب عفوه. . .
وعفا عن اسحق بن العباس، وكان ممن أجلب مع ابن المهدي، وعفا أيضاً عن ذوي قرابته من آل عبد الملك بن صالح بعد أن كان قبض ضياعهم. فردّها عليهم وقضى حوائجهم.
بل لقد هجاه دعبل الخزاعي الشاعر بداليته التي يقول فيها:
أيسومني المأمونُ خطة خسفِهِ ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد؟
فلم يمدّ إليه يداً بسوء. ثم عمل دعبل أبياتاً في إبراهيم بن المهدي بعد العفو عنه، أوّلها:(693/17)
نعَر (ابن شكلة) بالعراق وأهله ... فهفا إليه كل أطلسَ مائق
فشكاه إبراهيم إلى المأمون. فقال له: لك أسوة أبي، فقد هجاني واحتملته، وقال في: أيسومني المأمون. . . وأنشده الأبيات. فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلاّ عن فضل علمك، ولا يحلم إلاّ اتباعاً لحلمك.
وهجا الحسين بن الضحاك المأمون بقصائد، ثم دخل عليه في بغداد مادحاً، فعاتبه ووبخه؛ ثم عفا عنه، وقال: جعلت عقوبة ذنبك امتناعي عن استخدامك.
كانت فتنة الأمين والمأمون شديدة الوقع في نفوس العباسيين جميعاً، وضاعف من وضعها مقتل الأمين الذي يعدّ الحادث الأول من نوعه في تاريخهم، وقد تلا ذلك فترة سكون وسلام داخلي زينها المأمون بعفوه وتسامحه، وبلغ من تماديه في هذا الخلق الكريم أن كان يقول: أما لو عرف الناس ما لنا في العفو عن اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات!
وكأنما كان يسمع كلامه هذا أحد البغداديين حين أثنى عليه بقوله:
مازلتَ في البذل والنوال وإط ... لاق لعانٍ بجرمة غَلقِ
حتى تمنّى البراء انهموا ... عندك أسرى في القيد والحلق
ولقد أتى على المأمون حين من الدهر كان لا يثق فيه بالسلامة من أعدائه فضلاً عن التغلب عليهم. فلمّا توطّد له الأمر وتمّت عليه نعمة ربه؛ جعل من العفو عن أعدائه شكراً يتقرب به إلى الله
وقد ألم بهذا المعنى في كلامه غير مرة. . . كان في مجلسه من أصحابه يوماً حين أنهلت عيناه بالدمع، فلمّا سُئل عن سبب بكائه قال: ما ذلك من حدث، ولا لمكروه همت به لأحد، ولكنه جنسٌ من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمها عليَّ وعلى أبويَّ من قبل. أما ترون ذلك الذي في صحن الدار - يعني الفضل بن الربيع - كان في أيام الرشيد، وحاله حاله، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشأن؛ وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أداريه خوفاً من سعاته وحذراً من أكاذيبه. فكنت إذا سلمت عليه فرد عليّ، أظل لذلك فرحاً وبه مبتهجاً. . .
وعفا المأمون عن سعيد الخطيب وقال عنه - وقد وقف على رأسه يمدحه ويشيد بسيرته -: هذا الخطيب كان بالأمس يقف على المنبر الذي بازائي مرة، وعلى المنبر الغربي مرة،(693/18)
فيزعم أني المأفون ولست بالمأمون!. . . ثم هو الساعة يقرضني تقريضه المسيح ومحمداً عليهما السلام!
صلاح الدين الأيوبي:
يُعد صلاح الدين النموذج الكامل للحليم يجني عليه حلمه، ويورده وقومه موارد الضر والأذى. فهو قد نهض بهذا السلاح النبيل في وجوه قوم لم يتخذوا سوى الغدر والخيانة عدة لهم وسلاحاً، وكانوا بما دس في عقولهم رهبان القرون الوسطى لا يرون في الحملات الصليبية إلا وسيلة لإبادة المسلمين بالمشرق والاستيلاء على تراثهم المادي فيه.
وهكذا كانت خرافة بيت المقدس وتطهيره من الكفار) تخديراً - ليس أكثر - لأعصاب الملايين من طغاة أوربا، واستثارة للعصبية الدينية المقيتة في نفوسهم، ولم يكن ليسع البابا أوربان الثاني وهو يرسل صيحاته المفتعلة - في كليرمونت في فرنسا عام 1095 - إلا أن يقرنها بذكر الباعث الحقيقي على شنّ هذه الحروب فيقول: إنها ليست لاكتساب مدينة واحدة؛ بل لامتلاك أقاليم آسيا بجملتها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى. فاتخذوا البيت المقدس حجّة، وخلّصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين لها، وامتلكوها أنتم خالصة لكم من دون أولئك الكفار، فهذه الأرض كما قالت التوراة: (تفيض لبناً وعسلاً).
وكان سواد الجيوش الصليبية يتألف من رعاع أوربا الذين طمست الجهالة بصائرهم، فساقهم رجال الدين سوق السائمات لتحقيق مآربهم السياسية وأطماعهم المادية. يصفهم المستشرق الإنجليزي سير وليم موير بأنهم (الطبقة الدنيا. . . خرجوا في جموع غفيرة متبعين بطرس الناسك وغيره من القواد، مدفوعين بالتعصب الشديد؛ ولكن لم يلبثوا أن ظهروا عبيداً للشهوات والميول الدنيئة).
ويقول عنهم في موضع آخر: (أما البارونات والفرسان مهما كانت طبقتهم، فلم يكن همّهم غير التنازع على السيادة. والواقع أنه قضى عليهم الشره والغيرة والخصام والمبالغة في الترف وهؤلاء الرجال الدنسون هم حماة الأرض المقدسة!).
ويصف من شرهم يوم فتحوا بيت المقدس أنهم سفكوا دماء سبعين ألف مسلم لم يراعوا فيهم حرمة لشيخ أو امرأة أو طفل. ثم يقول: (وبعد أن أشبع جنود الصليب شهواتهم الوحشية أوفوا بنذورهم وقبلوا الحجر الذي كان يغطي المسيح الذي قال: إن مملكتي ليست(693/19)
من هذا العالم وإلا لما قاتل أتباعي).
هؤلاء هم الأعداء الذين قدّر لصلاح الدين أن يلقاهم في ميدان الجهاد. . . فكيف لقيهم؟
لسنا نعدو هنا الإشارة إلى بعض مواقفه حيالهم، غب كل انتصار كان يتم له عليهم، ففي ذلك وحده ما يكفي في الدلالة على ما نريد.
أسر السلطان صلاح الدين في موقعة حطين: جاي دي لوزينان (جوي) ملك بيت المقدس، وبليان صاحب الرملة، ورينولد أمير الكرك والشوبك. فلم يهدر إلا دم الأخير منهم وفاءً ليمين كان أقسمها أن يضرب عنقه بيده جزاء ما تطاول به على مقام النبوة، ولسوء غدره، وكثرة تعرضه لقوافل المسلمين المجتازة على الكرك.
أما بليان صاحب الرملة فقد استأذن من صلاح الدين - كما يستأذن الحر الشريف! أن يتركه يمضي إلى القدس فيحمل زوجه وأولاده قبل أن تدهمها جحافل السلطان وأقسم ألا يتجاوز مكثه بها الليلة الواحدة. فلما بلغها التف حوله القوم ضارعين، واستماله البطريق إلى أن يقيم معهم ليضطلع بقيادة الحملة الصليبية وأباحه كنوز الكنيسة يتناول منها ما يشاء. فجنح الأمير إلى الغدر، ونسى يمينه ووعده فما ذكَّره بهما إلا صلاح الدين وهو يدق عليه أبواب بيت المقدس، ثم يفتحه على القوم صلحاً؛ ومن العجيب أنه خرج مع سائر من خرجوا - وفق شروط الصلح - معافى موفورا. . .
وأما جاي دي لوزينيان بيت المقدس فقد احتمله السلطان معه في تنقلاته فترة ما، فلما كان في (أنطرطوس) أطلق سراحه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أن يغادر الشام إلى أوربا نافضاً يده من القتال. فحنث هذا الملك بعهده؛ ومضى إلى صور حيث أبى عليه كونراد صاحب حاميتها أن يتولى معه زمام أمر. فأتجه إلى طرابلس وحشد بها الحشود، ثم ذهب إلى عكا - وكانت في يد المسلمين - فضرب حولها الحصار عامين، يعاونه فيليب ورتشارد ملكا فرنسا وإنجلترا، وقد قتل في هذا الحصار ستون ألفاً من المسلمين، ثم جرت يوم فتحها مذبحة رهيبة ذهب فيها ألفان وسبعمائة مسلم. ويقول المؤرخون إن ملكي الإنجليز والفرنسي مرضا في أثناء هذا الحصار فأرسل إليهما صلاح الدين ألطافاً من ثلج وشراب بارد وفاكهة وغيرها.
لقد كان صلاح الدين في الحقيقة أسداً باسل الهمة كريم النحيزة، يلقى ذئاباً ضاريات حشو(693/20)
جلودها الخسة والمكر، والخديعة والجبن، وأشباهها من دنيئات الأخلاق.
ولقد أفضى سقوط عكا عام 1191 م في أيدي الصليبيين إلى نتيجة مؤلمة رهيبة هي - في أوجز تعبير - امتداد الحروب الصليبية (مائة عام) أخرى يسجلها التاريخ بمداد من الدم الصبيب!
فقد اتخذ الصليبيون عكا حصناً لهم عوضاً عن بيت المقدس، وضلوا يناوئون منها المسلمين في الشام وفي مصر؛ حتى كان سقوطها على يد السلطان الظاهر بيبرس (1291 م) خاتمة لهذه المذابح الفظيعة التي انتهت بطرد الصليبيين من المشرق بعد أن لطّخت سجل تاريخ العصور الوسطى بدماء لا تبلى ولا تجف. فما أبهظ الثمن الذي دفعه المسلمون من دمائهم ومن مدنيتهم - خلال مائة سنة (إضافية) من الحرب - لقاء هذه اللحظة العابرة التي تحركت فيها مشاعر صلاح الدين فأطلق سراح ملك بيت المقدس جاي دي لوزينان! حقاً إنها للحظة حاسمة من لحظات التاريخ؛ تركت على وجه الأرض أثرها الذي لا يمحى.
(يتبع)
محمود عزت عرفة(693/21)
عناصر الاستقلال. . .!
(مهداة إلى شباب العرب)
(لأستاذ فاضل)
ليست هناك فكرة جلية لدى الأمة وفريق من خاصتها، عن الاستقلال
الحقيقي؛ بل إنهم يفهمون من - الاستقلال - الاستقلال السياسي
فحسب! وقليلون أولئك الذين يفهمون الاستقلال على حقيقته، والعلة في
ذلك قلّة ما صدر حتى اليوم من الكتب التي تعالج القضية الوطنية،
على أنها محدودة الشمول، أو سطحية الخ.
والاستقلال بمفهومه العام يقوم على أركان ثلاثة أساسية، وفقدان أحدهما يُعدّ ثلماً في الاستقلال، إذ يؤثر على الآخرين. وإذا كنا لا نفيد كثيراً من المفاضلة بينها إلا أنه يهمنا أن نقرر أن كلاً من هذه الأركان خطير الأهمية.
وبعد، فما هي عناصر الاستقلال وأركانه التي يقوم عليها؟ هذه الأركان الثلاثة هي:
الاستقلال السياسي.
الاستقلال الاقتصادي.
الاستقلال الفكري.
ولا يعزب عن البال أن العرب حتى اليوم لم يعيروا الركنين الأخيرين ما يستأهلانه من العناية والاهتمام. ولعلّ مرد ذلك إلى أن الأجنبي هو الذي حال دون ذلك حتى اليوم.
كذلك لا يعزب عن البال ما للركن الثالث من أهمية (خاصة) لأن علاقتنا مع (أجنبي) جنى (ويجني) فوائد عظيمة من ثلم الاستقلال الفكري، بل هذا هو سلاحه الفتّاك، أعني (الدعاية) بمفهومها الواسع التي توفر عليه إراقة الدماء ومر العناء، مما لم يُثبت أجنبي غيره قدرته على الاستفادة من هذا السلاح. . .
ولما أصبح مفهوم الاستقلال السياسي وقضية الحرية من البدائه التي لا يختلف فيها اثنان فسوف نقصر كلامنا على الركنين الأخيرين، إجمالا.(693/22)
أولا: ما هو الاستقلال الاقتصادي وأهميته وأثره؟
هو أن يكون للبلد زراعة ثم صناعة ثم تجارة مزدهرة، بحيث يكون ميزانه التجاري وميزانه الحسابي سليمين، فلا يعتمد في شيء من حاجاته على بلدٍ أجنبي ما لم ينتج ما يسدّ النقص. وعلى ضوء هذا التعريف البسيط الموجز نتساءل هل نحن مستقلون اقتصادياً؟؟ الحق أننا لم نجتز بعد الخطوة الأولى في مضمار التقدم الاقتصادي، وما نزال مستعبدين اقتصادياً، فكثير من المشاريع المنتجة العظيمة في بلاد العرب، تُستغلّ برؤوس أموال أجنبية ولا يصيبنا منها إلا نصيب الأيتام على مأدبة اللئام!
ولم تغب بعد من الأذهان والخواطر تلك الحالة الاقتصادية البائسة التي فرضت علينا طيلة الحرب العالمية الثانية، وما تزال، حيث تمكن الأجنبي من تحطيم كيان العرب الاقتصادي بين عشية وضحاها، فأحصى علينا حركاتنا وسكنانا، ووقعنا تحت رحمته إساري، وازدهرت الأندية والملاهي والخلاعة. . . وسهل عليه أن يستعمل جيشاً لجباً من رجالنا. . . كمرتزقة. . .!! الخ. . . الخ. . . الخ. . .
(وأبقى لنا جلداً رقيقاً وأعظما) أورثنا الطبلاوي أفندي هذا الحيوان الذي أتخيله وحشاً يخرّب ويدمّر. . . ويبتلع الأخضر واليابس. . . وأورثنا التضخم النقدي. . . وسرق الرغيف منا سراً وعلانية، وابتلع نتاج أرضنا من بترول ومعدن. . . وذهبت الدماء التي أريقت منا هباءً منثوراً. . . ولئن عادت تلك الظروف عدنا نحن والهنود وغيرهم. . . ندفع الثمن!!!
إذن ما نزال تحت رحمته، ولم نخط خطوات محسوسة في سبيل الاستقلال الاقتصادي، وهذا يعني - وهو حقيقة مرة - أن الوضع الحاضر المقيت سيمتد إلى أجل غير مسمى في بلاد العرب. . . وسيبقى الاستقلال السياسي - إذا أتممناه - عديم الفائدة.
ثانياً: ما هو الاستقلال الفكري وأهميته؟؟
هو ألا نجري وراء الآخرين بل نجاريهم في كل شيء!
هو ألا نصدق بكل ما يرد إلى بلادنا من أفكار ومذاهب وآراء على علاّتها.
هو ألا نشعر بأننا قاصرون، وأقل جدارة، وأحط أهلية من الآخرين. ففي مضمار السياسة والوطنية يجب أن نعمم الأفكار العربية الصحيحة، وأن تكون لنا فكرة أو عقيدة ثابتة لا(693/23)
نخرج عن حدودها.
وأن نميز بين الآراء الصحيحة والمغشوشة التي تُبث في وسطنا، فنفضح الموضوعة بقصد التمويه والتضليل. . . فكثير من المفتريات والأباطيل تلعب دوراً خطيراً في عقول عامة الناس وفريق من الخاصة.
ولنضرب مثلاً: لنفرض أنها حدثت ثورة في بلد عربي في وجه الطغيان. . . وقد حدثت فعلاً. . . وكانت النتيجة المعروفة. . . وذهبت الأمة في آرائها مذاهب شتى! لماذا؟ لأن الأجنبي سمم الأفكار وألبس الباطل بالحق. . . بأبواق دعايته المنظمة. . . ونجح أخيراً في تفريق الكلمة وصدع الشمل، وتشتيت الجماعة، ورد الكيد إلى النحر. . . وباتت الأمة تئن أحراراها. . . وتخبط في دياجير العمى جهلتها. . . وكانت الطامة الكبرى والعياذ بالله!.
وفي مضمار المعرفة: يجب أن يكون لنا منبع علمي عربي تنهل منه ناشئتنا، فلا نشعر بالنقص على الدوام، وبعقم عقليتنا.
وفي اللغة: (وهي الأمة. . . والأمة هي) كما يقول الحكماء لغتنا الخالدة يجب أن نؤمن بعبقريتها، ونفخر ونعتز.
ولابدّ من زيادة الإيضاح حول (الاستقلال الفكري) لكي ندلل على أهميته وأثره:
قضت البلاد العربية حيناً من الدهر طال وهي تتلقى صنوف المصائب من غفوة طبيعية في ظلام العهد العثماني. . إلى غفوة صنعية الكراهية في هذا العهد الأسود الأبيض المميت، حيث تتلقى كل يوم بل كل ساعة بل كل لحظة؛ ضربة صامتة في صميم الاستقلال والكرامة - يوجهها عبدة المادة وإخوان المطامع. لقد توطنت النفوس على الشعور بالنقص، وضعف الثقة بالذات مع مرور الزمن. . . وصرنا نسلك مسلكاً عجيباً، يندى له جبين التاريخ العربي. لنذكر كل أولئك لنعرف مدى حاجتنا إلى الاستقلال الفكري!
وصفوة القول: لا استقلال صحيح إلا بهذه الثلاثة.(693/24)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 28 -
البطل الضرير:
وكان ملتن في جنوحه إلى الراحة يفكر فيما عسى أن يرد به سلامسيس على رده هو عليه، ويدير في خاطره ماذا يصنع وماذا يعد من رد؛ حتى جاء هذا الكتاب فاستأثر بفكره، وطلب إلى ملتن أن يرد فيدفع عن وطنه ما يتهم به كما فعل حيال صيحة سلامسيس، وما كان في حاجة إلى أن يطلب إليه ذلك، ففي هذا الكتاب تهجم وقح على قوم يجلهم وعلى حكومة يعتز بها فضلاً عما فيه من مطاعن شخصية كفيلة بأن تثيره وتسخطه على صاحبه أعظم السخط.
ومن عسى أن يكون صاحب هذا الكتاب؟ ذلك ما أخذ يتساءل ملتن عنه؛ فليس على غلافه إلا أنه طبع بإشراف ألكسندر مورس، وفطن ملتن آخر الأمر أن مورس هذا هو مؤلف الكتاب ولكنه يتواري. والواقع أن مؤلف الكتاب كان يعيش في إنجلترا ما بين أكسفورد ولندن، وهو بيير دي مولان، ولم يجرؤ بالضرورة أن يلقي بكتابه إلى مطبعة في إنجلترا فأرسله إلىفي هييج، وهو من سلالة اسكتلندية ولكن أباه نزح إلى هولندا؛ ونشر مورس الكتاب وقدم له، وظن ملتن وشايعه في ظنه أكثر الناس أن الناشر هو المؤلف، وكتم مورس حقيقة الأمر كتماناً شديداً فيما يتعلق بمؤلف الكتاب، ولكنه أنكر أنه مؤلفه؛ إلا إن إنكاره لم يزد الناس إلا اعتقاداً بأنه هو فحلت عليه لعنة ملتن وأصحابه أجمعين، وبالغ مورس في كتمان سره وكان شديد الوعي؛ فلو بدرت منه كلمة أو إشارة تنم عن صاحب الكتاب لحاق به وهو على مقربة من كرمول، ومن ملتن سوء العذاب. . .(693/25)
وتنزي ملتن تنزي الليث الجريح يريد أن يتعجل الرد، ولكن المرض يقعده والعمى يحوجه إلى من يكتب له؛ ولم يك أعون له يومئذ من ابن أخته جون فيليبس، ولكن فيليبس كان في شغل يرد كلفه به عمه على هجوم آخر صغير وجه إليه؛ لذلك لم يكن بد من التمهل. فتمهل ملتن على رغمه وإن جوانحه لتتقد حقداً على مورس ومن دفعه من الكائدين.
وظل ملتن يرصد أنباء مورس ويتسقط معايبه، ويرسل من يتجسس عليه ويجمع ما يستطيع جمعه مما عسى أن يكون حوله من أمور تشينه في حياته العامة وفي حياته الخاصة.
وكان ملتن حرياً أن يترفع عن هذا فلا يكف نفسه مثل هذا العناء من أجل إمعة من النكرات يعد ازدراء ملتن إياه لما في ذلك من مجرد الاكتراث له شرفاً يلحق به، وحسبه أن يرد على ما ينسب إلى الحكومة من مثالب مقيماً الدليل إن أمكنه على بطلانها وحقيقة الدافع إليها.
وإنه لمما يؤسف حقاً أن يتنزل رجل مثل ملتن على جلالة قدره وسمو أفقه إلى ما لا يخرج في جوهره عن كونه مغالبة ومجادلة حزبية لقوم يعكفون عليها غدواً وعشياً لا يبتغون إلا الكيد ولو أنه أعرض عنهم واستصغر لكانوا هم المكيدين. . .
وجاء رده بعد سنتين أي سنة 1654 إذ نشر باللاتينية (الدفاع الثاني)، وأن المرء ليتملكه الأسف كلما فكر في فيما كانت تجدي على الشعر مثل هذه الطاقة من جانب شاعر أقترن أسمه بالسمو في ذلك الفن، وجاوز بلسان قومه في شعر الغناء والملاحم أسمى درجة أمكن أن يبلغها شاعر من قبله وبعده بحيث صار له في الشعر الإنجليزي أفق يشرف أقوى الشعراء بعده تحليقا أن يدنو منه فيتشرف له، وفي شعر الدنيا قاطبة مكانة تسلكه في القلائل الأفذاذ.
على أن كتاباته النثرية منها والإنجليزية لم تخل من فائدة وأهمية فمنها وقفنا على كثير من آرائه في الدين والسياسة والاجتماع، ومنها لمحنا بعض خلاله ونزعات وجدانه وخلجات شعوره، هذا إلى أنه كان يبلغ أحياناً في نثره كما سبق القول درجة لا تتقاصر عن مستوى شعره، بلاغة عبارة، وإشراق ديباجة وقوة أداة، وروعة فن. مما جعله يعد فيمن لهم على اللسان الإنجليزي عظيم فضل. . .(693/26)
ويستبين كثير من صفاته ككاتب أحسن ما تستبين في كتابه هذا (الدفاع الثاني) فالرأي مجتمع على أنه من خير ما كتب ملتن إن لم يكن خير ما كتب جميعاً، ويقول ذوو الخبرة باللاتينية ممن تحدثوا عنه إن ملتن أشرف على ذروة البلاغة فيه، وقد ضمنه جانباً من حياته الشخصية، وتعرض فيه لأقوى شخصيات الحكومة الجمهورية وأورد طائفة من آرائه الأساسية في السياسة والحكم، وأنذر في ختامه بما يخاف، وأفصح عما يتوقع إن لم يأخذ بنصحه المعاصرون.
أسرف ملتن في التفاخر بحكومة كرمول وما أدته إلى إنجلترا من صنيع، وما كان لها في قضية الحرية من مواقف مشهودة، وما أتيح لها من نصر فيها لم تشهد الدنيا مثيلا له، وما كان إلا مردداً بكلامه هذا ما سبق أن ذكره في الرد على سلامسيس، وكذلك شأنه في امتداح رجال ذلك العهد وما قدمت أيديهم من خير، وأمعن ملتن في الذهاب بنفسه وكان شعوره بأنه قاهر سلامسيس يدفعه إلى الغلو في ذلك حتى لقد أشبه أن يكون غلوه شططاً، وكان كلما تذكر ما رماه به خصمه من مطاعن يعظم غلاؤه فينسى أنه بذلك يبدي ما كمن في نفسه من غيظ.
يقول لمن ظن أنه خصمه: (تتساءل من أكون ومن أين جئت وتزعم أني في ذلك يحيط بي الشك، كذلك أحاط الشك بهوميروس من يكون وأحاط بديموستين. . .) ثم يسرد ملتن تاريخ حياته ويعدد مآثره ومفاخره، ويدفع عن نفسه ما نسب إليه، حتى ما عير به من فقد بصره فلم يدع هذا بغير رد فأشار كما سلف القول إلى براءة عينيه في مظهرهما مما يعيبهما حتى ليخالهما من يراهما مبصرتين كأحسن ما يكون الأبصار وأتمه، ونجد فيما يقول ملتن عن نفسه مثلاً من أحسن الأمثلة لما يلحق الرجل القوي من ضعف إذا عنى من الأمور بما لا يتفق وسامي منزلته وعظيم خطره؛ والحق إن شدة إحساس ملتن بذاته هو الذي يجره إلى مثل هذه المواقف. . .
ويرضى ملتن لنفسه فضلا عن هذا أن يوجه المطاعن إلى مورس وكان خليقا أن يدرك وهو المسرف في كبريائه وغلائه أن الجملة من مثله على مورس وأشباهه إن هي إلا ضرب من المهانة وإلا جاز أن يتداخل المرء إعجاب بقوة النسر أو الصقر إذا انقض على عصفور وديع، أو ببطولة الفارس إذا جندل غلاماً لم يدر ما الدرع بعد ولا ما السيف!(693/27)
ومن عجب الأمور حقاً أن يهتم ملتن اهتماماً كبيراً بالعيب على مورس كأنما كان له نداً يحرص أن يظهر عليه، وأن يأتي في مهاجمته بأمور حسبه فيها من إساءة إلى نفسه أن يكون هو قائلها؛ فهو يتجسس على علاقاته بالنساء ويستعرضها متهكماً ساخراً وينعت مورس أثناء ذلك بما يشاء خياله من نعوت ويعنف عليه ويغلظ غلظاً كبيراً حتى ليكون للمرء عذره إذا ظن أن ملتن إنما يباهي بمقدرته على الطعن والكيد. . .
ولكن (الدفاع الثاني) على الرغم من هذا كله يعرض أحسن ما كتب ملتن كما ذكرنا، ومرد ذلك إلى صفات فيه بيناها، ونزيد عليها صفة أخرى جديرة بالإعجاب حقاً وخليقة أن تجعل للكتاب ذلك الأثر الحسن في نفوس قرائه وتلك هي هواجسه وقلقه على الحرية؛ فقد أحيطت حماسته لكرمول بما ألقى عليها الفتور من التحذير والنصح والإبانة عما توسوس به نفسه من مخاوف.
وكان كرمول قد استغنى عن البرلمان وأصبح يلقب بحامي الجمهورية، وإنه في الحق لملك مستبد بالأمر لا ينقصه إلا التاج، وأحس ملتن أن الحكومة القائمة حكومة أقلية متحكمة تعتمد على الجيش، ولا سند لها من الشعب إلا أقلية تدين لها طوعاً أو كرهاً، وعلى ذلك فلا بد أن يكون لها من المبادئ ما تستغني به عن الكثرة المؤيدة فحياتها في استمساكها بما يميزها من غيرها قدراً فضلاً.
ولم يك ملتن راضياً عن مسلك كرمول في المسألة الدينية كما ذكرنا، وكذلك لم يعجبه تنكر كرمول لبعض الرجال ممن قام على كواهلهم عهده، وأزعجه تشدد كرمول والتجاؤه إلى العنف وعد ذلك نذيراً بخنق الحرية بأيدي أوليائها؛ وغمزت على قلبه المخاوف أن يمنى بخيبة جديدة كتلك التي مني بها من القساوسة أولاً ثم من البرسبتيرينز؛ فها هو ذا رأس الدولة يميل إلى القائلين بإشراف الدولة على الكنيسة أعنى بإقامة كنيسة للدولة، وهكذا يجد ما كان يحلم به من حرية العبادة وحرية النشر وحرية الطلاق تتهادى جميعاً صرعى في عالم ما أبعد أهله عن الفطنة والمدنية في رأيه وما أبعده في جملته عما وصف به من السمو، وما علق عليه من آمال. . .
وتتجلى لباقة ملتن فيما اصطنعه لبيان معايب كرمول فهو يسوق كلامه ساق النصح فينهاه عن أمور ويطلب إليه فعل غيرها فيتضمن نهيه وطلبه أن كرمول فعل ما لا يصلح فعله(693/28)
وقصر فيما يجب أن يفعل. . .
يقول ملتن إن الدولة مكين الدعائم إذ أنه يسيطر عليها رجل عظيم ويعينه مجلس يتكون من عظماء أماثل، وهي بذلك خير مما تكون عليه لو وجد البرلمان وفساده وسخافاته؛ ولكن لابد من الحرية، ولابد أن تكون الحرية آمنة مطمئنة لا يأتيها خوف ولا يمسها عنف. فإنها إن مسها العنف من الرجل الذي تكفل بحمايتها كان ذلك بمثابة ذبح الفضيلة؛ ويتجه بالخطاب إلى كرمول طالباً إليه أن يمسك عليه ذوي الرأي والمشورة من رجاله ويذكر له بعض الأسماء؛ ثم يسأله ملحاً أن يدع الكنيسة للكنيسة ويعظه ألا يزيد القوانين وقد رأى عدداً كبيراً منها يشرع حديثاً وألا يحظر شيئاً لا يصح أن يحظر، وأن يعنى بالتعليم ونشر الثقافة وأن يكافئ المجتهدين في هذا السبيل، وينصح له أن يطلق حرية الفلسفة، وأن يدع كل ذي رأي ينشر رأيه بغير رقابة فلا يأتي العلم على أيدي الجهلاء؛ ثم يدعوه أن ينصت إلى كل شيء وألا يخاف من استماع أي رأي خطأ كان أو صواباً إلا رأي من يدعو إلى الوقوف في وجه الحرية. . .
وفي ذلك الذي يقوله ملتن أبلغ رد على الذين اتهموه بممالأة كرمول بالحق وبالباطل؛ ونعجب أن يكون رجل مثل الدكتور جونسون ممن اتهموه بهذا. قال جونسون في كتابه عن ملتن: (وكان كرمول قد طرد البرلمان معتمداً على السلطان الذي قضى به على الملكية، وأخذ يتملك بنفسه تحت اسم حامي الجمهورية، ولكن كانت له قوة ملكية بل وأكثر من قوة ملكية؛ أما أن سلطانه كان مشروعاً فذلك ما لم يقل مدع به، ولقد أقام هو نفسه أساس حقه على الضرورة، ولكن ملتن وقد ذاق حلاوة استخدامه هكذا في صورة عامة لم يكن يرضى أن يعود إلى الجوع والفلسفة فخان الحرية التي دافع عنها وأسلمها إلى قوته، بينما كان يؤدي وظيفته في عهد اغتصاب واضح، وليس في الآراء أحق وأعدل من الرأي القائل بأن الثورات لابد أن تنتهي إلى العبودية، وأن الذي برر قتل مليكه بسبب أفعال عدها غير قانونية يُرى الآن وهو يبيع خدماته وضروب ملق لطاغية، لا يمكن كما هو واضح أن يجد عنده عملاً قانونياً).
وما خان ملتن الحرية ولا أسلمها إلى قوته وسلطانه، وإنما خاف على الحرية منذ أن لاحت له إمارات تخيفه عليها من شخص أفرط في حبه، وليس يدل ذلك إلا على أنه يجعل(693/29)
الحرية فوق كل شيء وأنه في سبيلها يضحي بكل شيء، والحق أننا لا نجد فيما سلف من مواقفه في جانب الحرية موقفاً أكثر من موقفه هذا دلالة على صدق حبه للحرية وصدق إخلاصه في كل ما ينهض له من دفاع عنها، وما نجد كلام جونسون إلا مثلاً لما تكون عليه الكتابة عن غرض أو عن جهل.
ويختم ملتن كتابه فيعود إلى الإنذار والتحذير قائلاً إنه فعل ما يجب عليه فعله وعلى مواطنيه أن يتدبروا في أمرهم، وإلا ساءت العاقبة، ومهما يكن من شيء بعد ذلك فمرده إليهم فعليهم تبعة كل خير أو شر. يقول في ذلك (لقد أديت شهادتي، وأكاد أقول إني قد بنيت تمثالاً لا يسهل هدمه يقوم شاهداً على تلك الأعمال الفريدة التي تسمو على كل مدح؛ وكان مثلي مثل شاعر الملاحم الذي يحرص على قواعد هذا الضرب من النظم، فلا يعنى بأن يصف حياة بطله الذي يمجد كلها، وإنما يقتصر على بعض أفعال خاصة من حياته كآخيل إذ كظم ما في نفسه تلقاء طروادة وكعودة أوليس وكمجيء إينياس إلى إيطاليا؛ وكذلك فعلت فحسبي مبرراً لموقفي أو عذراً عنه أني مجدت كما تمجد البطولة على الأقل فتحاً من فتوح بني قومي ومررت بغيره مراً، إذ من ذا يستطيع أن يسرد أعمال أمة بأسرها؟ فإذا تنكبتم طريق الفضيلة بعد هذا الذي أظهرتموه من البساطة والحمية وفعلتم ما لا يخلق بكم وما هو دون قدركم. فإن أعقابكم سوف يحكمون على أخلاقكم؛ ولسوف يرون أن الأسس أحكم وضعها وأن البداية كانت مجيدة، ولكن يحزنهم أن لم يوجد من يرفع القواعد ويتم البناء).
هذا هو ملخص (الدفاع الثاني) أو رد ملتن على مورس، ولقد بذل هذا المسكين أقصى ما في وسعه قبل أن ينشر ملتن كتابه ليقنعه بأنه ليس صاحب الكتاب الذي يريد أن يرد عليه فلم يعد من ذلك بطائل إذ أصر ملتن على أنه هو، وتلك خلة من خلال الشاعر العظيم فما تتجه نفسه إلى أمر أو تتعلق بفكرة إلا اشتد تمسكه بها فصعب زحزحته عنها أو استحال ذلك، ومن السهل أن نرد هذه الخلة إلى شدة اعتداده بنفسه أولاً ثم إلى ثقته ويقينه من أنه لا يفعل شيئاً عن هوى ولا يريد إلا الحق. . .
ولما نشر كتابه هالت مورس تلك العاصفة التي أرسلها عليه، وعاد ينفي عن نفسه أنه كتب شيئاً، ولقد كان يستطيع أن يفشي السر فيدل على الخصم الحقيقي لملتن ولكنه آثر أن(693/30)
يتحمل الأذى وهذه محمدا ومكرمة منه ولا ريب. . .
وتعاظم مورس الأمر فما يدري ماذا هو فاعل حيال، وأول ما خطر له هو شراء ما ورد هيج من نسخ الكتاب وإعدامها جميعاً ولكن ما حيلته فيما نشر من النسخ في القارة وفي إنجلترا؟ وأعد رداً على ملتن لم يعد كونه دفاعاً عن نفسه ونفياً لما رمى به من تهم وبخاصة ما يتصل بعلاقاته بالنساء، تلك التهمة التي جعلت الأمهات في كل بيت يجفلن من دخوله عليهن وعلى بناتهن الأمر الذي أحزنه وأزعجه حتى كاد يذهب بصوابه.
ولم يشأ ملتن أن يسكت حتى على هذا الكتيب الذي رد به مورس، فبادره بكتيب سماه (الدفاع عن نفسه) وعاد يسخر فيه من مورس، ويضيف إلى ما رماه به من مطاعن شخصية مطاعن جديدة ليست دون سآلفها إفحاشاً وإقذاعاً، وعقب مورس على هذا محاولاً أن يبرئ نفسه من كل ما رمى به، ولكن ملتن يأبى إلا أن تكون له الكلمة الأخيرة ولذلك لقيه برد ثالث آثر بعده مورس الصمت فلا طاقة له بهذا الذي يرسل الصواعق عليه لا يني ولا يفتر ولا يريد أن يسمع دفاعاً ولا استغفاراً.
هذه هي قصة النزاع بين ملتن وبين سلاميس ومورس وهي قصة كما رأينا حوت الكثير مما يكشف لنا عن جوانب شخصيته ويرينا جانباً من آرائه وموقفه من كرمول وحكومته ورجال عصره.
(يتبع)
الخفيف(693/31)
الحضارة المصرية في عهد الدولة الوسطى
بحث للعلامة الأثري أريك بيت
للأستاذ أحمدنجيب هاشم
الرفيق:
أحدث الغزو الأجنبي تغييرات في المجتمع، فأصبح الرقيق الأجنبي طائفة خاصة، وكان أغلبهم من الشام وقليل من النوبة، ولذا أصبحت لفظة (عام) مرادفة لرقيق في عهد الأسرة الثانية عشرة - ولم يكن هؤلاء الأرقاء ملحقين بخدمة الأفراد فقط، بل كان الكثيرون منهم يلحقون بخدمة المعابد كنصيب الآلهة في غنائم الحرب. على إن نصيب المعابد لم يقتصر على الرقيق، بل كان ينالها عدد كبير من الماشية ومقدار عظيم من الغلال، وكثير من الغنائم المختلفة التي تعود بها الحملات الخارجية - وقد أدى ذلك بطبيعته إلى زيادة ثروة طائفة الكهنة وعددهم، فقويت هذه الطائفة حتى استطاعت بعد ألف سنة أن تخلع الفراعنة من عروشهم.
مركز النساء:
ولم يكن مركز النساء في هذا المجتمع حقيراً بأي حال، ولكن مجال السيدة كان في البيت، ولذا كان لقبها (بنت بر) أي ربة المنزل، ونراها في النقوش ممثلة بلون أصفر خفيف. أما الرجال، فكانوا يمثلون بلون نحاسي داكن نظراً لقضائهم أغلب وقتهم في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس - وكانت السيدة تقوم بالأعمال المنزلية المختلفة من خبز وعمل الجعة وغزل ونسيج، وقد يساعدها الرجل في كل ذلك أحياناً - وكان الزوج يحب زوجته، ونراها في النقوش الظاهرة على جدران المقابر جالساً وقد وضعت ذراعها وراءه، أو مرافقة له في نزهاته للصيد في المستنقعات، وكانت ترسم عادةً في هذه الظروف بشكل أصغر، ولعل ذلك دلالة على أنها كانت تأخذ بنصيب أقل في هذه الرياضة
ولا نعرف عن الطقوس الخاصة بحفلات الزواج شيئاً ما، وجرت العادة أن يكتفي الرجال بزوجة واحدة، ولكن هناك أمثلة كثيرة لرجال اتخذوا زوجتين أو أكثر. والظاهر أن القانون لمن يمنع تعدد الزوجات، وقديماً أيام الأسرة الخامسة أوصى الحكيم بتاح حتب وزير الملك(693/32)
إسيسي بمحبة الزوجة، فقال نصائحه المشهورة: (كون لنفسك منزلاً، وأحب زوجتك، وأكفها حاجتها من الطعام والملبس، وقدم لها العطر، فإنه دواء لها، وأدخل على قلبها السرور مدة حياتك، إن المرأة حقل نافع لزوجها إذا أحسن معاملتها!)
الزواج من الأخت:
كثيراً ما يقال إن الملوك المصريين كانوا يتزوجون من أخواتهم، ولا جدال في أن البطالسة فعلوا ذلك، بل هناك أمثلة أقدم منهم عن هذا النوع من الزواج، ولكن ليس لدينا ما يدل على أنه كان قاعدة عامة، فإن إشارات القصائد الغرامية إلى الصديقة بلفظ (أختي) جعلت البعض يعقدون أنها تشير إلى وجود هذه العادة، ويجب أن نشك في صحة هذا الاعتقاد، لأن التعبير في هذه الأحوال ق يكون مجرد لفظ تقدير وإعزاز
كذلك يعتقد البعض أن الوراثة كانت تؤول عن طريق الابنة الكبرى، ولكن الأمثلة التي ضربت لتأييد ذلك تدل على أن الميراث آل إلى البنت ونسلها في حالة موت أبناء الرجل دون أن يتركوا وريثاً.
النساء الكاهنات:
وقد لعب النساء دوراً هاماً في نظام الكهنة، فكان يعهد إليهن - بصفة خاصة - الحفلات الموسيقية التي كانت تقام للآلهة من ذكور وإناث؛ وفي عهد الدولة الحديثة أصبح أولئك الكاهنات الموسيقيات محظيات للإله آمون رع، وكانت تعرف رئيستهن بزوجة الإله؛ والظاهر أن هذه الحالة وجدت في عه الدولة الوسطى أيضاً.
المنازل وهندستها:
نعرف تفاصيل الحياة المنزلية من الرسوم الكثيرة الواردة على جدران المقابر، بيد أننا لا نعرف إلا الشيء القليل عن البيت العادي، إذ لم يبق من بيوت الدولة الوسطى أو القديمة سوى بيوت مدينة صغيرة بنيت خصيصاً في اللاهون للعمال الذين اشتغلوا ببناء هرم الملك سنوسرت الثاني؛ وأغلب هذه البيوت أكواخ للعمال والبيوت القليلة التي أعدت لمراقبي العمل كانت أكبر حجماً، واختلفت اختلافاً كبيراً عن منازل الدولة الحديثة التي نعرفها جيداً من آثار تل العمارة(693/33)
أجل، لقد كانت مادة البناء واحدة في الحالتين، فاستعمل اللبن والخشب؛ كذلك حوى كل بيت بهواً بأعمدة يقوم السقف عليها ويدخل إليه النور من نوافذ في أعلى الجدران فوق مستوى أسقف الحجرات المجاورة؛ ولكن بينما نجد في منازل تل العمارة نافذة للبهو الأوسط مفتوحاً نصفها نحو السماء إلى الجهة الشمالية والغربية، نرى البهو الأوسط في بيوت اللاهون يتقدمه حجرة فسيحة بعرض البيت، ويتقدم هذه بهو ذو أعمدة
الأزياء:
والآن، فلنحاول أن نتخيل سكان هذا البيت هناك. أولا: رب الأسرة، ويرتدي في الأحوال العادية إزاراً قصيراً من نسيج الكتان الرقيق يصل إلى ما بعد ركبتيه بقليل، وقد يلبس في مناسبات أخرى فوق هذا الإزار قميصاً أطول يصل إلى عقبيه - وقد يكون في بعض الأحوال لحمايته من البرد، ولذا كان يصنع من نسيج أكثر سمكاً - ولكن لم يكن ذلك شرطاً أساسياً، فكثيراً ما كان يصنع من كتان رقيق جداً، فيظهر القميص القصير الذي تحته
ومن الملابس النادرة التي تلبس في الحفلات، ويلبسها الملك بصفة خاصة، قميص الصيد، وهو قميص من الكتان ذو ثنيات يربط جانباه إلى الأملم، وبينهما مبدعة مثلثة الشكل مصنوعة من نسيج القميص نفسه؛ ويلبس رب الأسرة في قدميه نعالاً مصنوعة من البردى، أو من الجلد، وتلبس زوجته ملابس بسيطة من الكتان الأبيض، هي مهلهل ضيق غير مكمم، كاس للجسم من الثديين إلى القدمين ومثبت فوق الكتفين بشريطين من النسيج نفسه، وكانت تلبس فوقه في الحفلات والولائم قميصاً آخر به خيوط من الخرز. وهكذا كانت الملابس في الدولة الوسطى تمتاز ببساطتها، أما في الدولة الحديثة فقد تعددت الأزياء
واعتاد صاحب البيت أن يقص شعره قصيراً أو يحلقه بالموس وأن يضع على رأسه في الحفلات الرسمية قلانس شعرية، وهذه القلانس نوعان: أحدهما قصير الشعر أجعده، والآخر شعره طويل ناعم مفروق في الوسط، وكانت الزوجة تترك شعرها مرسلاً إلى الأمام في ضفيرتين على كتفيها، وليس لنا أن نفرض أنهما من الشعر الطبيعي، لأن هناك رسوماً كثيرة عن نساء راقيات وفتيات صغيرات لا يثقلون أنفسهم بالملابس، أما الكبار منهم فكانوا يتشبهون بوالديهم، فالأولاد يلبسون قميصاً قصيراً، والبنات يلبسن مهلهلاً طويلاً، ويضع الأولاد خصلة طويلة من الشعر، ويكتفي البنات بخصلة قصيرة.(693/34)
الحياة المنزلية:
وليست الحياة في البيت حياة كسل أو خمول، فنجد في إحدى الحجرات الخدم يغزلون الكتان على مغازل أولية لا تزال تستعمل في الأمم المتأخرة، بينما يشتغل آخرون على النول الأفقي أو العمودي بنسج أنسجة تيلية تختلف خيوطها من حيث الدقة والمتانة، ولا تزال بعض هذه المصنوعات موجودة، وهي لا تقل جمالاً وجودة عن أجمل الحرائر الحالية - ولا نعرف إلا الشيء القليل عن استعمال الصوف في الدولتين القديمة والوسطى - بيد أن المعاطف الثقيلة التي نراها ممثلة أحياناً على التماثيل أو فوق النقوش، لابد أنها كانت مصنوعة منه
ونرى العمل قائماً على قدم وساق لإعداد الطعام في مطبخ البيت، ونجد النساء يطحن القمح بقطعة من الحصى على لوح كبير من الحجر، ويعجن الأرغفة في أشكال مختلفة من الشعر والشوفان ويخبزنها في فرن أسطواني من الفخار أو أفران من اللبن، ونلاحظ أن هذه الأفران كانت منخفضة ومفتوحة في عهد الدولة القديمة ومرتفعة ومقفلة بعدها
كذلك نجد صناع الجعة يأخذون الكعك المصنوع من الشعير أو حبوب البيشة ويكسرونه في الماء، ثم يضغطونه بعد أن يتخمر في مناخل رفيعة، ويعصرونه في أوان كبيرة، ويعبئ غيرهم العصير الناتج في قدرين طويلتين. أما النبيذ، فالراجح أنه لم يكن يصنع في المطابخ، بل قرب الكروم نفسها، فكان العنب يحمل في سلال، ثم يوضع في مكبس، هو لوح كبير من الحجر له سطح مجوف، ثم يدهسه خمسة رجال أو ستة ممسكين بحبال مربوطة إلى عمود أفقي مثبت فوق رؤوسهم، وبعد أن يصب النبيذ في قدر تحته يوضع العنب المدهوس في قطعة من القماش أو في زكيبة يلف طرفاها لفاً عكسياً بقطعتين من الخشب يمسك كل واحدة منهما رجل، وبهذه الطريقة يعصر العنب عصراً جيداً، ثم يوضع هذا العصير الأخير في قدر، وينقل العصير كله إلى قدر ليختم كل منها بالطين كما يفعل الفلاح اليوم بقدر عسله وجبنه، ويبصم الغطاء بخاتم أسطواني، أو في شكل جعران عليه اسم صاحب الكرم أو الموظف المسؤول عنه
وسائل التسلية:(693/35)
وقد اعتقد المصري أن الغرض من النبيذ هو إدخال السرور على نفسه، كما أولع بإقامة الولائم فكان الجار يدعو جيرانه ليقضوا معاً (يوماً سعيداً). ونرى في الرسوم الضيوف من رجال ونساء جالسين في هدوء يشاهدون ما أعد لهم من وسائل التسلية والسمر يشمون أزهار اللوتس ويحتسون النبيذ من الطاسة عندما تقدم لهم، وفي أثناء ذلك تعزف فرقة موسيقية على العود والقيثارة أنغامها الشجية، ويقوم المغنون بدورهم ويصفقون بأيديهم تصفيقاً منتظماً، ويعرض الراقصون والراقصات حركات بسيطة بالأذرع الأرجل والجسم. ويجب أن نذكر أن الموسيقى والرقص لم يكونا وسائل للتسلية فحسب، بل استعملا بكثرة في الحفلات الدينية والجنائزية.
ويظهر من الرسوم التي وصلتنا أن المصارعة كانت أكثر الألعاب الرياضية انتشاراً، ولم تقتصر الرياضة على الرجال، بل أخذ النساء بقسطهن فيها، ولدينا رسم واحد لسيدات يلعبن الكرة، ورسوم كثيرة عن سيدات يقمن بحركات بهلوانية، ولاسيما الشقلبة إلى الخلف. فإذا أراد القوم تسلية هادئة، لجئوا إلى ألعاب منزلية شتى يلعبونها بقطع ولوح خشبي أشبه بالشطرنج ومن أبسط الألواح التي عثر عليها وأقدمها لوحة عليها رسم في شكل ثعبان ملتف حول نفسه. ونرى ألواحاً أخرى مقسمة مربعات عددها أربعة وعشرون أو ثلاثون، تتحرك عليها القطع طبقاً لقواعد نجهلها، ولعلها اللعبة المعروفة اليوم باسم (السيجة) والتي لا يزال يلعبها كثيرون من أبناء الصعيد.
أحمد نجيب هاشم(693/36)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للدكتور خليل جمعة الطوال
في العلوم الطبيعية:
ولم يعتمدوا في دراسة العلوم الطبيعية والميكانيكية والسوائل والبصريات على مجرد النظر؛ بل اعتمدوا على فرض الفروض واستخراج النتائج منها بالمراقبة والامتحان. ولقد كان الحسن ابن الهيثم الذي ظهر في القرن الخامس للهجرة؛ علماً فذاً في هذه العلوم، ولئن تجاهله المسلمون فقد عرف فضله الغربيون، وقدروه قدره وأوفوا كتبه حقها من الدراسة العميقة وأحاطوا شخصه بما هو أهل له من الاحترام والإكبار. فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: إن ابن الهيثم قد أوحى بكتابته في الضوء إلى اختراع النظارات، وأن علماء القرون الوسطى كروجر باكون العالم الإنكليزي المعروف، وبول واتيلو، وليوناردفنشي، وكوبرنيكس وكبلر، وغيرهم، قد اعتمدوا على كتاباته، واقتبسوا منها معظم بحوثهم في مختلف المواضيع. وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية أيضاً ما نصه: (كان ابن الهيثم أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات).
وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم). ويقول الأستاذ سارطون: (إن ابن الهيثم أعظم مؤلف ظهر عند العرب في علم الطبيعة؛ بل هو أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات المعدودين المشهورين في العالم كله. . .)، وجاء عن العالم الفرنسي (لوتيرتياردو) بأن (كبلر) قد استمد معلوماته في الضوء وانكساره في الجو من كتابات ابن الهيثم.
وإلى ابن الهيثم يرجع الفضل الأول في معرفة قانون الانعكاس وزاويتي السقوط والانعكاس، وهو الذي أثبت أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة في الهواء وفي أي وسط آخر، وأنه إذا سار من وسط إلى وسط آخر انكسرت أشعته، وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار، وأظهر خطأ بطليموس في بحثه عنهما. وقد اخترع آلة لبيان العلاقة بين زاويتي السقوط والانكسار؛ فبنى علماء الغرب فيما بعد آلتهم الحديثة على أساسها. وقد علل كثيراً من الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار تعليلاً علمياً صحيحاً، واصلح خطأ رأي أقليدس القائل بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، وقال بأن النور(693/37)
يأتي من الجسم المرئي إلى العين، وقد بحث كثيراً في العدسات وحاول استعمالها في إصلاح أمراض العين، وكتب في الزيغ الكري وفي تعليل الشفق وهو إلى جانب ذلك أول من رسم العين، وبين جميع أجزائها، وكيفية تشريحها، ووضع أساس آلة الاسترينسكوب.
على أننا لسنا في صدد تدوين تاريخ ابن الهيثم أو بيان مآثره فذلك أمر لا تفي المقالة، ولا المقالات حقه، ولهذا فإننا نكتفي بهذه اللمحة الموجزة عنه؛ لنتقدم بفقرة أخرى موجزة نشير بها إلى مواطن ابتكار العبقرية العربية في هذا العلم الجليل الشأن.
يقول درابر: (لقد قرر العرب في الميكانيكا نواميس سقوط الأجسام وطبيعة الجاذبية، وعللوا القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل المائع وموازنتها الجداول الأولية للجاذبية النوعية، وبحثوا في طفو الأجسام وغرقها في الماء. . . وأثبتوا أننا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، ومما قال أيضاً: والذي يدهش كثيراً أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من ابتكارنا ثم لا نلبث أن نراهم قد سبقونا إليها. فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم وحقاً إنهم وصلوا إلى الأشياء الآلية وغير الآلية فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية)
وقال جوتيه: (لقد علمنا العرب صنع البارود، وعمل إبرة السفينة؛ وعلينا أن نقدر دائماً مدى الشوط الذي كانت تقطعه مدينتا لو لم تقم على مخلفات المدينة العربية، ولقد عرف العرب قبل غيرهم آلة الظل، والمرايا المحرقة بالدوائر، والمرايا المحرقة بالمقطوع وقطعوا شوطاً بعيداً في علم الميكانيكيات) وجاء عن سيد ليو: (أن هارون الرشيد الخليفة العباسي قد أهدى إلى شارلمان ساعة دقاقة، فلما أطلع عليها حاشيته تعجبوا كثيراً من أمرها، وحاروا في معرفة تركيب آلاتها).
وقد حاول حكيم الأندلس عباس بن فرناس الطيران، وأخترع صناعة الزجاج من الحجارة، وكتب في الموسيقى، ووضع آلة المثقال التي يعرف بها الوقت على غير حساب، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلاًيقرب من الحقيقة، وقد سبق العرب إلى معرفة الطباعة فألف أبو بكر القدسي كتاباً في الخواص، وصنعة الآمدة وآلة الطبع غريب في معناه.
الطب والكيمياء:(693/38)
يقول ويلز: (لقد أزدهر علم الطب والتداوي عند العرب على حين كان الأوربيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، إذ أن الكنيسة قد حرمته عليهم، وحصرت التداوي بزيارة الكنائس، والاستشفاء بذخائر القديسين، وبالتعاويذ والرقي التي كان يبيعها رجال الدين، ولقد كان لعلم الجراحة عند العرب أهمية كبرى؛ فقد كان جراحوهم يزاولن العمليات الجراحية الكبرى بطريقة علمية فنية، وساعدهم على ذلك ابتكارهم للمخدرات والمطهرات التي تشغل المكان الأكبر في علم الطب الحديث؛ على حين كان الأوربيون ينظرون إلى الجراحة كعمل منكر، ويستنكفون من النظافة لأنها تشبه الضوء عند المسلمين).
ونذكر من السابقين في هذا الميدان من أطباء العرب: طبيب طليطلة المشهور ابن الوافد (997 - 1074) صاحب كتاب (الأدوية البسيطة) الذي ترجم إلى اللاتينية أكثر من أربعين مرة، وقد وصف فيه أنواع من العلاجات، ترتكز على النظم الغذائية، وما زالت جهود العلماء حتى الآن منصرفة في هذا السبيل. أي بناء العلاجات على الأسس الغذائية.
ونذكر من الذين سموا بعلم الجراحة إلى مكان العلوم الراقية الجراح الكبير أبو القاسم خلف عباس الزهراوي، صاحب كتاب (التعريف لمن عجز عن التأليف) وقد شهد بنبوغه وتفوقه الجراح الكبير (فورج) فقال: لا شك في أن الزهراوي أعظم طبيب في الجراحة العربية، وقد أعتمده وأستند إلى بحوثه جميع مؤلفي الجراحة في القرون الوسطى. . . ويستحق كتابه في الجراحة أن يعد اللبنة الأولى في علم الجراحة)، وقد سبق الزهراوي إلى أشياء كثيرة، ومبتكرات عظيمة في علم الطب، فهو أول من بحث في علاج الأقواس الضرسية، ومعايب الفم، وضغط الشرايين، وهو أول من وصف عملية تفتيت الحصى في المثانة، واستخراجها بعملية جراحية، وعالج الشلل، ووصف كيفية استخراج الأجسام الغريبة من الإذن، وداوى الجراحات الكبيرة، ووضع أساساً لمعالجتها بالطرق الجراحية، ووصف علاج الباسور بالكي، وتكلم في فن الولادة، وهو أول من أستعمل خيوط الحرير في العمليات الجراحية، وعالج النزف بالكي، وما تزال أوربا حتى الآن تدرس نظرياته الطبية في جميع معاهدها.
ومن عباقرة العالم في هذا الباب أيضاً (أبو بكر الرازي) المعروف بأبي الطب العربي؛ ولكتب الرازي أهميتها العظيمة في علم الطب، فد وصف الجدري والحصبة، وعرف(693/39)
أعراضهما، ومعالجتهما، وطرق الوقاية منهما؛ وكان أول من أستعمل (الفتائل) في العمليات الجراحية، وكذلك الأنابيب التي يمر منها الصديد والقيح والإفرازات السامة، وقد ألف في الطب ما يناهز (200) كتاب وقد ترجمت جميعها إلى اللغة اللاتينية.
وكان الطبيب مروان بن زهر الأشبيلي مستفيض الشهرة في العالم الأوربي، فهو أول عالم بالطفيليات، وفي معرفة مكروب الجرب، وأول من وصف شلل البلعوم، والتهاب الأذن الوسطى، ووصف لبن الماعز في علاج الدرن.
وقد كان أبن رشد إلى جانب تفوقه في الفلسفة طبيباً لا يجاى، وما زالت كتبه تدرس في أرقى جامعات العالم، فهو أول من أشار وعلل الدورة الدموية كتابه (الكليات) الذي استمد منه وليم هارفي معظم نظرياته وبنى عليها. ومن أطباء العرب الأعلام موسى بن ميمون وله شهرة واسعة في عالم الطبابة.
وقد سبق العرب إلىمعرفة مرض النوم، وسموه النوام، ووصفوا علاجه وصفاً علمياً دقيقاً، وسبقوا أيضاً إلى استعمال الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة وقرح العين واستخراج الجريم العدسي الشفاف منها، وهم أول من عرف الطاعون وكيفية علاجه، وانتقال العدوى عن طريق الملابس والأوعية والحلي.
ومن آثار العرب التي سبقوا إليها، تأسيس البيمارستانات لمعالجة الأمراض العقلية؛ ويعزى إليهم الفضل الأول في إقامة المستشفيات، وكان نظامها وتجهيزاتها في غاية من الكمال والإبداع، وكانت إمبراطوريتها الواسعة تغص بآلاف من المستشفيات الراقية، وقد ذكر العلامة الأمريكي فكتور روبنصن أنه كان في طليطلة وحدها ما يزيد على أربعمائة مستشفى.
وقد برع العرب أيضاً في فن الصيدلة، ويشهد كتاب (الجامع في الأدوية المنفردة) لأبن البيطار بعلو كعبهم في هذا الباب فقد جمع فيه ما يناهز الألفين وصفة من أوصاف العقاقير المشهورة، ويعتبر هذا الكتاب اليوم في العالم الأوربي مرجعاً أساسياً في الوصفات الطبية والعلوم الغذائية وقد سبق العرب الأوربيين في وضع الأواني الزجاجية الكبيرة التي تحتوي على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات، وقد ميزوا بين مخازن العقاقير و (الأجزخانات) وإلى العرب يرجع الفضل في إدخال التمر الهندي، والمسك، والسنامكي،(693/40)
وجوز الطيب، والرواندي، والتمر، وعرق السوس، والكافور، والقرنفل، والزعفران في تركيب الأدوية، والوصفات الطبية. وقد تعلم الأوربيون من العرب أيضاً طريقة طلاء الحبوب العقارية بالورق المذهب، وتقطير ماء الورد، واستعمال المقيئات.
وأما في علم الكيمياء. فللعرب مكانة لم ينازعهم عليها أحد فهم الذين اكتشفوا الحامض الكبريتيك. وقد اكتشفه الرازي وسماه (بزيت الزجاج) وقد اكتشف أيضاً هذا العالم الجليل الكحول، وذلك باستقطار المواد النشوية والسكرية المختمرة، وألف في استخراج الذهب من المعادن الأخرى.
ومن أفذاذ العرب في هذا العلم أيضاً (جابر بن حيان)، ويقول المسيو برتيلو في الجزء الثالث من كتابه (الكيمياء في القرون الوسطى): (إن كتاب جابر بن حيان في الكيمياء هي غاية ما وصل إليه العقل العربي من الابتكار، وإن كل المشتغلين بهذا العلم من بعده كانوا عالة عليه نقلاً وتعليقاً).
وقد حاولوا كيمائيو العرب العثور على إكسير الحياة، وعلى اكتشاف حجر الفلاسفة، وكتبوا كثيراً في خصائص الفلزات واللافلزات، وعملوا لها جداول علمية دقيقة، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وصنع الصواريخ، والنترات الفضية، والغول، وكيفية استخراج المعادن كالذهب والفضة، والنحاس والبرونز، والفولاذ، وعرفوا أيضاً طرق الصباغة الفنية، وعمل الأواني الفخارية، وتحضير الورق من القش، وعمل الأشياء الجلدية الثمينة، واستخرجوا السكر من القصب والألوان من الأعشاب.
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(693/41)
وحي فيضان سنة 1946
للمهندس فؤاد السيد خليل
سارَت على الطوفان وهو جِبال ... ورَستْ على اُلجودىَّ وهي جَمال
ونجت من الهول العظيم بحكمة ... جُلى وفنَّ ما له من أمثال
أخذتْ من الفيْض المدِّمر خْيره ... ومشتْ على طُغيانه تختال
مصر الحبيبة للقلوب جميعها ... وإذا اشتكت يوماً تهبُّ رجال
من كل شهم للبلاد مجاهد ... هو الكفاح مهندس رئبال
إن لمَ يسرْ في المشرقين كلمه ... يوم النزال فإنه فعَّال
أو غاب عن سَمْع الأنام وحسَّهم ... فأعلم بأن وجودهم أعمال
ليس الشجاعة إذ تقاتل فتْيَة ... مثل الشجاعة إن دهىَ زلزال
والموت أهوَنُ بالمدافع في الخلا ... من أن تموتَ وفوقك الصلصال
ما الُّنبل تَقْتيلُ العباد وإنما ... تحمي رجال من أذى وعيال
يَنْسَى غداة الروع كل محبة ... وتكون مصراً وحدها الآمال
تتنكر الأيام والساعات في ... شُغل ويخَفى العيدُ والآصال
تتشابه الأوقات وهي عصيبة ... وتعمُّها الأحداث والأحوال
ولكم تَقِيلُ الجنُّ وهو مثابر ... ولكم رآه كوكبٌ وهلال
ولكم رأتهُ الشمس في حَّمامها ... بالنيل يحرسُها سناً وجلال
لما أتى النِّيل العظيم بخيله ... لا هُدنةٌ منه ولا إمهال
يُزجى المياه كتائباً وجحافلا ... تَرِدُ البلاد كأنها أغوال
قام المهندس للدفاع بفنَّه ... وبنفسه، وحياته أهوال
يحذوه واجبه العظيم وحبُّه ... لا تزْدَهِيه عقوبة ونوال
وأتاه من أهل الإدارة نخبه ... مشكورة والجند والعمال
قاموا جميعاً للجهاد بهمة ... لا يَعْتَرِيها في الجهاد كلال
وعمادُها الفلاح وهو علاج كل ... مُلمَّة. لم يهتضمه نضال
إن قَّلدُوه السيف وهو بطولةٌ ... أو قلدوه الفأس فهو غِلال(693/42)
قوَّى الجسور بقوة وعزيمة ... لم يُثنه مرضٌ بهِ قَتَّال
فلاح مصر ذخيرة مطمورة ... وجلاؤها التعليم والأعمال
ابن الفراعنة العظام وطالما ... آتاهُ في شتَّى الفنون كمال
لو عَّلموه فأطعموه وعالجو ... هُ لكان منه عباقرٌ وغزال
ولَحلَّ بالدستور كلَّ صعوبة ... إن العليم لِصَعْبِه حلاّل
أرأيت في التاريخ طرّا أمة ... ترقى بشعب جُله جهال
بالعلم عزَّتْ في الزمان ممالك ... وصَلتْ لما لم يبتدعه خيال
خزان أسوان العظيم تحيَّة ... من إليك كأنها تِمثال
حمَّلت مصر وأهلها لك منَّة ... عُظمى ستذكرها لك الأجيال
ودفعت عنها شرَّ أرعن مُزبدْ ... بحرٌ خَضِمُّ دافق هطال
وجدتْ بحصنِك في المهالك والأسى ... ما لم تجده (بروسِيا) و (الغال)
يا قوم هيا عزّزوه بآخر ... في حِفظِ مصر تُنفق الأموال
لا تتركوه على الحوادث (مأرباً) ... فإذا أصيب دَهَى البلاد وبال
أيجوز أن الماء وهو حياتنا ... يُلقى سدىً في البحر أو يغتال
في خزن ماء الفيض كل رجائنا ... والاعتماد على الجسور محال
يا مصر حبُّك في القلوب عقيدة ... يحيا بها الأبَوانِ والأشبال
لكن بنوك تفرقوا في حُبِّهم ... حتى قَسَوْا وتقطعت أوصالا
ماذا عليهم لو تكاتف جمعهم ... في رد عادية الأُلى قد مالوا
يستكثرون على الشعوب حياتها ... وحياتها الحسنى والاستقلال
ويرون أن الشرق ظلَّ بضاعة ... يشْرونها وتَغُرُّهُ الأقوال
في الشرق قوم لا تَلين قناتهم ... يجلو الفناء لهم ولا الإذلال
كم ظالم في مصر أظهر بأسه ... سَخرتْ به الفتيات والأطفال
مصر الكنانة والإله نصيرها ... والحق والأملاك والأبطال
فاروق عهدك آية قدسية ... تَسْمو بها الألباب والآمال
أكثرت في مصر المآثر والهدى ... وأشعت فيها العلم فهو حلال(693/43)
الشمس أنت على المدائن والقرى ... منك السَّنا والمخلصون ظلال
حاربتَ أدواء الرعيّة كلها ... وعلى يديك تحطم الأغلال
عصر به حكم الزمان لأهله ... طُرَّا بأن شعوبهم أعدال
والنيل مِلْكك لا مرد لحكمه ... وعلى جوانبه يعيش الآل
شعبُ يحبك بالفؤاد وبالنُّهى ... ويذود عن واديكَ من يغتال
فاسلم ودم للمشرقين منارة ... ويحفُّك التوفيق والإجَلال
فؤاد السيد خليل(693/44)
البريد الأدبي
الثفات:
كان هذا الضعيف إذا وجد في مكتوباته أو منسوخاته في (الرسالة) الغراء تطبيعاً بادر إلى إصلاحه، ثم هجر طريقته هذه، وفوض أمره إلى الله (تعالى) متكلاً عليه، وعلى الظن الكريم الحسن لقراء (الرسالة) بخادم قرآنهم ولغتهم. فمثل التطبيع في (آمالي الإمام القالي) و (المسيح بن مريم) في كلمة (لا غير) في (الرسالة) 691 - يروح في سبيل التفويض بيد أن (الثقاة) بهذه الهاء أو التاء المقصرة التي تبدو بهذه الصورة المنكرة في كل جريدة ومجلة - يدعو تطبيعها في كلمة (لا غير) إلى غير التفويض والاتكال إشفاقاً من أن يضعف ذلك الظن الحسن أو يزول إن لم يكن قد ضعف أو زال. . .
وإذا كنت لم أصل بعد في (علم العربية) إلى درجة التلاميذ لتلاميذ الأمام ابن خالويه فإني أقدر - بحول الله - أن أفرق بين المكسر والصحيح فلا أجمع (الثقة) إلا على (الثقات) ذات التاء المطولة، ولا أحسبها مثل (القضاة والدعاة والرعاة والسعاة والبغاة والشراة والأباة والرماة) ف (الثقاة) جمع صحيح سالم، وهنا الجمع المكسر حين تجمع به.
في اللسان: (ورجل ثقة وكذلك الاثنان والجميع، وقد يجمع على ثقات، ويقال: فلان ثقة وهي ثقة وهم ثقة، ويجمع ثقات في جماعة الرجال والنساء) ومثله في مستدرك التاج.
وقد استوى في الثقة المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع لأنه في الأصل مصدره في المصباح المنير: (وهو وهي وهم وهن ثقة لأنه مصدر، وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال: ثقات كما قيل: عدات).
وأول من نبه على ذلك الخطأ هو العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته الضياء في سنة من سنيها لا أتذكرها اليوم، ولا أتذكر رقم الصفحة فيها، ثم أغار على نقد الشيخ مغير، أعزو الفضل إلى صاحبه لن يضع من عازاه ولن يضير.
ذكرني بالإمام ابن خالويه هذا الخبر:
(جاء رجل إلى ابن خالويه وقال: أريد أن تعلم من العربية ما أقيم به لساني. فقال: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقيم به لساني)
محمد إسعاف النشاشيبي(693/45)
أبو شاس أيضا: ً
علق الأديب زكي الحافظ الفيومي في العدد690 من الرسالة الزاهرة على ماكتبناه في تحقيق ما ورد في الشابستي والعمري والزيات عن أبي شاس، وقلنا إنه تصحيف أبي نواس، وأوردنا الأدلة الكثيرة على ذلك، وذكرنا أننا لم نعثر لأبي شاس على ذكر في أي مصدر آخر غير ما ذكرناه، لكن الأديب الفيومي ذكر أننا تسرعنا في الحكم، وأنكر علينا حكمنا، وقال: لو رجع الأديب إلى مظان أسماء الشعراء لتحقق أن هناك شعراء يكنون بأبي شاس، منهم أبو شاس التميمي، وأبو شأس الطبري المذكوران في معجم الشعراء للمرزباني. ثم قال: هنالك شعراء يتسمون بأبي شأس منهم شأس بن نهار بن الأسود بن عبد القيس.
أقول:: لا أزال على رأيي الأول من أن هذا الاسم أبو شاس الذي مر ذكره في الشابستي والعمري والزيات هو تصحيف أبي نواس، وهذه الأدلة:
1 - طريقة الشابستي في كتابه الديارات أنه يعرف بالشاعر أولاً، ثم يذكر أخباره ونوادره وما له علاقة بموضوع كتابه، فذكر أبا شاس وعرف به، ثم ذكر أخباره، وفي كلامه على دير فيق ذكر شعراً لأبي نواس دون تعرف به، وكذلك فعل معه في الكلام على دير سرجس ودير هند.
2 - إن هذا الشاعر الماجن الخليع الذي كان - على رأي الشابستي - أطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، لازم الديارات وتطرح بها، وفتن برهبانها ومن فيها، هو أبو نواس نفسه لا أبو شاس، لأن هذه النعوت التي وصفه بها تنطبق على أبي نواس، ولم يرو عن أبي شاس المزعوم مثل هذه النعوت أبداً.
3 - ذكر الشابستي والعمري والزيات شعراً وجدته بنصه في شعر أبي نواس.
4 - الممزق العبدي شاعر جاهلي واسمه شأس بن نهار، لم يرو عنه في الخمرة، وإنه تطرحفيالحانات، وإنه فتن برهبانها ومن فيها، وهو الذي يقول:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركن ولما أمزق
وهذا البيت سبب تسميته(693/46)
5 - أما أبو شاس التميمي وأبو شأس الطبري، فلم يرو عنهما في كتب الأدب والسير أنهما شربا الخمرة ووصفاها، بل لم يرو عنهما خبر له قيمة، كما لم يرو أنهما كانا أطبع الناس شعرا. . .
6 - ارتجل حبيب زيات اسماً لأبي شاس هذا فأسماه أبو شاس منير، ولم يرد ذكر لهذا الاسم في جميع كتب اللغة والسير.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(693/47)
القصص
المليونير النموذجي. . .!
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
إن لم يكن الإنسان ثرياً فلا جدوى من كونه فاتناً، لأن الشعر والحب من ميزات السراية وليسا شأناً من شؤون المتعطلين، وعلى الفقراء أن يكونوا رجالاً عمليين عاديين. وخير للإنسان أن يملك دخلاً ثابتاً من أن يكون ذا فتنة أخاذة.
تلكم أعظم حقائق الحياة الحديثة التي لم يفطن إليها (هوفي ارسكاين) المسكين. فلم تكن قواه الذهنية خارقة للعادة ولم تند عنه قط فكرة متألقة أو غير عادية؛ ولكنه كان مشرق الطلعة بشعره البني المجعد وعينيه الرماديتين، مما حبب فيه الرجال والنساء جميعاً، وكان يتمتع بكل وسائل الحياة إلا وسيلة كسب النقود.
ولم يخلف له أبوه سوى سيفه الذي علقه (هوفي) فوق مرآته، وكتاب تاريخ في خمسة عشر سفراً وضعه وسط مجموعة من المجلات. ثم قنع بالعيش بمبلغ يسير منحته إياه عمة شمطاء بعد ما أخفق في كل عمل مارسه. فقد تردد على البورصة ستة أشهر، ولكن ما حيلة فراشة بين ثيران وذئاب؟ واتجر بالشاي مدة أطول، ولكنه سرعان ما عزف عن التجارة. ثم زاول بضع مهن أخرى لم يفلح فيها. وأخيراً أصبح لا شيء؛ أصبح شاباً مرحاً عقيماً ذا وجه صبوح بلا عمل. . .
ومما زاد الطين بلة أن (هوفي) كان متيماً بحب (لورا مرتون) كريمة ضابط متقاعد فقد أعصابه وخسر معدته في الهند ولم يستعدهما. وكانت (لورا) تحب (هوفي) حباً يكاد يصل إلى العبادة، وكان يسعده أن يلثم سيور حذائها، وشهدت لهما لندن بأنهما أجمل حبيبين وأوفاهما فيها لأن المال لم يعترض حبهما. وكان الضابط ولوعاً بهوفي؛ بيد أنه أبى أن يعقد خطبة ابنته له، وجرى على أن يقول له (عد إليّ يا بني عندما تملك عشرة آلاف جنيه وسنتدبر الأمر حينذاك) فيكتئب (هوفي) ويبدو عليه الوجوم ويقصد إلى (لورا) طلباً للسلوى.
وبينما كان (هوفي) ذاهباً إلى (هولاند بارك) حيث تقطن أسرة (مرتون) ذات صباح عرّج على صديقه (آلن تريفور) الرسام. وكان (آلن) فناناً متفرداً إلا أنه كان جافاً غريب(693/48)
الأطوار؛ طفح النمش على وجهه وأرخى لحية حمراء شعثا؛ أما حين يمسك بالفرشاة فإنه يثبت أنه سيد فنه حقاً، وكان يجد في البحث عن أمثلة صوره بشوق وتلهف. وما جذبه إلى (هوفي) في بدء الأمر إلا إشراق وجهه، ولا غرو فكان دائماً يقول (ما على الرسام أن يعرف من الناس سوى البسطاء الوجهاء الذين تجد في النظر إليهم لذة فنية، وفي التحدث معهم راحة الذهن. فالوجهاء من الرجال والحسناوات من النساء يحكمون العالم، أو يجب أن يفعلوا ذلك على الأقل) وكلما زاد معرفة بشخصية (هوفي) زاد إعجابه بروحه المرحة الخفيفة، وطبيعته الكريمة الطائشة، حتى فتح أبواب مرسمه على مصراعيها أمامه في كل وقت.
وعندما دخل (هوفي) وجد (تريفور) يجمّل صورة رائعة لشحاذ بالحجم الطبيعي، وكان الشحاذ نفسه واقفاً على ربوة مرتفعة في زاوية من زوايا المرسم، وهو رجل عجوز تبدو الحكمة على وجهه المتغضن الكئيب الداعي إلى الشفقة. وكانت على كتفه عباءة رثة من قماش داكن، وكان حذاؤه الغليظ قديماً مرقعاً. واتكأ الكهل بإحدى يديه على عصا غليظة بينما مدّ يده الأخرى بقبعته البالية يتكفف الناس.
وصافح (هوفي) صديقه وقال همساً (يا له من مثال رائع!) فصاح (تريفور) بأعلى صوته (نموذج رائع؟ أعتقد ذلك، لأنه لا يُلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم! إنه كنز يا عزيزي)
- مسكين هذا الرجل! يا له من بائس! ولكني أظن أن وجهه بالنسبة إليكم معشر الرسامين هو كل ثروته؟
- بلا شك. إنك لا تريد الشحاذ يبدو سعيداً؛ أو تريد؟ فسأل هوفي (وكم يتقاضى النموذج مقابل هذه الجلسة؟) واقتعد مقعداً مريحاً.
- شلناً في الساعة.
- وكم تتقاضى أنت عن الصورة يا آلن؟
- آه! عن هذه أتقاضى ألفين.
- من الجنيهات.
- نعم يا عزيزي.
- فصاح (هوفي) ضاحكاً (هذا حسن! ولكن يجب أن يظفر النموذج بنسبة مئوية لأن عمله(693/49)
لا يقل مشقة عن عملك).
- كيف ذلك؟ انظر إلى مشقة توزيع الألوان والوقوف طيلة اليوم أمام منصة الرسم! كل هذا يروقك أنت يا (هوفي) ولكني أؤكد لك أن هناك لحظات يكاد يصل فيها الفن إلى منسوب العمل اليدوي. والآن أوجز ولا تثرثر لأني جد مشغول؛ فدخن سيجارة والزم الهدوء.
وبعد فترة من الزمن دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الإطارات يريد مقابلته. فقال (تريفور) وهو خارج (لا تجر يا (هوفي) فسأعود بعد لحظة).
وانتهز المتسول فرصة غياب (تريفور) ليستريح على مقعد خشبي وراءه، وكان يبدو عليه البؤس والشقاء حتى أشفق عليه (هوفي) فبحث في جيوبه ليعرف ما عنده من نقود، وكان كل ما وجد جنيهاً وبضعة سنتات، ثم فكر في نفسه (هذا الزميل العجوز المسكين يفتقر إليها أكثر مني) وذرع الأستوديو ونفح الشحاذ بالجنيه.
تحرك الرجل العجوز وعلت شفتيه اليابستين ابتسامة صفراء وقال (شكراً يا سيدي، شكراً).
ولما عاد (تريفور) استأذن (هوفي) في الخروج ووجهه محمر لما فعل. وقضى ذلك اليوم مع لورا، وقبل الإياب إلى منزله ظفر منها ببعض التأنيب والتقريع لتبذيره.
وفي مساء ذلك اليوم بينما كان (هوفي) يتجول في نادي (الباليت) في الساعة الحادية عشرة وجد (تريفور) جالساً وحده في غرفة التدخين فقال له مشعلاً سيجارته: (أأتممت الصورة على ما يرام؟).
- تمت ووضعت في الإطار يا بني. ولئلا أنسى لقد قمت بغزو، فذلك النموذج يدين لك بالإخلاص الشديد، وقد أطنبت له في الحديث عنك - من أنت، وما هو دخلك، وما هي آمالك -
- (يا عزيزي آلن) صاح هوفي (ربما وجدته في انتظاري عند عودتي إلى المنزل؛ ولكنك تمزح بدون شك. مسكين هذا العجوز البائس! وددت لو استطعت مساعدته. إنه لشيء مرعب أن يصل إنسان ما إلى هذا الدرك من البؤس. أتعتقد أنه يحفل بشيء مما عندي من أكوام الملابس القديمة؟ وكيف لا! فإن أسماله كانت تتساقط قطعاً).(693/50)
- ولكنه يبدو بديعاً في هذا النوع من الملابس. وأنا لا أرسمه بملابسه الرسمية السوداء مقابل أي ثمن؛ لأن الذي تدعوه أنت خرقاً بالية أسميه أنا خيالاً رائعاً، وما يبدو لك فقراً مدقعاً هو ما يستحق التصوير عندي. وعلى كل حال سأخبره باستعدادك لمنحه بعض الملابس.
فقال (هوفي) جاداً (آلن! أنتم معشر الرسامين لا قلب لكم).
- قلب الفنان رأسه، وعلاوة على ذلك لا تنس أن عملنا تصوير العالم كما نراه لا كما يجب أن يكون؛ ولكل عمله، والآن أخبرني كيف حال لورا فالنموذج العجوز أظهر اهتمامه بها.
- إنك لا تعني أن تقول إنك حدثته عنها؟
- بل فعلت بلا ريب. فهو يعرف كل شيء عن الضابط القاسي الفظ و (لورا) الحلوة والعشرة آلاف جنيه.
فصاح (هوفي) محمراً من شدة الغضب (أتخبر ذلك المتسول العجوز عن جميع شؤوني الخاصة؟).
وقال تريفور مبتسماً (يا ولدي العزيز! ذلك المتسول العجوز، كما تدعوه؛ من أثرى رجال أوربا. فهو يستطيع شراء لندن غداً دون أن يسحب أكثر من رصيده، وهو يملك قصراً في كل عاصمة، ويتناول الطعام في أطباق من ذهب، ويستطيع أن يمنع روسيا من دخول الحرب عندما يرغب في ذلك).
- ماذا تعني بالله عليك؟
- إن الرجل الذي رأيته في الأستوديو اليوم هو (بارون هوسبرج) وهو صديق حميم لم يبتاع جميع صوري، وقد أعطاني جعلاً في الشهر الماضي لأرسمه في زي شحاذ! ماذا ترجو من أهواء مليونير؟ ولكن يجب أن أعترف أنه بدا مثالاً رائعاً في خرقه، أو في ملابسي أنا، لأن ما كان يرتديه إن هو إلا عباءة قديمة لي اقتنيتها من أسبانيا.
فصاح هوفي (بارون هوسبرج! يا الله! فقد نفحته جنيهاً!) وغاص في المقعد المريح مرتعباً فزعاً.
وانفجر تريفور في الضحك (منحته جنيهاً! لن تراه ثانية يا ولدي العزيز، فما أعماله إلا(693/51)
مستمدة من نقود الآخرين).
وقال هوفي عابساً (أظن أنه كان يجب أن تخبرني يا آلن، ولا تتركني أخدع نفسي إلى هذا الحد).
- في الحقيقة لم يتصور عقلي أنك توزع الصدقة بتلك الطريقة الطائشة. إني افهم تقبيلك نموذجاً جميلاً، ولكن إعطاءك جنيهاً لنموذج قبيح - لا، بالله، لا! فهذا مستحيل. وعلاوة على ذلك فالحقيقة أني أنكرت وجودي في الأستوديو لكل طارق اليوم، فعندما دخلت أنت لم أعرف هل يحب (هوسبرج) أن يذكر اسمه، فأنت تعرف أنه لم يكن يرتدي ملابسه الرسمية.
- لابد أنه حسبني شيخ البلهاء في هذا البلد.
- لا، أبداً. فقد كان مسروراً بعد خروجك، وكان يحدث نفسه ويمسح يديه المجعدتين؛ ولم أستطع أن أستنتج سبب شغفه بمعرفة كل شيء عنك، ولكني فهمت كل شيء الآن.
- (إني شيطان عديم الحظ) زمجر هوفي (خير ما أستطيع عمله هو الإيواء في مخدعي. ويا عزيزي آلن يجب ألا تخبر أحداً بما حدث، فإني لا أستطيع أن أواجه المجتمع)
- ولم ذلك؟ إن عملك هذا لأقوى دليل على حبك لخير البشر يا هوفي. والآن خذ سيجارة أخرى وتحدث عن (لورا) بقدر ما تحب.
بيد أن (هوفي) لم يطع وذهب إلى منزله حزيناً مكتئباً، وترك (آلن تريفور) يقهقه من شدة الضحك.
وفي الصباح التالي في أثناء تناول (هوفي) طعام الإفطار حمل إليه الخادم بطاقة كتب عليها (المسيو جوستاف فودان من طرف البارون هوسبرج) فأمر الخادم بدخول الزائر ودخل الحجرة رجل عجوز بمنظار ذهبي وشعر رمادي وقال بلهجة فرنسية (هل لي شرف التحدث مع المسيو أرسكاين؟).
فانحنى هوفي.
وقال الرجل: (جئت من عند البارون هوسبرج، والبارون. . .).
تلجلج هوفي (أرجو يا سيدي أن تقدم للبارون أصدق اعتذاراتي).
فقال الرجل العجوز مبتسماً: (كلفني البارون أن أحمل إليك هذه الرسالة)، وقدم له مظروفاً(693/52)
مختوماً.
وكتب على خارج المظروف: (هدية زفاف لهوفي أرسكاين ولورا مرتون، من متسول عجوز)، وكان بداخله صك بمبلغ عشرة آلاف جنيه.
ولما تزوجا كان (آلن تريفور) شاهد العروس، وألقى (البارون هوسبرج) كلمة في حفلة الزفاف.
وتعجب آلن قائلاً: (إن من أندر الأمور الظفر بنموذج مليونير. ولكن أندر منه الظفر بمليونير نموذجي).
بولس عبد الملك
بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية
1
1(693/53)
العدد 694 - بتاريخ: 21 - 10 - 1946(/)
الضمير الأمريكاني. . .! وقضية فلسطين
للأستاذ سيد قطب
أخيراً يتكشف ضمير (الولايات المتحدة) الذي تعلقت به أنظار كثيرة في الشرق , وحسبته شيئاً آخر غير الضمير الإنجليزي والضمير الفرنسي , وسائر الضمائر الأوربية المعروفة
أخيراً يتكشف ضمير (الولايات المتحدة) هذا , فإذا هو - ككل شيء أمريكي آخر - (ضمير أمريكاني)!
ونحن نعرف في مصر (اللعبة الأمريكانية) ونعرف إنها (نصب) في (نصب) وقد حرمت هذه اللعبة لما فيها من غش وخداع. و (الضمير الأمريكاني) الذي تكشف عنه تصريحات ترومان لا يرتفع كثيراً عن هذه اللعبة الممنوعة!
ولقد كان الكثيرون مخدوعين في هذا الضمير؛ لأن الشرق لم يحتك طويلاً بأمريكا، كما احتك بإنجلترا وفرنسا وهولندا، فلما بدأ الاحتكاك في مسألة فلسطين تكشف هذا الخداع عن ذلك الضمير المخول، الذي يقامر بمصائر الشعوب، وبحقوق بني الإنسان، ليشتري بضعة أصوات في الانتخاب.
وكلهم سواء أولئك الغربيون: ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها (الديمقراطية) يؤمن بها المخدوعون!
تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين
فها هي ذي أمريكا تتكشف للجميع. هذا هو (ترومان) يكشف عن (الضمير الأمريكاني) في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن، لا يثق به إلا المخدوعون!
إنهم جميعاً يصدرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير. تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس.
كم ذا اكره أولئك الغربيين وأحتقرهم! كلهم جميعاً بلا استثناء: الإنجليز، الفرنسيين، الهولنديين، وأخيراً الأمريكان الذين كانوا موضع الثقة من الكثيرين.
ولكني لا اكره هؤلاء وحدهم، ولا احتقر هؤلاء وحدهم. إنما اكره واحتقر أولئك(694/1)
المصريين، وأولئك العرب، الذين لا يزالون يثقون بالضمير الغربي عامة، وضمير الاستعمار على وجه الخصوص.
إنها الجريمة. تلك التي يقترفها كل يوم في حق شعوبهم المسكينة. جريمة التخدير والتغفيل، وأنام الأعصاب على الأذى، وهدهدة الآمال الباطلة، والأماني الخادعة؛ في ذلك الضمير المأفون.
يقول نبي الإسلام الكريم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وها نحن نلدغ من الجحر الواحد مرات، ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه مغمضي الأعين نتطلب (الشهد) من جحور الأفاعي. ولا نجرب مرة واحدة أن نحطم هذه الجحور وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور!
إنها الجريمة. تلك التي نعاودها مرة بعد مرة. الجريمة في حق النفس، والجريمة في حق الوطن، والجريمة في حق العقيدة. إنها الغفلة التي لا يستحق صاحبها الاحترام، وهو يشهد على نفسه بالتغفيل!
ولكن من الحق أن لا نصم الشعوب العربية بهذه الوصمة. إن هذه الشعوب لأذكى وأشد حمية من أن ترضى لنفسها بالهوان ولكنها تلك الحفنة من ساسة الجيل الماضي في مصر وبعض البلاد العربية. تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب، لا تقدر على الكفاح، ولا تدع الشعوب تكافح، لأن أنانيتها الأثرة تمسكها عن الانسحاب في الميدان وتركه للقادرين!
هذه الحفنة من ساسة الجيل الماضي هي التي اخترعت كلمات: المفاوضات، والمحادثات، والمؤتمرات. . . لماذا؟ لأنها وسيلة سهلة لا تكلف شيئاً، وتضمن كراسي الحكم والسلطة فترة من الزمان. وكلما همت الشعوب أن تسلك طريقها، وأن تواجه المستعمرين بذاتها، حال هؤلاء بينها وبين المستعمرين، ووقفوا من دونهم يصارعون الشعوب، وتصارعهم الشعوب. فإذا أتعبهم الصراع مع شعوبهم راحوا يبثون في الأمة روح الثقة بالمستعمرين، وراحوا يشيعون الآمال الخادعة في هذا الضمير المدخول!!
تلك هي القصة. قصة الجحور وأفاعي. وقصة اللدغ المتكرر من هذه الجحور. وإنها المأساة، ولكن من العدل أن نبرئ منها الشعوب العربية؛ فلا تؤخذ بجريرة حفنة من الساسة(694/2)
الضعفاء المرضى المتهالكين!
والضمير الأمريكاني!
لقد كان الكثيرون يفهمون أنه شيْ آخر غير الضمير الأوربي. فأراد الله - ولعله لخير هذه الأمة العربية المنكوبة - أن يكشف عن ذلك الضمير. . . إنه ضمير مادي، ضمير الآلة التي لا تحس، وضمير التاجر الذي لا يتورع، ولا يهمه حق، ولا عدل، ولا حياء.
وهل تملك تلك الحضارة الآلية أن تنشيْ إلا ضميراً من هذا القبيل؟
ليست المسألة مسألة جنس ولا دولة. فليس الأمريكان خيراً من الإنجليز، وليس الإنجليز خيراً من الفرنسيين، وليس الفرنسيون خيراً من الهولنديين. . . كلهم أبناء حضارة واحدة. حضارة مادية بغيضة لا قلب لها ولا ضمير. حضارة تأخذ ولا تعطي، وتجرح ولا تأسو. حضارة أنانية صغيرة مهما بدت من الخارج ضخمة ذات بريق وضجيج!
إنها حضارة زائفة لأنها لم تقدم للإنسانية زاداً من الروحية، ولم تحاول رفع الآدمية عن قانون الوحوش. وهل تطبق هذه الحضارة مع شعوب الأرض المنكوبة إلا قانون الوحوش؟
ثم يوجد بين أمم الشرق غافلون أو خادعون يثقون بأصحاب هذه الحضارة، ويراودون شعوبهم على الثقة بلك الضمير، ويثبطون عزائمهم عن الجهاد الحاسم، والكفاح المثمر، في أنسب الظروف!
وبين ضجيج الآلات يرتفع بين آن وآخر صوت إنساني خافت في تلك الربوع: ينادي بالعودة إلى الله، كذلك الصوت الذي أرسله الكردينال جريفان في إنجلترا منذ أيام، حين ألقى بكاتدرائية وستمنستر عظة دينية فقال:
(لقد أبعد الله عن ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وهذا هو السبب في أن الأمم المتحدة لم تستطع إلى اليوم أن تصبح (متحدة) فعلاً).
(وأنه لينبغي أن يكون لله ومبادئه القائمة على الإحسان والعدالة مكان في الشئون الدولية حتى تصبح الحرية حقيقة في العالم بأسره ويعيش الإنسان في ظل السلام والأمن).
ولكنه صوت خافت لا يسمع في ضجيج الآلات التي تغشى على صوت الضمير، ونغمة مبحوحة لا تسمع بين صراخ المطامع، وعواء الشهوات، في ذلك العالم الهائج الشعور!
والآن. أيها الشرق. ماذا تريد؟(694/3)
فأما إن كنت تبغي الخلاص من براثن الوحش الغربي. فهناك طريق واحد لا تتشعب في المسالك. فهو أقرب طريق. . . اعرف نفسك، وراجع قواك، واستعد للصراع، وابدأ في الكفاح ولا تستمع إلى صوت خادع يوسوس لك بالثقة في ضمير الغرب المدخول.
وأما إذا كنت تبغي الراحة مع ذلك الجيل المكدود المهدود من الساسة المترفين الناعمين، فأمامك طرق كثيرة ذات شعب ومسالك، وذات منعرجات ودروب. هناك المفاوضة، والمحادثة، وجس النبض، واستطلاع الآراء. وهناك الديبلوماسية الناعمة الرقيقة، والكلمات الرفيقة الظريفة، وهناك الانتظار الذي لا ينتهي، والاستجداء الذي لا ينبغي. وهناك المؤتمرات الحافلة والموائد المستديرة، وهناك الكتب البيض، والكتب الزرق، والكتب الخضر، وما لا ينتهي من الطرق والمنعرجات والدروب!
والحمد لله - أيها الشرق - لقد تكشف لك القناع عن آخر ضمير (الضمير الأمريكاني) الذي كانت تتعلق به الأنظار، أنظار الغافلين والخادعين!!!
والحمد لله - أيها الشرق - إن شمسك الجديدة في شرق، وشمس هذا الغرب الفاجر في غروب. وإنك تملك من الرصيد الروحي، ومن ميراثك القديم، ما لا يملكه هذا الغرب المتطاحن الذي يأكل بعضه بعضاً كالوحوش لأنه يحكم قانون الغابة فيما يشجر بينه من شقاق لا ينتهي، وهل ينتهي الشقاق في الغابة بين الوحوش.
إنها الفرصة السانحة - أيها الشرق - للخلاص. فانفض عنك رجال الماضي الضعفاء المنهوكين. وابرز بنفسك للميدان، فقضايا الشعوب في هذه الأيام لابد أن تعالجها الشعوب.
وما قضية فلسطين إلا قضية كل شعب عربي، بل كل شعب شرقي. إنها الصراع بين الشرق الناهض، والغرب المتوحش.
سيد قطب(694/4)
أسلمي يا مصر. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
ظللت سنوات معتزلاً أو كالمعتزل، وما اعتزلت إلا لأن الحياة أرادتني على ذلك فأطعتها، وليتني ما فعلت! ثم جاءت أيام فهزتني حتى كادت أن تقتلع جذور الحياة من أغمض أعماقها في نفسي وفي قلبي وفي سائر بنياني وحواسي، فانتبهت كالذاهل المغمور وأنا لا أدري أحي أنا أم ميت، وإن كان لم يشعر بما أشعر به إلا رجلٌ أو رجلان أدركا ما أنا فيه من محنة وشقاء. ثم انجلت الغمة وارتفعت الغشاوة، وبدأت أرى الدنيا كما ينبغي لمثلي أن يراها، فأقبلت عليها أتفحصها كأني أقرأ تاريخاً جديداً لم يكن لي به علم ولا خبر. ومن يومئذ آثرت أن أغفل شأن هذه الشعرات البيض التي تلمع على فودي نذيراً وبشيراً، وقلت لنفسي: كذب والله على بن جبلة الخزاعي، فإني لأجد هذه الشعرات البيض أخف على قلبي محملاً وأشهى إلى نفسي من كل ما استمتعت به في صدر شبابي، وكيف اشجي بشيء قد جعله الله بديلاً من جنون الصبا وغرام الشباب. وأنا أسوق هنا أبيات على بن جبلة، وإن كان لا حاجة للمقال بذكرها، لأني أعدها من أجود الشعر وأرصنه وأحسنه تمثيلاً لمقدم الشيب، وأدقه تصويراً لإحساس الفزع الذي تتجرعه النفوس الشاعرة في يوم الكريهة - يوم المشيب. قال يذكر الشيب وقد بلغ الأربعين:
ألقى عصاه، وأرَخى من عمامته ... وقال: ضَيفٌ. فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ!
فقلتُ: أخطأت دار الحيّ! قال: ولِمْ؟ ... مضتْ لك الأربعون ألسِتمُ! ثم نزَلْ
فما شَجِيتُ بشيء ما شَجِيتُ به، ... كأنما اعتمَّ منه مَفْرِقي بجَبَلْ
ولست أنكر أن علو السن بالمرءِ أمر ينبغي أن يلقى له باله ويتعهده حتى لا يؤخذ على سهو وفي غفلة، وأن الشيب هو النذر العريان - ولكن ما بالشيب من عار، فنحن إنما خلقنا لنحيا ونموت، فلتكن حياتنا كلها كما بدأت جهاداً متصلاً جريئا في سبيل الغاية التي نفخ الله فينا من أجلها الروح. وقبيح بأمري علمته الأيام ووعظته الأسى منذ كان أبوه الشيخ آدم إلى يوم الناس هذا - أن يجزع أشف جزعٍ من منهل لم ينج سابق من وروده، ولن ينجو من وروده لاحق.
وليت شعري ماذا يضيرني من شيبة في شعراتٍ، إذا كان قلبي غضاً جديداً كأنه ابن(694/5)
ألامس القريب؟ ولو قد كان ذلك ضائري لقد هانت الحياة هواناً يجعلها أسخف وأخف وأضأل من أن أحفل بها اقل حفل. وكذلك عقدت عزمي على أن أضرب في مسالك الحياة حيث لا يعوقني وقار غث، ولا حنبلية متزمتة، وحيث أخبر الحياة على وجهها الذي هي عليه اليوم، لأعرف ما الذي ستكون عليه غداً. فأسرعت إلى حلقات الشباب ممن تجاوزوا العشرين وأشرفوا على الثلاثين، لأرى كيف يفكرون، وأنظر كيف يعملون، وأعرف ماذا يدبرون، وأعلم أين يستقبلون فرأيت ونظرت وعرفت وعلمت، فأشفقت وأملت، وخفت ورجوت، ولكني على ثقة من أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بأمة ضلت في بيداء هذه الحياة، وقد خرجت تضرب في جوانبها مطموسة البصر إلا ما شاء الله.
كان من أهم ما شغلني أن اسمع ماذا يقولون عما يشغل الناس جميعاً في هذه الأيام، وأن أناقشهم فيما يقولون حتى أعرف خبئ نفوسهم وضمائرهم، وأن انقل ما استطعت شيئا مما يعتلج في هذه القلوب الشابة التي تريد الحياة الحرة الكريمة - أي تريد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وينبغي لكل صاحب قلم أن يحرص أشد الحرص على بيان ما يرى وما يراقب، فإن الجيل الماضي الذي صارت إلى يديه مقاليد الحكم في مصر غافل كل الغفلة عن الآمال والآلام التي تساور القلوب المصرية الشابة، وجاهل كل الجهل بالمولود الجديد الذي ولد في أرض مصر وشب ونشأ واستوى وكاد يبلغ مبالغ الرجال. يقول قائل الشباب:
(لقد خرجت مصر كلها، عالمها وجاهلها وغنيها وفقيرها، تنادي يوما ما باسم (الجلاء) وباسم (وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه) وباسم البلد الواحد الذي هو (مصر والسودان). والشعوب أو الجماهير إن شئت، لا تعرف تفاصيل التاريخ ولا يهمها أن تعرف، بل هي تحس وتدرك وتتمنى وتسعى وتفعل كل شيء بالإلهام الذي تسدده الفطرة المستقيمة، وهذه الفطرة المستقيمة إذا نظرت إلى شيء واستوعبت لبه وطرحت نفايته ولقد نظر الشعب المصري بفطرته المستقيمة فرأى دولة طاغية تحتل سماء بلاده وأرضها وبحارها، بل تحتل أرزاقها المقسومة لأهلها من طعام وشراب، وتشاركها في نسمات الهواء بل تضيق عليها أيضا، وتحرمها النفحة بعد النفحة من هذه النسمات. وإذن فهي تمنع عنها ما هو مباح للوحوش في مساربها، والبهائم في مراعيها، والطير في مسابحها. وإذن فلابد أن تظفر يظفر به أدنى الخلائق وأهونها على الناس وعلى الله ربها وربهم.(694/6)
وإذن فالشعب لن يعرف إلا كلمة واحدة هي: (الجلاء)، ولا ينادي إلا بشيء واحد هو: (اخرج من بلادي أيها الغاصب)، ولا يعرف من التاريخ ولا من السياسة ولا من البراعة والحذق في الدهاء إلا أن هذا غاصب واقف بالمرصاد يغتاله ويغتال أسباب حياته، ويرمي به في الرغام ليعيش هو في رغد وفي بحبوحة.
(قام الشعب فاسمع من كانت له أذنان، فإذا فئة من محترفي السياسة، ومن كل محتال عليم اللسان، ومن كل وجيه زينه ماله وغناه، ومن كل ذي صيت رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل - قد هبوا جميعاً مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظن الشعب أنهم قد صدقوا بعد ماض كذب على التاريخ وعليهم، فرضى عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلا حتى رأى الوادي يموج عليه بالحيات والأفاعي والعقارب، وكل لداغ ونفاث وغدار، فانتبه فزعاً يطلب النجاة مما تورط فيه من ثقة بأقوام لم ينالوا يوماً ما ثقته، ولا حملهم أمانته، ولا رضى عن أعمالهم، ولا سلم إليهم مقاليده إلا مرغما أو مغرراً أو مخدوعاً. ثم بقى الشعب يترقب نهاية هذه المفاوضات العجيبة التي نالت فيها مصر كل شيء إلا الجلاء، ورأت كل عجيبة إلا عجيبة ارتحال الجيوش البريطانية ذات الزي العسكري أو الزي المدني).
ويقول قائل الشباب: (أنني لا أعرف تاريخ القضية المصرية على الوجه المعقد الذي يدلس به الساسة علينا، ويدخلون به المخافة والذعر في قلوبنا. لا اعرف من تاريخ هذه القضية إلا أن بلادي كانت توشك أن تكون قبيل 1882 إحدى الدول العظمى في العالم، ثم إذا بأوربة كلها تتألب على هلاكها، وقتلها، والولوغ في دمها بتحريض دولة واحدة قد امتلأ قلبها جشعاً وحقداً. فلما ظفرت بما أرادت، ذادت كل دولة عن طريقها، ورمت مصر غدراً وخيانة فاحتلتها في سنة 1882، وحسدتها الدول، وخافت مغبة احتلالها لأرض مصر، فتألبت عليها وطالبتها بالخروج منها، فوعدت أن تجلو عن أرض مصر جلاءً ناجزاً بعد أن تستقر الأمور ويتوطد سلطان العرش المزعزع! وقامت مصر تطالب بالجلاء فوعدت أيضا بالجلاء، وظلت بعد ذلك تعد وتعد وتعد وهي لا تمل وعداً ولا تحققه، إلى أن كانت سنة 1956 فإذا هي تعلن الجلاء إعلاناً تاماً صريحاً بيناً واضحاً ناجزاً سريعاً، وتبدأ تجلو، ولكن من غرفة إلى غرفة، ومن سرير إلى سرير، ولكنها لا تخرج من باب الدار إلى لقم الطريق.(694/7)
(ثم إننا نرى هذه الفئة التي اختالت في ثياب (الزعامة) ومجدتها الصحافة وسمتها باسم (الزعامة) قد دخلت في المفاوضات بينها وبين البريطانيين باسم مصر، ومصر منها براء، فإذا بريطانيا تزعم للشعب أنها جلت عن مصر، فأخلت القلعة، وأخلت فندق سميرا ميس! وكانت فيه القيادة العليا البريطانية للجيش البريطاني في مصر، وأخلت كذا، فتجلوا عن كذا، ولكنها تأبى في المفاوضات إلا أن تبقى في مصر لتشارك مصر في الدفاع عن أرض مصر العزيزة - على بريطانيا بطبيعة الحال!
(أفتظن هذه الفئة أن الله قد سلب الشعب المصري فطرته السليمة، حتى تخدعه كل هذه الترهات الباطلة التي يرسلها كهنة السياسة من كهوف المفاوضات على واديه المحرم؟ لئن ظنوا فقد خابت ظنونهم وباءوا فأخيب الرأي وأبعده عن مواقع الصواب أن الذي بيننا وبين بريطانيا قد بان وتكشف لكل ذي بصر. نعم لقد مضى على مصر دهر وهي مخدوعة بالمفاوضة، ومخدوعة بقدرة السياسة على نيل الحقوق المهضومة، ولكن لم يبق في مصر بعد اليوم شابٌ في قلبه ذرة من أيمان بالحرية، وفي عقله ذرة من حسن التقدير وصدق التفكير، إلا وهو يعلم أصدق العلم أن المفاوضة معناها كذب القوى على الضعيف، وذلة الضعيف بين يدي القوى. ونحن ننظر صابرين إلى هذا العبث الدائر بين رجال قد أحدوا أنيابهم، وأعدوا مخالبهم، ورجال قد عرضوا مقاتل أمتهم لهذا الضاري المفترس ليقضم منها حيث شاء كما شاء، ثم يقول للفريسة: لقد أعددت لك الأطباء والممرضين ليضمدوا جراحك ويحقنوا دمك، ويدفعوا عنك عادية الردى! وكذلك تكون شفقة الأسود الرحيمة!
(أن القضية المصرية أبسط قضية على وجه الأرض: غاصب قد أقرت الدول جميعاً منذ سنة 1882 أنه غاصب معتدٍ، ومغصوب لا يزال يصرخ منذ ذلك التاريخ، ويقول لأهل الدنيا أنقذوني. فما معنى الدخول في المفاوضات بيننا وبين بريطانيا؟ إن العالم كله مطالب بإخراج بريطانيا من مصر، ونحن لا نحب أن نفاوض بريطانيا ولا ينبغي لنا أن نفعل، بل الذي ينبغي هو أن نفاوض الدول كلها إلا بريطانيا في شأن إخراج هذا الغاصب وإجلائه عن برنا وجونا وبحارنا، وفي صده عن عدوانه على أعراضنا وعلى طعامنا وعلى أرزاقنا وعلى أخلاقنا وآدابنا وثقافتنا. . .
(إن بريطانيا دولة قوية ما في ذلك شك، ولكننا أقوى منها لأننا أصحاب حق. فليعلم هؤلاء(694/8)
المفاوضون أن مصر لن تقبل الدنية في مستقبلها ومستقبل أجيالها، وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في حق رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وانهم وإن كانوا مصريين أكواما، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم منهم على أبنائها ورجالها الآتين. ونحن الشباب الناشئ نعرف أننا لن ننال لأنفسنا ولبلادنا حقها وحريتها إلا بالحزم والعزم وترك التهاون، والإقلاع عن هذه الخبائث التي يسمونها المفاوضات، ونسميها نحن المساومات. ونحن الشباب الناشئ نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلت من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فلنمت كراماً صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلاء مستعبدين. ولتعلم هذه الفئة أنها تسير بمفاوضاتها في وادٍ وأن الشباب يسير في وادٍ غيره، فليحذروا مغبة ما يفعلون، وخير لبريطانيا أن تفهم هذا ولا تتجاهله، فربما جاءها يوم لا ينفعها فيه هذا التجاهل، وكان خليقاً أن ينفعها الفهم وحسن الإدراك).
هذا حديث الشباب أيها الشيوخ، فتحذروا غداً، فإن القوة التي تتجمع في الصدور قد أوشكت تنقض السدود التي رفعتها بريطانيا وشيدتها وجعلتكم عليها قواماً وحراساً، أيها الشيوخ شاركوا الشباب قبل أن يأتي يوم لا يغني عنكم عقلكم ولا استبصاركم ولا تلبسكم بأثواب السياسة ومسوح الحكمة وعمائم الوقار. وذلك يوم قد دنا أوانه.
محمود محمد شاكر(694/9)
مناظرة هادئة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
نحن معشر الرجعيين. . لا نرى قتال المرأة ولا نزالها، ونجد ذلك قادحاً بالرجولة، ونعد ذنب المرأة مغفوراً وجنايتها جباراً، ولكن آراء الرجعيين الجامدين من أمثالي. . . صارت أثراً عتيقاً من آثار القرن الماضي لا تصلح إلا لدار الآثار. . . وقد تغيرت الدنيا وأهلها، وأصبح أشد ما تأباه المرأة (أو السيدة إذا شئت الأدب في الخطاب) وتنكره وتراه هواناً لها ونزولاً بها عن منزلتها أن تترفق بها لأنها امرأة وغدت تريد أن تكافح الرجل وتنازله، لا ترى نفسها أصغر من أن تغلبه، ولا تجده أكبر من أن يهزم أمامها، فعلى هذا، وإكراماً للسيدة الجديدة، ومجاراة لها في مذهبها، ووفاء بحق هذه الأمانة، أمانة (القلم) الذي منّ الله به عليّ وجعلني من أهله، لأضرب به في كل ميدان إصلاح، وأقرع به كل معالم الفساد، لا تمنعني من ذلك رهبة عدو، ولا رغبة في مودة صديق. . . لهذا كله أعرض اليوم عرضاً إلى هذه (النهضة النسائية) التي أصبح الكلام فيها واجباً وجوب عين، فعفوكنّ، - يا سيداتي - فأنتن أردتن هذا، وأنه لا يزعجكن - فيما أظن - الكلام في هذه النهضة، لأنها ليست من الضعف (في رأيكن) ومن الوهن بحيث تنهدم من ضربة، وتطير من نفخة، ثم إني كتبت مجيباً لا مبتدئاً. . . ومنتصفاً لا معتدياً. . .
ولا بد لي قبل من ذكر مقالتي (دفاع عن الفضيلة)، لأن هذا الفصل كالتعليق عليها، ولولا الحياء من أن أوصف بالغرور، وبأني ممن يحرص على (صيد) الفرص، لينوه باسم نفسه ويزكيها، لقلت: إنه قلما تصيب مقالة من النجاح الصحفي ما أصابت هذه المقالة (في بلاد الشام)، فقد نفذت نسخ (الرسالة) كلها في ساعات من نهار، حتى صارت النسخة تطلب بأضعاف ثمنها فلا توجد، وقرأ كل نسخة - فيما أقدر - أكثر من خمسة، ومن القراء من أخبرني أنه كان يعقد لها المجالس ليتلوها فيها كما تتلى المحاضرات، وسر بالمقالة جمهور من الناس ودعا لي من أجلها وأثنى عليّ وهنأني، وغضب منها جمهور من الناس ودعا عليّ وشتمني ولعنني، ورأى فيها إخواننا الرجعيون. . . الخيرين أصحاب الفضيلة ترجمة آرائهم ولسان أفكارهم، ورأى فيها المجددون تجديد الباطل، المجردون أنفسهم وأهليهم من ثياب الستر، المبددون تراث الأجداد الماجد الثمين، سداً في طريقهم إلى غايتهم التي يدعون(694/10)
إليها، وبلاء صبه الله عليهم، وخزياً لهم وغيظاً لقلوبهم، فقالوا: رجعى؛ وقالوا: مجنون؛ وقالوا: مشته محروم ينفس بهذا عن نفسه؛ وقالوا: فاجر يتستر بالدفاع عن الفضيلة، وما باليت كل ما قالوا. . . لأني ما كتبت هذا المقال، وما قبله، ولا ألححت هذا الإلحاح على محاربة تلك المفاسد، ابتغاء رضاء الناس، فأنا أعلم أن من تغضبه هذه الكلمات أطول يداً، وأشد سلطاناً، وأحد لساناً، وأقدر (ولا يقدر إلا الله) على نفعي وضري. ولكني كتبتها، وكتب مثلها الأستاذ سيد قطب، غضباً لله ولدينه ولمحارمه، وتنبيهاً لهذه الأمة الغافلة، أن يفتك بها ذلك الداء، وتحرقها تلك النار، ووطنت نفسي على حمل ما (قد) تأتيني به من الأذى، لأحمل الضعيف العاجز، بل المحارب المقاتل الذي لا تصيبه الضربة حتى يردها بعون الله عشراً. على أني إذا لمت الحكومات ورجالها، فلا أبرئ العلماء ولا الأدباء، فهم أولى باللوم، وأحمل للتبعة، إذ يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يسخرون له ألسنتهم وأقلامهم، ولو أنهم أدوا زكاة بيانهم دفاعاً عن الفضائل والأعراض، وأثاروها داحسية بسوسة على الإباحية والفجور، لما حقت هذه اللعنة علينا حتى صار يقود ناشئتنا في دورنا وأسواقنا نفر من الفجار عباد إبليس، سموا أنفسهم كتاباً وصحفيين، وصارت لهم كتب تقرأ ومجلات. . وما كتبهم ولا مجلاتهم إلا الترجمة الفنية لحديث المراقص والمواخير، وبيوت الخنا والزنا، وما يكون فيها من مشاهد وصور، تحملها كل يد إلى كل دار، فيقرؤها الشاب في المدرسة، والفتاة في الخدر، فتكون هادياً لهم إلى تلك البيوت وإماماً!
ولكن المسؤول قبل الحكومات وأرباب البيان، والمجرم الأول، ومنبع الشر ورأس البلاء، إنما هو الأب، الأب الذي يشتري لبنته لباس المرشدات، وتُبّان السباحة، ويقطع لها (تذكرة السفر) إلى بلاج الإسكندرية، وفندق بلدان، ومحافل لبنان، ويرضى لها أن تتكشف وتتعرى، وتحتك بالشبان في الترام، وتشرب القهوة عند البياع في سوق الحرير، ويرسلها إلى مدارس يعلم فيها أدب بشار وأبي نواس شباب في أعصابهم مثل النار التي في أعصابها، فبعثها في رحلاتهم التي تمتد أياماً وليالي، تنزل معهم في الفنادق، وتركب معهم في السيارات، وتؤم معهم المتنزهات، وتسمع (وكيف لا تسمع؟) الفاحش من نكاتهم، والبذيء من أغانيهم، وما أغانيهم إلا غزل في مثلها وتشوق إليها، وهي في السن التي تصرخ فيها غريزتها، وتغلي دماؤها، ويتفتح للحب قلبها!(694/11)
ولا يدري هذا الأب المغفل القرنان أن ليست عاقبة هذا إلا فضيحة تقصم الظهر أو مرضاً يحمل إلى القبر، ثم إنها لظى نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى!
أقول: إن هذه المقالة شغلت الناس، واختلفت فيها آراؤهم، وكان من أعجب ما سمعت من التعليق عليها، أني كنت في الترام، وكان الترام في تلك الساعة خالياً، فسمعت حديثاً بين امرأتين في غرفة النساء، لا أراهما ولا ترياني، موضوعه التعليق على هذه المقالة، ولست أروي من هذا الحديث إلا كلمتين اثنتين تدلان عليه، قالت الأولى:
- يُهْ! ما تردّي عليه؟ ينزل عليه الدم إن شاء الله، وعلى المشايخ كلهم!
قالت الثانية: وأنت ليش مهتمة فيه، مين راد عليه؟ يبعت له الحمى، يعني بدو نرجع للوراء، ونضيع النهضة النسائية ونرجع جاهلات متحجبات، يتحكم فينا الرجال؟ فشر! إننا سنكسر رأسه!
وليصدقني القراء إذا قلت لهم إن هذا كلامهم بالحرف الواحد! وأنا لا احب أن أرد الشتائم ولا أحسن مثلها مع الأسف الشديد، إنما أحب أن ابحث في اصل الموضوع، أما رأسي فقد عجزت عن كسره أقلام كتاب فحول، حاولته من قبل، والسنة خطباء مقاول، وعصيّ حكام جبابرة، فلن تكسره أقلام طرية، في أيدٍ ذات سوار، رخصة البنان، محمرة الأظافر. لا يا سيدتي، إن الله قد صنعه من (مواد غير قابلة للكسر)، فدعن رأسي وتعالين نتناظر (مناظرة هادئة) في هذه النهضة النسائية، فذلك أجدى عليكن من كسر رأس لا تستفدن من كسره شيئاً. . . لأن رؤوس (الرجعيين) لا تزال كثيرة جداً!
ما هي هذه النهضة النسائية؟ بماذا تختلف نساء اليوم عن نساء الأمس؟ أنا ألخص الاختلاف في كلمات:
كانت نساؤنا تقيات جاهلات متحجبات مقصورات في البيوت، فرقّ دينهن وتعلمن وسفرن وخالطن الرجال، فلننظر في كل خصلة من هذه الخصال، أكانت خيراً أم كانت شراً: أما الدين على (إطلاقه) وخوف الله في السر والعلن، وما يكون معه من الاطمئنان والرضا، والإحسان إلى الناس، والبعد عن الفواحش، وترك الكذب والغش والحسد والمكر، وهذه خلائق يوحي بها كل دين من الأديان الصحيحة والفاسدة، فلا يشك عاقل في أنه خير، وأن تركه شر، وأن هذه النهضة بإبعادها النساء عن شرعة الدين، قد أضرت ولم تنفع، وكان(694/12)
ضررها مضاعفاً مكرراً، لأنه إن جاز أن يمنع الرجل من الفاحشة خلقه وإرادته، فقد ثبت أن المرأة لا يمنعها منها إلا دينها!
وأما العلم، فهو خير للمرأة بشرط أن تتعلم ما يصلحها ويصلح لها، وألا يوجب تعلمها اختلاطها بالرجال، لأننا إن قدرنا العلم قدره، وعرفنا له فضله، فلا نستطيع أن نفرط من أجله بالشرف ولا نضيع العرض، وهما أكبر قدراً وأكثر فضلاً، وليس معنى هذا أن كل اختلاط يؤدي حتماً إلى إضاعة العرض، لا، ولكن الغرائز موجودة، والشهوات مستقرة في النفس، إن منعها سدّ فقد تطغى فتحطم السدّ أو تعلو عليه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتفع فيه، والعبرة بالشائع الغالب، لا الأقل النادر، وعلى ذلك نزلت الشرائع ووضعت القوانين، ولو كان احتمال سقوط المرأة في هذا الاختلاط واحداً في الألف لوجب منعه وتحريمه، لأن أمة في كل ألف من نسائها واحدة ساقطة لأمة فاجرة ليست بذات خلق قويم، ولا تستحق أن تعيش. . .
ونحن لا نكره أن نرى في نسائنا أمثال باحثة البادية، ووردة اليازجي، ومي، وماري عجمي، ووداد سكاكيني، ولكن أين السبيل إلى أن نوجد أمثالهن؟ وهل توصل إلى ذلك مدارسنا؟ إننا نبصر فتيات يتجاوز عددهن الآلاف المؤلفة، يقطعن الطرقات كل يوم إلى المدارس، غدواً إليها ورواحاً منها وهنْ بأبهى زينة وأبهج منظر، يقرأن كل ما يقرؤه الشبان من هندسة وجبر ومثلثات وكيمياء وفيزياء وأدب غَزِل، ويتعلمن الرسم والرياضة والغناء، ويدخلن مع الشباب في الامتحانات العامة، ويحملن مثلهم البكلوريات والدبلومات، ويجمعهن مجلس بعد هذا كله بالعاميات الجاهليات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رؤوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر في الأشياء، فكأن هذه المعلومات الأغاني التي تصب في اسطوانات الحاكي (الفونوغراف) إن أدرتها سمعت لهجة فصيحة، وكلاماً بيناً، ونغماً حلواً، فتقول أنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس، ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحن. . .!
وهذا حق، ما أردت بسرده الانتقاص، ولكن بيان الواقع ثم إن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد، وتركه للخادمات والمراضع، والانصراف عن الدار وأعمالها، والترفع عن الزوج، ثم إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقي في زوجها حماراً (ولا مؤاخذة) تركبه إلى غايتها، لا(694/13)
رجلاً تحبه وتطيعه ويحبها ويرفق بها وإن هي اشتغلت معلمة أو محامية أو طبيبة، لم تكن إلا (دون الوسط) في المعلمين والمحامين والأطباء، فما هذا العلم؟ ولماذا لا تتعلم ما ينفعها امرأةً وزوجةً وأماً وربة بيت؟ ولماذا لا تتعلم مع ذلك التحرر من عبادة (الموضات) والأزياء، ومن حب تقليد النساء الغربيات حتى فيما هو ضرر محض، وأن يجعل لها العلم استقلالا في فكرها، تتبع كل ما تجده صالحاً ولو كان مخالفاً للموضة، مبايناً لما عليه أهلها؟
وأما الحجاب، وأعني به ستر الأعضاء التي تثير غرائز الشر في نفوس الرجال، حتى تبقى الفتاة كالجوهرة في صدفتها، لا يصل إليها سارق ولا غاصب، فأنا أفهم سبب ثورة الفساق من الرجال عليه. إنهم يريدون أن يستمتعوا بالجمال المحرم عليهم، ولكني لا أفهم أبداً لماذا يقلدهم النساء في هذه الثورة، وما وضع الحجاب إلا لصيانتهن وإكرامهن؟ وما يضر السيدة الفاضلة المتعلمة إذا لبست اللباس المحتشم الساتر، وهي ترى الرجل الذي تحاول التشبه به لا يكشف إلا وجهه وكفيه، مع أنها هي التي ينبغي ألا يظهر منها إلا وجهها (عند أمن الفتنة) وكفاها؟ فانعكست الحال، وانقلبت الأمور، حتى احتجب الرجال وتكشف النساء؟ وما الذي ربحناه من السفور؟ ليجب من كان عنده جواب مقنع، أما أنا فأدعي أننا لم نربح منه ألا الشرور والفجور، والدلائل حاضرات:
أما الاختلاط، واشتغال المرأة بأعمال الرجال، فأنا اعجب من مطالبة المرأة به، ولا أفهم من منا يريد لها الخير، ومن الصديق لها ومن العدو!
نحن نريد لها أن تكون سيدة حقاً مخدومة لا خادمة، تأتيها حاجتها من غير أن تسعى إليها، وهم يريدون أن تسعى وتزاحم الرجال حتى تصل إلى خبزها، ولو اشتغلت باخس الصناعات وأحط المهن، ويدعون مع ذلك انهم أنصار المساواة.
أين المساواة إذا حملت على ظهرها مثل حمل الرجل وهي تحمل في بطنها ولده، وأخذت مثل وظيفته وهو يغذي نفسه وهي تغذي نفسها وتغذي من ثديها ابنه؟
ثم إنكن تقلدن أوربة، مع أن المرأة تشتغل في أوربة عن عوز وحاجة، وكريمات السيدات لا يشتغلن شيئاً، إنما تعمل البائسات الفقيرات ويتمنين زوجاً يخلصهن من جهد العمل، وإن عقلاء أوربة يصيحون شاكين من مزاحمة المرأة الرجل. فقد عطلت بيتها، وشغلت الرجل ب (غير العمل. . .) فقللت إنتاجه، ورضيت بالأجر الخسيس، فنزلت الأجور، فأضطر(694/14)
العامل أن يبعث بامرأته إلي العمل، فجاءت قضية الدور التي زعم المناطق أنها من المستحيل!
أفنبدأ نحن من حيث أراد الغرب أن ينتهي؟ أتلحق ما هم يريدون الفرار منه؟!
وهذه هي الصناعات، فأيها تصلح له المرأة العادية وتعدل فيه الرجل؟ اعرضنها كلها من تكسير الحطب وتنظيف المجاري وكنس الطرق إلى المحاماة والقضاء والنيابة والوزارة، وأخبرنني عما تخترن منها. . .
نعم، إن الدهر يجود أحياناً بنساءٍ نابغات يصلحن لبعض أعمال الرجال، ولكن الكلام على سواد الرجال والنساء لا على النادر، فكم هي نسبة الصالحين لكل من هذه الأعمال من الجنسين؟ وإذا صلح لها النساء فهل يصلح الرجل (بالمقابلة) للطبخ وإدارة المنزل وتربية الطفل؟ إن هذا ينتهي بنا إلى إعلان (مساواة الجنسين)، وأنه لم يبق محال للتفريق بين رجل وامرأة؛ وإذن يجب على الحكومة أن تسن قانوناً يجعل الحَبل على كل منهما سنة، فهي تحبل مرة وهو مرة، وهي ترضع ولداً وهو يرضع ولداً، وأن ينص هذا القانون على أن من يستعمل (نون النسوة) يعاقب بغرامة قدرها عشرة جنيهات!
يا سيداتي، إنكن تعودتن منا التشجيع والتصفيق والهتاف، ولكن المسألة خرجت عن المجاملات وصارت مسألة موت لهذه الأمة أو حياة، فأعدن التفكير في أسس هذه النهضة، واجعلن مصلحة الأمة هي الميزان فيها!
يا سيداتي لقد كنا نرجو منكن أن تدفعن عنكن هؤلاء السفلة من الرجال، وأن تصفعهن على وجوههم النجسة، كما تصفع المرأة العفيفة أحد هؤلاء الكلاب إذا حاول الاعتداء عل عفافها، وأن تقاطعن هذه المجلات الداعرة الخبيثة التي تؤذي شرفكن باسم الصحافة والفن، وأن تثرن على هذه الأفلام السينمائية الداعرة، وأن تخرجن معلمات حاذقات وتنادين بمنع كل شاب مهما كان شأنه، معلماً أو مفتشاً أو ناظراً، من تجاوز عتبة مدرسة من مدارس الإناث، فهل تحققن هذا الرجاء، هل تقمن هذه النهضة على أساس الدين والخلق والعلم النافع؟!
(دمشق)
علي الطنطاوي(694/15)
أعلام الفكاهة:
جحا الألماني أو مرآة البومة
للأستاذ كامل كيلاني
لا يسع الباحث - مهما أغفل من الشخصيات الجحوية في أرجاء العالم وهي كثيرة كما رأيتم - أن يغفل الحديث عن (تل) جحا الألمان الملقب: ب (مرآة البومة).
فنحن إذا تركنا الشرق الذي أبدع فيما أبدع من أعلام الفكاهة الشرقية: هذين الجحوين الفاتنين: الشيخ (أبا الغصن دجين بن ثابت) والأستاذ (نصر الدين)، وانتقلنا إلى ألمانيا رأينا شخصية جحوية ثالثة تظهر في العصر الذي ظهرت فيه شخصية الأستاذ (نصر الدين) أعني في القرن الرابع عشر الميلادي، وهو رجل شديد الشبه بجحا التركي، يكاد يكون - في كثير من أحواله - نسخة مكررة له، إن لم يكن على التحقيق.
وقد نشأ (تل): جحا الألمان، كما نشأ صاحبه الأستاذ نصر الدين: جحا الأتراك فلاحاً يحرث الأرض ويزرعها.
وقد ولد (تل) في مدينة (كنيت من أعمال (برنزويك ومات في (مين بالقرب من (سليسفج عام 1350. قالوا:
وكان كثير السياحة والتجوال على قدميه في أنحاء ألمانيا، ولم يتجاوز (تل) منتصف العقد الثاني من عمره حين مات أبوه في مدينة عاش (تل) و (نصر الدين) كلاهما في عصر واحد، كما ترون، في بلدين متباعدين، من قارتين متجاورتين.
وقد أطلق عليه لقب (مرآة البومة)، وهو لقب بارع الدلالة رائع المغزى. فإن البومة - برغم إجماع الناس - مهما تباينت أجناسهم وعصورهم - على النفرة منها، واستنكار صورتها - لا ترى في المرآة إلا وجهاً طبيعياً ليس به ما ينكر، ولا فيه ما يعاب. وهو لون مبتدع للتعبير عن الحكمة المأثورة الخالدة: (إن المرء لا يرى عيب نفسه).
وقد شاء بعض الباحثين أن يميز (تل) ذلكم الفلاح الذكي بقسط موفور من الغفلة، كما حلا لآخرين أن يعزوا إليه شيئاً قليلا من الخبث. واستدل بعضهم على ضيق ذهنه وموفور غفلته، بما يؤثر عنه من المغالاة في تطبيق ما يسمع تطبيقاً حرفياً، والوقوف عند مدلول الألفاظ الحرفي، غير معنى بما تنطوي عليه في أثنائها من دلالات حقيقية كانت أم مجازية:(694/17)
وقد أفتن المتخيلون في نسبة كثير من الطرائف إليه في هذا الباب تمثل - أكثر ما تمثل - ألواناً من آراء متخيليها وروح الدعابة الأصلية في نفوسهم.
ولكن أي الشخوص الجحوية سلم من أمثال هذه الغمازات؟ على أن سواد الباحثين يذهبون - في غير مغالاة - إلى أن (مرآة البومة) كان فلاحاً ذكياً مستقيم الفطرة، وأنه لم يلجأ إلى التشبث بحرفية ما يلقى إليه من حديث، إلا رغبة في السخرية من غرور سكان المدن المتحضرين الذين لا يستطيعون إخفاء ما يضمرونه من احتقار لأمثاله من الفلاحين.
ويستدلون على ذلك بقصته مع الخباز، وإليكم خلاصتها فما يتسع الوقت لغير الخلاصات.
قدم (مرآة البومة) على خباز في بعض المدن، واتفق معه على أجر يومي لعمله. وأمره الخباز ذات يوم أن ينجز - في غيبته - ما أعتاد أن ينجزه كل يومٍ من أرغفة الخبز.
فسأله (تل) متبالهاً: (ماذا أخبز؟).
فضاق صدر الخباز بغباء صاحبه، وقال له متهكما:
(اخبز لنا بوماً وغرباناً!):
وما كان أشد حيرته حين عاد فرأى صاحبه يطبق ما سمعه منه تطبيقاً حرفياً، فيخبز كل ما لديه من الدقيق بعد أن يقطعه على صور البوم والغربان وأشكالها، ولا يكاد الخباز يعود، ويرى ما فعله (تل) حتى يتملكه الغيظ، فينهال عليه تعنيفاً وتقريعاً. فيقول (تل): (ماذا يغضبك؟ ألم تقل لي ذلك؟ ألم تأمرني أن أخبزه بوماً وغرباناً).
فإذا اشتد هياج الخباز قال له (تل): (هون عليك يا صاحبي ولا تتماد في غضبك، وخبرني ثمن ما أتلفت من خبز؟).
فيقول: (جنيهان) فينقده (تل) ما طلب. ثم يحمل السلة إلى السوق، فلا يكاد يراها الناس حتى يتهافتوا على شراء تلك الأشكال الطريفة التي أبدع صنعها ولم يكن لهم عهد بمثلها فيبيعها بخمسة أمثال ما دفعه للخباز. وينمي إلى الخباز ما ظفر به صاحبه من نجاح، فيعود إليه مستعطفاً، ليستأنف عمله، بعد أن ظهر له وجه الفائدة في ابتكار (تل) ولكنه لا يعثر له على أثر. فقد غادر المدينة، وكأنما كان (تل) يتوقع هذه النتيجة، فذهب إلى مكان آخر ليستديم حسرة الخباز عقاباً له على ما أسلفه إليه من إساءة وغرور.
ومن بديع ما يستدل به الباحثون على حرص (تل) على التقيد بحرفية ما يقول بعد أن(694/18)
استدلوا - بما أسلفناه - على حرصه على التقيد بحرفية ما يسمع، تلكم الطرفة التالية:
سأله سائل: ترى بعد كم من الزمن أبلغ المدينة؟
فقال له (تل): سر في طريقك.
فحسبه الرجل لم يسمع، فأعاد عليه السؤال مكرراً رجاءه بصوت مرتفع. فأجابه (تل) نفس إجابته الأولى. فغضب الرجل وحسبه يهزأ به. فصرخ فيه: أجب عن سؤالي أيها الغبي؟
فقال له: (سر في طريقك) فتركه الرجل، وسار في طريقه وهو يكيل له اللعنات، والغضب آخذ منه كل مأخذ، ولم يكد الرجل يبتعد عنه قليلاً حتى صاح به (تل) أن يتمهل ربما يفضي إليه بأمر يعنيه. فوقف الرجل متعجبا من غرابة أطوار هذا الرجل. وسأله: (ماذا تريد؟).
فقال له في هدوء الفيلسوف: (إذا سرت على هذا النهج بلغت المدينة بعد ساعتين).
لم يفهم الرجل أول الأمر ما يعنيه (تل) بقوله: سر في طريقك وحسبه يتعالى عن أجابته ويرغب في التخلص من رؤيته، ولكنه أدرك أخيراً أن صاحبه على صواب، فلم يكن في وسعه وهو يتوخى الصحيح في أجابته أن يعرف مدى الزمن الذي يستغرقه حتى يبلغ المدينة قبل أن يتعرف من مشيته مدى أتساع خطوته.
ألم يقل أبو نواس: (عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء) ثم، ألم يقل المتعمقون: إن لكل مسألتين وجهين على الأقل؟ فها هو صاحبنا يأخذ في فهم ما يسمع وما يقول بالوجه الثاني للمسألة، فلا يبعد في حاله عن الصواب. ورحم الله القائل:
خذا وجه هرش أو قفاه، فإنما ... كلا جانبي هرش لهن طريق
ومن عجيب المصادفات أن تجني الحرفية والتشبث بالمشكلات اللفظية على صاحبنا بعد مماته، كما جنت عليه أثناء حياته. فإن لقبه: (مرآة البومة) مؤلف - كما ترون - من لفظين: (مرآة) و (بومة)، وكلمة مرآة تكتب بالألمانية (سيجل وتذكرنا حروف رسمها كلمة (سجنجل) ومعناها - فيما يعلم القارئ - مرآة، وهي ترجمتها بالعربية.
ولكن حروف سييجل، إذا لفظها الألماني قلب الياء الأولى باء، فنطقها (شبيجل) دون أن يثبت هذا القلب في كتابتها. وقد استخرج الفرنسيون منها لفظاً يجمع بين الكتابة والنطق، وتمسكوا بالحرفية في كليهما، فأضافوا إلى بنية الكلمة المكتوبة حرف (الباء؟) الذي ينطق(694/19)
به الألمان ولا يثبتونه. وبذلك تألفت منها كلمة (اسبيجل ومعناها: ألعبان أو هازل ثم خرجوا منها كلمة ومعناها الألعبانية أو المجون. ثم أوحى لهم هذا التخريج الجائر ومشتقاته أن ينحلوه قصصاً يدور محورها على الهزل والمجون. فكان لهم ما أرادوا. ورحم الله المتنبي القائل: (ومثلك من تخيل، ثم خالا).
وقد ذكرتم تلكم المغالطة اللفظية - أو الحرفية إن توخينا الدقة - بمغالطة أخرى منطقية ابتدعها ابن الرومي الشاعر البارع منذ أكثر من أحد عشر قرناً تخلص منها إلى نتيجة عجيبة، لا تقل في غرابتها عما وصل إليه ذلكم الساخر الفرنسي الذي جوز لفظ المرآة - وهي ترمز إلى الطيبة أو الغفلة - إلى لفظ (الألعبان) وفيه من الخبث ما فيه.
اتخذ ابن الرومي من قول الإمام العراقي أبي حنيفة بجواز شرب النبيذ وتحريم شرب الخمر، ومن رأى الإمام الحجازي الشافعي: أن النبيذ كالخمر، نتيجة لم تخطر على بال الإمامين. كما تعلمون وكما يعلم ابن الرومي المغالط الأكبر أن يقول:
(إن النبيذ كالخمر فهو مثلها حرام)، وعكس ابن الرومي قصد الإمام فقال: مادام النبيذ حلالا في رأي أبي حنيفة، والخمر كالنبيذ في رأي الشافعي، فالخمر حلال كالنبيذ في رأي القياس المنطقي.
وهكذا استطاع الخبيث بما وهبه الله من أدوات الخبث وفنون المغالطة أن يتخذ من المنطق سلماً إلى الفرار من الحقيقة التي لم يخلق المنطق إلا لدعمها وبنائها، فقال: غفر الله له:
أجاز العراقي النبيذ وشربه ... وقال (الحرامان المدامة والسكر)
وقال الحجازي: (الشرابان واحد) ... فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربها، لا فارق الوازر الوزر
الحظ السعيد
ومن بديع سخرية (تل) وتهكمه، ما تمثله لنا قصته مع أحد السادة وكان يصحبه إلى الغابة ليصطادا؛ فلقيا في سيرهما أرنبا صغيراً يجري مسرعاً، وكان صاحبه كشاعرنا ابن الرومي، من المتطيرون. فلم يطق مواصلة سيره خشية أن يصيبه مكروه في ذلك اليوم، وحاول (تل) أن يقنعه بسخف ما يذهب إليه المتطيرين، فلم يفلح. فلما جاء اليوم التالي رأيا في طريقهما إلى الغابة ذئباً فقال له (تل): الآن وجب علينا أن نرجع، حتى لا يصيبنا(694/20)
مكروه! وليس في أيدينا ما ندفع به عاديته من السلاح. فراح صاحبه يهون عليه ويقلل له من خطره، ويحدثه أن الذئب متى أعترض الإنسان في طريقه، فذلك بشرى بما تدخره له الأقدار من حظ سعيد، وحاول (تل) أن يثنيه عن عزمه في متابعة السير، ويقنعه بفساد هذه الخرافة فلم يفلح.
ثم لم يلبث (تل) أن ظهرت رجحان رأيه بعد قليل: فقد أقبل الذئب على جواد صاحبه، وهو مربوط إلى بعض أشجار الغابة، فافترسه وأكل من لحمه ما شاء، و (تل) وصاحبه مشغولان بالصيد. فلما عادا ورأيا الذئب منهمكاً في تمزيق لحم الجواد وازدراده، التفت (تل) إلى صاحبه، وقال له متهكما:
(ما أصدق رأيك يا صاح: ألا ترى حسن الحظ وهو يأكل جوادك).
بحسبنا هذا القدر على وجازته وإلا امتد بنا نفس القول فشغلتنا طرائف (مرآة البومة) عما هدفنا له من أغراض. على أنني أجتزئ في الحديث بتلكم الطرفة التي تعزى إلى (تل) مرة والى (بات) مرة أخرى، وإن كانت بثانيهما ألصق، وبطبعه أليق.
فهي من أبرع ما قرأته من أخبار هذه الشخصيات الرائعة: فقد زعموا أنه بعث إلى خليلته أو حليلته، فما يدري ذلكم أحد على وجه التحقيق، بالكتاب الآني:
(أرجو، إذا لم تصل إليك هذه الرسالة، أن تسرعي - من فورك - بالكتابة إليّ لأعرف أنك لم تقرئيها.
كما أرجو أن تعلمي أيتها العزيزة - إن كنت لا تعلمين - أنني لا شأن بما يقع في كتابي من خطأ في بعض الأحيان. فلست أنا مصدرها، ولا يجوز أن أحاسب عليها. إنما يؤخذ بها قلمي، فهو من نوع غير جيد، وكثيراً ما يتعثر في الكتابة، ويخونه التوفيق، فيجري بغير الصواب.
كامل كيلاني(694/21)
رد على نقد:
مع البلاغيين. . .
للأستاذ علي العماري
كتب الأستاذ كامل شاهين في عدد (الرسالة) (692) مقالاً تحت عنوان (علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين) يرد به عليَّ وعلى الأستاذ علي الطنطاوي فيما كتبناه عن علوم البلاغة في الجامعة. وأنا أوثر أن أترك للأستاذ الطنطاوي أن يرد عما وجهه إليه الكاتب. فللأستاذ أسلوبه وقلمه البليغ، وما أحب أن يحرم قراء (الرسالة) من بيانه في هذا الموضوع.
والأستاذ شاهين مشكور لأنه لما رأى سكوت الأستاذ الخولي وجماعته من الذين يسمون أنفسهم (الأمناء) تبرع بالذب عنهم، والانتصار عنهم، والانتصار لهم، وما أظنهم راضين عنه فقد كان السكوت أولى من مثل هذه الرد المملوء أخطاء وتخليطاً، وحسب القراء أن أنقل إليهم الفقرة الأولى من كلامه ليتبنوا مدى ما فيها من الأغاليط:
1 - (تقول إن الفكرة المتسلطة عليه في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعاً لمعان نفسية. أي نعم يا عليّ، أأنت قرأت تعريف البلاغة؟ إن الذي لا يختلف فيه اثنان هو أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ولا أزيد بيانا ولا بسطا ولكن هذه المطابقة لا تكون إلا بإدراك المتكلم لنفسية السامع وما تحوي من ملابسات. فهذا فحوى كلام الأستاذ الخولي أفتماري في هذا؟ إذن فهات تعريفك أنت لعلم البلاغة فأنا منتظرون).
وأنا قد قرأت تعريف البلاغة، واطلعت على أكثر الكتب التي عرفت البلاغة، ومما يؤسف له يا سيد كامل أن أحداً من العلماء لم يعرف البلاغة هذا التعريف الذي كرته، ويبدو لي أنك تريد أن تجدد كما يجدد الشيخ أمين الخولي، والتجديد سهل ميسور، ما دام قصارى المجدد أن يسوق قضايا مخطئة، وإليك ما أعرفه أنا وما يقوله العلماء في تعريف البلاغة:
ذكر يحيى بن حمزة صاحب كتاب الطراز وهو من الكتب المعدودة في البلاغة تعريفها فقال: (أعلم أن البلاغة في وضع اللغة هي الوصول إلى الشيء والانتهاء إليه فيقال بلغت البلد أبلغه بلوغاً والاسم منه البلاغة، وسمي الكلام بليغاً لأنه قد بلغ به جميع المحاسن كلها في ألفاظه ومعانيه، وهو في مصطلح النظار من علماء البيان عبارة عن الوصول إلى المعاني البديعة بالألفاظ الحسنة، وإن شئت قلت هي عبارة عن حسن السبك مع جودة(694/22)
المعاني) فهذا عالم من علماء القرن الثامن الهجري وهو يذكر أن هذا التعريف (في مصطلح النظار من علماء البيان) وعرفها أبو هلال العسكري صاحب الصناعتين فقال: (البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن)، وللعلماء والأدباء تعاريف كثيرة للبلاغة ليس منها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
ونحن إذا ما سألنا طالباً صغيراً عن تعريف علم المعاني يقول: (إنه علم بقواعد وأصول يعرف بها مطابقة الكلام لمقتضى الحال). فإذا قلنا له: هل مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي البلاغة يقول: لا. بل لابد من زيادة وإضافة إليها. فنقول كما قال بعض العلماء (مع فصاحته)، وهذه عبارة مهمة جداً ومكملة للتعريف.
والطلاب الصغار يعرفون أن علوم البلاغة ثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع. وأن لكل علم تعريفاً خاصاً، ولا يصلح تعريف علم منها لأن يكون تعريفاً للبلاغة. فهل يصر الأستاذ شاهين على أن هذا التعريف للبلاغة (لا يختلف فيع اثنان) أو يسلم معنا أنه كبا حيث أراد النهوض.
على أني كنت أنقد كلام الأستاذ في علم البيان وقلت (في هذا الفن) أقصده فهل يحتج بتعريف علم المعاني على كلام في علم البيان؟
2 - قلت إن اللغة العربية مملوءة بالتشبيهات المحسة التي لا ترمي إلى معان وراءها، وعبت على الشيخ الخولي أن يعتبر جمل العلماء بيان حال المشبه من أغراض التشبيه (كلاماً فارغاً) فجاء الأستاذ شاهين يرد علينا هذا، وهو لم ينصف الشيخ أمين ولم ينصفنا.
العرب يقولون: أسود كحنك الغراب، ويقولون: أحمر كالدم القاني، ويقول امرؤ القيس:
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
ويقول الله سبحانه وتعالى (وجفان كالجواب وقدور راسيات) أفلا تكون هذه التشبيهات مقبولة حتى نتلمس لها معاني وراءها.
على أن الخبط وتلمس المعاني سهل ميسور ما دمنا لا نبالي الخطأ. فكل إنسان يستطيع أن يحمل النصوص ما لا تحتمل، ولذلك مثال سقناه في مقالنا الثالث المنشور في (الرسالة) وهو تعليق الشيخ أمين على بيت بشار بن برد.(694/23)
3 - ونحن لا نأخذ كلام المتقدمين قضايا مسلمة دائماً، كما لا نهتم أذواقهم ولكنا نقبل منها المقبول، نرفض ما يتبين أنه ضعيف واهٍ. وليس كلامهم الذي سقناه بالكلام الضعيف الواهي ولكنه حسن جميل يعتمد على الذوق قبل كل شيء، فأنت حين تسمع ذكر المشبه تستشرف لما يجيء بعد وتخطر في ذهنك أكثر التشبيهات القريبة؛ فإذا جاء الشاعر أو الناثر بتشبيه بعيد نادر وقع من نفسك موقعاً حسناً، وعرفت مقدار ما عانى الشاعر في استخراج هذا التشبيه. والتشبيه فن، وهو يكون في الماديات البحتة كما يكون في المعنويات، وتلمس المعاني وراء كل تشبيه إنما هو تعنت وحذلقة.
أين المعاني النفيسة وراء قول طرفة:
كأن حدوج المالكية غدوة ... بقايا سفين بالنّواصف من دد
أو قول امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمّل
أو قول المهلهل بن ربيعة:
كأنة غدوة وبنى أبينا ... بجنب عنيزة رَحَيَا مدير
أو قوله:
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين حالَيْها غرور
الخ. . . الخ.
وتكذب على هذه التشبيهات بما شئت فأنك تستطيع أن تحيطها بكثير من المعاني، ولكنها بعد من عندك وصنعك، ولم يفكر فيها الشاعر ولا إليها قصد.
يختلف معي الأستاذ شاهين في سر إعجاب جرير بن الخطفي بتشبيه عدي بن الرقاع في بيته:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فهو يرى أن سر إعجابه أن هذا التشبيه حضري وعدى بدوي جلف جاف، وأنا أرى أن سر الإعجاب أن الشاعر استطاع أن يأتي بمشبه به موافق كل الموافقة للمشبه. ثم جاء به من كان بعيد لا ينتظر أن يهتدي إليه.
غزال صغير له قرن صغير في طرفه سواد أراد الشاعر أن يلتمس له شبهاً وجرير حاضر(694/24)
فوقع في نفسه أنه لا يمكن الإتيان بشبيه له لدقته وبعده عن الإفهام، فلما تهدى إليه الشاعر ووجده في قلم لم يصب من المداد إلا قليلا ووجد جرير أن الشبه تام بين المشبه والمشبه به عدياً على هذه القوة البيانية.
أما أنه حسده على أنه أتى بشبيه حضري فمعنى ذلك أن جريراً كان يتوقع من الشاعر أن يهتدي لهذا التشبيه نفسه أو مثله من التشبيهات الحضرية، وما أظن جريراً خطر على باله شيء من ذلك. وهب أن شاعراً شبه شيئاُ بدوياً بشيء حضري وكان التشبيه ضعيفاً واهناً أكان يعجب ذلك جرير. لا. وإنما إعجابه كان لما ذكرنا.
5 - كنت أحب للأستاذ شاهين أن يخلو نقده من هذه الكلمات.
(فليسمح لي الزميلان الطنطاوي والعماري أن ألفت نظرهما إلى مزالق ما كنت أحب لهما أن يتورطا فيها أو ينحدرا إليها).
وقوله: (فأما إذا انحدرت إلى هذا فهلم) وقوله: (وليس هذا بالكلام يصغي إليه) إلى غير ذلك من الكلمات التي تجرح وأظن أنا كلنا له صاعاً بصاع فان زاد زدناه.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة(694/25)
الشرع الإسلامي وعلماء الفرنج
للأستاذ مصطفى محمد حسين
(كتب الفرنج كثيراً عن الشرع الإسلامي وعن النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وفي ما كتبوه الغث والسمين، والحالي والعاطل، والحق والباطل، ولكن العصر الأخير أنصف الإسلام كثيراً بالقياس إلى العصور الخوالي، كما يستبين من الأقوال التي أنقلها ولو عني المسلمون بدعاية منظمة للإسلام لصححوا أباطيل كثيرة وبددوا أوهاماً كثيرة تتعلق بهم وبدينهم، ولاهتدى إلى الإسلام جم غفير يؤثرون تأثيراً شديداً في مجرى السياسة العامة).
قال كارليل: في الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء. والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءاً من أربعين من الثروة تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين. جميل ولله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة يصيح من فؤاد ذلك الرجل ابن القفار والصحراء (صلى الله عليه وسلم).
وقال الدكتور انسباتو الإيطالي في كتاب: (الإسلام وسياسة الحلفاء) الذي نشره سنة 1919: إن الكرم العلمي والصدقة الفكرية صفتان من صفات الإسلام شأنهما أن تجعلا الأمة العاملة بهذا الدين أهلا لأن تبلغ من الحضارة ذروتها العليا.
لما كان الأستاذ أمين الريحاني في السفينة الشراعية على ساحل جزيرة البحرين قاصداً ساحل الإحساء أثقل الهواء جفنه فنام قليلا، ثم أيقظه صوت الملاحين، وهم إذ ذاك يشتغلون في قلب الشراع طوعاً للريح ويرددون: (صلي على النبي) فقال الريحاني في كتابه (ملوك العرب) يصف أثر ذلك في نفسه: وربك أيها القارئ ما سمعت في أنغام الليل على المياه أطرب منها، إلا أن يكون صوت المؤذن في الخليج وهو يؤذن الفجر، ليس في صلوات الأمم كلها أدعى منه إلى الورع والخشوع، وقل فيها ما هو أجمل وقعاً في النفس من صلاة الملاح في ظل الشراع.
اجتمع الأستاذ محمد لطفي جمعة مع السيد توفيق البكري، بعد عودته من مستشفى بيروت(694/26)
إلى القاهرة، ودار بينهما حديث نشره المقطم، ومما قال فيه: وجاء على لساني عرضاً ذكر برتلميه سانت هيلير فقال السيد: بعد أن تنتهي من حديثك سأذكر عبارة تاريخية تنسب إلى سانت هيلير. فتكلمت وأسهبت، ولكن السيد لم ينس وعده فلما انتهيت قال لي:
قال سانت هيلير في تاريخ النبي محمد الذي ألفه باللغة الفرنسية إنه كان يشك في صدق النبي في رسالته حتى قرأ في جميع السير أنه لما نزلت آية الحفظ ووعد الله نبيه بأنه سيتولى حراسته (والله يعصمك من الناس). بادر محمد إلى صرف حراسه، والمرء لا يكذب على نفسه ولا يخدعها؛ فلو كان لهذا الوحي مصدر غير الله لأبقى محمد على حرسه.
وقالت مسز سررجني نائدو الشاعرة الهندوسية: لقد دعا الإسلام قبل اليوم بثلاثة عشر قرناً إلى المساواة والأخوة، وقد أسس الإسلام أول جمهورية كان القانون الإلهي رائدها، والفقير والغني سواء فيها، ولا شك مطلقاً أنه يأتي يوم يبتلع الإسلام فيه جميع الأديان.
وقال شبي شميل: إن في القرآن أحوالا اجتماعية عامة، حتى في أمر النساء فأنه كلفهن بأن يكن محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج بواحدة عند عدم إمكان العدل، وأن القرآن فتح أمام البشر أبواب العمل للدنيا والآخرة، ولترقية الروح والجسد، بعد أن أوصد غيره من الأديان تلك الأبواب فقصر وظيفة البشرية على الزهد والتخلي عن هذا العالم الفاني.
وقال هنري دي شامبون مدير (ريفوبارلمنتير) الفرنسية: لولا انتصار جيش (شارل مارتل) الهمجي على تقدم العرب في فرنسة لما وقعت فرنسة في ظلمات القرون الوسطى ولما أصيبت بفظائعها ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني والمذهبي. ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت أسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولولا ذلك لما تأخر سير المدنية ثمانية قرون، ونحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة؛ مع أننا نزعم اليوم أن لنا حق السيطرة على تلك الشعوب العريقة في الفضائل. وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري مدة ثمانية قرون، بينما كنا يومئذ مثال الهمجية، وإنه لكذب وافتراء ما ندعيه من أن الزمان قد أختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى.(694/27)
وقال المؤرخ ولز الإنجليزي كبير كتاب إنجلترا: كان النبي محمد زراعياً وطبيباً وقانونياً وقائداً، وأقرأ ما جاء في أحاديثه تتحقق صدق ما أقول، ويكفي أن قوله المأثور: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) هو الأساس الذي بني عليه علم الصحة، ولم يستطع الأطباء على كثرتهم ومهاراتهم أن يأتوا بنصيحة أثمن من هذه. وقال إن محمداً هو الذي استطاع في مدة وجيزة لا تقل عن ربع قرن أن يكتسح دولتين من أعظم دول العالم وأن يقلب التاريخ رأسا على عقب، وأن يكبح جماح أمة اتخذت من الصحراء المحرقة سكنا لها واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر واتباع آثار آبائها، ولم تستطع الدولة الرمانية أن تغلب الأمة العربية على أمرها. فمن الذي يشك أن القوة الخارقة للمادة التي استطاع بها محمد أن يقهر خصومه هي من عند الله.
وقال غوستاف لوبون: يستعيد العالم الإسلامي اليوم من قوته ما يضطر أوربة إلى أن تطأطأ له رأسها.
وقال المؤرخ الفرنسي لافيس: كان محمد مشهوراً بالصدق منذ صباه حتى كان يلقب بالأمين. . الخ.
وقال غود فزوا دمبومبين وبلاتونوف في (تاريخ العالم): غاية ما نقدر أن نجزم به هو تبرئة محمد من الكذب والمرض، وإنما كان محمد ذا مواهب إلهية عليا ساد بها أبناء عصره، وهي رباطة الجأش وطهارة القلب وجاذبية الشمائل ونفوذ الكلمة وأنه كان عابداً عظيماً، وأنه كان يجمع بين حرارة الاعتقاد بالرسالة التي هو مأمور بها من جانب الحق تعالى، وبين ملكة الأعمال الدنيوية ومعرفة استخدام الوسائل اللازمة لنجاح تلك الرسالة.
وقال غروسه صاحب (مدنيات الشرق): كان محمداً لما قام بهذه الدعوة شاباً كريماً مملوءاً حماسة لكل قضية شريفة، وكان أرفع جداً من الوسط الذي كان يعيش فيه، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنية وعبادة الحجارة، فعزم على نقلهم من تلك الوثنية إلى التوحيد الخالص البحت، وكانوا يفنون في الفوضى وقتال بعضهم بعضاً، فأراد أن يؤسس لهم حكومة ديمقراطية موحدة، وكانت لهم عادات وأوابد وحشية تقرب من الهمجية، فأراد أن يلطف أخلاقهم، ويهذب من خشونتهم. . . الخ.
وقال الأستاذ منوته أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف في كتابه (محمد والقرآن): أما(694/28)
محمد فكان كريم الأخلاق حسن العشرة عذب الحديث صحيح الحكم صادق اللفظ، وقد كانت الصفات الغالبة عليه هي صحة الحكم، وصراحة اللفظ، والإقناع التام بما يعمله ويقوله. . . إن طبيعة محمد الدينة تدهش كل باحث مدقق نزيه المقصد بم يتجلى فيها من شدة الإخلاص، فقد كان مصلحاً دينياً ذا عقيدة راسخة، ولم يقم إلا بعد أن تأمل كثيراً وبلغ سن الكمال بهاتيك الدعوة العظيمة التي جعلته من اسطع أنوار الإنسانية في الدين. . . ولقد جهل كثر من الناس محمداً وبخسوه حقه. . . ولقد منع القرآن الذبائح البشرية والخمر والميسر، وكان لهذه الإصلاحات تأثير غير متناه في الخلق، بحيث ينبغي أن يعد محمد في صف أعاظم المحسنين للبشرية. . . إن حكمة الصلاة خمس مرات في اليوم هي إبقاء الإنسان من الصباح إلى المساء تحت تأثير الديانة ليكون دائماً بعيداً عن الشر. وحكمة الصيام تعويد المؤمن غلبة شهوات الجسم، وزيادة القوة الروحية في الإنسان. وحكمة الحج هي توطيد الإخاء بين المؤمنين وتمكين الوحدة العربية فهذا هو البناء العظيم الذي وضع محمد أساسه، وثبت وما يزال ثابتاً إزاء عواصف الدهور الدهارير.
وقال ولز: إن ديانة محمد كان فيها روح حقيقية من العطف والكرم والإخاء، وكانت بسيطة مفهومة سائغة، وكانت ملأ بمكارم الأخلاق وعلو النفس والمعالي التي يشغف بها أهل البادية.
وقال العلامة هيار أستاذ الألسن الشرقية في باريس في كتابه (تاريخ العرب): اتفقت الأخبار على أن محمداً كان في الدرجة العليا من شرف النفس، وكان يلقب بالأمين، أي الرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى حد، أي كان المثل الأعلى في الاستقامة.
مصطفى محمد حسين(694/29)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 29 -
البطل الضرير:
وآن أنْ يتجه ملتن إلى الأدب بعد طول انقطاعه عنه، وكان يميل به إلى الأدب ما تنطوي عليه نفسه من حنين إليه شديد، ما برح يملأ خاطره كلما خلا إلى نفسه لحظة من السياسة ومشكلاتها وخصومتها، وتزايد هذا الحنين في نفسه إلى الشعر حين اطمأن قلبه من جهة إلى أنه أحسن البلاء فلم يعد يقوى على مجادلته خصيم، وحين توجس قلبه من جهة أخرى خوفاً من المستقبل، إذ كان يكربه إعراض الناس عن الجمهورية، وتزايد رغبة الكثرة في إعادة الملكية وإن كان لا يجرؤ أحد على الجهر بذلك؛ وكذلك دب إلى قلبه السأم من كرمول نفسه فيما يتصل بسياسته الدينية إذ كان كرمول لا يريد أن يتحول عن إقامة كنيسة تشرف عليها الدولة، ويكون لرجالها حقوق وامتيازات مالية؛ وكان ملتن شديد التمسك بفصل الكنيسة عن الدولة لأنه يعتقد أن قيام طائفة دينية تعتمد في حياتها على الدولة هو سبب ما يلحق بهذه الطائفة من فساد، ثم تكون هذه الطائفة بدورها السبب الأكبر في فساد الدولة. . .
لهذا رغب ملتن وقد أزعجه شبح اليأس أن يعكف على الشعر فلا تكون له إلى السياسة عودة، وقد جعل مرتبه معاشاً له مدى حياته فزالت مخاوف الرزق، والحق أنه بعد رده على مورس بات فيما يشبه العزلة، أما عمله الرسمي فكان نائبه فيه يؤديه عنه إلا إذا استدعى الأمر إشرافه، ولم يك ذلك في الأكثر إلا عند كتابة الرسائل الهامة باللاتينية أو ترجمة ما يرد منها إلى الإنجليزية وكان يستعان بغيره أحياناً فيما يتطلب الدقة والمراجعة.(694/30)
ولم يستدع إشرافه واهتمامه بعد تلك المعارك العنيفة بينه وبين خصوم الجمهورية إلا حادث وقع سنة 1655 فاهتز له البروتستانت في أوربا كلها، واهتم به كرمول اهتماما عظيماً، وشايعه في ذلك ملتن وامتلأت يده بسببه بالمكاتبات وذلك هو مذبحة بيدمنت؛ وخلاصتها أن شارل عما نويل الثاني دوق سافوي وأمير بيدمنت، قد أنذر البروتستنت في بيدميت منه بريح عاتية فعليهم أن يعتنقوا الكاثوليكية وإلا فليخرجوا من ملكه في مدى عشرين يوماً، وكأنما رأى هذا الأمير أن المذاهب حتى الدينية منها كالثياب لا يكلف الناس فيها إلا استبدال ثوب بثوب! ورفض البروتستنت في بيدمنت أن يذعنوا لهذا الطغيان وآثروا أن يذوقوا العذاب ألوانا، فأرسل عليهم الملك طائفة من جنده أكثرهم من المرتزقة، وما فيهم إلا كل فظ غليظ القلب كأنما قدمت كبده من صخر فأخذوا يذبحون من يلقون أو يقذفون بهم رجالا ونساء وأطفالا من فوق الجبال إلى الأودية ولقد وجد الناس أما ورضيعها في قرار سحيق في أحد الأودية، قد ألقى بهما من فوق الجبل، أما الأم فكانت جسداً هامدا ولكنها كانت تحتضن بيديها الميتتين الباردتين رضيعها ولما يزل على قيد الحياة. . .
وضج البروتستنت في أوربا بالسخط، وقال كرمول إن الحادث قد مس قلبه كما لو كان يتصل بأقرب الناس إليه وأعزهم عنده، وأمر فجمع الشعب الإنجليزي أربعين ألف جنيه معونة للمنكوبين، وأحتج كرمول، وأخذ يتأهب ليعقب احتجاجه بتدخل مسلح لولا أن تداركت فرنسا الأمر، وحملت شارل عما نويل الثاني على سحب قراره. فعاد إلى البروتستنت في بيدمنت الأمن والهدوء.
ولم يقتصر ملتن على إملاء رسائل الحكومة؛ بل أعلن سخطه في مقطوعة من أقوى مقطوعاته الشعرية ومن أكثرها ذيوعا قال: (انتقم أيها المولى العلي لقديسين. المذبوحين الذين تتناثر أعظمهم على جبال الألب الباردة، فقد حل العذاب حتى بهؤلاء الذين حافظوا على دينك الحق خالصاً كما كان في عهده الأول في حين كان يعبد آباؤنا الأوثان والأحجار؛ لا تنسهم أيها المولى، وسجل في كتابك أنين هؤلاء الذين كانوا قطيعك والذين ذبحهم في قرارهم القديم أولئك السفاحون من أهل بيدمنت، وألقوا بالأم وطفلها من حالق فوق الصخور ترميهم صخرة إلى صخرة؛ لقد كان لأناتهم في الأودية صدى رفعته إلى(694/31)
التلال، ونقلته التلال إلى السماء؛ انثر أيها المولى دمائهم الشهيدة وأشلاءهم على حقول إيطاليا كما تنثر البذور حيث لا يزال يتسلط الطاغية الثلاثي عسى أن ينمو من هذه مائة نمو فيكون منها جيل يعجل وقد علم سبيلك بالقضاء على هذا الكرب البابلوني).
وجنح ملتن إلى العزلة بعد هذا الحادث، وكان يقضي اكثر الوقت في بيته، يقرأ له ابن أخته أو غيره من تلاميذه القدامى أو من محبيه من المتأدبين حاشيتي النهار وطرفاً من الليل، وكان يدير في رأسه في تلك الأيام ما عسى أن ينهض له من الشعر. ففكر في أن يجعل موضوعه بطولة الملك آرثر، ذلك الموضوع الذي فكر فيه من قبل فينظم الآرثريادا كملحمة يسجل فيها فترة من تاريخ قومه؛ ولكن أكثر اتجاهه كان إلى موضوع آخر كما يذكر ابن أخته وذلك هو (قصيدة من قصائد البطولة عنوانها الفردوس المفقود)، واقتصر جهده على التدبير في هذا الموضوع والصورة التي يصوغه فيها وقراءة ما يتصل به، وكان أول الأمر يريد أن يتخذ نوعاً من المسرحيات لباساً له؛ على أنه كما يذكر ابن أخته فيلبس لم يبدأ نظم قصيدته فعلاً إلا سنتين قبل عودة الملكية أي سنة 1685. . .
وكانت الحكومة قد أسكنت ملتن هويت هول في أول عهده بالوظيفة، ولكنه لم يلبث هناك طويلاً فاستأجر بيتاً على مقربة من حدائق سان جيمس وعاش فيه منذ سنة 1652، وفي هذا المنزل أقام ملتن حتى سنة 1660 حيث أجبرته عودة الملكية إلى الاختفاء حينا لينجو بنفسه من الهلاك.
وكان يزوره في منزله أصدقاؤه، وهم بين تلميذ له جاوز مرحلة التعلم أو معجب به من المثقفين، وقل في زائريه من كان من المبرزين من رجال العصر في الأدب أو في السياسة أو في الدين، وذلك أن اعتداد ملتن برأيه وتعاليه بثقافته جعلا بينه وبين أكثر الناس ممن يرون أنفسهم أندادا له حجابا كثيفاً، فكان هؤلاء يرمونه بالكبرياء والصلف ويكرهون منه أن ينظر إليهم من على نظرة ترفع وتحفظ وإعراض، هذا إلى أن آراءه الدينية قد باعدت بينه وبين النابهين من البرسبتيرنز، وميوله السياسية قد جعلت من الملكيين أعداء له، وعنفه في الخصومة قد ألقى في روع الناس أن من يتصل به لا يأمن أن يصبح من عدوه لأقل خلاف في الرأي أو العقيدة.
ويجب أن نضيف إلى تلك الأسباب محبته للعزلة منذ أيامه في هورتون وعكوفه على(694/32)
المطالعة والدرس؛ فقد كان ميله إلى العزلة من الظواهر الواضحة في حياته؛ وقد كرهت إليه محبة العزلة لقاء الناس وغشيان مجالسهم أو سوامرهم، وعنده من الكتب عن ذلك عوض. ففيها لنفسه ولعقله متعة حق متعة.
ونستطيع أن نتبين مقدار ما كان بينه وبين نابه عصره من جفاء مما ذكرته أرملته عن رأيه في هوبز الفيلسوف الكبير قالت (لم تكن له معرفة به، وكان لا يحبه زوجي أبداً وإن كان يصرح أنه رجل ذو نواح عظيمة).
وكان من احب أصدقائه إليه وأكثرهم اختلافاً إلى منزله وأقربهم مجلساً منه لورنس وسيرياك سِكَزْ ونيدهام وهارتلب وأولدنبرج وأندرومافل، وكان الأولان تلميذين له أما البقية فكانوا من ذوي المكانة الأدبية وعلى الأخص أخرهم ذلك الذي اختير مساعداً لملتن في وظيفته الرسمية سنة 1675، وكان مارفل متين الخلق كصاحبه لا تضعضعه النوائب ولا تحني رأسه الفاقة، وكان أصغر من ملتن باثنتي عشرة سنة وكان مثله متخرجاً في كامبردج، وقد احب ملتن حبا شديداً وأعجب به إعجابا عظيما فتوثقت بينهما عرى المودة وظل مارفل على ولائه له حتى فرق بينهما الموت.
ويذكر فيلبس أنه كان يزور خاله أبان السنوات الثمانية التي قضاها فيما يشبه العزلة قبل عودة الملكية عدد كبير من ذوي المكانة ثم لا يشير إلا إلى اثنين: ليدي وانالا ودكتور باجت، وكانت ليدي رانالا على حظ من الذكاء غير قليل كما كانت ذات ثقافة وذات ميول حرة؛ وكانت قد وكلت إلى ملتن تعليم ابن أخ لها ثم ابنها من بعده، وقد أعجبت بالشاعر العظيم ولما كان لا يستطيع زيارتها كانت تزوره هي وتستمع في إكبار وإجلال إلى حديثه. . .
وحدثت عنه دبورا إحدى بناته فقالت: (إنه كان جليسا مؤنسا، وكان حياة حلقة من الصحاب تدور به، وذلك لأنه كان يتدفق بشتى الأحاديث والموضوعات وكان عذب الروح مرحاً ذا مودة في غير تكلف لشيء من هذا).
والحق أن ملتن كان لين الجانب طلق المحيه محبب العشرة صادق المودة لمن يجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه وهؤلاء هم خاصته الذين ذكرنا، وكانت لهجته في مخاطبتهم لهجة المعلم، وكان يتلو عليهم ما يظن أنهم في حاجة إلى معرفته ولا يجب أن يجادلهم أو يبادلهم(694/33)
حجة بحجة فليس هذا شأن الأستاذ مع تلاميذه، وما منهم إلا من يكبره ويخفض له جناحه ويغض عنده من صوته، وإن كثيراً منهم ليتنافسون من يكتب له إذا أملى ومن يقرأ له إذا طلب بحثاً من البحوث، ومن يقوده ويأخذ بيده ليمشي ساعة في الحدائق القريبة، وكلهم بذلك مغتبط أيما اغتباط.
وكان يزوره في منزله كثير من كبراء الأجانب ممن يهبطون إنجلترا، وكانوا يسمعونه عبارات التجلية والإعجاب، ويذكر اوبري أحد مؤرخي حياته في ذلك قوله (إن الحافز الوحيد الذي كان يحفز فريقاً من الأجانب لزيارة إنجلترا كان في الأكثر رؤية أليفر كرمول حامي الجمهورية ومنستر جون ملتن، وكانوا يرغبون أن يروا بيت الشاعر والحجرة التي ولد فيها فقد كان الإعجاب به خارج إنجلترا أشد منه في موطنه كثيراً).
وكان يعينه في كثير من شؤونه إلى جانب أصدقائه أبنا أخته. أما بناته الثلاثة فكن صغيرات فقد تركتهن أمهن حين ماتت منذ ثلاث سنوات أي سنة 1652 وكبراهن في السادسة من عمرها ووسطاهن في الرابعة وصغراهن بنت شهر واحد.
وفي سنة 1656 تزوج ملتن بزوجة ثانية، وقد جاءت كما أحب رجاحة عقل وصدق عاطفة، وأستثنى الشاعر نسيم المودة والرحمة بين يديها، وأحس كأنما يحيي حياة جديدة على الرغم مما يحيط به من ظلمة، وكان كمن ألقت به الصحراء المجدبة إلى واحة ظليلة؛ ولكنه لم يلبث في واحته هذه أو جنته إلا خمسة عشر شهراً ثم نكبته النكبة في زوجته فكأنما كان يكيد له الدهر حين أذاقه النعيم فما كان ذلك منه إلا ليعظم في نفسه الهول الجحيم وماتت الزوجة كسابقتها في سرير الوضع وتركت له كذلك أنثى، لم تعش بعد أمها إلا نحو شهر؛ وفزع الشاعر إلى قيثارته يخفف عن نفسه ما يعالج فيها من حزن، وكأنه من فرط ما في جوفه من حريق يحس كأن الجحيم نفسها تتنفس على كبده. قال الشاعر المحزون: (رأيت فيما أرى النائم أن قديستي التي تزوجت بها أخير قد أحضرت إلى من القبر كما أحضرت أليستس التي أرجعها الابن الأكبر لجوف إلى زوجها الذي امتلأ فرحاً وقد نجاها ابن جوف من الموت بقوة ولو أنها ظلت شاحبة هزيلة، ولكن امرأتي جاءت كما لو أنها اغتسلت مما يتركه الوضع فتخلصت بذلك من التطهر وفق الوضع القديم؛ ونظرت فإذا بي كأني املأ منها عيني في الجنة بغير عائق ما، وقد خطرت في ثياب بيضاء نقية(694/34)
نقاء عقلها، ولكن وجهها كان مقنعا، بيد أنى أبصرتها بعيني خيالي فإذا الحب والجمال وطيبة القلب تضيء في هيكلها بصورة لن يكون أحسن منها وأبهج في وجه من الوجوه. . . ولكنها يا ويلتا ما كادت تميل إلي لتعانقني حتى صحوت فلم أجدها ووجدت النهار يحيطني ثانية بليلي المظلم).
هذا هو الشاعر يصف في هذه المقطوعة الجميلة مبلغ حزنه ولكن به كبرياء أن يصرعه الخطب؛ وإن صدق إخلاصه للشعر واعتقاده أنه خلق لعظيمة فيه ليرتفع به عن الحزن؛ وكان يجد عزاءه فيما يقرأ له أصدقاؤه وفيما تنطوي عليه نفسه وتختزنه ذاكرته؛ وإنه في هذا ليتداوى بالتي كانت هي الداء، فهذه الكتب هي التي أفقدته ناظريه؛ على أنه اليوم يقرؤها بعيني غيره.
وكان يقول لمن حوله إن خياله يضيء ويلمع في الظلمة أكثر مما يضيء في النور، وأن النور لم يذهب عنه ولكنه تسرب إلى داخله ليرهف مخيلته وعقله، وتلك تعلات كان لابد له منها لكي يقوى على ما كان يحيط به، وإنه لينهض على ما هو فيه لقصيدة تضعه في مستوى هوميروس ودانتي، وما نعرف شاعراً كانت حاله أكثر سوءاً من حال هذا الشاعر حين يضطلع بعبء كهذا العبء وفي هذا أبلغ شاهد على سمو روحه وقوة نفسه.
(يتبع)
الخفيف(694/35)
مراكش وأسبانيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
هناك حقيقة تاريخية لا يمكن إغفالها عند التحدث عن العلاقة بين المراكشيين والأسبانيين، وهذه الحقيقة التاريخية هي أن الدولتين ظلتا في خصومة مستمرة منذ عهد بعيد وطيلة أجيال متعاقبة، وقد دخلت تلك الخصومة في طورها الفعال بعد أن قويت دولة النصرانية في الأندلس واستطاعت أن تستولي قواتها على شبه الجزيرة كلها.
شبت منذ ذلك الحين معركة قاسية طويلة الأمد بين المراكشيين والأسبانيين، وكانت على شكل غارات بحرية متوالية، فكان الأسبانيون ينزلون إلى سواحل مراكش غازين مغامرين، وكان المراكشيون ينزلون إلى السواحل الأسبانية غازين مغامرين مدمرين، وظل الأمر على ذلك أزمنة طويلة حتى بعد قيام الإمبراطورية الأسبانية، إلى ضعف أمر الدولة المراكشية في القرن التاسع عشر، فاقتحم حدودها الأسبان سنة 1860، وشبت دون مدينة تطوان معركة طاحنة بين الفريقين تبادلا خلالها النصر والهزيمة مرات كثيرة، إلى أن دارت الدائرة على الجيش المراكشي وسقطت المدينة لتدوسها سنابك خيل العدو، فذاقت مدة من الزمن حياة المهانة على يد أعدائها القدماء، ولولا الظروف السياسية والتنافس الدولي لذاقت مراكش كلها ما ذاقته المدينة التعسة، ولكن كان على الجيش الأسباني أن يغادرها تحت تأثير الظروف الدولية؛ وهكذا خبا أمل الأسبانيين وضاعت الفرصة الثمينة التي أشرقت ثم غار نورها.
ولكن فكرة غزو مراكش زادت قوة، فظلوا يتحينون الفرص للانقضاض عليها. وكانت الجيوش الفرنسية في الجزائر على حدود مراكش الشرقية تشارك الأسبانيين هذا الأمل الخلاب، وبانت مراكش بين هاتين القوتين المضطرمتين، ولكن تطور الحوادث بعد ذلك دفع بالدولتين إلى الاتفاق.
كان ذلك في مفتتح هذا القرن، إذ اتفق الفرنسيون والأسبانيون على اقتسام مراكش بينهما، على أن تستولي أسبانيا على نصفها الشمالي إلى ما بعد مدينة فاس، ويستولي الفرنسيون على الباقي. ولكن الوضعية الدولية تغيرت واستطاعت فرنسا أن تعقد الاتفاق الودي المشهور مع إنجلترا سنة 1904، وبذلك قوى مركزها الدولي، وتزعمت منافسة ألمانيا(694/36)
التي كانت تعمل هي أيضا للاستيلاء على مراكش. وشبت الخصومة قوية خلال سبع سنوات بينهما، وتطورت تطورات خطيرة كادت تعجل بقيام الحرب العظمى، يوم دخل الطراد (بنثر) مياه أجادير. وكاد يطلق القذيفة الأولى في أول حرب عالمية، كانت أسبانيا مختفية طوال تلك المدة، بينما كانت فرنسا في مقدمة العاصفة، وقد غامرت بمستقبلها في سبيل مراكش، ولذلك ألغت من تلقاء نفسها الحدود القديمة التي اتفقت عليها مع أسبانيا، واكتفت بإعطائها، بعد أن انتهت القضية المراكشية إلى ما انتهت إليه، منطقة صغيرة في الشمال، ولم تسمح لها بالاستيلاء على مدينة فاس.
وهكذا انتهت تلك القصة الطويلة سنة 1912 يوم فرضت معاهدة الحماية على مراكش، ولكن تلك النهاية كانت إيذاناً ببداية معركة أخرى، هي معركة بين شعب يدافع عن نفسه وشعب آخر يحاول اغتياله والقضاء عليه. وما أن انتهت الحرب العظمى حتى هبت ثورة بطل مراكش الكبير الأمير عبد الكريم الخطابي في وجه الجيش الأسباني، وبدأت الأحلام الأسبانية تترنح تحت الضربات القاصمة التي وجهها إليها الأمير البطل، ذلك الرجل الذي اثخن الجسم الأسباني جراحاً، وقدم إلى أسبانيا جزاء على مغامرتها مرارة الثكل واليتيم والآلام، إلى درجة أنهم فكروا جدياً في الإقلاع عن السير في هذه الطريق المحفوفة بالأخطار. ولكن تدخل فرنسا في النهاية واستفحال القوات المهاجمة أرغما البطولة على الاستسلام، فلم يكن للجيش المراكشي الباسل مناص من إلقاء السلاح أمام الجيوش الجرارة التي جردتها عليه الدولتان القويتان.
انتهت المعركة وبدأت أسبانيا تحاول أن تشق الطريق إلى أهدافها في القضاء على مراكش مرة أخرى، ولكن منعها من ذلك قيام الحركة الوطنية وانتشارها بشكل واسع في البوادي والمدن، وقد كان قيام هذه الحركة بمثابة تحصين لروح الأمة وكيانها؛ كما منعها من ذلك أنها لم تحقق من أحلامها العسكرية في مراكش إلا اليسير، فهي ما تزال بعيدة كل البعد عن ذلك ما دامت لم تسيطر إلا على هذه الرقعة الصغيرة من الإقليم المراكشي ولذلك فان تسرعها في محق هذه البلاد لا يمكن أن يكون عملياً ما دامت لم تسيطر بعد عليها كلها.
وإذن فلتؤخر الكارثة إلى أن تتمكن أسبانيا من الاستيلاء على مراكش كلها. وهكذا اتجهت السياسة الأسبانية إلى نوع من المخاتلة، محاولة إخفاء نياتها الحقيقية لكي تستعين في(694/37)
الوقت المناسب بسمعتها ضد الفرنسيين. وكانت في نفس الوقت تخاف أن يهب في وجهها عبد الكريم آخر إذا هي اتجهت في ساستها نحو الشدة. كانت تقول للوطنيين: لا تطالبوا أسبانيا بشيء، فإن مسألة مراكش في يد فرنسا، وفرنسا هي التي أعطت أسبانيا هذه المنطقة، ثم إن أسبانيا لا تستطيع أن تتنزل عن نفوذها في هذا الجزء الصغير من مراكش لكي تستولي عليها فرنسا. ولذلك فأنه يجب على الوطنيين أن يوجهوا جهودهم نحو تحطيم الاستعمار الفرنسي، وبعد ذلك تكون أسبانيا على استعداد للتنازل عن نفوذها لكي يتمتع المراكشيون جميعاً باستقلالهم الحقيقي
وهذا كلام لا يعوزه المنطق، ولكنه ليس صحيحاً، فقد اندلعت الحرب الأهلية في أسبانيا، وتلاحقت الحوادث بعد ذلك تلاحقاً خطيراً أدى إلى نشوب الحرب العظمى الثانية، فخيل لأسبانيا الفاشستية - بعد الهزيمة الفرنسية - أن الفرصة المومقة قد سنحت، وأن مسألة استيلائها على مراكش أصبحت مسألة زمن فقط، وفعلاً اجتازت جيوشها الحدود إلى مدينة طنجة الدولية، وكادت تقتحم منطقة مراكش الجنوبية، ولكن كلا من سياسة ألمانيا حيال الإمبراطورية الفرنسية والمطامع التي كانت تجيش بها إيطاليا الفاشستية حال دون ذلك.
ووجدت أسبانيا نفسها مرة أخرى عاجزة عن تحقيق مأربها القديم، فهي لن تستطيع الاستيلاء على مراكش إلى جانب المحور، ولن تستطيع ذلك بالطبع إلى جانب الحلفاء. ومالت كفة النصر نحو الديمقراطيات ثم انتهت الحرب بانتصارها، وانسحبت أسبانيا المعزولة عن مدينة طنجة، وتلاشى بريق الأمل الذي أوهمها أنها قاب قوسين من الشروع في خطتها التي ترمي إلى الاستيلاء على تلك البلاد.
لقد حالف الفشل والإخفاق أحلام أسبانيا التاريخية، وإذن فلتلتفت إلى المراكشيين لتصب عليهم نقمتها وغضبها. وإذا كان لعلم النفس دخل في السياسة، فقد خلف عندها هذا الفشل عقدة نفسية، وطاقة مكبوتة، وهي تتصرف اليوم حيال المراكشيين بإيحاء من تلك العقدة التي يزيد تعقدها في الشعور الباطن طمع هائل وباع قصير.
وهكذا تجرد اليوم أسبانيا على مراكش سوط عذاب، ولا تزيدها المقاومة إلا تمادياً في القسوة والجبروت، فهناك عند سفوح جبال الريف يتفنن أيتام النازية والفاشستية في السفك والجلد والتنكيل لأسباب تافهة، ويراقبون الضمائر وخلجات النفوس، ويهددون الأحرار(694/38)
بالمحق، ويتربصون الدوائر بالحركة الوطنية كلها.
أما الطامة الكبرى، فهي الهجرة الأسبانية إلى شمال مراكش، ذلك أن أسبانيا حينما أحست بالفشل يحاصر آمالها عمدت إلى فتح السدود أمام سيل الهجرة العرم، فتدفق على البلاد وكأنه الطوفان. كان قوام السيل من العجزة والعاطلين، فنشروا الأمراض، وقاسموا المراكشيين ما أبقى لهم الجفاف من قوت، وبلغت المأساة في أول السنة الحالية ذروتها، فكان الموتى يحملون في عربات النقل من الشوارع تحت جنح الظلام!
هذه هي الناحية المنسية من المسألة المراكشية التي ارتبطت بفرنسا وحدها، فخيل إلى الناس أن كل ما حاق بهذه البلاد هو نتيجة لأعمال فرنسا وحدها. كلا، فإن المراكشيين يقاومون فرنسا ويقاسون عذابها مؤمنين بأن التخلص من الاستعمار لا يكون دون صراع، وبأن الغلبة في النهاية للأيمان لا للقوة، ولكن ما يحيق بمراكش من ختل أسبانيا ووعودها الكاذبة وتربصها وهول أطماعها، وتصرفاتها الشاذة، يضاعف أتعاب المراكشيين في مقاومتها.
وليس هذا بالشيء الخفي، فلدى كل دولة عشرات من التقارير عن الحالة في مراكش قدمها إليها المراكشيون الأحرار، وفي أمانة الجامعة العربية عشرات كذلك، وكلها تشرح بالأرقام والصور ما حاق بمراكش العزلاء على يد أسبانيا الفاشستية المدججة بالسلاح، دون أن يبدي أحد حراكا. ولكن المراكشيين سوف يمضون في مقاومة هذا الطغيان إلى أخر رجل سواء ناصرهم أحد أو لم يناصرهم. فلأن يقال غداً إنهم انقرضوا دون شرفهم، خير من أن يقال خفضوا هامهم للطغيان!
عبد المجيد بن جلون(694/39)
الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
- 4 -
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف
دواع إلى التحلم:
تدعوا إلى التحلم عوارض كثيرة، وأمور متعددة، لأن التكلف كيفما كان خروج على الطبيعة، وتحويل للغريزة؛ وشيء من ذلك لا يكون أبداً وحده، ولا يتم مجرداً عن العلل خارجاً على البواعث والأسباب.
فما يدعو النفس إلى التحلم ويطوعه لها أن تستشعر القدرة على الانتصار فيفثأ ذلك من حر غضبها، ويبدلها بقلقها هدوءاً، ويجزعها تثبتاً واطمئنانا وحينئذ تنتفي بواعث الانتقام، فيكون التحلم الذي يتطاول مع الزمن حتى يصير حلماً، وأكثر ما يكون عفو الملوك لمثل هذا الباعث، وقد مرت بنا أمثلة منه مختلفات. ويكاد يضع يدنا على هذه الحقيقة وضعاً قول المنصور لجعفر الصادق بعد عفوه عن أهل المدينة: إنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم.
ومن كلام بعض الحكماء: ليس الحليم من ظلم فحلم، حتى إذا قدر انتقم؛ ولكن الحليم من ظُلم فحلم؛ حتى إذا قدر عفا.
ويقول عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه. وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟ وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟
وقد نصح معاوية لابنه يزيد فقال: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة؛ فإن أمكنتك فعليك بالصفح، فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويوقيك مصارع المحذور. . . ولعل هذا الخلق الكريم - العفو عند المقدرة - يعد أشرف مواقف الرؤساء، وأدلها على أصالة النبل في نفوسهم، واستحواذ الكرم والفضيلة على طباعهم.
ومن البواعث على التحلم أيضاً ما يكون من الاستهانة بالمسيء أو استضعاف شأنه، حتى(694/40)
كأنه المعني بمثل قول (مسلم):
فاذهب فأنت طليقُ عرضك إنه ... عِرضٌ عززْتَ به وأنت ذليل
وبمثل قول الآخر:
نجابك عرضُك منجى الذبابِ=حَمته مقاذيرُه أن ينالا!
ولقد عفا مصعب بن الزبير - لمثل هذا الباعث - عن قاتل أبيه. فقد روى أنه لما ولي العراق جلس يوماً لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز؟ - وهو الذي قتل أباه الزبير - فقيل له: أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أيظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمناً ليأخذ عطاءه موفوراً. . .!
وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي قاتل أخيه زيد بن الخطاب - وقد كان كفه عن دينه وورعه وعدالته -: والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم! قال: أفيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا. قال: فلا ضير، إنما يأسى على الحب النساء!
ولقد يدعو إلى التحلم فرط السآمة من الانتقام، ورغبة النفس عن التشفي لطول ما بلغت من ذلك حظها، والشيء إذا زاد عن حده مال ضده، وللنفوس ثورة تجنح معها إلى السكون، ومؤاخذة تميل بعدها إلى المتاركة، ويبدو ذلك المظهر واضحاً فيما يسجله التاريخ من عفو المنصور بعد حروبه مع العلويين، وتسامح المأمون بعد حوادث الفتنة بينه وبين أخيه الأمين. ولما انتهت فتنة ابن الأشعث أتى عبد الملك بن مروان بأسارى موقعة دير الجماجم؛ - وكانوا ممن خانوا عهده ونقضوا بيعته وقاتلوا جنده قتالاً عنيفاً - فقال لرجاء بن حيوه: ما ترى؟ قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو! فلم يكن بأسرع من أن فك قيودهم وعفا عنهم.
ونحن لا نكاد نفهم عفواً يصدر عن الحجاج - أضمأ ولاة المسلمين إلى الدماء - إلا على هذا الوجه، ولمثل ذلك الباعث. فهو قد أبلى في قتال أبن الأشعث أعظم البلاء، وذاق أمام قواته مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، حتى قهره في موقعة دير الجماجم فلما عرض الأسرى من رجاله على السيف مثل أمامه الشعبي في جملتهم. فقال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، واجدب الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أنقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدقت، والله ما بررتم(694/41)
بخروجكم علينا ولا قويتم. . . خلوا سبيل الشيخ!
وكان قوم يتحلمون على السفهاء إذا اعترضهم الأذى، بل ربما تعرضوا إليهم عامدين طلباً لاكتساب الحلم وتدرباً عليه، وقهراً للنفس على السكون، وتعويداً لها على المسامحة. روى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه. فقيل له في ذلك فقال: إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم! ومن كلام الأحنف ابن قيس وكان من أحلم الناس: لست بحليم ولكني أتحلم!
وبقول أبو عثمان الجاحظ في بيانه وتبيينه: (كانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم)، وحجة القائلين بهذا أن تكلف الفضيلة عند فقدها فضيلة. نعم، يفرق الصوفية - في المعنى وفي الدرجة - بين حالتي الوجد والتواجد مثلاً، ولكنهم لا ينكرون المقام الأخير متى قصد به التوسل إلى بلوغ الأول وتحصيله، والأصل عند الجميع في هذا ما يروي عن الرسول عليه الصلوات من قوله: إن لم تبكوا فتباكوا!
هذا وقد تحمل الشفقة على المسيء والرحمة إلى مقابلته بالحلم، إذا ما تقرر في الذهن أن الإساءة لا تعدو أن تكون تصرفاً مريضاً مبعثه الجهل، وأن صاحبه أولى بالعلاج منه بالعقوبة، وهذا باعث كريم على التحلم لا يتسامى إليه من النفوس إلا أكرمها عنصراً وأزكاها جوهراً.
ولقد عوتب كسرى أنوشروان مرة على ترك عقوبة المذنبين فقال: هم المذنبين ونحن الأطباء، فإذا لم نداوهم بالعفو فمن لهم؟. وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه! قال الغزالي: (وهذا إحسان وراء العفو، لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم، وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب).
وحكي الفضيل بن عياض قال: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد الحرام ثم قام ليطوف، فسرقت دنانير كانت معه. فجعل يبكي. فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكائي رحمة له!
وقد يحلمون - في غير موضع الحلم - تجانفاً عن شبهة قد تعرض في القصاص وإن كان عدلاً، والتماساً لمرتبة من الخلق أسمى من هذا العدل، وأبعد مما يتلبس به من تلك الشبهة.(694/42)
قال عمر بن عبد العزيز لرجل غلط غالطاً أشتد له غضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك. وإنه في هذا ليأتسي بجده أبن الخطاب، وقد أشرنا - فيما سبق - إلى كفه عن السكران الذي شتمه، وقوله: إنه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي. . .
وربما يكون التحلم وسيلة لتحقيق غاية بعيدة، خفية أو ظاهرة؛ من تطيب نفس، أو ربَّ صنيعه، أو إتمام سالف جميل، أو مراعاة قديم حرمة، أو تمهيد لاستعانة وتكليف. وكان أصحاب الجنايات من الولاة والوزراء والعمال يدركون هذا الباعث، ويعملون على أثارته في نفوس الخلفاء إذا هم تعرضوا لسخطهم وصاروا موضع نقمتهم.
ولى معاوية روحَ بن زنباع ثم عتب عليه في جناية فكتب إليه بالقدوم. ولما قدم أمر بضربه بالسياط، فلما أقيم ليضرب قال: أنشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركناً أنت بنيته، أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تشمت بي عدواً أنت وقمته، وأسألك بالله إلا أتي حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك. فقال معاوية: إذا الله سني عقد أمر تيسر. . . خلوا سبيله.
ومن العفو لمثل هذا الباعث عفو الأمين عن الحسين بن علي ابن عيسى بن ماهان، وكان قد انتقض عليه أيام حربه مع المأمون، وخلعه وحبسه يومين في قصر أبي جعفر، ثم بايع للمأمون ولكن قام أسد الحربي وجماعة فدافعوا عن الأمين، فيلوا رأي الجند فيما صنعوه من طاعة الحسين بن علي. ثم قاموا فقاتلوا الحسين وأصحابه، وكسروا قيود الأمين وأجلسوه في مجلس الخلافة، ولما أتى بالحسين لامه على انتقاضه وذكره بسالف نعمته عليه وعلى أبيه (وكان أبوه قد قتل على رأس جيش الأمين في حربه مع المأمون)، ثم قال الأمين: ما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس عليّ، وتندبهم إلى قتالي؟ قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين، وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل بك ذلك، وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك! ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان. وخرج الحسين فهرب مرة أخرى في نفر من خدمه ومواليه؛ فنادى محمد في الناس فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فقتلوه. . .
وقد يدفع بالنفس إلى التحلم مجرد ما تدركه من فضيلة الحلم، وما تشاهد من جميل أثره على المتصفين به في الدنيا؛ مع ما ينتظرهم من الكرامة عند الله في الآخرة. ذلك أن(694/43)
الفضائل كلها صور جذابة حالية يكفي أن تهتدي الفطر السليمة إلى حقائق جمالها، أو تشهدها على المتخلفين بها حتى تجنح إلى اكتسابها والتمسك بأسبابها. قال الأحنف بن قيس: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم!
والذي يتفهم قول عليّ عليه الرضوان: أول ما عوض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل. لا يرى في الحلم إلا خيراً كله. بل من يعرف أن الله سبحانه سمى نفسه (الحليم) ولم يتسم بالعاقل أو العالم يتبين له قدر الحلم بين الفضائل بحالة لا تدع له دون التمسك به من سبيل.
يقول الغزالي في كتاب ذم الغضب من سفر الإحياء: ينبغي أن يعالج هذا الجاهل - يعني الغضوب غير المتحلم - بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو، وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.
(للحديث بقية أخيرة)
محمود عزت عرفة(694/44)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للدكتور خليل جمعة الطوال
(تتمة)
في سائر الضائع:
وقد أدخل العرب إلى أوربا أنواعاً كثيرة من الحبوب كالحنطة، والقنب، والتوت، والأرز، والزعفران، والنخيل، والليمون والبرتقال، والبن، والقطن، وقصب السكر، وما زال هواؤهم الفاسد زفير آلاتهم ومخترعاتهم التي كبلت الأيدي، وشلت حركة الأعمال، يعبق بشذا الأزهار الجميلة التي أخذوها عن الشرق.
وقد تعلم الغربيون منا صناعة تزيين الأقمشة الدمشقية، وصناعة السختيان، وأقمشة الحرير المزركشة بالفضة والذهب، والشاس الموصلي والمخمل، وعمل الحلويات والمشروبات وصناعة الجوخ، وعمل الجليد.
كلمة غوستاف لوبون:
أما وقد أظهرنا مواطن القوة في الحضارة العربية فيحسن بنا أن نقدم للقارئ: رأي لوبون في العوامل الرئيسية التي أدت بالغربيين للنيل من العرب ومن حضارتهم. فقد سأل لوبون نفسه هذا السؤال: لماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم؛ وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وبعدهم عن مظنة الشك. . .
ثم تقدم للإجابة وقال: (. . . أرى أنه لا جواب على هذا السؤال غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أجرأ على ما نريد في خوض بعض الموضوعات، وهذا لأن فينا أحد رجلين الرجل الحديث الذي صاغته دروس التهذيب، وعمل المحيط الأدبي والمعنوي في تنشئته. والرجل القديم المجبول على الزمن بخميرة الأجداد وبروح لا يعرف قراره، يتألف من ماض طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حداً عظيماً من الحرية في الظاهر فتحترم، وقال: (. . . وقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة(694/45)
علينا، والنقمة على الإسلام وأتباعه في عدة قرون حتى أصبحت جزءاً من نظامنا، وكانت هذه الأوهام متأصلة فينا، كالبغض الدويّ المستتر أبداً في أعماق قلوب النصارى لليهود).
(وهناك سبب آخر، وهو أن بعض أرباب الأفكار يرى أنه من العار أن يعتقد أن أوربا النصرانية مدينة لأعداء دينها يخرجوها من ظلمة الهمجية. . . وليس من شكك في أن العرب كانوا ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.
(ولا جرم أن كثيراً من المؤرخين قد اندفعوا بسائق هذه الأوهام، فأتوا بآراء بعيدة عن محجة الصواب في بيان فضل الحضارة الإسلامية، ولا يزال التحامل على العالم الإسلامي القديم بحالة من الشدة، ولذلك وجب أن يعاد النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها مساس بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة).
ونود في ختام هذا الحديث. أن نثبت أقوال بعض عظماء المستشرقين في الحضارة الإسلامية العربية، وذلك استجماعاً للموضوع من جميع نواحيه، ودحضاً لأوهام الخصوم وحملاتهم، بشهادة من لا تجمعهم بنا إلا صلة العلم، ونزاهته الحقيقية، دون أي آصرة أخرى من أواصر القربى، وعلائق الدم، وصلات الجنس:
يقول أوليري: (إذا محونا العرب من سجل الحضارة. تأخرت النهضة الأوربية قروناً عديدة).
ويقول هـ. ج. ولز: (إن العرب هم الذين حفظوا كنوز الحضارة اليونانية من أن تتسرب إليها بكتريا همجية القرون الوسطى، وليس طبقة الاكليروس الذين خنقوا نشوء العلم بحجرهم الحرية الفكرية، ولولا العرب لما قطعت المدنية هذا الشوط الواسع في مضمار التقدم والرقي)، وقال أيضاً: (كانت طريقة العربي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبساطة، وأن يجلوها بكل وضوح وتدقيق، دون أن يترك منها شيئاً في ظل الإبهام، وإن نشدان النور إنما تعلمناه من العرب وليس من اللاتين).
وقال العلامة السياسي أوجين يونغ في كتابه يقظة الإسلام والعرب: (. . . لقد كان للعرب ماض مجيد يدعو إلى الدهشة: ماضٍ حربي ثم ماضٍ في العلم الراقي والصنائع الزاهرة؛ ذلك الماضي الذي اتخذته أوربا في نهاية القرون الوسطى دعامة لحضارتها بعد أن كانت نصف متوحشة).(694/46)
ولله در جوتيه إذ يقول: (إن محصول المدنية العربية في العلم يفوق محصول المدنية اليونانية كثيراً، وذلك لأن العلم عندهم كان يقوم على أصول علمية ثابتة).
وقال فلوريان: (انكب العرب في عصرهن الذهبي على مواصلة الدرس، وترقية تعلم الفنون، حتى إن حضارتهم كانت العامل الأكبر والأول في نهضة القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد).
وشهد بذلك العالم الفرنسي سيديو فقال: (تشهد آثار العرب ومخترعاتهم ومستكشفاتهم على أنهم كانوا أساتذتنا في كل علم وفن)، وقد وافقه على هذا الرأي العلامة جورج سارطون إذ يقول: (يستخف بعض الغربيين بما أسداه العرب إلى الحضارة والمدنية، ويزعمون أنهم لم يكونوا إلا حفظة للعلوم القديمة دون أن يضيفوا إليها شيئاً. . . والحقيقة أن هذا الرأي فاسد من أساسه. فلولا العرب لتوقف سير المدنية. إذ كانوا مشعل الحضارة، وأساتذة العالم في القرون الثلاثة وهي الثامن والحادي عشر والثاني عشر).
وقال آرثر جلين ليونارد: (يجب أن تكون حالة أوربا مع الإسلام بعيدة من كل هذه الاعتبارات الثقيلة، وأن تكون حالة شكر أبدي بدلاً من نكران الجميل الممقوت والازدراء المهين. . . فلقد وصلت المدنية الإسلامية عند العرب إلى أعلى مستوى من عظمة العمران والعلم فأحيت جذوة المجتمع الأوربي وحفظته من الانحطاط. ولم نعترف ونحن نرى أنفسنا في أعلى قمة من التهذيب والمدنية بأنه لولا التهذيب الإسلامي ومدنية العرب وعلمهم وعظمتهم في مسائل العمران، وحسن نظام مدارسهم، لكانت أوربا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل)، ويقول ويدمان في هذا الصدد: (. . . لا تقل خدمات العرب للغرب عن خدمة نيوتن وفراداي ورنتجن).
ويقول غوستاف لوبون: (ما كاد العرب يخرجون من صحاري بلادهم حتى اتصلوا بالمدنية اليونانية اللاتينية، فتمثلوها، وكان تمثلها يتطلب فكراً مهذباً. . . ونحن نجهل ما كان لهم من حضارة راقية قبل الرسول (ص) فقد كانوا على اتصال بالتجارة مع العالم، وكانت لهم ثقافة أدبية عالية قبل الإسلام، ومن ثم حضارة علمية زاهرة بعد الإسلام)، وقال أيضاً: (تفوق العرب في المدينة على شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذا السبيل).(694/47)
وشهد نوبرجر بالحضارة العربية شهادة ترفع الرأس عالياً. فقال: (فاقت المدنية العربية في عصرها الذهبي مدنية رومية القديمة في حيويتها) ووافقه دوسن فقال: (إن المدنية الغربية الأوربية مدينة للمسلمين بميراث حكمة الأقدمين، وأن فتوح العرب في الإسلام لتعد من عجائب التاريخ، ومما يدعو إلى العجب أيضاً أن يصبحوا سادة نصف العالم في أقل من قرن، وأن يصبحوا في مائة سنة ذوي ثقافة عالية، وعلوم راقية، ومدنية زاهرة. بينما نجد الجرمانيين لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية قد قضوا ألف عام قبل أن يقضوا على التوحش، وينهضوا لإحياء العلوم).
وقال العالم يهودا وهو رجل عبراني يدرس في جامعة مجريط (أخذ الناس يدركون الآن أن أوربا في القرون الوسطى مدينة للحضارة العربية التي اغترف من مناهلها المسلمون، واليهود، والنصارى على السواء. أخذ الناس الآن يفهمون أن العلوم الطبيعية والقوانين الأساسية في الفلسفة، والرياضيات، وعلوم العمران كانت تستمد روحها في زمن النهضة والإصلاح من ذلك المنهل العذب ألا وهو الحضارة العربية، وصار علماء العصر كلما تعمقوا في دراسة هذه الحضارة أدركوا أثرها البليغ في حضارة اليوم، وكشفوا مئات الكلمات الداخلة في اللغات الأوربية من أيام تلك الحضارة).
وقال سينوبوس: (لا مرية في أن العالم الإسلامي كان أسطع نوراً من العالم الغربي فكان المسيحيون يشعرون بنقصهم في التهذيب، ويعجبون بما يبدو لهم من غرائب الشرق، وكان النازع فيهم إلى العلم يقصد مدارس العرب).
هذه هي حضارة العرب الزاهرة التي يطعن عليها سرفيه وأمثاله من الخصوم والمتشيعين، والتاريخ كفيل بأن يعيد نفسه، فيتبوأ العربي عالي مكانته، ويستعيد زاهي مدنيته.
وهذه أيضا صورة أخرى من كتابنا (تحت راية الإسلام) الماثل للطبع. فعسى أن نكون قد أسدينا لهذه الأمة العزيزة بعض حقها علينا.
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال(694/48)
الحب والعمر. . .
للأستاذ عثمان حلمي
من سحر عينيك للأبصار معجزة ... يحوطها من جلال الحسن أسرارُ
يُحار في وصفها الراءون إن فتنتْ ... أبصارهم وبحقٍ إن همو حاروا
ومن حديثكِ أنغام لها أبداً ... في السمع والقلب إن حدّثْتِ أوتار
ما بين سمعي وقلبي من تدفقها ... في كل هامسة من فِيك تيَّار
وفيكِ رقة نفس دون رقتها ... إذا تأمل فيكِ العقل جبار
نوع من الضعف فيه محض قسوته ... كملمس السيف سهل وهو بتَّارُ
وأنت غامضة كالليل واضحة ... مثل النهار فإعلانٌ وأسرار
ضدّان من عجبٍ في نفسك اجتمعا ... كالغصن يكمن فيه الماء والنار
أخاف منك على ما فيك من دَعَة ... كأنما لكِ عندي في الهوى ثار
وليس لي أيُّ سلطان عليكِ وفي ... صميم قلبي عليه منك قهَّار
وفي جبينكِ من صبح الشباب ومن ... ضُحاه من مغريات الحبّ أنوار
هدى لمن شاء فيها للغرام هدى ... وفي الضلال له إن شاء أعذار
مالي أراكِ بشيب الرأس ضاحكة ... مني كأن مشيبي في الهوى عار
أما لكهل إذا ما شاب مفرقه ... مهما تجمَّلَ عند الغيد أنصار
لا تسخري من غرامي إنه قدرٌ ... والحب كالرزق والأعمار أقدار
لم يطفئ العمرُ من نيران عاطفتي ... قلبي شبابٌ وجسمي كاد ينهارُ
فليس للعمر في شرع الغرام مدى ... وليس في الحب للعشاق أعمار(694/49)
القدَرُ الرطب!!
للأستاذ محيي الدين صابر
لعينيكِ أيامي. . . ينازعها الحبُّ ... كما نازع الأحلام في قفرة ركبٌ
طويت على قلبي هواك. . . كأنه ... لقلبي إذا جفَّ الحنينُ به قلب
يشارفني أفقٌ بعينيك خلتُه ... أساطير ملاّحين يسري بها الغيب
كلانا به صمت تُطيفُ به الرؤى ... أناشيدَ منها الشوق والحزن والعتب
ويرفض أحلاماً ذواهل في دمي ... كما ارفض أسراباً مصبَّغة سحب
أمدُّ بها نفسي وينهلُ خاطري ... ويملؤُني معنَى على وجهها عذْب
قرأت به وحي النبيين في الهوى ... كأني نبي، أو كان الهوى ربُّ!
لقد عشتُ في صحراءْ نفسي نخلةً ... يسامرني جن ويمتصُّني جدْب
وتسغو على جذعي رياح عقيمةٌ ... وتعمرها في الخضر أغربه شهْب
وتمشي الرمال الصفر حولي حزينة ... إذا مر سرب خاشع جاءني سرب
فضاءٌ كأيام المجانين. . . شاردٌ ... فليس به أمنٌ وليس به رعب!
فأصبحت أحياني هواك ففجرت ... ينابيع في عمري يرف بها العشب
وغنت عذارى الطير في ربوتي مني ... كأن حياتي من تدُفِّقِها وثْبُ
وأترف أيامي ووشَّى خواطري ... والهم قيثاري سنانا بضِ خصبُ
فيا ساحراً. . كفَّاه بغث ورحمة ... وخمارة. . . غنى بأفراحها الشرب
لعينيكِ مذخورُ الخلود بمهجتي ... فأنت عليها في الهوى قدرٌ رطبُ
ويا لفتةً يُطوى زماني عندها ... خيالا ويغشاني بها زمن رحب
فإن تك أيامي ذنوباً. . . فأنه ... بحبكِ يا دنياي يُستغفر الذنبُ
حشدت مزاميري لمنغومة الصبا ... كأن جمالاً قبلها صِدقُه كذب
لمحمومة الأشواق محرومة المنى ... كما انهلَّ من بين الصفا جدول سَكب
شباب بخدَّيها. . . ومجد بجيدها ... وجوع بعينيها. فيا شهوة تصبو
وفي نهدها من يقظة الفن لفتةٌ ... وفي قدَّها سكرٌ يميدُ له اللب
وفي شفتيها وقدةُ القلب في الصبا ... وفي شعرها أغرودة للهوى نهب(694/50)
بها مثل ما بي من أسى في كيانها ... إذا ضمنا خطب يُفرِّعنا خطب
فإن رجعتْ في الليل أنة موجَع ... تلفتَ في عيني وفي مهجتي الحبُّ
وتسمعني في الليل أشكو فتشتكي ... وفي روحها جُرح وفي قلبها ندْب
هي الزادُ. ما باليتُ بعد غرامها ... أسلمٌ إذا وفَّت حياتي أم حرب!(694/51)
الكتب
أحكام عابرة:
العلم والحياة
تأليف الدكتور مشرفة بك
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
يتقمص الأستاذ الجليل الدكتور مشرفة في معظم كتبه عدة شخصيات أهمها العالم والمدرس والأديب معاً، وهذه ميزة قلما تتوافر لعالم غيره وهي في هذا الكتاب بارزة جداً، والظاهر أن ذلك راجع إلى أنه يتمشى مع المنهاج الموضوع لسلسلة (اقرأ) المقصود به صلاحيتها لأوساط الناس على اختلاف ثقافاتهم. فأولا:
شخصية العالم:
وتبدو واضحة لدرجة المحاباة، محاباة العلم والعلماء. يقول: (إن العلماء أعرف الناس بالخير وأقربهم إلى الفضيلة) ويقول: (من الخطأ الفاحش أن يقال إن العلماء يقفون عند المظاهر المادية للعالم، فالعلماء إذ يبحثون عن الحقيقة يسمون بعقولهم إلى المنتهى) ولعل الدكتور يريد أن يصف العلماء كما يجب أن يكونوا أو يظن أنهم جميعاً على شاكلته أطهار أبرار؛ وإلا فأهوال الحروب الحديثة لا تؤيد القول الأول، وبعض الباحثين لا يؤيدون القول الثاني بل يقولون به (تشارلتن) في كتابه (فنون الأدب): (إذا أردنا الدقة ألقينا العلم بعيداً كل البعد عن الحياة العملية، إذ العلم لا ينظر إلى المعرفة من وجهها النافع المفيد فهو لا يعينه إلا المشكلات المجردة والمبادئ العامة. العلم مجرد فكر يقوم به العالم بغض النظر عما إذا كان يفيد أو لا يفيد). وثانيا:
شخصية المدرس:
وطبيعي أن يكون الدكتور الفاضل مدرساً ناجحاً في معظم كتابه لأنه متصل الوقت والجهد بالتدريس مشرفاً وأستاذاً ومحاضراً. والذي لاشك فيه أنه تطبع لهذا على أن يتصور أن الأذهان التي يحادثها أذهان طلاب في حاجة دائمة إلى شئ من الإعادة والتكرار والتشويق(694/52)
والمبالغة أحياناً كلما اقتضت الظروف. غير أن هذا التطبع قد أضطره هنا إلى بعض الإطالة، وصحيح أن الإطالة من مثله مرغوبة محببة لأنها تحمل في غصونها معلومات مفيدة أو طريفة غالباً إلا أن حجم هذا الكتاب لا يحتملها نسبياً. فمثلاً في القسم الأول لكي يصل إلى تفهيمنا أن العلم يخدم السياسة يبدأ بأقوال شتى لمحمد عبده وأرسطوطاليس وبلاتون وسقراط، وإلى هنا يكون قد أستنفد سبع صفحات من تسع صفحات مخصصة للقسم كله. وهكذا في سائر الأقسام تقريباً. كذلك يطيل في شرح بديهيات. فقد عقد قسماً كاملاً عن (العلم والمال) يدور حول تعريف أصحاب الأموال والعقارات أنهم لو استخدموا الطرق العلمية في إدارة أموالهم وتنظيم عقاراتهم لزاد إنتاجهم.
وهناك سمة أخرى من سماته كمدرس نلمسها حين يدلي ببعض آراءه في صيغة الأحكام المؤكدة التي لا تقبل المراجعة أو التعقيب من ذلك قوله: (السياسة أرفع الفنون البشرية منزلة وأعلاها قدراً)!! لماذا يا سيدي؟ يقول: (لأن كل فن يرمي إلى تحقيق فائدة لنفر من الناس، أما فن السياسة فغرضه نفع الناس جميعاً)!! وأظن أنه ليس هناك ما يمنع أي إنسان من أن يرفع من شأن أي فن يشاء. غير أن السائغ المحتمل أن الفنون كلها رفيعة المنزلة بلا تفاضل، كما ينبغي أن ترمي كلها إلى نفع الناس جميعاً، قد يجوز التفاوت ولكن هل يجوز أن يعزى - إن وجد - إلى الفائدة من حيث كثرتها أو عمومها؟! وثالثاً:
شخصية الأديب:
وما بنا من حاجة إلى وصف الدكتور بالأديب فإن كل إنتاجه يمت إلى الأدب الممتاز بصلة وثيقة تفسح له بين أساطين الأدب مكانا محترماً. غير أن معظم العلماء الأفاضل حين يكتبون يميلون إلى زخرفة أسلوبهم بما تدلهم عليه (قواعد البلاغة)، وهذا الأسلوب على هذا النحو هو الذي ينم على أنهم علماء
لذلك نجد الدكتور تارة يصطنع (التضمين) اصطناعا يكاد يكون مقصودا لذاته، فيقول مثلاً وهو يستحث الشرق لينهض كالغرب: (فإما خففنا معهم وإما تخاذلنا فقعدنا فرمونا بحجارة من سجيل فَجُعِلْنا كعصف مأكول)، ويقول وهو يسرد حقيقة علمية معروفة: (الجسم إذا كان في موضع مرتفع فإن ذلك يكسبه مقدرة خاصة على اكتساب الحركة فيكون كجلمود صخر حطه السيل من عل).(694/53)
وتجده تارة أخرى يستشهد بالشعر بغير ضرورة ملحة:
(العلم يرفع بيتاً لا عماد له) ... (على قدر أهل العزم تأتي العزائم)
بل يستشهد بشعر صوفي:
دواؤك فيك وما تشعر ... وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولعل هذا كله للتنويع المقصود به الترفيه عن القارئ
غير أن الحق أنه بهذه الشخصيات المتنوعة قد استطاع أن يجعل من كتابه هذا سجلاً شاملاً لحسنات يرجع إليها المستفيد لمحض الاستفادة والمستفيد لغرض الاستزادة علماً وعملاً على السواء؛ فمن حسناته أنه يصحح أخطاء شائعة بين الجمهور وأخرى بين الأوربيين وثالثة بين العلماء. إذ من الجمهور من يعتقد أن الدين يؤخر العلم والكتاب ينفي ذلك بالحجة الدامغة والواقع والمنطق الاستقرائي. ومن الأوربيين من يعتقد أنهم أصحاب الفضل على العلم والكتاب يبدههم بأن العلم إنما أزدهر قبل ميلاد الفكر الأوربي بمئات السنين. ومن العلماء من يعتقد أن (بيكون) هو الذي أستحدث (المنهاج) والكتاب يدلهم على أن المصريين والبابليين عرفوه من قديم. وهكذا. كتاب عظيم بمادته الغزيرة وحقائقه المدعمة بالأرقام حيثما كان للأرقام مجال. والمؤلف فطن غاية الفطنة إذ يعقب عليها بما يعود بالنفع على وطنه وعلى العالم جميعاً. فحينما يذكر مقدار الثروة المعدنية في مصر يهيب بشباب العلم أن يفكروا في استخدامها وتنميتها. . . وحين يقرر أن الجزء المنزرع من الوجه البحري فقط (2200 كيلومتر) يمكن أن يسع سكان الأرض طرا (2000 مليون نسمة) بحيث يخص كل فرد حوالي عشرة أمتار يستطرد فيشير إشارة خفيفة عنيفة إلى أن هذا النصيب الفردي الضئيل لا يحصل عليه كثير من المصريين، ثم يستطرد فينبه الأثرياء إلى أن حريتهم في أموالهم يجب أن تخضع للشعور بالمسؤولية وتقدير الواجب. وهكذا.
ولو أن في الكتاب أيضاً آراء سلفية تردد أقوال سقراط وأفلاطون وجلوكون عن الجمهورية والديموقراطية والأوليجراكية وهي - بالمعاني التي قصدها - أسماء تكاد تكون معدومة المسميات بل معدومة الوجود والأثر في عام 1946 الذي نعيش فيه، ويحسن أن(694/54)
نعيش له وللأعوام المقبلة إلا أن الكتاب في مجموعه كنز ثمين يزيد من قيمته أنه متجه كله نحو الخير والإنسانية.
عبد الفتاح البارودي(694/55)
العدد 695 - بتاريخ: 28 - 10 - 1946(/)
هذه هي الأغلال
للأستاذ عباس محمود العقاد
المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعة التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله على القصيمي في كتابه (هذه هي الأغلال).
لأن الذين يحجمون عن مساعي الحياة اعتقاداً منهم بتحريمها إنما يخرجهم في هذا الوهم عاملان ضروريان، وهما عظة الحوادث وعظة المرشدين، وأحق الناس بإسداء هذه العظة إليهم من يصححون لهم الوهم بإسناد من الكتاب والسنة النبوية، ومن يرشدونهم لأنهم متدينون يفهمون الدين على وجهه المستقيم، لا لأنهم ينكرون الأديان فلا يلتقون بهم في أصل من أصولهم التي يتقبلون منها الحجة والدليل
والكتاب بحق كما وصفه مؤلفه الفاضل (ثورة في فهم العقل والدين والحياة) لأنه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل، ومعقل حصين هو معقل العادة، وجحفل مجر هو جحفل الغوغاء وأشباه الغوغاء، فيرفع السيف والمعول بغير رهبة ولا هوادة، ويعتمد سيفاً واحداً ومعولاً واحداً في هذه الثورة الجريئة، وهما سيف اليقين ومعول البرهان
فهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة ويوجبون على الناس الكسل باسم الاتكال على الله، ويحرمون تعليم المرأة وتدريبها على فرائض الأمومة والرعاية الاجتماعية، ويوهنون ثقة الإنسان بنفسه، وينكرون الحكمة القديمة والعلم الحديث، ويزعمون أن الزمن يتأخر ولا يرجى فيه من أبناء اليوم والغد رجاء يضيفونه إلى تراث السلف ومآثر المتقدمين
وقد استند في كثير من معارض النقد على آيات من الكتاب وأمثلة من سير الأنبياء، وأسانيد من المنطق السليم، ولم يبال بالسمعة الموروثة ولا بالأنصاب المرفوعة ولا بالأكاذيب المتواترة، فهاجم أناساً يحسبون من الأئمة المقدسين عند العامة وأشباه العامة، وذب عن فلاسفة غير مسلمين لم يشهدوا عهد الأديان الكتابية مثل أرسطو وأفلاطون
فلما روى هذه الأبيات:
من أنت يأرسطو ومن ... أفلاط قبلك (يا مبلد)
ما أنتمو إلا الفرا ... ش رأى السراج وقد توقد(695/1)
فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشداً لأبعد
مهد لها قائلاً (قالوها في مذمة أولئك الرجال الذين حاولوا في عصور سحيقة أن يضعوا اللبنات الأولى في بنيان هذه الحضارة. .). وعقب عليها مستنكراً أن يكون هؤلاء الرجال الباحثون (حكمهم حينما أرادوا الدنو من المعرفة ومن العلم حكم الفراش الذي يرى النور المتوقد فيثب عليه)
ثم استطرد بعد صفحات فقال: (ومن البلاء حقاً أنهم لم يقصروا عند امتداح الجهالة بل قاموا - بلاهة كثيفة - يمتدحون الجنون والبله والمجانين. . . وهنالك قسم كبير من الأولياء كتبوا في الطبقات يسمون بالمجاذيب أو بالأولياء المجاذيب، وقد أورد الشعراني في كتابه طبقات لأولياء الكبرى أسماء طوائف كثيرة من هؤلاء المجذوبين. وكذلك صنع غيره)
أما الفصل الذي تناول فيه موضوع المرأة بعنوان: إنسان هي أم سلعة - فقد قابل به بين أقوال المتطرفين في الحجر عليها وأقوال المتطرفين في تخويلها حقوق العمل والحرية، ووقف بين الطرفين وسطاً يعدل بين هؤلاء وهؤلاء، ولكني أحسبه لو خير بينهما لآثر الإطلاق على التكبيل بقيود الحجر والجمود
ونحن نوافق الأستاذ القصيمي على الهدف الذي يرمى إليه، وعلى الآفة التي يشكو منها، ولكننا نخالفه في بعض الآراء كما نخالفه في بعض العبارات، ولا نخص منها بالذكر هنا إلا جانباً واحداً يلتبس فيه الرأي ويبدو فيه الظاهر على وجه غير وجه الباطن، أو وجهه الذي نطلع عليه بعد المراجعة والموازنة بين الحقائق المتقبلة. فرب حقيقة تقابلها حقيقة أكبر منها، ورب ناحية نراها وحدها فإذا هي مستنكرة، ونراها في مكانها من مجموعة النواحي المختلفة، فإذا هي لازمة لا غناء عنها
هذا الجانب الذي نخصه بالذكر في هذا المقام هو كلام الأستاذ على فلسفة التصوف إذ يقول: (إن وجه الخطأ في هذه الفلسفة أنهم اعتقدوا أن الروح والجسد عالمان مستقلان متعاديان، وأن كلاً منهما حرب للآخر، وأن كلاً منهما أيضاً إنما ينمو ويزكو على حساب الآخر. فإذا أهين أحدهما وعذب نما الآخر وترعرع وقام بوظيفته خير مقام، وإذا أكرم وأريح وأجم أصاب الآخر بالعكس. . وهذه فلسفة عقيمة لا تقف أمام الحقائق. فإن الروح(695/2)
مهما اختلف في حقيقتها وفي تفسيرها تزكو وتقوى وتقدر على أداء وظيفتها إذا صح الجسم وقوى واستراح، وتضعف وتخبو وتعجز عن القيام بعملها إذا مرض الجسم أو تعب أو تعجز. . . وهذه حقيقة هي اليوم فوق مذاهب الشك، وفي استطاعة الرجل العادي أن يعلم صدق هذا بالملاحظة والاستقراء. . .).
ونحن نقول إن هذه حقيقة لا شك فيها.
ولكننا نقول إنها ليست كل الحقيقة، أو ليست بالحقيقة التي تستغني عن الرجوع بها إلى جملة الحقائق في الملكات الروحية والجسدية.
ولعلنا نستعجل الغاية التي نرمي إليها بالإشارة إلى حقيقة أخرى مجسمة لا شك فيها. فما القول مثلاً في الإنسان الذي يقبل على الجسد وحده فيجعله أصلب من الفولاذ وأقدر على حمل الأثقال وجرها من الفرس والبعير؟ أيقال إن هذا الإنسان قد زاد قوة الروح بزيادة قوة الجسد؟ أيقال إنه مثل يحتذيه كل إنسان ولا يصيب الأمة نقص في الملكات إذا اقتدى به كل فرد من أبنائها؟
لا يقال ذلك، ولا يقال مع ذلك إنه مثل ضار وخيم العاقبة على أبناء الأمة، بل يقال إنه لازم ومطلوب ومعقول، وأن (القصد الحيوي) في تربية الإنسانية يسمح للرياضة البدنية أن تصطفى لها أفراداً من هذا الطراز، ويسمح للرياضة الروحية أن تصطفى لها أفراداً من طراز آخر، ولا تسمح لهذه ولا لتلك بتعميم حكمها على جميع الآحاد.
هذا (القصد الحيوي) هو الحقيقة الكبرى التي تقابل تلك الحقيقة المبسوطة في كتاب الأستاذ.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد.
ولكنها ينبغي أن تنال. فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصيص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعاً في التحصيل، وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعاً على حد سواء.
ولا يقتصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكننا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.(695/3)
فهذه الملكات الجسدية - فضلاً عن الملكات العقلية والروحية - قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من أبناء هذا البلد رجلاً أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين: يكتب بها ويشعل عيدان الثقاب ويصنع بها القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار.
ورأينا ورأى معنا ألوف من هذا البلد لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر. بحيث لو قال لك قائل إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثراً واحداً بين عشرات ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعاً أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟
إننا نخطئ بهذا أيما خطأ ونعطلهم به عن العمل المفيد.
ولكننا نخطئ كذلك كل الخطأ إذا عاقبنا إنساناً لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس ولا تعرف الحدود.
وإذا كان طالب القوة الروحية يجوز على جسده فلماذا نلومه وننحى عليه ونحن لا نعاقب اللاعب إذا جار على روحه أو عقله في سبيل إتقان لعبة أو تدريب عضو أو تزجية فراغ؟(695/4)
إذا لمنا من يجور على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي ملكة وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء. . فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية فضلاً عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلاً عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية له حق كحق المصارع، والملاكم، وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه، لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة لروح.
لو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس.
ولكن لابد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا لها البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة.
ولكن لابد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة (التخصص) أو ثمرة (القصد الحيوي) الذي ينظم لنا ثروة الأرواح وثروة العقول وثروة الأبدان.
فنحن لا نفند الحقيقة التي بسطها الأستاذ التي بسطها الأستاذ القصيمي في كتابه الجريء على الباطل.
ولكننا نقابل حقيقته بالحقيقة التي توازنها وتتمم لها موازينها ونقول إن الإفراط في العناية الروحية كالإفراط في العناية الجسدية بلاء إذا عم جميع الناس، ولكن البلاء الذي هو أعظم منه وأقسى على الناس جميعاً أن يبطل فيهم (الاختصاص) ولو كان الإفراط من مستلزماته، لأن (الإنسانية) كلها تستفيد من زيادة ملكاتها، وهي لا تزيد إلا بنقص في بعض الآحاد المعدودين.(695/5)
عباس محمود العقاد(695/6)
على الطريق في سوريا ولبنان
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
أثبت في هذا المقال طرفاً مما شهدت في طريقي أثناء تجوالي في سوريا ولبنان في سفرتي الآخرة
لا أعرض لما شهدت وسمعت في المجامع والمجالس من آيات الحب والود بين البلاد العربية وإكبار إخواننا في سوريا ولبنان لمصر أهل مصر، ولكن أسجل حوادث طارئة، وإمارات عابرة شهدتها على الطريق لم تصدر عن إعداد أو احتفال أو تكلف بل ترجمت به الأنفس عما فيها ترجمة صادقة خالصة:
سارت بنا باخرة صغيرة اسمها القاهرة من الإسكندرية تؤم بيروت. وكان ركبان الباخرة قليلين أشتاتاً ألف بينهم سفر قصير، ولم أحاول أن أختلط بهم أو أتعرف إليهم، وتركت نفسي على سجيتها، والأمور على إذلالها
رأيت شاباً أسمر عربي السحنة يتكلم لهجة عذبة بين العامية والفصيحة.
قال: أنا من زحلة، وأقيم مع أسرتي في نيكارجوى من أمريكا الوسطى، وهناك بيتان من العرب فقط؛ ولكنا نحفظ لغتنا ونحرص على تعلمها والتكلم بها.
قلت: ولكن لغتك عربية خالصة تعلو على العامية.
قال: هذا أثر الدرس والقراءة
قلت: لقد نطق وجهك قبل لسانك بأنك عربي. فسرّ معتزاً
ورأيت كهلاً يقيم في دكار من بلاد السنغال وقد غاب عن بلده سنين كثيرة زهاء ثماني عشرة فيما أذكر.
حدثني الرجل عن مهاجري العرب في دكار وعن تجارتهم ومكانتهم وعن العرب من أهل البلاد والمستعربين، وأفادني كثيراً من أخبار تلك البلاد وحالاتها. ومن طريف ما أخبرني أن أهل السنغال شجر بينهم وبين الفرنسيين خلاف، وامتد بينهم نزاع على بعض الأمور؛ فقال السنغاليون يهددون فرنسا: نحن عرب، وسنعمل للانضمام إلى الجامعة العربية
وسمعت عجوزاً من زحلة أو ما يصاقبها من القرى تقول وقد سمعتنا نتحدث عن اللغة(695/7)
العربية وحرص العرب عليها حينما ساروا وأينما ساروا. قالت: أيترك الإنسان أمه إلى جارتها!
شرحت صدري، وأضاءت نفسي هذه الأحاديث وأشباهها وكم أصخت إلى صاحبي القادم من دكار يحدثني في ضوء القمر، ونحن نساير الساحل الشرقي من البحر الأبيض، ونرى جباله ومناراته وأضواء بلاده بعيدة خافتة.
ونزلت من الباخرة صباح السبت لعشرة من شهر أب، وفي سحنتي ولهجتي ما ييسر لي الأمور في الميناء
وأخذت سيارة إلى دمشق، فلما بلغنا أول مخفر في سورية وقف عليه السائق وتقدم شرطي ينظر في السيارة. قلت: أتريد جوائز السفر؟ فضحك وقال: عرفناك بلغتك. أهلاً وسهلاً، مع السلامة مع السلامة. يعني أنه عرفني مصرياً.
ودخلنا مدينة حماة بعد ظهر الاثنين سادس شوال أنا ورفيقي الأستاذ عبد المحسن الحسيني فطعمنا واسترحنا في فندق أبي الفداء ثم خرجنا نتفرج ونرى النواعير الهائلة على نهر العاصي، ونستمع لحنينها الدائم. وكنا على نية زيارة ملك حماة أبي الفداء صاحب التاريخ. فقلت لصاحبي: نرجع إلى الفندق فلن نعدم من يتعرف بنا ويدلنا على أبي الفداء. فلما بلغنا الفندق رأينا عربة تقف على الفندق، فقلنا نركب هذه العربة إلى مزار أبي الفداء، ورأينا رجلاً ينزل من العربة وطفلاً يبقى فيها، فانصرفنا عنها، وإذا الراكب الذي نزل يتقدم إلينا ضاحكاً قائلاً: أأعجبكما صورة العلم المصري على ظهر الحصان. وأن هذا الهلال والأنجم تصور العلم المصري. قلنا: بارك الله فيك. وسألناه عن الطريق إلى أبي الفداء فعرفنا نفسه وعرفنا، فإذا هو من وجوه المدينة ولا أريد ذكر أسماء في هذا المقال. قال: شرفوا ودعانا إلى الركوب. قلنا: معك طفل، وقد خرجت للتنزه، أو جئت للجلوس في هذه الحديقة، فلا نصدك عما خرجت له. فأبى إلا أن نركب معه. فأجبنا دعوته وسرنا إلى ضريح أبي الفداء في ظاهر المدينة؛ ولجنا باباً فرأينا إلى اليمين حجرة صغيرة عليها قبة، فدخلنا إلى ضريح قديم كتب عليه أسم أبي الفداء وتاريخ وفاته. ثم هبطنا درجات إلى صحن فيه أنبوب يستخرج الماء من نبع ويستقي منه جيران المسجد. وتقدمنا شطر الجنوب إلى مسجد صغير قيل لنا إن العامة تسميه مسجد الحيايا (أي الحيات) لأن فيه عمداً(695/8)
على صورة الحيات. فدخلنا إلى مصلى في جداره القبلي إلى جهة الشرق نافذتان بينهما عمود من الرخام نحت نحتاً عجيباً، وصورت عليه حبال متداخلة مجدولة كأنها حيات التف بعضها على بعض
وأبى كرم السيد الذي شرفنا بصحبته إلا أن يرينا بعض الدور الأثرية في حماة. فقلنا: قد رأينا دار العظم في مهرجان أبي العلاء. فسار بنا إلى حي قديم فيه دار كبيرة جليلة مشرفة على العاصي، هي دار الكيلاني، فأستأذن لنا من أهلها فدخنا فرأينا من نظام بيوتنا العتيقة وجمالها وجلالها ما راقنا وسرنا.
وأمر مضيفنا السائق أن يتوجه تلقاء داره. فسرنا إلى دار نزهة خارج المدينة على منحنى العاصي مشرفة على النهر يزينها وتزينه، وجلنا في الحديقة إلى النواعير الخمس التي ترفع الماء إلى البساتين المجاورة، فكان مشهداً عجيباً جميلاً. وكان لأصوات النواعير وخرير المياه بين الأشجار ومجرى النهر وأشعة الأصيل الشاحبة على النواعير العالية جمال ورهبة وسحر.
ثم جلسنا في حديقة الدار مطلين على النهر في حفاوة صاحب الدار وكرمه.
فلما أستأذنا أبي إلا يعود بنا إلى الفندق، ولم يستجب رجاءنا إذ أشرنا عليه بالاستراحة في داره، وكان يشكو ألماً يقطع عليه حديثه بين الحين والحين. ورجع بنا إلى الفندق وجلس معنا في المقهى حيناً، وقام ليذهب إلى الطبيب معتذراً إلينا. وقد ألح علينا أن نبقى إلى الغد، فعرفناه أنا أزمعنا السفر ليلاً إلى حلب
فهذه حفاوة سيد من سادات حماة بمصريين قابلاه على الطريق دون معرفة سابقة. بارك الله فيه وفي طفله بشار الذي آنسنا بصحبته وراقنا بمخايله وبما قص والده من أحاديث ذكائه.
وليس هذا إلا مثلاً كريماً مما يلقاه المصري في الشام حيث توجه!
وأزمعنا السفر إلى حلب بالقطار، وعلمنا أنه يبرح محطة حماة والساعة ثلاث ونصف بعد نصف الليل، فلم يثن هذا عزمنا وتركنا الفندق والساعة اثنتان ونصف.
وبينا نحن في انتظار القطار تقدم نحونا شرطي عرفنا بوجوهنا أو لهجتنا، فتحدث إلينا وتلطف. وساق الحديث إلى ثورة سورية وبلاء أهل حماة، وأفاض الرجل في الحديث، ثم تكلم عن الجامعة العربية، وعن عبد الرحمن عزام فأثنى عليه. ثم نظر إليّ وقال: أرى فيك(695/9)
والله شبهاً منه. فضحكت وقلت: هل رأيته؟ قال: رأيت صورته. ومازال الرجل يتعهدنا حتى أركبنا القطار وودعنا.
فهذا شرطي في محطة صغيرة في أخريات الليل لم يشغله عمله وتعبه عن الحديث والمودة. ولم يقصر علمه عن معرفة البلاد العربية والجامعة العربية ورجالها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(695/10)
فتح عكا
(690 هجرية - 1291 ميلادية)
للأستاذ أحمد رمزي بك
جاء في نهاية المقال القيم الذي كتبه الأستاذ محمود عزت عرفة بعدد الرسالة رقم 693 أن سقوط عكا بيد المسلمين كان في عهد الملك الظاهر بيبرس، والحقيقة أن الفتح تم في عهد لشالملك اهيد الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاووين في سنة 690 هجرية 1291 ميلادية، وقد تم على يده فتح صور وصيدا وبيروت وغيرها من مدن الساحل فأعادها إلى الإسلام، وأطلق على هذه الحروب أسم الفتوحات الأشرفية، واستمر المسلمون قروناً بالساحل والجبل يؤرخون بهذا الفتح فيقولون تم هذا في أيام الفتح الأشرفي أو بعده أو قبله. وفي بيروت حي مشهور اسمه حي الأشرفية نسبة إلى ملك مصر الشهيد الأشرف خليل بن قلاووين، وقد ذكر جيبون المؤرخ الإنجليزي نهاية هذه الحروب وهذا الفتح فقال: (ساد سكون محزن على امتداد ذلك الساحل الذي ظل أزماناً طويلة ميداناً تسمع فيه قعقعة سيوف نضال العالم).
وهذا الفتح من أهم الفتوحات الإسلامية التي من الله بها على مصر الإسلامية في أزهى عصورها بل جعل منها دولة مهيبة الجانب يخشاها العدو ويرهبها الصديق، وبقيت موضع رعب أوربا حتى موقعة امبابة أيام نابليون.
ويقول أبن الفرات في كتابه إن سلطان مصر لما عزم على التوجه إلى حصار عكا أمر بجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بتربة والده الملك المنصور وهي لا تزال بالقاهرة إلى اليوم وتعد تحفة من تحف الفن الإسلامي العربي ومفخرة من مفاخر ذلك العصر. أرجو أن تذهب لرؤيتها وإشباع النظر بها.
قال إنهم اجتمعوا في ليلة الجمعة الثامن والعشرين من صفر من هذه السنة وباتوا بالقبة المنصورية يقرأون القرآن الكريم، وحضر الملك الأشرف إلى التربة في بكرة نهار الجمعة وتصدق بالهبات وفرق على القراء والفقراء أموالاً كثيرة غير الكسى والهدايا التي وزعها على أهل المدارس والرباطات والزوايا. كأنه كان يودع والده حينما عزم على التوجه للجهاد.(695/11)
وفي الثامن من ربيع الأول نزل السلطان من القلعة وتوجه بالعساكر المنصورة إلى دمشق وسار منها حتى نزل على عكا وحاصرها وسد الطرق عليها، وكان الفرنجة لما بلغهن مسير الجيوش الإسلامية المصرية وعزم السلطان على محاصرة مدينتهم في قلق زائد، ولذلك كتبوا إلى ملوكهم وسألوهم النجدة. فاجتمع لديهم جموع من مختلف مللهم ونحلهم. ويقول السير وليم موير (إن جزيرة قبرص بعثت بنجدة إليهم)، ولكن الذي يظهر من كلام المؤرخين المعاصرين أن أكثر النجدة أتت إليهم من الأرمن المقيمين بالمشرق.
وليس في عزمي شرح المعارك التي ظهر بها المسلمون على الصليبيين في آخر عهدهم، ولا ذكر القتال يوماً بعد يوم وتتبع الشهداء والقواد وأهل الرياسة من جند مصر والشام فتلك ملحمة من ملاحم الإسلام أجمع لها المواد ليوم قريب بإذن الله؛ كما أنه ليس في العزم أن أكتب عن الملك الشهيد الأشرف خليل وحياته، ولذلك نمر على ذلك مراً، ونكتفي بشهادة بعض المعاصرين نقلاً عن صاحب النجوم الزاهرة.
قال النويري: (كان ملكاً مهيباً شجاعاً مقداماً جسوراً جواداً كريماً).
وقال الذهبي: (لو طالت أيامه لأخذ العراق وغيرها. فأنه كان بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة).
وقال صاحب النجوم (وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديماً وحديثاً بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج أبن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما في ذلك تغني عن الإطناب في ذكرهما).
ولقد كان الأمير بيبرس المنصوري شاهد عيان لمعركة عكا، ولذلك أطنب في وصفها ووضع ذلك في كتابه (زبدة الفكرة) وقال أن هذا الفتح العظيم جاء في يوم الجمعة المبارك السابع عشر من جمادى الآخرة من سنة 690، وإن عكا انتزعت من يد المسلمين في عهد صلاح الدين سنة 587، وبقيت بيد الصليبيين103 سنة وختم كلمته بقوله: (لله الحمد على انتصار المسلمين واستظهار الموحدين بهمة أولى الهمم العلية، والعزمات المنصورة المنصورية (نسبة إلى المنصور قلاروين) الأشرفية (نسبة إلى الأشرف خليل)، ولا شك في أن هذه الطائفة أربت على الأول ونالت بها الدولة من النصرة والنضرة ما لم تنله الدول).(695/12)
ويصف السير وليم موير في كتابه (تاريخ دولة المماليك) سقوط آخر معقل إلا معقل الصليبيين بالمشرق والحقد يأكل قلبه فهو لا يترك نقيصة إلا ألصقها بالمسلمين وملكهم فيقول: (حتى الفرسان الذين وعدوا بأن يفسح لهم طريق النجاة أمر السلطان بقطع رقابهم جميعاً بدون رحمة، وأن ما لاقاه أهل بيروت من إهدار دمائهم وقتلهم صبراً لا يقل فظاعة عم وقع في عكا). يسوق كل هذا ولا يبين لنا أسباب هذا الغدر من الجانبين.
ولقد احتفلت العاصمتان مصر ودمشق بهذا الفتح الأشرفي العظيم، ولما دخل الأشرف مدينة دمشق زينت له الشوارع وأقيمت القباب وأقواس النصر، ودخل وبين يديه الأسرى من الإفرنج تحت الخيول وفي أرجلهم القيود وأعلامهم منكسة، ولما دخل مصر وشق المدينة من باب النصر إلى باب زويلة، وأقيمت له الاحتفالات الشائقة.
ولما كثرت الأقاويل والروايات عن هذا الفتح، وصرح كثيرون أنهم تنبأوا به قبل وقوعه، وقال بيبرس المنصوري: (ولما أتاح الله هذا الفتح وسهله وأباحه وعجله قرظه الشعراء، وذكره الفضلاء).
وقد اطلعت في كتاب أبن الفرات على الكثير من القصائد التي قيلت أعجبني منها بعض الأبيات أنقلها لقراء (الرسالة).
فمن قصيدة الشيخ بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنجي التاجر المقيم بالقاهرة:
بلغت في الملك أقصى غاية الأمل ... وفُت شأو ملوك الأعصر الأول
ونلت بالحول دون الناس منفرداً ... ما لم تنله ملوك الأرض بالحيل
وهي طويلة فيها العربية السهلة وبعض الألفاظ العامية ومن الغريب أن تأتي بعد خمسة قرون من ينحو نحوها ويقول:
ماذا أقول وكيف القول في ملك ... قد فاق كل ملوك الأعصر الأول
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أظنه صاحب سيرة الملك الظاهر:
يا بني الأصفر قد حل بكم ... نقمة الله التي لا تنفصل
قد نزل الأشرف في ساحلكم ... فابشروا منه بصفع متصل
وكتب القاضي شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي كاتب الإنشاء قصيدة أطول من كل هذا نحا فيها نحو صاحب قصيدة (السيف أصدق أنباء من الكتب)، وقلّد عباراته وتشبيهاته(695/13)
جاء فيها:
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك المماليك واستعلت على الرتب
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها ... مدت إليك نواصيها بلا نصب
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت ... منه لسر طواه الله في اللقب
إن عكا مدينة عزيزة على القلب بذكرياتها، أقلب صفحات الفتح الأشرفي فاقرأها بجانب صفحات من عاصر صلاح الدين وعاين قلقه على جنوده المحاصرين بقلعتها. أمضيت أياماً أسجل من سيرته تنقلاته في التلول المقابلة لسهول عكا، وأتابع تلك النفس العظيمة، ولذلك كنت كلما مررت بهذه الجهات يخفق قلبي وتهتز نفسي شوقاً إلى أرواح الشهداء الذين ماتوا على تلك البقعة التي تجمع مع الطهارة الخلود في نفس كل مسلم.
أحمد رمزي(695/14)
من صميم الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه قصة شاب مدرس في ثانوية من ثانويات البنات في بلد من بلاد الله حديث السن لم يجاوز إلى الآن الرابعة والعشرين، معتزل متفرد عاكف على كتبه ودفاتره، لا يخالط الناس، وليس ممن يبتغي الظهور فيهم والحظوة لديهم، فلا يحاول أحد من القراء أن يبحث عنه أو يسعى إلى معرفته، وليكتفوا من قصته التي قصها عليّ بمكان العبرة منها، إذا كان قد بقى في القارئين من يفتش على العبرة، أو يسعى إلى الاعتبار. .
وهذا الشاب أبن صديق من أدنى أصدقائي إلى قلبي، وكان في صباه تلميذاً لي، وكان من أذكى الطلاب قلباً، وأطهرهم نفساً، وأمتنهم خلقاً، وأتقاهم لله في سر وفي علن، وكان على صغره جاداً بعيداً عن المزاح، مجتنباً الهزل، باراً بأمه وأبيه، لا يعرف إلا مدرسته وبيته، لم ير قط واقفاً في طريق، أو ماشياً إلى لهو، وثبت على ذلك حتى شب وأكمل الدراسة، وفارق المدرسة، وهو لم يدخل قهوة ولا سينما، ولم يصاحب أحداً أبداً، ولم يجالس امرأة غير أمه ولم يكلمها. .
وكان لذلك بمنزلة الأخ الأصغر مني، أحبه محبة الابن، ويجلني إجلال الوالد، وكان ينفض إلي دخيلته، ويكشف لي سريرته، وكان من مزاياه انه صادق اللهجة، ولم أجرب عليه في هذه المدة الطويلة كذباً قط. . .
وانقطع عني مدة طويلة، ثم رأيته فأخبرني أن والديه قد توفيا بالتيفويد في شهر واحد، وأنه غدا وحيداً فاحترف التعليم، وبعثت به الوزارة، لما تعلم من عظم أخلاقه، إلى مدرسة ثانوية للبنات، فثار وأبى وطلب نقله إلى غيرها من مدارس البنين، فما زالوا به يداورونه ويقنعونه بأنه إن كان معلم البنات رجل مثله، فذلك خير لهن من أن يدخل عليهن فاسق خبيث، وإن قبوله التدريس في هذه المدرسة قربة إلى الله، فخدع المسكين وقبل!
قال: وبت ليلة افتتاح المدرسة بليلة نابغية لم ينطبق فيها جفناي، من الفكر والوساوس والمخاوف، فلما أصبح الصباح ذهبت أقدم وأؤخر أخرى، حتى دخلت المدرسة، فما راعني عند الباب إلا أن فتاتين كاملتي الأنوثة ليستا بالصغيرتين ولا القاصرتين قد دخلتا أمامي، فلما صارتا من داخل ألقتا عنهما الخمار، فعادتا كأنهما في دارهما، وتلفت حولي فإذا ملء(695/15)
الساحة فتيات نواهد نواضح الأجساد، قد حسرن ورحن يلعبن ويمشين وهن بالثياب الحريرية الزاهية، شعورهن مهدلات على الأكتاف، والسواعد عاريات والسيقان، فأحسست كأنما قد صب علي دلو من الماء الحامي، فاحترقت منه أعصابي، فاستدرت راجعاً ونفضت يدي من الوظيفة، وقلت: الرزق على الله!
وقصدت بيتي فما وسعني والله البيت، ووسوس إلى (لا أكتمك) الشيطان، وزين لي تلك المتعة بمعاشرة أولئك الفتيات، والحياة بينهن، فاستعذت بالله، وأعرضت عنه، وذهبت أفتش عن عمل غير هذا، فسدت في وجهي الأبواب إلا هذا الباب، ولاحقتني الوزارة وإدارة المدرسة حتى عدت مكرهاً. .
وأنا رجل رضت نفسي على العفاف، وأخذتها بضروب الرياضات حتى سكنت شرتها، ولكنها مع ذلك كانت تثور بي كلما سبقت عيني وأنا غافل إلى فتاة في الشارع كاشفة، أو سمعت أذني حديثاً من أحاديث الشبان سقط إلي وأنا لا أطلبه، أو قرأت (وقلما أقرأ) قصة خليعة، أو نظرت (ونادر أن أنظر) مجلة من هذه المجلات الداعرة الخبيثة وما المرأة التي يفتش عنها الشبان ويتحدثون عنها إلا هذه النصف التي تصلح ما أبلى منها الدهر بالثياب والأصباغ وما عند العطار، والتي تقاذفتها الأيدي حتى صارت كالغصن الذاوي وكالثوب الخلق، فما بالك بشاب كتب عليه أن يعاشر النهار كله فتيات كزهرة الفل، أو كالغلالة الجديدة، لم تمسسهن يد بشر، ولم يعرفن من تجارب الحياة ما يتقين به شباكها، ويطلب منه أن يكون عفيفاً شريفاً، وأن يكن هن أيضاً عفيفات شريفات، وله في نفوسهن مثل الذي لهن في نفسه؟
يا أستاذ! إن الخطر أشد مما تتوهمون أنتم معشر الكتاب المعتزلين في بيوتهم أو في أبراجهم العاجية، كما يقولون عن أنفسهم، الخطر أشد بكثير. . شباب وشابات، يصبي كلاً منهما أن يشم ريح الآخر من مسيرة فرسخ، يجتمعون على دروس الأدب وقراءة أشعار الغزل. . تصور (يا أستاذ) المدرس يلقي على طالباته حديث ولادة وأبن زيدون، وأنها كتبت كما رووا (كذباً أو صدقاً) على حاشية ثوبها:
أمكن عاشقي من صحن خدي ... وأمنح قبلتي من يشتهيها
ويمضي يشرح لهن ذلك ويفسر لهن. . حالة فظيعة جداً يا أستاذ. . . ولو كن كبيرات(695/16)
مسنات، أو كن مستورات محجبات، أو لو كن صائمات مصليات يخفن الله، لهان الأمر، ولكنهم يجتمعون بهن على سفور وحسور وتكشف، وتنطلق البنت حرة تزور معلمها في داره، وتمشي معه إن دعاها إلى السينما أو المتنزه، كذلك يرى الآباء اليوم بناتهم فلا ينكرون ذلك عليهم. .!
أنا لا أقول إن الآباء كلهم لا يهمهم أعراض بناتهم، وأن كل أب قرنان، معاذ الله أن أقول ذلك، ولكن هؤلاء الآباء قوم مغفلون، أعمى أبصارهم بريق الحضارة الغربية فحسبوا كل شيء يجيء من الغرب هو خير وأعظم أجراً، ولو كان ذهاب الأعراض والأديان والأبدان! إن هؤلاء كالنعامة يلحقها الصياد فتفر منه حتى إذا عجزت أغمضت عينيها ودست رأسها في التراب لظنها أنها إذا لم تبصر الصياد، فإن الصياد لا يراها! إن هذا الأب يحسب أن كل رجل ينظر إلى بنته بعينه هو، وطبيعي منه ألا ينظر هو إليها بعين الشهوة، فلذلك يطلقها في الشارع، ويبعث بها إلى المدرسة على شكل يفتن العابد، ويحرك الشيخ الفاني. .!
دخلت يا سيدي ودرست، وكنت أغض بصري ما استطعت وأحافظ على وقاري، ولا أنظر في وجوه الطالبات إلا عابساً، ولا أقول كلمة في غير الدرس المقرر، وكنت مع ذلك أداري من أثرهن في أعصابي مثل شفرة السيف الحديد، وإذا قرع الجرس خرجت قبلهن مهرولاً حتى لا أماشيهن ولا أدنو منهن، فذهبت مسرعاً إلى داري أصلي وأسأل الله أن يصرف عني هذه المحنة، وأن يجعل رزقي في غير هذا المكان، وكنت أصوم وأقلل الطعام لأطفئ هذه النار، فإذا مشيت إلى الفصل وسمعت كلامهن، وسبقت عيني إلى بعض ما يبدين من أعضائهن وزينتهن زادت ضراماً واشتعالاً. .!
وكان فيهن طالبة هي. . لا. . لست أصفها ولا ينفعك وصفها، وحسبك أن تعلم أنها زكية ومتقدمة في رفيقاتها، وأنها من أسرة من أنبل الأسر، وأنها فوق ذلك جميلة جداً. . جداً. . إنها تمثال، هل رأيت مرة تماثيل الجمال والفتنة. .؟ وكانت كلما نظرت إليّ قرأت في عينيها كتاباً مفتوحاً، ورسالة صريحة لي أنا وحدي، وأحسست منها بمثل شرارات الكهرباء تخرق قلبي. . فكنت أزداد عبوساً وإعراضاً، فلا يردها عبوسي ولا يثنيها إعراضي، وأسرعت مرة ورائي وأنا خارج وهي تناديني (سؤال يا أستاذ). . ولها في(695/17)
صوتها رنة. . يا لطيف. .! فوقفت لها فجعلت تدنو مني حتى شعرت كأني ألامس. . ألامس ماذا؟ لا أجد والله شيئاً أشبهها به، لأنه ليس في الدنيا شيء آخر له مثل هذا التأثير. . فهربت منها وأسرعت إلى الدار، وحرصت على ألا أدعها أو أدع غيرها تفعل مثل هذا!
وكنت أكتب الدرس في كراس وأدفعه إليهن لينسخنه، فهو يدور عليهن، فلما كانت نوبتها عاد إلي الكراس وفيه هذه الأبيات لعلي بن الجهم:
نطق الهوى بجوى هو الحق ... وملكتني فلينهك الرق
رفقاً بقلبي يا معذبة ... رفقاً وليس لظالم رفق
وإذا رأيتِك لا تكلمني ... ضاقت عليّ الأرض والأفق
مكتوبة بخطها منقولة من (المنتخب)، فمحوتها وكتمت الأمر، وعقدت العزم عقداً مبرماً على ترك التدريس، وخرجت من الفصل بهذه الهزيمة، وكان في الساحة تلميذات فرقة أخرى في درس الرياضة، وقد اصطففن بالشلحات، كاشفات الأفخاذ والأذرع، راسخات النهود، يقفن كذلك بين الرجال (والمعلمون كلهم رجال). . فكبر رأسي وأسرعت إلى الشارع، وقد حلفت ألا أعود ولو مت جوعاً، وبعثت بكتاب الاستقالة!.
ومرت أيام وكنت وحدي في الدار - وأنا وحدي دائماً ليس لي زوجة ولا قريب - فإذا الباب يقرع، فقمت ففتحت وإذا بها تدخل علي، وتغلق الباب وراءها، وترفع الغشاء عن وجهها، وتلقي المعطف عن منكبيها، وكأن تحت جلدها الأبيض المورد الناعم انهاراً من الدماء تجيش الرغبة. . مثل الشلالات المتحدرة، وجلست أمامي كما تجلس أمام زوجها. . وقعدت تحدثني تطلب درساً خصوصياً، وعيناها تحدثانني تطلبان غير الدرس. . ولست يا أستاذي رجل سوء ولا أليف دعارة، ولكني رجل على كل حال. . فلما رأيتها في داري. . وتحت يدي. . والباب مغلق. . وهي تريد. . ملكني الشيطان. . ورأيت الدنيا تدور بي، ولما حاولت أن أتكلم اختنق صوتي ثم خرج وفيه بحة غريبة كأني أسمع معها صوت إنسان آخر غيري، وهممت يا أستاذ. . ولكن صوت الدين رن في أذني، ينادي لآخر مرة كما يصرخ الغريق آخر صرخاته. . فاستجبت له. . ولو أعرضت عنه لحظة لضاعت هذه الفرصة إلى الأبد، ولخسرت أنا والبنت الدنيا والآخرة من أجل لذة لحظة واحدة. . ولم أتردد بل قلت لها بصوت بارد كالثلج، قاطع كالسيف، خشن كالمبرد: (يا آنسة، أنا آسف،(695/18)
إن هذه الزيارة لا تليق بطالبة شريفة، فاخرجي حالاً!). . . وفتحت الباب وأغلقته خلفها، وتم ذلك كله في دقيقة!
ولما خرجت ندمت. . نعم ندمت. . وعاد الشيطان يوسوس لي، وضاق بي المنزل حتى كأني فيه محبوس في صندوق مقفل، ولم أعد أدري ماذا أصنع، وأحسست أني أضعت كنزاً وقع إلي، وتغلبت غريزتي، فأخفت صوتها صوت الدين والعقل، وأحسست توتراً في أعصابي، حتى وجدت الرغبة في أن أعض يدي بأسناني، أو أضرب رأسي بالجدار، وعدت أتمثل حركاتها ونظراتها. . . فأراها أجمل مما هي عليه، وأحس بها في نفسي، فكأني لا أزال أشم عطرها، وأرى جمالها، بل لقد مددت يدي لأمسك بها، فإذا أنا أقبض على الهواء، وخيّل لي الشيطان أن هذه البنت لم تعد تستطيع البصر بعد أن أذكى هذا النظام المدرسي نار غريزتها، وأنها ستمنح هذه الـ. . هذه النعمة رجلاً غيري. . فصرت كالمجنون حقاً، وحاولت أن أقرأ ففتحت كتاباً فلم أبصر فيه شيئاً إلا صورتها، وأردت الخروج فرأيتني أنفر من لقاء أي من أصحابي كان ولا أريد إلا إياها، وحسدت إخواني المدرسين الذين لم يتربوا مثل تربيتي الصالحة، فتمنعهم من الانطلاق في هذه اللذائذ انطلاق الذئب في لحم القطيع الطري!
والعفو يا أستاذ إذا صدقت في تصوير ما وجدت، فأنت أستاذي أشكو إليك، وأنت الرجل الأديب قبل أن تكون الشيخ والقاضي، فقل الآن ماذا أصنع؟ إني تركت التدريس واشتغلت بغيره، ولكني لم أستطيع أن أنساها، ولو أنا أردت وصالها لقدرت عليه ولكني لا أريد، فماذا أصنع يا أستاذ؟ لقد حاولت الزواج، فرأيت الأب الذي لا يكاد يمنع أبنته حراماً لا يمنحها حلالاً إلا بمهر وتكاليف يستحيل دفعها على مثلي، فأيست من الزواج، فماذا أصنع؟
ماذا يصنع يا أيها القراء؟ قولوا، فأني لم أجد والله ما أقول!
() دمشق)
علي الطنطاوي(695/19)
زورق الأحلام. . .
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هذه السفينة الجوية الجبارة التي طارت في أربعين ساعة من هونولولو إلى القاهرة في مرحلة واحدة، مصعدة إلى جزر ألوشيان وشبه جزيرة ألاسكا ومنطقة القطب الشمالي، ثم حادرة إلى جزر جرينلند وأيسلند والجزر البريطانية والقارة الأوربية والبحر المتوسط، مخترقة أجواء مختلفة ومناطق متضادة، حاملة عشرة رجال من طلائع الإنسانية الحديثة. . إنها زورق أحلام حقاً تطير به الإنسانية كلها من أمسها إلى غدها في غزوة من غزواتها للطبيعة
أجل، ليس الذين طارت بهم عشرة وحسب، وإنما هم الإنسانية كلها عبرت حاجزاً، وكسرت قيداً، وتخطت عقبات، وكشفت مجهولاً، وأدخلته في رحاب المعلوم، وصححت أخطاء، ومهدت طريقاً لنفسها في سعيها الحثيث نحو صوب مجهول. . .
وإنه لزورق أحلام حقاً عاشت به الإنسانية الواعية الراصدة في حلم سعيد ما لبث معبر الزمان أن أوله وعبره مع فلق صباح جميل على أرض النيل. . .
وقد أحسست قلبي يرافق هؤلاء العشرة حين علم بانطلاق ذلك الزورق من قيود الأرض هناك في هونولولو، فأن فيهم سر نوعه الذي توثق به وآمن بمستقبله ودعا إلى ذلك. . .
وإنها للحظة فرح عميق سجلت على لوح الأرض حين بلغ هذا الزورق مرساه في غزوة من غزوات الإنسان لحصون الزمان والمكان. . .
ولو قيل للناس: إن ملكاً أو جناً سيطير إليكم من هونولولو إلى النيل لخرجوا إليه في يوم مشهود مجموع له ليزودوا فضولهم ونهمهم بحديث متاع لا يزالون يجترونه ويذيعون سيرته مدى أعمارهم. . . ولكن الذين طاروا كانوا عشرة من الناس ذوي الوجوه المألوفة والأجسام المحدودة المعروفة، ولذلك قل من أبه لهم من هذا الجنس الذي لا يزال ذاهلاً عن قيمة ما يصنع في فتوح العلم وقيمتها في عقائد الحياة. . .
إن فرحي بوصول زورق الأحلام في هذا الأوان الذي يجادلني فيه المجادلون في قيمة الإنسان لا يعدله إلا فرحي يوم طالعت الإعلان عن كتابي (أومن بالإنسان) في جريدة الأهرام منشوراً تحت خبر الوصول إلى سر القنبلة الذرية الذي أعلنه ترومان واتلي،(695/20)
فشعرت أن هذا التوافق المصادف إشارة موافقة من الأقدار على فكرة الكتاب! ولقد ظل هذا الإعلان ينتظر في الأهرام دوره في النشر ما يزيد على شهر حتى أتى ذلك اليوم. ولو خيرت ما اخترت غير هذه المناسبة للإعلان ولو تأخر شهوراً أخرى. . . ولو طولبت بأجر على ذلك التأخير وتلك الموافقة التاريخية لدفعته عن طيب خاطر؛ فإنه ليس بالقليل أن ترى الأقدار تؤنسك بلفتة من لفتاتها وتتطوع لتصديق رأيك بتقديم دليل جديد يؤيدك وأنت في شك مما سيقابلك الناس به غداة الإعلان على رؤوس الأشهاد عن قضيتك: (أومن بالإنسان)!
وحسبك من جزاء على التبشير بمستقبل الإنسان في زمن الشك والجحود به أن ترى أو تسمع كلمة تصديق وتشجيع ينطق بها ناطق الزمان فجأة وعلى غير انتظار!
وإنه لنصر في أول الطريق يثير الشجاعة إلى المضي إلى آخره حيت تحس أن الكون معك بهتافاته وإرهاصاته!
وإن القضية التي يعلن عنها وتدخل إلى الأذهان مع صدى ذلك الطارق الجبار العنيف الذي تنسف القدرة الإنسانية به مدينة في لحظة تترك عاليها سافلها، لقضية ينبغي أن تكون أسلوباً جديداً من أسلوب تجديد الدعوة الدينية، دعوة إقرار القيمة العليا التي للوجود ورب الوجود وخليفته في الأرض!
إن خطوات الفكر الإنساني في مجالات العلم السرية والجهرية خطوات متلاحقة تطالعنا بها الصحف والمجلات مع كل صباح، ولكن طي الأبعاد والمسافات الشاسعة في سرعة بالجسم البشري الثقيل، رهين الأحباس والقيود بطيران يخترق حجاباً وراء حجاب، ويركب طبقاً عن طبق فوق الباب والسحاب والتراب، وبين المناطق المتضادة الجواء، وعند قمة الأرض في قطبها الشمالي، حيث البقاع التي يعمرها السكون الموحش والصمت المطبق والمناطق البكر والسهوب الثلجية التي تتجمد فيها الحياة وتضل فيها خطرات الظنون والأوهام - يجعل أمر اليوم الذي حمله زورق الأحلام أمراً خطيراً كبيراً يراه العوام قبل الخواص، فيشعرون جميعاً أن هذا هو المجال الأصيل للجهد الإنساني كله لو عقل الناس!
أيها الزورق العابر مناطق الجو وفضاء النفس البشرية! القاهر لما في الآفاق من سدود وعوائق، ولما في النفس من شكوك وقيود تقعد بالإرادة البشرية عند العجز القديم الذي يقعد(695/21)
ببني الإنسان عن أن يبلغوا غايتهم من السيادة التي أرادها لهم خالقهم حين ينبههم كل يوم إلى أنه ليس هناك باب في الطبيعة مكتوب عليه (ممنوع الدخول) إذا ما كان في أيديهم المفتاح!
لقد كانت حمولتك أيها الزورق من أحلام البشرية العالمة الراصدة أضعاف حمولتك من ثقل الحديد والفولاذ الوقود وأجسام ملاحيك!
ولقد سلمت تلك الأحلام من الارتطام بصخور العجز والشك والوهن والكسل عن الاقتحام حين سلمت أثقالك من الارتطام بصخور الأرض!
وأن اليد الإلهية التي حملتك وسددتك إلى غايتك من غزو المجهول وكشف المستور وتصحيح المغلوط، إنما هي يد تشير بالموافقة وتلوح للقاعدين على التراب أن هبوا ويحكم أيها النوّام إلى السحاب، ولا تقعد بكم عقائد الجهل ومثبطات الهمم عن محاولة الانطلاق وراء أحلامكم الطليقة ما دامت لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً
وما كانت عبثاً تلك الطاقات المذخورة التي عشتم بها أيام العجز القديم، ورفرف بها خيالكم حول عالم القدرة والحرية. .
أجل، ما كان ذلك عبثاً، وإنما كان إعداداً لهذا الحاضر، وتدريباً باللعب على مستقبل حياة الجد والاكتمال، وإرهافاً للعزائم والإرادات، ودفعاً لها إلى أن تحاول تحقيق الأحلام في عالم اليقظة!
أيها الزورق! لقد ألقيت بحمولتك من الأحلام التي حملتها من تلك الجزيرة التي كانت مجهولة غائبة في المحيط الأعظم إلى أرض النيل التي عرفت في دفاتر التاريخ إنها أول أرض حاول الإنسان فيها تحقيق الأحلام وتجسيم الآمال، وحبت الإنسانية على عتباتها ودرجت وخطت إلى بعض غاياتها الآلاف الأربعة قبل الميلاد، فكأن هذه الرحلة عبور لطريق الحضارة الإنسانية من آخرها في أمريكا إلى أولها في مصر. .
وكم ذا من الآماد بين الأمس البعيد واليوم! وكم من جثث الرواد الذين عبدوا هذا الطريق مطروحة على حافتيه! وكم رأى هذا الطريق من وجوه تطلعت في نهاياته البعيدة فهالها بعد الشقة فقعدت حيث ولدت إلى أن ماتت ودفنت في حفر وأغواره! وكم قرعته أقدام القافلة الإنسانية في وقع رهيب وزحف ودبيب، وصلصلة قيود وأصفاد جعلتها تسير ثقيلة(695/22)
الخطى، محرومة الهدى مطموسة الأفق!
واليوم أيها الزورق الحالم، تأتي طائراً في أربعين ساعة من أقصى الأرض، وفي هبوة من هبوات الرياح تثير غباراً في أثرك هو لا شك رفات مسحوق من عظام أولئك الرواد الذي ماتوا على الطريق ودفنوا فيه!
وحسبهم عزاء أنهم رأوا ذواتهم غباراً يلحق ذيلك الجرار. . وأن رأوا أحفادهم يمتطونك في خيلاء القوة، وعزة الحديد وقبضة العلم كأنهم ركب من الجن في زي ناس. .
وهل تملك الجن الحمراء أن تطير في عالم الثلوج البيضاء؟!
أفتنا يا سليمان! فأنك أعلم الناس بعالم الريح، وصاحب البساط ومسخر الجن وملهب ظهورها بالسياط!
وعليك السلام، فقد كنت ثمرة مبكرة في شجرة الإنسانية مدت أحلامها وغذت آمالها وأفهمتها أن أحلام القدرة والانطلاق في حيز الإمكان، فلم تيأس حتى وصلت إلى تلك (الكرامات) العامة بعد تلك (الكرامات) الخاصة التي صنعها الله لبعض أصفيائه ليشير للنوع بهم إلى طريق التحرر والقدرة والانطلاق!
عبد المنعم خلاف(695/23)
خاتمة فلسفية. . .!
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
تلك هي الخاتمة التي انتهى الأستاذ عباس محمود العقاد.
ولم تكن هذه الخاتمة غريبة على هذا الكاتب الذي بدأ حياته أديباً، ناقداً، شاعراً، وكل شيء إلا الفلسفة. فقد يبدو للقارئ العادي أن معالجته الفلسفة الحقيقة مما يتنافى مع مظاهر كتاباته وكتبه، ومطالعاته في الكتب والفنون، غير أن الناظر في أعماق آثاره القلمية، أو القارئ ما وراء السطور، يلمح ولا ريب فكراً نافذاً عميقاً يتخطى الظواهر القريبة المألوفة، ويذهب إلى الأصول الأولى والغايات البعيدة. وتلك هي النظرة الفلسفية، رد الكثير إلى الواحد، والبحث عن العلة الأولى والغاية النهائية.
ولهذا السبب كان جمهور القراء يجدون مشقة في فهم آرائه، لأنه لا يحفل بالتوافه ويمضي إلى الأعماق، ولأنه كاتب لا ينزل إلى الجماهير بل يأخذ بأيديهم إلى مستواه.
وكتاب (في بيتي) الذي صدر في سلسلة (أقرأ) ينبئ عن هذه الخاتمة الفلسفية، ولو أن صاحب الكتاب تجنب الإعلان في العنوان.
أما كتاب الشيخ الرئيس أبن سينا، الذي صدر بعد ذلك بعام، فقد أسفر وأبان، وكشف فيه العقاد عن حقيقة نزعاته الفكرية، واتجاهاته العقلية.
غير أن نزعة الأدب التي ألتزمها خلال سنوات طويلة من حياته لم يتخل عنها، فهي منه بمنزلة الطبيعة. وبتعبير فلسفي: أصبحت (مادة) فكره فلسفية، و (صورة) فكره أدبية. وأعني بالصورة الأدبية أنه ينحو منحى ذاتياً شخصياً في التعبير، في مقابل النزعة العلمية التي عبر فيها صاحبها تعبيراً موضوعياً. لا تحس فيه بالتأثيرات الشخصية.
أو هكذا أفهم الأدب، ولعل فريق الأدباء يفهمون منه شيئاً آخر.
وقد تسأل نفسك: ما المادة وما الصورة، هذان الاصطلاحان اللذان وضعتهما بين أقواس؟.
ليس غريباً على من درس الفلسفة أن يعرفهما، فهما خلاصة مذهب أرسطو في الفلسفة، حين يقول: إن كل جسم طبيعي مركب من هيولي أو مادة، وصورة. ولا مادة بغير صورة كالتمثال مادته النحاس، وصورته هيئته التي هو عليها. ولست تجد نحاساً بغير صورة، مهما تكن.(695/24)
لقد تعرض العقاد، حين تحدث عن فلسفة أبن سينا، لأفلاطون وأرسطو، وأفلوطين، والكندي والفارابي، بل وصل إلى فلسفة العصر الأخير الذي نعيش فيه، فكأنه اتخذ من الشيخ الرئيس محوراً تدور حوله الآراء من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب.
وهو منهج سليم، لأن الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.
وقد رأى أن يصنف المشكلات الفلسفية التي سوف يعالجها حتى يمضي في ترتيب ووضوح، فلخصها في مسائل أربع: وجود العالم، وجود النفس، وجود الشر، حرية الإنسان، ثم نظر إلى حلول الفلاسفة القدماء لهذه المشكلات العسيرة الحل، وأثبت رأي أبن سينا فيها، وهي على كل حال مشكلات لا تزال قائمة، تعالجها الفلسفة، وأكبر الظن أن الآراء سوف تظل متضاربة في شأنها، لأنها تفوق نطاق العقل وحدوده، على الرغم من تقريب العلم الحديث لبعض تفصيلاتها.
وإذا أردت أن تعلم رأي العقاد الشخصي في هذه المشكلات فاقرأ تعقيبه في آخر الكتاب، فهو يذهب إلى أن المادة والعقل شيء واحد. فيضع بذلك حداً حاسماً للمشكلة التي أثارها الأقدمون مشكلة الثنائية في الموجودات، أو الفلسفة المادية والفلسفة الإلهية، كما يقول العقاد في تقسيمه لمشكلات الفلسفة، وبين المادية والروحية كما يذهب إلى ذلك بعض المفكرين.
وفي ذلك يقول ما نصه في آخر الكتاب (فصورة المادة في أذهاننا باطلة. فكيف نعلم ما ي} ثر فيها وما لا يؤثر فيها على وجه التحقيق؟
(والذي يثبت في روعنا أن الكائنات خلق واحد يدور حول (الوحدانية)، ولا فرق بينهما غير الفرق بين التعميم والتخصيص.
(فالتعميم مظهر المادة، والتخصيص مظهر العقل والحياة.
(فالمادة في أبسط صورها شعاع (عام) لا فرق فيه بين مكان ومكان من الفضاء).
ولقد ميز ديكارت من قبل بين المادة والفكر، وجعل في العالم ثنائية يصعب الجمع بينهما بعد ذلك. غير أن اسبينوزا بالذانت وهو من المدرسة الديكارتية، اضطر للتوفيق بينهما إلى القول بوجود ما يسميه الامتداد العقلي
مهما يكن من شيء فإن اهتداء العلم الحديث إلى أصل المادة وأنها ذرة أو جزء لا يتجزأ، وأن هذه الذرة هي في النهاية إشعاع أو طاقة، كل ذلك لا يحل مشكلة المادة والعقل، لأن(695/25)
العقل ليس إشعاعاً. . من يدري لعله كذلك ولكننا لا نستطيع أن نجزم بشيء.
والعبر التي نأخذها من كتاب العقاد كثيرة، منها أن اتجاه مفكرينا وجهة فلسفية دليل على الرقي العقلي، والسمو إلى عالم المعاني، ومنها أن استساغة الجمهور لهذا النوع من التأليف، بل إقباله عليه. دليل على رقي الجمهور بل على انتقاله من طفولة الفكر إلى شبابه.
والخاتمة الفلسفية هي نهاية التقدم.
أحمد فؤاد الأهواني(695/26)
الحلم والتحلم. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة)
(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعضه،
ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف
تماحي الرذائل:
قال طرفة في شعر له: حنانيك، بعض الشر أهون من بعض! وتلك جملة موجزة في لفظها وفي معناها، ولكنها تنطوي على حكمة بليغة، وتكن نظرية في الأخلاق عظيمة النفع إذا نحن حاولنا أن نفهمها وأن نحسن تطبيقها، ومؤدي هذه النظرية أن يتقبل الإنسان الشر والشرور، ويحتمل غضاضة الرذيلة من الرذائل، تخلصاً بهما من شر ورذيلة أبلغ ضرراً وأوخم عاقبة وتعد هذه مرحلة - لابد منها - نتحول بها من وضع إلى وضع، فنخلص بأنفسنا من غياض الشر إلى غياض الخير، وننتقل بجوهر أخلاقنا من مناقع الرذيلة إلى منابع الفضيلة.
ذلك أن الخير (كالحلال) بيّن، والشر (كالحرام) بيّن، وبينهما أمور متشابهة، يلتبس فيها حق بباطل، ويلتقي صباح بممنوع. .
وتحذير الرسول عليه الصلوات، في حديثه المعروف، من هذه المواطن التي يشتبه فيها الحرام بالحلال إنما يتجه إلى الأخيار الذين أحرزوا من الفضيلة القسط الوافر. لأن تلبس أحدهم بالمتشابهات يعد انتكاساً له بعد عافية، وانحداراً لنفسه بعد ارتقاء، أما من ران الشر على قلوبهم، وملكت الرذيلة عليهم وردهم وصدرهم، فهؤلاء سبيلهم إذا أرادوا الخلاص لأنفسهم أن يحاولوا (الترقي) أولاً إلى درجة المتشابهات، لأنها الطريق المفضي بهم فيما بعد إلى الخير والفضيلة خالصين من كل شائبة. ويعد هذا الترقي إلى المتشابهات في حقهم فضيلة وتقدماً، وإن عد في حق الفضلاء من غيرهم شراً وارتكاساً، لا غرو فحسنات العاصين سيئات المطيعين!
وقد ذكرنا قبل من دواعي (التحلم) ما يعد وسائل إلى بلوغه وتحصيله، وضروباً من(695/27)
ترويض النفس وإغرائها على الأخذ منه بنصيب.
ونضيف هنا إلى ما سبق هنالك أن التحول بالنفس من معرة الغضب والحدة، إلى كمال الحلم وفضيلة الإسجاح، قد لا يتم دفعة؛ وإنما يكون على مرحلة أو مراحل نساير فيها النفس التي نعالجها من حال إلى حال. فقد نستطيع مثلاً أن نفثاً من حر غضبها وشدة بادرتها بنوازع - نجعلها تستريح إليها مؤقتاً - من الكبر والاستهانة بالمسيء وتحقير شأنه.
ونحن لم نعد في هذا أن تحولنا بها من رذيلة إلى رذيلة، ولكن إذا مرنت النفس على ذلك، وتزحزحت عما استولى عليها من الغضب والحدة إلى خلق طارئ من الأنفة والاستكبار أمكننا أن نعالج هذه الحالة الأخيرة بوسائل علاجها، ثم لا نزال ننتقل بالنفس من وضع إلى وضع حتى تخرج عن حد الرذائل والمتشابهات جملة، وتنتهي إلى الخير المحض الذي نتوخاه لها. وقد نص الغزالي على هذه الوسيلة من العلاج في مؤلفاته غير مرة فهو يقول مثلاً في كتاب (رياضة النفس وتهذي الأخلاق) من سفر الإحياء: من لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى، ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله - أي المرشد - من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه؛ كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء، إذا كان الماء لا يزيل الدم. وكما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة. هـ.
وفي (ربع المهلكات) من سفر الإحياء إشارات متعددة إلى هذا العلاج يدرجها الغزالي في أعقاب كل خلق مرذول عند النص على أوجه علاجه. ففي كتاب ذم البخل وذم حب المال يقول: ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود؛ فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب لها خبث الرياء. ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه. ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما قد يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها، لا ليخلي واللعب، ولكن لينفك عن الثدي إليه ثم ينقل(695/28)
عنه إلى غيره. فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض. هـ.
وهذا العلاج الذي وضعنا له عنوان (تماحي الرذائل) ينطوي على خطر غامض دقيق يستوجب ألا يتعرض لمزاولته وأخذ المريد به إلا كل طب خبير بأدواء النفوس، عارف بالعلل الخلقية دقيقها وجليلها، وأيها أصعب علاجاً، وأيها أيسر تحولاً. . وإلا تفاقمت العلة بمريضه وهو يحاول شفاءه، أو مات بين يديه وهو يريد إحياءه. . .
وقد سبق الغزالي إلى توضيح هذه الخطورة وإلى التحذير منها - وكم للغزالي من سبق إلى مثل هذه الحقائق النفيسة الخالدة - فهو يقول بعد ذكر علاج البخل (بتكلف السخاء على قصد الرياء): إلا أن هذا مفيد في حق من كال البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبدل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه، فإنه يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها!
ويضرب لنا الغزالي في موضع آخر مثالاً حسياً عجيباً لتناحر هذه الرذائل واصطراعها في النفس حتى تضعف فتفني جميعاً، وتحل محلها الفضيلة التي جعلناها هدفنا من العلاج، فيقول: مثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً، ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها، ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب أحدهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت. فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة. هـ.
خاتمة:
الحلم كسائر الفضائل وسط ممدوح بين طرفين مذمومين. فإذا نحن (تحيّفنا) منه متجهين إلى أحد طرفيه كان ذلك تفريطاً في الحلم يتحول بنا إلى الحدة وإلى السفاه وسرعة الغضب. وإذا نحن (تزيدنا) فيه متجهين إلى طرفه الثاني كان إفراطاً يفضي إلى الضعف والخور وفقد الحمية، وكلا الطرفين مذموم. أما الأول فحاله معروف، والتحذير من الغضب كثير، لأن النفوس إليه أسرع، فكان التخويف منه أوجب وأولى.
وأما فقد الحمية فآفة أقل - في سواد الناس - من الغضب انتشاراً، ومع ذلك يتردد ذمها(695/29)
كثيراً، لأنها الإفراط المتناهي في الحلم الذي يتحول به من ممدوح الفضائل إلى مقبوح الرذائل.
يقول الغزالي في هذا المعنى: (لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر؛ فلذا كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسناً، كما أن الرفق في محله حسن. فإذا كان الواجب هو العنف، فقد وافق الحق الهوى، وهو ألذ من الزبد بالشهيد!)
هذا، ومن المشاهد الذي يستحق التسجيل أن السفه قد يكون مستحسناً في بعض المواطن، وربما يبدو في بعض الظروف واجباً حتى ليذكر في معرض المدح. ومن هنا يقول عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار! ويقول مصعب بن الزبير: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا! ويقول الشافعي ناصحاً للفقهاء: ينبغي للفقيه أن يكون معه سفه ليسافه عنه!
وانظر بعد إلى قول أبي تمام في مدح أسحق بن إبراهيم المصعبي:
إن المنايا طوع بأسك، ولوغى ... ممزوج كأسك من ردىً وكلوم
والحرب تركب رأسها في مشهد ... عُدل السفيه به بألف حليم! ... وهو الحكيم_لكان غير حكيم
وفي حديث شريف: خير أمتي إحداؤها (من الحدة) الذين إذا غضبوا رجعوا. ومن مأثور قول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار. قال الغزالي: (فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً. وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال: أشداء على الكفار رحماء بينهم. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم. . وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية، وهو الغضب).
على أن الغزالي يحدد لنا صفة الغضب في موضع آخر فيقول: (المطلوب من صفة الغضب حسن الحمية، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً، وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً، ومع قوته منقاداً للعقل)
فليس يغني المرء إذن أن يعرف بالحلم في موضعه ما لم يعرف بالغضب كذلك في(695/30)
موضعه؛ وإذا قلنا (الغضب في موضعه)، فقد جعلناه فضيلة وحكمة، إذ ليست الحكمة إلا وضع الأمور في مواضعها. بل لو قّرنا ذكر أية رذيلة بقولنا (في موضعها) لأصبحت فضيلة يحث عليها ويشاد بذكرها. فالكذب في موضعه فضيلة وقد نسميه: حسن التأتي، واللباقة، وحسن التصرف. والجبن في موضعه فضيلة، نسميه: الحرص، والتوقي، والحذر. . . وهكذا.
المقياس الصحيح إذن أن نوائم بين تصرفنا - بالقول أو بالعمل - وبين الموقف الذي نكون فيه؛ وبقدر اختلاف المواقف يكون اختلاف التصرفات. والخطأ في التطبيق هنا يتأتى من الخلط بين كل موقف وما يلائمه من تصرف. وأحسب أن النعمان بن المنذر كان أحد من اخطئوا على هذا الوجه. فقد روى أنه أتى برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه. والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه. ثم أنشد يقول:
تعفو الملوك عن العظيـ ... م من الذنوب بفضلها
ولقد تعاقب في اليسيـ ... ر، وليس ذاك لجهلها. .
لكن ليُعرَف حلمها ... وتُخافَ شدة ذحِلها!
وهذا سوء تصرف منشؤه الخلط بين مواطن العفو ومواطن العقوبة
نعم، كان من حق النعمان أن يعرف الناس حلمه، وأن يخوفهم شدة ذحله، لكن على أن يجعل لكل من الحالين موضعاً لا يعدوه، وشرطاً لا يخل به. فأما وقد فاته ذلك فقد صير حلمه تفريطاً وعقوبته إفراطاً. . . وكلا الأمرين وضح في جبين الحق، وانحراف في ميزان الحكمة والعدالة.
(- تم الحديث - جرجا)
محمود عزت عرفة(695/31)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . . .
(القيثارة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 30 -
البطل الضرير:
وكان ينتاب الشاعر الحزن على فقد بصره الحين بعد الحين وذلك كلما أحس الوحدة قاسية موحشة بعد فقد زوجته الثانية والظلمة محيطة به وبنياته لا يملكن لأبيهن ولا لأنفسهن عوناً ولا نفعاً، ولقد كان يتمهن وهن زغب الحواصل وأبوهن ضرير، لا يرى في وجوههن رضاءهن إذا رضين ولا ألمهن إذا ألمن، من أكبر بواعث حزنه وغمه. .
ولكنه كان يعتصم بالحكمة أن يهن أو يتخاذل عزمه أو يتزايل وقاره، وكان يلوذ بالشعر فيجد فيه ما ينشد من عزاء لروحه، بل لقد كان والظلام والغم يعتورانه يجد فيه الأنس ما يكاد يحس معه مثلما يحس الناس في الحياة لنفوسهم من بهجة؛ وبحسب المرء أن يذكر هذا، وأن يذكر كيف بلغ مع ذلك بقصيدته الكبرى مبلغاً تتقطع دونه الآمال، وقد توالت عليه ألوان غير هذه من الشدائد، ليرى مقدار أصالته في الشعر ومبلغ تعلقه بفنه ومدى إخلاصه له؛ والحق أنه إن كان ثمة رجل له مما حاق به أكبر المعذرة عن القعود عما نهض له فلن يكون هذا الرجل إلا ملتن، ومن لقي من الحياة مثلما لقي؛ ولكنه لم يقعد بل لم تزده المحن إلا صبراً وإقداماُ. فدل بذلك على أنه من الأفذاذ القلائل الذين تتضاءل الدنيا في نظرهم وتتحاقر تلقاء ما يسعون إلى بلوغه من نبيل الغايات. .
وضايقه يومئذ من ابني أخته أن سارا على نهج غير نهجه في الأدب والفن وسلكا سبيلاً غير سبيله، بل لقد كان ذلك يكربه أحياناً إذ يحس الفشل حتى في هذا، فلقد قام على تربيتهما بنفسه وتوجيههما الوجهة التي يريد، فلما كبرا كرها التزمت والمزيد من الجد والاحتشام، وبرما بالبيوريتانية الجافة التي تبدو لهما كالشجرة جردت من كل ثمرة وكل زينة وإن بقيت قوية الجذع والأغصان فما ترى العين من معاني الشجرة فيها إلا القوة(695/32)
والصرامة
وأقبل الفتيان يستمتعان بالحياة كما يستمتع الفتية في المدينة وكان الناس قد سئموا البيوريتانية في نزعتها الاجتماعية وضاقوا بالحياة خالية من المرح والزينة. فتهافت الشباب على الموسيقى والشعر، ورأت الحكومة ألا مناص من مماشاة هذه النزعة مخافة أن يؤدي التشدد في صدها إلى ازدياد الدعوة إلى إعادة الملكية؛ فسمحت بنشر بعض الكتب الخفيفة التي تطلب للتسلية واللهو أكثر مما تطلب للمنفعة؛ وكانت المسارح جميعاً مغلقة تحول الشرطة دون فتحها؛ ولكن واحداً استجد فسمحت الحكومة بأن يستمتع فيه الناس بالموسيقى، وبعض المسرحيات من النوع الغنائي، وأحس أهل لندن بشيء من المرح والأنس يدب في الحياة التي ألقت عليها قيود البيوريتانية كثيراً من الوحشة والجهامة.
وتطرف الفتيان في مسايرة النزعة الجديدة، وعلى الأخص أصغرهما جون فيلبس فقام على نشر كتاب احتوى على غير قليل من الاستهانة والمجون. ثم نشر كتاباً آخر جعل عنوانه: (سخرية من المنافقين) وهاجم فيه البيوريتانية هجوماً عنيفاً، وأما أكبر الأخوين فكان لا يزال يغلب عليه التحفظ والتحرج وإن شايع الاتجاه الجديد كما تجلى في كتابه: (أسرار الحب والفصاحة).
وفي أوائل شهر سبتمبر سنة 1658 قضى كرمول نحبه، وذهب بذهابه الرجل الذي طالما عقد ملتن عليه الرجاء؛ وحزن الشاعر للنبأ العظيم وازدادت من المستقبل مخاوفه، وإن كانت حماسته لكرمول قد مسها الفتور قبل مماته بسبب سياسته الدينية
ولسنا نعرف على وجه اليقين هل كانت ثمة صلة شخصية بين الرجلين؟ ولقد ذهب فريق من المؤرخين إلى أن مثل هذه الصلة كانت قائمة بينهما، ولكن لا يسوقون حادثة واحدة تؤيد زعمهم هذا وقصاراهم الاستنتاج والظن، فقد كان كرمول يحب النابهين ويحسن جزاءهم ويقربهم إليه فما يفوته أن يصطفي رجلاً مثل ملتن وضعته الحكومة في مثل ذلك المنصب الخطير، وما ينسى له نضاله عن الجمهورية وبلاءه في رد كيد الكائدين، ويحاول هؤلاء أن يجدوا في مقطوعته التي امتدح بها كرمول دليلاً على صلة شخصية بينهما. .
ولكن فريقاً آخر من رجال الأدب ينكر هذه الصلة، ويقولون إن رضاء كرمول عن ملتن لا يستلزم أن تكون له به معرفة شخصية، وما دامت تعوزنا الحوادث المعينة التي تثبت ذلك(695/33)
فلا قيمة للظن والاستنتاج والاعتماد على قرائن واهية، فما كل من ينظم مقطوعة أو قصيدة لملك أو حاكم يكون ذا صلة بذلك الملك أو ذلك الحاكم، وأنا أميل إلى هذا الرأي وأزيد عليه أن ملتن رجل ذو كبرياء، وقد عرف عنه أنه كان قليل الصلة برجال الحكومة أنفة منه وتعففاً أن يقال به حاجة إلى أحد، كما أنه كان شديد الاعتداد بنفسه والحرص على كرامته، فلم يك لذلك حديث مجالس ولا كان ممن يحسنون فن التقرب والتودد الذي هو في حقيقة الأمر ضرب من الملق وإن تعارف أهله على تسميته بالكياسة أو اللباقة، ولذلك لم يتقرب ملتن ولم يتودد وأن كان في دفاعه عن الحكومة بكتبه شديد التحمس فياض الثناء؛ ولم يك تحمسه وثناؤه إلا شعوراً وطنياً من ناحية وأمراً يقتضيه الدفاع والمغالبة من ناحية أخرى. وكان ملتن شاعراً ولم يك للشعراء عند رجال الحكومة من البيورتانز ما ينبغي أن يكون لهم من رفيع المنزلة إن لم يضعهم الشعر في موضع الكراهية لهم والاستخفاف بأمرهم، هذا إلى أنه كانت للرجل آراء في الطلاق وفي الدين عده الناس فيها مسرفاً أو به جنُّة، وكان يحس ملتن كثيراً من الفتور والبرود عند من تضطره الظروف إلى لقائهم من كبار رجال الدولة، وهو رجل في أنفه ورم وفي نفسه أشد من الكبر على كل ذي كبر، ولذلك تجافى هؤلاء الكبراء، ومن كان هذا شانه معهم كانوا خليقين أن يصرفوا بحيلهم نظر كرمول عنه إن أتجه إليه أن لم يعملوا على الكيد له والوقيعة له، أما هو فلم يسع من جانبه إلى التقرب أو تودد؛ قال ملتن يرد على رجل التمس وساطة في أمر (يؤسفني أنني غير قادر على أن أفعل ذلك، فإن معرفتي ضئيلة بأولئك الذين في أيديهم القوة تناسب في ضآلتها حرصي على أن ألزم بيتي في الأكثر، وأني لأوثر أن ألزمه).
وظل ملتن بعد موت كرمول في منصبه يعينه فيه مساعد، ولكنه كما قلنا كان فيما يشبه العزلة فقلما شغله من ناحية منصبه عمل وإنه ليطيب بذلك نفساً لأنه يستطيع أن ينصرف اليوم إلى بغية شبابه ويعكف على تحقيق ذلك الحلم الذي أنشغل عنه دهراً طويلاً. . .
ومن عجيب أمره أن همه يومئذ لم يك منصرفاً إلى الشعر وحده على شدة ولوعه به وتحرقه إليه؛ بل لقد كتب باللاتينية رسالة طويلة في العقائد المسيحية ضمنها آراءه في الله وفي غرضه من خلق الناس وفي أصل الوجود وفي الحياة والموت وفي خطيئة آدم وخروجه من الجنة، وفي علاقة المرأة بالرجل ومنزلتها في المجتمع وفي السياسة والدولة(695/34)
والحرية. وفي مسائل القضاء والقدر وما يتصل بها. .
ولكن كتابه هذا لم يعثر عليه إلا سنة 1823 أي بعد قرابة قرن ونصف من وفاته، وقد عثر عليه مصادفة ضمن إضبارة من الورق كانت تحتوي كذلك على صور مراسلاته اللاتينية الرسمية التي كتبها وهو في منصبه؛ وليس يعرف على وجه اليقين متى بدأ كتابة هذه الرسالة، وأكبر ظن المؤرخين أنه كتبها ما بين سنتي 1655 - 1660، وكذلك لم يعرف غرضه من كتابتها؛ ويرى النقاد من تقسيمها وتبويبها أنه يقصد بها أن تكون رسالة يدرسها الناشئون. ويقرؤها غيرهم من المثقفين ويرى آخرون أنه ضمنها خلاصة فلسفته لتكون مرشداً وهادياً لمن يقرأ قصيدته الكبرى فأكثر آرائه في القصيدة يتمشى مع ما ذكر في رسالته اللاتينية، وكلا العملين الفني منهما وغير الفني يلقي من الضوء على الآخر وما يكشف عن دقائقه ويوضح كثيراً من أسراره، ولعل هذا هو غرضه الحقيقي من كتابة هذه الرسالة، ولذلك نميل إلى أن نرجئ الكلام عنها حتى يأتي ذلك عند دراسة فلسفته في قصيدته الكبرى، ونكتفي الآن بأن نذكر أن ملتن اعتمد على الكتاب المقدس فيما أورد من آراء كما ذكر ذلك، ولكنه لم يتقيد بأقوال المؤولين والمفسرين قبله، بل اعتمد على تأويله هو تفسيره. فأتى بكثير من الآراء التي لا يتفق معه أحد فيها؛ ويعنينا ذكر هذا لأنه يدل على ناحية من نواحي شخصيته وهي حرية فكره ورغبته في التخلص من كل قيد، ولقد تجلت هذه النزعة فيه من قبل أيام كان يجادل القساوسة وأيام كان يدافع عن الطلاق. .
وما كان يظن أحد ممن حوله أنه سوف ينصرف عما أقبل عليه من شعر ومن دراسة؛ ولكنه ما لبث أن أنصرف عنهما سنة 1659 وعاد إلى كتيباته! ففي أوائل تلك السنة قدم للبرلمان رسالة عنوانها: (حول السلطة المدنية في الأمور الدينية لبيان أنه ليس من المشروع لأية قوة على الأرض أن تتبع الإكراه في مسائل الدين)؛ وأخذ يدافع عن الحرية الدينية ويعلن أشد سخطه على الاضطهاد الديني وإكراه الناس على غير ما يعتقدون، ولم يقتصر سخطه على غير البروتستنت، بل شمل البروتستنت كذلك، لأنه يمقت الاضطهاد والقهر أياً كان مصدره؛ ومعنى ذلك أنه يجب أن يقبل أن تتاح الحرية للكاثوليك، وإلا فكيف يحل لنفسه ما يحرم على غيره ويدعي مع ذلك أنه طالب حرية؟ ولكنه يناقض نفسه في هذا الأمر فيحاول أن يفلت من التناقض فيأتي برأي عجيب عن الكاثوليكية، فهي ليست(695/35)
ديناً، ولكنها بقية باقية من حكومة روما، وعلى ذلك فلا تسامح معها في انجلترة خوفاً على سلامة الدولة، فما يضطهد الكاثوليك لمذهبهم، وما عوقبوا من قبل لإلحاد أو زبغ ولكن لخيانة؛ ومهما يقل ملتن فلن يستطيع أن ينفي عن نفسه ما يكرهه من غيره من اضطهاد وإكراه؛ وألح ملتن في هذه الرسالة في مطالبة البرلمان بما طالب به كرمول من قبل، وهو ألا تكون هناك كنيسة للدولة.
ونشر في أغسطس من السنة نفسها كتيباً عنوانه (نظرات في أمثل الطرق لطرد المأجورين من الكنيسة). وعنده أن أمثل هذه الطرق أن تتخلص الدولة من هؤلاء القساوسة جملة؛ فإطعام هؤلاء يمكن أن يوكل إلى من يقومون على رعايتهم وهديهم؛ وفي استطاعة القساوسة أن يجدوا لأنفسهم عملاً آخر وذلك خير لهم؛ وفي رأيه أنه ليس ثمة ضرورة لهؤلاء القساوسة، وأن المال الذي يعطي للكنيسة يمكن إنفاقه في أوجه كثيرة هي خير مما ينفق فيه، كأن تبني مدارس وتنشأ مكتبات تلحق بهاتيك المدارس، حيث يتعلم الناس اللغات والفنون بغير أجر تعليماً شعبياً لا يعوقهم عن مزاولة أي عمل يكسبون منه أقواتهم فتستنير بصائرهم ويرتفع مستواهم الثقافي فتنتشر المدينة في أنحاء الدولة.
وينبغي ألا يذهب رجال الدين إلى الجامعات، فما يتركون فيها إلا أسوأ الآثار، فهم كطلاب يكونون في الأكثر ضيقي الأفق أغبياء وليسوا أحسن حالاً وهم رجال، وخلاصة القول أنه يجب أن تتخلص المسيحية من هؤلاء المأجورين لتتحقق لها السعادة، فإن إفساد الدين على يد السلطة الزمنية يكون بإحدى وسيلتين القوة أو المال، وإفساده بالمال أشد من إفساده بالقوة، لأن القوة ممثلة في الاضطهاد قد تؤدي إلى ازدياد الاستمساك بالدين، ومن ثم تمتد جذوره وتسمق فروعه؛ أما المال فبه تشتري الضمائر وبه تستأجر الضعاف والجهلاء من المرشدين والقائمين على أمر الدين، ومن هنا يكون التدهور والفساد الحق
ولم يعد ملتن بطائل من وراء هاتين الصيحتين، فقد كان البرلمان في شغل بما هو أخطر من المسائل الدينية، فقد أخذت تصطرع الأهواء في عهد ريتشارد حامي الجمهورية الثاني، وتزايدت الدعوة إلى إعادة الملكية، وقل أنصار الجمهورية في البرلمان، وعاد إلى البرسبتيرينز شيء من قوتهم فرغبوا في الثأر من المستقلين وتفرق الناس على هذه الصورة شيعاً وأحزاباً، فلا غلبة إلا لمن يثبت أنه أقوى جنداً أو أكثر نفراً(695/36)
وكان يدرك ملتن أنه كمن يصرخ في واد قفر من أهله فلا سميع ولا مجيب ولا صدى لصوته؛ ولكنه على الرغم من ذلك - كما يقول - مطمئن إلى أنه يفعل ما يجب عليه فعله وأن يفعله في وقته لا يبتغي إلا الخير لدينه ولوطنه
إن المرء ليمتلكه العجب من إصراره على هذا النحو ودأبه على محاربة رجال الدين، لا يدع فرصة ولا يدركه سأم؛ فها هو ذا يرسل عليهم سهامه في عهد ريتشارد مؤملاً أن يجد عنده من القبول ما لم يجده عند أبيه، ويميل بعض من كتبوا حياة ملتن إلى رد هذه الصرامة إلى حنقه عليهم وعلى الأخص البرسبتيرنز لما نال من أذى على أيديهم ولأنهم أعلنوا طرده من الكنيسة، ويرى غير هؤلاء أن مرد قسوته عليهم إلى عقيدة في نفسه لا يتحول عنها وهي أن تسلط رجال الدين مهما يكن مذهبهم على شؤون الدولة هو سبب كل طغيان وكل خنق للحرية، ولما كان يكره الاستبداد من أعماق قلبه بقدر ما يحب الحرية فقد انصبت كراهيته على هؤلاء الذين يرى فيهم رمز العناد الغبي، والتسلط الأحمق، وزاده إيذاؤهم إياه يقيناً بأنهم أصل كل شر، وسبب كل رجعية لأنهم خاصموه من أجل مبادئه في الزواج والطلاق، وهو لم يرد بهذه المبادئ إلا الخير للإنسانية جميعاً، وما ساوره شك في أن ما دعا إليه إنما هو الحق.
(يتبع)
الخفيف(695/37)
حول بيت لأبي نواس. . .!
للأستاذ عباس حسان خضر
مات أبن الحجاج وأخوه في يوم واحد، وكان اسم كل منهما محمداً، فقال: (يا الله! محمد ومحمد في يوم!) فكرر محمداً، ولو قال: (محمدان في يوم) لما أدى المعنى الذي أداه التكرار، فأحد المحمدين أبنه والآخر أخوه، وهو بالتكرار يفصل الفاجعة فيهما، وما تقوم التثنية بنقل هذا الشعور إلى السامع، أو قل ما شئت في التعليل، ولا أشك في أننا متفقون على حسن التكرار هنا، وأن التثنية لا تغني شيئاً.
وقال أبو نؤاس:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديدُ ودارسُ
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنىّ ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر من هم غير ما شهدتْ به ... بشرقيّ ساباط الديار البسابس
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس
أفترى التكرار في البيت الأخير حسناً كذاك، أم تراه معيباً لا غناء فيه؟
وقع نظري في كتاب (البلاغة الواضحة) لمؤلفيه الأستاذين علي الجارم بك ومصطفى أمين بك على هذا البيت (أقمنا بها. الخ) مسبوقاً بهذه العبارة: (بيّن ما تراه في الأبيات الآتية من العيوب البلاغية) ومتلوَّا بأبيات أخرى. تأملت هذا البيت المتهم بالعيوب البلاغية وهو ماثل في قفص التمرينات المطلوب حلها. . فلم أر به ما يريب، ثم رجعت إلى نفسي وكدت أتهم عقلي بالقصور، وتخيلت أني طالب ألقي إليه بهذا لسؤال في الامتحان، فهالني الصفر الأحمر يسقط عليّ من قلم الممتحن المهيب. . ثم لمحت رقماً بين قوسين على آخر البيت، فتبعته إلى الهامش حيث وجدت به: (يريد انهم أقاموا ثمانية أيام، عد منها ثلاثة في الشطر الأول، ثم أضاف إليها خمسة في الشطر الثاني، لأنه يقول إننا أقمنا بعد ثلاثة الأيام الأولى يوماً له يوم الرحيل خامس أي خمسة أيام أخرى) فذهب عني الفزع وقلت: وهذه مسألة أخرى أرى الخطأ فيها ظاهراً، مما يطمعني في تبرئة البيت مما يراد لصقه به من العيوب البلاغية.(695/38)
ويلحق بهذا الكتاب القيم - رغم ما نحن بصدده - كتاب أسمه (دليل البلاغة الواضحة) لنفس المؤلفين، يشتمل على حل التمرينات التي تضمنها كتاب (البلاغة الواضحة). فلا بد أن يكون به بيان (العيوب البلاغية) الموجهة إلى بيت أبي نؤاس، وهناك رأيت (في هذا البيت تكرار غير مفيد، فإن أبا نؤاس يريد أن يقول إننا أقمنا بها ثلاثة أيام، فكرر كلمة (يوماً) تكراراً معيباً لا غرض فيه، ولا قصد منه، والتكرار إذا لم يورث اللفظ حلاوة، ولم يكسب المعنى طلاوة كان ضرباً من السخف والعيّ، والعجب لأبي نؤاس يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش مع أبيات عجيبة الحسن تتقدم هذا البيت).
ووجدت بالهامش تعليقاً على ثمانية الأيام ما يلي: (في المثل السائر أن أبا نؤاس يريد أن يقول إنهم أقاموا بها أربعة أيام).
وفي كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) قال مؤلفه الشيخ ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن محمد أبن عبد الكريم الموصلي الشافعي في باب التكرير: (وعلى هذا الأسلوب (يشير إلى ما سماه التكرير في اللفظ والمعنى غير المفيد) ورد في قول أبي نؤاس:
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس
ومراده من ذلك انهم أقاموا بها أربعة أيام، ويا عجباً له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز وهي: ودار ندامى عطلوا وأدلجوا. . .).
ولقد وددت لو وافق صاحبا (البلاغة الواضحة) مؤلف (المثل السائر) في عدد أيام الإقامة بدار الندامى، وخالفاه في تهجين البيت، ورميه بالسخف والعي. . ولكنهما عكسا، فعارضاه في الأولى، وأخذا بالثانية، وإن كان أدق منهما في عجبه من وقوع هذا البيت في ضمن أبيات عجيبة الحسن وعجبهما من وقوعه بعد أبيات عجيبة الحسن، لأن الأبيات التالية له لا تقل حسناً إن لم تزد عن التي تتقدمه، وها هي ذي:
تدور علينا الكأس في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريه بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانس(695/39)
قال الجاحظ: نظرنا في شعر القدماء والمحدثين، فوجدنا المعاني نقلت، ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة: (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نؤاس: (قرارتها كسرى. . الخ).
وأرجع إلى جادة البحث فأقول: إنني أخالف مؤلف المثل السائر وصاحبي البلاغة الواضحة في الزراية على بيت أبي نؤاس ورميه بالتكرار المعيب، وأخالف الأخيرين في أن أبا نؤاس وصحبه أقاموا بدار الندامى ثمانية أيام؛ وأقدم الكلام على المسألة الثانية لأفرغ للأولى.
الشطر الأول: (أقمنا بها يوماً ويوماً ثالثاً) يدل على ثلاثة أيام قطعاً، أما الشطر الثاني (ويوماً له يوم الترحل خامس) فيقول صاحبا البلاغة الواضحة إنه يدل على خمسة أيام أخرى، وإني لأعجب كيف يقولان ذلك وهما معدودان في الصف الأول من رجال اللغة العربية في هذا العصر، وهل يستقيم في العربية أن تقول - على رسم ذلك -: أقمت يوماً في الإسكندرية له يوم السفر خامس؟! إنهما يعلمان أن صيغة (فاعل) من العدد لا تكون في مثل هذا الاستعمال إلا مصيره ما تحتها بدرجة واحدة مساوياً للعدد الذي اشتقت منه، أو دالة على بعض العدد الذي اشتقت منه، فيقال خامس أربعة وخامس خمسة، ولا يقال خامس واحد أو اثنين أو ثلاثة. وعلى أن هذا لا يدل قوله (ويوماً له يوم الترحل خامس) إلا على أن هذا اليوم هو الرابع ويوم الرحيل خامسه؛ فالبيت يدل على أنهم أقاموا أربعة أيام وسافروا في اليوم الخامس.
أما الحملة العنيفة التي حملها الشيخ ضياء الدين على التكرار الوارد في بيت أبي نؤاس وتابعه فيها صاحبا البلاغة الواضحة، إذ عّدوه تكراراً معيباً سخيفاً، وعجبوا من الإتيان به في ضمن أبيات عجيبة الحسن - فإني أرد هذه الحملة عن البيت، وأريح العاجبين من عجبهم الذي لا محل له، لأن البيت نفسه عجيب كالحسن كأخوته، وما كان لأبي نؤاس - وهو أبو نؤاس وقد واتاه الإبداع في سائر الأبيات - أن يسف هذا الإسفاف بحيث يكون كل ما يريد أن يؤديه بهذا البيت أنهم أقاموا بالدار أربعة أيام أو ثمانية ويرتكب لتأدية هذا المعنى التافه ذلك التكرار الذي لا غرض فيه ولا قصد منه!
إنما يقول أبو نؤاس إن هذه الدار التي غادرها أهلها مخلفين بها آثاراً تدل على ما كان لهم(695/40)
بها من لذات الشراب وطيب العيش عرجنا عليها لنجدد عهد الراحلين عنها، فأقمنا بها يوماً كان العزم أن نرحل بعده، ولكن طابت لنا الإقامة فمكثنا يوماً آخر، وحلا لنا التمادي في التمتع بلذة الشراب بهذا المكان فتلبثنا يوماً ثالثاً، واستمرأنا الإقامة على هذه الحال فتراخينا يوماً رابعاً، وفي اليوم الخامس اضطررنا إلى الرحيل.
فهل كان يمكن أن يؤدي هذا الشعور بغير ذلك التكرير! وأن العائبين عليه ليريدون أن يقيموا من البيت جداراً مسموكاً لا تنفذ منه أشعة ذلك الإحساس المعهود في الحالات التي تستطيبها النفس وتتمنى دوامها. وأي تكرار يورث اللفظ حلاوة، ويكسب المعنى طلاوة إن لم يكن هو هذا التكرار. .؟
ولقد أتى أبو نؤاس بنوع آخر من التكرار إذ قال في وصف صاحبته جنان:
والحسن في كل عضو ... منها معاد مردَّد
فليس هذا التكرار في اللفظ ولا في المعنى، بل المكرر الجمال يرى معاداً مردداً في كل عضو من أعضائها، وهذا التكرار ليس كمثله إلا (تكرير) السكر. . .
ويجرنا حديث التكرار إلى بعض المفارقات العجيبة في هذا الباب، فبينما تجد نسقاً منه لم يدفع إليه إلا العي والحمق، إذا أنت ترى ما يشبه هذا النسق مقبولاً مستساغاً قال الجاحظ في باب العي من (البيان والتبيين):
(وتزعم بنو تميم أن صبرة بن تيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حتات جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء جارية جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجئ!)
وأنت تعرف التكرير الذي أحلولي به أسلوب الدكتور طه حسين بك، والعجيب أن نحواً منه يشبه الكلام المعزو إلى صبرة بن تيمان. وهناك أمثلة من مقال له عن كتاب (نابليون) تأليف إميل لودفيج في مجلة الكاتب المصري الصادرة في أول أكتوبر الحالي:
(ولست من المعجبين بإميل لودفيج وفنه إعجاباً شديداً. ومصدر هذا في أكبر الظن أني لم أقراه في نصه الألماني، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أن بين خياله الألماني البعيد وتفكيره الألماني الملتوي وبين خيالي القاصر وعقل العربي الذي يواجه الأشياء أكثر مما يدور حولها، أمداً بعيداً، ومصدر هذا في أكبر الظن كذلك أني حاولت أول ما حاولت أن أعرف لودفيج عن طريق كتابه عن حياة المسيح، ومن طريق كتابه عن حياة جوت، فلم(695/41)
أستطيع أن أمضي في الكتابين إلا قليلاً، ومصدر هذا آخر الأمر أني لقيت لودفيج في القاهرة حين زار مصر مهنئاً لإنشاء كتابه عن النيل، فلم أحمد لقاءه ولم يحمد لقائي)، وفي نفس المقال: (يظهرنا لودفيج على هذا كله وعلى أكثر جداً من هذا كله، في هذا الكتاب الذي لم يخلص للتاريخ ولم يخلص للقصص، وإنما كان مزاجاً منهما).
على أن بعض الناس لا يرتضون هذا التكرار الذي تشتمل عليه كتابة الدكتور طه حسين بك، وغيرهم يعجبون به، ويعدونه حلواً طلياً.
عباس حسان خضر(695/42)
لا أدري. . .
للأستاذ حسين الغنام
أسائل شاطئ البحر
وأسأل نجمة الفجر:
إلى مَ يلجُّ في الهجر
ويُمعن ساحري نأيا؟
وضاق بنأيه صبري
فمالت، وهي لا تدري
وعدت أسائلُ البحرا
ورحتُ أخاطبُ البدرا
هناك، بمهجةٍ، حَرّي:
ألم تَرَيا هنا ظبيا
أغنَّ وفتنةً كبرى؟
فقالا: نحن لا ندري
وقال البحر في إرغاءْ
لكم مرّتْ عليَّ ظباءْ
وقال البدرُ في ُخيَلاءْ:
وإني لستُ معنيا
فكم مرت هنا حسناءْ
فمن فيهن؟ لا أدري
وقال البدرُ في عتْبي
إليكَ عرائسَ الحبَّ
فِشمْ فيهن من ُتصبي
هواك، أمهد اللقيا
يظلي الوارِف الرحبِ(695/43)
تكلمْ! قلت: لا أدري
فظَبي، إنه حسبي
لقد أسكنتهُ قلبي
وكم من ريقه العذب
نهلت، ولم أجد رِيَّا
سواه لقلبي الصَّبّ
فأين؟ فقال لا أدري!
وسرت أسائل الليلاَ
ومرَّ الليلُ وانسلاَّ
فعد أسائل الطَّلاّ
وظلْتُ أُسائل الدنيا
لأيةِ بقعةٍ ولي
غزالي الحلوُ، لا أدري!
(المندرة - الرمل)
حسين الغنام(695/44)
البريد الأدبي
حرية الكتابة:
اطلعت على مجلة (الرسالة) عدد 692 فقرأت فيها موضوعاً عنوانه (مقالات في كلمات: للأستاذ علي الطنطاوي) لفت نظري فيه فقرة حول (حرية الكتابة) تعرض فيها إلى موضوع نشر في مجلة (الثقافة) الغراء التي تصدر في دير الزور عن (الموازنة بين الأدب والأدب الفرنسي)، وقد أسعدني الحظ أني أنا أيضاً اطلعت على الموضوع نفسه في المجلة نفسها، فإذا هو لا يخرج عن كونه مقارنة تحليلية طيبة بين الأدبين، حاول فيها الكاتب أن يكون باحثاً موضوعياً جهد المستطاع. فاستغربت جد الاستغراب أن يتجاوز السيد علي الطنطاوي حدود النقد النزيه القائم على المناقشة العلمية الهادئة التي لا علاقة لها بالعاطفة والمزاج الشخصي.
يذكر الناقد فكرة (السكون والحركة) التي وردت في المقال، ويعلق عليها بأنه لم يفهم منها شيئاً. ولو رجع - حفظه الله - إلى فلسفة اليونان لوجد أن فكرة السكون والحركة قد لعبت دوراً كبيراً من المدرسة (الأيلية) إلى المدرسة (هرقليط) على أن فكرة السكون ليست مأخذاً على الأدب العربي، فالطمأنينة النفسية هي غاية ما يتوخاه المؤمن المتعبد، بدليل الآية الكريمة (يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك. .).
أما حملته على (حرية الكتابة) فنحن نرفضها جملة وتفصيلاً فإنما تحت ظلالها الوارف أينعت المدينة الإسلامية، كما أينعت المدنيات القديمة والحديثة من العهد اليوناني إلى العصر الحديث. وإذا كنا نفخر بشيء فإنما نفخر بحرية الكلام وحرية الفكر وحرية الكتابة التي شع نورها في بغداد والقاهرة ودمشق، والتي أثمرت تلك العلوم والفنون التي لا نزال نتغنى بها فيما نتغنى بأمجاد الماضي والتهمة التي ألصقت بنا في حرق مكتبة الإسكندرية قد نجمت عن ضيق بعض العقول التي كانت تتصور في وهمها بأن العرب أعداء الفكر والعلم والأدب الأجنبي. فلم تنشأ البذرة الأولى للعلوم في العهد العباسي إلا بعد أن أدرك العرب أن عند غيرهم من الأمم علوماً وفلسفة يجب أن يطلعوا عليها وأن يتأثروا بها.
(لا إكراه في الدين)، هذا هو المذهب العربي الصميم. فليس من الضروري أن توافق الآراء بعضها بعضاً، ولا أود أن أبدي رأيي الشخصي في الموضوع، ما دام الناقد(695/45)
الطنطاوي لم راع في نقده مبادئ النقد الأولية. فله رأيه إذا كان مخالفاً لصاحب المقال، شريطة مع ذلك أن يكون جارياً على أصول المنطق والذوق والتهذيب، وعدم مزج المهاترة والألفاظ النابية في البحث العلمي، وإني مثلاً لا أفهم ما هو مكان النزعة السياسية في النقد الأدبي!. .
ويدخل في هذا الباب أيضاً مزج الأخلاق بالأدب، فليس غرض الكاتب صاحب المقال في (الثقافة) أن يدعو إلى الإباحية. . . وقد عرفناه في جميع ما يكتب بعيداً عنها بعد الأرض عن السماء. فهو لا يبتغي كما يوحي مقاله إلا بيان خصائص الأدبين العربي والفرنسي، على حسب ما وصل إليه جهده ونزاهته، فإن لم يصب المرمى على رأى الناقد، فحسبه أن أجتهد (وللمجتهد أجره وإن أخطأ).
أما قولك يا سيد على بأن الكاتب لا أخوات له ولا بنات، فلا ينطبق على الحقيقة، ولا دخل له في موضوع النقد الأدبي. أما إذا كان في النية بيان تأثير الأدب في الأخلاق، وما ينجم عن ذلك من فضائل ورذائل، فلذلك طريقة خاصة في البحث غير الطريقة التي سلكتها. . .
وأختم كلمتي بالرجاء إلى السيد علي الطنطاوي أن يتقبل ملاحظاتي المتواضعة بصدر رحب، كما أني أرجو جميع الناقدين أن يلتزموا حدود البحث العلمي، والحيادية، والتجرد عن النزعات الشخصية، وعن الطعن البعيد عن الروح الموضوعية، كي تثمر مناقشاتنا الثمرات المؤملة، والسلام.
(حلب)
الدكتور محمد يحيى الهاشمي
من أساليب النقد عندنا:
إن القارئ المنصف ليأخذه العجب حين يطالع تلك الفصول التي يكتبها النقاد المحدثون؛ فأكثرها يمليه الهوى، ولا يصدر من رأى خالص لوجه الحق، ولا سيما ما يكتب مقدمات لكتب المؤلفين، ودواوين الشعراء، ولكن العجب الذي لا يكاد ينتهي ما يلاحقك حين تقرأ لناقد واحد لكتاب واحد في أسبوع واحد كتابين متناقضين.(695/46)
كتاب (نفحات من سيرة السيدة زينب) وضعه الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي ونقده الأستاذ كامل السيد شاهين في مجلة (الرسالة) بتاريخ 12 من ذي القعدة سنة 1365، وفي مجلة الإسلام بتاريخ 16 من الشهر نفسه فبين الكلمتين أربعة أيام فقط، ولكن هذه المدة القصيرة غيرت رأي الناقد. ولو كانت إحدى المجلتين تصدر في أمريكا أو في الصين، ولو كان بين النقدين زمن طويل لالتمسنا للناقد عذراً، ولا يمكن أن يحمل كلامه في (الرسالة) إلا على أنه مجاملة لزميله وصديقه، ولكن كان يجب أن يفهم أن (الرسالة) ومثيلاتها من المجلات التي تكتب للخاصة ليست موضعاً للمجاملات.
ولنسق جملة من كلتا الكلمتين ليعرف القارئ إلى أي مدى تكون المجاملة. وفي مقال الرسالة ص1122 (والكتاب بعد ذلك عرض تاريخي أنيق لحياة هذه السيدة الكريمة. فللوعاظ والمرشدين والمؤرخين المعنيين بتحقيق الشخصيات الإسلامية البارزة لهؤلاء جميعاً وضع هذا الكتاب جامعاً بين دقة البحث وطلاوة الأدب. . الخ). فالكتاب إذن للمؤرخين الذين يعنيهم التحقيق والتدقيق وصاحبه قد بذل فيه جهداً جباراً حتى جاء دقيق البحث، فما له يصبح في مجلة الإسلام عارياً عن التحقيق جامعاً بين الغث والثمين والطم والرم، حتى في أخص ما يجب فيه التحقيق وهو تأويل آيات الله الكريمة قال الناقد ص 18 (نحا المؤلف في تأويل الآيات القرآنية منحى شيئاً، وذلك يذكرنا بشر ما يقع فيه إنسان أن يكون كتاب الله الكريم خاضعاً في تأويله لمجارى الأهواء، وقد انساق كثير من المفسرين في هذا التيار عن غفلة وثقة بمن يأخذون عنهم، وما كنا نحب من المؤلف أن يأخذ مما قاله الرواة والمفسرون بدون تحقيق ولا تمحيص). وإذا كان في هذه الفقرات يعيب على صاحبه عدم التحقيق في تفسير الآيات القرآنية، فهو في موضع آخر يعيب عليه عدم التحقيق في الروايات التاريخية وهي ما قام الكتاب عليها، فلا مندوحة لمن يقرأ كلماته أن يعتقد أن المؤلف لم يحقق ولم يدقق في أصول كتابه أو فروعه. قال الناقد في مجلة الإسلام ص18 أيضاً (وآخر ما أذكر به المؤلف أن يراجع ما كتب، ولا يأخذ من أفواه المؤرخين والمفسرين أخذاً لينظر فيما قيل ويعرضه على شك عقله، وحقيقة دينه، فأما أن يجمع بين الغث والسمين فذلك غير ما نأمل فيه)، وقد تلفت القارئ هذه الكلمة من الناقد (وحقيقة دينه) ولا عجب فإن الناقد يرى المؤلف بعيداً عن روح الإسلام في بعض ما(695/47)
كتب، قال بع أن ذكر تأويل المؤلف لآيتين من كتاب الله، وذكر هو تفسيرهما: (هذه هي روح الإسلام الصحيح ولا ينبغي أن يبتعد عنها رجل يبتغي بعلمه وجه الله ورسوله، فإن كنت يا سيدي تؤمن بأن الله اصطفى طائفة من نور، وجعل طائفة من نجس فذلك عن روح الإسلام بمعزل).
والناقد يشير بقوله: (ولا ينبغي أن يبتعد. . الخ) أن المؤلف قصد بما ساقه عن آل البيت تملق العامة وابتغاء ما عندهم ثم ترى أن الأستاذ شاهين يذكر لصاحبه في مجلة (الرسالة) أنه تناول التربية الشعبية (بروح جديدة هي روح عالم النفس الحاذق)، ولكنه في مجلة الإسلام يقول: (ولا أنسى أن ألوم الحسين، فأن هذا الكتاب للعامة ولا يصح أن تساق هذه الأشياء وأمثالها فيتخذها العامة ذريعة لاستحلال ما حرم الله. والحرام حرام مهما كانت مكانة فاعله ومنزلته).
(وبعد) فإن القارئ يتبين بما نقلته مدى التناقض بين كلامي الناقد، وإنه بصنيعه هذا في المجلتين، وما ساقه امتداحاً لصاحبه ثم ما عقب به من هذا النقد الذي يهدم كل ما بناه ليذكرنا بما قاله المرحوم شوقي بك على لسان أحد أبطال روايته مجنون ليلى يخاطب منازلاً غريم قيس في حب ليلى:
منازِ بابن العم ما هذا الخبر ... رفعت قيساً فجعلته القمر
والآن أغربت بقتله الزمر ... كفعل جزار اليهود بالبقر
برأها من العيوب وعقر
أما رأيي فخلاصته أن المؤلف - على ما نعهد فيه من علم وفضل - كان في هذا الكتاب خاطب ليل، وأنه استهدف لنقد عنيف محق وأمكن الرامي من صفاء الثغرة كما يقول العرب في أمثالهم.
علي العماري
إلى الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي:
ذكرتم في النقلة 697 قصة عن محمد بن الحسين اللخمي وتلميذه، وفي ختامها هذه الأبيات:(695/48)
رب ما أقبح عندي عاشقاٌ ... مستهاماً يتفقَّا سمنا
قلت من ذاك؟ أنا؟ فاستضحكت ... ثم قالت: من تراه؟ فأنا
قلت زوريني فقالت عجباً ... أنا والله إذن قارئ منى
إذ يصلي وعليه زيتهم ... أنت تهواني وآتيك أنا؟
فمن هو قارئ منى الذي يصلي بالناس وزيتهم عليه؟ وهل هذه القصة حقيقية؟
(البصرة)
محمد حسين إسماعيل
في إرشاد الأريب:
كنت أراجع مقالات الأستاذ إسعاف النشاشيبي في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب فعرض لي في العدد (655) من (الرسالة) الغراء ما أردت إثباته، وبالله العون.
جاء في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ج 9ص8: فكتب إليه المهلبي: وصل كتابك يا أخي. . المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء وفهمته، ووقع من نظم ونثر. . موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، و (الأدب) من ذي الغيبة، وجاء في الشرح: الأدب التأديب.
ورأى العلامة النشاشيبي في تحقيقاته أن المهلبي قال: (والغنم منذي الغيبة) ويعزي إلى أمرئ القيس:
لقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وأظن أن الصواب هو (والأوب من ذي الغيبة) والبيت الذي أورده الأستاذ لامرئ القيس دليل يظاهر ما أوردته في سياق المعنى المراد.
هذا، وفي الختام إلى أستاذنا المحقق تحياتي، والسلام.
(الزيتون)
عدنان أسعد
أبو شاس ليس هو أبا نؤاس:(695/49)
رأى الأستاذ شكري محمود أحمد في (الرسالة) الغراء (688) أن أبا شاس الشاعر هو أبو نؤاس نفسه وإنما صحفه النساخ، وقد أيد رأيه بأبيات منسوبة لأبي شاس وهي موجودة في ديوان أبي نؤاس.
وإني أقول للأستاذ إن لفظة أبو شاس قد وردت لعلمين من أعلام الأدب العربي كما في معجم الشعراء للمرزباني وهما أبو شاس التميمي وأبو شاس الطبري.
فأما التصحيف الذي ذكره الأستاذ فلا يمكن أن يقع على مثل هذه الكلمات لبعد الشبه بينها.
وأما الأبيات التي استشهد بها فيمكن أن تكون لأبي نؤاس وإنما وجدت منسوخة عند أبي شاس من غير أن تعزى إلى أحد فظنها من وجدها عنده أنها له فأذاعها بين الناس باسمه فنسبت له.
كما أن أبا نؤاس لم ينفرد بهذه الكنية بل هناك أبو نؤاس آخر هو أبو السرى سهل بن يعقوب المكنى بأبي نؤاس قيل إنما كنى بذلك لأنه كان يظهر التطيب والتخالع مع الناس فسمي أبو نؤاس لتخالعه وقد كان محدثاً فقيهاً.
(كر بلاء)
م. ع. ك
رجاء:
لاحظت أن كثيراً من الأدباء ينشرون المقالة في (الرسالة) ثم بعد ذلك ينشرونها في الثقافة، ومن هؤلاء العلامة الدكتور محمد البهي في مقالة (الدين الصناعي)، والأستاذ الشاعر محمد رجب البيومي في قصيدة (مقبرة ريفية) والأديب الفاضل أحمد عبد المجيد الغزالي في مقاله (الصراصير). . . ومن المعلوم أن قراء (الرسالة) في الغالب - هم قراء الثقافة فما الداعي إلى ذلك؟ مع أننا معشر القراء - نريد الطريف الجديد لا المكرر المعاد!!. . .
سعاد كامل(695/50)
رسالة النقد
القافلة الضالة. . .
تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي
(منشورات دار الجامعة)
للأستاذ شاكر خصباك
للأستاذ محمود كامل المحامي باع طويل في القصة القصيرة، فقد أخرج منذ أن اقتحم هذا الميدان حتى الآن ما يقارب الخمسة عشر مؤلفاً، ضمت بين دفتيها عشرات الأقاصيص والقصص. هذا عدا الروايات الطويلة والقصص المسرحية التي احتوتها ثمانية مؤلفات. فكتابه (القافلة الضالة) إذن ليس ألو محاولة قصصية يقوم بها، وفي هذه الحالة يترتب علينا عدم الإغضاء عن أي ضعف في أسلوب أقاصيصه الحديثة، أو تشويش في حوادثها، أو ركاكة في لغتها. إذ لو وقع في مثل هذه الأغلاط التي تفتقد القصة بعض مميزاتها الفنية قصاص مبتدئ لتسامحنا معه بعض المسامحة. أما والأستاذ محمود كامل قصاص قديم فسنلجأ إلى التشدد والصرامة في محاسبته على ما اعتور مؤلفه من أغلاط فنية كثيرة.
- 1 -
فلنتصفح الكتاب ولتناول قصصه قصة قصة؛ فقد افتتحه بقصة (موسيقار الطريق)
وملخصها: (أن نادية - وهي مدرسة للموسيقى في إحدى المدارس الثانوية - سافرت في الصيف إلى (عتاقة)، فأحبت هناك موسيقاراً شاباً وأحبها، وتوثقت بينهما عرى الصداقة، وقويت أواصر الود، ولكن ما كادت تمضي على اجتماعاتهما ثلاثة أيام حتى فرت نادية عائدة إلى القاهرة. . لماذا؟! لأنها خشيت أن يتمكن حب هذا الموسيقار في قلبها، في حين انه قد يكون شاباً من هؤلاء الشباب الذين يقضون فترة خاطفة من الوقت على شاطئ البحر ليقتنص أثناءها فتاة من المصادفات يخدعها ويلهب عاطفتها، ثم يفترق عنها ولا يعود يسعى إليها أو يسمع بها كأن أحداً لم ير الآخر!!
غير أن هذا الموسيقار تبعها إلى القاهرة وهو لا يعرف عنوانها غير الشارع الذي تسكن(695/51)
فيه، فلجأ إلى أسلوب غريب (وغريب جداً) في البحث عنها: وهو أن يحمل أكورديونه ويجوب في ذلك الشارع ليلاً متغنياً بقطعة غنائية كان قد غناها لها آخر مرة. واستمر على ذلك بضع ليال دون أن يبالي بصحو الجو أو اكفهراره، حتى أن الماء كان يتساقط من كتفيه في بعض تلك الليالي الماطرة. وأخيراً شاءت له المصادفة أن يعثر عليها فتم بينهما الزواج)
وهكذا تنتهي من القصة!!
وبعد، فهل سمعت من قبل أو من بعد أن محباً حمل آلته الموسيقية وانطلق يجوب بها الشارع الذي تسكن فيه حبيبته، وهو يغني ويعزف كيما يستجلب انتباهها؟! قد تكون سمعت بمثل هذا في أقاصيص العجائز الخيالية البعيدة عن الواقع، أو في أقاصيص بعض القصاصين الكلاسيكيين أمثال شكسبير وبوكاتشيو وسرفانتيس. وأما أن تقرأه في كتاب قصصي لمؤلف مصري معاصر؛ يقول في مقدمة كتابه إن: (أقاصيصه عبارة عن مجموعة صور منتزعة من الحياة الاجتماعية المصرية). فالحق معك إن استغربت من ذلك وأغرقت في استغرابك. إذ أن مثل هذا التصرف الشاذ بالنسبة لعادات وحياة المجتمع المصري بعيد عن الوقوع كل البعد. وبما أننا نعني ب (الصور الاجتماعية) الحوادث التي يتكرر وقوعها حتى تصبح من سمات المجتمع؛ فهذه القصة إذن قد فقدت طابعها الفني - باعتبارها قصة اجتماعية واقعية - ببعدها عن الحقيقة وإغراقها في الخيال، وأقصد ببعدها عن الحقيقة عدم واقعية تكرر حدوثها في المجتمع المصري ذاته، ولا علينا أن يحدث لأحدهم أن يحمل أكورديونه ويعزف عليه ويغني وهو يجوس في ظلمات الليالي في الشارع الذي تسكن فيه حبيبته في بلاد أخرى أو لا يحدث ما دامت القصة مصرية وليست أجنبية!
ويكفي هذا السبب للحكم على هذه القصة بالفشل، لأن تجوال صاحبنا جمال في شارع يلبغا بشبرا وغناءه وعزفه كيما تسمعه حبيبته نادية وتخرج له. حادث رئيس في القصة ترتكز عليه حوادث مهمة ونتائج خطيرة. ومن هنا أطلق المؤلف عليها أسم (موسيقار الطريق). ولما كان هذا الحادث فاشل - لافتقاره إلى الصدق والواقع - فإن ما ارتكز عليه من حوادث ونتائج فاشلة بالطبع، فالقصة فاشلة إذن
- 2 -(695/52)
ونفرغ من القصة الأولى فنتناول القصة الثانية وهي (رسائل حب). وفي ظني أنك لو قرأت يا عزيزي القارئ هذه القصة لما خرجت منها بشيء. وهذا ما حدث لي بالضبط عند قراءتها فاستمع الآن إلى ملخصها علك تجد شيئاً من الصحة فيما ذكرت:
ف (ممدوح صادق طالب في كلية الهندسة: سافر مع أسرته في الصيف إلى الإسكندرية، فالتقى هناك بسنية في أحد الملاهي، وكانت هذه في صغرها تسكن في نفس الشارع الذي تسكن فيه أسرته، لكن والدها التاجر أفلس أخيراً فانتقل إلى حي آخر، ولم ير سنية منذ ذلك اليوم، فلما رآها الآن تملكه شعور قوي جذبه إليها، واضطر إزاء ذلك الشعور أن يتعرف إليها، ثم جلسا حول مائدة يتحدثان عن الماضي والحاضر، فعلم أنها قد أصبحت ممثلة، وعلمت أنه طالب في كلية الهندسة، ومن ثم اتفق معها على أن يبعث لها برسائل غرام عندما تعود إلى القاهرة، وذلك لأن أحد ناشري الكتب أوصاه أن يكتب رسائل غرام حقيقية لينشرها له - وهنا يجدر بي أن أشير إلى أن لممدوح صادق ميلاً إلى القصة، وقد نشر في بعض المجلات أقاصيص قصيرة - ولكنه لم يوف بوعده بعدئذ، بل كتب الرسائل بها لنفسه عملاً بوصية الناشر.
ومضت الأيام سراعاً، وإذا بخطاب يصله من سنية ذات يوم تبلغه فيه أن رسالته الغرامية التي بعث بها إليها مدهشة جداً، وأنها حازت إعجابها، وأنها تأمل أن تراه قريباً. فدهش لأنه لم يبعث لها بأية رسالة، وظل فريسة للقلق والاضطرابات إلى أن عاد إلى القاهرة مع أسرته. فسأل عن سنية وعلم أنها سافرت إلى إحدى قرى الريف لتصوير مناظر فلم جديد.
وقصد ذات يوم إلى حلاق قريب من داره، فبدأ صبي الحلاق يؤدي عمله، وفتح الدرج الذي أمامه ليخرج (المسن) الجلدي، فلمح ممدوح صورة لسنية متقطعة من صحيفة من الصحف ومحاطة بإطار رشيق، وسأل الصبي عن أسمه ولقبه، فإذا هو (ممدوح أسعد). وسأله عن علاقته بسنية فأخبره أنه رآها مرة في حياته فأعجب بها أشد الإعجاب. وقد بحث عن صورتها طويلاً فعثر عليها في إحدى الصحف واقتطعها منها، وأنه يكتب لها كلما شاء أن يفضي إليها بشيء. وأخبره أيضاً أنه يكتب في المجلات بعض القصص والأزجال!
. . ومضت أيام على اجتماعه بذلك الصبي، وإذا ببرقية من بور سعيد تصله من سنية:(695/53)
تطلب منه فيها أن يوافيها إلى محطة القطار. وبعد تردد طويل أجاب طلبها. وما كاد القطار يبلغ المحطة حتى قفزت سنية من العربة وتعلقت به، وانطلقت تطري مقدرته الأدبية، ثم قدمت له مجموعة من الرسائل الأنيقة (الزرقاء) التي كانت موقعة بتوقيع (ممدوح أسعد). ثم سألته عن سر هذا التبدل في أسمه، فأخبرها أن (ممدوح صادق) الاسم الذي يعرف به في المدرسة، و (ممدوح أسعد) أسمه الحقيقي، والذي يعرف به في عالم الأدب
وبعد المقابلة عاد إلى المنزل مهدم الأعصاب، وقد فهم السر. وفتح الدرج الذي اعتاد أن يحفظ به رسائله التي كتبها لسنية، وانطلق يتلوها في خيبة أمل ومرارة، وقبل أن يتم تلاوتها سمع صراخاً وصوت احتشاد أقدام في الشارع. فلما استطلع الخبر علم أن الترام قد قتل الصبي ممدوح أسعد الحلاق. فاستغل هذا الحدث لصالحه ومزق رسائله وألقاها في الموقد، وذهب برسائل ممدوح أسعد إلى مجلة معروفة نشرتها له في أعداد متسلسلة. وبعد بضعة أسابيع قرأ في نفس المجلة خبراً يتعلق بسنية التي كانت قد سافرت مع فرقة تمثيلية إلى مراكش وفاس مفاده أنها تزوجت بأحد تجار الجلود في فاس، وأنها اعتزلت التمثيل. ومنذ ذلك اليوم لم تعد إلى مصر، ولم يسمع عنها ممدوح شيئاً)
(البقية في العدد القادم)
شاكر خصباك(695/54)
العدد 696 - بتاريخ: 04 - 11 - 1946(/)
على الطريق في سورية ولبنان
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
- 2 -
وعدنا من حلب بالطريق الحديدي في مركبة كالمركبة الديزلية تسمى (أوتومتريس) وقد سميتها المستارة. وتذاكر الدرجة الأولى في هذه المركبة تخول لحاملها القعود في المقاعد الأولى من السيارة الحافلة التي تنقل مسافري السكك الحديدية بين حمص ودمشق. وهذه الحافلة تقبل غير ركاب السكة الحديدية، ولكن هؤلاء أولى بها إن لم تتسع لغيرهم، ولما تركنا محطة حمص إلى هذه السيارة ألفينا ركاباً قد شغلوا المقاعد الأمامية، وكان الجو حاراً فبدا لي أن اتركها وأستأجر سيارة خاصة ورجعت إلى المحطة آوياً إلى الظل من وهج الشمس،، وثار جدال بين بعض من رافقونا في المستارة ومن شغلوا المقاعد الأمامية. فسمعت أحد هؤلاء الرفقاء يجادل عن نفسه وعنى أنا بعيد عنه، وما حسبته رآني؛ ولكنه تطوع بالدفاع عن حقي كما دافع عن حقه، ودعيت أنا ورفيقي المصري إلى الركوب وخلى لنا المكان. وجاء أحد من حجزوا المقاعد الأمامية في ضجة يقول: (قد حجزت مكاني ومعي رقمه، والأرقام تتكلم) فأشار إليه أحد الراكبين، وهو مشتد في جدله متحمس في الدفاع عن حقه؛ وما زال الرجل يشير إليه ليقترب منه، فلما دنا قال له: انهم مصريون. فسكت غضبه، وهدأت ثورته بغتة وقال: مصريون؟ على رأسي أذن. ولم نكن نحن المصريين أخذنا مكانه بل أخذه أحد من شاركنا في المطالبة بالمقاعد الأمامية، ولكن الذي أراد أن يسكن غضب الرجل لم يجد أجدى عليه من أن يقول انهم مصريون؛ وقد تمادى الرجل في مروءته بعد أن آثر المصريين بمكانه فعم الراكبين جميعاً وقال نحن حمصيون وهذا بلدنا. نؤثر كل راكب على أنفسنا.
كانت كلمة مصريين قاطعة لكل جدل، ذاهبة بكل غضب، نضر الله وجوه إخواننا في حمص وغيرها، وجزاهم عن مودتهم ومروءتهم خيراً.
ونزلنا في النَبْك نستريح قليلاً، فأوينا إلى حديقة هناك يجري فيها جدول تدور به ناعورة،(696/1)
وكنا جلسنا في هذه الحديقة أيام مهرجان أبى العلاء في طريقنا إلى حلب وفي رجوعنا إلى دمشق وفي سفرتنا الأخيرة من دمشق إلى حلب، فجلسنا فشربنا القهوة، فإذا أحد رفقاء السفر ممن يعرفنا ولا نعرفه تطوع بأداء ما علينا إذ وجدها فرصة للإعراب عن مودته وإكرام إخوانه وضيوفه على الطريق بأية وسيلة، وما زال يرتقب الفرص ليسرنا بكلمة أو فعلة حتى افترقنا.
وخرجنا من دمشق يوم الجمعة 24 من شوال (19 أيلول) نؤم حيفا لنركب منها قطار مصر. وكان بجانب السائق رفيق لم يصلنا به تعارف ولا تحادث. فلما بلغ بنا المسير الحدود الموهومة التي تفصل سورية وفلسطين - تلك الحدود لم يخلقها الله ولم يقرها الحق، ولا عرفها تاريخ البلاد، ولا اعترف بها سكانها - نزلنا ننتظر الإذن بدخول فلسطين بعد رؤية جوازات السفر والأعمال المعتادة على الحدود، ورأينا دكاناً أمامه كراسي فأخذنا سجاير وجلسنا لنشرب القهوة أنا والأستاذ محمد خلاف بك، ووجد ذلك الرفيق الذي لم يحادثنا ولا تعرف إلينا فرصة للتودد إلينا والأعراب عما يضمره من مودة فأصر على أن يؤدي ثمن القهوة وأبى أن يستمع لقولنا، وان يلين لإلحاحنا.
ثم اجتزنا الحدود وواصلنا السير حتى مررنا بعين عذبة باردة يجري عنها الماء في جدول وفي أنابيب من الحديد. فنزلنا هناك لنشرب من العين ووجدنا دكاناً فتقدمنا لنشتري فاكهة وقلنا حبذا فاكهة مبردة في ماء هذا النبع. فلما اشترينا ما أردنا غافلنا هذا الرفيق وأصر إصراره الأول على أن يؤدي ثمن الفاكهة.
ليس شيئاً ثمن القهوة ولا ثمن الفاكهة ولكن مقصد هذا الشاب كان عظيماً، ومعنى هذا العمل جليل. فهذا شاب من نابلس عرفنا مصريين فأراد أن يحيينا بما تهيأ له على الطريق، أو عرف شخصينا فبالغ في الإيناس والإكرام.
ولما دخلنا حيفا، وعلمنا أن المحطة التي نسافر عنها نسفت قبل دخولنا المدينة بقليل، وحسبنا أن السفر لا يتيسر يومنا، جاء رفيقنا هذا معه سيارته يدعونا إلى المضي معه إلى نابلس إلى أن يمكن السفر على السكة الحديدية، فشكرنا له وانتظرنا حتى تسنى لنا السفر.
وجاءنا في القطار بعض الموظفين يسألوننا عن جواز السفر ثم سلما وتحدثا إلينا وقال إنما تعللنا بطلب الجواز لنتحدث إليكما فقد رأينا في أحدكما شبهاً من أمين الجامعة العربية(696/2)
فأردنا أن نعرف جلية الأمر وسألا عن الأمين ودعوا له واثنيا عليه.
هذه الأحداث يراها المسافر في سورية ولبنان وفلسطين في بلاد إخواننا وجيراننا الأدنين، وهي على صغر ظاهرها كبيرة المعنى عظيمة الدلالة. تنطق بان المصري حيثما توجه في بلاد العرب فهو بلده بين إخوانه، إلا انه يحظى بكرامة الضيف، وان العربي لا يغترب أيان سار في بلاد العرب، يشعره بهذا الخاصة والعامة، ومن يعرفه ومن لا يعرفه.
وأما الخاصة من الأدباء والعلماء، وأما الحكومات ومعاهد العلم والهيئات المختلفة التي تعمل للجامعة العربية، وتشد الأواصر بين بلاد العرب، وما يقال في هذا، وما يكتب، وما يعمل، وما يدبر، فله حديث آخر طويل.
عبد الوهاب عزام(696/3)
بعض الذكرى. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
كان ذلك منذ عشرين سنة، وكنت فتى لا يمل الدؤوب والسعي، وكانت أول مرة ادخل فيها بيت ذلك الشيخ الضئيل البدن المعروق اللحم، الذي ينظر إليك أبداً كالمتعجب. وكان الذي سعى بي إليه حب قد ملأ قلبي له، وإجلال قد أخذ علي العهد أن أفي لهذا الشيخ ما حييت وفاء الذكرى ووفاء العلم ووفاء الاقتداء؛ وكنت يومئذ قد حضرت بعض دروسه في مسجد البرقوقي، وقرأت عليه شيئاً من كتاب أبى العباس المبرد، وكان يعدني كبعض ولده لسابق معرفته بابي رحمهما الله. وكنت يومئذ سقيم الجسم خفيف اللحم نحيل التجاليد ثائر الشعر، فإذا لقيته فربما كان يقول لي: (كأنك آيب من سفر بعيد أيها الفتى). فكنت افهم عنه، فإذا انقلبت إلى الدار عدوت إلى المرأة لأرى ماذا حمل الشيخ على مقالته التي لم يزل يقولها لي ويدي على يده أو في يده، فما أرى سوى وجه شاحب ضامر، وعينين غائرتين كأنهما تنظران إلى شيء بعيد في جوف وادي سحيق عميق. فأقول لنفسي: هذا جهد التحصيل وكد النفس في قراءة هذه الأسفار القديمة التي تباعدت معانيها وتقادمت عهودها.
طرقت بابه في ذلك اليوم على غير ميعاد، ففتح لي صغير من حفدته وقادني إلى غرفة الشيخ، فإذا هو جالس على حشية على بساط كالح من تقادم الأيام، وعلى يمينه خزانة كتب مطوية من جوف الجدار، وأمامه صينية صفراء من نحاس فيها أداة القهوة، وعلى يساره كتب مركومة، وفي يمناه قلم يكتب. فلما سمع حسي رفع إلي بصره وسكن، وظل كذلك ساعة وأنا بين يديه يأخذني ما قرب وما بعد من هيبته، وجعل ينظر إلي فأطال النظر؛ ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت ما كنت لأتبينه لولا أني عرفت الذي يقول وكنت احفظه، وهي هذه الأبيات من شعر بعض الأعراب:
رأت نِضْوَ أسفارٍ، أميْمة، شاحباً ... على نضو أسفارٍ، فجنَّ جنونها
فقالت: (مِن آيَّ الناس أنت؟ ومن تكن؟ ... فإنك راعي صِرمْةٍ لا يَزينُها!)
فقلت لها: (ليس الشُّحوبُ على الفتى ... بعارٍ ولا خيرُ الرجال سمينها.
(عليك براعي ثَلَّة مُسْلَحِبَّةٍ ... يَرُوحُ عليه مَخْضُها وحَقِينُها ... وانعم_أبكارُ الهموم وعُونُها)(696/4)
وكان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معنى عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معنى الفهم للذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته. والصوت الإنساني هو وحده القادر على الإبانة عن المعاني الخفية المستكنة في طوايا النفوس أو في أحاديث النفوس.
ورب رجل أو امرأة تسمع كلامه أو كلامها وأنت لا تعرف عن أحدهما شيئا، فيخيل إليك وأنت تسمع انك قد نفذت على نبرات هذا الصوت إلى اعمق الأعماق المدفونة في هذه النفس الإنسانية التي تحادثك، وهذا شيء لا يكون إلا في ذوي النفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسفسافها، وهذه النفوس وحدها هي القادرة على أن تجعل الصوت بمجرده لغة مبينة عن اغمض المعاني التي تعجز لغات البشر عن حملها وأدائها.
وأنت محتاج حين تسمع (لغة الصوت) أن تكون يقظ النفس حي الإحساس، نفاذاً إلى المعاني المتلفعة بالغموض، حسن التيقظ للنبرات التي تدل على ضمير اللفظ، سريع الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحق من الحركات المختلفة. فإذا كان الذي تسمعه كلاما يتلى أو ينشد كالشعر مثلا، وكان الذي ينشده قد عاش ساعة في معانيه حتى تلبس بها ونطق لسانه معبراً عن لسانها وعن لسان قائلها الأول - كان عليك أن تكون ليناً طيعاً سريع التبدل جرئ النفس في غمرات العواطف، حتى يتاح أن تعيش أنت نفسك في هذه المعاني ساعة تتلى عليك. وعندئذ تغشاك غمرة لذيذة تدب في غضون نفسك، فتحس كأنك تبعث بعثاً جديداً في حياة جديدة حافلة بالصور التي قلما يدركها العقل إلا مشوهة مشيأةً متخالفة التركيب، فلا يزال يجهد في تلفيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحية الصريحة الصادقة شيء البتة. فإن استطعت يوماً أن تجد في نفسك انك مستطيع أن تكون على هذه الصفة، فقد فهمت الشعر ونفذت إلى أغواره، وإن عجزت عن بيان ما فيه.
وفي الناس ناس، وقليل ما هم، قد أجادوا (لغة الصوت) إجادة بارعة، وان كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئاً، وذلك لطول ما انطووا على أنفسهم حتى(696/5)
غمروها في بحر النسيان. وربما سمعت أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفاً أو حرفين حتى تحس كأن كل معاني نفسه تتسرب في نفسك واضحة بينة، وانك قد عرفت منها ما يكاد يخفيه عن الناس جميعاً؛ لأنه متكبر أو قانط أو هياب جزوع. وهذا الضرب من الناس هم اشد خلق الله حرصاً على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون انهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضاً؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنهم خبئ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة. . .
لما سمعت الشيخ رحمه الله ينشد تلك الأبيات، تمثلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي احبها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيلت لها أوهامها، وان يأتيها بتحقيق أحلامها - أي أحلام حواء منذ كانت حواء، على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابي محب لصاحبته (اميمة) التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحباً مهزولا رثا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة، فجن جنونها لأنها محبة قد أخطأت في الرجل الذي تحب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية بالشيء الذي يخال ما كانت تتوهم!
كانت المفاجأة صارخة في نفس اميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقه ساعة من دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحب، فقالت: من أي الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكن؟ ولكن أنى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأة بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدي عن احتقارها وازدراءها لما ترى، فزوت عنه وجهها وهي تقول: لو كنت راعي ابل لكنت خليقاً أن تنكر النفوس والأعين ما ترى من حقارتك وبذاذتك، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسناً في عين من(696/6)
تحب، وان تكون زيناً لامرأة احبتك؟ وهكذا المرأة - إلا من عصم الله. . .
فهم الشاعر المحب مرمى كلامها فأنف لنفسه، فانطلق يسخر منها بعد أن تكشف له ضمير المرأة الغادرة. فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعار، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شحوبي قد ساءت وآذاك حتى أنكرت مني ما تعرفين، فنعم ولك العتبى علي. عليك بمن يزينك. اطلبي لنفسك راعي غنم قد اطمأنت به وبها الحياة، فعاش خافضاً وادعاً لا هم له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلع وغدا سميناً بضاً جميلًا كأحسن ما تأملين، فأنتن أيها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدها، كأنكن إنما تتخذن الرجال حلياً لا أصحاباً ولا أزواجاً. وهكذا المرأة، هي لضعفها تؤثر لحياتها كل ظاهر يدل على القوة فهي تؤثر البدن القوي على البدن الضعيف، وتؤثر اليسر على الخصاصة، وتؤثر القناعة على الطموح، وان كان قلبها يؤثر بالحب ذلك الضعيف الفقير الطماح الذي اضر به الكدح، ولكن قلب المرأة هو آخر ما تهتم له إذا جاءها بمن لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونة بكل ما يدل على القوة الظاهرة، ولا تكاد تبالي شيئاً بالقوة المستكنة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريد أن تحيا حياة مطمئنة محفوفة بما يحسدها علية النساء سواها لا أن تحيا مجاهدة في عذاب حبيب مجاهد.
ومنذ سمعت الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفت على كلمة في هذا الشعر لا أزال اعجب لها وهي: (أبكار الهموم وعونه) (أبكار الهموم)! يالها من كلمة عبقرية! أن مزية هؤلاء الأعراب البداة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقض على اللغة فتنفضها نفضاً وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبئون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبا هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في (أبكار)، ودل بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب،، وعرقت لحمة بالهزال، وصيرت إنساناً منكراً في عين من يحب.
فهذا الأعرابي الجريء، والمحب المزدري، الساخر المستخف عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمراً غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فانه غني(696/7)
عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهم، وأن له من حاجات نفسه وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها، فهو راض بها وبما يلقي في سبيلها من ارق وسهاد. وأراد أن يعلمها انه لا يأسى على ما فاته من بكر ولا عوان، فإن للنفس الشاعرة هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحب في العذراء الحيية العصية من فتنة وجمال ونظرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طلابها شقاءً لذيذاً له في القلب نشوة أو سعار. وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغير منها الأيام شيئاً، ولا تنيل الطالب المحب إلا متاع الجب المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتدي بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبداً أبكاراً.
وللنفس أيضاً هموما (عون) قد أصاب الناس منها أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان، ونبل في الخضوع والتسلم عند العجز، فهي تداور صاحبها وتحاور حتى تشقيه شقاء لذيذا ثم تنيله ما يشاء حتى يرضى.
ولقد عجبت للشيخ يومئذ وهو يكرر: (لم تؤرقه ليلة، - وانعم - أبكار الهموم وعونها) فقد كان في صوته ما جعلني أنسى أني لم أزل واقفاً أنصت لدبيب هذه الحياة في جو الغرفة، ثم خرجت من عنده ولا يزال صدى صوته يردد في نفسي تلك الكلمات المصورة المبدعة: (أبكار الهموم وعونها).
محمود محمد شاكر(696/8)
على هامش النقد:
مواضع النقد الأدبي
للأستاذ سيد قطب
التعبير في الفن للتصوير والتأثير. التصوير للتجربة الشعورية التي مرت بالفنان، والتأثير في شعور الآخرين بنقل هذه التجربة إلى نفوسهم في صورة موحية مثيرة لانفعالهم، وهذه هي غاية العمل الأدبي.
ولما كان العمل الأدبي مؤلفاً من عنصرين هما التجربة الشعورية والتعبير عن هذه التجربة، فإن مواضع النقد الأدبي تنحصر في هذين العنصرين.
ولكن التجربة الشعورية لا تبدو لنا - في العمل الأدبي - إلا من خلال التعبير. فهو وسيلتنا الوحيدة لإدراك هذه التجربة التي مرت بالأديب فحركته للتعبير عنها. وإذا نحن فقدنا هذه الوسيلة لم نستطع بحال أن ندرك ما جاش بنفسه، ولا نوع إحساسه به، ولا درجة انفعاله كذلك.
ومن هنا يستمد التعبير قيمته في النقد. فليس هو ألفاظاً وعبارات؛ ولكنه العمل الأدبي كاملا باعتبار ما يصوره من التجارب الشعورية.
وهذا التعبير يدل على التجربة الشعورية بخصائص ثلاث مجتمعة وهي:
1 - الدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات.
2 - الإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب.
3 - الصور والظلال التي يخلعها التعبير من خلال الكلمات والعبارات.
ونزيد خاصة أخرى مشتركة بين الشعور والتعبير تدل على طبيعة التجربة الشعورية ونوعها ودرجتها وعلى سمة الأديب التعبيرية أيضاً. هذه الخاصية هي طريقة التناول أو طريقة السير في الموضوع أو ما نسميه الأسلوب.
ومعروف أن لكل أديب أسلوبه المعين. وكثيرا ما يطلق بعضهم الأسلوب على العبارة اللفظية، ولكنه في الحقيقة اشمل، فهو طريقة الإحساس بالموضوع والسير فيه وطريقة تنسيق العبارات واختيار الألفاظ.
يقول عمر الخيام:(696/9)
طوت يد الأقدار سفر الشباب ... وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبى واختفى ... متى أتى؟ يا لهفا! أين غاب؟
فما المعنى العام الذي يريد أن يبلغه لنا في هذه الشطرات؟ انه يريد أن يقول: أن شبابه قد ولى، وقد جف عودة سريعاً، وانتهى صباه عاجلاً، فما كاد يبدأ حتى انتهى.
ولكن الأمر لم يكن معنى في ذهنه، بل شعورا في نفسة، وهو لا يريد المعنى بل يريد ما وراء. ولهذا اثر أن يسلك طريقة أخرى في التعبير غير التي سلكناها، فعرض علنا صورة ليد الأقدار تطوى كتاب الشباب، وصورة بجوارها للغصون الرطاب تصوح وتجف، وهما صورتان توقعان في النفس الكآبة والأسى، وتغمرانها بالحسرة والوجوم، وتخلعان على المشهد ظلالا كابية حزينة. ثم شاء أن يشعرنا انه لم يحس بشبابه ولم يستمتع فلم يقل لنا هذا المعنى مباشرة. بل رسمة لنا صورة متحركة، فقد شدا طير الصبى واختفى، وأنه لواقف يتلفت في لهفة ويتساءل في وجيعة: متى أتى؟ متى غاب؟ ومن هنا ينقل إلينا شعوره نقلاً حياً موحياً فنكاد نتلفت معه على هذا الطائر - طائر الصبى الجميل السريع - الذي ما كاد يظهر حتى اختفى، وترك وراءه اللهفة والأسى!
طريقة السير في الموضوع أذن هي التي جعلتنا نزداد شعورا بما يخالج نفس الشاعر في الأسى والكآبة، وفي اللهفة والحسرة، دون أن يقول لنا: أنه مكتئب أس ملهوف حسير. وهذه الطريقة هنا هي نظام عرض الصور واحدة بعد الأخرى، فتخلع كل صورة ظلا، وتجتمع الظلال وتتناسق فتثير في نفوسنا انفعالا خاصا، هو الانفعال الذي عاناه الشاعر أو ما يشبه.
وبطبيعة الحال لقد اشترك في أحداث هذا الأثر كل من المعاني اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للتراكيب، والصور والظلال التي يخلعها التعبير.
انتهينا إذن إلى أن العمل الأدبي يبلغ غايته وهي التأثير بتوافر عناصر الكمال في خصائص التعبير، وهي طريقة الأداء والدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب والصور والظلال التي يخلعها التعبير، وهي زائدة على المعنى العام للتعبير
ولكن التعبير بعناصر هذه انما هو وسيلة لغاية هي إبراز التجربة الشعورية وتجليتها.(696/10)
وعلى هدى هذا البيان يظهر أن مواضع النقد الأدبي هي:
أولاً: التجربة الشعورية أو الشعور كما يبدو من خلال التعبير
ثانياً: التعبير بخصائص التي أسلفنا عنها الحديث
ونقد التعبير وخصائصه والحكم عليها سهل نوعا إذا قيس بنقد الشعور والحكم عليه، لان إخضاع خصائص التعبير لقواعد عامة آمر مستطاع - مع ما هذا من حرج - ما دمنا نملك وضع قواعد للنقد الأدبي فيها سماحة كبيرة وشمول، بحيث تسمح بظهور الخصائص الشخصية كاملة في كل أديب، ولا تقيده باتباع (مشق) معين في طرق الأداء أو طرق التعبير!
أما إخضاع خصائص الشعور لقواعد معينة فتحكم في النفوس والطبائع والمشاعر غير مأمون، والحكم على الشعور الإنساني مسالة ليست من حقنا على إطلاقها، فقد يطرق الأديب عوالم من الأحاسيس والخطرات والانفعالات لم تتهيأ لنا من قبل لأنه هو إنسان ممتاز غير مكرور!
ولكن ماذا نصنع؟
ترانا نقبل كل شعور ونعده في صف واحد مع كل شعور آخر من حيث قيمته الفنية، مادام صاحبة قد عبر عنه بطريقة صحيحة من ناحية التعبير؟
إننا بهذا نبخس العمل الأدبي قيمته، لأننا نعده صوراً وألفاظاً خارجية، لا رصيد لها في عالم النفس والشعور.
ولحسن الحظ أن لدينا حقيقتين واقعتين في هذا المجال: أولاهما أن التجارب الشعورية الإنسانية مشتركة في مساحة واسعة من النفس الإنسانية؛ وثانيتهما أن الناقد هو الذي يستطيع أن يعلل لنا حكمه.
وفي الحقيقة الأولى ضمان بان عدداً كبيراً من الناس سيدركون قيمة التجارب الشعورية التي يصورها الأدب، لأن لها صدى في نفوسهم على كل حال، وإذا لم يتحقق هذا في جيل، فإن تتابع الأجيال كفيل بتحقيقه، فركب الإنسانية متصل المواكب، والتجارب الشعورية ملك للجميع.
وفي الحقيقة الثانية ضمان بان الحكم على قيمة شعور ما لن يلقى مجرداً كإشارات الصم(696/11)
البكم، بل ستتبعه أسبابه، وبيان الأسباب يتيح للآخرين أن يقتنعوا بها أن وجدوا لها في نفوسهم صدى، أو لا يقتنعوا، ولهم ما يشاءون!
لهذا كله نرى انه لابد للنقد الأدبي أن يتناول طبيعة الشعور الذي يصوره التعبير، فيصفه - على الأقل - كما يبدو من خلال الصورة التعبيرية، ويحكم على قيمته في عالم التجارب الشعورية.
ونضرب هنا بعض الأمثال:
يقول شاعر حديث في قصر أنس الوجود:
قف بتلك القصور في اليم غرقى ... ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأيدين بضا
وكل بيت بمفردة جميل من ناحية التعبير والإيقاع والأداء، ولكنهما مجتمعين يكشفان عن اضطراب في الشعور، أو عن تزوير في هذا الشعور، ذلك أنا حين نستعرض البيت الأول:
قف بتلك القصور في اليم غرقى ... ممسكا بعضها من الذعر بعضا
نجد أنفسنا أمام مشهد غرق، والغرقى مذعورون يمسك بعضهم من الذعر بعضا، فالشاعر أذن يرسم لنا مشهداً مثيراً لانفعال الحزن والأسى، مشهداً يظلله شبح الفناء المتوقع بين لحظة واخرى، ونفهم أن هذا هو الانفعال الذي خالج نفسه وهو يتملى ذلك المشهد الذي يثير الذعر ويقبض الصدر.
ولكنة ينتقل بنا فجأة ونحن أمام لمشهد نفسه لم نزايله، فيقول:
كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأيدين بضا
فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح يوحيه مشهد العذارى، ينزلن الماء سابحات، يخفين في الماء بضا ويبدين بضا؟!
هنا ظل لا يتسق مع الظل الأول، ولا تفسير لوجوده هنا إلا بأن الشاعر زور لنا تجربة شعورية لم تمر بنفسه، لأنه لو كان قد انفعل حقيقة بالمنظر لغمره شعور نفسي واحد إزاءه في اللحظة الواحدة، أو غمرته مشاعر مختلفة، ولكن في جو واحد.
فحكمنا هنا ينصب على شعور الشاعر لا على تعبيره، ولكننا انما نحكم على هذا الشعور(696/12)
من خلال التعبير، ومن حقنا أن نحكم هذا الحكم لان التعبير المعروض علينا يصور لنا شعوراً مزوراً، والفن شعور صحيح. ولو أنه في بيته الثاني رسم لنا ظلالا تتسق مع ظلال البيت الأول، ولكان هذا دليلا على صحة الشعور وصدق تأثره بالموقف.
ويقول شاعر قديم في وصف زهرة حمراء على عود اخضر: أنها مثل (أوائل النار في أعواد كبريت)
فنحس حين نقرا البيت أن شعوره بالزهر والطبيعة كان شعوراً (من الظاهر) ولم يتصل حسه بالطبيعة أي اتصال، فاقتصر بصره على تشابه الأشكال، ومسخ الطبيعة الحية شكلاً جامداً لا حس فيه ولا شعور، ولا تعاطف بينه وبين قلب الشاعر ولا منافذ له إليه عن أي طريق.
وفي الناحية الأخرى نجد شاعراً كالبحتري يقف أمام إيوان كسري المهجور، فتجيش نفسه بانفعال صادق يغشي الجو كله بغشاء واحد، غشاء الأسى وشجون الذكرى.
فهذا الإيوان:
يُتظنَّى من الكآبة إذ يب ... دُو لعينيْ مصبّح أو ممسىّ
مُزعجاً بالفراق عن أُنس إلفٍ ... عزَّ أو مُرهقاً بتطليق عِرْس
فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسى
فهو يحس بالإيوان المهجور كئيباً حتى ليظنه من يراه مزعجا بالفراق عن أليف عزيز، أو مرهقاً بتطليق عرس، وهو يبدي التجلد، ولكن كلكل الدهر ينيخ عليه ويرسي بثقله. . . وهي صور حية موحية، تشعر بالانفعال الصادق العميق.
ونجد شاعراً كابن الرومي ينظر إلى مشهد في الطبيعة فيحسه (من الباطن) حياً، ويتجاوب معه ويتعاطف كالأحياء: ذلك حين هبت ريح الشمال:
هبت سُحَيْرا فناجى الغصن صاحبه ... موسوساً وتنادى الطير إعلانا
ورق تغنى على خضر مهدلة ... تسمو بها وتشم الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
وهكذا يحس الغصن حيا ذا نفس يناجي صاحبه موسوسا، والطير تنادى إعلاناً، والورق تتغنى على الأفرع الخضر المهدلة، وكأنما هذه تداعبها وتؤرجحها (تسمو بها وتشم الأرض(696/13)
أحيانا) والطائر يخال نشوان من الطرب، والغصن يشاركه فيهز عطفيه وهكذا يحس الطبيعة حية، وكأنما هي في مرقص تميل النشوة وتتغنى من الفرحة. . .
وهكذا يعاطف الطبيعة وتعاطفه، ويتصل حسه بحسها. وذلك معنى الصدق في الإحساس بالتجارب الشعورية!
سيد قطب(696/14)
الحركة الفكرية في العصور الحديثة
للأستاذ رفيق التميمي
1 - الحركة الأدبية:
لقد ظهر في أوائل القرن السابع عشر ثلاثة من كبار الأدباء كانوا النجم اللامع في سماء الأدب العالمي الأوربي وهم شكسبير وسرفنتس، ولوب دي فيغا. والأول شاعر الإنكليز الأشهر. أما الثاني والثالث فقد ظهرا في أسبانيا.
والحركة الأدبية في فرنسا لم تتبوأ مكانتها الرفيعة إلا اعتباراً من انتهاء الثلث الأول من القرن السابع عشر.
لقد ظهر في إنكلترا خلال القرن السابع عشر رجلان عظيمان هما شكسبير وملتن. أما شكسبير فقد تبؤ مكانته الأدبية الرفيعة في عصر الملكة اليصابات، وظل يغذي الأدب الإنكليزي بإثارة الخالدة في أيام الملك جيمس الأول. ويقول أساتذة الأدب العالمي انه ليس بين الشعراء المتقدمين والمتأخرين من ابرز مثله معارف واسعة في جميع أدوار الحياة وأطوارها، ولا أبدى سواه مثل اطلاعه على ظواهرها واسرارها؛ فقد كتب في موضوعات يدخل فيها كل وجه من وجوهها. وبحث في كل مطلب من مطالبها، وكان في جميع هذه الأبحاث أستاذاً كبيراً وحكيماً وخبيراً حتى يكاد الناس اليوم لا يعمدون إلى درس موضوع منها ما لم يساقوا بطبيعة الحال إلى درسه في مخلفات شكسبير، فهو كراوية لا مضارع له، أما كشاعر فلا يذكر بجانب اسمه إلا واحد أو اثنان، وكفيلسوف حكيم لا تكاد تفكر في معضلة حيوية إلا تراه قد طرقها وحلها، ولا تطلب مطلباً إلا تجده بين كنوز التي لا تحصى ولا تثمن.
والألمان أول من ترجم شكسبير إلى لغة أجنبية وقام نقاد كبار منهم يوضحون مزاياه الرائعة ومراميه السامية حتى انفتحت أعين العالم على معينه الفياض فاخذوا يغترفون منه ما لذ وطاب؛ وهكذا تحول اعظم شاعر في إنكلترا إلى اعظم شاعر في العالم كما يقول علماء الأدب.
ولشكسبير أثار خالدة: منها الزوبعة وحلم ليلة في منتصف الصيف ومكبث وروميو وجوليت وهملت وتاجر البندقية والبطل وقد ترجمت هذه الكتب باللغة العربية.(696/15)
وظهر في أيام الملك شارل الثاني شاعر كبير هو ملتن، وقد كان على المذهب البيوريتاني وألف باللاتينية بعد إعدام الملك شارل الأول كتاباً دافع فيه عن العدالة في قتل الملك. فلما عاد آل استوارت إلى عرش إنكلترا اضطر ملتن إلى أن يعتزل العالم أربع عشرة سنة، وفي خلال ذلك وضع في عزلته وعماه قصائده الخالدات الأثنتي عشرة وهي التي سماها الفردوس المفقود والفردوس المردود.
ونبغ في أيام ملتن أديب بيوريتاني آخر هو يوحنا بنبان كان سجن بعد عودة آل استورات اثنتي عشرة سنة لأنه لم يكن على المذهب الانجليكاني، وفى وحشة سجنه وضع كتابا سماه (سياحة المسيحي) وهو من اعجب الرمزيات - في الأدب الإنجليزي.
وفي خلال القرن الثامن عشر ازداد عدد الكتاب والشعراء والروائيين والمؤرخين. ولا شك أن لظهور طائفة من أمهات الجرائد والمجلات الإنكليزية حينئذ علاقة كبرى بذلك الازدهار الأدبي والعلمي نذكر هنا على سبيل المثال (أدباء البحيرات) الذين خلدوا جمال الطبيعة في أشعارهم، والروائي الذائع الصيت (ولتر اسكوت) وبه يبدأ الدور الإبداعي في الأدب الإنكليزي، وجون كيتس، والمؤرخ ادورد جيبن. وظهر في ألمانيا خلال القرن الثامن عشر الكاتب الكلاسيكي (كلوبستوك)، والاديب (وايلند) والروائي (لسينغ) و (هردير)، وكان هؤلاء الأدباء ينقلون عن الأدب الفرنسي ويقلدون المؤلفين فيه.
وفي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر نشأ في ألمانيا طراز جديد للتأليف بفضل أدباء عظام يأتي في مقدمتهم لسينغ، وغوته، وشيلر. وقد وضع هؤلاء منهاجاً جديداً يختلف عن المنهاج الكلاسيكي الذي كان شائعاً آنئذ في فرنسا، وسمي هذا الدور في الأدب الألماني بدور العاصفة أو الهجوم.
لقد اتجهت عناية هؤلاء الأدباء الكبار إلى تحسين أداء المعاني التي تثير العواطف دون الالتفات إلى إرضاء الناس بإجادة معاني الكلام وتنميق العبارات، وفي خلال هذه الحركة الأدبية الجديدة بات الكتاب والشعراء والأدباء ينطقون بما توحيه إليهم أفكارهم ومشاعرهم وينتقون من الحوادث اليومية مواضيع لكتاباتهم. فإذا اختاروا حادثاً قديماً فانهم يجعلون رجاله من بين الألمان القدماء المعاصرين أمثال وليم تل وولنشتين، وقد انصرف همهم إلى أن يكتبوا بلغة يفهمها الناس ويألفها القراء، وبذلك اصبحوا يخاطبون سواد الشعب ولا(696/16)
يعنون أبناء الطبقة الممتازة.
وكان نابليون وصف غوته، أحد رجال المذهب الأدبي المتقدم ذكره، بأنه رجل، وهو في الحقيقة رجل عبقري استطاع أن يستغل مواهبه الرفيعة، وان يسمو في أعماله وأدبه إلى الذروة، ويطلق العنان لتفكيره فيذهب في مختلف الشعاب، ويبلغ به أقصى الأغراض. وامتاز غوته بعقله الخصب وإحساسه المتقد وخياله الخصب الواسع، وكان يستوحي من حياته الطويلة التي كادت تمتد إلى قرن كامل كل العظات الجسام التي حفلت بها، ويستخلص من حوادثها دروساً جليلة في الفن والأدب والفلسفة والاجتماع، ومن آثاره الخالدة (فاوست) و (آلام فرتر).
وظهر في فرنسا خلال القرن السابع عشر من الكتاب والروائيين العظام (كورناي) و (ديكارت) واضع الفلسفة الحديثة و (بسكال) المعجزة في الرياضيات، وعدو اليسوعيين. وظهر في النصف الأخير من القرن المذكور الروائي الكبير (موليار) والشاعر (بوالو) والروائي العظيم (راشيل) وواضع الأمثال الشعرية الخلابة (لافونتين)، و (بوسويه) الواعظ ببلاط الملك لويس الرابع عشر، و (لابروبار) الروائي والوصاف للأخلاق والآداب المعاصرة، و (فنلون) الأسقف والكاتب. ولقد اتصف هؤلاء الكتاب والأدباء والشعراء بمعرفتهم التامة لنوابغ اليونان والرومان وبتقليدهم إياهم في جميع آثارهم الخالدة التي ازدان بها الأدب الفرنسي الحديث.
وفي بدء القرن التاسع عشر أخذت مبادئ الحركة الأدبية الجديدة تنتشر في ألمانيا على يد كبار الأدباء وفي مقدمتهم غوتة، وشيلر، ولسينغ، وسميت تلك الحركة بالمذهب الإبداعي (الرومانيتك)، ومع أن هذا المذهب كان دون المذهب الكلاسيكي كما لا فإن الألمان وجدوه العب بالألباب، وأكثر تأثيراً في العواطف واقرب إلى طبيعة القارئ واستقبلوا بالإعجاب والتقدير.
وما لبث المذهب الأدبي الجديد أن انتشرت مبادئه وقواعده في سائر البلاد الأوربية وبات البيان الألماني نموذجا لكتاب أوربا منذ بداءة القرن التاسع عشر. وقد رفع لواء المذهب الإبداعي الجديد في ألمانيا كل من شليكل، وتيك، وبرنتانو وهموفمان، وحينما كانت ألمانيا ترزح تحت السيطرة الفرنسية أيام عظمة نابليون ألف فريق من الشباب المتحمسين جمعية(696/17)
(ألمانيا الفتاة) واخذوا ينشرن مبادئهم القويمة بمختلف الطرق وينبهون بني قومهم إلى وجوب تخليص وطنهم من الحكم الأجنبي، ودعم هذه الحركة الوطنية فريق من الأدباء والشعراء ووضعوا لذلك مؤلفات قيمة، ويأتي في مقدمة هؤلاء من الأدباء: (غوتزكو) و (لوبه) و (بورن) و (هنري هين) و (شنكندورف).
وفي أواخر القرن الثامن عشر دخلت مبادئ المذهب الإبداعي إلى إنكلترا غير أنها لم تكن في بادئ الأمر إلا عبارة عن (بدعة مخالفة للشعر المألوف) كما كانوا يقولون عنها. فحاول بعض الشعراء نظم القصائد والأشعار باللغة العامية واحيوا ما كاد يندرس من قصائد العصور المتوسطة.
وظهر في الربع الأول من القرن التاسع عشر الشاعران الغنائيان (بايرون، وشيلي) الأرستقراطيان وأضافا إلى الأدب الإنكليزي صفحات خالدة من الشعر الرقيق، ومات الاثنان في سن الشباب. وذهب الأول ضحية الحمى في مدينة (ميسو لونكي) حين ذهب إليها ليشارك الثوار اليونان في ثوراتهم ضد الدولة العثمانية، وكان بايرون لا يبحث في شعرة إلا عن نفسه، وقد فصل فيه مغامراته وآلامه وملذاته وغرامه وحقدة وشدة شغفة بالابتعاد عن الناس وضجره من الحياة، واحتقر بوقاحة أبناء الطبقة البورجوازية.
وامتاز الكاتب الكبير (ولتر سكوت) برواياته التاريخية التي نالت إعجاب الجمهور وتقديره، وأما (تشارلز ديكنز) فلم يعن بالحوادث التاريخية في رواياته بل انصرف بكليته إلى وصف الظروف والبيئة الاجتماعية التي وقعت قصصه فيها فجاءت كتبه مرآة صافية انعكست فيها أخلاق القوم وميولهم وعاداتهم وبرع الكاتب الفكه (ثكري) في دقة الوصف وقوة التعبير في كتابيه: أغنياء الجيل، ومعرض الأباطيل
وامتاز النصف الثاني عشر بوفرة الإنتاج الأدبي واتصاله الوثيق بالفنون الجميلة، وظهر من الأدباء والشعراء في إنكلترا من كان له باع طويل في الرسم والنحت مثل: روسني الرسام، ووليم موريس النقاش، وجون رسكين الذي مثل عصره خير تمثيل بكتاباته التي تزخر بحماسة غير مفتعلة، وبلاغة ساحرة، وامتاز رسكين بتفكير سليم مكنه من أن يتناول اعقد الأمور واخطر المواضيع في الأخلاق والاجتماع، ويناقشها بسهولة عجيبة، وقد اشتهر أسلوبه بالبهجة والرشاقة رغم طول الجملة في كتاباته وتزاحم الأدلة والبراهين فيها، وقد(696/18)
كان لرسكين اعمق الأثر في ترقية الفنون الجميلة وتنسيق الجهود الرامية إلى تدعيم الأخلاق وتقويتها.
وخلف راسكين في ترقيه الفنون والأدب في انكلترة طائفة من الشعراء والفلاسفة والرسامين وكتاب القصص ومنهم (مريديث) و (رديارد كبلينغ) و (أتش. جي. ويلز)، وامتاز مريديث بدقة الملاحظة وإتقان التحليل النفسي؛ أما كبلينغ فقد سجل في كتبه عظمة الشعب البريطاني وقوة تفكيره، ومتانة خلقة وسلامة ذوقه. ورمى ويلز بمؤلفاته المختلفة الأدبية والاجتماعية إلى وجوب القيام بإصلاحات عميقة في حياة الأمم الاجتماعية والسياسية.
واشهر من ألف روايات تمثيلية (أوسكار وايلد) و (برنارد شو). وانصرف وايلد إلى وضع روايات هزلية امتازت بشدة الحوار والتعمق في البحث والنقد إلا انه اغضب طائفة كبيرة من الشعب بنقده اللاذع ومجونه. أما برنارد شو الايرلندي الاشتراكي المتطرف فقد ادخل إلى مسارح إنكلترا روايات هزلية ذات طابع خاص فلسفي، وانصرف بكليته إلى نقد المجتمع المعاصر نقداً لاذعاً وإلى وصف النواحي العوجاء فيه وصفاً مؤثراً طالب فيه بوجوب القيام بإصلاح اجتماعي عاجل. ويحمل كتبه كلها طابعاً اشتراكياً متطرفاً.
وفي خلال القرن الثامن عشر ظهر في فرنسا عدد من الكتاب البارعين سموا أنفسهم فلاسفة على انهم لم يبدوا رأياً جديداً في القضايا التي كانت محط نظر رجال الفلاسفة وإنما صوبوا أنظارهم إلى المسائل العلمية فدرسوا العقائد والسنن القائمة في عصرهم. وكانوا إذا ظهر لهم منها ما يخالف العقل طفقوا يحملون عليها بأقلامهم ويفضحون معايبها. فهم والحالة هذه كانوا منشئين أكثر منهم فلاسفة.
وكانت الهيئة الاجتماعية يومئذ في بلاد أوربا قائمة على دعائم متشابهة هي السلطة المطلقة للحكومة، وكان الشعب قد اعتاد على الطاعة للملوك، وكانوا يقولون أن سلطة الملك مستمدة من الله تعالى فللملك حق الحكم وعلى شعبة واجب الطاعة وهكذا كان شأن المؤمنين مع الكنيسة سواء أكانوا في البلاد البروتستنتية أم الكاثوليكية؛ فلقد كان من حقوق الكهنة تقرير العقائد الواجب اتباعها وتعيين الاحتفالات وكانوا لا يطيقون أن يكون في الدولة الواحدة أكثر من مذهب واحد، وكانت الكنيسة تتعاون مع حكومة الملك المستبد في تنفيذ المبادئ(696/19)
المتقدم ذكرها فكانت الحكومة تقتص من الهراطقة، وتوجب على الشعب إطاعة الكنيسة، وقد جعل الكهنة مقابل ذلك إطاعة الملك فرضاً دينياً لا يجوز إغفاله.
وقام فريقان من الفلاسفة المصلحين في فرنسا: الأول في النصف الأول من القرن الثامن عشر وقوامه فولتير ومنتسكيو، والجيل الثاني في النصف الأخير من ذلك القرن وقوامه جان جاك روسو، ودريدرو، وجماعة العلماء المعروفين برجال الموسوعة.
أما منتسكيو وفولتير: فكلاهما من أهل الطبقة العليا، وكان فولتير عدو الأديان الموضوعة ولا يعترف إلا بالدين الطبيعي القائل بوجود الله وخلود النفس. وقد بشر بالتساهل ودافع عنه في جميع كتبه وطالب بديانة خالية من العقائد والرموز والأسرار، ومقتصرة على تعاليم أدبية واجتماعية شعبية، وقلما خاض فولتير في مسائل الحكومة، وكان تلاميذه الكثيرون يبتعدون عن السياسة ويكتفون بمهاجمة الكهنة وأنظمة الكنيسة تحت عنوان العقل أو الإنسانية.
أما منتسكيو فقد وضع مبدأ توزيع السلطات وهي التشريعية والقضائية والتنفيذية وحض على فصل هذه السلطات بعضها عن بعض ليتسنى للشعب حكومة عادلة، ودافع منتسكيو عن مبدأ استخدام النبلاء في مناصب الدولة وعن عدالة توزيع الضرائب على جميع أفراد الشعب بلا استثناء، ووجوب إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية واحترام حرية الفرد.
وكان كتاب الجيل الثاني يعتنقون مبادئ ثورية ويحرضون الشعب على نقض التشكيلات الاجتماعية والسياسية والدينية القائمة، وكان روسو يعتبر أن الإنسان صالح بالطبع إلا أن التشكيلات الاجتماعية القائمة في عصره قد حرمته من خيرات الطبيعية وان حق التملك جائر، وأن الحكومة أكثر جوراً لأنها تستبد بالناس وتنشر بينهم مبادئ شريرة؛ فيجب والحالة هذه القضاء على التشكيلات الاجتماعية القائمة وإبادة حق التملك والحكومة المستبدة ثم الرجوع إلى الطبيعة ليتفق الناس حينئذ على شكل من أشكال الحكومة يستحسنه الجميع ويساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، ويستعاض به عن سلطة الملك بسلطة الشعب ويصبح الوطنيون كلهم سواء، تخول الحكومة التي يختارها المواطنون السلطة المطلقة لتدير وتنمي ثروة البلاد وتنتشر العلوم وتشرف على مبادئ الدين ومعابده. وقد فصل روسو هذه المبادئ الثورية في كتابه الشهير (العقد الاجتماعي). وحينما كان روسو ينشر(696/20)
تعاليمه كان الأستاذ (ديدرو) ينشر موسوعته الشهيرة، وقد جمع فيها خلاصة المعارف الإنسانية بعنوان الانسيكلوبيديا، واشترك في تأليفها جماعة من رجال الأدب والعلم والفلسفة، وهي في ثمانية وعشرين مجلدا ضخماً انتشرت في جميع أنحاء أوربا، ونقلت معها أفكار الفلاسفة الإصلاحيين في إصلاح المجتمع من الوجهات السياسية والدينية والاجتماعية والأدبية.
وانتشر المذهب الإبداعي بفرنسا في أيام نابليون، وذلك بفضل الأديبة مدام دي ستايل التي كانت تنشر مقالات متتابعة عن الحركة الأدبية الجديدة في ألمانيا.
وفي أوائل التاسع عشر ظهر الكاتب الفرنسي العبقري (شاتوبريان) فغذى الأدب الفرنسي بمؤلفاته القيمة التي حافظ فيها على قواعد المذهب الكلاسيكي إلا انه اقتبس مادتها من الكتب الدينية والحياة العصرية خلافا لما كان متبعا في العصور السابقة.
وحين نبغ شاعر فرنسا الأكبر فيكتور هوغو انتشرت مبادئ المذهب الإبداعي التي تحض على تنويع مادة الكتابة، وعلى نقل مؤلفات الكتاب الكبار في الأمم الأجنبية إلى اللغة الفرنسية. وامتاز الابداعيون عن سواهم بالبحث عن الفرد إلى جانب مجموع الأمة وانصرفوا إلى التوسع في وصف المناظر والأشخاص والأشياء وصفاً دقيقاً حتى باتت كتاباتهم كأنها مرآة صافية انعكست فيها ما كان يقع تحت بصر الكتاب من الأمور والمناظر المختلفة.
وحمل لواء هذا المذهب الجديد من الأدباء والشعراء لامارتين وفيكتور هوغو، وجورج ساند. ثم تبعتهم طائفة كبيرة من الشبان، وحين نشر فيكتور هوغو روايته (كرومول) اعتبرت مقدمتها بمثابة منهج للمذهب الإبداعي. واخذ الكتاب يخاطبون الشعب بلغته الدارجة دون أن يتحروا الأسلوب العالي في الإنشاء وبات الابداعيون يعرفون بأنهم يرمون فيما يكتبونه إلي جعل فن الكتابة أكثر وضوحا واقرب إلى مباهج الطبيعة ومناظرها الجميلة بخلاف مبادئ المذهب المدرسي (الكلاسيكي) الجافة المملة.
وفي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر قام فريق من الكتاب يناهضون الإبداعيين ويدعون الدفاع عن الحقيقة وعن الطبيعة كما هي دون طلاء أو تزويق، ثم انصرفوا إلي وصف مشاهد الحياة المختلفة وصفاً دقيقاً مع إسهاب في ذكر الجزئيات وقد دعي أرباب(696/21)
المذاهب بالواقعيين الطبيعيين واتصفوا بدقة التعبير ووفرة المفردات اللغوية وجمال الأسلوب. ومن اشهر هؤلاء الكتاب (غستاف فلوبير) و (الكونت دي ليل) و (اميل زولا).
وفي فجر القرن العشرين ظهرت طائفة من الأدباء والكتاب والشعراء في مختلف الممالك أسدت للبشرية خدمات قيمة في تنويع الأدب العالمي وزخرفته. ومن هؤلاء الأديب الفرنسي بيارلوتي الذي وصف البلاد الحارة والشرقية احسن وصف، والروائي النرويجي (ايبسن) الذي درس جهود الأمم الراقية التي تستهدف هدم الأوهام والتقاليد البالية والقضاء على العوائد السخيفة.
وامتاز بأدب القصة كتاب روسيون أشهرهم (تولستوي) و (دستويفسكي). وظهر في السنين الأخيرة مذهب جديد في الأدب هو المذهب الرمزي وقد أهمل اتباعه القيود البيانية القديمة، ونهجوا مناهج جديدة في النثر والشعر اعتقدوا إنها أخف وقعاً في النفوس وارق بياناً واحكم أعراباً عن مختلف المشاعر والأحاسيس، وترأس هذه الحركة الأدبية بفرنسا الأديب (ملارميه) ثم تبعه كل من (بودلير) و (فرلين).
رفيق التميمي(696/22)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 31 -
البطل الضرير:
أيقن ريتشارد ولم يكن له شيء مما كان لأبيه من قوة العزم وصدق العبقرية أن الجيش قد غلبه على امره، بعد أن اثر الانحياز إليه وطرد من اجل ذلك البرلمان الذي اجتمع في عهده لكثرة أنصار الملكية فيه، فلم يعد له وهو حامي الجمهورية بعد أبيه من السلطان شيء، ففضل أن يركن إلى الدعة وان يفلت من الحكم إذ لا طاقة له بالنضال والاقتتال في وقت اضطربت فيه شؤون الدولة وتصارعت أهواء الرجال، فترك (هويت هول) إلى داره قبل أن تكرهه الحوادث إكراهاً على ذلك. . .
وأصبح الحكم لرجال الجيش، وكان على رأسهم في إنجلترا لامبرت، ولكن لامبري فوجئ بهجوم منك قائد كرمول في اسكتلندة فنهض لملاقاته، وتهددت البلاد حرب جديدة، ولكن فيرفاكس ذلك الذي مجده ملتن بمقطوعة من مقطوعاته - كما رأينا - انذر لامبرت بأنه منضم إلى منك، فاستخذى لامبرت وتفرق أصحابه وتم الأمر لمنك، فدعا مؤتمراً لينظر ما إذ ينبغي فعله، فجاءت الكثرة فيه من الملكيين والبرسبتيرينز الذين أذعنوا على رغمهم سنين للجيش: واجتمعت كلمة المؤتمر على إعادة الملكية، وذلك في مايو سنة 1660.
وكان ملتن في ذلك الجو المليء بالعواطف لا يزال يشغل نفسه بالدفاع عن الجمهورية، فنشر في مارس سنة 1660 آخر كتيباته السياسية، وجعل له عنواناً طويلًا هو: (الطريقة العاجلة السهلة لإقامة جمهورية حرة وما يترتب على ذلك من حسنات إذا قورن بالأخطاء وعدم التلاؤم المترتبين على السماح بإعادة الملكية في هذه الأمة).(696/23)
وحسب القارئ عنوان الكتاب وحده للدولة على مبلغ ملتن من الشجاعة؛ وليس مصدر شجاعته التهور ولا الجهل بما يحيط به كما قد يخيل إلى بعض حسدته وكارهيه، وإنما كان مثله مثل الجندي في مدينة محاصرة، إذ تأبى عليه نفسه إلا أن يطلق آخر ما في كنانته وان يبذل أقصى ما في طوقه أنفة منه وحفاظاً وان علم انه هالك لا محالة!
ولم يقف ملتن وحدة للدفاع عن الجمهورية الذاهبة وتخويف الناس وتحذيرهم من الملكية العائدة، وإنما حذا حذوه طائفة من أنصار الحكم الجمهوري، فكان هو بكتيبة هذا ترجمانهم القوي الأمين، ولكن هؤلاء الجمهوريين كانوا في الحق أشبه بعلماء بيزانطة الذين اشتد بينهم وبين خصومهم الجدل، بينما كان محمد الفاتح يقرع عليهم أبواب مدينتهم، وقد سوى جنده واعد للأمر عدته!
وان المرء ليتملكه العجب حقاً إذا قرأ ما جاء في كتيب ملتن، وقد نشر قبل مجيء شارل الثاني بنحو شهرين. أقرا مثل عبارته هذه وانظر أي مبلغ بلغت شجاعته. قال: (حقا أن الناس قد أصابهم الجنون، أو أطبقت عليهم الغفلة، فهم يعلقون أكبر آمالهم في الطما نينة أو الأمن على رجل واحد، لا يصنع أكثر مما يصنعه أي رجل غيره إن جاءت به المصادفة طيباً، ولكن له القوة ما يصنع به من الشر أكثر مما يصنع ملايين الناس إن كان خبيثاً، وليس يصده عن وجهه أحد؛ إن سعادة الناس لا تتحقق إلا في مجلس حر يختارونه كله بأنفسهم حيث لا يتحكم فرد واحد ولكن يسود العقل وحده؛ وأي جنون هذا الذي يبلغ بقوم يقدرون على أن يديروا شؤونهم في نبل حتى يلقوا تدبير هذه الشؤون على كاهل رجل واحد، ويفعلون ذلك في ضعف واستخذاء، فيكونون أشبه بصبية لم يبلغوا سن الرشد إذ يتركون كل شيء لرعايته ومطلق تصرفه في حين انه لا يستطيع أن ينهض بما تعهد به، وهو في الوقت نفسه إذ يؤجر على تعهده لا ينظر إلى نفس نظرة خادمهم، بل يعد نفسه سيدهم المطاع!)
ويقترح ملتن أن يكون للمجلس الذي يشير إليه حق الاجتماع مدى الحياة، فلا يتغير رجاله كل مدة معينة إلا من مات أو تركه لأمر ما؛ ويقول ملتن أن هذا المقترح يبدو عجيباً لأول وهلة عند قوم ألفوا البرلمانات، ولكنة ضائق بهذه البرلمان المتغيرة، وعنده أن مثل هذا المجلس الدائم يكون أجدى على الدولة، لأنه يكتسب الخبرة بطول الامد، ويقف على حقيقة(696/24)
ميول الناس، وما يتطلبه إصلاح أمورهم وتتوثق صلاته بهم، كما تعظم خبرته بالأمور الخارجية، ولكي تضمن الدولة صلاحية من يختارون وصلاحية من اختيروا، ينبغي أن تصلح نظام التعليم وتغرس في نفوس الناس حب الفضيلة والإيثار والتواضع والاعتدال، فلا يغترون بالمظاهر، ولا يخضعون لذوي المال والجاه، ويجب أن يعلموا مبادئ الحرية، ويعلموا كيف يسمون بأرواحهم وعقولهم ولن يحقق هذا للناس إلا جمهورية رائدها الخير للجميع.
ولكن ملتن يائس من بني قومه، انهم لن يستمعوا له فيقول: (أني على يقين انه كان على أن أتحدث إلى الشجر والحجارة فحسب، فليس ثمة من اصبح به، ولكني اهتف مع النبي: أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . لأني التربة نفسها ما يصم أبناؤها المخالفين آذانهم عنه)!
ويتحسر ملتن على الأمل الضائع فيقول (أين ذلك البرج الشاهق الطيب؟ أين الجمهورية التي افتخر الإنجليز بأنهم يقيمونها لتغشي الملوك بالظلمة وتكون روما أخرى في الغرب؟. . إذا عدنا إلى الملكية ووجدنا المساوئ القديمة تعود شيئا فشيئا. . تلك المساوئ التي لا بد أن تنجم عن الملك والقسيس مجتمعين، فربما اضطررنا إلى أن نحارب مرة ثانية كل ما حاربناه من قبل، وكلما اعتبرت في هذه الأشياء الواضحة السهلة المعقولة!)
ولكن هذه الصيحة على قوتها وبلاغتها وما تنطوي عليه من حرارة الأيمان وجراءة القلب، ما لبثت أن ضاعت في ضجيج الناس وأفراحهم بالملك العائد وذهبت في المواكب الهاتفة وفي رعود المدافع القاصفة، كما تذهب حفنة من الماء يلقى بها في عباب دافق، فها هو شارل الثاني يهبط إنجلترا في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1660، وهو يوم عيد ميلاده، فاصبح كذلك عيد عودته، وكان له من العمر يومئذ ثلاثون عاماً.
وكانت عودة الملكية وبالا على ملتن والجمهوريين جميعاً؛ فقد فَقد منصبه بالضرورة، ولكن فَقد المنصب خطب هين إذا قيس إلى ما بات يتهدده وأصحابه، ولم يك ملتن يتوقع اقل من الشنق نكالا به وبمن ذهب مذهبة من الجمهوريين، وكان اسمه ابغض الأسماء إلى الملكيين بعد اسم كرمول وحده، ولم يعف كرمول الموت من التنكيل برفاقه. فقد بلغ الحنق بالعائدين أن نسوا إنسانيتهم فاخرجوا رفاته من القبر وشنقوا ما تركه البلى من عظام كما يشنق(696/25)
الأحياء في حفل شهده الناس؛ ولن يصل الحقد والحنق فيما نرى إلى ابعد من هذا، ولن يكون في السخف ما هو اسخف من هذه الفعلة التي نحار كيف نصف شناعتها، وأي نعت ننعتها به، وإذا كان هذا موقف الحانقين من الموتى فكيف بموقفهم من الأحياء ومن ملتن على الأخص ذلك الذي دافع عن إعدام شارل والذي ناصر حكومة كرمول بكل ما في طاقته من جهد، والذي لم يأل جهداً في السخرية من أسرة ستيوارت وأطلاق قلمه فيهم بكل عيب، والذي ظل عدواً للملكية يرى فيها شراً محققاً ويدعو الناس إلى كراهيتها بكل ما في وسعه من أوجه القول ووسائل الإقناع إلى ما قبل عودتها بنحو شهرين. . .
ولم يك يشك أحد من أعدائه انه يتحدى الموت، وإلا فما باله يريد أن يسمع الشجر والحجارة ما لا يريد الناس أن يسمعوا، وما باله يظل على عناده لا يتزلزل ولا يتحول، وأيقن أصدقاؤه أن الموت لا محالة جزاؤه، فحملوه إلى سمنفيلد حيث أخفوه أربعة اشهر من مايو إلى أغسطس 1660.
وفي أواخر أغسطس اصدر الملك عفواً عاماً عن أعدائه السياسيين إلا من جاءت أسماؤهم في قرار العفو، فهؤلاء حق عليهم العقاب، وهم الذين كانت لهم صلة وثيقة بمحاكمة شارل الأول وإعدامه، وقد اعدم من هؤلاء عشرة وألقى في السجن عدد غيرهم، ولم يك ملتن من هؤلاء ولا من هؤلاء، إذ لم يدرج اسمه فيمن استثني من العفو. . .
وكيف تأتي ذلك؟ كيف نجا ملتن من حبل المشنقة وهو الذي برر إعدام شارل في كتاب أذاعه في أوربا لا في إنجلترا وحدها؟ هل أنجاه الاختفاء؟ كلا؛ فلم يك يمنع اختفاؤه أن يجئ اسمه فيمن يقتلون أو يسجنون حتى يعثر عليه.
لقد ذكرت آراء حول نجاته، ولكن مردها جميعاً إلى الظن، إذ لم يقف المؤرخون على حقيقة مقررة في هذا الأمر؛ فمن قائل أن أصدقاءه في البرلمان الجديد بذلوا قصارى جهدهم لينجوه، كان له في البرلمان بضعة نفر من المعجبين به منهم صديقه الحميم مارفل؛ وثمة رواية رواها ريتشارد سون في مذكراته وهو أحد من كتبوا عن ملتن في أوائل القرن الثامن عشر، وقد استمد من الشاعر بوب الذي يعزوها إلى بترتون أحد مشاهير الممثلين في الفترة التي أعقبت عودة الملكية، والذي يرجح انه أخذها بدوره من الشاعر الملكي دفنانت، ومؤداها أن دفنانت هذا قد ألقى به في السجن أثناء النزاع بين شارل الأول(696/26)
والبرلمان، ولكن ملتن عمل على نجاته وما زال يسعى حتى أطلق سراحه، فلما دارت الأيام دورتها ووقع ملتن في مثل ما كان فيه دفنانت، رد هذا الشاعر له الجميل فعمل على خلاصه؛ وهناك رأى غير هذين يميل إليه كثرة النقاد ومنهم دكتور جونسون وخلاصته أن مرد نجاته إلى شيء من القدر وشيء من العطف، فإن رجلا مثل ملتن كان خليقاً أن يحمل بعقوبته كثيراً من أولى الرأي والبصيرة على أن يقدروه حق قدره فيطلقوه لما هو عسى أن يأتي به في الشعر والفن مما يكون من مفاخر بلاده؛ كذلك كان ملتن خليقاً أن يحمل الظافرين على الرحمة به لما أصابه، فهو اليوم ضرير فقير وحسبه ما أنزله به الدهر من حزن وما ناله به مكن عقوبة؛ ولقد كانت كلمة واحدة من شارل كفيلة أن تفقده حياته، ولكنها كانت تفقد أدب إنجلترا وأدب الدنيا كلها (الفردوس المفقود) و (الفردوس المستعار) و (سمسن اجنستس)، تلك الآثار الخوالد التي ما كانت تجود بمثلها أو بما يقرب منها عبقرية غير عبقرية ملتن.
وشمل العفو ملتن، لكن كان الناس عجباً بعد ذلك أن يأمر البرلمان به فيلقى في السجن، حيث أحرقت كتبه أمامه، وان لم يرى شيئاً حوله، فإن ما يحيط به من ظلمة لن يمحوها ألف نار كالنار التي أوقدتها كتبه؛ ولا يزال أمر حبسه على هذه الصورة غامضاً، ولكن (ماش)، وهو من اشهر من كتبوا عنه يفسر ذلك بأن البرلمان كان قد اصدر هذا الأمر بمسعى أصحابه ليجنبوه الكارثة الصحيحة، وهي إدراج اسمه في المستثنين من العفو! ومهما يكن من الأمر، فانه لم يلبث إلا قليلا حتى أمر بإطلاقه، ولإطلاقه قصة نوردها كشاهد جديد على عناده واستكباره، حتى في مثل هذا الظرف، فقد طلب إليه القائم على أمر السجن أن يدفع أجرة أقامته حسب المتبع، ولكن ملتن رأى انه غالى فيما طلب، وأحس في ذلك جوراً ظن انه مقصود به فرفض أن يدفع - وفي يده المال المطلوب - فما يطيق أن يتحكم فيه رجل مهما لقي من عنت الأيام، وتقدم أصحابه فأدوا عنه المال المطلوب على غير علمه، وجاء بعضهم فأخرجه من السجن، وكان ذلك في نهاية سنة 1660، وله من العمر اثنتان وخمسون سنة.
ولولا ما كان يحيط بالشاعر العظيم من أسباب الشقاء والأسى لجاز أن يتطرق شيء من الفرح إلى فؤاده، وقد نجا من الموت واسترد حريته، ولكن أين هو من الفرح، وإنه ليذوق(696/27)
مرارة الفشل ويجرر أذيال الخيبة؛ ففي اشهر ذهبت جهوده التي بذلها في عشرين سنة من عمره هباء، وخر صرح آماله من قواعده ورأى أصحابه يساقون إلى الموت، كما سمع بالقبور تفتح فيحمل إلى المشنقة من طوتهم يد المنون! وبلغ من نفسه كل مبلغ أن يجد الكنيسة وقد عادلها سلطانهم في ظل الدولة، وان البرلمان يقيد حرية النشر بقيود غليظة، وان الحياة يشيع فيها الفجور والفسوق، ويتسلط على سياسة الدولة النساء والمتعصبون والأذلاء من المتملقين والماجنين.
وترك ملتن الحي القريب من هويت هول، واتخذ له مسكناً بعيداً في المدينة أو فيما جاورها. ويقول ريتشارد سون إنه لبث أياماً ينتابه الرعب أن يؤخذ غيلة بيد متعصب من أنصار الملكية، وذلك كان قليلا من الليل ما يهجع، وكان خوفه على بناته اشد من خوفه غلى نفسه!
وقل حظه من الثراء قلة كبيرة، فقد فقدَ مرتبه كما فقدَ ألفين من الجنيهات تعادل سبعة آلاف من جنيهاتنا اليوم كان قد أودعها في مأمن حكومي أثناء الجمهورية، فصودرت كما صودر بعض ما اشتراه من أملاك؛ على انه على الرغم من ذلك ظل يعيش عيشة مرضية لا هي إلى الرغد ولا هي إلى العوز.
وأصابه النقرس، فكان يلقى من الآمة ما يتضاءل عنده ما يعاني من عمى، وظل هذا المرض ينتابه من حين إلى حين، فيضيف آلامه إلى ما ترشقه به الأيام من سهام!
وكان اوجع هاتيك السهام ما كان يلقاه على أيدي بناته، وكانت كبراهن سنة 1661 في الخامسة عشرة من عمرها، ووسطاهن في الثالثة عشرة، وصغراهن في الثامنة؛ وهن بناته من زوجته الأولى التي ماتت سنة 1652؛ وكان يتمل أبوهن أن يكن انسه وسلوت نفسه في وحدته وشقائه، ويكن له عوناً على الأيام، وهو الضرير الذي زال عنه جاهه وألح المرض على بدنه، وهجره إلا قليلا ابنا أخته، إما انشغالا بما ملأ قلبيهما من لهو أو تهرباً مما يكلفهما به من قراءة ومراجعة، ولم يذكرا يده عليهما وقد رباهما في بيته صغيرين ولبثا في رعايته من عمريهما سنين.
ولكن عقوقهما لم يك شيئاً مذكوراً تلقاء عقوق بناته، فقد كان أسوا ما لقي من دهره هذا العقوق الذي ذاق معه اعمق الحزن، وهو الشاعر الذي تتأثر نفسه بالمعاني أضعاف ما(696/28)
يتأثر بها غيره من الناس، ولعقوق بناته إياه قصة يحسن أن نأتي بها على سردها. . . .
(يتبع)
الخفيف(696/29)
النهضة العلمية
للأستاذ علي عبود العلوي
(ظلت الحياة الأدبية في حضرموت برهة من الزمن وهي
تحت السير اقتفاء السمة التي كانت متغلبة على الآداب في
القرون الماضية، وما زالت كذلك إلى أن أتاح الله لها من
يوجهها الوجهة الصادقة فنهضت من كبوتها نهوضاً تجلى
آثره في أدب الكهول اليوم كما اتشح به أدب الشباب. والفضل
في ذلك يعود إلى زعيم النهضة الأدبية السيد أبو بكر ابن عبد
الرحمان شهاب العلوي الموجود سنة 1262هـ والمتوفى
سنة1341 هـ.
وهذا ما حدا بنا لدراسة أدبه دراسة مفصلة وهذه الكلمة من إحدى لبنات هذه الدراسة أخص بها (الرسالة) الغراء).
ما اهتزت ربوع الوطن الحضرمي كاهتزازها للثورة الفكرية التي امتد سناها على وادي ابن راشد أن لم نقل تجاوزته إلى الأماكن الأخرى.
اجل هكذا انبعثت في حضرموت روح النهضة العلمية في القرن الثالث عشر الهجري فسطع تاريخها بإعلام لهم فوق مكانتهم العلمية المرموقة مكانة الزعامة السياسية والاجتماعية والإصلاحية والاقتصادية، وكل هذه قيم عظيمة تستدعي من المؤرخ المنصف الوقوف أمامها وقفه الخاشع ليتهيأ له إصدار الحكم عنها بعد نفاذ الفكر والتحليق به فوق مراميها، وبذلك ينير السبيل للتاريخ، وهو في أمان من أن يطغي الحكم في ناحية فيمس النواحي الأخرى.
ومن شأننا في هذه الكلمة أن نلم بالموضوع إلمامه وجيزة ندرك بها تاريخ العصر الذي نشأ فيه شاعرنا الشهاب العلوي ومعرفة مقدار الأثر الذي تركه في أدبه وميوله.(696/30)
امتدت الثورة الفكرية في حضرموت امتدادا لم يسبق له مثيل فيما قرأناه من تاريخ حضرموت وسير اعلامها؛ إذ انبعثت منها روح فياضة ترمي إلى محو الأمية، وتنوير الأفكار والقيام بنشر العلم قياماً يرتكز على أن تتخطى الدعوة إليه المدن والقرى التي تزدان معاهدها ومساجدها بالدروس العلمية الخاصة والعامة إلى نشره بين جميع الطبقات حتى التي تسكن الجبال من البادية بإرسال المرشدين إليهم تلو المرشدين.
ومرد هذا فيما نعتقد انه من قبيل رد فعل. فقد أنفت حضرموت من الظلم الذي طال عهدها به والعبودية والتسخير التي فرضها كل من له أي قدرة إلى حد العامة الذين تناط بهم الدارة الحياة الاجتماعية فقد كونوا لهم رابطة تساعدهم على الإضراب عن العمل وأداء الواجبات أن لم تمنح لهم الإتاوة المفروضة بحسب رائيهم.
ومما شجع هؤلاء الفوضويين على العبث بالأمن ضعف الحكومية الحضرمية - استغفر الله - بل فقدها بالكلية وتلاشي أمرها ولم تبق لها سمة معروفة ولم يذكر التاريخ إلا تعدد الحكام ما بين كل ريعة وأخرى بل في البلد الواحدة.
لا نستثني من هذه الفوضى إلا ما كانت تنعم به بعض القرى التي يناط الحكم فيها لبعض السادة العلويين - المناصب أو القرى التي يحكمها بعض أبناء بيوتاتها ممن كانت لأجدادهم مكانة علمية وصلاح وفضل ويسمون أيضاً (بالمناصب).
من اجل هذا فكر أكابر علماء القطر الحضرمي وقادة الرأي فيه في الوسيلة التي يمكن القضاء بها على هذه الفوضى.
وأي وسيلة بيدهم اعظم من نشر الدعوة الإسلامية بصورة أوسع نطاقا مما كانت قبلها.
وأني تلاقي دعوتهم أذاناً صاغية أن لم تتجاوز المحيط الذي طالما تاق إلى وجود قيام الوالي العدل من كثرة ما أصيب به من الظلم؟
فلا بد إذاً من توسيع نطاق الدعوة بصورة أكبر مما عرفتها حضرموت في الماضي ليضمنوا بها بعض الفائدة أن لم تحققها كلها.
وما دام مصدر الفوضى آتيا من قبل البادية التي تروع القطر بما تصبه على البلاد من ويلات تلو الويلات. فلا بد إذاً من غزوها في عقر دارها بالدعوة الإسلامية وتعريفها بعض الواجبات وإرشادها إلى ما فيه الخير والصلاح.(696/31)
وهذه دعوة عظيمة لابد من تدعيمها بقوة الروح والأيمان الصادق، وصدق العزيمة وبذل الأموال ولا شك إنها أصابت في قائدها المحنك وزعيمها الممتاز من اسبغ الله عليه الفضل الواسع وأهله بجميع المؤهلات التي تخول له قيادة مثل هذه الحركة العظيمة بما أوتيه من نباهة الذكر والسعة العلمية، والفطنة، وقوة الأيمان، والعزيمة الصادقة ما هيأ لدعوته أن تجوب القطر الحضرمي ويتردد صداها بين الخافقين.
فمن هذا الزعيم الذي أسندت إليه حضرموت قيادة هذه الحركة الإصلاحية؟
هو العارف بالله السيد أحمد بن عمر بن سميط العلوي المتوفى سنة 1257هـ.
نشأ هذا السيد الأمام في محيط يشع بالسؤدد والمكارم، وزحابة الأخلاق؛ تحيط به حالة من النور والفضل والنبل والعلم وسراوة التقوى فكان من هذه المكونات فذاً في التاريخ.
وعلى نبعة العلم والده السيد عمر بن زين تثقفت ثقافته
الأولى؛ وكان السيد عمر مشغولاً بالثقافة ليلاً ونهاراً، وحينما
استطاع السيد أحمد الاندماج بالصف الذي يصله بركب والده
العلمي اصبح هو الذي يروي ظمأ والده بالقراءة عليه ليلاً
ونهاراً. وبالطبع تهيأ له من الاتصال بوالده ما لم يتهيأ لغيره،
وهذا له اثر عظيم في تكوينه العلمي، وكان هذا شأنه إلى أن
لحق والده بربه في 2431207هـ فاتصل بابن عمه السيد
عبد الرحمن بن محمد زين، وامتد اتصاله بعد هذا بأكابر
رجال عصره وهم من الكثرة بحيث لا يمكن الإلمام بهم في
مقام يقتضي أن نسير فيه بالإيجاز.
وما أن ترعرع في الطلب حتى تم له من التفوق ما لا يدركه إلا الصفوة المختارة من أمثاله.(696/32)
وما كانت نشأته إلا في عصر مضطرب اشد الاضطراب تعصف به الناحية السياسية القلقة من جانب، والحياة الاجتماعية المريضة من الجانب الآخر كما تتجاوب فيه الموجة العلمية الفياضة.
وليس بمستغرب أن يدوي صيته في القطر الحضرمي تجاه التموجات التي كان يذيعها من على منبر الإصلاح نحو التوجيه العام، ومن كان في مثل مكانته العلمية خليق أن ينهل من نبع علمه الفياض الراغبون في المعارف والثقافة العالية.
وحسبك أن تعلم أن حضرموت لم تتوان عن الاتصال بهذا السيد الإمام. بل اندمجت فيه وكرعت من حياض علمه الزاخر وانتشت بدعوته الإصلاحية وتبارت في القيام بتنفيذها.
كيف كانت حضرموت في عصره؟
وعلى ماذا تنطوي في دعوته؟
أما حضرموت من الناحية السياسية فقد تمزقت أوصالها وأصبح النفوذ لمن عز كما في المثل. ولبحث هذه الناحية موضوع آخر.
أما ما يتصل بوشائج البحث إلى هذه الناحية فلا بأس من أن ننير السبيل فيها ولو قليلا لكي نتصور اثر النهضة العلمية تصوراً تاماً
1 - كان من اثر قسوة الظلم والفوضى التي سادت في هذا العصر أن تمزقت أوصال الحياة الاجتماعية فنتج عن هذا ازدياد الهجرة ازدياداً خيف من عواقبه الوخيمة بان تصبح البلاد ولم يبق بها من السكان أحد.
وكادت الحال تصل إلى هذه النتيجة؛ فقد جرفت الهجرة عدداً وافراً من أبناء الوطن بل بلغ بها الحال أن سافرت بعض الفخائذ العلوية بأكملها، وإلى اليوم لم يبق بحضرموت منهم أحد. والهجرة وأن تكن قديمة وقد برم بها الأمام الحداد اذو يقول:
مشتتون بأطراف البلاد على ... رغم الأنوف كما تهواه حساد
إلا أنها في هذا القرن بلغت أقصى ما يتصوره العقل.
2 - كان من جراء الفوضى أن خربت البلاد وقلت حاصلاتها، ولم تبق لدى الزراع رغبة في الزراعة على ضعفها لأنهم يتعرضون للضرائب الفادحة من ناحية الحكام المتعددة أسماؤهم، ولعبث البادية من الناحية الأخرى.(696/33)
وكذلك ضعفت التجارة فكسدت الأسواق وكادت تتعطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية من كل ناحية.
ضاق بهذه الحالة أعيان القطر الحضرمي وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن عمر بن سميط، ونظر إلى الوسيلة التي يمكن بها القضاء على ما آل إليه الأمر: فرأى إنها تنحصر في الأمور الآتية:
1 - نشر العلم بين جميع الطبقات.
2 - تنظيم الحياة الاقتصادية بما يكفل للبلاد الخير والصلاح.
3 - الدعوة إلى إيجاد والٍ عدلٍ، وبذلك تنتعش الآمال ويسود ما بين الناس الهناء والطمأنينة.
دأب مجاهداً في سبيل إعلاء هذه الفكرة السامية أربعين سنة وهو لا تفتر له عزيمة ولم تقعد به همة.
ومن اجل هذا (كان يشدد على كل عالم ومتعلم ويلومه اشد اللوم في ترك الدعوة ولا يتركه حتى يأخذ عليه العهد بالدعوة فإذا جاء ثانياً سأله عما فعل).
(اخذ يرسل الدعاة إلى القرى قرية فقرية وطلب لهم المعاونة المالية من أربابها كما كان يفيض عليهم من ماله الخاص. فكان الدعاة يجوبون بها طرقها وينادون من على رؤوس المنابر وبعد الصلوات، وقد يطلع منهم جماعة على منارة جامع القرية فيدعون الناس إلى الله ويتداولون ذلك فيجتمع الناس قياماً وقعوداً في سطوح بيوتهم يستمعون إليهم ويتعلمون منهم، ومنهم من يشرف من طاقته منصتاً لذلك).
ثم ألقى نظرة نحو الناشئة فأخذ في تعميم الكتاتيب ووضع لها نظاماً خاصاً، ولم يقصر الأمر على تعليم البنين بل أمر بتعليم البنات.
وكان يقول: (إن البنت التي لم نعلمها أمر دينها ولم نمكن الأيمان من قلبها لا تأتينا بنجباء، ولا تربي أولادها على محبة الخير. فاجتهد في تعليم طائفة منهن ثم نشرهن للتعليم فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالتعليم والقراءة كأنها بيوت النحل.
وكان الرجال من قبل لا يسمعون لفظة تعيير منهن على التقصير أو الخطأ بل ربما يحبذنهم عليه.(696/34)
فلما تعلمن كن مهمازاً لهم إلى الخير، وطالما عيرنهم على ظلمهم وقبحنهم على ما يرتكبون منه فلم يعلم إلا الله كم كففن من يد ظالمة وأنهضن من همة نائمة).
ثم التفت نحو البوادي، وخصهم بمزيد عنايته وقال: (لا ينبغي لنا أن نلومهم على ما يفعلون إذا لم نعلمهم فإن تعديهم الحدود نتيجة جهلهم. فعلينا أن نزيل السبب الذي هو الجهل فيزول المسبب وهو الظلم).
وألقى نظرة نحو البوادي المتنقلة وهم الذين لا قرى لهم أو لهم قرى بعيدة لا تبلغها أقدام الدعاة فجعل لهم ليالي تعليم ودعوة إذا جاءوا إلى بلدة (شبام) بقوافلهم وجلبهم فكان الدعاة يأتونهم ليلا فيسمرون عندهم وهم في محطاتهم خارج البلد على الرمل. فكان الأعرابي يأتي وأنفه في خزامة الشيطان وينقلب مبصراً بنور الإيمان.
وفي مسئولية أهل العلم يقول:
معاشر أهلِ العلم قوموا جميعكم ... قيام امرئ في دعوة الخلق تؤجروا
ونوبوا عن المختار في نشر ما أتى ... إليكم به عن ربه لا تقصروا
ولا تخذلوا شرع الرسول فإنه ... عزيز عليه ما عنتم بل انصروا
فمن نصر الشرع الشريف فنصره ... تكفل مولاه به فتدبروا
وما دام مناط الدعوة ونجاحها يرتكز على سمو أخلاق الدعاة والمرشدين وابتعادهم عما يتنافى ومكانتهم الأدبية ودعوتهم لذلك وجه إليهم إرشاداته فقال:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت فيهم أموراً أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً ... والموبقات لعمري أنت حاويها
ودعوة مثل هذه تستدعي نفقة عظيمة ومن اجدر بالتسابق والإنفاق عليها من ذوي السعة والمال، ولذلك عرض بالحث على الإنفاق والمباراة فيه فقال:
لا ينفع المرء إلا ما يقدمه ... لنفسه عند مولى الخلق باريها
ما للحريص على الدنيا سوى كفن ... ولو أتاه من الأموال غاليها
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس إنفاقها في الخير يفنيها
ولا تضن بها في حال جفوتها ... فليس إمساكها بخلا بمبقيها
(يتبع)(696/35)
علي عبود العلوي(696/36)
من عيون الأدب الغربي:
محاورات خيالية
لولتر سافيج لاندور
للأستاذ بولس سلامة
- 3 -
الخصوم النبلاء
تمهيد:
(كانت رومة وقرطجنة في كفاح دام مرير حول السيادة على
البحر، هذا البحر الذي يفصل بين قارتين ويصل بينهما والذي
كان ولما يزل موضع النزاع بين الدول الكبرى حتى حربنا
هذه. ذلك أن الذي يسود هذا البحر يسود البر والبحر معاً.
وكان هينيال ومرسيل قائدي الجيشين المتحاربين
وفي هذا المقال من مقالات (لاندور) نرى مرسيل وقد خر صريعاً في الميدان ووقف بجانبه خصمه هينيال يريد أن يبتهج بالنصر ولا يستطيع. ثم نسمع هذا الحوار النبيل بين القائدين أحدهما جريح مقهور والآخر ظافر منصور
تأمل هذه الصورة الرائعة ثم الق نظرة على ما يجري حولنا الآن من محاكمات ثم قارن بين الحالين واسأل نفسك كما سألت نفسي: هل تقدمت الإنسانية أو تقهقرت في مدى هذه القرون الطوال).
(مارسيل القائد الروماني ملقى على الأرض أمام هينيال)
هينيال: هلا أجد فارساً نومادياً سريعاً! مرسيل مرسيل. إنه لا يبدي حراكا. أظنه قد مات.(696/37)
ألم يحرك إصبعه! أيها الجند تنحوا. دعوه يستنشق شيئاً من الهواء. أعطوه قليلا من الماء. اجمعوا هذه الأوراق والأعشاب وضعوها تحت رأسه. اخلعوا شكته، وارفعوا عنه خوذته. ها هو ذا يتنفس. يخيل إلي أنه فتح عينيه ثم أغمضهما. ولكن من الذي لمس كتفي (يلتفت وراءه) هذا فرس مارسيل. لا يمتطيه من بعده أحد. إيه حتى هؤلاء الرومان بدءوا يتذوقون النعيم. ما هذه الحلي الذهبية (مشيراً إلى الفرس).
قائد غالي: يا لَلِّص. إن هذه السلاسل كانت قلادة مليكنا. وقد انتقمت منه الآلهة.
هينيال: سوف نتكلم عن الانتقام بين أسوار روما. ابحث عن طبيب الآن فالسهم يجب أن ينزع مهما كان عميقاً. أرسلوا السفن إلى قرطجنة وقولوا لها إن هينيال على أبواب رومة وإن قاهر سيراقوسة قد وقع مقهوراً. لقد سقط مارسيل الذي كان يحول بيني وبين روما. (مخاطباً مرسيل) أيها الرجل الشجاع. أني أحاول أن ابتهج ولكني لا أستطيع. هذا المحيا أي جلال فيه! وهذا القوام أي عظمة تحتويه! إنها لعظمة أولئك الذين سمعنا عنهم في أرض النعيم. أولئك الذين جاهدوا وخروا على الأرض المضمخة بدمائهم ثم تأمل: ما أبسط سلاحه وعدَّته!
قائد غالي: لقد قتله أصحابي. بل أغلب الظن أني قاتله. إن هذه السلاسل الذهبية وقد كانت لمليكي يجب أن تكون من نصيبي. إن شرف بلادي يقضي أن لا يأخذها غيري.
هينيال: يا صاحبي إن عظمة مرسيل كانت في غنى عن هذه السلاسل، فلما قتل مليككم لم يحتفظ بها لنفسه ولا للآلهة ولكنه وضعها على فرسه. .
قائد غالي: اسمع لي يا هينيال.
هينيال: ماذا تقول؟ أفي هذه اللحظة التي يرقد فيها مرسيل أمامي مثخناً بالجراح وهو بين الحياة والموت، أفي هذه اللحظة التي قد تعود فيها حياته إليه فيساق في موكب النصر إلى قرطجنة، أفي الوقت الذي تنتظر فيه إيطاليا وصقلية واليونان تلبية أوامري، أفي هذا الوقت تسألني أن أستمع لك؟ ولكن هوّن عليك! سوف أعطيك سرجي هذا المرصع بالجواهر، وهو أثمن من هذه السلاسل عشر مرات.
قائد غالي: لي أنا!
هينيال: نعم لك أنت.(696/38)
قائد غالي: وهذه الجواهر؟
هينيال: نعم.
قائد غالي: إيه هينيال الذي لا يقهر، وما أسعدك يا بلادي بهذا الحلف العظيم! إني مدين لك بالشكر، بالحب، بالولاء إلى الابد.
هينيال: نحن عادة نحدد الوقت في المحالفات. عد الآن إلى مركزك. إني أريد أن أرى الطبيب وأعرف رأيه، حياة مرسيل، انتصار هينيال. وماذا في العيش بعد ذلك. رومة، وقرطجنة، ولا شئ.
مرسيل: أموت الآن، للآلهة الحمد. فالقائد الروماني لا يؤخذ أسيراً.
هينيال: (للطبيب) ألا يقوى على السفر بحراً. انزع منه السهم.
الطبيب: إذا نزعته قضى نحبه.
مرسيل: إنه يؤلمني، انزعه.
هينيال: يا مرسيل إني لا ألمح ظلا للألم في محياك. وإني أكره أن أتعجل منيتك وأنت خصمي في يدي. ومادام شفاؤك عسيراً فأنت - كما تقول - لست أسيراً.
هينيال: (للطبيب) أليس لديك ما يخفف هذا الألم الذي يمضه وإن كان يخفيه؟
مرسيل: يا هينيال أعطني يدك. لقد حبوتني بعطفك، وآسيت جرحي بلطفك. (للطبيب) اذهب يا صاحبي فهناك كثيرون محتاجون إليك؛ كثيرون وقعوا بجانبي.
هينيال: يا مرسيل هل لك أن توصي بلادك بالصلح وتخبر مجلس الشيوخ بتفوق قواتي التي لا تجدي معها المقاومة. اللوح معد، وهذا ختمك دعني أنزعه من يدك لتختم. كم يسرني أن أراك تستطيع أن تتكئ قليلا وتبسم
مرسيل: بعد ساعة أو بضع ساعة سوف تلقاني الآلهة غاضبة وهي تقول يا مرسيل: هذه كتابتك. لقد فقدت روما رجلا فقدت مثله رجالا من قبل؛ ولكن لما يزل في روما رجال.
هينيال: ماذا تقول؟ أتخشى الكذب؟ إنه ليخجلني أن أعترف لك بأن رجالي متوحشون والمراكز القريبة يقوم عليها غاليون موتورون، والنوماديون ليسوا بأقل وحشية. وإني لا أستطيع البقاء بجوارك إذ أحتاج أن أكون بعيداً، وأخشى أن ينالك سوء في غيابي إذا علم هؤلاء أنك أبيت أن تنصح بلادك بالصلح فمنعتهم العودة إلى بلادهم التي طال عنها(696/39)
غيابهم.
مرسيل: يا هينيال أنت لا تجود بأنفاسك كما أجود.
هينيال: ماذا تعني!
مرسيل: أعني أنك تخشى أشياء كثيرة ولكنني لم أعد أخشى شيئاً. إن قسوة جنودك لا تضيرني وجنودي لا يكونون عليَّ قساة. إن هينيال تبعده مهام عمله فتبتعد في أثر جواده سلطته، وعلى هذه الحشائش بقايا قائد مجروح ولكن لا يزال هو روح الجيش وقوته. أتستطيع أن تتنازل عن سلطان منحته لك بلادك؟ أو تستطيع أن تقول إنك بأخطائك قد جعلته دون سلطان خصمك؟ لقد تكلمت كثيراً. دعوني أستريح. إن هذه العباءة تضايقني.
هنيبال: لقد وضعتها على رأسك لتقيك الشمس لما خلعوا عنك خوذتك. دعني الآن أضعها تحت رأسك وأن أعيد هذا الخاتم إلى إصبعك.
مرسيل: بل خذه لك. لقد أعطتنيه امرأة لاجئة في سيراقوسة غطته بخصلة من شعرها وقالت لي خذه هبة مني فهو كل ما أملك. ولم يخطر ببالي يوم ذاك أن سيأتي علي يوم يكون فيه حالها حالي ومقالها مقالي. ما أعجب القدر! في لحظة تتحول مصائر البشر! خذه يا هينيال، وليكن وهذه العباءة التي وسدتنيها هدايا ضيفين يفترقان. قد يأتي يوم تجلس فيه تحت سقف بيتي ظافراً أو غير ظافر فتجد هذه الهدايا ذات نفع ففي شدتك قد يذكر أبنائي أن فوق هذه العباءة جاد أبوهم بأنفاسه فيكافئونك على جميلك؛ وفي رخائك قد يسرك أن تحميهم غوائل الدهر، وهي أقرب ما تكون إلى الإنسان حين يظن أنه بنجوى منها، ولكن هناك شيء واحد.
هينيال: ماذا؟
مرسيل: هذا الجسم.
هينيال: أين تريد أن تحمل؟ الرجال معدون.
مرسيل: لست أعني هذا. قوتي تزايلي، ويخيل لي أني أسمع ما بداخلي ولا اسمع ما حولي. نظري وحواسي تضطرب. أريد أن أقول إن هذا الجثمان بعد أن تفارقه روحي لا يستحق اهتمام أحد، ولكن نبلك يأبى عليك أن تضن به على أهلي حناناً وعطفاً.
هينيال: هل عندك شيء آخر تسأله، فإني أحس رغبة مكبوتة فيك.(696/40)
مرسيل: الواجب والموت يذكراننا بالوطن أحياناً.
هينيال: أجل فإلى الوطن تتجه أفكار المنصورين والمقهورين على السوء. .
مرسيل: هل عندك أسرى من حرسي.
هينيال: كثيرون. رأيتهم مطروحين على الأرض يموتون فليموتوا، إنهم توسكانيون. ورأيت آخرين هاربين، إلا شاباً رومانياً رايته يكر علينا وهو مجروح. أحاطوا به وأنزلوه من فوق فرسه وهم يطعنون الفرس بالسيوف، ولكن هؤلاء الرومان الشجعان يعرفون كيف يملكون زمام شجاعتهم وكيف يستردونها في نبل. ولكن لماذا تفكر فيهم يا مرسيل؟ أو لك أمنية أخرى وما الذي يزعجك؟
مرسيل: لقد كتمتها طويلا. . . ابني. . . ابني العزيز.
هينيال: أين هو. لعله هو، وهل كان معك؟
مرسيل: لو كان معي لشاركني نصيبي، ولكنه نجا. حمداً للآلهة التي رفقت بي حياً، وكانت بي في مماتي رفيقة. أشكر لك صنيعك.
(الخرطوم - السودان)
بولس سلامة(696/41)
أمنيات. . .!
للشاعر إبراهيم محمد نجا
يا ليتني كنت العبير إلى ورودك ينتمي
يا ليتني كنت الغدير على ظلالك يرتمي
يا ليتني كنت الهزار بدوحك المترنم
يهدي إلى دنياك أغنية المحب المغرم!
يا ليتني كنت الندى وافى زهورك في الصباح
فاستضحكت وتمايلت نشوى بأحضان الرياح!
يا ليتني كنتِ الفراش يرفّ عربيد الجناح
يهفو إلى العطر المحبب، والرحيق المستباح!
يا ليتني كنت الشعاع سما بأجواز الفضاء
كالموجة العذراء تسبح بين موجات وِضاء
بالشوق يصعد للذرى. . . بالحب يرقى للعلاء
يهفو إليك، وأنت نجم قد تناءى في السماء!
يا ليتني رؤيا منام في العيون النائمة
يا ليتني ذكرى غرام في القلوب الحالمة
يا ليتني نجوى العيون أو الشفاه الناعمة
يا ليتني الفرج الطليق مع الأماني الهائمة!
يا ليتني يا واحة الأيام نبع في حماك
يا ليتني يا كعبة الأحلام حلم في صباك
يا ليتني يا قبلة الأشواق شوق في هواك
يا ليتني يا مبعث الإلهام إلهام حواك!
يا ليتني أحيا - وأنت معي - على قمم الجبال
نرنو إلى الأفق الموشّح بالضياء وبالظلال
والبحر جياش كأشواق المحب إلى الوصال(696/42)
ونظل نسبح في الفضاء على مويجات الخيال
يا ليتني - وأنا المحب عواطفي نار ونور -
أسمو بأشواقي إلى الأفق المحجّب بالستور
فأظل أسمعه شكاياتي؛ ليأذن بالعبور
فإذا عبرت، فقد خلصت إلى اللباب من القشور!
ياليتني شدو البلابل في الليالي المقمراتِ
يا ليتني إشراقة الآمال في ليل الحياة
يا ليتني. . . أواه من تلك الأماني الضائعات!
كيف العزاء، وكل شيء ضاع. . . حتى أمنياتي؟!
لو كنت يا دنياي في الغيب المحجّب لا أزال
كنت استرحت، فليس لي قلب يحن إلى الجمال
وسلمت من لهف إلى النبع الموشح بالظلال
وتركت أيامي تمر كأنها رؤيا خيال!
إبراهيم محمد نجا(696/43)
البريد الأدبي
طه الراوي:
كنت منذ ساعتين من احتفال للجامعة العربية فلقيت صاحب الفخامة السيد جميل المدفعي فوقفت معه أحدثه، ورأيت أن نتحدث عن العراق. فبدأت بأحب الذكريات إلى نفسي، وأقربها إلى قلبي. فقلت: كيف السيد طه الراوي؟ فأجاب بصوت لا أكاد أسمعه: (لا أقدر على أن أخبرك خبره) وأشار إشارة لم أتبينها. فحسبت أنه يعني ما عرفت من قبل من ضعف بصر الأستاذ الراوي. فقلت: قد لقيته في القدس منذ ثلاث سنوات وفي دمشق منذ سنتين، وكان يشكو ضعف بصره. ولكن كيف هو؟
فقال السيد جميل والأسى يملك عليه صوته: قد مات. وسكتّ وسكت.
وا أسفا! وا حسرتا على الصديق الحميم، السيد النبيل، العالم الجليل، الأديب المتبحر. وا حسرتا للخلق الكريم، والنفس الزكية، المحبَّبة إلى كل من عرفها، والقريبة إلى كل من سمع عنها.
والله ما ذكر في مجلس من معارفه إلا اجتمعت القلوب على حبه، والألسن على مدحه، وما ذكرته عند من يعرفه في مصر والشام بل العراق إلا كان الجواب ثناء عليه، وإعجاباً بعلمه وأدبه، وإكباراً لخلقه.
عرفت الأستاذ الكريم - أوسع الله له في رحمته، وأجزل لآله وإخوانه وتلاميذه الصبر والعزاء - منذ عشر سنين ولقيته في بغداد، والقاهرة، والقدس، وفي مدائن من سورية ولبنان، وراسلته على البعد، وجالسته طويلا، وتحادثنا في العلم والأدب والسياسة والاجتماع والأخلاق وفي أمور شتى. فما عرفته إلا ذكياً عالماً أديباً فاضلا، لا يتكلم في موضوع إلا أفاض فيه إفاضة المحيط بأطرافه، المتمكن منه، المتثبت فيه، وكم قلت في حضوره وغيبته اعترافاً بالحق: (ما يجلس أحد إلى الأستاذ طه إلا استفاد من فلسفته) وأشهد أني ما حضرت مجلساً له في داره أو غير داره؛ إلا فرحت بمجلسه، وأنست به، وأصخت إلى حديثه وهو يصرف الكلام في شجونه، وينقل الحديث في معارفه الواسعة، وتجاربه الجمة.
وكنت أصغى إليه، واعجب به فيما أوافقه فيه وما أخالفه. وندر أن خالفته، وما اذكر أني(696/44)
جادلته أو ماريته قط. بل كنا نلتقي التقاء صديقين تقاربت قلوبهما وعقولهما، ومعارفهما، وعواطفهما، وآراؤهما.
وما لقيته أو كتبت إليه، أو حملت أحداً إليه رسالة، أو بلغت عنه قولا أو خبراً إلا فرحت وهششت، والتمست السرور في ذكراه، وحاولت أن أسره بكلمة من الجد أو المزاح يسمعها أو يبلغها.
وقل أن صادفت أحداً فوثقت به، وسكنت إليه، وأنست به حاضراً، وبذكره غائباً كالصديق الكريم العزيز المفتقد السيد طه الراوي.
وقد أردت هذا العام أن أحقق مقصد الجامعة العربية في تزاور الأساتذة في البلاد العربية، وفكرت في أن أدعو بعض أدباء العراق والشام لزيارة جامعتنا، والمحاضرة فيها. فكان الأستاذ الراوي أول من ذكرته وأول من ذكره لي من استشرته في الشام ومصر.
وما قدرت أن الموت يسبقنا إليه، ويستأثر به، ويحرمنا منه ويصيبنا فيه.
أي خسارة للأدب! وأي رزء للاخوة، وأية حسرة للصداقة. وأي مصيبة للخلق الكريم.
أي نعي فادح، ونبأ قاصم نعي السيد الراوي إلى أصدقائه وإخوانه وتلاميذه ومعارفه.
يا صديقي العزيز لك رحمة الله، وإخوانك اللوعة والحسرة، والأسى والحنين والافتقاد والبكاء عليك؛ ثم لهم الصبر والتأسي.
يا صديقي النبيل! هذه كلمة يدفعها الحزن ويصدها، ويمدها الأسى ويقبضها، وتطيلها اللوعة وتقصرها. ففي النفس معان تستعصي على اللفظ، وعلى اللسان ألفاظ ينوء بها القلم، وفي القلم اضطراب لا يقره واقفاً، ولا يتركه سائراً، فليجف المداد، ولتسل الدموع يا صديقي.
وقفت الحيرة بقلمي هنا. فرحمك الله. رحمك الله.
عبد الوهاب عزام
حماتي تحبني:
سالت (الاثنان) الغراء الأديب الكبير الأستاذ أحمد رامي الشاعر الناثر المشهور عن هذا المثل (حماتي تحبني)، وقد روته تلك الصحيفة (حماتك تحبك) فأملي على الأستاذ أدبه(696/45)
المستنبط في اصله ومعناه ما أملاه، وفي الجواب تفنن وبراعة، وقد يضيف سهم الرامي. والذي نراه أن اصل المثل لا يدريه إلا أهل القرن الذي نجم فيه، وهو القرن السابع حسب المظن. وأما معناه فقد أظهره العلامة الخفاجي في كتاب (شفاء الغليل) قال:
(حماتي تحبني) هو من أمثال العامة، يقوله من صادف نعمة لم تكن على خاطره، قال ابن نباته مورياً:
كلما عجت في حما ... ة على خير موطن
أجد الأكل والندى ... فحماتي تحبني
قلت: صاحب هذين البيتين هو (المصري) لا (السعدي) معاصر (المتنبي) ونون نباته عند ناسي الشاعر إلى جده القديم (عبد الرحمن بن نباته) صاحب الخطب المشهورة - مضمونة، أو الضم في هذا العلم أكثر واثبت كما قال (المجد) وعند ناسي (جمال الدين) إلى ما ذكره شيخ صاحب (التاج) مفتوحة، وهذا قوله كما روى شارح (القاموس):
قال شيخنا: وأما الجمال محمد بن نباته المصري الشاعر فانه بالفتح كما جزم به أئمة من شيوخنا لأنه كان يورى في شعره بالقطر النباتي، يعمل منه قطع كالبلور شديد البياض والصقالة، والظاهر انه فارسي حادث، وكان أولى بالمضيف - يعني صاحب القاموس - أن ينبه عليه ولكنه أغفله.
قلت: الضم خير مع حلاوة هذا القول. . .
السهمي
طيرتاناذ:
نقل الأستاذ شكري محمود أحمد في العدد 682 من (الرسالة) النيرة تعليقاً على نقل الباحث الفهامة محمد إسعاف النشاشيبي المنشورة في العدد 678 من (الرسالة) الغراء: أن الخبر المنسوب إلى محمد بن مسروق في هذه النقل النشاشيبية هو من أخبار الحسن بن هاني، كما رواه ابن منظور في الصفحة 302، 203 وان الاسم في البيت الأول هو (طيزناباذ) وليس (بطور سيناء) ثم نقل في الحاشية عن كتاب مسالك الأبصار. أن هذا الاسم: (هو موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق على جادة الحاج الخ)(696/46)
والذي أروم عرضه على الأستاذ - وعلى غيره من جهابذة (الرسالة) - هو رواية ثالثة لهذا الاسم تختلف عن (طور سينا) و (طيزناباذ). . . فقد ذكر أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى 328هـ في الجزء الرابع من عقده الثمين (الطبعة الأولى 1913 المطبعة الأزهرية بالقاهرة) - عند كلامه على ضروب العروض شعرا - ذكر أبياتاً ذالية، يظهر من فحواها أن هذا الاسم يدعى (طيرتاناذ) - بالراء المهملة والتاء المثناة بعدها الألف ثم النون يليها الألف أيضا - وانه محلة من محلات اللهو والشرب والأنس، انظر قوله:
أذكرتني طيرتاناذ ... فقرى الكرخ ببغداد
قهوة ليست ببارقة ... لا ولاتبع ولا ذاذى
أفيكون أن (طيرتاناذ) هذه هي محلة من محلات بغداد أم هي طور سيناء ابن مسروق أو طيزناباذ ابن منظور؟ ولكن حروف المطابع حولتها من طيرناباذ - إلى طيزناباذ - إلى طور سينا؟ كما حولت غيرها من الأسماء والألفاظ والمحلات والكلمات؛ فعملت بها تصحيفاً وتحريفاً وغيرت مواضع الحروف تأخيراً وتقديماً.
وإني لأرى في لفظ الاسم على روية ابن منظور وصاحب مسالك الأبصار بعض النبو والسماجة، وان الصحيح هو صاحبنا ابن عبد ربه، وخصوصا في لفظ المقطع الأول، ولو إنها كانت في عصر ابن هاني، ذلك العصر الذي لاءم بين عفاف العرب، وحشمة الإسلام من جهة، وخلاعة الترك ومجون الفرس من الجهة الثانية؛ وان هذا الاختلاط لا بد وان يكون مدعاة لكل بدعة غي السلوك الأخلاقي ولو بالأسماء والكنى. فأرجو من الأستاذ - وغيره من أدباء العصر أن لا يظنوا علينا بطرائفهم الأدبية وأخبار مصادرهم العلمية في تحقيق أمثال هذه الأسماء، وتعيين مواضعها - وله منى اجمل الثناء، وافضل التحيات.
(العراق - القرنة)
حسين السيد جمعة الجابري
في الأدب التحليلي:
في صيف سنة 1921م خرج جبران خليل جبران ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة وعبد(696/47)
المسيح حداد، وهم من أدباء المهرج المشهورين كي يتمتعوا بمناظر الطبيعة والخلاء في مزرعة (كاهونزي) بأمريكا، ولما دنا المساء وغابت الشمس، اخذوا يسيرون الهويني على الطريق العامة، وهم في حديث متواصل، وبينما هم كذلك إذ خطر لميخائيل نعيمة هذا البيت:
أسمعيني سكينة الليل لحناً ... من نشيد السكينة الأبدية
فألقاه على مسامع رفاقه الثلاثة، فوقع من نفسهم موقعاً حسناً، وجعل كل واحد يتبعه ببيت أو بنصف بيت، والأخر يزيد على ما قال سابقه، حتى نتج عن ذلك الأبيات التالية:
أسمعيني سكينة الليل لحناً ... من نشيد السكينة الأبدية
وافتحي يا نجوم عينيْ علَّى ... أن أرى بينك الطريق الخفيه
واجعلي يا رياح منك بساطاً ... واحمليني إلى الرياض العليه
واخطفي يا نسائم الليل روحي ... وخذيها مني إليك هديه
ودعيني هناك أسرح حراً ... إنما العبد يشتهي الحريه
طال سجني وطال في الأسر يأسي ... واحتمالي لحالتي البشريه
أنا مالي وللورى، فارفعيني ... ودعيهم في بؤسهم والرزيه
ملّ قلبي بغضاءهم وهواهم ... ملّ قلبي سبابهم والتحيه
ولساني قد صار يخشى لساني ... وجناني أضحى علىّ بليه
وفراشي شوكا، ونومي ارتعاشاً ... ويقيني شكا، وبرى خطيه
وشرابي تعللا وأواما ... وطعامي مجاعة روحيه
ولباسي رماد فكري تذريه ... رياح تثيرها الأمنيه
تلك حالي. حرب عوان، فإن ... أظفر فنفسي قتيلة أو سبية!
والقصيدة على صغرها زاخرة بالمعاني حافلة بالآراء الفلسفية والفكرية. وإنا لنتسأل: أتصور هذه القصيدة نفسية واحدة، وتنبئ عن ذهن فرد من أفراد منشئيها، فنقول إن أفكار ذلك الفرد كانت ساعة الإنشاء للقصيدة وقوية وذهنه متوقداً، فاستطاع أن يفرض شخصية وطريقة تفكيره على زملائه، فقلدوه وتابعوه في هذه الساعة، أم أن الرفاق الأربعة وهم من مشهوري الأدباء قد اتفقت أراءهم وأحاسيسهم، فهم كالشخص الواحد , كما يحدث كثيراً في(696/48)
مثل هذه اللحظات التي يتجرد فيها الإنسان من أثقال الحياة ويتعبد في محاريب الطبيعة والجمال الإلهي الخالد، فالقصيدة حينئذ تعبر في مجموعها عن رأيهم جميعاً؛ أم أن القصيدة ليست ذات وحدة مطردة وطابع خاص شامل؛ بل إن فيها أشتاتاً من الآراء والأفكار، ولكل واحد من الرفاق بعض هذه الأفكار؛ وفي استطاعة أدباء التحليل ودراسة الشخصيات والآثار الأدبية أن يعرفوا بوسائلهم الفنية أن هذا البيت لهذا الرفيق، وذاك لذاك، وذلك لذلك، وهكذا؟!. . .
لا يستطيع أن يتحدث بجدارة في هذا المجال إلا من درس هذه الشخصيات الأربع المشورة، ووقف على آثرها الفكرية وقفة الدارس البصير؛ وأظن لو أن أحد هؤلاء الخبراء قام بتحليل هذه القصيدة وتشريحها وذكر مجهود كل من الأشخاص الأربعة فيها، مستعيناً في ذلك بأصول البحث الأدبي المشهورة، وإيراد الدلائل الكافية لنعمنا بطرفة تحليلية رائعة!. . .
أحمد الشرباصي
رجاء وشكوى:
مما يلاحظ - مع الأسف الشديد - أن بعض الأساتذة الكتاب يبدأن في نشر مقالات ممتعة ذات فصول، ثم يتركون الموضوع بدون أن يتم بعد كتابة فصل أو أكثر، وإنا لنذكر بعض هؤلاء رجاء أن يتداركوا الأمر ويعملوا أن من حق القارئ أن يقرا الموضوع كاملا. . . فمنهم الأستاذ فخري قسطندي في مقاله (حول الاتباعية والابتداعية) آخر ما نشر منه العدد 689 والأستاذ محمد رجب البيومي في مقاله (من أخلاق البحتري) كتب البحث الأول في العدد 690 ثم انقطع البحث بعد ذلك. والأستاذ محمد سليم الرشدان في مقالة (الأدب في فلسطين) آخر ما كتب منه في العدد 689.
وبرغم أن هذا العدد رقم 696 - اي أن حوالي شهر ونصف أو يزيد قد مضى على بعض المقالات ولم تتم بعد فصولها.
وإنا لنرجو من أصحاب هذه المقالات مراعاة حق القراء وإتمام فصولهم بدون مباعدة بينها
(المنصورة)(696/49)
ليلى عبد السلام
المدرسة(696/50)
رسالة النقد
القافلة الضالة
تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي
(منشورات دار الجامعة)
للأستاذ شاكر خُصْباك
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ومن ثم تنتهي القصة! فبالله عليك أيها القارئ خبرني: أي شيء استنتجته من هذه القصة المملة؟! لاشك انك ستجيبني بـ (لا شئ)! إذاً ما قيمة تلك الحوادث التافهة ليصاغ منها قصة تستغرق ثماني عشرة صفحة؟! ثم ما علاقة تلك الخاتمة التي تنتهي بها القصة، واقصد بها زواج سنية من تاجر الجلود بحوادثها المتواترة الاخرى؟! كأنى بالمؤلف تورط في سوق الحوادث بغير حساب، ولم يدر كيف سينهيها، ثم عن له أخيراً أن يختمها على تلك الصورة الغريبة ففعل! وما هذه المصادفات العجيبة المسيطرة على جو القصة، والتي لا تحدث في الواقع إلا نادراً؟! فتلك الصدف تدفع ممدوح صادق مثلا أن يخبر سنية أنه سيبعث لها برسائل غرام، ولكنه يضرب عن هذا العمل، وتجعل من ممدوح أسعد محباً لسنية أيضاً حيث يبعث لها برسائل غرامه فتعتقد أنها من ممدوح صادق؟!!
أنظر إلى تلك المصادفات وأعجب، إذ يجعل منها قصاص قدير حوادث قصة منتزعة - على ادعائه - من صميم حياة مصر الاجتماعية!!
إن المصادفات في هذه القصة لتتوارد وكأن المؤلف قد أقحمها إقحاماً، بل كأن أبطال القصة شخصيات آلية يحركها المؤلف بدلا من أن تتحرك هي نفسها! وبهذا فقد فقدت القصة عنصراً مهماً من عناصرها الفنية هو عنصر إظهار حيوية الشخصيات!
وأخيراً، دعني أسألك يا عزيزي القارئ قبل أن أغادر هذه القصة: إن كنت قد ضحكت أم لا عندما أخبرتك في ملخصها أن الصبي ممدوح أسعد (الحلاق) الذي تخرج من صف الثالث الابتدائي أديب موهوب يكتب قصصاً وأزجالاً ينشرها في مجلات معروفة. ويكتب(696/51)
رسائل غرام تجعل من ممثلة تحتقر الأدب تقدس كاتبها غاية التقديس؟!
- 3 -
وقصة الكتاب الثالثة (تمثال يتحطم) قصة تحليلية ممتازة ولا أود التعرض لها بشئ، فليس فيها نقيصة، بل إن من واجبي إن أشركك يا صديقي القارئ بإعجابي بتحليلها النفسي الملذ الذي توفق فيه المؤلف أعظم التوفيق!
- 4 -
ولأنتقل الآن سريعاً إلى القصة الرابعة التي كانت بعنوان (المعلم حنفي). والواقع أن جو هذه القصة فاتر الفتور كله. ولعلك تتبين هذا من الملخص الذي سأسوقه لك الآن:
ف (رفيق حامد طالب في الجامعة، ولكنه لا يشبه رفاقه ممن اعتادوا في مثل هذا السن أن ينشئوا علاقات غرامية مع النساء، بل كان منصرفاً إلى قراءة المسرحيات الفرنسية ليكون في المستقبل كاتباً مسرحياً. وكان يتحاشى الاختلاط برفاقه الطلاب الآخرين حتى قيل عنه إنه متوحش. وقد اعتاد أن يتردد على مقهى (فينيكس) في شارع عماد الدين، فينتبذ مقعداً منعزلا - من جهة الزقاق الذي تجتمع فيه سيارات وعربات الأجرة - فأشيع عنه أنه يعتز بصداقة الحوذية والسواقين. ولكنه لم يهتم بكل تلك الإشاعات ومضى يطبق برنامجه حتى إنه كتب قصة بعنوان (المعلم حنفي) استوحاها من شخصية معلم من معلمي عربات النقل في (الجيوشي) إمعاناً في العناد.
ثم إنه نال ليسانس الآداب وتوظف في إحدى المدارس الثانوية فأبعدته مشاغله عن مقهى فينيكس وأقصته عن الجو الأدبي نوعاً ما.
وبدأ يسترد لونه الطبيعي - بعد أن كان (صفراوي) من كثرة الجهد الذي يبذله في المدرسة - ثم بدأ يعني بهندامه ويخيط ملابسه لدى خياط شهير. وتقدم خطوة أخرى في ميدان حياته الجديدة فاشترى سيارة.
ثم إن الأستاذ علي عبد السلام - ناظر مدرسته - دعاه ذات يوم بمناسبة عيد ميلاد ابنته سعاد وقدمه لها على أنه قصصي فسألته عن قصصه؛ وعندما اخبرها بقصة (المعلم حنفي) هزت كتفيها احتقاراً؛ وأشارت إلى أنها تفضل قراءة القصص الغرامية على قراءة قصة(696/52)
عن حوذي. فعاد إلى منزله وقد صمم أن يكتسب إعجاب ابنة رئيسه. وأعد هيكل مسرحية تدور حول حادثة حب عنيف. وبعد أسبوع (!!) تمت الرواية؛ ومثلتها إحدى الفرق التمثيلية فنجحت نجاحاً باهراً (!!) وتناقلت خبرها الصحف المصرية والأجنبية بإعجاب (!!).
وعاد رفيق في الليلة الأخيرة لتمثيل روايته إلى داره؛ ففوجئ بدقات التلفون؛ وإذا بفتاة تخبره أنها شاهدت تمثيل روايته أسبوعاً كاملاً وأنها معجبة به كل الإعجاب.
وتطور هذا الإعجاب من جهة الفتاة وجهته فأصبح حباً عنيفاً. وانطلقا يتواعدان على اللقاء باستمرار دون أن تعلم أسرة الفتاة بتلك العلاقة الغرامية. ولكن علاقتهما انكشفت ذات يوم لسائق سيارة الاسرة؛ فبينما كانت الفتاة تهبط من سيارة رفيق أمام منزل من المنازل وإذا بالسائق السوداني العجوز يبصرها. فثار لكرامة ابنة سيده، واعترض سيارة رفيق؛ ورفع يده ليهوي بها على راسه، ولكن رفيق دفعه دفعة ألقته على الأرض وأسرع بسيارته هارباً.
ووقف عند مقهى فينيكس فاختار مقعداً منفرداً وجلس يفكر بما صنع مع السائق العجوز وقد شعر بالندم يتسرب إلى نفسه. وفي أثناء ذلك اجتمع حوله السواقون والحوذية يسائلونه عن سر تلك الغيبة الطويلة. فرحب بهم ودعاهم إلى تناول أقداح الشاي
ولما عاد إلى منزله لبث ليلته ساهراً حتى الصباح وقد انهمك في كتابة قصة جديدة عن سائق عجوز لأسرة من الأسر كان أكثر وفاء لإبنة الأسرة وحرصاً عليها من أهلها.
ومنذ تلك الليلة فضل أن يستعيد لقبه القديم الذي عرف به فيما مضى على أن يقوم بعمل مشابه للعمل الذي قام به في تلك الليلة المشئومة!
وبهذا انتهت القصة. . .!! وبانتهائها تسنح لي الفرص لإبداء رايي فيها.
فأول نقطة لاحظتها عليها هو الفتور الذي صبغ به المؤلف جو القصة. يبدو هذا الفتور في حوادثها الاعتيادية المجردة من عنصر الحركة والنشاط. وفي ذات الوقت فهي تفتقر إلى عنصر مهم من عناصر القصة الفنية هو عنصر اللذة أو التشويق. إذ أن القارئ قد يترك هذه القصة في أي قسم منها دون أن يشعر بجاذبية تربطه بها كيما يتمها. تلك الجاذبية التي يخلقها عنصر اللذة أو التشويق في القصة الفنية.
والملاحظة الثانية هي أن الصورة التي انتهت بها القصة قد أقحمت إقحاماً. وإلا فما وجه(696/53)
الندم في دفع سائق عجوز وإلقائه على الأرض؟؟!! أهذا الحادث التافه يقلب حياة شاب رأساً على عقب؟!! أهذا الحادث البسيط يبدل أفكار رجل وآراءه ويوجهها وجهة جديدة؟!! اللهم هذه نفيسة شاذة ولا قياس على الشاذ. .!!
ولكن رويدك يا أستاذ. ما هذه الغلطة الفظيعة؟!! أيمكن لقصاص مبتدئ أن يكتب مسرحية في ظرف أسبوع وأن لا يطول مدى تفكيره في هيكلها أكثر من ساعة أو ساعتين؛ ثم تنجح نجاحاً باهراً؟!! إن هذا النجاح الذي لقيته تلك الرواية التي كتبت في أسبوع والتي تناقلت أخبارها المجلات والصحف المصرية بإعجاب ونقلتها عنها المجلات الأجنبية المحلية لا تلقاها إلا رواية كاتب كبير ذو مران طويل؛ لا كاتب ناشئ ليس له - حسب تحليلك - المقدرة القصصية.
ثم إن الرواية التي ترفع كاتبها إلى مرتبة كبار كتاب المسرح - على حد قولك - لا يفكر في هيكلها ساعة ولا تسجل في ظرف أسبوع يا أستاذ بل يحتاج إلى مدة طويلة ليعاد تهذيبها مرات ومرات.
ودع عنك كل ذلك، ولكن ما هذا التحليل السطحي يا سيدي؟!! إنه لا يفوق تحليل أقل كاتب ناشئ إطلاقاً. أين هذا التحليل - ولا أدري كيف أسميه (تحليلا)!! - من نفسيات شخوص قصتك (تمثال يتحطم)؟!! ولكن صبراً فهناك ما هو أدهى من ذلك وهي. . .
قصة (شبح اللقاء). إنها قصة مفككة الحوادث باردة الأسلوب عادية المعنى. ولا أغالي إن قلت إنها أتفه ما في الكتاب من قصص. وهي تتلخص فيما يلي:
ف (الأستاذ حمدي يحب فتاة اسمها راجية. وينافسه في حبها ابن عم لها اسمه سامي. إلا أن الفتاة لا تحب سامي بل حمدي على الرغم من أن أهلها يعارضون في ذلك الحب.
ثم إنهما اتفقا على الزواج، ولكن حمدي سافر إلى باريس لقضاء عطلته ولكي يمتع نفسه بمباهجها قبل أن يربط حياته بحياة راجية. وهناك تعرف براقصة فرنسية كانت قد اتفقت مع إحدى الملاهي في الإسكندرية على العمل فيه.
فلما أراد أن يعود إلى الوطن صحبته تلك الفرنسية. وعند عودته علم أن راجية قد عقدت خطبتها على ابن عمها سامي، فقرر أن ينتقم منها: وقد اغتنم ذات يوم فرصة وجودها في أحد المطاعم مع خطيبها فدخل إليه مصطحباً الراقصة الفرنسية معه. فتعشيا معاً، ثم(696/54)
انقضت فترة قصيرة وعزفت الموسيقى تدعو للرقص فأما راجية فقد أحجمت عن الرقص لئلا يتألم حمدي. وأما حمدي فقد نهض وتبعته الراقصة إلى حلقة الرقص ومضيا يرقصان. وكان هذا هو الانتقام الذي أعده لها (!!).
وفي صباح اليوم التالي تلقى حمدي من راجية رسالة تخبره فيها بانقطاع العلاقة بينهما إلى الأبد. . .) وبذا انتهت القصة. .!
أتمعنت في حوادثها الخطيرة يا عزيزي القارئ؟؟!! تلك هي الصورة المنتزعة من صميم المجتمع المصري. .!!
ولا حاجة بي أن أكرر الحديث عن ضعف أسلوبها وركاكته مرة أخرى. ولا حاجة بي أن أكرر الإشارة إلى حوادثها الاعتيادية - وأقصد بالاعتيادية تلك التي تصلح أن تكون مادة لقصة من القصص - وموضوعها التافه. والحق أنني أعجب لقاص شهير كالأستاذ محمود كامل المحامي أن يكتب أمثال هذه القصة. والواقع أننا يجب أن نطلق على مثل هذه القصص اسم (حكايات العجائز) لا اسم (قصص اجتماعية). وكان الأحرى بالمؤلف أن يطلق عليها ذلك الاسم كي لا يكلف نفسه مئونة نقد النقاد. فبالله عليك أيها القارئ خبرني أي فائدة جنيتها من مطالعة تلك القصص؟!! وأي عبرة اعتبرتها من قراءتها؟!! ومع ذلك فالمؤلف يفخر في مقدمة كتابه بأن قصصه هذه عبارة عن مجموعة صور اجتماعية انتزعت من صميم حياة مصر الاجتماعية
- 6 -
والقصة السادسة هي قصة (الجارة الراحلة). وهي قصة نفسية جيدة وإن كان فيها شيء من الاستخفاف بنفسية المرأة لا نصيب له من الواقع.
ولكنها على كل حال قصة فنية من طبقة قصة (تمثال يتحطم).
وأختتم نقدي لهذا الكتاب بالإشارة إلى ضعف لغته فهي إن لم تكن في الدرجة المتوسطة فأقل منها. وقد لاحظت أن المؤلف قد استعمل كلمات في غير موضعها أمثال كلمة (الحياكة) - في قصة (موسيقار الطريق) - بدل (الخياطة)، و (الحائك) - في قصة (المعلم حنفي) بدل (الخياط).
العراق - الحلة(696/55)
شاكر خصباك
رد على رد
للأستاذ كامل السيد شاهين
كتب الأستاذ العماري في عدد (الرسالة) (694) بعنوان (مع البلاغيين) رداً يزعم فيه:
1 - أن التشبيه الذي يقصد منه بيان حال المشبه تشبيه معتبر معدود، ويمثل له بقول العرب (أسود كحنك الغراب) وقولهم (أحمر كالدم القاني).
وتلك عثرة بطيئة الإقالة، فإن أغمار التلاميذ في المدارس الثانوية يميزون بسهولة بين التشبيه الذي يراد به بيان الحال، والآخر الذي يراد به بيان مقدار الحال، ولنسق عبارة عبد القاهر في هذا المقام لعل فيها مقنعاً للأستاذ الكبير. قال:
(قد يحتاج الوصف إلى بيان المقدار فيه، ووضع قياس من غيره يكشف عن حده ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان، مثال ذلك قولهم هو أسود كحنك الغراب، فالقصد إلى التعريف بمقدار الشدة لا التعريف بنفس السواد على الإطلاق).
وأما الآية الكريمة (وجفانٍ كالجواب) فهي تدل على مقدار الاتساع لا اصل الاتساع، وذلك ما لا يصح أن يقع فيه جدل أو مماراة.
2 - انه لا يأخذ كلام المتقدمين قضايا مسلمة دائما ولكن هذا - يا سيدي - لا يتفق مع ما جئت به وسقته من كلام عبد القاهر في تحسين التشبيه بين البنفسجة وأوائل النار في أطراف الكبريت فما كان لك من حجة إلا هذا الكلام الذي ساقه، أفبعد أن تطعم على مائدتهم وتتوكأ مغمض العينين على عصاهم تزعم أنك لست كلاًّ عليهم؟
3 - أن بيت امرئ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجادٍ مزمل
لا معنى وراءه، وليست هذه الدعوى بالتي يستمع لها، فإنه لما صور الجبل وقد أصابه الوَبْل بعث في نفس السامع الرهبة وأشاع شيئاً من البرودة التي يقتضيها المطر، فشبهه رجلاً مَهيباً مُزَمَّلا في بجادة فأصاب مل أراد من المعنى الذي أحاط به المشبه.
وأما قول طرفة:(696/56)
كأن حدوج المالكية غدوة ... بقايا سفين بالنواصف من دد
فإن الحدوج حينئذ لها اعتبار خاص فهي ليست ملقاة في الفناء أو خارج الخيمة، ولكنها متأهبة للرحلة مشدودة على البعران، مهيأة للسفر، فمن ثم أصاب القصد فيما تصيبه العين من بقايا السفين المقلعة بعد أن أبعدت عن مرساها، وفيه إبراز للإشفاق والحنين والتخوف من الوحشة، وذلك لا يدركه إلا قلب شاعر!
4 - أنني أخطأت في تعريف البلاغة ونقصتها قيدا، وأنه كان ينقد في البيان فلا يحتج عليه بتعريف المعاني.
أما القيد الذي ذكره فقد تركته لأنه ليس محط الإجابة، واقتصرت على ما به أداء الغرض حتى لا يضل عن القصد فتكثر شطحاته.
وأما أنه يتكلم في البيان فلا يحتج عليه بتعريف المعاني فهذا ما كنت اجل الأستاذ عن أن يقع فيه، وكأنه يريد بذلك أن من التراكيب تراكيب ينظر إليها علم المعاني وأخرى ينظر إليها علم البيان، فتركيب القصر، والإنشاء مثلا لا ينظر إليهما من ناحية أنهما استعارة أو كناية، و (مكر الليل والنهار) لا ينظر إليهما على أنهما إيجاز أو إطناب. إن كل جملة - يا سيدي - خاضعة للنظرين فلا تقل بعد اليوم: إن هذا التركيب خاص بعلم البيان، وذاك خاص بعلم المعاني. فهذا عن الصواب بمنأى.
5 - أن حسد جرير لابن الرقاع إنما كان لروعة التشبيه ولكن قول جرير (ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف) مما يفيد أنه إنما حسده لاستطاعته وهو بدوي جلف أن يصل إلى تشبيه مدني حاضر. فلا تزال شجاً مؤلماً وغصة مانعة من إساغة تأويل الأستاذ.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية(696/57)
العدد 697 - بتاريخ: 11 - 11 - 1946(/)
لغة عالمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
تجدد في هذه الأيام نشاط الدعاة العالميين إلى تعميم لغة واحدة بين أمم الحضارة، لتصبح في يوم من الأيام لغة النوع الإنساني كله، أو لتصبح - على الأقل - لغة إضافية يتفاهم بها أبناء الأمم جميعاً، إلى جانب لغاتهم القومية، إذا تعذر الأنفاق على لغة واحدة تغني عن جميع اللغات
وهذه الدعوة تتجدد في أيام الدعوة إلى السلام، وهى أرفع ما تكون صوتاً وأبعد ما تكون صدى في أعقاب الحروب العالمية؛ لأن الناس يشعرون في هذه الأوقات بعواقب التفرق والانقسام، ويستمعون إلى كل نصيحة يرجون منها منع الحروب وتقريب الشقة بين بني الإنسان، في اللغة والعقيدة والعصبية القومية
ومن تقديرات هؤلاء الدعاة أن التفاهم بلغة واحدة يقضى على سبب من أسباب سوء التفاهم بين الأمم، فلا يقع بينها هذا التنافر الذي يثير الفتنة وينفخ في نيران العداوة، ويفرق الناس شيعاً في القلوب كما تفرقوا شيعاً في الألسنة واللغات
ومن البديه أنهم يقدرون إمكان النجاح في هذه المحأولة، ولا يسلكونها في عداد المستحيلات الممتنعة على جميع المحاولات
ونشاطهم اليوم أقوى من نشاطهم في السنوات الماضية، فقد شهدوا أمم العالم تجمع مندوبيها في صعيد واحد، وقد بلغوا في عهد عصبة الأمم المنحلة أن تعترف العصبة (سنة 1927) بأشهر اللغات العالمية وهي (الاسبرانتو) التي سمعنا عنها كثيراً في البلاد العربية. فإذا بلغوا في عهد الأمم المتحدة أن يتكلم المندوبون بهذه اللغة، أو يتكلم أحدهم بها ويفهمه بعض زملائه، فهي خطوة مفلحة في سبيل التعميم، وقد تتبعها خطوات تشترك فيها الحكومات وتنتظم فيها الشعوب
فالمجلات التي كانت تطبع بلغة الاسبرانتو ثم احتجبت في السنوات الماضية تعود الآن إلى الظهور، والمجلات التي ضاق نطاق انتشارها توسع هذا النطاق جهد ما تستطيع، ولا تكتفي الجماعات الدولية بمطبوعات هذه اللغة فتعقد الاتفاقات بينها وبين المجلات المشهورة على تخصيص أقسام منها لتعليم (الاسبرانتو) ونشر المترجمات إلى هذه اللغة مع(697/1)
أقسام المجلة الأخرى التي تنشر بلغتها القومية، وتتوالى الدعوات إلى عقد المؤتمرات السنوية كما كانت تنعقد منذ أربعين سنة بغير انقطاع فيما عدا أيام الحروب. وقد كانت للاسبرانتو مؤتمرات سنوية شهدها أربعة آلاف مندوب من أرجاء العالم في بعض السنين، ولهم أمل في ازدياد هذا العدد خلال السنوات المقبلة، ولهم أمل أهم من ذلك واجدي على اللغة بين أمم الحضارة، وهو أن يظفر كتاب أدبي من كتب الاسبرانتو بجائزة (نوبل) أو بجائزة من قبيلها، ولا يسمحون بترجمة بعد ذلك إلا إذا اقترنت الترجمة بنصوص الكتاب الأصيل
ومما لا شك فيه أن الاتفاق على لغة عالمية إضافية مفيد في عالم السياسة والمال، ومفيد في السياحات والمقابلات بين الغرباء.
ولا شك كذلك في سهولة الاسبرانتو على المتعلم بالقياس إلى جميع اللغات التي عرفت إلى الآن، لأن كلمات اللغة تكتب كما تنطق، وقواعد النحو فيها قليلة لا يعرض لهل شذوذ، ولا يعسر على قارئ من القراء أن يحفظ جذورها جميعاً وأن يتصرف في الاشتقاق منها على حسب القواعد المعدودة بغير مشقة وبغير حاجة إلى مراجعة، فهي لغة على المتعلم بلا خلاف
ولكن الشك كل الشك في الأساسين اللذين يقوم عليهما بناء اللغة والرجاء في جدواها، وهما إمكان التعميم ومنع الخلاف بهذا التعميم
فموضع الخطأ الأكبر في تقدير هؤلاء الدعاة حسبانهم أن اللغة وسيلة تفاهم وكفى، ولا شأن لها قبل ذاك ولا بعد ذاك.
والواقع كما نشهده أن اللغة (كائن عضوي) يمتزج بكيان الأمم في ماضيها وحاضرها، ومستودع حيوي لما يجيش في نفوسها وعقولها من فكر وأمل وعاطفة واعتقاد
ومهما يبلغ من أنصاف الدعاة المشغولين بالسلام وتوحيد الشعوب، فلن يستأصلوا من نفوسهم تمييز على جنس ولسان على لسان، وآية ذلك أنهم قصروا جذور اللغة العالمية على مصادر اللغة اللاتينية ومشتقاتها، فليس فيها حساب للعرب مثلا ولا لأهل فارس أو الهند الصين
ونحسبهم لو استطاعوا أن يلحظوا اللغات كافة في جذور لغتهم لما ضمنوا بذلك توحد اللغة،(697/2)
ودوام التوحيد فيها مائة سنة متوالية، ولا نقول بضع مئات
وتاريخ اللغة العالمية شاهد على ذلك يغنينا عن ترقب حكم المستقبل البعيد أو القريب
فقد ظهرت أول لغة عالمية في سنة 1879 قبل إعلان الاسبرانتو بنحو تسع سنوات
وقد وضع تلك اللغة قس ألماني يسمى وأطلق عليها اسم (الفولبك) منحوتاً من كلمات إنجليزية وجرمانية معناها لغة العالم
فلم تمض 1887 حتى أعلن الدكتور الروسي لغة عالمية أخرى هي لغة (الاسبرانتو) التي كان لها من الذيوع في أوربة وأمريكا أو في نصيب
ولم تمض سنة 1900 حتى رأى بعض أنصار الاسبرانتو أنها محتاجة إلى تعديل؛ وادخلوا عليها هذا التعديل في النطق والهجاء فعرفت باسم لغة (الايدو) وهي الكلمة التي وقع بها مقترح التعديل اسمه عند جمع الأصوات
حاول أصدقاء الفريقين أن يرابوا الصدع بينهما، فاقترحوا توحيد اللهجتين باسم (الاسبرانتو) تركيباً مزجياً من الاثنتين، فلم يفلحوا في التوفيق، وأسفرت المحاولة في اقل من أربعين سنة عن ثلاث لغات أضيف إلى اللغات المتفرقة، فزدات ولم تنقص بمحاولة التوحيد
ويحدث هذا في كل محاولة يراد بها جمع البشر كافة إلى لغة واحدة أو عقيدة واحدة أو تفكير واحد، وشوهد ذلك عندنا في الشرق المعروف، وفي العصر القريب
فالباب قد أراد في القرن الماضي أن يفسر الكتب الدينية تفسيراً يقبله المسلمون والمسيحيون واليهود ويجمع به الأديان الثلاثة إلى كلمة واحدة ينحسم فيها الخلاف، فلم يمض على دعوته عمر رجل واحد منها حتى كانت (البابية) نفسها ثلاث شعب لا تدين واحدة منها بإمامة الشعبة الأخرى، فلم تتوحد العقائد بل زادت عقيدتين مع الدين الجديد
وحاول القادياني في الهند مثل هذه المحاولة فلم يسلم الروح حتى اصبح الأحمديون شعبتين متنازعتين تدين إحداهما بنبوة الإمام وتنكر الأخرى عليه النبوة وتنعته بلقب الاجتهاد والإمامة وافترض اتباعه قبل أن يوحدوا الاديأن، وقد تنقسم الفرقة إلىفرق والشعبة إلى شعب. دون أن يتحقق المقصد الذي نزعوا إليه.
والاسبرانتو على هذا القياس ستصبح لهات ولهجات قبل أن نتفق على لغة واحدة إلى(697/3)
جانب اللغات القومية. أما أن تزول هذه اللغات القومية جميعاً فذلك تقدير بعيد، بل جد بعيد.
والخطأ في التقدير الأخر أن نرجع بأسباب الحروب إلى تعدد اللغات، وأن نعتقد أن توحيد اللغة يزيل تلك الأسباب، أو يزيل سبباً قوياً منها أن لم يزل جميع الأسباب.
فإن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغة الواحدة لا تقل عن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغات المختلفة، وأمثلة ذلك ظاهرة في تواريخ الرومان واليونان والعرب والصقالب والجرمان والإنجليز، وأبناء الهند والصين.
ونحن إذا رجعنا إلى الحروب بين أبناء اللغات المتعددة لم نستطع أن نردها جميعاً إلى انقطاع التفاهم بين أمة منها وأمة، أو بين زعماء الأمة الذين يقودونها إلى الحرب وزعماء الأمم التي يحاربونها. فربما فهم كل فريق منهم ما يريده الأخر ووقعت الحرب بينهم لأنهم (يفهمون) لا لأنهم لا يفهمون.
فإذا خطر لنا أن تعميم (الاسبرانتو) يعمم الوفاق ويقضي على أسباب الشقاق فليس في حوادث الماضي ولا في حوادث الحاضر ما يعزز هذا الخاطر بدليل.
وغاية ما يرجي من تعميم لغة إضافية بين أبناء النوع الإنساني أن تتيسر بينهم المعاملات ويستفيد العارفون بتلك اللغة من سهولة قواعدها فينقلون تلك القواعد شيئاً فشيئاً إلى لغاتهم القومية التي تحتاج إلى تعديل.
أما امتناع الحروب فليس سبيله توحيد الكلام، بل توحيد البواعث التي يعبر عنها الكلام، وتوحيد هذه البواعث مستطاع في ناحية واحدة على وجه التقريب لا على وجه الشمول والإطلاق، وهذه الناحية هي ناحية المثل العليا للأخلاق والقيم والأقدار. فإذا أعجب الناس بفضيلة واحدة واشمأزوا من رذيلة واحدة وتكلموا بألف لغة فذلك ادعى إلى التقارب بينهم من لغة واحدة يتكلمونها وليس بينهم وفاق في مواطن الاستحسان والاستنكار، وليس لهم مقياس واحد يقيسون به أعمال الدول والرجال.
وآية ذلك أن اتجاه الناس إلى وحدة المقاييس الخلقية يطرد في مراحل التقدم والحضارة، ولم يكن تفرقهم في مذاهب اللغة والرأي مناقضاً لا تجاه التقدم والحضارة في عصر من العصور.(697/4)
عباس محمود العقاد(697/5)
من أحاديث الإذاعة:
شهيد العيد. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن اكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى، وهذا هو العيد قد حل وحلت عليكم فيه البركات والخيرات، ولكن القصة لم تكتب. . . أن لها قصة يا سادة، فاسمعوا قصتها. . .
أنا رجل من طبعه التأجيل والتسويف، أؤخر الأمر ما دام في الأجل فسحة، وأرجة إلى أخر لحظة منه، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزاً مثل الأرنب الذي زعم (أخونا. . .) لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة، وأن لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنباً. . .
فلما ورد علي كتاب المحطة نظرت فإذا بيني وبين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأنت ونمت، حتى إذا كانت ليلة العيد، ولم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الجوي، أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب فسدت على أبواب القول ومنافذه وكواه. . . وعدت مرتجاً علي محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط، كذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق، ثم تشح شح الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء، ولكن الناس لا يصدقون ذلك: أنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجئ أحياناً حتى ما يقدر الأديب على ردة، ويعزب حينا حتى لا يلقاه، وأنه يعلو ويصفو وينزل ويتعكر، وما عجزت الليلة عيا ولا فهاهة، فأنا اكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة بيع وشراء، ولكل مبيع ثمن، وأنا احب أن أنتصف وأنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة، فتركته وفتشت عن أغلى، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئا، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حواراً للفلم وجعلوا له جعلا ضخماً، فحصر فيه فكره، وحشد له قواه، وفر لأجله من داره. ثم انتهى به الأمر أن ألف كتاب (الحمار) ولم يضع الحوار.
عند ذلك أيست ولبست ثيابي، وهربت إلى الأسواق.(697/6)
جلت في الأسواق، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر، قد أوقدت فيها المصابيح، وفتحت المخازن، وأنتشر الباعة، وتدفق عليها أهل البلد والفلاحون، بالأزياء المختلفة واللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مشتر يصيح، وكل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم، وكل يريد أن يعد الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه. . .
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن، نازح الفكر، أعمل عقلي في هذه القصة. . . التي وعدت بها المحطة، فأعلنت عنها وبشرت بها، ثم لم أستطع أن اكتبها، حتى وصلت إلى (باب المصلى)؛ فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت ادفع الناس بكتفي، وأشق طريقي بيدي كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من. . النثر الفني. . الذي جادت به قرائحهم، فتدفق علي من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد، ونظرت. . . .
نظرت، فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان، أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً اعزل عاجزاً، وأما الأخر فكان ضخما طوالا كالح الوجه، مفتوح العضل، وسخ الثوب، قد حمل سكيناً في يده طويلة النصل، حديدة الشفرة، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور، يطلب الغوث فلا يغيثه أتحد، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب. . .
وأني لأفكر ماذا اصنع. . . وإذا بالخبيث العاتي يذبحه والله أمامنا ذبحاً، ويتركه يتخبط بدمة، ويوليه ظهره ويمضي إلى دكانه متمهلا، فيعالج فيها شأنه على عادته، كأنه لم يركب جرما، ولم يأت الأمر النكر جهاراً!
وكدت اهجم عليه، وأسلمه إلى الشُّرَط. ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة، وأن المجرم بيده السكين لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشر، وطمعت يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه واشد أزره، فلا والله ما تحرك أحد منهم، ولا جَرُؤ على ذلك؛ بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج: (الله يسلم يديك)!
وحرت ماذا اعمل: أأبلغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا عليّ ولا لي؟ ثم رأيت(697/7)
أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت، وأبعث به ليذاع ويعرفه الناس.
وهأنذا أتهم هذا الرجل بالقتل، وادعوا الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر. ولا يحسبن أحد أنه فر، أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير الأولين، أو من أخبار العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه، يغدو ويروح إلى بيته، والقصة صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه، متيقظ غير نائم ولا حالم، صاحٍ غير مخدر ولا سكران، ثم أني رأيتها الليلة البارحة!
هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها؟ أفسدت الأخلاق، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النكر، أم خارت العزائم، وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم؟ وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق؟
لقد سكت الجميع، حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه، وقعدوا عن الثأر له، ولم يتقدم أحد منهم شاكياً ولا مدعياً لأن القاتل كما قالوا، عازم على ذبحهم كلهم أن قدر عليهم، وماضيه حافل بأمثال هذه الجرائم.
فما سر هذا السكوت؟
لقد علمت السر بعدُ يا سادة. . .
ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفاً من خرفان الضحية، وأن القاتل كان جزار الحارة، وأن الناس شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح مشوياً ومقلياً ومطهياً، وأكلت معهم ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد. . .
هذه هي سنة الحياة، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة. فكلوا منه أنتم أيضاً هنيئاً، واشربوا عليه مريئاً، واشتغلوا بالأكل عن مطالبتي بالقصة، وكل عام وأنتم بخير!
علي الطنطاوي(697/8)
الذي عطل الدين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما رأيت شيئاً أضر الحياة وأضر الدين وحال دون شيوعه في الناس مثل ما عطله الإيغال فيه والاستغراق في معانيه حتى يصير بعيداً عن متناول عقول أكثر الناس ومتناول جهدهم المحدود وإحساسهم بالحياة. . .! وينبغي لقواد الاجتماع ألا يخطوا خطوة عامة في رحاب الفكر الاجتماعي إلا وهم مقدرون أن جمهور الإنسانية يستطيع أن يخطوها وراءهم.
وقد كان نتيجة ذلك الإيغال أن حياة أكثر الناس انفصلت عن حياة الدين واتجهت إلى مجرى المادية الصماء - وهو المجرى الظاهري وحده - من غير أن يصحبها الروح السامي الذي يليق بعظمة تفرعاتها المادية وتشقيقاتها.
ولو أن الدين نظر إليه على أنه موقف لازم من مواقف الحياة كالأكل والنوم والرياضة والعلم الخ. . . وساير حياة المجتمع، وفهم على أنه (ركن مادي) فيها لا بد أن تقوم عليه كما تقوم على غيره من دعاماتها كالقانون وحفظ الأمن مثلا، ولم تلتصق به نزعات التصوف والانطلاق الشعري المغرقين، وتصوير موقف الإنسان فيه موقف الفناء والإنكار للنزعات المادية التي تستلزمها الحياة بالجسد، والخروج من الدنيا بالسهر والجوع والزهد واستمراء الآلام قبل الخروج منها بالموت. . . إذاً لسارت الحياة الإنسانية في تناسق بين جانبيها الروحي والمادي.
ولو علمنا أن الحياة صادقة أصدق من تلك النزعات الشاذة التي تجلت في أفراد من المتشائمين، من كل من طلق الدنيا ألماً منها أو زهداً في لذاتها، لتغير الموقف العام، فأن الحياة الإنسانية في مجراها العام أخذت الإنسانية كلها، ونقلتها إلى رحاب الكرامات والتسلط والتسخير عنطريق العلوم الموضوعية ومكارم الأخلاق العملية لا الاستغراقات الذاتية الضيقة.
ولا يغرننا من شذوذ كل أولئك الصوفيين المغرقين ما تركوه من كلام شعري مزوق جميل في طيوف وأشباح وأصداء لوجداناتهم المحرومة المولهة التي تركت طرق الحياة الواضحة، وأرادت أن تدرك الله الأعلى بعقولها المحدودة، فكانت النتيجة الحتمية لذلك المطلب هي بلبلة الخاطر وخفاء البيان واضطراب السير. . .(697/9)
أن الحياة المادية العلمية الظاهرة هي الحكم لصالح حياة الجماعة، وهي الأفق الأول الذي أراد الله العظيم أن تتجلى فيه أسرارنا ونتائج خلقتنا، ونتائج جهادنا فيها نتائج دائمة ثابتة، يراها أطفالنا وجهالنا كما يراها علماؤنا وفلاسفتنا.
وأنا مؤمن بالإنسانية ذات المنطق الواقعي المستمد من الطبيعة، ناشد كمالها عن طريق تكميل سيطرتها على الطبيعة وإدراكها للنفس إدراكاً علمياً وتحكمها في العمل تحكماً صالحاً.
ومن الذي سار وراء الشذوذ من الصوفية والمتشائمين وأخذ أخذهم في الحياة؟ أنهم أقل عدد، ومن صالح الأرض أن يكون ذلك كذلك، إذ لو طاوعهم الناس لعطلت الأعمال في الأرض، ولم تتحقق الأعمال البارعة التي للإنسان في المادة وأسرار الحياة
غير أن الإنسانية أن كانت طبيعية بسيرها هكذا فقد أساءت بإهمال جانب الروح فيها باعتباره دعامة أساسية في الحياة ذلك الإهمال الشنيع.
وربما يكون ذلك الأمر محتملا في العصور السالفة، عصور القصور والطفولة، ولكن الآن يجب أن تدرك أنها بلغت دوراً لا يصح أن تسكت فيه على إهمال الجانب الروحي في حياتها، باعتبار أنه (ركن حيوي) ودعامة نظامية لحياتها المادية ذاتها، والحمد لله قد تحول كثير من أحلام الروحيين القدماء إلى أخلاق عملية عامة.
والتصوف بمعناه العملي شيء سام عظيم في رياضة الخلق وتطبيع الأعصاب على السمو والخير وإيقاظ الضمير، ولكنه بمعناه الشعري الذي نراه في شعر بعض القوم ليس أخلاقاً، وإنما هو أحلام وتأملات مستغرقة حادة للخلاص من الجسد لرؤية الحقيقة العظمى والخروج من نطاق الأرض لرؤية ما وراءها، وهؤلاء لا يهتمون بالإعمال والأخلاق كالحلاج وغيره؛ فواجب أن ننظر إليهم لا كرجال دين يسنون طرقا ليسير الناس عليها، وإنما كشعراء استهوتهم المعاني الدينية فأسرفوا فيها، واستغرقوا وأنطلق وجدانهم فيها كما استغرق أبو نواس في الخمر وبشار في الملذات الحسية. . .
وقد ينظر إلى معانيهم على أنها انطلاقات في (فن الدين) أو موسيقى في جوه ليست ذات محصول. . . وقد ينظر إليهم رجل الدين العالم العملي على أنهم صناع أحلام استهوتهم إلى غير الطريق الجمعي. وكل فتح عظيم لهم وتستطيع الإنسانية أن تنتفع به ينتهي إلى(697/10)
(صواب الأحكام) عن طريق البيأن؛ لأنهم أطالوا التأمل وأدمنوا تقليب النظر في وجوه الأشياء المختلفة. وهذا لا يتيسر لكثير غيرهم.
ولم يأت وصف لله تعالى على لسان أي مخلوق بما يخرج عن نطاق عمله تعالى وصفاته الممثلة في الطبيعة التي تدرك بالقوى الواعية وبالحواس.
نعم قد تشرق عليهم لمعات من الأذواق الغريبة عن الحياة ومن المشاهد الغيبية، ولكن لا يستطيعون إظهارها، لأنها يضيق عنها نطاق النطق كما يقرر الغزالي.
وأني ما قرأت بيان صوفي إلا وجدته خيالا شعرياً جميلا، أن كان صاحبه قديراً، ورديئاً أن كان صاحبه قاصراً كليل الذهن، وكثيراً ما أظفر بمثله من بيان أهل الدنيا السائرين على ظاهرها.
وتظهر قيمة القرآن العظيم حين أراه يأخذ المجتمع كله بمنطق وسط صالح للجماعات، وحين أراه كتاب العدل والاتزان والاعتراف بالحياة المادية والحياة الروحية كأساس واحد لازم للحياة الإنسانية.
والعمل هو روحه، لا الأماني الشعرية، ولا الأغاني الدينية ولا التماس (حسن التعليل) ولا الأماديح التي تتملق ويتهرب بها صاحبها أو يتشفع بها ويعتذر في مسئولية إهمال الأعمال، كتلك المعاذير التي يتخذها الناس مع رؤسائهم الدنيويين.
والثواب والجنة الحسية والحسنى والرضا والرحمة والاحترام والخير لذي الخير هي من أدواته كذلك في الدعوة ومجازاة الفضائل والطبائع الكريمة لأنها منطق الغرائز الصالحة والأخلاق المثلى. وكل أخلاق القرآن هي أخلاق أبناء الحياة بجزأيها العاجل والآجل، الصالحين لعمارة الأولى ونموها والعاملين لحيازة الأخرى والرفعة والرفاهة الخالصة فيها.
وكل عقائد القرآن واضحة مأخوذة من منطق الانفصال بين الإنسان والله تعالى؛ فلا حلول ولا وحدة ولا اتحاد، وبين الله والطبيعة، ومن موقف الخلافة في الأرض خلافة واسعة والتدخل في شئونها جميعاً، لا التقليل من شأنها والهرب من مجابهة فتنتها كدار امتحان وكفاح وابتلاء. موقف الاعتراف بقيمة الجسد الإنساني وسمو الروح الإنساني ووجوب الجمع بينهما لصلاح الحياة والفكر.
فلندن لله بالحياة، ولنتعبد بها هي ذاتها، ولنتخذ منطقنا من سننها التي لا تتبدل وحقائقها(697/11)
التي لا تلتوي، لأنها منطق الله ربنا وربها، وما عرفنا الله إلا منها. فكيف نهملها؟ وكيف نجهلها أو نجهل عليها؟ فيها قِوامها، ومنها دينُها!.
ولنعرض أقوال الرجال على موازينها قبل الأخذ بها في تسليم وغرور. . . ولنحذر أن نعكس الأمر فنعرض أمر موازينها على أقوال الرجال، فأن أقوال الرجال متغيرة متناقضة وأقوالها هي ثابتة لا تتبدل!
ولكل عقل موهوب الحق في الاتصال بها والاحتكاك بقوانينها ليكون من وراء ذلك اتصال مباشر بعقل الوجود، وقلب الطبيعة. . .!
وقد صارت الحياة تغرز بصدقها قلب الإنسان وتستهويه وتبعده عن الخوف والوجل من القرب منها، وجعلت أبناءها المجاهدين الشجعان هم السادة، وتركت الفارين منها في خوف ووجل يئنون تحت أثقالها وهم يحبسون أن أنينهم هذا شعر ونشيد وحكمة. . .! وما ظفر فيها بالحق إلا من أحس بها وتقرب إليها وبعد عن أساطير الأولين من المرضى والفارين الذين حرموا من الإحساس بعنفوان شبابهم يفيض في كيانهم. . .
عبد المنعم خلاف(697/12)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 4 -
انتهينا في المقال السابق من مناقشة آراء الأستاذ الخولي فيما يتعلق بعلم البيان، وقد أغضينا عن أشياء استكثرنا على علم الأستاذ وفضله أن تكون من آرائه وتوجيهاتة، نفحن هنا لا ننقد إلا ما يتأكد عندنا أنه من رأيه بمراجعة النسخ المختلفة لمذكرات الطلاب، أو بأن يشيع الرأي في فصل من الفصول فيتكرر فيه مرات. ولقد عملنا بالحكمة المأثورة (ما استقصى كريم قط) فأنكرنا بعضاً وأعرضنا عن بعض. وحديثنا اليوم عن آرائه في باب القصر، وهذا باب تعرض منه لثورة عنيفة فناله من حرائها شر مستطير، نرى من الحتم علينا أن ننصفه، وأن نرد إليه كرامته، فأن مسائل العلم عند دارسيها كرامة تعلو على كرامة عظماء الرجال، والأستاذ بدأ أولا فمزق هذا الباب إرباً إرباً، ورمى بكل شلو منه في ناحية. فذهب بقطعة إلى علم النحو، ومضى بثانية إلى علم البيان، أما سائره فأبقاه في علم المعاني ولكن بعد أن هاض جناحه، وتحيف أطرافه، ورأيه أن القصر الجدير بأن يبحث عنه البلاغي هو القصر الادعائي، أما القصر الذي يعبر عن الواقع فيجب أن يبقى في علم النحو لأنه يؤدي به أصل المعنى المراد فقط، والبلاغي إنما تعنيه المعاني الثابتة، وهي المعاني التي يومئ إليها الكلام وراء المعنى الأصلي: (القصر صيغة من صيغ التعبير العربية التي يحتاج إليها في أداء المعاني الأصلية، وتأتي المرحلة الثانية وهي أن القصر الحقيقي ما دام حقيقياً بمعنى أنه مطابق للواقع فهو مرحلة لا تتجاوز أصل المعنى وصحته، أي أن معناه النحوي هو دائما معناه الوحيد ولا يخرج عنه إلى أغراض أخرى. أما القصر الادعائي فبخلاف ذلك له وراء المعنى الأول لصيغة القصر معان أخرى يرمي إليها المتكلم ومن اجلها لجأ إلى هذا الادعاء فأسقط من حسابه كل شيء غير المتكلم فيه وأثبت المعنى الذي عنده له).
ثم يقول: (القصر الادعائي إذا توسعنا قليلا في فهمه وتطبيقه فأننا نستطيع نقله من باب المعاني إلى أسلوب من أساليب التعبير الأدبي، فلا نقصر المسألة على البحث اللفظي والدلالة على جزء المعنى الذي هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال. إذن نخرج من باب(697/13)
القصر بأسلوب يدخل في البيان لا في المعاني)، ويؤكد هذا الرأي في موضع آخر: (القصر عندي معنى نحوي لا بلاغي، أي أنه من الصيغ العربية لازم لصحة المعنى لا لحسنه؛ فهو يساق لتقوية المعنى لا لجماله، وأنه لا احتراز فيه ولا نفي فيكون معناه أنه تعبير قوي، يتلخص من هذا أن للقصر استعمالات ثلاثاً:
1 - القصر طريق من طرق التعبير العربي فهو صيغة نحوية لأصل المعنى.
2 - القصر صنيع بلاغي قوي لتقويه المعنى.
3 - القصر أسلوب من الأساليب البيانية).
هذا كلامه. ولأناره هذه المسألة نقول: أن بعض العلماء يرى أن مباحث النحو يجب أن تفصل عن مباحث البلاغة، والحد الفاصل بينهما أن البلاغي لا بد أن يكون له ملحظ وراء المعنى الأصلي، فإذا لم يكن له غرض من الكلام غير أداء المعنى الأصلي فلا يدخل أداؤه في مباحث البلاغة. مثال ذلك ذكر المسند إليه فأنه إذا قامت قرينة تجوز حذفه كان المتكلم بالخيار بين أن يذكره أو يحذفه، والحال هو الذي يرجح عنده أحدهما فالشاعر الذي يقول:
بالله يا ظبيات القلاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
كانت له مندوحة أن يحذف المسند إليه (ليلى) ولكنه آثر ذكره بعد دلالة القرنية عليه لو حذف لغرض في نفسه، فإذا لم تكن قرنية تدل عليه أن حذف كان الذكر واجباً، وحينئذ لا يعلل هذا الذكر بغرض بلاغي وهكذا.
على هذا الضوء ننظر فيما ذهب إليه الأستاذ الخولي فنرى أنه غفل عن أمور أربعة حين رأى أن بعض القصر يجب أن يبعد عن دائرة البلاغة، ويبقى في مباحث علم النحو:
1 - فاصل الجملة الواحدة في العربية أن تؤدي حكماً واحداً مقصوداً لا تتعداه سواء أكانت حقيقة أو مجازاً، وغالباً ما يتبع هذا الحكم غرض يسمونه وأمثاله مستتبعات التراكيب، وهذه الأغراض هي التي يلاحظها المتكلم ويقصدها من كلامه. فإذا أدت الجملة حكمين مختلفين خرجت عن أصل الجمل العربية، وكان هذا الاختصار من المقاصد التي يلجأ إليها المتكلم، وهو مقصد وراء الأداء الأصلي. يقول الشاعر:
وليس أخي من ودَّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب
فنجد هذا المعنى أدى على طبيعة الجملة، فأن أردت أن تسوقه في أسلوب مختصر قلت:(697/14)
ما أخي إلا من ودني وهو غائب، فتلجأ إلى القصر لغرض الاختصار.
2 - من المعروف لدى كل من يشدو شيئاً من علوم البلاغة أن القصر في كل حالاته يفيد التوكيد والتقوية، والأستاذ لا يخالف في هذا ولا ينفعه بل يذكره في غير موضع من مذكراته ويراه أدل على إفادة التوكيد من الاختصاص فيقول أن ما نعبد إلا إياك أكد من إياك نعبد، وبدهي أن التوكيد ليس غرضاً أول بل هو من أوليات الأغراض البلاغية.
ولهذين الأمرين المتقدمين لم يعد العلماء من أدوات القصر الألفاظ تدل عليه من مثل اختصر وقصر وما إلى ذلك؛ فمثل قوله تعالى والله يختص برحمته من يشاء، وقوله: حور مقصورات في الخيام لا يعد من القصر؛ لأن الجملة لم تؤد غير معنى واحد مقصود ولا اختصار فيها؛ فلا يرتبون شيئاً من أحكام القصر على هذه الألفاظ، ولذلك نحن لا نرى رأى أستاذنا الشيخ سلمان نوار حين يرى أنه يجب أن نعد من القصر كل أسلوب ينحدر منه الذهن إلى معنى القصر وأن لم توجد أداة من أدواته المعروفة، ويعرف القصر بأنه دلالة جملة واحدة على اختصاص أمر بآخر سواء كان منشأ تلك الدلالة الوضع أم العقل أم الذوق فيشمل نحو:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
ونحو:
أروني أمة بلغت مناها ... بغير العلم أو حدَّ اليماني
ثم يعجب قائلاً (لماذا يجعلون شبه ومشبها من صيغ التشبيه ولا يجعلون نحو احتص من صيغ القصر) وأظن الفرق واضحاً بين دلالة شبه على التشبيه ودلالة اختص على القصر الذي رتبوا عليه الأحكام البلاغية الكثيرة؛ والذوق شاهد عدل في هذا. فأين قولك قصرتك على الشعر من قولك: إنما أنت شاعر؟ وكذلك لم يجعلوا من صيغ القصر الاستثناء التام المثبت لأنه يؤدي معناه الأصلي لا غير. قال صاحب الأطوال: (إذا الاستثناء من الإيجاد ليس القصد فيه إلى الحصر بل إلى تصحيح الحكم الإيجابي، فهو بمنزلة تقييد طرف الحكم؛ فكما أن جاءني الرجال العلماء ليس قصراً كذلك جاءني الرجال إلا الجهال ليس قصراً بخلاف نحو ما جاءني إلا زيد، فأن المقصود منه قصر الحكم على زيد لا تحصيل الحكم فقط وإلا لقيل جاءني زيد)(697/15)
ونحن نريد أن نبسط القول في أدوات القصر لنقطع كل حجة على من يتهم العلماء بأنهم ضيقوا دائرته، وأنهم غفلوا عن مزاياه، وأنهم وضعوا في علم البلاغة ما كان يجب أن يوضع في علم النحو، وسنقتصر على الطرق الأربعة التي ذكرها الخطيب القزويني في الإيضاح وهو الكتاب الذي يشرحه الأستاذ في الجامعة ويعلق عليه.
(التقديم) قد كفأنا الأستاذ مؤونة القول في هذا الطريق وأنه لا يؤدي به أصل المعنى فحسب بقوله: (أما التقديم فمادام الأصل فيه التأخير أي أن الحالة الطارئة هي التقديم فلا يكون إلا لملحظ بلاغي).
(العطف) ومن المسلم به عند العلماء والذي لا يعارض الأستاذ فيه أن هذا الطريق لا يؤدي به إلا القصر الإضافي، وأنه (لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب) وهذه عبارته، وطبيعته القصر الإضافي تقتضي ذلك فهو إما لبيان خطأ المخاطب في اعتقاد الشركة بين الأمرين أو في اعتقاد العكس، وإما لإخراجه من ظلمة التردد والحيرة في قصر التعيين، فهذا الطريق أيضاً لا بد يلاحظ فيه حملظ بلاغي.
(النفي والاستثناء). (إنما) قد فات الأستاذ فيهما أن يرجع إلى الشواهد العربية، ونظر إلى الموضوع من ناحية القواعد الجافة مجردة عن شواهدها، ولو أنه نظر من هذه الناحية لرأى عجباً، كما يرى أن المرجع الأول للبلاغة وهو كلام العرب يدل بوضوح على أن هذين الطريقين لا يجيئان حين يراد أصل المعنى أبداً، وإنما يجيئان حين يقصد المتكلم غرضاً من الأغراض. فالأصل في الأول أن يجيء فيما بجهلة المخاطب وينكره، فإذا جيء به فيما يعلمه لوحظ تنزيل العالم منزلة الجاهل أو تنزيل المعترف منزلة المنكر (وأما الخبر بالنفي والإثبات فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه، فإذا قلت ما هو إلا مصيب قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته، وإذا كان الأمر ظاهراً لم تقله كذلك فلا تقول للرجل ترققه على أخيه وتنبهه للذي يجب من صلة الرحم ومن حسن التحاب: ما هو إلا أخوك. ومتى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي لذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه).
وأما (إنما) فتجئ فيما يعلمه المخاطب ولا ينكره ولكن مع ملاحظة غرض غير ما تضمنه أصل الكلام (أعلم أن موضوع (إنما) على أن تجئ لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع(697/16)
صحته أو لما ينزل هذه المنزلة، تقول للرجل إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب. وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله:
إنما مصعب شهاب من اللَّ ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم وأنهم قد شهروا بها وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يجهله أحد. واعلم أنه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق).
لعل القارئ يتبين بعد ذلك أننا نخطئ الخطأ الأكبر حين نعتمد على القواعد جافة مجردة عن شواهدها، أو نلجأ إلى الشواهد التي وضعها المتأخرون ثم نحاول هدم القواعد جملة. والذي قلناه في هذه الطرق المشهورة يمكن أن نقوله في كل طرق القصر، وبذلك نجد أن العلماء حين وضعوا القصر في علم المعاني لم يخطئوا.
4 - أجاب بعض العلماء عن مثل هذا الاعتراض بما أعده (أضعف الإيمان) ولكنه على كل حال جواب صالح. وذلك أن المتكلم قد تدعوه الحال أن يؤدي الكلام مقتصراً على المعنى الأصلي، وما زال العلماء يرون أن خالي الذهن يجب أن يلقى إليه الكلام مجرداً عن التوكيد، وبذلك يطابق الكلام مقتضى الحال. قال التفتازاني في المطول: (أن المقتضى أعم من الواجب والمرجح، ولا نسلم المنافاة بين وجوب الذكر وكونه مقتضى الحال، فأن كثيراً من مقتضيات الأحوال بهذه المثابة) وهو جواب عن المسألة التي ذكرناها في أول هذا المقال.
أما الذهاب بالقصر الادعائي إلى علم البيان فأمره أشد غرابة. وذلك أن علم البيان وضع ليحترز به عن التعقيد المعنوي، فهو يبحث في الجملة من حيث أداؤها للمعنى، فينظر في ألفاظها ومدلولاتها وتركيبها، فمرجع مباحثه إلى اللفظ التركيبي ومدى تأديته للمعنى، فلتشبيه والمجاز والاستعارة والكناية كلها طرق يمكن البحث في صورها من حيث دلالتها على ما سيقت له، وليس كذلك القصر الادعائي فأن المزية التي فيه ليس لها مظهر في صورة الكلام، وإنما مظهرها في اعتبار المتكلم، فتناسى المتكلم لكل حالة غير الحالة(697/17)
المتكلم فيها أمر في نفسه هو ولا مظهر له في أجزاء تركيب الجملة، وإنما جعلت الجملة مشيرة له، ففرق بين أن تقول: ما شوقي إلا شاعر، وبين أن تقول: شوقي بلبل غرد ثم سكت، فأنت تبحث في الثانية عن الكلمات وأدائها للمعنى، وأما في الأولى فأول مرجعك قصد المتكلم وغرضه، والحال التي ألجأته إلى هذا التعبير، وهذا هو مبحث علم المعاني. على أن العلماء قالوا أن الجملة يمكن النظر إليها من جهات مختلفة فهي من حيث مطابقتها لمقتضى الحال تكون من مباحث المعاني، ومن حيث أداؤها للمعنى تدخل في مباحث البيان، ولا شك أن القصر بجملته يلاحظ فيه الأحوال الداعية. وقد يمكننا على هذا أن ننقل كثيراً من الأساليب إلى علم البيان؛ فالالتفات بأقسامه الكثيرة، والتعبير بالخبر عن الإنشاء، والأسلوب الحكيم، والتعبير عن الأمر بطريق الاستفهام وما يتصل به من هذه المباحث الطويلة العريضة كل أولئك مما يمكن التلمس لها فتدخل في مباحث البيان، ولكن أهي غريبة عن علم المعاني؟
أهناك داعٍ إلى هذا التمزيق؟ لا.
المسألة يجب أن تقتصر على التجديد في قواعد الفن والزيادة عليها أو النقص منها؛ أما أن نجدد فننقل قطعة من مكان إلى مكان ثم لا نفعل شيئاً أكثر من ذلك فلا.
وأحب أن أهمس هنا همسة في آذان الذين ينتقصون القدماء من غير مبرر وهي أن علماءنا الأعلام لم يكونوا أصحاب أذواق مريضة، ولم يضعوا القواعد وهم مغمضو الجفون عما وراءها من الشواهد، ولكنهم درسوا تراث العرب الأدبي وفهموه وتذوقوه ثم وضعوا بعد ذلك قواعدهم - أليس السكاكي وهو مقَعِّد هذا الفن ومفلسفة هو صاحب الرأي القائل بأن إعجاز القرآن لا يدرك إلا بالذوق. وفي ذلك يقول: (واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا). ويقول في موضع آخر بعد أن ذكر وجوهاً أربعة للأعجاز (يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا استبعاد في إنكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما أن ننكره). أو ليس السكاكي هو الأعرج الثاني الذي قيل فيه وفي صاحبه الزمخشري: (لولا الأعرجان لضاعت بلاغة القرآن)؟ أفبعد هذا يقول قائل(697/18)
أننا لا نثق في ذوق المتقدمين (وأنهم شملهم كغيرهم ذوق العصر، ولم تستقم في أذواقهم اللغة غضه طرية عطلا من زينة وحلية، ومن ثم كانت تفاهة الاستشهادات والتخريجات، وكان لجوئهم إلى الفلسفة هرباً من الناحية الذوقية، فقاسوا بالشبر والقيراط، ولم تظهر لهم زينة في القوة والعذوبة والسلاسة والنغم فطلبوها بالصبغ والألوان والشعبذة اللفظية).
بخ. بخ. . . لقد قال شوقي على لسان أحد أبطاله:
تهددني زياد وأنت ظل ... لمجنون وراوية لهاذى
وتزعم أنني نِدُّ لقيس ... رضيت من المصائب غير هذى
فهل كان يقول على لسان السكاكي والخطيب وغيرهما من أساطين البالغة والأدب؟!
(يتبع)
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة(697/19)
من غرائب النسيان. . .!
للدكتور أحمد فؤاد الأهوساني
كنا جماعة نتحدث في شتى الشئون، فأطلعنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن على كتاب فرنسي طبع حديثاً نقل فيه صاحبه مقتطفات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية، وكانت إحدى هذه القصائد بعنوان (تحت الشراع) للأستاذ عبد الغني ترجمها الناقل عن مجلة (الرسالة) عام 1940. وتتبعنا الشعر الفرنسي محاولين رده إلى أصله العربي فعجزنا، وهنا طلبنا من صاحب الشعر - أي الأستاذ عبد الغني - أن ينشد شعره الذي نظمه، فأجاب: لقد نسيت! قلنا: ألا تذكر مطلع القصيدة؟ قال: لا. قلنا: ولا بيتاً واحداً؟ قال: لا. وهنا بلغ منا العجب مبلغه. . . كيف ينسى صاحب الشيء شيئه هذا النسيان الغريب!
ومن المعروف أن كثيراً من الشعراء يحفظون شعر أنفسهم ولا ينسونه وينشدونه في المناسبات. ومن هؤلاء على سبيل المثال صديقنا الشاعر غنيم. غير أن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا ينسى المرء أعماله وآثاره، وبمعنى آخر: لماذا ينسى نفسه؟!
قلت في تعليل ذلك - وسكت الأستاذ عبد الغني عند هذا التعليل دون تعليق -: أن الشاعر شخص مبدع خالق مبتكر قبل كل شئ، مثله في ذلك مثل الفنان الذي يبدع آثاراً فنية، كالتماثيل التي يصنعها النحات، أو اللوحات الزيتية التي يرسمها المصور، والشعر كالتمثال أو اللوحة الزيتية، يتركب من شيئين: من المعنى الحائر في الذهن، أو الفكرة المبتدعة في صفحة الخيال، ومن مادة يصوغ منها الفنان هذه الفكرة؛ فمادة التمثال الرخام أو النحاس، ومادة اللوحة الألوان، ومادة الشعر الألفاظ. وكثيراً ما يسخط الفنان على عمله فلا يرضى عنه، وعندئذ يحطم النحات تمثاله ويكسره ويأبى أن يظهره، أو يمحو المصور لوحته، وقد يتركها دون أن يتمها، أو يأبى وضع اسمه عليها. تعرفت بمصور في مدينة المنصورة كان يشتغل مدرساً بها، اسمه الأستاذ حلمي، ثم طلبت منه صورة زيتية من ريشته أحتفظ بها تذكاراً لصداقته، فأحضر لي صورة تمثل منظراً ريفياً على شاطئ النيل، ولم تكن ممهورة باسمه، فقلت له: ضع عليها خاتمك، فرفض. ولم أثقل عليه، لأني فهمت ما يقصد: الصورة أعجبتني، ولكنها لم تعجبه، ولو أنه صانعها!
فإذا كان الأستاذ عبد الغني قد نسي شعره، فذلك لأنه فنان يسخط على ما يفعل، ولا يرضى(697/20)
عما يبدع، إذ يتطلع دائماً إلى الكمال والترقي. ولو رضى الناس عن أعمالهم ما تقدموا. وأكبر الظن أن الصورة الشعرية تكون في الذهن بالغة غاية الروعة ونهاية الكمال، غير أن تحقيقها في المادة، وصياغتها في أثواب من الألفاظ هو سر نقصها. والمادة هي علة النقص في الموجود.
وأذكر حادثة أخرى من نوع آخر:
ركبت المترو من عماد الدين، حتى إذا بلغت مصر الجديدة في إحدى محطاتها المتوسطة، سألني أحد الركاب - وكان يجلس أمامي - هل هذه الحافظة لك؟ فنظرت إلى جانبي فرأيت مكان الراكب الذي كان إلى جواري خالياً، ورأيت حافظة نقود ليست حافظتي. قلت: أنها ملك الراكب الذي نزل! وهنا سألت نفسي: ما شكله؟ هل هو شاب أو شيخ؟ هل هو هزيل أو بدين؟ هل هو أسمر أو أبيض؟ كل ذلك لم أذكر منه شيئاً كان أحداً لم يجلس إلى جانبي. ثم تناولنا الحافظة وفتحناها ووجدنا فيها أوراقاً باسم (عماد). وبدا لي أن أنادي هذا الاسم لعل صاحبه يستجيب، فقلت: عماد. . . والتفت شاب أوشك أن ينصرف في أعماق الشارع، ولوحت له بالحافظة فأدرك المقصود، وعاد مسرعاً وأخذها شاكراً. هنا فقط تذكرت، أو على الأصح تعرفت عليه، وبأن لي أنني تأملت هذا الشخص حين كان إلى جواري، إذ كان يقرأ كتاباً باللغة الإنجليزية فيه أشكال رياضية، واستنتجت عند ذلك أنه طالب في كلية الهندسة أو كلية العلوم، وكان يلبس بنطلوناً وقميصاً فقط. ثم سألت الراكبين: هل يذكر أحدهم هذا الشخص؟ فقالوا جميعاً: لا. قلت في نفسي: لو أن هذا الشخص ارتكب حادثة أو جناية، ولم تكتشف إلا فيما بعد، ثم طلبنا البوليس إلى الإدلاء بالشهادة فماذا كنا نجيب؟ ثلاثة رجال لا يتذكرون شيئاً عن شخص رابع ظل يجلس معهم نصف ساعة على الأقل، ووقعت أبصارهم عليه، وشاهدوه، ثم ينسون كل شيء عنه. . . هذا أمر عجيب! والأغرب من ذلك اتفاق الثلاثة على هذا النسيان! اللهم أن شهادة الشهود في المحاكم أمر مشكوك فيه، ويجب على القضاة أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق النفسية الثابتة بالخبرة والتجربة!
لا أملك الحديث عن زملائي الآخرين، ولكني أعرف نفسي. فأنا حقيقة كثير النسيان، وعلى الخصوص فيما يتصل بأسماء الأشخاص. وهذه مسألة تحدث لي كثيراً من الخجل(697/21)
والارتباك عندما أكون في صحبة صديق، ثم أقابل صديقاً آخر في الطريق مثلا فأحييه ويحييني، ويستوقفني يتحدث إلى، ثم أحاول أن أقدم الشخصين أحدهما إلى الآخر، وهنا تخونني الذاكرة فأفقد اسم صديقي، وقد يكون عزيزاً لدي أعرفه من زمن طويل، وليس ما يدعو إلى نسيان اسمه، فأقع في الحيرة والخجل، وألجأ إلى الحيلة فلا أقدم أحدهما إلى الاخر، وأضرب صفحاً عن هذه المجاملات الاجتماعية الضرورية.
وقد تسألني: ما علة هذا النسيان، وما سبب نسيان أسماء الأصدقاء بالذات؟
الواقع أنني لم أعثر على جواب يقنعني، ولعل أحداً يتبرع بالجواب. . .
أحمد فؤاد الأهواني(697/22)
فيضان النيل. . .
بين التفاؤل والتشاؤم
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
ذكرتني القصيدة التي نشرتها (الرسالة) تحت عنوان: (وحي فيضان سنة 1946) في عددها 693 بالفزع البالغ الذي أصاب البلاد جميعاً إبان اشتداد الفيضان في أغسطس الماضي، وغنى عن البيان أن النكبة كانت جسيمة وأن الخسارة الناجمة عنها كانت ولا تزال فادحة، ولكن هل كان ينبغي أن يصل الأمر إلى هذا الحد من التشاؤم الذي شاهدناه مرتسما وقتئذ على وجوه الناس والذي صورته كل الصحف بلا استثناء والذي أوحى إلى الشاعر أن يصف الفيضان (بالهول العظيم!!) ويصف مياه النيل بأنها (ترد البلاد كأنها أغوال!!)؟
صحيح أنه كان لشدة اهتمام الحكومة وقلقها ومظاهر الرعب التي بدت على تصريحاتها أثر محسوس في الإشعار بالخطورة، ولكن أليس المفروض من جهة أخرى أن التزاماتها ومسؤولياتها قد تسوغ لها (تقدير البلاء قبل نزوله) لتهيئ الشعب لاحتماله أو دفعه أو توقيه بالحيطة والحذر والعمل تهيئة جدية؟ ومع هذا فالإجراءات التي اتخذتها - وقصاراها اعتماد مبلغ 210 آلاف جنيه وتشغيل بعض الأيدي العاملة - كان ينبغي أن ترشدنا إلى أن الحالة كانت مطمئنة أو على الأقل غير مروعة إذا قورنت بالسوابق في الفيضانات التي انتابت البلاد الأخرى في القديم والحديث، بل إذا قورنت بالسوابق الغير بعيدة في فيضانات النيل ذاته (نسبياً): ذكر أبن تغرى بردى في (النجوم الزاهرة) أنه كان يُرصد لعمارة جسور النيل واتقاء فيضانه ثلث الخراج سنوياً، وحكي ابن لهيعة أن المرتبين للوقاية من الفيضان سنوياً مائة ألف وعشرون ألف رجل: سبعون ألفاً للصعيد، وخمسون ألفاً للوجه البحري. ورغم هذه الاحتياطات الشديدة فقد روى ابن زولاق أن أحمد بن الدبر لما ولى الخراج بمصر كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها.
أي أن الحالة التي كانت استفحلت هذا العام تكن غريبة على الوادي، ولم تكن تستلزم ولا تحتم التشاؤم الأسود الذي قابلناها به، بل أني أزعم بكل شجاعة - بعد فوات الأوان! - أن التفاؤل المطلق كان أنسب لها وأحرى بنا!! لماذا؟ أبادر فأقول أن الحجة حاضرة ولكني(697/23)
أريد قبل أن أسوقها أن أسوق من بعض حوادث أسلافنا بهذا الصدد عبرة وقياساً ولو لمجرد الترفيه الفني والتذكير التاريخي: جاء في (نهاية الأرب) للنويري أن النيل يبلغ تمامه إذا وفى ستة عشر ذراعاً، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً بمقياس مصر. أي أنه بالبداهة أن زاد عن 17 ذراعاً مثلا كان مغرقا وأن نقص عن 13 ذراعاً مثلا كان مقحطاً. فما الرأي في أن الناس كانوا يتفاءلون بزيادته مهما أغرقت ويتشاءمون من أي نقصان مهما قصد واعتدل؟ وما الرأي في أن الحوادث كانت تؤيدهم دائماً تأييداً أن يكن غير منطقي إلا أنه واقعي؟ فمثلاً عندما بلغت زيادة النيل أقصاها (19 ذراعا) في سنتي332هـ، 410هـ تصادف أن كانت حوادثهما سعيدة في الغالب. ففي السنة الأولى تزوج ابن الخليفة المتقي بالله ببنت ناصر الدولة بن حمدان التغلبي وتآلفت قلوب المسلمين. . . وفيها أطلق الروم إساري المسلمين. . . وفي السنة الثانية فتحت بلاد الهند وغنم المسلمون بغنائمها. . . الخ. هذا بينما عندما بلغ انخفاض النيل (12 ذراعاً) فقط في سنتي 215هـ، 356هـ تصادف أن كانت حوادثهما محزنة في الغالب. ففي السنة الأولى غضب الناس على الوالي عبدويه بن جبلة وحزنوا كذلك لوفاة زبيدة بنت جعفر زوجة هارون الرشيد، وكانت أعظم نساء عصرها ديناً وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفاً. . . وفي السنة الثانية مات السلطان معز الدولة ابن بويه، وقبض على الملك الناصر وولده أبو تغلب ومات الإمام العلامة أبو الفرج الأصفهاني مصنف كتاب الأغاني. . . الخ.
مصادفات. ولكن أعجب ما فيها دلالاتها المطردة في سني الرخاء والجدب على السواء.
فإذا تركنا التكهنات إلى الحقائق. وجدنا بالاستقراء والاستقصاء أن وادي النيل لم ينكب نكبة واحدة بسبب الفيضان أيا كان طغيانه في حين أن المجاعات الفظيعة في مصر كالمجاعة التي حدثت في آخر حكم الأسرة السادسة الفرعونية، والمجاعة التي أيام يوسف الصديق، والمجاعة التي حدثت في العهد الفاطمي وعرفت باسم (الشدة المستنصرية)، والمجاعة التي حدثت في عصر المماليك زمن السلطان كتبغا. . . إلى آخر المجاعات التي روعت الوادي واجتاحته في مختلف العهود تدل دلالة قاطعة على أن سببها الوحيد المباشر هو انخفاض النيل على تفاوت. وأظن أني لست في حاجة إلى وصف حالة البلاد وسكانها أثناء هذه المجاعات فذلك مذكور مشهور في كتب الأدب والتاريخ. ومن قبيل التمثيل أذكر(697/24)
بعضاً مما حدث أثناء (الشدة المستنصرية) في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، فقد وصل الأمر إلى حد أن أكلت النساء أولادهن الموتى، وأكل الناس الحيوانات الميتة من كلاب وقطط وحمير وغيرها لدرجة أن تسبب عن التهافت عليها ارتفاع أثمانها وصعوبة الحصول عليها، وزادت المحنة اشتداداً حتى كاد الناس من هول الجوع يأكل بعضهم بعضاً. روي أن وزير المستنصر نزل عن بغلته أمام باب القصر وتركها تحت حراسة غلامه فهجم ثلاثة رجال على الغلام وأخذوا البغلة قسراً وذبحوها وأكلوا بعضها وباعوا الباقي فقبض عليهم وصلبوا عقاباً لهم في أحد الميادين. فلما أصبح الناس لم يروا إلا بقايا عظامهم إذ كان الشعب الجائع قد أكل لحومهم أثناء الليل!!
هذا مثل واحد من أمثلة المجاعات التي كانت تحدث بسبب انخفاض النيل، ولذلك أجمعت الروايات المختلفة على أنه (كان يحصل لأهل مصر إذا وفى النيل - بغير تحديد - فرح عظيم بحيث أن السلطان يركب في خواص دولته وأكابر الأمراء في الحراريق إلى المقياس ويمد سماطاً يأكل منه الخواص والعوام ويخلع على القيّاس ويصله بأجزل الصلات) ونحو ذلك. .
فلماذا لا نساير منطق الحوادث، ومنطق الحقائق، ومنطق التاريخ معاً، ونتفاءل أعظم التفاؤل من الفيضان الذي دهمنا هذا العام - بشرط عدم التهاون أو التراخي في تدبير وتوفير وسائل المكافحة الدائمة مستقبلا - فلعل خطورته أن تسفر كالعهد بها عن مصادفة سعيدة، ولعلها أن تكون تحقيق (الجلاء ووحدة وادي النيل).
عبد الفتاح البارودي(697/25)
من يد ذات سوار
إلى حضرة الأستاذ علي الطنطاوي
موضوعاتك يا سيدي صفقات رابحة في عالم الأدب، ونفحات عاطرة من أريج القلم. ومن أنا حتى أستطيع أن أقول ما يعن لي تلقاءها؟ وا أسفاه! لست ربة قلم، ولا صاحبة بيان، وليس لي من الحول والطول ما يعينني على نشر ما يجول بفكري وخاطري.
بعثت بمقال مرة رداً على أحد الكتاب إلى إحدى المجلات، فكان نصيبه الإهمال. وكم فرحت كثيراً لأنه لم ينشر، ذلك أني بعد أن بعثت به تذكرت: (أن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها). فإما أن أكتب في (الرسالة) بين كتاب الأدب الرفيع وإلا فلا.
ولو أن الله وهبني من العقل كفاء ما وهبني من الحس لكان لي في ميدان الكتابة شأن. ولقد شاء الله أن أتذوق فنون الكلام وحلاوة البيان، و (للرسالة) فضل كبير في هذا التذوق، فقد عكفت على قراءتها بانتظام منذ أكثر من عام، وعشت بنفسي وحسي مع كتابها العظام، أحمل لهم من التقدير والاحترام ما لا ينضوي تحت صفة ولا معرفة، وأنت يا سيدي الطنطاوي من هؤلاء، فلو رأيتني حين أقرأ مقالاتك، لوجدتني صوالة بها جوالة في عالمي الصغير باحثة عن زميلة تشاركني السرور في تلاوتها، خصوصاً، وأنك من قطر شقيق لي فيه صديقات تتجلى في سجاياهن أرفع آيات المودة والإخلاص والنبل.
وأني أخشى أن أثيرك بهذه العجالة فيصيبني من يراعك ما لا أنساه ما عشت.
إن استهلالك في موضوعك (مناظرة هادئة) بقولك: (نحن معشر الرجعيين لا نرى قتال المرأة ولا نزالها) هو الذي شجعني على أن أقف أمام مقامك الكريم موقف التلميذ من معلمه - ويحي!! وهل لمثلي أن تطمع في هذا الشرف؟.
لو كنت من قريباتك. . . مالي أقول هذا والمسلم أخ للمسلمة وهي أخت له. إذن لي - بهذه الأخوة - عليك دالّة خفية مشفوعة بالأدب والطواعية، وعلى ذلك أتقدم إليك قائلة: أن موضوعاتك كلها تأخذ بمجامع قلبي، وتغذي روحي ولبي، وكلها من صميم الواقع الملموس، غير أن بعضها موشي بقليل من المغالاة والحدة، وأن الموضوع الذي عنونته (مناظرة هادئة) كان أقمن أن تسميه (مناظرة ثائرة). ألست معي في أن لفظ مناظرة فيه معنى النظير، وهذا لا يتفق مع ما بدأت به مقالك. يعلم الله أني تلوت هذه المناظرة بشغف،(697/26)
ولم ألمس في غضونها ذلك الهدوء الذي نعتها به، وإنما لمست فيها صرخة مجلجلة وتهداراً.
إنه لا يزال يتوارد على نفسي، ويرن في سمعي كل يوم حديث تلك القصة التي طلعت بها علينا في صفحات (الرسالة) عن تلك الفتاة التي صوِّرت عارية، فسجلت بذلك على هذا العربي الذي فعل هذا الفعل خزياً لم نسمع به من قبل. يا للعار والقسوة أيحدث مثل هذا في بلد عربي؟
إن القلم الذي تحمله رهيف الحس يحز في نفسي، ويترك أثره في حسي، فهلا رأفت وخففت من إرهافه؟ رأفت! كيف أقولها وأنت الذي في ثنايا فؤادك (رفقاً بالقوارير).
إني لتعجبني تلك النزعة التي تنزع إليها في مناهضة السفور واختلاط الجنسين ومشاركة المرأة الرجل في أعماله، ومن المعروف أن النهضة النسائية قام الرجل فيها بقسط كبير، وكانت له اليد الطولي في توجيه دفتها، وما دام الرجل قواماً على المرأة فهو الذي يحمل وحده وزر هذه التبعة، وهو الذي فتح عليها سدود النهر فجرفها التيار، ثم بعد ذلك قطعت شوطاً بعيداً في عالم الأزياء، وقلدت الأجنبيات، وحملت الشهادات من بكالوريات ودبلومات
إن هذه الحملة التي تقوم بها تكون أجدى وسيلة لو أرسلتها صواعق متوالية في غارات مدوية على الذين بيدهم مقاليد الأمور والحكم، فأن هؤلاء في مقدورهم أن يحملوا الناس على السير بتعاليم الإسلام، وفي مكنتهم إغلاق أبواب الفجور، ومنع إصدار الصحف التي تخدش كرامة الفضيلة.
يا للإساءة التي تصبها على المتعلمات بقولك: (ويجمعهن مجلس بعد هذا كله بالعاميات الجاهلات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رءوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر إلى الأشياء، فكان هذه المعلومات التي تصب في اسطوانات الحاكي (الفونوغراف) أن أدرتها سمعت لهجة فصيحة وكلاماً بينا، ونغما حلواً فتقول أنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحن.
هذا يا أستاذ كلام لا تقبله فتاة ولو كانت نصف متعلمة مثلي. هذا تجريح لإنسانيتها التي(697/27)
يكنفها العقل والشعور. (جماداً أخرس؟) يا لبشاعة الوصف والتشبيه! (جماداً أخرس؟) كيف؟ وقد برأها البارئ أنسأناً ضاحكاً ناطقاً فيه حركة ولب وإحساس. هذا لا يستغرب لأنك لا تؤمن بالإنسان.
إن لي صديقات، وأعرف جمّاً غفيراً من السيدات والفتيات كلهن متعلمات وحاملات للشهادات، ولسن كما تقول، فإذا جمعك بهن مجلس وسمعت حوارهن ونقاشهن لا يسعك إلا أن تغير رأيك في بنات هذا الجيل، وإذا كنت تصف المثقفة بالجماد الأخرس فبماذا تصف الجاهلة؟
قل مل شئت من ناحية الدين في فتاة العصر، فأني أشايعك على كل ما تقول، ولو أن هنا في مصر نهضة نسائية دينية مباركة، يملك زمامها جمعية الأخوات المسلمات، بارك الله فيهن، وحقق على أيديهن ما يرضاه الدين للمرأة المسلمة. أما من ناحية العلم والمنطق فالبون شاسع والشقة بعيدة بين الجاهلة والمتعلمة.
لست بهذا أدافع عن نفسي، وإنما الدفاع واجب عليّ لمن عرفت فيهن سداد الرأي واستقلال الفكر وبعد النظر ووزن الأمور بميزانها.
وقلت أيضاً: (ثم أن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد الخ). وأقول أنا إزاء هذا: أني أعرف سيدات فضليات متعلمات، لا جاهلات عاميات، ينشئن أطفالهن أحسن تنشئة، ويحرصن على تربيتهم بأنفسهن، ليكون منهم في المستقبل رجال نابهون، وأجناد مجاهدون، وقادة محنكون.
إن تلك التي تهمل طفلها وتتركه بأيدي الخدم خرقاء ولا تعد في سواد النساء.
(إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقى في زوجها حماراً) هكذا قلت. ولكن أكل هؤلاء الرجال الذين تزوجوا متعلمات تعدهم في شرعتك حميراً؟ (معاذ الله) من فيهم يرضى بهذا؟ أن السيدة المتعلمة الراقية المستنيرة لا ترضى على الإطلاق أن تلقى في زوجها (حماراً) تركبه - كما تقول - إلى غايتها. أنها ترفض في شمم وإباء أن تفقد احترامها للرجل الذي تشاطرها الحياة، ولا بد لها من الإحساس بأنه السيد المطاع القوام الذي تخافه رغبة لا رهبة. وقياساً على هذا أنقول أن أزواج المتعلمات كلهم أشقياء؟ أن كان الإيجاب، فيالعثار جدهم، وسواد عيشهم!(697/28)
إني استحييت مرة من قراءة بعض العبارات التي وصفت بها محاسن المرأة وصفاً سافراً، ولولا حرصي على قراءة أفكارك كلها لأبيت قراءتها.
وما يعجبني إلا كتابتك في الحب والغزل، وحسن وصفك للغواني. قدير قدير - بلا شك - في ألوان الكتابة. أو ليس في هذا الكفاية لما تحمله من احترام المرأة وإكرامها؟
كثيراً ما تدفعني مقالاتك إلى الكتابة. لعل فيها سراً يحبب إلى الأخذ بناصية القلم، ولكني لا ألبث أن أدعه هيبة وإجلالاً.
لا أدري كيف كتبت هذا المقال الجريء، مع أني أعلم أني أمام جهبذ من جهابذة الأدب، فاعذرني يا سيدي لأن الحق أنطقني.
لا يغضبنك هذا القول، فما قصدت به إلا الترفيه عنك، ليزول من صدرك تبرمك بالمرأة المتعلمة. وعسى أن تجد فيما كتبته صاحبة اليد ذات سوار - كما وصفتها - رَوحاً وترويحاً. . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يد ذات سوار(697/29)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 32 -
البطل الضرير:
أدت نظرة ملتن إلى المرأة أنها دون الرجل منزلة وعقلا إلى إهمال منه معيب في تعليم بناته فكبرن وحظهن من الثقافة قليل، وكن لا يعرفن إلا لغتهن إذ رفض أبوهن أن يعلمهن لغة غيرها. وكان يقول في ذلك ساخراً (حسب المرأة لسان واحد)؛ وكان أبوهن في شغل عنهن أكثر الأوقات بكتيباته وخصوماته وأعباء منصبه فكان يترك أمورهن للخدم. والحق أن ملتن كان متخلفاً عن عصره في النظر إلى تعليم البنت ولذلك لم يشايع كومنس حين كتب هو عن التعليم رسالته التي سلفت الإشارة إليها إذ كان كومنس يذهب مذهب أفلاطون في المساواة بين البنين والبنات، وكان لا يعني ملتن إلا بالبنين، وعنده أن من العبث تعليم البنت كما تعليم الكائنات العاقلة على حد تعبيره.
وأملت عليه بيوريتانيته أن يحيط بناته بشيء من الخشونة فلم يمتعهن كما تتمتع البنات إلا قليلاً، فأحسن استبداده بهن وأن لم يشعرن منه بغليظ أو فظاظة، وزاد إحساسهن شدة حرمانهن من أمهن، فقرر في نفوسهن شيء يشبه أن يكون جفاء منهن لأبيهن.
ولما عاد ملتن إلى الشعر وأراد أن يرجع إلى الكتب التي تتصل بموضوعه، كان يقرأ له ويكتب رجل أستأجره لذلك، ولكنه كان لا يعرف غير الإنجليزية حتى لقد شكا ملتن في كتاب إلى صديقه أنه كثيراً ما يتضجر ويضيق بهذا الكاتب الذي يضطر إلى أن يذكر له هجاء كل عبارة لاتينية يمليها عليه كلمة، وكان يقرأ له أحيانا بعض الشباب ممن تنافسوا في الخطوة بهذا الشرف وممن طلبوا الفائدة من القراءة له، كما كان يرسل بعض أصدقائه(697/30)
أبنائهم ليحظوا عنده بالقراءة أو الكتابة له وليقوموا بذلك ألسنتهم وليفيدوا عرفانا وبيانا.
ولكنه كان لا يضمن مجيء هؤلاء إليه كل حين، وعلى ذلك فقد عول على تعليم بناته النطق باللغات المختلفة وهن لا يفهمن شيئاً مما تتحرك به ألسنتهن وبذل في ذلك جهداً كبيراً وهو على حاله من المرض والعمى؛ وأنه لعجب أن يحرص هذا الحرص كله على المعرفة فلا يقعد عن وسيلة مهما بلغ من عسرها وأنها لحالة تملأ النفس أسى على ما مسه من ضر بقد ما تملؤها إعجاباً بعزيمته التي لا تعرف كلالا ولا سأماً. ولا ريب أنه كان يستشعر كثيراً من المرارة والحزن في تلك اللحظات التي لا يجد فيها من يقرأ له أو يكتب ما نظم من الشعر، ولم يك له عزاء في هذا البلاء إلا استغراقه في قصيدته الكبرى وإقباله عليها بكل جوارحه وارتياح نفسه إلى أن يحقق أملا طالما طاف بخيالة وأثلج فؤاده وأبهج نفسه.
وكان يدعو بناته ليقرأن له ما يطلب من الكتب اللاتينية والعبرية والإغريقية والفرنسية والطليانية والأسبانية، فينطقن نطقاً آلياً بعبارات لا يفهمن منها بالضرورة شيئاً؛ وكنت يضقن بهذا ويتبرمن به ويتضجرن منه، وحق لهن أن يكرهن هذا العمل كرهاً شديداً، فإذا دعاهن أبوهن إليه اقبلن متثاقلات متكرهات، ثم اعتذرت كبراهن بما في لسانها من حصر لا تحسن معه النطق فأعفاها أبوها من القراءة وجعلها للكتابة فوقع عبئ القراءة على الوسطى فازدادت بذلك ضيقاً وضجراً.
وما زال يشيد ضجر ماري وهي الوسطى حتى أصبح تمرداً وعصيانا فصارت تهمل ما يطلب إليها أبوها متغافلة أو متناسية. وكانت تعرض عنه أحيانا ساخطة ناقمة؛ وصبرت دبرا وهي الصغرى بعض الصبر، ولكنها ما لبثت أن تكرهت لأبيها وخشنت عليه وما برحت تشكو لأختيها أنه يدعوها في أي ساعة من ساعات الليل فيوقظها وهي مستغرقة في نومها لتكتب بضعة أسطر نظمها.
وتفاقم الأمر فكره البنات أباهن حتى ما يطقنه؛ قالت الوسطى مرة وقد سمعت أنه يزمع أن يتزوج (ليس في الحديث عن زواجه ما يعد جديداً من الأنباء أما أن أسمع بموته ففي ذلك ما يؤبه له).
وتآمر البنات مع إحدى الخدم على غشه فيما يشتري ويبيع مما يحتاج المنزل إليه، وفعلن(697/31)
أقبح من ذلك فأعن الخدم على بيع كتبه بغير علمه فإذا علم بشيء من هذا مس الحزن قلبه مساً شديداً ولكنه يكظم غيظه ويكتم أمره عن الصحب والجيرة مخافة العار، وكم كان وقع ذلك أليماً على نفس كبيرة مثل نفسه، وكم كان يشعره ذلك بما آل إليه حاله من استكانة بعد عزة، ويذكره بهذا الضر الذي أحاطه بالظلمة فجعل من بناته عدوات له.
ولكن روحه قوية على الرغم من هذا كله، وإقباله على قصيدته واستشرافه لآفاقها الفسيحة العليا يدفع عن نفسه القنوط إذ يرفعها من عالم حقير إلى ملكوت لا يدرك جلاله وعظمته إلا عقل مثل عقله وروح مثل روحه. ولقد كان له في الشعر أعظم العزاء وأطيبه وأن كان يعمد أحيانا إلى قيثارته فتختلج أوتارها بين يديه بلحن يسرى به عن نفسه أو يهيئ به جواً ملائماً لما تجيش به نفسه من شعر.
عود إلى الشعر:
أنقطع ملتن عن الشعر منذ سنة1641 كما سلف القول، ولم يكد يعود إليه سنة 1658 حتى أنشغل عنه بما كتب في عهد ريتشارد وقبيل عودة الملكية. ثم أقبل عليه إقبالاً غير منقطع منذ أن نجا في أواخرسنة1660؛ ومن ذلك نرى أنه أنصرف عن الشعر قرابة عشرين سنة وهي مدة طويلة لم يقضها في تأمل وهدوء وتهيؤ على نحو ما كان يفعل في هورتون، وأنما كانت حياته فيها كما رأينا مليئة بالأحداث حافلة بالخصومات، ولكنه أفاد خبرة عظيمة وتم نضجه فأصبح كالشجرة المحملة بالثمرات تجود بأطيبها لأقل هزة. . .
ولم تخل هذه السنوات العشرين من الشعر خلواً تاماً فقد نظم الشاعر أثناءها بعض المقطوعات في مناسبات مختلفة، وليست هذه المقطوعات من نفاية الشعر كما قد يخيل إلى المرء فأن لها لشأناً جليلا في ذاتها ومنزلة سامية في تاريخ هذا النوع الذي نسميه المقطوعات، ولذلك نرى أنه يجدر بنا أن نتكلم عنها ونبين مبلغ ما لها من خطر في الشعر الإنجليزي قبل أن نتكلم عن الفردوس المفقود وما جاء بعدها.
جاء ملتن من هذه المقطوعات بما لم ينته فيه كثير من أفذاذ هذا الضرب من النظم منهاه، ولقد قل فيه أكفاؤه وذهب له صيت منه بالقياس إلى شكسبير أن لم يك يبرعة في أكثر من ناحية من نواحيه. ولقد اصبح فيه مثالا لمن جاء بعده فاحتذى حذوه واعجب به ورد ثورث وكيتس وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر.(697/32)
ولا بد لنا من كلمة في أصل هذه المقطوعات ونشأتها لا في شعر ملتن وحده ولا في الشعر الإنكليزي وحده ولكن في الشعر الأوربي بوجه عام ثم نعطف الكلام بعد على مبلغ ما توافى لملتن فيها من براعة وتبريز.
لم يقطع نقدة الأدب الأوربي برأي في نشأت المقطوعات وتسميتها بهذا الاسم الذي سموها به، ويرى بعضهم أن الإيطاليين هم مبتدعوها، وأن اسمها يرجع إلى لفظ إيطالي معناه اللحن الصغير أو الصوت الصغير وهو لحن كان يغنى على عود أو قيثارة. ويرى فريق آخر أن منبتها كان في فرنسا في مقاطعة بروفانس وأن اسمها نجم من تلك الكلمة الفرنسية التي تطلق على الجرس الصغير أو جرس الغنمات. ويذهب البعض إلى أن اصلها إغريقي وأن الإغريق اختاروا لها لحنها ووضعها الفني بعد أن مرت على عدة أطوار من الخلق والابتكار. ولأحد النقدة وهو وليم شارب رأى غير هذه جميعاً فهو يردها إلى أغاني الرعاة في صقلية وجنوبي إيطاليا ويرى أنها انتهت إلى وضعها المعروف بعد أطوار مختلفة، ويرد اسمها إلى الاسم الذي يطلق في هاتيك الجهات على أغنيات الفلاحين والرعاة على وجه العموم.
وكان أول ما ظهرت تلك المقطوعات في صورتها ولحنها الخاصين بها في الأدب الإيطالي في القرن الثالث عشر في شعر شاعرين هما: بييردل فني وجيو تودارزو؛ وكذلك كان أول من طرق هذا الضرب من النظم من كبار الشعراء من الإيطاليين فقد تغنى دانتي في أواخر القرن الثالث عشر بحبيبة قلبه بياتريس فاتخذ لغنائه عدداً من هاتيك الألحان، وكذلك أفصح بترارك في أوائل القرن الرابع عشر عما ينبض به قلبه من حب لمعشوقته لورا بعدد من تلك الأصوات الصغيرة التي سميناها المقطوعات.
أما عن الصورة والوضع الذي انتهت إليه المقطوعة في الأدب الإيطالي فأنها لم تك تزيد على أربعة عشر سطراً. ثمانية منها تكون من حيث النغم والموضوع فاتحة المقطوعة أو صدرها، وتكون الستة الباقية خاتمتها أو (قفلتها). ولا بد من الفاتحة أن تجري قوافيها على وضع معين، فالقافية في السطر الأول مشاكله لها في الرابع وبينهما الثاني والثالث متحدة قافيتهما ولكنها مغايرة لما بدأت به المقطوعة، ثم يكرر هذا الوضع حتى تتم الأسطر الثمانية بعد ذلك وتغير القافية في الأسطر الستة التي تكون الخاتمة على أساس أن تكون(697/33)
ثلاثتها الأولى مشاكله لثلاثتها الثانية.
وأما عن موضوع المقطوعة فهي كما يفهم من حجمها يقصد بها التعبير عن معنى من المعاني تجيش به النفس في مناسبة من المناسبات، أو هي تسجيل لخاطر يخطر للقلب في غير استطراد يخرج به عن أن يكون خاطراً هو ابن لحظته أو ابن مناسبته؛ ويقول في ذلك وليم شارب إن المقطوعة (هي خير وسيلة للتعبير عن خاطر شعري منعزل عن غيره تعبيراً موجزاً محدوداً)؛ وتقتضي طبيعتها أو يقتضي النجاح فيها أن يكون التعبير قوياً رائعاً يجمع إلى عمق الفكرة وجمالها بلاغة اللفظ وإشراقه، كل أولئك في أيجاز لا يخل بالمعنى المراد. وما اجمل ما وصف به روزتي المقطوعة وهو من الشعراء الذين أحبوها وبرعوا فيها في القرن التاسع عشر، قال (إن المقطوعة هي تمثال لحظة) وهذا التعبير القوى الجميل هو من قبيل ما يجب أن تبنى منه المقطوعات القوية أو التي تتسم بالنجاح؛ ومن هذا ندرك أنها عمل فني يتطلب قدراً كبيراً من البراعة الفنية والطاقة الشعرية، وحسب الشاعر أنه يقيم تمثالاً في لحظة ولن يكون التمثال جديراً باسمه وبالغرض منه إلا إذا حملك على الإعجاب به والشعور تلقاءه بما تشعر به تلقاه كل عمل فني من روعة الفن وجلاله.
والمقطوعة ضرب من الشعر الغنائي، ولكنها تختلف عن القصيدة الغنائية الصغيرة بما ينبغي أن يلقيه الشاعر على غنائه من الوقار والاحتشام فلا يتبذل ولا يسف ولا يتلاعب بالألفاظ والأسجاع وألوان التورية وأشباهها مما يستساغ في القصيدة العادية ولا يجوز هنا، حيث ينبغي التأمل والتسامي كي يأتي التمثال معبراً عما يراد به التعبير عنه، وما تقام التماثيل إلا للجليل من الأشخاص والأفكار.
وقد شبه أحد النقدة لحن المقطوعة بالموجة إذ يتدفق ويتجمع ماؤها فتعج به وترتفع ثم تهبط فتنساح ويرتد الماء ليعود ثانية إلى البحر، والمقصود من هذا التشبيه أن المقطوعة وحدة غنائية ملتزمة الصورة واللحن فلا حرية فيها للشاعر أن يجري ألحانه كيفما يشاء وأن يتظرف ويتخلع وينطلق حسبما يتجه خياله ومزاجه وهواه.
وظهرت المقطوعة أول ما ظهرت في الإنجليزية في ثنايا كتاب نشره أحد رجال الأدب واسمه تُتِل سنة 1557 تحت عنوان (خليط من الأغاني والمقطوعات) ولما كانت(697/34)
مقطوعات كثيرة منها غفلا من أسماء أصحابها فليس يدري من الرائد في هذا الضرب من النظم في الإنجليزية، على أن الإنجليز لم يتبعوا ما وضعه الإيطاليون، فقد تصرفوا فيه وأتوا بصورة جديدة للمقطوعة وأن بقي عدد أسطرها كما هو في المقطوعة الإيطالية وجاءت الصورة الإنجليزية ايسر بناء من الصورة الإيطالية كما تبين من طريقة التقفية فيها، وليس يشترط فيها أن يكون هناك تغير بين صدرها وخاتمتها وأن كان الغالب أن يحدث هذا التغير كما هو واضح من المثال الذي أثبتناه في ذيل الصفحة؛ وكانت تنتهي في سطرين في قافية واحدة يكونان نغمتها الأخيرة.
وذاع هذا الوضع الجديد، وسميت مقطوعاته المقطوعات الإنجليزية أو المقطوعات الشكسبيرية، فقد نسبت إلى شكسبير ولو لم يك مبتكرها لأنه خير من أجاد في بناء هذه المقطوعات ولأنه من أكثر الشعراء إنتاجاً فيه؛ ولقد كثر نظم المقطوعات كثرة ملحوظة في العصر الاليزابيثي وبرع فيه غير سبنسر وشكسبير نحو أثني عشر شاعراً، هذا فضلا عن عدد كبير لم يكن لهم مثل ما لهؤلاء من الإجادة وحسن السبك.
(يتبع)
الخفيف(697/35)
صحائف مطوية:
من أخلاق البحتري
للأستاذ محمد رجب البيومي
- 2 -
ذكرت في مقالي السابق أن أبا عبادة البحتري كان ذا حظوة سعيدة لدى الخلفاء، فقد أغدقوا عليه من الهبات الجزيلة ما اشترى به ضياعاً واسعةً في ضواحي بغداد، وأخرى في منبج بالشام، ولكنه على رغم ثروته الطائلة كان يضيق على نفسه فلا يلبس سوى الخز الرخيص ولا يأكل غير ما يقوم بحاجته الضرورية، وطبيعي أن يعامل أهله بهذه الكزازة الشحيحة، قال الحكم بن يحيى: (كان للبحتري أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعاً، فإذا بلغ منهما الألم مبلغه أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقاً مقتراً ويقول: كلا، أجاع الله أكباد كما وأطال إجهادكما)، وكان يأخذ أضيافه بنوع من القسوة لا ينبغي أن تصدر من شاعر مرهف الإحساس رقيق الشعور، قال أبو مسلم محمد بن الأصفهاني الكاتب (دخلت على البحتري يوماً فحبسني عنده ودعى بطعام له فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا اعرفه فدعاه فتقدم وأكل معه أكلاً عنيفاً فغاظه ذلك، والتفت ألي قائلاً: أتعرف هذا الشيخ؟ فقلت: لا، فقال هذا الرجل من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر:
وبنو الهجيم قبيلة ملعونة ... حمر اللحى متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان
قال: فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك).
ولقد كان غرام الوليد بالمال خيراً وبركة على شعره، إذ فتح له أبواباً من القول ضاعفت إنتاجه، فقد كان لا يرى عند خليفة أو رئيس سيفاً أو فرساً أو خاتما أو قلما إلا وصفه وصفاً بارعاً ثم استهداه منه؛ فإذا تم له ما أراد أخذه فباعه وأضاف ثمنه إلى خزينته، والواقع أن هذا استجداء غير مشرف، لأن الهدية لا تباع بحال من الأحوال!!
وقد نشأ البحتري في عصر تفاخر فيه المترفون باقتناء الجواري والغلمان، باذلين في ذلك أنفس ما يملكون من ذخر وعتاد، فكان الوليد لا يفتأ يستهدي من يروقه من المرد الحسان(697/36)
في أسلوب جميل يجعل سامعه يمنح الهدية في سرعة واغتباط، وهل تجد أرق من قوله في استهداء غلام يدعى ميخائيل:
فإن تهد ميخائيل تبعث بتحفةٍ ... تقضَّى لها العتبى ويغتفر الوزرُ
غرير تراءوه العيون كأنما ... أضاء لها في عُقب داجيةٍ فجرُ
ولو يجْتَلي في بضع عشرة ليلة ... من الشهر ما شك امرؤ أنه البدر
إذا انصرفتْ يوماً بعطفيه لفتةٌ ... أو اعترضتْ من لحظه نظر شزْر
رأيت هوى قلب بطيئاً نزوعه ... وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر
تجاوز لنا فيه فأنك واجد ... به ثمناً يُغليه في مدحك الشعر
وألطف منه في الفؤاد محلَّة ... ثناء تبقِّيه القصائد أو شكر
وإذا كان البحتري قد هام بميخائيل لأنه وضئ الوجه حسن الصورة، فليت شعري بِمَ نعلل هيامه بنسيم؟ وقد كان رومياً دميم الصورة كريه الرائحة! ألانه وجد هذه الصفات تجعل صاحبه يفرط فيه بسهولة، فكان يستهديه ويبيعه، ثم يستهديه ويبيعه، فهو إذن شرك (مُحكم) يصيد به النقود، وملهم يقدح شاعريته، فيصفه بما ليس فيه، ويبالغ في التشوق إلى لقائه مبالغة تستهوي الأفئدة كان يقول:
دعا عبرتي تجري على الجور والقصد ... أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه ... فياعجباً للدهر فقداً على فقد
خليليَّ هل من نظرة توصلانها ... إلى وجناتٍ ينتسبْن إلى الورد
وقَدٍّ يكاد القلب ينقد دونه ... إذا اهتزَّ في قربٍ من العين أو بُعد
فلو تمكن الشكوى لخبَّرك البكا ... حقيقة ما عندي وأن جلَّ ما عندي
غُصبتك ممزوجاً بنفسي ولا أرى ... لهم زاجراً يُنهي ولا حاكما يعدي
أبا الفضل في تسعٍ وتسعين نعجة ... غنىً لك عن ظبي بساحتنا فرد
ومهما يكن من شيء فلقد مات نسيم في ميعه صباه، وارتاح الناس منه ومن عاشقه المشوق!
على أن البحتري كان يغير في سبيل المال مذهبه واعتقاده فهو لا يثبت على قول واحد، إذا مدح معتزلياً كان معه، أو سُليَّا جاراه في رأيه قال إبراهيم بن عبد الله الكبجي: قلت(697/37)
للبحتري ويحك! أنك في قصيدتك (أأفاق صب من هوى فأفيقا) تقول:
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم ... ويحرّفون كلامه المخلوقا
فهل صرت معتزليا قدريا؟ فقال: كان هذا ديني في أيام الواثق ثم نزعت عنه في أيام المتوكل! فقلت له: هذا دين سوء يدور مع الدول).
وإذن فالوليد لا يهتم بغير المال مهما غير رأيه واستجدى أصحابه، وعنف أضيافه، وقتر على نفسه وأهله كما تقدم في صدر هذا المقال، وذلك كثير!!
بقي أن نتحدث عن علاقة الوليد بزملائه الشعراء، وهي في جملتها غير مرضية، فقد نشأ في عهد نبغ فيه المُعْلَمون من أبطال الشعر وقادته؛ فكانوا يتراكضون في ميدان فسيح، فمن حاز قصب السبق كانت له الشهرة المستفيضة، والصيت الذائع، وهذا تنافس شاق ترك في نفس الوليد أثره الواضح، فأبو تمام مثلا كان لا يستحق منه غير المدح الجزيل، فقد أخذ بيديه في بادئ امره، وقربه للعامة والخاصة، وواصل تعريفه بالناس ولولاه ما أكل الخبز - كما يعترف بذلك البحتري - ولكنه لم يرع له هذا الجميل، فهاجمه بعد موته، وقال لولده أبي الغوث (إنه ما مات حتى أصفى من الشعر، وقد سألت ابن الأعرابي عنه فقال: إن كان شعره شعراً فجميع ما قالته العرب باطل) بعد أن كان يقول في حياته إن نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه
ونود هنا أن نلفت الأنظار إلى قصة روتها كتب الأدب عن مبدأ تعرفه بأبي تمام، وخلاصتها أن البحتري قد مدح أبا سعيد محمد بن يوسف بقصيدة:
أأفاق صب من هوى فأفيقا؟ ... أم خان عهداً أم أطاع شفيقا
وكان أبو تمام حاضراً فنسبها إلى نفسه، وصدَّق جميع من في المجلس، فجعل البحتري يقسم بالله أنها له، إلى أن استحيا أبو تمام، فقال: الشعر لك يا بني ولكني ظننت أنك تهاونت موضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي تريد بذلك مضاهاتي،. . . ونحن نقول أنها قصة مكذوبة نجل أبا تمام أن يصدر عنه ما ذكر بها، سواء رواها البحتري أم سواه، لأن حبيباً كان ذا مذهب مشهور في القول حتى أنك لتعرف قصيدته من أول بيت تسمعه؛ فلو أنه ادعى ذلك ما صدقه أحد في دعواه، لخلوها عن بيت واحد تشم منه رائحته، ولا سيما وجميع من في المجلس يعرفون جيداً من هو أبو تمام! وإلى أي حد ينزع.(697/38)
أما ابن الرومي فقد جر على البحتري من البلاء ما أقلق باله وأزعج خاطره، ذلك لأنه كان مولعاً بهجاء من يعرف ومن لا يعرف من الناس، فخاف الوليد على نفسه منه، وطلب من سعيد بن الحسن الناجم أن يجمع بينهما في مجلس، وما إن تم ذلك حتى نشأت بينهما صداقة وليدة، ولكن البحتري عاد فهجَّن شعر صاحبه على ملأ من الناس، وما أن شاع في ذلك حتى أنفجر ابن الرومي كالبركان الهائج يقذف الحمم على رأس الوليد. فهجاه مرات عديدة، ولم ينس أن يتعرض إلى شعره فيُبيِّن رأيه فيه بوضوح حين يقول:
قُبحاً لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكد والتعب
عبد يغير على الموتى فيسلبهم ... حر الكلام مجيش غير ذي لجب
وقد يجئ بخلط فالنحاس له ... وللأوائل ما فيه من الذهب
يعيب شعري وما زالت بصيرته ... عمياء عن كل نور ساطع اللهب
الحظ أعمى ولولا ذاك لم تره ... للبحتري بلا عقلٍ ولا أدبِ!
إلى أخر ما قال.
هذا وقد هاجم على بن الجهم بدون ذنب جناه. فقد ورد على المتوكل على الله من البادية فأعجب الخليفة بخشونته وبسط له جناح عطفه، وما زال به حتى دمث طبعه، ورقتْ معانيه فأتى في شعره بالمرقص المطرب، ولكن الوليد لم يطق ذلك من المتوكل، فأنبري يهجو ابن الجهم هجاء مُراً، وكان علي قصير الباع في السباب فلم يستطع الصمود أمام غريمه، فتزيد عليه البحتري موجهاً جل هجومه إلى ما تحت ثيابه! وكان الأولى بالوليد أن يترفع عن هذه الناحية المقيتة، ولكن هذا ما كان! على أن البحتري فيه هجاء قد خلا من الفحش الصارخ. فكان جيد المعنى، رائع السبك، يدل على تفكير قوي وشاعرية ثرة، كأن يقول:
يا قذىً في العيون يا غُلَّة ب ... ين التراقي يا حرارة في الفؤاد
يا طلوع العذول غب صفاء ... يا غريماً أتى على ميعاد
يا ركوداً في يوم غيم وصَيْفٍ ... يا وجوه التجار يوم الكساد
خلّ عنَّا فإنما أنت فينا ... وأو عمرو أو كالحديث المُعاد
امض في غير صحبة الله ما عش ... ت مُلقى في كل فجِّ ووادي(697/39)
يتخطى بك المهامه والبيد ... دليلٌ أعمى كثير الرقاد
خلفك الباتر الصمّم بالسيف ... ورجلاك فوق شوك القَتاد
كما أن من الغريب أن الدور الذي مثَّله البحتري مع أبي تمام قد مثله مع دعبل الخزاعي، فكان في حياته يرفع شعرهإلى درجة عالية، وما سمع بموته حتى بدل رأيه فيه، فقال لمن سائل عنه، (أنه يدخل يده في الجراب ولا يقول شيء) ولعله كان يخاف من لسانه السليط!
ومهما يكن من شيء فإن حبيباً ودعبلاً أقرب إلى نفس البحتري من ابن الرومي وابن الجهل، وهذا يرجع إلى تقدمهما في السن من جهة، وعطفهما عليه من جهة أخرى، فليت الوليد قد حبس لسانة عنهما حتى نذكره مع الذين يحفظون الجميل!
وبعد فأخشى أن أكون قد أغضبت عشاق البحتري بهذا الإلمام السريع. فأنا اعترف كما يعترفون ببراعته الفائقة، وخياله الرائع، وديباجته المشرقة، ولكن اعترف أيضاً بسلاطة لسانة، وقلة وفاته، وشح نفسه.
(ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل!).
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(697/40)
رباعيات عثمان. . .!
للأستاذ عثمان حلمي
كم جبان من الخيال يراعُ ... هو في نفسه الجريءُ الشجاعُ
فإذا جدَّ أي أمرٍ تبينْ ... تَ جزوعاً خانت قواهُ الطباع
كيف أضحى وجه العبوس كوجه ال ... طفلِ هشاً والقلبُ وهو شجاع
هكذا تأخذ المظاهر بالأل ... باب أخذاً ويستقيم الخداع
هكذا ما استقام في الأرض ظلُّ ... أو تعزى في ظلها المستظلُّ
ما بنوها أقل ميناً ولا الأر ... ض على المين من بنيها أقلُّ
معدنٌ واحدٌ فلا ترج ماير ... وي الصدى من كذابهم أو يُعل
وتبسَّمْ ولا تملَّ فأن ال ... عاقل المستنير من لا يمل
أيما أبصرتْه مقلة رائي ... باطل في بصائر الفهماءِ
فأرح في الحياة نفسك ما اسطع ... تَ بما تستطيع من إغضاء
ما على الأرض لو تأملت خيرٌ ... لك من لقمة وجرعة ماء
وسوى ذاك باطلٌ أي بطلٍ ... وعناءٌ ما بعده من عناء
أي حق ما لابستهُ الظنون ... ليت شعري فأين أين اليقينُ
الذي كان ليس يدريه حيٌّ ... ومحال إدراكُ ما سيكون
حُلُمٌ هذه الحياة على الأ ... رض وسرٌّ لا ينجلي مكنون
ذلك السرُّ ليس يجلوه للأح ... ياء - لولا الضلال - إلا المنون
كل نفس لها لدى الفكر حق ... فالذي خلته هو الحق - حق
والذي خاله سواك هو الحق، فمن منكما لعمري أحق
شدَّ ما في رأييكما من خلاف ... هو غربٌ وأنت في الرأي شرق
ليس من يعرف الحقيقة في الخلق برأيٍ ما في ثناياه خرق
فعلام الجدالُ والأضغان ... وإلام الحقود والطغيان
نحن مهما تباين الرأي فينا ... واختلفنا فاصلنا الإنسان
ما جرى في عقولنا من دماءٍ ... أو حوتْ في صميمها الأبدان(697/41)
واحدٌ ذلك التراب إذا ما ... حللته الأحداث والأزمان
كل حيٍّ في الأرض أسعد حالا ... من بني آدم وأسمى مثالا
فالحمار الذي حسبناه أشقى الخل ... ق منيِّ ومنك، أنعم بالا
فهو أنى اغتدى على الأرض لم يجن على نفسه بخطءٍ وبالا
ومع العقل يا ابن آدم تزدا ... د لعمري حماقة وضلالا
نهض العلمُ يا بن آدم نهضاً ... فسعي يبتغي سوى الأرض أرضا
ترك الأرض بعد أن دوّخ الأر ... ض وجاب السماء طولا وعرضا
وارتقى فيه كل شيء ولكن ... بقيت نفسه كما هي فوضى
وتقضى بعقله كل نقص ... غير نقص بنفسه ما تقضى
هذه النفس يا أخي كيف تصفو ... إن حواها جوٌّ من الشر صرف
هي إبليس لو فطنت وفيها ... مَلك حائر على الخير يهفو
وهي وحش من الوحوش ونسر ... بجناح على المخيم يرف
لم يهذِّبْ مر القرون طوايا ... ها فظلت من ضعفها تُستخف
ملك النسل أمرها والجوع ... فهي طفل على الدهور رضيعُ
أينما أيقظا هواها فما ينفع فيها التثريب والتقريع
هكذا قام من غريزته الأصل وقامت على الأصول الفروع
ما استطاع الإنسان حدَّ هواها ... لا ولا حدَّ شرَّها مستطيع
عجز العلم والنهى والدين ... والردى دون نقصها والسنون
فتأمل أيان كنت أنَّى ... شئت فالضعف جاثم والشجون
وفنون من الخصاصة والتعس وجمُّ من الشقاء فنون
ودمٌ في براءة مُهرَاق ... وغريم من كل ِّ شرٍ مصون
يا لها من حقيقة تتوارى ... خجلا والنفوس منها حيارى
فإذا ما تحجبتْ أسدل المي ... ن على وجهها البغيض ستارا
وإذا ما تكشَّفتْ لم ير المبصر فيما يراه إلا صغارا
كم يرى النفس كيف لطخها الطينُ ... فجُنَّتْ حماقة وسَعَارا(697/42)
كلنا لائمٌ فأين الملوم ... أين منا الأريب أين الحكيمُ
فالتمس للنفوس ما اسطعت من عذ ... ر فما في نفوسنا المعصوم
وتقَّبل ما ساء منها وما سرّ بقلب ما أثقلته الهموم
هكذا كانت النفوس فلا يُحزنك منها صحيحها والسقيم
لو تراني والشر يطغى أمامي ... ودموعي يطغى عليها ابتسامي
لو تراني عجبتَ لي كيف أمضيتُ حياتي في راحة وسلام
فتأمل مع ابتسامك في عصري وكيف انقضت به أيامي
لو تأملتها كفتكَ كثيراً ... من تجاريب سادرٍ مغشام
كلما زاد بالحياة اهتمامي ... واشتغالي زادت بها آلامي
وتبيَّنت كلما مرَّ يومٌ ... إثرَ يوم حقيقة الأيام
فالتجاريب علمتني أن تذ ... عن نفسي فيها لغير مرامي
والقيود التي فُرضْنَ على الأحياء فيها قوبلن باستسلامي
والسلام الذي أراه أمامي ... كم تبينت فيه عكس السلام
غير أني على مرارة سخري ... لم أبح في انتقاده بملام
هذه حكمة الحكيم جناها ... عقله من تتابع الأعوام
من يُردْ هذه الحياة جحيما ... جاء من نفسه لها بضرام
أصبحت تشبه الحمامة نفسي ... فهي تضحي على الهدوء وتمسي
حسبها السعي للقليل من الرز ... ق وحسبي الرضى به والتأسي
ثم حسبي أن لم أرق ماء وجهي ... لابن أنثى من ذي ثراء وبأس
وأرى في الرضى أماناً من الهم ... وبرءًا من كل غمٍّ ويأس
ولقد رُضتُ في العواطف قلبي ... وتقلبتُ بين بغض وحبِّ
ثم أصبحت لا أودُُُّ ولا أقلي ولا يستقيم للعطف لُبِّي
كل همي أن أبصر الخلق عن بُعدٍ على مسرح الخليقة قربي
ساخراً من مشاهٍدٍ تتوارى ... بين سهل من الأمور وصعب
ليس للحبِّ والقلى أسبابُ ... أدركتها النفوس والألبابُ(697/43)
حيِّر العلم كل عقل ودون العلم عن حيرة القلوب حجاب
ربَّ قلب أحبَّ نفساً إساءته ومن أحسنت ببغضُ تثاب
ذاك أمرُ مثل المنية خافٍ ... جهل الشيب سرَّه والشبابُ
كل ما في حياتنا أوهام ... إن خبرت الحياة أو أحلام
فاسأل الغيبَ عن حقيقة دنيا ... نا تجبك النجوم والأجرامُ
وسل الكائنات عن منشأ العق ... ل ومأوى النهى يجبك الرغام
واعتصم يا أخي بعجزك أن العجز فيه إذا ضللت اعتصام
كم سؤال لا ينتهي وجواب ... لم يكن في هداك فصل الخطاب
فتبرّمتَ بالحياة ولم ير ... ددك عقل إلى سواء الصواب
ما الذي يستطيع عقلك أن يفهم مما اختفى وراء الحجاب
ولعمري ما الأرض في الكون إلا ... ذرة في خضمّه الصخاب
عثمان حلمي(697/44)
البريد الأدبي
طه الراوي
بعد أن كتبت الكلمة التي حملت إلى قراء (الرسالة) الخبر المصم، والنعي الكارث، نعي فقيد الأدب العظيم الأستاذ طه الراوي جاءتني هذه (الرسالة) من الأستاذ حسن حبشي مدرس التاريخ بمدرسة المعلمين العالية ببغداد، وكنت حملته بطاقة إلى الأستاذ الكبير رحمه الله، فقابله قبل وفاته بيوم واحد.
وهي اسطر قيمتها بأنها تتحدث عن الأستاذ في آخر حياتة، وتحمل إلى أصدقائه من أواخر نفحاته.
قال الأستاذ حبشي:
(ما كنت أبلغ عاصمة الرشيد حتى توجهت يوم السبت إلى الأستاذ طه بك الراوي وكنت قد بعثت ببطاقتكم إليه مع الأستاذ جميل سعيد، وقد رحب بي الرجل أجمل ترحيب، وسألني أن أحدثه عنكم، إذ هو مشتاق إلى الوقوف على أخباركم، وقال إنه يعتب عليكم في أنكم لا تجيئون العراق، مع أنه قد ألح عليكم من قبل، وكان حاضراً المجلس الدكتور مصطفى جواد وأنبأني أنه سيكتب إليكم.
ولكن العجيب يا أستاذي أن هذا الأديب الكريم كان ممتلئاً صحة، وكان دليل العافية بادية عليه، لا تلمح به أثراً أو جهد أو تعب، ولكن انقضى اليوم الثاني حتى وافانا نعيه فكان الرزء فيه عظيما. وأي خطب للأدب والدين في العراق اجل من أن يختطف الموت طه الراوي وقد كان ملء السمع والبصر، وكانت جنازته جنازة دلت على مكانته، فقد شيعه كبار القوم ببغداد، وعارفو فضله وأدبه، على الرغم من أن المدة بين نعيه وبين تشيعه إلى لحده لم تتجاوز خمس ساعات.
فإن يكن قد كتب إليك فذلك اخرما كتب، كما أن رسالتك التي حملتني إياها كانت آخر ما تسلم، ولا أستطيع يا أستاذي أن أصور لك مبلغ حبه لك مما بدا في حديثه معي ومع سائر زواره في ذلك اليوم، وإنني لأرجو أن يفسح الله له في جناته بقدر خدمته للأدب والعروبة والدين).
من صميم الحياة:(697/45)
القاضي الفاضل الأستاذ علي الطنطاوي من بقايا السلف الصالح، يرسل علينا من آن لآخر آيات فيها العضة والاعتبار بأسلوب رشيق وقصص ممتعة، وفيها أيضاً إثارة من قلم أستاذنا الرافعي طيب الله ثراه.
ساق إلينا في (الرسالة) رواية عن شاب مستقيم الخلق والدين عهد إليه بالتعليم في مدرسة ثانوية للبنات، ثم انتهى به فساد بعض التلميذات إلى الاستقالة من المدرسة؛ ولي على الكاتب الفاضل ملاحظات:
1 - تغلب عليه روح التشاؤم فيما يكتب، ونحن في عصر النهوض أو في عصر انقلاب اجتماعي وقد نسيء أو نحسن، فنحن في حاجة إلى من يروضنا ويبعث فينا روح التفاؤل بأسلوب يهز النفوس هزا لتنشط إلى السير قدماً في طريق الفلاح والنجاح، ويحملها على الاعتراف بالخطأ فتصفو من عيوب المجتمع وتسلك سواء السبيل.
2 - لقد قدم لنا بطله في مدارس البنات شاباً ضيق الأفق ضعيف الحيلة اشد حياء من العذراء، ثم صور تلميذته في صورة داعر تعشق معلمها من غير مقدمات. . . وليتها فعلت كما قال شوقي:
نظرةفابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
وما هكذا طبائع الأشياء، وما كذلك مدارس البنات!
3 - كثيراً ما تتغلب الفكرة والخيال على الأستاذ الكاتب فيفوته الواقع في قصصه: (فهي فتاة من أنبل الأسر تسرع وراء معلمها فيعف عنها ثم تكتب له:
وإذا رأيتك لا تكلمني ... ضاقت على الأرض والأفق)
وما كان لها أن تخجل وتعرض عن معلمها بعد أن صد عنها وأعرض، حتى هجمت عليه في منزله كالوحش الضاري لتهتك عرضه
لا - يا أستاذ - لقد شط معلمك شططاً بعيداً. ولعلي أصدقك - وقد كنت في ماضي حياتي معلماً في مدارس البنات - فهذه المخاوف التي استولت على ذهنك كنا نتصورها، أو قريباً منها، حتى إذا وجدنا أنفسنا في هذا الوسط أحسسنا أن هؤلاء البنات بناتنا والمعلمات أخواتنا، وزال هذه الخوف الأسود من مشاعرنا، وصارت الحياة عادية، وهذا شأن سائر المعلمين في مدارس البنات(697/46)
فرفقاً بالناس وحنانيك، وإنصافاً - يا حضرة القاضي - فالأمر أن شاء الله على ما تحب بفضل القدوة الصالحة والتهذيب الصحيح أولا فلتغلق مدارس البنات والسلام
حسنين حسن مخلوف
مفتش بوزارة المعارف
تحية قدوم:
(من الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين إلى الأستاذ أحمد أمين
بك بمناسبة قدومه من أوربا):
سعدت بمقدمك العباد ... يا خصب أذهان البلاد
الشرق محتفل القلو ... ب بكم وإن حال البعاد
بشرى تناقلها البلا ... د تناقل النغم الميعاد
يسري شذاها حاملا ... أملاً إليها في ازدياد
أحمد الزين
مناظرة هادئه
اطلعت بالعدد 694 من مجلة (الرسالة) الغراء على المقال القيم بقلمك الأستاذ الكبير علي الطنطاوي. وإني وإن كنت من (الرجعيين) أمثال الأستاذ الكبير، إلا أني أريد أن أنصف النساء والرجال أيضاً فأقول: إن النساء لم يجرمن ولم يذنبن، (وطالب القوت ما تعدى)، فموضوع النساء كموضوع الرجال تماماً، ينحصر في غريزتين اثنتين: وهما المحافظة على الذات والمحافظة على النوع، وبعبارة أصرح الحاجة إلى الطعام واللباس والغريزة الجنسية، وكان الزواج يكفي المرأة هاتين الحاجتين؛ إلا أن الشبان في هذه الأيام - تبعاً للتصور الفكري والمادي - أرادوا أن تكون زوجاتهم على علم يتفق وثقافتهم، كما رأوا أن الزواج عبء ثقيل لما يتبعه من تربية أبناء وتعليمهم وعلاجهم فأرادوا أن تكون لزوجاتهم ثروة تعينهم.(697/47)
اضطرت البنت إلى أن تتعلم، أو اضطر أهلها إلى تعليمها، واستتبع التعليم حتما السفور، ثم اضطرت الفتاة إلى أن تعمل لتكون لنفسها ثروة يطلبها الرجال!
وكان لا بد من أن تتطور أفكار الفتاة تبعاً لثقافتها وقدرتها على الكسب، فرأت لنفسها الحق في شيء من الحرية والاستقلال وهو أمر - إذا لم يتعد حدوده - لا يتنافى مع الدين ولا مع الشرف ولا مع حقوق الزوجية!
وفي فترة انتظار الزوجة المتعلمة الغنية اتصل الشاب ببعض المتهتكات - اللاتي كانت المشكلة الاقتصادية أيضاً هي السبب الرئيسي في سقوطهن - فاستمرأ المرعى ووجد الأمر اسهل من الزواج
وظنت الفتاة المتعلمة أن الشبان يفضلون المظاهر الخلابة، فأرادت أن تتقرب إليهم ببعضها فنفروا من زواجها! فماذا تصنع؟!
كما رأت أخوات لها تزوجن رجالا ابتزوا أموالهن وجروا وراء شهواتهم وملاذهم، بل طلقوهن وهربوا من النفقة! فأصبحت هي أيضاً تخشى الزواج!
ومن هذا ترون أن المشكلة أشد تعقيداً من أن ينفع فيها لوم المرأة، والمرأة وحدها. إنها مشكلة الجوع والحرمان - المادي والمعنوي - مشكلة العصر الحاضر كله، والذين وضعوا أسسه ونظمه هم الرجال لا النساء. . فما ذنب المرأة؟!
الشاب يجب أن يتزوج فتاة مثقفة محتشمة، والفتاة تريد أن تتزوج رجلا يرعاها ولا يظلمها، ولكنهم جميعاً يخشون المستقبل، ولا ضمان لهم، فلا التعليم مباح لأبناء الفقراء، ولا العلاج ميسر للمرضى، ولا العمل مكفول للعاطلين والعاطلات!
فليس التعليم إذن ولا السفور مسئولين عن هذه التبعة الثقيلة، ولو كانت الفتاة جاهلة ومحجبة وحُرمت الزواج، لما كانت الحال أحسن، بل تكون أسوأ، لأن الجاهلة لا تجد ما يشغلها، وكل ممنوع محبوب ومطلوب!
صحيح أنه يوجد في التعليم والاختلاط أخطاء وضحايا، ولكن العلاج ممكن ببعض التنظيم والتهذيب، فالفضيلة اسهل من الرذيلة التي لا يلجأ إليها الإنسان إلا مضطراً لسوء الظروف أو سوء التربية إن الزمن يتطور، والنظريات تتغير، وإن التيار جارف شديد لا يمكن اعتراضه، ولكن يمكن توجيهه إلى الخير، إذا صلحت النيات وقويت العزائم(697/48)
والمشكلة الرئيسية مشكلة اقتصادية - كما أوضحنا - فإذا أراد أولياء أمورنا حلها، فعليهم أن يوفروا للرجال والنساء حاجتهم من العيش والزواج بكرامة واطمئنان، ليوفروا التعليم للفقراء، والعلاج للمرضى، والعمل للعاطلين، ليكفوا الناس شرور الفقر والجهل والمرض!
وبغير هذا (فصاحب الحاجة أرعن)، ولا فائدة من اللوم ولا من الكلام!
فؤاد السيد خليل(697/49)
الكُتُب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 1 -
دين وسياسة
هذا الكتاب أن شئت قلت هو كتاب دين كتب بقلم سياسي مفكر عارف بآفاق الحياة البشرية، له بأكثر الأمم والأديان والعلوم والمعارف والحوادث العالمية والقومية خبرة نادرة، فلست تجد في كتابه الذي نحن بصدده تلك العقلية النمطية المقيدة التي تواجه القارئ في أكثر ما يعالج المسألة الدينية من كثب.
وإن شئت قلت هو كتاب سياسة كتب بقلم رجل هو في أعماق نفسه وظاهر حياته رجل عقيدة وفضيلة وسمو، يرى الحياة السياسية لن تكون على شيء غير الخداع والكذب وحب الغلب واللعب بالشعوب والأفراد إن لم تؤسس على العقائد السامية التي يستمدها العقل والقلب من التعلق بتلك الحقيقة الأولى العليا وهي الإيمان بالله عز وجل واستمداد الضمير مما يفيضه سبحانه على الكون من قيم الحق والخير والعدل والرحمة والجمال والنظام وغير أولئك من عزائم الإحسان التي توحي بأن تكون وجهة الناس خدمة الحياة البشرية جميعاً بدون نظر إلى ما بين الناس من فروق الجنس واللغة والدين والطبقات، والسعي المخلص للتوفيق بين الأمم ودفعها لخدمة الحضارة والعلم ومقاومة عوامل التفريق والتنازع في مجالات الكسب المادي.
صوت متوقع من الشرق(697/50)
والصوت الذي يعلو في هذا الكتاب كان لابد أن يرتفع الآن من الشرق العربي مع أصوات الدعاة في العالم ومع نهوض الجامعة العربية برسالة (الأمة الوسط) التي يلتقي لديها الشرق والغرب لقاء جميلا، ليجلو هذا الصوت وجهة رسالة الله الواحدة الخالدة التي تنقلت بشعلتها يده تعالى مع تنقل البشرية وتطورها التاريخي حتى استبانت معالمها التاريخية على أيدي أربعة من هذه (الأمة الوسط) هم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
وكان لابد لهذا الصوت أن ينطق عن هذه الرسالة بلسان هذا العصر ويوضح منطقها بأسلوبه ويبين عن آرائها في الحضارة الروحية التي لا بد منها أولا لتوطيد أسس الحضارة المادية في القلوب والعقول قبل إقامتها في المجلات المادية.
وقد رأينا دعاة السلام في الغرب يعالجون مشكلات العالم بأسلوبهم وحسب تكييف حياتهم ومواصفات بيئاتهم، مثل ما فعل (وندل ويلكي) و (هنري ولاس) و (ويلز) وغيرهم. وما كان لسكان الشرق الأدنى صاحب الرسالات الفاصلة في توجيه الحضارات الروحية والمادية، والماهد لها في قديم التاريخ وأوسطه، والجامع لأطراف إنسانية الشرق والغرب حيث نزل إلهام الله ووحيه على رسله وأنبيائه في رسالات لا تزال هي المسيطر على أرواح أعظم جماهير الأمم العظيمة للآن. . . وما كان لهم أن يتركوا الناس يتخبطون في التماس الهدى وحل مشكلات الفكر والعيش دون أن يرتفع فيهم صوت يذكر الناس برسالة الله الخالدة ويعلن عما فيها من هدى قديم جديد.
البحث عن غد
والغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه، وقد خرج روادهم منذ الحرب العالمية الأولى يبحثون عن ذلك الغد في كل مكان حين أحسوا ظلمة المادية تخنق أمسهم ويومهم وتتراكم على منافذ حياتهم الروحية فتحجب عنهم أضواء الهدى وتخنق حياة الوجدان والضمير وتطارد طمأنينة النفس إلى الحياة وإلى قيم الحق والخير فيها. . .
غير أن الموجة المادية كانت قد وصلت إلى ذروتها من الظلام والطغيان على الفكر الغربي بحيث لم يستطع الباحثون عن السلام أن يصدوا من طغي أنها وظلامها، فأنطلق سيلها الجارف الهدار حتى طم على حياة الغرب والعالم كله فأغرقه بفلسفة البحث عن (الذهب(697/51)
الأسود) و (الفحم الأبيض) وأحرقه بنارهما مع ما جمع من الحديد والفولاذ وأدوات المتاع والزينة والخيلاء والجشع والاستعلاء. . .، وإذا بأوربا موئل الحضارة المادية تشقى بحضارتها وتدمر بوسائل قوتها حتى تصبح خاوية على عروشها لا يطمئن إلى الحياة فيها سكانها وهجرها عشاقها كما تهجر الفيران السفينة حين تشفى على الغرق. . . وإذا الحقيقة الخالدة تتجلى من جديد وهي أن الحياة الإنسانية إذا لم تقم على الطمأنينة والسلام وعقائد الخير وانسجام الإنسان مع ما أراده الله من الطبيعة، فهي إلى فناء وزوال في غدها مهما غنيت في أمسها وحاضرها!
نعمة تستحيل إلى نقمة
وهذه الحضارة نعمة عظيمة لا يكدر صفوها إلا الطيش والجشع بينها؛ لأنها حضارة جعلت للإنسانية قدرة على تحقيق أحلام السيطرة والتغلب على كثير من قوى الطبيعة، وكشفت للبشر عن مدى قدرتهم التي صارت لا يقاس بها ما كان لآلهة الخرافة عند القدماء من قدرة على التكوين والتخريب. فلماذا يصرون على الحروب والخصام بعد أن صار في حروبهم من الهول والدمار ما يسحق جذور الحياة نفسها، وبعد أن وضح لهم أن الأرض دار واحدة لهم جميعاً وأن خيراتها كافية لأن ينعم بها الجميع ويتمتعوا ما وسعتهم القدرة على المتاع؟!
إن ذلك طيش وسفه يجب أن ينهض لمقاومته العصبة ذوو القوة من المفكرين والمربين ودعاة السلام في الشرق والغرب وأن يصدعوا بذلك، كل في محيطه ووطنه والعالم.
وهذا ما أراده عزام باشا حين أخرج بحوث هذا الكتاب الذي لا شك في أنه ضوء عريض سيكشف للعالم جميعه مدى ما عند وارثي (الرسالة الخالدة) من فهم وإدراك وعلاج لمشكلات الفكر والعيش والسلم والحرب والاجتماع، وما لديهم من استعداد عظيم للمشاركة في إقامة حياة كريمة بين الناس جميعاً؛ ومدى ما في طبعهم من سماحة تؤهلهم أن يكونوا بحق (الأمة الوسط) لا في المركز الجغرافي وحده، بل في المركز الفكري كذلك
مسألة المسائل
والمسألة الدينية هي أعظم مسائل الحياة قيمة وتشويقاً وإثارة للجانب السامي في النفس البشرية وللتفكير والرجاء والرغبة والرهبة، وقد كانت ولا زالت محور بحوث العقول(697/52)
المفكرة وعقول الجمهرة، لأنها تتصل بأعماق الفطرة ويترتب عليها قيمة الحياة وقيم الحق والخير فيها، ومعرفة المصدر والغاية منها، وما برحت (ما نحن؟ وما الكون؟ ومن أين؟ وماذا وراء الطبيعة؟ وما هي الغاية؟) أسئلة خالدة تثيرها القوى المفكرة في كل فرد، وهي موجهات الحياة ومكيفاتها، تضل الجماعة البشرية أو تهتدي حسب توفيقها في الإجابة عليها. وهذا الكتاب يعالج الحياة الإنسانية ومشكلاتها بتثبيت جذور هذه المسألة الدينية وتفريع فروعها فيتمشى بذلك مع طبيعة الشرق واتجاهاته من قديم، فالشرق دائماً يعالج حياته المادية بالاستمداد من خالق الوجود وواهب الحياة، ويقيم علاقات الاجتماع على أسس من علاقات الناس والكون بالله. بينما الغرب من قديم كذلك يتمشى مع عقليته المادية، فهو دائماً الباحث المادي الرهين بالمحسوسات المستوحى جفاف الأرقام. . .
ولذلك كان المزاج الشرقي واسع الرحاب برحابه ما يتصوره من عالم الكماليات الإلهية وراء هذه الطبيعة، طليقاً في أحيان كثيرة من القيود المادية التي تحبس الخيال وتربطه بالأرض، يأخذ الماديات لا لعبادتها وتأليهها ولكن للتعلق بمسبب أسبابها.
الحاجة إلى حضارة الروح
والدعوة الدينية هذه في حاجة ماسة إلى الحديث الدائم عنها وخصوصاً في هذا العصر المادي، بأسلوب هذا الكتاب الذي رأى المسألة الدينية أكبر معين لبناء الحضارة المادية على أوتاد ثابتة من الإيمان والإحسان، فاستعان بها اعظم استعانة واستفتى نظرياتها وأفكارها لتطبيقها على التاريخ الحي الذي يحياه الناس الآن، ليريهم أن منشأ ضلال الحياة الغربية هو ترك الاستعانة والاعتماد على الهدى المجرب من هذه المسألة.
وقد ثبت أن من الخير المؤكد للناس أن يحكموا بحكومة الوجدان والضمير من داخل نفوسهم قبل أن تحكم أجسامهم وظواهر أعمالهم بالقوانين، لأن حكومة الوجدان راعيها الله المطلع في كل حين على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، بينما حكومة الأجسام لا ترى إلا ما في الشوارع ولن تستطيع أكثر من هذا. . . ولن تقوم حكومة الوجدان إلا في ظلال الدين الصحيح الكفيل بإقناع الناس فيما بينهم وبين أنفسهم بقيم الحق والخير والفضيلة، وبقبح الباطل والشر والإثم والجريمة.
الفكر والسلطة(697/53)
والكتاب مثل واضح لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الفكر والضمير والسلطة حتى يكون (فن الحكم) - وهو اعظم فنون الحياة - قد استكمل أدواته في نفوس الحاكمين والمحكومين
والعلاقة بين الفكر والسلطة هي مشكلة الحضارة في هذا العصر، إذ أن المفكرين المؤمنين العالمين بسير الحياة بالأحياء والساكنين في قمة العلم والخلق لا يزالون بمعزل عن حكم الناس، قد تركوهم للسياسيين المحترفين والسماسرة والدجالين واللاعبين بالشعوب المنقطعين عن العلم والخلق، ولا هم لهم إلا الثروة المادية والبطش والخيلاء والغلبة على الأعداء. . .
والذين يعرفون المؤلف يشهدون في إجماع أنه من نوابغ المفكرين المؤمنين السياسيين العمليين والآملين في آن واحد. ولذلك وفق غاية التوفيق في أن يكون كتابه كتاب تربية وتهذيب ودين وسياسة وإصلاح اجتماعي، وفقه في العلاقات الدولية، ومعالجة أسباب المشكلات العالمية، ووضع نظام عالمي جديد.
فهو كتاب من الكتب المتفردة التي يخرجها عمالقة الفكر والخلق الذين يلتقي فيهم العقل والقلب ذلك اللقاء المنشود المحبب الجميل، ليفرقوا بها أمراً حكيماً من أمور باطلة، يضعونه على طريق الإنسانية في مرحلة من مراحل تاريخها، فيكون مناراً يضئ مسالك الخطى حين تختلط الطرق وتضل الاتجاهات ويحتاج الناس إلى صوت يقول لهم: من هنا الطريق. . .
المدخل
ودعونا الآن نلج إلى الكتاب من أبوابه الستة ذات الفصول الثلاثين لنتعرف إلى أمهات مسائله في إلمامه خاطفة ونظرة عابرة إن فاتها التعرف إلى الدقائق فلن يفوتها التعرف إلى الجلائل:
الكتاب كما يتضح من عنوانه (بحث في رسالة الله الواحدة الخالدة على مدى الزمن، واقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية، لإزالة الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي في إقامة نظام عالمي جديد) وقد أوضح(697/54)
المؤلف في مقدمته أن الذي دعا إلى تناول موضوعاته هي حالة الشذوذ والاضطراب أثناء الحرب الأخيرة والرغبة في الكشف عن أسباب هذا الاضطراب العالمي، ومحاولة أيجاد علاج له بعد أن تبين أن هذا العلاج غير ميسور في هدى الدعاوى المبادئ السارية في هذا القرن، والتي أوحت بها المدنية المادية الحديثة. فلا بد إذاً من النظر بجد لالتماس الهدى في غيرها بعد أن ظهر عجزها في تنفيذها الواقعي بأوربا وأمريكا.
فهل هذا العلاج في الرسالة الخالدة التي تعاقب رسل الله على الدعوة إليها وجاء بها إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
وقد تولى الكتاب الإجابة على ذلك، وهو إن كان أفاض في التعرض لشرح وجهة النظر الإسلامية باعتبارها آخر تطور للرسالة الخالدة (فإنما قصد بذلك إلى التعاون والقربى لا التنابذ والتفرقة وأن يجد الناشئ الجديد المتعطش إلى المعرفة والطالب للهدى من المسلمين وغير المسلمين، مادة للتفكير وسبيلا إلى رأي عالمي مستقيم بعد هذه الحروب المدمرة التي أثارت اضطراباً لا نظير له) واضعاً نصب عيون المسلمين وغير المسلمين قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه).
وهو يهيب بالجيل الناشئ من العرب (أن يكونوا أهلا لحمل هذه الرسالة يمدون الحضارة والعلم بالسند الروحي الذي لابد منه لعالم جديد متضامن متعاون على تثمير خيرات الأرض متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه).
(يتبع)
عبد المنعم خلاف(697/55)
العدد 698 - بتاريخ: 18 - 11 - 1946(/)
نافقاء اليربوع
للأستاذ محمود محمد شاكر
لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها، هذا غاية نعته وصفته: (يعيش في الدنيا) وهو حريص عليها، لا حرص البخيل الذي يجمع المال، ولا حرص المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود - كلا بل هو حرص على حدته وعلى حياله لا يشبهه في الناس إلا قليل. هو حرص على التعجب منها ومما فيها، وهو حرص على النظر في الأشياء والحيرة في فهمها - واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرص على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرج من كل هذا الحرص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدة.
وعجيب أنه أبدا مولع بهذا الحرص ولع المحب بحب جديد. وهو نفسه يعلم انه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئا في معرفة الدنيا ولا في التثبت من شيء من أحوالها، ولكنه يزداد به على الأيام ولوعا وكلفا وغراما حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصي عن أشياء لا تغنى عنه شيئا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغنى قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يلقى على كاهله هذا العبء الثقيل الفادح، وان كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوى من حمله، ولا من الصبر على بلواه. هذه ثانية.
وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، انه إنسان حي النفس قابل للتلقي، فكل شيء من حوله يثير في نفيه الفضول، وينشر عليه ذلك الحرص الشديد على المعرفة - مجدية كانت أو غير مجدية، لا يبالي. فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقه عن الاستقصاء. واشد من ذلك هولا انه لا يكاد ينسى شيئا مما ائتمنته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عاد إلى ما لابد له منه عاد اشد رغبة في النفاذ والاستقصاء والبحث. فهو بذلك معان على الحرص على الدنيا وما فيها بالذي انطوت عليه جوانحه، وبالذي فطرت عليه نفسه، فهو لا يرى خلاصا، أو لا أرى أنا له خلاصا، من هذه العادة المتمكنة، أو هذه الخصلة الكامنة في أعمق أعماق - طبيعته.
فهو بهذا الذي وصفت: (يعيش في الدنيا)، ولكنه (خارج منها) بشيء آخر، وان كان(698/1)
متصلا بهذا كله اشد الاتصال. فهو لا يكاد يعبأ بنفسه شيئا، بل هو لا يعرف إن له نفسا موجودة، أو اصح من ذلك انه يشك كل الشك في وجود نفسه، فهو أبدا مختلس من نفسه بالبحث عن نفوس الناس. وهذه مثلبة الفضول، فإنها تمنع المرء عن التأمل في نفسه، فإذا أراد أن يتأملها فكأنما يتأمل شيئا غريبا ليست بينه وبينها وشيجة أو آصرة أو عاطفة. ومن اجل ذلك تراه يدور من حياته هو في مثل الحلقة المفرغة لا يدري من أين يبدأ ولا أين انتهى، ولا يعرف أهذا هو الحق في فهم نفسه أم الحق سواه. ويذهب ويعود في البحث ولكنه لا ينتهي إلا إلى شيء واحد هو انه لا يدري.
كنت على وشك أن أكتب شيئا حين أسرع هذا الصديق إلى التلفون ليسألني هل قرأت جريدة (المصري)، وما جاء فيها من الذي سمته (النص الحرفي لمشروع اتفاقية صدقي - بيفن، ولبروتوكول الجلاء والسودان): وذلك في عدد الاحد10 نوفمبر سنة 1946، وكنت قد فرغت لساعتي من قراءته ومن التعجب لما جاء فيه. وأنا لا أتستطيع أن اطمئن إلى نص مختلس لا ادري أحق هو أم باطل، ولكني قرأته فإذا لم يكن هو النص فكأنه هو، لأنه أشبه معوج بحقيقة العوج. ولا أظن أن الإنكليز يبلغ بهم صدق الطبيعة أن يقولوا في السياسة شيئا على وجهه وعلى استقامته، فلذلك خيل إلى أن في هذا النص طرفا من الحقيقة الدالة على طبيعة الاعوجاج في السنة هؤلاء الساسة الإنجليز، ولست اعجل إلى مثل هذا النص المختلس فأقول في عبارته قولا، فإن العجلة في مثل هذا شيء لا غناء فيه، كما لا غناء لك في إقناع الإنجليز بان الحق الذي لك هو حقك، إذا كان الإنجليزي يرى انه ليس حقا لك، وان ظاهرتك الدنيا كلها على حقك.
ونحن منذ كنت سنة 1919 أخذنا نجهل كيف يعامل هؤلاء الناس، فإن ذلك الخطل الذي ضرب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه (المفاوضة) قد جرفنا في عباب متلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقوا مقاليدها من يد الله القدير العزيز. وكننت أظن أن التجارب قد حنكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الارض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من اجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن،(698/2)
لان رجالنا يستضعفون انفسهم، ويظنون أن هذا الشعب لا يمكن أن يظفر بحقه إلا بمداورة الإنجليز والترفق في معاملتهم، حتى ينالوا من أيديهم ما تيسر! وهذا عجب! بل هو غفلة! بل هو كدح أحمق في سبيل لا شيء. فقل لي بربك كيف يستطيع إنجليزي أن ينزل لنا عن شيء هو يريد أن يؤمن بأنه حق له، وإن كان حقا موروثا متحدرا من اصل البشرية كلها، وهو الاستقلال والحرية!. . .
خلق الله في دواب الأرض دابة يسميها العرب اليربوع، تكثر في بلادهم، وهي نوع من الفار قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعدا، وفي طرفه شبه النوارة. ولهذا اليربوع أسلوب فرد في حياطة نفسه وأموره، حتى انه يتخذ لعشيرته رئيسا يقف حارسا على جحرة اليرابيع يحميها، فإذا قصر في الحراسة، وهجم على اليرابيع من جراء غفلته وإهماله هاجم أفزعها أو اضر بها، انقلبت على ذلك الرئيس فقتلته وأقامت غيره مقامه، ويتخذ كل يربوع منها جحرة يلوذ بها، ويجعلها سبعة لها سبعة أبواب. فيبدأ أول ما يبدأ بالجحر الذي يسمونه (الرهطاء) فيغطيه بالتراب حتى لا يبقى منه إلا على قدر ما يدخل الضوء منه إلى جحره هذا، ثم يحتفر حجرا يسمونه (الحاثياء) يحثو عنده التراب برجليه ليخفى مدخله. ثم يحتفر آخر يسمونه (الداما) لأنه يدممه بتراب نبيثته حتى لا ينفذ منه عدو، ثم ينشا حجرا آخر يقال له (العانقاء) يملؤه ترابا، فإذا فجأة ما يخاف اندس فيه إلى عنقه. ثم يحفر (القاصعاء) وهو حجر يسده سدا محكما لئلا يدخل عليه منه حية أو دابة. ثم يحفر (النافقاء) ويجعل على فمه غشاء رقيقا، فإذا اخذ عليه بقاصعائه عاد إلى هذه النافقاء فضربها برأسه ونفق منها ومرق خارجا. ثم يجعل سابع سبعة حجرا يقال له (اللغز) يجعله بين القاصعاء والنافقاء، يحفره مستقيما إلى اسفل، ثم يعدل به عن يمينه وشماله عروضا تعترض، يغميه ليخفى مكانه بذلك الألغاز، فإذا طلبه طالب بعضا أو سواها نفق من الجانب الآخر.
أفرأيت إلى كل هذه الحيطة وكل هذا التدبير! فإن تعجب فانك واجد في الخلق الإنجليزي أكثر من هذه مداورة وتفلتا وإلغازا ومراوغة. والإنجليز أنفسهم يعلمون انهم كذلك وانهم يخفون في سرائرهم ما لو اطلعت عليه لاستصغرت من احتيال هذه الدابة ما استكبرت. ومن أراد أن يدخل على الإنجليز جحرتهم وقع في متاهة لا يدري معها من أين ولا إلى(698/3)
أين. فمن العجيب الذي لا ينقضي عجبه أن يظن رجال من رجالنا أن في طوقهم أن يراوغوا الإنجليز فيستولوا على جحرتهم المحتفرة في طبائعهم وأخلاقهم وعقولهم.
إن معنى المفاوضة والمعاهدة بيننا وبينهم هي أن يسعى الإنجليز جهدهم حتى تطمئن إليهم، فإذا فعلت اخذوا بيدك وقادوك إلى مثل جحرة اليربوع، فيدخلون بك من واحد إلى ثان إلى ثالث، حتى إذا خيل إليك انك قد تمكنت منهم (نفقوا) من نافقائهم بأسهل مما كنت تتصور. وهكذا شهدنا وعرفنا وخبرنا منذ احتلوا بلادنا في سنة 1882، فوعدوا الدنيا كلها - لا نحن وحسب - بالجلاء الناجز، ولكنه ظل وعدا إلى هذا اليوم. وجاءونا اليوم يعدوننا أيضاً أن يجلوا عنا بعد عام أو عامين أو ثلاثة - أي ذلك كان. فمن الذي يصدق هذه اليرابيع؟ ومن شفيعهم وضمينهم في كل هذا؟ أهو الخط المكتوب، أم اللفظ المنطوق، أم سوابق العهود المؤكدة والمواثيق الغليظة!!
إنها لغفلة أن يرى أمرؤ نفسه أقدر على خديعة هذه اليرابيع من قدرتها هي على خديعته. وليس يعلم شيئا من ظن أن الإنجليز ينفضون أيديهم من شيء هو كائن في أيديهم. فالإنجليز يرابيع بالطبع والممارسة، حتى أن (النفاق) الذي علمته في أخلاق اليرابيع، قد صار أيضاً خلقا من أخلاقهم يشهدون هم به على انفسهم، ويشهد عليه به تاريخهم منذ كان لهم تاريخ. وهذا النفاق المطبوع هو الذي جعلهم اقدر شعوب الأرض في كل شئون السياسة. وما مواعيدهم، ولا معسول ألفاظهم، ولا روعة دعوتهم إلى الحرية، ولا كمال إخلاصهم في تحرير الجنس البشري من غوائل النازية، ولا صبرهم على المكارة في سبيل المثل الأعلى للإنسانية - كل ذلك ليس ببعيد عنا في زمن الحرب الماضية. لقد نطقوا بكل شيء، ولكنهم لم يحققوا شيئا مما نطقوا، فكيف نرضى لأنفسنا أن نؤمن بأنهم فاعلون معنا شيئا لم يردهم خجل ولا حياء عن نكث مثله وإخلافه، بل أكبر من ذلك انهم فعلوا نقيضه ودافعوا عن فعله بمثل القوة والبلاغة التي كانوا يزينون بها لأمم الأرض أن تعينهم في أيام محنتهم وبلواهم!
ومن عجائب الإنجليز أنهم يعملون علما ليس بالظن انهم معتدون متغطرسون ظالمون، يأكلون الحقوق أكلا لا يرعون فيه حرمة ولا ذمة. ومع ذلك فهم من طول ممارستهم للنفاق قد انتهوا إلى أن اقنعوا أنفسهم بان هذا الاعتداء وهذه الغطرسة وهذا الظلم ليس له وجود(698/4)
حقيقي، بل العكس هو الصحيح، وهو انهم وحدهم دون سائر العالمين أهل العدل والنصفة والتواضع، وانهم هم الذين جاءوا إلى الدنيا ليردوا الحقوق إلى اهلها، وانهم هم القوام على هذه الرسالة السامية. ولذلك ترى كلام رجالاتهم كلاما نيرا مضيئا فاتنا ساحرا إذا عرضوا لمعنى الحرية وما أطاف بها، ويخيل إليك أن إيمانهم بهذه المثل العليا إيمان لا يعتروه نقص. وهذا حق، ولكنهم إذا جاءوا لتنفيذ ما يقولون رايتهم أهل بغي وعدوان فيما ترى ويرى الناس، ولكنهم هم يصرون على أن هذا هو الحق الذي لا محيص لك ولا للناس عن الأخذ به، تقول: وان كان بغيا وعدوانا، فأقول: وان كان بغيا وعدوانا!
والإنجليزي يرى أن هذه الأمانة التي حملها هي الأمانة، وأنه مؤديها على وجهها، فإن أنت خالفته وزعمت انه يجور عليك جورا عبقريا قال لك: انك شديد المماسكة مولع بالجدال، ويحاول أن يبسط لك الأمر بسطا حتى تقتنع بأنه غير ظالم، بل هو العادل الذي لا يعر فالعدل أحد سواه. ومن شاء أن يناقض هذا الذي أقوله فلينظر إلى حجة هذا الشعب في موقفهم أو احتلالهم للهند، وفي احتلالهم لمصر من اجل الهند. فالهند مستعبدة ظلما وجورا، وهم يريدون أن يحللوا بقاءهم في مصر، لان فيها قناة السويس، وهي التي تؤدي أو تسهل الطريق إلى بلاد الهند. فإذا خرجت القناة من أيديهم كان ذلك وبالا مستطيرا على مصالحهم في الهند! فينبغي عندهم أن ترضى مصر بالأمر الواقع، وهو بقاؤهم حراسا على القناة، لئلا تضيع مصالحهم في البلاد التي استعبدوها واستذلوها وأفقروا أهلها وأكلوا أموالها واعروا ذراريها، وهتكوا الستور عن أحرار نسائها، يا له من منطق! وهل في طاقة أحد أن لا يقتنع برأيهم في حفظ كيان هذه الإمبراطورية الضخمة! كلا بل ينبغي أن يطيع العالم وان يسمع. فلو أن الإنجليز فرطوا لهوى العلم البريطاني إلى الرغام في أرض الهند، ولبقيت الهند عارية لا تجد هذا الدفء الحلو اللذيذ، ولا هذا الظل الوارف الناعم الذي ينشره عليها علم بريطانيا!
فحدثني أيها الصديق ماذا تريد بعد ذلك أن أقول لك في هذه المعاهدة التي تريد إنجلترا أن توقعها مع مصر راغمة أو راضية! دع عنك الحيرة، ودع عنك تقلب الراي، واختر لي أنت رأيا أصير إليه. وإلا فإني أقول لك كما قلت دائما: إن المعاهدة بيننا وبين بريطانيا، هي أن ندخل معها في حجر اليربوع حتى إذا استقربنا المقام قليلا (نفقت) كما يمرق(698/5)
اليربوع من نافقائه إذا سدت عليه المسالك!
محمود محمد شاكر(698/6)
من التاريخ الإسلامي:
وديعة الله
للأستاذ علي الطنطاوي
(إلى أصدقائي وتلاميذي في بغداد، ولاسيما الأحبة على
طريق الأعظمية ليذكروني بهذه الهدية كما اذكرهم دائما)
(علي)
كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة، واسع الغنى، قد جمعت له اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجن تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائى حملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشدن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض، وزهرة جميلة في الجبل. . .
ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومتعة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بخمسمائة دينار، وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلى من أحلام الحب، واجمل من بلوغ الأماني، واطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياما وزاد فيها حتى بلغ بها هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أن قد حيزه له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم ان تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها. . .
لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، ما كان يدري قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس انه يعيش حقا وان له قلبا، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك إن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم فطلع عليه هذا(698/7)
الحب نورا مشرقا أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع. . .
وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وأعراضا عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفرد منه ولا يزداد إلا تعلقا به وتمسكا بأهدابه. وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين ويسعى إليها ليشتري منها اللذات والقبل.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لان شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح!
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الاثاث، وبيعت الجواري، ولم يبقى في يده شيء يباع؛ فاقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في جبها غذاءه إذا جاع، وريه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلا عن اللآلئ، وفي ريقها عسله المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها عطره الفواح، وفي صدرها دنياه وآخرته، ويبقى الدار خالية معها قصرا عامرا، والصحراء روضه مزهرة، والليل المظلم معها نهارا مضيئا. . .
وأثمر الحب وجاد الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء أيام الفقر والعوز؛ أخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلى وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب. . . وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن المها في ضلوعه، وان كل صرخة منها سكين محمي يحز في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئا، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال:
- إني أموت. . . فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلا ودقيقا وشيرجا. . . اذهب وعجل، فانك إذا أبطأت لم تجدني.
وخرج. . . وصار يعدو كالمجنون. . . أين يذهب والليل قد مالت نجومه، والناس نيام في(698/8)
دورهم، ولا يجد من يلجأ اليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيره غريبا فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب! وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعا ساكنا، والناس قد أموا بيوتهم، وانسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخربة التي فر منها. لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى في دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها نور. وتصور الوحشة المخوفة، والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها أن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعي بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري اسود ملتفا ببرد الليل، فاحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلوا فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع. . .
وعاد فذكر آلام حبيبته وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقا مخلصا قال: (يا رب، أني استودعتك هذه المرأة وما في بطنها. . .)، وهم بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب وصوره، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور بوردة الماء ويفكر في الموت هل يأتيه سهلا هينا، أم هو سيذيقه العذاب ألوانا، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى وهل يختنقون عاجلا أم يبطئ عليهم الموت، وذكره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكا لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر انه توجه إلى لله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثما ويسأله عونها وحفظها. وتنبه أيمانه فتردد، ووقف. . . ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزما مبرما على الموت، واغمض عينيه وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن. . . ولكن يدا لم يطق لها دافعا، ولك يملك معها حراكا أمسكت به. . . ذلك هو صوت اخذ أذنيه من بعيد، ثم أمتد حتى بلغ الأفق الذي اطل منه الفجر والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمر النهر والشاطئين والمدينة. . . فأحس به يشرق على نفسه كهذا الفجر فيبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن، ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، اجل واجمل نداء اهتز به هذا الفضاء ومشى(698/9)
فيه: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله).
وسمع: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبت القوة والعزم في أعصابه فعدل الموت، واقبل يسعى فيها جاء له، ولكنه لم يجرؤ (على هذا كله) أن يعود إلى الدار، وحدثه قلبه إن الفتاة قد ماتت، فمضى على وجهه تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام: يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجرا ولا شكرا، وجعل يطوي الأرض والأرض تطوى صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسعدا ومعينا فعاد إلى تجارته. . . وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره وامرأته والشك يخز في قلبه، ويكتب الكتب يسال عنه وعنها ويستنجد، ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتابا، ولم يرجع إليه جواب فأيقن إنها قد ماتت. . .
وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خاليا من الحب. وما كان يوسع في الأسى مكانا لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، واغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي احبه وافتقده ولم يجد منه بديلا، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيرها الحب قاعا صفصفا. . . ولكن تلك الخربة احب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيدا لا يؤنسه فيه إلا الذهب. . .
وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزا من أيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيدا عن بغداد وداره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشا وبضاعة وحملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم دار الوطن. . . ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبرا ضخما للحبيبة ويجعل فيه له مكانا، ولكن الدهر لك يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منها أحدا. . .
ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر(698/10)
على الحزن. ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سارد ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت. . . وماذا بقى له في الحياة بعد ما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يظم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم حبيبته، حتى يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة، وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جرا، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها وانتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيرا وسقط على الشاطئ ولك يعد يستطيع الحراك. . .
وجعل يفكر تفكيرا مبهما ملتاثا يقطعه الجوع الذي يفرى أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى انه كان في حلم وصحا منه. . . الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة، والسعادة، والمجد. . . لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. . . لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألما، وتثير حسرة، وتحرق القلب، وتمنى أن لو كان خلق فقيرا منفردا، ما عرف من لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعادته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة وان يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الأيمان فاستراح اليها، وذكر انه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وان وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدرا حكيما. فاطمأن إلى حكمة الله وسلم أمره إليه ووجد لهذا الاطمئنان راحة وشبعا. . .
وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا (زلال) ضخم قد اقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسال صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن (الديمقراطية) كانت شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه فادخله الزلال وأطعمه وخلع عليه. ولم يسائله عن خبره، لان النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسال وقبل أن يجيب.
ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق السفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهوا وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغما سائغا، وحبا ومجدا؛ وترنحت القصور طربا، وانتشت الرياض آنسا، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام. وتراقصت الأمواه(698/11)
من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدنيا وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء. . . وكذلك تكون الدنيا!
وكان دجلة يسر مزهوا طربا. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرى أياما احلى، ولا مجدا أبقى، ولا ناسا أنقى واتقى، من تلك الأيام وناسها. . .
وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة احب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعا كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعه من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالا، وعلى العقول علما وكمالا، وعلى الإسلام عظما وجلالا، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدنا وسلاما وأمنا، وضوأت لهم الطريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.
وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بان هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها، ورأى الناس من حوله فهم بان يسألهم درهما يشتري به عسلا ودقيقا وشريجا لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوما ولا يومين. . . دهر طويل ولد ناس ومات ناس، عمر كامل. . . فتهافتت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطما مكدودا، يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها. . . حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلفت فيها الحبيبة قد صارت دارا فخمة على(698/12)
بابها الجند والشاكرية فوقف ينظر إليها من بعيد. . . هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبرا قد أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريبا في بيته. منكرا في بلده. انه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن اثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، لا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده. . . ثم استغفر الله وتاب إليه، انه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء، انه هو وحده الذي يصرف الأكوان.
وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد ان حرم آخر أمانيه، وهي أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولك يفكر في شيء فقد توارت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلبا، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كله مصيبة. . . ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه اعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال كان يعرفه لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطل البالي في المدينة العامرة، فأسرع إليها. . .
وكان فيها شاب حدث علم منه إن أباه البقال مات من عشرين سنة، وان الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وان لهذا الرجل قصة عجبا، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئا فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهم فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون.
ويسمع الرجل القصة فيحس إن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحسب إن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهرا، وانه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياما وتكون مع ابنها أياما، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح(698/13)
آلامها الأيام ولم ترقأ لها دمعة.
ويدعه الرجل ويركض إلى الدار يشعر انه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى لياليه الماضيات، إلى عهد الحب الضاحك، ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسى في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء، وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكرا لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، هذه الحبيبة التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رفاتها، قائمة تنتظره لتمنحه عطرها وسحرها ونحرها، وهذا الجنين الذي خلفه على باب الموت شابا ممتلئا قوة وأيدا ومالا ومجدا. . .
ووصل إلى الشاب، فقال له: ما تبتغي؟
فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهمت مقلتاه، ولك يجد ما يمهد به الحديث، فقال له:
- أنا أبوك!
ونظر الشاب شاكسا، وقال له: اتبعني، فاتبعه فاجتاز به صحنا بعد صحن، حتى انتهى إلى المكان الحرم فأقامه أمام ستارة، وذهب ليسال أمه، ودل الرجل قلبه على إن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك وتضحك وتبكي وتقول ما لا ترديه. . .
ويدير الشاب وجهه فما يحس به أن ينظر إلى أبويه وهما يعيدان عهود الهوى والشباب. . .
علي الطنطاوي(698/14)
الغازي مصطفى كمال
بحث وتحليل للدوافع النفسية التي دفعته إلى الزعامة
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إن من السهل على المرء أن يعمل من أن يفكر، وإذا فكر
فمن اصعب الأمور أن يجعل عمله خاضعا دائما إلى ما
واصله إليه فكره).
جوته
عند اقتراب نهاية هذا العام يكون قد مضى على وفاة مصطفى كمال ثمانية أعوام، خرج منها العالم من حرب عالمية طاحنة؛ وتمخض فيها بالتغييرات والانقلابات الكثيرة. وكلما مرت الأيام تمثلت إلي شخصية الغازي كأنموذج لكلمة جوتة الخالدة: إذ هو من الأفراد القلائل في الشرق الذين عملوا بعد تفكير طويل، وأخضعوا أعمالهم لفكرتهم الأولى، ولما لازمهم التوفيق في جهادهم، لم تسكرهم نشوة الظفر ولا شغلتهم مظاهر السلطان عن فكرتهم التي بدءوا منها واخذوا بها، ولذلك جاءت حياتهم العامة صورة لما انطبع في أذهانهم من أفكار وآمال كبار.
إن الزعيم المجاهد والجندي المنتصر قد أصبح الآن في ذمة التاريخ؛ ولن يضيرنا اليوم أن نعرض لشيء من حياته وأعماله وخدماته، فلو كان حيا يرزق لقيل لنا إننا نتملقه أو نتملق بلاده وشعبه ولا تخذ بعض الناس ذلك للقيل والقال، أما وقد خفت ذلك الصوت الهادئ النبرات الذي كنت تسمع له رنينا عندما كان يخطب بالمجلس الوطني الكبير بأنقرة، وأغمضت العينان اللتان كانتا تشعان نورا وبريقا، فقد اصبح في وسعنا أن نقول ما نعتقد وان نكشف الستار عما نعلم وليست لنا غاية سوى إرضاء الحق.
بين 25 إبريل و9 ديسمبر 1915 كانت حملة الدردنيل حيث دارت رحى الحرب على روابي شبه جزيرة غاليولي، وكانت معاركها محط أنظار العالم إذ كانت سلسلة من التجارب للقيادة التركية بل كانت أكبر من ذلك للجندي المقاتل. كانت له مدرسة قاسية(698/15)
وامتحانا وعرا اظهر مزاياه وصفاته، ففي معركة أنافارطة أوقفت هذه الصفات الخلقية الكامنة في نفسه الهجمات البريطانية المتراصة المتتالية المتتابعة كأمواج البحر.
وكان ذلك تحت قيادة رجل نحيف الجسم عصبي المزاج امتاز على أقرانه الضباط بعناده وقوة شكيمته: ذلك هو الأميرالاي مصطفى كمال الذي أقدم في ساعة من ساعات التاريخ الفاصلة فحمل عبء أفدح المسئوليات التي تواجه رجل الجندية، إذ كان الموقف جدي الخطورة، وكانت القيادة في قلق من انهيار الجبهة إزاء هجوم بريطاني حاسم، ولم يكن الوقت يتسع للمداولة وتبادل الرأي فلم يكن لديها سوى رأيين يتلخصان في نعم أو لا، فنعم كانت قبول الهزيمة وما يتبعها من تراجع وفشل وسقوط العاصمة والفناء، و (لا) كان معناها قبول المعركة في ظروف سيئة ولكن فيها الثبات والعناد والمصادمة والمقارعة حتى يتم النصر.
وكان القائد الأعلى للجبهة الجنرال فون ساندوس الألماني وهو من خيرة ضباط السواري في الجيش البروسي قد وجدها كبيرة عليه أن ينطقها لما تحتمله من المجازفة في دخول معركة تبدو خاسرة، فهو ليس من أهل البلاد، وهو يعلم جيدا أن الفن العسكري والعبقرية لا يجديان شيئا أمام ساعات التاريخ الفاصلة، وأمام القرارات الحاسمة، التي لا تصدر عن إرادة القائد الحربي، إلا بعد أن يدعمها الشعور القومي الواعي، والإحساس الوطني الوافر الذي يربط المرء بأرض بلاده وتاريخها ويجعله يشعر بأخطار المستقبل والمسئولية أمام الوطن، وفي مواجهة الأجيال القادمة.
ولذلك ألقى العبء والمسئولية على عاتق مصطفى كمال، فتولى المعركة وأعلن للقائد الألماني (أن الهاجمين لن يقتحموا الجبهة وانه يتحمل وحده مسئولية ونتائج المعركة التي تبدو خاسرة).
واعترف مصطفى كمال بان الذي دفعه لذلك هو إيمانه بأن الجنود الذين تحت إمرته سيبذلون ما في طاقة البشر للقيام بواجبهم وأنهم سيقبلون التضحية بمجرد اشتباك القتال وأنهم سيثبتون في مراكزهم، وحقت فكرة قائدهم فقد ظهر جندي المشاة في الصورة التي رسمها في مخيلته مصطفى كمال. وهكذا ذاقت تركيا طعم النصر بعد سلسلة طويلة من النكبات والهزائم. فكانت وقفة رائعة لفتت الأنظار إلى عبقرية هذا القائد حتى انه عند(698/16)
زيارته لألمانيا بادرة الإمبراطور غليوم عندما قدم إليه بقوله: (الفرقة التاسعة عشرة أنا فارطة) ونظرة عابرة تريك ما هي هذه الوقفة.
إن القطع العسكرية التي في الخطوط الأمامية ذابت تحت نيران المدفعية وقذائف الأسطول ونيرانه المركزة، ولكن لم يتراجع أو يفر فرد واحد منها، بل فنيت بأكملها حتى آخر جندي فيها، وكانت عظيمة في موتها واستشهادها لأن الطلقات التي استمرت تقذف بها أوقفت الهجوم في أشد الأوقات أنقذت الجبهة إذ لم يطأ العدو خنادقها إلا بعد أن لفظ آخر جندي بها أنفاسه الأخيرة.
أما الفرق التي تجمعت في الخطوط التالية فقد كانت تسير إلى الموت وقد ظهر تصميم القتال على وجوه أفرادها، كانت رائعة في مواقفها وفي ثباتها وهي تتراص، كانت قد تحملت نيران العدو وقذائفه ثلاثة أيام بلياليها، لم تؤثر فيها أيام الانتظار ولا ساعات السير على الأقدام من موقع لموقع. كان يخيل إلى من رآها أنها قد أتت من المؤخرة من ساحة العرض أو احتلت مراكزها بعد راحتها وكأنها لا تعلم بما يدور حولها أو كأنها لم تر بعينها سوق الموت القائمة.
نعم كانت معنوياته وأعصابها بإقرار كل من كتب عن هذه الحرب من النقاد الحربيين من البريطانيين والألمان وغيرهم، فوق المستوى العادي للبشر في الساعة التي رأت قائدها العنيد يباشر القتال بنفسه ويصدر أمره مقتحما أول ربوة واجهته ليقودها إلى النصر، ولذلك جاء هجوم هذه الوحدات كإعصار يدك كل شيء، ولم يكن الخصم ينتظر دفاعا مثل الذي لقيه في أول يوم ولا هجوما كهذا، وعليه ولى الهاجمون الأدبار وأخلوا المواقع التي احتلوها متجهين إلى البحر، وفي مساء آخر يوم للمعركة جاء قائدهم من جزيرة لمنوس على باخرته من الجنوب ليشهد الشراذم تتجمع على الشاطئ لركوب القوارب، كانت بقايا الوحدات المنظمة التي قذف بها على الجزء الغربي من غاليبولي: وكان أن اتخذ الأتراك اسم المعركة لقبا لأبطالهم فحلوا بانافارطة واحتفلوا بها واتخذوا يومها عيدا لهم يعيدون فيه ويشيرون إلى أن بعثهم من جديد كأمة بدأ من ذلك اليوم.
واختتمت معركة أنا فارطة بأيامها ولياليها والقمر شاهد عليها بالنصر الذي جعل اعظم قوات العالم تبدل وتغير في خططها الكبرى واستراتيجيتها ثم تقرر إخلاء شبه الجزيرة،(698/17)
وانتهت بذلك حملت الدردنيل بعد أن فتحت الطريق للقواد والنقاد والكتاب الحربيين يضعون المؤلفات عن تاريخها وأيامها ومواقعها فإذا نحن أمام مكتبة فيها عشرات المجلدات بمختلف لغات العالم ما تقرا مجلدا بالإنجليزية حتى تراه مترجما للتركية ونرى مثيله فيها، وما تجد مؤلفا بالألمانية حتى تجد ما يساويه بالفرنسية، استعرض كاتبوها مواقع البر ومعارك البحر وحددوا سير القتال ومواضع الزحف وانتقدوا عمل الأساطيل كما انتقد رجال البحر عمل رجال الجندية، وتبين من أقوال الاختصاص أن مشاريع اقتحام المضايق درست وبحثت ووضعت تفاصيلها منذ عام 1906، وضع المؤلفون كتبهم وتداولها الناس ولكن رجلا واحدا بقي صامتا لا يتكلم هو مصطفى كمال صاحب المواقف الحاسمة وبطل أنا فارطة، إنه لم ينسب لنفسه شيئا بل قال: (إن ما حصل عليه من مجد ليس من عمله؛ إنه نتيجة كفاح الجندي التركي وحده) ذكر مرارا ذلك وأعاده وكرره.
لقد انتهت المعركة التي جعلت منه بطلا عالميا وخفتت أصوات المدافع وزمجرة البطاريات السريعة الطلقات وزالت الأخطار عن عاصمة آل عثمان فأقيمت الأفراح فإذا بأنصاف الرجال يدقون الطبول ويرفعون أرباع الرجال إلى السماء، وإذا بهم يتقاسمون الأسلاب ويفرحون بما لم يفعلوا وينسبون أمجاد الغير لأنفسهم ووقف القائد العنيد يدخن سيجارته بهدوئه وصمته وقد اتجهت أنظاره إلى آفاق بعيدة، فما الذي أوحت به إليه تلك الأيام الحالكة السواد وهذه المعارك الفاصلة، وماذا تركت في نفسه من دوافع وما حملت إليه من أفكار؟ لقد كانت أقامته وقتئذ بمركز قيادة الفرقة التاسعة عشرة بشبه جزيرة غاليبولي، وكان يقضي الأيام والليالي في وحدة شاملة وقد تجمعت أفكاره واتجهت إلى مستقبل هذا الوطن الجريح، وقد اخترقت عينه النافذة ما وراء الحجب فإذا هي تبصر ما يحيط بلاده من الأخطار وما يحاك حولها من مكائد وما يرسم ويدبر من خيانات وما يعقبها من أهوال ونكبات.
في لحظات التركيز والوحدة استرد مصطفى كمال ثقته في نفسه وإيمانه في أمته، فأيقن أن الأقدار قد حملته رسالة مقدسة هي إنقاذ تركيا من مصائبها. ويحدثنا عن نفسه في تلك الفترة الرهيبة فيقول: أخذت تنتابه الأفكار وترتاده الآمال الكبار وهو يحركها في بوتقة التحليل مستعينا بمنطقه الجبار فيفرز الغث من السمين ويطرد الهواجس والأحلام(698/18)
والخيالات الوهمية من نفسه بل يجتهد أن يحرر عقله منها، وأخيرا وجد ضالته فقال: (إن الإمبراطورية التي أقامها بنو عثمان من بقايا ملك آل سلجوق وقدر لها أن ترى فتح القسطنطينية يتحقق على يديها، هذه الدولة التي سببت المتاعب والمخاوف لأوربا وشعوبها ودانت لها الدنيا ستة قرون لم تعد شيئا مذكورا بعد الضربات التي تلقتها من أعداء الداخل والخارج، فكل عمل يبذل لإنقاذها سيذهب هباء منثورا).
واضطربت نفسه أمام نكبات تركيا المتتالية وحروبها التي لا تنقطع فأراد أن يجد لذلك مبررا من دروس الماضي متسائلا لماذا كانت بلاده من بين بلاد العالم هي التي توجه أليها الضربات والهجمات من كل جانب؟ حاول أن يجد تفسيرا لذلك فقال: (إن الأعلام الحمراء التي ظهرت في آسيا وحملتها جيوش المسلمين إلى أوروبا حتى ظللت أسوار فينا وقفت هناك وقفتها الأولى وكان ذلك في القرن العاشر من الهجرة، كما وقفت من قبل أعلام العروبة والإسلام في تود وبواتييه من أرض فرنسا في القرن الأول قبل الوقفة الثانية بتسعة قرون).
(إن العهد الذي لقي فيه المسلمون أولى هزائمهم وفترت فيه معاركهم الزاحفة الفاصلة قد حرك روح الانتقام لدى لعدائهم وأن القاعدة أن كل هجوم تعقبه فترة هدوء واستجمام للمهاجم ولكن هذا لا يمنع أن كل تصادم يحرك تصادما وكل هجوم يعقبه هجوم مضاد، فالهزيمة التي أوقعها شارل مارتل بجيوش المسلمين في فرنسا كانت فاتحة الهجوم المضاد الذي شنته أوروبا على العرب في أراضيها والذي دام ثمانية قرون حتى قذفت بهم على الشاطئ الافريقي، ولك تقف عند ذلك الحد، بل استجمعت قواها في القرنين التاسع عشر والعشرين وأخذت تطارد العرب في ديارهم وتنزع من أيديهم الجزائر وتونس ومراكش ومصر وطرابلس، وما ملاحقة هذه الشعوب والعمل على إفنائهم وإسكان الأوروبيين بأراضيهم سوى حلقة من حلقات ذلك الصراع الصليبي الذي بدأ من تور وبواتييه أو قل هو الثمن الذي يدفعه العرب نتيجة لهزيمتهم في قلب فرنسا).
(أما الأتراك العثمانيون فقد أثاروا الهجوم المضاد عليهم من يوم هزيمتهم تحت أسوار فينا إذ تلاحقت عليهم النكبات في خلال ثلاثة قرون، فرض عليهم القتال فيها ولم تبق أمة من أمم أوروبا إلا اشتركت وساهمت فيه بحق وبغير حق، بل وافتخرت بما سفكت من دماء(698/19)
المسلمين وبما أفنت من رجالهم وبما مزقت من أشلائهم وبما خربت من مساجدهم وآثارهم وقبورهم. لقد تجمعت على الأتراك القوى من كل جانب وحاصرتهم في البر والبحر ولم يبق بعد طول العراك سوى هذه البقعة من الأرض يرفرف عليها علمهم: فما قيمتها للجندي المقاتل الذي اغمض عينيه للمرة الأخيرة أمام نظر قائده؟ هي له الموئل والمآل فهل هي النهاية كما كانت للأجداد بداية؟).
في ليلة من ليالي أنقرة في قصر نشان قايا اخذ الزعيم يشرح هذه النظرية أمام جمع التف حوله فقال: (إن المعارك التي خذنا غمارها بالأمس والتي سندعي لغيرها بالغد هي حلقة من حلقات هذا الهجوم المضاد القاسي الذي شنه الغرب علينا وأثاره الترك بزحفهم إلى فينا كما أثاره العرب بفتوحاتهم الأندلسية ودخولهم إلى قلب فرنسا).
قال إنه بعد معارك الدردنيل وفي وسط حرب الاستقلال كان يحدث نفسه قائلا: (لقد فرض علينا الأعداء أن نفنى لأننا كنا أقوياء وخيل إليهم أن جهادنا التاريخي قد انتهى وإننا نعالج سكرات الموت في الموقع الأخير فهل تنفخ في البوق النغمة الختامية على أجساد آخر المقاتلين من بقايا تلك الملايين التي حادت بالارواح في حومة الوغى وتطوى تركيا وتحمل إلى اللحد كما فنيت وطويت آشور وروما وكما زال فرعون وثمود وعاد).
حدث عن نفسه قائلا انه في أسوء المواقف كان يشعر (بان هذا لن يكون وان بلاده ستبعث قوية وستحيا إلى الأبد).
وهنا التفت وصوب نظراته النافذة وخرج كلامه قويا فقال (إن إطلاق النظريات الإنشائية والآمال والأفكار الكبرى سهل على النفس ولكن التمسك بها والسير على ضوئها صعب، لان هذا يستلزم أولا إخراج ما يلابس هذه النظريات والمبادئ من عوامل السلبية وما يلازم الفكر البشري من عناصر الضعف والتردد، إن الأفراد الذين ينصبون أنفسهم لخلاص الوطن يجب عليهم أن يتجردوا من أشياء كثيرة عزيزة عليهم).
ذلك مبدؤه الذي نادى به في تلك الليلة؛ وتفسير ذلك أن معارك الدردنيل أصبحت له قوة دافعة بل كانت حدا فاصلا في حياته إذ أمضى الشهور ونفسه متوثبة متطلعة تحت تأثيرها، ولكن ما لبث أن واجهتها الحقائق: عادة إليه ذكريات الهزائم المتتالية وأخذت تبدو إليه العاصمة بمظاهر التفكك والانحلال الخلقي وعوامل الهدم وتاثرت نفسه لما استعرض(698/20)
تاريخ الحروب والمعارك التي كسبها مقاتلة الترك ثم أضاعها رجال السياسة والمواقف التي اكتسبها هولاء في ميادين السياسة وأضاعها رجال الحرب في ميادين القتال.
وبرزت تركة الرجل المريض المحتضر على حقيقتها محملة بالأعباء والمصائب وبدا المستقبل قاتما مظلما كالليل. تلك هي النواحي السلبية التي أخذت تساوره في الأيام التاريخية التي وقعت بين حملة الدردنيل وعودته من المانيا، قال (انه وجد أمامه بصيص نور من أنوار الأمل هو ذلك الضياء الذي ارتسم على مجه الجندي التركي في معركة أنا فارطة حينما لقي الموت وهو قرير العين، كانت ابتسامة تحمل الخلود للامة التي أنجبت هذا المقاتل الذي لقي ربه وهو ضاحك بعد ان أدى واجبه نحوها).
وكتب مصطفى كمال فقال: (لو قدر لهذا الجندي أن يجد القيادة الحازمة، ولو لمس الإخلاص الذي يشع من قلبه فوجده في قلوب الساسة والقادة لغير وبدل ما كتبه التاريخ في عصور الانحطاط ولأعاد مرة أخرى عهد الدماء القوية التي حملت الأعلام الحمراء إلى قلب أوربا وفرضت النصر في كل معركة دخلتها. إنها ليست أخطاء الشعب إنها خطايا القادة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه)
ولم يدر مصطفى كمال في تلك الفترة أن ابتسامة الشهيد التي رآها هي نفحة من نفحات الإسلام يرزقها المولى لمن ذاق حلاوة الإيمان في قلبه ولقي الموت وهو يؤدي فرض الجهاد ابتغاء مرضاة الله، وفي سبيل الله وعملا بما مره به الله. فهي ليست دليلا على تفوق العنصر بل هي آية من آيات الرسالة المحمدية للناس كافة.
إنني أكتب هذه الكلمات بعد إقامة سبعة سنوات بتركيا وبعد أن التقيت بمئات من المسلمين من أنحاء الأرض منهم من جاء من كاشغر عاصمة التركستان الصينية، ومنهم من كان في القرم وفي قفقاسيا وعلى نهر الفولجا: لأقرر أن الثورة الكمالية في عنفوان شدتها، والثورة الشيوعية بأساليبها التي لا يقرها العرف وكلاهما في إبان القوة والبطش لم يستطيعا التغلب على الإسلام في البلاد التي رسخ فيها، وان الذين خيل إليهم أن سلطان الإسلام قد زال من الأقاليم الآسيوية الخاضعة للسوفيت وان ظله قد تقلص من تركيا واهمون: وسيبعث الإسلام ودين محمد في تلك الجهات ويعود على صورة تبهر العالم.
إن أقوى التعاليم الدنيوية والنظريات لا تلبث أن تهوى وتذبل مع الزمن، أما قواعد الثورة(698/21)
المحمدية الكبرى التي وادعت في تعاليم الإسلام واتت بها النبوة فباقية مع الزمن في أفئدة الشعوب والجماعات والأفراد وحتى الذين خرجوا عليها وشقوا لأنفسهم الطريق بعيدا عنها ونابذوها العداء لا يلبثون أن يعودوا إليها، وما مصطفى كمال إلا واحد من هولاء ستكشف الأيام الكثير عن روحه الحائرة وسنعود يوما لدرس هذه النفس المتمردة من ناحية الإيمان والعقيدة وكل آت قريب.
(يتبع)
أحمد رمزي(698/22)
على هامش النقد:
شعر من الجزيرة
للأستاذ سيد قطب
1 - الهوى والشباب: أحمد عبد الغفور عطار
2 - الشاطئ المسحور: محمد عبده غانم
هذه تحية لا نقد؛ فتلك بواكير يقظة في قلب الجزيرة، ما أجدرها منا بالتحية، لا لأنها لا تثبت النقد، ولكن لان التحية هنا أليق!
وهما ديوانان من الشعر، والشعر في هذه الفترة يعاني ازمة، فبين مئات الكتب التي صدرت في فترة الحرب بوفرة، لم تصدر إلا دواوين تعد على الأصابع، وذلك موجب آخر من موجبات التحية!
شعر من الحجاز وشعر من اليمن. . وقد اعتدنا أن ننتظر الشعر في لبنان ومصر، وفي سورية والعراق، وربما تونس، فقد نبغ فيها الشابي شعلة تضوي ثم تخبو سريعا، فها هو ذا الحجاز، وها هي ذي اليمن تساهمان أيضاً بنصيب. . فما أجدرها بالتحية!
وكم ذا يسرني - كمصري مشتغل بالنقد الأدبي - أن أستقبل هذا النتاج، وأن أضم يدي على طاقة من تلك الزهرات من [مشرق الشرق العربي إلى مغربه، فمصر كثيرا ما تتهم بالتقصير في حق جيرتها، فهي في عرف بعضهم غافلة أو متغافلة عن خطوات النهضة الأدبية في البلاد الشقيقة.
وهذا ظلم لمصر، فما احسبها قصرت في التنويه بأي أدب، ولا بأي أديب وصلت إليه أنباؤه، وأني لأعلم أن صحافتها تفسح لأبناء البلاد العربية ما لا تفسحه لبنيها، وتؤثر بريد البلاد العربية على بريدها؛ ولا تجد في نفسها غضاضة ولا حسدا أن يتفوق بعض أبناء الشقيقات على بعض أبنائها؛ وأنها لحفية بكل ما يصل إليها من هناك. أما الذي لا يصل فليس الذنب ذنبها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وقبل أن يلومنا الإخوان عن إهمالنا لنتاجهم، يجب أن يسألوا أنفسهم: هل بلغنا نبا ذلك النتاج؟ هل هو يباع في اسواقنا؟ هل اعلن عنه في صحفنا؟ هل وصلتنا صحفهم التي(698/23)
أعلنت عنه؟ وإلا فما نجد سبيلا إلى الحصول على كتب مما يصدر في كثير من البلاد العربية إلا أن نقوم برحلة إلى هناك، وهذا ما لا يستطاع لكل فرد في كل آن.
لقد أعلنت مرة في (الرسالة) - وهي مقروءة في كل بلد عربي - إنني في حاجة إلى كل ديوان شعر والى كل قصة أو أقصوصة طبعت في شتى البلاد العربية، لان لدي بحثين معطلين عن: (الشعر المعاصر) وعن (القصة الحديثة)، ولأنني كرهت ان اقتصر على الشعر المصري وعلى القصة المصرية؛ وقلت: إنني لا اطلب (هدايا)، ولكنني اطلب هذه الكتب محولا ثمنها على البريد، ذلك إنني لا أجدها في السوق المصرية، ولا أجد لي سبيلا إليها. فماذا حدث؟
حدث ان تفضل بعض الشعراء والأدباء في فلسطين والعراق والحجاز بإهداء دواوينهم وقصصهم إلى، ولكن البقية لم تصلني كما أن سورية ولبنان لم يسمعا النداء، وهمس بعضهم في أذني: ان هناك موجودة على مصر لأنها تصدر أدبها ولا تستورد آدابهم وهذا غريب. . فلقد اشترينا هنا كل ما صدر إلينا من هناك، ومن سورية ولبنان خاصة، وإنني لأكره هذه النغمة، انها نغمة مقيتة - وفي جو الأدب خاصة - فكلنا شركاء في النهضة ومصر تؤدي واجبها الذي فرضته عليها الظروف، وانها لتجد نفسها سعيدة حين تنهض شقيقة لها أو أكثر بالمشاركة في العبء فهو عبء اثقل من ان تنهض به وحدها، وما يجوز ان ترتفع هذه النغمة المقيتة في بلد من البلاد الشقيقة.
فلندع هذا كله لنعود إلى تحية الشاعرين والديوانين
هنالك شبه عجيب بين النسيج الشعري في كلا الديوانين، فهو نسيج رقيق هفهاف، والشعر الحجازي القديم مشهور بالرقة والعذوبة، والشعراء الغزلون قد نشأوا هناك، فديوان (الهوى والشباب) ليس غريبا في بيئته، فالظاهر أن الرقة والعذوبة ما تزالا كامنتين - تحت الشظف - في مدائن الحجاز. اما (الشاطئ المسحور)، فيبدو انه يستمد عذوبته ورقته من خصب اليمن وروائها التاريخيين، فالبذرة هناك كامنة ما تزال.
وإذا كان في شعر الأستاذ (عطار) جزالة تمازج الرقة في بعض الاحيان، فإن شعر الأستاذ (غانم) انسيابا وسيولة دائمين في جميع فصول الديوان، ولكنهما قريب من قريب.
واليك قطعتان من الديوانين:(698/24)
يقول صاحب (الهوى والشباب) بعنوان (وعود الغانيات):
وعودك يا غادتي جمة ... ولكن الي اليوم لم تصدقِ
كأنك لم تبصري عاشقاً ... ألح به الحب لم يشفق
يعيش بعالمه كاسفاً ... ويغرقه الهم للمفرق
يسير بلا وعيه ناجياً ... إليك. . إلى بيتك المغلق
عساه يرى طيفك المشتهي ... يلوح له كالسنا المشرق
ويسمع صوتك جم الحنان ... يغرد كالبلبل المطلق
فيحسبه أغنيات الخلود ... ترف على قلبه الشيق
فهلا رحمتِ الفؤاد الحزين ... وأنجيته من ردى محدق
وهلا أنلت الرضى مغرماً ... يصافي الوداد ولم يمذُق!
بهجرك أمسى يذوق اللظى ... ولو أنت وفَّيت لم يوبق
ولولاك ما اجتر آلامه ... وأمسى صريع الهوى المطبق
وعاش على أمل شارد ... يلوح كآل الفلا المرهق
فإنك ان تكذبيه الوعود ... فليس سوى يأسه الُعْنِق
ألا فاصدقي مرة وامنحي ... حبيبك رشف الجنى الرّبق
فقد صرعته اكف الخطوب ... وما انفك عن حبه الموثق
وصفق كفيه غل الأسى ... فضاع حجاه مع المنطق
ويقول صاحب (الشاطئ المسحور) بعنوان (أنين)
لست تمشين على الأرض ولكن فوق قلبي
تلك أنغام خطىً قد مازجت روحي ولبي
ثقلِّي الخطو كما شئت ولا ترثي لصب
ضاق بالآلام والآمال في بعد وقرب
ما بارك الله مثل الناس من لحم وعظم
أنت إشعاع من القدس لقلبي المستحم
جمّع الله بك الألوان في أبدع نظم(698/25)
وأرانا كيف يجلو آية الحسن بالإثم
كم تعرضتُ لعينيك لكي أحظى بنظره
وتمنيت بان ارشف من ثغرك قطره
وتحايلت لكي ألمس من جَعْدِك شعره
وتلويت لكي أقطف من وردك زهرة
وتمرّين كأني لست موجوداً بقربك
وكأني ما ملأت الكون أشعاراً بحبك
لا تغضى الطرف عني وانظري نحوي بربك
أنا والله الذي ترضْين لو عشتِ لقلبك
أنا لحن في فم البلبل ترويه الرياح
ورحيق في كؤوس الحب تحسوه الملاح
وشعاع في الثرى النعسان يزجيه الصباح
وشذا ما منه للهائم بالروض براح
لستُ أدري ما الذي تخشيْن مني لست ادري
وأنا الشاعر لا أرضى لمخلوق بضر
أنا لولا لوعتي صنتُك في قلبي كسرِّي
ومنعتُ القلبَ أن يخفق حتى لا تضري
كم يقاسي الشاعر الهائم في دنيا الجمال
كم له من أنة حمراء في سود الليالي
ودموع دونها لولا الهوى رطب اللآلي
قد جرت فوق الروابي وتلاشت في الرمال
أنت يا رب الذي أوجدت فينا الشاعرينا
وجعلت الحب للشاعر في دنياه دنيا
كلما لاح الحب جميل جن بالشوق جنونا
ومضى ينفث في آهاته الداء الدفينا(698/26)
لست ادري لِمْ خلقت الحب يا رب غشوما
وملأت القلب بالإحساس والوجد جحيما
لو محوت الحسنَ ما ذقنا به الذل الأليما
أو مسخت القلب صخراً عاش كالصخر كريما
أنت قد سلّحت يا رب الحسان الفاتنات
بلحاظ فاتكات وقدود طاعنات
وحرمت القلب في بلواه من درع الثبات
فهو بين الضرب والطعن على وشك الفوات
هاتان القصيدتان تمثلان فني الشاعرين كل التمثيل؛ وحينما يبدو من الأستاذ (عطار) ميل إلى اتباع (عمود الشعر العربي) يبدو من الأستاذ غانم ميل إلى الرومانتيكية (الإبداعية) ثم يجتمع كلاهما على الرقة والعذوبة كما رأينا.
وقد أثبت القصيدتين كاملتين بما فيهما من مواطن الضعف ومواطن القوة في الشعور والتعبير، لأنني ارمي إلى التعريف بالشاعرين. ولقد يدهش الكثيرون أن يجدوا مستوى الأداء قد وصل إلى هذا الحد في الحجاز وفي اليمن، لأننا حديثو عهد بالنهضة الأدبية في هذين البلدين الكريمين.
وقد يكون الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار معروفا للقراء في مصر، لأنه كتب في بعض صحفها، كما نشر من قبل كتابين: (كتابي) و (محمد بن عبد الوهاب)، والأول مجموعة مقالات لها قيمتها في الأدب والاجتماع والسياسة. والثاني دراسة طيبة لحياة المصلح الكبير (محمد بن عبد الوهاب)، فكتبت عنهما الصحف المصرية مثنية مشجعة.
أما الأستاذ محمد عبده غانم، فيسرني أن أقدمه شاعرا عذب الإيقاع، رقيق العبارة، حلو الروح
وإنه ليسرني أن أجمع بين الأدباء والشعراء في جميع البلاد العربية، وبين قراء (الرسالة) في مصر وفي هذه البلاد مرات بعد مرات. . .
سيد قطب(698/27)
مجالس الأدب: في إحدى ليالي رمضان
للأستاذ كامل كيلاني
(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من
أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته
محطة الشرق الأدنى)
1 - المعري يصوم ويصلي
عبد الغني: بمناسبة شهر رمضان، هل كان كبار الشعراء - يا أستاذ كامل - يصومون؟ وهل كان أستاذك المعري يصوم؟
كامل: ويصلي أيضاً.
عبد الغني: إذ يقول في الصلاة يا أستاذ كامل.
كامل:
(وأعجز أهل هذي الأرض غاوٍ ... أبانَ العجز عن خمسٍ فُرضْنهْ)
ولكنه يريدها صلاة خالصة لوجه الله، وإلا حلت اللعنة على صاحبها.
عماد: إذ يقول؟ يا أستاذ كامل.
كامل:
(إذا رام كيداً بالصلاة مُقيمها ... فتاركُها عمداً إلى الله اقربُ)
ولن يصح تدين الإنسان - فيما يرى - إذا اقتصر على الصلاة والصوم، دون أن تخلص نفسه من أرجاسها، وتكف أذاها عن الناس.
عبد الغني: وما الذي يحضرك من شعره يا أستاذ كامل؟
كامل:
(ما الَّدين صومٌ يذوب الصائمون له ... ولا صلاة، ولا صوف على جَسدِ
وإنما هو ترك الشر مطرحاً ... ونَفضُك الصدر من غل ومن حسد)
عماد: أو يقول؟
كامل: ما أكثر ما يقول في هذا المعنى - يا صاحبي - وما أبرع قوله في هذا الباب:(698/28)
(إذا الإنسان كف الشر عني ... فسيقاً - في الحياة - له ورعيا
ويدرسُ - إن أراد - كتاب موسى ... ويضمر - إن أحبْ - ولاء شعْيا)
عبد الغني: فهل كان يصوم يا أستاذ كامل؟
كامل: كان صائم الدهر، يصوم عن الأكل كما يصوم عن الأذى والشر.
عبد الغني: وماذا قال في هذا الباب يا أستاذ كامل؟
كامل:
(أنا صائم طول الحياة، وإنما ... فِطري الِحمام، وذاك حين أُعَيَدُ)
2 - عقيدة المعري
عماد: إذن يا أستاذ كامل كيف تعلل اتهامه في دينه؟
كامل: لم يتهمه في دينه إلا قاصر أو مقصر في درسه، أو راغب في إذاعة مبادئ الشك على لسان غيره، أو متسرع في فهم مراميه، أو رجل يحسن الظن بآراء بعض الباحثين، فلا يعني بنفسه بمناقشتها وتمحيصها، أو ببغاء يردد ما يسمع بلا تعقل.
عبد الغني: فكيف تعلل قوله:
في القدس قامت ضجة ... ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق ... وذا بمئذنة يصيح
كلٌ يعلل دينه ... يا ليت شعري ما الصحيح؟)
كامل: إن السخرية واضحة في الأبيات كما تريان، ولعلكما تذكران الآية الكريمة: (كل حزب بما لديهم فرحون) كما تذكران الآية (وإنَّا - أو إيَّاكم - لعلى هُدىً أو في ضلال مُبين). ولن يدور بخلد كائن كان: أن الرسول (ص) كان شاكا في انه على هدى، وان مجادليه في ضلال مبين.
عبد الغني: فكيف تعلل اضطرابه وتناقضه في شعره يا أستاذ كامل؟
كامل: لم يضطرب أبو العلاء، ولم يتناقض. ولكن اضطرب في فهمه المتسرعون وتناقضوا، ورأى بعضهم - في مرآة نفسه المضطربة - صورته، فحسبها صورة المعري، وهو منها بريء.
على أن المخلصين في فهمه، ممن رموه بالتناقض، نسوا الحكمة التي درسوها في مستهل(698/29)
حياتهم، وهي: (لكل مقام مقال) فكان مثلهم مثل من ينصت إلى رجل: فيسمعه مرة يقول لولده مغريا: (لا شك عندي في انك باذل في دروسك يا ولدي قصارى جهدك وسيكون لك إن شاء الله شان عظيم. ولتبلغن بحدك أعلى المراتب وأسماها).
ثم تسمعه مرة أخرى يقول له:
(لن تنجح يا ولدي ما دمت مستسلما لكسلك، متماديا في غيك، مسترسلا في تهاونك) أو يقول له غاضبا ثائرا: (والله لا أفلحت أبداً).
فيزعم أن الوالد متناقض مضطرب، لأنه يتمنى لابنه النجاح مرة والإخفاق مرة اخرى، وينسى انهم أسلوبان متباينان يهدفان - على اختلافهما - إلى غرض واحد: هو حفز الولد إلى الخير. وكلاهما يعبر عن حب أبيه لولده وحرصه على نجاحه.
وما أدري - أيها الصديقان - كيف يشك في صدق إيمان هذا الرجل، دارس متعمق حصيف، يجمع بين الإنصاف والإحاطة والفهم؟
كيف يشك في حسن عقيدة من يقول:
أُقر بأن لي رباً قديراً ... ولا أَلْقَى بدائعه بجَحْد
أو يقول ويصل إلى ذروة الإبداع:
تعالى الله، وهو اجل قدراً ... من الإخبار عنه بالتعالي
إلى آخر ما يقول، فما أنت بحاجة إلى أن أتلو ما يزخر به شعره ونثره من الآيات الدالة على سلامة عقيدته، وخلوصها من الشكوك والأوهام.
3 - الفطرة المؤمنة
وقد علمتما - يا صاحبي - إنني عرضت لهذا الموضوع في مناسبات عدة لا سيما في رسالتي الغفران والهناء، وكتابي على هامش الغفران، وحديقة ابي العلاء وربما أنجزت كتاب (عقيدة المعري) وأعددته للطبع بعد قليل.
حسبكما الآن قوله في رسالة الغفران، ولعله - على وجازته - ابرع ما رأيت في هذا الكتاب، لأنه يقرر في بلاغة علائية فاتنة: أن الإنسان مؤمن بغريزته، وان الله سبحانه قد وهبه فطرة مؤمنة تعصمه - إذا لاذ بها - من الزيغ والالحاد، كما يعصم الحصن الحصين من يلوذ به ويحيمه من المغيرين واليكما ما قال:(698/30)
(والتأله (يعني: الإيمان بالله) موجودا في الغرائز، يكون لهن كالإلجاء الحرائر (يعني: كالحصون الحصينة كما تعلمان) وبهذه الجملة البارعة يلتقي المعري بما أبدعه لامرتين في قصيدة (الخلود) وهي من غرر الشعر الفرنسي وروائعه. كما يلتقي مع شكسبير في قوله: (كل ما نلقاه من حسنٌ إذا حسنت خاتمته). فيقول:
(إن ختم الله بغفرانه ... فكل ما لقيته سهل)
لا أدري كيف يجرؤ منصف على اتهام مثل هذا الرجل الطاهر في عقيدته. ألا ما أصدق المثل:
(رمتني بدائها وأنسلت)
ورحم الله ابن الرومي القائل:
ما خمدت ناري، ولكنها ... الفت نفوساً نارها خامدة
قد فسدت في دهرنا انفس ... تستبرد السخنة لا الباردة
4 - شيطان الشعر
عبد الغني: هل تحسن نظم الشعر وأنت صائم يا أستاذ عماد؟
عماد: كلا فإن سطوة الجوع تكفل هدم كل بيت من الشعر أحاول بناءه. أو لعل شيطان شعري يسجن في شهر رمضان مع سائر إخوانه من الشياطين، وإن كنت أنا نفسي مثلت دور شيطان في هذا الشهر المبارك.
عبد الغني: وكيف كان ذلك يا أستاذ عماد؟
عماد: في ليلة مظلمة من إحدى رمضانات الحرب، التي حرموا فيها النور عدت إلى منزلي متأخرا وكنت مرتديا بذلة سوداء، وبينما أنا واقف أمام الباب والشرع مقفر اقبل شخص من بعيد، ولكنه حين لمحني تباطأ في مشيته ثم وقف مترددا، فأدركت انه خاف مني. وانه حسبني أحد شياطين الظلام، فدفعني خبث العبث إلى أن امثل دوري إلى النهاية. فتقدمت نحوه خطوتين فاضطرب وكاد يولي هاربا، ولكن إلى أين؟ وقد علم سلفا أني أدركه بوثبة شيطانية واحدة. وكان منزله لسوء حظه مقابلا لمنزلي، فجمع قواه واندفع يجري من أمامي في سرعة من الريح وهو يتلو آية الكرسي في صوت عال محاولا إحراقي بها، وأنا أشير إليه إشارات تزيده رعبا، حتى أدرك باب منزله فارتمى فيه على(698/31)
وجهه.
كامل: وماذا كان وقع آية الكرسي في نفسك يا أستاذ عماد؟
عماد: بردا وسلاما على خلاف عادتها مع الشياطين.
عبد الغني: إن هذه الحادثة لا تخلو من فائدة، فهي تعلل لنا الحوادث التي يؤكد بعض الناس انهم رأوا فيها الشياطين رأي العين.
ولكن قل لي يا عماد هل تعتقد حقا أن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر؟ كما كان يعتقد حسان بن ثابت إذ يقول:
ولي صاحب من بَنْي الشيعبان ... فطوراً أقول وطوراً هوه
عماد: هذا بالطبع أمر لم يقم عليه دليل مادي، ولكن مما لا شك فيه أن الشاعر عندما ينظم قصيدته يكون مدفوعا بقوة غير عادية، فقد يعود إلى قراءة هذه القصيدة في وقت آخر فيراها أعلى من مستوى تفكيره، ويعجب من نفسه كيف تسير له نظمها على هذه الصورة. والشاعر الذي اعنيه هنا هو الشاعر الصادق الذي لا ينظم إلا متأثرا بفكرته، فالتأثر هو الذي يوحي إليه ما يحسبه من وحي قوة فوق قوة البشر، كالشياطين أو الملائكة. أما الشاعر الكاذب المقلد فشعره من وحي القردة لأنها أطبع المخلوقات على التقليد، ويجب عليه إذا ذكر وحيه أن يقول قال لي قردي لا قال لي شيطاني.
عبد الغني: هذا حق والشعراء القرداتية كثيرون في كل عصر لسوء الحظ.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني(698/32)
موازين البلاغة بين القدامى والمحدثين
للأستاذ كامل السيد شاهين
- 1 -
وبعد جهد جاء الأستاذ العماري يتمسح في الآية الكريمة (والقمر قدرناه مناول حتى عاد كالعرجون القديم) زاعما أنه نظير قوله الآخر في تشبيه البنفسج بأوائل النار. . . الخ. غافلا أو متغافلا عن قدر التشبيه وما وراءه، مدعيا إن أمره واقف عند حد الدقة والانحناء. قال - والاصفرار، ولو كان الأمر كما رجم لكان منزلة التشبيه في الآية منزلة التشبيه بالمنجل والزورق الفضي، وقلامة الظفر، مما يظهر فيه النحول والتقوس.
فالمعنى الذي تمتلئ به النفس عند رؤية القمر آخر الشهر هو الفناء بعد الامتلاء، وذلك أن القمر نزل منازل مختلفة منذ طلوعه فهو قد زاد نوره قليلا قليلا ثم استكمل ثم تناقص قليلا قليلا حتى كاد يذهب ضياؤه، مثله كمثل العرجون يكون حيا في نفسه ممدا شماريخه بالحياة ثم يدب فيه اليبس والفناء فيرجع ولا غناء فيه ولا حياة. فوجه الشبه بعد التصوير يرجع إلى قلة النفع والاضمحلال واقتراب النهاية، وإنما يهدي إلى ذلك سلامة الفطرة وحسن التذوق.
ولا أترك القول في التشبيه المحسن حتى أضع يد الأستاذ على الميزان الذي يعرف به قيم التشبيه جمالا وغثائه فقد ترك القدماء لنا ميزانا شائلا أملته طبيعتهم الأعجمية المتفلسفة، وقديما تحدى بعض الأدباء ابن الرومي ببيت المعتز في الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقوله في الآذريون، وهو زاهر اصفر في وسطه خمل أسود:
كأن آذريونها ... والشمس فيها كاليه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
فمذهب القدماء (إن الغرض من التشبيه هو مضاهاة أبيض على أبيض، وأصفر على أصفر، ومستدير على مستدير، ومستطيل على مستطيل، مما يرى بالعين، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، وقصارى ما يطلب من الشاعر في التشبيه أن يثبت لك إنه رأى شيئين في شكل واحد ومن لون واحد كأنك في حاجة إلى ذلك الإثبات الذي لا طائل تحته، فإما إنه(698/33)
أحس وتخيل وصور إحساسه وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة فليس ذلك من شانه ولا هو مما يدخل في باب البلاغة والشاعرية.
وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر يخرج بهما عن القدرة النفسية إلى القدرة الإلهية التي تحكي المناظر الظاهرة كما تحكيها المصور الشمسية.
وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعا على المرئيات المتشابهة ليتصل وجدانك بوجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون حيا يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها) ويجلي لك ما اضطرب في نفسك من أحاسيس وخوالج لا تستطيع لها كشفا ولا بيانا وتلك مزية الشاعر في كل زمان، وما كان للقدامى أن يخلطوا في الحكم لولا انه التبس عليهم ملكة الشعر بملكة الوصف، وأن هذه شيء وتلك شيء آخر. (فمن وصف وشبه ولم يشعر فليس بشاعر، ومن شبه وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه).
ذلك هو ما جر عبد القاهر وغيره إلى سوء الاختيار والى طول الإطراء لسخافات هولاء الوصافين المصورين، وإلا فأي جمال وروعة وأي وجدان أثاره الشاعر بقوله في وصف منسر البازي:
في هامة غلباء تهدي منسرا ... كعطفة الجيم بكف اعسرا
يقول من فيها بعقل فكرا ... لو زاهدا عينا إلى فاء ورا
فاتصلت بالجيم صارت جعفرا
وتقرأ عبد القاهر، فإذا كلام جميل، وتطريز بديع أملاه تركيب الرجل العقلي الفلسفي.
ويجري في هذا الميدان قوله:
كلنا باسط اليد ... نحو نيل فرند
كدبابيس عسجد ... قضْبُها من زبرجد
وقوله الآخر:
لم أر بد صفاً مثل صف الزُّطَّ ... تسعين منهم صلبوا في خَطَّ
من كلَّ عالٍ جذعُه بالشطَّ ... كأنه في جذعه المشْتَط
أخو نعاس جدَّ في التمطِّي ... قد خامر النوم ولم يَغُطَّ
كل هذه صور ولكنها ليست شعرا ولا تقوم في باب الشعر بقليل ولا كثيرا، ولا يحسب(698/34)
لصاحبها وان رقت صناعته بين الشعراء حساب، وكل ما لها من حسن نرجعه دقة الريشة، وقوة الملاحظة. أما الشعور، أما الإحساس، أما الإثارة التي تهز الوجدان، فما أبعدها عن هذه الصورة الميتة الجامدة.
والفرق بين الشعر والوصف، كالفرق بين الحياة والموت فالذي يشعر يعطيك صورة تدب الحياة في أعطافها، والذي يصور يعطيك تمثالا لا حركة فيه ولا حياة.
- 2 -
يقول الأستاذ الخولي في قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
كلامهم في أن الغرض من التشبيه بيان أن وجد المشبه ممكن مرفوض لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش بل يفرض نفسه على الناس. وإنما دعاه إلى هذا التمثيل أن الناس ينكرون المزايا، فقال إن ذلك نظائر. اهـ
أما أن الشعراء يفرضون أنفسهم فذلك ما لا يسع أحدا التشكك فيه، ودونك فافتح صحيفة من ديوان، أي ديوان، فانك واجد أكثر من مثال:
قال أبو العلاء في رثاء الشريف الموسوي:
ذهب الذي غدت الذوابل بعده ... رُعْشَ المتون، كليلة الأطراف
طار النواعبُ يوم فَادَ نواعيا ... فندبنه، لموقف ومُنافِ
أسفٌ أسفَّ بها واثقل نهْضها ... بالحزن فهي على التراب هواف
فهذا الذي ادعاه في اختلاج أواسط الرماح وكلال أطرافها، وهذا الذي ادعاه من ان الغربان قامت نوادب للشريف، وأنها لحزنها ثقلت حتى كادت تخالط التراب، وما زعمه بعد من أن الغربان ترثي الشريف بقصيدة على روي القاف.
هذا كله ادعاء سوغه أن الشعراء يفرضون أنفسهم على الناس، فليس في حسابه أن يقول له القوم كذبت فاقم الدليل على ما تقول. فإذا قال المتنبي أنت أربيت على الأنام وفقتهم، فما عليه باس، وليس لأحد أن يقول له هذا غير ممكن أو ممكن حتى يقال إن قوله: فإن المسك بعض دم الغزال لإثبات هذا الإمكان ولكنه حين يقول ذلك يؤكد دعواه، ويقرب المعنى الذي قصده إليه، وإلا فما هو بالذي يحتاج أن يثبت إن الأمر ممكن، لان الشاعر ان يدعي(698/35)
ما يشاء وليس لأحد أن يحصى عليه، فاقبض على هذا الأصل وعه، وتبينه، فلن تجد تناقضا ولا غرابة، وجمال الرد في هذا: ان الشعراء لهم ان يدعوا ما شاء لهم الخيال، وان التشبيه هنا للتأكيد والتقوية والإيضاح ولا يفوتني أن أنبه الأستاذ أنه ذكر أن مرد الغرابة في كلام الأستاذ الخولي أمران، ثم ذكر إحداهما ولم يذكر الاخر، فلعل في هذا المنسي الإلزام والإفحام، الإقناع والإمتاع!.
- 3 -
يقول الأستاذ الخولي:
(أ) هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض، فعلم البيان هو الذي يبين درجات الوضوح).
فيقول الأستاذ العماري (ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات الوضوح) ثم يقول (هذا العلم له أبحاث كثيرة، قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها).
فأي تهافت هذا وأي اضطراب: علم البيان لا يبحث في الوضوح والخفاء، علم البيان يبحث في هذا ولكن ليسٍ هذا وحده.
تعال - يا أستاذ - أين الخطأ في قول أستاذ الجامعة؟
هل عبارته تفيد أن علم البيان لا يبحث إلا في أمر الوضوح والخفاء كما تزعم؟. انه يقول (علم البيان هو الذي يبين هذا نعم هو ذاك فليس ذلك موكولا إلى علم المعاني أو علم البديع، ولكنه لم يقل إن هذا كل مباحث علم البيان يا دقيق!!
(ب) ويقول أستاذ الجامعة:
(والجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو) فيزعم الأستاذ العماري أن النحو (يبحث في سلامة التراكيب) و (أن الذي يبحث في المفردات إنما هو علم التصريف)
فليفرخ روعك يا صديقي فإن الكلمة في الجملة لها ناحيتان هيئتها من مادة وترتيب حروف وضبط وهذه للصرف، وناحية آخرها - إذ هي في جملة يا فتى! - وهذه للنحو.
وأستاذ الجامعة حين كفل النحو بذلك إنما أراد النحو والصرف، قال في الشافية: وأعلم إن التصريف جزء من النحو بلا خلاف بين أهل الصناعة).(698/36)
(جـ) ويقول الأستاذ الخولي:
(والجملة قد تعرض عرضا متنوع الأنماط) فيصل الأستاذ المحقق إلى إنه كان يجب أن يقول: ومعنى الجملة. . . إلى آخره.
وذلك لا يخفى على غبي ولا لبيب.
يقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه
فقرر أستاذ الجامعة أن الشاعر قصد وراء التصوير وهو مداخلة السيوف ومزايلته والتماعها في العجاج، معنى نفسيا هو الحيرة والاضطراب فتشبيهه هذه الحالة بالليل تتساقط كواكبه مرشد قوي إلى هذا الخوف الذي يمتلك المحارب عند الالتحام وهياج العثير وانعقاده على رءوس الفرسان:
ولكن الأستاذ العماري ينكر هذا، وما كان لينكره لولا إنه يقتفي أثرا مضللا، فينقل ما كتب عند القاهر حرفا حرفا، ويسير وراءه إصبعاً إصبعاً، ومع هذا فإني أناشد شاعريته أيهما أليق بالشاعر: أن يكون مصورا نحاتا كما يريده القدامى أم يكون حساسا للظلال التي تحيط بالمرئى مشعرا لك بها في وضوح ونقاء كما يريد النقاد المحدثون؟
أحسب أن حكم الشاعرية لا يعضدك ولا يسندك وحسبي بها حكم.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية(698/37)
وفاء الشعراء. . .
مسرحية من فصل واحد مهداة إلى صاحب السعادة عزيز
أباظة باشا
بمناسبة زواجه السعيد
(كان زواج الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا، بعد أن عاهد
روح زوجه الأولى على ألا تشغل امرأة بعدها بيته ولا قلبه،
حديث الأندية الأدبية حينا من الدهر، ثم انتقل الموضوع من
الحديث إلى الكتابة، فنظم فيه الشعراء ونثر الكتاب وأطلع
صاحب (الإناث الحائرة) على بعض ما كتب فسمح بنشره
واعدا أن يعقب برأيه على جملة ما ينشر)
المقدمة
الأشخاص:
1 - عبد الرحمن صدقي: صاحب ديوان (من وحي المرأة)
2 - عزيز أباظة باشا
3 - سعاد
4 - وداد
5 - خالصة
6 - نعمة
7 - روح المرحومة زينب المستحضر
عبد الرحمن صدقي:
عزيز، فأين العهد أوثقت عقده ... وأرسلته يدوي فيختال من عُجب؟(698/38)
أحقاً، عزيز، قد تزوجت بعدها ... أَأُنسيتَ بيتاُ ظل أنشودة الركب؟
(سألقاكِ لم يُشغل فراغ تركته ... ببيتي، ولم يُملا مكانك في قلبي)
سعاد:
عزيز، لفقدها ذو اللب طاشا ... وكان وفاءك العجب انتعاشا
إذا قاسوا وفاءك قلتُ: حِلاَّ ... وان ذكروا شبهك قلت حاشا
أتبغي بعدها أُنساً بزوج ... وتبني بعدما رحلت فراشا
وداد (تنادي سعاد مستفهمة)
سعاد؟
سعاد (تجيب): قد تزوج
وداد: لا
سعاد: وحقك
وداد: كيف؟
سعاد: لا ادري
فأين العهد؟ ويح العهد ... زال كنشوة الخمر
أكان العهد مصنوعاً ... بقصد رياضة الشعر؟!
وما عهد الرجال لنا؟ ... فكلهم إلى غدر
عهود دونها الأحلام ... في إغفاءة الفجر
ستنفُضها رؤى اليقظات ... عن جفن وعن فكر
خالصة:
ألا لا عهد إن غابت ... عيون الإلف في القبر
سعاد:
ألا تعرفن قلب المر ... ء بين أصابع الربْ
يقلْبه إذا ما شا ... ء جلَّ مقلَّب القلب
عزيز باشا:
أيا ربّ مالي في قضائك حيلة ... وإني إلى الرضوان منك لأحوج(698/39)
وإنك أدرى بالنوايا، فإن ارم ... سوى شرعك الهادي فإني أهوج
فهب لي رضاك المبتغى وسكينة ... لقلبي، فلا يطغى ولا يتحرّج
لئن أنطقتني سورة الحزن ضَلَّةً ... فعقل الفتى تحت الأسى يتلجلج
وما بيَ عيُّ عن جواب وإنما ... أرى الصمت خيراً إلى إذا الحق ابلج
لئن كان شرع الله حنثاً ومأثماً ... فما لامرئ من حوزة الإثم مخرج
يظنون لي غير الوفاء لزينب ... ألست بأوفى اليوم، إذ أتزوج
رأيت رسول الله لي خير قدوة ... وسنَّته للعقل والفضل منهج
عبد الرحمن صدقي:
يا ليت زينب أشرفت ... من كوة الخلد البعيد
فترى العزيز وعرسه ... فرحين بالعش السعيد
أنست جوارحه بها ... وتذوقت معنى الجديد
أنجته من ألم الفراق ... وأطفأت حرّ القصيد
عزيز باشا:
يا زين قد أقسمت ألا ... أن تطلي وتعودي
جودي بوجهك وافصلي ... ما بيننا بالله جودي
هل أنت راضية - أبيني - ... عن وفائي والعهود؟
شبح الفقيدة زينب:
ويح الرشاد بدار اللهو واللعب ... لقد تحكمت الأهواء بالأدب
كفُّوا السهام فما أصميتم أحداً ... غيري بها، يا لها من نصرة عجب
أتمسكون برهبانية حرمت ... والجاهلية في ظلّ النبي العربي
هل تنكرون إذن وحشية سلفت ... يحدو بها قوماً في دجى الحقب
قوم إذا مات زوج عندهم دفنوا ... رفيقه معه في ظلمة التراب
فهل تريدون بيتاً لا عماد له ... وأي أنس ببيت موحش خرب
هل الوفاء سوى الذكر الجميل إلى ... فعل النبيل وقصدِ طيب الحلب
نعمى:(698/40)
ماذا نشاهد؟ أحلام وأوهام ... أم روح زينب أم وحي والهام؟
سعاد:
بل رُوحها، جلَّ باريه ومرسليه ... واليوم يستحضر الأرواح أقوام
تأتي وتنطق عن علم، وربّما ... تلوح منها لبعض القوم أجسام
وداد:
أفزينب غضبى وهذا ... زوجها لم يرْعَ إلاَّ!
أيسرها ما ساَءنا ... من اجلها وتراه فضلا
سعاد:
لا تعجبي فالمرء في الأ ... خرى يرى ما لا نرى
فلعلَّ ما تأبى عوا ... طفنا يكون هو الهدى
خالصة:
يا زين لم ننكر عليه زواجه ... لو لم يكن بالعهد شد رتاجه
أو ليس أجدر أن يبرّ بعهده ... من أن يعود بعهده أدراجه
شبح زينب:
إلا إن شرع الله عهد موثوق ... بأعناقكم لو تعلمون مهلّق
فذاك هو القسطاس. كل ألّية ... تحيد بكم عنه فذلك موبق
ألم تحفظوا ما كان أوصى رسولكم ... ولم يك يوما عن هوى منه ينطق
إذا المرء بالمكروه أبرم عهده ... فحنثٌ وتفكيرٌ أحقّ وأواثق
عبد الرحمن صدقي:
صدقت ورب البيت. ليس بممسك ... على خطل إلا الجهول وأحمق
وكائن نقضنا في الحياة عزائماً ... إذا لم يكن في العزم حزم ومنطق
جميل ثبات في الفتى عند عزمه ... وأجمل من ذاك الصواب الموفق
سعاد:
بوركت زينب عن فضلك ... في الحياة وفي الممات
فلأنت افضل من عرفنا ... من نساء مكرمات(698/41)
أوتيت من فضل الخطاب ... وفضل خير المحصَنات
شبح زينب:
عزيز، تمتع ما أباح لك الله ... وودّك عندي راسخ لست أنساه
عليك سلام الله فاهنأ وبوركت ... عروسك في أحلى نعيم واصفاه
وعند إله العرش مجمع شملنا ... على خير ما يرضيه منا ونرضاه
(يتوارى شبح زينب وينشد عبد الرحمن صدقي مخاطبا عزيز باشا):
دم عزيزاً يا عزيز فلقد ... نلت حظاً من ولاء ورشد
سعاد:
فلك التوفيق يسعى والرغد ... في وفاء ورفاء وولد
وداد:
عشتما في الأمن من كيد الحسد
خالصة:
وشرور النافثات في العقد
نعمى:
ما أنار الكون مصباح الأبد
(دمشق)
مصطفى أحمد الزرقا
أستاذ الحقوق المدنية في الجامعة السورية(698/42)
البريد الأدبي
قارئ منى، في إرشاد الأديب:
1 - إلى السيد محمد حسين إسماعيل في البصرة:
قصة (القارئ) - يا أيها الفاضل الأديب - حق، وهل يمنع من صحتها مانع؟ وهذا الشاعر إنما شعر في الذي كان واشتهر، والأبيات رواها الخطيب في (تاريخ بغداد) - ج2ص237 - ولم يشر إلى حكاية، لم يزد عن الرواية، والشعر يشرح نفسه، ولم اعثر في مصنف طالعته على حديث ذاك القارئ، (ومن هوى الصدق في قولي وعادته)، صددت عن البناء عن الرجم، فمن يعرف من أهل الفضل ما غلب عنا فيشركنا - غير مأمور - فيما استفاد مشكورا. وغير ضائر - ونحن في التكلم على قاري منى - أن أروي مقال ياقوت في (منى) كيما يجئ في هذه الخرفشة أو الخربشة شيء مفيد. قال صاحب (معجم البلدان):
(منى بالكسر والتنوين. . . بليدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمر أيام الموسم، وتخلو بقية السنة إلا ممن يحفظها. وقل أن يكون في الإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب. وعلى راس منى من نحو مكة عقبة ترمي عليها الجمرة يوم النحر، ومنى شعبان بينهما أزقة، والمسجد في الشارع الايمن، ومسجد الكبش بقرب العقبة، وبها مصانع وآبار وخانات وحوانيت، وهي بين جبلين مطلين عليها. وكان أبو الحسن الكرخي يحتج بجوار الجمعة بها لأنها ومكة كمصر واحد. فلما حج أبو بكر الجصاص ورأى بعد ما بينهما استضعف هذه العلة، وقال: هذه مصر من أمصار المسلمين تعمر وقتا. وتخلو وقتا، وخلوها لا يخرجها عن حد الأمصار، وعلى هذه العلة يعتمد أبو الحسن القزويني، قال البشاري: وسألني يوما كم يسكنها وسط السنة من الناس؟ قلت: عشرون إلى ثلاثين رجلا، وقلما تجد مضربا إلا وفيه امرأة تحفظه، فقال: صدق أبو بكر فيما علل. وقد ذكر منى الشعراء، قال العرجي:
نلبث حولا كاملا مله ... ما نلتقي إلا على منهج
الحج إن حجت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج؟)
قلت: تلكم (منى) بالأمس، فكيف اليوم حالها؟
2 - إلى السيد عدنان أسعد في الزيتون:(698/43)
لا ريب في أن اصل الأدب (والأدب من ذي الغيبة) هو (والأوب من ذي الغيبة) والدليل على ما ذهبت إليه أنت - أيها الفاضل الأديب - قريب وإن تباعد مني؛ فإن الناسخ القديم البارع (سامحه الله) أستبدل بالواو دالا ثم جاء الطابع فطبع. وأما بيت امرئ القيس فلا يظاهرك لكن قد يشايعني، وقول (الملك الضليل) هو الذي ضلل. . . وقوي (الغنم) عندي، فهو لم ير الإياب بل رضي من الغنيمة بالاياب، ولم تكن حاله كما قال في هذه البائية:
ألم أمض المطي بكل خرق ... أمق الطول يلماع السراب
وأركب في اللهام المجر حتى ... أنال مآكل القحم الرغاب
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
لم تكن حاله كما قال و (لم يركب الأهوال إلا لينال الآمال) فلما اخفق رضى من الغنيمة بالإياب. وكأن الغائب الآئب غير غانم أو رابح أو ناجح أو مستفيد لا تتم غبطته الأهل به. والأوبة البحت أو البحتة المجردة التي تسر العائد والمنتظر إنما هي أوبة الجندي من المعركة، من ميدان الحرب. . . (ومن نجا برأسه فقد ربح) - كما قال الشاعر في صفين - أو عودة الحبيبة - كما يقول العارفون - عند المحب وعندها. والسلام.
محمد إسعاف النشاشيبي
جواب:
كتب مجهول باسم مستعار لا وجود لصاحبه، يعلمنا أصول النقد وقواعده. . . ونحن نجاهد هؤلاء الإباحيين بأقلامنا جهادا، نرجو عليه ثواب المجاهدين، ولسنا ننقدهم نقدا. ثم إن النقد نحن أربابه، ونحن ألفنا فيه لنعلم الناس قواعده، وندلهم على أصوله، وما أنت منه يا هذا في قليل ولا كثير، فانصرف رحمك الله إلى ما تفهم، ودع النقد لأهله، ولولا إنك كتبت في (الرسالة)، لكان جوابك مني جواب الذي نبحني في آخر دقيقة وطن في أذني من شاطئ الفرات، و (سلاما)!
(دمشق)
علي الطنطاوي
رأي غريب لأديب:(698/44)
لبعض القراء تعليقات على ما يقرءون، ولكن بعض الناس يرون من الغرابة أن تتبع القارئات المقالات الأدبية بشغف واهتمام، ويجدون ذلك دليلا على فقر صاحبته من الجمال، لان الجمال في رأيهم يغنيها عن هذا التتبع. هذا رأي أديب كتبه له أحد محرري مجلة الأسبوع، وهو رأي كما ترون غريب. فما العلاقة بين الأدب والجمال؟! وهل إذا دققت المرأة فيما تقرا وتذوقته عد ذلك دليلا على إنها ليست على جانب من الجمال تشتغل به؟!
غريب جدا هذا الرأي في الوقت الذي نشكو فيه من أمية القراء ونطلب الثقافة للجميع، واغرب منه أن يكون من أديب يفهم قيمة الأدب ويعرف مقدار الثقافة!
فما رأي الأدباء في رأي الأديب وفي نعيه على المرأة قراءتها للمجلات الأدبية؛ ثم ما رأي أديب مجلة الأسبوع فيما يريد أن تقرأه المرأة وما ينبغي لها أن تكون؟ أفتونا أفادكم الله فانه يخيل إلى إننا لا زلنا في ظلمات!
(قارئة بالمنصورة)
من الأمانة في العلم:
نشر الأستاذ المنجد (دور القران بدمشق) وترجم لأعلامه سوى بضعة رجال قال انه لم يعثر على تراجمهم:
1 - الخضر بن كامل بن سالم بن سبيع الدمشقي السروجي المعبر (لا المقير) توفي في شوال سنة 608 على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج5 ص33
2 - أمين الدين أبو الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله الشافعي التغلبي الدمشقي. توفي في جمادى الآخرة سنة 637 عن ستين سنة، ودفن بتربته بقاسيون، وخلف ذرية صالحة أبقت ذكره. ترجم له أيضاً في (شذرات الذهب). ج5 ص184
وهو نجل الحافظ أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري، المترجم له في (شذرات الذهب) ج4 ص285
3 - أبو مسلم الكاتب محمد بن أحمد على البغدادي. توفي في مصر في ذي القعدة سنة 399ن له ترجمة كذلك في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ج3 ص 156
4 - محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن عبد العزيز البصروي. ولد ببصري، ثم تحول(698/45)
لدمشق، واشتغل بالعلم حتى بلغ درجة الإفتاء، توفي بدمشق في أواخر سنة 871، ترجم له السخاوي في كتابه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج7 ص295، وهو مذكور في ترجمة الخضيري (صاحب مدرسة القران المشهورة) من (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج9 ص117
عبد الرحمن محمد عبد الوهاب(698/46)
القصص
كاتب العرائض. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
تذكر جميل العكرماوي بعد مضي خمس وثلاثين سنة من عمره، أن والدته كانت تقول له في حداثته: والله يا بني لأزوجنك متى كبرت من فتاة شامية، جسمها أبيض مثل الثلج، وشعرها أشقر مثل الذهب، وخداها أحمران مثل التفاح، وكان هو يسمع كلام أمه هذا وعلى ثغره ابتسامة الحداثة البريئة.
وماتت أم جميل، وتعاقبت السنين، فكبر جميل، وتخطى العقد الثالث، وأناخ الدهر عليه بأثقاله وهمومه، فكان من البائسين المعدمين، يضطر إلى ممارسة كتابة العرائض كوسيلة للمعاش. . .
ورأس ماله في هذه المهنة: صندوق خشبي صغير، وكرسي أصغر، ومحفظة كرتونية، وقلم حبر، وداوة، والقليل من الأوراق، ونسخة من قانون العقوبات الجديد الذي نسخ قانون الجزاء العثماني القديم.
وبعد أن عمل في هذا الحق عشر سنوات، تمكن من ادخار بعض المال بفضل صفقات خاصة عقدها مع السذج من الفلاحين، وكان يخفي هذا المال في حزام لا ينفك يطوق خصره ليلا ونهارا. . . وذات يوم راح يخاطب نفسه: أنت وحيد يا جميل، وعليك أن تجد سبيلا قويما لتتدبر فيه أمر ما ادخرته من مال. . . هيا افتح لنفسك مكتبا يرفع من مكانتك بين الناس. . . كلا. كلا. . . لا هذا ولا ذاك. . . عليك أن تتزوج من امرأة غنية تستفيد من ثروتها واذكر ما كانت تقوله له المرحومة أمك: (والله لأزوجنك من فتاة شامية) وسرعان ما سافر إلى دمشق في طلب العروس.
حل جميل أفندي في فندق (أمية) في دمشق، وهو من اشهر فنادق العاصمة السورية، وسجل في دفتره اسمه: (جميل بك العكرماوي محام من القدس). . . وكان يضع على عينيه نظارة بسلسة ذهبية، ويلبس لباسا انيقا، ويثبت في ياقته دبوسا ثمينا، ويحلى أصابعه بخواتم ذهبية، وأشاع في الفندق بأنه أتى إلى دمشق يطلب زوجة.
وإذ علم سماسرة الزواج في دمشق أن في فندق (أمية) وجيها فلسطينيا يود الزواج من فتاة(698/47)
مثرية، هرعوا إليه، وطرحوا خدماتهم عند قدميه.
وكان بطل قصتنا بحكم عمله ككاتب عرائض خبيرا بضروب الدجل والمخاتلة. فكان يستقبل سماسرة العرائس، ويكرم وفادتهم ويساومهم، ويستفهم عن الأسر القديمة الغنية، ويجمع عنها المعلومات المفصلة إلى أن قرر راية على خطبة بنت (. . .) باشا، وهي تنحدر من أسرة تركية عريقة استوطنت دمشق منذ أيام عبد الحميد، ثم أثرت، واستعربت.
وبعد مداولات مع أهل العروس، وهدايا متواصلة حملها جميل بك لابنة الباشا، وحديث مطول ألقاه على مسامعهم عن أملاكه في فلسطين في عين كارم والخليل. . . وبياراته في يافا واللد. . . وعن مكتبه الرئيسي في القدس، وفروعه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد المقدسة. . . اقتنعت أسرة الباشا بمكانة جميل بك السامية، وكان له شريك في القدس يرسل إليه برقيات عن سير (القضايا) في دور المحاكم!. . .
وهكذا تم عقد قران ابنة الباشا على جميل بك العكرماوي في حفلة اقتصرت فيها الدعوة على الأقارب والأصدقاء، ثم رحل العروسان إلى لبنان ليقضيا شهر العسل في فندق (القاصوف) في ضهور الشوير. . . وطالما كان يحدث العريس عروسه وهما في مصيفهما الجميل هذا، عن أشهر مرافعاته في المحاكم محركا يديه، وملوحا بأكمام (الروب. . . دي شامبر)، ومتنقلا في الغرفة ذهابا وايابا، وكانت عروسه تستمع إلى طربة، وهي مستلقية على مقعد وثير طويل وقد عقدت يديها تحت رأسها.
وقالت له مرة: حدثتني كثيرا عن قضاياك. . . لكنك لم تحدثني قط عن حياتنا الزوجية في بلدك وكيف ستكون؟
قال: دعي الحديث عن حياتنا المقبلة، فقد صرنا الآن روحين في جسم واحد، أو جسمين تختلج فيها روح واحدة!. . . وثقي بأنني سأوفر لك جميع أسباب الرفاهية والسعادة في منزلي الجديد الذي ابنيه في حي القطمون في القدس. والآن أرجوك ترك هذا الموضوع الجاف، وهيا بنا إلى البستان لنأكل ما طاب لنا من الفاكهة.
وبعد انقضاء شهر العسل سافر العروسان إلى القدس، ونزلا في بيت حقير شبه قذر يعق في محلة (وادي الجوز). . . ولما وطئت قدما ابنة الباشا هذا البيت ارتدت إلى الخلف مذعورة وقالت: ما هذا الذي أراه يا ابن عمي؟!(698/48)
قال: لا تضطربي. . . إنني متخاصم مع أهلي، وقد انفصلت عنهم مؤخرا، واضطررت إلى استئجار هذا البيت المفروش مؤقتا إلى ان يتم بناء بيتي الجديد في حي القطمو. . . وبيتي الجديد. . . عفوا. . . بيتنا الجديد، هو عبارة عن طابقين مبنيين من الحجر الأحمر المعرق، وله حديقة غناء مزروعة بأطيب الزهور والرياحين، وله أربع شرفات في جوانبه الأربعة، تطل إحداها على المدينة المقدسة، وتطل على هضاب بيت لحم، وتطل الثالثة على قرية المالحة، أما الرابعة فتطل على أحياء القدس العصرية، وسأفرشه بأفخر الأثاث المصنوع من خشب الزيتون.
ومر الأسبوع الأول، ثم تلاه الثاني والثالث، ثم اكتمل الشهر. . . وكل شيء باق على ما هو عليه ضمن الوعود المتواصلة وكانت سيارة تأتى إلى البيت في كل صباح لتقل جميل بك إلى عمله ثم تعيده مساء. . .
ويبدو أن إبنة الباشا قد خامرها بعض الشك في سلوك زوجها، فعقدت النية على أن تزوره في مكتبه وان تلح عليه بالذهاب معا لرؤية البيت الذي لم يكتمل بناؤه بعد. وراحت في أحد الأيام تبحث عنه وعن مكتبه بجوار المحاكم. . .
وهناك سالت أحد سعاة البريد عن مكتب المحامي جميل بك العكرماوي، فقال لها انه لم يسمع بهذا الاسم قط. . . ثم سالت غيره فتقلت منه الجواب ذاته. . . ثم سالت عنه أحد كتاب العرائض. . . فقهقه هذا وظنها عميلة جديدة وقعت في فخ زميله جميل. . . إنني لا أعرف جميل بك العكرماوي، لكنني اعرف جميل العكرماوي كاتب العرائض، وهذا هو ذا يجلس في تلك الزاوية من العمارة. . . وأنصحك بالا تكتبي عنده شيئا فهو شخص يغرر بالسذج من الناس وإنني لعلى استعداد بأن أتقاضي منك الأجر نصف ما يتقاضاه هو. . . يضاف إلى ذلك إنني اخذ على عاتقي ملاحقة قضيتك في جميع الدوائر، هلا أطلعتني أيتها السيدة على ما هية قضيتك هل هي جزائية. . . أو حقوقية. . .؟
وتركته المرأة مسرعة إلى حيث أشار، فرأت زوجها يضع ورقة على ركبته، والعرق يتصبب من جبينه، وهو يكتب رسالة لرجل فقير كسيح. . .
فصرخت. . . وخرت على الأرض مغمي عليها.
نجاتي صدقي(698/49)
الكتب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. .
بقلم الأستاذ عبد الحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية
عروض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
في أصول الدعوة
وهو يقرر في فصول الباب الأول من الكتاب أصول تلك الرسالة الخالدة، وهي تنحصر في دعامتين أثنيتن وهما الإيمان بالله الواحد والإحسان، فمن آمن بالله الواحد وعمل صالحا فهو مسلم متتبع لرسالة الله، سواء أكان قبل محمد أم بعده (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن!) والإحسان على معناه الأوسع الأعم الذي يشمل كل نشاط ينفع الناس ويعمر الدنيا.
وهذه الحقيقة وان كانت معروفة للخاصة من الناس إلا إنها لدى العامة مجهولة، ولذلك تأتي الآن في وقتها، وقت الدعوة إلى الإنسانية الجامعة والعالمية الشاملة التي لا بد فيها من فهم الدين على حقيقته فهما يجمع الناس ولا يفرقهم، ويعقد بينهم سباقا للخير كما يقول الله لأهل الأديان الثلاثة: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، فاستبقوا الخيرات) لا سباقا إلى الشر والحروب كما يقول الشيطان. . .
وتقرير هذه الدعوة الآن بلسان زعيم من كبار زعماء المسلمين وأمين جامعة الدول العربية أمر له ما بعده! وشان جدير أن يخطو بالجامعة العربية والجامعة الإنسانية خطوات حثيثة.
والحق إن القران أتى في هذا الأمر بالعجب العجاب الذي لم تأت به فلسفة العصر من التسامح وفهم روح الدين.(698/51)
والحق كذلك إن الأرض تحتاج مسيس الحاجة إلى وحدة اتجاه أهل الأديان الثلاثة السماوية أهل الدينين الكبيرين العامين منها المسيحية والإسلام بوجه خاص ليقاوموا عوامل الجحود والطغيان والتنكيل بميراث الإنسان.
والحق كذلك أنها دعوة مدخرة لسكان الشرق الأدنى من المسلمين والمسيحيين واليهود - ان تركوا مزاعم الصهيونية البغيضة - وقد نصر الله روح حضارتهم على روح الوثنيات دائما، وأخر معركة بين الروحين هي معركة اليابان التي ما كان أحد يدري ماذا كان يحدث لاتباع الأديان الثلاثة من انقلاب في مثلهم العليا الدينية الواحدة لو انتصرت اليابان واتت بموجات وثنيات الشرق الأقصى طاغية بها على بلاد المسيحيين والمسلمين واليهود؟!
وقد كنت كمسلم أخشى هذا وأتمنى أن ادعوا المسلمين وقت معركة اليابان إلى الفطنة لهذا المعنى واخذ نصيبهم من المعركة، لولا أن اقعد بي ملاحظة أن في هذه الدعوة ممالأة للإنجليز غاصبي بلدي وبلاد المستضعفين من قومي وغيرهم، مما يدعو الأحرار أن يتمنوا هزيمة أعداء الحرية ولو على يد الشيطان كما قال تشرتشل حين حالف روسيا العدو الأول للإمبراطورية البريطانية ضد الألمان. . .
وعزام باشا يثبت دائما هذا المعنى الجامع للمسلمين وأهل الكتاب خصوصا النصارى، ويدعو المسلمين والمسيحيين في الشرق بوجه خاص لينهضوا برسالة الإنسانية في العصر الحديث، وينادوا العالم إلى ما عندهم من الاخوة السامية على الأجناس والألوان والنعرات. وهو يقرر دائما ان التسامح هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الوحدة العالمية، ولن يكون التسامح إلا بتوطيد الدعامة الثانية للدين وهي الإحسان المبني على اصلين عظيمين هما الرحمة والإخاء.
في الإصلاح الاجتماعي
يرى المؤلف في فصول هذا الباب الأربعة أن الإصلاح الاجتماعي في الإسلام على أربعة فصول: التطهير الخلقي للفرد، والتكافل بين الجماعة، والبر الذي يطارد الفقير والترف والربا، والعدالة والحرية اللتين هما ميزان الخليقة والشريعة. فأما التطهير الخلقي للفرد فهو نتيجة للعقيدة الخالصة بالله المتصف بجميع صفات الكمال والجمال والجلال، إذ العبد مأمور أن يتخلق بأخلاق الله ومطبوع على أن يقلد صفات سيده الذي لا شريك له ولا(698/52)
سلطان مع سلطانه، فلا يتوجه قلب من يعرفه إلى غيره ولا يخشاه إذ تتساوى الخلائق في ملكوته وفي العبودية له. فالمؤمن شجاع صادق صريح جرئ في الحق مناضل للباطل والفساد، كريم، وفي ودود إلى آخر صفات المروءة والكمال.
وأما التكافل فهو مبني على مسئولية الفرد عن الجماعة ومسئولية الجماعة عن الفرد واعتبار المسئوليتين هما أولى الوسائل في الإصلاح الاجتماعي إذ بهما ينشأ (الرأي العام) الحارس لكيان الأمة البصير بمصالحها، الدافع للآفات عنها المعالج بالتشريع لما ينشأ من أدوائها.
وأما البر فهو الإحسان والمواساة للفقراء، والمتخلفين في المجتمع. والفقر هو مشكلة العصر ومادة حديث الدعوات السياسية والاجتماعية والبر نتيجة للتكافل الجماعي. ولم يجعل الدين الفقر سببا لازدراء صاحبه بل كانت أول مواساة الفقير هي شعوره بالمواساة مع غيره من الأغنياء. والفقير لعجز أو مرض جعل الدين مواساته وكفاية حاجاته حقا له على المجتمع (والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم) والفقر لفقد الوسيلة إلى العمل جعل الدين علاجه واجبا على الدولة بإيجاد وسائل العمل والتكسب. والعمل هو الأصل وقد حض عليه الدين كثيرا.
وقد طارد الدين الترف في أعلى المجتمع والبؤس في أسفله ليجعل مستوى الحياة متناسقا، وكذلك حارب الاكتناز والربا والإسراف في الشهوات، واستعلاه طبقة طبقة؛ إذ المؤمن الصادق لا يضمر في نفسه انه خير من خادمه مع سيطرته عليه. وقد أعطى الإسلام سلطات واسعة لولي الأمر ليحقق البر والمساواة بين الناس، ودعا إلى البر بجميع الوسائل بالترغيب والرهيب، وجعل حق الفقير حق الله فهو مصون وليس لأحد أن يمن به. والبر والدين بر عام شامل لفقراء المسلمين وغيرهم لا فرق بين فقراء دين وفقراء آخر.
والحق في هذا الفصل بيانا واضحا لطرقة مكافحة الفقر بتثبيت قواعد البر وصوره في الضمير قبل ظواهر القوانين. وأما العدالة والحرية فهما مبدآن في السياسة وفي الدين الذي هو محطم القيود والأغلال الوهمية عن النفس البشرية، ولن يقوم مجتمع صالح إن لم يؤسس على بعض ميزانهما الذي لا يحابي الأحباب ولا يظلم الذين وقع عليهم البغض والشنآن.(698/53)
والحرية في الإسلام من اقدس الحقوق في السياسة والفكر والدين والحياة المدنية، وهي مكفولة للصابئ والمجوسي واليهودي والنصراني والمسلم يقول ويكتب ما يشاء في حدود المصلحة العامة فلينظر من شاء كما يشاء في الكون ليستنبط لنفسه ما يراه حقيقة تطمئن نفسه إليها، ولا ملام عليه ولا جناح.
في العلاقات الدولية
في هذا الباب فصول ستة يتجلى بها الطابع الأصيل الذي غلب على حياة المؤلف كرجل سياسة من الطراز الأول، وقد أتى في فصوله بأبحاث بكر عن الدولة الإسلامية الأولى وتاريخ علاقتها بالمناهضين للإسلام، وحلل أولى معاهدة دولية بين المسلمين واليهود والوثنيين، وخرج منها بمبادئ تجعلها نموذجا قديما لعصبة الأمم الحديثة. ثم بين الدعاوي والأسباب التي جعلت الحرب الدفاعية أمرا لا مناص منه بين الدولة الإسلامية الناشئة والمناهضين لها، وبين تقييد الحرب في الإسلام بالأغراض السامية، سلبية كانت كدفع الظلم والاعتداء عن النفس وعن المظلوم أيا كان، أم إيجابية كالخير العام أو الصالح العام، لا يجوز أن تكون أغراضها هي التوسع في الملك أو الاستعمار أو تعجيز الآخرين لإضعافهم عن المنافسة في ميادين العيش، ولا العلو والاستكبار وحب البطش.
وبين أن الإسلام دين عملي يواجه الحقائق حين أباح الحرب لدفع العادية أو نصرة المظلوم، وما ورد في القران من آيات الشدة والغلظة على الأعداء وليس معناها الدعوة إلى الابتداء بالاعتداء وإنما هي تحميس للنفوس إذا وقعت الحرب فعلا ولم يكن مناص منها؛ لان الضعف والذل ظلم للنفس لا يرضاه الله بل يعاقب عليه. والحرب الهجومية لا يبيحها الإسلام مطلقا؛ والحرب المشروعة ضرورة تقدر بقدرها؛ فإن جنح الخصم للسلم فليجنح لها المسلمون متوكلين على الله، فالإسلام على استعداد دائم لعقد اتفاقات مع من شاء لصيانة السلم، ولا تخالف في الإثم والعدوان.
والمسيحية وإن حرمت الحرب تحريما قاطعا إلا أن الحياة العلمية التي واجهت المسيحيين جعلتهم يختلفون في تحريمها. فالكنيسة الشرقية احتلها بإسراف حين خلطت بين شخصية الرئاسة الدينية وشخصية الدولة الزمنية في شخص واحد فوضت إليه أن يعلنها كما يشاء، بينما حرمتها الكنيسة الغربية في القرون الأولى للمسيحية تحريما باتا حتى ولو كانت دفاعا(698/54)
عن النفس.
وقد لجا المسيحيون أخيرا إلى شبيه بالنظرية الإسلامية التي جمعت بين ما يقتضيه إقامة صرح العدالة العالمية وما تقتضيه الرحمة والاخوة البشرية والأنصاف وكبح أهواء النفس الشريرة وجنون الدماء وإقامة السلام.
وقد وضع الإسلام آدابا عامة للحرب وآدابا خاصة حين فشل في القضاء على الحرب كما فشل في القضاء على الرق؛ لان تنظيم الشر الذي لابد منه خير. وقد أتى في هذه الآداب بما في طاقة البشر من السمو، وروح الفروسية والنبل ورحمة الأعداء وحماية حقوق المستأمن ومسالمة غير المحاربين ومجاملة رسل العدو والإحسان للاسرى، والترفع عن التخريب والإحراق وإيذاء الضعفاء وغير المحاربين، وقد امتلأ تاريخه بهذه الخلال التي تجعل الحرب كأنها ميدان لظهور مكارم الأخلاق ظهورا قد يغطي على ما فيها من سفك الدماء. . .
وقد أتى المؤلف في هذا الباب بنظرة جديدة في أحكام الأسر والاسترقاق تجعل استرقاق الأسرى لا سند له من القران والسنة الصحيحة، وقد انحنى بالحجج العقلية والنقلية على ما يقال من جواز القتل لعلة الكفر أو الشرك وحدهما، وبين أن هذا ينافي روح الإسلام الذي يقرر ان لا إكراه في الدين، وقد أمده التاريخ بنصوص وحوادث لا سبيل إلى الشك فيها.
وقد بين أن السلم الدائمة هي أساس العلاقات الدولية في نظر الإسلام، وان الحرب طارئة عليها. وقد دفع التهم والأوهام التي تزعم ان دعوة الإسلام قامت على السيف وتقوم به وان الإسلام بصفته دينا ودولة في حالة نزاع دائم مع من يخالفونه، وبين إن روح الإسلام السليمة واحدة في مكة أيام الضعف وفي المدينة في عهد القوة، وقد استشهد بالأجانب وبالتاريخ وقد بين أطراف العهود والمواثيق التي يمكن أن تقوم بين دولة إسلامية وغيرها سواء أكان ذلك الغير جماعة إسلامية أخرى أم جماعة معاهدة أم جماعة ليس بينها وبين المسلمين عهد.
ومن الأمور الهامة التي رأى فيها رأيا جديدا مسالة التخيير بين الإسلام والجزية والسيف؛ فقد بين ان هذه الحالات الثلاث التي كانت تعرض على الأعداء ليست آتية في عمل المسلمين على سبيل الحصر فقد وجدت اتفاقات وحالات سلم بين المسلمين وجيرانهم ودول(698/55)
أخرى بغير أن يشترط فيها حالة من الحالات الثلاث. وحق أمام المسلمين وجماعتهم في عقد ما يرونه صالحا متفق عليه. فصلح الحديبية مثلا لم يشترط شيئا منها بل كان فيه شرط اعتبر إعطاء للدنية من المسلمين أمام المشركين المحاربين. وإنما كان الأمر المطرد الذي يلحظ في جميع اتفاقات الرسول صلى الله عليه وسلم هو القصد إلى نشر دعوته والوصول بها إلى الظهور بدون ان تعترضها قوة، وكثيرا ما كان الوصول إلى حالة سلم مستقرة هو الهدف الأسمى لتمكين الدعوة من الحرية اللازمة لظهورها. فلا يشترط شيء اخر، بل يكون شرط الجزية أو الإسلام مؤخرا ومانعا للتفاهم فيؤجل انتشار الدعوة التي سلاحها الوحيد إنها حق لا يقاومه جدل. ففي هذه الحالة يصبح شرط الإسلام أو الجزية مضرا ويكون فاسدا، وعلى ذلك ليس حقا أن إمام المسلمين أو جماعتهم ملزمون بإقامة السلم على شرطي الإسلام أو الجزية، وإلا كانوا في حالة حرب دائمة مع أكثر البشر وامتنع ظهور الإسلام كدعوة عالمية.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم خلاف(698/56)
العدد 699 - بتاريخ: 25 - 11 - 1946(/)
الإسلام والنظام العالمي الجديد
للأستاذ عباس محمود العقاد
هذه هي الدعوة الثانية من الهند في هذا الموضوع، وهو موضوع الإسلام وأحكامه التي تتكفل للعالم بنظام شامل يحل معضلاته ويوثق الروابط بين أممه ويبسط فيه الطمأنينة والسلام
وقد كتبت في (الرسالة) عن الدعوة الأولى لصاحبها المولى محمد على الكاتب الهندي المشهور ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية
وهذه هي الدعوة الثانية هي خطاب ألقاه ميرزا بشير الدين محمود أحمد في الاجتماع السنوي للجماعة الأحمدية بقاديان سنة 1942، ثم ترجم إلى اللغة الإنجليزية وعنيت الجماعة بنشره قبل بضعة شهور
ويبدو من مطالعة هذا الخطاب إن صاحبه يوجه النظام العالمي إلى حل مشكلة الفقر أو مشكلة الثروة وتوزيعها بين أمم العالم وأفراده، وأنه بغير شك على اطلاع واف محيط بالأنظمة الحديثة التي عولجت بها هذه المشكلة، وهي نظام الفاشية ونظام النازية ونظام الشيوعية، وبعض النظم الديمقراطية
ولكنه يعتقد بحق إن المشكلة لا تحل على أيدي الساسة وزعماء الأحزاب والحكومات، وأنه لا مناص من القوة الروحية في حل أمثال هذه المشكلات، لأن الحل الشامل لكل مشكلة إنسانية عامة يتناول الإنسان كله ولا يهمل فيه الباعث الأكبر على الطمأنينة والحماسة للخير والصلاح، وهو باعث العقيدة والأيمان.
وقد عرض للأديان الكبرى القائمة في الهند خاصة - والعالم عامة - من حيث علاقتها بهذه المشكلة وتدبير الحلول التي تزود العالم بنظام جديد افضل من نظامه المغضوب عليه، فأتى بالأدلة الكثيرة على انفراد الإسلام بينها بمزية الإصلاح وتعميمه بين جميع الأجناس والطبقات فيما مضى وفي هذا الزمن الحديث
فالديانات الهندية تعلم لإنسان إن تفاوت الطبقات قضاء من الأزل لا نجاة منه لمخلوق، لان الأرواح تنتقل من جسد إلى جسد جزاء لها على ما جنت في حياتها السابقة من السيئات والذنوب، فهي تخرج إلى الدنيا بنصيب محتوم لا يقبل التبديل ولا يحسن تبديله إذا(699/1)
أستطيع - ولن يستطاع - لأنه هو سبيل التكفير والارتفاع من حياة إلى حياة. وقد جاء في قوانين مانو: (إن الفرد من طبقة السودرا لا يجمع الثراء ولو قدر عليه، لان ثراءه يؤلم نفوس البرهميين). فإذا ادخر بعض المال لحاجته التي تزيد على القوت والكساء حق للحكومة أن تجرده من ماله وتتركه للفاقة والكفاف، وهكذا تقوم الفواصل بين الطبقات المختلفة، وهي طبقات البرهمان والكشاتريا والفاشيا والسودرا وهم أخس الطبقات.
وتقضي القوانين البرهمية بسداد الديون بالعمل إذا كان الدائن والمدين من طبقة واحدة. فأما إذا كان المدين من طبقة أعلى من طبقة الدائن فلا سداد إلا بالنقد أو العين متى تيسر، ولا إلزام بالسداد قبل التيسير.
وتجب التفرقة بين الاخوة في حقوق الميراث إذا اختلفت أمهاتهم في الطبقة الاجتماعية. فيقسم الميراث كله إلى عشر حصص متساوية، ويعطي ابن البرهمانية أربعا وابن الكشاترية ثلاثا وابن الفاشية اثنتين وابن السودرا حصة واحدة على قدر ما يجوز له من الثراء
ومن حق البرهمان أن يستولي على ملك خادمه من السودرا لأنه وما ملك في طاعة مولاه.
فإذا كان الإصلاح العالمي محتاجا إلى حماسة العقيدة، وكانت هذه عقيدة المؤمنين بالديانات الهندية فلا رجاء فيها لعلاج مشكلة الفقر وأنصاف الطبقات المظلومة والتقريب بين الناس في حظوظ الحياة.
أما الإسرائيلية فهي بأحكامها المنصوص عليها في كتاب العهد القديم تخص اليهود ولا تعم الأمم جميعا بالمساواة. فحرام على اليهودي أن يقرض يهوديا بالربى ولا يحرم عليه أن يتقاضى الربى المضاعف من أبناء الأمم الأخرى. ولا يجوز استرقاق اليهودي طول حياته ولا تزيد مدته في الرق على سبع سنوات، ولكن استرقاق العبيد في الأمم الأخرى جائز في كل حال ولا حرج عليهم. وفي الإصحاح العشرين في سفر التثنية يقول العهد القديم لشعب إسرائيل: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن إجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهاك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك. . .(699/2)
وأما مدن هذه الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما. . .).
هذه هي حدود المعاملة بين المؤمنين بالعهد القديم وسائر بني الإنسان، فإذا سادت هذه المبادئ فالأمم كلها عبيد مسخرة وأبناء إسرائيل وحدهم هم أصحاب السيادة والثراء.
والمسيحية كما هو معلوم لم تعرض لمسائل القانون ومسائل السياسة أو الاجتماع، ولهذا كانت دعوتها إلى الإسلام من الدعوات التي تصطدم بالواقع وتتمخض عن حروب لا تنقطع وحزازات بين الطبقات لا يهدأ لها أوار كما نرى في تاريخ أوربا الحديث والقديم.
لكن الإسلام يتناول مسائل الاجتماع ومسائل العلاقات بين المحاربين والمسالمين. فالمسلم يقاتل إذا ظلم واخرج من دياره ويأمره كتابه إذا ملك الأرض أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد يُذكر اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
لا يجيز الإسلام للنبي أن يكون له أسرى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم).
ثم هو يستحب المسلم المن والفداء (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فأما منَّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها).
ومن بقي في الأسر وطلب المكاتبة فقبول طلبه واجب على مولاه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
ولا مطمع في معاملة بين الشعوب المتعادية أعدل من هذه المعاملة واقرب منها إلى إزالة العدو والبغضاء. فأما المعاملة بين المسلمين فهي كفيلة بأنصاف جميع الطبقات؛ لان الناس يتفاضلون بالأعمال الصالحة ولا يتفاضلون بالمظاهر والأنساب. وينكر الإسلام الجور في توزيع الثروة فلا يجيز لأحد أن يكنز الذهب والفضة قناطير مقنطرة. ومن جمع مالا وجب عليه أن يؤدي زكاة للفقراء والمساكين ومصالح الجماعة بأسرها، وعليه أن يعين مني طلب منه العون قرضا حسنا لا مضاعفة في للربا ولا تجاوز فيه لمكاسب البيع والشراء،(699/3)
فلا تطفيف للكيل ولا مغالاة بالربح ولا مماسكة ولا خداع، وكل يجزي بعمله وسعيه دون إيثار لأحد على أحد في خيرات الأرض جميعا. . . (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فلا يزعمن إنسان أو جمع من الناس أنه أحق بالأرض سواه.
فالنظام العالمي لا يعتمد على عقيدة اصلح لتعمميه وحض النفوس عليه من العقيدة الإسلامية، وقد أجاز الإسلام الوصية وندب له المسلمين في بعض الحالات. فإن قصرت موارد الزكاة فموارد الوصية لا تضيق بما يطلب منها، لأنها تشمل جميع الأموال والعروض، وقد حث (الميرزا أحمد القادياني) اتباعه على التوصية بمقدار من ثرواتهم يتراوح بين عشرها وثلثها، للإنفاق منها على الدعوة والإصلاح.
ولم يقصر المؤلف - أو صاحب الخطاب - مقابلاته ومقارناته على العقائد الدينية التي أجملنا الإشارة إليها فيما أسلفناه؛ ولكنه خصها بالعناية لان العقيدة كما قال هي أمل الإصلاح الوحيد، ونظر معها إلى النظم السياسية والاجتماعية فإذا هي قاصرة عن بغيتها من الوجهة العملية والوجهة الروحية على السواء.
فالفاشية - ومثلها النازية - لا تؤسس نظاما عالميا مكفول الدوام لأنه تقوم على تفضيل الجنس والعصبية القومية. فلا مكان فيها لأمم العمال غير الخضوع والتسليم للجنس الذي يزعمون له حق السيادة والرجحان.
والشيوعية تعطل البواعث الفردية وتسلب النفس حوافز الاجتهاد وتجعل الحياة مادة في مادة لا يتخللها قبس من عالم الروح، وتأخذ للدولة كل ما زاد من ثمرات الأفراد، ولم تفلح مع هذا في أنصاف العاملين، لان السادة في روسيا الشيوعية طبقات فوق طبقات في الترف والمتاع، وقد روي الصحفيون إن وليمة الدولة للمستر ويلكي مدن فيها ستون صفحة من ألوان الطعام، فهل يجعلون هذه المائدة مثلا يقتدي به المقتدون؟ أو هي بذخ مقصور على فريق من الضيوف دون فريق؟
والترجمة الإنجليزية التي شملت على تفصيل هذه الخلاصة تقع في مائة صفحة من القطع المتوسط وبعض صفحات، ونحسبها صيحة لا تذهب في الهواء إذا انتشرت بين قراء الإنجليزية الأوربيين والأمريكيين بل الهنديين والشرقيين، ولكننا نقرا فيها إن مؤلفها يلقب بأمير المؤمنين وإنه الخليفة الثاني للمسيح الموعود، ومعنى ذلك أنه من فريق القاديانية(699/4)
الذين يدينون برسالة (مسيحية) أو مهدية للقادياني ولا يكتفون له بوصف الاجتهاد كما اكتفى المولى محمد علي وأصحابه من الهنود المسلمين. فنعجب لهذه الألقاب التي تحيط الدعوة بين المسلمين أنفسهم بأسباب الحبوط والإنكار، ونسأل: ما هو موضع هذه المسيحية الجديدة أو هذه الخلافة إذا كانت الحجج التي ساقها المؤلف كلها من المراجع الإسلامية الأولى ولا زيادة عليها من وحي جديد؟
فخير للدعوة أن تقصي عنها هذه الألقاب التي لا تزيدها قوة وتأخذ منها كثيرا من قوتها بين المسلمين أنفسهم، فضلا عن غير المسلمين.
عباس محمود العقاد(699/5)
وفاة الملك الظاهر ودفنه
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) (سورة فصلت الآية 30)
أيه أيتها الليلة الظلماء القاتمة السواد لماذا فجرك يتأنى ويتمهل؟ وأين صبح نهارك؟ لماذا لا يشرق؟
وأنت يا موكب الحزن الشامل مالك لا تزال مرابطا بأشباحك السود على أبراج قلعة دمشق وعلى جدران القصر الأبلق؟
أين الطبول والدبادب التي كانت تقرع على أسوار الحصون والقلاع؟
أين آلات الحرب والكراع التي كانت تدك معاقل الإفرنج ما لها قد سكتت؟
أين الأعلام وأين السيوف؟ أتراها قد نكست وأغمدت لدى مصرع الملك الشهيد الراحل، وتنزلت أرواح الشهداء من الأمراء والجند بأمر الرحمن تحمل أرياح الجنة إلى قلعة دمشق تحيي بطل الفتوح وسيد المعارك الذي قادها إلى النصر والشهادة.
إنه يرقد بداخل تابوت تراه معلقا وسط قاعة من قاعات الجند. أنه الملك الظاهر الذي لم تكن تحويه الدنيا بأسرها.
في ساعة بعد الزوال من يوم الخميس 17 المحرم سنة 676هـ (يوليه 1277 ميلادية) في حجرة من حجرات القصر الأبلق ومكانه اليوم التكية السليمانية بمدينة دمشق فاضت روح الملك الظاهر أبو الفتوح بيبرس بعد مرض بسيط لم يمهله غير أيام معدودات، وبموته انتهت حياة اعظم ملوك مصر والشام وطرا في عصرهما الإسلامي العربي المجيد لا بل في جميع اعصر التاريخ.
وكان السلطان العظيم قد دخل دمشق على راس جيشه الظافر عائدا من الجهاد عن طريق إنطاكية يحمل على جبينه غار النصر في آخر حملة قادها إلى أواسط آسيا الصغرى حيث حارب وقاتل وقارع وانتصر، ودخل مدينة قيصرية، وخطب باسمه على منابر أرض الروم بعد أن كسر التتار هناك وشتت شملهم، وحرر بلاد المسلمين من طغيانهم. ويقول مؤلف سيرته القاضي محي الدين بن عبد الظاهر:(699/6)
(دخل دمشق معتقدا إن الدنيا في يده قد حصلت، وأن سعده استخلص له الأيام والليالي والممالك شرقاً وغرباً)، ولكن المنية كانت على مقربة منه كما قال تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة) سورة الأنعام.
وكان رحمه الله ورضوانه عليه بطل من أبطال الإسلام أمضى العمر مجاهدا في سبيل الله ذائدا عن دينه وصفه المعاصرون فقالوا (كان طويل القامة أسمر اللون أزرق العينين أشعر اللحية جهوري الصوت شديد الهيبة تخضع له اسود الرجال وكان خفيف الركاب سريع الحركة لا يستقر في جهة حتى يظهر في جهة أخرى).
يوماً بمصر ويوماً بالحجاز ويو ... ماً بالشام ويوماً في قرى حلب
كان رجلا من رجال الله يحمل بين جنبيه قلباً لا يعرف المخاوف ولا ترهبه الأخطار، وكان بعيد الهمة عظيم الآمال يقدم بطبعه على عظائم الأمور ويرحب بالمجازفة ومقارعة الأخطار، يواجهها وهو ثابت مطمئن ويدفعها بالهدوء الذي يلازم النفس المطمئنة ذات النظرة النافذة التي لا تحيد عن الهدف ولا ترتد، والتي تشعر بأن لصاحبها من القوى الكامنة والظاهرة ما يجعله يسيطر على حوادث الزمن، وان فيه من صفات الرجولة ما يجعله بطلا من أبطال العالم، وإنها تشعرك بان لوازم القيادة متأصلة فيه، فهي التي أوصلته أن يتحكم على نفسه ويقودها كما يشاء ثم مكنته أن قاد الناس معه.
كان من أبطال المسلمين المؤمنين بعظمة الإسلام لا ينفك يفكر فيه ويخفق قلبه له، فهو من أولئك الذين إذا قاموا بعمل عظيم وضعوا كل شيء في سبيل تحقيقه والوصول إليه. هؤلاء ليس لهم أن يختاروا من الأمور أوسطها وأسهلها أو يقفوا بين طريقين مترددين وجلين؛ لم يكن من أولئك الذين تشغلهم أمور الدنيا فترى الواحد يوزع جهوده ذات اليمين وذات اليسار. بل كان في الطريق الذي يضع عقله وروحه وما يملك في إتمام ما بدأ فيه ويحشد عواطفه وغرائزه، في تأكيد إرادته نحو الغاية التي ينشدها، فكان أن وصل بالإيمان والثقة إلى أن تملكته نفحة من تلك النفحات الدافعة التي يسبغها المولى على من اختار من عباده، فأصبحت هذه النفحة غريزة في خلقه وقوة نفسه ودمه، تحركه للعمل والجهاد في سبيل وخدمة دينه ونصرة كلمته، فغدا بهذه النفحة قوة من قوى الخالق جل شأنه (آني لهذا أقمتك لكي أرى قوتي فيك).(699/7)
عجب الناس له: إذ رأوه ملكا على اعظم ما تكون الملوك عليه هيبة ووقارا، قائدا على اعظم ما يكون عليه القواد أمام الأخطار والمعارك، ساس الملك وخاض المعارك فأدهش الدنيا بملكه وعظمته، وأدهشتها بفتوحاته وانتصاراته ومواقعه الحاسمة الفاصلة. حكم فعدل، وخطب باسمه في مشارق الأرض ومغاربها وأعاد الخلافة العباسية، وقاد الجند في الحروب فما من معركة دخلها ذد الإفرنج أو التتار إلا وانتزع النصر من أيدي أعدائه، فحطم قلاعه وحصونهم وساق الملوك والأمراء والقادة أسرى بين يديه. لهذا بقيت صورة الملك الظاهر حية خلال الاعصر، ولهذا صاحب أعماله السنين، وبقيت خالدة مع الزمن راسخة في قلوب الناس جيلا بعد جيل يتناقلها الخلف عن السلف ويسمر بسيرته الرجال.
ألم تر السامعين لسيرته. ما الذي يجمعهم حولها ويجعلهم يأنسون بها؟ انهم يلتمسون من عزيمته وعزمه ما يقوي عزيمتهم وعزمهم، وانهم يرون في صبره وإقدامه وشجاعته ما يخفف من وقع الأحداث والنوائب عليهم، ولذلك عاشت سيرته وأعماله وأصبحت أعماله مضرب الأمثال، وأطلت شخصيته من وراء الأجيال والقرون تحدث الناس بدوري البطولة والمجد.
وفي ليلة وفاته كتب مؤلف سيرته: (قبض الله روحه الزكية فرجعت إلى ربها راضية مرضية، وكأن نفوس العالم كانت نفساً، وانزل الله السكينة فلا تسمع إلا همساً، واستصحب نهايته السكوت، وخادعت العقول نفسها بين مصدق ومكذب، وسكتت الشفاه والألسنة، وتناومت النفوس من غير نوم ولا سنة، وأسدلت ستور المهابة، وافرد بقاعه من القلعة يوماً إليه بالترحم والسلام، ولا يزوره غير الملائكة الكرام، وكانت مدة مرضه قدس الله روحه ثلاثة عشر يوما، وهي مدة مرض الشهيد صلاح الدين رحمهما الله تعالى).
وفي قاعة من بيوت الجند من المماليك البحرية بقلعة دمشق وضع جثمان الملك الظاهر في تابوت بعد أن تولى غسله وتصبيره وتكفينه خادمه الخاص الشجاع عنبر، وساعد المؤذن كمال الدين علي المنيحي بحضور الأمير عز الدين الافرم، وبقي التابوت معلقا حتى شهر رجب من تلك السنة حينما جاء وفد من القاهرة لدفنه بتربته التي أنشئت بالمدرسة الظاهرية. ذكر صاحب البداية والنهاية: إن العمارة بدأت في يوم السبت تاسع جمادي الأولى في مكان الدار المجاورة لحمام العقيقي تجاه المدرسة العادلية ووضعت أسس التربة(699/8)
في خامس جمادى الآخرة.
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا ... تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره ... والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره ... وقبوره الأسماع والأبصار
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا ... تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره ... والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره ... وقبوره الأسماع والأبصار
وسارت جنازته إلى صحن الجامع الأموي للصلاة عليه، ولما انتصف الليل خرجوا به يتقدمهم نائب السلطنة المصرية بالشام الأمير عز الدين أيدمر ومعه أمراء جند الشام وتوجهوا به إلى المدرسة الظاهرية ثم إلى التربة التي أنشئت له، وهناك ألحده. قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ. ولما ارقد رقدته النهائية بدأ القراء مستفتحين بالآية الكريمة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا وألا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، ولقد زرت هذا الضريح ووصفته على حالته بعدد (الرسالة) 470 المؤرخ 23 نوفمبر سنة 1942، وكنت لا أدخل دمشق إلا جعلت من برنامجي زيارة هذا القبر الطاهر والوقوف أمامه أرتل قول القائل نقلا عن ابن الفرات:
صاح هذا ضريحه بين جفنيّ ... فزوروا من كل فج عميق
وهو القائل أيضا: (إن الأسف تجدد بدفنه فكان العالم فجعوا بأبيهم الشفوق، وقضوا حق التعزية وأنى يقضي أحد ما له من الحقوق).
ولقد تقلبت بي الأيام وتنقلت بين بلدان كثيرة وأتيت من كلف فج عميق لأجدد عهد(699/9)
الإخلاص أمام الملك الظاهر أعظم ملوك الإسلام المجاهدين المرابطين، فمن وجدت بقعة أوحت إلي وملأت روحي مثل هذه البقعة وقبر صلاح الدين. لقد جعلاني أومن بحق الوطن الخالد وعظمة مصر قلب العروبة والإسلام وأوحت كل منها إلى بالدوافع النفسية للعمل وعرفتني مكانة بلادي في التاريخ إن القوى الكامنة فيها لا تقهر وإنها سوف تظهر للعالم وتكتب في تاريخ العرب والمسلمين صفحة جديدة، وستبعث بعثاً جديداً بإذن الله.
إلى هذه التربة أنتهى مسير جثمانه الطاهر ليرقد رقدته الأبدية إلى يوم البعث إذ هناك يرقد بطل المنصورة وعين جالوت وصاحب الفتوحات الكبرى: قيصرية وارسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وإنطاكية وحصن الأكراد، وغيرها من البلاد والحصون والقلاع، صاحب مصر والشام وبرقة والحجاز والنوب وأرض الفرات:
تدبر الملك من مصر إلى يمن ... إلى العراق وارض الروم والنوبي
ولن اترك الظاهرية من غير أن أشير إلى ما ذكره اليونيني في تاريخه عن أول درس للشريعة ألقى بها بعد بنائها إذ قال:
(وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر كان أول درس بها ترأسه نائب السلطنة المصرية بالشام، وكان درسا حافلا حضره القضاة وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارائي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان، ولما توفي تولى بعده حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي الذي كان قاضياً بمدينة مطلية).
ها قد عشت يوماً من أيام الملك الظاهر فانظر أثابك الله إلى آثار ذلك العهد وإلى علمائه وتعجب لحالنا اليوم وما نحن فيه.
فهل فكر أهل مصر والشام في الظاهرية والملك العظيم المدفون بداخلها؟ هل أعطيت له مكانة البطولة التي يستحقها في التاريخ؟ أنظر إلى الحجر الرخامي على الباب تجده من عمل أحد الولاة بدمشق فيه شعر ركيك بالعربية وبالتركية يكيل المدح، وينسى واضعه أن يذكر صاحب المدرسة والتربة بكلمة واحدة. ومن نكد الدنيا إن الوقفية على المدرسة الظاهرية منقوشة على أحجار البناء على الباب الكبير، ولكن هذا لم يمنع الولاة والغاضبين من أن يحرموا الظاهرية من القرى الموقوفة على دروس الدين. أني استحي من نفسي وأخشى أن يقراني العالم إذا ذكرت للناس أسماء الضياع وأسماء من أغتصبها: رحم الله(699/10)
الإسلام والمسلمين ووقانا من شر أعمالنا.
قضي وله على الدنيا أيادٍ ... يصح بها من الزمن السقام
فراح من الملائك في صفوف ... لهم من حول تربته زحام
أحمد رمزي(699/11)
إلى وزارة المعارف:
وعلى هذا فنحن ندور. . .
للأستاذ كامل السيد شاهين
وها هو ذا العام الدراسي قد ابتدأ، بعد أن تحيفته عوامل وأسباب نستكره الخوض فيها، ونرجو أن تكون عوامل خير واستعداد وتهيؤ لا عوامل تخوف واستيحاش وإجفال.
بدا العام الدراسي بعد شهور خمسة قضتها الوزارة في فتح المدارس وتنظيم المصروفات، وإجراء التنقلات والترقيات، وغير هذا مما هو من نصيب المدرس أو الناظر أو المفتش أو المراقب، وكلهم - بحمد الله - يقظ، مفتح العين، مترقب عامل دءوب، متنسم لأخبار الترقيات والعلاوات، متخصص في تطبيق (الكادر) سباق إلى ذوي الخطوة المقربين ليقفز درجة أو ينال مرتبة.
وقد أبلت وزارة المعارف بلاءها السنوي، فنال من نال، وحرم من حرم، وبات الجميع بين مفطور القلب أسوان، ومفتر الثغر فرحان. فآما الذي نسيته الوزارة والقوامون على تصريف شئونها، وأغفلته شر إغفال، ولم يذكرها به مذكر، فذهب ضياعا وراح هدرا، فهو حق التلميذ. فللتلميذ الحق الأول لدى وزارة المعارف؛ وليس حقه هذا في مصروفات تزاد أو تنقص، ولا في غذاء يخفف أو يجود، فالخطب في المال يسير، وهو في الغذاء ايسر، وما كان أمر المال أو الطعام بالأمر الذي يدخل في اختصاص وزارتنا في الصميم، وإنما حقه في تيسير العلم، وترقية الطرق، وتغذية المواهب، وحل المشكلات، والتجانف عن التعقيد والالتواء. وإماطة الأشواك المربكة لعقله، والمعوقة لفهمه، وتنقية الكتب من الطفيليات العلمية التي تتعلق بالأصول المفيدة، فتحد من إفادتها وتقلل من قيمتها.
وما كانت وزارة المعارف - وحاشاها - أن تلتف إلى حق التلميذ هذا، وكيف تلتف وصاحب الحق قاصر، والقوام عليه مشتغل بشأنه عنه؟ وكيف تلتف، وهذه اللفتة لا تفيدها ضجيجاً ولا تلفت إليها الأنظار، ولا تخرجها إلى عالم لا يسمع إلا الفرقعة المدوية، والانفجار الهائل؟
وكيف تلتفت، وهذه اللفتة لا تفيدها ثناء ولا إطراء، ولا تجر إليها إعجابا ولا إكبارا؟ وهي بمنجاة من اللوم، فصاحب الحق خافت الصوت لا يعرف حقه ولا يدريه!(699/12)
ابتدأ العام الدراسي ونظرنا فإذا المقررات هي هي، وإذا الكتب هي هي، منذ عشرة أعوام حتى لكأنما سار هذا الموكب الحافل من المدرسين والمفتشين طوالها لا يلمسون عيباً، ولا يحسون عوجاً، ولا يرضون عنه بديلاً. وكأنما رضوا أما آتاهم المفتشون ولصقاؤهم من كتب خالدة باقية على الزمن يتغير كل شيء ولا تتغير، وتعيش في جو يجر التلميذ والمدرس إليه كرهوا أو رضوا، تعبوا أم استراحوا فإنما هو تأليف فلان أو فلان من الخيرة الأعلام الراسخي الأقدام!
يتغير كل شيء ويتطور، وتخرب الأرض وتعمر، وتقوم الحرب وتضع أوزارها، وتثور الشعوب وتخمد ثورتها، والكتب المدرسية ماضية فيما هي لا تتأثر بهذه الأحداث، وأي عيب في هذا؟
أليست حقائق الأشياء ثابتة ما لها من زوال؟
لقد بحت أصواتنا - حن المدرسين - أن أدركوا الناشئة من التلاميذ التي جنت عليها الدراسات العقيمة في الأدب والقواعد الجافة التي لا تخرج عن إنها مضيعة للوقت ومفسدة للعقل، فقالوا: هدامون نسافون مخربون، فجئنا لهم بالأحجار والملاط، وقلنا لهم شيدوا! أولا، فأفسحوا لنا المجال لنشيد بعيدا عن تحكم المفتشين، وعجرفة المناهج، فأبوا إلا مضياً في الفساد، ورجفت قلوبهم من التغيير والتجديد. وهاأنذا أضع بين يدي القارئين طرفا من هذا العوج حتى يلبوا القائمين على شئون التعليم بوزارة المعارف، ويردوهم إلى شيء من التبصر في أمر هذه الناشئة.
فالتلاميذ في المدارس الثانوية يدرسون أدب اللغة العربية على طريقة التلقين فالحفظ من غير تذوق الإدراك، ولا إحاطة بملابسات العصر المدروس، في كتب مضغوطة محشوة، وكثيرا ما يلجأ المدرس إلى بترها أو مسخها أو سلخها، فيزيد من غموضها وإنبهامها، ويخرج التلميذ بجمل في كل شاعر أو خطيب لا تبقى معه ريثما يخطها على ورقيته ثم يفرق الله بينهما ابد الآبدين.
وقد اقترحنا علاج هذه المشكلة بأن يقرر مع العصر روايات لها فائدتها في إنارة العصر المدروس وأحواله الاجتماعية، فرب رواية تكون أجدى على التلميذ من قراءة كتب من موسوعات أدب اللغة.(699/13)
اقترحنا أن تقرر رواية (عنترة بن شداد) مع العصر الجاهلي، ورواية (شاعر الملك) مع العصر الأندلسي، ورواية (فارس بني حمدان) مع العصر الثاني العباسي، وأن تنشأ روايات أخرى لهذا الغرض عينه يراعي فيها الإكثار من الشواهد، والتحري لطابع العصر، فلذلك فائدته وجدواه، وقلنا: إن التاريخ الأدبي مغلول بالتاريخ السياسي مقيد به، ومع اعترافنا بقيم الأحداث السياسية، فإننا نرى إن متابعة تاريخ الأدب للتاريخ السياسي خطوة خطوة وشبرا شبرا مما يتضمن الإسراف على حقائق الأدب وتطوره إلى ابعد مدى.
وقلنا: إن الدراسات النثرية في الأدب لم تأخذ حظها وافيا من الدراسة وأن الشعراء خطوا خطوة واسعة، على حين أهمل أمر كثير من الكتاب. ولو إننا تتبعنا الأعمدة التي وضعها الكاتبون في أدب اللغة لتطور الكتابة لوجدناهم قد راعوا ناحية الوظيفة، فجعلوا من الكتاب (الموظفين) أعمدة على حين بقي غيرهم لا يعرف ولا يشار إليه، ففي هذه الطريق تجد (عبد الحميد) وهو موظف، ثم بعده تجد ابن العميد ثم بعدهما تجد القاضي الفاضل، وهما موظفان كذلك. فيملأ العجب جوانحك وتتساءل في استغراب ودهش: أين إبراهيم ابن المهدي، وهو ذو أسلوب في النثر مبتدع؟ وأين الجاحظ سيد كتاب عصره، والذي سوى لنفسه طريقة لا تزال تؤتسى إلى يوم الناس هذا. وهذان مثلان من مثل كثيرة، ليس هذا مقام تتبعها وأياً ما كان، فإنه يجب أن يخطط تاريخ الكتابة تخطيطا جديدا، ويخص بقسط من العناية أوفى.
قلنا هذا كله؛ وسمعنا إطراء وثناء وبدت لنا الآذان مفتحة والنفوس منشرحة ووعدنا بالنظر، فكان النظر في كل شيء إلا في حق التلميذ فقد بقى (على قدمه)، كأنما هذا الذي بين يديه، غاية الغايات وآية الآيات!
وقلنا إن المستوى الإنشائي للتلاميذ غير مناسب، فيجب أن تقرر عليهم روايات أخرى تنزع بهم إلى ترقية الأسلوب وتذوق الجمال في الآثار الأدبي (كآلام فرتر) و (روفائيل) وكتب فيها مقالات امشاج، تذهب في علاج نواحي اجتماعية أو سياسية في أسلوب أدبي راق (كفيض الخاطر) و (مختار البشري) على أن يكون لها نصيب من الدرجات حتى يرغم التلميذ على قراءتها وإجادتها وتذوقها والإفادة منها.
ونحن إذ نهيب بوزارة المعارف أن تولى أمر المناهج والمعلومات التي يتلقاها التلاميذ(699/14)
عنايتها إنما ينفعل بدافع من هذا الأسف الممض الذي يعتصر قلوبنا اعتصاراً على نابتة تنفخ في غير فحم ولا تسير في طريقها على أمم!
ولي عودة إلى مناهج التعليم الابتدائي إن شاء الله.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس أل أميرية(699/15)
مجالس الأدب:
في إحدى ليالي رمضان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من
أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته
محطة الشرق الأدنى). . .
5 - المعري والجن
وما رأي المعري في الجن يا أستاذ كامل؟
كامل: يقول:
فأخْشََ المليكَ ولا تَقْعُد على رهَب ... إن أنت بالجن في الظلماء خُشَّيتا
فإنما تلك أخبارٌ مُلفَّقَةٌ ... لخدعة الجاهل الحوشيَّ، حوشيتا
6 - شكوى ابن الرومي
عماد: قل لي يا أستاذ كامل. هل كان ابن الرومي كالمعري يصوم أيضاً؟
كامل: كان المعري يصوم الدهر مختاراً. وكان ابن الرومي يكاد يصوم الدهر مضطراً، لأنه لم يكد يظفر بالقوت.
عماد: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: (فلو كَفَّ قوتي ماءَ وجهي صُنْتُه).
أو يقول:
(لا تَعجبنَّ لمرزوق أخي هوج ... حظاً تخطَّى أصيل الرأي طرَّافا
فخالِق الناس أعراءً بلا وَبرِ ... كاسٍي البهائمِ أوباراً وأصوافا)
أو يقول مُتبر ما بحظه:
(إن للحظَّ كيمياَء إذا ما ... مسَّ كلباً أحاله إنسانا)(699/16)
أو يقول:
(حُرمت في سنَّي وفي ميْعتي ... قِرايَ من دنيا تَضيَّفْتها
لهفي على الدنيا، وهل لهفة ... تُنصف منها، إن تَلهَّفْتها)
إلى آخر ما يقول مما يفيض به ديوانه.
7 - ابن الرومي وشهر الصوم
عبد الغني: ولك هل كان يحب رمضان؟
كامل: كانت تجهده أيامه بقدر ما تبهجه لياليه.
عبد الغني: إذ يقول يا أستاذ كامل؟
كامل: من طرائفه في هذا الباب قوله مداعباً:
(أذمُّهُ غيرَ وقت فيه أحمدهُ ... من العشاءِ إلى أن تسْقع الديكه)
عماد: هذا بيت رائع، فها تذكر إخوته؟
كامل:
(شهر الصيام وإن عظمت حُرمْته ... شهْر ثقيلٌ بطئُ الظلّ والحركة
يمشي الهوْينى، فأمل حين يطلبنا ... فلا السُّلَيْكُ يُدايه ولا السُّلَكه
يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يكني عن اسم الطول بالبركه)
8 - بياض المشيب
عبد العني: ولكن قل لي يا عماد إن الشعرات البيض في رأسك تكاد تظفر بالشعرات السود، فلماذا لا تعمد إلى الخضاب تسود به ما ابيض من شعرك كما يفعل كثيرون، وكما فعل ابن الرومي حيث يقول:
يا بياض المشيب سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود العيون
وبهذه المناسبة هل تذكر يا أستاذ كامل شيئا لابن الرومي في المشيب؟
كامل: كثير، ولكن هيهات ينسى قوله:
أما رأيت الدهر كيف يجرى ... يثبت ما أكتمه من عمري
بأحرف يخطها في شعري ... يمحو بها غض الشباب النضر(699/17)
إذا محافظة سطراً بدا في سطر
عبد الغني: والآن أجبني يا أستاذ عماد لماذا لا تعمد إلى الخضاب؟
عماد: إني لا أحب الكذب في الشعر وأنا لا احبه أيضاً في الشعر. ومع ذلك فأنا مقيد بقسم قديم لا أستطيع التحلل منه الآن.
عبد الغني: وما هو هذا القسم؟
عماد: قد تطغى على النفس البشرية في الشباب ساعات يأس أليم تبغض إليها الشباب حتى لتحسب سعادتها في الشيخوخة، وذلك رغبة في الانتقال من حال إلى حال. لا لأان الشيخوخة سعيدة في حقيقتها، وقد قلت في شبابي الباكر قصيدة يأس اذكر منها هذه الأبيات الغريرة:
قل يا رعى الله المشيب ... ولا رعى الله الشباب
عهد بلوت عهوده ... فإذا بأغلبها كذاب
حلو على مُرٍ فهل ... يرضيك من هذين صاب
من لي قد تأطّ ... ر أو بيوم يقال شاب
آليت ثمَّ أليه ... أن لا عمدت إلى الخضاب
9 - ليلة الوزة
عبد الغني: أذكر يا أستاذ كامل. أن الصحف والمجلات منذ خمسة عشر عاماً أشارت إلى ليلة من ليالي رمضان أقيمت في دارك وأطلقت عليها: (ليلة الوزة) اجتمع فيها على مائدتك الزنكلوني وأحمد حسنين وشوقي الهراوي والهياوي وصادق عنبر وأحمد عيسى وأبو العيون ودراز، ولا أزال اذكر منها الأبيات التالية:
(هذا هو المجلس، لا تذكروا ... شبيهه في الصفو لا تذكروا
رأيت فيه كيف أضحت به ... حقيقة مَرْئية عَبْقَر
كان زكي باشا، إلى جانبه ... زعيمُ سوريا الحرُّ شَهْبَندر
وكان هرّاويُ الرقيق الدقيـ ... ق، واللغوي صادق عنبرُ
فما حكاية هذه الليلة؟
كامل: جاء ولدي ذا صباح متهللا يبشرني بأن الوزة التي طارت من بيتنا منذ يومين إلى(699/18)
بيت الجيران عادت إلينا. وكان بعض الأدباء حاضرا فقال متظرفا: (ما دمت قد وجدت الوزة الضائعة فقد وجب عليك أن تدعوني إلى الإفطار عليها غداً. فأجابته إلى اقتراحه، وجاء ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وصاحبنا لا يكف عن تظرفه، ولا يفتأ يروي قصة الوزة ثم يختمها قائلا:
والكيلاني يدعوك إلى الإفطار غدا على هذه الوزة ابتهاجا بعودتها. فيقبل صاحبنا الدعوة في غير تردد.
فلما رأيته يتمادى فيما يظنه إحراجا لي هو - ولو علم - مصدر سرور وبهجة، قابلت تحديه بمثله، فرحت أدعو بقية أصحابي تلفونياً إلى الفطور بعد أن أوجز لهم القصة، حتى تجاوز عددهم الأربعين.
ولا أكتمكما أن تظرف صاحبي - مضافا إليه انسياقي معه في التحدي - قد جنيا على كبش لم يكن له في هذه الجناية يد، كما جنيا على جماعة أخرى من ذوات الأجنحة تكفي لإطعام أربعين أديباً، من بينهم أديبان، كلاهما - على الله - جدير أن يكون أمة وحده.
وقد استولى المرح على الحاضرين حين سمعوا أحد الأديبين يشكوا أضراسه وهو يطحن الأكل طحناً، وعلا هتافهم حين سمعوا ابن الرومي:
على انه ينعَى إلى كل صاحب ... ضروساً له تأتى على النور والكبش
يخبر عنها أن فيها تَثَلُّماً ... وذلكم أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى - عند نقرها ... وتجريشها - تأتي على الصلب والهشَّ
وكانت ليلة أنس حافلة قل أن يجود بمثلها الزمن. وتوسطت الوزة المائدة ولم يفكر أحد في لمسها وتمزيق لحمها شكرا لما أسدته إلينا من جميل، بما هيأت لنا من اجتماع سعيد. وقد اجتمع الحاضرون على تخصيص الليلة كلها لأبرع ما يعرفون من حكايات الوز.
10 - ساق الوزة
عماد: بمناسبة اشتغالك بجحا يا أستاذ كامل في هذه الأيام هل كان لجحا نصيب من حكايات الوز.
كامل: نصيب الأسد. فقد ظفرت بعض حكاياته - على عادته - بالجائزة الأولى. وخلاصتها أن الجوع استبد به ذات مرة، فاضطر إلى التهام ساق الوزة المشوية قبل قدوم(699/19)
صاحبه.
فلما سأله في ذلك قال:
ألا تعلم أن للوز ساقاً واحدة؟
وأشتد اللجاج بينهما فخرجا إلى حديقة الدار - وكان يوماً قائظاً يكاد يلتهب الوز واقفاً على رجل رجل.
فقال جحا:
أرأيت صدق ما أقول
فأسرع صاحبه إلى الوز وهشه، فخرجت كل وزة على ساقيها فقال له:
أرأيت الآن لكل وزة ساقين؟
فقال حجا متبالهاً:
آه! لقد ذبحتها يا صاح من غير أن أقول لها هش!(699/20)
تعقيبات. . .
للأستاذ عباس حسن خضر
أعداء المرأة:
منذ سنين أطلق بعض المروجين للأستاذ توفيق الحكيم عليه لقب (عدو المرأة)، واتخذت المجلات الشعبية هذا اللقب مادة للتندر فيما يتصل به، وطاب ذلك للأستاذ نفسه، فأكثر في كتاباته مما يثبته ويسيره بين الناس، وكان بين الناس، ولم يزل بينهم، من يتساءل عن معنى هذه العداوة. وأكثر هؤلاء المتسائلون تساؤلهم لما رأوا أخيراً الدكتور زكي مبارك يعلن بنفسه في مجلة (مسامرات الجيب) أنه عدو المراة، ويتبع بذلك حملة عشواء. . . يعلو فيها مثار النقع. وتنجلي غمراتها عن هزيمة الجنس الناعم أمام أسلحة الشتائم التي جرد منها بالتثقيف والتهذيب، واتخذها بعض الرجال أداة لحربه. . .
ويعجب المشاهدون لهذه المسامع من هؤلاء (الأبطال) الذين يريدون أن يعكروا صفو المودة بين الجنسين التي هي من آيات الله الذي جعل لنا من انفسوا أزواجا لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة؛ ويعجبون اشد الإعجاب لتحقير اللائى هن من أنفسنا ونحن منهن ولا يحق لهن إلا الكرامة والإعزاز
ويقول السائلون عن معنى تلك العداوة: أهي عداوة جنسية بحيث يدعو أولئك المغاوير سائر الرجال إلى حرب النساء، ويضطر النساء إلى المقاومة، فيقف الجنسان في الميدان صفين على رأس أحدهما توفيق الحكيم وزكي مبارك. . .؟
ما الرجل؟ وما المرأة؟ أليسا نصفي شيء واحد هو الإنسان؟ وهل يستطيع هذا الإنسان أن يتحرك إذا شل نصفه؟
إن الرجل ليس رجلا إلا لأن هناك امرأة، فهما متقابلان لا وجود لأحدهما دون الّاخر، وليست المرأة إلا شريكا للرجل له قيمته، وليس من الرجولة أن تنتقصه ونتنكر له!
فإذا كان من يتسمون أعداء المرأة يريدون أن يحاربوا عيوبا تتصف بها، ونقائص جرت أو طرأت عليها، فليس السبيل لذلك إيذاء شعور الكرائم وجرح نفوسهن بتلك المهاترات، إنما السبيل هو الذي يسلكه ذوو الألباب من التنديد بالنقائص والعيوب والدعوة إلى نبذها والتجمل باضدادها، كما يصنع الأستاذان الطنطاوي وسيد قطب في (الرسالة) الزاهرة(699/21)
وليس للرجل أن يعيب المرأة - من حيث هي امرأة - لنقائص في جنسها، أو لأن أفرداً منه حادوا عن الجادة، فالرجال في ذلك كالنساء، بل إن من الرجال من لا تستطيع اشد النساء إمعانا في الخزى أن تبلغ شأوه في هذا المضمار، وهم المتشبهون ببها. . . ومن يتخذونهم بدلا منها. . . ومع ذلك لم نسمع أن امرأة نودي بها أو نادت بنفسها عدوة للرجل. . .!
فعداوة الجنس برمته لا موضوع لها إلا أن يكون القصد منها الترويج والتهريج والتظاهر بأعجب البطولات!
رؤيا لم تقص:
رأى أحد الأشرار في نومه أنه قتل رجلا، ولم يستطع الفرار؛ فوقع في يد الشرطة، وقدم إلى المحاكمة. وحكم عليه بالاعدام، وحل وقت التنفيذ، واتى به إلى المشنقة؛ وبينما كان الرجل سابحاً بفكره في رؤياه دخلت زوجه لتوقظه، وفي اللحظة التي وصل فيها إلى أن كان الجلاد يعد له حبل المشنقة - لمست يد الزوجة عنقه، فقامت هذه اللمسة مقام الحبل في التأثير في الرجل. . . ففاضت روحه.
مهلاً قارئ (الرسالة)، فأنا أعرف فطنتك، وما يقاس ذكاء مثلك بمثل هذه الحكاية، فلا أخالك إلا سائلا: وكيف عرف أن الرجل رأى هذه الرؤيا وقد اتصل نومه بالموت فلم يقص رؤياه على أحد. .؟!
وبعد، فقد قرأت قصة (قطر الندى) للصديق القديم الأستاذ محمد سعيد العريان التي ظهرت في سلسلة (اقرأ)، وهي قصة ممتعة جلاها أسلوب العريان الطلي وحلاها براعته الفنية، ولكني وقفت فيها عند رؤيا لم تقص. . . لست ادري كيف عرفها الأستاذ العريان؟!
ذلك أن (أم آسية) حاضنة قطر الندى بنت خمارويه بنت أحمد ابن طولون - رأت في ذات ليلة أنها في قصر عظيم تزف فيه قطر الندى بنت ملك المغرب (خمارويه) إلى ملك الشرق (الخليفة العباسي)، وكأنها (أم آسية) أم العريس، وقد أفسحوا لها حتى دخلت إلى دار الحرم فشاهدت قطر الندى جالسة على سريرها. . . وحملها أريج البخور على جناحين من لهب إلى السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح. .!
وقصت رؤياها على سيدها خمارويه راجية منه أن تكون ماشطة الأميرة يوم زفافها. . . ثم(699/22)
كبرت الأميرة. . . وهيئت للزفاف إلى المعتضد، وسار ركب العروس من مصر إلى العراق. وفي بعض منازل الطريق نامت أم آسية ماشطة العروس ذات ليلة، فرأت تمام الرؤيا التي بدأتها في منامها منذ سنين. . . حملها الأريج إلى السماوات، وسمعت هذه المرة صيحة الصائح. . . عرفته وفهمت عنه، رسول من مصر يهتف بنبأ مروع. . . قال الأستاذ: (وطوت صدرها على السر فلم تكشف لأحد عن خبره). وقال: (واشتد بها الوجع ذات ليلة في بعض منازل الطريق، وأصبحت ميتة لم تكشف عن سرها ولم تتحدث إلى أحد برؤياها!)
وعرفنا من حوادث القصة بعد ذلك أن تمام الرؤيا قد تحقق كما تحققت بدايتها، إذ كان النبأ المروع أن غلمان خمارويه وثبوا عليه فقتلوه!
ولا شك في أنك الآن مشاركي العجب من معرفة الأستاذ العريان رؤيا أم آسية الثانية وهي لم تتحدث إلى أحد بها! اللهم إلا أن يكون قد رأى أم آسية في نومه فأفضت إليه بالسر الذي طوته حقبا من الدهر. . .؟
في تعليم للغة العربية:
كتب لأستاذ عادل الغضبان في مجلة الكتب الصادرة في أكتوبر الفائت مقالا بعنوان (اللغة العربية بين المعلم والطالب) بين فيه ما رآه من أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، ووزع التبعة في ذلك بين الطالب والمعلم ولمنهج، فالطالب منصرف عن الدرس مقبل على مطالعة صحف المتعة والتسلية، والمعلم مرهق بكثرة العمل مشغول بأسباب معاشه في عصر كثرت فيه المطالب والنفقات، وقد أفاض الأستاذ في هذه النقطة فانصف المعلم ودعا الدولة إلى رعايته وتقديره
وتلك أسباب لضعف الطلبة في جميع المواد لا في اللغة العربية وحدها، ويظهر أن الكتاب، لغيرتهم على اللغة العربية وتشبعهم بحبها، يقصرون إلى الكلام عليها حينما يتعرضون لشئون التعليم من حيث انخفاض المستوى العلمي للطلبة مع أنه يكاد يكون على سواء في جميع المواد
أما كلام الأستاذ في المنهج، فقد تضمن ما نخالفه فيه، عاب معالجة المنهج المشحون بالحذف والتبسيط، ولكنه لم يقل بم يعالج، فمن المعلوم أن ازدحام المنهج بالمواد يتخم(699/23)
الطالب ويعسر عليه هضم المعلومات، فبم يعالج إن لم يكن بنقصه وتسهيل صعبه؟
وحمل على التبسيط فقال: (ولقد عمت موجة التبسيط كل مقومات اللغة، فتناولت اللفظ والأسلوب والصرف والنحو والبلاغة والأدب. فبدت اللغة العربية لذهن الطالب بعد ذلك التبسيط شجرة جرداء مقلمة الفروع جافة الغصون). وقال: (إن هذا التبسيط يبعد الطالب عن الأساليب القديمة البليغة). إلى أن قال: (واعجب العجب ما قرأناه أخيرا من أن أستاذاً في الجامعة يملي عليه تلامذته تفسير القران باللغة العامية)
والذي أراه أن أستاذ الجامعة يسف في التسهيل والتقريب، والأستاذ عادل الغضبان يوغل في البعد عن مدارك التلاميذ، ومن أسس التربية المفروغ منها وجوب البدء بالسهل ثم الانتقال منه إلى الصعب ثم إلى الأصعب، ولكن الأستاذ عادل يريد أن يصدم الأذهان الغضة بالأساليب القديمة البليغة، وأستاذ الجامعة ينتهي بالجامعيين إلى ما هو دون ما يجب أن يبدأ به، فالتلميذ يبدأ في السنة الأولى الابتدائية بالمحادثة العربية وينتهي في الجامعة بالبلاغة العامية. .!
ويغالي الأستاذ عادل في بيان قيمة القواعد ويرى الإكثار منها في المدارس، ولم يول اللغة نفسها أي الكلام العربي شيئا من الاهتمام مع أنه هو الغاية المنشودة، والأجدى في الوصول إلى هذه الغاية أن نعرض الكلام نفسه مكونا مركبا على الناشئ بمختلف الوسائل، ليدركه ويتذوقه وينطبع مثاله في ذهنه، قبل أن نحشوه بتلك القواعد التي تحلل الكلام وتفككه. وبهذا نحقق فائدتين: الأولى تكوين ملكة لغوية يقتدر بها الناشئ على التعبير الفصيح وتذوق الأساليب العربية، والفائدة الثانية أن يقبل القواعد بعد ذلك شاعرا بالحاجة إليها لضبط ما عرفه ومرن عليه من الكلام.
ومن مغالاة الأستاذ في هذا الصدد قوله: (أما البلاغة فقد أخنى عليها الذي أخنى على القواعد فبسطت بالحذف دون مراعاة جلال شان الحذف، فقد حذف من أبوابها باب الفصل والوصل ولعله في نظرنا أهم أبواب البلاغة والطريف أن للبلاغة تعريفات جمة منها إنها (معرفة الفصل من الوصل) ولو عرف كثير من الكتاب هذا الباب ووقفوا على أسراره ودقائقه لاهتموا بان يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة ولا تتجافى ألفاظه ولا تختلط فيه حروف العطف اختلاطا متنافرًا متناكراً).(699/24)
وأنا أقول له: إن الكتاب الذين يشير إليهم إن يقرءوا باب الوصل والفصل في كل كتاب من كتب المعاني مائة مرة فلن يأتوا منه في أسلوب بشيء، إنما يعوز هؤلاء - كي يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة. . . الخ. أن يقرءوا الأدب العربي ويفهموه ويتذوقوا ويعيشوا معه حتى يكتسبوا منه سليقة يعرفون بها الفصل من الوصل وغير الفصل والوصل من مقتضيات البلاغة، فالذي افهمه من معنى أن البلاغة هي معرفة الفصل من الوصل إن الكلام البليغ ما يجيء فيه كل من الفصل والوصل في موضعه، فليس المقصود من البلاغة هنا أنها (علم بقواعد).
وفي وسع أي كاتب أن يرد على هذا الكلام بمقال يبين فيه الفوائد التي لا تحصى من دراسة علوم البلاغة، ولكن المحقق أنه لن يفكر وهو يكتب هذا المقال في شيء من قواعد هذه العلوم. . .
وبعد فثمة عامل من عوامل ضعف تلاميذ المدارس في اللغة العربية لم أر أحداً نبه عليه، ذلك أن فروع اللغة العربية من إنشاء وأدب وقواعد وتطبيق ومحفوظات ومطالعة وإملاء وخط - متعاونة كلها متآزرة كأعضاء الجسد. . . الواحد إذا اشتكي فزع منها تداعى له سائر الفروع بالدرجات المكملات للنهاية الصغرى اللازمة للنجاح. . . فالذي يقع من جراء ذلك أن التلميذ يهمل فروعا قد يجهلها جهلا تاما اعتمادا على تلك الوحدة الرائعة. .
فلا نعجب إذا رأيت تلميذا ينجح في امتحانات اللغة العربية وهو لا يستطيع كتابة سطر بأسلوب سليم، لأنه يحفظ القواعد أو يحسن غيرها من بقية الفروع، وقل مثل ذلك الباقي، ولو جعل لكل مادة درجة معلومة لا بد منها للنجاح لاضطر التلميذ أن يصل إلى المستوى الذي يجب أن يكون عليه في كل مادة بجلا من أن نمكن له أن يجهل شيئا بشيء.
عباس حسن خضر(699/25)
فلسفة التعمير في الحياة
للدكتور فضل أبو بكر
وخوف الردى آوى إلى كهف أهله ... وعلم نوحاً وابنه صنعة السفن
وما استعذبته روح موسى وآدم ... وقد وعدا من بعده جنتي عدن
(أبو العلاء المعري)
التشبث بأهداب الحياة أمنية كل إنسان، بل هو هدف جميع المخلوقات من الأحياء، وهي ليست أمنية أو محض رجاء، بل هي سعي وكفاح أزلي دائم بين تلك الأحياء تتنازع فيه من أجل البقاء ولأجل البقاء، فينتصر في هذا العراك الأقوى ويحرز النصر الأصلح على حساب الضعيف الذي لا تعد له الطبيعة حسابا، كما سمعت صيحة أزلية داويه يتجاوز صداها في خلال القرن (الويل للضعيف)! وتنازع البقاء هذا هو علة العلل - هو سبب الويلات الحروب التي يشنها الأفراد كما تشنها الأمم بعضها على بعض من حين إلى حين كلما اشتدت وطأة هذا التنازع، كما تشتد وطأة البراكين فتثور ثائرتها وتقذف حممها وهذا التنازع يغري بالأثرة ويوعز بالأنانية التي تعد من أقوى الغرائز المستأصلة في الإنسان، وقد يخفف من وطأتها ويهذب بعض الشيء من شراستها القوانين الأخلاقية وما انزل من السماء من كتب مقدسة تحث على الإيثار وتندد بالأثرة، ولكن هيهات! إذ الطبع يغلب على التطبع، والغرائز لا يمكن استئصالها وان كان من المحتمل تهذيبها
ألم يأتك نبأ ألام وقد خرجت من دارها مذعورة تحمل وحيدها على ذراعيها لما طغى الماء وهدد بالطوفان؟! كانت ترفع فلذة كبدها إلى أعلى رويداً رويداً كلما زاد طغيان الماء وعلا منسوبه ولما قارب الماء وجهها رفعت الابن إلى هامت رأسها، وما أن أدرك الماء الوجه منها وهددت بالأختناق والغرق، حتى ألقت طفلها في القاع لكي تعلو عليه فيقيها شر الخطر المحدق ولو إلى حين! ضحت بابنها لكي تنجي نفسها ولم تضعه في تابوت مريح وتسمي عليه كما فعلت ام موسى، وكما يقول المرحوم شوقي بك في إحدى قصائده:
كأم موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليم تلقينا
وقد يبدو من تصرف تلك ألام كثير من الأنانية، غير أن غريزة حب النفس طغت على عاطفة الأمومة، وهل عاطفة الأمومة نفسها إلا جزء من غريزة حب النفس؟! فالأم تحب(699/26)
ابنها لأنه جزء منها ولأنه عزاء لها بعد مماتها إذا قدر لها أن تموت قبله، فهو موصل ومكمل لتلك الحياة.
كل ذلك كما أسلفنا سببه تنازع البقاء وطلب الخلود حتى الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر وقد أفعم الأيمان قلوبهم وزهدوا عن حطام الدنيا تراهم يعزون أنفسهم - وقد علموا ألا خلود في الحياة - بأن الحياة ما هي إلا طيف خيال، وان وراءها الدار الآخرة الباقية، فالبقاء هو الغاية في كلتا الحالتين.
فالإنسان يطمع إذن في خلود نسبي، إذ لا سبيل إلى المطلق في هذه الدنيا (وما لا يدرك كله لا يترك جزؤه). فهو يرجو بعبارة أخرى أن يطول عمره إلى أقصى حد ممكن. لهذا أريد أن أوضح باختصار بعض الطرق المؤدية إلى التعمير، وهي طرق نفسانية غير الطرق الطبية والصحية المألوفة مع اعتقادنا بأنه (لكل اجل كتاب). وهذه الطرق هي كالآتي:
1 - الاعتقاد في طول العمر والاختلاط الدائم بالشباب.
2 - نبذ عواطف البغض والحسد والغضب.
3 - الأيمان بالله والاعتقاد في البعث والخلود.
1 - الاعتقاد في طول العمر:
أن نؤمن بحقيقة أن بعض الناس منذ بدء الخليقة وفي كل زمان ومكان قد بلغوا من العمر عتيا وتتناقل أخبارهم الناس في شيء من الاستغراب والغبطة، غير أن عملية الإحصائيات لم تنظم إلا متأخرا نسبيا. ولنذكر بعضا من أولئكم المعمرين على سبيل المثال:
روى المؤرخ الروماني (بلين) (23 - 79م) أن عمل في ذلك الوقت إحصاء في شمال إيطاليا، وكان محصورا في ثلاثة ملايين نسمة وجدوا بينهم أكثر من 170ممن عاشوا بعد الماية عام. كما روى المؤرخ (استراين) إن بعضا من سكان البنجاب زادت أعمارهم على المائة. كما ذكر الشاعر الإغريقي (أنا كريون) أن ملك قبرص في ذلك الوقت واسمه (سنجراس) بلغ من العمر 160سنة. كذلك يقول العالم الفسيولوجي (هالر) في كتابه (مبادئ الفسيولوجي) أن المتوسط لعمر الإنسان يمكن أن يبلغ 200عام - وعمل إحصاء في مدينة بوينس ايرس بأمريكا الجنوبية سنة 1896 فوجدوا أن أحد السكان واسمه (برونو) بلغ(699/27)
عمره 150سنة. وعملت أيضاً إحصائيات بالولايات المتحدة سنة 1890 أسفرت عن وجود 3891 من المعمرين الذين عاشوا بعد الماية عام إلى غير ذلك من الإحصائيات.
هذا، وقد ذكر العلماء مثل: هاملر وبلاندن وجريفز أن بعضاً من المعمرين تنبت أسنانهم للمرة الثالثة، وأن امرأة هرمة ربا عمرها عن 110 عام عادت إليها أسنانها للمرة الثالثة كما تبدل بياض شعرها سواداً. والبعض منهم يحتفظ بقواه العقلية والجسمية بدرجة تمكنه من إدارة شؤونه. فوليم جلادستون مثلا الذي كان لزعيم الأحرار البريطاني، والذي كان زميلا ومعارضا لدزرائيلي زعيم المحافظين في ذلك الوقت بلغ جلادستون من عمره التسعين، ومع ذلك كان محتفظا بقوة عقله وجسمه، وكان يمارس قطع الأخشاب كغية في وقت فراغه، وهو عمل شاق حتى على الشبان.
كان يلذ للناس منذ قديم الزمان ويسترعي فضولهم أن يسألوا المعمرين عن سر تعميرهم، وهل عثروا على حجر الفلاسفة وأكسير الحياة؟! وكانت الأجوبة في كثير من الأحيان لا تروي ظمأ ولا تشفي غليلاً، بل كان فيها أحياناً شيء من التناقض، مثال ذلك ما يرويه الفرنسيون على سبيل التندر عن بعض المعمرين من سكان بريتانيا في شمال فرنسا. سألوه ذات مرة عن السر في طول عمره؟ فأجابهم بشيء من التحدي: (إن السر في ذلك بسيط جداً. كنت إذا ما أكثرت من شرب الخمر رجعت فأكثرت من التدخين، وإذا ما أكثرت من التدخين عدت لأدمن الخمر وهكذا دواليك). والمفروض في هاتين المادتين، أي الخمر والتبق، هو ضررهما بالجيم لا سيما في حالة الإدمان. غير أن الذي يشاهد في معظم الأوقات أن اغلب المعمرين كانت حياتهم هادئة نسبيا قليلة الهموم والعواطف المؤذية مثل الغيرة والحسد والبغض. وقد قال بعض علماء الصحة - في شيء من المبالغة - إن الإنسان لا يموت موتا طبيعياً، ولكنه ينتحر لإسرافه وعدم مراعاته الاعتدال الذي هو أهم العوامل لصيانة الجسم. فالإفراط ماديا كان أو نفسياً يعود على الجسم بإضرار بليغة؛ كما أن الكثير من الناس يتعاطى من الطعام ثلاث أضعاف ما يلزمه، ومن هنا نشاهد نسبة التعمير بين الفقراء ومتوسطي الحال تفوق نسبتهم بين الأغنياء المترفين. وليس خطأنا فيما يتعلق بالأطعمة محصورا في (الكم) ولكنه يشمل (الكيف) من حيث تحضير الأطعمة. نتفنن في طرق طبخها ونبالغ فيه، وفاتنا أن كثرة الطهي تفقد الأغذية كثيرا من قيمتها(699/28)
الغذائية، كما أن المواد الحية من حيوان أو نبات هي أفيد لصحتنا وأجدى لإحياء أجسامنا. خذ مثلا بعض سكان النرويج وسيبيريا الذين يعيشون في اغلب الأوقات على المواد النيئة من حيوانية مثل السمك والقواقع وغير ذلك مما يلفظ البحر، ونباتية مثل الفواكه والخضراوات والبقول نجد نسبة المعمرين مرتفعة عند تلك القبائل. وقد استرعت هذه الخاصية أنظار العلماء والفلاسفة منذ عهد بعيد. ويذكر الفيلسوف العالم أرسططاليس أن بعض التماسيح تبلغ من العمر عتياً، وقد يمتد بها الأجل إلى أكثر من 500 عام، ومن أهم الأسباب المؤدية لطول أعمارها - كما يزعم - هو كوننها تتغذى على الأحياء المائية من نبات وحيوان.
أما الاختلاط الدائم بالشباب الأقوياء، وكونه مؤدياً إلى الاحتفاظ بالشباب، فقد أقر هذه الحقيقة القدماء ونوه بها بعض الفلاسفة والعلماء مثل جالينوس؛ وكذلك الفيلسوف الإنجليزي (روجر بيكن). وقد قال في ذلك: (إن هنالك أرواحا وإشعاعا ينبعثان من الإنسان الشاب القوي، ويكون فيهما شفاء للمريض، وتجديد لشباب من ولى عنه الشباب وعلا مفرقه المشيب). والواقع أن هذه الظاهرة النفسية الحيوية قد أثبتها العلم الحديث ووجد لها تعليلاً بيولوجيا بواسطة الاهتزاز والذبذبة الخلوية 114 واثبت عمليا وجود مثل هذه الذبذبة بواسطة أجهزة بلغت منتهى الإتقان والحساسية، وكلما كان الجسم قويا شابا كانت الذبذبة أكثر نشاطا، ومجموعة الاهتزازات والذبذبة المنبعثة من الخلايا الحية تكون ما يسمونه (بالإشعاع الحيوي) وهذا الإشعاع إذا ما صادف - بالقرب منه - جسماً هرما وهزيلا احدث فيه اهتزازا قويا لخلاياه بواسطة الجذب الكهربائي المغنطيسي.
وقد استخدم بعض العلماء ظاهرة الإشعاع الحيوي وما ينتج عنه من جذب مغنطيسي كهربائي لإعادة الشباب منها طريقة (جاورسكي) بواسطة حقن دم شاب قوي الآخر معتل الصحة أو متقدم في السن على شرط أن تكون الدماء من نفس النوع والفصيلة لكيلا تحدث تفاعلات مؤذية للجسم. وهناك طريقة أخرى هي طريقة (فورونوف). وهي تطعيم الجسم بخلايا وأنسجة من جسم آخر وهي نوع من الترقيع الجسمي وليس من النادر أن نشاهد فتاة زوجت من شيخ، وهذا كثير الحصول عندنا في الشرق، إذ عامل الجاه والغنى يلعب دوراً كبيراً في مثل هذه المناسبات. فنلاحظ أن الزوجة الشابة تذبل قبل اوانها، بينما تبطأ(699/29)
خطوات الشيخ نحو الهرم والمشيب، والسبب في ذلك هو ما أسلفنا من شرح. وحتى من المتداول بين عامة الناس أن الشيخ إذا تزوج من شابة (شرب أنفاسها).
2 - نبذ عواطف البغض والحسد والغيرة:
الحسد داء عضلي يفسد الأود وينهك الجسد. هو أخبث مكروب يؤدي بحياة صاحبه، وقد قام بعض علماء النفس بإحصائيات دقيقة، فوجدوا أن كثيرين ممن أصيبوا بهذا الداء لم يعمروا كثيرا إذا استثنينا بعض الشواذ (يعجل الله بالأحياء) أو كما يقال بالفرنسية , ولكن في الغالب الوضع كما أسلفنا. والحسد يسبب البغض والغضب عن الغير لما أصابوا من نعمة أو ما حصلوا عليه من جاه، وهذه العواطف الذميمة تؤثر تأثيراً سيئا على سائر أعضاء الجسم ولا سيما الجهاز العصبي فتتوتر الأعصاب ويعتريها التعب من فرط التهيج والانفعالات، كما تتأثر بقية الأجهزة لخضوعها المباشر للجهاز العصبي فيحدث بالجسم ضرراً بليغا. وقد أجاد بعض شعراء العرب في وصف مفعول الحسد فقال:
أصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
وكثيراً ما يكون الحسد سببا في إفساد العلاقة الودية بين أفراد العائلة، كما يفسد صحة أولئكم الأفراد. وقد قص علي صديق فرنسي مأساة مؤداها أنه تعرف بعائلة كريمة كانت في رغد من العيش، وتتكون من أبوين وأربعة بنات يربط أفرادها حب عائلي وثيق. تزوجت الكبرى بمهندس دمث الأخلاق موفق في جميع مشاريعه واعماله، فمهرها أبوها مهرا عالياً - كما هو الحال عند الغربيين - وجهزها بكل ما تحتاج اليه، كما قام بنفس الواجب نحو باقي البنات. نجح المهندس زوج الكبرى وازدهرت أعماله وتضخمت ثروته بعكس ما وصلت إليه حال بقية الأزواج، فقد ساءت لحد بعيد، وذلك بسبب سوء تصرفهم أو سوء حظهم أو كليهما معا. دب الحسد في قلوب الأخوات الثلاث نحو الأخت الكبرى وصرن يتقولن عليها ويرمينها وزوجها بالبخل والتقتير حينا وبالكبرياء أحياناً، وأن زوجها من عائلة وضيعة، وأنه جمع ثروته سحتا عن طريق التزوير؛ وأصبحن لا شاغل لهن غير التعرض لأختهن وزوجها، وتسبب في نفوسهن ما يشابه (العقدة النفسية) من جراء هذا الحسد، فماتت إحداهن في سن مبكرة لم تزد على السادسة والعشرين كما قضت(699/30)
الأخرى نحبها في سن الثامنة والعشرين بأمراض عادية أخف وطأة - فيما اعتقد - عن مرض الحسد الذي قصر عمريهما. أما الصغرى فقد انتحرت نتيجة مشاجرة مع زوجها. هذا مثل بسيط سقته على سبيل الاستشهاد، وان كانت الحياة اليومية ملأى بمثل هذه المآسي المحزنة.
3 - الأيمان بالله والاعتقاد بالبعث والخلود:
لا جدال أن الأيمان بالله وباليوم الآخر فيه طمأنينة للنفس على عكس الشك والحيرة في أمر الإله، فهو مدعاة للقلق والخوف والخوف مضر بالجسم وقد يسبب الموت إذا اشتدت وطأته فيسبب للجهاز العصبي ما يسمى (بال) أي يوقف حركته، ومن المتعارف بين الناس أن الخوف مميت بخلاف من يؤمن بالله وبالبعث فيقل خوفه من الموت ومن التفكير في شانه ويهون عليه بعض الشيء فراق الحياة، إذ يعزي نفسه بالأخرى وهي خير وأبقى. ويقول بعض علماء النفس أن قوة أيمان الصالحين والقديسين وعدم مبالاتهم كثيرا بالموت كل ذلك له بعض الدخل في تعميرهم.
أما مسالة الخلود - أي خلود الأرواح - فقد نوهت عنه الأديان كما حاول إثباته نفسيا علماء الروح وعلميا أساتذة الطبيعة، فالذي يموت في الإنسان إنما هي مادته وليست روحه التي تفارق تلك المادة، وحتى الموت نفسه لا يستطيع فناء تلك المادة لان المادة خالدة لا تفنى، ولكنها تتحول إلى عناصرها الأولية التي تحفظ في الطبيعة، فالحياة بعبارة أخرى ما هي إلا مجموعة الذبذبة والاهتزاز الخلوي كما سبق ذكره، وهذه المجموعة هي إحدى القوى الطبيعية مثلها مثل قوة الجاذبية والدوران، والقوة الكهربائية من حيث إنها قوة كلها من أصل واحد هي أي من اصل كوني. والقوى كالمادة لا تفنى، ولكنها تتحول من نوع إلى نوع آخر على حسب العوامل التي تسيطر عليها. كذلك الروح , كما يسميها النفسيون والقوة الحيوية كما يسميها الطبيعيون ليست فانية، وإنما هي موجودة ومحفوظة في الكون.
ذكرنا كذلك إن الجسم لما تفارقه الروح أو القوة الحيوية أو بتعبير آخر يموت صاحبه تنهدم مادة الجسم وتنحل إلى عناصرها الأولية، وهذه العناصر موجودة ومحفوظة في الكون أيضا، ومن المعقول جداً أن يعود الجسم مرة ثانية ويبعث من جديد بائتلاف عناصره(699/31)
الأولية مرة أخرى، إذ الحياة ما هي إلا حلقة من بناء يعقبه هدم ثم يعقبه بناء وهكذا. وإذا ما عاد بناء الجسم من جديد جذب إليه روحه التي فارقته بواسطة نوع من الجذب المغنطيسي الكهربائي إذ كل روح تنجذب إلى جسمها الذي فارقته، وشبيه الشيء منجذب إليه.
فضل أبو بكر(699/32)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 33 -
عود إلى الشعر:
وانطوى ربيع الأليزابيثين فكان في ألحانه التي احتبست بانطوائه تلك المقطوعات، وظل الحال كذلك حتى جاء ملتن في صيف البيوريتانز، فغنى في طلائع ذلك الصيف الحان الربيع الراحل؛ وجدد الطائر المختلف لحن هاتيك المقطوعات. وكان ملتن يحب إيطاليا فازداد حبا لتلك المقطوعات في أول عهده بالشعر وهو جنة الشباب وريعانه؛ وكيف لا يتغنى شاعر مثل ملتن بهذا الضرب من الأغاني وفي فسه من الخواطر وفي خصائص شعره من الموسيقى وسحر اللفظ ما يجعه كأنما خلق لهذا الغناء وحده. على أنه كان مقلا فله تبعث على كثير من الأسف، وذلك لانشغاله بأمور الدين والسياسة وان كانت أكثر مقطوعاته وليدة هذا الانشغال
ولكنه على إقلاله قد أضاف إلى تاريخ تلك المقطوعات فصلا ممتعا رائعا في أدب قومه. ولقد كانت مقطوعاته من بعده كالوحي لشعراء القرن التاسع عشرة من قادة المذهب الابتداعي وفي مقدمتهم وردثوث الذي اعجب إعجابا شديدا بمقطوعات ملتن ودأب على محاكاته، ويتضح هذا الإعجاب في مقطوعته التي بدأها بقوله:
(أي ملتن، إنه لينبغي أن تكون موجودا في هذه الساعة، فإن انجلترة في حاجة إليك)؛ والتي وصفه فيها بان نفسه كالكوكب في سموه ومنعزله، وان له صوتا ينبعث كما ينبعث صوت البحر، طاهرا كالسماوات الصافية العارية عليه سماء الجلالة والحرية، وإنه خالد ينتقل مسافرا في طريق الأبدية. وقد تبع وردثورث في إعجابه بملتن بيرون وكيتس(699/33)
وبروننج وأرنولد وروزتي وتينسون، ولهذا الأخير مقطوعة رائعة تغنى فيها بمجد ملتن بدأها بقوله: (يا ذا المقول القدير، يا مبدع النغمات والألحان، إيه يا من وهب المهارة ليغني للزمن أو الخلود، يا من هو لإنجلترا صوت أرغنها جاءها هبة من الله. . . ملتن هذا الاسم الذي سوف يرن في مسامع الأجيال)
وليس بين ما تغنى به مللتن من مقطوعات وبين ما أوحت به مقطوعاته إلى هؤلاء الأفذاذ الذين افتتنوا به شيء يذكر من هذا الضرب من الغناء، وهذه هي القيمة التاريخية لمقطوعاته وخطرها في أدب قومه
لم يترك ملتن إلا أربعا وعشرين مقطوعة، منها خمس من نظمها بالإيطالية، ويرجح نقده الأدب إنه نظم هذه الخمس أثناء مقامه بإيطاليا، وهي من أغاني الحب، وجهها الشاعر الشاب إلى غادة إيطالية من بولونا سحرته بسمرة محياها وبمقلتيها الدعجاوين اللتين افتتن بهما لأنه كان بهذا الدعج مولع كما قال، وبصوتها الحلو وغنائها المطرب الذي هو كفيل أن يسحر القمر السابح؛ وقد تغنى الشاعر بجمال فاتنته وشكا من قسوة قلبها عليه كما يشكو الشباب في أول عهدهم بالحب!
أما عن الطريقة التي حري عليها في نظم هذه المقطوعات الخمس، فإن اثنتين منها جاءتا وفي الطريقة الإيطالية، وجاءت الثلاثة الباقية مزيجا من الإيطالية والإنجليزية على صورة اتبعها ملتن ذلك الذي كان كثيرا ما يحب أن يتخلص من الأوضاع المتعبة والقيود
والذي يعنينا في الواقع هو مقطوعاته الإنجليزية، ونحب قبل أن نتحدث عن مادتها وعن قيمتها أفنية أن نشير إلى ما اتبعه الشاعر في نظمها، لأنه لم يجر فيها جميعا على طريقة واحدة، إذ إنه لم يتقيد بالطريقة الإيطالية فيها جميعا ولا بالطريقة الإنجليزية أو الشكسبيرية، وإن كان فيها محافظا أكثر منه مجددا
ويمكن القول بوجه الإجمال إنها جميعا أقرب إلى الطريقة الإيطالية إلا الحادية عشرة منها، وهي جميعا إيطالية الصدر أو الفاتحة، وهي كذلك جميعا إيطالية الخاتمة ما عدا الحادية عشرة، فهي في خاتمتها مزيج من الإيطالية والشكسبيرية؛ بيد أن ملتن لم يتقيد في بعضها بإحداث تغير في القوافي بين الفاتحة والخاتمة بل تركها تنساب كما هي بعد السطر الثامن. ونستطيع أن نقسم مقطوعات التسع عشرة على النحو الآتي: تسع إيطالية من جميع(699/34)
الوجوه، وثمان إيطالية ولكن بغير فاصل بين الفاتحة والخاتمة، وواحدة هي الحادية عشرة بين الإيطالية والإنجليزية، وهي التي وجهها إلى كرمول، وواحدة هي التاسعة عشرة أو الأخيرة ذات ذيل بعد خاتمتها. ولم نشر من قبل إلى هذا النوع الأخير، فنقول الآن: إن هذا النوع المذيل ليس من ابتكار ملتن، ولكن وقع مثله في مقطوعات الإيطاليين، وإن كان مما ندر، فإن بعض الشعراء كانوا يضيفون سطرين أو خمسة إلى الأربعة عشر سطراً التي تتكون منها المقطوعة إذا لم يستطيعوا أن يعبروا عن المعنى كله في هذا العدد من الأسطر، وكان يعد هذا الضرب معيباً ضعيفاً ولذلك قلما لجأ أليه الشعراء. ولم يخيل من هذا الضعف كلتن نفسه في ذلك الذيل الذي أضافه إلى مقطوعته الأخيرة: (إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل)، ففي هذا الذيل ما ينبو عن الذوق من خشونة وعامية وتلاعب باللفاظ.
أما عن مادة هذه المقطوعات، فيجدر بنا أن نذكر ما سلف به القول من أنها قيلت في مناسبات، ولذلك جمعت بين الخواطر السياسية والدينة والوطنية وما يتصل بالرثاء والحب والمسائل الشخصية. وكانت المقطوعات قبل ملتن تدور على الحب، وندر فيها ما خرج عن هذا المجال سواء عند الإيطاليين وعند الأليزابيثيين ولذلك مال بعض نقدة الأدب إلى استصغار شأن المقطوعات على العموم ونظرهم إليها نظرتهم إلى التافه من الأشياء، فهي عندهم من مظاهر العبث واللعب وملء الفراغ بما لا يجدي، وليس فيها صدق ولا علم ولا فائدة من أي نوع. ولعل لهؤلاء بعض العذر فيما ذهبوا إليه، فإن شعراء الشباب كثيراً ما كانوا ينظمون خواطرهم في مقطوعات وليسوا جميعاً مجيدين فشاع فيها الضعف والفسولة، ولكن قدراً منها كان محكم السبك رائع المعنى صادق العاطفة جليل الشاعرية كما يتبين في أكثر مقطوعات سبنسر وفي مقطوعات شكسبير جميعاً على كثرتها. إذ قد بلغت مائة وخمسين مقطوعة، وما جعل بعض النقاد يحتقر شأن المقطوعة كضرب من ضروب الشعر إلا سامهم من نغمات الحب الشاكية الباكية في معظمها، وظنهم أنها ما نظمت إلا على على سبيل اللهو وإبراز المقدرة على النظم، فإن كان في بعضها شيء من الصدق، ففيها كذلك كثير من المبالغة والكذب!
وجاء ملتن فخرج بالمقطوعة عن مجال الحب وجعلها لكل ما يخطر على قلبه، فاكتسبت(699/35)
المقطوعة على يده قوة وخطراً وطبعت بطابع الصدق والإخلاص وجرت فيها إشارات إلى أمور تتصل بالعلم أو بالفلسفة فألبسها ذلك كثيراً من الجد والفائدة وليس هذا الاتجاه بالأمر الهين في تاريخ المقطوعة إذا ذكرنا أنه أوحى إلى شعراء القرن التاسع عشر أن يحذوا حذوه، فكان لمقطوعاتهم في الحرية والسياسة وانتقاد عيوب المجتمع وأشباه ذلك من المسائل قيمة عظيمة وأثر بعيد في القلوب والأذهان ما كان يتفق لها لو أنها اقتصرت على التغني بمعاني الحب والجمال. ويتجلى أثر ملتن في هذا التوجيه في مقطوعة وردثورث التي أشرنا إليها والتي يقول فيها شاعر القرن التاسع عشر: إن انجلترة في حاجة إلى ملتن؛ والتي يذكر فيها شكواه قائلا: (نحن قوم طغت علينا الأنانية، وارفعنا وأمددنا بالمثل في الآداب والفضيلة والحرية والقوة)
ويحس من يقرأ مقطوعات ملتن أنها نفثات نفس عظيمة وهمسات روح قوية، وهي على قلتها زاخرة بفيض من الخواطر، ويرجع ذلك إلى طبيعة المقطوعة في بنائها كما يرجع إلى مقدرة ملتن العظيمة على الإنجاز البليغ الذي جعله يعبر بالكلمات القلائل عن المعنى الواسع الكثير الوشائج، وهي مقدرة جعلها وكولى من أبرز خصائص شعره، بل جعلها خاصته التي يمتاز بها من أكثر الشعراء، وهي من الزم الصفات كما ذكرنا لبناء المقطوعة
وحسبك أن تقرأ في هذه المقطوعات العاطفة الرقيقة التي تعبر عنها النغمة الهادئة الرخية كأنها نسمات الفجر، إلى جانب الصرخة الصاخبة المدوية كأنها هياج العاصفة أو اصتخاب الموج، لتعرف كيف استطاع ملتن أن يجعل من المقطوعة شيئاً آخر قوياً مهيباً له خطره وأثره، وتجد مثالا للأولى في إشارته إلى ما أصابه من عمى وفي توجده على فقد زوجته الثانية، وتجدمثالا للثانية في غضبته لمذابح بيدمنت وجملته على مستكرهي الضمائر من البيوريتانز، وفي سخريته ممن انتقدوا كتيباته من خصومه. وبين هذا وذاك تقع على نغمات تتصف بالقوة والجلال وهي التي مجد بها أبطال قومه مثل فيرفاكس وكرمول، والتي دافع بها عن الحرية الدينية والسياسية
بهذه الصفات وأمثالها رفع ملتن المقطوعة مكاناً عالياً، فلم تعد كما كانت أغنيات غرامية رائعة أو مائعة، وإنما أصبحت هتاف شاعر يهيب بقومه إلى جانب كونها خلجات نفس تتألم وتتفجع كسائر النفوس، وما من أصدق وأجمل كلمة وردثورث التي وصف بها(699/36)
المقطوعة على يد ملتن إذ قال: (لقد أصبحت هذه بوقاً في يديه)
ولئن خرج ملتن بالمقطوعة عن نطاق الإليزابثيين ومن قبلهم من الإيطاليين، وأتخذ منها أداة لخواطره السياسية والاجتماعية إلى جانب خطراته المنحصرة في حياته الشخصية، فإن تمكنه وصدقه قد جعلا لمقطوعاته السياسية والاجتماع من الجمال والسحر ما تسمو به إلى مستوى الآثار الأدبية الرفيعة، وأعانته ضلاعته على أن يلبس الآراء السياسية لباس الأدب الصحيح، ويضفي عليها رونق الفن وروعته وهو عمل يستعصي على من لم يكن له مثل عبقريته. ولما كانت المقطوعة عند الإيطاليين والإليزابثيين شكاة في الأكثر من حبيب قاس أو من ضنى الحب وسهده ووجده فقد الفتها النفوس في هذا المجال وان كان قد تطرق إليها بسبب هذا الفتور والصنعة حتى استصغر شأنها بعض النقدة كما أشرنا.
ويعد خروج ملتن بها عن نطاقها جرأة في الفن تنهض دليلا على فحولته وصدق شاعريته يضاف إلى ما توافى له من أدلة وذلك فضلا عن كونه فتحاً في تاريخ المقطوعة صار له ما بعده.
ولقد أشرنا إلى أكثر هذه المقطوعات كلا في موضعها من سيرته أو في المناسبة التي نظمها الشاعر فيها، وكانت مقطوعته التي ناجى فيها البلبل أول شبابه هي باكورة مقطوعاته الإنجليزية وتليها المقطوعة التي نظمها بعد ذلك بقليل بمناسبة بلوغه الثالثة والعشرين من عمره، وكلتاهما من المقطوعات التي تدور حول شخصه، ومن أشهر تلك المقطوعات الشخصية ما ظمه حين أصيب بفقد بصره ثم تلك المقطوعة التي رثى بها زوجته الثانية. أما مقطوعاته العامة فأولها مقطوعة جميلة لم نشر إليها من قبل وهي التي اتخذ عنوانها (حينما أزمع مهاجمة المدينة) وكان ذلك سنة 1643 إذ تهددت جنود شارل مدينة لندن، وهو يخاطب فيها الفرسان ألا يزعجوه في مأمنه وألا يزعجوا الشعر في منعزلة وجزاؤهم على ذلك أن يخلد أسماءهم بثنائه ويشير فيها إلى ما فعله الاسكندر الأكبر حين حطم مدينة مقدونيا فأنه استثنى البيت الذي كان يعيش فيه من قبل الشاعر بندار، وكذلك فعل ليساندر القائد الإسبرطي فأنه أنقذ أثينا من الدمار لأنها أنجبت يوروبيدس وكان القائد قد سمع بطريقة المصادفة شيئا عن شعره. ومن اشهر هذه المقطوعات العامة مقطوعة عن مذابح بيدمنت وتلك التي مجد فيها فيرفاكس ثم تلك التي رفعها إلى كرمول.(699/37)
ولسنا بحاجة إلى كثير من القول لبيان قيمة تلك المقطوعات جميعا من حيث بلاغة الشعر فيها وروعته، فإن خصائص شعر ملتن كما أسلفنا كانت مما يوائم بناء مثل هذه المقطوعات؛ ولقد كانت جزالة اللفظ مع إشراقه وجماله ووجازته وأداء المعنى المراد لا أكثر منه ولا اقل من أبرز خصائص شعر ملتن، وكذلك كان من خصائصه قوة تأثيره في النفوس بما تحويه ألفاظه من رؤى وأطياف وما يتداعى إلى الخاطر عند سماعها من معان وأخيلة كأنما كان للفظة قوة خفية سحرية لا تنكر وان كانت لا تدرك؛ أضف إلى هذا موسيقى عذبة ناتجة من ائتلاف الألفاظ وصوغها وإضافة بعضها إلى بعض على صورة تكسب كلا منها جمالاً لا يكون له غير هذا الوضع وتجعل منها في مجموعها لحنا عجيبا تستشعره النفس كما تستشعره الأذنان، ويرى أكثر النقاد أن هذه الخصائص واضحة في هاتيك المقطوعات لم تشذ إلا في أسطر قليلة أو في كلمات معدودات كانت اقرب إلى لغة العوام في مقطوعة من المقطوعات التي هاجم فيها الشاعر منتقدي فلسفته في الطلاق من خصومه.
(يتبع)
الخفيف(699/38)
عند القمة الأولي. . .
للأستاذ محمد العلائي
(أخي سيد قطب:
كان في حسابك وحسابي أنني سأبعث بهذه القصيدة أو بمثلها من (لندن) ولكن! ضحكت الأقدار وبعثت بها من هذه القرية المصرية الهامدة التي مزقت أهلها متربة الأنفس ومجاعة الأفواه!!. . فهل يأذن أستاذنا (الزيات) وهو والد كريم ولمحتني حق في (رسالته) هل يأذن في أن أشهد على وزارة المعارف المصرية وموقفها من (بعثتي) بعد أن أصبحت حقاً لا يقوى على اغتصابه إلا من أعفي نفسه من الواجب والضمير. أريد أن اشهد على وزارة المعارف وعلى شعورها بقضيتي أولئك الذين مسني عطفهم وعنايتهم من أساتذتي بالجامعة وخارجها ومن أصدقائي الأقربين. . .
وأشهد وزراء المعارف وذوي الأنفس والآراء في المشرق العربي على وزارة المعارف المصرية وكيف أفقدتني الثقة في وطني وبيئتي مما جعل غايتي في الحياة أن اخرج من (مصر) التي أبت على أن اقنع من الدنيا بالماء والهواء وأن يكون عاملا أمينا مخلصا في قضية الحق والخير وان اخدم طائفتي من أبناء الظلام فأعوضهم عن ظلمة البصر نور البصيرة.
فلنحمل وزارة المعارف المصرية تبعة الروائي في هذه القرية أو هجرتي من هذا الوطن الذي لم تشملني وزارة معارفه بذرة من العطب الذي شملتني به وزارتا المعارف الإنجليزية والأمريكية).
(العلائي)
طال عهد النوى فسيروا أمامي ... ودعوني فلن يطول مقامي!
ودعوني فما انتهيت ولكن ... أوهن الخوف والرجاء عظامي
وازدرائي لما أرى لم يدع لي ... أملا في الثرى ولا في الغمام
فرَّق الصحو مهجتي وطواني ... ألم السهد بين قوم نيام
قَّصر العزم خدعة بعد أخرى ... في شعور مفزَّع بالحمام!
كم طويت الشعاب احمل نفسي ... تحت عبء الرغاب قيد الظلام(699/39)
وسقى الشوك في الأجادب مائي ... وترامى على الأفاعي سلامي!!
أستر الفحش في عيون الليالي ... وأداري سفاهة الأيام
أستحث الخطى صباحاً فتبدو ... عثرات المساء في إقدامي
مسرف لا أريد غير بعيد ... يائس تستخفني أوهامي
وبصدري مع الشقاء صراع ... بين حب المنى وبغض الزحام
كنت أهوى امتداد خطوي حتى ... تتوارى مواطن الأحلام
غير أني أحس ضعفاً. . . وهذا ... مجمع الشوق والعواطف دام
وبنفسي تساؤل وملال ... ولجفنيَّ رغبة في المنام
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... هامد الحس من صروف الليالي
من طريق أحلامه عبرات ... في ظلام الكهوف والأدغال
وقطيع دماؤه من صديد ... أفرزته نجاسة الأذيال
حمل الخزى في وجوه عليها ... بصقات الزمان غير مبال
في عظامي تقزز. . . وبنفسي ... غثيان من قوله والفعال
في حماه عشقت سود الأماني ... وشربت القذى طريح الملال
وعدمت الصديق أهفو إليه ... في ذرى شوقه ومسرى اكتمالي
أنزع الشوك من رؤاه. . . ويرمي ... زهرة الشر من رياض انفعالي
نسكب النور في المدى ونوالي ... دوحة الخلد في سكون الكمال
وعدمت الملاك يشرع ذاتي ... في سلام الربى ومجد الأعالي
فوق عرش من المودة يندي ... بشذى رحمتي وفيض ابتهالي
سكنت روحنا إليه وغابت ... في أناجيل من وراء الخيال
ضل عني رجاؤها رغم أني ... صانع الوهم خالق الآمال
واحتواني السكوت رغم لسان ... عرفته مضارب الأمثال
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... انزع الحس من رميم الشقاء
وكأني بهم مقابر موتي ... بعثرتها عواصف الصحراء
وأرى بالعظام جمرة سُخري ... وبأشلائهم قروح ازدراء(699/40)
عَفَن فاح من جماجمهم أهلي ... أشبهت ريحه صديد البلاء
ذكرتني الرمام عهداً تولى ... وزماناً مضى لغير لقاء!!
ذكرتني بأنفس وأفاع ... شرقت بالزعاف تحت سمائي
مسني غدرها فأضحك همي ... ثم أهدى لها الدوارَ وفائي
وبأخرى منحتها من وجودي ... نشوة الأمن واحتساب الرجاء
ورمتني بشرها فوقاني ... شر نفسي وشرة الأهواء
وبأخرى تظامأت تحت حسي ... فسقاها تنبلي وحيائي
شربتني وحين خارت قواها ... علمت أن حكمتي في دمائي
وبأخرى وأخريات تلوى ... تحت ماض يمور في أحشائي
آه من يبعد الرمام ويقصى ... فضلات البلى ودود الفناء
غير أن الرمام خير وأزكى ... من ذويها بعالم الأحياء
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... بين أجداثها ومسرى الحياة
ومضى الناس أنفساً تتشهى ... جيفة الأرض وامتصاص الرفات
دنسوا مورد الحياة وفاتوا ... رجس أفواههم على الثمرات
عشت فيهم بظاهر من شعوري ... مشمئز النهى رضي السمات
ثم ضمدت بالزعاف جراحي!! ... وتغنيت للأصم شكاتي!!
يا لنفسي بها نَبيٌّ وطفل!! ... فهي فوق المدى وبين اللدات!!
تسع الكون غاية وابتداء ... ولها بعد ذاك في التافهات!!
يا لنفسي بها بشائر غيث ... يغمر الجدب ماؤه بالصَّلات
ويمد الظلال تهوي إليها ... أنفس الظامئين للرحمات
يا لنفسي بها بشائر نجم ... ينفح الليل نوره بالهبات
يكشف الستر عن كثير ويغشي ... في الدياجي مهازل الحرمات
يا لنفسي جهلتها. . . كيف غيري؟! ... ويح من خاض وهمه في صفاتي
خاطري كالسحاب ليس مقيما ... هو في الصبح غيره في الغداة
أنكروني مثلما. . . ليت شعري ... لو تراءت لهم معالم ذاتي!(699/41)
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... ليس محواً وليس حلم اتحاد
ذاك ما كنت أرتجيه وهذا ... فوق ما ارتجي وفوق مرادي!!
تلك نفسي وذاك غير قليل ... مائيَ النور والحقيقة زادي
فرحت الغيب أشرقت في ضميري ... وينابيع راحها في ازدياد
أومض الحق بالرجاء وهبت ... نسمة الروح في كيان الجماد
لمحات تمايلت في سناها ... راسيات المكان والآباد
لمسات من الكمال وأخرى ... تاه فيها المدى وذاب فؤادي
دوحة الخير هذه. . . كم تراءت ... في منامي ظلالها وسهادي
شهدت مولد الزمان وألقت ... في يديه بما نرى من أياد!
ذلك البحر قطرة من نداها ... بين هذى الربى وتلك الوهاد
مست الكون يوم كان فألفي ... حظه من تكامل وامتداد
سكرت مهجتي وغابت رؤاها ... ويك أني أخاف سفح ارتدادي
نشوة الحلم في حسابيَ أهدى ... من يقين بواقع الأصفاد
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... بين هم مضى وحلم كِذاب
منذ حين دفنت أمسي حتى ... زهرات ورثتها أحبابي
ورسوماً تفوح منها معان ... نسيتها لديَّ ريح الشباب
وتناسيت أرضنا وهواها ... وتجاهلت إنني من تراب!
ثم أسلمت للسماء رجائي ... وتحيرت في السها محرابي
وتساميت في المدارج حتى ... مست الغيب في العلا أسبابي
وارتوى خاطري وأوشك ينسى ... موبقات الصدى وراء السراب
واستوينا على السكينة لكن ... عاود النفس حبها للعذاب
يا لنفسي تذكُّرٌ واشتياق ... نازعاها إلى حضيض الرغاب
هاهنا الدوح والظلال فمالي ... أتشهى منابت الأعشاب!!
لي فؤاد يعاف قبل اكتفاء ... مستطار يهيم بعد ارتياب
ظلمت الطين حركت في ضلوعي ... صور الناس وارتياد الشعاب(699/42)
ضجة الركب لم تزل تحت سمعي ... وأمانيه لم تزل في حسابي
فوق هذا الأنام روحيَ لكن ... لم يصل بي مكانة الأرباب
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... استشف المدى وروح الزمان
انطق الوهم كل أعجمَ حتى ... كلمتني صخور هذا المكان!؟
وتوهمت إن للدوح سمعاً ... فعزفت الشجي من الحاني!!
وتخيلت في النجوم عيوناً! ... فكشفت الجراح قبل الأماني!!
وحسبت الرياح تعقل خطبي ... فأفاضت سريرتي وبياني!!
وتأملت. . . لم أجد غير نفسي!! ... وجماد غمرته بالمعاني!!
وتراجعت استرد شعوري ... فأهالت جمودهَا في كياني
ضل في عشرة الجماد ذكائي ... بعد ما ضل في بني الإنسان!!
كم تمنيت غير شيء وخاضت ... في فضاء مفرغ أشجاني
كم ركبت الشقاء نحو ضلال ... وتوسدت في الدجى أدراني
كم تلهيت بالكبائر حتى ... طفر الرعب من دم الشيطان!!
كم تطهرت بالقداسة والنور ... وفاض الحياء من أيماني!!
أنت يا من خلقتني كنت أولى ... بضيائي من الثرى والهوان!!
أنا راض بما قضيت ولكن ... عاتب اخرس الحياء لساني
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... نتشاكى مذاهبي ودياري
أطفأ اليأس ما أمامي حتى ... مثل النور بعد شمس النهار!
وجم القلب. . . لا صلاة عليه ... لا ولا قدرة على أوزار!
وانقضى الخوف والرجاء وزالت ... شائقات الرضى ففيم انتظاري؟!
لم تدع موجة الصعود لحسي ... رمقاً اهتدي به في انحداري!!
كلما لاح في الأصائل معنى ... طمسته شوائب الأسحار
أذهلتني مواقف الحظ مني ... وجنوني بحكمتي واختياري
راعني ذلك التصادف حتى ... خلت في تصرف الأقدار
ليتني لك أذق تجارب دهر ... سلبتني إرادة الأحرار(699/43)
حلقات من التماسك هاجت ... فيّ أوجاعها خطوب انهياري
شَرِقت بي محافل ستباهي ... بازدرائي لها وتبكي احتقاري
قيم الأرض وهي منها أثارت ... في سمائي رواسب الأغوار
لم أزل اذكر السماء فتهوى ... فيّ أحلامها لغير قرار!
بين جنبي خفقة لو رأوها ... لأصابت قلوبهم بالدُّوار
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... في مهب الأسى ومهوى ارتفاعي
وذكرت الشقاء في اليم حتى ... ذهبت ريحه ومال شراعي!
وتوسدت خيبتي ورجاء ... مزقته وساوس الأوجاع
وتواريت في بقايا كيان ... أتملى فضاءها وأراعي!
بعدت غايتي وقصر عزمي ... حرجُ الضعف واشتباه الدواعي
وجنوني بما شربت عليه ... غير كأس من القذى والخداع
وانطوائي على فراغ وخوفي ... سكرات المنى وهول الصراع
وانتفاضي لما أهاجت بصدري ... عثرات الجدود الأوضاع
من جراح تمرغت من دماها ... سابحات البلى ومرض الأفاعي
وخطوب تعفنت واشتهتها ... آكلات الرميم دود البقاع
ضاقت الأرض والسماء ومالي ... غير نفس قليلة الإطماع
غاية العيش عندها أن تراني ... فوق مرعى العيون والأسماع
أهب الحب والرجاء وتسري ... نفحات السلام خاف شعاعي
ويح هذا المدى أمامي أمسي ... وورائي غَدِي ففيم اندفاعي؟!
ذهب الركب والتقيت بنفسي ... في اشتياق عليه لون الفراق!!
وزماناً ذكرته حين هبت ... ريح أيامه على آفاقي. . .
وحياة أضعت حظي منها ... في جنوني بها وفي إغراقي!
وشباباً زويت يومي عنه ... بانطوائي على غد واحتراقي!
وأمان ذهبن إلا هشيما ... ليس فيه تفاؤلي واشتياقي!!
وأمان تشربتني ومصت ... دفء قلبي وحكمة الأعماق!(699/44)
أذهلتني عن الحياة ودست ... في شعوري تمائم الإخفاق!
وأمان تهافتت يوم صحوي ... صوراً من تزيدي واختلاقي!
وأمان أرقت فيها وجودي ... ثم جاءت فلم تجد أشواقي!
وأمان من الذرى واليها ... طال فيها مع المدى إطراقي
علمتني الذرى محبة نفسي ... وكفى الغيرَ بسمةُ الإشفاق!
علمتني وباركت في طموحي ... نشوة الكبر ساعة الإغداق!
فسلام على الذرى. . . ولنفسي ... ما تمنيت من جزاء وفاق!
خفق الحظ بالجنوح فإما ... لغروب خطاي أو إشراق!
(الزقازيق - كفر الحمام)
محمد العلائي(699/45)
أمثولة قصصية. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
زارني صديق أديب وقال لي: أنني أميل إلى كتابة القصة، لكنني غير متمكن من قواعدها، فهل لك أن تعينني على ذلك؟ أرشدني إلى اساليبها، واطلعني على كيفية بنائها، وكن على يقين من إنني لن أنسى لك هذا المعروف ما حييت.
فأجبته: القصة فن قائم بذاته يا صديقي يعتمد بالدرجة الأولى على مواهب القاص، ودقة إحساسه، ومستوى ثقافته، ومدى اختباره للحياة، وعلى ذلك تراني عاجزاً عن تلبية رغبتك.
قال: إنني درست بعض قواعد القصة، وقد رسخت في ذهني، لكنني لم أوفق بعد في وضع قصة قوية في عقدتها، مثيرة في خاتمتها.
قلت: إذا كنت درست فن القصة، فكيف تحدده؟
قال: أستنادا إلى ما رواه أبو العباس الشريشي في (شرح المقامات الحريرية)، (فالقصة هي نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه). . . وجاء في مقدمة كتاب (جمع الجواهر في الملح والنوادر) لأبي إسحاق الحصري القيرواني: (أن القصة هي التي ترتاح إليها الأرواح، وتطيب لها القلوب، وتشحذ بها الأذهان، وتطلق النفس من رابطها فتعيد بها نشاطها إذا ما انقبضت بعد انبساطها). . . وقال بديع الزمان الهمذاني في (المقامات): (وربما كان للقصة سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها فعلى المحدث أن يسوقها).
قلت: إن ما ذكرته لي من أقوال في القصة لأدباء العربية الأقدمين لا يساعدك على وضع قصة. . . فللقصة العصرية خمس قواعد فنية دقيقة هي: الصدر، والعقدة، وتطور الأحداث، والقمة، والخاتمة.
قال: اضرب لي مثلا في مادة تصلح لأن تؤلف قصة، وطبق عليها هذه القواعد، مرحلة فمرحلة.
فارتجلت هذا المثل البسيط: كان لعزيز جار، وكانت علاقتهما جد سطحية، لا تتعدى تبادل التحيات في الصباح أو المساء، والتبريك في المواسم أو الأعياد، لكنهما كانا يجتمعان في كثير من الأحايين في حلقة ذكر، أو حفلة مولد، أو فرح بمناسبة عقد قران، أو طهور أطفال، حتى وفي هذه الاجتماعات العامة كانت علاقتهما لا تتجاوز التحية أيضا، والسؤال(699/46)
عن الطقس، والأحوال العامة، والثناء على صاحب الدعوة، والتنويه بكرمه ولطفه.
وفي فجر أحد الأيام، استيقظ عزيز كما استيقظت الحارة كلها على عويل صبايا، وصراخ أطفال وولولة عجائز، فعلم من ذلك أن أسرة من الأسر أصيبت بمكروه، فاطل برأسه من النافذة، فشاهد رؤوسا كثيرة تطل من نوافذها أيضا، متتبعة مصدر الأصوات، مستفهمة عما حدث. . . وبعد قليل من الوقت نمى إلى عزيز أن جاره قضى نحبه، فتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله. . . إنا لله وإنا إليه راجعون.
ورأى أن الواجب يدعوه لان يسير في جنازة جاره عملاً بالتقاليد المرعية منذ قرون فتعطل عن عمله في ذلك النهار، وخرجت الجنازة حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وسار عزيز خلفها، وكان الطقس حارا، والشمس تسطع في كبد السماء، وبعبارة أخرى كان ذلك في العشرين من تموز (يوليو)، وكانت درجة الحرارة وقتئذ تشير إلى الأربعين سنتيغراد، وهي الدرجة التي يكتب في الموازين إزاءها كلمة (سنيغال). . . أي ما فوق حرارة الإنسان.
سار عزيز خلف نعش جاره وسار إلى جانبه شخص لا يعرفه، ولما كانت المقبرة تقع على مسيرة نصف ساعة رأى ذلك الشخص أن يقطع الوقت بالتحدث إلى عزيز، فأستهل كلامه قائلا: حر لا يطاق!. . . فأجاب عزيز: جهنم. . .
- إن عزرائيل لا يرحم!. . .
- لا يرحم المشيعين فقط. . . أما الميت، فسيان عنده الحر أو البرد.
- أنت تعرف المرحوم؟. . .
- أعرفه معرفة سطحية مع أننا جيران. . . غير أن المشهور عنه في الحارة إنه كان دمث الأخلاق.
وهنا أعترضت الجنازة سيارة شحن فعرقلت حركة المرور، وسدت الطريق على باقي السيارات فاختلطت مع بعضها، مما اضطر المشيعين إلى الوقوف مدة عشر دقائق. . . وكان عزيز يكاد يجن من شدة القيظ فتارة يجفف العرق المتصبب من وجهه بمنديله، وتارة يضع هذا المنديل على راسه، ويغطيه بطربوشه، وطورا يرفع الطربوش والمنديل ويضع راحته على رأسه، وطورا آخر يغتنم فرصة وجود شخص ضخم الجسم يسير أمامه(699/47)
فيستفيء في ظله. . .
ثم تابعت الجنازة سيرها، وتابع رفيق عزيز حديثه قائلا:
السير وراء الميت رحمة. . .
فأجابه عزيز: لا شك في ذلك، غير أنني أفضل تشييع الجنازات بالسيارات.
- ماذا؟. . . بالسيارات؟. . . هذا لا يجوز أبدا.
- لماذا؟. . .
- لان الناس يستنتجون من ذلك أن المشيعين يريدون التخلص من الفقيد على عجل. . .
وبلغت الجنازة مسجداً في الطريق، فوقف المشيعون، وادخلوا النعش المسجد، ودخل بعضهم في أثره ليصلوا على روح الفقيد، وظل عزيز واقفا خارج المسجد وكان يحس أن رأسه سينفجر من شدة الحر، فيشرب ماء وبتحول هذا الماء في لحظات إلى عرق منهمر.
ثم يخرج النعش، وتتابع الجنازة سيرها إلى أن تصل المقبرة.
وبعد أن أنزل الميت في لحده، وروى التراب وقرأ الشيخ عبارات التلقين المعتادة، وقرئت سورة (الفاتحة) على روحه، وقف أهل الفقيد في صفوف طويلة ليتقبلوا التعازي، وكان عددهم يناهز الخمسين. . . ووقف الناس في صفوف طويلة أيضاً ليقوموا بواجبهم في التعزية. . . ولسوء حظ عزيز أنه كان يقف في آخر تلك الصفوف.
وبدأ الناس يصافحون أهل الفقيد، فردا فردأ قائلين: عظم الله أجركم.
فيجيبوهم: كرم الله سعيكم. . .
وبعد نصف ساعة على وجه التقريب، جاء دور عزيز في تأدية واجبه. . . وكان مظهره يبعث ألام في النفس.
وعاد إلى بيته منهوك القوى، وهو يشعر بدوران شديد، فانطرح على فراشه في شبه غيبوبة. . . وعند فجر اليوم التالي استيقظت الحارة على عويل صبايا، وصراخ أطفال، وولولة عجائز. . . فتساءل الناس عن الخبر فقيل لهم إن عزيزا قضى نحبه. . . وكان موته ناتجا عن ضربة شمس!. . .
قلت لجليسي: واليك الآن مقاييس هذه الأمثولة القصصية: الصدر: إن عزيزا له جار، وكانت علاقته به سطحية، لكنهما كانا يجتمعان في الحفلات والمواسم، فمات جار عزيز(699/48)
واقتضت التقاليد أن يسير عزيز في جنازته.
العقدة: إن التقاليد تقتضي أن يتحمل عزيز وطأة الحر الشديد، وكان يسير وراء النعش متبرما، غير راض عن تأدية هذا الواجب.
تطور الحوادث: اضطراب حركة المرور، وتوقف الجنازة عن المسير مدة عشر دقائق، والدخول بالميت إلى المسجد.
القمة: وقوف عزيز في صفوف المعزين وهو في حالة شديدة من الإعياء وانهيار القوى.
الخاتمة: موت عزيز:
أرتاح زائري لهذه الأمثولة في فن القصة، ونهض قائلا: سأحاول وضع قصة مبنية على هذه القواعد.
قلت: وفقك الله. . . ولكن لا تنس أن تتدبر المواهب!. . .
نجاتي صدقي(699/49)
البريد الأدبي
بين (أومن بالإنسان) و (هذي هي الأغلال):
لقد أخذتني فرحة هزتني حين تصفحت بسرعة كتاب (هذي هي
الأغلال) للأستاذ عبد الله القصيمي النجدي، فرأيته يتناول بالشرح
والتأييد القضيتين اللتين يدور حولهما فكري ويكاد يقف على الدعوة
إليهما قلمي منذ ست سنوات أو تزيد، وهما قضية (الأيمان بالإنسانية)
وقضية الاعتقاد أن (الحياة صادقة) وذوو الفلسفات الذين يزورون
عليها وينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون، لأنني اعتقد أن اعتناق
هاتين الفكرتين أمر جدير أن يحدث انقلاباً عظيماً في نظرة الناس إلى
أنفسهم والى الحياة والى واهب الحياة، إذ هما الشيء الواحد الجديد
الذي يمكن تقديمه للبشرية جميعها الآن ويمكن اللقاء بينها في مجاله،
ويمكن به إمدادها بكثير من عوامل التأميل والإسعاد والتفاؤل.
فما إن رأيت أن الفصل الأول من (هذي هي الأغلال) عنوانه (لقد كفروا بالإنسان - الأيمان به أول) حتى قلت الحمد لله ثم الحمد لله! إذ أرى عالما من نجد - وما أدراك ما علماء نجد في محافظتهم! - يعتنق الفكرة ويدعو لها بحماس ويصدر بها كتابه.
وما إن رأيت كذلك اغلب فصول الكتاب يستعرض أقوالا معدودة في سجل الحكم والفضائل عند كثير من المسلمين وتنحى عليها بالنقض ثم تجعلها في سجل الرذائل المدمرة للحياة والدي، حتى ثنيت الشكر لله على أن ما سبق أن قلته في مقالات (الحياة صادقة) في هذه المجلة في أوائل سنة 1942 وما بعدها قد وجد صدى مدويا. ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز! إذ رأيت الكتاب يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة (سيقول مؤرخو الفكر: أنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. . .) وأنه (ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفكر(699/50)
عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!
وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!
إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقا يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت ويدع له أن يحكم ولا يتعجل الحكم حتى تعلمه الأيام سواء في حياته أم بعد مماته. . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية الفكر يترفع عن أن يغمط حق غيره وعن أن يطغى جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لان هذا إن جاز في مجال الإعلان عن المتاجر والمهن فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق
ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الاخلاق، وهو كما روي عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة السوادي يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية ولا قيمة لها في الرقي والاستيلاء. . .).
ومما زاد أسفي أن أرى المؤلف يتجاهل حين سأله الأستاذ قطب أن يكون قد علم بسبقي إلى الفكرة. فعلى فرض أنه لم يطلع على (أومن بالإنسان) بعد ظهوره مجموعا في سنة 1945 فهل يكون من المقبول أو المعقول أنه لم يقرأ حتى بعض مقالات (أومن بالإنسان) التي تقارب العشرين حول تلك القضية أثناء بسطها في (الرسالة) وأحيانا في الثقافة في مدى خمس سنين تقريبا، ولا يزال أبسطها للان ويتناولها بعض الكتاب بالمناقشة؟ أم هو يزعم إنه لم يقرأ (الرسالة) أيضاً طول هذه المدة!!
ولئن كان سروري بأنتشار الفكرة برغم انتحال ناشرها لها قد قعد بي ما يزيد على شهرين بعد اطلاعي مصادفة على كتاب (هذي هي الأغلال) لدى الأستاذ الجليل محب الدين الخطيب، دون أن أنبه القراء، يضاف إلى ذلك أنني كنت على ثقة من أن النقد اليقظ سيرد الأمر إلى صاحبه. . . لئن كان ذلك هو ما قعد بي عن التنبيه فأنني حين اطلعت على مقال الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) في الأسبوع الماضي ورأيته يكشف عن خبايا كبيرة في آراء القصيمي الشخصية وسلوكه السياسي نحو محطمي أمجاد الإسلام والأديان ومهدري كرامة الإنسان. . . شعرت أن الواجب يقتضي أن انبه القراء إليه.
ولعلي أجد من الوقت ما يسمح بتتبع الالتواء الذي خرج به المؤلف عن جادة الفكرة(699/51)
الأصلية التي تبناها في حياة أبيها. . .
عبد المنعم خلاف
إلى الأستاذ حسنين مخلوف:
قرأت شاكراً ما كتبت وكتبت اليد ذات السوار وكتب الأستاذ فؤاد السيد خليل، ورضيت ووافقت في الجملة، وأنا رجل لا اكره النقد ولا أطيل النزاع في أدبي وأسلوبي، لاني اعرف من نقائصهما أضعاف ما يتنبه له الناقدون، وما ادعيت لهما الكمال قط، ولكني أنازع فيما أجد فيه خروجاً على الجادة ومضرة للناس كقولك: (ولعللي أصدقك، وقد كنت في ماضي حياتي معلما في مدارس البنات، فهذه المخاوف التي استولت على ذهنك كنا نتصورها، أو قريبا منها، حتى إذا وجدنا أنفسنا في هذا الوسط، أحسسنا أن هؤلاء البنات بناتنا، والمعلمات أخواتنا، وزال هذا الخوف الأسود من مشاعرنا، وصارت الحياة عادية، وهذا شان سائر المعلمين في مدارس البنات
(فرفقاً بالناس وحنانيك، وإنصافاً، يا حضرة القاضي، فالأمر إن شاء الله على ما تحب بفضل القدوة الصالحة، والتهذيب الصحيح، وإلا فلتغلق مدارس البنات، والسلام)
يا أستاذ، إن القضية أهم من أن نضيع الحق فيها في غمرة المجاملات، وان لها من اثر في حياتنا ما يوجب علينا إيجابا الكلام فيها بصراحة ووضوح، كما يتكلم الطبيب في المرض ابتغاء علاجه، وعلى ذلك أقول لك اننا، وما قلت (نا) على سبيل تعظيم نفسي، بل أردت الجمع الحقيقي، وأنا أتكلم عن نفسي وعن كل من قال أنا عربي، وكل من شهد أنه لا اله إلا الله، وأسوق قضايا لا أظن أن في الدنيا عربياً أو مسلماً يعارض فيها.
أقول لك: إننا لا نجد مدارس البنات في الشام على ما نحب، بل على ما نكره اشد الكراهية، وعلى ما نألم منه ونشكو ونستغيث، وإذا فتشنا عن القدوة الصالحة في مصر وجدنا مدارس مصر أدهى وأمر، ووجدنا أن مدارس البنات في الشام إذا قيست بمدارس مصر كانت مساجد، واشهد أنه ما جاءنا هذا الذي نشكو منه إلا من مدارسكم ومجلاتكم وأقلامكم. ولا تحسب أني أتعصب للشام، ولا تأخذك عصبية لمصر، فأنا أيضاً مصري الأصل طنطاوي، ولقد أحببت مصر وعشت فيها زمنا، وأنا قادم إليها الآن لأعيش فيها(699/52)
زمنا آخر، ومن محبتي لها اذكر عيوبها. . .
ونحن، يا أستاذ، نريد العلم للرجال والنساء، ومن ذا الذي لا يريد العلم؟ ولكنا نريد الدين أيضاً ورضا الله، ونريد الأخلاق والعفاف والشرف، ولا نستطيع أن نصدق ولو أكدت القول لنا، أن في الدنيا شابا متدفق الشباب رجلا ناضج الرجولة، يعيش بين بنات ناضجات الأنوثة، كاشفات الوجوه والأيدي والسوق يقفزن أمامه ويلعبن، ويمرحن ويضحكن، ويقران عليه في الدروس أشعار الحب والغزل، ويقران وحدهن هذه المجلات المصورة الملعونة، ويزين هذه الأفلام الدنسة، لا يصلين وكيف يصلين مكشوفات العورة، ولا يعرفن الحلال ولا الحرام، ثم يحس أن هؤلاء البنات بناته، وان المعلمات اخواته، وتصير الحياة عادية، ويكون هذا الشان سائر على المعلمين في مدارس البنات، هكذا التعميم بلا استثناء!
إذا كانت هذه الحياة عادية، ليس فيها شيء غريب ولا شاذ، كانت قوانين الطبيعة التي وضعها الله، وكانت أحكام العقل، وكانت مقررات الشرع هي الشاذة الغريبة، فانظر رحمك الله ما تقول!
يا أستاذ، أنت رجل مسلم، فهل تعتقد أن الله حرم شيئا عبثا، ومنعه لهوا وتسلية، تعالى الله عن ذلك، أم لحكمة بالغة، ومنفعة شاملة؟ وهب أن الحكمة من أمر أو نهي خفيت علينا، فهل يملك مسلم تعدى حدود الله؟ وإذا هو استحل ما حرم الله، فهل يبقى مسلماً؟
فقل لي: هل يجوز في دين الله أن تعيش ويعيش الشباب في هذا الوسط، ولو كان المستحيل وصارت الحياة عادية، ورأيت البنات كبناتك، والمعلمات كأخواتك؟ أريد الحكم الفقهي الشرعي لا أريد الآراء والخطابيات، فإن مصر دينها الرسمي الإسلام!
وهل يجوز وهذا هو حكم الله، والغرائز بعد موجودة، والميول قائمة، والنفس أمارة بالسوء، والشيطان عامل للشر كادح، أن تقيم وزارتكم مهرجاناً رياضياً في أول الصيف الماضي، نرى صورة له في مجلة مصورة، فنرى من التكشف (تكشف البنات اللائى هن كبناتك). ومن الأوضاع الرخيصة الفظيعة ما يذكر بأخبث ما يشاهد في السينما الخليعة، وأن تفتح مسبحا للبنات ونبصر صورهن منشورة وهن يسبحن فيه أمام الرجال؟
فهل يجوز هذا في شريعة العروبة وغيرتها وشهامتها؟ هل يجوز في دين الدولة المصرية(699/53)
الرسمي؟ هل يجوز عند أهل العقل الذين يعملون بعقولهم ما هي نتائجه والى أين يوصل؟
أهذه هي القدوة الصالحة؟ أهذا هو التهذيب الصحيح؟ انصف أنت أيضا، فما يطلب الإنصاف من القضاة وحدهم. . . إنه ليطلب من المفتشين!
آما القصة التي انتقدتها، فإني أحلف لك بالله الذي لا يجرؤ على الحلف به كذبا مسلم، إنها واقعة وإنها ليست متخيلة، وأني ما صنعت فيها إلا ما يصنعه إذ يكتب القصة الواقعية لأديب، وان الطالبة كتبت له الشعر وزارته الدار، ولك أن تصدق أو تكذب، أنت حر!
(دمشق)
علي الطنطاوي(699/54)
الكتب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 3 -
وقد بين المؤلف أخوة الذمة والعهد وحقوق الذمى وواجباته مما يتضح منه أن غنمه أكثر من غرمه. وبين الفرق الكبير بين نظام الذمة الإسلامي ونظام الحماية الحديث الذي همه الاستيلاء على المواد والاستعلاء على الأقوام، وبين أن أرى عهد بين المسلمين وغيرهم هو في كفالة الله وشهادته عليه، فهو في حماية العقيدة وحراسة الضمير الناصح المخلص الذي لا يخدع ولا ينافق.
ولا تملي شرائط الصلح عوامل الخوف والطمع، وليس للحرب إلا خاتمة واحدة هي أن يستقر السلام والعدل
وبين أن حرمة العهود فوق صلة الدين: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) وهو مبدأ يفخر به المسلمون وتعتز به البشرية كلها
وقد أكرم الفرد واحترم كلمته التي يقولها في تأمين محارب أو إجارة مستجير ولو كان ذلك الفرد عبدا أو امرأة. . . واحترم الكلمة ولو لم تكتب ما دام قد سبق عليها اتفاق، وبين أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها نقض العهد هي حالة التوجس وخيفة الخيانة من المعاهد. وهو نقض يجب الإعلان والنبذ به على سواء.
والحق أن ما في فصول هذا الباب شيء عظيم جداً يجب أن يوضع على أعين الأشهاد في المجال الدولي لأنه الطريق السلام والأمان. وقد اضطرت إلى خطف بعض مسائله الهامة(699/55)
خطفا لا يغني.
في أسباب الاضطراب العالمي
في الفصول الخمسة لهذا الباب تتجلى عقلية المؤلف كرجل عالي مهتم بقضايا الإنسانية كلها مشخص لأدواتها، واسع المعرفة بدخائل حياتها في المشرق والمغرب. وإذا كان تشخيص الداء في الطب هو أول وسائل العلاج، فإن ذلك صحيح في الاجتماع أيضا. وإذا كان ذلك لا يتأتى إلا لمهملين من الأطباء، فإن هذا لا يتأتى إلا للمهملين من علماء الأجتماع.
لقد حصر الأسباب الرئيسية للأضطراب العالمي في الاستعمار، وفي النزاع بين الطبقات على النظم الأقتصادية، وفي الإفراط في النزعة الوطنية والعنصرية وإنكار حقوق الأخرسين، وفي طغيان المادية وحب الترف، وفي انهزام القوى المعنوية أمام القوى المادية مما ترتب عليه تبلبل الأخلاق والعقائد والعرف الصالح، وفي تفشي فلسفة الكذب والغدر والنفاق في السياسة.
وقد بين بالوقائع والأسانيد أن الاستعمار خراب وان فرائسه هي فرسانه! وأنه سراب لا تملأ أمواجه ملعقة. . . وأنه سبب الحروب في القرنين الاخيرين، وإنه شر الغالب وشر على المغلوب في الغرب والشرق، وأنه لا بد من التضحية به لنجاة الحضارة، وأن الرسالة الخالدة تنكره وتنكر مبرراته!
أما نزاع الطبقات، فقد صار في العصر الحديث عنصرا للاضطراب العالمي بين الفقراء والأغنياء والعمال والصناع والملاك والمديرين. وقد ضاعف التعقيد العصري للمذاهب والدعوات في خطر هذا العنصر، وكذلك ضاعف استخدام البخار والكهرباء في عوامل استفحاله بين رأسمالية الآلة والعمال، وتفرق الناس من اجل فلسفات هذا النزاع بين الشيوعية والرأسمالية والفاشية والنازية والديمقراطية. ولا شيء يستطيع أن يقاوم التعقيد في هذا العنصر إلا البساطة الدينية في معالجة مشكلات المال. فقد جعلت للمحروم حقه الثابت في أموال الناس جميعا وهذا المبدأ الثابت يتناوله التنفيذ المرن بحسب الظروف. والقرآن أوجب الزكاة، وعلى الإمام أن يوجهها حسب الحاجة. وكل مصلحة اجتماعية فهي سبيل الله، فتشمل التامين الاجتماعي والصحي مثلا. ولم تكتف هذه البساطة أيضاً بفرض(699/56)
هذا الحق المعلوم في أموال القادرين للمحتاجين، بل جعلت الدولة كفيلة على إقامة التوازن الاجتماعي، سواء أكان بالزكاة أم بغيرها إن لم تكف الزكاة الحاجات العامة. وحيثما كانت المصحة واعدل فثم شرع الله ودينه. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة رائعة لتصرف الدولة حسب الظروف مع عدم تقيدها بالنصوص القرآنية في أهم المسائل الاقتصادية والسياسية. وقد ضرب منها مثلا في تصرف أبي بكر في مساواة السابقين إلى الإسلام واللاحقين في الأعطية وتفضيل السابقين في عهد عمر، ومثلا آخر في عهد عمر حين رأى عدم تقسيم أرض العراق والشام كفيء على المحاربين وأجرى لهم أعطية من خراجها مع بقائها في أيدي الأجراء يعملون فيها محافظة على حقوق الذريات والأجيال الآتية. مع إن النص القرآني صريح تقسيمها إلى كفيء على فاتحيها.
وقد ألزم الإسلام السلطان بمنع النزاع بين الطبقات وبالتامين والتوازن الاجتماعي بالتهذيب الروحي ومحاربة الترف والبذخ والجمع بين الوجدان والسيف
أما النزاعات القومية والوطنية، فقد صارت عصبية حديثة أوحاها التشدد في الحدود الجغرافية والجنسية، وهي نزعات لم تكن بهذا الاستفحال في العصور القديمة والوسطى حين كانت الدولة الواحدة يشترك في خدمتها عناصر وأجناس متفرقة كلها ترقى سلم المناصب الرفيعة بحسب المواهب في خدمتها. فليست هذه النزاعات الحديثة سببا في الاستقرار بل عاملاً في زيادة الاضطراب لأن الحدود السياسية الخالية للأوطان حدود صناعية كثيرا ما تفرق بين جنس وآخر وتضم أجناسا مختلفة. وقد مر قرنان على أوربا وقد غرقت في الدماء من جراء النزاع على الحدود وتحرير الأقليات بين الفرنسيين والألمان، وبين النمسويين والألمان وبين هؤلاء وهؤلاء والصقالبة، وبين النمسا وإيطاليا، وبين البلقانيين جميعا، وبينهم وبين الدولة العثمانية وبين روسيا وغيرها من جيران الشرق والغرب، وبين المجر والتشك والبولونيين والرومانيين.
وقد أنتقلت هذه العصبيات إلى الشرق لتأدبه بأدب الغرب، فعلى سنجق الاسكندرونه خلاف بين سوريا وتركيا، وعلى شط العرب بين العراق وإيران، وقد ابتدأو ينسون الأدب المحمدي في النظرة إلى أشبار الأرض. . .
وقد لجأت الدولة إلى الهجرة الإجبارية فلم يستفيد منها أحد، وحاولت عصبة الأمم حل(699/57)
المشكلات الأقليات فلم تحصل على طائل والإسلام لا يعرف الوطنية والعنصرية إلى هذا الحد الوثني، ويضع العلاقات البشرية على أساس معنوي، فإن الخلاف فيه أخف من الخلاف في المجال المادي الذي يثير أخس الغرائز وأعنفها وليس لديه اعتراف بسيادة أو عبودية، بل بالأخوة الشاملة. أما هزيمة القوى المعنوية، فهي اثر من آثار السيطرة على المادة، وسرعة التطور المادي وبطأ التطور الروحي، وتباعد الفروق بين الناس تبعا لحظوظهم من العم المادي ولعلاج ذلك يجب التوفيق السريع بين الروح والمادة قبل الكارثة الكبرى التي ستهدم الحضارة. والإسلام قد وفق بين الحياتين لئلا تستحيل نعم المادة إلى نقم كما وقع في الحربين الأخيرتين التي حطمت مدينتنا مرتين في ربع قرن. ولا ملجأ للقوى المعنوية إلا بالرجوع إلى منابع الرحمة والهدى في الأديان.
عبد المنعم خلاف(699/58)
العدد 700 - بتاريخ: 02 - 12 - 1946(/)
ساعة فاصلة. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إذا المرء لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ
ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا ... به الخطْبُ إلا وهو للقصْد مُبصرُ
فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ ... إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاشَ منخرُ
وأيُّ خطب!! فنحن أمة قد عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُواً لدوداً، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ. فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءَهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظلّ الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرّهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم المتاع ما أطغاهم وكان خليقاً أن يملأ قلوبهم شكراً، وألسنتهم حمداً وثناءً. وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسراباً من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيٍّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم. ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر. فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها منصوراً مظفّراً، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأس ولا قوةٍ من حديد ونارٍ، فثار ثورته العجيبة في أوائل سنة 1919، وما كان يخيّل للعدو الباغي أن ذلك شيءٌ ممكن، وبعد لأي ما تحقّقَ من أنه شعب حديدُ العزم لا تُرْهبه القوة الباطشة ولا العدوان الغشوم. فاحتال له حيلة أخرى يفرّق بها بين الرجل وأخيه، والأب وبنيه، والأمِّ وفلذات أكبادها، فرمانا بالداهية الدَّهياءِ التي جعلت الناس يختلفون بينهم على غير شيءٍ إلا الحُكم والسلطان، وتدسَّس إلى قلوب الرجال شيطانٌ مريدٌ هو: تلك الحزبية والعصبية للأشخاص، فكادت تنقض بناءَ هذه الأمة حجراً حجراً.
ثم كان من رحمة الله أن جاءت الحرب العالمية الثانية، فخرج منها عدوُّنا مرة أخرى منصوراً مظفراً، فلم يبالِ الشعب المصري وخرج يقول له: (اخرجْ من بلادي، ورُدَّ علّى(700/1)
جنوب الوادي) وكادَ يكون ما كان في سنة 1919، ولكن العدو كان أسرع حيلة وأرشق حركة، فنَصَّبَ رجالا منَّا ليحملوا بلادهم على سبيل مضَلَّةٍ. فكانت هذه المفاوضات الخبيثة التي ظلَّت تدور شهراً بعد شهرٍ إلى غير نهاية إلى يومنا هذا، بيد أن الشعب نفسه ظل هادئاً متربصاً طوال هذه الشهور وهو عالم ٌ أن المفاوضة كلامٌ لا يغنى فتيلا، وأن (الجلاءَ) حقٌّ لا ينازعه فيه أحد، وأن ضمّ السودان إلى أخته مصر حقٌّ لن يعوقه عنه بطشٌ ولا جبروت، وأن الحرية حقٌّ البشر منذ يولدون إلى أن تُطمَّ عليهم القبورُ. ومضت الأيام والشعبُ يسمع لَجاج المفاوضة وهو غيرُ راضٍ، ولكنه استنكف أن يحولَ بين طائفة من أبنائه وبين ما يظنون فيه الخير لبلادهم، فتركهم يعملون ليعرفوا أخيراً ما عرفه هو بفطرته النقيّة: أنْ لا خير في مفاوضة الغاصب القويّ حتى يرد على المغصوب الضعيف ما سلَبَ منه، وأن الإباء هو خُلُق الأحرارِ، وأن العزْمَ هو المنقذ من ضلال السياسة، وأن اجتماع الكلمة على الجهاد في سبيل الحق هو الخلاصُ وهو سبيل الحرية.
وقد انتهت الآن هذه المفاوضات وجاءنا المشروع الذي يرادُ لنا أن نصدّق عليه ونقبله، فللأمة حقُها اليوم أن تقول كلمتها، ولكل مصريّ أن يقول كلمته، وليس لهيئة المفاوضة ولا لرئيس الوزراء أن يفتاتَ على حقّ الشعبِ بشيء لا يرتضيه الشعبُ، فإن هذه ساعة حاسمةٌ في تاريخ الشعب المصريّ، بل ساعة حاسمة في حياة أبنائنا الذين يدبُّون على الأرضِ، وحياة النّسْل المصري الذي يسرِي في الأصلاب حتى يأتي قدرُه. وانه لهوْلٌ أي هول أن ينفرد رجُلٌ أو فئة من رجالٍ بالتصرُّف في هذه الأنفُس البشرية كأنهم أصحابها وخالقوها والنافخو الحياة في أبدانها. فالله الله أيها الرجال في مصاير بلادِكم وأبنائِكم وورثة المجد القديم الذي يطالبهم كما يطالبنا بان نعيش أحراراً في بلادنا، وبناةً لأمجادِنا، وحَفَظةً على تاريخ أجدادنا.
وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم كما قال الشاعر:
وعلمتُ حتى ما أُسائل واحداً ... عن عِلْمِ واحدة لكي أزدادها
وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم مالكو رقابِ هذا الشعب بمالهم أو جاههم أو سلطانهم، وليأذن لنا أولئك الذين هانت عليهم أنفسهم فضاقوا ذرعاً بإباء هذا الشعب أن يكون ككلْب الرُّفقة يشركهم في فضلة الزَّادِ، فإذا ضجروا به قالوا له اخسأ أيها الكلب، وليأذن لنا(700/2)
المخلصون من الكُتاب الذين يظنون إن التساهل والتغاضي لا بأسَ به ما دُمنا لا نملك أسطولا ولا طائراتٍ ولا سلاحاً ولا قنابل ذرّية، وأنه لذلك لابد لنا من أن نحالف حليفاً قوياً ينصرنا إذا بُغي علينا، ويردّ عنا إذا زحف عدو إلينا - ليأذن لنا أولئك جميعاً أن نتكلم بلسان مصر المظلومة المهضومة، فإنها هي وحدها التي ينبغي أن تنطق وتقول، فإن قولها هو القول الفصْل - لا قول العلماء الذين يرون أن لا علم إلا علمهم، ولا قول أصحاب المال والسلطان ولا قول المتهاونين الذين يرضون من نيل الحق ايسر ما ينال.
إن هذه المعاهدة الجديدة التي تمخضت عنها المفاوضات الطويلة تقوم على أربعة أساس:
الأول: أن الجلاء سيتم بعد ثلاث سنين
الثاني: أن تعد مصر بأن تقوم مع إنجلترا بالعمل الذي تتبيّن ضرورته في حالة تهديد سلامة أي دولة من الدول المتاخمة.
الثالث: مجلس دفاعٍ مشترك يقرّر الرأي في الذي سموه (تهديد السلامة) وجعلوا له حق تنظيم الأسباب التي تسهّل مهمة اشتراك الجيش المصري مع الجيش الإنجليزي في الحرب.
الرابع: أن تكون الأهداف الأساسية في مسألة السودان هي تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم (إعداداً فعلياً) للحكم الذاتي، وممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، والى أن يتم ذلك بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة 1899 سارية وكذلك المادة 11 من معاهدة 1936 - هذا محصِّل ما تقوله المعاهدة الجديدة.
ومصر تقول إنها لا تثق بالمواعيد الإنجليزية المتعلقة بالجلاء فقد بلتْ ذلك أكثر من ستين عاماً فلم تر إلا شراً، وإنها لا تريد أن تُقِرَّ ساعة واحدة للإنجليز بالبقاء الشرعي في بلادها فكيف ترضاه وتوقع عليه وتعترف بشرعيته ثلاث سنوات طوالا. وتقول إن تحديد السنوات خداع وبيل العواقب غير مأمون المغبة فإنها لا تدري ماذا عسى أن يكون غداً أو بعد غد، وان الإنجليز قادرون إذا شاءوا على الجلاء في أقل من ستة أشهر جلاء كامل عن كل بقعة من بقاع هذا الوادي، فالإطالة مُرَادَةٌ لنفسها لأسباب جهلها من جهلها وعلمها من علمها. وقبيح بامرئ ذاق الذل من وعود الإنجليز ستين عاماً أن يجهل شيئاً عن مثل هذا الوعد المدخول المكتم بالأسرار.(700/3)
أما الأساس الثاني: فإن مصر تقول إن بلاء البلاد المتاخمة لمصر هو كبلائها مِثلا بمثل، فالإنجليز هم الجاذب الداعي إلى أن يعتدي عليها معتدٍ طاغٍ يريد أن يضرب إنجلترا في مكامنها، كما كانوا سبباً في عدوان الألمان والإيطاليين على مصر في الحرب الأخيرة السالفة. فلماذا يريد الإنجليز أن يتخذوا أعواناً وأنصاراً على إذلال جيراننا، وأن يجعلونا نعترف ضمناً بأن لهم حق الدفاع عن هذه البلاد التي سلطوا عليها بَغْي استعمارهم؟ ولماذا تسفك مصر دماء أبنائها في سبيل المحافظة على هذه الإمبراطورية التي ملأت رحاب الأرض جوراً؟
ثم إن هذا العدوان إذا وقع، فهو النذير العريان بالحرب العالمية الثالثة، والمعتدى فيه معروف منذ اليوم للإنجليز ولغير الإنجليز. والأسباب الداعية إلى انفجار هذا البارود راجع إلى أسباب أخرى غير الرغبة في التوسُّع. وهو جشع الاستعمار القائم اليوم في هذا الشرق الأوسط والشرق الأدنى والهند. يوم يقع هذا العُدوان فالدُّنيا كلها ستهبّ هَبة رجل واحد، ولا يدري أحدٌ منذ اليوم كيف يكون الأمر غداً وأين تكون مصلحته، فعلام تريدنا إنجلترا أن نتعجَّل، وأن ندخُلَ نحن في حروبها التي ضرَّمتْ نيرانها منذ كانت، وأن نفرض على أنفسنا منذ اليوم قيداً لعلْ غداً يأمرنا أن نعيد إلى خلافه حتى لا نكون طعمة للمنصور إذا كانت إنجلترا هي الخاسرة؟ أليس يقول لنا ذلك المنصور يومئذ، لقد قاتلتموني وحاربتموني فأنا أستحلّ دياركم وبلادكم وأقداركم بحكم الفتح؟ فماذا تقول مصر يومَئذ؟ ومن زعَمَ أن سياسة الدنيا سوف تجري غداً على النهج الذي جرت عليه حتى اليوم، فقد أنكر عقله وأنكر تلك القوى العاملة التي تؤثر في سياسات العالم. ثم لماذا تريد إنجلترا أن تكون قيِّمة على مستقبلنا ونحن شعبٌ حيٌّ حرٌّ يريد أن تكون بلاده ملكا له ليتوخى لها مراشدها التي ينبغي أن يتوخاها؟ وإذا كان الإنجليز يؤمنون بأن مصلحتنا غداً ستكون في أن نكون معهم يداً واحدة، فعلام الجزع إذن؟ أو يظنون إننا نخرج غاصباً من بلادنا ثم ندعها نُهْى تتعاورها أيدي لصوص الأمم فلا نؤازرهم فيما نرى أن لنا فيه منفعة وصلاحاً؟ اللهم إن الإنجليز يعلمون أننا على حق في هذا كله وأنهم هم المبطلون، وإنما يريدون بهذا النص أن يمكثوا في بلادنا سادة يستضعفوننا ويمنعوننا أن نفعل في بلادنا ما نريد، أي أن نظل أمة لا جيش لها، ولا مصانع فيها ولا قوة لها، وأن تظل (مجالا حيويا) لهل ولأشياعها(700/4)
وأفاعيها من نفايات الأمم وحثالات الشعوب، وأن يكون وجودهم بيننا معواناً لهم على تفريق كلمتنا وتشتيت قلوبنا، وأن يظل المصري يحس بهذا الإحساس القبيح الذي يوهن القوى، وهو أنه غريب في بلاده.
أما الأساس الثالث: فهو شيء باطل كله لأنه مبني على الثاني، ولأنه شيء لا مثيل له تاريخ معاهدات الدنيا كلها، ولأن أخطاره على مصر أخطار موبقة. فإن كلمة القوى هي العليا، فإذا قلنا لإنجلترا إننا نرى كذا وكذا وقال إنجليز هذا المجلس، كلا إن هذا ليس لنا برأي! فمن يكون الفَيْصل بيننا يومئذ؟ أليست هي قوة الإنجليز نفسها؟ وإذا كانت مصر تخرج اليوم من استعباد خمس وستين سنة، فهل تظن أن الرجال المصريين الذين سيضمهم هذا المجلس، سوف يكونون أو يختارون إلا ممن ترضى عنهم إنجلترا وتقول إنها تستطيع (العمل معهم)؟ هل يظن غير هذا عاقل؟ يا لهذه من سخرية بنا وبعقولنا وبعقول كل من يقرأ هذه السفسطة الإنجليزية!.
أما الأساس الرابع، فإن مصر لم تعترف قط باتفاقية سنة 1899 ولن تعترف بها، وهذه المعاهدة تريدنا أن نعترف بها، وتريدنا أيضاً أن نرضى سَلفاً عن أبشع المبادئ التي لا عقل فيها، وهي بتر جنوب مصر عن شمالها. فالسودان ليس أمة نحن مستعبدوها بل هي جزء من مصر من أقدم عصور التاريخ، وهي أهم لمصر من مصر نفسها بشهادة عقلاء الساسة من إنجليز وغيرهم. ولو فرضنا أن فئة أضلتها الأموال الإنجليزية والوعود البريطانية والأكاذيب الملفقة، قامت في السودان وقالت: أنى أريد أن أكون أمة وحدي ودولة وحدي، فهل يُقبل هذا إلا إذا قبلت إنجلترا أن تقوم أسكتلندة - وبين الإسكتلنديين والإنجليز من الفروق ما لا يوجد مثله نين مصر والسودان - فتقول: سوف أكون لأمة وحدي ودولة وحدي. افترى إنجلترا تقول يومئذ نعم ونعمة عين وتخلي بينهم وبين ما يريدون، أم تخضعهم يومئذ بقوة السلاح وبالحديد والنار كعادتها في كل بقاع الدنيا؟ ونحن ولله الحمد ليس بيننا وبين السودان مثل هذا، بل السودان كله، إلا من طمس مال الإنجليز قلبه، كلمة واحدة على أنه جنوب مصر لا أنه أمة واحدة أو دولة واحدة. إن مصر لا تستطيع أن تفرط في بتر السودان من جسمانها، فإن في ذلك هلاكها وهلاك السودان جميعاً. فليقلع عن هذا الرأي كل من غفل عن حقيقة الوطن المصري أو الوطن السوداني،(700/5)
فمعناها سواء.
بقي شيء واحد هو إن إنجلترا قد خرجت من هذه الحرب في المرتبة الثالثة من دول العالم. فإذا جاءت الحرب الثالثة فإنجلترا خارجة منها لا محالة كما خرجت فرنسا - أي إنها سوف تخرج ولا تملك غير الجزيرة البريطانية إن بقيت لها، فعلام نربط مصايرنا بمصير مظْلَمٍ يُفزّع أهله منذ وضعت الحرب الأخيرة أوزارها؟ وكان ينبغي أيضاً أن لا يغيب عن أذهان أولئك الأذكياء أن هذه الفرصة إذا أفلتت فلن تعود، فإن إنجلترا اليوم لا تملك أن ترغمنا على شيءٍ، وإنها لتهددنا وتبدى وتعيد في تهديدها، ولكننا إذا صبرنا وعزمنا وأبينا ميسمَ الذل الذي تريد أن تسمنا به، فهي لن تملك إلا التسليم بلا قيد أو شرط. فكان عليهم أن يكونوا أبصر بخير هذه الأمة المجاهدة المصرية، وأجرأ على تلك الأمة الإنجليزية، ولو فعلوا لرأوا عجباً، فإننا إنما أُتينا من قبل الخوف والهيبة والعجز عن إمضاء العزيمة على وجهها ولكن لم يفت الأوان بعد، فاحملوا على أنفسكم أيها المفاوضون المصريون واملأ قلوبكم إيماناً بالله، وإخلاصاً للوطن، وأجمعوا رأيكم وارفعوا النير عن هذا الشعب بالإباء والأنفة والحميّة، ورفْض المفاوضة والمعاهدة، فإن إنجلترا لن تملك يومئذ صرفاً ولا عدلا، فإن لم تفعلوا فالله من ورائكم محيط. وأحذروا غضبة الشعوب فإن لغضباتها مواسم ككيّ النار هي ذل الدهر وسُبة الأبد.
محمود محمد شاكر
-(700/6)
على هامش النقد:
من مفارقات التفكير. . .!
الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال
للأستاذ سيد قطب
لا يزال الإنسان يصادف بين آونة وأخرى صنوفا من مفارقات التفكير، ما كان ليتصورها لو لم تقع فعلا في الحياة، وتبدو آثارها للعيان. فقد تجد الرجل المحقق المتفوق في علم أو فن، يبدي فيه الرأي، فإذا له الكلمة الصائبة، والنظرة النافذة. . . ثم يجاوز مادة تخصصه إلى شأن آخر، فتأتي بالكلام الذي لا تصدق نسبته إليه إلا إذا قامت له البراهين على انه قائله، لأنك تجد عندئذ رجلا آخر لا تعرفه، دون ذلك الرجل بمراحل ومسافات.
وأقرب مثل يحضرني اليوم هو الأستاذ إسماعيل مظهر. فمما لاشك فيه عندي أن الرجل مثقف مطلع، ذو مشاركة طيبة في الحركة الفكرية المعاصرة. . . ولكنني رأيته يكتب في جريدة الكتلة مرة ومرة عن كتاب (هذي هي الأغلال) بطريقة عجيبة، فمرة يقول: انه يساوي ثقله ذهباً؛ ومرة يرتفع بصاحبه على مقام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة! ويخلو أسلوبه على كل حال من التمحيص والاتزان اللذين أعهدهما فيه. . .
وعجبت من أن يكتب رجل كالأستاذ إسماعيل بمثل هذا الأسلوب، وأن يعتقد في مثل هذا الكتاب وصاحبه ذلك الاعتقاد. . . وظللت متحيراً في هذه الظاهرة العجيبة. وكنت قد قرأت الكتاب فوجدت صاحبه يتعلق بالتافه من خرافات العوام، ومن الأضاليل الخرافية التي حاربها الزمن في البيئة الإسلامية وانتهى من حربها منذ خمسين عاما أو تزيد. يتعلق بهذا التافه فيصول ويجول في الكفاح والنزال، ويبدو - كما قلت في مجلة السوادى - في هيئة (دون كيشوت) يطعن في الهواء يحسب طواحين الهواء فرسانا، وزقاق الخمر قساوسة! ثم ينتهي في التواء إلى أن هذه هي العقلية الدينية الإسلامية؛ فهي إذن عقلية لا تصلح للحياة ولا لوراثة الأرض. بينما الأوربيون يتبعون منطق الحياة، فهم إذن أولى بوراثة الأرض من أصحاب العقلية الدينية. وإذن فما يحق للشرق أن يثور على استعمار ولا أن يحنق على مستعمرين! وتلك هي النتيجة الحتمية لكل مقدمات الكتاب. ولعلها هي(700/7)
الهدف الأول الذي لف في طواياه!
ولا ينتهي الرجل إلى هذه النتيجة وحدها، عن هذا الطريق الملتوي المليء بالمغالطات، إنما ينتهي إلى نتيجة أخرى - لعلها هي التي قادته إلى سلوك هذا المسلك المريب؛ ولعلها كانت رائدة في كتابه وفي حياته. . . تلك أن العنصر الأخلاقي يجب أن ينفى من الحياة. فكل ما يقال له روح وضمير وخلق ودين. . . إن هو إلا (أغلال) ومعوقات وتعلات فارغة لا تجدي؛ والمعول في الحياة على القوة المادية: قوة الصناعة والتجارة والمال!
ولعل الرجل يطبق في كتابه وسلوكه تلك المبادئ الذهبية! أقول عجبت من أن يبذل الأستاذ مظهر إعجابه كله لمثل هذا الكتاب المريب في هذا الأوان، إلى درجة أن يستخفه الإعجاب، فيفارقه ما عرف به من النفاذ والتؤدة والاتزان. . . ولكن أخيراً تكشف لي السبب، فبطل مني العجب؛ وذلك في كلمة افتتاحية في المقتطف الأخير عن كتاب (هذي هي الأغلال) أيضاً!
إن الأستاذ إسماعيل فيما يظهر قد استغرقته الدراسات الفلسفية والدراسات العلمية - وفي أوربا خاصة - فلم يجد وقتاً يتتبع فيه الحركة الفكرية في الشرق العربي - وفي مصر خاصة. فظل يعتقد مخلصاً في اعتقاده أن أهم ما يشغل بال المسلمين في الآونة الحاضرة من أمور دينهم ودنياهم مسائل من نوع: (الكلام في مثل ما تكلم فيه السيوطي في كتابه (كشف المعمى في فضائل الحمى) وكتابه (الطرثوث في فضل البرغوث) أو ما تكلم فيه ابن حجر العسقلاني في كتابه (بذل الماعون في فضل الطاعون) أو ما ترى فيه كتب المناقب وغير كتب المناقب في الخرافات التي تهلع لها قلوب الأحرار، والأساطير التي تهتز لها الأرض وتفزع السماء، أو البحث في من يحمل فوق ظهره قربة ملئت فُساءً هل تصح صلاته بها أم ينتقض وضوؤه) كما كتب في هذه الافتتاحية العجيبة!
وهذه هي الخرافات التوافه التي أخذ المؤلف يبدى فيها وفي أمثالها ويعيد، ويصم التفكير الإسلامي كله بأنه يصدر عنها؛ ثم أخذ ينازلها كما نازل (دون كيشوت) طواحين السماء، ويشقها بسيفه كما شق (دون كيشوت) زقاق الخمر! والتي خيل للأستاذ مظهر أنها كذلك تشغل بال المسلمين في هذه العصور، فأخِذ بالقوة التي يهاجمها بها مؤلف الأغلال، فقال:
(أنتصر لهذا الكتاب، لأني أشتم فيه ريح القوة والجبروت والعزة التي هي من صفات(700/8)
الإسلام، وليست من صفات المسلمين!!
وهنا زال عجبي وعرفت القصة. فالأستاذ إسماعيل مظهر بقدر ما هو عالم ومطلع في الفلسفة الحديثة والعلم الحديث، بعيد كل البعد عن حركة الفكر الإسلامي في القديم أو في الحديث. فكل حديث عنها في نظره إعجاز وإبداع!!
ومثل إعجابه البالغ الذي لا يتحفظ فيه بهذا الكتاب كمثل من يعجب أشد الإعجاب برجل يشنها حرباً شعواء على من يقولون: إن الأرض محمولة على قرن ثور. فما تزيد معظم الخرافات التي تصدى لها المؤلف في أهميتها اليوم وفي مقدار اعتقاد الناس فيها، على اعتقاد بعض العامة أن الأرض محمولة على قرن ثور!
ويا ليت إخلاصاً يبدو في ثنايا الكتاب، حتى مع هذا التمحل وهذا التزوير المدسوس على عقلية الشعوب الإسلامية في العصر الذي نعيش فيه؛ إنما هنالك الريبة التي تخالج القارئ حين يذهب في القراءة إلى النهاية، فيشم رائحة غير نظيفة تشيع بطريقة ملتوية خبيثة، رائحة إشعار الأمم الشرقية بأنها لا تستحق وراثة الأرض، ولا تستحق سوى العبودية والذل، وأن الأمم الأوربية هي التي تستحق هذه الوراثة، وأن العرب خاصة في حاجة إلى حماية الإنجليز والأمريكان لهم، لأن الخطر الصهيوني يتهددهم وهم عُزل من كل قوة، ولا سند لهم إلا قوة خصومهم من الإنجليز والأمريكان!
ترى هذه هي (ريح القوة والجبروت والعزة التي يتحدث عنها الأستاذ إسماعيل؟ اللهم إن رجلا بعيداً عن كل اتصال بحركة الفكر الإسلامية، راعته البديهيات الساذجة التي يسوقها رجل مريب، فلم ينتبه في - زحمة الروعة - لهذا العنصر المريب!!
وكتب الأستاذ (عبد المنعم خلاف) في عدد (الرسالة) الماضي يشير إلى ما نبهت إليه من سرقة المؤلف لأفكاره في كتابه (أومن بالإنسان) وادعائه أنه لم يسمع بموضوع هذا الكتاب!
قلت في كلمتي بمجلة (السوادي) إنني لم أحترم هذا التجاهل، لأنه ليس سمة الباحثين المخلصين. وقال الأستاذ عبد المنعم بعد أن قرر أنه فرح لانتشار فكرته التي دعا إليها ست سنوات، فكرة الإيمان بالإنسان والاعتقاد بأن الحياة صادقة.
(ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز إذ رأيت الكتاب(700/9)
يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة:
(سيقول مؤرخو الفكر: إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. وإنه ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفكر عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!
(وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس، ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!
(إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقاً، يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت، ويدع له أن يحكم، ولا يتعجل الحكم حتى تعلنه الأيام سواء في حياته أو بعد مماته. . . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية التفكير يترفع عن أن يغمط حق غيره، وعن أن يغطي جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لأن هذا إن جاز في مجاز الإعلان عن المتاجر والمهن، فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق.
ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الأخلاق، وهو كما روى عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية، ولا قيمة لها في الرقي والاستعلاء).
والأستاذ عبد المنعم يحاكم الرجل إلى مبادئ ومثل يقول هو عنها: إن التشبث بها هو سبب تأخر الشرق وجموده. فما الخلق؟ وما الضمير؟ وما الحياة؟ إنها كلها (أغلال) تقيد الخطو وتخلق العثرات. إنما المهم كما يقول هي الأخلاق الصناعية والتجارية والمالية!!
والواقع أنها جرأة عجيبة، ولكن لماذا لا يجرؤ الرجل، وفي مصر كتاب كبار لا ينتبهون لهذه الجرأة العجيبة، فيسبغون على فكرة مسروقة ومستغلة استغلالا مريباً كل هذا الاهتمام والإعجاب؟
ولكنني أعود فأستدرك، فلعل هناك اتهاماً للأستاذ عبد المنعم، وطعناً في ضميره وخلقه ووطنيته حين نذكر أن فكرة الأغلال مسروقة من كتابه (أومن بالإنسان).
إنها مسروقة نعم في عمومها وفي الكثير من قضاياها، ولكن الأستاذ عبد المنعم كان يعالج فكرته في استقامة ونزاهة، ويحسب للدين وللخلق وللضمير حسابها في قيم الحياة، وحين(700/10)
دعا إلى الإيمان بالإنسان مستدلا بما أبدع في الأرض بفكره ويده، لم ينس أنه يهدف إلى قضية أكبر، وهي قضية الإيمان بخالق هذا الإنسان وقضية التسامي بضمير هذا الإنسان.
ولقد وافقت الأستاذ عبد المنعم على قضيته وأهدافه، وخالفته في طريقة استشهاده، ووددت أن يفسح للوجدانات الروحية، وللأعمال الفنية مكانا أكبر في الاستشهاد على عظمة هذا الإنسان، ليكون نشيد الإيمان به أوسع وأشمل، حين نضم إلى إبداع فكره ويده إبداع وجدانه ومشاعره.
أما هذا الرجل، صاحب الأغلال، فيأخذ الفكرة لينحدر بها انحداراً عن مستواها، وليبدو فيها ضيق الآفاق لا يتصور أن الإنسان جسم وروح، وأن الحياة مادة ومعنى. ثم ليستخدم الفكرة في الزراية على الشرق عامة والمسلمين خاصة، وليحطم في نفوسهم كل شعور بالعزة، وليسوّد عليهم مستعمريهم، وليثبت هم أنهم في حاجة إلى قوة هؤلاء المستعمرين، إلى أن يتخذوا طريقهم في الإنتاج!
وما يخدم قضية الاستعمار في طورها الحالي كما يخدمها بث هذه الروح. وإذا كان الشرق يعتز في جهاده للاستعمار بماضيه وبعقائده وبكرامته القومية، وبعدد من مثل هذه المعنويات. فهذا رجل منه يقول له: إنما تعتر بترهات جوفاء. والمستعمر أحق بوراثة الأرض منك، فلتحن هامتك إذن، فتلك سنة الحياة!
وبدلا من أن ينبه النقاد الكبار إلى هذا الاتجاه المريب يؤخذون بالدعاوة المفتعلة، ويبذلون إعجابهم المطلق للكتاب وصاحب الكتاب! والرجل والحق يقال: ماهر في الدعاوة، لا تقيده فيها الأغلال!!
ألا إنه لكتاب يساوي ثقله ذهباً، كما قال الأستاذ مظهر. ولعل من تهمهم مثل هذه الكتب لم يبخسوا الكتاب قدره وكل الدلائل تشير إلى أنهم لم يبخسوه قدره، والحمد لله!
سيد قطب(700/11)
نحو عالم جديد:
أندريه مالرو
فنه وتفكيره
للأستاذ علي كامل
لعل من النادر أن نرى بين أدباء الغرب المعاصرين أديباً بمثل روح العصر الحاضر مثل الأديب الفرنسي الشاب أندريه مالرو. وهو من هذه الناحية ومن حيث تأثير فنه على عقلية شباب هذا الجيل الذي نعيش فيه يقف إلى جانب الكاتب الكبير أندريه جيد. إلاّ أن كل منهما يتميز من حيث المشكلة التي يطرقها ويسعى لحلها. فأندريه جيد يكاد يقتصر فنه على معالجة المشكلة الجنسية التي يعتبرها مشكلة المشاكل، بينما يطرق مالرو الشخصية الإنسانية بأكملها، بكامل غرائزها ساعياً لتحديد موقفها في هذا العصر المضطرب الطافح بالانقلابات والتطورات.
كان أندريه مالرو منذ ابتداء حياته الأدبية كاتباً اجتماعياً لا يستطيع أن يتصور كيف يمكن للأديب أن يبتعد عن معالجة مشاكل المجتمع الذي يعيش فيه واتخاذ موقف محدد حياله. كان ألد عدو لذلك النفر من الأدباء الذين اتخذوا من خيانة الفكر مذهباً أسموه (الفن للفن) أو (البرج العاجي) يقبعون فيه غير عابئين بما يدور حولهم من مآسي الحياة ونكباتها حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى اعتبار أن مجرد المساس بحقائق الحياة المحزنة الدامية تشويه (لجمال) فنهم!!؟ إن هذه الزمرة من الأدباء في نظر مالرو ونظرائه من الأدباء الاجتماعيين ما هي إلا طائفة من المرائين الذين اتخذوا القلم سلماً للوصول والنفعية، وهم قبل كل شيء يعملون - بوعي أو بغير وعي - لخدمة مصالح الطبقات المميزة في المجتمع الإنساني، وهذه الطبقات لا يهمها معالجة مشاكل الحياة القاسية لأنها لا تعاني ويلاتها بل من مصلحتها - إذا لمحتها في طريقها - التغاضي عنها وتعمد تجاهلها؛ لأن أنانيتها لا تتفق وافتضاح الخلل في المجتمع الذي تعيش على حساب تعاسته، وتصعد قمة المجد على جماجم شهدائه
على أن مالرو لم يقتصر على استخدام قلمه لخدمة المجتمع الإنساني، بل كان يهب كلما سنحت الفرصة ليخدم بقوة السلاح المبادئ السامية التي يؤمن بعدالتها. فلم تكد تنشب ثورة(700/12)
الصين التحررية حتى سافر إليها يعمل إلى جانب جيوش الوطنيين في سبيل المثل الأعلى الذين يدافعون عنه. وعندما قامت الثورة الأسبانية الجمهورية بادر بالسفر إلى أسبانيا ليعمل في جيوش الجمهورية الشابة كطيار مدافعاً عن سماء مدريد الشهيدة. وأخيراً لم تكد تخر فرنسا على ركبتيها عام 1940 صريعة الخيانة حتى عاد مالرو إلى حياة الكفاح العملي فأبى أن يهجر وطنه في محنته وانضم إلى العصابات الفرنسية الداخلية ليكافح الغاصب. وعلى رغم هذه الحياة المضطربة الخطرة لم يهمل مالرو قلمه وهو سلاحه الأول للتعبير عن تفكيره فاشتغل في كتابة قصة طويلة من ثلاثة أجزاء بعنوان: (الصراع مع الملاك) ' وانتهى من الجزء الأول وهو (أشجار التبرج) ' الذي نشر في سويسرا عام 1943
كانت أول أعمال مالرو إصداره كتاباً صغيراً بعنوان: (إغراء الغرب) ' وهو عبارة عن رسائل يقارن فيها الكاتب بين المدنيتين: الشرقية والغربية، ونحس حين قراءتها بألمه وخيبة آماله في مدنية الغرب. وسرعان ما لفت هذا الكتاب الأنظار إلى مؤلفه الذي أحس النقاد بنواحي التجديد في تفكيره وما يختزن في صدره بما يبشر بظهور لون جديد من ألوان الأدب العالمي. وفي عام 1928 ظهر كتاب مالرو الثاني الفاتحون وهو أقرب إلى تحقيق صحفي منه إلى قصة. وفي عام 1931 ظهر كتابه الثالث (الطريق الملكي) وفي عام 1933 أخرج مالرو قصته: (الطبيعة الإنسانية) التي نال بها جائزة جونكور لذلك العام؛ وهي أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية.
وتفكير مالرو الذي يسيطر على جميع أعماله يتحدد منذ صدور كتابه الفاتحون ثم يجلو ويبلغ أقصى وضوحه في (الطبيعة الإنسانية). كانت هاتان القصتان حدثاً جديداً في الأدب الغربي إذ لم يسبق أن عالج الفن القصصي مشاكل المدنية الغربية بالطريقة التي عالجها بها مالرو في هذين الكتابين، وسار على نهجهما في كتبه التالية؛ وذلك من حيث التجديد في الفكرة وحرارة الأسلوب وطهارة الإخلاص.
يرى مالرو أن الإنسان منذ فجر التاريخ يميل (بطبيعته) إلى الثورة على الأمر الواقع وتحسين الحالة الراهنة واكتشاف ما يحيطه من المجهول، وكانت الأديان أقوى وسيلة لتهدئة هذا الجموح الطبيعي وإطفاء هذا الغليان الغريزي، وظل تأثيرها قويّ المفعول مدى قرون طويلة وأحقاب عديدة. ولكن الآن والمدنية الغربية قد بلغت مرحلة لا احترام فيها(700/13)
للعقائد ولا مراعاة لسنن الأديان، بل ولا اعتبار للأسس التي قامت عليها هذه المدنية التي أوشكت أن تنهار دعائمها بعد أن طفحت القلوب بالشك في قيمتها. الآن، ما هو موقف (الإنسان) و (النفس الإنسانية)؟ ما هو موقف الفرد الأوروبي أو غير الأوروبي إذا كان من أبناء المدنية الحديثة المتأثرين بتياراتها المتحررين من كل قيد تقليدي؟ يرى مالرو أن الإنسان الجديد يقف أمام أمرين لا ثالث لهما: فإما الاستسلام للأمر الواقع والتردي في هذه الفوضى الغاشمة التي لا ضابط لها ولا حياد فيها؛ وإما التعلق بمثل أعلى لخدمة نفسه وخدمة المجتمع البشرى كما يتعلق الغريق المحتضر بقارب النجاة.
أما الأمر الأول فهو طريق الضعفاء فضلا عن أنه لا يتضمن جمال الإحساس بالقيام بعمل سام جميل. وأما الأمر الثاني فهو الطريق السويّ الطبيعي لذوي النفوس العالية، والإنسانية الواسعة، وهو الطريق الذي اختاره أندريه مالرو لأبطاله مصوراً حياتهم وطريقة تفكيرهم، وضروب تضحيتهم وسمو إيمانهم. فنرى (جارين) في قصة (الفاتحون) و (كيو) في قصة (الطبيعة الإنسانية) شخصيتين من تلك الشخصيات التي لا تستطيع الخضوع لحياة لا غرض لها إلا قضاء أيام متشابهة مملة. فهما يعانيان ذلك المرض الذي لا يختلف كثيراً عن المرض الذي يسمونه مرض القرن والذي - كما يرى مالرو - هو بالنسبة لفئة من الناس مرض جميع القرون. . . إن هذه الدنيا لا تكفيهم. إنها لا قيمة لها إذا لم تمنحهم الفرصة لانفجار كل نواحي الكفاح والنشاط فيهم. إن حياتهم لا مبرر لها ولا قيمة إذا لم يحققوا للإنسانية أفكاراً سامية.
ولما كانت كل مصائب المجتمع الحاضر مبعثها الظلم الاجتماعي وعلاجها إيجاد مجتمع بشري تسوده العدالة الاجتماعية والإخاء الإنساني. لهذا تعمد مالرو اختيار أبطاله من رجال المثل العليا في السياسة والاجتماع. فإصلاح المجتمع في نظره وتسييره في الطريق الذي تفرضه روح العصر هو الأساس الذي بغيره لا يرجى إصلاح في العلم أو الفن أو الأدب أو الأخلاق أو غيرها.
كان (جارين) ثائراً على كل شيء. كان ثائراً على المجتمع، كان ثائراً على الغرب وماديته فهجره إلى الصين حيث الملايين الحاشدة ينشر بينها تعاليمه الاشتراكية ويبين لها حقها في الحياة. كان ثائراً على الدين لأن الأديان في نظره كانت دائماً على مر القرون هي الميناء(700/14)
الذي تهدأ عنده ثورة النفوس البشرية ويخمد جموحها. كانت العزاء والملاذ الأخير لكل منكوب (إذ كيف يمكن لمصاب بالبرَص - كما يقول - أن يستسلم لمصيره ولا يسمم الآبار التي يقترب منها إذا لم يَفِض قلبه بالأمل في حياة ثانية حيث تعوّضه العدالة عن مصيبته وينال النعيم الأزلي؟).
فجارين يريد أن يعيش واقعياً بكل ما في هذه الكلمة من معان. إنه يريد أن يحقق الجنة الأرضية لأنه مثالي يؤمن بالمثل العليا ويوقن بإمكان تحقيقها بالجهاد والتضحية. إنه يستهين بالمخاطر ويواجه الموت إلى جانب الأحرار الصينيين في ثورة كتنفرن راضياً مطمئناً. ومثل شخصية جارين نرى شخصية (كيو) وشخصية الطالب (تشن) في قصة (الطبيعة الإنسانية). هذين الشابين الصينيين اللذين آمنا إيمان المؤمن بدينه بعدالة قضية الصين في جهادها التحريري. هذه الشخصيات الثلاث نراها جميعاً تلقي بنفسها في ذلك المحيط الثوري بقوة عنيفة ودافع خفي مستعذبين كل تضحية؛ لأن المثل الأعلى عندهم دين كسائر الأديان، والدين في حاجة إلى شهداء. ومن ذلك نرى أن أندريه مالرو لا يعتقد أن هناك فرقاً بين هؤلاء المثاليين وأولئك المتدينين الأوائل الذين كانوا يحطمون الأوثان وأقصى آمالهم في الحياة أن يتعذبوا من أجل عقيدتهم الدينية. فتصوير هذا النوع الشائع من الشبان المثاليين المتحمسين هو أهم ما يطبع كتب مالرو بطابع القوة والعظمة.
وللقارئ أن يتساءل لم اختار مالرو حوادث قصته (الفاتحون) و (الطبيعة الإنسانية) في الصين النائية كما ذكرنا. أليس في بلاد الغرب مجال لظهور هذه الشخصيات؟ ألم يجد في غير الصين مجالا لظهور الأبطال وأعمال البطولة؟ إن مالرو العالمي التفكير يتبع النهضات القومية أينما ذهبت. فكما اشترك بنفسه في كفاح الصينيين القومي مما أوحى إليه كتابة قصتيه هاتين، كذلك حارب في صفوف الجمهوريين الأسبان كما عرفنا، وكتب عن الجمهورية الشابة قبل أن تتئدها الرجعية الفاشية كتابه المشهور (الأمل) (1957). لقد وجد مالرو في هذه البلاد الحية بحركاتها الشعبية مجالا خصباً لذلك النوع من الأبطال الذين اختارهم لقصصه. فهو يرى أن العالم الغربي أصبحت تسوده للأسف الوطنية المتعصبة. فالحدود مغلقة، والمادية تطغي على كل شيء، والفردية يلمسها المرء أينما حلّ. فأوروبا الحاضرة في نظر مالرو لم يعد فيها إلا نوعان من الكفاح: الأول كفاح العالِم الذي(700/15)
يفني السنين في اكتشاف علمي وهذا الأمر ليس في متناول غير العلماء المتخصصين، والثاني كفاح رجال الأعمال لتكوين الأموال مما صبغ الحياة كلها بالمادية البذيئة التي لا تعرف الرحمة. أما هناك، هناك في الشرق البعيد حيث ألّف بين الناس البؤس المشترك والشقاء العميم، حيث وحّد بين قلوب الملايين الغفيرة الإيمان القوي والقلق العام والحساسية المرهفة؛ هناك الحقل اليانع لأصحاب المبادئ السامية والمثل العليا الجريئة التي سرعان ما تتشبث بها الجماهير وتتفانى في خدمتها بمجرد إحساسها بأنها طريق الخلاص، واقفة منها موقف المؤمن بدين جديد جاء ليغير حياته ويبعثه بعثاً جديداً.
ولقد كانت في الحرب الحاضرة ومحنة فرنسا مادة غزيرة أمام أندريه مالرو ولدراسة الشخصية الإنسانية في ظروف جديدة وأماكن غير الأماكن التي وقعت فيها حوادث قصصه السابقة. فكتب كتابه الأخير (أشجار التنبرج) وهو كما ذكرنا الجزء الأول من قصة طويلة في ثلاثة أجزاء بعنوان (الصراع مع الملاك).
و (أشجار التنبرج) عبارة عن ثلاثة أقسام: القسم الأول تقع حوادثه في يونية عام 1940 في أحد السجون في بلدة شانز بفرنسا. وفي القسم الثاني يصف الكاتب حياة والده حتى الحرب العالمية الأولى فنعرف منه أن والده ألزاسي المولد بقي في الألزاس حتى عام 1870 ثم عين مدرساً في جامعة استانبول اختير بعد ذلك مستشاراً للجنرال أنور باشا، ثم أُرسل في مهمة إلى أفغانستان وبعد سنين طويلة في تلك البلاد الشرقية يعود إلى وطنه الألزاس حيث يموت والده (جدّ الكاتب) بعد وصوله بفترة قصيرة. وفي الألزاس يشترك في (أحاديث التنبرج) وهي أحاديث تدور على موضوعات معينة في كنيسة قديمة حيث يجتمع تحت زعامة عمه (والتر) نخبة من المثقفين والعلماء والأساتذة من مختلف البلدان، وفي عام 1915 تقوده الحرب إلى جبهة الفستولا، حيث يشترك في هجوم بمساعدة الغازات السامة. وهناك يترك المؤلف والده مغشياً عليه في ساحة القتال؛ منهك القوى أثر المناظر الوحشية التي شاهدها ومن تأثير الغاز. يتركه ليعود إلى نفسه، وعندئذ يبدأ القسم الثالث من القصة فنرى أنفسنا في عام 1939 نصحب المؤلف في سيارته المدرعة حيث يواجه مع رفاقه الموت الحاصد الذي يخرجون منه بأعجوبة فينظرون إلى العالم تحت ضوء فجر جديد لامع، وبعيون جديدة، عيون نسيت الماضي ولم تعد تعرف غير الحاضر.(700/16)
وهنا تنتهي قصة (أشجار التنبرج) أول جزء من قصة (الصراع مع الملاك).
ومنذ بداية هذه القصة أيضاً في ذلك السجن الموحش المعزول عن العالم الخارجي، نرى أندريه مالرو يعود إلى موضوعه الرئيسي وشاغله الأول في كل ما كتبه وهو (الإنسان). . .
أسمعه وهو يقول: (منذ عشر سنوات لا يشغلني ككاتب غير موضوع واحد هو الإنسان. ذلك هو الموضوع الأساسي في فني). وهذا الشاغل نلمسه يتملك والده أيضاً حين يقص علينا مالرو حياته ويروي لنا (مقابلاته) مع الإنسان، وهي مقابلاته الشخصية مع الموت والقسوة الإنسانية والقدر الغامض. يقول والده: (إن اللغز الأكبر ليس في أنه أُلقى بنا دون حساب بين المواد المتفجرة الغزيرة وبين الكواكب. بل إننا ونحن في هذا السجن كنا نستمد من أنفسنا صوراً قوية لتكذب واقع حياتنا وهو أننا كائنات لا وجود لها) وهذا اللغز هو ما تريد (أحاديث التنبرج) أن تكشفه. فكل المناقشات تدور حول هذه المسألة. هل يمكن إيجاد تحديد معين لمعنى كلمة إنسان؟ (إن الإنسان بمعناه الحقيقي ما هو إلا أسطورة. هو حلم في ذهن المفكر). فما الذي نعرفه عن الإنسان؟ إننا لا نكاد نعرف شيئاً (فحتى الثقافة لا تعلمنا شيئاً عنه. إنها تعلمنا بكل بساطة ماهية الرجل المثقف بقدر ما هو عليه من ثقافة) إننا نعرف فقط (أننا لم نخَيَّر حين ولادتنا وأننا سوف لا نخَيَّر عند موتنا، وأننا لم نختر والدينا، وأننا لا نستطيع شيئاً حيال الزمن، وأن بين كل منا وبين العالم فاصلا معيناً. وعندما أقول إن كل إنسان يحس بقوة بوجود القدر فأنني أقصد أنه يحس - بحرارة ومن وقت لآخر على الأقل - باستقلال الكون عنه وإهمال المجتمع لشأنه).
هذا الإحساس المرير من جانب الفرد بعزلته في هذا العالم مما دفعه إلى التعلق بالقدرة والاستعانة بالخيالات والأوهام لتبرير حياته والرضى بما هو فيه من هو إن هو في نظر مالرو نتيجة تفكك الروابط الاجتماعية في حياتنا الحاضرة، وطغيان المادية على كل اعتبار حتى هانت القيم البشرية، وأصبح الاستهتار بكرامة الإنسان وحياته وتضحيتهما هشيما سهلا في سبيل المآرب الذاتية، أمراً ما أهونه في هذا العصر الذي سماه أندريه مالرو بحق وأطلقه عنواناً لأحد كتبه الخالدة (عصر الازدراء) للمخلوق البشري!
ما القَدر الذي نصادفه دائماً في قصص مالرو؟ هو ذلك الملاذ الغامض الذي يلجأ إليه(700/17)
الإنسان حين يحس بوحشيته في هذا العالم وتتوالى المظالم والنكبات عليه دون أن يعرف لها مبرراً أو تفسيرا. . . فلكي ننتزع الإنسان من استعباد القدرية ونحرر شخصيته ونرد له اعتباره يجب كما يرى مالرو أن نخلق له مجتمعاً واقعياً تسوده قوانين العلم والمنطق؛ مجتمعاً يحس فيه بوجوده ويدرك بين أحضانه أنه يعمل للمجموع ويعمل المجموع له. وهذا المجتمع لا يتحقق إلا بنظام اجتماعي تسوده العدالة والإخاء البشري وتبرز في ظلاله قوى الفرد ونواحي نشاطه لتتسلط بقوة العقل على قوى الطبيعة الغاشمة وتخضعها لخدمة الإنسان بدل أن تخضعه هي لطيشها وعتوها.
وأسلوب مالرو أسلوب حزين، عميق كتفكيره، جامح كفنه الرائع. ذلك الفن الذي يضعه في مقدمة كتاب العصر التقدميين والذي تنبض أرجاؤه بتلك العالمية الواسعة وذلك الهم الذي يحمله فوق ظهره في سبيل الإنسانية وخيرها.
علي كامل(700/18)
خواطر مسجوعة:
الصديق. . .
للأستاذ حامد بدر
الدمعة التي مستها الراحة جفّت، والنازلة إن شورك فيها خفّت، والطود الذي عظم، ينقص لو قسم؛ وكلنا هدف لنوَب الزمان، لم يأخذ أحد لنفسه الأمان!
نشرب الكأس حَلوة مَرة، ومَرة مُرة. ومن وجدته في الضيق، فذلك هو الصديق، وذلك هو الكنز الثمين، والساعد اليمين. . .!
الصديق الذي يواسيك، في مآسيك، ويؤثرك على ذاته، ويقيك بحياته. فإن ظفرت بذلك، ولا أخالُك، فاهدم حجة من قال: وجود الوفي محال!
وعندي لا صديق غير هذا الطراز، إلا على سبيل المجاز. فاصحب الصديق المجازيَّ على عيبه وداره، وعالجه بإقالة عثاره. وقدر الفضل لأهله وإن قل، ولا تجحد البعض إن لم تنل الكل. وأحسن الظن بالصريح البريء، وتغاض كرماً عن عيب المسيء؛ فالصاحب إن نقدته فقدته، والعيب إن تفقدته وجدته!
أدعو إلى الصداقة ولا أنهى، وإن كنت طعينا منها! صاحبت أخداناً وخلاناً، وخصصت بالثقة فلاناً، وتوالى الجديدان، وطال الزمان، وزعمت أني ظفرت من دنياي، بما لم يظفر به سواي، وفاخرت بصديقي الصحاب، وجعلته حديثي المستطاب. وكل همي إقامة البرهان، على أنه صفوة الإخوان، وأنه الذي لا يتغير عند انتياب الصروف، ولا يتنكر بتنكر الظروف؛ فإن قيل لا وفيّ قلت كلا، هذا هو المستثنى بالا. ولكنه برغم أنفي أعرب، بحجة تقطع شك المريب، على أنه اسم معرب، يتغير بتغير التراكيب!
(الزنكلون)
حامد بدر(700/19)
شهادات للإسلام من غير المسلمين
للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد
قال (جول مهل): العرب والرومان أقدر الشعوب في التشريع:
وقال (الأستاذ نيس) إن شريعة الحرب والأنظمة العسكرية عند الأسبانيين تأثرت كثيراً بشريعة الحرب عند المسلمين، كما تأثرت فلسفتهم بفلسفتهم وآدابهم بآدابهم.
وقال (فاندنبرغ): لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه الرسول وأتباعه من الشعور الإنساني النبيل، ففيها نجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة.
وقال (يورغا): ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها، ويأكلون لحوم القتلى في أيام القحط، وقد أسرفوا في القسوة حتى أنهم كانوا يبقرون البطون ويبحثون في الأمعاء عن الدنانير. أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم كل الوفاء بالشروط المعقودة، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطئوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل شقيق السلطان أعتق ألف رقيق، ونودي بأن كل من يخرج من باب معين في المدينة يكون آمناً، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة في مقدمتهن بزيارة أزواجهن. وكان الجنود الذين يصحبون اللواتي أمرن بالجلاء يعطفون عليهن أشد عطف ويواسونهن كل المواساة. ولا يمكن أن يظهر فضل صلاح الدين وكمال خلقه بأحسن من تهديده السفن الإيطالية حتى ترد أولئك البائسين إلى ديارهم وكذلك كانت سيرة الملك الكامل لما أخذ بمخنق الصليبيين في واقعة دمياط فأحاط بهم النيل وهددتهم المجاعة وإليك ما وصف المسلمين به أحد الذين حضروا الواقعة من مؤرخي النصارى قائلا: هؤلاء الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وأخوتهم وأخواتهم بطرق شتى. . . هؤلاء الذين سلبناهم أموالهم وأخرجناهم عراة من منازلهم، تداركونا وسدوا خلتنا وأطعمونا بعد أن أهلكنا الجوع، وما زالوا يحسنون إلينا حتى غمرونا ببرهم وإحسانهم لما كنا في ديارهم وفي قبضة أيمانهم، فلو ضاع لأحدنا عير لما أبطأ رده(700/20)
إلى صاحبه.
وقال الأستاذ فارس الخوري:
إن محمداً أعظم عظماء العالم، ولم يجد الدهر بعد بمثله. والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمداً أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله وبأنها متفقة مع العلم مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية. إن محمداً أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم، فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عينت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسس تعد من أرقى دساتير العالم وأكملها.
وقال الأستاذ أيضاً: البون شاسع بين شريعتي موسى ومحمد عليهما السلام، فالأولى: تأمر بالتقتيل بلا إنذار ولا عهد ولا صلح ولا دعوة لإيمان، فلا يقبل من الأعداء اليهود، ولا يعصمهم من القتل والفناء الإيمان، خوفاً من الارتداد فيما بعد، ولا يسمح لهم بالرحيل والجلاء عن بلادهم لتخلو لليهود الفاتحين، خوفاً من استجمام القوى والكر على الغاصبين. والثانية: تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وإن أبوا فالجزية، وإن أبوا فالقتال. وهذه دعوة دينية قبل كل شيء.
وقال أيضاً: المقايسة بين الشرع الإسلامي والشرع الروماني لا نراها تستقيم لنا بالنظر لاختلاف الهدف والسنة بين الشرعين: الأول منهما قائم على قواعد العدل المطلق ومقتضيات العقول. والثاني على المصالح والمنافع الدنيوية. فيبنى على هذا التخالف أن الأساس في الشرع الإسلامي مصلحة الفرد في الدنيا والآخرة: وفي الشرع الروماني مصلحة الجماعة فقط. وهذه المبادئ ظاهرة آثارها في كل صفحة من صفحات هذين الشرعين تفرق بينهما تفريقاً يتعاصى على المزج والتوحيد، حتى إن الحكيم يكاد يستنبط استنباطاً الحكم بالمسائل المعروضة في كل من الشرعين إذا اعتبر بهذه القواعد ورَجع إليها. وفي الأعم الأغلب يكون ظنه يقيناً؛ مثال ذلك مرور الزمان، إما أن يسقط الحق وإما أن يسقط الدعوى؛ فالشرع الإسلامي لا يمكن أن يقول بسقوط الحق لأن الحق يبقى في الذمة، والفرد لا تبرأ ذمته إلا بالوفاء أو بالإبراء، مهما مر من الزمان على الحق، ولذلك(700/21)
قال إن الحق لا يسقط بتقادم الزمان وإنما يمنع الحاكم من سماع الدعوى. فلم يكتف الشارع الإسلامي بتأمين مصلحة الدنيا بل استهدف مصلحة الآخرة أيضاً، في حين أن الشارع الروماني اتخذ الجانب الآخر وقال أن الحق المتروك يسقط والساقط لا يعود. ولم يكترث بأثقال الذمة وعقاب الآخرة. لذلك ترى أنه ليس من السلامة القول بأن أحد هذين الشرعين مأخوذ عن الآخر. وإذا طالعت أقوال فقهاء الأمتين في إحدى المسائل تجد كل فئة تعلل اجتهادها بطريقتها الخاصة مراعية المبادئ المتقدم ذكرها، غير متأثرة بالأساليب وطرق التعليل التي سلكتها الفئة الأخرى.
وقال الأستاذ كذلك: من أين لأمير من أمراء القرون الوسطى غير مأخوذ بالعاطفة الدينية وغير حريص على سلامة أخرته أن يجعل رائده تقوى الله في حروبه وغزواته، ويحرص على كل ما ينيله ثواب الخلود والمرتبة العالية في الجنة بالتزام العدل والرحمة والبعد عما يشوب طهارة النفس وفضائل الأخلاق؟ ذلك ما نراه شائعاً بين أمراء المسلمين وقوادهم، وأمثلته كثيرة.
ومن أحسن ما نذكره في هذا القبيل أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد: (ونح منازل جنودك عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحد من أهلها شيئا ً، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم ففوا لهم). ففي هذا الأمر الصريح لا يكتفي أمير المؤمنين ابن الخطاب بالتوصية الحسنة بأهل الصلح والذمة، بل تجاوز في الرفق بهم العهود المقطوعة لهم، وفيها أنهم يضيفون عسكر المسلمين ثلاثة أيام، أما هو فأمر بتنحية العسكر عن قراهم حتى لا يصابوا بأذى ولا معرة. وفي هذه الفقرة بيان يدلي به هذا الإمام العظيم عن ثقل وطأة الفاتحين على أهل البلاد، ومرارة نفس الغالب في عدم الاعتداء على مغلوبه، فقال لقومه: إنكم ابتليتم بالوفاء بحرمة أهل الصلح وذمتهم، كما ابتلوا أيضاً بالصبر على تغلبكم وتحكمكم بهم في بلادهم فعليهم الصبر وعليكم الوفاء.
وقال أيضاً: في الإسلام كثير من الأمور التي تستوقف نظر المطلع فيعجب عندها من فكرة العدل المجرد الراسخة في نفوس زعماء العرب وحرصهم على النهج القويم والصراط المستقيم في أفعالهم وصلاتهم مع محاربيهم ومعاهديهم، من ذلك الأصول التي وضعت للنبذ(700/22)
عند جوازه، فإذا فسخوا الصلح وأصبحوا في حالة حرب لا يناجزون خصومهم إلا بعد إعلامهم بالفسخ، ومضي الوقت الكافي ليخبر الملك رعاياه في أطراف البلاد وعند تخوم المسلمين، حتى إذا هاجمهم هؤلاء لا يكونون مأخوذين على غرة وغفلة. وهذه درجة من الإنصاف قصر عنها أهل زماننا مع ما عندهم من حقوق الدول وقواعد الحرب، فإن دول العصر الحاضر تبدأ بالهجوم وسائر أعمال الاعتداء حالما تعلن الحرب، دون أن تكون مجبرة على الانتظار بعد الإعلان، حتى إن بعضها تهاجم قبل إعلان الحرب بصورة رسمية كما فعلت اليابان بالمدرعات الروسية الراسية في ميناء سيول في لوريا سنة 1904 وغير ذلك.
ومن هذا القبيل قاعدة عدم أخذ العامة بجرائر الخاصة، وهذا مستند للآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فنهوا عن تحميل المغارم أهل القرى بالجملة لأجل الجرائم التي يقترفها أفراد منهم. وأنت ترى أن حكومات هذا العصر تفرض الغرامات على القرى وتأخذ الطائعين فيها بجريرة العاصين. وأمامنا حوادث التقتيل والتهجير في القرن العشرين بمرأى أوربة ومسمعها، وإن شئت فقل برضاها، تدلنا على أن العرب في عنفوان دولتهم كانوا أقرب إلى العدل والإنصاف من أكثر أهل هذا الزمان.
وقد شرعوا أيضاً أن خروج الشراذم من المعاهدين واعتداءهم على بلاد المسلمين بغير إذن ملكهم لا يعد نقضاً للعهد ولا يوجب الغرم على الملك المعاهد أو على قومه بصورة عامة. وهذا مبلغ من الإنصاف جدير باحترام أرقى الصور وأعلقها بالإنسانية والعدل. وما زالت الدول غير خاضعة لهذه القاعدة ولا عاملة بها، فقد حملت إيطاليا الغرم دولة اليونان بسبب اعتداء بعض اليونانيين على البعثة الإيطالية في اليابان، وفرضت عليها غرامة خمسين مليون فرنك مع أشياء أخرى واحتلت جزيرة كورفو ضماناً لإنقاذ هذه المطالب. وفعلت إنكلترا مثل ذلك مع الحكومة المصرية في مقتل السر لي ستاك باشا فأخذتها بجريمة بعض الشبان. وجرى في بلاد الشام حوادث شتى من هذا القبيل في أثناء الحرب العالمية السابقة، وبعدها في أيام الثورة، كما أخذت النمسا حكومة السرب بجناية اغتيال ولي العهد بيد فتى سربي، وكان كذلك سبباً مباشراً لاضطرام الحرب الكونية (الماضية)، وغير ذلك.
ومن المبادئ العربية العالمية اجتناب قتل النساء والأطفال، وهذا أيضاً تقاصرت عنه(700/23)
المدنية الحديثة فإن وقائع الحرب العالمية وحوادث ثورة دمشق سنة 1925 و 1926 وما لا يحصى غيرها من فواجع القتال أدلة ناطقة على أن قواعد حقوق الحرب التي تحظر على المحاربين إطلاق القنابل على الأماكن غير المحصنة لا توجد إلا في بطون الأوراق والدفاتر.
وقال (هولتز ندورف) و (ريفي): إنه يوجد في الفقه الإسلامي جميع القواعد الجوهرية التي تتعلق بشريعة الحرب، ولم تقتصر على الفتح والغنيمة بل تجاوزتها إلى فرض الضرائب وذكر المواد المحرمة على التجارة ونظائرها، مما لا يختلف إلا اسمه عما يستعمل في يوم الناس هذا.
وقال (غولد زيهر): إن معاملة الفاتحين من المسلمين لأصحاب الأديان الأخرى في هذا العهد الأول الذي وضعت فيه أسس الشرع الإسلامي كانت معاملة رفق ورحمة، وليست الخطط التي تسير عليها الدول الإسلامية في هذا العصر مما يقرب في أخلاقها السياسية من التسامح إلا وهي مقتبسة من القواعد التي وضعت في النصف الأول من القرن السابع، ومن إطلاق الحرية لغير المسلمين من الموحدين في القيام بفروضهم الدينية. . . وكما أنهم كانوا أحراراً في دينهم فقد كان على المسلمين أن يحاسنوهم في شؤون دنياهم، وعد ظلم أهل الذمة من الذنوب والكبائر.
وقال (المسيو لوران) المؤرخ الفرنسي: إن أرمينية التي سبق لها أن دخلت في طاعة هرقل، أحسنت بعد ذلك استقبال المسلمين للتحرر من ربقة بيزنطة، ولتستعين بهم على مقاتلة الخزر، فعاملهم العرب معاملة حسنة، وتركوا لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها.
أما الأساس الشرعي لاستقلال أرمينية المحلي، فهو عهد أعطاه معاوية سنة 653 إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه، فكانت اضطهادات بيزنطة الدينية دافعاً للأرمن على الدخول في هذا العقد على عجل والرضا بسيادة العرب الذين هم أكثر تسامحاً من الروم. وهذا الشرط الذي منح لأرمينية انتهى أمره بأن أصبح قاعدة للعلاقات بين العرب وجميع النصارى القاطنين في الولايات الأرمينية. وقد أعطى به معاوية عهده للأرمن ما داموا راغبين فيه، من جملته ألا يأخذ منهم جزية مدة ثلاث سنين، ثم يبذلون له بعد ذلك ما(700/24)
شاءوا كما عهدوه وواثقوه، وعليهم أن يقوموا بحاجة 15 ألف فارس منهم ينفق عليهم من أموال الجزية، ولا يستدعى هؤلاء الفرسان إلى الشام ولكنه يرسلهم إلى سواها حيث يشاء، ولا يرسل إلى معاقل أرمينية أمراء ولا قواداً ولا خيلاً ولا قضاة، وإذا أغار عليها الروم أمدها بكل ما تريده من نجدات. وهو يشهد الله على قوله.
فعلى هذا العقد أصبح الأرمن مستقلين في بلادهم تابعين لسيادة الخليفة العليا، على شروط ارتضوها، فاحتفظوا بأمرائهم ورؤسائهم وأوضاعهم العسكرية وطبقاتهم الدينية، وكان الخليفة يكتب إليهم عهوده كما يكتب إلى أمراء المسلمين، ويلبس الأمير الجديد في موكب حافل تاجاً وخلعة فاخرة وسيفاً ويركب فرساً ويقلد كل رسوم الأمارة وشاراتها، ثم يستعرض الجند في أحسن هيئاتهم وهم يرتلون الأناشيد ويعزفون بالموسيقى، ويتلى بعد ذلك عهد الخليفة.
هذا وعلى ما كان يتمتع به أمراء الأرمن من الاستقلال، فقد كان يشرف عليهم ويراقبهم أمير من لدن الخليفة، وقد يكون في الغالب عامل إحدى الولايات المجاورة.
وقال (الدكتور جب) المستشرق الإنجليزي:
لابد للباحث عن مصير الإسلام أن يتساءل عما إذا كان من الممكن أن يحتفظ المسلمون بوحدتهم الدينية أمام هجمات العلوم الأوربية، وتجاه الفوارق السياسية.
ولابد له أن يفكر فيما إذا كان الإسلام عدواً للمدنية الغربية أو نصيراً لها، وفيما إذا كان اقتباس المسلمين لهذه المدينة سيوجد بينهم فوارق فكرية تجعل منهم أمماً مختلفة الآراء والثقافة؟
يظهر لأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال مستحيلة، إلا أنه يمكن للباحث أن يتنبأ من سير الحوادث بشيء عن مستقبل الإسلام.
لاشك في أن البلاد العربية المتجانسة كمصر والجزيرة وسورية والعراق ستلعب دوراً يكون له الشأن الأول في مصير الإسلام.
لهذه البلاد المتجانسة ثقافة راقية تتقدم يوماً فيوماً بفضل اللغة العربية الفصحى وسهولة المواصلات، مما يساعد على توحيد الثقافة فيها توحيداً تاماً.
إن يقظة الإسلام في مصر وفلسطين والجزيرة والعراق وسورية حقيقة لا تنكر، ولن تقف(700/25)
في سبيل هذه اليقظة عقبة، خصوصاً وأن من المستحيل أن يجري في البلاد العربية ما جرى في بلاد الأتراك.
العرب يتمسكون بلغتهم وأدبهم، ويتغنون بمجد الإسلام، ولم تقم في بلادهم أية حركة وطنية إلا كانت الروح الإسلامية أساسها. فهل يفكر العرب بعد هذا بإبدال حروف لغتهم بالحروف اللاتينية، أو أن يتنحوا عن لغة القرآن التي تربطهم بالعالم الإسلامي كافة؟ هذا مستحيل، وستبقى الروح الإسلامية تسود بلادهم وتتقدم أبداً بلا كلل ولا ملل، ولا يطرأ عليها أي ضعف أو وهن. العرب بحاجة ماسة إلى هذه الروح لأنها أساس حياتهم القومية، ويجب على كل مسلم أن يتمسك بأهدابها إن كان للمسلمين أخلاق، ولا أظنهم إلا متمسكين بها.
ستصبح القاهرة والقدس بمرور الزمان في الدرجة الثانية عند المسلمين بعد مكة، وسيؤمها طلاب العلم من كل قطر إسلامي؛ وستزودهم هاتان البلدتان بدعاية قوية للفكرة الشرقية يبثونها في بلادهم، وتساعدهم على بثها الصحافة العربية التي بلغت من الرقي والتهذيب درجة سامية. أما الفوارق السياسية التي يخشى جانبها فلا تؤثر أبداً في إسلامية الشرق العربي.
وقال مستر بلانت (في الجزء الثاني من مذكراته) بتاريخ 24 سبتمبر سنة 1909 كتب إلى برنارد شو يقول: أخشى أننا سنلاقي أوقاتاً عصيبة في الهند ولكن على الهنود وعلى المصريين أيضاً أن يعملوا على تحقيق حرياتهم، فليس في وسعنا أن نطلق سراحهم من تلقاء أنفسنا ما لم يتخلصوا هم من بين أيدينا عنوة، وما لم تجابهنا الهزيمة ويتداعى صرح الإمبراطورية في جهات أخرى، فيضطرنا كل ذلك إلى الخروج من تلك البلاد كما خرج الرومان من بريطانية.
محمد عبد الوهاب فايد(700/26)
صحائف مطبوعة:
عمر بن الخطاب الأديب
للشيخ محمد رجب البيومي
أنصف المؤرخون عمر بن الخطاب رضي الله عنه كخليفة عظيم، فكتبوا عنه الأسفار المتنوعة التي تبرز سياسته الفذة في حل المعضلات وتوجيه الأمور، ولكننا لا نجد فصلاً واحداً منها تعرض إلى ما كان له رضي الله عنه من ذوق سليم في نقد الشعر وقدم راسخة في تفهم مراميه، مما انتثر في كتب الأدب عقده، دون أن يظفر بمن يجمع نظامه في سلك خاص. وهكذا نجد كثيراً من عظماء التاريخ قد تعددت مواهبهم، وتشعبت نواحي عبقريتهم فكتب المؤرخون عن أبرز ناحية في شمائلهم، تاركين ماعداها في ذمة النسيان والخمول!
والحق أن عمر رضي الله عنه كان واسع المحفوظ من جيد الكلام، حتى قال محمد بن سلام الجمحي: (ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر) ورجل يملك هذه الثروة الواسعة من القوافي، لابد أن يكون ذا ولوع بالمعاني الجيدة، والأساليب الرائعة، فهو ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه، مستشهداً به في موضعه، مثنياً على صاحبه بما يستحق من تقدير.
ولقد كان يقول (أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل فؤاد اللئيم) ويقول أيضاً (الشعر جذل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم، ويطفأ غيظهم ويبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل) وفي هذا ما يكشف لنا عن غرامه بالشعر والشعراء. . . وإذا كانت الطيور لا تقع إلا على أشكالها، فإن أبا حفص قد تفرس في أصحابه فوجد عبد الله بن عباس يروي القصائد الجيدة وينتقد ما يعرض له من أبيات فقربه واجتباه، وكثيراً ما اختلى به الساعات الطويلة يتناشدان ويتطارحان، قال ابن عباس (خرجنا مع ابن الخطاب في سفر فقال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي، وكان لي محباً ومقرباً، حتى كان كثير من الناس ينفسون على مكانتي منه فزاملته فأخذ ينشد:
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد
ثم قال: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ قلت ومن شاعر الشعراء؟ قال زهير،(700/27)
فقلت لم صيرته كذلك؟ قال: (لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع الوحشي، ولا يمدح أحداً بغير ما هو فيه) فعمر يفضل زهيراً على من عداه، مبيناً أوجه التفضيل، وهذه سنة حميدة في النقد. فلقد كان من قبل عمر من الرواة، إذا نقدوا شعراً قالوا إنه برود يمنيّة تطوى وتنشر، أو قالوا إنه سمط الدهر، أو قالوا إنه مزاد لا يقطر منه شيء إلى آخر هذه التشبيهات المجملة التي لا تفصل حكماً ولا تعلل رأياً، فجاء عمر في نقده بالتفصيل الواضح، والتعليل المقبول.
وليس من الغريب أن يخالف الفاروق ما أجمع عليه كثير من أئمة النقد في الأدب، فيفضل زهيراً على امرئ القيس، لأن عمرذوّاقة، يسبر الشعر بعقله فلا يعجبه منه إلا ما جاء متمشياً مع المنطق السليم، فكان نبيل الغرض، رائع الحكمة، وزهير حكيم فذ يزن الأشياء بميزانها الدقيق، فلا يفحش في غزله، ولا يتعابث في تصابيه، بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة. تجذب إليها كل مفكر حصيف. أما امرؤ القيس فمن المحال أن يرضى عنه عمر، وجل شعره في مغازلة الحسان، ومعاقرة الخمور، والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد شوط، وهذه أغراض لا يهش لها الحكماء من قادة الرأي وأساطين الفكر كعمر بن الخطاب.
سمع رضي الله عنه مرة قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
فأخذ يحرك رأسه في عجب ويقول في تبسم: (إنما أراد أن يبين أن مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو دية كما جاء به الإسلام
ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهيراً في المنزلة لدى الفاروق لأن زياداً أقرب إلى زهير منه إلى امرئ القيس، فقد كان متئد التفكير، شريف الغرض؛ وإعجاب عمر به يرجع إلى ما سمعه من أبياته التي تتحد مع أبيات زهير في المنطق والسداد (لقي عمر ابن الخطاب وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
فقالوا النابغة. فقال من القائل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتآى عنك واسع(700/28)
فقالوا النابغة. فقال من القائل:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون
فقالوا النابغة. قال ذلك أشعر شعرائكم).
وإذن فزهير عندَه شاعر الشعراء، أما النابغة فهو شاعر غطفان!
وطبيعي أن يكون عمر مع هذا النظر الثاقب في الشعر قادراً على أن يلعب به كيف يشاء، ويوجهه حيث يريد شأن الذين يتبحرون في مادة من المواد فلا يكتفون بسردها على الوجه المعروف، بل يذهبون في تأويلها إلى مدى بعيد، لا يقدر على تفهمه واستنباطه غير من فهمها فهماً دقيقاً، فقد يأتي إليه البيت وهو صريح الدلالة على معنى خاص، فيستخرج أبو حفص منه معنى آخر كما يبين مما يلي:
كان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي فضجروا وسبوا به، واستعدوا عليه عمر، فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا أبشع هجاء، فقال: ماذا قال؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني العجلان رهط بن مقبل
فقال عمر: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا إنه قال:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، قالوا فإنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا ورد الوارد آخر منهل
فقال عمر: وما في ذلك، هذا أقل للزحام، قالوا فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا فإنه قال:
وما سمى العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها البد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد، وسيد القوم خادمهم).
فهذه أبيات كلها سب صريح ولكن عمر يتصرف فيها كما شاء له افتنانه، ولقد كان لا يخفى عليه - وهو الباقعة الألمعي - ما تتضمنه من هجو لاذع، ولكنه كان كما يقول صاحب العمدة: (يدرأ الحدود بالشبهات).(700/29)
ولقد كان الفاروق على علم تام بشعراء عصره يستطلع أخبارهم ويستفسر عن أحوالهم، وربما ذكر له الشاعر فجعل يسأل عن كنيته ولقبه وأوصافه الجسمية والخلقية وكلأنه يريد أن يفهم شعره على ضوء حياته، قام مرة يصلي الصبح فوجد رجلاً قصير القامة أعور متنكباً قوساً، وبيده هراوة، فقال له: أنت متمم ابن نويرة؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: هكذا وصفت لي، فأنشدني مراثيك في مالك أخيك فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... على طول وصل لم نبت ليلة معاً
فقال: عمر والله هذا هو التأبين، ولو وددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: لو أن أخي يا أمير المؤمنين مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم)
ونحن لو فتشنا جميع مراثي متمم هذا، ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين وقف عندهما الفاروق، وفي ذلك الدليل القوي على سلامة ذوقه، ودقة شعوره بمعاني الكلام. ولقد جاء بعد عمر من هام بهذين البيتين من أئمة الأدب فكتبهما على قبر أخيه
على أن أبا حفص كان ينفعل انفعالاً شديداً يظهر أثره في وجهه حين يسمع شعراً يقال في مناوأة الدعوة المحمدية فقد أسكت من أنشده شعر أمية بن الصلت في رثاء قتلى بدر، وكأنه يربأ بالشعر أن ينحط إلى درجة تجعله يحيد عن الحق ويميل إلى الباطل. ولطالما توعد من يقول شعراً في هذا الموضوع البغيض، حتى إن كراهته لأعداء الرسالة من الشعراء ظلت كامنة في قلبه برغم إسلامهم بعد ذلك، فقد كان أبو شجرة بن الخنساء شاعراً مثلها وقد لحق بأهل الردة وأخذ يقول الشعر في تحريضهم على أصحاب محمد وكان مما قاله:
فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ولما أخفق في تحريضه ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه صاغراً، وقبل منه ذلك أبو بكر، وعفا عنه فيمن عفا عنهم. فلما كانت خلافة عمر، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة. فقال عمر: من أنت؟ فلما عرفه صاح: أي عدو الله! ألست القائل:
فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم جعل يعلوه على رأسه، فطار عدواً إلى ناقته، وارتحل عائداً إلى قومه من بني سليم،(700/30)
وعمر يكرر البيت في تهكم واستهزاء.
ولقد كان برغم صرامته في الحق يعطف على الشعراء الجيدين. وقصة النجاشي السابقة تؤكد لنا هذا المعنى أبلغ تأكيد، وحسبك أن الحطيئة كان يلقى منه - على سلاطة لسانه وقبح هجوه - كل تسامح محمود، فقد حبسه عمر رضي الله عنه حين هجا الزبرقان بن بدر فنظم عدة أبيات عاطفية يستميل بها قلبه ومنها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فرق له عمر، وأطلقه من سجنه ومنحه دراهم كثيرة على ألا يتعرض لهجو المسلمين.
ولقد شاع في الناس حبه للشعر وتأثره به أيما تأثر فعمد كثير من أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري فكان يردهم أحسن رد، قال عثمان ابن أبي العاص: كنت عند عمر فأتاه شيخ كبير يسمى أمية بن حرثان فأنشده:
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله لو قبل الكتابا
أناديه فيعرض في إباء ... فلا وأبى كلاب ما أصابا
فإنك وابتغاء الأجر بعدى ... كباغي الماء يتبع السرابا
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك لا تطيق لها شرابا
إذا غنت حمامة بطن وج ... على بيضاتها ذكرت كلابا
فقال عمر: مم ذاك يا أخا العرب؟ فقال: هاجر كلاب إلى الشام في جيش الحرب، وترك أبوين كبيرين ولا من عائل لهما: فبكى عمر حتى ما نتبين كلامه ثم كتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحله، فقدم عليه، فقال عمر: بر أبويك إلى أن يموتا؟
وكان لا يطوف في شارع أو زقاق ويسمع شعراً ينشد إلا وقف يتسمعه حتى ينقطع الصوت، وله في ذلك غرائب عجيبة، سمع أعرابية تنشد:
فمنهن من تسقى بعذب مبرد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرت
فعلم ما تريد، وبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جارية من الفيء، على أن يطلق زوجته، فاختار الدراهم وطلقها، وهذان البيتان لا يدرك مرماهما(700/31)
غير من له بصيرة عمر وذكاؤه، ولو سمعهما غيره لظنهما شعراً ينشد وكفى ولكن عمر الدقيق يصل إلى المراد بألمعيته المتوقدة.
وطاف ذات ليلة ببعض خيام المدينة فسمع أعرابية تنشد:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزلزل من هذا السرير جوانبه
وبت ألاهي غير بدع معلن ... لطيف الحشا لا يجتويه مصاحبه
يلاعبني طوراً وطوراً كأنما ... بدا قمر في ظلمة الليل حاجبه
يسر به من كان يلهو بقربه ... يعاتبني في حبه وأعاتبه
فسأل عنها فقيل إن زوجها غائب في جيش القتال من عام، فذهب إلى زوجته وسألها كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: مائة وعشرين ليلة، فأمر أن يمكث المتزوج أربعة أشهر ويستبدل به غيره. ولو أردنا أن نستقصي ما ورد عن عمر من هذا القبيل لطال بنا حبل الكلام.
على أن ذوق الأديب يظهر واضحاً في قوله، وكذلك ذوق عمر، فقد كانت عبارته ممتعة، ورده بارعاً، مر يوم بمنزل أنيق فقال: لمن هذا؟ فقيل لعاملك فلان، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وتنازع عبد الله وعاصم أبناه، فسألاه أيهما أفضل من أخيه، فقال أنتما كحماري العبادى، قيل له أي حماريك شر؟ فقال هذا ثم هذا! وقال: الكوفة جمجمة العرب، وكنز الأمصار، ورمح الله في الأرض) وكتب الأدب مملوءة بلآلئ عمر الفريدة فليقتنصها من شاء.
رحم الله الفاروق، فلقد كان فذاً في سياسته، فذاً في أخلاقه، فذاً في أدبه ونقده، ولله ما أصدق الحطيئة حين قال فيه:
ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
محمد رجب البيومي(700/32)
هلال المحرم
(بين مولد عام، ومأتم عام يجد الشاعر مجالاً للتأمل)
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
عاد بعد النَّوى وألقى الرحالا ... صامتٌ قام يخطبُ الأجيالا
وشهيدٌ على الزمان قديم ... كالزمان القديم يأبى الزوالا!
وكأن الظلام حَوْل معاني ... هـ غُبارُ الدهور مرَّت ثِقالا
والزمان العجوز. . . داهِية يَرْ ... تجلُ الموتَ والحياةَ ارتجالا.!
والزمان العنيدُ. . . أحمق يَرْتا ... دُ المنايا، ويركب الأهوالا!
والزمان العجيب أسطورة يَنْ ... سِجها الوهم للوجود خيالا.
صامت قام يخطب الأجيالا ... وَدَّ لو تَرْجمَ الضياء مقالا
وبواكيرُ مِنْ سناء تهادَى ... كتباشيرَ من رجاء تَلالا
خطَّهُ الغيب في السماوات سطراً ... وَهِمَ الناس إذ دَعَوْهُ هلالا
هو همس في خاطر الكون مَشيو ... بٌ يقصُّ التاريخَ والأبطالا
هو فَنٌّ على السماء، ومعنىً ... كالمعاني، وهجرة تتوالى
هو شيء غيرُ الأهاليل، يُوفى ... كل عام فيوقظ الآمالا
خنجرٌ في يد المحرَّم مَسلو ... لٌ على عالم يضج خبالا
قد لواه الطِّعانُ في لجبِ الدَّهْ ... ر. . . وعنف الطعان يَلوى النصالا
هيه يا أولَ الطريق من العا ... م يميناً فنهتدي. . أم شمالا؟!
أي شيء صَوَّرْتَهُ حين صوَّرْ ... تَ من النورِ جابةً وسؤالا؟
أترانا على الطريق أم أنْبَتَّ ... ت بنا السُّبْل وانتحرنا جدالا؟
وخرجنا إلى الحياةِ مَثاكي ... لَ نجيدُ النُّواحَ، والإعوالا
وقنعنا من المعاركِ بالوَصْ ... فِ، وخُضنا غِمارَها أقوالا
ونَصَبْنا لكلِّ ساع شراكا وملأنا طريقه أوحالا
واحتميْنا من الحقائق بالجهْ ... لِ، وسرنا ورائه أشكالا
الذي صار عند قوم حراماً ... كان في يومه القريب حلالا!(700/33)
ضلَّةً لِلَّجاج يختل قومي ... ويريهم أقوالهم أفعالا.
يا هلالاً في طلعة العام ألْهُو ... باً يَسوقُ الأيام وهي كسالى
هات من ذكريات يومك يوماً ... يَقْرَع الغافلين، والجهّالا
وأعِدْ قِصة الخلود على العا ... لم، واضْربْ فصولَها أمثالا
هي ميراثُ أمة غَالَها الخُلْ ... فَ وصاغت من جهلها أغلالا
قصةٌ ترسُمُ البطولة في أحْ ... داثها العزم صارماً والنضالا
قصةُ الرأْي حين تجحده الأر ... ض عناداً من حمقها، أو ضلالا
قصةٌ تُلْهمُ التأمل مَسرا ... هُ، وتُضْفي على الوجود جلالا
ما نظمت التاريخ فيها: ولك ... ني ضربت التاريخ فيها مثالا(700/34)
من ديوان عالمي الصغير. . .
للأستاذ العوضي الوكيل
- 1 - حديقة
أَقمتُ ببيتٍ ماله من حديقة ... يطوّف (ممدوح) بها (ودسوقي)
وقد يُرويان الزرع ربِّى سناهما ... بشعر كأفياء الخيالِ رقيق
وقد يقطفان الزهر بعد نموه ... ويرنو شقيق منهما لشقيق
وقد يخطران الصبحَ فيها بمشية ... تسدّ إلى هم الحياة طريقي!
وقد يجعلان العشب فيها مقاعداً ... تباكرها أيدي الندى برحيق
وليديّ يسري في عروقي هواكما ... فتخفق بالحب الطهور عروقي
وفي مهجتي روض من الحب ناضر ... نأى عن رعود للحيا وبُروق
تهب عليه نسمة من هواكما ... فتخفق في الأكمامِ أيّ خفوقِ
فإن تقطفا أزهاره فقصائد ... كلمحة (ممدوح) وصوت (دسوقي)
- 2 - ممدوح والحب
ممدوح مالك تهوى ... من البنات، الحسانا
تهفو إلى قبلات ... منهنّ آنا فآنا
وإن أتيحَ عناق ... غنمته نشوانا
إني عهدتك تهوى ال ... تفاحَ والرمانا
وقد عرفتك تستم ... لحُ القدود اللدَانا
تَرِق في القول حتى ... ترى حبيبك لانا
هيهات تسلو الغواني ... وإن لقيتَ هَوَانا
أحذر بنيّ فإن ال ... غرامَ داء عُضالُ
الغيد تفلت منه ... ويصطليه الرجالُ
فما لهنّ قلوب ... لكن لهنّ حِبالُ(700/35)
صداح النيل
(مهداة إلى صاحب السعادة الأستاذ عزيز أباضة باشا، لمناسبة
عودته من مصيفه بلبنان)
للأستاذ (ابن محمود)
على النيل صداح الأغاريد ساحر ... لعذب أغانيه تحن المزاهر
له في ظلال الأيك عش منغم ... موارده مخضلة والمصادر
يظل به ما بين غاد ورائح ... تماسيه أطياف المنى وتباكر
إذا ما تغنى ردد الطير شدوه ... ومالت بأنسام الأصيل الأزاهر
وهدَّأت الأمواج في النهر جريها ... يجاذبها من لذة الصوت آسر
ورجعت الشطئان أصداء لحنه ... ففي كل شط قبنة ومزامر
أشاعر وادي النيل هل أنت سامعي ... وهل أنت للشادي المقصر عادر؟
أعدت إلى ملك القريض مكانه ... فعاد وعدنا بالقريض نفاخر
مضت فترة من بعد شوقي كأنها ... على الشعر ليل مظلم الأفق عاكر
تعاجم فيها بالنظيم جماعة ... وأثخن فيها بالجراح معاشر
يقولون بالتجديد، ضعف قريحة ... وعجمة أسلوب، به إلى ظاهر
وعندهم التجديد شكوى وآهة ... وبَرْح هوى فيه التخنث سافر
فكلهمو في الشعر مجنون عامر ... ولو عاصروه طلق الشعر عامر
أمير القوافي جبت لبنان زائرا ... فهل حل في لبنان مثلك زائر؟
كأني بتلك الشامخات تحركت ... للقياك ترحيباً وراحت تساير
وبالأرز قد مالت عليك غصونه ... كما انسدلت خوف الحرور الستائر
ويارب سفح كالبساط منضر ... مشيت عليه وهو بالوشى زاهر
يخصك بالإعجاب حيث تخصه ... فما أنتما إلا فؤاد وناظر
يقول أهذا قيس لبنى بعينه ... ولُبناه؟ أم حلم على الأرز عابر
فيا سعد لبنان، تملأ قلبه ... بقربكما منه وقرت نواظر(700/36)
رأى الحسب الوضاح يسطع نجمه ... مع النسب العالي، فنعم الأواصر
عزيز! كتمت الحب، لكن هاتفاً ... من القلب ناداني فرحت أجاهر
وما أنا والمدح الذي إن أردته ... نهاني علمي إن باعي قاصر
أنابغة الأشعار هل أنت سامع ... لشعري؟ وهل صدقت أني شاعر؟(700/37)
أنغام وأسرار
للشاعر إبراهيم محمد نجا
لمن هذه القطعة الساحرة ... توقعها روحك الشاعرة؟
وكيف جرت فوق هذا البِيان ... أنا ملك الحلوة الناضرة؟
وما كنت أعلم يا فتنتي ... بأنك مفتنَّة قادرة
تُصور بالنغم العبقريِّ ... كما ترسم الريشة الماهرة!
كأني أرى مخدعاً للغرام ... تقوم به غادة ساهرة
مدلهة أسلمت نفسها ... لنشوة إحساسها الغامرة
تعانق أطياف معشوقها ... وتلثم أصداءه الطائرة
تضم يديها إلى صدرها ... كقديسة برة طاهرة
وتهتف في وَلَهٍ ضارع ... وفي لهفة بالجوى زاخرة:
ظمئت إلى الحب يا ساحري ... فأين إذن خمرك المائرة؟
وصرت كريحانة تشتكي ... بصحرائها وقدة الهاجرة
فأنزلْ عليها نداك الرطيب ... وأطلع لها شمسك الباكرة
على وجنتيك شعاع يرف ... وفي مقلتيك رُؤى باهرة
وثغرك يبسم في رقة ... ولكنها رقة آسرة!
وصدرك يهتز مثل الغدير ... تداعبه النسمة العابرة
وروحك تسبح مثل الفراش ... ترفرف في الليلة النائرة
ويغمرني منك سحر عجيبْ ... به دفء أنفاسك العاطرة
وعيناك تخترقان الأثير ... إلى جنة بالهوى زاهرة
أراك بها جد مسحورة ... فيالك مسحورة ساحرة!
لقد ذاع سرك يا فتنتي ... أذاعته أنغامك الثائرة
فلا تحزني إن سر الهوى ... أذاعته أشعاري الحائرة
هو الفن يُظهر ما في الضمير ... ويترك أسرارنا سافرة!(700/38)
الجامعة في النضال من أجل التقدم الاجتماعي
للأستاذ جوستافو كولونيتي
مدير المجلس القومي للأبحاث العلمية في روما
(مهدى إلى القائمين على جامعتي فؤاد وفاروق)
إن الذينَ يشاهدون بقلق وضع أوربا المحزن، ويتتبعون باهتمام الجهود المضنية التي تبذلها في سبيل تجديد إنشائها وتعميرها، ليتساءلون أحياناً عما ينقص القارة في هذه الآونة.
وأعتقد أنه ينبغي أن نجيب دون تردد أن أهم ما تحتاج إليه أغلب أقطارنا، إنما هو نخبة جديدة من الرجال يكون بمقدورها قيادة بلادها نحو المستقبل وفي المستقبل.
والواقع أن الطبقة الحاكمة لما قبل الحرب قد أفلست، فقد حسبت أنها قد لبت حاجة المرء إلى الحرية ضمن نطاق الاقتصاد الحر، ولكن هذا الاقتصاد أدى إلى مساوئ الرأسمالية الأكثر أنانية والأكثر ضلالة. وقد ظنت أنها قد لبت حاجة الجميع إلى النظام والعدالة، ولكن ذلك لم يحصل إلا عن طريق دفاع لا هوادة فيه عن الحقوق المزعومة للطبقات المتمتعة بالامتيازات الأمر الذي أدى بصورة مذهبية إلى إعاقة التطور الطبيعي للنظام الاجتماعي نحو توزيع أعدل لخيرات الأرض. وقد خيل إليها أنها قد لبت الحاجة إلى التقدم باستخدام العلم والرقى الفني كأدوات للقوة والجبروت، ولكن ظهر في الوقت المناسب أن العلم والرقى الفني صالحان لزرع الخراب والموت فحسب
ويبدو الآن هذا الإفلاس جلياً في ضمير الشعوب، وأن اللامبالاة التي استسلمت بها الشعوب إلى الطغاة (الديكتاتوريين)، والتردد الخطر الذي تظهره هذه الشعوب في محاولاتها تحقيق الرجوع إلى الأشكال الديمقراطية. كل ذلك يعطينا مقياساً عن فقدانها المطلق للثقة في حكامها السابقين، وعن حاجتها الماسة إلى رجال جدد. ومن واجب الجامعة تهيئة هؤلاء الرجال وتكوين النخبة الصالحة منهم.
ومن ذلك تبدو لنا المسئولية التي تقع على عاتق الجامعة لأنها لم تعرف في الماضي كيف تخرج لنا رجالا قادرين على المعرفة والتنبؤ وتدبير الأمور. ونستنتج من ذلك ضرورة تجديد كيان الجامعة وتحملها للمهمة الثقيلة وهي قيادة الإنسانية نحو نظام جديد(700/39)
وهي في الحقيقة مهمة ثقيلة الأعباء مفعمة بالمصاعب، ملآى بكل مجهول، إذ لا يعني ذلك إعادة وإنشاء ما أصابه التدمير مادياً فحسب، بل اجتناب الحكم بالتدمير من جديد وبأقرب وقت على ما سنشرع ببنائه. ومن السهل علينا تمييز أسباب الحرب ومسئولياتها، ولكن لو ذهبنا في تعمق الأشياء إلى أبعد من ذلك، لرأينا وجوب التسليم بأن الحرب ما كانت إلا المظهر الخارجي الفاجع لاستحالة استمرار الإنسانية على العيش في ظروف مادية وعلاقات متبادلة، ثبت أن العالم قد تخطى العصر الذي وجدت فيه
ولقد تعينت معالم هذا التخطي عن طريق التقدم العلمي والرقى الفني، هذا التقدم الذي وضع تحت تصرف الإنسانية كمية في تضخم مستمر من الثروة لا تستفيد منها إلا بعض الطبقات الاجتماعية
ولكن هذا الحادث لا يزال في دور التخطيط؛ فالتقدم العلمي والرقى الفني سيستمران في النمو بشكل يزداد على الدوام سرعة ووزناً في النتائج في كافة النواحي
ويوشك أن ينهار بنياننا الاجتماعي الذي لم يستطع مقاومة الغزوات الفنية للنصف الأول من هذا القرن، وستقل مقاومته لصدمة الغزوات الفنية التي ستطبع بلا ريب السنوات القادمة.
ولقد أضحى التقسيم الحالي للبشرية إلى طبقات بالياً ومحكوماً عليه بالزوال وستلغيه فجأة ثورة دامية لا مثيل لها في التاريخ، إذا لم نعرف منذ الآن كيف تتغلب عليها بإيجاد نظام جديد تتاح فيه للناس دون ما تمييز في الطبقات نفس الظروف للتمتع بالخيرات التي وضعها التقدم العلمي والرقى الفني تحت تصرفنا بمقياس واسع وبشكل دائم الاستمرار
فإيجاد هذا النظام الجديد، وصياغته بشكل يتفق واطراد الرقى الفني إلى حد لا يستطاع تحويله كما جرى غالباً في الماضي إلى أدوات اضطهاد في يد فئة قليلة من أصحاب الامتيازات توجهها نحو كتل بشرية محرومة من وسائل الدفاع فاقدة الأمل والاعتراف لجميع البشر، بحق الاقتسام العادل لخيرات الأرض وإمكانية مساهمتهم في التقدم المشترك والتمتع به بصورة مشتركة. هذه هي مهمة الغد العظمى النبيلة الشاقة التي لا تقبل أي تأجيل أو تسويف
وإليكم في الوقت ذاته تحديداً للصورة الجديدة لجامعة الغد: على جامعة الغد أن تكون أول(700/40)
من يبادر إلى تحقيق زوال التفاوت الطبقي، وذلك بأن تتقبل في أحضانها كل شاب يتصف بالذكاء وحسن النية، مهما كانت ظروف أسرته الاقتصادية والاجتماعية ومهما كانت موارده محدودة
ولقد أضحى هذا الاقتراح منذ مدة مكاناً شائعاً، فنعثر عليه في برامج مختلف الأحزاب السياسية في كافة الأقطار، ولكن علينا ألا نحسب أنه نتيجة مكتسبة ومسلم بها، فهو على النقيض من ذلك، نصر لا يمكن إحرازه إلا مقابل أعنف المعارك وأهولها
وفي الحقيقة إن أغلب أولئك الذين يسلمون نظرياً في كثير من السهولة برأينا لا يقصدون سوى ازدياد قل أو كثر لكراسي الدراسة المجانية التي كان يحسب فيما مضى إمكان حل المشكلة عن طريقها
بيد أن هذه الكراسي المجانية قد أتاحت لعدد من هؤلاء الشباب الخروج بل الهرب من الطبقة العاملة ليأخذوا أمكنتهم بين الطبقة البرجوازية أو الطبقة الحاكمة
وإذا كان من العدل أن نعترف بحسن نية أولئك الذين أسسوا هذه الكراسي الدراسية رغبة منهم في مساعدة أفضل أبناء الشعب على ارتياد مناهل العلم والتربية، فينبغي التسليم أيضاً بأن هذه المؤسسات قد ساعدت على تعيين معالم هذا التسابق نحو إحراز شهادة تعتبر كوسيلة وحيدة لبلوغ أعلى الدرجات في السلم الاجتماعي، هذا التسابق الذي أفسد بصورة خطرة كل حياتنا الجامعية
فالإكثار من الكراسي الدراسية المجانية يبقي المشكلة الاجتماعية على حالها دون أن يحمل إليها حلاً، إذ ليس القصد توسيع أبواب الدخول إلى الجامعات، بل انتخاب أولئك الذين يدعون لدخولها وانتخابهم بشكل أوسع وفي محيط اجتماعي أرحب. وهدفنا من ذلك منح إمكانيات أعلى مراتب الثقافة لكل الذين يحوزون من المواهب الفكرية ما يسمح لهم ببلوغها ولهؤلاء فقط
والغرض من ذلك في الوقت ذاته حمل الرأي العام على تقدير كل شكل آخر من أشكال النشاط المنتج الذي لا تقل حاجة المجتمع إليه عن حاجتها إلى العلماء وتوجيه جميع الذين يعتقدون الآن بأن لهم الحق في الدراسة لا لشيء إلا لكونهم ينتسبون إلى الطبقات المتمتعة بالامتيازات فيجعلون الجامعات مزدحمة بهم، ليصبحوا في المستقبل من المتخلفين عن(700/41)
مراتبهم لا فائدة فيهم لأنفسهم ولا للآخرين، توجيه هؤلاء نحو هذه الأشكال الأخرى وإعدادهم لها بصورة تدريجية
ولا يمكن بلوغ هذه النتيجة إلا بقلب الوضع الحالي رأساً على عقب، وهو قلب لا تستطيع تحقيقه إلا الدولة، وذلك بإدخال الدراسات العليا ضمن نطاق الوظائف الاجتماعية واعتبار النفقات التي تتطلبها بين تلك التي على المجتمع أن يحتمل أعباءها في سبيل المصلحة العامة
وفي هذا المعنى ينبغي الاعتراف بأن قطراً واحداً قد اقتحم المشكلة بكل اتساعها إلى الآن، ألا وهو الاتحاد السوفياتي
ولقد كانت التقاليد في الأقطار الغربية حائلاً دون أي تجديد. وسنرى عما قريب ما إذا كانت هذه التقاليد التي نعتز بها بحق، ستعرف أن تكون نقطة الانطلاق لنظام جديد يتلاءم فيه الماضي المجيد مع مقتضيات الوضع الجديد
وليس من شك في أننا سننجح بهذا الثمن فقط في الإبقاء على مركزنا على رأس الحركة نحو التقدم الاجتماعي وفي إنقاذ ما تبقى من حضارتنا
وينبغي أن تتجدد الجامعة لا في انتخاب الطلاب فحسب، بل في جهازها الداخلي أيضاً، وذلك لسببين اثنين يجب التسليم بهما:
أولاً: لأنها لم تكافح الفاشية دائماً عندما كان ثمة فسحة في الوقت لمكافحتها في المجال المذهبي كمبدأ لا يتلاءم مع أي شكل من أشكال الحياة الفكرية والبحث الحر عن الحقيقة
ثانياً: لأنها بالغت في تناسي دورها في تكوين العقول وخلق معنى مسئولية الفكر تجاه الوقائع والتاريخ
لقد كونت الجامعة أساتذة فلقنتهم أغمض أسرار الرقى الفني وفتحت أمامهم مسالك العلم السرية، ولكنها أغفلت توجيه انتباههم نحو الخير والشر للذين كان في مقدور العلم والرقى الفني دفعهما إلى البشر، وإفهامهم أنهم مسئولون إلى حد ما عن هذا الخير والشر. ولقد أهملت إفهامهم أيضاً أنه ليس من حقهم التجرد وعدم المبالاة بالروابط التي تربط دراساتهم بحياة البشرية، وتراخت عن تلقينهم أن جهودهم لا تكون نبيلة ولها ما يبررها إلا إذا كانت تتوخى عيشة أفضل للإنسانية جمعاء.(700/42)
فعلى الجامعة إذن أن تستعيد السيادة على نفسها. عليها أن تضع حداً للتخصص المفرط وتوسع نطاق التعليم الفني. وعليها أن تبذل عنايتها، لا في تخرج علماء وقتيين فحسب، بل في تكوين رجال بأوسع معاني الكلمة وأجدرها بالفهم والإنسانية، رجال لا يبحثون إلا عن الحقيقة، ويعرفون أنه لا يمكن بلوغها إلا في جو من الحرية
وسيتخذ النضال ضد الفاشية مكانه ضمن نطاق الحياة الجامعية فوراً وبصورة طبيعية، لأن الفاشية إذا كانت قد انهزمت عسكرياً فتوارت عن المسرح السياسي مؤقتاً، فإنها لا تزال تعيش بين ظهرانينا بشكلها المزدوج وهو الكذب وروح الشدة والاقتسار، فينبغي الاستمرار في مكافحتها تحت هذا الشكل المزدوج.
أما الجامعة، فهي المكان الذي يعارض فيه الكذب بالبحث الأمين المجرد عن الحقيقة. الجامعة هي المكان الذي يمكن فيه إلحاق الهزيمة بروح الشدة والاقتسار عن طريق هذه الحرية التي يطالب بها الفكر بإلحاح كأعظم النعم الإلهية.
فعلينا إذن أن نعيد في الجامعة، إلى الحقيقة والحرية، الإجلال والقدسية، وذلك بأن نقصي عنهما كل من قاد زمامهما بالاستسلام إلى الخداع والتهديد أو التضليل
يجب المطالبة والظفر بإكبار الحقيقة وتمجيدها وحتى إعلانها في الجامعة ولا سيما حين لا تروق في عيون ذوي السلطان في الأرض.
يجب أن تكون الجامعة حصناً للحرية، وعلينا أن نطالب وأن نظفر بعدم التنكر لها في الجامعة، وينبغي ألا نضن بالحرية إلا على أولئك الذين يرغبون في استخدامها من أجل قتلها
وعندئذ تمسي الجامعة هيئة يصبح أعضاؤها ويشعرون شخصياً أساتذة وطلاباً أنهم مسئولون عن الشكل الذي يؤدون به رسالتهم الاجتماعية، وسيصبحون ويشعرون أنهم أعضاء نخبة ممتازة مدعوة إلى قيادة العالم نحو مصير أفضل، نخبة ممتازة لا تباعد فيما بين أفرادها الحدود السياسية، وسيكون هذا أولى الصور لهذا المجتمع الدولي الذي سيجنب وحده أوربا كوارث جديدة
وسيكون في وسع البشر أن يصبحوا أخيراً، في عالم حر مغرم بالحرية، سادة مصائرهم، وسيكف التقدم العلمي والرقى الفني عن ترويعنا، ويستخدمان عندئذ لجعل الحياة أقل(700/43)
خشونة وجفافاً وأجدر بأن نعيشها.
(عن مجلة '
ترجمة
غالب عارف طوقان(700/44)
من يد ذات سوار إلى يد ذات سوار. . .
لي - يا سيدتي - يدٌ ذات سوار كيدك، وأناملُ ناعمة نعومةَ أناملك،
ونفسٌ مرهَفٌ حِسُّها إرهاف حسك. فأما يدي فأصدقُ سعيها أن تصول
في عالم الكتابة وتجول؛ وأما أناملي فأحبُّ ملمسها أوتارُ قيثارة خالدة
توقع عليها ألحان البيان الرفيع؛ وأما نفسي فغاية مُتمناها أن تصور ما
يجيش في أحنائها تصويراً واضح الفكرة قوي الحبكة رائع الأسلوب،
يبوّئها في ميدان الأدب مكاناً عليّاً ترنو إليه الأبصار فتهوى إليه
القلوب. .
وأني - بلا ريب - لم أبعث إلى (الرسالة الغراء) بمقالي هذا لأفتح لكِ نفسي فتفتحي لي نفسك، فإن لنا في أرجاء المجتمع الوسيع لغَناءً عن التعارف على صفحات مجلة حملت
- وما انفكت تحمل - مشعل الأدب العربي الصميم، وسمحت وما برحت تسمح للأقلام الرقيقة الأنيقة، أقلامنا معشر ذوات الأساور، أن تقوى وتشتد لنكتب في بعض أبوابها فصولاً من معتصرات أدمغتنا، بها ندافع عن كرامتنا إن خدشت، وعن شعورنا إن جرح، وبها نقيم دعائم نهضتنا حين تنقض فرقاً من صواعق الرجعيين الجامدين، أو هَلعاً من زلازل المجدّدين المتطرفين!.
جميلٌ منك - يا سيدتي - أن تثيرك مقالات الأستاذ (الطنطاوي) الأخيرة فتبعثك على الطمع في المثول بين يديه مثول التلميذ بين يدي معلمه. وجميل من (الرسالة) أن ترضي ما صبت إليه نفسك، فتنشر ما جادت به براعتك، ليشهد فيه (صاحب المناظرة الهادئة) صورة صادقة التعبير عن الأدب النسائي المتزن بفكره الثاقب ونظره البعيد.
وإنه لجميل جداً من الأستاذ (الزيات) صاحب هذه المجلة الغراء أن ينقع غلتي فينشر كلمتي، ويسمح لي بإيضاح فكرتي، على عجز قلمي وضعف مُنتي. . .
غير أني لا أطمع - يا سيدتي - في شرف طمعت فيه: فَلأَنْ أبقى طيلة حياتي في صومعة النسيان أكتب لنفسي فلا يحس بي قريب أو بعيد - أحبُّ إليَّ من أن تكون لي (دالة خفيفة) أو ثقيلة، (مشفوعة بالأدب والطواعية) أو غير مشفوعة، على عَلم من أعلام الأدب العربي(700/45)
لا أستبعد أن يرى بعينيه النقادتين الحادتين من الضعف فيما أكتب إليه خاصة ما لا يراه فيما أكتب إلى الآخرين، فيحاسبني في حاضره حساباً عسيراً على مستقبلي: وإذا نفخة واحدة من نفخات قلمه العاصف - وهو يهتز تأثراً - تذهب بجميع ما يستوقده أدبي الناشئ من نار، وما يحاول أن يرمي به من شرر، فلا ألقى بعد إلا يأساً في قرارة النفس عميقاً، وزهادة بين الضلوع موغلة، وأستوحش شيئاً فشيئاً من الأدب والأدباء، ومن الكتابة والكاتبين.
لا. لست متشائمة يا صديقتي. . . ولا والله ما أحب أن تتشاءمي من حديثي هذا إليك؛ فإني لأعلم أنك - بعد أن تقدمت إلى الأستاذ الطنطاوي بمقالك الجريء الذي أحسنت سبكه وأحكمتِ ربطَه، وعرفتِ بأي لطف وظرف وكياسة تَعرضينه - لن تراعي إذا ما جلجلت مقالات الأستاذ من جديد، فإنها إذا خَطفتْ ببرقها بَصَرَكِ، أو أصمّت برعدها سمعك، لن تزيد في زلزالها عما تعودت من قوتها وتهدارها، ولن يهولَكِ فيها إذاً آتيها بعد الذي مضى، ولا مُقبلها بعد الذي خَلا. . .
ولكن. . .
إن يكن في وسع سيدتي أن تصبر على حملات (الطنطاوي) بعد أن تثيره، فليس في وسعي ولا أحب أن يكون في وسعي أن أصبر على حملة من حملاته من غير أن تخضلَّ عيناي بدموع من الإخلاص سواكب، لأني آمنت بأنه لا يحمل إلا إذا كان على حق، وأيقنت بأن الحدة لا تخرج دفاقة من بين ثنايا مقالاته إلا إذا آلمه الشيء النكر؛ وأنَّى لمثلي - وهي التي يوشك أن يجرفها التيار كما جرف الكثيرات من قبل - أن تصبر على جراح قلم سِلْم للحق، حرب على النكر؛ يجاهد في سبيل الله ولا يخاف لومة لائم!.
إني - على إعجابي بما جاء في مقالك يا صديقتي - لمقتنعة بسداد الأستاذ في موضوعه (مناظرة هادئة) وما سبقه من الموضوعات في معناه: إذ مهما يكن الرجل قواماً على المرأة، ومهما يكن حاملاً من أوزارها، فلتقعنَّ على عاتقها تبعات كثيرة، ومسئوليات جسيمة، ولاسيما إذا كانت مثقفة، عالمة بأوضاع الحياة المختلفة. وإذاً لا غرابة إذا أرسل الأستاذ (الطنطاوي) شُواظاً من نار كلماته الغَضبى على سواد المتعلمات اللاتي أهملن رسالاتهن بعد عرفانها، ونقضن مواثيقهنَّ بعد توكيدها، فاستحققن من (الطنطاوي) وغيره(700/46)
أن يصفهن بالجمادات الخرساء ولو حملن أعلى الشهادات من بكالوريا ودبلوم وليسانس وماجستير.
لا غرابة في هذا كله.
ولا غرابة في أن يناظر الأستاذ أولئك المتعلمات مناظرة (هادئة) رفقاً منه بالقوارير، وحناناً من لدنه على لابسات الحرير. .
ولكن الغرابة حقاً في أن تثوري لنا من دوننا جميعاً معشر صاحبات (نون النسوة) فتدافعي عن عدد قليل من المتعلمات تصفينه بالجم الغفير، وتُبرزين من سداد رأيه واستقلال فكره وبعد نظره الشيء الكثير، حتى لكأني بك تحسبين أن الطنطاوي جاهل أو متجاهل ذلك العدد القليل الذي غاليت في تمداحه، أو أنه كتب مقالاته من قبل أن يدرس نفسيته وأطواره.
عفواً يا أختاه!.
لقد قلبت الآية فجعلت الكثير قليلاً، والقليل كثيراً.
ألا إن أكثر المتعلمات حظاً من الحيوية والنشاط واستقامة المبدأ لأقلهن عدداً. وإن أقل المتعلمات خلاقاً من الخير والفضيلة وحسن الاتجاه لأكثرهن سواداً.
ولئن عرفتِ جماً غفيراً من صديقاتك المتعلمات اللاتي يعجبن السامعين بحوارهن ونقاشهن فإن أخوف ما أخافه أن يكون حماسك لنا - نحن بنات جنسك - قد بعثك على المغالاة في نثر المديح، فأني عرفت مثلك جماً غفيراً من السيدات والفتيات المتعلمات، لكني أبيت أن أتخذهن صديقات إلا ما رحم بي، إذ ألفيتهن إلا قليلاً منهن - على كثرة ما في رؤوسهن من المعلومات - يرددن ما يحفظن ترديد الببغاء.
وما أحسبك تنكرين الصلة الوثيقة بين العلم والدين، وبين الثقافة والفضيلة، وأنك حين تشايعين الأستاذ على ما يقوله في فتاة العصر من ناحية الدين - والدين كما تعلمين ينبوع الفضائل - فقد شايعتِه على كل ما يلوم عليه أكثر فتيات هذا العصر، لأن علومهن وفنونهن وآدابهن لا تؤتي أكلها المطلوب، ولا ثمراتها المنشودة.
إن الأستاذ الطنطاوي لا يريد من وراء مقالاته أن يسيء إلى شعورنا معشر الجنس اللطيف، ولا أن يجرح كرامة المتعلمات وأنصاف المتعلمات بَلْهَ العاميات اللاتي لا يفقهن(700/47)
مما يقول حديثاً، ولكنه - كما فهمتُ من غضون كلماته - يقصد إلى تذكيرنا جميعاً بواجبات طال علينا الأمد في الغفلة عنها، فاختار لذلك أعمق الأساليب أثراً، ليكون في توالي صيحاته عبرة لمن يخشى.
ألست معي في أنَّ كثيراً منا بات لا يعتبر إلا بالكلام الجارح، والخطاب الصادع؟.
ألستِ معي في أن أنوثة الكثيرات من المتعلمات فينا قد فقدت غير قليل من جمالها حين استبدلت خشونة مشاركة الرجل في أعماله بنعومة تدبير المنزل وتربية الأطفال؟.
أولستِ معي أخيراً في أن ثقافة هؤلاء المتعلمات لم تحلْ دون تقليد الأجنبيات على عمى، وأن الرقة في خطابهن واللطف في مناقشتهن والهدوء في مناظرتهن لم تزدهن إلا عشقاً لكل جديد ولو كان فيه الموت، وهرباً من كل قديم ولو كان فيه الحياة؟
اغفري لي يا صديقتي إذا قلت: لا سبيل إلى إصلاحنا معشر النساء إلا صرخات مدوية، وغارات متوالية، تهيب بنا أن نوثق عرى إسلامنا قبل أن تنفصم، وأن نجدد شباب عروبتنا قبل أن يهرم، وأن نبث روح الفضيلة في جيلنا قبل أن يموت. . .
فشكراً لك يا سيدي الطنطاوي على نفثات قلمك. . . ولتمسك بيدك القوية الثابتة مع أيدي إخوانك من الرجال المُخلصين بأيدينا الناعمة المرتبكة؛ فقد كنتم معشر الرجال وما تزالون أقوى منا بأساً، وأشد منا ساعداً، وأثبت منا جناناً، وأربط منا جأشاً؛ غير أن الحياة لم تصلح في عهد من العهود إلا على يدين اثنتين: يد الجنس الخشن ويد الجنس اللطيف. وأما أنت يا سيدتي ذات السوار فاغتنمي هذه الفرصة التي هيأتها لك بالكتابة مرة أخرى إلى الأستاذ الطنطاوي معتذرة، واذكري ما عشت تلك التي استعارت اسمك المستعار.
يد ذات سوار رقم 2(700/48)
البَريدُ الأدبي
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
لشد ما تتجلى فيما تكتب غيرتك الصادقة على أن تشيع فينا الفضيلة
الإسلامية في أجمل مظاهرها؛ فالتحلي بحلي الدين خلة شريفة كريمة
هي أعز ما نحرص عليه. وليست المسألة يا سيدي أن مصر أو غير
مصر أنكرت فضائل دينها عامدة متعمِدة، إنما هي أمراض اجتماعية
نريد أن نوفق إلى علاجها، وليس المجال أن تسألني: أحرام تكشف
الفتاة أم حلال؟ فما اختلفنا من قبل في حكمة الله الخالدة، وليس مناط
البحث أنني راض عما أنكرت حتى يصل النقاش إلى هذه المرحلة
الخطيرة.
وإنما الأمم حين تتسلط عليها أشعة الحضارة المنسابة من غيرها ممن هي أعلى شأناً وأقوى مُنه تكون في حالة أقرب إلى الخبل. فإلى أي حد تحتفظ بحضارتها القديمة، وأي قدر تأخذ من الحضارة الجديدة؟ هنا تتراقص المغريات العاجلة، والآراء السطحية وغير السطحية وهذا ما يسمى بدور الانتقال عند الأمم الحديثة حتى إذا ملكت قواها وتماسكت أعصابها عادت إلى رشدها، وأفاقت من غفلتها.
لقد لفت نظري في كلمتك الموجهة إليّ (ولا نستطيع أن نصدق، ولو أكدت القول لنا أن في الدنيا شاباً متدفق الشباب يعيش بين بنات ناضجات الأنوثة. . . إلى آخر ما قلت) ثم سقت الحديث إلى تصوير المعلمين والتلميذات تصويراً جانبياً ثم بنيت عليه أحكاماً عامة ورتبت قضايا خطيرة.
ولا يسعني إلا أن أستفتي سماحة القاضي: ما قولكم دام فضلكم في خمسة أو عشرة من الرجال ارتكبوا ذنباً في مدينة من المدن، ولم يثبت لدى القاضي ثبوتاً قطعياً أن أهل المدينة شاركوهم في هذا الذنب: أيقول القاضي سدّاً للذرائع: اذهبوا بأهل المدينة جميعاً إلى النار؟
أما الرجال في مدارس البنات العصرية فالواقع أن وزارة المعارف تنتقيهم بقدر جهدها من(700/49)
خيرة المعلمين ديناً وعقلاً وخلقاً وهم متزوجون في غالب الأحيان. والذي بينهم وبين التلميذات هو رسالة العلم وحدها. والرجل مضطر أن يزن سلوكه وحديثه فلو أفلتت منه كلمة تؤول تأويلاً سيئاً حذره أخوه في المدرسة وإلا أكل يوم أكل الثور الأبيض، وقد اعتادت الرياح أن تنقل كل ما يخالف الواجب والقانون إلى وزارة المعارف، وأقل ما يلقاه هذا المعلم وأمثاله أن يروا أنفسهم سريعاً في مدارس البنين النائية. هذا المعلم وأمثاله يعدهم المعلمون في مدارس البنات بُلْهاً قصار النظر. ومع ذلك فكلما اتسع التعليم العالي للبنات وتخرج العدد الكافي من مدارس المعلمات استغنى عن الرجال على التدريج.
وأقبل يا سيدي الأستاذ تحياتي وشكري لهذه الغيرة المحمودة على الدين والأخلاق. والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسنين حسن مخلوف
المفتش بوزارة المعارف
جحا قال:
عزيزي المحترم الأستاذ كامل كيلاني:
حظيت اليوم بنسخة من قصص جحا (سارق الحمار) وكنت حظيت من قبل بنسخة من (برميل العسل) وغيرها؛ ولقد تصفحت الأولى وعاودت قراءتها وقدمتها للصغار من أولادي هدية فإذا الكبار يستولون عليها ويجدون في قراءتها لذة ومتعة شهدت تباشيرها على أساريرهم وآثارها في نقاشهم، وما كدت أدخل عليهم بالثانية حتى هبوا يختطفونها ويتسابقون لبلوغ الأولوية في الفوز بمطالعتها. ولو شهدت أنت يا سيدي مثل هذا المنظر لكان فيه ما يرضيك ككاتب وفنان وما يرضي كبرياء نفسك كمبدع لهذا اللون من القصص الفكه المظهر والعميق المغزى، والجزل اللفظ والمتين المبني. قواك الله وجزاك عن أطفال الجيل أجمل الجزاء؛ إذ أنك بما تكتب تدعم بناء صرح جيل صالح مستنير، ما أحوجنا - في إبان نهضتنا هذه - إلى صفاء ذهنه ونقاء معلوماته ونظافة خلقه وطهارة لفظه وعفة نفسه. والسلام.
أمين إبراهيم كحيل(700/50)
مدير الجامعة الشعبية
حول كتاب (دور القرآن في دمشق):
تكرم الأستاذ عبد الرحمن محمد عبد الوهاب فدلني على تراجم بعض الأعلام الذين وردت أسماؤهم في كتاب دور القرآن، ولم أعثر على ترجمة لهم فله مني الشكر الخالص.
وألفت نظر الأستاذ إلى ما يلي:
1 - ذكر الأستاذ أن الخضر بن المغير هو الخضر بن كامل
بن سالم بن سبيع الدمشقي السروجي المعبر المتوفي سنة 608
ثمان وستمائة (شذرات 533).
ويعلم الأستاذ أن اسم الخضر قد ورد في كتابي عند الكلام على أن وجيه الدين ابن المنجا - شيخ الحنابلة بدمشق - المولود سنة ثلاثين وستمائة، 630 هـ، والمتوفى سنة إحدى وسبعماية، 701 هـ= (دور القرآن ص 1 - شذرات ج 6 ص 3) - قد سمع حضوراً من الخضر بن المقير.
فإذا كان ابن المنجا قد ولد سنة ثلاثين وستمائة، فلا يُعقل أن يسمع الحديث ممن توفى سنة ثمان وستمائة.
وعلى هذا، فإن الخضر المذكور في دور القرآن، هو غير الذي تفضل الأستاذ بإيراد ترجمته.
2 - ورد اسم (أبو مسلم الكاتب) خطأ مع الذين لم أهتد إلى تراجمهم. والواقع أني أوردت ترجمته في ص 85 من كتابي برقم 20. فمعذرة.
وللكاتب الفاضل أجمل تحية وأصدق شكر.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
على هامش النقد:(700/51)
الأستاذ النابغة سيد قطب ناقد من الطراز الأول، وله فكرة خاصة في النقد أبرزها في كتابه (التصوير الفني في القرآن)، وهو كتاب جدير بالإعجاب والتقدير.
ولعل من ذيول هذه الفكرة ما كتبه أخيراً في (الرسالة) عن (مواضع النقد). وهو يرى أن ملاحظة الشعور العام هو أهم ما يعني الناقد في الآثار الأدبية، وأن الناقد يجب أن ينظر أولاً في صاحب الأثر هل أحس إحساساً صادقاً بالصورة الفنية التي يرسمها، أم أنه لم يحس بها أو أحس إحساساً كاذباً، والذي يدلنا على مدى هذا الإحساس من الصدق أو الكذب أن نتأمل ما يهيجه الأثر الأدبي من الشعور، فإن بعث في نفس القارئ شعوراً واحداً فصاحبه قد أحس به إحساساً صادقاً، وإن بعث شعورين متناقضين كان إحساس الشاعر أو الكاتب به مزوراً، وضرب لذلك مثلاً قول شاعرنا شوقي:
قف بتلك القصور في اليم غرقى ... ممسكاً بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضَّا ... سابحات به وأبدين بضا
فالبيت الأول يبعث في النفس شعور الذعر والخوف، والبيت الثاني يبعث البهجة والانشراح. وقد ذكرت حين انتهيت من مقاله قول الله سبحانه وتعالى (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين) فرأيت أننا لو سايرنا الأستاذ فيما ذهب إليه لغُمَّ علينا الأمر في هذه الآيات، فالجو العام للآيات هو تهديد وإنذار وتخويف، يقذف باللهب؛ ويرمي بالشرر، ولكن التشبيه لا يبعث في النفس إلا الطمأنينة والهدوء والظل الأبيض الناصع. نعم، إن منظر الجمال الصفر متتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب هو منظر الشرر، ولكن هذا المنظر لا يبعث في النفس ولاسيما نفس العربي إلا المسرة والبهجة والشعر والجمال، فالجمل أليف إلى نفسه حبيب إليها، وهو حين يكون أصفر يزيد في إعجابه وبهجته فهذا اللون من الألوان المحببة، ولذلك جاء في وصف بقرة بني إسرائيل أنها (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)
وإني سائل الأستاذ سيد قطب رأيه في هذا الجو البياني؟ ولست أتعجل فأنقض عليه رأيه قبل أن أعرف كيف يذهب في تطبيق نظريته على مثل هذا وللأستاذ تحياتي وتقديري.
علي العماري(700/52)
(المدرس بمعهد القاهرة)(700/53)
الكتب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(تتمة)
أما ثالوث الفساد فهو الغدر والكذب والنفاق، وقد أصبح اصطناع هذه القباحات فلسفة سياسية خطرة. والغدر غير الخدعة في الحرب، فإن الخدعة قدرة أمرها متعارف عليه مباح في قوانين الحرب بخلاف الغدر فهو خسة وعجز عن المواجهة بالقوة. وهو قبيح حتى بين الأشقياء واللصوص، والكذب في السياسة والرياء فيها صار طابعاً عصرياً يفخر به ساسة هذه العصور المتأخرة منذ أن سن لهم (مكيافللي) طريقته التي ينكرها الإسلام الذي لا يعرف إلا سياسة الوضوح والصدق، ويرى الكذب والنفاق صفتين أدنأ من الكفر (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)
في البحث عن سند روحي للحضارة
في فصول هذا الباب الستة يتجلى عزام باشا كرائد إنساني عظيم من الباحثين عن سلام العالم ونظام جديد له، وهو يقف في الشرق الأدنى بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية حين يحاكم آراء (ويلز) و (سانكي) في الغرب و (غاندي) و (نهرو) في الشرق
وهو يبدأ بالسؤال الآتي: هل الوصاية على الحضارة للأقوى أم للأتقى؟ ويستقرئ مراحل تاريخ المدنية للإجابة على هذا السؤال فيراها شعلة متنقلة بين الأجناس لم تثبت في مكان واحد ولا دامت لقوم وحدهم، مما يدل على أن التاريخ يأبى أن يشهد لقوم دون قوم(700/54)
بالصلاح الذاتي والاختصاص بالقدرة على حمل رسالة الحضارة
وقصور علم الإنسان (أنثروبولوجي) عن إدراك الفروق الروحية بين الأنواع لا يسمح لنا بالاعتماد عليه في تفضيل قوم على قوم والفروق البدنية لا تكيف الحضارة، لأن أغلب الأنواع خليط من دماء وأجناس مختلفة قبل الحدود الأخيرة
وإنما الحضارة بجميع نتاجها المادي والأدبي أثر للحالات النفسية وغير لازمة للصفات البدنية التي تميز قوماً على قوم. وهذا مصداق للقانون القرآني: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)
وتداول العلم والجهل دليل على استعداد مشترك ومتساو للخير والشر، وهو يشير إلى وحدة الروح وتساويها، وبعبارة أخرى وحدة القوى الذهنية أو تشابهها. وهذا يكفي لنفي امتياز عنصر على عنصر بصفات ذهنية تجعل لأحدهما رجحاناً دائماً.
ومتى وضح ذلك انهارت الدعاوى العنصرية وانهار معها مبدأ القوة كسند للحضارة. فالقول بالحق للأقوى هو قول يرجح بعض الأقوام على بعض دون سبب طبيعي، ويبيح استبداد القادرين بالمستضعفين، وهو أمر تأباه الحقيقة الدينية والشريعة المحمدية خصوصاً كل الإباء، فهي قد جعلت الناس سواسية، وجعلت الوصاية للأتقى والأبر
وقيام المدنية ودوامها رهين بالقانون القرآني (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فما من قوم خرجوا على الدنيا برسالة العمران والعرفان إلا كانوا مهيئين لذلك بإيمان قوي وأدب قوي ودعوة قوية. وذلك الإيمان والأدب والعرف الصالح هو بارود القذيفة تدفع الأمم بقدر ما فيها من قوة واستقامة. وساعة الفصل بين التقدم والتأخر رهينة بحلول السيطرة المادية محل السيطرة الروحية، حين تغلب شهوات الأبدان شهوات الأرواح ويتغلب الترف الذي يورث أهله الضعف عن حمل أمانات الحضارة
ولا منقذ لهذه الحضارة الحالية من وعيد الله، إلا أن يرزق الله العالم بقوم خماص البطون يحبون الكفاح للحق كما يحب المترفون المال والمتاع، ويرثون هذه الحضارة ويردون للدنيا ذلك العقل الضائع والإيمان القوي
ولابد من وضع نظام جديد للعالم يجعل الوصاية على الحضارة دائماً للأتقى، ولأجل ذلك(700/55)
يجب أن نتحرر من النظريات القديمة التي كانت موضوعة للعالم قبل أن يضيق نطاقه وتتقارب مسافاته بسرعة النقل. والمدنية في رأي (كبلنج) هي النقل. وعلى ذلك يكون الفرق بين عالمنا والعالم القديم هو ما بين سرعة النقل في العالمين
ويجب أن نراعي في وضع النظام الجديد فروق السرعة بين ما في عالمنا وعالم الغد، فلا نضع نظاماً جامداً بل مرناً يسمح بالتصرف في الأزمان الآتية، وهذا يكون بوضع نظام سلبي نمتنع فيه بتاتاً عن تسليط ما بأيدينا من قوى التدمير والتخريب وعن مضاعفة العوامل التي اضطرب لها وجودنا، ولا أمل في شيوخ الساسة والعامة، بل الأمل في القدرة العليا التي جعلت الحياة الإنسانية مرنة تتكيف بحسب الظروف. ولنؤجل النظم المثالية المجردة ولنبدأ بعمل الواجب قبل المطالبة بالحق، ولندرب الناشئين على فهم ذلك، لأنه هو الطريق المجرب في الإصلاح دائماً، ولنجعل أعمال الواجب والتضحية هي أعمال الفخر والتقدير، ولنحول الغرائز ونتسام بها، ولنصلح الرأسمالية بعد أن تضاعف خطرها باستخدام الآلة التي ضاعفت من مشكلة التعطل، ولنضح بالاستعمار لنجاة الحضارة، ولنفهم أن عالمنا واحد لا يتجزأ السلم فيه، فيجب أن تكون له قيادة عالمية مشتركة تتدرج إلى حكومة عالمية. وسبيل ذلك أن نوجه النشء إلى أن تكون الحكومة العالمية هي أملهم وذلك باتخاذ تربية عالمية بجوار التربية القومية وبتعويدهم الغضب للمصلحة العالمية العامة.
ويجب أن نتعهد النواة الصالحة في (هيئة الأمم المتحدة) ونحذر اليأس ونصبر ونصابر حتى تصير هذه الهيئة محكمة حقيقية للأمم تضحي في سبيل استمرارها وقدرتها كثيراً من حقوق السيادة عن طيب خاطر.
في انتشار الدعوة
فصول هذا الباب الأربعة تعتبر ملحقاً بالكتاب يبين تاريخ انتشار الإسلام منذ ظهوره، والمقصود بهذا الباب هو دفع التهم والأوهام التاريخية في زعم أن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه. ولابد من إدراك ما في هذه الفصول كخطوة أولى في سبيل فهم القوة الذاتية للإسلام، تلك القوة التي تدفعه إلى الانتشار بما فيه من الحق والصلاح والاقتناع، لا بالإكراه ولا بقوة السلاح.
وقد بين المؤلف تاريخ انتشار الإسلام في الوثنيين وانتشاره في الأمم المسيحية المحيطة(700/56)
بمهده الأول، وانتشاره في (الصليبيين) الذين جاءوا لمحوه ومحو أهله فسحر كثيراً منهم وجندهم له.
ثم بين تاريخ انتشاره في الأمم الأوروبية. وفي كل هذا البيان اعتمد على المراجع الأوروبية المنصفة وعلى الأسانيد والتحليل للعوامل والظروف، بما جلى تاريخ انتشار الإسلام بالحجة والإقناع
ختام
وقد ختم الكتاب بهذه العبارة التي تناشد الروح الجديدة في الشرق أن ينهض برسالة الإنقاذ. قال:
(وبعد) فهل يكتب لسكان الشرق من المسلمين والمسيحيين الذين تتعلق نفوسهم دائماً برحمة الله وتترقب هداه إذا اشتدت الكروب والظلمات، أن ينهضوا مرة أخرى بميراثهم السامي الذي يقوم من عوج النزاع الفكري والاقتصادي والعنصري، ويلطف من حدة المزاج الغربي، حتى يؤمن بالأخوة الإنسانية ويعمل لخدمة السلام العام بإخلاص نية وحسن توجيه، بما مكن الله له في الأرض!
ذلك ما نسأل الله رب العالمين أن يعجل بتهيئة أسبابه (إن الله بالناس لرءوف رحيم).
هذا ختام الكتاب، ولكنه بدء دعوة ستجد من يحملها بقوة وإيمان، لأنها نداء الحياة والزمان وروح الحضارة العالمية التي اشترك في حمل شعلتها جميع الأمم، والحياة الحالية نبوة! نبوة الطبيعة وقوانينها وحقائق الأشياء وبراهينها فلا تحتمل شكاً أو جدلاً في قيمتها، وإنما تحتاج إلى الفهم والإيمان والإخلاص والعمل لإنقاذ الإنسانية وإنقاذ الحضارة من فلسفات الشك والهدم والمادية الصماء.
عبد المنعم خلاف(700/57)
العدد 701 - بتاريخ: 09 - 12 - 1946(/)
الأمثال العالمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب إلى الأستاذ عبد القادر الكرماني بحلب خطابا ينبئني فيه (أنه يضع كتابا عن الأمثال العالمية بلغة الضاد، وينقل إلى لغتنا العزيزة ما وصلت إليه يده من أمثال الأمم الأخرى على اختلاف أجناسها وأصقاعها، وقد ارهف نفسه للسؤال عن ناحية هامة في المثل وهي: هل وضع الأمثال مقصور على الأسلاف فقط؟ وهل لنا معشر الخلف أن نضع أمثالا أسوة بمن سبقونا؟ وإذا جاز وضع الأمثال لنا وضربها في مختلف شؤون الحياة فما هي الشروط التي يجب أن تتوفر فيما نود أن نتخذه مثلا؟ وإذا كان وضع المثل محصورا فيما تقدمونا فلم هذا الحصر وما هو الباعث له؟ وهل اتفقت الأمم جمعاء على السير في منهاج واحد؟ أم أن اختلافا بين الشعوب الأرض؟. . .)
وأقول: إن مكان هذا الكتاب الذي يشتغل به الأستاذ الكرماني لا يزال ناقصا في اللغة العربية؛ لأنها اللغو الوحيدة فيما نعلم بين لغات الحضارة التي خلت من كتاب جامع لأمثال الأمم أو للأمثال العالمية على حسب موضوعاتها أو على حسب أقوامها، وهو الموضوع الذي جمعت فيه باللغات الأوربية أسفار ضخام تجمع تلك الأمثال بترتيب أغراضها تارة وبترتيب أقوامها تارة أخرى
واحسب أن اللغة العربية أحوج إلى هذه المجموعة من اللغات الأوربية، لأن العرب (سلفيون) يكثرون الرجوع إلى الأمثال، ولأن الناقلين الأوربيين يخطئون فيما ينقلونه من أمثالهم وينسبونه إلى الأمم الشرقية الأخرى لاشتراك هذه الأمم جميعا في الدين وفي أحكام آدابه التي تضرب بها الأمثال. ويبلغ من خطئهم في هذا أننا رأينا آيات قرآنية وأحاديث نبوية منسوبة إلى الغرب أو إلى الهند لأنها وردت في أقوال الحكماء والمتصوفة من أبناء الأمم الهندية أو الفارسية، فإذا اهتم أديب عربي بجمع الأمثال العالمية فهو أحق الناس بتصحيح هذه الأخطاء وتمييز الأمثال الشرقية على حسب الأجناس واللغات. ولا شبهة في لزوم هذا التمييز، لأن الخلط بين أمثال العرب والفرس والهند مخالف للواقع من جهة، ومضلل للباحث في مقابلات الأمثال من جهة أخرى؛ إذ لا يخفى أن مسالة الأمثال مسألة (اثنولوجية) لها دلالتها على أطوار الأمم وعاداتها وبواعث تفكيرها ووسائل تعبيرها. فلا(701/1)
يشعر الفارسي بالحقيقة الواحدة كما يشعر بها العربي في البادية أو الحاضرة، ولا تقع المقارنة بين الحقيقة كما يعبر عنها المثل العربي والحقيقة كما يعبر عنها المثل الفارسي إلا ظهرت من هذه المقارنة خصائص الأمتين وعادات كلتيهما في المعيشة وأسلوبهما في الملاحظة والتعبير، وقد يكون للمثلين شاهد واحد أو موضع استشهاد واحد، وكن الاختلاف بين الشاهدين هو الذي يدلنا على اختلاف الخصائص والعادات ويفيدنا تلك الفائدة الاثنولوجية التي يبحث عنها علماء الأجناس والسلالات
فكتاب الأستاذ الكرماني منتظر ومطلوب مفيد، ونرجو له التوفيق في إتمامه على الوجه المنتظر المطلوب الذي تتحقق به فائدة اللغة العربية وفائدة المعرفة الإنسانية على التعميم.
أما سؤال الأستاذ عن حق الخلف في ووضع الأمثال، فهو كحق السلف في اعتقادنا بلا اختلاف، لأن أبناء جيل الحاضر سلف بالنسبة للأجيال التي تعقبهم وتقتبس من حكمتهم وتجربتهم وتروي ما بقي من آثارهم وأخبارهم، فإذا تلقى الأعقاب عنهم كلمات صالحة للرواية والاستشهاد، ودارت هذه الكلمات دورتها على الألسنة كما دارت من قبلها كلمات آبائنا وأجدادنا، فتلك هي الأمثال يضربها أبناء جيل لأبناء جيل الأجيال، وذلك هو الحق الوحيد الذي يستند إليه واضع الأمثال.
ولكنني احسب الأستاذ يسأل عن الأمثال التي يضعها أبناء الجيل الحاضر لأبناء الجيل الحاضر، ويرى لها موقعا مختلفا من موقع الأمثال الموروثة عن الأجيال الغابرة، وله الحق فيما يراه.
فالأمثال (سلفية) في طبيعتها ودلالتها، وقيمة هذه الدلالة آتية من اعتقاد الناس أنها دالة على إجماع التجارب واتفاق العبر بين الغابرين والحاضرين. فإذا حدثت حادة اليوم وسمعنا مثلا يلخص لنا الحكم على حادثة مثلها وقعت قبل مئات السنين ونظر الناس اليها يومئذ كما ننظر إليها اليوم، فهذه هي عبرة الأمثال، وهذه هي دلالتها من يروونها ويستشهدون بها في مواقعها، وهذه هي قوة الإقناع التي تستفاد من تجارب السلف ويتخذها الخلف رائدا له في حوادث الحياة.
لهذا ترجح أمثال الجيل الغابر على أمثال الجيل الحاضر، فهي حجة القدم واتفاق التجربة دون غيرها، وهي حجة لا تتاح لأقوال المعاصرين في زمانهم إلا إذا طال بها العهد حتى(701/2)
توافت عليها العبر وتكررت عليها الشواهد وصح بها الاستدلال.
لكن الثقة بالسلف ليست هي الثقة الوحيدة في مقام الاستشهاد، ونحن نؤكد الرأي بإسناده إلى زعيم موثوق بعقله وصدقه كما نؤكده بالإسناد إلى الآباء والأجداد.
ولهذا يجوز أن يصدر المثل من الجيل الحاضر للجيل الحاضر، ويجوز أن ينهض الزعيم الموقر بين قومه فيتخذ له شعارا يجري بينهم مجرى الأمثال ويكررونه في مقام الاستشهاد والاستدلال.
ولا شروط لشيوع المثل تكفل له البقاء على سبيل الحتم والإلزام، فإن شيوع المثل لا يتأتى بإرادة واضعه ولا بإرادة مروجيه، وإنما يتأتى بشيوع الحاجة إلى تكراره ارتجالا بغير روية ولا اتفاق، فتسقط أقوال كثيرة مع بلاغتها، لأنها لا تخطر على البال في اعم المناسبات وادعاها إلى الاعتبار، وتسري أقوال كثيرة مع بساطتها لألنها تخطر على البال في كل مناسبة وتعبر عن (الحالة) في نفوس قائليها والمستشهدين بها.
ولكن الملحوظ في جميع الأمثال السارية أنها تجمع بين السهولة والبساطة ودواعي الشعور المشترك بين العديد الأكبر من جملة الطوائف والطبقات، وإن الحكم للمصادفة فيها أقوى من الحكم للموازنة والاختيار.
وقد تنسب الكلمة إلى زعيم فتشيع لأنها نسبت إليه وهو لم يفه بها ولم يقصد بها قط ما قصده المرددون والمستشهدون، ومن أمثلة ذلك أن عامة المصريين يقولون في بعض المناسبات: سعد باشا قال: (مفيش فايدة. . .)
وسعد باشا لم يقل هذه الكلمة في المناسبات التي يريدونها، وإنما قالها عدلي باشا بالإنجليزية على مسمع من سعد باشا واللورد ملنر فغضب منها سعد وأنكر أن يعدل المتكلمون عن اللغة التي كانوا يتكلمونها إلى اللغة الإنجليزية ليقولوا بها عن مناقشته ما معناه بالعامية: (مفيش فائدة).
إلا أن الكلمة كان لها شأن خطير في السياسة المصرية، وعرف عامة المصريين ما كان لها من الأثر في علاقات الزعماء والعلاقات بين مصر والدولة البريطانية، ونسوا مناسبتها ولم يذكروا إلا كلمة (مفيش فايدة). . . وإن سعد باشا قالها ونقض يديه من المحادثات الملنرية في ذلك الحين، فسارت مثلا لأنها سجلت (حالة) من حالات زعيم كبير، وهي(701/3)
حالة قابلة للتكرار في كل يوم، فليس أكثر من الحالات التي تنفض منها اليدان ويرفضها المرء مغضبا وهو يقول: (مفيش فايدة!).
على أن الأجيال تختلف في السليقة (المثلية) أو في السليقة التي تنشئ الأمثال وتجريها على الأفواه.
وربما كان العصر الحاضر من اقل العصور قدرة على تسيير المثل بعد إنشائه، واقلها قدرة على إنشائه قبل تسييره.
وترجع هذه الخاصة فيه إلى سببين: أحدهما أن توقير السلف فيه ضعيف، والآخر أنه عصر السرعة - بل العجلة - فلا يصلح من ثم لتدعيم الكلام بالشواهد والأمثال.
فأما ضعف التوقير في عصرنا لكل قديم، فهو من لوازم الجموح الذي اقترن بالحرية (الشخصية) وخلق لكل فرد من الأفراد اعتدادا بنفسه يخرجه أحيانا عن سلطان الجماعة أو سلطان القبيلة كما عرفوه ووقروه في الزمن القديم، ويصرفه عن التماس الشواهد مما قاله الأقدمون، لأنه لا يتوخى في أعماله أن توافق آراء الأقدمين، بل لعله يفخر أحيانا بتعمد المخالفة والشذوذ اغترارا منه بمعنى المخالفة والشذوذ، وهو القدرة على التحدي والاستقلال.
وأما علاقة السرعة بالأمثال، فهي ظاهرة من الفرق بين طبيعة الأحاديث التي يسترسل بها المتحدث إلى سوق الشواهد والأمثال، وبين طبيعة الأحاديث التي يخطفها المتحدث خطفا ولا يكاد يبدأها حتى ينتقل منها إلى موضوع منقطع عنها، فإن الجالس في المنظرة ليقضي السهرة كلها في قعدة واحدة يستطرد إلى المثل تارة والى العبرة تارة أخرى فلا تقع عند السامع موقع الاستغراب، بل موقع الانتظار والارتقاب.
ولكنه إذا جلس في مرقص الجازبند أو في رحلة السيارة أو في القهوة التي تموج بالداخلين والخارجين فآخر ما يخطر على البال أنه يسترسل بالحديث إلى سوق الشواهد وضرب الأمثال.
وتظهر علاقة السرعة بالأمثال في معرض آخر من معارض اعصر الحاضر، وهو معرض التفرقة بين مناسبات الكلام في محافل أوعظ والتعليم ومناسبات الكلام في الصحف والمجالس النيابية وأحاديث المذياع وروايات المسارح والصور المتحركة. فهذه كللها تتجدد(701/4)
لمحة بعد لمحة ولا يأتي اللاحق منها حتى يرخى ذيول النسيان على ما سبق منذ لحظات أو منذ ساعات أو منذ أيام، وليست معارض الحديث بالأمس على هذا المنوال، لأنها كانت تتكرر بين الحين والحين ويتسع لها مقام التأمل والاستقرار والترديد.
ولعمري إنه لسبب آخر من أسباب العناية بجمع الأمثال وتقريبها إلى أبناء الجيل؛ لأن هذه العناية تستنفذ أثرا من الآثار الماضية يخشى عليه من طيات النسيان الفضفاضة، وتلقن أبناء الجيل (حالات نفسية) قد تؤدي بهذه العجلة الخاطفة إلى شيء من التؤدة والأناة.
عباس محمود العقاد(701/5)
إلى وزارة المعارف:
وعلى هذا فنحن ندور. . .
للأستاذ كامل السيد شاهين
- 2 -
فإذا طرحنا النظر في منهج التعليم الابتدائي ألفيناه مؤلفا من: قواعد، وإنشاء، ومحفوظات، وإملاء، وخط. وبنظرة فاحصة في كل فرع من هذه، تنثال علينا مثالب لا نجد إلى ردها سبيلا. ولنتعقبها فرعا فرعا لعلنا نجد من تكشيف هذه العيوب سبيلا إلى الإصلاح، وعونا على العلاج.
فأما القواعد، فقد وضعت الوزارة بين أيدي تلاميذ السنة النهائية كتابا ضاق غلافه - على سعته - بأسماء المؤلفين والمراجعين، ومع هذا فقد خرج الكتاب غير مناسب لروح التطور التربيبي، فهو يعقد الباب بعنوان، ثم يجري وراء الأمثلة فيجمعها من كل طريق، مثال من الصحراء، وآخر من السماء، وثالث من الحيوان، غير مراع نسقا خاصا، ولا حافل بانسجام، ثم يناقش الأمثلة أو بعضها ويخلص إلى القاعدة.
وقد كان هذا كافيا وجميلا في وقت ما، أما اليوم فلا كفاية فيه ولا جمال، ذلك بأن التلميذ يتلقى القواعد تلقيا جافا لا روح فيه فيمجها ويملها، وقد درسنا ولا زال المربون يدرسون أن التربية الصحيحة تملى أن يكون درس القواعد بسبب من الإنشاء وان تكون الأمثلة مرتبطة موضوعا، أو شبه موضوع، يقوم في ذهن التلميذ ويتحيز، ويدرك منه أن هناك رباطا وثيقا بين هذه وتلك، ويفيد من ذلك ترابط المعلومات وتغذية ملكة الإنشاء وطرافة العرض، ومن ثم فنستطيع أن نقول إن الأسلوب الذي اتخذه الكتاب أسلوب لا يسد الحاجة، ولا يسير طويلا في طريق التربية الحديثة، ولا يساعد على تغذية وتنمية ملكة الإنشاء، ويضرب في الجفاف والعقم إلى حد بعيد.
فإذا ما ضربنا عن الأسلوب صفحا، ورحنا نبحث في ترتيب المعلومات وتبويبها، ألفينا الجناية الكبرى التي لا تخص مرحلة دون مرحلة ولا جيل دون جيل - ذلك بان القوم في الأزهر ودار العلوم داروا حول كتاب واحد لا يجدون عنه حولا، هو ألفية ابن مالك، فهم(701/6)
يدرسونه بشرح ابن عقيل، ثم بأوضح المسالك، ثم بالاشموني؛ ومن ثم نجد أن طابعه قد مثل في أذهانهم وتبويبه وترتيبه قد استقر فيها، فتجدهم لا يسيغون طريقة المفصل للزمخشري، ولا ينظرون في كافية ابن الحاجب، وأهملوا الكتب والأصول شر إهمال، فلم يدرسوا شيئا قط من كتاب سيبويه، ولم يعرفوا شيئا قط عن مقتضب المبرد، وكانت عقبى ذلك أن اتجهوا اتجاها خاصا هو اتجاه ابن مالك في بعض كتبه، وفاتهم بهذا الإهمال أن يوازنوا بين اتجاهه واتجاه غيره من النحاة في الترتيب والتبويب، فذلك عسى أن يقودهم إلى اختيار أي السبل أهدى وأقوم
وقد جنت هذه المتابعة على تلاميذنا شر جناية، لأن الأساتذة المؤلفين لم يكلفوا أنفسهم رهقا، فلم يبحثوا عن طريق غير الطريق التي رسمها لهم ابن مالك، ومن يدري فلعلهم لا يعرفون أن هناك سبيلا آخر يصل بهم إلى هذه الغاية.
ابن مالك - ومن ورائه مؤلفينا الفضلاء - يرسم كتابه على: الكلام وما يتألف منه - ثم المعرب والمبنى - ثم النكرة والمعرفة، ثم المرفوعات فالمنصوبات فالمجرورات - ثم التوابع.
مسلك الرجل في الكتاب مسلك من ينظر إلى الصنعة النحوية فقط، مسلك من يهمه آخر الكلمة رفع أو نصب أو جر، ولا يهمه تناسق المعاني، أو افتراقها، وتنافرها أو انسجامها. حسبه أن هذا الحرف ينصب فيجب أن يكون في باب المنصوبات وأن هذا الحرف يجر، فيجر إلى باب المخفوض، وهلم خلطا ومزجا والشر في هذا أكبر من أن يهون، فالتلميذ يعرف أن (لن) تنصب، ويعرف أن (لم) تجزم ويعرف أن (ليس) تنصب الخبر، وأن (ما) في النفي لا تعمل شيئا، وكذلك (لا) ولكنه إذا طلب إليه نفي جملة اسمية أو فعلية، دار بين هذه جميعها وحار، أينفى بلن، أم بلم. . . الخ. والجناية على المعاني جد عظيمة ولا تعدلها بحال الجناية على الضبط، فالذي يقول: لم يتفق المفاوضون، أخف جرما من الذي يقول لم المفاوضون متفقون، وإذن فلا بد أن تكون المعاني مساوقة للإعراب إصبعا إصبعا فيعقد باب للنفي تجمع فيه أدواته وتبين خواص كل أداة، وفي ذلك من اللذة والفائدة ما فيه. ولكن طريقة ابن مالك ومتابعيه لا تعبأ بهذا، بل ترمي (لم) في صندوق الجوازم لأنها تجزم، و (لن) في صندوق النواصب لأنها تنصب، و (ليس) في صندوق النواسخ ناصبة الخبر، ولا(701/7)
تعرض لما، لماذا؟ لأنها مسكينة فارغة، متصعلكة لا عمل لها في اللفظ، أما أثرها في المعنى فليس للقوم على بال، وكذلك (لا) مستضعفة فارغة فلا ذكر لها ولا وجود!
والجناية في التوكيد مثلها في النفي؛ (فإن - المفعول المطلق المؤكد - ونون التوكيد - والتوكيد المعنوي) كلها مثبتة في الكتاب ولكنها مختصمة متفرقة أبدى سبأ، كل منها في باب، فتوكيد الجملة الاسمية تجده في الحروف النواسخ، وتوكيد الفعل بالاسم تجده في المفعول المطلق، وتوكيد الاسم بالاسم تجده في التوابع، فإذا رمت أن يؤكد لك التلميذ جملة اسمية فقد رميت به في متاهة لأنك بذكر لفظ (التوكيد) قد صرفت ذهنه كله إلى الباب المعقود للتوكيد، وليس فيه إلا الألفاظ التوابع وهي من الضآلة في العربية ما هي.
تلك جناية اللفتة السقيمة إلى آخر الكلمة، تفرق ما بين اللفق ولفقه، وتصيب عقل الوليد بالالتواء والتشويش.
لابد أن نعقد أبواب النحو على طريقة أخرى تتوخى فيها المعاني، فنعقد بابا للتوكيد، وبابا للنفي، وبابا للربط، وبابا للطلب. أمره. ونهيه. واستفهامه. ودعائه. وتمنيه، وهلم جرا؛ فذلك أعود بالفائدة واقرب إلى أن تكون الدراسة ممتعة شائقة غير جافة غثة باردة تعلق نظر الغلام بآخر الكلمة لا يعدوه.
وقد رأيت أن متابعة طريقة ابن مالك قد عادت على المؤلفين بوضع أبواب لا فائدة من دراستها في المرحلة الابتدائية، ذلك بان محط الخطأ إنما هو الأعراب، أما المبني فهو بعيد عن مجال الخطأ كل البعد، وقد جاءت الحروف مبنية، والأفعال كذلك، ونصب المضارع وجزمه سهل التدبير، فإن أدواتهما معدودة ومحدودة، ومدار الخطأ إنما هو في معرب الأسماء التي يتلون آخرها بالضم والكسر والفتح، والذي يتولى كبر الضلال من هذه الأحوال إنما هو الفتح، فأما الضم فإنه يدور حول محور واحد وهو الإسناد، فإسناد الاسم أو الإسناد إليه مقتض رفعه، لا يخرجه عن ذلك إلا ناسخ، وأما الجر فإنه يكون بحرف أو إضافة - فإذا حدد الاسم المرفوع وذلك هين، والمجرور وهو أهون، فما بقي من اسم فهو منصوب لا يكون إلا كذلك، فأما أنه منصوب على المفعولية أو الحالية، فذلك مما لا يعني مادمت احرص على النطق السليم الصحيح، فأنا أبيح التلميذ أن ينصب الاسم متى ظهر أنه ليس مسندا إليه ولا مسندا، ولا مستحقا للجر بالإضافة أو الحرف، وليس في الناس من(701/8)
يقول إن التلميذ لا يفهم معنى (عاد التلميذ مصابا) حتى يعرف أن مصابا حال، فحسبه إذن أن يقول أنها فضلة. وبذلك وحده نكون قد اهتصرنا ثلث النحو، ونستطيع أن نستغل القراتح في نواحي أخر أجدى وأعود بالفائدة. وبذلك نكون قد خففنا من هول هذا الشبح المفزع الذي يتراءى للتلميذ في يقظته ويروعه في منامه، وهو شبح القواعد.
ولست أزعم إنني مبدع هذا النسق من الدراسة والاختصار فقد سبق إليه الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتابه النحو، ولكنه وا ضيعتاه لم يجر عليه في كتب صغار التلاميذ التي هو أحد عشر كوكبا رقشوا غلافها بأعلامهم الكريمة!
وهنا نترك أمر التبويب والترتيب والاختصار والحشو، إلى أمر آخر أقذى من العين، وأشجى للنفس، فإن الكتاب كثيرا ما يغفل عن المقرر إلى أي حد وقف، وعن التلميذ إلى أي مدى درس، فيطلب منه إعراب شيء ما عرفه بعد، فيقف التلميذ حائرا مبهوتا دهشا، أو يجتازه على ضرب من الحدس والتخمين، وما شر من ذاك إلا هذا، فأما المعلم فإنه يبيت - من رحمته بتلميذه وإشفاقه عليه - قلق غير موسد!.
خذ مثلا: مطالبته في آخر تمرين على الضمائر بأعراب الجملة (إننا سلمنا من القادمين) على حين أن التلميذ لم يعرف بعد أن من الخبر ما هو جملة، وبينه وبين معرفة ذلك مدى طويل، فالله أنشدكم ماذا يقول المدرس؟ وكيف يتخلص من أسئلة تصوب إليه في حرص وقوة؟ وكيف فات ذلك المؤلفين الستة والمراجعين السبعة؟
وخذ مثلا آخر: مطالبته بإعراب: (أمسى القانع وهو مغتبط) آخر باب الحال، وأمسى هنا دائرة بين التمام والجملة بعدها حال، أو النقصان والواو زائدة كما قالوا في (فأمسى وهو عريان) فأي البابين افتح على التلميذ الغض، باب تمام أمسى، وهو لا يطيقه، أم باب زيادة الواو، وهو لا يسيغه؛ على أن الواضع - عفا الله عنه - إنما قصد إلى الأول لأنه ذيل بهذا المثال باب الحال. واللجوء إليه يصدم عقول الأطفال الصدمة المضللة بين الناقص والتام، ويفتح عليه بابا من التخليط ليس له رتاج!
وبينما تجد الكتاب في تطبيقاته يحاور التلميذ محاورة الملغز المحاجي، تجده يقف عند بعض الأمثلة في بابين متباعدين لا يعدوهما، فهو يمثل في باب الحال، لشبه الجملة بقوله (وزنت القطن في غرارة) فإذا عددت خمسة أبواب بعدها تقع في نحو خمس عشرة ورقة،(701/9)
وجدته يمثل في باب النعت، لشبه الجملة بقوله: (رأيت قطنا في غرارة) يا لله، أضاق الأفق عن كل شيء إلا عن القطن والغرارة، نحيرهما بين باب الحال وباب النعت؟ ولو أن الواضع أجرى موازنة بين المثالين في البابين، لقلنا حكمة حكيمة، ولكن الذي اضطره إلى ذلك الكسل العقلي، ولا نقول الأجداب العقلي، فذلك ما لا رضاه وصفا للجلة الفضلاء.
وبعد: أفأنتم مصرون بعد على أن نذوق غصص هذا الكتاب وهذا المنهج؟ إن كان ذلك فحسبكم الله على ما فرطتم في جنب التلاميذ , والأساتيذ! ولي عودة في نقد المطالعة والمحفوظات إذا شاء الله.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية(701/10)
تجار الأدب. . .
للدكتور أحمد فؤاد الاهواني
لا نقصد أولئك الذين يبيعون الكتب ناشرين أو وراقين، بل نعني أولئك الذين يتصدون للآداب والعلوم والفنون والفلسفة فيؤلفون فيهان ويطلعون على الجمهور بثمرة قرائحهم، لا يخدمون بذلك أدبا ولا يفيدون علما، بل يطلبون ربحا ويطمعون في ثروة فجعلوا من الأدب تجارة، وانزلوا العلم منزلة السلع الرخيصة.
ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة صبحت الحرب الأخيرة منذ بدايتها، إذا انقطعت أسباب الحصول على الورق، وتسنى لهؤلاء القوم بأساليب لا تمت إلى الشرف بصلة أن يحصلوا على الورق اللازم للطبع، ووجدوا المطابع متعطشة فدفعوا إليها بهذه الثمار الفجة، وخرجت إلى السوق هذه الكتب العجيبة. ليس فيها اثر من جهد أو بارقة من تفكير، وإنما هي ألفاظ مرصوصة يسود بها أصحابها صحائف الورق، ويملأون دفتي الكتب.
وكيف تريد أن يكون الأمر غير ذلك، وبعض هذه الطائفة يخرج في كل شهر كتاب، لو انفق فيه عالم يمتاز بالضمير ويتصف بالتثبت أعواماً لوجد أنه في حاجة إلى المزيد من الأعوام.
سئل أحد الناشرين: كيف تطبع لفلان؟ فقال: (إن الجمهور يقبل عليها كما يقبل على الفول السوداني) وهو تشبيه يقصد به إلى المدح والذم سواء. ولعله كان يرمي إلى التحقير فما عهدنا أن الكتب توصف بالتشبيهات المادية القليلة الشأن.
ولقد مضى زمن الحرب الذي انقلبت فيه الأوضاع، فعادت سوق الأدب إلى سابق حريتها، ووجد الفضلاء سبيلهم إلى المطابع بالطرق الكريمة التي لا تنافي الذوق أو الشرف، فانكشف أمر أولئك القوم وباءت كتبهم بالخسران، وزحمت رفوف الوراقين وأكبر الظن أن مصيرها سوف يكون إلى باعة (الفول السوداني) يلفون فيها بضاعتهم في (القراطيس).
ولعلك تعجب معي وتسال عن السر في بضاعة القوم كيف يتسنى لهم التأليف في كل شهر، وهل اتسعت مداركهم، وسمت عقولهم، وارتقى تفكيرهم إلى الحد الذي يسمح لهم بتسويد صحائف كتاب جديد كلما طلع الهلال الجديد.
إنهم يفعلون أحد أمرين: الأول السطو على بعض الكتب الأجنبية، ثم نقل فكرتها نقلا(701/11)
خاطئا، ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم زورا وبهتانا. وهذه المسألة تعرف بالسرقة الأدبية. وهؤلاء هم لصوص الأدب. يريدون أن يقول الناس عنهم انهم من كبار المؤلفين الذين يرجع إليهم، وهي نزعة تخلو من الأمانة على كلا الحالين، فهم غير أمناء في نسبة موضوع إلى أنفسهم وحقيقته لغيرهم، وغير أمناء في نقل الفكر، ولو كانوا قادرين على النقل وحسن التعريب لأعلنوا ذلك.
والأمر الثاني أن يتجهوا إلى الترجمة الصريحة، وقد زادت هذه الحركة في الأيام الأخيرة ولكننا نرى المتصدين لها، أو اغلبهم، لا يحسنون التصرف ولا يجيدون التعريب، لقلة خبرتهم، ونقص علمهم بالموضوع، وعجزهم في كلتا اللغتين الأجنبية التي ينقلون عنها، والعربية التي ينقلون إليها.
ولكنه بريق الكسب يستهوي هؤلاء وأولئك فيدفعهم إلى التسرع، والسرعة كما قال الزيات في مطلع كتابه (دفاع عن البلاغة) إحدى آفاتها. وهي لعمري إن كانت مزية الحضارة الحديثة فهي آفة الإنتاج الجيد في كل شيء، ماديا كان أم معنويا، وهي في الآثار العلمية والأدبية اخطر.
كنا في صدر الشباب نحضر العلم في الجامعة المصرية على أستاذنا الدكتور منصور فهمي، ومن أقواله المأثورة التي لا يزال طلابه يحفظونها عنه ويروونها في المناسبات (اطلبوا العلم للعلم) وكان بعضنا يتحدث إليه في وجوب السعي لدى أولى الأمر في الحكومة ليفسحوا المجال للخريجين في الجامعة والحاصلين على إجازة كلية الأدب في وظائف الدولة، فكان يرد عليهم بقولته المأثورة (اطلبوا العلم للعلم). وما كنا في ذلك الوقت نحسن تفسير هذا الكلام أو فهم مراميه البعيدة. هل يطلب العلم للعلم وهل يفضل أحدنا العلم على المال؟ وهل يغني العلم وحده في سد مطالب الحياة؟.
لا نقول إن العلم سبيل الحصول على المال، ولو عكسنا القضية لصح المقال، إذ الواقع من التاريخ أن المال كان غذاء العلم، ولقد عاش العلماء في قديم الزمان على بذل الملوك والأمراء والأغنياء وما كنوا ينفقونه عن سعة في سبيل العلم، وأوقاف الأغنياء المحبوسة على مصلحة العلم والعلماء خير شاهد على ذلك. وكان العلماء من جهتهم زاهدين لا يحفلون بملبس أو مشرب أو مأكل لأن همهم كله منصرف إلى طلب العلم ولذتهم في(701/12)
تحصيله. وكانت أيديهم تزخر في بعض الأحيان بالمال فينفقونه في اوجه الخير والبر.
الخلاف إذن في الغاية، هل العلم غاية في ذاته تطلب لذاتها أم وسيلة لغاية أخرى هي المال؟
ولا مراء في أن التضحية بالعلم والأدب في سبيل الأهداف المادية هو الانحطاط والإسفاف، ومن كانت غايته الثروة فليطلبها في تجارة السلع المختلفة فهي أكثر للمال إدرارا. ولقد حكى ارسطو في كتاب السياسة أن أحد فلاسفة اليونان الأقدمين عيره القوم بقلة ذات اليد والانصراف عن الدنيا , فاعتزم في نفسه أمرا، فذهب في الشتاء إلى أصحاب المعاصر واستأجرها منهم باجر زهيد، فقالوا: هذا مجنون ماذا يفعل بالمعاصر في هذا الوقت وليس لها عمل؟ فلما جاء الصيف، وأراد الزراع عصر العنب لاستخراج النبيذ، طلب منهم أجرة مضاعفة، ولم يسعهم إلا الدفع لأنه كان قد احتكر جميع المعاصر. وأثرى من هذا الأمر ثروة كبيرة، فاثبت للقوم أن الفلاسفة لو أرادوا المال لحصلوا عليه، ولكن بغير طريقة الفلسفة!
والسؤال الآن: هل نترك هذه الطائفة أحرارا في أعمالهم يسيئون إلى العلم والأدب، ويفسدون الذوق، ويشيعون الخطأ، ويذيعون الباطل، أم يوكل أمر الكتب إلى هيئة تميز بين الغث والسمين والصحيح والفاسد فلا تجيز إلا الصالح؟
يقول قوم نحن في عصر الديمقراطية وأساسها الحرية وعلى الخصوص حرية الرأي والفكر، فكيف تريد أن تحد من هذه الحرية التي ناضلت البشرية في سبيلها أجيالا طويلة؟ إنكم لو فعلتم ذلك، لرددتم الإنسانية إلى اظلم عصورها واحلك أزمنتها، يوم كان عقاب الأحرار أن تحرق كتبهم ويلقى أصحابها في غياهب السجون.
والقياس هنا مع الفارق، لأن فلاسفة القرون الوسطى كانوا يطلعون على الناس بثمرة أفكار جديدة ينتقدون فيها الآراء الشائعة من قديم الزمان، أما مؤلفو مصر في هذا الزمان، فإنهم لا يفكرون تفكيرا جديدا، ولا ينتقدون قديما، ولا ينتقدون كشوفا حديثة، بل يمسخون كتب غيرهم ويغيرون عليها.
مهما يكن من شيء، فأنا من أنصار الديمقراطية والحرية، ولا احب أن احجز على فكر الناس، ولا على الطريقة التي يذيعون بها أفكارهم، ولكن من واجب الناقدين أن يبصروا(701/13)
الجمهور بحقيقة ما يظهر من تأليف، وقد كثر عندنا المتعلمون الذين يحسنون تقدير المؤلفين. . . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
أحمد فؤاد الأهواني(701/14)
لمحات قضائية في قتل عثمان
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه لمحات جديدة في قتل عثمان من ناحيته القضائية، تضع الحق في نصابه، وتبين هل كان في قتله قصاص أولا، وهل سلك المطالبون بدمه الطريق المشروع له أولا، كما تبين كيف سكتوا عن ذلك بعد أن صار أمر المسلمين بيدهم.
فأما عن الأمر الأول فإن الثائرين على عثمان رأوا أن يأخذوه غيلة بعد أن طال حصارهم له، فتسوروا داره من دار مجاورة لها، ونزل عليه جماعة منهم فيهم محمد بن أبي بكر، ولم يكن عنده إلا زوجه نائلة بنت الفرافصة، لأن أهله ومواليه كانوا يشتغلون بالدفاع عنه أمام بابا داره، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فاخذ بلحيته، فقال له: يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك. فتراخت يد محمد حين سمع هذا من عثمان، وخرج عنه ولم يفعل به شيئا، فلما خرج دخل عليه رجلان من الذين تسوروا داره فقتلاه ثم خرجا.
فصعدت زوجه نائلة بعد خروجهما وصرخت: قتل أمير المؤمنين. فدخل كل من كان يدافع عنه فوجدوه قد فاضت نفسه، ولم يمكنهم أن يسألوه عمن قتله.
فانحصر شهود قتله في زوجه نائلة، وقد قام على بن أبي طالب بالتحقيق في ذلك عقب وقوعه، فذهب إلى نائلة وقال لها: من قتله وأنت كنت معه؟ فقالت: دخل إليه رجلان، وقصت خبر محمد بن أبي بكر.
فاحضر علي محمدا وسأله عن ذلك، فلم ينكر محمد ما قالت نائلة، وقال: والله لقد دخلت عليه وأنا أريد قتله، فلما خاطبني بما قال خرجت، ولا اعلم بتخلف الرجلين عني، والله ما كان لي في قتله سبب، ولقد قتل وأنا لا اعلم قتله.
وقد انتهى تحقيق علي في قتل عثمان بذلك، فلم تعرف فيه نائلة ممن دخل علة عثمان إلا محمد بن أبي بكر، ولكنها لم تشهد بأنها رأته يقتله، بل ظاهر شهادتها أن قتله كان بيد ذينك الرجلين اللذين تعرفهما، وحينئذ يكون قاتله مجهولا، وإذا كان قاتله مجهولا فإنه لا يكون في قتله قصاص، بل يكون نصيب قضيته أن تحفظ إلى أن يظهر قاتله، كما يفعل ألان في كل جناية لا يوجد شهود لها، ولا يصح أن يؤخذ محمد بن أبي بكر فيها بشيء، لأنه عزم ولم يفعل، والعزم لا يؤاخذ عليه في الشريعة الإسلامية ولا في غيرها من الشرائع.(701/15)
وأما عن الأمر الثاني فإنه لما بويع علي بالخلافة طالبه طلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم بدم عثمان، ولكنهم لم يطلبوا ذلك بالطرق السلمية المشروعة في القضايا، بل ذهب طلحة والزبير في عدة من الصحابة إلى علي فقالوا له: يا علي، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، واحلوا بأنفسهم.
فقال لهم علي: يا أخوتاه، إني لست اجهل ما تعلمون، ولكن كيف اصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم إعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟
قالوا: لا
فقال لهم: إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق، فاهدؤوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم؟ ثم عودوا.
ولا شك إنها كانت فتنة جامحة، وقد اشترك فيها ألوف من الناس، فلا بد من التريث في أمرها كما رأى علي، ولا سيما أنه لم يعلم من قام منهم بقتل عثمان، حين يتعين فيه القصاص، ويؤخذ دمه بدمه، ثم يحكم على من عداه بقدر تبعته في ذلك الفتنة، وقد كانوا من الكثرة بحيث يجهل أكثرهم، ولا يمكن تمييزهم إلا بعد مضي زمن يكفي لتمييزهم.
ولكن هذا لم يرض طلحة ولا زبير ولا معاوية ولا عائشة، فنادوا بالحرب، وانتقل الأمر بذلك من قضية يجب أن تؤخذ بالسلم كما تؤخذ سائر القضايا إلى حرب مفاسدها أكثر مما يرونه مفسدة، فقابلهم علي حربا بحرب، وجرى الأمر بينهم في ذلك إلى قتل طلحة والزبير وعلي، وآل أمر المسلمين بعدهم إلى معاوية.
وأما عن الأمر الثالث، فإن معاوية لما آل الأمر إليه لم يعد النظر في قضية عثمان، ولا شك أنه وجد نفسه أمام جناية قتل لا يعلم القاتل فيها بيقين، فلا يمكنه أن يأخذ أحداً فيها بقصاص، كما وجد نفسه أمام كلمة قد اجتمعت، واردات أن تنسى الماضي بما له وما عليه، لتأسو الجروح، وتقضى الفتن، فيجتمع الشمل، ويعود المسلمون أخوانا، ويتموا ما بدأ به السلف الصالح من الفتوح، ويعملوا متعاونين على إعلاء كلمة الإسلام.(701/16)
فلم يجد معاوية مع هذا إلا أن يترك أيضاً أمر النظر فيمن اشترك في تلك الفتنة، حرصا على جمع الكلمة، ونزل في ذلك على مثل ما نزل عليه علي، رضي الله عنهم جميعا.
عبد المتعال الصعيدي(701/17)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 5 -
يعيب علينا بعض الكاتبين أننا نستأنس بما كتبه المتقدمون في مقالاتنا هذه التي ننقد بها بعض آراء الجامعة في البلاغة، ويزعمون أن المتقدمين كانوا أصحاب أذواق مريضة، ومن العجب أن حجة الكاتب على ما يكتب هو ما ينقله عن بعض كتابنا المحدثين، أفيحرم علينا أن نستضيء بإمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ويحل لي أن يتكئ على ما يقوله بعض المحدثين؟ ليفتنا هؤلاء العلماء الأعلام الذين وجودوا في أدب عبد القاهر وبلاغته غذاءهم وريهم، وإذا أنكر منكر على هذا الأمام شيا فلن يكون هذا الشيء ذوقه. يعرف ذلك العالمون المنصفون، ثم أني كنت اعتزمت أن أرد على هذا الذي يجادلني على صفحات (الرسالة)، ولم يجد سبيلا أهدي إلى الحق من أن احتكم إلى عقول قراء (الرسالة) وكثيرون منهم يفهمون هذه المسائل على وجوهها الصحيحة، وهي بين أيديهم.
وعجيب أن نعيب على المتقدمين جهودهم في خدمة علوم البلاغة ونحن لم نفعل شيئا، لقد ظل علماء البلاغة منذ القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن السابع وهم ينشئون هذه العلوم وينمونها، حتى اكتملت قواعدها على يد أبي يعقوب يوسف السكاكي، فلما جاء من بعدهم من العلماء وقف بهم الاجتهاد، ولكنهم جاهدوا وجهدوا، وخدموا هذه العلوم بما لا نرى موضعا لتفصيله الآن، فماذا صنعنا نحن؟ ملأنا أذهان التلاميذ، وغرف الدراسة بالعيب على المتقدمين والنيل منهم، والطعن في كفاياتهم، ولكن من غير أن نبني قاعدة، أو نهدم بصيرة ونصفة قاعدة، وأني لا أرى خير ما يتمثل به في هذا الموضع المثل العربي: (اسمع جعجعة ولا أرى طحنا).
وقد سمعت أن فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي يريد أن يرد على مقالاتنا هذه التي يسميها (حركة رسالة) بكتاب في البلاغة يخرجه للناس؛ وإنا منتظرون بفارغ الصبر هذا الكتاب انتظار المتعطش إلى التجديد في هذه العلوم، وقد نكون أول من يرفع الصوت في امتناحه إذا وجدنا فيه ما يعدون به، ولعله لا يكون صورة لهذه الرسائل الصغيرة التي أخرجها الشيخ ونقدنا بعضها، ثم نعود إلى مناقشته في بعض مسائل القصر إتماماً لما كنا(701/18)
بدأنا به.
2 - لا يرتضي تعريف العلماء للقصر الإضافي فيطالعنا هو بتعريف آخر دعاه إليه - فيما نظن - رغبته في أن يربط علوم البلاغة بعلم النفس وهو نوع من التجديد، ووجد انسب ما يلصقه بالقصر الإضافي هذا الذي يسميه علماء النفس (تداعي المعاني) فما يمنع أن يكون القصر الإضافي نظر فيه إلى هذه الفكرة النفيسة؟ والذي حفظناه من مشايخنا وقرأناه في كتب العلماء أن القصر الإضافي يكون حين تتمثل صفتان في ذهن، فد يعتقد اجتماعهما في موصوف وأنت تريد أن تبين له خطأ هذا الاعقتاد فيكون قصر الأفراد، وقد يعتقد ثبوت إحداهما دون الأخرى وأنت تريد أن تعكس عليه اعتقاده فيكون قصر القلب؛ وقد يحاور في أمر الصفتين فإذا اثبت له إحداهما ونفيت الأخرى كان قصر التعيين؛ فمدار القصر الإضافي إذن على صفتين أو أكثر في ذهن المخاطب وأمام بصيرته، وله فيهما اعتقاد، لكن الشيخ يقول: (وأساس القصر الإضافي ما يقرره النفيسون، ويسمونه تداعي المعاني، أي أن المعاني يرتبط بعضها ببعض بطريقة الضدية أو المناقضة أو المنافاة أو التلازم أو التكامل. والقصر الإضافي في الكلام قائم على إفراد معنى من المعاني لا على أنه لا يوجد سواه في الموصوف، ولكن على أساس أن تبعد سواه هذا عن تفكير المخاطب، أي أن هذا النوع حاجز بين الصفة التي تريد إثباتها للمتحدث عنه وبين ما يمكن أن يقفز إلى ذهنه من الصافات عند ذكر هذه الصفة، فمثلا تقول ما نريد إلا رياضي، فعند ذكر كلمة رياضي يحدث تداع في المعاني فتجول في الذهن صفات أخرى نحو مهندس. فلكي. موسيقي. مخترع. أديب. ولكن إذا قصرت وأتيت بالأسلوب على هذا النحو فقد أبعدت كل هذه الوجوه) وهذا كلام واضح وصريح في أن المقصود من القصر هو أبعاد ما عسى أن يجول بذهن المخاطب من الصفات التي تتصل بهذه الصفة المثبتة، وكأنه ليس عند المخاطب صفة ينكرها وأخرى يثبتها، وينبني على هذا - ولا شك - فساد في التقسيم الذي ذكره العلماء للقصر الإضافي. وقبل أن نرد على الشيخ نحب أن نذكر له ولمن يعيب علينا استدلالنا بكلام المتقدمين، أن الشيخ عبد القاهر رحمه الله، تنبه لهذه الفكرة، ولكنه لم يكن يعرف تداعي المعاني أو تناديها فلم يملأ الجو صياحا عجيج، يل مر يذكر المسألة في بساطة وسهولة فقال في كتابه دلائل الأعجاز (واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد(701/19)
إلا قائم) انك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني انك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام نحو أن يكون جالسا أو مضطجعا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم أن يكون اسود أو ابيض أو طويلا أو قصيرا أو عالما أو جاهلا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم واه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك) ونلاحظ أن الشيخ عبد القاهر كان دقيقا كل الدقة فلم يقل إن هذا في القصر الإضافي، وإنما ساقه على أنه فكرة عامة في القصر، وأمثلته صالحة لأن تكون قصرا حقيقيا تحقيقيا أو إدعائيا، وأن تكون للقصر الإضافي ولكن بشرط أن يعين المخاطب في ذهنه المثبت والمنفي. ثم نرد على الأستاذ فنقول له: ارجع إلى شواهد القصر الإضافي فسترشدك إلى أن النزاع يكون في شيئين ماثلين في ذهن المخاطب، ولنسق نحن جملة من الشواهد الفصيحة يقول الله تعالى: إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر. وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير. ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون. ويقول صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب. إنما أنا قاسم والله يعطي. وهكذا إذا تتبعنا الأمثلة التي صرح فيها بالمثبت والمنفي وجدنا أن كليهما معلوم للمخاطب وله فيه نظرة، فإذا كان المنفي عاما لم يكن هذا من القصر الإضافي، ولذلك يقول بعض العلماء إن قول الغطمش الضبي:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
من القصر الحقيقي، ولست - والله - ادري من أين جاء للشيخ أن الغرض من القصر الإضافي أن نحول بين ذهن السامع وبين صفات أخر تتوارد عليه لها بهذه الصفة المثبتة صلة ورباط؟!
3 - وقد انتهى العلماء منذ زمن بعيد من تقسيم القصر الإضافي، ووقفوا عند قصر الأفراد والقلب والتعيين باعتبار حال المخاطب في اعتقاد الشركة أو العكس أو التردد، ولكن الأستاذ يتنبه إلى أن القسمة العقلية كانت تقتضي قسما رابعا وذلك في حال ما إذا كان(701/20)
المخاطب خالي الذهن، وينعى على العلماء إهمالهم هذا القسم الرابع يقول (وعلى ذلك يتضح لنا أن إغفال الحالة الرابعة وهي حالة خلو الذهن في باب القصر غير مبني على نظر صحيح). (فمثلا يجوز لك أن تقول لخالي الذهن تماما: لا اله إلا الله اعتمادا على ما يقدرونه في علم النفس من أن الخطأ الأول يصعب إصلاحه، والصورة الأولى يعسر محوها).
(أما نحن فنقول لهم إن أسلوبكم يقتضي أن ترددوا مواقف المخاطب بين هذه الأحوال الأربعة فلم اغتنم الحالة الرابعة؟) والذي نؤكده أن تقسم العلماء مبني على نظر صحيح، وأنه لا حالة رابعة هناك حتى نتهمهم بأنهم أغفلوها، وأدنى نظر في طبيعة القصر الإضافي يرشدنا إلى ذلك فلا يدفعه أن يكون المخاطب عارفا بالمثبت والمنفي فأنت تقول له: شوقي شاعر لا كاتب إذا كان يعلم هاتين الصفتين في شوقي فيثبتهما معا أو ينفي أحدهما أو يتردد فيهما، أما إذا قلت هذا القول وهو يجهل كل الجهل شاعرية شوقي وكتابته كان كلامك خلفا من القول، وبعيدا عن اعتبار البلغاء، فإذا أردت أن تلاحظ هذه العلة النفسية، وأن تؤكد له من بادئ الأمر رجعنا إلى جهة أخرى وهي الكلام على مقتضى الظاهر، ويقال حينئذ إن المتكلم نزل المخاطب الخالي الذهن منزلة المنكر أو المتردد أو العاكس ويرجع الأمر إلى قسم من هذه الأقسام الثلاثة، والعلماء انما يدركون المقاسم الأصلية، أما الأمور المنزلة فيرجعونها إلى مشابهاتها، ومعروف ذلك عند من درس فهم يجعلون اضرب الخبر ثلاثة، ثم ينزلون المنكر منزلة غير المنكر، وينزلون غير المنكر منزلة المنكر، وهكذا. ولا يحق لنا أن نقول إن هذه اضرب أخرى للخير، على أن المثال الذي ذكره الأستاذ (لا اله إلا الله) لخالي الذهن لا يصح مطلقا أن نجعله من القصر الإضافي، وإنما القصر فيه حقيقي تحقيقي، وهذه الأقسام الثلاثة كما هو معروف لا تتأتى في القصر الحقيقي.
4 - وهذا بحث جديد يريد أن يطالعنا به أستاذ الجامعة. العلماء قصروا في أغراض القصر، وحصروها في النفي والإثبات وهو أمر يجب أن نؤاخذهم به (والذي نأخذه على صاحب الإيضاح ومن لف لفه من البلاغيين أن شعورهم كان يجب أن يتسع حتى يمل ما وراء القصر بأنما من أنواع القصر، فكان يجب أن يوسعوا حسهم أكثر من ذلك فليس(701/21)
القصر للإثبات والنفي بل هو للتضييق والتحديد). (فلعله ثبت مما قلناه إن للقصر مرامي أخرى وراء المعنى النحوي أهملها البلاغيون) وهذه الأغراض التي ذكرها ومثل لها هي غرضان: التوهين ومثل له بقوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) والتأنيب ومثل بقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) قال:
إذا نظرنا إلى قوله تعالى: ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئا. وجدنا أن التعبير بكلمة رسول عنصر أساسي في المعنى قصد به التوهين من شأن الرسول في هذا المقام. محمد دِهْ يطلع إيه؟ مرسال زي بقية المراسيل ييجي ويروح. القصر هنا واضح في أن المقصود به التوهين من اثر الرسول في الدين ولذلك جاءت تسميته هنا برسول ولو قال نذير. هاد. سراج. لقطع الطريق على هذا الغرض) وقال: (ما قلت لهم. . الآية. هذا التأنيب المؤلم مستفاد من وراء الألفاظ، وهو هنا المرمى البلاغي للقصر ويدل عليه) وقبل أن نرد على هذا الكلام المتداعي نذكر ما قاله العلماء في أغراض القصر حتى ننفي عنهم تهمة انهم ضيقوا حسهم أو قصروا. قالوا من دواعي القصر (1) داعي القصر الحقيقي التحقيقي بيان الواقع (2) داعي القصر الادعائي المبالغة وعدم الاكتراث بما عدا المقصور عليه (3) الرد على المخاطب في قصر القلب وقصر الأفراد (4) تعيين المبهم عند المخاطب في قصر التعيين (5) قد يقصد من القصر مجاراة الخصم (6) التنبيه على أمر هو مقتضى الكلام والغرض منه وجعل القصر وسيلة إليه وذلك كثير في انما (7) تنزيل غير المنكر منزلة المنكر لاعتبار مناسب فيخاطب بأسلوب القصر.
أما ردنا على ما ذكره من أغراض فواضح أنه ليس الاقصد في الآيات الأولى الحط من مقام الرسالة في الدين، وهل يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول إن محمدا ليس شيئا؟! لا. يا شيخ! المسألة أن الله تعالى يقول لهم: لا معنى لتعلق الدين بمحمد فإن الرسل قبله ماتوا وسيموت هو مثلهم ولا ينتهي الدين الذي يدعون إليه بانتهائهم لان مهمتهم الرسالة والتبليغ، والرسالة ولو أنها أمر له قيمته وخطره لكن لا يجب أن يتعلق إيمان الناس بمدة حياة صاحبها فهو انما يدعو إلى الله. ولعل مما يدل على ذلك أن العرب لم يفهموا أن القصد التوهين من شأن الرسالة، وهذا أبو بكر يستشهد بها يوم وفاة الرسول، فهل كان يريد أني(701/22)
يقول لهم: إن محمدا ليس شيئا في الدين؟ ما نظن ذلك ولا نرضى لمسلم أن يظنه. وأما التأنيب في الآية الثانية فليس مستفادا من القصر وأنما مستفاد من السياق. استفهام تعجبي، واتخاذ آلهة من دون الله، وهو صادر عن النبي، وهو المدعي عليه أنه دعاهم إلى عبادته وأمه (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله؟) هذا كثير، ومدعاة إلى تأنيبهم، أما القصر فلا يفيد التأنيب، وهب عيسى عليه السلام لم يقل إلا جملة القصر أكان يستفاد منها التأنيب؟ وبذلك تسقط دعواه أن التوهين والتأنيب غرضان من أغراض القصر، ووقفنا عند الأغراض التي ذكرها المتقدمون، ولا تزال في انتظار الجديد.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(701/23)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
للأستاذ محمود الخفيف
- 34 -
الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى: -
في سنة 1658 اخذ ملتن كما أسلفنا يتوفر على نظم قصيدته الكبرى، ومن ثم تعد هذه السنة بدء هذا العمل العظيم وإن كانت أجزاء قليلة من القصيدة قد نظمت قبل ذلك كما يقول أبن أخته إدوارد فيلبس، ولم تنته سنة 1863 حتى فرغ الشاعر الضرير كما يقول إدوارد كذلك من هذه القصيدة العظيمة التي تبلغ زهاء خمسة آلاف وخمسمائة سطر، والتي تستغرق نيفا وثلاثمائة صفحة متوسطة الحجم، والتي تعد من اعظم الآثار الأدبية في أدب الدنيا قديمه وحديثه، والتي يتبوأ بها ملتن مكانة بين أفذاذ شعراء الملاحم الثلاثة: هوميروس ودانتي وفرجيل إن لم يبرعهم جميعا في أكثر من ناحية من القول كما يذكر كثير من النقدة الملحوظي المكانة في نقد أرادب والشعر.
ويمكن تلخيص موضوع القصيدة في كلمات قليلة؛ فهي قصة إبليس بعد أن فسق عن أمر ربه، فقد تمرد هذا الشيطان الأكبر ومن اتبعه من الغاوين واجترأ على محاربة خالقه فأخذهم الله أخذاً قوياً فإذا بهم جميعا في جهنم جثيا؛ ثم خلقت جنات عدن وخلق آدم وحواء ودلهما الله على الشجرة المحرمة ونهاهما ربهما أن يقربا هذه الشجرة، فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها وعصيا ربهما فأخرجهما من الجنة.
وحق للمرء أن يعجب كيف يخلق الشاعر من هذه القصة على بساطتها قصيدة بلغت هذا الذي بلغته من الطول، وما فيها منظر أو فكرة مما يصح حذفه، ثم ما فيها موضع تطرق إليه شيء من الضعف أو شيء مما يبعث السأم في نفس القارئ، بل إنها جميعا تبلغ من السمو والقوة مدى يتخاذل دونه جهد المبدعين ويتقاصر عنه افتتان المفتنين فما يقع المرء فيها إلا على ما يعجب ويطرب وما يشيع في النفس نشوة روحية قوية تشعرها بسر العبقرية وسلطانها وتذرها مسحورة مأخوذة حتى ينقضي هذا الحلم الجميل.(701/24)
ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا ذكر المرء مبلغ ما أوتى الشاعر من خصوبة الخيال وقوته، وما رزق من دقة الوصف وروعته، وما وهب من قدرة على الابتكار والتفنن في خلق الصور الذهنية الأخاذة والتصرف في مذاهب البيان، هذا إلى ما يشيعه في قصته من فلسفة وعلم، وما يدخله بين الفنية والفنية من أساطير الإغريق وآلهتهم وسائر مخلوقاتهم مما يملأ قصيدته بألوان من السحر وأفانين من كل ما يفيد ويمتع.
والقصيدة ليست بنت هاتيك السنوات الخمس التي نظمها فيها، وإنما هي متجه خاليه وأرب نفسه منذ أول عهده بالشباب، فقد كان أمله الذي ملأ خياله منذ حداثته أن ينظم قصيدة تجعل له ولأمته مكانا عليا في أدب هذه الدنيا؛ والى ذلك أشار في قصيدته التي ناجى فيها لغة قومه وهو في سن التاسعة عشرة كما سلف أن ذكرنا ذلك في موضعه، وإن لم يك عين موضوع تلك القصيدة بعد.
ولم يتعجل ملتن النظم، بل اخذ يتهيأ لما يطمح إليه فينهل من المعرفة ما يسعه أن ينهل، وفي نفسه أمل يلازمه ولا يبرح يذكره أنه سوف ينظم في يوم ما ملحمة كبرى تسلكه في الخالدين النابهين من شعراء الدنيا، أما ماذا تدور عليه الملحمة فذلك أمر لم يتبينه وحسبه أن يطلب لنفسه ما وسعه من زاد في الفلسفة والعلم.
وكان يفكر كما ذكرنا قبل في الملك آرثر وعصره وبطولته وسيرته عله يستخرج من ذلك ملحمة قومية كان يريد أن يسميها الآثريادا، وتقع إشارتان منه إلى ذلك إحداهما في قصيدة أخرى نظمها عقب عودته إلى وطنه؛ ولكنه ما لبث أن طرح موضوع الملك آرثر جانبا ولم يعد إليه بعد ذلك.
وظل ملتن متعلقا بأمله في نظم قصيدة كبرى، وكان هذا التعلق المتصل بالأمل المنشود هو الفكرة المتسلطة في حياته كلها من جميع أقطارها ولذلك لم يأل جهدا في الإفادة مما حوله فكان انقطاعه للدراسة في هورتون، وكانت رحلته إلى إيطاليا وكان منصبه في الدولة وكانت كتاباته الدينية والسياسية، كل أولئك كان جوانب لدراسته وموارد لثقافته قصد إلى ذلك أم لم يقصد إليه.
وانقطعت صلته بالشعر زهاء عشرين عاما إلا ما كان من مقطوعاته، ولكن خيال القصيدة الكبرى لم يبارحه قط، وليس أدل من ذلك على شدة إيمانه بأنه خلق لرسالة في الشعر(701/25)
وعلى عظم إخلاصه لفنه، ولقد رأينا ما أحاط به من المحن والكوارث فلم يصرفه ذلك عما خصص له حياته، وإن واحدة منها لكفيلة بأن تقعد المرء عما يخف كثيرا عن ذلك الذي اضطلع به من عبء.
وربما كان خيرا له وللأدب أنه لم ينظم ملحمته الكبرى إلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره فلعلنا كنا لو نظمها في صدر شبابه لا نظفر منه بما ظفرنا به من آثار خبرته بالحياة والناس وطول باعه في البيان وضلاعته في المعرفة وانصقال فنه وما اكتسب شعره من فحولة وقوة. ولقد حال بينه وبين تحقيق أمله في شبابه ورغبته كما رأينا في الاستزادة من الثقافة استزادة تكافئ ما يطمع أن ينهض به من عمل ضخم في دنيا الفن، ثم حيرته في اختيار الموضوع الذي تدور حوله قصيدته، وجاءت بعد ذلك حربه على القساوسة ثم اشتغاله بالسياسة فأخرته على رغمه تلك السنوات الطويلة.
ولقد هم قبل تلك الشواغل سنة 1641 بالنهوض بما منته نفسه به، إذ أنه يتبين من قائمة كتبها الشاعر بين سنتي 1640، 1642 أنه فكر فيما يقرب من مائة موضوع، وكان ثلثا هاتيك الموضوعات مقتبسا من الإنجيل، وكان همه متجها إلى واحد من بينها سماه تارة (الفردوس المفقود) وتارة (آدم يخرج من الجنة) فقد وجد في هذه القائمة بيان أسماء شخصيات لدرامة يرسمها وبيان لما تكون عليه تلك الدراسة وقد وضع لذلك عدة صور لعله كان يفاضل بينها، ولا زالت تلك القائمة محفوظة كأثر من آثار الشاعر العظيم في مكتبة كلية ترينتي بجامعة كمبردج.
ويتبين من ذلك أم ملتن كان يومئذ يريد أن يلبس موضوعه لباس الدرامة لا الملحمة، ويؤيد هذا الرأي ما ذكره في هذا الصدد إدوارد فيلبس، وذلك أن الأسطر التي يخاطب بها الشيطان الشمس في أوائل الكتاب الرابع من الملحمة قد نظمت قبل بدء الشاعر في نظم الملحمة بنحو خمسة عشر أو ستة عشر عاما وأنها نظمت لتكون في مستهل عرض لمأساة.
ثم انصرف ملتن كما رأينا عن الشعر وانشغل عن أمنيته الكبرى حتى كانت سنة 1658 فتوفر على موضوعه، فلما أتمه كان ملحمة تضاف إلى الملاحم الكبرى في دب العالم وسميت الفردوس المفقود.
ونظمت الملحمة في ستة أقسام أو ستة كتب، ولقد أوجزنا موضوعها في أول هذا الفصل(701/26)
فلنبسط هنا بعض البسط، ولا نجد خيرا من أن نقص خلاصة هاتيك الكتب الستة التي تتألف منها القصة.
افتتح الشاعر الكتاب الأول بمناشدة إله الشعر أو الاهاته العون فيما هو بسبيله على عادة شعراء الملاحم عند بدء ملاحمهم، ثم يعرض الشاعر الموضوع كله فيذكر أول عصيان للإنسان وما يترتب عليه من إخراجه من الجنة حيث كان موطنه، ويشير إلى غواية الشيطان، ويذكر عصيانه وتمرده على خالقه واستطاعة ضم أكثر من قبيل من الملائكة إليه، حتى طرده الله من الجنة ومن اتبعه وألقى بهم في قرار من جهنم سحيق؛ ثم يصف الشاعر كيف كان هذا الهبوط من الجنة حتى يرينا الشيطان ومن معه في قرار الجحيم، في ظلمات بعضها فوق بعض؛ ويظل هؤلاء على وجوههم وعلى جنوبهم في هذا العماء زمنا يتقلبون في بحيرة هائلة تتلظى بالحمم واللهب وفي نفوسهم رهبة ودهشة مما أخذهم من صاعقة، ثم يفيق الشطان بعد لحظة من هذه الغاشية فينادي اقرب اتباعه من منزلة وأولهم بعده مكانة وهو يصلى النار الحامية إلى جواره ويتحاورون فيما أصابهم من هذا الهبوط؛ ويتكلم الشيطان الأكبر في الأباء والعناد والإصرار قائلا إنه لخير أن يحكم في النار من أن يخدم ويطيع في الجنة؛ ثم يدعو الشيطان اتباعه ولم يزالوا مكبين في النار على وجوههم فينهضون فيسوى صفوفهم ويعدهم للقتال ويختار من بينهم قادتهم وكبراءهم ثم يناديهم فيعدهم ويمنيهم باسترجاع مكانهم في الجنة وينبئهم بدنيا جديدة تخلق ونوع جديد من المخلوقات يدب فيها وكل أولئك يجيء وفق نبوءة أو نبأ ترامى إليه وهو في الجنة ولكي يعلم مبلغ ما تحقق من هذه النبوءة وماذا يكون موقفهم من هذه الدنيا يشير إلى مجلس ينتظمهم جميعا حيث ينظرون ماذا يفعلون! ثم يشير الشاعر إلى مأوى الشياطين أو قصر الشيطان الأكبر وقد استوى قائما منبعثا من أعماق العماء وهناك يجلس كبار شياطين الجحيم ليوافيهم اتباعهم ليتشاوروا فيما بينهم كما أراد كبير الشياطين أجمعين؛ وتتزاحم الشياطين على قصر رئيسهم وقد مدوا في اللهب اجتحتهم وملاؤا الجحيم حفيفا بهذه الأجنحة الممتدة، ثم يتساقطون جماعات جماعات حتى يضيق بهم القصر على سعته.
وفي الكتاب الثاني تبدأ المشاورة فيجلس الشيطان الأكبر على عرش هائل ويتحدث إلى اتباعه متسائلا هل هو خير لهم أن يشنوا معركة أخرى لاسترجاع الجنة التي اخرجوا منها(701/27)
ويدعو كل من يحسن الرأي أن يتكلم بما يرى.
ويتتابع عدد الشياطين كل يدلي برأيه ويبسط حجته، فكانوا فريقين، فريق رأيه الحرب وآخر يخشى عاقبتها ولا ينصح بها، والشيطان الأكبر يوازن بين حجج كل فريق ولكنه لا يقطع أمراً، حتى ينبعث صوت بمقترح مؤداه أن يدعو الحرب إلى أمر أخر هو النظر في مبلغ صحة تلك النبوءة أو الرواية التي علمت في الجنة على خلق دنيا جديدة، ونوع أخر من المخلوقات يساوي الملائكة منزلة أو هو لا ينزل كثيرا عن مستواهم وهذا هو وقت خلقهم، وتتجه أفئدة الجميع إلى هذا المقترح وسرعان ما يجتمعون عليه، ولكنهم يحارون منذا يذهب في تلك الرحلة العظيمة العسيرة فيستطلع لهم ما يريدون؛ ولا تطول حيرتهم فهذا كبيرهم يعلن أنه يذهب وحده فيأتيهم بنبأ يقين، ويمجده الشياطين شاكرين له هاتفين به؛ وينتفض عن شياطينه المجلس فيذهب كل إلى حيث يقضي الوقت ريثما يعود كبيرهم من رحلته
ويطير الشيطان الأكبر فيقطع في رحلته أرجاء الجحيم حتى يأتي أبوابها فاذ1 هي مغلقة وعلى كل باب ثلاث طبقات من الحديد وثلاث من النحاس وثلاث من الحجر الصلد، وتحرس هذه الأبواب أنماط من الحرس هي في أشكالها أليق ما تكون بحراسة أبواب الجحيم، لا هي من الجن ولا من الوحوش ولا من الأفاعي وإنما هي مزيج من هذا كله ركب بعضه في بعض، وهي أشباح للخوف والوباء والموت، ويزجر الخوف الشيطان ويأمره أن يعود إلى مكانه في النار، ولكنه لن يزال يطلب أن يفتح له باب حتى يفتح له الموت بابا فيلج منه إلى خارج الجحيم في عسر شديد، ويرى مدى ما بين الجنة وجهنم من أمد، وما يزال الشيطان يسبح بأجنحته في العماء في عناء وعسر حتى يصبح بمرأى من الدنيا الجديدة فتقع عليها عيناه.
(يتبع)
الخفيف(701/28)
الأمير عبد القادر وتحرير الجزائر لمناسبة مضي
65 سنة على وفاته
(مهداة إلى الأمير سعيد الجزائري)
للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد
المدره الأفيق كبير زعماء الجزائر، وموحد اتجاهها السياسي، ومؤلف شتاتها، الأمير العظيم، العالم الشاعر الباسل عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني.
ولد بوهران سنة 1223هـ في مهد العلم والتقوى، وتلقى علوم الشريعة والأدب والتاريخ والحكمة العقلية وغيرها، حتى حذقها، وتوفر على المثاقفة بالسلاح وركوب الخيل، فجمع بين السيف والقلم، واشتهر بالذكاء والفصاحة والطلاقة وسمو الفكر وقوة البدن وشدة البأس والإقدام وصلابة الرأي فيما يزمع والإخلاص وقوة الإيمان.
فعلقت به القلوب واتجهت إليه الأنظار، كل ذلك مع ما كان لأبيه وأجداده من المكانة الرفيعة في البلاد.
رحل إلى المشرق حوالي سنة 1241 مع والده وجماعة من أهله وحاشيته بقصد الحج، فمروا بمصر فأنزلهم محمد علي باشا منزلا كريما، ثم حجوا وزاروا المدينة المنورة والشام وبغداد، فأزداد عبد القادر بهذه الرحلة التي استغرقت أكثر من سنتين رسوخا في العالم وخبرة بالسياسة.
وفي أواخر عام 1830م احتلت فرنسة عاصمة الجزائر، وأخذت تفكر في الاستيلاء على سائر القطر الجزائري، فبدأت الحرب بين أهل الجزائر والفرنسيين، واقتحم أهل وهران الحرب بقيادة السيد محي الدين، فبدأ في هذا القتال من بسالة عبد القادر ومواهبه الحربية وأصالة رأيه وثورة نفسه الإسلامية الحرة وإخلاصه لقضية أمته وبلاده وقوة أيمانه بصدق جهاده ما عقد به أماني الناس.
ولما أراد أهالي تلك البلاد مبايعة السيد محيي الدين أميرا عليهم اعتذر بعلو سنه، فبايعوا ولده عبد القادر عام 1832م فاتخذ مدينة العسكر عاصمة، ولم شعث القبائل، وجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتغير، ودفعها بروح دينية واحدة لا تختلف، وجعل عرق الجهاد(701/29)
يفور كما يفور العرق المجروح بالدم، وبعث صولة الحياة في الشعب كله، ورتب جنده وكان يتقدم جيشه ببسالة عجيبة، وكأن بينه وبين أرواح جنده نسبا شابكا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر، فكانت فيه التكملة الإنسانية لجنده، وكأنه خلق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع، وأن القوى الشديدة تعمل كالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها، فالأمير قد عدى جنده بقوة شجاعته العجيبة.
ومن نظمه:
تسألني أم البنين وإنها ... لأعلم من تحت السماء بأحوالي
إلا فاسألي جنس الفرنسيس تعلمي ... بأن مناياهم بسيفي وعسّالي
ومن عادة السادات بالجيش تحتمي ... وبي يحتمي جيشي وتمنع أبطالي
واستمر في الحب حتى دانت له كل عمالة وهران تقريبا بعد محاصرته للجنرال بويه وجيشه. ثم تولى قيادة الجيش الفرنسي الجنرال ديميشيل، فكانت بينه وبين الأمير معارك انتهت بعقد المعاهدة المشهورة (بمعاهدة ديميشيل عام 1834) التي اعترفت بها فرنسة للأمير بجميع العمالة الوهرانية عدا مدينة وهران وآرزاو ومستغانم، وكان له الحق بموجب هذه المعاهدة أن يعين قناصل في وهران والجزائر ومستغانم وغيرها، وأن يستورد الأسلحة من أي جهة شاء؛ فعظم شأن الأمير وامتد سلطانه وصار الأمير الشرعي لجميع أهالي الجهات الغربية من المغرب الأوسط. ثم مد رواق ملكه على البلاد التي لم تكن داخلة في حدوده مثل ميدية ومليانة، وأقام فيها معامل للأسلحة، مع احتجاج حاكم الجزائر العام.
وفي غضون ذلك ثار على الأمير قبيلتا الدوائر والزمالة وانضمتا إلى فرنسة، فطلب الأمير تسليم رؤسائهم إليه فأبى الجنرال تريزيل، فبرز عبد القادر إلى القتال فانتصر على الفرنسيين في (يوم المقطع) في 26 يولية 1835 فأرسلت فرنسة جيشا كثيفا بقيادة المارشال كلوزل فاستولى على عاصمته (المعسكر) وناوشه من ورائه بقية من الأتراك كانوا في قلعة تلمسان، وبعثت فرنسة الجنرال بوجو لإغاثة الجنرال دارلنج الذي حصره الأمير، فانهزم عبد القادر ولكنه بقي ثابت العزم، واستطاع بدهائه السياسي عقد صلح مع الفرنسيين على شروط ضمنت له أكثر مما ضمنته معاهدة ديميشيل، وذلك في (معاهدة التفنة) في 30 مارس 1837 التي اعترفت فرنسة له فيها بجميع عمالة وهران وقسم كبير(701/30)
من عمالة الجزائر.
وشرع بعد ذلك يقوي سلطته على البلاد التي أدخلت حديثا تحت حكمه، واخضع عرب الازارقة، وانشأ معامل للأسلحة والعدد الحربية وملابس الجند في تلمسان ولاغوات وميجانة وزيبان، وبنى حصونا لخزائن بيت المال، وأقام على كل حصن بلدة، منها تاقدت وتازة وسعيدة وبوغار وعريب وسبدو وغيرها.
ثم رتب جيشا منظما على نمط جيوش الدول، وقسمهم إلى فرسان مشاة سماهم العسكر المحمدي، ومدفعية وسماهم الرماة، واختار لتدريبه ضباطا من الجيش التونسي ومن الجند التركي الذي بطرابلس ومن الفارين من الجيش الفرنسي، ووضع لهذا الجيش قانونا لمأكله وملبسه ورواتبه ومدة التعليم وشروط الترقي فيه ومنح الأوسمة، ونظام المرابطة والحرب، وضرب نقودا وسماها المحمدية، وعنى بشؤون الزراعة والتجارة والتعليم، وأقام دهاليز لادخار الحبوب وانابير للأقوات ورمم القلاع، ولم يهمل شيئا مما يجب لتأسيس الحكومات الشرعية. ولم تكن همته زمن السلم اضعف منها إبان الحرب.
ولما كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع الأقطار التي تود الاستيلاء عليها هي في الغالب منازل استجمام بين مراحل الحرب فقد تعللت فرنسة في تفسير بعض فقرات (معاهد التفنة) وأرادت التخلص منها بعد أن أعدت العدد وعززت الجيش، مع أن الأمير كان يعمل بها، فاستأنف القتال بينهما فزحف الماريشال فالي والدوق دومال، فنادى الأمير بالجهاد في 20 نوفمبر 1839 فاستمرت الحرب من هذا التاريخ إلى عام 1843 بلا انقطاع وقام فيها الأمير مقامه المحمود الذي طار ذكره في الآفاق، واثبت فيه عبد القادر للدنيا كلها أن الجزائر الجبارة متى شاءت بنت الرجال من أمثاله في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة.
وعدم تكافؤ القوتين المتقابلتين سبب سقوط أكثر حصون الأمير واحتلال العدو أكثر معاقله ومدنه مثل تاغت والمعسكر وتازة ووادي الشليف، فتحول إلى الغرب، فزحف العدو إلى تلمسان ونواحي ندرومة واحتلها، فقصد الأمير إلى الجنوب فباغته الدوق دومال وغنم كثيرا من عتاده، ففت هذا الحادث في عضده وخذله أكثر أعوانه ففر إلى المغرب، وسعى لحمل سلطان المغرب الأقصى على شد أزره فأمده بجيش فكانت بينه وبين الجيش الفرنسي (واقعة إيسلي) في 12 أغسطس 1844.(701/31)
ولما كان المغاربة يعوزهم من أدوات القتال ما يملكه الفرنسيون انتصر الجنرال بوجو على الجيش المغربي، وكانت بوارج فرنسة ضربت طنجة ومغادور، فاضطر سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام إلى عقد الصلح بالشروط التي تريدها فرنسة وأولها منع الأمير عبد القادر من تجاوز حدود الجزائر، فلبث زهاء سنتين متربصا غرة من العدو ينتهزها، فلما بدت له في ثورة عام 1846 انقض على بلاد الجزائر ثانية وأمعن في الغارة حتى بلغ بلاد البربر، واستأنف الأمر كما بدأ، إلا أن قوته كانت قد تناقصت، وقدم الفرنسيون قد رسخت في الجزائر فلم تستمر غارته، وأحاطت به الجيوش من كل ناحية، فرجع إلى الحدود المراكشية، فطلبن فرنسة من سلطان المغرب تسليمه وما زالت تلح في ذلك حتى ناصرهم وساق عليه قوة عظيمة دهمته فإذا هو بين نارين، فاشتد به الغضب، فاشترط شروطا للاستسلام رضى بها الفرنسيون، وسلم نفسه على يد الجنرال لاموريسيال في ديسمبر 1847 واتفقوا على أن يسافر بأسرته من الجزائر إلى الإسكندرية أو عكا، ولكن فرنسة أخذته إلى طولون ثم إلى إنبواز وأنزلته في قصرها معتقلا إلى عام 1852 إذ بشره لويس نابليون بنفسه بإخلاء سبيله في يوم اهتزت له باريس احتفالا بمقدم الأمير.
اجل لم ينتصر البطل بعد جهاد 15 سنة جهادا عزيز المثال في تاريخ الأبطال، ولكن الأمم احتفت به لأنه يمثل كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار.
ثم سافر الأمير إلى الأستانة وزار السلطان عبد المجيد، ثم أقام ببرصا، وفي سنة 1855 هاجر إلى دمشق، ومر ببيروت فقام واليها وامق باشا بالحفاوة به. ثم بجبل لبنان فاحتفل به مشايخ الجبل وأمراؤه. فلما اشرف على دمشق خفت المدينة إلى استقبال مدره الإسلام، وتقدم الجمع محمود نديم باشا رئيس العسكرية، والعلماء والأعيان، ثم دخلوا المدينة تتقدمهم الجنود بموسيقاها، ونزل ضيفا بدار عزت باشا، إلى أن اختاروا له دار القباقيبي التي كانت مقر الحكومة فحط رحله فيها.
وقضى بقية حياته بدمشق في مثافنة العلماء، والتحقيق العلمي ولاسيما التصوف. ومن أمتع آثاره العلمية المطبوعة (كتاب المواقف) الذي يدل على رسوخه في التصوف علما وعملا، و (ذكرى العاقل) في الحكمة والشريعة و (ديوان شعره).
وقد صرح مؤرخو الفرنج أن مملكته العلمية والدينية كانتا من أكبر أعوانه على تأسيس(701/32)
الكومة التي أسسها، وإنه كان ينال باللسان ما قد يعجز عنه بالسنان.
وقال الماريشال سوليت الفرنسي في سنة 1840 (لا يوجد الآن أحد في العالم يستحق أن يلقب بالأكبر إلا ثلاثة رجال كلهم مسلمون وهم: الأمير عبد القادر، ومحمد علي باشا، والشيخ شامل).
ولما وقعت دمشق حادثة سنة 1860 عنى الأمير عبد القادر بحماية المسيحيين وإنقاذهم ورد العوادي عنهم، فأخلى لهم دوره والدور المجاورة لها حتى هدأت الفتنة، فأجمعت صحف العالم على حمده وشكره، واستحق بهذا الصنيع ثناء الجميع، فأرسل إليه الخليفة السلطان عبد المجيد وفرنسة وأمريكا وأكثر الدول الأوربية أوسمة رفيعة مع رسائل الشكر والحمد.
وفي عام 1863 حج ثانية ودعاه الخديوي إسماعيل باشا فيمن دعا من أعيان العالم وملوكه وأمرائه لحضور الاحتفال بفتح قناة السويس.
وما زال مثالا للبر والإحسان والتقوى والأخلاق الكريمة يتهجد الليل ويمارس في رمضان رياضة الخلوة على طريقة الصوفية، إلى أن قبض رضى الله عنه في سنة 1300هـ ودفن إلى جانب ضريح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي بصالحية دمشق. وذاع نعيه في الآفاق وأسف عليه الملوك والأمراء ومن عرفه من الخاصة والعامة، ورثاه الكتاب والشعراء، وابنه العلماء والأدباء.
هذا موجز من سيرة الأمير الكبير، وتاريخ حياته وأخبار نضاله مع الفرنسيين مبسوطة في كثير من كتب المسلمين والفرنج. وللعالم الجليل السد أحمد أخي الأمير تاريخ مفصل لحياة أخيه لم يطبع بعد، فيه حقائق لا توجد في (تحفة الزائر) واذكر بهذه المناسبة أن الشيخ شهاب الدين محمودا قال: عدت قاضي القضاة ابن خلكان فأنشدني لبعض أهل الأدب شعرا في نقيب الأشراف بالمدائن خلب عقلي، وهو هذا:
قد قلت للرجل المولى غسله ... هلا أطاع وكنت نصحائه
جنبه ماءك ثم غسله بما ... أذرت عيون المجد عند بكائه
وأزل أواني للحنوط ونحها ... عنه وحنطه بطيب سنائه
ومر الملائكة الكرام بنقله ... شرفاً ألست تراهم بازائه(701/33)
لا توهِ أعناق الرجال بحمله ... يكفي الذي حملوه من نعمائه
قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعي نفسه فمات في ذلك الأسبوع، وقال الصوفي الذائق السيد محيي الدين بن أخي الأمير عبد القادر: وأحق الناس بهذا الرثاء أستاذي العارف الرباني أمير العلماء وعالم الأمراء سيدي الأمير عبد القادر الحسني الجزائري.
محمد عبد الوهاب فايد(701/34)
أفلاطون الشاعر ونظريته في التقمص
للأستاذ جبريل خزام
نظم أفلاطون الشعر قبل أن يعرف الفلسفة وقبل أن يتصل بسقراط، وله مسرحيات شعرية ولكنها ضاعت كلها ولم يصل إلينا شيء منها. . . وليست تهمنا هنا هذه المسرحيات في شيء، ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه أنه كان شاعرا قبل أن يكون فيلسوفا. . . ثم تعلم الفلسفة على يدي أقرا طيلوس العالم الطبيعي القديم الذي كان يعتقد بالتغير المستمر للأشياء، ثم عرف سقراط واعجب به، ولم يلبث أن صار من تلاميذه المقربين.
وهجر أفلاطون الشعر لسببين: أولهما تحوله تحولا كليا إلى الفلسفة التي بهره بها أستاذه الكبير سقراط. وثانيهما أن سقراط كان لا يرضى عن الشعراء لاعتقاده أنهم يزيفون الحقيقة ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا. ولكن الذي لا ريب فيه أن أفلاطون وإن كان قد هجر الشعر إلى غير رجعة، إلا أن تأثره الشعري القديم كان عاملا كبيرا من العوامل التي أثرت في فلسفته تأثيراً ملحوظا، فجاءت ممزوجة ببعض الخيال، ويتجلى ذلك في (فيدون) عند استعماله ألفاظا شعرية في حديثه من أمثال: يلوح لي أو يبدو لي أو إن ما أراه. . . تلك التي دعت الكثيرين إلى الشك في نظرية الخلود التي احتوتها هذه المحاورة المعروفة، حتى قيل إن هذه النظرية محض اختلاق، وإنها خيال شاعر أكثر منها فلسفة حكيم.
وأفلاطون يؤمن بأن التأثير الشعري في النفس سابق للتأثير العقلي. فنحن حين ننظر في الوجود وفي الأشياء المحيطة بنا أو عندما نسمع رأياً من الآراء لا نعتبر في حالة قبول تام مباشر لأننا لسنا كالإناء يصب منه الماء، ولكن لنا احساساتنا وعواطفنا التي نسبر بها غور الأشياء أولا قبل أن يستقبلها العقل؛ فالعين تنفعل إذا وقعت عليها الأضواء والألوان، وهي تضطرب بمشاعرها واحساساتها. ثم يتدرج ذلك إلى الشعور العقلي والإحساس الذهني، فتدرك العين ماهية هذا الشيء الذي يسقط عليها، ويستطيع أن ينفرجا تدريجيا.
ومنهجه في الجدل دليل آخر على تفكيره الفلسفي الذي يخالطه الخيال الشعري المتغلغل في نفسه منذ صباه. ومنهجه هذا يتمثل في دورين: جدل صاعد وفيه يصعد أفلاطون من المحسوسات إلى المعقولات، كأن يفكر مثلا في وجود الأشياء الطبيعية حتى ينتهي إلى الله الذي هو كائن معقول غير محسوس، ثم جدل نازل وفيه يهبط إلى الدرجات من عالم(701/35)
المعقولات إلى عالم المحسوسات ليرى هل هي يعينها تلك التي صادفها في صعوده. فأفلاطون يصعد أولا إلى المعقولات غير المستجدة، وينحدر من عالم المحسوس ليصل إلى نقطة نهائية وهي إثبات وجود الخالق، ثم هو يبدأ في النزول من خالق مضطرا له اضطرار، مكرها عليه إكراها لكي يتأكد من صحة الخطوات التي صعدها، ليعلم بصواب ما ذهب إليه في تفكيره.
وهذا المنهج الجدلي يختلف تمام الاختلاف عن منهج سقراط، فسقراط يطلب من محدثه أن يحدد له الألفاظ التي يستخدمها في حديثه وله في طريقته خطوتان هما: التهكم والتوليد، ففي الأولى يوجه إلى محدثه أسئلة يطالبه بالإجابة عنها حتى إذا أعترف المحدث بعجزه عن الإجابة عنها وقصوره عن إدراك الحقيقة كاملة خطا سقراط خطوته الثانية فيشرح له - عن طريق الأسئلة التوضيحية - رأيه الخاص في الموضوع الفلسفي الذي كان موضوع المناقشة.
وهذه الطريقة العملية البحتة في الجدل، تختلف تماما عن طريقة أفلاطون الصاعدة والنازلة والتي ينزع فيها إلى المعقول ثم إلى المحسوس. زد على ذلك أن سقراط كان جدله بينه وبين الناس. . . أما أفلاطون فكان جدله يجري بينه وبين نفسه، وهذا ما اسماه بمناقشة النفس نفسها أي التفكير المنفرد الذي هو أشبه بالمناجاة الشعرية الفلسفية منه بالتفكير الفلسفي المحض.
وقد قسم أفلاطون العلوم إلى: حساب وهندسة وموسيقى؛ وقد رتبها هذا الترتيب لأن كل علم لاحق يعتمد على العلوم السابقة له، ثم يزيد عليها. فالهندسة تعتمد على الحساب وكذلك الفلك، كما أن الموسيقى تعتمد عليها جميعا.
وقد ذهب إلى أن هذه العلوم تظهرنا على أن فينا قوة تترفع عن الإحساس المادي وهي العقل. وأفلاطون في جميع فلسفته يحاول أن يسمو على الإحساس المقيد إلى التفكير العقلي المطلق؛ ثم هو لا يقف عند هذه الدرجة، بل يقول بأن العقل في جميع مراحله السابقة لا يقنع، ذلك أن العلوم في هذه المرحلة القاصرة. تستخدم مبادئ أعلى منها ولا تبرهن على وجودها، مثال قولنا إن هذا الشيء اصغر من ذاك أو أكبر منه أو مساو له. ويخرج أفلاطون بهذا إلى العلوم والمعارف الإنسانية، فالعدالة والظلم والقبح والجمال والصغر(701/36)
والكبر والمساواة معان كلية عامة لا نستطيع أن نقول إنها موضوع علم بعينه كالحساب أو الهندسة ولكنها دائرة أوسع وأكثر شمولا للمعرفة العقلية من هذه العلوم. ويخرج أفلاطون من ذلك كله إلى أن الإحساس وحده لا يكفي لإقامة العلم، ويستدل عليه بأن الحيوان يعتمد على إحساسه المادي ولكنه لا يصل إلى مرتبة المعرفة العلمية.
ويتساءل أفلاطون عن كيفية حصولنا على هذه المعاني الكلية فيقول: إنا لم نحصل عليها عن طريق التجربة، لأن هذه المعاني هي نفسها التي ساعدتنا على فهم التجربة، فلا يبقى لنا إلا أن نقول إنها في النفس منذ الميلاد، وما الميلاد عند هذا الفيلسوف الشاعر؟ إنه نزول النفس إلى الجسم بعد أن كانت في عالم الأرواح، أو نزولها من العالم المعقول إلى العالم المحسوس. وهذا ألهمه إياه خياله الشعري القديم. فهو يعتقد أن النفوس الإنسانية وجدت أول الأمر أرواحا هائمة في عالم الأرواح غير متصلة بمادة ما، وأدركت في ذلك العالم الأمور الروحية ومنها المعاني التي ذكرناها والتي أطلق عليها اسم المثل. فلما هبطت هذه النفوس إلى الأجسام المادية وسكنتها واعتراها نسيان لاتصالها بهذه المادة الكثيفة، فبقيت كأنها لا تعرف شيئا حتى تنبهت بإدراك الحواس. وكلما أدركت شيئا ما من حياته الأرضية كان هذا تذكر لما حدث مثاله في حياته الروحية السابقة، وهذا هو اصل العلم عند أفلاطون. والنفس الإنسانية في رأيه قد تعود إلى هذا العالم أكثر من مرة ماد دامت لم تتظهر من التعلق بالأشياء المادية المحسوسة، وفي رجوعها قد تتقمص جسما حيوانيا كما قد تتقمص جسما بشريا، وهذا ما يعرف بالتقمص أو التناسخ.
والواقع أن أفلاطون قد مزج فلسفته بالخيال فجاءت مزاجا عجيبا معجبا في آن واحد. . . عجيبا لأن الشعر والفلسفة متناقضان على خط واحد، فهذا ينشد الخيال في السماء، وتلك غالبا ما تبحث عن الحقيقة في الأرض؛ ومعجبا كذلك لأن فلسفته هذه الممزوجة بالخيال جعلت أسلوبه الجدلي اقرب إلى الفلسفة الأدبية الشائقة منه إلى الفلسفة العلمية الجافة.
جبريل خزام(701/37)
غرام الكهولة. . .
للأستاذ عتمان حلمي
قلت للنفس حين لجَّ هواك ... أنتِ إياكِ والهوى إياكِ
جدَّ بي العمرُ فاهدئي واطمئني ... وكفاني مما مضى وكفاكِ
واجعلي ما أصبت في الغيَّ يا نفس ختاماً فإن فيه هُداكِ
وقفةٌ تلك بين عقلي وقلبي ... يا لنفسي ما بين هذا العراكِ
ثم يا لي أرجو السلامةَ في عمريَ هذا من قائدي للهلاكِ
عاصف من هواكِ يعصفُ بالقلب وهاتٍ يسوقني في هواكِ
وعنيد لا أستطيع خلاصاً ... منه مما يحوك لي من شباكِ
يا لَقلبٍ خلا من الحب دهراً ... ثم صادفتِ خالياً فاصطفاكِ
فأطاع الهوى فلا هو يسلو ... ك على ضعفه ولا ينساكِ
وأطعتُ الغرام فيك برغمي ... ولو أني في الحق لستُ فتاكِ
لا أذود الغرامَ بالعزم إلا ... خانني العزمُ فيك حين لقاكِ
فتبسمتُ بالرضى وتبسمت وشعّتْ ليَ بالرضى مقلتاكِ
غمرَ العطفُ منك من كان يخشا ... كِ وشجّعتِهِ فما يخشاكِ
فاستعرتُ الشبابَ من بعد أن ولى شبابي لرغبتي في رضاكِ
وتجمّلتُ في خريف حياتي ... ومشى بي الهوى على الأشواك
وكأني أصبحتُ غيريَ في الدنيا وأضحيتً غير هذا الشاكي
كيف أشكو النوى وأنتِ أمامي ... لم يعكر صفاَء عيشي نواكي
ولقد أتقى لأجلك في القر ... ب فضولَ العيون فيما عساكِ
فأداري العيونَ حتى كأنَّ القلبَ خالٍ أو أنه ما حواكِ
وإذا ما التقتْ بعينيكِ عيني ... خالَ من خالَ أنني لا أراكِ
وأُنادي على سواكِ فما أنطقُ إِمَّا ناديتُ باسم سواك
فكأني عقدتُ باسمك يا (زين) لساني فما له من فكاكِ
أنتِ في مقلتيَّ أنىَّ توجهتُ أمامي وأين كنتِ أراكِ(701/38)
صورةٌ منك لا تفارقُ عيني ... كل حسنٌ لها إذا غبتِ حاكِ
لستُ أدري ماذا يخبئ لي الغيبُ وماذا يطوي لمثلي هواكِ
فلقد حرتُ بعد عمريَ هذا ... كيف لا أستطيعُ أنْ أنساك(701/39)
من (لزوميات مخيمر)
للأستاذ أحمد مخيمر
(إلي أصدقائي الشعراء: عبد الرحمن الخمسي، وعبد العليم
عيسى، والعلائي. . .)
غنوة. . .
سألتكِ هل تدرين أنكِ غنوةٌ ... تغنّت بها الآزالُ، فالتفت الدهر
وعشتِ زماناً في ذَراها صغيرةً ... ومهدكِ ينمو حوله العشب والزهرُ
وقد كان مثواكِ المغاورُ والربا ... ومعلبكِ الغاب المظلل، والنهرُ
فلم تعلمي إذ ذاكِ أنك رغبةٌ ... وأشواق روح في جوانحها بهرُ
وأنَّ الليالي أسرعت بكِ دونها ... فكم صرعت شهراً ليتبعه شهرُ
فمن أجلكِ انسابت على الأفق شمسها ... ورفَّتْ على الظلماءِ أنجمها الزهرُ. . .
منارة الحب. . .
خبَّ بنا يا ليلَ ركبُ الهوى ... في جسد من شوقه ناحلِ
لغايةٍ لم يدر ما سرها ... من لم يكنْ يا ليلَ بالراحل
منارةٌ أنتِ ليمّ الهوى ... أقامها الشوق على الساحل
كأنما في خلدي نورها ... غمامةٌ في بلدٍ قاحل. . .
لقيا. . .
سروري بلقياك سلوانيهْ ... فلا تبعدي الخطو يا غانيهْ
لئن صح ما زعم الزاعمون ... فويلٌ لأيامنا العانيه
ويا أسفا إن طوتكِ المنونْ ... فرحتِ، ويا طول أحزانيه
سيخرس بعدكِ هذا اللسان، ... وتُطْبَقُ بعدكِ أجفانيه
فما أبتغي نعمةً لا تدوم، ... وما أشتهي لذةً فانيه
وكيف؟ وهذا المحيا الجميل ... وقد رفَّ مبعث إيمانيه(701/40)
أرى في سناء الوجود الرحيب ... وأكشف أعماق وجدانيه
وأوقن أن رحاب السماء ... إذا ما دنا أصبحت دانيه
ويبعث بي فرحة بالبقاء ... تبدّد شكّي وأشجانيه
فيا قبسَ الخالد لا تبعدي ... فأنتِ على الأرض سلوانيه
ظمئتُ لينبوع تلك الشفاه ... فهاتيَ لي القبلة الثانية
كأني بها قطرة من ندى ... ترفّ على وردة قانيه
إذا نلتها خلتُ أني إله ... أصرّف بالعزم أكوانيه
ويا ملكا غادياً بالحنان ... تمرَّدَ في الصدر شيطانيه
أنازعه جاهداً أن يقرّ ... ويستمرئ الدهر عصيانيه
تعاليْ إلى روضتي في الخيال ... فأسقيك من دماء غدرانيه
وأطمعكِ الثمر المشتهى ... تدلَّى بأطراف أغصانيه
نما، وحلا، وغدا في الغصو ... ن يرتقب الأيدي الجانيه
تخالينه في حوافي الظلال ... كواكب مشرقةً دانيه
ويا فرحاً في ضمير الزمان ... بدا بعد لأي فأغرانبيه
وكنتُ ذكرتُ شقاء الوجود ... فلما بدا ليَ أنسانيه
وزين لي كل شيء أراه، ... وجمَّل بالنور أزمانيه
وأفعم بالحب رحب الفضاء ... فقد خلته مهجة حانيه
لأمرٍ أنرتِ ظلام الحياة ... فأبصرت الأعين الرانيه
وجَلَّيْت لي خطرات الوجود ... وما كنَّ قبلكِ من شانيه(701/41)
البريد الأدبي
على هامس النقد:
كتب الأستاذ علي العماري في عدد الرسالة الماضي يسألني رأيي في الآيات:
(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذَّبون. انطلقوا إلى ظلٍّ ذي ثلاثٍ شُعبٍ، لا ظليلٍ ولا يُغني من اللهب. إنها ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جِمالةٌ صُفر).
فهو يرى أن حكمي على بيتي شوقي عن قصر انس الوجود:
قف بتلك القصور في اليم غرقي ... ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا ... سابحات به وأبدين بضا
بأنهما يكشفان عن تزوير في الشعور، لأنهما يبعثان شعورين متناقضين في النفس، ويدلان على أن الشاعر لم يحس بالموقف الذي يصوره إحساسا صادقا. . . الخ.
يرى أن حكمي هذا يصطدم بهذه الآيات القرآنية. ويقول في تعليل هذا:
(فالجو العام للآيات هو تهديد وإنذار وتخويف، يقذف باللهب، ويرمي بالشرر؛ ولكن التشبيه لا يبعث في النفس إلا الطمأنينة والهدوء والظل الأبيض الناصع. نعم إن منظر الجمال الصفر متتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب هوهو منظر الشرر، ولكن هذا المنظر لا يبعث في النفس، ولا سيما نفس العربي إلا المسرة والبهجة والشعر والجمال، فالجمل أليف إلى نفسه حبيب إليها، وهو حين يكون اصفر يزيد في إعجابه وبهجته. الخ)
وهذا المشهد من مشاهد القيامة قد تحدثت عنه بتوسع في كتابه (مشاهد القيامة في القرآن)، وهو في المطبعي الآن. فأكتفي هنا بكلمة قصيرة إلى أن يظهر الكتاب!
ولست ادري وجها هنا للبس ولا للموازنة بين البيتين والآيات؛ فإن مشهدا يصور جهنم، وقد انبعث منها الدخان الكثيف المتشعب كأنه الظل، ولكن (لا ظليل ولا يغنى من اللهب)! وهي لضخامتها وهولها ترمي بالشرر كل واحدة منها في حجم القصرة - أي الشجرة الغليظة - أو في حجم الجمل. . . وهي تقذف بها في عنف وشدة (ترمي بشرر كالقصر) لا متتابعة في هينة وهدوء كما يريد الأستاذ أن يصور المشهد
وإن مشهدا مفزعا كهذا المشهد، لا يدع للحس فرصة ولا فسحة، يتملى فيها على هينة(701/42)
واتئاد، وراحة بال واطمئنان خاطر. . . منظر الجمال المتتابعة في رتابة الجمال، ومتتابعة مختلطة متحركة في تموج واضطراب) فكل هذا لا أثره له هنا.
وقد استلقت لفظتا (القصر) - جمع قصرة - و (جمالة) جمع جمل - استقلتا بتصوير الضخامة - وهي المقصودة أولا في المشهد - واستقلت كلمة (ترمي) بتصوير العنف - وهي المقصودة ثانيا في المشهد - ثم جاءت كلمة (صفر) لتعطي لهذا المشهد مجرد اللون، ولتتم الصورة بحجمها وحركتها ولونها على طريقة التصوير في القرآن.
ولو أراد مجرد الضخامة واللون دون العنف لقال مثلا: ترسل بشرر ولم يقل (ترمي بشرر)، فكلمة (ترمي) تجئ هنا لتكمل خاصة معينة للصورة.
واللون الأصفر في هذا المجال لا يشيع في المشهد ما أراد الأستاذ أن يشيع من الوضاءة والهدوء والصفاء!
وأنا أعيذ الأستاذ أن يقف لحظة أمام هذا المشهد الوضئ! ولو - لا قدر الله - شهده، ووقف حياله وقفة المهدد به، لما أغنى اللون الأصفر فتيلا في تخفيف هوله، ولما وجد في خاطره فسحة لتملئ وضاءته! في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغنى من اللهب، وهي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمال صفر. إنها هنا صفرة النار التي ترمي بالشرر لا صفرة الظل الأبيض الناصع الذي يمتع النظر!
سيد قطب
تأبين المرحوم الأستاذ طه الراوي:
ستقوم دار المعلمين العالية ببغداد بالاتفاق مع وزارة المعارف العراقية ولجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية بحفلة تأبينية كبرى للمرحوم الأستاذ طه الراوي أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد سابقا، وذلك في ذكرى وفاته الستينية في اليوم العشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1946. وقد تشكلت لجنة لتنظيم هذا الاحتفال برئاسة عميد دار المعلمين العالية وعضوية الأساتذة؛ محمد هاشم عطية، والدكتور محمد مصطفى زيادة، والدكتور عبد العزيز الدوري، الأساتذة في المعهد. وقد رأت اللجنة الاتصال بكافة الهيئات والمؤسسات والشخصيات التي لها صلة وثيقة بالمرحوم لتساهم في الحفلة التأبينية. فنرجو(701/43)
ممن له هذه الصلة ويرغب في المساهمة في الحفلة المنوه عنها أن يتفضل بإرسال كلمته إلى الملحق الثقافي بالمفوضية الملكية العراقية في القاهرة (7 شارع محمد مظهر باشا بالزمالك) ليقوم بدوره بإرساله إلى لجنة التأبين.
إلى اليد ذات السوار رقم 2:
لم تأمرينني بالاعتذار يا سيدتي؟ أبهذا الأسلوب - أسلوب الأمر - تسوق الأديبة طلبها؟ مم اعتذر؟ لم اجن ذنبا ولا جريرة استحق عليهما اللوم والتثريب. إنني لم أسئ إلى قلم الأستاذ الطنطاوي في كثير ولا في قليل. واشهد الله على ما في نفسي أني احمل له كل توقير وتبجيل. ولو كنت غصت إلى أغوار مقالتي لأدركت الرأي الذي أبديه، والقصد الذي ابغيه.
وما كان لي أن استتر تحت اسم مستعار من تلقاء نفسي. ولكن المقام اضطرني إلى هذا على غير رغبة مني. وإن كنت تخشين أن يحاسبك الناس في حاضرهم حسابا عسيرا على مستقبلك فإني والله لا أخشى إلا الذي برأني وسواني. وإن تلك النفخة التي تخافين منها على أدبك الناشئ، فلله الحمد ليس لي حتى كتابة هذه السطور شيء أرتاع لمرآه إن طيره نفخ النافخين، أو أتت عليه أقلام الكاتبين. وعلى كل حال إن المستقبل بيد الله.
إن مقالتك لم تبعث في نفسي وحشة ولا يأسا، وإنما زادتني أنسا بالأدب والأدباء. لو كان في مقالي شيء من التجريح لما احتاج الأمر إلى دفاعك، ولهب الأستاذ من فوره يسوق إلى النقاش، وهو الأديب الأريب الذي له - ولزملائه كتاب الرسالة - مكان الثريا في سماء الأدب.
وما دخل لتشاؤم في موضوعنا؟ إن من سعادة الحياة أن انظر إليها من خلال منظار التفاؤل، ومن حسن الطالع أن حباني ربي صديقات هن مبعث فرحتي ومصدر مسرتي.
دعي هذا يا سيدتي، وتعالي لتشاهدي ضربا من الحياة جديدا. هل سمعت أو رأيت الأصم والأبكم كيف يتكلم؟ إن تلاميذي وتلميذاتي من هذه الشرذمة البائسة التي قضي عليها بفقدان السمع والنطق. وها نحن أولاء أخواتك ذوات الأساور نخفف بلواهم، ونسعى إلى تحقيق مناهم، حتى تربطهم بالحياة وشائج يستطيعون معها مسايرة المجتمع.
لعلك اقتنعت بوجهة نظري بما سقته إليك في هذه العجالة، ولست اختم حديثي بالاسم(701/44)
المستعار الذي استعرته لنفسك، لأني في الواقع ممن لا يألفن التحلي بالسوار. وهأنذى أكشف لك عن حقيقتي كما احب أن تكشفي لي عن حقيقتك، وإلا ذهبت بي الظنون مذاهب شتى. وعسى أن يكون اصطفاق قلمينا فاتحة صداقة كنت أنت البادئة بها. ومما يشرفني ويعلي قدري أن نبرم سويا عهد هذه الصداقة تحت ظلال دوحة الرسالة الغراء التي لها الشكر أولا وآخره، إذا أفسحت وما تزال تفسح لنا في رحابها مكانا لنشر أحاديثنا، والسلام.
بديعة محمد سبح الله
مدرسة بمعهد الصم والبكم - بمطرية القاهرة
حواء الخالدة:
قصة مسرحية ألفها الأستاذ محمود تيمور بك، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية بدار الأوبرا الملكية.
وبطلا القصة عنترة بن شداد العبسي وصاحبته عبلة، وليست القصة كما روتها أو زعمتها كتب التاريخ والقصص القديمة محيطة بطليها بتهاويل البطولة والحب، وإنما اتخذ المؤلف من زمانها ومكانها وأشخاصها، جوا جديدا، ومادة جديدة، لعمل فتى جديد، قوامه التحليل وعرض العواطف والميول الإنسانية على طبيعتها.
فعبلة امرأة تزهي بحب الرجال إياها، وتتخذه لعبتها، فتشتط في مطالبها، ولا تبالي أن تدفعه إلى الأهوال، وتحمله على ترك الديار وتجشم الأسفار، لتحقيق رغباتها التي يمليها مجرد العبث والزهو.
وعنترة رجل شجاع محب، ذو بأس وذو قلب، يبطش بالفوارس، وترتد عن صفاته الآسنة، ولكن تنفذ إليه سهام الأنوثة ويفعل به سحرها، فينصاع لعبلته، ويسعى في إجابة مطالبها غير مكترث بما في طريقها من المشاق والمصاعب؛ وترمي به الحبيبة المدلة في سفر بعيد يمتد به الزمن، ثم يؤوب كمن صحا قلبه فسلا واقصر باطلة، ولكن لا يلبث أن يتسلل نشيد الحب إلى مكمنه في فؤاده، فيعود به إلى مغانيه، ويظل يروض تلك القطة المزهوة الشرسة حتى ينالها. . .
وواضح من سياق القصة أن المؤلف أراد أن يصور المرأة في إدلالها وزهوها وتمعنها(701/45)
وتحايلها وأفانينها في اللعب بالرجل - تصويرا أريد أن أقول إنه (كاريكاتوري) مستعيرا له هذه التسمية من ذلك التصوير الذي يقوم على المبالغة في إبراز الخصائص، وعلى هذا يمكن أن تحمل تلك المواطن التي بدت فيها عبلة على خلاف ما تجري به العادة في واقع الحياة، كدؤوبها على العبث واللهو بعد ما قيل من موت عنترة، وكفتورها في استقباله بعد غيبته الطويلة على رغم حبها له.
ولكن ما بال عنترة يستقبل منافسه في خطبة عبلة بالترحيب والتكريم حيث كانت تقتضي طبيعة الموقف وطبيعة الفارس البدوي أن يلقاه بسيفه؟ حدث ذلك عندما جاء هذا المنافس بعد إحضاره النياق العصفورية التي طلبتها منه عبلة، فوجد عندها عنترة، وكان عنترة أيضاً قد عاد من سفره الطويل الذي دفعته إليه لجلب الزمرد الذي اشترطته ليتم زواجهما، ونراه بعد أن يأتي لها به وبعد ما تجشم في سبيله يستقبل خاطبها الآخر ويهنئهما. . . وقد يقال إن أحداث السفر قد غيرته وجعلته يسلو، ولكن ماذا يبرر ذلك الموقف الغريب حينما بعث حبه، وعاد في هواه سيرته الأولى، واستحر العناق بينه وبين عبلة، وفاجأهما منافسه، وإذا عنترة الفارس الذي استعاد صبابته يسلم إلى هذا المنافس حبيبته التي أفلتت من بين ذراعيه، ويخاطبه كالمعتذر. . . ويغادرهما ذاهبا إلى شانه.؟
وهنا نقول إن المؤلف آثر المرأة بعناية، إذ كان يهدف إلى إبراز خصائصها بذلك التصوير (الكاريكاتوري) ولكنه أهمل الرجل فصوره ذلك التصوير العجيب، ولم يدبر أمره على سنن الواقع ومقتضيات الطبيعة، ولم يبد لنا من هذا الصنيع هدف يبرره.
وقد كانت هذه الرواية على مسرح الأوبرا مجلي بالإخراج الفني البارع المتقن، وعرس اللغة العربية في جلوتها ورنين جرسها على السنة الممثلات اللائى أثبتن أنها لغة رقيقة. . . رقيقة. . .
وهي مدعاة إلى استخذاء مؤلفي التمثيليات باللغة العامية الذين صدعوا رءوسنا بهرائهم، ووجعوا بادعاءاتهم التي لا تدل إلا على العجز المبين.
ومن العجيب انهم يمثلون بالعربية الروايات المترجمة، ويؤلفون بالعامية التمثيليات المصرية، كأن العربية في البئية الغربية أبين منها في البيئة المصرية! واعجب العجب تمثيل قصص باللغة العامية وقعت في العصور العربية من جاهلية أو أموية وعباسية! وما(701/46)
تزال أغانيها العامية تتردد على الألسنة كسلامة القس مثلا! فإلى متى يظل هذا التهريج الفني؟ ومتى يرتفع الفن بالأذواق الساذجة بدلا من تملقها والانحدار إليها؟
وأخيراً، نسوق الحديث إلى محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، لعل عربية (حواء الخالدة) تقنعها باصطناع اللغة الفصيحة في إذاعة التمثيليات القصيرة التي أكثرت أخيراً من إذاعتها بالعامية، وأهملت الفصحى في هذا المجال كل الإهمال فيما عدا المترجم الذي تقدم العجب من الاقتصار عليه في التمثيل بالعربية.
عباس حسان خضر(701/47)
الكتب
كتب قرأتها:
يقظة العرب
تأليف المرحوم جورج أنطونيوس
ترجمة الأستاذ علي حيدر الركابي
بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي
يقول مؤلف هذا الكتاب المرحوم جورج أنطونيوس في مقدمته أنه (لا يرمي إلى تدوين التاريخ النهائي لليقظة العربية. . . بل إلى رسم الخطوط الكبرى لأصول تلك الحركة) هذه الحركة التي مهدت تربتها، وبذرت بذورها، ونبت نبتها، ونضج حبها، وتم حصدها في خلال نصف قرن، لا بأفاعيل طافرة، أو وثبات غير متزنات، بل بعزيمة جبارة، ومثابرة عنيدة، مستمدين من إرادة أمة موحدة لها في بطون التاريخ فصول كتابها أجداد عباقرة اسمعوا الدنيا نداءهم، ولقنوا العالم تعاليمهم، وما هؤلاء الأحفاد سوى جيل وبعض جيل من أبناء الشام أيقظتهم حركة الانقلاب العثماني عام 1908 فاستنهضتهم فنهضوا إلى العمل فعملوا دائبين ملبين غريزة الجد في طبيعتهم، وقد دفعوا كل ثمن وبذلوا كل ما يستطاع بذله، وجادوا بأقصى غايات الجود، ونالوا نصيب المجاهد المؤمن، وفازوا بتحقيق أمانيهم واستقلال بلادهم وحريتها ولم يكن ما قربوه من أرواح وأموال في سبيل الوطن بالثمن الفادح الباهظ
تكاد تكون سطور هذا الكتاب بأبوابها وفصولها ووقائعه بأحداثها وتقلباتها وعظاته بمغامرتها وأهوالها. أقول: تكاد تكون وقائعي (أنا) بالذات، وما أوفر عدد من يقول (أنا) في كتاب يقظة العرب، إذ ما من فتى في بلاد الشام سمع نداء الحرية يهدر كالسيل العرم متدفقا من حناجر الآباء للاستقلال والحرية إلا تيقظ روحه لهما وتلفح وعيه بجوهرهما، وسار على منوال أبيه في اتباع أعمال الرجال الرصناء لنيلهما، وقد ناليهما بفضل إخلاصه لوطنه وقوميته وفنائه في أمته.(701/48)
مؤلف كتاب (يقظة العرب) عالم بحاثة بفطرته، لا يؤخذ بالظواهر فيعود إلى البواطن، ولا تجذبه الفروع في الشجرة، ولا الجذور المطمورة في التربة، بل يرضيه أن يفتش عن مصادر غذاء تلك الجذور وأنواعها ليعلم الدواعي الباعثة على تلك التغذية والغاية المرومة منها.
نعلم (كلنا) أبناء هذا الجيل أن العامل الأكبر في يقظتنا يعود كما قلت إلى عام 1908 وعندنا على هذا العلم شبه ادله استوحيناها من استقراء عقلية إبائنا ومن بلغ وعيهم القومي وإحساسهم بالوطنية العربية، ولكن المؤلف البحاثة قد عاد بنا إلى البذور الأولى، إلى الفواصل بين الدعوة إلى العروبة والدعوة إلى الإسلام والصلة الروحية بينهما، ثم إلى الفتح العثماني.
للحكم العثماني آثار واضحة المعالم في نفوس العرب، لم يكتف المؤلف بتقصيها في عهد السلطان عبد الحميد، وهي جامعة للأسباب الشاملة للنتائج التي قلبت الأوضاع العربية، من مطالبته بالإصلاح في ظل الحكم العثماني، إلى العمل سرا على الانفصال عن الترك، إلى العوامل التي دفعت بجماعة (الاتحاد والترقي) الذين خلعوا السلطان عبد الحميد الطاغية ليقيموا أنفسهم طغاة مثله، فكانت هي نفسها عوامل فعالة دفعت الأمة العربية إلى عمل إيجابي وهو بناء دولة عربية لحما ودما. أقول: لم يكتف المؤلف بهذا، بل عاد بنا القهقري إلى عهد محمد علي وفتح الشام على يده، وشروعه في تشييد مملكة عريقة، واختلاف ابنه إبراهيم معه في الرأي، لأن الأول كان في طبيعته خلاقا للممالك، بينما كان الثاني يعمل على الاحتفاظ بتلك الممالك، وإن الأول كان يرى أن العرب ليسوا أهلاً لحكم أنفسهم، بينما كان الثاني يعتقد عكس رأي أبيه، ولم ينس المؤلف موقف الإنجليز من محمد علي وصدهم إياه عن تأليف المملكة العربية، وقد خلص من هذا البيان المقتضب إلى ذكر تأليف جمعية أدبية في بيروت قبل مستهل هذا القرن، كان النصارى هم القائمين بها، فما لبثت أن دخلها المسلمون والدروز، ويقول إنها كانت البذرة الأولى لنهضة الفكر القومي ويسهب في وصف الإرساليات ونشرها المعارف، وتزاحم أقطابها وتنافسهم في تعليم أبناء البلاد علومهم، وكيف لم تكن تعاليمهم خيرا محضا، وكيف تولدت الطائفية عند أبناء البلاد من جراء هاتيك التعاليم المتضاربة والأسباب والغايات. يمضي المؤلف البارع في سبيله يتتبع(701/49)
سير الحوادث، وقد اطردت بانتظام حتى اتقدت نيران الحرب العالمية عام 1914 فيذكر مجيء الشريف عبد الله إلى مصر وتحدثه إلى كتشنر والعروض التي تقدمت للانتقاض على الحكم التركي ومخاوف الإنجليز من عواقب إعلان الترك للجهاد الديني وقيام هؤلاء فعلا بإعلانه، ونشر الراية المحمدية، ووقوف سورية على مفترق الطرق توازن بين الموقف إلى جانب الأتراك، وبين شد عضد الشريف حسين المتحفز للثورة.
يعرج المؤلف على ذكر العهود التي قطعتها بريطانيا العظمى للشريف حسين ورسائل مكماهون، فنرى الثورة العربية تعلن في مكة وتندلع نارها وتمتد حتى تدخل قواتها مدينة دمشق ويحتل رجالها البلاد السورية، ونقرأ في فصل الكتاب الثالث عهود الحلفاء المتناقضة ونرى مبلغ تكالبهم على اقتسام غنائم الدولة التركية وتنافسهم في اغتصاب البلاد العربية واتفاق سايكس بيكو ورسالة بلفور إلى الملك حسين ومفاوضات لويد جورج للصهيونيين ووعد بلفور لليهود، ثم التصريح البريطاني الفرنسي. ولعل أمتع ما في هذا الفصل خيانة بريطانيا للعهد ومؤتمر القاهرة وأعمال لورنس في سورية، ثم يأتي دور عقدة فلسطين، وحق العرب، وادعاء اليهود، وهي العقدة الباقية تنتظر الحل العادل.
وددت لو يتسع المجال فأقف برهة ليست بالقصيرة حيال بعض رسوم خطط هذا السفر الجليل أضم بعض حلقات مفقودة لهذه السلسلة المحكمة العقد، وازعم أن لو اتصل المرحوم جورج أنطونيوس مؤلف هذا الكتاب بالكثيرين ممن ألجأهم المرض، أو السن، أو الضرورات، إلى التخلف عن ركوب الجهاد، أو بالذين خلوا الطريق للمتقدمين الطامحين، أو النهازة المتفرصين، لكان استوفى أكثر بحوثه وشارف بها على الكمال
اضطلع بترجمة هذا السفر النفيس حضرة الأستاذ علي حيدر الركابي فحق له الشكر والثناء العاطر يسديه إليه كل عربي بعد إذ يسر لأبناء العربية مراجعة سجل حياتهم وقد سلكوا فيها مسالك بناة الملك.
أبو زيد الهلالي
تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود(701/50)
لهذا الاسم بريق ولمعان، وماض مجيد، وحاضر خافت راكد، ولكن هذا الحاضر مع خفوته وركوده لم يذهب ببهاء هذا الاسم، ونضارته، وما له في نفوس العامة من أفراد الشعب من التجلة والاحترام. فيكاد يعرفه العامة أكثر مما يعرفه الخاصة - واعني بالمعرفة وفرة المعلومات وكثرتها، لا واقعيتها وحقيقتها - فهو متصل بنفوسهم وحياتهم اتصالا وثيقا. . . يسمعون عن بطولته في المقاهي والأندية الشعبية، ما يلهب حماستهم، ويشعل قلوبهم وأفئدتهم شجاعة وأقداما، ويقدم لهم لو أنا من الخيال الحبيب، يرضيهم ويطربهم، ولا يرتضون بغيره بديلا. .!!
وإذا كان من لوازم الأدب التأثير في النفس، فإن هذه القصة، بلغت درجة لم تبلغها قصة غيرها على كثرة ما كان ينشر ويذاع بين هذه الطبقات. . . إذ ظلت حديث المجتمع المصري ثمان قرون، وظل شاعر الربابة يحدث بها الناس من العهد الفاطمي إلى اليوم، بيد أن شعر القصة اليوم اصبح شبحا ماثلا ولونا حائلا يتلاشى صوته في ضجيج العصر، وجلجلة المذياع.
وليس من السهل تناول هذا الموضوع، فلا يزال حظ الهلالية في التاريخ قليل، وأدباؤنا لا يعنون العانية اللائقة بهذا القصص الشعبي، بل تركوه في أيدي الوراقين - من الذين لا يعنيهم إلا جمع القرش - يتناولونه بالتحريف والتصحيف. حتى اصبح من العسير الوصول إلى الحقائق الناصعة، والنتائج السليمة التي ترضي الباحث ويطمئن إليها الخاصة، ولا يرتابون فيما يقرءون. . . وويل للموضوع يفقد ثقة الخاصة، ولا ينال تقديرهم واحترامهم. . .!!
وبنو هلال وسليم من بطون مضر الكثيرة المتعددة، الذين كانوا يعيشون قبل الإسلام عيشة البداوة والخشونة. ثم دخلوا حظيرة الإسلام، وحملوا رايته، ورفعوا لواءه، أيام بني أمية في الشام، وبني العباس في العراق، ثم بني أمية في الأندلس.
ولأمر ما نزحوا من نجد، وجاءوا إلى مصر، فأسكنهم الخليفة الفاطمي صعيد مصر، بيد أنهم لم يستقم لهم أمر، فعاثوا في الأرض فسادا، واصبحوا خطرا على الدولة، فرمى بهم المستنصر ملك صنهاجة والقيروان المعز بن باديس، وذلك لانحرافه عن مذهب الشيعة إلى مذهب أهل السنة، وفي ذلك كتب اليازوري وزير المستنصر الفاطمي إلى المعز بن باديس(701/51)
يقول:
(أما بعد، فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وحملنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. . .)!!
وبذلك ضرب المستنصر عصفورين بحجر واحد، وهنا تتجلى بطولة هؤلاء الأعراب، وفروسيتهم التي عمل فيها الخيال الطليق، ما كاد يخرجها من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافات والأوهام. . .
ومهما يكن من شيء فقد تناول صديقي وزميلي الأستاذ محمد فهمي عبد الطيف هذا الموضوع في سلسلة (أقرأ)، وهو أديب ناقد، تخرج في مدرسة (الرسالة) الغراء، وكان له فيها جولات، وقد رزقه الله قلما يعرف كيف يصل به إلى نفوس القارئين. فلا عجب إذا لم المتفرق، وجمع الشتيت، جمع الناقد الفاحص، واتخذ من هذا كله مادته في هذا الموضوع، فخلق منه بحثا قيما مفيدا، يجدر بكل أديب أن يمتع نفسه به فترة من الزمن، ليجد ألواناً من الفكر المتزن. فيها جدة، وفيها جرأة، وفيها طرافة ولذة. . .
ولصديقي فهمي عذره في ترداد اسم ابن خلدون كثيرا، فهو يكاد يكون المؤرخ العربي الوحيد، الذي عنى بالكتابة عن الهلاليين، كتابه فيها مقنع إلى حد ما. . . وعسى أن تتاح الفرصة لصديقي فهمي، فيجلو بعض ما في الكتاب من غموض يسير، ويوضح بعض ما فيه من إجمال، اعتقد أن ضيق المقام، وتقيده بعدد من الصفحات هو الذي اضطره إلى ذلك. والكتاب بعد هذا تحفة أدبية لا غنى عنها لأديب.(701/52)
كتب من مراكش
عصر المنصور الموحدي
تأليف محمد الرشيد ملين
للأستاذ عبد الكريم غلاب
وهذا كتاب آخر نقدمه إلى قراء مجلة الرسالة الغراء أصدرته المطبعة المراكشية حديثا لمؤلف شاب استهل إنتاجه العلمي بهذا الكتاب الذي يقول عنه إنه حلقة من سلسلة (العصور الذهبية المغربية) التي اعتزم إصدارها
وقد كتب المؤلف كتابه عن شخصيه وعصر. فصاحب الترجمة هو المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، شخصية فذة في تاريخ مراكش، استطاع الكاتب أن يجعل من تاريخ حياته عصرا يتميز في خططه السياسية والحربية ويتميز في حياته العلمية والفكرية، وبذلك اصبح عصره هذا جديرا بالدراسة والتأليف.
وقد وصل المنصور إلى الخلافة عقب وفاة والده يوسف بن عبد المؤمن عند رجوعه من حرب البرتغال، فتحمل المنصور الأمانة وهو شاب لا تقوى ساعداه على تحمل المسؤولية، وكانت أمانة الملك ثقيلة أعبائها التي تركها له والده: كان البرتغاليون والاسبانيون يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية في الأندلس، وكان من الموحدين أن يردوا هذا الاعتداء بصفتهم الحارس الأمين على دولة الإسلام في تلك البقاع. وكان ابن غانية - وهو الذي لقب من نسل المرابطين - يريد أن يرجع دولتهم، فبدأ بمحاربة الموحدين في جزر البليار، ثم انتقل إلى الجزائر وتونس، محاولا أن يكون دولة مرابطية جديدة، وأن يقضي على دولة الموحدين. وكان هناك بعض أعمامه واخوته ينقمون عليه أنه تولى الخلافة وهو أصغرهم، ويرجعون ذلك إلى المصادفة التي جعلته يحضر الغزوة التي توفي فيها أبوه متأثرا بجراحه.
كان على المنصور أن يواجه هذه الأعباء بلباقة وحزم، حتى يستطيع أن يحتفظ بإمبراطوريته الواسعة، التي تمتد إلى الأندلس شمالا، ثم إلى شمال أفريقيا، بما في ذلك طرابلس وبرقة غربا. ولذلك كانت حياته سلسلة من المعارك الطاحنة التي اشترك فيها(701/53)
الجيش والأسطول، فقد غزا الأندلس عدة مرات، وكانت اشهر معركة خاضها هي معركة الأراك سنة 591هـ تلك المعركة التي تذكرنا بمعركة الزلاقة في عهد يوسف بن تاشفين، فقد انهزم حماة النصرانية في الأندلس في كلتا المعركتين واستتبت سيطرة المراكشيين على الأراضي الإسلامية هناك
أما علي بن غانية، فقد كان خصما عنيدا لم يكن من السهل القضاء عليه، وخاصة بعد ما استولى على بجاية في الجزائر، واخذ من رجال الصحراء جيشا قويا ليحمي به مملكته الجديدة، ويعيد بها مجد أجداده المرابطين، ويقضي على مملكة المنصور. ولكن المنصور تعجل الأمر فبعث إليه جيشا مكونا من عشرين ألف مقاتل أردفه بأسطول ضخم تحت قيادة أحمد الصقلي امهر القواد البحريين في ذلك العصر. ولم يفد ابن غانية التجاؤه إلى الصحراء ثم فراره أخيراً إلى تونس، فقد تتبعه المنصور في معركة أخرى كان من نتائجه أن استولى على كل هذه البلاد، وقضى على خصمه الألد، بل قضى على اتباع قراقوش الذين كانوا يساعدونه. وبذلك خضعت الإمبراطورية كلها لرئيسها الأعلى المنصور الموحدي
أما العقبات التي أثراها أعمامه واخوته الذين تأخروا عن مبايعته، أو أرادوا أن يثورا عليه أثناء مرضه، فقد عالجها المنصور بلباقة وحزم، جعلت أعمامه يخضعون، وجعلته يتمكن من أخيه الذي حاول الثورة ويقضي عليه بسهوله
ذلك هو الجانب السياسي والحربي من حياة المنصور؛ بيد أن هناك ناحية أخرى في حياته لا تقل روعة عن هذا النجاح الحربي، تلك هي ناحية العلم والإصلاح. فقد كان المنصور عالما يعقد المجالس للعلماء ليساجلهم فيما يعرضون من أفكار وآراء، وقد كان من ابرز علماء هذه المجالس ابن رشد الفيلسوف وابن زهر الطبيب. وكان ذلك أديبا وشاعرا، كما كان فقيها ومحدثا. وبذلك اصطبغ عصره بالصبغة العلمية التي جعلته من أزهى عصور التاريخ المراكشي. ونزعة المنصور الإصلاحية واضحة التأثير في العصر الذي نتحدث عنه، فقد وجه جهوده إلى القضاء على كل السباب الفوضى الإدارية والقضائية والاجتماعية، كما وجه همته إلى محاربة الأمية، فجعل التعليم إجبارياً للذكور والإناث، ويكفي أن نقول أنه حارب فكرة عصمة المهدي (مؤسس الدولة الموحدية)، وهي التي قامت(701/54)
على أساسها هذه الدولة.
ذلك موجز لكتاب (عصر المنصور الموحدي)، وقد وفق المؤلف في عرضه لهذين الجانبين من عصر المنصور، فكان ترتيب الفصول طبيعيا ومتسلسلا، وخاصة في الناحية السياسية. وبذلك توفر في الكتاب نوع من التنظيم قل أن نجده في كتب التاريخ. أما أسلوب الكتاب، فهو سلس وفيه بريق ولا يخلو من مسحة شعرية. ومما يتصل بذلك أن المؤلف لا يكثر من سرد النصوص التاريخية، ولكنه يكتفي بعرض الحوادث في أسلوبه الخاص مشيرا إلى المصدر في أمانة وأخلاص
غير أن لي بعض الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب: منها أن كتابة التاريخ لم تعد سردا للحوداث ولا تلخيصا لما كتبه القدماء، ولكنها أصبحت فنا يقوم على شيء من التفكير وشيء من الفلسفة. ورب حادثة بسيطة لا تسترعي الانتباه تقوم عليها حياة العصر، ولو وقف عندها المؤرخ قليلا ووهبها شيئا من نفسه وتفكيره لشرحت له دقائقه وأسراره. ولكنا لم نجد في كتاب عصر المنصور أي مجهود من هذا القبيل، ومن أمثلة ذلك أن المنصور تحول من عقائد الموحدين وآرائهم التي قامت على أساسها دولتهم، وأنه وقف مع ابن رشد موقفا غريبا، فقد كان راضيا عنه مقربا له، ثم غضب عليه، ثم عاد فاستدعاه إليه وقربه. يعرض المؤلف هاتين الحادثتين كما رواهما المؤرخون، ولكن لماذا حصل كل ذلك؟ وكيف؟ لا تجد في الكتاب تبريرا لذلك.
ومن الملاحظات الهامة أن دولة الموحدين قامت على عقائد معينة أتى بها المهدي بن تومرت وأقام الدولة على أساسها عبد المؤمن جد المنصور. وقد كان حريا بالمؤلف أن يعقد فصلا لهذه الأفكار والعقائد التي قامت عليها الدولة
ومما يؤخذ على المؤلف أنه يسبق الحوادث أحياناً فيدلي بالنتائج قبل أن يسرد الوقائع التاريخية.
وقد قلت من قبل إن الكتاب نظم تنظيما دقيقا، ولكن المؤلف يعرض أحياناً لبعض الإصلاحات الإدارية والعمرانية والاجتماعية والقضائية ضمن ما كتبه عن الحياة السياسية، فقد كان حريا أن يعقد فصلا مستقلا لما قام به المنصور من إصلاحات.
وكنت احب أن لا اعرض لما وقع فيه المؤلف من أخطاء إملائية ونحوية ولغوية، ولكن(701/55)
الأخطاء كثرت بحيث لا تكاد تخلو منها صحيفة من صحائف الكتاب ولعل في ذلك أيضاً ما يغنيني عن ضرب الأمثلة. ويجب أن انبه إلى أن مثل هذه الأخطاء تنقص من قيمة الكتاب وتشوه جمال أسلوبه
ولست في حاجة إلى القول بأن هذه الملاحظات لا تغض من قيمة الكتاب العلمية، وحسبي أن أهنئ المؤلف على مجهوده، وأن ارجوا له التوفيق فيما سيصدره من كتب عن العصور الذهبية المراكشية.(701/56)
العدد 702 - بتاريخ: 16 - 12 - 1946(/)
احذَري أَيَتُها العَرَب
للأستاذ محمود محمد شاكر
اليوم، لقدْ أحدَّ الجزَّار شفرته وشمّر عن ساعديه، وأقبل على الذبيحة يردُ أن ينحرَها نحراً فذاً، وهي راضية عنه له، مستسلمة بين يديه، مقرّةٌ له بأن ذَبْحها هو نجَاتها، وأن شفرته هي كما قال الراجزُ في دَلْوه: (قاتِلَتني وملؤُها حياتي)!!
وبالأمس - في سنة 1882 - وطئت إنجلترا أرضَ مصر لتدعم ما تزعزع من أركان عَرْشِها، كما زعمت وزعم لَها من لا يتورّع ولا يتحرّج، ومنذ ذلك اليومِ والسكّين ماضٍ في تمزيق أشلاء ذلك البَدَن أنحدَّر بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة، والذي كان يسمّى العلم والعربي والعلم الإسلاميّ. وما مضى إلاّ قليلٌ حتى طارَتْ أشلاء هذا البدن بدداً متفرقة مفَصَّلَة، ذهبتْ مصر وحدها، وذهب الشامُ وَحْدَه، وذهب العراق وحده، وذهبت مراكش وحدها، وذهبت طرابلُس وحدها، وذهبت تركيا وحدها، وقطعت عُنُق الخلافة، وقضى الأمرُ.
واليوم يوشِكُ أن يكون ما كان بالأمسِ ولكن على أسلوب آخر: أن تُحْشَد هذه المِزَقُ المقطعة حَشْداً جديداً لتساق إى يوم الحشر، لتساق مخَدَّرة بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة مَرْةً أخرى إلى الهُوّةِ المضطرمة التي لا تُبْقى على حيٍّ، إلى الحرب الثالثة.
هذه إنجلترا تريدُ مرّة أُخرَى أن تعود بحِيَلها ورجالها وأعوانها وصنائعها، وبمداورتها وسياستها، لتضرب الضربة الأولى كما ضربتْها في سنة 1882، وتخضع أعناق المصريين شاهدَهم وغائبَهم لأحكام معاهدةٍ عجيبة ظاهرها فيه الرحمة (أي الدفاع عن مصر والشرق) وباطنُها من قِبَله العذَاب (أي نكال الحرب الثالثة). ولن تفرغ منها - إذ قدّر الله أن تفرغَ، ولا قدّرَ - حتى تجملها وتدور بها على أمم العرب واحدةً بعد واحدةٍ، لتنال منها صَكاً مكتوباً، بالأسلوب الإنجليزي ولا ريب، يجعلها جميعاً في قبضة الأسد البريطاني ليوم الحَشرِ، فعندئذ تسوقهم جميعاً كعادتها إلى المجزرة الكبرى مُقدَّمين في الصفّ الأول ليكونوا قُرْباناً لجبّار الحروبِ، ووقاءً للدمِ الإنجليزي أن يُهَراق منه في حروب الإمبراطورية البريطانية إلاّ ما لا بُدَّ منه تَحِلةَ القسم وردَّ العين الحاسدة، كما حدث في الحرب الأولى وفي الحرب الثانية، حيث لم يُسْفَك من الدم الإنجليزي إلا الأقل،(702/1)
وجملَت العبءَ كله تلك الأنعام البشرية التي جُمِعَت من الأسود والأبيض، من بقاع أفريقية وأرجاءِ الهند ومن نَواحِي هذه الإمبراطورية التي لا تقبّل الشمسُ مواطئ أقدمها حيثما دارت في مَدَرها.
فاحذري أيتها العرب. . . احذري.
إن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية، أي هي الجشَعُ المحتالُ المخادعُ الذي يستَلُّ منك أعزَّ ما تحرصُ علَيه بالشدّ والإرخاء والترغيب والترهيب والظهور والاختفاء، حتى تنهارَ النفوسُ وتسكُنَ من جَهْدِ أو إعياء. انظري ماذا فعلت، أو ماذا كانت تريد أن تفعلَ بمصر. شهرٌ بعد شَهْرٍ بعد شَهْرٍ والدُّنيا كلُّها من حولنا تعج عجيجاً بالمفاوضة والمعاهدة وبالأخذ والردّ، وبالموافقة والمعارضة، وباللين والشدة، وبالسكينة والصخب، حتى دارت الرؤوس على أعناقها، وتحّيرت العيون في حَمَاليقها، وتشتَّت منارُ الهُدَى وخيفَ على صاحب الرأْي أن يزول عن رأْيه، وما زالت إنجلترا تمدُّ للطامعين مدّاً وهُمْ يسعَوْن وراءَ ألفاظها الخلاَّبة حتى أعيتهم، وكادت لهم كيداً شديداً حتى أطغَتْهم فطغوا، وأرادوا أن يضربوا علة عقول هذه الأمة وألسنتِها بالقهر والعنف والاستبدادِ حتى تدَعَ العقلَ واللسانَ، وتقبل منهم ما أرادوا هم أن يفرضوه علينا فرضاً.
ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد له قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نيتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءها البرهان الساطعُ القاطعُ، بأن هذه الدولة (المفاوِضة) تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على ما يريدُ مفوضها أن يفهم. فإذا خيَّلت له نفسُه أنه فاهمٌ من النصِّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئاً يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها (بوحدة وادي النيل)، وأن النص المعلق بالسودانِ كان خيراً كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياءِ بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدك فاستبْقِ، وأن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وان السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لِمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاء كأنه جزءٌ منها!! بل لا بدَّ لنا من أن نبقى هناك حُرَّاساً حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ(702/2)
يكون للسودان أن يختار بعد أن يكون قد تهيأ لحكم نفسه بنفسه.
هذه هي السياسة الصريحة المتكشفة، وهذه هي بريطانيا على حقيقتها، وهذه هي ألفاظها المكتوبة مفسرةً في تصريح حاكم السودان. فليت شِعْري ما الذي يظنُّه امرؤ في نفسه ذَرةٌ من الإيمانِ بحقّ الإنسان في الحرّية. ما الذي يظنه ذلك في تفسير نصوص المعاهدة التي يُرادُ لنا أن نرتبط بها مع هذه الإمبراطورية؟ ومهما تكن نصوصُ المعاهدة، ومهما يُقَلْ في تسويفها أو تفريطها، وسواء أكانت هذه المعاهدة المعروضة اليوم أم غيرُها، فهل يحِلُّ لمصريٍّ أو عربيٍّ أن يأمَنَ على بلادهِ بعد هذه الخَديعة التي لا تعرفُ وَرَعاً ولا حياءً؟!
وليس هذا فحسب، لقد قال حاكم السودان ما شاء، فماذا كان جواب الحكومة المصرية على هذا التصريح العجيب! كان هذا الجواب الذي ينشر رئيس الوزراء كلمة يحتج فيها على تصرف حاكم السودان، وأنه قد تجاوز حدود وظيفته من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان هو المسئول عن تصريحه، وهو ينسبُ ما يقول إلى الحكومة البريطانية بلسانه! هذا، ومن الغفلة أن يظن ظانٌّ أن رجلاً إنجليزياً يدير شيئاً من أمور هذه الإمبراطورية يجرؤ أن يتكلم من ذات نفسه بالنيابة عن حكومته ويوقعها في ورطة سياسية كهذه الورطة. إذن أفما كان أولى وأجمل وأكرم وأنبل وأشجع أن يوجه الاحتجاج رأساً إلى الذي أنطق هذا الرجل بما نطق به ون يقال لهذه الحكومة البريطانية (المفوضة) إنك أنت الملومة لا هذا الرجل! ولكن هكذا كان.
فما الذي سيكون غداً أيها الرجال المدافعون بأقلامكم وألسنتكم إذا جاءتكم لجنة الدفاع المشترك، وجاء البريطاني، ونطق لسانه بما لا تطيقه هذه الأمة ولا ترضى عنه؟ أتظنون أن موقف الرجال المصريين الذي سيختارون ليكونوا أعضاء في هذه اللجنة ممن تستطيع أن تعمل (معهم)، سوف يكون أكرم وأولى أو أشجع من موقف رئيس الوزراء السابق حيال تصريح حاكم السودان؟ ستكونون كما قلتم: هذا مطعنٌ في الضمير الوطني المصري. . . وكلاَّ؟ ليس هذا مطعناً، فإن الرجال الذين سيختارون هذه اللجنة سيكونون ممن (صنعوا على عين بريطانيا) منذ احتلت مصر في سنة 1882 إلى هذا اليوم. ولأن يقال أن هذا الذي تقول مطعنٌ خير من أن تلقى مصر كلها تحت أقدام بريطانيا وفي تنُّور حروبها،(702/3)
لتكون دماء أبنائها فداء ً للدم البريطاني الطاهر المقدس.
أيتها العرب احذري. . . احذري هذا المصير الذي يرادُ لمصر لا قدر الله أن تصير إليه. ولئن كان هذا يومنا نحن، فغداً يومكم ليُعرض عليكم مثل الذي عُرض علينا، لتكون لكم (لجنة دفاع مشترك) كلجنتنا نحن، فاحذري أيتها العرب، ولا تقري بينك وبين بريطانيا معاهدةً أبداً، فإن بريطانيا تريد بجمعكم اليوم على مثل هذه المعاهدة، كالذي أرادته بكم جميعاً يوم وطئت أقدامها أرض مصر في سنة 1882، تريد أن تمزقكم بعد أن تكونوا وقوداً لنيران الحرب الثالثة.
أيتها العرب احذري. . . فإذا كنت نازلة في ميدان الحرب الثالثة فأنزليها حرة لتموتي حرة، ولكن لا تلقي بفلذات الأكباد في أتون الحرب المسعورة، ليكونوا هناك عبيداً ويموتوا عبيداً، كما تريد المعاهدات الإنجليزية بنا وبأبنائنا وبناتنا وأوطاننا.
أيتها العرب احذري. . . لقد لبثتْ إنجلترا لكم وعليكم وتنشئ أجيالاً من الخلق صاروا لها صنائعاً وأعواناً، أرادوا ذلك أم لم يريدوه، وعرفوه أو جهلوه، وعين إنجلترا بصيرة نافذة فعي تختارهم وتمهد لهم، وتحملها بسلطانها وبحيلتها وبتهديدها حتى ترفعهم إلى الذروة التي تجعلهم أهلا للمكانة في بلادهم، ثم لا تزال تعمل هنا وهناك بأنامل بصيرة قادرة متدسسة حتى يتم اختيارهم، فيتولوا هم زمام هذه الشعوب المسكينة، ثم تقول لهم كما قال الأول:
فعِثْ فيما يليك بغير قصدٍ ... فإني عائثٌ فيما يليني
وإذا هؤلاء المساكين الذين ارتفعوا إلى غير أقدارهم ومنازلهم يكيدون لأممهم من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، وإذا سياسة الأمم الناهضة في أيد لا تُحسن إلا العيث والفساد، ومصائرها على ألسن لا تُحسن إلا التغرير والدهان والممالة.
أيتها العرب احذري. . . ودعي المفاوضة بينك وبين بريطانيا حتى ترد إليك كل حقوقك كاملة غير منقوصة ولا متهضَّمة، فإذا فعلتْ فانظري في مراشدك. أما إذا قال لك هؤلاء: وماذا تفعلين أيتها العرب إذا لم تفاوضي إنجلترا وتعاهديها؟ إذا ألقوا إليك هذا السؤال العاقل الحكيم الذي يفرض عليك أن تتركي نصيباً من الحرية من أجل كواذب الآمال والوعود، فأعلمي أن هذا التعاقل (الشديد) فسادٌ في الطبائع التي تلقيه عليك:(702/4)
يرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ ... وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ
وأنتم أيها الكتاب العرب: هذه أمانة القلم تعرض اليوم عليكم، وهي أثقل الأمانات، فاحملوها بحقها أو دعوها بحقها، فإن الأيام أسرع مُضياً من البرق في حواشي الغمام. ومن حمل امانته فعليه أن ينذر قومه قبل أن يأتي يوم لا تغني فيه النُّذر، وقبل أن يأتي يوم لا يردّ فيه البكاء على فائت!.
محمود محمد شاكر(702/5)
على هامش النقد
غفلة النقد في مصر
للأستاذ سيد قطب
في تقديري إن الضجة المفتعلة التي أثيرت حول ذلك الكتاب المريب، كتاب الشيخ عبد الله القصيمي، والتي أنزلق فيها بعض الكبار مخدوعين بما صوره لهم المؤلف من مخاوف تحيط به وبكل تفكير حر في المملكة السعودية، هذه المخاوف التي تدنيه من حبل المشنقة بسبب كتابه. . . إلى آخر ما أجاد المؤلف تمثيله من الأدوار. . .
في تقديري أن هذه الضجة وذلك الانزلاق فضيحة أدبية لمصر، وقد تؤخذ دليلاً على غفلة النقد فيها إلى حد مخجل.
ولقد قُدِّم إلىَّ هذا الكتاب، وأديرت على سمعي (الاسطوانة) التي أديرت على أسماع الكثيرين، وتأثرت ساعتها وتحمست؛ فحياة كاتب ليست بالشيء الهين؛ وإهدار هذه الحياة بسبب رأي أو فكرة مسألة لا يحتملها القرن العشرون فوق ما في الفكر الإسلامي من سماحة تبرئه إلى الجنوح بطريقة محاكم التفتيش.
ولكنني حين عدت فقرأت الكتاب بردت هذه الحماسة، وفتر ذلك التأثر؛ لأنني لم أجد إلا كاتباً مربياً، يتناول مسائل ميتة في الغالب، ومشاكل محلوله - حلها الزمن في البيئة الإسلامية منذ نصف قرن على الأقل - ويزيد عليها فكرة مسروقة بنصها وبجزيئاتها وبشواهدها من كاتب شاب يعيش وكتابه حديث الصدور لك يبعد به الزمن فينسى. . . ليتخذ من ذلك كله ستاراً طويلاً عريضاً يلف به دعوة غير نظيفة، للاستعمار والمستعمرين.
ولم أشعر أن الرجل في خطر، فأمثال هؤلاء يعرفون طريقهم جيداً - كما قلت في مرة؛ ولا خوف عليهم من الشنق ولا غيره. ولو كانوا يعرفون أن الشنق ينتظرهم حقاً، لما أقدموا على فعلتهم؛ لأن الحياة على كل حال أغلى من كل ثمن سواها قد يأتي به الكتاب!
ووجدت أنه من المهانة للفكر أن أنزلق فأكتب عن كتاب تافه مريب مسروق كهذا الكتاب، يسلك صاحبه هذا الأسلوب في الاحتيال لبعث الاهتمام به، وإثارة الضجة حوله؛ كما أنه يثبت على غلافه شهادة من نفسه لنفسه، هذه الجملة المتبجحة: (سيقول مؤرخو الفكر: إنه(702/6)
بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!
ثم ما أشعر إلا وضجة عجيبة يثيرها بعضهم حوله. وهنا فقط وجدت أن لا بد من كشف الستار. فهي فضيحة. وفضيحة لمصر خاصة، أن تبلغ غفلة النقد فيها هذا المستوى العجيب!
لكي ننقد كتاباً يعالج مشكلات اجتماعية ونفسية وإنسانية يجب أن نسأل هذه الأسئلة الثلاثة:
1 - هل يعالج الكتاب مشكلات حية تعيش في هذا الأوان؟
2 - هل نفذ إلى صميم هذه المشكلات، وصورها التصوير الصحيح، وأقترح لها الحلول المناسبة.
3 - هل كان أصيلاً في تصويرها وعلاجها؟
وقد سألت نفسي هذه الأسئلة، وكان الجواب باختصار:
1 - إن المؤلف (دون كيشوت) جديد يطعن برمحه طواحين الهواء يحسبها فرساناً، ويشق بها زقاق الخمر يحسبها قساوسة! ويحمل حملات شعواء على أولئك الذين يمدحون الجهل ويذمون العلم، ويقررون أن الجنة لا يدخلها إلا البله، ويؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما بعثت بخراب العالم. . .
ولكنه لا يقول: إن هذا كله كان من أوهام العوام، كان خرافات سوداء في عهود الظلام، ثم انتهت بانتهاء هذه العهود المظلمة. . . لا يقول هذا، إنما يتهم العقلية الإسلامية بأن هذه هي أهم مشكلاتها وعقائدها دائماً أبداً ليصل من هذا الطريق الملتوي إلى تحقير هذه العقلية في جميع الأزمان، وإلى إيثار العقلية الأوربية لأنها خلعت ربقة الدين، وربقة الخلق، وربقة التطلع إلى الله، وانطلقت تهدف إلى الأرض وحدها، ولا تعلق نظرها مرة واحدة بالسماء. لأن التطلع إلى الله كفيل بإفساد الحياة!
وفي ثنايا هذا الذي يبدو تحرراً فكرياً في ظاهره، يخدع المخدوعين ممن يحسبون التحرر الفكري مجرد التحلل من الأديان والأخلاق على أي وضع من الأوضاع، في ثنايا هذا يدس ما لعل الكتاب كله ألف لأجله: يدس الإيحاء للشرق العربي المسلم بأن لا حق له في كراهية الاستعمار والمستعمرين، لأنهم ورثة الأرض الذين يستحقون كنوزها وخيراتها، لأنهم يتطلعون إلى الأرض وأسبابها، ولا يعلقون أنظارهم بالله ولا بالسماء!(702/7)
وهناك مسألة أو مسألتان حيتان في الكتاب، ولا تزالان تعيشان لأنهما إنسانيتان: مشكلة الإيمان بالإنسان، ومشكلة الإيمان بالأديان.
فأما الأولى فهي قضية الأستاذ عبد المنعم خلاف في كتابه (أومن بالإنسان). وقد شغلت من كتاب (هذي هي الأغلال) نحو أربعين صفحة أولاً، وتغلغلت في ثنايا الكتاب كله أخيراً.
وأما المشكلة الثانية فقد عولجت بسلسلة من المغالطات والأغلاط تتلخص في أن روح التدين تخالف روح الحياة، وأن المتدين لا يمكن أن يكون رجل دنيا. . . وهذا المنطق لا يستحق الاحترام لأن الشواهد الواقعة تنفيه، ولأن الدين روح حافز للعمل ولا سيما في الإسلام الذي يصب عليه المؤلف جميع أوزار التأخر والانحطاط وإن عاد فالتوي ونفي عن الدين ذاته هذه الأوزار في نفاق ظاهر يستحق الاشمئزاز دائماً، ولا يثير الاحترام.
2 - ولعل الجواب عن السؤال الثاني يكون قد اتضح من الجواب على السؤال الأول؛ فالنفاذ إلى صميم المشكلات يستدعي قسطاً من الاستقامة والإخلاص. وهذان العنصران مفتقدان في الكتاب كله.
فهو مثلاً يتلخص في سماتِ التفكير الإسلامي من أوهام العامة وخرافاتهم، ومن أقوال لبعض المتصوفة وأمثالهم، بدل أن يستخلصها من مجموعة المفكرين والمشرعين والفاتحين والعاملين في التاريخ الإسلامي الطويل. فالحضارة الإسلامية كلها وعمارة الأرض وسياستها في جميع العصور ليست داخلة في حساب المؤلف، وليست دليلاً على شيء من خصائص العقلية الإسلامية. إنما الذي يصور هذه العقلية وحده دون سواء. أقوال كهذه الأبيات:
من أنت يا أرسطو ومن ... أفلاط قبلك قد تجرد
ما أن تنمو لا الفراش ... رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشداً لأبعد
وكلمات للمتصوفة والزهاد يذمون الدنيا والعلم والعقل، ويمدحون الزهد والبلاهة والغيبوبة.
أولئك هم جميع المسلمين في نظر المؤلف، وهذه هي عقليتها الإسلامية التي يجرد قلمه لينسفها نسفاً، فيقف جماعة من نقاد مصر يعجبون بهذا القلم القوي البتار!!!
وبمثل هذا الالتواء المريب يواجه مسألة التدين ومسألة الأخلاق، ومسألة الأرض والسماء،(702/8)
فلا ينفذ إلى صميم مشكلة واحدة، لأن عنصري الاستقامة والإخلاص لا يتوفران.
3 - أما الجواب عن السؤال الثالث فهو فضيحة الفضائح فما عهدت أن يعمد مؤلف إلى مؤلف حي، فيقبض فصولاً كاملة من كتابه قبضاً، ويمهرها بتوقيعه ويطلع بها على الناس.
جرأة نادرة. ولكنها جازت على النقد في مصر!
لقد كنت - وما زلت - أفهم، أن الناقد قارئ متتبع لسير الفكر. فهذا هو الشرط الأول للناقد كيما يستطيع أن يؤرخ خطوات الفكر، ويعرف من السابق ومن اللاحق.
وأنه يتحرج أشد التحرج من إصدار حكم بالسبق والأهمية، إذا لم يكن قد أطلع على كل ما سبقه أو جله، لأنه مسئول عن تقرير أحكامه للضمير وللتاريخ وللقراء.
فما بال كتاب صدر منذ عهد قريب، ونشر قبل ذلك فصولاً في مجلتين مقروءتين، ثم يجيء كاتب، فيهجم هجوماً بشعاً على فكرته، وطريقة عرضها، وبراهينها وأدلتها، ثم لا يجد ناقداً يقول له: مكانك فهذا استغفال!
لقد عملها الرجل، ولم يجد من يقول له هذه الكلمة في مصر إلا بعد حين!
لقد عملها وهو يتحدى: (سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل)!
ترى كان الرجل يتوقع هذه الغفلة، أم قد نزع عن نفسه (الأغلال) لم يكن يبالي وقد صدّفت الأيام ظنه أو تكاد!
إن في مصر غفلة نقد منشؤها أن كثيراً من الكبار الذين كانوا يتولون حركة النقد لم يعودا يقرءون. وإذا قرءوا لم يقرءوا للشبان، استصغاراً منهم لما ينشئ أولئك الشبان.
وهم أحرار في هذا، ولا يستطيع أحد أن يجبرهم على قراءة معينة. فهم في دور الكهلة والشيخوخة كثيرو المتاعب، ولأنفسهم عليهم حق، ولهم أن يقضوا أوقاتهم في لذائذهم الحسية والفكرية حسبما يشتهون. فإن من حقهم أن ينالوا الراحة والحرية بعد الجهاد الطويل.
ولكن عليهم مقابل الراحة والحرية ألا يتعرضوا للنقد، فيصدروا فيه الأحكام إلا بعد تتبع لحركة الفكر في كل كتاب يصدر في الفن الذي يريدون نقده، وإصدار حكم عليه، فذلك هو واجب الضمير الأدبي في أضيق الحدود.(702/9)
إن القراء يثقون بهم إلى حد، وهذه الثقة تدعو إلى ترحي الدقة، فلا يفتنون بغير علم، أو بعلم ناقص، فتلك تبعة ثقيلة على الرقاب.
وأنا واثق أن بعض الذين كتبوا عن كتاب الأغلال، ما كانوا ليكتبوا لو أنهم أولاً قرءوا الكتاب كله ولم يكتفوا بتصفح بعض فصوله، ثم لو أنهم ثانياً كانوا قد قرءوا كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، مهما تكن حيلة الرجل بارعة ومهارته في الدعاية قوية.
وقبل أن أنهي هذه الكلمة أوجه إلى فريق آخر من المتزمتين لم يقابلوا الكتاب هذه المقابلة، بل ثاروا عليه وناهضوه وشغلوا أنفسهم بالاحتجاج عليه. وقيل لي: إن بعضهم أخذ يؤلف كتباً في الرد عليه.
هؤلاء يشاركون - من غير قصد - في الضجة المفتعلة التي يثيرها الرجل حول كتابه وحول نفسه.
هونوا على أنفسكم، فالدنيا بخير!
لقد ترددت مرة ومرة في أن أكتب عن هذا الكتاب التافه المريب؛ لأن كل ضجة حوله تبلغ الغاية التي أرادها له صاحبه ومن يهمهم نشر مثل هذه الكتب في اشرق العربي الناهض لمجاهدة الاستعمار.
ولقد كان رجال الإرساليات التبشيرية في الشرق يتعمدون إثارة الضجيج حول حوادثهم في مصر منذ سنوات، في خطف بعض الفتيات والفتيان، ليبرهنوا للجمعيات التي أرسلتهم أنهم ذوو خطر، وأن لحركاتهم في دار الإسلام صدى.
أقول كانوا يتعمدون إثارة الخواطر، بافتضاح الحوادث ليبلغوا هذه الغاية، وصاحبنا في طرائقه ليس ببعيد عن هؤلاء.
فلا تبلغوه غايته من وراء الضجيج والصياح! إنكم أناس طيبون أيها المتزمتون. فلا عليكم من الكتاب والكاتب.
ضجة فارغة حول كتاب مريب أمطرتنا دور الدعاية بعشرات مثله في أيام الحرب. دعوه ليموت فأنه ميت، ولن تنفخ فيه الحياة ضجة مفتعلة منشؤها الخداع والإيهام.
ولولا أن أنفي عن النقد في مصر تهمة الغفلة ما كتبت هذه الكلمات.
سيد قطب(702/10)
صور من العصر العباسي:
أطباء الخلفاء العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
كان أهل جنديسابور يعنون بالطب. وكان لهم حذق بهذه الصناعة وعلم من زمن الأكاسرة. ذلك أن سابور لما تزوج إبنة القيصر فيليبس بعد افتتاحه أنطاكية بنى لها مدينة على شكل قسطنطينية، وهي مدينة جنديسابور ونقلها إليها، فأنتقل معها من كل صنف من أهل بلدها ممن هي محتاجة إليه، ومنهم أطباء أفاضل. فلما أقاموا فيها، بدءوا يعلمون أحداثاً من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى برزوا في الفضائل، وصار أناساً يفضلون طريقتهم على اليونانيين والهند، لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة فزادوا عليها بما استخرجوه من قبل نفوسهم، فرتبوا لهم دساتير وقوانين وكتباً جمعوا فيها كل حسنة. ولم يزالوا كذلك حتى جاءت الدولة العباسية، فأصبح أهل جنديسابور أطباء للخلافة والخلفاء ما عدا قلائل منهم.
وقد كان هؤلاء الأطباء من أهل جنديسابور ينالون منزلة كبرى من كل مكان. وكان وجودهم في بلد ما سبباً لكساد الأطباء الآخرين. وقد ذكر الجاحظ عن أسد بن جاني الطبيب البغدادي أنه أكسد مرة. فقال له قائل: السنة أوبئة والأمراض فاشية، وأنت عالم، ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة. فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟ قال: أما (واحدة) فإني عندهم مسلم، وقد أعتقد القوم قبل أن أطبب، لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب. واسمي (ثانية) أسد. وكان ينبغي أن أكون صليباً ومرايل ويوحنا. . . وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون (أبو عيسى) (وأبو زكريا). . . وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود. (وأخيراً) لفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جنديسابور.
والحق أن الخلفاء حفلوا بهؤلاء الأطباء. وكانت أسرة بختيشوع ذات مكانة كبرى عندهم، ومنها كان أطباؤهم ووزراؤهم ومنها كان أيضاً الأطباء المحترفون، وأطباء البيمارستانات،(702/12)
ومعلمو الطب والفلسفة.
أول من تقدر بإحضار رأس هذه الأسرة إلى بغداد، هو المنصور. فانه لما بنى مدينة السلام بغداد سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكان كلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع بجمعهم، فلما اجتمعوا قال لهم المنصور: أريد من الأطباء في سائر المدن، طبيباً ماهراً. فقالوا: ما في عصرنا أفضل من جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور؛ فهو ماهر في الطب. فأمر المنصور بإحضاره، فأنفذه العامل بجنديسابور إلى حضرة الخلافة بعد ما امتنع عن الخروج، ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك. واستحصب معه تلميذيه إبراهيم وعيسى. فلما وصل إلى مدينة السلام أمر المنصور بإحضاره. فلما أحضر دعا للمنصور بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره، وأمره بالجلوس، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. فقال: قد ظفرت منك يا جورجيس بما كنت أطلب. وخبره بابتداء علته، وكيف جرى أمره منذ ابتداء مرضه. فداواه حتى برئ وعاد إلى الصحة فأنزل في أجمل موضع من دوره، وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل. وأهدى إليه ثلاث جوار روميات حسان مع ثلاثة آلاف دينار. فأنكر جورجيس أمرهن وقال لتلميذه عيسى: يا تلميذ الشيطان! لم أدخلت هؤلاء إلى منزلي؟ ردهن إلى أصحابهن. فأعادهن. فسأله المنصور لم رددت الجواري؟ قال: لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منزلي لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة، فما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها، فحسن موقع هذا من الخليفة، وأمر في الوقت أن يدخل جورجيس إلى حظاياه وحرمه بلا إذن، وزاد موضعه عنده.
وظل جورجيس يخدم المنصور حتى مرض سنة اثنتين وخمسين ومائة مرضاً صعباً. وكان المنصور يرسل إليه في كل يوم يتعرف خبره. فلما أشتد مرضه أمر بحمله على سرير إلى دار العامة وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره وسأله عن حاله. فخبره جورجيس بها، وقال له: أن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لأنظر أهلي وولدي؛ فإن مت قبرت مع آبائي. قال له: يا جورجيس اتق الله وأسلم؛ وأنا أضمن لك الجنة. قال جورجيس: قد رضيت حيث آبائي؛ في الجنة أو النار. ثم خلف بين يدي(702/13)
المنصور تلميذه عيسى، ومضى إلى جنديسابور ومعه عشرة آلاف دينار وخادم، فوصلها حياً.
وحل عيسى محل جورجيس. فأخذ يبسط يده في التشارر والأذية، خاصة على الأساقفة والمطارنة، ومطالبتهم بالرشى وأخذ أموالهم. وكان فيه شرارة وطمع فلما خرج المنصور في بعض سفراته ووصل إلى قرب (نصيبين) كتب عيسى إلى مطران نصيبين يتهدده ويتوعده إن منع عنه ما ألتمسه. وكان عيسى قد ألتمس أن ينفذ له من آلات البيعة أشياء جليلة ثمينة لها قدر، وكتب في كتابه: أليس تعلم أن أمر الملك في يدي، إن أردت أمرضته، وإن أردت شفيته. فأحتال المطران في التوصل إلى الربيع وشرح له صورة الحال وأقرأه الكتاب، فأوصله الربيع إلى الخليفة، فأمر المنصور بأخذ جميع ما يملكه عيسى، وتأديبه، ونفيه ففعل به ذلك.
ثم أن المنصور سأل عن جورجيس ليؤتى به. فأمتنع لضعفه وأنفذ إلى الخليفة تلميذه إبراهيم. فقربه المنصور وأكرمه وخلع عليه، ووهب له مالاً، واستخلصه لخدمته. ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور.
وكان أبو قريش طبيب المهدي. وكان يعرف بعيسى الصيدلاني، ولم يكن طبيباً، وإنما كان صيدلانياً ضعيف الحال جداً، فتشكت حظية للمهدي ذات يوم، وتقدمت إلى جاريتها بأن تخرج القارورة إلى طبيب غريب لا يعرفها. وكان أبو قريش بالقرب من قصر المهدي. فلما وقع نظر الجارية عليه أرته القارورة، فقال لها: لمن هذا الماء؟ فقالت: لامرأة ضعيفة. قال: بل لملكة عظيمة الشأن، وهي حبلى بملك! وكان هذا القول منه على سبيل الرزق. فانصرفت الجارية من عنده وأخبرت الحظية بما سمعته منه، ففرحت فرحاً شديداً، وقالت ينبغي أن تضعي علامة على دكانه حتى إذا صح قوله اتخذناه طبيباً لنا. وبعد مدة ظهر الحبل، وفرح به المهدي فرحاً شديداً؛ فأنفذت الحظية إلى أبي قريش خلعتين فاخرتين وثلاثمائة دينار. وقالت: استعن بهذا على أمرك، فإن صح ما قلته اصطحبناك. فعجب أبو قريش من ذلك وقال: هذا من عند الله، لأنني ما قلته للجارية إلا وقد كان هاجساً من غير أصل. ولما ولدت الحظية، وهي الخيزران، موسى الهادي، سُرّ المهدي به سروراً عظيماً. وحدثته جاريته بالحديث، فاستدعى أبا قريش وخاطبه، فلم يجد عنده علماً بالصناعة، إلا(702/14)
شيئاً يسيراً من علم الصيدلة. إلا أنه أتخذه طبيباً لما جرى منه واستخصه وأكرمه غاية غاية الإكرام وحظي عنده، وخاصة عندما علم أنه عنّين.
واستبقاه الهادي، وظل مكرماً عنده. وعندما مرض الهادي جمع الأطباء. وكان فيهم أبو قريش، فقال لهم: أنتم تأكلون أموالي وجوائزي وفي وقت الشدة تتغافلون عني. فقال له أبو قريش: علينا الاجتهاد، والله يهب السلامة.
ثم استدعى له بختيشوع بن جورجيس من جنديسابور، فداواه وشفى. ثم كادت له الخيزران فاعاده المهدي إلى جنديسابور.
وكان ممن حظي عند الهادي الطيفوري المتطبب، وكان حاذقاً، وكان متطبب ومربيه في رضاعه وطفولته وكبره. وهو جد إسرائيل بن زكريا الطيفوري طبيب الفتح بن خاقان.
أما الرشيد، فقد أعاد بختيشوع؛ فقد مرض سنة 171هـ. من صداع لحقه، فقال ليحيى بن خالد: هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئاً. فقال له يحيى: لما مرض أخوك الهادي، أرسلوا إلى جنديسابور فأحضروا رجلاً يُعرف ببختيشوع. فقال الرشيد: كيف أعاده وتركه؟ قال لما رأى والدتك، والطبيب عيسى أبا قريش يحسدانه، أذن له بالانصراف إلى بلده، فأمر الرشيد بحمله. فورد بختيشوع ودخل على الرشيد فداواه. وأكرمه الرشيد وخلع عليه خلعة سنية. ووهب له مالاً وافراً، وقال له: تكون رئيس الأطباء، ولك يسمعون ويطيعون.
ثم حل جبرائيل بن بختيشوع عند الرشيد محل أبيه. وقد خص بادئ أمره بجعفر بن يحيى؛ وذلك أن جعفر هذا مرض، فتقدم الرشيد إلى بختيشوع بن جورجيس بأن يخدمه. وكان من أدب الطبيب إذا كان خاصاً بالملك أن لا يخدم أحداً من أصحابه إلا بأمره، ولما أفاق جعفر من مرضه قال لبختيشوع: أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه. قال له بختيشوع: لست أعرف في هؤلاء أحذق من أبني جبرائيل وهو من أمهر مَنْ في الصناعة. فقال: أحضرنيه. فلما أحضره شكا إليه مرضاً كان يُخفيه، فدبره في مدة ثلاثة أيام وبرأ. فأحبه جعفر مثل نفسه وصيره رئيس الأطباء، وكان لا يصبر عنه ساعة، ومعه يأكل ويشرب.
وقد أتصل جبرائيل بالرشيد بسبب حظية له. فقد كان للرشيد حظية فُتن بها، تمطت ذات يوم ورفعت يدها، فبقت منبسطة لا يمكنها ردها. والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان ولا(702/15)
ينفع ذلك شيئاً. فقال الرشيد لجعفر بن يحيى: قد بقيت هذه الصبية بعلتها. قال له جعفر: لي طبيب ماهر، وهو ابن بختيشوع تدعوه وتخاطبه في معنى هذا المرض، فلعل عنده حيلة في علاجه. فأمر بإحضاره. ولما حضر قال له الرشيد: ما اسمك؟ قال: جبرئيل. قال: أي شيء تعرف من الطب؟ قال: أبرّد الحار، وأسخن البارد، وأرطب اليابس وأجفف الرطب. فضحك الرشيد وسر. وشرح له حال الصبية. فقال جبرئيل: إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة. قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى هنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط، فأمر الرشيد بإحضار الجارية، فخرجت، وحين رآها جبرئيل أسرع إليها ونكس رأسه، وأمسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية، ومن شدة الانزعاج والحياء استرسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل وأمسكت ذيلها. فقال جبرئيل: قد برأت يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية: ابسطي يدك يمنة ويسر، ففعلت، فعجب الرشيد وكل من كان حاضراً، وأمر لجبرئيل في الوقت بخمسمائة ألف درهم، وأحبه، وجعله رئيساً على جميع الأطباء.
وكان محله يقوى ويعلو، حتى أن الرشيد قال لأصحابه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب فيها جبرئيل، لأني أفعل كل ما يسألنه ويطلبه مني. فكان القواد يقصدونه في كل أمورهم. ومنذ يوم خدم الرشيد إلى أن انفضت خمس عشرة سنة لم يمرض الرشيد، فحظي عنده حظوة كبرى.
ونستطيع أن نعلم حال هذا الطبيب وأبوه وجده من كلمة له قالها لإبراهيم بن المهدي: (إن عيش جبرئيل، وبختيشوع ابيه، وجورجيس جده، لم يكن من الخلفاء، وإنما كان من الخلفاء، وولاة العهد، واخوة الخلفاء، وعمومتها، وقرابتها، ووجوه مواليها، وقوادها. وولى أبوان خدما الخلفاء وافضلوا عليهما، وأفضل عليهما غيرهم ممن هو دونهم. وقد أفضل علي الخلفاء، ورفعوني من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة، وليس لأمير المؤمنين أخ ولا قرابة، ولا قائد ولا عامل إلا وهو يداريني إن لم يكن مائلاً بمحبته وشاكراً لي، على علاج عالجته به، ومحضر جميل حضرته له، ووصفته وصفاً حسناً عند الخليفة فنفعه).
صلاح الدين المنجد(702/16)
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 4 -
مع الأدباء العلميين
تحدثت في آخر فصل وقفت عنده (من هذا البحث) عن عالم فلسطين الرياضي الأستاذ قدري حافظ طوفان، ولم أبلغ نهاية التعريف بآثره، لضيق في المجال الذي أعددته (يومذاك) ولذا فإنني أقف اليوم بالقارئ الكريم (وقفة يسيرة)، عند أثر قيم من آثره، وهو كتابه (تراث العرب العلمي) في الرياضيات والفلك. ولعلنا نقدر مبلغ عنايته باخراجه، حين نسمعه يقول في مقدمته:
(شغلت نفسي بهذا الكتاب أكثر من عشر سنين، وهو خلاصة بحث مرهق ودراسات مضنية، اعتمدت فيها على مظان عديدة قديمة وحديثة، عربية وإفرنجية، ومخطوطات نفيسة حصلت عليها بمساعدة بعض الأصدقاء، من القاهرة وطنجة وتطوان والقدس. . .).
وقد جعل الأستاذ (طوقان) كتابه في قسمين، الأول منهما يحتوي على سبعة فصول، ستة منها تبحث في الرياضيات قبل الإسلام، ومآثر العرب في الحساب والجبر، والهندسة والمثلثات والفلك. والسابع يتناول الرياضيات في (الشعر العربي) وهو فصل طريف لعله الأول من نوعه، أحصى فيه ما قاله شعراء العربية في الجاهلية والإسلام من الشعر الرياضي. فأورد شعر (زرقاء اليمامة) في سرب من الحمام، أبصرته فأحصته عدداً فقالت:
ليت الحمام لِيَهْ ... ونصفه قدِيَهْ
إلى حمامتَيهْ ... صار الحمام ميَهْ
وهي مسألة حسابية معقدة (كما ترى)، بسطتها (حذام معجزة الدهر في قوة الأبصار بقالبٍ شعري لطيف.
كما أورد في ذلك الفصل أيضاً، قول الشاعر الرياضي المرح الإمام أبي القاسم البديع الأسطر لأبى حين يتغزل فيقول:(702/17)
وذي (هيئة) يزهو بخال ... أموت فيه في كل حين وأبعث
(محيط) بأوصاف الملاحة وجهه ... كأن به (اقليدس) يتحدث
فعارضه (خط استواء) وخاله ... به (نقطة) والخد (شكل مثلث)
وقد استلفت نظري (هنالك) أرجوزة (ابن الياسمين) التي جمع فيها بين الأدب والرياضيات، فعرف علم الحساب والجبر وشرحهما ومثل عليهما شعراً. ومن ذلك قوله في تعريف الجبر:
على ثلاثة يدور الجبرُ: ... (المال) و (الأعداد) ثم (الجذر)
ف (المال): كل عدد مربع ... و (جذره): واحد تلك الأضلع
و (العدد المطلق): ما لم ينسب ... للمال أو للجذر. فافهم تصب
و (الجذر) و (الشيء) بمعنى واحد ... كالقول في لفظ أب ووالد. . .
ثم يمثل عليه في (حل المعادلة) كان قد سلف ذكرها في أقسام المعادلات فيقول:
ف (ربع) النصف من (الأشياء) ... واحمل على (الأعداد) باعتناء
وخذ - من الذي تناهى - (جذره) ... ثم انقص (التنصيف) تفهم سره
ويحصى (الأستاذ طوقان) شعراً ما أعذبه وأطلَّه، كثيراً ما تمثلت به لطلابي (في دروس البلاغة)، دون أن أنتبه لما فيه من البراعة في استخدام الألفاظ، مما استنبطه الأستاذ من معانيها في الرياضيات والفلك.
وأما القسم من الكتاب فيحتوي تسعة فصول، يسرد فيها سير العظماء من الرياضيين والفلكيين، وإنتاجهم العلمي، ومؤلفاتهم وانتقالها إلى أوربة، وأثرها في تقدم العلوم فيما بعد.
وتتجلى في الأستاذ روح العالم العامل بعلمه، حين يقول لك: إنه توخى في هذا الكتاب (الإخلاص للحق والحقيقة وإنصاف حضارة العرب، والكشف عن أمجادهم الفكرية في الرياضيات والفلك. . .).
وما دمت في صدد العلم (حين ينسلك في نطاق الأدب)، فلا بأس من أن أذكر (علماء متأدبين) آخرين ساروا في هذا السبيل، فقطعوا فيه شوطاً محموداً، وألفوا فيه ما لا يتيسر من غير جهد، ولا يبلغ بعد هذا الشأو من الجودة إلا نضوج مكتمل.
وبين يدي (أشتات أنباء) عن ثلاثة من هؤلاء (العلماء) وكلهم مارس صناعة التعليم عمراً(702/18)
من عمره، وربما كان لذلك أثر بين في بعض إنتاجهم، وبعض وجهات نظرهم. وأول هؤلاء الثلاثة:
الأستاذ محمد أديب العامري. وقد كان إلى أمد (ليس بعيداً) مديراً لكلية السلط، وكانت له في ذلك العمل تجارب كثيرة، فألفى (بوحي منها) كتباً لتدريس العلوم الطبيعية، في صفوف مختلفة من مراحل التعليم، طبع بعضاً منها والبعض الآخر في أثره.
وتتألف هذه السلسلة منقسمين، الأول منها (مبادئ حفظ الصحة) للمراحل الابتدائية المتوسطة، الثاني (مبادئ العلوم) وينقسم إلى أجزاء تزامل الطالب حتى تبلغ به المرحلة الثانوية. وترتكز هذه الكتب (في سائر أجزاءها)، على أسلوب محدث وطريقة مبتكرة، يراعي فيها الانتقال من التدرج في الوصف، إلى التعريف والتحديد فالاستقراء والاستنباط.
كما ألف كتابه (فصائل النباتات الشهيرة) للمراحل الثانوية العالية، وصرف في إعداد مجهود (أعوام ثلاثة) في البحث والدرس، والاقتباس عن أشكال الطبيعة مباشرة، وهذا الكتاب وحيد في أسلوبه وطريقة تنسيقه: يشتمل على ما يفتقر إليه الطالب العربي من أركان هذا العلم، وسائر تفصيلاته.
كما ترجم بوحي من ذلك العمل (أيضاً)، كتاب (الكيمياء العملية) للدكتور رئيس دائرة الكيمياء في الجامعة الأمريكية. فأكمل بذلك جانباً كبيراً من النقص الذي يفتقر إليه الطالب العربي في هذا الباب. . .
وله فيما عدا ذلك إنتاج آخر، يدفعه إليه ميله (السياسي الاجتماعي)، وهذا الميل متأصل في نفسه - رغم تخصصه الجامعي في دراسة علم الحياة - وطالما استحوذ عليه، فإذا هو متسرب في مسالكه، منساق إلى أهدافه، متطلع إلى مراميه. . .
وهو إبان هذا الاستسلام المطلق، يكتب في (القصة) آناً، ويكتب في (فلسفة الحياة آناً آخر. وحين أعرفه لك في الحال الأول، أقفك عند كتابه (شعاع النور)، لكي تستعرض معي (متمهلاً) هذه الفقرة في مقدمتها إذ يقول فيها: (. . . إن هنالك شعاعاً من النور ينتظم سيرة الحياة، وهذا الشعاع ذاته هو الذي يومض في نفوس هؤلاء الناس، الذين أقدمهم إليك وأصلهم بك، ولولا هذا الوميض الذي يستمد نوره وحرارته من طبيعة الحياة، الحياة الخالدة المتسامية، لما كان سبيل هؤلاء الناس إلا أن يتلاشوا في العدم، ولكنهم لا يتلاشون. . .).(702/19)
وأما قصص هؤلاء الناس (الذين يصلهم بك) فأنه - يا أخي القارئ - ليست من هذا الطراز الذي ألفنا قراءته وتكراره، ولكنها ضرب جديد من القصص، (جديد إلى أبعد ما في خيالك من تصور للجديد)، ما رأيت من مثلها فأقربها إليك تشبيهاً، ولكنني أصفها. وأين الخبَرُ من الخُبْر؟!:
إنك لو وقفت حيال هذه القصص، لألفيتها قائمة على التحليل النفسي للطبيعة البشرية، وعلى تصوير الانفعالات المستندة إلى العوامل الموروثة، التي تمثل النوازع الإنسانية العميقة تمثيلاً صادقاً. وهو في خلال ذلك كله يستهدف الإصلاح الاجتماعي، شاملاً من جميع نواحيه.
وله في هذا الباب قصة أخرى عنوانها (سليم أفندي)، وهي تحليل شامل لما يعترض النفس الإنسانية من اضطراب وقلق، ولما يؤدي إليه مركب النقص من تصرفات وأوضاع، والقصة في إجمالها وتفصيلها تنحصر في دائرة القصة السالفة من جميع نواحيها.
وحين أعرف لك الأستاذ العامري في الحال الثاني (أي حين يكتب في فلسفة الحياة)، أقفك كذلك عند كتابه (نحو الحياة). وهذا الكتاب سرد من التفاؤل المطلق، مرتكز على المحاكمة والاستقراء، وقائم على منطق التدرج. فهو يرى فيه أن طبيعة الحياة إيجابية، وأنها تتقدم من تلقاء نفسها باطراد إلى الأمام، وأن مستقبل البشرية إلى خير، على الرغم مما يبدو في جوها - وما بدا إلى الآن - من اكفهرار واضطراب. وإليك نمطاً يبين الأسلوب الذي يلتزمه في مثل هذا الحال، وذلك حين يقول:
(. . . طبيعة الإنسان نفسها تأبى الردة، الإنسان والحيوان والنبات، هذه الأحياء كلها تبحث عن الجمال والقوة. والحياة تنتج باستمرار أجيالاً أقوى وأجمل. فلو يركَّب في الناس ذوق (مثل حب القبح)، ولو كان (الظلم) هو ما تهواه الطبيعة البشرية في قراراتها، لفكرت أن الحياة يمكن أن تتأخر!!.
الناس اليوم أطول أعماراً من آبائهم الأولين، والناس اليوم أكثر إحساساً بالكرامة. وأرفع مستوى في العيش مما كانوا من قبل. وتوزيع الثروة (وإن يكن اليوم منطوياً على إجحاف) أكثر انتشاراً منه فيما مضى من قريب. والمظلوم اليوم أجرأ وأرفع صوتاً في المطالبة بحق. وحالتنا الحاضرة - في بعض البلاد الراقية - خير من بعض صور (المدينة(702/20)
الفاضلة) كما رآها بعض المفكرين.
فإلى أي غاية ترمي هذه النزعات الظاهرة، الخالصة الصادقة التي لا تكبح؟!. .).
وما يزال بين يدي الأستاذ مواضيع مختلفة، ينصرف لمعالجتها والتفرغ لدرسها، على الرغم بالمسئولية التي يضطلع بحملها في (دار الإذاعة الفلسطينية) في القدس، ولقد كتب في الرسالة الغراء وغيرها، ودراسات كثيرة، في العلوم والآداب والأبحاث النفسية، التي يميل فيها إلى المذهب التحليلي على طريقة (ادلر).
وله مجموعة مقالات - مما أذاع به أو ألقاه في الألدية كلها تحوم حول الأهداف التي أسلفت الإشارة إليها، وهي تقع في كتاب ضخم جاهز للطبع.
وأما الباحثان الآخران، فقد ألف حدهما بوحي (من عمله التدريسي أيضاً) كتباً علمية لمراحل الدراسة الثانوية، ثم انطلق على سجيته بعد ذلك فإذا هو يكتب في الأدب حيناً، فيؤلف فيه أشتاتاً من الأقاصيص، وألواناً من الدراسات. يعالج فيها جميعاً كثيراً من المشاكل الإنسانية المعقدة، والأدواء الاجتماعية المستعصية. ثم إذا هو (حيناً آخر) يكتب في الفلسفة العلمية ويحلق في أجوائها، فينتهي من ذلك بمجموعة من الكتب القيمة، كل واحد منها يتوجه في سبيل، وينتهي إلى غاية، ثم تأتلف أخيراً لتتحد في ثناياها صورة مشرقة من صور (الأدب العلمي).
وأما الثاني فقد ألف كذلك (بوحي من عمله التدريسي)، ولكنه حالف سابقيه فيما ألف، فخرج من محيط المدرسة إلى محيط الجمهور، وهو محيط أشمل وأعم. سرعان ما يثمر التعليم فيه ويؤتى أُكُله. ثم إذا هو يصنع له من العلم (الحاف المعقد) مادة هينة لينة، رقيقة الحواشي مهلهلة الأطراف، هي على حد قول الإمام الثعلبي:
(يكاد الهواء يسرقها لطفاً، والهوى يعشقها ظرفاً. .)
ويكون من هذه المادة كتاباً لطيف الحجم عظيم النفع، ما يكاد يخرج إلى (هذا الجمهور)، حتى تتخطفه الأيدي، وينتشر في كل مكان، ويقبل الناس عليه أيما إقبال.
ويلمس هذا الباحث مقدار نجاحه، فيمضي في طريقه قدماً، فإذا هو يعيد الكرة من غير ما تريث، ويفاجئ الناس بثاني كتبه، ليظفر بما يترقبه من نجاح، بعد أن مهد له السبيل إلى تلك الغاية ذلك الكتاب الذي سبقه. ووقف المؤلف بعدها يستعد لإخراج دروس جديدة،(702/21)
يلحقها بذينك، ليؤدي رسالته على الوه الذي ارتضاه.
وأما هذان الباحثان فأولهما: الأستاذ عبد الله الريحاوي، وثانيهما الأستاذ علي شعث. وسوف أحدثك عنهما مفصَّلآً.
القدس:
محمد سليم الرشداق
(أستاذ اللغة العربية وآدابها في كليتي التجارة والأمة)(702/22)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 35 -
الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى
ويفتتح الكتاب الثالث بمناجاة النور مناجاة تعد من أروع ما في القصيدة من مواضع الجمال، وقد أراد الشاعر بهذه الفاتحة أن يمهد للانتقال من الجحيم والعماء إلى الجنة وما فيها من زينة وبهجة.
ثم يتحدث الشاعر عن الله وقد استوى على العرش وعلى يمنه ابنه، وقد رأى الشيطان طائراً صوب الدنيا وقد تم خلقها قريباً، ويُرى الله ابنه هذا الشيطان في رحلته وينبئه بما سيكون من نجاحه في إضلال بني آدم وغوايتهم. ويبرئ الله عدالته وحكمته من كل مظنة أو لبس فقد خلق الله الإنسان حراً قادراً تمام القدرة على أن يقاوم مضله الموسوس له؛ ومع ذلك فأن الله يكشف عما يشاء لعباده من هدى وسعادة وذلك لأن الإنسان لم يعص كالشيطان بدافع من الشر، وإنما عصى بدافع من الغواية التي لاحقه بها الشيطان حتى أذله وأخرجه مما كان فيه.
ويرفع ابن الله شكرانه على ما أظهره عليه من نية ومشيئة في إسعاد الإنسان؛ ولكن الله يعود فيعلن أن رحمته سوف لا تنال الإنسان إلا على أساس ما ينبغي للعدالة الإلهية من كمال؛ فقد أساء الإنسان إلى جلال ربه بطموحه إلى الألوهية واقتطافه الثمرة المحرمة، ولذلك قدر عليه أن يموت ولا بد أن يدركه وذريته الموت، وما له من خلود إلا أن يوجد من هو كفء لأن يسأل عن خطيئته ويكفر عنها بما يحتمل من ألم وعقاب؛ ويتقدم ابن الله طائعاً مختاراً لكي يكون هو الفداء للإنسان، ويتقبل الأب منه هذا الذي يعرضه، ويأمر به(702/23)
فيتجسد ويتمثل بشراً سوياً ويرفعه الله مكاناً علياً؛ فهو فوق كافة الأسماء في الجنة وفي الأرض ويدعو الله الملائكة فيأمرهم أن يسجدوا له ويتعبدوا، فيفعلون طائعين ويسبحون بحمد الأب والابن وتمجديهما مرتلين نشيد الحمد جميعاً في نغمة واحدة ترددها أوتار قيثارتهم.
وفي تلك الأثناء يسقط الشيطان حتى يقترب من كوكب خارجي قصي عن هذه الكرة التي هي الدنيا، كوكب يفصل بين الأرض وبين العماء والظلمة الممتدة من الجحيم من تحته؛ وهناك يجد بعد تجواله مكاناً سوف يكون فيما بعد جنة للمغفلين ويصف الشاعر هنا من سوف يسكنون هذه الجنة فثمة من مات من الأطفال قبل تعميدهم وثمة البلهاء والبسطاء والذين ماتوا قبل أن ينزل الدين.
ويتابع الشيطان طيرانه صاعداً حتى برى على باب الجنة، وينظر الشيطان فإذا هو بالغ الروعة والبهاء والزينة، ليس كمثله بناء فيما سيخلق الإنسان في الأرض، فهو معقود من الذهب والماس ويرتفع الداخل فيه صعدا على سلم من الذهب الوهاج، وحوله أنهار من اللؤلؤ المذاب؛ ويستمر الشيطان محلقاً حتى يأتي كوكب الشمس وجد عمده حارسه أَرْيِلْ، فيتنكر ويظهر بصورة ملك من الملائكة الذين هم دون أريل في المرتبة إذ أن أريل من الملائكة المقربين، ويتوسل إلى أريل أن يدله على ذلك الإنسان الذي خلقه الله حديثاً والذي سوف يهبه دنيا جديدة واسعة يعيش فيها وينعم بها. ويقول الشيطان في ضراعة إنه ما قطع هذه الرحلة الطويلة منفرداً إلا ليطلع على بديع ما خلق الله مما سمع عنه هو ورهطه من الملائكة، وذلك لكي يزداد تمجيداً لله وتسبيحاً بحمده؛ ويستطيع الإنسان أن يخدع أريل نفسه فيشير أريل إلى مكان ما ويقول للشيطان أنظر فهذه هي الجنة حيث يقيم آدم وهذه البقعة الداكنة التي ترى هي عشه، وينطلق الشيطان بكل ما في وسعه من سرعة فما زال طائراً حتى يبلغ حيث أراه أريل.
ويبدأ الكتاب الرابع والجنة على مرأى من الشيطان، وقد أصبح على مقربة من المكان الذي يسكن فيه آدم وزوجه، والذي سوف يحاول فيه محاولته الجريئة التي عقد العزم على أن يضطلع بها وحده ضد الله وضد الإنسان؛ ولكنه قبل أن يقدم على عمله أخذت تساوره وهو على مقربة من الجنة هواجس من الشك واليأس، كما أخذت تهجس في نفسه عواطف(702/24)
الخوف والحسد والبغض؛ وبعد لأي ينطلق من عقال هذه الهواجس جميعاً ويصمم على الشر الذي جاء من أجله، ويسرع صوب الجنة حتى يبلغها.
وبعد أن يصف الشاعر وصفاً ممتعاً رائعاً وصف الجنة الخضراء ويتحدث عن أشجارها وثمارها ويبين أين تنبت شجرة الحياة وأين تنبت شجرة المعرفة، يرينا كيف يتسلل الشيطان فيدخل الجنة واثباً فوق أسوارها.
وفي الجنة يحيل الشيطان نفسه إلى ثعبان ويزحف حتى يستقر فوق شجرة الحياة وهي أعلى الأشجار، ويدور بعينه من فوق الشجرة ينظر ماذا يرى حوله. وهنا يتحدث الشاعر عما يرى الشيطان فيأتي بوصف آخر للجنة ويبلغ في ذلك من الروعة والقوة ما لا يتعلق بمثله وهم شاعر غيره.
وتقع عينا الشيطان على آدم وحواء فيرى أول ذكر وأول أنثى من البشر، ويتفكر الشيطان فيما هو بسبيله من إغواء، ويقارن بين ما هما فيه من نعيم وبين ما سوف يدفعهما إليه من شقاء؛ ويهبط من فوق الشجرة فيتشكل بأشكال ما تقع عليه عيناه من حيوانات حتى يقترب من آدم وحواء فيسترق السمع وهما يتحاوران ويتحدثان؛ ويعلم منهما أن الله نهاهما عن شجرة المعرفة، فأن أكلا منها أخرجهما ربهما من الجنة وكتب عليهما وعلى ذريتهما الموت. ويقع الشيطان هنا على بغيته فقد وجد سبيله إلى إضلالهما فما عليه إلا أن يغويهما بالثمرة المحرمة حتى يأكلا منها فإذا هما من الهالكين؛ ثم يدعهما الشيطان ريثما يعلم من أكثر مما علم بما سوف يعده لذلك من وسائل.
وفي ذلك الوقت ينزل أريل على شعاع من أشعة الشمس، فيحذر جبريل وهو حارس باب الجنة وينبئه أن روحا خبيثا صاعدا من العماء السفلي قد مر وقت الظهيرة بكوكبه متنكرا شكل ملك كريم، وأنه أتجه بعد ذلك صوب الجنة، وقد فطن إلى ذلك بعد ن تدبر في الأمر؛ ويجيبه جبريل بأنه سوف يبحث عنه فيأخذه قبل أن ينبلج الصبح.
وينزل الليل فيميل آدم وحواء إلى الراحة ويتحاوران في ذلك؛ ويأويان إلى عشهما في الجنة ويصليان لله صلاتهما؛ ويصف الشاعر هذا العش وهذه الصلاة وصفا رقيقا جميلا.
ويعس جبريل في الجنة على رأس فريق من الملائكة هم من عسسها، ويضع على عش آدم ملكين قويين غليظين مخافة أن ينالهما بالأذى ذلك الروح الخبيث أثناء نومهما؛ وينظر(702/25)
الملكان فإذا بذلك الروح يوسوس لحواء في إذنها وهي نائمة فتحلم بالذي يقول، ويأخذه الملكان فيجرانه جرا إلى جبريل، ويسأله جبريل عن فعلته، فيجيب مستكبراً مستهزئاً، ويتأهب للعنف والمقاومة، ولكنه لا يلبث أن يجد نفسه، وقد منع ذلك منعاً من السماء فيطير ويهرب من الجنة.
ويتنفس الصبح فتقص حواء على آدم ما كان في حلمها الذي شغل نفسها؛ وبهذا يفتتح الشاعر الكتاب الخامس؛ ويكره آدم هذا الحلم ويفر منه ولكنه يعمل على تهدئتها ويجتهد أن يصرف عنها ما يشغلها من وساوس.
ويقبل آدم وحواء على عملهما اليومي ويقرآن صلاتهما عند باب عشهما وينشدان نشيدهما يسبحان بحمد ربهما؛ ولكيلا يكون للإنسان على الله حجة يرسل الله روفائيل ليذكرهما بطاعته وامتثال ما نهاهما عنه، ولينذرهما أن الشيطان لهما عدو وأنه على مقربة منهما، ويبين لهما لم كان الشيطان لهما عدواً مبيناً إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه آدم من علم ينفعه.
ويهبط روفائيل فيدخل الجنة، ويصف الشاعر ظهوره في ربوعه؛ وتأخذه عينا آدم من بعد وهو جالس بباب عشه، فينهض للقائه ويسلم عليه ويدعوه إلى مقره، ويقدم له أطيب ما اختارته حواء من فاكهة الجنة؛ ويتحاور آدم وروفائيل حول الخوان؛ وينبئه روفائيل بما جاء من أجله ويحذره من الشيطان ويذكر له ما يضمره له ولزوجه من العداوة والبغضاء؛ ويقص عليه استجابة لطلبه من هو هذا العدو وكيف أصبح لهما عدواً، ولماذا ينطوي على العداوة قلبه مبتدئاً بما كان من تمرده في السماء على خالقه وما أعقب ذلك من غضب الله عليه وإلقائه إلى الجحيم.
وهنا يصف الشاعر على لسان روفائيل تلك المعركة التي أدارها الشيطان الأكبر على رأس قبيلة، والتي أجمل الشاعر الإشارة غليها في مفتتح القصيدة
ويستطرد روفائيل في أول الكتاب السادس ليتم كيف دارت المعركة فيصف كيف أرسل ميكال وجبريل ليحاربا الشيطان وهو ثائر متمرد على رأس جنده، وكيف وقف القتال في اليوم الأول عند نزول الليل، وكيف جمع الشيطان مجلساً من أعوانه الثائرين فابتكروا أسلحة أوقعت ميكال وجنده في شيء من الحيرة والاضطراب، وكيف استحر القتال فافتعل(702/26)