القوي الحر محصورا في ظلام العمي والجهل، حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصين معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع، يمثلونه على بصر الطبيعة، وينشدونه على سمع الزمن، حتى تقوى دولة الحق والجمال، فيجلسوا في الصدر ويمشوا في المقدمة).
أن الذي يقرره الأستاذ عن الصلة بين فحولة الأدب وفحولة الأمة أو الفرد صحيح؛ ولكني لا أوافقه في تشاؤمه من العصر لأنه لم يوجد فيه بعد أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. إن الأدب لم يعد اليوم في حاجة إلى أمير يرعاه أو كبير يشجعه. لقد انتهى عهد الأمراء والكبراء. والعصر عصر الشعوب والأفراد. والأمة العربية الناهضة اليوم بمجموعها عوض عن أمراء الإقطاع في عهد سيف الدولة. فللأدب العالي أن يزهو اليوم مستقلا بنفسه، وللأدباء اليوم أن يسيروا في الأرض غير معتمدين على ذراع أمير أو كبير.
وما نظرت يوما إلى الأديب في نفسي والى أي أمير أو وزير أو كبير إلا وجدتني أكبر وأشد قوة، وإلا وجدت هذا الأمير أو الوزير أو الكبير في حاجة إلى رعايتي قبل أن أكون في حاجة إلى رعايته! وهذه هي الدعوة التي يحسن أن نهتف بها للأدب والأدباء ليرتفع بعض من لا يترفع منهم، عن الزلفى للأمراء والوزراء والكبراء.
سيد قطب(678/19)
الأدب في سير أعلامه
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 18 -
حربه على القساوسة:
وأردف ملتن هذا الكتيب بكتيب ثان في يوليو سنة 1641 رد به على (أشر) أحد كبار الأساقفة، وكان كتيبه الثاني صغيرا، وقد عد رده على هذا الأسقف جرأة عظيمة ومبالغة منه في الثقة بنفسه، وذلك أن أشر كان من أوسع الأساقفة أفقا في تاريخ الكنيسة ومسائلها؛ قضى نحو ثمانية عشر عاما من عمره في هذه الدراسة حتى أصبح من أفذاذ طائفته. وقد جادله ملتن جدالا عنيفا، ولجأ إلى المنطق في مجادلته. ومن أمثلة ذلك قوله (ترجع الأسقفية إما إلى اصل إنساني أو إلى اصل الهي، فإن كانت الأولى جاز القضاء أو الإبقاء عليها حسبما توحي المصلحة، وان كانت الثانية وجب أن يقوم الدليل على ذلك من الكتاب المقدس، فانه إن لم يقم هذا الدليل فلن يكون لأي تأكيد إنساني لها أية قيمة يعول عليها)، وبعد أن يعجز ملتن خصمه بمطالبته بهذا الدليل يستعرض ما اعتمد عليه من المراجع فيسفهها ويسخر منها في لغة هي أقرب إلى السباب منها إلى النقد، ولن يخشى ملتن أن يسجل في كتيبه احتقاره لآباء الكنيسة القدامى وزرايته عليهم وعلى كل من يخالفه سواهم فيما يذهب إليه مهما يكن من خطره أو سلطانه. . .
ولم يلبث أن أعقب في السنة نفسها كتيبه الثاني بثالث، وذلك أن (هول) رد على جماعة سمكتنسي بكتيب جديد يدافع به عن كتيبه الذي سماه الإعلان المتواضع. فانبرى له ملتن وراح يسخر منه ما وسعته السخرية، وجرى في ذلك على طريقة عجيبة، فهو يورد رأيا من آراء هول ويسوقه مساق التحدي في صيغة سؤال أو اعتراض ثم يجيب عليه متهكما(678/20)
ساخرا حتى لا يتورع أن يرد على أحد الاعتراضات بضحكات يثبت صورتها هكذا. . ها! ها! ها! على نحو ما يفعل الطلاب إذ يتجادلون في أمر من الأمور.
ولم يستطع ملتن أن يملك زمام قلمه إذ كان يرد على أحد المتحمسين من الفئة التي يبغضها ويحاربها في عنف بالغ، لذلك جاء من عبارات الهجاء والفحش بما نعجب كيف يصدر مثله ممن كان له مثل ثقافته وأدبه ونفسه الشاعرة وحسه المرهف، وتلك في الحق عجيبة من عجائب عقله وخلقه. . .
وفي مستهل سنة 1642 نشر ملتن كتيبا رابعاً، وجمع في هذا الكتيب كل ما واتته به ثقافته ودراسته من المعرفة وكل ما جادت به قريحته من الآراء وساقها جميعا حربا على خصومه القساوسة، وكان في هذا الكتيب أكثر عناية بالشرح والإقناع منه بالسخرية والإقذاع، لذلك جاء خلوا من الحشو بريئا من هجر القول وان لم تكن لهجته فيه اقل حماسة منها في سالفيه، ولهذا الكتيب الرابع أهمية من ناحية أخرى، وذلك أن ملتن أبان فيه بعض آرائه في الدين والسياسة.
ففي الدين أعلن تمسكه بالبرسبيترية وأنها خير نظام لإدارة الكنيسة، فلا يصح أن يترك لهؤلاء القساوسة الإشراف على الكنيسة فيرتفع بعضهم فوق بعض درجات، ويتخذوا من مناصبهم الدينية سلاحا للعدوان والطغيان والجشع، وإنما يجب أن يكون المشرفون على إدارتها قوم يرضى عنهم الناس ويختارون بمشيئتهم ويكونون في مناصبهم سواء، وهو في ذلك إنما يشير باتباع نظام كلفن في حماسة وإخلاص.
وذكر أحد القساوسة في هذه المعركة أن آدم هو أول قس، فكان مما رد به ملتن على ذلك قوله: إنه إزاء ما يراه من شدة ولوعهم بالقديم في الدفاع عن قضيتهم يوافقهم فيما يزعمونه، بل انه يذهب في القدم إلى ابعد مما ذهبوا؛ فإذا كان آدم في البشر هو أول قس، فقد كان إبليس من قبل آدم هو في الملائكة القس الأول. ويخرج ملتن من ذلك بنتيجة وهي أن القساوسة في أصلهم ينتمون إلى الشيطان، فحسبنا من بغض هذا النظام أنه من عمل الشيطان.
ويؤمن ملتن بعقيدة الثالوث على الرغم من فكرته السامية التي تجلت في إنكاره تصوير الله وتحديده ويصلي مستعيذا بهذا الثالوث ككل من يؤمن بهذه العقيدة في أصلها.(678/21)
ويميل ملتن إلى الاعتدال والتسامح في معاملة أهل المذاهب الأخرى من غير البيوريتانز، فوجود هؤلاء المخالفين أمر طبيعي لان هؤلاء يعدون قبل الإصلاح الجديد كالآلام الشديدة التي تسبق كل وضع؛ وما من شيء يتغير من حال إلى حال في عالم المادة إلا بعراكه مع العناصر الأخرى المضادة له، وفي المصنوعات لا بد من ذهاب بعض المادة في التسوية والتهذيب، وما من تمثال من المرمر يقام أو من صرح يبنى إلا إذا أزيل كذلك شيء مما علق به.
ولا يسع ملتن إلا الموافقة على عقوبة الطرد من الكنيسة ولكن على إلا يستعمل هذا الحق إلا بمنتهى الحذر وبعد التحري الدقيق وطول الأناة والوثوق من أن المذنب يستحق تلك العقوبة.
ولا يزال ملتن في كتيبه هذا مواليا للملكية، وغاية ما يسعى إليه أن يتلخص الملك وأن تتخلص انجلترة من طغيان القساوسة. وفي رأيه أن القساوسة هم الذين يوحون إلى الملك الطغيان والاستبداد، لأنهم بتعصبهم وحرصهم على مناصبهم ومغانمهم يكرهون كل رأي حر، ومتى لمحوا رأيا حرا رأوا فيه نذر الفتنة وخوفوا الناس من عواقبه وأشفقوا على النظام والهدوء من الفوضى المزعومة، هذا إلى دسائسهم وسوء مكرهم وافترائهم الكذب على من يخشونه من الناس؛ وانه ليرى فيهم بذلك وبغيره أصلح أداة للطغيان. ولقد اعتادت الكنيسة أن تتخذ من الكتاب المقدس سلاحا تشهره في وجه الحرية، ووسيلة إلى الجشع الذي لا يشبع والطموح الذي لا يقف عند حد.
وجاء في كتيبه هذا فيما جاء من آرائه طعن شديد على الجامعات؛ فما إن يزال ملتن حانقا على الجامعة وأسلوب التعليم بها بعد أن تركها بعشر سنوات، وجاء رأيه عن الجامعات عرضا فهو يعجب كيف أن أناسا علم من أمرهم أنهم أهل ثقافة وعلم يدافعون عن الكنيسة بكتاباتهم؛ ويرد ذلك إلى أنهم اكتسبوا ما يسمونه علما في الجامعات، فقد قصدوا إليها يبتغون المعرفة الصحيحة، ولكنهم لم يجدوا هناك إلا ألوانا من السفسطة وضروبا من تعاليم القساوسة سدت بها حلوقهم فعاقت دخول الفلسفة الصحيحة، كما حنق أصواتهم إلى الأبد ما امتلأت به حناجرهم من لغو ميتافيزيقي. . .
وفي سنة 1642 نشر القس هول وابنه كتيبا عنيف اللهجة قاسي العبارات وجها فيه إلى(678/22)
ملتن مطاعن شديدة تناولت فيما تناولت شخصه ومسلكه إبان طلبه العلم بالجامعة، وكأنما أراد أن يحارباه بسلاح من أسلحته لكي يذيقاه مرارة المطاعن الشخصية. والحق أنهما أوجعاه وملأ قلبه بكتيبهما هذا غيظا شديدا وحنقا ولا سيما أنهما افتريا عليه ما ليس من خلقه ونسبا إليه ما هو نقيض ما عرف عنه من استقامة وطهر وعفة حرص عليها أشد الحرص سرا وعلانية حتى باتت من أبرز صفاته وأخصها. . .
اتهمه هول وابنه أنه لسوء مسلكه في الجامعة قد لفظته كما تلفظ الحلوق القيء، فذهب إلى منعزل على مقربة من لندن حيث كان يقضي نهاره في الفسوق والفجور وليله في أماكن ومواخير الفساد، وحيث راح يغازل أرملة غنية بغية الزواج بها.
ورد ملتن بكتيب كان خامس هاتيك الكتيبات فذكر أنه ما كان ليعبأ بما يقولان لولا أنه لصلته بجماعة سمكتمنسي ولإخلاصه لواجبه في القضية التي هو بصددها يحرص على أن يطهر اسمه مما حاولا أن يلصقاه به، ومهد بهذا الحديث طويل عن نفسه يعد تاريخا لحياته حتى ذلك الوقت. . .
نفى عن نفسه أن الجامعة لفظته، فها هو ذا يجمل شهادة من أكبر شهاداتها، ولقد كان هناك كما يعرف أهلها جميعا موضع التوقير والمحبة، وكان يقضي أصباحه في قراءة أعظم المؤلفين وفي تقوية بدنه بالرياضة، أما أمساؤه فلم يعرف فيها فجورا ولا لهوا اللهم إلا ما كان يشاهده من تمثيل مسرحيات الكلية في كمبردج إن كان يعد هذا من الفجور.
ويشير ملتن إلى عزلته بعد أن ترك الكلية والى دراساته التي أخذ نفسه بها في غير رفق، هنالك حيث قرأ فيمن قرأ أفلاطون ونده زينوفون قراءة درس وتمحيص و (حيث أعني إذا تكلمت عما علمته من الحكمة والحب الجانب الحق منهما، ذلك الجانب الذي ليس غير الفضيلة كأسه الساحرة التي يطاف بها على من يستحقونها فحسب. أما الذين لا يستحقونها فتطوف عليهم شيطانه نزلت باسم الحب وأهانته بكأس مزاجها شراب مسكر ثقيل؛ وتعلمت كيف تبدأ في النفس وكيف تنتهي فيها أولى غايات الحب وأهمها فتلد توأميها السعيدين: العلم والفضيلة.
ويعد ملتن قارئيه أنه سوف يتكلم عن الحب الصحيح أكثر مما تكلم وذلك (في وقت هادئ لا شتائم فيه، لا في هذه الجلبة القاتمة إذ ينبح الخصوم بالباب كما يتعلمون).(678/23)
ويعود إلى حيث العفة فيقول: (أن من يحب إلا يغلق دونه الأمل في أن يكتب ما يعظم وقعه في النفس فعليه أن يكون هو نفسه قصيدة صحيحة، أعنى مزيجا من أجمل الأشياء وأشرفها بهذه الفكرة يصحبها جمال في طبيعتي وكبرياء شريفة في نفسي ونظرة منى سامية إلى ذاتي سواء فيما سلف من حياتي وفيما استقبل منها؛ بهذا كله لا أزال أعلو على ذلك التدهور العقلي الذي لا بد أن ينحط إلى اسفل منه من تقر نفسه الفسوق والفحشاء).
ويقول إنه قد تعلم كمسيحي أن فقدان العفة في الرجل وهو أكمل الزوجين جنسا وهو صورة الله ومجده، أكثر عيبا منه في المرأة التي هي مجد الرجل فحسب؛ وأن في الجنة ألحانا قدسية لن يفهمها إلا من لم يدنس بالنساء بدنه. وتطرق من هذا إلى قوله انه ككل عاقل يفضل أن يتزوج بعذراء فقيرة على أن يتزوج بأرملة غنية.
وينتقل ملتن بعد الدفاع إلى الهجوم، فيعود إلى التنديد بالأساقفة وجمود عواطفهم وتعصبهم وجهلهم وحماقاتهم على نحو لا يسهل معه أن نقول أيهما كان أقذع لفظا وأفحش هجوا: ملتن أم خصمه هول.
بهذا الكتيب الخامس تنتهي الحرب بين ملتن والقساوسة، وهي جانب من جوانب دفاعه عن الحرية، وهو هنا إنما يدافع عنها أمام التعصب الفكري الذي هو من أشد أعدائها خطرا عليها.
ولا بد من نظرة إجمالية في هذه الكتيبات الخمسة بعد أن بينا موضوع كل كتيب منها والدافع الذي حمل ملتن على كتابته.
يخطئ من ينظر إلى هذه الكتيبات على أنها عمل أدبي، فما كانت في الواقع إلا حربا قوامها الحماسة والعنف، لا يعني صاحبها إلا أن يصيب فيصمى فيهزم، وشتان بين هذا وبين العمل الأدبي الذي يقيمه صاحبه على أساس من الفن وتكون قوامه فكرة إيجابية فيبنى كما يهدم ويتبين ما يأخذ مما يدع، ويتفنن في إبداع الصورة وفي اختيار اللفظ وإحكام النسج لكي يجمع بين وضوح الفكرة وجمال الأداء.
لهذا كان يجمع ملتن في كتيباته هذه بين السمو والإسفاف والبلاغة والركاكة والجودة والغثاثة، والحجة الناصعة والشتائم المقذعة، والفسلفة الرصينة والتفاهة المشينة، والغرض النبيل والطعن الشخصي الوبيل، لا يعنيه إلا أن يؤلم ويوجع ويشفى سخيمة صدره، وأن(678/24)
يكون من وراء كتيباته أثر عميق في أهان الناس ونفوسهم وضجيج شديد يتجاوب العصر صداه. ولقد نجح فيما أراد نجاحا كبيرا فهز نفوس قومه هزا قويا وزلزل القساوسة زلزالا شديدا.
وكان الأسلوب ملتن في الجملة أسلوب الشاعر العظيم إذا كتب على غير أصالة منه في النثر، لذلك كان يأتي بكثير من الصور والآيلة الشعرية في مجازاته وتشبيهاته واستعاراته ويستغرق في المحسنات اللفظية ما وسعه الاستغراق، كما كان يعمد إلى الميثولوجيا أحيانا فيخيل إليك من بعض فقراته أنك تلقاء شعر لا ينقصه إلا الوزن والقافية، على أنك تقع بين الفينة والفينة على صفحات له يشرف بها على الغاية من بلاغة العبارة وإشراق اللفظ ومتانة السياق وبراعة الاتزان بين الجمل والاتساق.
أما آراؤه التي أوردها فيها وإن لم يقصد إلى ذلك فترينا أنه كان حتى ذلك الوقت مؤمنا بعقيدة الثالوث في أصالتها وإن كان برسبتيريا من حيث دارة الكنيسة، بيوريتانياً من حيث المذهب مع شيء غير قليل من الاعتدال، ملكيا من حيث السياسة، كما ترينا أن أقوى عواطفه يومئذ كانت عاطفة الدفاع عن الحرية وشدة محبته إياها. . .
على أن حبه الشديد للحرية سينتهي به فيما سنرى من تطور فكره إلى انطلاقه من تلك الآراء جميعا، فينفر من عقيدة الثالوث ومن مثيلاتها من العقائد لأنها تستند إلى العقل ولا تتفق مع ما يحب من حرية الفكر، وينفر من البرسبتيرية لأنها نظام جامد لا تسلم له أن يعيش ويفكر كما يرى، وينفر من الملكية لأنها سوف تقيم الدليل في السنوات المقبلة على تمسكها بالاستبداد وكراهتها روح الحرية.
ولقد كانت هذه الكتيبات آخر ما كتب وقلبه عامر بالأمن ونفسه متطلعة إلى النصر، فلسوف تنهار الآمال واحدا بعد واحد، فيتزوج بعذراء فيجد الصدمة الأولى لآرائه وكبريائه في هذا الزواج ويكون من أشد ما يعكر عليه مستقبل حياته؛ وتظهر له البرسبتيرية وليست أقل تعصبا وحماقة من الأسقفية؛ ويلتفت باحثا عن الحرية فلا تنزل من السماء كما أمل واستبشر لتجعل من انجلترة مدينة الله على الارض، ويقلب الشاعر كفيه في حسرة ويبتئس قلبه الكبير وتنكدر روحه العظيمة فيفقد الثقة في الأرض ومن عليها ويتجه ببصره صوب السماء، ويلتمس في التغني بألحان فردوسه العزاء.(678/25)
(يتبع)
الخفيف(678/26)
الشاعران المتشابهان
الشابي (التونسي) والتجاني (السوداني)
للأستاذ أبي القاسم محمد بدوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تصوير الأحداث الوطنية:
الشاعران اشتركا في البواعث التي تستفز الإنسان إلى المنطق بشعر متفق في المعنى والغرض لما بينهما من التشابه في كثير من نواحي الحياة كما قدمنا، فكلاهما عاش حياة مليئة بالأهوال، زاخرة بالكفاح والنضال. وبرم كل منهما بما يجرى بين أهله وقومه، مستهجنا حياة شعب يعاني متاعب الاستعباد وآلام الاستبداد. ولقد بذل كل منهما جهده في تصوير أحوال شعبهما حفزا للشعور، واستفزازا للنفوس المكلومة لتصحو من غفوتها، وتهب من رقدتها، وتنهض وتركض حتى تلحق بركب الأمم المسرع العجلان الذي لا يعين العاجز ولا ينتظر المتخلف الكسلان، إنهما أجادا وأفادا، كأحسن ما يطلب ذلك من شاعرين عظيمين أديا رسالتيهما في البلاغ والبيان أداء كاملا واضحا في مبناه، قويا في معناه، مؤثرا بألفاظه وموسيقاه، قال الشابي مخاطبا شعبه.
ليت لي قوة العواطف يا شعبي فألقى إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن أنت حي يقضي بالحياة برمس
أنت روح غبية تكره النور وتقضي الدهور في ليل حدس
أنت لا تدرك الحقائق إن طافت حواليك دون حس وحس
إلى أن قال:
في صباح الحياة ضمخت أكوا ... بي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرقت ... رحيقي ودست يا شعب كأسي
فتألمت ثم أسكت آلا ... مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي ... باقة لم يمسها أي إنس
ثم قدمتها إليك فمزقت ... ورودي ودستها أي دوس(678/27)
ثم ألبستني من الحزن ثوبا ... وبشوك الصخور توجت رأسي
ثم قال لما يئس من الإصلاح وبرم بالحياة وحينما ذهبت صحته أدراج الرياح ولم يسمع قومه الأنين والنواح:
هأنا ذاهب إلى الغاب يا شع ... بي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
هأنا ذاهب إلى الغاب علي ... في صميم الغابات أدفن نفسي
ثم أنساك ما استطعت فما أن ... ت بأهل لخمرتي ولكأسي
ولكن هيهات أن ينساه وهو قد ترعرع فوق أرضه ونشأ تحت سماه. إنه يحثه للنهوض ويدفعه للعمل السريع بعد سكب روح الأمل البديع فيه، وذلك يتضح في خطابه الطير الذي يدري معنى الحياة، ويعرف أن طيب عيشها لا يتاح لمن سلبت حريته، ومات حسه وبلد شعوره، وانطفأت جذوة آماله، وغاض معين أحلامه.
سوف أتلو على الطيور أناش ... يدي وأفضى لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري ... أن مجد النفوس يقظة حس
ويتبين لك عند إنعام النظر أنه لم ييأس من الإصلاح بل كان يستعبد زمنه، لأن شعبه لم يبلغ سن النضج ولم يقف على سوقه ينافح ويكافح ليرد حريته المسلوبة فيحظى بكمال استغلاله، ويرغم غيره من الأمم على احترامه وإجلاله، وفي القول التالي يؤنب بني قومه لما استخفوا بقوله، وأشاحوا معرضين عن سماع صوته.
أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل ينسى
أنت في الكون قوة لم تسلبها ... فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها ... ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلى ... في حساسيتي ورقة نفسي
هكذا قال شاعر ناول الشع ... ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا ... واستخفوا به وقالوا بيأس
(قد أضاع الحياة في ملعب الجن ... فيا بؤسه أصيب بمس)
(طالما حدث الشياطين في الوا ... دي وغنى مع الرياح بجرس)
ويشبه التجاني الشابي في رقة الإحساس ودقة المشاعر. فهو نفس مرهفة مضطرمة، وقلب(678/28)
خفاق بلواعج الحب لوطنه، والإخلاص لقومه، يثور لأحزانه ويتألم لآلامه وأشجانه. وقلب التجاني هو قلب الشاعر الصادق الذي يعد بمثابة أداة تصوير واعية تلتقط ما يتساقط عليها من ألوان الحوادث ومشاكل الوجود، ومسرات الحياة وحسراتها. عبرت نفس التجاني الثائرة عما يجيش في قرارتها بهذه الأبيات الشاكية الصارخة في قصيدة مطلعها (ثورة) فقال:
من لهذا الأنام يحميه عني ... قلمي صارمي وطرسي مجني
هو فني إذا اكتهلت وما زا ... ل على ريق الحداثة فني
نهلت من دمى الحوادث واستر ... وى يراعى مما يدفع دني
إلى أن يقول: -
وطني في الصبا الدمى والتماثي ... ل ونفسي ومن أحب وخدني
هذه يا أبي تصاوير ما تب ... رح دنياي أو تزايل كوني
يصنع الغاب مزهري، ويشيد الر ... مل عرشي، ويبعث اللهو أمني
تلك عرسي وإنها صنع نفسي ... بيدي صغتها وذيالك أبني
هي دنيا الصبيّ لا جنة الشي ... خ تفيض النعيم من كل لون
ثم يخاطب وطنه فيقول: -
قف بنا نملأ البلاد حماسا ... ونقوض من ركنها المرجحن
هي للنازحين مورد جود ... وهي للآهلين مبعث ضن
يستدر الأجانب الخير منها ... والثراء العريض في غير من
أبطرتهم بلادنا فتعالى ... ابن أثينا (واستكبر) الأرمني
ثم يختمها بهذا البيت الرائع الذي يدل على صدق الوطنية وقوة الشعور بكرامة القومية.
يا بلادي أخلصتك الخير واستص ... فيت ودي إليك من كل مين
ماذا ترى في هذا الشعر الرصين والنفثة القوية المنبعثة من فؤاد مجروح وصدر معذب بالحرقة والأنين؟ يتألم ويرسل صوته داويا كالريح، مجلجلا كالرعد، نافذا كالسهم في قلوب المواطنين ونفوس الشباب العاملين.
صور الحب والجمال:(678/29)
ليس في الوجود إنسان دقيق مرهف الإحساس لا يخفق قلبه للحب العذري الطاهر، ولا يفتتن بمنظر الجمال الساحر الجذاب، ويعلق بالحسن في جميع مظاهره المادية المعنوية.
وما دامت النفس البشرية تشعر بهذه العاطفة الجامحة فأنها تجد في الشعر خير معبر ناطق لما يلابسها من متباين الحس ومختلف الشعور؛ وأصدق محدث ينطق بما توحي به بيئة كل شاعر ومحيطه الذي نشأ فيه، وبما يؤثر عليه في حياته من متنوع الحوادث ومتعدد الخطوب.
لقد خفق قلب الشابي بالحب حينما خاطب محبوبه بهذه الأبيات في قصيدة عنوانها (أيتها الحالمة بين العواطف).
أنت كالزهرة الجميلة في الغا ... ب ولكن ما بين شوك ودود
فافهمي الناس إنما الناس خلق ... مفسد في الوجود غير رشيد
والسعيد السعيد من عاش كاللي ... ل غريباً في أهل هذا الوجود
ودعيهم يحيون في ظلمة الاث ... م وعيشي في طهرك المحمود
كالملاك البرئ، كالوردة البي ... ضاء، كالموج في الخضم البعيد
كأغاني الطيور، كالشفق السا ... حر، كالكوكب البعيد السعيد
أودع الشابي في الأبيات المتقدمة فنه وروحه وفكره. فهو حسن في الصياغة والتخييل، وبارع في التشبيه والتمثيل، ومن أكثر الشعراء وقوعاً على المعنى الطريف والفكرة العميقة.
فهل لنظيره التجاني شعر يشبهه في روعة المعنى ودقة المبنى. إن التجاني وايم الحق وحيد عصره ونسيج دهره في الإبداع في شعر الحب والجمال. واليك قصيدة تمثل أصدق تمثيل فنه الرائع، وفكره البارع، وخياله العميق، وتعبيره الدقيق. اسمعه يقول: وهو المحب الواله المفتون:
جمال وقلوب
وعبدناك يا جمال وصغنا ... لك أنفاسنا هياماً وحبا
ووهبنا لك الحياة وفجر ... نا ينابيعها لعينيك قربى(678/30)
وسمونا بكل ما فيك من ضع ... ف جميل حتى استفاض وأربى
وحبوناك ما يزيدك يا لف ... ظ وضوحاً، وأنت تفتأ صعبا
إلى أن قال:
من ترى وزع المفاتن يا حس ... ن ' ومن ذا أوحى لنا أن نحبا
من ترى علم القلوب هوى الحس ... ن وقال اعبدي من السحر ربا
من ترى الهم الجمال وقد أعط ... اه من جبرة الحوادث عضبا
أن يبث الهوى مفاتن في جف ... ن بليغ وأن يجود ويأبى
من ترى وثق العرى بين مسحو ... رين اسماهما جمالا وقلبا
إنه صانع القلوب التي تن ... صب في قالب المحاسن صبا
تصوير الحالات النفسية:
إذا عرفنا أن في مكنة الشاعر العبقري أن ينطق الشخوص عن نفثات صدورهم، وسيحات قلوبهم، وحسرات نفوسهم في تعبير قوى ونغم سحري، ومعنى علوي، ينتقل به التأثير إلى نفوس السامعين فتتحرك عواطف القارئين بوحي الصورة المحسة في الوصف الشعري، فإن في استطاعته من غير ما مشقة أو نصب أن يصور خلجات نفسه، ونبضات قلبه، وإحساس روحه، صوراً شعرية، هي فيض العاطفة المنفعلة، ووحي الوجدان الصادق الذي عرف حقائق الوجود في نفسه معرفة الواقع الملموس، لا المتخيل المحسوس.
للشابي قصائد كثيرة يصور فيها مطالب حسه، وشجون نفسه، تصويرا عذباً صادقاً تحس فيه حرارة الأيمان، وصدق العواطف الباكية الناحبة. قال أبياتا في قصيدته (في ظل وادي الموت):
نحن نمشي وحولنا هاتة الأك ... وان تمشي؛ لكن لأية غاية؟
نحن نشدو مع العصافير للشم ... س، وهذا الربيع ينفخ نايه
نحن نتلو آية الكون للمو ... ت، ولكن ماذا ختام الرواية؟
إلى أن قال:
قد رتعنا مع الحياة طويلا ... وشدونا مع الشباب سنينا
وعدونا مع الليالي حفاة ... في شعاب الزمان حتى وعينا(678/31)
وأكلنا التراب حتى مللنا ... وشربنا الدموع حتى روينا
وفي قصيدة أخرى عنوانها (الأبد الصغير) يقول:
يا قلب إنك كون مدهش عجب ... إن تسأل الناس عن آفاته وجموا
كأنك الأبد المجهول قد عجزت ... عنك النهى واكفهرت حولك الظلم
يا قلب كم من مسرات وأخيلة ... ولذة يتحامى ظلها الألم
غنت بفجرك صوتاً حالماً مرحاً ... نشوان ثم توارت وانقضى النغم
ثم يعدد ما انتابه من آلام وأحزان عقبت ما كان فيه من مسرات ولذائذ فيقول:
كم قد رأى ليلك الأشباح هائمة ... مذعورة تتهاوى حولها الرجم
ورفرف الألم الدامي بأجنحة ... من اللهيب وأنّ الحزن والندم
تمضي الحياة بماضيها وحاضرها ... وتذهب الشمس والشطآن والقسم
وأنت أنت الخضم الرحب لا فرح ... يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم
ثم يصور أحلامه التي نسجها فتلاشت، وأكاليل فخاره وزينته التي أفنتها العواصف، وأمانيه النضرة بمباهج الفردوس ومتع الجنان، حيث اختفت وزالت. كل ذلك يعطيك فكرة عن نفسه التي برمت بالحياة ما فيها من نعيم أو جحيم، لأنها تستقر بعد الحياة الفانية في دنيا الخلود شابة نضرة مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم. كأنها لم تعرف السار البهيج والقاتم الحزين من صور الحدثان وظروف الزمان. إنه يقول هذا المعنى في هاته الأبيات:
يا قلب كم ذا تمليت الحياة وكم ... راقصتها فرحا ما مسك السأم
وكم توشحت من ليل ومن شفق ... ومن صباح توشى ذيله السدم
وكم نسجت من الأحلام أردية ... قد مزقتها الليالي وهي تبتسم
وكم ضفرت أكاليلا موردة ... طارت بها زعزع تدوي وتحتدم
وكم رسمت رسوما لا تشابهها ... هذى العوالم والأحلام والنظم
كأنها ظلل الفردوس حافلة ... بالحور ثم تلاشت واختفى الحلم
تبلو الحياة فتبليها وتخلعها ... وتستجد حياة ما لها قدم
وأنت أنت شباب خالد نضر ... مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم
إن التجاني لا يقل عن الشابي مقدرة في صوغ الانفعالات الوجدانية والحالات النفسية في(678/32)
صورة تخيل لقارئها أنه يناجي نفسه ويحاور ضميره، لا أنه يقرا قطعة ممتازة لشاعر ممتاز.
نقدم لك منها هذه القصيدة العصماء في روحها ومعناها، وفيما تحمل من أسى وشجى ومن دموع وآلام. هي قطعة تفجرت من نفس ممزقة ونفثة من صدر مصدور عانى تنكر الصديق، وجفاء الناس، وقسوة المرض، وتكالب المصاعب والمصائب. يقول هذا الشاعر وهو على فراش الموت مخاطبا صديقه (أنيس):
أرأيت الصديق يأكله الدا ... ء ويشوي عظامه المخراق
ماردُ هذه السقام ولكن ... صبره الجم للضنى دفاق
جف من عدوه الندى فتعرى ... وتنفت من حوله الأوراق
وذوى قلبه النضير وقد كا ... ن له في زمانه تخفاق
وأنا اليوم لا حراك كأن قد شد ... في مكمن القوى أوثاق
بت أستنشق الهواء اقتسارا ... نفس ضيق وصدر نطاق
وحنايا معروفة وعيون ... عائرات ورجفة ومحاق
لي رجاء في رحمة الله لما ... وسعت في الحياة ما لا يطاق
أبو القاسم محمد بدري
مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)(678/33)
ظرف الفقهاء
(مهداة إلى الأستاذ على الطنطاوي)
للأستاذ علي العماري
تحدث الأستاذ على الطنطاوي في مقالين سابقين نشرهما في مجلة الرسالة عن غزل الفقهاء، وقد أوحى بهما إليه جدل كان بينه وبين أحد المتزمتين الذي ينكرون على العالم أن يطرب ويهتز، ويرون أن من واجب العالم أن يترفع عن الشعر وعبثه. وقد أفاض الأستاذ الطنطاوي - كعادته - فذكر كثيرا من شعر الفقهاء في الغزل، ونشر صحائف طيبة من حيوات هؤلاء العلماء الفضلاء.
وقد رأيت أن لهؤلاء ناحية جديرة بأن يتأملها مثل هذا الرجل الذي يحرم طيبات الفكر على العلماء!
تلك هي ناحية (الظرف). فقد كان كثير من الفقهاء على جلالة أقدارهم، وسمو منازلهم، يهتزون للشعر، وتأخذهم الأريحية عند سماعه؛ وربما صدرت عنهم أشعار فكهة رائعة.
ولعل خير ما نهديه لمثل هذا الرجل هذه القصة:
كان القاسم بن سلام رحمه الله غمام أهل عصره في كل فن من العلم، وكانوا يعدونه أعلم من ابن حنبل والشافعي مع دين وورع، وقد جاءه رجل فسأله عن الرباب فقال هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
فقال الرجل لم أرد هذا فقال: الرباب اسم امرأة وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال لم أرد هذا أيضا، فقال لعلك أردت قول الشاعر:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
فقال هذا أردت. قال له القاسم من أين أنت؟ قال من البصرة قال كم أعطيت للملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل له: لم تحمل شيئا فعلام تأخذ الأجرة؟!(678/34)
فهذا كلام له وزنه في تقدير الرجال؛ وهو جدير بأن نوجهه إلى كل رجل ينكر قيمة الشعر، وينتقص محاسنه.
وإن المتصفح لتراجم العلماء ليرى فيها نفحات أدبية، ولطائف شعرية، تروع وتعجب، ولا يمكن لمثلى في هذا المقام أن يستقصى، وإنما هي نماذج أنشرها وفيها غناء.
كان أبو حازم الأعرج من فضلاء التابعين، وله في الزهد والورع أخبار وأحاديث، وقد خرج يوما يرمي الجمار فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يفي كتابه العزيز (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فقالت: إني من اللائى قيل فيهن:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها ... وألقت على المتنين برداً مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال أبو حازم لصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها الله بالنار. فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم!! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اغربي عليك لعنة الله.
وهكذا تأخذ الأريحية هذا العابد المتزهد فيكون مثلا في رقة العاطفة وتقدير الجمال، فهو لم ينسك نسكا أعجميا، ولا جفا طبعه وغلظ حسه فيغمض عينيه ويسد أذنيه دون هذه البدائع.
وربما بلغ الشعر ببعض الفقهاء إلى أكثر مما نتخيله، ولكنها سجاحة النفس، وقوة تأثير الشعر فيها، قال أصحاب القاضي محمد بن عيسى الأندلسي: ركبنا لبعض الأمر في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف، فخانته رجلاه واستند إلى الحائط وأطرق. فلما قرب القاضي منه رفع رأسه وانشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم فضله ... فأضحى به في العالمين فريدا
قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا
فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ... تروح بها في العالمين فريدا(678/35)
وإن أنت تختار الحديد فأن لي ... لسانا على مر الزمان جديدا
فلما سمع القاضي شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه.
وقد ذكر صاحب نفح الطيب طرفة أخرى لهذا القاضي الذي عم فضله قال: خرج القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل يقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاما وغنت له جارية
طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسميك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح
فكتبها القاضي طربا على ظهر يده. قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد حدث الأصمعي قال أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:
يا أيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يغدو على الخبز من خابز ... لا يقبل الرهن ولا ينسى
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه البيات، فقلت أصلحك الله هذا لا يشبه مثلك وإنما يروى مثل هذا الأحداث قال: اكتبها فالأشراف تعجبهم الملح.
على أن أجمل في هذا الباب هذه القصيدة الفكهة الرائعة التي نظمها قاضي الجماعة بغرناطة، وكان على جانب عظيم من الفقه والدين، وقد صرفها في أغراض كثيرة من الدعابة والظرف فجاءت تحفة رائعة زاد في روعتها وزنها وقافيتها، ذكرها المقري فقال: ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبى عبد الله بن الأزرق وأثبتها كاملة في كتابه النفح وهي ستة وتسعون بيتا ابتدأها القاضي فقال:
عِمْ باتصال الزمن ... ولا تبال بمَن
ثم شبب فيها فأحسن إلى أن قال:
لا أم لي لا أم لي ... إن لم أبرد شجني(678/36)
وأخلعنّ في المج ... ون والتصابي رسني
وأخذ ينصح صاحبه باتباع نهجه، والسير على سنته، وإلا فهو أحمق مائق.
وإن تسفه نظري ... ومذهبي وديدني
فالصفع تستوجبه ... نعم ونتف الذَقن
وجرى ملء عنانه يمزح ويمجن حتى التفت إلى الماضي فبكى عليه وتحسر على أيامه ولياليه.
أفدى صديقا كان لي ... بنفسه يسعدني
فتارة أنصحه ... وتارة ينصحني
وتارة ألعنه ... وتارة يلعنني
وربما أصفعه ... وربما يصفعني
دهر تولى وانقضى ... عني كطيف الوسن
يا ليت هذا كله ... فيما مضى لم يكن
وقد يجد ويقوى ويأتي بالمعنى الفحل، واللفظ المتين.
كأنني ولست أد ... ري الآن ما كأنني
والله ما التشبيه عن ... د شاعر بهين
ثم أخذ في تعداد الأطعمة التي يتشهاها بشعر سافر لا مواربة فيه ولا التواء.
هل للثريد عودة ... إلي قد شوقني
تغوص فيه أنملي ... غوص الأكول المحسن
وبعد أن أفاض في هذا إفاضة مليحة أخذ يخاطب صاحبه:
إيه خليلي هذه ... مطاعم لكنني
أعجب من ريقك إذ ... يسيل فوق الذقن
هل نلت منها شبعا ... فذكرها أشبعني
وإن تكن جوعان يا ... صاح فكل بالإذن
فليس عند شاعر ... غير كلام الألسن
يصور الأشياء وهي ... أبداً لم تكن(678/37)
فقوله يربك ما ... ليس يرى بالممكن
وأظن أننا بعد هذه النماذج في حل بأن نسوق إلى هؤلاء الذين يحرمون علينا طيبات القرائح، وثمرات الأدب، هذا الذي روى عن شيخ من شيوخ قريش وسادتها، فقد سئل أبو السائب المخزمي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
علي العماري
المدرس بالأزهر(678/38)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
769 - يا رب. . .!
نظر ابن السبابة إلى مبارك التركي على دابة فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب، هذا حمار، وله ذابة، وأنا إنسان، وليس لي حمار.
770 - لما رضينا ولغضبنا
في الأغاني: أنشد المهدي قول المؤمل:
قتلت شاعر هذا الحي من مضر ... والله يعلم ما ترضى بذا مضر
فضحك وقال: لو علمنا أنها فعلت لما رضينا ولغضبنا وأنكرنا.
771 - وفي جهنم ماء
قال محمد بن مسروق البغدادي: خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغنى بهذا البيت:
بطور سيناء كرْم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فسمعت قائلا يقول:
وفي جهنم ماء ما تجرعه ... خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم والعبادة.
772 - وإن تركته أخذ في الترهات
ذكر أعرابي رجلا بسوء الأدب فقال: إن حدثته سبقك إلى ذلك الحديث، وإن تركته أخذ في الترهات.
773 - قد صحح مذهبكم
قال محمد بن هلال الصابي: خرج قوم من الديلم إلى اقطاعهم فظفروا باللص المعروف بالعراقي فحملوه إلى الوزير المهلبي فتقدم بإحضار أحمد بن محمد القزويني الكاتب وكان ينظر في شرطة بغداد فقال له المهلبي: هذا اللص العيار العراقي الذي عجزتم عن أخذه(678/39)
فخذه واكتب خطك بتسلمه.
فقال السمع والطاعة إلى ما يأمر به الوزير، ولكنك تقول ثلاثة وهذا واحد فكيف أكتب خطى بتسلم ثلاثة.
فقال: يا هذا. هذا العدد صفة لهذا الواحد، فكتب يقول: أحمد بن محمد القزويني الكاتب: تسلمت من حضرة الوزير، اللص العيار العراقي ثلاثة وهم واحد رجل، وكتب بخطه في التاريخ. فضحك الوزير وقال لنصراني هناك: قد صحح القزويني مذهبكم في تسلم هذا اللص.
774 - أسأل الله أن يديم لنا بقاء ك
روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار:
أمر عبد الله بن الزبير لأبي الجهم العدوى بألف درهم فدعا له وشكر فقال: بلغني أن معاوية أمر لك بمائة ألف درهم فسخطتها وقد شكرتني.
فقال أبو الجهم: بأبي أنت! اسأل الله أن يديم لنا بقاءك فأني أخاف عن فقدناك أن يمسخ الناس قردة وخنازير، كان ذلك من معاوية قليلا وهذا منك كثير، فأطرق عبد الله ولم ينطق.
775 - طلبناه في النهار فما وجدناه
دخل اللصوص على أبي بكر الدبابي يطلبون شيئا فرآهم يدورون في البيت.
فقال: يا فتيان. هذا الذي تطلبونه في الليل قد طلبناه في النهار فما وجدناه.
776 - قد سحرتني
الخصائص لابن جني: الأخبار في التلطيف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من يؤتى عليها، إلا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة.
فقال المسئول: إن علي يمينا إلا أفعل هذا.
فقال له السائل: إن كنت (أيدك الله) لم تحلف يمينا قط على أمر فرأيت غيره خيرا منه فكفرت عنها له وأمضيته، فما أحب أن أحنثك، وأن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك.(678/40)
فقال له: قد سحرتني. وقضى حاجته.
777 - جيش بأبي
ضرب الحجاج البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان فكانت المرأة تجئ إلى ابنها وقد جرد فتضمنه إليها وتقول: (بأبي) جزعا عليه، فسمى ذلك الجيش (جيش بأبي) وأحضر ابن عبدل فجرد أعرج فأعفى فقال في ذلك:
لعمري لقد جردتني فوجدتني ... كثير العيوب سيئ المتجرد
فأعفيتني لما رأيت زمانتي ... ووفقت مني للقضاء المسدد
778 - لما التقينا مات الكلام
أبو محجن حبيب بن عمرو الثقفي:
لما رأينا خيلا محجلة ... وقوم بغى في جحفل لجب
طرنا إليهم بكل سلهبة ... وكل صافي الأديم كالذهب
وكل عضب، في متنه أثر ... ومشرفي كالملح ذي شطب
لما التقينا مات الكلام ودار ... الموت دور الرحى على القطب
إن حملوا لم نرم مواضعنا ... وإن حملنا جثوا على الركب
779 - فأين الحس
قال دهمان الغلال: مررت ببشار يوما وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق، وبيده مخصرة يلعب بها، وقدامه طبق فيه تفاح وأترج. فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه، فجئت قليلاً قليلاً وهو كاف حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب فضرب به يدي ضربة كاد يكسرها.
فقلت: قطع الله يدك أنت الآن أعمى؟
فقال: يا أحمق، فأين الحس؟
780 - فهم لذلك مستأهلون
محاضرات الراغب:
قال ابن سيرين: مكتوب في كتاب سوء الأدب: إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما يأكلون،(678/41)
وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون، فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون.
781 - ما بقي معه شيء
الفهرست لابن النديم: سعيد بن حميد كاتب شاعر، مترسل عذب الألفاظ مقدم في صناعته، جيد التناول للسرقة، كثير الإغارة. قال أحمد بن أبي طاهر: لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك ما بقى له شيء.
الجرجاني:
لو نقضت أشعاره نفضة ... لانتشرت تطلب أصحابها
782 - أنت أسد فاطلب لنفسك لبوة
قال الفضل بن محمد الضبي: حدثنا بعض أصحابنا أن جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ذات ظرف وجمال مرت برجل من بني سعد - وكان شجاعا فارسا - فلما رآها قال: طوبى لمن كان له امرأة مثلك، ثم انه أتبعها رسولا يسألها ألها زوج؟ ويذكره لها؟
فقالت للرسول: ما حرفته؟
فأبلغه قولها. فقال: ارجع إليها فقل لها:
وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق
إذا عرضت لي الخيل يوما رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
وأصبر نفسي حين لاحر صابر ... على ألم البيض الرقاق البوارق
فأنشدها الرسول ما قال. فقالت: ارجع إليه وقل له: أنت أسد فاطلب لنفسك لبوة فلست من نسائك.
783 - عقلنا حين ليس لنا فضول
جعفر المعبدي:
وكان المال يأتينا فكنا ... نبذره وليس لنا عقول
فلما أن تولى المال عنا ... عقلنا حين ليس لنا فضول(678/42)
من الأدب الغربي:
في مقبرة ريفية. .!
لتومانس جراي بتصرف
للأستاذ محمد رجب البيومي
الظلام الرهيب يطغى على الكو ... ن كجيش يسد عرض الفضاءِ
حام فوق القبور يُرخى سدولاً ... حجبتْها فما تلوح لرائي
حيث أصحابها يتيهون في النو ... م سكارى كشاربي الصهباءِ
سئموا ظلمة القبور فحلَّت ... ظلمة الليل فوقها كالوباء
لا يرون الضياء يبدو مع الشم ... س وضيئا كطلعة الحسناءِ
لا ولا البدر حين يشرق في الأ ... فق على الكون نائبا عن ذُكاءِ
يوقط الديك كل غافٍ على الأر ... ض وهمْ مثل الصخرة الصمّاءِ
لا حنين الناعورة الحلو يشجيه ... م وإن هزَّ مسمع الجوزاء
لا نسيمُ المراوح العذبُ غادٍ ... حين يحمى الهجير في الرمضاء
لا ولا الموقد الدفئُ يسرّي ... عنهمو ما جناه برد الشتاء
كل هذا قد شاهدوه عيانا ... حين كانوا في عالم الأحياء
هذه الأرض منذ عهد قريب ... لم تكن غير بقعة جرداءِ
فمشى القُّوم بالمحاريث والفأ ... س يشقونها بكل اعتناء
يبذرون النبات فيها جنيناً ... ثم يعطونه شهى الغذاء
فإذا الأرض بعد وقت يسير ... تتراءى كجنة فيحاءِ
وْيحها لم تَصُنْ جميلا فألقتْ ... أهلها في قرارة الظلماء
ثم عادت فبدَّدّتهمْ جميعاً ... لم يكن عندها أقل الوفاء
رب شيخ قضى الحياة مع الر ... يف إلى أن مضى على الحدباء
كان جمّ الذًّكاء لكن أتى الحق ... لُ على ما في رأسه من ذكاء
آه لو كان قد تعلمَّ حتى ... يرفع العلم قدره في السماء(678/43)
علَّه مثل شكسبير نبوغا ... أو كملتون سيد الشعراء
فهو كالدرة الثمينة ضاعتْ ... في القرار السحيق تحت الماء
أو كزهر نما بعيداً عن النا ... س فولَّى عبيره في الهواء
قُتلَ الحظ كيف حارب ذا العق ... ل وأرخى العنان للأغبياء
ها هو المضجع الوثير مهَّيا ... للذي يستريح بعد العناء
هو كالواحة الخصبة يسعى ... نحوها من يضيق بالصحراء
حلَّ فيه جماعة ما استفادوا ... من لذيذ الحياة غير الغثاء
لا الوسام الأنيق يسطع في الص ... در جميلا كبسمة العذراء
لا النياشين ضاحكاتٌ عليهم ... كأزاهير روضةٍ غنَّاء
رُبَّ ذي رُتبةٍ أحالته وحشاً ... مجرماً لا يمل سفك الدماء
كان من قبلها ملاكا وديعاً ... فغدا مثل حيَّة رقطاء
خبّروني ماذا يلوح لعيني ... فوق تلك المقابر الخرساء
كل قبر عليه لوحٌ عريض ... مُثقلٌ بالنعوت والأسماء
ينظر الزائر المحبّ إليه ثم يبكى ... على الحبيب النَّائي
كم ثكول أتتْ تزور ضريحاً ... قد ثوى فيه صفوة الأبناء
وصديق يصيح أين صديقي ... كيف أرنو لوجهه الوضَّاء
يقرأ اللوحَ ما على اللوح إلا ... جمراتٌ تشب في الأحشاء
ليت شعري ماذا سيكتب عنى ... حين أغفو في باطن الغبراء
سيقولون عاشق ضَّيع العمر ... وراء الطبيعة الحسناء
يجتلى حسنها الأنيق طروباً ... حيث تبدو في بهجةٍ ورواء
في ابتسام الصباح إذ يتجلى ... في احمرار الأصيل عند المساء
في شطوط البحار والماء ساج ... في المروج الفسيحة الخضراء
تخذ الكون مسرحاً يتسلَّى ... فيه عمَّا به من الأدواء
لا ينال القوت الضروريّ إلا ... بشقاءِ ما بَعده من شقاء
قطع العمر في الحياة فقيراً ... مثل باقي أفرادها الفقراء(678/44)
يبذل الدمع للمساكين حتى ... لم تعدْ في عينيه قطرة ماء
لم تُنله الحياة غير صديق ... كان في لُيلها كبدر السمَّاء
كان ريحانة الفؤاد ولكن ... وْيلتا! قد مضى لدار البقاء
محمد رجب البيومي(678/45)
رباعيات عثمان. . . .!
للأستاذ عثمان حلمي
آذنتْ آيةُ الدجى بالزوال ... وسرى كالمنى نسيم الشمال
حاملاً للحياة نفحاً من العط ... ر وروحاً جديدة الآمال
مُعلنا في براءةٍ آية الفج ... ر كما في براءة الأطفال
وكأن النجوم حيرى وقد أد ... ركن في صمتهن قربَ المآل
وبدا الصبح ساكناً في ظلال ... من جلال عجيبة الأشكال
رافعا رأسه المضيئة في الكو ... ن على كل مستقرْ وعال
ساحباً ذيله على النجم حتى ... لم يدعْ منه غير مثل الذبال
فتوارى من السماوات نجمٌ ... سار في إثره من النجم تال
وتجلت على الربى والمروج ... لمحات من الصفاء البهيج
فعلى جانب السماء من الشر ... ق شبيهٌ بالنار ذات الأجيج
ذات لونُ موردّ أَرجوا ... نيٍ وروحٍ في الشمْ ذات أريج
هتفتْ بالرجاَء همساً بذات ال ... صدْع لما هفت بذات البروج
ورنا حاجب من الشمس ساج ... صامتٍ في لهيبه الوهَّاج
فتراءى لكل عين على الأف ... ق منيراً كشعلة من سراج
واستحالت لآلىُّ الطلَّ في الدو ... ح إلى محض سائل رجراج
وسرتْ موجة من النور يتلو ... ها سواها من هذه الأمواج
صورة إثر صورة تتوالى ... شهد الطير حسنها أشكالا
فتغنى ما شاء للصبح إكبا ... راً وغنَّى لنوره إجلالا
وأفاق الإنسان من موته الأص ... غر واستقبل الحياة نضالا
فمضى في طلابه الرزق يسعى ... وتمادى ضجيجه وتعالى
وبدا في الحياة يوم جديدُ ... صارمٌ وجهه الجديد المجيدُ
كلما عجَّ في الوجود على الصم ... ت على الصمت عج فيه الوجودُ
وتجلى النهارُ واستعلت الشمس ... وكدَّ الشقيُّ والمجدودُ(678/46)
ومن الغيب خلفه وهو يجرى ... كيفما كانت الحياة شهودُ
ومضى في الزمان هذا النهار ... وتوالت بما جنى الأخبارُ
وطوى الغيب صفحة في سجل ... سطرته بكفَّها الأقدار
ولكم أضمرت سواها من الما ... ضي ومرَّت فما لها آثار
هكذا فات ذلك اليومُ في العم ... ر وفاتتْ بمثله الأعمارُ
ما ترى الشمس بعد طول اللغوب ... كيف مالت هزيلة للمغيب
وهي تهوى بين السحاب إلى البح ... ر وتخطو إليه خطو الهيوب
وكأني بها على الدهر ملَّتْ ... سعْيَها بين جيئة وذهوب
صورة لو فطنتَ تأخذ بالأل ... باب من حسنها العجيب المهيب
صورة تلك نمّقتها السماء ... كم تغنى بحسنها الشعراءّ
فلقد تبعث السرور وقديها ... تاج منها لدى الشجيَّ البكاء
والتقى البحر بالسماء مع الشم ... س ولكن هيهات هذا اللقاء
خدعة في العيون أم ضلت الأب ... صار أم قد أصابها إعياء
ها هي الشمس مسَّت الأفق مساً ... وارتضى قرصهُا من البحر رمسا
فهوى فيه صامتاً وانتهى الأم ... ر فما تستبين في الكون جرسا
غير همس في الأذن لم تدر معنا ... هـ وخافٍ في النفس يهمس همسا
ربما مال بالنفوس إلى اليأ ... س وإن لم تصب من العمر يأسا
ها هي السحب بين بيض وحمر ... رابضات وبين دُكن وصُفر
لوَّنتها كما تشاء يد الغي ... ب ولم تستعن بدهن وحبر
فتوالت شتى المناظر حتى ... لم تقع مقلة على مستقر
يا لها من يد أجادت لعمري ... ما أجادته بين طي ونشر
فوداعاً أيا رفاق شبابي ... ووداعي الأخير يا أحبابي
ربما دارت الليالي علينا ... فالتقينا من بعد طول اغتراب
إنما نلتقي شخوصاً سوى أش ... خاصنا من بعد هذا الغياب
بدلتنا يد الزمان سوانا ... إن قضت بعد غيبة بالإياب(678/47)
لم هذا التغير والتبديل ... وإلام التحوير والتحويل
فجسوم على المدى وعقول ... ونفوس على الليالي تحول
كل حب إلى زوال وان جد ... لعمري وكل حسن يزول
ما نجا الميت الجماد ولا الح ... ي ولا سالم ولا معلول
لم لا نلتقي لغير فراق ... ربما شاقنا لغير تلاق
ما لنا من يد على البعد والقر ... ب وكل الأمور محض اتفاق
لم هذا والعمر يوم إذا ما ... طال بين الغروب والإشراق
طال مني على الحياة سؤالي ... لم لا نلتقي لغير فراق
عثمان حلمي(678/48)
البريد الأدبي
معهد الفقه الإسلامي للجامعة العربية:
قدم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري باشا رئيس اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية مذكرة للأمانة العامة للجامعة يقترح فيها إنشاء معهد للفقه الإسلامي تنفيذا للرغبة التي أبداها مؤتمر الجمعية المصرية للقانون الدولي.
وقد صدرت المذكرة بمقدمة عن الغاية من إنشاء المعهد أشارت إلى مكانة الفقه الإسلامي بين النظم القانونية العالمية، وأنه لا يقل في قوة السبك، وحسن الصياغة، وسمة المنطق، ودقة التحليل عن الفقه الروماني أو الإنجليزي، وهو فوق ذلك التراث القانوني للشرق العربي. ثم أشارت إلى حركة الاجتهاد والى أقفال بابه والحكمة منه، وقالت انه كان على الفقه بعد ذلك أن يستكمل حظه من الاستقرار بعد أن استوفى نصيبه من التطور ولكن هذه الحال لم تبق إلا إلى حين إذ لم يلبث الزمن أن دار دورته وتابع السير إلى الأمام. هذا والفقه الإسلامي واقف والعالم يمشي، ثم انفجرت مسافة الخلف بين الفقه والحاجات المتجددة حتى أصبح من العسير على الأمم العربية في العصر الحاضر أن تستبقي الفقه مادة تستقي منها قوانينها الحديثة وقد أخذت هذه الأمم تهجر الفقه الإسلامي فعلا ولجأت إلى القوانين الغربية المتطورة التي تماشي مدنية العصر.
ومن هنا نشأت أزمة الفقه الإسلامي منذ أول القرن التاسع عشر وهي أزمة تحتاج إلى علاج طويل حتى يعود إلى الفقه الإسلامي مجده الأول بشرط أن تبدأ من الآن في أيجاد بيئة تعاد فيها دراسة هذا الفقه الجليل وتتحقق هذه البيئة بإنشاء معهد للفقه الإسلامي.
أما الوسائل التي يتذرع بها المعهد لتحقيق الغرض منه فيقترح أن تكون بإنشاء المعاهد الآتية:
أولا - معهد تدريس يمنح الشهادات والدبولمات الجامعة يلتحق به الحاصلون على ليسانس الحقوق من إحدى الجامعات العربية.
ثانيا - معهد لتكوين الباحثين في الفقه الإسلامي على الأسلوب الإسلامي العلمي الحديث ويكون بتخصيص جواز دراسية للنابغين من الطبلة المتخرجين في المعهد الأول.
ثالثا - معهد للبحوث الفقهية العالية يضع فيه الأساتذة مؤلفات حديثة ويرتبون الكتب(678/49)
القديمة ترتيبا علميا.
رابعا - معهد لنشر المخطوطات من كتب الفقه التي لم تنشر لليوم.
خامسا - معهد يضم مكتبة جامعة في الفقه الإسلامي تشتمل على المؤلفات الفقهية القديمة والحديثة.
وينبغي أن يلحق هذا المعهد كله بإحدى جامعات الدول العربية حتى يتسنى له منح الشهادات والدبلومات، وأفضل هذه الجامعات في الوقت الحاضر هي جامعة فؤاد الأول لا سيما وأن كلية الحقوق بها قد نظمت دراسة في الفقه الإسلامي.
ويقترح أيضاً أن يكون للمعهد عندما يستكمل نموه ستة كراسي: اثنان للفقه الإسلامي واثنان للقانون المقارن وكرسي لتاريخ الفقه الإسلامي وكرسي لأصول الفقه.
هي للجاحظ وليست للعسكري:
نقل حجة العرب النشاشيبي في (نقله) البليغة الحكيمة بالعدد 675 من مجلة (الرسالة) الغراء عن كتاب الصناعتين لأبى هلال العسكري هذه العبارة:
(قد رأينا الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي (والحذف) وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا).
وهذا القول ليس من كلام العسكري وإنما هو من إنشاء الجاحظ وأسلوبه، وقد أورده في الجزء الأول من كتاب الحيوان ص46 (طبعة الساسي) ثم نقله العسكري من غير أن يعزوه إلى صاحبه كعادته في كثير مما نقل في كتابه.
وإنصافا لأبي عثمان - الذي كان أول من نبه على هذا المعنى - رأينا أن نصحح ما جاء بكتاب الصناعتين، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة) الغراء.
محمود أبو ربة
إصلاح:
في الكلمة (كتاب أحمد شاكر الكرمي) الرسالة 677، ص697 س8: (قالها منذ أربع وثلاثين سنة) صوابها: (قالها منذ إحدى وثلاثين سنة)(678/50)
القصص
كلوديت. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
كان يلذ لسعيد وهو في باريس أن يتنزه في كل عصر على الرصيف المحاذي لنهر السين بالقرب من نوتردام دي باري، وكانت رفوف الكتب القديمة المعروضة للبيع على حائط النهر الجنوبي تجذبه إليها، وتأخذه بروائعها التاريخية والأثرية والفنية.
ووقف مرة عند أحد تلك الرفوف يقرأ عناوين كتبها، وكان غواة الكتب القديمة، والرسوم التاريخية يقفون إلى جانبه أيضا، يتصفحون المجلدات وينعمون النظر في الصور الهزلية والفنية، فإن راق لهم شيء وإلا انتقلوا إلى رفوف أخرى يبحثون وينقبون.
وبينما كان سعيد مستغرقا فيما هو به، إذا بمجموعة من الكتب تنهار إلى جانبه وتتبعثر صوت نسوي يتمتم متأسفا، فالتفت إلى يسراه، فوجد فتاة فرنسية ترفع الكتب عن الأرض وتعيدها إلى مكانها، وكان الواجب يدعوه إلى مساعدتها، فراح يجمع ما بعثرته، وكانت هي تشكره مبتسمة، وكان هو يجيبها مبتسما بان لا شيء يستحق الذكر.
وبعد أن أعادا الكتب إلى مكانها، لمح الشاب أن الفتاة أبقت بيدها كتابا قرأ على غلافه (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو.
فقال لها بلهجة لا تخلو من الاستغراب: عفوا أيتها الآنسة أهذا هو الكتاب الذي كنت عنه تبحثين؟
قالت: أجل. . .
قال: أتهمك مثل هذه المواضيع؟
قالت: تهمني جدا. .
قال: ولكن الموضوع شائك. . . ويخيل إلى أن الفتيات لا جلد لهن على مطالعة الكتب المرهقة للدماغ.
قالت: هذا خطأ شائع. . نحن في فرنسا نطالع كل شيء، نطالع كل ما يطالعه الرجل. . ونفعل كل ما يفعله، ولا ينقصنا إلا حرية الانتخابات.
وإذ رأى سعيد أن الفتاة مثالية جريئة متوثبة انتظر حتى ابتاعت الكتاب وهمت بالذهاب(678/51)
فاقترب منها، وقال بصوت خافت:
- ألدى الآنسة أي مانع للتعرف إلى شاب شرقي؟
فأطرقت الفتاة قليلا، ثم رفعت رأسها وحملقت في وجهه وقالت:
- إذا كان هذا التعارف يرضيك، فليكن، اسمي كلوديت رانجون تلميذة في المدرسة الطبية.
قال: ولي الشرف بأن أقدم لك نفسي: أنا سعيد اللبان. من الشرق. وأقطعن باريس مؤقتا.
وسارا معا بمحاذاة نهر السين إلى أن عبرا الجسر المؤدي إلى اللوفر ومنه إلى حديقة التويللري، فتجولا في دروبها بين الزهور والرياحين وكانا يتنقلان في حديثهما من موضوع إلى آخر، إلى أن قالت الفتاة في معرض كلامها عن جان جاك روسو ونظرياته إلى أودعها في (العقد الاجتماعي).
- أجل. . . يجب أن نعود إلى أمنا الطبيعة. . . ألا تكفى خيرات الأرض لإعاشة الناس؟. . . وما الأفضل للمرء: أأن يعيش في جو خانق من دخان المصانع والمعامل، أم أن ينشئ بيته في الغابات الواسعة، ويستنشق الهواء الطلق، ويشرب المياه العذبة، وينام وينهض على تغريد الطيور؟
قال: أتعنين بذلك إقامة مخيمات؟
قالت: كلا إنني أعني إعادة تنظيم معيشة الناس طبقا لحياتهم الفطرية الأولى، ولكن على مستوى عال من العلم والثقافة.
ثم أخذت تقنعه بأن الإنسان جبل من طينة طيبة، غير أنه في مراحل تطوره خرج عن اتجاهه الطبيعي وأساء التصرف بما محته إياه الطبيعة من خيرات وغدا مخلوقا شاذا أنانيا جائرا، وخلصت إلى القول بأن البشرية لن تجد الراحة والطمأنينة إلا بوضع عقد اجتماعي يكفل للناس حقوقهم.
أخذ المساء يسدل ستاره على باريس وبدأت العاصمة الفرنسية تبدو رويدا رويدا بلباس السهرة المحلى بالألوان الزاهية، وكانت الأرض تلفظ جماعات من الناس عائدين إلى بيوتهم، وتبتلع غيرهم ممن يسكنون الضواحي. . ولما بلغا في مسيرهما خطة مترو (الأوبرا) قالت له كلوديت: إلى هنا ينتهي بنا المطاف. . استودعك الله.
قال: عفوا. . لقد شوقتني بحديثك عن حياة الغابات، أفلا تعرفين غابة بالقرب من باريس(678/52)
تكون بمثابة نموذج صغير للمكان الطبيعي الذي تودين المعيشة فيه؟. . . .
قهقهت كلوديت وقالت:
- بلى. . . أعرف غابة (كلامار). . .
قال: هل لنا أن نتنزه فيها يوم الأحد؟
فهبطت الفتاة درج المترو وقالت (انتظرني يوم الأحد الساعة العاشرة صباحا عند مدخل محطة (مونبارناس) ومنها سنذهب إلى (كلامار) فإلى اللقاء. . .
أي شعور غريب يستولي على المرء إذا ما ولج الغابة؟. . . طرق سعيد وكلوديت غابة (كلامار) فكانت الأشجار الباسقة تحجب عنهما نور الشمس، ما خلا خيوط لها ألوان قوس قزح تسربت من خلال الأغصان، وأنارت الدغال التي سقطت عليهما وساعدتهما على اجتياز دروب الغابة المعوجة وشعاب مسالكها الضيقة. . وكانت الغربان تنعق هنا وهناك وهدير المياه يصل إلى مسامعهما، فيحمل لهما الهواء في طياته رذاذها المنعش، وكان حفيف الشجر يبدو لهما كما لو أن رتلا من السيدات يسرن بالقرب منهما وهن يجررن أذيال أثوابهن. . . ما هذا الجو الساحر الذي يكتنف سعيداً؟ وما هو هذا الدغل الرائع الذي سلبه عقله؟
وبعد أن استراحا قليلا على الحشائش الأبدية الاخضرار، بادرت كلوديت سعيدا قائلة: (كيف تشعر الآن؟ إلا تفضل المقام في هذا المكان على أي نزل في الحي الثامن من أحياء باريس؟
لم يحر الفتى جوابا وإنما استغرق في تأملاته، وكان يحس بوجل لا يدري سببه، فالأشجار المحيطة به، واحتجاب النور عنه إلا ثلاثة خيوط ملونة اخترقت الدغل الذي هو فيه، ونعيق الغربان فوق رأسه، ورطوبة المكان الذي يحف به، وحفيف الأغصان الذي يهدهد مسمعيه، كان لهذه العوامل كلها أثرها في نفسه، فتذكر الجنة، وتذكر آدم وحواء، فالتفت إلى كلوديت فوجدها قد أسندت رأسها إلى الشجرة وعلى ثغرها ابتسامة الرضى.
انقضى النهار، وحل المساء، فأقفرت الغابة من المتنزهين وركنت الطيور إلى أوكارها، وأرخى الليل سدوله، فلم ير الفتى والفتاة من النور إلا ما كان يشع من أعينهما، ولم يسمعا من الأصوات إلا ما كانا يصدرانه من نفثات، ولم يجدا شيئا يدرأان به عن نفسيهما برد(678/53)
الليل إلا ما كان يجري في عروقهما من دم متدفق مشبع بحرارة الشباب.
ثم عادا إلى باريس، وقد تأبط سعيد ذراع كلوديت، وأسندت هي رأسها إلى رأسه، وكانت تحدثه عن الحب الخالد، وارتباط القلوب الأزلي، وكان هو يؤكد لها ذلك أيضا، ويشكر المصادفات التي أدت إلى تعارفهما والجمع بينهما.
ولما أخذا مكانيهما في القطار، قال لها الفتى على حين غرة: لقد نسيت منهجك في الغابة. .
قالت: وأي منهج تعني؟
قال: كتاب (العقد الاجتماعي).
قالت: شيء تافه. . وإني لأرى يا حبيبي الآن أن أقر لك بحقيقة الأمر. . . إنني لست من أتباع روسو ولا غيره. . رأيتك تقف عند بائع الكتب القديمة فرأيت في ملامح وجهك بأنك من أهل الشرق الذين تكتنف نفوسهم الغموض والأسرار. فهذا الشعر الأسود وهاتان العينان البراقتان، وهذان الحاجبان المقطبان، وهذا الأنف القوقاسي، وهذه الذقن المعوجة، وهاتان الشفتان المنفرجتان. . . وهاتان الوجنتان البارزتان. . . كل هاذ ما حدا بي لكي أتحرش بك. . . أما كتاب روسو فقد وقع في يدي مصادفة وكان من حسن حظي أنني عرفت عنه شيئا. . . والآن دعنا من هذه القصة فانك لي أفضل من كل العقائد. . أنت لي إلى الأبد. انس هذا الحادث. . . لقد نسيت أنا أهلي من أجل الحب!. . .
وبلغا باريس وافترقا على أن تزور كلوديت سعيدا في فندقه في مساء اليوم التالي.
لم يدر سعيد ما الذي حدث له في تلك الليلة، فقد كان قلقا وكانت نفسه مضطربة، وكان في حيرة من عبث هذه الفتاة الباريسية بالمبادئ والعقائد وما إن طلع النهار حتى رحل من الفندق إلى غيره. . وقال لصحابه (قل لمن يسأل عني بأنني عدت إلى الشرق). .
وبعد مرور شهر على هذا الحادث، مر سعيد برفوف الكتب القائمة على ضفة السين بالقرب من جسر سان ميشيل فشاهد منظرا مروعا.
شاهد شابا شرقيا يساعد كلوديت في جمع كتب تناثرت على الأرض. . .
نجاتي صدقي(678/54)
الكتب
سقطت في الانتخابات. . .
تأليف الأستاذ حنفي محمود جمعه
بقلم الأستاذ صديق شيبوب
لا أدري، أأواسي الأستاذ حنفي محمود جمعه لفشله في الانتخابات أم أهنئه لأجله. أما المؤاساة فللجهد الذي بذله ولم يثمر، وللمال الذي أنفقه ولم يفد، وللآمال التي عقدها حينا فتبددت. وأما التهنئة فلأنه خرج من المعركة الانتخابية التي خاض غمارها في أواخر سنة 1944 بكتابه الناجح (سقطت في الانتخابات) ولولا فشله في تلك الانتخابات لما كتبه، فلعله كان يتحرج من كشف النقاب عن دخائلها، وعما يجري فيها من أمور مخالفة للقانون، وعن الوسائل التي يتذرع بها المرشحون للفوز، وعن الوسطاء من المرتزقة الذين ينتهزون الفرصة ليبتزوا المرشح. وعن الناخبين من الجهال الذين يتقاضون ثمن أصواتهم، وعن رؤساء النقابات ومشايخ الحارات الذين يقدمون عددا معينا من الناخبين. . إلى غير ذلك مما تجده مفصلا في الكتاب.
وقد عرف الأستاذ حنفي محمود جمعه كيف ينسق الحوادث وكيف يرويها حينا في سذاجة مقصودة، وكيف يحللها أحيانا في تفكير صحيح مستقيم، وكيف يستخلص طورا العظات البالغة من تقلباتها، وكيف يترك طورا للقارئ أن يتولى بنفسه استخلاص تلك العظات.
والحق أن الكتاب ملئ بالدروس القيمة التي يجب أن نتدبرها لأنه يعالج ناحية هامة من حياتنا القومية، ويقدم صورة ملموسة للانتخابات التي تجري بين ظهرانينا، ويصف العوامل المحلية التي تؤثر فيها. ولا شك أن العوامل التي تؤثر في الانتخابات متعددة الوجوه متبدلة الأنواع، تختلف باختلاف البيئات والبلدان والشعوب.
ويكفي أن نعرف أنها عند جميع الأمم تكلف مبالغ باهظة من المال لنقدر تلك العوامل الكثيرة، فالإعلانات والحفلات والرحلات وما إليها من أنواع الدعايات التي تستدعي نفقات طائلة لا يستطيع أن يتكبدها جميع الناس أو جميع الأحزاب.
فإذا تجاوزنا هذه العوامل المادية إلى العوامل الأدبية والاجتماعية اضطرنا الحديث إلى(678/55)
التنويه بصفات المرشح التي تجعله محبوبا من ناخبيه مرغوبا فيه، والى الإشارة إلى نفوذه في الدائرة التي يتقدم فيها وعصبيته وجاهه. . كل هذا يحملنا على التقدير بأن الانتخابات التي تبدو حرة لأول وهلة أي أنها حرة من تداخل السلطات الحاكمة وفرض نظرياتها وأغراضها على الناخبين تظل خاضعة لمؤثرات خارجية واسعة النطاق، ولعوامل مختلفة يصعب تحديدها ويجعلنا نعنى في بعض الأحيان بالتفاوت بين النائب وبين المهمة القومية التي يضطلع بها.
فإذا عدنا إلى العوامل المحلية، وجدنا أن بمصر قلما يقبل العقلاء على الانتخاب لسبب ذكره المؤلف، ولا شك أن الوعي القومي يزداد انتباها بنسبة زيادة المتعلمين وأخذهم أنفسهم بالواجب الذي يمليه عليهم هذا الوعي بأن يتقدموا لصناديق الانتخاب، وأن يفهموا أن ذلك فرض قومي لا مناص لمواطن حري بهذا الاسم من تأديته.
ولا أريد أن أطيل الحديث في هذا الباب مما يوحيه كتاب الأستاذ حنفي محمود جمعه، ولكني أردت أن أشير إلى العيوب التهجين تعترض الانتخابات لتداركها وإصلاحها.
فإذا عدنا إلى في الكتاب وجدنا أن الصورة التي يجلوها للحوادث كاملة في مجموعها طيبة التناسق بين أجزائها حتى ليصح أن نقول إن كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة من أجمل القصص لا تنقصها قوة البناء وجودة الربط بين الأجزاء ومتانة التأليف. وهو أيضاً قصة من قصص المغامرات فيها الأخذ والرد والكر والفر، والصراحة والحيلة. وفيها تحليل لشخصيات عديدة ممن لقيهم المؤلف، وممن عرضوا عليه خدماتهم، وممن قصد إليهم، وكل هؤلاء من طبقة الشعب، القليل منهم من أنصاف المتعلمين وأغلبهم من الجهال، وفيهم المخلص والماكر والمحتاج، وفيهم ثرى الحرب الجاهل، وفيهم النفعي المتقلب، وفيهم الزعيم الذي يحتاج لممالأة السلطات المحلية لتدعيم نفوذه، وفيهم (الفتوة) الذي ينبغي الشغب، ويدع شجاعته وباسه في خدمة من يدفع ثمنها.
وفي الكتاب صور شتى للتفكير الشعبي الساذج وهو أحيانا تفكير سليم. فهذا أستاذ بمدرسة أهلية يعلم تلاميذه الهتاف بحياة المرشح الذي يؤيده، لأن من عادة الصغار أن يرددوا في منازلهم الأناشيد والهتافات التي تعلموها بالمدرسة، وهكذا يؤثرون على آبائهم وذوي قرابتهم. وكذلك يطوف صبية يوم الانتخابات هاتفين لأحد المرشحين ليؤثروا في الناخبين(678/56)
الأميين الذاهبين إلى الانتخاب فيؤدوا صوتهم للاسم الذي تردد بآذانهم وعلق بأذهانهم في آخر لحظة، وتسير حوادث القصة في لين وهوادة، فمن تفكير في الترشيح، إلى دفع تأمينه، إلى خوض المعركة الانتخابية، وهي معركة كلامية في الخطب التي تلقى، وفكرية في تدبير وسائل الدعاية، ومادية من حيث إنفاق المال وبذله عن سعة، وواقعية من حيث تحدي المزاحمين وإثارة الشغب عليهم وعلى أنصارهم. . إلى غير ذلك مما كان يثور الأستاذ حنفي عليه في دخيلة نفسه، لأنه محام ومن رجال القانون الذي يأبون إلا ما يسيغه، ولكنه كان يضطر مرغما إلى الخروج عليه تحت تأثير أنصاره وردا لحملات منافسيه. ولعله كان يكثر من إلقاء الخطب لأنه قدير عليها بحكم مهنته، وقد شاء أن يتحدى مزاحميه في هذا المضمار، فنشر في الصحف يدعوهم إلى النزال فيه (تعالوا اخطبوا إذا قدرتم واعرضوا معي صحائفكم وما أنتم بقادرين) ولكنه ظهر بعد ذلك أن الأصفر الرنان في تعبير القدماء، وأوراق النقد المتداولة بلغة هذا الزمان، أبلغ حجة وأجلى بيانا من بلاغة المنطق وفصاحة اللسان.
وفي كتاب (سقطت في الانتخابات) غير هذا وذاك من صور سكندرية شعبية بحتة استطاع المؤلف أن يبرزها في الإطار الخليق بها.
هذه العناصر التي عددناها تجعل من كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة كاملة كما قلنا، قصة مغامرات واقعية لأنها مستمدة من صميم الحياة، وقد عاش المؤلف حوادثها، وعاش أمثالها غيره من زملائه الذي أنفسهم في الانتخابات. وفي واقع الحياة من المغامرات ما لا يصل إليه خيال القاص البارع.
كان يتراوح في ذهني وأنا أطالع هذا الكتاب ذكرى الجهاد الأدبي الذي حمل رايته بالإسكندرية نفر من الشباب في أوائل عهد (جماعة نشر الثقافة) أي منذ أكثر من اثنتي عشر سنة أو يزيد. وقد تخلف البعض بعد ذلك منصرفين إلى أعمالهم واستمر البعض الآخر بحكم المهنة، وعرف غير هذين الفريقين كيف يوفق بين عمله وبين الاشتغال بالأدب. وكان ولا يزال من هذا الفريق الأخير الأستاذ حنفي محمود جمعه، فهو المحامي الذي تقدر مواهبه دائر القضاء وتظهر مهارته في جلسات المحاكم وهو كذلك الأديب المتمكن الذي كانت له جولات موفقة في الأقصوصة، والذي كانت له مكانته بين زملائه(678/57)
من أعضاء تلك الجماعة. ويعرف أخصاؤه لأنه ظل مخلصا للأدب، وفيا لأصدقائه الأدباء، ولا أدل على ذلك من كتابه: (سقطت في الانتخابات)، الذي تجلى فيه روح الأديب، وإحساسه، ودقة ملاحظته، وصدق حكمه على الناس، والحوادث. وإذا كان من السهل على الإنسان أن يلاحظ الحوادث في دقة وانتباه إذا شاهدها عن كثب مشاهدة الرائي المستقل عنها فانه من أصعب الصعاب أن يحسن الملاحظة، وأن يخلص في الحكم على الحوادث إذا خاض غمارها بنفسه، وكان من أشخاصها أو أبطالها كما يقولون. وفي هذه الحال قلما يستقيم صدق الإحساس ودقة الملاحظة إلا للأديب الذي تعود ذلك أي الذي تعود أن يتجرد من نفسه، ويتخلص من شعوره وأنانيته.
وهذا ما فعله الأستاذ حنفي محمود جمعة في كتابه (سقطت في الانتخابات) فهو يروي ما له وما عليه، ويتندر من نفسه ومن غيره وهو نوع من الفكاهة المستملحة متنقلا في كثير من اللباقة، بين السذاجة والطرافة والبراعة، وبعد: ألم أكن صادقا في حيرتي بين مواساة الصديق الأستاذ حنفي محمود جمعة لفشله في الانتخابات وبين تهنئته لهذا الفشل وقد أفاد الأدب بكتابه الطريف، ونبه إلى نقص في الحياة الاجتماعية والقومية.
أما مواهبه الأدبية، وبراعته الفنية، واطراد أسلوبه وسلاسته، فإنها مزايا ظاهرة يتبينها كل مطالع كتاب (سقطت في الانتخابات) وهو كتاب قيم جدير بالتقدير والثناء.
صديق شيبوب(678/58)
العدد 679 - بتاريخ: 08 - 07 - 1946(/)
بين الإلهام والحكمة
للأستاذ عباس محمود العقاد
نقلنا عن الجماعة الإسلامية في لاهور أنهم يعدون حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مجدد القرن الرابع عشر، ويثبتون أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه: (إنني لا أدعي النبوة وكل ما أدعيه أنني محدث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. كلا. ما أنا مدع للنبوة، وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب علي الذين يحسبونني من أولئك المدعين).
وقد شاءت المطبعة أن تضبط (المحدث) بكسر الدال، ولا أدري كيف وقع ذلك، لأن الكلمة التي تليها تفسرها وتمنع أن تكون على صيغة أسم الفاعل، إذ كان الذي يسمع كلام الله هو المحدث بصيغة أسم المفعول. وإنما المحدث هو الذي يتكلم وليس هو الذي يسمع الكلام.
ولهذا أصاب الأستاذ (السهمي) حين ردها إلى التطبيع، وأشار إلى تفسير المحدث فقال: (جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به - حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوا. . .)
ولكن المسألة كبرت بعد ذلك، لأن المراد أن يكون هناك خطأ ينسب إلى العقاد على ما يظهر. فكتب الأستاذ الطنطاوي يقول (إن السهمي لم يصحح الخطأ في تفسير العقاد. . . فقد ذكر أن المحدث هو الذي يسمع كلام الله. مع أن الذي قالوه في المحدث أنه الملهم. . .)
ثم كبرت مرة أخرى فقال كاتب بتوقيع منصف يخاطب الأستاذ الطنطاوي: (لو أعاد الأستاذ الطنطاوي قراءة ما كتبه السهمي لوجده قد صحح الكلمة وتفسيرها بما نقله عن كتاب النهاية لابن الأثير. . .)
فعجبت لهذا التصحيح في غير موضع للتصحيح.
وعجبت لتسمية هذا التصحيح تصحيحا لتفسيري أنا، مع أنني أروي عن القادياني فيما أقول.
فتصحيح التفسير كلمتان اثنتان ليس فيهما حرف واحد صحيح؛ لأنه لا تفسير لي أولا في تلك الكلمة المنقولة، ولأنه لا تصحيح هناك ولا موجب للتصحيح على وجه من الوجوه.(679/1)
ولماذا يخطئ الذي يقول إن المحدث بفتح الدال هو الذي يسمع كلام الله؟
إن المحدث لغة هو الذي تتحدث إليه، وليس هذا هو المعنى المقصود بالكلمة في الحديث المنسوب إلى النبي عليه السلام، إذ لو كان هذا هو المعنى المقصود بها لكان كل إنسان من خلق الله محدثا بغير استثناء. ولم يكن ذلك شأن عمر بن الخطاب وحده أو شأن أمثاله من الملهمين. فما من أحد إلا وقد تحدث إليه أحد فهو محدث بهذا المعنى (اللغوي) الذي لا تمييز فيه.
فالمحدث المقصود إذن هو الذي يستمع حديثا من غير الناس أو يستمع حديثا من عالم الغيب. وكل حديثا من عالم الغيب فهو إما حديث من وحي الله وملائكته أو حديث من وحي إبليس وشياطينه. ولا تحتمل الكلمة معنى غير هذين المعنيين، بل لا تحتمل إلا معنى واحدا حين يكون الموصوف رجلا من القديسين وطلاب القداسة، وهو الاستماع إلى وحي الله، أو تلقي الإلهام من الله، ولا فرق بين القول بهذا أو القول بذاك.
فأين هو التصحيح إذن في التفسير كائنا من كان صاحب الكلام المفسر؟
ولماذا قال النبي عليه السلام (محدث) ولم يقل (ملهم) إذا كان من الخطأ أن نقول إن المحدث هو الذي يتلقى الحديث من عالم الغيب!
على أنني لم أنسى الإلهام في المقال نفسه لأنني ختمته بتلخيص كلام القادياني حيث يقول: (إن الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي بعين اليقين وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير، وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة - لتيسير السرقة ثم لتيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية، والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله، ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه؟)
فإذا كانت مادة (حدث) لا تقبل تفسيرا في المصطلح المقصود غير سماع الحديث من عالم الغيب، وكان الإلهام من المعاني التي ذكرناها في هذا السياق، فأين موضع التصحيح، وأين موضع التنبيه مرة بعد مرة إلى التصحيح؟ وهل حصل أو لم يحصل ولا يزال في حاجة(679/2)
إلى تحصيل؟
إن (المحدث) بفتح الدال لا تحتمل معنى واحدا حين يوصف بها الرجل الصالح غير سماع الحديث من وحي الله، وإنما الإلهام هو تفسير لهذا الحديث وليس هو بالتصحيح، - فليس الإلهام إلا أن تتلقى إشارة من الله أو من عالم الغيب، ومتى كانت - المادة مادة (الحديث) فالإشارة المقصودة هي الحديث أو ما فيه معنى الحديث، وإلا لكانت التخطئة لاستخدام الكلمة في هذا الموضع وليست للتفسير والتوضيح.
ومن طرائف هذه التصحيحات (تصحيحه) أخرى وقعنا عليها في رسالة عن (عبد الله فكري) للأستاذ محمد عبد الغني حسن وصلت إلي منذ أسابيع.
فنحن نعتقد أن عبد الله فكري باشا رحمه الله كان من أنبغ كتاب الدواوين في عصره، وقد كتبنا عن هذه المدرسة في مقالاتنا عن شعراء القرن التاسع عشر، فقلنا إن أشياع تلك المدرسة كانوا في تلك الفترة كثيرين ثم قلنا: (إن الذين بلغوا منهم جهارة الشأن قليلون ونريد جهارة الشأن في المنصب كما نريدها في الأدب، فإن قليلا من الديوانيين من ضارع عبد الله باشا فكري في صحة اللغة، وبراعة التركيب، وسلامة الفهم والتفكير)
أما الشعر فرأينا في الرجل أنه لم يكن من كبار الشعراء و (أن قصائده في الحكمة هي ألصق بوصايا المتأخرين ونصائحهم منها بالحكم المطبوعة التي كانت تتخلل قصائد الشعراء عفوا في أدب الجاهلية والخضرمة وفحول القرن الثالث والقرن الرابع. فهي بكلام المعلمين أشبه منها بكلام الشعراء، وبوصايا الآباء المحنكين أشبه منها بالخبرة المطبوعة التي تعبر عنها قرائح أهل الفنون، ومن ذلك قصيدته الرائية التي يقول فيها:
إذا نام غر في دجى الليل ... فاسهر وقم للمعالي والعوالي وشمر
ثم قلنا: (فهذه وأشباهها نصائح معلم وليست وحي شاعر، ولا نعرف بين كبار الشعراء في العالم كله واحدا صرف إليها شعره وجعلها من أغراض فنه)
وهذا كلام في رأي الأستاذ عبد الغني يحتاج إلى تصحيح لأنه لم يفهمه ولم يحاول فهمه، بل حاول تصحيحه ليكون من المصححين ولا يكون من الفاهمين.
فهو (أولا) يسأل مستهولا: (ما دخل كبار الشعراء في العالم كله في ميدان هو بشعراء العربية أشبه؟) ثم يقول (لقد نظم كثير من شعراء العربية مثل هذه القصيدة الفكرية في(679/3)
عصور مختلفة فما حط من شاعريتهم. ولقد أوردت أبياتا من قصيدة ابن سعيد المغربي تزكية لقضية أرى من الحق أن أدافع عنها. فإذا احتج محتج أن المغربي من شعراء العصور المتأخرة نسبيا، فإن الجواب عندنا حاضر عتيد، وهو أن بشاراً بن برد من شعراء القرن الثاني ترك لنا أبياتا في المواعظ والحكم فيها كثير من وحي الشاعر).
وهو (ثانيا) يقول ليصحح لا ليفهم (إن الحكمة سواء لبست ثوب النصيحة والموعظة أو ثوب الحكمة المطبوعة ليس من الضروري أن تكون وحيا شعريا. ولقد فرق النقاد قديما بين الشاعر والحكيم حتى قالوا إن المتنبي وأبا تمام حكيمان والشاعر البحتري. فالمقابلة بين نصائح المعلم ووحي الشاعر هي مقابلة في غير موضعها ولا بابها. وقد يكون المعترض على حق لو أنه قابل بين نصائح المعلم وحكمة الحكيم).
هكذا قلنا مصحّحين بفتح الحاء.
وهكذا قال السيد عبد الغني بكسر الحاء.
ويؤخذ من هذا وذاك بالبداهة أن التصحيح أيسر من الفهم الصحيح بكثير، وأن السيد عبد الغني يفضل (أن يصحح) على (أن يفهم) ولا جناح عليه في تفضيلاته وتصحيحاته، لأن الإنسان معذور في هذه الدنيا إذا هو عدل عن جانب العناء إلى جانب الرخاء.
ومن ثم وجب عليه أن يصحح بكسر الحاء ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء لأنه لا شأن لكبار الشعراء في الدنيا بتحقيق الملكة الشعرية وتمحيص الآداب العربية؛ فإن كبار الشعراء شيء، والآداب الشعرية شيء آخر لا يتصل به، ولا يستدل به عليه.
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا أنكرنا على أحد أن يكون شاعرا مطبوعا في أغراض الحكمة، بعد أن قال بشار بن برد في تلك الأغراض ما قال:
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا قلنا إن الملكة الشعرية غير المنظومات الحكمية ولم نقل إن التعليم غير حكمة الحكيم.
وقياسا على ذلك قد أصبحنا مصححين ناجحين، فنقول وعلى الله القبول: إن أشعر الشعراء طرا وأحكم الحكماء شعرا هو السيد أبو الفتح علي بن محمد البستي حيث قال:
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير فقدان(679/4)
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وحيث قال:
الدهر خداعة خلوب ... وصفوه بالقذى مشوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالب ما لها قلوب
فلا تغرنَّك الليالي ... وبرقها الخلب الكذوب
ففي قفا أمنها كروب ... وفي حشا سلمها حروب
وأنه كان ينثر في الحكمة كما ينظم فلا تعوزه القافية ولا التحسين وإن أعوزته التفاعيل والموازين. ومن ذاك أنه قال: (حد العفاف الرضى بالكفاف) وأنه قال: (من سعادة جدك وقوفك عند حدك) وأنه قال (المنية تضحك من الأمنية). وأنه قال: (من أصلح فاسده أرغم حاسده) وأنه قال: (إذا بقى ما قاتك فلا تأس على ما فاتك) فلا جرم كان أشعر الشعراء وأحكم الحكماء، وحق له أن يقول في شمم وإباء وعزة وخيلاء:
يقولون ذكر المرء يحيى بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي ... فإن فاتنا نسل فإنا بها نسلو
نعم وأصبحنا مصححين ناجحين غير فاهمين ولا متفهمين، لأننا رجعنا إلى الفوائد الفكرية، فوجدنا فيها هذه النصائح الحكمية: (وينبغي للولد أن لا يدخل المحل الذي تكون أمه واضعة فيه المأكولات مثل العسل والسمن والفاكهة وغير ذلك إلا بإذنها، ولا يمد يده لشيء يرفعه من مكانه إلا بعلمها، فأنه يتعب والدته المشفقة اللينة القلب عندما تطلب ذلك الشيء ولا تجده. فليحذر غاية الحذر من كل ما يؤدي إلى تعبها وتغير قلبها)
فلما رجعنا إلى الفوائد الفكرية ووجدنا فيها هذه النصائح الحكمية، قلنا هي ملكة شعرية لا تعوزها غير الأوزان العروضية لأنها تنظم في اللغة العربية، ولا تنظم بالإفرنجية في اللغات الأجنبية، وكله عند العرب صابون، كما يقول المصححون الذين يصححون ولا يفهمون، بل كل قول مليح، إذا عجز الإنسان عن الفهم وقدر على التصحيح.
عباس محمود العقاد(679/5)
من صميم الحياة
وحي الشيطان. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(على أرباب الأقلام أن يوقظوا النيام وليس عليهم أن يحيوا
الموتى. .)
علي
وهذه (أيضا) قصة من قصص الحياة، (ألفتها) و (مثلتها) على مسرحها، وهي قصة واقعة أعرف زمانها ومكانها وأشخاصها، ولكني لن أصف شيئاً من ذلك ولا أشير إليه، لأني لا أريد أن أسوء أحدا ولا أن أعرّض به، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما في التعريض بالناس نفع للقراء ولا لي وما أكتب تاريخا إنما أسرد قصة. . .
وقعت هذه القصة في بلد من بلدان هذا الشرق العربي الذي يقف اليوم حائرا في مجمع الطرق، لا يدري أين يسلك ولا إلى أين يتجه، والذي يعيش عيشة تحكى الثوب المرقّع، فيها شيء من الجاهلية وشيء من العصور الإسلامية الأولى، وشيء من عصر الانحطاط، وشيء من فرنسا ومن إنكلترا ومن روسيا ولكنه لا يكاد يأخذ من كل (شيء) إلا أسوأ ما فيه.
وكان مما أخذ أهل ذلك البلد عن أمريكا، أنهم عملوا من بناتهم في المدارس مثل المجندات فيها، وما جندت أمريكا المجندات في هذه الحرب إلا (للترفيه) عن الجنود، فعمّن نريد أن (نرفه) نحن؟!
وانتشرت هذه البدعة في مدارس البنات حتى بلغت هذه المدرسة، وأراد القائمون عليها إعداد هذا اللباس العسكري للطالبات، ولم يكن بدّ من الاستعانة بخياط فبحثوا حتى وجدوا خياطا أخبروهم أنه رجل أمين صاحب خلق متين، وجاؤا به ليقيس أجساد الطالبات، وجعلوا يدخلونهن عليه واحدة بعد واحدة، وهو ماض في عمله، يغض من بصره إلا عما لابد من رؤيته، ويترفق في جسه ومسه، إبقاء على طيب الذكر، وحرصا على صناعته، ولعنة الله عليها من صناعة، أن يخيط الرجل ثياب النساء، ولعن كل من يرضى بها. ولبث(679/6)
كذلك حتى دخلت هذه الفتاة، وكانت بنت ست عشرة كاعبا غرة مكلثمة بيضاء ذات غضاضة وبضاضة وخفر، من رآها رأى ملامح طفلة حلوة فتانة بطهرها وجمالها، في وجه خَوْد عذراء، على جسم راقصة مِفَنَّة، في ثياب عروس. . . . فلما رآها وقام للقياس. . . ومدَّ يده إليها أحس بقلبه يجب وجبانا منكرا، وبأنفاسه تتلاحق حتى كاد يدركه البهر، ولم يكن قد أصابه ذلك من قبل، وقد (طالما) رأى فتيات أجمل منها وأبهى وقمن أمامه بالغلائل ومسهنَّ وقاسهنَّ، فما صنعن به مثل هذا، وما كان تقيا ولا عفيفا، ولا يمتهن هذه المهنة رجل ويخيط للنساء ويبقى عفيفا، ولا تمشي إليه لتخيط عنده عفيفة ولا شريفة ولكنه لم يكن مشهورا بالفجور، ولم يكن ماجنا مستهترا فمن هنا عدَّه أهل هذه الأيام. . . أمينا صاحب خلق متين!
وأحسَّ بالفتور في أعصابه، ولكنه تماسك وتحامل على نفسه حتى أتمَّ القياس، وتكلم فعجب في نفسه أن وجد صوته يتهدج ويخرج مبحوحاً مخنوقاً، وما عهده كذلك. . . وخاف أن يفتضح فاستأذن في الانصراف، وخرج وفي نفسه عواطف متضاربة، فهو يرجو العودة إليها ويريد الفرار منها، وهو قد سعد بلقائها ولكنه يتمنى إن لم يكن عرفها. ولما وصل إلى دكانه لم يستطع أن يبقى فيه، وأحس كأنه افتقد شيئاً، وأنه يحيا في فراغ مخيف، وكان له، (وتلك من لعنات هذه الصناعة) عاملات وكان يأنس بهن ويلهو، فأعرض اليوم عنهن ولم ينظر إليهن، ووجد تراخياً في بدنه وشيئاً مثل الدوار في رأسه، فترك الدكان وذهب إلى أقرب قهوة إليه، فألقى بنفسه على كرسي فيها وأغمض عينيه وراح يحلم يقظان، ولم يكن يتخيل الفتاة بلحمها ودمها وجوارحها، وإنما كان يرى لها صورة غامضة عجيبة فيها كل ما كان يحلم به من ألوان السعادة وصور الجمال، ولم يكن يفكر في (وصالها) إنما كان في فكره التقديس لها والرغبة فيها والخوف منها والغيرة عليها من عيون الرجال بل من عين الشمس التي تراها!
وهذا هو الحب العذري، من النظرة الأولى، وإن أنكره العلماء وأقاموا الأدلة على إبطاله. لقد عشقها وهو لا يعرف اسمها، ولا دارها، ولا مطمع له في الوصول إليها.
ومرت الأيام ولا أصف لك كيف مرت عليه، وعاد إلى المدرسة ومعه الثياب ليجربها على صاحباتها، ودخلت البنات عليه، وخلعن أمامه ولبسن، وتحركن وحركن. . . وتكلمن(679/7)
وسمعن. . . ولكنه لم يسمع ولم يره، وكان ينظر إليهن كما ينظر النائم إلى خيالات تجوز به وهو غارق في لجج الكرى، وكان فكره معلقا بتلك وحدها، وكان يتمنى لرغبته فيها أن تمر الدقائق مسرعة حتى يراها، ويرجو لخوفه منها أن يبطئ الزمان حتى يتهيأ للقائها. . . وكان كلما دخلت واحدة اضطرب وخفق قلبه يحسبها هي. . . حتى جاءت. . .
وكان لطول ما فكر فيها وخلع عليها خياله من سمات الجمال وأحاطها به من التقديس والإكبار , لا يراها فتاة جميلة كالفتيات بل ملكا هبط من سمائه، أو حوراء من حور الجنان نزلت إلى الأرض، وكان يقدس كل شعرة منها، وكان يخشى أن يمسّ طرف ثوبها، لأنها كانت عنده كالزهرة التي يذبلها اللمس، فكان يخاف عليها ويرعاها من بعيد، ويحسّ الرغبة بأن يمرغ وجهه بتراب قدميها، وأن يقبل حذاءها. . . حماقة من حماقات العشاق. . .
ولم تكن البنت قد سفرت من قبل، أو خالطت الرجال، فهي لا تزال مستحيية، فتهيبت أن تجرب الثوب ووقفت. . . فأعانها المدرس وأنزل بيده جواربها، وخلع عنها ثوبها، وبقيت بـ (الشلحة)، فلما أبصرها الخياط كذلك، ورأى المدرس وهو يعينها على نزع الثوب عنها، اهتز كأنما مشى فيه تيار كهربائي، واجتمع في قلبه دمه كله، فخفق حتى كاد يخرج من صدره، وشحب وجهه حتى صار بلون قشرة الليمون، ثم دارت به الدنيا، ولم يعد يشعر بشيء. . .
لقد أغمى عليه فحملوه إلى دكانه، ولم يعد إلى المدرسة أبدا.
وهام الرجل بها، وزهد في كل امرأة من أجلها، ولم يبقى له في الحياة مطمح سواها، فرحمه جماعة من جيرانه، وذهبوا يطبونها له من أبيها، وأخذوه معهم، فلما عرف ما جاءوا له، أباه عليهم وردهم، فخرج الشاب وقد ضاقت به الدنيا، ولم يجد سبيلا يسلكه إلا سبيل الفجور. . . فأوغل فيه، وسخر ماله وشبابه لإفساد الفتيات، فأفسد منهن العشرات، وهنّ يتهاوين عليه كما تتهاوى الفراشات في النار. ومرت الأيام وسمع إن البنت قد خطبت، وعقد العقد، وزفت إلى بعلها.
هنالك أيس الرجل فانقلب شيطانا، واستحال ذلك الحب في نفسه بغضاً، وكذلك يكون البغض الشديد من علامات الحب الشديد، وأقسم ليدمرن حياتها وحياة أهلها، ولو دفع ثمن ذلك ماله كله وحياته، واستوحى الشيطان الأكبر، ورفاق السوء. . .(679/8)
وهبط عليه (وحي الشيطان)!
فاستعان بمن يعرف من الفتيات من رفيقات البنت، وأغراهن بالمال وبالمتع أن يأتينه بها إلى داره مرة واحدة، وحلف لهن بالأيمان المؤكدة أنه لا يمسّ جسدها.
واحتلن عليها وزعمن لها أن رفيقة لهن مريضة فهن يحببن أن يزرنها معها، ورضيت وضربت لهن موعداً، فأخبرن به الرجل فأعد عدة الانتقام.
ولما وصلن إلى الدار تأخرن عنها حتى صارت من داخل، ثم رجعن واغلق هو الباب دونهن وبقيت وحدها، ونظرت فإذا الدار خالية ففزعت وركضت نحو الباب، فاعترضها الرجل وأخرج مسدسا ضخما، وهددها بأنه قاتلها به إن لم تخلع ثيابها كلها، وحلف لها أنها إن فعلت لا يمسها بيده، ولا يدنو منها، ويدعها تمضي بسلام، ونظرت الفتاة فإذا هو على صورة الوحش الهائج، أو الشيطان الغضبان، فارتاعت وجعلت ترجع حتى التصقت بالجدار، وهو يسلط عليها بريق عينيه وفوهة مسدسه، فلم تجد مناصاً من الامتثال.
فألقت خمارها عن رأسها، ثم نزعت معطفها بيد ترتجف من الرعب، ووقفت، فاستحثها، فانفجرت تبكي وتنشج، وتتوسل إليه:
- أرجوك، أنا في عرضك، أبوس رجليك. . . ارحمني استرني، ماذا عملت لك، إني امرأة شريفة ولي زوج. . .
فزأر في وجهها:
- بس!
وأوهمها أنه سيطلق المسدس، ثم رماه وراءه واستلّ سكينا طويلة أدناها منها حتى وجدت حدها على عنقها، وقال:
- اخلعي!
فخلعت الثوب، فقال:
- اخلعي كل شيء!
فعادت إلى توسلها وبكائها، وعاد إلى قسوته وتهديده.
فرمت (الشلحة)، والقميص، وبقيت بذلك (الكلسون) الذي يشبه خرقة بين رجليها، وصدرة الثديين، فصرخ بها حتى نزعتها، ووقفت أمامه كما ولدت أمها. . .(679/9)
ومرت لحظة، ثم أعرض عنها، وقال لها: البسي واذهبي.
وصدق وعده فلم يمسسها.
فلما خرجت رفع ستارة، وقال للمصور:
هل أخذت الصورة!
قال: نعم، أخذت لها ثلاث صور!
خرجت وما تصدق أنها نجت، فلما بلغت دارها سقطت مريضة. . . وكانت هذه الواقعة كابوسا على صدرها، ما تفارقها ذكراها، في يقظتها ولا في كراها، وهجرت رفيقاتها جميعا رفيقات السوء، واتخذت لها ملاءة ساترة. . . ولكنها أخطأت فلم تنبئ بما جرى لها زوجها، ولم تصدقه خبرها.
ثم كان الفصل الأخير من الرواية:
وصل الخبيث حبله بحبل الزوج، وتزلف إليه حتى جمعته به سهرة، فأحضر معه طائفة من أصحابه الفساق، وكان قد بيت معهم أمرا، فلما احتدم الحديث وحميت السهرة، وزالت الكلفة وجاءت الألفة، أدار الخبيث الحديث حتى وجهه وجهة الحب والغرام، وانطلق يقص قصة لفقها، فلما انتهى منها، أخرج الصورة وقال:
وهذه صورة صاحبتي فيها، انظروا إلى جسمها وجمالها!
ودفعها إليهم فتناقلتها الأيدي، وكلما رآها واحد من أصحابه قال:
وأنا أعرف هذه الفتاة ومعي صورة أخرى لها.
حتى وصلت إلى يد الزوج، فنظر فيها، فأحس كأن لطمة انحطت على وجهه، فأظلمت منها عيناه ولم يعد يبصر ما حوله.
لقد كانت صورة زوجته!
ودمّر بيتان، وعوقب بريئان، وبقى المجرم الأول بلا عقاب، وهو القرد الذي جاءنا تقليده بهذه البدعة المخزية، بنظام (المرشدات)!
علي الطنطاوي(679/10)
مما لم ينشر للرافعي:
أم من عصر العقل إلى عصر القلب؟ أم من عصر العقل إلى
عصر المعدة؟
مشكلة الفقر والغنى بين العلم والقانون والإيمان
للمرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
يزعمون أننا في عصر العلم، وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية؛ مع أنه لا حل لمشكلتها إلا به. إن مسالة الغنى والفقر، وما كان من بابهما لا يحلها العلم ولا القانون إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما كان فوق الإنسانية من السماء قوة لا تحد، وتحت الإنسانية من القبر هوة لا تسد، فلا نظام إلا على تصريف النفس أمراً ونهياً، وتأويل الحياة معنى وغاية، فإن لم يكن الشأن في ذلك مقرراً في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورة بما في باطنها، ولن يبرح الناس على ذلك بعضهم من بعض كالهارب منه وهو مضطر إليه، أو كالمضطر إليه وهو هارب منه، وكلّ من كلٍ في معنى من معاني النفس لا إنسانية فيه
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدي الحياة هذه العضلة البخارية، وذلك العصب الكهربائي. فمن لم يستطع أن يتوقى ضربة الحياة المدنية بعدة من قوة، وعتاد من مال، طاحت به فدكته دكّ الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبة من الرحى الدائرة. فما بينه وبين أن ينهار موضع يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن إذ يعطف على الضعفاء أو يسعد أو يبرّ بما كتب عليه أن يرق لهم من ذات نفسه ويتحنى ويتوجع.
ومتى كان العلم والدين يقومان جميعاً على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها لم تجر الإنسانية إلا على بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلى بها العلم وحده فلن تجري أبداً إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
لن يصلح الإنسان للحياة الطيبة - ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير - إلا إذا وازن بين بيئته التي هو يوجهها وبين طباعه التي توجهه، فقيد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من(679/11)
قيودها، وجمع في متبوئ نفسه حداً بحرية وديناً بعلم. بيد أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مرد على طباع الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين فإذا هو يزين الشهوات، وإذا الشهوات تطوع المغامرة، وإذا المغامرة تجلب المنازعة، وإذا المنازعة تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرف بالحيلة، وإذا الحيلة تهلك التقوى، وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثر الإنساني الذي تعيش فيه الروح. وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدر إلى السقوط مقبل على المحق راجع إلى الحيوانية بأكثر مما يحتمل تركيبه منها.
أولا يرى الناس أن تفوق أمة على أمة لم يعد في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكملها. . .؟
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسان آلة من آلاته التي غمر بها الدنيا فأصبح من لا إيمان له يتعسف خسائسه لا يدري أين يؤم منها وأين يقف، فلا يتسفل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكن بقوة آلة من الآلات الكبرى ودقتها وسرعتها وإتقانها. . . حتى لا رذيلة من رذائل هذه المدنية إلا هي مفننة في تركيب على نسق الأمور المخترعة، وكأن الآلات العمياء ما زادت إنسانها شيئاً إلا أن قالت له كن أعمى، وكأن المدنية الملحدة ما عدت أن جعلت الوحشية تعمل أعمالها الفظيعة بتأنق وتمدن.
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تموج بأسباب الفضائل تحكمها ولا تضبطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى، ولا كانت هذه التقوى إلا عملا من أعمال الإرادة غايته إيجاد الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزة العملية في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه. أظهر آثار الإيمان تحديد الغايات الإنسانية وتنسيقها والملائمة بينها، فإن إطلاق الغاية لكل إنسان على شأنه وسبيله كيف درّت معيشته وكيف دارت أهواؤه يجعل طرق الناس متداخلة متعادية فيقطع بعضها على بعض ويقوم سبيل في وجه سبيل، فلا تحل عقدة إلا من حيث تقرض أختها، ولا يتخلص خيط من خيوط اللذات الملتبسة المتشابكة إلا قاطعاً متقطعاً معاً. وأنت إذا بحثت عن الوحدة التي تحاول ضم الإنسانية المتنافرة وردها إلى مرجع واحد لم تجدها في غير(679/12)
إيمان المؤمنين، فهو أبدا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارة بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائل في كل مجتمع بين أن تنقلب أسباب السمو العقلي فتعود من أسباب الدناءة والخسة.
وإنما محل الإيمان من أهله محل الحكومة ممن تحكمهم؛ فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات كأمن الناس ونظامهم وسعادتهم هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع، رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغنى كبير غناء في الخير والشر. إذ يحتاج الخير أبداً إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبداً على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتيالها عليها شر مثله، فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الراسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه - لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيداً اشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائماً في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائماً عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضاً معنى بلا معنى. . . وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبنى بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جداراً يعطف نفساً على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه. فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة قلبية سليمة من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخاً فيه كما نقول للص: إنك لتسرق ستصبح غنياً تمر يدك في الذهب تنفق وتستمتع على ما تشتهي. فما يراك قلت له لا تكن لصا وتعفف، بل قلت له كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما(679/13)
نرى لعهدنا في الأمم التي فشى الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه. والله لكأن المسكين في هذه المدينة هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له ما أنا إلا لؤمك أنت.
إن من الشجر شجرة تنبت في الفقر تعتصر ماؤها بين رمل وحجر، وتمتص غذاؤها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره إلا شوك، فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء، وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض؛ فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحمد. وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن
ترى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدر من عصر عقله إلى عصر معدته؟
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شبه الفقر، ومساكين مؤمنون لهم من كرم الصبر شبه الغنى، فهل تنقلب المدنية من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحم الحي وأخرى لا تخلق له إلا الظفر الحي. . .؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة، أفتراه يجيء يوم على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يعيد إلى الأرض إنسانها الأول الكريم؟
مصطفى صادق الرافعي(679/14)
مسكين. . .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
جلس بسام على صخرة مشرفة على طريق القرية الضيق، يلهو بقذف الحصى، ويرنو إلى الأضواء الراعشة، وهي تخفق في السهل البعيد. وكان الناس قد آووا إلى دورهم، منذ طفلت الشمس للمغيب. فتلك كانت عادتهم في المصيف المتواري في ثنايا الجبال. وكانت الطرقات قفراً، والليل هادئاً، والقمر يقطع السماء بدلال واطمئنان، تحف به النجوم باسمات، يتنادين ويتغامزن، كأنهن حسناوات يتبعنه في لجة البحر. . .
وطرق سمعه صوت ناعم رخيم نبهه، فأرهف أذنيه، وحدق بعينيه، ثم قفز من الصخرة، يتلفت يمنة ويسرة. فلمح في طريق تخرج من سفح الجبل، فتترامى على صدره، وتغيب في قمته، شبحين ينحدران وسط الظلام في مشيتهما ميسان وفتور. وقد استند رأس برأس برفق، واشتبك ذراع بذراع بعنف، وغرقا في تمتمات وغماغم، شغلتهما عما يحيط بهما، من طبيعة وسنا، وقمر ضاحك، ونسيم رطب ونجوم ساطعات.
وتقدم الشبحان يميسان. فخفق قلب بسام، وظن أنه حبيب يغازل فتاته في هذا الليل الوسنان. فخطر على قلبه أن يعبث بهما فيقلد عواء الكلاب ليرعبهما، ولقد هم. . . لولا أن حدق ثم حملق، ثم بلع ريقه، وخفق قلبه، وذهل. . . لقد لمح، تحت ضوء القمر، حسناؤه زهرة الياسمين، التي فتنته ذات يوم، في قاعة الدرس، أنه يوم مسحور. . . أبصر به جمال الحياة يشع في عينين زرقاوين كالبحر، وشعر أشقر مجدل كسنابل القمح، وفم رقيق كأنه الجرح يقطر الدم، وينفح العطر. . . فراح هيمان بها، لا يصحو من حبه ولا يفيق.
وفار الدم في عروقه، ورمى بحصوات كانت في يده، وساءل نفسه عما تفعله الآن، وقد انتشر الليل؟ ترى أهي تحب فتى غيره؟ وكيف تحب، وهي له وحده؟. وهم أن يهجم على هذا الذي معها فيهشم عظامه، ويسحقه. فاقترب مغيظا. . . ولكنه ما لبث أن تبين إن الذي معها فتاة، وليس فتى. فشعر بتيار بارد يجري في عروقه، وتصبب العرق من جبينه. . . وبهت. . .
وضحك، بعد برهة، من نفسه كالمجنون. . وعاد إلى الوراء خطوات، فاختفى وراء صخرة ضخمة. . وحدثته نفسه أن ينتهز الفرصة فيكلمها. فهذه فرصة لن يجد مثلها. الجو صفو،(679/15)
والحب شديد، والرقباء بعيدون.
وهو ما انفك مذ عرفها في المدرسة، يحاول الكلام معها ويود التقرب منها، فلا يستطيع. فكان يكتم هواه ويتجلد. وربما زور في نفسه جملا حلوة، وكلمات ناعمات، آملا أن تتصل بينهما المودة، فيحدثها بها. . . ولكنه كان يفشل دائماً فيما كان يحاوله. فقد كان أستاذه القصير يقلقه، وكان رفيقه الشيخ المتعصب للدين يزعجه. فهؤلاء أوانس يحرم على الشبان كلامهن، أو النظر إليهن.
وشعت فكرة التحدث إلى حسنائه، في نفسه كالشمس. وشعر بقوة تدب في جسمه. وأخذ قلبه يخفق. . . ورفع رأسه ليرى الشبحين. . . وهم أن يوقفهما، فقد اقتربا منه. وظن أنها ستفرح بلقياه. . . فلقد كان يخيل له أنها تحبه، ودلائله على هذا لا تعد. كم مرة عمد إلى كتب الأدب، فاستفتى صفحاتها، فكانت تغريه. كم مرة فتح دواوين الشعراء، ليعلم (حظه منها) فكانت الأشعار تبشره. حتى لو كانت القصائد على غير ما يشتهي. أنه كان يقنع نفسه أن الشاعر كان يقصد غير ما قال. . . وكم مرة نظرت إليه نظرة، قد تكون عابرة، فقضى الليالي يفسر النظرة ويقول لنفسه: أنها لتحبني. . . فكيف لا تفرح الآن، إذا رأته أمامها. . . أنها لا تفرح فقط، بل ستلقى بنفسها عليه، وستقول له خذني. . . فهاأنذا بين يديك. . .!
وتقدمت زهرة الياسمين، فتبين من معها. أنها رفيقتها بنفسجة فسر. ترى من يجامل منهما؟ وكيف يغازل زهرة الياسمين؟ ألا تغار هذه البنفسجة؟ وقال: أوف، هذه مشكلة جديدة. . . إن زهرته قد تنكره أمام صاحبتها، وقد تسمعه قارس الكلام. . . ولكن كيف يقدم لها ما زور في نفسه من كلمات غزلات، وقد صنعها لها وحدها؟
ومر الشبحان، فتقلص بسام، واختبأ، وحبس أنفاسه.
ثم عاد فرفع رأسه، لقد ضاعت الفرصة. مرت ولم يكلمها لابد من التحدث معها. ولكنه لم يفكر قط في رفيقتها هذي ولم يحسب لها حساباً. . . وخطا خطوات. . . واتجه نحوها.
فسمع هامساً يهمس في أذنه: (أنت شاعر. . . وأديب) فرفع، بلا شعور، رأسه، ونفخ صدره، وامتلاء زهواً. وردد بنفسه: (نعم. . . أديب، لي من سعة المعارف، في الشعر، ما يسهل لي كل عسير. ثم أنا شاعر. . . وشعري رقية للحسان وسحر. . . سأحدثها. فإذا(679/16)
أعوزني الأمر، نثرت ما حشوت به رأسي، من أشعار، كالزهر).
واندفع. . . تاركا عن يمينه صخرته التي كان يجلس إليها، ثم مشى بحذر فخلف وراءه الطريق الوعرة التي تقوده إلى بستان القرويات الثلاث اللواتي أبغضن الرجال، فتبادلن، كما زعموا الحب. ثم عرج فجأة، فإذا هو وراء الفتاتين، على بعد أمتار. . . لقد أدركهما.
ولكن كيف يبدأ الحديث؟ هذه مشكلة ثانية. . . وأخذ يتذكر، وقد اطمأن أنه وراءهما، ما كان زوره في نفسه. لقد نسى بعض ما زور. . . إن فيه (رأيت إلى الوردة التي عشقها البلبل، يا زهرتي، فطاف في الدنيا يجمع لها اللآلئ ويزينها بها، ويغنيها في الصباح والمساء من الغناء ما يبهجها. إنك لأجمل منها عندما تبتسمين. . .) ولكنه تلعثم. . . ترى أتليق هذه الكلمات؟ إنها خيالات شاعر يغازل بها الورق، لا الحسان. . .! ثم، أتفهم عنه ما يقول. كان يعتقد إن المرأة ليست جديرة بهذا ولكنه كان يجد نفسه مسوقاً نحوها مفتوناً بها. . .!
وحاول أن يذكر جملة أخرى. . . (أنت يا زهرتي، بين أنشودة وبنفسجة، لك الشمس تبدو رفافة بين غمامتين تضحك للدنيا وتغمرها بالنور. . .) فأعجب بما قال وزهى. ولكنه فطن أن أنشودة غائبة، وأن في الليل القمر. وإذن ماذا يقول؟ وتنبه. لقد كادتا تصلان إلى السفح. وها هو ذا طريق القرية يبدو، بل ها هي ذي دار حسنائه، تلمع سقوفها الحمر، تحت ضياء القمر، أنها قريب، في رأس الطريق. ونادى من أعماق نفسه: (يا رب. . . يا رب!) وقبض على أصابعه، وضغط على أسنانه، وفار الدم في وجهه. كيف يحدثها؟ كيف يبدأ الحديث؟ وبم يحدثها؟ وتأفف. ولعن هذه الدراسة الطويلة التي قطع شبابه بها، ثم هو يجبن عن التحدث إلى فتاة. أنه بارد بليد. ولم يجد شفاء لنفسه غير سباب أرسله إلى أستاذه ورفيقه.
وشعت في رأسه فكرة فتمسك بها كأنه يخاف أن تفر. بعد أسابيع سيرسل، وترسل، للتدريس لقد جمعتهما المهنة. فلماذا لا يتخذ ذلك سبيلا إلى التحدث. ولقد كان يغيظه أن يراها تناجي رفيقتها وهو قريب منها ولا تناجيه. يا ويحهما. كأنهما عاشق وحبيب.
وبلغ السفح، وهو يمشي على رود، ويئس وفكر في الرجوع، وانثالت على رأسه فكر جديدة: (هيا. لأتعثر عمدا فأتدحرج أمامهما. . . عندئذ تقفان. . . وعندئذ أحدثها. . .) وهم(679/17)
وتشجع ولكنه جبن. لقد خاف أن يتبعثر شعره الذي صففه ورجّله.
وخشي أن تضحكا منه وتهزئا به، فأجفل، ووقف، والفتاتان مسرعتان.
ورآهما وقد بلغتا طريق القرية تهرولان فجمد بصره. وشعر كأن في عنقه حبلا يشد به نحوهما. فهرول هو أيضاً بلا وعي، وأخذ وهو يهرول يلوم نفسه ويشجعها ويدفعها أن تحييهما، فالتحية مفتاح الحديث. وأسرع في العدو وقد خاف أن يفوته إدراكهما. لقد بلغتا القصر. . . هذا القصر الذي زينت جدرانه بالياسمين، وتدلى فوقه زهر أحمر يسمونه (الزهر الفرحان) وأسرع. . . وجهد نفسه. . . وفي عينيه نار، وفي قلبه نار. . . آه! ليت الطريق تطوى. . . وليت قلبه لا يخفق. . . ليستطيع إدراكهما. . .
وبلغ القصر، وهو يلهث. فتشجع، وابتسم. وفي اللحظة التي فتح فيها فاه ليقول بصوت راعش:
- مساء الخير يا آنسة. . . مساء الخير. . .
كان باب القصر يغلق. . . وزهرة الياسمين، تغيب. . .
وأغمض عينيه، وشحب وجهه، وأطرق برأسه. ثم مضى وفي عينيه دمعة.
وردد النسيم الهائم في تلك الليلة تحيته اليائسة، وتهامس الزهر العارش. . . (إنه مسكين. . . إنه مسكين!).
صلاح الدين المنجد(679/18)
شكسبير العاشق
للأستاذ يوسف روشا
كان جون شكسبير، والد الشاعر، فلاحا. ويقول بعض الرواة أنه كان جزاراً. وليس ببعيد أن يكون الرجل قد اتخذ هاتين الحرفتين في آن واحد، فقد كان جم النشاط سريع الانسجام لا يحجم عن المغامرة فيما يعرض له من الشئون، فتحسنت حاله بسرعة إذ نراه في سنة 1556 - ولم يمض على وفادته على (ستراد فورد) سوى خمس سنوات - قد ابتاع دارين أنيقتين وانتخب نائبا عن هذه البلدة، ثم قام بعد هذا بقليل بأكبر صفقة في حياته وذلك بزواجه من (ماري أردن) ابنة المزارع الغني، فاستقامت حاله وارتفع في مدة وجيزة من مزارع بسيط إلى مصاف أعيان البلدة.
ولد وليم شكسبير في سنة 1564 ولا يزال اليوم الذي ولد فيه موضوع أخذ ورد، فمنهم من يقول أنه 22أبريل، ومنهم من يزعم أنه 23أبريل، فليس في هذا ما يهم، إنما الذي يعنينا أنه ولد في 1564 وكان الصبي الأول والطفل الثالث لجون وماري شكسبير.
لم يرسل جون ابنه وليم إلى المدرسة إلا عند بلوغه السابعة من عمره. وليس من شك في أن وليم، وما عرف عنه من توقد في الذهن ونفاذ في البصيرة، كان قد التهم بسهولة ويسر كل ما تلقاه في مدرسته، وليس هذا الذي تلقاه مما يغني، ذلك أنه لم يكن يتعدى النحو وشيئاً قليلا جدا من اليونانية واللاتينية اللتين لم يتقدم فيهما تقدما ملموساً، حتى أن (بن جونسن) وقد كان معاصراً للشاعر، قال عنه مرة إن معرفة شكسبير باللاتينية قليلة وًقل منها معرفته باليونانية.
على أن حالة الأب المالية أخذت في التدهور حتى اضطر آخر الأمر إلى إخراج كافة أبنائه من المدرسة.
لا نعرف شيئاً عما كان يفعله الشاعر من الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة من عمره، وأغلب الظن أنه كان يساعد أباه في مهنته كجزار، إلا أن سوء الحظ لازم جون شكسبير، فأخذ ينحدر رويداً رويداً إلى هاوية الإفلاس والفقر المدقع، فساءت أخلاق وليم وانضم إلى جماعة من الأشرار يسرقون الغزلان من حدائق الأغنياء.!
ولكن اقتحام الحدائق واختطاف الغزلان لا يعدان شيئا بجانب ما كان يقوم به وليم شكسبير(679/19)
من غزواته الغرامية، فقد وجه سهامه، وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره إلى فؤاد (آن هاتوي) ابنة فلاح، فصادها!
كان وليم مشبوب العاطفة، زير نساء، كما تدل عليه أشعاره وخاصة قصيدته (فينوس وأدونيس). ومن المؤكد أنه لم يقصد من مغازلة (آن) سوى العبث وإشباع الشهوة، ذلك أنه لم يكن يحبها، كما تبين فيما بعد، ولكن المسألة تطورت وأرغم آخر الأمر على أن يتزوجها.
كانت (آن) تكبره بثماني سنوات، وبعد ستة اشهر من زواجها وضعت له صبية اسماها (سوزان) ولا ريب أن هذا هو السبب الذي من أجله أرغم وليم على الزواج.
على أن هذا الزواج كان نكبة على الشاعر ونعمة على الأدب الإنكليزي خاصة والأدب العالمي عامة.
ذلك أنه لو لم يتزوج (آن) هذه لما نزح إلى لندن ولما عرف تلك الفتاة ذات الشعر الناعم والحاجبين الأسودين التي جرعته الصاب والعلقم، والتي من أجلها أخذ يخرج تلك الروائع الخالدات، ينفث فيها سمه، وينفس بها عن كربه.
لقد كان وليم، كما أسلفنا، زير نساء، لا يكف عن رمي شباكه هنا وهناك لاصطياد الكواعب، وكانت (آن) زوجته شديدة الغيرة، شكسة الطبع، فكان الخلاف بينهما يتسع والحالة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
إن غلمته العارمة ورعونته الهوجاء هما اللتان ورطتاه وقيدتاه بهذه الأنشوطة فلا مناص له الآن إلا أن يقطع الحبل. لقد كان عليه أن يختار أحد أمرين، إما أن يكون مخلصاً لطبيعته وفنه، وإما أن يذعن لعرف المجتمع وواجبه؛ فاختار الأول وفر إلى لندن، ولقد عاد هذا الاختيار على العالم بأكبر فائدة.
ولقد حاول الشاعر أن يعتذر عن هذه الزلة بهذا البيت:
(الحب طفل غرير ليس يدري ما الضمير)
لا نريد أن نقف طويلا لنتبع خطوات شكسبير في لندن مخافة أن يطول بنا الكلام فيلهينا عما نحن بصدده. يقول الرواة إن أول عمل قام به الشاعر عند هبوطه على لندن هو إمساك الجياد عند أبواب المسرح مقابل جعل، ثم تدرج قليلا قليلا إلى أن اصبح ممثلا(679/20)
ومؤلفاً للمسرح.
يذهب (فرانك هارس)، الناقد الإنكليزي الشهير إلى أن حياة شكسبير في لندن حتى سنة 1597 - السنة التي تعرف فيها إلى (ماري فتون) - كانت سعيدة إلى حد ما على الرغم من هذه السحابة القاتمة المتغلغلة في نفسه. لقد كان، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره أعظم شاعر ومؤلف للمسرح أنجبه التاريخ، وكانت أواصر الصداقة تربطه مع (الايرل أوف ساوثمتن) واللورد هربرت (بمبروك)، وهما شابان أرستقراطيان عريقان في المجد، وهذان قرباه إلى القصر.
ومن طريف ما يذكر إن الملكة (اليزابيث) شاهدت مرة رواية (الملك هنري الرابع) فأعجبت (بفلستاف)، تلك الشخصية الجذابة المرحة، فأوعزت إلى شكسبير رغبتها في أن ترى (فولستاف) عاشقاً قد تيمه الحب. فنزولا على رغبتها أخرج شكسبير في مدة لا تتجاوز الأسبوع مسرحيته (زوجات وندسور المرحات) فكان نصيبها الفشل، ذلك لأن الفن العالي لا يخضع للمؤثرات الخارجية ولا يصدر إلا من منبع واحد هو وحي الفنان!
والآن من هذه السيدة (ماري فتون) التي سيطرت على فؤاد الشاعر وأضرمت فيه نار الحب؟ أنها وصيفة الملكة (اليزابيث)، في التاسعة عشرة من عمرها ومن عائلة عريقة في المجد. لقد وصفها شكسبير بأنها امرأة لا كالنساء، فارعة القوام، شاحبة اللون، عيناها وحاجباها سوداوان، غجرية الطبع، متغطرسة، متمردة خليعة، من أرومة عريقة في المجد وصاحبة مركز رفيع.
هذه هي المرأة التي جن بها الشاعر، فما هي صفات شكسبير ومؤهلاته حين ذاك؟
لقد كان في الرابعة والثلاثين من عمره، ضعيف البنية، محطم الأعصاب، خجولا، فقيراً، شاعراً. ولكن أغلبية الشعب في ذلك العصر، عصر البطولة الجسمية، لم تكن تحفل بالشعر والشعراء، وكانت تفضل مصارعة الديكة على أية تحفة في الفن والأدب.
لذلك لم يجد شكسبير من نفسه الشجاعة لبث هواه اللاعج لحبيبته بنفسه، فرجا صديقه (اللورد هربرت) أن يقوم عنه بهذه المهمة فقبل، ولكن (ماري فتون) تشبثت باللورد الشاب الوسيم وبادلها هو أيضاً الحب وخلفا الشاعر يندب الصداقة والوفاء.
على أن شكسبير لم تخمد جذوته بل زاد وجده ضراما على مر الأيام.، فما انفك يصب جام(679/21)
غضبه على العاشقين في مسرحياته وقصائده، يصرح حيناً ويلمح أحياناً. ففي مسرحيته جعجعة ولا طحن يذكر الحادثة بصورة جلية على لسان (كلوديو) ناصحا للعشاق ومحذرا لهم من الوقوع فيما وقع هو فيه إذ يقول: (حقاً إن الأمير يبثها غرامه ويستهويها لنفسه. إن دعائم الصداقة تكون ثابتة متينة في كل شيء ما عدا أمور الحب؛ فنصيحتي للمحبين ألا يتخذوا وسيطاً بينهم وبين من يحبون، بل ليبثوا غرامهم بأنفسهم، ذلك لأن الجمال نوع من السحر لا تلبث الأمانة أن تزول أمامه وتتلاشى).
ولقد تشتد بالشاعر الأزمة ويضيق (بماري) ذرعه ويرعد ويزيد مهددا إياها بأنه سيهجوها أقذع الهجاء وأقساه؛ ولكن فاته أن امرأة (كماري فتون)، التي كانت تلد نغلا بعد نغل دون ما حياء أو خجل، لا يهمها ما يكتب عنها بعد ما ذاع أمرها بين الملأ، وأغلب الظن أنها كانت تقابل التهديد بشيء غير قليل من السخرية والاستخفاف.
إذا أردت أن تعرف رأي شكسبير في (ماري فتون) هذه فما عليك إلا أن تقرا مسرحيته (أنطونيو وكليوباترة) فما (أنطونيو) سوى شكسبير وما (كليوباترة) سوى (ماري فتون) وإليك البيان.
(أنطونيو): إن مكرها لا يكاد أن يتصوره عقل إنسان.
(أنوبربس): مهلا سيدي لا تقل هذا. إن عواطفها لمن أنبل العواطف وان حبها لصاف نقي لا تشوبه أية شائبة
(أنطونيو): لكم وددت إني لم أراها قط.
(أنوبربس): ولكن تكون في تلك الحالة يا سيدي قد فاتتك قطعة من الفن مدهشة؛ وتصبح رحلتك بدونها جافة عقيمة بهذه الأسطر الوجيزة عبر لنا شكسبير عن رأيه في (ماري فتون). أنها شر لا بد منه
ثم يصيح على لسان (أنطونيو) والحسرة تكاد تمزق أحشاؤه (إلى أين قادتني مصر؟)
إلى الهاوية ولا ريب.
كان ذلك في 1608 وكان قد مضى على تعرفه (بماري فتون) إحدى عشرة سنة، ذاق في أثناءها الأمرين، فانطوى على نفسه، وأخذ يخرج تلك المآسي الرائعة، حتى وهن جسمه، وانهدت أعصابه، ونال منه الإعياء فانسحب إلى (ستراتفورد)، مسقط رأسه، ليقضي ما(679/22)
تبقى من حياته القصيرة تحت عناية ابنته ورعايتها.
(بغداد)
يوسف روشا(679/23)
الأدب في سير أعلام:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال)
للأستاذ محمود الخفيف
- 19 -
الزواج والصدمة الأولى:
لم يكن زواج هذا الشاعر الفيلسوف أمرا من أمور حياته الشخصية فحسب، يتدبر قصته من يريد أن يستكمل فهم شخصيته ويحيط به من أقطاره، وإنما كان الزواج وما وقع له فيه إلى جانب ذلك حادثا اثر في تفكيره وفلسفته، فعمد إلى توضيح فكره في كتيبات جديدة جرت عليه مخالفة من دافع عنهم من البرسبتيرينز إياه، وأدت به إلى مخاصمتهم ومحاربتهم،؛ ثم استقر اثر ذلك الزواج في نفسه حتى كان ناحية من نواحي فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد. . .
في أواخر ربيع سنة 1642، ذهب ملتن إلى الريف في غير غرض معلوم اللهم إلا ما ظن أصحابه من طلبه الاستجمام، وقضى ملتن زهاء شهر في قرية فورست هل، وتقع على نحو خمسة أميال من اكسفورد، وهي المقاطعة التي نبتت فيها أرومته فقد كان جده لأبيه أحد الموظفين في الغابات الملكية هناك.
ونزل ملتن ضيفا على ريتشارد بوول، وكانت بين أسرة بوول وأسرة ملتن صلة معرفة ومودة.
وعاد ملتن إلى لندن فما كان اعظم دهشة أصحابه إذ رأوه يأتي ومعه ماري بوول زوجا له، وكانت فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وكان هو يومئذ يتشرف على الخامسة والثلاثين؛ ولطالما رأوه عزوفا عن الزواج منصرفا عنه إلى كتبه وشعره، يسرف أحيانا خياله الشاعر ويغلو في وصف العفة حتى ليجعلها في أن يعيش الإنسان أعزب أبدا!(679/24)
وجاء مع العروس سيدات وفتيات من أهلها فاقمن في بيت ملتن أياما نعمن فيها بما أقامه من زينات ومباهج وأفراح أحاط بها هذا العرس حفاوة منه بعروسه، وشوقا منه إلى المسرة وقد تحمل سام العيش وقسوته زمنا طويلا في حرب القساوسة ومكابدة الدرس ومعاناة التعليم.
وانصرف أهل العرس وتركنها في كنف زوجها الشاعر الفذ والفيلسوف المرموق المكانة، ولكنها ما لبثت أن لحقت بهن ولم يكد ينتهي شهر العسل، الأمر الذي دهش له أصحابه اكثر مما دهشوا لزواجه المفاجئ.
وكانت العروس قد أرسلت إلى أمها تسألها أن تكتب إليها لنحضر إلى بيت أبيها لتقضي هناك بقية الصيف، وما كان أبواها ليجيباها إلى ما طلبت ولم يكد يمضي عليا شهر في بيت بعلها، لولا أنهما ظنا أن وراء طلبها سرا حملها عليه؛ وكان ملتن يعلم ذلك السر فوافق على رحيلها لأنه أيقن أن لا شيء اجدر من نصيحة أمها بان يصلح شأنها ويبث في قلبها شعور الواجب نحو زوجها؛ فرحلت عنه عذراء كما جاءته عذراء. . .
وحل الموعد الذي حددته لعودتها ولكنها لم تعد، فكتب إليها ملتن فلم تجبه، فأرسل إليها رسولا بكتاب منه فأصرت على صمتها وأهانت الرسول، فوقع في وهمه أنها لن تعود أبدا، وابتأست نفسه بما فعلت وامتلأ قلبه منها غيضا وحنقا
وحار أصحابه في أمرها كما حار من كتبوا حياته من بعد إلى أي شيء يردون مسلكها أكان ذلك منها لأن زوجها بيوريتاني من أنصار البرلمان في حين كان أبوها من اتباع الملك وأنصاره وقد اشتعلت نار الحرب بين الجانبين؟ أم كان ذلك لأنها كانت من قبل في موطن يعج بالحياة والإنس حيث كان يغشى جند الملك بيت أبيها بين الفينة والفينة فتقع عيناها هناك على وجوه جديدة وتسمع أنباء جديدة، فانتقلت منه إلى بيت شاعر عاكف على كتبه وأوراقه تشيع في أنحائه الوحشة ويسد السكون ولا تسمع فيه من الأصوات إلا بكاء من يضربهم ملتن منى طلابه؟ أم نال من كبريائها أن أباها كان مدينا لأسرة ملتن بمبلغ من المال عجز عن أدائه، فإن دخله من أرضه ومن مال زوجته لم يكف نفقات عيشه إلا بجهد نظرا لكثرة عياله ولما كان يهبط داره من الجند وغيرهم من أنصار الملك؟ أم خيل إليها وهي ابنة سبعة عشر عاما لم تحس بين يدي زوجها وقد كان عمره ضعف عمرها ما كانت(679/25)
تحس به لو أنها كانت بين يدي شاب في مثل سنها؟ أم إن ما بينها وبين زوجها من تفاوت عظيم في الثقافة ومن اختلاف في النظر إلى الحياة نتيجة لهذا التفاوت قد جعلاها تخجل من نفسها وتحس ضآلة شخصيتها إلى جانبه وتشعر أنها غير حقيقة بان تدخل على نفسه من السرور ما يطمع فيه رجل من زوجته؟
كل أولئك في الواقع كان خليقا أن يلحق الفشل بهذا الزواج. ما أهل العروس فقد عولوا ألا يردوا هذا الفشل إلا إلى الخلاف في السياسة والدين بينهم وبين ملتن البيوريتاني البرسبتيري الذي يميل إلى جانب الرؤوس المستديرة كما كان يسمي جند البرلمان بينما هم ينحازون إلى جانب الفرسان كما كان يسمي جند الملك في هذه الحرب الأهلية الدائرة الرحى على أنهم يحسون بينهم وبين أنفسهم إن ذلك لا يكفي وحده للمباعدة بين الزوج وبين عروسه على صورة لا تكون إلا لنفور أحدهما من الآخر نفورا لا تجدي معه حيلة، ولا تفسره إلا تلك الأسباب التي ذكرناها مجتمعة، فقد انقضى شهر العسل ولم يقضي منها وطرا، وكان النفور من جانب العروس لأن الزوج ظل يدعوها بكتب متلاحقة لتعود إليه فلم يجد منها إلا إعراضا وإصراراً. . . . . .
وحق اللوم على ملتن فهو الذي اختارها زوجة له، وكان جديرا أن يتدبر ما كان بينها وبين أبيها من فوارق وما بينه وبينها من تفاوت؛ على أن عين الحب عمياء كما يقول شكسبير، وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما يقول أبو الطيب، وقد كان ملتن كما رأينا في سالف مواقفه سريع التأثر بسر المرأة يتهافت على ما يصوره له خياله الشاعر من الجمال تهافت الفراشة على الضوء، فقد احب كما علمنا من أمره وهو في صدر شبابه فتاة وقعت عليها عيناه لأول نضرة في زحمة لندن ولم يراها بعد ذلك أبدا، حتى لقد عول على الهرب من لندن مخافة أن تصيده سهام كيوبيد. ولقد تعرض لهذه السهام في إيطاليا كما رأينا، وما زال يتحاماها وهو الحريص على عفته حتى وقعت عيناه على هذه الفتاة الريفية وكانت تهجس أحاديث الزواج في نفسه كما تبين في رثائه صديقه ديوداتي، فاقبل على الفتاة وقطع أمره في غير روية، فما به خوف اليوم من كيوبيد والمسالة مسالة زواج - وهكذا تصيده السهام ويملك قلبه الحب
واختلف مؤرخو حياة الشاعر في هذه الفتاة أكانت جميلة ساحرة أم كان حظها من الجمال(679/26)
بحيث لا يصل إلى حد الفتنة؟ فمنهم من يؤكد سحر جمالها، وحجته أنها لو لم تك كذلك ما بلغت من نفس الشاعر بمثل السرعة وهو الذي لا تخطيء الجمال عيناه. ومنهم من يؤيد الرأي الآخر وحجته أنه لم ترد فيما ذكر الشاعر عنها إشارة إلى سحرها، وما افتن ملتن منها إلا بما رآه من وداعتها وخفرها ونظرة الريف في محياها وجسدها، والشاعر خليق أن يضيف بخياله إلى محاسنها جمالا فترى عيناه فيها ما لا يرى غيره من الناس. على أن هؤلاء وهؤلاء لا يتجاوز كلامهم الاستنتاج فلم يقع أحد منهم على دليل لما يقول؛ ومهما يكن من شيء فإن عين الحب عمياء وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولقد كان ملتن تلقاء فتاة قروية في السابعة عشرة إلا تكن فارهة الجمال فقد كانت في روعة الشباب، وقد جمع للزواج عزمه، فما اسهل أن تريه عيناه فيها من معاني الجمال والطهر والعفة في بيت أبيها الريفي ما يتغلب في خياله الشاعر على كل عقبة. . .
ولقد اقض الألم مضجعه لهذا الفشل وقد كان يطمع أن يسكن إليها ويجد بين يديها مودة ورحمة، كما ملأ الحنق نفسه لما أصاب كبرياءه برفضها العودة إليه وإهانتها رسوله، وقد كان يظن أن نصيحة أمها وحزم أبيها سيعودان بها إلى الصواب. . .
ولا ريب أن ملتن كلن يستشعر في نفسه الخجل والندم كما استشر الألم، وذلك أن اختياره ماري بوول متأثرا بمظهرها على هذه الصورة العاجلة إن هو إلا اندفاع العاطفة في فورة من فوراتها، وإلا فماذا دفعها إلى هذا الاختيار ولم يك يعرف ماري بوول من قبل حتى يظن أنه انس فيها من الصفات ما يهتم به شاعر مثله كالذكاء والثقافة وبراعة الحديث وما يتصل بها؛ وكان خليقا وهو الذي طالما افتخر بامتلاكه زمام نفسه وطالما اعتقد أنه قادر على كبح جماح عاطفته أبدا، أن يندم ويألم فقد سيطرت عليه عاطفته، وتغلب الجسد في نزوعه الشديد نحو رغبة له اتقدت، وليهت حقق بالزواج تلك الرغبة؛ فلئن تزوج فما هو بمتزوج إذا صح هذا التعبير، ثم أنه أخذ يطفئ في نفسه جذوة جسده ووقدة عاطفته مستعينا بالصبر والصوم؛ ولقد اثر انقياده لعاطفته على هذا النحو على ما كان فيه من كبرياء أثرا عميقا في حياته وفكره سوف يظهر في فلسفته وفنه.
ومما زاده غما وألما أنه كان بعد أن هجرته زوجه لا يستطيع بالضرورة أن يتزوج غيرها، وهذا في ذاته قيد ظن؛ وهل كان يستطيع أن يحمل نفسه على قبول هذا القيد لأن(679/27)
الدين أو لأن الكنيسة تحول بينه وبين الطلاق إلا وفق شروط معينة؟ ومتى خضع إلا ملا يهديه إليه فكره، وقد نزع إليه وجدانه وتعلق به إيمانه؟ وإذا كان هو نصير الحرية الذي دافع عنها أمام تعصب القساوسة فكيف يتخاذل عن نصرتها الآن؟ ألا يستطيع أن يدع الجانب الشخصي من فشله في زواجه فلا يتعرض له ثم يخلق من الحادثة في ذاتها موضوعا عاما؛ فيكتب دفاعا عن الحرية في ناحية من نواحيها واعني بها الناحية الشخصية؟ بلى أنه لقادر على ذلك وأنه لفاعله، وأنه لنصير الحرية الشخصية اليوم.
ويمكننا أن نتصور حالته النفسية في هذا الموقف، فهذا رجل ذو كبرياء وأنفة، طالما افتخر بتغلبه على شهوات نفسه، وقد عاش حتى الخامسة والثلاثين من عمره عيشة الطهر والعفة مستعينا بعزم المصمم على قهر وساوس الشباب، يسمو في طهره على الناس ليكون أهلا لرسالته التي يستشرف لها، ويقبل على دراساته ليتهيأ إلى ما يتطلع إليه، ثم إذا به يجد نفسه، وقد ارتطم في ورطة بسبب انقياده لعاطفته بعد طول امتنع، ولئن كلن ما وقع فيه لم يعد كونه أمرا مشروعا هو الزواج، إلا إن فشله في اختيار زوجته كان نتيجة تسلط عاطفته على عقله أو تغلب جسده على روحه، وان ذلك ليشعره بينه وبين نفسه أنه لم يعد إنسانا كسائر الناس؛ ولكم نال ذلك من كبريائه وادخل الغم على نفسه، فضلا عن أن ما انتهى إليه إنما هو حد من حريته.
على أن كبرياءه تأبى عليه إلا أن يلتمس مخرجا لنفسه فما يطيق أن يذعن، ويجد ذلك المخرج في تقريره إن العاطفة في ذاتها من الأمور المشروعة التي وضعها الله في الإنسان، وما لم تنطوي على جريمة فلن يضير المرء أن تقوده إلى خطا؛ ويستنكف أن يشير إلى مسألته الشخصية، فيعمد إلى فلسفة عامة في الزواج والطلاق ينفس بها عن نفسه ويراب بها ما تصدع من كبره، فإذا كانت العاطفة أمرا مشروعا فوجب أن تكون العلاقة بين الزوجين على أساسها، فيكون الزواج اتفاق عاطفتين أو التقاء روحين، فإن كانت العلاقة على غير هذا الأساس، وكانت مجرد التقاء جسدين، أو كانت العاطفة لا تقابلها مثلها في الناحية الأخرى بطل الزواج ووجب الطلاق؛ وهو إنما يبتكر بذلك سببا للطلاق لم يتجه إليه أحد من قبله، ومرده إلى المنطق لا إلى شريعة سماوية أو قانون بشري؛ على إن كلامه هذا في الوقت نفسه ينطوي على تأنيب منه وزجر لنفسه، وإلا فهل فكر قبل(679/28)
اختياره مالي هل كانت عاطفتها تجاوب عاطفته، أم كان الأمر أمر افتتان بها لم يتمالك عندها نفسه؟ وإذا فهو الملوم وحده.
ولكنه يقدر وقوع الخطأ، فقد يخدع الإنسان فيمن يخطبها لتكون زوجه، ويحس أنها تبادله عاطفة بعاطفة؛ فإذا وقع الخطأ فعلا فما السبيل إلى تجنب ما يجره ذلك الخطأ من عواقب هي شر منه فلا سبيل في رأيه غير الطلاق، وإلا فكيف يتباعد الزوجان ولا يستطيع كلاهما أن يتزوج غير الآخر؟
بهذه الآراء البالغة الجرأة والخطر في أمر له أهميته وخطورته في المجتمع قذف ملتن الناس في كتيب نشره في أغسطس سنة 1643 وسماه (قانون الطلاق ونظامه)، ولم يك غافلا عما كانت مثل هاتيك الآراء خليقة أن تثيره من سخط وغضب ودهشة تشبه الجزع في الأوساط جميعا، ذلك أنه كان يدرك أنه كان طلعة في تناول الموضوع على هذا النحو، ولكنه كما يقول الإنجليز احرق القوارب كلها من ورائه وليس يبالي أيبلغ ما يريد أم يهلك دونه.
ويزخر هذا الكتيب بحماسة شاعر عظيم تدفعه للكلام روح قوية نبيلة وألم يمنح جوانحه لما لحق كبرياءه، وغضب عاصف كما هاج البحر ثائر كما تأججت النار، ولذلك تقع فيه على مظاهر الحماسة قوية رائعة، فيرسم الشاعر طائفة من المثل العليا للحياة الزوجية، ويصور الألم والخيبة التي تعقب الزواج الفاشل، ويبدع إذ يستند إلى العقل والمنطق في براهينه، وإذ يسوق الأدلة التي تؤيد رأيه من الإنجيل، وإذ ينقض ما ينهض فيه حجة عليه، ويبلغ ذروة الإقناع والفصاحة إذ يدعو إلى تحرير العقل من حرفية القانون، وهو في ذلك كله يصل من البلاغة إلى ما لم يصل إليه في كل ما كتب قبله، والحق انك تجد في هذا الكتيب ملتن الرجل وملتن الفيلسوف وملتن الشاعر على خير ما يكون من حالاته في ذلك جميعا وان كان النثر وسيلته وأداته.
وكان يعتقد ملتن أنه خرج من الشؤم الذي لحقه بخير يسوقه للناس جميعا، فهو يخيل إليه أن ما انتهى إليه من رأي في الطلاق إنما هو خلاص للبشر من قيد بغيض ظالم يوبق أرواحهم ويريهم مثل حياة الجحيم في هذه الدنيا، وذلك هو معيشة الزوجين معا على رغمهما لأنهما ارتبطا برباط الزواج.(679/29)
وكانت تحف عنه آلام نفسه كلما ذكر أنه إنما يكتب ما يكتب ليخفف عن الناس آلامهم، فلا ضير أن يتحمل الألم ما دام الناس سيفيدون مما حاق به من سوء المصير، على أنه أنفة منه وتكبرا حريصا على ألا يشير بشيء إلى مسألته الشخصية
(يتبع)
الخفيف(679/30)
بمناسبة حال العمال اليوم:
واجبات الإنسان. . .
للزعيم الإيطالي يوسف مزيني
بقلم الأستاذ عامر عبد الوهاب
نشر مزيني هذا المال عام 1860 موجها كلامه إلى الطبقة العاملة في إيطاليا قال: أود أن أتحدث إليكم عن واجباتكم، وأود أن أتحدث إليكم كما يوحى إلى قلبي عن اقدس ما نعرف من الأشياء: عن الله سبحانه تعالى، وعن الإنسانية والوطن والأسرة. أصغوا إلي إصغاء محبة، كما سأتحدث إليكم حديث مودة. إن كلماتي لهي كلمات اليقين الذي صهرته السنون الطوال التي قضيتها في كمد ونظر ودرس. واعلموا أني ابذل قصارى جهدي في تأدية الواجبات التي سأشرحها لكم وسأستمر في تأديتها إلى آخر رمق من حياتي. قد أخطئ ولكن قلبي متشبع بالحق. قد اخدع نفسي ولكني لن أخدعكم، لذلك أرجو أن تستمعوا إلي كأخ، ولكم أن تحكموا بحرية فيما بينكم إن كنت أتكلم بلسان الحق. واهجروني إذا ما شعرتم أني انطق عن الهوى، ولكن اتبعوني وسيروا على نهج خطتي إذا ما تبين لكم أني رسول صدق مبين. إن الخطأ بلية تستحق الإشفاق، ولكن إذا عرف الإنسان الحق ولم يهتد بهدية في أعماله، فذلك جرم تستنكره السماوات والأرض!
لماذا أتحدث إليكم عن واجباتكم قبل أن أتحدث إليكم عن حقوقكم؟ لماذا وانتم تعيشون في مجتمع ينبغي كله الإجحاف بكم طوعا أو كرها، وفيه يحرم عليكم دواما أن تمارسوا الحقوق التي تخص الإنسان، والذي كتب فيه أن يكون البؤس نصيبكم، وما يعرف بالسعادة من حظ غيركم من الطبقات؟ لماذا أخاطبكم عن التضحية لا عن الغلبة، أخاطبكم عن الفضيلة والتهذيب الخلقي والتربية لا عن الرفاهة المادية؟ هذه مسالة لا بد لي أن اشرحها قبل أن اشرحها قبل أن أتابع حديثي، لأنه هنا يتبين الفارق الحاسم بين نظريتنا وبين النظريات الأخرى التي تشيع الآن في أوربا. هذا فضلا عن أنها مسألة يضطرم بها العقل المتبرم، عقل العامل المتألم!
(نحن فقراء مستعبدون أشقياء، فتحدث إلينا عن أحوال انعم من حالنا، وكذلك تحدث إلينا(679/31)
عن الحرية والسعادة. نبئنا إن كان مقضيا علينا أن نذوق البلاء إلى الأبد، أو إننا سنسترفه بدورنا. توجه بحديث الواجب إلى سادتنا، إلى الطبقات المتحكمة فينا والتي تعاملنا معاملة الآلات، والتي تحتكر لنفسها الخيرات التي هي حق للجميع. تحدث إلينا عن الحقوق وعن الوسائل التي تؤيد هذه الحقوق، كما تحدث إلينا عن قوتنا انتظر حتى نظفر بمكانة يعترف بها، وحينئذ يجمل بك أن تخاطبنا عن الواجبات والتضحية)
هذا ما يقوله كثير من رجالنا العاملين وهم يتابعون الأساتذة والهيئات التي تساير ميولهم. هم ينسون شيئا واحدا فقط، ذلك أن النظرية التي يثيرونها قد دان بها الناس منذ خمسين عاما دون إحداث أي اثر من الإصلاح المادي في حالة الشعب العامل.
إن كل ما حدث في الخمسين عاما الماضية في سبيل الخير والفلاح ضد الحكومات المطلقة والأرستقراطية الوارثة، إنما حدث باسم حقوق الإنسان، باسم الحرية كوسيلة، وباسم الصالح العام كغاية الوجود، فكل أحداث الثورة الفرنسية، بل وجميع الثورات التي تبعتها وقلدتها كانت نتائج (إعلان حقوق الإنسان). وان جميع مؤلفات الفلاسفة الذين مهدوا لها كانت تقوم على نظرية الحرية وعلى قاعدة تعريف كل فرد ماله من الحقوق.
إن جميع المدارس (المذاهب) الثورية نادت بان الإنسان قد خلق للسعادة، وبان له الحق في أن يسعى لها بكل ما يملك من الوسائل، وان لا حق لغيره في أن يصده عن هذا المسعى، كما أن له الحق في أن يزيل كل ما يصادف من العوائق في هذا الطريق. ولقد زالت العوائق وتحققت الحرية ودامت سنين في بلاد كثيرة ولا تزال كائنة في البعض، فهل تحسنت حال الشعب؟ وهل حققت الملايين التي تعيش بكدحها اليومي اتفه نصيب من الهناءة التي رجوها والتي وعدوا بها؟
كلا، فحالة الشعب لم تتحسن، بل لقد زادت ولا تزال تزيد سوءا في كل بلد تقريبا، وعلى الأخص هنا (في إيطاليا)، حيث أسجل أسعار حاجيات المعيشة التي أخذت في الارتفاع، وأجور الطبقة العاملة التي هبطت في كثير من فروع الصناعة، بينما السكان آخذون في الازدياد.
ولقد اشتدت حال العمال زعزعة واضطرابا في كل بلد تقريبا كما ازدادت أزمات العمل التي قضت بالعطل والخمول على آلاف من العمال، وان الزيادة السنوية في تعداد(679/32)
المهاجرين من قطر إلى قطر، ومن أوربا إلى النواحي الأخرى فمن العالم، والزيادة المستمرة في عدد الجمعيات الخيرية، والزيادة في مخصصات الفقراء ومساعدات المعوزين، كل أولئك كلف في إثبات ما نقول، والشاهدان الأخيران يدلان كذلك على أن العناية العامة آخذة في التيقظ لآلام الشعب، ولكن عجزهم عن تخفيف هذه الآلام إلى أي حد محسوس يدل على استمرار مروع في شيوع الفاقة بين الطبقات التي يجهدون في معاونتها
ومع ذلك فالواقع أنه حدث في الخمسين عاما المنصرمة أن زادت ينابيع الثروة العامة، وكثرت خيرات الحياة، وتضاعف الإنتاج، واشتد نشاط التجارة، واتسعت دائرتها وسط الأزمات المتلاحقة التي لا مفر منها إذا انعدم النظام. كما أن المواصلات أصبحت مأمونة وسريعة في كل مكان تقريبا، وهبطت أسعار السلع بسبب انخفاض أجور النقل.
ومن جهة أخرى، فنحن نرى الآن كيف أن فكرة الحقوق المتأصلة في الطبيعة الإنسانية أضحت مقبولة على العموم
نعم مقبولة، ولكن لفظا وخداعا، حتى عند أولئك الذين يسعون في اجتنابها فعلا. فلماذا لم تتحسن حال الشعب؟ ولماذا نرى استهلاك المنتجات بدلا من أن يكون مقسطا على السواء بين جميع أعضاء المجتمع الأوربي نراه محصورا في أيدي فئة قليلة تكّون أرستقراطية جديدة؟ ولماذا نرى الانتعاش الذي أصاب التجارة والصناعة لم يود إلى يسر الأكثرية، بل إلى ترف الأقلية؟
إن الجواب يتضح لأولئك الذين ينعمون النظر قليلا في الأشياء. فالناس نتاج التربية. وهم في سلوكهم يصدرون عن مبدأ التربية الذي طبعوا عليه؛ فالرجال الذين ألهبوا نيران الثورات حتى اليوم إنما أثاروها بوحي فكرة حقوق الفرد. وها قد حققت هذه الثورات أمنية الحرية: الحرية الشخصية، وحرية التعليم، وحرية الاعتقاد، وحرية التجارة،؛ بل الحربة في كل شيء ولكل إنسان ولكن ما فائدة إعلان الحقوق لمن لا يملك وسيلة لاستخدامها؟ وماذا تعني حرية التعليم لأولئك الذين لا يجدون وقتا أو واسطة للانتفاع بها؟ أو حرية التجارة لمن لا يملك شيئا يتاجر به، لا راس المال ولا النسيئة (الائتمان)؟ بل لقد حدث في جميع البلاد التي أعلنت فيها هذه المبادئ إن المجتمع كان يتكون من فئة كانت تملك الأرض وتحوز النسيئة وراس المال ومن جماهير غفيرة لا تملك غير أيديها، وكان عليها(679/33)
أن تزاول الأعمال الأزمة للطبقة السالفة على أية شرائط حتى يتسنى لها أن تعيش كما كان عليها أن تصرف اليوم كله في الكدح الآلي المطرد الممل. فهل كانت الحرية بالنسبة لهؤلاء الذين قضى عليهم أن يكافحوا الجوع سوى خدعة غادرة وسخرية لاذعة؟ أما لو كان القصد من الحرية شيئا خلاف ذلك، لكان إذن يتعين على الطبقات المترفة أن توافق على تقليل ساعات العمل وزيادة الأجر وتعمل على نشر التعليم المجاني المتماثل للجماهير، كما تسعى في جعل أدوات العمل في متناول الجميع، وان تقدم مكافآت مالية للعمال الذين تثبت كفايتهم ونبل غايتهم.
ولكن لماذا يتعين عليهم أن يقوموا بذلك؟ ألم تكن الرفاهية الغرض الأسمى من الحياة؟ ألم تكن الخيرات المادية مرغوبة قبل كل شيء آخر؟ لماذا ينتقصون من حظهم هم لأجل نفع غيرهم؟ أليس على كل إنسان أن يساعد نفسه قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وإذا ما كفل المجتمع حرية استخدام الحقوق الإنسان لكل من توفرت فيه القدرة على ذلك؛ فيكون حينئذ قد أدى كل ما يطلب منه. أما إذا كان هناك أوربا فرد يعجز بحكم ظروفه القهرية علن استخدام أوربا حق من هذه الحقوق فما عليه إلا أن ينسى حساب نفسه ولا يلوم سواه.
لقد كان من الطبيعي أن يصرحوا بذلك، وفعلا فقد صرحوا به. وهذا الاتجاه العقلي الذي ساد الطبقات المميزة بالثراء والذي تحكم في نظرها إلى الفقراء سرعان ما اصبح الوجهة التي انتهجها كل فرد نحو الآخر. فعنى كل إنسان بحقوقه هو وبترقية حاله دون السعي في إعانة غيره. وإذا اصطدمت حقوقه بحقوق سواه تكون حرب، لا حرب الدماء؛ بل حرب الذهب والخداع. حرب أدنى شهامة ورجولة من الأبد، ولكنها تعدلها في الدمار، ويالها من حرب وحشية لا يألو فيها من وفرت وسائله، وبزت قوته في سحق الضعيف أو الأخرق سحقا لا هوادة فيه. وفي حومة هذا القتال المستعر أشربت قلوب الناس الأنانية، والشره في استلاب خيرات الحياة لذواتها دون غيرها وهكذا كانت حرية الاعتقاد معولا يهدم صرح الإيمان كما كانت حرية التعليم سببا في بث الفوضى الخلقية. أليس من شان الناس إذا فقدوا رابطة مشتركة، وانعدمت من بينهم وحدة العقيدة الدينية، ووحدة الغرض، وصارت الهناءة بغيتهم الفريدة،؛ أليس من شأنهم حينئذ أن يسعى كل منهم في سبيله الخاص دون النظر إلى فيما إذا كان في ذلك عدوان على إخوانه. إخوانه اسما وأعدائه فعلا؟ هذه هي(679/34)
الحال التي صرنا إليها اليوم بفضل (نظرية الحقوق).
يقينا إن الحقوق كائنة؛ ولك حيث تصطدم حقوق فرد بحقوق آخر، كيف نستطيع أن نأمل التوفيق والتسوية بينهما من غير الاستناد إلى شيء أسمى من جميع الحقوق؟ وحيث تتعارض حقوق فرد أو أفراد كثيرين وحقوق الوطن فإلى أية محكمة ندعي؟ إذا كان الحق في الرفاهية في أقصى حدودها يتقسط كل شخص حي فمن ذا يفض النزاع بين العامل وصاحب العمل؟ وإذا كان الحق في الحياة هو أول واقدس حق لكل إنسان، فمن ذا يطلب تضحية هذه الحياة لمنفعة بقية الناس؟ أستطلبونها باسم الوطن أم باسم المجتمع أم باسم فريق من إخوانكم؟ ما الوطن في نظر من أتحدث عنهم سوى البقعة التي نظمن فيها حقوقنا الذاتية كل الظمآن. وما المجتمع سوى مجموعة من الناس الذين اتفقوا على استخدام قوة الكل لتأييد كل فرد؟
وهل بعد أن علمت الفرد مدة خمسين عاما إن المجتمع إلينا يقوم على غرض تأمينه على ممارسة حقوقه، هل بعد ذلك تطلب إليه أن يضحي بها جميعا في سبيل المجتمع وان يستسلم إذا دعت الضرورة إلى الكدح المتواصل أو السجن أو النفي باسم إصلاح المجتمع؟ وهل بعد أن بشرته في كل مكان بان غرض الحياة هو الخير والهناءة، هل بعد ذلك تأمن أن ينصرف عن هذا الخير بل وعن الحياة نفسها ليحرر وطنه من الأجنبي أو أن يجهد في إسعاد طبقة لا تربطه بها صلة؟ وكيف بعد أن تحدثت إليه أعواما عن الفوائد والمصالح المادية تستطيع أن تحرم عليه وقد ألفى الثروة والجاه في متناول يديه أن يمد تينك اليدين ليأخذ حظه منهما حتى ولو كان في ذلك ضرر لإخوانه؟
أيها العمال الإيطاليون. ليس ذلك من خواطر فكري المجردة عن حقائق الواقع بل هو تاريخ عصرنا نحن. ذلك التاريخ الذي تسيل على صفحاته دماء الشعب. سلوا جميع الرجال الذين حولوا ثورة سنة 1830 إلى مجرد تغيير طائفة من الأشخاص بأخرى. بل وان شئتم مثالا فأنهم اتخذوا من جثث إخوانكم الفرنسيين الذين راحوا ضحية قتال (الثلاثة أيام) مدارج يرتقون عليها إلى عرش العظمة والسلطان. إن جميع مبادئهم إلى ما قبل عام 1830 كانت تقوم على تلك النظرية العتيقة نظرية حقوق الإنتاج لا على عقيدة الإيمان بواجباته. إنكم تدعونهم خونة مارقين، ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا إلا مصدقين لنظريتهم(679/35)
مستمسكين بها. فجاهدوا اخلص الجهاد ضد حكومة شارل العاشر لأن تلك الحكومة كانت شديدة العداء للطبقات التي نشئوا منها حتى انتهكت حقوقهم وبالغت في حرمانهم منها، وحاربوا باسم الرفاهية التي لم ينعموا منها بالقدر الذي ظنوا أنه يجب أن ينعموا به. فعذب البعض بسبب حرية الفكر. ووجد آخرون من ذوي العقول الجبارة أنهم منسيون مبعدون من الوظائف التي يشغلها ناس دونهم كفاية. ثم زادتهم مظالم الشعب حرقة وغضبا، فشرعوا يكتبون في جرعة وإيمان عن الحقوق التي تلزم لكل إنسان. بيد أنهم لما آمنوا على حقوقهم السياسية والفكرية، وانفتح أمامهم سبيل الوظائف، وتحققت لهم الرفاهية التي سعوا من اجلها حينئذ نسوا الشعب. نسوا إن الملايين التي تقل عنهم ثقافة وطموحا. كانت تجاهد لتقرر حقوقا أخرى، وتحقق هناءة من نوع آخر، واخلدوا إلى الطمأنينة، ولم يعودوا يهتمون بأحد غير أنفسهم. لماذا تدعونهم خونة. أليس الأجدر أن تدعوا نظريتهم نظرية غادرة؟
(البقية في العدد القادم)
عامر عبد الوهاب(679/36)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
784 - النبي والفيلسوف
الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي:
إن أبا سليمان (المنطقي السجستاني - محمد بن بهرام - يقول:. . . صاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفيء، والثاني كادح، وهذا يقول: أمرت وعلمت، وقيل لي، وما أقول شيئا من تلقاء نفسي. وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت، وهذا يقول نور العقل اهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق العقل امشي بضيائه. وهذا يقول: قال الله وقال الملك، وهذا يقول قال أفلاطون وسقراط.
785 - لقد جئتم شيئا إدا!
رسالة الغفران لأبي العلاء:
حكى لي عن بعض ملوك الهند وكان شابا حسنا أنه جدر فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير فاحرق نفسه، وقال: أريد أن ينقلني الله إلى صورة احسن من هذه. وحدثني قوم من الفقهاء ما هم بكاذبين ولا في أسباب النحل جاذبين أنهم كانوا في بلاد محمود وكان معه جماعة من الهند قد وثق بصفائهم، يفيض عليهم الأعطية لوفائهم، ويكونون اقرب الجند إليه إذا حل أو إذا ارتحل وان رجلا منهم سافر في جيش جهزه، فجاء خبره أنه قد هلك بموت أو قتل فجمعت امرأته لها حطبا كثيرا، وأوقدت نارا عظيمة، واقتحمتها والناس ينظرون، وكان ذلك الخبر باطلا، فلما قدم الزوج أوقد له نارا جامحة ليحرق نفسه حتى يلحق بصاحبته، فاجتمع خلق كثير للنظر إليه وان أصحابه من الهند كانوا يجيئون إليه فيوصونه بأشياء إلى أمواتهم هذا إلى أبيه وهذا إلى أخيه، وجاءه إنسان منهم بوردة وقال: أعط هذه فلانا يعني ميتا له، وقذف نفسه في تلك النار. وحدّث من شاهد إحراقهم نفوسهم أنهم إذا لدغتهم النار أرادوا الخروج فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب. فلا اله إلا الله، لقد جئتم شيئا إدا!!!(679/37)
786 - فضح الموت الدنيا
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: قيل لخالد بن صفوان: من ابلغ الناس؟
قال: الحسن لقوله: فضح الموت الدنيا!
787 - وبقيت الدنيا
وقف بأبي العيناء رجلا من العامة فأحس به فقال من هذا؟
قال رجلا من بني آدم.
قال: مرحبا بك. أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا ما ظننت هذا النسل إلا قد انقطع.
788 - إياك أن تلقى الله كذابا بخيلا
في (كتاب المنظوم والمنثور) لأحمد بن أبي طاهر: قال بعض الأعراب مررت يوم عرفة ببيت، بطنبه كبش مربوط، فسمعت رجلا في البيت يقول: وا سوءتي من ضيفنا هذا! إننا وما عندنا ما نقربه إليه. فقالت له امرأته: أبا فلان، إياك أن تلقى الله كذابا بخيلا! أو ليست هذه شاتك مربوطة بفنائك؟
قال هذه نسيكتي غدا.
قالت: وأي نسيكة اعظم أجرا، واحسن ذخرا من ذبحك إياها لضيفك.
789 - بالتوهم. . .
في (الأغاني): كان كثير (الشاعر) كيسانيا يرى الرجعة، وكان يزعم أن الأرواح تتناسخ ويحتج بقول الله تعالى (في أوربا صورة ما شاء ركبك) ويقول: ألا ترى أنه حوله في صورة من صورة. ولما قال - وهو يعني محمد بن الحنفية -:
هو المهدي خبرناه كعب ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
قيل له: ألقيت كعبا؟ قال: لا. قيل: فلم قلت: خبرناه كعب؟ قال: بالتوهم. . .
790 - فكان الخسوف حدادا على فقده
قال بعض المؤرخين مما يدل على ظرف محمد بن أحمد الحداد الوادي آشي أنه فقد سكنا عزيزا عليه، واحتاج الحال إلى تكلف سلوة، فلما حضر الندماء وكان قد رصد خسوف(679/38)
القمر فلما حقق أنه قد أبتدأ اخذ العود وغنى:
شقيقك غُيِّبَ في لحده ... وتُشرق يا بدر من بعده
فهلا خسفت فكان الخسوفُ ... حداداً لبستَ على فَقْدِه
وجعل يردد الشعر، ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك حتى اعتراه الخسوف، فعظم من الحاضرين التعجب.
791 - إنما شهادة يا فتح. . .
قال صاحب الحدائق: إن الفتح بن خاقان ذكر الوزير ابن الصائغ الفيلسوف في قلائد العقيان فقال فيه: (هو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، يعتقد أن الزمان دور، وان الإنتاج نبات له نور، حمامة تمامه، واختطافه اقتطافه) فبلغ ذلك ابن الصائغ فمر يوما على الفتح بن خاقان وهو جالس في جماعة فسلم على القوم وضرب على كتف الفتح وقال: (إنما شهادة يا فتح) ومضى ولم يدر أحد ما قال للفتح. فتغير لونه، فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته - كما تعلمون - في (قلائد العقيان) فما بلغت بذلك عشر ما بلغ مني بهذه الكلمة، فأنه الشار إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
792 - صارف الهم
ابن المغارفي:
لا يصرف الهم إلا شدو محسنة ... أو منظر حسن تهواه أو قدح
793 - ما وجد بريدا غيرك
جاء رجل إلى وهب فقال: إن فلانا شتمك.
فقال: أما وجد الشيطان بريدا غيرك.
قال رجل لحكيم: عابك فلان بكذا.
فقال لقيتني لِقِحتكَ بما لم يلقني به لحيائه.
794 - من فيّ مسيلمة. . .
صلى أعرابي بقوم فقرا:(679/39)
أفلح من هينم في صلاته
وأخرج الواجب من زكاته
وأطعم المسكين من مخلاته
فضحك القوم فالتفت إليهم وقال:
أشهد أنى أخذته مِن فِيِّ مسيلمة.
795 - سوى أن يرى الروحان يمتزجان
ابن الرومي:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان
وألثم فاها كي تموت حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان(679/40)
رباعيات عتمان. . .
للأستاذ عتمان حلمي
كنتُ يوماً أسعى على غير قصد ... أتملى حسنَ المدينة وحدي
ليس لي غايةٌ ولا كنت أسعى ... لمكان يممته أو لوعد
خالي النفس من تكاليف نفسي ... لا أرى أن أسومها أيَّ جهد
غير سخري بمن أراه من النا ... س لمن يستحق سخري ونقدي
فإذا بي أمام بنيان دارِ ... طمستْ زهوَها يدُ الأقدارِ
كتبَ الليلُ والنهارُ عليها ... اسطراً لا تروق في الأنظار
أمسها غيرُ يومها وبعيدٌ ... بين محض الصفاء والأكدار
فلقد أيقظتْ دفائن نفسي ... وأثارتْ مرارة التذكار
هي كانت لي بالأمس مهد درسي ... وبعيدٌ ما بين يومي وأمسي
وبعيد بين الطفولة في الخل ... ق وبين المشيب في كل نفس
وبعيد بين الأزاهر والشوك ... بعيد في كل ذوق وحسِّ
وبعيد بين النظارة والقب ... ح وبين المنى وبين التأسي
كل شيء فوق الثرى للفناء ... من ضروب الجماد والأحياء
لا حفيظ من الليالي إذا جد ... ت ولا في بقائها من بقاء
بيديها معاولُ الهدم أيا ... نَ وأنَّي اغتدتْ يدُ البنّاء
ساخرات بالهمس في كل حال ... من غرور الضحوك والبكاء
ههنا ههنا قضيت قليلا ... من حياتي ضحكت فيها طويلا
ما عرفت الهموم فيه ولا كن ... ت أرى في طفولتي مستحيلا
مشرق الوجه كالصباح جميل ال ... نفس لا استحب إلا الجميلا
بين لهوى البريء والدرس لا أد ... رك للهمّ في الحياة سبيلا
نوِّري يا نضارةَ الأطفال ... فجمال الحياة في الأطفال
واسخري بالوقار والجد والآ ... لام سخرا وبالأسى والملال
فترة أنت في الزمان إذا مرَّ ... ت سريعاً رجوعها في المحال(679/41)
فإذا عدت في الخيال وفي الذك ... رى كفاني الرضا بهذا الخيال
ها هي الساحة التي كنت اجري ... ببنها خلف صاحبٍ ليَ يجري
لم تزل تعبث الطفولة فيها ... عبثاً لم يُشبْ باللؤم ومكر
ههنا ضاحك وها هوَ لاهٍ ... طافح النفس من صفاء وبشر
وهنا لاعب وها هو غرٌ ... لم تنر وجهه ابتسامة ثغر
هذه صورةٌ أعادت لذهني ... كلَّ ما مرّ في الطفولة مني
فتأملتُ كيف تجري حياةُ ال ... ناس جريا ما بين وهن ووهن
يرجع الشيخ مثلما كان طفلا ... شادخ النفس في الهدى والتاني
وتظل الأيام في نشوة الده ... ر على نغمة الفناء تغني
أيها الطفل لا يسؤك خطابي ... وامض إن عشت في سبيل الشباب
حفنة أنت من صميم التراب ... جُبِلتْ من متاعبٍ وعذاب
فتقبل فيها وجودك واجعل ... لك حصنا منها منيع الجناب
وليكن في كيان جسمك قلب ... وادعٌ طاهرٌ كماء السحاب
سوف تدري مرارةَ الحرمان ... وتعاني قساوة الإنتاج
وتُعاني من التجارب ما عا ... نيتُ منها وما لبثت أعاني
كلما دارت الليالي تعلم ... ت جديداً من مستجدِّ الزمان
وتعلمت كيف يسخر بالح ... قِّ دعاة الضلال والبهتان
ستُعاني تضارب الأهواء ... من ضروب الصحاب والأعداء
وتغيم الشكوك في جو إيما ... نك سودا تحكي غيوم السماء
وترى عينيك الكريه وكم تس ... مع ما لا يروق في الأنباء
مقبل أنت في الصباح بما أم ... لت فيه ومدبرٌ في المساء
سوف تطوي بالرغم عنك الشبابا ... ذاهبا حيث لا تُرجِّى إيابا
حيث يأتيك منذرٌ من بياض الش ... يب يطوي عن مقلتيك الحجابا
بعد جَمٍ من الصعاب وقد آ ... منتَ إن الحياة كانت صعابا
ونلفت لم تجد غير نفس ... قدمت عنك للزمان حسابا(679/42)
ستلاقي من الأسى ما تلاقي ... ثم مضى والهم في الأرض باق
وترى الحكمة انجلت في اختلافا ال ... ناس أو في تفاوت الأرزاق
وهنا لا ترع من العيش إن جا ... هدت يوما وعدت بالإخفاق
لك أن لا تنام في طلب الرز ... ق ولو ذقت فيه مر المذاق
لهف نفسي على النظارة لهفي ... وعلى القوة استحالت لضعف
وعلى الطلعة المليحة والق ... دِّ وما يظهر الشباب ويخفي
بُدلِّ الحسن فيك بالرغم عن أنف ... ك قبحاً شهدته رغم انفي
فتأمل إن عشت وجهك في المر ... آة وابسم واقذف بها قذف نفسي
ضحكت منك يا المرآة ... وتجلت في مقلتيك السماتُ
فالتجاعيد في جبينك والجف ... نين فيها إذا فطنت عظاتُ
والسطور التي كتبن على الخد ... ين عما كابدته مُنْبِآتُ
فتبسم فهكذا تسخر الأي ... ام منا وتستبد الحياة
لست أنأى في الأرض من أن تمسا ... لا ولا أنت ارهف الناس حسّا
هذه قسوة الحياة بلونا ... ها وقد أنذرت بما هو أقسى
غامض ما نراه فيها ويزدا ... د غموضا ما نراه ولبسا
عجز الخلق عن معالجة الغي ... ب وقد أوسعوه ظنا وحدسا
مصبح في سلامه ثم أمسى ... ليس يدري تحت الثرى كيف أمسى؟
حيرة ما لها لدى العقل أُفقٌ ... واضح أو لها لدى الرشد مرسى
كيف مات الشباب في أول العم ... ر وعسّ الشيوخُ في العمر عسّا
قصة هذه الحياة فمن ش ... اء تأسى أو شاء لا يتأسى
همس الموتُ في صميمك همسا ... دون علم وسوف يعطيك درسا
فتأمل رفاق عمرك لمّا ... رُكسوا في الثرى على الموت ركسا
كلما مات واحد مات جزء ... منك وازددت في وجودك وكسا
قِطَعٌ منك في التراب توارت ... دسها الموت في ثرى الأرض دسا
فالذي كان للمجالس أُنسا ... صار للتراب والجنادل أنسا(679/43)
والذي كان للجمال مثالا ... نكس الدهر حسنه فيه نكسا
والذي كان اجهر الناس صوتا ... صار لا يستطيع في القول نبسا
والذي كان للرفاق حبيبا ... ما استطاعوا له على القرب لمسا
كلُّ ما في الحياة هذا خداعُ ... ظل يُشرى في سوقها ويباعُ
وتظل العيون تفتن بالمظ ... هر فيها وتختل الأسماع
زخرف يستر الحقائق فيها بالبا ... طل فيها ومحض مين يشاع
ما بدا الشر مظلم الوجه إلا ... ستر المظلم الكئيب خداع
كم حياة باسم الحياة تضاع ... ضيَّعتْها الأغراض والأطماع
ما استطاعت رذيلة أينما كا ... نت ظهوراً أو ساغها الإجماع
فاستعرت من الفضيلة ثوباً ... نمقته براعةٌ وابتداع
رب عات سلاحه أينما يب ... طش حلم وحكمة واتضاع
عتمان حلمي(679/44)
البريد الأدبي
في معرض الكتاب العربي:
زرت معرض الكتاب العربي الذي أعدته وزارة المعارف، فكانت زيارة ممتعة، لأني حصلت في ساعة ونصف ساعة ما لم أكن لأستطيع أن أحصله في عشر سنوات لو أني عكفت على متابعة تاريخ الكتاب العربي والصحافة العربية
وطفت بأقسامه المتباينة، فلحظت كيف تطورت الطباعة وتقدمت. كانت الكتب في عهد محمد علي تطبع على ورق عريض ذي هامش واسع، يحيط بالكتابة إطار مزخرف أو عادي. أما اليوم، فقلّ من يعنى من المؤلفين والناشرين باتباع هذا النظام العتيق!
وشهدت خلاصة تفكير المصريين من أيام محمد علي إلى يومنا هذا معروضة عرضاً شهياً في مكان واحد، فحسبت نفسي في بستان يانع حوى ما دنا من قطوف الثقافة وثمارها
وتأملت كتابا عنوانه (الأدلة القطعية على عدم دوران الكرة الأرضية) صدر في عهد عباس الأول - إن لم تخني الذاكرة - فأغرقت في الضحك، لأن ما كان يعده المؤلف إذ ذاك (أدلة قطعية) أصبحنا نعده اليوم (حججا واهية بالية)!
ورأيت كتابا آخر عنوانه (وفيات الأعيان)، فضحكت كذلك لأن مؤلفه لم يجد ما يكتب عنه إلا أن يسرد تواريخ وفيات الأعيان! كأن الدنيا وما فيها لا تهمه وكأن الإصلاح الاجتماعي لا حاجة لنا إليه، وكأن الكتّاب فرغوا من الكتابة في جميع الموضوعات، ولم يبق سوى الكتابة عن وفيات الأعيان!
وشاهدت الكتب الأولى للأساتذة: محمد حسين هيكل باشا، وطه حسين بك، وأحمد أمين بك، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم، وسواهم ممن تصدروا الحركة الثقافية المصرية، فكانت كتباً طريفة
وقرأت في مجلة كان يصدرها الأستاذ سلامة موسى في عام 1914 - وقد نسيت اسمها - إن الدكتور طه حسين تشرف بمقابلة الخديو قبل سفره إلى فرنسا للدراسة، فسأله الخديو عما ينوي التخصص فيه فأجاب: في الأدب وتاريخه. وعاد الخديو يسأله لماذا لا يتخصص في الفلسفة؟ فقال الدكتور طه: إن الفلسفة أفسدت الدكتور منصور فهمي (باشا فيما بعد)! وطبعت المجلة إلى جانب هذه الدعاية صورة للدكتور طه في زيه الأزهري(679/45)
ورأيت مجلة كان يصدرها (أحمد أفندي لطفي السيد)، ويشترك في تحريرها (إسماعيل أفندي صدقي) و (عبد العزيز فهمي أفندي)!!
غير أني لاحظت أن المعرض كاد يكون قفرا من الكتب العربية التي طبعت في البلدان الشقيقة. فلا يشاهد المرء فيه - إلا عرضاً - كتباً لمؤلفين سوريين ولبنانيين وعراقيين وحجازيين وأردنيين وفلسطينيين، وكان يجدر بوزارة المعارف - ولا سيما المنظمين منها لهذا المعرض - أن تدعوا البلدان العربية الشقيقة إلى الاشتراك في هذه الحركة الثقافية المحمودة. والكتاب عادة خير ما يعرف الناس عن الشعوب الأخرى. وأحسب أن هذه الملاحظة جديرة بعناية وزارة المعارف وسائر الوزارات التي تزمع أن تنظم معارض مماثلة، فقد اصبح الشرق العربي في وحدة ينبغي العمل على تعزيزها وتنميتها.
وليت وزارة المعرف تعنى بأن تنشئ متحفا للنهضة الثقافية في العالم العربي كمتحف فؤاد الصحي، أو الزراعي، أو متحف البريد، أو متحف الآثار، ليستطيع المتشوقون إلى الوقوف على النهضة الثقافية وقوفاً عابراً الإفادة من زيارته. والمعروف أن دار الكتب لا يتيسر للمرء فيها أن يلقي نظرة عابرة على ما احتوته خزائنها من مؤلفات، كما يستطيع رواد المتاحف الأخرى.
وديع فلسطين
نص المحكم في الفعل (كفل):
رأيت بمناسبة ما دار من البحث حول (كفل المال وكفل به) في الرسالة الغراء أن أطلع على نص كتاب المحكم، وهو المعجم المشهور للإمام ابن سيده في إحدى مخطوطات دار الكتب المصرية، فإذا هو يقول في الجزء الثامن (في مادة الكاف واللام والفاء): (. . . وكفل المال وبالمال: ضمنه، وكفل بالرجل يكفل كفلا وكفولا وكفالة، وكفل وتكفّل به كله ضمنه، وأكفله إياه وكفله ضمّنه)
(ع. م)
(دار الكتب المصرية)
في رباعيات الأستاذ عتمان:(679/46)
في العدد 677 من أعداد الرسالة الغراء اطلعت على (رباعيات عتمان) للأستاذ الشاعر عتمان حلمي، وعنّ لي فيها ما يأتي:
يقول الأستاذ الشاعر:
خلّ دنياك كيف شاءت وصلها ... ما جنا إن أوسعتك مجونا
والمشاهد أن الشطر الثاني بصورته السابقة مكسور، فقد اسقط الشاعر سبباً خفيفاً من التفعيلة الأولى في الشطر الثاني.
وفي بيته:
إن موج الحياة يحمل في مدّ ... هـ وفي جزره صنوف الهلاك
نراه أضاف سببا خفيفا في أول الشطر الثاني منه. . .
وكذلك في قوله:
لم أجد فيما مضى من حياتي ... ليَ عذرا في الهم أو في الشكاة
نجد نقصا في الشطر الأول بسبب خفيف. . . والصحيح أن يقول:
لم أجد فيما (قد) مضى من حياتي. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي البيت:
ونصيب الشباب في العيش لا يف ... ضل في حسنه نصيب الشيب
خطأ مطبعي في كلمة (الشيب) وأصلها (المشيب)
كل على ما سبق من الهنات الهينات مغفور، ولكن نعتب على الشاعر قوله:
لا تلمني وانظر إلى تكويني ... فظنوني من كنهه ويقيني
حيث أتى (بالتشعيث) في العروض، وهو آخر الشطر الأول، مع علمه بأن التشعيث لا يدخل إلا في الضرب، وإن كان من العلل غير اللازمة
وجواز دخول التشعيث ما جاء في قوله:
ومحيط الإنسان أكبر جان ... هو أو رحمة على الإنتاج
حيث وقع في الضرب وهو آخر الشطر الثاني من البيت
وبعد، فالقصيدة لا يغض من قيمتها ما سبق التنبيه إليه، فالجوهر جوهر حيثما كان!
وفي الختام أهدي السلام لناظم الرباعيات. . . مع التقدير.(679/47)
(الزيتون)
عدنان أسعد
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
أضع بين يدي الأستاذ هذا التعليق على كلمته التي عرض فيها لديوان (الصيدح)
1 - ذكر الأستاذ الكبير ديواني في معرض النقد، ولم يذكر وجه النقد أو أسبابه.
2 - عرض لهذا الديوان بعد مرور ثماني سنوات من صدوره، أي بعد أن أصبح المؤلف نفسه غير راض عنه، لأنه من شعر الصبا، فقد وضع الشعر منذ أحد عشر عاما، حين كان المؤلف في التاسعة عشرة طالبا يؤدي امتحان (البكالوريا).
3 - وبرغم هذا فإن الدوائر الأدبية تقبلته قبولا حسنا. وإني أتحدى الأستاذ أن يقتبس من شعر الديوان ما لا يدل على صدق التعبير، أو لا يصدر مثله عن شعور أو لا يتفق مع القاعدة.
4 - إن النقد لا يسوءني، وحبذا لو بصرني ناقد بالخطأ فأتجنبه، أما التجني من غير دليل، فإني أعده تحاملا من غير مبرر؛ وأنا أعرف أن الأستاذ ليس بشاعر، ومع أن هذا لا يمنع من تمكنه من النقد، إلا أنى احسب أنه لو كان يقول الشعر لتذوق حلاوته في هذا الديوان.
5 - إن لي أسوة في غيري من الشعراء المبرزين، لأتعزى، فقد طلع على الناس الأستاذ علي محمود طه، والدكتور إبراهيم ناجي بديوانيهما سنة 1933، فسلط عليهما النقاد السنة حداداً، وقال الدكتور طه حسين لأحدهما في ختام نقده: لا أكتمك يا سيدي الدكتور إنك لست على شيء! وقال الأستاذ سيد قطب: نظرت في الكتاب الأول فإذا هو تافه كله أغلاط، لا يستحق أن ينظر فيه؛ كانت حملة شديدة لم ينقذهما منها أو ينصفهما فيها إلا أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات. حتى دارت الأيام فإذا الشاعران ملء الأسماع والقلوب، لا يقولان إلا المعجب المطرب.
والسلام على الأستاذ الطنطاوي (الكاتب) الحصيف المتمكن الذي أجله
(القاهرة)
خليل جرجس خليل(679/48)
القصص
إيلو. . .!
للأستاذ عبد الحق فاضل
. . . إيلو، أو، إيلا، أو إيلي، أو إيلين، أو ما تشاء من أسماء التحبب والتدليل. ولكن (اليزا) هو اسمها الصحيح الذي سماها به أبواها وعمداها به في الكنيسة.
جميلة في غاية الجمال. وذكية جداً، ولبقة جداً.
لها عينان براقتان، وفم صغير رقيق الشفتين يلذ لك أن تتابع بعينك تثنيهما وتلويهما حين تتحدث إليك، وأن تراقب بأذنك تكسر الألفاظ عليهما في عذوبة ورشاقة ودلال. . . بارعة في تصريف الأحاديث بلباقة نادرة وظرف أخاذ. وهي إذا تحدثت إليك عبرت لك عن مرادها بكل جوارحها - بعذوبة صوتها، وإشارات يديها، وحركات رأسها، وتثني جسمها الغض ولحاظ عينيها اللامعتين. فجسمها كله يتكلم وكله يبتسم، حتى ليخيل إليك أن ثوبها وزينتها أيضاً وسيلة عندها من وسائل التعبير! فأنت لهذا مضطر إلى الإصغاء إليها بكل جوارحك أيضاً والافتتان بمحاسنها بكل قلبك وعقلك جميعا.
لعوب طروب لها مراح العصفور ونشاطه، وودود ظريفة تحملك على الإعجاب بها والهيام بكل وسيلة. فهي لذلك معتدة بنفسها، تعرف قيمة جمالها وسحرها، وهي لذلك أيضاً تعنى بأناقة ثوبها وزينتها ما وسعتها العناية.
لم أراها! ولكن أمها هي التي حدثتني عنها وسردت علي قصة مأساتها المحزنة وفاجعة موتها قبل أن تتم الخامسة من عمرها غما وكمدا. . . فهي طفلة صغيرة كما ترى! ولكن ذلك لم يمنعها أن تكون غاية في الجمال؛ ولا أن تكون ذكية جدا ولبقة جدا ولا أن تكون زينة البيت وريحانته، ومتعة الأهل والأصدقاء والزائرين، ولا أن تكون مدركة بذلك كله شاعرة بقيمتها، ومكانتها في كل قلب، معتدة بنفسها مزهوة بجمالها، معنية ما وسعتها العناية بأن تكون خليقة بكل هذا الإعجاب وكل هذا التقدير، طامعة في المزيد. فقد كانت أبداً تخلق حول نفسها جوا صافيا من المرح والسرور، ولا تطيق أن ترى عابساً أو حزيناً أو شخصاً منصرفاً عنها إلا بذلت جهدها لإخراجه من صمته وإدخال السرور إلى قلبه ولفت نظره إليها. فما يلبث، مهما كان مهموماً أو بليداً، أن يجاريها ما استطاع ويسر ما وسعه السرور(679/50)
ويضحك ما واتاه الضحك، ويتخفف من همومه ولو إلى حين.
على إنها لم تكن تدرك إنها طفلة! فكانت تحاكي الكبار وتقلدهم فيما يصدر عنهم من قول أو فعل أو إشارة. ومن بوادر ذلك مساعدة أمها في أعمال البيت والقيام على مراقبة نظافته والعناية بشؤونه! ومن ذلك أيضاً أنها ما كانت تبخل على أحد بالنصيحة وإمداده بالري الصائب في رفق العقلاء المجربين وتوددهم ودماثتهم.
وكان يشق عليها أن يوجه إليها انتقاد، فيحمر وجهها ثم تحتال على الاعتذار فتحسن الاحتيال، وتشفع عذرها بابتسامة خجول، وتعد بألا تعود.
ولعل سر هذه الفتنة التي اختصت بها إيلو أو إبلا أو إيلين هو هذا التعقل والتوقر المكتسبان بتقليد الكبار ومحاكاتهم وهي بعد في بكور هذه الطفولة البريئة الجميلة، المحبوبة بطبيعتها. فكان المزاج من الطفولة والنضوج، وفيه هذا التوافق المصنوع والتناقض المطبوع، سحراً خالباً غالباً تتفتح له القلوب بلا مقاومة ولا عناء.
كان حديث أمها في بدئه عاديا طبيعيا تتخلله الابتسامات، ثم اخذ صوتها يكتئب ويرتعش؛ ثم شرعت تنفس عن نفسها بالتنهد والتحسر بين حين وحين كلما اقترب الحديث من آخره، وكانت تزيدني رغبة في الإنصات إليها هذه اللكنة الأرمنية الحلوة التي لم تقو على مغالبتها عشرون سنة أقامتها في بغداد بين زوج عراقي وجيرة عراقيين.
قالت:
(. . . فلما بلغت إيلو عامها الرابع رزقت غلاما كان شؤماً على نفسه وشؤماً وعلى أخته وعلينا. فقد مات بعد موت إيلو بأسبوعين، بعد أن قضى عليها وأفسد صفو حياتنا. وكان أول عهدها به أنها رأت كتلة صارخة من اللحم تضطرب في المهد، فدنت منه بحذر وأنعمت نظرها فيه، وإذا طفل لم تره من قبل وصراخ لم تألفه في البيت. فرابها أمره وأوجست منه خيفة، والتفتت إلى تقول:
ماما. . . ما هذا؟! فقلت لها: أنه أخوك وديع. فقال: أخي! ولم يصيح هكذا؟ إني لا احبه!
إنها لا تحبه. . . كلمة سبقت منها كأنها ألهمتها إلهاماً قبل أن تعرف خطرها أو تدرك سببها أو تعلم ما سيكون لها في حياتها وموتها من شان. وقد زادتها الأيام بغضا له كلما رأت أن له عندنا أهمية أو قيمة، أو وجدتنا نكترث له أو نعنى بشؤونه. فهي يشق عليها(679/51)
أن تجدنا نصرف عنها ولو جزء من عنايتنا ورعايتنا إلى أخيها وديع أو أي مخلوق سواه، وهي تفهم من ذلك أننا نزدريها ونجدها غير خليقة بالاستئثار بكل حبنا وعنايتنا.
وعبثاً كنا نحاول - أبوها وأنا - إقناعها بأن لها المنزلة الأولى وأنها وحدها الأثيرة عندنا، وأننا لا نحفل وديعاً إلا رأفة به، وأننا سنتخلص منه يوماً ما ونريحها ونريح أنفسنا منه. وكنا نتظاهر معها باحتقاره ونجاريها في تعداد عيوبه ومثالبه. وكنت أتحاشى أنا إرضاعه أو مداعبته أمامها، ولكنها كانت تراقبني فتراني أحيانا متلبسة بتقبيله أو ملاعبته فتعاتبني بنظرة أبية وتنصرف، كأنها تقول: إنكم تخدعونني!
قالت لي يوما: ماما. . . ماذا تصنعون بهذه الخليقة الحقيرة؟ أنه مجنون يبكي ويصرخ بلا سبب! وقذر جداً. يحدث في ثيابه وفراشه ونفسي تشمئز منه! وليست فيه فائدة لنا. إني أحسن منه، وعاقلة ونظيفة! فلماذا لا تلقونه في الطريق؟. . .
فقلت لها: لا يا بنيتي، أنه صغير مسكين، ومريض. ولهذا ترينه يبكي.
فقالت: لا يا ماما. أنه يكذب! أنه لا يبكي بل يصرخ فقط، ولا تسيل من عينه دمعة واحدة! فلو ألقيته في الطريق للكلاب لاسترحت منه، فإنه يتعبك كثيراً وأخاف عليك أن تمرضي!
فأجابتها لو ألقيناه في الطريق يا إيلو لحق علينا غضب المسيح فلنشفق عليه إكراما للمسيح حتى يشفى من علته - فنتركه وشأنه. ما قولك في هذا يا إيلو؟
فقالت: ولماذا يغضب المسيح. . . أترينه يحب المجانين والقذرين. . .؟
فقلت: لا، ولكنه يحب الضعفاء والمرضى، ويوصينا بالعناية بهم والعطف على بؤسهم.
فقالت مغضبة: لماذا يا ماما لا يحب المسيح الأصحاء النظاف والعقلاء، ويؤثر عليهم الذين فراشهم منتن مثل وديع الكلب؟ أليس المسيح جميلا وطيباً كما تقولون. إني ابغضه!
ورأت بعد ذلك أن الجدال والمنطق وحدهما لا يعودان عليها بفائدة، فراحت تبرهن لنا ولمن يتصل بها وبنا عملياً على أنها كفء لكل تقدير وإكبار، وأنها وحدها الجديرة بكل الإعجاب والاهتمام. فصارت تستيقظ مبكرة مع العصافير، وتلقى بنظرة شاملة على البيت وتشرع بانتقاده وتصف فساد نظامه بخطاب موجز، ثم تأخذ بترتيبه على رأيها ووضع كل شيء في محله. وتغسل أواني الشاي وتنصب المائدة قبل أن اشرع أنا بإعداد الشاي نفسه. ثم تأخذ بالمكنسة لتنظف الدار! وتجشم نفسها من المشقة والنصب ما لا قبل لطفولتها به،(679/52)
فأمنعها سدى وترفض أحياناً حتى أن أساعدها. وأنا أعلم فيم تشق على نفسها كل هذه المشقة وفيم تتكلف كل هذا العناء، فتنفطر مرارتي من الحزن. . .
ثم تعمد إلى نفسها فتفيها حظها من التزيين والتجميل، وترتدي أنظف ثيابها وأجملها في عينيها، وتجلس إلى المرآة تصفف شعرها وتمشطه حتى ترضى عن نفسها. فإذا جاءنا زائر خفت وبشت في وجهه، وقد لحظت أنها ضعفت ثقتها بنا فصرفت عنايتها إلى الزائرين. . . تسعى بين أيديهم وتسائلهم إن كانوا عطاشاً لتأتيهم بالماء، وتقدم إليهم السكر لعل الشاي أقل سكرا مما يشتهون، وما تفتأ تتودد إليهم وتعرض عليهم محاسنها وتباسطهم وتغني لهم وتستميلهم بمرحها ورشاقتها وفكاهتها حتى يأخذونها في الأحضان ويوسعوها ضما وتقبيلا، ويؤدوا لها حقها من المديح والإعجاب. فتتنهد وتنفض إليهم جملة حالها. . . وتنكشف سريرتها فإذا كل هذا اللعب والمراح أشبه برقص الطائر الذبيح. . .
تأخذ بانتقاد عدوها وديع، وتنقص أمامهم منه. وأصل عيوبه ومخازيه عندها أنه بكّاء وقذر. وتشكو إليهم ظلامتها وبثها، وتشكو إليهم أننا مع كل هذا نحبه وندلله ولا نظن عليه بالعطف والإيثار. فتحكمهم بيننا وتطلب إليهم أن ينصفوها منا. فإذا حكموا لها، وهم دائما يفعلون ذلك، نظرت إليّ في عتب ورجاء. وإذا أكدت لها أننا لا نباليه ولا نقيم له وزنا أطرقت في يأس وهزت رأسها الصغير كأنها لا تريد أن تقول لي في صراحة: إنك تكذبين يا ماما!
ولكنها مع كل ما تضمره لوديع من بغض وموجدة لم تحاول يوما أن تؤذيه أو تمسه بسوء، فقد كنت أراقبها إذا اختلت به مخافة أن تمتد إليه يدها البريئة بشر، غير أنها لم تفعل من ذلك شيئاً، وإنما كانت تكتفي بأن تحدجه بنظرات ساخطة حزينة ثم تنصرف عنه.
وكانت لنا جارة صديقة لم ترزق ولداً، اسمها ماري، تصلنا بها قرابة بعيدة ومودة وثيقة. وكانت مشغوفة بحب اليزا حتى ما تكاد تنقطع عن زيارتنا وقضاء شطر من نهارها عندنا قرب حبيبتها إيلين كما كان يحلو لها أن تسميها، فقالت لها مرة:
انظري يا أختي ماري! أنهم لا يزالون يحبون هذا النجس وديعا، وقد رأيت ماما تقبله أمس! وهي تسهر الليالي عليه وتخف إليه كلما بكى لترضعه وتهز أرجوحته المنتنة! أنا أكنس البيت كل يوم وأطوي ثياب بابا وأعين ماما. . . ونظيفة وجميلة! وهذا المجنون(679/53)
وديع الذي لا يكف عن الصياح وقذر. . . ورأسه صلعاء!
فلاطفتها ماري وأكدت لها أنها واهمة، وأننا نحبها ونؤثرها ولا نقيس بها إنسانا. فقالت: لا يا أختي، أنهم يخدعونني ويكذبون عليّ. . . لو كنت مكانهم لأطعمته الكلاب أو أعطيته الشحاذين القذرين مثله.
فقالت لها ماري: اطمئني يا أختي إيلين. سنخلصك منه قريبا، أنه قبيح بكاء لا خير فيه.
وأسرت إلى ماري بعد ذلك أنها ستأخذ وديعاً عندها طيلة نهار الغد. ثم تزعم لإيلين أن كلب ماري، وكان لها كلب عظيم الحلقة، قد افترسه وأراحها منه لترى ما عساها تصنع أو تقول. وأخذته في اليوم التالي خلسة إلى دارها، فدهشت إيلو في ذلك النهار لم ترى وديعا ولم تسمع له نأمة. ومضت إلى فراشه مرات عدة فلم تجده. فراحت تطوف البيت وتتحرى الغرف صامتة متلصصة لترى ماذا حل به فلم تفز بطائل. فإذا فرغت من التفتيش عادت إليّ تدور حولي وتطيل النظر في وجهي لعلها تقرأ في أساريره ما يجلو لها الخبر اليقين. . . فلما ضاقت ذرعا بالصمت والكتمان، سألتني:
- ماما. . . أين وديع؟ فقلت لها:
- وديع القذر؟ ماذا تريدين منه يا إيلا؟. . . فقالت:
- أين هو؟ أنه ليس في البيت! فأجبتها:
- مسكين! لقد أكله كلب ماري.
- صحيح يا ماما؟ هل أكله كله؟!
- نعم. التهمه عن آخره!
فتورد خداها وبرقت عيناها، وصاحت:
- فلأقبلنك إذن! وألقت نفسها في حضني تغمر وجهي بقبلاتها، وأخذت تضمني بشدة غريبة وهي تدس رأسها في صدري كأنها تريد أن تدخل في أضلاعي. فسالت دموعي على هذه الصغيرة المعذبة اللعوب. وخشيت وخامة العاقبة متى اطلعت على جلية الأمر، فلم أك أقدر أن يصيبها كل هذا الفرح الجنوني البريء.
ثم تركتني وهرعت إلى الأرجوحة لناجذ منها الفراش، وبذلت جهدا عنيفا حتى أخرجته فأمسكت من أحد أطرافه كأنها تحاذر أن تتنجس يدها منه، وراحت تجره وراءها في(679/54)
صحن الدار. وصادف دخول أبيها في تلك اللحظة فأخذها بين ذراعيه وسألها ما تصنعين يا ايلي؟ فقالت له:
- بابا، لست تدري! إن كلب ماري قد أكل وديعا كله، ولم يترك منه ذرة واحدة! فلنرم فراشه في الطريق، وأرجوحته أيضاً وثيابه. كلها قذرة ورديئة.
وما كادت تفلت من بين يديه وتأخذ بالفراش من جديد حتى دخلت علينا ماري وعلى ذراعها وديع وهي تقول:
- أنه بكّاء مزعج حقاً فخلصوني منه!
ولا تسل عما أصاب إيلو. فقد بهتت ووجمت، واصفر وجهها، وافلت طرف الفراش من يدها. ولم تعد تقوى على الوقوف فقعدت من فورها على الأرض مستندة إلى الجدار. ثم انتبذت ناحية منزوية من تلك الغرفة (وأشارت بيدها إلى الغرفة التي عنتها) في ذلك الركن. وطفقت تبكي بكاءاً متصلا أبكانا نحن الكبار، إذ لم يستطع كل بغضها لوديع أن يسيل لها دمعة من قبل، ولم تعودنا يوما وهي الطروب اللعوب أن نراها تبكي أو تشكو من شيء، فقد كانت أبدا كما قلت لك لاعبة ضاحكة! لسن نشيطة خفيفة الظل والحركة - تكظم الغيظ وتداري أحزان قلبها الغض باللعب والمزاح. ولكنها شعرت هذه المرة أنها أهينت في صميم كبريائها. وقد قالت لنا ونحن نحاول عبثا أن نسترضيها ونمنيها الوعود: إنكم لم تعودوا تحبون إيلو. . . تزدرونها وتضحكون عليها.
وظلت تبكي بلا انقطاع رغم ما بذلنا من جهود، وظل جسدها يضطرب ويهتز بين أيدينا من الانتحاب والشهيق كالسعفة تعبث بها ريح هوجاء.
ولم تذق عشاء تلك الليلة، ولا أحسبها نامت فقد كانت تتململ في فراشها تململ السليم، فإذا ناديتها أو دنوت منها أغمضت جفنيها وتناومت. . . ولم تنهض على عادتها باكرة في الصباح، ولم أشأ أن أوقضها حتى علا النهار، فقامت مثاقلة مسترخية محمرة العينين منتفخة الأجفان من السهر والبكاء، ولم تعن بالبيت أو تلق بالا إلى نظامه أو نظافته، ولا جفلت زينتها، أو مرآتها، ولا غيرت ثوبا أو مشطت شعرا، ولا رحبت بزائر ولا صديق. وخلا المنزل من لعبها وقفزها وأوحش منذ ذلك اليوم. وكان كل ما تفعله أن تقابلني وتجلس أمامي في المطبخ أو في الصحن أو في الغرفة، خافضة الرأس ساكنة الأطراف(679/55)
مغرقة في الوجوم والتفكير مستسلمة إلى الحزن الصامت واليأس الأليم. وأخذ جسمها يذوى ويذوب كالشمعة المحترقة يوما بعد يوم، وغاضت ابتسامتها وخبا ضوءها وخفت صوتها. فراعنا الأمر وتحيرنا ماذا نفعل. ولم يكن في عزمنا أن نتخلى عن وديع أو نعهد به إلى مرضع أو مربيه فقد كان أثيراً عندنا حقا إذ لم يكن لنا ولد ذكر سواه، ولم يكن بيدنا مالا ننفق منه على المربيات والحواضن لو أردنا ذلك. وحار في أمرها الطبيب وكثر ما تناولته من الأدوية والعقاقير صابرة طيعة لا تتمرد ولا تقاوم، وقد ذقت مرة دواء كانت تشربه فوجدته مرا حادا كريها تعافه النفس؛ وعجبت كيف كانت تشربه في طوعية واستسلام فأرقته وأعفيتها من شربه، كأنها تنازلت عن إرادتها إذ لم تعد تنتفع بها، أو رفضتها ورمت بها في وجهنا. فلم تبد رغبة في شيء أو تتذمر من أمر. حتى أن ماري اقترحت عليها مرة أن تأخذها عندها لتعتني بها وتقوم على راحتها وتسليتها وتتبناها فقالت نعم. فسألتها أنا هل ترغبين حقا أن تمضي مع ماري إلى دارها؟ فقالت نعم. أم تؤثرين البقاء عندنا؟ فلم تزد على أن قالت نعم! فنظر بعضنا في وجوه بعض قانطين حائرين.
ولبثت عند ماري أياما لم تزد فيها حالها إلا سوءا على سوء، فلم نجد بدا من استرجاعها. وشرع أبوها يطوف بها المنتزهات ويقتني لها الملاهي والألاعيب والحلوى أصنافاً وضروباً، ولا يألو جهدا في تسليتها والترويح عنها، في غير جدوى.
ومالي أطيل عليك وأثقل على نفسي ونفسك. . . إن ذكرى أيامها الأخيرة لتحز في فؤادي كالمدية الكليل، وتشب في ضلوعي مثل النار. . . وجدناها ذات صباح مثل جثة هامدة في فراشها شاخصة إلى الأرجوحة ببصرها كما يشخص القتيل ببصره إلى القاتل. . .).
واختنق صوتها بالبكاء وانهمرت من عينيها الدموع. فلم أتمالك أن أخرج منديلي وأجفف به عيني الدامعتين.
هذه هي قصة إيلو أو إيلا أو إيلين أو ما تشاء. . . كما سمعتها من أمها. لقد كانت ذات نفس كبيرة وحس دقيق رهيف، جاوزت حدّ الطفولة في الشعور بالعظمة والكبرياء. . . غيورا يهمها أن تكون ملحوظة أبداً معنيا بها لا ينازعها في ذلك منازع ولا يزاحمها على منزلتها عند أبويها إنسان. فماتت شهيدة بطلة بعد أن ناضلت وجاهدت، وأبلت أحسن البلاء؛ وحيدة لا معين لها ولا نصير، شجاعة صابرة لا يعروها ضعف ولا جزع، ولا ينال(679/56)
من بشاشتها أو يخرجها عن سجيتها خور ولا قنوط. . . حتى خذلها الأهل وعز النصير، فأيقنت بالفشل وأدركت أن جهودها ضائعة لا محالة، وأنهم لم ينصفوها ويقدروها قدرها على حال. فألقت سلاحها وانسحبت من الميدان في إباء وحسرة وسكون، وأسلمت قلبها الغض إلى الأحزان، وفوضت أمرها إلى الله. وهكذا انتحرت تلك الكرامة البريئة المؤذاة!
ومع أنى لم أراها. . . ثم مع أنى قد مضى على سماعي نبأ مأساتها عام أو يزيد، فإني ما زلت تعودني ذكراها من آن لآن فأحزن عليها حزني على القريب والحبيب. لكأني رأيتها وعرفتها ولاعبتها وأحببتها كل الحب وكلفت بها أيما كلف، ثم. . . كأنني فقدتها الساعة.(679/57)
العدد 680 - بتاريخ: 15 - 07 - 1946(/)
من الفصول المزيدة على كتابنا (في أصول الأدب):
النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه
ذكرنا في ختام المقالة الأولى أن حظ العرب من تاريخ الأدب قد ضؤل لأنه فرع من التاريخ العام؛ وفن التاريخ العام بمعناه الصحيح لم يكن في طوقهم لعجزهم عن وسائله وجهلهم بعلومه. ثم أضفنا في المقالة الثانية في بسط العوامل المؤثرة في الأدب لنوضح العلاقة الوثيقة بين التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي.
وفي هذه المقالة نذكر نقصا آخر في الوسائل الضرورية لمؤرخ الأدب وهو ضعف أدبائنا القدامى في النقد واعتسافهم طرائق الحكم فيه. والنقد كما علمت داخل في تعريف تاريخ الأدب بمعناه الأخص؛ فالعجز عنه أو الضعف فيه يستلزم حتما ذلك النقص الذي تراه واضحا في أكثر ما صدر عن أسلافنا من تعليل أو موازنة أو حكم. فإن من يطلع على ما أثر عن السلف من الموازنة والنقد يجد الخطأ في الأقيسة، والخلل في الموازين، وذلك لتحكم الذوق الخاص واستبداد الهوى المطلق، وإرسال الناقد الحكم على غير قاعدة مرسومة ولا مذهب معين. وربما اكتفوا في تقديم شاعر أو تفضيل بيت بالعبارة العامة، أو الإشارة المهمة، أو الهتاف الموجز كقولهم: ولله دره إذ يقول. . . وهذا مما لم يسبق إليه أحد. . . وما أحسن هذا البيت!. . .
هذا أبو المنصور الثعالبي قد أفرد في كتابيه: الإيجاز والإعجاز، وخاص الخاص، بابا مسرف الطول لوسائط قلائد للشعراء، رتبهم فيه ترتيبا زمنيا من عصر الجاهلية إلى عصره، ثم حكم على كل شاعر بجملة من جزاف القول لا تعليل فيها ولا فائدة منها، كقوله: يقال إنه أمير الشعراء، وأمير شعره قوله:. .، ومن جوامع كلمه قوله. . . وأمير شعره وغرة كلامه قوله. . . وليس للعرب مطلع قصيدة في مرثية أوجز لفظا وأحسن عنى من قوله. . . وأمدح بيت قالته العرب في الجاهلية قوله. . . ومن لطائف كلامه وطرائفه قوله. . . فلما أراد الإسهاب والاستيعاب في كتابه: (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) عنى باللفظ المختار والسجع الرائق والاختيار الحسن؛ ولكنه لم يعن بالخطوط التي تميز كلاما من كلام، ولا بالحدود التي تفرق بين شاعر وشاعر. فلو نقلت ما قاله من المدح في شاعر إلى شاعر آخر لما تغير المعنى ولا أضطرب السياق. والأمر كذلك في كل ما ألف(680/1)
من الكتب على طراز اليتيمة كدمية القصر للباخرزي، وخربدة القصر لعماد الدين الأصفهاني، وريحانة الألباء لشهاب الدين الخفاجي، وسلافة العصر في محاسن أعيان العصر، لأبن معصوم المحبى.
كذلك فعل الأدباء اللغويون كالأصمعي في كتابه (فحول الشعراء)، فقد توخى فيه تمييز فحول الشعراء من غيرهم بأحكام لا أسباب لها، وأقوال لا غناء فيها؛ ومثله سائر اللغويون والرواة الذين سجل الأصفهاني آراءهم في أغانيه، فإنها لم تعد أن تكون آراء شخصية لا تقوم على دليل ناهض، ولا تعتمد على قاعدة عامة. وسواء أكان النقاد من الأدباء أم كانوا من اللغويين فإن أحكامهم كانت تصدر على الشاعر في جملته، أو على بيت أو بيتين أو ثلاثة في قصيدته. . .
ولم نعثر على مثال من النقد البياني لقطعة كبيرة من الشعر إلا في كتاب إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني، حين حاول أن يبين ما جاء من العوار في نصف معلقة امرئ القيس، على أنه لم يستطع إنصاف ولم يبرأ من الهوى.
ولقد أكثر البيانيون من سرد الأبيات المفردة مستشهدين بها على قواعد المعاني والبيان البديع، ولكن أحدا منهم لم يوفق إلى عقد باب للنقد البياني يضع فيه قواعده ويرسم حدوده ويبين غايته.
نعم، لقد ألف قدامة بن جعفر كتابا سماه (نقد الشعر) يقول في أوله: (العلم بالشعر ينقم أقساما، فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبة ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، وقد عني الناس بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية تامة، فاستقصوا أمر العروض والوزن، وأمر القوافي والمقاطع، وأمر الغريب والنحو، وتكلموا في المعني الدال عليها الشعر، وما الذي يريد بها الشاعر، ولم أجد أحدا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئة كتابا، وكان الكلام في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام) ولكن المؤلف لم يخرج عن السنن المألوف في ذكر ما يحسن أو يقبح الأبيات المفردة أو المقطوعات القصيرة، على منهج لا يختلف عن مناهج المتأخرين من أصحاب البيان والبديع(680/2)
والحال بالموازنة كالحال في النقد سواء بسواء. تنازع علماء الأدب في أي الشعراء أشعر، وذهب الخلف بينهم كل مذهب، فلم يتفق ناقدان على رأي، ولم يجتمع رأيان على شاعر، وكان مدار المفاضلة على الأبيات المفردة من الشعر والصفات العامة للشاعر. فأبو زيد محمد بن الخطاب القرشي أضاع ثماني عشرة صفحة من كتابه جمهرة أشعار العرب في أن من علماء اللغة في القرنين الثاني والثالث من كان يقدم امرأ القيس أو زهيرا أو النابغة أو الأعشى أو لبيداً أو عمرو بن كلثوم أو طرفة، ولكن إذا نظرت في أسباب المفاضلة لم تجد فيها ما يقنعك على أن تتابع واحدا منهم فيما يرى. وإذا قرأت (باب المشاهير من الشعراء) في كتاب العمدة لأبن رشيق القيرواني، وهو فصل نسخ أكثره جلال الدين السيوطي في كتابه (المزهر في علوم اللغة) لم يزدك اختلاف العلماء في الحكم على الشعراء إلا ريبة وحيرة. ولقد تشعبت الآراء وتعارضت الأهواء في الموازنة بين جرير والفرزدق والأخطل، ثم بين مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي العتاهية، ثم بين أبي تمام والبحتري والمتنبي، ولكنك لا تدري إلى اليوم علام أستقر الرأي وكيف انحسم الخلاف. ولعلك لا تجد الفرق بعيدا بين حكم يصدر جوابا عن سؤال أو عرضا في مقال، وبين حكم يصدر عن رواية وبحث في كتاب قائم بذاته، فكتاب (الموازنة بين الطائيين) لأبي القاسم الحسن بن بشير الآمدي، يبتدئ بذكر أخطاء أبي تمام كقوله: (وقال:
ضحكات في إثرهن العطايا، وبروق السحاب قبل رعوده فأقام البرق مقام الضحك، والرعد مقام العطايا، وإنما كان يجب أن يقوم الغيث مقام العطايا لا الرعد). ثم يستطرد إلى تخطئة الشعراء القدامى في المعاني، ثم ينتقل إلى سرقات أبي تمام ويعود إلى تخطئته في المعاني، ثم يعقد بابا لما في شعر أبي تمام من قبح الاستعارات، وبابا في سوء نظمه وتعقد ألفاظ نسجه، ثم بابا فيما كثر في شعره من الزحاف واضطراب الوزن؛ وينتقل بعد ذلك إلى البحتري فيسلك في الكلام عنه الطريقة التي سلكها في الكلام عن أبي تمام؛ ثم يخلص إلى الموازنة بين الشاعرين فيقول: (وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتفق فيها الطائيين فأوزان بين معنى ومعنى، وأقوال أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن افصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد، وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت(680/3)
التفضيل فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علي من نعت مذهبيهما وذكر مطلوبيهما في سرقة معاني الناس، وانتحالهما وغلطهما في المعاني والألفاظ، وإساءة من أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة ورداءة النظم واضطراب الوزن وغير ذلك مما أوضحته في مواضعه وبينته، وما سيعود ذكره في الموازنة من هذه الأنواع على ما يقوده القول وتقتضيه الحجة، وما ستراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعهما، فإني أوقع الكلام على جميع ذلك وعلى سائر أغراضهما ومعانيهما في الأشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنبه على الجيد وأفضله على الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التلخيص وتحيطه به العناية، ويبقى ما لم يكن إخراجه إلى البيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما بعد أن يكون هناك طبع فيه تقبل لتلك الطباع وامتزاج وإلا لا يتم ذلك، وأكلك بعد ذلك إلى اختبارك، وما تقضي عليه فطنتك وتميزك)
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(680/4)
من التاريخ الإسلامي:
قضية سمرقند
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة من حياة، عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء، أو مصباح يزهر على الأرض، وقد أوى كل حي في (سمرقند) إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام، ولم يبق متيقظا فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل مارا إلى غايته، ولا يقف ولا يلتفت حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة، لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها، ثم أوسع الخطو، وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر، وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه. . . .
وفارق المدينة واحتواه الغاب، وطنت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته، وكان الغاب موحشا غارقا في ظلمتين، ظلمته وظلمة الليل. . . ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه، وقد كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه وعظم الخطر الذي يقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة، وانفراده في الغاب، والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع. . . حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة، ووقر على صدره شئ لم يجد مثله في الغاب الموحش، ولم يكن غلاما تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد، ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه، جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير وكان فارس البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان، ولئن واجه في الميدان رجالا مثله، ففي المعبد قوى لا يراها، وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئا. . . ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذين مارسوا من أنواع العبادة والرياضيات ما يجعلهم أهلا لدخوله، ثم لا يخرجون منه أبدا، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض، وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة، ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد، ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وجل. وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها(680/5)
بيديه على نحو ما أمروه أن يفعل إذا هو وصل. . . وجعل يحدق في الظلام فرأى كأن شخصا عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض، ففزع وإرتاع، ولكنه سمع صوتا إنسانيا يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد، فلحق به وقلبه يخفق تطلعا إلى ما وراءه من خفايا وأسرار، فأجتاز به سردابا طويلا ملتويا تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة، يخرج منها لهيب أزرق يتراقص فيلقى على الجدران الصخرية ظلالا عجيبة، وفي السرداب تماثيل (آلهة) ذات صور بشعة مرعبة، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة. . . وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيرا مخيفا كأنه صوت سرب من البوم. . . ثم دخل به غرفا منقورة في الصخر حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد لأنهم لا يخرجون من المعبد، وقل أن يدخلوا أحدا عليهم، والذين كانوا هم حكام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه، لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد إلا حقت عليه لعنة (آلهة. . .) المعبد، ذات الوجه البشع المرعب. . .
لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله، أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم، وسمع كلاما بنصب في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالما. . . وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء، فأزاحوا عرشها، وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها، ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم، وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم، وكانت خطة شيطانية أرتجف لسماعها، ثم عاد المتكلم فقال:
- غير أنا رأينا أن نرجئ خطتنا، ونرمي أخر سهم في جعبتنا، وذلك أنا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكا عادلا يقيم في دمشق، فأزمعنا أن نرسل إليه رسولا يرفع إليه شكايتنا، ويشرح له مظلمتنا، ثم نرى ما هو فاعل، وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول؛ فهل أنت راض؟ قال: نعم. قال: أمض بتوفيق الآلهة. . .!
وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير، ورأى ظلام الليل أبيض مضيئا، ولقد اعتدها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة، وكان موضع ثقتهم ونجواهم، وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن(680/6)
حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه، وكان لفرط شجاعته يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده، ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم، وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر. . . ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها فضاعت فيه فلم يبق لها أثر، فلما شد رحاله وسافر ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفرة، لم يلق عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة. . . من سمرقند إلى بخارى إلى بلخ إلى هرات إلى قزوين إلى الموصل إلى حلب إلى دمشق. . . دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند. . . وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟ فأين ملك خاقان وكسرى! لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة، تلك القرية التي هزها محمد بيمينه، فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملكوها. . . وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان. . . وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر. . . وكان كلما تقدم ورأى جديدا من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقا من لقاء الخليفة. . .
وأفاق يوما من ذهوله، بعدما صرم في هذه الرحلة أشهرا، على صوت الدليل، وهو يهتف باسم (دمشق).
هذه دمشق سر الأرض، هذه سدة الدنيا، هنا التقى والعلي والمجد والغنى والجلال والجمال. . . من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند، وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضا أبعد وأنأى، حتى تجوز أسبانيا، هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسكندر ولا خاقان. . . والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخاف عن أمره، أو يرد قوله. . .
ولكن كيف الوصول إليه؟ وأني لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟ وخالط قلبه اليأس. . . فسأل عن خان ينزل فيه فأرشد إلى خان أمضى فيه ليلته، فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها، وخرج ليلقى الخليفة. . . وأقبل على أول إنسان لقيه يريد أن يسأله عن (القصر)، فاعترته هيبة شديدة، وخاف من مواجهة الرجل الذي يحكم نصف الأرض، والذي لا يبلغ(680/7)
ملك شاهنشاه العظيم ولاية واحدة من ولايته، يحكمها أمير من أمرائه. . . وذكر كيف كانت تتصدع الأفئدة خوفا من لقاء كسرى، وتقف الملوك على بابه، وكيف كان يقتل على الظنة، وأمر بضرب عنق الرجل يقول كلمة لا تعجبه، أو يأتيه في ساعة يكون فيها لقس النفس ضيق الصدر، وتلمس عنقه وتخيله من الفزع مضروبا، وتصور رأسه طائرا عن جسده، فطارت معه حماسته وشجاعته. . . وكره لقاء الخليفة، وفكر في العودة إلى بلده سالما قبل أن يحيق به مصاب لا ينفعه معه مجد يناله، ولا وطن يحرره، ولا كاهن يرضيه. . . وغر في مخاوفه وأفكاره، وجعل يسير على غير هدى، كلما مر على قصر من قصور دمشق، ورأى بهاءه وعظمته ظنه قصر الخليفة، فخفق قلبه واضطرب. . . حتى رأى قصرا ما له في جلاله نظير، له باب هائل، عرضه مثل الشارع العظيم، له قوس مشمخرة عالية، ذات مقرنصات ونقوش، قائمة على أسطوانتين من المرمر الصافي، ورأى الناس يدخلون ويخرجون لا يسأل أحد أحدا، ولا يمنعه حاجب ولا بواب، فأيقن أنه قصر الخليفة، وتشجع وشد من عزمه ودخل يقدم رجلا ويؤخر أخرى. . . فلما لم ير أحدا قد منعه سكنت نفسه، ونظر فإذا هو في صحن واسع، إذا كنت في طرفه لا تستطيع أن تتبين من هو في الطرف الآخر، قد فرشت أرضه بناصع الرخام فهو يلمع كالمرايا، والناس يجلسون عليه، وحوله جدران عالية، ما رأى قط بناء أرفع منها، وهي مزخرفة بأعجب الزخارف والنقوش، وفي وسط الصحن بركة واسعة يتفجر منها الماء، فيضربه شعاع الشمس فيكون له منظر عجيب. . . ونفذ من الصحن إلى قاعة لا تقل عنه سعة، ولا يدانيها بهاء وجمالا، قد قام سقفها على أساطين الرخام، تحمل أقواسا فوقها أعمدة أصغر منها، فوقها أنحاء وطاقات معقودة، تتدلى من السقف سلاسل الذهب والفضة تحمل المصابيح والثريات، وجعل يمشي خلال الناس ذاهلا، لا يدري ماذا يصنع فأصطدم برجل كان يقوم ويقعد ويذكر اسم الله. . . وتلفت الرجل إلى اليمين وإلى الشمال، ونظر إليه فرآه غريبا، فسأله عن حاله، فسبق لسانه إلى الحقيقة فأخبره أنه جاء من بلده يريد لقاء الخليفة، ثم تنبه وقدر أن الرجل سيرتاع لذكر الخليفة بلا تعظيم ولا تبجيل، وأنه سيدفعه إلى الشرطي فيستاقه إلى السجن. . . فرأى الرجل ساكنا هادئا كأنه لم يسمع نكرا، وسمعه يقول له:
أتحب أن أدلك على داره؟(680/8)
قال: أو ليست هذه داره؟
قال الرجل مبتسما: لا هذا بيت الله، هذا المسجد، أصليت؟
صلى؟ وكيف يصلي وهو على دين سمرقند، ذلك الدين الذي لا يعرف منه إلا هذا المعبد المملوء بالأسرار، وتلك الآلهة المخيفة ذات الوجه البشع المرعب. . . وجعل يفكر: أين هذا المعبد من معبده المختبئ في بطن الصخر، وأين هذا النور وهذا الجمال، من تلك الظلمة وذلك القبح؟ وشك لأول مرة في عمره في دينه الذي نشأ عليه!
وأعاد الرجل سؤاله. فقال له لا لم أصل، ولا أعرف ما الصلاة. . .
- قال: وما دينك؟
- قال: أنا على دين كهنة سمرقند؟ قال: وما دينهم؟
- قال: لا أدري!
- قال: من ربك؟
- قال: آلهة المعبد المرعبة. . .
- قال الرجل: وهل تعطيك إن سألتها؟ وهل تشفيك إن مرضت؟
- قال: لا أدري. . .
ورآه الرجل ضالا جاهلا، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها، فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمنا بلله ورسوله محمد الذي جعل الله به العرب سادة الدنيا، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. . .
ثم قال الرجل قم الآن أدلك على دار الخليفة، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله، وينفرد بنفسه.
وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموه، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذا الفتوح وهذه القوة التي لم يقم لها شئ. أين هذه الديانة السافرة الواضحة التي تجعل كل واحد من أتباعها كاهنا لها ورجل دين. . . من تلك الديانة المجهولة الخفية. . . أين. . .
وخرج من المسجد، من باب غير الذي دخل منه، فما راعه إلا الرجل يقول له، مشيرا إلى باب من ألواح الخشب، غير مصبوغة ولا منقوشة: هذه داره!
هذه؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السوقة من رعيته، وقد مر عليها فرأى فيها(680/9)
بهاء وجلالا؟ ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جادا، فتركه وتقدم من الباب وهوشاك فيما قال الرجل، ونظر فرأى كهلا قائما يصلح بالطين جدار المنزل وامرأة تعجن. . . فترك الباب ولحق بالرجل مغيظا محنقا فقال له:
ما كان لك أن تكذب علي وتسخر مني، أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيان؟
قال: ومن الطيان؟
قال: صاحب الدار.
ووصف له ما رأى.
قال الرجل: ويحك هذا والله أمير المؤمنين الذي ليس فوقه إلا الله. وهذه المرأة، ألا تدري من هذه المرأة؟ هذه زوجة الخليفة عمر وبنت الخليفة عبد الملك، وأخت الخليفتين الوليد وسليمان، وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين، هذه أمجد امرأة في العرب، ولقد كان أمير المؤمنين أرفه الناس عيشا، وأكثرهم طيبا، ولكنه كان رجل فيه عرق عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى، فعد إليه فأقرع بابه وأنفض إليه شكاتك، ولا تخف، فوالله ما هو بالملك المتكبر ولا الحاكم الجبار، ولكنه عند الله متواضع هين لين، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شئ، وإذا غضب لله كانت العواصف والصواعق دون غضبه قوة ونفاذا. . . فأذهب موفقا.
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(680/10)
تونس المجاهدة. . . أليس لها من نصير؟
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
ياله من ظلم عبقري، وجور ليس له ضهي، ذلك الذي تصبه فرنسا ورجالها المستعمرون على القطر العربي تونس من سوط العذاب، لا تعرف في ذلك عدلا، ولا ترعى عهدا، ولا يصدفها عن البغي حق إنساني، ولا كرامة أدبية، ولا حرمات واجبة الرعايا، حتى صار أحب الأشياء إلى القاسطين من رجالها، وذوي الغشمرية من ممثليها في تلك البلاد أن ينكلوا بأبنائها ويسوموهم الخسف، ويذيقوهم ضروب العذاب وألوان النكال!
هل أتاك حديث هؤلاء الفرنسيين وما اكتسبوا من سيئات؟ وهل قرع سامعيك - في هذا الوقت الذي يتشدق فيه الدعاة بمبادئ الديمقراطية والحرية - نبأ تلك الفظائع والقوارع التي يشيب من هولها الولدان، وتقشعر من سماعها الأبدان، إذ اندلعت نيران الثورة بإقليم الساحل من القطر التونسي، لما شعروا به من فداحة الظلم وثقل الجور واهتضام الحقوق، فاندفعت الجنود والكتائب الفرنسية نحو القرى الآمنة، واقتحمت الدور الوادعة، وأهلها عزل من كل سلاح إلا سلاح الحق والإيمان، فاعتقلوا الرجال، وأخذوا الرهائن، وانتهبوا البيوت، ودكوا بمعاول الهدم والتخريب!
ولم يكتف هؤلاء الجنود ومن يأتمرون بأمرهم من الرؤساء بهذا العدوان الآثم، وهذه الجرائم التي لا يقرها عرف ولا قانون، فطوعت لهم أنفسهم إحياء ما كمن فيها من غرائز دونها غرائز الحيوان الذي حرم نعمة النطق والتفكير والتربية والتهذيب، فاستباحوا الحرمات، وهتك العلوج أعراض النساء المسلمات، وعرضوهن عاريات، إمعانا في التنكيل، وإيغالا في الإذلال والتعذيب!!
فكيف تستطيع فرنسا وقد اجترح رجالها هذه السيئات، واقترف جنودها تلك الآثام أن تواجه الأمم المتحضرة وتجلس معها جنبا إلى جنب، وتشترك معها في تقرير مصاير الأمم وحريتها، وأن تدعي لنفسها أنها ميزان من موازين القسط، وإنها من سدنة الحرية والإخاء والمساواة؟!
ألا إنهم يخادعون الناس، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون!!
هذه الأمة التونسية كرمت محتدا وطابت أرومة: إنها عربية تجري في عروقا فضائل(680/11)
العرب ومزاياهم من الشهامة والبسالة والنجدة، والانطباع على الشجاعة وحب الحرية والذود عنها، ومقت الذل، وإباء الضيم، والحرص على الشرف والكرامة.
وإنها لمسلمة قد أشربت حب الإسلام، واستمكنت وصاياه ومبادئه من نفسها حتى سيط بلحمها ودمها، فأيقنت أن الإسلام والذلة لا يجتمعان، وآمنت أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعرفت أن من أجل تعليم الإسلام ووصاياه الجهاد في سبيل الله والحق، الذي يراد منه دفع الفتنة والبلاء، ويراد منه دفع العدوان عن الوطن والبلاد، ويقصد منه رد الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، والحق والحرية لا يقومان في هذه الحياة إلا على أساس الجهاد المشروع والدفاع المحتوم الذي لا إنحياص عنه ولا مناص. فجهاد تونس وسائر الأمم التي سلبت حريتها مشروع، ولا شك في مشروعيته ولا امتراء، وما أصيبت البلاد الشرقية بما أصيبت به إلا من التقصير في أداء هذا الواجب، والتفريط في المحافظة على هذا السياج الذي هو السبيل الوحيد لحماية الحق وحفظه:
(إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز)!
أدت الأمة التونسية، وستؤدي واجبها في الدفاع عن حريتها وحقوقها وبلادها، وستنهض بأعباء ذلك كله غير حافلة بالضحايا تقدمها، والدماء الطاهرة تسفكها، والأنفس والأموال تبذلها. .!
ولكن الأمم العربية والإسلامية عليها تبعات وواجبات لهذه الأمة المظلومة المضطهدة، ستسأل عنها أمام الله، وأمام التاريخ والأجيال القادمة!
إن تونس المجاهدة العانية، والجزائر المغلولة المصفدة، ومراكش المغلوبة على أمرها، لا تقل مآسيها وكوارثها عن الخطر الداهم والبلاء النازل بفلسطين. فعلى الأمم العربية والإسلامية أن ترعى قضايا أمم المغرب العربية والإسلامية كما ترعى قضية فلسطين!
وإنا لنطالب الجامعة العربية بمزيد من العناية والرعاية لتلك القضايا، حتى تتم للجامعة وحدة أبنائها في المشرق والمغرب، وتتحقق عزتهم، ويتمتعوا بحقوق السيادة والإنسانية.(680/12)
وستظل الجامعة العربية - في رأينا - ناقصة البنيان غير عالية الذرا، حتى تضم إليها تلك الأمم، وتكفل لها حياة العزة والكرامة، وعيشة الرغد والسعادة. وإني لأرفع الصوت عاليا مناشدا الأمم الإسلامية والعربية، وحكوماتها في اليمن والحجاز والعراق وسورية ولبنان ومصر والهند، أن يهبوا لنصرة إخوانهم المستضعفين بشمال أفريقية، وذلك بالاحتجاج على دولة فرنسا، وتبليغ سفراء الدول وهيئة الأمم المتحدة صيحاتهم واستنكارهم لموقف فرنسا حيال الأمة التونسية، كما نرجو من الجامعة العربية أن تختار من هذه الأمم المظلومة من يمثلها في الجامعة، حتى تبدأ نشاطها الفعلي في الدفاع عنها، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وهو ولي العاملين وناصر المجاهدين!
حسن أحمد الخطيب(680/13)
بمناسبة حال العمال اليوم:
واجبات الإنسان. . .
للزعيم الإيطالي يوسف مزيني
بقلم الأستاذ عامر عبد الوهاب
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
لقد كان في فرنسا في ذلك الوقت كاتب يجب أن لا تنسوه أبدا. كان أكبر عقلا وأرجح فكرا من كل أولئك جميعا. كان حينئذ خصمنا ولكنه كان يؤمن بالواجب، واجب تضحية الحياة جميعها للصالح العام والسعي وراء الحقيقة ونصرتها. درس الناس والظروف دراسة عميقة، ولم يقبل أن يضله غرور الثناء أو يثبط اليأس عزمه. فكان إذا سار في طريق وفشل لجأ إلى سبيل آخر سعيا منه وراء تحسين حال الجماهير. ولما أرته الحوادث أنه لا يوجد غير قوة واحدة قادرة على تحقيق هذا الغرض، أي حينما أثبت الشعب أنه في ميدان العمل أفضل وأصدق إيمانا من كل من يتظاهر بخدمة قضيته أصبح ذلك الرجل (لأمينيه) مؤلف كتاب (كلمات مؤمن) الذي قرأتموه جميعا، أصبح رسول القضية التي تجمعنا فيها آصرة الأخوة. إنكم ترون بينه وبين الرجال الذين تحدثت عنهم الفارق بين أصحاب نظرية (الحقوق) وبين دعاة الواجب. فالأولون حينما يحصلون على حقوقهم الذاتية يغشي نفوسهم ميل رجعي فيجمد بهم العزم عن متابعة الجهاد. أما الآخرون فلا ينتهي عملهم في هذه الأرض إلا بانتهاء حياتهم.
وإذا كانت هناك شعوب يغلب عليها الاستعباد، ولا يسلم فيها الكفاح من ألوان الظلم والاضطهاد، ولا تكاد تتحقق فيها خطوة واحدة نحو الإصلاح إلا ببذل النفوس وإراقة الدماء، وحيث يلزم أن تكون المساعي المبذولة في محاربة المظالم العليا محوطة بسياج من الكتمان والخفاء، غنية عن سلوى الشهرة ونشوة الثناء أي عهد وأي حافز على المثابرة يحمل ناسا في تلك الشعوب على الثبات في سبيل التقدم بينما هم ينحدرون بالجهاد الشعبي المقدس إلى حضيض النزاع من أجل حقوقهم فحسب؟
أرجو أن تتذكروا أني أتكلم عن العموميات لا عن الشواذ التي تعرض في جميع مذاهب(680/14)
الفكر، فإذا فرضنا أن فترت الحماسة، وضعفت نزعة محاربة الظلم، هذان العاملان اللذان يحفزان الشباب بطبيعة الحال على الكفاح، ماذا يمنع حينئذ أن يتسرب الإعياء والملل إلى نفوس أولئك الرجال، ولم يمض عليهم في الجهاد غير بضع سنين لقوا فيها من أسباب الحبوط والقنوط ما لا مرد له في مثل هذا السبيل؟ لماذا لا يفضلون أي لون من ألوان الدعة على حياة مضطربة يهيجها النزاع الدائم وتحيق بها الأخطار من كل جانب، وليس ببعيد أن تنتهي يوما ما في قرارة السجون أو على حبال المشانق أو غياهب النفي؟ تلك هي القصة الشائعة في هذا العصر عن أغلب الإيطاليين الذين تشعبت أفئدتهم بالأفكار الفرنسية العتيقة، وإنها لقصة مفجعة حقا. ولكن كيف يمكن تغيرها إلا بتغيير المبدأ الذي يترسمونه ويسترشدون به؟
كيف وعلى أي اعتبار نحملهم على أن يستلهموا من الخطر والفشل حافزا يضاعف قوتهم، وعلى ألا يقفوا بالجهاد بعد عدة سنين بل يثابروا عليه حتى الممات؟
من ذا يقول لإنسان: ثابر على الكفاح من أجل حقوقك، إذا كان هذا الكفاح نفسه يكلفه أضعاف ما يكلفه التنازل عنها؟
وحتى لو كان هناك مجتمع قائم على أساس يفوق أساسنا نصفة وعدلا فمن ذا يستطيع في هذا المجتمع أن يقنع فردا آمن بنظرية الحقوق فقط بأن عليه أن يسعى لأجل الغرض العام، ويبذل جهده في نصرة القضية الاجتماعية؟ لنفرض أنه ثار وأنه أحس في نفسه القوة فيقول لك: مالي وللعهد الاجتماعي؟ لابد لي أن أنكث به لأن ميولي ومداركي تتجه بي ناحية أخرى. ولي حق مقدس مطلق في أن أفسح لها طريق الظهور والنشوء، وأفضل أن أكون في حرب مع كل إنسان، فأي واجب حينئذ تردون به عليه بينما هو يستمسك بنظريته في الحقوق؟ وأي حق لكم لأنكم أغلبية في أن ترغموه على طاعة قوانين لا تتفق ورغباته وأمانيه الشخصية؟. . . وأي حق لكم في معاقبته إذا ثار عليها؟
وإذا كانت الحقوق تتقسط كل فرد على السواء حتى لم يعد هناك مجال لأن يظهر فرد مستقل بنفسه عن باقي الأفراد الذين يعيشون معه في هيئة واحدة. وإذا كان المجتمع لا يزيد عن الفرد حقوقا، وإن زاد عنه قوة فكيف إذن ترومون أن تقنعوا الفرد بأن يدع إرادته تفنى في إرادة أولئك الذين هم إخوانه سواء في الوطن أو في الرابطة الكبرى رابطة(680/15)
الإنسانية؟ أيكون ذلك عن طريق الإعدام أم عن طريق السجن؟ إن الجماعات التي عاشت حتى الآن استخدمت هاتين الوسيلتين، بيد أن ذلك هو سبيل الحرب، أما نحن فنبغي السلام.
ذلك ضغط تعسفي، أما نحن فنريد التهذيب.
نقول التهذيب، وإنها لكلمة كبيرة تلخص نظريتنا كلها. أليست المسألة الحيوية التي تشغل عصرنا هي مسألة التربية؟ لهذا يجب علينا ألا نقيم نظاما جديدا على أساس العنف. ذلك لأن أي نظام يقوم على هذا الأساس لا بد أن يكون نظاما جائرا حتى ولو كان أفضل من سابقه. إن علينا أن نستعين بالقوة في هدم القوة الغاشمة التي تعترض الآن كالسعي في الإصلاح.
وبعد ذلك نبدي ما نعتقد أنه أفضل النظم لتبت الأمة فيما تبتغيه منها. وهي حرة في إبداء إرادتها. كما نعلم الأفراد بكل وسيلة ممكنة أن يتعهدوا ما يستقر عليه رأي الأمة، وأن يسيروا وفاقا له في أعمالهم. إن نظرية الحقوق تعيننا على أن نثور ونهدم الحوائل ولكنها لا تكفل وفاقا منيعا دائما بين جميع العناصر التي تتكون منها الأمة. إننا لن نصل بنظرية السعادة والرفاهة كغرض أولي للحياة إلا إلى تكوين رجال أنانيين يعبدون المادة وينقلون شهوات النظام القديم إلى النظام الجديد الذي لا يلبث أن يفسد في بضعة شهور. لذلك كان لزاما أن نتفقد مبدأ من مبادئ التربية يسمو فوق أمثال تلك النظريات ويرقى بالناس إلى مثل فضلى، ويعلمهم الجلد في التضحية، ويربط بينهم وبين إخوانهم دون أن يجعلهم يعتمدون على آراء رجل فرد، أو على قوة المجموع. هذا المبدأ هو الواجب.
يجب أن نقنع الناس أنهم - وهم أبناء رب واحد - يلزمهم أن يطيعوا قانونا واحدا في هذه الأرض، وأن كلا منهم يجب أن يعيش لا لنفسه بل لغيره، كما نعلمهم ألا يكون غرض حياتهم الحصول على قدر من السعادة قل أو عظم، بل أن يسعوا في تحسين وترقية حالهم وحال غيرهم من الناس. كما نذكرهم أن محاربتهم للظلم والضلال في سبيل نفع إخوانهم ليست حقا فحسب، بل واجبا حتميا عليهم أبد الحياة. ومن الإجرام أن يتهاونوا في نفاذ هذا الواجب.
أي إخواني عمال إيطاليا! أفهموا ما أقول فهما صحيحا صادقا. إذا قلت إن علم الناس(680/16)
بحقوقهم ليس كافيا في أن يعينهم على نفاذ أي إصلاح دائم أو يعتد به، فلست أسألكم أن تنبذوا هذه الحقوق، إنما أقصد أنها لا يمكن أن تتحقق إلا كنتيجة للواجبات النافذة، وأن على الإنسان أن يبدأ بالأخيرة كي يصل إلى السابقة. وإذا قلت أن اتخاذ السعادة أو الرفاهة أو المصلحة المادية غرضا للحياة، إنما يؤدي إلى إخراج أناس أنانيين، فلست أعني ألا تسعوا مطلقا وراء هذه الأشياء، بل أقرر أنه إذا جرى الناس وراء المصالح المادية فقط واعتبروها غاية لا وسيلة فإنهم يسوقون أنفسهم إلى هذه النتيجة السيئة الخطيرة: ذلك أنه لما أصبح الرومان الأقدمون في عهد الأباطرة لا يطلبون غير العيش واللهو تدهوروا إلى أحط دركات الشعوب. ولما استناموا إلى مظالم الأباطرة الوحشية الخرقاء كان حتما عليهم بعد ذلك أن يصبحوا عبيدا أذلاء للغزاة البرابرة.
وفي فرنسا وغير فرنسا كان أعداء أي تقدم اجتماعي يجهدون في نشر بذور الفساد، وتضليل عقول الناس عن مناحي التغيير، بتشجيع النزعات المادية، فهل لنا بعد ذلك أن نعين العدو بأيدينا! إن الإصلاح المادي ضروري. وعلينا أن نسعى في الحصول عليه لأنفسنا، ولكن لا لأن الأمر الفرد المحتوم على الإنسان هو أن ينعم بالطعام والمسكن، بل لأنكم لا تستطيعون أن تشعروا وشئ من الكرامة أو أي معنى من معاني سمو النفس إذا كنتم منهمكين كما أنتم الآن في مغالبة مستمرة للعوز والفاقة. أنتم تشتغلون عشرا أو اثنتي عشر ساعة في اليوم، فكيف تستطيعون أن تجدوا وقتا تثقفون فيه أنفسكم؟ وأكثركم لا يكاد يحصل من الرزق على ما يكفي لإعالتهم أو إعالة أسرهم، فكيف تستطيعون إذن أن تجدوا وسيلة لتثقيف أنفسكم؟ إن زعزعة خدمتكم وما يعتريها من فترات الانقطاع الكثيرة تتراوح بكم بين المجهدة والبطالة. فكيف تكتسبون عوائد النظام والمواظبة والمثابرة؟ وزهادة أرزاقكم تذهب أي أمل في توفير ما يكفي يوما ما لنفع أولادكم أو عونكم أنتم في شيخوختكم، فكيف يتيسر لكم أن تربوا فيكم خصائل الاقتصاد؟ بل إن كثيرين منكم تضطرهم الفاقة إلى أن يحرموا أطفالهم - لا نقول من مهاد التربية إذ أية تربية تستطيع نساء العمال البائسات أن يقدمنها لفلذات أكبادهن - بل يحرمونهم من حنان أمهاتهم ورعايتهن، ويرسلوهم في سبيل بضعة دريهمات إلى المصانع حيث يكابدون أعمالا ضارة بصحتهم. فكيف نأمل وهذه هي الحال أن تزهر المحبة العائلية ويسمو قدرها؟(680/17)
وإذا كنتم محرومين من الحقوق المدنية ومن الاشتراك - سواء بالانتخاب أو بالتصويت - في القوانين التي تنظم أعمالكم وتتحكم في حياتكم فكيف تشعرون بفخار القومية وتحسون بأية غيرة على الدولة أو ولاء أكيد للقوانين؟ إن العدالة لا تسقط عليكم كما تسقط على الطبقات الأخرى فأنى لكم أن تتعلموا إجلال العدالة وحبها؟ إن المجتمع لا يعاملكم معاملة فيها شئ من العطف فأنى لكم أن تتعلموا العطف على المجتمع؟ فأنتم إذن في حاجة إلى تغيير في شؤونكم الحيوية يعينكم على رقيكم الأخلاقي، وأنتم في حاجة إلى الإقلال من العمل حتى تتوفر لديكم بضع ساعات من اليوم تنفقونها في تثقيف عقولكم ويلزمكم أن تعوضوا عن عملكم جزاء موفورا تدخرون منه ما يطمئن قلوبكم على المستقبل، ويطهر نفوسكم فوق كل شئ من الميل إلى الاقتصاص وعواطف الانتقام وشهوة النيل ممن تحامل عليكم ظلما وعدوانا. يجب أن تسعوا إذن من أجل هذا التغيير، ولا بد أن تحصلوا عليه، ولكن على أن يكون وسيلة لا غاية. جاهدوا من أجله لتصلحوا من أحوالكم لا لتحققوا سعادتكم المادية فحسب، وإلا فأي اختلاف يكون بينكم وبين طغاتكم؟ إنهم لم يكونوا طغاة إلا لأنهم لم يفكروا في شئ سوى الرفاهة واللذة والسلطان. ويجب أن يكون غرضكم الأسمى في الحياة ترقية حالكم. ولن تستطيعوا أبدا أن تخففوا من شقائكم إلا بإصلاح شؤونكم. أما إذا قصرتم جهادكم على تحقيق أغراض مادية أو إنشاء نظام خاص فلا بد أن يقوم بينكم آلاف من الطغاة. إن تغييرا يحدث في النظام الاجتماعي لا يكون له معنى إذا حملتم في قلوبكم أنتم وغيركم من الطبقات شهوات اليوم وأنانيته. إن النظم كبعض النباتات التي تخرج سما أو شفاء وفاقا للطريقة التي تستخدم فيها. لذلك نرى الرجال الأخيار يحيلون الأنظمة الفاسدة صالحة؛ بينما الرجال الأشرار يحيلون الصالحة فاسدة. وعليكم أن تقوموا الطبقات التي تجور عليكم اليوم قصدا أو عن غير قصد، وتقنعوهم بما عليهم من الواجبات. بيد أنكم لن تفلحوا في ذلك إلا إذا بدأتم بإصلاح أنفسكم ما استطعتم إلى ذلك سبيلا.
فإذا سمعتم إذن ناسا ينادون بضرورة انقلاب اجتماعي ويحدثونكم بأنهم قادرون على تحقيقه بدعوى حقوقكم فقط فاشكروهم على حسن مقاصدهم. ولكن أشفقوا من النتيجة. إن آلام الرجل الفقير معروفة - على الأقل - للطبقات المترفة ولكنها إن عرفتها فهي لا تحس بها.(680/18)
ولقد كان من نتيجة عدم الاكتراث السائد الذي نشأ من عدم وجود عقيدة عامة كما كان من نتيجة الأثرة التي ولدتها مداومة التبشير زمنا طويلا بنظرية الرفاهية المادية؛ كان من نتيجة ذلك أن الذين لم يتذوقوا طعم الشقاء تعودوا على مر الأيام أن ينظروا إلى هذه الآلام كضرورة سيئة للنظام الاجتماعي، وأن يتركوا أمر علاجها للأجيال القادمة.
وليست الصعوبة في أن تقنعوهم، بل في أن تزيلوا عنهم كابوس الجمود، وأن تحفزوهم إذا ما اقتنعوا إلى العمل وإلى لم شعثهم، والتعاون معكم تعاونا أخويا في سبيل خلق نظام اجتماعي يكفل القضاء - إلى الحد الذي تجيزه ظروف الإنسانية - على آلامكم أنتم، وعلى مخاوفهم هم. والآن ندرك أن هذا من عمل الإيمان، الإيمان بالرسالة التي قدرها الله على الإنسان في هذه الدنيا. والواجب الذي يحتم على كل فرد أن يجاهد دوما باذلا التضحية الذاتية من أجل قضية الحق. أما نظريات الحقوق على شتاتها، ونظريات الرفاهية المادية فليس لها من أثر غير أن تحملكم على القيام بالمحاولات التي طالما بقيت منفردة موقوفة على قوتكم فحسب، فلن يقدر لها فلاح، فضلا عن أنها لابد أن تؤدي إلى ارتكاب أشنع الجرائم الاجتماعية بإثارتها حربا أهلية بين الطبقات.
أيها العمال الإيطاليون! أي إخواني! لما أتى المسيح وغير وجه الأرض لم يتكلم عن الحقوق، لا إلى الأغنياء الذين لم يكونوا في حاجة إلى الحصول عليها، ولا إلى الفقراء الذين ربما كانوا يسيئون استخدامها في مجاراتهم للأغنياء. لم يتكلم عن الفائدة أو النفعية إلى أمة أفسدتها الفائدة وأضرتها النفعية؛ إنما يتكلم عن الواجب. تكلم عن المحبة والتضحية والإيمان. قال: (يجب ألا يتصدر الناس إلا من أحسن بعمله إلى الناس أجمعين). فلما أن نفذت هذه الأفكار إلى سمع مجتمع لم يبق في فؤاده أي بريق في الحياة أحيته من جديد، وتسلطت على الملايين بل على العالم، ونهضت بتربية الجنس البشري نهضة جديدة.
أيها العمال الإيطاليون! أنا نعيش في عصر كعصر المسيح. أنا نعيش في وسط مجتمع فاسد شبيه بعصر الإمبراطورية الرومانية، ونحس في نفوسنا بضرورة تغييره وبعثه بعثا جديدا، ولم جميع أعضائه وعماله تحت راية إيمان واحد، وغرض واحد. أي أن الواجب علينا أن نرعى جميع المواهب التي أنعم بها الله على العباد، وأن ننشئها على غرار الحرية والتقدم، وأن نترسم حكم الله في الأرض كما في السماء. أو بعبارة أفضل أن تكون(680/19)
الحياة الدنيا إعداد للحياة العليا، وأن يسعى الناس ليدنوا حثيثا من الوحي الإلهي.
لقد كان كل عمل من أعمال المسيح يمثل العقيدة التي نادى بها؛ كما كان حوله رسل أخرجوا هذه العقيدة إلى حيز الوجود في كل أفعالهم. فسيروا على نهجهم، وسوف يكون النصر لكم. بشروا بالواجب إلى رجال الطبقات التي تعلوكم، وأدوا بقدر ما في مكنتكم واجباتكم أنتم. بشروا بالفضيلة والتضحية والمحبة، وكونوا أنتم مثل الفضيلة والتضحية والمحبة، أعلنوا في شجاعة عن حاجاتكم وآرائكم، ولكن في غير غضب أو حقد أو تهديد، إن أبلغ التهديد - إذا كان هناك من هو في حاجة إلى التهديد - لهو القول الرصين لا الفائز.
وإذ تنشرون بين أقرانكم فكرة عن حظوظكم المقبلة، فكرة عن الأمة التي ستكسبهم اسما وتربية وعملا وأجورا عادلة وتبعث فيهم شعور الكرامة وتبوئهم مراكز الرجال، وبينما تضمرون في نفوسهم نيران الحماسة للجهاد المكتوم الذي لابد أن يتأهبوا له حتى يفوزوا بتحقيق هذه الأماني، برغم جميع قوى حكومتنا السيئة، وبرغم الأجنبي. بينما تقومون بهذا كله فلا تنسوا أن تثقفوا أنفسكم، وتهذبوا أحوالكم، وتتذكروا واجباتكم وتؤدوها.
هذا واجب غير ميسور على الجماهير في جانب كبير من إيطاليا، ولا يمكن تحقيق خطة في التربية الشعبية في بلادنا بدون تغيير في حالة الشعب المادية. بل وبدون ثورة سياسية، والذين يخدعون أنفسهم فيجرون وراء ذلك الخيال وينادون به كتمهيد لازم لأي محاولة في التحرر إنما يدعون دعوة خرقاء ليس إلا. أما القلائل الذين يمتازون بينكم بظروف طيبة، ومكنهم الإقامة في البلد الأجنبية أن يكتبوا شيئا من وسائل التربية الحرة، فأولئك هم الذين يستطيعون أن يقوموا بهذا الواجب. ولذلك يتحتم عليهم أن يقوموا به، وهؤلاء القلائل إذا ما تشبعوا بالمبادئ الحقة التي ترتكز عليها تربية الأمة كانوا كفاية في أن ينشروا بين الألوف كنبراس يهديهم سبيلهم، وحصانة تحميهم من الأوهام والنظريات الخاطئة التي ستصادفهم في حياتهم.
(ترجمة)
عامر عبد الوهاب(680/20)
صور سودانية. . .
للأستاذ عباس حسان خضر
(هذه الصور من وحي عهد كان لنا بالسودان، وكان لنا فيه
أهل بأهل وإخوان بإخوان. . .)
المفرق:
هنالك على مبعدة من الخرطوم ومقربة من أم درمان يلتقي النيلان: الأبيض والأزرق. وكم وقفت أشاهد هذا الاقتران الدائم الخالد، وكم تفرجت بمرأى الموجة الزرقاء تجد في أثر البيضاء، هذه تتدلل وتتلوى، وتلك لا تيئس ولا تني، حتى تدركها أخر الأمر، فتمتزجان. وقد تعطف البيضاء على الزرقاء، فتسيران كحبيبين يمشيان الهوينى عطفا إلى عطف، حتى إذا قطعتا شوطا أمنتا بعده أعين الرقباء امتزجتا. . .
ولست أنسى تلك الليالي القمرية التي كان مديرو حديقة المقرن ينظمون فيها حفلات موسيقية راقصة، ولم يكن همي أولئك الراقصات من بنات الروم اللائى يملأن الخرطوم، ولا موسيقى الجيش المصري - لم يكن أولئك، وهن قيد النواظر. . . ولا هذه، على جلال خطرها، ليمنعاني من التسلل بين الأشجار على شاطئ النيل الأزرق، حتى أبلغ ذلك الرأس الذي ينتهي عنده الشاطئان المنتهيان، فأنظر كيف يتم اتحاد النيلين، على اختلاف اللونين. . . ثم يحتضن الشاطئان الباقيان النيل المتحد، فيسير بينهما، يبعث الحياة في واديه، ويومئ بالوحدة بين بنيه. . .
ساقية المرغني:
والنيل الأزرق قبل أن يلتقي بالأبيض يمر بشمال مدينة الخرطوم متجها إلى الغرب، وعلى شاطئه مما يلي المدينة شارع طويل واسع جميل، يبتدئ من شرقي الخرطوم إلى غربيها، ثم يدعها سائرا مع النيل الأزرق إلى المقرن
وذلك الشارع من أجمل شوارع الدنيا. . . يقع فيه قصر الحاكم العام، وقصر السيد المرغني، ومنزل مفتش الري المصري، وفندق فخم يسمى (الجراند أوتيل)، وما عدا ذلك دور لكبار البريطانيين. وقد وقفت على جانبيه أدواح ممتدة الأغصان كثيفة الأوراق، تكاد(680/22)
تسقف الشارع، فتقي السائرين لفحة الرمضاء، ولا تقع العين من خلل أشجار الطوارين إلا على صفحة النيل الزرقاء الصافية من جانب، وحدائق الدور الكبيرة الحافلة بشتى صنوف الثمار والأزهار من جانب الآخر، حتى تصل إلى قصر السيد المرغني الزعيم الكبير الذي يلهج الشعب السوداني باسمه وحركاته وسكناته - فترى هناك في مقابلة هذا القصر على حافة النهر ساقية يجرها ثور، تحمل الماء إلى حديقة القصر، وهي خاصة خص بها ذلك السيد الجليل. . . ولا تستهن بهذا الغلام الذي يحث الثور إذا توانى، فهو يشعر شعورا قويا ببركة سيده، ويثلج قلبه للقيام بهذه الخدمة، ويزدهي ببلوغه هذه المرتبة. . . ترى ذلك على وجهه، وتلمحه في ابتسامته الراضية المفترة عن أسنانه البيضاء الناصعة. . .
وبعد، فماذا تقول هذه الساقية، أو عم تعبر موسيقاها الواهنة في أنينها. . . القوية بتأثيرها؟
فهمتها مرة تتألم لوحدتها في هذه البقعة التي جعلت المدينة فيها رفع المياه بالطرق الآلية الحديثة، وبودها لو ترى لها جارات أمام قصور سادات كسيدها. . . ومرة أخرى أدركت ما ترمي إليه من ترتيلها المتصل الدائب الذي لا ينقطع غلا إذا غفل الغلام عن وقفة الثور، كأنها تدل على جدوى العمل المتصل يقظة الراعي. . . ومرة ثالثة سمعتها تزهي بأنها تروى وتطرب. . . وكثيرا ما قالت لي: أنت اليوم هنا، وغدا تكون هناك في الشمال. . . فهل ستذكرني؟
ربيع السودان:
في الوقت الذي يشتد فيه البرد بمصر حين يكون الشتاء - ينعم السودان بجو دافئ مشرق، تنبعث فيه الحياة، ويدب النشاط في كل شئ، ينشط الإنسان بعد أن ران عليه صيف طويل ثقيل، وتهش نفسه للطبيعة التي لانت له بعد شدتها، وتهدي إليه الأزهار شذاها مع الهواء الذي ينسى برقته ما كان من لفحه وهبوبه، ويكون النبات الذي ترعرع على فيضان النيل قد نضج وآتى أكله، فتكثر الخضراوات، وتعم الخيرات. . .
في ذلك الوقت (من أواخر ديسمبر إلى أوائل مارس) يكون الجو في السودان معتدلا، لا يكاد الإنسان ببرد فيه إلا في الليل، فإذا ما طلعت الشمس صبت حرارتها على الأرض كأنها مدفأة كهربية، وكأن الأرض كلها غرفة عملت فيها المدفأة عملها، فما ينتصف النهار، وتحمي الشمس، ويحل وقت الغداء، حتى يلذ أكل البطيخ الدائم هناك، كأنك في صيف(680/23)
القاهرة!
ونحن في مصر لا نكاد نتمتع بالربيع، إذ ينقلب البرد إلى حر، لا يفصل بينهما إلا أيام قليلة، كأيام السعادة، تشوبها تغيرات فجائية كما تشوب السعادة طوارئ الهموم والأكدار، أما السودان فإن الطبيعة تعوضه الربيع (الذي يسمونه شتاء) عن قسوتها عليه سائر العام بطول الصيف وشدة القيظ.
جمال الليل:
ولولا ليالي الصيف الجميلة لكان شواظا من نار، فالليل هناك في الصيف متعة أي متعة! لا يجلس أحدا ولا ينام تحت سقف، فكل بيت له حديقة أو فناء، حيث توضع (العنجريبات) في المساء، و (العنجريب): سرير صغير، خفيف الحمل، لين المرقد، ولم أر أجمل من ليل كنت أقضيه على (عنجريب) في حديقة منزلي بالخرطوم ن تتنزل إلى أشعة القمر من خلال أوراق الشجر، كأنها روح من السماء يهبط على نفسي بالطمأنينة والرضى. . . وتنعشني نسمات الليل الرفيقة، وينقع غلتي كوز ماء من (الزير) الصغير الذي يأخذ من (العنجريب) مكان (الكومدينو) من السري في حجرة النوم. . .
وماء ذلك (الزير) في ذلك الليل هو الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة وجده بحبيبته بالوجد به إذ يقول:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي: ... أتحب الفتول أخت الرباب؟
قلت وجدي بها كوجدك بالعذ ... ب إذا ما منعت طعم الشراب.
عيون المها:
وما دمنا بصدد روائع في السودان، فلا مفر من تينك العينين اللتين تبدوان في وجه المرأة السودانية، ولا تكاد ترى منها غيرهما، وهما حسبك! فهي ملففة بالملاءة البيضاء، ترى فتور عينيها في مشيتها، تصطنع الأناة والتمهل، وتعد ذلك من تمام الجمال والدلال!
ولست أدري ماذا أقول في تلك العيون ولم يدع الشعراء شيئا يقال فيها إلا نسبوه إلى (عيون المها. . .؟) على أنني قد رأيت المها، وتأملت عيونها، فلم أجد شيئا من جمال عيون السودانيات. . .(680/24)
ويظهر أن إخواننا السودانيين يخشون السهام التي تنطلق من تلك العيون، فلم يسمحوا بعد للمرأة أن تنزل إلى جانبهم في ميدان الحياة العامة، فنواديهم خالية منها، وهي تحوم حولها، فما أشبه ذلك بما وصفه الشاعر:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يُثَقَّبِ
عباس حسان خضر(680/25)
مما عثرنا عليه في أضاميم (الرسالة):
الملك الثائر. . .!
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
(هذه الأقصوصة تحتوي نزعتين: النزعة الأولى سخط النفس من شرور الحياة وآلامها، والنزعة الثانية تهوين أمرها على النفس، لأن رفض الألم رفض للسعادة؛ إذ الإحساس الذي يحس السعادة لابد أن يحس الألم. ورفض الشرقي الحياة رفض للخير، إذ الخير في محاربة الشر، ولأن الرحمة نفسها التي تدعو إلى السخط ما كانت تكون لولا الشر. والقصة هي قصة ملك عصى ربه وهبط إلى الأرض كي يدعو الناس إلى محو الشر فآذوه وألحقوا به كل شر، وخسر رضوان الله كما خسر رحمة الناس وعدلهم ومحبتهم. والمراد العضة وتحبيب الحياة والثقة بالله).
نُبِّئتُ أن ملاكا ثار من حزَنٍ ... يسائل الله في خلق الرزيئات
(قول الملك الثائر يناجي الله):
تكلمَ الشر فأبعث منك هاتفة ... من الجوامع تُرضى في المناجاة
الأرض منبره وهو الخطيب بها ... يدعو النفوس إلى هُوْج المطيَّاتِ
فارحم مسامع لم تسمع نجِيَّكَ أو ... نفساً لضوئك ترنو في الخصاصات
وارحم عيونا إلى مرآك ظامئة ... آبت من النحس في شك كليلات
إذن أَعرْها لحاظاً منك صادقة ... تدعو لها العيش محمود الصفيحات
وابعث لنا حكمة مما خُصصْت به ... فحكمة لك تُطفئ حرِ غُلاَّت
ندري الوجودَ كما تدري الوجود بها ... ونرتضيه بأرواح أبيَّات
فما الخلود ولا الفردوس مِن أَرَبى ... ولا كمالٌ لمعصوم السجيات
حتى أرى الناس لا دمع ولا حزَنٌ ... ولا شقاء بإجرام وغمَّات
سأبلغ الأرض آسَى مثلما حزنوا ... وأُبرئ الناس من جرح البليات
إن الجهاد على النقص الذي طبعوا ... عليه أفضل من عصم السجيات(680/26)
فالسيف أفضل مشهوراً وإن صدئت ... بالصون ما درنت منه بإصْلاتِ
(صوت من السماء):
اهبط إلى الناس واندبهم إلى خلق ... كما تشاء على تقوى وإخبات
وارغب بهم عن شرور أنت ناقما ... وداوِ ما استطعت كلْمَ المصمئلات
أوردهُمُ الخُلُقَ الأعلى لعل لهم ... إلى الدنيات طبعاً غير منصات
فإن فشلت فلا غَرْوٌ فإن لنا ... في الخلق حكمة مخبوء العلامات
(مسعى الملك الثائر واضطهاد الناس إياه وفشله):
سعى إلى الناس ساع نحو خيرهُم ... يدرُّ للخير أرواحاً بكِيَّات
فيا لسعدهم لو أنهم جَنَبوا ... ما يجنب السعدَ من حرص المباراة
عزيز عاداتهم للشر رائدهم ... كم قدسوا العادَ تقديس الديانات
تبغي المُحالَ فتبغي الخير أجمعه ... هيهات لو عزِّيت نفس بهيهات
كشَّفتَ عيب نفوس أنت ناصحها ... فاحمل عن الخلق آلام الشقاوات
ثارت به الناس كالأغوال يقدمهم ... غليه كل عريق في الجهالات
وحَّملوا خُلقَه من سوء خلقهم ... وكم رموه بأدناس الراميات
ومزَّقوه بأظافر كما خُضبتْ ... فواتك الوحش من دامي الفريسات
وعلَّقوهُ على جزْعِ وقيلَ له ... اصعد كما رمت في مرقى السجيات
ما راعه أن رأى الأشرار ترجمه ... وإن توجَّع من وقع النكايات
حتى إذا ما رأى الأبرار تظلمه ... غرارةَ وانصياعاً للسِّعَايات
بكى لبغض ذوي خير وما منيت ... نفس بأوجع منه في العداوات
من كل لحظ بضوء الخير مُنبعثٍ ... يجدو عليه بتقطيب السخيمات
تلك النفوس التي عاف السماء لها ... وثار يُغضب جبار السماوات
يُكفَّرُ الناس بالآلام قاطبة ... عن الخطايا وعن شر الدَّنيَات
وعن رضاء بعيش جلُّهُ نقمٌ ... وعن ولوع بنعماء ولذات
هم يعذرون بمدح الخير شرَّهُم ... تكفير من لم يُطق هجر الخطيئات
لسان بَرٍّ بثلب الشر منطلق ... مثل الأفاعي وما قلب بعزْ هاةِ(680/27)
ما أنكر الناس شراً غير ضائرهم ... أينكرون شهياتِ الغريزات
(صوت من الجحيم: إبليس يتكلم):
ناداه في النار إبليس فقال له: ... هوِّن عليك ولا تُوْلَع بإعنات
قد شاء ربك إن الشر عدته ... في صيغة الخير في قَدْرٍ وميقات
أنا الشقيُّ بما لم أجنه أبداً ... من خلق نفسي ومن آثام زلاتي
(قول الثائر الساخط):
فقال ذو شقوة بالجذع منتصب ... يكلمُ الله في نجوى السريرات
أَنزلْ عليَّ شقاء الخلقِ قاطبة ... وطهر الناس من ضَير الجريرات
إن يظلموني فمن بالشر يجبلهم ... أو يصلبوني فمن باري الجنايات
هل يَعذرُ الشر أن الخير غايته ... أم هل تهوَّن آثامٌ بغايات
(مصير الثائر):
فَخُلِّقتْ روحه كالطير سابحة ... في الجو تنشد مخضرَّ النباتات
طارت إلى الملأ الأعلى فما لقيت ... لها قراراً ولم تظفر بمهُوَاةِ
لا في الجحيم ولا الفردوس مسكنها ... حيرى المسالك من فقد القرارات
ترى الملائك حول العرش آسية ... تاسى الملائك من أثم وزلات
(صوت من السماء)
يا ناقم الشر هلا كنت مُضْطلعاً ... بالجزع والصلب قبل الكارث الآتي
عصيت ربك في كبر وفي جهَل ... لما بَرْمت بإيلام الملمات
الخلْقُ للخلق ربح لو فطنت له ... كمغنم الحي من أسلاب أموات
والشر والخير لا يُرْجى افتراقهما ... فارفض إذا اسطعت نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل اجمعه ... ولذة النفس في بذل المروءات
ومُرتضى الخير لو يسعى إلى دتس ... لَباَء منه بإخلاف العلالات
ومرتضى الزهد مسعود بعفته ... ولذة المنع إنماء الخيالات
برحمة قد نماها الشر تنقمه ... ورحمة المرء من وخز المصيبات
أن كان سخطك خيراً في مراحمه ... أجزت خلْقي بأرواح رحيمات(680/28)
فالشر للخير مردود وان أَسيت ... منه النفوس بأنَّاتٍ وآهات
وباحث سِرَّ عيش غير مُدركه ... كالطفل ينشد أفلاك السماوات
عبد الرحمن شكري(680/29)
تعالوا نكفر بالمدينة!
للأستاذ عبد الحميد ياسين
إن من حق الأسماك والحيوانات الأخرى في المحيط الهادي، بل من واجبها أن تبتهج وتلهج بالثناء على جمعية حماية الحيوانات في سويسرا حين تقرأ - كما قرأنا بالأمس - نبا الاحتجاج الشديد الذي قدمته هذه الجمعية إلى الرئيس ترومان على تجربة القنبلة الذرية في مكان ما في ذاك المحيط.
حقا، أن المدينة قد بلغت الذروة في السمو، والشعور الإنساني قد بلغ حدا من الإرهاف لم نكن نحلم به
لقد ساء هذه الجمعية تعريض الحيوانات للخطر من جراء تجربة القنبلة الذرية فاندفعت تحتج عليه؛ أما أنا فسرعان ما عادت بي الذاكرة طاوية اشهرا عشرا إلى اليوم الذي أسقطت فيه إحدى القلاع الطائرة الأمريكية هدية نفيسة صغيرة الحجم غالية الثمن على مدينة هيروشيما اليابانية. لقد كانت هذه أيضاً قنبلة ذرية، بل أول واحدة تفتقت عنها عبقرية مدينة الغرب، وأهدتها إنسانيته الرفيعة. كان لهذه القنبلة دوي وانفجار، ودخان ونار، وحرق وهدم، وموت مخيف أودت بحياة مائتي ألف من الناس، وأصابت كثيرين بعاهات. وبعد أيام معدودة تلتها قنبلة أخرى أهديت إلى مدينة أخرى في اليابان كانت أقوى أثرا وأشد فتكا
عدت ابحث في زوايا الذاكرة عن نبا استهجان أو استنكار أو احتجاج أوحت به العاطفة الإنسانية الرفيعة إلى جمعية في سويسرا أو غيرها من البلدان الموغلة في المدينة، فلم أجد شيئا. ثم جعلت افكر، فهداني الفكر إلى تعليل بدا مقبولا: إذ قلت لنفسي: لو استنكرت جمعية كهذه عملا كهذا، أو استهجنته، أو احتجت عليه، لفسر ذوو الحول والطول عملها بأنه مناهض للقوى الديمقراطية، وانعموا عليها وعلى القوم الذين تقوم بين ظهرانيهم بقنابل صاعقة ماحقة بغية التأديب والتهذيب
وفكرت في سويسرا تلك البلاد البالغة الذروة في المدينة والرقي الإنساني، وذكرت أنها كانت مقرا لعصبة الأمم، وأنها فندق أوربا في الصيف والشتاء وما بينهما. فقلت: لعل هذه الصيحة من جمعية فيها تذكر الناس بأنها لا تزال الفندق الفخم الذي عرفوه، ليعودوا أليها(680/30)
بمنظمتهم العالمية الجديدة، حيث الجو الإنساني مؤات، والعواطف النبيلة السامية تملا الأرجاء.
وكدت اسبح بحمد الرغيف الذي يوحي سياسات الدول، ويقرر مصاير الشعوب؛ ولكني آثرت الاتئاد والتروي، واعدت النظر في احتجاج تلك الجمعية، فرأيت فيه نفاقا لا ينكره إلا أعمى، ولا يسكت عليه إلا مأجور، ولا يستسيغه إلا ذو ذهن بليد، وشعور مثلم، وخيال مهيض الجناح. ودعوت الله أن لا يجعلني وبني قومي من المنافقين العمى المأجورين، وجئت أدعو الناس، دعوة خالصة لوجه الله، أن نكفر بهذه المدينة ونؤمن بالله وحده
(القدس)
عبد الحميد ياسين(680/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
796 - ما أكثر العبر واقل الاعتبار
شرح النهج لابن أبي الحديد:
(ما أكثر العبر واقل الاعتبار) ما أوجز هذه الكلمة، وما اعظم فائدتها ولا ريب أن العبر كثيرة جدا بل كل شيء في الوجود فيه عبرة. ولا ريب في أن المعتبرين فيها قليلون، وان الناس قد غلب عليهم الجهد والهوى، وأرداهم حب الدنيا، وأسكرهم خمرها، وان اليقين في الأصل ضعيف عندهم، ولولا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال.
797 - ما خلا لذة الهوى والسلافة
في (نفح الطيب):
قال الوشاح المحسن أبو الحسن المريني: بينما أنا اشرب مع ندمائي بازاء الرصافة (في قرطبة) إذا إنسان رث الهيئة، مجفو الطلعة قد جاء فجلس معنا. فقلنا: ما هذا الأقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة فقال: لا تعجلوا علي، ثم فكر قليلا أنشدنا:
أسقنيها إزاء قصر الرصافه ... واعتبر في مآل أمر الخلافة
وانظر الأفق كيف بدل أرضا ... كي يطيل اللبيب فيه اعترافه
ويرى أن كل ما هو فيه ... من نعيم وعز آمر سخافة
كل شيء رايته غير شيء ... ما خلا لذة الهوى والسلافة
قال المريني: فقبلت راسه، وقلت له: بالله من تكون؟ فقال: قاسم بن عبود الرياحي الذي يزعم الناس انه موسوس احمق، فقلت له: ما هذا شعر أحمق، وان العقلاء لتعجز عنه، فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك وإنشاد طرف أشعارك، فنادم وانشد وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا، ويقول: اللهم غفرا
798 - بين ملك وعالم
قال ياقوت: لما خرج عضد الدولة لقتال عز الدولة بختيار ابن معز الدولة، دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا.(680/32)
فقال له أنا من رجال الدعاء، لا في رجال اللقاء، فخار الله للملك في عزيمته، وانجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده، والظفر تجاهه والملائكة أنصاره ثم أنشده:
ودعته حيث لا تودعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي الفؤاد له ... ضيق محل وفي الدموع سعه
فقال له عضد الدولة: بارك الله فيك، فإني واثق بطاعتك وأتيقن صفاء طويتك. وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:
قالوا له إذ سار أحبابه ... فبدلوه البعد بالقرب
والله ما شطت نوى ظاعن ... سار من العين إلى القلب
فدعا له أبو علي وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين، فأذن فاستملاهما منه.
799 - لا. . .
كان يعقوب الكندي بخيلا وكان يقول: من شرف البخل انك تقول للسائل: لا ورأسك إلى فوق، ومن ذل العطاء انك تقول: (نعم) وأنت برأسك إلى أسفل.
في (الكنز المدفون): وصف بعض النبلاء بخيلا فقال: هو جلم (أي مقص) من حيث جئته وجدت (لا)
800 - بل أنت كما قال في هذه القصيدة
قال: ابن جني: حدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من جران بمصر قال: أحدثك بظريفة: كتبت إلى امرأتي بحران كتابا تمثلت فيه ببيتك وهو:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كاس ولا سكن
فأجابتني عن الكتاب وقالت: ما كنت (والله) كما ذكرت في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
801 - ما جمعته أنت في بيت واحد
حدث بعض آل نوبخت قال: جاء النظام يوما فسألنا عن منزل أبي نؤاس فقلنا له: انه يسكن تلك الغرفة، وأمانا إلى غرفة كان ينزلها وكان له غلام اسود قال: فاستأذن عليه وقال(680/33)
له أنشدني قولك:
تركت مني قليلا ... من القليل أقلا
يكاد لا يتجزأ ... اقل في اللفظ من لا
فانشده فقال له النظام: أنت اشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج لنا فيه من القول ما جمعته أنت في بيت واحد.
802 - أقول له اسكت
أنشد ابن الجوزي في بعض مجالسه وعظه:
أصبحت الطف من مر النسيم سرى ... على رياض يكاد الوهم يؤلمني
في كل معنى لطيف اجتلى قدحا ... وكل ناطقة في الكون تطربني
فقام إليه شخص وقصد العبث به فقال: يا مولانا قولك وكل ناطقة في الكون تطربني فإن كان الناطق حمارا؟
فقال له الشيخ: أقول له: اسكت يا حمار.
803 - لا تقل ذلك فانك أميرنا
قال بعض الأمراء لجنده: يا كلاب!
فقال أحدهم: لا تقل ذلك فانك أميرنا. . .
804 - الحق رحمة الله عليه!
كتاب عين الأدب والسياسة، وزين الحسب والرياسة لعلي ابن هذيل:
إن الحق والباطل اصطحبا في سفر، فمشيا إلى الليل، فلما نزلا قال الباطل للحق: اذهب فاتنا بشيء نفطر عليه. فذهب الحق فلم يجد شيئا من حله فرجع، فقال له الباطل: اجلس حتى آتيك، فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء بشيء، فقال للحق: كل. فقال: ما أراه من حلة ولست بآكله. فقال له الباطل: بعثتك لتأتيني بشيء فلم تجد شيئا، فلما ذهبت أنا وجئت بما نفطر عليه حرمته علي، فنازعه فوثب الباطل على الحق فقتله ثم قال: إن أهل الحق قد علموا انه خرج معي، ولا بد لهم أن يطلبوني به، فعمد إلى حطب فجمعه ثم اضطرم عليه النار حتى صار رمادا ثم ذهب وتركه فجاء أهل الحق فقالوا: ما فعل الحق؟ قال: لا علم(680/34)
لي به، فقالوا: خرج معك، فقال: نعم، ولا ادري ما فعل. فخرج أهل الحق يطلبونه حتى وقفوا على الموضع الذي أحرقه فيه الباطل، فقالوا: هذا رماد الحق، وهذا موضع ناره، فجمعوا رماده، وصنعوه مدادا يكتبون به.
فهذا ما بقي من الحق، بعينه فقد ذهب. . .(680/35)
من حياة اليونان القدماء وطرائف أحاديثهم:
حفلة الشاعر. . .
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
(نقلت عن الإنكليزية من كتاب (الحيوانات الخالدة لعظماء الفلاسفة) لمؤلفيه هنري توماس ودانا لي توماس).
أحيا الشاعر الأثيني القديم حفلة ساهرة في بيته، دعا أليها نخبة ممتازة من خيرة أصحابه ليشاركوه سروره بمناسبة فوزه بالجائزة الأولى لروايته التي مثّلت في (الملهى الإغريقي). وكان المدعوون يتناقشون في أحد الموضوعات التي يجدون فيها ألذ متعة أمتع لذة - وهو الحب، فجرب كل واحد بدوره أن يبسط رأيه في معنى هذا الموضوع الشائق.
فاستهل الموضوع بقوله: (الحب أقدم الآلهة ومن اشدها قوة. فهو ذلك القانون الذي يحول الشخص العادي إلى بطل صنديد، لان العاشق يستحي ويربا بنفسه أن يظهر أمام محبوبته بمظهر الجبان الرعديد. ولو قدر لحم أن تجهزوني بجيش من العشاق، لاستطعت أن أدوخ العالم بأسره)
فيوافق على هذا ويزيد عليه قوله: (نعم! ولكن يجب عليك أن تميز بين الحب الأرضي والحب السماوي، اعني أن تميز بين جاذبية جسمين من جهة، وائتلاف روحين من جهة أخرى. أن الحب الجسماني المبتذل، يتخذ أجنحة ويطير عندما تذوي زهرة الشباب. وأما الحب الروحاني الرفيع، فهو سرمدي خالد).
وعندئذ يفاجئنا الشاعر الهزلي اريستو بنظرية طريفة جديدة في الحب، فيقول: (في الأيام القدامى، كان الجنسان متحدين في جسد واحد، وكان هذا الجسد مستديرا كالكرة، مجهزا بأربع أيد وأربع أرجل ووجهين، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة مدهشة، إذ يثب وثبات منقلبة متتابعة. ومع ذلك، كان هؤلاء الناس قوما جبابرة، ليس لطموحهم حد. فلقد رسموا الخطط، ووضعوا التصاميم، كي يتسلقوا أجواء السماوات ويهاجموا الآلهة. ولكن خطرت على بال زيوس خطة غريبة رائعة إذ قال: لنقسم الواحد منهم إلى شطرين، فيكون للشطر نصف القوة، وهكذا نضاعف عدد ضحاياهم. . . وبالفعل شطرهم إلى ذكر وانثى، ومنذ ذلك الحين تولدت في كل من هذين الجنسين رغبة عنيفة في الاتحاد مرة ثانية. وهذه(680/36)
الرغبة الملحة الاتحاد الجنسين هي ما نسميه الحب).
ولقد عرضت بعد هذا التفسير الفكاهي لنظرية الحب تعريفات أخر مشوقة؛ ولكن طلب أخيرا من ضيف الشرف أن يدلي ببعض التعليقات على الموضوع.
فابتدأ سقراط حديثه بهذه التوطئة: (ماذا يمكنني أن أقول بعد أن خلبتني آيات هذه البلاغة الساحرة وأسرت فؤادي؟ لقد تحولت إلى حجر صلد، وأصبت بالعي والحصر. إذ كيف يتسنى لبلاهتي أن تباري مثل هذه الحكمة الرائعة؟!) وبعد أن يرمي عن كاهله هذا العبء الثقيل من (التوطئة السقراطية) التي تتميز بأدبها التهكمي، يتقدم إلى جرح (حكمتهم ببلاهة) على حد تعبيره. فيفند حججهم بعدة أسئلة متتابعة - نقول هذا غير غافلين انه كان عميد المدرسة التي نهجت لنفسها الطريقة الاستجوابية في التعليم.
ثم يعمد إلى اتباع هذه العملية التدميرية بعملية إنشائية من عنده. فيفضي إليهم بالحديث التالي: (الحب هو جوع الروح البشرية إلى الجمال الإلهي. فالعاشق لا يكتفي بوجود الجمال، بل يهفو إليه ويحاول أن يخلقه، ويعمل على تخليده بزرع بذرة الخلود في الجسد البشري. ولهذا السبب يحب كل من الجنسين الآخر، من اجل التناسل وتمديد الزمان إلى الأبدية، وكذلك يحب الأباء أبناءهم لان أرواح الأباء المحبين لا توجد الأبناء فحسب بل توجد شركاء وزملاء وخلفاء في البحث الدائم عن الجمال).
وما هو هذا الجمال الذي نسعى لتخليده بواسطة الحب؟ هو الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والأيمان. أو بكلمة جامعة: الجمال هو الصدق؛) والصدق هو الطريق الوحيد الذي يؤدي مباشرة إلى عزته تعالى).
فتشرق وجوه الضيوف تقديرا وعجابا، ويعلو هتافهم استحسانا لما قاله هذا الفيلسوف الحافي، ثم يسترسلون فيما يختص بحفلة المساء، إذ يستهويهم السمر، ويمعنون في شرب الخمر. وما هي إلا دقائق، حتى يحسر الفجر لثامه، فيصيح الديك، ويغادر أكثر الضيوف البيت، ولا يبقى هناك إلا ثلاثة وهم: سقراط وأجاثون وأريستوفانيس فيتناول هؤلاء بنت الحان من كأس كبيرة تدار عليهم واحدا فواحدا، وفي الوقت نفسه سمع سقراط يشرح للشاعرين اللذين أخذ النعاس يراود أعينهما، بأن الكاتب المتفوق في الروايات الهزلية، يجب أن يكون كاتبا متفوقا في المآسي. وبينما هو كذلك، يغفو أريستوفانيس وأجاثون(680/37)
فيضجعهما سقراط بكل هدوء وراحة، ويعب من الكأس للمرة الأخيرة على ذكرى إله الخمر ديونيساس ويذهب لمباشرة عمله اليومي، ألا وهو توزيع الحكمة على أبناء أثينا.
ماجد فرحان سعيد(680/38)
هذا العالم المتغير!
عشنا بالطاقة الذرية!
للأستاذ فوزي الشتوي
الشمس تعلمنا
هل تعلمنا الشمس كيف نستخرج الطاقة الذرية بأبسط الوسائل ومن أكثر العناصر انتشارا في العالم؟
كل القرائن تقول نعم. فهي ترسل إلينا بإشعاعاتها منذ القدم. وهي تغذينا بطاقتها الذرية طول عمرنا وعمرها. وتستغل في هذا السبيل ابسط العناصر وأكثرها في الوجود وهو غاز الأيدروجين. فهذا الهواء حولك جزء من أيدروجين، وهذا الماء الذي تغتسل به وتشربه أو تسبح فيه مؤلف من الأيدروجين والأوكسجين.
ومن ثم يسيل لعاب العلماء والحكومات ورجال الصناعة. بالمعلم (الشمس) تشرق على كل مكان، ويستطيع كل إنسان أن يرقبها، ويدرس طريقتها في فلق ذرات الأيدروجين وإرسال طاقتها. والأيدروجين موجود في كل مكان تطرقه. ومن المعروف أن الخالق لا يحب التعقيد بل يلجا في تدبيره إلى البساطة المتناهية. وأول علاماتها في هذا الصدد أن الأيدروجين هو ابسط العناصر، فتتألف ذرته من كهرب واحد يدور حوله كهرب سالب واحد.
ومن ثم يبدو بعد الشقة بين كمال قدرة الخالق ونقص كمال قدرة الإنسان، وقد بدت حكمته فتركنا نسعى بعقلنا حتى اكتشفنا الطاقة الذرية من اعقد طريق، وبأعقد الوسائل والمواد، ثم استغللناها في الدمار والخراب. فعرفناها عن طريق اليورانيوم اعقد العناصر، وبآلات بالغة الضخامة، ثم استخدمناها لقتل البشر ودمار المدينة، أما هو فكانت وسائله على النقيض تماما. ويكفي أن نقول أن الشمس مصدر الحياة.
وليس هذا مجال التوسع في هذا الحديث فنحن قبل بحث جديد لا يعرف سوى الله مداه. فقد وفق الإنسان إلى استخراج الطاقة الذرية، ولكن من اليورانيوم والبلوتونيوم اعقد العناصر المعروفة وأبهضها تكاليف، فضلا عن أن بقاعا شاسعة من العارض لا تملك منهما شيئا.(680/39)
وقد تكلف الرطل الواحد من العنصر الأخير 25 ألف دولار حين صنعته المصانع الأمريكية لقنبلتي هيروشيما وناجازاكي.
الطاقة من الأيدروجين:
والمعروف أن الشمس توالي غذاء عالمنا بالحرارة والإشعاعات الناتجة من فلق ذرات الأيدروجين المحيط بها وهي كسائر النجوم التي نراها تتلألأ في السماء تستخدمك الطاقة الذرية. وهي لا تحترق كما قد يتوهم البعض لان كتلة الشمس أو النجوم لا تسمح ببقائها كل تلك الحقب من السنين بل المعروف أن تضاؤلها بطيء مما لا يتفق مع طبيعة الاحتراق.
وتستخدم الشمس الطاقة الذرية الناتجة من الأيدروجين ببطء بالغ وبطريقة غير معروفة، فلا تحول من كتلته إلى أكثر من واحد في المائة. وهي نسبة أكبر من النسبة التي تحول من ذرة اليورانيوم التي تبلغ واحدا في الألف تبعا لأحدث الوسائل العلمية، ويقدر أن الشمس ستعيش على هذا المنوال من استخدام طاقتها الذرية 40 , 000 , 000 , 000 سنة.
ومن الطبيعي أن الطاقة الناتجة من فلق ذرة الأيدروجين ستكون اقل من الطاقة الناتجة من ذرة اليورانيوم، ففي ذرة الأول جسيمة واحدة، وفي ذرة الثاني بضع مئات من الجسيمات. ولكن وفرة الأيدروجين وكثرة ذراته ستعوض النقص أو تفوقه، ففي رطل الأيدروجين الواحد ما يقرب من 2 وأمامها 26 صفرا من الذرات. وقدر ثمن الطاقة الناتجة من هذا الرطل بمبلغ 570 مليون دولار.
حقيقة أن العلماء لم يوفقوا لاستخراج الطاقة الذرية من الأيدروجين كما وفقوا إلى استخراجها من عنصر اليورانيوم؛ ولكنهم يعتقدون أن تحويل ذرة الأيدروجين إلى طاقة ايسر من تحويل ذرة اليورانيوم، ومن ثم يحرصون إلى التوسع في دراسته على سطح الأرض وفي الشمس أيضا.
بساطة تغري:
وقد اتجه العلماء إلى استخراج الطاقة الذرية من اليورانيوم 235 لان كتلة ذرته الكبيرة(680/40)
نسبيا وكثرة جسيماتها التي تعد بالمئات تسهل فلقها بخلاف الأيدروجين الذي تتألف نواته من جسيمة واحدة لا يتيسر النفاذ إليها بالوسائل المعروفة. ولكن بساطة تركيبها قد تساعد العلماء في حل كثير من الغاز الذرة. ومثال ذلك التي توجد في الذرات الأخرى ولكنها ليست في الأيدروجين.
ويظن أن المتعادلة تتألف من جسيمتين تعادل أحدهما كهارب الأخرى ومن ثم لا يبدو لها أثرا في مدارات الذرة الخارجية. وليس لها كهارب ولكنها ذات تأثير كبير في استخراج الطاقة الذرية من اليورانيوم أو من أي عنصر آخر، فالغالب أن الأيدروجين هو العنصر الوحيد الذي يخلو منها.
ولم يصل العلماء بعد إلى الطريقة التي يمكن بها تحويل المتعادلة إلى كهرب موجب أو تحويل الكهرب الموجب إلى متعادلة برغم ما بذلوه في هذا السبيل من جهد نظرا لأهميته وما قد يسفر عنه من تحول خطير في مجال تركيب الذرة واستغلال ذرات العناصر كلها في إخراج الطاقة الذرية فضلا عما ينتاب الصناعة ذاتها من انقلاب خطير.
الأشعة الكونية مفتاح!
ويدرس الدكتور جون هويلر من جامعة برنستون بأمريكا الأشعة الكونية حتى يحصل على مفتاح يتوسل به إلى تحويل نواة الأيدروجين إلى طاقة - والدكتور هويلر هو أحد العلماء الذين ساهموا بقسط وافر في أبحاث عنصر اليورانيوم. وهو يرى أن نواة الأيدروجين قد تؤدي إلى نتائج كبيرة القيمة.
وقد أدت دراسة الأشعة الكونية إلى العثور على جسيمة ذرية أطلقوا عليها اسم وهي ثمن كتلة الكهرب الموجب وتنتج حين تصطدم الأشعة الكونية النشطة كهربا موجبا فتبدو كقطرات الماء الساقطة من (دش) الحمام.
وتنطلق جسيمات (الماسون) مسافة قصيرة في الجو ثم تختفي قبل وصولها إلى الأرض. ولم يوفق العلماء لمعرفة سر اختفائها أو إلى العوامل التي تؤثر عليها. وان كان المعروف أن الأشعة الكونية التي تطلق رذاذ (الماسون) ذات نشاط يصل إلى مائة بليون إلكترون فولت.
هل وصلنا!(680/41)
وفي رأي الدكتور هويلر أن نشاطا قدره بليون إلكترون فولت يكفي لفلق ذرة الأيدروجين وإنتاج هذا الرذاذ الذي يمكن تحويله إلى طاقة. وفي رأيه أيضاً أن مائة مليون إلكترون فولت قد تؤدي نتائج مشجعة.
وقد تيسر أخيرا لبعض شركات الكهرباء الأمريكية أن تصنع آلة تنتج هذا السيال الكهربائي كما أن العالم الأمريكي لورانس الأستاذ في جامعة كاليفورنيا صنع مدفعا لتحطيم الذرة (سيكلوترون) بهذه القدرة.
ولهذا ينتظر أن تدخل فكرة الدكتور هويلر في مرحلة التجارب العملية في أمد قريب لفلق ذرات الأيدروجين. وعندئذ تصبح دراسة الإشاعة الكونية مرشدا يقود البحث ولكن بأدوات يصنعها الإنسان وعرف كيف يتحكم فيها ويستغلها.
فوزي الشتوي(680/42)
حزب الاستقلال المراكشي كما يرى:
مراكش والوحدة العربية
ثلاثة اتجاهات تسيطر الآن على الحالة السياسية في مراكش
1 - المراكشيون تحت زعامة حزب الاستقلال يريدون الاستقلال التام وضم بلادهم إلى دول الجامعة العربية.
2 - الفرنسيون الرسميون، والرأسماليون المستحوذون على الأرض والمالية، يريدون إبقاء ما كان على ما كان، وإكراه المراكشيين على الرضوخ لإرادتهم بالطغيان والتحدي.
3 - طائفة من اليساريين الفرنسيين ومن بينهم من له مسؤولية في حكومة باريز الحالية يريدون إلغاء عقد الحماية المبرم بين الحكومة المغربية وحكومة فرنسا سنة1912، وإبداله بعقد آخر تدخل به مراكش في حضيرة العائلة الفرنسية، على شكل يشير من قرب أو من بعد إلى شكل جمهوريات القوقاز التابعة للاتحاد السوفياتي.
هذه هي الاتجاهات العامة في هذا القطر العربي الذي عاش ثلاثة عشر قرنا مستقلا مرهوب الجانب حتى طوقته الدسائس الأجنبية فأرغم على الخضوع لإملاء 30 مارس سنة 1912 أي معاهدة الحماية.
وقد كان هذا الإملاء كما يذكر القراء نتيجة حتمية لاتفاق 1904 الذي تنازلت فيه بريطانيا العظمى عن مراكش لفرنسا في مقابل تنازل فرنسا لبريطانيا عن مصر.
وكان الاحتلال الأجنبي سبب محنة عظمى للشعب المراكشي الذي ظل يدافع عن استقلاله بالسلاح ويعلن الثورة تلو الثورة، سواء ضد الفرنسيين أو ضد الأسبان، منذ إملاء 30 مارس سنة 1912 إلى أواخر سنة 1934 أي طيلة اثنين وعشرين سنة كاملة لم يمر منها يوم واحد (أقول يوم واحد) لم تكن فيه الحرب معلنة في ناحية ما من نواحي الإقليم المراكشي بجميع أهوالها وويلاتها المعروفة.
وقد ابتدئت مقاومة الفرنسيين الساسة في شكل أحزاب عصرية منظمة منذ سنة 1930، فكان الفرنسيون يقابلون بالتشريد والرصاص والسجن كل طموح سياسي يظهره المراكشيون لتحسين حالتهم.
وفي 11 يناير سنة 1944 طرأ تغيير جوهري على موقف المراكشيين السياسي من فرنسا(680/43)
وذلك بالمذكرة التي رفعها حزب الاستقلال إلى جلالة الملك والى اللجنة الفرنسية بالجزائر (حكومة الجنرال دي جول) والتقت حولها الشعب برغم التدابير الجهنمية التي لجا إليها الفرنسيون لإقناع الأمة بالسكوت والاستسلام والتنازل.
ولكن الفرنسيين يضعون الشعب المراكشي، كما قلت، بين احتمالين لا ثالث لهما، أما البقاء تحت نظام النهب والإرهاب والمحق التدريجي، كما كان الحال في الماضي؛ وأما الاندماج في حضيرة العائلة الفرنسية، أي الانتحار وتحدي كل إحساس طبيعي يشعر به المراكشيون في نفوسهم.
أما المراكشيون فهم في أعماق قلوبهم يشعرون انهم عرب ويشعرون أن تطورهم وحظارتهم يجب أن يصبا في قالب لغتهم العربية واتخذوها لغتهم قبل أن يتكون الشعب الفرنسي وقبل أن توجد الفرنسية بقرون، لذلك يعتبرون أن مستقبلهم مرتبط ارتباطا طبيعيا بمستقبل الأمم العربية الاخرى، مرتبط بمستقبل العرب، من الوحدة الثقافية والعاطفية، ولا مانع من ارتباطه بالوجهة الاقتصادية التي تعد محور السياسة اليوم، وهم بأجمعهم ينتظرون بفارغ الصبر اليوم الذي توقع فيه حكومة مراكش المستقلة على دستور الجامعة العربية وتصبح عضوا عاملا بين بقية الأعضاء العاملين العرب، بذلك يصبح المراكشيون عاملا نشيطا لتثبيت السلم العالمي كما كانوا عاملا نشيطا لكسب الحرب.
والمراكشيون يريدون أن يسترجعوا استقلالهم السياسي أولا لأنه حق من حقوقهم الطبيعية، لا يقبل أي مناقشة، وثانيا لأنهم يرون في الاستعماريين الفرنسي والأسباني، خطرا يهدد كيانهم كأمة. وقد اتخذ في مراكش، وبالأخص الاستعمار الفرنسي، وسيلتين لمحو الشخصية المراكشية، والقضاء على كيان الأمة، فمن جهة، باتباع السياسة المعروفة بسياسة الإدماج وهي تتلخص في الإدارة المباشرة للبلاد، ونزع أراضي الفلاح بالقوة وتقديمها للمعمر الفرنسي، وإحلال اللغة الفرنسية محل اللغة العربية، لغة البلاد الوطنية، والاستيلاء على رؤوس الأموال؛ ومن جهة أخرى بمقاومة نشر التعليم، وإهمال الصحة العامة، وخنق الحريات، وتأسيس نظام بوليسي مرعب يحاول بجميع الوسائل الدنيئة، قتل الإحساس بالكرامة في نفس المراكشي لتسهيل السيطرة عليه.
وليس من شك في أن الفرنسيين، ومثلهم الأسبانيون، كانوا ينتظرون من وراء هذه السياسة(680/44)
انقراض أمة لتحل مكانها أمة اخرى، فتصبح مراكش امتدادا لفرنسا أو لأسبانيا في قارة أفريقيا، وهو حلم ردده الجنرال ديجول لجنرال فرنسا الجديدة، في خطاب له وهو في طريقه إلى بلاد السوفيات، وهو نفسه الحل الذي يقترحه (اليساريون) الأحرار في لهجة أدبية تقدمية، معادية للاستعمار وأساليبه الرجعية الغاشمة كما يزعمون.
أما الشعب المراكشي فهو يعرف ما يريد، وغيته واضحة لا غبار عليها، وهو يطمع الآن لعقد معاهدتين أساسيتين، معاهدة يحصل بها على استقلاله التام، والأخرى يدخل بها كعضو عامل في وسط دول الجامعة العربية.
(مراكش)
(خبير)(680/45)
البريد الأدبي
حول مذكرة السنهوري باشا:
قرأت في (الرسالة) الغراء كلمة أشارت فيه إلى ما تضمنته مذكرة السنهوري باشا التي تهدف إلى إنشاء معهد الفقه الإسلامي للجامعة العربية. . . والفكرة جليلة قويمة. . . ولكنها أهملت دعامة الفقه الإسلامي، وحصنه الحصين ألا وهو (الأزهر) إهمالا تاما، ولم تشر إليه من قريب أو بعيد!! فقد أشارت (الرسالة) إلى المعاهد التي تقترح هذه المذكرة إنشاءها.
أولها: (معهد التدريس يمنح الشهادات والدبلومات الجامعية يلتحق به الحاصلون على ليسانس الحقوق من إحدى الجامعات العربية). . . عجبا!! أليس للأزهريين الحق في دخول هذا المعهد وهم أولى به؟! ولماذا حرموا منه؟!. . . ثم ذكرت انه ينبغي أن يلحق هذا المعهد بإحدى جامعات الدول العربية، وافضل هذه الجامعات هي جامعة فؤاد الأول!!. . . وكأن الأزهر الذي حافظ على دراسة الدين الإسلامي ألف عام وخّرج من خّرج من العظماء ليس أهلا لان يلحق به هذا المعهد، وهو الذي يجمع بين أبناء العروبة من قديم الزمن! وقد جعلته أمم العروبة منارا به يهتدون وكعبة إليها يحجون!. . . وإني لا اشك في أن الأزهر محتاج للتجديد كما نادى بذلك أستاذنا الجليل (الزيات). . . ولا ريب في أن الأزهر سينال حقه من التجديد والإصلاح عما قريب لما نعهد في شيخه الأكبر من حب للتجديد وأيمان بالإصلاح.
تصحيح:
طالعت في ذلك البحث الفياض للأستاذ أبي القاسم بدري عن (الشاعران المتشابهان). . . وقد ذكر من شعر أبي القسم الشابي رحمه الله هذين البيتين:
(أنت روح غبية تكره النو ... ر وتقضي الدهور في ليل حدس
أنت لا تدرك الحقائق إن طا ... فت حواليك دون حس وحس)
وصحة المصراعين الأخيرين (في ليل ملس)، (دون مس وجس) وذكر كذلك هذا البيت:
(أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل ينسى)
وصحة المصراع الأخير (واليل مغس) كما جاء في (الرسالة) الغراء عدد نمرة 664 في(680/46)
قصيدة (ليتني. . .!). . وأورد من شعر التجاني رحمه الله هذا البيت هكذا:
(وأنا اليوم لا حراك كأن قد شد ... في مكمن القوى أوثاق)
وهو من البحر الخفيف. وصحته:
(وأنا اليوم لا حراك كأن قد ... شد في مكمن القوى أوثاق)
وهذه ملاحظات يسيرة لا تغض من قيمة البحث الجليل.
إبراهيم عبد المجيد الترزي
حول معرض الكتاب العربي:
كتب صديق الأستاذ وديع فلسطين في (الرسالة) الغراء كلمة عن (معرض الكتاب العربي) الذي أقامته وزارة المعارف بدار الجمعية الزراعية الملكية؛ وقد تعجبت كثيرا حينما وجدت الأستاذ يقول في أثناء حديثه:
(ورأيت كتابا آخر عنوانه (وفيات الأعيان) فضحكت كذلك، لان مؤلفه لم يجد ما يكتب عنه إلا أن يسرد تواريخ وفيات الأعيان! كان الدنيا وما فيها لا تهمه، وكان الإصلاح الاجتماعي لا حاجة لنا إليه، وكان الكتّاب فرغوا من الكتابة في جميع الموضوعات، ولم يبق سوى الكتابة عن وفيات الأعيان!) اهـ.
أهذا كلام يقال؟. وهل يدل ذلك الحكم على أن الأستاذ فلسطين قد طالع شيئا في كتاب الوفيات أو عرف قيمته في المكتبة العربية؟. . .
أن كتاب (وفيات الأعيان) أيها الصديق من أمهات المراجع التاريخية التي لا يستغني عنها مؤلف أو اديب، وهو لم يقتصر كما فهمت خطا على ذكر وفيات المشهورين من الناس، بل أوجز الحديث عن حياتهم وأعمالهم وصفاتهم وولادتهم ووفاتهم، واسم الكتاب كاملا هو: (وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان)، وقد ألفه صاحبه شمس الدين أبو العباس أحمد ابن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي، وانتهى من ترتيبه بالقاهرة المحروسة سنة أربع وخمسين وستمائة هجرية. أي منذ أكثر من سبعة قرون، وقد شرح ابن خلكان في مقدمة كتابه جانبا من غرضه فيه فقال:
(ولم اقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء أو(680/47)
الوزراء أو الشعراء، بل كل من له شهرة بين الناس، ويقع السؤال عن ذكرته، وأتيت من أحواله بما وقفت عليه من الإيجاز، كيلا يطول الكتاب، واثبت وفاته ومولده إن قدرت عليه، ورفعت نسبه على ما ظفرت به، وقيت من الألفاظ ما لا يؤمن تصحيفه، وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة أو نادرة أو شعر أو رسالة، ليتفكه به متأمله، ولا يراه مقصورا على أسلوب واحد فيمله، والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إذا كان مفننا).
وتعبير ابن خلكان بان كتابه (مختصر) فيه تواضع العلماء القدامى، وإلا فكتابه ليس مختصرا، بل هو موسوعة كبيرة لو طبعت على ورق حديث لبلغت آلاف الصفحات، وقد وصف أحد الأدباء كتاب الوفيات فقال انه (روضة يانعة الأزهار، متدفقة الجداول والأنهار، بل كنز بالفرائد حافل، ولبدائع المحافل شامل كافل، لما حواه من تراجم أكابر الفضلاء، وتضمنه من فكاهات الأدباء والشعراء، مع ترتيب عجيب، وأسلوب فائق غريب، وضم الشوارد، واقتناص الأوابد، وضبط غريب مبانيه، وتهذيب مقصده ومعانيه).
وحياة ابن خلكان بعد هذا أيها الصديق لا تدل على انه كان تافها أو ضعيف المنة، فله من عمله وأدبه ومؤلفاته وفقهه ما يرفعه إلى مصاف العظماء من الرجال، وله فوق هذا شعر في غاية الرقة والجمال. فهو القائل في الغزل:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي!
وهو القائل أيضا:
تمثلتمو لي والديار بعيدة ... فخيّل لي أن الفؤاد لكم مغنى
وناجاكموا قلبي على البعد والنوى ... فأوحشتمو لفظاً، وآنستمو معنى!
لقد ظلمت (وفيات الأعيان) يا وديع وظلمت صاحب الوفيات. ورحم الله ابن خلكان إذ يقول في آخر خطبته التي قدم بها الوفيات: (حرسنا الله تعالى من التردي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا امنع وقاية!).
هذا وقد لاحظت أن المعرض قد خلا من الكتب التي صدرت في الأقطار الشقيقة، وهذا صحيح، فقد زرت المعرض كما زرته، ولاحظت أنا فوق ما لاحظته أنت. أن المعرض قد خلا من قسم للكتب الأزهرية، مع أن الجامعات والمعاهد العليا ودور الطباعة والنشر قد(680/48)
مثلت في هذا المعرض؛ وكم كنت أتمنى أن يطلع الناس في هذا المعرض على نماذج من الكتب الأزهرية القديمة والحديثة، ويرون كيف تطور التأليف الأزهري عل مر العصور، وكم كنت أتمنى أن يشاهد الناس كتب الباجوري والشرقاوي والأشموني والسيوطي والصبان والدرديري وغيرهم، وكم كنت أتمنى أن يرى الناس في هذا المعرض مؤلفات أو مطبوعات المراغي ومصطفى عبد الرزاق والصعيدي وعرفة ومحي الدين وعوني وعبد القادر ويوسف موسى وغلاب وماضي وقرقر وبدير والخضر وغيرهم!!. . .
ليت شعري! كيف فات الأزهر هذا وعلى رأسه اليوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق خريج السوربون وصاحب المؤلفات العديدة؟. . . لئن فات الأزهر هذا اليوم نرجو مخلصين ألا يفوتهم يوم يحتفلون بالعيد الألفي للأزهر. ولكن متى يكون هذا الاحتفال؟.
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف(680/49)
القصص
مجنون!. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب م. كمال جلبي
مات الرجل الفذ الذي اهتزت له مجالس القضاء الفرنسية قاطبة، وانحنت لموته رؤوس الحقوقيين وأعضاء مجالس الشورى انحناء احترام وخضوع لوجه الهزيل الذي كانت تضيئه نظراته الحادة.
كان عدو اللصوص والقتلة لأنه الوحيد الذي يقرا أفكارهم الرهيبة ويكتشف أسرار الجرائم التي ارتكبوها، فبنظرة واحدة إلى إحداهم يعرف أسراره المدفونة.
مات الرجل في الثانية والثمانين من العمر، فشيعت نعشه حسرات شعب كامل؛ وسار وراءه جنود الحكومة لابسين البناطيل الحمر؛ يتقدمهم أعاظم رجالات فرنسا ويندبه أصحاب الربطات البيضاء بدموع صادقة.
وقد وجدوا بعد موته في غرفته الخاصة التي تحوي أوراق كبار المجرمين مذكرات بعنوان (لماذا)
20حزيران سنة 1851:
انتهت جلسة اليوم بعد حكمي على بلوندل بالإعدام.
لم قتل هذا الرجل أولاده الخمسة؟ ولم تظهر علائم اللذة على هؤلاء إذا قضوا على غيرهم؟
نعم! نعم! يجب أن يكون القتل لذة، ولعلها تكون اعظم اللذات جميعها! أليس للموت شبه عظيم بالحياة؟
الحياة والموت!!
كلمتان تتألف منهما قصة المجتمع، نعم المجتمع كله؛ أي كل ما هو كامل؟ إذا لماذا يولع الإنسان بالقتل؟
25 حزيران:(680/50)
فكر في مخلوق حي، يسير وينظر ويضحك. . . مخلوق؟!
ما هو المخلوق؟
هو كائن يحيا بحركة نظامية، وبفكر ثاقب يدير تلك الحركة الكامنة فيه، ولا يشغل هذا الكائن فراغا لان رجليه اللتين يسير بهما لا تتعديان وجه الأرض. إذن فهو حبة حياة متحركة لا ادري مم تكونت! تبدو بسيطة كأحقر الأشياء وأتفهها كان لا قيمة لها مطلقا.
26حزيران:
لم يعد القتل جريمة؟ نعم لماذا؟
فقانون الطبيعة لا يعاقب القاتل، والقتل كما أرى فريضة على كل كائن: فانه يقتل طلبا لعيش رغيد؛ يقتل لأنه عرف لذة القتل؛ فالحيوان يقتل في كل لحظة من وجوده - والرجل لا ينقطع عن القتل، بل يقتل ليتغذى، ويرى في القتل ضرورة، لذلك رأى في الصيد لذة - وقد لا يشعر الطفل بالنشوة ألا إذا خنق صغار الحشرات وصغار العصافير التي تصل إليها يده؛ وكل هذا لا يطفئ شهوة القتل الملتهبة فيه.
لم يكفه الحيوان فعدا على رفيقه الإنسان. وقديما كانت القرابين البشرية تقدم للآلهة، فاستعيض عنها حديثا بالجرائم التي جعلت القتل جريمة يكافحها القانون بالإعدام أو بالسجن!
والحقيقة أننا لا بد أن نؤدي واجبنا نحو هذه الغريزة الطبيعية التي ينتج عنها الموت الوشيك. وكثيرا ما تخفف غلواؤنا عندما نرى أمم الأرض تتطاحن، ونسمع بشعوب تذبح أخرى، وتكون هناك مجازر دموية تهيم بها الجيوش؛ فترى أهالي المدن الثملين بخمرة النصر مع نسائهم وأولادهم يطالعون بانتباه على ضوء المصباح أخبار مجازرهم الفظيعة.
هل فكر أحد بان شعوب الأرض تكره تلك المذابح التي نسميها الحروب. أبدا! إذا فلم نثني عليهم بشتى أنواع الثناء، ونلبسهم الجوخ الثمين محلى بالذهب الوهاج، ونقلدهم أوسمة يحلون بها صدورهم، ثم نغدق عليهم ألقابا عظيمة فستصبح (مودة) النساء لهم مسخرة مع إرادة الشعوب عامة، أليس ذلك لأنهم مسخرون لقتل الإنسان؟ إذن فالقتل نظام أودعته الطبيعة صدر الإنسان ليصيب السعادة الدائمة والشرف الرفيع!(680/51)
القتل هو القانون، والطبيعة تحب الشباب الخالد، فتحث أبناء الحياة على ترك الحياة، وكلما أهلكت رطلا أحيت آخر مثله.
2تموز:
الكائن؟! ما هو الكائن؟
هو كل شيء، وهو لا شيء؛ فهو انعكاس الكون. وتصغير العالم، هو تاريخ، وشكله مرآة لأعماله، فكل مخلوق محيط في هذا العالم!
إرحل وابحث عن الأجيال ترى الكائن لا شيء. اصعد في زورق وابعد عن الشاطئ المزدحم بالمخلوقات فلا ترى شيئا بعد برهة، ومن هنا نستدل على حقارة الإنسان. اقطع أوربا بالقطار السريع وتطلع من بابه الصغير ترى رجالا لا يحصون مجهولين، يحرثون الحقول. . . ويتراكضون في الشوارع، وفلاحين بلهاء لا يعرفون سوى فلح الأرض مع نسائهم السمجات اللاتي لا يتقنّ سوى طبخ الحساء لرجالهن وأولادهن.
اذهب إلى الهند، إلى الصين، تجد الحال هي الحال: أناس يولدون ويشقون ثم يموتون دون أن يتركوا أثر نملة.
زر بلاد الزنوج الآوين إلى بيوت من الطوب؛ زر بلاد العرب البيض القابعين تحت خيامهم القاتمة المتموجة مع الرياح تر حقيقة المخلوق المنعزل الذي نعتناه بلا شيء
والعقلاء من البدو والحضر ينظرون إلى الموت نظرهم إلى المر الذي لا بد منه، فلا يكترثون له. والجريمة كذلك في نظر البدو الذين نشأوا وتأصلت في نفوسهم منذ نشأتهم فكرة الأخذ بالثار كأنها شيء طبيعي. أما أهل الحضر فلا يتأثرون بهذه الجرائم وان كانت أفكارهم لا تتعدى حدود اعتبارها أمرا طبيعيا لازما لإطفاء شهوة القتل، والقتل تنتقل عدواه من بيت لآخر ومن مقاطعة لأخرى.
تأمل في أشخاص العالم المجهولين!
المجهولين؟
وصلنا أساس البحث!؟
قلنا إن القتل جريمة لان القانون أحصى عدد المخلوقات
وسجلها وأطلق عليها أسماء عديدة، ثم قدّسها رجال الدين فإذا هي في حمى القانون يدفع(680/52)
عنها عدوان القتلة السفاكين؛ والمولود الذي لا يسجل لا يعترف القانون بوجوده
الطبيعة تحب الموت، ولا تعاقب القتلة؛ وهي نفسها تدافع عن الإنسان الذي جعله القانون سلعة في يده يفعل به ما يشاء، لأنه خول لنفسه الحق فيه، فتراه بعد مئات الألوف للحرب منتظرا أن يسقط أسمائهم من سجلاته. ولكننا نحن الضعفاء لا يمكننا تبديل أي اسم ولو من سكان الاقضية، بل الواجب علينا أيضاً احترام حياة الكائن، مع احترام سلطة الحكومة المدنية التي تملك الهياكل البلدية.
قف وادع الله يا ابن الطبيعة!
3تموز:
في القتل غرابة ولذة مقرونتان بالسرور؛ فإذا كان المخلوق الحي العامل تحت سلطتك وتمكنت من عمل جرح صغير واحد في جسده ووقفت ترى المادة اللزجة الحمراء تسيل أمام عينيك ثم يفقد ذلك الجسم الحياة، فلا ترى بعد أذن كتلة لحم لين، بارد عديم الحركة التفكير.
15آب:
لقد قضيت حياتي بالمحاكم، اعدم، وأميت، بكلام رقيق يخرج من فمي، وتنفذه المقصلة في الذين أماتوا بحد السكين، أنا! أنا! ماذا يكون مصيري إذا أصبحت أحد هؤلاء القتلة!؟ من يدري؟
15آب:
من يدري؟ لا أحد!
أيفكر امرؤ باني قاتل ولا سيما إذا انتقيت كائنا لا فائدة تعود علي من حذفه؟
17آب:
الشهوة، الشهوة، نعم، تملكتني شهوة القتل كالدودة حابية في جسمي وفي عقلي، إني متعطش إلى رؤية الدم وبجانبه الموت، حيث تسمع أذناي صوتا فضيعا يناديني، ويذكرني بآخر صرخة تخرج من المحتضر. لعل في القتل لذة، وخصوصا إذا كانت الضحية كائنا مطلق الحرية وأسعها يملك قلبه الهادئ الرزين بنفسه.(680/53)
22آب:
لا يمكنني الصبر، قتلت حيوانا إطاعة لتلك النزعة الحمقاء التي تغالبني.
لخادمي (جان) عصفور في قفص ثمين ومعلق بنافذة الدار، وقد أرسلت خادمي ذات يوم لقضاء حاجة، وبعد أن ذهب أخذت العصفور الصغير في يدي فشعرت بجسمه الحار، وبنبضات قلبه المتفاوتة، ثم صعدت إلى غرفتي، وأخذت اضغط عليه شيئا فشيئا إلى أن أحسست بدقات فؤاده السريعة. لقد كان المنظر وحشيا مع فظاعته. كدت اخنقه. ولكن لا فائدة لأني لن أرى دمه يسيل، فأخذت المقص وجعلت رقبته ثلاث قطع؛ ففغر المسكين فاه، وأراد التخلص بكل ما أوتي من قوة، ولكن أنى له ذلك ويداي كالحديد تطوقان عنقه؟ لقد كان عملي يسترعي الدقة والانتباه، فكنت أعمل بتؤدة!!
الدم!. . . الدم!. . . ما أجمله!!
أحمر قان، صاف! لقد أردت أن أخضب به لساني، وفعلا كان ذلك! أن هذه الكمية القليلة لا تبعث النشوة، لكنها لذيذة! ضاق نطاق الوقت للتمتع بهذا المنظر؛ فقد حان حضور خادمي.
آه! لو كان بدل هذا العصفور ثور لكان أبهى وألذ.
يا له من شقي! لأني أصبحت كالقتلة: غسلت المقص بيدي، وحملت الجثة الهامدة إلى مثوى أعددته لها في الحديقة، ودفنتها تحت شجرة (فريز).
لا يمكن لأحد معرفة هذا المكان، وسآكل كل يوم حبة من هذه الشجرة الحمراء.
بكى خادمي عصفوره كثيرا بعد عودته، وظن انه طار من قفصه أيمكنه اتهامي!؟ لا. . . لا. . .!!
25آب:
الأمر بسيط: ذهبت للنزهة مرة في غابة (فيرن) لا أفكر في شيء مطلقا، وإذا ولد صغير يأكل خبزا عليه قليل من الزبدة على قارعة الطريق. وقف ليراني مارا بجانبه، وعندما اقتربت منه حياني قائلا:
- نهارك سعيد، يا سيدي الرئيس.
وهناك. . . طرأت علي فكرة (قتله) فرددت عليه:(680/54)
- أنت وحدك هنا يا ولدي؟
- نعم يا سيدي الرئيس.
- ألا يصحبك أحد من أقاربك أو أصدقاؤك في هذه الغابة العظيمة المقفرة؟
- أبدا يا سيدي الرئيس.
لقد عصفت في رأسي شهوة القتل وأثرت في نفسي كما تفعل الخمرة براس شاربها.
اقتربت منه ببط خوفا من أن يفر كما كان يخيّل ألي ّ. ضغطت على عنقه بعنف، فنظر ألي بعينين تحاكيان البحر عمقا والسماء صفاء و. . . لم اشعر طول عمري بمثل هذا الإحساس الغريب الذي سيطر عليّ. لقد أمسكت يديه الصغيرتين بساعديّ القويتين المفتولتين، بينما كان جسمه يتطاير في الهواء كما تتطاير ريشة الطير على سفود. ثم همت حركته ووقفت أنفاسه. وهنالك أحسست بتواثب دقات قلبي العنيفة؛ مسكين ذلك الصغير، لقد رميت جثته في حفرة وغطيتها ببعض الحشائش ثم عدت.
تناولت غدائي هادئ الأعصاب كأني لم آت شيء! لقد شعرت بخفة نفسي التي عادت فجددت شبابها الأول، وقضيت سهرة الليلة عند مدير الناحية. انهم وجدوني سريع النكتة، خفيف الروح في تلك الليلة، ولكني لم أر الدم، لذلك لم أك مطمئنا تمام الاطمئنان.
30آب:
عثروا على الجثة، والسعي جار لمعرفة القاتل؛ أنا مطمئن فلم يرفع الستار عن المجرم.
أول أيلول:
أوقف قاضي التحقيق رجلين من عابري السبيل كانا يجوبان تلك الناحية، وقد أخلى سبيلهما لان الأدلة غير كافية أدانتهما.
2ايلول:
بكى أهل الطفل أمامي متضرعين!! ألا ما أعذب قولهم!
6تشرين أول:
إن شهوة القتل تمتلكني وهي متأصلة في عروقي، تجري مع دمي، وهذا ما يدفعني إلى القتل كابن العشرين عندما يتيمه الحب.(680/55)
20تشرين أول:
جريمة أخرى:
ذهبت بعد الغداء ناحية النهر أتريض، وهناك رأيت صيادا نائما تحت شجرة حور، وكان الوقت ظهرا. تطلعت حولي فإذا بمعول في أرض مجاورة مزروعة بطاطس، فأخذت المعول، ثم عدت أدراجي إلى الصياد، فرفعته بين يدي كالهراوة وضربته ضربة واحدة بحد ذلك المعول قطعت رأسه. تدفق الدم الوردي الخداع بغزارة، وانحدر إلى ماء النهر الجاري!
عدت أدراجي بخطوات مريبة، آه،. . .! لو شاهدوني لعرفوا فيّ قاتلا وحشيا مريعا.
25تشرين أول:
أحدث مقتل الصياد ضجة عظيمة بين الآهلين وفي الدوائر؛ واتهم في ذلك ابن أخي المقتول لأنه كان يصطاد معه.
26تشرين أول:
رأى قاضي التحقيق أن ابن الأخ مجرم وكل من في البلدة يعتقد ذلك، مسكين ذلك الحمل!!؟
27تشرين أول:
دافع الصبي عن نفسه دفاعا ضعيفا، لقد حلف أيمانا مغلظة بان عمه قتل أثناء غيابه، وهو في البلد يشتري خبزا وجبنا.
ولكن من يصدقه؟
15تشرين الثاني:
بالموت! بالموت! بالموت!
حكمت على الطفل البريء! وقد احسن المدعي العام فكان ينطق كالملاك، وذكر الأسباب التي دعت إلى إدانة الطفل، وهو انه وريث عمه الوحيد.
لقد رأست جميع جلسات محاكمته وسأذهب لأرى مصرعه.
18آذار سنة 1852:(680/56)
انتهى كل شيء هذا الصباح. مات الطفل بسرور وبشجاعة مما زاد في ابتهاجي! ما أروع رأسه المتطاير، وما ألذ دمه المتدفق كالسيل! نعم كالسيل! آه لو مكنوني من الاستحمام فيه والاستلقاء عليه حيث اشعر بسريانه في شعري وعلى وجهي، وأقوم بعدها بالأحمر القاني.
ما أفضع الحقيقة لو عرفوها!
والآن أستطيع أن انتظر وان اسهر الليالي لا يثير دهشتي أحد، ولا يعكر صفوي معكر. . .
لم تنته المذكرات بعد. وهي تحوي عدة صفحات أخرى بدون جريمة جديدة. واقر الأطباء الذين كلفوا بدرس المذكرات بان هذا الضرب من المرض العقلي هو اقل أثرا لما نفكر في عصرنا المادي الذي زاد فيه السقوط الأخلاقي والجنون العصبي
(حلب)
م. كمال جلبي(680/57)
العدد 681 - بتاريخ: 22 - 07 - 1946(/)
حقوق المناقشة
للأستاذ عباس محمود العقاد
للمناقشة حقوق.
ولا يرعى للمناقشة حقها من يناقش طالب المعرفة والإنصاف كما يناقش طالب الحزازة والادعاء، أو يناقش المفيد المستفيد كما يناقش المفترى الذي يضيع على القراء أوقاتهم في شفاء ضغن ومرضاة غرور.
فلا بد من تفرقة بين المناقشتين.
ومن حق الكاتب على نفسه ألا يخاطب المخلص المهذب الذي يصدق النية في سؤاله والرد عليه، كما يخاطب إنسانا يغمطه حقه وينحله ما لم يقله ويسيء فهم ما قاله ويتعالى عليه بالباطل وهو منه في مرتبة دون مرتبة التلميذ من الأستاذ.
ومن حق القراء على الكاتب ألا يسوي أمامهم بين من يخدمهم في طلب الحقيقة، ومن يخدم نفسه في شهوة مريضة لا تعنيهم ولا تعني الأدب والثقافة.
ومن حق الأخلاق على من يرعاها أن يكشف هذه الأمور ويعطيها ما هو واجب لها من التنبيه والتعقيب. .
ونرجو أن يكون فيما تقدم جواب للسائل الأديب الذي يسألنا عن (يوم نعمنا ويوم بؤسنا) كما سماهما وهو يشير إلى أسلوبنا في الإجابة على أناس بالرفق واللين، والإجابة على أناس آخرين بالشدة والتقريع. ونقول له إننا لو فعلنا غير ذلك لكنا مخطئين، لأن الناس لا يسألون جميعا بنية واحدة ولا لغرض واحد، وينبغي أن يكون الجواب على حسب اختلاف الأغراض والنيات ونرجو أن تكون فيما يلي أمثلة من المناقشات التي تنجم عن سوء الفهم أو سوء النية أو عنهما معا فلا تجاب إلا كما ينبغي أن تجاب. .
من الحقائق الأدبية التي لا تحتاج إلى عناء كبير في تفصيلها أن نظم الحكم الشائعة والأمثال المتواترة يتيسر لكل من يقدر على النظم أو على وزن التفاعيل، ولا يدل حتما على ملكة شعرية ولا على حكمة فطرية، وأن ورود بعض الحكم في أشعار الفحول المطبوعين لا يثبت لنا أن كل قائل ينظمها هو شاعر مطبوع يضارع أولئك الفحول المطبوعين. .(681/1)
هذه من البدائه التي لا تحتاج إلى عناء. .
وقد أشرنا إليها في كتابنا عن شعراء مصر وبيئاتهم وقلنا في سياق الكلام على عبد الله فكري باشا: (إننا لا نعرف بين كبار الشعراء في العالم كله واحدا صرف إليها شعره وجعلها من أغراض فنه).
وهذا أيضاً صحيح، لأن كبار الشعراء في العالم معروفون، وليس نظم الحكم والأمثال من الأغراض التي تتعذر على من دونهم من الشعراء بكثير.
وعلى مكان هذه الحقيقة من البداهة لا مانع عندنا أن يجهلها بعض الناس، وأن يتشككوا في عمومها وشمولها، ولكن المانع عندنا أن يعتبر تقريرنا لها (جريمة تهويل) وإقحام للدعاوى في غير موضعها. . . كأننا نزج بأسماء كبار الشعراء في مقام لا يدعونا إليه إلا المباهاة بذكرهم، والظهور بهذه المباهاة!
وهذا الذي صنعه السيد عبد الغني حسن حين سأل مستهولا: ما دخل كبار الشعراء في العالم كله في ميدان هو بشعراء العربية أشبه؟).
فإن هذا الإستهوال نفسه لهو غاية ما يمكن من الادعاء مع جهل الصواب وقلة الرغبة في الفهم الصحيح.
فلو أن السيد عبد الغني كلف عقله عناء الفهم قبل أن يستكثر علينا هذه العبارة لفهم أننا لم نذكر فيها كلمة واحدة يتأتى حذفها بغير إخلال بالمعنى المقصود.
فتحقيق الملكة الشعرية لا يكون بالرجوع إلى صغار الشعراء ولا أوساط الشعراء، ثم هو لا يكون بالرجوع إلى كبارهم في قطر واحد، لأن التقاليد الموضعية قد تولع بعض الشعراء في قطر من الأقطار بأسلوب لا يرتضيه كل شاعر كبير. ولا سبيل إلى التحقق من الملكة المطبوعة إلا إذا عرضناها على (كبار الشعراء في العالم كله) وعرفنا حظها منهم أو حظهم منها، فتعرف هل هي عرض في شعرهم أو هي أصل صميم.
فللشعراء الكبار في العالم كله دخل في هذه المسألة ولم نقحمهم نحن ثمة لغير مناسبة ولا دلالة. وإذا كان السيد عبد الغني يفهم أننا نتكلم فيما لا نعلم حين نتكلم عن كبار الشعراء في العالم كله فليس له علينا حق الحمد والتسبيح، ولا حق الإطراء والمديح!
وأغرب من السيد عبد الغني حسن في تصحيحاته وتهويلاته سيد آخر من بيروت يدعى(681/2)
(عمر فروخ). . . ولعله من أصحاب العلم والأدب بالرخص (الأمريكانية) أو (الفرنسيوية) التي ابتلى بها الشرق العربي في الزمن الأخير.
وصلت إلينا لهذا الفروخ رسالة عن ابن الرومي يقول في مقدمتها: (قال سليمان البستاني: وكأني بابن الرومي وفيه لمحة من كنيته إلي جرثومة أصله أو عرفانه، كانت تحمله على تحدي هوميروس في كثير من أساليبه ومعانيه وتشبيهاته. وقرأ عباس محمود العقاد هذا فبنى عليه فصلا تاما من كتابه ابن الرومي 263 - 302 وبعض فصل. . .)
ثم تناول هذا الفروخ قلمه الأحمر وتفضل بتوزيع الدرجات والتوبيخات فقال: (لقد غفل البستانيان والعقاد عن طبيعة الاجتماع وفاتهما كثير من حقائق التاريخ وأسس الأدب. إن الوراثة العرقية أو وراثة الدم تؤثر في الاستعداد العام أو في الذكاء الفطري وفي الصفات الجسمانية، ولكنها لا تؤثر في اتجاه التفكير ولا في الإنتاج الأدبي. ثم إن ابن الرومي نشأ في بيئة عربية يجهل اللغة اليونانية وكذلك أبوه، ولم يكن من سبيل لاتصاله بالأدب اليوناني القديم أو المتأخر، وأن عبقرية ابن الرومي لم تتكون إلا كما تتكون كل عبقرية غيرها من عوامل في البيئة وعناصر الشخصية. . .)
ثم رفع هذا الغر مقرعة المعلم على رؤوسنا وراح يهزها ويقول (إن بعض المتأدبين عندنا تأخذهم حمية الإنشاء فيندفعون في كتابة خيالية، من غير تحقيق أو اهتمام بما كتبه العلماء والباحثون. . .)
فهل علم القارئ إذن ماذا نحن وماذا هذا الفروخ الجهول؟
هذا الفروخ الجهول معلمنا نحن المتأدبين، وحذار أن تخطئ فتزعمنا من الأدباء!! وهو يتربع الديوانية ويتبختر الفطحلية، ويعجب لهؤلاء التلاميذ الذين يسودون الصفحات بالإنشاء، ولا يفقهون ما قاله العلماء، ولا يعرضون عليه كتبهم ليوزع عليها الحمراء والخضراء، من درجات التصحيح والإملاء.
وما الذي أخطأنا فيه نحن المتأدبين، فأدبنا هذا الفروخ على هذا الخطأ المبين؟
أخطأنا لأنه افترى علينا، ولأن الذي قلناه نقيض ما نسبه إلينا. والعجيب أنه يذكر الصفحات، وهذا الذي قلناه في تلك الصفحات:
قلنا: (ربما كان القول بأن ابن الرومي رجل حساس متوفز الأعصاب ملبي المزاج نشأ في(681/3)
حضارة زاهية فأجابته وأجابها، وأخذت منه وأخذ منها. . . أقل في العجب من تفسير عبقريته بأنها عبقرية يونانية على اعتبار أنها موروثة عن آبائه اليونان. إذ من هم آباؤه اليونان؟ لا ندري أهم من إغريق الجزر، أم من إغريق البلاد المعروفة باسم اليونان، أم من إغريق آسيا الصغرى التي كانت تدور الحرب فيها وحولها بين المسلمين ودولة الروم. ومن الصعب الذي يحتاج إلى التفسير أن نقول إن هؤلاء الإغريق جميعا سليقة واحدة وأمة واحدة وعنصر واحد ينحدر منه الرجل وينتقل إلى بيئة أخرى وينجب الأبناء في بيئته الجديدة فيجتمع فيهم كل ما تفرق من خصائص العبقرية الفنية التي تسمى الآن بالعبقرية اليونانية. ثم نحن لا نعلم أن الإغريق في قديم عهدهم كانوا عنصرا واحدا ينتمي إلى سلالة واحدة، لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الأسيويين ثابت لا شك فيه، لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الأسيويين ثابت لا شك فيه، واقتباسهم من عقائد الأسيويين وفنونهم ولغاتهم ثابت كذلك أقطع ثبوت. . . ولا يمكن أن نجزم برأي في وراثة الفطرة الفنية ولا سيما الفطرة في الشعب كله حتى لو عرفنا الأصل الذي تحدر منه ابن الرومي بين أصول اليونان الكثيرة. فقد كان في بلاد اليونان نفسها ألوف من أبناء الشعب اليوناني المحاطين بالبيئة اليونانية في جميع ظواهرها وبواطنها، فلم ينبغ منهم في عصر ابن الرومي شاعر مثله ولا نبغ منهم في العصور السابقة التي أزهرت فيها آدابهم وفنونهم شاعر من طرازه في جميع خصائصه وملكاته. فلو أننا نقلنا ابن الرومي من الأدب العربي إلى الأدب اليوناني لكان فذا في أدبهم كما كان فذا في أدبنا. . . ولو أننا بحثنا مزية أصيلة في الفطرة اليونانية تنتقل مع الدم وتسرى في خلال التكوين لأعيانا أولا أن نحصر هذه الفطرة، ثم أعيانا بعد ذلك أن نحصر هذه المزية. فنحن لا نفسر عبقرية الشاعر حين نسميها بالعبقرية اليونانية، ولكننا نصفها في كلمات موجزة وصفا يقربها إلى الأذهان، ويطبعها بهذا الطابع المعروف عند المطلعين على الآداب. . .)
فالعبقرية اليونانية التي نطلقها على ابن الرومي هي إذن صفة أدبية فنية لم نجزم بموقعها من الوراثة العرقية، ولا أهملنا الإشارة إلى هذه الوراثة لأنها مما لا يجوز إهماله، فكيف قولنا الفروخ ذلك الكلام في تلك الصفحات وهذا ما قلناه في تلك الصفحات؟
هذا ما قلناه في كتاب قرأه الألوف ولم نقله في كلمة شفوية أو مقال غير معروف، وهكذا(681/4)
افترى علينا ذلك الفروخ بما شئت لاسمه من تقديم أو تأخير في الحروف. فماذا يقال لمثل هذا؟ أيناقش مناقشة الأكفاء؟ أيخاطب خطاب العلماء والفضلاء؟ كلا، بل ذلك خليق أن ينخع نخعا من تلك الجلسة الفطحلية وتلك الحبوة الديوانية، ثم تنزع من يده العصا التي يهزها هز المعلم على رؤوس معلميه ليحس بها فوق رأسه ويقال له بحق: إن العقاد يا هذا ليتواضع غاية التواضع حين يسمح لأستاذتك أن يجلسوا بين يديه جلسة التلميذ المستفيد. فتأدب أيها المسكين، لأنك لا من الأدباء ولا من المتأدبين.
ومخلوق آخر يسمى المشنوق، يشكو المجاعة ولا طعام لمخنوق! ويتحدث عن (المجاعة الأدبية في مجلة الأديب. . . وهو حديث لا يقال في مجلة، ولا يقال في السوق. . .
قال: (وإذا بعباس محمود العقاد يترك ابن الرومي ونتشه والعبقريات ليكتب في كل موضوع. كخادمة المنزل التي تصلح لجميع الغرف. . .)
فالعقاد ملوم إذا كتب في موضوع واحد، والعقاد ملوم إذا كتب في أكثر من موضوع، والعقاد مكذوب عليه لأنه لا يزال يكتب عن أبي الشهداء وعن باكون وعن أثر العرب في الحضارة الأوربية، وعن هذه الشجرة، وعن غير هذا وذاك، ولكن ينبغي أن يلام والسلام، وأن يطلب منه إطعام من لا يقبل الطعام، وأن يفك الحبال عن الحلوق والأقدام، ليأكل المشنوق ويمشي من يعجز عن القيام.
لا يا عبد الله. . . ما هكذا تكون الأشباه.
ليس العقاد خادمة، في كل غرفة حائمة، بل هو سيد في نعمة دائمة، له في كل غرفة مائدة، وعلى كل مائدة حلوق طاعمة. . . ولكنه لا يفتح حلوق المشانيق، لأنها حلوق صائمة، ليس لها في القائمة حساب ولا لها في الحساب قائمة.
وهكذا يكتب لهؤلاء. . . فعلى من اللائمة؟. . .
عباس محمود العقاد(681/5)
من لغو الصيف:
إلى الإسكندرية. . .
للأستاذ سيد قطب
إلى الإسكندرية. . .
لابد من تغيير الهواء في هذا العام. . . فها هي ذي أعصابي تعلن الثورة، وتعلنها وتعلنها، ثم تمل من هذا الإعلان فتضرب إضرابا تاما وتنام!. . . وها هو ذا الطبيب والطبيب والطبيب، لا يجدون في جعبتهم - بعد أن أتناول نصف ما في صيدلية حلوان من الأدوية حقنا وتجرعا وبلعا - إلا أن يقولوا: غير الهواء!
لا بد من تغيير الهواء في هذا العام. . . فقد انقضت سبع سنوات عجاف ولم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا أياما في الصعيد - في مطلع الصيف - (للتفتيش)! التفتيش لحساب وزارة المعارف (ولا أدري متى تغير هذا العنوان، ومتى تغير - تبعا لهذا - وظيفته فتجعلها مثلا (التوجيه) اسما ومعنى (.
لم يكن تفتيشا في الواقع. لقد كان نفيا!
كانت الحرب، وكانت الأحكام العرفية، وقال الوزير: لا بد أن يفصل هذا الموظف أو ينفي من الأرض أو يشرد فيها. فقد أبلغتني إدارة الأمن العام عنه أشياء!
إدارة الأمن العام؟ أي إدارة الأمن العام!. . . وأبلغتني أنه يعمل لحساب المعارضة. . . ثم إن (دوسيهه) ليس نظيفا. فيه إنذاران على كتابته في الصحف مقالات سياسية وهو موظف!
موظف. أي عبد. لا رأي له في قضية بلده، ولو لم يكن لهذا الرأي صفة الحزبية!
وأبلغت أنني منفي من الأرض. وقررت أن أستقيل! وأباها الرجل الأريحي الدكتور طه حسين. وقال: لن تصنعها وأنا هنا في الوزارة!
قلت: ولكنني لن أخضع لأهواء الوزراء. واجهوني بما يقال عني، ثم اصنعوا ما تشاءون. وسأصنع كذلك ما أشاء!
قال: وإذا استقلت فماذا تصنع وأنا أعرف أعباءك الثقال؟ قلت: أصنع ما يتيهأ لي، فلست من عجزة الديوان!(681/6)
قال: لن تستطيع أن تصنع شيئا في هذه الأيام. فالأحكام العرفية تملك أن تنقلك إلى أي مكان، وأن تلزمك الإقامة في هذا المكان، حتى لو استقلت من الحكومة! فخير لك أن تقيم فيه موظفا، ولا تقيم فيه منفيا!
قلت: معذرة يا سيدي الدكتور؛ فإني أفضل أن أقيم هناك منفيا! ثم. . . ثم. . . إنني سأكون بطلا في عهد الوزارة القادمة!
(ولم لا؟ ألم تتدهور البطولة عندنا حتى صارت تكتسب بالنقل إلى جهة نائية في عهد من العهود، أو بالتخلف عن درجة استثنائية كالزملاء!).
وقال الرجل:
- أتنفي لي أنك أتيت ما نسب إليك؟
- قلت: وهل أدري ما ينسب إلي؟
- قال: أشياء، جلست في بار اللواء، وقلتها لبعض الجالسين والأصدقاء عن بعض الوزراء! ومعارضات سرية للعهد الحاضر تنفيذا لخطة حزبية معينة.
- قلت لقد اعتدت أن أنشر آرائي، وأن أوقعها بإمضائي. فليس من عادتي أن أثرثر في المجالس بشيء! أو أن أعمل في الخفاء!.
- قال: وأنت عندي مصدق. فدع لي الأمر. وسأحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال!.
ووفق الرجل بين أريحيته الكريمة وتشدد الوزير. فكلفني أن أقوم بمهمة تفتيشية في الصعيد لمدة شهرين اثنين، أختار فيها من الجهات والمدارس ما أشاء، وأكتب له تقريرا شاملا عن دراسة اللغة العربية في المدارس على اختلافها، وأفصل اقتراحاتي في إصلاح هذه الدراسة بصفة عامة!.
ووجدت في ذات المهمة ما يغري، وفي أريحية الرجل ما يخجل. . . فنفت التكليف.
نفذته متناسيا - بل ناسيا - تلك المهزلة، مهزلة الاتهام. لقد أخطأ الوزير. أخطأ، فلم أعد أجد في حزب من هذه الأحزاب ما يستحق عناء الحماسة له والعمل من أجله. كلهم سواء أولئك الرجال! رجال الجيل الماضي. للجميع عقلية واحدة لا تصلح لهذا الجيل - عقلية أنصاف الحلول - كلهم نشأوا وفي قرارة نفوسهم أن إنجلترا دولة لا تقهر؛ وأن الفقر مرض مستوطن. . وكلهم يؤمن - إن كانت قد بقيت لأحد منهم طاقة الإيمان بشيء - أن(681/7)
الله خلق الدنيا في ستة أيام!.
هؤلاء جميعا لم يعودوا يصلحون لقيادة الجيل. أعصاب منهوكة. وقلوب خاوية من الإيمان الحار بشعبهم وأمتهم. كلهم يستحقون (المعاش)، كلهم سواء، لا يستحقون من الجيل الجديد الحماس!
إلى الإسكندرية. . .
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا، إلا لهذا (التفتيش)! ولم أبصر فيها وجه البحر يسفر، ولم أستمع فيها إلى صوته يجيش. . . وكيف؟ ولم أكن (غنى حرب!) بل موظفا وصاحب قلم؟! موظفا في وزارة المعارف. لا في وزارة التموين، ولا في وزارة التجارة، ولا حتى في الأشغال أو المواصلات!. وصاحب قلم للأدب أو السياسة القومية؛ لا للدعاية الإنجليزية والأمريكية ولا للسياسة الحزبية فأنى لي بوجه البحر في تلك السنوات العجاف؟!
وهبني كنت أجد المال الذي أجارى به أغنياء الحرب ومأجوري الدعاية أو الحزبية، فما يحملني على أن أكون من أهداف طيارات المحور، ولست ضابطا ولا جنديا في الجيش المصري الذي احتمل ضحاياه في أثناء الحرب، دون أن يفوز بشرف الحرب!.
لقد كان موقف الساسة المصريين حرجا حقا!
فهم لا يعلنون الحرب على المحور - ولهم العذر - فلم يعلنونها؟ ليقاوموا احتلالا متوقعا، وهم في احتلال واقع؟! لينصروا الديمقراطية، والديمقراطية تفعل بهم الأفاعيل؟. . . أم لا يعلنون الحرب، ومصر تحتمل ويلاتها بلا مقابل، وتهدد في النهاية بأنها إذا لم تعلن الحرب فستحرم من مؤتمر الصلح. (ثم تعلنها وتحرم من مؤتمر الصلح أيضا!).
أم لا تعلن الحرب، ولا تساهم فيها؟. . . هناك معاهدة الشرف والاستقلال، وهناك الشيخوخة الروحية، وهي أشد (شرفا) من معاهدة الشرف والاستقلال!!!.
إنهم رجال الجيل الماضي! أولئك الذين لا يعرفون متى يحسن اللاعب أن ينسحب من الميدان.
إلى الإسكندرية. . .
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا لذلك (التفتيش)(681/8)
السياسي العجيب!
ولكن ما هذا؟
أهذه محطة القاهرة؟ أم ذلك يوم الحشر الأكبر؟ ما بال الناس هكذا يتدافعون بالمناكب، ولا يعرف حميم حميما؟ أهذا قطار؟ أم حمام الثلاثاء! وإن كنت لا أعرف حمام الثلاثاء. ولعل الدكتور زكي مبارك يعرفه فله قصيدة عن ليلة الثلاثاء. لا بد أنها كتبت هناك!
فلنزاحم، على شدة ما أكره الزحام!
الحمد لله! لقد وجدت مكانا. . . مكانا للحقيبة في (طرقة) العربة. في الممر. . . وهل ذلك شيء هين؟ إن السعيد من يجد لحقيبته مكانا في هذا الممر. إنه بعد أن يهدأ القطار ويروق، وينزل المودعون الذين يكظون الفراغ كظاً، يستطيع أن يتخذ من حقيبته مقعداً، بينما الآخرون يقفون طول الطريق خفافًا أو ثقالا يحملون بعض متاعهم، ما لم يريحوه على أقدام المسافرين!!!
وجلست بعد فترة ووقف الآخرون. وسار القطار. . وفي الزحام الشديد وقعت عيناي على سيدة شابة جميلة واقفة تحمل شيئا، شيئا أثمن من كل ما يحمل المسافرون. . . تحمل جنينا!
وبمقدار ما يثير في نفسي منظر الشابة الحامل من الأسى، يثير في نفسي كذلك الاحترام والإشفاق.
فأما الأسى، فعلى ذلك الجمال الضائع. كلما تخيلت هذه الشابة في رشاقتها الفاتنة، ثم في هذه الكظة التي عير بها ابن الرومي - سامحه الله - إحدى المغنيات! إنه أسى يكمد نفسي ويؤذيها بقدر ما ترتفع في هذه الشابة درجة الجمال!.
وأما الاحترام والإشفاق فلهه التضحية النبيلة التي تبذلها الفتاة للحياة - أرادت أم لم ترد. وشعرت أم لم تشعر - التضحية بالجمال - أعز شيء في هذه الحياة - وبالراحة، وبالذاتية كلها في النهاية التضحية إلى حد الفناء!
أقول وقعت عيناي على هذه السيدة الشابة الجميلة تحمل كنزها وكنز الحياة في حرص وإشفاق. وتحركت في نفسي كل هذه المعاني، فوقفت متنازلا عن مقعدي الخاص - على ما برجلي من ألم وما بأعصابي من تعب - لهذه السيدة المضحية. . . فجلست شاكرة. . .(681/9)
وفجأة همس في أذني أحد الواقفين: خسارة! إنها لا تستحق، إنها من بنات صهيون!.
وتفرست في ملامحها فرجحت رأى الزميل - الزميل في الوقوف - وكدت أنا الآخر أندم ما صنعت لولا نظرة إلى الحمل الثمين!
قلت:
ليت الصهيونيين يعلمون ماذا يفعلون! إنهم بموقفهم الإجرامي في قضية فلسطين يكادون يجردون نفوسنا حتى من العطف الإنساني، والروح الآدمي على أبناء صهيون، وبناته الملاعين!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من عداء العرب؟ العرب الذين عطفوا عليهم وآووهم. . . على مدى التاريخ - والعالم كله يسومهم سوء النكال؟!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من خطتهم الحمقاء التي تثير عليهم سبعين مليونا من العرب، ومائة مليون على الأقل من المسلمين الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، دون أن تكسبهم صداقة حقيقية من أحد في هذا الكوكب الأرضي - ولا في كواكب السماء -! فهذه أمريكا التي تشتري أصواتهم الانتخابية ونفوذهم المالي بتصريحات جوفاء، لا ترضى بأن تبيح لهم الهجرة إلى بلادها الواسعة الغنية، بدل هذه التصريحات الجوفاء. وهذه إنجلترا التي تحميهم بالمدافع والدبابات لا تشارك في تخفيف محنتهم بإيوائهم في مستعمراتها الواسعة!
لقد كان لهم من صدور العرب الكرام حصن رفيق رحيم في عهود التشريد المديدة، ففقدوا بحماقتهم في النهاية هذا الحصن الرفيق الرحيم.
هذا كل ما جنوه من سياستهم الأثيمة الحمقاء.
إلى الإسكندرية. . .
وها هي ذي مشارفها تبدو. الركاب يتحركون. يتحركون - ولا مؤاخذة - حركة بغلة الشاعر القاهري الظريف - البها زهير - أو بغلة صديقه على الأصح:
لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردلة
تمشي فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكلة
تهتز وهي مكانها ... فكأنما هي زلزلة(681/10)
وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجلة
مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع: أنملة
أشبهتها بل أشبه ... تك كأن بينكما صلة!
إلى الإسكندرية. . .
فقد أوصيت زميلا كصديق البها زهير! أن يختار لي منزلا هادئاً فاختاره - حفظه الله - على هواه.
أما قصة ذلك المنزل. . . فإلى حديث آخر من (لغو الصيف) الذي اخترته في هذا الأوان بعداً بنفسي وبالقراء عن معارك النقد الحامية، وعن مضايقة عباد الله المؤلفين، وكفى الله المؤمنين القتال!!!
سيد قطب(681/11)
من التاريخ الإسلامي
قضية سمرقند
للأستاذ علي الطنطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، تتقد نار الحماسة في نفسه فيخطو، ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطربه الخيال إلى ملوك بلده، فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجاب على الأبواب، والسيوف المسلطة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار. . . وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. . . إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش، والرعية التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الجب، فشيء لم يعرفه في بلده!
واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له:
- ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟
- قال: نعم والله إنها لهي داره. . . هذه دار الرجل الذي أورثته سيوف قومه تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن ببلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا (العمامة) تاج العرب. . . هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلا، وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقى هو وأسرته بغير شيء. . . لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا، فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة!!
وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجى الله، إذن لزاد العباد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يروى، ولا عجب يؤثر، ولكنه زهد في الدنيا وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها، وبيده بعد القدر صلاحها وفسادها، فهو في اللجة ولا يبتل، وهو (في اللهب ولا يحترق)، هو زاهد ولكن في رأسه عقل حكيم، وفي صدره قلب بطل، وفي فيه لسان أديب، فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه(681/12)
وماليته وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتى وهو المعلم. . . أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر، واصطحب في البرية الذئب والحمل. . . وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً. . .
سمع غداة بويع بالخلافة مكرها، هدة ارتجت منها الأرض، وكان منصرفًا من دفن أمير المؤمنين سليمان فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب، المرصعة بالجوهر، فقال: ما لي ومالها؟ نحوها عني وقربوا لي بغلتي، وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين، فقربت إليه بغلته. فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال له: تنح عني، مالي ومالك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.
ومشى بين الناس، راكبا على بغلته، بلا موكب ولا حرية ولا راية ولا طبل. الرجل الذي يحكم الأندلس ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجدا واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند. . . مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر، فقال:
أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأى كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، أني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.
ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطرف، القصر الذي أزرت عظمته بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان، فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأم داره هذه.
فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوى أمين ابن دنيا. . .(681/13)
ظنوه أم داره يقبع فيها يسبح ويهلل، فإذا به يحد قلمه ويعد قراطيسه ويكتب من فوره بيده، إلى أقاليم الأرض، منشورا فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، وينفذ الكتب من ساعته. فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا، ولكنه ابنها وأبوها. . .
فعل ذلك كله من الصباح إلى الضحى، ثم ذهب يقيل، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟ فترك مقيله، وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فاني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين. . . ولقد والله فعل أكثر مما قال!
نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغررك صغرها وضيقها، وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها، وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حملته على ظهرها هذه الأرض، فامش إليها ولا تخف!
فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين، فيراه، فيسأله، فيقول: إني متظلم يا أمير المؤمنين فيقول له: مكانك حتى أعود إليك. ويدخل بالغلامين ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ، (أبني) فيعلم أنها أم الولد المشجوج، وتدخل الدار مريئة. فترى الولد الآخر، فتقول ابني.
ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجه ابن هذه المرأة. وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير. ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تضرب عنق ابنها أمامها، وهو طفل لا ذنب له ولا يسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذرية.
وتخرج المرأة شاكرة داعية، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مغضبة: فعل الله به إن لم يشجه مرة أخرى فيقول الخليفة: إنكم أفزعتموه.
وخرج الخليفة فدعاه، فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة، وأنه دخل سمرقند غدرا من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان.(681/14)
فقال الخليفة: والله ما أمرنا نبينا بالظلم ولا أجازه لنا، وأن الله أوجب علينا العدل في المسلمين، يا غلام. . . قلما وقرطاسا!
فجاءه الغلام بورقة قدر إصبعين، فكتب عليها أسطرا وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد!
ورجع يطوي هذه الشقة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام، ووجهته وجهته، وفي قلبه إيمانه، وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته. . . أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته، إذ يؤم المصلين واحد منهم فلا قساوسة ولا كهان، ويصلون في كل أرض فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعا صفا واحدا فلا كبير ولا صغير، ولا مأمور ولا أمير، وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عباد الله، هم رهبان في الليل وجن في النهار، خاشعة قلوبهم وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين، فلا يبالون الدنيا كلها بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها!
ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً، لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) من يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدم له قراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافرا وبين عودته مسلما، وكيف كان يشعر بطول الشقة، وبعد الطريق، وألم الغربة، فصار يتقلب في النعيم، ويحمل على أكف الأخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين.
ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه هذه المرة تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فرقا من أسراره وخفاياه، فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة، لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار، ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر، ففتح له ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبدا، ووصف لهم ما رأى، فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة. . . وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوما إلى العامل، فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاض يحتكم إليه كهنة سمرقند وقتيبة، فما قضى به نفذ(681/15)
قضاؤه!
وأطاع العامل ونصب لهم قاضيا جميع بن حاضر الباجي، رعين موعد المحاكمة!
ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر، أظلم وجهه بعد إشراقه، كما تربد في سماء النهار الصحو السحب السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجرا صادقا فإذا هو برق خلب. . . وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين. . .
. . . وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاص منها ودان، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجين لا يراهم من أحد، وجاء القائد الفاتح قتيبة، وكانت المحكمة في المسجد فقعدوا ينتظرون القاضي.
ولم يكن الكهنة يأملون في شيء. . . وفيم يأملون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟ وعلى من يحكم؟ على القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرض المشرق قائد أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحا، اسكندر العرب: قتيبة؟
كانت القلوب تخفق ارتقابًا لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وضعت في عنقه أعظم أمانة وضعت في عنق قاض، والذي ألقى بين حجري الرحى، فها هنا مصلحة أمته، وسيادة دولته، والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة وإنها لمحنة الضمائر. . .
وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة، كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو، وأما المسلمون فلم يكونوا يشكون، ولم تكن تداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما الوطن؟ إن وطن المسلم دينه فحيثما صاح المؤذن: الله أكبر، فثمة وطنه. . . وأن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل ولو كان فيه نفع الأمة، وكان فيه الغنم الأكبر.
ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل ضئيل الجسم شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له، ووراءه غلام، فجاء حتى قعد على الأرض محتبيا، وقام غلامه على رأسه. أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على قتيبة العظيم وعلى أميره وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو(681/16)
قاضي المسلمين؟ وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة. ونادى الغلام، باسم قتيبة بن مسلم، هكذا بلا إمارة ولا لقب، فجاء حتى جلس بين يديه، ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه.
وابتدأت المحاكمة. . .
وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتا ضعيفا فقال للكاهن:
- ما تقول؟
- قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدرا من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام:
- قال القاضي لقتيبة: ما تقول؟
- قال: أصلح الله القاضي، إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر، وأورثه المسلمين.
- قال أدعوت أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟
- قال: لا.
- قال: إنك قد أقررت، وأن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر. وإنا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهادا في سبيل الله. ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق. حكمت بأن يخرج المسلمون من البلد، ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم.
ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا، ولكنهم كذبوا عيونهم وآذانهم أنهم في حلم، ولبثوا شاخصين، حتى أن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت وأن القاضي والقائد قد انصرفا، وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل، وكان الكاهن ينظر إلى عالمه الذي طالما أحبه وآثره فيراه عالما ضيقا مقفرا، وينظر إلى دنيا الإسلام فإذا هي خصبة واسعة مزهرة بالخير والعدل والجمال، وما عالمه؟ فجوة معتمة وسط الصخر الأصم لا يبلغها شعاع الشمس ولا ضياء القمر ولا زهر الربيع ولا جمال المجد ولا جلال الإيمان. . .
وسطع النور في قلبه فرأى أن ديانته كهذا المعبد، فأين هذا المعبد من معبد الإسلام، وهو(681/17)
الأرض الطهور التي تمتد حتى تصل إلى بلاد ما سمع بها. . . أين ضيقه من سعتها، أين ظلمته من نورها، أين سقفه الواطى من سمائها العالية. .؟ إنه الحد في دينه وخرج من المعبد وقد حرم عليه الخروج منه فلن يعود إليه أبدا. أيعود الجنين إلى بطن أمه بعدما رأى بياض النهار ورحب الكون؟ أيعبد مرة ثانية تلك الآلهة ذوات الوجه البشع المخيف بعد ما عرف رب الأرباب وخالق كل شيء. . .
لا. لقد ماتت ديانة المعبد ومرت أيامها، فهل لما مر مآب، هل يعود أمس الغابر؟
وإنه لفي تفكيره، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ويرتجف من إرعاد الطبول، ونظر فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب فسأل: ما هذا؟ قالوا: لقد نفذ الحكم وانسحب الجيش.
هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان ردته كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت، ليس معه إلا غلام بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق، ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال، أفتقوى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها؟ أترد صخور هذا المعبد سيل الحق الدافق، وتأكل ظلمته نور الإسلام؟
لا. لقد قضى الله أن يمحو الفجر سدفة الليل. لقد أطل على العالم يوم جديد، فلن نتوارى من نور هذا اليوم في ظلمة المعبد.
وأقبل يسأل أصحابه: ماذا تقولون؟
فيقول السمرقندي المسلم: أما أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله، وأم محمداً عبده ورسوله.
فيقول الكاهن: وأنا أشهد.
وتتزلزل سمرقند بالتكبير. . . ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم، لم يبق حاكم ولا محكوم، صار الجميع إخوانا في الله!.
علي الطنطاوي(681/18)
شريعة الكمال والخلود
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
تمهيد:
فكرت اللجنة القانونية والثقافية بالجامعة العربية في عدة مشروعات ثقافية وقانونية، يعود نفعها الجم وخيرها العظيم على الأمم العربية والإسلامية، بل إن هذا الخير يتجاوز هذه الأمم إلى سائر أمم العالم، ومنها أمم أوربة التي ضربت بسهم وافر في العلوم الإنسانية والمدنية والثقافية القانونية.
وكان من خير تلك المشروعات وأسدها وأعظمها نفعا وأبعدها أثراً ما أشارت به من إنشاء معهد للفقه الإسلامي يكون تابعا للجامعة العربية به إحياء تالد مجده، وبعث الدفين من كنوزه الثمينة وجواهره النفيسة، وفيه ينشأ الباحثون وتغرس فيهم ملكة الفقه والتشريع، والبحث والتحليل، فيخرجون علماء نافعين، وفقهاء باحثين، يجمعون وينظمون ويحسنون العرض والتبويب، ثم لا يلبثون أن يكونوا رجال ترجيح واجتهاد، وبذلك يحيون عهد سلافهم الأولين وأئمتهم المجتهدين.
فكرة - لعمر الحق - ما أجل خطرها، وما أعظم أثرها، ثلجت لها نفوس المؤمنين، وبهجت بها أفئدة المصلحين - قوى الله رجال الجامعة وأمدهم بروح منه، حتى يحققوا هذه الأمنية، فتنتصر الشريعة الإسلامية، وتتبوأ مكانها الرفيع بين شرائع الأمم الأخرى.
وإنهم بذلك العمل الجليل لجديرون.
وقد رأيت - بهذه المناسبة - أن أبين - فيما يأتي - كمال هذه الشريعة وخلودها، وأن أدفع ما وجه إليها من شبهات:
وفاء الشريعة الإسلامية بحاجات الأمم في كل عصر:
الشريعة الإسلامية أعدل الشرائع وأحكمها وأقواها أركانا وأرسخها دعائم، وأبقاها على تناسخ القرون والأحقاب، فهي باقية ما بقيت الحياة الدنيا، لا مبدل لها من دون الله ولا ناسخ، وهي يسر ورحمة، وحكمة ونعمة.
أساسها رعاية المصالح ودرء المفاسد، وغايتها إسعاد البشر في معاشهم ومعادهم. ولا غرو فهي قبس من نور هداية الله، ومشتقة من سنا وحيه، ووذيلة مجلوة انعكست فيها سمات(681/19)
الرسالة وإرشاد النبوة، ثم هي إلى ذلك مضمار لتصاول قرائح المجتهدين من العلماء، وميدان لذوي الأفكار الحرة المخلصة لله وللحق، استهدوا بهديه، وسعوا وفي يدهم مصباح هدايته، فعرفوا من كتاب الله وسنة رسوله وجوه المصالح العامة والحكم التشريعية السامية، وقواعد التشريع وأصوله العادلة، وبها حكموا على الحادثات الجزئية والمسائل الفرعية، فاستقام لهم من ذلك كله تشريع قيم، واستوى منه قانون سماوي، سداه جلب المصالح، ولحمته درء المفاسد - انتظم جميع ما يحتاج إليه الأفراد والأمم من عبادات ومعاملات، وأحكام مدنية وتجارية، وشئون جنائية، وأحكام سياسية واجتماعية: فقد نظم علاقة العبد بربه، وحدد علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وبين علاقة المجتمع بالفرد، ووضع أساس النظم والعلاقات بين الأمم بعضها وبعض.
ورائده في ذلك كله تحقيق العدل والمساواة بين الناس كافة، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين ضعيف وقوي، لا مقصد له إلا إقرار الحق والمعدلة - ألا ترى إلى قوله جل شأنه: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وورد في النهاية في غريب الحديث: (لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) أي لا طهرت. ويقول صلوات الله وسلامه عليه:
(المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وفسر الميزان بالعدل في قوله تعالى: (الله أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وفي قوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
هذا هو دستور التشريع الإسلامي. العل مبدؤه وغايته، والحق قوامه وشرعته - سن ذلك سيد الخليقة ومصلح البشر خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم سار على سنته خلفاؤه الراشدون، فقد جاء في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري: وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك).
فليت شعري - إذا كانت شريعة الإسلام قد بلغت المدى في الحرص على العدالة والمساواة، ووصلت الغاية في الاستمساك بالحق والاعتصام بحبله المتين، ولها من(681/20)
الأصول الراقية والقواعد السليمة والمبادئ السامية ما يعتمد عليه في وضع الأحكام عند عدم النص - ما الذي حدا الولاة على تنكب أحكامها، والحكم أن يبحثوا عن قانون غير قانونها حتى تجرءوا في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على مخالفة الشرع؟!
زعموا أن لهم في ذلك حجتين - نقول ذلك فرضا وتوسعا وإلا فهما في الحقيقة وهمان أو شبهتان داحضتان:
حجتهم أو شبهتهم الأولى:
توهموا أن الشريعة ناقصة لا تقوم بمصالح الناس ولا بسياسة الأمم وحاجاتها، ولا تساير تطور الزمان، ولا تفي بمختلف الأحوال وما جد من ضروب المعاملات - فطوعت لهم أنفسهم تعدى حدود الله ومخالفته في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ عظيم وضلال مبين، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط في كل شيء مع التزام ما بينه من كليات الشريعة وأصولها ومبادئها - فحكمه كما يقول ابن القيم دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، فأي تشريع يقر العدل ويجري مع الحق هو من الشريعة غير خارج عن نطاقها.
على أن سعة أصول الشريعة الإسلامية وتعددها، وسمو قواعدها، ورجوع علمائها إلى الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع عند الاجتهاد واستنباط الأحكام، ثم بحوث المجتهدين في الفقه الإسلامي وتوسعهم في البحث، وما أمرنا به من الاجتهاد عند عدم النص، ومن ترك التقليد - كل أولئك يهدم هذه الشبهة من أساسها، فلا يكون هناك نقص في الشريعة، وإنما النقص في أداء هذا الواجب.
وإن في الشريعة الإسلامية من بحوث المجتهدين السالفين في المسائل المدنية والجنائية والمعاملات ما يدحض هذه الشبهة.
فمن ذلك أنهم أجازوا الحبس في التهم والضرب فيها - غير أنهم قسموا المدعي عليه في دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل وقطع الطريق والسرقة ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرا من أهلها، أو مجهول الحال.
فإن كان بريئا لقرائن شاهدة لم تجز عقوبته اتفاقاً. وإن كان مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور - فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام.(681/21)
وإن كان معروفا بالفجور فحبسه أولى من حبس المجهول، ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين عند كثير من العلماء، وقيل لا يضرب المتهم.
أضف إلى ذلك ما حفلت به كتب الفقه من تعدد آراء الفقهاء واختلافهم في المسائل الاجتهادية حتى في العبادات، مما يدل على خصب الشريعة الإسلامية وتقبلها لاختلاف الرأي فيما يصح فيه الاجتهاد.
فهل الشريعة الحرة التي فيها رغب وسعة، والتي تجود بمثل هذه الآراء، ويترعرع في أحضانها وفي ظل مبادئها وقواعدها وأصولها أئمة الاجتهاد وأعلام الفقه والتشريع - ترمي بالنقص، وهي تصلح أن تكون مرجعا للحكام يأخذون منها ما يناسب الأحوال في كل عصر ومكان!!
ومما يدحض أيضاً شبهة نقص الشريعة اتساع باب التعزيز والعقوبات فيها: فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه حد ولا كفارة فيه كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ونوع فيه كفارة ولا حد فيه كالقربان في الإحرام وفي نهار رمضان؛ ونوع لا كفارة فيه ولا حد كالنظر إلى الأجنبية واليمين الغموس عند الإمامين أبي حنيفة وأحمد.
فالنوع الأول لا تعزيز فيه لوجوب الحد، وفي الثاني قولان للفقهاء - أما الثالث ففيه التعزيز وجوبا عند الأكثرين، وجوازاً عند الشافعي.
والتعزيز يختلف باختلاف الجرائم، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك قد يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس أو بالضرب أو بالنفي عن الوطن، وقد يكون بالقتل. وللفقهاء أقوال أربعة في صفة التعزيز وقدره، وقد بسطنا القول في ذلك في العدد 648 من الرسالة. ومن هذه الأقوال أن التعزيز موكول إلى اجتهاد ولي الأمر يقدره وفق المصلحة وعلى حسب الجريمة.
وبعد فماذا ترى فيما سقته لك من النصوص والمذاهب والآراء الفقهية في العقوبات التي تدخل في باب التعزيز، وفي غير العقوبات من الأحكام الاجتهادية الأخرى؟
ولا ريب أن كل منصف يحكم بكمال الشريعة وسعتها، وأنه لا عذر لمن يترك شريعة الإسلام إلى غيرها من القوانين.
وبطلت بذلك دعوى الجاهلين أو الخراصين وهي أن الشريعة لا تستطيع أن تمد الحاكمين(681/22)
في العصر الحاضر - وبخاصة في القانون الجنائي - بالأحكام الصالحة، فإن للمشرعين المحدثين مجالا أي مجال في الرجوع إلى آراء أئمة الإسلام واختيار الصالح لنا منها، أو في استنباط أحكام جديدة فيما يدخل في باب التعزيز على أن نحافظ على أصول شريعتنا ونراعي مقاصدها وننزل على المحكم من نصوصها ن وبذلك تستطيع الأقطار الإسلامية أن تضع قانونها الجنائي أو أي قانون آخر على أساس من الشرع قويم.
(للبحث بقية)
حسن أحمد الخطيب(681/23)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
الزواج والصدمة الأولى:
وفي فبراير سنة 1644 أعاد ملتن طبع الكتيب ورتبه. فقد عاب الناس طبعته الأولى، وقدم ملتن لطبعته الثانية بمقدمة فزعه فيها إلى البرلمان أن يؤيد آراءه فيصدر بها قانونا مدنيا للطلاق، وإلى مجمع البرسبتيرنز أن ينظر يما يقول نظرة العطف فيسدى إلى المسيحية صنيعا يبقى على الدهر. . . ولا يفوته إذ يلجأ إلى البرلمان أن يشير إلى رسالة انجلترة في هذا العالم، فلئن اعتنقت انجلترة ما يذهب إليه من رأى ذاع هذا الرأي حتى يملأ الدنيا، ويهيب بالنواب قائلا بعد أن يسرد الأمثلة على سبق انجلترة في العلم والدين (لا تدعوا انجلترة تنسى سوابقها في تعليم الأمم كيف تعيش)، ولا يفوته كذلك أن يلجأ إلى الاسبتيرنيز أن يمتدح ما اجتمع في مجلسهم من تقوى وعلم وحصافة.
كانت الفكرة الأساسية في كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) هي أن الزواج والحب يجب أن يكون أساسهما التوافق والانسجام العقلي والروحي بين المرأة والرجل، فإذا لم يتحقق هذا التوافق في الشعور والفكر بطل الزواج، وكان الطلاق من حق الرجل متى طلبه.
وللدفاع عن هذه الفكرة الموجزة بسط ملتن القول فنظر في الزواج قديما وحديثا، وأستعرض أراء الأقدمين، وأراء آباء الكنيسة الأولين، وراجع ما جاء في الإنجيل ليأتي بما يؤيد رأيه، ثم عمد إلى المنطق بعد الدليل النقلي فدافع عن رأيه في قوة وإيمان، وأتى بطائفة من الآراء استقر بعضها في نفسه حتى ظهر كجانب من فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد.
اشتدت ثورة ملتن على الجسد وفتنته وما في سيطرته من شر وضلال؛ ولكنه أكد أن قهره في استطاعة أولى العزم من العقلاء الذين يغلبون الحكمة على العاطفة، وما يسلم ملتن(681/24)
بغلبة الجسد أبداً وتسلطه على العقل والحكمة وهو الذي تسلط جسده مرة في فورة من فوراته على حكمته الوثيقة وعزمه الطويل، وإنما يعبر بهذا الإنكار عن ثورته الكامنة في نفسه على الجسد وقد بقى هذا المعنى في حسه حتى كان حديث غواية آدم في (الفردوس المفقود) وما كان لسحر المرأة من أثر في هذه الغواية.
وساق ملتن هذا المعنى إلى معنى آخر، وذلك أن الشر هو أن تتغلب العاطفة على العقل وأن يضل الوجدان البصيرة، أما العاطفة في ذاتها والوجدان في ذاته فلا ضير منهما، ولا يحق اعتراض سبيلهما إلا أن يطغيا على الحكمة؛ فإن لم يفعلا فليتخذا جمراهما طليقين. . .، وما كانت قصة هبوط آدم من الجنة إلا قصة تسلط العاطفة على العقل.
ويطبق ملتن ذلك على الزواج فيقول إنه إذا لم يتم التوافق العاطفي بين الزوجين، فإن الاتصال الجسدي ضرب من انحطاط البهيمية حتى مع الزواج؛ وعلى ذلك فإن الإحساس بفقدان الميل بين الزوجين أو بالقصور العقلي من أحدهما تلقاء الآخر، أو بتنافر العقلين، تلك العلل التي يكون مردها إلى أسباب في طبيعة النفس لا يمكن تغييرها، إنما هي مبررات للطلاق أوجه من الجمود وأحق، فالطلاق أمر يرد من حيث مشروعيته إلى ضمير الإنسان، ولا وجه عنده لأن يخضع الإنسان لعبودية قانون الكنيسة الذي يجعل الإثم المادي أعظم من الآثم العقلي والروحي وأشد خطرا.
ولا يسع من يقرأ هذا الكتيب إلا العطف على الشاعر إذ يعبر عن مقدار ما يحيق بالنفس من عذاب إذا مني المرء بالفشل في زواجه ولم يتح له ما يتطلع إليه من وراء الزواج (من حديث طيب ملؤه السرور بين الرجل والمرأة يريحه وينعش نفسه بعد ما ذاقه من مساوئ العزلة) وما أشد ألمه وأقسى خيبته (إذا كان نصيبه زوجة خرساء لا روح لها فانه يظل أكثر من عزلة من ذي قبل، ويبقى في تحرق وشوق أشد على طاقة المرء من التحرق الجسدي وأدعى منه إلى التفكير فيه والاهتمام به)، ويصف الشاعر هذا التحرق وصفا شعريا بقوله (أن الماء الغزير لن يطفئه لا ولا الفيض يغرقه)، وفي التطلع إلى مثل تلك السعادة الزوجية وإلى مثل ذلك الحب الصحيح (يقضى المرء أيام شبابه وليس فيها ما يلام عليه)، ويجهل بذلك كثيرا مما كان خليقا أن يرشده متى شاء أن يختار زوجة فيدع هذه ويأخذ تلك عن بينة كما يفعل عند الزواج من قضوا صدر شبابهم فيما لا يخلو من اللوم ثم(681/25)
إذا به يجد نفسه (مقيدا قيدا وثيقا إلى من لا تجاوب بينها وبينه ولا تواؤم بين طبعها وطبعه، أو كما يحدث غالبا إلى صورة من الطين تطلع من قبل ليكون شريكها في اجتماع حلو ملؤه الفرح، ويجد في النهاية أن قيده لا انعتاق منه؛ ومثل هذا حتى لو كان أقوى مسيحي فانه لا مناص على أهبة أن ييأس من الفضيلة ويقنط من رحمة الله، وهذا بلا ريب سبب ذلك الفشل، وذلك اليأس الحزين الذي نراه في طائفة كثيرة ممن يتزوجون)، ويصور ملتن بخيال الشاعر مقدار ما يكون بين زوجين في مثل تلك الحالة من خلاف بقوله: (حين تتنافر أفكارهما وروحاهما وتتباعدان كلاهما عن الآخر كبعد ما بين الجنة والجحيم).
ويتساءل ملتن كيف يتسنى الاختلاط الجسدي الوثيق بين زوجين يكره أحدهما الآخر كرهاً شديداً فعالاً، ويود لو يعتزله اعتزالا ثم هو يعيش معه أبداً؟)؛ وينزه ملتن الله عن أن يكون ذلك قصده من الزواج فيقول: (هل فتح الله لنا ذلك الباب الذي يكون منه الخطر والمباغتة، باب الزواج ليغلقه من دوننا كما يغلق باب الموت فلا تراجع ولا أوبة؟)، ويعود إلى تصوير ما يؤول إليه مثل ذلك الزواج الفاشل فيقول (لا بد أن يفضي ما لم تقع معجزة من معجزات الصبر في كلا الجانبين، لا إلى ألم مرير، وحنق شديد فحسب، وهما مما يوبق الإذعان لله، بل إلى استهتار يائس فاجر، إذ يجد المرء نفسه في غير ذنب من جانبه قد جرته نوبة من الخداع إلى فخ من فخاخ الشقاء).
وماذا عسى أن يصنع من مني بمثل هذا الجد العاثر؟. . . أيتسلل إلى سرير جاره كما يتبع عادة في مثل هذه الخيبة؟ أم يدع حياته النافعة تذهب هباء فيما لا يجدى؟ كلا؛ إن الأقرب إلى الرجولة أن يقضى على شقائه بالطلاق، فانه إن بقى على ما هو عليه ولم يستطع أن يحسب جلب على نفسه جديدا من الضر، ولذلك فإن من يعمل على فصم تلك العروة إنما هو ذلك يعلي قدر الحياة الزوجية ولا يقبل أن يشينها.
ويرى من يقرأ كتيبه هذا أن الناحية العاطفية أقوى فيه من ناحية المنطق، ومرد ذلك إلى أن الشاعر إنما يصف ما عانى من ألم نتيجة لما رزئ به من خيبة، فهو يتحدث حديث الخبير، كما أن حديثه هو إلى الشكوى أقرب منه إلى الدرس وفي ذلك سحره وقوته.
ولئن أبت عليه كبرياؤه أن يشير إلى ذلك، فإن من يقرأ عباراته وليس يعلم قضية زواجه خليق أن يحس تلقاء ما تزخر به من حياة وحرارة أنها متنفس نفس متألمة، وشكاة قلب(681/26)
معذب. وكذلك ينم عنه في كتيبه هذا تلمسه العلل لمثل ما وقع فيه من خطأ، فكل امرئ عرضة لأن تخدعه المظاهر فتجره إلى ما لا يحب (وإن أكثر الناس عقلا وأقواهم تمكنا من أزمة نفوسهم هم أقل الناس تجربة في مثل هذه الأمور وأجدرهم ألا يعرفوا أن ما تقع عليه أعينهم في عذراء من صمت خجول إنما يخفى وراءه ذلك الجمود وذلك الكسل الطبيعي الذي لا يصلح قط لحوار) وتكاد تلخص هذه العبارة قصة زواج ملتن بماري يوول فانه كما ذكرنا لم يك يعرفها من قبل ورأى في صمتها وقد مال إليها عذراء فحسب. . .
ومما يتعلل به ملتن من طرف خفي إشارته إلى عقيدة القدر المحتوم فهو يؤمن بها اليوم وإن أنكرها غدا؛ فلن يفر المرء مما قدر عليه وينطبق ذلك الزواج بالضرورة كما ينطبق على غيره.
ويجد ملتن في هذه القضية فرصة لتجديد طعنه على القساوسة فيقول إن ما يدعيه البابا ورجال الدين من اختصاص في أمور الزواج إنما يقوم على الاغتصاب، فإن الزواج والطلاق من اختصاص رب الأسرة كما قضى بذلك الله، وكما تقضى طبيعة الأشياء وكما ارتضى المسيح، ولكن بابوات روما اغتصبوا ذلك الاختصاص (وقد رأوا ما يصيبون من مغانم ومن سلطة تفوق سلطة الأمراء أنفسهم من وراء قضائهم في هذه الأمور وإبرامها) وينتهي ملتن إلى قاعدة سوف تنمو في ذهنه وتسع مداها في فكره ومؤداها أن لا قانون يتقيد به الرجل الحكيم.
ويبين ملتن مبلغ ما يسديه المشرعون من خير إلى الإنسانية إذا أخذوا بآرائه في الطلاق. فيقول: (إنهم بذلك يرفعون كثيرين ممن لا حول لهم من المسيحيين من أعماق الأسى والحزن حيث لا قبل لهم قط بأداء أية خدمة لله ولا لأحد من عباده، ويخلصون كثيرين من نفوذ الطوائف المظلمة المضطربة، وينقذون كثيرين من الإباحية البهيمية الجامحة وكثيرين من الشقاء الموئس ويعيدون الإنسان إلى كرامته الصحيحة وإلى حقه الطبيعي؛ ويعودون بالزواج من وضعه الحالي كفخ من الفخاخ ومسألة من مسائل الحظ يأتي منها الخطر إلى حالته المرجوة إذ يكون المرفأ الأمين والملجأ الاجتماعي السعيد.
وفي يوليو سنة 1644 نشر ملتن مقالاً مطولاً جعل عنوانه (رأي مارثن بنسر في(681/27)
الطلاق)؛ ورد بهذا المقال على مخالفي آرائه التي تضمنها كتيبه (قانون الطلاق ونظامه)؛ وقد أخذ هذا الكتيب يثير عليه سخط البرسبتيرينز حتى أنهم شدوا عليه النكير في كنائسهم، ووضع مجمع وستنسر اسم كتيبه في قائمة الكتب التي لا يصح أن تقرأ واعتبر مؤلفه من الخوارج أو (المستقلين)؛ وطلبوا إلى نقابة الطابعين أن ينظروا في أمره ليلقى جزاء طبعه كتيبه بغير تصريح مخالفا بذلك قانون الطبع؛ ولكن التجاءهم إلى قانون الطبع ورغبتهم في مصادرة كتيبه لم يجدهم شيئا فقد أوشكت أن تقع مقاليد السلطة في انجلترة في يد كرمويل وأحس الناس أن فجر الحرية يوشك أن ينهل على البلاد نوره.
وستتسع مسافة الخلف بينه وبين البرسبتيرنز فيكون هذا الخلف هو الصدمة الثانية لنفسه بعد الصدمة الأولى وهي فشله في زواجه؛ ويرى بعض المؤرخين أن غضب البرسبتيرنز عليه، ونعتهم إياه بنعوت سوف نذكرها في حينها كان آلم وقعاً في نفسه من هجران زوجته إياه. . .
(يتبع)
الخفيف(681/28)
تأثير الأدب العربي في الأدب الأوربي
للأستاذ عبد القادر علي الجاعوني
المقدمة:
في هذا العصر الذي تجتاح فيه مدنية الغرب الأقطار العربية فتنتقل إليها علومها وآدابها، يحسن بنا أن نلقي نظرة إلى الوراء، لنرى كيفية تمثيل الآداب العربية للدور نفسه في عصور مضت، وكيف أن احتكاك العرب بالغربيين كان له أثر ظاهر في آدابهم.
ومن البديهي أن يكون التأثير ضئيلا في منطقة الآداب، وأن يكون بارزا ملموسا في منطقة العلوم، لأن الأمم تتعصب لآدابها وتأنف أن تدخل فيها عناصر أجنبية من تلقاء نفسها.
ولهذا رأينا العرب تهافتوا على العلوم الفارسية واليونانية وغيرها، أما آدابهم فظلت محافظة على صبغتها العربية وقلما تأثرت بآداب هاتين الأمتين.
ولقد مثل الغرب نفس الدور، فقد تهافت على نقل العلوم التي اشتغل بها العرب إبان نهضتهم العلمية، ووقف مكتوفا أمام الآداب العربية إما مستغربا أو مترفعا إزاء الآداب الشرقية التي برزت أمامه بأثواب لم تألفها عينه من قبل، وليس من المعقول أن يكون ذلك التأثير قد حصل دفعة واحدة بل إنه اتخذ سبيلا تدريجيا حمل بين طياته كثيرا من العناصر الفنية، وشيئا من الأفكار الشرقية، وبدعا من الظلال الشعرية، وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر.
تاريخ هذا التأثير في القرون الوسطى:
(من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر)
لما حلت اللغات الوطنية محل اللغة اللاتينية، وشاع استعمالها بدلا منها، ظهر في فرنسا نوع جديد من الشعر يدل على وجهة اجتماعية جديدة، وكان هذا الشعر شديد الشبه بنوع ظهر في الأندلس العربية، ولهذا شاعت النظرية القائلة بأن شعراء جنوبي فرنسا - برقانس - تأثروا بالأدب الأندلسي.
وهذا الشعر الجديد الذي ظهر في فرنسا، قد صور الحب - كما صوره الغزل الغربي - بشكل جديد، مثير للشعور، غني بالصور الخيالية، مفعم برقة الاستعطاف وشدة التيتم الذي(681/29)
يقرب حد العبادة.
ومن المرجح أن هذه الطريقة في الغزل لم يكن منشؤها العادات الاجتماعية في ذلك العصر؛ لأن المرأة كانت منحطة، ولأن الفروسية تأبى أن تفرض على رجالها هذا النوع من التصنع العاطفي لمنافاته للروح الحربية ومخالفته مثل الكمال التي فرضتها الكنيسة في تلك العصور.
وبقيت هذه النظرية قائمة حتى القرن التاسع عشر عندما قام النقاد يطلبون وثائق خطية وعندما أخفقوا في إيجادها تحولوا إلى الطرف الآخر وقالوا بنفيها.
أما الأبحاث الحديثة فقد بينت لنا أن الشعراء المغنين تروبادور في فرنسا قد أخذوا من الأندلس أساليب الغزل الجديدة.
قال الأستاذ (جب) في تراث الإسلام في القرن الحادي عشر بلغ الشعر قمة ازدهاره بعد أن مرت عليه قرون طويلة يتابع فيها نموه، والغزل لا يزال أكثر أنواعه شيوعا يفتتحون به كثيرا من قصائدهم. هذه كانت طريقة الجاهليين تبعها الشعراء في عصور التمدن الإسلامي. إذ ذاك كثر الشعر الغنائي وصقلته المدنية، وزادته أناقة ورقة مصطنعة، وأصبح الغزل في أقصى حالاته نوعا من التصوف. وفي وسط هذا التهوس ظهر الشعراء العذريون ونظريتهم الأفلاطونية التي وجدت في الأندلس مرتعا خصبا، وأشهر من دان بها ابن حزم صاحب (طوق الحمامة) الذي عدها من وسائل تزكية النفس.
هذه الروح الرومانطيقية المغالية هي التي انتقلت إلى منشدي القرون الوسطى وشعراء الغرب الغنائيين وولدت فيما بعد الشعر الخيالي. أما كيفية انتقالها فيقول الباحثون إن ذلك جرى بواسطة الزجل أو الشعر العامي الذي استنبطه عرب الأندلس، وأدخلوا فيه شيئا من روح الشعر الغربي وأسلوبه، فنسج على منواله الأسبانيون، وأصبح هذا الرجل الشعبي حلقة الاتصال بين الشعر الغربي وشعر أوربا الجنوبية. لقد عثروا مؤخرا على مجموعة أشعار أسبانية من نوع (الفيلانسيكو) وهو الشعر العامي الذي لا يختلف عن الزجل العربي، والمجموعة لابن قزمان الذي عاش في أوائل القرن الثاني عشر. وكل ما في شعره يدل على أصل عربي إلا اختلافا قليلا في طريقة الوزن الذي يعتمد على الحركات لا على المقاطع كالشعر الإنكليزي.(681/30)
وأخيرا كل القرائن تجتمع لتظهر أن هذا الغزل الجديد بروحه وطريقته كان مصدره الغزل العربي في الأندلس، ولا يخفى أن الغزل شاع في الشعر العربي من أقدم عصوره.
في صقلية وإيطاليا:
ولم ينحصر تأثير الشعر الأندلسي في فرنسا فحسب، بل تعداها إلى إيطاليا وصقلية، ولقى الشعر العربي مشجعا من الملوك والأمراء النرمنديين فقد استعمل الشعراء الإيطاليون أوزانه لنظم أشعارهم إلا أن (بترارك لم يرق له هذا الأدب الدخيل فثار عليه وعلى العرب في كتاباته.
ومن النواحي التي أثر فيها الأدب العربي: ناحية القصص والأمثال فقد ثبت مؤخرا لدى الباحثين أن كثيرا من القصص والأمثال في ألمانيا وفرنسا ترجع إلى أصول عربية، وكما انتقلت الألفاظ على ألسنة السواح والتجار، والمحاربون من الصليبين كذلك تنوقلت القصص والحكايات والأمثال إلى آدابهم، ويرجح أن أبوكاشيو قد نقل حكاياته الشرقية من مصادر شفهية.
ومن البديهي أن الأدب العربي مليء بالأمثال والقصص ذات المغزى الأخلاقي والأدبي الذي تسرب بعضه - فيما أعلم - من مصادر هندية أو فارسية أو يونانية، ولقد صادفت هذه الأمثال قبولا مرضيا عند الغربيين فنقلها اليهود استحسانا إلى الآداب الغربية، من ذلك كتاب السندباد المتحدر من أصل هندي؛ ثم مجموعة حكم وأمثال، وأقوال فلسفية ترجمت إلى الأسبانية واللاتينية أو غيرهما. وهذان الكتابان كان لهما أثرا خاص في النثر الأسباني الذي اعتمد على النثر العربي في أول عهده وكانت الترجمة الأولى لكتاب (كليلة ودمنة) في أوربا من العربية إلى الأسبانية. أما في باقي اللغات فقد نقل عن ترجمة لاتينية قام بها أحد اليهود ثم انتشرت في الأقطار الأوربية.
وأخيرا وصلت بعد تغيير وتحوير إلى اللغة الفرنسية تحت اسم جديد أمثال (بيدبا) المنقولة رأسا عن الفارسية وكانت أحد المصادر التي استقصى منها لافونتين الشهير أمثاله الموضوعة على ألسنة البهائم.
وعرف الأسبان فن المقامات عند العرب فنسجوا على منوالها في بعض رواياتهم، وفي جملة ما وضعوه كتاب يدعى (الفارس سيفار) يروي سلسلة مغامرات مقتبسة من أصول(681/31)
عربية.
ولا نزال نرقب الباحثين في إثبات ما لرسالة الغفران من التأثير في الآداب الغربية، إذ المظنون أنها كانت أحد العناصر التي أدخلها (دانتي) في تأليفه رواية (الكوميديا الآلهية).
ثم كان عصر الانبعاث، وهو عصر إحياء الآداب اليونانية القديمة والانصراف عما سواها، ولم يلبث الناس أن سئموا الأنظمة البيانية وجنحوا إلى الخيال والألوان. ففي سنة 1704 ترجمت روايات ألف ليلة وليلة) إلى الفرنسية وكان هذا نتيجة للأسفار، وبدء الاستعمار في الشرق ونتيجة انجذاب الغربيين بسحر الشرق الذي مازال يستهويهم بغرائبه وأسراره وألوانه الزاهية قال مارتان في كتابه: (الشرق في الأدب الفرنسي) إن دراسة الشرق في أوربا ابتدأت في القرن السابع عشر، وتكونت ونمت في القرن الثامن عشر الذي يعد بحق عصر الأدب الشرقي في أوربا. هذا القرن الذي كثر فيه البحث العلمي الجاف، وكثرت فيه الويلات والانقلابات فكان أهله متعطشين إلى الخيال، ولذا كثر فيه التأليف في موضوعات شرقية وامتلأت الروايات بأبطال شرقيين، فوضع (راسين) مثلا روايته بايزيد ثم ظهرت روايات (فولتير) التمثيلية الشرقية والرسائل الفارسية لمونتسكيو وفي إنكلترا ظهرت (رؤيا مرزا) و (راسلاس).
على أن هذه التآليف المقلدة كانت على جانب من الضعف والركاكة، ولهذا يهملها تاريخ الأدب العربي لأنها شوهت قسما من صفحاته. وكان لحركة الاستشراق التي بدأت في فرنسا صدى في أوربا، وكانت ألمانيا أسبق الجميع إلى اقتباس بعض مظاهر الأدب الشرقي. وقام كثيرون من شعراء ألمانيا (الرومانطيقيين) يستوحون الخيال الهندي والفارسي وكان قائد الحركة هردر وبعد وكان (جوته) أول من اعتمد الأسلوب الخيالي الشرقي لأنهم أرادوا أن يتعزوا بالخيال عن الحقائق المؤلمة. على أن تآليفهم الأدبية لم تكن ذات قيمة تذكر لأن التقليد غلب عليها، إلا أنها أدت للأدب خدمة جلى إذ فتحت للأدباء بابًا جديداً ما يزال يلجه الكثيرون.
أما في فرنسا، فقد كتب (فكتور هوجو) قصائده المعروفة (بالمشرقيات) وصدرها بهذه الجملة (في عهد لويس الرابع عشر كان جميع الناس (هلينيين) أي طلاب الثقافة اليونانية؛ أما اليوم فجميعهم مستشرقون أي طلاب للثقافة الشرقية)، لكنه مع شغفه بالثقافة الشرقية لم(681/32)
تبلغ معرفته بها الحد الذي وصل إليه الكتاب الألمان أمثال غوتي وسواه.
وفي إنجلترا نرى نفس هذه الحركة التي تهتم بالسطحيات، ولا تتغلغل إلى جوهر الأشياء؛ فهناك قام سكوت يسعى لإبراز رواياته الشرقية بحلة شرقية. واقتدى به غيره من الروائيين، وتبعه في ذلك بيرون قبل ذلك، ونجح في تحبيب الشرق إلى الغربيين، وتبعه في ذلك مور في روايته.
ففي هذه الأحوال جميعها أخطأ أدباء الأدب الغربي فهم الأدب الشرقي، واستعملوه للتزيين والتلوين أي أخذوا منه القشور وأنكروا الحقائق المنطوية تحتها، وأعرضوا عن الميراث المعنوي الذي قدمه الشرق للعالم. ومع هذا فالقرن التاسع عشر لم يعدم كاتبا يبين لنا الصلة الجوهرية بين الشرق والغرب في شخص فتزجرلد فنقل (رباعيات عمر الخيام) إلى الإنكليزية، وقد أبدع في نقلها حتى قيل إنها إنكليزية بقدر ما هي فارسية.
الخلاصة:
هناك ثلاثة أدار ظهر فيها تأثير الأدب الإسلامي في الغرب وجاء بنتائج متماثلة إن لم تكن متعادلة. أولها في العصور الوسطى، ثم بعد مرور عصر الانبعاث في القرن الثامن عشر، ثم في القرن التاسع عشر، وكان التأثير على أشده في القرون الوسطى عندما اقتبس الغرب عن الشرق بعض العناصر الفنية التي دخلت في تكوين أدبه. أما بعد سيادة الأدب اليوناني فلم يأت الاحتكار إلا بنتائج ضئيلة، وكانت المنتجات الأوربية الشرقية أشبه شئ بنوادر أو تحف غربية تثير الفضول ولا تتعدى التقليد. هذا في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر فقد ظهر في ألمانيا حركة مثمرة لم تدم طويلا. وفي سائر أوربا كان الناس في القرن الماضي ينظرون شزرا إلى كل ما هو أجنبي. وقد أسكرهم التبجح بالسيادة العالمية. أما في القرن الحالي فقد أخذوا يغيرون وجهة نظرهم، ويشعرون أن دائرتهم مهما اتسعت فهي أضيق من أن تشغل العالم بأسره، وتأكدوا بأن هناك خارج منطقتهم كنوزا يجب أن تكتشف.
(القدس)
عبد القادر علي الجاعوني(681/33)
بكالوريوس في العلوم(681/34)
(فلسطينيات):
العابث. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
من يجتز ميدان المغربي بتل أبيب، وهو يشبه في الظاهر ميدان سنت ميشيل بباريس، ير في طرفه الأيسر مقهى صغيرا، جميل الهندسة، حسن الترتيب. فاخر الأثاث، يؤمه عادة أهل الفن والأدب من يهود تل أبيب، كما يتردد إليه عدد لا يستهان به من المهاجرين والمهاجرات، يتعارف بعضهم إلى بعض ويتبادلون الآراء ويحتسون الجعة على أنغام الموسيقى المهدهدة.
ولا يجوز قط اعتبار هذا المقهى مكاناً لترفه اليهود فقط، فمن رواده الدائميين أيضاً بطل قصتنا هذه (عزيز). وهو شاب تجاوز الثلاثين، فلم يدع بابا في الحياة إلا طرقه، ولم يترك حرفة في المجتمع إلا مارسها، وهو في طبعه محب للمغامرات له شذوذه، كما أنه يتذوق الأدب، ويبدي أراء جريئة في السيكولوجي، ويجيد الإنكليزية، ويتكلم العربية قليلا. . .
وفي إحدى الأمسيات جاء (عزيز) المقهى وبصحبته صديق مزارع من شمال فلسطين، أنعم الله عليه بالثراء وسعة العيش، وحرمه العلم وسعة المدارك، وجلسا إلى مائدة، وكانت ملامحهما تدلان على أنهما من مهاجري بلغاريا أو رومانيا، فلم يكترث بهما أحد، في حين أنهما كانا يبديان اهتماما زائدا بجلاس المقهى، ويخصان الغانيات الفاتنات من بنات يهوذا بنظرات كلها عطف وشوق. . .
وإذ كانا يتناولان الكأس الرابعة من الويسكي في جو اختلطت فيه ضجة الحاضرين بلحن (الفولغا) لمحا من خلال الدخان الكثيف امرأة ممشوقة القد، شقراء الشعر، زرقاء العينين، ترتدي معطفا قوزاقيا، تلج المقهى وهي تتهادى في مشيتها. فما إن وقفت عند بنك الساقي حتى انتصب (عزيز) واقفا، وتقدم نحوها بأدب مخمور وقال:
- أتأذن لي مولاتي بكلمة؟
- تفضل. . .
- مولاتي، لا ريب في أنك من أهل القوزاق. . . إني لأرى تموجات نهر الفولغا تتلاقى مع تموجات شعرك الذهبي، أنت لحن الفولغا الحي. . . أنت أنشودة نظمتها الحياة. . .(681/35)
ارتبكت المرأة لهذا الإطراء المفاجئ وأجابته مبتسمة - أأنت شاعر؟
قال - كلا، لست شاعرا، ولكني أعبد الفن. . . أنا عربي أومن بأن ليس للفن والجمال حدود عنصرية أو إقليمية. . . فبيتهوفن معبود العالم بأسره، وروفائيل سيد الرسامين، وآينشتين يعترف بفضله كل مخلوق. . . و. . .
وإذا برجل مديد القامة عريض المنكبين يقطع على (عزيز) خياله، ويتطلع في وجهه مبتسما. . .
قالت المرأة للشاب - هذا زوجي. . .
وقالت لزوجها - إنه فنان عربي. . . ظن أنني قوزاقية ولم يدر بخلده أني من كوينسبرج. . .
قال الزوج - يسرنا جداً أن نتعرف إلى شاب عربي. لقد قضينا عشر سنوات في تل أبيب لم نزر خلالها مدينة يافا قط. . . نحن نسمع عنكم ولا نراكم. والواقع أننا نوهم أنفسنا في هذه المدينة بأننا لم نخرج من أوروبا قط، فترانا ننشئ بيوتاً غريبة الطراز، ونعيش في المقاهي. . . أي إننا لا نكون في بيوتنا إلا وقت تناول الطعام والنوم. . . وإذا ما مللنا المقاهي تجولنا في الشوارع أو ذهبنا إلى دور السينما والموسيقى. . . ونحن على الجملة نشعر في حياتنا خارج منازلنا كما لو أننا في منازلنا. . . فنساؤنا يسرن في الشوارع وهن يرتدين عباءة البيت أو السراويل الفضفاضة، أو لباس البحر. أجل هكذا نعيش، أما يافا فاقسم لك بأن كثيراً منا لا يعرف بالضبط أتقع هي في جنوب تل أبيب أم في شمالها. أرجو المعذرة على هذه الغباوة التي هي أشبه بحلم لذيذ.
وبعد لحظات كان الأربعة يجلسون حول مائدة واحدة، وقدم (عزيز) زميله إلى الزوج وزوجه بوصفه كاتبا مفكرا يعني بتصوير الحياة أكثر من عنايته بهندامه. . .
وتوالت الأنخاب، وأظهر الثرى القروي كرمه الحاتمي، فذهلت السدية البروسية، وارتاح لهذا التعارف السعيد. . . ودارت بينهم أحاديث منوعة تخللتها النكات الموفقة والتافهة، وافترقوا على أن يكون اللقاء في اليوم التالي، في بيت (عزيز) بيافا لتناول الغذاء. . .
- أهلا وسهلا أدون ايسبرجر. أهلا بالسيدة (القوزاقية) هه. . هه. . أعرفكما بقرينتي. وهذا زميلي بالأمس. وهؤلاء أصدقائي. . وقدمت السيدة أيسبرجر باقة زهور لقرينة(681/36)
صاحب الدعوة وتناولوا أكلا عربيا صرفا وهما يلهجان بالثناء العاطر على (عزيز) وكرمه ولطفه. .
وفي اليوم التالي ردت الزيارة إلى تل أبيب، وكانت زهور وغداء، وملاطفات وعدم فهم متبادل لما يقصد من هذه الصداقة. ثم كان وداع على أن يكون اللقاء في المستقبل في المقهى الذي حدث فيه التعارف. . .
ولما حل مساء اليوم التالي لهذه الزيارة أحس (عزيز) أن شيئا يقلقه، ويشغل فكره، ويثير أعصابه، فأسرع إلى حانة ما وطلب من العرق أولا وثانيا وثالثا فخيل له أنه يسمع لحن الفولغا؛ وتراءت له السيدة (القوزاقية) كما أرادها أن تكون، فلم يقو على الاصطبار حتى يحين اللقاء (في المستقبل). . فعقد النية على المجازفة مهما كانت العواقب. وإذ كانت ميزانيته لا تسمح له بالإسراف توجه إلى زميله المزارع الثري وسأله - أأنت مستعد للبذل في سبيل ربة الجمال؟
قال - ومن هي؟
قال - السيدة أيسبر جر. . .
قال - كل ما أملك فداء لها. . وإنني للجمال لعابد. . .
وفي الساعة الحادية عشرة من الليل كان عزيز وزميله يترنحان ثملين في شوارع تل أبيب، فقادتهما أقدامهما إلى دار ايسبرجر ثم صعدا إلى الطابق الثاني ووقفا أمام باب الشقة. . تردد (عزيز) في الضغط على الزر الكهربائي، فالعاطفة تحثه على الضغط، والفكر المكبوت بالخمر يوحي إليه خيبة الأمل. . وأخيرا مد إصبعه نحو الزر وضغطه، فمرت ثوان دون جواب، فأعاد الضغط وإذا بنور يشع في الداخل وبخطوات تقترب من الباب مسرعة ثم فتح الباب وياله من منظر: السيدة ايسبرجر بلباس النوم، وشعرها مسدول على كتفيها، وقفت أمام الزائرين الليليين مشدوهة، وقد عانقت نفسها بذراعيها من الخجل والبرد معا. . .
فبادرها (عزيز) قائلا - (شالوم. . . مدام!. . .)
لقد توقعت السيدة ايسبرجر أن يكون الطارق في تلك الساعة المتأخرة أي مخلوق من أهلها ومعارفها لكنها لم تتوقع قط أن يكون هذا الطارق (عزيز) وزميله. . . والواقع أنها ذعرت(681/37)
لمرآهما، وانعقد لسانها في فمها فراحت تحدق فيهما النظر محاولة استجلاء ما في نفسيهما، فأجاباها بنظرات حائرة شاردة. . . وقد تدلت شفتاهما السفليان قليلا. . ولما استعادت المرأة رباطة جأشها، دفعت الباب في وجه الزائرين غير المنتظرين، وصرخت. . .
هرول (عزيز) وزميله إلى الشارع ووقفا عند مصباح كهربائي يلهثان ثم خاطب المزارع عزيزا بقوله - أتضللني أيضا؟ أين ربة الجمال؟ أعد لي خمسة جنيهات أنفقتهما عليك هذه الليلة.
فأجابه (عزيز) ما الذي تعنيه بقولك هذا؟ إنني دعوتك إلى زيارة أدبية فنية فقط. . . وجل قصدي من هذه الزيارة إفهامك ماهية الجمال من حيث هو فن إيحائي!. . .
قال المزارع - ماذا؟. . . ماذا. . .؟
قال - الجمال يا عزيزي على نوعين: مجرد، وفني. . . فالمجرد هو الجمال الملائكي البلوري، وأما الفني فهو جمال تقاطيع الوجه الدالة على ماهية النفس.
قال - دعنا من الهذر، إنني لم أنفق ما أنفقته هذه الليلة لأسمع منك هذه الثرثرة. لن أبرح هذا المكان حتى تأتيني بربة الجمال.
قال - صه. . . لا ترفع صوتك وإلا فضحنا، وأساء القوم الظن فينا. . . وحاول المزارع المطالبة بحقوقه. . . لكن (عزيز) استوقف سيارة، ودفعه إلى داخلها، وقال للسائق: إلى يافا. . أسرع. . .
قص علي (عزيز) قصته هذه وقال:
بودي أن أذهب مرة أخرى إلى السيدة ايسبرجر لأبين لها حسن نيتي من تلك الزيارة الليلية فما رأيك. . .؟
نجاتي صدقي(681/38)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
805 - أصدق مع الله في جميع أحوالك
الفتوحات المكية: أخبرني الثقة عندي عن الشيخ أبى الربيع الكفيف المالقي كان بمصر يخدمه أبو عبد الله القرشي. فدخل عليه الشيخ وسمعه يقول في دعائه: اللهم يا رب، لا تفضح لنا سريرة، فصاح فيه الشيخ وقال له: الله يفضحك على رؤوس الأشهاد يا أبا عبد الله، ولا شئ تظهر لله بأمر وللناس بخلافه، أصدق مع الله (عز وجل) في جميع أحوالك، ولا تضمر خلاف ما تظهر. . .
806 - طفيلي
دعا رجل قوماً فجاءوا وأتبعهم طفيلي، ففطن به الداعي فأراد أن يعلمه أنه فطن به فقال: ما أدري لمن أشكر منكم: لكم إذ أجبتم دعوتي أم لهذا الذي تجشم من غير دعوة.
807 - فان ترد الزيادة هات قلبا
أبو الفوارس سعد بن محمد:
تشربش أو تقمّصْ أو تقَّبا ... فلن تزداد عندي قطَّ حبَّا
تملك بعضُ حبك كلَّ قلبي ... فإن تردِ الزيادة هاتِ َقلبا
808 - وما أقدر أن أتكلم بالفارسية
قال ابن جني في كتاب النوادر الممتعة: بينما أبو علقمة النحوي يسير على بغلة إذ نظر إلى عبدين أحدهما حبشي والآخر صقلبي، فإذا الحبشي قد ضرب بالصقلبي الأرض، وأدخل ركبته في بطنه، وأصابعه في عينيه، وعض أذنيه وضربه بعصا كانت معه فشجه، وأسال دمه. فجعل الصقلبي يستغيث فلا يغاث، فقال لأبي علقمة: اشهد لي. فقال قدمه إلى الأمير حتى أشهد لك، فمضيا إلى الأمير، فقال الصقلبي: هذا يشهد لي، فنزل أبو علقمة عن بغلته وجلس بين يدي الأمير، فقال له الأمير عم تشهد يا أبا علقمة؟
فقال: أصلح الله الأمير بينما أنا أسير على كوردني هذا إذ مررت بهذين العبدين فرأيت هذا الأسحم قد مال على هذا الأبقع فحطأه على فدفد ثم ضغطه برضفته في أحشائه حتى(681/39)
ظننت أنه تدمج جوفه وجعل يلج بشناتره في جحمتيه يكاد يفقؤهما، وقبض على ضارتيه بمبرمه وكاد يجذهما جداً، ثم علاه بمنسأة كانت معه فعفجه بها.
وهذا أثر الجريال عليه بينا، وأنت أمير عادل.
فقال الأمير: والله ما أفهم مما قلت شيئاً.
فقال أبو علقمة: قد فهمناك إن فهمت، وعلمناك إن علمت، وأديت إليك ما علمت، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية. . .
فجعل الأمير يجهد أن يكشف الكلام فلا يفعل حتى ضاق صدره، فقال للصقلبي: أعطني خنجرا. فأعطاه وهو يظن أنه يريد أن يستقيد له من الحبشي، فكشف الأمير رأسه وقال للصقلبي: شجني خمسا وأعفني من شهادة هذا.
809 - هذا مقال من لا يموت حتف أنفه
قال أبو خالد الخزاعي الأسلمي: قلت لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد. ووترت الناس جميعاً، فأنت دهرك شريد طريد هارب خائف. فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك. فقال: ويحك إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر - وإن كان مجيدا - إذا لم يخف شره. ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم. وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة - ولم يكن ذلك فيه - انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه، وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك يا آبا خالد ان الهجاء المضرع آخذ بطبع الشاعر من المديح المفرع.
فضحكت من قوله وقلت: هذا (والله) مقال من لا يموت حتف أنفه.
810 - تكتب برجلها
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة:
في سنة (576) قدمت امرأة إلى القاهرة عديمة اليدين، وكانت تكتب برجليها كتابة حسنة، فحصل لها القبول التام.(681/40)
811 - كأن عليه من حرق نطاقا
أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدة قافية، وكان السري الرفاء حاضرا وأول القصيدة:
أيدري الربع أي دم أراقا ... وأي قلوب هذا الركب شاقا
فلما قال:
وخصر تثبيت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
فقال السري: هذا والله معنى ما قدر عليه المتقدمون. ثم إنه حم في الحال حسداً وتحامل إلى منزله ومات بعد ثلاثة أيام.
812 - نار المتنبي
أنشد بعضهم بيتا من الشعر. فقال: هذا البيت لو طرح في نار المتنبي لأطفأها، إشارة إلى قوله:
ففي فؤاد المحب نار جوى ... أحر نار الجحيم أبردُها
813 - أقوى جند لأبليس
في (محاضرات الراغب) لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة، وجمع أصحابه فقال: قد وجدت ما استغيث به عنكم في تضليل الناس؛ فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه.
814 - لينفق ذو سعة من سعته
إسحق بن عمار: سألت ابن عباس عن الرجل الموسر المتجمل يتخذ الثياب الكثيرة والجباب والطيالسة والقمص يصون بعضها ببعض ويتجمل بها، أيكون مسرفا؟
فقال: إن الله يقول: (لينفق ذو سعة من سعته).
815 - الما. . .
الكلم الروحانية في الحكم اليونانية:
قال فورس (ملهى الاسكندر: إذا سألت الحكماء عن شيء فسلني.
فقال له: ما الذي ينتفع به الرجل عند الكبر؟(681/41)
قال: المال.
فأعجب الاسكندر.(681/42)
الحسرة الأولي. . .
لشاعر الحب لامرتين
(قال لامرتين: (في أحد أيام 1830، بينما كنت داخلا كنيسة
في باريز، إذ بصرت هناك بتابوت فتاة انطفأ سراج حياتها
ولما تزل صبية، قد حمل على الأيدي وأسدلت عليه ملاءة
بيضاء، فذكرني هذا التابوت بموت وهاجت الذكرى شجني،
فطفقت أبكي وأنشج نشيجاً محزناً، ثم عدت إلى غرفتي
ونشرت بين يدي مذكراتي عن تلك الحادثة، ونفست هذه
المقطوعة - التي ستقرؤها الآن - وكتبتها في دفتري، والقلب
واجف، والدمع واكف، وسميتها الحسرة الأولى وها هي
ذي):
هناك على سيف المحيط المصطفق،
حيث يقذف بحر (سورانت) بأمواجه الزرقاء،
فتتكسر تحت قدمي شجرة البرتقال،
وثم صخرة صغيرة، ضيقة الحجم، متساوية الطول والعرض كانت قريبة من الطريق اللاحب، تحت الصباح العتق بشذى الأزهار فكانت للغريب الهائم منتدىً ومزازا.
وأزهار الخيري الباسمة قد سترت تحت أغصانها اسماً منقوشا على هذه الصخرة، نعم! قد سترت اسماً لم يردده الصدى قط فلم يك معروفا عند أحد! ولكن المسافر الذي أنهكه السير، يجلس هناك أحيانا ليستريح، ثم يزيح الحشائش عن الصخرة، فيقرؤ عمرها وتاريخ وفاتها، ويقول وعيناه تشرقان بالدمع أسفاً وحزنا:(681/43)
لقد عاشت ست عشرة عاما! ولعمري إنها سن مبكرة إلى الموت،)
ولكن! ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة؟
فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب، وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!
عودي إلي قليلا، لعلى أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
إن القارئ ليقول: (لم تعش وا أسفاه إلا ستة عشر عاماً)!
- أجل! لقد عاشت كذلك! ولكن هذا العمر القليل، لم يسطع قط فوق جبين أزهى من جبينها، ولم تتأمل قط عين - حبيبة إلى كعينها - إذ تنظر إلى سناء الشاطئ الملتهب، وجلال الخضم المضطرب!
لقد أبصرتها أنا كذلك، حتى أن وجداني قد طبع شخصها الحي في نفسي، تلك النفس التي تحتفظ بكل شئ، فلا تموت صورة فيها ولا تمحى
نعم لم تزل حية في نفسي! فكأن عينيها الساجيتين ترمقان عيني بنظراتهما، وكأننا كنا سوية نلقى بأحاديثنا الأولى في اليم، وشعرها المغمودن الفاحم يستسلم إلى أنفاس النسيم ويسترسل معها، فتداعبه تارة، وتستخف به أخرى،
ثم يلقى هذا الحاجب الهائم ظله الكثيف، على وجهها اللطيف. وإذ كانت ترهف أذنيها، لتسمع أنشودة الصياد الذي يتخبط في ظلام الليل،
ولتنصت إلى أنفاس النسيم العبقة، حيث تنثر نضارتها وزهوها،
ولقد أرتني القمر المبتهج وهو يصعد في السماء، كأنه زهرة جميلة في الليل، ترقب فجرها الجميل، وإلى الزبد الفضي المتلألئ، كنا ننظر سوية، فتلفت إلي، وبحنان تقول:
(أخبرني، لماذا أرى كل شيء يضيء في هذا الفضاء، فيتشعشع في نفسي يمثل هذا السناء؟
إن هذه الحقول اللازوردية، وقد ملئت بالنيران المتوهجة، وان هذه الرمال الذهبية، وقد تكسرت فوقها أواذي المحيط، وان هذه الجبال الشماء إذ تضارع بعليائها إذن الجوزاء، وهذه الخلجان المكللة بتلك الغابات الصماء، وهذه الأضواء التي تنبعث من ضفة الدماء، وتلك الأنغام التي تقذف بها الأمواج، إن كل ذلك لا يثير نفسي، ولا يهيج حسى، بلذة(681/44)
مبهمة، أو سرور لا عهد لي بمثله!
ليت شعري! كيف لا أحلم بمثل هذا اليوم، وكيف لا أبتهج بهذه المناظر؟ هل صعد إلى قلبي ذلك الكوكب الدري، فأنار ظلامه، وبدد أوهامه؟
وأنت أيها القمر اللاءلاء، سل الليالي الحلوة الظلماء، وقل لها: هل تضارع ليالي بلادك - إن غبت عنك - هذه الليالي في البهاء؟)
- وإذ ترمق بنظرتها الوديعة أمها الرؤوم، حيث كانت على كثب منا. ثم تتطرح على نفسها من السقم، وتلقى بجبينها فوق ركبتي أمها، فيعقد الكرى الهنيء، أهداب عيونها الوطف.
ولكن، ليت شعري؟ كيف أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟
فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،
وتعال هنا، أيتها الخواطر المضطربة، والأفكار الملتهبة!
عودي إلى قليلا، لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
لله ما أصفى أديم عينها الساجية! وما أحلى حمرة شفتها المغترة! ولشد ما ترد عينها نظري خاسئا وهو حسير!
إن بحيرة (نيمي لجميلة المنظر، لا تستخف بأديمها نسمة، ولا تعبث بسطها تأمة، ولكنها رائقة السطح، لازوردية الماء، تشبه بزرقتها أديم السماء!
كنت تستطيع أن ترى أفكارها الساهمة، من خلال نفسها الحالمة، قبل أن تتعرف إلى شخصها،
فجفناها الفاتران، لم يغمضا قط على عينيها الوديعتين، فيحجبا عنا نظراتها البريئة، وجبينها المشرق، ولم تغضنه تباريح الهموم، ولم تضغطه آلام أو شجون، فالكل يطفر مرحاً في نفسها وحسها:
أما هذه الابتسامة العذبة الفتية، فلقد ماتت على فمها البارد. وكانت من قبل تغمر شفتيها المفترتين،
كأنها قوس قزح، صافي اللون، مبشر بيوم صحو جميل!
إن من القسامة البارعة، والجهارة الرائعة، أن يكون هذا الوجه الفاتن مرئيا من كل عين،(681/45)
لا يحجبه ظل، ولا تخفيه ظلمة.
فلقد كان هذا القاع اللطيف ساطعا، لا تمر بسمائه سحابة. مضيئا في كل نفس، حبيبا إلى كل قلب!
وخطاها الحائرة المترددة، كانت تسترسل هائمة أو تعدو راكضة، كأنها موج مستبد، هدهده النهار واستخف به،
وصوتها الرنان العذب، كان صدىً صافياً وترجيعاً نقياً لنفسها الوليدة، وطالما كان موسيقى حلوة لتلك النفس التي يغنى فيها كل شئ
فيشرح الصدر، ويهيج النفس، حتى يصعد إلى طبقات الأثير حيث يذوب ويتلاشى.
ولكن ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟ فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،
وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!
عودي إلى قليلا. لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!
كما ينطبع نور الصباح على العين، كذلك انطبعت صورتي في قلبها؛
ولكناه لم ترن بعينها أبداً ذاك اليوم.
وفي الساعة التي أحبت فيها، رأت العالم كله فيضا من الحب والحساسة! ولقد امتزجت معها في حياتها الخاصة، وتطلعت من نفسها إلى ذلك الذي استفله الطرب، فأخذ يمر أمام عينيها،
وإلى تلك السعادة الزائلة، والأمل المقيم في السماوات العلى!
لم تفكر قط في مرور الزمن، أو ضياع الوقت،
فساعة واحدة كانت تشتف وجودها، وتضيق بها ذرعا،
وحياتها قبل أن يجمعني الدهر بها، لا تحتاج إلى ذكرى.
إن مساء أحد تلك الأيام الجميلة كل حظي من الدنيا ونصيبي من الحياة!
لشد ما كانت تركن إلى الطبيعة الضاحكة، إذ تبسم الينا، وتفتر عن ثغرها الضحوك أمام ناظرنا،
ولشد ما كانت تسكن إلى الصلاة الهادئة، والدعاء البريء، وما أكثر ما كانت تأخذ طريقها(681/46)
إلى المذبح المقدس، حيث تنثر فوقه الأزهار الفواحة بالارج، وقلبها يطير فرحا، عكس ما يكون باكيا متقبضا؛ إذ تجتذبني لألحق بها إلى هيكلها، فأقفو أثرها، كأنني غلام وضيع، أو طفل مطيع، وصوتها الخافت يناديني ويقول:
(لنصل معا يا أخي، فإنني لا أفهم للصلاة معنى بدونك! ولا أستطيع أن أخبت لك إذا لم تكن حاضرا بقربي!)
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة. فلندع الهواء يحف. . . الخ!
هلا نظرتم يا صحابتي إلى الماء النمير، يتدفق في حوضه. كأنه ينبوع لا يفور؟ هلا أبصرتموه وقد عقد نطاقاً مستديراً، كما تفعل البحيرة بشاطئها الضيق الصغير؟ هلا نظرتم إلى زرقته الصافية، وهو ذمة الهواء الساري وفي كنف الشعاع الملتهب، الذي جفف ماءه، وأضوى معينه؟ وإذ ذاك يقذف الإوز بنفسه في جوفه، ليعوم فوق أديمه الرجراج، وهو يغمس عنقه بين ثناياه المتموجة؛ فيزين تلك المرآة السائلة، دون أ، يكدرها، أو يمسها بسوء ويهدهد نفسه وسط الماء، الذي يعكس النجوم المتألقة في كبد السماء.
ثم يضرب الماء المصطفق بجناحيه المبللتين، ليأخذ سمته، مسفا نحو نبع آخر، فيمحو بطيرانه صفحة السماء المنعكسة، في جوف الماء الصقيل؛ وتسقط منه ريشة، تكدر صفاءه، وتنزع عنه رواءه، كأن نسرا كاسرا، وهو عدو جنسه الألد، قد بعثر رفاته الممزقة، ورمى بها إلى كل موجة، فذهبت بها أباديد،
وإذا باللازورد الساطع، للبحيرة المرحة، يغدو موجة قاتمة، تصعد فوقها الرمال الميثاء! وأنا شبيه بذلك الطائر يا صحابتي!
ولقد ذوى كل ما في نفسها، عندما بعدت عنها وشط بي النوى، فخبا ذلك الشعاع المضيء في نفسها، وصعدت جذوتها الهامدة الأخيرة سريعة نحو السماء، كيما تعود أبدا بعد ذلك!
لم يكن في أملها ولا في مرجوها أن تنتظر ثانية أملا يعدها، ولم تكن لتذوى أملها بالريب، أو لتطغى على ألمها بالحياة
لقد تجرعت كأس الألم دهاقا فغرق قلبها بأول دمعة حرى سقطت من عينها!
ما أشبهها بذلك العصفور الصغير! إنهما ليتفقان في الدعة والهناء، وان قل عنها ذاك في(681/47)
الحسن والبهاء!
أتراه عند المساء وقد غشى جناحه عنقه لينام نوما هادئا لذيذا؟ وكذلك هي: فقد رقدت مثله، يغشاها يأس قاتل، وضنى مبرح، إلا أن رقادها كان مبكرا. فلم يكن لليلها صباح، ولا لنومها يقظة!
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . الخ. . .
خمسة عشر عاما قضتها تحت التراب، وما رثى مصيرها أحد، ولا بكت ملجأها عين،
فسرعان ما غسى النسيان - وهو ثاني كفن للموتى - تلك الطريق التي تؤدى بنا إلى شاطئ الحياة؛
لم يزر أحد وا أسفاه هذه الصخرة التي طمسها الدهر ودرسها، لم يفتكر بها أحد، ولم يندبها باك! إلا مخيلتي فقد قضت لبانتها من حق الذكرى وحق الدعاء!
إذا ما قضيت موجة أيامي الأخيرة، فأحسست بدنو أجلي،
رأيتني أستذكر قلبي جميع من فقدهم فنسيهم، ثم أرسل عيني نحو تلك الأطلال الخاشعة والآثار الدارسة، فأذرف الدمع،
وأسكب العبرات، حزناً على تلك النجوم النيرة، التي خبا ضوءها المشتعل، وانطفأ سراج حياتها من سمائي المتعذرة!
ولقد كانت هي أول الشهب الآفلة، من نهار بهي جميل؛
فضوءها اللألاء لا يزال ينير ظلام قلبي، ويضرم ما بقى حذوة حبي!
ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . . . . الخ. . . . . .
كل حظها من الحياة شجيرة شائكة ذات خضرة باهتة فحطمتها رياح البحر الشديدة، وهشمتها أشعة الشمس المحرقة. ورغم هذا بقيت ضاربة بجذورها تحت تلك الصخرة، دون أن تخلع عليها ظلها، كأنها حسرة مضنية، تأصلت جذورها في القلب. وغبار الثرى كسا أوراقها طبقة بيضاء، فاستقلت على الارض، وانعطفت أفنانها، فجذمتها أسنان الماعز الحادة.
ثم تتفتح زهرة ناصعة في فصل الربيع، كأنها رضاب الثلج، فتفجر هذه الشجير يوما أو بعض يومين،(681/48)
ولا تلبث الريح بعد ذاك أن تطوقها، وتنثر ورقها، قبل أن ينتشر عرفها الشذي؛ وعصفور صغير، شجي اللحن، حزين النفس، يقع على غصن الشجيرة المنعطف فيغرد تغريدا شجيا، هو إلى الحزن والبكاء، أقرب منه إلى الترجيع والغناء!
إيه أيتها الزهرة، التي طالما أذوتها الحياة،
رددي القول معي: (ألا توجد هناك أرض، نعود فيها إلى الحياة ثانية، فتزدهر فيها أنفسنا ونعيش فيها عيش السعداء الناعمين؟
هيا اصعدي إذن! اصعدي أيتها الروح الذاوية، وتذكري مضى الساعات الخالية. ان ذكرياتك المحزنة لتساعدني أن أنفث زفرة الحزن الباقية!
أذهبي معها، أيتها النفس حيث تذهب وتمضي! ودعيني لوحدي أيتها الأفكار المضطربة.
لقد طفح قلبي بالذكرى
فدعيني أنوح وأبكى
(حماه: سوريا)
أديب لجمي(681/49)
القصص
عزاء. . .!
للأستاذ لبيب السعيد
قطع الشك اليقين. إن سكوت أبيه هو سكوت الموت. لقد مات ككل الذين ماتوا من الأهل والجيران والمعارف، وإلا فما هذا الصراخ في البيت، ولم النحيب، ولم احتشاد هؤلاء الأقارب والقريبات وقد أقبلوا من الليل على غير عادة؛ ولأية مناسبة يقيم الفراشون سرادقا، وفيم قول الناس: تجلد. . البقية في حياتك! بل - وما أشد وما أعظم كيف يتحدث إليه شيوخ الآسرة كالمستشيرين في أمور فاجعة: الكفن والمغسلين والمقبرة والمقرئين. .، وكيف طلعت صحف النهار حاشرة اسم أبيه في زمرة الموتى، وكيف ترد عليه البرقيات بالعزاء من شتى الجهات؟
الأمر إذن لاريب فيه. وأخواته إذ تنفرد كل منهن الآن في حجرة باكية ولهى، إنما يبكين أباهن الذي انتاشه الموت منهن فجأة، والذي يدركن على غرارة صباهن أنهن بعده ولا رجاء لهن ولا جناح يرف عليهن أصبحن بذل اليتيمات. وأخوته وهم لم يتخطوا بعد سن اليفاعة إذ يلبسون الأربطة السوداء ويذيلون الدموع في حزن أخرس تارة وحزن ثائر تارة، ويسيرون مترنحين يتحاملون على أنفسهم، إنما يقع لهم هذا لأن الدهر الضرار بت آمالهم ورابهم في أبيهم. وأمه إذ تذرع البيت ذاهلة حيرى مولهة إنما تفعل لأن مصابها فيمن هو من هولها ولبناتها وبنيها، سلبها سكينتها وهد أعصابها هدا.
وانفجر (فؤاد) يبكي، لقد كان عليه - فيما يحس - أن يبكي لأمه وأخواته وأخوته، وأن يحزن ويخاف لا بقلب واحد ولكمن بثمانية قلوب.
وسار خلف نعش أبيه فياض الشؤون يعض على شفتيه كالمتصبر، أو يفتحهما عن ابتسامة هستيرية مزعجة، ويسكت فترة لينطق بكلمات مضطربة فترة أخرى.
وأوقفوه في الليل عند باب السرادق يتلقى العزاء مع كبار الأسرة، فكان يتلقى ألفاظ المواساة بوجوم صامت أليم. كانت هذه الألفاظ لا تكاد تفتق سمعه، كانت تسبح لديه، وكان أقواها وأفصحها أعجز من أن يشفى داءه الثائر أو يداوي جرحه الغائر. وانفض المعزون وانفض (فؤاد) إلى نفسه. . .(681/50)
ما أعظم فجيعته! أبوه مات، وكان على أبيه أن يموت ماجدا كما مات من لم يكدحوا في الحياة كدحه حتى ممن عرفهم فؤاد فيما اجتاز من شبابه. ولكن، وا ذلاه! إن الحياة لم تمكن أباه من شئ، لقد أفقدته التجارة ثروته، ولم يدع له الجهاد في سبيل الرزق فرصة فسيحة للجهاد في سبيل غرض كبير. لقد مات بعد طول النصب وفرط اللغوب ولكنه لم يورث بنيه رفعة ولا ثروة ولا مجدا. تركهم بقلوب كسيرة، ومثله كان جديرا بما يذل من ذات نفسه أن يترك بنيه في مقام كريم ونعمة.
هذه أفجع شعب المصيبة! هكذا قال فؤاد لنفسه.
وجاء شيخ الحارة، ومعه معاون المجلس الحسبي، يحصيان تركة الميت. . .
يا خجلتا! ان التركة ليست إلا حطام ثروة، كل شئ أودى به الحرص على شئ واحد نشأ (فؤاد) فرأى أباه يردد لفظه ويتغنى بمعانيه: الشرف.
وأحس فؤاد يتمه ويتم أخوته أقوى ما يكون الإحساس، وتبدت له المصيبة فادحة مروعة، فبيتهم اليوم بين أرملة وصبيان وصبيات لا مال لهم، فهم حريون ألا ينجحوا في الحياة لأنهم فقدوا عصبها. وهم بعد لا يملكون الاسم الضخم الذي يوارون فيه فقرهم، أو الجاه البعيد الذي يعتصمون به من العالم الساخر.
وريع فؤاد، ورخصت عبراته، فهي مبذولة كلما رأى أخوته وأمه، وكلما رأى الأقارب أو الأباعد، وكلما رأى أحباءه، وكلما رأى أعداءه، وكلما رأى غنيا أو ماجدا، وكلما رأى فقيرا أو مغمورا، وكلما سمع عن المباهج أو عن الأحزان.
وشعر أنه ما دام كبير اخوته فقد أصبح أباً لهم بعد أبيهم، وعليه أن يضمن لهم دوام الدعة، وأحس أن بينه وبينهم فرقا كبيرا في السن. إن الأربعة والعشرين عاما التي سلخها طفرت فجأة فصارت ستة وخمسين كما كانت سن أبيه.
وجاءت ليلة الجمعة الأولى، فأضاء فناء البيت والمناظر، وقعد يستقبل المواسين من ذوي قرباه ومن خاصة أبيه، والحزن ينهشه نهشا، والجزع على مستقبله ومستقبل اخوته وأخواته الذي ما زال في ضمير الغيب يهفو بقلبه.
واستمتع في غير اكتراث كعادته إلى كلام المواسين، وغلبه البكاء كعادته أيضاً فانخرط فيه. . .(681/51)
وجاء رجل لا عهد لفؤاد به تحف به شمائل الطيبة وينم مظهره عن يسار؛ جاء يسأل: أليس هذا هو بيت المرحوم الشيخ حامد أبو إبراهيم؟
- بلى هو، تفضل. . .
ودخل، هو يهتف بالجالسين: عظم الله أجركم!
وشرب القهوة، ثم اتجه بوجهه إلى فؤاد الذي كان إلى جواره وسأله: أنت كبير أخواتك يا بني!
- نعم.
أجمل الله عزاءكم يا حبيبي، ورعاكم الله الكريم! لقد قرأت نعي أبيكم العظيم في الجريدة، فآثرت الحضور بنفسي لقضاء حق التعزية.
ودهش فؤاد للنعت الكبير الذي يضفيه الرجل على أبيه، فمتى كان مثل أبيه عظيما وهو الرجل الذي مات ولم يخلف ثروة تدفع الخجل على الأقل أمام رجال المجلس الحسبي؟ ان العظيم في المجتمع هو الذي يورث ذريته بيوتا وطينا وغلاة وجواميس وحميرا، ولكن أباه أفنى كل شئ قبل سفرته البعيدة. لقد مات وماله ما يخلد ذكره أو حتى ما يكفل ذكر اسمه يوما، ولقد ترك من خلفه ذرية ضعافا يخاف عليهم. . .
ووضع الرجل يده على كتف فؤاد، واتجه به إلى منظرة ليس فيها زحمة، وحدثه: اسمع يا بني، إن مصابكم كبير حقا. لقد عرفت أباك لأول مرة منذ عشرين عاما. والظن أنك لا تعرف ذلك. كان أبوك وقتئذ عنوان التاجر الناجح ولو أنه كان محدود رأس المال. وجئت إليه اشترى صفقة أرز، ولم يكن معي غير مائتي جنيه أملت أن أدفعها له عربونا عن الصفقة على أن أبيعها حالا فأتمكن من أداء حقها والانتفاع بربحها. وتضمنت الشروط أن أدفع باقي الثمن في عشرة أيام وإلا صار العربون حقا له. وإذا تحسنت الأسعار فله أن يعتبر البيع باطلا ذلك يا بني كان وما زال العرف التجاري السائد.
وخطر لي فجأة السفر إلى الإسكندرية لبيع الصفقة الكبيرة ففجأني حادث اصطدام أدخلني المستشفى شهرا لم يدر خلاله أحد من أهلي أو معارفي شيئا عني. وكنت لاقيت الحادث في أجل مستأخر فسلمت.
وغادرت المستشفى إلى بلدي، فكيف كانت السوق وقتئذ؟ لقد عرفت والحسرة تقطع فؤادي(681/52)
أن السعر ارتفع إلى نحو الضعف فقدرت في شأن الصفقة ما لابد من تقديره، وأيست من العربون، ودخلت بيتي مهموما محزونا. ولم أكد أطمئن زوجتي على حالي، حتى قدمت إلى برقية بتوقيع أبيك نصها: (نقدر أنك تأخرت لسبب قاهر، فاطمئن. البضاعة لك) ولم أصدق ما قرأت، وتخالجتني الريب، أتكون خدعة من أحد عرف بالأمر؟ أتكون سخرية من سمار شامت؟ أتكون. . أتكون. .؟ وقدمت على أبيك في متجره توا، ومعي مصوغات امرأتي وبناتي، ووجه الأمل يبيض في وجهي حينا ويسود حينا فإذا بأبيك يستقبلني مبتسما كأن لم يكن تأخير، وكأن لم تكن شروط لصالحه.
وعرضت عليه - وكرمه الرائع يبهرني - أن يشاركني ربح الصفقة، فرد في شدة كريمة: هذا لن يكون!! وكانت هذه الصفقة بالذات بدء تقدمي في الحياة.
وأخرج الرجل من حافظته برقية كاد البلى يتلفها، وأطلع عليها (فؤاداً). فأمعن فؤاد النظر إليها في استغراب بالغ. إنها من أبيه حقا، وان عليها لخاتم مصلحة البرق في المدينة من حوالي عشرين عاما حقا. واستطرد الرجل قائلا: هذه يا بني شهادة العظمة في أبيك. وإني لأحتفظ بها تقديرا لمأثرته، بل تبركا بمروءته.
وربت الرجل كتف فؤاد وهو يقول: كفكف دموعك يا بني، هذه قصة أبيك، ألا ترضى بها عزاء!
ورفع فؤاد رأسه الخافض، وابتسم في رضى وازدهاء، وكأنه أمسك بزمام مستقبله ومستقبل ذويه، وكأنما أضاءت الظلمات، وكأنما شاهد عناية الله تشجعه وتحف أخوته وتكلؤهم جميعاً.
وختم المقرئون السهرة، فنهض المعزون وفيهم الرجل وخف فؤاد إلى الباب يشكر لهم مواساتهم، وما انصرفوا حتى صعد إلى أمه وأخوته وأخواته، يقفز إليهم السلم قفزا غير خاش دموع أمه التي كانت تحز قلبه، ولا وجل من إجهاش أخواته الذي كان ينهدم له انهداما، صعد غير متعثر ولا مضطرب ونادى:
يا أولادي! - هكذا ينادى فؤاد الآن أسرته - جاءنا العزاء! هاكم قصة أبيكم، لكم من روحه قدوة ووحي وإمام وأسمعهم القصة. . .
ونظر بعضهم إلى بعض في زهو وكأنما امتلئوا قوةً انبثق الأمل في نفوسهم انبثاقا، كأنما(681/53)
انتشر عليهم رواق الأمان فجأة. وعلت وجوههم ابتسامات حلوة، وترقرقت في المآقي الدموع: دموع الفرح لا دموع الأحزان.
لبيب السعيد(681/54)
العدد 682 - بتاريخ: 29 - 07 - 1946(/)
النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه
- 2 -
فأنت ترى أن الموازنة التي قام بها الآمدي إنما كانت بين أبيات مفرده اختارها من مطالع أبي تمام في الوقوف على الديار ونحوه واختار ما يقابلها من مطالع البحتري، ثم علق على هذه الأبيات تعليقا موجزا لا يتصل بموضوع القصيدة ولا وحدتها ولا غرضها ولا سياقها، كأنها لم تكن عضوا في جسم ولا جزءا من كل ولذلك تفرغ من الكتاب وأنت لا تدري أي الشاعرين افضل. وهذا النحو الذي نحاه الآمدي في الموازنة والحكم هو الغالب على رجال الأدب في تلك العهود. فكثيرا ما تجدهم يقولون: فلان أو صف الشعراء للقوس، أو انعتهم للخيل، أو امدحهم للناس لأنه قال بيتا واحدا في وصف قوس أو نعت فرس أو مدح ملك ولم اقف على موازنة بين قطعتين كبيرتين من قصيدتين إلا في كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لضياء الدين نصر بن الأثير الجزري المتوفي سنة 637 فقد وازن بين قصيدتين في وصف الأسد للبحتري والمتنبي، وبين قصيدتين في الرثاء لأبي تمام والمتنبي، وإن لم تكن الموازنة تامة من كل وجه. . .
ومن الظواهر التي تسترعي نظر الباحث أن اللغويين والبيانيين قد اغفلوا نقد المنثور إلا ما اتصل بالقران الكريم والحديث الشريف. وقد ظهر اثر هذا الإغفال واضحا في كتاب نقد النثر المنسوب إلى قدامة بن جعفر فانه بكتب البيان والبديع أشبه. ولعله لو وجد ما يحتذي في هذا الباب من كلام الأدباء لما بان عجزه ووضح قصوره. وما ذكره ابن الأثير في كتاب المثل السائر إنما دار على الرسائل المسجوعة دون غيرها من أنواع النثر.
فما سبب قصور العرب عن النقد البياني، وما علة هذا النقص الذي استتبع نقصا مثله في تاريخ الأدب؟
سبب ذلك أن اسبق الأدباء إلى النقد هم اللغويون والنحاة. كانوا هم قضاة الشعر في أو اخر القرن الثاني وفي القرن الثالث، إليهم يحتكم الشعراء، وعنهم يأخذ الملوك والأمراء، حتى قال الخليل بن أحمد: (إنما انتم معشر الشعراء تبع لي، وأنا سكان السفينة أن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم) وغرض هؤلاء اللغويين والنحاة من النظر في الشعر إنما كان جمع الشواهد على غريب الألفاظ وصحة القواعد، وتسجيل معاني الشعر ومن ابتكرها(682/1)
ومن سرقها. فكلما كانت القصيدة احفل بالشواهد واجمع للغريب كانت اجود، وكلما كانت المعاني ارسخ في القدم وأصل في الابتكار كانت افضل. ومن ذلك كان اغلب النظر مقصورا على الأبيات المفردة الشاهدة على صحة الكلمة، أو سلامة القاعدة، دون نظر إلى علاقتها بالقصيدة. وكان الري مجمعا على تقديم الشعر الغريب على المانوس، وتفضيل الشاعر القديم على المحدث. وقد اغرقوا في أيثار الجاهلي على الإسلامي من غير ميزة إلا الأقدمية، حتى قال أبو عمروا بن العلاء: (لو أدرك الأخطر يوما واحدا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدا). وكان شعراء القرن الثاني ينكرون ولا بد على أقطاب اللغة والأدب هذا التحكم ويسألونهم الأنصاف، فقد روى صاحب الأغاني أن حمادا الأرقط قال: لقينا ابن مناذر بمكة، فأنشدني قصيدته: كل حي لاقي الحمام فمود. . . ثم قال لي: أقرا أبا عبيده السلام وقل له: يقول لك ابن مناذر: اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد، ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي، وذاك قديم وهذا محدث، فتحكم بين العصرين، ولكن احكم بين الشعرين، ودع العصبية)!
وأخذ هذا الإنكار ينتشر ويشتد كلما ورفت ظلال الحضارة فصقلت الألسن وأرهفت الأذواق، حتى هب جماعه من بلغاء الكتاب في أوائل القرن الثالث ينقضون أحكام اللغويين والنحاة ويبنون الأحكام الأدبية على قواعد اقرب إلى التسوية والموضوعية؛ فقد قال الجاحظ المتوفى سنة 255: (طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم اظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد بن الزيات). وقال أيضا: (رأيت أناسا يبهرجون أشعارالمولدين ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في رواية غير بصير بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان. وقال عبد القاهر في دلائل الأعجاز: (روى أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأل البحتري عن مسلم وأبي نؤاس أيهما اشعر؟ فقال أبو نواس. فقال: أن أبا العباس ثعلبا لا يوافق على هذا فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في سلك طريق الشعر ومضايقه وانتهى إلى ضروراته)(682/2)
ثم سلك أبن قتيبة المتوفى سنة 276هذا المسلك فقال في كتاب الشعراء: (ولم اسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر نختار اليه، سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقديمه، إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل بين الفريقين وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله. ولم يقصر الله العلم بالشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل كل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والاخطل وأمثالهم يعدون محدثين؛ وكان عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته. ثم صار هؤلاء قدماء عندنا، كالخزيمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه وأثنينا عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه)
واخذ مذهب التسوية بين القدامى والمحدثين يذيع على الأفواه ويروى في الكتب، حتى شاع الترف والسرف والظرف في حياة الناس فتفننوا في أساليب العيش، وتأنقوا في أفانين الكلام، واستحدث العراقيون ألوان البديع، واخذ البيانيون ينقبون عن أنواعه في عبقرية المولودين، كما كان اللغويون والنحاة ينقبون عن شواهد اللغة والنحو في كلام الجاهليين والمخضرمين، فبان شأوهم على المتقدمين في هذا المضمار، وأخذت سوقهم تنفق، وكفتهم ترجح، حتى ظهر في العلماء من يتعصب لهم ويتعزز بهم. واشهر هؤلاء ابن الأثير، فقد ناضل عنهم في مواضع متفرقة من كتابه المثل السائر، ومن ذلك قوله. (ولم اكن ممن اخذ بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إبداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. ولقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أو س، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الشعراء هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهر على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد ضمت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء) وقال في موضع أخر: (أن في الشعراء المتأخرين من(682/3)
فاق المتقدمين. والذي أداني إليه نظر الاجتهاد دون التقليد، أن جريرا والفرزدق والاخطل اشعر ممن تقدم من شعراء الجاهلية، وبينهم وبين أولئك فرق بعيد. وإذا استفتيت قلت أن أبا تمام والبحتري والمتنبي اشعر من الثلاثة المذكورين، وليس عندي أشعر منهم في الجاهلية ولا في الإسلام. . . وإذا انصف الناظر وترك التحامل ثم ترك التقليد عرف أن حرف الميم وحرف اللام من شعر أبي الطيب المتنبي قد ضمنا من الجيد النادر ما لم يتضمنه شعر أحد الفحول من شعراء العرب).
مما تقدم نستخلص أن علماء اللغة والنحو والبيان لم ينظروا إلى القصيدة باعتبارها كلا تتساوق أجزاؤه إلى غرض واحد، وإنما نظروا إلى ما تشتمل عليه أبياتها من غريب الكلم أو أصيل التراكيب أو محسنات اللفظ، وجعلوا ذلك سبب التفضيل وعلة الاختيار وأساس الحكم. وقل منهم من فطن إلى وحدة. القصيدة كالحصري القيرواني حين أشار إلى ذلك في زهر الآداب وروى عن الحاتمي قوله: (مثل القصيدة مثل الإنسانفي اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الأخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفى معالمه. وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسا يجنبهم شواهد النقصان، ويقف منهم على محجة الاحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها من جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم، واعتمادها البديع وأفانينه في أشعارهم)؛ ولكنهم لم يبسطوا هذا الرأي ولم يطبقوا فيما عالجوه من النقد والموازنة.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(682/4)
من صميم الحياة:
قصة أب. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(مهداة إلى أخي الأستاذ عبد المنعم خلاف الذي لا يزال يؤمن
بالإنسان. . .!)
(علي)
دخل علىَ امس، بعدما انصرف كتاب الحكمه، ولبست معطفي لأخرج، رجل كبير يسحب رجليه سحبا لا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر. فسلم، ووقف مستندا إلى المكتب وقال:
أني داخل على الله ثم عليك، أريد أن تسمع قصتي، وتحكم لي على من ظلمني.
قلت: تفضل، قل اسمع.
قال: على أن تأذن لي أن اقعد، فو الله لا أطيق الوقوف.
قلت: اقعد، وهل منعك أحد من أن تقعد؟ اقعد يا أخي، فإن الحكومة ما وضعت في دواوينها هذه الكراسي وهذه الأرائك الفخمة إلا ليستريح عليها أمثالك من المراجعين الذين لا يستطيعون الوقوف، ما وضعتها لتجعل من الديوان (قهوة) يؤمها (البطالون. . .) الفارغون، ليشتغل الموظف بحديثهم عن أصحاب المعاملات. . . ويضاحكهم ويساقيهم الشاي والمرطبات، والناس قيام ينتظرون لفتة أو نظرة من ال (بك)!
لا. لسنا نريدها (فارسيه) كسروية في المحكمة الشرعية، فاقعد مستريحا فانه كرسي الدولة، ليس كرسي أبي ولا جدي، وقل ما تريد. . .
قال: احب أن أقص القصة من أو لها، فأرجو أن يسعني صبرك، ولا يضيق بي صدرك، وأنا رجل لا احسن الكلام من أيام شبابي، فكيف بي ألان وقد بلغت هذه السن، ونزلت على المصائب، وركبتني الأمراض. . . ولكني أحسن الصدق ولا أقول إلا حقا. . .
كنت في شبابي رجلا مستورا أغدو من بيتي في حارة (كذا) على دكاني التي أبيع فيه الفجل والباذنجان والعنب، وما يكون من خضر الموسم وثمراته، فاربح قروشا معدودات(682/5)
اشتري بها خبزي ولحمي، واخذ ما فضل عندي من الخضر فيطبخه (أهل البيت) ونأكله وننام حامدين ربنا على نعمائه، لا نحمل هما ولا نفكر في غد، ولا صلة لنا بالناس ولا بالحكومة، ولا نطالب أحدا بشيء ولا يطلب منا شيئا. ولم اكن متعلما ولا قعدت في المدرسة، ولكني كنت أعرف كيف اصلي فرضي، وأحسب دراهمي. . . ولقد عشت هذا العمر كله ولم أغش ولم أسرق ولم اربح إلا الربح الحلال، وما كان ينغص حياتي إلا انه ليس لي ولد، فجربنا الوسائل وسألنا القابلات ولم يكن في حارتنا طبيب ولم نحتج إليه. فقد كان لنا في طب (حسو العطار) وزهوراته وحشائشه ما يغنينا عن الطبيب والصيدلي. وإذا احتجنا إلى خلع ضرس فعندنا الحلاق، أما أمراض النساء فمرد أمرها إلى القابلة، ورحم الله أم عبد النافع قابلة الحارة، فقد لبثت أربعين سنة تولد الحاملات ولم تكن تقرأ ولا تكتب.
أقول إنا سألنا القابلات والعجائز فوصفن لنا الوصفات فاتخذناها، وقصدنا المشايخ فكتبوا لنا التمائم فعلقناها، فلم نستفد شيئا؛ فلم يبق إلا أن ننظر أو ل جمعة في رجب لنقصد (جامع الحنابلة)، فلما جاءت بعثت (أهل البيت) فقرعت حلقة الباب وطلبت حاجتها فنالت طلبها. . . وحملت. . .
وصرت أقوم عنها بالثقيل من أعمال المنزل لأريحها خشية أن تسقط حملها وأكرمها وادللها. وصرنا نعد الأيام والساعات حتى كانت ليلة المخاض فسهرت الليل كله ارقب الوليد، فلما أبتلج الفجر سمعت الضجة وقالت (أم عبد النافع): البشارة يا أبا إبراهيم! جاء الصبي.
ولم أكن أملك إلا ريالا مجيديا واحدا فدفعته إليها.
وقلبنا الصبي في فرش الدلال، أن ضحك ضحكت لنا الحياة، وان بكى تزلزلت لبكائه الدار، وان مرض اسودت أيامنا وتنغص عيشنا. وكلما نما إصبعا كان لنا عيد، وكلما نطق بكلمة جدت لنا فرحة، وصار أن طلب شيئا بذلنا في إجابة مطلبه الروح. . . وبلغ سن المدرسة، فقالت أمه أن الولد قد كبر فماذا نصنع به؟ قلت: أخذه إلى دكاني فيتسلى ويتعلم الصنعة.
قالت: أيكون خضريا؟(682/6)
قلت: ولم لا؟ أيترفع عن مهنة أبيه؟
قالت: لا والله العظيم! لابد أن ندخله المدرسة مثل عصمه ابن جارنا سموحي بك. أريد أن يصير (مأمورا) في الحكومة فيلبس (البدلة) والطربوش مثل الأفندية. . .
وأصرت إصرارا عجيبا فسايرتها، وأدخلته المدرسة، وصرت أقطع عن فمي وأقدم له ثمن كتبه. فكان الأول في صفه، فاحبه معلموه وقدروه وقدموه. . .
ونجح في الامتحان، ونال الشهادة الابتدائية. فقلت لها: يا امرأة! لقد نال إبراهيم الشهادة، فحسبنا ذلك وحسبه وليدخل الدكان.
قالت يوه! ويلي على الدكان. أضيع مستقبله ودراسته؟! لابد من إدخاله المدرسة الثانوية.
قلت: يا امرأة، من علمك هذه الكلمات؟ ما مستقبله ودراسته؟ أيترفع عن مهنة أبيه وجده؟ قالت: أما سمعت جارتنا أم عصمة كيف تريد أن تحافظ على مستقبل ابنها ودراسته؟ قلت: يا امرأة. اتركي البكوات. . . نحن جماعة عوام مستورون بالبركة، فما لنا وتقليد من ليسوا أمثالنا؟
فولولت وصاحت: ودخل الولد الثانوية، وازدادت التكاليف فكنت أقدمها راضيا. . . ونال البكالوريا.
قلت: وهل بقى شيء؟
قال الولد: نعم يا بابا. أريد أن اذهب إلى أو ربا
قلت: أو ربا؟ وما أو ربا هذه؟!
قال: إلى باريز. . .
قلت: أعوذ بالله! تذهب إلى بلاد الكفار؟ والله العظيم أن هذا لا يكون!
وأصر وأصررت وناصرته امه، فلما رأتني لا ألين، باعت سواري عرسها وأقراطها، وذلك كل ما لها من حلي اتخذتها عدة على الدهر، ودفعت ثمنها إليه على الرغم مني!
وغضبت عليه وقاطعته مدة، فلم أرد على كتبه، ثم رق قلبي وأنت تعلم ما الوالد؟ وصرت أكاتبه واسأله عما يريد. . . فكان يطلب دائما. .
أرسل لي عشرين ليره. . . أرسل لي ثلاثين. . . فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار أرسل إليه ما يطلب!(682/7)
وكان رفاقه يجيئون في الصيف وهو لا يجيء معهم، فادعوه فيعتذر بكثرة الدروس، وانه لا يحب أن يقطع وقته بالأسفار!
ثم ارتقى فصار يطلب مئة ليرة. . . وزاد به الأمر آخره مرة فطلب ثلاثمئة!
تصور يا سيدي ما ثلاثمئة ليره بالنسبة لخضري تجارته كلها لا يساوي ثمنها عشرين ليره، وربحه في اليوم دون الليرة الواحدة؟ ويا ليته كان يصل إليها في تلك الأيام التي رخصت فيها الأسعار، وقل العمل، وفشت البطالة، ثم انه إذا مرض أو اعتل علة، بات هو وزوجته على الطوى. . . فكتبت إليه بعجزي ونصحته إلا يحاول تقليد رفاقه، فإن أهلهم موسرون ونحن فقراء فكان جوابه برقية مستعجلة بطلب المال حالا!
وإنك تعجب يا سيدي إذا قلت لك أني لم أتلق برقية قبلها في عمري. فلما قرع موزع البريد الباب ودفعها إلى، واخذ إبهام يدي فطبع بها في دفتره، انخرطت كبدي من الخوف، وحسبتها دعوة من المحكمة، وتوسلت إليه وبكيت، فضحك الملعون مني وانصرف عني، وبتنا بشر ليلة ما ندري ما نصنع، ولا نعرف القراءة فنقرا ما في هذه الورقة الصفراء، حتى اصبح الله بالصباح ولم يغمض لنا جفن، وخرجت لصلاة الغداة فدفعتها لجارنا عبده أفندي فقراها واخبرني الخبر، ونصحني أن أرسل المبلغ، فلعل الولد في ورطه وهو محتاج إليه!
فبعت داري بنصف ثمنها، أتسمع يا سيدي؟ بعت الدار بمئتي ليره وهي كل ما املك في هذه الدنيا، واستدنت الباقي من مراب يهودي دلوني عليه بربا تسعة قروش عن كل ليره في الشهر، أي إن المئة تصير في أخر السنة وثمانية! وبعثت بذلك إليه وخبرته أني قد أفلست!
وانقطعت عني كتبه بعد ذلك ثلاث سنوات، ولم يجب على السيل من الرسائل التي بعثت بها إليه!!
ومر على سفره سبع سنين كوامل لم أر وجهه فيها، وبقيت بلا دار، ولا حقني المرابي بالدين، فعجزت عن قضائه، فأقام على الدعوى، وناصرته الحكومة علي لأنه ابرز أو راقا لم ادر ما هي فسألوني: أأنت وضعت بصمة إصبعك في هذه الأوراق؟
قلت: نعم. فحكموا على بان أعطيه ما يريد وإلا فالحبس. وحبست يا سيدي. نعم حبست(682/8)
وبقيت (المرأة) وليس لها إلا الله، فاشتغلت غسالة للناس، وخادمه في البيوت، وشربت كأس الذل حتى الثمالة
ولما خرجت من السجن قال لي رجل من جيراننا: أرأيت ولدك؟ قلت: ولدي؟! بشرك الله بالخير. أين هو؟ قال: ألا تدري يا رجل أم أنت تتجاهل؟ هو موظف كبير في الحكومة ويسكن مع زوجته الفرنسية دارا فخمه في الحي الجديد.
وحملت نفسي وأخذت أمه وذهبنا اليه، وما لنا أمنية في العيش إلا أن نعانقه كما كنا نعانقه صغيرا، ونضمه إلى صدورنا ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل. فلما قرعنا الباب، فتحت الخادمة، فلما رأتنا اشمأزت من هيئتنا، وقالت: ماذا تريدون؟ قلنا: نريد إبراهيم. قالت: إن البك لا يقابل الغرباء في داره، اذهبا إلى الديوان. قلت: غرباء قليلة الأدب؟ أنا أبوه. وهذه أمه.
وسمع ضجتنا فخرج، وقال: ما هذا؟ وخرجت وراءه امرأة فرنسية جميلة
فلما رأته أمه بكت وقالت: إبراهيم حبيبي؟ ومدت يديها وهمت بإلقاء نفسها عليه، فتخلى عنها ونفض مامسته من ثوبه وقال لزوجته كلمة بالفرنساوي، سألنا بعد عن معناها فعلمنا إن معناها (مجانين)!
ودخل وأمر الخادم أن تطردنا. . . فطردتنا يا سيدي من دار ولدنا!
وما زلت اتبعه حتى علقت به مرة فهددني بالقتل إذا ذكرت لأحد أني أبوه وقال لي: ماذا تريد أيها الرجل؟ دراهم؟ أنا اعمل لك راتبا بشرط ألا تزورني ولا تقول انك أبي!!
ورفضت يا سيدي الراتب وعدت استجدي الناس، وعادت أمه تغسل وتخدم حتى عجزنا وأقعدنا الكبر والمرض فجئت أشكو إليك فماذا نصنع؟
فقلت للرجل: خبرني أو لا ما اسم ابنك هذا وما هي وظيفته؟ فنظر ألي عاتبا وقال: أتحب أن يقتلني؟!
قلت: أن الحكم لا يكون إلا بعد دعوى، والدعوى لا تكون إلا بذكر اسمه.
قال: أذن أشكو شكاتي لله.
وقام يجر رجله يائسا. . . حتى خرج ولم يعد!
علي الطنطاوي(682/9)
شريعة الكمال والخلود. . .
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
بينا في مقالنا السابق كمال الشريعة الإسلامية وسعة مباحثها وعدالة احكامها، ونفينا عنها الشبهة الأولى التي وجهت إليها، وهي قصورها، وأثبتنا وفاءها بحاجات الأمم ومطلبها في كل عصر بما فيها من نصوص محكمة، وقواعد سامية، وأصول على وجه الدهر قائمة
وفي هذا المقال ننظر في الشبهة الثانية، وهي أن العقوبات التي قدرتها الشريعة في الحدود قاسية بل، أسرف بعض الغالين فقال: إنها وحشية لا تتفق مع روح المدينة: فقد حكمت برجم الزاني إذا كان محصنا، وبجلد غير المحصن مائة جلدة، وقضت بقطع يد السارق، وبجلد شارب الخمر والقاذف ثمانين جلدة.
ولدحض هذه الحجة وإزاحة تلك الشبهة تقول: إن جميع الشرائع والقوانين السماوية والوضعية ترمى في غايتها إلى المحافظة على الضرورات الخمس: النفس والعقل والمال والنسل والدين، إذ يترتب على التفريط فيها والاعتداء عليها التنازع والنظام وسفك الدماء وفقد الأمن في الأنفس والأموال والأعراض، وانتشار المفاسد والشرور
ولكن القوانين الوضعية - وبخاصة القوانين الأوربية - تجانفت عن المحجة، وحادت عن الجادة، وتنكبت الصراط السوي، فلم تستطع المحافظة عليها بما دابر يقطع الفساد، وذلك لأنها لم تحرم الزنا إلا في حالات معينة، وأباحته عند الرضا في أكثر الحالات محتجة بالمحافظة على الحرية الشخصية، فكانت عاقبة ذلك كثرة اللقطاء الذين حرموا تربية الأباء وشفقتهم، وانتشار الأمراض السرية التي تفتك بالصحة فتكا ذريعا، والأحجام عن الزواج الذي ترتب عليه بقاء كثير من النساء في حالة من المسكنة والبؤس والتعس والشقاء. وفي الحالة المعينة التي حرمت فيها الزنا لم تفرض إلا أيسر العقوبات، فظلت الحال على ما هي عليه من انتشار البغاء وتمكن الشر والفساد
أما الاحتجاج بالحرية الشخصية فمردود، فأن من القواعد المسلم بها إن للإنسان مطلق الحرية الشخصية إلا فيما يعود بالضرر على نفسه أو على غيره. وقد ثبت بالتجربة والمشاهدة أن الزنا ضار بالزانيين صحيا وادبيا، ثم يتعدى الضرر منهما إلى غيرها من(682/11)
أسرتيهما، وهو تدنسهما بفضيحة الجناية على الاعراض، وهي عند من لم تمسخ طبائعهم لا تقل ضررا عن التعدي على الأنفس بالقتل، ولهذا ترى الإفراد في آلام حتى اليوم - خصوصا في الأمم الشرقية ومنها مصر - يحفزهم دافع الشرف إلى الانتقام لإعراضهم، وبذلك كثرت جرائم القتل من اجل الزنا.
كذلك باحت هذه القوانين الغربية تعاطي المسكرات بحجة الحرية الشخصية، وما دروا هذا الحرية قاتلة بشهادة الأطباء الذين قرروا ضررها وإيذاءها للجسم وتأثيرها في الكبد.
هذا إلى أضاعتها للمال في غير مصلحة ولا فائدة محققة، وجنايتها على العقل، وذلك شر عظيم قد يؤدي إلى مفسدة كبرى؛ فقد يقتل السكر، وقد يهجر زوجه وولده ويخرب بيته، وقد يجني حتى على عرضه. وليس أدل على ذلك مما قرناءه في الصحف أن رجلا مدمنا هجرته زوجه لذلك، فسطا في غيبة عقله وضياع رشده على عرض ابنته الصغيرة، ثم تعدى أيضاً على عرض ابنه الذي لم يتجاوز إحدى عشرة سنة.
هاتان جريمتان متأصلتان في نفوس البشر لأنهما صادرتان عن جبلة تزين للناس حب الشهوات. وقد رأيت انهما مصدران لكثير من الشرور والأثام والمفاسد التي تنخر عظام الأمم وتدع المجتمع سقيما بالأوصاب والعلل الاجتماعية، مهددا بالانحلال والفناء.
أفترى مع هذا إن عقوبة الحبس أو التغريم زاجرة أو رادعة أو متكافئة مع الآثار السيئة والعواقب الوبيلة التي أسلفنا ذكرها؟ لا شئ من ذلك يكون رادعا، أو يكون من شانه اجتناب هذه الجرائم فلم يبق إلا أن تكون العقوبة بدنية لأنها انفذ في النفس أثرا، واشد وقعا، وابلغ في زجر الجانين وردع غيرهم وأدنى إلى إصلاح النفوس وتطهير القلوب.
بقيت السرقة والقانون الأوربي يعاقب عليها كما تعاقب الشريعة الإسلامية، غير أن العقوبة في القانون الأول بغير القطع كالحبس وفي الشريعة الإسلامية بقطع اليد.
وحكم الشريعة أو لى بالاتباع وأحق بالمراعاة واجدر بالتقدير فإن السارق يأخذ خفية ويتعدى على صاحب المال في غفلته، فهو جبان في اعتدائه، نذل في خديعته، يستلب منه اعز شيء لديه بعد حياته وعرضه، وقد يرتكب جريمة القتل مع السرقة، بل كثيرا ما تقع هذه الجريمة كوسيلة يتذرع بها سرقته أو للفرار من تبعاتها، فيقتل من تفريق ولا تميز، حتى الطفل في مهاده، والشيخ الهرم في فراشه.(682/12)
فإذا كانت عقوبة السارق. وهو يهدد المجتمع بأمضى الأسلحة وأخسها - هي الحبس، فهل ينزجر بها ويرتدع؟! وهل تؤثر فيمن تحدثهم أنفسهم بارتكاب هذه الجريمة؟، وهل يتحقق بذلك الأمن على النفوس والأموال؟! كلا، ولهذا نرى السرقات لا تقل ولا تنقطع، بل نراها تكثر في مضاعفة وازدياد لان العقوبة غير زاجرة، ومن ثم نرى اللصوص في هذا العصر الذي يزعم قادته أن قطع اليد لا يتفق مع روح المدينة - ينظمون أنفسهم، ويكونون عصائب قويه مسلحة كأنها حكومة داخل حكومة، لا يبالون الأموال ولا الارواح، كما نشاهد ذلك في الولايات المتحدة وغيرها.
ولو كانت العقوبة بدنية في مثل هذه الجرائم المهددة للأمن المثيرة للشر والفساد، القاضية على راحة المجتمع وطمأنينته لا نحسم الشر من رجسها - كما نشاهد أثار ذلك اليوم في البلاد الحجازية في عهد حكومتها السعودية، وقد كانت من قبل مساوية الأمن لا يطمئن فيها مقيم ولا ظاعن على نفسه ولا على ماله.
وقد جاء في تقرير بعثة الشرف المصرية الموفدة إلى الحجاز في سنة 1355 - الهجرية ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أن تنفيذ حدود الله تعالى كفيل باستتباب الأمن وراحة البلاد، وقاطع لدابر الفساد، وان تنفيذ أحكام شريعته يفضى إلى خير العواقب، ويؤتى أطيب الثمرات - قالت البعثة في هذا التقرير:
(لا يفوتنا أن نذكر مع الإعجاب حالة الأمن في تلك البلاد - تعني بلاد الحجاز - فإن الأمن هناك مستتب موطد الأركان في كل مكان، وبخاصة في الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة والى عرفات والى المدينة المنورة، مع كثرة القبائل الضاربة في جوانبها، وقد كانت من قبل مصدرا للسلب والاعتداء على حجاج بيت الله، وفرض الضرائب غير المشروعة عليهم. ويرجع الفضل في ذلك كله إلى يقظة رجال الحكومة العربية السعودية وضربهم على أيدي العابثين بأشد العقوبات كقطع يد السارق، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق من خلاف. ومما يدعو إلى تمام الرضا والإعجاب أن تنفيذ العقوبة مرة واحدة كاف غالبا في عدم تكرار وقوع الجريمة التي تستوجبها).
ذلك والشرع الإسلامي الحكيم لم يحدد العقوبات إلا في أمهات الجرائم وكبائر المعاصي، وهي التي يضطرب لها حبل الجماعات وتشقى بها الأمم، وهي في خمسة مواطن:(682/13)
1 - في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهم قطاع الطريق.
2 - والذين يقتلون النفس بغير حق
3 - والذين يرمون المحصنات الغافلات
4 - والزانية والزاني
5 - والسارق والسارقة.
وما عدا ذلك من الجرائم لم يحدد العقوبات فيها، بل ترك للحكام وأهل الرأي من العلماء والمجتهدين أمرها ليلاحظوا ملابسات الجريمة وحالة المجرم، وما يناسب البيئة ويتفق مع أحوال الأمة في مختلف عصورها، وذلك ما أسلفنا شرحه في مبحث التعزيز.
وكان من حكمة الله - جل شأنه - ورحمته بالناس انه بين لهم العقوبات في المواطن الخمسة السابقة، إذ لو وكل إلى عقولهم استنباطها - وهي جد خطيرة - لذهب بهم الآراء كل مذهب ولعظم الاختلاف اشتد الخطب، فكفاهم ارحم الراحمين واحكم الحاكمين مئونة ذلك، وتولى بعلمه وحكمته ورحمته تقديرها، ورتب كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال
على انه لم يفت الشارع أن العقوبات في الحدود بدنية وان بعضها - لعظم الجرم - شديد كما في الزنا، وأن الخطأ إذا تبين بعد تنفيذها جسيم، ولذلك درء الحدود بالشبهات حتى صار قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي، والأصل في تقريرها ما أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)، وروى عنه صلى الله عليه وسلم (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا):
بذلك البيان الذي ورد في هذا البحث يقتنع كل منصف بان البيان الذي ورد في الحدود قد دعت إليها الحكمة واقتضتها مصلحة الأفراد وسعادة الجماعات وسلامة الأمم، وبهذه الأحكام التي بينا لك وجوه المصلحة والنفع فيها تجلت لك أنها - دون سواها - هي التي تتقرر بها الآثام والمفاسد. وبذلك ثبت كمال هذه الشريعة وعدالة أحكامها، وأنها بما قامت عليه من أصول وقواعد، وبما تغذى به من الأحكام الاجتهادية - صالحة على الدوام لكل أمة في أي عصر، تفي بحاجتها ومطالبها وتساير ما يطرأ عليها من مختلف التطور والأحوال.(682/14)
حسن أحمد الخطيب(682/15)
تاريخ جحا. . .
للأستاذ كامل كيلاني
1 - خرافه وجحوان:
منذ خمسة عشر قرنا، تنقص بضعة عقود - اعني تنقص عشرات قليلة من السنين - ولد (خرافه) ذلك القاص العربي المخضرم البارع، الذي عاش في العصرين: الجاهلي والإسلامي. وقد عاصر (خرافة) - فيمن عاصر - جحوان الصحابي: جد (أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا: شيخ الفكاهة الشرقية الباسمة الساحرة، ورمز الدعابة الفلسفية المرحة الساخرة.
وقد كان (خرافة) - فيما يقول عارفوه - طرافا وصافا، بارع المقال، رائع الخيال، يروي للناس عجائب من أخبار العفاريت والجن وطرائفهم وملحهم، ويقص عليهم من ذلكم غرائب معجبة يزعم لمعاصريه أنها حدثت له.
2 - حديث خرافة:
كان (خرافة) فيما يقول المفضل الضبي في أمثاله - معاصرا للنبي، وقد حدثه ببعض أحاديثه فاعجب بها، كان يحدث الناس أحاديث طريفة شائقة، منها الحديث التالي:
خرج (خرافة) - ذات ليلة - فلقي ثلاثة من الجن فسبوه (أي: أسروه) فقال أحدهم: (نعفو عنه) وقال الثاني: (قتله) وقال الثالث: نستعبده (أي: نجعله عبدا لنا).)
فبينما هم يتشاورون - في أمره - إذ ورد عليهم رجل، فقال (السلام عليكم) فقالوا (وعليك السلام) قال (وما انتم؟) قالوا: (نفر (أي: جماعة) من الجن أسرنا هذا الرجل فنحن نأتمر في أمره)
فقال (إن حدثتكم حديثا عجيبا أتشركوني فيه؟ (قالوا: (نعم) قال:
(إني كنت ذا نعمة، فزالت وركبني دين، فخرجت هاربا، فأصابني عطش شديد، فسرت إلى بئر، فنزلت لأشرب، فصاح بي صائح من البئر، فخرجت منها ولم أشرب.
فغلبني العطش فعدت، فصاح بي، ثم الثالثة فشربت ولم التفت إليه فقال: اللهم إن كان رجلا فحوله امرأة، وان كان امرأة فحولها رجلا.)(682/16)
فإذا أنا امرأة.
فأتيت مدينة فتزوجني رجل، فولدت منه ولدين، ثم عدت إلى بلدي فمررت بالبئر التي شربت منها، فصاح بي - كما صاح في الأول - فشربت ولم التفت إليه. فدعا - كالأول فعدت رجلا كما كنت.
ثم عدت إلى بلدي فتزوجت امرأة فولدت منها ولدين.
فلي اثنان من ظهري واثنان من بطني.
فقالوا له: (إن هذا لعجيب، أنت شريكنا.)
فبينما هم يتشاورون إذ ورد عليهم ثور يطير (أي: يسرع في سيره)، فلما جاوزهم، إذا رجل - بيد وهو يحفز في أثره (أي: يجري خلفه)، فوقف وسلم، فردوا عليه مثل ردهم على صاحبهم.
فقال: إن حدثتكم بحديث اعجب من هذا أتشركوني فيه؟)
قالوا: (نعم)
قال: (كان لي عم، وكان موسرا، وكانت له ابنة جميلة، وكنا سبعة إخوة. وكان لعمي عجل يربيه، فانفلت.
فقال: (أيكم يرده لي، فابنتي له.)
(فأخذت خشبتي هذه واتزرت ثم حفزت في أثره - وأنا غلام - فلا أنا ألحقه، ولا هو يكل.)
فقالوا: أن هذا لعجيب. فأنت شريكنا)
فبينما يتشاورون إذ ورد عليهم رجل على فرس أنثى، وخلفه غلام على فرس ذكر. فسلم - كما سلم صاحباه - فردوا عليه كردهم على صاحبيه. فسألهم فاخبروه الخبر.
فقال: إن حدثتكم بحديث اغرب من هذا أتشركونني فيه؟) فقالوا: (نعم) وهنا تحدثنا الأسطورة أن الرجل اخبرهم أن الفرس الأنثى هو أمة، وان الفرس الأخر هو عبد من الاشرار، وانهما ائتمرا به ليسحراه، فيصفوا لهما الجو.
ثم قال للفرس الأنثى التي تحته: (أكذلك؟)
فقالت - برأسها - (نعم).(682/17)
وأشار إلى الفرس الذكر الذي تحت غلامه: (أهكذا)
فقال - برأسه -: (نعم)
قال: (فوجهت بغلامي هذا الراكب - ذات يوم - في بعض حاجاتي، فحسبته أمي عندها. فأغفى. فرأى في منامه كأنها صاحت صيحة، فإذا هي بجرذ قد خرج.
فقالت: (اسجد) فسجد
ثم قالت: (اكرب (أي: اقلب الأرض للحرث).) فكرب.
ثم قالت: (أدرس) فدرس.
ثم دعت برحى فطحنت قدح سويق - (والسويق كما تعلمون: هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير). فأنت به الغلام، وقالت له ائت به مولاك فاتاني به.
فاحتلت عليها حتى سقيتهما القدح، فإذا هي فرس أنثى، وإذا هو ذكر قال (أكذلك)
قالت الفرس الأنثى - برأسها -: (نعم)
وقال الفرس الذكر - برأسه -: (نعم)
فقالوا: (إن هذا اعجب شيء سمعناه أنت شريكنا.) فاجمع رأيهم فاعتقوا (خرافة).
3 - بعد موت خرافة:
وهكذا اصبح كل حديث طريف تسترعي الأسماع غرابته، وتبهج النفوس براعته، ينسب إلى (خرافة) حتى يومنا هذا، وأصبحت كلمة (خرافة) مرادفه لكل حديث خيالي لا حقيقة له. وكاد ينسى الناس (خرافة) علم على شخص بعينه، عرف الناس وعرفوه، والفهم وألفوه.
ثم مضى القرن الاول، ومضى معه (خرافة) ومعاصروه، وانطوى بانطوائه بارع حدث (أي: حسن الحديث)، لم تبق لنا - من روائعه المستفيضة - إلا سطور، كأنما بقيت على الدهر، وغالبت احداثه، لتشعرنا بمقدار ما منى به تاريخ القصص العربي من خسارة، بفقدان أمثال هذه الكنوز الفكرية التي لا تعوض.
4 - جحا العربي:
ثم جاء القرن الثاني، ومعه هدية من أنفس الهدايا الفنية التي يعتز بها عالم الفكاهة والمرح،(682/18)
فكان من مولوديه شيخ السخرية العربية، وأيام الفكاهة الشرقية: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا.
وقد نشأ السيد جحا في (الكوفة) ورأى - فيمن رآه - من أفذاذ معاصريه (أبا مسلم الخراساني)
وكانت أم (جحا) تخدم أم سليم بنت ملحان: والدة مالك بن أنس راوية الحديث المعروف.
وقد لقي السيد جحا من التقدير والإعجاب في القرن الثاني من الهجرة مثل ما لقي سابقه (خرافة) من قبل. ولم يقل شأنه عن صاحبه: تقديرا واعجابا، ونباهة ذكر، وبعد صيت.
وأعجب الناس بأسلوبه السهل الممتع في فهم الحياة كما أعجبوا بما به من طرائف وملح.
وأشتد به إعجابهم فخلعوا كما خلعوا لقب سابقه (خرافة) من قبل - على كل عجيب من القول وطريف من الحديث.
وأصبح للقصص الجحوي خصائصه وميزاته، كما أصبح للقصص الخرافي من قبله - بدائعه وخيالاته.
5 - الفن الجحوي:
وأشتد إعجاب بعض الناس به فأطلقه على ولده، وافتن آخرون فأضافوا إلى طرائفه كثيرا من مخترعاتهم وفنون مبتدعاتهم، وهكذا صنعوا بألف ليلة التي أضافوا إليها جمهرة من طرائفه كما أضافوا إليه جمهرة من قصصها، حتى تعذر التمييز بين الأصول الجحويه، والمحاكاة المروية. ولا سيما بعد أن اختلطت بفكاهات (أبي العيناء) و (الشعبي) و (أبي دلامة) و (أشعب) و (الغاضري) و (أبي العنبس) و (البهلول) و (الجماز) و (الحمدوني) ومن إليهم من أعلام الدعابة العربية، ثم زاد عليها المتزيدون جمهرة من فكاهات الحمقى والمغفلين والطفيليين من أمثال (هبنقة) و (فند) وطفيل وأضرابهم.
فتجمعت أشتاتهم في واحد ... إلا يكنهم أمة فيكاد
وهكذا أسند الناس إلى جحا كل طريف من الملح وعجيب، فكاد يصبح - كما أصبح خرافة - علما على فن بعينه من فنون القول بعد أن كان علما على شخص بعينه من أفذاذ الناس.
6 - جحا التركي:(682/19)
فلما جاء القرن الثامن الهجري حمل معه - فيمن حمل - علما أخر من أعلام الفكاهة الشرقية وإماما من أئمة الدعابة التركية هو (الأستاذ نصر الدين)
ولد في إحدى بلاد الأناضول، وكانت (سيورى حيصار) مسقط رأسه. ومات في (آق شهر) ومعناها: البلد الأبيض.
وقد عاش في عهد السلطان (أورخان) وعمر - فيما يقولون - ستين عاما أو قريبا.
7 - الباطشان:
ولقي (نصر الدين) - فيمن لقي - الباطش السفاح (تيمورلنك) كما لقي (أبو الغصن جحا) - في عصره - الباطش السفاح: (أبا مسلم الخرساني)
(وهكذا عاش كلاهما في عصر مضطرب، وعاصر كلاهما - فيمن عاصر - قائدا سفاكا، متعطشا للدماء، باطشا بالأقوياء والضعفاء.
8 - الجحوان:
وذاع أمر الأستاذ (نصر الدين)، وراحت دعاباته، ولقي من الحظ مثلما لقي صاحباه: (خرافة) و (جحا) من قبل.
ولما كان لقب أستاذ بالتركية هو لفظ (خوجة) حوله النقلة إلى جحا لتقارب اللفظين وتشابه الرجلين، وقد كدنا نقول: تطابق الشخصيتين.
وما لبث الأستاذ (نصر الدين) أن استأثر - بعد موته - بلقب جحا وكاد يستأثر بكل طرائفه وملحه فلا يبقى له منها شيئا جل أو حقر.
وأعلنت بعض المجلات مكافأة لمن يبعث إليها بطريفة مروية عن الأستاذ (نصر الدين) أو (نصر الدين خوجة) أو جحا التركي. فراح الناس ينقبون ويغيرون على نفائس الملح حتى نسبوا إليه جمهرة من الطرائف العربية وغيرها، فلم ينج من غاراتهم: كتاب كليلة ودمنة في الشرق، ولا قصص (يوكاتشو) في الغرب.
ثم ما لبثت الأمم أن تنازعت كثيرا من القصص الجحوي نصا ومزيدا وناقصا ووافيا، وأمينا ومحرفا، ومبتدعا ومشوها، وأسندته كل أمة إلى جحاها.
كامل الكيلاني(682/20)
القوة والحياة. . .
للأستاذ محمد عاطف البرقوقي
قوة الفرد:
القوة مصدر من مصادر سعادة الإنسان، ومظهر من مظاهر العز والحياة، إن اكتسبها شخص زاد نشاطه وكثر إنتاجه، وصارت في يده سلاحا يشق به لنفسه سبل النجاح، وهو سبيل وايم الحق صعبة التمهيد، بعيدة المدى، يحتاج تمهيدها إلى جهد شاق متواصل، يعجز عن الاستمرار فيه الضعفاء، ويصل إلى نهايته الأقوياء. والشخص القوي تجده عريض المنكبين، بارز الصدر مفتول الذراعين، يترقرق في وجهه دم الصحة والفتوة، أقدر من غيره على تحمل المشاق، وأقوى من سواه في التغلب على الصعاب. وقد قيل بحق (الحياة جهاد، والبقاء فيها للأصلح)
فلا غرو إذا كانت القوة موضع التبجيل منذ أقدم العصور، وحديثا ينظم المباريات لنيل بطولة القوة، فهذا بطل في رفع الأثقال، وذاك بطل في العدو. ويكرم البطل لأنه عنوان الفخر لامته، ولا غرو فأن الأمة هي مجموعة أفرادها، فأن كان أفراد الأمة أقوياء بلغت الأمة ذروة المجد والفخار.
قوة الأمة:
والقوة أن اكتسبتها أمة أصبحت مهيبة الجانب، آمنة العواقب، لا يقدم على الاعتداء عليها معتد، ولا يغير عليها مغير، وقد قيل (الحق مع القوة) وهو المبدأ الذي يتسلط على عقلية الدول في الحروب، ويدفعها إلى الحركة والعدوان، ويحفزها للكر والفر والطيران، ويمنعها من الإحجام ويحرضها على الاقدام، فتنتظم الجيوش البرية، تقطع الفيافي والقفاز، وتتحرك الأساطيل البحرية، تطهر البحار والأنهار، وتطير الطائرات الجوية، تغير على المدن والأمصار، فتستعر الحرب ويشب ضرامها، ويشتد القتال وتندلع النيران ويمتد لهيبها، والغلبة عندئذ للأقوى، والنصر في النهاية لمن فاقت قوته، والهزيمة لمن انكسرت شوكته، وحتى في وقت السلم تنادي بعض الدول بنزع السلاح وتطالب بالعدالة والإنسانية والمساواة، وهي مبادئ إن عمل بها انتفت الشكايات وبطلت الحرب، ولكنها غرائز الإنسان(682/22)
المبنية على الأثرة، والمؤسسة على حب النفس، والمطبوعة على الظلم حتى لقد قيل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
ولذلك تلجأ بعض الدول إلى التسلح والتقوية وقت السلم، اعتقادا منها بأن (التسلح أفضى الحرب) وأن (القوي لا يحترم إلا القوي) فهي إن رغبت في القتال والعدوان، فإنما تتسلح وتتقوى حتى لا يطمع فيها ظالم، ولا تسول له نفسه الأثيمة الاعتداء عليها فسلامة الدول مبنية على قوتها، سواء أكانت في وقت السلم أم في وقت الحرب.
قوة الآلات:
وطموح الإنسان لا يقف عند حد، وقد وجد أن قوته العضلية لا تكفي للحصول على النجاح، فلجأ إلى العلم يستنبط منه مصادر جديده للقوة، وها هو ذا يستعمل الروافع والبكرات منذ عهد اليونان، ويبذل بها قوة صغيرة لتحريك أو رفع ثقل كبير، فأنه إذا استطاع رفع أي ثقل بقوته العضلية، فأنه يستطيع أن يرفع عشرات بل مئات بل آلافا مثلها بالروافع والبكرات والآلات، حتى لقد قال أرشميدس العالم الطبيعي الإغريقي مرة (أعطوني مكانا أقف فيه وأنا أحرك الدنيا)، وقد عرض علي مليكه هيرون ملك سرقوسة أساس الفكرة وجعله يحرك سفينة محملة ثقيلة بقوة صغيرة، سر منه الملك وقربه إليه.
ومنذ عهد أرشميدس والمخترعات تتقدم في مختلف النواحي، ومنها الناحية التي تزيد قوة الإنسان.
ففي البناية الحديثة تستعمل آلات لرفع الأثقال التي يعجز الإنسان عن رفعها بقوته، وهذه الآلة يسميها الناس (الونش)، ترفع كتلة ثقيلة جدا من الحديد وتتركها تهوي من عل إلى الأرض فتدكها دكا، وبتكرار هذه العملية يمكن أعداد الأساس المتين للبناء، وتستعمل هذه الآلة أيضاً لنقل الحجارة والأتربة من مكان إلى أخر وفي البواخر المعدة لحمل الأثقال والسيارات تستعمل هذه الآلة لرفع السيارات الثقيلة من الأرض، وتتحرك بها حتى تقف في المكان المعد في الباخرة لوضع السيارة فيه، وعندئذ نرى السيارة تتدلى حتى تستقر في مكانها المناسب، وكل هذا دون جهد كبير من الإنسان.
وهناك آلات أخرى اخترعها الإنسان على أساس علمي أخر، منها الجهاز المسمى بالمكبس المائي الذي يستعمل لكبس الاقطان، واستخراج الزيوت من البذور، وقد صنعت هذه الآلة(682/23)
بعد ما ثبتت قاعدة انتقال الضغط في السوائل، وذلك في سنة 1653 حيث استنبطها العالم والأديب والفيلسوف الفرنسي (بليز باسكال)، واستغلها العلماء من بعده في صنع كثير من الآلات منها المكبس المائي، وهذا مثال من أمثلة عدة تدل على البحوث النظرية التي يمكن تطبيقها في نواح عملية في الحياة.
المصعد الكهربائي:
ومن الآلات أيضاً ما هو مبني على القوة الكهربية، منها المصعد الكهربي، فقد وجد الإنسان أن التعب يدركه عندما يصعد في سلم مرتفع، إذ انه يصعد مضادا لقوة جاذبية الأرض، وهي قوة يصل تأثيرها إلى القمر، ولكنه عقل الإنسان القوي الذي يتغلب بعلمه وتفكيره على كل صعوبة تعترضه إذ لجأ في هذه الحالة إلى عمل المصعد الكهربي، الذي يتحرك بالقوة الكهربية التي سخرها الإنسان لمنفعته، فصار الإنسان بفضل المصعد يصعد إلى أعلى الطبقات في العمارات المرتفعة وناطحات السحاب الشاهقة، كل هذا وهو جالس في مقعده دون مشقه أو تعب، وما عليه إلا إن يضغط على (الزر) الدال على رقم الطبقة التي يريدها، فيتحرك المصعد، ويقف عند تلك الطبقة، كأن له عقلا يدرك به، أو بصيرة نفاذه تهديه سواء السبيل، وبحركة خفيفة أخرى يؤمر المصعد بالنزول فيطيع، ولا يعصي أمرا مهما تكررت الأوامر والطلبات، ولا يبدي ملالا أو كلالا، ولو اشتغل آناء الليل وأطراف النهار، فهو أطوع بل واقدر من أي خادم أمين.
عصر الآلات:
وبالعلم أيضاً أصبح الإنسان يقطع أطول المسافات دون أن يلحقه تعب أو نصب، سواء أكان هذا السفر في الجو أم في البحر أم في البر، على متون الطائرات التي تشق عنان السماء، والبواخر التي تمخر عباب الماء، والسيارات والقطر التي تنهب الأرض نهبا، وبذلك سخر العقل البشري للإنسان آلات كثيرة في مختلف النواحي والأغراض، فهذه آلات مبنية على الروافع والبكرات وهي ما تسمى الآلات الميكانيكية، وتلك آلات مبنية على قوة البخار، وهي ما تسمى الآلات البخارية، وأخرى مبنية على قوة الكهرباء، وهي الآلات الكهربية المستعملة في رفع الأثقال والنقل والحركة والتدفئة والإضاءة وغيرها، وهناك(682/24)
آلات مبنية لا على أساس واحد بل على أساسين أو أكثر، فمثلا قوة الريح وقوة الماء يمكن استخدامهما لتوليد الحركة أو لتوليد الكهرباء، ففي هولندا تستعمل الطواحين الهوائية، وفي الفيوم يستخدم سقوط الماء لتوليد الكهرباء للمدينة لشتى الأغراض، وهكذا نجد العلم قد سخر للإنسان قوى عظيمة لخدمته، وتنوعت الآلات في عصرنا حتى لقد بلغ بالعلم أن صنع آلات حاسبة وثانية كاتبة، وثالثة ناطقة، حقا أننا نعيش في عصر آلات.
(البقية في العدد القادم)
محمد عاطف البرقوقي
ناظر المدرسة التوفيقية.(682/25)
البلاغة وعلم النفس
للأستاذ على العماري
لعل علوم البلاغة أقل علوم العربية نصيبا من جهود الباحثين المعاصرين، ولعلها كذلك أحوج هذه العلوم إلى التجديد والتهذيب ولكننا نستطيع أن نقول - في غير غض من عمل أحد -: إن الأبحاث التي طالعنا بها هذا العصر في العلوم دون ما كنا نأمل من علمائه الأعلام
ولقد شاع في رسائل المعاصرين النعي على علماء البلاغة، ورميهم بالجهل والتقصير أحيانا، وهذه طريق لا تؤدي إلى الغاية. ولو أنهم إذ هدموا بنوا لكان الأمل قويا في أن نظفر بشيء. ومن حق أسلافنا علينا أن نذود عنهم، وندفع ما يلحق بهم من ظلم وجحود.
قرأت رسالة صغيرة للأستاذ الشيخ (أمين الخولي) المدرس بجامعة فؤاد الأول عنوانها (البلاغة وعلم النفس). تحدث فيها عن صلة قديمة بين الأبحاث البلاغية ومظاهر النفس الإنسانية، ولكنه نعى على الأسلاف انهم لم يربطوا بينهما على أن علم النفس علم من العلوم (مع انه كان من معارفهم) ورأى أن هذا الربط في الدرس وفي غير الدرس ضروري، بل هو ضروري لفهم إعجاز القران وتفسيره حيث يقول (فالنظر الصائب إليه - يعني القران - والفهم الصحيح له، أو بعبارة أكثر صراحة تفسيره لا يقوم إلا على إدراك ما استخدمه من ظواهر نفسية، ونواميس روحية، فليس يصح أن تعلل عبارة من عباراته، أو يحتج للفظ في أية من آياته، أو يستشهد لأسلوب من أساليبه إلا بموقعه كله في النفس، وبما كشف العلم عن هذا الموقع، وما سير من أغواره فبالأمور النفسية لا غير (كذا) يعلل إيجازه وإطنابه، وتوكيده وإشارته، وإجماله وتفصيله، وتكراره واطالته، وتقسيمه وتفصيله، وترتيبه ومناسباته، وما قام من تعليل هذه الأشياء وغيرها (كذا أيضا) على ذلك الأصل فهو الدقيق المنضبط، وما جاوز ذلك فهو الادعاء والتمحل أو هو أشبه شيء به)
ونحن إذا طرحنا جانبا مناقضة الأستاذ لنفسه بين محاولته تعليل إعجاز القران، وبين إصراره على أن خير الآراء في الإعجاز هو رأي السكاكي وجملته أن الإعجاز لا يعلل. إذا طرحنا هذا وجدنا الأستاذ انساق وراء الفكرة التي سيطرت على قلمه، ولكننا مع ذلك(682/26)
ننتظر حتى نرى مبلغ صدق هذا من الأبحاث التي وعد بها الكاتب وقد مر عليه دهر ولم يطالبنا بها وان كنا نجزم بأن دعواه أن كل تعليل لأسلوب القران لا يقوم على أساس نفسي ادعاء وتمحل نجزم بان هذه مبالغة لا تمت إلى الصواب بصلة.
ونترك هذه الدعاوى وأمثالها إلى حين يؤيدها بأمثاله لنرد على هذين المثالين الوحيدين اللذين اعتمد عليهما في رسالته، وادعى فيهما أن القدامى وقفوا عند تعليلات جافة ركيكة، ولم ينظروا فيهما إلى الأمر النفسي قط. وسنرى أن ما وصمهم به ليس صحيحا، وان ما ذكر أنه وصل إليه هو الذي ذكره علماؤنا الإجلاء قال: (نحن نقرأ مثلا في بيان ميزة الأسلوب المعروف عندهم باسم تأكيد المدح بما يشبه الذم قولهم: إن سبب ذلك أن هذا الأسلوب كدعوى الشيء ببينة، ويفسرون ذلك بأن القائل علق نقيض المدعى وهو إثبات شيء من العيب بالمحال، والمعلق بالمحال محال فعدم العيب محقق. كما نقرأ لهم وجها أخر لميزة هذا الأسلوب هو: أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر المستثنى منه يوهم إخراج شيء مما قبلها فإذا ما أو ليت الأداة صفة مدح وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع جاء التأكيد لما فيه من المدح والأشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها
ولعل السر النفسي لذلك فيما يظهر هو ما في هذا الأسلوب من معنى المباغتة والمفاجأة التي تكسبه طرافة وتثير حوله تنبها)
والذي نلاحظه هنا أمور: -
(1) أن التعليل الأول أحد تعليلات لهم ويمكن إرجاعه إلى أمر نفسي، بل هو في الحقيقة من أخص أمور النفس، فهو فكر مرتب، ومنطق محكم، وليس شيئا ما رده به من أنه يترتب عليه أن (عبارة التوثيقات المؤكدة ولغة الإشهادات المسهبة هي الفصحى وأظن أن الفرق بين الاثنين واضح، والمغلطة بينهما أو ضح.
(2) أن المفاجأة التي تمدح بأنه وصل إليها إنما مأتاها انقطاع الاستثناء وذلك أن النفس حين تسمع أو ل الكلام تنتظر أن يجيء أخره أليفا لأوله ويستقر فيها اطمئنان لذلك فإذا انقطع الاستثناء فوجئت بما لا تتوقعه.
(3) أنهم ذكروا لهذا علة نفسية؛ قال في المطول بعد أن ذكر التعليلين السابقين (مع ما فيه(682/27)
من الخلابة وتأخيذ القلوب) وفي هذه الكلمة الأخيرة (تأخيذ للقلوب) كل الرد على الباحث الفاضل المجدد!!
أما المثال الثاني فحيث يقول (ومن ذلك مثلا أنا نسمعهم يقولون أطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه. . . الخ ثم لا يعللون شيئا من ذلك كله إلا بالفكرة السابقة من تأكيد المدح بما يشبه الذم من قولهم. أنه كدعوى الشيء ببينة). ولعلنا نقف طويلا متعجبين من جراءة أستاذ في الجامعة، ورئيس طائفة تدعى التجديد في علوم البلاغة، حين نعلم أن صاحب الصناعتين عقد فصلا للموازنة بين الحقيقة والمجاز ذكر فيه أكثر من أربعين مثلا وعلل لكل مثال بعلة، وليس تأكيد المدح بما يشبه الذم واحدا من هذه العلل، وأنه في أول الفصل علل تعليلا عاما بأمر نفسي فقال لا وفضل هذه الاستعارة وماشا كلها على الحقيقة أنها تفعل في النفس نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة) فكيف يسوغ بعد هذا لأستاذ أمين في العلم أن يطرح هذا كله ليقول إن علماءنا لم يعرفوا تعليلا نفسيا واحدا؟ وهل يرى إن الباحث لا يكون بارعا معلاما إلا إذا ادعى أن الأوائل لم يتنبهوا لما وصل إليه؟
ولعلي أقضي على كل ادعاء إذا ذكرت كلمتين اثنتين تشهدان بأن علماء البلاغة لم يقتصروا على تعليلات ركيكة جافة، وإنما وصلوا في بعض الأحايين إلى اللباب المنتخب
(1) كتب ناشر كتاب أسرار البلاغة في مقدمته قال: (ينبغي لقارئ هذا الكتاب وصنوه دلائل الإعجاز أن يتأمل حق التأمل ما انفرد به الإمام عبد القاهر من جعله علوم البلاغة
- البيان والمعاني والبديع - من قبيل العلوم الطبيعية كعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم الفلسفة العقلية - لا مجرد مواصفات واصطلاحات - فأنه يقيم الدلائل، ويسوق الحجج على كون البليغ من الكلام باشتماله على التشبه والتمثيل والمجاز العقلي أو اللغوي من قواعد البيان، أو بمراعاة نكت المعاني في التعريف والتنكير والحصر والتأكيد والفصل والوصل وغير ذلك إنما كان بليغا لأمور حقيقة في عقول الناس وشعورهم وتأثير الكلام في أنفسهم)
وهذا كلام صريح في أن علماءنا تنبهوا لهذا الذي أراد الأستاذ أن ينبهنا إليه، بل جعلوه أصلا تؤلف على ضوئه الكتب.(682/28)
(2) قال الشيخ عبد القاهر يعلل بأمر نفسي هذا الأمر الذي ادعى الأستاذ أنهم لم يذكروا له تعليلا نفسيا (وان أردت اعتبار ذلك - يعني تأثير التمثيل في النفس - في الفن الذي هو أكرم وأشرف (يقصد فن الوعظ) فقارن بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره. وتقتصر عليه وبين أن تذكر المثل على ما جاء في الخبر من إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الذي يعلم الخبر ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه. . . الخ
(فأما القول في العلة والسبب، ولم كان للتمثيل هذا التأثير وبيان جهته ومأتاه وما الذي أو جبه واقتضاه فغيرها)
(وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابا وعللا كل منها يقتضي أن يضخم المعنى بالتمثيل ووينبل، ويشرف ويكرم، فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء أخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأنه العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا (ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين) فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس أعنى الأنس من جهة الاستحكام والقوة. وضرب أخر وهو ما يوجبه تقدم الألف كما قيل ما الحب إلا للحبيب الأول.
ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أو لا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والروية، فهو أذن أمس بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها صحبة، وأكد عندها حرمة، وإذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع وعلى حد الضرورة فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت أذن مع الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل ثم مثله كمن يخبر عن شيء من وراءه حجاب ثم يكشف عنه الحجاب ويقال: هاهو ذا فأبصره تجده على ما وصفت)
وبعد فنحن لا يكفينا من معاصرينا أن يثلبوا الأقدمين وينوهوا بقصورهم وتقصيرهم،(682/29)
ولكننا نريد أن يخرجوا لنا قواعد جديدة على الوضع الذي يريدون؛ وحينئذ نقول أنهم استدركوا على سابقيهم وأفادوا علوم البلاغة، أما أن نسمع ونقرأ أن البلاغة معقدة، وأن النحو قاصر، وأنه كان يجب أن يدرك الأقدمون صلة البلاغة بعلم النفس، وصلتها بالفلسفة ثم نسمع ولا نقرأ غير هذا فلا. وما أحسن قول الشاعر:
تقولون أخطأنا فهاتوا صوابكم ... وكونوا بناة قبل أن تهدموا الصرحا
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة(682/30)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 21 -
الزواج والصدمة الأولى:
ونشر ملتن في مارس سنة 1645 كتيبا أخر بعنوان (تتراكوردون)، وفيه تعرض للفقرات الأربع الشهيرة المتصلة بالطلاق في الإنجيل، وراح يفسراها أو يؤلها حسبما يذهب إليه من رأي في الطلاق، وقد تعسف في ذلك ولقي عسرا شديدا، ففي نفسه من الآراء ما يخالف كثيرا مما ذهب إليه مفسرو الإنجيل الأقدمون ومن أخذ أخذهم من المحدثين، وهو في الوقت نفسه يريد أن يستند إلى الإنجيل ويتخذ منه سلاحه.
ويجمع هذا الكتيب كما يجمع سالفه (قانون الطلاق ونظامه بين العبارات المنطقية الجافة العسيرة، وبين الفقرات العاطفية البليغة التي يصل فيها ملتن إلى ذروة الجمال الفني في النثر حتى ليجعل التي ناقدا فذا مثل مكولي يقرر أنه يصل من البلاغة في كثير من نثره هذا إلى ما لا يتقاصر عن مستوى شعره في أعلى نسق آه. والحق أنه ملك ناصية البيان، إذ عاد يصور في هذا الكتيب حال الزوجين منيا بالفشل في زواجهما. تجد ذلك في مثل هذا القول: (انهما يعيشان كما لو كانا ميتين، أو كما لو كان بينهما عداء قاتل، وهما بعد في قفص معا)؛ وفي مثل قوله: (أن العقل الذي لا يوافق عقولنا أبدا، والذي هو دائما على نقيض ما نذهب اليه، انما يسلمنا إلى حالة هي أسوا من العزلة في اشد وحشتها) وفي عبارة كهذه: (هذا الحارس المخيف القائم على الباب لا يلبث وقد جر الرجال واعقل من في الرجال، وانتظمهم بخداعه القاهر في سلك الزواج الفاشل، أن يغلق أبواب الجب عليهم، فلا رجعة منه كما لا رجعة من القبر). وفي مثل هذه الفقرة إذ يقول: (تعلق بزوجة، ولكن على أن تكون زوجة، لا أن تكون عدما أو عدوا أو هاجرة تعتزلك، أيمكن أن يبلغ قانون من البعد عن العقل كأن يدعوك لتتعلق بالكارثة والدمار والفناء؟)(682/31)
وكما عرض ملتن طائفة من آرائه الفلسفية في كتيبه السابق، نراه يعرض هنا كثيرا من تلك الآراء، وبعضها تكرار لما سلف والبعض جديد، ومن إهمال رأيه في المرأة، وفي فكرة الزواج الأولى كما أرادها الله، وفي مبلغ قدرة القانون على منع الإثم، وفي نصوص الكتاب المقدس كمرجع يتقيد الباحث به.
أما عن المرأة فقد كان البيوريتانز كما كان أتباع كلفن في أو ربا يرون فيها مخلوقا دون الرجل كل شيء، وأن الرجل هو سبب ما خلق الله من خلق، وما خلقت المرأة إلا معينا له، فهو أنبل منها وأكرم؛ وكانت منزلة المرأة سامية في عهد الفروسية، إذ كان من أشهر ما يتحلى به الفرس احترام المرأة والأخذ بيدها وإفساح مكان الصدارة لها في كل اجتماع، ومخاطبتها بألقاب التبجيل، وإظهار كل ما يشعرها بالعزلة ورفعة الشأن، وكانت تقاس من لباقة الفارس وفروسيته بقدر ما من النجاح في هذا كله؛ ولكن البيوريتانز كرهوا الفروسية، لأنها في رأيهم من صنع البابوية ومن مخلفات الكاثوليكية، وكرهوا كل ما كان منها بسبب، ومن ذلك مكانة المرأة في تقاليدها، ولم يقتصر ما كان بين أصحاب الرؤوس المستديرة وبين الفرسان من خلاف على عداء الأولين للملك، وولاء الآخرين له، وتنابذ الفريقين لما يتصل بالدين من سبب، وإنما كان الخلاف كذلك شديدا بسبب نظرة كل منهم إلى الحياة الاجتماعية، وعلى الأخص مركز المرأة، فقد ظل الفرسان الكاثوليك على ولائهم للمرأة والسمو بمكانتها، بينما عمل البيوريتانز على العودة بها إلى ما قبل عهد الفروسية، والنظر إليها كمخلوقة تخضع للرجل وليس لها إلا أن تعينه فيما يقوم عليه من شؤون الأسرة، وأن توفر له أسباب الراحة، وتكون له متعة، وله دونها الرأي والقوامة. . .
وحار ملتن بين المذهبين، وتنازع عقله ووجدانه، فلئن كان بيوريتاني المذهب يكره الكاثوليكية والقساوسة كرها شديدا، فهو كذلك الشاعر الحر النظرة الواسع الأفق، الذي عشقت روحه الحياة في ربيع العصر الالزابيثي، أو هو أخر الأليزابيثيين كما أحب أن يسميه بعض النقاد، وما يستطيع أن ينظر إلى المرأة تلك النظرة الجافة المعبرة عن التزمت وضيق الأفق!
وهدته حيرته ببعد طول النظر إلى أن يوافق بين منطق عقله ومنزع وجدانه، فجعل للرجل المكان الأول في الأسرة والمجتمع، ووضع المرأة في موضع دون موضعه، ولكنه لم(682/32)
يقصر وظيفة المرأة على عونه والعمل على راحته، وإنما جعل العلاقة بينهما علاقة مشاركة عقلية وروحية قوامها المشاركة بين العاطفتين مما يوثق أواصر المودة ويمكن أسباب السعادة بين الزوجين، ولقد جعل مثل هذه العلاقة كما رأينا أساس الزواج، وإلا كان الطلاق أمرا مقضيا. . .
ويرى ملتن أن الغرض الأول من الزواج حاجة الرجل إلى صلته بالمرأة صلة جسدية وعقلية وخلقية، فما يبلغا كمال إنسانيتهما إلا بهذه الصلة، وما يتم إحداهما إلا بالأخر، وما يكتمل بأس الزوجين إلا متصلين، ولن يزال الرجل في عزلة موحشة مهما يحط به من الناس حتى يتزوج.
ويرجع إلى آدم فيفسر وصف الله سبحانه إياه بالوحدة في الإنجيل بحاجة إلى المرأة، أو إلى الزوجة على الأصح، يقول في ذلك: (يراد بقول الله (وحده) هنا أنه وحده بغير امرأة، وإلا فإن (أدم) كان يحظى بجوار الله ذاته، وكان يحيط به من الملائكة رهط يكلمهم ويكلمونه، والخلائق جميعا تبهج نفسه بما تجد وما تلهو، والله قادر على أن يخلق له مما خلقه منه ألف صاحب، وألف أدم له اخوة يصحبونه، ومع ذلك كله دعاء الله حتى وهبه حواء وحيدا)
وإذا كان الرجل لا يستغني عن المرأة، ولا المرأة عن الرجل، فلا رباط بينهما إلا الحب، أي لا زواج إلا على أساس المحبة والمودة: (فالحب في ناحية إن لم يجد ما يشاركه في الناحية الأخرى، ووجد نفسه يذهب أدراج الرياح، إذ أنه لا محالة ذاهب في مثل تلك الحالة، قد تبقى بعده الصلة الجسدية، ولكنها لن تكون صلة مقدسة ولا طاهرة ولا مشاكل لرباط الزواج، إذ هي في خير حالاتها بعد ذلك لن تعدو أن تكون عملا حيوانيا بحتا، بل إنها أرذل في الحق وأحط مما يرى من ترفق أخرس بين قطعان الدواب والأغنام الإنسانية، وليس للجسم في ذلك أثر يذكر)
ويرى ملتن أن الفسق والشهوة الحيوانية إلى فقدان الحب والتعاطف وقصر العلاقة بين الرجل والمرأة على الجسد ونزعاته، فإذا كانت العلاقة ببن روحية قوامها الحب، فلا فجور ولا فسوق في الحب؛ ولذلك فالمثل الأعلى عنده لحياة الزوجين هو في تلك الأيام التي عاشها أدم وحواء قبل هبوطهما من الجنة، فقد توشجت روحاهما وجسدهما، فلا محل لاثم(682/33)
ولا داعي لطلاق، فانه متى وجد الحب فلا مكان لشهوة، كما أنه إذا سيطرت الحكمة، فلا داعي لقانون. . .
ويتشكك ملتن في مقدرة القانون على أن يمنع الشر منعا تاما، فما لم يسد العقل فلا فائدة ترجى من القانون، وإنما يضيق القانون نطاق الشر نوعا ما ويخفف ضراوته.
وتعظم جرأة ملتن إذ يتعرض للكتاب المقدس، والى أي مدى يؤخذ بأحكامه فعنده أنه يجب ألا نأخذ بحرفية ما جاء فيه، لأنه كثيرا ما حسب مقتضيات الظروف والأزمان، وتطرق إلى نصوصه الفساد؛ وكان لا بد أن يذهب ملتن هذا المذهب، وإلا فكيف كان يتخلص من قول كهذا ينسبه الإنجيل للمسيح: (أن يقطع الصلة بينه وبين زوجته لسبب غير الخيانة ثم يتزوج غيرها، فإنما يقترف خطيئة الزنا)
ويختتم ملتن كتيبه خاتمة هذا شاكية صاخبة، فقد ساءه لقاء أهل عصره إياه، وعلى الأخص البرسبتيرينز، وهم من البيوريتانز الذين طالما وصل حبالهم بحباله، وعلق في الإصلاح عليهم كثيرا من أماله. . .
ونشر ملتن في نفس الشهر الذي نشر فيه كتيبه السالف كتيبا أخر سماه (كولاستيريون) وقد جعله للهجوم، أو الأصح لمدافعة تهجم بمثله، واتخذ شعاره فيه قوله: (أحب الأحمق بما يشاكل حماقته، وإلا صدق أنه فيما يتخيل من خيال)
وعاد ملتن إلى سهامه، وإنها ليريشها الحنق واليأس من عقلية مخالفيه، فرمى أحدهم بأنه من غير المتعلمين، وأنه أقل من أن يعرف الإغريقية أو العبرية، وأنه خنزير لم يقرأ شيئا من الفلسفة، وأنه جاء بآرائه عن الغاية من الزواج من حظيرة خنازير، وأنه أحمق ما جن يحاول أن يحملنا على الضحك بلغوه، وأنه حمار بلغ أقصى حماريته، فما يبالي بشيء. . . إلى غير مما لا يقل عنه سوءا أو هجرا. . .!
ولم يخرج ملتن من وراء صيحاته هذه بطائل، فلا أجابه البرلمان إلى ما طلب، ولا تركه البرسبتيرينز يدعو دعوته دون أن ينعتوه ويحرجوه من زمرتهم، وهكذا بقي موضوع طلاقه مارى بوول رغبة فحسب، لم تجد سندا من قانون ولا عرف؛ ولقد هدد ملتن بالخروج على القانون في كتيبه (تتراكوردون) بقوله: (إذا لم يتح أي القانون ما أريد، فعلى القانون - كما يقضى العقل - أن يتحمل لي وزر ما يترتب على رفضه من عواقب!)(682/34)
وكان ملتن يتردد على سيدة تدعى (مرجريت لي)، وكان يجد بين يديها مثل ما كان يتوق إليه من حديث عذب ومن ذكاء ولباقة لم تعرف زوجه شيئا منها، ولكنها كانت متزوجة، وكان زوجها هو (كابتن هوبسون) أحد أصدقائه من أنصار البرلمان، فهل حاول ملتن أن ينشئ علاقة روحية قوامها المحبة والمودة بينه وبين هذه المرأة؟ ولكن ما غايته من مثل هذه العلاقة وهو لا يستطيع بالضرورة أن يتزوجها طالما أنها زوج لغيره؟ لقد ظلت صلته بهذه السيدة مبهمة الغرض، ولقد اختصها بمقطوعة من تلك المقطوعات الشعرية التي كان ينظمها الفينة بعد الفينة، والتي كانت على قلتها وصغرها قصاراه يومئذ من الشعر؛ وجعل عنوان هذه المقطوعة وهي الخامسة بين مقطوعاته والثانية منذ هجر الشعر (إلى السيدة مرجريت لي)؛ وليس فيها ما ينم عن شيء في علاقته بهذه السيدة، وإنما اقتصر الشاعر على امتداح أبيها والثناء على صفاتها، ذاكرا أن ما عرف عن أبيها من الشرف والنزاهة والإباء ورثته ابنته، فهو واضح جلي في خلقها!
ويتحدث ابن أخته فلبس فيما ذكر من أبناء حياته أنه تحبب إلى سيدة أخرى، ورغب في أن يتزوجها، متحديا بذلك القانون - كما توعد من قبل ويقول (فيلبس) إنها كانت في أول شبابها، فكانت رائعة الجمال، حلوة الحديث، على قدر من الذكاء عظيم؛ ولكنها لم تجرؤ أن تتحدى الناس كما حاول ملتن أن يصنع، وما كانت لتقبل أن تضع نفسها حيث لا تكون زوجة لا في عرف الناس ولا في قانون الكنيسة، وإنما في شرع ملتن وحده؛ ولعل هذه السيدة كما يظن المؤرخون هي موضوع مقطوعته الرابعة التي جعل عنوانها (إلى السيدة صغيرة فضلى)، وقد أثنى فيها على طهر هذه العذراء وعفتها ونبل شمائلها ورجاحة عقلها، وليس يعرف عن هذه العذراء وقد كان يطلق إذ ذاك لقب السيدة على العذراء، إلا إنها كانت ابنة شخص يدعى الدكتور ديفز، كما أنه لم يعلم عن علاقة ملتن بها أكثر مما ذكره ابن أخته!
على أن صلته بالسيدة مرجريت لي وصلته بهذه المجهولة الاسم قد انقطعت كلتاهما بإذعان ماري على غير توقع من أحد وقبولها العودة إلى زوجها!
وتمت عودة ماري على صورة أشبه بالقصة، ولكنا قبل أن نأتي بهذه القصة على سردها نحب أن نتبين سبب عودتها، وقد غابت عن زوجها منذ هجرته نحو عامين!(682/35)
وماذا عسى أن يكون ذلك السبب؟ أهو كما يقرر ابن أخته قلق أهلها وقلقها مما نما إليهم من نبأ اعتزامه. الزواج بغيرها؟ أم هو أفول نجم الملك بعد هزيمة جيشه في معركة نسبي سنة 1645 على يد المستقلين من أنصار كرمول مما يهيئ لرجل مثل ملتن نفوذا وجاها بحيث تطلب الحماية عنده؟ أم يرجع ذلك إلى عسر أل بوول وقد أشرف على العدم مالهم؟ ذلك كله كان خليقا أن يجنح بأهل ماري إلى طلب الصلح!
ولم يعدم آل بوول أصدقاء يوطئون السبيل لهذا الصلح، ولا عدم ملتن كذلك أصحابا أسفوا لما آل إليه حاله أخذتهم به رأفة شديدة!
وكانت ثمة قصة طريفة، فقد أحضر بعض الصحاب من الجانبين ماري إلى منزل لأحدهم تعود ملتن أن يغشاه، وخبئوها في حجرة حتى قدم فدخل حجرة مجاورة، ولم يلبث إلا قليلا حتى دخلت عليه زوجته فألقت نفسها على قدميه باكية تسأله الصفح والمغفرة، وهو لا يكاد يصدق عينيه من الدهشة ولا يدري من فرط حيرته ماذا يقول. . .!
وتوسلت إليه ماري متهمة أمها بما حدث، ملقية كل تبعة عليها، وكانت تتكلم كما لو تكلمت طفلة تبرئ نفسها مما نسب اليها، والدموع تتساتل من عينيها على خديها قد ألهبتهما حمرة الخجل، وفي جسدها كله رجفة شديدة رق لها قلب الشاعر؛ ولبث برهة ينظر إلى زوجته تستغفره وتتوب إليه في ضراعة ومسكنة، كما لو كانت تكفر عن خطيئة، وفي وجهها سذاجة لا أثر للتكلف فيها، فهي لم تزل من عمرها بعد في التاسعة عشرة. . .
وأبت عليه أريحيته إلا أن يصفح عنها وعن أهلها، فما تميل نفس كنفسه إلى التشفي من قوم حطهم الدهر من عل، وأذلتهم الأيام بعد عزة كما تأبى على الفارس فروسيته أن يضرب خصما له هوى أو كبابه فرسه؛ ولم يقتصر على الصفح كرمه ونبل عاطفته، بل لقد أوى أل بوول في بيته جميعا ومن بينهم أم زوجته التي ألقت بنتها على كاهلها كل تبعة؛ وأسدى إليهم بذلك صنيعا لا ينسى، فقد سقطت فورست هلي في يد أنصار البرلمان، وطورد أنصار الملك ومنهم أل بوول فضلا عما حاق بهؤلاء من فاقة شديدة. . .!
ولم يكن صفحة دليلا على نبله فحسب، بل إن فيه شاهدا كذلك على شجاعته الأدبية، فقد كان خليقا أن يسخر منه الناس بعد أن أذاع فيهم من آرائه ما أذاع، وبعد أن ادعى إنقاذ البشر جميعا بما كتب، وبعد أن اتبعه فريق من المعجبين به المتحمسين له، ولكنه وقد تعود(682/36)
ألا يبالي بشيء في سبيل ما يؤمن أنه الحق صفح عن زوجته غير عابئ بما أن يقول الناس!
ولقد ترك لقاء زوجته إياه على هذه الصورة أثرا عميقا في نفسه، فلا تكاد تقع عين القارئ على المنظر آلاتي من مناظر (الفردوس المفقود)، وقد كتبه ملتن بعد ذلك بعشرين عاما، حتى يمسي قوة الشبه بين الصورتين. قال ملتن يصف لقاء بين أدم وحواء: (وجاءت حواء ودموعها لا تني تتساقط، وشعرها تشعث كله، فألقت نفسها متضرعة على قدميه واحتضنتهما سائلة إياه الصلح؛ وظل هيكلها الساجي لا حراك به، حتى أحدث أثره في نفس أدم ذلك الصلح ولده الاعتراف والندم؛ وسرعان ما رق قلبه لها، إذ ألفى بهجة حياته التي لا بهجة له بعد طول الوحدة غيرها عند قدميه في حزنها مذعنة خاضعة)!
واستأجر ملتن منزلا كبيرا غير الذي كان يعيش فيه، يتسع لمن لا يزال يعلم من تلاميذه ولزوجته وأسرتها؛ وقنع الشاعر بحظه، وعاشر زوجه، لا كما طالما تاقت نفسه إليه من مثل، ولكن كما شاء له القدر؛ وفي يوليو 1646 صارت ماري أما وصار ملتن أبا. .!
(يتبع)
الحفيف(682/37)
مشروع مكافحة الأمية على ضوء علم الاجتماع
للأستاذ فؤاد عوض واصف
في العدد 586 من (الرسالة) الغراء كتب الدكتور محمد مندور مقالا تحت عنوان (مكافحة الشكلية)، أراد فيه أن يرد على بحث لنا في مشروع مكافحة الأمية درسناه من وجهة النظر العلمية البحتة، ونشرته جريدة المقطم في العدد 17254 ولم أشأ يومها أن أتولى الرد بنفسي على ما كتب الدكتور مندور مكتفيا في ذلك بما كتبه زملاء أفاضل، هذا فضلا عن حرصي الشديد على أن لا يخرج الموضوع من مجاله العلمي إلى المجال السياسي. ولئن كان مشروع مكافحة الأمية كما وضعته وزارة الشئون الاجتماعية، قد حظي بموافقة الغالبية الكبرى من الكتاب، فإن معارضتنا له لم تخرج عن كونها دراسة علمية منزهة للمشروع، كما ذكرت جريدة الجورنال ديجيبت في عددها الصادر بتأريخ 17 سبتمبر سنة 1944 بعنوان (مكافحة الامية، هل تأتي بثمارها؟).
ولقد طلب إلى الكثيرون، وقد توليت بمفردي معارضة مشروع مكافحة الأمية بصورته الحالية، أن أعود إلى الكتابة في هذا الموضوع الخطير، ولا سيما وأن الاهتمام به ألان كبير.
يتلخص ما ذهبت إليه في بحثي، في هذا السؤال (هل التعليم سبيل إلى الحضارة، أم أن الحضارة سبيل إلى التعليم؟).
هل المدرسة هي التي تتقدم بالمجتمع وتلبسه ثوب الحضارة الحديثة، أم أن المدرسة ظاهرة من ظواهر الحضارة، ووسيلة مبتدعة من وسائلها تتأصل بواسطتها جذورها وتمتد فروعها؟
إن دراسة التاريخ، وهو معمل علم الاجتماع، تدلنا على أن المدرسة في تاريخ الحضارات تأتي متأخرة بعد أن تكون الأذهان قد تهيأت لها، وبعد أن تكون الشعوب قد نالت من المدنية حظا؛ لم تكن المدرسة في يوم من الأيام وسيلة من وسائل التطور الحضاري في شعب متأخر، ولم يكن قبس العلم في عصر من العصور نورا هاديا لشعب لم ينل حظا من الحضارة والمدنية. وهذه فرنسا أم المدنيات كما يقال في العصر الحديث، هل كان مونتسكيو وفولتير جان جاك روسو هم الذين خلقوا الثورة الفرنسية - ثورة الحضارة(682/38)
الحديثة - بتعاليمهم ومبادئهم؟. إن هذه التعاليم والمبادئ لم تكن في الواقع إلا تفسيرا لمعان كامنة في الشعب الفرنسي الثائر. لم تكن الثورة الفرنسية لتولد ولا كان للتعاليم الحديثة من يرجع صداها، إذا لم يكن الشعب الفرنسي قد تنبه بعد إلى معاني الحق وارتقى وعيه الجمعي.
ولكن لماذا نذهب بعيدا، وأمامنا التاريخ المصري الحافل؟ عندما أراد ساكن الجنان محمد على أن ينشئ المدارس ويعد المتعلمين، هل تراه قد صادف في عصره نجاحا ملحوظا، وهو الذي ابتدع في وسائل الترغيب للتعليم ما ابتدع، فكان يدفع للتلميذ راتبا شهريا ويتكفل بكل نفقاته؟. . . لقد كان هرب التلاميذ من المدرسة هروب الرجال من الجندية. وأما ألان وقد بلغ الوعي الجمعي في المدنية المصرية ما بلغ فإن الشكوى لترتفع طالبة زيادة المدارس، فلا تفرض المدرسة فرضا (وإنما ترجى رجاء)
وذلك هو الوضع الحقيقي للمشكلة. ليست المدرسة هي التي تتقدم بالمجتمع وإنما المدرسة ظاهرة من ظواهر المجتمع المتقدم
وما هو المجتمع المتقدم؟. . . انه ذلك المجتمع الذي يهيئ بنفسه وسائل نموه الحضاري، هو ذلك المجتمع الذي إذا فتحت فيه مدرسة لم تكن فرضا عليه بل تكون تحقيقا لرغباته وطلباته، وإذا نودي فيه بالإصلاح، لم يكن نداء أجوف بلا صدى، بل يكون فيه المنادى لسان من ينادى. . .
وليس الفلاح المصري أميا لأنه محروم من مدرسة ومن مدرسين، أو لأنه يعوزه القانون الشديد ليخرجه من حيز الجهالة، بل هو أمي لأنه لم يبلغ بعد في حضارته الدرجة التي يكون فيها عقله مهيأ لقبول العلم. واليوم الذي يبلغ فيه الفلاح المصري هذه الدرجة لن يعوزه قانون يمهد أو سلطة تهدد، بل يندفع إلى طلب العلم من تلقاء نفسه.
أما والفلاح المصري لم يكون فيها عقله مهيأ للعلم بدليل إخفاق التعليم الإلزامي الإخفاق الذريع على رغم ما يكلفه من مئات الألوف من الجنيهات، فإن القانون سيخفق والمدرسة ستغلق وتلك الأماني العراض لن تتحقق.
إن الأمية في الفلاح المصري ظاهرة طبيعية تتحول مع التحول الطبيعي للفلاح، وتظهر أو تنمحي تبعا لما يبلغه الفلاح من الارتقاء في سلم الحضارة. وليس في الإمكان أن يقضى(682/39)
قانون وضعي على قانون طبيعي. وليس في الإمكان أن يقضى قانون مكافحة الأمية الوضعي على قانون الأمية الطبيعي الملازم لحالة الفلاح الحضارية.
إن رسالتنا هي أن نبلغ بفلاحنا ذروة الرقي، وأن نجعل بين القرية والمدينة تكاملا من حيث درجة الحضارة، ولن يكون هذا بفتح المدارس وأعداد المدرسين بل بالاتجاه إلى الفلاح نفسه، فأن المدرسة ظاهرة من ظواهر ارتقائه فحسب.
علينا أن نبذر بذور الحضارة في الفلاح المصري، بأن نجعل من قوانين نموه الطبيعية. إن للمجتمعات في نموها قوانين ليس في طاقة الفرد أن يثيرها، وإنما في طاقته أن يتدبرها ويجعل من مراحلها، فهي أشبه شيء بقوانين نمو الافراد، ليس في طاقة أحد أن يثب بالطفل إلى مرحلة الرجولة دون أن يمر بأدواره الطبيعية. والذين ظنوا أن في قدرة الفرد أن يخلق ويبدع في المجتمع مخطئون، فإن دور الفرد أو دور المصلح في الحياة الاجتماعية دور ثانوي لا يعدو أن يكون تدبرا وتوجيها.
كل ما نملك إذا هو أن ندرس الفلاح وأن نتدبر قوانين نموه ثم ندفع إلى الأمام في طريقه الطبيعي.
والواقع أن الفلاح المصري يتقدم ببطء، إذا قارناه بأمثاله في هم أوربا وذلك يرجع إلى عاملين:
1 - العامل الاقتصادي.
2 - العامل التكويني.
والواقع أن العامل الاقتصادي في رأينا نتيجة للعامل التكويني، لأننا نميل إلى القول بأن الحياة الاقتصادية من خلق الإنسان، وليس كما يقول كارل مارك أن الإنسان من خلق الحياة الاقتصادية في تطوره الحضاري.
لقد اصطلح علماء الاجتماع على تقسيم عقليات المجتمعات إلى نوعين: النوع الأول يعرف بالعقلية السحرية، والنوع الثاني يعرف بالعقلية الوضعية؛ والنوع الأول من العقليات سمة الشعوب المتأخرة، والنوع الثاني سمة الشعوب المتحضرة. ولابد لكل مجتمع من أن يمر أولا بالمرحلة السحرية وأدوارها، ثم ينتهي إلى المرحلة الوضعية.
أما المرحلة السحرية في المجتمعات فتتميز بتفشي المعتقدات الشعبية وعدم التميز الواضح(682/40)
بين سبب ومسبب حتى تكاد الظواهر كلها تختلط وتنسب إلى قوى غامضة ومجهولة. والارتباط المنطقي يكاد أن يكون معدوما في عقول الناس في هذه المرحلة، فالمرض يرجع إلى قوة غامضة قد تكون الزار في أغلب الأحايين وما إلى ذلك مما يدل على تفكك الرابطة المنطقية في العقول، أما المرحلة الوضعية فعكس ذلك تماما. . .
وواضح من هذا أن الفلاح المصري لا يزال في المرحلة السحرية، وعلينا إذا أردنا له تقدما أن نعجل مرحلة الانتقال من الحالة السحرية إلى الحالة الوضعية.
ذلك هو العامل التكويني، فعلينا إذا أن نعمل على أن يبلغ فلاحنا المرحلة الوضعية بكل ما أوتينا من مجهود، فذلك هو السبيل المنشود. . .
ودراسة التأريخ تدلنا على أنه حينما وجدت الآلة انبثقت الحضارة، ذلك لان للآلة أثرها في عقلية من يمارسها، أنها تطبع العقل بالطابع الوضعي، طابع القانون الذي يربط بين سبب ومسبب. . . فالآلة تدور، ولكنها تدور وفق نظام متماسك لا يلبس أن يتكيف به عقل من يمارسها ومن هنا لا تكون رسالة الآلة رسالة إنتاج بقدر ما هي رسالة عقليات وحضارات. تدور الآلة فلا يلبث التفكير المفلك أن يتماسك، ذلك لان من طبيعة الإنسان أن يدرك بالفكر ما يعمل باليد والآلة تقتضي نظاما وقانونا يلمسه عامل الآلة باليد ويشاهده بالعين فلا يلبث طويلا حتى يدركه بالفك، ويصبح القانون والنظام من طبيعة تفكيره؛ لقد سبق الإنسان العامل الإنسان المفكر في أدوار التاريخ كلها، وما الصيغ والرموز التي يصطنعها الفكر في الواقع إلا تجريدات لوقائع ملموسة باليد ومشاهدة بالعين.
نحن إذا ننشد العقلية الوضعية كخطوة أولى من خطوات الإصلاح، وليس من سبيل إلى تحقيق هذا غير الآلة. ولسنا نعني بذلك أوضاع الصناعات الضخمة والآلات العظيمة مما قد لا يتيسر لنا ألن، وإنما نعني من الآلة صغرت أو كبرت كمعنى النظام والترابط والقانون. وان في قدرة الصناعات الزراعية البسيطة تحقيق ما نرجوه، وهذه الدانمارك، تلك البلاد الصغيرة لقد حققت حضارة عظيمة تعد من أرقى الحضارات الأوربية على أساس هذه الصناعات الزراعية البسيطة.
كأن مشروع مكافحة الأمية مصيره الإخفاق لان الأرض لم تعد ولم تعبد بعد. وإنما السبيل إلى تحقيق هذا المشروع هو إيجاد العقلية الوضعية، عقلية الحضارة والمدنية التي تلتمس(682/41)
سبل التقدم في مجال العلم.
والذي يدلنا دلالة قاطعة على أن الصناعات تهيئ لعقل الجمعي لطلب العلم والاستزادة منه ذلك الإحصاء الذي يدلنا على أنه في سنة 1500 م لم يكن من 10 % من شعوب أوربا الغربية حاصلين على قدر من الثقافة. وفي سنة 1700 م ارتفعت النسبة قليلا حتى إذا جاءت سنة 1800 م، وظهرت المنتجات الصناعية في أوربا بلغت نسبة المتعلمين نحو 75 %؛ أي أنه في أقل من قرن واحد ارتفعت النسبة بمقدار 65 %.
وبمقابلة بعض البلدان الصناعية بغير الصناعية يتضح مقام نصيب الصناعة في تهيئة الشعب لقبول التعليم نتيجة للعقلية الوضعية.
ففي كل من المملكة المتحدة (بريطانيا) وألمانيا واليابان لا يوجد غير 1 % لا يعرفون القراءة والكتابة. وفي أمريكا 6 % وفرنسا 8 % وبلجيكا 9 % وجميعها من البلدان الصناعية.
أما في البلدان التي لم تتقدم فيها الصناعة فالأمر يختلف عن ذلك. ففي أسبانيا 54 % وفي الهند 90 % الخ.
من كل ما تقدم نستطيع أن نستخلص ما يلي:
1 - أن الحضارة تولد قبل أن يولد التعليم وما التعليم في الواقع إلا أداة للحضارة تستغلها لاطراد نموها وسموها.
2 - من أكبر العوامل التي تلد الحضارة نشر الصناعة وظهور المنتجات الصناعية لما يستتبع ذلك من تكييف عقلية الشعب بالقالب الوضعي الحضاري.
3 - الظواهر الاجتماعية وفيها ظاهرة الأمية لا يمكن القضاء عليها بقانون لان لها مراحلها الخاصة وعواملها الخاصة.
ليس إذا لب المشكلة في أمية الفلاح، وإنما في حالة الفلاح العقلية ونصيبها من قبول العلم.
فؤاد عوض واصف
ليسانسيه في علوم الفلسفية(682/42)
القمر. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
قلبان في نورك الهيمان يا قمرُ ... هاما، وبينهما الأشواق تستعرُ
يسترجعان الليالي بعد ما غبرتْ ... وقد تولى الندامى، وانطوى السمر
وهوَّم الصمت إلا خفْق أجنحةٍ ... من الشعاع هي الأطياف والذكَر
وعُطِّلَ النْايُ بعد الصدح واحتبست ... فيه الأغاني. . . فلا شادٍ ولا وتر
وأغْفَتِ الطيرُ في أعشاشها، وصحَا ... من حولها نسمٌ يندى به الزهَر
وأرهفت الليل للقلبين مِسْمَعَه ... قلبٌ قريرٌ، وقلبٌ كاد ينفطر
يشكو الجراح لعل النور يٌبرئها ... فلن يُضَمِّدها إلاَّك يا قمر
قلبي الذي بات يصْلَي منكَ جمرته ... وقد حبتْهُ بلذع دونَه سقر
قلبي فراشتك الحمقاءُ قد جهلتْ ... بأنها في سناك الحلو تنتحر
ترودُ في نورك الرَّقراق مصرعها ... والحبُّ أقتلُ ما يرمى به القدر
قلبي تُخادِعه أنوارُك انبثقتْ ... ذكرى تعود مع الماضي وتنحدر
يسرى مع النُّور سَبْحاً في جداوله ... حتى يكفكف من أضوائِكَ السُّحَر
صدْيانُ والنور يُروِى فيه غُلَّته ... فليس ينقعها نبع ولا نهر
هّيمان. . . والنورُ في واديك يا قمُر ... فحقق الحلم لا يُبقي ولا يذر
وقُصَّ من سور النجوى ملاحمها ... لعل تجدي لديها هذه السَّور
أقضي اللياليَ أنات مُردَّدةً ... والشاهدان علىَّ النجم والسهر
علَّ الأماني التي ولت براجعةٍ ... مع الربيع فيزهو روْضي النضر
وأصطفى مجلس في العشب أعمرُه ... وقد تقادَم فيه العهدُ والأثر
أقتاتُ زهر الربيع البكر مؤتلقاً ... بالنور حتى يكاد النور يُعتصر
أُسقاه خمراً صَفَتْ في كرمِها وزهتْ ... دُرَّيَةَ الكأسِ يخشى لمحها البصر
يا طالما بتُّ أحسوها فإن فرغت ... كأسي ففي عينها خمرٌ هي الحوَر
يا ليلة النور في السفح الظليل هنا ... هل ترجعين بما قد كنتُ أدخر
وما ادخرت سوى لقيا ضننت بها ... هنا، وكاد يحن الرمل والحجر(682/43)
فإن سمحتِ بها نِلْنا أمانينا ... فليس ثَمَّ سواها منكِ ننتظر(682/44)
فلسطين!
للأستاذ كمال النجمي
علت صيحة كالعد دوّى هزيمُها ... تحامي صداها واتقاهُ غريمُها
أُلَّمت بأسماع الطغاة فزُلزلت ... وخزَّ قلوبَ المؤمنِين أليمها
هفت من فلسطينٍ إلينا فنبهت ... نياماً قلاها كهفُها ورقيمها
وسالت لها منا حُقود قديمة ... على الغاصبِ الباغي يحبش كظيمها
لقد جحد الباغي فلسطينَ حقَّها ... وأسرف في جور عليها ظلومها
لها الله من مهضومة غِيلَ أمنها ... وحال عذاباً خفضُها ونعيمها
تقاعس عنها حين ضِيمَتْ وليُّها ... وأسلمها لحادثات حميمها
وكان لها في العُرب لولا جمودهم ... حسام إذا ما اهتز ريعَ خصيمها
بني يعرب تدعو فهلا أجبتمُ ... سلبية حق أثخنتها كلومها
أبوتكم ترنو لكم من قبورها ... وتدعوكُم أنجادها وقرومها
همُ جاهدوا في الله حتى توطدت ... ديارهُم أَمْناً وقرت تخومها
مضوا في الدنا شرقاً فأسلم فَرسُها ... وساروا بها غرباً فسلم رومها
لهم ذكريات يعبق المسك إن سرت ... ويذهبُ بالألباب سكراً شميمها
فسيروا على هَدْى الجدود فانهم ... سمواتُ حقِّ لا تغيب نجومها
دعتكم فلسطين وقد ضاق سجنها ... وزاد أساها قيدها وشكيمها
وحلت بها من وعد بلفور ظلمة ... من الليلُ يُعمي المبصرين بهيمها
مرابعها الفيح الضواحك أصبحت ... يهيج الشجونَ الكامنات وجومها
حدائقها نهب الذبول زهورها ... وأشجارها نهب الرياح هشيمها
تبكّي الغصونَ الذاوياتِ طيورُها ... ويرثى الورودَ العاطراتِ نسيمُها
فأضحت وقد كانت مناظر جنة ... تهيج دموعَ الأوفياء رسومها
بني يعرب حان التأهب فاشحذوا ... عزائمكم حتى يصحَّ سقيمها
وكونوا كما كان الألى أنجبوكُم ... نفوساً كباراً واسعاتٍ همومها
إذا اتسع الهم العظيم حملته ... وقمن به تضيق جسومها(682/45)
فلسطينُ بابُ البيت روّع أمنها ... وديس وأنتم تنظرون حريمها
فلا توجلوا من موتة ليس بعدها ... سوى جنة فيحاء طاب نعيمها
ولا تطلبوا بالقول حقاً مضيعاً ... فبالسيف يسمو للعلي من يرومها
لقد سفرت إنكلترا وحليفها ... بأوجه مَيْنٍ كالجليد أديمها
وخلفَهمُ الشذّاذ من كل بقعة ... نفت لؤمهم استراح كريمها
سنقسو ذيادا عن حقوق بلادنا ... وننشدها حتى يُرَدَّ هضيمها
ليعلمَ جزارُ الشعوب بأننا ... صراغمُ غاب لا تلذ لحومها(682/46)
لغات الكتابة. . .
عظمتها في رصانتها ووقعها الموسيقي
للأستاذ نصيف سركيس
ترهف الآذان لكل صوت شجي، وتنجذب العواطف شطر النغم الموسيقي، وتخضع القلوب مأسور ولألحان الجرس التوقيعي.
وهكذا الطبيعة في جمالها ورونقها، في صخبها وسكوتها. في عبوسها وضحكها، في إشراقها وحلكتها، في تغيراتها البديعة المفاجئة إنما تبعث في النفس الحب والهيام وتشع في الروح الفتوة والكمال.
الطبيعة برعدها القاصف ما هي إلا خطر يهلع له قلوب البعض وتقشعر له أبدان الآخرين.
والطبيعة في تغاريد طيورها وحفيف أشجارها ما هي إلا وحي عطوف يستمد الشاعر منها إلهامه، ويعب الكاتب منها لخيلائه ويراعه.
فإذا كان الكاتب ملهما، وله من الحواس النشطة ما يحمل إلى خبايا اللب من الداخل صورة لطيفة وطابع جميل فهو يعيش في نعماء هذه الحياة يعبر إذا ما كتب عما يخالج نفسه، ويجول في فؤاده من تلك المناظر الطبيعية الخلابة، وأما إذا كان لا يعبأ بما يحوط به من أجواء ولا يحاول أن يستلهم من الطبيعة مادة لقلمه فهو جاف الشعور فاتر الإحساس مبتور القول والخيال.
فالطبيعة تنشد الموسيقى، وأنغامها تهتز لها الأجواء وتترنح لها دوحات الأشجار وترقص لها الطيور. والإنسان بفطرته تستهويه هذه الأنغام، وتملك عليه ناصية رشده، وزمام عواطفه فإذا قرأ رسالة منسقة، منسجمة في مقاطعها ونبراتها، تاه في خيلائها، وأخذ ينشط في تلاوتها وحذقها. وقد لا يهدأ روعه وتخمد ثورة جشعه في بعض الأحايين إلا إذا أعاد قراءة هذا المقال مرة ومرتين. فإذا ما بلغ قصده من قراءاته إلا متكررة يكون عقله الباطن قد اصطفى ما راق لذوقه وعذب لنفسه. فلا يشعر بعد ذلك وهو في خلوته وكتاباته إلا مكررا لبعض ما استساغه، وقويت ذاكرته على استخلاصه.
كل ذلك وهو في نشوة من الفرح والارتياح، وكل ذلك وهو على يقين بأن قبس ذلك النور الذي أشرق على خيلائه وذاكرته إنما هو راجع إلى ذلك الأسلوب الموسيقي العذب.(682/47)
فللاتساق والجرس وقع في النفس عظيم، وللجرس في توقيعه وأنغامه ما يجذب لب القارئ ويستهويه. وإذا الاولى، والتي نعمل أساسها في إيثار كاتب على أخر.
هذا ويدلنا علم النفس على أننا نذكر دائما كل حسن وجميل وأنه يعلق بذاكرتنا كل نغم لطيف بخلاف الأقوال المبتذلة التي تلوكها الألسنة بين حين وحين، فانه كثيرا ما يعاف القارئ تلاوتها وتأنف النفس توفير أسباب النشاط لاستيعابها وصونها. فإن غلب على القارئ الامر، وأجبر على النظر إلى مقال من هذا الطراز إنما يخرج منه وقد ألفى نفسه يرغي ويزيد لما لحقه من النكد وسوء الطالع لتصديع النفس بقراءة كلمات مرصوصة نابية، لا تنم حسن ذوق أو فصاحة بيان
هذا ولا يحتاج الكاتب إلى استهداء العبارات السلسة ذات الجرس الموسيقي واستندائها فهي تأتي مع السليقة والمران، تأتي مع القراءة لفحول الكتاب ونوابغ الشعراء، وهي بهذا تأتي محمولة على الطبع غير متكلفة.
وهذا ولا شك يعد أعلى درجات الكلام. فإذا تهيأ للكاتب أن يأتي به في كتابته كلها على هذه الشريطة فانه يكون قد ملك رقاب الكلم يستعبد كرائمها ويستولد عقائمها.
والألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر. فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل الأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة، وما مثال الكاتب الذي لا يشعر بوقع أنغام العبارات الشجية في أعماق قلبه وبجرسها الموسيقي في صميم فؤاده إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كلوة، وبين صورة فتاة هيفاء فاتنة الجمال ذات وجه مشرب بالحمرة، وخد أسيل وطرف كحيل، وثغر فاتن، وقد مياس.
فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه. فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين الألفاظ الممجوجة العادية والألفاظ المنتقاة الموسيقية، ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام. فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب.
يقول (أبركروسي) ولابد للأديب أن يعرف كيف يجمع في فنه كل ما احتوته الألفاظ من قوة التعبير والتصوير، وكل ما من شأنه أن يساعد على التوصل بحيث يستثير الخيال، ويصرفه كيفما شاء. ويجب أن تكون الألفاظ قوية التعبير لكي تستطيع الإبانة عن تجارب(682/48)
المؤلف المراد توصيلها وتفهيمها، كذلك يجب أن تكون الألفاظ صالحة لان تحكي تلك التجارب وتصورها بصور واضحة.
أما التشبث بأهداب اللف والدوران، والقول بأن السهل الممتنع هو أسمى أنواع الكتابة؛ ولكن هل كل مبتذل. . . . سهل ممتنع وهل كل أسلوب دارج أقرب إلى لغة التخاطب منه إلى لغة الكتابة هو بيت القصيد؟
نعم إن الجمال سهل معجب، ولكنه سهل على من؟! وبعد ماذا؟! على الذين يقدرونه ويحبونه، وبعد الخبرة والممارسة والتذوق والتهذيب، فليس معنى السهولة في جمال الفنون أنه رخيص مباح لكل من يرمقه بجانب عينه، ولا أنه غني عن التأمل والتفكير. ولكن معناه أنه سهل لمن يستعد له استعداده ويبذل فيه ثمنه. وكذلك الثمرة الشهية سهلة سائغة لمن يشتريها ويغرسها، ولكن ليس معنى ذلك أنها تمطر من السماء وتطرح على التراب أو تنمو كما ينمو نبات السحر.
ولو كان الغرض من اشتراط السهولة في الجمال أن يكون سهلا على كل من يطلبه وبلا تفاوت في الدرجات والمواهب لما كان في الكتابات رسالة واحدة جميلة، أو حقيقة بأن توصف بالجمال، فإن كتابات شكسبير سهلة على بعض القراء، ولكنه من الألغاز والمعميات على أناس آخرين، وان هؤلاء الآخرين قد يطيب لهم أساليب بيرون، ولكنه إذ أقرئ على من دونهم من الفطنة والشعور عابوه واستثقلوه أو كابدوا في فهمه الصعوبة التي تنفي صفة الجمال، وهكذا إلى أن تهبط إلى طبقة تستصعب شعر هؤلاء جميعا، ولا تجد السهولة الجميلة إلا في الأزجال الغثة والأناشيد الوضعية، وما في منزلتها من الأساليب المبتذلة الركيكة. فإذا جعلنا السهولة ميزانا لنا في الفنون، واتخذنا الشيوع عنوانا على السهول، فقد نتمادى في ذلك حتى يصبح لثغر الأطفال في عرفنا نماذج البلاغة العليا، ثم تنحدر البلاغة سفلا حتى تنتهي إلى فحول الشعراء وأئمة الكتاب والفصحاء.
فلا صحة إذا فيمن يقول بأننا نعمل على تقديس القديم واستساغة ألفاظ العهد الغابر ذات الجرس الموسيقي، والذي لا يتمشى مع روح العصر ومستلزماته، فما هذا إلا محض افتراء وقدح معيب توصم به لغة البلاد الراقية النفسية. فالكتابات المبتذلة العادية والتي اجمل عليها حملتي الشعراء لا يمكن أن تجد دفاعا عنها في هذا المضمار بعد أن بينت(682/49)
تفاوت الأذهان والعقليات في الحكم على ما يدعى من الكتابات بأنها سهلة فصيحة أو سهلة ممتنعة
وهكذا فالكلام يحسن بعذوبته وجزالته ورصانته مع سلاسته ونصاعته. وإذا اشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من حيث التآلف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب فقبله ولم يرده، وعلى السمع المعيب فاستوعبه ولم يمجه. والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ وتقلق من الجاسي البشع. وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه وينفر عما يضاده ويخالفه، والفهم يأنس من الكلام رقيقة وعذبة، وينقبض عن الوخم ويتأخر عن الجافي الغليظ ولا يقبل الكلام المبتذل
وليس هذا هو الشأن في إيراد المعاني. ولكن المعاني يعرفها الجاهل والعالم والكاتب الحصيف ذا الخيال الرائع والكاتب الناحل من كل ذوق وبراعة. وإنما الشأن هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ولا يقنع من اللفظ بذلك.
ومن الدليل على أن مدار البلاغة تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والكتابات الراقية ما عملت لإفهام المعاني فقط وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته ورونق ألفاظه وغريب مبانيه على فضل كاتبه وفهم منشئيه.
وقد قال عبد الكريم الموصلي في كتابه (المثل السائر):
(إن خواطر الناس وان كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ ثم يأتي الأخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينها من غير علم منه بما جاء به الأول).
لاشك أن حسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا فإذا كان المعنى سلبيا ورصف الكلام رديا لم يوجد له قبول ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا كان أحسن وقعا وأطيب مستمعا. فهو بنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعا في المرأى وأن يكن مرتفعا جليلا وان اختل نظمه فضمت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وان كان فائقا ثمينا. وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في(682/50)
مواضعها ويحلى جيدها برنين الجرس الموسيقي وما يحمله ذلك وقع جميل إلى حبات القلوب.
لا بأس بعد هذا من أن أكرر القول بأن لكل مقام مقالا وليست وظيفة الكلمات في الأدب كوظيفتها في العلوم. هي في الثانية وسيلة لتفهم الأسرار العلمية فهي شيء كمالي بالنسبة للفكرة ولكنها في الأولى جزء لا يتجزأ من النص الأدبي. فالأدب يستعمل اللغة استعمالا كاملا ويستغل كل قيمتها من جمال وتأثير ومعنى، ولا يستطيع أن يسقط الألفاظ من حسابه كما يفعل العلم أحيانا، واللفظ في الأدب لا يكون مجرد تصوير للفكرة وتأدية للمعنى، فأن الرنين الذي يصحب العبارة أو الفقرة يساعد على الابتداع ويخلق في ذهن المستمع جوا لا تقل قيمته الفنية عن إفادة المعنى.
فإذا أحطنا علما بمزايا تلك اللغة الرصينة، وأيقنا أن زمامها مسلم لنا، فنعدوا بها ونكبحها كيفما شئنا وكلما دعت الحال إلى ذلك. وإذا سلمنا بوقعها في النفس وإيثار العاطفة الإنسانية لها دون غيرها فلا يكون بدعا بعد ذلك إذا ما وقفنا بها قدما وجعلنا منها نورا للهدى وينبوعا للكمال فهي التي لا يفتر لها لا أشعار ولا ينضب لها معين.
نصيف سركيس(682/51)
البريد الأدبي
. . . وكفى!
كان في تركيا رجل ماجن سكير ما يفيق، اسمه بكري مصطفى فضاقت بسبل العيش مرة حتى ما يجد ثمن الكأس من الخمر. ففتقت له الحيلة أن أطال لحيته وكبر عمامته، وذهب إلى الأناضول فسعى حتى جعلوه إماما للمسجد وواعظا للقرية. . .
وكان يسير يوما فرأى جنازة، فأمر بها فوقفت، وأنزل النعش، فانحنى عليه كأنه يسامره ثم قال: ارفعوها وامشوا، فسأله بعض خواصه، ماذا قال لها، فقال:
- قلت للميت، إن سألوك في الآخرة عن أحوال الدنيا، فلا تطل الحديث، قل لهم صار الإمام بكري مصطفى. وكفى!
ونحن إن سئلنا ما حال الأدب اليوم، نقول:
إنه صار بين كتاب الرسالة، من يمر في معرض الكتب على (وفيات الأعيان) فيضحك عليه كما ضحك على كتاب (الأدلة القطعية على عدم دوران الكرة الأرضية) مغرقا في الضحك (لأن مؤلفه) ولم يدر (حضرته. . . .) من مؤلفه (لم يجد ما يكتب عنه إلا يسرد وفيات الأعيان، كأن الدنيا وما فيها لا تهمه، وكأن الإصلاح الاجتماعي لا حاجة بنا إليه. . .)
وإذا لبثنا على هذا (التقدم) فسيجيء في معرض الكتب التي من يمر على (الأغاني لأبي الفرج فيقول: ما لهذا المؤلف لم يجد ما يكتب عنه إلا جمع أغاني الاسطوانات، وطقاطيق الرقصات. . . كأن الدنيا. . . وكأن الإصلاح. . .
ويضحك أيضا. . .
ويبكي من هذا الضحك العلم والأدب والفن؟
علي الطنطاوي
طيزناباذ في نقل الأديب:
ذكر المحقق العلامة محمد إسعاف النشاشيبي في نقله الممتعة في العدد 678 من الرسالة الزاهرة أن محمدا بن مسروق البغدادي قال: خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت(682/52)
أغني هذا البيت:
بطور سيناء كرم ما مررت به ... إلا تعجب ممن يشرب الماء
أقول إن هذا الخبر ينسب لأبي نواس فقد جاء في الصفحة 202، 203 من أخبار أبي نواس لابن منظور (قال بعضهم صار إلى الحسن بن هانئ في ليلة من الليالي وهو مرعوب فنزع ما كان عليه من الثياب وأخذ قميصا وسراويل وأراد أمرا يتأتى، ثم تطهر ولبسها وما زال يصلي باقي ليلته إلى الصبح، ثم أصبح صائما عن السبب في ذلك فقال: كنت منصرفا من بعض المواخير، فاجتزت من مقبرة فبينما أنا ماش فيها إذ أنشدت قول ذي الرمة:
بطيزناباذ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فأجابني مجيب من المقبرة أسمع صوته ولا أرى شخصه:
وفي جهنم ماء ما تجرعه ... حلق فأبقى له في الجوف أمعاء
وفي رواية الأستاذ النشاشيبي تصحيف ذهب بروعة البيتين وأفسد معناهما، إذ قال (بطور سيناء) والصحيح بطيزناباذ وقال في البيت الثاني (خلق) والصحيح حلق.
وهذا هو الصواب على رأينا فنرجو من الأستاذ أن يتحقق من ذلك.
وقد وجدت الأستاذ يهمز اسم أبي نواس كلما ذكر اسمه، والصحيح أن اسمه لا يهمز فما هي علته في ذلك.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
توحيد القوانين في البلدان العربية:
من أخبار دمشق أن اللجنة القانونية التي اجتمعت في بلودان ثلاثة أيام برياسة الأستاذ عبد الرزاق السنهوري باشا، قد وافقت على القرارات التالية:
1 - وضع تشريع تجاري برى موحد في نصوصه أو على الأقل في مبادئه العامة، والشروع فورا في توحيد أحكام الوثائق التجارية في البلدان العربية
2 - وضع مشروع قانون موحد للتجارة البرية والبحرية(682/53)
3 - إنشاء معهد للفقه الإسلامي ملحق بجامعة فؤاد الأول كيان مستقل وميزانية خاصة ومجلس إدارة خاص يعمل على تخريج الباحثين في الفقه الإسلامي وإصدار مجلة دورية
4 - توحيد المصطلحات القانونية بين دول الجامعة والبدء بمصطلحات قانون العقوبات أصول المحاكمات القانونية والتجارية
5 - وضع قانون موحد لمكافحة المخدرات
وقد وافقت الهيئة العامة للجنة على مشروع القانون الموحد الخاص بحماية حقوق المؤلفين وستعرضه على الجامعة العربية لإبداء ملاحظاتها عليه.
في أصول الكلمات:
قرأت ما جاد به قلم كاتبنا الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد تحت عنوان (أصول الكلمات) افتتاحية لعدد ال 677 من (الرسالة) الشهيرة فتوقفت عند قوله: (كذلك قال الأب أنستاس، وقد عقب عليه الأستاذ روكسي بن زائد العزيزي معلم العربية بكلية تراسانته بالقدس في مجلة الأديب البروتية فقال: (فلو قلنا إن العرب قالوا) عين القلب ثم نحتوا من الكلمتين كلمة واحدة - عقل - لما أبعدنا عن الصواب. ولو سايرنا ما ذهبتم إليه وقلنا إن العقل من عق لكان مقبولاً لأن العقه هي اليرقة المستطيلة في السماء، وهل العقل إلا وميض النفس وعين القلب)؟
والذي أريد أن أقوله: إن الأستاذ الكبير خلط بين ردي على الأب مرمرجي الدوضيكي، وتنبيهي إياه على تحريفه لأقوال الأب أنستاس ماري الكرملي المثبتة في مجلة لغة العرب، وأقوال الأب الكرملي نفسه.
روكسي بن زائد العزيزي(682/54)
الكتب
(كتب وشخصيات)
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ أحمد فؤاد الأهواني
قال لي: الأستاذ سيد قطب سأهدي إليك كتابي الأخير (كتب وشخصيات) على أن تستبقي قراءته إلى ما بعد عودتك إلى القاهرة، فلا ينبغي أن يشغلك عن الاستمتاع بهواء البحر القراءة والاطلاع. غير أني خالفته في نصيحته، فقرأته وهو يزيد على ثلاثمائة وخمسين صفحة
ولم تكن هذه الصحبة شاقة أو مملة، إذ أن فصول الكتاب منوعة حتى كأنك تتنقل من بستان إلى بستان أو من زهر إلى زهر. وليس غريبا أن تشبه الأدب بالأزاهير. فهو حقا زهر الفكر.
تحدث عن وظيفة النقد وأصوله، ثم انتقل إلى عالم الشعر ووقف عند العقاد الشاعر، ثم رحل إلى عالم القصة والرواية فطرق أبواب القصاص والروائيين، وحلب طرائقهم، ونفذ إلى صفحات نفوسهم. طه حسين، توفيق الحكيم، المازني، عزيز أباظة، خليل هنداوي، نجيب محفوظ، عادل كامل، محمود تيمور، يحي حقي، السحار. ثم طاف بالنفس والعالم فتحدث عن البيادر لميخائيل نعيمه، وأومن بالإنسان لخلاف، وسندباد عصري لحسين فوزي، والعناصر النفسية في سياسة العرب لشفيق جبري.
وانتقل بعد ذلك إلى البحوث والدراسات، فكتب عن عبد القادر حمزة وأنطون الجميل والزيات وعلي أدهم، واختتم الكتاب بالكلام عن التراجم والتاريخ موازنا بين العقاد وهيكل وطه، وبين المازني وعبد الرحمن صدقي وعبد الحليم عباس، وبين كرد علي وطه الراوي.
فأنت ترى أن العنوان موافق لمضمون الكتاب: استعراض لكثير من الكتب، وتحليل لشخصيات أصحابها.
والكتاب ظل لصاحبه، وفيض لنفسه، وهل يوجد كتاب بغير كاتب؟. وفي الحق إن(682/55)
شخصية الكاتب هي مفتاح الكتاب، وفهمها يبعث في أوصاله الحياة، والذين يتحدث عنهم الأستاذ سيد قطب من الأحياء، نعرفهم بأشخاص ونراهم ونتحدث إليهم، ونسمع عنهم، وأكبر الظن أنهم جميعا من أصدقاء الأستاذ سيد قطب، أو على الأقل اتصل ببعضهم صلة شخصية، تيسر له النفاذ منهم إلى الأعماق ودراسته لكتبهم، فكان الأولى أن يجعل العنوان (شخصيات وكتب) لولا رنين الإيقاع.
وكتاب الأستاذ سيد قطب محقق الفائدة، لأنه يعرض رأيه في صدق وقوة ونفاذ. والأصح أن أقول انه يعرض شعوره وإحساسه بدلا من رأيه لأن مسائل الأدب، شعرا كانت أم قصصا أم دراسات تحليلية، إنما تدرك بالذوق والشعور لا بالمنطق والعقل، ولو أن الفصل التام بين العقل والعاطفة مستحيل.
وهنا قد يختلف القارئ مع الأستاذ سيد قطب في أحكامه، فيرجع كاتبا على كاتب، أو يعجب بشاعر دون شاعر. وقد تتفق مع المؤلف في إعجابه ولكنك تجهل سبب الإعجاب، فيقدم لك العلة والميزان. ومن الواضح أن سيد قطب يعجب بالأستاذ عباس العقاد ويقدمه على السواء. وسوف تعرف علة هذا الإعجاب عندما تقرأ الكتاب.
وللأستاذ العقاد شعر جيد تذوقته عندما عرض بعضه سيد قطب. وتسألني لماذا تتذوق هذا الشعر من قبل، فأقول إنني أرهب الشعر، ولا أقدم على قراءته. ولقد يزيد عجبك إذا عرفت أنني كنت أقرض الشعر وأنا صبي صغير في الحادية عشر من عمري، حين كنت بالسنة الأولى بالمدارس الثانوية، ثم غفر الله لمدرسي اللغة العربية الذين قتلوا في نفسي هذه الموهبة، بل صرفوني حتى عن قراءته بما كانوا يختارونه لنا من شعر سقيم لا يحسنون الدخول إليه والاحتفال به. وأذكر أن الأستاذ الزيات ذهب هذا المذهب في كتاب (دفاع عن البلاغة) فأرجع بعد الناشئين عن الكتابة البليغة إلى المعلمين. ومن الإنصاف أن أذكر طه حسين بالخبر في هذه المناسبة فقد حضرت عليه درسا في الأدب العربي بالجامعة المصرية سنة 1925 كان يشرح فيه معلقة النابغة الذبياني، فكان المدرس الوحيد الذي دفعني إلى تغير رأيي في الشعر العربي. ولكن عاما واحدا لم يكن كافيا لتخلص لي ذوق الشعر، فظللت حتى الآن منصرفا عنه لا أحفظ إلا الأبيات القليلة، ولا أستطيع الانقطاع إلى قصيدة بتمامها.(682/56)
فمن الخير لشبابنا أن يقرءوا كتب النقد لتبصرهم بالجيد من الأدب الحديث حتى يسيروا على هدى وبصيرة فلا يضلوا الطريق
وليس في نقد الأستاذ سيد قطب للأدباء والشعراء والكتاب الذين تعرض لهم عنف أو قسوة أو اعتداء. بل لا على العكس من ذلك، تحليل هادىء، وتقدير صحيح، وميزان أقرب إلى الاعتدال فيه تشجيع ورفق. وهذه هي وظيفة النقد، لا يبتغي أن يقسو الناقد حتى يتهم بالتحيز والهوى، أو يسرف في التحية ويغمض العين عن المساوئ والعيوب وكذلك لا يجب أن يغضب الكاتب إذا انتقدت آثار، لأنها أصبحت ملك الجمهور، بل نقدها دليل على أنها شيء مذكور.
وهنا أحب أن أخالف الأستاذ سيد قطب في بعض أحكامه ولن يكون هذا الخلاف في ميدان الشعر بطبيعة الحال لأني أجهله.
أخالفه مثلا في تقديره لقصة قنديل أم هاشم من قلم يحي حقي، ليست القصة تحت يدي الآن، وقد قرأتها حين ظهورها في سلسلة اقرأ، وأذكر أنها تعجبني، ولا أزال أذكر الأسباب: منها أن الموضوع مطروق، ومع ذلك فليس هذا سببا لضعف القصة إذا أحسن صاحبها تصويرها، وقدم إليك السياق في جمال وإبداع يعوضك عن عمق الفكرة وأصالة الموضوع. والأفكار الخالدة هي تلك التي تكشف عن النواحي الإنسانية العامة الصالحة للحياة في كل زمان وفي كل بيئة. وليس في قنديل أم هاشم ذلك التحليل العميق للنفس البشرية، حتى إذا نقلت القصة إلى لغة أجنبية نالت الإعجاب. ويبدوا أن صداقة الأستاذ سيد قطب للمؤلف هي التي دفعته إلى تشجيعه، ومن آيات هذه الصداقة أنه يقول عنه. أوه! يحي حقي! أين كانت كل هذه الغيبة الطويلة؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب.
نرجو أن يعود يحي حقي إلى الميدان، فالقصاص عندنا قليلون.
ونرجو أن يتابع الأستاذ سيد قطب نقداته فهو حقا من خيرة النقاد في مصر.
أحمد فؤاد الأهواني(682/57)
العدد 683 - بتاريخ: 05 - 08 - 1946(/)
مراجعة ديمقراطية
للأستاذ عباس محمود العقاد
معرفة الحاضر على ضوء الماضي كمعرفة الماضي على ضوء الحاضر: كلاهما وسيلة من وسائل المعرفة الصحيحة بعد المقابلة بين الحالات المختلفة
ومنذ أيام رجعنا إلى وثائق الحركة الدستورية والحركة الاستقلالية على عهد الاحتلال، لأنهما مدار القضية المصرية، وهي الآن في دور الفصل والتقرير. فوقفنا على نبذ من طرائف التاريخ القريب تدلنا على ما نحن فيه وما كنا فيه، وتحتاج إلى بعض التوضيح من طريق التعقيب
كان لورد كرومر يتكلم عن المطالب الوطنية في تقريره عن سنة 1906 فقال عن مطالب الحزب الوطني: (. . . فهمت إنه يطلب إنشاء مجلس شبيه بمجلس النواب البريطاني. ولا أدري هل كان يطلب حصر السلطة كلها في مجلس واحد، أو إنشاء مجلس ثان بمثابة مجلس الشيوخ في فرنسا، أو مجلس الأعيان في إنجلترا، ولا أدري كذلك هل كان يقصد إن ذلك المجلس النيابي المصري يسن القوانين لسكان القطر المصري كلهم بلا فرق ولا تمييز، أو يسنها لرعايا الحكومة المحلية وحدهم دون غيرهم. . . فلعلي لا أخطئ إذا قلت أن ذلك الحزب يطلب أولا أن تكون الوزارة مسئولة لذلك المجلس، وأن يتوقف وجودها على بقاء أكثريته معها، وثانيا أن تكون للمجلس السيطرة التامة على مالية البلاد كما هي الحال في المجالس التي ينتخب أعضاؤها في بلاد الإنجليز وفي غيرها من البلدان الأوربية)
ثم قال: (فلو قبل طلبه الأول لأفضى إلى الفوضى بلا مبالغة، لأنه يثير الدسائس على اختلاف أنواعها، ويعيد القوة إلى الرشوة التي كانت ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها، ولا تزال إلى يومنا هذا تموت موتا بطيئا جدا، ولا يبعد إنه يعيد أسوأ مساوئ الحكومة الشخصية تحت ستار المجالس الحرة الشورية. ولو قبل طلبه الثاني وتولى المجلس مراقبة المالية، لأفضى ذلك بالأمة إلى الإفلاس لا محالة. . .)
هكذا كان لورد كرومر يقول قبل أربعين سنة في إبان سيطرة الاحتلال
ومهما يكن الظن بالباعث له على هذا الرأي سواء اعتقده أو غلبت عليه المصلحة السياسية(683/1)
فيه، فقد كانت الرقابة البرلمانية هي الشرط الذي اشترط الإنجليز عندما سلموا ببعض الحقوق الوطنية في سنة 1922، أي بعد تقرير كرومر بخمس عشرة سنة. فلم يتشاءموا بالحياة النيابية المصرية يومئذ كما تشاءموا بها قبل تلك الفترة، ولم يجهلوا ما فيها من الضمان أيا كان غرضهم المقصود من ذلك الضمان
ومضت بضع وعشرون سنة على حياة نيابية متقطعة، فلم بفض الأمر إلى الإفلاس في ثروة الحكومة أو ثروة الأمة، بل زادت موارد الحكومة ثلاث أضعاف، ونشأت للأمة موارد صناعية وتجارية لم تكن معروفة عند كتابة ذلك التقرير
وعزل لورد كرومر بعد كتابة هذا التقرير بأقل من عام واحد، فخلفه سير الدون غورست، وكتب عن الانتخابات المصرية التي حدثت في أول عهده فقال: (تمت الانتخابات لمجلس شورى القوانين والجمعية العمومية في آخر السنة الماضية. ولما كانت الميول قد اتجهت مؤخراً إلى إدخال شكل من أشكال الحكم النيابي إلى هذه البلاد، فيحسن بي أن أروي بالتمام ما يحدث في هذه الانتخابات)
وبعد أن أوجز القول عن قانون الانتخاب قال: (في القاهرة 134000 بالغ مصري، ولكن المقيدة أسماؤهم في السجلات منهم 34000، وقد بلغ عدد الذين اقترعوا من بين هؤلاء 500 فقط، أي 4 , 4 في المائة من الذين قيدوا أسماءهم في السجلات، و 1 , 1 من مجموع الذين لهم حق الاقتراع. وكان عدد المندوبين الذين اقترعوا في الانتخاب الثاني 12 فقط بدلا من 13 على عدد دوائر القاهرة لان الانتخاب لم يتم في إحدى الدوائر إذ لم يترشح أحد للانتخاب).
ومضى في إحصاءات كهذا الإحصاء للدلالة على قلة إقبال الشعب على الانتخاب ثم قال: (ولكن الحال تتبدل متى دخل الانتخاب في طوره الثاني واجتمع المندوبون لانتخاب أعضاء مجلس المديرية أو الجمعية العمومية أو مجلس الشورى حسبما تدعو الحال؛ فإن الاهتمام يشتد اشتداداً عظيماً وينصرف هم المرشحين إلى اكتساب أصوات الناخبين، وقل أن يتخلف أحد من المندوبين عن الحضور).
ثم قال: (فالأحوال التي تتم الانتخابات العمومية المصرية فيها تؤيد رأي الذين يرون أن هذه البلاد لا تزال بعيدة جداً عن بلوغ المنزلة التي يستطاع فيها إنشاء شيء من المجالس(683/2)
النيابية الحقيقية، وقد يتيسر تشكيل مظاهر حكومة كهذه، وإنما يستحيل ضمان تمثيل آراء أكثرية الأمة تمثيلاً صحيحاً فتكون النتيجة الوقوع في أيدي السياسيين الذين لا يهمهم سوى مصلحتهم فيسهل عليهم العبث بالنظام حتى يطابق أغراضهم).
ثم ختم هذا البحث بالكلمة التي تستحق الوقوف لديها كثيراً لأنها هي النتيجة المستخلصة من جميع هذه المقدمات إذ يقول: (لست أريد أن يحمل كلامي على رغبتي في الحط من فائدة هذين المجلسين في شكلهما الحالي أو المعارضة في ترقيتهما تدريجياً على نسبة قيامهما بتأدية ما أنيط بهما بالحكمة والعقل. فإن الاقتراحات التي يقترحها هذان المجلسان كانت تقع موقع الاعتبار لدى الحكومة دائماً، وقد تيسر في السنوات الأخيرة قبول كثير من اقتراحاتهما مما يدل على أنهما سالكان السبيل القويم. . .).
فالسير الدون غورست لم يكن مقصراً في تصوير عيوب الانتخاب، ولا كان عظيم الرغبة في الشهادة لمجلس الشورى أو الجمعية العمومية، ولكنه اعترف بالحقيقة التي هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهي أن الهيئات النيابية تأتي بالفائدة التي لا يستغني عنها أيا كان نظام الانتخاب ومبلغ العناية بإعطاء الأصوات بين الناخبين.
ونحن نعلم من التجربة أن نظام الانتخاب ذو شأن في الحياة النيابية، ولكننا لا نبالغ في شأنه حتى نحسب إنه يغير تمثيل الأمة في مجالسها الدستورية.
فالطبقة التي يتألف منها مجلس النواب المصري هي هي بعينها كلما جرى الانتخاب على اختلاف القوانين من الدرجة الواحدة إلى الدرجتين ومن المندوبين الثلاثينيين إلى المندوبين الخمسينيين، وهي هي بعينها بالغاً ما بلغ عدد الناخبين في العواصم والأقاليم، لأن ألف ناخب يمثلون العناصر المصرية كما يمثلهم عشرة آلاف أو أكثر من عشر آلاف، إذ كان الاختلاف مقصوراً على العدد فلا يتجاوز ذلك إلى الاختلاف في تركيب البنية الاجتماعية أو تعدد المصالح الطائفية. فمائة ساكن من سكان المدن يمثلون آراء الشعب ويؤلفون عناصره كما يمثلهم أو يؤلف عناصرهم ألف أو ألفان، ومن أجل هذا لا يصح أن يقال أن قلة الناخبين تخرج للبلد مجلساً لا يمثل أكثرية الأمة كما قال السير الدون غورست في تقريره. فإن الألف تكرار (عددي) للمائة لا يترتب عليه تغيير في حقيقة المصالح ولا في حقيقة التكوين الاجتماعي ولا في حقيقة التربية السياسية. فلا سبيل إلى تمثيل اصدق من(683/3)
هذا التمثيل بزيادة العدد أو تعديل بعض الشروط.
أما إذا تبدل تكوين العناصر الاجتماعية في الأمة فيومئذ لا يغنى الألف عن عشرة الآلاف، ويومئذ يتحرك العشرة الآلاف جميعاً لإعطاء أصواتهم لان مصالحهم لا تمثلها مصالح ألف منهم أو ألفين، ويومئذ يتعلق الأمر بالبواعث النفسية التي تحفز الناخب إلى الاهتمام بإعطاء صوته لمن يرضاه، ولا يتعلق الأمر بالنصوص الحرفية أو بالكمية العددية، لأن النصوص الحرفية لا تخلق الاهتمام، ولا تخلق المصالح التي تبعث في النفوس ذلك الاهتمام.
نعم إن القوانين تحتاج إلى التعديل بين الحين والحين لرفع بعض القيود وتوسيع بعض الحقوق، وليس هذا الذي ننفيه وننكره لأنه بديهي واضح لا يقبل النفي والإنكار، ولكننا نريد أن نقول إن شأن النصوص والكميات العددية دون ذلك الشأن الضخم الذي يبالغ فيه بعض المعقبين على إحصاءات الانتخابات؛ لأن تغيير النصوص كما رأينا لم يغير (تركيبة) المجلس النيابي في مصر لا من حيث الطبقة ولا من حيث الكفاءة ولا من حيث المزايا الاجتماعية أو الخلقية، ولان عدد الناخبين يغنى فيه ألف كما يغنى فيه عشرة آلاف، إذا كان هؤلاء جميعا على تشابه في العناصر الاجتماعية والمصالح الطائفية، فيصح التمثيل القومي بالعدد القليل كما يصح بالعدد الكثير.
تلك هي عبرة المقابلة بين نظم النيابة في العهد الحاضر ونظم النيابة في عهد الاحتلال.
أما حركة الاستقلال فقد كان لورد كرومر حريصاً على تقرير الواقع في وصفها حين قال: (. . . إذا قلنا أن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة نحو الجامعة الإسلامية لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه) ولعله لم يخالف الواقع كثيراً حين وصف تلك الحركة في أيامه فقال إنها مصبوغة صبغاً شديداً بصبغة الجامعة الإسلامية) ثم عاد فقال: (وإني على الرغم من جميع الظواهر لا أزال غير مقتنع بأن الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيراً في الهيئة الاجتماعية المصرية. بل إني واثق إنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من القوة إلى الفعل لانقلب الرأي العام عليها انقلاباً عظيماً سريعاً. . .).
هذه التفرقة بين حركة الاستقلال وحركة الجامعة الإسلامية هي نظرة مشكورة من سياسي(683/4)
إنجليزي لا يرضيه إعلان الحقيقة في هذا الموضوع على التخصيص، ولكننا على يقين أن الجيل الذي انقضى بعد كتابة التقرير الكرومري قد فصل في هذه المسألة فصلاً لا يجوز اللبس فيه. لأنه قد ابرز حب الاستقلال الوطني بمعزل عن العصبية الدينية. فلا يقال أن المصري يقبل الحكم الأجنبي من أبناء هذا الدين ويرفضه من أبناء ذلك الدين وإنما يطلب الاستقلال لأنه يؤمن بأن مصر للمصريين، أيا كانت عقائد هؤلاء المصريين.
عباس محمود العقاد(683/5)
من تاريخ الإسلامي:
حكاية الهميان.!
للأستاذ علي الطنطاوي
(كتبت بطلب من (محطة الشرق الأدنى) لتذاع أول رمضان
سنة 1365)
كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومائتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قعينقاع وأبى قبيس، فينساب مع نسيم السحر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعاملين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين. . .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، وتقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحارى والسهول، والأودية والقمم، في القصور والأكواخ، والسجون والمغائر، في القفار المشتعلة حراً، والبطاح المغطاة بالثلج. . تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
وأم أهل مكة الحرم، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلو وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد امسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قلبها بلا غداء. . . فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه عليه الدنيا حتى نسى نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها ومعيلها، وهذه المناكب العارية. . . ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً، ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا(683/6)
يجده. . . لثار على الدنيا، وذم الزمن، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمناً موقناً إن الله هو الذي قسم الأرزاق فأعطى - لحكمة يعرفها - ومنع، وإن الناس لا يملكون عطاء ولا منعاً، وإن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فقال: أه. الحمد لله على كل حال!
وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة. فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها. . . فقالت المرأة: يا أبا غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً، وهذا يوم صيام وحر. . . فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن بالله، واخرج فالتمس لنا شيئاً فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها لفطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا فلم يلق في تطوافه أحداً. واشتد الحر، وتخاذلت ساقاه، وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش، وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد. وجعل ينكت التراب بيده، وهو سادر في أمانيه، فلمس يده شئ مستطيل لين، فسحبها ونظر فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر إنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الموت خيراً لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها ولمسها برجله، فلم تتحرك فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس كأن جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أعصابه، والشباب قد عاد إليه. . . وتصور إنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة، ويملا أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة ورغد العيش، وجعل يفكر فيما يشتريه لهن، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن حتى كاد يخالط(683/7)
في عقله. ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لا بد لك من التعرف بها سنة فإذا لم تجد صاحبها حلت لك. وتصور السنة وطولها وهو الذي يبحث عن عشاء يومه. . . وهل يبقى حياً سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعد ما مات من الجوع. ومات معه من يرثه؟. . . وأحس كأن قواه قد خارت، وود لو أعاد الهيمان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلى بهذه البلية. . . ولكنه كان رجلا فقيهاً يعلم أن اللقطة أن مست فلا بد من التعرف بها، وان هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسئول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها. . .
وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع وحتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتاً يهتف به ان: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك اللاتي اطاف بهن الموت. اشبع بها هذه الأكباد الغرثى. اكس هذه الأجساد العارية، ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها، أو دفعتها إليه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها. ثم يسمع هاتف دينه يقول له: اصبر يا رجل ولا تخن أمانتك، ولا تعص ربك. وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله، وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجئ صاحبه. . . أو يحكم الله فيه. .
ودخل الدار متلصصاً، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
قال: لا شيء. واحب أن يكتمها خبر الهميان، وما كان يكتمها من قبل أمراً.
قالت: بلى والله؛ إن معك شيئاً، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها. . . فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة، ولكنها أضعف منه إرادة، وأوهن عزماً، فقالت:
افتحه، وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئاً، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة. . .
قال: لا والله، ولئن مسسته أو خبرت خبره أحداً فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئاً حلالا يدفع به الضر عن عياله.(683/8)
ومشى الحرم، وكان فيه شاب طبري طالب علم.
قال الشاب الطبري: (فرأيت خراسانيا ينادي، معاشر حاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده على، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا، فيأخذه ويرده عليك. قال الخراساني: يا أبا. وكم يريد؟ قال: العشر، مائة دينار. قال: يا أبا. لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى. وافترقا).
قال الطبري: (فوقع لي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة! قالت: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً، فقال: كم؟ قلت؛ عشره. قال لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فأيش نعمل؟ لا بد لي من رده. فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله اكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس، انك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة. . .
وتصور الشيخ بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحبطة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه. . . ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. . . لقد ود لو استعان بشيء من هذه الدنانير. . . ولكنه ذكر إنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة اليوم، وذكر إنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله فما كان ليلقاه خائناً أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه، وصاح بها:
(لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: (ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).(683/9)
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات التقطها لهم. . . وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء يأكلونها ويستمتعون بها، وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وان الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب. . . ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت أن في الدنيا من يجوع جوعاً إجبارياً لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا مذكر بالإحسان. فمن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه فما صام ولا عرف الصيام، وان جاع نهاره كله وعطش. . .
إن العادة تضعف الحس، وان ألف النعم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقر فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية وهذه الجرعة الباردة نعمة من النعم فلا ندع الإحسان مهما كان قليلاً، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف. . .
كان الشيخ يفكر في هذا، فيألم لما صارت إليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير، ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض. . . وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز والبنات يتبلغن بها. . .
قال الطبري: (فلما كان من الغد سمعت الخرساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر وباد، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب. فقام الشيخ إليه، فقال: يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.
فقال له الخراساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل. ثم افترقا.
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام إليه الشيخ. فقال، يا خراساني: قلت لك أول أمس العشر منه، وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلم(683/10)
تقبل، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها. . . وان هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعرى والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم إن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة؟ لا والله، ولقد روي في الحديث أن (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه)، فترك له الهميان، وقال للخراساني:
تعال خذ هيمانك. . .
فقال له: امش بين يدي. . .
قال الطبري: (فمشيا وتبعهما، حتى بلعا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فاخرج الهميان اسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه، وقال: هذا همياني.
ثم حل رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً، ثم قال: هذه دنانيرنا).
وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله، وحسبنه قد فقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم. . . يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه. . .
(وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده، ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج). ولم ينظر في وجه الشيخ، ولم يلق في إذنه كلمة شكر. . . وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قبلها، فطارت وراءه، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا. . . فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس. . .
وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع. . . فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد،(683/11)
وكان أولى به أن يعرض عنه، وان يبغضه، وقد منعه ديناراً واحداً يحيي لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت، ولكن الشيخ كان رجلا سمحا لا يتسع قلبه البغضاء، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني:
(يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال، اخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار، وشددته في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن جلا أحق به منك، فخذه بارك الله لك فيه.
ووضعه وولى).
قال الطبري: (وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني، فرجعت إليه فقال لي: لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت انك عرفت خبرنا، وقد سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت مالكا يقول: سمعت نافعاً يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، ولا ترداها فترداها على الله؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر. فسر معي.
فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط، ولا أملته قط، أترى هذا القميص؟ إني والله لأقوم سحرا فأصلى الغداة فيه، ثم انزعه فتصلى فيه زوجتي وأمها وبناتي وأختاي واحدة بعد واحدة، ثم البسه وأمضى اكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله به علي من اقط وتمر وكسيرات كعك فنتداول الصلاة فيه. . .
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى: يا لبابة يا كيتنه يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعاً فأقعدهن عن يمينه، وأقعدني عن شماله؛ وحل الهميان وقال: ابسطوا حجوركم، فبسطت حجري، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن، وأقبل يعد ديناراً ديناراً، حتى إذا بلغ العاشر قال، وهذا لك، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار، ونالني مائة)
ولما أذن المغرب، وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس، عليها الطيبات من الطعام، قال لامرأته:(683/12)
أرأيت يا لبابة؟ يا لبابة إن الله لا يضيع أجر الصابرين، إن الله هو أرحم الراحمين يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً، فجاءنا الله بألف حلال. وأكل الشيخ لقيمات، ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته:
إلى أين يا أبا غياث؟
قال: افتش، فلعل في الناس فقيراً صائماً، ولا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا. .
ذيل القصة:
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:
(وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها، وكتبت العلم سنين، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور، فكنت انزل على أزواجهن وأولادهن فاروي لهن القصة، ويكرموني غاية الإكرام.
وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت إنه لم يبق منهم أحد، رحمة الله عليهم جميعاً).
علي الطنطاوي(683/13)
من لغو الصيف:
صراصير. . .!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
. . . لقيني صاحبي ذاك - أو صاحب ألبها زهير - على محطة سيدي جابر، متهلل الوجه، منطلق الأسارير. . . قال: لقد وجدت لك داراً هادئة توافق أمثالك الشعراء!
قلت: خير وبركة، وشكرت وانطلقت إلى الدار
ولكن ماذا؟
يا لعنة الله! أهذه هي الدار التي وتوافق الشعراء؟ أهذا هو الشعر عندك يا صديق ألبها زهير؟ يا رحمة للشعر والشعراء!
أيها القارئ:
أرأيت السراديب والكهوف؟ أم هل سمعت عن السراديب والكهوف؟ تلك هي الدار التي فهم صاحبنا إنها توافق أمزجة الشعراء!
تلك جناية بعض المتصعلكة على الشعر، فلقد مرت فترة كان الشعر فيها هو البؤس، أو هو التباؤس، ولم يكن الناس يصدقون أن فلاناً شاعر إلا إذا بدا في مزق مهلهلة، منتكث الشعر، يضم تحت إبطه (رزمة) من ورق الصحف القديمة، ويحشو جيوبه الممزقة بخرق من الورق الخلق، وقطع من علب السجائر وما إليها، دون فيها شعره، ولا بد أن يقول للناس: إنه جائع، وانه (خرمان) سجاير و (كيوفاً) أخرى. . . وإلا فما هو بشاعر!
ووجد هؤلاء بعض من يعطف عليهم، أما تظرفا وتباهيا بالعطف على الشعراء، وأما رحمة حقيقية لهذه الحال البائسة!
وكان هؤلاء البائسون، أو المتبائسون، يعيشون في جحور أو يقولون: إنهم يعيشون في جحور، ويصفون (صراصيرها) وفيرانها وعناكبها في كلام يهتزله بعض الناس - ولو لم يكن فيه شيء من الفن - لمجرد التظرف والتفكه، ومن هنا اختار لي صاحب ألبها زهير، تلك الدار. . .!(683/14)
الصراصير. . .
ولكن. . . أهذه صراصير؟!
إنني أعرف الصراصير جيدا. . . اعرفها في حلوان! فقد شاء السفه الذي يستحق الحجر من القضاء الشرعي، إن تهمل هذه الضاحية الجميلة الفريدة بين بلاد العالم كله - كما يقول العارفون - بهوائها وتربتها ومياهها واتفاعها، حتى تصبح أكوماً من الأتربة، ومجاري من القاذورات، تسبح فيها وتعيش شتى الهوام والحشرات!
ومن هنا كانت صراصير حلوان، تلك التي كتبت في شأنها على صفحات الصحف مرات. . .
وقيل لي: اسكت فلا فائدة من الكتابة، فرنين الكلمات غير رنين الجنيهات، ومنطق العبارات غير منطق الشيكات، وهناك شركات أجنبية يهمها ألا تقوم لحلوان قائمة، ومنطقها هو منطق الشيكات، فأين يذهب منطقك أنت، ولو كان هو منطق الحق والعدل والحياء؟!
وسكت من يومها وتركت أمر حلوان لله، وليقظة الضمير العام، حين يستيقظ ذلك الضمير العام!
المهم إنني في حلوان تعرفت على جميع (عائلات الصراصير) وصنوفها وأشكالها، ولم أجد من بينها نظيراً ولا شبيها لصراصير تلك الدار التي اختارها لي صاحبي، أو صاحب ألبها زهير!
وما هذا أنت الذي تبص وتتوارى في ثقب الجدار؟ انك لست بصرصار. . . وإلا فأين خبرتي بكل صنوف الصراصير في حلوان؟
أوه. . خيبة الله عليك! هذا أنت (صرصار) عجوز، فقد لونه الذهبي، وفقد أحد شاربيه أيضا، وتقلص ظهره وانكمش وتضاءل، حتى بدا في هيئة الخنفساء! تعال هنا. . . يا لعنة الله عليك! أو هكذا تغشني فيك، وتعبث بمعارفي كلها في عالم الصراصير؟!
لا يا عم! لا يا صاحب ألبها زهير، لا ويفتح الله، لن أقيم في دار الصراصير هذه، أو في دار الشعراء!
وكلها (فركة كعب) بين الصراصير وبعض الشعراء، لا أولئك الشعراء البائسين أو(683/15)
المتبائسين الذين تحدثت عنهم في الفقرة السابقة، ولكن هؤلاء الشعراء الذين كثروا في هذه الأيام، شعراء الحفلات والمناسبات والسهرات والرحلات!
يا لعنة الله!
لقد كنا استرحنا فترة من (شعراء المناسبات)، ففي عام 1932 أخرجت كتيباً صغيرا اسمه (مهمة الشاعر في الحياة وشعراء الجيل الحاضر)، وحملت فيه حملة شعواء على شعراء المناسبات، أولئك الذين قلت عنهم: إنهم كخدم الفنادق يستقبلون كل قادم ويودعون كل راحل بنفس الابتسامة، ويعدون أيام العظماء والمشهورين ليعدوا لهم - مقدما - قصائد الرثاء! انهم يأكلون على كل مائدة كالقطط الضالة! استغفر الله، بل كالصراصير!
لقد تطوروا أخيرا مع الزمن، فلم يعودوا يقولون فقط في (مناسبات) التكريم والرثاء، بل امتد رشاشهم. . فأصاب القمر وفصول السماء!. . . صراصير!!
واخترت دارا أخرى غير دار الشعراء! والدور في الإسكندرية كثير في هذا العام. إن (أغنياء الحرب) لم يزحموها تماماً. فالكثيرون قد ذهبوا إلى أوربا ولبنان، وأغنياء الحرب الذين اعنيهم ليسوا هم الذين أغنتهم هذه الحرب وحدها، فغيرهم كثير في تاريخ هذا الشعب قد اغتنوا في حروب، حروب طويلة، لا بين الدول، ولكن بينهم وبين الشعب المصري المنكوب!
حروب الجشع والطمع، والغدر والخيانة، وحروب التسفل والتبذل، ولو سن قانون: من أين لك هذا؟ لتكشفت أشياء وأشياء!
كثيرون من هؤلاء يسمون (الطبقة الأرستقراطية) ووسائل إثراء الكثيرين منهم - على مدى التاريخ - مما يندى له الجبين، بعضهم دفع اعراضاً، وبعضهم دفع خدمات لا يقوم بها الشرفاء. . ثم صاروا فيما بعد (أرستقراط)!
كثيرون من هؤلاء لم يزحموا الإسكندرية في هذا العام، لأنهم في أوربا أو لبنان، وقليلون منهم في الاسكندرية، ولهم حديث خاص في (لغو الصيف) فلندعهم الآن!
واسترحت في الدار الجديدة شيئا، وأخذت سمتي إلى الشاطئ. . هذا هو البحر، إنني اعرفه هذه هي الحياة المرحة القوية تدب في أوصالي. هذا هو صدري المقوس ينشد لاستقبال هوائه الجذل، هذه هي نفسي المنقبضة تتفتح لاستجلاء المنظر البهيج، هذه هي(683/16)
أعصابي المكدودة تستروح وتنشط وتحيا. . .
وعرائس البحر. . .؟
ويحيى! إنني لا أرى هنا عرائس ولا حتى شياطين.
إن العرائس والجنيات، لأطياف هائمة طليقة، خالصة من الضرورات والقيود. ولكني أحس هنا ثقل الضرورات وصلصلة القيود. هنا أجساد تشدها الغريزة؛ هنا لحم. لحم فقط يكاد يتجرد من الروح. لحم قذر رخيص.
هنا صراصير!
محال أن تقنعني أن هذه التي تتخلع مع زميلاتها، وهي تقطع (البلاج) ذهاباً وإياباً بلباس البحر (المايوه) وكل ما فيها جسد يتخلج بالغريزة الهابطة. . . وان هذا الفتى الذي يتدسس بالنظرة الخائنة إلى مواضع الضرورة في هذه الأجساد المتخلجة، بينما يلقي بنظره متباهيا على مواضع الحيوانية في جسده (بالمايوه). . . محال أن تقنعني أن هؤلاء أو هؤلاء، عرائس البحر، أو - حتى (شياطين).
إن الشيطان أنظف وارشق وأخف، وأكثر انطلاقا من القيود! هنا لحم. لحم فقط. لحم رخيص!
رخيص. فكثير من هذه الأجساد العارية يفقد حتى قيمة اللحم العزيز. لست اشك الآن في أن الملابس من صنع حواء. فهذا التستر وهذا الخفاء هما مبعث الفتنة والأشواق - حتى الجسدية - وحين يتجرد الجسد نفسه يموت!
ولكن المرأة في هذا الجيل تفتقد حتى فطنة الغريزة وسلامتها. إنها الشهوة المريضة. شهوة الحيوان الضال الهزيل، لا الحيوان الفاره الأصيل!
وبين يوم وليلة قدمني أصدقاء إلى كثيرات، وقدمتني صديقات إلى كثيرين!
الإباحية! التي لا تخجل ولا تستحي ولا تغار!
هنا الصداقات السريعة: يبدأ التعارف ضحى. ويتم كل شيء في المساء. وفي الصباح التالي يتفرق الجميع؛ وتتبدد الصداقات، كأن لم يكن هنالك شيء. ويبحث الجميع عن شيء جديد!
سعار. . .!(683/17)
وفي المساء جلست أتناول طعامي. وعلى المائدة المقابلة جلس أربعة شخوص: انهم لا يحوجون أحداً للتسمع. . فالأصوات جهورية، والضحكات رنانة.
هذه سيدة شابة، خاتم الرباط المقدس في يدها اليسرى. وهذه فتاة خاتم الرباط المقدس في يدها اليمنى. . . وما هذان؟ ليسا زوجا ولا خطيبا، فأصابعهما خلو من كل قيد!
وزجاجات البيرة. . . والضحكات والغمزات. . .
ويحيى!
إن الرجلين ليطأطئان رأسيهما خجلا، لنكتة خارجة ترسلها سيدة، وتتضاحك لها الآنسة. . . نكتة في الصميم!
ولقيت سيدة بعد لحظات فلم أتمالك أن أقص عليها ما شهدت. سيدة من آسرة. لها زوج ولها عائلة وقالت تعلق على الحادث:
يا سيدي نحن في المصيف! إن اسخف سيدة هي التي تستصحب زوجها في مصيفها، ماذا تأخذ؟ وماذا يستفيد؟ يجب أن يذهب إلى مصيف وتذهب إلى مصيف، لتكون هنالك قيمة للتصييف!
فلسفة المغامرة! ومنطق الجموح!
رباه! أتكون هذه هي مصر وأنا لا ادري؟ إنني رجل متخلف. لست - مع الأسف - من (التقدميين) في هذا الجيل!
ولكن لا. إن مصر لشيء آخر وإلا لانهارت إلى الحضيض. مصر لا تزال أمة. ولن تقوم أمة على هذا الأساس المنهار:
إنما هي حفنة من الرقعاء الذين لا أعراض لهم، ظلوا يهتفون للمرأة بهذا النشيد: وأوتي بعضهم أقلاماً وصحفاً، فلكي يرتعوا في كلأ مباح ومن اجل هذا الغرض الصغير، حاولوا إتلاف أمة، وإضاعة شعب. ولكن لم يستسلم لهم إلا عدد محدود! عدد يطفو على سطح المجتمع كما تطفو الجيف فيتمتعن بنشر أسمائهن ونشر صورهن. . . أما الحرائر فهن هناك في البيوت، لا تقع عليهن أنظار هؤلاء الرقعاء، ولا عدساتهم المصورة. ولا تلوك الألسنة أسماءهن في هذا الجيل!
وأحسست أني اختنق داخل الجدران، فخرجت. خرجت إلى البحر والليل. . لا أحد هنا(683/18)
على (البلاج). . .
أيها البحر. . . انك هنا الشيء الوحيد النظيف!.
سيد قطب(683/19)
تاريخ جحا. . .
للأستاذ كامل كيلاني
- 2 -
9 - شخوص جحوبة
وكما اسند القصصي الجحوي إلى جحا التركي، ممثلا في الأستاذ نصر الدين، اسند مثله - أو قريب - إلى جحا الألماني ممثلا في:
(تل أو بلن شبيجل)
أعني (تل) الملقب ب (مرآة البومة) و (جحا) اليوناني ممثلا في (ديوجين)
و (جحا) الفرنسي يمثله السادة: (دي كراك) مرة و (دي لاباليس) مرة ثانية و (ميشيل موران) مرة ثالثة
وفي مرسيليا نرى (مسيو بونوس)
و (كالينو) و (ماريوس)
وفي باريس (دوق دي سان سيمون) وما إلى هذه الشخصيات الجحوية المتخيلة الفاتنة التي تشيع في أرجاء فرنسا وغيرها روح الدعابة البريئة والتهكم الساذج.
كما أسند إلى جحا الفارسي ممثلا في (طلحة)، وجحا الهندي ممثلا في الشيخ تشللي، وجحا الأرمني ممثلا في أرتين. وجحا الإنجليزي يمثله في إنجلترة (سمبل سيمون
وقد ذاعت في بريطانيا أسماء طائفة من القديسين، افتن الظرفاء والمتطرفون في إسناد طرائف من الدعابة اليهم، ونحلوهم ما شاء لهم الخيال الخصب من فنون الفكاهات الحلوة المحببة، والنكات البريئة المستعذبة. فاشتهر في أيرلندة (بات) وهو - كما يرى القارئ - ترخيم لاسم القديس (باتريك) وقد كاد يصبح لقبا على كل ايرلندي في معرض الدعابة والتنادر، والتمثيل للسذاجة وطيبة القلب.
واشتهر في اسكتلندة (داود) وكاد يصبح علما على كل اسكتلندي، وافتن المتخيلون في إسناد كل ما خطر ببالهم من نوادر البخل والتقتير.
واشتهر (اندراوس) كذلك في جنوب إنكلترا، في بلاد الغال (الويز)، كما اشتهر جورج(683/20)
في إنجلترا.
وقد أصبحوا - على توالي الزمن - أعلاماً للفكاهة والمرح في بلادهم، ثم ذاعت بدائعهم في العالم، فأشاعت في أرجائه ألوانا مشرقة من البهجة والسرور.
وليست شخصية (دون كيشوت) إلا لونا مبتدعا جديدا لشخصية جحا كما يتخيلها الأسبان.
وقلما تخلو أمة من مثال قريب أو بعيد لهذه الشخصية المرحة الطريفة، وقد طوع القصاصون كثيرا من الطرائف والرموز الجحوية، وفصلوا منها أنماطا فكرية البسوها عرائس أفكارهم وآرائهم.
ولم تلبث الصورة الجحوية على مدى الأزمان واختلاف الأمم التي تناقلتها أن تشكلت بألوان العصور والأمم التي قبستها. كما يتشكل الماء بلون الإناء الذي يستودع فيه.
10 - فبراق:
إن البحث ليطول إذا لم نوجزه إيجازا حتى ليضيق الوقت الفسيح بتفصيل قليل من كثير مما عرضنا له.
وبحسبنا أن نقرر الآن في هذه الإلمامة الخاطفة أن جحا التركي كاد يكون نسخة مكررة من جحا العربي، وإن ضاع قبر الثاني فلم يعرف له مكان كما ضاع الكثير من أثاره فلم يهتد إليه وبقى قبر الأول مزارا يحج إليه في مقبرة (آق شهر).
11 - من آراء الناس:
وقد غلا بعض الناس، فكاد يلحق الجحيين كليهما بالأولياء والأطهار والقديسين الأبرار.
وغلا آخرون، فكدوا يتمثلون كليهما آية من آيات الغفلة والبله، ومثلا من أمثلة الغباء والحماقة، وتمثلهما آخرون نموذجا للخداع والتلبيس ورمزا للغش والتدليس.
12 - مذهب (أبى الغصن):
ومهما يكن من امر، فقد كان كلا الجحيين ذكيا بارعا، راجح العقل، محدثا (أي: ملهما صادق الفراسة)، يتغابى في غير غباء، ويتباله في غير بله، ويمكر في غير خبث، ليخلص من كيد الكائدين، وينجو من بطش المعتدين.
ورحم الله شوقي بك القائل:(683/21)
(إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ... ورمت النجاة، فكن إمعة)
(والإمعة كما تعلمون، هو الذي يقول لكل إنسان أنا معك)
واليكم شعار الأول اعني شعار: (أبى الغصن عبد الله دجين بن ثابت) المعروف بجحا العربي، وهو يلخص رأيه في الحياة أبدع تلخيص:
(مذهبي في الحياة صبر جميل ... هل ينجِّني من البلاء عويل
لم أضق بالحياة ذرعاً، وعندي ... بسمات للخطب وهو جليل
لا أرى في الوجود إلا جمالا ... كل ما في الوجود حُسن أصيل
أُضمرُ الصفح والمحبة للنا ... س، إذا ما أساء باغٍ جهول
الأمانيُّ عذبة أسعدتني ... فحياتي بهن حُلمٌ جميل
وحماقات من أرى أضحكتني ... وتعنَّي بها غضوب ملول
إنما يغلب الزمان صبور ... واسع الصدر باسم بهلول
لا يهاب الخطوب أن دهمته ... سوف يتلو الأحزان أنس طويل
كل خطب إذا صبرت تولَّى، ... وتجلّى، وكل حال تحول)
13 - مذهب نصر الدين:
وهو بهذا يلتقي مع فلسفة الأستاذ نصر الدين خوجة أو جحا التركي كما يسمونه، الذي اتخذ شعاره في الحياة قوله:
(مذهبان أن نتسلى بالحياة
بما نلاقي من سرور وأذاه
فالكون محبوب بهيج ما حواه
وما نرى إلا جميلا ما نراه)
14 - تشابه المذهبين:
على أن كلا الجحيين كان كما يقول فيلسوف المعرة:
(إذا سألوا عن مذهبي فهو بين ... وهل أنا، إلا مثل غيري أبلهُ
خلقت من الدنيا، وعشت كأهلها ... أجدُّ كما جدُّوا، والهوا كما لهوا)(683/22)
فقد أحسن المعري التعبي عنهما، بهذين البيتين، وان كان يفصله زهاء من الزمان بعد مولد أولهما وثلاثة قرون قبل مولد الآخر منهما. وكأنما ألهما المعري قوله:
(إن جدَّ عالمك الأرضي في نبأٍ ... يغشاهم، فتمثل جدَّهم لعبا)
وقوله:
(تَرَجَّ - بلطف القول - ردّ مخالفٍ ... إليك، فكم طِرْف يسكَّن بالنَّقْر)
15 - تشابه الرجلين:
لقد تشابه الجحيان - كما أسلفت لحضراتكم - كما تشابه الموز أو البرتقال في رأي بعض الشعراء حين قال:
(. . . . . . . . . . . . فالفم ملآن به فارغ سيان قلنا: مطعم طيب فيه، وإلا مشرب سائغ)
تشابه الرجلان وامتزجت آثارهما، وبعضهما ببعض كما امتزجت - بعد ذلكم وقبله - بالكثير من آثار غيرهما من الشخصيات الجحوية وما إليها. وما أضيف عليها مما تخيله المتخيلون، وانتحله المنتحلون، حتى أصبحت كلمة (جحا) الآن كافية للتعبير عن كل جحا، في كل عصر، وفي كل أمة كما أصبحت كلمة (خرافة) أيضاً كافية للتعبير عن كل حديث خيالي لا حقيقة له: قديما كان أو حديثا، رائعاً أم سخيفا، عربيا أم أعجميا، شرقيا أم غربيا، وقد اصبح الرمز الجحوي - على توالي الأجيال أشبه بالرمز الجبري، فإن (س) تارة تساوي مليونا من الجنيهات، وتارة تساوي عشر تفاحات، وثالثة ست دجاجات، ورابعة صفراً.
وقد ألف (كارليل) - فيما يعلمه الكثيرون منكم - كتاب الأبطال، فتحدث عن البطل في صورة نبي، والبطل في صورة زعيم، والبطل في صورة قائد، والبطل في صورة شاعر وهكذا.
وسيرى المتتبع لتاريخ جحا وما نسب إليه من أخبار كيف سلك المتحدثون عنه مثل هذا المنهج، أو قريب:
فمثلوا لنا جحا في صورة فيلسوف، وجحا في صورة أبله، وجحا في صورة قاض، وجحا في صورة متقاض، وجحا في صورة سارق، وجحا في صورة مسروق، وجحا في صورة(683/23)
ذكي وجحا في صورة غبي، وجحا في صورة فقير، وجحا في صورة غني، وهكذا.
وقد أصبحت كلمة (جحا) كافية في التعبير عن هذا كله - كما ترون - فلا غرو إذا اجتزانا بها في الحديث اقتصاداً للوقت، واختصاراً للبحث في التفاصيل المسهبة، والشروح المستفيضة التي عرضنا لها في غير هذا المقام.
كامل كيلاني(683/24)
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والهدايا
للأستاذ صلاح الدين المنجد
درج الناس في العصر العباسي على تقديم الهدايا للخلفاء، ونلاحظ أن هذه الهدايا كانت تقدم في النيروز والمهرجان، وفي الفصد، وفي العودة من الحج، هذا عدا الهدايا التي كانت تحملها الرسل الواردة على الخليفة من الولاة والأمراء، أو من ملوك الروم.
أما الهدايا في النيروز والمهرجان، فعاده فارسية أخذها العرب عن الفرس منذ فجر العصر الإسلامي. ويقول الجاحظ إنها كانت معروفة زمن معاوية، وظلت كذلك طول عهد الأمويين، حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطلها. فلما دالت دولة الأمويين، وقامت دولة العباسيين، عادت هذه العادة إلى الناس، وصارت فرضاً عليهم نحو الملوك.
ويبين الجاحظ العلة في تقديم الهدايا في النيروز والمهرجان فيقول: (وإن من حق الملك هدايا المهرجان والنيروز، والعلة في ذلك إنهما فصلا السنة، فالمهرجان دخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز إيذان بدخول فصل الحر)
(ومن حق الملك أن تهدي إليه الخاصة والعامة، والسنة في ذلك عندهم أن يهدي الرجل ما يحب من ملكه إذا كان في الطبقة العالية، فإن كان يحب المسك أهدى مسكا لا غيره، وان كان يحب العنبر أهدى عنبراً، وإن كان صاحب بزة ولبسه أهدي كسوة وثياباً، وإن كان من الشجعان والفرسان، فالسنة أن يهدي ذهباً أو فضة، وإن كان من عمال الملك، وكانت عليه متأخرات أو بقايا للسنة الماضية جمعها وجعلها في بدر حرير صيني وشريحات فضة وخيوط ابريسم. . . ثم وجهها. وكان يهدي الشاعر الشعر، والخطيب الخطبة، والنديم التحفة والطرفة والباكورة من الخضروات. وعلى خاصة نساء الملك وجواريه أن يهدين إلى الملك ما يؤثرنه. ويجب على المرأة من نساء الملك إن كانت عندها جارية تعلم أن الملك يهواها ويسر بها، أن تهديها إليه بأكمل حالاتها، وافضل زينتها، وأحسن هيأتها. فإذا فعلت ذلك، فمن حقها على الملك أن يقدمها على نسائه ويخصها بالمنزلة ويزيدها في الكرامة).
وعاد الجاحظ في المحاسن والأضداد ففصل ما اجمل. قال: وجعلوا شعارهم: كل يهدي(683/25)
على قدره. فكان القواد يهدون النشاب والأعمدة المصمتة من الذهب والفضة. والكتاب والوزراء والخاصة من قراباتهم جامات الذهب والفضة المرصعة بالجوهر، وجامات الفضة الملوحة بالذهب. والعظماء والأشراف يهدون البزاة والعقبان والصقور والشواهين والفهود. وربما أهدى الرجل الشريف سوطاً. وكانت الحكماء يهدون الحكمة والشعراء الشعر، وأصحاب الجوهر الجوهر، وأصحاب نتاج الدواب الفرس الفاره والشهري النادر. والظراف قرب الحرير الصيني مملوءة ماء ورد. والمقاتلة القسي والرماح والنشاب. وكانت نسوة الملك تهدي إحداهن الجارية الناهدة والوصيفة الرائعة، والأخرى الدرة النفيسة والجوهرة الثمينة، وفص خاتم، وما لطف وخف. وأصحاب البز الثوب المرتفع من الخز والديباج وغير ذلك والصيارفة نقر الذهب مملوءة بالفضة، وجامات الفضة مملوءة دنانير.
وكان للهدايا كاتب خاص، يكتب اسم كل مهد، وجائزة كل من يجيز الملك على هديته ليودع ديوان النيروز مهما كان شأن الهدية، صغرت أم كبرت، كثرت أم قلت. فإذا أهدى أحدهم الملك هدية، ثم لم يخرج له من الملك صلة، عند نائبة تنويه، أو حق يلزمه، فعليه أن يأتي ديوان الملك ويذكر بنفسه.
ويذهب آدم متز إلى أن المهرجان كان يمتاز خاصة بأن الرعية يهدون فيه إلى السلطان، ولا وجه لتمييز المهرجان من النيروز وقد رأيت أن الجاحظ جعلهما سواء، وذكر هدايا المهرجان، وهدايا النيروز. وقد كان النيروز عيداً قومياً، يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالقصائد والهدايا.
ولنر الآن أنموذجات من هذه الهدايا، في ضروبها وأصنافها.
فقد أهدى المنصور الوصائف من الرجال. حدث الفضل بن الربيع عن أبيه قال: كنت في خمسين وصيفاً اهدوا للمنصور، ففرقنا في خدمته.
وأهدت جارية إلى المهدي تفاحة، فأعجب بهذه الهدية وقال:
تفاحة من عند تفاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرقاد؟
ولما عشق أبو العتاهية عتبة، جعل هديته إلى المهدي وسيلة لوصالها. فقد ذكر المبرد أن أبا العتاهية استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين في النيروز والمهرجان.(683/26)
فأهدى له في أحدهما برنية ضخمة فيها ثوب ناعم وطيب، قد كتب على حواشيه:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله، والقائم المهدي يكفيها
إني لأيأس منها ثم يطعمني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها
وحدث إبراهيم بن المهدي قال: كنت عند الرشيد، فأهديت له أطباق ومعها رقعة. فلما قرأها استفزه الطرب. فقلت: يا أمير المؤمنين ما الذي أطربك؟ قال: هذه هدية عبد الملك بن صالح. ثم نبذ إلى الرقعة فإذا فيها: (دخلت يا أمير المؤمنين بستاناً أفادنيه كرمك، وعمرته بنعمتك، وقد أينعت ثماره وفاكهته. فأخذت من كل شيء وصيرته في أطباق القضبان، ووجهته لأمير المؤمنين ليصل إلي من بركة دعائه، مثل ما وصل إلي من بركة عطائه).
قلت وما في هذا ما يقتضي هذا السرور. قل ألا ترى إلى ظرفه كيف قال القضبان، فكنى عن الخيزران إذ كان يجري به اسم أمنا.
ثم كشف المنديل فإذا بعضها فوق بعض، في أحدها فستق وفي الآخر بندق إلى غير ذلك من الفاكهة.
أهدى أحمد بن يوسف للمأمون مرة ثوب وشى. وأهدى إليه مرة ثانية طبق جذع عليه ميل من ذهب فيه اسمه منقوش. وكتب إليه: (هذا يوم جرت فيه العادة، بألطاف العبيد السادة، وقد أرسلت إلى أمير المؤمنين طبق جذع فيه ميل).
وأهدى عبد الله بن طاهر له فرساً، وكتب إليه: (قد بعثت إلى أمير المؤمنين بفرس يلحق الأرانب في الصعداء، ويجاوز الظباء في الاستواء، ويسبق في الحدور جري الماء.
وهدية الخيل كانت معروفة من قبل فقد أهدى الحجاج عبد الملك فرساً، واهدي عمرو بن العاص إلى معاوية ثلاثين فرساً من سوابق خيل مصر.
ولما أفضت الخلافة إلى المتوكل اهدي إليه إليه الناس على أقدارهم وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف. وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس. فحسن موقعها من المتوكل، وحلت من قلبه محلا جليلا.
وبعث الحسن بن وهب إلى المتكل بجام من ذهب فيه ألفا مثقال من عنبر.(683/27)
وأهدى إليه خالد المهلبي في يوم نيروز ثوب وشي منسوجا بالذهب ومشمة عنبر عليها فصوص جوهر مشبك بالذهب، ودرعاً مضاعفة، وثوباً بغدادياً فأعجبه حسنه، ثم دعا به فلبسه. وقال: يا مهلبي إنما لبسته لأسرك به، فقال يا أمير المؤمنين: لو كنت سوقة لوجب على الفتيان تعلم الفتوة منك، فكيف وأنت سيد الناس؟
وذكروا إنه كان للمتوكل جارية اسمها شجرة الدر. وكان يميل إليها ميلا كبيراً ويفضلها على سائر حظاياه. فلما كان يوم المهرجان أهدى إليه حظاياه هدايا نفيسة واحتفلن في ذلك، فجاءت شجرة الدر بعشرين غزالا تربية، على كل غزال خرج صغير مشبك حرير فيه المسك والعنبر والغالية وأصناف الطيب، ومع كل غزال وصيفة بمنطقة ذهب وفي يدها قضيب ذهب في رأسه جوهرة فقال المتوكل لحظاياه، وقد سر بالهدية، ما فيكن من تحسن مثل هذا وتقدر عليه. فحسدنها وعملن على قتلها بشيء سقينه لها فماتت.
والى جانب هذه الألوان من الهدايا كانوا يهدون الطين. قال الثعالبي: وكانوا يهدون طين نيسابور، وهو طين الأكل لا يوجد مثله في الارض، يحمل إلى أدنى البلاد وأقاصيها، ويتحف به الملوك، وربما بيع الرطل منه بدينار.
(له بقية)
صلاح الدين المنجد(683/28)
المخدرات. . .!
بين الأدباء والعلماء
للدكتور فضل أبو بكر
سأتناول من هذه المواد الغريبة أهمها وأكثرها استعمالاً، واعني بذلك الأفيون والحشيش. وسميت بالمخدرات لأن من أخص مميزاتها تخدير الآلام الجسمية والنفسية. كذلك يسمونها (المذهلات) لما تسببه من ذهول (وسطل)، وهو الاسم الذي تعرف به في علم الأدوية والعقاقير.
هي قديمة كالأزل عرفها الإنسان منذ أقدم العصور، وقد ذكر هوميروس نبات الأفيون في إلياذته. كذلك أبو قراط إله الطب عن قدماء الإغريق كان يستعملها في العلاج لبعض الأمراض مثل الهستريا التي كان يظن من مسبباتها عند النساء نزول الرحم والأمعاء وهبوطهما من المكان الخاص بهما في البطن. وقد حذا حذوه في استعمال الأفيون - بقصد العلاج - بعض أطباء الإغريق والرومان، ونذكر من الأخيرين (اندروماكلوس) طبيب نيرون الخاص كان يستعمله مع بعض العقاقير كمخدر وكنوع من الترياق. كذلك أطباء العرب وصيادلتهم مثل ابن البيطار الذي فند تعاليم جالينوس والذي يدين له علم الأدوية والعقاقير بالشيء الكثير. أما ابن سينا ومن انتمى إلى مدرسته من الفلاسفة والعلماء، فقد استعملوه بكثرة في الأدوية والعلاج.
أما في القرون الوسطى فقد قل نسبيا استخدام الأفيون في العلاج. واستمر الحال كذلك إلى أواخر القرن السابع عشر فقد هيئ له أن يبعث من جديد على يد الطبيب المعروف (سيدنهام) إذ خلط منقوع الأفيون - المنقوع في الكحول - بالزعفران والقرفة والقرنفل وركب منها خليطاً مشهوراً باسمه ولا يزال يستعمل ليومنا هذا ضد بعض الحالات الإسهال وآلام البطن. وقد قال في ذلك الطبيب سيد نهام إنه لولا الأفيون لصار الطب ناقصا أجدع.
أما الحشيش فقد عرف كذلك منذ آباد وأجيال سحيقة؛ فالهنود والصينيون كانوا يتعاطونه منذ أقدم العصور. وقد ادخله إلى بلاد الغرب بعض قبائل البدو والرحل الذين كانوا يقطنون شمال أسيا والجزء الواقع في الشمال الشرقي من أوربا. وقد روى (هيرودوت) المؤرخ أن تلك القبائل كانت تغلى بذور فاكهة الأفيون في الماء وتستنشق البخار المتصاعد(683/29)
ثم تحتسى في نشوة عجيبة منقوعة هذه البذور.
وأول من عنى بدراسة الحشيش من الوجهة العلمية هما الطبيب الألماني (مارشال) والطبيب الفرنسي (مورم دي تور) الذي كان مديراً لمستشفى الأمراض العقلية والعصبية في باريس والذي كتب في سنة 1845 مؤلفاً نفيساً سماه (الحشيش والجنون) يصف فيه خواص الحشيش وأثرها في الجهاز العصبي، وقد تعاطى هذه المادة وجرب أثرها في نفسه. وقد قيل في المثل (سل المجرب ولا تسل الطبيب) فقد كان مجرباً وكان طبيباً فلا غرابة إن كان مؤلفه مصدراً موثوقاً به في هذا الصدد.
الأدباء والمخدرات:
كان بعض الأدباء يتعاطى هذه المواد ووجدوا فيها إلهاماً وإيحاءاً ووصفوا مفعولها وصفاً رائعاً يشوبه الخيال وما يميله من مبالغات تنافي بعض الشيء صرامة العلم ودقة العلماء. ومن هؤلاء الأدباء الأديب والشاعر الفرنسي (شارل بودلير) الذي عاش إلى سنة 1967 وهو من اعظم شعراء الغرب وأشبههم من حيث الرقة والظرف والمجون بأبي نواس؛ فقد ورد في بعض مؤلفاته - واسمه (الفردوس الاصطناعي) - وصف الحشيش؛ فتأمله إذ يقول: (إن في الإنسان رغبة مستأصلة لإدراك المثل العليا والوصول إلى الحقيقة؛ لذلك يحاول ما أمكنه أن يخلص الروح ويطلقها من سجنها المادي العائق لها عن الوصول لهذه الأهداف. كذلك السعادة هي الضالة المنشودة لبني الإنسان؛ وبما إنها ليست في متناول الجميع فهو يحاول ما أمكن أن يتوهمها ويصطنعها: فقدح من مدام وشهقة من تبغ ومضغة من عشب (الحشيش) بهذا فقط تجد الروح تخلصت وتبدلت).
أما الكاتب الفرنسي (تيوفيل جوتيبه) الذي عاش إلى سنة 1843 فقد ألف كتاباً سماه (نادي الحشاشين) يصف فيه مفعول الحشيش وأثره في نفسه فيقول: (ما هي إلا بضع دقائق حتى استولى على جسمي التخدير، وخيل لي إن جسدي قد ذاب وانحلت مادته وصار شفافاً، فأبصرت قطعة الحشيش التي مضغها تنزل هابطة في أحشائي كأنها زمردة تشع منها الملايين من أجسام ذرية لامعة؛ وتراءى لي أن هدب عيني يطول ويمتد إلى اللانهاية ثم يطوى كأنه أسلاك رفيعة من الذهب ويلتف حول عجلات صغيرة من العاج تدور حول نفسها بسرعة مدهشة، وقد اكتنفتني نهيرات من لجين تكدست على شواطئها أكوام من(683/30)
الحجارة الكريمة من مختلف الأشكال والألوان. وبعد فترة قصيرة تبددت عني هذه الأحلام وعدت إلى صوابي من غير ما خمول أو صداع كما يعقب عادة شرب الخمر. وقد هالني كثيراً ما رأيت. وما كادت تمضي نحو نصف ساعة حتى عاودتني النشوة وتهت في ملكوت الحشيش. غير أن أحلامي في هذه المرة كانت اشد غرابة وأكثر تعقيداً. فقد أحاطت بي هالة من نور يأخذ وميضه بالأبصار، وتطير حول هذه الهالة ملايين من الفراش لها أجنحة ذات ألوان مختلفة تسر الناظرين، وسمعت لأول مرة صوت الألوان المختلفة. فهنالك صوت اصفر وازرق واخضر واحمر؛ وهذه الأصوات اللونية تصل موجاتها إلى أذني في وضوح تام. كذلك رأيت أكثر من خمسمائة ساعة دقاقة تنبئ عن الوقت بدقات أشبه بأهازيج العود والمزمار وقد ذابت نفسي في اللانهاية، وخيل إلي أن هذا الحلم إنما دام نحو ثلاثمائة عام، وان كل من المستحيل تقدير الزمن على وجه التحقيق إذ كانت المناظر تتتابع وتتنوع بسرعة، وما أن عدت إلى رشدي حتى رأيت أن هذا الحلم لم يدم أكثر من ربع ساعة).
ومن أدباء الإنجليز اذكر (توماس دي كنسي) وكان يعني كثيراً بدراسة (الكلاسيك) من الأدب الإغريقي والروماني القديم، وقد ألف كتاباً بعنوان (اعترافات مدمن في الأفيون) فتأمل حين يناجي المدمن مخدره العزيز:
(أيها الأفيون أنت الحق والحقيقة! أنت حياة المحتضر ومال المعوز وسعادة الشقي والخالق من الشجي خلياً! أنت ملهم البيان! أنت الذي تذكر المجرم والقاتل أيام الطفولة الغريرة حيث لا جريمة ولا جريرة! أنت الذي تشتد في غسق الظلام قصوراً وبنياناً أكثر سحراً من بنيان بابل وطيبة).
كذلك الشاعر الإنجليزي (كولردج) وقد كان ممن يتعاطونه من وقت لآخر بقصد التنبيه ونشاط القريحة، وقد كتب قصيدته (كبلخان) بعد أن تعاطى ما تيسر من الأفيون وهي تعد من ارق أنواع الشعر وأرقاه معنى.
أما أثر هذه المواد من الوجهة الطبية والفسيولوجية فهاكها باختصار كما يلي:
1 - تخدر الأعصاب، لذا كان لها تفوق كبير في تسكين الآلام الناشئة من الأمراض. كذلك من خواصها التنويم، ولكنه نوع خاص من النوم يمتاز بانحلال عام وتراخ في العضلات(683/31)
تتخلله أحلام هنيئة ومتنوعة. أما من الوجهة النفسية فهي تساعد على حضور البديهية وسرعة الخاطر، ويلي ذلك شيء من التهيج واضطراب الأفكار يطرأ تدريجياً وحسب كمية المخدر. أما أثره على الجزء الخاص بالتحرك من الجهاز العصبي فهو اقل بكثير من أثره على الجزء الموكل بالحس والشعور.
2 - تنقص جميع الإفرازات الخاصة بالجهاز الهضمي فيعيق الهضم ويعطله كما يقل من حدة الشهية، ويساعد على الإمساك. كذلك له مفعول سيئ على الكبد الذي يعد أهم عضو لمكافحة السموم الطارئة على الجسم من الداخل ومن الخارج.
3 - تساعد المخدرات على التنفس لذلك تستعمل في بعض أمراض الصدر والقلب التي تسبب حصراً وضيقاً في التنفس مثل الربو والنزلات الشعبية والأزمات القلبية والرئوية.
4 - تنقص المخدرات من كمية البول لأنها - كما أسلفنا تقل من جميع الإفرازات ما عدا الإفراز العرقي فهي على النقيض تكثره وتنشطه. أما الجهاز التناسلي فقد تسبب تهيجاً جنسياً، ولكن إلى حين وفي بادئ الأمر فقط، ولكن هذا التهيج وتلك الإثارة يعقبها خمول وضعف في الرغبة الجنسية.
هذه نبذة موجزة عن بعض المخدرات عالجت موضوعها باختصار من الوجهة التاريخية والأدبية والعلمية.
فضل أبو بكر(683/32)
القوة في نظر العلم
للأستاذ محمد عاطف البرقوقي
العلماء والقوة:
نشأ الإنسان في الحياة ووجد إنه في كل شئونه يحتاج إلى القوة، ففي إعداد طعامه كان يخرج إلى الصحارى والغابات ليصطاد فريسته، فكان مضطرا إلى حملها بنفسه ليعود بها إلى داره، وفي هذا لا تنجح إلا القوة العضلية، وفي البناء كان قدماء المصريين يشيدون الأهرام والمعابد والقبور، وكانوا يستخدمون الإنسان في حمل أثقل الأحجار ونقل التماثيل من مكان إلى آخر، ومن ذلك انهم استخدموا عشرة آلاف رجل لتشييد الهرم الأكبر، يستبدلون كل ثلاثة ولمدة عشرية عاما، وذلك رغم استخدام الروافع والعربات والسفن.
وإذا ما تلفت الإنسان حوله وجد مظاهر القوة بادية، فقوة الريح تعصف بالأشجار فتكسرها، والماء الجاري يجرف المباني فيهدمها، والأجسام تسقط نحو الأرض بفعل قوة، وهي قوة الجاذبية الأرضية، والمد والجزر أثران من أثار القوة، والكواكب السيارة تدور وتتحرك نتيجة قوة، فلفت ذلك نظر العلماء، فاهتموا بدراسة القوة وآثارها، منهم العالم الإيطالي غاليليو الذي اهتم بدراسة حركة الأجسام الساقطة تحت تأثير جاذبية الأرض وتبعه العالم الإنجليزي سير اسحق نيوتن (1642 - 1727) الذي وضع القوانين التي تربط بين القوة والحركة والقوة والكتلة، ودرس حركة الكواكب السيارة فهو يعتبر بحق واضع أساس علم الميكانيكا وعلم الفلك، وتبعه علماء كثيرون درسوا القوى الناتجة من الهواء والماء والبخار والكهرباء.
القوة والحركة:
ومهما اختلف مصدر القوة فإن هناك علاقة كبيرة بين القوة والحركة، فأينما وجهت النظر إلى قوة من القوى وجدتها يصحبها حركة من الحركات، فالسيارة تبقى ساكنة ما لم تستخدم القوة الناتجة من احتراق بخار البنزين، والقاطرة لا تتحرك إلا بقوة البخار، وكلما زادت القوة زادت الحركة، وعندما توقف القوة فعندئذ تقل الحركة إلى أن تنعدم، وانعدام الحركة في الواقع ناتج من قوة هي قوة الاحتكاك بين العجلات والأرض، فالقوة تحرك الجسم(683/33)
الساكن أو تعدم حركة الجسم المتحرك. وقد وضع العالم الإنجليزي نيوتن ثلاثة قوانين في علم (الميكانيكا) تسمى قوانين نيوتن في الحركة، أولها: (إن الجسم يبقى ساكناً أو متحركاً بسرعة منتظمة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة)، فالجسم الساكن لا يتحرك إلا بتأثير قوة، فإذا قربت مغناطيساً من ابره من الصلب أو الحديد ساكنة تحركت بتأثير القوة المغنطيسية. وإذا شاهدنا جسماً متحركاً بغير سرعة منتظمة حكمنا على أن هناك قوة تحركه، وهكذا استنبط العلماء قوة جاذبية الأرض بملاحظة سقوط الأجسام نحو مركزها
قوة الاحتكاك:
ونلاحظ إنه إذا رمينا كرة من الزجاج ناعمة على أرضية ملساء فإنها تستمر بسرعتها المنتظمة في خط مستقيم، وحسب قانون نيوتن إذا لم تؤثر عليها قوة فإنها يجب أن تستمر إلى مالا نهاية كما يقول العلماء، ولكن من الناحية العملية تقل سرعتها تدريجياً حتى تصل في النهاية إلى السكون، وذلك لأنه توجد قوة تغير من حالتها هذه إلى السكون، وهذه القوة هي التي نسميها قوة الاحتكاك بين أي جسمين، وهي صغيرة بين جسمين ناعمي الملمس وتزداد كلما زادت خشونة الجسمين وكتلة الجسم المتحرك، فإذا رميت كرة ثقيلة من الحديد على أرضية خشنة وقفت حركتها بسرعة قوة الاحتكاك بينها وبين الأرض. وفي الواقع أن قوة الاحتكاك هذه تسبب ضياع نسبة لا يستهان بها من الطاقة للتغلب عليها سواء أكانت في حركة القطارات أم السيارات أم في إدارة الآلات
القوة الطاردة أو القوة والدوران:
الجسم المتحرك يميل إلى الحركة في خط مستقيم، فكثيراً ما نلاحظ أن السيارة المتحركة بسرعة كبيرة إذا ما فوجئ سائقها بجزء منحن من الطريق فإنه على الرغم من عمل مجهود كبير لإدارة عجلة قيادة السيارة فإنها تعصى سائقها وتسير في خط مستقيم، فيؤدي ذلك إلى ملاقاة حتفها. . . إما بالغرق إن كان الطريق بجوار ترعة وإما الاصطدام وإما بالخروج عن الطريق على أية حال، وكل ذلك لميلها للسير في خط مستقيم، وإذا ربط ثقل في طرف خيط وحرك الخيط باليد ليدور الثقل في مسار دائري حول اليد، فإن الثقل لا يسقط نحو الأرض بتأثير جاذبية الأرض له بل يدور بفعل قوة مركزية، وإذا قطع الخيط(683/34)
فإن الثقل عندئذ يتحرك في خط مستقيم من حيث أوقف تأثير هذه القوة المركزية
وإذا كان الثقل عبارة عن (كوز) به ماء وأدير الكوز بالماء فإن الماء لا يسقط وذلك لأنه توجد مركزية طاردة أي تحاول أن تطرد الماء نحو الخارج فيعوق قاع الإناء، ذلك وفي الصناعات يستخدمون هذه القوة في نواح شتى، ففي محال غسيل الملابس، يضعون الملابس المبللة بالماء في إناء كبير يدور، فبدورانه فيه قوة طاردة تطرد الماء من ثقوبه إلى الخارج فتعصر الملابس بطريقة سريعة، وفي محال الألبان الكبيرة يستخرجون القشدة من اللبن وهو طازج بأن يضعوا اللبن الحليب في إناء ويدار بسرعة فتنفصل القشدة عن اللبن بتأثير القوة الطاردة.
وراكب الدراجة عند دورانه يجب عليه أن يميل بجسمه إلى داخل الدوران حتى لا تدفعه القوة الطاردة إلى الخارج فيقع، ويخشى اثر هذه القوة في القاطرات والطائرات، فالقطارات عند دورانها يجب أن يكون القضيب الخارجي أعلى من القضيب الداخلي حتى تميل القاطرة عند دورانها إلى الداخل، وهناك قانون يبين مقدار زيادة ارتفاع القضيب الخارجي عن الداخلي، ويصل هذا إلى نحو عشرة سنتمترات.
وفي الطيران كثيراً ما يصاب السائق بدوخة إذا اضطر إلى ادارة طائرة بسرعة كبيرة تصل الآن إلى نحو 400 ميل في الساعة، وتزول الدوخة بعد أن تعود الطائرة إلى سيرها في خط مستقيم، وذلك لان دمه يسير في جسمه بقوة ضربات قلبه، فعند الدوران يميل دمه إلى السير في نفس الخط المستقيم الاصلي، فبذلك ينحرف دمه إلى جانب من جسمه ورأسه فيشعر بالدوخة.
القوة المعنوية:
هذا من ناحية القوة المادية، أو القوة التي لها أثر مادي من حركة أو سكون، واستكمال للبحث نشير أيضاً إلى القوة المعنوية، ورأى أن القوة على العموم - سواء أكانت مادية أم معنوية - يصحبها دائماً حركة، فكما أن القوة المادية تغير من سكون الجسم أو حركته المنتظمة، فكذلك القوة المعنوية تكسب الإنسان اعتزازا بنفسه عند الإقدام، وتهب له الثقة التامة عند العمل، وذلك بقدر اعتزاز الشخص القوى العضلات بجسمه، وثقته في النجاح بقوة إلا أن القوة المادية تظهرها قوة الجسد، والقوة المعنوية كامنة في الروح والنفس، وكما(683/35)
أن القوة المادية تنمي وتزاد سواء أكانت للفرد ام للجماعة، فكذلك القوة المعنوية فإنه يمكن أن تعزز وتقوي للفرد أو للامة ايضاً، فالطفل إذا شجع عند الإتقان، وأغضى عنه عند هفوته، علت نفسه، وقويت عزيمته، والرجل ما هو الا طفل كبير، ومن ناحية على الأقل. . .، والأمة ما هي إلا مجموعة أفراد تربطهم روابط خاصة، ولذلك يلجئون في الحروب إلى الرقابة على الصحافة والإذاعة، وذلك للعمل على رفع القوة المعنوية للامة وجيشها. ولابد لمن يهمهم رفع القوة المعنوية لفرد أو أمة من استخدام علم النفس الفردي والاجتماعي، وعندئذ تجد الأمة ذات القوة المعنوية العالية لا تزعزع منها الثقة، ولا تضعف منها العزيمة، بل تسير قدماً فيما أرادت، واثقة من فوزها في النهاية، متأكدة من الوصول إلى هدفها وإدراك الغاية والثقة - وهي وليدة القوة المعنوية - لها نصف العمل، والنصف الآخر للقوة المادية، وهب لنا الله من لدنه القوة المادية والقوة المعنوية، وهدانا إلى سواء السبيل.
محمد عاطف البرقوقي
ناظر المدرسة التوفيقية(683/36)
من عيون الأدب الغربي:
حديقة أبيقور لأناتول فرانس
بقلم الأستاذ بولس سلامة
تمهيد:
كان اناتول فرانس كاتباً شديد الشك، شديد السخرية، متشائماً هداماً. ولا غرابة فقد أنجبته فرنسا التي أنجبت من قبله فولتير إمام الشاكين في زمانه وفي كل زمان.
وأناتول فرانس كفولتير يتخذ السخرية طريقاً لإصلاح المجتمع والمعتقدات والناس. ويشترك معه في هذه الصفة الكاتب الإنكليزي (شو) إلا أن (شو) يكتب بأسلوب العلماء وأناتول فرانس يكتب بقلم أسلست له اللغة وطاوعه البيان فجاءت كتاباته آية من آيات الأدب الرفيع. وفي حديقة أبيقور يتجلى شك أناتول فرانس وتهكمه وتشاؤمه ويتجلى فنه الرائع وأسلوبه الشيق البديع وقد اقتطفنا لك من هذه الحديقة باقة صغيرة إن أعجبك رواؤها وشذاها فادخل الحديقة وشاهد وتأمل. . .
الهناء والشفاء:
كنت أقرا كتاباً لشاعر فيلسوف تخيل فيه جيلاً من الناس خلت قلوبهم من الهم والسرور والعناء.
ورجعت من هذه الحياة المثلى التي تخيلها الشاعر الفيلسوف إلى عالمنا هذا حيث يكافح الإنسان ويشقى ويتألم ويحلم فعجبت كيف يضطرب قلب الإنسان حنيناً إلى مشاركة هؤلاء في كفاحهم وشقائهم وآلامهم وأحلامهم. ففي هذه الحالة - وفيها وحدها - يجد الإنسان نبعاً من الغبطة لا ينضب
ولقد قنعت بعد قراءته بنصيبي المتواضع في هذه الأرض ورضيت عن نفسي وإخواني الذين يشاركونني هذا النصيب المتواضع الصغير. بل اقتنعت بأننا في شقائنا أنبل من هاته الخلائق التي يرسمها هؤلاء الفلاسفة الحالمون بلا ألم ولا شقاء.
إننا إذا اقتطعنا الألم والعواطف والأهواء من حياة الناس اقتطعنا معها الشعر والفن وكل شيء جميل. وكيف يشعر الشعراء في عالم لا ألم فيه ولا حرمان ولا شقاء؟ انهم يغمضون(683/37)
عيونهم ويصمون آذانهم عن أعاجيب الفن والشعر التي تجعل من هذه الأرض المتواضعة سماء لا تطاولها سماء.
إن بيتاً واحداً من الشعر الرفيع ليفعل في النفس ما لا تفعله هذه المخترعات الحديثة وهذا العلم الحديث.
وأي عالم نتخيله وقد امتلأ بالمهندسين والعلماء بلا شعر ولا حب ولا أهواء. وكيف يشعر ويحب ويغني القانع الراضي القرير؟ إنما الحب نبت لا يزكو إلا بالدموع والبكاء
إنه لمن الخير أن ننسى الألم وان نرضى بنصيبنا من هذا العيش الذي يتداول فيه الخير والشر والعسر واليسر كما يتداول الليل والنهار.
الغباء:
الغباء شرط لازم - لا أقول للسعادة - بل للحياة. فلو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نعيش ساعة واحدة.
إن هذه الأشياء التي يحلو بها العيش أو يطاق إنما تقوم في الواقع على الوهم والغباء.
الشيوخ:
عندما يشيخ المرء يزداد تمسكاً بآرائه؛ ولذلك يعمد سكان جزيرة فيجي إلى قتل الشيوخ، وبهذا ييسرون تقدم الإنسانية ونحن نفعل النقيض بتأسيس الأكاديمية.
الكتب:
قالت لي فتاة صغيرة - وفي قولها حكمة غابت عن كثير من الحكماء - إننا نجد في الكتب ما لا نجده في عالم الواقع من أشياء مضت وانطوت فلا تعود، أو أشياء متوقعة نتخيلها ولا ندركها على التحديد. فهي صورة قاتمة واهمة. وإني أرى أن من الخير إلا يقرأ الكتب الصغار. ففي الحياة أشياء كثيرة أحق باهتمامهم: البحيرات والأشجار والأنهار والحدائق والبحار والسفين في الماء والنجوم في السماء. وإني لأشاركها هذا الرأي فإننا نملك ساعة من العمر لنحياها، فلماذا نقضيها في البحث عن أشياء كثيرة لا يضيرنا أن نجهلها ما دمنا لا نعرف عنها كل شيء. إنا نعيش كثيراً في عالم الكتب وقليلاً في عالم الطبيعة، ونحن في ذلك أشبه بذلك الكاتب الذي ظل يدرس كاتباً يونانياً قديماً بينما كان بركان فيزوف(683/38)
يقذف النار ويحرق خمس مدن عامرات.
(الخرطوم سودن)
بولس سلامة(683/39)
حكم المفكرين الغربيين علي (محمد)
للأستاذ عبد المنعم ماجد
لاح محمد كنجم شارق في دياجي العصور الوسطى فاختط طريقاً جديداً لعالم جديد ودين جديد، يعمل على فك قيود العقل من عبودية التقاليد والوهم ومن التعصب الديني والجنسي. على أن شمس الفكر وان كانت قد سطعت في أحضان الشرق فقد ظلت محجوبة بحلكة هذه العصور في الغرب فلم يستطع مفكروا العصور الوسطى في أوربا أن يخرجوا من هذا النطاق المضطرم بنزعات التعصب الديني ليلتمسوا نور الحقائق المجردة عن الهوى ولينطلقوا بالأفكار حرة غير مقيدة، ولذا لم يكن مستغرباً أن يلاقي محمد الطعن السافر في ذلك الزمن، وألا يرتفع صوت واحد بعيداً عن التشويش والتعصب، فطعن في شخصيته واتهم بالتلفيق والشعوذة، واستهجنت رسالته ووصمت بالكفر والانتحال. فنرى دانتي كأحد المفكرين البارزين الذين هيأ لهم القدر أن تكون حركة النقلة إلى عصر النهضة على أيديهم يقسو في حكمه على محمد فيضعه في الطبقة الثامنة في الجحيم مع المشعوذين الذين كتب عليهم الخلود أبداً في نار جهنم، وجريمته في رأيه إنه مدع دعا إلى تخليص العقيدة من كل شرك - ولم تكن المسيحية آنذاك يمكن أن تتصوره بأية حال. والواقع أن أرى دانتي في محمد معبر من خلال العصر الذي عاش فيه - فهو نفسه أي دانتي عاش في أواخر العصور الوسطى حيث كانت روح التعصب ما زالت تسود العقول، وحتى الآن مازال محمد خصماً في نظر بعض الأوساط الأوربية المفكرة ينظر إليه على إنه النبي الكاذب الذي ادعى بهتاناً إنه نبي الله.
أما في القرن الثامن عشر، وهو الذي أطلق عليه الباحثون القرن المضيء - فقد كان عصر تطور فكري واجتماعي عميق فبدأ فلاسفة هذا القرن ينظرون بنية خالصة إلى أصحاب الحركات الدينية الغير مسيحية، ويقدرون خلالهم الطيبة محاولين جادين أن يهدهدوا نعرة التعصب التي كانت تشل حرية التفكير فضلا عن انهم لم يجدوا باساً في تلمس الحقائق التي لا ضرر في الكشف عنها على سلامة المسيحية، وكانت هذه المرونة في التفكير مفيدة للإسلام فرأينا من يكتب عن محمد ورسالة محمد بنزاهة وإنصاف وإن وجدنا في نفس هذا القرن المضيء أولى العلات وأصحاب المآرب الذين لم يتورعوا عن(683/40)
قرع الحقيقة والطعن بقسوة على نبي الإسلام بطريقة اعتبرها بعض المفكرين الغربيين أنفسهم خطرة على سيادة العقل وحرية الفكر. فسالي وبولينفي وساقاري أمثلة لبعض البحاث الذين عملوا على إظهار بعض الحقائق في أثناء دراستهم لشخصية الرسول. فالأول يترجم القرآن في سنة 1734، ويبرز لنا محمد كرجل مثالي ظهر في الإنسانية العليا. وقبله بولينفي يؤلف كتاباً عن محمد يحاول فيه أن يبرهن بقوة على أفضلية الدين الإسلامي على غيره من الأديان، ويبرز لنا شخصيته كمشروع حصيف مستنير جاء بدين صحيح جعله هداية للعالمين، ليحل محل المسيحية واليهودية وهما الديانتان اللتان كانتا قد تقوضت مبادئهما وملأتهما الريبة. أما ساري فيترجم القرآن في سنة 1782، ويضع محمداً بين الرجال القلائل الذين ظهروا على سطح الأرض ونفحتهم الطبيعية قدرة خارقة ليغيروا أحوال الناس والعصر ليقودوهم إلى النعماء والرخاء. فسيرة محمد في راية تذهل الباحث وتدفعه إلى الإيمان بكمال الإيمان بكل العقيدة التي توصل إليها والتي ساعدته الظروف فيها. ففي أثناء رحلاته شاهد ببصيرة يقظة انقسام المسيحية وعجرفة اليهودية؛ فأراد أن يكون دينه للجميع، وان يكون فيه يسر وانسجام مع الفطرة والعقل. وبالرغم من إنه ولد وثنياً فقد دعا إلى تخليص العقيدة من كل شك، وتجريد الله من كل مادة. وعبادة اله واحد له الأمر من قبل ومن بعد. ولكي يستميل إليه القلوب ويقنع الناس بصحة مبادئه ويضمن لها التأييد، أحاط نفسه بالحماية الإلهية، وادعى إنه رسول الله. فعلى المفكرين المستنيرين أن ينصفوا محمداً لا كرسول بل كأحد هؤلاء الرجال النوادر الذين آثروا في الحياة تأثيراً ظاهراً لا زال باقياً حتى الآن.
هذا الحكم الرفيق على محمد المقدر لعبقريته قوبل بتيار آخر عنيف ساد بين المفكرين في نفس هذا القرن المضيء ووصل إلى حد التشويه والمثالب. فنرى فولتير يغضب على محمد في مأساته التي نشرها في سنة 1742؛ ففي المقدمة يهاجم مباشرة آراء سالي ونولينفي وهما اللذان دافعا عنه، وعلى اية حال فإن حكم فلتير على الرسول خففه في مقالته التي كتبها عن الأخلاق ' فاعترف فيها ببعض مواهبه وان رأى إنه لم يأت بشيء جديد سوى ادعائه النبوة. وقد راج رأى فولتير وقتاً فنرى ديدرو يستفيض في طعنه على محمد بينما نرى كارلايل في محاضرته عن الأبطال في 8 مارس سنة 1840 يحمل(683/41)
على الذين يشنعون على نبي الإسلام فيرمونه بالكذب والانتحال، ويرى أن مثل هذا التفكير البعيد جداً عن جادة الصواب خطر على سيادة العقل بل مخجل للمسيحيين أنفسهم. - فنهاك مائة وثمانون مليوناً من الأنفس يدينون بالإسلام ويؤمنون بمحمد كرسول من عند الله، ويتخذون سنته مرشداً لهم في الحياة - ويتساءل قائلاً: هل من المعقول أن هؤلاء جميعاً ينساقون وراء مشعوذ دجال؟ وهل بلغت الشعوذة من القوة والسيطرة ما يجعل لها هذا السلطان على هذه العقول؟ الواقع أن هذا التخبط راجع إلى اضطراب العصر - ثم - هو يرى أن محمداً كان مخلصاً بحق لدعوته فقد نظر إلى العالم نظرة كلها حياة ففني في حب الاله، وربط ما بين الأبدية وما بين عالمنا، فلو كان محمد نبياً أو شاعراً فهو في كلتا الحالتين رجل غير عادي.
هذه اللفتة الطيبة في معالجة شخصية محمد وتلك الروية والرغبة في الوصول إلى حقائق مجردة عن التعصب ازدهرت في عصرنا الحاضر فأعتبره الكثيرون في مقدمة المصلحين الذين بذروا بذرة صالحة في حقل الحضارة والمدنية، ولكنهم أي هؤلاء العلماء اختلفوا في الحكم عليه بل لم يستطع بعضهم الوصول إلى رأي ثابت. ولعل أوضح هؤلاء المستشرقين الذين دافعوا عن محمد واهتموا بدراسة سيرته تور اندراي الألماني الذي يعتقد في نبوة محمد ويستفيض بحماس في تقدير رسالته التي تعتمد في أصولها على البساطة والفطرة، وهو يتساءل في اخر كتابه عن محمد قائلاً: هل يمكننا مع هذا أن نتوصل بحق إلى تفهم شخصية محمد على وجهها الصحيح. . .
الواقع أن علماء الغرب مازالوا متحيرين في حكمهم النهائي على محمد.
عبد المنعم ماجد
عضو بعثة التاريخ الإسلامي لجامعة فؤاد(683/42)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
816 - الرضى عن الله والغنى عن الناس
الكامل للمبرد:
كان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال. قال له عبد الملك يوماً: ما مالك؟
فقال: شيئان لا عيلة على معهما: الرضى عن الله، والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرت بمقدار مالك.
فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحقروني أو كثيراً فيحسدني.
817 - ولو علي الحجارة
قال زياد في رجل ولي تحصيب جامع البصرة: أثر الإمارة ولو على الحجارة.
818 - مظلوم
لم يخلق الله مسجوناً تسائله ... ما بال سجنك إلا قال: مظلوم
819 - وأحمد فيه معرفة ووزن
حكي إنه كان بالعراق رجلان أحدهما اسمه عمرو والآخر اسمه أحمد فعزل عمرو عن عمله وولى أحمد مكانه بسبب مال وزنه فقال بعض الشعراء في ذلك:
أيا عمر، استعد لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن
وكل منكما كفء كريم ... ومنع الصرف فيه كما يظن
فيصدق فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن
820 - يعوقني أبوك عنه. . .
تاريخ ابن عساكر.
لما ولى مروان بن الحكم في عمله الأول دخل عليه حويطب فتحدث عنده. فقال له مروان: ماسنك؟ فاخبره. فقال له كبرت ايها الشيخ وتأخر إسلامك حتى سبقك الأحداث.
فقال له: الله المستعان، لقد هممت بالإسلام غير مرة، كل ذلك يعوقني أبوك عنه وينهاني(683/43)
ويقول: تضيع شرفك ودين آبائك لدين محدث وتصير تابعاً.
فأسكت (والله) مروان وندم على ما كان قال له:
821 - وكل بصاحبه يسخر
ألم تراني أزور الوزير ... فأمدحه ثم أستغفر
فأثنى عليه ويثني عليَّ ... وكل بصاحبه يسخر
822 - المتنبي وكافور
حكي عن المتنبي إنه قال: كنت إذا دخلت على كافور وأنشدته يضحك إلي ويبش في وجهي إلي أن أنشدته:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن اصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا؛ فعجبت من فطنته وذكائه.
823 - قد كدت تسبين فؤاد الحاكم
قدم رجل امرأة حسنة النقيبة إلى القاضي فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوجها ثم يسيء إليها. ففطن الرجل بحال القاضي. فعمد إلى نقابها فأسفره، فرأى القاضي وجهاً وحشاً فحكم القاضي عليها وقال قومي لعنك الله! كلام مظلوم ووجه ظالم
فقال زوجها:
قومي إلى رحلك أم حاتم
قد كدت تسبين فؤاد الحاكم
بنطق مظلوم ووجه ظالم
824 - وليس لي عباءة. . .
لقي رجل صاحباً له فقال له: إني احبك. فقال: كذبت لو كنت صادقاً ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة.
825 - ولكن لترى(683/44)
نظر بعضهم إلى جارية حسناء خرجت يوم عيد في النظارة فقال: هذه لم تخرج لترى ولكن لترى.
826 - كما أطرق على حسن الغناء
في ديوان المعاني:
روى عن محمد الأمين إنه قال: إني لأطرب على حسن الشعر كما أطرب على حسن الغناء.
827 - لماذا أكلت طعام السفن
قال ابن فارس: أنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وقيت الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكي المرض المجد لما مرضت ... فلما نهضت سليما ابل
لك الذنب لا عتب إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السفل
828 - بيت المتنبي العظيم
أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني:
لا يسلم الشرف من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
معنى معقول لم يزل العقلاء يقضون بصحته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنته، وبه جاءت أوامر الله سبحانه، وعليه جرت الأحكام الشرعية والسنن النبوية، وبه استقام لأهل الدين دينهم، وانتفى عنهم أذى من يفتنهم ويضرهم إذ كان موضوع الجبلة على أن لا تخلو الدنيا من الطغاة الماردين، والغواة المعاندين الذين لا يعوزهم الحكمة فتردعهم، ولا يتصورون الرشد فيكفهم النصح ويمنعهم، ولا يحسون بنقائص الغي والضلال، وما في الجور والظلم من الضعة والخبال، فيجدوا لذلك مس ألم يحبسهم على الامر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسباع لا يوجعهم إلا ما يخرق الأبشار من حد الحديد وسطو البأس الشديد. فلو لم تطبع لأمثالهم السيوف، ولم تطلق فيهم الحتوف لما استقام دين ولا دنيا، ولا نال أهل الشرف ما نالوه من الرتب العليا. فلا يطيب الشرب من منهل لم تعف(683/45)
عنه الاقذاء، ولا تقر الروح في بدن لم تدفع عنه الأدواء.
829 - إجازة كلا إجازة
الكشاف للزمخشري:
(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) وهو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبى الدرداء إنه كان يقرئ رجلا فكان يقول: طعام اليتيم، فقال: قل: طعام الفاجر يا هذا. وبهذا يستدل على إن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها حرفا، قالوا: وهذه الشريطة تشهد إنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض مالا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها. وما كان أبو حنيفة (رحمة الله) يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروي على بن الجمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية.
830 - الغنيمة الباردة
الفائق للزمخشري: الغنيمة الباردة هي التي تجئ عفواً من غير أن يصطلى دونها بنار الحرب ويباشر حر القتال. وقيل: الثابتة الحاصلة، من برد لي عليه حق. وقيل الهنيئة الطيبة من العيش البارد. والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهناءة أن الهواء والماء لما كان طيبهما ببردهما خصوصاً في بلاد تهامة والحجاز قيل: هواء بارد وماء بارد على سبيل الاستطالة، ثم كثر حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة، وبرد أمرنا.
831 - فانظر إلى من يقودها
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة ... وأحلامها فانظر إلى من يقودها
832 - . . . إلى أن تستوفي أجرتك
الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدي:
حدثنا ابن سيف الرواية قال: رأيت جحظة (البرمكي) قد دعا بناء ليبني له حائطا، فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك إن الرجل طلب عشرين درهما، فقال(683/46)
جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهما! قال: أنت لا تدري أني قد بنيت لك حائطا ليبقى مائة سنة. فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط، فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. . .
833 - الكمثري:
المعرب لموهوب الجواليقي: قال الأصمعي: من الفارسي المعرب (الكمثري) يقال: كمثراة وكمثري منون مشدد، ولم يعرف التخفيف. قال ابو حاتم: وقد يزعمون إنه لا يجوز غير التخفيف، فأنكر ذلك الأصمعي وأنشد:
أكمثرِّي يزيد الحلق ضيقا ... احب إليك أم تين نضيج
قال: الأصمعي: حدثني عقيلي قال: قيل لابن ميادة الكمثري) فلم يعرفه لأنه أعرابي، ثم فكر وقال: مالهم - قاتلهم الله - يقولون ألا كم أثري.
ليست - والله - بأثري ولا كرامة. وإلا كم المرتفعات من الأرض.
834 - يا يزيد بن مزيد
ابن خلكان: رأيت في بعض المجاميع حكاية عن بعضهم إنه قال: كنت مع يزيد مزيد فإذا صائح في الليل (يا يزيد ابن مزيد) فقال: علي بهذا الصائح، فلما جئ به، قال: ما حملك على أن ناديت بهذا الاسم؟ فقال: نفقت دابتي، ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر:
إذا قيل من للمجد والجود والندى ... فناد بصوت يا يزيد بن مزيد
فلما سمع يزيد مقالته هش له، وقال له: أتعرف يزيد بن مزيد؟ قال: لا والله، قال: أنا هو، وأمر له بفرس ابلق كان معجبا به وبمائة دينار.(683/47)
عينان. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
طوى السنين وشقَّ الغيب والظلما ... برق تألق في عينيك وابتسما
يا ساري البرق من نجمين يومض لي ... ماذا تخبئ لي الأقدارُ خلفهما
أجئت بي عتبات الخلد؟ أم شركا ... مددت لي من خداع الوهم أم حلما
كأنني ناظرٌ بحرا وعاصفةً ... وزورقا بالغد المجهول مرتطما
حملْتني لسماء قد سريتُ لها ... بالروح والفكر لم أنقل لها قدما
شفت سديما ورقّت في غلائلها ... فكدت أبصر فيها اللوح والقلما
رأيت قلبين خط الغيب حبهما ... وكاتباً ببنان النور قد رسما
وسحر عينيك إني مقسم بها ... لا تسألي القلب عن إخلاصه قسما
واهاً لعينيك كالنبع الجميل صفا ... وسال مؤتلق الأمواج منسجما
ما أنتما؟ أنتما كأس وإن عذبت ... فيها الحمام ولا عذر لمن سلما
لّما رمى الحب قلبينا إلى قَدَر ... لهُ المشيئةُ لم نسأل لمنْ ولِما
في ساعة تجمع الآباد، وحاضرها ... وما يجئ، وما قد مر منصرما
قد أودعت في فؤاد اثنين كل هوى ... في الأرض سارت به أخبارها قدما
كلاهما ناظر في عين صاحبه ... موجا من الحب والأشواق ملتطما
وساحة بتعلات الهوى احتربت ... فيها صراع وفيها للعناق ظما
يا للغديرين في عينيك إذ لمعا ... بالشوق يومض خلف الماء مضطرما
وللنقيضين في كأسين قد جمعا ... فالراويان هما والظامئان هما
بأي قوس، وسهم صائب ويد ... هواك يا أيها الطاغي الجميل رمى
يرمي ويبرئ في آن وأعجبه ... أن الذي في يديه البرء ما علما
وكيف يبرئني من لست أسأله ... برءا وأوثر فيه السهد والسقما
لو أن في الموت أسبابا تقربني ... إلى رضاك لهان الموت مقتحما
إن الليالي التي في العمر منك خلت ... مرّت ببابا وكانت كلها عقما
تلفت القلب مكروباً لها حسرا ... وعض من أسف إبهامه ندما(683/48)
البريد الأدبي
حول (كتب وشخصيات):
لم يسمع الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني نصيحتي، فيؤجل قراءة كتابي
الجديد حتى يعود من مصيفه، وهو المسئول إذن عن إضاعة وقت
المصيف في القراءة. فكتاب البحر الخالد وصفحاته المتجددة خير بلا
شك من جميع (الكتب) ومن جميع (الشخصيات)!
هل أشكره لأنه كلف نفسه ذلك العناء، وضيع على نفسه ما هو خير؟ أم أشكر للروح الطيبة التي تناول بها كتابي!
فلأبق ذلك كله الآن، لأنبه إلى فقرة جاءت في ثنايا كلماته الودود:
(ليس في (قنديل أم هاشم) ذلك التحليل العميق للنفس البشرية، حتى إذا نقلت القصة إلى لغة أجنبية نالت الإعجاب. ويبدو أن صداقة الأستاذ سيد قطب للمؤلف هي التي دفعته إلى تشجيعه. ومن آيات هذه الصداقة إنه يقول: أوه! يحيى حقي! أين كانت كل هذه الغيبة الطويلة؟ فيما هذا الاختفاء العجيب)
بيننا اختلاف لا شك فيه على تقدير أقصوصة (قنديل أم هاشم) ولكن الأستاذ يذكر إنه قرأها منذ أمد بعيد. وأنا قد قرأتها وقرأتها وقرأتها. فلعله يرجع إذن مرة أخرى إليها فقد يعدل رأيه.
وهناك حقيقة يجب أن اذكرها هنا. إنني لا أعرف يحيى حقي. لم القه مرة واحدة في حياتي، وأنا أود أن أراه لأعنفه أقسى التعنيف على سكوته. إنني صديق لقنديل أم هاشم لا ليحيى حقي!
ولست اقرر هذه الحقيقة لأهرب من تبعة ثنائي عليه. فلو كان صديقي ما تغير حكمي. وفي من كتبت عنهم أصدقاء ومعارف، وآخرون لا اعرفهم، ولم ألقهم في حياتي. وكلهم كتبت عنهم بروح واحدة، لأن النقد الفني يجب أن يكون موكلا بالعمل النفي.
وحتى العقاد نفسه وصلتي بشخصه معروفة، وصلتي بأدبه أوثق مرات من صلتي بشخصه - ولو فهم الكثيرون غير هذا - كتبت عنه في كل مرة بالعقيدة الفنية التي اعتقدها. وقد(683/50)
يبدو فيما كتبته أخيراً عن (العقاد الشاعر) في (كتب وشخصيات) إنني اختلف معه في بعض الاحيان، على تعريف الشعر وتذوقه، وعلى النظر إلى العاطفة وأطوارها.
ولكنه اختلاف الرأي والاحساس، الذي لابد أن يقع بين شخصية وشخصية، متى تبلورت الشخصيتان، وظهرت معلمها كاملة، ولو كانتا شخصيتي التلميذ والأستاذ.
أقرر هذه الحقيقة لأنها تنفعنا في عالم النقد، كما تنفعنا في عالم الأخلاق. وللأستاذ الأهواني شكري مرة أخرى، إن أتاح لي فرصة هذه الكلمات.
سيد قطب(683/51)
الكتب
فقه القران والسنة
القصاص
لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت
للأستاذ محمد محمد العزازي
من فترة بعيدة في تاريخ المسلمين، وكل ما يؤلف في الفقه الإسلامي لا يعدو أن يكون شرحاً أو جمعاً أو تلخيصاً لا تبدو عليه مسحة من الاجتهاد، أو حتى من الفهم المستقل، وكان لهذا أثره السيئ من رمي المسلمين بالجمود، ومن قصور التشريعات الحديثة، ومن خفاء محاسن الشريعة الإسلامية على المسلمين أنفسهم. قال الشيخ شلتوت متحدثاً عن (جفوة المسلمين للفقه في العصر الأخير):
(ولقد مضى هذا الزمن، وصار الفقه الإسلامي صناعة علمية مجردة عن المعاني النفسية والقلبية، بل صار الفقه في كثير من نواحي الحياة العملية صفحات تاريخية لا تمت إلى الواقع بأدنى سبب، وانحاز الناس جميعاً في تعاملهم وأحكامهم إلى أحكام أخرى يسيرون عليها في حياتهم، ويضبطون بها شؤونهم غير ذاكرين ما عندهم من فقه ساير أرقى الحضارات التي مرت بالعالم الإسلامي)
وقد نحا أستاذنا الكبير في كتابه هذا منحى جديداً ينعش - بحق - آمال المسلمين في الرجوع إلى فقههم وفي تفهم مقاصده واتجاهاته. وقد كتب كتابه هذا بعقلية المجتهد، وأقر كثيراً من الموضوعات بما أوتيه من استعداد خاص في هذه الناحية لم يستيسر لغيره من علماء المسلمين من زمن بعيد
وللشيخ شلتوت مدرسة خاصة تكونت من تلاميذه في الأزهر، ومن تلاميذه في كلية الحقوق. وإنا لنرجو أن يكون لهذه المدرسة شأنها في العصر الحديث في إنهاض الفقه الإسلامي وعرضه على الناس عرضاً صحيحاً سائغاً مقبولاً. . . وكتاب الشيخ موضوعه (القصاص)، وقد مهد لموضوعه بفصول ممتعة في هذه المفردات: (الفقه، القرآن، السنة) مبيناً معاني هذه الكلمات، وما طرأ عليها على ضوء تاريخ التشريع في العصور(683/52)
الإسلامية، وقد دفع الشيخ دفعاً قوياً رائعاً شبهة القائلين: (ان الشريعة الإسلامية جاءت عن طريق الشرائع القديمة، ولم يكن للعرب قانون معروف، حتى تكون تعديلاً له وتنظيماً لأحكامه). وبيّن أن القرآن جاء وللعرب عادات ومعاملات وعرف، وأنه (أقر كثيراً مما درجوا عليه في هذه الشئون، وهذب فيها وعدل وألغى وبدل، وليس ذلك مما يضير القرآن في تشريعه واستقلاله، فما كان الإسلام إلا ديناً يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق، ولم يأت ليهدم كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناء جديداً لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع). وقد تتبع الشيخ في هذا الفصل كثيراً مما كان عند العرب وكثيراً من التشريع القرآني في دقة الإبداع. وقال في نهايته: (وهذا البحث جدير بالاستيعاب والتتبع، إذ به يتبين مقدار الصلة بين التشريع الإسلامي، وبين ما كان معروفاً عند العرب وقت نزول القران) وللشيخ قدرة على التتبع تظهر للقارئ في كل فصول الكتاب.
وقد ذكر الشيخ عن القران إنه لم يكن في أكثر أحكامه مفصلاً: (ولكنه يؤثر الإجمال ويكتفي في أغلب الشأن بالإشارة إلى مقاصد التشريع وقواعده الكلية، ثم يترك للمجتهدين فرصة الفهم والاستنباط)
وكان هذا شأن القران في الأمور التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا هو سر الخلود في الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان ومكان، واتساعها لكل ما يجد من المقتضيات والأحوال. أما في الأمور التي لا تتغير، فإنه يفصلها سمواً بها عن مواطن الخلاف والجدل، ولأنه يريدها مستمرة على الوضع الذي حدده لابتنائها على أسباب لا تختلف. وقد تحدث الشيخ حديثاً رائعاً عن أسباب الاختلاف بين العلماء في الفقه الإسلامي. ومما أعجبني ما تحدث به عن إثبات نسب أسامة بن زيد بقبول القائف: (هذه الأقدام بعضها من بعض). وان العلماء قد اختلفوا في هذا فأستدل بعضهم باستبشار الرسول لما سمع هذا الكلام على إقراره، وانه دليل على ثبوت النسب، وقد رجح المؤلف رأي القائلين بذلك. والذي أعجبني في هذه المسألة قول المؤلف: (وقد كان هذا أصلاً عظيماً في الأخذ برأي الطب الشرعي في الحوادث التي يعتبر القانون نظرها لتبين جهة الحق فيها من اختصاصه، ويمكن أن نلج من هذا الباب إلى الاعتماد في القضاء والحكم على الوسائل(683/53)
الجديدة التي لم يعرفها الفقهاء من قبل كتحليل الدم وكآثار الأيدي والأقدام، وغير ذلك مما يعرفه علماء التحقيقات الجنائية وأهل الخبرة) ثم تكلم عن الحكم بالقرائن، وضرب لذلك أمثلة ختمها بقوله: (بهذا يتبين أن الأخذ بالقرائن في الأحكام ليس من مبتكرات القوانين الحديثة، وإنما هو شريعة إسلامية جاء بها كتاب الله وقررته السنة ودرج عليه حكام المسلمين وقضاتهم في جميع العصور، وإن رمي الشريعة بالقصور أو الجمود في طرق الحكم ناشئ إما عن الجهل أو عن سوء النية) وإن كل ما أورده المحدثون من تقسيم للقرائن موجود بذاته في كتب الفقه الإسلامي. ثم انتقل الشيخ بعد ذلك إلى الحديث عن القصاص، وسبيله في هذا أن يشرح الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع مبيناً مقاصده ومفصلاً أحكامه.
ومما يروع القارئ في هذا الباب قدرة الشيخ على التطبيق واستقلاله في الفهم ووصله الفقه الإسلامي بالحياة الحديثة، وقد مهد لموضوعه بالكلام عن العقوبات في الشريعة، وقسم العقوبة إلى منصوص عليها، والى تفويضية يرجع تحديدها إلى الحاكم، وبين أن العقوبة التفويضية مجال واسع يتسع لكل ما يجد في الحياة، وبعد هذا البيان قال: (ولا يرتاب منصف بعد هذا في أن هذه العقوبة أساس قوي ومصدر عظيم لأدق قانون جنائي تبنى أحكامه على قيمة الجريمة وظروفها المتصلة بالجاني والمجني عليه ومكان الجريمة وزمانها في كل ما يراه الحاكم اعتداء على الحقوق الأفراد أو الجامعات، بل في كل ما يراه ضاراً بالمصلحة واستقرار النظام).
ومما أبدع الشيخ فيه وأمتع حديثه عن حق العفو، وان الشريعة الإسلامية قصرته على ولي الدم، ولم تجعله في يد الحاكم ليكون هذا أدعى إلى اطمئنان النفوس وطهارتها من الأحقاد والأضغان وأمن المحظور والفتنة.
وقد بلغ الشيخ التوفيق غاية التوفيق فيما كتبه عن الشروع في القتل، وعن معنى التحريم في قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). وعن آلة القتل وعن القصاص فيما دون النفس إلى غير ذلك من الموضوعات التي لا بد للقارئ من الرجوع اليها في الكتاب نفسه.
وإذا كان لي رجاء أتقدم به إلى أستاذنا الكبير، فهو أن يقدم لنا (المعاملات) في الفقه(683/54)
الإسلامي على النمط الذي قدم لنا به موضوع (القصاص)، وأن يبين لنا موقف الشريعة الإسلامية من كل ما جد من المعاملات في العصر الحديث، لأن هذا موضوع يشغل بال كل مسلم.
هدانا الله وهداه لخير الإسلام والمسلمين
(أبو حماد)
محمد محمد العزازي
المدرس بالأزهر(683/55)
العدد 684 - بتاريخ: 12 - 08 - 1946(/)
النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه
- 3 -
أما الأسباب التي دفعتهم إلى سلوك هذا النهج في نقد الشعر، فمن السهل تلخيصها في خمسة أمور لا يصعب عليك استنتاجها مما تقدم:
الأمر الأول ما ذكرناه من أن علماء اللغة والنحو لم يروا الفضل في الشعر إلا فيما يمكن الاحتجاج به، وحسبهم من ذلك البيت والبيتان.
الأمر الثاني - وهو من قبيل الأول - أن علماء البيان والبديع، ومنهم أكثر النقاد، كانوا يكتفون بالشطر أو البيت أو البيتين شاهداً على صورة البيان، أو نوع من أنواع البديع.
الأمر الثالث أن القصيدة العربية بطبيعتها مجموعة من مقطوعات تتفق في الوزن والقافية، وتختلف في المعنى والغرض. فإذا أخرجت مقطوعة ما من قصيدة وأدخلتها في أخرى تكون من بحرها ورويها لا تحس نقصاً في الأولى ولا كمالاً في الأخرى.
الأمر الرابع أن الشعراء ألزموا أنفسهم أن يكون كل بيت من أبيات القصيدة مستقلاً بمعناه عن غيره، وجعلوا من عيوب الشعر (التضمين) وهو أن تتعلق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقل بالإفادة. وربما مدحوا الاستقلال بين شطري البيت؛ فقد روى الجاحظ في البيان عن عمرو بن العلاء أن ثلاثة من الرواة اجتمعوا فقال لهم قائل: أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز؟ فقال أحدهم: قول حميد بين ثور: وحسبك داء أن تصح وتسلما. وقال الثاني: بل قول أبي خراش الهذلي:
توكل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي.
وقال الثالث: بل قول أبي ذؤيب: وإذا تُرَد إلى قليل تقنع. فقالوا إنه لا يستغني بنفسه، لأن السامع لا يفهم معناه حتى يسمع النصف الاول، والصواب أن يقال قوله:
والدهر ليس بمتعب من يجزع
وكان من اثر استقلال البيت بمعناه أن كثر التقديم والتأخير في أبيات القصيدة حتى لا تجد قصيدة جاهلية يتفق راويان على ترتيب أبياتها.
والأمر الخامس أن الغلبة كانت للرأي القائل بأن الشعر إنما يكون أثره وبلاغه بما فيه من تغير الأوضاع وصور المجاز وأنواع البديع، حتى أن ابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595(684/1)
هـ قال في تلخيص كتاب الشعر لأرسططاليس ما نصه: (والقول (الشعري) إنما يكون مختلفاً أي مغيَّراً عن القول الحقيقي من حيث توضع فيه الأسماء متوافقة في الموازنة والمقدار، وبالأسماء الغريبة، وبغير ذلك من أنواع التغيير. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمى شعراً أو قولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر. مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِني كل حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
إنما صار شعراً لأنه استعمل: أخذنا بأطراف الأحاديث الخ. بدل قوله تحدثنا ومشينا.
وكذلك قوله: بعيدة مهْوى القُرط، إنما صار شعراً لأنه استعمل هذا القول بدل قوله: طويلة العنق. وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللُّعس ... قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق بمخاطبتها، وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الإنس والأنس في اللفظ. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال. وما عدا هذه التغيرات فليس فيه من معنى الشعرية إلا الوزن فقط، والتغيرات تكون بالموازنة والموافقة والإبدال والتشبيه وبالجملة بإخراج القول غير مخرج العادة، مثل القلب والحذف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير وتغيير القول من الإيجاب إلى السلب، ومن السلب إلى الإيجاب، وبالجملة من المقابل إلى المقابل).
وما دام الشعر مبنياً على هذه الصور والأشكال، فلا يكون النظر فيه إلا من جهة البيان والبديع، وذلك يقتضي النظر في بعض الأبيات وفي بعض أنواع الكلام.
لهذه الأمور الخمسة انحصر النقد البياني عند العرب في جزء واحد من النقد بمعناه العام عند الفرنج، وضاقت علوم البلاغة عندهم هذا الضيق الفاحش، فلم تعالج غير أبيات وفِقَر من الكلام المنظوم والنثر المسجوع، وأغفلت القصيدة باعتبارها وحدة لا تتفرق، والكتاب باعتباره كلاً لا يتجزأ، ولم نحفل ما ألّف بالنثر المرسل من الكتب والقصص. وجر ذلك إلى أن الشعراء والكتاب أوغلوا في البديع وتفننوا في الزخرف، وأهملوا فن القصص فتركوه لأدباء الشعب، ولم يعنوا منه إلا بالمقامات لأنها مظهر الصنعة ومحك القدرة،(684/2)
فحرموا بذلك الأدب العربي فناً كانوا هم بسليقتهم أقدر الناس على التوفر له والافتتان فيه.
ومن ذلك يتضح أن فهم الأقدمين الخاطئ لحقيقة الفن الشعري والكتابي جر إلى حصر النقد البياني في الصور والأشكال، وهذا الحصر نفسه قد وجه الشعراء والكتاب إلى الاحتفال باللفظ دون المعنى، وبالصورة قبل الفكرة، ففات أكثرهم أن روعة الكلام لا تكون بالرونق والأناقة والصنعة وحدها، وإنما تكون مع ذلك بقوة التعبير عما تكنه الضمائر وتحسه المشاعر، وبدقة التصوير لمختلف الطبائع والعواطف والأخلاق والشهوات والصفات حتى نرى صور أصحابها الحقيقيين أو المتخيلين تتحرك وتفعل وتقول على مقتضى الغرائز الثابتة والفطر الأصيلة؛ وبكشف الغطاء عن طبيعة الشخص بكلمة تجري على لسانه، أو حركة تحدث عن يده، فتكون تلك الكلمة أو الحركة كومضة البرق في الظلام تنير الأفق بغتة؛ وببراعة الوصف لمناظر الطبيعة وظواهر الكون حتى نحس فيها الحياة والحركة وندرك ما بينها وبين النفس وانفعالاتها من اتصال وعلاقة؛ وبشدة التأثير في الأفئدة حتى تستيقظ فيها رواقد الأهواء والعواطف، فتطرب النفس أو تغضب، وتفرح أو تحزن، وترضى أو تسخط، وتحب أو تبغض.
لو إن نوابغ الكتاب والشعراء فطنوا أو نبهوا إلى ذلك لكان من همّ الناقد أن ينظر فوق ما ينظر في الألفاظ والصور إلى تنسيق المعاني وترتيب الأفكار في جملة القصيدة أو الخطبة أو المقالة أو القصة، أو الكلام على العموم سواء أكان شعراً أم كان نثراً؛ لأن سلامة الجزء المنفصل، أو بلاغة البيت المنفرد، لا تدل حتماً على سلامة الكل أو على بلاغة القصيدة.
كذلك كان ينبغي للناقد أن ينظر في الموضوع الذي عالجه الفنان ليرى ابلغ القصد فيما صور، وأصاب الشاكلة فيما رأى، وقارب الحقيقة فيما تخيل. وهل استطاع أن يبعث الحياة الطبيعية الحقيقية في الأشخاص الذين توهمهم ورسمهم. وهل قدر على أن يحرك في قلوبنا أهواء ساكنة، وينشئ في نفوسنا عواطف جديدة، بما أوحاه أو استدعاه أو رواه من الأماني والذكريات والحوادث؟
كذلك كان من عمل الناقد البياني أن يحلل ما ينشأ في نفس القارئ لروائع الكتاب والشعراء من العواطف، وان يبين كيف يستطيع الكاتب أو الشاعر أن ينشئ هذه العواطف أو يوحيها. ومن ثم كانت المقالات النقدية عند الفرنج عملاً فنياً قائماً بذاته يبوئ أصحابه(684/3)
مقاعد النبوغ والخلود.
وإذا تدبرت وظيفة الناقد من بعض ما ذكرته تبينت لك العلاقة بين النقد وعلم النفس، فأن موضوعه تحليل الأحاسيس والعواطف، والبحث عن طبيعة الجمال وما يصدر عنه من الانفعالات والأهواء، ولذلك لم يصبح النقد عند الفرنج فناً مستقلاً له قواعده ومذاهبه إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ارتقى علم النفس وانتشر وازدهر. ومنذ ذلك الحين تابع رقيه حتى بلغ أوجه وأدرك تمامه، فأثر في فنون الأدب ابلغ التأثير، وعدل في بعض أنواعها كل التعديل
فإذا أضفت إلى الأمور الخمسة التي تقدمت، هذا الأمر السادس وهو جهل القدماء بعلم النفس كما كان يجهله غيرهم، اجتمعت لديك الأسباب التي أدت إلى ضعف النقد عند العرب، والنتائج التي أحدثت هذا النقص البادي في تاريخ الأدب.
أحمد حسن الزيات(684/4)
عود إلى حديث الإنسانية!
(إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية الفاسدة الشديدة الفساد الآن تحمل كثيرين على عدم الثقة بالإنسان وسوء الاعتقاد فيه، فليست قصتك التي أهديتها ألي في العدد الماضي يا أخي شيئاً مذكوراً بجوار القصص التي تمثلها الجرائم السياسية الكبرى التي يعرضها شيوخ السياسة على مسرح الأرض، ولا بجوار المخزاة الدامية المجرمة التي تمثلها الصهيونية، وتنصرها الولايات المتحدة الأمريكية! - تلك التي كانت أمل العالم فطواها الشيطان في جناحه الأسود فيما طوى من آمال السلام والخير - وتغضي عنها الإمبراطورية البريطانية إغضاء الذليل الضعيف، وهي التي خرجت منصورة من حرب كادت تودي بها، أعلنتها، وكان من أسباب إعلانها لها الانتصار لليهودية المضطهدة على يد النازية!
أجل، ليست المسألة في الحكم على الإنسانية بأنها للخير أو للبوار مسألة قسوة فرد أو جريمة شخص، فأن فساد الأفراد وبخاصة في عصور الانحطاط، يكون من الكثرة بحيث لا يحصيه العادّ ولكن هل معنى ذلك أن نستسلم للواقع السيئ ونحطم عقائدنا في الخير والصلاح ونلقي سلاح كفاحنا لهما؟
وقد كانت صيحتي (أومن بالإنسان) في إبان الحرب الأخيرة رداً لهجوم عنيف على قلبي من موجات التشاؤم والسخط والتبرم من ذلك المجتمع الإنساني الذي اشتعل بالحقد والقسوة والكفر بالقيم العليا للحياة الإنسانية فدمر كل شيء وكفر بكل شيء لأنه فارغ الفؤاد من العقائد السامية في الإنسان وفي الله خالق هذا الإنسان ومكرمه!
وكانت الفكرة التي تسلسل الحديث بها في هذا الموضوع إنما هي فرار بنفسي وعقائدها السامية في حياتي الشخصية وحياة النوع الذي انتسب إليه.
وعندما يطم طوفان الفساد لا تجد النفس عاصما منه إلا باللجوء إلى صخرة الإيمان بتلك القيم العليا التي تعمر الوجود، ولا تطمئن النفس إلى الحياة إلا إذا ظلت لهذه القيم قداستها وهيبتها. فإذا رأيت المدن والمعابد والشيوخ والأطفال والعجزة والمعاهد، وكل ما قامت عليه الحضارة الإنسانية من القداسات والحرمات تدكه يد الحرب المجنونة الفاجرة، فعلى(684/5)
العذر أن ألتمس لنفسي ولمن أشاء مكن الناس أفقاً أرى فيه تأويل هذه الظواهر الفاسدة والجرائم المنكرة كي أوفق بين عقائدي الدينية في إرادة الله بالناس الخير مهما بدا هذا الخير ملفوفاً بالشر، وبين سير الحياة بالأحياء. . . وإلا فقد عرضت نفسي لما تعرض له بعض من كتب إلى منذ حين يقول إن الحياة الإنسانية لغير غاية، وإن الله - تعالى - قد فاتت عليه الغاية من خلق هذا النوع فقد خلقهم لعبادته، فلم يعبده منهم إلا الأقل!
على إن كل ما ضاعف في الناس فعل الشر وسلبهم الاعتقاد في الخير هو ذلك اليأس من الخير، وذلك الاعتقاد بأن الشر هو الغالب على الطبع البشري، وذيوع هذا الاعتقاد في هؤلاء المحاربين المصريين، هو الذي جعلهم يحاربون بروح التدمير وعدم الإبقاء على شيء، وما دامت الحياة للشر فليخبطوا فيه خبط عشواء على نحو بيت المعري:
وبصير الأقوام مثل أعمى ... فهلموا في حِندسِ نتصادمْ!
أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن نؤمن بأن هذا النوع الإنساني يمكن الإقلال من شره، وإقامة حياته على مثل الدولة الإسلامية الأولى، أو على مثل دول سكان الشمال من أوربا الحالية، وعندئذ نجد في أنفسنا العزائم على الجهاد والصبر والكفاح في هذا السبيل حتى نصل أو نقارب بحسب الطاقة وبحسب قوانين الدنيا. . . وعندئذ يستمر سير الحضارة والإصلاح مطرداً ويظل الخير له دولة في الحياة كما أن للشر دولة، ولا ضير على العقائد أن يبقى من الشر بقايا ما دام الخير هو القانون الحبيب للنفس تلوذ به وتعتصم بعواصمه عند المواقف الفاصلة. . . وإما أن نكفر بهذا النوع ونهدر قيمه الخلقية، ونفقد آمالنا في انه مخلوق لغايات كريمة، ولا نستمع لوصايا الأديان القويمة بالبر وحسن الخلق والدعوة للخير والغضب على الشر، وعندئذ فلنخلع قناع المدنية عن وجوهنا وجوه الذئاب والخنازير والنمور، ولنفضح كل مواضعات النفاق الاجتماعي، ولنعلن بصراحة أن وصايا الأديان أخاديع أو أغلوطات عظيمة من عبقريات التاريخ الكاذب المدلس، وان الإنسانية يجب أن تتخذ لها فلسفات فردية لكل فرد في الامة، ولكل أمة في الأمم يرعى فيها الفرد مصلحته الخاصة، والأمة مصلحتها الذاتية، وتسعى كل أمة أن تكون أربى من غيرها، لأنه لا رحم ولا نسب بينها وبين غيرها، وإنما هي قطعان وحيوانات بشرية تسعى (لتعيش) في أضيق حيز، وهو حيز (الذاتية).(684/6)
وأ ليست هذه الحياة التي وصفنا على هذا الفرض هي الحياة التي تحياها الأمم وتشقى بها كل أمة وتدمر كل حضارة؟! فإذا أردنا أن نفر منها، فلماذا لا نؤمن بفلسفة تناقضها وتحاربها؟! وهل هذه الفلسفة إلا أن 0نؤمن بالإنسانية الواحدة). وأنها مخلوقة لغايات عليا ليست هذا النزاع على الذهب الأصفر والذهب الأسود والفحم الأسود والفحم الأبيض) وإنما هي البحث عن كلمات الله في الطبيعة بحث طالب (العلم) لا طالب (الفائدة) المادية وحدها؟.
وأ ليست هذه الغاية لو تحققت جديرة بأن تشعر الناس جميعاً انهم نوع واحد غريب الوضع في هذا الكون! لأنه وحده يفتح أبواب الطبيعة باباً فبابا، ويتدرج في تسخير قواها درجة درجة حتى وضع يده في منابعها، وحطم أسوار (الذرة) التي هي وحدة بناء الكون المادي.
ذلك هو (الوضع الأصيل) للإنسانية الذي يجب أن يرصدها منه الراصدون ليعلموا أي كائن هذا الإنسان الذي يحملونه في أجسادهم ويبادلونه ما صح وما فسد من شأنه وشئونهم!
آما أن يرصده راصد في (ولد عاق)، أو (وحش الإسكندرية) أو سفاح باريس (الأخير أو غير أولئك من الثمرات الإنسانية المعطوبة الملوثة التي سقطت وتلوثت لضعف روابطها بفروع الشجرة الإنسانية، ثم يحكم عليه كله لذلك، فتلك نظرة جزئية لا تليق بمن يجعل عقله ميزان حكم على الكون ومرآة رصد لأعاجيبه التي لا تنفد في حرب الخير والشر، وعراك الصلاح والفساد، وصراع الموت والحياة، وقذف الحق على الباطل!
وأني اسأل أخي الطنطاوي: لماذا يفقد ثقته وإيمانه بالإنسانية لأجل مثل من العقوق يقابله أمثال من البر بالآباء؟ هل جميع الأبناء مثل هذا الابن العاق؟ ولماذا تألم قلبك من هذا المثل الشرير؟ أليس لأن قلبك ينكره؟ إذاً ففي قلوب الناس نوع خير ينكر الشر ويضربه مثلاً، وبكتبه قصة يشنع بها ويسمع بصاحبها، ويجد في قلوب الناس صدى لألم قلبه، لأن (البر لا يبلى). وما دام في الإنسانية خير وشر فلم نيأس منها ونزرى بقضيتها؟ لماذا نحرق الحقل كله لنتخلص من الزوان؟!
إن الأولى بنا أن نعتقد إن الإنسانية كحقل من النبات، الأصل فيه إن ينبت أكثره نباتا حسناً، ويؤتى أكله وثمره إذا تعهدناه بالسقي والرعاية والحراسة من الآفات والحشرات التي(684/7)
تعطيه وتفسده وتجعل أكثره ينبت نباتا سيئاً. ولا بد أن يكون فيه المعوج بالطبيعة ولكنه لا يكون الأكثر في العادة.
ولن يفقد الزارع أمله من الزرع إذا ما خانه حظه في موسم من المواسم فييأس ويقول: إن هذا النوع من الزرع ملعون! ولن ازرعه، إلا إذا كان أحمق.
ونحن الذين نعلم أن كل مولود يولد على الفطرة ثم تلحقه عوامل التربية والبيئة فيتكيف بها ينبغي لنا أن نتربص ونتوجه بكل جهود الإصلاح إلى قلوب الطفولة منطقة النمو الإنساني، ونجتهد أن تنبت نبتاً طيباً وعلى الله الباقي!
ذلك حديث اذكر به صديقي بقضية الإنسانية والإيمان بها، وآثار ذلك وضده من النواحي العملية والاجتماعية.
غير أن للقضية وضعاً آخر من الناحية الفلسفية قد لخصته في تلك العبارة التي لاشك رآها الصديق في كتابي عن القضية وهي:
(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون؟ فلن يؤمن الفرد الإنساني بهما إن لم يؤمن بنوعه؛ لأن عقل الإنسان هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله، فلا يبقى ما ندرك به كوننا وربنا!! ويعيش أكثرنا كما يعيشون الان، تضطرب بهم مجهولات الكون ومعلوماته كغرقى طافين على أكف الأمواج، لا يعقلون شيئاً ولا يؤمنون بالكون والنفس ولا بربهما، وإنما يعيشون في ذهول وبلبلة وشك، ثم يمضون إلى ظلمات القبور).
تلك هي القضية وهي أشبه (بمعادلة رياضية) وهي عندي القضية الفكرية الأولى في الدين والعلم والفلسفة.
فهل تراني أخطأت؟
عبد المنعم خلاف(684/8)
تاريخ جحا. . .
جحا التركي
للأستاذ كامل كيلاني
- 3 -
الأستاذ نصر الدين
ولد الأستاذ نصر الدين - كما أسلفنا - في (سيوري حصار) إحدى بلاد الأناضول، ومات في (آق شهر) (البلد الأبيض) ونشأ فلاحاً ذكياً يؤثر أن يحطب بيده ويعيش من كد يمينه.
وكان سخي اليد كريم النفس لا يقصر في واجب ضيف ولا يرد عائدا إلى داره من الغرباء والفقراء.
فإذا حذفنا أسماء البلدان فما ندري: أي الجحوين به ذلكم الوصف أكثر التصاقاً، وعلى أيهما كان أكثر انطباقاً، ولكن من يدري؟ فإن قدرة الله تخلق من الشبيه أربعين، كما تخلق من الشخوص الجحوية أربعين.
كان الأستاذ نصر الدين - فيما يقول مؤرخوه - أمة وحده: كان فيما يتمثله بعض مؤرخي الأتراك فيلسوفاً حكيماً يمزج الفكاهة بالجد، ويعرف كيف يخاطب الناس على قدر عقولهم، وكان آية من آيات الذكاء وخفة الروح.
وكثيراً ما تخللت نصائحه طرائف عالية من الدعابات الحلوة والنكات المستعذبة واللطائف المستملحة، ولم يكن كما يتخيله العامة مهرجاً ولا مبتذلاً ولا أبله ولا مخبولاً، ولا - كما توهموه - عاجزاً عن التفريق بين الخير والشر.
وكيف يكون ذلك وقد شهد علماء الأناضول: انه كان لهم في العلم إماما يقتدى به ويهتدى، وعالماً ثبتاً، وقطباً من أقطاب الحكمة والفلسفة.
قالوا:
ولا أدل على ذلك من ذيوع ترجمته وانتشار أخباره وطرائفه المبدعة في بلاد الدنيا كلها، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل حتى وصلت إلى أيدينا متجددة الروعة دون أن تبلى جدتها، أو تخلق ديباجتها.(684/9)
وكان يحلو له السياحة والتجوال مشياً على قدميه. ولم يعرف عنه ميل إلى التزلف، ولا نزوع إلى الخبث، ولم تؤثر دعابته ونكاته في مكانته الرفيعة بين معاصريه، ولم تقلل من احترام الأهلين له، ومحبتهم إياه.
إلى هنا ينتهي الوصف الذي يصدق على الجحوين: الشيخ أبي الغصين دجين بن ثابت، والأستاذ نصر الدين أفندي. ثم ينفرد ثانيهما بما يأتي:
كان تاريخه الحربي والسياسي - فيما يقولون - حافلاً بجلائل الأعمال. وقد ختم بسفارة رسمية سياسية في بلاد الكرد (كردستان) فنجح فيها أيما نجاح.
ويدل ما بقى في أيدينا من آثاره على انه لقي من ضروب الامتحان، وتعرض لأزمات كثيرة لقيها بثبات وثقة خليقين بأمثاله من كبار النفوس.
وما زال يعلوا في المناصب ويسفل، ويلقى من أسباب السخط والرضى - تبعاً لتقلب الأهواء ما يلقاه أمثاله من الأحرار الصابرين.
وقد ولى القضاء في آق شهر (البلد الأبيض) وملحقاتها. وكان يخطب في (سيوري حصار). وقد عرف عنه انه كان جريئاً لا يتهيب أن يدعوا الأمراء والولاة والحكام إلى طاعة الله والتمسك بأهداب الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكان يؤم الناس في ولايات (أنقرة) و (بورصة) و (قونية) وما إليها من البلدان وأقرأ ابن السلطان كتاب الهداية ووقفه على دقائقه وجلا له غوامضه.
ولن يؤخذ هذا الرجل الصالح بما فرط منه من زلات في جن نشاطه ومستهل فتوته. فقد اقلع عنها وتم له النسك بعد اكتمال عقله ورجولته وقد ختم حياته بالوعظ وتدريس علوم الدين.
وقد أهلته شجاعته وحكمته ودعابته، وما تحلى به من مواهب وميزات باهرة، وما حاباه الله به من قدرة على اكتناه دقائق الفن والنفاذ إلى مغالق العلم، وما ذاع بين معاصريه من شهرة مستفيضة بين علماء زمنه وحكماء عصره، إلى الظفر بأسمى المناصب، وأتاحت له المثول في حضرة (تيمورلنك) والاتصال به. ومكنت له تلك الأسباب مجتمعة من النجاح فيما هدف له من تلطيف جوره وكف أذاه عن الناس وتخليصهم من كثير من مظالمه.
قالوا: وساعدته على ذلك بديهة حاضرة وكياسة نادرة، ونكتة مستعذبة ودعابة محببة.(684/10)
وإن مرتاد الأناضول ليدهشه ما يراه من اعتقاد الناس فيه؛ فهو عند الأهلين: من أولياء الله المقربين. وهم يؤمنون بأن زيارة قبره تجلب البركة والخير العميم على زائريه. فإذا شك إنسان في شيء من هذا أصابه أذى أو مكروه جزاء جحوده ونكرانه.
وللأهلين في ذلكم الباب طرائف كثيرة، منها:
(أن مركبة مرت أمام قبره، وعليها هودج معمد (اعني ذا أعمدة). وكان يستقل الهودج أسرة فيها شاب لا يدين بالخرافات. فلم يشأ أن يجري على عادة الأهلين الذين تفرض عليهم التقاليد أن يترجلوا قبل أن يبلغوا قبره، وأن يقرءوا الفاتحة أمامه باسمين وإلا عرضوا أنفسهم لمساءة وشيكة، وربما حلت بهم كارثة عاجلة لا قبل لهم بها، ولا حيلة لهم في دفعها.
قالوا: وأصر الشاب على أن يستهين بهذا التقليد الصالح الذي جرت به العادة هناك. فماذا حدث؟
لم يكد الهودج يسير خطوات قليلة حتى اصطدم فيما يزعمون بفرع شجرة ممدود، فجفلت الخيل وقذفت بأفراد الأسرة على الارض، وتمزقت سجوف الهودج ورفافه.
فلا غرو إذا ثبت اعتقاد الأهلين في بركة الشيخ وقال قائلهم مباهياً:
منذا الذي يجرؤ على احتقار شيخنا، أو الاستخفاف به، بعد اليوم؟
وقد علق على هذه القصة بعض أفاضل الباحثين من الترك، فقال:
(ولا ضير من أمثال هذا الاعتقاد، فإن الاستنجاد بروحانية الأخيار افضل وأجدى مما يرتكبه المنكرون الجاحدون من شرور وحماقات.
قالوا أن عالماً متفقهاً في دينه، سأل زوجته: لماذا لم تكنس البيت؟ فقالت له (ذهبت إلى أمي اليوم، ولم اعد إلا ساعة الغروب) فقال: (لقد مرت ساعتان على ذلك فما بالك لم تكنسيه؟) فصاحت فيه متعجبة: كيف تقول هذا؟ إلا تعلم أن الكنس يحرم متى جن الليل؟) فضرب الرجل كفاً على كف وقال من أين لك هذا العلم أيتها البلهاء؟ أتحبين أن تعلميني ما ادرسه للناس كل يوم في المسجد من شؤون الحرام والحلال؟) فقالت له: (لا شأن لي بعلمك، فكذلك أخبرتني أمي وجدتي، وعمتي وخالتي، وأختي وجارتي، وعلى ذلك الرأي اجمع كل من عرفت)(684/11)
فلما اشتدت اللجاجة بينهما قالت له الزوجة متبرمة: (اكنس أنت إذا شيءت ما دمت لا ترى في ذلك حرجاً)
فأمسك الشيخ بالمكنسة وراح يكنس هازئاً برأي صاحبته متحدياً إياها بين لحظة وأخرى. ولم يكد ينتهي من ذلكم حتى لدغته عقرب فصاح مغوثاً يقول:
(لعله علم وترك)
لعلنا نتعلم من هذه القصة ما يجب على كل رجل من الإذعان لرأي المرأة - ولو كان باطلاً وطاعته طاعة عمياء.
ومن عادة الأهلين السذج في (آق شهر) أن ينظموا الأشعار في أعراسهم بعد أن يذهبوا إلى قبر الأستاذ نصر الدين، ثم يوجهوا الدعوة اليه، وهذا نصها:
(أحضر شيوخك، واحضر من تحب من أصفيائك العلماء).
وليس يجرؤ أحد منهم على مخالفة هذا التقليد: وعندهم:
أن الحياة الزوجية لن تزدهر بين العروسين، ولن يباركها الله إذا غفلوا عن تنفيذ هذا التقليد.
ولا يقتصر المحتفلون على ذلكم، بل يدعون حارس قبره ليكسب حفلتهم بهجة وحبوراً بما يقصه عليهم من ملحه وطرائفه.
حفيد نصر الدين
ومن طريف ما يروى إن بعض حفدته قدم إلى الأستانة مع أسرته، في عهد السلطان مراد الثالث، في القرن العاشر الهجري (982 إلى 1003هـ)، ملتمساً من وزارة الأوقاف أن تقرر له إعانة شهرية يسيرة من المال تمكنه من شراء ما يتبلغ به من القوت. ولم يجد حفيد نصر الدين شيئاً يربط إليه دابته. ثم لم يلبث أن لمحت عيناه طبلاً كبيراً أمام باب الوزارة، يستخدمونه لتنظيم المواعيد، وتوقيت الحضور والانصراف، وما إلى ذلك مما تستخدم فيه الأجراس عادة. فشد صاحبنا دابته إلى ذلكم الطبل بعد أن ضاقت به الحيل في الاهتداء إلى غيره.
وكان في ساحة الوزارة - جمهرة من البغال التي تعدها الدولة - كل عام - للذهاب بما تحمله من مال ورجال إلى الحج. ولم تكد الدابة تستقر حتى ركلت الطبل برجلها - تعمدا(684/12)
أو اتفاقا - فأحدثت ضجة وضوضاء فأجفلت البغال وهربت من الذعر. وشاع الهرج والمرج. وانزعج ولاة الأمر، وبحثوا عن مصدر الصخب ثم ما لبثوا أن اهتدوا إلى أن حفيد نصر الدين هو مصدر الضجة كلها.
وقد كانت تلكم الحادثة وحدها كافية للتعريف بنفسه، فأغنتهم عن التثبت من بنوته، بعد أن رأوا في تصرفه ما يدل على أصالته، وصحة نسبه.
تحقيقات
1 - قبر نصر الدين:
ولا بأس من وقفة قصيرة نستعرض فيها ما انتهى إليه بعض الباحثين في تاريخ الأستاذ نصر الدين إذ يقول:
(ونحن بما انتهت إليه تحقيقاتنا العلمية في بلاد الأناضول وقمنا على كتاب: (السياحة إلى قونية) الذي أهداه ألينا أحد الأفاضل إخواننا (ضيا بك).
وبإطلاعنا على هذه السياحة وجدنا أن للمرحوم قبراً في مقبرة (آق شهر) مكتوباً على شاهدته هذه الجملة:
هذه التربة. المرحوم المغفور له المحتاج إلى رحمة ربه الغفور نصر الدين أفندي روحنا (إلى روحه) فاتحة 386.
2 - تاريخ وفاته:
ثم يقول:
وقد استثار هذا التاريخ دهشتنا لأن نصر الدين لم يمت في ذلك التاريخ، واستدللنا على انه محرف، وان الأرقام قد كتبت معكوسة، وصحتها 83. وقد تبينت صحة ذلك التاريخ من التحقيق المحلى الذي قمت به لأن المرحوم من رجال السلطان اورخان. وقد حكمنا من الشواهد والملابسات إن ما وصلنا إليه من نتيجة هو الصواب لا ذلك الذي كتبوه على شاهدة قبره خطأ. وقد تبين لنا من ذلك الخطأ في التاريخ المثبت على القبر ومن كتابة أرقامه إنها مقلوبة.
ومن عجائب الاتفاق وغرائب الأستاذ أن يقلب تاريخ وفاته على قبره أيضا، وكأنما تعمد(684/13)
كاتبه أن يقلبه ليدل على أن النكتة لا تفارق صاحبنا حيا وميتا.
إلى أن يقول:
(وقد انتهت تحقيقاتنا إلى انه كان - رحمه الله - قد ظهر تقريبا في عهد السلطان (ييلديرم بايزيد) أي (الصاعقة بايزيد).
ومعنى هذا انه عاش في أوائل القرن السابع. وانه عاش ستين عاماً أو يزيد، إلى أن توفى سنة 683 هـ كما يدل على ذلك لوح القبر الذي دفن فيه).
وقد قبست جريدة صدى الأجراس (جينفر اقلي تاتار) الكلمة التالية من كتاب تاريخ النكات (لطائف نويس) وقد ألفه في جزءين عن لطائف نصر الدين، قالت:
كان الأستاذ من رجال المرحوم السلطان ييلدرم بايزيد.
3 - صحبة تيمورلنك:
فإذا عن لنا أن نترفق في مناقشة أقوال هذا المحقق، ونتفهم ما انتهت إليه تحقيقاته العلمية، تعذر علينا أن نجاريه فيما انتهى إليه.
فإذا افترضنا أن التاريخ مقلوب_كما ذهب إلى ذلك صاحبنا وتابعه في رأيه كل من أضفرنا الحظ بقراءة بحوثهم، فكيف نعلل ما حدثنا به ذلكم الباحث نفسه وما حدثنا به جمهور المؤرخين من صحبته للباطش السفاح الطاغية تيمورلنك.
كيف نعلل ذلكم، وقد ولد (تيمورلنك) بمدينة (كيش) - فيما تعلمون في القرن الثامن، إذا صح أن (نصر الدين) مات في القرن السابع.
إذا صح أن تيمورلنك ولد عام 737 هـ فيما يقول التاريخ وان نصر الدين مات عام 683 هـ فكيف التقيا؟ وكيف ونصر الدين لم يدرك مولد الطاغية، بله انتصاره على بايزيد الصاعقة الذي تم له فيما تعلمون واعلم عام 805هـ 1402 م بل كيف لقي (اورخان) وهو لم يل الإمارة فلا عام 726 هـ، أي بعد وفاة (نصر الدين) بثلاثة وأربعين عاما.
لقد مات (اورخان) عام 761هـ، ثم خلفه ابنه مراد الأول (من 761_792 هـ) ثم خلفه بايزيد الأول (792_802 هـ) وانتهى أمره في عام 805 هـ.
كيف نعلل ذلك كله وأخباره مستفيضة مع بايزيد وتيمورلنك!
قالوا: إن جحا بطل محاضراتنا، سمع فقيها يتلو الآية هكذا (فخر عليهم السقف من تحتهم)(684/14)
فانتفض جحا غاضبا، وصرخ فيه متعجبا. (إذا فاتك النص يا هذا فلا يفوتنك الذوق! كيف استقام في ذهنك أن يسقط عليهم السقف من تحت؟ قل من فوقهم لا أبا لك؟
إحدى اثنتين أيها السادة:
أما أن نأخذ بالتاريخ المقلوب، كما أخذ ذلكم المحقق، فننكر صلة نصر الدين ببايزيد بله تيمورلنك!
وأما أن نأخذ برواية من يثبتون لنا مؤكدين انه صحب بايزيد كما صحب تيمورلنك من بعده، فننكر صحة التاريخ المكتوب على القبر طردا وعكسا، ونسقط رأي أولئكم المحققين إثباتا كانوا أم غير إثبات.
فأن كان لا بد من التشبث بالأرقام الثلاثة التي يتألف منها التاريخ المثبت على جدثه وهي 368، فليس لنا مندوحة عن نقل رقم الثمانية من الطرف الأيمن إلى الطرف الأيسر، أعنى: من رقم الآحاد إلى رقم المئات فتصبح حينئذ 836 هـ. وهذا التاريخ
- على أي حال - في حدود الممكنات، إذا استحال علينا الأخذ بالتاريخيين السالفين طردا وعكسا. فإذا أبينا إلا الاسترسال في تحوير الأرقام وتقليبها على كل وجوهها لم يبق أمامنا إلا تحوير واحد، هو آخر ما يتبقى لمن يحلو له أن يتشبث بها، لم يبق إلا تاريخ 863 هـ، وهو كما ترون: أبعد احتمالا من سابقه، وان لم يكن ممعنا في الاستحالة إمعان التاريخ المثبت على القبر مثبتا ومقلوبا، هذا إذا تسمحنا في عمره بأنه لم يعش إلا ستين عاما أو قريبا كما يقول القائلون.
فلو انه عاش مائة عام مثلا لما استحال على الباحث أن يأخذ بهذا التاريخ. على أن خير الأمور الوسط، والاعتدال، كما يقولون، هو: الحسنة بين السيئتين.
من بدائع ما يروى من الطرف في هذا الباب أن متحدثا ممن وهبهم الله_إلى نعمة الغباء والغفلة_عجمة اللسان، قال: (حسن وحسين بنات معاوية بن عفان).
فصاح فيه أحد السامعين متعجبا:
قل لي بأي خطأ في هذه الجملة القصيرة أبدأ تصويبه:
فأول الأشياء هما: (حسن) و (حسين) وليسا (حسنا) ولا (حسينا):
والثاني انهما ليسا من النساء بل من الرجال.(684/15)
والثالث انهما ليسا جمعا بل مثنى.
والرابع انهما ولدان لا بنتان ولا بنات.
والخامس أن أباهما علي بن أبى طالب لا معاوية.
والسادس أن معاوية بن أبي سفيان لا عفان.
والسابع أن ابن عفان هو عثمان لا معاوية)
وما أكثر ما يتمثل الباحث في تاريخ جحا، هذه الطرفة الرائعة كلما عرض لمناقشة الكثير من أقوال من تصدروا للحديث عنه، في أكثر المناسبات، على اختلاف اللغات.
كامل كيلاني(684/16)
من وحي الصوم:
رمضان عند الأدباء. .
للأستاذ محمد رجب البيومي
يتمتع شهر رمضان المبارك بمنزلة طيبة في نفوس الكثرة الغالبة من المسلمين، فأنت تراه ضيفا محبوبا يستقبل حين قدومه بشتى مظاهر المحبة والابتهاج، ويودع حين رحيله بدموع الحسرة والالتياع. وإذا كنا نسمع في أخبار الماضين من رجال السلف الصالح رضي الله عنهم انهم كانوا يعزون أنفسهم في الليالي الأخيرة من رمضان، فأننا لا نزال نرى بأعيننا الفسقة والعصاة من المؤمنين يجترحون السيئات ويقترفون الموبقات، حتى إذا وجدوا أنفسهم في حرم رمضان ضجت ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وارتعدت فرائضهم من خشية الله، ولزموا حلقات الدروس في المسجد يستنشقون روائح الجنة من نسمات هذا الشهر المبارك!
ولكن فريقا من الأدباء - عفا الله عنهم - قد أخذوا يغازلون شهر الصيام مغازلة شكا منها إلى ربه، ثم تحولت المغازلة على ممر الأيام إلى عداء مستحكم، فبعد أن كان الشاعر لا يزيد على قوله:
نُبئتُ أن فتاة جئت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أو قوله:
أتأمرني بالصوم لا درّ درها ... وفي القبر صوم يا أميم طويل
بعد أن كان لا يزيد على ذلك وجدنا الأمر قد استحال فجأة إلى هجو لاذع، وسب مبرح، لا نظن إلا أن الله عز وجل سينتقم للظالم فيه من المظلوم يوم يقوم الناس لرب العالمين
وأول من أعلن هذه الحرب الظالمة - فيما نعلم - هو هذا الأعرابي الفدم الذي يروى ابن قتيبة في عيون الأخبار قصته فيقول:
(قدم أعرابي على ابن عم له بالحضر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: يا أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان! قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام! قال: أبا لليل أم بالنهار؟ قالوا: بل بالنهار؛ قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا؛ قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس. . . فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم إلى غيرهم(684/17)
وجعل ينشد:
يقول بنو عمي وقد زرتُ مصرهم ... تهيأ أبا عمروٍ لشهر صيام
فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام
فبادرت أرضا ليس فيها مسيطرٌ ... عليَّ ولا منّاع أكل طعام)
كانت هذه القصة بذرة سيئة تولدت منها تلك الحملة الطائشة التي شنها الأدباء على رمضان. ومهما يكن من شيء، فقد حركت ما سكن في النفوس، وأطلقت ما حبس في الصدور، فخرج الأدب بصفقة رابحة كان ضحيتها رمضان المسكين! ولعل عزاءه في ذلك قول الله عز وجل: (والشعراء يتبعهم الغاوون)!
على أن كثيرا من الأدباء كانوا أقدر على ضبط ألسنتهم من إخوانهم الذين تورطوا في معاداة هذا الشهر العظيم، فنحن نقرأ في تاريخ البحتري مثلا أنه كان ضائق الصدر برمضان، متبرم النفس بطوله، ونلتمس ذلك في شعره، فلا نجد إلا متفرقات يسيرة لا تطفئ أو أما، ولا تبل غليلا، كأن يقول:
فتروّ من شعبان إن وراءه ... شهراً سيمنعك الرحيق السلسلا
ثم يكرر هذا المعنى مرة ثانية وثالثة، فإذا هاج صبره بعد مرور سبعة وعشرين من عمر رمضان لم يزد على أن يطلب من الله عز وجل أن يجعل الشهر كله ليلا حتى لا يجد النهار الذي يصوم فيه عن الطعام والشراب، وفي ذلك يقول:
قد مضت سبعة وعشر وعشر ... ما نذوق اللذات إلا لماما
ما على الليل لو أقام علينا ... أو يرانا من الصيام صياما
أما أبن الرومي، فقد أطلق العنان لقريحته الوقادة، وأنهال على رمضان بسياطه المحرقة حتى مزق جلده، وشوه أديمه، وتعليل ذلك واضح يسير، فالبختري على رغم ما له من جاه عريض لدى الخلفاء والرؤساء كان نكساً رعديدا يقول الهجاء، فيقبض بيده على قلبه ويرسل وراء شعره العيون والأرصاد يتجسسون لدى المهجوّ، ويخبرونه بموقع هجائه من نفسه، فإن لم يلق له بالا حمد الله على السلامة. وإن كانت الأخرى أخذ يتزلف ويتوسل ويحبّر النابغيات الطويلة في الاعتذار، وحسبك أن تعلم أنه قال في قصيدة القافية
ولم أر كالدنيا حليلة صاحب ... محب متى تحسن يعينيه تطلق(684/18)
تراها عيانا وهي صنعة واحد ... فتحسبها صنعي حكيم وأخرق
حين قال ذلك شنع عليه أحد العامة بأنه ثنوي، فخاف على نفسه وقال لابنه أبي الغوث: قم بنا نخرج من بغداد خروجا نأمن على أنفسنا فيه، ثم خرج ولم يعد، فشخص نفسيته ضعيفة خائرة كالبحتري لا يجد الشجاعة الكافية التي يذم بها رمضان على رءوس الأشهاد. ولا كذلك ابن الرومي، فقد كان جسور القلب حاد اللسان يسوق الهجاء في الوزراء وذوي الشأن في الدولة، ثم يتزايد ويتسع فيه دون مبالاة أو اكتراث مما أدى إلى حتفه في النهاية، فمات ولم يستمتع بخاطره، ولم ينزح ركية فكره - كما قال الصولي - فإذا كان هذا شأنه، فغير كثير عليه أن يسلط لسانه على رمضان معبرا عما يختلج في نفسه أصدق تعبير. والحق أن هذه ميزة أبن الرومي يصدر عن طبعه وينقل عن خاطره مهما جلب عليه ذلك من الشرور والويلات، والجنون فنون
بدأ أبن الرومي حملته بتأدب ملموس، فلم يشأ أن يهجم بادئ ذي بدء بما هجم به أخيرا من الذم والقدح، بل اكتفى بإعلان تبرمه بطوله الممتد، وود لو مر كالسحاب، وكان جميعه كيوم أو بعض يوم، وقصارى حيلته أن يدعو عليه، وأن يرحب بأيام الفطر اللذيذة فيقول:
إذا برّكت في صوم لقوم ... دعوت لهم بتطويل العذاب
وما التبريك في شهر طويل ... يطاول يومه يوم الحساب
فليت الشهر فيه كان يوماً ... ومر نهاره مر السحاب
فلا أهلا بمانع كل خير ... وأهلا بالطعام وبالشراب
ويظهر أن ابن الرومي قد وجد أبياته صادفت رواجا محمودا لدى من يشاركونه عواطفه وميوله - وكثير ما هم - فهجم على شهر الصيام مرة أخرى ولكن بلسان أحد، ولهجة أعنف، وقسوة أشد، فود بجدع الأنف لو انتهى قبل أن يبدأ، وأعلن أن بركة هذا الشهر في طوله لا في خيره، وزاد بل تنازل عن الأجر الذي أعده الله له جزاء صومه؛ فهو يقول:
شهر الصيام مبارك لكما ... جعلت لنا بركاته في طوله
من كان يألفه فليت خروجه ... مني - بجدع الأنف - قبل دخوله
إني ليعجبني تمام هلاله ... وأسر بعد تمامه بنحو له
لا أستثيب على قبول صيامه ... حسبي تصرمه ثواب قبوله(684/19)
وجائز جدا أن يكون ابن الرومي قد عانى صوم رمضان في أوقات تلفحها حرارة الصيف كما نعانيه في أوقاتنا هذه، فهو لا يكتفي بما قدمنا بل يعيد الهجوم ثالثة ورابعة، غير تارك بعده مجالا لقائل، وليت شعري ماذا ننتظر منه بعد أن يقول:
شهر الصيام وإن عظّمتُ حرمته ... شهر طويل ثقيل الظل والحركة
أذمه غير وقت فيه أحمده ... منذ العشاء إلى أن تصدح الديكة
وكيف أحمد أوقاتا مذممة ... بين الدءوب وبين الجوع مشتركة
يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يعني عن اسم الطول بالبركة
شهر كأن وقوعي فيه من قلقي ... وسوء حالي وقوع الحوت في الشبكة
لو كان مولىً وكنا كالعبيد له ... لكان مولى بخيلاً سيئ الملكه
قد كاد لولا دفاع الله يسلمنا ... إلى الردى ويؤدينا إلى الهلكه
على أن من التناقض الظاهر أن نرى أبن الرومي في موضع آخر من ديوانه يهنيء أحد الرءوساء بشهر الصيام فينحى باللائمة على المستهزئين به، وما درى انه بشعره هذا قد فتح الباب لمن جاء بعده، ومهما يكن من شيء فقد ظهرت خفة روحه ظهورا أكسبه ملاحة وظرفا عند من يقدرون الأدب لذاته فهو على نقيض أبي العتاهية المسكين، فقد أوقعه حبه رمضان وتعظيمه إياه في مأزق مضحك، قال ابن رشيق في الجزء الثاني من العمدة (لما مات المهدي قام أبو العتاهية يرثيه على ملأ من الناس فقال (مات الخليفة أيها الثقلان)
فرفع الحاضرون رءوسهم، وفتحوا أعينهم وقالوا: نعاه إلى الإنس والجن ثم أدركه اللين والفترة فقال: (فكأنني أفطرت في رمضان).
يريد أني بمهاجرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار نهارا في رمضان وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرب عما في النفس) ونحن نخالف صاحب العمدة فيما ذهب إليه من جودة هذا المعنى ولو كان كما قال ما قابله الجمهور بالسخرية والاستهزاء
وإذا كانت كتب الأدب تروى عن أبي نواس أنه قد حج حجا غير مبرور حين جد في طلب (جنان) فلم يظفر بطائل، ثم علم أخيرا أنها ذهبت إلى مكة فسار وراءها متظاهرا بالخشوع والنسك وفي ذلك يقول:
ولما أن عييت وضاق صدري ... بمطلبها ومطلبها عسير(684/20)
حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير
إذا كانت كتب الأدب تروى ذلك، فإنها تروي عن أبن الراوندي أنه قد صام صوما غير مبرور - لو صح هذا التعبير - وذلك انه كان سمينا بطينا، فقالت له إحدى صواحبه: إن وراءك شهرا ثقيلا فصمه ليذهب عنك هذا السمن فأطاعها تلبية لرغبتها لا امتثالا لأمر ربه، وهو يعلن هذا على العامة والخاصة فيقول في تبجح وعناد.
وقائلة وقد جلست جواري ... سمنت وكنت قبلئذ نحيفا
وراءك في غد شهر ثقيل ... فصمه لكي تكون فتى نحيفا
لوجهك لا لوجه الله صومي ... ولو أني لقيت به الحتوفا
وغير غريب من ابن الراوندي أن يقول ذلك فقد كان خبيث العقيدة سيئ الطوية، يعترض على كل شيء حتى على ربه فيعجب من مجرى الرزق في أسلوب وقح، ويهاجم الأديان في تمرد سافل فكيف تستكثر عليه ما قاله في رمضان؟ إننا نستكثر ذلك على رئيس فاضل كابن العميد مثلا فقد كان جليل الخطر في عصره، مطاع الكلمة في دولته، ثاقب العقل، وضيء التفكير، ومع ذلك فقد تورط فيما تورط فيه غيره حين هاجم هذا الشهر مهاجمة نكتفي بأن ننقل منها هذه الفقرات (اسأل الله أن يقرب على الفلك دوره، ويقصر سيوه، ويخفف حركته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويرد على غرة شوال، فهي أسنى الغرر عندي، واقرها لعيني، ويطلع بدره، ويسمعني النعي لشهر رمضان، ويعرض على هلاله أخفى من السحر، واظلم من الكفر، وانحف من مجنون بني عامر) إلى آخر ما جاء في الجزء الثاني من زهر الآداب.
وكيفما كان الحال فقد فتح ابن العميد بذلك على رمضان ثغرة واسعة، جعلته يستمع هجاءه شعرا ونثرا بعد أن كان يأمن على نفسه من ناحية النثر ويجيء بديع الزمان الهمذاني بعد ابن العميد وهو كما نعلم مولع بتقليده، مقتف اثره، فلا يفوته أن يهجو رمضان، فيكتب إلى أحد رؤسائه قائلا (خصك الله بتقصير أيامه، فهو وأن عظمت بركته، ثقيلة حركته، وأن جل قدره، بعيد قعره، فأن حسن وجهه فسوف يقبح قفاه، وما أحسنه في القذال وأشبه أدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمد فلكه تحريكا، بتقضي مدته وشيكا، واظهر هلاله نحيفا، لنزف إلى اللذات زفيفا) ونحن لا نستنكر ذلك من الهمذاني كما(684/21)
استنكرناه من ابن العميد، فقد كان بديع الزمان طويل اللسان، حاد القذف، متطاولا على غيره جاحدا حقوق أولي العلم والفضل، فكيف يعترف بشهر رمضان وقد فتح له ابن العميد الباب على مصراعيه فقال ما قال!
وإذا كنا نستثقل لآن صوم رمضان في وقدة القيظ وحرارة الصيف فقد وجدنا ابن عون الكاتب يستثقله في فصل الربيع إذ يرى أنه زمان البهجة، واوان المتعة واللذاذة، فلا ينبغي أن يكدر بالصوم وفي ذلك يقول
جاءنا الصوم في الربيع فهلا اخ ... تار ربعاً من سائر الأرباع
وكأن الربيع في الصوم عقد ... فوق نحر غطاه فضل قناع
وإذن فالصوم عنده في الربيع قناع أسدل على نحر مضيء فمنع إشراقه وحجب التمتع برؤيته
أما القاضي الفاضل - وهو من المولعين أيضا بمحاكاة ابن العميد - فقد نظم قصيدة خمرية طويلة جرى فيها مع اللذات إلى أبعد شوط وقد حرص على أن يهاجم في مبدئها شهر رمضان - تقليدا أستاذه - فقال
قضى نحبه الشهر بعد المطال ... وأطلق من قيده فتر الهلال
وروض كاتب جنبي اليمين ... واتعب كاتب جنبي الشمال
فدع ضيقه مثل شد الإسار ... إلى فرجه مثل حل العقال
وهو بذلك قد وجه نظر أمير الشعراء رحمه الله إلى هذا المعنى بذاته فقال ولكن في أسلوب أروع ونسج أحكم
رمضان ولى هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها ... وأقله في طاعة الخلاق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة ... واليوم من العيد بالإطلاق
ولا أدري كيف وقع شوقي بهذا وهو الذي باهي بنسكه وتبتله حين قال
وأشهد ما آذيت نفساً ولم أضر ... ولم أبلغ في جهري وفي خطراتي
ولابت إلا كابن مريم مشفقاً ... على حسدي مستغفراً لعداتي
وعلى كل فإن هذه الحملة الظالمة التي قام بها الأدباء على رمضان لم تستطع أن تزحزح(684/22)
مكانته - ولو قليلا - في النفوس، بل زادتها رسوخا وثباتا، وخرج المجانين من المعركة يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وكل امرئ بما كسب رهين
وبعد فما أردت بهذا العرض الموجز أن أتزيد على رمضان، فيعلم الله أني أول الناس تفانيا في محبته وإجلاله، ولكني قصدت الترفيه عن القراء في وقت اندلعت فيه السنة الهجير فأحرقت الأفئدة والهبت الجلود، ومن يدري لعل هؤلاء الأدباء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فرب متظاهر بالصوم والعبادة وبين جنبيه قلب مدنس بالمعاصي مثقل بالآثام، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
خليلي، قُطَّاع الفيافي إلى الحمى ... كثير وان الواصلين قليل
محمد رجب البيومي(684/23)
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والهدايا
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 2 -
أما هدايا الفصد، فلا تخرج عما ذكرت من قبل، فكانوا يهدون الجواري والصواني والأقداح والجامات البلور والشمامات والعنبر والمسك.
فقد فصد الرشيد فأهدى إليه اليزيدي جام بلور، وشمامات غالية، وكتب إليه: (يا أمير المؤمنين، تفاءلت بالشرب بالجام بجمام النفس ودوام الأنس، والغالية للغلو في السرور والازدياد من الحبور).
واقتصد المأمون مرة فأهدى إليه إبراهيم بن المهدي جارية معها عود، ورقعة فيها:
عفوت وكان العفو منك سجية ... كما كان معقوداً بمفرقك الملك
وفي مرة ثانية، أهدت إليه (رباح) أترجة عنبر، مكتوب عليها بماء الذهب بيتين من الشعر أعجب بهما، فكافأهما بمال كثير.
وافتصد المعتصم فأهدت إليه (شمائل) صينية عقيق عليها قدح، أسبل عليهما منديل مطيب، مكتوب عليه بالعنبر، أبيات شعر رقيق، فلما قرأه أمر بإحضار اسحق بن إبراهيم، وأمره أن يجعل له لحنا، وأمر مسرورا بإخراجها من وراء الستارة، ثم لم يزل يردد هذه الأبيات حتى أحكمتها شمائل وغنت فكأن سقط الدر يتناثر من فيها وأمر لإسحاق بمال وللجارية بخمس وصائف وخمسة آلاف دينار.
وافتصد إبراهيم بن المهدي، فأهدى إليه اسحق بن إبراهيم الموصلي صوتا من غنائه، وأرسل غلامه فغناه به.
وربما طلب الخليفة من خاصته أن يهدوه، كما فعل المتوكل. فقد افتصد، فقال لخاصته وندمائه اهدوا إلي يوم فصدي. فاحتفل كل واحد منهم في هديته.
وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لم ير الراءون مثلها حسنا وظرفا وكمالا. فدخلت ومعها جام ذهب في نهاية الحسن، ودن بلور لم ير مثله فيه شراب يتجاوز الصفات، ورقعة فيها(684/24)
تهنئة بالشفاء فاستظرف المتوكل ذلك واستحسنه.
ولعل ألطف هدية أهديت في يوم فصد، هي هدية أبي دلف فقد افتصد عبد الله بن طاهر، فجمع أبو دلف ما أصاب في السوق من الورد وأرسله هدية له، وقد أوردت هذا الخبر لظرفه، رغم أن ابن طاهر ليس من الخلفاء.
أما هدايا العمال والولاة والملوك فكثيرة. فكان كل وال يتفنن بإرسال الهدايا للخليفة ابتغاء مرضاته. فقد وجد يعقوب ابن الليث صاحب خراسان إلى المعتمد هدية من جملتها عشر بزاة منها باز أبلق لم ير مثله، ومائة مهر، وعشرون صندوقا على عشرة بغال، فيها طرائف من الصين وغرائبه، ومائة عود من مسك، ومائة من عود هندي، وأربعة آلاف درهم.
ولما قدم ابن الجصاص من مصر على المعتضد، مرسلا من خمارويه، كان معه هدايا من العين عشرين حملا على بغال. وعشرة من الخدم، وصندوقان فيهما طرائف. وعشرون رجلا على عشرين نجيبا بالسروج المحلاة، ومعهم جرار فضة، وعليهم أقبية ديباج وسبع عشرة دابة بسروج ولجم، منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وزرافة
وقد يرسل إلى الخليفة كل غريب. ففي سنة 299وردت من مصر هدايا منها كما ذكر الصولي تيس له ضرع يحلب اللبن.
ووردت رسل أحمد بن إسماعيل بهدايا منها مذبة مرصعة بفاخر الجوهر، وتاج من ذهب مرصع بجوهر له قيمة كبيرة. ومناطق ذهب مرصعة، وربعة ذهب مرصعة.
ووردت هدايا ابن أبي الساج أربعمائة دابة، وثمانون ألف دينار، وفرش أرمني لم ير مثله في بساط طوله سبعون ذراعا في عرض ستين ذراعا، عمل في عشر سنين.
وفي سنة 305، زمن المقتدر، ورد على السلطان هدايا جليلة من أحمد بن هلال صاحب عمان. وفيها أنواع الطيب، ورماح، وطرائف من طرائف البحر، وطائر أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغاء، وظباء سود.
وفي سنة 310هـ وصلت هدية ابن المادرائي الحسين بن أحمد من مصر، وهي بغلة ومعها فلو، وغلام طويل اللسان يلحق طرف لسانه أنفه.
وكان ملوك الروم والفرنجة يهدون إلى الخلفاء العباسيين الهدايا العظام توددا وتحببا. فقد(684/25)
أهدى ملك الروم إلى المأمون مائتي رطل مسك، ومائتي جلد سمور. فقال المأمون: ضاعفوها ليعلم عز الإسلام.
وأهدت ملكة الفرنجة إلى المكتفي بالله سنة 293هـ خمسين سيفا، وخمسين رمحا، وخمسين فرسا، وعشرين ثوبا منسوجا بالذهب، وعشرين خادما صقليا حسنا، وعشرة كلاب كبار لا تطيقها السباع، وستة بازات وسبعة صقور، ومضرب حرير.
وفي سنة 226هـ ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي. وكانت الكتابة بالرومية بالذهب، والترجمة بالعربية بالفضة، بطلب الهدنة. وفيه: (لما بلغنا ما رزقته أيها الأخ الشريف الجليل من وفور العقل وتمام الأدب، واجتماع الفضائل أكثر ممن تقدمك من الخلفاء، حمدنا الله تعالى. . . وقد وجهنا شيئا من الألطاف، وهي أقداح وجرار من فضة وذهب وجوهر، وقضبان فضة، وستور، وثياب سقلاطون، ونسيج ومناديل وأشياء كثيرة فاخرة).
فكتب إليهم الجواب بقبول الهدية، والإذن في الفداء، وهدنة سنة.
فهذه ألوان من الهدايا، وتبيان لهذه العادة الاجتماعية التي كان لها شأن في العصر العباسي، الحافل بالعجائب والغرائب.
صلاح الدين المنجد(684/26)
هل من جديد في الأزهر؟
للأستاذ الأب قنواتي
إن المؤرخ الذي يحاول أن يتبع مراحل التطور الفكري في مصر في أيامنا هذه يضطر - بلا جدال - إلى الإقرار بأن حياتنا العقلية تتمخض تمخضا عنيفا، وأن روح التقدم الحقيقي الذي يأبى أن يضرب عرض الحائط بما في تراثنا الثقافي من قيم خالدة - أخذ يتسرب رويدا رويدا إلى مختلف أوساطنا العلمية ولطالما كانت تخامرني هذه الفكرة أثناء إقامتي في الخارج، ولطالما تحدثت عنها - في باريس، وفي فاس، وفي تونس - مع الذين يهتمون بمستقبل الثقافة العليا في البلاد العربية؛ فكنا نتساءل - مع شيء من اللهف - عن مدى انتشار هذه الثقافة، وقوة تغلغلها في الأذهان: هل تظل شيئا سطحيا شكليا، أم تخوض في صميم التعليم فتكيف العقلية؟ ولئن كان هذا التطور يبدو بكل وضوح فيما يخص الجامعة المصرية، لما هي علية - منذ نشأتها - من انسجام مع الروح الحديث؛ فالأمر كان لا يخلو من الغموض فيما يتعلق بالأزهر، وهو المعهد العتيق الذي تركزت فيه منذ قرون برامج كادت - بموجب موضوعها - تتنزه عما يتطور ويفنى. .
ولذا كنت مشغوفا كل الشغف عندما رجعت إلى الديار المصرية - وأنا منكب على دراسة فلسفة القرون الوسطى مسيحية كانت أو إسلامية - أن اتصل بمن يوفقني على تطور التعليم في المعاهد الدينية في هذه المادة؛ وخصوصا في الأزهر الحالي وموقفه من الأبحاث المقارنة التي تسنى لي أن أتبين خطورتها أثناء دراستي في المعاهد الدينية في أوربا، ولذا لبيت - بكل ترحاب - دعوه أحد أصدقائي الأزهريين إلى حضور المناقشة العلمية لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في التوحيد والفلسفة التي كانت إقامتها مزمعة يوم الأحد 26 مايو سنة 1946 في مدرج كلية أصول الدين في القاهرة، ولقد شكرت صديقي أيما شكر لهذه الفرصة التي هيأها لي، فسمح أي أن أجد بطريقة علمية إيجابية جوابا لما أوجهه لنفسي من سؤال، وهذا ليس فقط من جهة الموضوع الذي نوقش فيه (تخريج كتاب الملل والنحل للشهرستاني)؛ بل أيضا من جهة الجو الروحي الذي ساد هذه المناقشة، ومن جهة انسجام العناصر المختلفة التي توفرت فيه: فهناك سعادة الدكتور منصور فهمي باشا - مدير جامعة فاروق الأول سابقا، وكاتم سر مجمع فؤاد الأول للغة العربية - يرأس اللجنة(684/27)
وهو ممن طالما ناشدوا روح التعاون الثقافي والتآزر العلمي، وهناك الدكتور محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، ووكيل البحوث والثقافة الإسلامية للأستاذ الأكبر شيخ الأزهر وفرنسا، وهناك الدكتور محمود حسب الله خريج الأزهر وإنكلترا، وهنك الدكتور محمد البهي خريج الأزهر وألمانيا - وثلاثتهم من أساتذة الفلسفة بالجامعة الأزهرية - أليس تكوين هذه اللجنة هو وحده رمزا لما ينشده الأزهر، ورمزا لرغبته الأكيدة في الأخذ من المناهج الحديثة بما يلائم رسالته العلمية؟. . ومما زاد هذا الرمز بلاغة تنوع النظارة الذين تسارعوا إلى حضور المناقشة.
نعم، إنه كان من الطبيعي أن نرى هناك أساتذة من الأزهر وطلبة أزهريين، فالبيت بيتهم، والمناقش من إخوانهم، ولكن أليس من الغريب السار أن نجد بينهم أربعة قساوسة رهبان من يسوعيين ودومينكيين، احدهم مستشرق أمريكي والآخرون شرقيون، بل مصريون ممن يعرفون الأستاذ المناقش جد المعرفة؟ ووأ ليس أعجب من هذا أن نشاهد بين الحاضرين آنسات في المكان الخاص الذي خصص لهن في أعلى المدرج؟
وما وافت الساعة الخامسة حتى افتتح سعادة الرئيس الجلسة بكلمة استغرقت نصف ساعة، وهو يتكلم بحماسة رزينة هادئة واعتقاد عميق يعطي أحيانا لعباراته نبرة قوية تجعلها تنفذ نفوذا إلى الأذهان والقلوب: بدأ بالثناء على فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق، الذي عاقه عن الحضور انعقاد المجلس الأعلى للأزهر، وعلى فضيلة الأستاذ الكبير وكيل الأزهر، وعلى فضيلة شيخ الكلية، وكرر الشكر لكل من ساهم في العمل على اتساع دائرة الاتصال العلمي بين الأزهر والعلماء المدنيين والجامعيين، خصوصا فضيلة الأستاذ الأكبر الذي تخصص في الفلسفة بجانب تعمقه في النواحي الدينية المختلفة، والذي أفادت منه الجامعة المصرية حينا من الدهر، ثم أبدى سعادة الرئيس أمله في أن الأزهر سينال اهتمام فضيلة الأستاذ الأكبر من الناحية الفلسفية، وأن نوابغ الأزهريين سيكونون - مع أستاذهم الأكبر - جوا سانحا للدراسات الفلسفية بحيث يستطيع الأزهر أن يؤثر - حتى من الجهة الفلسفية نفسها - على الجامعات الأخرى، مادام الأزهر يطبق الأنماط العلمية في المناقشة والمثابرة في طلب الحق الذي هو ضالة المؤمنين. . .
ثم وجه سعادة الرئيس كلمة لطلاب البحث العلمي والحقيقة العلمية، ناصحا إليهم بالجد(684/28)
والاجتهاد واتساع الآفاق والصبر والأمانة العلمية، حتى يصلوا إلى ذلك الموقف الذي وقف فيه زميلهم - صاحب الرسالة - ذلك الموقف الذي يدل على حب البحث العلمي والتفاني فيه، والذي يفتح الأبواب أمام منهومي العلم الذين لا يشبعون. وتمنى سعادته للأزهريين مستقبلا باهرا ماداموا يوسعون ميادين بحوثهم وآفاق ثقافاتهم، بحيث يتلقى بهم ويتبادل الفائدة معهم من يسعدهم الحظ، ومن لم تتح لهم الظروف أن يتثقفوا بثقافة الأزهر.
ثم قرر سعادته: (أننا في عصر تعاون وتفاهم وتقارب بين الفلسفات، بل وبين الأديان نفسها، وأن هذا التواصل والتعاون هما اللذان يسيران بالإنسانية إلى وحدتها المنشودة وغايتها المرجوة، وآية ذلك مشاهد الليلة من جو مشبع بروح التسامح والنهوض الفكري). وأشار سعادة الرئيس إلى أن هذه أول مرة يرى أو يسمع فيها أن في الأزهر غربيين وقساوسة ورهبانا: (وهذا يذكرنا بروح التسامح الذي كان متسما به، والذي كان صدر الأزهر دائما منفسحا له). وأن هذه أول مرة أيضا سمع فيها سعادته أو رأى آنسات يحضرن مجالس في الأزهر وتخصص لهن أماكن فيه.) وهذا يدل على درجة عالية في النضوج الفكري والمستوى العلمي المفروض طلبة على كل مسلم ومسلمة، ويبين في وضوح أن الأزهر أخذ يقدر ما هو مطلوب منه بازاء المسلمات بجانب ما هو مطلوب منه بازاء المسلمين، وأن هذا كله جو مبشر يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الأزهر، الذي كان قد انعزل مدة طويلة حتى عن العلماء المدنيين).
ثم قال سعادته: (أما وقد لبى الأزهر حاجة العصر، وساير روح الزمن، فساهم في الوحدة العالمية، واتصل بالعلوم التي تكونت في ميادين أخرى بروح التسامح الديني، والتآزر الفلسفي، والتآخي العلمي، فإنه سيصل - قريبا - قديمه بحديثه، ويصبح منبع ثروة كبيرة في التوجهات الفكرية والعلمية والدينية للعالم كله، وهذا مأمول، وهو في رعاية شيخ درس الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية وأفاد مما فيهما من خير مذكور. ونصيحتي العامة لكل شخص: أن يعمل للخير الذي وضعه الله في فطرة الإنسان السلمية، تلك الفطرة التي تتمثل في الأديان جميعا: خيرا، ومحبة، وإخاء، وعدلا. . . حتى يكون هناك التفاهم الفكري والتفاهم الروحي، وحتى تسير الإنسانية إلى خير ما خلقت له.)
ولعمري! لم أكن لأنتظر في هذه القاعة هذا الوضوح في رسم الهدف، وهذه العزيمة في(684/29)
السعي وراء تحقيقها، فها هي الروح الجديدة التي كنت أتساءل عما إذا كانت وصلت إلى الأزهر، وها هو الزرع المبارك الذي بدأ ينبت بإذن ربه، فالمناقشة التي تلت هذه الكلمة جاءت بمثابة تطبيق للمبادئ التي وضحها سعادة الرئيس، فالأستاذ صاحب الرسالة - وهو واقف رابط الجأش أمام المجلدات الأربعة لرسالته - أخذ يشرح موضوع رسالته، ثم يجيب بهدوء عن الأسئلة التي وجهها إليه بالتوالي أعضاء اللجنة؛ وهي أسئلة دقيقة تنفذ إلى لب الموضوع وتحاول تارة نقد منهج البحث، وتستفسر طورا بعض نتائج الرسالة؛ حوار بديع علمي رزين، أعاد إلى ذاكرتي تلك الرسالات التي تناقش في أوربا؛ ولكن هنا مع شيء من (الظّرف) المصري الذي لم يقلل شيئا من جد المناقشة؛ بل يكسبها روحا شرقية خاصة لم أجدها في الخارج.
وفي تمام الساعة الثامنة والنصف - عني بعد مناقشة استغرقت ساعتين - رفعت الجلسة، وخرجت اللجنة للمداولة، ولما رجعت إلى قاعة المناقشة نطق سعادة الرئيس بالحكم قائلا: (بعد أن تناقش أعضاء اللجنة فيما استبانوه من حسن الاستعداد الفلسفي، واتساع الأفاق، والمجهود القيم في التأليف، والمثابرة على العلم، ومراعاة الخلق العلمي، وتلقي النقد بصدر رحيب يدل على محبة الحق. . . قررت اللجنة فوز فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن فتح الله بدران بشهادة العلمية مع لقب من درجة ممتاز في التوحيد والفلسفة). فدوت القاعة بالتصفيق والهتاف. . .
ورجعت إلى (الدير) والذهن مملوء بتفاصيل هذه الحفلة الثقافية العليا؛ فحدثتني نفسي أن أسطر هذه الأسطر؛ لعلها تساهم - لا من جهة الرأي الشخصي؛ بل من جهة الواقع المحسوس - أقول: لعلها تساهم في إيضاح مشكلة الأزهر التي عولجت مرارا على صفحات مجلة الرسالة الغراء.
الأب قنواني(684/30)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 22 -
البرسبيزينز والصدمة الثانية:
قلت قيمة المرأة في نظر ملتن، وانحط مستوى الطبيعة البشرية عما قدر لها من قبل في خياله وفكره، وساءه أن يعرض معاصروه عن آرائه في الطلاق، وما جاهد جهاده إلا لخيرهم؛ وآلمه وكدره أن يخاصمه بعض الناس وأن يناصبوه العداء؛ وجاءت مخالفة البرسبتيرينز إياه بعد ذلك، فكانت هي الطامة الكبرى.
قدر ملتن أن سوف ينظر إليه أهل عصره لما أذاع فيهم من رأي في الطلاق نظرتهم إلى مصلح عظيم، وكان يرى في تطلع ذلك العصر إلى الإصلاح وشد ميله إلى تغيير كل شيء وعلى الأخص في السياسة والدين حافزا يحفزه ويزيده استبشارا وأملا، كما كان يدفعه إلى الجد ويوحي إلى نفسه أنه يعمل عمل أفذاذ المصلحين، شدة ثقته في نفسه وكثرة الذهاب بها ويقينه من تمكنه وضلاعته واتساع أفقه، وما يرى من إكبار أصحابه اياه؛ ومن كان هذا شانه كان خليقا أن يستشعر مرارة الخيبة مضاعفة وان يبلغ من نفسه الألم مبلغا عظيما إذا لقيه الناس لا بمجافاته وأعراضهم عنه فحسب، بل بمدافعة آرائه كذلك ومجاهرته بالسوء من القول؛ وكان كذلك خليقا أن يغضب وأن يرد عمل أهل عصره إلى الغباء والجهل والجمود، وإنه ليوقن أن ما بينهم وبينه من فرق في الثقافة والمعرفة كمثل ما بين الظلمات والنور.
ولقد أفصح عن مبلغ ما كان يضطرم في نفسه من حنق على قومه، وعن مبلغ ازدرائه إياهم وسخره منهم في مقطوعتين نظمهما سنة 1645؛ ففي الأولى راح يتهكم ويسخر من(684/31)
جهل خصومه قائلا أن كتابه أسمه (تتراكوردون) أذيع في الناس من وقت قريب فبلغ من جهل بعضهم أنهم نظروا حيارى إلى عنوانه قائلين ما هذه الكلمة التي اتخذت له عنوانا، وقرأ بعضهم فأخطأ النطق وعجز عن الهجاء؛ ثم يعجب الشاعر من هؤلاء ويستعرض بعض أسماء ألفوها ويتساءل قائلا: لم يكون عنوان كتابه أعسر منها في أفواه هؤلاء السادة، وقد الفت أفواههم العسير الجافي من الكلم، ثم يذكر أول أستاذ للغة الإغريقية في كمبردك في القرن السادس عشر، ومعلم الملك إدوارد السادس وهو سيرجون تشيك، فيناجي روحه قائلا: (إيه يا روح سيرجون تشيك! أن عصرك لم ينفر من المعرفة إذ كنت تعلم كمبردك وتعلم الملك الإغريقية كما ينفر من العلم عصرنا الذي نعيش فيه).
وفي المقطوعة الثانية كان ملتن اشد حنقا وأوجع هجوا منه في سابقتها وحسبك منه قوله: (إنما جهدت أن أحمل أهل هذا العصر على أن يتخلصوا من قيودهم، وذلك بالرجوع إلى قواعد الحرية القديمة المعروفة، وبينما اعمل عملي إذ أحاطت بي جوقة من البوم والحمير والقردة والكلاب، ففعلوا بي كما فعل أولئك القرويون الذين أحيلوا إلى ضفادع جزاء بما أجرموا إذ هوشوا على نسل لأتونا التوأمين اللذين صار لهما بعد ذلك ملك الشمس والقمر؛ وذلك الذي نالني إنما هو كل ما يناله الرجل من جزاء إذ يلقى باللآلئ إلى فصائل من العجماوات تجهد في غبائها المجرد من كل حس في طلب الحرية، حتى إذا جاءها الحق الذي يكسبها الحرية ثارت ضده وتألبت عليه؛ وهؤلاء إنما يعنون الفوضى إذ يهتفون بالحرية؛ فأن من يعشق الحرية ينبغي أولا أن يكون خيرا عاقلا؛ وأنا نستطيع أن نرى إلى أي مدى يبعد هؤلاء عن الهدف على الرغم مما ينفق من مال وما يبذل من دم.
ولئن بلغ الحنق هذا المبلغ على أهل عصره بوجه عام، فقد كان حذقه على البرسبتيرينز أشد من ذلك درجات، وكان أسفه لما كان من موقفهم حياله اعظم وأقوى، فمن أوهى الأمور وأقبحها أن تأتي الخيبة من حيث يلتمس الرجاء، وان تقع البلوى على يد عند من يطلب عنده العزاء. . .
آلم ملتن وزاده غما على غم أن يعلم أن البرسبتيرينز على منصاتهم وفي كتاباتهم يصفونه بالطيش، ويقررون انه يذيع مبادئ إباحية، وانه بما نشر يمثل الإلحاد والفسوق عن أمر الله أتم تمثيل؛ ولكن روحه القوية لم تهن وان أصابها الحزن، ونفسه الأبية لم تذل وان(684/32)
اجتمعت عليه المحن، وأقبل يهاجم البسبتيرينز كما هاجم القساوسة من قبل، يأبى ألا أن يدافع أبدا عن الحرية في أي صورة من صورها، والمجال اليوم مجال حرية الرأي فما أجراه أن يناصر حرية الرأي.
اعتزم ملتن أن يعيد النظر فيما كان يرى من رأي في الإصلاح الديني، وأحس في نفسه الميل إلى مقاومة تشدد البيوريتانز وتزمتهم فيما يتصل بالدين وحياة المجتمع، ذلك التزمت الذي بلغ منتهاه عند جماعة البرسبتيرينز، والذي جعل ملتن يؤمن اليوم أن هؤلاء ليسوا أقل تعصبا ولا جمودا من القساوسة، وليسوا أوسع منهم أفقا ولا أخف حمقا.
ولم يكن غضب البرسبتيرينز على ملتن بسبب ما جاء به من آراء حول الطلاق فحسب، وإنما أغضبهم كذلك جرأته في الدعوة إلى الاعتماد على العقل في تفسير الإنجيل، وعدم التقيد بأقوال من سبق من رجال الكنيسة في تفسيره وتأويله ما لم يتمش ذلك مع المعقول ويوافق طبائع الأشياء
فالمعركة اليوم إذا معركة الرأي وحريته، والعقل وكرامته، وشخصية الفرد وكيانها، وحسب ملتن من الفخر أن يكون في ذلك طلعة بين أهل عصره كما كان طلعة في حربه على القساوسة وفي آرائه حول الطلاق. . .
وحدث بين جماعات البيوريتانز خلاف سنة 1643 جعل لخروج ملتن على البرسبتيرينز صدى أشد وأبعد مما كان يقدر له لو لم يقع هذا الخلاف، وبيان ذلك أن مجمعا من البيوريتانز انعقد في وستنمستر في تلك السنة للنظر في النظام الذي تخضع له الكنيسة في انجلترة، أي طريقة أدارتها، وقد قضى هذا المجمع بإحلال البرسبتيرية محل الأسقفية نهائيا، وتغيير كتاب الصلاة المتبع، ووافق البرلمان على ذلك، وكانت أغلبية أعضاءه يومئذ من البيوريتانز المؤيدين للبرسبتيرية، ولكن جماعة من المستقلين خالفوا أعضاء مجلس وستمنستر في بعض الأمور إذ أحسوا فيها تزمتا وشدة وطالبوا بشيء من الاعتدال، ونشر خمسة منهم كتابا يحتكمون فيه لا إلى البرلمان وحده بل الرأي العام في المملكة كلها؛ فلما خرج ملتن على البرسبتيرينز سنة 1644، وأخذ يطعن فيهم وهو الذي عرف بانتصاره للحرية أيد ذلك قضية المستقلين، وأحاط البرسبتيرينز بشبهة التعصب ومجافاة حرية الرأي.(684/33)
وقد بدأ الخلاف بين ملتن والبرسبتيرينز كما قدمنا في أواخر سنة 1644 وذلك بعد أن ذاع كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) وبعد أن نشر مقاله الذي جعل عنوانه (رأي مارتن بوسر في الطلاق)، فقد طالبوا بمصادرة كتيبه لأنه طبعه بغير تصريح مخالفنا بذلك قانون الطبع الذي هو من صنع أيديهم والذي أرادوا به حماية نظامهم الكنيسي، فرأى ملتن إذ ذاك أن أصدقاءه يعملون على خنق الحرية كما يعمل الأساقفة، ومن ثم دب بينه وبينهم الخلاف؛ وهل يظل صامتا حيال صيحتهم؟ ذلك مالا تطيقه نفسه وما لا تتطامن له كبرياؤه؛ وذلك ما لا يتفق مع حبه للحرية حبا درج معه منذ نشأته، وإذا فلا بد من رد ولا بد من صيحة يكربها عليهم ويدفع بها عن الحرية؛ ولكن البحث في الطلاق يملك عليه وقته وفكره فليدعه إلى حين، وليجعل همه إلى كتيب يناصر به حرية الرأي، ويهاجم فيه الرقابة على هذه الحرية هجوما عنيفا.
ويفرغ ملتن من كتيبه هذا وينشره في نوفمبر سنة 1644 أي قبل نشر كتيبه (تراكوردون) بنحو أربعة أشهر ويعرف هذا الكتيب باسم (ايروباجيتيكا)، وفيه يحتكم إلى البرلمان والى كل ذي رأي حر.
وبلغ من جرأة ملتن وكبرياء نفسه وتحمسه للحرية أنه نشر هذا الكتيب كذلك بغير أذن، فكان عمله هذا تحديا للبرسبتيرينز من ناحيتين، فهو يهمل قانون الطبع الذي وضعوه وقرروه، وهو في الوقت نفسه ينكر بكتيبه هذا الرقابة على الكتب كما تتمثل في ذلك القانون ويراها قيدا بغيضا لحرية الرأي فعنده أنه يحب القضاء على هذه الرقابة (حتى لا يكون الحكم على ما يجوز طبعه وما لا يجوز لفئة قليلة أكثرهم لا يعدون في العلماء إذ أن كفايتهم عادية شائعة).
وكان الكتيب في صورة خطبة مكتوبة موجهة إلى البرلمان وقد جعل ملتن شعاره عبارة مقتبسة من كلام يوربيد أثبتها بنصها الأغريقي؛ وهو بعد خطبة فليسر فيه درس وفق منهج معين أو تمحيص لما يعرض له من آراء، أو تقص للأفكار التي يؤيد بها رأيا أو يخالف رأيا؛ ولكنه على الرغم من ذلك لعله بسبب ذلك كان من أحسن ما نشر ملتن من هاتيك الكتيبات، فهو فيض نفس نبيلة حرة، تفهق صفحاته بكلام من خير ما كتب في الحرية فحاجة لفظ وبلاغة عبارة ورقة شعور ونبل حس وشجاعة رأي وحرية قول. . .(684/34)
وكان الأمل والحماسة ملء كتيبه هذا، فلئن خاب أمله في البرسبتيرينز فليسوا هم كل شيء، بل أنهم وقد نصبوا أنفسهم أعداء للحرية لم يعد لهم من الأمر شيء، وان انجلترة لتتجه نحو أمل جديد تراه في شخص كرومول وهو زعيم المستقلين ولجنده الظفر كما تنبئ حوادث الحرب، وان المستقلين جميعا وطلاب الحرية ليلتفون حوله، فهو في غده أمل إنجلترا ونصير الحرية وبطلها؛ ذلك ما كان يتحدث به ملتن إلى نفسه وذلك ما بث في كتيبه الرجاء.
وزاد الأمل تمكنا من نفسه انه وقد استعدى عليه الرقباء في البرلمان لم يمسسه شيء مما أرادوا به من سوء، إذ لم يرض مجلس اللوردات أن يشايع البرسبتيرينز فيما يذهبون إليه من رغبة في التضييق على حرية النشر؛ واغتبط ملتن أيما اغتباط وأرتاح أيما ارتياح إلى هذه المعاملة التي زادته ثقة في نفسه، ويقينا من علو مكانته في قومه.
ويحس المرء لذة قوية إذ يقرا هذا الكتيب، فليس فيه مثل ما في كتيباته التي أرسلها على القساوسة من غل الخصومة وعنف الهجاء، وإنما يسوده الهدوء وحسن السياق؛ وهو فضلا عن ذلك قريب إلى العقليات الحديثة بما حواه من أفكار حول حرية الرأي وحرية النشر، وحسبك منه بعض ما كتبه ملتن عن قيمة الكتب مثل قوله: (إن من يقتل كتابا طيبا كمن يقتل رجلا؛ بل إن من يقتل رجلا إنما يقتل مخلوقا عاقلا، في حين أن من يقضي على كتاب قيم فقد قتل العقل نفسه؛ وان كثير من الناس يعيشون عالة على هذه الأرض، أما الكتاب الجيد فهو دم الحياة الغالي، دم كاتبه، ذلك الروح العبقري، وقد حنط ذلك الدم واختزن ككنز ثمين ليبقى ذخر الحياة بعد حياة).
ويقع المرء فيه على كثير من العبارات المتينة الجميلة جمعت بين الإيجاز والشمول كقوله: (يظل الأحمق أحمق أوتي كتابا جيدا أو لم يؤت كتابا قط). وكقوله: (يجد المطهرون كل شيء مطهر، وليس ذلك في طعامهم وشرابهم فحسب، ولكن في كل صنوف المعرفة الطيب منها والخبيث فلا يمكن أن تفسد المعرفة كما لا يمكن تبعا لذلك أن يفسد الكتب ما دامت الإرادة والضمير لا يتطرق أليهما الفساد).
ويأتي ملتن بطائفة من الآراء تنم عما كان يجول في خاطره بعد القطيعة بينه وبين البرسبتيرينز، فهو ينكر اليوم عقيدة القدر المحتوم التي اعتنقها البيوريتانز عن كلفن ويأخذ(684/35)
بعقيدة الإرادة الحرة التي نادى بها أرمينيتس ويصف هذا الأخير بقوله (أرمينيسي الواضح البين) وينر ملتن من تزمت البيوريتانز وتشددهم في كل شيء، وبعد أن كان من قبل وهو الشاعر الذي يعشق الجمال ويحسن الحياة إحساسا قويا في حيرة بين ما تقتضيه الطبيعة وما تقوم به الروح، نراه اليوم يعلن أنه في وسع المرء أن يجمع بين الاثنين في غير حرج، وقد كان ما تقوم به الروح عنده قبل ذلك في المحل الأول، تجد ذلك واضحا في قوله (لماذا خلق الله العواطف وبثها فينا، ولماذا خلق مسرات الحياة وأحاطنا بها، وليس معنى ذلك انه يبيح الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده في غير قيد، ولكنه يريد ألا يتشدد فيرى في كل زينة وفي كل متعة ما يوبق الروح كما يفعل الغالبون من البرسبتيرينز، ولقد باتوا عنه كالقساوسة حماقة وضيق عقل وسوء تعصب كما يتضح في قوله إذ يشير إلى خنقهم حرية الرأي (إنما تخرج أفانين القساوسة براعمها من جديد).
ويعد ملتن في الواقع بعد اختلافه مع البرسبتيرينز من المستقلين، بل لقد كان أكثر من مستقل، فسوف لا يؤيد بعد اليوم نظاما كنسيا ما أو يأخذ برأي من الآراء لا يتحول عنه أو لا يقلب النظر فيه؛ أو يغشى كنيسة من الكنائس غشيانا رتيبا، وإنما تسيطر عليه روح دينية توحي إليه تقواه وطهره. وإن كان مستقل الرأي لا يقبل شيئا لا يطمئن إليه عقله ولا يتقيد بمذهب لا ينسى كراهته للقساوسة من أشياع روما والكاثوليكية بوجه عام، كما لا ينسى غضبه على البرسبتيرينز ولا اتهامه إياهم بأنهم أعداء الحرية، وانهم لذلك كالقساوسة عقبة في سبيل الإصلاح الحق، وأنهم يبالغون في تزمتهم وتشددهم مبالغة تفضي حتما إلى النفور من مذهبهم.
(يتبع)
الخفيف(684/36)
حول الاتباعية والإبتداعية
توطئة لدراسة الأقصوصة والقصة والرواية
للأستاذ فخري قسطندي
هذا مبحث جديد قديم، بكر مطروق، كثر فيه القول، وطال حوله الجدل، وبرغم ذلك لم تنل منه الأيام، فلم تعصف بطلاوته ولم تذهب بطرافته. كان بالأمس ولا يزال إلى اليوم مثار لخصومة عنيفة، ومدار لأخذ ورد شديدين بين دعاة الكلاسيكية وأنصار الرومانتيكية، دون الوصول إلى رأي جازم أو قرار حاسم أو نتيجة قاطعة. ومن طريف ما يروى أن نقطة الرومانتيكية كانت مبعث خيبة مريرة، وذهول عميق لقارئين من قراء إحدى المجلات الأدبية التي تصدر في باريس.
ذلك أن الفريد دي موسيه طلع عليهما في 1836 بكتابه: الذي فصل فيه القول عن الرومانتيكية تفصيلا، وأفاض فيه إفاضة؛ وألمع إلى معان لم تدر لهما بخلد أو تختلج لهما في عقل. فما كانت الرومانتيكية عندهما حتى ذلك العهد سوى نزعة أدبية تطبق على المسرحية ولا تطبق على غيرها من سائر ألوان الأدب. فشكسبير على سبيل المثال رومانتيكي، لأنه خرج في مسرحياته على الوحدات الثلاث التي أستنها رجال الأدب الأقدمون من نقاد الإغريق واللاتين، وهي وحدات العمل والمكان والزمان فلم يتقيد بها أو يأبه لها. فشخوصه تطوف أبدا في الأقطار، ما يقر لها قرار، تحل بروما ثم تلم بلندرة ثم تكر راجعة من حيث أتت، وذلك كله في ظرف وجيز، ووقت قليل لا يتعدى ربع الساعة أو يتخطاها بحال من الأحوال.
وما كان لهما أن يتلقيا الصدمة الشديدة الوطأة بثبات روع أو هدوء بال، وقد تبينا لأول مرة أن هناك حكايات وقصائد ومقطوعات شعرية رومانتيكية، كما أن هناك حكايات وقصائد ومقطوعات شعرية كلاسيكية. وكان مما قالاه في هذا الصدد (لم يكن في مقدورنا حين تلقينا هذا النبأ أن نغمض العين طوال الليل
هذا طرف مما وقع لبعض القراء من الخلط والاضطراب في أمر هاتين اللفظتين، وهو ليس بنادر الوقوع أو بعيد التصديق. فهاتان اللفظتان تضيقان بلا مراء بالمعاني المحددة(684/37)
والمفهومات المعروفة. وفي إمكاننا أن نسوق الدليل بعد الدليل نؤيد به ما ذهبنا إليه؛ فالأدلة كثيرة والشواهد متنوعة. ومن قبيل ذلك ما يؤثر عل العلامة ج. ج. روبرتسن أحد نقاد الأدب الإنجليزي المعاصرين. ففي 1923 اصدر سفرا قيما يتسم بسعة العلم وغزارة المادة أطلق عليه دراسات في أصول النظرية الرومانتيكية في القرن الثامن عشر في إنجلترا انتهى فيه إلى القول بان الرومانتيكية في إنجلترا في القرن الثامن عشر لم تكن من نتاج الأدباء الإنجليز أو ابتكارهم بل هي مستمدة منقولة بجميع خصائصها وكافة سماتها عن لفيف صغير من النقاد الإيطاليين مغموري الاسم. وفي السنة ذاتها ظهر كتاب في بولونيا، للناقد الكبير جيسب كوفانن: نادى فيه بان نفس هذا اللفيف من النقاد الإيطاليين قد توارث الروح الكلاسيكية السائدة في عصر النهضة في إيطاليا.
ولم يكن النزاع بين الكلاسيكية والرومانتيكية في مبدأ الأمر سوى نزاع بين من ينتصرون للقديم، وبين من يتعصبون للجديد في الأدب، ثم ما لبث أن أستفحل الشقاق وأتسع الخلاف وأتسم بطابع الغلو والإسراف. فلم يرض أنصار الكلاسيكية بالقديم على قدمه، لأن بالقديم شيئا من شذوذ، وليس من سبيل إلى كلاسيكية قويمة، يحل فيها الشذوذ والاضطراب، محل الانسجام والائتلاف.
ولفظة رومانتيكي ابتداع لغوي حديث، ولكن ما توحي به في الذهن من معان معروف مشهور، حتى قبل أن تخرج هذه اللفظة إلى حيز الوجود بعهد طويل. والنعت (رومانتيكي) أبعد في القدم من الاسم رومانتيكية). وقد استعمل أول ما استعمل في إنجلترا بعد الفتح النورماندي في العصور الوسطى التي اشتهرت بانتشار القصص الشعبية الفرنسية وحظ الخيال المفرط والتأليف الخصيب في هذه القصص أرفع شأنا من حظ الوقائع المعقولة والحقائق المجردة. ذلك لأن هذه القصص تروي ضروبا من البطولة خارقة، وتحكي صنوفا من المغامرات فذة، وتتغنى بأشكال من البسالة والأقدام نادرة المثال؛ ومن ثم اشتقت لفظة رومانتيكي دلالتها من كل ما هو خارق فذ بعيد عن حياة الواقع. واستعملها الكتاب في هذا المعنى أو فما يمت لهذا المعنى بصلة قريبة وثيقة. ولنضرب مثلا في ما جاء في سنة 1654 في مفكرة ايفلين أحد رجال البلاط الإنكليزي المغرمين بمراقبة التطورات التاريخية وتسجيل الأحداث الشاذة المعاصرة لعهده (يوجد بالجانب الآخر من جبل الألب(684/38)
المهول هذا قصر رومانتيكي للغاية). كذلك كتب سامو يل بيبيس أحد الثقاة في تاريخ إنجلترا في القرن السابع عشر وصفا موجزا في 11 من مارس سنة 1667 للدسائس السياسية التي كان يحيك أطرافها ملك فرنسا وقال في الختام (هذه الأمور رومانتيكية قلبا وقالبا على وجه التقريب، غير إنها حقيقية فقد أفضى إلى سيره. تشو ملي الملك نفسه رواها له بالأمس).
وإن دل هذا على شيء فلا يدل إلا على ثبات لفظة رومانتيكي على المعنى الذي أسلفنا فيه القول، واتصافها بكل ما هو ناء قصي عن العرف والتقاليد أو ثائر عصى على المألوف والمعقول. وقد استعمل توماس سبرات هذه اللفظة في كتابه: (تاريخ جمعية الأبحاث العلمية الملكية)، للمقابلة بين منهج البحث العلمي البحت، وبين منحنى التخيلات وما يشوبها من إغراق لا غناء فيه، قال: وسوف يكون هذا المنهج يرد لأذهاننا من التضخيم الرومانتيكي لأنه يكشف لها عن الأشياء في صورها المألوفة. وفي مثل جرمها تماما (وفي موضع آخر يقرر سبرات أن ما أصاب العلم من الغمز واللمز كان على يدي خصومه من المتحذلقين والمتفلسفين اللذين يرون أن العلم يصبغ الناس بصبغة رومانتيكية، ويدفعهم إلى تصور الأشياء على صورة أكثر كمالا مما تحتمله الأشياء ذاتها.)
ثم أقبل القرن الثامن عشر وبسطت عليه فلسفتها هوبز ولوك ظلالهما الوارفة، ووجد العلم التجريبي مرتعا خصيبا وأحرز نصرا مبينا، فأزداد الرأي القاتل، بأنه في الإمكان تفسير العالم على ضوء العقل دون اللجوء إلى ما هو خارق أو الولوج إلى ما هو غامض، قوة ويقينا. ومصداق هذا الرأي ما جاء على لسان هرد (أن نور العقل قد أشرق منذ عهد قريب، وهو يوشك أن يسيطر على أطياف الخيال الجسيمة.) هذه الأطياف التي كانت تنزل في القلوب منزل اليقين بمالها من قوة اقتناع وشدة تأثير، ثم ما لبثت أن أودت بها عجلة الزمان ويد الحدثان هي التي أجمع النقاد على نعتها بالرومانتيكية.
وقد سبق إلى أن ألمعنا إلى ما للرومانتيكية من صلة بالعصور الوسطى، ولآن يحق لنا أن نتساءل لماذا لم يرض هيني عن هذه الصلة من حيث هي صلة لا أكثر ولا أقل، حيث يزعم أن لفظتي رومانتيكي وميديفال مترادفتان متكافئتان في المعنى والجواب على ذلك هو ما جاء على لسانه (ما هي المدرسة الرومانتيكية في ألمانيا؟ إنها لم تكن ثمة شيء آخر(684/39)
غير بعث شعر العصور الوسطى من مرقده، ذلك الشعر الذي تجلى في المقطوعات الشعرية والرسوم الزيتية والتماثيل، وفي ألوان الفن وصور الحياة السائدة في تلك الأوقات) ومثل هذا القول لا يطابق الأدب الإنجليزي مطابقة تامة، فالأدب الإنجليزي أوسع من أن تحده مثل هذه الحدود والقيود. والذي يجدر ذكره هنا في صدد التعقيب على هيني هو إن القصة وسائر فنون الأدب في العصور الوسطى مدينة لذلك الخيال المفرط الخصيب الذي اشتهرت به العصور الوسطى، والذي ينبئ عن عقلية وليدة رضيعة من اظهر مظاهرها وأخص خصائصها بناء عوالم من الأحلام والأوهام. ولما كانت العصور الوسطى في إنجلترا مقرونة بتدمير الأديرة وتخريبها بعد تولي أسرة تيورد مقاليد الحكم، فمن البديهي أن ينصرف اهتمام الأدباء في القرن الثامن عشر الذي بعثت فيه العصور الوسطى من جديد إلى الأنقاض والإطلال.
(للبحث بقية)
فخري قسطندي
مدرس بالمدارس الثانوية(684/40)
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
طلب ألي أن أتحدث في فلسطين عن مصر، وان لفلسطين لعزيزة على كل نفس، حبيبة إلى كل قلب، جديرة أن تذكر لدى كل بادرة، ويستهل بها عند كل حديث.
ألست إذا ذكرت ذلك البلد الطيب - أينما كنت في بلاد الله، في أوطان العروبة والإسلام - تحولت إليك الوجوه وتطاولت نحوك الأعناق، وتطلعت لما تبديه القلوب والأبصار؟!
فيا لله ما أعجب إن في ذلك الاسم لسرا من الأسرار، بل إن فيه لسحرا من السحر!!
أجل. أن فلسطين لتلك، وان الحديث عنها لذو شجون. إنها البلد القدس، إنها بلد الوحي والنبوة، إنها القبلة الأولى في الإسلام. فلا عجب أن تتشوق أليها كل نفس، ويهفو لدى ذكرها كل فؤاد. . . وان مسالك الحديث عن فلسطين لكثيرة، بل إنها الأوفر من أن يحيط بها حصر، أو يطيف بها إلمام. فعلي أن أسلك سبيلا ينتهي بي إلى غاية، فأتحدث عن حياة الأدب هناك.
وحياة الأدب في فلسطين حديثة العهد قريبة الأمد. فلو ذهبنا مع التاريخ غير بعيد، لألفيناها خلوا من الأدب جملة، عدا نتف من هنا وهناك، كانت تبدو على أقلام الفقهاء، ورجال الدواوين؛ لا يصح أن تسمى ادبا، كما لا يصح أن تعتبر مظهرا من مظاهر الأدب على أية حال.
وحين نتوغل في تاريخها. نجد أنها لم تنجب - على تطاول العصور - غير آحاد من الأفذاذ الذين كانوا يلتمعون بين حين وآخر، وفيهم الكاتب والشاعر والمؤرخ. ومن هؤلاء: عبد الرحيم البساني (القاضي الفاضل)، وصلاح الدين الصفدي (صاحب التأليف الكثيرة)، ومجير الدين الحنبلي (صاحب الأنس الجليل في أعيان القدس والخليل). وآخرون غيرهم ندر أن تعاصر منهم اثنان، فتركا أثرا بارزا من آثار الأدب الخالد، وذلك إذا اعتبرنا فلسطين في حدودها التي تنحصر خلالها اليوم.
ولعل السبب أنها بلد مقدس، فيه المسجد الأقصى حيث الصخرة المشرفة، وفيه الحرم الإبراهيمي والأنبياء من أبنائه. ولذا كان هّم من أعرض عن الدنيا وزخرفها، أن يشّد إليها(684/41)
الرحال، ليقيم فيها منصرفا إلى الله وطلب رضوانه، مقبلا على تفهم كتابه وسنن نبيه.
ومن هنا نبغ في فلسطين من أئمة الفقه ورجال السنة، من بقيت آثارهم وفتاواهم - إلى اليوم - شاهدة على مبلغهم من هذا العلم، وتبحرهم فيه. ومن هؤلاء: شيخ السلام خير الدين الرملي (صاحب الفتاوي الخيرية) والشيخ محمد الخليلي (صاحب الفتاوي الخليلية)، والشيخ سعد الدين الديري الخالدي (صاحب السهام الخارقة في الرد على الزنادقة)، والشيخ منيب هاشم الجعفري النابلسي (صاحب الفتاوي الشهيرة). وحسب فلسطين فخرا أن تنجب على رأس هؤلاء: الإمام الجليل (أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الغزي) الذي طبق ذكره الخافقين، وأنتشر مذهبه في بعيد الآفاق.
(أضف إلى ذلك افتقارها إلى مفاتن الطبيعة وجمالها الفطري، وخلوها من أتساع الحضارة وارتقاء العمران. فلا أنهار تسلكها قوارب المتنزهين وطلاب المتعة، وتنتشر على ضفافها الحدائق والمتنزهات ومواطن اللهو، ولا مدن كبيرة واسعة الرجاء، مزدهرة الحضارة، كثيرة الأرباض ملتفة الرياض والغياض. كما هو الحال في القاهرة ودمشق وبغداد والمدينة وغرناطة وسواها).
ومن هنا نتبين أن فلسطين حديثة عهد بنهضتها الأدبية، حتى أنه ما يزال معظم هؤلاء المؤسسين لها أحياء يرزقون. ونرجو الله أن يمد في آجالهم حتى يؤدوا رسالاتهم على أتم الوجوه وأكملها.
ولعل الكثيرين من إخواننا في مصر (وغير مصر) يجهلون أن في فلسطين نهضة ثقافية وحياة أدبية، ولا عجب فأننا نكاد نعيش في معزل عن العالم العربي، لقلة وسائل النشر عندنا. فلا مجلات شهرية تضاهي (المقتطف) و (الهلال)، ولا مجلات أسبوعية تماثل (الرسالة) أو (الثقافة). اللهم إلا مجلة واحدة، كان يصدرها قلم المطبوعات (شهرية)، إبان الحرب الأخيرة، وأسمها (المنتدى). وكان معظم ما ينشر فيها بأقلام مشاهير الكتاب من مصريين وسوريين، وبعض الفلسطينيين، ولذا لا تعتبر صورة صادقة عن الأدب الفلسطيني الخالص.
كما أنه ليست هنالك دار للنشر تضاهي (دار الكتب) أو دار الهلال)، خلا دار حديثة ناشئة، قام على تأسيسها جماعة في (يافا)، وهي تصدر سلسلة شهرية من كتيب صغير، على(684/42)
غرار سلسلة (أقرأ) في مصر إلا أن هذا الكتيب ينقص كثيرا في حجمه عن كتيب (أقرأ)، بالرغم من أنه يساويه بالثمن، وقد صدر من هذه السلسلة إلى الآن خمسة أعداد على ما أذكر.
إذن ماذا يصنع الأديب الفلسطيني ليعرفه الناس ويعرفوا آثاره الأدبية؟ إن أمامه واحدا من السبل التالية، وليس له عنه منتدح:
فأما أن يطبع كتابه أو ديوان شعره من خالص ماله، ويعرضه في الأسواق (مجازفة) ويرتقب حظه، ولا يقدم على هذا في الغالب إلا الموسرون من الأدباء. وهؤلاء كثيرا ما يصادفهم النجاح.
وإما أن يهتبل فرصة ملائمة، تسوقها مناسبة من المناسبات. ويبادر فيحتجن إلى نفسه هذا المجال المحدود الذي تعده الصحف اليومية لذلك، (وعندنا منها صحيفتان هما الدفاع وفلسطين)، فيملاء ذلك المجال بشعره أو بنثره الذي أعده لتلك المناسبة.
وإما أن يترقب ميقاته في (محطة الإذاعة الفلسطينية)، ليحاضر الناس من وراء المذياع بشيء من أدبه. وهذه المحطة تعد في برامجها أحاديث أدبية، يقدمها في الغالب أديب فلسطيني أو أديبة فلسطينية.
وقد يتجنب الأديب هذه السبل جميعا فينظم أو يؤلف لنفسه، (وكثيرا ما يأتي بروائع مدهشة. فيبقى بعيدا عن الناس، لا يدري خبره إلا خاصة إخوانه وصفوة خلانه، وسأقدم بعض هؤلاء الأدباء، واستشهد ببعض أقوالهم مصدقة لما وصفت.
هذا ما يفعله الأديب في فلسطين ليتعرف إلى الناس ويقدم إليهم إنتاجه، وليس كل أديب عندنا يشأ إلى نشر أدبه في الأقطار المجاورة، بل قليل ما أولئك.
وهاأنذا أقدم بعض هؤلاء الأدباء الذين استطاعوا أن ينشئوا النهضة الأدبية في هذا القطر، وبالرغم من ضيق ذلك الأفق الذي يحوط بالأديب كما أسلفت، وأذكر في طليعتهم بعض من تقدم بهم الزمن. فظهروا في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر وتركوا آثارا قيمة بين مخطوط ومطبوع ومنهم:
الأستاذ يوسف باشا الخالدي: وقد عاش هذا الأديب حياته بين العلم والسياسة، فكان واليا ثم مبعوثا في البرلمان التركي، فرئيسا لبلدية القدس، كما كان مدرسا في فلسطين، ثم أستاذا(684/43)
للعربية وآدابها في جامعة (فينا)، وهنالك ألف كتبا عدة، بعضها مخطوط وبعضها مطبوع. ومنها كتاب كان الأول من نوعه، استنبط فيه قواعد اللغة الكردية، وأسماه (التحفة الحميدة في اللغة الكردية)، ومنها كتاب آخر أسمه (أنا) وهو مجموعة مذكرات وآراء ومعالجات شتى. كما شرح ديوان لبيد وجمع متفرقه وطبعه في (فينا). وله عدا ذلك أبحاث شتى ومحاضرات عدة، وقد أقام في الآستانة سوقا أدبيا أسماه (عكاظ)، وآزره فيه بعض معاصريه من الأدباء.
والأستاذ بندلي صليبا الجوزي: وكان هذا الأديب المقدسي أستاذا للعربية واللغات السامية في جامعة (قازان) في روسيا. ثم في جامعة (باكو). وله مؤلفات عدة أهمها: (الحركات الفكرية في الإسلام) و (الأمومة عند العرب) و (أمراء غسان). وجميعها مطبوع. والكتاب الأخير منها يكاد يكون تاريخا للمسيحية العربية في بلاد الشام، ولعله أستهدف ذلك في تأليفه.
ومن أبرز ما يمتاز به هذا الأديب صبره البالغ حد العجب، وجلده المفرط على البحث الدقيق، والتحري في تحقيق ما أشكل وأنبهم.
والأستاذ روحي الخالدي: وقد تنقل هذا الأديب في دراسته الأولى بين الآستانة واوربة، وكانت له محاضرات في جامعة (السوربون) ثم أقيم محاضرا في (جمعية نشر اللغات الأجنبية) بباريس. وكان عضوا في مؤتمر المستشرقين، ثم قنصلا تركيا في (بوردو) بفرنسا.
ومن تصانيفه القيمة: (العالم الإسلامي) و (علم الأدب عند الإفرنج والعرب) و (الانقلاب العثماني) و (رحلة الأندلس) و (المسألة الشرقية). وجميعها مطبوع. ومن كتبه المخطوطة: (علم الألسنة) و (تاريخ الصهيونية) وهما في المكتبة الخالدية في القدس.
ثم الشيخ يوسف النبهاني: وهو أديب فقيه شاعر. نزح من قريته (اجزم) قرب حيفا إلى بيروت، وهنالك التمع واشتهر وكان راسخ العقيدة شديد التعصب في دينه، وتبدو آثار تعصبه هذه في معظم ما صاغه من شعر وأبدعه من نثر.
وله مدائح نبوية كثيرة، تكاد تكون معظم شعره. وكانت تربطه بالأمير شكيب أرسلان صداقة وثيقة العرى، تتجلى بما كانا يتبادلانه من شعر ونثر. كما كانت تربطه بالأستاذ(684/44)
فارس الشدياق أواصر ألفة ومودة، حملته على أن يرثيه حين موته بقصيدة رائعة قان فيها:
كم من مشاكل أعيتني فأوضحها ... وقال هاك فكاد الطفل يحكيها
وله قصائد (أيضا) غاية في متانة السبك واختيار الألفاظ، إلا أنها قيلت في هجاء الأئمة الثلاثة المصلحين، (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبدة، ورشيد رضا) وهم أعلام الهدى والفضل كما تعلم!!
ويمدح الشيخ الصيادي بقصيدة يقول فيها:
ويممت دار الملك أحسب أنها ... إلى اليوم لم تبرح إلى المجد سلما
فألفيت فيها أمة عربية ... يرى الترك منها أمة الزنج أكرما
وللنبهاني كتب كثيرة، أذكر منها كتابة (الأنوار المحمدية).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)(684/45)
ويلتا لو علموا. . .!
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
من كتاب العمر، من سفر السنين ... صفحات عند أخرى ينطوين
ما روى مرقومها غير الأسى ... ما حوى مسطورها غير الأنين
عبراتي في حواشيها جرت ... وجراحي قطرت فوق المتون
يا لعمر رنقت منهلَه ... بَغَتاتَ الدهر والدهر خؤون
جزتها تسعاً وعشرين فهل ... غير كأس الشجو عاطتني السنون
مرست لي الصاب في شهد الصبي ... ومن الأفراح عاضتني شجون
ويقولون: تحدى واقعا ... قيد الروح بأغلال العذاب
وانعمي بالعمر، ما العمر سوى ... غفوة العين على حلمَ كذَاب
يتصدى تارة جهم الرؤى ... وهو طوراً ذو خيالاتِ عذاب
هو ذا الوقع، حلم عابر ... فاغنميه كلما لذ وطاب
وإذا يسرا وجيعاً راعباً ... فتحديه بأفراح الشباب
وابسمي، فأزهر رفاف الندى ... وانعمي فالغصن ريان الإهاب
ويقولون: اصدحي وانطلقي ... من إسار الحزن، من قيد الذكَر
حسْب ألحانك ما أرسلته ... من شجا فيها ودمع منهمر
إبكاءً والتياعاً وأسى ... والصبي فرحة أيام العمُر
والصبي طير طروب روحه ... غرد ما راح، شاد ما بكر
خاطف عما قليل ظله ... إذ يوافيه الخريف المنتظر
حين لا النوار نمام الشذى ... لا، ولا الورض أنيق مزدهر
ويلتا لو علموا كيف هوى ... ذلك الطير دراكا من سماه
الدياجي طبقت آفاقه ... والرياح الهوج طاحت بقواه
من رآه قلقا في وكره ... لائباً، يوشك يرديه صداه
إن هفا يبغي انطلاقاً كسرت ... من جناحيه أعاصير الحياة
أو شدا قام الشجا معترضاً ... آخذاً منه بأوتار اللهاه(684/46)
كيف يشدو؟ كيف يهفو وعلى ... ريشه يجري نجيع من دماه(684/47)
البريد الأدبي
حول (لا غير):
نشرت (الرسالة) الغراء في عددها 676 ردا ضافيا للأستاذ الجليل النشاشيبي انتقد فيه تعليقه الأستاذ المدني على (لا غير) الواردة في (عبث الوليد) ومما جاء في هذا الرد قوله: (وإن خيل انه جاء من أعمال (لا) عمل (ليس)، فالملحن نفسه يسطر) الخ. . .
وهنا مع تقديري للأستاذ الجليل وإعجابي بنقله وتحقيقه أرى أن في رده هذا ما يحتاج إلى التعليق فاستأذن حضرته في إبداء الملاحظة الآتية:
يرى لفيف من النحاة كالسيرافي وابن هشام أن كلمة (غير) لا تقطع عن الإضافة لفظا إلا إذا تقدمتها (ليس)، وفي غير هذه الحالة لا يرون القطع لعدم سماعه عن العرب ومن ثم لحنوا من يقول: (لا غير) لتجاوزه بالقطع مورد السماع قال السيرافي: الحذف إنما يستعمل إذا كانت (غير) بعد (ليس)، وإذا كان مكانها غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف ولا يتجاوز بذلك مورد السماع).
وقال ابن هشام: (ولا يجوز حذف ما أضيفت إليه (غير) إلا بعد (ليس) فقط كما مثلنا وما يقع في عبارات العلماء من قولهم (لا غير) فلم تتكلم به العرب).
وقال الأشموني في تنبيهات الإضافة: (الثاني قالت طائفة كثيرة لا يجوز الحذف بعد غير (ليس) من ألفاظ الجحد فلا يقال قبضت عشرة (لا غير).
وبهذا يتضح جليا أن اللحن لم يجيء في نظر هؤلاء الملحنين من أعمال (لا) عمل (ليس) كما ظن الأستاذ الجليل حفظه الله وإنما أتى من مجاوزة مورد السماع في القطع كما مر آنفا ومن هنا كانت أطالت الأستاذ في الاستدلال على جواز أعمال (لا) عمل (ليس) جهاد في غير عدو، وكان على الأستاذ وقد جنح إلى تخطئة هؤلاء الملحنين كما جنح إليها كثير من المحققين أمثال أبن مالك وصاحب القاموس وغيرهما أن يقابل الدليل بالدليل، ويثبت سماع القطع مع (لا) عن العرب اللذين يستشهد بكلامهم في هذا الموضوع كما فعل أبن مالك في شرح التسهيل حيث أثبته في قول الشاعر:
جواباً به تنجو أعتمد فورينا ... لعن عمل أسلفت لا غير تسأل
ولكن الأستاذ رعاه الله اغفل هذه الناحية واكتفى بعرض (جريدة) من استعمال المؤلفين(684/48)
(ومنهم المعري موضع النزاع) وهو يعلم جيدا أنها ليست بالحجة القاطعة في محاججة المانعين، وأنها أن أقنعت أمثالي من المقلدين فلم تقنع أمثال السيرافي وابن هشام من زعماء النحو المجتهدين، فيا حبذا لو أن الأستاذ أعاد الكرة، واستظهر دواوين العرب ورسائلهم فربما يعثر فيها على شواهد أخرى تؤيد الشاهد أبن مالك الآنف الذكر الذي وصفه الدمامين بأنه شاهد غريب وما ذلك على همته العالية (وهو أبن بجدتها) بعزيز، والسلام عليه ورحمة الله.
(طرابلس الغرب)
عبد الرحمن الفلهود
1 - بيان:
نقلت ست جرائد في مصر والعلم العربي، مقالتي الثالثة عن (يوم الجلاء) المنشورة في الرسالة، وعلق أكثرها عليها تعليقا لم أجد معه بدا من أن أبين (للحقيقة والتاريخ) أن الزعيم السوري إبراهيم بك هنانو قد توفى من عشر سنين.
2 - ثناء بالحق:
أهدى ألي من القاهرة العددان الأخيران من مجلة (شباب محمد) فوجدت فيهما من صدق اللهجة، والصدع من الحق، وإصابة المحز، ووصف حقيقة الداء، ما جعلني أقول:
هذا ما أراده المصلحون فأخطأوه، وحاموا حوله فلم يبلغوه.
فللقائمين على هذه المجلة - وان كنت لا اعرف أحدا منهم - شكري وإكباري، وأسال الله أن تكون أفعالهم كأقوالهم، وأن يكثر في مصر من أمثالهم.
3 - خطأ تأريخي:
في (قضية سمرقند) لعلي الطنطاوي (الرسالة 681) خطأ تاريخي، والصواب فيه أن قتيبة بن مسلم لم يدرك أيام عمر بن عبد العزيز، وأن العامل على سمرقند في تلك الأيام هو سليمان بن أبي السري.
نبهت على ذلك قبل أن ينبه عليه غيري.(684/49)
علي الطنطاوي
الموسيقى والغناء الشعبي:
يظن بعظهم إن الغناء الشعبي نوع من الموسيقى السهلة يستطيع أن يدخل في مضمارها كل من أوتي حظا قليلا من المعلومات الفنية، وهم في هذا لا محالة خاطئون، فأن الموسيقي الشعبي مضطر إلى مراعاة أمور كثيرة في فنه قد لا يلتزم فيها غيره منها دراسة نفسية الشعب والتزام حدود الأخلاق فيما ينتج من فنه فوق ما يحتاج إليه من قدرة في التصوير وثقافة علمية وموهبة فنية، ثم هو يمتاز بعد ذلك بصفاء النفس وشعور خلق من التعقيد الذي يفسد سذاجة الطبيعة، وبهذا تتحقق الغاية من فنه، وهو الارتفاع بنفسية الشعب وترقية أخلاقه وتهذيب مشاعره. .
فالموسيقى أذن أداة من أدوات التهذيب لا تقل في أثرها عن فن الكاتب وأساليب المصلح، فهي أسهل مدخلا إلى النفس، إذ لا يبذل المستمع ما يبذله من جهد في الاستمتاع بسائر الفنون الأخرى التي تتطلب منه جهدا عقليا، بل هي تنفذ مباشرة إلى النفس دون وساطة العقل
من الفنانين الذين قد اجتمعت لهم تلك الخصائص الفنان العظيم المرحوم الشيخ سيد درويش، تلك العبقرية النادرة التي هي من أعظم مصادر فخرنا، والتي لا نفتأ نحس بالعظمة ونشعر بالعزة كلما ذكرناها. . .
ولكن كم يزداد أسفنا حينما ننظر الآن إلى موسيقانا الشعبية وما أصابها من إسفاف وتبذل، حيث أننا نطلق الآن عليها هذا الاسم من باب التجاوز لا من باب الحقيقة، فما هي إلا مظهر من مظاهر العبث والانحلال الخلقي يتمثل في فئة من الشباب قد عجزت عن تحصيل عيشها من طريق مشروع، فانطلقت تملأ الجو بما من الله به عليها من هذا (الفن) الذي نخشى أن يؤدي بنا يوما إلى العار المطلق والسقوط الشنيع. . .!
هذا، علاوة على ما شاع في الأغاني من عبارات لا يقصد منها إلا استفزاز الغريزة واستثارة الشهوات بأقبح أساليب التعبير وأحط ضروب الكلام!!
فهل يمكن أن نأمل لهذا الحال صلاحا؟ إننا نهيب بولاة الأمور أن لا يتركوا الأمور تجري(684/50)
على هذا الحال المشين، وان يضعوا حدا لهذا الشر الشائع والفساد المنتشر. . . فلعله ذا صحت الموازين، واستقامت الأحكام أن تجني البلاد ثمار عباقرتها المغمورين وأفذاذها الخاملين!!
عبد الحليم أحمد عبد العال
معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية(684/51)
القصص
قصة من الأدب الروسي الرفيع:
الملاك. . .
للكاتب الروسي الكبير لوي تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسى
(ولد تولستوي - فيلسوف روسيا العظيم - في 28 أغسطس سنة 1028 من عائلة عريقة (أرستقراطية) وكان شغوفا بالعلم، مكبا على الأدب محبا للحكمة. . . فلما رأى ذلك البؤس الذي يحيط بالفلاحين. . وشاهد تلك التعاسة التي تكتنف العمال. . . انبثق في فؤاده نور الحق، وتفجرت في قلبه عيون الرحمة والعطف، فعقد في نفسه ألا يهدئ باله حتى يقوم على إسعادهم، ولا يسكن في فؤاده حتى يعمل على خيرهم.
وظل - طيلة حياته - يكافح في سبيلهم، فعاش في أملاكه يزرعها ويقسم ما تغله على الفلاحين، ثم لم يلبث أن تخلى عنها ووزعها بينهم. . . واتهم - آخر أيامه - بالإلحاد. . فاختفي ردحا من الزمن.
وبعد (تولستوي) القطب الأول والكاتب الأكبر في روسيا. . . وتعد كتبه (الأناجيل الأولي) للثورة البلشفية، التي بذر بذورها. . . غير أنه لم ير الغرس وهو يستوي على ساقه، فيهز الروسيا ويهز العالم أجمع. . . فقد قضى في 21 نوفمبر سنة 1910.
وما زالت كتبه - وقد شاعت في أرجاء العالم - تظفر بكل إعجاب وإجلال. ومنها (البعث) و (القيامة) و (الحرب والسلام) و (أين المخرج). . .
وهذه القصة - التي نبسطها اليوم على صفحات (الرسالة) الغراء - من أروع الأمثلة على ما كان يفيض به تولستوي من الحس العميق والوصف الدقيق لحياة عائلة من تلك الطبقة التي كرس حياته لرفعتها ونصرتها. .
وقد دعتنا الضرورة إلى تحوير العنوان التي عرفت به هذه القصة وهو أي (بماذا يعيش الناس)؟)
(م. جميل)(684/52)
كان الاسكاف (سيمون) يعيش مع زوجته، وأبنائه في شظف من العيش يسكنون كوخا صغيرا مغبرا، بأجر من المال يؤدونه لصاحبه الفلاح. . . وكان سيمون يكسب رزقه من عمله في جهد وجحد، وينفق كل ما تمسكه أنامله من دراهم على إطعام عائلته، وما أندر الخبر في ذلك الحين!
وكان للرجل وزوجته مدرعة من صوف يرتديها كل منهما حينا في الشتاء، حتى رثّت وبليت، وقد تقّضى عام وهو عازم على شراء مدرعة أخرى، فما أن أقبل الشتاء، حتى أمكنه أن يقتصد بعضا من المال: ثلاث (روبلات) وخمس (روبلات) وعشرين (كوبك) يدين بها بعضا من زبائنه!
وتهيأ ذات يوم ليؤم القرية، فارتدى (مطرف) زوجته على قميصه، ثم لبس ثيابه الأخرى فوق ذلك، ووضع الثلاث (روبلات) في جيبه، واقتطع لنفسه عصا يتوكأ عليها، واتخذ سبيله إلى القرية بعد أن أفطر. . .
وفي طريقه راح يحدث نفسه: (سوف أحصل على الخمس (روبلات) وأضيفها إلى الثلاث (روبلات) فيصير ما معي كافيا لشراء مقدار من الصوف لمدرعة الشتاء!)
ولما بلغ القرية بعد لأي طرق باب أحد الفلاحين فلم يجده بالدار، ووعدته زوجة الفلاح أن النقود سوف تصله في الأسبوع القادم! وطرق (سيمون) باب فلاح آخر، فأقسم له هذا أن يديه صفر من المال، وسيدفع له كل ما معه (عشرين كوبك) قيمة إصلاح حذاء قام سيمون برتقه!
فحاول (سيمون) أن يشتري (صوف المدرعة) بما معه، وبقرض يؤديه بعد حين، فرفض البائع قائلا في صوت ساخر؛ (إيتني بالمال، وسوف يكون لك ما توده من الصوف، فإنا نعلم كيف يحصل المرء على دينه!)
فأحس سيمون بالخور يسري في جسده، والقنوط يتسرب إلى فؤاده، فقام إلى حانة حيث نهل كأسا من الخمر بعشرين (كوبك)، وقفل راجعا إلى داره!
كان للخمر أثرها في سيمون، فسرى الدفء في عروقه، وزادت من قوته ونشاطه. فراح يفكر: (إني أحس بجوانحي تختلج دفئا وحرارة، مع أني لست مرتديا مدرعة من الصوف، لقد تناولت قطرة من الخمر فكان لها أثر النار تسري حرارتها في عروقي، فلست بحاجة(684/53)
لمدرعة من الصوف أقي بها زمهرير الشتاء!!)
ليت زوجتي ترتشف قليلا من الخمر. فتحس ما أحس!! صه. . . ويلك. . . أتود أيها الرجل أن تقضي عليك زوجتك إن خبرتها أنك تناولت بعضا من الخمر. . . إنها سوف تحطم الآنية على رأسك الفاضل. .! يا له من سائل عجيب يدفع النشوة إلى الروح والحرارة إلى الجسم!!. لست أبالي شيئا. . . ولكن زوجتي سوف تكتئب ويؤلمها أني عدت دون صوف المدرعة!. ليس علي من جناح!!. . . فقد طلبت حقي فأنكره واحد. وأعطاني الآخر عشرين (كوب). . . هه. . . وماذا أنا فاعل بها.؟! لست أدري غير أن أشرب بها. . . إن الواحد من هؤلاء يملك الأرض والدور والحيوان. . . ثم يبخل علي بحقي حقي الذي أعمل سحابة يومي وجنحا من ليلي كي أظفر به. . . فإذا ما انتهيت أنكروه علي يا للعار. إن الواحد منهم لينعم بالدقيق والطعام أما أنا فأنفق ثلاث (روبلات) كل أسبوع للخبز وحده. . . فإذا ما عدت إلى الدار وجدت الخبز قد أكل فأبيت على الطوى!. وهل أملك غير ذلك؟! ومن أين آتي بالنقود؟! أمن (هؤلاء) الناس الذين لا يقيمون عن الطعام إلا وقد أصيبوا باللظة.!!)
كانت تلك الأفكار والخواطر تضطرب بين جوانحه. حين أدرك - في سيره - الكنيسة في منعطف الطريق. فرأى جسدا كالثلج في نصاعته!. فراح ينعم النظر دون أن يتحققه أيكون ثورا!. لا ليس شبيها بالثور.! إن له رأسا يشبه رأس لإنسان! بيد أنه ناصع البياض!. . .)
واقترب منه حتى أمكنه أن يجتلي الأمر!. وكم كانت دهشته حين أدرك أنه إنسان عار. . . يجلس إزاء الكنيسة في سكون يدفع الرهبة إلى القلب. . . فطار فؤاده هلعا، وتلبسه الخوف فزعا: (لا بد أن أحدا قد قتله. . وخلفه هنا. . سوف أمسك عليّ فضولي أو أصاب بأذى. . .)
وأنطلق في سبيله ولكن التفت إلى ما وراءه فرأى الرجل الجالس ينظر إليه. . . فراع ذلك سيمون وزاد من جزعه. (أأعود إليه أم أنطلق؟! إن أنا عدت إليه فسوف يحدث مالا يرضيني. بل يجلب الضر إلى نفسي فما وجدت ثمت إلا لسوء. . . ولعله يثب علي ويخنقني. وحينئذ لا تنفعك رحمتك ولا تشفع لك شفقتك. . . وماذا أنا فاعل بإنسان عار؟!(684/54)
لست بمستطيع أن أخلع عليه ما لا أملكه. دعه فللسماء شأن معه!) وأسرع سيمون في خطاه لا يلوي على شيء. بيد أن ضميره أخذ يؤنبه. فتوقفت خطاه. وأخذ يهس في حيرة ويهمهم في وجل: (ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! هب أن الرجل يلفظ آخر نفسه!. ألا تتقي الله في فرارك منه ورغبتك عن عونه!! أأنت في وفر من المال حتى تخشى أن تسرق؟! يا للعار يا سيمون.!) فانقلب آيبا إلى الرجل ونفسه مضطربة وقلبه يخفق. . .
دنا سيمون من الرجل الغريب، وراح يجيل الطرف فيه. . فرآه شابا على جمال وحسن! وليس على جسده أثر لجرح أو شج وقد جلس ثم معتمدا ظهره إلى جدار الكنيسة لا يرفع طرفه إلى سيمون من الوهن والضعف. فلما أحس بسيمون رفع رأسه إليه، وألقى إليه بنظرة. كانت كافية لأن تستدر كل ما يختلج بين جوانح سيمون من عطف ورفق وحب. فخلع حذاءه. وألقى عن نفسه رداءه. وقال في صوت خفيض فيه حنان وفيه رأفة: (ليس ثمة مجال للحديث!!. هيا ارتد هذا الثوب.) وأمسك سيمون بمنكبي الرجل، وأعانه على النهوض. . .
فلما نظر إليه - حينما انتصبت قامته - ألفاه. . . مديد العود. . . جميل الوجه. . . فألقى على كتفيه رداءه وأعانه على لبسه وهم (سيمون) يخلع قبعته ليضعها على رأس الغريب. فأحس برأسه يقشعر من البرد فقال في نفسه: (أني أصلع!. أما هو فله غدائر معقوصة فلا خوف عليه!. بل يحسن أن ألبسه حذائي. . .) فأقر قبعته على (صلعته) وأجلس الرجل. وجعل حذائه في قدميه. . . وهو يقول في جرس طيب عطوف (هيا. أيها الصديق. استشعر الدفاء ودع باقي الأمور تجري وفق مرادها أفي قدرتك أن تسير؟!)
فنهض الرجل ونظر في امتنان إلى سيمون دون أن ينبس ببنت شفه فقال سيمون: (لماذا لا تتكلم؟! أن البرد لقارص فلا بد من العودة إلى المنزل توكأ على عصاي وإلا أحسست بوهن وخوار. فاعتمد على ساعدي. . .)
وخطا الرجل في تعب وجهد. وفي خلال السير رفع سيمون صوته قائلا:
(من أين أنت؟!.)
- لست من هذه البقاع!)
(كذلك حدست. فأني أعرف القوم هنا.! ولكن كيف قدر لك أن تصير هكذا جوار(684/55)
الكنيسة!؟)
(لست أدري!)
- أساء أحد معاملتك؟!
- لم يتعرض لي أحد بسوء؟ لقد عاقبني الله. . .
دون ريب. . . هذا هو حكم الله. سوف تجد عيشا ومأوى أينما ذهبت! فأين تروم!)
- لست أدري!.)
فتولى سيمون الدهش. فما كان الرجل صاحب سوء أو خبث وتجلى من لهجته أنه خالص القلب. ولكنه لا يعلم عنه شيئا. (من يدري ما سوف يحدث!!) والتفت إلى صاحبه وقال: (حسنا!. تعال إلى داري على الرحب والسعة.!)
هبت الريح عاتية، فياضة بالصقيع. فسرت القشعريرة في جسد سيمون بعد أن أفاق من نشوة الخمر وذهبت عنه حرارته فأخذ يدثر نفسه برداء زوجته بعد أن خلع رداءه. . . وراح يتحدث إلى نفسه: -
(ولآن، وقد ذهبت الخمر، أعوزنا صوف المدرعة، لقد انطلقت اليوم كي أعود بالصوف، فما عدت بالصوف ولا بردائي أنا، وفوق ذلك أتيت معي برجل عار! سوف تستاء (مترونا) من ذلك!)
وحينما جالت بفكره (مترونا) زوجته أحس بالانقباض والألم يتغلغل في جوانحه، بيد أنه عندما ذكر صديقه الغريب ونظرته إليه في امتنان وحمد رقص قلبه بهجة ومراحا. . .
نهضت (مترونا) زوجة سيمون. . . ذلك اليوم بعبء واجبها المنزلي خير نهوض وانتهت من عملها مبكرة. . . قطعت الأخشاب. . . وحملت الماء. . . وأطعمت الصغار. . . وتناولت هي وجبتها. . . وجلست ترقب أوبة زوجها. . . وراحت تسال نفسها:
(أيكفي الخبز. . . أم عليها أن تعمل بعضا منه الآن. . . لو أن (سيمون) تناول طعامه في المدينة. . . ولم يكن في حاجة للخبز في العشاء. . . فسوف يمتد أجل الخبز يوما آخر. . . لست بقادرة اليوم على أن أصنع خبزا. . . وسوف أدبر كل شيء حتى يكفينا إلى يوم الجمعة القادم. . .). . ووضعت مترونا قطعة الخبز الباقية في مكان حريز. . . وجلست ترتق ثياب زوجها. . . وفي غضون ذلك راحت تفكر كيف يشتري زوجها صوف(684/56)
المدرعة كي تقيهما برد الشتاء. . .
(آه. . . لو أن البائع لا يخدعه. . . أن زوجي لغرّ. . .! سهل على من يقوده. . . انه لا يخدع أحدا. . . ولكن الطفل يستطيع أن يعبث به. . . ثماني روبلات مقدار كاف لشراء أجود الأصواف وأمتنها. . .! كم كنا نرتعد بردا ونرتجف من الصقيع في الشتاء الماضي. . . وما كنت أستطيع أن أهبط النهر أو أذهب إلى مكان آخر ولكن لقد بكر سيمون في الذهاب!! وما عاد إلى الآن. . . آمل أنه لم يذهب إلى الحانة!!.
ما كادت (مترونا) تردد هذه الخواطر في ذهنها. . . حتى طرقت أذنها أصوات وأحست أن بعضهم دلف إلى الدار فقامت تجتلى الأمر. . . فأبصرت رجليه: سيمون زوجها، وشخصا آخرا. عاري الرأس ينتعل حذاء زوجها!! لم تره من قبل!.)
وحينما لاحظت أن زوجها تفوح منه رائحة الخمر. . . وليس عليه رداءه. . . ولا يمسك بيده حزمة من الصوف. . . أخذ مرجل غضبها يفور. . .
وأفسحت لهما حتى دلفا أمامها، ثم تبعتهما. . . ووقع بصرها على ذلك الرجل الغريب وقد لبس رداء زوجها. . . فلما دخلا الغرفة وقف الرجل الغريب لا يتحرك ولا يرفع بصره إليها. . . فقالت في نفسها (لعل السكر أخرسه وذهب بعقله. . .)
وعبست بوجهها وقطبت جبينها. . . ووقفت جوار (التنور) ترقب ما سوف يعملان. . .!
وخلع (سيمون) قبعته. . . وجلس على أحد المقاعد. . . وكأن الحال يجري على ما يرام.
- (هيا مترونا!! أن كان العشاء معدا؟! فأتبنا به.!) فزمجرت (مترونا) كاللبؤة الغاضبة. . . ولم تتحرك من مكانها جوار التنور - فرأى سيمون بوادر الشر تلوح في وجه زوجته. . . فأراد أن يهدئ من روعها ويظهر أنه لم ير شيئا. . . وقدم لصاحبه كرسيا وقال له في مرح (اجلس ودعنا نصيب شيئا من الطعام. . .! هيا (مترونا) أما أعددت لنا شيئا؟!)
كانت نفس مترونا تلتهب غضبا وتغلي حنقا فانفجرت قائلة:
- (بلى. . . لقد أعددت الطعام. . . ولكن ليس لكما. . .! يخيل لي أنك أنفقت نقودك في الشراب. . . لقد ذهبت كي تحضر صوف المدرعة. . . فما عدت إلا ومعك شريد عار عربيد. . . ليس لدي طعام للسكارى. . .!)
- (كفى مترونا. . . أمسكي عليك لسانك. . .! يحسن بك أن تسألي أي إنسان هذا؟)(684/57)
- بل يحسن بك أن تخبرني ماذا فعلت بالنقود؟!)
فأخرج (سيمون) الثلاث (روبلات) من جيبه وقال: (ها هي ذي النقود. . لم يؤد (تريفنوف) ما عليه. .! ووعدت زوجته بأنه سوف يدفع. . .) فلم يهدئ هذا من غضب مترونا. . . فهو لم يحضر الصوف. . . بل أنه ألبس وأحدا عاريا ثوبه وأتى به إلى بيته. . . فاختطفت النقود من يده لتضعها في مكان أمين وقالت لزوجها. . . (ليس عندي طعام. . . وما بمقدورنا أن نطعم كل سكير عار في العالم. . .!)
- قلت كفى مترونا خير لك أن تسمعي أي إنسان هذا -!)
- (أمن الحكمة أن أنصت إلى سكير؟! لقد كنت اعرض عن الزواج بك لهذا. .!)
حاول سيمون أن يخبر زوجته أنه لم يشرب إلا بالعشرين (كوبك). . . وحاول أن يبصّرها بالحالة التي وجد عليها صاحبه الغريب. . . بيد أن مترونا كانت تنطق بسرعة هائلة. . . وتذكره بأشياء مضت منذ عشرين عاما. . . وراحت تتحدث وتتحدث، وأخيرا أمسكت بسيمون وراحت تصيح:
(أعطني ثوبي. . . إنه الوحيد الذي أملكه. . .! وقد أعرته لك كي تحضر صوف المدرعة. . . ناولنيه أيها الكلب الأجرب. . . وليعبث بك الشيطان!!.)
فأخذ سيمون يخلعه. . . ثم ناوله إياها. . . فألقته على رأسها عمت بالخروج إلا أنها توقفت. . .! وقد جال في نفسها أن تعرف سر ذلك الرجل الغريب فقالت لسيمون:
لو أنه رجل مهذب لما أعجزه أن يستر نفسه بثوب يشتريه! أيمكنك أن تخبرني أين عثرت (عليه)؟!)
- هذا ما كنت على وشك أن أخبرك إياه. . . حينما أدركت الكنيسة وأنا في طريق العودة - أبصرته جالسا عاريا يكاد أن يتجمد من البرد والصقيع، فقد بعثني الله إليه قبل أن يقضى عليه الجوع والعرى، فماذا كان علي أن أفعله سوى أن أخلع ثوبي وألبسه إياه وآتي به معي؟ فما كان له من مأوى!! ما الذي يدرينا كم كان يلاقي من العذاب الشديد؟ لا تغضبي يا مترونا، أن هذا ذنب غير مغتفر، واذكري أننا سوف نموت جميعا يوما ما!)
وارتفعت ألفاظ الغضب إلى شفتي (مترونا)، ولكنها ما لبثت أن ماتت قبل أن تلفظها، فقد نظرت إلى الرجل الغريب وهو جالس في سكون ووداعة على مقعده، يداه معقودتان على(684/58)
فخذيه، ورأسه ساقط على صدره، وعيناه مغمضتان، وجبينه مقطب، كان الألم ينهش فؤاده فينعكس على صفحة وجهه!
فصمتت (مترونا) على مضض. . . وقالت سيمون في صوت شاع فيه الرجاء والأمل: ألا تحبين الله يا مترونا؟!.)
فما سمعت (مترونا) هذه الكلمات، وألقت طرفها ثانية إلى (الصاحب الغريب) حتى فاض قلبها إيمانا. . . وراحت الرحمة تدب في نفسها. . . وأخذ الحنان والعطف يهز فؤادها. . .!
فذهبت إلى (التنور) وأتت بالطعام. . . ووضعت قدحا على المائدة وصبت فيه بعض الشراب الساخن ثم أحضرت قطعة الخبز من مخبئها ومعها سكينان وملعقتان. . . وقالت في صوت يفيض عطفا. تفضل فتناول بعض الطعام. . .!
وأدنى سيمون المائدة من صاحبه. وفتت الخبز ووضعه في المرق وراحا يأكلان. . وجلست مترونا في جانب من المائدة! ترقب الضيف في نظرات فاحصة. فزاد عطفها عليه ورأفتها به.
وحينئذ أشرق وجه (الغريب) وأضاء. فكأنه البدر يرفل في هالة بالسماء. . ورفع عينيه النجلاوين إلى (مترونا) ونظر أليها نظرة وديعة. وافتر ثغره عن ابتسامة حلوة عذبة. . .
(يتبع)
مصطفى جميل مرسى(684/59)
العدد 685 - بتاريخ: 19 - 08 - 1946(/)
معجزة تولد وتموت. . .!
للأستاذ عباس محمود العقاد
تسامع الناس في العالم العربي بقصة (الإنسان الغزالي) الذي وجه الصيادون في بادية الشام منذ أسابيع.
ولا نعيد القصة، ولكننا نسجل الأعاجيب التي انطوت عليها لو صحت روايتها الأولى:
وهي أن ذلك الإنسان الغزالي - وهو طفل في الثانية عشرة - كان يسبق السيارات ويعدو مع الغزلان بسرعة ثمانين ألف متر في الساعة، ونزل بعضهم بهذه السرعة إلى خمسين ألفاً وهي ليست بالشيء القليل؛ لأنها خمسة أضعاف السرعة التي يستطيعها العداء الرياضي بعد المرانة العلمية والاجتهاد الطويل.
والأعجوبة الأخرى أن هذا الطفل قد تبنته ظبية في البادية وتعهدته بالرضاع والحضانة حتى نما وكبر وأصبح يهيم معها في البادية كما يتبع الخشف أمه في أسراب الفلاة.
وتمت الأعجوبة بوصف شفتي الطفل ووصف قدميه. فإن بعضهم أبى إلا أن يجعلها (حيوانية) في كل شيء. فالشفتان مشقوقتان لا تتكلمان ولكن تبغمان. . . والقدمان ظلفان أو أشبه الأقدام بالأظلاف.
وأسرع الناس إلى التصديق، وأسرع المعقبون إلى الإضافة والتعليق، وأوشكت أسطورة الأسبوع أو الأسبوعين أن تفوق في الغرابة أساطير المئات والألوف من السنين.
ولا عجب فيما قيل من أن الطفل كان يأكل الحشائش والأعشاب ويستطيبها، وأنه ظل في المستشفى الذي نقل إليه معرضاً عن الطعام الذي يأكله الآدميون. فإن الآدميين يأكلون ألواناً من العشب والخضر في الحاضرة ويكتفون بها عند الضرورة وقد يستطيبونها ويكتفون بها لغير الضرورة.
ولكن العجب كل العجب في تلك السرعة المزعومة، وفي تبني الحيوان للطفل الإنساني بغير إرشاد وتدريب. فقد يحدث هذا برياضة الحيوان عليه زمناً يطول أو يقصر، ولكنه لا يحدث في البادية من حيوان بين قطيع يظل وحده متكفلا بالرضاع بين سائر اخوته. فأما إذا كان القطيع كله مشتركا في الرضاعة على التناوب فذلك أعجب ما يروى من ضروب الكفالة الحيوانية بالإجماع.(685/1)
وتساءل المعنيون بالرياضة عندنا عن السر في تلك السرعة وهم بين مصدق ومكذب، فقال بعضهم: لعلها غريزة الجماعة الحيوانية تسري بعدوى الملازمة من الحيوان إلى الإنسان!
وقال غيره: لعل السر في الحشائش والأعشاب التي قصر عليها الغلام غذاءه. فهي على ما يظهر أصلح لمرونة المفاصل والعضلات من اللحوم والأغذية المطبوخة التي يأكلها الرياضيون!
والواقع أن اللحوم لا تعوق آكلها عن العدو لأن كلب الصيد من أسبق الأحياء عدواً وأصبرها على الجري الطويل، ولأن العرب كان فيهم عداءون لم يأكلوا شيئاً غير اللحوم والألبان، وإن أكلوا الحبوب والخضر ففي الندرة بين الحين والحين.
ونعرف في أعلى السودان قبائل قد اشتهر أبناؤها بعبور الصحراء، أو - العتمور - كما اشتهروا بالجلد على الجري والركوب وهم يأكلون اللحوم ويعافون كل (ملاح) أو كل خضر مطبوخ معالج بالملح على الطريقة السودانية. ومن كلام شاعرهم يفتخر:
(ولا نشرب المدام نسكر ... ولا بنا كل الملاح لا خضر)
وفيما بيننا أمثلة غير قليلة على السباقين من آكلي اللحوم أو الذين لا يصومون عنها على الأقل لغرض من هذه الأغراض.
فليس في الظنون والأوهام - فضلا عن الحقائق والمعلومات - تفسير صالح لتلك الأعجوبة المزعومة أو تلك المعجزة التي شاء الله أن تصاب (بالسرعة) في الزوال، وهي سرعة لا تؤذن بالجدال
فبينما الناس في هذا التساؤل إذا بمندوب المصور في بيروت يزور الصبي في مستشفى (ابن سينا) الذي نزل فيه بدمشق فلا يلاحظ عليه شيئاً من الشذوذ، وقد ابتسم الصبي له وأظهر له قدميه فلم تكن بهما خشونة مستغربة؛ بل كانت لها نعومة كنعومة أقدام الأطفال. وعلم المندوب من الطبيب (أن الصبي مر بالدور العادي في طفولته، وأن أمه أرضعته حتى فطمته، وأن قصة رضاع الغزالة وهم وخرافة).
وقد فسر مدير الصحة العامة بدمشق هذه الحادثة بأن الصبي قد تاه في الصحراء، وربما تعلق بسيارة وصلت به إلى الموضع الذي وجد فيه، أو ربما خرج في صحبة بعض البدو ثم ضل الطريق، ولا يستدل منه على حقيقة الأمر لأن المسكين مصاب ببكم قديم. . .(685/2)
ولعله ينطق بعد العلاج.
وهكذا ماتت الخرافة في سرعة جديرة بموضوعها لائقة بشأنها، فتلقى الناس موتها بالأسف والخيبة لأنه حرمهم أعجوبة طريفة، وهم لا يشبعون من الأعاجيب حتى في عصر الأعاجيب، وأخصها السرعة التي يصح فيها قول أبي العلاء:
ولما لم يسابقهن شيء ... من الحيوان سابقن الظلالا
فهم يودون لو تنقلب الدنيا كلها أعاجيب على شريطة أن تحفظ فيها (معجباتها)، ولا تصبح كعجائب المتنبي التي كثرت حتى لا عجائب فيها. وليتهم يجربون هذا الانقلاب أسبوعاً واحداً ليعلموا أن الوقائع والمألوفات لها (قيمة) حقيقية بالعرفان فلا يتبطروا عليها!
والظريف حقاً في قصة هذا الصبي أننا رأينا له صورتين. فإذا هو أشبه إنسان بملامح غزال؛ سواء في دقة الجوارح أو في تركيب الجمجمة أو النظرة المجفلة والوجه المسنون. فلو ظهرت خرافته في عصر من العصور الوسطى لكانت هذه الصورة مصدقا لكل إشاعة من إشاعات الخرافة المختلفة، فيقول من شاء إن لبن الرضاع ينقل الشبه من الحيوان إلى الإنسان، ويقول من شاء أن مولود غزالة بخارقة من الخوارق، ويكون حظه من التصديق والإعجاب أتم وأعظم من حظ القائل بانتقال الملامح مع الرضاع، بل يحق له حينئذ أن يشهر سيف التكفير على من ينكر هذه الخارقة ويشك في إمكانها، لأنه يستكثر تلك الخوارق على قدرة الله.
ومن خصائص هذه الحالة في عصرنا أن تقع في أيدي الأطباء الذين يعرفونها ويفسرونها وقد يوفقون لعلاجها، ولكنها لو تقدمت في الزمن لكان أكبر الظن أن تقع في أيدي المشعوذين الذين يستغلونها ويبالغون فيها ويجدون من إشاعات الناس التي يتطوعون بها ما يزيدها ويساعد على ترويجها. . . فهذا الطفل إذن قديس مبارك قد أعده الله للولاية في البرية وحرمه النطق ليكتم أسرار الغيب ولا يبوح بها إلا بترجمان على حسب الوحي والتقدير، وهذا البغام هو اللغة التي يفسرها الحواريون المحيطون به ولا يقدر غيرهم على تفسيرها، وهذه الظبية - ويحضرونها يومئذ في صحبته! - هي أم القديس التي خصت من بين الحيوان بهذا الشرف العظيم، ويباع شعرها بل بعرها للبركة (كأنه حب فلفل. . .) أو يزيد.(685/3)
وينقضي عمر الطفل وتنطوي بعده الأيام، فإذا هو صاحب ضريح، وإذا بالحواريين يتوارثون الأسرار ويترجمون عنه من وراء الصفائح والأحجار، وربما بيعت ذرية الظبية بعدها - إن سمح لها مقامها القدسي بالزواج - فغالى الناس في أثمانها وتفاخروا باقتنائها في المدائن والأمصار.
ومما لا ريب فيه أن ذلك الضريح الذي حيل بينه وبين الظهور لن يقل في قداسته ولا في استحقاقه للزيارة والتبرك وقضاء الحاجات عن ألف ضريح تمتلئ بها الآن مدائن مصر والشام والعراق وسائر بلاد الإسلام، بل لن يقل عن ألوف الأضرحة التي يتجر بها الدجالون على اختلاف الأديان.
فالحمد لله! لقد نجا الشرق الإسلامي من معجزة بغير معجزة، وسلمت بلادنا العامرة بالقديسين من قديس جديد.
عباس محمود العقاد(685/4)
بعد عشرين سنة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
قلنا: قف لحظة بنا يا قطب. لقد هلكنا من التعب
قال القطب: امشوا. .
وضغط على (الميم) ومد (الشين) مدة ساخر بنا، وأوسع خطاه فصمتنا وتبعناه مرغمين
وعدنا نمشي في هذه البرية الواسعة، وقد أنتصف الليل وغاب القمر، واحتوانا الظلام بسكونه الموحش وسواده المطبق. . . وثقل علينا هذا الصمت، فقال القطب: غنوا. . .
وحاولنا أن نغني كما كنا نغني في أول الليل، ولكن التعب والوحشة والنعس، كل أولئك كان يحبس أصواتنا ويمسك ألسنتنا، فخرج الصوت ضعيفاً متقطعاً ثم هبط حتى إختفى، ورجعنا إلى الصمت. . .
وتجسمت وحشتنا، حتى كانت الجبال البعيدة تظهر لنا في ظلام الليل كأنها أشباح الرعب، والأشجار أمثال العفاريت الشواخص، والسواقي التي كنا نمر عليها كان ماؤها يبدو لنا أسود يملأ خريره القلوب رهبة. . . وكذلك أحال الظلام كل ما هو جميل في الوجود بشعاً مرعباً. . .
ولاح لنا من بعيد ضوء يتراقص على حاشية الأفق، فقال القطب:
- هذه هي (التكية)!
فسرى عنا، وتجددت قوانا، وعلمنا أنا قد بلغنا آخر المرحلة، ودنا المنزل
وكان ذلك عام 1925. وكانت إحدى رحلاتنا مع (القطب)
وكنا نقوم بهذه الرحلات قبل أن يعرف فينا نظام الكشفية وقبل أن يدخل بلدنا، نقطع فيها ما لا تقطعه كشافة على وجه الأرض، نسير خمسين كيلا في اليوم نصعد في الجبال أو نتسلق الصخر، نخوض ظلام الليل وحر الهاجرة، نحمل أثقالنا على ظهورنا، نتعرض للوحوش واللصوص والمخاطر، حتى لم تبق بقعة حول دمشق قريبة أو بعيدة إلا بلغناها، ولا قرية إلا دخلناها، ولا عين إلا وردناها، وكان قائدنا (القطب)، وليس (القطب) اسمه، ولكنه لقب لقبناه به أخذاً من الخرافة الصوفية المشهورة. . . واسمه الشيخ حسين، وهو خطاط وإمام مسجد ومعلم صبيان متقشف زاهد يقبل من الدنيا كل ما جاءته به، فيأكل(685/5)
راضياً ما يجد، ويلبس ما يلقى، ويعرف ربع أهل دمشق ويعرفه نصفهم. ومن مزاياه أنه أقدر الناس على السير، حتى إنه ليستطيع أن يقطع عمره كله بالمشي. . .
. . . وكان قد خرج بنا فجر هذا اليوم من دمشق إلى الربوة فدمر، فالهامة، فالجديدة، فبسيمة، فالفيجة - أسماء رياض من عرفها من قراء الرسالة علم أن الله لم يخلق في الأرض أجمل منها، ومن لم يعرفها فيحفظها في ذاكرته، فلعل الله يكتب له السعادة يوماً بزيارة دمشق فيسأل عنها حتى يراها
فلما بلغنا الفيجة وهي على عشرين كيلا من دمشق، وفيها العين العظيمة التي تسقي دمشق ماء عذباً صفاه الله ونقاه، فلم تصفه آلة ولا مصفاة، أقمنا فيها إلى المساء، فلما أذن المغرب صليناه وسرنا على اسم الله، فمررنا على دير قانون وسوق وادي بردى وتلك القرى، نسلك قرارة الوادي العميق تارة، ونركب الجبل تارة أخرى، وكنا أقوياء في أول الطريق، نسير بجد ونشاط، وكان القمر الوليد يضوئ لنا الطريق، فلما مضت ثلاث ساعات من الليل غاب القمر، وعم الظلام، ونال منا التعب، فما قاربنا التكية حتى كدنا نسقط إعياء. . .
وشد قرب التكية أعصابنا، فغنينا أغنية وطنية معروفة، فلم نسمع إلا صوت المتراليوز
فقال القطب: خاف منا الكلاب، غنوا يا أولاد!
وكانت الثورة السورية قائمة، وهؤلاء (الكلاب. . .) إنما هم الفرنسيون ولهم مركز قوي في التكية لحماية معامل شركة الكهرباء والترام، وكانوا يقتلون في تلك الأيام البريء وهو في داره، فكيف بمن يقدم عليهم وسط الليل منشداً الأناشيد الوطنية؟
واستمر صوت الرشاشات ونحن مستمرون في إنشادنا وسيرنا فرحين بهذه التسلية الجديدة التي أنقذتنا من ملال الطريق. وأشهد أن الفرنسيين مجانين، ولكنهم عقلوا هذه المرة، لأنهم وجدوا من هو أكثر جنوناً منهم، وهو نحن. . فوقفوا الضرب، وأقبل علينا واحد منهم، فأنار مصباحه ونظر إلينا. . .
وكان ركبنا مؤلفا من القطب، والشيخ شريف. . . وهو مدير مدرسة أهلية، وسلطان الشاي الأخضر في دمشق، ومؤلف أناشيد، وهو أسرع الناس غضباً وأسرعهم رضا، يشتعل كالبنزين وينطفئ كالبرق، والشيخ طه. . . وهو معلم ولكنه كان ضابطاً في الجيش قبل أن يكون معلماً، وأنا، وسبعة من تلاميذ الشيخ شريف. . .(685/6)
لقد كنا ك (ركب النميري)!
فلما رآنا ورأى هذه الهيئات العجيبة، وهذه الأحمال التي كنا نحملها والتي يعجز عن حملها ثلاثة بغال. . رأى قوماً ليسوا من الثوار ولا من أهل القتال، فماذا يكون هؤلاء، وماذا يدفعهم إلى السير في هذه البرية نصف الليل؟
وسألنا - وكنا نعرف من الفرنسية كلمات - فتكلمنا بها، وكنا نكرر كلمة (بروموناد) أي نزهة. . . فلم يشك الرجل أننا مجانين، وأدخلنا المخفر وجاء بترجمان فكلمنا، فلما عرف قصتنا كاد يقضى عجباً، وسمح لنا بالمسير. . .
قال القطب: إلى أين نسير؟ إننا نريد أن ننام هنا!
قال الضابط: هذه منطقة عسكرية. ممنوع!
قال: إذن أعطونا طعاماً، وقطرة لعيني فإن بها رمداً، وعلبة كبريت. فأعطوه ما يريد
فلما خرجنا، قال القطب:
- أرأيتم كيف غزوناهم وأخذنا طعامهم؟ آه. لو كان معنا سلاح لذبحنا الكلاب. . . والآن. لم يبق إلا أن نمشي إلى (بلودان)
وكانت بلودان في رأس جبل لا نستطيع تسلقه في أقل من ساعتين، وبيننا وبين الجبل مسيرة ساعة، والإعياء والنعس بالغان منا، ولكن لابد مما ليس منه بد. . .
ولما بلغنا بلودان كان السحر قد أقترب، ولم يكن يحسن أن نقرع باب أحد من الفلاحين في تلك الساعة، فقصدنا المسجد وجرب القطب مفاتيحه في الباب فانفتح لنا، فاستلقينا من التعب على الأرض، ووضع كل رجليه تلقاء رجلي الآخر، والتففنا ببسط الجامع ونمنا. . .
ولما جاء المؤذن لأذان الفجر، فتح الباب ودخل يتعوذ، وأوقد عود الكبريت، ونظر فرأى ما هاله، وما قف له شعره، رأى جنا نائمين كل جني طوله خمسة أمتار وله رأسان رأس من هنا ورأس من هناك، ووقف المسكين مكانه وقد ألصقه الرعب به فما يملك أن يريم، وجاء بعد قليل رجل آخر فقال له:
- ما لك لا تؤذن يا أبى عبده؟
قال: أ. . . أ. . . أ. . .(685/7)
وأشار إلينا وعقد الخوف لسانه، فنظر الآخر فشده. .
وأحسسنا نحن فقمنا، وعرف القوم القطب، فأقبلوا عليه يعاتبونه على ما صنع بهم. . .
ونهضنا كما ينهض الجمل نشط من عقال، وقد وجدنا لهذه النومة القصيرة على الحصير القاسي بعد التعب الشديد ما لا نجده لنوم ليلة كاملة في البلد على السرير، ووقفنا للصلاة، وكان قد اجتمع فيها أهل البلد كلهم لا يتخلف عن الصلاة أحد، وما أهل البلد؟ إنهم بشيوخهم وكهولهم وشبابهم لا يعدون الأربعين. . .
فلما سلمنا أخذوا يتسابقون إلى دعوتنا، فقال القطب:
- القاعدة!
وكانت القاعدة أنه لا يستضيف أحداً ولا يدخل داراً، ولا يرزأ أحداً شيئاً، وإنما يقصد المنازِهَ والعيون، وكانوا يعرفون هذه القاعدة فتركوه، فذهب بنا إلى (عين أبي زاد). . .
ومررنا على القرية فإذا هي قرية صغيرة خاملة فقيرة، أهلوها على الفطرة النقية، لا يعرفون الحسد ولا الغش ولا السرقة، ولم يسمعوا بالقمار ولا الخمر، وليس فيهم من يقرب الزنا أو يفكر فيه. والقرية تطل على منظر من أعجب مناظر الدنيا، فهي على رأس جبل تقوم في أسفله (الزبداني)، وهي القصبة، وفيها دار الحكومة والقائمقام والقاضي وقائد الدرك، وأمامها سهل الزبداني كله إلى منبع (بردى)، وعن يمنها وادي (سرغايا)، وعن شمالها بقين ومضايا، ومن أمامها مدخل وادي بردى. . . وفيها المياه العذبة، والعيون الصافية، وفيها العنب والتين والتفاح الذي لا نظير له، ولكنها منقطعة عن الدنيا لا يكاد يصعد إليها أحد، لعلوها وضيق الطريق وصعوبته، وقلة الدواب، وكان وجه القرية الشيخ سليمان الرنكوسي وهو رجل ذو مزايا ومناقب، فمن مناقبه أنه إمام المسجد، وخطيب الجمعة، ومعلم الأولاد، وكاتب الرسائل والعرائض، وبائع القماش، ومصلح بوابير الكاز، ومقسم المواريث، ومسجل عقود البيع، وقاضي البلد. . . فكأن أهل القرية أسرة واحدة تقية فاضلة، والشيخ سليمان هو ربها!
وبلغنا العين، ونصبنا الخيمة التي كنا نحمل أجزائها مفككة، وأوقدنا النار ونصبنا القدر، وفتحنا الحقائب فأخرجنا اللحم والخضر، فطبخنا وأكلنا وشربنا الشاي الأخضر، ثم جلسنا أمام العين جلسة لو تعبنا أضعاف ذلك التعب لكانت مستحقة له، معوضة عنه. . .(685/8)
ورأيت الفلاحين يتوافدون على القطب: هذا يأتيه بعشر تفاحات، وهذا يهدي إليه قبضة من التين اليابس أو الزبيب، وهذا يحمل إليه كأساً من اللبن، فكان يقبل منهم ويثيبهم عليه، سكا كر ملونة، أو قضامةً على السكر، أو لوح صابون، ورأيت من يأتيه بشيء يأخذ عوضه ثم يعقد لا يذهب، فلما تكامل عددهم أخرج الشيخ كتاباً من خرجه، وجعل يقرأ عليهم ويعظهم، فتسيل دموعهم من خشية الله. . .
ومرت السنون على هذه الرحلة حتى نيفت على العشرين، وقطعتني الحياة وهمومها، وأسفاري وعملي في غير ديار الشام، عن هذه الرحلات، وباعدت ما بيني وبين (بلودان) فلم أراها بعد تلك الزورة. . .
. . . حتى إذا كان هذا الربيع المنصرم، لقيت (القطب)، فقال لي: أتذكر تلك الرحلة؟
قلت: نعم، أذكرها ولا أنساها
قال: هل لك في مثلها؟
قلت: قد تغيرت الدنيا يا قطب، ولم أستطيع أن أمشي، إن الناس يعرفوني. . .
قال: أمشي. . .
وشد (الميم) ومد (الشين) فأذكرني ليلة التكية، فشاقتني الذكرى فقبلت ما عرض علي. . .
. . . ولبسنا مثل ثيابنا تلك، وجمعنا من بقي من أصحابنا، ومشينا، فإذا الطرق التي كانت كأنها من جمالها معابر الفردوس ومسالك الجنان، والتي كنا نسير فيها فلا نلقى إلا الفلاحين يكرموننا ويحترموننا، صارت شوارع واسعة لا تنقطع السيارات فيها ساعة، وكلما مرت بنا سيارة أبطأت في سيرها ونظر من فيها إلينا، كما ينظرون إلى (عجائب المخلوقات)، ثم ولت عنا، ونحن نسمع منها ضحكات النساء الخليعات علينا، وضحكات شباب هم مثل النساء، وقذفت في وجوهنا غبارها ودخانها، وما ذنبنا إلا أننا نمشي على أقدامنا في حر الشمس. . . حتى أن الكشافين كانوا يمرون بنا في سياراتهم ويضحكون هم أيضاً علينا
ورأينا مرة فرقة كشفية تسير بجانب سيارتها الفارغة مشية عسكرية موزونة كمشية حرس هتلر الخاص تماما: شمال - يمين. واحد - أثنين. وهم ينشدون:
لا نهاب الزمن ... إن سقانا المحن
في سبيل الوطن ... . . . . . . . . . . . .(685/9)
فداست السيارة على مسمار، فانفجرت عجلتها، وكان لها مثل صوت البارود، فقطع إخواننا النشيد، وطاروا على وجوههم فلم تمر ثوان معدودات، حتى صار أشدهم حماسة على بعد خمسين متراً من (مكان الخطر)، هؤلاء الذين كانوا يمشون كمشية حرس هتلر الخاص ولا يهابون الزمان. . .
فقلت: يا قطب، أتذكر ليلتنا تلك والرشاشات؟. . . ألم أقل لك: لقد تغيرت الدنيا؟!
ووجدنا الأماكن التي كنا نسترح فيها، والتي كانت من طهرها كأنها معابد الجمال في الأرض، صارت قهوات وخمارات ما فيها لأمثالنا مكان، فكنا نبيت على الصخر، وعلى ظهور الجبال، حتى بلغنا (بلودان)، فمسحنا أعيننا وحسبنا أننا في حلم. . . أهذه بلودان؟ هذه المدينة العامرة، ذات الشوارع والقصور؟ أهؤلاء الشباب الذين يمشون متبخترين بأكمامهم القصيرة، وشعرهم المرجل المدهن المعطر، ووجوههم المصقولة، أهؤلاء هم رجال بلودان؟ وهؤلاء النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، أهن نساء بلودان؟!
وصارت ثيابنا وهيئتنا شهرة لنا، وصرنا ضحكت القوم، ولم نجد مكاننا نحط فيه، فسألنا فدلونا على الفندق
وجئنا الفندق الذي شادته الحكومة بأموال هذه الأمة المسلمة، لننزل فيه بالأجرة لا صدقة ولا إحساناً، وكان الفندق الضخم كأنه شعلة واحدة من النور، وكان في تلك الليلة فرقة راقصة بولونية. . . ولعلها يهودية. . . وقد فتحت قاعات القمار لكل داخل، وصفت كؤوس الخمر لكل شارب، وأزينت الغانيات لكل طالب، وانتشر اللصوص والنشالون وهم في ثمين الحلل وغالي الثياب، وعبث الوزراء في السهرة عبث الصبيان، ورقص القضاة مع المجرمين، وعكف المعلمون على موائد القمار، وأسلم كل زوجته لمن يراقصها ليضم أخرى بين ذراعيه، وتربع إبليس على المسرح يضحك فرحاً. . .!
ولما جئنا ندخل الفندق بثيابنا الوطنية، ثياب الأمة التي بنى بأموالها هذا الفندق، منعونا وأخرجونا!
فوقفنا، وجعلنا نفتش كأنما أضعنا شيئاً نفيساً. . . وهل شئ أنفس مما أضعنا؟
لقد أضعنا المسجد والصلاة والأمانة والطهر والقوة حين أضعنا تلك القرية الحقيرة. . . لقد كانت جاهلة ولكنها كانت فاضلة، وكانت فقيرة ولكنها كانت شريفة، وكانت بعيدة عن(685/10)
الحضارة ولكنها كانت بعيدة أيضاً عن رذائلها!!
وأحسست بدمعة سقطت على خدي، فأخذت بيد (القطب) وصعدنا في الجبل، نريد أن نهرب من هذه الدنيا، التي ليست دنيانا. . . لقد كانت لنا من عشرين سنة دنيا، وكان لنا فيها أصدقاء، فماتت وماتوا. . .!
أنا والمصحح:
إذا أنا تركت الكتابة يوماً، وكسرت هذا القلم، فيطلب القراء ثأره عند مصححي المجلات، فهم قاتلوه، بما يدخلون على آثاره من تصحيفات وتحريفات وتبديلات، وبما يقولون صاحبه أشياء لم يقلها، وقد رأيت العجب من المصححين، ولكن أمر مصحح الرسالة أعجب، فهو يصلح حتى أقول لا يفسد أبداً، ويفسد حتى أقل لا يصلح أبداً، فكأنه ملك الحيرة في يومي بؤسه ونعيمه، وهذا يوم بؤس له، ملأ العددين الأخيرين من الرسالة تطبيعات، وأعجب من هذا أنه يدخل الغلط على مقالاتي فأعبث بالتصويب فلا ينشر.
هذا، وستمر هذه الكلمة على المصحح الكريم، فليتكرم بإبقائها على ما هي عليه، فإذا أبقاها وقرأها القراء فليعلموا أنه رجل أمين منصف، وإني أشكره على أمانته وإنصافه. وأرجو أن لا يدرك أن هذا المدح رشوة له لينشر هذه الكلمة.
تصويب:
في مقالة (قضية سمرقند) في العدد 681
أخطاءفي العمودمن الصفحةسطرصوابها
يطربه17997 يطير به
المصري 2799 8المضري
وأن180013وإن
دخل 1 800 20 ودخل
للحرب 2 801 31 الحرب
أرعاد 2 8024 إرعاد
وفي مقالة (قصة أب) في العدد 682(685/11)
الخطأ عامود سطر صفحهالصواب
يضق 212823يضيق
فيه 2 17 823فيها
ابتلح 123824 انبلح
وصاحت: 2 21824 وصاحت.
الله 2 32 825 إلى الله
(دمشق)
علي الطنطاوي(685/12)
3 - من لغو الصيف
سوق الرقيق
للأستاذ سيد قطب
هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج) إنه يذكرني بسوق الرقيق. لم أر هذه السوق، ولكنني قرأت عنها، ورسمت لها في نفسي صورة إنها لو تجسمت ما كانت إلا هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج)!
إنني أسمع هنا صلصلة القيود ووسوسة الأغلال وسوط النخاس! لا ألمح هنا طلاقة الروح، ولا حتى فراهة الجسد! لا ألمح الحرية التي ترفرف بلا سدود ولا قيود!.
يخيل إلى في أحيان كثيرة أن هناك (نخاساً) هو الذي يعرض هذه الأجساد للشراء. أكاد ألمحه مختبأ خلف هذه أجساد الرخيصة التي تتحرك وفيها ثقلة القيد، وتترنح فتوسوس الأغلال!
ويحي!
مالي لا ألمح الفرح في هذه الوجوه الضاحكة، ولا أحس السعادة في هذه الملامح المرحة؟
ليس هنا فرح ولا سعادة، فالفرح نورانية وإشراق، والسعادة شفافية واطمئنان. . . هنا عربدة تخفي وراءها ضجراً، ومرح يستر في الجوانح الضيق!
هؤلاء قوم ضاق عالمهم (الباطن)، فانطلقوا يذرعون الأرض بحثاً عن عالم (الظاهر)، ومن فقد نفسه فهيهات يجد في (الخارج) شيئاً يطمئن إليه، ويستشعر به السعادة والهدوء!
مساكين!!!
ولكن أهذه محنة رواد (البلاج) وحدهم في هذه الأيام؟
كلا! إنما هي محنة هذه الإنسانية التي غلفت عن نفسها لتسمع صوت الآلات، محنة هذه الحضارة المادية الواردة من أوربا، والتي فتنت الناس عن أنفسهم بما أبدعته من وهج وبريق وضجيج!
كم أمقت هذه الحضارة الأوربية وأحتقرها، وأرثي للإنسانية التي خدعت بها، فأوردتها التهلكة. . . بريق وضجيج، ومتاع حسي غليظ. وفي هذه الضجة تختنق الروح، ويخفت الضمير، وتنطلق الغرائز والحواس، سكرانة معربدة تهيجها الأنوار الحمراء، كالديكة(685/13)
والثيران في بلاد الأسبان!
حينما كان للإنسانية (باطن) تستجليه، وتستشرف فيه النور المشرق الشفيف، وتستروح فيه الأشواق الخالدة، والآفاق البعيدة. . . كانت هادئة مطمئنة مستقرة، لأنها في الأعماق هناك غنية بما تجد، مستغرقة في ذلك العالم الفسيح. . .
فلما طفت على السطح بفضل هذه الحضارة المادية البائسة، ظلت تقفز وتقفز، فلا تستقر أبدا وظلت في قلق دائم، وهياج مستمر. تبحث في كل يوم عن جديد، وتزهد بعد يوم في هذا الجديد.
إنها اللعنة التي يعدها (معجزة) بعض المفتونين بالبريق.
ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها، ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟
ولقيني بائع الكتب في أحد مقاهي المدينة. . . فشكا إلي كساد سوق الكتب في هذه الأيام! وقلت أعزيه عن خسارته أو أسليه:
- أو تحسب الناس هنا جاءوا ليقرءوا كتبا؟ إنهم يستروحون ويستجمون ويستعيدون نشاطهم المفقود!
فما كان أسرعه بالجواب. . إنه فيلسوف:
- وهل هذه السهرات الحمراء الصاخبة التي يغرقون فيها مما يريح الأعصاب يا سيدي الأستاذ؟!
وحرت كيف أجيبه. وجمجمت بالكلمات المخنوقة، في الوقت الذي كان هو يتابع حديثه بعد هذا الاستفهام:
- الكتب يا سيدي الأستاذ تباع الآن في الحي الحسيني. هناك تجد الإقبال على جميع أنواع الكتب القيمة حتى في هذا الصيف الشديد. . .
إذن ما يزال في هذه الأمة خير. هذا الخير هناك في الحي الحسيني حيث يعيش الفقراء من الناس، وحيث يعيش الأزهريون. هنالك حيث يخفت صوت الحضارة المادية الجوفاء، وحيث يحيا جزء من الماضي.
ولكن إلى كم يا ترى يعيش هذا الخير قبل أن يخنق؟ ليخيل إلى أن الأزهر في السنوات(685/14)
(يتجدد) على طريقة (الغراب). فهلا اتقى الله فيه أولئك (المجددون) فحفظوا له قديمه في عهد الاجتهاد، وصانوه عن ذلك (التجديد) أو ذلك (التقليد)؟!
الكتب. .
وهل يصبر هذا الجيل الضجر القلق المعربد الصاخب. . . على الكتاب؟ ولماذا يقرأ الكتاب الجاد، ولديه تلكالمجلات الرخيصة والأفلام الداعرة تملق غرائزه، وتنادي أحقر ما فيه؛ وتنشر له صور العرايا على البلاج، وتحدثه بالدعارة عن القلب الإنساني وما فيه؟
أقول القلب الإنساني! وهل تعرف هذه الصحف والأفلام القذرة ومحرروها وممثلوها الرقعاء، شيئاً عن القلب الإنساني؟ ولكنهم يسودون صفحات كل أسبوع وينشرون أفلاماً في كل شهر عن هذا القلب الذي يزعمون!
آه. لو سوط الجلاد!
هنالك في (نجد) يجلدون الشعراء الذين يقولون الغزل. وهنا في مصر يصفقون لمن يدلون الفتيات والفتيان على طرق الدعارة ويدربونهم على المجون الرقيع. . .
شئ من التسامح هناك. وشئ من الحزم هنا. . . يرحمك الله يا محمد بن عبد الوهاب، ويرعاك الله يا عبد العزيز آل سعود! يوم وليلة فقط من هذا في مصر، ليجلد أولئك الرقعاء في محطة الإذاعة وفي (ستود يهات السينما) وفي جميع المجلات المصرية، الإعداد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يشرف عليه بعض الشرفاء ذوي الأعراض وهم قليلون!!
ولكنهم مساكين.
لقمة العيش وشهوة الجسد. . . هذا كل عالمهم في الوجود!
هم وقراؤهم ومستمعوهم ومشاهدوهم من ذلك الطراز. . . ليس هناك أفق مجهول، ولا هدف مكنون.
ليس هنالك عالم في الضمير يعيشون فيه بعض الوقت، ثم يخرجون منه ليروا هذا العالم الظاهر بعين المستطلع، وحس المتذوق، وشعور الغني بالرصيد المذخور!
نهم بالمتاع وسعار، المتاع الحسي الغليظ، المتاع المتاح في هذا العالم المادي. . . لو كان لهم روح تستشرف آفاقا وأنوارا أخرى لاقتصدوا في هذا المتاع الحسي الغليظ!
ولولا جريمتهم في نشر الدعارة بين الشعب كله، لاستحقوا الرثاء ولكنهم ينشرون في(685/15)
صفحاتهم وأفلامهم وأغانيهم ما يعاقب بوليس الآداب على بعضه في المواخير، ويسمون بعد ذلك كله صحفيين أو مطربين ناجحين!
ويحي! لماذا استطردت هذا الاستطراد؟ إنما أتحدث عن (سوق الرقيق)!
والملطعة؟
هذا هو الاسم الذي اختاره بعضهم بحق للقسم من (الكورنيش) بين (بلاج سيدي بشر رقم 1) و (بلاج سيدي بشر رقم 2)
فحينما ينقضي النهار، ويخرج رواد (البلاج) منه، ويصطف بعضهم في المساء على سور (الكورنيش) بينما يجول بعضهم ذهابا وإيابا.
يستعرض هؤلاء أولئك، ويستعرض أولئك هؤلاء!
هؤلاء هن جواري سوق الرقيق. . . هؤلاء هن معروضات تجول فيهن الأنظار، وتحملق فيهن العيون، وتتدسس الخطرات المريضة إلى أجسادهن الرخيصة في رقاعة وفضول.
هذه هي الضحكات الرخوة المائعة؛ وهذه هي الحركات الرقيعة الماجنة. . . ضحكات الجواري، لا تدل على فرح عميق ولا حتى على مرح أصيل. إنما هي ضحكات الرقيق لاجتذاب (الزبون)! ضحكات يحاسب عليها النخاس أو يثيب!
من ذا ينقذكن أيتها الجواري المسكينات من سوق الرقيق؟
من ذا يردكن إلى البيوت الكريمة المصونة، ويرد إليكن كرامتكن المهدرة، التي سلبت منكن باسم (المودرنزم) في هذه الأيام السود؟
كان الرجال يشتهون نظرة من بعيد، ويتشوقون إلى زواج كريم نظيف. فصرتن اليوم سلعة معروضة على الأنظار، سلعة في سوق الرقيق!
ونسيت أن أقول: إن تسعة أعشار هذا الهوان، إنما تبعثه الرغبة في أن تجد هذه الجواري أزواجا!
أزواج في الطريق. . . وفي (البلاج)!
لن تجدن هنا يا آنساتي أزواجا. إنما تجار أعراض وشراة أجساد. . .
ولن تكون إلا النخاسة يا عزيزاتي الأوانس: في هذه السوق. . . سوق الرقيق!
سيد قطب(685/16)
الشريعة الإسلامية ومبادئ التشريع الحديث
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
إن كل قانون في العصر الحاضر يدعى واضعوه كفالته للعدالة، وتحقيقه لسعادة الأفراد والأمم، وأنه جاء وفق ما تقضي به عوامل التقدم والارتقاء - لا يمكن أن يعدو في أغراضه المقاصد الآتية:
1 - تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات.
2 - جلب المصالح ودرء الفساد.
3 - قيامه بمطالب الأمة وحاجاتها، ومواءمته لميولها وفطرتها والعصر الذي يطبق فيه.
4 - مرونته ويسره وسهولة تطبيقه.
وأنت إذا نظرت بعين التدبر والحكمة - بعد تقصي قواعد الشريعة الإسلامية وأصولها، والبحث فيما خلفه المجتهدون الإسلاميون من أحكام الفروع الملائمة لعصورهم - لم ترتب أقل ارتياب في تحقيق الشريعة الإسلامية هذه المقاصد، وإنها وصلت في سموها وعدالتها وسماحتها إلى أبعد غاية.
وما ظهر نقصه من أحكام بعض الفروع في المعاملات وغيرها ليس بعيب راجع إلى شريعة الإسلام، وإنما هو راجع إلى المسلمين الذين لم يقم علمائهم بما يجب عليهم من الاجتهاد في كل عصر حتى تجئ أحكام الفروع والوقائع الاجتهادية ملائمة للأمة، ولما جد من الأحداث والشئون.
كذلك ما قيل: إن الحدود في الشريعة قاسية لا تتفق مع روح التشريع الحديث قد فندناه ودحضناه بالبرهان وبما دلت عليه التجربة والوقائع والمشاهدات، وذلك فيما كتبناه بالعددين 681، 682 من الرسالة في مقال (شريعة الكمال والخلود).
أما الشرائع الحديثة فهي - وإن اشتملت على مبادئ نقر بسمو كثير منها، ونعترف بدقة وضعها، وعلى أحكام يراد بها تحقيق العدالة، وإجراءات نظامية دقيقة - لم تستطع أن تقضي على كثير من الشرور والآثام التي تنخر عظام الأمم، وتنشر فيها كثيراً من الأمراض الاجتماعية والخلقية:
فقد أحلت الربا في أكثر حالاته، وهو الذي يوغر صدور بعض طبقات الأمة على بعض،(685/18)
وينتزع الشفقة والرحمة من القلوب، ويدع طوائف الأمة متحاربة ومتباغضة.
وأباحت شرب المسكرات، وهي جناية على المال والعقل والأهل والذرية.
وليس فيها ما يقي الأعراض من الجناية عليها: فامتهنت الكرامات وكثر اللقطاء، وشاع في الأرض الفساد كذلك خلت من الزواجر التي تحول بين المجتمع وبين مفاسد الميسر والقمار.
وقد يحتجون لإباحة بعض هذه المنكرات باحترام الحرية الشخصية، وما دروا أن هذه الحرية قررها الإسلام على ألا يساء استعمالها، وألا يكون فيها ضرر على الأفراد أو المجتمع (وهذا هو شأن الحرية الصحيحة الجديرة بالرعاية والتقدير).
ومما لا شك فيه أن هذه الجرائم التي أشرنا إليها مفاسدها لا تقتصر على مقترفيها، بل تشملهم ورهطهم، وقد تتعداهم إلى المجتمع والأمة.
من أجل هذا حظرت شريعة الإسلام تلك ألمنا كير، وأعدت كل أمة تأخذ بأحكامها لحياة اجتماعية يسودها التقدم والنهوض، وتنتفي فيها ذرائع الفساد وأسبابه، وتتوافر فيها العزة والكرامة والمنعة، وتلك الحياة الخليقة بخير أمة أخرجت للناس.
حسن أحمد الخطيب(685/19)
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والتجسس
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
شغف الخلفاء العباسيون بالتجسس ومالوا إليه. وقد كان لابد لهم من تسقط الأخبار والفحول بها لئلا ينسبوا إلى الضعف والغفلة أو يتجرأ عليهم الأعداء والأخصام. فإن من أخلاق الملك اليقظ السعيد على قول الجاحظ: البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم، والبحث عن كل خفي دفين.
وبغداد، وما كان فيها من أخلاط المخلوقات وأنماط الناس، وما انتشر فيها من أراء سياسية وعصبية، وما ظهر فيها من ميول شعوبية وعلوية وهاشمية كل هذا دفع الخلفاء إلى التجسس ولم الأخبار ليحفظوا ملكهم ويكونوا على بينة مما يجري.
وقد ذكروا أن الرسول عليه السلام، كان، كان ليقظته يرسل الجواسيس والعيون يتحسسون أخبار أعدائه المشركين. ولم يكن عصر النبي عليه الصلوات، كالعصر العباسي، ولا كان المجتمع إذ ذاك، كالمجتمع يومئذ. فليس من الغريب أن يشغف العباسيون بالتجسس، فهو ضرورة من ضرورات الملك.
كان التجسس يجري على طريقتين: ظاهرة وخفية. أما التجسس علانية فكان يقوم به أصحاب الأخبار والبريد. وكانوا منتشرين في كل مكان، وكان عليهم أن يعرفوا حال عمال الخراج والضياع، وأن يتتبعوا ذلك تتبعاً شافياً، ويستشفوه استشفافاً بليغاً، وأن ينهوه على حقه وصدقه. وأن يعرفوا حال عمارة البلاد، وما هي عليه من الكمال والاختلال، وما يجري في أمور الرعية فيما يعاملون به من الإنصاف والجور، والرفق والعسف، فيكتبوا به مشروحاً. وأن يعرفوا ما عليه الحكام في حكمهم وسيرهم وسائر مذاهبهم وطرائقهم، وأن يعرفوا حال دار الضرب وما يضرب فيها من العين والورق، وما يلزمه الموردون من الكلف والمؤن. وفي كل ما ينهونه. ينبغي أن يكونوا صادقين واثقين مما ينهون. فإذا ورد كل ذلك على الحضرة سلم إلى صاحب ديوان الإنشاء ليحمله إلى حيث يطلع عليه الخليفة(685/20)
ويأمر بما يرى، ثم يكتب للآفاق بما ينبغي.
فهؤلاء كانوا جواسيس رسميين، أما الجواسيس الذين لا يظهرون أنفسهم، ولا يعرفهم أحد، فكانوا أنواعاً منوعة، تفنن الخلفاء في استخدامهم. وكان فيهم الطفل (الطفل والمرأة والمحتاج والزمن وابن السبيل. . .)
وأول من عنى بالتجسس الخفي من الخلفاء: أبو جعفر المنصور (فقد كان يشتري رقيقاً من الرقيق، ثم يعطي الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، فيهيمون، أو يردون الماء كالمارين وكالضالين فيتجسسون. . .).
ويحدثنا الطبري أن أبا جعفر أتى مرة بأحد جنده فقال له: (أخف شخصك واستر أمرك وائتني في يوم كذا في وقت كذا. فأتاه، فقال له أن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيداً لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم. فاخرج بكسى وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب عن أهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم. فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب. وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر. فاشخص حتى تلقى عبد الله بن حسين متقشفاً متخشعاً، فإن جهلك وهو فاعل، فاصبر وعاوده. فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك، وتلين له ناحيته، فإن ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي. . .) فشخص الرجل حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب فأنكره، ونهره. وقال ما أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل ينصرف ويعود حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به. فسأله الجواب. فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب لأحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا فعاد الجاسوس إلى أبي جعفر وأخبره.
وحدث صاحب عذاب أبي جعفر قال: دعاني أبو جعفر ذات يوم، وإذا بين يديه جارية صفراء، وقد دعا لها بأنواع العذاب، وهو يقول لها: ويلك أصدقيني، فوالله ما أريد إلا الألفة، ولئن صدقتني لأصلن الرحم، ولأتابعن البر إليه. وإذا هو يسألها عن محمد بن عبد الله، وهي تقول: ما أعرف مكانه. ودعا بالدهق وأمر به فوضع عليها. فلما كادت نفسها أن تتلف قال: أمسكوا عنها، وكره ما رأى. وقال لأصحاب العذاب: ما دواء مثلها إذا صار إلى مثل حالها؟ قالوا: الطيب تشمه، والماء البارد يصب على وجهها، وتسقى السويق. فأمر(685/21)
لها بذلك، وعالج بعضه بيده، حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة، فأبت إلا الجحود. فقال لها: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسود وجهها وتغيرت. فقالت نعم يا أمير المؤمنين، تلك في بني سليم. قال: صدقت، هي والله أمتي، ابتعتها بمالي، ورزقي يجري عليها في كل شهر أمرتها أن تدخل منازلكم، وتحجمكم، وتعرف أخباركم. أو تعرفين فلانا البقال؟ قالت نعم، هو في بني فلان. قال هو والله مضاربي بخمسة دنانير أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع. فأخبرني أن أمة لكم في يوم كذا من شهر كذا، صلاة المغرب؛ جاءت تسأله حناء وورقاً، فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع، وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب.
(قال: فأسقط في يدها، وأذعنت بكل ما أراد.
وهذه القصة والتي قبلها تبينان لنا كيف سخر أبو جعفر أحد جنده، وأمته، وبقالا مضارباً له، للتجسس وجمع الأخبار
ولعلك تعلم حبه تتبع الأسرار مما سأقصه عليك. قالوا: إن أبا جعفر قال ذات يوم لأصحابه: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعف منهم، وهم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. ثم عرض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة: آه، آه! قيل وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
وكان الرشيد من أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً. وكان يتسقط أخبار الهادي قبل أن يصبح هو خليفة؛ فقد كان مسرور الكبير في خدمة المهدي، وكان الرشيد حفياً به محسناً إليه. فلما انتقل أمر الخلافة إلى الهادي قال له الرشيد: أخي قوي الشراسة، وأنا أخاف إيقاعه بي، وجمع الناس على بيعة ابنه بعده. وأنا على غاية الثقة بك فاعدل إليه، وكن له عيناً عليه) فتقدم مسرور عند الهادي حتى تولى ستر بيت خلوته فكان ينهي إلى الرشيد كل كلمة من كلماته، وفعلٍ. . .
وكتب الأدب والتاريخ مترعة بأخبار تتبعه أسرار رعيته حتى كان ذلك يدفعه إلى إخفاء(685/22)
شخصه، والطواف مع جعفر ابن يحيى في الأسواق وبين الأحياء، ليتسقط الأخبار، ويعرف ما يدور بين الناس من الأحاديث ويستطلع ما لا يصل إليه خبره.
ولم يقنع بأسرار رعيته، بل وكل عيوناً على ولديه. فكان مسرور الخادم رقيب المأمون، وكان جبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين.
وعلى نحو هذا كان المأمون في أيامه. ذكر أبو الفرج أنه لما تولى الخلافة وأتى بغداد، كان يتجسس على إبراهيم بن المهدي فألزمه رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظه جداً أو هزلا.
ويسوق الجاحظ دليلا على تتبع المأمون أسرار رعيته رسالته إلى إسحق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث وهو بالشام، التي خبر فيها عن عيب واحد واحد، وعن حالته وأموره التي خفيت، أو أكثرها، عن القريب والبعيد.
وقد ذكر صاحب محاضرات الأوائل أنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعماية، يتفقد بهن أحوال الناس من الأشقياء ومن يحبه ويبغيه، ومن يفسد حرم المسلمين. وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن وأنه كان يدور ليلا ونهاراً مستتراً.
وقد يكون هذا الخبر صحيحاً فيما يتعلق بإرسال العجائز، أما عددهن وأنه كان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه أخبارهن ففيه مبالغة.
وكان المأمون يعنى بمعرفة أحوال عماله. فكان يفحص عنهم، وعن دفين أسرار حكامه فحصاً شافياً؛ فلا يخفى عليه ما يفيد كل امرئ وما ينفق، وكان من نأى عنه كمن دنا منه، في بحثه وتنقيره، وكان يتتبع أحوال القضاة والولاة والجند. فذكروا أنه سأل يوماً جماعة: من أنبل من تعلمون نبلا وأعفهم عفة؟ فذكر كل من يراه. فقال: لا، ذاك عبد الله بن طاهر دخل مصر كالعروس الكاملة: فيها خراجها، وبها أموالها جمة ثم خرج عنها، فلو شاء أن يخرج عنها بعشرة آلاف دينار لفعل؛ وقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إلي أنه عرضت عليه أموال لو عرضت علي لشرهت إليها نفسي، ولقد خرج عن ذلك البلد وهو بالصفة التي قدمه فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس.
وحدث بشر بن الوليد قال: كنت عند المأمون، فقال: ولينا رجلا قضاء الأبلة، وأجرينا عليه في الشهر ألف درهم، وما له صناعة ولا تجارة ولا مال قبل ولا بيتاً ابتناه، وولينا رجلا(685/23)
آخر قضاء دمشق وأجرينا عليه ألف درهم أشار به علي محمد بن سماعة، فأقام بها أربعة عشر شهراً فوجهنا من يتتبع أمواله في السر والعلانية، ويتعرف حاله، فأخبر أنه وجد ما ظهر من ماله في هذا المقدار من دابة وغلام وجارية وفرش وأثاث قيمته ثلاثة آلاف دينار. وولينا رجلا أشار به فلان نهاوند فأقام بها أربعة وعشرين شهراً، فوجهنا من يتتبع أمواله، فأخبرنا أن في منزله خدماً وخصياناً بقيمة ألف وخمسمائة دينار سوى نتاج قد اتخذه.
وحدث إبراهيم بن السندي أنه جالس المأمون ومعه إبراهيم ابن المهدي فطفق المأمون يحدث عن أهل عسكره، حتى والله لو أن رجلا أقام في رحل كل رجل من الجند حولا، لما زاد على معرفته لشدة تنقيره وتتبعه أخبار الناس.
فهذه الحوادث التي سردناها، تدل على حبه التجسس، ودس الناس ليتسقطوا له الأخبار، ويطلعوه على ما يشاء.
(له بقية)
صلاح الدين المنجد(685/24)
من وحي المأساة الفلسطينية:
نكبة العرب في الأندلس
للأستاذ محمود عزت عرفة
انقضى أربعمائة وأربع وخمسين سنة على حادث سقوط حصن غرناطة آخر معاقل العرب بالأندلس في أيدي الأسبانيين، وقد تم ذلك سنة 1492م؛ فكان خليقاً بنا ومأساة فلسطين تمثل أن نعالج بإيجاز أسباب تلك المأساة الفاجعة، ونتلمس عللها بين حوادث التاريخ، ونقف عندها وقفة نخرج منها بعبر وعظات نافعات، هي الغاية العليا من كل دراسة والمقصد الأسمى من كل تحقيق وتحميص.
ولسنا نبالغ إذا قلنا إن جحافل العرب حملت معها من أول يوم وطئت فيه أرض الأندلس جرثومة هذا الداء الذي أهلكنها واستصفى قوادها، وأدال دولتها بعد ثمانية قرون من الزمان. فقد اجتاح موسى بن نصير أرض الأندلس عام 711م حتى بلغ أطرافها الشمالية؛ وعهد إلى قائده طارق بفتح مدائن (جيليقية) في الشمال الغربي، بينما اجتاز هو جبال البرانس الشامخ وانحدر إلى سهول فرنسا، معتزماً أن يدلف إلى القسطنطينية من طريق الغرب!!
حلم كان حرياً أن يتحقق لو لم يستيقظ موسى من نشوته على دعوة الوليد بن عبد الملك الذي أهاب به أن يكف عن إيغاله في الغزو وينكفئ بعسكره معافى إلى أسبانيا. . . وما كان له إلا أن بسمع فيطيع. على أنه انصرف وقتذاك إلى المسيحيين المعتصمين بأقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة تحت إمرة زعيمهم (بلايو)؛ وكان بسبيل أن يقلم أظافرهم وبقى البلاد شر مكايدهم وفتنهم التي ذر قرنها بعد حين؛ لولا أن هتف به داعي الخليفة مرة أخرى أن يؤوب إليه وطارقا؛ فتركا زمام الأمور في يد عبد العزيز بن موسى وسارا إلى المشرق.
وقد نكب موسى بعد قليل على يد سليمان بن عبد الملك، واغتيل ابنه عبد العزيز في شوارع إشبيلية بتدبير منه، ولم يكن مصير طارق بأفضل من هذا. فقدت الأندلس بموت أولئك كل من كان يفكر في إتمام الفتح على خير وجوهه، وأتيحت لفلول المنهزمين فرصة الحياة بعد أن أشفوا على الدمار، وتهيأ لهم أن يجمعوا كيدهم وينتظمواً صفوفاً حتى أبح(685/25)
موطنهم جيليقية مصدر القلاقل ومهب الرياح العاتية التي اجتاحت ملك العرب فيما بعد، ودكت بنيانهم من القواعد. . .
ولم يكن ولاة بني أمية في ضعفهم ليزيدوا الحالة إلا سوءا، فقد احتدمت الخصومة على عهدهم بين العرب والبربر، وبين العرب وأنفسهم من يمانيين ومضربين؛ وكان في تسلم عبد الرحمن الداخل زمام الحكم انتصار لفريق من هؤلاء دون فريق. وإذا كانت سطوة الحكم الأموي في الأندلس قد قضت على عوامل هذا الخذلان والتفرق، فإن ما وقر بسببه في النفوس من حزازات كان كفيلا بتهديد وحدة العرب وتآلفهم، مهيباً بكثير منهم إلى الثورات الجامحة والفتن المبيرة، مما ظهرت عواقبه الوخيمة في أخريات أيامهم.
بسط العرب ظلال السلام على الجزيرة، ورفعوا لواء العدل والمساواة في أرجائها؛ فارتضى سيرتهم كل من عاشرهم من الأسبانيين واتصلت أسبابه بأسبابهم. ولكن بقيت هذه الأطراف المستعصية تجيش قلوب أهلها بكراهيتهم والحقد عليهم وإعمال المكيدة لهم، حتى بين جدران قصورهم، وتحت قباب معابدهم!
فقد ذكر أنه وجد على جانب أحد أعمدة المسجد الجامع بقرطبة صورة تمثل المسيح مصلوباً، كان قد رسمها أحد المسيحيين ممن نافقوا بإظهار الإسلام وعاشوا بين ظهراني العرب يكيدون لهم ويمالئون عليهم. ولما دخل الأسبانيون قرطبة وكشفوا عن موضع هذه الصورة رسموا أمامها على الجدار المقابل لها وجهاً يمثل هذا المسيحي الذي خطها - فيما زعموا - بأظافر يده.
فكم يا ترى عدد من كانوا يعيشون بين المسلمين من أمثال هؤلاء؟ وما مبلغ بلائهم في تقريب هذه النهاية الفاجعة التي آل إليها أمر العرب بالأندلس؟. . .
لسنا نستطيع أن ننكر العلاقة بين هذه الحالة وبين سياسة التسامح الديني التي جرى عليها المسلمون في هذه البلاد بين قوم عيشت عيونهم عن أضواء حضارتهم، واسودت قلوبهم بظلام الحفيظة والاضطغان عليهم. . .
ونعني بهؤلاء القوم أولئك الذين اعتصبوا ضد العرب لغير ما سبب ظاهر؛ دون من تبطنوهم من المسيحيين وقاسموهم العيش في دعة وسلام، فارتشفوا رحيق آدابهم وجنوا ثمار علمهم وحضارتهم؛ وتبوءوا - إلى جانبهم - سني المناصب ورفيع الدرجات مما(685/26)
هيأتهم له مواهبهم وعبقريتهم.
أساء قوم من المسلمين فهم هذا التسامح الديني الذي أمروا به وانتدبوا إليه، وأعمتهم بوارق الحياة ورغائب العيش عن تعرف حدوده، وتبين أغراضه ومراميه؛ وشوهت شهوات الدنيا لديهم من صورته الجميلة المشرقة؛ ونكبت به ضلالات النفوس عن طريق الحق ومناهجه المستقيم.
فلم يكن عجيباً بعد ذلك أن نرى عما للحكم بن هشام ينهض إلى عاصمة إكس لاشابل عاصمة شارلمان فيستجدي محالفته في خنوع، ويتلمس منه المعونة على إسقاط ابن أخيه القائم بالأمر، وكان ذلك علم 797م أي قبل مرور قرن واحد على دخول العرب الأندلس. ولم يكن عجيباً أيضاً أن نرى المستعين حفيد الناصر (1009م) يرسل إلى بلاط سانكو أمير قشتالة ليعينه ضد منافسه المهدي وهو من أحفاد الناصر أيضاً؛ فيجد رسل المهدي قد سبقوه إلى طلب هذه المعونة من الأمير. . . والأمير يمايل بين الرجلين ويعرضها على مرآة مطامعه؛ ثم ينتهي إلى رفض معونة المهدي والإقبال على نصرة المستعين. . . إلى أمثلة من مثل ذلك كثيرة نحيل فيها إلى مظانها من مصادر التاريخ.
ولقد أحسن ملوك أسبانيا هذه الفرص السوانح، فزادوا نار الفتن بين المسلمين استعاراً، وأذاقوا بعضهم بأس بعض؛ وراحوا يقتصون من أطراف بلادهم ويفرضون الجزية على المستضعفين منهم، استغراقاً لثروتهم، وغلا لأيديهم عن كل ما يمهد لهم سبيل القوة. وأخيراً أعلنوا ضد الجميع حرباً صليبية لا هوادة فيها. . . في وقت كان المسلمون فيه قد فقدوا صفاتهم الأولى من التخشن وسمو المبدأ، والتحمس للدفاع، وشدة الرغبة في الجهاد. فكان تخاذلهم عن صيانة ملكهم عظيما، وتهافت ملوكهم المتنابذين على استرضاء ملوك النصارى المتربصين بهم بالغاً غايته. حتى لقد كان من مخزيات ما حدث في أواخر القرن الحادي عشر أن اكتسح الملك الفونس السادس أقاليم الأندلس إلى أن بلغ جبل طارق ثم احتل طليطلة عام 1085م، فبادر ملوك الطوائف بتقديم فروض التهنئة إليه! وأسبغوا عليه أو قبلوا أن يسبغ على نفسه لقب (ملك المسيحيين والمسلمين)!!
وما نشك في أن هذا الفتور الذي أصاب نفسية العرب يرجع - فيها يرجع إليه من أسباب - إلى كثرة عناصر المولدين والهجناء في أوساطهم، منذ درجوا على خطة التزوج من(685/27)
الأسبانيات أو التسري بهن. ولقد كانت هذه الخطة ظاهرة النفع في عصور الدولة الأولى، بما أجرت في عروق العرب من دماء جديدة، وبما نشأت من جيل متميز في مواهبه جامع لمحاسن العنصرين في أخلاقه وتفكيره وجميع مقوماته. ولكن استحال كل هذا إلى مضرات بالغة في العصور المتأخرة، إذ تقلصت روح العصبية التي اشتدت حاجة العرب إليها حين كانت جحافل الأسبانيين تزحزحهم عن بلادهم حصناً بعد حصن، وفشت روح الاستهانة بوازع الدين، ولم يعد ثمة أثر لطموح المسلمين الأوائل، وشدة تحمسهم لرفع لواء عقيدتهم، بل حلت الأثرة والأطماع الشخصية محل كل هذا، واتخذت أقبال العرب وشعوبها لسيطرة ملوك الأسبان الذين هيمنوا بقوة نفوذهم على شئون شبه الجزيرة من أطرافها.
ويكفي أن نذكر أن أبا عبد الله محمداً آخر ملوك بني الأحمر والذي تم على يده تسليم غرناطة وإسدال الستار الأخير على مأساة الإسلام في الأندلس، كان أبناً لأمير غرناطة السابق أبي الحسن علي بن سعد الأحمر من محظيته الأسبانية إيزابلا التي عرفت بين العرب باسم (ثريا) أو (الزهرة). وكان أبو عبد الله هذا أثيراً لدى أبيه بفضل حظوة أمه المسيحية؛ وبسبب ذلك انشق أخواه محمد ويوسف على أبيهما، وكان كلاهما ابناً له من (عائشة) زوجته الثانية العربية المسلمة.
ولقد كان اختصام أبي عبد الله فيما بعد مع عمه أبي عبد الله الزغل، السبب المباشر في سقوط غرناطة وانثلال عرش آخر حكومة إسلامية في البلاد. . .
لقد كانت النية التي عقدها ملوك الأسبان على طرد العرب صريحة، وكان مصير المسلمين أمام هذا الزحف الجارف واضحاً ومحتوماً؛ ولم تكن نجدات المرابطين والموحدين التي تحركت من أفريقية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر لتؤثر إلا في تعويق حلول المأساة التي كان الجميع يشهدونها بعين الخيال، ويرون أنفسهم مسوقين إليها دون أن يستطيعوا لها دفعا. حتى لقد كان لسان الدين بن الخطيب وزير الغني بالله محمد بن يوسف ابن الأحمر يوصي أولاده بعدم التوسع في شراء العقار بالأندلس؛ ويصرح لهم بأن هذه البلاد أصبحت للمسلمين دار غربة!
وأعجب من هذا في الدلالة على توقع المسلمين لمصيرهم المحتوم، ما قاله بعض شعرائهم إذ ذاك. . . وكأنما كان يوحي إليه:(685/28)
حثوا رواحلكم يا أهل الأندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جأور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط؟
غفر الله لهؤلاء الأجداد الكرام زلاتهم، وجعلنا ممن يتعظون بمحنتهم، وألهمنا حسن التذكر لتاريخهم وسيرتهم. (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
محمود عزت عرفة(685/29)
كيف هدي والد لولده؟
للأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
كان لوزير هندي مسلم ابن يتعلم في جامعة كيمبردج في إنجلترا ولم يكن يلم بتعليم الدين الإسلامي إلماماً تاماً وإن كان أبوه متضلعاً في العلوم القديمة الإسلامية والحديثة الغربية والتصوف. فانتهز المبشرون الفرصة وأرادوا تنصيره ووجهوا إليه أسئلة كثيرة ضد الإسلام كما هو ديدنهم في مثل تلك الأحوال لينالوا من منزلة الإسلام في قلبه ويقربوه إلى النصرانية. فتجاذبته الظنون وتخالجت في صدره من دينه الشكوك فوقع في حيرة وارتباك فكتب إلى أبيه يسأله ويستشيره في الأمر فرد عليه أبوه رداً أنقذ به ابنه الشاب من كيد المبشرين ومكرهم وهو رد فصيح اللهجة، قوي الحجة، ملزم المحجة، يدل على عقل أصيل ولب رصين قال: أريد أن أشرح لك لماذا اعتبر الإسلام أحسن الأديان بأسرها؛ فلاحظ أنني لم أقل إن الأديان الأخرى رديئة بل إن الإسلام أحسنها؛ وذلك لأنها لا توافق الأفكار الحديثة العلمية كما يوافقها الإسلام. فإذا قلت في وصف دين من الأديان إنه (حسن) أو (الأحسن) فأريد به المدى الذي إليه يبلغ ذلك الدين في حث الإنسان بواسطة عقائده وتعاليمه على الجد في طلب الفلاح لنفسه. كذلك إذا ذكرت هنا كلمة (علم) فأريد به العلم المرتب للأشياء المعلومة أو القابلة للعلم.
إن العلم يحسر اللثام عن الأشياء التي هي ضرورية أو مطلوبة لفلاح الإنسان والفنون عموماً تدله على الطريق الذي به يحوز تلك الأشياء أو يصنعها والحكومات تجعل أو ينبغي لها أن تجعل له التحقيقات العلمية والتقدم في الفنون يسيره المتلمس دانية القطوف. وأما الدين فينبغي أن يحرك الإنسان ويحرضه على الاستفادة من العلوم والفنون العصرية استفادة تامة. وقد يحظر ببالك أنه ما دامت الحكومة قائمة بواجبها والعلوم تترعرع والفنون تتقدم فلا حاجة هناك للدين. فأقول إنك لو أخذت حصاناً إلى النهر فهو لا يشرب منه ما لم يكن ظمآن، فإنه إن عطش يشرب من تلقاء نفسه فإن لم يعطش فلا منظر الماء الصافي، ولا سهولة الوصول إليه، ولا ترغيبك إياه، ولا ضربك بالسوط يحمله على الشرب. كذلك العلم يقدر أن يريك الماء أو أي شئ آخر مفيد، والفنون تستطيع أن تدلك على طرق حيازته، والحكومة يمكن أن تكافئك بالجوائز أو تهددك بالعقاب؛ ولكنك لا تشرب ما دمت(685/30)
لست بظمآن، أو بعبارة أخرى إنك لن تستفيد من الأشياء المقدمة إليك أو الموضوعة تحت تصرفك إذا لم يكن في داخل نفسك ما يدفعك لذلك. فهذا العطش، هذا الدافع الباطني الذي هو في الحقيقة قوة محركة للإنسان من ثمرة الدين وخليقته.
إن فائدة الدين العظمى هي الطموح الذي يوجده ويربيه في الإنسان أن يعيش سعيداً صالحاً. صحيح أن الداعي للسلوك الحسن لكثير من الناس هو خوف العقاب أو أمل الثواب سواء أكان عاجلا أم آجلا. وإن بعض الأديان ومنها الإسلام تقدم صورتين لامعتين للجنة وجهنم المعدتين للصالحين والطالحين بعد الموت. ولكن عند الطباع العالية ذوات القوى القوية لا قيمة لتلك الدواعي فإنها مثل صوت السوط أو إراءة العشب للحصان الذي لا يجري. فهي ليست مؤثرة أثراً ثابتاً مثل الداعي الروحاني العالي الذي يخلقه الدين الحق في الإنسان للحياة الصالحة. إنني لا أقدر أن اشرح لك هذه النقطة أكثر من ذلك بغير الخروج عن الموضوع والدخول في المباحث الفلسفية الدقيقة. لذلك يكفي أن أقول لك إن الداعي الديني الروحاني خير من جميع الدواعي الأخرى للسير الحسن والحياة الصالحة. فإنه يعترف بروحانية الإنسان ويساعدها للاستيلاء على حيوانيته. قال الشاعر الفارسي:
آدمي زاده طرفه معجوني أست
إز فرشته سرشته وإز حيوان
كر كندميل أين شودكم أزين
وركند قصد آن شود به آزان
وترجمته:
(إن الإنسان مركب غريب
قد ركب بالملكية الحيوانية
فإذا مال إلى الحيوانية اتضعت رتبته عنها
وإذا قصد الملكية ارتفعت منزلته عنها)
إنه الدين الحق الذي يمكن الإنسان من أن يفوق الملائكة في الصلاح والتقوى وهو ما بينه السر أوليفرلودج أيضاً في كتابه (جوهر الدين حليف العلم) فاقرأه.
ثم هناك فائدة أخرى للدين وهي أن كثيراً ما تتوخى القيام بأعمال جمة، ولكن لا تقدر أن(685/31)
تقوم بجميعها وذلك إما أنك عدلت عن قصدك أو حلا أحد دون قيامك بها. فما يهم الاجتماع ونفسك من رغباتك الجمة التي تفوق أعمالك هو أن تكون حسنة مثل أعمالك. ولا تقدر القوانين ولا التقاليد الاجتماعية على ضبطها ضبطاً صحيحاً لأنهما يختصان بالمظاهر الخارجية أي للأعمال الصادرة عن رغباتك، وعواطفك، وميولك الباطنية. فما يقدر على ذلك إلا الدين الحق مثل الإسلام الذي يحاسب على الرغبات التي تتحول إلى الأعمال حساباً كبيراً، ويسعى في قتل الرغبات السيئة في مهدها أي قبل أن تتحول إلى الأعمال.
وعلى هذا فكل دين يقدر على أن يخلق في الإنسان أحسن الدواعي للسير الحسن، ويسعى في إبادة الرغبات السيئة بكيفية مؤثرة فعالة لا بد من أن يوافق الأفكار الحسنة المعترف بها في العصر عند العلم والفن. وذلك الدين عندي هو الإسلام.
وأما موافقة الإسلام للأفكار العصرية فيكفي أن أمثل لك مثالا واحداً فإن المجال والوقت لا يسمحان لأكثر من ذلك وهو أن الإسلام أدعى في أول آية من سورة الفاتحة التي تحفظها أن هناك عوالم أخرى غير هذا العالم بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) ولا تزال هناك بعض الأديان تدعي أن لا وجود لعالم آخر غير عالمنا هذا، ولكن العلم في العصر الحاضر يدحض مثل تلك الدعاوى ويثبت وجود عوالم أخرى غير هذا العالم كما ذهب إليه الإسلام، ويقدم لنا الدلائل لليقين على أن كل نجمة تتلألأ فوق رؤوسنا في القبة الزرقاء حين يرخى الليل رواقه ويسبل ستره عالم معمور مثل عالمنا.
إن للدراية والخبرة عند الإسلام مصدرين: العلم والإلهام. فالأول يعبر عن جد الإنسان لمعرفة طرق الحق المستقيمة. والثاني يمثل نعمة الله بكشف سبله السوية للإنسان. فالفرق بين المصدرين فيما أرى الفرق بين التجربة والوجدان، أو بين الأفكار المكتسبة والأفكار الغزيرة. وهو ما يعتبره فلاسفة العصر الحاضر أيضاً مثل سبنسر وبرجسون أنه فرق في الكم لا في النوع. والله يلهم كل فرد في لحظة من حياته، بيد أنه يتوقف على الأكثر على الروحانية أو المقدرة الروحانية الناشئة عن مدى معرفته لله ولسبله السوية , ٍوتلك المقدرة يرث الإنسان شيئاً منها عن آبائه وأجداده يكسب شيئاً آخر بالإيمان والإخلاص وبالأعمال الصالحة والسير الحسن.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(685/32)
(فلسطينيات):
الضحية. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
رأيت مرة صديقاً يسير كئيبا حزينا، فسألته الخبر، فلم يجب بأكثر من كلمة.
- (وقعت). . . واختفى. . .
فلم أفقه ماهية النكبة التي حلت به، وعزوت ذلك لدين لم يتمكن من سداده، أو لخلاف وقع له مع زوجته، أو لمشكلة طرأت له في وظيفته. . .
ثم غاب عن ناظري أسبوعين كاملين، إلى أن رأيته يوما يجلس في مقهى من مقاهي (يافا) وأمارات البشر والحبور تبدو على قسمات وجهه.
- قلت له: لا بد أن يكون قد حدث لك حادث، تحاول إخفائه عني، مرة تسير كئيبا ثم تختفي أسبوعين ثم ظهرت ثانيا مسرورا، فما هي قصتك؟.
قال: أفقت مرة من نومي وأنا أحس بألم لا يطاق في ذراعي اليمنى، وكانت أعصاب يدي متوترة، وكنت أجد صعوبة شديدة في قبض أصابعي، فحاولت أن أنزع لباس النوم، فلم أستطع، وأمسكت فنجان القهوة فسقط على الأرض. . . ثم أردت أن اكتب شيئاً فلم تطعني أناملي، ثم جاءني ولدي وطلب مني أن أبري له قلمه، فلم يعمل السكين في القلم. . . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وهرعت إلى الطبيب.
فلما رويت له ما حدث لي، اهتم بالأمر وقال:
- المسألة في غاية التعقيد. . . وأود قبل فحص جسمك أن أفحصك بالأسئلة التي ستنير لي سر مرضك. . .
فسألني عن اسمي، وعن اسم أبي وأمي، وأين قضيت أيام طفولتي، وأين نشأت وترعرعت، وأي المدن سكنت، وهل سبق أن أصبت بأمراض، وما هي أنواعها. . . وهل أعرف شيئاً عن أمراض بارزة في عائلتنا. . . وهل قمت بأعمال جسدية يوما ما، ثم ما هي طبيعة عملي الآن، وهل أكثر من الكتابة أو المطالعة. . . وهل أميل إلى التفكير العميق أو السطحي، وأخيراً كيف أقضي ساعات الفراغ، أأقضيها في المداعبات. . . أم في التأملات. . .(685/34)
ثم فحص جسمي، فجس نبضي وحملق في عيني، وأنعم النظر في حلقي، وقاس كتفي، واستمع إلى رئتي، ونقر على ظهري وبطني، وسألني أن أتأوه. . . ثم طرق ركبتي بعصا طرقاً خفيفاً فردتا عليه بحركات عنيفة. . . ثم قال:
- كفى الآن. . . اجلس.
فجلست أجمع ثيابي، وجلس وهو يضع تقريره الطبي، وبعد دقائق قال لي:
اسمع يا أبني. . . أنت مصاب بمرض عصبي عضال لم أر له مثيلا في حياتي. وأصارحك القول بأنني لن أنصحك باستعمال أي دواء قبل تصوير ذراعك بأشعة رنتجن.
- قلت ولكن كيف تشخص هذا المرض على وجه التقريب؟
- قال يغلب على ظني أنه (أوستيو ميليستوس) يتصل إما (بالبرامليجيوس) أو (بالهيمبليجيوس)!. . .
ثم أخذ لي صورة بأشعة رنتجن. . . وسألني أن أعود إليه في اليوم التالي. . . فخرجت من لدن الطبيب وقد أظلمت الدنيا في عيني، فكان الناس يعبرون بي وكأنهم أطياف. ومرت بالقرب مني سيارة مسرعة، فعن لي أن أحتك بها!. . . ثم اجتزت هضبة تطل على البحر، فرأيت أمواجه تقهقه وتتحداني!. . . لكنني تغلبت على مظاهر الضعف، ولم أقنط من رحمة الله.
ولما عدت إلى الطبيب مرة أخرى، أظهر لي الصورة، وراح يشرح لي تفاصيلها بالقرب من النافذة. . . فقال:
انظر. . . هذه جمجمتك. . . وهذه أسنانك. . . باستثناء المخلوع منها طبعاً. . . وهذه رقبتك. . . أنظر كيف يميل عمودك الفقري إلى اليمين قليلا. . أما هذه الريشة فموقفها غير طبيعي، وأظن أنها هي التي تضغط على مجموعة أعصاب كتفك الأيمن وتسبب لك الآلام. . . وعلى كل فهذا رأي الخاص. . . ولما كان الطبيب عادة لا يرتاح إلى رأي واحد في القضايا الطبية المعقدة، فأنني سأرسلك الآن إلى طبيب أخصائي في الأعصاب، ثم تجرى لك مشاورة طبية فوق العادة. . .
وتركت العيادة وأنا في حالة يرثى لها، وأسرعت إلى الأخصائي في أمراض الأعصاب الذي أرشدني إليه الطبيب، واسمه الدكتور رودولف روبنشتاين، خريج معهد فينا الطبي(685/35)
فجلست له وكان يسألني سؤالا في الطب وعشرة أسئلة في السياسة الفلسطينية!. . . ثم بدأ الفحص بعد أن ظهرت أمامه كما خلقني ربي، ووخزني بإبرة في أطراف أصابعي. . . ثم مر بالإبرة أيضاً على ظهري، ثم ربط جهازاً على ذراعي وضغط عليه ثم قال لي:
- تمدد على ظهرك، وارفع يديك إلى العلاء، فابسط أصابعك. . . ثم أمسك بيدي وقال:
- دعنا نتجاذب بشدة. . .
ثم أخذ يطرق جسمي بمطرقة خشبية صغيرة، وكان ذلك خاتمة الفحص.
فقال لي وهو يقبض الجنيهات الخمسة:
أنت تشكو من انحطاط في مجموعة أعصابك. . . وأقترح أن تستريح شهراً كاملا في (كاليه) في منطقة البحر الميت.
وعدت إلى البيت، وأنا أفكر في هذه المصيبة التي حلت بي، فكنت أردد أقوال الطبيبين، وأنعم النظر في صورة رنتجن، وأطالع التقارير الطبية، وأحاول إدراك كنه محتوياته اللاتينية مستعينا بالقاموس الطبي. . . إلى أن أضحيت أسير هواجس، فانكمشت على نفسي واعتزلت الناس، وعولت على ألا أعود إلى طبيبي الأول، وألا أسافر إلى (كاليه). . . وفي إحدى الأمسيات خاطبت نفسي قائلا - لم لا تجرب حظك في الدواء البلدي؟. . . فنهضت للتو وقصدت جارتنا (أم حسين) وهي عجوز معروفة بوصفاتها البلدية وعرضت عليها ذراعي فأمسكت به وتفحصته وقالت: أنت تشكو من قرصة هواء!. . .
قلت: وكيف ذلك؟
قالت: لا تبحث بما لا يعنيك. . . وعليك أن تعمل حسب ما أوصيك به - خذ خمسة جرامات من المسحوق الفارسي، ومثلها من بذور البطم، وعشرة جرامات من الزنجبيل، ومثلها من الهند شعيرية، ومثلها من روح الزرنيخ، واسحقها كلها معا، ثم اطبخها بالزيت، واصنع منها لزقات. . .
قلت ومن أين آتي بهذه العقاقير؟
قالت - أطمئن فأنا أجلبها من البلاد البعيدة بواسطة الحجاج. . . ولك أن تثق بخبرتي ومهارتي. . . والآن هات جنيهاً على الحساب. . .
وبعد أن قضيت أسبوعين وأنا في هذه الرحلة الشاقة بين الطب والوصفات البلدية، ذهبت(685/36)
إلى صديق صيدلي، ورويت له حكايتي في جميع أدوارها، فضحك وقال - لا تجزع. . . يبدو لي أن مناخ البحر لا يلائمك، وهذه رطوبة أحدثت في ذراعك التهاباً. . . إليك هذا المعجون وأدلك به ذراعك دلكا خفيفا ثم لفه بالصوف على ثلاث ليالي متواليات، وعلى الله الشفاء.
قلت - وما ثمنه؟
فأجاب في شئ من التردد والخجل معًا:
- (شلن) واحد فقط!. . .
نجاتي صدقي(685/37)
الشعر كصورة للجمال
للأستاذ نظمي خليل
أظن أن كثيرا من الناس يقرءون الشعر يتساءلون ألا يوجد في الشعر شئ آخر غير الموسيقى والصور. ما هذا الجمال الذي نسعى وراءه؟ ما رسالة الشعراء للعالم؟ ما معنى القصيدة؟ وربما زاد بعضهم فقال: ماذا يعلمنا الشعر؟.
فإذا اصطلح الناس على أن الصور الشعرية يجب أن تدرس من أجل لذة الاستيعاب نكون قد وصلنا إلى غايتنا ونترك هذه الأسئلة تجيب عن نفسها.
ولكن هذا القانون السقيم، قانون الاختبار الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو المنفعة قد انحرف بالمثل العليا في الشعر وألزمه أن يؤدي لنا نتائج خاصة وآثار ملموسة يمكن للمستوعب إدراكها وتفهمها.
في الشعر الجيد كثير من الجمال الذي نجده في سائر الفنون السامية، ولكنه جمال خفي غامض لا يمكن أن يعرض أو يشرح، فلا تكاد الألفاظ تأخذنا إلى ذلك الجو السحري البعيد حتى نشعر أن وراء النظم نوعا من ضوء الأحلام ليس موجوداً ولكنه سائر أبداً. يولد فينا احساسات بأشياء غامضة لا يمكن أن يصبر عنها بالكلمات نفسها بل قد لا يحسها الشاعر نفسه.
ولكننا وإن كنا لا نستطيع الإفصاح عنها لا نرتاب في وجودها. فهي حقيقة موجودة كالحياة عينها.
أما أولئك الذي يعجزون عن الإحساس بهذه الكآبة الغامضة أو السرور الخفي الذي ينبعث من الموسيقى اللطيفة فقد تكون مشاغل الحياة قد صرفتهم عن ذلك فلبد إحساسهم وبرد قلبهم، وصاروا يدلجون في الحياة وهم أبعد الناس عن الإحساس بها. فاليهودي أو رجل المال مثلا لا يشعر بها لأنها ليست شيئا يباع في الأسواق.
هذه الأشعار التي نحس ببهجتها الغامضة نعرفها بأنها شعر إلا أن النقد لا يستطيع أن يحللها أو يصورها في تعبيرات موسيقية أو صور. ولكن القلب يعرف أنها شعر لأنه شعر بها.
هذا هو الاختبار الأخير للشعر؛ وهذه هي وظيفة الفنان لا يعنيه أمر العقل في قليل أو كثير(685/38)
لأنه لا يقدر موضوعات ولكن صورا تبعث فينا احساسات خاصة ولكنها لا تحمل معنى يمكن أن يعبر عنه أو يشرح حسب القوانين العقلية.
فإذا فكر القارئ في الموسيقى بدلا من الشعر لا يصعب عليه فهم هذا. ولكن من سوء الحظ أننا فصلنا الشعر من سائر الفنون وكدنا ننسى أن الموسيقى هي ابنة (أبولو) وليست ابنة (منيرفا).
فالسؤال الآن: ماذا يعلمنا الشعر لا يلقى إلا في مجتمع قد جعل الاختبار والعقل فوق كل شئ وغاية كل شئ.
الشعر لا يعلم ولكنه يلهم. فأولئك الذين يريدون أن يعلموا يجب أن يكون منطقهم واضحا وسليما؛ ولكن جوهر الشعر الأصيل هو ما لا يمكن أن يفهم أو يعبر عنه بحجج العقل والمنطق.
فالشاعر ليس مدرساً ولكنه رسول وكلامه غامض.
قال شيلي: (الشاعر كالبلبل الذي يجلس في الظلام ويصدح ليبدد وحشة وحدته بأنغامه الشجية، والمستمعون إليه كأولئك الذين سحروا بنغم موسيقار متوافق، فيحسون أنهم قد اهتزوا وطربوا ولكنهم لا يدركون متى ولماذا؟).
أما الخطأ الشائع وهو أن تعاليم القصيدة يمكن أن تأخذ شكل القوانين والأصول فراجع إلى تلك التجربة الأسيفة المحزنة وهي شرح الشعر بالنثر أي نثره، ولكن الشعر لا يمكن أن ينثر كما لا يمكن أن يترجم دون أن يفقد حياته.
أجل قد يأتي لنا المترجم بقصيدة جديدة لا تقل عن الأولى جمالا وروعة كما حدث في ترجمة بوب للإلياذة وفتز جرا لد لرباعيات الخيام، ولكن يجب أن نعترف أن هذه ليست شرحاً ولا ترجمة بل هي خلق جديد.
كل ما أخذ عن النقد الرديء هو أنه يعني بالموضوع بدلا من الشكل.
وقد عاب (ميتو أرنو لد) (دكتور جونسون) لحكمه الخاطئ على (ليسيداس) (مرثية ملتن لصديقه كنج) (إن أكبر غلطاته هو ظنه أنه ما من أحد يجد سروراً أو لذة في قراءة ليسيداس لأن معنى هذه القصيدة ليس حقيقياً وفكرتها قديمة) وقد وقع ميتو أرنو لد في نفس الخطأ عندما أعلن حربه على شيلي في قوله: (يعوزه شئ هام في الشعر لا يمكن أن يشفى(685/39)
منه وهو المادة).
نريد أن نتحرر من هذا النوع من النقد ما دام الشعر كغيره من الفنون الرفيعة غرضه المتعة والسرور العام.
فالشعراء يريدون أن يخلقوا ليشعروا لا ليفكروا. والنقد وهو المساعد الوحيد للخلق يجب أن يقوم بحثه لا ليجعلهم يفهمون التعاليم والقواعد ولكن ليريهم الفن ويتركهم يتمتعون به ويقفون على ما فيه من فائدة لأرواحهم لا لعقولهم.
ولقد شرح الألمان شكسبير فحللوا آراءه الدينية ونزعاته الفلسفية وتعاليمه الدينية والأخلاقية ومبادئه السياسية، وجعلوا منه وحشاً مخيفاً فقالوا إن حلم (ليلة في منتصف الصيف حفلة حقيقية).
ومن المحتمل أيضاً أن أغانيه صدرت عن تجربة علمية فقد قال دكتور جونسون وهو قول خاطئ من أساسه (إن شكسبير كان يعنى بأن يسر أكثر من أن يعلم، وأنه كان يكتب بعيداً عن أي غرض أخلاقي) كذلك قال أمرسن (لقد أراد أن يعطينا صوراً وكان جديراً به أن يقدم لنا تعاليم).
لم يكن أحد من الإنجليز يفطن إلى هذا الاختبار حتى جاء به أرنو لد من الدنيا فقال (إن رسائل شيلي ستبقى بعد أشعاره الغنائية).
ونجد كثيرين يكرهون كيتس ولا سيما جمهور الطلبة لعجزهم عن فهم أو شرح معانيه. فالجمال أو الخير الذي ننشده في الشعر هو الخير الذي فهمه كيتس وعبر عنه بقوله (أوه. لا تتعب وراء المعرفة فليس لدي شئ؛ ومع ذلك فإن أغنيتي تأتي وطنية بحرارتها. لا تبحث وراء المعرفة فليس لدي شئ، ولكن المساء يصغي).
دعنا نحاول أن ننقذ الشعر من أيدي الممتحنين الذين يعرضون على تلاميذهم شرحه وتفهم معانيه حتى تكون لنا دراسة واحدة للسرور والجمال الخالص.
إن رسالة الفن سر شخصي ليست محدودة المعنى.
فالقصيدة أو الصورة لها معنى خاص لكل فرد. وكل الشروح ليست إلا ظلالا لحقيقة واحدة، فمعنى الخلق الفني جميل موجود في روحه مستقر في روح صناعه.
فإخبارك الطفل بما يريد شئ جميل، ولكن عدم إخبارك إياه قد يكون أجمل وأفضل؛ فقد(685/40)
حدث أن كان طفل جالسا مع أمه يستمع فقال: (أمي. إني أظن أني أفهم إذا سكت هذا عن الشرح).
قد يكون هذا قانونا بلا استثناء. أي أن تبطل الشروح ما دامت لا تزيد في المتعة والسرور بالكشف عن الجمال الفني. فالطفل يستطيع أن يتبين الجمال في أغاني شوقي مثلا دون أن يعرف شيئاً عن شوقي؛ فإن أساس المتعة هو الموسيقى، فمن السخرية أن نحاول أن نلقي على الأطفال شروحاً عن حياة الشاعر قبل أن يتعلموا كيف يحبون الشاعر ويحبون شعره.
كيف يلذ للطفل أن يعرف أن حافظ إبراهيم ولد في القاهرة ثم تعلم الجندية ثم ذهب إلى السودان. . . قبل أن يقرأ أو يسمع أشعاره. أقول يسمع إذا ليس من الضروري أن يقرأ الطفل الشعر ليقف على جماله. فقد يسمع القصيدة وهو يجهل معانيها بل يجهل ألفاظها جهلا تاما. ومع ذلك تراه يطرب ويحزن تبعا لموسيقاه: ولقد قرأت مرة أن أحد الأساتذة الإنجليز جمع حوله بضعة أطفال ثم أخذ ينشد لهم شيئا من شعر هوميروس الحماسي باللغة الإغريقية فما لبث أن رأى الأطفال يهتزون ويطربون وينسجمون فسألهم عن معنى القصيدة فقالوا إنها وصف لمعركة؛ ثم قرأ عليهم قصيدة أخرى فظهر عليهم الوجوم والحزن فلما سألهم عما فهموا قالوا إنها رثاء لقتيل.
فإذا كان هذا مبلغ تأثير الموسيقى في الطفل الذي يجهل اللغة تماماً فأحرى بمدرسينا أن يتركوا أطفالهم يتمتعون بجمال الموسيقى وأن يفهموهم الشعر كصورة للمتعة والجمال.
نظمي خليل(685/41)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
835 - لذاك إذا دعاه لا يجاب
أمالي القالي: سمع الأصمعي رجلا يدعو ربه ويقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له الأصمعي: ما اسمك؟ قال: ليث. فقال الأصمعي:
يناجي ربه باللحن ليث ... لذاك إذا دعاه لا يجاب
836 - يشهد السمع أنها عوادة
رب ورقاء في الدياجي تنادي ... إلفها في غصونها المياده
فتثير الهوى بلحن عجيب ... يشهد السمع أنها عواده
كلما رجعت توجعت حزنا ... فكأنا في وجدنا تتباده
837 - إخوة فيه للشفار الكليلة
البحتري:
إن تجرب بنى الزمان تجدهم ... إخوة فيه للشفار الكليله
والفتى كادح لفعلة دهر ... يرتضيها أو عيشة مملوله
خائف آمل لصرف الليالي ... والليالي مخوفة مأموله
راح أهل الآداب فيها قليلا ... وحظوظ الأقسام فيها قليله
فعليك الرضى بما رضيته ... لك هذى المطالب المجهوله
لن تنال المزوى عنك بتدبير ... ولن تصعد السماء بحيله
838 - كانت حمتي فقذفتها
في (الموشح) لأبي عبيد الله المرزباني:
دخل العجاج على الوليد بن عبد الملك فأنشده:
كم قد حسرنا من علاة عنس
فصار إلى قوله:(685/42)
بين ابن مروان قريع الأنس
وابنة عباس قريع عبس
فقال له الوليد: ما صنعت شيئا، أنشدني غير هذا فأنشده:
أمسى الغواني معرضات صددا
وقد أراني للغواني مصيدا
ملاوة كأن فوقي جلدا
فقال: مصيدا وجلدا، لم تصنع شيئا، أفرغت مدحك في عمر بن عبيد الله بن معمر إذ قلت:
حول ابن غراء حصان، إن وتر
فات، وإن طالب بالوغم اقتدر
إذا الكرام ابتدروا الباع بدر
فقال: يا أمير المؤمنين، إن لكل شاعر حمة، وكانت هذه الأرجوزة حمتى فقذفتها.
قلت: يقصد العجاج بحمته ما يقال له في الفرنجي:
وقد قال بعض الفرنج: ' ' '
وأرجوزة العجاج هذه (459) بيتا، مطلعها:
(قد جبر الدين الإله فجبر)
839 - أفضل نعيم أهل الجنة
في (ميزان الاعتدال) للذهبي:
. . . عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله يذكر الناس، فجاء أعرابي فقال: هل في الجنة سماع؟.
قال: يا أعرابي، إن في الجنة نهر جعل فيه الإبكار. . . يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، وذلك أفضل نعيم أهل الجنة.
فسئل أبو الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله.
840 - يرجى سواها فهو يهوى انتقالها
أحمد بن أبي بكر الكاتب:(685/43)
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها
وما ذلك عن بغض لها غير أنه=يرجى سواها فهو يهوى انتقالها
841 - التقليد
في (الحيوان) للجاحظ:
داء المنشأ والتقليد داء لا يحسن علاجه جالينوس ولا غيره من الأطباء. . . وتعظيم الكبراء وتقليد الأسلاف وألف دين الآباء والإنس بما لا يعرفون غيره يحتاج إلى علاج شديد، والكلام في هذا يطول.
إرشاد الريب لياقوت:
قال الشينيزي للماوردي: أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع.
فقال: بل أجتهد ولا أقلد.
842 - وسواس الرجل محدث وسواس الرجل
قال أبو الجوزاء: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: أأ أطلقتني يا أبا الجوزاء؟
قلت: من أين لك هذا؟
قالت: خبرتني جارتي الأنصارية.
قلت: ومن خبرها بذلك؟
قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك.
فغدوت إلى ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل محدث وسواس الرجل، فمن هنا يفشو السر.
843 - اغترب تتجدد
أبو تمام:
وطول مقام الرجل في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
844 - كذلك الضربين الضرتين(685/44)
أمالي القالي:
قيل لأعرابي: من لم يتزوج امرأتين لم يذق حلاوة العيش، فتزوج امرأتين ثم ندم فأنشأ يقول:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي ... بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروفا ... أنعم بين أكرم نعجتين
فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذى يهيج سخط هذى ... فما أعرى من إحدى السخطتين
وألقي في المعيشة كل ضر ... كذلك الضربين الضرتين
لهذى ليلة ولتلك أخرى ... عتاب دائم في الليلتين!
845 - عظيم
سد الطريق على الزما - ن وقام في وجه الخطوب
846 - بطولة جحا
في (أساس البلاغة) للزمخشري:
قيل لجحا: على من فحالتك؟
قال: على أمي وأخياتي. . .
يضرب من قوته على الضعيف.
847 - الجديد والقديم
محمد بن نصر الأوسي:
وإن كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناس حرمة لقديم(685/45)
- من الأدب الغربي:
مسلة تتحدث
للأستاذ محمد رجب البيومي
(في الأدب الفرنسي خاصة روائع خالدة عن مصر؛ وهذه قصيدة عصماء لتيو فيل جوتييه نظمها على لسان مسلة مصرية قائمة بميدان الكونكورد بباريس ونحن ننقلها بتصرف يقتضيه الذوق العربي).
تحت صوب الحيا وذوب الجليد ... أقف الآن في التياع شديد
يزأر الجو فوق رأسي كطاغٍ ... مستبد بكل من في الوجود
تصرخ الريح بين كفيه رعباً ... وتصيح الرعود تلو الرعود
ويمر السحاب تحت حماه ... كأسير مكبل بالقيود
تمس الجو! صار ثلجاً ببار ... يس وقد كان جمرة في الصعيد
حيث كانت أختي ترفه عني ... بحديث كخمرة العنقود
إذ يميس النخيل في سندس الع ... شب كخود تجر وشى البرود
إذ يهب النسيم في كل فجر ... ناشراً في الربوع عطر الورود
وذكاء الوضيئة الوجه تعطو ... فوق هام الربا بخطو وئيد
يا لأوقاتها! تولت وكانت ... مشعل النور في الليالي السود
كخيال سرى، وحلم توارى ... كسرابٍ يلوح فوق البيد
إيه رمسيس قد تحطم صرح ... أبدى أقمته للخلود. . .!
المسلات - يالخزيك - كانت ... في ربوع الحمى كبرج مشيد
طالما قد حميتها بحصونٍ ... من رماح وجحفل من أسود
فمشى الدهر نحوها وهو ليث ... صنع الله قلبه من حديد
فإذا جيشك العظيم يولي ... وجهه في استكانة الرعديد
كيف هذا؟ حقيقة أم خيال ... يا سماء ارجفي! ويا أرض ميدي
قد تربعت فوق لحد رهيبٍ ... كان للأبرياء شر اللحود
وقف العدل في نواحيه يبكي ... بدموع تخز في الجلمود(685/46)
كم قتيل بدون ذنب جناه ... وشهيد مضى وراء شهيد
والمنايا تطيع أمر (لويس) ... كل يوم تقول: هل من مزيد
وأخيراً أتت عليه فحزت ... من قفاه العريض حبل الوريد
قتل الموت! كم أذل عزيزاً ... كان ذو سطوة وبأسٍ عتيد
انظر (السين) حائر الموج يعلو ... في اصطخاب كالهائج العربيد
يتهادى وفيم التهادي؟ ... وهو مر المذاق رنق الورود
ليس كالنيل حين تصقله الشم ... س فيبدو كاللؤلؤ المنضود
ماس بين المروج مؤتلق الوج ... هـ كتاج على الربا معقود
جعل الأرض روضةً يتغنى ... فوقها كل صادحٍ غريد
من رسولي إليه في مصر يهد ... يه تحيات قلبي المعمود
كل شئ له بريد ولكن ... آه للنيل! ماله من بريد
كنت في مصر - واحنيني إليها - ... ذات مجد يذيب قلب الحسود
يفد الناس خاشعين لمحرا - بي وكل يهم لي بالسجود
وأنا اليوم قطعة من صخور ... وقفت في الطريق مثل العمود
الرعاع الطغام حولي سكارى ... كقطيع مشرد في البيد
يفعلون الخنا بوجه من الصخر ... وقاحٍ لا يستحي من وجودي
كم بغي تسير فوق زنيم ... يشتري طهرها بحلو الوعود
يقطع الوقت في التذاذ أثيم ... بين شهد اللمى وورد الخلود
(غاب بولنيا) مذبح شهوى ... كم هوت فيه كل حسناء رودِ
أين منه مصر التي قد تعالى ... كل صوت بطهرها المحمود
قد جعلتِ العفاف يا مصر تاجاً ... يتجلى على رءوس الغيد
أين مني حمى رعٍ وأمونٍ ... هل سيبدو لناظري من جديد
وعويل الكهان في غسق اللي ... ل كثكلى على ضريح فقيد
والتماثيل في المعابد يجثو ... عندها كل سيدٍ ومسود
والنواقيس صادحات كطير ... ساحر اللحن بارع الترديد(685/47)
والقبور الضخام كالهرم الع ... الي سطور خطت بسفر الخلود
ما بباريس مثلها وهي كنز ... ذهبي يظم كل فريد
أنتِ يا مصر منية المتمني ... دمتِ في نعمةٍ وعيشٍ رغيد(685/48)
القصص
قصة من الأدب الروسي الرفيع:
(الملاك. . .)
للفيلسوف الروسي الكبير لوي تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
- 2 -
ولم يكادا يفرغان من الطعام، ويقومان عن المائدة. . . حتى أقبلت (مترونا) على (الضيف الغريب). . . تسائله:
- (من أي البلاد أنت؟!) فأجابها في صوت شاعت فيه الوداعة (لست من هذه البقاع!. . .)
فقالت دهشت (ولكن. ما الذي رمى بك إلى الطريق؟)
- (لست أدري.!.)
- (أتعرض أحد لك بسوء؟!.)
- (كلا!. . . لقد عاقبني الله تعالى!. . .)
- (أما كنت ملقى على قارعة الطريق؟!. . .)
- (بلى عرياناً ومثلجاً، وقد لمحني زوجك الكريم (سيمون) فأدركته الرحمة فخلع ما عليه، وألبسني إياه، وأحضرني هنا. . . فأطعمتني من جوع، وآويتني من برد. . . وأشفقت عليَ من التشريد والموت. . . فجزاك الله خيراً).
فنهضت (مترونا) وأحضرت له بعضاً من ثياب زوجها القديمة. . . وأعدت له مناماً على كثب من التنور يقضي فيه ليلته
باتت (مترونا) في مضجعها تتقلب فلم يزر جفنيها الكرى وما فتئت ذكرى (الغريب) تراود مخيلتها. . .
بدا لها كيف أتى على نصيبهم الأخير من الخبز. . . فلم يدع لهم شيئا إلى العند. . . فأحست بالحزن يساور نفسها. . . والألم يتغلغل في قلبها. . . بيد أن تلك البسمة التي(685/49)
رفعها إليها (الضيف الغريب) جالت في صفحة فكرها وجلبت السكينة إلى نفسها وقالت تحدث زوجها في خفوت، وقد كادت أن تأخذه سنة من النوم: -
(سيمون!. . .) فأجابها في توجس وضيق: (ماذا؟!)
- (لقد أتيتما على آخر ما عندنا من الخبز. . . ولست أدري ما الذي نفعله غداً!! ليتني أستعير بعضاً من جارتنا (مارثا!. . .)
- (إذا امتد بنا الأجل إلى الغد. . . فسوف نرزق من حيث لا ندري!. . .)
فلبثت المرأة برهة لا تنبس. . . ثم قالت في رقة (يخيل إلي أنه رجل طيب كريم، ولكن ما الذي يحمله على الصمت فلا يكشف لنا جلية أمره؟!.)
- (أحسب أن لديه علة تمنعه!.)
- (سيمون!.)
- (نعم!.)
- (ما بالنا نعطي! وليس ثمت من يتفضل علينا بعطاء)
فحار سيمون جواباً. . . ثم لم يلبث أن قال لها: - (دعينا من هذا الحديث!. . .) وانقلب على جانبه. . . وراح يغري بعينيه النوم بعد أن جفاه.!
وفي الغداة. . . أفاق (سيمون) من نومه، وكانت الأطفال تعبث في البيت صياحاً ولهواً، وانطلقت زوجته لتسأل جارتها بعضاً من الخبز. . . أما الغريب فكان يجلس على مقعده - في ثياب سيمون الخلقة - يرمي طرفه إلى السماء - وفي عينيه توسل ورجاء، وقد عاد إلى وجهه بهاؤه وضياؤه عن البارحة. . .
فقال (سيمون) في طلاقة ومرح: (هه!. . . أيها الصديق. . . إن السغب يدعو الإنسان إلى السعي وراء القوت، والعرى يضطره إلى طلب الملبس. . . فعليه أن يعمل ويكد. . . فما الذي تعرفه من المهن؟!.)
- (لست أدري شيئاً!.)
فقال سيمون في صوت ملئ بالدهش.
- (إن كان للإنسان رغبة في التعلم فسيتعلم؟!)
- (وإن لفي نفسي رغبة إلى ذلك.!)(685/50)
- (ماذا تدعى؟!. . .)
- (ميشيل. . .)
- (حسناً يا ميشيل. . . إن لم تكن في نفسك ترغبة إلى أن تحدثنا عن نفسك، فهذا من شئونك. . . غير أنه يجب أن تتكسب رزقك، فإن عملت بما سأشير عليك به.! فسوف تجد عندي طعاماً طيباً، ومأوى حسناً. . .)
- (جزيت خيراً. . . وإني لمطيع لما تقول!. . .)
- (إن ذلك غاية في البساطة. . . فانظر إلي.) ثم أمسك (سيمون) بخيط، ولفه حول إبهامه وراح يجدله في براعة. . . فراقبه (ميشيل) ثم أخذ قطعة من الخيط وثناها على إبهامه وانفك يجدلها كما فعل سيمون وفي براعته وإجادته، وعلمه سيمون كيف يشمع الخيط ويقطع الجلد ثم يخيطه. . . فبرع (ميشيل) في كل ذلك. . . حتى أصبح ماهر البنان كأنه مارس تلك الحرفة طيلة حياته. . .
كان لا يبرح يعمل ويعمل دون توقف، ولا يطعم غير القليل، حتى إذا ما انتهى من عمله، جلس صامتاً يحدق في سماء الغرفة وفي عينيه ذلك الرجاء وذلك التوسل. . . ولم يكن يخرج إلى الطريق، بل يظل حبيس الدار، رهين العمل، لا ينطق إلا بكلمات قلائل يضطر إليها. . . وما ضحك يوماً، وما ارتفع لسانه بفكاهة. . . ولم ترتسم على وجهه ابتسامة أبداً، إلا تلك التي أضاءت على جبينه يوم أن قدمت إليه (مترونا) العشاء. . .!
وتتابعت الأيام وتعاقبت الشهور. . . وميشيل يعيش ويعمل جهده مع (سيمون). . . وجرى اسمه على كل لسان، وطبقت شهرته في كل مكان. . . حتى طفق الناس يأتونه من كل صوب وفج يعاملونه. . . حتى ازدهر حاله. وزال عنه بؤس الحياة وعسرها.
كان (سيمون) وميشيل يعملان ذات يوم حينما جلجلت بباب دارهم الأجراس فأسرع كل منهما إلى النافذة، يستجلي الأمر. . . فأبصر بعربة (زلاقة على الثلج) يجرها ثلاثة من الجياد المطهمة الصافنة. . . تقف بباب الدار، وخف تابع إلى بابها ففتحه. . . فظهر منه سيد جليل مهيب - عليه جبة من الفرو الثمين - ووقف بباب الكوخ، فسارعت (مترونا) إليه تفتحه على مصراعيه، وترحب بمقدم الضيف الجليل فطأطأ الرجل رأسه عند ولوجه الباب. . . فلما انتصبت قامته الممشوقة كاد أن يمس رأسه سقف الغرفة فنهض سيمون(685/51)
وانحنى إجلالاً للضيف وقد سرى إلى نفسه الدهش. . . فما رأى مثل هذا الرجل في عظمته ورفاهيته فقد كان سيمون هزيلا نحيفا، وميشيل صدعا رفيعاً. . . كما أن (مترونا) كانت ضاوية الجسد جافة العود. . .
أما هذا السيد، فيخيل لمن يراه أنه من عالم آخر وجنات مكتظة مليئة. . . ووجه مطهم شاعت فيه الحمرة الوردية، وجسد زهم كالفيل في هيئته وبدانته، وعنق أقمد كعنق الثور وما أن جلس على المقعد حتى قال (من منكم صاحب العمل؟!) فدنا منه سيمون وقال في صوت أصحل من الرهبة (أنا يا صاحب السعادة!!)
فصاح السيد بتابعه (هيا. . . أحضر الجلد. . . يا (فدكا) فلما أحضره، ووضعه على المائدة. . . قال السيد مشير إليه: - (أنظر أيها (الأسكاف) أترى هذا الجلد؟.)
- (أجل يا صاحب السعادة. . . إنه أثمن جلد رأيته في حياتي!.)
- (أبمقدورك أن تصنع لي حذاء منه؟!)
- (أجل يا صاحب السعادة!.
- (أتستطيع!؟ حسناً. . . فلا يغب عن بالك لمن سوف تصنع هذا الجلد الثمين. . . أستمع. . . ينبغي أن تجعل لي منه حذاء أحتذيه عاماً كاملا. . . لا يبلى ولا يخلق. أفهمت إن لم يكن بمقدورك هذا، فصارحني. . . فإني أود حذاء أحتذيه عاما بأكمله. . . وإني لأحذرك الآن وإلا فسوف يكون مستقرك السجن وإذا لم يبل في مدى عام. . . فسوف أمنحك عشر روبلات نظير ذلك. . .)
فارتعدت فرائص (سيمون) وعجز عن الكلام. . . والتفت إلى (ميشيل) ووكزه قائلاً في همس وحسيس (أنأخذ هذا العمل على عاتقنا؟!) فأومأ (ميشيل) برأسه موافقاً. . . فانفرجت أسارير (سيمون) وسرى عنه همه وجزعه. . . وراح يقيس قدم السيد. . . يتعرف عسيبها ويقدر أخمصها. . . ويسجل ذلك على وريقة تعنيه على صنع الحذاء. . . فلما انتهى من ذلك قال له السيد وهو يجول طرفه في أرجاء الكوخ.
- (لا تجعلها تضيق بقدمي!.). . . فلما وقع طرفه على (ميشيل) قال في تساؤل:
- (من هذا؟!)
- (إنه عامل عندي. . . وسوف يتشرف بخياطة حذاءك)(685/52)
فتحدث السيد الجليل إلى ميشيل قائلا (أنت يا ذا. . . لا يغيب عن بالك أني أود حذاء مريحاً. . . يمكث عندي سنة. . . هه. . . سنة بأكملها!.)
نظر (سيمون) إلى (ميشيل). . . وكان هذا يحدق في ركن الغرفة فوق السيد. . . وقد شرد خياله عما هم فيه. . .
. وكان يحدق. . . ويحدق، وعلى غرة ارتسمت على ثغره تلك الابتسامة العذبة، وأشرق وجهه وأضاء. . . فزمجر السيد قائلا:
- (فيم تحملق أيها الأبله؟! خير لك أن تنظر إلى ما يدر عليك رزقك!.)
فقال سيمون (سيعد لك الحذاء يا صاحب السعادة. . . في الحال. . .) فنهض السيد وهم بالخروج والغضب يحمر في عينيه، واستقر في عربته فانطلقت تجلجل أجراسها. . . فلما اختفت في منعطف الطريق. . . قال سيمون - وما زال الدهش يسيطر على نفسه - (هذا مثال لإنسان جبار. . . لا يقتله المرؤ ولو بمطرقة. . . وأحسب الموت يتخوف من جبروته. . . فلا يمس له جسداً!.) ثم حدث ميشيل قائلاً:
(حسناً لقد أخذنا على عاتقنا أن نصنع حذاء له. . . ولكن ينبغي ألا يكون ذلك سبباً في متاعب جديدة. . إن الجلد لثمين وإن صاحبه لجاد في طبعه. . . فيجب ألا نخطئ معه هيا. . . يا ميشيل، إن عينيك أدق من عيني، ويديك أبرع من يدي، فهاك الجلد، فقطعه حسب المقياس. . . وسوف أخيطه أنا!.)
فبسط (ميشيل الجلد على المقطع ثم طواه طية واحدة. . . وراح يقطعه بالأزميل. . .
كانت (مترونا) ترقبه في عجب ودهش. . . فقد طالما كيف تحذي النعال وأدركت أن (ميشيل) لا يقطع الجلد على طريقة الأحذية. . . بل لشئ آخر لا تعرفه هي، فقالت في نفسها (لعلي لا أعرف شيئاً عن صناعة الأحذية للسادة والأشراف!. وأحسب أن ميشيل يعرف المزيد عنها. . . سوف لا أتطفل عليه!.)
فلما فرغ ميشيل من القطع. . . أمسك بخيط واحد وراح يخيط الجلد - كأنه من الخفاف - لا بخيطين كما تخيط الأحذية فعاد الدهش إلى (مترونا) من جديد. . . غير أنها أمسكت عن تدخلها. . .
ومكث ميشيل يعمل حتى وافت الظهيرة. . . وقام سيمون يلقي نظره إلى ما أتمه ميشيل. .(685/53)
فلم يلبث أن راعه ذلك وقال في أحيح وعجب: (آه!. كيف تفعل هذا يا ميشيل؟! لقد لبثت معي سنة بأكملها - لم تأت أثناءها بخطأ قط فكيف تقع في هذه الغلطة التي ستوردنا مورد الهلاك!. لقد قال إلينا السيد أنه يود حذاءاً. وها أنت قد جعلت له من جلده الثمين خفاً. . . سوف يثير حنقه علينا. . . وما في قدرتنا أن نأتي بجلد مثله. . . لقد حطمت حياتي يا ميشيل!.)
فما وفيما هو يعلك ألفاظاً من التوبيخ والعتاب. . . حتى سمعوا طرقاً على الباب وأبصروا من النافذة رجلاً يترجل عن جواده ويربطه في حلقة الباب. . . ففتحت له (مترونا). . . وكان ذلك الرجل هو التابع الذي صحب (السيد الجليل) في الصباح. . . فقال لهم: (لقد بعثت بي سيدتي في أمر الحذاء!.) فقال سيمون في جذع:
- (ماذا عن الحذاء؟!)
(إن سيدي ليس في حاجة إليه!. فقد مات.!)
- (هه!. أحقاً هذا؟!)
- أجل. . . لقد دهمه الموت وهو في مركبته!. فلما بلغنا المنزل. . . جاء الخدم يعاونونه. . . فقد حرجت جثته على الأرض كالكيس الممتلئ. . . وقد بعثت بي سيدتي لأقول لكم إن السيد الذي أتاكم هذا الصباح ليس بحاجة إلى الحذاء. . . بل ينبغي أن تعجلوا بعمل خف لجثته. . . كي أحمله إليها الآن.)
فقام ميشيل. . . وضم بقايا الجلد إلى الخف بعد أن مسحه بمئزرته وسلمه إلى الخادم الذي انطلق به قائلا: (وداعاً أيها السادة!. . .)
كرت السنون. . . وها هو ذا ميشيل يعيش عامه السادس مع سيمون وعائلته لم يتحول عما درج عليه. . . ولم يتغير شئ من طبعه. . . لا يخرج أبداً من الدار. . . ولا يتحدث إلا بمقدار ولم يرتسم الابتسامة على شفتيه إلا مرتين لا تثلثهما أخرى. . .
واحدة حينما تفضلت عليه (مترونا) بالطعام. . . والثانية حينما كان يحدق في ركن من الغرفة فوق (السيد الجليل) وكان سيمون على وفاق مع عامله. ولم يسأله يوماً من أين أتى بل كان في خشية من أن يرحل ميشيل عنه. . .
وبينما هم جميعاً في الدار ذات يوم. . . وكانت (مترونا) تضع إناء على النار، والصغار(685/54)
يمرحون في لهوٍ وعبث، وسيمون جالس يخيط حذاء في يده. . . أما ميشيل مستغرقاً في عمله على كثب من النافذة. . .
ووضع أحد الأطفال يده على كتف ميشيل. ونظر من النافذة وصاح قائلاً:
(أنظر. . . يا عم ميشيل، هناك سيدة معها بنتان صغيرتان يظهر أنها تريد دارنا إن واحدة من البنات تعرج في سيرها!) فألقى ميشيل بما معه وسارع ينظر من النافذة إلى الطريق. . . فتعجب سيمون، فما رأى (ميشيل) ينظر يوماً إلى الطريق في هذه اللهفة. . . فدعا ذلك سيمون إلى أن ينظر هو أيضاً كي يستبين ذلك الشيء الذي أثار ميشيل. فرأى سيدة حسنة الهندام تتجه حقاً إليهم وتقود طفلتين عليهما أردية من الصوف وشمائل من الفرو. . . يعجز المرء عن أن يميز إحداهما عن الأخرى إلا تلك التي يعتري ساقها اليسرى شئ من العرج.
وولجت السيدة بطفلتيها الغرفة. . . وقالت في صوت رقيق
- (سعدتم صباحاً. . . أيها القوم الطيبون؟!)
فقال (سيمون):
- (سعدتي صباحاً. . . سيدتي الفاضلة. . . ماذا في مقدورنا أن نعمله لك؟!)
فجلست السيدة على مقعد. . . وقد التصقت بها الطفلتان في خوف ممن في الكوخ.
- (أود. . . حذاءين من الجلد لهاتين الطفلتين، للربيع!. . .)
- (إننا لم نصنع من قبل مثل هذه الأحذية الصغيرة. . . غير أننا قادرون على ذلك. . . إن مساعدي (ميشيل) أستاذ صناع في هذا!.)
وألقى سيمون بنظره إلى ميشيل. . . ليرى أثر الإطراء والثناء عليه. . . فوجد هذا جالساً يحدق في الطفلتين الصغيرتين فانتاب سيمون العجب وتولاه الدهش. . . حقاً كانت الطفلتان جميلتين لهما وجنتان وردية وشعر معقوص وعيون نجل. . . ترتدي كلتاهما ثياباً فاخرة من الصوف والفراء. . . بيد أن سيمون لم يفطن إلى سر تحديق ميشيل إليهما كأنه يعرفهما من قبل!
كان في حيرة من أمره. . . فانطلق يحدث السيدة ويقدر الثمن معها. . وبعد مساومة وإقرار. . . هم أن يأخذ مقياسهما فقالت السيدة وهي ترفع قدماً للبنت العرجاء (إن هذه(685/55)
القدم عرجاء فاعمل لها حذاء على حدة. . . أما القدم الأخرى وقدمي الطفلة الثانية. . . فهي صحيحة متشابهة وحجمها واحد. . . إنهما توأمتان. . .)
فسجل سيمون ما قاسه على وريقة صفراء. . . وقال يحدث السيدة: -
- (ما الذي حدث لها؟! فأصابها بهذا العرج. . . إنها تبدو جميلة. . . أو ولدت هكذا؟!)
- (كلا. . . فلقد حصرت أمها قدمها فالتوى. . .)
فتعجبت (مترونا) وتساءلت من تكون هذه السيدة؟! ومن تكون هاتان الطفلتان. . . فقالت في صوت شاع فيه ما يجول في نفسها من دهش.
- (الست أمها إذن؟!)
- (كلا. . . يا سيدتي الفاضلة. . . لست أمها، ولست إحدى قريباتهما. . . لقد تبنيتهما. . .)
فزاد عجب (مترونا) وهي تقول:
- (ليستا طفلتيك. . . وتحبينهما هذا الحب؟!)
- (ليس لي حيلة في ذلك؟! أطعمهما وأربيهما. . . ولقد رزقني الله ولداً ولكنني احتسبته. . . وما كنت أحسبه مثل حبي هاتين الطفلتين!.
وطفرت من عينها دمعة حارة. . . تألقت في مقلتها. . . ثم لم تلبث أن انحدرت على وجنها. . . فمسحتها في هدوء وحزن فقالت مترونا في أسف وتأثر: -
- (معذرة. . . ما كنت أحسب أن هذا يجلب إلى نفسك الحزن والألم. . . ولكن من هي أم هاتين الطفلتين؟.)
(البقية في العدد القادم)
مصطفى جميل مرسي(685/56)
الكتب
كتب من مراكش:
موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية
للأستاذ عبد الكريم غلاب
عادت حركة التأليف إلى نشاطها بعد انتهاء الحرب، وقد حمل إلينا البريد أخيرا عدة كتب سنقدم بعضها إلى قراء الرسالة.
والكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القراء هو (موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية) وقد جمعت هذا الكتاب وأصدرته جريدة (الوحدة المغربية) التي تصدر في تطوان. والكتاب مؤلف من عدة أبحاث نشر بعضها من قبل في جريدة الوحدة المغربية ومجلة (السلام) وقد اشترك في كتابة هذه الأبحاث الأستاذان: محمد المكي الناصري، ومحمد حسن الوزاني. كما يشتمل الكتاب على تقرير هام أرسله المارشال ليوطي حينما كان مقيما عاما في مراكش إلى حكومته سنة 1920 يشرح فيه وجهة نظره في نظام الحماية، وكيف يجب أن يطبق في مراكش.
وموضوع هذا الكتاب، كما يظهر من عنوانه تاريخي سياسي يصور فترة من تاريخ مراكش الحديث، وهي الفترة التي وقعت فيها هذه البلاد تحت الحماية الفرنسية. ويبدأ الكتاب بشرح المؤامرات الدولية التي كانت تحاك ضد مراكش قبل سنة 1912، ويعنى خاصة بالميثاق الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا سنة 1904، وبمقتضاه تنازلت إنجلترا لفرنسا عن (حقها) في مراكش في مقابل تنازل فرنسا لإنجلترا عن (حقها) في مصر. كما يشرح لنا الكتاب الظروف التي أملت المعاهدة التي عقدت بين فرنسا وألمانيا سنة 1911، وفيها صرحت ألمانيا بأنها لا تعرقل مساعي فرنسا في السيطرة على مراكش. وإلى جانب ذلك قامت فرنسا بمساع أخرى على حدود البلاد سمتها هي - بمنطقها - اضطرابات داخلية وبما أنها مسؤولة عن حفظ النظام في مراكش المستقلة، فالمصلحة تقتضي أن تزحف على مدينتي وجدة وفاس عاصمة مراكش لتحافظ فيهما على الأمن. كان ذلك سنة 1911، وما كادت تحل سنة 1912 حتى تردد في أنحاء العالم أن فرنسا تعد مشروع(685/57)
معاهدة بينها وبين مراكش. ثم رددت جوانب القصر الملكي في فاس أن سفير فرنسا مسيو (رينو) يتردد على جلالة السلطان مولاي عبد الحفيظ، وأنه يعرض عليه مشروع معاهدة الحماية، وأن جلالته قد وقع تحت ضغط دبلوماسي وعسكري وتحت تهديدات السفير الفرنسي، ومع ذلك فهو يمانع بل يعلن للسفير أنه سيتنازل عن العرش إذا هو أجبره على إمضاء المعاهدة. ويشرق يوم 30 مارس فإذا بفرنسا تعلن أن جلالته قد وقع عقد الحماية، وأنه بمقتضاها قد أباح للجنود الفرنسيين أن يحتلوا مراكش كلها حتى يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم كاملا في تنفيذ الإصلاحات التي نص عليها في المعاهدة. وتمر بضعة شهور فإذا بجلالة السلطان يعلن لأمته أنه لم يستطع أن يؤدي واجبه في المحافظة على استقلال البلاد التي أقسم اليمين عند توليته على المحافظة عليه، وأنه لذلك يتنازل عن العرش ويترك الأمر للأمة لتختار من يخلفه على عرش أجداده.
وهنا تنتهي مأساة فرض معاهدة الحماية لتبتدئ مأساة تنفيذ هذه المعاهدة. وتجند فرنسا جيشا من الموظفين الاستعماريين الفرنسيين وعلى رأسهم المارشال ليوطي ليقوموا بحكم مراكش حكما مباشرا، وليسلبوا الحكومة المراكشية كل ما أبقت لها المعاهدة من سلطة فيديروا شئون البلاد ويتركوا هيئة الحكومة في سبات عميق، بعد ما كانت هيئة حكومية منظمة تنظيما ديمقراطيا تشرف على إدارة مراكش وتسير بالبلاد نحو التقدم المادي والمعنوي تحت رياسة جلالة السلطان. ويبدأ الفرنسيون في تنظيم حركة استعمارية، فيكونون داخل مراكش مجالس استشارية للفرنسيين يرأسها المقيم العام. ويقوم هؤلاء الفرنسيون بوضع برامج الإدارة والإصلاح في مراكش وينفذونها هم بأنفسهم وبذلك يكون الفرنسيون مصدر السلطة التشريعية والتنفيذية. وهكذا يحكمون مراكش دون أن يشركوا أهل البلاد الشرعيين في أي عمل يتصل بالتشريع والإدارة وبذلك يكونون حكومة دكتاتورية باسم الحماية.
هذه السلطة التي اغتصبها الفرنسيون هي التي مكنتهم من حكم البلاد حكما استعماريا متطرفا يقوم على سلب الأراضي من الفلاحين المراكشيين بدعوى المصلحة العامة، وإعطائها الفرنسيين الذين يهاجرون من بلادهم ليضعوا لأمتهم نقطة ارتكاز في الأرض الجديدة (مراكش).(685/58)
تلك صورة مختصرة لأبحاث الكتاب التي اشترك فيها كل من الأستاذين المكي والوزاني، وقد اعتمد الكاتبان في عرضهما لسياسة الحماية الفرنسية على كتب وتصريحات لكبار الفرنسيين الذين درسوا موضوع الحماية درسا قانونيا وواقعيا. وبذلك اشتمل الكتاب على نصوص كثيرة - تنشر لأول مرة في اللغة العربية - وتؤيد وجهة النظر المراكشية في اعتداء الحماية على وضعية البلاد التي اعترف بها في معاهدة الجزيرة سنة 1906 وهي الاستقلال التام. كما اعتمد الكاتبان على هذه النصوص في بيان أن معاهدة الحماية مخالفة للقانون الدولي، وللمعاهدات التي عقدت بين الدول المراكشية المستقلة والدول الأجنبية التي منها فرنسا. وقد بينا أيضاً - معتمدين على هذه النصوص - أن تطبيق معاهدة الحماية كان مخالفا لنصوص المعاهدة نفسها، بل للحماية كما يعرفها القانون الدولي. وفي الكتاب كذلك نصوص قيمة في تحليل معاهدة الحماية، وبيان ما تشتمل عليه من غموض وتناقض ومغالطات.
غير أن إعجابنا بالكتاب لا يمنعنا من أن نلاحظ عليه بعض الملاحظات نلخصها في النقط الآتية:
1 - من الخلاصة التي عرضتها في هذه الكلمة نلاحظ أن العنوان لا يطابق موضوع الكتاب. فلن تجد فيه شرحا لمراحل الجهاد المراكشي ضد الحماية الفرنسية. وإذا استثنينا الصفحات القليلة التي كتبت عن موقف السلطان عبد الحفيظ من الحماية الفرنسية، فلا نجد ذكرا لموقف الأمة المراكشية من هذه الحماية.
2 - في الكتاب نصوص كثيرة وخاصة في بحث الأستاذ الوزاني؛ ولكن الكتاب لم يستطع أن يستفيد من هذه النصوص القيمة، بل حشدها حشدا كان يكتفي به أحيانا عن التعليق أو الاستنتاج.
3 - وفي الكتاب خلط غريب يذهب بقيمته العلمية، فالظاهرة العامة الواضحة في الكتاب هي عدم التنظيم، ووضع الكتاب في وضعه الحالي لم يكن مستندا إلى المنطق، ولا إلى ترتيب تاريخي. ولعل هذا هو ما جعل الموضوع الواحد يتكرر في الكتاب عدة مرات، وجعل الكتاب يتناول موضوعا واحدا في صفحات متفرقة تفصل بينها مباحث أخرى، كما نرى في (تحليل معاهدة الحماية) فقد تناوله الكاتب في الصفحات 69، 78، 84.(685/59)
4 - ويتصل بهذه الملاحظة عدم ذكر المراجع في كثير من أبحاث الكتاب وخاصة عند دراسة الموضوعات المهمة كنظم الدولة المراكشية قبل الحماية، وخلع السلطان عبد العزيز لتفريطه في حقوق الأمة، وتولية السلطان عبد الحفيظ بعد أن أقسم اليمين على احترام شروط البيعة. كما يتصل بذلك أيضاً كثرة العناوين التي هي أجدر بالتهريج الصحفي منها بكتاب علمي، وركاكة الأسلوب الذي ترجمت به النصوص الفرنسية.
5 - ولعل أخطر ملاحظة هي أن الكتاب لم يتعرض لموقف إسبانيا مطلقا. مع أن المعروف أن مراكش تقع تحت النفوذين الفرنسي والأسباني. وأن إسبانيا شريكة لفرنسا بموافقتها على معاهدة الحماية، واحتلالها الجزء الشمالي من مراكش بمقتضى هذه المعاهدة نفسها. والذين يعرفون الموقف السياسي للأستاذ المكي يدركون سبب هذا النقص الخطير في الكتاب.
6 - وفي الكتاب نزعة حزبية ظاهرة، فقد نشر سنة 1946، وفي يناير سنة 1944 وقعت أخطر حركة سياسية وطنية في مراكش ضد الحماية الفرنسية؛ فقد اتحدت جميع الأحزاب والهيئات الوطنية في منطقة النفوذ الفرنسي تحت اسم جديد هو (حزب الاستقلال) ووضع الحزب وثيقة طالب فيها باستقلال مراكش وإنهاء عهد الحماية. وبذلك وضعت مراكش أول حجر في صرح الاستقلال ومرت البلاد بأخطر تجربة في تاريخها الحديث. ومع ذلك لم يتحدث الكتاب عن هذا الدور من (موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية) إلا في سطر أو سطرين. وتلك ظاهرة غريبة تمليها حزبية عمياء كنت أرجو أن يبرأ منها كتاب ينشر عن القضية المراكشية.
عبد الكريم غلاب(685/60)
العدد 686 - بتاريخ: 26 - 08 - 1946(/)
مما زيد على كتابنا (في أصول الأدب):
الجاذبية في القصص
الجاذبية هي الشوق الذي يبعث اللذة ويثير الاهتمام ويحرك الانتباه ويربط السامع أو القارئ بموضوع القصة أو الرواية. ومبعث هذا الشوق اختيار الموضوع المفيد أو الطريف، واصطناع الأسلوب الخالب والصور البراقة والنوادر الممتعة والحوار القصير السديد. وأثر هذه الجاذبية إما أن ينال الذهن أو المخيلة أو الوجدان.
فجاذبية الذهن أن يكون القصص مبعثاً للنور ومصدراً للمعرفة وداعياً إلى التفكير، كالجاذبية التي تحسها وأنت تقرأ تاسيت أو ابن خلدون. ومثل هذه الجاذبية تكفي في القصص التاريخي دون القصص الشعري، لأن الأول أساسه التعليم والإقناع، والثاني أساسه التأثير والإمتاع.
وجاذبية المخيلة تكون بتصوير مناظر الطبيعة للنفس وجلاء ألوانها للعيون، بالوصف الصادق والأسلوب القوي؛ ولكن هذه الجاذبية إذا لم تقترن بأخرى لا تلبث أن تبوخ وتضعف، فإن النفس لا تعلق إلا بما ينيرها أو يثيرها، فإذا لم تهتز للقصص فلا أقل من أن نستفيد منه
أما جاذبية الوجدان، فأن يحرك القصص في نفسك عوامل الألم أو اللذة، ويثير في حسك عواطف الحنان والقلق والدهش والهول والعزاء، ويذيقك لذة الشعور بأنك حساس؛ وهذه أمتع اللذائذ جمعاء. لذلك جاذبية الوجدان أقوى من أختيها، فهي تغني عنهما وهما لا تغنيان عنها. ولو تأملت في هذه الأحاديث (الحواديت) التي سايرت الإنسانية من جيل إلى جيل، وتذكرت فعلها الساحر في قلبك وأنت صغير، وجمال ذكراها في نفسك أنت كبير، لعلمت أن سر حياتها وقوتها ولذتها هو أن جاذبيتها من هذا النوع.
وأحسن القصص وأجوده ما أشتمل على أنواع الجاذبية الثلاثة. وشرط الجاذبية أن تتدرج في أجزاء الموضوع فتبدأ ضعيفة ثم تنمو كلما نما العمل وتعقد الحادث حتى تنتهي مع الحل وقد استراح السامع ونقع نفسه. ومن ثم كان حقاً على الكاتب ألا يبوح في البداية بما سيحدث في النهاية، وإلا أخطئه التوفيق وفاته التشويق وأعوزته الجاذبية. وإذا عرفت أن قوام الجاذبية في القصص هو حسن تدرجها فيه ودقة توزعها في مناحيه ناسب أن نعرض(686/1)
هنا إلى عناصره فنقول:
عناصر القصص الأساسية ثلاثة: العرض، والتعقيد، والحل: فالعرض يقوم بإعداد ذهن القارئ أو السامع إلى موضوع القصة أو الرواية أو الملحمة، فيصف مكان الحادث وزمان، ويُعرّف الأشخاص وأخلاقهم، ويذكر الحوادث التي سبقت القصة إذا كان هناك داع إلى ذلك. وقد يطول أو يقصر على حسب الموضوع، ولكن أخص صفاته أن يكون سريعاً إلى الغرض بريئاً من المقدمات، واضح المنهج، سالماً من الحشو والتكلف، داخلاً في الموضوع، خارجاً منه خروج الزهرة من الساق كما قال شيشرون. أما طريقته فتختلف باختلاف الحادث والظروف: فطوراً يلقي الكاتب بالقارئ في الموضوع دفعة واحدة، ثم يسوق الحوادث الأولى ببراعة ودقة؛ وطوراً يبتدئ منفجراً بعاطفة مكظومة منذ طويل؛ وقد يبتدئ بحكمة بليغة، أو مثل سائر، أو رسم طبوغرافي مشوق، أو وصف تاريخي ممتع. والعبقرية الخالقة لا تُرسم لها الطرق ولا توضع لها القيود.
والتعقيد هو جسم القصة، أو الموضع الذي تشتد عنده الجاذبية، وتشتبك الحادثة، وتمتزج الوقائع والأشخاص والظروف، حتى يُشكل على القارئ الأمر ويعمى عليه الخبر فلا يعرف منه مخرجاً ولا يدري له نتيجة. فخاصته كما رأيت تقوية الجاذبية وتنميتها؛ ولا يتسنى ذلك للكتاب إلا إذا أسدل على النهاية حجاباً شفافاً، ووقف القارئ بين الرجاء والخوف، وجانب التطويل الذي يعوق سير العمل، واحتفظ للنهاية بسرور المفاجأة أو دهشة الفجيعة
والحل هو الجزء الأخير الذي يبرد فيه الشوق وتحل العقدة وتظهر النتيجة. ولا بد أن يكون كل ما سبقه مهيّئاً له وصائراً إليه، دون أن يعلنه أو يدل عليه. فإن القارئ إذا حزره قل شوقه إليه وأنقطع اهتمامه به. والشرط الأساسي لإجادة الحل ألا تزيد عليه، لأن السامع إذا علم ما كان يجهله، وأدرك ما كان يشغله، قرت نفسه وخمد نشاطه، فلا يريد أن يعلم شيئاً
ومن أحسن المُثل على دقة التعقيد وبراعة الحل قطعة من كتاب (الشهداء) لشاتوبريان سيد كتاب فرنسا يصف بها مقتل الشهيد (أودور)، وقد حمل نفسه على أن يتجرع الغصة الأخيرة من عذابه الأليم دون أن يرتد عن دينه، ولا أن يتزحزح عن يقينه، حتى نمى إليه(686/2)
أن امرأته (سيمودوسيه) على وشك أن يحكم عليها القضاء بالعيش في مواخير الفجور إذا هو لم يقدم القربان إلى الآلهة. كان حبه لزوجه فوق حبه لحياته، فهل يكون حبه لربه فوق حبه لزوجه؟ ذلك ما لا ندريه
(أغمى على أودور. وأسرع الناس إليه، والتف الجند من حوله، واستولوا على الكتاب، وطلب الشعب أن يقرأ عليهم. فقرأه أحد النواب بصوت جهير. وظل الأساقفة سكوتاً والهين، والمجلس يعج بالضجيج والحركة. عاد أودور إلى رشده، فرأى الجند بين يديه يصيحون به: (هلم يا رفيقنا، قرب القربان، وهذه أعلامنا تقوم مقام الهيكل)، ثم قدموا إليه قدحاً مملوءاً بالنبيذ ليريقه. فثارت في قلب أودور عواصف الفتنة، وتجاذبت رأيه عوامل الوساوس: كيف تصير (سيمودوسيه) إلى مواخير الفسق؟ وكيف تصبح بين ذراعي (هيبروقليس)؟ نفج الشهيد صدره، وأنكسرت آلة عذابه، فسال دمه غزيراً، فضج الشعب وجثا إشفاقاً عليه ورحمة له، وأخذ يهيب به مع الجنود: (قرب القربان! قرب القربان!) هنالك قال أودور بصوت خافت متهافت: أين الأعلام؟ فقرع الجنود تروسهم علامة الفلج والظفر، وبادروا إلى أعلامهم فحملوها إليه. فنهض أودور يسنده حارس، وتقدم حتى وقف أمام البنود؛ وقد خشعت الأصوات وشمل السكون، ثم تناول القدح فستر الأساقفة رءوسهم بفضل مسوحهم، وصاح القساوسة صيحة الجزع. ولكن أودور رمى بالقدح، وألقي بالأعلام، والتفت إلى الشهداء وقال: أشهد أني مسيحي!!)
فأنت ترى أن جاذبية قوية استولت عليك وأنت تقرأ هذه القطعة؛ لأن عزم أودور ظل مجهولاً حتى نهاية الأمر. فلما طلب الأعلام بصوت خافت وقع في نفسك بعض ما وقع في نفوس الشهداء والقسيسين من الضيق والحزن. حتى إذا أهاب به القساوسة إلى الواجب وألقى بالقدح وقال: (أشهد أني مسيحي) تفرَّجتَ من الهم وتنفَّستَ تنفس الراحة!
أحمد حسن الزيات(686/3)
أنا والإذاعة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(أذيعت من محطة إذاعة دمشق يوم الأربعاء 15 - 8 -
1946)
أيها السادة:
إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاءوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم، فأخاطبهم على قدر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة، فإذا هم يصعدون بي درجاً بعد درج حتى إذا كلَّت رجلاي من الصعود، وهممتُ بالرجوع، قالوا: قد وصلنا، فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من (عمارة البرق والبريد)، فتلفتُّ أنظر أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يبني على رأس مئذنة! وأين الناس؟
وإذا هم يدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب، وقالوا: (هُسْ)، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِشْ بأوراقك. .!
فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟
قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت
وفتح الباب، ودخلنا إلى غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شباك ولا باب ولا نافذة ولا كوّة ولا شقّ لدخول الهواء، ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوّت أصواتاً بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزّمرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أو يخطب، أم هو مصروع معتوه يخلِّط، أن يتكلم بلسان أهل مالطة، فلم أهتد إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدم من العلبة أحد(686/4)
موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. . .
فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟!
سبحان القادر على كل شيء!
وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟
قالوا: هسْ! هسْ!
وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. وقال: تفضل يا أستاذ، أقعد وتكلم!
قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟!
قال: تكلم هنا. . . وأشار إلى العلبة
قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً، فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. . . أهذا أنا؟ وأنعمت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها، ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها، وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم أَلقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد، وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ. . . الوحيد. . . في هذه العصبة، بعمامتي و. . . وكدت أقول، ولحيتي، ثم ذكرت أني تركت اللحية عند الحلاق. . .!
فاستسلمت للمقادير، وقعدت، والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحل بي هذه الليلة ما هو أعظم!
نعم. لقد ظلمت، أيها السادة، وظلمتم معي، لأن أكثركم يؤثر (عتاباً) بلدية، أو (قرّادية) نقدية، أو أغنية شاكية باكية، ميتة مميتة، لا شرقية ولا غربية. من أغاني عبد الوهاب على كلُّ ما في الدنيا من محاضرات، ولكنكم تستطيعون أن تديروا مفتاح الرادّ، فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليَّ بما يوحيه إليكم نبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً، ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حُبست في مارستان، لا أخرج منه حتى(686/5)
أكلم علبة من حديد ربع ساعة لا تنقص ثانية ولا تزيد!
فلنستعن بالله، ولنتحدث. . .
ولكن خبروني أولاً: هل تسمعون كلامي حقيقة؟!
أما أنا فلا أصدق أنكم تسمعون مني، وكيف يسمع من هو في المهاجرين وحمص وحلب والقاهرة وطهران ما لا يسمعه هذا الأخ الجالس أمامي وراء الزجاج، والذي يبدو عليه أنه لا يدري ماذا أقول، فلا يبتسم، ولا يعبس، ولا يفتح عينيه، ولا يرفع حاجبيه، ولا يصنع شيئاً يدل على أنه سامع، وهذا من نعم الله على، فلو سمعني أتكلم عنه لما نجوت منه بسلام!
فإذا كنتم تسمعون (يا سادة) كلامي، فأشيروا إلي، أو صفقوا، أو قربوا أفواهكم من (الرادّ) وصيحوا - إني انتظرت فلم أسمع صيحتكم، فلم يبق إلا أن أصنع كما صنع زميلنا المحترم (جحا)، حين أذن ونزول من المنارة يعدو، قالوا: إلى أين يا جحا؟ قال: أريد أن الحق صوتي فأنظر إلى أين وصل؟
ولنفرض أنكم سامعون، فعم أحدثكم؟ ومن لي بالحديث الذي يرضيكم جميعاً: العالم منكم وغير العالم، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، وأي معلم يستطيع أن يلقي درساً واحداً يفهمه تلميذ المدرسة الأولية وطالب الجامعة ومن بينهما ويرضون عنه ويعجبون به.
لقد فكرت طويلاٌ، وحشدت قوى نفسي كلها، وما تعلمت من علم وما حفظت من مسائل، لآتيكم بحديث يدهشكم حتى تقولوا: ما شاء الله كان! ما هذه المحاضرة؟ شيء عظيم جداً، ولكني لم أستقر على موضوع. . .
قلت: الدنيا الآن في رمضان، وخير الأحاديث حديث الدين، وما أسهل الكلام في الدين هذه الأيام وما أيسر أن يجعل المرء نفسه مجتهداً، وأن يرى الرأي المخالف لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والليث بن سعد والأوزاعي، وكل مجتهدي الأرض فيتمسك به ويخطئ المخالفين له: من كان منهم ومن سيكون إلى يوم القيامة. ولم لا؟ إنه رجل وهم رجال، والساعاتي والنجار والموسيقي رجال أيضاً، فلماذا لا يكونون أئمة مجتهدين، ما دام العلم بالعربية نحوها وصرفها وبلاغتها، والفقه أصوله وفروعه، والتفسير والحديث ليس شرطاً في الاجتهاد؟(686/6)
وما دامت الحكومة تمنع غير الطبيب أن يكتب صفة دواء، وغير المهندس أن يرسم مصور بناء، وتدع من يشاء يتكلم في الدين والأدب بما شاء؟ وما دام كلُّ ما يحتاجه الرجل في هذه الأيام ليكون واعظاً مرشداً يقتدي به ويستمع لقوله، وتقبل يده ويتمسح بذيله، أن يعّرض لحيته، ويكور عمته، يوسع جبته، ويطول سبحته، ويتكلم كلاماً تقبله العامة، ولو خرف وخلط وضلل، وأكلُّ الدنيا بالدين، وأستغل غفلة الغافلين، لا يسأله سائل عما يفعل أو يقول!
لا. . . لن أتكلم في الدين، فالكلام فيه شديد الخطر، فأنا أخشى أن أقول الحق فأغضب الناس، أو أقول الباطل فأسخط الله. ثم إني طلبت الليلة مرضاة السامعين، وأكثر السامعين لجهلهم بالدين، ولطول ما رأوا من أدعياء العلم فيه، منصرفون عنه زاهدون في حديثه، حتى الأتقياء الصالحون منهم، الذين يتمسكون في رمضان بدينهم، فيقضون نصف النهار في (الأموي) نائمين يشخرون وينخرون أو متحلقين حلقاً يمزحون في الجامع ويضحكون ويكذبون ويغتابون!
فلنتكلم في الأدب، فالأدب أسلم عاقبةً، وأوسع حريةً، وهو هيّن عليّ وعلى غيري، وقد صار الأدب الآن كوصل ليلى كلُّ يدعيه، وكل من يستطيع أن يكتب كلاماً في ورقة، ويجد صفافاً يصَّف له حروفه، وصاحب جريدة ينشره، فهو كاتب بليغ، وكل من يأتي بلفظ موزون أو شبه موزون فهو شاعر مفلق، وكل من يحفظ خبراً عن أبي تمام والمتنبي، أو هوغو ولامارتين، أو شكسبير وملتون، فهو أديب أريب، وكل من عاب كاتباً كبيراً بحق أو بباطل فهو ناقد محقق، ومن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناء آدم عليه السلام، ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكير غير آدمي، وتكلم كلاماً ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي، وإن في الرمزية متسعاً لجميع الأغبياء والأدعياء. وإذا شكا القراء انهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي، فالقراء جاهلون رجعيون جامدون!
لا - يا سادة - إن الأدب امتُهن وابُتذل، فلن أتكلم في الأدب!
أفأتكلم في السياسة؟ إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجل قوانين الحكومة، ويتكلم في رجالها، ويتهم كلُّ أمين يكرهه بالسرقة، ويصف كلُّ سارق يحبه بالأمانة، ويكون له رأي في الملك عبد الله، وابن سعود، واتلي، ومولوتوف، وترومان، ويرسم أحسن الخطط(686/7)
لمحاربة الغلاء، وتنظيم ملاكات الموظفين، وحل مشكلة فلسطين، وإدارة ألمانيا المحتلة، ويقترح وجوه الإصلاح للجامعة العربية، وهيئة الأمم المتحدة، ولو كان تاجراً أمياً، أو سائق ترام، أو شيخ ضيعة، يضع بصمة إبهامه مكان التوقيع على دفاتر الانتخابات!
لا. . . لن أتكلم في السياسة، أفأتحدث إليكم في الفلسفة؟ لقد اشتغلت بها حيناً، وأنا أستطيع أن أتفلسف متى أردت، ولا يكلفني ذلك إلا أن أقول ما لا أفهمه أنا ولا القراء، وأن أنظر كلُّ ما تواضع عليه الناس من أفكار وعادات، فأقيم لهم أدلة غامضة لا تدرك، على أنه خطأ وأن الصواب هو عكسه!
وبعد - يا أيها سادة - فاعلموا أن وقت حديثي قد انتهى، وأني قد خدعت القائمين على المحطة، فأطعتهم وكلمت العلبة ربع ساعة، وقبضت الأجرة، ولم أقل شيئاً. وكذلك يكون الرجل الناجح في هذه الأيام، يأخذ الأجرة من غير عمل، ولنا في ساداتنا العلماء الأعلام مدرسي دائرة الفتوى قدوة غير حسنة. . .
هذا، وأنا لا أدري هل يدفعون لي أجرة، أم أنهم سيكتفون بشكري الجزيل. . . فإذا أعطوني شيئاً ربحنا، وإلا فحسبنا أننا لم نعطهم شيئاً نندم عليه!
ولا تعجبوا - يا سادة - فكل الناس تاجر يعرض بضاعته، ونحن معشر الأدباء بضاعتنا الكلام، وكل كلام له ثمن، فهاتوا كثيراً تسمعوا جيداً، وإلا فالبضاعة كلها من هذا النوع!
(دمشق)
علي الطنطاوي(686/8)
صور من العصر العباسي:
الخلفاء العباسيون والتجسس
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 2 -
وثمة خليفة آخر أولع ببث العيون، وتسقط الأخبار، حتى على وزرائه وخاصته، وهو المعتضد. وقد أورد التنوخي قصة تدل على مبلغ شغف هذا الخليفة بالتجسس، ومهارة المتجسسين في ذلك العصر. فقد كان القاسم وزيره يحب الشرب واللعب، ويخاف أن يتصل بالخليفة خبره فيستنقصه وينسبه إلى الصبوة والتهتك والتشاغل في اللذات عن الأعمال. وكان لا يشرب إلا على أخفى وأستر ما يكون. فخلا يوماً مع جوار مغنيات، والبسن من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كثيرة وشرب ولعب من نصف النهار إلى نصف الليلة الأخرى، ونام بقية الليلة، وبكر إلى المعتضد للخدمة على رسمه، فما أنكر شيئاً. وبكر في اليوم الثاني، فحين وقعت عين المعتضد عليه قال له: يا قاسم، ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك وألبستنا معك من ثيابك المصبغات؟ فقبّل الأرض وروى عن الصدق، وأظهر الشكر على هذا التبسط، وخرج وقد كاد يتلف غماً لوقوف المعتضد على هذا القدر من أمره، وكيف لا تخفي عليه مواقفه. فجاء إلى داره كئيباً، وكان له في داره صاحب خبر يُقال له خالد يرفع له أمورها، فأحضره وعرّفه بما جرى بينه وبين المعتضد، وقال له: إن بحثتَ لي عمن أخرج هذا الخبر زرتُ في رزقك وأجزتك كذا، وإن لم تعرفه نفيتُك إلى عُمان، وحلف له على الأمرين. فخرج صاحب خبره من حضرته متحيراً كئيباً لا يدري ما يعمل، وأخذ يفكر ويحتال ويجتهد. قال صاحب الخبر: فلما كان من الغد بكرتُ إلى دار القاسم زيادة تبكير على ما جرى به رسمي لفرط سهري وقلقي تلك الليلة ومحبتي للبحث، فجئتُ ولمُ يُفتح ولم يفتح باب دار القاسم بعد. فجلست. فإذا برجل يزحف في ثياب المكدين ومعه مخلاة كما يكون مع المكدين. فلما جاء إلى الباب جلس حتى فُتح، فسابقني إلى الدخول، فأولع به البوابون وقالوا: أي شيء خبرك يا فلان؟ وصفعوه فمازحهم وطايبهم وشتمهم وشتموه، وجلس في الدهليز فقال: الوزير يركب اليوم؟ قالوا: نعم. . . الساعة(686/9)
يركب. قال: وأي وقت نام البارحة؟ قالوا: وقتَ كذا. فلما رأيتُه يسأل عن هذا خّمدتُ أنه صاحب خبر، فأصغيتُ إليه، ولم أرهم يحفلون بأمره. وهو لم يدع بواباً ممن وصل إلى الوزير وممن لم يصل إلا سأله عنه، وكان يبدأه بأحاديث أخر على سبيل الفضول، ثم زحف فدخل إلى جنب أصحاب الستور، فأخذ معهم في مثل ذلك، وأخذوا معه في مثله. ثم زحف فدخل إلى دار العامة. فقلتُ لأصحاب الستور: من هذا؟ قالوا: رجل زمنٌ فقير أبله طيب النفس، يدخل الدار، ويتطايب، فيَهب له الغلمان والمتصرفون. فتبعته إلى أن دخل المطبخ فسأل عما أكل الوزير، ومنْ كان معه على المائدة، وفي أي شيء أفاضوا، والطباخ وغلمان صاحب المائدة كلُّ واحد يخبره بشيء، ثم خرج يزحف حتى دخل حجره الشراب، فلم يزل يبحث عن كلُّ شيء، ثم خرج إلى خزانة الكسوة، فكانت حالته وصورته هذه. ثم جاء إلى مجلس الكتاب في الديوان، فأقبل يسمع ما يجري، ويسأل الصبي بعد الصبي، والحدث بعد الحدث. عن الشيء بعد الشيء، ويخلط الجد بالمزاح والتطايب بكلامه والأخبار تنجر إليه، وتتساقط عليه، والقطع تجيئه وهو يملأ تلك المخلاة، فلما فرغ من هذا أقبل راجعاً. فلما بلغ الباب تبعتُه، فرجع حتى جاء إلى موضع من الخلد فدخل إليه، فوقفت أنتظره، فإذا هو بعد ساعة قد خرج بثياب حِسانٍ ماشياً. . . فتبعتُه حتى جاء إلى دارٍ قرب دار الخادم الموكل بحفظ دار ابن طاهر فدخلها، فسألت عنها، فقالوا: هذه دار فلان الهاشمي، رجل متجمل. فرصدته إلى وقت المغرب، فجاء خادم من دار أبن طاهر فدق الباب، فكلمه من خوخة له، فصاح به، ورمى إليه برقعة لطيفة، فأخذها الخادم وانصرف. فبكرت من سحر إلى الدار التي في الخلد، ومعي غلمان، فإذا أنا بالرجل قد جاء بزيه الذي دخل به داره، فكبسته في الموضع، فإذا هو قد نزع تلك الثياب ولبس ثياب المكدين التي رأيتها عليه أولاً، فحملته وغطيت وجهه وكتمتُ أمره حتى أدخله دار القاسم ودخلت إليه وقصصت عليه الخبر. فاستدعاه وقال: لتصدقني عن أمرك أو لا ترى ضوء الدنيا ولا تخرج من هذه الحجرة. قال: تؤمنني؟ قال: أنت آمن. فنهض وقال:
(أنا فلان بن فلان الهاشمي، رجل متجمل، وأنا أتخبر عليك للمعتضد منذ كذا. . . ويجري علّى المعتضد خمسين ديناراً في الشهر، أخرج كلُّ يوم بالزي الذي لا ينكر جيراني، فأدخل داراً في الخلد بيدي منها بيت بأجرة، فيظن أهلها أني منهم، ولا ينكرونني لزيي، فأخرج(686/10)
هناك بهذه الثياب وأتزامن من الموضع، وألبس لحية فوق لحيتي مخالف للوني، حتى لا يعرفني من يلقاني في الطريق، وأمشي زحفاً إلى دارك، فأعمل جميع ما عرفت، وأقتفي أخبارك من غلمانك، وهم لا يعرفون غرضي، وُيخرجون لي بالاسترسال ما لو بذل لهم فيه من الأموال الكثير لم يُظهروه، ثم أخرج إلى موضع من الخلد فأغير ثيابي، وأعطى ما اجتمع معي في المخلاة للمكدين، وألبس ثيابي الحسان، وأعود إلى منزلي، فإذا كان المساء جاءني خادم من خدم ابن طاهر مندوب لهذا، فأرمي إليه برقعة فيه خبر ذلك اليوم ولا أفتح له باباً، فإذا كان آخر الشهر جاءني فأعطيته الرقعة ويعطيني الجائزة. . .!)
قال صاحب الخبر: فحبسه القاسم أياماً فحسبه أهله أنه مات، فأقاموا عليه المآتم، فدخل القاسم على المعتضد فقال له: إبراهيم الهاشمي التزامي، بحياتي أطلْقه وأحسن إليه. . وأنت آمن من بعدها من أن أنصب عليك صاحب خبر
فتركه القاسم، وانقطعت أخباره عن المعتضد
فهذه قصة رائعة طريفة تدلك على مبلغ حب المعتضد تسقط الأخبار، ومبلغ مهارة أهل ذلك العصر في الحيلة والبراعة في التجسس، وهي قصة لا تحتاج إلى تعليق، فما قرأت في بابها في كتبنا القديمة أشوق منها ولا أحلى
ومن هذه القصة، ومن الأخبار التي سردتها لك في العدد الماضي - من قبل - ترى ما كان للتجسس من شأن عند الخلفاء العباسيين. أما عناية الوزراء بالتجسس وتحسس الأخبار، فسأبينه في مقال آت.
جديتا (لبنان)
صلاح الدين المنجد(686/11)
إلى المجمع اللغوي:
الأسماك في الشواطئ الحضرمية
للأستاذ علي عبود العلوي
تمهيد:
لاشك أن وجود الأسماك بكثرة في الشواطئ الحضرمية هو الحافز الأعظم لبعض مفكري الحضارمة في السعي وراء تأسيس شركة تجارية بمهجر الحضارمة (جاوة) من غايتها استغلال الثروة الوطنية وتنميتها بإنشاء مصنع لحفظ الأسماك في العلب وتصديرها فيما بعد إلى الخارج.
ولا غرو أن يهتم بالسفر إلى ميناء حضرموت (المكلا) رئيس الشركة السيد علي بن شهاب لدرس ما يقتضيه المشروع ورفع تقرير لأعضاء الشركة. غير أن المشروع أخفق في مسعاه ولا أعرف بالضبط ما هي الأسباب الموجبة لذلك.
وتاريخ هذه الخطوة التفكيرية الأولى يرجع إلى أثناء الحرب الماضية حرب (1914م) على ما أذكر.
ولئن أخفق هذا المشروع فإنه لم يقضِ على الفكرة أصلاً. وغاية ما في الأمر أنها تنبعث مرة وتخفت أخرى. حتى دبَّ إلى النفوس خير انعقاد مؤتمر الإصلاح الحضرمي المنعقد بسنغافورة في سنة 1346 - 1927 فانبعثت الفكرة مرة أخرى، ولكن في صورة واسعة النطاق. إذ وافق المؤتمر على تأسيس شركة تجارية حضرمية برأس مال كبير من غايتها استغلال الثروة الوطنية، ورشح لهذا القرار لجنة تتألف من أغنياء الحضارمة وسراتهم برئاسة المثري الشهير السيد عبد الرحمن بن شيخ الكاف. غير أن مقررات المؤتمر قضى عليها بجرة قلم ولم تكن هي من نصيب بحثناً لنوليها مزيداً من البحث والتعليل والتدليل.
ودليل آخر أضيفه إلى ما سبق أن أشرت إليه فقد حدثت بعد
عودتي إلى الوطن من الكنانة في 1181942 من رحلتي التي
استنفذت من العمر زهاء خمس عشرة سنة أن عظمة السلطان(686/12)
صالح بن غالب القعيطي معتزم إنشاء حوض كبير لتربية
الأسماك والاستفادة منها علمياً.
فمتى يتحف عظمة السلطان شعبه الحضرمي بهذه المكرمة الجليلة التي لم تكن هي إحدى مكارمه؟ فعسى أن يكون ذلك قريباً.
معجم للأسماك:
واغتنمت فرصة وجودي في (المُكلاَّ) للتعرف إلى أبناء الثغر الحضرمي، وقد لقيت منهم تأهيلاً كبيراً، وممن تحدثت معه عن وضع معجم للأسماك الأستاذ عبد الله الناخبي فهش للفكرة - وقال: إن نفس هذه الفكرة قد سبق أن أوحى بها إليه عظمة السلطان صالح القعيطي، ومن أجل ذلك فإنه دائب في البحث، وأنه كتب مذكرة عن الأسماك تضم زهاء مائتين وخمسين اسماً.
ولا أزال أرجو من الأستاذ الناخبي أن يجد في البحث لكي يتحف العالم العربي بثمرات أبحاثه.
غير أني أخشى أن تقعد بالأستاذ الناخبي أعماله المدرسية وشواغله اليومية. فقد اتضح لي أنه طيلة المدة التي قضيتها في حضر موت وهي سنة وثلاثة أشهر لم يقدر له أن يواصل البحث الذي سبق أن حدثني عنه بشيء يذكر.
وقبل أن نتجه الغاية المقصودة يجدر بنا الإشارة إلى أن للسيد الشاعر عبد الرحمن محمد بن شهاب الدين العلوي المتوفى في حدود سنة1270 هـ قصيدة طويلة ضمنها أسماء الأسماك الموجودة بالشط الحضري، ولم تقع هذه القصيدة تحت نظري وإنما حدثت عنها وهي مشهورة بحضر موت وموجودة منها نسخ في مهجر الحضارمة. جاوة، ولن تخلو منها مكاتب حضرموت، ولا شك أنها من محفوظات خزانة حفيده السيد الجليل عبد الرحمن عبد الله بن شهاب في (الغناء ترم).
فهل يتحف بها (الرسالة) الغراء أحد أدباء القطر الحضرمي؟
ومما وقع تحت نظري له وأنا في سن المراهقة قصيدة المشهورة التي وصف فيها المرأة وخصها بالمفاضلة ما بين البيض والسمر والخضر والسود.(686/13)
فيا هل ترى وصف لنا الصهب والزرق إلى غير ذلك؟ لا أدري فذلك عهد طال به العهد ولم يبق عالقاً ببالي منه شيء.
ومن قصائده المشهورة في المفاضلة قصيدة التي خصها بالنخيل ويقال إنه ذكر فيها زهاء مائتين وخمسين اسماً من أسماء النخيل الموجودة بحضرموت.
ومما علق بذاكرتي منها قوله يصف نوعا من النخل يسمى باليتيمة:
وعَادْ تمر اليتيْمة، يُعجبَك خُزْعُهْ وصَيْمهْ تقدوم لأهْلِ التّفخَّار. التخميس (ما شيء كما التمرْ في الدار).
(الألفاظ: عادْ. بمعنى بقى. والخزْعُ من التمر ما أخرج نواه. الصِّيْم: هو ما أخرج نواه أيضاً، وهُرسَ بالأرجل كما هو معروف في حضرموت. أهل التّفخارْ: هم الضيوف الذين يفدون على بيوت الكرم ممن يفخر بهم).
وأكثر أشعار هذا السيد (حُمَيْنِيَّةْ) أي أنه لم يلتزم فيها قواعد الإعراب ولها عروضها الخاصة لأنها تتابع الأنغام.
وهذا السيد هو والد الشاعر الكبير شيخ النهضة الحضرمية أبو بكر بن شهاب (راجع (الرسالة) الغراء عدد423 صفحة 1007) ومؤلفنا عنه (الشهاب العلوي).
وأخيراً أتاحت لي الفرص التعرف على أسماء جانب من الأسماك، وذلك بفضل الرحلة الشاقة التي دفعت ثمنها بالمخاطرة الروحية.
إذ أقلتني من ميناء حضرموت (المكلاَّ) إلى (جدة) ساعية شراعية. حقاً إن هذه الرحلة شاقة مضنية ولكنها تذكرنا بآثار آبائنا الصِّيد الذين كانوا يخترقون البحار بمراكبهم الشراعية، وكانت لهم السيادة البحرية إذ ذاك.
وكانت بواخرهم تقلع من موانئ حضرموت إلى أقاصي الشرق الأقصى، ولهم في الميدان تاريخ عظيم القدر مشهور بمكانته العظيمة، ولهم مع البرتغال مواقف مشهورة ليس هذا موضع الحديث عنها.
وكان علماؤهم لا يدعون الأوقات تمر عليهم سدىً فكانوا يحصلون العلم وهم في أثناء سفرهم الذي يمتد بهم إلى أكثر من ستة أشهر إلى أن يصلوا إلى الموانئ الشرقية بجزر الملايو وجاوة.(686/14)
وفوق هذا فقد كانوا يقضون على السآمة التي تعقب مثل هذه الرحلات الشاقة بما يتفرغون له من دروس علمية أثناء سيرهم واستنساخ بعض الكتب العلمية التي هم في حاجة إليها.
وعسى أن تتاح لي الفرصة فأوافي (الرسالة) الغراء ببحث خاص ذا صلة بالموضوع، ومن كان متعجلاً فليراجع ما ورد بهامش مقال لنا نشر في عدد 234 من مجلة الرابطة العربية تحت عنوان: خصائص الشعر في عصر ابن شهاب أو يبل غلته بمراجعة تاريخ دخول الإسلام إلى (الفليبين) وهو من تأليف الدكتور نجيب صليب اللبناني المتوفى سنة 1935، وهو مطبوع في اللغة الإنجليزية طبع (مينلا) سنة 1905م
لقد كانت المدة التي قضيتها في البحر من حين أبحرنا من
(المكلا) بعد ظهر يوم الأحد في 7111943 إلى أن أرست بنا
السفينة في ميناء (جدة) في 25111943 هي الكفيلة بأن تتيح
لي ما لم يكن في الحسبان.
وكانت الدواعي التي تجعلني أهتم بالبحث في التعرف على أنباء اليم كثيرة، ولو لم يكن منها إلا المتعة الغذائية التي يتحفنا بها اليم في صباح كلُّ يوم ومسائه لكانت هي وحدها كافية فضلا عن الناحية العلمية التي يجدر بنا أن نشارك فبها بحسب المستطاع.
لفتت نظري هذه الأحياء العظيمة التي نشاهدها في البحر في كلُّ آن، وهي تمشي زرافات ووحدانا، والتي منها ما يتحدى سفينتنا في مجراها. فكاشفت ربان السفينة الحضرمية والبحارة وزملاؤهم أن لي شغفاً بالتعرف على هذه الأسماك مما شاهدنا وما لم نشاهد. فما كان منهم إلا أن أمدوني بهذه المعلومات التي أدونها (للرسالة) الغراء، ولهم علي فضل التنويه والشكر.
ولم يحجم أبناء البحر - أستغفر الله - بل أخدانه عن الحديث إلا ريثما أدون ما يفوه به المتصدي للحديث، وكنت أدقق في ضبط الألفاظ غاية التدقيق حتى إذا ما أشكل عليَّ لفظ استعدته مرة أخرى. هذا ما كان من جانبي؛ أما ما كان من جانبهم فانهم كانوا مرهفين أسماعهم لمحدثي. فإذا ما قدم أو أخر نبهوه إلى غلطة في الحال.
فكانت لدى متعة روحية طيلة الساعتين التي قضيتهما في العوم مع الأسماك.(686/15)
(يتبع)
علي عبود العلوي(686/16)
وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
- 1 -
نحن جديرون بأن نعنى بمآثر الشاعرات العربيات من بنات قومنا في القديم والحديث. فبهذه العناية نؤدي بعض ما لهن من الحق علينا في مضمار الشعر واللغة، وضربهن بسهم وافر في إظهار شعورهن نحو لغتهن وبنات أمتهن، ومنهن الحديثات ممن تتبعن خطط سابقاتهن فنسجن نسيجاً يليق بنا أن نطلع القراء ما يتيسر إيراده في هذه العجالة فنحفظ لهن ذكراً باقياً حافزاً لغيرهن من النساء أن يسلكن هذا المسلك الظريف فيكن أوتاراً موسيقية لأبناء الجبل وبناته. وهذه الشاعرة وردة بنت الشيخ ناصيف اليازجي من شاعرات أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان أكثر شعرها رثاء وذلك للنكبات التي حلت بهذه الشاعرة المسكينة فانهالت عليها كالسهام لأنها نكبت بكل اخوتها وأختها وأبيها وابنتها وزوجها. فبكتهم الخنساء على اخوتها وأولادها، وحذت حذوها في نسق الرثاء وذكرتها مراراً في قصائدها المملوءة من النواح، وهذا ديوانها (حديقة الورد) طافحاً بالمراثي والمآتم والدموع المسكوبة على من فقدتهن من أفراد أسرتها الأعلام، وغيرهم من الأفاضل الكرام.
أما سيرتها: فقد ولدت في كفر شيحا في لبنان في العشرين من شهر يناير من سنة 1838م (1253هـ) ثم انتقل والدها إلى بيروت وأدخلها مدرسة البنات للمرسلين الأمريكيين. ولما بلغت الثانية عشرة لقنها والدها أصول الصرف والنحو والبيان والعروض فنبغت فيها، ورآها والدها مطبوعة على الشعر فرشحها له فنظمت عدة قصائد وهي لم تناهز الرابعة عشرة، ثم أخذت تكثر من النظم والرثاء والمديح وغيرهما، وقد أجادت في الرثاء كما قلنا لما منيت به أسرتها من المصائب الفاجعة. وقد اقترنت بفرنسيس شمعون سنة 1866م وصرفت أكبر قسم من حياتنا في مصر في مدينة الإسكندرية، وتوفيت فيها في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1924م (1342هـ)، وتعرف بأنها أول امرأة نبعت في الأدب العربي في القرن التاسع عشر، وتظهر كتاباتها مقدرة عظيمة في طريقة التركيب على نمط والدها، ومحتويات أشعارها قصائد تنطق بظروف ذات علاقة متينة بتاريخ عائلة(686/17)
اليازجي. ولها مع أديبات عصرها في سوريا ومصر وبغداد مساجلات ومراسلات تنم عن لطف وبراعة في التعبير، ونشرت عدة من المقالات بعضها في مجلة الضياء تناولت فيها قضية المرأة الشرقية وغيرها، وغلب على نظمها مسحة الشعر اليازجي في السهولة والرقة، وقد عمرت طويلاً. وممن كتب عنها من الغربيين المستشرق بروكلمن 11495) وأما الشرقيون فكثيرون نخص بالذكر منهم الأب لويس شيخو اليسوعي (الملاحظات شيخو: التأريخ ص 415 - 16 ونفس الفهرست ص 213 العدد 829) ومحاضرات الآنسة مي (مريم زيادة وقد خصصتها بها وقد طبعت في القاهرة في مطبعة البلاغ المحتوية على اثنين وستين صفحة مع الرسم). أما ديوانها (حديقة الورد) فقد طبع مرتين في بيروت سنة 1867م، سنة 1881م وفي القاهرة للمرة الثالثة سنة 1913م (1232هـ) وزيد على طبعته الأخيرة كثير من القصائد النادرة لها. وأما شعرها فينقسم قسمين: الرثاء والمديح، ولنبدأ الآن بالمديح. فمن ذلك أن قالت في جواب أبيات وردت عليها من وردة بنت المعلم نيقولا الترك الشاعر في مطلع ديوانها.
يا وردة الترك أني وردة العرب ... فبيننا قد وجدنا أقرب النسب
أعطاك والدك الفن الذي اشتهرت ... ألطافه بين أهل العلم والأدب
وقالت في جواب رسالة إلى الست كاتبة بنت موسى بسترس وفي هذا تورية لطيفة لأن اليازجي بالتركية يعني الكاتب:
بيني وبينك في الأسامي نسبة ... لا في المعاني أنت فوق مراتبي
سميت كاتبة بكل لياقة ... وأنا كما تبغين بنت الكاتب
وقالت وقد عادت صديقة لها من سفر:
زار الحبيب فزار أجفاني الكرى ... ودنا سرور كان عن قلبي سرى
لا تنكروني إن غاب عني مرة ... شيم الكواكب أن تغيب فتظهرا
ثم تقول:
أهلا بمن أخذ القلوب وديعة ... وأعادها معه تخوض الأبحرا
وقالت في رسالة إلى صديقة لها وقد كانت في سفر:
مني السلام على الذي هجر الحمى ... فجرت دموعي كالسحائب عندما(686/18)
الشوق زاد من البعاد تحسراً ... والنوم صار على العيون محرما
ثم هي تقول فيها:
يا راحلا أضحى فؤادي عنده ... وبقيت من وجدي أراعي الأنجما
وكذلك قالت:
مني السلام إلى من سار في السحر ... وبدّل العين بعد النوم بالسَهر
وقالت وقد بعثت بها إلى إحدى صواحبها وقد كانت في سفر:
رحل الحبيب وحسن صبري قد رحل ... فمتى يعود إلى منازله الأوَل
وتضئ أرض أظلمت من بعده ... وتقر عيني باللقا قبل الأجل
ثم تقول:
قد قل صبري للبعاد تحسراً ... والجسم من أجل الفراق قد انتحل
يا غائباً والقلب سار بإثره ... شوقي مقيم في فؤادي كالجبل
يا بدر غبت اليوم عنا راحلا ... والبدر ليس يغيب شهراً إن أفل
وقالت في الأميرة تاج الشهابية:
تحية من مشوق زائد الغُلل ... تهدى إلى تاج مجد من ذوي الدول
ثم تقول:
إلى التي صار قلبي مسكنها ... كأن الشمس حلت منزل الحمل
جميلة الخلق تحكي البدر طلعتها ... جليلة الخلق في قول وفي عمل
وكذلك تقول:
يا من بها زهت الأيام قائلة: ... لا تحسبوا أن كلُّ الفضل للرجل
وقالت تمدح ميخائيل المدوّر:
نخل اليمامة يفدي نخلة ظهرت ... في أرض بيروت منها الظل والثمر
ثم قالت وقد زائر أباها الأمير أمين أرسلان:
تدفق في منازلنا السرور ... مذ حين شرفها الأمير
أضاءت بهجة كالصبح لما ... تجلى فوقها القمر المنير
فكادت ترقص الأكباد تيها ... بمقالته أو كادت تطير(686/19)
وكذلك قالت جواباً لصديق أبيها محمد عاقل أفندي الساكن في الإسكندرية:
زارت بجنح الدجى والليل معتكر ... فقالت الدرها قد أشرق السحر
خود تميس بقدٍّ كالقناة بدا ... إذ رأته غصون البان تنكسر
قدٌّ يقدُّ قلوب العاشقين إذا ... ما عنِ يوما ثرى الأكباد تنفطر
خطت لأهل الهوى سطراً بوجنتها ... إياكم النار لا يؤذيكم الشرر
ثم هي تقول:
أهدى إلى بيوتاً كل قافية ... منهن تخجل منها الأنجم الزهر
وهي تقول أيضاً:
سحبان مصر ويا ركن البلاغة من ... به القوافي غدت تزهو وتفتخر
وقالت تجيب أحد الفضلاء عن أبيات بعث بها إليها من بغداد:
منّ الكريم بها عليّ رسالة ... تفسق بكل وصيفة ووصيف
وفيها تقول:
أهديتني مدحاً به أغرقتني ... في بحر فضل لم يكن بخفيف
وكذلك قالت جواباً لأحد الأفاضل عن أبيات أرسلها لوالدها من بغداد:
خود من العرب وافت تنجلي تيهاً ... كالشمس تشرق فينا من أعاليها
إلى أن تقول:
اللوذعي الذي الزوراء مسكنه ... وصيته سار في أقصى ضواحيها
حيا الحيا أربع الزورا وأهليها ... وجادها الغيث هتاناً يواليها
في أرضها منبع العلم الذي غمرت ... مياهه وارتوت من أهاليها
أهدي إلى بيوتاً كلُّ قافية ... منهن تسكر لا بالخمر قاريها
ولها في لبنان ذكريات ولوعات حيث تقول فيه:
يا ربي لبنان حياك الحيا ... وسقى تربك هتان الغمام
يا ربوع الأنس يا دار الصفا ... يا جنان الخلد يا أهنا مقام
ثم أنظرها تقول:
وخرير الماء في تلك الربى ... كحنين من محب مستهام(686/20)
بسط الزهر على أرجائه ... بين ورد وبهار وخزام
وترى الأطيار في تلك الربى ... بين شحرور وباز ويمام
وفي تهنئتها للأميرة نازلي هانم بعودتها من أوربا تقول:
أهلا بذات العلي والمجد والحسب ... سليلة العلوي الماجد النجب
شمس بدت من سماء الغرب مشرقة ... فغار ما في سماء الشرق من شهب
فرع كريم أتى من دوحة سقيت ... أعراقها بمياه الفضل لا السحب
وقالت تتذكر أيام الصبا:
يا زمان الصبا عليك السلام ... يا ربيعاً تزهو به الأيام
فيك تحلو الحياة يا زهرة ال ... عمر وتنمو العقول والأجسام
لهف نفسي على أويقات أنس ... قد تقضت كأنها أحلام
حيث كان الزمان طلق المحيا ... وعيون الأكدار عنا نيام
وقالت تمدح شكري الخوري والسوريين في أميركا الذين اشتركوا في إقامة تمثال لأخيها إبراهيم.
يا من يقصر عن شكري له قلمي ... لما أتى من جميل الفضل والكرم
الفاضل الشهم شكر الله من لهجت ... بشكره ألسن الأيام والهمم
ذكرت قومي إلى ما ترتإيه لهم ... صنعاً جميلاً وبرهاناً لودهم
لهم علينا اليد البيضاء ما بقيت ... فينا حياة توالي ذكر فضلهم
يا سادة جمعتهم نسبة الوطن ال ... محبوب جمع الثريا غير منفصم
جددتم شخص من نهفو لرؤيته ... كأنما هب مبعوثاً من الرحم
فلو تمكن من نطق لصافح لكم ... شكراً ودبجه بالدرّ والحكم
وما مديحي لكم حبر على ورق ... بل خط في لوح صدري شكركم بدمي
إلى هنا نكتفي من قولها نظماً في المديح، وأما الرثاء فقد أبدعت فيه كلُّ الإبداع وأجادت فيه كلُّ الإجادة. فهي التي بكت في رثائها وأبكت من سمعها أو قرأها في هذه القصائد المحزنة التي نأتي ههنا بالميسور إيراده فقالت ترثي البطريرك مكسيموس مظلوم حين توفي بالإسكندرية سنة 1855:(686/21)
يا حاسباً دنياك دار قرار ... أقصر عناك فتلك أخبث دار
لا تستقر بها النفوس ولا ترى ... قلباً بلا غم ولا أكدار
دنيا غرور كلما طال المدى ... طال الغرور بمكرها الغرار
ثم هي تقول:
لله يومك في الأنام فإنه ... أبقى لنا حرنا مدى الأدهار
وقالت ترثى المرحوم مارون نقاش المتوفى سنة 1855م:
الموت للناس كالجزار للغنم ... فليس يترك من طفل ولا هرم
كأس يدور علينا ساقياً أبداً ... وليس يترك إنسانا من الأمم
ثم تقول:
ذابت لفرقته الأكباد والتهبت ... أجفاننا من دموع ضرجت بدم
وقالت أيضاً ترثى المرحوم غالي سميث الأمريكي:
قد سرت عن وادي الدموع مودعاً ... هل يرتجي بعد الوداع سلام
(يتبع)
يوسف يعقوب مسكوني(686/22)
الأدب في سير أعلامه:
ملْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 23 -
البرسبيترينز والصدمة الثانية:
يضرب ملتن لقومه مثلا لما يقع من الضر إذا اختنقت حرية الرأي فيستعيد ذكرياته عن رحلته في إيطاليا ويذكر كيف عدة المثقفون هناك سعيداً بمولده في إنجلترا موطن الفلسفة الحرة إذ كانوا يظهرونه على تألمهم وحسرتهم لما تعاني المعرفة عندهم من تعسف وإعنات وقيد؛ ويقول ملتن إن ما يعانيه طلاب المعرفة هناك من قيود هو سبب ما أكتنف مجد أولي الذكاء من الإيطاليين من ضباب، وإلى تلك القيود يعزى مَلَقُ الإيطاليين وادعاءاتهم وهما خلتان بارزتان في أكثر ما يكتبون. . .
ويشير ملتن في فقرة قوية بالغة الأثر في النفوس إلى ضحية من ضحايا الحرية وذلك هو جليليو الذي جاهد طويلاً ليكشف عن الأبصار ما حجب عنها النور من غشاوة، ويزيح عن القلوب ما طمس عليها من خرافة وجهل، فكان جزاءه السجن والمهانة وقد تحطم هيكله الذي آده العبء كما آدته السنون وذهب بصره فأحاطت به الظلمة وهو الذي طالما صبر على أذى قومه وصابرهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
ولن يزالا ملتن عظيم الثقة في انجلترة، يقدرها حق قدرها ويراها خير أمة منذ قام العالم، فهي أمة ذكية بصيرة حازمة، ذات روح وثابة سريعة إلى ما تريد، لن تتخاذل عن أقصى ما تصل إليه المقدرة البشرية، عريقة في المعرفة على اختلاف فروعها حتى ليمكن القول إن مدرسة فيثاغورس والحكمة الفارسية القديمة إنما استمدتا بدايتهما من انجلترة؛ ولها في الدين وما هو من بابه من المعرفة، باع طويلة وقدم راسخة، فلولا ما كان من مقاومة(686/23)
بعض القساوسة لو كليف ونظرتهم إليه كصاحب بدعة وداعية شقاق لما سمع أحد عن لوثر أو كلفن نفسيهما، ولن تزال انجلترة مبعث كلُّ دعوة إلى الإصلاح ومنار كلُّ نهضة تقوم في القارة، وسيبقى لها فخر إصلاح جيرانها غير منتقص ذلك الفخر أبداً. . . وقد تأذن الله لكنيستها بعصر جديد عظيم سوف تصلح فيه الإصلاح نفسه، وكان أن تجلى الله لعباده وبدأ كما هو شأنه بالإنجليز منهم. . .
ولئن عظم أمله في انجلترة وما يرجى فيها من خير، فإنه يوجس خيفة من التنكر للحرية كما فعل البرسبتيرينز، ولذلك فإنه يراهم شراً أي شر، فما يحجب نور هذا الأمل عن البلاد إلا عنادهم واجتراؤهم على فعل ما كرهوه من قبل مما فعل القساوسة.
ويغلط ملتن لهم القول ويعنف عليهم كما صنع بالقساوسة فيرميهم بالنفاق والجشع، فما يتأتى الإخلاص لقوم يكرهون الحرية ويعترضون لها وما عبادته إلا حرفة احترفوها وتجارة يخشون كسادها ثم يتنبأ في آخر كتيبه بأن سوف يلقي الباطشون من يبطش بهم، ولعله بذلك يستخرج من مجرى الحوادث السياسية أن المستعلين سوف يعملون على سحق سلطة البرسبتيرينز بعد أن يفرغوا من محاربة الملك ولقد جاءت الحوادث بعد ذلك محققة ما لمح به.
وكرهت رجعة البرسبتيرينز كما يزعم إليه كلُّ القائمين على شؤون الدين، ولا عبرة بالمذهب، وقر في نفسه أن حرية الفكر والرأي مستحيلة ما دام هؤلاء قوامون على الناس، وعنده أن تعصب القساوسة إنما يظهر في صور وأشكال جديدة؛ وما دام الأمر كذلك فلا إصلاح يرتجي؛ إذ كيف يتحقق الإصلاح بغير الوصول إلى الحق، ولا سبيل إلى الحق إلا الحرية ويريد بها تحرير العقل من الجهالات والضلالات ليفكر طليقاً ويتدبر فيما جاء به المسيح غير مقيد بقيد مهما كان نوعه أو كان مبلغه من الشدة أو العنف؛ وإذاً فالفكر الحر والرأي هما سبيلا الإصلاح الحق ولا سبيل غيرهما.
لقد جاء المسيح بالهدى والحق إلى هذه الدنيا، وذلك مبين في الإنجيل، ولكن الناس بعيدون عما بين لهم من الهدى لأنهم أخذوا أخطاء المفسرين على أنها الحق المقدس وفي ذلك أبلغ الضرر؛ ولا مخرج لهم إلا أن يناقشوا المسائل التي يحيط بها الشك مناقشة لا قيد فيها حتى يهتدوا إلى الصواب، ولن يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا أن تتاح لهم الحرية، فكأن الذين(686/24)
يخنقون الحرية إنما يحولون بين الناس وبين ما آتاهم المسيح من الهدى وأي إثم هو أكبر من هذا الإثم؛ وكيف يطمع المصلحون في الإصلاح إلا أن يكفوا أيدي هؤلاء البرسبتيرينز الذين يصدونهم عن سبيله ويزعمون أنهم هم المصلحون. . .
بهذا المنطق القوي أزعج ملتن البرسبتيرينز، فمثل هذا الكلام يكون أشد وقعاً وأعظم أثراً من الهجاء مهما أقذع، ولذلك كانت هذه الحرب أقوى من حربه على القساوسة وإن بدت أقل منها ضجيجاً لأن سلاحه فيها كان أمضى ولأنه يقاتل في سبيل مبدأ تميل إليه بطبعها النفوس. . .
تلك هي خلاصة الأيروباجيتيكا؛ ويزعم بعض النقاد وأحسبهم على حق فيما يزعمون أنه لو لم يكن ملتن صاحب الفردوس المفقود وصاحب كومس والفردوس المستعاد وغيرها من الشعر لذهبت كتاباته النثرية مع الزمن إلا هذا الكتيب الذي جعله للدفاع عن مبدأ من أجل المبادئ في حياة بني الدنيا منذ أقدم عصورها ألا وهو حرية العقل لا في تفكيره فحسب فإن ذلك طوع كلُّ فرد ذكي بل في إعلان ما يرى من رأي.
ويحبب هذا الكتيب إلى النفوس فضلاً عما يدافع عنه من مبدأ فيه، ما ساقه ملتن من أمثلة وما لجأ إليه من الإشارات والتلميحات كما يفعل في شعره، وكان التاريخ هنا هو الكنز الذي استخراج منه أصدافه ولآلئه، وحسبك أن يلمح إلى سقراط واستشهاده وإلى جليليو وما لاقى من كوارث وإلى أفلاطون وبيكون وإرزس وسبنسر الذي وصفه بقوله (شاعرنا الحكيم الوقور)، وأضربهم ممن اهتدوا بنور العقل في ظلمات الجهل فكانوا على طريق الإنسانية مصابيح تنطوي القرون ونورهم أبلج وكلما اشتدت الظلمة ازدادوا ظهوراً ككواكب السماء ونوراً. . . وحسبك أن يشير إلى أثينا وأن يمتدح فيها النشاط العقلي وأن يشيد بما كان يعلم آباء المسيحة الأولون من علوم الأقدمين؛ إلى كثير من أمثال ذلك مما يسوقه براهين على فضل العقل، ففي العقل وحده الخلاص من نير الجهل مع شرف القصد والإخلاص في استجلاء الحق لا في الخضوع لكل منقول والتسليم به في غير تدبر فيه. . .
وهو فيما يسوقه من هذه الأمثلة إنما يعرض بالبرسبتيرينز الذين أنكروا منه ما اهتدى إليه بعقله في أمر الطلاق والذين هالهم منه تأويل ما أول من عبارات الإنجيل لتتمشى مع ما(686/25)
ذهب إليه من رأى أو الذين رموه بالفسوق لأنه طلب تحكيم الضمير والاستعانة بالعقل فيما يلتبس فيه الأمر من أحكام الإنجيل ولا يتفق في ظاهره مع طبائع الأشياء.
والحق ملتن خليق بأن يثير إعجاب الناس به جيلاً بعد جيل، فقد كان لشخصه من الجلال ولروحه من القوة ولنفسه من العزة ما لا يتوفر مثله إلا للأفذاذ القليلين على فترات من الزمن؛ ولا نجد فيما تحث عنه المؤرخون خيراً من حديث مكولي عن خلقه فلنأت به على سرده. قال مكولي (وبقي بعد ذلك أن نتحدث عن المعين الذي استمد منه خلق ملتن العام عظمته وروعته الخاصة به، فلئن كان قد أتعب نفسه ليقضي على ملك حانث أو سلطة كهنوتية ظالمة، فإنما فعل ذلك مشتركاً مع غيره من الناس.
ولكن مجد لمعركة التي خاض غمارها من أجل ذلك الضرب من الحرية الذي هو أعظم ضروبها قيمة، وإن كان أقلها حظاً يومئذ من إدراك الناس، وأعني به حرية العقل البشري كان بأجمعه مجده وحده. . .
لقد رفع الألوف من معاصريه وعشرات الألوف منهم أصواتهم ساخطين على ضرائب السفن وعلى محكمة غرفة النجم، ولكن لم يفطن إلا قليل منهم إلى ما يعد شره أعظم من ذلك هولاً ألا وهو الرق العقلي والخلقي، ولا إلى ما عسى أن يعود من خير على الإنسانية من وراء حرية النشر، ومن وراء الحكم الشخصي على الأشياء يجري به الرأي غير مقيد بقيد؛ هذه هي الأغراض التي رأى ملتن أنها بحق أعظم الأغراض خطراً، وكان تواقاً إلى أن يرى الناس يفكرون لأنفسهم كما أنهم يشرعون الضرائب لأنفسهم، وأن يتحرروا من سلطان الهوى، كما قد تحرروا من سلطان (شارل)، وكان يعلم أن الذين اعتلوا صنوف الإصلاح هذه ونفوسهم تنطوي على أحسن المقاصد، وقنعوا بإسقاط الملك وإلقاء الملكيين الطاغيين في السجن، إنما سلكوا مسلك الأخوين الغافلين في قصيدته اللذين ألهاهما فرط حرصهما على تفريق الساحر وقبيله فأهملا وسائل تحرير أسيره، لقد فكروا في هزيمته فقط في حين كان ينبغي أن يفكرا في حل ما عقد من طلاسم السحر: (لقد أخطأتما، فإنه كان ينبغي أن تختطفا عصاه وتشدا وثاقه، وذلك أننا وقد فاتنا أن نقلب العصا رأساً إلى عقب ونقرأ في اتجاه عكسي كلمات الساحر ذات القوة التي تفكك الأوصال، لن نستطيع أن نطلق سراح هذه السيدة التي تجلس هنا مغلولة بأغلال شديدة، فهي في مكانها ثابتة لا(686/26)
تتحرك).
وكان العمل على أن تقلب العصا، وأن تقرأ كلمات السحر في عكس اتجاهها، وأن تفكك القيود التي تشد الشعب الأبله إلى مقعد السحر، كل أولئك كان ما يسعى إليه ملتن من غرض نبيل، وإلى هذا الغرض وجه مسلكه فيما يتصل بالناس كله، فمن أجله انضم إلى البرسبتيرينز ومن أجله اعتزلهم، ولقد خاض معركتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكنه نأى بجانبه عنهم مشمئزاً ساعة انتصارهم الوقح، ورأى أنهم كانوا كمن هزموهم لحرية الرأي أعداء، ومن ثم فقد انضم إلى المستقلين ودعا كرمول أن يحطم ما نسب إلى الدين من عل وأن يخلص الضمير الحر من مخلبي الذئب البرسبتيري؛ وهاجم ملتن وهذا الغرض النبيل نصب عينيه قانون الطبع والرقابة في مقال رفيع الطراز يجدر بكل سياسي أن يلبسه كشعار فوق يده وكذؤابة بين عينيه؛ وكانت لا توجه هجماته بوجه عام إلى المساوئ الخاصة بقدر ما كانت توجه إلى تلك الأخطاء المتأصلة التي تكاد تبني على أسسها جميع الأخطاء ألا وهي العبارة الخانعة لذوي المكانة من الناس، والخوف الذي هو ليس من العقل في شيء من كلُّ تجديد.
ولكي يزلزل أسس هذه النوازع المذلة زلزالاً أشد وأوفى بالغرض، كان يختار ملتن نفسه دائماً مما يبذل من الخدمات الأدبية ادعاها إلى الشجاعة والجرأة ولم يكن يأتي قط في المؤخرة بعد أن تنقص الأيدي من الجهود الخارجية وتنفذ الجنود من الثغرة، وإنما كان يدفع بنفسه المقدمة إلى ما تتخاذل دونه الآمال.
ففي بداية ما حدث من أوجه التغير، أخذ يكتب بكل ما في وسعه من نشاط وفصاحة لا يجاريه أحد فيهما منددا بالقساوسة، فلما بدا له أن آراءه قد تم لها الغلبة تجاوزها موضوعات أخرى، وترك القساوسة إلى طائفة كبيرة العدد من الكتاب أسرعت بعده إلى التهجم على تلك الفئة التي تهوى. . .
وليس ثمة من عمل أشد خطراً من الاضطلاع بحمل مشعل الحقيقة إلى المجاهل الموبوءة التي لم يضئ فيها نور قط ولكن ملتن كان يختار لنفسه دائماً أن يقتحم ذلك الضباب الصاخب، وكان يسره ذلك الاختيار كما كان يسره أن يركب الأخطار في ذلك الاكتشاف الذي يبعث الرعب؛ ويجب على أشد الناس إنكاراً لآرائه أن يحيطوا بالتوقير ما لاقاه في(686/27)
سبيل استمساكه بها من عنت وشدة، ولقد ترك لغيره في الجملة العمل على شرح الجوانب المقبولة من عقيدته الدينية والسياسية والدفاع عنها؛ أما هو فقد جعل من نصيبه أن يؤيد العقائد التي سخروا منها لأنهم زعموا أنها متناقضة، فقد ذاد عن حق إباحة الطلاق وأيد إعدام الملك وهاجم نظام التعليم السائد في أيامه وإن عمل الخير الذي يشع النور ليشبه في آلهة الخرافة عمل إله الضوء والخصب)
والحق أن الدفاع عن الحرية كان هدفه في معظم ما كتب، فقد دافع عن الحرية الدينية بحربه على القساوسة وعن حرية النشر بحملته على الرقابة، وعن حرية الضمير بالطعن على البرسبتيرينز وعن حرية الأسرة بإنكار ما ينطوي عليه قانون الزواج من استبداد أو عن الحرية المدنية كما سنفصله في حينه بإعلانه السخط على طغيان التاج. . .
ولكن بعض النقاد يردون ذلك إلى دوافع شخصية محاولين بذلك أن يبخسوه أعماله، فيقولون إنه هاجم القساوسة لأنهم أبعدوه عن الكنيسة، ويدافع عن حق إباحة الطلاق لما صادف في زواجه من خيبة، ويغضب على البرسبتيرينز وينعتهم بضيق العقل لأنهم لم يقروه على ما ذهب إليه في أمر الطلاق ويدعو إلى حرية النشر لأنهم أرادوا أن يخنقوا كتبه. . .
وليس في وسعنا أن ننكر تلك الدوافع الشخصية التي يشير إليها هؤلاء النقاد، فإن شدة شعور ملتن بذاته من أبرز مقومات شخصيته منذ نشأته وأكثر تصرفاته إنما تتم بدافع من ذلك الشعور، ما في ذلك ريب، ولكنا لا نفهم كيف ينتقص ذلك من قدره وكيف يعد عليه ولا يعد له؟
هذا رجل يرى حياته وحياة غيره بالضرورة محفوفة بقيود من القانون والعرف، فيأبى على القيد ويثور لا يريد أن يهدأ حتى يقضي على ما استرق الناس من عباداتهم ومما جرى به العرف بينهم ومما وضعت القوانين من الأغلال في أعناقهم، فماذا يدل عليه ذلك إن لم يدل على شخصية قوية ونفس أبية وضمير حر؟
وهل جاهد ما جاهد في غير عدو؟ ألم يكن على حق فيما أنكر من عيوب عصره؟ إن كانت تلك العيوب قائمة حقاً فلا يمكن أن يقال إن أهواءه ومطالب نفسه هي التي سيطرت على فكره؛ فلا يبقى إلا أن دوافع شخصية حركته وهذا إنما يدل على أنه أحس قبل أن(686/28)
يحس غيره بضرورة الإصلاح، وأن الوضع الاجتماعي في كماله المنشود إنما يقاس مبلغ كماله بمقدار ما فيه مما يشاكل كمال نفسه وتلك تتخاذل دونها الغايات.
وهل كان يستطيع أن يغمض العين غير مساوئ عصره لو لم تحركه دوافع شخصية إلى استنكارها؟ ذلك ما لا يستطيع أحد أن يقوله، ولا هو مما يجوز في عقل عاقل إلا على أوزاع الناس والهمج منهم، ولقد كان ذلك الشاعر القوي الروح العظيم الثقافة مطبوعا على حب الحرية وعلى الجهر بما يؤمن أنه الحق، ومن أجل ذلك كانت نفسه ثورة متصلة الحلقات منذ أن عصى أباه وهو صغير إذ أراد يسلكه في سلك الدين بإلحاقه بالكنيسة وأبى إلا أن يهب للشعر نفسه، ومنذ أن كان يتأبى على قيود عرفية في الجامعة وينكر على الجامدين فيها جمودهم، إلى أن جاهر الإيطاليين بمخالفته إياهم في فطرتهم الدينية على الرغم مما حذِّر به وليسوا قومه، إلى أن أذن القساوسة في وطنه بحرب منه، كلُّ أولئك لأن نفسه تأبى إقرار الباطل ولا ترضى بغير الحق. . .
ولا يسع كلُّ منصف إلا القول بأن ما يشير إليه بعض الناس من دوافع شخصية إنما هو دليل على سلامة عنصره ونبل نفسه وسمو روحه.
(يتبع)
الخفيف(686/29)
ديوان الطرائف:
سبط ابن التعاويذي
للأستاذ أحمد عثمان عبد المجيد
هو أبو الفتح محمد بن عبيد الله، وينسب إلى ابن التعاويذي جده لأمه لأنه نشأ في كنفه وحياطته، وكان جده هذا زاهداً تقياً ومحدثاً صالحاً.
وقد ورث أبو الفتح عن جده الرغبة في الدرس والتعلق بأسباب الثقافة، فأقبل على النظر في كتب اللغة والأدب، يسعده طبع أصيل، وتمده ملكة مرهفة، حتى بالبراعة في الكتابة والحسابة، وجلى في ميدان الشعر، فجمع فيه بين جزالة اللفظ وعذوبته، ورقة المعنى ودقته. وفية يقول ابن خلكان: إنه لم يكن قبله بمأتي سنة من يضاهيه. وكأنما خاف أن يتهم بالمبالغة والتزيد فأردف حكمة بقولة: ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل، فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله در القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وقد تأثر أبو الفتح في نثر طريقة ابن العميد القائمة على العناية بالتصنيع والتزيين، وصرف الجهد إلى تكلف وجوه البديع.
ولقد فتن كتاب الدواوين جميعاً بهذه الطريقة منذ أنهجها لهم أستاذهم ابن العميد، وأغرقوا من بعده في تصيد المحسنات، فجنوا على المعنى، وتحيفوا الفكرة رغبة في تجويد الصورة وتجميلها فخرجوا على الناس حينا بنثر مرقش ليس وراءه كبير معنى ولا جليل غرض؛ وحينا بنثر كز منقبض لا يفصح عن مراد ولا يهدي إلى قصد، إذ جنى البديع عليه فأغمضه وأزال وضوحه وأوقع قارئه في عملية. وحسبك أن ترسل طرفك في كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي للعماد الأصفهاني صديق سبط ابن التعاويذي لترى الغرابة والاستبهام والكزازة.
وقد أورد العماد في كتابه جريدة القصر وجريدة العصر طائفة من الرسائل التي تلقاها من ابن التعاويذي، وفيها يتحرى الطريقة البديعية، ويلتزم نهجها
ولقد ولى الكتابة بديوان الإقطاع ببغداد لبراعته في الحسابة والإنشاء، وأنقطع إلى آل الرفيل وكان ولاؤه فيهم، يمدحهم ويستمنحهم، وكانوا سادة ذوي نفوذ وسلطان، وقد ولي الوزارة منهم عضد الدين أبو الفرج للخليفة المستضيئ. وفيه يقول الفخري: كان من(686/30)
أفاضل الناس وأعيانهم، نهض بأعباء الوزارة نهوضاً مرضياً، وتلطف بالأمور تلطفاً لم يكن في حساب الناس وبيته بيت مشهور بالرياسة.
ويبدو أن ابن التعاويذي قد أنفق جل عمره مع آل الرفيل يحمد لهم إقبالهم على بره وإنعاشه. فإن أحس منهم إغفالا له واطراحا لما ألزمهم من حقه جاهر بلومهم والإنكار عليهم. وفيهم يقول:
قضيت شطر العمر في مدحكم ... ظنا بكم أنكم أهله
وعدت أفنيه هجاء لكم ... فضاع فيكم عُمُري كله
وهذا قول قاس، يدل على أن شعراء المدح والاستمناح ما كان يردعهم عن التدلي إلى المجاهرة بالهجاء سالف معروف، ولا سابق مبرة. وأنهم إن أعطوا منهم رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون.
ولعل نهم ابن التعاويذي بالمال كان يدفعه إلى مدح غيرهم، ولعلهم نقموا منه ذلك وأنكروه عليه لأنه إن دل على شيء فإنما يدل على أن صنائعهم إليه لا تنهض بحاجاته، ولا تفي برغائبه. فقال يعتذر مسجلاً في صراحة أنه كخماص الطير تجتذبه الجدوى كما يقنصها الحب، وهو بهذا يستفيد من قول المتقدم:
يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء
قال:
وما زلت في آل الرفيل بمعزل ... عن الجور مبذولاً لي الخصب
فإن أقترف ذنباً بمدح سواهم ... فإن خماص الطير يقنصها الحب
وإن عاد لي عطف الوزير محمد ... فقد أكثب النائي، ولان لي الصعب
وزير إذا اعتل الزمان فرأيه ... هناء به تطلي خلائقه الجرب
ولقد دفعته صلته بآل الرفيل إلى أن يناصب الوزير ابن البلدي العداء، وأن يهجوه حين عزل أرباب الدواوين واشتد عليهم بالمصادرة والعقاب. وكان بين عضد الدين الرفيلي وابن البلدي جفاء ما فتئ يتفاقم حتى حمل عضد الدين على أن يدبر لقتل الوزير وتم له ذلك، ووثب من بعده على الوزارة. وفي ابن البلدي يقول ابن التعاويذي:
يا قاصداً بغداد، حد عن بلدة ... للجور فيها زخرة وعباب(686/31)
إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على الراجي بها الأبواب
بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب
وفيه يقول أيضاً: -
يا رب أشكو إليك ضراً ... أنت على كشفه قدير
أليس صرنا إلى زمان ... فيه أبو جعفر وزير؟
وما زال ابن التعاويذي قائماً بالعمل في ديوان الإقطاع حتى ذهب بصره، فأعتزله وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها عينيه ويندب الشباب ورونقه، فيستدر بها الإشفاق ويستدعي أبلغ العطف وأعمقه. ومنها:
لقد رمتني - رميت بالأذى - ... بنكبة قاصمة الظهر
وأوترت في مقلة، قلما ... علمتها باتت على وتر
جوهرة كنت ضنينا بها ... نفيسة القيمة والقدر
إن أنا لم أبكِ عليها دما ... فضلا عن الدمع، فما عذري؟
مالي لا أبكي على فقدها ... بكاء خنساء على صخر؟
وأنت تتمثل في هذه الأبيات حر اللوعة، ولذع الفاجعة في الاعتراض بقوله رميت بالأذى، وفي الكناية عما كرثه بقوله قاصمة الظهر، وفي مغالاته بمقلته فلم تكن لتنام على وتر، وفي إنكاره أن يكون له عذر إن يبكها دما، ومنها:
فها أنا كالمقبور في كسر منزلي ... سواء صباحي عنده ومسائي
يرق ويبكي حاسدي لي رحمة ... وبعداً لها من رقة وبكاء
وقد جاء في عبارة ابن خلكان نعته إياه بالعمق في معانيه. وإليك أمثلة من براعته في التوليد: قال في الشيخوخة:
من شبه العمر بالكأس يرسو ... قذاه، ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذى طافيا ... على صفحة الكأس من أوله
وقال فيها أيضاً:
وعلو السن قد كسر ... بالشيب نشاطي
كيف سموه علوا ... وهو أخذ في انحطاط؟(686/32)
ولم أكره بياض الشيب إلا ... لأن العيب يظهر في النهار
ولما عمى التمس أن يقيد ماله من راتب بالديوان بأسماء أولاده ثقة منه بأن يجد في ذراهم براً به ما امتدت له الحياة، وتعجيلاً لسوق النفع إليهم، ورفعا لأسباب التباغض من بينهم فلما تم النقل والتقييد كتب قصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر يلتمس فيها تجديد راتب له مدة حياته لما جر به من عقوق أولاده. وقد أبدع فيها تصوير عقوقهم، واحتجانهم الراتب من دونه، وإهمالهم أمره، وكان الناصر من أفاضل الخلفاء، بصيراً بليغاً، متوقد الذكاء والفطنة، غير مدافع عن فضيلة علم، ولا نادرة فهم، يفاوض العلماء مفاوضة خبير، فلما وقف عليها ملكت نفسه لعذوبتها ورقتها، وما يثيره موضوعها من إشفاق ومرحمة، وما افتتحها به من مدح جميل، فأنعم عليه براتب جديد ومطلعها:
خليفة الله أنت بالدين والدنيا، ... وأمر الإسلام مضطلع
ومضى يمدح الخليفة بانتهاجه نهج أعلام الهدى، وما أفاضه على الناس من عدل وخير، وما أزاله من أسباب الخلاف والبدع، ثم قال:
أرضى قد أجذبت، وليس لمن ... أجذب يوماً سواك منتجع
ولي عيال، ودر درهم ... قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي، ومالوا إلى واجتمعوا
ولي عيال، لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم، وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي، ومالوا إلي واجتمعوا
وطالما قطعوا حبالي إع ... راضا إذا لم تكن معي قطع
يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب، كلما سعوا لسعوا
ثم قال:
لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
من كلُّ رحب المعاء، أجوف نا ... ري الحشا لا يمسه شبع
لا يحسن المضغ فهو يطرح في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه فيستمع
نقلت رسمي جهلاً إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع(686/33)
نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الأولاد مبتدع
وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا
واختلسوه مني، فما تركوا ... عيني عليه، ولا يدي تقع
ثم قال:
فاستأنفوا لي رسما أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
ولا تطيعوا معي، فلست ولو ... دفعتموني بالراح أندفع
وحلفوني ألا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع
يقول ابن خلكان: فما ألطف ما توصل به إلى بلوغ مقصودة بهذه الأبيات التي لو مرت بالجماد لاستمالته وعطفته.
وبعد فإن في هذه القصيدة الطريفة ائتلافاً واضحاً، ورقة وانسجاماً، وتصويراً بارعاً للعقوق يهز النفس ألماً وحزناً، ويمزق القلب أسى وحسرة. وإن الدنيا لحافلة في تصرفها بالناس بأشباه هذا الحادث.
فإن قيل إن الشاعر قد نحل أبناءه هذا العقوق ليملك من نفس الخليفة، ويضمن انخداعه، والكريم ينخدع، فيرجع براتب آخر - قلت: لقد جلا عن قدرته على التمويه، وبرع مع تعود لاعتقاد عن مناصرته، وشعور الشاعر بأنه يترجم عن اعتقاد من أقوى أسباب إجادته وإتقانه.
وقد اذكرني موقف أبناء ابن التعاويذي منه بما قرأته عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أبر الناس بأمه فقد قيل له: إنك لشديد البر بأمك، فلم لا تأكل معها من صحفة واحدة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. فأين هذا البر من ذاك العقوق؟
رحم الله آل البيت، فما كانوا في الناس إلا أقباساً ساطعة من نور النبي الأعظم.
وفي الشاعر يقول ياقوت: وكل شعره غرر، وديوانه كبير جمعه بنفسه قبل أن يضر، وما حدث من شعره بعد العمى سماه الزيادات. وولد سنة 519، وتوفي في بغداد سنة 583هـ وقد طبع الديوان بمصر في مفتتح هذا القرن بعناية الأستاذ مرجليوث، ولكنه اليوم عزيز(686/34)
لا يكاد يكون في دكاكين الوراقين.
أحمد عثمان عبد المجيد(686/35)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
848 - الفقير والغني
أبو بكر الخوارزمي
إن الفقير خفيف الظهر من كلُّ حق، منفك الرقبة من كلُّ رق، لا يلزمه أداء الزكاة، ولا تتوجه إليه غوائل النائبات، ولا يستبطئه إخوانه، ولا تطمع فيه جيرانه. ولا تنتظر في الفطر صدقته، ولا في النحر أضحيته، ولا في شهر رمضان مائدته، ولا في الربيع باكورته، ولا في الخريف فاكهته، ولا في وقت الجباية خراجه وعشره، فإنما هو مسجد يحمل إليه، ولا يحمل عليه، وعلوي يؤخذ بيديه، ولا يؤخذ من يديه، يتجنبه الشرطي بالنهار، ويتوقاه العسس بالليل وفي الأسحار، فهو إما غانم أو سالم. والغني إنما هو كالغنم غنيمة كلُّ يد سالبة، وصيد كلُّ نفس طالبة، وطبق موضوع على شارعه النوائب، ومنصوب على مدرجة المطالب، تطمع فيه الإخوان، ويأخذ منه السلطان، ويتطرق إليه الحدثان، ويتحيف ماله النقصان. . .
849 - العقل
شرح (أدب الكتاب) لموهوب الجواليقي:
. . . عن محمد بن المزربان عن شيخ له قال: قال الأصمعي: كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة أحمد من عقله فبالحرى أن تكون سبب هلاكه.
فحفظت الحديث، فحدثت به المدائني، فقال: هذا حديث حسن، وعندي آخر يشبهه، كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه.
فحفظت الحديثين، فحدثت بهما أحمد بن يوسف فقال: هذان حديثان حسنان، وعندي آخر يشبههما: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان سريعاً إلى حتفه.
فحفظت الأحاديث، فحدثت بها أبا دلف فقال: هذه أحاديث حسان، وعندي حديث أحسن منها غير أنه لا يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا(686/36)
كثر غلا.
فحفظت الأحاديث فحدثت بها الحسين بن علي الكوكبي فقال: كان الحسن يقول: ما تم دين رجل حتى يتم عقله.
وبعد، فقد قال ابن السماك: من لم يتحرز من عقله بعقله هلك من قبل عقله.
850 - العاقل يعلو على همه وحزنه
إرشاد الأريب: قال أبو حيان:
كان يختلف إلى مجلس أبي سعيد (السيرافي) على بن المستنير، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق، وحسن عشرة، وحلاوة كلام، وفقر مدقع ومعيشة ضيقة وكثرة عيال ومؤنه مع نشاط القلب، وثبات النفس، وطلاقة الوجه، وكثرة المرح. وقرأ يوما على أبي سعيد ديوان المرقش، وأخذ خطه بذلك، وعجل الانصراف من عنده، فقال أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال. فدعا له بالرزق والسعة. فلما انصرف قلنا له: هذا الرجل مع ما هو فيه لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ، وراءه حال يخفيها عنا، ويطويها منا.
قال (أبو سعيد):
ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو على همه وحزنه فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهله.
فاستحسنا ذلك وأثبتناه.
851 - أوادم
في (اللزوميات):
وما آدم في مذهب العقل واحدا ... ولكنه عند القياس أوادم
جائز أن يكون آدم هذا ... قبله آدمْ على إثر آدم
في (روح المعاني) تفسير الألوسي:
ذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر أن الله خلق قبل أبينا آدم(686/37)
ثلاثين آدم، بين كلُّ آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق آدم.
وروى ابن بابوية في كتاب التوحيد عن الصادق: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين.
في (مفاتيح الغيب) تفسير الرازي:
نقل في كتب الشيعة عن محمد بن على الباقر عليه السلام أنه قال: قد انقضى آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر. في (الفتوحات المكية) لابن عربي:
لقد أراني فيما يرى النائم وأنا طائف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدني بيتين ثبت على البيت الواحد، ومضى عني الآخر، فكان الذي ثبت على من ذلك:
لقد طفنا كما طفتم سنينا ... بهذا البيت طرا اجمعينا
فتعجبت من ذلك. فقال لي واحد منهم وتسمى لي باسم لا أعرف ذلك الاسم قال لي: أنا من أجدادك، قلت له كم لك مذ مت؟ قال: بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين. فقال لي: عن أي آدم تقول؟ عن هذا الأقرب إليك أو عن غيره. فتذكرت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق مئة ألف آدم. فقلت قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك.
802 - الحوائج بين إمامين
في (المخصص) لابن سيدة:
قال محمد بن يزيد: (أما قولهم في حاجة حوائج فليس من كلام العرب على كثرته على ألسن المولدين، ولا قياس له) وهو في هذا القول متبع الأصمعي لأن لأصمعي قال: خرجت الحوائج عن القياس فردها، وقد غلطا معا، على أن الأصمعي رجع عن هذا القول فيما حكى عنه ابن أخيه والرياشي، وذكرا أنه قال: هي جمع حائجة. وقال أبو عمر: في نفسي منه حاجة وحائجة وحوجاء والجمع حاجات وحوائج وحاج وحوج وأنشد:
صديقي مدام ما يفرق بيننا ... حوائج من إلفاج مال ولا بخل
وأنشد أبو عبيده للشماخ:(686/38)
تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مدى الجريِّ
وأنشد غيره في نحو منه:
يا رب رب القلص النواعج ... مستعجلات بذوي الحوائج
ولو تشاغل أبو العباس بملح الأشعار ونتف الأخبار وما يعرفه من النحو كان خيراً له من القطع على كلام العرب، وأن يقول: ليس هذا من كلامهم. فلهذا رجال غيره، ويا ليتهم يسلمون أيضاً.
853 - أن أمالت عليّ عطفاً وجيراً
الطغرائي:
خبروها أني مرضت فقالت ... أضنى طارفاً شكاً أم تليداً
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت - وهي تشتهي - أن تعودا
وأتتني في خيفة وهي تشكو ... ألم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت على عطفاً وجيدا
854 - أعمى، ومفلوج، وأقطع
اجتمع على شراب في بعض الحانات أعمى ومفلوج وأقطع فقيل للأعمى: غن، فغنى:
إني رأيت عشية النّفْرِ ... حورا نفين عزيمة الصبر
فقيل: ويلك كيف رأيت وأنت أعمى؟ وقيل للمفلوج: غن فقال:
إذا أشتد شوقي وهاج الألم ... عدوت على بابكم في الظلم
فقيل: مفلوج يعدو! لا تكذب. وقيل للأقطع: هات غن، فقال:
شبكت كفي على رأسي وقلت له ... يا راهب الدير هل مرت بك الإبل
فقالوا: أنت أكذبنا وأجودنا غناء. . .
855 - وما يفيدني إذا حزنت؟
إرشاد الأريب: عبد الوهاب بن غالب عن الشريف أبي العلاء ابن التقي قال: قدم إلى واسط في بعض الأعوام عسكر الأعاجم، فنهبوا قطعة من البلد، ونهبوا دكان الشيخ أبي على بن مختار، ونزلوا بداره، قال الشريف فدخلت معه إليهم نستعطفهم أن يردوا عليه(686/39)
بعض ما أخذوه منه، فلم نر لذلك وجهاً، وخرجنا وهو يقول:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
ثم التفت إلى فقال: ما العامل في الظرف في هذا البيت؟ فقلت له: يا سيدي، ما شغلك ما أنت فيه عن النحو والنظر فيه؟ فقال: يا بني، وما يفيدني إذا حزنت؟. .(686/40)
حول كتب الوفيات:
عود على بدء
للأستاذ أحمد الشرباصي
كنت قد نبهت أخي الأديب الأستاذ وديع فلسطين على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء إلى أن كتاب (وفيات الأعيان) ليس كما يظن ويقول - كتاباً مقصوراً على ذكر وفيات المشهورين من الرجال، بل هو كتاب تاريخ جامع، فيه أخبار وأشعار، وحوادث وقصص؛ ولما نشرت هذه الكلمة لقيني أخي الأستاذ علي محمد حسن المدرس بالأزهر الشريف فحادثني عن هذه الكلمة، ثم ذكر أنه سمع بأن هناك كتاباً أسمه (وفيات الأعيان) غير كتاب ابن خلكان، وقد اقتصر صاحبه على ذكر وفيات من عرف من الرجال، وأن هذا الكتاب موجود بدار الكتب المصرية بالقاهرة. . .!
شغلني هذا الموضوع، فعجلت بالذهاب إلى الدار، وأخذت أراجع فهارس كتبها المخطوطة والمطبوعة لأستنبئها عما فيها من كتب تسمى بالاسم المذكور أو تقاربه؛ فوجدت فيها كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان، وهو أشهر من أن يعرف؛ ووجدت فيها كتاب (فوات الوفيات) لمحمد بن شاكر بن أحمد الكتبي المتوفى سنة 764هـ؛ وهو كتاب متوسط، يقع في مجادين مطبوع بالمطبعة لأميرية ببولاق، في عهد الخديوي إسماعيل باشا سنة 1283هـ؛ وأنتهز هذه الفرصة لأقول إن هذه الطبعة مملوءة بالتحريفات والتصحيفات والأخطاء المطبعية مما تقذى منه العين، ويضج له المطابع على الرغم من أن الطابع أحصى في أول كلُّ مجلد منهما جانباً كبيراً جداً من الأخطاء والغلطات المهمات، وترك الباقي لفطنه القارئ الأديب اللبيب كما يقول. . .!
وكتاب الوفيات للكتبي يعتبر كتذييل أو تتميم لوفيات ابن خلكان؛ وقد أوجز المؤلف عمله في كتابه، ومجهوده في مؤلفه في المقدمة الطويلة التي قال فيها بعد البسملة والحمدلة والصلاة على الرسول والآل:
(وبعد، فإن علم التاريخ مرآة الزمان لمن تدبر، ومشكاة أنور يطلع بها على تجارب الأمم من أمعن النظر وتفكر، وكنت ممن أكثر لكتبه المطالعة، واستجلى من فوائده المراجعة، فلما وقفت على كتاب (وفيات الأعيان) لقاضي القضاة ابن خلكان قدس الله روحة - روحه(686/41)
وجدته من أحسنها وضعاً، لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، والمحاسن الكثيرة، غير أنه لم يذكر أحدا ًمن الخلفاء، ورأيته قد أخل بتراجم فضلاء زمانه، وجمع ممن تقدم على أوانه، ولم أعلم أذلك ذهول عنهم، أم لم يقع له ترجمة أحد منهم، فأحببت أن أجمع كتاباً يتضمن ذكر من لم يذكره من الأئمة الخلفاء والسادة الفضلاء، وأذيل من وفاته إلى الآن، فاستخرت الله تعالى، فانشرح لذلك صدري وتوكلت عليه وفوضت إليه أمري، وسميته بـ (فوات الوفيات)؛ والله تعلى المسئول أن يوفق في القول والعمل. وأن يتجاوز عن هفوات الخطأ والزلل).
ثم أخذت أقلب بين يدي صفحات (الفوات) فإذا أنا أقع في نهايته على نص مهم لمصححه الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، إذ أن هذا النص قد تحدث عن كثير من الكتب التي ألفت في الوفيات كتذييل لكتب سابقة أو تعليق على مؤلفات متقدمة، وقد كفاني هذا النص مئونة البحث والتنقيب عما تحدث عنه من كتب؛ قال:
(وأعلم أن الوفيات قد أشتمل على 846 ترجمة، وذيل عليه عبد الباقي المخزومي المكي المتوفى سنة 843؛ كما تقدم في هذا الكتاب؛ بنحو ثلاثين ترجمة؛ وكذا ذيل حسن بن أيبك المتوفى بالتاريخ المذكور؛ وذيل عليه عبد الباقي الشيخ زين الدين عبد الرحيم العراقي المتوفى 806؛ وأما هذا الفوات فإنه أشتمل على 572 ترجمة، منها نحو ست تراجم أو سبعة مذكورة في الوفيات فليست من الفوات كما يعرفه من استقصى فهارس الكتابين؟ وأما كتاب الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي الذي انتهى فيه إلى آخر سنة 760 قبل وفاته بأربع سنين فإني كنت أتوهم أنه ذيل آخر للوفيات غير موجود بمصر، حتى كتبت ذلك ببعض الهوامش بناء على هذا التوهم، إلى أن رأيت في كشف الظنون أنه كتاب حافل جمع فيه تراجم الأعيان ونجباء الزمان، ممن وقع عليه اختياره، فلم يغادر أحداً من أعيان الصحابة والتابعين والملوك والأمراء والقضاة والعمال والقراء والمحدثين والفقهاء والمشايخ والأولياء والصلحاء والنحاة والأدباء والشعراء والأطباء والحكماء وأصحاب الملل والنحل والبدع والآراء وأعيان كلُّ فن ممن اشهر أو أتقن إلا ذكره؛ إلى أن قال في (الكشف): فازداد النفع به للمحدث والأديب)!.
وظاهرة من عبارة الشيخ نصر الهوريني أن هذه الكتب التي ذكرها ليست مقصورة على(686/42)
ذكر (وفيات) فقط؛ أما فيما يتعلق بكتاب الصفدي فواضح بعد ما عرفناه من حديث كشف الظنون عنه؛ وأما فيما يتعلق بالكتب الباقية فلأنها تذييل لوفيات الأعيان، فتكون على طريقته: وقد عرفنا من قبل طريقة ابن خلكان في الترجمة والتاريخ.
فلنواصل البحث إذن في فهارس الدار، علنا نجد ذلك الكتاب الذي سمع به ذلك الزميل. . .! هاأنذا أجد أخيراً كتاباَ أسمه (الوفيات) لمن يسمى تقي الدين محمد بن هجرس بن رافع المولود سنة 704؛ فلعله الكتاب المنشود، ولعلى أفوز بعد طول العناء بالمقصود. . .
طلبت الكتاب للاطلاع عليه في قاعة المطالعة بالدار (وهو مخطوط) فلم أوفق لتحقيق ذلك، لأن المشرفين على دار الكتب في هذا الميدان لا يحسنون معاملة المطالعين، فتارة يقال لي: وضح الجزء المطلوب!. وتارة يقال لي: إن الكتاب لدى حضرات موظفي الدار!. وتارة يقال إن الكتاب في الخارج. . .! وأخيراً قيل لي بعد أن استعنت بموظف في الدار: إنه موجود في المغارة. . .!
فلم أجد أمامي إلا أعود إلى الفهرس المفصل المطبوع، علّي أجد فيه تلخيصاً لطريقة الكتاب؛ وفعلا وجدت هذا التلخيص، وقد جاء فيه، تحت عنوان: (الوفيات) برقم (126م) ما يلي:
(تأليف تقي الدين محمد بن هجرس بن رافع، المولود في شهر ذي القعدة سنة 704؛ المتوفى في اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الأولى، وقيل في اليوم الرابع عشر من جمادى الآخرة من السنة المتقدمة (؟) بدمشق؛ وهو ذيل على تاريخ الحافظ أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف الملقب علم الدين البرزالي الشافعي الدمشقي المولود في شهر جمادى الأولى سنة 665؛ في العشر الأخيرة من ذي القعدة، أو في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة سنة 739 حينما كان محرماً بالحج. . . انتهى البرزالي في تاريخه إلى آخر سنة 736 وابتدأ المؤلف ذيله من سنة 737 وانتهى فيه إلى سنة 773هـ، وفي آخره ترجمة الفيروزابادي وترجمة تمربغا، نقلاً عن المورد الصافي، لابن تغرى بردى؛ نسخة من مجلد، مخطوطة، بقلم معتاد، منقولة من خط الحافظ الشهير بابن ناصر الدين، وقولبت عليه). . .!
إذن ليس هذا الكتاب أيضاً مقصوراً على ذكر الوفيات، بل فيه تراجم وتواريخ؛ وقد وقفت(686/43)
فهارس الدار التي بين يدي عند هذا الحد، فأين إذن ذلك الكتاب الذي سمع به ذلك الصديق، والذي يؤكد وجوده ويقول إنه لم يذكر فيه إلا وفيات الأعيان من الرجال؟. . . (وفوق كلُّ ذي علم عليم)؛ ولذلك وشك رأيت أن أكتب هذه الكلمة على صفحات الرسالة الغراء عله يوجد بين قرائها من يعرف شيئاً عن هذا الكتاب المنشود، فينبئنا بخيره، ويقص علينا طرفاً من أمره، والحقيقة بنت البحث.
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف(686/44)
صفحة مطوية من الأناشيد القومية:
اذكروا. . .
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
يا بَني النيل وأحْفاد الأُولى ... أطْلعوا الفجْرَ على الكوْن القديمْ
رفعوا الأهرام رمزاً للعُلا ... والبرايا في كُهوفٍ وهشيم
اذكُروا أن ثَرَى هذا البلدْ ... من تجاليد الجدودِ العُظَماءْ
لا َتَطْئها أرجل العادي الأَلْد ... وبِكم أبناَءهم بعضُ الذَّماء
تُرْبُها التُبَرُ المُصفَّى المنتَقَد ... لا الذي يَقنِي الشِّحاحُ الأدْنياء
فامنعوا كَنْزَكمُ أن يُبذلا ... أو فَعيشوا عُمرَكم عيش عديم
لن تروا في الأرض عنه بدلا ... ما لكم كنزٌ سوى هذا الأديم
اذكروا أنّ عليكم واجباً ... لِبَنِينا في بطون العُصُرِ
فاحفظوا هذا التراث الواصبا ... فهو حَقُّ الوارِثِ المنتَظَر
نتقاضى الإرْثَ عصراً ذاهباً ... فلنصنْهُ للعصورِ الأُخر
سنؤديه إليهم أكملا ... لم يغيّرْهُ زمانٌ أو خَصيم
فحِمى مِصرَ تَحاماهُ البِلى ... وبنوها خيْرُ من يَحمى الحريم
اذكروا حاضركم كيف يُقام ... ليس يُغْنينا تليدُ القدماء
ما التماثيل المهيبات الجِسَام ... وأبو الهَول رهينُ الصَّحراء!
ما المسلاتُ على بابِ الرِّجام ... والنَّواويسُ وفيها المومياء!
ما عظيمٌ في التواريخ خلا ... في ثنايا حاضرٍ غيرِ عظيم
فاجعلوا عهد العلا مُتصَّلا ... كاتساق الُدرِّ في العِقدِ النَّظيم
اذكروا مهما بلغتم سؤْددا ... أنكم لم تبْلُغوا أَوْجَ الكمال
ابعِدوا فوقَ المنالِ المْقصِدا ... فبنوا الشمسِ لهم أقصى المنال
كم عبدنا قُرْصَها المتَّقِدا ... فاتقدنا في جهادٍ ونضال
نبْتني الهيكل يلتو الهيكلا ... خالداً قي ساحة الرمل مقيم
وسيْبقَى موطن الشمس إلى ... يومك لا يبقى لها قُرصٌ ضريم(686/45)
اذكروا أن التفانِي والغِلابْ ... في سبيل المثلِ الأعلى البعيد
نفَثا فيكم أن وانتم من تراب ... شُعلةً غراء من معنى الخلود
شعلة تجلو عن الحق الحجاب ... وتصَفَّي التنفسَ من رِجسِ الوجود
فاضرموا في النفس هذِي الشُّعلا ... أضرِموها تكفُلوا الفوزَ العميم
ِمثْلَما أُضرِمت النارُ علَى ... مَذبح الرَّبِ بمحراب كريم
اذكروا ذلك وامضوا قُدُما ... لا تكن وُجَهتُنا غَير الأَمام
تَزْدجِينا دَقَّةُ القلبِ كما ... يُقرَع الطبلُ لجرَّارٍ لُهام
َفُنسيغُ الموت صَوْتاً للحِمَى ... ونُذيلُ العُمرَ سعياً واعتِزام
فبِحقٍ نحن أحْفادُ الآلي ... أطْلَعوا الفجر على الكونِ القديم
رفعوا الأهرامَ رمزاً للعُلا ... لا يُداني شأوَه غير النجوم(686/46)
البريد الأدبي
وفاة الكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز:
توفي بعد ظهر اليوم الثالث عشر من أغسطس الكاتب الإنجليزي الألمعي هـ. ج ويلز عن 79 عاماً قضاها في خدمة الفكر البشري يفكر للقادة ويكتب للناس ويعمل للأدب، ويكشف لركب الخليقة مجاهل الطريق ومعامي المستقبل؛ حتى أضاف للثروة الأدبية العالمية محصولا من الإنتاج الممتاز في السياسة والتاريخ والقصص يتسم بالبحث العميق والنظر البعيد والألمعية الصادقة. نشأ ويلز نشأة متواضعة وكان بعد أن ترك المدرسة صبياً يتاجر أقمشة ثم مساعدة الصيدلي ثم وكيلاً لإحدى المدارس الأهلية. وكان من أفور كتاب عصره إنتاجاً وأذيعهم شهرة وأكثرهم قراء حتى بيع من كتابه (معالم التاريخ) مليون ونصف مليون نسخة. وقد انتابه في سنينه الأخيرة مرض الديابيطس واعتراه ضرب من الهم على مصير العالم ومستقبل السلام. وقد تنبأ بالقنبلة الذرية في كتابه الذي أصدره في عام 1914 بعنوان (العام صار حراً)، وقد عاش حتى رآها تخرب المدن وتهدد الحضارة. وفي بعض أعداد الرسالة من هذه السنة فصل عن أدبه يفيدك أن تراجع إليه.
معجم ألفاظ القرآن الكريم:
ألفت لجنة من بعض أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية لوضع معجم لألفاظ القرآن الكريم مفسرة تفسيراً يجمع بين الدقة والوضوح، واللجنة مؤلفة من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والدكتور حسين هيكل باشا وعلى الجارم بك والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ إبراهيم حمروش. وقد اختار هؤلاء الأعضاء مساعدين لهم من بين المشتغلين باللغة والأدب من أساتذة الجامعة ودار العلوم والأزهر، ومحرري المجمع.
مطبوعات المجمع اللغوي:
وافقت الجهات المختصة على صرف كميات من الورق لمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وسيشرع المجمع في طبع مجلته ومجموعات محاضره التي تطلعت عن الظهور منذ عام 1939.
ومما يذكر أن المجمع لم يصدر من مجلته إلا أربعة أجزاء ولم يصدر من محاضر(686/47)
مؤتمراته إلا أربع دورات مع أنه أتم الآن اثنتي عشرة دورة.
وقد أعد المجمع فعلاً الجزء الخامس من المجلة وينتظر أن يصدر في أول السنة المقبلة.
علم الاجتماع الديني:
(قل ما شئت من خير في الأدب العربي الحديث، وسمه كيف شئت. فهو أدب عالمي، وهو أدب حي. وإنك لتجد فيه شعراً غزير المادة وخيالاً خصباً في عنفه ولطفه، وإنك لتجد فيه قصصاً جذابة صادقة الإحساس جميلة التصوير.
(ولك أن تطلق على ثقافتنا ما يروقك من النعوت. ولك أن تحلي جيدها بما يعجبك من جميل الألقاب. فإنك لتقرأ فيها من الانتقاد دقيقة وتصيب من الفن جليلة.
(لك ما تشاء، ولكن، ناشدتك المولى، لا تنعت أدبنا الفكريّ ولا ثقافتنا بالعلمية، لأنك لا تجد في أدبنا تفكيراً بحتاً ولا في ثقافتنا علماً صرفاً. ولست بهاضم لحقوقهما إذا قلت أن أضعف ما فيهما التفكير وأقوى ما فيهما الخيال).
بهذا التصوير قدَّم الأديب السوريّ الأستاذ يوسف باسيل شلحت كتابه (علم الاجتماع الديني) ويتحدث فيه عن أكثر الأديان بدائية عند الُجلْف المتخلفين من قُطَّان استراليا والقبائل المتأخرة في بقاع العالم. وهي مقدمة أحسب أن فيها تجنياً كبيراً على الأدب العربي وليس أدل على ذلك من أن المؤلف ذيّل كتابه بقائمة مراجع عربية للأستاذة الدكتور هيكل باشا ونقولا الحد دوجرجي زيدان والريحاني وسواهم ممن كتبوا كتباً علمية نفيسة، فضلا عن أنه في مستهل كتابه إلى مؤلَّفيْ الدكتور علي عبد الواحد وافي في علم الاجتماع وهما كتابان خيَران، وإلى باقي مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية.
وكتب الأستاذ شلحت توطئه عن علم الاجتماع انتقل إثرها إلى البحث عن تعريف (للديانة) فلم يضع لنا تعريفاً شاملاً، بل أشار إشارات عابرة إلى تعريفات وضعها بعض فلاسفة الفرنسيين والألمانيين ومعظمها سطحي. وهناك تعريف للديانة لم يشر إليه الأستاذ شلحت وقد أورده الأستاذ رايت في كتابه (فلسفة الأديان) وهو: (إن الدين محاولة لإحراز القيم الاجتماعية المعترف بها وصيانتها عن طريق أداء أفعال معينة يُقصد بها الاستعانة بوسيط معين يختلف عن الذات الشخصية للفرد، وعن جميع الكائنات البشرية، مع الشعور بالاعتماد على هذا الوسيط).(686/48)
وأعتقد أن هذا التعريف أشمل ما وضُع، لأنه يستطيع أن يحتضن معظم الأديان المعروفة، فطرية وحضرية. ولا ريب في أن التواضع على تعريف معين أمر غير يسير، وقد أصاب الأستاذ سيلرز عندما قال: (إن معظم الأشياء الفائقة القيمة يصعب تعريفها على حدٍ سواء).
وكتاب (علم الاجتماع الديني) من الروّاد في هذا الباب، ويكاد يكون أشمل كتاب صادفني باللغة العربية في علم فلسفة الأديان. غير أن المؤلف لُم يشر إلى الديانات البدائية سوى إشارة خاطفة، وقصر معظم كلامه على الحديث عن (الطوتمية).
وكنا نود أن يفيض في البحث في الأديان الأخرى الممّيزة عن شؤون الحياة (كالتودا) و (الباجاندا) و (الفيدا) و (المانا) لأن الإشارة الخاطفة إلى بعضها لا تكفي في مثل هذا المبحث.
وختم الأستاذ شلحت كتابه بفضل رائع عن مستقبل الديانات قال فيه (إن الديانة لن تظل على ما كانت عليه في الأعصر الأولى تقيد حركة الأفراد وتمنع عنهم سبل التفكير الحّر. فإن التطور الدينيّ يحملنا على الاعتقاد أن العقول متجهة إلى التخفيف من نير رجال الدين عن رقاب العباد وإلى التقليل من هول الدين في أعين الناس). ولست أذهب إلى الاتفاق معه على هذا الرأي ولكني أرى أن الإنسان متى أقلع عن الإثم لأنه إثم لا لأن الدين يحضه على؛ وإذا فعل الخير لأنه يرى أنه خير لا لأن الدين يحضه على ذلك، أصبح الإنسان في حالة دينية سامية، لأنه بتصرفه ذاك يجعل الدين جزءاً من حياته اليومية، شائعاً في جنبات روحه حتى ليعصى الفصل بين روح المرء ودينه. أما التظاهر بالدين والتباهي بالقداسة وممارسة الفرائض الدينية بطرق آلية، فهذا امتهان للدين أكثر إكراماً له.
وديع فلسطين
تصويب:
جاء في مقال (شريعة الكمال والخلود) المنشور بالعددين 681، 682 من (الرسالة) بعض الأخطاء المطبعية نصححها فيما يلي:
الوذيلة=المرأة وصحتها: الوذيلة المرآة(686/49)
توهموا وصحتها: توهمهم
ولا ريب وصحتها: لا ريب
ولدحض هذه الحجة وصحتها: ولإدحاض(686/50)
القصص
قصة من الأدب الروسي الرفيع:
الملاك. . .
للفيلسوف الروسي الكبير لوي تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
- 3 -
طفقت المرأة تحدثهم بقصة هاتين الطفلتين. . . وقد شاع الحزن في صوتها، وأرتسم الألم على جبينها فقالت:) إنها لقصة فاجعة. . .! لقد قضى أبوهما يوم الثلاثاء، ولحقت به أمهما يوم الجمعة بعد أن وضعهما. . . وكنت أنا وزوجي نعيش ككل الفلاحين في بساطة عيش ودقة حال، وكانت دارنا مجاورة لدارهم. لقد مات أبوهما وكان يقطع الأخشاب في الغاية تحت جذع شجرة هوت عليه من حالق، فسمعته وفاضت روحه قبل أن يبلغوا به الدار.
وبعد ثلاثة أيام. وضعت زوجته هذين التوأمتين - ولم يكن لها من ناصر أو معين فوضعتهما وحيدة. . . ولقيت منيتها وحيدة. . .! وفي اليوم التالي توجهت إليها، أنظر ما آلت إليه حالها. . . فما كدت أتخطى الكوخ، حتى وجدتها متيبسة الجسد وقد علت وجهها صفرة الموت. . . وتدحرج جسدها فوق هذه الطفلة، فأصاب ساقها العرج. . .!
وجاء القوم من القرية - وكلهم حزين، يأكل قلبه الألم - فكفنوها في خال وحملوها إلى المقبرة، ودفنوها جوار زوجها. . . لقد كانت الطيبة تملأ نفوسهم والعطف يفيض من قلوبهم. . .! ولكن هاتين الطفلتين أصبحتا ومالهما من ولي أو كفيل. . . وكنت حينئذ المرأة الوحيدة في القرية التي عندها طفل لم يتجاوز أسبوعه التاسع. . . فضممتها إلى صدري. . . وعدت بهما إلى كوخي. فلما اجتمع الفلاحون راحوا يفكرون ويطيلون التفكير في أمرهما، وأخيراً، قالوا لي: عليك العناية بهما الآن يا ماري. . . وسوف ندبر أمرهما فيما بعد. . .!)
فأخذت على عاتقي أن أرضع هذه الطفلة الصحيحة، وأدع العرجاء. . . فما كنت أحسب أنها ستعيش. ولكني تساءلت: بأي ذنب تعاني هذه الطفلة ألم الجوع؟! فما لبثت الرحمة أن(686/51)
فاضت بين جوانحي. . . فرحت أرضهما مع طفلي. . . وقد كنت لبانة يتفجر اللبن من ثديي في فيض لا ينقطع، وكان الله يأتيني برزق هاتين الطفلتين. . . فترعرعتا على حين توفى الله طفلي الوحيد، قبل أن يبلغ السنتين. . . وقد أقبلت علينا الدنيا بعد انصرافها عنا. . . فزاد حبي لهما وحناني عليهما. . .
أفعلمتم الآن سبب ذلك الحب؟! إنهما سعادتي في هذه الحياة، وأملي في هذه الدنيا. . .!) وضمت (السيدة) الطفلة العرجاء إلى صدرها بإحدى يديها، بينما ارتفعت يدها الأخرى لتمسح دمعة حارة تحدرت على خدها فتنهدت (مترونا). . . وقالت في صوت عميق وجرس ندي: (صدق من قال) يعيش المرؤ بغير والديه! ولكن لا يعيش بغير الله. . .!)
وران الصمت عليهم. . .! وفجأة انبثق في الكوخ نور باهر كأنه وميض البرق في ظلمات الشتاء. . . وشع الضوء من ذلك الركن الذي يجلس فيه (ميشيل). . . فالتقت عنده أبصارهم. وهو على كرسيه يحدق في سماء الغرفة. وقد افتر ثغره من ابتسامة حلوة. . . أشرقت في وجهة وأضاءت على جبينه. . .
فلما تهيأت المرأة للذهاب. حيتهم. . . وأمسكت بطفلتيها. ومضت بهما. . . فنهض (ميشيل) من جلسته. . . ووضع ما كان بيده وخلع عنه مئزره. . . ثم انحنى لسيمون وزوجته (مترونا) وقال في صوت شكور (وداعاً. . . أيها السادة. . . لقد عفى الله عني. . .! وغفر لي ذنبي. . .)
وراح ميشيل يتألق في ضياء تنبعث من هالة حوله. . . فانحنى سيمون وقال في صوت ملؤه العجب (لقد حدست إنك لست ببشر يا ميشيل. . . ولن أثقل عليك بتساؤلي. . . ولكن آمل أن تخبرني: لماذا تألق وجهك حينما عثرت عليك في الطريق عريان جائعاً؟! ولماذا ابتسمت إلى زوجتي تلك الابتسامة الوضيئة حينما قدمت إليك الطعام؟! وحينما دخل ذلك (السيد الجليل) كوخنا، لنصنع له حذاء إفتر ثغرك عن بسمة مثيلة بها؟. وأخيراً حينما أتت هذه السيدة مع هاتين الطفلتين تألق وجهك بابتسامة ثالثة في جلال وبهاء. . .
نشدتك الله يا ميشيل أن تطلعني على سر ذلك الإشراق، وعلة هذه الابتسامات الثلاث؟!!). . .
قال ميشيل في صوت هادئ رخيم (لقد انبثق الضوء عني وأشرق النور مني لأن الله(686/52)
يعاقبني. . . بيد أنه عز وجل غفر لي ذنبي أخيراً!. . . والسر في تلك الابتسامات الثلاث أن الله أرسلني كي أتعلم ثلاث حقائق. . . وقد تعلمتها. . .!
لقد تعلمت واحدة حينما فاضت الرحمة من قلب زوجتك. . . فكانت الابتسامة الأولى!!
وتعلمت الثانية حينما سمعت ذلك (السيد) يتحدث عن حذائه، فكانت الابتسامة الثانية!!
وتعلمت الثالثة عندما رأيت هاتين الطفلتين. . . فكانت الابتسامة الثالثة!)
فقال سيمون في دهش ورجاء (خبرني لماذا عاقبك الله يا ميشيل؟! وما هذه الحقائق الثلاث؟!
فأجاب ميشيل في صوته الهادئ الرخيم (لقد عاقبني الله لأني عصيت له أمراً. . . لقد كنت. . . ملاكا أسبح في ملكوته الأعظم. . . فأنزلني ذات يوم إلى الأرض لأقبض روح امرأة من خلقه. . . فأبصرها راقدة على سريرها وحيدة - وقد وضعت توأمين! - فلما أحست دنوي منها، أدركت أني رسول الله إلى روحها. . . فقالت وقد كادت أن تحبس صوتها الدموع: (أيها الملاك. . . لقد مات زوجي منذ أيام وما لي من أخت أو عمة أو ولية ترعى طفلتي. . . فلا تقبض روحي! ودعني أرضعهما وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت!! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم!.)
فأصغيت إلى حديثها الرقيق الرفيق. . . ووضعت إحدى الطفلتين على صدرها والأخرى على ذراعها. . . وانثنيت آيباً إلى الله تعالى في السماء. . . وقلت في خشوع (إني عاجز عن أن أقبض روح هذه الأم. . . لقد قتل زوجها تحت جذع شجرة منذ أيام. . . وولدت لها اليوم توأمتان. . . وتوسلت إلى ألا أسلّ روحها قائلة (دعني أرضعها وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم.!) (فعدت ويدي عاطلة من روحها!.) فسمعت الصوت العلوي يردد الأمر الجليل (اذهب. . . فاقبضها ولا تكن عودتك إلى السماء قبل تتعلم حقائق ثلاث):
(ما الذي فطر عليه الإنسان؟!)
(ما الذي حرم منه الإنسان؟!)
(ما الذي يعيش به الإنسان؟!)
فعدت طائراً إلى الأرض - وأنا أرتعد فرقاً من غضب الله وأنتفض جزعاً من عقابه.(686/53)
فقبضت الروح. . . وسقطت الطفلتان من على صدرها، ومال جسدها على جانبها، فحطم ساق إحدى الطفلتين فالتوت. . . وهممت بأن أصعد إلى السماء أحمل الروح إليها. ولكن الريح أثقلتني وأخذت أجنحتي تتضاءل وتنسل من ظهري. . . فصعدت (الروح) وحدها إلى الله. . . بينما سقطت أنا على الأرض في جانب من الطريق!.)
فغر سيمون فاه. . . ونظرت (مترونا) في بلاهة يشوبها الدهش. . . لقد أدركا الآن من كان يضمه دارهم ويعيش بينهم ويأكل من طعامهم. . . فترقرقت الدموع في عيونهما. . . وراحا يبكيان في نشيج ومزيج من الرهبة والمرح. والإجلال والفرح وانطلق الملاك يقول: (لم أكن أعرف حاجات البشر من جوع وعرى حتى صرت بشراً مثلهم. . . كنت وحيداً. . . يهرؤني القر، واتضور من الجوع. . . ولا أدري ما الذي أفعله في هذا العالم
وامتد طرفي. . . فلمحت كنيسة على مرماه. . فتوجهت إليها عساني أجد ثمت موئلا. . . بيد أنها كانت مغلقة. . . فتوجهت إلى ما وراءها. . . حيث قعدت أتوقى بها لريح الصرصر التي تسفح الوجه، وتصك الجسد. . .!
فلما غشى المساء عيون الكون. . . رأيت إنساناً يقبل وحيداً على. . . وبينه وبين نفسه حديث. . . ولأول مرة رأيت وجه الإنسان ذلك الوجه المخيف الميت فأشحت عنه برأسي. . . وطرق سمعي ذلك الحديث أو تلك الخواطر التي كانت تضطرب بينه وبين نفسه. . . وتنعكس على شفتيه فيرتفع بها صوته. . . كان يتساءل كيف أنه يقي جسده لفحة البرد وقشعريرة الشتاء، ويغذي زوجته وصغاره بماله اليسير. . .
فرمت أفكر (هذا إنسان يدبر ملبساً له في الشتاء. . . وطعاماً لعائلة. . . فكيف يقدم لي يد المساعدة؟!) فلما لمحني اضطرب فرقاً وجزعاً ومر بي في الجانب الآخر من الطريق. . . فتداركني اليأس، لولا أني أبصرته ينقلب راجعاً إلي. . . فرفعت إليه بصري فلم أعرفه. . . لقد كان يرتسم الموت على جبينه. . . أما الآن فسوف يعيش. . . لقد عرفت في شخصه وجود الله عز وجل.! ألبسني ثوباً عليه، وأخذني معه إلى داره حيث وجدت من هي أقسى قلباً وأشد كلاماً. . . لقد شاع في صوتها الموت، وأبصرت من حولها الهلاك. . . كانت تود لو ألقت بي إلى قارعة الطريق. . . ولو أنها فعلت ذلك لكان الموت من نصيبها.!(686/54)
فلما بدأ الرجل يحدثها عن الله عز وجل، لان قلبها ومال إلى فؤادها. . . فأحضرت لي الطعام، ونظرت إلى وجهي في عطف وشفقة. . . فعرفت في شخصها وجود الله. . .
فتذكرت أولى الحقائق الثلاث التي أمرني الله بأن أعلمها (ما الذي فطر عليه الإنسان؟!.).
فأدركت أن الذي فطر عليه الإنسان هو (الحب)!! وقد تولتني البهجة حينما علمت أن الله أوحى إليَّ بالدرس الأول. . . فافتر ثغري عن الابتسامة الأولى. . . ولكن بقي على أن أتعلم الحقيقتين الأخرتين: (ما الذي حرم منه الإنسان؟!) و (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).
(مضى عام وأنا أعيش بينكم. . فلما أتى ذلك السيد الجليل يأمرنا بصنع حذاء له على ألا يبلى أو يخلق قبل أن تنقضي سنة على ذلك. . . نظرت إليه. . . وعلى حين غرة لمحت فوق رأسه رفيقي (ملاك الموت) ولم يره أحد سواي. . . ولكني عرفته، وأدركت أن الشمس لن تغيب عن الأفق إلا وقد غابت روح ذلك الرجل عن جسده. . . فتعجبت. . . إن هذه الرجل يعد العدة لعام بأكمله. . . ولا يحسب أن قضاءه قد حم. . . وأن المساء لن يأتي عليه إلا وجثته مسجاة هامدة. . .).
فتذكرت الحقيقة الثانية، فكأن الله يوحي إلى أن تعلم (ما الذي حرم منه الإنسان؟) فابتسمت للمرة الثانية. . .
ومكثت أنتظر أن يوحي إلى الله بالحقيقة الثالثة (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).
وفي العام السادس. جاءت امرأة ومعها توأمتان صغيرتان فعرفت الطفلتين وعرفت أن الله قد قيض لهما من كان أحن عليهما من أمهما. . . فعاشتا وترعرعتا.!
ولما سمعت ما قصته علينا من كفلتهما رحت أفكر مستغرقاً (لقد توسلت إلى أن أدعها حية حتى ترعى الطفلتين. . . الضعيفتين. . . واعتقدت أنها على حق حينما قالت (إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم. . .) بيد أن امرأة غريبة عنهما كفلتهما حتى نمتا وشبتا. . . وأدركت مبلغ ذلك الحب الذي يختلج بين جوانح بين تلك الظئر الحاضنة. . . فرأيت في شخصها وجود الله. . . وتعلمت الحقيقة الثالثة وهي (ما الذي يعيش به الإنسان؟!). . . إنه (الحب). . . وعلمت أن الله أوحى إلي بالدرس الأخير. . . وأنه عفى عما تقدم ذنبي ومن عصيان أمره على غير بصيره. . . فكانت الابتسامة الثالثة!!.)
أضحى (الملاك) وهوَ عار مما عليه. . . يشع من جسه نور قوي يبهر الأبصار. . .(686/55)
وراح صوته يخفت وينخفض حتى صار، وكأنه لا يأتي من فيه. . . بل يأتي. . . من السماء. . .!
(لقد علمت أن البشر لا يعيشون بالحرص على حياتهم. . . بل بالحب المغروس في قلوبهم وهل نفع حرص الأم على بنيتها؟! لا بل كان حب الظئر لهما!!.
ولقد عشت - عندما كنت إنساناً - لا بالحرص على حياتي. . . بل بالحب يختلج بين جوانح عابر سبيل. . . وبالرحمة والعطف الذي انبثق في فؤاده هو وزوجته على. . .
إن الحب شيء فطر عليه الإنسان وغرس في قلبه. . . وعليه يعيش وبه يحيا في هذه الدنيا. . .! وكنت احسب أن الله وهب الحياة للبشر، ومنحه الأمل في أن يعيش. . . بيد أني الآن علمت أشياء أخرى. . .! علمت أن الله لم يخلفه كي يعيش وحيداً فريداً. بل خلقه ألوفاً ساعياً للارتباط بغيره. . . عرفت أن المرأ مع تخيله أنه يعيش بالحرص على حياته. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . ففيه نفحة من الله. . . فالله عز وجل هو الحب. . . والحب هو الله!!. . .)
ثم ارتفع صوت (الملاك) في جرس ندي يردد أنشودة ملائكية يحمد فيها الله ويثني على آلائه!! فكان الكوخ والأشجار والطيور تتراقص وتهتز وكأنها تسبح بآيات الله. . . وانحسر سقف الكوخ حيث ارتفع عمود من النور يربط السماء بالأرض. . . فخر (سيمون) وزوجته وأطفاله وقد ملكت نفوسهم الرهبة والخشوع، وملأت قلوبهم الخشية والإجلال!. ونبت (للملاك) جناحان على كتفيه. . . حيث راح يسبح بهما مصعداً إلى السماء. . .!
فلما أفاق (سيمون). . . وراح يقلب طرفه فيما حوله. . . رأى الكوخ وقد أصبح كما كان. . وليس فيه سوى زوجته (مترونا) وأطفاله الصغار. . .
مصطفى جميل مرسي(686/56)
العدد 687 - بتاريخ: 02 - 09 - 1946(/)
4 - من لغو الصيف
هؤلاء الأرستقراط. . .!
للأستاذ سيد قطب
قلت: اذهب إلى (بلاج سيدي بشر رقم 2، ورقم 3) أرى هؤلاء (الاستقراط) الذين خصتهم الدولة بشواطئ خاصة، لا تطؤها أقدام الشعب إلا لقاء جعل معلوم!
وأديت هذا الجعل، وحملت في يدي (تذكرة الدخول) بارزة، فأنا رجل من الشعب. وما آمن أن يعترضني شرطي أو حارس، وأنا أسير في الأرض المحرمة، التي لا يجوز أن تطأها أقدام الشعب إلا بترخيص!
وسرت بحذر واحتراس، أتوجس خيفة من كلُّ خطوة - على الرغم أني أحمل الترخيص بالمرور - فأنا هنا في وسط (الأرستقراط) وأنا رجل من الشعب. وتعليمات الدولة المسطرة على المداخل توقع الرعب في القلوب: (ممنوع دخول هذا البلاج لغير أصحاب الكابينات إلا. . . الخ)، وذكرني هذا بتعليمات أخرى في بعض الحدائق والأماكن: (ممنوع دخول الكلاب إلا. . . الخ).
ورأيت الدولة قد اختارت أجمل مناظر الشاطئ على الإطلاق لتخص بها هؤلاء السادة المحظوظين. فبلاجا سيدي بشر رقم 2 ورقم 3 يلخصان جميع مناظر (الكورنيش). مناظر الشواطئ الصخرية، والشواطئ الرملية، والشواطئ الصناعية، والموج الصاخب، والموج الهادئ، والموج العميق.
وهل أقل من أن تجمع الدولة لهؤلاء السادة أجمل المناظر وأبهجها ملخصة في الشاطئ المحرم، الذي لا يجوز أن تطأه أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وسرت ترمقني أنظار السادة كما ترمق العبيد. . . من هذا الدخيل الواغل؟ إنه رجل من الشعب. يا لهذا الشعب الطفبلي الذي لا يني يعكر صفو السادة بهذا التطفل الغريب. . . ولكني أحمل الترخيص!!!
وانتبهت بعد هنيهة، واستعدت رباطة جأشي، وتقويت بهذا الترخيص الذي تحمله يدي، فدسسته في جيب قميصي، وحرصت - مع هذا - على إبقائه ظاهراً؟!
لا بد أن يكون هؤلاء السادة يستحقون هذا التدليل لا بد أنهم يترفعون بمستواهم وأخلاقهم(687/1)
عن العامة. لا بد أنهم (أستقراط) في نفوسهم، قبل أن يكونوا أرستقراطاً بجيوبهم، وإلا فهل تقدم الدولة على عزلهم هكذا عن الشعب - في نفس الوقت الذي تحارب فيه انعزال الطبقات - إلا لسبب معلوم!
ولكنني لا ألمح هنا امتيازاً خلقياً ولا نفسياً. إنهم - والشهادة لله - أوقح وأجرأ وأشد تبذلاً من عامة الشعب في (بلاجات الشعب، التي يمرح فيها بلا جعل ولا ترخيص!
شيء واحد يفرق هؤلاء السادة عن الشعب. . . أنهم لا يتكلمون لغة هذا الشعب. اللغة العربية أو المصرية هنا غريبة. . . ولقد سمعت الفرنسية والتركية والرومية. . . ولكني لم أسمع العربية والمصرية إلا من الخدم وحراس الشاطئ. . . والمصريون هنا غرباء. عرفت منهم علي ماهر، ومكرم عبيد، وإبراهيم عبد الهادي، وعبد المنصف محمود. . . وحفنة قليلة ممن تحمل وجوههم الطابع المصري. . . أما الأغلبية فمن ذوى الوجوه الحمر أو الوجوه البيض. . .
مستعمرون!!! وليس الإنجليز وحدهم هم المستعمرين!!!
هؤلاء هم قادوا الشعب إلى الهاوية. . . انحلت أخلاقهم، لأنهم لا رصيد لهم من خلق ولا دين. ولا رصيد لهم كذلك من عراقة ولا تقاليد.
وكلمة (أرستقراط) التي تطلق عليهم لا تحمل من معناها العالمي شيئاً. ليس في مصر طبقة أستقراط كطبقة اللوردات المحافظين في إنجلترا مثلاً. . . فأعرق أسرة من هؤلاء لا يزيد تاريخها في الغنى على مائة عام. . .
جاء محمد على الكبير والشعب المصري فقير. والأثرياء هم المماليك ومن يلوذون بالمماليك. . . وجعل محمد على زمام الأطيان كلها في يده، فلم يبق ثري لا في الشعب ولا في المماليك. . . ثم أخذت الثروات تتسرب إلى أيدي طبقات خاصة على مدى السنين في هذا الحيز القصير.
وفاز بنصيب الأسد على توالي الأجيال: أبناء الجواري، والمعاتيق، والذين خدموا الاحتلال - والذين عرفوا كيف يدورون مع الريح. والقلة القليلة في العصور المتأخرة هي التي كسبت ثروتها بالجهد وعرق الجبين.
تلك هي قصة الثراء في مصر مختصرة. كلهم محدثو نعمة، لم تتأصل فيهم تقاليد(687/2)
(الأرستقراط) المعروفة في بلاد العالم. ومن هنا لم يكن لهم رصيد من العراقة. . . ووجدوا في أيدهم النقود.
هؤلاء هم الذين يقودون الشعب اجتماعياً - مع الأسف الشديد. . . هؤلاء هم الذين انحلوا فانحل معهم الشعب. ومن هنا جاءت كارثة الجيل. . .
تفاهة. . .
هذه الكلمة المفردة تلخص طابع الجيل. . .
لا يعيب الفتاة العصرية شئ كما يعيبها الجهل بماركات السيارات وأسماء الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات وعناوين الأفلام والروايات، وشيء آخر أهم: ألعاب القمار، الكونكان والبوكر والباكاراه. . . لا يعيبها أن تجهل الجمال في الطبيعة، والجمال في الفن، والخبرة بالأسرة والعالم. . .
والفتىكالفتاة. . . أحاديثه أحادثيها. وطراوته طراوتها. وهي أنثى وهو يتأنث. لأن (أولاد الذوات) هكذا أطرياء لُدْنً مخانيث! لقد شهدتهم هنا وفي كلُّ مكان. الحركة الطرية، والملابس الطرية، والإيماءة الطرية. إنهم لا يكادون يتماسكون. ونفوسهم من الداخل كأجسامهم لا تماسك فيها ولا قوام لها كالهلاميات التي لم تتماسك بعد في عالم التكوين. . .
وهؤلاء هم الذين يقلدهم الشعب المسكين!!
وجيل تافه. . .
ليس هناك عالم نفسي يعيش فيه بعض الوقت. فلا شئ إلا هذه الظواهر، ولا شئ في هذا العالم الظاهر إلا أتفه ما فيه. . .
(شيكوكو) المنولوجست معبود الجمهور و (أنور وجدي) ممثله المرموق. . . ومن في مستواهما من المطربين والمطربات. . . هذا وحده يكفي لليأس من ذوق هذا الجيل، ومن نفيسته وشخصيته
لا إذن تحسن السماع، ولا ذوق بفطن للفنون. . . (كله عندهم صابون) والمهم أن يكون أكثر ميوعة، وأشد رقاعة وكل جديد هو خير من القديم!
حضر (أنور وجدي) و (ليلى مراد) إلى (البلاج) فتزاحمت عليهما الجماهير، حتى ضاقت أنفاسها بالجماهير. ويبلغني إن (عبد الوهاب) يضيق بالحفلات الخاصة بالبنات اللواتي(687/3)
يترامين عليه في مجون رقيع. . . ذباب. . . ذباب وصراصير!. . .
وجيل حائر. . .
شهدت شابا وشابة زوجين، يخرجان من البحر بلباس البحر ويجلسان على الكازينو كذلك يتناولان الشاي والمرطبات ويدور الحديث بينهما وبين معارف لهما. فتذكر الشابة إن زوجها لا يلبس خاتم الزواج لأنه من الذهب، والتختم بالذهب حرام في الدين!
أي والله، هكذا. . . حرام! حرام أن يتخم بالذهب أما العرى القذر هكذا على الكازينو، فذلك متاع بالبحر لا شئ فيه.
ذلك مظهر من مظاهر التفكك النفسي، كالجهاز المفك، كلُّ جزء فيه يشتغل على هواه، بلا ضابط، ولا اتصال.
وعرفت سيدة تصلي وتصوم. . . ثم. . . تخرج من البحر بالمايوه، وتجلس على الرمال بالمايوه حيث تتدسس النظريات المريضة إلى كلُّ موضع في هذا الجسد المكشوف. فأما حين تقف للصلاة فتفيض عليها من الجلباب والخمار. . . إنها تتحجب هنا فقط، تتحجب على الله!!!
وذكرني هذا بتلك المرأة التي عادت من الحج، لتحي حفلة راقصة تدور فيها الكؤوس ويكون بعدها ما يكون، احتفالاً بهذا الحج المبرور. . .
إنها من أولئك (الأرستقراط) اللواتي يقلدهن الجبل! والمجلات الداعرة. . . إنها تنشر صور هؤلاء الأرستقراط في مباذلهم، وتقول عن نسائهم المبذلات إنهن شرفن مصر! وتقلدهن بنات الشعب المسكين.
وهنا في (بلاج الشعب) في سيدي بشر رقم 1 شاهدت مصوراً لإحدى هذه المجلات الداعرة، يلتقط صورة لفتاة من بنات الشعب (بالمايوه). وكلفهاأن تضطجع ضجعة خاصة فأطاعت. ويبدو أن شيئاً من حياء الأنوثة، وأحياء الإنسانية كان لا يزال يراودها فضمت فخذيها. . . ولم يعجبه المنظر فقرب منها وقرب، ولمس بيده ركبتيها لتفتح ما ضمت. فلما ترددت قليلا. . . قال: (الله! إنت فلاحة وإلا إيه)؟
وانحلت العقدة: فمن هي التي تريد أن تكون فلاحة؛ وهل تستحي إلا الفلاحة؟ والفلاحون ليسوا (أرستقراط) بشهادة الجميع!!!(687/4)
و (تانت) و (أنكل) و (دادى). . .
ميوعة أولاد الذوات ورقاعتهم المهينة، المهينة لأنها لا تعتز بقومية ولا لغة، المهينة لأنها تحتقر نفسها حين تلجأ إلى اصطلاحات الآخرين. . . هذه الميوعة مع الأسف أخذت طريقها إلى الشعب.
والمسألة أعمق من أنها مجرد ألفاظ. المسألة هي الشعور بالنفس أو عدم الشعور. المسألة أن لي كرامة في نفسي ولغتي وبلدي أم ليست لي هذه الكرامة. وأولاد الذوات لا كرامة لهم لأنهم لا نفوس لهم ولا وطن ولا عراقة. . . فما بال الشعب ينزلق إلى التميع المهين؟
يا بحر. إنك لتغضب. وإنك لتزمجر. وإنك لتجرف في ساعات غضبك وزمجرتك كلُّ خبث في جوفك، فتقذف به إلى الشاطئ. . . اعكس مرة أيها البحر، فاجرف إلى جوفك قذر الشاطئ بكل ما فيه!
سيد قطب(687/5)
الدفاع عن الفضيلة. . .
كلمة صريحة لله وللوطن:
(تأييداً لمقالات الأستاذ سيد قطب)
(لأحد الكتاب)
هال بعث المصلحين منذ سنتين ما رأوا من فشو التبرج والاختلاط في دمشق البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويريدّون الرذيلة الغالبة، وأنقاد إليهم الناس، لأن الكثرة الكاثرة من أهل دمشق لا تزال متمسكة بدينها، ولا تزال نساؤها ي الحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها، وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحرقون. . . لولا أن رفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها وترويعهنّ، وإلى التجوال في البلد ونصح كلُّ متبرّجة ووعظها وزجرها. . . وقد أنكر العلماء وعقلاء البلد ذلك عليهم فكفوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط، فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره وكبّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا ويُبرقون البرقيات ويُرعدون بالخطب، وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب، باسم (الحرية الشخصية) التي تمتع عيونهم بما وراء الحجاب من جمال، وتُنيلهم ما بعد حدود الفضيلة من لذائذ. .!
أيخرجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للَحدث الأكبر، يا للَعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور! أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كلُّ امرئ حراً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها؟!
كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون. . . أو كذلك أراد لهم هواهم، وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلامهم لهم إلا في الدفاع عن (الحرية. . .)، وهاجوا بعض النواب، فجرب كلُّ واحد منهم أن يتعلم(687/6)
الخطابة في تقديسها، ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حاموا عن الفضيلة، فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين، وأدخلوهم السجون، وجرعوهم كؤوس المهانة، حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى، وصار النساء إذا رأين شيخاً في الطريق شتَمْنَه وسخرن منه، وتوارى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء، وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم، وحسب أولئك أن الظفر قد تم لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون. . . وكانت النتيجة أن تحطم السدّ فطغى سيل الرذيلة وعم، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما أيام حكم الفرنسيين الذين هم أفسق الناس، وهذه حقيقة نثبتها بأسف وخجل. . . وكانت النتيجة أن ازدادت جرائم التعدي على العفاف واستفحلت حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته وأخته، ومن يفجر بطفل رضيع، وما يصنع هذا الوحش الذي أثارت (الحرية الشخصية) غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟ وكانت النتيجة أن دمشق التي تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت يوم الجلاء، بنات في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، ترتج نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. . . وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل، وألبست لباس عروس، وركبت السيارة وسط الشباب - قالوا: إنها رمز الوحدة العربية. . . ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز إن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها، ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحي ولا يخجل، وأخرى قالوا أنها رمز سورية الأسيرة قد فكت قيودها. . . وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلا استغلال العيد الوطني في هدم أركان الفضيلة وتمزيق حجابها. . . وأخذت صور هذا كله فنشرت في الجرائد وعرضت في السينمات، ثم ازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق حتى رأينا صور ممثلينا السياسيين مع نسائهم على (بلاج) الإسكندرية منشورة في إحدى مجلات مصر التي لا تدع فرصة فيها تشير بنا وفضح لنقائصنا إلا استغلها، ثم ازدادت الجرأة حتى صارت مجلات دمشق تنشر صور العرايا فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما تُشترى له، ثم امتد الشر حتى رأينا وزارة المعارف تعمل من الطالبات كشافات يمشين في الطرق بمثل لباس(687/7)
المجندات في الجيش الأميركي بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين، وحتى رأيناها تقيم معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون، فترك مدارس البنين كلها، ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها، وهي أصلح مكان للمعارض، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936، وتختار مدرسة بنات في طريق الصالحية، ثم يفتتح المعرض مدير معارف دمشق. . . بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من الكشافات يغنين على المسرح ويأتين بحركات رياضية تبدي للأعين الفاسقة المفتحة أكثر ما يخفي عادة أجساد فتيات نواهد. . . قد انتقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات، ثم امتد الشر حتى رأينا محافظ دمشق يفتح نادياً يكون من قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته (غير المتزوجة. . .)، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العزاب المستهترين الساكنين في القهاوي الخبيثة والخمارات، أصحاب (تلك) البرقية الوقحة المعروفة يسلمون أمر المعارف، ويسلطون على الشبان والشابات والشابات، فيبتدعون لهم نظام المرشدات (وإنه لنظام الضالات المظلات) والاختلاط في الحفلات، فبعد أن كانت مدارس البنات لا يدخلها معلم ولا فراش إلا أن كان شيخاً كبيراً، صار معلموها من الشباب العذاب المتأنقين الحاسرين أصحاب الشعور المرجّلة والوجوه المحفوظة، وصارت تقيم حفلات للرجال يمثل فيها البنات ويرقصن بالثياب القصيرة (الرقص الرياضي. . .)، ويدبكن الدبكة الوطنية، ثم يخترعون شرّ اختراع، وهو هذه الرحلات المدرسية التي يشترك فيها الجنسان، وها هو ذا إعلان قرأته في جريدة دمشقية تصدرها جمعية إسلامية عن الرحلة إلى استنبول يشترك فيها الطلاب والطالبات والمعلمون والمعلمات إلى استنبول - يا أيها الناس - لا إلى بيروت. . . وكان من البلاء أن هذه الجريدة نشرته ونسيت أن تعلق عليه، وتبين حكم الله في هذه الرحلات، وحكم العقل والأخلاق. . . ثم ينقلون دار المعلمات من مكانها القديم المستور إلى (فيلا) جديدة في شارع محدث في ظاهر البلد، مكشوفة من كلُّ جهاتها، لها طنف وشرفات دائرة بها، وسررُ الطالبات تظهر من طريق، فإذا نهض من النوم رآهن (من تحت) من يمشي في الشارع بثياب المنام، ثم يدفعون خريجات دور المعلمات فيعملن حفلة خيرية، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلا مرقص العباسية، ويطبعن في البطاقة أنه سيغني فيها (فلان) من فسقة(687/8)
المغنين، وترقص (فلانة) الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً!
ثم. . . ثم ماذا؟ الله وحده الذي يعلم ماذا يكون أيضاً، وإلى أين يبلغ بنا المسير. . .
وقد نزلت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة لا تصحو من واحدة حتى تحس بالأخرى، وهم يريدون منا مع ذلك أن نسكت وألا نقول شيئاً، لئلا نشوّه (زعموا) جمال العهد الوطني.
كلا. إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة ويسود الحق ويحفظ العفاف. . . كلا، ولا كرامة، إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرْض!
إنها حياة هذه الأمة: لا تحيا أمة بلا أخلاق، أفئن قامت فئة من العامة بما لا نرضي عنه، وانتهكت حرمة هذا الحرم الأقدس: السينما، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات: النساء المتبرجات نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟
إن من الأمور ما يتفق عليه أبناء الملل كلها، وما يلتقي فيه أتباع الأديان جميعاً كما يلتقي سالكو شوارع مختلفة في ساحة من الساحات، ومن ذلك الدعوة إلى العفاف، إنها دعوة لا بد منها، فإذا لم تريدوها عن المعية الغراء والمشايخ، فلتكن عن طريق البطْرك أو الحاخام أو الوثني الملحد، المهم أن يجهر بها جاهر ونحن معه مؤيدون له ومحاربون لمن يحاربه، ونحن نريد الجوهر لا المظهر.
ثم ما هذه الحرية التي طبّلتم لها وزمرتم، وهوّلتم وعظمتهم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة والديمقراطية، أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة في أن يحوّل مدرسته إلى مرقص؟ أهي حرية الفسوق والعصيان؟
أهذه هي الحرية المقدسة؟
إنكم - أيُها السادة - بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسامكم؟ وإلا فخبروني أي أمة في الدنيا تصنع الصنيع:
العرب؟ إن العرب أغير على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في(687/9)
ألسنة الأمم تترجم بها!
المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر وستر العورة، ولعن الناظر إليها والمنظور!
الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ السباب في الملعب فعلام تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء، فيه الرجال والنساء وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد، ما كان قط ملعباً ولا ميدان كرة، وإن الفرنسيين ينشئون بيوتاً للهو واللذة وبيوتاً للعلم، وانتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو، وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما أستلمّ أنتم الجيش كشفتم عن أفخاذهم. . .
الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وانتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.
العفاريت؟ الجن؟ فمن إذن؟ أنكون نحن بدعاً في الأمم نأخذ من كلُّ واحدة شر ما عندها، ونريد أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليط من الشرور مركباً تركيباً مزجياً كحضرموت. . . إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة!
لا. لم أرد أن أنحو في هذا الحديث نحو الخطابيات، ولم أنشئه لأخاطب به العواطف وحدها، ولكن نحوت فيه نحو التدليل والتعليل، وقررت حقائق بادلتها، وأنا أدعو إلى مناظرتي فيه كلُّ مخالف في رأسه عقل، وفي يده قلم، وفي فيه لسان. . .
ولم أوجه للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لا أخص مسلماً ولا مسيحياً، لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأغراض، ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيره، ولم يغضب لحرمه فهو كذاب دعي ليس بعربي.
وسيقول ناس من القراء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له أنه يريد بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم
وهذا كلام لا يناقش ولا يرد عليه، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة، إنما يدفع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل بالدليل، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل؟
إنهم حفظوا كلمات فهم يرددنها لا يحاولون فهم معناها، يقولون: رجعية. . . وما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعادته، فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك(687/10)
الأخلاق مصلحاً أو مفسداً؟
هذه هي الرجعية!
هي رجوع إلى الدين، أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي، فلا ينكر عليها أحد، ولا يتهمها بالتأخر، ولا يصمها بالجود، ونطلب نحن إلى ديننا الحق، فيقول السفهاء: إنا متأخرون جامدون؟!
لا. هذا كثير! هذا كفر بالمنطق، وتعطيل للفكر، وإلحاد في المدينة. . . هذا شيء نستحي من الأمم أن يكون فينا من يقوله!
ونحن إذ ننتقد شيئاً نبين أضراره، فبينوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به، ولو حملنا معه شيئاً من الضرر، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض، وإن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حرما.
فتعالوا نتناظر!
إنه لا بد في كلُّ مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان ليعودا إليها، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول، فإذا كان المتناظران مختلفين في كلُّ شئ، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضار، ويدعي هذا أن اتباع الدين واجب فينكر الآخر هذه الدعوى، ويرى هذا العمل على منع الفجور، ويرى ذاك العمل على نشره. . . فلا يمكن أن يكون بينهما كلام!
فلنتفق أولاً على الأصول:
هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم شر؟
هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم شر؟
هل مراقبة الله وخوفه وتمسك كلُّ امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها.
وأنه ليكون غرورا ًمني وازدراء للخصوم والقراء، إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، وحاولت إقامة البراهين على أنها خير وأتبعت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً، وأني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني(687/11)
المناظرة على هذه الأسس الثلاثة:
فتفضلوا قولوا، هل هذا الذي نحن فيه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يقوضها على رؤوسنا؟ هل يرضى ربنا أم يسخطه علينا؟ هل يجعلنا أمه قوية أم هو يذهب بقوتنا؟
وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن ينتخب لها الجميلات منهن لا النابغات ولا المجدات ولو كن قبيحات. وإذا لبسن الجواريب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء العيد وتذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء؟
وإذا حسن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات، فهل يشترط في هذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟ وإذا لزم نقل دار المعلمات إلى دار صحية فهل يشترط أن يكون مكشوفة من جهاتها الأربع، وأن تكون (المجلات العمومية) أستر منها؟
لا والله، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي. . . إنكم لا تريدون الصحة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة، إنكم لصوص أعراض. . ولكن ليس الحق عليكم، الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب، فنحن عميان لا نبصر خرسان لا ننطق، حمير لا نغار وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم.
اللهم لقد بلغت، اللهم لقد أنكرت المنكر.
اللهم لا تنزل علينا لعنتك، ولا تحلل بنا غضبك.
(دمشق)
أحد الكتاب
-(687/12)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
يحلو لبعض المعاصرين أن يسموا أنفسهم مجددين، كلُّ فيما يزاول من علم أو فن، ولعل هذا الادعاء عارض نفسي يعرض لكثيرين في كلُّ عصر ولاسيما من يغرمون بالشهرة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وتجديد هؤلاء من العجب، فما هو إلا أن تِعنّ فكرة في رأس أحدهم حتى يطير بها، ويكاد يجن فرحاً وغروراً، ولو عرف قدر نفسه وتأنى قليلا لأدرك إنما خيل له، وليس هو التجديد، ولكنه قصور الفهم، وضلال العقل، وعمل الغرور، وربما اكتفى أحدهم بدرس كتاب أو كتابين في المادة التي يريد أن يجدد فيها. ثم بعد ذلك يشهد العالم على أن العلماء قصروا، وأنهم لم يفهموا، ولو أمعن الفهم، ولو وسَّع دائرة اطلاعه لقد كان وجد في كتب القوم ما يرد نزغته، ويطفئ شهوته.
وقد منيت علوم البلاغة في العصر بدعاة التجديد، وهي في شديد الحاجة إلى من يجد أخلاقها، ولكنها لا تظفر إلا بالدعاوي العريضة الكاذبة، ونستطيع أن نقول إن التجدد فيها وقف بعد الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وإن ما بذل بعد ذلك ليس إلا محاولات بسيطة إن لمست بعض النواحي في هذا الفن فأنها لم تخلص إلى اللباب، وإن في (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات، وفي (مذكرات في علوم البلاغة) لفضيلة الشيخ سليمان نوار، وفي (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب أقول إن في هذه الكتب لوثبات تبشر بخير، وهي بعد جديرة بالتقدير.
ويمكن أن ننظر في محصول هذا العصر البلاغي، فنجد بعض العلماء قنع بأن يجمع الأشتات، ويؤلف المتفرقات، ثم يدعي أنه في البلاغة ألف، وبعضهم يعمد إلى الورق الصقيل، والطبع الأنيق، ليقول إنه في البلاغة جدد، ولعل شر الثلاثة هؤلاء الذين يفترون على العلم ويكذبون على القدامى، ويكثرون من ثلبهم وتنقصهم ليقال إنهم وحدهم الذين عرفوا وقد جهل الناس، ووصلوا وقد تخاذل العلماء.
يهدمون ولا يبنون، ولو أنهم هدموا متبصرين فاهمين لكان فيهم أمل، ولكنهم يضربون معاولهم وهم مغمضو الجفون.(687/13)
بين يدي الآن مذكرات في علم البلاغة المعاني أملاها الأستاذ الشيخ (أمين الخولي) علىطلبته أن يناقش، ولكني رأيت أن يشركني القارئ في هذا الأسلوب الذي يدرس به هؤلاء الأعلام!!.
وإنما يعنيني هذا الأمر لأن البلاغة فن من الفنون قبل أن تكون علما من العلوم، وما دامت فنا فهي تتطلب ما تتطلبه الفنون من حسن العرض وجمال التنسيق الذوق الأدبي في المتعلمين، ولهذا كانت حاجتها إلى الإكثار من النماذج العربية الصحيحة الفصيحة. ومن العرض المتأنق الجميل الحاجة القصوى، ولكن ماذا نقول حين أستاذ البلاغة في الجامعة المصرية يعرض هذا الفن، كما يعرض واعظ العامة موعظته في أسلوب عامي ركيك، ولنقتصر الآن على عرضه لثلاث آيات من كتاب الله الكريم:
1 - (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) بشرحها الأستاذ هكذا (وبعبارة أخرى يريد الله أن يقول: هو محمد ده يطلع إيه؟ محمد هذا والرسل من قبله مجرد (سعاة بوسته) هو مرسال زيّ المراسيل اللي قبله. . . بيجي ويروح ويموت وينقتل. . . الخ فإذا حصل شيء من هذا يبقى خلاص انقطع ما بينكم وبين الله؟ هو يعنفهم لا على نكوصهم عن محمد، بل لنكوصهم من أجل موت محمد ولذا يقول: أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. . . الخانتهى بنصه وفصه!!
صدقني - أيها القارئ - إن هذه عبارته. فهل هذا التجدد؟ هذا كلام يمكن. أن نتصور صدوره من وأعظ يلقى عظته على جماعة من (البرابرة) فيضطر إلى أن ينحدر هذا الانحدار، على أني واثق من أن مثل هذا الواعظ يعف لسانه وذوقه عن هذا الهذيان!
ولكن ما الحيلة والرجل من كبار المجددين في علوم البلاغة، أليس التجدد هو مخالفة الأقدمين؟ أليس التجدد هو بساطة والحذلقة، وما المانع من أن يلقى على طلبة الجامعة أن محمداً وعيسى وموسى وإبراهيم وجميع الرسل ليسو إلا (سعاة بوسته)؟ وهل في ألسنة البلاغيين أصدق وأبسط وأحسن من هذا التعبير الجميل الظريف الخفيف؟!
2 - قال الله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا بنذير). وقال الشيخ نفعنا الله به وبعلمه آمين (أنت مش حتسمع اللي في القبور. والحقيقة أنه هو مش قدام أموات، وإنما قدام ناس ألواح وبهايم، والقرآن بيقول له: إنك حريص قوي على هدايتهم، والأحسن(687/14)
إنك ما تحرصش كثير على هذه الهدية. قال له ذلك لأنه شاف إنه كاد لفرط عنايته بأن يهتدي هؤلاء القوم أن يخرج عن فينسى أن مهمته هي مجرد التبليغ. هو عمال يحرق في دمه الناس دول، ووفاؤه لمهمته هو الذي يحمله على الإسراف في الإلحاح ويهز في هذه الألواح، ويحاول أن يبعث فيهم نفحة من الهداية بأي ثمن. فقال له الله: يا أخي أنت حارق نفسك ليه. . . أنت مانتش حاجة أبداً إلا نذير تنذر من ينذر، وتخوف من يخاف، وتعلم من يتعلم، وتنبه من يتنبه، ودول أموات. . . فالأحسن لك أنك تريح نفسك).
والله ما أدري ماذا أقول؟ وأني لخائف أن أقابل هذا الكلام بما هو به جدير فيستثقل القراء وستبردون كلماتي. ولو أن في الجامعة قوماً يحاسبون المدرس لا تهموا هذا الأستاذ بتهم أقلها إفساد ذوق التلاميذ.
على أن شرحه بعد ركاكته وتهافته - ليس موافقاً كلُّ الموافقة لما تنطق به الآية، وإدراك ذلك سهل ميسور.
3 - وقال عز وجل (وإذا قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله). ويقول الشيخ: (الحوار في هذه الآيات بين عيسى وبين الله حوار خيالي محض صور وقوعه بعد أن انتقل عيسى من هذا العالم الذي نحن فيه بدليل (فلما توفيتني) وكأن الله يقول لهم (أنتم بتقولوا عيسى ده إله، وإنه هو الذي أمركم أنكم تعبدوه. . . نجيبه؟ نسحبه ونسأله؟ ثم صور بعد ذلك أنه لو قام وبعث إلى الحياة لدار بينه وبين الله هذا الحوار: الناس الباردين دول. . . هل أنت قلت لهم يا عيسى إنك إله؟ قول لهم يا أخي)!
بمثل هذه الأساليب البارعة الفاتنة يلقى مدرس البلاغة في جامعة فؤاد الأول، وسيد المجددين كما يدعى. . . يلقى دروسه!
ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ الفاضل أدرك أخيراً ما في هذه الأساليب من ضعف وسخافة، فأشار على تلاميذه أن يمروا بالقلم على بعضها، ولكنه بعد قلم خفيف إن مر على دفاترهم، فلن يمر على أفكارهم وأذهانهم. . .
علي العماري
مدرس البلاغة بمعهد القاهرة(687/15)
في التربية الحديثة
التاريخ والقومية. . .
للأستاذ إبراهيم علي طرخان
في الواقع يصعب تحديد معنى الكلمة (تاريخ)، بل فهمها على الوجه الصحيح، فليس هناك تعريف نهائي مطلق، لسبب واحد فقط: وهو أن مجرد إدراك التاريخ على حقيقته جزء من التاريخ؛ لذا كان التعريف خاضعاً لقانون التطور، ومن هنا كان لكل عصر، بل لكل أمة تعريف خاص، أطلق على ضوء فلسفة العصر وأهداف الأمة ومثلها العليا.
وليست مهمة المدرس في ابتداع تعريف جديد، أو حتى التسليم بتعاريف أخرى - إن كان للتعاريف أهمية في المراحل الأولى من التعليم - ما لم يحللها ويتفهمها ويقتنع بما فيما بينه وبين نفسه أولاً؛ غير أن الأجدر به أن يوجه همته ونشاطه نحو تفسير ما غمض في حياتنا المعاصرة، وذلك على ضوء التاريخ، فالاتجاه الحديث في تعليم التاريخ يقتضي هذا النهج لأمرين:
1 - إن الحاضر هو منبع الأسئلة ومثير الاستفهامات ومحك التفكير، بل هو مغر كلُّ الأغراء للأطفال فضلاً عن الكبار، وهو معقد كلُّ القعيد.
2 - هنالك ماض لا يزال حياً في حاضرنا ما يؤثر فيه ولم تنقطع صلته به، كمظاهر الحضارة والتقاليد وغيرها، ويعتبر الحاضر امتداداً له.
لهذا كان الحاضر متشعب النواحي مختلف الاتجاهات، وهي سنة كلُّ مجتمع في بنائه وقيامه على الاختلاف لا على التشابه، ولفهمه على أصوله لابد من التاريخ، ولدي الأطفال استعداد فطري تاريخي. هذا يوضح أن من الممكن فهم التاريخ على حقيقته؛ يقول الدكتور (قد يجعلنا التاريخ متفرجين على الحاضر وما هذا الوجود المعاصر إلا حلقة من حلقات ماضينا التاريخي، فالتاريخ إذن هو إدراك النفس الشاعرة لكنهها في مظهرها الحديث)؛ وما الإنسان المعاصر نفسه إلا إحدى مظاهر أو نتيجة ذلك الماضي البعيد: وحينما يستطيع الإنسان تفسير حياته بالتاريخ، أمكننا أن نقول: إن الإحساس التاريخي قد تكون لديه ونما فيه.
وإذا نحن تصورنا التاريخ على أنه مادة أو كتلة من المعلومات كنا مخطئين، فما هذا(687/17)
الاعتبار، بمعنى آخر، ما تقسيم المعرفة الإنسانية إلى موارد إلا تقسيماً مصطنعاً لا مقابل له في عالم الحقيقة والواقع، إذن علينا التحلل من هذا الاعتبار إلى حد كبير، بل من دكتاتورية الكتاب المقرر، فليس هو الفيصل في معرفة التاريخ أو آخر معروفة له؛ وربما - إن كان صالحاً - اعتبر مجرد مقدمة وتمهيد لدراسة التاريخ على حقيقة.
قد يميل إلى اعتبار التاريخ رواية تمثيلية، منقطعة كلُّ الانقطاع عن حياتنا الحاضرة، بدعوى أنه يمت إلى عالم آخر غير عالمنا. هو عالم الأموات، وقد مات بموتهم، فلا أهمية حقيقية في النبش عن أحوالهم، ولا بأس من إيراد دعوى من هذاالقبيل قال بها أحد علماء العصور الوسطى بصدد حديثه عن المؤرخين: (وهم على شفا جرف هار، لأنهم يتسلطون على أعراض الناس) ويشترط بعد ذلك شروطاً في المؤرخ لا محل لها هنا، والزعم بأنه قد مات بموتهم والحديث فيهم أو عنهم إنما من باب القصص ليس لا يتمشى مع المنطق ولا الحقيقة، تلك الحقيقة التي تطالعنا كلُّ يوم في كلُّ من مظاهر حياتنا المعاصرة: في المباني، في الزي، في المواصلات، في التقدم، في القنبلة الذرية في غيرها. . .؛ كلُّ هذا إنتاج تسلسل طويل، وكل مرحلة لا بد له من بداية، وما دامت الحياة كائنة، فلم تدن النهاية بعد؛ هذا يوضح لنا ارتباط الماضي بالحاضر ووجوده فيه وامتداد هذا كله إلى المستقبل. وربما أراد البعض بالتاريخ في هذا المعنى الروائي أو الدرامي، أننا متفرجون، وهذا خطأ إن وقف المعلم والتلميذ موقف المتفرج، فالمهمة الحقيقية للعلم: إلى أي حد يشعر التلميذ أنه ممثل وليس متفرجاً؟! كثير من الشخصيات تبدو في مخيلته، قد لا تختلف عنه إلا في الشكل أو العرض لا الجوهر؛ فأي نصيب أو سهم يكون له فيما يقومون به؟ فيم يختلفون عنه كما قال قيصر أو الثورة الفرنسية؟؟ إنه يترك مسرح درس التاريخ، وتغرب شخصيات الرواية عن خاطره، ومن ثم يتجه في طريق، بينما اتجهت الدراما الإنسانية العامة إلى نحو آخر.
وقد غالى دعاة هذه الناحية إلى حد تفضيل بعض الروايات المشهورة على التاريخ ودراسته من حيث الأثر وما تتركه في النفس ومثلوا بروايات (شكسبير) نحو: والرد واضح، فإذا اعتقد المشاهد أو الدارس، أن ما يرى أو ما يقرأ أو يسمع قد وقع فعلاً وشمل أناساً مثله لا يختلفون عنه كثيراً ربما كان هذا أبعد في تأثيره وأعمق في إيحائه ويسوي في هذا الكبار(687/18)
والصغار إلى حد ما، والواقع ليس التلميذ الصغير مستعداً لإدراك حقيقة التاريخ كشيء يشمله مباشرة، كمجرى أو أسلوب عام للحياة، هو نفسه عليه أن يأخذ بنصيب في هذا الأسلوب: إن إعلاء أو استمراراً أو تعديلا، لأنه يبدأ حياته حيث انتهى أسلافه؛ وإذا حاولنا النقص والهدم لاحتجنا إلى القرون الطويلة التي قضاها أسلافنا في التطور في مختلف فروع الحياة، حتى وصلوا إلى المرحلة التي نحن عليها، والتراث الذي خلفوه لنا. . .
على هذا كان تدريس التاريخ بل فهمه على وجه الصحيح غير ممكن إلا للراشدين. ففهمه يحتاج إلى الخبرة، وخبرة الطفل لا تزال قاصرة، والخبرة أساس في تكوين (فلسفة الشخص) أو نظرته إلى الحياة، وهذه الفلسفة أشعر حقيقة أنها تنقصنا نحن الكبار، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمعظم الراشدين فكيف تكون بالنسبة للطفل!؟
ومع كلُّ هذا لا بد من تدريس معلومات للطفل في مراحله الأولى تحت عنوان (تاريخ) ما هي هذه المعلومات؟ وكيف تدرس! مبحث آخر.
المهم الآن، هو أن التسليم بهذه الحقيقة يزيل من أمامنا الكثير من فوضى العهد القديم والطرق التقليدية التي من أبرز خصائصها في رأي فيلسوف التربية الحديثة (ديوي) ثلاث:
1 - الإلقاء المطلق أو الإيجابية المطلقة من جانب المدرس.
2 - الاستماع المطلق أو السلبية المطلقة من جانب التلميذ وعدم احترام فاعليته وذاتيته.
3 - صب المعلومات دون نظر إلى قيمتها في نظر التلميذ
فيحفظ شيئاً من الأحداث والألفاظ، لا دلالة لها في نفسه بالمرة، ثم نعتقد بعد هذا خطأ أننا نعرف تاريخاً أو نعلم تاريخاً، لا لشيء إلا لأننا قرأنا وحفظنا الكتاب المقرر، وأساس هذه الفوضى وهذا الإفلاس في النتائج من (حيث تكوين المصري المثقف المتعلم) المستفيد من التاريخ الحقيقي، هو الخلط بين التاريخ وكتاب التاريخ، وهذا خلط طبيعي في مثل هذا الموضوع، ومما يزيد في صعوبة تدريس التاريخ الحقيقي للطفل عدم إمكان تطبيق الطريقة العلمية أو التجريبية في التدريس التاريخ ولا أسمي استخلاص الحقائق من الوثائق طريقة علمية لتدريس التاريخ، فهذا عمل المؤرخ المختص ووفق شروط كثيرة جداً ودقيق لا تتأتى للمتعلم الناشئ - إن أردنا إخراج مؤرخين - ويمكن تلخيص هذه الشروط فيما(687/19)
يندرج تحت هذين الأساسين:
1 - معيار الصدق والحيدة العلمية التي يجب أن نتأكد منها مقدماً بالنسبة لمؤلف الوثيقة.
2 - الدقة والوضوح الذي يجب توفره في الوثيقة.
هل يمكن أن ألخص ما سبق في أن التاريخ هو طريقة للحياة، هو مجرى الحياة المتدفق، هو مدى شعور المعاصر الدارس بنصيبه في هذا المجرى. وما ينبغي عليه كمصري يعيش في القرن العشرين؟ بمعنى آخر: إن إجابة السؤال الأول تعطينا فلسفة التاريخ.)
ما الذي نعنيه من تدريس التاريخ؟ هذا مبحث المقال القادم إن شاء الله.
إبراهيم علي طرخان(687/20)
من عيون الأدب الغربي:
رحلات تشيلد هارولد لبيرون
للأستاذ بولس سلامة
- 2 -
تمهيد:
استيقظ بيرون ذات صباح فإذا هو شاعر مشهور. كان ذلك غداة نشره المتطوعتين الأوليين من ديوانه (رحلات تشيلد هارولد) وفي هذه الأشعار وصف بيرون رحلته الأولى في أوربا حيث طاف بأسبانيا وروما واليونان فوصف المدائن البالية ورثى المدنيات الخالية وحنَّ وأن وبكى واستبكى، ولم يكن في كلُّ ما كتب إلا واصفاً وناعياً نفسه المحطمة المنكوبة التي لم تحب الناس ولم يحبها الناس. نبذهم ونبذوه فراح يلتمس في وحدة البحر وحطام المدنيات البائدة عزاء لنفسه المحطمة الوحيدة. وفي المقطوعات التالية ترى وتسمع بيرون يودع بلاده ويرثي مجد اليونان ويصف البحر الواسع العميق.
الوداع:
وداعاً وداعاً يا شط المتواري وراء خضاره. بين ولولة الرياح وعجيج الأمواج. وأنت أيتها الشمس المائلة للغروب لك كما للوطن أقول وداعاً.
ولكن سوف يتنفس الفجر، وتشرق الشمس من جديد على التلال والوهاد إلا أرض بلادي؛ فقد غيبت فلا تعود. قصرى أقفرت عرصاته، وموقدي خبت فيه النار، واعشوشب المكان من حوله. أما كلبي فظل وحيداً عند الباب.
والآن غدوت وحيداً في العالم؛ فوق هذا الخضم الواسع العميق، ولكن فيم حنيني إلى الناس، وليس في الناس من حان علي، حتى كلبي سوف يطعمه الغريب فإذا ما عدت نبحني كالغريب.
أيتها السفين الأمين: شقي طريقك في اليم كما تشائين، وألق مرساتك في أي أرض فلست أبالي وقد هجرت وطني أي أرض تقصدين، وأنت أيتها الأمواج المتلاطمة مرحى مرحى فإن غبت عن ناظري. فلتتبعن الصحاري والوهاد. وداعاً وداعاً يا أرض المهاد.(687/21)
البحر:
أيُها العباب الواسع العميق. تشق آلاف الأساطيل مياهك بلا نهاية، والإنسان الذي يملأ الأرض ضجيجاً وذعراً يقف على شطك حاسراً ذليلاً. فإن تجاوز الشط ابتلعته أمواجك، وغاب في قرارك بلا قبر ولا أكفان ولا مشيعين واحتواه نسيان عميق.
على سواحلك قامت الإمبراطوريات ثم عفت، وازدهرت المدنيات ثم اختلفت. أين أشور ويونان وروما. داعبت أمواجك شطآنها وهي حرة تحكم. ولا تزال تداعبها وهي مستعبدة تُحكَم. والزمن الذي يغير كلُّ شيء لم يغيرك، ولم تعلُ جبينك الغضون. فأنت الآن كما كنت في فجر الخليقة فتي القلب غض الإهاب.
بلاد اليونان:
يا بلاد يونان الجميلة: أيُها الأثر الباقي لمجدٍ خلا. نبيلة أنت في شقائك. خالدة أنت في فنائك؛ من يقود أبناءك المشردين؛ الذين طال مكوثهم في الأغلال. أين أولئك الأمجاد الذين وقفوا والموت في مضيق ترمبوليه. وقفوا كالسد أمام القاهر العادي. ليتهم يعودون إليك الآن. فينفخون فيك من بطولتهم الخالدة، وينقلون أبناءك للحياة. أيُها الراسفون في الأغلال: ليتكم تعلمون، إن الذين يتطلعون إلى الحرب عليهم أن يحطموا أغلالهم بأيديهم، وأن يعتمدوا في كسبها على سواعدهم لا على سواعد الآخرين فرنسيساً كانوا أو مسكوف. دعوا عنكم هذه الأوهام. فقد يعاونكم هؤلاء على توهين خصمكم، ولكن حريتكم في يدكم. يا أشباح الذل كافحوا عدوكم وانتصروا. أي بلاد يونان تغيرت السادة وبقيت شقية، وزالت عنك السيادة ولم تزل في كأس الذل بقية.
(الخرطوم - السودان)
بولس سلامة(687/22)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 24 -
أربع سنوات بغير حرب:
نشر ملتن كما أسلفنا كتيبه الأخيرين في دفاعه عن حق إباحة الطلاق بعد كتيبه الذي ناضل فيه حرية الرأي، ثم سكت منذ شهر مارس سنة 1645، فلم يكتب مجادلاً أو مخاصماً إلا ما ندر من الشعر حتى سنة 1649، فكانت هذه السنوات الأربع فترة سكون أعقبها وثبه قوية في ميدان آخر هو ميدان السياسة
وقبل أن ننظر فيما كان من أمره في هذه السنوات الأربع نشير إلى مقال أثبت فيه رأيه في التعليم، وقد نشره قبل ذلك ببضعة أشهر، أي في صيف سنة 1644
كتب ملتن هذا المقال الذي لا يزيد عن ثمان صفحات بإيحاء صديق له يدعى (صمويل هارتلب)، وهو ينتمي في أصله إلى دنزج، وقد أقام في لندن منذ سنة1628، وكان مهتماً بفلسفة التعليم وتجديد أسلوبه على نحو قريب مما دعا إليه بيكون في انجلترة وكومنيس في أوربا من قبل. . .
وينصب رأي ملتن على التلاميذ من سن الثانية عشرة إلى الحادية والعشرين، وتلمح في المقال على صغره خصائص أسلوبه ونوازع وجدانه، ففيه مثلما يحسه المرء في كتيباته من السمو بالغرض في كلُّ ما ينهض له، وفيه النظرات الحرة التي لا تتقيد بقيد، والتي تنفر من كلُّ متواضع متعارف، وفيه كذلك الاعتزاز بالرأي والتحمس له والاستناد إلى مصادره هو وإنكار ما عداها!
وعنده أن التلاميذ في هذه السن يجب أن يفرغوا في وقت قصير من القواعد اللاتينية(687/23)
والإغريقية، وأن يطالعوا بعد ذلك بعض الكتب الإغريقية السهلة؛ ويجب أن يتخلل هذه الفترة من دراستهم محاضرات تذكى في أنفسهم حب العلم والفضيلة، ومتى اكتمل شعورهم بأداء الواجب (صعدوا في سفح المعرفة غير معجلين ولا وانين)؛ وعليهم أن يتقنوا دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية في كلُّ فروع العلم، ولتخصص ساعة للسان العبري، ولكيلا يسأموا ينبغي أن يعلموا المصارعة والملاكمة وإضرابهما من فنون الرياضة، وأن يقلدوا بعض المعارك ليفهموا أساليب القتال، وأن يسمعوا الموسيقى لتنعشهم وتهذب نفوسهم. . .
وواضح من منهاجه هذا أنه يقيس على نفسه فيقترح هذا العبء الثقيل للتلاميذ، لأنه نهض بما هو أثقل منه في غير عناء، وكأنما تأبى عليه شدة ذهابه بنفسه إلا أن يجعل من كلُّ ما يعمل وما يرى من رأى مثالا ينبغي أن يحتذيه الغير. . . وهو في منهاجه كذلك يخرج على البيوريتانز، إذ يوجب تعلم الإغريقية واللاتينية وشتى فنون المعرفة. . .
وألقى ملتن قلمه منذ أوائل سنة 1645، وظل يترقب في هدوء أبناء الحرب الأهلية التي مالت معركة نسبي بكفتها نحو أعداء الملك في يونيو من تلك السنة، وكانت آثار الجهد بادية عليه لفرط ما جادل وناضل منذ أن ألقى بقيثارته على رغمه وشرع قلمه في سنة1641 ليبدأ حربه على قساوسة، ولكنه استشعر بعض الغراء في عودة زوجته إليه بعد معركة نسبي بقليل. . .
وكان منزله الجديد في حي باربيكان الذي استأجره بعد عودة زوجته يكاد على سعته يضيق بمن فيه، لذلك كانت المعيشة فيه ينقصها الراحة والهدوء، الأمر الذي ضاق به صدره أحياناً، ففيه لا يزال يتلقى العلم على ملتن عدد من أبناء أصحابه لا تخفت أصواتهم في أكثر ساعات النهار، وفيه يقيم ابنا أخته، ويقيم معه كذلك في منزله أبوه وهو اليوم شيخ كبير، كما حضر ليقيم معه مستر بوول وزوجته ونفر من أسرتهما سنة1646 بعد أن سقطت اكسفورد وفورست هل في يد أنصار البرلمان. وجاء ليعيش أخوه كرستوفر على مقربة منه، وكان لا ينفك يضايق ملتن بعسره وبمشكلاته القضائية التي جائت في وقت واحد مع مثيلاتها من مشكلات آل بوول. . .
ولم يعدم الأدب نصيراً في تلك السنين العاصفة، وكان هذا النصير هو ناشر يدعى موزلي على جانب ملحوظ من الثقافة، وكان مما نشره موزلي في خريف سنة 1645 كتاب كتب(687/24)
على غلافه: (قصائد مستر جون ملتن الإنجليزية واللاتينية، نظمها في أوقات متفرقة).
وكان هذا الكتاب ينتظم شعر ملتن كله من أول عهده بالقريض حتى ذلك اليوم؛ وفي الصفحة الأولى أثبت ملتن عبارة مقتبسة من فرجيل مؤداها أن للشعر هواه ومتجهة لا للكتيبات، وأنه لا يحب أن يعرف بشيء إلا بالشعر، وأثبت كذلك في تصدير ديوانه ما تسني لشعره من تقريظ الأجانب إياه وثنائهم على صاحبه!
ولا ريب أن خصومه من المتزمتين قد وقعوا كما صورت لهم عقولهم ونوازعهم على أكثر من غميزة في هذا الشعر الذي يزخر بصور الجمال والفتنة وخرافات الإغريق والرومان، وفي تلك الأغنيات التي لحنها على أوتاره الملحن (لو) الذي ينتمي إلى حزب الملك، وأنهم لذلك تغامزوا فيما بينهم ونعتوا باللاتينية أو ما يقرب منها ذلك الشاعر، وسخروا من ذلك الذي طالت بإباحة الطلاق، وثار على الرقابة وخاصم البرسبتبريز، فما يطلب في رأيهم إلا الإباحية وإن زعم أنه يدافع عن الحرية. . .
ولكن كثيراً من المثقفين تقبلوه بقبول حسن، وأشربوا في قلوبهم محبته، ومن هؤلاء صديق له مرموق المكانة في الأدب والثقافة هو الدكتور روس الذي كتب إليه يسأله نسخة ثانية من كتابه، فأرسلها إليه الشاعر مشفوعة بمقطوعة يثني فيها على هذا الصديق ويتواضع على غير عادته إذ يشير إلى مبلغه من الشعر في صدر شبابه، ويحن إلى تلك الأيام التي أقبل فيها على النظم أول ما أقبل حين كان حدثاً لا تكاد تبلغ الأرض قدماه إذ يكتب، ويأسف إذ يرى اليوم ربات الشعر تروعها الحرب القائمة وتطيرها. . .
والحق أن للمرء عذره بادئ إذ أحس التناقض بين أن يكون ملتن بيوريتانياً، وأن ينطق لسانه بهذا الشعر، ويفيض قلبه بهذا الإحساس الغامر بالحياة ومسراتها ولذاذاتها وكل جميل فيها، ولكنه لا يكاد يتذكر مولده بين ربيع الأليزا ببيثين وصيف البيوريتانز حتى يدرك ما ذكرناه عنه من قبل أنه كالطائر المتخلف الذي يغني في هجير الصيف ألحان الربيع.
ولقد أشار مكولي إلى هذه الناحية من حياة ملتن فجاء بوصف بديع يحملنا لفرط قوته على أن نثبته هنا غير منقوص. قال بعد أن تحدث عن الملكيين والبيوريتانز (لم يكُ ملتن منتمياً بمعنى الانتماء الحق إلى طائفة مما ذكرنا، فلم يكُ بيوريتانيا ولا من ذوى التفكير المطلق من قيود الدين ولا ملكياً، فقد اجتمعت في أخلاقه وائتلفت من صفات كلُّ طائفة أكثرها(687/25)
نبلا، فمن البرلمان والبلاط، ومن مجتمع المنشقين على الكنيسة والغناء القوطي للكتدرائية، ومن حلقات البيوريتانز الكئيبة الموحشة كالقبور ومباهج عيد الميلاد عند ذوي الجود من الفرسان، من كلُّ أولئك انتقت طبيعته واجتذبت لنفسها كل ما كان عظيماً صالحاً بينما نبذت كلُّ ما من شأنه أن يشوه تلك العناصر الخلقية من الخلال السافلة البغيضة. . . فعاش كالبيوريتاز عيشة من يمسي أبداً أنه تحت عين البارئ الأعلى، وكان مثلهم لا ينقطع تفكيره في المهيمن العدل؛ وفي الجزاء السرمدي؛ ومن ثم فقد أخذ عنهم احتقارهم للعليل الظاهرية، وقوة بأسهم وطمأنينتهم وعزمهم الذي لا يلين؛ ولكن أعظم الناس شكاً في الدين وأكثرهم استهزاء به لم يكن أكثر منه انطلاقاً من عدوى أوهامهم الجامحة، ومن عاداتهم الوحشية ورطانتهم المضحكة، وازدرائهم العلوم ومعاداتهم متع الحياة؛ ولئن كان يكره الطغيان أشد الكره فإنه كان على الرغم من ذلك يتصف بتلك الصفات الغالية القمة التي يتحلى بها من يكتسبها، والتي كادت تكون وقفاً على أنصار الطاغية فلم يك في الناس من هو أكثر منه إحساساً بقيمة الأدب، ولا أرق منه استساغة لكل متعة مهذبة، ولا أكثر منه شبهاً بسجايا الفروسية فيما يتصل بالشرف والحب، ولو أنه كان ديموقراطياً في آرائه إلا أن أذواقه وصلاته أكثر كانت مشاكله للملكية والأرستقراطية؛ ولقد كانت تحيط به كافة المؤثرات التي أضلت ذوي الأناقة والشجاعة من الفرسان، ولكنه لو يك عبداً لتلك المؤثرات بل كان سيدها المسيطر فكان كبطل هوميروس الذي استمتع بلذاذات السحر جميعاً ولكنه لم يعتقله السحر، فقد أصغى إلى أنشودة (السبرينز) ولكنه اتخذ سبيله في البحر بقربهن فلم تمسه منهن غواية تجنح به إلى شاطئهن المخوف. وشرب من كأس ميرسْ ولكنه كان يستحوذ على ترياق أكيد يبطل أثر حلاوتها الساحرة، وكذلك كان ملتن، فلم يك ما تملك خياله من الأوهام ليوهن من قوة حكمه على الأشياء فكان له من رجل السياسة في شخصه دريئة تدرأ عنه ما يسحر الشاعر فيه من أسباب الروعة والجلال والخيال؛ ويدرك ما نعنيه بقولنا هذا كلُّ من يتبين مبلغ ما هنالك من تضاد بين ما أفصح عنه من عواطفه فيما كتبه من مقالات عن القساوسة وبين تلك الأبيات الرصينة الجميلة عن العمارة الكنيسة والموسيقى الكنيسية في قصيدته البسبروزو التي نشرت حوالي ذلك الوقت الذي نشرت فيه المقالات، وتلك من المتناقضات التي تسمو بأخلاقه في نظرنا أكثر(687/26)
من كلُّ شيء غيرها لأنها ترينا كم ضحى ملتن من أذواقه واحساساته الخاصة لينجز ما يعتقد أنه واجبه نحو الإنسانية؛ وإن كفاحه لهو بعينه كفاح عطيل النبيل، ذلك الذي يرق قلبه ولكن يده ثابتة، والذي لم يأت عملا قط عن كراهة يل فعل ما فعله كله بدافع الشرف فهو يقبل خادعته الحسناء قبل أن يهلكها).
ويخيل إلينا أنه وقد رأى شعره في كتاب يلقاه منشوراً يتداوله الناس قد عاود نفسه الحنين إلى النظم، وتمنى لو ترك ضجيج الحرب وأنبائها وعاد إلى محراب الفن، ومن ثم كانت مقطوعته عن الساحرة التي نظمها سنة1645 والتي جعل عنوانها (إلى صديقي هنري لو)؛ وكان لو هو الذي لحن له بعض أغاني أركادس وكومسي كما أسلفنا ومثل دور الروح الحارس في الغنائية الثانية وبين الشاعر والملحن من صدر شبابهما محبة ومودة توثقت عراها ولو أن لو كان ملكياً، ولكن فنه كان أعز على صاحبه من أن يتجافاه بسبب الاختلاف المذهبي بينهما مهما اشتد كما أنه كان لشخصه عند ملتن مكانة لا تدانيها لأحد غيره مكانة. وفي هذه المقطوعة يرفع ملتن قدر لو ويعزو إليه فضل تهذيب الموسيقى في قومه. ذلك الفضل الذي لن تنساه العصور المقبلة، كما أنها لن تنسى عظيم صيته، ويقول لصاحبه في ختامها (لقد مجدت الشعر، وعلى الشعر أن يحلق كيما يمجدك. . . ولسوف يأذن دانتي للصيت أن يرفعك مكانا أعلى من مكان مغنيه كازلاً الذي لاطفة كيما يني له إذ لقيه في المطهر في غبش الجحيم)
ولكن الشاعر لا يكاد يلمس بكفه هذه الأوتار الهادئة الساحرة التي طال به عهد هجرانه إياها وعاوده الحنين إليها حتى يدعها إلى أوتار صاخبة ترن رنيناً مزعجاً مثل ضوضاء المعركة، فقد مس أذنيه طنين هو بقية سخط البرسبتيرينز على آرائه في الطلاق، فنظم سنة 1646 مقطوعة عاوده فيها عنفه وصرامة هجائه ونشرها تحت هذا العنوان (إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل) وفيها يرمي البرسبتيرينز بتهم قاسية. فيقول إنهم ذلك إلا ليكرهوهم بمبادئهم ضمائر الناس التي حررها المسيح، وأنهم لم يكونوا خيراً من القساوسة الذين قوضوا سلطانهم لا بدافع النقمة على آثامهم بل بدافع حسدهم إياهم على تلك الآثام، ثم يتوعدهم الشاعر بكشف الستار عن ألاعبهم ومكرهم ويستعدى عليهم البرلمان، ويذكر أسماء بعض رجالهم فيسخر منهم ويتجاهلهم، ويختتم مقطوعته(687/27)
بتلاعب لفظي يفهم منه أن البرسبيتر ما هو إلا قسيس كتب اسمه غير مختصر.
وبعد هذه المقطوعة آثر ملتن أن ينفض يديه من الخصومات ولعله سئم طول القتال، أو لعل ذلك لأنه في الواقع لم يجد ما يثيره ويسخطه، أو لعله يئس من بني قومه جميعاً ورآهم لا يستحقون منه ما يلقي من أجلهم من عنت الخصومات وغل الحزازات.
ولكنه وقد ركن إلى الراحة لم يظفر بها في بيته فقد ازدادت في البيت دواعي متاعبه وضيقه، فأضيف إلى ما فيه من جلبة صراخ بنتين ولدا له تباعا في سنتي 1646 وما بعدها، وما زال جيرانه وأنسباؤه يضايقونه بمشكلاتهم وأحاديثهم التافهة التي يتجرعها ولا يسيغها، لقد شكا من هؤلاء الناس فيما كتبه إلى صديق له بإيطاليا سنة 1647 يصف حاله فقال: (هؤلاء الذين لا يربطني بهم إلا مجرد الجوار يحرضون لمجالستي كلُّ يوم فيضجروني بل يكادون من فرط ما أحس به من ثقلهم يدفعون بي إلى الموت).
وفي سنة 1647 مات حموه مستر بوول، ولم يمض غير قليل حتى مات أبوه فحزن الشاعر عليه حزناً عميقاً، فقد كان يجله ويذكر دائماً ما له عليه من فضل، وترك له أبوه مالا تحسنت به حاله، فصرف تلاميذه لأنه استغنى عما كان يناله منهم من أجر نظير تعليمهم، ولأنه كانت تغمز على قلبه الرغبة في أن يعود إلى قيثارته، واستأجر ملتن منزلا جديداً أكثر سعة وأحسن موقعاً، وأمل أن يجد فيه ما ينشده من هدوء
ولكن شيئاً جديداً يقلقه ويخيفه وتتكدر له جوانب نفسه، وذلك أنه يوقن من تضائل بصره، ولقد بدأ ذلك الإحساس في نفسه منذ مستهل سنة1645، فظنه يومئذ وهماً من الوهم، ولكنه اليوم تلقاء حقيقة راهنة، فإنه إذا قرأ في صباح تألمت عيناه وأحس بظلمة تغشى الجانب الأيسر من عيناه، حتى لتحجب عنه ما يكون في هذا الجانب من أشياء. . . فإذا أضيفت هذه الظلمة إلى ما يكتنفه من ظلمة اليأس مما ابتغى من إصلاح أمكننا أن نتبين مبلغ ما كان يعانيه يومئذ من عذاب. . .
فكر ملتن أن يعود إلى الشعر، ولكن الفجر الذي بشر به في نهاية كتيبه الأول سنة1641، والذي لمح إلى طائره الصداح لم ينبثق نوره بعد، بل لقد ازدادت حلكة الغسق من جزاء هذا الاختلاف الشديد في الدين والسياسة الذي فرق الناس شيعاً وأحزاباً وطوائف متباغية، ومن جزاء هذه الحرب المستعرة التي تزلزل الملكة، وهيهات أن يتغنى شاعر في ليل كهذا(687/28)
الليل. . .
واتجه ملتن إلى التاريخ، فأخذ يكتب كتاباً في تاريخ قومه، وتبين المرء من مقارنته بين الأقدمين منهم الأنجاد الأذكياء وبين المحدثين الأدعياء الأغبياء مبلغ ما كان في نفسه يومئذ من سخط وازدراء لأهل عصره، ومبلغ ما ساوره من هم وسأم من هؤلاء الذين طالما امتدحهم فأطنب في مدحهم وتوقع على أيديهم كثيراً من الخير!
(يتبع)
الخفيف(687/29)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- 1 -
لقد امتدت عداوة المناوئين للإسلام إلى حد النيل من حضارته والطعن في مدنيته وانتقاض أمره وكل ما من شأنه أن يتصل به؛ وليس أهون على المتحامل من أن يطعن وينال بغير رويه ولا تدبر، ذلك لأن سبيلهما جد ميسورة، ومؤنة امتهانهما أيسر، ومن المؤسف حقاً أن تبلغ العداوة للإسلام بالأوربيين حد الإجحاف بالحق، والجناية على العلم والتاريخ؛ ولئن جاز لرجال السياسية أن ينساقوا لتيار أهوائهم وأن يبنوا أحكامهم على قاعدة أغراضهم ومصالح قومياتهم، فما أحسب هذه السبيل مشروعة في كتابة البحوث العلمية؛ ذلك لأن العلم لا يدخل البتة في حساب الأهواء والقوميات، بل هو أمر مقدس فوق جميع هذه الاعتبارات يزكو بالنزاهة، ويزهو بالأمانة له، وهو فوق ذلك ملك مشاع بين جميع الأمم؛ لا فضل لهذه على تلك فيه إلا بمقدار ما أسدت له من الخدمات، وأودعت في كنوزه من الاكتشافات والاختراعات.
وإنه لمن الجناية الكبرى على العلم، أن تقوم في طبقة العلماء فئة لم تحرر بعد من قيود المنازع، وأغلال الأهواء؛ ولا عرفت قط قيمة النزاهة العلمية والأمانة التاريخية؛ فتحاول جهدها باسم العلم أن تبخس الإسلام فضله على المدنية، وأن تطمس من سجل الحضارة صفحة مشرقة تشهد بجلالها وروعتها جميع تواريخهم وأدوات حضارتهم؛ فمن هذه الأحكام الجائرة التي يبرأ منها الإنصاف ويمجها العلم وتلفظها الحقيقة، ما جاء عن (أندريه سرفي) إذ يقول: (لم يكن الإسلام شعلة، بل مطفأة نشأ من قلب متوحش، لأمة متوحشة، فكان ولا يزال عاجزا عن أن يساير الزمن ويجاري التمدن، ولقد أثبت في كلُّ بقعة ارتفعت فيها أعلامه أنه وقف صخرة ناشزة في سبيل التقدم، وأنه خنق نشوء المجتمع، وفي كتب المغرضين الشيء الكثير من هذه الحملات الطائشة والأحكام الغثة الجائرة التي لا يدعمها دليل ولا تدمغها حجة.
لم يقف (سرفيه) عند هذا الحد من التحامل بل راح يقول أيضاً (وإن المدنية الإسلامية أقل من أن يعتن بدراستها إذ هي تقليد مشوه لمدينتي اليونان والرومان سقط العرب على مادتها(687/30)
في الكتب السريانية فاقتبسوها دون أن يعترضها لها بما يستحق الذكر من النقد، لأن العرب قد اثبت أن لا قابلية له على استقصاء البحث بصورة جدية، وأن لا قدرة له البتة على إبداع شيء من عنده، ولم يتقن العرب من العلوم إلا التي لا تحتاج إلى عناء في التفكير، أو مشقة في البحث، وكانت سبيلها جد سهلة وميسورة كالتاريخ والجغرافيا وما إليهما الخ. . .) وأمثال (سرفيه) في التشيع والتعرض كثيرون، وتكاد رفوف المكاتب تنوء بتحمل مثل هذه البحوث السخيفة والحملات الطائشة، ومن المؤلم حقاً أن نسكت عنها، وننام عليها كأنها حقائق واقعة لا غبار عليها.
على أن تهاوننا في دراسة حضارتنا ونشر فضائلها وعرض روائعها للعيان، لأشد إجحافاً بحقها، وضررا لها من حملات الأعداء عليها وطعنهم بها، فاللص لا يقتحم غير البيت المهجور ومن واجب صاحب البيت أن يعمل على صيانة بيته، وأن يقيه شر العدو. وإننا سنتقدم في هذا البحث الموجز بإماطة اللثام عن مواطن العبقرية في حضارتنا، ثم نأخذ بتفنيد مطاعن الطاعنين فيها بالطريق الهادئة التي رسمناها لأنفسنا منذ أن اضطلعنا بعبء دحض مفتريات الخصوم وحملات المتحاملين.
انحلال الحضارة الغربية قبيل الإسلام:
تسرب الضعف والوهن إلى قلب الإمبراطورية الرومانية العظيمة رويداً رويداً، وما كاد يتم القرن الخامس للميلاد حتى لفظت هذه الإمبراطورية الواسعة أنفاسها، وأصبحت رقعتها نهباً مباحاً للقبائل البربرية التي كانت تحيط بها، وتناجزها القتال، وتشن الغارة عليها بين الفينة والأخرى، وهكذا أصبحت قبائل القوط والوندال. والكلت والهون، والمغول، والسكسونيين تتصرف بشؤون أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، وكانت هذه القبائل في الدرك الأسفل من الثقافة، لاحظ لها قط من أسباب المدينة والعمران، فقوضت بهمجيتها سرادق تلك الحضارة الرومانية العريقة، وأصبحت معالمها نسياً منسياً، واجتازت أوربا هبة من الزمن كانت تتخبط فيها في دياجير الانحطاط على غير هدى، فساد الجهل، وانتشرت الفوضى ومنيت العقول بالعقم والجدب، وشل التفكير شلا مريعاً، ولئن كانت المسيحية إذ ذاك في عهد انتشارها وازدهارها، وفي شباب قوتها بحيث استطاعت أن تصمد أمام هذه القبائل المتبربرة المتوحشة، إلا أن نكبة المدنية بها لم تكن أهون من نكبتها(687/31)
بتلك الشراذم المنحطة، ذلك لأنها كانت تخشى على عقائدها وتعاليمها من أن تتسرب إليها مشارط الحرية الفكرية فتفسدها، ولذلك بادرت إلى تقييد الأفكار، وحجر العقول، حتى لا تكاد تبض بقطرة من العلم، وكانت تعاقب على كلُّ نظرية جديدة تصدر عن رجال الدين، ويعلن هؤلاء استنكارهم لها آناً بالموت حرقاً وشنقاً، وحيناً بالتنكيل سجناً وجلداً. . .
وكان من نتيجة هذا الحجر على الأفكار وهذا الجهل المطبق أن عم البلاء، وانتشرت الأوباء، وأخذ الطاعون يحصد النفوس حصداً ذريعاً.
قال أرديكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة: (عم بلاء المرضى فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما أن الجوع قد أفنى المرضى؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج إلا كثيرون هائمين على وجوهمم، فلما رأوا أن الأبرشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون. . .
وقيل: (وقد بلغ من سوء الحالة إذ أن كان الناس يتكالبون على أكل الميتة وإن أنتنت، ينبشونها، من تحت التراب، ويطلبونها من على المز ابل. . . لا يسألون عما تسببه من الأذى وتحمله من الموت، وكانوا يستشفون من أمراضهم ببول البهائم والتعاويذ والتعزيم). . .
وقيل أيضاً: (وكان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق، ليصنع خبزاً، لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً وهيئت حفراً ليسحب إليها المحتقرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصاعب أكبر، وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطرق كثيراً من الجثث ملكتها الشجاعة وأغواهم ضعف الناس فراحوا بها جمون الأحياء، أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل لعل الحقول تزرع ولا تبور. . .
وظلت أوربا تائهة في الظلال الجهالة: إلى ما بعد القرن العاشر، تغص بالغابات المخيفة التي تقطنها جماعات الوحوش، وأسراب الطيور الكاسرة (وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة. تحتاج الناس وتحصدهم، وكانت البيوت في باريس ولندن تبني من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مونقة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا(687/32)
يعرفون النظافة، ويطرحون أحشاء الحيوانات وخفي البهائم وأقذار المطابخ في ساحت بيوتهم فتتصاعد منها روائح مؤذية، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وبعض الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف القذرة يقوم مقام الوسادة، ولم يكن للشوارع مجاور ولا بلاط مصابيح، قال داير: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة بين الناس، وساورتهم الأوهام، فأنحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب، وانتشرت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد مرض هرع رجال الدين إلى الصلاة، وأغلقوا أمر النظافة كرها لها، وكانت الأوبئة تفتك بهم فتكاً ذريعاً.
وإلى جانب هذا الفقر والانحطاط فقد انتشرت الفوضى، واضطرب جبل الأمن، وسادت اللصوص، وكثيراً ما كان يخطف السائر وينهب وهو ذاهب إلى بيته أو عمله ولو كان في رائعة النهار.
تلكم هي مدينة أوربا قبل العصر الحاضر، وتلكم هي حالة الشعوب الغربية يوم كان الإسلام هو المدرسة الوحيدة التي تهذب فيها الفكر الإنساني، وانبثقت منها أنوار الحضارة والمدينة.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والغرب لا يرى النور إلا من سم الخياط، وأما الجزيرة العربية فلم تكن بأحسن منه حالاً إذ كانت جاهلية جهلاء، يفترس القوى فيها الضعيف، ويعيد الناس مظاهر الطبيعة، ويقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويئدون بناتهم بلا رحمة، وما إن أظهر الله دينه على سائر الأديان حتى اخذ ينشر في الناس روح العلم والمدينة (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة: ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة، وبعد أن لم يكن في الجزيرة سوى بضعة عشر رجلاً يحسنون القراءة والكتابة، فقد أصبحت فيما بعد مثابة العلم وموئل المدينة، ومورد الحضارة.
لقد كان العلم أول ما فرضه لنبي على المؤمنين بعد نبذ الشرك، وقد حثهم على طلبه ولو في الصين، وأمر به الله في كتابه العزيز (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ومما يؤثر عن النبي في ذلك قوله (مداد العلماء أزكى من دم الشهداء) وبلغ من حبه للعلم(687/33)
وحثه على طلبه أن قال (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
مبدأ الحضارة الإسلامية:
لقد أعلن الله رسالته، فأقبل الناس يدينون بها أفواجاً أفواجاً، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلام، وليس في الجزيرة بأسرها إلا توحيد فلج الشرك، وإيمان زعزع الأصنام، فتوجه خلفاؤه الصالحون من بعده برسالته صوب بقية أقطار العالم الأخرى، ينشرونها بين شعوبها المتفككة، فيتسابق الناس للاحتماء بها هرباً من عسف تلك الدولة الغاشمة التي كانت ترزح لسلطانها، وتئن تحت نيرها، وما هي إلا عشرات من السنين إلا وشريعة ذلك اليتيم المسكين هي الشريعة السائدة في الكون والسيطرة على العالم، إلا صوت التهليل والتكبير قد أخذ يدوي في أرجاء إسبانيا من على سطوح الكنائس التي كانت فيها مضى مركزاً للمرضى، وبؤرة للأوباء، وكان أول ما فرضه المسلمون على العالم إلى جانب ديانتهم هي لغتهم العربية، التي بها لا بغيرها نزلت رسالة الله على نبيه، فقد أملوها على جميع الأمم التي رضخت لسلطانهم وخضعت لدولتهم، وقد بلغ من سعة امتدادها، وسرعة انتشارها أن أصبحت بين العالم في مكان اللغة اللاتينية القديمة، أي لغة العلم الوحيدة ولسان المتعلمين، وبلغ من تفوقها أيضاً أن صارت هي الواسطة الوحيدة لكل من أراد أن يلم بنواحي الثقافتين اليونانية والرومانية، أو يطلع على أحدث العلوم والآراء العصرية.
العربية لغة عالمية:
جاء في تاريخ اللغات السامية لرينان: (ليس في تاريخ العالم ما هو أدعى إلى التعجب من سرعة انتشار اللغة العربية، فقد كانت في بدء أمرها لغة خاملة الذكر، فإذا بها تظهر فجأة على مسرح الحضارة والمدينة وارثة للغة اللاتينية القديمة، وإذا بها لغة في غاية السلاسة والغنى، كاملة بحيث لم تعرف منذ ذلك العهد أي تغيير أو تعديل. وقد ظهرت لأول مرة أمرها تامة مستحكمة، فليس لها طفولة: ولا هرم. ولست أعلم هل وقع مثل ذلك لأية لغة أخرى في العالم دون أن تجتاز قبل ذلك أدواراً مختلفة، فإن العربية ولا شك قد عمت أكبر أجزاء المعمورة، ولم ينازعها في مكانتها من حيث كونها لغة عامة عالية إلا لغتان: اللاتينية واليونانية. ومع ذلك فقد تطرقت إلى أقطار نائية ولم تصل إليها هاتان اللغتان(687/34)
قط).
وجاء في خطط الشام لمحمد كرد على (بذت العربية في الإسلام اللغة الفارسية والسريانية في العراق وفارس، والرومية، والسريانية في الشام، والقبطية في مصر، واللاتينية في شمال أفريقيا، ولم يمض سبعون سنة حتى أصبحت العربية اللغة العامة في هذه الأقطار. . .
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(687/35)
في الأدب الإنجليزي
شكسبير والمعاصرون
للأستاذ جرجيس القسوس
كان ظهور شكسبير في عالم الشعر وائتلاق نجمه في الأوساط الأدبية وهو الرجل غير المثقف من المعجزات ذلك العصر بل كلُّ العصور بالحقيقة، فقد كان يتنازع الشهرة الأدبية بزعامة الشعر فريقان، الأول مكون من رجل واحد هو كرستوفر مارلو الشاعر النابغة الفحل، والثاني يتزعمه توماس ناش وأغلب أعضائه من الشخصيات العلمية الجامعية، فناش وصحبه تخرجوا في جامعة كمبردج وغيرها من كبريات الجامعات في إنجلترا.
وبالرغم من اشتداد التنافس والتناحر بين هذين الفرقين فقد كان من المسلم به أن مارلو هو الزعيم الأدبي والشاعر العبقري غير مدافع.
لكن الخطر كلُّ الخطر داهم هذه الشخصيات العلمية الجامعية بظهور ممثل من عامة الناس لم يكن له شأن من قبل أو خطر، أخذ في تأليف المسرحيات على شتى أنواعها، والتجديد فيها وإعدادها لفرقة تشمبرلن التمثيلية بمظهر ملائم ذوق الناس الأدبي.
وقد سبق أن نشر شكسبير من قبل قصيدتين مذيلتين باسمه الصريح، فلفت إليه الأنظار، وجعل الأدباء يرمقونه بروح الدهشة والقلق والإشفاق، كلُّ ذلك في 3 سبتمبر 1592 حين وافى الأجل الأديب المعروف روبرت جرين تاركاً مقالاً محفوظاً، فتولى هنري تشتل نشره في الثامن من ديسمبر من تلك السنة، وفيه تعريض بهذا الشاعر الطارئ الحديث الشأن كما سترى. بيد أن تشتل عاد فنشر اعتذاراً من شكسبير وثناءً عليه لدماثة خلقه وأمانته واستقامته، وكذلك لسمو فنه الأدبي، وفي ختام مقاله يخاطب جرين ثلاثة من المؤلفين المسرحيين هو مارلو وتوماس لودج وجورج بيل ناصحاً إياهم أن ينصرفوا إلى غير مسائل التأليف. وفيه ترد العبارة المشهورة التي تشير إلى ظهور شكسبير ((ذلك الغراب المحدث، المتزين بريشنا، الذي بمجرد قوله (قلب النمر المكتسي بجلد الممثل) يعتقد أنه يجيد نظم الشعر المرسل كأحسن الشعراء. هذا الشخص الذي (يحذق حرفاً عديدة)، وهو ظنه (الشيكسين) الأوحد في بلده).
ومن الجلي الواضح أن جرين بذكره (لقلب النمر المكتسي جلد الممثل) إنما يشير إلى(687/36)
وصف شكسبير (لقلب النمر الملتف بجلد المرأة) الوارد في الجزء الثالث من مسرحية هنري السادس التي كانت تعرف قبلاً (بمأساة ريتشارد أوف يورك) ثم في لفظة (شيك سين) إشارة واضحة إلى أسم شكسبير، ذلك لما بين الكلمتين من تشابه لفظي ظاهر. أو قد يكون المقصود بذلك، ومعنى (شيك سين): (يحرك المنظر، أو يغير المشهد)، غمزُ الشاعر من طرف خفي ونقده بأسلوب رقيق هادئ لرجوعه إلى النسخة الأولى من (هنري السادس) وهي من تأليف جرين وصحبه، وإخراجه نسخة جديدة من تلك الأصلية القديمة.
ومن قول جرين هذا نخرج بثلاث حقائق راهنة: -
الأولى: إن شكسبير كان ممثلاً وكاتباً مسرحياً بعيد الصيت، فلا عجب أن ملأ نفوس الأدباء المعاصرين بالحسد والحقد والضغينة والمقت الشديد.
الثانية: ظهور مسرحية (هنري السادس) بأجزائها الثلاثة والتي ربما مسها شكسبير بقلمه كما تبين من نشرها في المجموعة الأولى لمسرحياته (1623).
والثالثة: إن شكسبير كان في بعض الأحيان بل أغلبها يسطو على بعض القصص في مسرحيات غيره من الأدباء وينهبها في وضح النهار نهباً. ويتضح هذا من قول جرين (النمر المكتسي بجلد الممثل)، ومن (الريش الذي استعاره منا الغراب الأسحم ليتزين به).
أما المسرحيات التي أثارت دهشة جرين وحسده وجزعه معاً فلا يبعد أن تكون (هنري السادس) التي راجعها الشاعر على كلُّ حال وترك فيها أثراً ظاهراً. فقد لفتت إليها نظر جرين وأقرانه لما فيها من ازدحام الحوادث المتنوعة بشكل لم يعهد من قبل؛ وكذلك (تيطس أندرونيكس) التي يعتقدون أن شكسبير لم ينفرد بتأليفها بل اشترك في مراجعتها وتصحيحها؛ وهي مأساة رائعة إذا قيست بمآسي مارلو وتوماس كد التي كانت تعد من أعظم وأنفس ما شاهده ذلك العصر. وبتأثير ليلي طرق شكسبير باباً جديداً في فن الدراما هو الملهاة المفعم بالمحسنات اللفظية والكناية والاستعارة، فقد كان يحبذ هذا اللون من أساليب الكتابة الناشئون في الأدب، وهو أبرز ما يتمثل في جهد (الحب الضائع)
هذه هي المسرحيات التي ألفها شكسبير قبل وفاة جرين، فاسترعت انتباهه، وحولت إليه أنظار الأدباء والناس جميعاً. وبعد وفاة جرين بسنة يأفل نجم مارلو في سماء الأدب، ثم يقضي كد نحبه سنة 1559، ويعرض لودج عن الأدب وينصرف إلى ممارسة الطب،(687/37)
ويخرج ليلي من القصر، وينغمس بيل في اللذات وينقطع عن الإنتاج الأدبي، ويتحول ناش إلى أدب الهجاء والقصة وهذا لا خطر منه، حتى إذا ما جاء عام 1598 لم يشهد في حلبة الأدب المسرحي على الأخص من يناقش شكسبير أو يجاربه.
ومن المحال أن تذكر لأديب ما في ذلك العصر مأساة أو ملهاة كان لها ما لأدب شكسبير الدرامي من قيمة أو وزن. فلا عجب أن ترى أستاذاً جامعياً كبيراً كتوماس ميرز يضع شكسبير في مصاف المسرحيين العالميين الذين نبغوا في بابي الملهاة والمأساة. فقد وضع ميرز كتاباً أسمه (بلادس تاميا) (استعرض فيه المجهود الأدبي منذ تشوير) حتى عصر اليزابث، وتناول بالدرس والبحث نحو مئة وخمسة وعشرين أدبياً الإنجليز، مقارناً بين كلُّ واحد منهم وبين من يرى أنه يشبهه من أدباء العصر الاتباعي القديم، أو أدباء الطليان في عصر الرينسانس. وفي هذا الكتاب يشير إلى شكسبير مطرياً شاعريته الفذة، كما تجلت له قصيدتي (فينس وأودنيس) (ولوكريس) ويرى أن ليس دون أوفيد الشاعر الروماني العظيم مؤلف (المتامور فيسس) أوبلونس شاعر الملهاة عند الرومان، وسنيكا الفيلسوف الروماني تالذي برع في تأليف المأساة. فيقول ميرز إن شكسبير لا يقل عن هؤلاء جميعهم في مسرحياته (كوميديا الأخطاء، وجهد الحب الضائع وسيدا فيرونا، وحلم ليلة في منتصف الصيف، وتاجر البندقية، ورتشارد الثاني والثالث، وهنري الرابع، والملك جون، وروميو وجوليت، وتيطس أندرونيكس).
ولهذا القول ولتعداد هذه المسرحيات قيمة مزدوجة، الأولى وهي مجرد ذكرها وعزوها لشكسبير دون غيره، وفي هذا رد على الذين يعزون نظمها إلى غيره، وفيه دلالة على أنه ألفها قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، والثانية تألق نجم شكسبير في سماء الأدب وازدهار شهرته الأدبية في برهة وجيزة ازدهاراً لفت إليه الأبصار.
ولم يقف الأمر عند إشفاق الأدباء، وقلقهم وجزعهم، أو ثناء البعض الآخر عليه وإعجابهم به؛ فقد وردت إشارات عدة في الأدب المعاصر تشيد بذكر هذا الأديب (ذي اللسان المعسول) (والعرق الذي يفيض شهداً) (والخلق السمح والبال الرخي).
ولقد كان له في نفس بن جونسون صديقه الأدنى وثاني الشعراء والمؤلفين المسرحيين بعده منزلة وطيدة راسخة الأثر، برغم أنه كان يغمره أحياناً ويأخذ عليه ما يبدو في أدبه من(687/38)
نقص في الثقافة والعلم. فإنك لا ريب ذا كر تلك القصيدة العصماء التي قد لا يعلو عابها عليها شيء في الرثاء، وقد نظمها بعد وفاة شكسبير، وصدر بها المجموعة الأولى من مسرحيات شكسبير، وفيها يؤمن الشاعر ويطنب في مدحه، فيصفه (بأوزة آفون الحلوة) بضعة فوق تشوسر وسبنسر وبيمونت بل يجعله وحده (تمثالا فريدا لا ضريح له).
ثم يصف كيف غشى نجم شكسبير بنوره المتألق الساطع وأخفى ضياء تلك الكواكب الزاهرة في عالم الأدب كما لو وكد وليلى وغيرهم من فطاحل الأدباء. وفي هذه القصيدة: نفثة من هاتيك النفثات الفريدة الصادقة التي يلفظها أحيانا العقل والقلب معاً فتقارب بقوتهاوسحرهاوروعتها أخلد النبوت. (فهو يرى لبرطانيا أن تسير وتغتبط إذ أنجبت هذا الإبن العظيم الذي سوف تبايعه وتطيعه وتخلص له جميع المسارح في أوروبا؛ وأن شكسبير لم يكن لعصر واحد، إنما للزمان بأكماله، ولا أظنك بحاجة لشرح وبسط ما حققت الأيام من هذه النبوة الرائعة، فقد أصبح شكسبير منها للأدب عذبا، ومنبعاً لا يغيض ماؤه وأضحى نجمه يشع في سماء الأدب إشعاعا، ويتلألأ بالنور الزاهر الدائم، فيهتدي به الشعراء في إنجلترا وفي معظم أقطار العالم أيضاً.
شرق الأردن
جرجيس القسوس(687/39)
وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
- 2 -
وقالت ترثى الأمير أمين أرسلانالمتوفى سنة 1275هـ:
كأس المنية دائر بين الورى ... يسقي الكبير ولا يفوت الأصغرا
ما هذه الدنيا بدار إقامة ... إلا كطيف الحلم في سنة الكرى
كلُّ على هذا الطريق مسافر ... لابد منه مقدماً ومؤخرا
وكذلك تقول:
هذا الذي بالأمس كان مكانه ... شم القصور فكيف يرضى بالثرى
ثم أيضاً تقول بما فيه الجناس:
سار السرور عن السرير لفقده ... وعن السرائر قد سرى
هذا هو السيف الصقيل أصابه ... سيف من القدر الذي قد قدرتا
تبكي البلاغة واليراعة والحجى ... والعزم في الخطب الشديد إذا اعترى
لو تعلم الشمس المنيرة فقده ... كسفت أو البدر من المنير تحيرا
أو كان للحجر الأصم محاجر ... أجرى عليه من المدامع أنهرا
وكذلك فهي تقول:
يا ركن لبنان العظيم عليك قد ... كادت ربى لبنان أن تتفطرا
إلى أن قالت:
إن كنت غبت عن العيون فلم يزل ... لك رسم شخص في القلوب مصورا
ثم تقول أيضاً:
لو كان يظهر حاب ضريحه ... إلا على صفحاته لم يمطرا
وكذلك تقول خاتمة:
ناداه رب العرش من كرسيّه ... ها نحن أ ' طينا الأمين الكوثرا
وقالت ترثي ولداً نبيهاً:
زوّد النعش قبل شد الرحال ... إن هذي الحياة طيف خيال(687/40)
وحياة الدنيا طريق يؤدي ... نحو دار البقاء ذات الجلال
وتقول:
يا هلالاً قد احتوى نور بدر ... كيف لو تم نورك المتلألئ
إن يكن قد خلا سريرك يوماً ... منك فالقلب ليس منك بخال
وقالت ترثي الأمير سعيد الشهابي:
ترى من غاب عنا هل يعود ... لعمرك إنه ليس أمل بعيد
فراق الحي محدود ولكن ... فراق الميت ليس له حدود
ثم تقول:
شريف الأصل من أشراف دهر ... تسلسل ولرواة له شهود
وكذلك فهي تقول:
فته عجباً أيا قبراً حواه ... وقل أنا في الورى فلك جديد
فريداً كنت ما بين البرايا ... وأنت اليوم في قبر فريد
لأعين أهله سهد طويل ... ومن عبراتهم بحر مديد
ثم تقول:
لئن تك غبت عن دار ستفني ... ففي الفردوس صار لك الخلود
وقالت ترثي كاتبة بنت موسى بسترس التي ذكرناها آنفاً وهي من صديقاتها اللواتي كانت تراسلن:
يا بنت موسى دعاك الله من ... طور الجلال كما دعاه بما مضى
قد شق موسى بالعصا بحراً طغى ... ونراك شققت القلوب بلا عصا
ثم تقول:
قد أنشبت فيك المنون سهامها ... ظلماً ولم تشفق على ذاك الصبا
وكذلك تقول:
بكت المعارف واللغات تأسفاً ... يوم الفراق على المعارف والتقى
ورثت سارة بنت المعلم بطرس البستاني بقولها:
يا بين ويحك هل أبقيت في البشر ... عيناً بلا دمعة حرى ولا كدر(687/41)
ومنها:
تبكي على فقدك الأتراب دمع دم ... أغنت ثراك به عن مدمع المطر
قد كنت بين بنات العصر جوهرة ... عظيمة الشأن تزري أفضل الدرر
ثم تقول:
يا نومة ما لها من يقظة أبداً ... وغيبة ما لها في الدهر من حضر
إن لم تعد نحونا يوماً فنحن غداً ... نسعى إليها ولو كنا على حذر
وفي رثاء أخيها حبيب تقول:
يا عين وردة في الأسحار والأصل ... أبكي لفقد حبيب عنك مرتحل
ويا فؤادي تفتت بعد مصرعه ... فإن سيف المنايا سابق العذل
ويا سلو ابتعد عن مهجتي أبداً ... ويا دموع انزلي كالعارض الهطل
ثم تقول:
غاب الحبيب حبيب الروح عن حلل=باتت لفرقته في أسود الحلل
ويحيى من البين إن البين جارحنا ... بأسهم لم نزل منها على وجل
وكذلك تقول:
رمى الحبيب بسهم قد أصيب به ... فبات منطرحاً كالشارب الثمل
روحي فدى ذلك القد الذي قصفت ... منه المنايا قواماً كان كالأسل
روحي فدى ذلك الوجه الذي كسفت ... جماله حادثات الدهر والعلل
يا فارس اليوم أشرق قد أتاك على ... قرب حبيب فلا تشكو من الملل
بدران أظلمت الآفاق بعدهما ... في مقلتي وضاقت بالأسى سبلي
قد كدرت غير الأيام موردنا ... وبدّل الدهر ما نرجوه من أمل
ثم تقول:
لا أخمد الله ناراً في الحشا اشتعلت ... مني ولا نشفت عيني من البلل
ولا عرفت سلواً في الحياة إلى ... أن ألتقي بك في مستقبل الأجل
ثم قالت ترث والدها وقد توفى سنة 1871م:
تكاثرت الأحزان في كبدي الحرى ... وزادت دموع البين في عيني الشكرى(687/42)
وجارت على ضعفي الليالي وأوقدت ... بطي فؤادي من نوائبها حمرا
وقد آلمتني الحادثات بصرفها ... كما ألمت خنساء إذ فقدت صخرا
ثم تقول:
فتباً ليوم فرق الدهر شملنا ... وجّمع في قلبي مصائبه تترى
وهي تقول أيضاً:
أيا علم الشرق المبجل والذي ... أقرت له بالفضل كلُّ الورى طرا
ويا معدن العلم الذي ضمه الثرى ... وكم معدن كان التراب له سترا
ويا بحر فضل كان بالدرّ زاخراً ... لفقدك كاد البحر أن يفقد الدرا
ويا من بمسراه تيتمت العلى ... كما يتم التأليف والنظم والنثرا
ينوح عليك الشعر دهراً وطالما ... بك اهتز فاستعلى على فلك الشعري
ثم تختم قائلة:
وقد غبت يا شمس العلوم وبدرها=فأصبح كلُّ يندب الشمس والبدرا
فيا قبره أكرم أعز وديعة ... بطيك لم تبرح لأهل الورى ذخرا
أما مطلع قصيدتها في رثاء أخيها نصار وقد توفى في مدينة زحلة سنة 1874م فهو:
ويلاه ويلاه كم نشكو وننتحب ... وكم علينا صروف الدهر تنقلب
وكم تجور الليالي في حوادثها ... على فؤاد بنار الحزن يلتهب
ثم تقول:
يا أرض زحلة في حبها شغف ... إذ في حماها شقيق الروح محتجب
يا راحلاً راح صفو العيش يتبعه ... واستوطنت بعده الأحزان والكرب
ثم تقول أيضاً:
يا قلب صبراً على ما قد أصبت به ... ولا ترعك البلايا وهي تعتقب
قد عودتك الليالي الحزن من صغر ... حتى غدوت إلى الأحزان تنتسب
إلى أن قالت:
يا رحمة الله زوريه ميممة ... ترباً له قد سقت أرجاءه السحب
وآنسى من ثراء مضجعاً بحمى ... لبنان فيه حبيب القلب مغترب(687/43)
مني عليه سلام الله ما غربت ... شمس وما طلعت في أفقها الشهب
وفي رثاء أختها راحيل تقول:
متى تترك الأيام دمعي لا يجري ... وقلبي المعنى لا يبيت على جمر
أبى الله أن أنسى وكيف وفي دمي ... قد امتزجت أحزان خنساء على صخر
ثم تختم الرثاء بقولها:
وما لك قبر واحد فقلوبنا ... قبور حوت أمثال شخصك في القبر
وقالت ترثي أخاها خليلاً:
رويدك يا من قد نعيت لنا بدرا ... أتحمل نعياً ضمن طرسك أم جمرا
ألا أيها القلب الحزين إلى متى ... تقاسي خطوب الدهر منقضة تترى
تراكمت الأرزاء من كلُّ جانب ... عليك فلا يوم يمر بلا ذكرى
ثم قالت:
ويا طرف إن جفت دموعك فاتخذ ... دم القلب دمعاً فوق تربتهُ يُذرى
وتقول أيضاً:
ولم أوف حق الحب إن أمت أسى ... عليه فعيشي صرت أحسبه غدرا
وتختم الرثاء بقولها:
سلام على وجه الخليل وناره ... بطي الحشا قد أفنت القلب والصدرا
له العفو والرضوان من فضل راحم ... ولي مدمع الخنساء إذ فقدت صخرا
(يتبع)
يوسف يعقوب مسكوني(687/44)
شاعر عربي في لندرة:
جنة الأوهام. . .!
للأستاذ عبد القادر القط
أسلمت للوهم أفكاري ووجداني ... وذقت في خَدَر الأوهام سلواني
أمضى مع الناس لا عيني بشاهدة ... ما يشهدون ولا صوت بآذاني
دنياي عالمُ أحلامٍ مهمومة ... تهفو فتمسح آلامي وأشجاني
وأغتدى ورؤاى البيض تبسم لي ... وفي خيالي تهويمات وسنان
هجرت ما كان من يأسي موجدتي ... وصغت بعد مرير الصمت ألحاني
كم ظلت أضرب في دنياي محتقباً ... في الفقر شوقي وآمالي وتحناني
يلوكهن فؤاد جائع بشِمٌ ... من الأسى وضمير مُثقل عاني
نوازع من رغاب طال ما لقيت من سوط سجّاني
يعتاقها عن الرحب محبسهُا ... وتلتظي لهباً من نار حرماني
خرساء منطقها وخز وشارتها ... وقع المعاول في موهون بنياني
تململت فأصاب القلب حرقتها ... وملَّ جذوتها صبري وإذعاني
نادبت من ألمي وهمي فأسعدني ... بجنة من خيالي ذات أفناني
أطلقتهنَّ بما يمرحن في شغف ... ونمت بعد سهادي ملء أجفاني
وعفت صحوة دنيا كنت أعشقها ... وبتُّ أشرب من دَني ومن حاني
ساقي ألبقُ من دارت على يده ... كأسٌ وأعرف آس عند أحزاني
إذا طلبت عزيز الراح بادني=وإن طابت رخيم اللحن غنّاني
في كلُّ دفقة كأس ينتشي أملٌ ... وبُغيةٌ سئمت أعماقي نسياني
أرى بافقَي ما أخمدتُ شِرَّته ... من الرَّغاب وسحباً ذات ألوان
بكل دانية منها يطالعني ... مجدي وحبي وأوان وخلاّني
أروح للحبَّ حتى يكتفي نهمي ... وأنهمل المجد حتى يرتوي شاني
نجوى في الليل أبكار معطرة ... أبيت ليليَ أرعاها وترعاني
أصوغ من ألقِ فتنتها ... وقلبها من وفاء عاطف حاني(687/45)
غنيت بالوهم عن دنيا مخبَّلة ... تلقي القياد لذي جاه وسلطان
يذوب لذة ما أولَتْهُ نعمته ... بحسَّ أبله غافي القلب سأمان
تلقي القياد وتُلقي من مرارتها ... إلى فم رحيق الشهد هيمان
يحسُّ كلُّ شهيٍ في قرارته ... بمترف من سرِيِ الذوق فنان
مدلَّه بالنعيم الحلو يدركه ... بالروح والجسم والباقي وبالفاني
دماؤه شهوة حمراء دافقة ... والروح بالشهوة البيضاء في حان
أمضيت ريق شبابي في الحياة لقيٍ ... أطفو على ثَ بَج بالهمَّ ملآن
أرعى بقية إيمان أعللها ... ويطفر الشك من آن إلى آن
حتى تراءت لي الأوهام في شفق ... ضافى الجمال على الآفاق فتان
خفقت ملء جناحي نحو ساحته ... وضاع بين الرؤى شكى وإيماني(687/46)
نهاية. . .!
للأستاذ محي الدين صابر
لا حانتي، رجعت شدوى ولا الساقي ... يا هذه!! أين أحلامي وأشواقي؟
ظمآن أخفق في الصحراء مغترباً ... كأنني خطوة في ساق أفاق!!
أسر للرمل حناتي ومسكنتي ... كما من هوى تحته كالنبع، ألاق
فكل ذرة رمل، قلب محترق ... أوحسن غانية. أوفكر خلاق
ويسكت الرمل إشفاقاً وسخرية ... فكم تولى بعشاق وعشاق!!
وأسأل الريح زفَّافا مواكبها ... تدور في زمنِِ محلِِ وآفاق!
متى عبرت بواد كنت أعمره ... في واحة طَلةِ الأحناء غيداق؟!
وتعصف الريح أنفاساً مشردة ... ياطالما عصف عن قلب خفاق
والليل! يعرفني طوَّاف كعبته ... يا ليل! فانشق عن فجرى وإشراقي
يا ليل! واردد صاباتي وأخيلتي ... واملأ عروقي بوهم منك رقراق!
ورحمتا للمني أفنيت ريقها ... في خادع من مراعي الوهم، برَّاق
وللهوى الضخم محموماً نوازعه ... أمسى رماداً على روحي وأعماق!!
ظلمت يا غادة المحراب ما نسجت=شفاء مشتاقة ظمأى، ومشتاق
هلا ذكرت على القمات مسبحنا ... على جناح بقلب الفجر صفّاق؟!
وأغنياتي في أذيتك من وتر ... منغم الوحى با لإلهام طَّراق
نسيت في السفح أيامي معذبة ... تبكي وتسأل عن عهدي وميثاقي
قد أنكر الدَّوح في الشُّطآن مُغتربي ... فرداً؛ أُقيمُ على حزن وإشفاق
وقد يكون ولى نجوى ولى قبل ... في ظله من هوًى في القلب وفاق!
يا وحشة، ملأتني جهشة وأسى ... في ذكرياتك عندي شارد باقي!
تدور في دميَ الدنيا معطلة ... كأنها أدمع جالت بأحداق!
هي الحياة زحمناها منىً وهوىً ... ألوتْ بوان، ولم تسلس لسباق!
وقد قنعتُ! وردناها على ظمأ ... فجعت الخمر دوني وانطوى الساقي(687/47)
البريد الأدبي
1 - قتيبة بن مسلم:
لمجلة (الرسالة) مكانة سامية في الأوساط العلمية في جميع البلاد
العربية، ولكتابها منزلة في النفوس لا تساميها منزلة غيرهم من
الكتاب. فإذا استعظم على أحدهم هفوة لسان طفيفة أو زلة قلم خفيفة؛
فذلك لما للقراء - على الرسالة الغراء وعلى كتابها - من الدالة، ولما
لتلك المجلة وأصحابها من الإجلال والإكبار في نفوس أولئك القراء.
ومن أولئك الكتاب الذين لكتاباتهم روعة قوية، وتأثير عميق في النفس: الأستاذ الجليل (على الطنطاوي) ولا أدل على ذلك من مقالة القيم المنشور في العددين 680 وتالية بعنوان: (من التاريخ الإسلامي - قضية سمرقند)، ولا ينقص من روعة ذلك المقال أن يفهم القارئ منه أن قتيبة بن مسلم الباهلي الفاتح العظيم؛ أدرك عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. خلاف ما يفهم من يفهم من مصادر التاريخ الصيحة التي تنص على أن قتيبة لم يدرك ذلك العهد، بل قتل في عهد سليمان بن عبد الملك.
(الرسالة): لقد سبق الأستاذ الطنطاوي فنبه إلى ذلك.
2 - أتاريخ صحيح أم خرافة؟!:
وهذا المربيالأستاذ الكبير كامل كيلاني يقول في عدد (الرسالة) 682: (منذ خمسة عسر قرنا تنقص عشرات قليلة من السنين ولد خرافة القاص العربي المخضرم الذي عاش في العصرين الجاهلي والإسلامي. . . وقد عاصر جحوان الصحابي جد أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا. . . وكانت أم جحا أم سليم بنت ملحان والدة مالك بن أنس راوية الحديث المعروف. . . ثم مضى القرن الأول ومضى معه خرافة ومعاصره. ثم جاء القرن الثاني فكان من مولوديه أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا). ولكن قوله هذا لا يؤثر في منزلته باعتباره أحد الأفذاذ الذين أسدوا للجيل الجديد منه عظمى مجسمة في كتبة القيمة النافعة (مكتبة الأطفال)، وإن فهم من ذلك القول مخالفة الحقائق الآتية:(687/48)
1 - أم سليم بنت ملحان والدة أنس بن مالك الصحابي الجليل الذي خدم الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنين. لا مالك ابن أنس الإمام المحدث المشهور صاحب كتاب (الموطأ) المتوفى سنة 179 هـ.
2 - أم سليم صحابية أدركت عهد الرسالة، وحضرت وقعة (حنين) وجرى لها فيها طريفة، وتوفيت في أول القرن الهجري الأول. فكيف تكون أم جحا خادمة لها، ثم تدرك القرن الثاني ويولد لها ابنها جحا فيه؟!
3 - كيف يعيش في القرن الأول الهجري ويعتبر مخضرما من ولد قبل ذلك القرن بمائة سنة أو أكثر؟!
(الطائف)
محمد الجاسر
حول صور سودانية:
قرأت أخيرا في (الرسالة) 680 للأستاذ حسان خضر مقالا عنوانه (صور سودانية) يقول فيه: (ليس التقاء النيل الأبيض بالأزرق عند الخرطوم كما يقول الجغرافيون وإنما هو أقرب إلى مدينة أم درمان وهو يبعد عن الخرطوم نحو (15كيلو)، ولو أنه كتب هذا ولم يتعرض للجغرافيين لقلنا إنه سهو.
إن المكان الذي يلتقى فيه النيلان والمسمى (بالمقرن) حيث الحدائق المشهورة يحد الخرطوم من شمالها الغربي وعنده تنتهي مدينة أم درمان في جنوبها الشرقي وليس هناك (كيلو) واحد يبعد (المقرن) من الخرطوم.
(كلا)
حسن أحمد البشير.(687/49)
القصص
مطاردة. . .!
للقصصي الإنجليزي سومرست موم
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
عندما أرست بنا السفينة على ثلاثة أميال من الشاطئ الشمالي لجزيرة بورنيو، تقدم ربانها نجوى ومد يده إلى مصافحاً وتمنى لي حظاً سعيداً طيباً. فانتهزت بدوري هذه الفرصة التي بذلها نحوي في خلال تلك الرحلة الطويلة المتعبة، ثم أخذت طريقي هابطاً سلم السفينة التي كانت مزدحمة بالركب ذوي الأجناس المختلفة والنحل المتعددة. وكانت هذه السفينة من تلك السفن الشراعية الكبيرة ذات الأشرعة الواسعة الرحبة المصنوعة من خشب الخيزران المجدول. وتذكرت حينئذ أمتعتي فنظرت إلى المقر الذي كانت موضوعة فيه في أحد جوانب السفينة، فوجدتها قد أنزلت إلى القارب الذي سيقلنا إلى الساحل ووضعت في مكان ظاهر فيه
ولما اكتمل عددنا في القارب لوحت بيدي لربان السفينة الذي أخرج من جبيبه في تلك اللحظة منديلا أبيض وأخذ يلوح لي به مبتسما في الفضاء الواسع العريض، وقلدني باقي الركاب الذين كانوا معي في ذلك، فأخذوا يلوحون له وللركاب الذين تركوهم يستأنفون سفرهم على سطحها بأيديهم طوراً، وبمناديهم الصغيرة البيضاء طوراً آخر، ودموع الفرح والغبطة تترقرق في عيونهم التي كان يشع منها بريق السعادة والسرور وما زلنا على هذا الوداع المؤثر الحار حتى اختفت السفينة عن أبصارناً أختفاء تاماً، وأصبحت تتراءى لنا لبعد المسافة التي كانت تفصلنا عنها كأنها شبح من الأشباح القاتمة السواء.
ولما اقتربنا من الساحل تتراءى لي عن بعد أشجار جوز الهند المحملة بذلك الثمر الشهي الذي يكثر زرعه في تلك الأنحاء، ورأيت من خلالها سقوف الأكواخ الخشبية الرمادية اللون التي يقطنها أهالي هذه المنطقة الاستوائية الحارة. وأشار لي وقتئذ أحد الصينيين الذين كانوا أبيض كبير قائم على مقرية من الساحل وسألني بالإنجليزي التي كان يتكلمها بطلاقة وصدق كأحد أبنائها:(687/50)
- أتعرف من يقيم في هذا الكوخ الأبيض المرتفع؟ فتظاهرت بأنني لا أعرفه وهززت رأسي متأسفاً وقلت: لا!
- إن الذي يقيم بهذا البناء هو حاكم هذا الإقليم، وهو إنجليزي الجنسية كما أعلم. . .
فشكرته على هذه المعلومات التي أدلى بها إلى ثم سكت! ولو كان هذا الصيني يعلم أنني سأقيم مع هذا الحاكم تحت سقف واحد لمدة من الزمن، لوفر على نفسه هذا التعريف الذي كنت على دراية به أكثر منه! وقد كان على حينئذ خطاب توصية إليه من ربان السفينة التي أقلتني إلى هذا المكان، لأنه لم يسبق لي مشاهدته أو التعرف إليه من قبل
وحين رسا القارب بنا وهبطنا إلى الساحل الرملي البديع، شعرت فجأة بتلك الوحشة التي يشعر بها كلُّ شخص تطأ قدماه أرضاً غريبة ليست له بها عهد من قبل، وقد وقفت برهة على الساحل أتامل البحر فتزيده بهاء وسناء وروعة. . .
ولم ألبث أن شعرت ببعض الخجل والارتباك وأنا أتقدم إلى كوخ الحاكم بخطوات وئيدة ثابتة، وقد حملت حقيبة أمتعتي في يدي اليمنى، وقبعتي العريضة البيضاء في يدي اليسرى، وأخذت أسائل نفسي أثناء سيرى قائلاً: (كيف أقدم نفسي إليه؟ بل كيف يخطر لي ببال - وأنا الغريب عن تلك المنطقة - أن أبيت وإياه في مسكن واحد، وأتناول ما يقدمه لي من طعام وشراب - وأنا لا أعرفه - حتى تأتي السفينة التي ستقلني إلى الجهة التي أزمعت الوصول إليها؟!)
ولكني لم ألبث - حينما وصلت إلى باب الكوخ - أن وفرت على نفسي مشقة هذه الأسئلة الغريبة المحرجة التي أخذت نتوارد على ذهني بسرعة هائلة، فأنزلت حقيبة أمتعتي إلى الأرض وأخرجت من جيبي خطاب التوصية الذي كنت أحمله معي وناديت أحد الخدم الواقفين بالباب وطلبت منه أن يسلمه إلى الحاكم يداً بيد. ولم يمض على دخول الخادم بضع دقائق حتى خرج إلى من داخل الكوخ رجل وسيم الطلعة، قوى البنية، ذو وجه باش أحمر يدل على إفراطه في الشراب، وعينين زرقاوين حادتي النظرات، وكان يبدو من هيئته أنه في العقد الرابع من عمره أو دون ذلك بقليل، وقد حياني تحية قلبية خالصة كما لو كان يعرفني من سنين، واستقبلني بحفاوة شديدة وسرور بالغ لم أكن أتوقعهما منه، وجذبني من يدي برفق، ثم نادى أحد الصبية وأمره بإحضار بعض المشروبات المنعشة،(687/51)
ونادى الآخر وأمره بأن يحمل حقيبتي داخل الكوخ.
وأراد الحاكم أن ينسيني ما كنت أشعر به في تلك الآونة من الخجل والارتباك لوجودي في هذا المكان الغريب، فتلطف معي في الحديث وقال:
- إنك لا تعرف كم أنا مسرور برؤيتك، ولا سيما أن ربان السفينة الذي أرسلك إلى من أعز أصدقائي وأخلص رفقائي، ولذلك أرجو أن تعتبر نفسك هنا كأنك في بيتك
فابتسمت له وشكرته بإيماءة من رأسي على أدبه الجم وحسن استقباله إياي. . .
ولم يلبث مضيفي أن أستاذنني وذهب لينجز بعض أعماله الضرورية التي لا تحتمل التأجيل. فلما فرغ منها عاد إلى وتمدد بجانبي على مقعد طويل من القماش، وأخذ بجانبي أطراف الأحاديث، ويروي لي شيء الكثير من مغامراته ومخاطرته في تلك البلاد. . .
ولما هبطت درجة الحرارة قليلاً، خرجنا للنزهة، وطفنا ببعض الأجزاء الهامة في تلك المنطقة، ومتعنا أنظار بجمال الطبيعة الساحر، ثم عدنا قبيل الغروب وقد تصببت أجسامنا من العرق، ولم أجد في ذلك الوقت ما ينقذني من تلك الحرارة الشديدة سوى أن آخذ حماماً بارداً. ففعلت. . وقد شعرت من بعده بلذة عجيبة، ونشاط جسماني غريب، أنسياني ما كنت أعانيه منذ لحظات من ضيق بالغ، وعذاب أليم!
وبعد أن فرغنا من تناول العشاء استأذنت صاحبي أن أنام لأنني كنت منهوك القوى من وعثاء السفر. وبالرغم من أن رفيقي كان يرغب في التحدث إلى طول الليل، إلا أنني أستاذنته مرة أخرى ورجوته أن يرشدني إلى الحجرة التي سأقضي فيها ليلتي. فقال صديقي وهو يقودني من يدي إلى غرفتي:
- كما تشاء يا صاحبي. . . ولن أثقل عليك الليلة بسماع أحاديثي المملة، وأقاصيصي المتعبة!!
وكانت الغرفة التي أدخلني فيها كبيرة رحبة ذات شرفة واسعة من الجانبين، ومؤثثة برياش بسيط لا بأس به، وفي ركن من أركانها نصب سرير كبير مغطى بكلة رقيقة من الدانتلة البيضاء لتقي من يرقد فيه من لدغات البعوض التي كانت تعد من أخطر الحشرات وأشدها فتكاً بحياة بني الإنسان في تلك الجهات وضحك صديقي وقال لي وهو يشير بيده إلى السرير.(687/52)
وإن هذا الفراش خشن بالنسبة إليك، ولكنه مع الأسف أحسن ما عندنا في هذه البلاد!
فابتسمت له ابتسامة رقيقة وقلت:
- إن هذا لا يهمني مطلقاً، ولن يؤثر ألبته في نومي ما دمت أشعر بحاجة ملحة إلى الراحة بعد هذه الرحلة المضنية:
ونظر رفيقي إلى الفراش مرة أخرى متمعناً وقال:
- لقد كان آخر من نام في هذا الفراش رجل هولاندي. ولهذا الرجل قصة عجيبة مؤلمة. ولا أجد عندي مانعاً من سردها عليك بشرط أن نسمح لي أولاً بذلك حتى لا يكون في هذا مضايقة لك.
وبالرغم من أنني كنت في حاجة شديدة إلى النوم كما قلت، إلا أن اللهجة التي مهد بها رفيقي لهذه القصة جعلتني أتشوق أسماعها منه، ولذلك لم ألبث أن قلت:
- لا بأس يا صاحبي. . . أسرد على قصتك وكلي آذان صاغية لك.
فجلس رفيقي على حافة الفراش وجلست قبالته ثم استجمع شتات أفكاره وقال ارتسمت على جبينه آيات التفكير العميق:
- لقد جاء هذا الرجل إلى هنا على نفس السفينة التي أتيت عليها، وقد حضر إلى مكتبي مباشرة وسألني عما إذا كنت أعرف فندقاً في تلك البلدة يمكنه أن يقضي فيه ليلته، فلما أخبرته بأنه لا توجد فنادق في تلك البلدة على الإطلاق هز رأسه متأسفاً وهم بالخروج من عندي بعد أن حياني تحية رقيقة مؤدبة. ولكني لم ألبث أن أشفقت عليه فناديته وعرضت عليه أن يبيت في مسكني، فقبل ذلك بعد تردد قليل. وكان هذا الرجل الهولاندي يحمل في يده قيثارة (كمنجة) صغيرة غالية الثمن، فلما رآني أحدق النظر فيها بإمعان ابتسم لي وقال (إن هذه القيثارة هي كلُّ ما أحضرته معي في تلك الرحلة، وهو تسليتي الوحيدة في أوقات فراغي الممل، ولذلك تراني أعزها وأفضل حملها معي في كلُّ مكان أذهب إليه.)
وكان هذا الرجل ذا وجه شاحب نحيل، ورأس مستدير يعلوه شعر أسود كث، وعينين رماديتين تدل نظراتهما القلقة المتحيرة على ما يعانيه صاحبهما من خوف واضطراب، أما جسمه فكان هزيلاً مفرطاً في الطول بدرجة غير عادية. وكان يلوح عليه أنه تجاوز الأربعين بقليل، وقد دلتني ملامح وجهه الجامدة على ما به من مرض نفساني غريب، إذ(687/53)
كان يتلفت وراءه بسرعة زائدة لأقل صوت يسمعه. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقه عجيبة، ولولا تلك اللكنة الأجنبية التي كانت تظهر في بعض كلماته لظننت أنه إنجليزي قح. وكان يحب الحديث، ويجيد الكلام إلى درجة تضطر سامعه إلى الإصغاء إليه، والانتباه لحديثه بلذة وشغف.
وكان لدى بعض الأعمال الضرورية التي يجب أن انتهى منها على عجل، فطلبت بلطف أن يسبقني إلى الغرفة المجاورة، وأخبرته أنني سأوافيه إليها بعد قليل. وبينا أنا أخاطبه إذا بسكرتيري الخاص يفتح الباب فجأة ويدخل بدون استئذان كما اعتاد أن يفعل ذلك في بعض الأحيان. فارتاع الهولاندي لهذه الأموات، وأخذ جسمه النحيل يرتعد بشدة وعنف من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، وأخرج بسرعة مسدسه من جيبه الخلفي، فذعرت لذلك ذعراً شديداً وصحت فيه بأعلى صوتي قائلاً (ماذا تفعل يا سيدي؟ ولم أخرجت مسدسك من جيبك؟)
ولما رأى الهولاندي سكرتيري ندم على فعلته ندماً شديداً وشعر ببعض الخجل والارتباك ثم أعاد مسدسه إلى جيبه وتهالك على أقرب مقعد منه وهو يلهث من فرط ما اعتراه في تلك اللحظة، ولما تمالك أعصابه وعاد إليه صوابه قال لي بخجل ظاهر، (أرجو معذرتي يا سيدي فإنني رجل محطم الأعصاب كما رأيت).
فأمنت على كلامه بهزة خفيفة من رأسي وقلت (هدئ روعك يا سيدي ولا تخف من شيء).
ولم يكن يلوح عليه أنه قد أفرط في الشراب حتى تصدر عنه تلك الفعلة المنكرة، وقد ظننت لأول وهلة أنه قد يكون أحد المجرمين الذين يتعقبهم رجال الشرطة، ولكني لم ألبث أن أبعدت هذه الفكرة عن رأسي لأنه ليس من المعقول أن يجازف بالدخول إلى مكتبي وهو يعلم أنني الحاكم العام لهذه المنطقة فيعرض بذلك نفسه لإلقاء القبض عليه في أقرب فرصة، وأسرع وقت:
ولم ألبث أن قلت له مشفقاً (يستحسن يا سيدي أن تستريح قليلاً في الغرفة المجاورة حتى تستعيد هدوئك وتسترد قواك، وسأوافيك إليها بعد قليل. . .)
فقام من مقعده متثاقلاً وذهب إلى الحجرة المجاورة لمكتبي ولما عدت إليه بعد أن أنجزت(687/54)
عملي وجدته واقفاً في وسط الحجرة وهو يدور ببصره في كلُّ ركن من أركانها، وبالرغم من أنني رأيته قد استرد هدوءه، واستعاد ثباته عجبت لوقوفه وسألته قائلاً (لم تقف وسط الحجرة هكذا؟ إنك تكون أكثر راحة لو تمددت على أحد هذه الكراسي الطويلة. . .)
ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء وأجاب باقتضاب (إنني أفضل الوقوف هكذا!)
فاستغربت جداً لهذه الإجابة المقتضبة وقلت بلهجة لا تخلو الاستياء (إن هذا عجيب منك حقاً، لأن من يراك في وقفتك هذه يظن أنك مراقب، وقد يداخله الشك في أمرك لأول وهلة!)
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد اللطيف حسن(687/55)
العدد 688 - بتاريخ: 09 - 09 - 1946(/)
(لا) أؤمن بالإنسان!
للأستاذ علي الطنطاوي
(ويدْعُ الإنسانُ بالشرَّ دعاءَه بالخير وكان الإنسانُ عجولا، - وكان الإنسانُ كَفورا - وكان الإنسانُ قَتورا - وكان الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدَلاً - وخُلِق الإنسانُ ضعيفاً - قُتل الإنسانُ ما أكفره - يا أيها الإنسانُ ما غَرَّك بِّربك الكريم - وإذا أنعمنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانبه - وإذا مسَّ الإنسانَ الضرُّ دعانا لجَنْبه أو قاعداً أو قائماً، فلما كشفْنَا عنه ضُرَّه مَرَّ كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضُرٍ مَسَّه - وإنا إذا أذقْنا الإنسانَ منا رحمةَ فرح بها وإن تُصِبْهم سيئةٌ بما قدمتْ أيديهم فإنّ الإنسانَ كفور - إن الإنسان لكفور مبُين - إن الإنسانَ خُلق هَلوعا، إذا مسِّه الشرُّ جَزوعا، وإذا مسّه الخيرُ منَوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. - إن الإنسان لكنود - كلا. إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى).
كلام من هذا يا أخي يا عبد المنعم؟ أفبعد قول الله مقال لقائل؟ وإذا كان الله الذي خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرمه وعلمه البيان يقول إنه ضعيف هلوع جزوع من الشر منوع للخير، منكر للنعمة، كفور قتور كنود عجول جدل، يطغى إذا استغنى، وان هذا كله في طبيعته وتركيبه. تريد أن أؤمن به؟ وبم أؤمن؟ إن هاهنا محذوفا لابد من تقديره، فالأيمان هو التصديق، ونحن إذ نؤمن بالله نصدق بوجوده وكماله واتصافه بكلأ صفة خير، وننزهه عن كل صفة شر، فبماذا تريدني أن اصدق حين أؤمن بالإنسان؟ أبكماله النسبي وسموه وانه مخلوق خير؟
إذا كان هذا هو المراد فأنا أؤمن. . . ولكن بالإنسان الذي أصلح إنسانيته بالإيمان والعمل الصالح. فإذا لم يفعل عادت هذه الإنسانية خسرا لصاحبها ووبالا عليه، وكانت (حمارية) الحمار و (كلبية) الكلب، خيرا من هذه (الإنسانية) في الدنيا، وأنجي منها من العذاب في الآخرة. ولست أنا الذي يقول هذا الكلام، وليس هذا رأيا أراه، ولكنه قول ربك الذي اقسم عليه ورب الإنسان: والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
فإذا كنت تؤمن بالإنسان الذي أدرك ما خلق له فسعى إليه، وعرف الله فأطاعه، فأنا معك، وإذا كنت تؤمن بالإنسان من حيث كان أنسانا، فلا يا أخي. آني لم أجد دواعي هذا الأيمان.(688/1)
وهذا تاريخ الإنسانية كله، نح منه الأنبياء ومن ساروا على هديهم، واصلحوا فساد إنسانيتهم بشرائهم، ثم انظر ماذا بقى، وقل لي أين الإنسان الذي تؤمن به؟ الإنسان الذي قتل أخاه وتركه في العراء حتى علمه غراب كيف يواري سوءة أخيه؟ أم الإنسان الذي ارتقى حتى صار يقتل بالقنبلة النووية الآلاف من النساء والولدان لا يجدون حيلة، ولا يهتدون سبيلا ولم يذنبوا ذنبا ولا أعلنوا حربا؟ أم الإنسان الذي استغل هذه الحرب، وهي مأتم الانسانية، فاخذ اللقمة من فم المرأة التي سيق زوجها إلى القتال، والولد الذي اخذ أبوه إلى الحرب، حتى إذا ماتوا من الجوع لبس الحرير ودان بالفجور، ورقص على جثثهم في هذا المأتم الباكي؟ أم الإنسان الذي يخون عهده وينسى الخبز والملح على تفي الكلاب؟ أم الذي يجزع ويضيق صدره ويبيد صبره إلى تصبر الحمير؟ أم الذي يشقى غيره ليسعد نفسه؟ على حين يتعاون النمل والنحل على ما فيه خير الجميع؟
الإنسان الذي انفرد دون سائر الأحياء من الملائكة وحيوانات بالكفر بالله، لا يشاركه في هذا (الشرف. . .) إلا الشياطين وهم كفار الجن، على حين يسبح بحمد الله كل شيء؟ أهذا الذي تؤمن به؟ وأين دواعي الأيمان حتى أؤمن مثلك؟ دلني عليها يا أخي أني لا أراها. آني لأتلفت حولي فلا أرى إلا آكلا الدنيا باسم الدين، أو شارباً دم الوطن باسم الوطنية، أو سارقاً أموال الناس باسم التجارة، أو حافراً بئراً لأخيه وهو يبسم له بسمة الأخاء، أو متعالياً على الناس باسم الوظيفة وهو أجيره، أو أستاذاً يستغل منصب التعليم وهو من عمل الأنبياء ليعتلي على عفاف تلميذته، أو طبيبا يسطو على عرض مريضته أو ممرضته، أو محاميا يأخذ أجرة الوكالة من (جمال) موكلته، وامرأة تخون زوجها، وزوجا يخالف إلى غير آمراته، وكل يكذب بقوله وعمله ويظهر غير حقيقته، والكبير يأكل الصغير كما تاكل الحيتان السمك، ويتربص به ليلدغه كما تلدغ الحية، فأين الإنسان الذي تؤمن به يا أخ؟ آني لا قوم على الطريق فانظر فلا أرى إلا ذئبا يلبس الثياب ثم يسطو كما تسطو الذئاب، أو ثعلبا يحتال مثل الثعالب، أو ثعبانا ناعم الملمس ناقع السم، أو ضفدعا لها صوت الثور ولكن لا تجر المحراث، أو ضبعاً تأكل أجساد الموتى، أو جرثومة فتاكة تفسد في الخفاء، فاقول سامح الله عبد المنعم! أهؤلاء هم البشر الذين يؤمن بهم؟!
وأنقل البصر إلى ديار المتمدنين فلا أرى مدنيتهم ألا أظافر من حديد ومخالب من فولاذ(688/2)
كأظافر الوحش ومخالبه. ولكن الوحش يفترس ليعيش هو، وهؤلاء يحاربون لئلا يعيش غيرهم؛ ووجدتهم استخدموا قوى الطبيعة ولكن للشر، واستعملوا عقولهم ولكن في الضلال. وهذه طبيعة الانسان، فلا تقل ان كل مولود يولد على الفطرة يهودانه أو يمجسانه، فان هذا حجة لي، لان أبوي المولود من البشر، فإذا كانا يفسدان الفطرة فلان الإفساد من عمل الإنسان، ما عرفنا حيوانا يفسد فطرة الله في وليده لا سبعا ولا قطا ولا دودة ولا طائرا، أو ليست نفس الإنسان يا أستاذ أمارة بالسوء؟ أليست أخت الشيطان: تصفد الشياطين بالأغلال في رمضان فتخلفها نفوس بني أدم فتعمل عملها وتفسد فسادها، وتوسوس وسواسها (فوسوس أليه الشيطان)، (ونعلم ما توسوس به نفسه) (إن النفس لأمارة بالسوء)، وما نفس الإنسان؟ أنها طبيعته التي طبعه الله عليها.
ومادام كلانا (والحمد لله) مسلما، فعلام نختلف في حكم من أحكام الإسلام، وهو أن هذه الحياة الدنيا طريق له غاية خلق الله الناس لها، (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، وان من يحرص على راحته في سفره، ويتخير لذلك الزاد والمركب ولا يكون له مقصد من السفر لا المنفعة ولا المتعة ولا السياحة فهو أحمق، وإن كل عمل يعمله من لا يؤمن بالله، وكل اختراع يخترعه سراب بقيعة، لا يزيده من الله إلا بعدا، ولا يكون في الإسلام إلا دليلا على جهله وضلاله وخسارة. . .
أيستطيع مسلم يا أستاذنا عبد المنعم أن ينازع في هذا؟ فما النتيجة؟ هي أن الإنسان شر الدواب في الدنيا، وأخزى المخلوقات يوم القيامة ما لم يطهر نفسه بالأيمان، ويصلح فساد طبيعته بالاتصال بالله.
وهل أدل على ندرة الحق والخير والجمال في عالم الإنسان من كونه جعلها مثلا اعلى، ومطمحا من المطامح البعيدة، وأملا من الآمال النائية؟ ولو كانت خلائق راسخة فيه، وكانت طبيعة ملازمة له، ما جعلها كذلك. فلو كان صادقا ما كان يمدح الصادق بصدقه، ويعجب منه أن لازمه وأقام عليه. ولو كان وفيا ما كان ثالث المستحيلات عنده. . . الخل الوفي، وإنما يطمح المرء إلى ما لا يملك، وأن مائة الدينار من الذهب هي (مثل أعلى) للفقير المفلس، ولكنها عند الغني حقيقة تافهة. . .
إلا أنى أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقضاء خيره وشره، ولكني لا(688/3)
أؤمن بانسانك هذا؟ فهل علي من الله من شيء؟
إذن فليقل الناس عني ما شاءوا!
علي الطنطاوي(688/4)
الترجمة والمترجمون
للأستاذ د. جونسون دافيز
الحرب بطبيعتها أداة تخريب ودمار، ولكن لها فوائد يجب ان توضع في الكفة الأخرى من الميزان. فهي ترغم الناس على ان يشمروا عن سواعد الجد وينبذوا التكاسل والتراخي في نواح كثيرة. وبلادنا (بريطانيا) قد جنت من هذه الحرب فائدة جليلة: هي أنها صارت اقل انعزالا وانكماشا في حدود جزيرتها مما كانت من قبل. ذلك أن كثيرا من الأجانب قد لاذوا بسواحلها ووجدوا فيها معقلا يحميهم من الاضطهاد والعدوان. والإنكليزي العادي، والإنكليزية العادية، باختلاطهما بهؤلاء الأجانب ازداد فهمهما للأمم الأخرى وعطفهما على غير ملتهما من الملل. ومن الدلائل على هذا ذلك العدد الضخم من الكتب التي صدرت خلال الحرب عن الدول والأمم الأجنبية. كما ازداد الاهتمام بالترجمة من اللغات الأجنبية، الالمانية، والبولندية، والفرنسية، والتشيكية، ثم الروسية طبعا. واغلب هذه الكتب بطبيعة الحال قد الفت قبل الحرب، لأنه لم يصل من أوربا التي احتلها الألمان إلا العدد الضئيل من الكتب. ومن هذه كتاب جدير بالذكر هو (صمت البحر آلفه فركور وقد طبع هذا الكتاب لاول مرة في مطابع النشر السرية في فرنسا، بالرغم من فداحة الخطر، ثم هربت منه نسخة إلى الخارج. وقد ظهرت له ترجمة إنجليزية بعنوان (اطفئ النور هذا الكتاب الصغير - فهو في الحق لا يزيد عن قصة قصيرة - يصف موقفا لابد انه تكرر في مئات الألوف من البيوت في جميع أنحاء فرنسا المحتلة، فهو يصف أسرة فرنسية صغيرة، مكونة من رجل هرم وابنة أخيه، ترغم على إيواء ضابط ألماني. وهو موقف يسهل جدا اتخاذه فرصة للدعاية الرخيصة، ولكن ليس من هذا اتفه قدر في هذا الكتاب، فهو كتاب فن، كتاب فن خالص. فالألماني لا يوصم بأنه مجرم أثيم، والفرنسي ليس بطلا. بل الألماني رجل مثقف، طيب بطبيعته، ومأساته موصوفة بعطف بديع، وقد ترك إلى القارئ أن يستنتج ما يريد من النتائج. فهذا الكتاب، على الرغم من ضآلة حجمه من المؤلفات القليلة عن الصراع الحاضر التي يمكن أن تعد أدبا رفيعا.
هذه المسألة، مسألة الترجمة من اللغات الأجنبية، هي في اعتقادي ذات أهمية بالغة في بناء أدب الأمة. فهي هامة في المحل الأول لأننا إذا أردنا أن نعرف شيئا عن أمة ما فخير ما(688/5)
نعمله هو أن نقرأ كتاب هذه الأمة. ولكن أهميتها ترجع في أغلبها إلى هذه الحقيقة: انه كما ان الأفراد مختلفو الطبائع، كذلك الأمم، على نطاق أوسع، مختلفة الخصائص؛ فالامم، لاختلاف أقطارها ودرجات تعليمها وأنواع ثقافتها وتربيتها، لها وجهات نظر في المشكلات اليومية، ومشكلات الحياة والموت، تختلف إحداها عن الأخرى بعض الشيء. وهكذا تجلب الترجمة دما جديدا إلى أدب الأمة، وكثيرا ما تكون مصدر الهام ذي أثار عميقة.
واليوم انبعث من جديد الاهتمام بالروائيين الروس الأعاظم حتى لم يعد ممكنا العثور على نسخة من روايتي تولستوي العظيمتين (أنا كرنينا) و (الحرب والسلم). وإذا أسعد الحظ امرءا باقتناء نسخة ظل أصحابه يستعيرونها منه بلا انقطاع. ومن حسن الطالع حقا العثور على كتب دستوفسكي أو تشيخوف أو تور جنييف أو غيرهم من كتاب الروس القدماء برغم إن كتبهم يتكرر طبعها.
قرأت مرة في أحد كتب النقد الأدبي أن العمل الأدبي ذا الأثر الأعظم في إنكلترا في هذا القرن هو ترجمة كنستانس كارنت للروائيين الروس الأعاظم. هذا تقرير خطير، وهو يدل على مقدار ديننا لهذه المرأة الملهمة التي وقفت حياتها على ترجمة مؤلفات الآخرين حتى يقراها ويقدرها أبناء وطنها. وقلما ينال المترجم مثل هذا الثناء. ومن الثابت انه لا يكاد يوجد اليوم روائي لم يتأثر تأثرا عميقا بكتابات عظماء الروس. فكم من هؤلاء الذين تأثروا هذا التأثر ودانو للمؤلفين الروس هذا الدين الجليل كانوا يجدون الفراغ والعزيمة والصبر الكافية لتعلم اللغة الروسية الصعبة حتى يستمدوا هذا الإلهام بأنفسهم. كم منهم كان يفعل ذلك لو أن كارنت لم تقم بما قامت به؟ إن فرجينيا وولف هذه الروائية والناقدة البعيدة الصيت قالت في احدى مقالات كتابها النقدي كل دراسة للرواية الإنكليزية الحديثة مهما كانت عامة موجزة يجب ان تذكر التأثير الروسي، فإذا ما ذكر الروس لم يكد المرء يتمالك نفسه من الإفاضة في التحدث عنهم، لأنه من إضاعة الوقت ان يتحدث عن رواية غير روايتهم.) فهل بعد هذا ثناء على الرواية الروسية؟ والمرء حين يقرا الأدب الروسي الحديث تأخذه الدهشة والاستياء إذ يراه مقفرا كل الإقفار من هذه العظمة، من هذا الفهم الشاسع البعيد الذي فهم به الروائيون القدماء الدنيا وأبناء جلدتهم من البشر. ويظهر أن الروس المعاصرين، مع تفوقهم وامتيازهم في فن الرقص التمثيلي والسينما والمسرح،(688/6)
قد أجدبت عقولهم في فن الكتابة. حقا ان روسيا السوفيتية لها كتابها، وكثير منهم قد ترجموا إلى الإنكليزية، ولكن أحدا منهم ليس في عظمة تولستوي أو دستيوفسكي، بل لايقرب من هذه العظمة أقل قرب. من الصعب تعليل هذا، ولكن العلة في نظري قد ذكرتها فرجينيا وولف في مقالة أخرى في نفس الكتاب حين قالت إن الخاصية المميزة للأدب الروسي هي انحصارهم الكاتب الروسي بروح الإنسان. فديتيوفسكي مثلا لا يهتم كثيرا بوصف حجرة أو منزل، بل لا يهتم بالصفات الجسدية لشخصياته، فهو مهتم بأرواحهم، ويوجه كل همه إلى وصف روح كل شخصية وكيف تقلبها واضطرابها. فلعل الأمر أذن هو أن الروح الروسية القلقة قد وجدت في نواح كثيرة ملجأ للراحة والاطمئنان في النظام الجديد، النظام الشيوعي. وبذلك قل اضطرابها وخفقانها عن ذي قبل. أضف إلى هذا أن التقلقل السياسي الذي عانته روسيا في السنين الخمس والعشرين الماضية لابد إنه كان له أثر سيئ على الأدب. لقد قرأت مجلدات عديدة من الأقاصيص القصيرة الروسية الحديثة ولم أجد بها إلا القليل مما يعد ممتازا، وكثير منها دعاية لا أدب.
ولكن لنعد إلى الروائيين الروس القدماء. كم من الناس الذين قرءوا تولستوي ودستوفسكي والآخرين يتذكرون اسم المترجم الذي مكنهم من قراءة هذه الروايات؟ الترجمة فن أبعد ما يكون عن العمل الآلي: هي تتطلب اكثر من مجرد معرفة اللغتين. هي عمل خالق بلا شك، والمترجم يستحق في الأوساط الأدبية من الشهرة أكثر مما يناله اليوم. المترجم لا ينال إلا نصيبا تافها من الجزاء المالي، ولا يكاد ينال شيئا من الثناء أو الذكر، مع أن عمله في الدرجة القصوى من الأهمية، وحتى أعاظم الكتاب لم يعدوا عارا عليهم أن يزاولوا هذا الفن - فما من شك أن الترجمة فن. فالشاعر الإنكليزي المشهور بوب ترجم أوديسة هومير من اللغة اليونانية، وإن كان لابد من الاعتراف أن بوب لم يكن المثل الأعلى للمترجم، إذ أن ترجمته وان كانت في حد ذاتها عملا أدبيا فائقا، فهي تحتوي من بوب على قدر أكبر مما تحتويه من هومير. حتى أن أحد معاصريه هنأه على عمله قائلا: (قصيدة بديعة يا بوب، ولكن ينبغي إلا تسميها هومير) والشاعر الفرنسي بودلير ترجم المؤلفات النثرية للكاتب الأمريكي إدجار ألان بو إلى الفرنسية، وترجماته تعد دررا من النثر الفرنسي بل أن شعره لم ينل في حياته إلا القليل من النجاح، حتى إنه كان يصف نفسه مفتخرا بأنه(688/7)
(مترجم بو). والروائي الفرنسي العظيم ماريل بروست بدأ حياته الأدبية بترجمة بعض مؤلفات رسكن من الإنكليزية. وكلا بودلير وبروست يقدم مثالا رفيعا لأدباء استمدوا إلهاما عظيما من كتابات مؤلفين قاموا بترجمتهم ولورنس بلاد العرب قام بترجمة نثرية للأوديسة، بينما قام الروائي د. هـ. لورنس الذي قد يعد اعظم روائيي إنكلترا في القرن العشرين بترجمة روايات إيطالية عديدة، وإحدى هذه وهي رواية - لمؤلفها جوفاني فيرجا، تستحق من الشهرة أكثر مما لقيت ولورنس نفسه قد وصفها بأنها: (كتاب عظيم مخلد، إحدى أعظم روايات أوربا،). وهناك رجل أخر أسدى إلى الأدب يدا بيضاء بترجمته، وهو سكوت مونكريف الذي ترجم رواية بروست الضخمة إلى الإنكليزية، ولترجمة الإنكليزية في اثني عشر مجلدا، قام هو بترجمة جميعها إلى المجلدين الأخيرين، إذ حال الموت بينه وبين إتمام هذا العمل العظيم. ويقال أنه في زمن ما كانت عادة اغلب الناس في باريس أن يقرءوا رواية بروست لا في الفرنسية الأصلية، بل في الترجمة الإنكليزية. فهل يطمع مترجم في ثناء ابلغ من هذا الثناء؟
إن ترجمة الكتب الأجنبية كان لها على أدبنا الإنكليزي أثار عظيمة بالغة، وأبرز مثل لهذا هو الكتاب المقدس، فللكتاب المقدس في الإنكليزية ما للقرآن الشريف في العربية، هو ليس أساس التفكير الديني فحسب، بل هو قد صار قسما من الأدب، ومثالا للكتابة النثرية الفائقة.
بل إن التأثيرات العظيمة التي تأثر بها الأدب الإنكليزي في مختلف العصور كانت كلها راجعة إلى الترجمة. إليك مثلا الترجمات المختلفة للقران، أول ترجمة للقرآن إلى لغة أجنبية كانت ترجمة لاتينية قام بها في سنة 1141 بطرس رئيس دير كلوني، وعاونه ثلاثة متعلمين مسيحيين وعربي، وظهرت أول ترجمة إنكليزية في سنة 1649، ومن يومها طبعت ترجمات عديدة أخرى اشهرها ترجمات سيلورودويل وبالمر ومرمديوك بكثال، وهذا الأخير هو إنكليزي مسلم، آلف عددا من الروايات والقصص عن الشرق
ولكن الكتاب العربي الذي كان له أبلغ الأثر على أوربا هو آلف ليلة وليلة. وقد ظهرت له ترجمتان إنكليزيتان جيدتان قام بهما إدوارد لين وسير ريتشارد بيرتون، وإن لم تكن هاتان أول ترجمة للكتاب. والمستشرق البريطاني هـ. ا. ر. جب يقول عن أثر هذه الترجمات(688/8)
الأولى لألف ليلة وليلة: (ليس من شطط القول أن نقول إن هذه الترجمة أمدت الكتاب الشعبيين بالهدف الذي طالما نشدوه، وإنه لولا آلف ليلة وليلة لما وجد روبنصن كروزو، بل ربما لم توجد رحلات جلليفر). بل قد قال بعضهم إن دانييل ديفو استمد الهام روبنصن كروزو من قصة حي بن يقظان التي آلفها ابن الطفيل، وكان قد ترجمها إلى اللاتينية المستشرق الإنكليزي القديم بو كوك. ويجب أن نذكر في هذا الصدد أيضا ترجمة فتزجرالد لرباعيات عمر الخيام، وهي إن كانت ترجمة شديدة التصرف فقد كان ملهمها الشاعر والمنجم الفارسي. كما قد زعم البعض إن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري كان لها تأثير كبير على دانتي في كتابه (الكوميديا الإلهية). ومهما يكن من شيء فمن المحتمل إن عناصر إسلامية كثيرة توجد في هذا العمل العظيم لدانتي. وعن هذا يقول الأستاذ جب: (إن الاهتمام الذي كانت تتبع به الدراسات العربية في إيطاليا في زمن دانتي لا تجعل هذه النظرية أمرا مستحيل التصديق، وإن لم يكن من المستطاع بعد إثبات هذا إثباتا جازما إلا في الجزئيات. ولكن هذه النظرية نظرية جذابة، وأقل ما يجعلها ذات جاذبية أنها لو صحت لازدادت عبقرية دانتي سموا، إذ تكون قد الفت في وحدة منسجمة رائعة بين التراث المسيحي والصوفي القديم العظيم، وتجارب الإسلام الدينية ذات الغنى الروحي الزاخر.)
أما عن ترجمة المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية، فنقول إن العرب قاموا بترجمات من اللغة اليونانية تعد من خير الأمثلة التاريخية على الفضل العظيم الذي يسديه المترجم إلى الجنس البشري قاطبة. كثير من المؤلفات الطبية والعلمية الأصيلة التي آلفها عظماء مؤلفي اليونان قد ضاعت، ولكن كثيرا من هذه المؤلفات المفقودة لا تزال موجودة في ترجمتها العربية، وهذا من حسن حظ العالم بأجمعه. ويمكننا أن نذكر من كبار مترجمي العرب أبا يحيى ابن البطريق، وهو من أول من ترجموا من اليونانية، وثابت بن قرة، ولكن أشهرهم جميعا هو بلا شك حنين بن اسحق، الذي كان يلقب بشيخ المترجمين. ومما يدل على علو مكانة الترجمة في العصر العباسي الأول إن حنينا كان يعطى له راتب شهري سخي، وإسن الخليفة المأمون كان يعطيه زنة كتبه المترجمة ذهبا. ومن الترجمات التي أنقذت من الفناء نصا مفقودا كتاب ابن المقفع (كليلة ودمنة)، الذي كان اصله باللغة السنسكريتية، والكتاب العربي مترجم من ترجمة فارسية للكتا السنسكريتي، وكلا الكتابين السنسكريتي(688/9)
والفارسي قد ضاعا، حتى صارت الترجمة العربية أصل جميع الترجمات الموجودة ألان للكتاب في كل لغات الدنيا. ومما يدل على الأثر العظيم الذي كان لهذا الكتاب انه كان أحد المصادر التي استمد منها الشاعر الفرنسي لافونتين قصصه الخرافية عن الحيوان.
ولقد كان للترجمة اثر عظيم في النهضة الحديثة للأدب العربي، ومحمد علي نفسه قد أدرك ضرورة القيام بترجمة الكتب العلمية الفنية من اللغات الأوربية فأسس مدرسة للترجمة وجعل مديرها الكاتب القدير رفاعة الطهطاوي، وقد عرفت فيما بعد بمدرسة الألسن. وقد قام رفاعة نفسه بترجمة عدد كبير من الكتب الجدية من اللغة الفرنسية في التاريخ والجغرافية والفلك والقانون وغيرها من الموضوعات. وكان محمد علي هو الذي بدا إرسال البعوث إلى أوربا، ويقال انه عند رجوع الطلبة إلى مصر كان كل منهم يعطى كتابا في الموضوع الذي درسه ويحبس في القلعة ثلاثة اشهر حتى يترجم الكتاب إلى اللغة التركية. ثم تطبع هذه الكتب وتستعمل في المدارس. فإذا جئنا إلى الأجيال الأخيرة تسارعت إلى أذهاننا أسماء رجال كثيرين خدموا الأدب العربي اجل خدمة بترجماتهم. فمما لاشك فيه إن من اعظم الآثار على الأدب العربي الحديث الأثر الذي تركه المنفلوطي، والجزء الأكبر من مؤلفاته ترجمة أو كتابة ألهمها الأدب الغربي. ولقد بلغ من شعوره بحاجة الأدب العربي إلى دم جديد انه على الرغم من عدم معرفته باللغات الأوربية تكبد مشقة العثور على رجال يعرفونها وطلب إليهم أن يترجموا له الكتب الأوربية ثم يقوم هو بصوغها في قالب عربي حر. حقا أن الكتاب المعاصرين قد أمطروا المنفلوطي بسهام نقدهم المر، وهو نقد لاشك في عدله، وبخاصة مقالة العقاد عن المنفلوطي، فكتابات المنفلوطي بها عيوب ونقائص كثيرة، ولكن على الرغم من هذا كله فإن أياديه على الأدب العربي الحديث يجب ألا يستهان بها. ومن المترجمين المعاصرين يمكننا أن نذكر أحمد حسن الزيات. مترجم (آلام فرتر)، والدكتور محمد عوض محمد، مترجم (فاوست) لجوته، ومحمد السباعي، الذي ترجم إلى العربية كثيرا من روايات ديكنز كما نظم بالعربية رباعيات الخيام، وحافظ إبراهيم الذي ترجم (البؤساء) لهيجو. ويلزمنا أن نذكر أيضا ترجمات احمد الصاوي في (مجلتي) والعمل الذي تقوم به اليوم لجنة التأليف والترجمة. إلا انه لا يزال أمام المترجم العربي كنوز زاخرة، وبخاصة إن القارئ العربي والكاتب العربي(688/10)
في يومنا هذا قد اخذ يزيد اهتمامهما بالقوالب الأدبية الرائجة الآن في الغرب كالرواية والقصة القصيرة.
هذا واحب أن أكرر أن الترجمة ليست عملا آليا بحال، وأنها ليست مجرد وضع كلمة محل كلمة؛ بل هي فن، وهو فن، لا يزال في المهد صبيا. ولقد ظهر حديثا في بلادنا عدة كتب تدور على فن الترجمة. وسأقتبس من أحد هذه الكتب القطعة الآتية التي تبين أهمية هذا الفن: (لاشيء يتحرك بدون ترجمة؛ فالتجربة الإنسانية تتضمنها عبارات ثلاث: العواطف، وطرق التأدية، والفكر. فالعواطف (مثل الخوف الخ. .) لا تتغير طبيعتها، أما الفكر وطرق التأدية فتتغير. فإذا حدث تغيير في الفكر أو طرق التأدية فلن يقدر له الشيوع والانتقال بغير الترجمة، لأنه لكي يشيع يجب أن ينتقل من أمة إلى أمة، أي من لغة إلى لغة.)
إن العالم الحديث يدرك الآن إن الأمم، كالأفراد، يجب إن تتعاون إذا أرادت الظفر بالسعادة والسلام والرخاء. كذلك شأن الأدب. الأدب كالتجارة، يجب أن يكون في حركة مستمرة، يجب أن يكون فيه على الدوام دخل وخرج، أخذ بين الأمم المختلفة. فالذي يقوم بوظيفة المتاجر في هذه المعاملات الحيوية هو المترجم.
(عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية)
د. جونسون دافيز(688/11)
من عجائب التصحيف
للأستاذ محمود عزت عرفة
(مهداة إلى الأستاذ علي الطنطاوي، رجاء ألا ينفذ وعيده من
هجر الكتابة وكسر القلم، احتجاجا على ما تمنى به مقالاته
البارعة من مشوهات التصحيف والتحريف).
لو يعلم الأستاذ الجليل علي الطنطاوي أنى لا أكاد أقع على تصحيف واحد في مقالاته، إلا أن ينبه هو عليه بتصحيحه في ذيل مقالة تالية لأخذ منه العجب مآخذه. ذلك آني اقرأ عباراته على صحتها، وأتناولها في الأغلب على وجهها؛ فيسبق لساني إلى كلمة (المضري) مثلا، وهي أمام عيني محرفة إلى كلمة (المصري)، ولا أكاد أتنبه إلى أن (يطير به) تصحفت إلى (يطر به) الخ. وما اشك في إن كثيرا من قراء (الرسالة) يفعلون ذلك دون تكلف أو عناء.
ولست اعرف الأستاذ بمجهول لديه حين أقول إن التصحيف والتحريف والتبديل والتطبيع، هي ضرائر في لغتنا لا مخلص لنا منها، مرجعها إلى تشابه في بعض الحروف لا يجدي معه شكل أو إعجام. وأين نقع نحن من أسلافنا - أرباب الفصاحة وفرسان البيان - وهم قد أتوا من فنون هذا التصحيف بما اضحك منهم الثكالى وجفف دموع الباكيات؟ بل أين من سلم في القدماء والمحدثين من هذه الآفة، أو تهدى إلى وجه الخلاص منها، إلا إن يكون - على حد قول العسكري صاحب كتاب (التصحيف والتحريف) - (ممن افتن في العلوم، ولقي العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم، المتقنين لما حفظوه، واخذ من أفواه الرجال، ولم يعول على الكتب الصحفية، ولم يؤثر شدة الراحة والتقليد على تعب البحث والتنقيب. . .)؟
هذا كتاب الله الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. . . لم يسلم ممن يعرض له بالتصحيف والتحريف، وهو ما هو سريانا على السنة المسلمين، والتقاطا بقلوبهم، وتمكنا من صدورهم، لولا أن صدق الله في وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).(688/12)
فقد ذكروا إن حماد بن الزبرقان، المقرئ الراوية، كان يصحف ألفاظا في القران لو قرئ بها لكان صوابا، لأنه حفظ القران من مصحف ولم يقراه على شيخ، فكان مما يغلط فيه: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) يريد (إياه). وكان يقرا: (بل الذين كفروا في غرة وشقاق) والصواب (عزة). ويقرا: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يَعنيه) بدل (يُغنيه).
وقرأ عثمان بن آبي شيبة على أصحابه التفسير: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، يعنى قالها كأول البقرة (ألف، لام، ميم). وحدث عنه إسماعيل بن محمد البسري قال: سمعت عثمان بن آبي شيبة يقرأ: (وجعل السقاية في رِجل أخيه) فقلت له: ما هذا؟ قال: تحت الجيم واحد وكان يقرأ: (وما عملتم من (الخوارج) مكلبين)!
وينسب أصحاب حمزة الزيات أليه إنه كان يتعلم القرآن من المصحف، وانه قرا يوما وأبوه يسمع: (ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه)، فزجره أبوه وقال: دع المصحف وتلقن من أفواه الرجال!
وكان محمد بن الحسن العطار المقرئ - المعروف بابن مقسم - يتلو قوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجبَاء. . .) بالباء والهمزة في آخره. ويقرا بحروف أخرى تخالف الإجماع ويتمحل لها وجوها بعيدة من اللغة والمعنى. قال احمد الفرضي: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكأن ابن مقسم قد ولى ظهره للقبلة وهو يصلي مستدبرها، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات
هذا طرف مما أثر عن تصحيفات القراء. . . أما (المحدثون) فلهم في ذلك ما يستخرج العجب. قال أبو علي الرازي: كان عندنا شيخ يروي الحديث - من المغفلين - فروى يوما إن النبي صلى الله عليه وسلم أحتجم وأعطى الحجام آجرة! يعني أجره
وحدث ابن شهاب قال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح وجهه (من القبح) - قال أحمد أبن حنبل: أخطأ وصحف، إنما هو (زمن الفتح).
وفي الحديث: إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتوطؤه الناس. حرفه بعظهم فقال: ليجر لسانه في سجين. . . والأول هو الصحيح
وأغرب من هذا ما حكاه القاضي أحمد بن كامل قال. حضرت بعض مشايخ الحديث من(688/13)
المغفلين فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله، عن رجل قال: فنظرت فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟ فإذا هو قد صحفه، وحقه - عز وجل -
وصحف رجل قول النبي صلى الله عليه وسلم: عم الرجل صنو أبيه فقال: غم الرجل ضيق أبيه.
وصحفوا: لا يرث حميل إلا ببينة (والحميل الدعي في نسبه) فقالوا: لا يرث جميل إلا بثينة!
ومن الأحاديث المصحفة قوله عليه الصلوات: أتحبون أن تكونوا كالحمر الضالة؟ قالوا: هي (الصالة) بالصاد المهملة - يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت، صال وصلصال، كأنه يريد الصحيحة الأجساد الشديدة الأصوات لقوتها ونشاطها.
وللأدباء والنحاة وعلماء اللغة تصحيفات كثيرة تتبع بعضهم بعضا فاكثروا التتبع حتى افتضحوا جميعا. ولا تكاد تخلو مجموعة لغوية من فصل يعقد لهذا النوع المتعنت من النقد. ونحن نبدأ في هذا المقام بذكر السقطة التي أخذوها على الجاحظ (يرحمه الله)، لأنه كان ممن لا ينفك يتتبع سقطات الرجال، بل ليتزيد عليهم من القول بما يدعهم مضغة الأفواه وأضحوكة المحافل. . . قال العسكري في كتابه: سمعت من يحكي عن ابن دريد - ولم أسمع هذه الحكاية منه - إنه قال: وجدت للجاحظ في كتاب البيان والتبيين تصحيفا شنيعا في الموضع الذي يقول فيه: حدثني محمد بن سلام قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: وإنما هو عن البتي (بضم الباء وكسر التاء مشددة) أي عن عثمان البتي وكان فصيحا؛ فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك عند المسلم والذمي انه كان افصح الناس. فهذا تصحيف آبي عثمان الجاحظ!
وجلس اللحياني (أبو الحسن علي بن المبارك) يملي نوادره يوما فقال: مثقل استعان بذقنه. فقام أليه يعقوب بن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن، إنما العرب تقول: مثقل استعان بدفيه، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع اللحياني الإملاء، فلما كان في المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري (بشين معجمة)، فقام يعقوب(688/14)
فقال: أعزك الله، ما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري، كسر بيتي إلى كسر بيته. فقطع اللحياني الإملاء بعد ذلك. . .
وحدث أبو العيناء قال: كتبت إلى صديق لي: جعلت فداك من السوء كله! فلقيني بعد ذلك فقال لي: إنما استفيد أبدا منك - لأعدمت ذاك - وقد كتبت إلى: جعلت فداك من الشوكلة. فما الشوكلة؟ قال: فعجبت وضحكت ثم قلت: نلتقي بعد هذا وتقع الفائدة!
وحدث عون بن محمد عن أبيه قال: حضرت الأحمر وهو يملي بابا في النحو ويقول: تقول العرب أوصيتك أباك، يريدون بابيك، وأوصيتك بابيك، وأوصيتك جارك، يريدون بجارك، وأنشد:
عجبتُ من (دهماء) إذ تشكونا ... ومن آبي (دهماء) إذ يوصينا
جيرانَنا. . . كأننا جافونا!
فقال له رجل: أنت تقيس الباب على باطل، إنما هو: خيرا بها كأننا جافونا. قال: فغضب وقام!
وقرأ رجل يوما على عبد الله بن المفجع:
ولما نزلنا منزلا طلَّه الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور (خالياً)
بالخاء المعجمة - فحرك المفجع رأسه وقال: يا سيد أمه، فعلى أي شيء كنتم تشربون؟؟ على الخسف؟!
ولأجل هذه الشناعة في التصحيف كانوا يتحاشونه، ويتداعون إلى ذمه في أشعارهم. قال ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق:
وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... يحققه كأفواه الرجال
فلا تأخذه من صحف فترمَى ... من التصحيف بالداء العضالِ
ولم يهج شاعر أبا حاتم السجستاني بأشد مما قال فيه:
إذا أسند القومُ أخبارهم ... فإسنادْه الصّحف والهاجس
ومن طرائف أبي نؤاس قوله في أبان اللاحقي:
صحَّفتْ أمك إذ سمَّ ... تك في المهد (أبانا)
قد علمنا ما أرادتْ! ... لم تُرِد إلا (أتانا)(688/15)
وتهكم بأحد المبخلين فقال:
رأى (الصيف) مكتوباً فظن بأنه ... لتصحيفه (ضيف) فقام يواثبه
وهجا سيف الدين بن المشد عوادا فقال:
عوادُنا قد طُمست عينُه ... فصار التصحيف (قوَّادا)
ما عاد إلا لقياداته ... لأجل ذا سُمِّي (عوادا)!
قال صاحب مطالع البدور: قلت: وان كان حصل له عمى فأحسن!!
(البقية في العدد القادم)
محمود عزت عرفة(688/16)
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين
للأستاذ محمد سليم الرشدان
بين يدي ضروب النثر:
وقفت (في عدد مضى) عند فئة من السلف القريب، الذين كانوا في مقدمة المنشئين للنهضة الأدبية (في فلسطين)، والذين نعتبرهم الطليعة المغامرة في هذا الميدان. وفي (ما بين يدي) أتابع ما تقدم بان أقول:
ويأتي بعد أولئك الأعلام الذين ذكرت، جماعة قفوا على أثارهم، وساروا على غرارهم، فكانوا أساتذة الأدب المبدعين. أنتجوا فيه خير انتاج، فكثر مقلدوهم بين شبابنا المتأدبين. وما يزالون إلى اليوم خير أسوة يؤتسى بها. ولو ذهبت أتحدث عنهم مفصلا لضاق بي المجال، مهما رحب، فهم (بحمد الله) في غير قلة، وآثارهم اكثر من أن يشملها صعيد محدود. ولكنهم (من حيث الاختصاص) يكادون يسلكون مسلكا عجبا! فالأديب منهم لا يبعد أن يكتب في شؤون التربية أو التاريخ، والشاعر لا يبالي أن يكتب في العلوم أو السياسة، والمؤرخ لا يتورع أن يكتب في علم اللغة وآدابها. . . ومن هنا تشابه الأمر علي واختلط، ورأيتني ملزما على أن أتجوز في معنى الادب، فأسلك في عداد الأدباء كل من ساهم في ناحية من النواحي الثقافية، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة وأعتبر هؤلاء الأدباء (على اختلاف مواضيع إنتاجهم) في فئتين، فريق في (أهل النثر) وفريق في (أهل النظم).
وسوف أتجنب (التفصيل والتطويل) في تراجم من أقدم بعض آثارهم علما مني أن ذلك لا يعدو كونه مهادا يستقر خلف المنحى الذي أهدف إليه، وتكاد - إلى حد ما - لا تربطنا به علاقة مباشرة.
ثم إنني سأقتصر على ذكر من تركوا آثارا أدبية - مخطوطة كانت أم مطبوعة - ممن تعرفت إليهم أو (وصلتني) آثارهم. فأبدأ بأعلام الفريق الأول وهم (الناثرون) فأذكر منهم:
الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي (المقدسي) وهو شيخ الادباء، (وأديب العربية الأكبر) من(688/17)
غير منازع. وله إنتاج أدبي غزير، فهو ما يفتأ أن يطالعنا بتأليفه القيمة، وأبحاثه التي لا ينقطع لها مدد. وبفضل نشاطه الذي لا يفتر أصبح علما بارزا في الأقطار العربية جميعها. ومن مؤلفاته المطبوعة (وهي كثيرة):
الإسلام الصحيح: وهو سفر عظيم الفائدة كبير الحجم فيه نقد وتحليل، وفيه توضيح لكثير من الحقائق الغامضة، ودحض لأشتات من الأباطيل التي سار عليها الناس أمدا طويلا، وهم يحسبونها في أصول الدين وما هي منه في شئ. وكل ما في هذا الكتاب رائع، إلا إن أروع مافية تعليقه على كلمة (آل محمد (ص) ومبلغها في ثنايا الحقيقة والتاريخ.
ومن كتبه الأخرى: (كلمة في اللغة العربية) و (البطل الخالد والشاعر الخالد) و (الثورة السورية) ثم (الثورة العراقية). ومن كتبه التي لم تطبع - بعد - وما تزال قيد بحثه وعنايته: (أبو العلاء المعري) و (آمالي النشاشيبي) و (نقل الأديب).
ولهذا الأستاذ أسلوب يكاد يكون وقفا عليه. وهو ينم على سعة اطلاعه، وكثرة ما استوعب في ذاكرته من مفردات هذه اللغة الكريمة. ومن ذاك قوله في (اللغة العربية):
(اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولي مقرون بضعف الثانية. . . واللغة ميراث أورثه الأباء الأبناء، وأحزم الوراث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع.
وإنا (أمم اللسان الضادي) لعرب، وان لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه. وأنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي تلك اللغة - بأن نقي عربية الجنس وعربية اللغة. . . ولو كان المورثون صغارا، ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه. فكيف والتاريخ يقول: إن الأباء كانوا مراما، وأن الأباء كانوا عظاماً. . . والزمان يقول أن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس. والزمان بالخير (وإن جاد) شحيح.
فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة أو كنز الزمان (ضن به كل الضن ثم
سخا). . .)
والأستاذ أحمد سامح الخالدي (المقدسي): وهو أبو التربية في فلسطين. فلقد انفق شطرا غير قصير من عمره في مزاولة التوحيد الصحيح والتربية المجدية بين ناسئة الجيل(688/18)
عندنا، بل بين نخبة من هذه الناشئة، في (الكلية العربية) التي يتولى عمادتها.
وله اليوم طلاب عديدون في طول البلاد وعرضها، نهلوا من علمه الغزير، وساروا على النهج الذي رسم لهم خطته، حتى اصبح فيهم من يشاطره حمل هذا العبء الذي تفرغ لحمله، ويزامله في الميدان الذي يعمل فيه.
ولم يكتفي الأستاذ (الخالدي) بالتوجيه العملي. ولذا فقد فزع إلى التوجيه النظري، فألف فيه كتبا عدة. ليأخذ بنصوصها هؤلاء الذين حرموا نعمة التخرج على يديه. واذكر منها الكتب التالية: (أركان التدريس) و (إدارة الصفوف) و (أنظمة التعليم) و (طرق التدريس المثلى) ثم (رسالة اختبار الذكاء). وهي الأولى من نوعها في العربية.
ولم يقف الأستاذ عند هذا المدى، بل تخطاه لما عداه. فشرح واخرج كثيرا من المخطوطات القيمة، التي لها علاقة مباشرة ببلاد الشام - وفلسطين قسمها الجنوبي - ومنها: (رسالة ترغيب الأنام في سكنى الشام، لعز الدين السلمي. و (فضائل بيت المقدس) للواسطي، و (مثير الغرام بفضل القدس والشام) لأبي محمود المقدسي. و (الأعلام بفضائل الشام) للمنيني. والكتاب الأخير منها صدر منذ أيام، وهو ألان في متناول الأيدي. وفضلا عن المقدمة القيمة التي أوضح فيها الأستاذ أمورا مبهمة، فضعف بذلك قيمة الكتاب التاريخية. ثم الموجز التاريخي (الذي اتبعه بها) في سرد تاريخ سورية (الطبيعية) في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد. فانه أضاف أليه ملحقا في تراجم الصحابة والتابعين (الذين نسبوا إلى الشام أو نزلوا أو استشهدوا أو ماتوا فيها). فجعله بذلك مرجعا قيما للباحثين في هذا السبيل.
وله (فيما عدا ذلك) كتب أخرى في العلوم العقلية والأدبية وفي أبحاث شتى. ومنها: (الحياة العقلية) و (أقنعة الحب) و (خفايا النفوس) و (رحلات في الديار الشامية).
كما أن له سفرا قيما - ما يزال بين كتبه المخطوطة - وهو (تاريخ المعاهد الإسلامية). وقد أولاه (ويوليه) الكثير من عنايته. ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة، يتناول فيها تطور الثقافة عند المسلمين والعرب في سائر معاهدهم التي أنشأوها في الشرق والغرب (ما خلا الأندلس). ثم كيف كانت هذه الثقافة توجه لأغراض شريفة وأهداف سامية.
وهو ألان يكاد يفرغ من كتاب جديد - لعله أول كتاب في بابه - وعنوانه: (الأردن في(688/19)
التاريخ الإسلامي).
وأسلوب الأستاذ في سائر مؤلفاته سلس بين، خال من التعقيد والتصنع. فأسمعه حين يصف التعليم فيقول:
(التعليم فن، والمعلم فنان، وكما ينحت المثال من الحجر الأصم تمثالا بالشكل الذي يريده، فيصوغ منه ما يشاء من رموز الحياة ومعانيها، حتى ليخيل إليك إن الحياة تنبض فيه، كذلك يفعل المعلم!
غير إن المواد التي يعالجها المعلم مواد حية، حساسة شاعرة متأثرة. تدفعها ميول وغرائز، وبواعث شديدة التأثر والانفعال: مواد هي أرقى ما صاغته يد الخالق، قابلة للتكيف، تابعة لسنة التطوير، نامية فيها حياة وقوة.
هذه المواد، وهذه الوديعة الثمينة - التي يعهد بها إلى المعلم، وتترك إلى عنايته - هي الطفل. . .).
ثم الدكتور اسحق موسى الحسيني (المقدسي): وهذا العالم الدؤوب - بالرغم من إنه يتخطى حضارة العقد الرابع من سنيه - ما يزال يفاجئنا بين الفينة والفينة بسفر قيم، أو مشروع يرمي إلى أحياء الأدب أو تنشيط النهضة الثقافية.
ولقد صدر له إلى اليوم مؤلفات يخطئها الحصر وهي - إلى جانب ذلك - لطيفة الحجوم، إلا أنها (رغم ذينك) غزيرة الفائدة، يحدثك كل وجه فيها عما اقتضاه أعداده من تحر وتدقيق، واستقراء وتحليل. ومن هذه الكتب:
(مذكرات دجاجة) وقد صدر في سلسلة (اقرأ). ونال الجائزة الأولى لاتفاق القراء على تفضيله، و (عودة السفينة): وهو مجموعة مقالات ترمي إلى هدف واحد، هو العودة بهذه الأمة إلى ماضي عهدها المجيد، وأيامها اللامعة المشرقة.
كما أن له كتبا مخطوطة، ما يزال في سبيل أعدادها. منها كتاب جامع عن (ابن قتيبة) وفيه دراسات وافية لآثاره، وسفر كبير عن (الجامعات الإسلامية) يتناول فيها تاريخ نشوئها والأسباب التي كانت تدعو إلى ذلك. والدكتور في أسلوبه يميل إلى البساطة واليسر، وملاحقة المعنى دون المبنى. واليك نمطا من ذلك قوله في كتابه (عودة السفينة):
(إن العالم باقي وإن اختلفت مذاهب الناس فيه، وإن التهمت الحروب كل عام ملايين من(688/20)
سكانه. بل ما دام فيه إنسان واحد.
وهذا الإنسان لن يفنى. إنه سيعيد سيرة جده آدم، وسيبدأ العالم من جديد. . .
ولهذا يجب إن نؤمن أيمانا لا يتزعزع بوجودنا وبعودتنا، وعلى الذين يغمرهم الجزع في الحاضر أن يلتفتوا مرة إلى الماضي ومرتين إلى المستقبل. . .
إننا لن نلقي على الماضي إلا نظرة واحدة، إما المستقبل فله منا نظرتان وأننا لنعلم أن الوقت لا ينتظرنا حتى نبدأ من حيث انتهى آباؤنا، ومن حيث ابتدأت الأمم الراقية. سنبدأ من حيث انتهت، وسنأخذ من كل جديد نهايته، وسنغرف من الحضارة الأوربية ما يطلق مواهبنا إلى غاياتها، وما يبعث تراثنا من جديد. . .
أجل: إننا سنعود إلى القمة حيث كنا، وستعود السفينة إلى شاطئ السلامة باسم الله مجراها ومرساها. . .).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)(688/21)
تطور الآراء عن أصل الكائنات الحية
للدكتور فضل أبو بكر
لقد أصبح ألان في حكم البدهيات معرفة إن كل كائن حي إنما يولد من كائن حي آخر سالف من نفس النوع، وهذه العقيدة التي ندين بها ألان والتي يرتكز عليها علم الحياة (البيولوجي) وعلم الطب والصحة كانت موضع اخذ ورد وجدال عنيف بين العلماء ولم يسلموا بها إلا بعد مئات من السنين.
اعتقد العلماء حينا من الدهر فيما سموه بال أي (الجيل التلقائي الذاتي) بمعنى أن الأحياء الضعيفة من حشرات وديدان وهوام وميكروبات إنما تولد من تلقاء نفسها من غير حاجة إلى أسلاف وآباء من الأحياء بل تنشأ من البيئة الجمادية التي خرجت منها.
فارسططاليس الذي عاش من سنة 384 إلى 322 قبل الميلاد والذي كان اكبر عالم في البيولوجي في زمانه كان يعتقد في هذا الجيل التلقائي وظن أن كل جسم في وسعه إن يلد كائنات حية إذا ما بللته قطرات الماء وأروت عطاشه. . . فتلك الحشرة إنما خلقت من الزهرة أو من الطين والوحل، وتلك الديدان التي تعيش متطفلة في أمعاء الإنسان خلقت من المواد البرازية.
كذلك الفيلسوف ابن سينا (980 إلى 1037 م) لم يشذ عما سبقه وعاصره من العلماء والفلاسفة وأكد أن كثيرا من الأحياء تتولد من جيف الجثث التي تلفظها الأنهار وقت الفيضان.
أما الفيلسوف الإنجليزي (فرنسيس بيكن) (1561 إلى 1626) فقد خطا خطوة إلى الأمام واثبت نظريا بان قليلا من الأحياء يكون توالدها نتيجة لانقسامات أو تلقيح لأحياء أخرى، ولكن الأغلبية إنما تتناسل من الجمادات والمواد المنحلة التي تعيش عليها، ومن هذه الأخيرة يذكر الضفادع والذباب والقمل والبق والبرقوت والجراد والديدان والعنكبوت.
أما العالم الهولندي (فان هلمنت) (1577 إلى 1644) فكان يعتقد أن بعض الضفادع والقواقع تنشأ قرب المياه الراكدة مثل البرك والمستنقعات حيث النسيم الذي يهب من ناحية تلك المياه والروائح المتصاعدة منها تنفخ الروح في تلك الحيوانات وتخلقها، وكان يقوم ببعض تجارب غاية في الغرابة مثال ذلك تجربته آلاتية: -(688/22)
(خذ قطعة من الطوب واثقبها ثم ضع حزمة من نبات الريحان على الثقب ثم غطي قطعة الطوب بقطعة أخرى وعرضها لحرارة الشمس عدة أيام تجد قد تكونت عدة عقارب صغيرة وما نبات الريحان إلا بمثابة الخميرة التي ساعدت على تكوين العقارب) ولكي تخلق بعض الفيران فالمسالة في غاية البساطة كما ترى في التجربة الآتية (ضع قميص امرأة - والأفضل أن يكون متسخا في أناء مملوء بحب القمح واترك الإناء بمحتوياته لمدة 21 يوم وبعدها تجد أن بعض حبات القمح قد تحولت إلى فيران بعضها ذكور والبعض الأخر إناث وذلك بفعل (الخميرة) التي توجد في قميص (المرآة).
إلى أن جاء العالم والفيلسوف الطلياني (فرنسسكو ريدي) وقد كان أول عالم فند فكرة الجيل التلقائي وهزئ من أراء الأقدمين واثبت بطلانها علميا. أجرى تجربة بكل دقة وذلك إنه أخذ قطعة من لحم طازج وشطرها شطرين ثم وضع كل جزء في أناء غطى أحدهما وترك الأخر مفتوحا وتركهما عدة أيام ثم فحصهما بعد ذلك فلم يجد أثرا للدود في الإناء المغطى بينما كان الإناء المكشوف يعج بالدود عجيجا، ثم اخذ الإناء الأول أي المغطى تغطية محكمة وغطاه بمنسوج من سلك رفيع يسمح بدخول الهواء في الإناء وتركه عدة أيام ثم فحصه فلم يجد آثرا للديدان فاستنتج من هذه التجربة بأنه ليس عدم الهواء هو المانع لتكوين الدود في المواد المتعفنة، وإنما الذي يحول عن تكوينها هو الحيلولة بينها وبين بعض الحشرات مثل الذباب الذي يضع بويضاته على تلك المواد وتفقس تلك البويضات وتكون الدود، وهذه التجربة على ما بها من سهولة وبساطة أدت خدمة كبيرة.
وفي سنة 1674 جاء العالم البكتريولوجي الهولندي (ليونهوك) وأعاد تجارب العالم ريدي وأمن بها ولكنه زعم أن التجربة لا يمكن تطبيقها على كل الأحياء.
وفي سنة 1765 علا نجم العالم الفسيولوجي الطلياني (اسبالانزاني) الذي اهتم كثيرا بمسالة الجيل الذاتي التلقائي وقام ببعض التجارب، منها إنه وضع في بعض أنابيب الاختبار قليلا من الحساء المكون من مرق اللحم والخضار وقفل بعض الأنابيب قفلا محكما بإذابة زجاج أحد طرفيها ووضعها في أناء يحوي ماء يغلي لمدة نصف ساعة. كما ترك البعض الأخر من الأنابيب مفتوحا فوجد أن الأنابيب الأولى لا تحوي إحياء بينما الثانية مملوءة بالاحياء، واستنتج من كل ذلك انه لكي تعيش هذه الأحياء لابد لها من عاملين:(688/23)
عامل الهواء والحرارة المناسبة فإذا ارتفعت الحرارة لدرجة لا تناسبها أبادتها وقضت عليها.
أما العالم المكروبيولوجي (نيدهام) (1613 إلى 1781) فلم يعتقد في صحة أراء (اسبالانزاني) وكان شديد التعصب لفكرة الجيل التلقائي.
وهنالك بعض الفلاسفة مثل (شوبنهور) و (ليبنز وفلتير هاجموا فكرة الجيل التلقائي إذ أنها غير منطقية ولا معقولة، سيما فلتير فقد أعجب كثيرا من نظرية العالم الإيطالي اسبالانزاني وانتقد بأسلوبه التهكمي اللاذع العالم الهولندي (نيدهام) وسخر من ارائه، والف كتابا سماه شواذ الطبيعة
هذا وقد انقسم العلماء إلى فريقين: فريق - وقد اصبحوا أقلية - يعتقد في تكوين المكروبات والأحياء الدنيا من الجماد والمواد العضوية المتعفنة. وفريق - وهم الأغلبية - قد اعتقدوا في حقيقة الجرثومة وان الأحياء لا تنشأ إلا من جرثومة حية. إلى أن جاء العالم الفرنسي الأكبر (لوي باستير) الذي يعتبر بحق اكبر رجل خدم الإنسانية باكتشافاته العديدة والتي غيرت مجرى الطب والجراحة بل وكل علم الأحياء مما كان له الفضل في إنقاذ البشرية، ولا يتسع المجال في مثل هذه العجالة للخوض في اكتشافات باستير فقد وصفت عدة مجلدات، ونذكر منها ما يهمنا فيما نحن بصدده. ولد باستير سنة 1822 وتوفي في عام 1895 بدأ حياته العلمية كعالم كيميائي، وله في هذا العلم اكتشافات قيمة، ولكنه منذ عام 1857 م بدأ يهتم بعلم المكروبيولوجي فدرس عملية التخمير الكحولي واللبني واثبت أن عملية التخمير لا تأتي عرضا أو عن طريق المصادفة وإنما تسببها كائنات حية تسمى ال الخميرة، وقد اثبت ذلك بتجارب علمية غاية في الإتقان، وقد تصدى له كثير من العلماء المعاصرين في ذلك الوقت ودارت بينه وبينهم مناقشات تاريخية عنيفة عدة اشهر اضطرتهم أخيرا إلى التسليم. وقد اثبت كذلك بان ظاهرة الانحلال والتعفن التي نشاهدها إنما هي نتيجة لفعل المكروبات وليست المكروبات محلوله من تلك المواد العضوية المنحلة وهذه المكروبات توجد في الهواء وفي الماء وعلى الأرض، وأنها تتجمع على تلك المواد العضوية لتقتات منها وتستمد منها قوتها كما تتخذها مهدا لذريتها، وهذه المكروبات تتوالد بسرعة مدهشة وبكميات وفيرة، وذلك لضعفها وفتك عوادي الطبيعة بها(688/24)
من حر لفح وبرد قارس، فلكي تحفظ نسلها ونوعها كان لزاما عليها أن تتوالد بكثرة على حد قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة لزور
وقد يرى القارئ مما تقدم ذكره بأن علم البيولوجي ولاسيما ما يختص منه بعالم المكروبات كان بطيء التطور والتقدم، ومازال كذلك بالنسبة لعلوم الطبيعة الأخرى مثل الكيمياء والطبيعة وعلم الفلك والمكنيكا التي نهض بها العلماء منذ أجيال بعيدة وبلغت ألان من الإتقان شأوا بعيدا، ولا نكون مبالغين إن قلنا بان حضارتنا الحالية إنما نشأت من تقدم هذه العلوم وتطبيقها.
أما علم البيولوجي فأظن إن من أهم أسباب تأخره هي صعوبة الموضوع فهو حقا شائك. خذ الخلية الحيوانية أو الإنسانية خاصة وما تحويه من المواد البروتوبلازمية المعقدة التركيب ولاسيما نواة الخلية وكيف أن هذه النواة تتكون من أجسام كروموسومية، وإن هذه الأخيرة تتكون من أجسام اخرى، وهي التي تكيف الإنسان وتكون طبائعه بل وشخصيته، كذلك خلايا الجهاز العصبي وأليافه من حيث فسيولوجيتها وتفاعلاتها الحسية والنفسية كل ذلك غاية في الدقة ومازال بعضها سرا غامضا إلى ألان.
فضل أبو بكر(688/25)
إلى المجمع اللغوي:
الأسماك في الشواطئ الحضرمية
للأستاذ علي عبود العلوي
- 2 -
ومن حديثهم إن الأسماك تنقسم إلى ستة فصائل.
1 - الفصيلة الأولى:
وهي ما يسمونه بسلطان البحر واسمه في عرفهم شوحط ومن فصيلته: صيون، حاش، قفه.
ويلي هذه الأسماء خمسة أسماء أخرى لأنواع هذه الفصيلة، وقد غربت عن أذهانهم أو لم يعرفوا أسماءها أصلا.
وبهذه الفصيلة يوجد العنبر وبالأخص فهو كثير الوجود في الشوحطه، وفي ثلاثة اسماك أخرى من الخمسة التي لم يحفظوا أسماءها.
2 - الفصيلة الثانية:
هي فصيلة اللخم (بكلاه)، وهذا ما أملوه علينا منها: حيم، أبو سيف، فنطه، شرت، قرين، شغصه، هلكه.
هذه الأنواع السبعة من احسن الفصيلة طعما وهي حسب ترتيبها:
عوره، حغي، زفي، نمراني، شوط، كلبه، نغل، دجل، حبوروقي، دوغه، مكح، شيخه، عور وبر، غفر، بويبل، قطقطه، خنيث، بريير، قصقوص، ييبر، صعمور، قطف علي، قطف حمره.
3 - الفصيلة الثالثة:
هي الصيد الأسود وهذه أنواعها:
ثمده، زينوب، شروى، ضريس، باعكيمه، تبلم، حقيبه.
ومن الستة الأنواع المذكورة يصنع (الحنيد) المعروف بهذا الاسم في حضرموت.
4 - الفصيلة الرابعة:(688/26)
هي ما يسمى بالصيد الأبيض وهذه أنواعها:
ترناك، غودي. (والنوعان من أطيب الأسماك).
صنك، خمخمه، شرام، رغي، زرب، رحثه، قزه، طمكري، سهاي، زعفنه، صليل، قفاط، خرخار، عنفلوص، صعباري، شتمه، حراب، بكسه، غلس، ظرهد، طويله، فرس، عنبريه، تكيه.
5 - الفصيلة الخامسة:
وتسمى بصيد تشار، وهذه أنواعها:
صرعه. (وهي احسن أنواع هذه الفصيلة):
زوكي، حدرة، ويقد، عيظول، رغف، رعن، خودره، عندق، بوعدل، غريض، بطاح، قربيبه، نسار، قرحيق، أبو قشار، قلوان، حنيوبر، حموره، طيم، بهاره، نثر، ذرذيره، دنقره، حمران، صمرار، كتب، نكز، صراده، زريه، بريه، وقاص، ناقم، ضرير، محلول، مشعا، قفاد، غمد، قشار، مريتع، صبو، بوحنيط، حيثول، ملمامي، عنوب، شماط، قطميم، بوليفه، طرعين، دقنه، مغاسم، جزك، أبو صندوق، شيغر.
6 - الفصيلة السادسة:
وهي التي تصاد بالشبكة.
عيد، زمار، طبوب، بلعد، شغره، عرعره، عيد بعيدون، شيظي، منتوى، حظيرة، كرمون، باغة، حابس
ملاحظة:
تطيب بعض الأسماك في وقت، ولا تستحسن في الوقت الأخر. مثاله (الترناك) فانه يلذ طعمه في فصل الخريف بحسب التوقيت العالمي كما يوافق فصل الشتاء بحسب التوقيت الحضرمي ولهم في هذا دليل كما يقول المقريزي.
أما (الفود) ففي كل وقت فهي لذيذة الطعم.
وفي العيد - يعنى صغار السمك - يقول بعض أدباء الحضارمة في المهجر هازلا:
من لي بوطء ثرى تلك البقاع إذا ... ما جئت مستقبلا عودي إلى وطني(688/27)
هناك انشد مسرورا ومفتخرا ... (العيد والصيد والأسماك تعرفني)
(يتبع)
علي عبود العلوي(688/28)
الحركة التربوية في مصر
للدكتور ستانلي جاكسون
ترجمة الأستاذ حسن حبشي
(دكتور ستانلي جاكسون - صاحب هذه المقالات - من رجال التربية والتعليم، خبرهما في مصر وفي إنجلترا من قبل، وتتلمذ على يده كثيرون من مدرسي اليوم، وهو ممن يؤمنون أيمانا عميقا بتطور الحركة التربوية في مصر وبأن للتعليم رسالة اكبر من التلقين هي الخلق والتكوين، وهذه المقالات التي نترجمها على صفحات الرسالة قد انطوت على كثير من الآراء والنظرات الصائبة فيما يتعلق بالتعليم في حاضر هو مستقبله).
حينما اقلب الطرف في عناية دقيقة مستوعبا الحالة التعليمية، ألاحظ آمرين جوهريين في التعليم المصري هما علة ضعفه الكبرى، أولاهما تلك الهوة الشاغرة بين المدارس والمعاهد ذات النظام الشرقي وبين زميلاتها الآخذات بالنمط الغربي، فالرابطة بين هذين الضربين من المعاهد ضئيلة، أو تكاد تكون معدومة، فلقد جرى القائمون بشؤونها - عمدا أو صدفة - على اتباع سياسة الفصل والتفرقة بينهما؛ إما مصدر الضعف الثاني فهو إن نوع التعليم المتبع في كلتا المجموعتين أميل لأن يكون تعليما نقليا صرفا، وفي حين أخر يعتمد على استيعاب الكتب، فهو كان ولا يزال في معظم نواحيه تعليما جافا، لا يرتكز على أسس إنسانية، بل إنه ليعتمد على التلقين والإصغاء، وقلما يأبه بالتفكير والإبداع، أو بعبارة أخرى نستطيع القول بأنه يعنى بتكوين نماذج، وفي كثير من بقاع العالم يتخلون عنه إيثارا لتعليم اكثر حرية وأمس بالإنسان رحما، وهو تعليم يرى أن أهمية العناية بتنشئة الجسم والعواطف والخلق تكافئ العناية بتربية الذهن، ولما للظاهرة اللغوية في التربية من الأهمية فهي جديرة بأن تلقى من العناية العظمى ما أوقن معه إنها صادفته في مدارس هذا البلد.
من المسائل التي تشغل مكانة عظمى في تفكيرنا في الوقت الحاضر مسألة التربية وتأثيراتها على الخلق وفي الأمور الاجتماعية، وسأشير في هذا المقال إلى ناحية واحدة فحسب، هي أن حاجة مصر ستزداد في أيامها المقبلة إلى القادة، لاسيما وهي في طريقها إلى النهوض وفي طموحها لان تكون لها حياة قومية مستمدة من ذاتيتها، ولست اعني (بالقادة) أولئك الرجال العظام رمز الأهمية القومية، بل اقصد نوعا من القادة دون هؤلاء(688/29)
يتركز عملهم في حمل المسؤولية، وفي إخراجهم إلى حيز الوجود خطط الإصلاح الملقاة على عاتقهم، وان جميع حركات الإصلاح العظمى - وهي الخطوات الرفيعة في سبيل رفاهية الإنسانية - لتتوقف كثيرا على زعامة هذه الجماعات الصغيرة، كما يقع الجانب العملي من هذه الزعامة إلى حد بعيد لا كليا على أكتاف مدرسي الآمة، وقد ظهر أن الأمم التي تفشل في أيجاد عدد كافي من المدرسين والمدرسات الذين تتوفر فيهم الشخصية الأصيلة القوية، والثقة والجرأة، إنما هي أمم ترجع القهقري؛ وسواء اظهر هؤلاء القادة في مصر أم لم يظهروا بعد، إلا إن وجودهم يتوقف كثيرا على ماهية التربية في البيت وفي المدرسة وفي الكلية، فلو إن التعليم كان تعليما إنسانيا من جميع نواحيه، فسيح الآفاق، لألفينا كثيرين من هذا الطراز، ومع أن هذا الفريق من القادة لا يدعي الزعامة لنفسه، إلا أنها تتوقف عليه. زد على ذلك انه هيهات أن يظهر رجال من هذا الضرب إذا ظل التعليم تلقينيا محضا، لا يبعث على الاستزادة، وكان محصورا في دائرة ضيقة من الأفكار.
ليس من شك في توفر المادة اللازمة لتكوين الزعماء في مصر، لكن هل ترانا هيأنا ذلك النوع من التربية يعبد السبيل لظهورهم؟ وهل اعددنا هؤلاء أعدادا تاما لما سيلقى على أكتافهم؟ أن للتربية الشرقية فوائدها الذاتية، لكن يظهر أنها غير كفيلة تماما بإنماء الشخصية، ذلك أن أثارها سلبية اكثر منها إيجابية وعلى الرغم من أنها تبرز الغربية في نواحي التأمل، إلا إنها أميل لإيثار التكرار والتقليد على الخل والتجديد، وسواء كان هذا الفهم صوابا أم خطأ إلا انه يلقى كثيرا من التأييد وليس معنى ذلك أن البلدان الشرقية تعوزها الشخصيات البارزة العظيمة، إذ الواقع أن الطبيعة تحافظ على أن تتغلب على ضيق تعليمنا المدرسي ومن ثم إنها تمدنا - بين حين وأخر - برجال أكفاء شديدي المراس، بيد أن قوتهم هذه قد ترتبط ارتباطا تاما بالنظرة العامة وبضيقها، فلا يتسع المجال أمامهم، ولا يكون لهم ثمة اثر عظيم، ولما كانت تعوزهم الاحساسات الإنسانية الواسعة فانهم يفشلون في الزعامة الحقيقية، ويكون فشلهم على الأخص في اكتساب احترام الجيل الناشئ، ذلك الاحترام الذي يتطلب على الدوام اتساع أفق التفكير عند رجال ذلك الجيل العظام، كما يتطلب قياسا خاصا من الكفاءة في معالجة المشكلات العامة، ومن ثم انه إذا شئنا أيجاد زعماء كبار أو صغار احتجنا إلى نمط من التعليم الحر المرن، واعني به ذلك(688/30)
الذي يبرز القوى المستترة والعبقريات الدفينة في كل فرد على حدة اكثر مما اعني به ذلك التعليم الذي يطبع الرجال جميعا على غرار واحد، ويهبط بمستوى الشخصية عند الفرد منهم، وقد أثبتت المقارنة بين النمط التلقيني الصرف من التربية وبين النوع الرم على أن الضرب الأول يتمركز آثره قطعا في النتائج كما هو الحال في الصين مثلا وليس الأمر مقصورا على عون قوى العقل المبدعة من التقدم أو تمجيد الذاكرة أو إغفال التربية الجثمانية فحسب، بل هناك ما يؤدي إلى هذه الناحية الخطرة إلا وهو انعدام التربية الاجتماعية التي سأشير إليها فيما بعد، إذ أن التربية اجل من أن تكون تلقينا بحتا، كما أن التعليم الحر يشمل كثيرا من نواحي النشاط داخل المدرسة وخارجها، وحيثما يرى الشخص نفسه صالحة للحياة العامة والاندماج فيها، فهو يتعلم كيف يعامل الناس وكيف (يأخذ ويعطي)، وكيف يكيف نفسه بما يتفق وحاجات الجماعة، ويدرك أين يتحتم عليه تناسي أهوائه الشخصية وهيهات أن يسلس قياد الإدارة للزعماء ما لم يعرف الاتباع كيف يتبعون، ومن ثم فإن مهارة روح الجماعة أو بعبارة أخرى القدرة على اتباع قائد لا تقل أهمية عن قوة القيادة نفسها، بيد أنها لا تكتسب في يوم، ولا نستطيع القول بأنها لقيت في نظم التعليم الشرقية ما تستأهله من العناية وما يجدر بها من الأهمية.
إذا أرشدنا إلى هذه العيوب في تعليمنا، فينبغي أن لا نتناسى إن بعضها موجود في المدارس الغربية، فالمتحذلقون يعوقون المربين في كل مكان، كما أن ضيق أفق الذهن لهو خطيئة المدرسين الكبرى في جميع بقاع العالم، فالمتطرف من المصلحين هو في الغالب رجل ضيق الذهن ولكنه مع ذلك رجل من نوع جديد، ولقد ألف الشرق التحمس للآراء الغربية، ومن ثم غدا أسير الجدة حتى لقد نبذ كل شيء شرقي وراءه ظهريا، فعلى الرغم من أن الرجل ولد شرقيا إلا انه اصبح يزدري أساليب التفكير الشرقية ولربما لج في تطرفه فثار ثورة شديدة على عواطف شعبه، وقد يسرف فيناصب أسرته العداء، ومن حسن الحظ أن من على هذا المنوال قلة ضئيلة، لكن الشيء الواضح هو تفكك هذه الأصول، ذلك التفكك الذي يقوض الروابط القوية، ويحطم اتساق الحياة وهذا يوضح لنا التأثير السيئ لتيارين من الثقافة ليست ثمة وشيجة من الصلة توحد بينهما. مما أدى إلى انجراف الشخصيات الضعيفة في هذين التيارين اللذين تقاسماها، وسارت في طريق يؤدي(688/31)
بها إلى النهاية لان تكون شيئا جديدا وغريبا، فتزعزعت الروابط القديمة، واجتثت من الحضارة التي كانت تنتمي إليها في الأصل، وفقدت ثقتها في القديم، ولم تجد عوضا عنها في الجديد فكانت عاقبة ذلك خواء لا خير فيه ولا جدوى منه، أما مصر فتقف في ملتقى الحياة الشرقية والغربية، ووصلت إلى مرحلة يستحيل فيها - لو أرادت - أن تقلب أوضاع التاريخ وتفصل التيارين بعضهما عن بعض، وكل ما يبتغى هو أن لا يتصارع التياران سواء في الذهن الإنساني أم في دنيا الواقع، وعسى أن يشقا طريقيهما متآخيين بما يعود على كليهما باليمن، فإذا اتحدا أصاب حياة اعظم رخاء وأكثر عمقا وأوفر طمأنينة، لكن ليس معنى هذا أن يبتلع أحدهما الأخر أو أن يفقد كلاهما خواصه الذاتية، بل الواجب أن تكون هناك تعديلات طفيفة إذا شئنا أن تظل الحياة كما هي، أما تطرف كليهما إلى الحد الذي رأيناه فشر لا فائدة فيه، كما أن إثارة العداء الشديد بينهما ستؤدي حتما إلى انهيارهما معا، وتكون التطورات التي تنجم عن ذلك أبعد مدى مما نتصور، اعني أنها تكون ثورية إن لم تكن هدامة، هذا بينما يؤدي اتباع سياسة التغير المعتدلة - التي تتناسب ومجريات العالم الحديث - إلى اقتباس كل ما في الماضي من خير، وتتسم دنيانا اليوم بأنها دنيا تطور سريع جدا، وان لم يتبادل هذا التطور الأمور الأساسية بل يتلخص في إنه نظرة سطحية ترى إن جميع التغيرات تسير في سلم التقدم، مع أن (التوقف عن التغير هو التوقف عن الحياة نفسها) كما قال فرويد، وسواء أكنا نؤيد هذا الرأي أم ننكره إلا إن الواقع أن الحياة تجرفنا جميعا إلى غد وليد جديد، كما أن سير الحوادث يرغم الناس على أن يفكروا بأساليب جديدة كما هو الحال الآن حينما تجد اصغر القرى نفسها مرغمة على التفكير في آمرو المجتمع الإنساني بأكمله، وفي مثل أزمنة التغيرات القوية هذه يكون من الضروري لنا إلا نشعر بان شيئا من القيم الحقيقية قد أمحى، وأن ندرك أننا نجني خيرات التقدم ونستغلها في حياتنا اليومية، وعلى الرغم مما يبدو على هذا القول من الغموض، إلا انه ينبغي أن يكون الحجر الأساسي الذي ترتكز عليه الحياة التربوية.
إن ما أحدثته الأفكار الغربية من انقلاب في علوم الطب والصحة والنفس وما شاكلها لينبغي أن يستغل لخير الحياة في هذا القطر ويجب إدخاله في تربيتنا، وان نمزج بينه وبين الحياة والثقافة المصريتين، ولا سبيل لهذا التطعيم عن غير طريق المدارس والمعاهد(688/32)
فهي طريقه الطبيعي الكامل، وكذلك بواسطة مجهودات الأشخاص ونشاط الصحافة والإذاعة، ففي مكنة هذه كلها أحداث شيء من التغير لا سيما في الأمور الظاهرية، وليس معنى ذلك أن تصبح مصر أمة غربية، فتصبغ فنها ودينها وأدبها وموسيقاها وكل شيء في حياتها بهذه الصبغة، وإلا كان ذلك طعنا للامة في صميمها، وحتم علينا إلى أن نشير إلى انه قد تهيأ وجود أداة تراقب تأثير الغرب على الشرق وتنظمه في حينه ردى ذلك إلى التفاهم وإلى استبقاء كل ما هو جليل الخطر في الشرق، واشعر أن هناك بعض نواحي خاصة في الأسلوب الغربي لم يكن ثمة رغبة فيها أو حاجة أليها، ثم أزيلت - هذه النواحي الخاصة - بخير الطرق، وهذا وحده يبين لنا الحاجة القصوى إلى الرقابة، كما انه لو اتبعت الحكمة في إدخال بعض النواحي الأخرى من المعرفة الحديثة لكان لذلك اعظم قيمة، فجل الهندسة الحديثة غربي الأصل على الرغم من أننا لو رجعنا إلى الوراء لوجدناها تدين كثيرا إلى الحساب العربي؛ كما أن مستشفياتنا ومدارسنا الطبية ليست سوى تعبير صريح للعلوم الطبية الغربية التي تدين بعض الشيء إلى الفكر الشرقي القديم، أما نسبة الوفيات بين الأطفال (وهي نسبة مرتفعة جدا في مصر) فقليلة جدا في البلدان التي آخذت بدراسة الحضانة دراسة علمية وعنيت بها، وليس ثمة حاجة للبرهنة على أن قرانا ومدننا في مسيس الحاجة إلى أمثال تلك المؤسسات العلمية، كما نجد أن روح البحث والتنقيب العلمي القائمة على قواعد غربية لمستعملة في محيط الفن بقصد كشف كنوز مصر القديمة، وحفظها من العبث، هذا في الوقت الذي أدى فيه الباحثون الغربيون كثيرا من الخدمات في سبيل تفسير المخطوطات المتعلقة بالمسائل والدراسات الإسلامية، وفي جمعهم مواضيع الفن العربي وترتيبها، كذلك كان للغرب اثر غير منكور في ميدان الرياضة، ويكفي أن يشاهد المرء ثلة من الأولاد المصريين وهم يلعبون كرة القدم أو كرة السلة ليشعر تماما مقدار النقص العظيم في كل نظام تربوي يهمل أمثال هذه النواحي من النشاط، كما أن ممارسة الطفل لهذه الألعاب لا تخرجه عن مصريته، كما انه لا يمكن أن نطعن في مقدرة مدرس لأنه تربى في إنجلترا أو فرنسا، وكل هذه الأمثلة تشير إلى ذلك الاتجاه الجديد، وتوضح ضرورة تشجيع هذين النوعين من الثقافة، ولا يقصد من وراء ذلك أن يحل أحدهما محل الآخر، بل المقصود أن يتعاونا معا في سبيل انتظام الحياة والانتعاش والتقدم(688/33)
الطبيعي، وذلك خير لكليهما.
حسن حبشي(688/34)
وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
وقالت في رثاء ولدها أمين:
بأي فؤاد أبتغي بعدك السلوى ... وأنت فؤادي في التراب له مأوى
وهي تقول:
ألح عليِّ الحزن من كل جانب ... فشن على صبر الحشا غارة شعوا
فلو أن ما بي بالجبال لأوشكت ... تميد لما تلقاه من مضض البلوى
أرى نار قلبي كل يوم وليلة ... تزيد لهيباً كلم زدت في الشكوى
لفقد أميني بل حبيبي ومهجتي ... وريحان زوجي من غدوت له نشوى
لقد كان في عيني أبهى من الدجى ... وأعذب في قلبي من المنّ والسلوى
كصدر القنا كالنصل كالغصن في النقا ... كزهر الربى كالبدر كالرشأ الاحوى
أيا قبره هذا العزيز فلا تدع ... هوام البلى تهوي عليه كما تهوى
وحافظ على تلك العظام فأنها ... لكنز ثمين ليت قلبي لها مثوى
ورثت ابنتها أسماء بقولها:
يا قرة العين مالي عنك مصطبر ... كيف السلو ونار القلب تستعر
وكيف أسلو وعني اليوم قد رحلت ... أسما وأبقت دموع العين تنهمر
فيا عيوني جودي بالدموع عسى ... تخففي بعض ما في القلب يستتر
وساعدي مهجة المحزون عِّلك أن ... تطفي لهيب فؤاد كاد ينفطر
يا جمرة الحزن هلا تتركي كبدي ... يوماً بغير قروح فيه تنفجر
أسما شريكة قلبي آه وا أسفا ... هلا يعود زمان قد مضى نضر
ربيت تسعة أعوام معي واتى ... من ليس يمنعه كبر ولا صغر
ما كان أقصر ذاك العمر وا أسفي ... كزهرة في انبثاق الصبح تنتثر
يا لهف نفسي لأيام مضت عجلا ... كالحلم ولى فلا عين ولا أثر
أوّاه من طول ليل بت أسهره ... كأنما ماله صبح ولا سحر
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... واليوم هان عليّ الدمع والبصر(688/35)
وقالت ترثي أخاها عبد الله:
أعيناي جودي بالدموع السواكب ... وفيضي دماء بعد فقد الحبائب
ومنها:
طوى الدهر ما بيني وبين أحبتي ... وجّمع ما بيني وبين المصائب
تتابعت الأرزاء من كل جانب ... عليّ كما ينهل غث السحائب
ثم تقول:
ويا كوكباً قد غاب عني في الثرى ... وما هكذا عهدي غياب الكواكب
وتختم الرثاء قائلة:
سأبكيك دهري ما حييت وإن أمت ... ستبكي عظامي تحت طي الترائب
وقالت راثية إحدى السيدات عن لسان شقيقة لها:
قفا نبكي كي أودعها قليلا ... قبيل لبين إذ أمسى طويلا
رويداً حيث اطلب أن أراها ... فلا ألقى لرؤيتها سبيلا
وهيهات الوداع وقد أتاها ... رسول البين يخطفها عجولا
ثم تقول:
إذا ناحت وأعولت البواكي ... أكون أحق من أبدى العويلا
وإن تك فارقت في مصر نيلا ... ففي القليا أجتلت نيلا ونيلا
هناك تمتعت بنعيم عيش ... به تنسى المنازل والنزيلا
وأبقتنا بأحزان لديها ... نعد الصبر أمراً مستحيلا
وقالت ترثي قرينها:
أترى ما اكتفت صروف العوادي ... بسهام أصمت صميم فؤادي
كلما كاد يضمد الجرح ترمي ... ني بسهم مفتت الأكباد
وأبى الدهر أن يمن بنظم ... غير نظم الرثاء والتعداد
سلبتني المنون إنسان عيني ... ورفيقي وعمدتي وعمادي
يا أليفي في شدتي ورخائي ... ونصيري في النائبات الشداد
إلى أن تقول:(688/36)
قد بكت فقدك المنابر حزنا ... وتردت عليك ثوب الحداد
وبكتك العلوم من كل فن ... كنت فيه من أوحد الأفراد
شتت الدهر شملنا وافترقنا ... وكذا الدهر مولع بالعناد
فسأبكيك ما حييت إلى أن ... نلتقي في جوار رب العباد
وتختم الرثاء برثاء شقيقها إبراهيم العالم اللغوي المشهور:
لم يبق للحزن صبر ولا جلد ... ولا دموع تفي لي حق من فقدوا
وضاق صدري مما قد تراكم من ... حزني ولم يبق لي للاحتمال يد
بينا يضمد لي جرح لفقد أخ ... يجدد البين جرحاً ليس ينضمد
أخنى الزمان علينا مثل عادته ... واغتال من هو ركن البيت والسند
مضى الشقيق فشق القلب مصرعه ... وخلف النار في الأحشاء تتقد
ثم تقول:
يا قائل القول ما زالت به كلم ... وصاحب الرأي حقاً ليس ينتقد
منشى الفصول التي ما خطها قلم ... رب البيان الذي لم يحوه أحد
ومنها:
وكوكب الشرق ما تخبو له لمع ... وإن خبت فالضيا في أثرها مدد
بما نشرت لسان العرب معتصم ... وما نظمت لسان العرب معتضد
فضل سيبقى بقاء الدهر متصلا ... عليك لا ينقضي أو ينقضي الأبد
ثم تختم بهذه الأبيات:
يا صخر بنت الشريد اليوم منتشر ... لها عليك قواف في الورى شرد
هيهات ما فقدت صخري ولا نظمت ... دمعي ولا وجدت خنساء ما أجد
بكت وحيداً وأبكي ستة ذهبوا ... لكل محمدة بين الورى ولدوا
يا رحمة الله حلي في مضاجعهم ... ويا غمائم جودي حيثما رقدوا
وقد رثته ثانية حيث أنشدت على ضريح العائلة في بيروت أي بعد نقل رفاته من مصر:
يا قبر أهنأ بما أوتيت من ظفر ... فقد حويت كرام البدو والحضر
حويت من هزّ ركن العلم مصرعهم ... من بعد ما ألبسوه أفخر الحبر(688/37)
حويت كنزاً ثميناً لو عرفت له ... قدراً لفاخرت فيه أثمن الدرر
ثم تقول:
يا قبر قد عاد إبراهيم وا أسفي ... يضوي إلى أسرة من اتعس الأسر
فأي عين لهذا الخطب ما نزفت ... دماً وأي فؤاد غير منفطر
ويلاه من نكد الأيام كم فتكت ... بنا ولم تبق لي صبرا ولم تذر
يا قبر أكرم نزيلا حل فيك ولا ... تمتعنَّ البلى من جسمه النضر
وتختم بقولها:
يا من مضى وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك منتظر
قد كنت مني مكان الروح من جسدي ال ... مضنى وكنت مكان النور من بصري
ومن سور الرثاء أيضا ما قالته في الذكرى:
جز يا نسيم على وادي النقا سحرا ... وسل عن الصحب هل تلقى لهم خبرا؟
واشرح لهم سوء حالي بعد فرقتهم ... لعلهم يعطفوا أو يلفتوا النظرا
كنا وكانوا وكان ألامس يجمعنا ... فصير الدهر ذاك الجمع منتثرا
من لي برؤيتهم يوماً ويسعفني ... حظي وتبلغ عيني منهم الوطرا
مضى زمان الصفا ما كان أقصره ... وعوض الدهر عن ذاك الصفا كدرا
أحبابنا ما أمر العيش بعدكم ... وهل يطيب لقلب بات منفطرا؟
هذه مقتطفات من طويل الرثاء في اخوتها وأهلها الذين فقدوا في حياتها بكتهم بعيون تسيل دما لا دمعا. ولم يقتصر الرثاء فقط على من ذكرنا وإنما رثت جماعة كبيرة عن لسانها ولسان صديقاتها الكثيرات كما أوردنا البعض منها هنا بإيجاز.
ومن الشعراء طائفة ممن قرظوا ديوانها (حديقة الورد) فقالوا في ذلك أبياتا نورد قسما هنا، منهم قول الشيخ الحموي أحد أدباء يافا مادحا ديوانها:
الجهل شاع بهذا العصر وا أسفي ... وقد رأيت بيومي اعجب العجب
بديع نظم سما من وردة عبقت ... فاحت روائحها في العلم والأدب
فلله در لآلي درة نظمت ... كريمة اليازجي حسّانة العرب
وقال الحاج حسين أفندي بيهم:(688/38)
حديقة الورد طابت لجانيها ... ورق بالطبع قاصيها ودانيها
فالقاطف ثمار المعاني من لطائفها ... وارشفت شهي الحميا من قنانيها
يا حسن فكرة من أبدت لنا درراً ... ونظمت خير عقد من دراريها
فإنها فرع ناصيف الذي اشتهرت ... لطفا مقاماته وارتاح حاكيها
حكت أباها بآداب فما ظلمت ... جاءت على أصلها الباهي قوافيها
دامت تطرز أثواب القريض لنا ... ما قام يطرب الأشعار راويها
ثم قال إسكندر أغا أبكاريوس:
أهدت لنا نفحات الورد في الكلم ... كريمة من بنات الجود والكرم
فريدة قد سمت في الناس واشتهرت ... ألطافها بين عرب الأرض والعجم
أكرم بها درة قد طاب عنصرها ... بالفضل أشهر من نار على علم
فاقت على سائر الأمثال قاطبة ... للنظم والنثر والآداب والشيم
صاغت لنا من نفيس الشعر أحسنه ... نظما وأجوده في المدح والحكم
أبدت لنا السحر في نظم البيان وقد ... زهت وباهت نساء العصر بالهمم
لا زال طالها بالسعد مقترنا ... ما ضاء بدر الدجى في حندس الظلم
وقال خليل أفندي الخوري:
لا يفخر الغرب بالغادات لابسة ... تاج البلاغة تجلو راية الأدب
فان في الشرق روض رائق نضر ... تهدي شذا الشعر فيه وردة العرب
كريمة للكريم اليازجي بدت ... تجلو الفخار بمجد العلم والأدب
وقال المعلم أسعد الشدودي:
ألا يا وردة العرب التي قد ... زها نظم لها كعقود در
لقد أنشأت ديواناً بديعاً ... به أنسيتنا خنساء صخر
معانيه الدقيقة ذات ظرف ... لها رقصت معاني كل شعر
فلا عجب إذا فاقت سواها ... فنشر الورد أطيب كل نشر
ثم قال يوسف أفندي السيوفي:
نزه لحاظك في جمال حديقة ... أبداً يفوح الطيب من أزهارها(688/39)
لا بدع أن فاقت بحسن بهائها ... وتقاصر الأقران عن أقدارها
فالورد من أغراسها والطيب من ... أنفاسها واللطف من أسرارها
ثم قال سليم أفندي الخوري:
في روضة الورد قامت وردة العرب ... تبدي لنا نفحات العلم والأدب
كريمة الفرد ناصف التي أخذت ... عنه النظام فكانت بنت خير أب
أبدت من رقيق الشعر أعذب ما ... يحلو ويغلو كما يخلو من الريب
وقال المعلم إبراهيم سركيس:
فريدة العصر قد صاغت لنا درراً ... تدوم ريانة حيناً إلى حين
أحلى الحدائق ما كانت مكللة ... بالورد والورد سلطان الرياحين
ومما قاله أخوها الشيخ إبراهيم اليازجي:
هذه حديقة ورد عز جانبها ... وحبذا روض ورد يفرج الكربا
من طافها ير فيها الدر منتظما ... والطيب منتشراً والسكر مختلبا
هذه صورة مصورة من حياة الشاعر الكبيرة وردة اليازجي أقتطفتها من ديوانها (حديقة الورد) آملاً بعملي هذا تقديم باقة من زهر هذه الحديقة الغناء يشمها القارئ فيتعطر بشذاها ويتعبق برائحتها خدمة للأدب والتاريخ.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني(688/40)
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- 2 -
عندما فتح العرب جنوب أوربا واستولوا على جزرها المشهورة وعلى ربوع الأندلس، انتشرت لغتهم في جميع هذه الأقطار، وخاصة في شبه جزيرة أسبانيا ومنورقة، وميورقة وجزائر الباليار وصقلية، واقريطش وما إليها.
وبلغ من شان العربية في أسبانيا أن اضطر أباء الكنيسة إلى نقل صلواتهم وأدعيتهم أليها ليحسن فهمها المصلون الذين كانوا قد زهدوا في اللغة اللاتينية ومالوا عنها إلى اللغة العامة وهي العربية، يتدارسون بيانها وقواعدها، ويحفظون أشعارها وطرائفها، وظلت العربية هي اللغة الرسمية في تلك الربوع حتى جلاء العرب عنها عام 1016 هـ. وقد وجد المنقبون نحو آلفي صك كتبها سكان تلك البلاد الأصليين باللغة العربية. وفي مكتبة الأسكوريال في أسبانيا حتى يومنا هذا معاجم يونانية عربية، ولاتينية عربية وعربية أسبانية تدل أوضح دلالة على ذلك العصر العربي الزاهر.
وفي اللغة الأسبانية الحاضرة كلمات عديدة تبدأ بال التعريف العربية، وفي ذلك ابلغ شهادة على تأثر اللغة الأسبانية باللغة العربية. إذ أمدتها بآلاف المفردات التي لا غنى لها عنها في التعبير، ولم يقف نفوذ اللغة العربية عند هذا الحد بل تعداه إلى بقية اللغات السكسونية والجرمانية الحية، ولهذا فأننا نجد حتى اليوم ألفاظا عربية بليغة في كل من اللغات الإنجليزية والغالية القديمة والألمانية، والهولندية والاسكندنافية، والروسية والبولندية، واللغات الصقلية الأخرى.
ومما تدل عليه الإحصاءات الدقيقة أن ثلاثة آلاف كلمة عربية قد دخلت اللغة البرتغالية، وان ربع الأسبانية الحديثة مأخوذة من العربية، وان تسعمائة كلمة من اللغة العربية أيضا قد أدخلها الفرنسيون في لغتهم وتضم الإنكليزية كذلك مثل هذا العدد من الألفاظ العربية.
ومن الغريب حقا أن نجد أمما غير عربية ما زالت حتى عصرنا الحاضر أما تتكلم اللغة العربية وتكتبها في جميع معاملاتها، أو أنها تكتب لغتها بالحرف العربي، وما زالت العربية حتى يومنا هذا شائعة ومحكية في معظم أطراف السينغال، والسودان الفرنسي، والنيجر،(688/41)
وليبيريا، والحبشة، وجيبوتي، وقازان، والقريم، وكرجستان، وطاغستان، وتركستان وسيام، والفلبين، والهند، وإيران، والصين، وجاوه، وبلاد المغرب، ومالطه، وكردوفان.
نقف عند هذا الحد قليلا لنسأل سرفيه وأمثاله، أكان في استطاعة العرب أن يفرضوا لغتهم على جميع الشعوب التي حكموها، لو لم يكونوا أمة موهوبة جميل المزايا وروائع العبقريات؟ أم كان هؤلاء الأقوام يقبلون على تعلم العربية بمثل ما رأيت من الشوق والرغبة، لو لم تكن العربية لغة حضارة سامية ومدنية زاهرة؟. . . وأننا لنجد أمما كثيرة، بربرية وهمجية، قد فرضت سلطانها على العالم قرونا طويلة، ولما لم تكن ذات حضارة عالية بادت وتلاشي سلطانها دون أن تترك وراءها أثرا يذكر.
ولم نذهب بعيدا في الاستدلال، وهذه الأمة العربية ذاتها قد تعاقبت عليها مختلف الحضارات، وخضعت لشتى السلطات إلا أنها مع ضعفها السياسي قد حافظت على مزاياها وتقاليدها ولغتها وحضارتها، ولئن استطاعت هذه الدول أن تفرض عليها سلطانها ونظمها السياسية، إلا إنها عجزت عجزا تاما عن تجردها من ثقافتها، لتفرض عليها ثقافاتها الخاصة.
العرب في ميدان العلم وطور الاستعداد:
وقبل أن نبين مواطن الابتكار والعبقرية في ثروة الإسلام العلمية يحسن بنا أن نرجع ولو قليلا إلى الوراء لنبحث العوامل الرئيسية التي عملت في تكوين الحضارة الإسلامية، ولنرى بعد ذلك المراحل الأولية التي تخطتها هذه الحضارة العريقة في سيرها وتقدمها، قبل أن تصبح حضارة العالم بأجمعه بلا منازع فليس من شك في أن العرب وان كانوا أرباب ملاحظة في سائر العلوم، وأمة موهوبة أعلى درجات النبوغ والذكاء، إلا انهم شادو حضارتهم - شأن بقية الأمم المتمدنة - على أنقاض حضارات سابقة قديمة، ليس من شك أيضا في أن الحضارة العربية لم تبلغ حد كمالها فجأة، إذ أن ذلك أمر بعيد التصديق، ولكنها بلغته تدريجيا ولكن بخطى سريعة متزنة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
لقد كانت أوربا في العصر الذي بدت تظهر فيه طلائع النهضة العربية تغط في سبات الجهالة، وتتمرغ في هاوية الانحلال، وكانت المسيحية إذ ذاك قد بدأت بمطاردة الحرية الفكرية في أقطارها، وأخذت تنشط في إحراق العلوم الوثنية وتعقب العلماء والفلاسفة.(688/42)
واستئصال شأفتهم من كل بقعة. يخشى أن يكون لهم فيها صوت مسموع، أو علم مرفوع، حاسبة إنها في بذلك تبيد من حقلها الأعشاب القريبة التي قد تحول في المستقبل دون نماء عقيدتها، وإذ كان النور يشع إذ ذاك من ناحية الجزيرة العربية فقد آخذت هذه الفئات الممتازة الراقية تؤمها آحادا وإرسالا حاملة إليها نتاج عبقريات الأمم اليونانية والرومانية الدارسة، وكانت هذه الجماعات حيثما نزلت تعيش في جو من التسامح الفكري لم تعهد له فيما مضى مثيلا.
أما في بلاد الشرق فقد أدت الحرب العوان التي دارت قبل الإسلام رحاها بين مملكتي الروم وفارس إلى ضعف كلتا المملكتين فقد غزا هرقل مملكة الفرس، فتركها أطلالا خاوية، ثم غزا الفرس مصر والشام فثأروا لبلادهم من مملكة قيصر، وقابلوا الضربة بضربة مثلها وأخذت المناوشات تتري بين المملكتين مدة طويلة، وكان من نتيجتها أن ضعف قيصر وذل كسرى؛ اما قيصر، فقد استنفدت هذه الحرب الضروس جميع اقتصاديات بلاده حتى لقد عجزعن أن يحفظ حدود مملكته، وعن دفع الإتاوة للقبائل العربية التي كانت تقوم بحراسة أطراف هذه الإمبراطورية الواسعة، وزاد في الطين بلة احتدام الجدل بين الملكيتين واليعاقبة والنساطرة حول طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية؛ وتدخل الإمبراطور إذ ذاك في هذه المجادلات، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد اليعاقبة والنساطرة، والى اتساع شقة الخلاف. وكان هرقل إذ ذاك قد طعن في السن، وأوهت قواه الشيخوخة، فسقط لذلك ألعوبة بأيدي رهبان إيليا الذين ما زالوا به حتى أوغروا صدره على يهود بيت المقدس، بدعوى انهم ساعدوا الفرس حين زحفهم على إمبراطوريته، وضربهم إياها تلك الضربة القاضية، التي صدعت فيها بنيان النظام والطمأنينة والأمن، فقتل منهم لذلك خلقا كثيرا، وجلدا وافرا، وعددا لا يعد؛ وهكذا فقد كان كل من النساطرة واليهود عونا لكل خارج على قيصر أو طامع في ملكه وإذا استهواهما قبس الحرية الذي كان يشع من ناحية الجزيرة فقد ساروا إليها يحملون معهم في سيرهم ما انتهى إليهم من نتاج المدنيات السابقة، وما جادت به قرائحهم المتوقدة؛ فتفسح النسطوريون في أرض الحجاز، وقطن اليهود بلاد اليمن؛ وكان أمرا طبيعيا أن تنشر تعاليمها في سائر أقطار الجزيرة، وان تتأثر هذه بها.
ولم تكن الحالة في بلاد فارس بأحسن منها في بلاد الروم، فقد كان الملك فيها - قبيل(688/43)
الإسلام - في قبضة طفل صغير لا يجاوز الخامسة عشرة سنة، ثم في قبضة امرأة مستضعفة، وهي بوران بنت كسرى؛ ولما بلغ النبي أمرها قال (لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة) وهكذا كان عرش فارس ألعوبة بأيدي أطفال صغار، ونساء جاهلات؛ ولم تكن حالة الزرادتشيين في فارس بالتي تدعهم يخلدون إلى السكينة والاطمئنان ولذلك فقد أصبحت الجزيرة - قبيل الإسلام - مثابة صالحة للمضطهدين والمغلوبين على أمرهم من أحرار فارس والروم.
(يتبع)
خليل جمعة الطوال(688/44)
البريد الأدبي
إلى علماء العربية وأعلامها:
كنت أحقق منذ عهد بعيد شعر أبى نؤاس، وأبحث عنه في مضانه المخطوطة والمطبوعة، فدفعني ذلك إلى دراسة الأديرة والحانات وما يدور فيها، وأماكن اللهو والتنزه، ومواضع القصف والنزف وما يتعلق بذلك ودراسة الشعراء المجان وتاريخ الخمرة في الأدب العربي، وحياة الجواري والقيان وأثرهن، إلى غير ذلك مما يتصل بموضعي. . فعثرت على شاعر ماجن خليع داعر اسماه أصحاب التصانيف والتآليف (أبا شاس)، ووصفوه بأنه صاحب دعابة ومجون، وفسق وتهتك، وتطرح بالحانات، وملازمة للديارات.
ذكر هذا الشاعر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) عند الكلام على دير يونس في موضعين، وذكر له شعرا في صفة هذا الدير، وشعرا في صفة الخمرة، ولم يعلق العلامة احمد زكي باشا على ذلك بشيء، بينما علق على ابسط الأمور، وشرح مختلف الألفاظ.
ثم رأيت الأستاذ حبيب زيات يذكره في كتابه الموسوم (بالديارات النصرانية في الإسلام) ويضع له اسما في فهرس الشعراء الذين استشهد بشعرهم في كتابه ويسميه (أبو شاس منير)
ولما كان جميع من كتب في الديارات والحانات والأعمار وما شابه ذلك اعتمد على كتاب (الديارات) لآبي الحسن على بن محمد الشابشتي رأيت أن أرجع أليه في تحقيق اسم هذا الشاعر ونسبه وحياته.
ولكن الشابشتي لم يذكر عن هذا الشاعر ما يبل الغلة ويفي بالحاجة، بينما ترجم كل شاعر له علاقة بموضوعه ترجمة وافية مهما كان ذلك الشاعر مغمورا.
قال الشابشتي في الكلام على دير يونس بن متي بعد ما ذكره وعرف به: (ولأبى شاس فيه:
يا دير يونس جادت صوبك الديم ... حتى ترى ناظرا بالنور تبتسم
لم يشف من ناجر حر على ظمأ ... كما شفى حر قلبي ماؤك الشبم
ولم يحلك محزون به سقم ... ألا تحلل عنه ذلك السقم
أستغفر الله من فتك بذي غنج ... جرى عليّ به في ربعك القلم(688/45)
ثم يقول بعد هذا: (وكان أبو شاس هذا من اطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، ملازما للديارات، متطرحا بها، مفتونا برهبانها ومن فيها.) ثم يقول ومن مليح شعره:
لا تعدلن عن إبنة الكرم ... بابي ففيها صحة الجسم
وأعلم بأنك أن لهجت بغيرها ... هطلت عليك سحائب الهم
وإذا شربت فكن مستيقظاً ... حتى يتبين طيبة الطعم
لو لم يكن في شربها راحة ... إلا التخلص من يد الهم
وهذه القصيدة موجودة في شعر أبي نؤاس وهي في ثمانية أبيات، ورأيت العمري في مسالكه ينسبها لأبى شاس ويذكر الأول منها والرابع فقط.
ويستمر الشابشتي في ذكر شعر أبى شاس هذا ويذكر له قصيدة مطلعها:
أعاذل ما على مثلي سبيل ... عذلك في المدامة مستحيل
وبعد هذا البيت ثمانية أبيات، وهي موجودة أيضا في شعر آبي نؤاس بنصها وبعدد أبياتها، وينقلها العمري في المسالك ويذكر منها أربعة ابيات، وينسبها لآبي شاس:
هذا هو أبو شاس الشاعر الظريف الماجن الذي مر ذكره في هذه المصادر الثلاثة ولم اعثر على ذكر في أي مصدر أخر.
أقول أن أبا شاس هذا هو أبو نؤاس نفسه إذ أن العمري وحبيب الزيات نقلا عن الشابشتي وان الناسخ له صحف هذا الاسم 0أبا نؤاس) فصيره أبا شاس، وجاء العمري ونقل عنه، وأغفله العلامة احمد زكي باشا فلم يصحح هذا التصحيف، ثم جاء حبيب زيات ونقل عن العمري أو عن الشابشتي ووضع له اسما هو (منير).
أضع هذا الرأي بين أيدي علماء العربية وأعلامها لعل لهم فيه رأيا.
(بغداد)
شكري محمود احمد
بين المحمدية والموسوية:
من الشرعية الموسوية التي نسخها الشرع الإسلامي، ولكن القوم بها عاملون: قول موسى عليه السلام: (كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان من نهر الفرات(688/46)
إلى البحر الغربي يكون تخمكم)
وفي الشرع الإسلامي أن الأرض لأهلها، يفرض فاتحوها عليها خراجا، وجزية على السكان لتمويل المحاربين في الجيش لقاء إقرار الأمن وإقامة العدل وحماية البلاد.
وفي الشريعة الموسوية: (حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح فان أجابتك وفتحت لك أبوابها فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب ألهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب ألهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما) ومعنى التحريم هنا القتل العام. وفيها أيضا: (تمحو اسمهم من تحت السماء لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم تدريجيا لئلا تكثر عليك وحوش البرية).
وفي الشرع الإسلامي إذا حاصر المسلمون مدينة أو حضنا دعوا أهلها إلى الإسلام فان أجابوا كفوا عن قتالهم، وان امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية فان بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فان أبوا لجأ المسلمون إلى القتال، على أن لا يخونوا ولا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا يقطعوا شجرة ولا يذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله ولا يعرضوا للمبتعد في صومعته و. . .
وفي شريعة سيدنا موسى أن حفظ العهود ووجوب العمل بها محصور بما عقد منها بين بني إسرائيل فقط، ولا يجب على الإسرائيلي أن يحتفظ بعهده مع العدو المحارب أو غيره.
وفي الشرع الإسلامي يجب الوفاء بالعقود عامة لقوله تعالى (وأوفوا بالعقود).
وفي الشريعة الموسوية: (لا تقرض أخاك الإسرائيلي بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا).
وكذلك سائر القواعد الاجتماعية في المعاملات والعقوبات، فالحكم في الشريعة الموسوية يختلف باختلاف الأشخاص، والعقوبة تخف على اليهودي وتشتد على الأجنبي مع وحدة الجرم ويسقط عندهم الدين بمرور الزمن بعد سبع سنين عن العبراني وأما عن الأجنبي فلا يسقط أبدا ولا يمر عليه الزمان.(688/47)
وفي الشرع الإسلامي أن لأهل الذمة ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وفي الحديث النبوي المحمدي (من آذى ذمياً كنت خصمه يوم القيامة). إلى غير هذا مما هو مبسوط في مظانه ومصادره.
فوزي محمد طراد
أثر العرب في الحضارة الأوربية:
هذا عنوان الكتاب الأخير الذي أصدره في هذا الصيف الأستاذ الكبير العقاد، ومن حسن حظ العرب والأدب أن هذا الكتاب جاء في وقته. ووقته الذي أعنيه هو هذه المعركة الحاسمة في نضال عنيف بين العرب وأوربا استمر منذ أحرق طارق سفنه في الشاطئ الغربي من المضيق إلى اليوم. وكان هذا النضال الطويل افظع صدام شهده التاريخ بين الحق والباطل والعلم والجهل والمدنية والبربرية، تسلح فيها سماسرة الدين وعلوج الملك بالضغينة والإفك والتمويه والتشويه، فوقفوا بالعصبية أمام العرب في الاندلس، وبالصليبية أمام الإسلام في فلسطين، وبالآرية أمام السامية في عهد هتلر، ثم بالغرب كله أمام الشرق كله في عصر تشرشل. ولقد ظل النصر لنا حليفا في مراحل هذا الصدام، حتى انطمست في نفوسنا معاني الآلام والعروبة، ففقدنا كل سلاح غير سلاح الحق. والحق وا أسفاه أعزل، فلا بد له من سيف كسيف خالد، وابكم فلا بد له من قلم كقلم العقاد. فالكتاب الذي يقراه الناس لكاتب العبقريات اليوم، إنما هو صولة من صولات الحق تفيد مصر وفلسطين وسائر بلاد الجامعة العربية في تعليم من يجهل وإقناع من ينكر أن العرب الذين مدنوا الشرق وهدوه، وعلموا الغرب وأمدوه، لا يزالون بفضل عقيدتهم وعقليتهم وجنسيتهم مشعلا من مشاعل الحضارة، وركنا من أركان السلام، وانهم أعطوا العلم اكثر مما اخذوا منه، واثروا بالغرب اكثر مما تأثروا به، وان من الكرامة الإنسانية أن لا يعاملوا بالقهر، وألا يؤاخذوا بالاستبداد، وألا يبنى الاتفاق معهم على الكره.
(موضوع هذا الكتاب الوجيز ينقسم إلى قسمين: أولهما اثر العرب في الحضارة الأوربية من اقدم أزمانها؛ والثاني اثر أوربا الحديثة في النهضة العربية العصرية) فعالج الأستاذ المؤلف اثر العرب في الأوربيين من جهة العقائد السماوية، وآداب الحياة والسلوك،(688/48)
والتدوين، وصناعات السلم والحرب، والطب والعلوم والجغرافيا والفلك والرياضة والأدب والفن والفلسفة والدين، وأحوال الحضارة والدولة والنظام؛ ثم أجمل أثر أوربا الحديثة في النهضة العربية، فأشار إلى ذلك في الاجتماع والسياسة، والحكومة البرلمانية، والوطنية، والحركات الدينية، والأخلاق والعادات، والأدب والفن، والصحافة، وكل هذه المسائل معروضة بالعرض الذي يعرفه الناس للعقاد من قوة المنطق وصفاء الأسلوب وسعة الاطلاع. وهو بعد ذلك مطبوع في دار المعارف طبعا أنيقا على ورق صقيل في غلاف جميل.
فن إنشاد الشعر العربي:
كتاب يقع في 78 صفحة من القطع المتوسط مطبوع في مطبعة الآباء الفرنسيسيين في القدس، وضعه الأب أغسطس فيكي الفرنسيسي، ونقله إلى العربية الأب اسطفان سالم، والدكتور إسحاق موسى الحسيني، وقد صدر الكتاب بمقدمة نفيسة، في الشعر، والإنشاد، وفي أسباب ضعف الشعر في عصرنا الحاضر وقد نبه المترجمان الفاضلان على أن الأب أغسطس فيكي لم يكن هو أول من راد مفارزة هذا البحث، وان العالم استانسلاس جوبار قد سبق المؤلف إلى البحث في فن الإنشاد الشعري. كما أن المستشرق المشهور تشارلس كيل، كان قد سبق المؤلف إلى تبيان مواطن الضغط الصوتي في كتابه (الشعر العربي القديم)
والكتاب على ما فيه من نظريات لم يألفها أدباء العربية الناشئون، لا بد أن يكون له شأن في المستقبل، ونحن واثقون بأن أعراض أبنائنا عن الشعر العربي خاصة والأدب العربي عامة مرده إلى أننا لم نعلمهم إياه على الوجه المرغب، المشوق المطرب. وإلا لكان أساتذة الأدب العربي لا يعانون الأمرين وهم يبتكرون الأساليب، لإقناع طلابهم بضرورة الإقبال على أدب لغتهم القديم منظومة ومنثورة.
نحن لا ننكر أن الكتاب يصدم مطالعه العربي عند الوهلة الأولى لأنه يزيد رموزا جديدة، إلى زحافات وعلل الشعر العربي وهي رموز النطق، والانشاد، ومط الصوت، مما لا عهد لنا به ولكن كل ذلك يهون إذا علمنا أن كل فن لا بد له من ضوابط وقيود تعصمه من الفوضى.(688/49)
قد يعترض البعض على هذا الكتاب بأنه يزيد في القواعد ونحن نحاول التخفيف منها وجوابنا على هذا الاعتراض أن الكمال يحتاج إلى المجهود.
وقد يرى البعض أن الكتاب غايته التنغيم، وليس هذا من طبيعة الاشياء، ولا هو من طبيعة الشعر العربي.
والواقع أن هذا الرأي في غير محله، لان التنغيم هو الأصل في الشعر العربي وهو الأمر الطبيعي فيه، لأن الشعر والغناء من اصل واحد عند الأمم كافة، وقد وضع الشعر العربي في أول أمره لينشد تكريما للإلهة. والملوك، فكان لابد من إظهار العاطفة فيه بالنغم، فاليونان، والرومان يقولون إلى ألان (غني شعرا) ولا يقولون نظم شعرا والذي نراه إن العرب لم يشذوا عن هذه القاعدة، لأنهم ليسوا بدعة من بدع الحياة والطبيعة. ونرى فوق ذلك فان العرب ينظموا الشعر من أجل تكريم آلهة العشق في أول أمرهم (العزى) بدليل أن كل قصيدة لا بد لهم من أن يبدأوها بالغزل. وكان شعراء العرب يغنون شعرهم كألاعشى قبل الإسلام والشاعر الذي لم يكن صوته جميلا رخيما كان يقتنى غلاما رخيم الصوت ينشد أشعاره ولو لم يكن الإنشاد أصلا في الشعر لما خص كل نوع من العواطف ببحر، فنرى أن البحر الطويل يوافق لنظم الشعر الحماسي والوافر للفخر، والرحل للحزن أو الفرح، والسريع لتمثيل العواطف.
إذا فالكتاب المبحوث عنه محاولة نفيسة لا يسعنا إلا إكبارها، وإكبار صاحبها ومترجميها. وسيكون مفتاحا من مفاتيح الموسيقى العربية الشديدة التفلت من القيود.
روكس العزيزي
معلم العربية وآدابها في كلية تراسانة بالقدس(688/50)
القصص
مطاردة. . .!
للقصصي الإنجليزي سومرت موم
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وحلت الخمر التي شربناها فيما بعد عقدة لسانه، فأخبرني بعد لأي سبب مجيئه إلى هذه البلاد. وقبل إن يسرد علي قصته الغريبة توقف عن الحديث برهة ليستعيد حوادثها وفصولها في ذهنه، فقد جاء - كما اخبرني - من سو مطرة، وقد أساء إلى أحد الصينيين إساءة بالغة فأقسم هذا أن يقتله شر قتلة، فلم يهتم الهولاندي بهذا القسم في مبدأ الأمر وظنه من قبيل التهديد ليس إلا، ولكن الصيني حاول أن يغتاله بعد ذلك مرتين ففشل فخشى الهولاندي على حياته وأعتقد حين إذ انه جاد في قسمه، ورأى من الصواب والحكمة أن يرحل عن هذه الجهات فترة من الوقت ثم يعود أليها بعد أن تسدل الستار على حادثة هذا الصيني اللعين، فسافر إلى بافاريا ليقضي فيها بضعة أيام يروح فيها عن نفسه ولكنه لاحظ الصيني بعد مضي أسبوع من سفره يتسلل خفية في مساء أحد الأيام بجانب حائط المنزل المجاور للفندق الذي حل به مما يدل على انه كان يراقبه مراقبة شديدة ويتحين الفرص الملائمة لقتله. وزاد خوف الهولاندي على حياته حينما تبين له أن هذا الصيني يتبعه أينما سار ويرقبه بنظراته التي كان يتطاير منها شرر الحقد والضغينة، فرحل في صباح اليوم التالي إلى سربيا. وبينما كان يتجول في أحد شوارعها الكبيرة المزدحمة بالمارة بعد ظهر أحد الأيام، التفت وراءه فجأة فرأى الصيني يمشى وراءه بخفة وحذر، وكان على قيد خطوات منه، فلما التقت عيناهما تسلل الصيني كالأفعى واختفى بسرعة بين الجماهير التي كانت تملا الشارع وذعر الهولاندي لهذه المباغة وتأكد تماما أن حياته قد أصبحت مهدة بالخطر، وعاد من فوره إلى الفندق الذي كان مقيما به وحزم أمتعته على عجل واخذ اقرب سفينة إلى سنغافورة ثم نزل بفندق بمدينة فانويك. وبينما كان يتناول طعام الإفطار في بهو الفندق في صباح اليوم التالي لوصوله إلى تلك المدينة لمح الرجل الصيني يرمقه بنظراته(688/51)
النارية الملتهبة من خلال زجاج أحد نوافذ الفندق، وقد التقت إبصارهما للمرة الثانية، فأسرع الصيني بالانزواء خلف أحد الأبواب. وقد اخبرني الهولاندي انه كاد يصعق في مكانه عند رؤية الصيني للمرة الثالثة. وكان على ثقة وطيدة من انه ينتظر الوقت المناسب، ويترقب الفرصة الملائمة لاغتياله. وقد قرأ ذلك في نظرات عينيه التي كانت تدل على منتهى الغدروالخيانة، وينبعث منهما بريق الضغينة والحقد الكامنين في أعماق نفسه.
وهنا توقف مضيفي عن الحديث، فانتهزت هذه الفرصة السانحة وسألته قائلا:
ولم لم يذهب هذا الهولاندي إلى أحد مراكز الشرطة يحيط رجاله علما بأمر هذا الصيني الأثيم، فيقبضوا عليه، وينقذوه من شره وعدوانه؟
فأجابني محدثي على الفور:
لست أدري سببا لذلك إلا أن يكون قد ظن أن هذا الأمر من التفاهة بحيث لا يجدر برجال الشرطة أن يتدخلوا فيه، وربما يكون هناك سر خفي لا يجب أذاعته بين الناس!
وهنا خطر لي سؤال أخر فقلت:
- وما هي تلك الجريرة التي ارتكبها هذا الهولاندي حتى جعلت ذلك الصيني يصمم على قتله
مهما كلفه ذلك، واضطرته إلى تعقبه ومطاردته في كل مكان يذهب إليه!
فهز رفيقي رأسه متأسفا وقال:
- إنني لا أدري ذلك أيضا لأنه لم يشأ أن يخبرني به، وعندما ألقيت عليه هذا السؤال بدوري، امتقع وجهه ونظر آلي من طرف عينه نظرة غريبة شزراء والتزم الصمت! وقد تبينت من ملامح وجهه الشاحب وجبينه المقطب الكثير التجاعيد أن إساءته لهذا الصيني كانت تستحق القتل، وهنا قدم لي مضيفي علبة سجايره الفاخرة فتناولت منها واحدة وتناول هو الأخرى وأشعل كل منا سيجارته في وقت واحد. وظل رفيقي يدخن برهة وينظر إلى سحب الدخان التي كانت تتلاشى في فضاء الحجرة دون أن يفوه بكلمة واحدة وأخيرا تضايقت من سكوته فقلت:
- وماذا تم في أمر الهولاندي بعد ذلك؟
فاستجمع رفيقي شتات أفكاره واستطرد قائلا:(688/52)
- كان ربان السفينة التي تسافر بين سنغافورة وكوتشنج ينزل في نفس الفندق الذي نزل فيه الهولاندي بمدينة فانويك في فترات الراحة بين كل رحلة وأخرى. فأنتهز الهولاندي هذه الفرصة الطيبة وترك أمتعته في الفندق ليظلل الصيني وذهب إلى ربان السفينة واتفق معه على أن يمكث في سفينته إلى أن يحين موعد سفرها فقبل الربان ذلك عن طيب خاطر بعد أن نفحه الهولاندي مبلغا كبيراً من المال. وهنالك هدأت اعصابه، وأطمأن خاطره بعض الشيء، وظن انه اصبح بمنجاة من خطر هذا الصيني الذي لم يكن يهتم بشيء قدر اهتمامه بالهرب منه، والفرار من وجهه، والذي اقلق باله، واقض مضجعه، وجعل حياته سلسلة من الألم المتواصل، والعذاب المستمر! وقد شعر بالاطمئنان عند ما وصل إلى كوتشنج، فنزل في فندق منعزل هناك. ولكنه اخبرني انه لم يكن يستطيع النوم بأي حال لان وجه هذا الصيني كان يتمثل له في أحلامه على الدوام، وكثيرا ما كان يراه في خلال نومه وقد امسك في يده خنجرا حادا يلمع نصله المميت في الفضاء، ويهوي به بشدة وعنف على عنقه، فيقوم من نومه فزعا مذعورا، وينتفض جسمه النحيل من شدة الرعب والهلع. وقد شعرت في الحقيقة بحزن عميق، وتأثر كبير نحو هذا الهولاندي التعس وهو يروي لي قصته بصوت أجش مبحوح، ولهجة مترددة متقطعة النبرات من تأثير هذا الرعب الذي استولى عليه. وقد أدركت حينئذ سبب ذلك الخوف الذي استولى عليه حينما دفع سكرتيري باب مكتبي فجأة، وفهمت سر تلك النظرات المتحيرة التي لاحظتها في عينيه، والتي لم يكن لها في الواقع من سبب سوى هذا الخوف وحده دون سواه.
وفي ذات يوم بينما كان يطل من نافذة أحد الأندية في كوتشنج إذ لمح الصيني يمشى في الشارع على مقربة منه! وقد التقت نظراتهما في هذه المرة أيضا! وكاد يغمى على الهولاندي من هول المفاجأة لولا أن تمالك أعصابه وامسك بحافة النافذة بكلتا يديه. وقد خطرت له حينئذ فكرة الهرب من ذلك المكان فغادره على الفور وجاء إلى هنا دون أن يأتي معه بشيء من أمتعته سوى تلك القيثارة التي ما زلت محتفظا بها عندي إلى الآن. وقد كان متأكدا في هذه المرة من أن الصيني لم يتبعه إلى هذا المكان البعيد.
وهنا قاطعت حديث مضيفي وألقيت عليه هذا السؤل:
- ولماذا اختار الهولاندي هذا المكان دون سواه؟ فأطرق رفيقي برأسه إلى الأرض مفكرا(688/53)
ثم قال:
لأن المفروض في تلك السفينة أن ترسو على ما يقرب من الإثني عشر شاطئا، ولذلك كان من الصعب على الصيني - إذا كان بالفرض موجودا على سطحها - أن يعرف في أي الشواطئ سينزل الهولاندي لان الأخير كان متكتما ذلك بقدر الإمكان حتى أن الربان نفسه لم يكن يعرف وجهته بالذات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانه كان قد تنكر بحيث يتعذر على الصيني أو أي شخص آخر معرفته.
- وهنا سكت رفيقي برهة ريثما يسترد أنفاسه ثم أردف قائلا:
- ولما وصل الهولاندي إلى هنا قال لي وهو ينظر حوله بارتياح (إنني هنا في أمان، وإذا
أمكنني أن أظل هادئا لبضعة أيام أخر، فأنني لا البث أن استعيد صحتي، واسترد أعصابي
المنهوكة المتعبة!) فابتسمت له حينئذ وقلت مشفقا (امكث كيفما شئت وستكون بأحسن حالاهنا إلى أن تأتي السفينة التالية في الشهر القادم، وإذا شئت أن أراقب الذين يفدون إلى هذا
المكان فأنني على أتم الاستعداد لذلك).
فشكرني بلطف على عنايتي به، واهتمامي بأمره وقال (أظن انه لا داعي إلى ذلك ما دمت هنا في أمان).
وقد قدته بعدئذ إلى غرفته. فلما صار بداخلها اخذ يفحصها بعناية واهتمام ثم اغلق النوافذ والأبواب بالرغم من أنني أقنعته بأنه ليس هناك ما يستوجب كل هذه الاحتياطات.
ولما تركته أغلق ورائي باب الغرفة إغلاقا منيعا محكما كما لو كان يتوقع أن يهاجمه أحد!
وفي صباح اليوم التالي سألت الخادم الذي احظر لي طعام الإفطار عما إذا كان الهولاندي قد استيقظ من نومه، فأخبرني بأنه سيذهب ليراه. وقد سمعته بعدئذ وهو يقرع باب غرفته مرات دون أن يفتح له. فلما لم يسمع أي إجابة من الداخل طرق الباب اكثر من ذي قبل ولكن بلا فائدة. وهنا ساورني بعض القلق لأجله فقفزت من مقعدي وهرعت بدوري إلى غرفته وطرقت الباب بكلتا يدي طرقا عنيفا متواصلا ولكن بدون جدوى. وأخيرا دفعت الباب بكل قوتي ودخلت الغرفة ثم اتجهت إلى الفراش وأزحت الكلة بيدي، فوجدت الهولاندي قد فارق الحياة. وكانت عيناه جاحظتين وفيهما أثر رعب هائل، وفزع مخيف.(688/54)
ووقع نظري في تلك اللحظة على خنجر غائر النصل في عنقه الأبيض العاري. وقد فتشت الغرفة قطعة قطعة وجزءا جزءا علي اعثر على أحد. فلم أجد أثرا يدلني على المجرم. والشيء الذي أدهشني وحيرني اكثر من غيره هو الكيفية التي دخل بها المجرم إلى مسكني بالرغم من أنني اتخذت كل الاحتياطات اللازمة لمنع أي كائن غريب من الدخول أليه ونبهت على الخدم بمراقبة كل شخص يستريبون فيه أو يشكون في أمره. ولكنني ارجح أن المجرم قد دخل من النافذة إذ من الممكن فتحها من الخارج. ولما كانت غرفة الهولاندي في الطابق الأول، فمن هنا يسهل التسلق اليها، والدخول فيها دون أحداث أي جلبة أو صوت.
وأخيرا سكت محدثي ليشعرني بانتهاء قصته. فلما رآني غير مرتاح إلى هذه النهاية المحزنة نظر آلي متأسفا وقال:
أظنك غير مرتاح إلى نهاية هذه القصة؟
فنظرت أليه نظرة حالمة وقلت:
إنها لا بأس بها على أي حال، ولكني كنت افضل سماعها في صباح الغد عند تناول الإفطار.
فضحك صديقي ضحكة قصيرة خافتة وقال:
أرجو المعذرة لأنني لم أكن أظن أنها ستؤثر في نفسك إلى هذا الحد.
قال ذلك ثم حياني تحية المساء واغلق وراءه باب غرفتي وانصرف.
محمد عبد اللطيف حسن(688/55)
العدد 689 - بتاريخ: 16 - 09 - 1946(/)
5 - بقية من لغو الصيف:
مفارقات. . .!
للأستاذ سيد قطب
أيها القارئ. . .
في (سوق الرقيق) على البلاج، وبين هذا الحشد من العرايا، وفي غمار هذا اللحم الرخيص الذي يعرض في سوق الرقيق، فيعبث به العابثون، وتتجسس إلية النظرات المريضة، دون أن يقدم على شرائه أحد إلا بثمن اللحم الرخيص!
وفي هذا المكان. . . على البلاج، يقوم البوليس بجولات للمحافظة على الآداب!
أي والله! لا تضحك، ولا تدهش، فعين الدولة ساهرة على الآداب! ويد الدولة باطشة بمن يخدش الآداب، وبما يخدش الآداب!
وإليك البيان:
(مايوهات) الرجال ثلاثة أنواع:
نوع بحمالة على العاتق، ونوع بحزام، ونوع برباط من المطاط. . . وقد استفتيت الآداب فقالت: إنها ترتضي النوعين الأول والثاني. . . أما النوع الثالث فلا. . . وليس مرد هذا كله إلى فرق في حجم هذه الأنواع الثلاثة ولا شكلها، ولا في أن واحداً منها ساتر أو كاشف. . . لا. . . لا فتلك شكليات لا تعني الآداب! إنما السر كله في الحمالة أو الحزام أو الرباط!
ويمر الشرطي بالشاطئ، فأما من كان لباسه بحمالة أو حزام فذاك، وأما كان لباسه برباط، فيسوقه إلى (النقطة) ما لم يتوسط في الأمر الوسطاء!
ذلك كل ما يعني الدولة هناك من حفظ الآداب، وإن عين الدولة لساهرة، وإن يدها لباطشة. . . فحذار - أيها القارئ - أن تظن أن عين الدولة هناك غافلة عن رعاية الآداب!!!
ورعاية أخرى للآداب من تلك الرعايات في سوق العرايا على البلاج هذه الأجساد الرخيصة المكشوفة، المتلاحمة في البحر وعلى الرمال، المرمية في أوضاع حيوانية مريضة على مشهد من الأنظار. . . هذا اللحم المكدس المختلط من نساء ورجال في كل(689/1)
مكان، حيث لا يثير في أي حسن سليم إلا التقزز والاشمئزاز، حتى في نفوس طلاب الجسد من ذوي الغرائز القوية السليمة!.
هذا اللحم تفرق الدولة بينه في مكان واحد على البلاج: في الرشاش (الدش) فهو يتلاحم في البحر كما يشاء، ويتكدس على الرمال كما يشاء، ويخلج ذهابا وإيابا على الشاطئ، كما يشاء. ويرى الجميع الجميع في كل وضع وفي كل مكان. . . إلا حيث يذهب هؤلاء وهؤلاء إلى الرشاش. فهناك يكون الفصل والحجاب!
وهان ذلك لو أن كل رشاش منفصل مستور له باب - كما في (بلاج الأرستقراط) - فهناك مظنة أن يخلع المستحم أو المستحمة لباس البحر؛ تلك البقية الضئيلة من الستر، ولكن رشاشات الرجال والنساء في معظم (بلاجات الشعب) مكشوفة كرشاشات السجون التي يشكو بعضهم من خدشها للآداب هناك! والفاصل بين هذه وتلك حائط في الوسط، وهذه وتلك مكشوفة من الجانب الآخر ينظر الرائحون والغادون فيرون من فيها تحت الرشاش!
وإن الأمر ليبدو (مسخرة) من المساخر. فما قيمة هذا الفصل بين الجنسين في لحظة الرشاش؟
وتسأل: ولمَ لا تكون هناك حمامات خاصة للسيدات، وحمامات خاصة للرجال؟ ولم لا يحرم لباس البحر على (البلاج) ولا يباح إلا في الماء وفي الحمامات الخاصة لهؤلاء وهؤلاء؟
تسأل إن واتتك الجرأة على السؤال. فهنالك مخنثون رقعاء في الصحف الداعرة وفي كل مكان. . . هناك أولاد لا أعراض لهم في بيوتهم، يصيحون في وجهك كما يصيح الكلاب: هذا تأخر! هذه رجعية! هذا جمود!
ويقولون لك: في أوربا وفي أمريكا، وفي بلاد العالم المتحضر تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد!
وفي الغابة كذلك - يا أولاد - تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد.
ولكن الغابة أشرف وأسلم، لأن الفطرة هنالك أصدق وأنظف؛ فأنثى كثير من الحيوان والوحوش هناك لذكر واحد. وهي بذلك أعف وأشرف من تسعة وتسعين في المائة ممن تنشرون صورهن عارية على البلاج، أو شبه عارية في الحفلات الداعرة في أوساط(689/2)
(الأرستقراط). ونفوس الذكران من الحيوان هنالك أرقى وأقوى من نفوس تسعة وتسعين في المائة من نفوس الرقعاء من مخنثين الصحافة والإذاعة والسينما والطرب وفي هذه الأيام!
ويقولون لك: الشعب هو الذي يقبل على المجلات الداعرة، وعلى الأفلام الفاجرة، وعلى الأغنيات المخنثة، وعلى كل ما يثير الغريزة في كل وضع من الأوضاع.
وينسون جريمتهم في انحلال الشعب، هم والذين يسمونهم كذباً (أرستقراط) ينسون أنهم هم الذين هتفوا لكل أنثى داعرة مريضة الغريزة شاذة التكوين خرجت إلى سوق الرقيق باسم (المودرن)! والمرأة خاصة يغريها الثناء وتغرها (المودة) ويغويها الإغراء. والرجال المخنثون الذين يشرفون على هذه المرأة لم يجدوا في عروقهم دماء الرجال!
وينسون أن في كل نفس بشرية غريزة، وأن ليس من وظيفة الصحافة والفنون أن تملق هذه الغريزة وتستثيرها، وتلج في استثارتها، فهي لابد أن تستجيب!
وأن في كل نفس بشرية كذلك ميلا إلى الترفع من قيود الضرورة، وأنها من هنا كذلك يمكن أن تقاد.
في كل نفس بشرية خيط للصعود وخيط للهبوط؛ ومن أي الخيطين يمكن أن تجذب فتستجيب. فإذا كان الرواج هو الذي يغري هؤلاء الهابطين بتملق الغريزة، فليجربوا الخيط الآخر فقد يؤدي كذلك إلى الرواج.
صحفيون ناجحون، ومطربون ناجحون، وممثلون ناجحون، لماذا؟ لأنهم يحترفون الدعارة والقوادة. لأنهم دعاة مواخير. . . ولم يتعقب بوليس الآداب إذن مديري المواخير؟. . . إنهم صحفيون ناجحون، أو مطربون ناجحون، أو ممثلون ناجحون. . . كلها (فركه كعب) بين هؤلاء وهؤلاء!
ما الفرق بين ذلك الصحفي الذي ينشر في صحيفته تلك الصور الداعرة على البلاج أو في حفلات (الأرستقراط) ليقودك إلى شراء صحيفته، وبين ذلك (القواد) الذي يعرض عليك الصور العارية خلسة على المقهى أو البار ليقودك إلى الماخور؟!
فرق ضئيل.
ولكن عين الدولة مع ذلك ساهرة، ويدها مع ذلك باطشة. وإذا شئت أن تتأكد، فلتذهب إلى(689/3)
البلاج، لترى كيف تفرق بين الجنسين في الرشاش!
سأل ولد رقيع من أولئك الذين يسمونهم صحفيين ناجحين، راقصة عدة أسئلة قذرة، فأجابته بما شاء، ليروج صحيفته بصورة من الحياة الداخلية لواحدة من أولئك اللواتي لسن عذارى ولسن أمهات!
وكان في آخر أسئلته سؤال: ما رأيك في (بنات الذوات):
وكان الجواب: هن اللواتي يعشن مثل حياتنا، ثم يقال عنا: بنات الهوى، ويقال عنهن: بنات الذوات!
رد بارع، كدت والله أحترمها من أجله!
وهؤلاء هن اللواتي تستلهمهن الصحف الناجحة، وتسميهن الطبقة الراقية، وتقول: إنهن شرفن مصر في المجتمعات.
ونشرت إحدى هذه الصحف مرة صورة نسوان من هؤلاء، يركبن الخيل في لباس الفرسان. وقالت: لقد آن لمصر أن تستقل وهؤلاء نساؤها يزاولن جميع الرياضات، حتى رياضة الفروسية!
كأن لم يكن ينقص مصر لتستقل إلا بضع نسوان فارغات لاهيات من أولئك اللواتي يعشن حياة الراقصات، فيقال عن هؤلاء: إنهن بنات الهوى. ويقال عن أولئك: إنهن بنات الذوات!
ومالي وهؤلاء (الأرستقراط)؟ الأرستقراط المزيفين الذين ليس لهم من سمات الأرستقراطية إلا الثراء. الثراء الذي دفع بعضهم فيه - على توالي الأجيال المحدودة أعراضاً - ودفع بعضهم فيه خدمات لا يرضها الشرفاء، للاحتلال ولغير الاحتلال؟
مالي ولهؤلاء؟ انهم لا يستحقون هذه الكلمات.
ولكن مشهداً في (بلاج الأرستقراط) لا أنساه:
هبط إلى حرمهم المقدس - وان لم تكن لهم حرمات - متسول عاجز. . . لا أدري كيف تسلل من عيون الشرط والحراس إلى تلك الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص! هبط إلى حيث أقامت الدولة سياجاً حول هؤلاء المقدسين، فراراً بهم من الشعب الملعون!(689/4)
هبط هذا المتسول العاجز القذر، يسأل من هناك قوتاً وطعاما. . . لله!. . . المسكين يعرف أن الله في كل مكان!!!
وإن هي إلا لحظة حتى توجهت إليه النظرات الشرر، مصحوبة بالتأفف والتقزز والاشمئزاز. وسرعان ما تداولته أيدي الشرطة والحراس، في حنق وغيظ: كيف جاز لهذا المنبوذ أن يطأ الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وبعد وساطة بعض الطيبين من حراس الشاطئ هناك رضى الشرطي أن يقذف به على (الكورنيش) ولا يقوده إلى (النقطة) وحسبه ما لقي من صفعات. . .
وفي وسط هذه المظاهرة تبرز في خفية وفي تلصص فتاة. . . فتاة خادم رقيقة الحال، تبرز لتندسس خفية إلى الرجل المسكين وتدس في يده شيئا وهي مذعورة. ثم تهمس في حذر: (أدي قرش ساغ يا عمي. بس إدي لي منه تعريفه. أحسن والنبي عايزاه وما عندي غير القرش ده)!
وبحث الرجل في جيوبه فوجد نصف القرش المطلوب. فكررت له الفتاة معذرتها في طلب نصف القرش، وأنا أسمع وأرى. ثم سارت تسرع الخطى، هابطة إلى الأرض المحرمة. فهي من هناك!
وفجأة وجدت نفسي تضطرب، فتسرع نحوها خطاي. وأمد يدي إليها بقرش قائلاً: خذي يا بنية قرشك الذي أعطيته للشحاذ!
ونظرت إلى برهة ثم قالت: (لا يا عم. إدية للراجل الغلبان. أنا موش عايزاه. أنا عايزه الثواب من الله!).
الله! لقد صدق الرجل في حدسه! فالله موجود في كل مكان حتى هنا في (بلاج الأرستقراط)!!!
سيد قطب(689/5)
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
يؤمنون بالحمار!
وليس هؤلاء الذين يؤمنون بالحمار من بقايا المشركين الأولين الذي يكفرون من جهلهم بالله رب العلمين، ويؤمنون بالِجبتِ والطاغوت، ولا الفراعنة الأقدمين عباد العجل، ولا من أخوان البوذيين الذين يؤمنون بالبقرة، ولكنهم قوم من المسلمين، ومن كبار الأدباء الشاميين، انظروا فرأوا للحمار مزايا وفضائل ليست لهذا الإنسان الذي يؤمن به أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم، فهو لا يكفر بالله، ولا يجحد بلسانه الإله الذي خلق له هذا اللسان كما يفعل الإنسان، ولا ينافق ويتخذ له وجهين، ولا يثير الحروب على إخوانه في الحماريّة، ولا يعرف جريمة القتل، ولا رذيلة الانتحار، ولا تشغله شهوته عن واجبه الحماري كما تشغل بني آدم، ولا يفكر في الأتان إلا مرّة واحدة في السنة ليقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع. . . ولا ينحرف بغريزته عن طريقها ف (يقترب. . .) من حمار مثله ويدع جميلات الأُتُن ذوات الخد الأسيل والذنب الطويل والساق النحيل. . . كما تنحرف غرائز بعض بني آدم. . ولا تتبرج إناثه التبرج المغري، ولا تعرف البغاء الرسمي في (المحلات العمومية) ولا البغاء الطليق على (البلاج)، ولا البغاء الفني في السينما والمجلات المصورة. . .
ولم يشاهدوا أتاناً ترقص رقصاً خليعاً، أو تدخل فرقة (مرشدات) ولم يسمعوا حماراً يغني غناء مخنثاً، أو ينظم شعراً رمزياً، مع سهولته عليه، وإنه لا يكلفه إلا أن ينهق نهيقاً من بحر جديدي مبتكر؛ ورأوه مع ذلك صابراً على ما قدر عليه، راضياً بما قسم له، لم يستغل هذه الحرب ليسرق شعير إخوانه. . . لا يغش ولا يرتشي ولا يخون ولا يعرف المكر ولا الحسد، ولا يتظاهر بالدين ليصل إلى الدنيا، ولا يتخذ العمل في الجمعيات الإسلامية سلما إلى المناصب؛ وهو يطيل التأمل ولكنه لا يؤذي أبناء جنسه بتدوين فلسفته، ويأتي حين يصوت بسجحات وصيحات لها في موسيقى الحمير جمال، ولكنه لا يكذب فيدعى أنه من كبار الملحنين؛ ويجئ بالبلاغة الحمارية المحدثة، ولكنه لا يزعم أنه مجدد في البلاغة كما يزعم بعض مشايخ بني آدم، لئلا يقال له: اخرس، فما تجديدك هذا إلا نهيق!(689/6)
رأوا ذلك فآمنوا بالحمار إيمان تقدير وتفضيل، لا إيمان دين وعبادة، فألفوا منذ ربع قرن (جمعية الحمير)، وجعلوها سّرية لأن الناس لم يستعدوا بعد لفهم هذه الأخلاق الحمارية، وتقدير أهلها، وكيف ولا يزال الواحد منهم إذا شتم آخر قال له من غروره وحماقته: يا حمار!
وقد خرج من هذه الجمعية رئيس وزارة ووزيران وخمسة من أعضاء المجمع العلمي العربي، وكان يعطف عليها ملك عربي عظيم ويصغي مستمتعاً إلى حديثها. والانتساب إليها صعب، لابد فيه من ترشيح ثلاثة من الأعضاء، وتقديم أطروحة في شرح مزية للحمار لم تعرف، وبعد مناقشتها (علناً) يقبل الطالب ويسلم إلى أحد الأعضاء لتطبيعه على طبائع الحمير، ثم يثبت عضواً أو يردّ. ولأن يصير المرء وزيراً أو أستاذا في الجامعة (بقانون خاص) أهون من أن يصير عضواً فيها
ولهم إشارة يتعارفون بها، هي التي سرقها منهم تشر شل فعمت الأرض، وهي الإشارة بالسبابة والوسطى إلى أذني الحمار، لا إلى أل (فاء) من (فكتوار)! ولهم اصطلاحات في كلامهم خاصة بهم، منها أنه إذا دعاهم كبير جاهل ممن يحب أن يجمل بالأدباء مجالسه، قالوا: هلم نذهب إلى المعلف. . .
وإذا وصفوا غناء عبد الوهاب (مثلا) قالوا: ما أجمل هذا النهيق، وإذا رأوا على غنّي من أغنياء الحرب ثوباً جميلاً، قالوا: ما أحلى هذه البرذَعة. . . وإذا شاهدوا داره، قالوا: ما أفخم هذا الإسطبل. وللجمعية درجات رفعوا بعضها فوق بعض، فأعلاها اليعافرة نسبة إلى يعفور حمار النبي صلى الله عليه وسلم، فالسيارون نسبة إلى حمار أبي سيارة الذي أجاز عليه الحجاج من المزدلفة إلى منى أربعين سنة، وكان يشق الناس ويقول:
خلوا الطريق لأبي سيارة
وعن مواليه بنى فزاره
حتى يجيز سالما حماره
مستقبل القبلة يدعو جاره
فقد أجار الله من أجاره
ولهم علم وأدب، وهم يفضلون بشاراً على الشعراء لأنه توصل بحدة ذهنه، وشدة ذكائه إلى(689/7)
التغزل بأتان على لسان حمار، ويقدمون خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي لأنهما كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين ويدافعان عنها، ويئنون على من ألف (خواطر حمار) ومن ترجمه. . .
وحديثهم طويل، فماذا يقول فيه الأستاذ عبد المنعم؟
أيقول إنهم (حمير. . .)؟!
أزمة القلوب في مصر:
أنا أحبكم والله يا أهل مصر، فخذوها مني كلمة محب متألم لا كلمة عدو ناقم، وإن مصر بلدي ومنها أصلي، وفيها قلبي؛ منحته أهلها ولم آخذ منهم شيئاً، لأنهم لم تبق لهم قلوب يحبون بها، قد ذهبت بها صبوات النفس، ونزوات الصبا، لقد أماتتها هذه المجلات الداعرة، وهذه الأفلام الخليعة، فأين الحب يحييها؟ أين الحب في البلد الذي لا تمنع فيه ثمرات الجمال؟ وهل يزكو الحب إلا على المنع؟ وهل يعيش إلا على الأمل؟ وهل يتغذى إلا بالألم؟
وهل الحب إلا تطلع إلى المجهول، وتشوق إلى ما وراء (الحجاب)؟ وهل أنطق الشعراء بآيات الغزل إلا ذاك؟ وهل هذه الآلاف من السيقان الباديات على سيف الإسكندرية تبلغ كلها من نفس الشاعر كما تبلغ ومضة من بياض ساق ليلى، لو بدت للمجنون وللعاقلين. . . ساق ليلى؟ فإذا لم تبالوا يا أهل البلاج. . . بهذا الشيء الأثري الذي يسمونه الدين فاحرصوا على الفن. حافظوا على الحب، فالحياة الحب والحب الحياة. . . فماذا تكون حياتنا بغير عاطفة ولا حب؟ وأين الشعراء يدافعون، لا عن الفضيلة، بل عن الحب الذي يحتضر على رمل الإسكندرية، على حين ترقص عند سريره الشهوات المعربدة وتصيح.
لقد كنا نقرأ (روفائيل) و (الأجنحة المكسرة) فترفعنا إلى عالم في السماء، عالم مسحور كله عاطفة وفتنة وطهر، فنتخيل فتاته في أحلامنا تطير في جوّ من العفاف ملفوفة بالنور، لا بل هو شيء فوق ذلك فما يبلغ قلمي الآن وصفه، فماذا يرى من يقرؤها اليوم من الشباب، انهم لا يتخيلون إلا فتاة الترام أو غادة البلاج، أو صبية السينما، فيسرعون إليها، فما تكون إلا دقيقة واحدة، حتى ينصرم الحلم، وتمحى الرؤيا، فتهبط من السماء إلى أعماق الفراش الدنس. . .(689/8)
أعظم العظماء في تاريخنا:
أعظم العظماء في تاريخنا السياسي خمسة، لست أنكر عظمة من عداهم، ولا أبخسه حقه، ولا أنزل به عن مكانته. وإني لأعلم إن في تاريخنا لعشرة آلاف بطل، ما تملك أمة مائة من أمثالهم، ولكن هؤلاء الخمسة معدن آخر، ما صنع الله منه بشراً غير نبيّ إلا هؤلاء الخمسة، فكانوا تحقيق المثل الأعلى الذي ينتهي إليه خيال الأديب، وتأمل الفيلسوف، وتصورّ الإنسان حينما يتصور الملك الكامل، والزعيم والحاكم، خمسة أوتوا من الذكاء أحدَّه، ومن الرأي أسدّه، ومن الإخلاص اشدّه، فأن وزنت عظمتهم بسعة نفوسهم، وجلال مواهبهم، وقيمة أشخاصهم، وجدتهم قد رجحوا في الميزان على كل عظيم من غير الأنبياء، وان قستها بآثارهم الباقية، وما صنعوا لهذه الأمة من مجد، وما خلفوا فيها من تراث عقلي أو وطني أو خلقي، ألفيتهم السابقين المبّرزين، وان رأيت ما أفادوا من خدماتهم، وما انتفعوا به من سلطانهم، وما كان لنفوسهم من حظ من ملكهم، وجدتهم عاشوا جميعاً مثلما يعيش رجل من غمار الناس، ما استأثروا بطيب من الطعام ولا لين من اللباس، ولا أورثوا فضة ولا ذهباً، ولا استفاد أبناؤهم منهم مالاً ولا نشباً وان عرضت بعد ذلك سيرهم عرض ناقد متعقب، أو نظرت إليها نظر عدوّ شانئ، لم تستطع أن تجد فيها عيباً؛ فلا أخطئوا في سياسة، ولا تعمدوا مظلمة، ولا حجزوا حرية الرأي، ولا أساءوا لمسلم ولا ذمي، ولا حنثوا مع محارب بقسم، ولا نقضوا عهداً، وكانوا مظفرين في الخارج في الحروب، مظفرين في الداخل بالسياسة. . .
أولئك هم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين.
(دمشق)
علي الطنطاوي(689/9)
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
النثر في شتى ألوانه:
في فصل مضى (من هذا البحث)، وقفت عند ثلاثة من الأدباء، كل منهم يثبت عند حد رسالته ولا يبرحه حتى يعود إليه. وهم يجمعون في هذه الرسالات بين الأدب والتربية والتوجيه. وكلها حين تجتمع وتتسامت مع غيرها (من الألوان)، تتألف منها صورة صادقة من صور الأدب الصحيح.
وفي هذا الفصل أتناول ثلاثة آخرين يختلفون من مناحي رسالاتهم (أيضاً). ولكن هذا الاختلاف (في رأيي) لا يعدو كونه من المتممات التي يشتمل عليها الأدب في شتى ألوانه كما أسلفت. وهؤلاء هم: (باحث سياسي خطيب) و (مؤرخ يصور دقائق المجتمع الذي يعيش فيه) و (عالم يبسط العلم في ثوب الأدب).
فأما الباحث الخطيب - والخطباء ذوو الآثار عندنا قليل - فهو الأستاذ عجاج نويهض ولعلى لا أغالي إذا قلت: إنه (سحبان) هذا الجيل. فقد عرفه الناس خطيباً مدرهاً، ولسناً مفوهاً. وهو إذا صعد منبراً تدفق الأتيِّ (مرتجلاً مبتدعاً)، وحلق إلى رفيع الأجواء مجتذباً معه القلوب والأسماع. فهو - من غير ما جدال - فارس هذه الحلبة وابن بجدتها، ومجلي هذا الميدان وصاحب قصبه.
وهو - إلى جانب ذلك - أديب مطبوع وكاتب سياسي لامع. وقد زامل النهضة العربية منذ شبابها، وكانت تربطه أواصر مودة مع كثيرين من أقطابها. فطالع الناس بمجلته (العرب) أدبية سياسية، رغبة منه في أن يساهم في بناء هذه النهضة مساهمة فعلية بقلمه وتوجيهه. فكانت - على قصر حياتها - منبر دعاة الحركة الفكرية الاستقلالية في العالمين العربي والإسلامي. واستمر ذلك من عام 1932 حتى عام 1934، حين تعرمّ (المستعمر) فكم الأفواه، وأخرس الألسن، وبدأ - من بعد - يصنع الأعاجيب!!
وكان الأستاذ - قبل ذلك - لا يبرح هذا الميدان في مجلات مصر وصحف الشام، ولعله(689/10)
كان أبرزها يوم ذاك (فتى العرب) في دمشق، و (كوكب الشرق) و (مجلة الفتح) المصريتين، وللأستاذ فيها من بديع الآثار ما ينتظم هالة جهاد وفخار.
وقد جمع له الأستاذ (محب الدين الخطيب) في كتابة (المنتقى) بعض محاضراته القيمة. وانك لتشهد أنها (قيمة) - لو قرأت أو سمعت - وليس الخبر كالعيان. . . وللأستاذ - عدا محاضراته وأبحاثه - كتب غزيرة النفع جليلة الأثر، بين مترجم وموضوع، أذكر منها: (حاضر العالم الإسلامي) وهو كتاب وضعه أحد العلماء الأمريكان بعد الحرب الأولى وصف فيه نهضة العالم الإسلامي (السياسية والاجتماعية)، وقد عربه الأستاذ (نويهض) لما رأى من أهميته، وعلق عليه الأمير (شكيب أرسلان) تعليقات مستفيضة جامعة. وقد صدرت طبعته الثانية في أربعة أجزاء وهو إلى أن يكون موسوعة إسلامية، أقرب منه إلى أن يكون كتاباً مقصور الأبواب.
ثم كتاب (النظام السياسي): وهو كتاب يبحث تطورات الأنظمة السياسية في المجتمع منذ أقدم عصورها إلى اليوم.
وله أيضاً (سيرة الأمير جمال الدين - عبد الله التنوخي) أحد أعلام لبنان في القرن التاسع عشر.
وأما أسلوبه: فهو يتحرر من كل قيد ويسترسل وراء المعاني، ويراعي فيه أن يتحسس مواطن التأثير في نفس القارئ أو السامع فيستدرجها إلى اليقظة، ثم يدفعها بعد ذلك حيث يشاء. واليك ما يقوله في كلمة عنوانها (الاستقلال العربي):
(الاستقلال: شق طريقه الشهداء الأبرار، فسكنت أجسامهم الأرضين، وأرواحهم الطاهرة أعلى عليين. عُلِّقوا على الأعواد، وجالدوا المستعمر أبسل جلاد. فاستشهدوا بين شمال الحجاز وبطاح العراق، وتطيّب ثرى ميسلون وارض فلسطين وسهول حوران بطيب أجلادهم وعظامهم.
نعم: الاستقلال العربي! الذي لذكره تهتاج النفوس العربية في كل مكان، وتهفوا قلوبهم إليه، وتحنوا ضلوعهم عليه. الأمة العربية قد استيقظت، فليشهد العالم! ولن ينكص العرب عن هذا السبيل حتى يستردوا حقهم المغصوب، ويستعيدوا ملكهم المسلوب. ويمتلكوا بيدهم زمام أمرهم وبلادهم خالصة لهم.(689/11)
وأمم كثيرة قبلنا كانت متفرقة مقهورة، فكتب الله لها أن تجتمع حزمتها ثانية، وان تعز بعد ذل، وتعلو بعد هبوط. ولكن كانت (التضحية) هي القائد، وكان (الفدى) هو الدليل.)
وأما المؤرخ (الذي يصور دقائق مجتمعه الذي يعيش فيه) فهو الأستاذ عارف العارف - وقد بدأ حياته الأدبية، يوم كان أسيرا في (سيبريا) أثناء الحرب الكونية الأولى. إذ أصدر هناك جريدة اسماها (ناقة الله) كان يحررها بنفسه. وقد اطلعت على بعض أعدادها التي مازال يحتفظ بها فألفيتها غاية في الطرافة.
ثم ألف كتاباً عنوانه (رؤياي) أثناء عودته (فاراً) من منفاه، عن طريق الصين فالهند، استجابة لداعي الثورة العربية الكبرى، بعد أن أضرم نارها يوم ذاك المجاهد الأكبر (الحسين ابن علي)، الذي قضى شهيد تلك الدعوة المباركة، ليرقد بعيدا عن مسقط رأسه عند مهوى الأفئدة، ومؤتم القلوب والأبصار، عند المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وكذلك قضى (الأخيار المصطفون) من أبنائه (علّى وفيصل وغازي)، وإنك - كائناً من كنت لتعلم من (أولئك)!!
ولقد ضمن الأستاذ (العارف) كتابه (رؤياي) ما كان يساور خاطره الفتى - إذ ذاك - من أحلام ذهبية مشرقة، وآمال باسمات عذاب. وحسبك من ذلك تعلم نبوءته ب (الجامعة العربية). ولم تكن هنالك للعرب دولة. بل لم تكن قامت لهم - بعد - قائمة. فأبصرها - فيما أبصر - ينتظم عقدها من كافة أقطار العروبة، بما في ذلك: عمان والبحرين وحضرموت وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش. كما أبصر لهذه الجامعة هيئة تنفيذية أسماها (اللجنة العربية العليا)، وهي تقوم على إمضاء ما تقره تلك الجامعة مما فيه صالح العرب قاطبة، يعززها جيش لجب مدرب، وأساطيل كثيفة، تمخر عباب الماء وتغمر عنان السماء. . .
ويمضى في (رؤياه) على هذه الوتيرة، يعدد ما يشاهده من مفاخر هذه الأمة، ويستعرض ما تكون قد وصلت إليه في ميادين التقدم والرفعة والمجد. فنرجو الله أن يحقق تلك الرؤيا كاملة غير منقوصة، بعد أن تحقق جانب منها. وما ذلك على الله بعزيز.
وللأستاذ (العارف) كتاب (القضاء بين البدو) وهو أول كتاب من نوعه، ترجم إلى عدة لغات، وفيه تصوير بارع لحياة البادية وتقاليدها وعاداتها ونظمها، وما يتقيد به البدوي في(689/12)
أفراحه وأتراحه وسلمه وحربه: ثم يشرح بعد ذلك الكثير مكن أقوالهم وحكمهم وشعرهم، وما يسير بينهم مسير الأمثال.
وله أيضاً (تاريخ بئر السبع) و (تاريخ غزة) و (تاريخ عسقلان) وجميعها مطبوع. ثم (تاريخ بيت المقدس) وهو تاريخ ضخم ما يزال إلى اليوم مخطوطاً. وفي سائر هذه الكتب يؤرخ لتلك المدن منذ أقدم الأزمنة إلى يوم الناس هذا، تاريخاً جامعاً شاملاً، لا تفوته فيه سانحة ولا بارحة.
واليك مثلا مما يكتبه، وهو جزء من كلمة يقدم بها كتابه (تاريخ غزة) فيقول:
(الوحدة العربية: تلك هي أمنيتي التي أحملها بين أضلعي، وسرت على هداها في أعمالي، منذ تعلمت وعرفت معنى (حب الوطن). وإنه ليسرني أن أرى هذه الأمنية التي كانت تعد في يوم من الأيام ضرباً من الخيال، أو حلما من الأحلام، أخذت في هذه الأيام تطل من وراء سحاب.
(وإني لا أشك قط في أنها ستصبح عما قليل حقيقة واقعة لا ريب فيها. وإن غداً لناظره قريب. . . وإنا إذا سرنا بقدم ثابتة إلى الأمام، اهتدينا إلى ضالتنا المنشودة في أقصر ما يكون من الوقت، وإلا فإن دون الوصول إليها خرط القتاد. . .).
وأما العالم الذي (يبسط العلم في ثوب الأدب) فهو الأستاذ قدري حافظ طوقان، عالم فلسطين الرياضي، وليس عندما من يضارعه في هذا الميدان. وبالرغم من عمله الذي يستنزف معظم فراغه (في إدارة كلية النجاح بنابلس)، فإنه أكثر من عندنا تأليفاً، وأوفرهم إنتاجا. فبينما تراه يتفرغ لتأليف كتاب من كتبه، تسمعه (أو تقرأ عنه) يحاضر في مختلف أنحاء فلسطين، وفي مواضيع علمية وأدبية وفلسفية وسياسية (أحياناً). وانك لو تتبعته في جولاته الكثيرة بين يافا وعكا والناصرة وحيفا وغزة بل وبئر السبع، لحسبته من (أهل الخطوة) الذين يتحدث عنهم جماعة (الصوفية)، وهو لهم - أي للصوفية - صديق وفي. ويشهد لي بذلك من سمعه في (نادى الناصرة)، وهو يجادلني جدالا عنيفاً في إحدى مشاكلهم المعقدة.
وكتبه بين مطبوع ومخطوط ورهن الترتيب والإعداد كثيرة. أذكر منها الكتب التالية: (الكون العجيب) وهو العدد الحادي عشر من سلسلة (أقرأ). ثم كتابه (نواح مجيدة من(689/13)
الثقافة الإسلامية) أصدره المقتطف عام 1936 وقد اشترك في إعداده مؤلفون آخرون ليكون هدية لقرائه. ثم كتابه (تراث العرب العلمي) وقد أصدره المقتطف أيضاً عام 1941 هدية إلى قرائه كذلك. ثم كتابه الجديد (بين العلم والأدب) وهو مجموعة مقالات ومحاضرات وإذاعات علمية وأدبية. ومن كتبه المخطوطة (الأسلوب العلمي عند العرب) وقد ألقى جانب منه في سلسلة محاضرات (ابن الهيثم) التذكارية في الجامعة المصرية. ثم كتابه (العقل في الإسلام) وفيه تحليل ومحاكمة واستقراء لكثير مما وصلت إليه الأبحاث الفلسفية في ظلال الدولة العربية الإسلامية على أيدي فلاسفة المسلمين.
وأما أسلوبه فهو لا يخرج عن حد قوله في كتابه الأخير حين يتحدث عن (الصفر) فيقول: قد يدهش القارئ إذا قلنا إن حساب التمام والتفاضل لا يستغني في بحوثه عن استعمال الصفر، بل إن الصفر عامل مهم جدا في تسهيل حل كثير من مسائلة العويصة. وعلى كل حال يمكن القول بأن (الصفر) ضروري ولازم في البحوث الرياضية الحديثة والعالمية. إذ جعل كثير من الأوضاع والمعادلات قابلة للحل غير ملتوية المسالك).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب اللغات السامية)(689/14)
صورة:
الذي له صومعة. . .
للأستاذ راشد رستم
هذا هو صباح المعادي في الصيف: خضرة وسكون وطير. ولست أقصد إلى المقارنة، فالإسكندرية اليوم، رمل وبحر (وسمك). . . كلاهما جميل، وكلاهما وفقاً للمزاج يختلفان. وحبذا في هذه الحياة مزاج الوفاق وتوافق المزاج.
وإني إذ اجلس وحيداً في هذا الصباح الهادي اللطيف، أذكر صاحبي هناك والدنيا حوله تفور وتصخب، وهو كما أعهده قابعاً في صومعة مفكراً راضياً ساخراً. . .
وإنها للذة أن يقنع المرء نفسه بصومعة ينطوي عليها وتنطوي عليه، فهي في الحق نظرية عملية، إذا استطاعها امرؤ فبشره بالفوز العظيم في معترك الجهاد الأكبر، إذ هي وحقيقة الحياة تسيران جنباً إلى جنب، والمرء فيها كالقطرة في النهر، لها وحدتها، ولكنها تجري وماء النهر من المنبع إلى المصب. . .
وهذا الذي يرونه فيلسوفاً ساخراً، ما هو إلا روح هادئ قانع قابع، لا قانط ولا ساخط، قد عرف الأشياء وعرفته، وجرب الحوادث وجربته، وسار مع الأيام وسيرته، ثم ارتفع بروحه إلى سموات التأمل والتفكير، مصطحباً الحس والشعور، حتى لا يضيع بين الوهم والغرور، وقد طوف في تلك الأرجاء مع القديم من الأحياء والجديد من الآراء، ثم عاد وفي نفسه أن ينظر ويرى.
فماذا يرى؟ - يرى أن يحتفظ بذاته، منفرداً غير وحيد، مبتعداً غير بعيد، فتحول بينه وبين ما يريد (جاذبية) الأم الحنون - هذه الأرض التي خلق منها، ولا أقول خلق (فيها) فقد يخلق الشيء من شيء ويوضع في شيء، فلا يستطيع البقاء مع الشيء الذي وضع فيه، ويرتد إلى الشيء الذي خلق منه. وقد يكون المرء في هذا غير فاهم ما يحصل له، وهو إذن في جهل ونعيم. وقد يكون فاهما ما يحصل له، وهو إذن في علم وشقاء. . .
وهذا آدم أبو البشر بل رمز البشر، وقعت له الوقعتين، فجهل الأولى وعرف الثانية. عرف أنه من التراب وإلى التراب يعود. ومن ينبه الذي يدرك ما هو فيه، هو المعذب في الحياة، يقاسيها لأنه يعلم انه لا مفر له منها. ويعانيها لأنها تعنيه. . .(689/15)
إذن ماذا يستطيع هذا أن يفعل غير أن ينفر ويسخر ثم يقنع ويقبع. يعيش مع نفسه وفي نفسه وان لم يكن لنفسه، يرجو أن يعيش وفق خطته وهواه، وان لا يزاحمه أحد في (دنياه)، وهو بعد ليس بالأناني، يحب نفسه ويكره سواه، ولكنه الإنسان يمنع الشر عن أي أحد، ويتمنى الخير لكل أحد، ويرجو ألا يصيبه الشر من أحد، حتى ولو لم ينله الخير من أحد. . . هذا تفكيره، فهل هكذا مصيره؟
يعيش هكذا في (دنياه)، معتزاً بروحه ورضاه، معتزلا غير منعزل، لا يهمل كما لا يحفل برأي الناس فيه، ولا يعني بما ليس يعنيه. . .
غير أن الأيام وقد أظن أنها كفلته وأمنته تأتي فتمرضه وتشفيه، فيعلم مداه من اليأس والبأس، فيأنس دون أن يبتئس أو ييئس.
ثم يعود فتفقده عزيزاً غالياً، فينتبه من تيه، ويرى شيئاً لم يكن يرتئيه، يحس بأن المصير، هو غير ما كان عليه التفكير،
ويأخذه الذهول، وكأنه يرضيه أو أنه قد يشفيه مما صار فيه، ولكنه يحس دبيب الأسى يوقظه، ويحركه ويدفعه، فيمشي يتلمس في الوجود، الموجود والمفقود، لا والد ولا مولود، يفتقد صاحبه فلا يجده، ويذكر هواه ولا ينساه، ويهفو ولا يلهو، فيراه الناس كئيباً حزيناً، ثم يراهم يحسبونه مثلهم - ساعة وكل شيء يزول. . .
ساعة وكل شيء يزول! فيعجب ثم يضطرب بل ينتفض ويرتعد ويبتعد قليلاً. . . ثم يعود، فلا يراه أحد كئيباً حزيناً، فقد خجل أن يكون مثلهم، وهو. . . هو الكئيب الحزين. . .
يدخل الصومعة ولكنه يسير بها في المعمعة. . .
راشد رستم(689/16)
الشريعة الإسلامية وأعلام القانون في هذا العصر
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
عنيت طائفة من علماء الغرب ومحبي البحث بآثار المشارقة وعلومهم وفنونهم، فكان منهم الباحث في اللغة العربية خاصة، واللغات الشرقية عامة: يبحث في أصولها ومشتقاتها وتطور ألفاظها وكلماتها، ومنهم المطلع على آدابها والمعنى بطبع أهم الكتب العربية والأدبية ونشرها بعد تصحيحها وضبطها وتعليق الحواشي بما يعين على الفهم ويفتح المستغلق.
ومنهم من تعدى ذلك، فبحث في العلوم الشرعية من علوم القرآن والتفسير والحديث. ومنهم من نظر في الفقه الإسلامي، فاطلع على دقائقه وغاص في بحره، وعلم أن فيه ثروة واسعة وكنوزا نفيسة، فنوه بشنه وشاد بذكره، ولفت أعلام القانون في وطنه إلى هذه الثروة القانونية فأعجبوا بها، وأقروا بقوتها ومبلغ أثرها في الحضارة والإصلاح.
وإلى هؤلاء، تجد عنقاً من أقطاب القانون في مصر وغيرها من الأقطار الشرقية - قد عرفوا إثراءها وخصبها والحياة القوية الكامنة فيها، فدعوا إلى النهل منها واتخاذها أساساً يرجع إليه في التشريع في مصر وغيرها من البلاد لعربية والشرقية.
وإنا لذاكرون هنا آراء بعض أئمة العلم والقانون - في الشريعة الإسلامية من أولئك المنصفين من غربيين وشرقيين لتعرف أن الحق لا يعدم نصيراً، وإنه يجب اتخاذ تلك الشريعة أساسا ومصدراً لتشريعنا في هذا العصر:
1 - يرى الأستاذ لامبير الفرنسي: أن الكتب والمؤلفات الموضوعة في الشريعة الإسلامية كنز لا يفنى، ومنبع لا ينضب، وإنه خير ما يلجأ إليه المصريون في العصر الحاضر في البحوث العلمية حتى يعيدوا لمصر ولبلاد العرب هذا المجد العلمي الذي أخذ الزمن يطويه بحكم الإهمال وعدم العناية به.
وكان يظن أن للقانون الروماني أثرا كبيراً في الشريعة الإسلامية ولكن استبان له بعد أن عمق النظر فيها، وأوغل في دراستها، واتصل بعلمائها أنها شريعة مستقلة بذاتها.
2 - وقال (ليفي أولمان) الأستاذ بكلية الحقوق بباريس في رسالة الدكتور محمد صادق فهمي التي ألفها في الإثبات باللغة الفرنسية، وعرض فيها لما قرره علماء الشريعة(689/17)
الإسلامية وبخاصة ابن قيم الجوزية:
(إن كتاب الدكتور صادق جدير بان يلحق بالكتب المكونة للمجموعات العلمية القانونية الحاضرة كمجموعة سالي وغيره من رؤوس القانون في عصر النهضة القانونية الحاضرة، كل ذلك على اعتبار الشريعة الإسلامية في المعاملات مصدراً حياً للقانون العصري، ومناطاً للحق في أطواره المختلفة.
3 - وقال الدكتور (أنريكو انساباتو): إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية، بل هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً.
4 - وقال بعض الفقهاء، الشريعة الإسلامية بحر لا ساحل له.
5 - وقال فارس بك الخوري في حفل أقيم في دمشق لإحياء ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم:
إن محمداً أعظم عظماء العالم، ولم يجد الدهر بمثله. والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمداً أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية.
إن محمداً الذي تحتفلون به، وتكرمون ذكراه أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم: فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العلم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عنيت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسس تعد من أرقى دساتير العالم وأكملها.
6 - وقال العلامة سنتيلانا في بعض مؤلفاته:
(إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل إن فيه ما يكفى الإنسانية كلها).
7 - وقال الأستاذ سليم باز المسيحي اللبناني شارح مجلة الأحكام العدلية:
(إنني أعتقد بكل اطمئنان إن في الفقه الإسلامي كل حاجة البشر من عقود ومعاملات وأقضيه والتزامات، وليس الشاهد على ذلك ما هو مائل للأنظار في دار الكتب المصرية وخزائن الكتب في البلاد الإسلامية فحسب، بل فيما حوته خزائن دور الكتب الأوربية(689/18)
أيضاً من ليدن في هولندا إلى روما وبرلين وباريس والمتحف البريطاني، بل إلى المكتبة البابوية في قصر الفاتيكان، فإن ما في هذه المكتبات من الكتب الفقهية الإسلامية إنما هو ثمرة جهود الألوف الكثير من فحول العلماء، وهي الشاهد الأكبر على أنه لا يوجد معنى من معاني الأحكام المنشود فيها العدل، ولا حاجة من حاجات البشر في التشريع تقدم لفقيه مسلم قول فيه.
8 - وقال كيهلر العالم القانوني الألماني - حينما اطلع على رسالة الدكتور محمود فتحي في مذهب الاعتساف في استعمال الحق عند فقهاء الإسلام:
(إن الألمان كانوا يتيهون عجباً على غيرهم في ابتكار نظرية الاعتساف والتشريع لها في القانون المدني الألماني الذي وضع سنة 1787م، أما وقد ظهر كتاب الدكتور فتحي وأفاض في شرح هذا المبدأ عند رجال التشريع الإسلامي، وأبان أن رجال الفقه الإسلامي تكلموا عنه طويلا ابتداء من القرن الثامن الميلادي - فإنه يجدر بالعلم القانوني الألماني أن يترك مجد العمل بهذا المبدأ لأهله الذين عرفوه قبل أن يعرفه الألمان بعشرة قرون، وأهله هم حملة الشريعة الإسلامية.
9 - وقال العلامة الأستاذ شبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فينا في مؤتمر الحقوقيين سنة 1927م:
(إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة).
10 - وقال هوكنج الأمريكي أستاذ الفلسفة بجامعة هارفرد في كتابه (روح السياسة العالمية):
(إني أشعر بأني على حق حين اقدر أن الشريعة الإسلامية تحتوي على جميع المبادئ اللازمة للنهوض).
11 - وقال الدكتور عبد الرزاق السنهوري عميد كلية الحقوق المصرية السابق من محاضرة له:
(علينا أن نأخذ في دراسة الشريعة الإسلامية طبقاً للأساليب الحديثة، وأن نقارن بينها وبين(689/19)
شرائع الغرب، وإني زعيم لكم بأن تجدوا في ذخائر الشريعة الإسلامية من المبادئ والنظريات ما لا يقل في رقى الصياغة وفي أحكام الصنعة عن أحدث المبادئ والنظريات وأكثرها تقدما في الفقه الغربي).
12 - وقال الدكتور عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة، وهو القانوني المتضلع، والرجل المنصف الذي عرف للشريعة الإسلامية قدرها، وبذل غاية وكده في إنصافها: (إن بحوث أهل الشريعة الإسلامية في المعاملات مستفيضة بكثرة لا حد لها، وفيها كنوز قيمة من البحوث العلمية والعملية في المعاملات؛ هي أكبر تراث تركه الآباء في البلاد الناطقة بالضاد).
وقال في موضع آخر:
(إن الشريعة الإسلامية مليئة فيما يتعلق بالمعاملات بأصول مدنية غاية في الدقة والمتانة. . . ولأحكامها في المعاملات من القدرة والقوة والتفوق ما يجعلها بحق في مستوى واحد مع القوانين المدنية العصرية من حيث الدعائم الأولى لعلم القانون، ولعلم القانون المقارن. . . إلى أن قال:
(وفي الأخذ بالشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية تمكين للنزعة القومية في مصر، وانتصار للكيان الشرقي العربي وكرامته، وفيه إحياء لمجد مدفون بغير حق، وبعث لحياة شرقية عربية جديدة بحق).
13 - وقال الأستاذ علي بدوي المحامي وعميد كلية الحقوق السابق من مقال له عنوانه: (مكانة الشريعة الإسلامية في الفقه الحديث).
(ليست مظاهر استقلال الفقه الإسلامي وتفوقه محصورة في القواعد المدنية والأحوال الشخصية. . . ولكنها تبينت كذلك في عدة مواضع من التشريع الجنائي الإسلامي). . . ثم قال:
(إن الشريعة الإسلامية تشمل من مبادئ القومية ونظمها ما لا يقل في سعة النطاق وفي تهذيب الفكرة عن أحدث المبادئ والنظم الوضعية، ومنها ما لم يكن له مثيل في نظم العقوبات الرومانية، ومن هذه النظم نظام الحسبة في الشريعة الإسلامية، وهي وظيفة اجتماعية في العصر القديم تقابل وظيفة النيابة العمومية في العصر الحديث. ومنها كذلك(689/20)
نظام العقاب بالتعزير، وهو أن يترك تحديد العقوبة - نوعاً ومقداراً - إلى تقدير القاضي بحكم بها تبعاً لما يتضح لديه من ظروف كل جريمة، ولحالة المجرم ونفسيته ودرجة ميله إلى الإجرام، وهو نظام تمتاز به الشريعة الإسلامية على الشرائع الأخرى، وينادي به كبار العلماء الجنائيين في العصر الحديث، حتى تكون العقوبات محققة للغاية من تشريعها).
14 - ثم جاء قرار المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد بلاهاي في أوائل أغطس سنة 1937م - مظهراً فضل هذه الشريعة ورسوخ قدمها وعلو كعبها، وهو الذي جمع أقطاب القانون وأعلام الشرائع في العصر الحاضر - وخلاصته أن الشريعة الإسلامية حية صالحة للتطور ومسايرة المدنية الحديثة، وأنها لذلك جديرة بأن تشغل مكانة ممتازة بين مصادر القانون المقارن).
وبذلك أحرزت الشريعة الإسلامية قصب السبق، وفازت فوزاً عظيما، واعترف بمجدها الخالد الغربيون.
حسن أحمد الخطيب(689/21)
مراكش بين الحاضر والمستقبل
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
لم يكن الفرنسيون يقدرون تمام التقدير الحركة الوطنية في مراكش قبل الحرب الأخيرة. كانوا ينظرون إليها على أنها أحلام مزخرفة تتراءى لجماعة من الشبان بعيدة كل البعد عن الوقائع والمحسوسات؛ وكانوا يقولون إن هناك هوة سحيقة بين هذه الجماعة من الشبان وبين بقية الشعب، ولذلك ظلت الحركة الوطنية في جزر ومد إلى أن كانت سنة 1937 حينما اغتالت السلطة الفرنسية هذه الحركة وشردت زعماءها في المنافي والسجون.
ولكن الحركة الوطنية في مراكش كانت قد آتت ثمارها في نفوس الشعب قبل هذا التاريخ، ولذلك فإن مظهر الشلل الذي أصابها بعد ذلك لم يكن له أي اتصال بالجوهر والصميم. كان من العوارض التي تنزل بالأمم عندما تصاب بالنكبات القاصمة، فتذهلها فترة من الزمن عن أيمانها، ولكنها لا تخنق فيها نبض الحياة متى كان للحياة نبض في أعماقها. حتى إذا استأنس الشعب بالنكبة وألفها، بدأ إيمانه يستيقظ في شكل همس ثم في شكل صوت ثم في شكل جلجلة مدوية.
وهذا ما حدث في مراكش بالضبط: تظاهر ضدها الموت والجوع والحرب والاضطهاد، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تواصل كفاحها السياسي، وأن تتقبل كل التهم التي وجهت إليها كما تتقبل العذراء البريئة تهم الإفك والبهتان. بل استطاعت في خلال الحرب ذاتها أن تخوض في صمت وجلد، وهي بعيدة كل البعد عن الضمير العالمي، معركة استقلالية دامية، وجه الفرنسيون خلالها نحو قلب هذه البلاد الباسلة كل ما يملكون من حديد ونار، دون أن يستطيعوا إخماد النبض فيه. وإذن فالمسألة ليست مسألة شبيبة حالمة، وإنما هي مسألة نظام بال تقادم عليه الدهور وتزعزع. إنها الأخطاء الفرنسية بدأت تؤتي ثمارها الكريهة المسمومة. إنه الشعور بالذات في أمة لم تصمم على الاستمساك بالحياة فحسب، بل صممت أيضاً على أن تعيش حياة حرة كريمة تختلف كل الاختلاف عن الحياة التي عرفتها منذ ثلث قرن مضى في ظل الحماية الفرنسية.
ظلت فرنسا طيلة مدة الحرب تقريباً مهددة في كيانها، فشككها ذلك في تلك السياسة العتيقة التي كانت تسير عليها في الشمال الأفريقي، وظهر لأول مرة في الأحزاب الفرنسية من(689/22)
ينادي بما يسمى تارة إعطاء الحقوق أو عدم الاضطهاد أو المساواة بين سكان جميع الأراضي الخاضعة أو التابعة لفرنسا. وبدأت تظهر نتائج هذه الأفكار بالنسبة لمراكش، فأطلق سراح الزعماء الذين قلنا عنهم فيما مضى إن فرنسا اغتالت الحركة التي كانوا قائمين بها سنة 1937، وعلى رأسهم الأستاذ محمد علال الفاسي بطل حوادث تلك السنة. وظهرت كذلك في الوسط الحكومي أفكار نيرة كانت تعد إلحادا قبل الحرب الأخيرة، فبدأ الناس يقرؤون في البلاغات الرسمية ويسمعون في الدوائر الحكومية عن حقوق الشعب والرخاء العام، والعمل للمستقبل، ومحاربة لجهل والفقر والجوع. . . الخ. وهذا شيء جديد بالنسبة لما قبل الحرب في مراكش
وهكذا اعتقد الناس أن الطريق نحو المستقبل قد بدأ يلوح أمام هذه الأمة التي ضلت تلك الطريق منذ زمن ليس بالقصير. بيد انه يظهر إن الفرنسيون لم يستطيعوا أن يتخلصوا نهائياً من تلك الأفكار العتيقة التي كانوا يسوسون إمبراطوريتهم على ضوئها. وبالرغم من أنه لم تمر سوى بضعة شهور على هذا الاتجاه الجديد في السياسة الفرنسية فقد بدأ يظهر في افقها نوع من التردد الواضح، وما يدل على أن الفرنسيين لا يزالون بعيدين عن الأيمان العميق بتلك الأفكار الجديدة التي دفعتهم إليها الحرب الأخيرة.
ومصدر هذا التردد هو أن الفرنسيين اعتقدوا أن سياسة اللين أجدى على الإمبراطورية من سياسة العنف، أي أن هدف اللين اليوم هو نفس هدف العنف. بالأمس. ودليلنا على ذلك هو أن مشروع الوحدة الفرنسية الذي أشارت إليه المادة 41 من الدستور الذي خذله الفرنسيون في الانتخابات الأخيرة، لم يقم أي وزن لآراء هذه البلاد ولم يوص باستشارتها بل فرضها فرضاً؛ فهو مشروع فرنسي من فرنسا وإلى فرنسا.
أضف إلى ذك أن سفير فرنسا ومقيمها العام الجديد في مراكش، وهو الذي أرسلته حكومته لانتهاج خطة جديدة في هذه البلاد التي أنهكتها القلاقل - أعلن برنامجاً سياسيا اعتبره المراكشيون ضربة لآمالهم في الصميم، ووصفوه بأن تماد مع سبق الإصرار في فرض الحماية والإغراق في تنفيذها، هذه الحماية التي حاربوا طول مدة ثلث قرن في سبيل القضاء عليها. والبرنامج يتحدث عن السنين البعيدة المقبلة مقرونة بالحماية وما سوف تقوم به في المستقبل من أعمال، ولم يشر البرنامج أية إشارة إلى الإصلاح السياسي أو إعادة(689/23)
النظر في المعاهدة، بل اكتفى بالإشارة إلى الإصلاحات المادية المختلفة ناسيا أن يذكر أن الحماية الفرنسية كانت مصدرا رئيسيا لكل هذه الويلات التي تعانيها مراكش، والتي يظهر أن الفرنسيين لا يفهموها، فإن من الواضح بعد هذه التجربة الطويلة أنه لا يمكن القيام بأي إصلاح في هذه البلاد ما دامت الحماية قائمة، بل يرجح القارئ أن واضع البرنامج لم يسمع شيئا عن مشروع الوحدة الفرنسية؛ فهو مهما يقل فيه اعتراف صريح بأن النظام القائم الآن لم يعد صالحاً وكأنه لم يسمع شيئاً أيضاً عن تاريخ مراكش خلال ثلث القرن الأخير.
وإذن فنحن لا نتردد في القول بأن مستقبل مراكش ما يزال محفوفا بالأخطار، وإن الابتسامة الحاضرة هي صرف للنظر أو تخدير للأعصاب. هي كسب للوقت بالنسبة لفرنسا وإضاعة للوقت بالنسبة لمراكش، ولكن الذي يسرنا أن نعلنه هنا هو أن حزب الاستقلال المراكشي، وهو الحزب الذي يعبر عن صوت الأمة القوى المجلجل، قد أعلن سخطه على بوادر السياسة الفرنسية ورفض أن يتعاون مع الحكومة أو أن يهادنها ما لم تعلن صراحة أن معاهدة الحماية ملغاة. وبعد ذلك تبدأ المفاوضات بين حكومة مراكشية شرعية وبين حكومة فرنسا لعقد معاهدة جديدة بين الطرفين.
لن يقبل المراكشيون غير هذا، والظاهر إلى الآن أن فرنسا غير مستعدة للنظر فيما يشبه هذا، وإذن فمراكش ما تزال مهددة بأن يكون لها مستقبل شبيه بذلك الماضي القريب، خصوصاً إذا لم يصل وفد حزب الاستقلال الذي يوجد الآن في باريس مع رجال فرنسا إلى نتيجة مرضية، ففي حاضر مراكش الآن هدوء ولكنه ربما كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.
عبد المجيد بن جلوق(689/24)
من عجائب التصحيف
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . ومن عجائب التصحيف أن أحدهم ربما يقع فيه فيخرج بما هو خير من الأصل، بتصحيح حسن للصحيح، فيقبل ذلك منه ويحتفظ عنه. . . كالذي يروى عن جابر بن هبة الله أنه قرأ على الحريري مقاماته - في سنة أربع عشر وخمسمائة. فلما بلغ قوله:
يأهلَ ذا المغنى وُقيتم شرا ... ولا لقيتُم ما بقيتم ضُراً
قد دفع الليُل الذي اكفهرَّا ... إلى ذراكم شَعِثاً مغْبرَّاً
قرأها (سغباً معترَّا). . . ففكر الحريري ساعة ثم قال: والله لقد أجدت التصحيف فإنه أجود، فرب شعثً غير محتاج، والسغب المعتر موضوع الحاجة. ولولا أني قد كتبت خطى إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قُرِأت علي، لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.
وربما كان يفضي التصحيف أحياناً إلى بركة ونفع، ويعود بخير على قارفه أو على من يتصل به. . . كالذي يروى أن تميم بن زيد القضاعي كان والياً على الهند، وكان في حبسه رجل يقال له خُنيس أو حُبَيْش؛ فلما طال حبسه أتت أمه قبر غالب بن صعصعة (أبو الفرزدق الشاعر)، فأقامت عنده حتى علم الفرزدق بمكانها فأتته وذكرت حبس ابنها، فكتب إلى تميم بن زيد:
فهب لي حبيشاً واتخذ فيه منَّة ... لغصة أمٍ ما يسوغ شرابُها
أتتني فمادت يا تميم بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليه ترابها
تميمَ بن زيد لا تكوننَّ حاجتي ... بظهر، فلا يخفى عليك جوابُها
فلما أتاه الكتاب لم يدر أحبيش أم خنيس، وفي حبسه عدة حبيش وخنيس، فأطلقهم جميعاً. . .
وحكى أبو الحسن بن الكوفي عن محمد بن عبيد عن شيخ له أن رجلا كان يقرأ على الأصمعي شعر النابغة فقال: كليني لهًّمٍ يا أميمة باضتِ. . . يدل ناصبِ. فقال الأصمعي: أما علمت - ويلك - أن كل ناجمة الأذنين تحيض، وكل سكَّاء الأذنين تبيض! فصار تصحيف الرجل فائدة لنا. ثم قال ابن الكوفي: لا أعلم تصحيفاً جر فائدة إلا هذا الحرف!(689/25)
على أن للتصحيف - على عكس ما ذكرنا - جنايات، قد تلحق غير أهله، وشؤما ربما أصاب من لم يتعلق منه بسبب. فمن الذين جنى عليهم التصحيف حبيش بن الحسن الأعسم أحد تلاميذ حنين بن اسحق الطيب. قال القفطي: (من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له، فإن أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين. وكثيراً ما ترى الجهال شيئاً من الكتب القديمة مترجماً بنقل حبيش، فيظن الغّر منهم أن الناسخ أخطأ في الاسم، ويغلب على ظنه أنه حنين وقد صُحِّف، فيكشطه ويجعله لحنين!
ولعل ابلغ جنايات التصحيف إنما وقعت على مخنَّثي المدينة الذين خصي ستة منهم أو سبعة بشؤم تصحيفه واحدة. وحديث ذلك أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى أبن حزم أمير المدينة أن أحص من قِبَلك من المخنثين. فصحَّف كتابه فقرأها: أخص من قبلك من المخنثين (بالخاء المنقوطة)، فدعا ابن حزم بهم فخصاهم. وكان ممن خصي بشؤم هذه النقطة: طويْس ودلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى ونسيم السحر وضرة الشمس.
قال جعدبة: قلت لكاتب ابن حزم: يزعم المخنثون أنه كُتِب إليهم أن (أحصِهم). فقال يا ابن أخي! عليها نقطة إن شئت أريتكها. . . قال: وقال الأصمعي في روايته: عليها نقطة مثل سهيل، ولما وقعت الواقعة على طويس قال: هذا الختان الأكبر! وقال نسيم السخر: أف لكم، ما سلبتموني إلا ميزاب بولي!
هذا، وللمصحفين لجاج يدفعهم إليه ضعف مُنَّتهمَ عند الحاجة، وقد يفضي بهم ذلك إلى الإفراط في المهارة وإلى الكذب والدعوى والاختلاق، على حد قول القائل في أحدهم:
يكسر الشعر فإن عاتبته ... في محال قال في هذا لغة!
حدّث المبرد قال: أنشدنا يوما أبو العلاء المنقري:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومرى
فقلت: باللام. فقال: كذا قلت باللام فحومرلي!
وقال محمد بن عمر الجرجاني: صحف ابن الإعرابي في شعر الكميت وأنا حاضر، فأنشد:
فبانوا من بني أسد عليهم ... نجارٌ من خزيمةّ ذي القبولٍ
فقلت: إنما هو (باتوا) بالثاء. فلوى شدقه!
فقلت: إن بعد هذا البيت ذِكرُ البيت:(689/26)
وقالوا بالأيامن منتماهم ... فيا بعد المبيت من المقيل!
فقال: لا يُلتفت إلى هذا! ثم بلغني أنه ينشده كما قلت له!!
وحدث علي بن الحسن الإسكافي قال: لما خرج (بغاء) إلى منبج متقلداً أمرها كان معه كاتب، فقرأ عليه يوما كتاب عامله بسميسْاط، وأن فلاناً سقط عن (يرذونة) يعني (برذَونه). فقال بغاء: مايرذونة ويحك؟؟ فقال: جبل بين سميساط والروم، وهو الحد بينهما. قال فلم ندر من أي شيء نعجب، من تصحيفه، أم من أتحاجه بما احتج به!؟
وقد وضع اللغويون في التصحيف والتحريف كتباً كثيرة، ولكن لم يصل إلى أيدينا منها إلا القليل. ونحن نشير هنا إلى أهم هذه المصنفات وأسماء مؤلفيها:
1 - كتاب تصحيف العلماء لأبى محمد بن قتيبة (توفى عام 270هـ).
2 - المصَّحف لعي بن لحسن الهنائي (توفى بعد سنة 309هـ).
3 - الكلام على ابن قتيبة في تصحيف العلماء لأبى محمد ابن درستويه (توفى عام 347هـ).
4 - التصحيف والتحريف وشرح ما يقع فيه، للحسن ابن عبد الله بن سعيد العسكري (توفى عام 382هـ).
5 - التصحيف للدارقطني - أبو الحسن علي بن عمر (توفى عام 385هـ).
6 - الرد على حمزة في حدوث التصحيف لأسحق ابن أحمد الصفار (توفى بعد عام 405هـ).
7 - التصحيف والتحريف لعثمان بن عيسى البلَطي (توفى عام 599هـ).
8 - متنزه القلوب في التصحيف، لعلي بن الحسن الحلي (توفى عام 601هـ).
هذا ما عنًّ لنا أن نبسط القول فيه من موضوع التصحيف والتحريف؛ وقد أغفلنا ما كنا أزمعنا الإشارة إليه من طرائف التصحيفات التي وقعت لنا خاصة، أو لبعض معارفنا من أفاضل الأدباء على هذا العهد، فلذلك مجال آخر من الحديث، ولسنا نكره أن يسبقنا إليه بعض الأدباء ممن تتوفر لديهم بواعث الإفاضة فيه.
ومنا إلى الأستاذ الطنطاوي - الذي بعثنا على كتابة هذه الكلمة بين سغَب رمضان وحر الصعيد - أطيب تحية وأزكى سلام. . .(689/27)
(جرجا)
محمود عزت عرفة(689/28)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
ولخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
في ميدان السياسة:
نفض ملتن يديه من الخصومات، ولبث يترقب أنباء الحرب، وإن الحنين إلى الشعر ليزداد في نفسه يوما عن يوم، حتى ليكاد يجزم أنه عائد إليه عما قريب وجاعل همه كله إليه، كما كان أمره قيل أن ينصرف عنه سنة 1641 إلى الحرب التي أوقد نارها على القساوسة معتقداً أنها كانت مما يقضي به عليه الواجب نحو وطنه في ذلك الوقت.
ولكن حديث السياسة يشغل باله ويستأثر بفكرة أحياناً على الرغم من حنينه إلى الشعر، حتى ليحسب أصحابها أنها هي اليوم كل همه، ولذلك يحاورون في أمره: أكان إلى الشعر يومئذ أم كان إلى السياسة ميله؟ ولقد نظم مقطوعة سنة 1648 يمجد بها القائد الظافر فيرفاكس، ومنها يتبين القارئ شدة اهتمامه في ذلك الوقت بالسياسة والحرب، وقوة تحمسه لقضية البرلمان. قال ملتن: (أي فيرفاكس، يا من يجلجل اسمك كجندي في أنحاء أوربا جميعاً، فيملا كل فم بالحقد أو بالثناء عليك، ويملا الملوك الحاقدين جميعاً عجباً منك، ويرسل الشائعات المدوية فتخفيف أقصى الملوك موطناً. إن بسالتك الوطيدة التي لا تتزعزع لن تزال تأتي لوطنك بالنصر، ولو أن ثائرين جددا يرفعون رؤوسهم الشبيهة برأس الهيدرا، والتمثال الخؤون يعلن ما نقض من عهد ليريش أجنحتهم الخاتلة، وان عملا أجل مما فعلت لا يزال يرجى على يديك حتى يتحرر الصدق والحق من ربقة العنف، ويتخلص الإيمان العام بالعدالة مما اتسمت به الحياة من سمة مخجلة هي التدليس العام، إلا أن الحمية لتنزف الدم عبثاً، بينما نرى الجشع والسطو يقتسمان الأرض).
الحق إنه لم يكن لملتن مندوحة على السياسة وأنبائها، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يتجنبها ما استطاع، ومهما يكن من شدة حنينه إلى الشعر وعظم رغبته في أن يعود(689/29)
إليه، وقد حبس نفسه عليه سنين من عمره، وتوفر على دراسة وسائلة وأسباب النبوغ فيه؛ فما كان بقادر على أن يعتزل قضية الحرية، وهو نصيرها في كل وجه من وجوهها، وانه وقد استطاع أن ينتزع نفسه من الشعر انتزاعاً سنة 1641 ليوقد نار الحرب على القساوسة دفاعاً عن الحرية ليجد اليوم من اليسير عليه أن يرجئ العودة إليه، ولو إلى أجل قريب لينظر ماذا تكون عاقبة ذلك الصراع العظيم بين الملك والبرلمان، أو بين سلطة الفرد وسلطة الشعب.
وكان ذلك الصراع العنيف بين الملك والبرلمان صفحة مجيدة في تاريخ الحرية، أو فصلاً رائعاً من تاريخ الإنسانية في تمردها على الأغلال وأنفتها من الاستعباد، أو على حد تعبير مكولي في قوله: (لقد عاش ملتن في عصر من أبقى العصور ذكراً في تاريخ البشر، حيث كانت ساعة الفصل في ذلك النزال العظيم بين هورومازدو أهريمان بين الحرية والطغيان، بين العقل والهوى، ولم تكن هذه المعركة العظيمة من أجل جيل واحد ولا من أجل وطن واحد، وإنما ارتبطت مصائر الجنس البشري كله بما يكون من مصير الحرية لدى الشعب الإنجليزي، فها هنا أعلنت لأول مرة تلك المبادئ الغلابة التي اتخذت منذ ذلك الحين سبيلها إلى أعماق الغابات الأمريكية، والتي أثارت ثائرة اليونان على ما ضرب عليهم ألفى سنة من الذلّة والتدهور، والتي أوقدت في قلوب الشعوب المظلومة في أوربا من أحد طرفي القارة إلى طرفها الآخر ناراً لا تنطفئ جذوتها، وأرهكت مفاصل الطاغين بما لا قبل لهم به من خوف).
ونحسب بل تكاد في الحق نجزم أنه لولا ما كان فيه ملتن من شغل شاغل بمحاربة القساوسة، ثم بما مني به من خيبة في زواجه، وما جره ذلك عليه من خلاف شديد بينه وبين البرسبتيرينز وحرب منه أدارها عليهم، ما كان ليذر قضية البرلمان بضع سنين بغير دفاع منه في كتيبات كتلك التي نشرها سنة 1641، فإن رجلا له مثل روحه الحرة الوثابة، ومثل ثقافته الواسعة الممتازة، لخليق بأن يناضل بقلمه في تلك المعركة الدائرة في سبيل الحرية، وجدير إلا يكون نضاله بالقلم أقل بأساً من نضال الشاهرين سيوفهم الباذلين في سبيل النصر أرواحهم.
ونعتقد أن يأسه من الإصلاح وحنقه على بني قومه لعزوفهم عما دعاهم إليه لم يكن كما(689/30)
حسب بعض الناس ليميل به عن السياسة يائساً منها كما يئس من غيرها، بل لقد كانت المعركة الدائرة هي أمله الباقي الذي ينبثق نوره فيما يكتنفه من الظلمات، ولذلك علق عليها من الرجاء مثلما يعلقه الغريق على آخر أمل له في النجاة!
ولملتن اهتمام بالسياسة من جهة أخرى، فهو خصيم البرسبتيرينز، ويود لو يذهب سلطانهم. وهو منذ حملتهم عليه أقرب إلى المستعلين مذهباً، بل وأكثر منهم استقلالاً، ولذلك فهو يتمنى نجاحهم ويتجه بقلبه إلى كرمول وجنوده، ويتضح موقفه من الفريقين في مقطوعتيه اللتين ندد أولاهما بالبرسبتيرينز مستكرهي الضمائر سنة 1646، وامتدح في الثانية فيرفاكس أحد قواد جيش البرلمان سنة 1648.
هكذا لبث ملتن يترقب ويجعل للسياسة همه، فلما تأكدت قوة كرمول والمستعلين بعد الحرب الأهلية الثانية، تبين أن الثورة توشك أن تصل إلى نهاية حاسمة، ورأى ملتن أن الملك وقد ظل على شديد استمساكه بالأسقفية، وأخذ يفاوض البرسبتيرينز والاسكتلنديين، إنما يتضح أمره يوما عن يوم أنه العقبة الكئود في سبيل التسوية، فلما أراد زعماء المستقلين أن يخطوا الخطوة التي يقضى بها الموقف، وهي طرد البرسبتيرينز من البرلمان ومحاكمة الملك، تبين ملتن أن الله استجاب دعاءه، وأن مصير وطنه ومصيره بسبيل أن تقررا، وعاودته حماسه إلى الكتابة، ومن ثم شرع قلمه.
وأخذ ملتن يعد كتيباً جديداً، وقد بدأه أن تبدأ محاكمة الملك، وفرغ منه قبل إعدامه بأيام، فكان صوته أول صوت ارتفع، والناس عالقة أنفاسهم دهشة ورهباً، ونشره في يناير سنة 1649 وجعل عنوانه (حق الملوك والحكام).
وقد ذاع اسمه في أوربا بهذا الكتيب الذي برر فيه إعدام الملك، حتى إن زائري إنجلترا يومئذ كانوا يتطلعون إلى رؤية رجلين أحدهما أليفر كرمول رجل السيف، والثاني جون ملتن رجل القلم. وشاءت الظروف أن يشهر اسم صاحب الفردوس المفقود أول ما اشتهر في القارة بصلته بحادث إعدام الملك وجرأته في الدفاع عن هذا الفعل قبل أن يشتهر بالشعر، فلم يكن قد بدأ قصيدته الكبرى بعد، أما شعره الذي نشره قبل ذلك، فلم يقدره حتى قدره في إنجلترا إلا خاصة المثقفين، ولم يعرفه في القارة إلا قليلون.
ويعد هذا الكتيب من أكثر كتيبات ملتن متعة وأعظمها شأناً، فقد بسط فيه طائفة من المبادئ(689/31)
العامة فيما يتصل بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبعض هذه المبادئ قديم يرجع عهده إلى أول المفكرين من الإغريق بالآراء الديمقراطية، ولكن ملتن يعرضها عرضاَ جديداً، بينما يعينه على حسن بيانه إياها سعة ثقافته، وبعضها يظهر فيه ابتكاره أكثر مما يظهر اعتماده على ما خلف غيره من المفكرين.
والكتيب في جملته عليه طابع ملتن في سمو بلاغته وشدة حميته وروعة أدائه، وهو في روحه العامة صيحة على الطغاة، وتنديداً بالمستبدين ملوكاً وحكاما ورجال دين، وقد افتتحه ملتن بتبرير ما فعل الجيش جميعاً، وعدّ ما لحق الملك جزاء عادلا من الله على ما قدمت يداه، وجعل جانباً كبيراً منه لتأييد حق الناس في اختيار حكامهم وعزلهم، واختتمه بحملة نكراء على البرسبتيرينز والقساوسة إلا من كره منهم الاستبداد وحاد عن سبيله.
وكانت الفكرة التي بنى عليها ملتن تبريره إعدام الملك، هي أن الدولة إن هي إلا أداة لخير الناس وأمنهم، ولذلك فإن إعدام الملك يتمشى مع القانون القائل: (بأن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى سلامة المجموع إنما يعد عملاً قانونياً مشروعا).
ويتكئ ملتن على العقل والمنطق في الدفاع عن آرائه كما فعل في كتيباته عن الطلاق،، فأساس العلاقة بين الملك وشعبه الوئام والرضى، فإذا فقد ذلك فقد بطلت شروط تلك العلاقة، ومن ثم فلا علاقة بينهما، وللناس من الخروج عن طاعة حاكم يعمل لصالحه دونهم، (لأن سلطته في الواقع مستمدة من الشعب وفق قانون، وعن قسم أداه ليؤدي بها حق الشعب في الإصلاح والخير لا لأي شيء خلاف ذلك).
ويقول ملتن إن الإنسان حر بطبيعته، وأن الرجل العادل لا حاجة به إلى القانون، فهو يسير على نهج من طبعه، وما جعل الحكومة أمرا ضروريا إلا فساد الإنسان، والحكومة مصدرها الناس الذين وصفوا السلطة في أيدي الملوك أو الحكام على أساس شروط معنية. . . ويعرف ملتن الطاغية بناء على ذلك بأنه الرجل الذي يعتقد أن السلطة سلطته هو، وأنها ما خلقت إلا لنفعه وخيره. . .!
ويعتقد ملتن أن مرد الفساد والشر في السياسة كما في غيرها إنما هو سيطرة العاطفة على العقل، وعلى ذلك فمصدرها الشر في الملك عاطفة، وعواطف الشر في نفسه يوسوس بها الشيطان الذي هو أصل كل عاطفة شريرة، وان الواجب ليقضى بمقاومة مثل هذا الملك(689/32)
الذي تتغلب في نفسه العاطفة على العقل!
ويضع ملتن القساوسة في موضع الشيطان، فانهم في رأيه أشد أعوان الملك على الطغيان، وأكبر سند له فيما يتمادى فيه من غي وظلم، ولا يعني بالقساوسة الكاثوليك منهم فحسب، وإنما يعني كل محب لنفسه شره تحركه الأطماع الدنيا، قيدين للطغيان، ويتخذ من الطاغية نصيراً، ويدافع عنه حتى ليكون حياله كعبدة الأصنام، ويعود فيوجه ملتن سهامه إلى البرسبتيررينز ويلقى على كواهلهم تبعة ما لاقته المملكة من شر على يد شارل، وينكر عليهم انتماءهم إلى الدين بأي وجه، أو صلتهم بالمسيح إلا ما يكون من مظهر لهم جرى به العرف، وهم فيما عدا ذلك ذئاب جائعة لا تشبع بطونهم مهما كان مبلغهم من الثروة، وكلما وصلت إلى الثراء العريض أيديهم الآثمة على حساب الفقراء والمساكين قالوا هل من مزيد، ولا وازع لهم من دين ولا من ضمير!
وكان حرياً أن يثير هذا الكتيب اهتمام القائمين على أمر الدولة، وأن يسرهم هذا الدفاع عنهم وقد جاء في أبانه، ورأوا أن رجل كمؤلفه علما واسع الثقافة شجاعاً لا يخاف في الحق شيئاً، فصيحاً لا يعي لسانه أمر مهما عظم، هو خليق بأن يعول عليه كدعامة من دعائم الحكم الجديد، ولذلك لم يلبث ملتن أن قلد وظيفة ذات خطر، فقد جعل قيما على ديوان الرسائل الأجنبية في مجلس الدولة. . . والواقع أن هذه الوظيفة لم تكن إلا ستاراً، فقد كان ملتن رجل القلم والفكر، والمدافع عن الجمهورية الوليدة، وظل في منصبة هذا يدافع عن الدولة ويرد على كل نقد أو تهجم، ويكتب ما يوحي به كرمول مما يريد أن يلقيه من إنجلترا وعلى أوربا من ضروب القول وأوجه الرأي.
ويتساءل المؤرخون عما دفعه إلى قبول ذلك المنصب، أكان ذلك رغبة منه في مظاهرة هذه الحكومة ومناصرتها لما توسم فيها من نصرة الحرية، أم كان الحاجة إلى المال، أم كان عن رغبة منه في مراسلو ذوي المكانة من الأجانب، أم أن كبرياءه وذهابه بنفسه وإحساسه بما قدره لشخصه من سمو المنزلة، جعله يطيب نفساً بمثوبة الحكومة إياه، إذ يحس في عملها هذا نوعاً من الاعتراف بقدرة وخطره؟
ومهما يكن من أمر منصبه الذي ارتضاه، فما أبعده عن ذلك الخيال الجميل الذي منى نفسه به قبل ذلك بثمانية أعوام حين تنبأ بفجر بهيج يوشك أن يهل على إنجلترا نوره، وبشر(689/33)
بشاعر إذ قال: (ولن يعدم ذلك الفجر طائره الصداح، فلسوف يتغنى من بين هؤلاء القديسين الذي ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنعم الله، ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية، وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار)!
وها هو ذا الفجر قد أهل نوره. . . فأين طائره الصداح؟ أين لشاعر وأين لحنه العلوي؟ كيف ارتضى لنفسه أن يكون عمله أن يكتب الرسائل اللاتينية، وأن ينقل ما يرد منها إلى الإنجليزية، وان يرد على الشانئين والحاقدين على الدولة فيعود إلى عنت الخصومة وشغب الخلاف. . .
أجل، كيف آثر الشاعر على الخميلة قاعة الحكومة؟
ذلك ما لا يسعنا إلا أن نحس حياله من العجب قدراً كبيراً
وكان ملتن يحس كما أسلفنا تضاؤل بصره، ويشعر أن عليه إزاء ذلك أن يقصد كل القصد في استعمال ناظريه، وكان ذلك وحده كافياً نرى لأن يرفض هذا المنصب الذي يتطلب طول النظر في الرسائل ما يكتب منها وما يترجم، وفي غيرها من الأوراق التي تحتاج فيها الحكومة إلى معونته ورأيه.
ولكنه كما رأينا قبل المنصب، ويرى بعض المؤرخين أن قبوله إياه على شدة حنينه إلى الشعر وكثرة ما يهجس في نفسه منه، وحاجة ناظريه إلى الراحة، هو ضرب جديد من التضحية أشبه بتضحية الأولى حين هجر الشعر على رغمه سنة 1641 استجابة منه لداعي الحرية، فقد كان يعتقد ملتن أن مساهمته ولو بقد صغير في بناء صرح الحكومة الجديد عمل ينطوي على معنى الوطنية، وبخاصة أنه كان يؤمن يومئذ أن الحكومة الجديدة وقد جاءت نتيجة لذهاب الطغيان لا بد أن تظل نصيرة للحرية، ولقد أشار إلى هذا المعنى بعد ذلك بقليل في أحد كتيباته قائلا: إنه تقدم عن طيب خاطر ليخدم بلاده، حينما طلب إليه ذلك القائمون على الأمر، وأنه لم يطلب على ذلك أجراً، وحسبه من الأجر ارتياح ضميره ورضاؤه عن نفسه، والحق أن المال لم يكن له دخل في قبوله ذلك المنصب، فإنه وإن كان ملتن فقيراً، فقد كان القليل من المال حسبه لما تتطلبه أكلاف عيشه وهي يومئذ قليلة، وكان لا يعوزه هذا المال القليل.(689/34)
ونعتقد أن ملتن على حق فيما يعتل به من علة، وليس يمنع هذا من أن نضيف إليها علة أخرى لها كما لهذه في طبعه من الشواهد ما يكاد يؤكدها، وتلك هي رغبته التي لازمته منذ صغره في أن يكون عالي القدر ممتاز المكانة، واختياره لهذا المنصب يحقق له تلك الرغبة، فضلا عما فيه من معنى الاعتراف له بالفضل وعلو المكانة في مجال الأدب والمعرفة، وكانت تطرب نفس كنفسه بلا ريب لأن يكون ذا صلة بتلك الشخصيات الكبيرة التي قضت بجهادها المرير على الاستبداد الذي يمقته اشد المقت، لا عن ملق أو افتتان بذوي الجاه والمكانة كما يفعل صغار النفوس، ولكن عن طموح وكبرياء ورغبة في السمو، وعن محبة وإعجاب بتلك الشخصيات لما تنطوي عليه محبته إياهم من معان، كما يفعل الأباة من أولي الفضل. . .
وثمة رأي لآخر يضاف إلى تلك الآراء، وهو رأي (مارك باتيسون) أحد من أجادوا الكتابة عن ملتن، ومؤداه أنه لا يبعد أن يكون ملتن قد رأي في المنصب مجالا جديداً للازدياد من المعرفة والحكمة، وهي ما يتطلبه الشعر من زاد، فقد طالما رأيناه من قبل يعد بأن يتوفر على الشعر متى استكمل منه عدته، وتم له ما يتوق إليه من نضج وخبرة بالحياة، وعلى ذلك فلن تذهب تضحية بوقته وبصره هباء، فلسوف تجدي عليه وثيق المعرفة بأحوال الناس وأمور الحياة!
(يتبع)
الخفيف(689/35)
حول الاتباعية والإبتداعية
للأستاذ فخري قسطندي
عرضنا في مقال سابق للونين من ألوان الأدب، وضربين من ضروب الخلق الفني هما الكلاسيكية والرومانتيكية، وأبنا كيف اضطرب القول فيهما وتضارب الرأي في مدلولاتهما ومعانيهما، ثم رجعنا بالذاكرة إلى القرن الثامن عشر، وألمعنا إلى اهتمام الأدباء الإنجليز بآثار الماضي التالدة، وإلى اشتغالهم بدراستها وتبيان محاسنها. تلمس ذلك في أحاديثهم، وتستشفه في كتاباتهم، وتطالعك به تواليفهم، حتى لقد يشتد بك العجب ويأخذ منك كل مأخذ، فأنت لا تقع على كاتب أو شاعر إلا وقد أغرق في وصف هذه الآثار والأطلال والرسوم، وأمعن في التعبير عن إعجابه بها، فهو مفتون بروعتها، مأخوذ بسحرها وجاذبيتها.
ولا عجب، فهذه أشياء كلها ذات طابع ابتداعي يزينها ويجملها تنفرد به ويختص بها، غير أنها ليست ذات طابع رومانتيكي فحسب، بل هي تتسم أيضاً بطابع قوطي، له ما للطابع الرومانتيكي من خصائص ومميزات، وبينه وبين الكلاسيكية من بون شاسع واختلاف كبير كالاختلاف بيم الرومانتيكية ولكلاسيكية. فهناك مقطوعات رومانتيكية أو قوطية، كما أن هناك مقطوعات كلاسيكية. وتكون المقابلة بين رومانتيكية هذه المقطوعة وبين كلاسيكية تلك. ولا أدل على ذلك أو أبلغ من قول هرد في (رسائله عن الفروسية والرومانس أن منظومة الملكة الجنية للشاعرة الإنجليزية الكبيرة إدمند سبنسر منظومة قوطية، وليست كلاسيكية كما يزعم البعض.
ومن ثم فأنت ترى إن الطابع القوطي ينبئ عن عصور غابرة أزال الله من دولتها، فانطمس رسمها ودرس منها، هي العصور الوسطى، وأنت ترى أن مثله في ذلك مثل الطابع الرومانتيكي تماما. فهو يترامى مثله إلى ابعد غايات الشذوذ والاضطراب بدلا من التجانس والاتساق، وهو يمتاز بخيال مقرب يتنكب الطريق المطرق، فيجد عن المألوف ويخرج على المعروف.
وما كان الأدب إلا شكلاً من أشكال الفن يقومّ بما يقوم به الفن من معايير، ويقاس بما يقاس به، وبصدق على الفن ما يصدق عليه. والأدب شعر ونثر وما يتصل بالشعر والنشر من(689/36)
مبحث وموضوع، وأنماط قوالب، وصيغ وتراكيب، وعبارات وألفاظ، وعرض وسياق، وحس وشعور. وهو إما أدب رومانتيكي قوطي يتصف بما تتصف به آثار العصور الوسطى، ويضرب شعره ونثره وما يتصل بهما بسهم وافر في الشذوذ والاضطراب والإغراب في الخيال. وهو إما أدب غير رومانتيكي قوطي، خلو من جميع الخصائص والصفات التي سبق ذكرها.
هذا ما كان من شأن الأدب، وهذا ما كان من شأن الرومانتيكية في إنجلترا في القرن الثامن عشر. غير أن الدهر غير، فما هي إلا دورة من دورات الفلك حتى درست القوطية، واندثرت، واختفت من معاجم الأدب. وحان الحين للرومانتيكية أن تتربع وحدها على عرشها، وأن تصبح ذات الكلمة الناقدة والسلطة الأولى واليد الطولي في الكم على تواليف الأدباء. على أن الرومانتيكية لم تستقر طويلاً في إنجلترا، فما لبث أن ذاع صيتها واشهر أمرها وترمى خبرها إلى فرنسا. فاستعملها روسو في كتاباته، وكان استعماله لها بشيراً بازدياد صيرورتها واتساع انتشارها. فما هي إلا فترة أو بضع فترة حتى تلقفها الكتاب الألمان، وعكفوا على درسها وشرحها، فاستوعبوها وفلسفوها وبينوا معالمها واختطوا لها الأصول والقواعد.
ويعزو جيته إلى نفسه فضل إدخال هذه الكلمة إلى ألمانيا، ونحن نشك في هذا الفضل فقد يعزى إليه أو قد يعزى إلى غيره، ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقام، وإنما يعنينا أن نستقصي ما قاله، ونتعرف ماله من اثر. قال:
(إن فكرة التفرقة بين الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانتيكي هذه التفرقة التي طبقت شهرتها الآفاق، والتي تثير من المنازعات والانقسامات الشيء الكثير، ترجع في الأصل إلى شيلر وإليّ. فقد صغت في عبارة موجزة طريقة معالجة الشعر معالجة موضوعية، وأنا آبى أن أقتفي خطى أية طريقة أخرى، غير أن شيلر الذي يهتم بالناحية الذاتية يعد طريقته الطريقة الصحيحة. وقد اعتنق آل شليجل هذه الفكرة، ومن ثم فقد انتشرت في جميع أنحاء العالم، وكل فرد يتحدث الآن الكلاسيكية والرومانتيكية اللتين لم يطرقهما أحد بتفكيره منذ خمسين عاما).
والواقع الذي لا مرية فيه أن جيته ساهم بنصيب موفور في انتشار الرومانتيكية وينعكس(689/37)
ذلك في الكتاب الذي طلعت به مدام ستايل على جمهرة النقاد وعامة القراء وعنوانه (من الألمانية، ' وأتت فيه على ذكر الرومانتيكية عند أدباء الألمان، وما استأثرت به من عنايتهم الفائقة واهتمامهم البالغ. أما مدام دي ستايل فيقول عنها فيكتور هيجو في مقدمته لديوان أشعاره إنها أول من جرى لسانها بعبارة (الأدب الرومانتيكي) في فرنسا.
وكأن لفظة رومانتيكي سئمت حياة الترحال والتجوال، وحنت إلى حياة الثبات والاستقرار، فولت وجهها شطر وطنها الأصلي، فعادت إلى إنجلترا، واطمأن بها المقام هناك، وقد وضحت معالمها واستبانت خطوطها، على نحو لا ترقى إليه شبهة بل ينهض عليه الدليل.
فبيرون يفهم من الرومانتيكية ما يفهمه جيته حين يقول - أي بيرون (إن شليجل ومدام دي ستايل حاولا جهدهما أن يلتزما في تقسيم الشعر قسمين اثنين، وهما الكلاسيكي والرومانتيكي وسوف يكون من نتيجة ذلك مناقشات حامية).
ومن عجب أن الروماتيكية لم تصادف هوى في نفوس أدباء الإنجليز، فصدفوا عنها ولم يعنوا بها عناية غيرهم بها، برغم من أنهم هم الذين ابتدعوها وابتكروها. فبينا نرى الرومانتيكية في فرنسا وألمانيا قبلة أنظار الكتاب والشعراء، ثم عنوانا لمدرسة من المدارس الأدبية، نراها في إنجلترا محل استخفاف الأدباء الإنجليز واستهانتهم، ومن ثم فقد أعوزها عندهم الدقة والوضوح. أما الفرنسيون فقد وضعوا الكتب والمؤلفات في التعريف بها، وبذلوا الجهد الجهيد في تحديد مفهوماتها ومدلولاتها، ولعل لبرنتير الفضل الأكبر في إزالة ما يكتنفها من غموض وإبهام. أما الألمان فقد نسجوا حولها نظرية فلسفية أحكموا أطرافها فجاءت متلاحمة متواشجة، يدفعهم إلى ذلك الجري وراء المجردات، والاندفاع وراء النظريات.
(للبحث بقية)
فخري قسطندي. . .(689/38)
3 - من الأدب العربي:
الموت يتكلم. . .!
(ما الموت إلا تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت
تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى، فكيف إذن يجزع
منه) (ابن مسكويه)
يا من يراع إذا تمثل صورتي فيم ارتياعك؟
هون عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك
لك ضجعة عندي تريحك هل سيؤذيك اضطجِاعُك
أو لست من دنياك تسبح في خضم هائل
يغشاك موج فوق موج تحت غيث هاطل
لم لا تسر إذا وصلت مبكراً للساحل؟
أنا في الحياة كمنجل في كف حصاد بصير
أهوى على الذاوي فأقصيه عن الزهر النضير
لولا مبادرتي لضاق الروض بالعدد الكثير
كم من مريض قد غزاه الدهر بالداء العياء
متململاً يرجو الشفاء من الطبيب ولا شفاء
يممت منزله فكان له على يدي الدواء
سيزول عنك الجهد حين تتيه في نوم عميق
يا طالما كانت تصادمك المآزق في الطريق
فإذا انتصرت على مضيق زل نعلك في مضيق
ماذا تركت على الحياة سوى جناة آثمين
كانت قلوبهمو تئز عليك بالحقد الدفين
قد بت مرتاحاً وباتوا - رغم بعدك - متعبين
تالله ما قصر تخر لحسنه شم الجباه(689/39)
قد حفه روض أنيق يملأ الدنيا شذاه
أزكى تراباً من ضريح تاه في جوف الفلاه
تالله ما عرس تخف إلى سرادقه الجموع
نثرت بساحته الزهور وأوقدت فيه الشموع
بأجل من نعش يسير على الكواهل في خشوع
تالله ما خمل من الديباج تسبي الناظرين
قد رصعت بقلادة من ساطع الدر الثمين
أشهى لذي التفكير من كفن على ميت دفين
يا رب ملتاع كشيب عذبته يد القدر
غمرته دنياه بمختلف الحوادث والغير
وجد الحِمام يريحه مما يكابد فانتحر!
يا من يراع إذا تمثل صورتي فيم ارتياعك؟
هون عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك
لك ضجعة عندي تريحك هل سيؤذيك اضطِجاعُك
محمد رجب البيومي
من وحي المصيف. . .
أترع الكأس من سلاف حلال ... وأرو قلباً قد أظمأته الليالي
غافل الدهر ساعة وتنقل ... بين ظل وكوثر سلسال
هذه جنة دعوها مصيفاً ... أسكرت خافق وأذكت خيالي
شادها الله كي نشاهد فيها ... لجنان الخلود خير مثال
ولو أن الجنان كانت كهذي ... لكفى صوغها بهذا الجمال
هاهو البحر في لساني أجاج ... وبقلبي مذاقه كالزلال
صفحة تشبه السماء صفاء ... قد أضاءت بخرد كالآلي
يحتضن الخضم وهو غضوب ... يرسل الموج عالياً كالجبال(689/40)
فتراه كعاشق فر عيناً ... بحبيب أمده بالوصال
هادئاً يغمر الحسان بلثم ... وعناق يثير حقد الرجال
وبدا الشاطئ البديع كروض ... بورود من العرائس حال
نائمات يوقظن كل فؤاد ... جالسات مع الهوى والدلال
خاطرات مثل النسيم رخاء ... مائسات في فتنة واختيال
فوق صدر الرمال مستلقيات ... فارشفي الحسن يا شفاه الرمال
أحمد هيكل(689/41)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ على العماري
إنه لا يزال في الناس يا سيدي من يتهم المشايخ بالغلاظة والثقالة، ولا يزال في المشايخ من يقدم للناس أدلة هذا الاتهام مع أن العلماء كانوا هم أهل الظرف، وكانوا بُرَاء من هذه الصفات التي ينكرها الناس على (علمائنا) والتي جعلوا لها من إنكارهم إياها اسما عَلَما عليها هو (المشيخة. . .) وما يريدون بها إلا الغلاظة، كأن الرجل لا يكون شيخاً عالما إلا بهذا الوقار البارد وهذا التزمت الفاسد، وهذا الجد الكاذب، والسبحة الطويلة والنصائح المتكلفة المكررة المملولة، والأمر بالمعروف بغير الأسلوب المعروف، والنهي عن المنكر بالطريق المنكر، وإقامة القيامة على (الضعيف. . .) يحلق لحيته، أو يحرق دخينته، أو يؤم المساء في غير محرم قهوته، ويسكتون عن منكرات الحكام، وضلالات الأحكام. . .
لذلك شكرت لك ما كتبت عن ظرف الفقهاء، وما دفعت عنا (معشر
المشايخ) من هذه التهمة (غير) الباطلة، وجمعتُ طائفة صالحة من
الأخبار المتفرقة في كتب السيرة والتراجم، وأسفار المحاضرات
والأدب، من ظرف العلماء من لدن سيد العالمين وإمام العالمين محمد
صلة الله عليه إلى العصور المتأخرة لأهديها إليك ثم وجدت كتابين في
هذا الباب:
كتاب (الظراف والمتاجنين) لابن الجوزي وهو في (106) صفحات وقد كان طبعه في دمشق الأستاذ حسام الدين القدسي منذ ثمان عشرة سنة وكان شرفني بكتابه مقدمة له، هي من أوائل ما كتبت.
وكتاب (المراح في المزاح) للبدر الغزى، وهو أجمع لأخبار هذا الباب، وقد طبعه في دمشق الأستاذ الأديب أحمد عبيد.
وبعد، فلعلك يا سيدي تكتب أنت الفصل الجامع في (ظرف الفقهاء).
قرأت ما كتبت يا سيدي في العدد (687) فقل لي سألتك بالله، أأنت تجد أم تهزل؟ وهل تنقل هذا الهذيان عن أستاذ في الجامعة أم عن حشاش في القهوة؟ وهل هذه هي دروس(689/42)
الجامعة التي نرسل أبناءنا إليها ليغترفوا من علوم أساتذتها ما يعودون به معلمين في مدارسنا؟ وهل هذا هو دين التجديد الذي بعث به نبي البلاغة في آخر الزمان؟ وإذا نحن احتملنا الركاكة والعجز أفنحتمل الكفر من هذا الشيخ الذي يقرر أن الله قال لمحمد (يا أخي أنت حارق نفسك ليه)؟ لقد عرفنا من جعل لله صاحبة وولدا ولكنا لم نعرف قبل اليوم من جعل لله أخاً، أفلا يرضى الشيخ إلا أن يكون مجدداً في الشرك بالله - تعالى الله عما يقول المشركون علوا كبيراً؟ ولا يعجبه إلا أن يفتح له إلى جهنم باب خاص؟
وماذا يقول صديقنا العميد الدكتور عزام وهو العالم البليغ المؤمن بهذا الجهل والعي والكفر؟
أما أنا فأقول: أعيدوا أولادنا إلى باريس ليتعلموا فيها العربية كما كانوا، فأن الجهل الذي يعودون به من باريس، أهون من الكفر الذي يرجعون به من الشيخ أمين الخولي.
علي الطنطاوي
رأي في مجلة الأزهر
نرى الآن، كما يرى المعنيون بالأزهر وإصلاحه، بوادر نهضة توحي بها رياسته الجديدة وترعاها في ثقة وهدوء وبعد عن الإعلان والادعاء. كما هي سجية المصلح المؤمن لفكرته والذي هو من الوقت نفسه لا يتخذ من عمله وسيلة لمجده الشخصي.
و (مجلة الأزهر) ناحية من نواحي النشاط الأزهري الذي شملته بوادر هذا الإصلاح الجديد، فقد عرف أن نظاما جديداً وضع لإخراج هذه المجلة وأن لجنة يرأسها فضيلة الأستاذ الأكبر قد أقرت لائحة جديدة لها وأن هذه اللائحة تضمنت النص على أغراض المجلة وما يراد من إصدارها وكيف يمكن أن تكون حاملة لرسالة الأزهر والتعبير عنها أكمل تعبير، وأن تشمل الاتجاهات الثقافية والإصلاحية للجامع الأزهر.
ونحن نرى أن مجلة الأزهر يجب أن يكون لها هدفان: -
الأول إبراز وتصوير نواحي النشاط المختلفة وصلاته بالحياة العامة في مصر والخارج وما يقوم به من المساهمة في النشاط العلمي والثقافي والروحي، وهذه النواحي الثلاث تشمل كما نعلم مصر والشرق العربي وسائر البلاد الإسلامية وكثيراً من بلاد العالم(689/43)
الأخرى.
لذلك نعتقد أنه من الواجب أن ينشأ في المجلة قسم خاص بشؤون البلاد الإسلامية يترجم أو ينقل عن صحف هذه البلاد وينشر الجيد مما يكتبه أعضاء البعوث الإسلامية في الأزهر عن بلادهم والاتجاهات الإصلاحية فيها، ويكون له توجيه إيحائي إصلاحي يشعر بما للأزهر من حق التوجيه وما عليه من واجب الرعاية لكل ما فيه خير هذه البلاد الإسلامية كلها.
وفي السنوات العشر الأخيرة أرسل الأزهر طائفة من بعوثه، بعضها إلى الهند لدعوة المنبوذين وبعضها إلى الحبشة وإلى الصين، وبعضها إلى مؤتمرات علمية ودينية في كثير من بلاد الشرق والغرب. وللأزهر مبعوثون في كثير من بلاد الشرق العربي وأفريقيا وله معهد في لندن وبعوث في جامعات إنجلترا وفرنسا.
وهذه البعوث والمعاهد كلها وما قامت وتقوم به من عمل وما وضعته من تقارير، وهؤلاء المبعوثون ما قاموا وما يقومون به من دراسات وأعمال كان ولا يزال من الممكن أن نجد في مجلة الأزهر عن أعمالها وبأقلام رجالها البحوث الجيدة المفيدة الدالة على نشاط الأزهر وحيويته ومشاركته في بعض مشاكل العالم الفكرية الكبرى وقيامه على إفادة المسلمين والراغبين في هداية الإسلام وثقافته في كثير من بقاع الأرض.
وبين الأزهر وكثير من الجامعات والهيئات الدينية والعلمية المختلفة كثير من المراسلات في شؤون لها من الأهمية ومن العموم والاتصال بشؤون المسلمين وغيرهم ما يجعلها كبيرة القيمة والأثر إذا أبرزت إبرازاً صحفياً مفيداً لقراء مجلة الأزهر والمشتغلين بشؤون الشرق والإسلام.
ولست أقصد بهذا ما هو من الشؤون السرية في هذه المراسلات أو ما ليست له صفة العموم.
هذه الصفحات من نشاط الأزهر وما يرد إليه من رسائل وما يسأل عنه من مسائل لنشرها وإبرازها فوائد أخرى لا تقل عن فائدتها الثقافية في توجيه القراء والمستغلين بهذه المسائل العامة، هذه الفائدة هي إشعار الأزهريين بما لهم من الخطر والمكانة وما هم جديرون أن يهيئوا له أنفسهم من عمل وأن يشغلوا به قلوبهم وعقولهم وفراغهم من جد الأمور.(689/44)
وهذا وحده كفيل بأن يشعرهم الكرامة لأنفسهم ومعهدهم وبأن يكون عاملاً من العوامل المؤثرة في حسن توجيههم وأعدادهم لما ينتظر الناس أن يقوموا به من المساهمة في الخير العام لمصر والشرق والإسلام.
هذا وما يتصل به من إخراج الكتب العلمية والدينية إخراجاً علمياً ونقد المؤلفات العلمية نقداً علمياً أيضاً هو الهدف الأول مما اعتقده غرضاَ لإخراج مجلة الأزهر.
أما الهدف الثاني فهو إبراز صورة من النشاط الداخلي للأزهر وأقصد بالنشاط الداخلي ما يقوم به الأساتذة والمبرزون في الطلبة من البحوث وما يضعه الأساتذة والطلبة والمتخرجون من الرسائل ذوات القيمة، وما يبرزه هؤلاء وهؤلاء من المؤلفات أو يقومون لتحقيقيه من النظريات العلمية أو الاجتهادات أو التحقيقات التاريخية.
هذا رأي أبديه بعد ما عرف أن لجنة يرأسها الشيخ الأكبر قد وضعت لها منهاجاً تسير عليه في عهدها الجديد.
ولعل (الرسالة) - وعنايتها بالأزهر وبالثقافة الدينية مشهورة مشكورة - تستطيع في عددها القادم أن تنشر على الناس شيئاً مما رأته هذه اللجنة في إصلاح هذه المجلة فقد يجدون فيه ما يجعلهم يتوقعون أن يروا مجلة للأزهر جديرة بأن تحمل اسمه وتفصح عن رسالته.
ونحن نرجو (ونعتقد أن رجائنا سيكون أمراً واقعاً عما قريب) أن الأزهر في عهد الجديد سيقوم بما أعتقد أنه واجبه الأول. وهو رعاية الحياة الدينية في مصر وتوجيهما الوجهة الإصلاحية التي طال ترقب الناس لها والتي ظن كثير من المفكرين وأصحاب الرأي أن الأزهر قد تخلى عنها وأنه رضى لنفسه أن تكون حياته الحاضرة والمقبلة امتداداً لهذه الحياة التي عاشها قروناً طويلة، هذه الحياة التقليدية البعيدة عن روح العلم والنقد والفهم الصحيح والتي هي بعيدة أيضاً عن مسايرة الحياة والناس والزمان.
ومجلة الأزهر على هذا يجب أن تكون ميداناً من ميادين هذا التوجيه الإصلاحي الجديد لحياة الدينية في مصر والشرق.
محمود الشرقاوي(689/45)
القصص
قدح من الشاي
للكاتبة الإنجليزية كاترين مانسفيلد
(كاترين مانسفيلد كاتبة إنجليزية ولدت في نيوزيلندا في سنة
1890. ثم سافرت إلى لندن حيث تلقت تعليمها وأتمت ثقافتها
ثم بدأت حياتها الأدبية إلى أن ماتت في 1923.
واشتهرت الكاتبة بقصصها التي تعني فيها بتحليل الشخصيات تحيلا قليلاً دقيقاً في أسلوب لا يعرف الرحمة ولا الرأفة وإن كان يجمع في ظاهرة بين الرقة والتهكم وبين العذوبة والمرارة.
وفي هذه القصة تحليل الكاتبة لشخصية امرأة يتملكها الغرور وتتحكم فيها الغيرة وحاولت القيام بمغامرة تظهر فيها الكرم والعطف والحنان حتى تعارضت هذه الصفات الأخيرة مع غرورها وغيرتها فأقلعت عن مغامراتها وارتدت إلى طبيعتها الأصلية.).
لم تكن روزماري جميلة كل الجمال، فلا تستطيع أن تعدها جميلة. قد تكون حلوة إذا فحصتها قطعة قطعة. . . ولكن لماذا تبلغ قسوتك إلى حد تقطيعها إربا؟ فقد كانت في ميعه الصبا، ذكية،، مطلعة، عصرية، أنيقة. وكانت حفلاتها ألذ مزيج من أبرز الشخصيات. . . والفنانين - مخلوقات نادرة اكتشفتها بنفسها. . .
وكانت روزماري متزوجة من رجل يحبها حباً شديداً؛ وكان الزوجان غنيين كل الغنى؛ فإذا أرادت روزماري أن تبتاع شيئاً ذهبت إلى باريس كما تذهب أنت وأنا إلى شارع بوند، وإذا أرادت أن تشتري بعض الأزهار وقفت بها السيارة أما أفخم المحال في شارع ريجنت، وقالت روزماري وهي في المحل بطريقتها المدهشة (أريد هذه المجموعة وهذه وهذه، وأعطني أربع باقات من هذا النوع وأصيص الورد ذاك. . . نعم سآخذ كل ما فيها. لا. . . دع النرجس فمنظره لا يروقني).
فيحني العامل رأسه ويخفي النرجس عن النظر كما لو كان ما قالت عنه هو الحقيقة. ثم تتبعها إلى السيارة عاملة نحيلة تترنح بما على ذراعيها من باقة بيضاء تشبه طفلا في(689/46)
ملابسه الطويلة.
ذهبت روزماري في يوم من أيام الشتاء لشراء شيء من محل تحف أثرية وكان يعجبها ذلك المحل لمبالغة صاحبة في التلطف في خدمتها، فكان يشرق وجهه عند دخولها ويقبض يديه ويكاد لا ينطق من فرط احترامه لها وإعجابه بها. وكل هذا تملق طبعا.
وبدأ الرجل كعادته يشرح لها بصوت كله هدوء، وحركات كلها احترام (إني أعتز بتحفي فأفضل ألا أبيعها أبدا على أن أبيعها لشخص لا يقدرها حتى قدرها أو لشخص يفتقر إلى حاسة تذوق الجمال) ثم تنهد وأخرج علبة من القطيفة الزرقاء وضغطها على المائدة الزجاجية بأطراف أصابعه الشاحبة.
وما كان ليحتفظ لها بهذه العلبة الصغيرة التي لم يعرضها على أحد قبلها إلا لندرتها ودقة صنعها وبهاء صقلها.
وأخرجت روزماري يديها من القفاز الطويل لتفحص هذه العلبة التي أعجبت بها وأحبتها وصممت على اقتنائها ثم لاحظت جمال يديها على القطيفة الزرقاء وهي تفتح العلبة وتقفلها. وربما جرؤ البائع أن يلحظ هذه الملاحظة عينها في نفسه لأنه تناول قلما وانحنى على المائدة وزحفت أصابعه الشاحبة لي تلك الأصابع الوردية المتوهجة وقال بلطف (لو سمحت لي سيدتي أن أريها الأزهار على غطاء العلبة).
فأبدت روزماري إعجابها بالأزهار وتساءلت عن الثمن. بيد أن البائع لم يسمعها في اللحظة الأولى. وأخيراً طرق سمعها (28 جنيهاً يا سيدي).
(28جنيها؟) لم تنبس روزماري بينت شفة ووضعت العلبة ولبست قفازها (28 جنيهاً) حتى إذا كان المرء غنيا؟. . . واضطربت روزماري وحملقت في إبريق شاي ضخم يعلو رأس الرجل وأجابت بصوت حالم (حسنا، أيمكنك أن تحتفظ بها لي؟ - سوف. . .).
ولكن البائع انحنى كما لو كان احتفاظه بها لها واجباً معروفاً وخرجت روزماري وأوصدت وراءها الباب وتأملت في الجو الممطر، وكان المطر يتساقط رذاذا وبدأ الظلام يخيم على الدنيا كالرماد المتهاوي، واشتد البرد وبدت المصابيح المضاءة حزينة وكانت الأنوار في المنازل المقابلة معتمة تحترق كأنها تتحسر على فقد شيء وكان الناس يتعجلون السير وقد شرعوا مظلاتهم.(689/47)
وشعرت روزماري بألم غريب وضغطت بقفازها على صدرها وتمنت لو أن العلبة الصغيرة كانت معها لتتعلق بها أيضاً. ثم نظرت إلى سيارتها التي كانت تنتظرها في الشارع وفكرت في الذهاب إلى المنزل لتناول الشاي.
ولكن في لحظة تفكيرها في ذلك جاءتها من حيث لا تدري فتاة نحيلة قاتمة اللون وقفت قرب مرفقها وصدر منها صوت اقرب إلى الأنين منه إلى التنهد (أيمكنني أن أتحدث إليك لحظة يا سيدتي؟).
قالت روزماري (تتحدثين إلي أنا؟) ولتفت لترى مخلوقاً صغيراً مهدوما ذا عينين جاحظتين تتعلق يداه المحمرتان بياقة معطفها ويرتعش كما لو كان قد خرج توا من الماء.
تلجلج الصوت وقال (سيدتي! أسألك ثمن قدح من الشاي).
(قدح من الشاي؟) ولما كان في ذلك الصوت بساطة وإخلاص لا يجتمعان في صوت شحاذ سألتها روزماري (إذن ليس معك نقوداً أبداَ؟).
(أبداً يا سيدتي).
(يا للعجب) وتنهدت روزماري وتطلعت إلى الظلام وحملقت الفتات في وجهها.
وفجأة تصورت روزمارى مغامرة أوحت إليها بها هذه المقابلة في الظلام تشبه شيئا من رواية للكاتب العظيم دستوفسكي. لتفرض أنها صحبت هذه الفتاة إلى منزلها؟ ماذا كان يحدث لو أنها عملت شيئا مما طالما طالعته في الكتب ورأته على المسرح؟ سوف يكون شيئا رائعا. . . ثم خطت روزمارى إلى الأمام وقالت للفتاة (تعالي إلى منزلي لتتناولي الشاي معي).
فصعقت الفتاة لهذا العرض المدهش وارتعشت من شدة الاضطراب فمدت روزمارى يدها ولمست ذراعها وقالت وهي تبتسم (إني أعني ما أقول) وشعرت بمبلغ بساطة ابتسامتها ورقتها فأضافت (ولم لا؟ افعلي. تعالي معي في سيارتي).
أجابت الفتاة بصوت مفعم بالألم والحزن: (انك لا تعنين ما تقولين يا سيدتي).
فصاحت روزمارى: (ولكن جادة فأنا أريدك أن تفعلي أرجوك أن تأتي معي).
وضعت الفتاة أصابعها على شفتيها وأنعمت النظر في روزمارى وتساءلت بصوت متلجلج
(أتأخذينني للبوليس؟).(689/48)
(البوليس!. . . ولم ذا تبلغ قسوتي هذا الحد؟ لا، لا. فكل ما أريد هو أن أدفئك وأسمع منك أي
شيء يهمك أن تقصيه على).
ولما كان من السهل قيادة الجياع تبعت الفتاة روزمارى إلى سيارتها.
وامتلأت روزمارى بشعور النصر وكادت تقول (الآن ظفرت بك) وهي تحملق في الأسيرة الصغيرة. ولكن ذلك لم يجردها من رقة شعورها وعطفها بل أرادت أن تثبت لهذه الفتاة أن أشياء عجيبة قد تحدث في الحياة وأن للأغنياء قلوبا وأن النساء أخوات.
ثم التفتت روزمارى مهتاجة قائلة (لا تخافي ولم لا تجيئين معي؟ أنا امرأة مثلك وان كنت منك حالا. فعليك أن تنتظري مني. . .).
وفي تلك اللحظة وقفت السيارة لحسن حظها لأنها لم تعرف كيف تنهي هذه الجملة. ثم دق الجرس وفتح الباب ودفعت روزمارى الفتاة إلى داخل الصالة بحركة لطيفة تكاد تكون عناقا وهي تقول:
(تعالي إلى الطابق الثاني. تعالي إلى غرفتي) وأرادت أن تحمي هذا المخلوق من نظرات الخدم فصممت وهما تصعدان الدرج على ألا تدق الجرس لخادمتها جان وعلى أن تخلع ملابسها بنفسها.
صاحت روزمارى عندما وصلا إلى غرفة نومها الجميلة بستائرها المسدلة ووسائدها المذهبة ونمارقها الزرقاء والنار تضئ ما حولها من أثاث فخم والأزهار تملأ الغرفة عبيرا حلوا: هانحن هاتان!
لم تعبأ روزمارى بوقوف الفتاة مذهولة على الباب وجرت مقعدها المريح نحو النار وصاحت (تعالي اجلسي على هذا المقعد المريح. تعالي ليدب الدفء إلى فيبدو عليك أنك تنوئين تحت وطأة البرد).
قالت الفتاة وهي تتراجع إلى الوراء (أنا لا أجرؤ يا سيدتي).
فتقدمت روزوماري إلى الأمام وقالت: (أرجوك يجب ألا تخافي اجلسي. وعندما أنتهي من خلع ملابسي سننتقل إلى الغرفة المجاورة لنحتسي الشاي. مم تخافين؟) ودفعت الهيكل النحيل في مهده العميق.(689/49)
ولم يصدر من الفتاة جواب، بل بقيت كما أجلست، يداها إلى جانبيها وفمها مفتوح قليلا، وإذا شئنا الإخلاص في الوصف قلنا إنها بدت غبية. ولكن روزماري لم تعترف بذلك وانحنت عليها قائلة (ألا تخلعين قبعتك؟ إن شعرك الجميل مبلل ويحس المرء كثيراً من الراحة وهو عاري الرأس. . . أليس كذلك).
فخلعت الفتاة القبعة البالية وهي تقول همساً: (حسناً سيدتي) فقال روزماري: (دعيني أساعدك على خلع معطفك منك أيضاً).
فوقفت الفتاة ولكنها أمسكت المقعد بإحدى يديها وتركت روزماري تنزع عنها المعطف؛ ولكنها تذكرت أنه إذا رام الناس العون فعليهم أن يضحوا ولو قليلاً وإلا تعذر العون في الحقيقة. وماذا كانت تفعل بالمعطف الآن؟ تركته على الأرض مع القبعة.
ولما همت بتناول سيجارة من علبتها المعدنية قالت الفتاة بسرعة ولكن بخفة وغرابة (معذرة يا سيدي، لا سيغشى علي سأموت إن لم آخذ شيئاً يا سيدتي).
(يا الله! كم أنا طائشة) وأسرعت نحو الجرس (شاي! شاي بسرعة! وقليل من الكونياك في الحال).
وكانت الخادمة قد مضت ولكن الفتاة كادت تصحيح (لا، لا أريد خمراً فأنا لا اشربها أبداً. إنه قدح من الشاي الذي أريد يا سيدتي) ثم انفجرت في البكاء.
كانت لحظة مؤلمة ساحرة. جثت روزماري بجانب مقعدها وقالت (لا تبك أيها الشيء الصغير الضعيف. لا تبك (وقدمت إليها منديلها الحريري ولفت ذراعها حول تلك الأكتاف العصفورية النحيلة.
وأخيراً نسيت الفتاة الخجل، نسيت كل شيء إلا أن كلتيهما امرأة فقالت (لا أستطيع الاستمرار على هذه الحال. لا أحتمل. سأموت جوعاً).
(لن تموتي جوعاً فسأعنى بك. لا تبكي. ألا ترين كم كان جميلاً أنك قابلتني. سنحتسي الشاي معاً وستخبرينني بكل شيء وأعدك أن أدبر لك أمرك أرجو أن تكفي عن البكاء لأنه شيء مضن).
وكفت عن البكاء عندما وقفت روزماري قبل حضور الشاي لتضع المنضدة بينهما. ثم زودت المخلوق الصغير الضعيف بكل شيء، جميع أنواع الشطائر والخبز والزبد، ولما(689/50)
فرغ قدحها ملأته لها بالشاي والحليب والسكر فطالما قال الناس إن السكر منعش جداً. أما روزماري نفسها فلم تأكل بل كانت تدخن وتنظر للخارج عمداً حتى لا تخجل الأخرى.
وفي الحقيقة كان مفعول تلك الأكلة الخفيفة عجيباً. فلما حملت منضدة الشاي خارجاً كان يتمدد على المقعد إنسان جديد، مخلوق خفيف ضعيف ذو شعر مجعد وشفاء قاتمة وعيون غائرة مضيئة، كان يتمدد هذا المخلوق في نوع من الاسترخاء الحلو ناظراً إلى اللهب متأملا فيه.
وأشعلت روزماري سيجارة جديدة وبدأت حديثها بكل لطف (ومتى تناولت آخر أكلة؟) ولكن في تلك اللحظة تحرك مقبض الباب وسمع صوت من الخارج (رزوماري! أيمكنني الدخول؟) كان هذا زوجها فيليب.
أجابت روزماري (طبعاً).
دخل فيليب ووقف محملقاً بضع لحظات ثم قال (إني آسف لإزعاجكما).
(لا داعي للأسف فكل شيء على ما يرام (هذه صديقتي الآنسة. . .).
(سميث، يا سيدتي).
قالت روزماري (سميث وسنتجاذب أطراف الحديث لمدة قصيرة).
قال فيليب (حسنا)، ولاح بصره المعطف والقبعة على الأرض، ثم اتجه نحو النار وأدار ظهره إليها (إنه مساء كئيب) قال ذلك بغرابة مصوباً نظره نحو الشبح المتغافل ثم نحو روزماري ثانية.
فقالت روزماري بلهجة غير عادية (نعم. أليس كذلك؟).
فابتسم فيليب ابتسامته الساحرة الساخرة وقال لزوجته (في الحقيقة أود أن تجيئي إلى المكتبة لحظة. هل تسمح لنا الآنسة سميث؟).
فحدقت العينان الكبيرتان الغائرتان في فيليب ولكن روزماري أسرعت وأجابت عنها قائلة (طبعاً تسمح) ثم خرجا من الغرفة معاً.
ولما انفردا قال فيليب (وضحي لي من هي، وما معنى كل هذا؟).
فاستندت روزماري إلى الباب وهي تضحك قائلة (التقطتها من الشارع. سألتني ثمن قدح الشاي فأحضرتها معي إلى هنا).(689/51)
فصاح فيليب (ولكن بالله عليك ماذا أنت فاعلة بها؟).
فقالت (كن لطيفاً معها) كن رقيقاً إلى أقصى حد. . . اعتن بها لا أعرف كيف. . . لم نتحدث بعد. . . لم نتحدث بعد. . . ولكن أظهر لها - عاملها - اجعلها تشعر -)
أجاب فيليب (يا طفلتي العزيزة! أتعرفين أنك مجنونة تماما! إن هذا الذي تطلبين شيء يستحيل عمله).
فأجابت روزماري (كنت على يقين من أنك ستقول ذلك ولكن لم لا؟ أريدك أن تعمله؟ أليس هذا سبباً؟ وعلاوة على ذلك يقرأ المرء دائما عن هذه الأشياء فصممت -).
فقال فيليب ببطء وهو يقطع طرف سيجارة (إنها حلوة للغاية).
(حلوة؟ ودهشت بل حنقت روزماري لدرجة أن وجهها احمر وقالت (أتظن ذلك؟ أنا - أنا لم أفكر في ذلك).
فأشعل فيليب ثقاب كبريت وقال (إنها رائعة لجمال. انظري ثانياً يا طفلتي لقد اهتزت مشاعري لما دخلت حجرتك الآن. وعلى كل حال. . . أظنك تخطئين خطأ كبيراً. إني آسف يا عزيزتي إن كنت أبدو وقحاً أو شابه ذلك ولكن عرفيني هل ستتناول الآنسة سميث طعام العشاء معنا في أثناء مطالعتي جريدة المساء؟).
قالت روزماري (يالك من مخلوق ماجن عابث!) وخرجت من المكتبة ولكن لم تعد إلى حجرة نومها بل ذهبت إلى مكتبتها. وهي تردد: (حلوة! رائعة الجمال! اهتزت مشاعري! حلوة! جميلة!).
أخرجت روزماري دفتر شيكاتها، وغنى عن القول أنه لا قيمة للشيكات في هذه الحال. ففتحت درجاً وأخذت خمسة جنيهات ونظرت إليها وردت منها اثنين ثم رجعت إلى غرفة نومها ممسكة بالثلاثة الباقية في يدها.
وبعد نصف ساعة كان فيليب لا يزال في المكتبة لما دخلت روزماري وهي تقول وقد استندت إلى الباب ثانية ونظرت إليه بتفرسها المدهش المصطنع: (إن الآنسة سميث لن تتناول طعام العشاء معنا هذا المساء).
فوضع فيليب الجريدة جانياً وقال (آه! ما الذي حدث؟ موعد سابق؟).
فجاءت روزماري وجلست على ركبتيه وقالت (أصرت على الذهاب فأعطيتها منحة مالية.(689/52)
لم أستطيع أن أبقيها برغم إرادتها).
ثم أضافت بلين (أكنت أستطيع أن أفعل).
وكانت روزماري قد سوت شعرها تواً وكحلت عينيها قليلاً وتحلت بجواهرها فبدت رائعة الجمال عندما رفعت يديها ولمست خدود فيليب وقالت (أتحبني؟).
فأعجبته نغمتها الحلوة ولكن أزعجه صوتها الأجش فقال (أحبك حباً عنيفاً) وضمها إلى صدره (قبليني يا روزماري).
ثم سادت جو الحجرة فترة سكون قصعتها روزماري بصوت حالم (رأيت علبة صغيرة فاتنة اليوم ثمنها 28 جنيهاً أأستطيع شراءها؟).
فأجابها فيليب (تستطيعين أيتها الصغيرة المبذرة).
ولكن لم يكن ذلك ما أرادت أن تقوله روزماري في الحقيقة فإنها همست في أذن زوجها وضمت رأسه إلى صدرها وقالت (هل أنا جميلة يا فيليب؟).
بولس عبد الملك
بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية(689/53)
العدد 690 - بتاريخ: 23 - 09 - 1946(/)
أجل يا صديقي، ضغط الدم!
أجاوبك يا صديقي عباس على بعد صفحات في الرسالة، كما تتجاوب حمامتان كسيرتان على بعد شجرات في الحديقة.
أنا أيضا ضحية هذا المقياس الحديث لضغط الدم! كنت من قبلُ أحمد الله على دوام الصحة، وأغبط نفسي على فراغ البال؛ فإذا مسني الضر لسبب من أسبابه المألوفة، احتملته راضيا لأنه التغير الذي يدفع من سأم العيش، والتنوع الذي يزيد من جمال العافية. فلما كتب الأطباء عن ضغط الدم وأعراضه، وتحدث الناس عن آثاره وأمراضه، تلمست شواهده في جسدي، فإذا صوت يشبه (الوشّ) في رأسي، وحركة تشبه الاختلاج في صدري، فزرت الطبيب المختص؛ فظل وقتين طويلين في يومين متعاقبين، يجس بيده، ويقيس بمقياسه، ويصور بآلته، ويدون في مذكرته، وأن افي كل ساعة من هذين اليومين أذوب ولا أثوب، وأنظر ولا أرى، واسمع ولا أعي، وأتوهّم ولا افهم، حتى قرر الدكتور أن أعضائي الرئيسية صحيحة، ولكن عندي ارتفاعا في الضغط يخشى إذا أهملته أن يصبح خطرا لا حيلة فيه. ثم نظم لي الغذاء ووصف الدواء ونصح لي أن أزوره الحين بعد الحين.
وهكذا خرجت يا صديقي من عيادة النطاسي الكبير وأنا نوع آخر من الخلق، فيه الروح وليس فيه الحياة، وعنده الهم وليس عنده الأمل! أصبحت منذ ذلك اليوم كمريض (موليير)، أتوهّم أن في كل أكلة أو حركة أو فكرة ضغطا على الضغط يشده ويوتره، وأتخيل أن ي (كبالون) الأطفال المنفوخ أخف صدمة تفجره وتدمره. فأنا آخذ نفسي أخذا شديدا بالجوع والظمأ والحرمان والتبلد والركود، فلا أطعم ما اشتهي، ولا أن عم بما ألذ، ولا أن فعل لسرور أو حزن، ولا اشتغل بفعل ولا فكر، ثم اهرع كل أسبوع إلى المقياس المخوف فأجده ثابتا على رقم الخطر لا ينخفض ولا يتذبذب! فأسأل عن علة ثبوته على قلة قوته، فأعلم أن اشد ما يغذي الضغط ويقويه، إنما هو الاكتراث له والتفكير فيه. وهل يستطيع المحكوم عليه إلا ينظر إلى السيف وهو مُصْلَتْ فوق رأسه، أو يملك المسموم إلا يفكر في الموت وهو يتغلغل في طوايا نفسه؟
الحق يا صديقي أن العيش على هذا الحال جحيم، وأن الله الذي أخفى الأجل عن عباده رؤوف رحيم، فلو كان للأجل مقياس كمقياس الضغط لجعل حياة الإنسان هما دائما يمر(690/1)
حلاوة الدنيا، ويذوي خضرة الأمل، ويزهق روح السعي، ويذهب جمال الوجود.
فليت الأطباء يخفون هذا الداء ما داموا لا يملكون له السلامة، ويدعوننا نفعل به فعل الأباء نكفكف غلواءه بالفصد والحجامة!
احمد حسن الزيات
-(690/2)
(نعم) أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هل يستطيع صديقي الأستاذ الطنطاوي أن يحصر الجدل في هذه الصخرة الراكزة التي يخيل إلي أني وضعت عليها الفلسفة الإثباتية واليقين الديني، وقيمة العلم والحضارة حين اهتديت إلى ما زعمته القضية الفكرية الأولى، وهي الملخصة في هذه الجملة:
(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون، فلن يؤمن الفرد الإنسان ي بهما أن لم يؤمن أولا بنوعه، لأن عقل النوع هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله وروحه، فلا يبقى لنا ما ندرك به كوننا وربنا!!).
ولو وقف صديقي أمام هذه القضية التي هي كما قلت (أشبه ما تكون بمعادلة رياضية) لعرف أي نظرة جديدة إلى الكون تتراءى من خلال هذه الفكرة، وأي أفق رحيب يتفتح للنفس البشرية من ورائها، وأي توفيق لطريق حل مشكلات العيش والفكر يتراءى منها!
وقد زعمت أن ي اهتديت إلى القضية الفكرية والدينية الأولى حين اقرر هذه القضية، فإن لم أكن سبقت إلى الاهتداء إليها، فهذا هذا الزعم صحيح، ونعم هو من توفيق يحمد الله عليه اجل الحمد.
وقد قلت في مقدمة الكتاب: (وأكاد أرى أن الموقف الفكري في هذه القضية يسبق موقف (ديكارت) حين اثبت (وجود الذات المفكرة)، واتخذه أساسا بني عليه فلسفته الإثباتية؛ إذ أنه من أين لديكارت أن يثبت أن لتلك الذات قيمة واعتبارا، وأن لما ينتج منها من الفكر قيمة واعتبارا أن لم يثبتهما أولا للنوع الذي تنتسب إليه هذه الذات، ليكون لما يصدر عن أفراد ذلك النوع تلك القيمة وذلك الاعتبار؟
فالموقف الطبيعي الأول هو أن نرصد أولا هذا النوع الإنسان ي كله بعين غريبة عنه، مفارقة وجوده، لنثبت له مكانته الخاصة في الكون، وخصوصا بعد أن وصل فكره وجهده أخيرا إلى أن يكون عاملا عظيما من عوامل الحكم والتكوين والتخريب في الطبيعة، ثم تأتي بعد ذلك جميع مواقف الإثبات واليقين).
والطفل في نشأته الأولى يدرك الكون والناس إدراكا فكريا قبل أدراك نفسه وأعماقها، فينبغي مسايرة للنشأة الطبيعية أن لا نحاول إثبات (الذات المفكرة) كما فعل ديكارت إلا بعد(690/3)
أن نثبت (النوع) الذي نراه وندركه قبل أن نراها، بل نحن لا نستطيع أن ندركها إلا في مرآة النوع ومواريثه. والفرد من غير النوع لا يستطيع أن يدرك شيئا من مواريث جنسه: ويكون كذلك (الإنسان الغزال)، أو (الإنسان القرد)، أو (الإنسان الذئب)، الذي يتحدث عنه الناس!
هذه هي القضية في سمائها العالية، وهي تحتاج إلى جناح قوي للتحليق وراءها، وتحتاج - كما قلت - إلى نظرة المفارق لنفسه ونوعه، الخارج بالفكر والخيال عن حدود وجوده، الراصد لنوعه رصد الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان والملأ الأدنى مما هن دونه!!
ولم يدر صديقي الطنطاوي أن أولى الناس بالفرح والتأييد ل هذه القضية هم أمثاله من الدينيين الذين تهفو حياة قلوبهم إلى الإثبات واليقين، ويرون الكون لا معنى له أن لم يكن قائما على قيم ثابتة تعتمد على منطق الطبع ومنطق العقل ومنطق العمل.
والقضية مسوقة للرد أولا على الماديين الذين لا يعترفون بقيم ثابتة للوجود، و (الدرْونيين) الذين يقررون أن الإنسان ما هو إلا قرد نهض على قدميه وثرثر بلسانه وفرح بما ثرثر، وخلق لنفسه إلهة، ووضع موازين ومقاييس لخيره وشره، وزعم أنها موضوعة من (عقل) الكون، ويقررون أن عقل الإنسان ودينه وعلمه، إنما هي كالإفرازات المادية للكبد والمعدة وغدد السموم في العقارب والحيات، وأن ما يزعمه من قيم للأمور، إنما هي أعاليل يعلل بها نفسه ليخدعها، وليس بينه وبين (عقل) الوجود - أن اعترفوا به - صلة، وأن ما بينهما هوة لا يستطاع عبورها، وأن موازين (الخير) والشر عنده مسائل اعتبارية، وليس هناك وحي ولا نبوة، وأن ما بين الناس لا يزيد على ما بين النحل والنمل والبقر والبراغيث والبعوض - كما قال ذلك في الرد علي في هذه المجلة صديقي الأستاذ زكي نجيب محمود في سنة 1941 - وأن حياة أفراد الإنسانية إلى عدم لا رجعة بعده، كحياة مليارات أوراق النبات وأهراء الحبوب، وملايين الحشرات تأتي بها دورات وتذهب دورات أبدية من غير رجعة إلى مصير أكمل - كما قال ذلك كاتب متدين صوفي باحث كتب إلي من بيروت يطرح أمامي هموما ذهنية وشكوكا لحقته -.
أفتراني يا صديقي حينما أفتش في رحاب الكون والنفس عن فكرة جديدة اقذف بها على باطل القوم، أنتزعها من قوى الإنسان الفكرية والابتداعية النامية المنمية التي جعلت(690/4)
الإنسان في مصاف آلهة القدماء في التكوين والتخريب والتسخير لقوى عظيمة جبارة هائلة كالكهرباء والقوى الذرية والمواد العمياء وتقريب الأبعاد وكشف المستورات من خبايا الكون والتغلب على كثير من الآفات. . . أفتراني حينما افعل ذلك أكون قد خالفت رأي القرآن في الإنسان؟!.
إن الماديين يهدرون الإنسانية كلها وما أتى عن طريقها من دين وعلم ووحي أن زل على محمد وسابقيه من الرسل فليس القرآن بشيء في ميزانهم، وليس محمد وجميع الرسل في رأيهم سوى أفراد من تلك الإنسانية القردية التي تلغو وتزعم أن للغوها قيمة.
أفتساق الحجة لأمثال هؤلاء من القرآن أو التوراة أو الإنجيل وهم لا يعترفون بها ولا بمن نزلت عليهم ولا بالنوع الذي ينتسب إليه من نزلت عليهم؟ أم الأولى أن تساق الحجة إلى هؤلاء من رحاب الفكر والكون الواسعة بمنطق هذا الزمان ما دامت آيات الله في الآفاق والأنفس دائما تسعف الذين يخلصون لله ويخلصون الفكر في الكون؟!.
إن الفكر الديني آفته أنه يخاف غالبا اجتياز الحدود المورثة ولو أيقن أن وراءها مصلحة محققة، لأنه فكر يغلب عليه الاتباع لا الابتداع، وربما يكون ذلك مقبولا ما دامت طمأنينة النفس وسكينتها موفورة، ولكن اعتقد أن واجبه أن يأخذ الحجة حيثما وجدت ما دامت تسعف في إقناع المعارض أو إلزامه.
ثم أني اسأل صديقي بدوري كما سألني: كلام من يا آخي الذي يقول: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا)، (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)؛ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أن فسهم لا تقنطوا من رحمة الله، أن الله يغفر الذنوب جميعا، أنه هو الغفور الرحيم)؛ (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)؛ (والعاقبة للمتقين)؛ (ولا اقسم بالنفس اللوامة) أي (الضمير)!؟.
أليس هذا كلام الله أيضا؟ وهل وراء سجود الملائكة لأبى هذا النوع تكريم؟ وهل وراء اختصاصه بعلم ما لا يعلمه الملائكة من غيب السماوات والأرض تفضيل؟ وهل بعد صبر الله وحلمه على ما يبدو من ظواهر الإفساد وسفك الدماء الذي يفعله الإنسان حجة على أن الغاية من خلق هذا النوع، أن ما هي غاية تربو فوائدها وبركتها على خسرها ولعناتها؟(690/5)
وهل بعد رد الله تعالى على الملائكة حينما قالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) بقوله (أني اعلم ما لا تعلمون) يصح أن نعترض كما اعترضوا، ونجعل حجتنا في السخط عليه هي ما نراه من ظواهر الفساد وسفك الدماء بعد أن نظر الله إليها في مجموعها نظرة اغتفار وسماح في سبيل تحقيق الغاية الكبرى من حياة هذا النوع؟
إن أسرار قصة آدم هذه كما أوردها القرآن في أوائل سورة البقرة، اعظم مفتاح للغز الحياة، واعظم تاج على رأس البشرية، واعظم صوت يطرد اليأس من مستقبل الإنسان، واعظم تفسير لما يبدو من شروره، واعظم دافع إلى الكفاح لتحقيق كماله المرجو!.
وإني دائما أقول: أنه يجب على المفكرين إلا يسرعوا بحكمهم النهائي على الإنسانية، مع أنهم لم يتبينوا خاتمة حياتها، ولم يدركوا (القطفة) الأخيرة من ثمارها. . . ولعلها لا تزال في دور الشباب الطائش، ولعل وراء طيشها كهولة عاقلة. وما دام الله تعالى لم ييئس منها - ولن تفوت عليه تعالى غاية أرادها - فينبغي لنا ألا نيئس منها كذلك، فما دام يسمح بخروج بذرة إنسانية، فلا تزال الغايات والنتائج الصالحة منها، بعضها يتحقق وبعضها ينتظر تحقيقه.
وما عهدنا نوعا ما في الطبيعة سلك غير الطريق التي رسمها له الله (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فلماذا يستثنى الإنسان ويجعله يسير في غير طريقه التي رسمها له؟ وفيما ذا يكون الاستثناء في الإنسان أثمن شيء في الأرض؟!.
ولم يدر صديقي - وهو الباحث الديني - أن الله تعالى لا يجوز عليه عقلا أن ينعى على الإنسان صفات وطبائع هو الذي قسره عليها وحدها وأخرجه في قوالبها، وصوره من نطفة أمشاج وأخلاطا من قوى ومواد عمياء ليبتليه، فليس الإنسان إذا ملوما ما دام قد طبع على أن يكون فقط كفور أو هلوعا وجزوعا وكنودا وعجولا وقتورا وضعيفا وجدلا. . . الخ.
وما كان القرآن - وهو كلام الله الذي كرم الإنسان الأول ودافع عنه أمام الملائكة وأمرهم بالسجود له وخصه بعلم غيب السماوات والأرض وطرد إبليس من الجنة حينما استكبر عليه - ليناقض نفسه في قضية الإنسان، ويقصد إلى ما فهمه الأستاذ وأمثاله ممن يسوقون دائما هذه الآيات التي ذكرها هو في مقام الاعتراض علي.
إنما القرآن في هذه الآيات يصف طبائع الشر التي في الإنسان كما يصف طبائع الخير(690/6)
فيه، ولم تفد هذه الآيات أن طبيعته مقصورة على الشر وحده، فإذا وقع منه الشر، فهو جدير به لأن في طبيعته جانبا للشر، وإذا وقع منه الخير، فهو جدير به أيضا، لأن في طبيعته جانبا للخير أيضا: (إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)، (وهديناه النجدين)، (لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم، ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات)، (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، (أن ربك واسع المغفرة، هو اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وأذ أن تم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقى).
فإذا قال القرآن: (أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الضر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين)، فهو يقرر أن من طبع الإنسان هذه الصفات، لأنه (خلق) عليها، فليقاومها بما يمحوها أو يعدلها كالمداومة على الصلوات والزكاة وأمانة العهد، وغير هذه من صفات الخير التي ذكرت وراء الآيات السابقة.
وإذا قال: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا). فهو يقرر كذلك أن من طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها العجلة: (خلق الإنسان من عجل، سأريكم آياتي فلا تستعجلون). ولذلك يجب التريث والصبر والسكينة وعدم اختلاس حق الأيام في إنضاج الثمار حسب قوانين الله التي وضعها
وإذا قال القرآن (وخلق الإنسان ضعيفا). فهو فعلا قد خلق من شيء تافه ضعيف: (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة)، (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة، فإذا هو خصيم مبين).
وهكذا سائر الآيات التي ذكرها الأستاذ تنبه إلى ما طبع عليه الإنسان من صفات الشر ليحذرها ولا يستسلم لها، وليقاومها بطباع الخير التي طبع عليها أيضا. ولو لم يورد القرآن تلك الطباع في معرض الذم حينما يستعرض أفعال الاشرار، ما تنبه أكثر الناس إلى أنها طباع شر يجب الحذر من نتائج الاستسلام لها، وكيف يتنبهون إلى أنها شر ما داموا يجدونها في طبيعتهم
والقرآن وهو كتاب تربية، ما كان له أن يغفل الحملة العنيفة على طباع الشر في الإنسان والإنحاء عليها باللوم والإزراء، حتى ينبه الإنسان إلى خطرها في قذفه إلى اسفل سافلين(690/7)
ما لم يعتصم بما في طبعه من طباع الخير، وبما يأتيه من هدى الله.
ولو ربي الأطفال جميعا حق التربية، ولم يهملوا هذا الإهمال الشنيع الغالب الذي نراه في الأمم المتأخرة، لرأينا أن نسبة الخير ترتفع في حياة الناس ونسبة الشر تنخفض، كما وقع ذلك في عهد الدولة الإسلامية الأولى، وكما يقع الآن في دول شمال أوربا كفنلندا والسويد والنرويج والدانمرك.
وهذا يدل على أن الإنسان يتغلب على ما في طبعه من الشر بالتربية وطباع الخير، فليس الشر غالبا إلا بما يظاهره من فساد النظم الاقتصادية وإهمال التربية والتهذيب والتعليم
وبعد، فهذا هذا الفهم الذي فهمه الصديق الطنطاوي، إنما هو من آثار السير في الحدود الموروثة وعدم تغير طرق النظر بتغير العصور، وأرجو أن يتحرر صديقي في فهم القرآن من جميع الموروثات حتى تنكشف له أعاجيب ووجوه جديدة من الرأي الذي يشهد للقرآن بأنه كتاب البشرية في جميع عصورها وأحوالها
وبعد، فإن نوعا يخرج محمدا وأولي العزم من الرسل والحكماء والصديقين والعلماء والرواد المجاهدين جدير بأن يوثق به ويؤمن بقيمته، فإن مقياس قيم الأنواع هو لبابها وجوهرها، وثمر الشجر اقل شيء عددا فيه، والشوك يكون مع الورد، والظلام مع النور، والفساد وسيلة لأدراك الصلاح والحفاوة به.
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، فالخير أيضا فتنة!
هذي طباع الناس معروضة ... فخالطوا العلم أو فارقوا!
عبد المنعم خلاف
-(690/8)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
تحدثت في المقال السابق عن الأسلوب الذي تدرس به البلاغة العربية في الجامعة، وعبت أن يكون هذا الأسلوب العامي الركيك هو الذي يلقى على طلبتها، وتنقصه بأنه يفسد ذوق التلاميذ، وبأنه لا يتفق وطبيعة النصوص العربية الفصيحة، ولا سيما كتاب الله الكريم.
وقد سمعت بعض الاعتراضات على ما كتبت، فسمعت من يقول إن هذه محاضرات ألقيت على طلبة صغار لم يتعدوا مرحلة التعليم الثانوي إلا منذ قليل، ولم يشهدوا من علوم البلاغة إلا نتفا يسيرة. ونسى هذا القائل أن طلبة الجامعة تلقوا في المرحلة الثانوية كتبا ذات بال في علوم البلاغة، وفيها من النصوص العربية الفصيحة العالية، ومن الأسلوب المهذب الطيب، ما يهيئهم لأن يتلقوا أسلوبا أرقى واسمح، وحسبك أن تنظر فيما يدرس في المدارس الثانوية من كتب في هذا الفن لترى أن أسلوبها ارجح وأقوى من هذا الأسلوب الذي نقلنا مقتطفات منه في المقال السابق، وحتى لو كان الطلاب لم يتلقوا في المرحلة السابقة شيئا يذكر لكان لزاما على أستاذ البلاغة في الجامعة أن يكون مثلا لهم فيحسن التعابير، وجمال اختيارها، وإذا كان لا بد من أسلوب عامي، فليكن أسلوبا مهذبا لائقا. وإن علماء النفس يحدثوننا عن تداعي المعاني، وعما تلقيه الكلمات من المعاني والظلال في نفوس السامعين، والأستاذ الخولي مؤمن ب هذا، فهل يستطيع أن يحدثنا عما تحدثه الكلمات من أمثال قوله عن محمد وجميع الأنبياء أنهم (سعاة بوستة) أو قوله شارحا قول الله عز وجل (وما أنت بمسمع من في القبور): (أنت مش قدام ناس. أنت قدام ألواح وبهايم) وماذا تنشره من ظلال، وماذا تستجلبه من معاني في نفوس تلاميذه؟ وسمعت من يقول أنه لا باس أن يكون هذا الأسلوب أداة التعليم في الجامعة، والأسلوب العامي ما دام لم يكتب في كتاب وأن ما يلقى في درس في حجرة فلا غبار عليه. وجوابي على هذا أني أتكلم عن تدريس فن البلاغة في الجامعة لا عن تدريس الجغرافيا في المدارس الابتدائية، أما الثالث فيقول: أن اللجوء إلى نقد الأساليب تهرب من نقد الآراء، وهذا ولاشك جاهل أو متجاهل قيمة الأسلوب في تكوين أذواق المتعلمين بلوفي أخلاقهم وعاداتهم أيضا. على أني - بحول الله وقوته - ماض في نقد ما تضمنته مذكرات الأستاذ الخولي في علوم البلاغة(690/9)
من آراء في قواعدها أو فهوم في النصوص الأدبية، ولنبدأ بمذكراته في علم البيان.
والفكرة المتسلطة عليه في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعا لمعاني نفسية يجب أن تثيرها في نفس المتكلم اولا، وفي نفس السامع ثانيا، وهو لذلك يتكلف العنت، ويركب الشطط في تخريج النصوص الأدبية. وهولا يؤمن بالماديات الصرفة في هذا الفن، ويكاد ينكر المحسات التي لا تثير معاني نفسية فحين يقول الشاعر مثلا:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا، واما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
لا يرى لهذا التشبيه معنى، لأن الشاعر لم يزد على أن فضل الفرس في البياض على الثلج دون أن يلاحظ العلاقات المعنوية بين المشبه به والمشبه؛ فتراه يقول مثلا حين يتكلم عن أغراض التشبيه (ومنها بيان حاله كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد. . . الخ. هذه عبارة الخطيب القزويني صاحب الإيضاح فيعلق عليها الأستاذ قائلا: هذا كلام فارغ؛ لأن الإنسان حين يشبه السواد يلحظ فيه الانتشار والتغطية والإبهام، أي أثرا نفسيا يقع من رؤية هذا السواد، وعلى هذا الملحظ يشبه الليل). لا يا مولانا، هذا شيء وذاك شيء أخر، نعم قد يلاحظ المشبه بالسواد المعاني التي يثيرها في النفس، ولكن لا بأس أن يلاحظ مشبه أخر مجرد السواد. وليس هذا بالكلام الفارغ، وهو من أساليب العربية المقبولة بل وفي طبائع الناس أيضا فهم لا يزالون يلحقون شيئا بشيء في البياض أو الحمرة أو السواد أو ما شاءوا من لون، ولعله يلفت النظر إلى هذا التهجم الجائر على كلام العلم العلامة الخطيب القزويني، ومن معه من علماء البلاغة حين يقول (هذا كلام فارغ) ولا شك أن مثل هذا يمحو من أذهان المتعلمين ما لهؤلاء من هيبة وجلال، وبذلك لا ينتفعون بما كتبوا وألفوا ما داموا يحتقرونهم ويسمعون من أستاذهم هذا التنقص لهم، والغض منهم.
وقد ذهبت به هذه النظرة الجائرة إلى أن ينكر نوعا من التشبيه قد أطال علماء البلاغة ونقدة الأدب في امتداحه يقول:
(ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت)
المشبه زهرة البنفسج قائمة على ساقها، والمشبه به أوائل النار في أطراف كبريت، إذا(690/10)
أردنا أن نحلل عملية التشبيه إنه شعر للبنفسج بجمال فترجم عنه، ونحن نفهم أن الجميل قادر أن يلفت معنى وراء وجوده المادي ولكن الشاعر لم يتخطى الوجود المادي نظر إليها على أنها زهرة لها حجمها الخاص ولونها الخاص، وقال كلاما شرح به هذا الوضع المادي (كأوائل النار في أطراف الكبريت). أولا: ما هو الشيء المعنوي الذي لفتت إليه الزهرة الجميلة؟ لا شيء. زهرة البنفسج هذه يمكن أن نحس أمامها بنوع من الانصراف عن التنبه واليقظة، فإذا شبهتها بإنسان حالم تكون قد تذوقت للون طعما خاصا من طعوم الحياة؛ وبذلك تكون المادة قد أفلحت في أيجاد المعنى. . أما وصف اللون بلون أخر فلا شيء. ثانيا: نلاحظ أن الشاعر نقلنا من جو فسيح إلى جو خانق فليست هنا قوة في الإحضار، وإنما هي غفلة وسوء تصرف).
قد يبدو هذا الكلام مقنعا ورائعا لأول وهلة، ولكن يجب أن نتذكر حقيقتين:
الأولى - أنه يدرس التشبيه؛ ومعنى ذلك أن يقف عند تشبيه الشاعر. هل أصاب أو اخطأ في إلحاق هذا اللون بذاك. أما أن الشاعر لم يلتفت إلى ما يهيجه البنفسج من المعاني في النفس والتفت إلى شيء مادي بحت فهذا لا دخل له في صحة التشبيه أو فساده.
الثانية - أن البيان يبحث عن الأساليب الفنية التي تؤدي بها المعاني، وما دام يبحث عن الفن فهو يجده في المعاني البحتة ويجده كذلك في الماديات البحتة، وليس أحدهما بأولى من الأخر في إبراز الفن البياني فيه، وعلى ذلك فهم علماء البلاغة ما ورد من هذه الأمثلة. ولعلنا نأتي بالقول الفصل حين نسوق ما قاله أمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا الموضوع بعينه (وهكذا إذا استقريت وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان اشد كانت إلى النفوس اعجب وكانت النفوس لها اطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية اقرب، وذلك موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح والمتآلف للنافر من المسيرة، أنك ترى بها الشيئيين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله: ولا زرودية. . . الخ اغرب واعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق؛ لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف، بلهب نار في جسم مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف ومبني الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يمهد ظهوره منه، وخرج من(690/11)
موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به اكثر، وكان بالشغف منها اجدر). وليس بعد كلام الشيخ كلام، ولكن لعل شيخ الجامعة يتهمه بفساد الذوق ولو أنه أعاد وأبدا، واحتج بنظرية نفسية كان الأستاذ ينكر أن المتقدمين تنبهوا لمثلها، والأمر أوضح من أن يشرح، فالشاعر أراد أن يبين زرقة البنفسج التي تفخر بها على اليواقيت الحمر ففكر في شبيه ل هذه الزرقة، وهنا يتفاضل الشعراء فمنهم من يكون قوي اللفتة فسرعان ما يقع على شبيه ولو كان نادر الحضور في الذهن، ومن هنا تجيء طرافته وجدته، ومنهم البليد الذي لا يصل إلى الشبيه وربما لا يصل، وإذا كان من الميسور للأستاذ البلاغة في الجامعة أن يتهم الشيخ عبد القاهر في ذوقه فأظن أنه ليس من الميسور أن يتهم جريرا الشاعر. فإليه نسوق القصة التالية: يحكى أن جريرا قال: أنشدني عدي (يعني ابن الرقاع العاملي): عرف الديار توهما فأعتادها.
فلما بلغ إلى قوله: (تزجى اغن كأن إبرة روقه) رحمته وقلت قد وقع، ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟! فلما قال: (قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا. قال صاحب الإيضاح: فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف.
وبعد ف هذا كلامهم وهذا كلامه، وموعدنا المقال التالي.
علي العماري
مدرس بمعهد القاهرة(690/12)
أنا وضغط الدم
للأستاذ عباس حسان خضر
قضيت ما قضيت من حياتي - قبل أن تبدأ قصتي مع ضغط الدم - بعيدا عن الأطباء، لم القهم في مرض ألمّ بي إلا مرات معدودات. وذلك لعديد من الأسباب لا أريد أن اذكر منها إلا أنني حريص على العمل بالحكمة المأثورة: (الوقاية خير من العلاج).
ومهما كانت الأسباب فقد كنت بخير إلى أن لقيت صديقي في الطريق وهو ذاهب إلى مكتب شركة من شركات التامين على الحياة ليدفع قسطا من المؤمن به على حياته، وطلب مني أن اصحبه وقال لي: لم لا تؤمن أنت أيضا على حياتك؟ فقلت في نفسي: حقا لم لا أؤمن على حياتي؟ إنني لا ادخر شيئا، وهذه قطع كبدي تمشي على الأرض، ولا يملك أبوهم شبرا من أرض. . .
وقال صديقي: على أنك إذا طلبت التامين عهدت الشركة إلى طبيبها أن يفحصك فحصا تاما ليتحقق سلامتك من جميع الأمراض، فإذا كانت هذه السلامة اطمأننت على صحتك وجنيت فائدة التامين، وإلا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه، وسيسألك الطبيب عن الأمراض التي أصبت بها في حياتك، فلا تصدقه وقل له: أنك لم تصب بأي مرض في أي زمن. تصور أني قلت له: لم امرض إلا مرة واحدة في حياتي، إذ أصبت بحمى (الدنج) فجعلت الشركة تبحث عما عساه يكون ل هذه الحمى من الآثار التي تقصر الأعمار. . . وبعد البحث والدرس، والأخذ والرد، قبلت التامين. قلت لصديقي: أنك - ولاشك - اصدق المؤمنين على حياتك لدى هذه الشركة!.
وتقدمت إلى الشركة بطلب التامين على حياتي بألف جنيه، على أن ادفع أقساطا شهرية بضعة جنيهات؛ وزعمت أني لن أبالي بعد ذلك أن أموت في أي وقت تاركا لأولادي ألف جنيه! وكنت شديد الحذر من سيارات الحلفاء وما إليها من الدواهم التي تعج بها شوارع القاهرة، وزعمت أيضا إنني لن أكون كذلك بعد أن يتم عقد التامين. . .
واستدعتني الشركة للفحص الطبي، وليس يهمك أن تعلم أني أخذت بنصيحة صديقي في الكذب على الطبيب أو لم آخذ بها، فقد حدث ما شغلني عن ذلك، وهو المقصود من هذه الحكاية، فلنقصد إليه قصدا. . . لف الطبيب على ذراعي قطعة من قماش اسود كثيف،(690/13)
وأدار الآلة المتصلة بها، فضغطت على ذراعي، ونظر إلى دائرة بها مشير يتنقل بين أرقام. . . ثم قال: عندك ارتفاع في ضغط الدم!
ضغط الدم. . .! وما ضغط الدم. . .؟
لم يجب الطبيب، لأنه لا يتكلم في الصميم، وإنما أبدى استعداده للعلاج.
ولكني لم آتي هنا للعلاج. . . ولست اعرف هذا المرض، ولا أحس له بأعراض، وإنما أطلب التامين على حياتي. . . ولكن الشركة لا تؤمن هذه الحياة التي يتحيفها ضغط الدم. . .
وذكرت قول صديقي: (. . . وإذا عرفت داءك فتبادر إلى علاجه)، ولكني أصررت على تجاهل هذا الداء أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر على كفالتهم بعدي وهو المستعان في كل حال.
ولكن مالي أنتبه عند ما اسمع الناس يرددون كلمة (ضغط الدم) بين ارتفاعه وانخفاضه، وأرى اهتمام بعضهم بقياسه، ومعرفة درجته ومعالجته. . .؟ استرعى ذلك انتباهي. وأثار باطن الشعور الذي خلته انتفى عني، فقصدت أحد الأطباء. . . ولف على ذراعي ذلك القماش الأسود، وقاس ضغط دمي، وسألني عن سني، وقرر أن الضغط مرتفع إلى درجة لا يحسن السكوت عليها.
ورحت أتناول الأدوية، وسرت على (الرجيم) وكنت كلما أخذت الدواء، أو أكلت مسلوقا، أو حرمت نفسي محذورا؛ أوحى إلي كل ذلك إنني حقا مصاب بضغط الدم، وكأن كل ذلك يأمرني أمرا بأن أكون كذلك، فيجب أن استشعر ثقل الدماغ والصداع وفتور الجسم، وارتخاء الاطراف، فيجيبني كل ذلك ومعه هموم الدنيا وسواد العيش. وكنت أحس كلما وطئت قدماي عتبة (عيادة الدكتور) أن الضغط يرتفع، وإن كنت قد أوحيت إلى نفسي في الطريق أن الأدوية و (الرجيم) قد أفادت فأذهبته. . . فيقيس الطبيب، وأعاود تعاطي الأدوية، والخضوع (للرجيم) وهزل جسمي وضعف بدني. وعجبت من أن حالتي تزداد سوءا على مر الأيام، مع العناية والدقة في مراعاة مقتضيات العلاج، ومع الحرمان التام من كل ما يزيد الضغط!
حرت في الأمر، فمرة أقول لعل المرض كان في أطواره الأولى خفيفا، أما الآن فقد(690/14)
استفحل أمره حتى أعضل، ولولا هذه المعالجة لأدى بي إلى الحالة التي خشيت شركة التأمين خسارتها فيها، ومرة أقول لعل هذا الطبيب غير موفق، فأغيره ولا يتغير الحال. وأخيرا قلت: ألم اكن قبل بخير؟ فلم لا ارجع كما كنت؟ وطرحت الدواء وخلعت طاعة (الرجيم) فغذيت جسمي باللحم والبيض، ورويته بالخضر المطهية بالطماطم، وعمرت دماغي (بالتقلية) فعادت روحي إلى بدني، وجعلت الحيوية تدب في اوصالي، واقبلت على رياضتي البدنية التي كنت تركتها خيفة أن ينفجر القلب وتتمزق الشرايين؛ فأشرقت نفسي ورأيت الدنيا مشرقة؛ وكل شيء يبسم ويدعوني إلى مشاركته؛ وأدركت ما كاد يفسد من أموري، فطابت نفسي بذلك وحمدت الله على هذا التوفيق. ولم أندم على تلك المحنة لأنني اعتبرتها تجربة استفدت منها؛ إذ عرفت أن داءي من الحالة النفسية التي وقعت فيها، والتي كانت تستشري عند كل مرسوم من مراسيم العلاج إذ أفكر متسائلا: لم آخذ هذا؟ ولم ادع ذاك؟ وعرفت أيضا أن دائي من ضعف بدني لحرمانه التغذية والتقوية، كما عرفت أن سواد عيشي كان من سواد قماش تلك الأدلة التي يقيسون بها ضغط الدم.
ولكن لم تدم جدوى هذه العبرة طويلا، فقد أوقعني سوء الطالع مرة ثانية مع موظف في شركة أخرى للتأمين، من أولئك المنوط بهم جلب حرفاء للشركة لقاء جعل مقدر بنسبة مئوية من مقدار التأمين، واهم ما يتصف به هؤلاء اللباقة في الحديث، والقدرة على شرح فوائد التأمين والإقناع بضرورته. أكد لي أن صحتي جيدة، وأنه لا يبدو علي ما يدل على ضغط الدم، وأن الضغط لا يرتفع في دم من هو في نحافتي وفي مثل سني. ورضيت أن أتقدم للتأمين مرة أخرى. . . وما وضعت قدماي على عتبة طبيب الشركة حتى هممت بالرجوع لأنجو بدمي من أكدار أحسست أنها تتسرب اليه، ولكنني أشفقت على الموظف الذي يدعوني إلى الدخول متلطفا مبتسما؛ فدخلت، وتمت الطامة برؤية مقياس الضغط ذي القماش الأسود الكثيف. . . واظهر الطبيب استعداده للعلاج. . . فخرجت وقد أضفت إلى ثبت المنغصات فكرة التأمين على الحياة، وباعتباري إنساناً إذا مسه الضر دعا الله إلى جنبه
- تذكرت تلك الحكمة التي خطرت لي عقب رفض الشركة الأولى تأمين حياتي. فقلت: (أما أولادي فإن كنت سببا في وجودهم فإن موجدهم الأصيل الذي يكفلني ويكفلهم اقدر(690/15)
على كفالتهم بعدي).
على إنني لم ادر تماما أأنا حقا مصاب بذلك الضغط، وأن التفاوت بين الحالتين يرجع إلى تلك الأسباب من تركيز تفكيري فيه كلما جرعت دواءا أو أكلت مسلوقا أو تجنبت محذورا، ومن الشعور الكريه الذي ينتابني في مدخلي إلى الطبيب، واسوداد الدنيا أمام ناظري حينما ابصر ذلك القماش الأسود، ومن التفكير في التأمين على الحياة، إلى ما يجره كل هذا من الهم والحزن ونكد العيش؛ فإذا نفت عني إرادتي كل ذلك أو إذا ذهب عني لابتعادي عن مثيراته شعرت بأني في حالة عادية لا يشوبها أي كدر، ولكن ما بالي لم اشعر بشيء من قبل ولا من بعد؟ أم أنا يوم فحصني طبيب الشركة وقاس ضغطي لأول مرة كنت متغير المزاج لأي سبب بأن وقع لي قبيل الفحص ما جعل مشير المقياس يرتفع إلى رقم ما كان يبلغه لو كنت في حالة عادية، ثم استقرت الفكرة في نفسي بعد ذلك بحيث يسبب الشعور بها عند كل مناسبة ارتفاعا في الضغط؟ وعلى ذلك أستطيع أن افرض إن كثير من الناس أصيب به عندما شاهدت عيناه القماش الأسود يلف على ذراعه لأول مرة، وصارت رؤيته بعد ذلك تبعث الوساوس وتجلب الأكدار.
ولا أعني بالوصول إلى نتيجة حاسمة في ذلك، فلا سبيل إليها اولا، لعدم الانسجام بين راحة بالي وبين مقياس الضغط. والأمر الثاني الذي يصرفني عن تحقق وجود ارتفاع الضغط هو إنني عرفت أن أوفق شيء لي أن أحيا حياة صحية عادية، لا أتكلف فيها تناول شيء أو أتجنب آخر ما دمت في حدود القانون الصحي العام، وإنني عندما اعمد إلى العلاج أراني أتداوى (بالتي كانت هي الداء) على فرق ما بيني وبين أبي نواس من اللذة والألم والنشوة والحسرة، ومن أن كأسه تداوي والذي كنت فيه يدئ.
وبعد، فهذه قصتي مع ضغط الدم، سقتها هنا بدافع الرغبة في التعبير الأدبي عن تجارب تضمنت أحاسيس وأن فعالات، ولعل فيها إلى ذلك مادة تنفع من وقع في مثل ما وقعت فيه، أو تعصم من يوشك أن يقع أو تحمل العبرة إلى من يعتبر من بعيد.
عباس حسان خضر(690/16)
صحائف مطوية:
من أخلاق البحتري
علاقته بالخلفاء
للأستاذ محمد رجب البيومي
لأبي عبادة البحتري عند أدباء العربية مكانة رفيعة لا يتطلع إليها ابعد الناس أملا في نباهة الذكر، واستفاضة الشهرة، فهو أحد الثلاثة الذين رزقوا من الحظوة والذيوع ما جلجل صداه في كل زمان، على أن الوليد أعقهم تأثير أو أكثرهم أنصارا، نظرا لديباجته الناصعة، وسلاسته المترقرقة، ووضوح معانيه وضوحا يصل بها إلى أعماق القلوب بمجرد النظرة الأولى، ولا كذلك أبو تمام والمتنبي، فالأول مغرق في الغموض والالتواء، والثاني مولع في مخالفة أهواء الناس، وحسبك أن يقول أبو العلاء_وهو أبعد الناس عن مذهب الوليد - (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري)!.
ولقد تناول شعره بالنقد والتحليل طائفة ممتازة من أرباب الأقلام الناضجة فقالوا فيه ما شاء لهم تفكيرهم واستنتاجهم، فمن من متعصب لهم كالآمدي، ومن متعصب عليه كالصولي، ومن متجرد عن الميول والأهواء كابن الأثير، ومهما يكن من شيء فقد خرج الأدب من هذا التطاحن المحمود بثروة كبيرة تعتز بها المكتبة العربية على ممر الأحقاب. وأن من الغريب أن يغفل هؤلاء جميعا عن دراسة أخلاق البحتري دراسة تبرزه على حقيقته أمام الجمهور، اللهم إلا شذرات يسيرة في مختلف الأسفار لا تشبع نهمة راغب في البحث، آمل في الوصول إلى نتيجة واضحة يفهم على ضوءها شعر البحتري كما يجب أن يكون الفهم والاستنتاج!
على أني آسف كل الأسف ل هذه الحقيقة المؤلمة التي اهتديت إليها بعد بحث جهيد، والتي تصور لنا البحتري خبيث الطبع، لئيم المكر، ملتهب الحقد، وهذا يتجلى بوضوح تام في مختلف علاقاته بالناس من خلفاء وشعراء وأصدقاء، بل في علاقته بأقاربه وأهل بيته وهم أولى الناس بعطفه وإشفاقه، لو كان في قلب الوليد إثارة من عطف وإشفاق!
ونظرة واحدة إلى ديوانه تريك العجب العاجب من وقاحته وغدره فهو يمدح الرجل ويذمه(690/17)
مرات عديدة لا لأنه يستحق الذم أو المدح مثلا فذلك مقبول، بل لأنه جاد له بالمال فمدحه ثم أبطأ قليلا في سيبه فأقذع في هجوه، غير متذكر ما طوق جيده قبل ذلك، بل لقد وصل به التنكر والجحود إلى أن جعل شعره محلا تجاريا يأخذ منه ما يلزمه إبان حاجته فهو - كما يقول صاحب الموشح - يمدح الإنسان بتحفة خالدة من رائع الشعر ثم يعرض له بعد تناسل الأيام أن يمدح محسنا آخر فيدفعه لؤمه إلى أن يعمد إلى شعره الذي قاله في الممدوح الأول فيغير ما يحتاج إلى تغير من الأسماء والألقاب ثم يسوق القصيدة برمتها إلى الممدوح الثاني، وهذه طريقة مقيتة وقع فيها المتنبي أيضا فقد مدح أبا الفضل وزير كافور الأخشيد بقصيدة:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وكان منها:
صغت السوار لأي كف بشرت ... بابن الفرات وأي عبد كبرا
ولما لم يثبه أبو الفضل عليها صرفها عنه وتحول إلى ابن العميد فمدحه بها بعد أن غير كلمة ابن الفرات بابن العميد ثم أردفها بزيادة يسيرة تتضمن جانبا من أوصاف ابن العميد. . .! وإذا كان المتنبي قد وقع في ذلك مرة واحدة فقد كان البحتري غارقا في هذه العادة إلى أذنه، حتى أنه كرر هذه الجريمة الأدبية إحدى وعشرين مرة وكان الله عز وجل أراد أن يكشفه للناس على حالته، فبالرغم من تحفظ ولده أبي الغوث عن الوقوع في ما يدل على ذلك حين جمع ديوان والده فقد ذكر له قصيدتين متشابهتين في أكثر الأبيات فأنت تقرا اللامية التي مدح بها المتوكل على الله ومطلعها:
قف العيس قد أدنى خطاها كلالها ... وسل دار سعدي إن شفاك سؤالها
ثم تقرأ قصيدته التي مدح بها إبراهيم بن المدبر ومطلعها:
وقوفك في أطلالهم وسؤالها ... يريك غروب الدمع كيف انهمالها
أقول: تقرأ هاتين القصيدتين فتجدهما متوافقتين لفظا ومعنى في كثير من الأبيات. ولك أن تستنتج من هذا حكمك على ضمير البحتري الفاسد، وحرصه على ابتذاذ الأموال بما تنكره مروءة الأخلاق.
ولننظر أولا إلى علاقته بالخلفاء لنعرف إلى أي مدى سفل الوليد، فما صان عهدا ولا حفظ(690/18)
إلاّ، حتى مع المتوكل على الله، ذلك الخليفة المعطاء الذي أدناه من مجلسه وأغرقه في طوفان من حبائه، وأختاره نديما على بساط الشراب إلى أن لقي حتفه وهو في ندوته يجاذبه أطراف السمر مع الفتح بن خاقان، وحين حلت الكارثة قام الوزير الشجاع بما يفرضه عليه واجب الشهامة والرجولة ففاضت روحه قبل سيده، وفر البحتري إلى حمام مهجور بقصر القاطول فاختبأ فيه وبعد ذلك جاء ليكذب على الناس فيقول في اختلاق ذميم:
أدافع عنه باليدين ولم يكن ... ليثني الأعادي اعزل الليل حاسره
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي ... درى الفاتك العجلان كيف أساوره
مع أن البحتري لو كان صادقا في قوله لصرع لساعته كما صرع الفتح بن خاقان شهيد المروءة والوفاء! ونحن لا نبالغ في مؤاخذة البحتري على فراره هذا فلعله ممن لا يلقون بأيديهم إلى التهلكة. ولكننا نبالغ في مؤاخذته على هجاءه المتوكل بعد مصرعه برغم ما غمره به من خير عميم، فقد قال في مدح المنتصر قاتل المتوكل العاق:
حججنا البلية شكرا لما ... حبانا به الله في المنتصر
تلافي البرية من فتنة ... أظلهم ليلها المعتكر
ولما ادلهمت دياجيرها ... تبلج فيها مكان القمر
ولو كان غيرك لم ينتهض ... بتلك الخطوب ولم يقتدر
رددت المظالم واسترجعت ... يداك الحقوق لمن قد قهر
وآل أبي طالب بعدما ... أذيع بسربهمو فابذعر
ونالت أياديهمو جفوة ... تكاد السماء لها تنفطر
بقيت أمام الهدى للهدى ... تجدد من نهجه ما اندثر
ومعلوم أن المتوكل هو الذي غالى في قهر آل أبي طالب!! فهل يليق أولا أن يمدح قاتله؟! وهل يليق ثانيا أن يعرض بهجاء ولي نعمته الأول فيقول أن الفتنة أظلمت دياجيرها في عهده وأن الهدى قد أن دثر على يديه؟ إن هذا لغريب.
على أن البحتري لدناءة اصله، وخسة طبعه لم يلبث أن قلب للمنتصر - ولي نعمته الثاني - ظهر المجن، فهجاه هجاءا مراً بعد مقتله، ثم أن قلب إلى الخليفة الجديد المستعين بالله يتزلف إليه ويمدحه حتى يستنزف أموال خزائنه فهو يقول متظاهرا بالولاء والإخلاص:(690/19)
لقد نصر الأمام على الأعادي ... وأضحى الملك موطود العماد
أمير المؤمنين اسلم فقد ما ... نفيت الغي عنا بالرشاد
تدارك عبدنا الدنيا فقرت ... وعم نداك أفاق البلاد
ولقد هبت في عهد المستعين بالله زعازع شديدة تنبئ بزوال دولته نظرا لقوة أنصار المعتز بالله غريمه الأول ومنافسه الألد فرأى البحتري أن يحتاط لنفسه فأرسل للمعتز في سجنه قصيدة تنبئ عن ولاءه، وكان قد قالها قبل ذلك في حبس سعيد بن يوسف ولكنه كما قلنا - فيما تقدم - شاعر تجاري يتصرف في شعره كما شاء ومما جاء في هذه القصيدة:
جعلنا فداك، الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والنازل المشكي
وقد هذبتك الحادثات وإنما ... صف الذهب الإبريز قبلك بالسبك
على أنه قد ضيم في حبسك الهدى ... وأضحى بك الإسلام في قبضة الشرك
أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا على الجور والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكأني بالبحتري وقد خاف أن يعلم المستعين بالله نبأ هذه المراسلة فتقدم إليه عصماء مظهرا ولاءه ووفاءه قائلا في ديباجة مشرقة وأسلوب سلس:
بقيت مسلما للمسلمينا ... وعشت خليفة لله فينا
فقد أنسيتنا بذلا وعدلا ... أُبوَّتك الهداة الراشدينا
أراد الله أن تبقى معانا ... فقدر أن تسمى مستعينا
إذا الخلفاء عدّوا يوم فخر ... سبقت سراتهم سبقا مبينا
وقيناك المنون وأن حظا ... لنا في أن نوقيك المنونا
وبعد أن أمن على نفسه من ناحية المستعين اخذ يراسل المعتز بالله من جديد فهو يقول في مخاطبة غلامه نائل:
ألا هل يرجع العيش لنا مثل الذي كانا
وهل ترجع يا نائل بالمعتز دنيانا
عدمت الجسد الملقى على كرسي سليمانا
فقد اصبح للعنة نقلاه ويقلانا(690/20)
والجسد الملقى على كرسي سليمان هو المستعين بالله الذي قربه من مجلسه وغمره بنواله. ولما دارت الدوائر على المستعين وقتل بقصره تحت جنح الظلام، اخذ البحتري يضحك لآماله، وسار من فوره إلى المعتز بالله معتمدا على ما كان بينهما من مراسلة خفية ثم مدحه بقصيدة طويلة عرج فيها على المستعين - ولي نعمته الثالث - فسلقه بلسان حاد ولصق به جميع المثالب حتى جرده من إنسانيته فهو يقول في هجاءه:
متى أسل الديان أن تصطفى له ... عرى التاج أو تثني عليه عصائبه
وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه
بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدئ فيواثبه
إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه
تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا ينازيه وطورا يشاغبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعرى من برد النبي مناكبه
وقد سرني أن قيل وجّه مسرعا ... إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه
إلى دسكر خلف الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه
ثم أخذ يكرر هجاءه ثانية وثالثة ورابعة وما ذلك إلا ليحوز قبول المعتز بالله! فيا لضيعة الوفاء. . .
ولقد كان مصير من سبقه من الخلفاء في هذا العهد الأحمر الذي فاضت به دجلة بدماء الخلفاء، حتى كان تعيين الخليفة حكما عليه بالإعدام، فهو ينتظر تنفيذه بالليل، فإذا اخطأه ترقبه بالنهار؟! ولعمري أي خطأ شنيع وقع فيه المعتصم حين اصطفى هذه الشرذمة السافلة من غوغاء الأتراك ليدفع بها سلاطة الفرس على قلة شرهم - فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم!.
وما أن عرف البحتري مصرع المعتز حتى توجه كعادته إلى غريمه الجديد، يمدحه ويستدر عطفه. وما في ذلك عيب، ولكن العيب كل العيب في تعريضه الشنيع بهجاء المعتز - ولي نعمته الرابع - محاولا أن يشفي بذلك غلة الممدوح، ولو طال أمد البحتري إلى الآن لوجدناه يحرص على تمثيل هذا المنظر القبيح مع من يتعاقب على الدول من ملوك(690/21)
وخلفاء.
وليت شعري كيف عمى الخلفاء عن تلاعب البحتري بهم هذا التلاعب المقيت، فلم يتنبهوا إلى غدره الفاحش، فيقفلوا أبوابهم في وجهه على اقل تقدير ولكنه الحظ الذي ستر مثالبه، وأطبق العيون عن مخازيه، فجعل كل خليفة يبتسم له ناسيا ما ارتكبه في حق زميله السابق من غدر وعقوق، ولقد كان أبو تمام أولى ب هذه الحظوة لدى الخلفاء، لما نعرفه من نبل أخلاقه، وكرم خلاله، إلا إن السعادة التي احتضنت البحتري قد ناصبت حبيبا العداء! فقد مدح المعتصم بقصيدتين خالدتين ثم رجع ولم يظفر بطائل رغم شفاعة أحمد بن أبي دؤاد!!
والحظ يقسم عاش بشر ما اشتكى ... بصرا وعمرا أكمها بشار!
على أن له مع أحمد بن الخصيب موقفا كمواقفه مع الخلفاء سواء بسواء، قال صاحب الموشح (حدثني أحمد بن أبي ظاهر فقال: ما رأيت اقل وفاء من البحتري ولا أسقط، رأيته قائما ينشد أحمد بن الخصيب مدحا له فيه، فحلف عليه ليجلس، ثم وصله واسترضى له المنتصر وكان غاضبا عليه، واخذ له منه مالا فدفعه اليه، ولما نكب المستعين أحمد بن الخصيب بعد كرمه هذا رأيت البحتري ينشده
لابن الخصيب الويل كيف انبرى ... بإفكه المردي وإبطاله
قد اسخط الله بإعزازه الد ... نيا وأرضاها بإذلاله
يا ناصر الدين أنتصر موشكا ... من كائد الدين ومغتاله
فهو حلال الدم والمال أن ... نظرت في سائر أحواله
والرأي كل الرأي في قتله ... بالسيف واستصفاء أمواله
ثم قال ابن ظاهر كان ابن العلجة فقيه يفتي الخلفاء في قتل الناس! نزحه الله).
هذه علاقة البحتري المخزية مع أولياء نعمته، ولقد كان في حاجة إلى من يذكره بقصة صعصة بن غالب حين بلغه موت الوليد ابن عبد الملك، فقال: لعنه الله وأخزاه! لقد سبني مرة أمام حشمه وخوله، وكان والده غالب حاضرا فقال: يا بني لقد رفعت من ذكر الوليد إذ ذكرت سلطانه عليك، وخفضت من شأنك إذ نبهتنا إلى منزلتك لدى الخليفة وأنت سيد قومك، فلا تفضح نفسك بهجاء رؤسائك أمام الناس!!).
(يتبع)(690/22)
محمد رجب البيومي(690/23)
إلى المجمع اللغوي:
الأسماك في الشواطئ الحضرمية
للأستاذ علي عبود العلوي
- 3 -
اللغة المهرية:
هذه هي المعلومات التي دونتها عن الملاحين الحضرميين طيلة الساعتين التي كنت أتخطر فيهما مع النسمة الروحية - لا - الغذائية.
وهي كما ترى على أكثرها مسحة اللغة المهرية والشحرية - نسبة إلى الشحر - وهي ليست بذاك كما يقول علماء اللغة.
وقبيلة مهرة من القبائل العربية ونسبتها إلى قضاعة. وتسكن مهرة في ظفار الحبوظية ومرباط وصيحوت وغيرها من الأماكن الشرقية بالنسبة إلى موقع حضرموت. وهذه الأماكن يشملها اسم حضرموت وذلك حسب التقسيم الجغرافي القديم ولا يعتد بالتقسيم السياسي اليوم.
وذكر بعض مؤرخي العرب أن لغة مهرة هي من بقايا التراث العربي القديم اعني أنها من بقايا لغة عاد. وهي إلى اليوم لا كتابة لها.
ويؤكد بعض المؤرخين أنها من بقايا اللغة الحميرية. ويؤيد هذا الرأي فضيلة شيخنا العلامة الكبير مفتى (جوهور) سابقا السيد علوي بن طاهر الحداد العلوي يقول:
(ويدل على هذا وجود كلمات فيها نص علماء اللغة على أنها حميرية. اذكر منها أنهم يسمون اللبن (شِخَوفْ) وهذا اسمه بالحميرية كما في القاموس، ويقولون (قَيَهلْ) بمعنى اقبل. وقد ذكر هذا اللفظ بمعنى الوجه في ترجمة صاحب القاموس، ويقولون للنار (شَوَاظْ)، وهذا محرف من شُواظ، ويسمون الماء (حَموه) وهذا هو اسمه في لغة عربية بتفخيم ألف وزيادة الحاء فقد حكي علماء اللغة أنه يقال: فيه (حاه) على لغة فإذا فخم الألف قرب جرسه في السمع مما ذكر.
وقال أيضا: وللمهرة والقَرى - هم بادية مهرة وتسكن الجبال - وأهل سقطري لغات(690/24)
متقاربة تجمعها اللغة المهرية، وبينهما فروق. وتسمى لغة القرى بالحِكلى.
وأعدادهم محرفة عن العربية بتحريف بعيد أو قريب، والعدد في لغة الأمحارة الحبشية اقرب إلى العربية منها.
أعداد القرى
أعداد المهرة
أعداد الحبشة
(1)
طاد
طَاط
أحَدْ
(2)
ثِرَةْ
ثِلْثْ
لِسْنَين
(3)
صَاطِيْطْ
صافيدْ (أو صفديد)
سلاسي
(4)
أرْبَعَط
أرْبوُتْ
أرْبُوء
(5)
خُوْنِش
خُمُةْ(690/25)
هَمْسَهْ
(6)
شِتِتْ
يَتِّيه
سَدِسْ
(7)
شِبْعَتْ
هِيَيَايِتْ
لَسْبُوْ
(8)
ثِنْيَتْ
ثِمِنْتْ
سَمانِية
(9)
تسعِتْ
ثَايِتْ
زَطِّىْ
(10)
عِشْرِتْ
عِشْرِتْ
عَشر
هذا ما نص عليه فضيلة شيخنا في محاضرة له عن ظفار الحبوظية نجتزئ بالنقل عنها بما يهمنا حسب سياق البحث.
ولتكملة البحث نثبت هذه الألفاظ عن اللغة المهرية وهي:
ألفاظ مهرية(690/26)
يقابلها بالعربية
تُخوْل
إجلس
أَثث
قم
ثِيوُوْطْ (الثاء مفخم)
النار
حَيلو
الليل
من هوك قهبك؟
من أين جئت؟
كعبيت
الصحفة
شخوف
اللبن
هيبيت
الناقة
هيرون
الغنم
بَقَريت
البقر
مَحِل
السمن
غجِّيْنْ
صبي(690/27)
غجِّيْتْ
بنت
حِبِرانِيْ
إبني
وعن اللغة المهرية صدرت في اوربا هذه المؤلفات القيمة كما ذكرها المستشرق الإيطالي (نللينو) راجع مجلة الزهراء. فعسى أن يقوم بترجمتها المجمع اللغوي أو أحد أبناء العروبة البررة.
1 - تأليف وطبع في فينا سنة 1902 م.
2 - كتاب اللغة المهرية والسقطرية، وهو باللغة الألمانية طبع فينا سنة 1902و1907 م. وهو في ثلاثة مجلدات.
3 - رسائل متعددة وهي من تأليف مطبوعة في منشورات المعهد العلمي في فينا سنة 1909وبعدها.
مرامي العنبر والإبل المعنبرة:
ولن أحيد أصلا عن موضوع بحثنا حينما استطرد إلى مرامي العنبر ولا سيما أن التاريخ العربي قد أقام لها وزنا.
ويقول الأستاذ عن منشأ العنبر في كتابه الذخيرة:
(ويغلب على الظن أن منشأه أن عقادات صفراوية تتكون في أمعاء بعض القياطس البحرية كما تتكون الحصوات المرارية عند الإنسان وغيره من الحيوانات الثدية).
والقياطس البحرية هي التي اسماها البحارة الحضرميون بالشوحطة، وما عزب عن أذهانهم من فصيلتها كما أشرنا إلى ذلك.
ومرامي العنبر ليست محصورة بمكان واحد. فكما يوجد على شواطئ البرازيل وجزيرة مدغشقر وجزائر الهند الشرقية والصين واليابان ونيوزيلندا الجديدة واستراليا وساحل أفريقيا الشمالي كذلك يوجد على الشواطئ الهندية والعربية إلى باب المندب.
وللشواطئ الحضرمية نصيب من ذلك كما حدثنا التاريخ عنها في القديم بل والحديث.
قال الهمداني: (وبها - أي اليمن - مرامي العنبر على سيوفها ولمهرة وبني مجيد علي(690/28)
سيفي بحر اليمن شرقا وغربا الجمال المعنبرة. وذلك أن مسائمها على الساحل، وإذا اشتم الجمل العنبر به برك فلم يثر حتى يفتقده صاحبه، فيطلبه فيجده بالقرب منها فيلتقطها. فإن أبطأ عليه لم يبرح حتى تفتر قواه من الجوى وربما نفق فذلك خيفته عليها. صفة جزيرة العرب ص37).
وقال في موضع آخر: (وباليمن من كرام الإبل الارحبية لأرحب بن الدعام من همدان والمهرية ثم من المهرية العيدية تنسب إلى العيد قبيلة من مهرة والصدفية والجرمية والداعرية تنسب إلى دعر من بلحراث والمجيدية ومنها الإبل المعنبرة. ص201)
وقسم أبو عبد الله محمد أبو طالب الأنصاري الدمشقي المعروف بشيخ الربوة المتوفى سنة 728هـ العنبر إلى خام ومبلوع. وله نظرية في العنبر. أوهي نظرية المعلومات السائدة في ذلك العصر وهذه النظرية لا تتفق والمعارف العصرية كما ذكرنا عن الأستاذ حسن عبد السلام، ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه نبه في آخر بحثه إلى ما هو معروف لدينا اليوم: قال قوم: أن العنبر زبل هذه الدابة.
ولا غرو أن نتيح له الفرصة ليتحدث إلينا بمعلومات أجدادنا العرب السابقين قال:
(ولهذا المحيط - يقصد بذلك المحيط المغربي - مد وجزر كما للمحيط المشرقي. ويقذف ساحله العنبر الخام من غالب جهاته ولاسيما من خلجانه. والعنبر نبع من عيون من جبال بقعر البحر المالح الفارسي والحبشي والهندي والمغربي والصيني والموسوي فيركب بعضه بعضا. وهو في حين خروجه شديد الفوران والحرارة فإذا لاقى برد الماء جمد على أحجار وصار جماجم صغارا وكبارا فيكون جموده كجمود الشمع إذا أصابه بعد ذوبه الماء البارد فيبقى لاصقا بتلك الصخور إلى أن يهيج البحر في زمن الشتاء فيقتلعه قطعا قطعا ويخرجه إلى سطحه فترمي به الأمواج إلى الساحل.
وأجوده الذي يقع إلى ساحل الشحر من بلاد المهرة فيلتقطه الجلابون؛ وربما ابتلعه سمك يسمى أوال فإذا ابتلعه مات من شدة حرارته فتريقه الأمواج أيضا فيشق عنه جوفه ويستخرج منه، وله رائحة زهمة ويسمى المبلوع والآخر الخام.
والعنبر إذا ألقاه الموج إلى الساحل لا يأكل منه حيوان إلا مات ولا ينقر منه طائر إلا أنفصل منه منقاره. وإذا وضع عليه رجليه نصلت أظفاره فإن أكل منه شيئا مات.(690/29)