اهتمام ريمي بالتاريخ الطبيعي، وهو اهتمام ما انفك هكسلي يبديه، وخاصة في كتابه: (سنة 1928).
وفي أكسفورد نظم هكسلي قدرا كبيرا من الشعر، وهو دون كتاباته النثرية أهمية، ولكنه مع ذلك هام إذ يلقي ضوءا على مزاجه؛ لأنه يتجلى فيه شعور عاطفي خيالي ميال إلى المثل العليا، منهمك في الصراع بين العاطفة والعقل، ذلك الصراع الذي هو السبب في انقسام النفس، والذي تطور فيما بعد في كتابيه وسنة 1932. والقصائد المبكرة تنم أيضا عن رجل حي عزوف عن الاختلاط بغيره من الرجال والنساء، يفرج إذ ينجو من حقائق الصراع الإنساني إلى عزلة عالم الأفكار المبهمة. وأبحاثه الحاضرة في التصوف والفلسفة الدينية تثمل عودة إلى تفضيله المتأصل هذا للحياة الباطنة، هذا التفضيل الذي ظل كمينا زمنا ما إذا حكمنا بكتاباته اللاإرادية التي نشرها في العقد الثالث من القرن العشرين، وهو الزمن الذي تصادف أن كان زمن مادية وكلبية عامة في إنكلترا.
وقد ظل هكسلي عدة سنوات تحت التأثير الشخصي الشديد للروائي د. هـ. لورنس، مؤلف وغيرها من الروايات الفذة. وقد تقابلا أول مرة في سنة 1915، ولكنهما لم يكثرا من رؤية أحدهما الآخر حتى السنوات من 1926 إلى سنة وفاة لورنس. وقد كتب هكسلي 1927 قائلا: (إن لورنس من الأفراد القلائل الذين أشعر نحوهم بتقدير وإعجاب حقيقي. فالأشخاص البارزون الآخرون الذين قابلتهم أشعر بأنني على أية حال أنتمي إلى نفس الجنس الذي ينتمون إليه. أما هذا الرجل فإن به شيئا مختلفا، وهو شيء أسمى في النوع لا في القدر).
وفي سنة 1919 تزوج هكسلي بماريا نانز، وهي بلجيكية؛ وله ابن واحد. وقد قضى قسما كبيرا من حياته خارج إنكلترا؛ عاش في فرنسا وإيطاليا وقام بأسفار واسعة في الهند وبورما (التي كتب عنها وصفا ممتعا في في سنة 1926)، وفي المكسيك وغواتيمالا وهندوراس وجزائر الهند الغربية (اقرأ كتابه سنة 1934). وهو منذ قبيل الحرب التي وضعت اليوم أوزارها يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في كاليفورنيا.
وهكسلي في مظهره إنكليزي صميم، فهو طويل القامة رمادي العين، وشعره الكثيف مرتب إلى الوراء من الجبهة. وهو ذو أدب جذاب ساحر، والمرء في حضرته يلاحظ أولا صوته(666/20)
الجميل ويديه الطويلتين اللينتين، وهو مشغوف بعقدهما حول ركبته حين يجلس ويتحدث، وبين حين وآخر يكتسي فمه بابتسامة هادئة تهكمية، ولكنها في العادة ذات مسحة حزينة.
(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)
اسكندر هندرسون(666/21)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 7 -
في هورتون:
على مسافة سبعة عشر ميلا من لندن كانت تقع قرية هورتون الصغيرة الجميلة، حيث اشترى الموثق جون ملتن بعض الأرض وأقام بيتاً ليأوي إليه إذا اعتزل العمل وجنح للراحة.
وكانت هورتون قرية هادئة تحيط بها المروج والمراعي، والحقول بين ضيقة محصورة وواسعة منبسطة، والغابات والخمائل عن يمين وشمال، تتراءى بينها عن بعد أبراج وندسور، تلك القلعة العالية القديمة فيتألف من مجموعها مجتلى ساحر جميل تستريح النفس لمرآه، ويسعه البصر من أوله إلى منتهاه.
وأتخذ ملتن طريقه إلى هورتون، تاركا وراء ظهره الكلية ومن فيها من ثقلاء وظرفاء، ومن أولى الغلظة والعنت من العرفاء، ومن المتبجحين بالعلم من الأغبياء، مبتعداً عن دروسها ومناظراتها، وقد نفض قدميه من ثراها ويديه من كتبها.
وأوى الفتى إلى هورتون لا ليقضي بين ربوعها أياماً معدودات ثم يعود إلى لندن، ولكن ليقيم فيها سنين تطول أو تقصر حسبما يشاء، فهو لا يتقيد في مقامه بشيء!
وماذا عسى أن يصنع ملتن في تلك القرية؟ وهل درس ما درس في الجامعة وحصل على درجتين من درجاتها ليركن إلى البطالة والدعة في ظلال الريف؟ ليس هذا مما ألفه الناس، ولا هو مما يجري على سنن العقل، وليس يقره عليه أحد؛ بذلك كان يحدث الموثق نفسه ويحدث أصحابه، ويتناقله بينهم من يعرفونه من الناس!(666/22)
ولكن الشاعر لا يأبه لما يقولون، فقد عقد العزم بادئ الرأي على رفض أية وظيفة في الحكومة، كما رفض الالتحاق بالكنيسة، وإن كان قد درس اللاهوت؛ وليس يعنيه أن يبين لهم وجهة نظره، فأكبر الظن أنهم لن يقروه عليها؛ وهل فيهم من يقره على إقامته في الريف، حيث تكون له عزلة يستريح فيها من ضجيج المدينة ولهوها وزحمتها ليتفرغ للقراءة والدرس، فيستدرك ما فوتت عليه قراءته الكلية من كتب، ويستكمل ثقافته في الإغريقية واللاتينية، فهما عدته لما يتهيأ له من رسالة؟ وهو إنما يزداد شعورا بأنه يتهيأ لرسالة، وأن عليه أن يستزيد من المعرفة والحكمة ليكون أهلا لها لما يستشرف له.
ذلك كان مأربه من إقامته في الريف، فهمه في الحياة أبعد من كسب القوت وأجل من ذلك شأناً، وما يرى العلم والحكمة بل والفضيلة نفسها إلا وسائل يتوسل بها إلى ما يبتغي من غاية؛ وإنه لواثق إن الناس ينكرون عليه ذلك، وأنهم يعدونه حلماً من الحلم يوسوس به الشباب في صدر شاعر سحره عن نفسه، وأذهله عن الصواب حب الشعر. . . وماذا عسى أن يقولوا غير ذلك وليس فيهم من يصدق أن الشعر مطلب ترصد له الحياة، وغاية يحتقر في سبيلها المال والجاه!
وكان أبوه يطمع أن يلتحق الفتى بالكنيسة، ولكنه منذ صغره لا يحب أن يحمله على ما لا يريد، فحسبه أن يمني بذلك نفسه، على أنه كان خليقاً أن يدرك بعد أمنيته عن التحقيق، فهو أعم الناس بابنه، وأخبرهم بنوازعه وآراءه.
كانت صفات ملتن تحول بينه وبين الكنيسة، فإباءه ونزوعه إلى الحرية لا يسمحان أن يتقيد بقيد، ورغبته للتفرغ لقراءته والتهيؤ لرسالته يبتعدان به على أن يشغل نفسه بغيرهما، وإنه فضلًا عن ذلك ليحس في نفسه الكراهة لرجال الدين، ويشمئز قلبه إذا ذكرت عقيدة روما الكاثوليكية، فهي عنده علة التعصب وأصل تحكم القساوسة واستبدادهم وجمودهم؛ وهو فتى يعشق الحرية الفكرية وحرية العمل، ولا يستطيع أن يتصور كيف تخلو الحياة منهما وتسمى مع ذلك (حياة)! ولا نجد ما يوضح رأيه في رفض الالتحاق بالكنيسة خيراً مما كتبه بعد ذلك ببضع سنين عن الكنيسة وأشار فيه إلى ما نحن بصدده قال: (أما عن الكنيسة التي أزمع إعدادي لخدمتها منذ طفولتي حتى بلغت مرحلة من مراحل نضجي فإني مذ رأيت مبلغ ما دخل فيها من طغيان، وأن من يلتحق بها يجب أن(666/23)
يكون عبداً، وأن يقسم على ذلك قسماً، وجدت خيراً لي أن أفضل الصمت الذي ليس فيه ما يعاب على الوظيفة الكلامية المقدسة التي تشترى بالقسم سلفاً، وبالعبودية وتبدأ بهما!)
ولم يكن ملتن حتى ذلك اليوم بيوريتاني المذهب، وإن كانت عفته وطهره وترفعه عن الدنايا تمثل خلق البيوريتانية، وإن لم يقصد؛ أما عن مذهبه الديني، فكان حتى ذلك الوقت يتبع الكنيسة الإنجليزية الحرة، دون أن يعني بتحديد ما فيما يتعلق بقواعد مذهبها؛ ولقد كان يكره من هذه الكنيسة ما كان يكرهه من كنيسة روما من التعصب لرأيها والرقابة على المذاهب الأخرى وعلى المطبوعات؛ وأبغضت نفسه طريقة كبير أساقفتها (لود) في تعقبه مخالفيه والتجسس عليهم ورفع أسمائهم إلى الملك؛ ويعد ملتن في هذا الاتجاه كذلك أقرب إلى البيوريتانية في ناحية من نواحيها وإن لم يرمي إلى ذلك.
وأن شخصاً هذه نظريته إلى الكنيسة ورجالها لخليق ألا يقبل مركزاً دينياً مهماً منى أبوه نفسه أن يقبل، ومهما ألح عليه أصحابه أن يفعل!
أما القانون وقد كانت لحرفة أبيه صلة به، فقد فكر فيه عقب تركه الكلية، ولكنه ما لبث أن انصرف عنه؛ وأما الوظيفة الحكومية، فلم تكن احب إلى نفسه من وظيفة الكنيسة، وما ترتاح نفسه في الواقع، ولا يتجه قلبه وعقله إلا إلى الشعر، فلتكن له من عزلته في هورتون فرصة أجمل بها وأعظم من فرصة يتهيأ فيها لما يريد!
وعكف الفتى على محرابه في هورتون، فما يبرحها إلى لندن إلا لماماً ليشتري بعض الكتب أو ليستمع إلى الموسيقى أو يستعين بمن يفهمه بعض مسائل الرياضة، وألف حياة الريف وأستروح نسيمه، واستغرقت في هدوءه نفسه واستمتع بصفائه حسه، وتقلب في مشاهده بصره في بكره وآصاله وفي متوع نهاره، وإذا كان غيره من الشعراء قد تغنى بحياة الريف ولم يره، فلسوف يحيا ابن المدينة حياة الريف حقبة من عمره، ثم يمسها مسة العبقرية فيغنيها ويصور مشاهدها ويضيف بذلك إلى أدب لغته وفنها ما تباهي به وتعتز!
كان يقضي كثيراً من ساعات نهاره بين كتبه، وكان يقوم الليل كدأبه منذ سن العاشرة، وقد قوى جلده على القراءة واشتد صبره، ويعجب المقيمون في القرية من ذوي الثقافة من هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة، ولا يزال يكب على الكتب ليله ونهاره كأنما هو مقبل على امتحان!(666/24)
أما أهل القرية فانهم لم يألفوا أن يقيم بينهم إقامة متصلة شاب من هذا الطراز؛ وقد ظنوا أول الأمر انه لاعب يستجم، أو زائر لن يلبث حتى يبرح القرية إلى حيث يكون مقام أمثاله في المدينة؛ وكانت ترمقه عيون فتيان القرية وصباياها في إعجاب ومحبة، فهم حيال شاب عليه فوق رونق الشباب وغضارته روعة الجمال وسيماء الوقار والاحتشام، وإنهم ليحسون في صوته عذوبة الموسيقى، ويرون في محياه إمارات النبل والأريحية والكرم؛ وما يطمع القرويات منه أكثر من أن يرينه ويراهن، وإن كان له في كل قلب محبة، وما عسى أن تنتظر صبايا القرية فوق ذلك من هذا الشاب الذي يتهامسن بأنه تخرج من الجامعة وأنه من ذوي المحتد؟ على أنه فضلا عن ذلك كان في شغل عنهن بعرائس شعره!
وإنه لأشد بالطبيعة ولوعا يقلب في مشاهدها بصره، ولكم يرى في مجالي القرية مما يشرح صدره ويهز قلبه؛ وكانت تعجبه الوجوه القرويات الوضاء لما توحيه سذاجتها من طهر، كما كان يطرب لأغاني الرعاة ويحس ما فيها من المعاني والأخيلة والصور القروية، التي يراها الآن تتصل بنفسه صلة قوية بتأثير بيئته الجديدة؛ وتبعث تلك الأغاني ما كمن في ذاكرته من أشعار أوفيد والحان سبنسر مما يتصل بالحياة القروية فيرجع إليها ويعيد في هذا الجو قراءتها فيستشعر من جمالها ويستبين من معانيها أكثر مما أتفق له من قبل؛ وهكذا يعيش عيشة الريف ويقرأ أدب الريف، فيكون لذلك أثره العميق في خياله وحسه، ولا يلبث أن تتضح صبغته في فنه!
ولكن الموثوق الشيخ وقد ركن إلى الراحة في القرية لا يزال يأمل أن يراجع ابنه نفسه فيرضى بوظيفة من الوظائف، فأنه ما يرى حياته هذه إلا ضربا من البطالة لا يسيغها عقله ولا يحبها لابنه، ويدأب الرجل على الشكوى إلى جيرانه ويصل نبأ شكواه إلى ابنه فتكدر خاطره حينا، لأنه يكره أن يغضب أباه ويكره في الوقت نفسه أن ينصرف عما يتهيأ له من رسالة تهجس بها نفسه.
ويرد الفتى على أبيه بقصيدة لاتينية جميلة فيتوسل إليه أن يدعه فيما هو فيه، ويرجو منه ألا يحتقر الشعر ويتساءل كيف يدهش أبوه وهو الموسيقي النابه من أن يكون ابنه شاعراً؟ لقد قسم أبولو إله الموسيقى والشعر موهبته بين الأب وابنه؛ والموسيقى والشعر صنوان، والشعر أقوى مواهب الإنسان دلالة على قداسة عنصره؛ وإنما يتظاهر الأب فحسب بأنه(666/25)
يكره الشعر، ويحتقر الشاعر في قصيدته الثراء والمادة مما يدل على إن أباه قد أشار إلى رغبته في أن يعمل على كسبهما ويستطرد موجها الخطاب إلى أبيه فيقول: (يا أبت لقد عودتني منذ الصغر أن أطلب المعرفة من أجل المعرفة فكيف تطلب اليّ أن أحفل بالمال، وأنت دون الناس جميعاً من لا يخلق ذلك به. يا أبت إن الوالد الذي لا يقتصر على أن يعلم ابنه اللاتينية فيعلمه معها الإغريقية والعبرية والفرنسية والطليانية والفلك وعلوم الطبيعة، لا يسأله أن يجعل كسب المال غرضه من الحياة، يا أبت إني اخترت ما هو خير بذلك وكأن بوحيك ما اخترت. وإني أعلم انك تقر ذلك بقلبك وتشاطرني الرأي فيه. وعلى هذا فما دمت أيها الوالد العزيز لا أستطيع أن أقابل جميلك بمثله، فإني أرجو أن تكتفي مني بالاعتراف به وببقائه أبدا في ذاكرتي؛ وإذا كان لأشعاري الفنية أن تتطاول إلى الأمل في الخلود، فسوف يكون لي من اسمك موضع لشعري).
وأكبر الظن أنه قد أصلح بهذه القصيدة ما بينه وبين أبيه، فلم يعد أبوه يشكو من إقامته في هورتون، ولعل الرجل إنما صالح نفسه على هذا الوضع إذ لم يجد لشكاياته من جدوى ولم يهتد في إقناع ابنه إلى وسيلة.
وظفر ملتن بالهدوء في عزلته الريفية الجميلة، واتفق له جو شعري ساحر،، ندر أن اتفق مثله لغيره من الشعراء في مستهل عهدهم بالشعر، فما نعلم منهم إلا من لقي أول أمره عنتا وضيقا كثيرين، وانهم ليبتلون بالعذاب من الحياة ومن أنفسهم، وما كان لينعم ملتن بما نعم به لولا زكانة أبيه وسماحة طبعه وإدراكه قيمة الفن وإيمانه به.
ولكن عبئا آخر يهبط على الشاعر في عزلته من صاحب لم يعرف اسمه، فقد عثر فيما بعد في أوراق ملتن في تلك الحقبة على ورقتين بهما سطور من رسالة كان يرد بها على كاتب صاحبه، وقد جاء فيه أنه لا يرضى لملتن أن يقضي سني عمره حالما في عزلته شأن أنديميون مع القمر بينما يمضي الزمن مسرعا. ورد ملتن بأنه يقضي أرب نفسه من الثقافة والمعرفة ليكون أرفع مما هو قدرا، ولولا أنه يؤمن بهذا الذي يأخذ نفسه به في غير رفق لما وقف مصمما في وجهه كثير من غرور الحياة كالطموح إلى المناصب والرغبة في جمع المال، والميل إلى البناء بزوجة وتكوين أسرة، والإقامة في مسكن خاص. ويرسل ملتن إلى صاحبه تلك القصيدة التي نظمها وهو في الجامعة واستغل فيها ثمار جهوده ليدرأ(666/26)
بها عن نفسه تهمة التبطل والخمول.
وأقبل ملتن على القراءة إقبالا عظيما؛ وكان أكثر همه منصرفا إلى الشعر في أشهر آداب الأمم، وخاصة الإغريق والرومان، واطلع إلى جانب ذلك على الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وقرأ الفلسفة القديمة وخاصة أفلاطون، وفلسفة العصور الوسطى كما قرأ التاريخ يستخرج منه الحكمة والعبرة؛ وعنى بعصر شكسبير عنايته بعصر بركليس، فكان أكثر وقته مخصصا لهما وأحب هوميروس وفرجيل وأوفيد ودانتي حبا لا يضارعه إلا حبه لشكسبير وسبنسر، وكان ولعه عظيما بما استحدث في العصر الأليزابيثي من صور البيان، وما تولد فيه من مشرق اللفظ وبديعه، وما أفتنه المفتون من أساليب الوصف والغناء؛ وأعانه على استيعاب ذلك سليقة فنية خالصة، وروح إلى الفن وجماله متعطشة، وعبقرية طامحة توحي إليه أن يجري في مضمار هؤلاء العباقرة والأفذاذ وألا يتخلف عنهم في شيء.
إما عن أدب عصره فالأرجح أنه قليلا ما كان يتناول بعض آثار ذلك العصر، لأنه قليل الإشارة إليها فيما كتب قليل التأثر بها، ولعل مرد ذلك إلى انه حصر ثقته في الروائع السالفة من أدب العالم، ولم يجد ما يكافئها إلا آثار شكسبير وأفذاذ عصره.
ولم يك يقرأ ملتن قراءة عجلان لا يقع على مطلب حتى يطير عنه إلى غيره، وإنما كان يقرأ قراءة المتثبت المتقصي، الذي يعمل فكره ويقدح ذهنه في غير ملل أو نصب؛ يتكئ على نفسه حتى ينفذ إلى أعماق ما يقرأ، ولن يبرح ينشره ويطويه ويقلبه على أوجه الرأي جميعا حتى يطمئن إليه، ويقضي في أمره بالقبول أو بالرفض. ولقد عثر سنة 1874 على كراسة من مخلفات ملتن بها ملاحظات واقتباسات من نحو ثمانين مؤلفا دونها أثناء قراءته ومنها يقف المرء على مثال لكدحه وصبره على عناء الدرس.
على هذا النحو قضى ملتن ست سنوات في هورتون؛ وما تظن إن شاعرا قبله أو بعده اتسع أفق ثقافته أكثر مما اتسع أفقه، وما نظن إن أحدا من الناس شاعرا كان أو غير شاعر قد أعد نفسه لما يريد من أمر بما هو أقوى مما أعد به هذا الفتى للشعر نفسه
وكان يزور المدينة أحيانا فلا تغريه حياتها عما وطن عليه النفس من الجد، وأقصى ما كان يقضيه فيها إذا حل بها بضعة أسابيع، ولكن ذلك كان نادرا فإن معظم إقامته فيها كانت لا(666/27)
تعدو بضعة أيام؛ وكان في المدينة يسعى إلى حيث يستمع الموسيقى، كما كان يغشى المسارح ويزور علية القوم، ويمتع ناظريه بما يرى من جمال الحياة، ولكنه يملك زمام نفسه، ويسيطر عليها سيطرة قوية تامة قل ما توافي مثلها لغيره في سن كسنه، فإذا قضى أرب مشاعره من الجمال، وأرب جسده من الراحة، واشترى ما تتطلب دراسته من كتب عاد إلى هورتون فأقبل على أوراقه وكتبه.
(يتبع)
الخفيف(666/28)
مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
للأستاذ كامل كيلاني
1 - الأسلوب الجحوي
لقد كان الأسلوب الجحوي - ولا يزال - مثالا رائعا يفيض من إشراقه ومرحه على حقائق الحياة المرة فيكسوها من ألوانه الزاهية وإشراقا.
والأسلوب الجحوي الباسم: يكاد يقابل الأسلوب العلائي العابس. حتى ليبلغ جحا - أحيانا - في سبر أغوار الحياة بسخريته المرحة الباسمة ما يبلغه المعري بسخريته العابسة القاتمة.
وقد عرضت للموازنة بينهما في غير هذا المقام، فلأجتزئ بهذه اللمحة العابرة الآن.
وبحسبنا أن نعرض على القارئ أمثلة قليلة على ما نقول:
2 - تقسيم الأرزاق
فنحن إذا استمعنا إلى صرخة (ابن الرومي) وحيرته في تقسيم الأرزاق، وما فيها من تفاوت يحار في تعليله اللب وينقطع منه نياط القلب حين يقول:
(لا تعجبن لمرزوق أخي هوج ... حظا تخطى أصيل الرأي طرافا
فخالق الناس أعراء بلا وبر ... كاسي البهائم أوباراً وأصوافا)
أو يقول:
(إن للحظ كيمياء إذا ما ... مسّ كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا ... ء متى شاء كائنا مكانا)
أو أصغينا إلى (ابن الراوندي) ونستعيذ بلله من جرأته وتنطسه في إلحاده وكفره حين قال:
قسمت بين الورى حظوظهم ... قسمة سكران بّين الغلظ
لو قسم الرزق هكذا رجلا ... قلنا له: قد جننت فاتعظ)
إلى آخر ما يزخر به غلاة الساخطين الناقمين من أساليب تكاد لفرط عنفها تلتهب التهابا، وتكاد لغليانها تقذف بالحمم، وترمى بشواظ من نيران الفكر، ويكاد إهاب قائلها يتفطر من الغيظ والنقمة.(666/29)
ثم رحنا نستمع إلى جحا لنتعرف كيف يعبر عن هذه المعاني الحزينة بأسلوبه الباسم الذي تنطوي في ابتسامته أعنف معاني المرارة والجد، رأينا العجب العجاب:
رأينا فيلسوفنا الساخر يحتكم إليه أربعة من عارفيه ليقسم بينهم زكيبة مملوءة بلحاً.
فماذا يصنع ليعبر بأسلوبه المرح عن تلك المعاني الملتهبة التي عرض لها أعلام الساخطين على توزيع الأرزاق؟
يقبل عليهم متبالها ويسألهم متغابياً:
(أي قسمة تريدون؟ قسمتي أم قسمة الله؟).
فيجيبونه على الفور: (بل قسمة الله يا جحا).
فيعطي أحدهم بلحات خمساً أو ستاً.
ويعطي الثاني حفنتين أو ثلاثا.
ثم يعطي الثالث كل ما في الغرارة من بلح.
ثم يحرم الرابع فلا يعطيه شيئاً. ويتركه يضرب كفاً على كف من فرط الحيرة والدهش.
فإذا سألوه: (أي قسمة هذه يا جحا؟).
أجاب في تغافل الساخر العميق:
(أليست هذه قسمة الله؟ أليس يعطي واحداً دراهم معدودة، ويعطي الثاني قليلا من الدنانير، ويعطي الثالث من خزائن الأرض وكنوزها ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ثم يترك الرابع فلا يعطيه شيئا).
أليس في هذا لون من التعبير الجحوي الباسم المرح يترجم عن قول من أسلفنا من كبار الساخطين؟
أليس في هذا لون من قول المعري:
(كذلك مجرى الرزق: وادٍ به ندى ... ووادٍ به فيض، وآخر ذو جَفْرِ)
وقوله:
(لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرَّى أو أمير مدوَّج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج)
وقول الآخر:(666/30)
(كان يحيى هالكا منَ ظمأ ... فضل ما أوبق ميتا من غرق)
أو قول الحلاج:
(كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقاً)
إلى آخر ما قاله المبدعون الساخطون.
3 - النطف العذاب
والى القارئ معنى ثانيا:
يقول (ابن الرومي):
(وما اللجج الملاح بمرويات ... وتلقى الري في النطف العذاب)
فكيف يعبر جحا بأسلوبه المرح عن هذا المعنى بأسلوبه الجاد:
يخبرنا الرواة أنه كان يستحم ذات يوم في البحر، فلما اشتد به العطش جرع منه جرعة ليروي بها ظمأه، فزاده الماء المالح عطشا على عطش، وأحس كأن معدته تلتهب.
فأسرع إلى نهر قريب منه فشرب منه نطفاً عذبا، فارتوى وهدأت ثائرة العطش، فأسرع إلى وعاءٍ فملأه من النهر ثم صبه في لبحر قائلا في ثورة الغضب:
(قبح الله غرورك أيها البحر، فما أدرى فيما كبرياؤك وصلفك؟ وأدري والله كيف يسمى ماؤك الأجاج ماءً؟ إليك أيها المتعجرف هدية أحضرتها لك من الماء لترى حقيقة الماء الجدير بهذا الاسم).
4 - فائدة المصائب
وإذا قال (ابن الرومي):
(ومحال أن يسعد السعداء ... الدهر إلا بشقوة الأشقياء)
وقال المتنبي:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد)
وقال أبو العلاء:
(غنى زيد يكون لفقر عمرو ... وأحكامْ الحوادث لا يقسمنه(666/31)
وجرمً ُ - في الحقيقة - مثل جَمْرٍ ... ولكن الحروفَ به عكسنه)
وقال:
(وسخط الظباء بما نالها ... تولد منه رضا الحابل)
فكيف يعبر صاحبنا عن هذا المعنى بأسلوبه الجحوي الرائع:
يخبرنا الرواة أن جحا سافر - ذات مرة - لزيارة بنتيه، وكان زوج أولاهما زارعا وزوج الأخرى فخاريا: يصنع الفخار ويبيعه.
فعرج على الأولى يسألها: كيف أنت؟
فأجابته - بخير يا أبتاه - إذا أغاثنا الله في هذا العام بما نأمله من الغيث. فادع لنا الله سبحانه أن ينزل علينا أمطاراً غزيرة تحيي موات أرضنا، وتجلب لنا ما نرجوه من رخاء وهناء.
ثم عرج على الأخرى، ولما سألها عن حالها أجابته:
نحن بخير - يا أبتاه - إذا أنقطع الغيث عنا هذا العام. فأدع لنا الله أن يكف عنا المطر حتى ينجو من البوار والتلف ما عندنا من الآنية والتحف التي جهدنا في صنعها من الفخار والخزف.
فخرج صاحبنا وهو لا يدري بأي الدعوتين يبتهل إلى الله؟ فمصيبة هذه فائدة تلك. واستجابة إحدى الدعوتين - كما ترى - شقاء إحدى بنتيه وهناء الأخرى، ولا مناص من ذلكم على أي الحالين؟
وفي هذه القصة تعبير رائع عن قول المتنبي الذي أسلفناه:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ثم يخبرنا الرواة أيضاً: إن لصاً سرق منه عشرين دينارا. فذهب جحا إلى المسجد ضارعا إلى الله أن يعيدها إليه. وأراد الله سبحانه أن يلهم تاجراً من أهل القرية كادت العواصف أن تغرق سفينته أن ينذر لذلكم الرجل الصالح عشرين ديناراً إذا كتب الله السلامة لمركبه.
فلما ظفر التاجر بالسلامة، وفى لصاحبنا بنذره بعد أن قص عليه قصته.
فأطرق جحا برأسه إلى الأرض ثم قال بعد تأمل عميق:
(تباركت يا رب في علاك: لو إنني سلفت أحداً غيرك هذا المبلغ لأعاده في هدوء، دون أن(666/32)
يخطر على باله أن يزعج أحداً ويعرض حياته للتلف، ليرد مبلغي إليّ)
وهو - كما ترى - تعبير جحوي بارع ينطوي - في فكاهته - على أقصى الجد المرير. وفي هذا يقول في بعض خواطره:
وهكذا ترك لي (أبو مرة ظالم بن الحارث) زاده كله، فرحت آكل من طعامه هنيئاً مريئاً بعد أن هيأت لي كوارثه ونكباته، ما لم تهيئه لي مباهجها ومسراته.
إلى أن يقول: وكم سعد سعيد بشقوة شقي، وللقدر تصريف خفي. وغرق مركب بمن فيه، ولم ينج أحد من راكبيه، فهلك السفر والربان، وراحوا زاداً للسمك والحيتان.
ثم هذا كله فكان ماذا؟
قامت المنادب في ديار الغرقى والمناحات، وأعلنت الأفراح في قاع البحر وعمت المباهج والمسرات. ولولا غرق المركب بمن فيه من الناس، لما تم للسمك ما يطمح إليه من بشر وإيناس، ولما أقام الولائم والأعراس. وكم للقدر من عجائب وفنون، ولله في خلقه شؤون.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني(666/33)
حزب الاستقلال المراكشي
مظهر من مظاهر الكفاح العربي للحرية
لباحث فاضل
في فاتحة يناير 1944 تأسس بمراكش حزب سياسي كبير تحت اسم (حزب الاستقلال) انتظمت في سلكه جميع الأحزاب والهيئات السياسية الموجودة من قبل. وفي يوم 11 يناير 1944 حرر مذكرة قدمها إلى جلالة ملك مراكش والى ممثلي إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا يعلن ضرورة الاعتراف باستقلال مراكش استقلالا تاما وإجراء انتخابات لتأليف مجلس تأسيسي ينظم البلاد تنظيما دستوريا وتوقيع الحكومة المراكشية على وثيقة الأمم المتحدة ليصبح لها الحق في مشاركة العالم الحر في مؤتمراته ومسئولياته في تنظيمات ما بعد الحرب.
وقد وجدت الأمة المراكشية في مذكرة حزب الاستقلال تعبيراً صريحاً وصادقاً عن رغبتها فاندفعت تؤيدها بكل حماسة بوادي وحواضر، ورأى الفرنسيون والحلفاء بأعينهم إجماع أمة بأكملها طيلة ثلاثة أسابيع إلى أن انقلبت ميادين التأييد وتقرير المصير إلى ميادين قتال ودماء ووحشية مظلمة تسجل العار الأبدي على الفرنسيين.
وأقيل من منصبه ونفي إلى الصحراء صاحب المعالي وزير العدلية الإسلامية سيدي محمد بن العربي، وصاحب المعالي وزير المعارف العلامة الحاج أحمد بركاش، وسعادة محافظ العاصمة، كما اعتقل الكاتب العام لحزب الاستقلال أحمد بلافريج وقدم للمحاكمة العسكرية هو وثلة من الزعماء السياسيين، بحجة الاتصال بالألمان، وقد حكمت المحاكم العسكرية ببراءتهم جميعاً، فأخرج بلافريج من السجن العسكري إلى جزيرة كورسيكا حيث هو الآن منفي مع زوجه.
وقد أكد حزب الاستقلال في تلك الظروف السود أن موقفه لم يتغير وأن مذكرة 11 يناير هي الأساس الوحيد لكل تفاهم مع الفرنسيين. أما الفرنسيين فقد نظموا هجوما سياسياً مضاداً هو إعلان دار الحماية عزمها على إدخال بعض الإصلاحات بعد أن تؤسس لجاناً رسمية تدرس لها ما تحتاجه مراكش من الإصلاحات. وقد كتب حزب الاستقلال مذكرة مطولة قدمها للفرنسيين وأظهر فيها ما يحتوي عليه برنامج دار الحماية من مراوغة(666/34)
وسخف، كما أكد إن مذكرة 11 يناير هي وحدها الحل الوحيد الممكن للتقارب بين المراكشيين والفرنسيين.
ماذا يريد الفرنسيين من مراكش؟
يريدون أن تبقى جاهلة، ولا أدل على ذلك من أن المراكشيين لم ينتجوا زهاء ثلث قرن كامل قضوه تحت تحكمات الفرنسيين سوى ثلاثة أطباء ونحو سبعة من المحامين ونزر من المدرسين!
ويريدون منها أن تكون مفككة العرى متنازعة مقسمة على نفسها، ولا أدل على ذلك من (الظهير البربري) الشهير الصادر يوم 16 مايو 1930 والمرسومات والقرارات التي تبعته والتي فرضت على سكان البوادي العربية أن يخرجوا عن الإسلام بالنار والحديد والشنق، وأن يقطعوا كل صلة باللغة العربية وأن يعزلوا عزلا عن كل اتصال ببقية مواطنيهم المراكشيين. ويريد الفرنسيون من مراكش أن يكون فلاحيها متشردين وقطاع طرق ولا أدل على ذلك من مرسوم 1927 القاضي باعتبار نزع أراضي الفلاح المراكشي لفائدة (المستعمر) الفرنسي من المصلحة العامة. وليتصور القارئ أن مراكش من الأقاليم التي تشيع فيها الملكية الصغيرة، فتكوين (عزبة) للتعمير تطلب اعتياديا نزع أراضي مئة إلى مئة وخمسين فلاحا مراكشياً يسلمون أراضيها العزيزة لسيدهم المستعمر وينزلون هم إلى المدن يائسين من الحياة يزيدون في عدد البؤساء المجرمين. وهذه السياسة مستمرة منذ صدر مرسوم 1927.
ويريد الفرنسيون من مراكش أن لا يسمع فيها صوت غير صوتهم ولا تنفذ إرادة غير إرادتهم، وليس أدل على ذلك من إن مراكش تعيش قانونياً وعملياً تحت الحصار (الأحكام العرفية) منذ سنة 1914 إلى اليوم، وهي مقسمة إلى مناطق على رأس كل منطقة منها حاكم عسكري ليس لسلطته حدود، وعلى رأس الحكام العسكريين القائد الأعلى لجيوش الاحتلال بيده تفويض عام لإصدار أوامر باسمه متى شاء وكيف شاء، فالمراسيم الملكية نفسها يوقف تطبيقها أو يناقضها أو يعدلها بحسب مصلحة جيش الاحتلال ووفقاً للمرسوم الملكي نفسه الصادر سنة 1914 القاضي بوضع البلاد تحت حالة الحصار (الأحكام العسكرية) وطبقا لهذه الحالة المؤلمة ليس للمراكشيين ولا جريدة واحدة أو مجلة، بينما(666/35)
تصدر الجالية الفرنسية عشرات الجرائد والمجلات من كل الألوان والنزعات. وليس للمراكشيين الآن ولا جمعية واحدة. وقد حلت إبان حوادث يناير 1944 جميع الجمعيات والهيئات التي كان سمح بها من قبل لغايات استعمارية مختلفة. والمراكشيون محظور عليهم بحكم مرسوم 1938 أن ينتسبوا لأية نقابة، ومحظور عليهم أن يعقدوا أي اجتماع كيفما كانت صبغته، ومحظور عليهم أن يتظلموا أو يقدموا عرائض تكشف عن رغباتهم، وليس للمراكشيين أية هيئة انتخابية تمثلهم إزاء السلطة بينما ينتخب الفرنسيون في مراكش للمجالس البلدية والغرف الفلاحية (الزراعية) والتجارية والصناعية ولمجلس شورى الحكومة المراكشية والبرلمان الفرنسي مباشرة برغم وضع مراكش الدولي والوطني، والمراكشيون محظور عليهم التعليم الحر بينما أطفالهم الصغار على حد ما جاء في خطاب جلالة الملك يوم 18 نوفمبر الأخير متشردون في الطرقات العامة لا يجدون مدارس تكون منهم رجالاً قديرين، ولا تتسع المدارس الحالية لأكثر من ثلاثين ألف طفل فقط.
والمراكشيون يعيشون تحت نظام بوليسي محكم، يسير الإنسان والأرصاد الجواسيس تتبعه وأخباره يبحث عنها حتى في منزله ومع أولاده، وكل شخص من المحتمل استدعاؤه لإدارة المحافظة على الأمن حيث يذوق ألواناً من التعذيب الجسماني والكلام على تهمة مختلقة أو تافهة، ومن الممكن إبقاؤه تحت يد الشرطة في آفاق التعذيب المظلمة شهراً أو أكثر ثم إطلاقه من غير أن يمر بمحكمة أو يسمع له بدفاع يثبت براءته عند البوليس. . . ليتصور القارئ إن روح الشرف وعاطفة التضامن والشجاعة ونقاوة الضمير وكل ما يعتبر فضيلة في علم الأخلاق يعتبر في نظر الفرنسيون في مراكش جرائم خطيرة يطارد أصحابها وينكل بهم شر تنكيل؛ لأن العقلية الاستعمارية الفرنسية لا تعترف بحياد لأحد مطلقاً؛ فإما خادم لهم يدل على غيره ويتعلق لأصغر الجواسيس وهو يتظاهر بالرضى والابتسام، وإما عدو تعرقل مصالحه اليومية باستمرار وينتظر به أول فرصة ليرمى به في السجن أو ليساق إلى غرفة التعذيب في قسم المحافظ على الأمن.
هذه هي الحالة النفسية والمادية التي تعيش عليها مراكش تحت الاستعمار الفرنسي المفروض، ولكن المراكشيين يفضلون الموت على هذه الحياة التعسة التي سامتهم من البؤس الفظيع ما لا يطيقون. لذلك صرخ حزب الاستقلال حزب مراكش الأعظم الوحيد(666/36)
باسم اثني عشر مليون مراكشي أن (لا حماية)، فزلزل الفرنسيون للتأييد الجارف الذي لقيته هذه الصرخة العنيفة من ملايين المواطنين ابتداء من صاحب الجلالة ملك البلاد المحبوب إلى أصغر فلاح في جبل الأطلس، ثم سددوا بنادقهم المجرمة ونيرانهم إلى صدر شعب بريء وقالوا إن يد الألمان حركته.
وهذا الشعب الذي لم يخجل الفرنسيون أن يقولوا إن يد الألمان حركته هو الشعب الذي قدم بسخاء دماء أبنائه النفيس ليحرر صقلية وتونس وإيطاليا وفرنسا ووضع جميع موارده الاقتصادية وقواعده الحربية تحت تصرف المكافحين في سبيل الحرية لتصبح العدالة فارضة على الجميع أن يحترموا له حريته هو أيضاً من غير أن يضطر إلى إراقة دمه مرة أخرى.
مراكش
(خبير)(666/37)
فلسطينيات:
العزاب. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
تجاوز فهيم عبد الجواد الخامسة والأربعين ولا يزال عزباً. فكم من مرة نصحته أمه في شبابه أن يدخر عندها كل يوم خمسة قروش فلا تمضي أربع سنوات أو خمس إلا وتكون قد جمعت له مهر العروس. . . لكنه كان يقابل رأيها هذا بابتسامة ساخرة ويقول لها: حسن، هاك نصف جنيه عن عشرة أيام! فينساها، وتنسى أمه مسألة الادخار إلى أن تثار الحكاية من جديد، فتنصحه ويدفع، فينسى فتنسى، وهكذا ظل فهيم دون زواج.
فكان مكبوت العاطفة، رقيق الشعور نزقا في بعض الأحيان. وفي عصر أحد الأيام، بينما كان يحاول إغلاق مكتبه الذي يتعاطى فيه أعمال تأجير البيوت، جاءته فتاة أجنبية، وسألته عن غرفة مفروشة أو غير مفروشة، لكنها رجته وألحت في السؤال فوعدها خيراً. . . ولما علم منها في سياق الحديث إنها جاءت المدينة ذلك اليوم، وإنها وحيدة لا أهل لها ولا معيل، أحب إن يمثل معها دور العاطف عليها، فحدثها عن مصاعب الحياة، والحرب وذيولها، وغلاء المعيشة، وأزمة المساكن، وكانت الفتاة توافقه تارة وتخالفه تارة أخرى، وفي نهاية الأمر دعاها إلى تناول العشاء معه، فترددت، فأغراها بمآكل المدينة الشرقية القديمة وبالتفرج على بيوتها وفرشها، فترددت ثانية، لكنها استعرضت في مخيلتها صوراً خيالية براقة فرأت في هذه الدعوة ما يكشف لها أسراراً طالما طالعتها في الروايات والقصص، فأومأت إليه برأسها موافقة، وذهبا سوية إلى مسكنه في دير الأرز الواقع في وسط المدينة القديمة.
كانت الساعة وقتئذ تقارب الثامن مساء، وقد أنتشر الظلام في حارات المدينة وأزقتها، ولم ينرها سوى قناديل زيتية تكاد لا تعكس ضوءها إلا على نفسها فقط!، وكانت الفتاة تسير إلى جانب فهيم أفندي وتتعثر، فيعينها بوضع راحته تحت رسغها برفق، وإذا ما تراءى له أنها ستقع، تأبط ذراعها، فتشكره بكلمات غير واضحة متقطعة. ولما اقتربا من الدير قال لها: حذار من إحداث ضجة أثناء دخولنا الدير. سيري على أطراف قدميك قالت: وهل من شيء تخشاه؟ إنني ضيفتك، ومن يجرؤ ويمانع في زيارتي لك؟. . .(666/38)
قال: للمسألة صلة بالتقاليد وليس بقواعد الأتيكيت. فمن عاداتنا أن لا تزور امرأة رجلا أعزبا في بيته.
قالت: حقاً إنها لعادة غريبة!. . .
ودخلا الدير كما أفهمها فهيم أفندي، وصعدا إلى الطابق الثاني بهدوء مطلق، وولجا الغرفة بهدوء أيضاً.
ودير الأرز هذا كان فيما مضى من الأيام ملجأ للمتعبدات اليونانيات، إلا أنه تحول إلى مسكن لرقيقي الحال من الناس، فضمت جدرانه مهاجراً بولونياً، ولاجئاً يونانياً، ومجلد كتب، وممرضاً، وبائع الخضار، وغيره بائع الألبان، وصاحب مكتب تأجير البيوت فهيم عبد الجواد، وكان جميع ساكني هذا الدير من العزاب، ولذا كانوا يفرضون على بعضهم بعضاً رقابة أخلاقية شديدة الوطأة.
وما إن أجلس فهيم الفتاة إلى المائدة حتى سمع لغطاً خلف الباب، ثم رأى وجهاً يطل عليه من النافذة التي تعلوه، فعرف فيه وجه جاره مجلد الكتب، وقد اتقدت عيناه فغدتا أشبه بالجمر وأخذ ينقر الزجاج بسبابته مشيراً إلى فهيم إن يفتح باب الغرفة.
فما كان من فهيم إلا زجره، لكن المجلد تمادى في النقر وعلى حين غرة حطم الزجاج بجم يده فأحدث فيه فجوة ومد أصابعه منها إلى المزلاج الداخلي وفتحه. . . وكان الهرج خلف الباب يتزايد، ثم بادر المجلد فهيما بقوله:
- ألا تخاف ربك يا جاري؟!
فقال فهيم: خسئت أيها اللئيم، إنها ضيفي، وحاشا أن أدنس بيتي. . .
فقال المجلد: فوالله إن لم أقضي السهرة برفقتكما أثرت سكان الحي عليكما!. . .
وكانت الفتاة ترتجف من شدة الخوف والفزع، وكان زملاء المجلد يدفعون باب الغرفة بمناكبهم وكادوا يحطمونه لو لم يسارع فهيم إلى فتحه، فإذا به يشاهد الممرض وقد رفع مجلد الكتب على كتفيه، وهو في قميص النوم، وبائع الخضار وقد التف بعباءة وهو حاسر الرأس حافي القدمين، وبائع الألبان واقفاً بسرواله الواسع وبيده هراوة ثقيلة. . .
ما هذه الإغارة؟ وما الذي يريده هؤلاء القوم؟. . .
إنهم العزاب. . . شموا رائحة الأنوثة المسكرة تعبر بأبواب غرفهم، فهبوا من فراشهم(666/39)
وتتبعوا الأثر إلى أن قادتهم أقدامهم إلى غرفة فهيم، وكان منهم ما كان. . .
قال الممرض إلى جاره الذي أخل بشروط العزوبة:
- نحن جيران يا أخي منذ خمس سنوات، وهل قصرت معك في شيء؟ هل طلبت يوماً روحي ولم أضعها تحت تصرفك؟
وقال بائع الخضار: يا فهيم. . . إنني أعهدك صريحاً فلو أطلعتني منذ الأمس على قصدك لكنت مددت لك يد المعونة، ولسترت عليك الأمر، ولما درت هذه الكف ما تفعله الكف الأخرى.
وتقدم بائع الألبان مزمجرا والهراوة في يده وقال: وحق من بسط الأرض، ورفع السماء، إن لم تقبلنا في سهرتك هذه، لأنثرن دماغك في جنبات هذه الغرفة!. . .
أما المسكينة فكانت تسمع ولا تفقه، لكنها أدركت إنها بيت القصيد، وإنها قد وقعت في الفخ.
ولما رأى فهيم إن المسالة قد تأزمت، وان غرفته ستصبح مسرحاً لرواية مخزية، ولفاجعة مؤلمة، قال للفتاة بلغة لا يفقهها جيرانه: -
- لا تجزعي سأغلق عليك الباب، وسأذهب في طلب بوليس الأخلاق. . .
وأقفل الباب على الفتاة واجتاز العزاب وقد تربعوا في الممر يهدرون كالإبل. وبعد دقائق معدودات، عاد فهيم وبرفقته نفران فتبعثر العزاب هنا وهناك، وخرجت الفتاة بحراستهما، وقد سترت رأسها ووجها بمنشفة حتى لا يراها أحد، ثم تركوا الدير أربعتهم وساروا في الطريق معا، دون أن ينبسوا بكلمة واحدة. وإذ بلغوا مسكن النفرين، قف فهيم يستودعهما ويشكرهما على حسن صنيعهما. فأجابه أحدهما: لا شكر على واجب. ولكن هلا تفضلت مع الفتاة لنقضي السهرة عندنا؟!
نجاتي صدقي(666/40)
في كتاب البخلاء للجاحظ
قرأ عظيم من عظماء الفكر في مصر كتاب البخلاء للجاحظ في طبعة وزارة المعارف التي ضبطها وشرحها وصححها الأستاذان أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، عضوا مجمع اللغة العربية الملكي فرأى فيها بعض المآخذ على التصحيح أو على الشرح آثر حفظه الله أن ينشرها في الرسالة خدمة لهذا الكتاب القيم عسى أن تفيد من اقتناه في هذه الطبعة، ومن يريد أن يعيد طبعه عنها. ونحن ننشرها شاكرين للأستاذ العظيم فضله على اللغة، وعطفه على الأدب، وصلته بهما صلة الرجل الكامل الذي يأخذ كل شيء مأخذ الجد الصارم، وإن لم يكن من صميم عمله ولا من حر اختصاصه.
في الجزء الأول
في ص28: (وإذا كان البكاء (الذي) ما دام صاحبه فيه فإنه في بلاء - وربما أعمى البصر وأفسد الدماغ ودل على السخف وقضى على صاحبه بالهلع، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع - كذلك، فما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه؟)
قال الشارحان: لم تكن (الذي) في النسخ التي بين أيدينا وقد أثبتناها من نسخة الشنقيطي ليكون المعنى بها أوضح.
ثم قالا في رقم 5 من الشرح: وقوله (كذلك) خبر كان.
وأنا أرى إن كلمة (الذي) مقحمة لأنها تفسد المعنى، وأن جواب الشرط (إذا) هو قوله: فما ظنك بالضحك الخ. لا قوله (كذلك)؛ لأن كلمة كذلك إنما هي لضم (الحدث الضرع) إلى (الأمة اللكعاء) في تشبيه صاحب البكاء بهما، ومن الخطأ الفصل بين كلمتي الضرع و (كذلك) بتلك (الشرطة) - بذلك تتحرر العبارة، وتنزل على المعنى المعقول الذي يريده الجاحظ وهو أن البكاء مطلقا ما دام صاحبه متلبسا به فهو في بلاء؛ وربما أعمى البصر، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع كذلك. وإذا كان هذا شأن البكاء على الإطلاق (أي لا شأن نوع منه) فما ظنك بالضحك الخ.
على أن من يريد إقحام (الذي) بعد كلمة البكاء لتقابل كلمة (الذي) الواردة بعد كلمة الضحك في جواب الشرط، لا بد أن يحذف الواو قبل كلمة (ربما أعمى) لتكون ربما وما بعدها(666/41)
خبرا لكان.
وجاء في صفحة 34: (وإن من أعظم الشقوة، وابعد من السعادة، ألا يزال يتذكر زلل المعلمين، ويتناسى سوء استماع المتعلمين) وأظن إن كلمة (من في قوله وابعد من السعادة زائدة أو واجبة التقديم على (أبعد)؛ وإذا حذفت على اعتبارها زائدة فلابد من جر (أبعد) بالعطف على أعظم.
وجاء في صفحة 77: (قال أبو مازن وأرخى عينيه وفكيه ولسانه، ثم قال: سكران والله! أنا سكران). وقال الشارحان تعليقا على (قال) الثانية: كان يمكن أن يستغني عن قال هذه، والصواب في رأيي أن قال الأولى صحتها (مال) إذ لو حذفت قال الثانية لبقى الأشكال في ثم.
وجاء في صفحة 89: (قد عرفت الرأس حق معرفته، وفهمت كسر إلا كسير على حقيقته) والصواب على ما أظن سر إلا كسير لا كسر إلا كسير. وفي الصفحة نفسها (وعرفت التنجيم والزجر والطرق والفكر) وقد فسر الشارحان كلمة الفكر بقولهما: يحتمل أنه يريد بالفكر هنا طرق التفكير، والذي أراه أن المراد بالفكر هنا هو قراءة أفكار الناس لا كيفية تفكيره هو، وهذا النوع هو الشائع الآن عند كثير من المتكهنين.
وجاء في صفحة 90: (ولولا أن أكون سببا في تلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون) وفسر الشارحان بتلف النفس هنا بما قد ينشأ بتعلم هذا العلم من طغيانها وتمردها. وأقول إن المراد صعوبة تحمل هذا العلم لما ذكره بعد من عجائبه، تلك الصعوبة التي تقتضي بذل جهود مهلكة. وفي الصفحة نفسها فسر الشارحان (صنعة التلطيف) في قول الجاحظ: (ولكني سألقي عليك علم الإدراك، وسبك الرخام، وأسرار السيوف القلعية، وعقاقير السيوف اليمينية، وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف على وجهه). فسرا صنعة التلطيف بصنعة النقش والتزيين. والأظهر إن التلطيف عملية كيميائية كما جاء في طبعة ليدن. وما لا يعرف معناها بعد مراجعة كتاب الحيوان، فالغالب أن معناها التصعيد أي تأويل الجسام إلى غازات، أو تخفيف الكثيف وجعله رقيقا.
وجاء في صفحة 91: (ولست أرضاك ولو كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لا حقاً بالآباء، لأني (لم أبالغ) في محبتك)؛ والصواب في محنتك لا في محبتك؛ لأن عبارة (لم(666/42)
أبالغ) لا تتفق في هذا المقام مع في محبتك، إذ الأب يصف حالة قائمة بنفسه قبل الكلام وأثناءه وبعده، فإذا فرضنا أن (في محبتك) غير محرفة؛ فلابد أن يكون ما قبلها محرفا عن (لا أبالغ) وبهذا التصحيح قد تكون عبارة ذلك الأب مفهومة. على إن الحق إنها صحيحة، والمحرف إنما هي العبارة التالية، إذ الأب يقول لابنه إن معارفي التي شغلتني تحصيلها عنك لم تترك لي وقتا أستزيد فيه من اختباري درجة عقليتك وامتحان مبلغ استعدادك. ولذلك تمشت عبارة (لم أبالغ) مع عبارة (في محنتك) لأن الوالد يبالغ دائما في محبة ابنه.
وجاء في صفحة 93: (احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف، فاحتالت القضاة على أولادهم بالاستحجار) وقال الشارحان وقد عدل عن الحجر، وهي الكلمة المألوفة إلى الاستحجار التي لم نجدها بهذا المعنى فيما بين أيدينا من المراجع. وأقول: ليس الاستحجار هو الحجر حتى يكون الجاحظ قد عدل عن هذه إلى تلك؛ بل الواضح إن الاستحجار هو طلب الحجر؛ واحتيال القاضي بالاستحجار هو سعيه بسوء نية في جعل أحد الناس يطلب الحجر على الموقوف عليه، وهذا ظاهر لا يدعو للتشكك ولا للرجوع إلى المعاجم.
وفي الصفحة نفسها يقول الجاحظ: (يا ابن الخبيثة: إنك وإن كنت فوق أبناء هذا الزمان فإن الكفاية قد مسختك) وأقول إنها مسحتك بالحاء المهملة لا مسختك كما في المتن، ولا محنتك كما في نسخة ليدن، ولا مجنتك بتشديد الجيم كما ينطق بعض المستشرقين. وذلك إن مسح الرجل أو مسحه بالتشديد معناها قال له قولا حسننا ليخدعه به؛ فالمراد إذن أن الكفاية أي رغد العيش الذي أنت فيه قد فتنتك وخدعتك عن نفسك.
وجاء في صفحة 102: (وزرته أنا والمكي، وكنت أنا على حمار مكار، والمكي على حمار مستعار، فصار الحمار إلى أسوأ من حال المذود) والصواب الزور لا المذود، والزور: الضيوف جمع زائر، مثل ركب وصحب جمع راكب وصاحب.
وجاء في الصفحة نفسها: (فأعاد المسالة فأمكنه من أذن من لا يسمع إلا ما يشتهي)، وقال الشارحان: (فأمكنه إلى آخره، أمكنه من الشيء كمكنه بتشديد الكاف منه، وفاعل أمكنه يعود إلى المكي، وضمير المفعول إلى المسألة بمعنى الطلب ليطابق المرجع. وأقول إن هذا التفسير يفسد عبارة الجاحظ، وهي من أجمل العبارات، والصواب أن صاحب البيت هو(666/43)
الذي أمكن المكي من أذن صماء كما تقول: أعارني أذنا صماء. وجمال العبارة هو في التمكين الموهم بلوغ المقصود، ثم اتباع هذا التمكين ببيان أن الباب الذي انفتح لا يؤدي إليه، وإنما يؤدي إلى نقيضه.
وجاء في صفحة 103: (وصديق كنا قد ابتلينا بمؤاكلته، وقد كان ظن أنا قد عرفناه بالبخل على الطعام، وهجس ذلك في نفسه، وتوهم أنا قد تذاكرنا أمره؛ فكان يتزيد في تكثير الطعام، وفي إظهار الحرص على أن يؤكل حتى قال: من رفع يده قبل القوم غرمناه دينارا، فترى بغضه إن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتمل في رضا قلبه وما يرجو من نفع ذلك في له). وقال الشارحان بعد أن فسرا هذا الكلام على هذا الضبط: (ولا يخفى ما في هذه العبارة من إيجاز وغموض، وأقول: إن سوء الرسم هو الذي أدى إلى تفسيرهما المعقد، وصواب العبارة إن تضبط هكذا (فترى بغضه أن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتملين في رضا قلبه إلى آخره) وإذن يكون معنى العبارة أنك أيها القارئ ترى إن بغضه للكرم المدلول عليه بتغريمه الدينار، والدينار أكبر قيمة من كل طعامه، ثم إكراه نفسه على الظهور بمظهر من يلوم على عدم الأكل، هاتين الخصلتين المتناقضتين قد وسعهما قلبه فاحتملهما لما يرجوه من الظفر في النتيجة.
(يتبع)(666/44)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
694 - وأنت في جد
في (مسالك الأبصار): قال عبد الله بن الربيعي: دخلت أنا وأبو النصر البصري (بيعة ماسرجس) وقد ركبنا مع المعتصم نتصيد، فوقفت أنظر إلى جارية أهواها، وجعل هو ينظر إلى صورة في البيعة استحسنها حتى طال ذلك، ثم قال أبو النصر:
فتنتنا صورةٌ في بيعة! ... فتن اللهُ الذي صورها!
زادها الناقشُ في تحسينها ... فَضْلَ حسن أنه نضّرها
وجهها (لا شك عندي) فتنة ... وكذا هِيْ عند من أبصرها
أنا للقَس عليها حاسد ... ليت غيري عبثاً كسّرها
قال الربيعي: فقلت له: شتان ما بيننا، أنا أهوى بشراً وأنت تهوى صورة.
قال لي: هذا عبث، وأنت في جد.
695 - وصاحبها عند الكمال يموت
حكي إن إنسانا رفع قصة إلى الصاحب كمال الدين بن العديم فأجبه خطها فأمسكها وقال لرافعها: أهذا خطك؟
قال: لا، ولكني حضرت إلى باب مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها لي. فقال: عليّ به. فلما حضر وجده مملوكه الذي يحمل مداسه وكان عنده في حال غير مرضية. فقال له الصاحب: أهذا خطك؟ قال: نعم. قال: فهذه طريقتي فمن الذي أوقفك عليها؟
قال: يا مولانا كنت إذا وقعت لأحد على قصة أخذتها منه وسألته المهلة على حتى أكتب عليها سطرين أو ثلاثة. فأمره أن يكتب بين يديه ليراه فكتب:
وما تنفع الآداب والحلم الحجا ... وصاحبها عند (الكمال) يموت
فكان إعجاب الصاحب بالشعر أكثر من الخط لأن فيه تورية لطيفة، ورفع منزلته حينئذ.
696 - قد أبلغناه محبة
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: قيل لأبي مسلم الخراساني إن في بعض الكتب المنزلة:(666/45)
(من قتل بالسيف فبالسيف يقتل) فقال: القتل أحب أليّ من اختلاف الأطباء، والنظر في الماء، ومقاساة الدواء والداء. فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم، فقال: قد أبلغناه محبته. . .
قال المنصور للمهدي: ما أيدت بمن أيد به من كان قبلي، أيد معاوية بزياد، وأيد عبد الملك بالحجاج. فقال المهدي: قد أيدت بمن فوقهما. فقال تعني أبا مسلم؟ قال: نعم. قال: قد كان كذلك لكنه خيرنا بين إن نقتله أو يقتلنا فاخترنا قتله. . .
697 - وعليه زينهم
في (تاريخ بغداد):
قال أبو بكر بن شاذان: سألت أبا الطيب محمد بن الحسين اللخمي أن يملي عليّ شيئا فأبى، ثم سألته فأجاب، فقلت له: أعطني ورقة. فقال لي: والورق من عندي؟! أكتب، وأنشدني هذه الأبيات:
رب، ما أقبح عندي عاشقا ... مستهاما يتفقّا سِمنا!
قلت من ذاك؟ أنا؟ فاستضحكت ... ثم قالت: من تراه؟ فأنا؟
قلت: زوريني فقالت: عجبا ... أنا والله إذن قاري مني
إذ يصلى وعليه زيتهم ... أنت تهواني وآتيك أنا؟!
698 - إن اهتمامك بالمعروف معروف
قال عبد الأعلى بن حماد النرسي، قدمت على المتوكل بسر من رأى، فدخلت عليه يوما فقال لي: يا أبا يحيى، قد كنا هممنا لك بأمر، فتدافعت الأيام به، فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت مسلم ابن خالد المكي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة، وأنشدته:
لأشكرنك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
فجذب الدواة فكتبهما، ثم قال: ينجز لأبي يحيى ما كنا هممنا له به، وهو كذا، ويضعف لخبره هذا.(666/46)
699 - لا يعقل
أبو سعيد الكرماني:
عزلت وما خنت فيما وليت ... وغيري يخون فلا يعزل
فهذا يدل على أن من ... يولي ويعزل لا يعقل
700 - أهذا أيضا مما أعده؟
في (الكشاف): عن عمر بن عبد العزيز (رضى اللذه عنه) أنه شكر عبد الملك حين زوجه ابنته، وأحسن إليه وقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام حسن. فقال أبن لعبد الملك: إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك. فلما كان بعد أيام دخل عليه والإبن حاضر، فسأله عن نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين. فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما) فقال لابنه: يا بني، أهذا أيضا مما أعده؟. . .
701 - حتى تغرب الشمس
قال أحمد بن طاهر: كنت في مجلس بعض أصدقائي يوما، وكان معي علي بن عبيدة الريحاني في المجلس، وفي المجلس جارية كان يحبها، فجاء وقت الظهر فقمنا إلى الصلاة وعلى الجارية الحديث. فأطال حتى كادت الصلاة تفوت فقلت له: يا أبا الحسن، قم إلى الصلاة، فأومأ بيده إلى الجارية وقال: (حتى تغرب الشمس) فجعلت أتعجب من حسن جوابه، وسرعته وكفايته.(666/47)
البريد الأدبي
مجون كالجنون:
إذا جاز لغيرنا من أمم الغرب أن يستحلوا الكذب الطريف في أول أبريل لأنهم قلما يكذبون في سائر الأيام، فما الذي يجيز لنا نحن أن نتعمد الكذب في هذا اليوم، وحياتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا ومبادئنا كلها كذب صراح في جميع أيام العام؟ لقد كان الأخلق بنا أن نستريح في هذا اليوم إلى الصدق ترفيها لأنفسنا وألسنتنا من عناء الكذب المتصل في كل ساعة وفي كل شيء. وإذا لم يكن بد من هذا التقليد البليد فمن لوازمه أن يتوخى الكذاب الطرافة والظرف فيما يكذب ليكون له من هذه الحال مبرر. ولا ندري أي طرافة وأي ظرف في هذه الكذبة المؤلمة التي صاغها ذلك الطالب الماجن حول حياة الأستاذ منصور جاب الله، وبعث بها إلى الرسالة فنشرتها في العدد الماضي! لقد روع أصدقاء الأستاذ منصور، وبخاصة صديقه الأستاذ كامل كيلاني، فقد بات بليلة الوفي المرزوء يكابد مرارة الحزن، ويعد كلمة الرثاء، ويتمنى مع ذلك على الله أن يرد علينا في الصباح خبر يكذب الخبر لأننا لم نقرأه في صحيفة ولم نسمعه من أحد. وقد حقق الله ما تمناه وجاءنا من الأستاذ منصور هذا الكتاب الذي يكذب والحمد لله ما نشرناه:
سيدي. . . رئيس تحرير (الرسالة)
تحية واحترام، وبعد، فقد دهشت أن يعمد أحد المجان غلى صحيفة الأدب الرفيع الوقور، فيتخذ منها متنفسا لمجونه العابث ومرتعا لهذه العادة السخيفة التي يسمونها (أكذوبة إبريل).
وإني ' ذ أشكر الصحب والأخوان الذين شملوني بعطفهم وأولوني برهم، أعجب لهذا العابث الذي يزعم أنه ينتسب غلى إحدى جامعاتنا، حين تزيد في القول فأدعى أني اكتب الرسائل الجامعية لأصحابها، وإني أحرر المقالات والمحاضرات للأصدقاء المعوزين.
من أين علم هذا؟ وكيف لي بهذا؟ إن مثل هذا التعريض لا يليق بشاب ينتظره مستقبل لامع وأمة ناهضة.
إنها على كل حال سانحة طيبة لأبادل إخوان الأديب وأهل الفضل شعورهم. جزاهم الله خيراً، وأجزل بين الأبرار ثوابهم. والسلام عليكم ورحمة الله.
(إسكندرية)(666/48)
منصور جاب الله
رسالة في القدر:
(لصاحب ديوان (وحي المرأة))
سيدتي الفاضلة:
تلقيت كتابك الكريم الحزين، وإني لألمس فيما يضطرم فيه من لاعج الألم: وفيما ينطوي عليه من احتياج كظيم وثورة مكبوتة، مبلغ السعادة التي فجعك فيها القدر، ذلك القدر الذي فجعني مثل فجيعتك.
وما أحسب أهل الحضارات القديمة من الأمم الحالية إلا على عذر في تصورهم أن الآلهة تحسد من تهيأت لهم السعادة في تمامها وكمالها من البشر، فتبتدرهم بما يقتضب تلك السعادة عليهم.
ولقد كنت في صدر حياتي أعجب للمأساة عند الإغريق وتصويرهم فيها للقدر يقضي قضاءه لغير موجب نعقله، فلا تجدي حيلة ولا شفاعة، لا حيلة في الأرض ولا شفاعة في السماء تقف في وجه القدر الطاغية فيما يروونه من أساطير تاريخهم. وذلك انهم كانوا - مع إيمانهم بسلطان الأرباب على البشر - يجعلون القدر فوق الأرباب.
وإنني لأذكر اليوم هذه الصورة للقدر التي كنت أعجب لها عند الإغريق الأقدمين، ثم أذكر هذا الذي ما نزال عليه نحن عامة المسلمين من الاعتقاد بالمقدور المكتوب من قديم لكل واحد منا، وما يستتبعه من الدعاء بدعائنا المأثور (اللهم لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه) فلا أملك نفسي من مراجعة النظر والتفكير. أجل، إني لأديم التفكير في هذا على الرغم مني.
ولست أزعم ولا أنت تزعمين يا سيدتي أن الفجيعة التي نزلت بنا لم تنزل قط بأحد غيرنا. ولكني لا أجد في ذلك عزاء وأظنك مثلي، وإنما ذلك أدعى إلى زيادة الأسى على حظ البشر المساكين.
وكل ما يستطيعه الإنسان في رأيي ويليق بكرامته أن يواجه الحقيقة وينظر إلى وجهها سافرة معتصما بذلك الاستسلام الجليد النبيل الذي عرف به الفلاسفة الرواقيون. فهل نحن(666/49)
مستطيعون؟
وقبل أن اختم هذه الكلمة اليائسة التي كنت أود لو قلت غيرها من قبل الكلام الذي تعوده الناس في هذه المناسبات الحزينة، أعتذر مخلصاً للسيدة الفاضلة عن خروجي عن المألوف، وأرجو أن تتقبل اعتذاري. أما اعتذار السيدة عن ترديدها لشعر الديوان في بكاء حبها الضائع وإلفها الراحل فهو حقها، فالديوان ديوانها مثل ما هو ديواني؛ إنه ديوان كل من أصيب في حبيب. أما ثناؤك الكريم يا سيدتي على ناظم الديوان، فأنه ينصرف إلى صاحبة وحيه ولك أجزل الشكر مني
عبد الرحمن صدقي
حول نقل الأديب
تتحف الرسالة الغراء قراءها الفينة بعد الفينة بما يعتمي الأستاذ الجليل النشاشيبي في (نقل الأديب) ويشغفه بالبيان والنقد مما لا يذر طلبة لمستزيد.
وفي عدد الرسالة الأخير رقم 665 الطرفة الأولى (قضية خمرية) التقطها الأستاذ من (شرح المقامات) للشريشي. غير انه لم يعقب عليها بالرد على تفسير القاضي عبيد الله بيتي حسان في زعمه انه يريد بقوله (كلتاهما حلب العصير) الخمر ومزاجها، فالخمر عصير العنب والماء عصير السحاب. كدأبه في التنقيب والاستيعاب.
إن تلك الطرفة الأدبية (على ما زعم القاضي) سبق بقصها الأصبهاني في الأغاني، أخبار الواثق ج9 ص 288 طبع الدار، وحكاها الحريري استطراداً في درة الغواص الوهم 108 ثم نقلها عنه أبن حجة الحموي في أوائل (ثمرات الأوراق) كما ذكر الشريشي.
وقد فند ابن الشجري في أماليه تفسير القاضي بأوجه ثلاثة: الأول أن (كلتاهما) للمؤنث والماء مذكر؛ والثاني أن (أرخاهما) للمشاركة والزيادة والماء لا إرخاء منه؛ والثالث التدافع بين قولي القاضي الخمر عصير العنب وحسان حلب العصير للزوم إضافة الشيء إلى نفسه. ثم ارتأى بعدئذ أن الشاعر أراد كلتا الخمرتين الصرف والممزوجة حلب العصير.
نقل ذلك كله عن الأمالي الشهاب الخفاجي في شرح الدرة، وكذا البغدادي في خزانة الأدب ج2 ص 240.(666/50)
ولسيدي الأستاذ الجليل آي الإكبار والإجلال.
محمد الطنطاوي
مدرس بكلية اللغة العربية
المرأة ووظائف النيابة والقضاء:
(الرسالة) مهبط الوحي الشعري ومنار النثري فلا غرابة في أن يتسع صدرها لعرض موجز لقضية طريفة أثيرت أخيراً في إحدى المجلات وهي قضية المرأة وحقها في تولي وظائف النيابة والقضاء. . . فقد سألت المجلة سعادة النائب العام فتركزت إجابته في نقط ثلاث: هي أن طبيعة العمل في النيابة. وأن حرمان المرأة هذا الحق هو في الواقع - عند رأيه -
هذا رأي النائب العام. وللرد عليه نقول: أفليست المرأة تحمل ليسانس الحقوق كالرجل؟ وإذا كانت قد استوعبت قواعد التقنين وأصول التشريع ووسائل التحقيق وطرائق المرافعات كما استوعبها الرجل سواء بسواء، فما المانع الجدي الذي يحول دون الانتفاع بها في وظائف النيابة ما دامت الأداة والوسيلة بين يديها. . .؟
وإذا احتج حضرة النائب العام بأن هناك بعض القضايا التي قد تخجل من ممارستها وتحقيقها (النائبة) فاحتجاجه هذا يدفعه أن المرأة بطبيعة الحال قد درست مثل هذه القضايا، والدراسة مهما كانت تحمل لون التصور والتخيل للوقائع والتطبيقات العلمية.
وإذا طلبت المرأة أن تتولى النيابة ففي طلبها هذا رضاء ضمني منها للقيام بسائر تبعات وظيفتها. . . وعندئذ تسقط الحجة القائلة بأنهم يحرمونها لا ظلماً لها وإنما محاباة لها وإكراماً. . .
هذا ويعرض سعادة النائب العام بطلب زميلة فاضلة أرادت الاشتغال بالنيابة مع أشترطها أن تعمل وكيلة النائب العام في قضايا الأحداث. . . ولست أدري. . . أكان يجب أن تشكر على اختيارها هذا القائم على المنطق والدراية والقياس. . . أم كان ينتظر أن تمنع ويعرض برأيها. . . الحقيقة أن خير من يزن ويقدر أحوال ودوافع الجريمة عن الأحداث هن المرأة. . . وإنها وحدها التي تحمل التوجيه والتربية في عطفها الأموي. ثم ألم تتجه(666/51)
الإدارة والرغبة إلى تخصيص قضاة للأحداث، فلم لا تترك هذه الوظائف للمرأة. . . وظائف قضاة الأحداث ونيابة الأحداث. . .
وبعد فهذه مشكلة نعرضها على صفحات (الرسالة) الغراء راجين من كتابها القانونيين أن يسارعوا إلى دراستها. . .
(إسكندرية)
عواطف بيومي(666/52)
قصص فرعونية:
2 - قصة سينوحيت
للأديب مصري قديم
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(ملخص ما نشر في العدد 663)
أشرك ملك مصر أمنمحعت الأول قبل وفاته بعشر سنوات ابنه
وولي عهده أسرتسن الأول في حكم مصر، وكان أسرتسن
يقوم بقيادة الجيوش في حملاته الخارجية بينما يبقى أبوه في
العاصمة لتدبير شؤون مصر.
في إحدى حملات أسرتسن على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتسن يحمل إليه نعي أبيه سراً، وسمع سينحوت بموت أمنمحعت فقرر الفرار من الجيش بل من مصر، لنه رأى أن بقائه فيها خطراً على حياته بعد موت أمنمحعت واستبداد أسرتسن بالأمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه فلم يره، ثم سار إلى سنفرو ثم الحميزة ثم عبر النيل إلى الشرق على طوف وجده هناك حتى وصل إلى الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازاً مسلحة عند عين شمس كانت تحمي مصر من غارات الأسيويين ثم انحدر في وادي كيمور (طوميلات) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسيا) فعرفوه وأنقذوه وأضافوه عندهم أياماً، ثم رحل عنهم إلى أدوم. . . وها هو ذا سينوحيت يروي بقية القصة. . . .
لم تطل إقامتي في أدوم أكثر من ستة اشهر، وهناك وافاني من الأمير أمونشي الحاكم على مرتفعات تنو رسول يطلب مني أن ارحل إليه، إذ كان في حاشية هذا الأمير بعض(666/53)
المصريين الذين كانوا يعرفونني، فوصفوني عنده، وأخبروه بمنزلتي فلبيت دعوته وأتيت، فطلب مني الإقامة معه معللا ذلك بقرب بلاده من مصر، وبأن من اليسير عليّ، وأنا في بلاده، أن أقف على ما يجري في مصر من أحداث.
وربما كان الرجل خالجه إن أمراً ما هو الذي ألجأني إلى أن أهجر بلادي، فشاء الوقوف عليه، فحاول استدراجي لأكشف له عنه، فسألني عما دفعني إلى المجيء، وعما جرى في البلاط، وما إذا كان الملك سحتب آب رع (أمنمحعت الأول) قد رحل إلى السماء.
فهمت حيلة الرجل فلم تنطل عليّ، وقلت له مداوراً حتى لا يهتدي إلى ما كان: (إنني لم آتي هنا فراراً من ذنب جنيته: فأنا لم أنطق بفاحشة ولا أصغيت إلى رأي امرئ، ولا حوكمت أمام القضاء، ولكني - إذ كنت في تمهو (ليبيا) - ترددت في السفر، غير إنني وجدت أنه لا يليق بشجاعتي أن أعدل عما أزمعت من الرحلة فرحلت، لم يكن من أمري غير ما حدثتك، فأنا لا أدري ما دفعني إلى هذا الإقليم).
قال الأمير: (إنما هي مشيئة الإله الكريم، وإن ذكره ليلقي من الروع في قلوب الأجانب ما يلقى عام القحط في قلب الفلاح).
فقلت: (غفواً فلقد تسلم ابنه مقاليد الملك، وتربع على عرشه، وإنه لفريد بين من سبقوه في أخلاقه وعظمته، فهو حازم أريب في كل ما يدبر من أساليب ملكه، وهو يسبغ عطفه على كل من يخلص له، وهو - إلى ذلك - قائد بارع دوخ بجيوشه الأقطار الأجنبية عندما كان أبوه حياً في القصر، وهو بطل صنديد فريد في قتاله: إنه - إذا دارت المعركة - ليقتحم صفوف أعدائه الطغاة غير هياب ولا وجل، فيطيح أبواقهم، ويهشم جماجمهم، ويصدع صفوفهم بضارباته القوية حتى يشل قواهم، فيكفوا عن القتال ويولوا الأدبار، وهو مقتحم لا يأبه بالأخطار، ولا فبل لأشجع الشجعان بالوقوف في وجهه كما انه عداء سريع لا يستطيع أحد أن يفلت منه، بل يتخطفه قبل أن يبلغ مأمن، وإذا ما استحر القتل انقض على أعدائه فنفضهم من حوله نفضا وهجم ذات اليمين وذات الشمال ومن الخلف ومن الأمام، وتساقطت ضارباته العنيفة الثقيلة في كل ناحية، والويل لمن حلت عليه إحدى ضارباته إنها لتجند له وتسحقه، انه هو الأسد الهصور ينشب براثينه في أعدائه بلا شفقه، فإذا هم كالكلاب الذليلة الخاشعة قد انفضوا من حوله، حتى إذا ما انهزموا لم يعفهم بل يطاردهم(666/54)
حتى يلحق بهم ويمزقهم شر ممزق. لقد أمدته الإله ببطشها وجبروتها، وإنها دائما لترعاه وتكفل له الغلبة على الأعداء الذين لا يؤمنون بها، وقد جمع إلى كل ذلك فضائل جمة، فهو أنيس حلو الشمائل لطيف المعشر نافذ البصيرة قدير على أن يخلب الألباب ويستميل القلوب، وما من أحد في شعبه إلا وهو يؤثره على نفسه، ويفتديه بحياته. وقد تمرس بالحكم ومصاعبه منذ ولد، وكان مولده بشيرا بتكاثر الذريات، وشعبه متمسك به، يحبه ويستريح إلى حكمه، وهو حريص على إن يمد حدود مصر نحو الجنوب، وان كانت الأقاليم الشمالية لم تخضع له، وهذه قبائل الساتي لم تذق ضرباته، ولكن من يدري فربما اجتاح يوما هذه الأقاليم، فخير لك إن تقدم له فروض الولاء حتى يعرفك، ولا ريب أنه سيشملك بعطفه).
فقال: (ما أسعد مصر! إن موقعها حسن وشؤونها مدبرة بأحكام وسداد، وهاأنذا أعاهدك على أن أقدم إليك كل مساعدة أستطيعها ما دمت أنت بجانبي آية تقديري لمصر التي أنت منها).
وقد أوفى الأمير بعهده فزف ألي كبرى بناته، وترك لي أن أختار ما أشاء من أرضه ليقطعني إياه، وكان - فيما عرض عليّ غير ذلك - مقاطعة (له على جانب عظيم من الخصوبة ووفرة الثمرات، اسمها (ياع) كانت حافلة بالحبوب من حنطة وشعير، فياضة من عنب وتين، زاخرة بالعسل، ونبيذها كثير كالماء، وكانت تمرح فيها قطعان لا حصر لها من الماشية.
ولم يقنع الأمير أن غمرني بعطاياه، بل أقامني - رغبة في استبقائي إلى جانبه، والانتفاع بي في ولايته - أميراً على قبيلة من أضخم القبائل التي تمرح في ولايته، فكان رجالها يتكفلون بطعامي كل يوم، فيقدم لي خير الأطعمة من خبز ولحوم طيور وغزلان، وأشهى الأشربة من لبن ونبيذ، وكان يقدم لي الزبد مستخلصا من اللبن، وكثيراً ما كنت أصيد الغزلان أو تصيدها لي كلابي المكلبة فوق ما كان يقدم إلى من رجال القبيلة.
أقمت في تلك القبيلة سنوات طويلات رزقت في أثناءها عدة أولاد، ولما بلغ أولادي أشدهم جعلتهم زعماء على العشائر، وكنت حاكماً باراً كريماً أمد الطعام للجوعان، والماء للظمآن، وأبسط رعايتي على كل من يطلب الأمان، وابذل عوني لكل من أذله الزمان، وأعاقب اللصوص وقطاع الطرقات حتى عم الأمن والرخاء إقليمي، وكنت أواسي بمالي من أنتهب ماله، وكان قصري ملجأ لذوي الحاجة، وما ضننت بمساعدتي على أحد ممن لاذ بي.(666/55)
وكان الأمير قد اسند قيادة جيشه إلي، فكنت في غزواتي عند حسن رأيه فيّ؛ وأظهرت من البسالة والحنكة ما ظنني أهله؛ فما غزوت قوما إلا انتصرت عليهم، وظفرت منهم بمغانم كثيرة وما عدت من حرب إلا وأنا أسوق معي أسراهم وماشيتهم، وكنت لا أنفك أدبر مكايد الحروب، والقي في المعارك بنفسي ضاربا بحسامي أو راميا بنبالي، وكانت جموع الساتي تهجم على بلاد الأمير فتعيث فيها فسادا، فاستطعت أن أوقف غزواتهم، وأنقذ البلاد من شرورهم، وأردهم إلى مواطنهم في القفار.
ولما نمت أخباري غلى الأمير عظمت مكانتي عنده، وتمكنت محبتي في قلبه.
وكان هناك في أرض تنو بطل صنديد شديد البأس لا نظير له في قوته وشجاعته ونزاله، وربما كان قد امتدت عيناه إلى ما أنا من نعم وفيرة وخير سابغ، فطمع في أن يقتلني ليستحوذ على ثروتي.
جاء هذا الرجل يوما يتحداني ويطلب مبارزتي، فلم أدر ما دفعه إلى معاداتي، ولما استشارني الأمير في أمره أجبته: (لست أعرف الرجل، ولا أراني نداً له في بطشه، ولا كفؤاً له في قتاله، ولا أذكر أنني انتهكت له حرمة، ولا هجمت دارا ولا عثت في أرض. فماذا يدعوه إلى مبارزتي! لست أظنه إلا حسودا.
ليعلمن هذا الزنيم أنني لست كالعجل بين البقر يتربص هجوم الثور عليه ليفتك به، فإن الثور المرير ولوع بالنطاح، وليس على الثور الخرع إلا الفرار. سأتدبر أمري معه ولو أنه بدوي مدرب على القتال، ولنتركه وشأنه حتى يظهر أنه شجاع مقدام ولوع بالنزال وانه يعني ما يتوعد به).
شاع خبر المبارزة في البلد وما جاوره، وبات أهل تنو ليلتهم تلك ومالهم من حديث تلوكه ألسنتهم إلا حديث المبارزة بيني وبين البدوي في الصباح. ونمت أنا تلك الليلة حتى إذا ما تنفس الصبح نهضت من نومي لآخذ للمبارزة عتادها، فأعددت قوسي ووضعت نبالي في كنانتي، وما أن طلعت الشمس حتى كانت الجموع ممن نمى إليهم خبر المبارزة في الجهات المجاورة قد تجمهرت لشهود المبارزة، وكان القوم يبكون والنساء، يعولون خوفا عليّ من خصمي الجبار الذي جاء ليبارزني وقد لبس درعه ولأمته، وحمل فأسه، وتأبط كنانته الحافلة بالنبال، وكان المتجمهرون في حزنهم يودون لو أن مبارزا غيري افتداني وتقدم(666/56)
عني لمبارزته.
وحل موعد المبارزة فخرجنا، ودعوته إلى أن يبدأ الرمي ففوق نباله ألي، بيد أني حدت عن طريقها فطاشت نبلة فنبلة، وحلت نوبتي فتفترت له ثم سددت إليه قوسي، وما هو إلا أن أطلقت نبلتي الأولى حتى أصمته في نحره ومرقت من عنقه فخر مجدلا يتلوى ويصرخ من شدة أوجاعه، فاستللت فأسه الذي أعدها لذبحي، وأجهزت بها عليه، ثم وقفت فوقه وهتفت بأعلى صوتي هتاف الانتصار
عندئذ صاح المتجمهرون صيحات الفرح والغبطة، حتى لقد بلغ الأمر بمن كانوا معه أن عداهم هذا الشعور الفياض فشاركوهم في ابتهاجهم وحمدوا إلههم منث إله الحرب وأثنوا عليه، كما ركعت له وصليت إذ مكنني من عدوي. وعندئذ أقبل عليّ الأمير فاحتضنني وعانقني عناقا حارا دل على محبته وإخلاصه لي، وابتهاجا بفوزي على غريمي.
وقد انتقمت من خصمي ما وسعني الانتقام، فصنعت به مثل ما أجمع رأيه أن يفعل بي، فما كدت أفرغ من القضاء عليه حتى ذهبت إلى فسطاطه فحطمته بعد أن استحوذت على كل ما فيه من متاع، كما ضممت إلى ثروتي كل ما كان له من أنعام.
ونبهتني هذه الواقعة إلى حقيقة حالي، وأحسست بالألم ووحدتي في غربتي، وفرط شوقي إلى وطني، فعملت على تقوية مكانتي بالاستزادة من الأموال والأنعام لتكون عونا لي عند البلاء، كما بعثت إلى مولاي الملك هذه الرسالة: (لقد جعلت الإله معتمدي، فانظر - يا مولاي - ما وهبني من خير جزاء اعتمادي عليه. لقد غادرت وطني مهاجرا خاملا، فصرت ذا ولاية وسلطان، ونبه صيتي. وهاأنذا - بعد أن كدت أهلك من المخصمة - صرت أمد الناس بالطعام، وبعد أن كنت عريان أصبحت أختال في أنفس حلل الكتان، وبعد أن كنت وحيدا طريدا أصبحت ذا أسرة كثيرة الأبناء، وفي خدمتي كثير من الحشم، ولي قصر باذخ فخم، وأرض خصيبة شاسعة.
(البقية في العدد الآتي)
محمد خليفة التونسي(666/57)
العدد 667 - بتاريخ: 15 - 04 - 1946(/)
مستقبل الجامعة الأزهرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقد جامعة في العالم بأسره، فالأمة التي تملكها كفيلة أن تحافظ عليها وتستديم بقائها وازدهارها. ومن أول أسباب الاستدامة أن يتجدد التوفيق بينها وبين مطالب الزمن بغير انقطاع، وأن تكون مطلوبة لما حضر ولما سيأتي، ولا يقتصر طلبها على ما مضى وكفى.
ومع هذه الرغبة الوثيقة، لا نرى في الأمر مشكلة تعترض الراغبين في دوامها ودوام ازدهارها إلا من ناحيتين لا يصعب تذيل العواقب فيهما: أولاهما الثنائية في نظم التعليم بمدارس الأمة الواحدة، والثانية أن تكون نتيجة التعليم في الجامعة الأزهرية تخريج (طائفة معاشيه) يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش أو حاجتها هي إلى المعاش، وإنما الواجب أن يكون بقاؤها منوطا بحاجة الأمة إليها لا بحاجتها هي إلى الأمة، ولاسيما حاجتها من الوجهة المعاشية دون غيرها.
وقد أحسنتم التوصيف والتعليل حين أشرتم في عدد الرسالة الماضي إلى (بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة).
فإننا لا نعرف في البلاد الإسلامية داعيا إلى انفصال طائفة من الطوائف بمنهج من المناهج العلم أو مسلك من مسالك المعيشة، لأن رجال الدين من المسلمين لا يعتزلون الحياة ولا ينفصلون عنها ولا يلوذون بالصوامع ولا يترهبون، ويستطيع الرجل منهم أن يسلك في معاشه مسلك المهندس والطبيب والصانع والفيلسوف، وكل ذي عمل من الأعمال الدنيوية التي يزاولها سائر الناس. فإذا أستعد للدراسة كما يستعد المهندسون والأطباء والصناع والفلاسفة؛ فليس في ذلك ما يخل بوظيفته المقبلة أو ينقص من عدته التي يستعد بها لغده. بل هي عزلة التعليم التي تضيره وتقطع ما بينه وبين أبناء العصر من صلات المعيشة وأسباب التفاهم وتبادل الشعور، فلا تزال الفجوة بينه وبين عصره بابا للاختلاف والأشكال.
فمن الواجب قبل كلشيء أن نبطل الثنائية في نظم التعليم بالمدارس الابتدائية والثانوية،(667/1)
وأن يتدرب الأزهري للتخصيص في جميع العلوم العالية كما يتدرب كل مصري للتخصص في جميع العلوم العالية مادام في دور التأهب والتحضير. فيتعلم الأزهري اللغة الأجنبية ويتعلم المبادئ الضرورية من معارف العصر الحديث، ويبدأ في التعلم وفي إمكانه بعد أن يتبين حقيقة ملكاته وميول عقله ونفسه أن يصبح من الأطباء أو علماء الفلك والرياضة كما يصبح من فقهاء الدين أو فقهاء اللغة العربية.
وقد أرتم في مقالكم القيم بالعدد الماضي من الرسالة (أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتدمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم، وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، وتشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوروبية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية، وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين أو من فنون اللغة، وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. . .)
وعندنا أن هذا الرأي في إجماله مقبول لا يكثر عليه الخلاف ولا أرى من جانبي ما أخالفكم فيه قبل الدخول في التفصيلات.
أما التفصيلات، فهي مما يعرض لنا عنه البحث في تقسيم الكليات، وفي مدى التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.
فنحن نعتقد أن المجال يتسع في الجامعة الأزهرية لثلاث كليات على الأقل: إحداهما للدين الإسلامي، والثانية للدراسات الدينية والفلسفية، والثالثة لدراسة اللغات والآداب، ويجد الطالب في كل واحدة منها ما يشغله سنوات قبل الوصول إلى دور التخصص والاستيعاب.
سمعت في حياة الشيخ المراغي أنه رحمه الله كان يفكر في تدريس (مقارنة الأديان) بالجامعة الأزهرية، فاستكبرت الأقدام على ذلك قبل تمكين المقدمات التي يتطلبها هذا المبحث الجسام، فأن علم المقارنة بين الأديان أخطر العلوم على من يهجم عليه بغير أهبة وتمهيد، وأنفع العلوم لمن يشارف بعد تأهب صالح وتمهيد طويل.
وهذا العلم وحده - وما يتصل به من المسائل الإلهية - يستغرق السنوات للاحاطه به والإيغال في شعابه ودروبه، وهو يدرس ببعض الإسهاب تارة وببعض التلخيص تارة(667/2)
أخرى في الجامعات العلمية والجامعات الدينية، ويلتقي بعلوم أخرى لامحيص عن الإلمام منه بالقدر المفيد، كعلم الإنسان وعلم الأجناس البشرية. وعلم اشتقاق اللغات، ودلالات الكلمات التي تدل فيها على أسماء الأرباب وشعائر العبادات.
فدراسة هذه المباحث لازمة للطلاب الأزهريين وهم أحق بها من سائر الطلاب، ولا يتأتى لهم أن يدرسوها مع التخصص لغيرها أو التوسع في أبواب التخصص الأخرى، وإنما يتوسعون هنا ويأخذون بأطراف من علم يحتاج إليه رجل الدين.
على أن (المقارنة بين الأديان) حظ مشترك بين المسلمين وغير المسلمين، ويجوز أن يدرسه المسيحي والإسرائيلي والبوذي ومن لا دين له، كما يجوز أن يدرسه الطلاب الأزهريين.
لكن الموضوع الذي تتعين دراسته في الجامع الأزهر ولا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعات الأزهرية هو موضوع المدارس الفكرية الإسلامية التي إنشاءها المتكلمون والمعتزلة وأئمة التصوف والحكمة في المشرق والمغرب من الصدر الأول إلى أواخر الدولة الفاطمية، فإن هذا المحصول الهائل من التفكير الإنساني أمانة لابد لها من حفيظ بين الأمم والحضارة الإنسانية. فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهما، ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية؟
إن المستشرقين لا يفهمونها ولا يؤتمنون عليها، ولا اعرف فيما اطلعت من كتبهم كتابا يدل على حسن فهم وحسن إنصاف مجتمعين، فإن وجد من يفهم على الندرة، فهم متهمون في الإنصاف، وإن وجد من ينصف فليس هو من الصابرين على التعمق والتفرغ للتحصيل. وليس من المروءة أن نكل إلى غيرنا على ما نحن أحق به من واجباتنا وأعمالنا، وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال.
ومن الإجحاف أن نستخف بمحصول هذه المدارس الفكرية لأنها في الواقع تشمل على الكثير من النفيس القيم، كما تشتمل على الكثير من البخس الزهيد. ولا أخال أن المسالة من مسائل الفلسفة التي تصدى لها حكماء أوربا في قديم العصور وحديثها لم تدخل في نطاق هذه الدراسات على وجه من الوجوه، وقد وصل بعض المفكرين الإسلاميين في مسائل منها(667/3)
إلى مقطع القول الذي وقف عنده بعدهم خلفائهم في مباحث المنطق والحكمة الإلهية من الأوربيين وغير الأوربيين، ولعل البخس الزهيد الذي أشرنا أليه يفيد في دلالته التاريخية أو دلالته النفسية ما يكافئ العناء في تحصيله ويعوض الباحثين عن غثاثته وقلة غنائه، فلا يضيع فيه الوقت بغير جزاء.
هذه المادة الزاخرة وما يقترن بها من مواد المقارنة بين الأديان السماوية والأرضية أعظم من أن تضاف كما تضاف العلاوة على حمل التخصص في الدراسات الأخرى. لأن أبواب البحث في الدين الإسلامي وحدة تستغرق السنواتبعد السنوات إذا لوحظ فيها أن تحيط بجوانب الفقه والتشريع والتاريخ والتطبيق على المذاهب الاجتماعية التي تتمخض عنها أطوار الأمم جيل بعد جيل، ومن القصور أن يفوت العالم المسلم تحصيل المعلومات من تلك المذاهب الاجتماعية، وهي تتطلب منه رأيا وردا وإقناعا لمن يحسبونها مغنية عن إصلاح الدين أو مناقضة لقواعد الدين في الإصلاح. فهل يتأتى للعالم المسلم في أربع سنوات أو ست سنوات أن يتوسع هذا التوسعفي علم دينه، ثم يتوسع في الوقت نفسه توسعا مثله في علوم الدينات ومذاهب للمسلمين وغير المسلمين؟
والذي يصدق على كلية الدين يصدق على كلية اللغة العربية لأن تعلم النحو والصرف والبلاغة لا يجدي بغير تعلم الأدب وفروعه؛ وتعلم الأدب وفروعه في لغة واحدة لا يتمم ثقافة الأديب المتخصص لهذه الثقافة مع هذا الأتساع في أفاق الكتابة وهذا التنوع في قواعد النقد ومناهج التعبير، وهذا التعدد في شواهد كل قاعدة من قديم اللغات وحديثها. فلابد مع اللغة من أدب، ولابد مع الأدب العربي من آداب أمم أجنبية، ولابد مع هذا جميعه من مشاركة في بحوث اللغة الإنسانية نفسها، وهي التي تسمى عندهم (بالفيلولوجية). لأنها دراسة لابد لها من مكان تدرس فيه، ولا مكان لدرسها غير الجامعات الكبرى ولا سيما الجامعات التي تزود الطالب بكل ما يحتاج إليه في ثقافته الأدبية واللغوية، وليست ست سنوات أو ثماني سنوات بالوقت الكثير على هذه المطالب اللازمة التي تنفق فيها الأعمار الطوال.
وأيا كان الرأي في عدد الكليات أو عدد السنوات؛ فالمهم في الأمر أن ننتهي بالتقسيم إلى نظام واحد في التعليم، فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من(667/4)
الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق ألان بين كلية الطب والزراعة أو كلية الآداب.
ويومئذ يجد العالم الأزهري مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم، ومن لم تتسع لهم الدواوين فشأنهم في ذلك شأن المتعلمين العاملين في الحياة الخارجية، لأنها تتسع لهم وتزداد سعة كلما شاعت المعرفة وتشعبت منادح التثقيف والاطلاع. ويحق للعالم الذي تفتقر مباحثه إلى التشجيع الحكومي، ولا تقوم على إقبال الشعب وحده أن يعتمد على المرتبات والمكافئات التي رصدت في الأوقاف للعلماء الأزهريين من قبل النظام الحديث.
ويبدو لنا أن الجامعة الأزهرية لم تلقى في طريقها عقبة تزعج أبناءها إذا زالت الثنائية من التعليم، وقام التعليم فيها على إخراج أناس تحتاج الأمة إليهم، ولا يكون قصارهم من السعي أن يحتاجوا إلى الأمة في تدبير سبل المعاش.
عباس محمود العقاد(667/5)
من صميم الحياة:
الخادمة. . .!
هذه قصة (المشكلة) التي قل ما تخلو دار مصر في الشام. . .
(ع)
للأستاذ علي الطنطاوي
قال: إن لدي قصة احب أن أقصها عليك، وإنك لتعلم أني لست ممن يؤلف القصص، ولست ممن يحسن الاستعارة والتشبيه وسائر أبواب المجاز التي تعلمنا أسماءها في المدرسة، فلا تأمل أن تسمع مني قصة أدبية معقودة من وسطها بعقدة فنية، مردودة الأول على الأخر، فيها الصورة النادرة، والفكرة المبتكرة، والأسلوب البارع، فليس عندي من ذلكشيء، وإنما هي واقعة أرويها كمار أيتها وسمعتها، وإن فيها لدرساً نافعاً لمن يرى الحياة مدرسة، فهو يدأب على الاستفادة منها والانتفاع بها، فهل تحب أن تسمعها؟
قلت نعم
قال: لا أدري من أين أبدا القصة لتجئ محكمة الوضع يرضى عنها أهل الأدب، فدعني أبدأها من نصفها، فما لك في أولها كبير نفع، وأن أولها ليلخص مع ذلك في كلمة، هي أن لي أقرباء أخوة ثلاثة شباباً عزاباً يقيمون مع أمهم العجوز التي ربتهم وقامت عليهم منذ تركهم لها أبوهم أيتاماً صغاراً، إذا كلت وهرمت، وعجزت عن خدمة الدار، ذهبوا يفتشون لها عن خادم تعينها، ولو فتشوا عن ثلاث زوجات لهم لكان ذلك أهون عليهم وأدنى إليهم، فلما طال التفتيش وزادت الحاجة، وجدوا بنتاً من (التواني) فقنعوا بها، وأن تعلم أن (التواني) قرية منزوية في حدود (القلمون) الأدنى، مما يلي (القطيفة) ضائعة بين تلك الأودية المقفرة والجبال، وأن أهلها من أقذر القروين وأجفاهم وأبعدهم عن المدينة، على صحة فيهم وجمال. وكانت بنتاً - كما يقولون - ذكية، فسرعان ما ألفتهم وألفوها، وأقامت فيهم سنين طويلة ما أنكروا منها شيئاً، ولم أرها أبداً على كثرة ما كنت أتردد على الدار، حتى كان اليوم الذي جعلته مبدأ قصتي هذه. . .
وكنت أزور أقربائي هؤلاء، فدعوني إلى الشاي، فإذا هي تدخل فتقدمه إلي، وإذا فتاة في(667/6)
نحو السادسة عشرة قد تخمرت بخمار أبيض لفته فوق رأسها إلى ما تحت ذقنها، فعل القائمة إلى الصلاة، فسترت به شعرها وجيدها، وبدا منه وجهها مدوراً أبيض مورداً يطفح بالصحة والصبوة، ويشع منه السحر والدلال، وكانت تلبس ثوباً قصيراً لا يكاد يعلو عن الركبتين، يكشف عن ساقين بضتين غضتين ممتلئتين في غير سمن، ممشوقتين في غير هزال، مصبوبتين صب التمثال، وفوق الثوب صدار من وشي رقيق كالذي تتخذه أنيقات الخادمات، قد شد شداً، فهو يبرز من ورائه نهدين راسخين، يلقيان عليه ظلالهما خفيفاً لا يعرف موقعه من النفس إلا من قرأ سطور النهود في صدور العذارى. . . . وكانت تحمل الشاي بأكف كأنها خلقت بلا عظام، وكان جسمها ينبض بالعاطفة التي تلين أقسى الرجال، وتستخرج الصبوة من قرارات النفوس فتظهرها، ولو قيدتها قيود من الخلق المتين، ولو غطتها ستور من الهم الدفين، ولو أنساها علم يشتغل به، أو مال يسعى وراءه، ولو أن الصبوة قد ماتت، لردها هذا الجمال المطبوع حية. . . . أما عيناها، فدعني بالله من وصفهما، فما أدري ما لونهما وما شكلهما، فأن لها سراً يشغلك عن التفكير في وصفهما. . . أنهما تروعانك فتبقى معلقاً بهما، فإذا حاولت أن تضبط نفسك وتعود إلى ما كانت فيه، لم تشعر إلا وأنت قد عدت إليهما. . . إن فيهما مغناطيس يجذب الأبصار والقلوب. . .!
فلما خرجت، قلت: أهذه هي الخادم القروية التي جئتم بها من (التواني)؟
قالوا: نعم.
قلت: فأخرجوها من هذه الدار، فإنها أخطر من البارود!
فضحكوا وعدوها نكتة. . .
وعدت مرة أخرى فإذا هي بلا خمار، فسألتها عنه، فقالت - ويا ليتها لم تقل، فما كنت أدري أن لها مع جمالها هذا الصوت الذي يرن كأجراس الفضة في مواكب الأحلام. . . أو كرنات العيدان في خيال متذكر ليلة غرام - قالت:
- أني قد استثقلتهفألقيته أمام الأقرباء، وأنت منهم (مش هيك)؟
وشفعتها ببسمة من فيها، وغمزة من مقلتيها، وهزة من كتفيها. . . فما هذه البنت؟! ومن أين لها هذا كله؟! وحياتك لو أنها ربيت في مسارح (مونمارتر) في باريس لكان هذا كثيراً منها، فكيف تعلمته في مزابل (التواني)؟!(667/7)
وعبست فما أحببت أن أوغل معها في هذا الطريق، فولت ترقص رقصاً لا تمشي مشياً، وشعرها الذهبي حقاً لا تشبيهاً، المنشور على كتفيها وظهرها، البالغ حقويها يرقص معها!
وعدت بعد ذلك، فإذا هي قد جزت شعرها على (المودة)، وأمرت يد الزينة على وجه ما يحتاج إلى زينة، وطرحت صدارها، ولبست ثياب فتاة غنية مدللة، لا ثياب خادم، فانفردت بأكبر الاخوة من أقربائي فقلت له:
- إنك أنت وأخوتك من أمتن الناس خلقاً وأقومهم سيرة، ولكن هذه البنت تفتن والله العابد، وتستذل الزاهد، وتحرك الشيخ الفاني. . . وإنها لتسحر بكل نظرة وكل حركة، ويكاد جسمها يتفجر أغراء بالمعصية، وإذا أنتم أبقيتموها في هذه الدار فما أظن الأمر ينتهي بسلام!
واستجاب لما قلت له، وراءه حقاً، فأخرجها وأدخل مكانها زوجة صالحة. . .!
قال: ودخلت البنت داراً أخرى، دار قوم مترفين منعمين لا يسألون عن المال أين ذهب، وكانوا كلهم ثلاثة: أباً تاجراً جاهلا، همه عمله في النهار، وسهراته في الليل، وأماً شغلها ثيابها وزياراتها واستقبالاتها، وولداً شاباً في العشرين طالباً في الجامعة صاحب جد ودراسة وخلق ودين، غير أنه كان - ككل الصالحين من لداته - يطوي صدروه على مثل البارود المحبوس في القنبلة إذا طار منها مسمار الأمان، أو صدمتها صدمة فرجتها تمزقت ومزقت من حولها! وكانت الصدمة لها هذه الخادمة اللعوب!
وبدأت من اليوم تولي اهتمامها صاحبنا الذي أسميه (الشاب) كراهية أن أصرح بأسمه، وتنسج حوله خيوطها. . . فإذا ناداها لحاجة له - ولم يكن له بد من أن يناديها - قفزت قفزة الغزال وأقبلت تحف بها شياطين الشهوة. . . فتراه منصرفا عنها، فتبسم له، وتسأله عما يريد، بصوت يقطر فتونا، وتسلط عليه من عينيها مغناطيس مكهرباً يذيب القلوب، ولو كانت من صفا الجلمود، وإن أعانته في رفع نضد، أو تسوية كرسي، أو ناولته شيئا، دنت الملعونة منه حتى لامست بهذا الجسم اللدن الدافئ المكهرب، جسمه القوي القرم. . . إلى (اللحم)!. . . أو قربت وجهها الفتان من وجه حتى ليحس لسع أنفاسها، ويشم رائحة جسمها، وإنها لأفتن من كل عطور الدنيا وطيبها، وأين العطر من ريح جسم المرأة؟ أو تتعمد حركة تزيح ثوبها القصير لحظة عن بياض فخذيها. وكان المسكين بشرا، اجتمعت(667/8)
عليه صبوة الحب في نفسه، وإغراء الجمال في خادمته. . . وحماقة أبويه اللذان جاءا بها وغفلا عنه وعنها، وصارا يتركانه معها وحيدين في الدار طول النهار، حتى لقد بعثاها مرة تناوله الصابون في الحمام. . . وثار في أول الأمر عليها، وأعرض عنها، ثم أحس أن سمها سرى في جسده وروحه، فأستنفر أخر قوى الفضيلة في نفسه وألح على أبويه في إخراجها من المنزل، فأبيا، وكيف يفرطان فيها وقد وجداها بعد طول البحث، وكبير العناء؟ وهل تدع (الست) زيارتها وسينماها، وتشتغل هي: بالطبخ والكنس لمجرد أن البنت الخادمه جميلة و (دلوعة) ويخشى منها؟ كلام فارغ!
هكذا كان يفكر الأبوان المحترمان. . . وضربا بالعمى عن حقيقة لا تخفى على عاقل، هي أن الرجل والمرأة حيثما التقيا وكيفما اجتمعا: معلماً وتلميذه، وطبيا وممرضة. ومديرا وسكرتيرة، وشيخاً ومريدة، فإنهما يبقيان رجلا وامرأة، لذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم (ماخلا رجل وامرأة (هكذا على الإطلاق) إلا كان الشيطان ثالثهما!
مرض الشاب وعجز عن الاحتمال. . . فكانت الخادمة هي التي تقوم على خدمته، وتصرم الليل كله ساهرة عليه، وتبدل ثيابه فتراه كما هو وتستبيح بالنظر واللمس كل إصبع في جسده وهو لا يحس بها؛ حتى إذا تماثل للشفاء، ومرة في طريق النقاهة رآها إلى جانبه، وكان المرض قد أضعف عزمه وأوهن أرادته، فأنكسر السد وطغى الحب. . . وفي ليلة كان فيها النعاس قد نال منها، حلف عليها إلا أن تستريح وتنام، ولم يكن في الغرفة سرير، فاندست معه في سريره. . . وكان هذا أكثر من أن تحتمله أعصاب رجل في الدنيا، فطار النعاس، وكانت النتيجة المحتومة لهذه المقدمات! ودخلت (الست) في الصباح، فرأت الخادمة بين ذراعي أبنها!!
صحت البنت من سكرتها، وصحا الأهون وأرادوا إصلاح ما فسد، وهيهات! أن الماء قد انسفح على الرمل فمن يرد الماء المسفوح؟ وعود الكبريت قد احترق فمن يرد العود المحروق؟ وعرض البنت قد مزق فمن يرتق العرض الممزق؟ لا أحد!
ووثبوا يفتشون كال المجانين عن طرق الخلاص، وأقبل الشيطان مرة ثانية، وكانت المؤامرة، وانجلت عن ستر هذه الجناية بجناية أخرى، هي أن ترد البنت إلى أبيها الذي يطلبها ليزوجها من ابن عمها، وقبلت: وماذا تصنع إذا هي لم تقبل؟(667/9)
وكان الفصل الآخر من المأساة وأني سأختصره اختصارا: هذه البنت الحلوة المستهترة الذي ذاقت طراوة الحضارة ولينها وحريتها وفسوقها وعريها، عادت إلى القرية المنقطعة في أودية (القلمون) الأدنى وجباله، لتعيش حياة قروية قذرة صعبة، ولكنها طاهرة مستورة مقيدة، لتلبس الملاءة الزرقاء الشاملة بعد (الروب) الذي لا يستر ربع الجسد، والسراويل البالغة الكعبين بعد (الكلسون) الذي لا يتجاوز طوله الإصبعين، وتشتغل في الحقل بالأكف التي كأنها بلا عظام والأظافر ذات (المانيكور)، وتأكل بعد (الكاتو) والفراني خبز الشعير، وتعاشر بعد شباب دمشق البقر والحمير، وتمشي إلى الإسطبلات بدل السيمات.
دبر الأمر على عجل، وعقد العقد، وسيقت العروس (الشامية. .) إلى القرية، وحسب أبن العم كأنما رأى ليلة القدر فدعا فهبطت عليه حوراء من حور الجنان. . . وكان الدخول، وتجسم خيال المسكين فكان واقعا، والحلم صار حقيقة، وأحتوى بين ذراعيه الخشنين ذلك الجسم الذي تتقطع عليه نفوس أبناء الأمراء حسرات و. . . فإذا الثمرة مقطوفة!
قلت: ثم ماذا؟
قال: ماذا؟ صار أبن العم في السجن، والبنت في القبر، وأفتضح الشاب فضيحة لن ينجو من أثارها مهما عاش!
علي الطنطاوي(667/10)
د هلورنس
للأستاذ فخري قسطندي
لعل د. هـ لورنس أجدر القصصيين المحدثين بالدراسة والبحث وأحقهم بالذكر والتنويه. فهو ظاهرة طبيعية فذة كتلك الظواهر التي تبرز إلى عالم الوجود كلما ارتقى الفكر وتقدم العصر وتعقدت الحضارة. وهو كغيره من الكتاب له نواح من الإجادة والافتنان يغبطه عليها القارئ والناقد، وله نواح من النقص والضعف ينعيها القارئ والناقد أيضا. وتفسير ذلك هين ميسور، ذلك أن لورنس كان فنا مطبوعا، ولكنه يخشى أن يتملك الفن زمام نفسه ويطغي على حواسه، فهو يضطرب لذلك أشد الاضطراب، ويجزع لذلك أشد الجزع، ومادام في نفس الفنان اضطراب وجزع، ففي نتاجه اختلال وقصور. ولورنس أمير من أمراء الكتابة الفنية عند الإنجليز بلا مراء، لا يسبقه في هذا المضمار أحد من الكتاب القرن العشرين. ولا غرو فقد كان نادرة في انتقاء الكلمة اللائقة، وصياغة الاستعارة المبتكرة، تتصرف أنامله الرقيقة الصناع في اللغة فتخلقا خلقا جديدا، وتضفي عليها ثوبا شعريا جميلا تجعلها أقرب الشبه بالشعر المنثور منها بالنثر الرقيق الأنيق.
وينفرد لورنس من بين سائر الكتاب بالجدة والطرافة والابتكار التي تبدهك دون كبير انتباه فيما تقرأ له من وصف وقصة ومقال. وحسبه أنه كاتب الفكرة وأنه كاتب العاطفة؛ ولكنه ليس كاتب الفكرة الصرفة أو العاطفة الخالصة. فهو يقول (أنا أفكر) ثم يستدرك سريعا ويقول (أنا أحس). ومن ثم فإن الفكرة والعاطفة عنده تتدخلان وتتشابكان وتطغى كل منها على حدود الأخرى. وعهدنا بالعاطفة المشبوبة أن لها شأنا كبيرا في تلك الرنة الموسيقية الرائعة التي تشيع في كتابات كبار الكتاب وأئمة الروائيين. فلا عجب إذن أن يكون لأسلوب لورنس وقع جميل وسحر أخاذ.
ولد لورنس من آب سكير عربيد، يشتغل بالتعدين قي قرية بالقرب من نوتنجهام، وقد حرم عطف الأب منذ نعومة أظفاره، إذ كان أبوه متهالكا على اللذات غارقا في غمرة من المفاسد والموبقات، فلم يلق بالا إلى أسرته ولم يرع مصالحها، غير أن حدب ألام عوضه ما قد فقده من عطف الأب. إذ كانت أمه تنفث فيه موجه أثر موجه من ذلك الحب الحبيس الذي كانت تحتجزه لزوجها أيام أن كانت تعده رجل أحلامها ومحط أمالها. ويحدثنا لورنس في(667/11)
كتابه (أبناء وعشاق كيف أن أماً ذاقت أهوال الجحيم كي تتعهد وليدها المريض بالرعاية والعناية، وتنقذه من التهلكة والموت.
وليس ثمة شك في أن لورنس كان يصور جزءا من نفسه وبعضا من أمسه حين يعرض لهذا الحدث وما على شاكلته من الأحداث التي اكتنفته في طفولته. وقد شعر لورنس بحب ألام المفرط يجيش في كيانه ويجري في عروقه فيأسره ويتملكه. وقد يكون حب ألام خير في عالم يمكث فيه الأطفال أطفالا غير أنه شر مستطير في عالم يشبون فيه عن الطوق ويدخلون في طور الرجولة. فكما أن المرء يفسد طفله كلما بالغ في إعزازه وتدليله كذلك أفسدت تلك ألام وليدها بما أغدقت عليه من حب جامح فياض. فقد أنقلب حب لورنس لأمه وجدا وهيما، ويتجلى ذلك بوضوح في مرثيته التي يشيد فيها بذكرها والتي مطلعها:
معشوقتي الصغيرة! محبوبتي!
أقبلت قبلة الوداع، يا أحب مخلوق إلي.
فهنا استحالت عاطفة البنوة إلى صبابة ووله، ولم يعد لورنس ينظر إلى أمه كشيء أثير عنده عزيز عليه فحسب، بل كمحبوبة خليقة بالتشبيب والتقديس. ويقول مدلتون مرري في كتابه (أبن الذي ترجم فيه للورنس (أنه لم يكن في مقدوره أن يسبغ حبه على امرأة أخرى مادامت أمه على قيد الحياة. ولقد كان لهذه التنشئة أثر ضار، إذ أشرب كاتبنا عقيدة جديدة شاذة ناضل عنها بكل قواه، وضحى في سبيلها بما كان يرتجي له في ميدان الأدب من رفعه وسمه وجاء، فما وهنت له عزيمة، وما فترت له همة وما خف له حماس حتى دهمه الموت وفارق الحياة.
ذلك أن لورنس ذهب إلى قول بأنه ما من سبيل إلى فهم الحياة على حقيقتها ما لم نتصل بالمرأة اتصالا جنسيا، فنقرب الشقة بيننا وبين الجنس الأخر ونفهم نياته وخفاياه، ونطلع على أحاجيه وأسراره ونبرزها للعيان. وما كانت الحياة عند لورنس إلا رجل وامرأة، رجلا سبرنا أغوره واستقصينا أعماقه وإدراكنا ماهيته، وامرأة تحيطها بغلالة من الإبهام والغموض والالتواء والتعقيد،
ولا أمل لنا في فهم الحياة ما لم تبد لنا المرأة كما هي مجردة عارية من جميع الدوافع والنوازع والمغريات والمؤثرات. وإذا كانت الحياة كذلك فلا غنى للرجل عن المرأة، ولا(667/12)
غنى للمرأة عن الرجل، فلا كلاهما شطر يكمل الأخر ولا ينفصل قط عنه. ومن ثم فليس ببعيد أن تثير سيرة المسيح في لورنس الحقد والموجدة، وتؤجج في صدره نيران الغيظ والكراهية، إذ كان المسيح الشخصية الوحيدة الفريدة في تاريخ البشرية التي تهدم نظريته من أساسها. فلم يلجأ المسيح إلى المرأة يبتغى منها أن تملأ ما في حياته من فراغ وأن تسد ما بها من نقص. ولم يدع المسيح إلى الحياة الجنسية يؤازرها ويعضدها، بل فرق ما بين الروح والجسد بنطاق من الطهر والعفاف، وأحدث خرقا لا سبيل إلى رتقه ما لم نرجع إلى الحياة البدائية الأولى حيث كان اتصال الجنسين حرا طليقا لا تعوقه العوائق ولا تعترضه العقبات.
والفتح الجديد الذي فتحه لورنس في القصة هو محاولته أن يفلسف الجنسيات. ولا أدل على ذلك من أن أسلوبه بدع في مرماه ومغزاه، إذ هو يسعى في غير خجل وحياء إلي التعبير عن العلاقات الجنسية بين العشاق، وما تستتبعه من لذة ونشوة حسيتين عظمتين، وقد يصيب لورنس ويجيد ويفي على الغاية، وقد يخطئ ويقصر دون بلوغ الغاية، ولكنه علىذلك كله حاول أن يبتدع أسلوبا غير معهود من قبل فيما كتب الكتاب وألف المؤلفون. ومن الكتاب من يثنى على لورنس لنجاحه في التعبير على الجنسيات، ومنهم من يرثى لفشله في هذا الضرب من الكتابة دون الاعتبار لأي معيار من معاير الأخلاق، فما زالت تدوي حتى ألان تلك الصرخة: الفن للفن والذي يعنياه أن لورنس كان يعمد إلى كد الذهن، وإعنات الفكر ليتحقق ما كان ينشده من التعبير عن الجنسيات في لغة مثيرة غنية بالصور الحسية والاستعارات غير المألوفة. فما كانت المتعة الجنسية وما يدخل في نطاقها من لذة ونشوة غير مشاعر وأحاسيس خفية لا يسهل الإفصاح عنها إلا عن طريق المجاز، وبرغم ذلك كله فإن لورنس لم يظفر بالنجاح المنشود ولم يبلغ الغاية المرموقة.
ويبدو لنا التجديد الذي أدخله لورنس على القصة قوياً رائعاً أخاذاً في تقديمه لقصته (عشيق ليدي تشاترلي ' بقوله (إن الصورة التي يفيض عليها الشعور وينحصر هي التي تقرر حقاً مصائر حياتنا، وهنا تكمن الأهمية العظمى للقصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً، ففي مقدورها أن تقود فيض شعورنا المتسق في مواضع جديدة، وفي مقدورها أن تقود شعورنا بعيداً في ارتداده عن الأشياء التي انتهت إلى العدم. ومن ثم كان في استطاعة(667/13)
القصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً على المواضع الخفية جداً في حياتنا، لأن فيض الشعور المرهف في حاجة إلى إن ينحسر ويتدفق منظفاً ومجدداً في الأماكن الخفية العاطفية في حياتنا)، والذي لاشك فيه أن لورنس يريد أن يصور الحياة كفيض يتعاقب عليه الجزر والمد. فالحياة أذن أفراح وأتراح، وحب وبغض، وأمال وألام، وحقائق وأوهام، وتفاهة وخطر، إلى غير ذلك مما يضمه كتاب الحياة المليء بين دفتيه. أما ما يعنيه لورنس بفيض الشعور وانحساره فهو أن النفس البشرية ذات خوالج مختلفة ونوازع متنافرة، ونحن لا نرى في الشخوص التي يعرضها علينا لورنس في قصصه الطويلة والقصيرة إلا النفس في حالة قبضها وبسطها ورضائها واستيائها.
وحين ينقم لورنس على المدينة الحديثة، ويصب جام سخطه عليها يضع نصبة عينيه فلسفته الجنسيات. فالمدينة الحديثة معتلة مموجة، مختلفة مضطربة، متداعية منهارة، لأن الإنسان الحديث أطلق العنان للعقل. وأسلم له قياده، وتركه يهيمن على عواطفه، ويسيطر على حياته. حتى بلغ الأمر بالعاطفة إنها صارت نتاجا تافها للعقل، ولورنس ينحني باللائمة على العقل، الرجل المتمدين الحديث لأنه بإذعانه للعقل، أفقر الدم الذي هو ينبوع العاطفة، ومن ثم فقد أرسل لورنس غضبته المدوية فقد أرسل لورنس غضبته المدوية بأن على المرء أن يحيا حياة عاطفية لا تكبلها الأديان ولا تحدها الطريق. ولورنس يذهب إلى ابعد من هذا فينادي بالاتصال الجنسي ويحث عليه، إذن أن فيه تحقيقا للحياة الفطرية العاطفية القديمة التي لا يشوبها تكلف وتصنع أو شاب وأدران.
ولورنس يحمل على المدينة الحديثة لأنها حطت من قدر الحياة القديمة، وشوهت من قيمتها، ذلك لأن التكالب على جمع المال، وتحصيل الثروة وطلب الجاه، وحب السيطرة والرئاسة؛ دفعت بالمرء في طريق غير مأمون العاقبة، فأخمدت شعوره بدلا من تذكيه، وأسكنت عاطفته بدلا من أن تثيرها ومن ثم فقد صار من أن يأخذ فيض الشعور وانحساره طريقه المعهود.
هذه النقادات الجارحات التي أرسلها لورنس عن طريق قصصه أثارت ثائرة النقاد عليه وأحفظهم ضده، فحملوا عليه حملات شعواء ونددوا بآرائه وكتبه وكأنه أراد أن يقابل العدوان بالعدوان، فلجأ إلى إصدار قصته الطويلة (عشيق ليدي تشارلي) التي وصف فيها(667/14)
وصفاً سافراً العلاقات الجنسية بين الرجل والمرآة. والواقع أن رغبته الجامحة في أن يكتب لجمهرة القراء قصصاً تكشف بوضوح عن انحسار العاطفة وفيضها كان بليغ الأذى بعيد الضرر.
ولقد قصر لورنس نفسه في مستهل حياته الأدبية على وصف ذلك اللون من ألوان الحياة الذي يدور على حياة المعدنين المضطربة التعسة، ونفوسهم الحزينة الكسيرة، وآمالهم المحطمة الذابلة. ولقد وفق لورنس في هذه الناحية توفيقاً بعيداً، وأجاد أجاده كبيرة لا تتوفر إلا فيمن خبروا مثله صنوف الألم ومتاعب الحياة في مهد الصبا وميعت الشباب.
فلما تألق اسمه في سماء الأدب حين حظيت قصته الطويلة (الطاووس) بالرواج والذيوع، ترك هذا اللون من ألوان القصص إلى غيره مما لم يستكشف من قبل، وما أتينا على ذكره حين عرضنا لفلسفته. فلما كانت قصته الطويلة (عشيق ليدي تشاترلي)، لم يجد بداً من أن يشد رحاله بعيداً عن إنجلترا حيث اغضب الرأي العام، وابتدأ تجواله في طول الأرض وعرضها، فزار فرنسا وإيطاليا وألمانيا، واستقر به المطاف في المكسيك.
وهناك عاش ناعم الحال رضى البال يحيا لفلسفته ويعيش على كتبه، وهناك أيضاً خبر الحياة البدائية الطبيعية البعيدة عن أدران المادية والمدنية.
وصفوة القول أن لورنس كاتب شاعري النزعة يحتل مكانه في عالم الأدب بجانب أميلي بمرونتي، وتوماس هاردي وغيرهما من الكتاب الذين حاولوا أن يفهموا الحياة ككل، فلم يعرضوا لها من جانب واحد يقتلونه دراسة وبحثاً. ولئن كان لورنس قد تنكب جادة الصواب في بعض الأحيان، فله بعض العذر إذ عاش عيشة مضطربة قاسية أملت عليه ما أذاعه للرأي العام.
ومهما يكن منشيء فللورنس على القصة فضل كبير، إذ أدخل عليها الجرأة في التفكير والصراحة في التعبير.
فخري قسطندي
ليسانسيه الامتياز في الأدب الإنجليزي(667/15)
الأدب في سير أعلامه:
مِلتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 8 -
إشارة في هورتون:
كان كل هذا العناء وكل هذا الكدح من اجل الشعر، فالشعر كان في قرارة نفسه لو حاول بكل ما في وسعه ألا يكون شاعرا ما استطاع. وهو يعتقد أن الله سواه ليكون شاعرا، ولذلك فهو يعلى قدر رسالته ويجعل لها شبه ما للرسالات الإلهية من سمو وخطر؛ فلا يقتصر على طلب الحكمة والوقوف على ما هو بسبب من تلك الرسالة والإفادة منه، بل يتطهر إلى جانب ذلك فينقى نفسه من كل شائبة ليكون لرسالته أهلا وليتنزل عليه نورها. ثم إنه يستغرق في حال صوفية يعدها كذلك من مكونات الشاعرية فيتقرب إلى الله ويبتهل إليه، لأنه يؤمن أن وحي الشعر يهبط من الله، يوضح ذلك قوله: (إن مثل هذا لن يصل إليه المرء إلا بالصلاة والقنوت لتلك الروح السرمدية، لله الذي يؤتي الحكمة ويهب البلاغة فيغني بهما الأنفس، ويرسل رسله بالنار المقدسة من لدن عرشه فيظهر بها روح من يشاء من عباده. ويجب أن يكون مع الصلاة قراءة مختارة في جد متصل، يصحبها تدبر يقظ، وتعمق للأعمال والمسائل ما هو خير منها وما يبدو كأنه خير. ولقد وصف ملتن مدة إقامته هذه في هورتون بقوله: (إنها سنوات كثيرة مليئة بالدراسة والتفكير، قضيت كلها في البحث عن المعرفة الدينية والمدنية).
وحق لاصحابه أن يعجبوا من صبره على المقام في الريف، وزهده في مباهج المدينة. وعجب حتى (ديوداني) من ذلك فكتب إليه يسأله عما هو فيه، فرد عليه ملتن قائلا: (لقد طالما تساءلت عما أنا في شغل به، وفيم أفكر، فاعلم أن ذلك بمعونة الله هو الخلود. وأرجو(667/16)
أن تغفر لي هذه الكلمة فإنما اهمس بها في أذنك. اجل، إني أريش جناحي استعدادا لأن أطير فاحلق تحليقه).
وكان كتاب صاحبه هذا إليه، ورده عليه في أخريات أيامه في هورتون.
وما كان يريش جناحيه إلا ليطير في سماء عالية، ويحلق في أفاق فسيحة، فإن موضوعاً عظيماً لن يبرح يهجس قي خاطره، ولن يزال حديث نفس ومنتجع هواه؛ فأي موضوع هو ومتى ينهض له؟ ذلك ما لم يتبينه يومئذ على وجه التحديد؛ ولكن المرء يستطيع أن يستخلص من مادة دراسته من طول انكبابه عليها أنه يتأهب لرسالة عليا يتحقق له بها الخلود. ويقول الدكتور جونسون في هذا الصدد: (من هذا الذي يعد به وقد جمع فيه بين الحماسة والتقوى والتعقل يمكن أن نتوقع الفردوس المفقود).
على أنه لا يزال بينه وبين الفردوس المفقود سنوات طويلة، فماذا جرت به أراعته في هورتون، أو على الأصح ماذا تغنت به قيثارته؟
نظم ملتن ثلاث قصائد، وغنائيتين مسرحيتين أحدهما قصيرة تقرب من مائتي سطر، والأخرى طويلة نيفت على الآلف. ولئن عظمت شهرة قصيدته الكبرى (الفردوس المفقود) فيما بعد حتى بهر نورها القلوب والأبصار، وأنسى الناس هاتيك القصائد التي نظمها في هورتون، فإن جمهرة النقاد متفقون على أنه بلغ ذروة الفن في تلك القصائد الخمس، وعلى أنه لولم ينظم غيرها، لكانت كفيلة أن تحله في الصفوة المختارة من الشعراء المغنيين في العالم كله قديمه وحديثه، إن لم تجعل له موضع الصدارة بينهم أجمعين.
وقد نشرت تلك القصائد سنة 1645 بعد رحيله عن هورتون بست سنوات ومعها بعض أشعاره اللاتينية. وكان ما ذكره ملتن عنها أنها بمثابة امتحان لقدرته وأنها مقدمة بين يدي وعده فحسب، ولم يفتأ بعدها يعد بعمل خالد في دنيا الشعر دون أن يشير إلى تلك القصائد كأنه نسيها أو كأنه لا يرى فيها شيئا يحقق جانبا مما يعد به، وتكشف تلك القصائد الجميلة الخمس، فضلا عما ترى الناس من مقدرته الفنية، عن كثير من خلجات نفسه واستجابة حسه ونوازع قلبه، ومتجه فلسفته. لذلك كانت عظيمة الخطر كسجل لحقبة من حياته، أما تلك القصائد فهي (الليجرو) و (البنسروزو) و (اركاوس) و (كومس) و (ليساوس).
أما الأولى والثانية فكلتاهما تعيض الأخرى في موضوعها؛ فمعنى الليجرو في الطليانية(667/17)
(الرجل الطروب) ومعنى البنسروزو (الرجل المتفكر). وتصف الأولى كيف يكون المرح واللهو في أحضان الطبيعة وفي زحمة المدنية، وتتصف الثانية كيف يكون التفلسف في الحياة والركون إلى العزلة، والتفكر بين الأوراق والكتب. وأما الثالثة فهي الغنائية القصيرة. وأما الرابعة فهي الغنائية الطويلة. وأما الأخيرة فهي في رثاء صديق.
افتتح ملتن قصيدته الأولى (الليجرو) بقوله (إليك عني أيها الأسى المتلكئ) ثم راح يصف الأسى فصوره في صورة مخيفة سوداء. وحسبك أن ينعته أنه يولد من احلك سواد في منتصف الليل، ومن الكلب الخرافي ذي الرؤوس الثلاثة والذيل الثعباني، ذلك الوحش الذي يقوم على حراسة إغلاق العالم السفلى؛ ويولد الأسى من هذين مجتمعين فهو ابنهما. . . ويعود الشاعر فيقول: (اذهب أيها الأسى فابحث عن مأوى لك بين الأشباح المرعبة والصراخ والمناظر الخبيثة حيث يمد الليل الكئيب جناحيه الحريصين على الظلام، وحيث تغني البومة طائر الليل هنالك تحت الظلالالسود وتحت الصخور المكتئبة المتداعية كذوائبك المهوشة. اذهب أيها الاسى، وابق أبداً في تلك الصحراء الخرافية القصية المظلمة التي ينتهي عندها العالم في الغرب على حافة المحيط).
وينتقل الشاعر بعد هذه الصورة الكريهة إلى مناجاة الفرح فيقول:
(اقبلي أيتها الآلهة الجميلة الطليقة التي سميت في السماء (أفروسين)، وسماك الناس السرور الذي يشرح الصدر؛ أنت يا من ولدتك فينوس وحملتك وأختين لك أخريين إلى با خوس؛ أنت يا من حملت بك أورورا، وهي تلاعب زفير حيث لقيها أول أيام مايو وهما يمرحان على سرر من البنفسج الأزرق والورود الجنية تفتحت لساعتها وغسلها الندى، فجئت ابنة حسناء بضة مرحة. ثم يمضي الشاعر يعرض صور المرح الذي تجلبه معها عذراء الأساطير التي يناديها، فهناك الشباب المتوثب الطروب، واللعب والبسمات العذاب، والضحك الذي يمسك جنبيه. ويعود فيهتف بتلك العذراء، ويسألها أن تسرع إليه تخطر على أطراف أصابعها مصطحبة معها عذراء الجبل، الحرية الحلوة ممسكة إياها بيمناها، ويشعر المرء بالبون العظيم بين ما سرده من صور الأسى وبين ما صوره من أشكال المرح وانماطه، ويقابل بين الناحيتين فتزداد كل منها انجلاء تلقاء الأخرى. . .)
ثم يعمد ملتن إلى فنه الذي امتاز به فيرمى في اسطر متتابعة إلى صور كثيرة متلاحقة(667/18)
يرسلها واحدة تلو الأخرى، يريد أن يقول: إنها أطياف الفرح يوحيا إلى النفوس إذا لاذت به. وكلها مما يملأ القلوب بهجة ونشوة، (فهناك ضوء القمر في الليل الساجي وغناء القبرة ينبعث من برجها العالي في السماء، ثم صياح الديك بعد ذلك يبدد الظلام، بينما يسوق أمامه في نشاط حسانه إلى باب الحظيرة، ثم كلاب الصيد ونفيره توقظ في مرح الصباح الناعس، والشمس تنحدر من الباب الشرقي متشحة بالشعل فتبدد السحب، والحرث يصفر لحناً على مقربة من الأرض التي خططها بالأمس، وحالبة اللبن تغني طرب، والرعاة يتلو كل منهم قصته إلى جانب ألا لفاف الخضراء، والقطعان والمراعي والمروج الخضر، والجبال والنهيرات والأنهار الواسعة تجتليها العين في نظرة، والأبراج الشاهقة بين الأشجار لا يبعد أن تكون مقراً لذات حسن، فهي لذلك مهوى البصر لكل عين قريبة؛ ويتراءى غير بعيد دخان ينبعث من كوخ قائم بين شجرتين عتيقتين باسقتين من أشجار البلوط، حيث يطعم الرعاة طعامهم الشهي الريفي قدمته إليهم الراعيات، ثم انطلق النساء منهن والصبايا إلى الحصاد يحصدن الزرع ويسوينه حزماً؛ وثمة فرحة أخرى طليقة يبتعها مرأى القرى القريبة يلحن للعين على مرتفع، هنالك حيث تصلصل الأجراس المرحة تباعاً، ويغني المزمار الطروب فيشجي الفتيان والصبايا، إذ يرقصون جماعات في الظلال الرقطاء، وقد خرج الكبار والصغار يرتعون ويلعبون في يوم بطالة ضاح، ولن يزالوا في مرحهم حتى ينطوي ضوء النهار الطويل. ثم إن لهم بعده متعة في الصهباء تدار عليهم أكوابها إلى جانب الموقد، ومتعاً في حكاياتهم عن الحصاد وموسمه يقضون فيها شطراً من الليل. . .)
ولن ينسى الشاعر أن يورد صور المرح في المدينة، وقد وفاها حقها في القرية، فينتقل بخياله إلى المدن ذات الأبراج وما تزدحم به من أخلاط الناس وأنماطها، وفيهم زمر الفرسان وذوو البأس من البارونات، يتفق لهم في ملابس السلم نصر عال على أسراب الغواني، تمطر أعينهن البراقة السحر على من يبتغون الوسيلة إلى قلوبهن، ومن يرتقبون ما يجزين به اللباقة والفروسية، إذ تسعى كلتاهما جاهدة للظفر بعطف ملكة الجمال. ويستطرد ملتن في وصف متع المدينة ومباهجها، فيسوق منها صوراً متتالية كأنها صور فلم بهيج: فثمة حفلات الأعراس وإليها يشير في مهارة بذكر (هيمن) إله الزواج في(667/19)
الأساطير الإغريق بملابسه الصفراء ومصباحه الذي يلوح به، وثمة الولائم والسوامر ومعالم الزينة تتخللها الغنائيات المسرحية بمشاهدها القديمة، كما يتخللها ما يحلم بمثله شعراء الشباب في أمسيات الصيف على ضفاف الغدران المنعزلة، يضاف إلى ذلك روعة التمثيل، فإما ملاهي بن جو نسن وإما ملاهي أحلى الشعراء فناً ولحناً ابن الخيال الساحر شكسبير يتغنى فيها بألحانه البرية الحان غابات وطنه ومشاهدها.
ويعود الشاعر في ختام قصيدته الرائعة إلى مناجاة إلهة الفرح فيسألها أن تحيطه بجو مليء بالأغاني الشعرية الجميلة التي تدرأ عن القلب الهم الذي يأكله، تلك الأغاني الرقيقة العذبة التي تتمثل في الشعر القوى الرصين يجمع بين جمال السبك ومهارته، وروعة الفن وفتنته، فيبلغ من السحر ما يحطم به ما يقيد النفس من قيود الحياة ومشاكلها فتحرمها من نشوة الموسيقى، ويبلغ من الجمال ما يوقظ به أرفيوس نفسه، فيرفع نفسه من غفوته الذهبية على سريره المتخذ من أزهار الجنة، ويستمع إلى تلك الألحان التي لو كان تغنى بمثلها لاستمال إليه أذن بلوتو. . .
تلك هي خلاصة قصيدته الأولى الليجرو، وشتان بين هذه الخلاصة في لباس النثر وفي لغة غير لغتها، وبين الأصل في لباس الشعر وفي بلاغة ملتن وبراعة فنه وروعة لحنه!
ويفتتح ملتن قصيدته (البنسروزر) بنقيض ما افتتح به قصيدته الأولى فيقول: (إليك عني أيتها المسرات الخادعة، من الحماقة وحدها ولدت بغير أب. ما اقل عودك على العقول الرزينة، وما اقل ما تبثينه فيها من ألاعيبك. . . استقرى في بعض الرؤوس الكليلة، وسيطرى على تلك المخيلات المولعة بما لا يحصى عدده من الأباطيل والمظاهر البراقة، تبلغ في كثافتها وعددها ما يبلغ الهباء المعلق في أشعة الشمس)
ويناجي الشاعر الشجن ليأتي إليه، وينعته بالحكمة والقدسية، بل يغلو فيجعله أقدس ما يلحق به التقديس؛ ويصف آلهةالشجن بأنها أعظم سناً من أن تطيقها عيوننا، وعلى ذلك فأننا نراها مجللة بالسواد، ولكن هذا السواد لن يشينها، فما أشبهها بمملكة أثيوبيا الجميلة التي غالبت في الأساطير جنيات البحر فبدنهن ملاحه وأغضبهن بذلك وأساءت إليهن.
ولا يفتأ الشاعر يدعو هذه الآلهة إليه مصطحبة من يليق من رفقة، ويضفي عليها صفات الحكمة والتؤدة والتعقل والوقار والدأب والجد، ويصورها تنقل بصرها من السماء إلى(667/20)
الأرض متدبرة متفكرة، أما الرفقة التي تصطحب فالسلام والهدوء والصوم والعزلة والتأمل والصمت؛ ويجعل الشاعر من هذه المعاني شخصيات فيتحدث عنها ويصفها كأنما يتحدث عنأشخاص.
ويعرض الشاعر أنماطاً من الصور تناسب حالة التفكير التي يصف أو ما سماه الشجن العاقل. وبقدر ما كان في قصيدته السالفة من مرح وجلبة وفتون، تنطوي قصيدته الثانية على الوجوم والهدوء والسكون. وأكثر صوره هنا في الليل، فهو يحب أن يمد سمعه إلى صوت الكروان، ويحب أن يمشي في سكون تحت القمر حتى يبلغ في السماء أقصى ارتفاعه؛ ويحب أن يجلس في ضوء مصباحه في هدأة الليل لا يسمع إلا صوت خفرائه، فيقرأ فلسفة أفلاطون، ويقرأ الشعر والمسرحيات والقصص الرفيع. والليل هو الوقت الذي يعشق فهو قائمه كله لا يبرح مكانه حتى الصباح كما لا يبرح الرب الأكبر من النجم أفقه، فإذا كان الصباح فليكن صباحا تكتنفه الغيوم وتتناوح فيه الرياح الهوج، ويتساقط المطر؛ وإذا ما قدر للشمس أن تبدد الغيوم بعد لأي فليتوار عن ضوئها في كوخ أو في عش منعزل بين الشجر لا تقع عليه عين، وهناك فلينم حتى ينهض وفي إذنيه موسيقى حلوة من الحان جنة الغابة. وهو يحب أحيانا أن ينقل الخطاء متأملا في فناء كاتدرائية قوطة عتيقة عالية الأقواس، توحي إلى النفس ذكرى الدين، ثم يستمع إلى الأرغن، يتصاعد في الجو لحنه فيذيبه اللحن من فرط انتشاء روحه ويستنزل كل ما في السماء حتى يراه ماثل أمام عينيه. وأخيراً فما أحب إلى نفسه أن يقضى عمره في صومعة منعزلة حيث لا يبرح يطلب الحكمة ويستزيد من المعرفة مما هو بسبب من كل ما في السماء وما في الأرض، حتى تهيئ له خبرته الطويلة حالة حالا أشبه بحالة النبوة.
وتلك هي خلاصة قصيدة الثانية، وهي من حيث الأسلوب والبيان والفن الشعري كسابقتها روعة بناء وبراعة تصوير وقوة أداء وسمو فن، كما أنها مليئة كأختها بالإشارات إلى أساطير الإغريق والرومان فلا تكاد تخلو فقرة منها من إله أو آلهة. ولا يكاد يفرغ المرء من قراءة القصيدتين حتى يتبين أنهما تصفان حياة الشاعر في عزلته بهورتون، فذلك ألاليتجرو أو الفتى الطروب هو ملتن في إحدى حالاته، وذلك البنسروزو أو الفتى المتفكر هو كذلك ملتن في حالته الأخرى، وما هاتيك الصور التي صورها في القصيدتين إلا ما(667/21)
كان يقع تحت بصره من حياة الريف ومباهجه وحياة المدينة ومساراتها، ثم ما كانت تحس نفسه من حب العزلة وطلب الحكمة والانكباب على الدرس، وما كان يهجس في خاطره من تطلع إلى الحالة كحالة النبوة.
أما من حيث الفن فقد بلغ ملتن في هاتين القصيدتين ذروة الشعر الغنائي، ولم يبلغ قبله ولا بعده من الشعراء في لغة قومه مثل ما بلغه من السمو فيهما. ولا تزال القصيدتان حتى اليوم ينظر إليهما شعراء الغناء نظرتهم إلى قمتين شامختين تطاولان النجم، وينطق سموها بالتحدي والأعجاز. ولا تجد في وصفهما أبدع مما ذكره ماكولي عنهما إذ يتعرض ليباين خصائص شعر ملتن، فعنده من أبرز خصائص قدرته على أن يؤثر في نفس قارئه بما توحي ألفاظه من صور وأخيلة وأفكار تتداعى من بعد، أكثر مما يؤثر فيها بالمعنى الذي يؤديه اللفظ، فكأنما ينتقل تأثيره إلى ذهن القارئ بهذه الصور وبهاتك الأخلية والأفكار كما تنتقل الكهرباء إلى هدفها خلال موصل. وكذلك من أشهر خصائصه جزالة اللفظ وإشراقه وجمالة وعذوبة موسيقاه وهي جميعاً أظهرا ما تكون في قصيدته السالفتين. يقول ماكولي: (لن تجد هذه الخاصة أظهر فيشيء مما كتبه ملتن منها في الاليجرو والبنسروزو، ويستحيل على المرء أن يتصور أن تبلغ الصيغة اللغوية درجة أرفع في الكمال مما بلغته فيهما. وتختلف هاتان القصيدتان عن غيرهماكما تختلف خلاصة العطر عن ماء الورد العادي، أو كما يختلف ذلك القدر الغالي من العطر الذي نعبه حريصين عليه عن ذلك السائل المائع الرقيق.
وما هما في الحقيقة بقصيدتين اكثر مما هو طوائف من التلميحات، يستطيع كل امرئ أن يتخذ من كل واحدة منهما قصيدة لنفسه، فكل تلميح وصف منها كافية لبناء مقطوعة)
ولم تخل القصيدتان من هنأت يتمسك بها النقاد، ولكنها أقل من أن تسبيهما أو تنزل بهما عن المستوى الفذ الذي بلغتاه وتحب أن نرجئ الكلام عن هذه الهنأت حتى نفرغ عن شعره كله في بهورتون ثم ننظر فيما له وما عليه.
(يتبع)
الخفيف(667/22)
الإسلام والحكمة
للأستاذ عبد المتعالي الصعيدي
لا يزال هناك فريق من الناس ينفر من الحكمة وعلومها، ولا يعلمون ما للحكمة من شأن عظيم في الإسلام، وأن القرآن نوه كثيراً بشأنها، وذكر أن من فضل الله على بعض الأنبياء أنه أوتيها، وجمع بينها وبين النبوة، من أولئك الأنبياء الذين جمعوا بينهما، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله في ذلك يربو على الفضل كل الأنبياء. ولا غرو فهو الذي أخرج من تلك الصحراء القاحلة، أمة كانت ترتع في البداوة والجهالة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، شأن العلم عندها أرفع شأن، تحمل مصباحه بيمينها لتضئ به العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لا تبغي بذلك إلا وجه العلم، ولا تقصد من ورائه مغنما من مغانم الدنيا، ولا تجعله وسيلة لحكم الشعوب وإذلالها، ولا تحتكر لمصلحتها، ولا تكتمه عن الشعوب لئلا ينتفعوا به كما تنتفع به، وكان العلم مشاعا في عصرها بين كل الأمم، وكان العلماء في عهدها موضع التجلية على اختلاف شعوبهم وأديانهم، وكان علمهم موضوع التقدير والاحترام، وتشد إليه الرحال في سائر الأقطار، وتبذل نفائس الأموال في الحصول على كتبه من بلاد الروم، ومن بلاد غيرهم من الأمم السابقة في الحضارة، فلم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء، ولم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء والملوك، فأجتمع العلماء إخوانا في مجالس العلم، لا فرق بين مسلم ونصراني، ويهودي ومجوسي، وصائبي ووثني، وقد أزالت رابطة العلم ما بينهم من فوارق، وغمرتهم بفيض عظيم من التسامح، إذ كان شعار هذه الأمة التي جمعت بينهم، أن الحكمة ضالة المؤمن يطلبها أن وجدها، وأن العلم غاية المسلمين يطلبونه ولو بالصين، وأن فضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى رجل من المسلمين.
ولم يكن هذا كله إلا لأن القرآن الكريم رفع شأن العلم والحكمة على كل شأن، وجعل تعليم الحكمة من الأغراض التي بعث من اجلها الأنبياء، ليقضوا بها على الجهل والطغيان، ويجعلوا مقام العلماء فوق كل مقام، فتصلح الدنيا بعلمهم وحكمتهم، ويسعد الناس بهد يهم وإرشادهم.
وقد جاء تنويه القرآن الكريم بالحكمة على وجوه شتى، فمرة ينوه بشأنها في ذاتها، كما جاء(667/24)
في الآية - 269 - من سورة البقرة (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا ألوا الألباب).
ومرة يعقد سورة باسم حكيم من الحكماء وهو لقمان بن باعورار الحكيم القديم، وقد ذكر الله في هذه السورة ممتناً ما آتاه من الحكمة، فقال في الآية - 12 - من آياتها (ولقد أتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد).
ومرة يجعل الحكمة مما تفضل به على بعض أنبيائه، فيذكر أنه تفضل بها على إبراهيم وآله، في الآية - 54 - من سورة النساء (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).
ويذكر أنه تفضل بها على داود، في الآية - 20 - من سورة ص (وشددنا ملكه وآتينا الحكمة وفصل الخطاب).
ويذكر أنه تفضل بها على عيسى ابن مريم في آيات كثيرة، فيقول في الآية - 48 - من سورة آل عمران (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) ويقول في الآية - 110 - من سورة المائدة (إذ قال يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وأذ علمتك الكتاب والحكمة) الآية.
ويذكر أنه تفضل بها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعثه في أمة أمية لينقلها بتعليم الدين والحكمة، من الأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة، فيقول في الآية - 129 - من سورة البقرة (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم) ويقول في الآية - 164 - من سورة آل عمران (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كان من قبل لفي ضلال مبين)، ويقول في الآية - 2 - من سورة الجمعة (هو الذي بعث في الأميين رسولا، منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وقد جاء بعد هذه الآية أية لها شأن نبينه فيما يأتي، وهي قوله تعالى (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم)
وقد اضطرب المفسرون في بيان معنى الحكمة اضطراباً كبيراً، فذهب فريق منهم إلى أن المراد بها السنة، وهي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب فريق منهم إلى أن(667/25)
المراد بها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها العلم بأحكام الله تعالى، التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها منه. وذهب فريق منه إلى أن المراد بها الفصل بين الحق والباطل، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها معرفة الأحكام والقضاء، وذهب فريق منهم إلى أن بها العقل والفهم، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح.
ولقد تهيب هؤلاء المفسرون أن يحملوا الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، لأن كلمة الحكمة عند العرب ترادف كلمة الفلسفة عند اليونان، وتنطق عندهم (فيلاسوفيا) وفيلا معناها الإيثار، وسوفيا معناها الحكمة، وقد اشتق العرب من ذلك كلمة الفلسفة بمعنى الحكمة، كما اشتقوا كلمة الفيلسوف من (فيلوسوفوس) بمعنى الحكيم، وهو في الأصل بمعنى المؤثر للحكمة.
ثم جاء بعد هؤلاء المفسرين لم يتهيب ما تهيبوه، من حمل الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، فذهب إلى أن المراد بالحكمة معرفة الأشياء بحقائقها، وهو بعينه ما يقوله العلماء في تعريف الفلسفة، من أنها العلم بحقائق الأشياء بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا يكون تعليم الكتاب إشارة إلى العلوم العقلية، ويكون تعليم الحكمة إشارة إلى العلوم العقلية، وهي العلوم التي تدخل تحت كلمة الحكمة أو الفلسفة، وتشمل ما يشمله اسم الفلسفة النظرية والعلمية.
ولا يراد من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته إلا أن يهيئها له، بأن يعلمها الدين الصحيح، ويعمل على محو الأمية فيها، بتعليمها القراءة والكتابة، ويحبب إليها النظر في العلوم على اختلاف أنواعها، ويرشدها إلى الاستفادة ممن سبقها ممن الأمم إلى درس العلوم، لتبنى على أساسها، وتقوم بقسطها في النهوض بها، فتؤدي زكاة العقل في رفع منار العلم، والوصول به إلى ما تصل إليه الأمم قبلها، ولا تقف به عند الحد الذي وصل إليه قبل أن تتناوله. فلا يتم ذلك إلا بالتدريج، وهو سنة الله في الترقي والنهوض، وهذا هو الذي تشير إليه الآية السابقة في سورة الجمعة (وآخرين منهم لم يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم) فقد قيل إن المراد بالآخرين الفرس، ويؤيده ما روى عن أبي هريرة قال: كنا(667/26)
جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال رجل: يا رسول الله، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال - وسلمان الفارسي فينا - فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، وقال: والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا، لتناوله رجال هؤلاء.
وقيل أن المراد بهم التابعيون، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي يصلى الله عليه وسلم، إلى يوم القيامة. وقد كان أن تلك الحركة العلمية الإسلامية أخذت في التدرج إلى أن دخل الفرس في الإسلام، وهم قوم لهم سابقة في العلم والحضارة، فوصلت بهم الحركة العلمية الإسلامية إلى ذروتها، ودونت عهدهم العلوم الدينية، ونقلت علوم الحكمة إلى اللغة العربية، فدرسها المسلمون، وبدوا فيها من تناولها قبلهم من السابقين، وحققوا بذلك ما وعد الله من تعليمهم الكتاب والحكمة، وما كان الله تعالى ليخلف وعده.
وما أخطأ المسلمون حين أخذوا علوم الحكمة عمن سبقهم إليها من الأولين، لأن الله قد حثنا على النظر في الآية - 185 - من سورة الأعراف (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد أقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) فهذا حث على النظر في جميع الموجدات والتأمل فيما أودعه الله فيها من عجائب وأسرار، لاستنباط العلوم والمعارف التي تدل على عظيم قدرته، وتشهد ببديع حكمته.
فإذا وجدنا نظراً لمن كان قبلنا في جميع الموجدات، ووجدنا لهم علوما تعنى ببحثها وكشف أسرارها، وجب علينا أن ننظر في تلك العلوم، وأن ننقل ما ألف فيها من كتب إلى لغتنا، لنستعين بها فيما أمرنا الله به من النظر في الموجدات، ولا نضيع زمناً في بحث ما سبقونا إلى بحثه فيها، فما كان فيها موافقاً للحق قبلناه منهم، وما كان غير موافق للحق صححناه لهم، ولا يصح أن يمنعنا خطؤهم من الانتفاع بصوابها، كما لا يصح أن يمنعنا من النظر فيها أن يضل بعضنا به، لنقص في فطرته أو لغيره ذلك من الأسباب، لأن هذا الضرر إنما يلحقها بالعرض لا بالذات، ولا يصح أن يترك ما يكون نافعاً بطبعه لضرر يوجد بالعرض فيه، وشأنها في ذلك شأن العسل، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يسبقه أخاه، فزاد إسهال به، فلما شكا ذلك إليه قال له: صدق الله وكذب بطن أخيك. يعني صدقه تعالى في قوله في الآية - 66 - من سورة النحل (يخرج من بطونها شراب(667/27)
مختلف ألوانه فيه شفاء الناس).
وليست هذه العلوم وحدها هي التي عرض لبعض أصحابها ذلك الضرر، فقد عرض مثله لكثير من العلوم، كعلم الفقه الذي يعد من أمهات العلوم الدينية، فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه، وخوضه في الدنيا، مع أن صناعته تقتضي بالذات الفضيلة العملية.
ولقد حوى القرآن الكريم كثيراً من مسائل تلك العلوم، ولاسيما مسائل الحكمة العملية، لأن الدعوة إليها هي الأهم، أما الحكمة النظرية فليس من شأن الأنبياء تقرير مسائلها، وليس من شأن الكتب المنزلة شرح علومها، وإنما يوجه الأنبياء الناس إليها توجيها، وتشير الكتب المنزلة إلى بعض مسائلها إشارة مجملة.
وقد جاء ما يمكن أن يعد فصلا من الحكمة العملية في سورة الإسراء، وذلك من قوله تعالى في الآية - 23 - (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً) إلى قوله تعالى في الآية - 39 - (ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة، ولا تجعل مع الله إلها آخر، فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
ولقد حوت السنة النبوية كذلك كثيرا من مسائل الحكمة العلمية، كما حوت كثيراً من مسائل الحكمة النظرية، كالطب وغيره، وكان من طبه صلى الله عليه وسلم ما يسمى الطب النبوي، وقد وضع العلماء فيه كتبا أثبتوا فيها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا العلم، وقد شهد له المقوقس أمير مصر بهذه الحكمة، وذلك حين أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه هدايا فيها طبيب، فقبل النبي صلى الله عليه هداياه، وقال الطبيب: أرجع إلى اهلك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع. وقيل إن رسول النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي قال ذلك للمقوقس، فقال له: أنت حكيم جئت من عند الحكيم.
وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكيم يقال له الحارث ابن كلدة، رحل إلى مدرسة جند يسابور، فتلقى علوم الحكمة من الطب وغيره على فلاسفتها، ثم رجع إلى بلاد العرب فاشتغل فيها بعلاج المرضى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمر أصحابه بالعلاج عنده.(667/28)
ولما فتح عمرو بن العاص مصر وجد من فلاسفتها يوحنا النحوي فقربه عمرو من مجلسه، وكان يصغي إليه ويستمع إلى حكمته، ويعجب بما يسمعه منها، ويكثر من الثناء عليه.
وكذلك فعل الملك الصالح عمر بن عبد العزيز مع حكماء عصره وكان في ذلك كله تمهيد للنهضة العملية الكبرى، التي حصلت في عهد العباسي، فزخرت بها البلاد الإسلامية علماء وحكمة، وصار المسلمون في ذلك العهد حكماء العالم، والفضل في ذلك النبي الحكيم، الذي قضى على تلك الأمية، ومهد لمن جاء بعده طريق الحكمة.
عبد المتعال الصعيدي(667/29)
في كتاب البخلاء (طبعة وزارة المعارف)
لأستاذ عظيم
- 2 -
في الجزء الأول
جاء في صفحة 112: (واستلفت منه على الإسواري مائة درهم فجاءني وهو حزين منكسر فقلت له: إنما يحزن من لا يجد بدا من أسلاف الصديق، مخافة أن لا يرجع إليه ماله، ولا يعد ذلك هبة منه، أو رجل يخاف الشكية، فهو إن لم يسلف كرما أسلف خوفا) قال الشارحان في قوله: ولا يعد الخ، الواو للحال والجملة حال من فاعل يرجع، أي غير حاسب أن ذلك المال الذي استلفه هبة بل كأنه حق له لا يرد.
وأقول إن هذا تعقيد في الإعراب وفي التفسير إذا أخذنا عبارة المتن كما هي، إذ يكون المتعين فيها اعتبار جملة (ولا يعد ذلك) حالا من فاعل (يجد) أو من فاعل (أسلاف) الذي هو نفسه فاعل يجد، وإذن فالمعنى أن الذي يحزن إنما هو الرجل الذي يضطر إلى أن يعطي الصديق سلفة غير عاد إياها هبة. أما إذا أريد جعل جملة (ولا يعد الخ) حالا من فاعل (يرجع) كما يقول الشارحان فلابد من حذف حرف النفي (لا) قبل (يعد) ويكون المعنى: مخافة أن يمسك المستلف عن رجع السلفة عادا إياها هبة.
وفضلا عن هذه الصورة الثانية التي تقتضي حذف لا مع بقاء (يعد) مرفوعا ليستقيم تفسير الشارحين يجوز مع حذف لا أيضاً أن ينصب هذا الفعل بالعطف على يرجع.
وجاء في صفحة 114: (وكان يقول: اشتهى اللحم الذي قد تهرأ، واشتهى أيضاً الذي فيه بعضالصلابة. وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال اشتهى لحم دجاجتين) وقال الشارحان في تفسير قوله (وقلت له مرة) أي لما قال اشتهى اللحم الخ. كان مقتضى الظاهر أن يقول: فقلت له الخ.
وأقول إنما يصح الاعتراض لو كان الجاحظ ذكر أن ذلك البخيل (قال) أو (قال مرة)؛ أما وقد ذكر أنه (كان يقول) فمعنى هذا أن قول البخيل تكرر مرارا، فالجاحظ أجابه على مرة منها.(667/30)
وجاء في صفحة120: (ثم قال خالد هاأنذا مبتلى بالمضغ، ومحمول على تحريك اللحيين، ومضطر إلى مناسبة البهائم، ومحتمل ما في ذلك من السخف والعجز. ما أبالي! احتملته فيمن ليس لي منه بد، ولي عنه مذهب) وقال الشارحان: وقوله فيمن ليس لي منه بد الخ، أي في مؤاكلة من لا فرار من مؤاكلته كأولادي وأهل بيتي. وفي النسخ التي بين أيدينا: (فيمن لي منه بد، ولي عنه مذهب) وهو تحريف ظاهر لا يلائم السياق، ولاسيما أن بد لا يعرف استعمالها إلا مقرونة بالنفي.
وأقول أن هذه العبارة التي في النسخ الأخرى لا يمكن أن تكون صحيحة حتى على فرض أن كلمة بد يجوز استعمالها بغير نفي؛ ذلك لأن المعنى يكون مكرر في عبارتين تكريرا سخيفا لا يقبله الجاحظ ولا خالد القسري الذي يدعي الرواية عنه. والذي عندي أن الجاحظ يكون قد أراد أنه أحتمل ذلك المظهر السخيف في الأكل سواء مع أهل بيته الذين لا يستطيع التواري منهم ولا يخشى نقدهم إياه، أو مع أضيافه الغرباء الذين يستطيع التواري منهم فيأمن شر نقدهم. وعلى هذا تريد المستوفي لأوضاع الصورة المتعين في هذا المقام تكون جملة الجاحظ هي: (ما أبالي احتملته فيمن ليس لي منه بد، أو فيمن لي عنه مذهب) وذلك بهمزة الاستفهام وأم التي للتسوية. ويصح أن تكون الجملة تقريرية إثباتية منفصلة عن (ما أبالي) فتكون صحتها: (احتملته فيمن ليس لي منه بد، فيمن لي عنه مذهب) بإضافة كلمة فيمن في الفقرة الثانية، ليستقيم الوضع العربي.
وجاء في صفحة 132: (وقيل له أيضا: فكيف سخاؤه على الخبز خاصة؟ قال: والله لو ألقي إليه من الطعام بقدر ما إذا حبس نزف السحاب ما تجافه عن رغيف) وقال الشارحان في تفسير ذلك: لو ألقي الخ، هكذا في نسخة الشنقيطي. والطعام البر بضم الباء. أي لو أعطى من الطعام مقدارا لو جعل كومة واحدة فارتفعت حتى وصلت إلى السحاب، فمنعت ماءه من أن يصل إلى الأرض ما تجافى الخ.
وأقول: إن العبارة محرفة وإن التفسير تعسفي لوروده على أصل غير صحيح، والأصل كما أرى هو: (بقدر ما إذا يبس نزف السحاب)، أي لو أن الله رزقه من الأرغفة بمقدار لو يبس لنزف ماء السحاب وتشربه، لما نزل منه عن رغيف. وهذا كناية عن البخل البالغ درجة لا يتصور وقوعها العقل. ويلاحظ أن قوله ما تجافى عن رغيف يفيد أن الطعام هنا(667/31)
ليس هو البر بل هذا الخبز ورغفانه.
وجاء في الصفحة157: (وأنتم أيضاً إنما اكتريتم مستغلات غيرنا بأكثر مما اكتريتموها، فسيروا فينا كسيرتكم فيهم، وأعطونا من أنفسكم مثلما تريدونه منا)، وقال الشرحان: إذا رجعنا إلى نسخة ليدن وجدنا هناك اضطراباً في الضمائر لا يفهم منه معنا. لذلك وضعنا (غيرنا) بدل (غيركم) و (منا) بدل (منه) و (منا) بدل (منهم)، وهذا ما نصه الوضع الأصلي.
والذي أراه أن العلة في هذا الغموض هو تصحيف وقع في كلمة (أكريتم) فسارت (اكتريتم). فإذا أصلحنا هذه الكلمة وحدها استقامت العبارة بدون احتياج لكل التغيرات التي لجأ إليها الشارحان؛ إذ يكون المعنى: إنكم أيها المستأجرون قد أكريتم أي أجرتم من باطنكم مستغلات مملوكة لغيركم بأجرة تزيد على الأجرة التي استأجرتم بها من أصحاب الملك، وأنتم لا تجدون على أنفسكم حرجا من اقتضاء هذه الأجرة الزائدة من المستأجرين من باطنكم، فسيروا فينا كسيرتكم في هؤلاء المستأجرين من باطنكم وأعطونا من أنفسكم مثل ما تريدونه منها.
كل ما قد يتعرض به على هذا التفسير أن أولئك المستأجرين من الباطن لم يذكروا في العبارة حتى يعود عليهم الضمير في كلمتي فيهم ومنهم - ولكن وجودهم مفهوم حتما من سياق العبارة. وكأن الوضع إشارة إلى هذا باستعمال كلمة غير على لفضها المفرد وإعادة الضمير عليها في (منه) بصيغة المفرد، ولو كان الضميران في فيهم ومنه عائدين على (غير) لراعى النسق وجعلهما هاء فقط.
وجاء في صفحة 161: (وليس كل خرق يرقع، ولا كل خارج يرجع) والأشكال (يرجع).
وجاء في صفحة168: (فإن للنفس عند كل طارف نزوة، وعند كل هاجم نزوة). وقال الشارحان: لعلها نزرة، مصدر للوحدة من نزره إذا استعجله وألح عليه، لأننا نستبعد على الجاحظ مثل هذا التكرار.
وأرى أن صواب الكلمة (بزوه) من بزا عليه يبزوا بزوا تطاول. وبزاه وأبزه وابزى به: قهره وقوى عليه.
وجاء في صفحة 171: (وأنت لم تنفق الحرائب، وتبذل المصون، إلا وأنت راغب في(667/32)
الذكر والشكر، وإلا لتخزن الأجر. . .) وقال الشارحان: وأنت لم تنفق الخ، في النسخة (لو لم) ونعتقد أن لو مقحمة من النساخ كما هو ظاهر. وأنا أعتقد أن كلمة (لو) ضرورية. ويلوح لي أن السبب في قول الشارحين إنها مقحمة من النساخ هو أنهما قرآ هذه الجملة مفصولة من جواب الشرط، وهو قول الجاحظ في أول الصفحة التالية: (فقد سرنا لقلة عدد خبزك الخ).
وجاء في صفحة 174: (فاحسب أن البخل عليهم غالب، وأن الضعف لهم شامل، وأن سوء الظن يسرع إليهم خاصة، ثم لا تداوي هذا الأمر بما لا مؤنه فيه؟)
وقال الشارحان: فاحسب أن الخ: أي هب البخل غالباً عليه الخ، وقوله: (البخل) أي فكرة الحكم عليك بالبخل ويجوز أن تكون كلمة البخل محرفة عن الخجل.
وعندي أن كلمة البخل محرفة عن (التجني) المذكورة في السطر السابع من صفحة 173، وبها يستقيم المعنى لا بهذا التخليط، وأرى أن كلمة (ثم) في الجملة محرفة عن (فلم؟).
وجاء في الصفحة 177: (قلت هذا ما لاشك فيه، وقد علمت عندي بالصواب، وأخذت لنفسك بالثقة، إن وفيت بهذا القول) وأنا أظن أن (علمت) محرفة عن (عملت) وهي وما بعدها جواب الشرط الأتي في قوله: إن وفيت بهذا القول؛ لأنه لا محل لقوله علمت بعد قوله هذا ما لا شك فيه. وما أتى به في الشرح سهو ظاهر
(له بقية)(667/33)
قصة الذرة
للأستاذ فوزي الشتوي
دوى اكتشاف آل كوري في العالم أجمع خواص الراديوم العجيبة الغريبة، وخلق مجالي حديث وبحث واسعي النطاق؛ فاحتضنه الأطباء لعلاج الأمراض المستعصية مثل السرطان، ولكنه أوجد صداعا دائما لعلماء العلوم الطبيعية الذين يريدون تفسير ظواهره وخواص وسر إشعاعاته وقوته البالغة.
أحسوا أن كل علومهم عن الطبيعية والمادة معلومات قليلة القيمة لا تزال في مهدها. فلم يعد أي عالم يستطيع الجهر بأنه يدرك شيئا عن سر المادة. فهل الذرة وحدة صماء لا تنقسم أم هي عالم آخر غير العالم الذي أدركوه وفكرة أخرى غير التفكير والمنطق الذي ساورا على هديه كل تلك السنين؟
وكان المعروف في أواخر القرن الماضي أن عناصر تتألف من سبعين عنصرا - وقد زادت الآن إلى 93 - مثل الأوكسجين والحديد والذهب وغيرها. فهل هذه العناصر هي الوحدات التي تتركب منها مواد الكون؟ أم أن الطبيعة تحتفظ بسر مازال مجهولا؟
كانت ظاهرة الإشعاع في الواقع أمراً يستدعي كثيراً من العلم والتجربة لتفسير خفاياها. وأحس العالم بحاجته الماسة إلى تجارب عظيمة متشبعة ليكشف نواحي الغموض التي تحيط بالإشعاع. فاندفاع العلماء بكل نشاط في هذا السبيل فخدمتهم المصادفة مرة وخدمتهم علومهم أخرى فتكللت أبحاثهم بالنجاح.
الذرة المعقدة
ولم يمضي وقت طويل حتى انغمر في أبحاث الذرة. فحتى تلك اللحظة كان العلماء يعتقدون أن الذرة أصغر الجسيمات فأثبتت أشعة إكس المجهولة، والنشاط الإشعاعي أن الذرة بناء شديد التعقيد مؤلف من جسيمات أصغر. وكان أول رواد هذا البحث السير تومسون أستاذ العلوم الطبيعية في كامبردج بإنجلترا. ولم يقتصر عمله على الأبحاث والنتائج التي وصل إليها بنفسه بل درب فريقا من الشبان ليواصلوا العمل وحدهم، ويكتسبوا الشهرة الدولية. ومنهم السير ارنست رذرفورد والبروفيسور ولسن والبروفيسور لنجفين الفرنسي.(667/34)
بدأ تومسون تجاربه على أشعة إكس (المجهولة) ولكنه احتاج أن يعود إلى تجارب كروكس وأنبوبتا. وأنت تذكر أن سيالها الكهربائي كان ينحرف بالمغناطيس كما تذكر أن كروكس أطلق على الأشعة حالة رابعة للمادة سماها حالة الإشعاع. وقد أثبت تومسون أن دقائق هذه الأشعة أصغر من الذرة وسماها جسيمة ولكن العلماء أطلقوا عليها فيما بعد اسم الكهرب أي وحدة الكهرباء.
والمعرف أن الإيدروجين هو أخف العناصر الكيماوية، وأن ذرته هي أخف الذرات، وقد أدت تجارب تومسون إلى حقيقة غريبة محيرة؛ فإنه أثبت أن وزن كهربها يساوي واحد إلى 1800 من وزن ذرة الإيدروجين. فكان هذا الكشف أول فتح في مجاهل تركيب الذرة وبنائها. فمم يتألف باقي تكوينها؟
من الحقائق التي يسهل استنتاجها أن تلك الكهارب سالبة
الشحنة الكهربائية لأنها منبعثة من مهبط كروكس السالب.
وليس من شك أن الشحنة الكهربائية السالبة تحتاج إلى شحنة
موجبة تعادلها. فإن المواد في حالتها الطبيعية الساكنة يجب أن
تكون متعادلة الشحنات الكهربائية ولهذا استولى الشك فترة
على العلماء في حقيقة كشفهم للكهارب السالبة. ولكنهم لم
ييأسوا بل استمروا في طريقهم حتى يثبت ما يلغي نظريتهم
الأولى أو تستقر بكشف باقي تكوين الذرة. ألف باء الذرة
ولم تمض حتى وفق أنست رذرفورد أحد تلاميذ تومسون ومساعديه إلى تفسير معقول. فأجرى مجموعة كبيرة من التجارب البارعة لتحليل الأشعة المنبعثة من عنصر الراديوم. ومنها أثبت أنها تتألف من ثلاثة أنواع سماها على حروف الهجاء اليونانية وأولها ألفا والثانية بتا والثالثة جاما
وكانت طريقة التحليل بسيطة ولكنها كانت من أهم الأسباب في ذيوع اسم رذرفورد وأهلته(667/35)
فيما بعد لأن يحتل مركز أستاذه تومسون. وقد ذكرنا من قبل أن العلماء عرفوا ناحية واحدة من بناء الذرة وهي الكهارب السالبة التي يتحتم أن تتعادل بكهارب موجبة فأين هي هذه الكهارب الموجبة؟
فلو أتيت بكتلة من رصاص بها جحر عميق، ووضعت في هذا الجحر قطعة راديوم فإن الأشعة تخرج من الجحر مستقيمة ولكنك لو مررتها في مجال مغناطيسي فإنها تنقسم إلى ثلاث شعب تنحرف إحداها إلى اليمين، والثانية إلى اليسار، بينما يسير الثالثة في حط مستقيم. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن ندرك أن الأشعتين اللتين تنافرتا مختلفتا الشحنة. وقد سميت الموجبة منها بأشعة ألفا بينما سميت السالبة بأشعة بتا، أما الأشعة المتعادلة فأطلقوا عليها اسم جاما.
وثبت أن أشعتي ألفا وبتا تتألفان من جسيمات صغيرة تحمل الشحنات الكهربائية ولكن أشعة جاما ليست مكهربة وهي عبارة عن إشعاعات ضوئية وإن اختلفت عن أضوائنا الكهربائية في قصر موجتها.
وأثبت رذفورد أن أشعة جاما تشبه أشعة إكس في موجتها ولكنها اقصر، أما أشعة ألفا فقد بهرته كما بهرت العالم فقد وجدها ذات شحنة كهربائية موجبة. وكانت أثقل في الوزن من أشعة بتتا السالبة كما أن سرعتها المتدرجة الزيادة كانت أقل منها، وقد قاس رذرفورد سرعة هذه الأشعة فوجدها تنطلق بسرعة عشرين ألف ميل في الثانية.
حجر الفلاسفة يتحقق
واستولت الدهشة على رذرفورد حين حلل أشعة ألفا بالمرقب الطيفي فإنه وجدها تتحول إلى غاز هليوم. وبمعنى آخر إن ذرات الراديوم تفرز ذرات هليوم، وكان الكشف غريبا. ولكن ميوله كان أغرب فقد انتقل إلى التجارب على اليورانيوم فوجد أن استخلاص أشعة ألفا وبتا منه تحولانه بالتدريج إلى مادة أخف في وزنها الذري ثم تصبح راديوم فإذا والينا استخلاص الأشعتين منه تحول إلى معدن الرصاص. وبهذا الكشف تحقق حلم الأقدمين في تحويل المعادن إلى بعضها البعض، فقد كانوا يطمعون في تحويل المعادن الحسيسة مثل الرصاص والحديد إلى ذهب وفضة من المعادن الثمينة. وقد حقق رذرفورد حلمهم، ولكن بالعكس، فاكتشف أن اليورانيوم والراديوم يتحولان إلى هيليوم ورصاص.(667/36)
وبهذا الكشف وضع رذرفورد العالم على المفتاح الذي أتاح للعالم اختراع القنبلة الذرية، والذي يرجى بعده استغلال الطاقة الذرية. ومن يدري، فمجال التكهن واسع الآفاق لم يعده قبلة من نهاية ولا مستحيل!
فوزي الشتوي(667/37)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
702 - هكذا هي النفوس البشرية
قال أبو القاسم السلوى الفخار: دخل علينا شيخنا الإبل يوما وأنا أعجن طين الفخار، فقال لي: ما علامة قبول هذه المادة اكمل صورة ترد عليها؟ فقلت أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره، فأدركه وجد عظيم حتى إنه صاح وقام وقعد، وبقى هنيات مطرقا برأسه مفكراً ثم قال: هكذا هي النفوس البشرية.
703 - قضيب البان الموصلي
في (تاريخ ابن الوردي): عزم قاضي الموصل أن يقول للسلطان في إخراج قضيب البان من الموصل. قال: فرأيت قضيب البان مقبلا على هيئته المعروفة، فمشى خطوة فإذا هو على هيئة كردي. . . ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة بدوي. . . ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة فقيه. . . بصورة غير الصورة المتقدمة، وقال لي: يا قاضي، هذه أربع صور رأيتهن، فمن هو قضيب البان منهن حتى تقول للسلطان في إخراجه؟ فلم أتمالك أن أقبلت على يديه أقبلهما.
704 - اكتف بالبلاغة. . .
كتب عبد الله زياد الحارثي إلى المنصور رقعة بليغة يستميحه فيها فوقع عليها: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطراه، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك فاكتف بالبلاغة. . .
705 - بأي ذنب نتفت
كان بلال بن أبي بردة لا يجيز شهادة من ينتف لحيته أو يأكل الطين. قال أبن طباطبا في بعض من كان ينتفها:
يا من يزيل خلة ... الرحمن عما خُلقت
هل لك عذر عنده ... إذا الوحوش حشرت
في لحية إن سئلت ... بأي ذنب نتفت
706 - أسم ممدود وجمعه مفصور(667/38)
في (بغية الوعاة) للسيوطي: هذه فائدة رأيت ألا أخلى منها هذا الكتاب: رأيت في تاريخ حلب لابن العديم بخطه قال: رأيت جزء من آمالي أبن خالويه: سأل سيف الدولة بحضرته ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا، فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟ قلت: أنا أعرف اسمين، قال: ما هما؟ قلت: لا أقول لك إلا بألف درهم لئلا تؤخذ بلا شكر، وهما صحراء وصحاري وعذراء وعذارى. فلما كان بعد شهر أصبت حرفين آخرين ذكرهما الجرمي في كتاب التنويه وهما: صلفاء وصلافي (وهي الأرض الغليظة) وخبراء وخبارى (وهي أرض فيها ندوة). ثم بعد عشرين سنة وجدت حرفا خامسا ذكره أبن دريد في الجمهرة وهو سبتاء وسباتي (وهي الأرض الخشنة).
707 - ما رأيت رهنا مثله قط
تقدم رجل إلى بقال يسأله شيئا، فامتنع، فدنا منه فسار فدفعه إليه. فقيل له ما قال لك؟ قال: رهننا طلاق امرأته (وذلك أنه حلف بالطلاق أنه يرده غدا).
فقال بعضهم: ما رأيت رهنا مثله قط.
708 - ولا قاص فأقضى ولا زوج فأرضي
قال أبو العباس الحضري: كنت جالسا عند أبي بكر محمد ابن داود (الظاهري صاحب كتاب الزهرة) فجاءته امرأة فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها؟ فقال: اختلف في ذلك أهل العلم، فقال قائلون: تؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على التطلب والاكتساب.
وقال قائلون: يؤمر بالإنفاق، وإلا يحمل على الطلاق.
فلم تفهم قوله وأعادت مسألته، وقالت له: رجل زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها.
فقال: يا هذه، قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبتك، ولست بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي. انصرفي رحمك الله. فانصرفت المرأة ولم تفهم جوابه.
709 - وأبناء اليهود
قال الصفدي: كان أبو البركات بن ملكا يهوديا وأسلم، وكان كثيراً ما يعلن اليهود قال مرة بحضور ابن التلميذ: لعن الله اليهود.(667/39)
فقال: نعم وأبناء اليهود.
فوجم أبو البركات لذلك وعرف أنه عناه.
710 - طبيب. . .
في (شذرات الذهب): قال أبن حجر: كان علاء الدين على بن نجم الدين - رئيس الأطباء بالديار المصرية - فاضلا مفتنا، وكان ذا حدس صائب جدا، يحفظ عنه المصريون أشياء كثيرة، وكان له مال قدر خمسة آلاف دينار قد أفرده للقرض، فكان يقرض من يحتاج من غير استفضال بل ابتغاء الثواب. قال المقريزي: كان يصف الدواء للموسر بأربعين ألفا، ويصف الدواء في ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس.
711 ـ فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
قال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب: ما أنصفتها، تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها!
إذا ذاقها وهي الحياة رأيته ... يعبس تعبيس المقدم للقتل
وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال:
إذا أقطب وجهي حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
712 - السكر، السكران
السكر مازال معه العقل حتى لا يفرق بين السماء والأرض، ولا بين الطول والعرض.
وقيل هو أن يجمع بين اضطراب الكلام فهما وافهما، وبين اضطراب الحركة مشيا وقياما.
ويحكي أنه لما جلس أبو بكر محمد بن أبي داود الأصفهاني الظاهري بعد أبيه يفتى استصغره فدسوا أليه رجلا وقالوا له سله متى يكون الرجل سكران؛ فسأله الرجل فقال: إذا عرت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم. فعلم بهذا الجواب موضعه من العلم. قيل للأمام أحمد بن حبل بماذا يعلم الرجل أنه سكران؟ فقال: إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره. ونعله من نعل غيره.(667/40)
نجاة الربان
بمناسبة افتتاح مسجد (القصاصين) الذي أنشأته وزارة الأوقاف
تذكارا لنجاة صاحب لجلالة الملك.
للأستاذ كامل كيلاني
فاروقُ يا نورَ اليقين ... ويا مَنارَ العاملينْ
يا بَسْمَةَ الأَيامِ وال ... آمالِ والفوز المبين
يا باعثَ النَّهضاتِ يا ... وَحْيَ الهُداة المصْلِحينْ
يا غُرِّةَ الأجيالِ مُشْ ... رِقَةً على طولِ السِّنين
يا جَنْةَ الوادي الخصي ... بِ وحارسَ الوادي الأمين
يا فَرحَةَ الإقبالِ وال ... إِسْعادِ للعانِي الحزين
يا معْقِدَ الأَمَلِ الكريمِ ... وَمَعْقِلَ الفضلِ الحصين
وملاذَ مَوْهُوبينَ تَحْ ... فِزُهم لشأوِ الخالدين
بكريمِ صُنْعِكَ مقتدينْ ... وبنور رأيك مُهْتدين
هَتفُوا بفاروقِ وغَنَّوْا ... - حين غَنَّوْا - صادِقين
عَرَفُوكَ رائدَهُم وَأَنْ ... تَ لِكُلِّ توفيق ضَمين
ألطافُ بِرِّكَ جَمَّةٌ ... مَوْفُورَةٌ للعائذين
الجهلُ قد حارَبْتَهُ ... والفقرُ والداءُ الدَّفين
بِحُامِ رأْيٍ حاسمٍ ... وقَناةِ عَزْمٍ لا تَلِينْ
تأسُو بيُمناكَ العليلَ ... وتمْسَحُ الدَّمْعَ الهَتُون
طَلْقَ المحَيَّا، نافِذَ ... اللَّمحات، وضَّاحَ الجبين
نُوراً يُشِعُّ سَعادة ... في قَلْبِ مَكْلُومٍ حزين
نجَّاكَ يا فاروقُ ما ... يسّرْت مِنْ خفْضٍ ولين
نجَّاكَ أَمْنُ اللهِ، يا ... أَمنَ الضِّعافِ الخائفين
وحَباكَ باللُّطْفِ اللطيفُ، ... كما حَبَوْت القاصدين(667/41)
كَفَّاكَ أَمْسَكتا بحَب ... ل من عِنايتِهِ متين
للبِرِّ أنت نجَوتَ وال ... إحْسان في دنيا ودين
نجاك بِرُّكَ بالضعيفِ، ... وذاك أَجْر المحسنين
واتاكَ غَوْثُ اللهِ، يا ... غوثَ اليتامَى المعُوزين
وصَنَائعُ المعروفِ تِنْ ... جِي رَبَّها في كلِّ حين
نجَت الكِنَانةُ والعُرو ... بَة إِذْ نجا حامي العرين
اللهِ نجاهُ فَنَجَّى ... رُكْنَ نَهْضَتِنا الرّكين
إِنَّ السَّفينَ إذا نجا ... رُبَّانُها نجَتِ السَّفينْ
أَبْدَعتَ في التَّعْبِير فَناًّ ... رائعاً لِلمُبْدِعين
أَوْدَعْتَ شُكْرَ الله أُسْ ... لُوبَ الملوكِ الصالحين
أُسلوبَ عرْفانِ الجميلِ: ... جميلِ رَبِّ العالَمين
ونَظَمتَ في مَعْناهُ بَيْ ... تاً عامِراً بالمؤْمنين
بيْتاً على التَّقْوى يؤَسَ ... سُ آَيَةً للشَّاكرين
يَدْعُونَ للفاروق ... فيه دَعْوَةَ المتَبَتِّلين
فُيُرَدِّدُ الدعواتِ أَمْ ... لاكُ السَّماءِ مْؤَمُّنِينْ(667/42)
وهم. . .
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
لقد ثار بي - مُذْ أَنْ طَفِئْتِ - التوهُّمُ ... وقَرَّ بنفسي أَنَّ قّتْلِى مُحَتَّمُ
وأَنَّكَ قد عُوِجلتِ قبلَي رحمةً ... من القَدَر الجارى، ومثلُك يُرْحَم
لقد شاء أن يُعْفِيك من هول مصرعي ... أُوافيكِ مَحْمُولاً يُضَرِّجُني الدم
وبات يقيني أنَّ قتليَ واقعٌ ... وإني له المستنظِرُ المتوسِّم
قضيتُ الليالي بعد موتك مُوجِساً ... كما أَوْجس الَقتل الشريدُ المجَرِّم
أعيش وهذا مصرعي مِلءُ خاطري ... منَ الوهم مرفوعٌ لعين مجسَّم
تُرَوْعني منه على الوهم مِيتةٌ ... ممزَّقةٌ شوهاءُ حمراءُ عَندّم
وتمتدّ أيامي فاخطب وُدَّه ... واركب مَتْنَ الليل أيْهَمُ
تدبّ بجسمي هِزِّةُ الرَوْع والرضا ... إذا خِلْتُ أنَّ الهولَ آتٍ مُيَمِّم
يُسَكن نفسي أَنْ تَحقق حَدْسُها ... وتَذكرُ ما أُعْفيت منه فتَبْسم
وينجاب ليلى لم يُضَرَّجْ بمَقْتَلي ... أَلا انه الوهمُ الكذوب المخيِّم
فكيف أُعَزَي النفس عنك مُعَلِّلاً ... وكلُّ تَعِلاّتي حديثُ مُرَجَّم
عبد الرحمن الصدقي(667/43)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمود أبو ريه:
في الصفحة 607 - 608 من كتاب (عمر بن الخطاب) تأليف الأخوين: علي وناجي الطنطاوي، محاولة تحقيق قضائي في مقتل عمر رضي الله عنه، فيه إدانة لكعب الأحبار وبيان لشركائه، فيا حبذا لو اطلعت عليه واتممت هذه المحاولة، وأكملت التحقيق، ومهدت ل (الحكم).
(دمشق)
ابن مصطفى
هما لعروة بن اذينة:
في عدد الرسالة 665 لاحظ فاثر الاديب ابراهيم الترزي نسبة
البيتين. قالت:
(وأبثتها وجدي فبحت به) ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
الست تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
لعمر بن ربيعة. والبيتان لعروة بن اذينة كما قال الاستاذ الالمع الطنطاوي في (غزل الفقهاء). ففي الشعر والشعراء والاغاني ج21 ساسي، والأمالي للقالي ج2 ص110 طبع الدار وسمط اللآلى ج1 ص137، والتنبيه على أوهام القالي ص27، وأمالي المرتضي ج2 ص73 مقنع أي مقنع.
محمد الطنطاوي
مدرس بكلية اللغة العربية
ذخائر الأدب العربي في العراق:
نوهت مجلة (الرسالة) الغراء بعددها (663) في حقل (البريد الأدبي) بان اللجنة الثقافية للجامعة العربية بحثت في جلستها الأخيرة مشروع إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية(667/44)
الموجودة في العالم، وتصوير أقيمها وأفيدها ووضعها تحت تصرف العلماء والباحثين والناشرين في أطراف العالم؛ لضمان الوصول إلى كنوز الفكر العربي وحفظ تراثه الموجود من الضياع والتشتت.
وقد تذكرت - لدى قراءة هذا النبأ - مئات المخطوطات العربية المكدسة في العراق، وبخاصة في النجف وكربلاء والحلة، وفي بعض المكتبات الخاصة الشهيرة في بغداد والكاظمية، وفي مكتبات الجوامع، وجميعها لا تزال مخطوطة لفحول علماء وأباء العربية والتي تتناول مختلف المواضيع والأبحاث العلمية والأدبية والفلسفية، وهذه المخطوطات لا تزال للآن ومنذ مئات السنين تعبث بها البلي بدون أن يقيض لها من يعيدها إلى الحياة، ويعمم فائدتها على اللغة العربية، وذلك لعدم وجود الناشر والمطبعة أولا، وللكسل المستولي على من يملك الذخائر النفسية ثانيا.
فحبذا لو توسطت اللجنة الثقافية في الجامعة العربية لدى وزارة المعارف العراقية لجمع هذه المخطوطات النفسية وإرسالها أليها لفحصها ومعرفة قيمتها الأدبية، وتقدير فائدة تصويرها ونشرها، ولا يكلف هذا العمل سوى تشكيل لجنة من بعض ذوي الاختصاص والمعرفة لجمع الذخائر من أماكنها المختلفة في العراق فتسدي بذلك خدمة جليلة لإدبنا العربي، وتحيي في الوقت نفسه هذه المخطوطات العربية وتنشر منها ما كان ذا فائدة وأهمية في الحاضر.
(بغداد)
مهدي القزاز
جامعة أدباء العروبة:
ألف فريق من رجال الأدب والفكر في العالم العربي جمعية باسم (جامعة أدباء العروبة) تهدف إلى دعم الصلات الثقافية بين أبناء العروبة في سائر أقطارها، واستقلال الفكر العربي بخصائصه ومميزاته وتوحيد الأهداف والمثل العليا للجامعة العربية.
وقد تم تأليفها بالقاهرة على أن يكون لها فروع في البلاد العربية.
وقد عقدة الجمعية العمومية جلستها الأولى في مساء الأربعاء الماضي بمقر الجامعة (196(667/45)
شارع محمد علي) وتكونت هيئة المكتب من حضرة صاحب المعالي دسوقي اباظه باشا رئيسا، وحضرات الأساتذة الدكتور محمد وصفي نائبا للرئيس والدكتور إبراهيم ناجي وعادل الغضبان والدكتور فخر الدين السبكي ومحمد مصطفى حمام وكلاء، وطه عبد الباقي سرور سكرتيرا عاما، وجميلة العلايلي أمينة صندوق، وعباس حسن خضر، وعلى توفيق حجاج وعبد الله شمس الدين ويسن شاكر المهندس مراقبين. وتألفت الهيئة الاستشارية من الأساتذة الدكتور إسماعيل حسين وحسين منير وعبد العزيز الاسلامبولي واحمد عبد المجيد الغزالي.
طه عبد الباقي سرور
السكرتير العام
تاريخ بناء جامع نور الدين في الموصل:
اطلعت على ما كتبه الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد 662 من هذه المجلة (ص273) بشان تاريخ جامع نور الدين ورد مغلوطا في مقالي المنشور في مجلة سومر (ج1، م2) فأقول أن التاريخ المذكور هو 568، وقد وقع الغلط على يد صفاف الحروف.
ولم يكن هذا الغلط الوحيد فقد وقع في المقال المذكور أغلاط مطبعية جمة، وكنت قد أرسلت جدولا في تصحيحها إلى مديرية الآثار القديمة في بغداد، ورجوته أن يدرج في العدد القادم من مجلة سومر.
آما الجامع النوري فقد هدم من أساسه، وبوشر بإنشائه من جديد.
(الموصل)
الدكتور داود الجلبي(667/46)
قصص فرعونية:
3 - قصة سينوحيت
لأديب مصري قديم
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(ملخص ما نشر في العددين 663و666)
(أشرك ملك مصر أمنحت الأول قبل وفاته بعشر سنوات، أبنه وولي عهده أسرتن الأول في حكم مصر، وكان أسرتن يقوم بقيادة الجيوش في حملاته على البلاد الخارجية، بينما يبقى أبوه في العاصمة لتدبير شؤون مصر.
(في إحدى حملات أسرتين على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء في مملكته، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتن ينعى أليه أباه سرا، وسمع سينوحيت بنعيه فقرر الفرار من الجيش ومصر جميعا لا نه رأى في مصر خطرا على حياته، بعد موت أمنحت واستداد أسرتين بالآمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه دون أن يراه أحد، ثم سار إلى سنفرو وثم الجميزة، ثم عبر النيل إلى الشرق وجده هناك حتى وصل الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازامسلحة عند عين الشمس كانت تحمي مصر من غازات الاسويين، ثم أنحدر من وادي كيمور (طوميلات في أقلي الشرقية) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسو) فعرفه أحدهم وأنقذوه وأضافه أياما عندهم، ثم رحل إلى أدرهم فيقي فيها عدة اشهر، ثم دعاه أحد أمراء فلسطين أليه فلبى دعوته، هناك سأله الأمير عن سبب هربه فلم يجيبه جواب يطمئن أليه، وحاول الأمير أن يعرف منه أحوال مصر، وأثار ريبته في قوتها بعد موت امنحعت وتولي آسرتين، ولكنه أجابه بان مصر لم تضعف بل زادت قوة بتولي آسرتين ووصفه له يدل على بلاغة وإخلاص، وكان وصفه جامعا بين ابلغ الترغيب في الملك والترهيب منه، فاقطعه الأمير أرضا وولاء ولاية يحكمها وزوجه كبرى بنائه فأنجبت له كثيرا من الأبناء الذين صاروا رؤساء للعشائر في الولاية التي يحكمها أبوهم من قبل الأمير، وولاء الأمير(667/47)
قيادة جيشه فأبلى في مكافحة أعدائه البدو وتامين بلاده خير بلاء ثم جرت بينه وبين أحد البدو مبارزة انتصر فيها على البدوي وقتلة واستحواذ على أمواله، وقد وقعت هذه المبارزة في آخر المدة التي أقامها هناك والتي تزيد على عشرين سنة، وقد رأى بعدها أن موقفه دقيق حرج في اغترابه، فستكشر من الأموال لتكون له عونا عند البلاء، كما أرسل إلى ملك مصر رسالة يلتمس فيها أن يأذن له بالعودة إليها بعد أن صار شيخا ضعيفا، ويصف له كيف كان في أول أغرابه بائسا وحيدا ثم كيف صار حاكما هو وبناؤه والذين أنجبهم على إحدى ولايات فلسطين وعشائره. . . وهذه بقية الرسالة والقصة. . .)
(آو لم يأن لي أن يصفح مولاي عن جريمة هربي، فأعود إلى وطني، واسترد مكانتي في البلاط، واحظي بالعيشة الراضية في تلك البقعة المباركة التي تركت فيها قلبي. انه لا سعادة لي ألا بان ارجع إلى تلك البقعة حيث ولدت ونشأت، ثم أموت وادفن هناك، فما اسعد من يقضي نحبه في بلد ولد ونشا فيه! لشد ما تحملت - يا مولاي - في غربتي من آلام! وطالما صبت نفسي إلى أن أراني في وطني مرة أخرى لأنعم في جنباته بالراحة والسلام، وما اكثر ما قدمت من القرابين للآهة علها تنظر آلامي وتحقق آمالي. حبذا لو تكرم فرعون مصر العظيم فشملني بعطفه، ومكنني من انعم بإحسانه، أتقدم بولائي إلى ربة قصره، واقف على حالها وحال بنيها وبناتها أذن لرد مولاي إلى بذلك شبابي الضائع، فهاأنذا اشعر بالشيخوخة تسعى إلي، والخور ينسرب في كياني، وإكلال يرين على عيني، والاضمحلال يدب في رجلي، والفتور يتغلغل في عروقي، والبطيء ينتاب نبضات قلبي.
ويحي! فان المنية القاسية لتسعى إلى لتخطفني، وما أوحى ما تقذف بي إلى الهاوية الأبدية، فهلا يتاح لي أن الحق بسيدة القصر سلطانة العالمين، فأجد راحة الموت على يديها).
لم يمضي بعد ذلك وقت طويل حتى آتاني جواب الملك المعظم وقد حقق آمالي وما فوقها، فقد عفا عني وسمح لي بالعودة إلى وطني، وولاني ولاية من قبله في الخارج، كما أتحفى بكثير من الإتاوات، أرفقها بتحية أولاده، وهاو هو ذا آمره الملكي الكريم: (من حورس بن رع صاحب التاجين، وحاكم مصر العليا والسفلى، وروح النسل، ومانح الحياة، والخالد على مر الدهور. الأمر الملكي العالي الموجه إلى الشريف سينوحيتلأعلامه بما رأى جلالة الملك فيما التمس منه.(667/48)
هاأنتذا قد فررت من الدلتا إلى أصقاع أجنبية، وارتحلت من أيدوم إلى تنو، وجست خلال بلاد شتى طوعا لما جال بخاطرك فتأمل، ويحك، ما أداك أليه طيشك!
لست أدري ماذا حملك على هذه الهجرة، وأنت لم تجترح جرما، ولم تحتكم إلى مجلس الأشراف لتسمع حكمه فيك أنها أوهامك الكاذبة التي دفعتك إلى تلك الهجرة.
ولقد كان ما كان من أمرك على ما علمنا وعلمت، فلا تتحول عما أزمعت من الرجوع إلى وطنك بعد أن وضحلك الذهب السوي، كما أن مولاتك الملكة لاتزار تتألق في القصر على غاية من الرغد والعافية، وقد نما أولادها وصاروا زينة القصر، واتخذوا منازلهم في القصر، ولقد ابتهجت الملكة وأولادها بنبإ مقدمك حين نمى إليهم، وسيسعدهم أن يجزلوا لك الهبات، وأن يرعوا حقوقك. ولتثق أنك، عند عودتك إلى القصر الذي فيه نشأت ستكون حيث يليق بك، فدع كل ما في يديك، وعد إلينا بنفسك، حتى إذا بلغت مصر فاجعل وجهتك القصر المعظم فانك ستكون فيه زعيما على أنداد مرة أخرى.
هأنتذا تشعر بالشيخوخة تدب إليك، والضعف يحترم قواك وقد صار التفكير في دفنك بعد موتك يقلق فكرك، ويعذبك.
لا تجزع فانك ستعود إلى الوطن المقدس، حتى إذا حان حينك زاملوك بلفائف الكتان، وصبوا عليك الزيت حنوطا، ووضعوك في نعش مذهب قد طلى رأسه بطلاء لازوردي، وغطى بغطاء في شكل السماء، وعندما تشيع جنازتك ستجرها الثيران، وبين يديها المربتون يرددون أمامك أناشيدهم، وإذا ما أنزلت في قبرك - حيث يقبر أبناء الملك - رقصوا أمامك رقصة الدفن، وقام النائحون يجأرون بصلواتهم ومراثيهم لتأبينك، ونحت القرابين على روحك، وشيد فوق قبرك هرم من الرخام الناصع.
هذا ما ستكون عليه شعائر دفنك في وطنك بين أهلك، ولن تموت كما تخشى في أرض أجنبية فيلفك الأسيويون في أديم شاة، ثم يشيعونك وهم يدقون الأرض، ويبكون على جثتك إلى أن يغيبوك في لحدك وعليك أن تبادر إلينا بالرجوع).
كنت مجتمعا برجال قبيلتي حين أتاني الجواب، وما كدت أستوعبه حتى خررت على وجهي، وعفرت بالتراب رأسي، ولم أتمالك نفسي أن أقفز وأن أطوف بفسطاطي، وأصيح قائلا: (عجبا لي كيف أجاب إلى ما طلبت، وما أنا ألا تابع تمرد على سيده، وأبق من(667/49)
وطنه مهاجرا إلى أقطار أجنبية. لشد ما أجد من غبطة بعد أن عفا مولاي عني وأذن لي أن ارتد إلى وطني آمنا على حياتي، ولأقيم في بلاطه عالي الشأن راضي المعيشة إلى أن يوافيني أجلي).
ولم ألبث أن كتبت إلى مولاي هذا الكتاب، قدمته بين يدي رحيلي إلى وطني: (أنني خادمك سينوحيت، أتقدم إلى جلالتك بخشوعي وولائي وتحياتي، ملتمسا العفو عما جرته على حماقتي حين أبقت من مصر، وأنك لرب المغفرة أيها الآلة النبيل المهيمن على العالمين، وإني لأتوسل إلى رع وحورس وهاتور وسائر الأرباب العظام أن تهبك الخلود، وتلهمك الحكمة والسداد في كل خطاك، وتكفل لك الأمن والسلام، وتغدق عليك نعمها ظاهرة وباطنة، وتبسط سلطانك على الصحراء، وتمده على كل ما تطلع عليه الشمس من السهول والحزون.
لقد أسبغت نعمك علي أيها الآله الجليل كما يسبغ رع نعمه على مريديه، وقد اطلعت على ما حاك في صدري فشملتني برحمتك وهديتني من ضلال، وآويتني من اغتراب. وانه ليحلو لي أن أعيد ما كتبته يا مولاي إلى من روائع حكمك وآيات بلاغتك، وما كنت ألا خاما تافها لا يستحق شيئا من هذه النعم ولا بعض هذا الاهتمام، لولا أنك - في جلا لك ورحمتك - كالآله العظيم حورس تضلل برعايتك جميع رعيتك.
ولقد ضللت لك - يا مولاي - التابع الأمين الوفي في كل ما قلت وفعلت، وان أمراء هذه الجهات شهداء على ما أقول وحسبك يا مولاي أن كل السكان هناينظرون إلى جلالتك في خضوع الطلاب الوفية، ما تبدلت عواطفي نحوك، وما كانت هجرتي ألا رؤيا حالم في الشمال بأنه قد صار فجأة في أبو (قريب أسوان شمالا) أو رؤيا حالم من جيرة الوادي في الجنوب بأنه رحل إلى مستنقعات الشمال، فأنا لم أجن ذنبا أخشى مغبته، ولم ادنس أذني بالإصغاء إلى الأشرار، ولم يلهج باسمي لسان في مجامع القضاء، وما فتئت في غربتي أرفع ذكرك وأشيد بعظمتك، وما كانت هجرتي من مصر نظاما مدبرا؛ بل خاطرا فطيرا مرتجلا تلجلج في صدري فانطلقت قدماي انطلاقا، لقد قدرت الآلهة على الهجرة. ثم قدرت لي العودة، وهاأنذا أتزلف إلى جلالتك مطاطي الرأس لعلك تعفو عني، وتتجاوز عن سيئاتي. ولا على الإنسان أن يعود إلى وطنه، فما مقامي في هذه الغربة كمقامي عندك في(667/50)
القصر، أيها الملك العظيم الذي نشر الآله رع رهبتك وجبروتك على كل البلاد، فكل سكانها ينظرون إليك خشية وهيبة بقلوب مضطربة وعيون زائغة. سأترك كل ما في يدي هنا طوعا لآمرك الكريم لمن له الآمر بعدي. غير أن أطمع أن تأذن لرسولك إلى أن يختار ما يروق له عنده وسأبقى مدين لك وحدك بحياتي التي أنقذتها من العذاب. وأدع رع وحورس وهاتور ومنث ـوأنت صفيها ومختاراـ أن تصفيك الحياة الراضية الخالدة).
وأقمت مهرجانا عاما فخما في إقليم (ياع) ثم دفعت إلى أبنائي كل ما تحت يدي من أموال وأنعام، وخلفني ابني الأكبر في زعامة القبائل فاختصبكل مالي من الحدائق والبساتين والحقول والأنعام. وما فرغت من ذلك حتى وليت وجهي شطر الجنوب في عصبة من رجال الساتي (البدو) كانت مهمتهم خفرتني في الطريق طوال رحلتي إلى مصر، ومضينا نغذي السير حتى بلغنا طريق حورس حول الفرع الشرقي للنيل حيث أقيم هنالك حصن لدفع الغارات عن الحدود، فاستقلبنا حاكم الأقاليم بحفاوة، وبعث رسول إلى البلاط يخبر الملك بمقدمنا، وما هي ألا أيام قضيناه هناك في طريق حورس حتى بعث الملك إلينا كبير المشرفين على مزرعة في أسطول من السفن تحمل الإتاوات الملكية إلى العصبة التي تولت خفرتي في أثناء الطريق من رجال السات، فأذنت فيهم، وسلمت كلا منها ما يستحق منها، وبلغتهم تحيات الملك وشكره ورضاه، فحملوني تحياتي أليه وتقديرهم لنعمته، وكروا إلى بلادهم راجعين.
أما أنا فقد تابعت رحلتي حتى بلغت ثتوى (العاصمة) وعندما تنفس الصبح وافاني رسول الملك بدعوتي إلى المثول بين يديه، فسرت معهم حتى بلغنا القصر، فصافحت أرضه، وفي فنائه وجدت أولاد الملك متهيئين لاستقبالي، ثم اقتادني رجال الحاشية إلى حجرة الملك الفاخرة، وفيها وجدت جلالته مستويا على عرشه الفخم، فسجدت بين يديه، وعندئذ أحسست بالعمى يرين على عيني، وبالانحلال يشل أعضائي فيمنعها الحركة، وشبه لي أن قلبي زال عن مكانه، وكانت قد حالت بي الحال حتى لم يعرفني جلالته، فأشفق على، وأمر رجال الحاشية أن يقيموني، وتحدث ألي برفق ولطف، ليسرى عن ما أل بي من الدهشة، ويطلق لساني مما عقله من الاستغراب، فأحسست بالحياة تعود آلي بعد الموت، وبالنطق يعود إلى لساني بعد الحصر، وبدأت أعي ما حولي وأتأهب لفهم ما يلقي ألي.(667/51)
قال لي جلالته: (هاأنت ذا أخيرا في القصر بعد أن جست خلال القفار، وتمرست بألاسفار النائية، فقد مسك الضر، ونال منك الوهن، وصرت شيخا ضعيفا حتى ليعسر تحنيط جثتك، ماذا أنت؟ وفيما وجومك؟ أهو الخوف قد عقد لسانك وحصره عن الكلام؟).
فاستجمعت قواي، وتحاملت على نفسي، وبادرت جلالته قائلا: (ومم الخوف يا مولاي؟ أنني لم أسمع منة جلالتك ما أخشاه أمنا أنا إنسان ضعيف، لا تؤيده قوة علوية تدفع ما يحوي محضرك من رهبة في قلبه، وهأنذا أمامك، وحياتي منك واليك وقد وضعت حياتي كلها بين يديك).
وما هي ألا لحضه حتى دخلت الملكة والأمير، وشاء جلالته أن يتبسط معي، فقال مداعبا: (هذا سينوحيت قد أقبل كأنه أحد رجال العامو (بدو أسيا)!).
فتجاهلتني الملكة والأميرات، وهتفن معا: (ما هذا سينوحيت أيها الملك!).
فأجاب (بل سينوحيت نفسه).
ابتهجت الملكة والأميرات بمقدمي، وبادرن إلى جناحهن في القصر، وسرعان ما عدن وقد تقلدن القلائد، وأنطقن المناطق، وتهيأن بآلات الرقص، وطفقن يرقصن وينشدن هذا النشيد:
جادك الأربابُ بالخير العميم ... أيها الملك وأصفوك الخلود
وأحاطوكَ بآياتِ النعيمْ ... واحبَوْاعهدك عزاً وسعودا
ورعا مَسراك أربابُ النجومْ ... أين أبحرت هبوطا وصُعُودا
جامِعَ التاجين في تاج يقومُ ... حول الثعبانُ وضَّاءً فريداً
فوق رأسٍا لك جبارٍا حكيمْ ... لم يزل في كلِّ ما يمضي سديدا
قد أزلت البوسَ عن مصرَ فزلاً ... وغدت أقدارُها في راحتك
دان قطر أنها جنوبا وشمالاً ... لك وأستخذى أعاديها لديك
كل من فيها إذا شاء سؤلاـ ... لا يرى من ملجأ ألا إليك
حيث ضاق الناسَ بالعيش احتمالا ... لم يكن معتمدٌ ألا عليك
دمت للخائف والعاني ثُمالا ... تُبذل النعمى وترجى من يديك
قد حباك الحكَم والبأسَ الإله ... فأنزل خوفك عن هذا المريبْ
ويحَ سينوحيتَ قد طال أذاه ... فمحياة من الخوف كئيب(667/52)
فر من مصر بلا ذنب جناه ... وهو المولد فيها والرّبيبْ
خوفه بأسَك منها قد نفاه ... فانتفي والخوف يغري بالذنوبْ
فاردُد المجدَ إليه والحياة ... أنه فينا ومنا لقريب
وما انتهى الرقص والنشيد حتى قال جلالته الملك (يا سينوحيت لا تثريب عليك، فلن يصيبك ما تكره، ولن يحيق بك سوء وليهدأ قلبك، ويفرغ روعك، وأنك منذ الآن من رجال حاشيتي بل صفي من بين جميع النبلاء، فأنطلق إلى القصر الذي أختصصناك به، عد إلينا في البزة التي تليق بك).
وأمر الملك رجاله أن يذهبوا بي إلى خزانته لآخذ ما شاء من نفائسها، وخرجت مع الأميرات وأيديهن في يدي، حتى بلغنا الباب العظيم، ثم حللت قصرا من قصور الأمراء أهداه إلى الملك، وقد حملت إلى فيه خيرات كثيرة من القصر الملكي الأبيض، وجئتني نفائس من الحلل الملكية والعطور التي يصطفيها الملك.
وقد وجدت قصري فخما وأثاثه فاخرا، ورأيت له جنة ذات فواكه وأشجار، وفيه كثير من الاتباع والخدم الذين أعدوا لخدمتي، وما كدت أحل بقصري حتى انتزعوا ثيابي الحقيرة، وألبسوني حلة بيضاء فاخرة من الكتان، ورشوا على أجود عطور مصر وأطيبها، بعد أن أزالوا لحيتي وقصوا شعري ونسقوه ثم قذفوا بثيابي القديمة إلى عرض الصحراء.
ونمت هناك على فرش وثيرة، فتذكرت أيامي بالرمل وأهله وما آل إليه من نعمة في هذا القصر الفخم، بعد أن صرت في أعداد النبلاء، وعندئذ أحسست بالشباب يعود إلي بكل مزاياه.
أقمت بقصري منعما، وكان الطعام يحمل إلى ثلاث مرات أو أربعا من القصر كل يوم، وكانت الآسرة الملكية تغمرني بإتاواتها، وهب لي كل ما أمام قصري من الحقول والبساتين مما لا يهبه ألا يهبه ألا لرئيس ديوان.
ومع كل هذه النعم التي أضفاها الملك على لم يغفل عن أن يفي بوعده الخاص بمدفني، فقد أمر جلالته بأن يشاد هرم من الرخام الناصع، فوضع تصميمه كبير المهندسين في القصر، وشيده كبير البناءين فيه كإتقان واجمل ما شيد في حياته، وقد حفر قبري تحته في صخرة، وبعد أن تم الهرم قام رئيس النقاشين نفسه وزخرفته، وهكذا حظيت بما لا يطمع في(667/53)
الخطوة به من كان مثلي تفاهة ورقة حال؛ ولست أرجو ألا أن أتقضى ما بقي من عمري مستمتعا بجوار مولاي بما آنا فيه من فضله وبره، حتى أفارق الحياة، فانقل إلى مدفن.
محمد خليقة التونسي(667/54)
العدد 668 - بتاريخ: 22 - 04 - 1946(/)
يوم عظيم لسورية العظيمة!
وأي يوم أعظم من يوم الجلاء: جلاء المحتل عن أراضي الوطن، وجلاء الذل عن نفوس الناس؟ ولكل أمة جعل الله من نوره هذا اليوم، يشرق في أمسها إشراق العيد، أو يمض في غدها وميض الأمل. وهو أجل من آجال الله إذا جاء لا يؤخر! إنما يسبقه ليل طويل بالألم، مظلم باليأس، مرعد بالهول، مطلول بالدم، هواديه خطوب وأعجازه ضحايا!
ولقد كان ليل سورية الباسلة من أطول هذه الليالي وأهولها! كابدت في أوائله مشانق جمال، وفي أنصافه مدافع غورو، وفي أواخره قواذف أليفا روجيه!
ثم خفقت أشباح الشهداء بيضا على حواشيه، ولمعت بروق الآمال تباعا بين غواشيه، فانصدع الظلام المكفهر، واستبان الطريق المبهم، واستطاع المجاهدون الجاهدون أن يسمعوا على مآذن (الأموي): حي على الفلاح، وأن يبصروا تباشير الفوز على غرة الصباح!
وفي الصباح المسفر حمدت سورية الحبيبة سراها الطويل المرهق، فضمدت جروحها الدامية، وكمدت جفونها القريحة، ثم ذهبت إلى (المزه) فركلت آخر جندي من جنود الاستعمار ورفعت فوق مطارها العلم، ورجعت إلى (الغوطة) فحملت ورودها الجنية إلى قبور الشهداء وعزفت أمامها النشيد. ثم خرجت في زينتها وبهجتها تستقبل وفود الدول العربية التي جاءت تشاركها السرور في يوم حريتها المشهود وعيد استقلالها المشترك. ثم أطلقت لنفسه المحتشمة عنان الفرح والمرح، فصدحت شوارعها بالأهازيج، وهتفت منازلها بالأغاني، ودوت مساجدها بالأدعية، وفاض النور والحبور على دمشق وأخواتها، فجلون عن أنفسهن في يوم واحد ما ركمته المحن والأحداث في قرون!
حياك الله يا سورية! لولا ليلك الطويل الحالك ما أسفر لك هذا النهار الضاحك! ولولا جهادك الصادق الصابر طيلة ربع قرن ما أتم عليك الله هذا النصر المؤزر! ولولا دماؤك المسفوحة على ثرى وطنك الغالي ما جنيت هذه الثمرة التي تتحلب لها الأفواه في أكثر الدول! ولكنك يا سورية خرجت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر! خرجت من جهاد الطمع والعدوان في غيرك، إلى جهاد الهوى والأثرة في نفسك! والانتصار على العدو الخارجي سهل كالانتصار على الداء الظاهر، ولكن الانتصار على العدو الداخلي صعب كالانتصار على الداء المضمر. والمجاهدون في سبيل الوطن لا يبتغون عاجل الثواب؛ فإذا(668/1)
سول لهم الشيطان أن يبتغوه وكلهم الله لأنفسهم فيخسرون ما ربحوا، ويفسدون ما أصلحوا، ويسلبهم الله مجد الجهاد فلا ينالون سعادة هنا ولا شهادة هناك!
ما أزهى نفوسنا بجلاء المحتل عنك يا سورية! وما أبهج قلوبنا بكشف الضر عنك يا دمشق! فهل آن لأكدار النيل أن تصفو يا بردى، ولعار (التل الكبير) أن يغسل يا مبسلون؟!
ابن عبد الملك(668/2)
الأزهر في مفترق الطرق
كان للاقتراح الذي عرضناه على مشيخة الأزهر ووزارة المعارف لحل مشكلة الأزهر رجع واحد في مختلف البيئات هو المشايعة على الأصل فيه والاتفاق على الغاية منه. والأصل فيه توحيد التعليم الابتدائي والثانوي بين أبناء الأمة؛ فلا يكون الفرق بين المتوجهين إلى الدين أو إلى اللغة، إلا كالفرق بين المتوجهين إلى الحقوق أو إلى الطب. والغاية منه تجديد الأزهر ليساير الزمن، وتنظيمه ليزامل الجامعة، فيخرج للعالم العربي كله رجالا للدين وعلومه أو للغة وفنونها يكون لهم ما للجامعيين من فضيلة المشاركة ومزية الإخصاء. إنما كان الاختلاف في مدد الدراسة، أو عدد الكليات، أو حفظ القرآن من المناهج، أو تصفية الحال القائمة، وهو اختلاف في الفروع لا في الأصل، وفي الوسائل لا في الغاية. والذي يعنينا الآن أن يقبل القائمون على أمر الأزهر هذا الاقتراح. فإذا قبلوه أمكن المختصين والمفكرين يومئذ أن يديروا الرأي فيه فيفصلوا المجمل ويكملوا الناقص.
على أن أخوف ما أخافه على هذا الاقتراح أن يطول استئذانه على المكاتب الرسمية حتى ينسى، أو تحول بعض الحوائل النفسية دون النظر فيه حتى يهمل. والشائع الذي يثبته الواقع أن الرأي أو الأمر إذا لم يدل عليه إلحاح الضرورة، أو يدفع إليه ضغط الحوادث، لا يخطره أحد بباله مهما كان أثره في سياسة الدولة أو خطره على حياة الأمة. والأمر من قبل ومن بعد إنما يعني شباب الأزهر، فإذا تركوه رهن الطوارق أو جعلوه في أيدي المقادير، ظلوا كما كانوا: طلابا من غير علم، أو علماء من غير عمل.
الأزهر يقف الآن في مفترق الطرق، ولا يذهب به إلى الأمام إلا طريق واحد، فإذا ضله رجع إلى الوراء أو خبط في مجاهل الأرض لا يصيب غرضا ولا يبلغ غاية. والنتيجة الحتمية لهذه الحال أن ينتقل معنى الأزهر إلى الجامعة ويبقى لفظه المبارك حيث كان. ومن بوادر هذا الانتقال المعنوي انضمام دار العلوم إلى جامعة فؤاد الأول؛ فإن معنى ذلك الانضمام سلب الاختصاص اللغوي من الأزهر. ولن يجدي على كلية اللغة العربية ما يعدونها اليوم من التسوية بينها وبين دار العلوم في معهد التربية؛ فإن دار العلوم ستفيد من نفوذ الجامعة ونظمها ما يوسعها ويعمقها حتى تستوعب شؤون العربية وآدابها استيعابا لا يترك وراءه فضلة.
بقي الاختصاص الديني للأزهر، والكلام في سلبه حديث قديم لا يزال يتردد على أفواه(668/3)
ذوي الرأي كلما فكروا في توحيد القضاء الأهلي والشرعي والمختلط؛ فهم يشيرون بأن تتعمق كلية الحقوق في تدريس الشريعة ليستطيع المتخرجون فيها أن يكونوا قضاة أو محامين في الدوائر التي ستنشأ للأحوال الشخصية في كل محكمة أهلية، شأنهم في ذلك شأن زملائهم في الدوائر المدنية والتجارية والجزائية.
أما أصول الدين فقد فكرت كلية الآداب - وأظنها لا تزال تفكر - في أن تنشئ لها معهداً أو كلية تدرسها على المنهج الجامعي في التقصي والاستيعاب والموازنة. فإذا أصبح تراث الأزهر نهباً مقسماً بين كليات دار العلوم والحقوق والآداب، وأضفت إلى ذلك أن التعليم الابتدائي والثانوي سيكون كله بالمجان - والمجانية ميزة الأزهر - شككت في أن يتقدم بعد ذلك اليوم إلى المعاهد الدينية طالب يريد أن يتعلم ليعيش.
الأمر إذن جد؛ وجده أخطر من أن يعالج بالتهوين أو التسكين أو المطل. وليس من الإخلاص للأزهر أن نقول إن علوم الدين والدنيا فيه، وأن له من جلالة الأثر في نفوس المسلمين ما يقيه ويكفيه؛ فإن (المجاورة) بمعناها الموروث عهد قد انقضى، والتعبد بدراسة الفقه للفقه تقليد قد مضى؛ وانتقال القيادة العالمية اليوم إلى رجال العلم الخالص أمر يبعث على طول التفكير في إعداد النشء لمجابهة الحياة بأنظمتها المتنوعة وأسلحتها الجديدة. والكلمة الآن للشباب من الأساتذة والطلاب، فإلى هؤلاء وهؤلاء نسوق الحديث. والحزم الجدير بأهل الذكر أن ينضجوا الرأي في هذا الاقتراح قبل أن يجاوزوا (منعرج اللوى)، فإني لأخشى ألا يتبينوا وجه الرشد فيه إلا بعد ذهاب الفرصة وزوال القدرة. وإن فيمن يفاخر بهم الأزهر من أمثال الأساتذة: شلتوت وعرفة والجبالي والغمراوي ودراز وأبي العيون والمراغي والمدني والبهي والصعيدي، من نربأ بهم أن يتركوا جامعتهم القديمة العظيمة في مهب الأعاصير تزلزل أركانها وتهدد كيانها، وقصارى ما يملكون لها دعاء لا يصنع معجزة، أو بكاء لا يدفع مضرة!
أحمد حسن الزيات(668/4)
بطون جائعة وأموال ضائعة
للأستاذ علي الطنطاوي
ولد لي في هذا الأسبوع مولود جديد، فأهدى إلى أمه أكثر من عشرين علبة شكولاته، من هذه العلب التي جدت في دمشق، وصارت (مودة) الوقت، كل علبة منها لعبة كبيرة بأشكال وألوان، ما عرفناها قبل الآن، منها ما هو على صورة طيارة بأجنحتها وذنبها ومحركاتها ودوالييها، ومنها ما هو على شكل عربة بخيولها ولجمها وسائقها، كل ذلك مصور مشكل دقيق الصنعة؛ ومنها ما هو على هيئة سرير له فراش ووسادة من الحرير، وفي كل منها قبضة من السكر والشيكولاته، وهي ملفوفة بالورق الصقيل الشفاف، معقود عليها شريط من خالص القز، لا يقل ثمن إحداها عن عشرين ليرة سورية. . . فلما ذهبنا نفتحها تقطع الشريط وتمزق الورق. . . ثم تسلمها منها أولاد الدار، وأبناء الضيوف، لأنها لعب خلقت لهم لا للكبار، فلم تكن إلا أيام حتى تكسرت في أيديهم، وكيف لا تتكسر وهي مصنوعة من قطع الخشب الملون الملصق بعضه ببعض، لا تحتمل صدمة ولا نقرة؟ وعادت حطبا انتهى به الطريق إلى المدفأة، فاحترقت أربعمائة ليرة كان يمكن أن يشتري بها من (خبز البلدية) عشرون ألف رغيف، ومن الثياب النسائية المستعملة (التي توزعها وزارة التموين) أربعمائة ثوب، ويمكن أن يتزوج بها من الفقراء أربعة رجال. . . هذا وأنا رجل معتزل الناس لا أديم مواصلتهم، ولا أؤدي حقوقهم، خارج على مواضعاتهم، ثائر على عاداتهم، لا أصنع إلا ما أجده نافعاً معقولاً، ولي من جرأة جناني، ومضاء لساني عاصم من لحومهم وتعنيفهم، وهذا هو المولود الثالث لا الأول، فكيف تكون الحال لو كنت من الأثرياء الذين يخالطون الناس، ويقومون بحقوقهم؟ وكيف لو كان المولود صبياً بكراً؟
ففكروا كم ننفق من الأموال في أشياء لا يأتي منها خير، وما في تركها ضرر، ونحن نشكو الفقر والمرض والجهل؟
أعرف رجلاً تزوج فأهدي إليه يوم زفافه، من أصدقائه وصديقاته وأقربائه وقريباته، مائة وست عشرة باقة زهر، ثم أدناها خمس ليرات، وقد يبلغ ثمن أعلاها العشرين، فحار أولاً أين يضعها، ومن أين يأتي لها بالكؤوس والأواني، ثم بدا له فجعلها حول سرير العروسين، فكان لها منظر رائع خلاب، ثم مرت الأيام ففسدت وجفت فاستأجر رجلا يحملها ليلقيها في(668/5)
إحدى. . . المزابل!
ألف ليرة تلقى على مزبلة، ونصف الأمة يتضور جوعاً!!
وأعرف آخر من التجار أبى له سفهه وتبذيره وكفره بنعم الله إلا أن يوزع السكر على نحو خمسمائة مدعو لحضور عقد ولده في علب من الفضة في كل منها صحن من البلور، لا أدري من أين جاء بها فما في بلدنا منها، قالوا، إن ثمن الواحدة منها خمس عشرة ليرة، فهذه سبعة آلاف وخمسمائة ليرة، دون باقي المصروفات، في الفرش والزينة والثياب. . وإن من نساء هؤلاء التجار الفجار الأشرار من تشتري المعطف الواحد بألف ليرة، وإذا لم تصدقوا فاسألوا تجار الفرو!
والتبذير في أتراح هؤلاء الأغنياء لا يقل عنه في أفراحهم، فلا تخرج جنازة أحدهم حتى يمشي معها رجال المولوية بقلانسهم التي تشبه علب اللبن، وثيابهم التي تحكي إذا داروا المخاريط الناقصة التي وصفوها لنا في درس الهندسة أيام المدرسة، ولا يمشون حتى يقبض شيخهم الرسم المقرر، خمسمائة ليرة. . . وأمام الجنازة الآس والحناء، وبعدها حفلة (التنزيلة)، ثم (الصباحية) و (العصرية) وللنساء فيها كسوة خاصة تشترى من أجلها، فلا يصل الميت إلى القبر حتى ينفق عليه إن كان من الموسرين خمسة آلاف ليرة، ما أنفق قرش واحد منها في طاعة الله!
وإن حول كل دار من هذه الدور التي تهدر فيها الأموال لمساكن فيها ناس مثلنا، من بني آدم، من إخواننا في الدين وفي الوطن، وفي اللسان، يشتهون عشر معشارها، أو أقل منه ليشتروا به طعاماً يملأ بطون أولادهم، وثيابا تستر أجسادهم، وإن لهؤلاء الناس (لو عرف الأغنياء!) عيوناً تنظر كعيوننا، وقلوبا تتألم كقلوبنا، ولهم بنون وبنات هم قطع أكبادهم، وهم على هلهلة ثيابهم ووساخة أبدانهم أحبة إليهم أعزة عليهم كعزة أولادنا علينا، وربما كانوا أزكى من أولادنا نفوسا وأطهر، وأذكى عقولاً وأمهر، وكانوا أرضى لله وأنفع للوطن منا، ولكن الفقر عطل قرائحهم، وكف أيديهم، وكبل أرجلهم. إن هؤلاء وإن لم يكن في أعراسهم باقات الزهر، ولم يكن في جنائزهم مولوية ولا آس، ولم يعرفوا طريق المدارس والملاهي، ولم يزهوا بغالي الثياب، ولم يتمددوا على أرائك السيارات، ولم يعرفوا المشيخة التي يأكلون بها الدنيا بالدين، ولا الزعامة التي يجمعون بها المال بالوطنية، إنهم هم عماد(668/6)
هذا الوطن، وهم جمهرة أهله، وهم يزرعون القمح ويقدمونه إلينا ثم يعيشون على الذرة والشعير، وهم يبنون لنا القصور ثم يقيمون في الأكواخ مع البقر والحمير، وهم يصنعون بأيديهم الشيكولاته التي لا يذوقونها، ويحيكون الثياب التي لا يلبسونها، وهم يسهرون في الطرقات ليحرسونا ونحن نيام، وهم يمشون إلى الميادين ليدافعوا عن أوطانها ونحن آمنون، وهم قد دفعوا ثمن الاستقلال مهجهم وأرواحهم، ثم لم يأخذوا من خيراته شيئا. . .
إن هؤلاء هم ركن الوطن وعماده، وهم أهله وقطانه، فحرام علينا أن ننساهم ونهملهم! حرام أن تبقى هذه الأموال ضائعة، وهذه البطون جائعة! حرام في دين الله، وفي شرعة الإنسانية، وفي قانون الشرف، فأين المصلحون، فأين المصلحون؟ أين رجال الجمعيات؟ أين أرباب الأقلام؟
لقد كنت أصفح (أعداداً) عتيقة من مجلة الهلال، فوجدت في (عدد) منها أن في بلاد السويد جمعية اسمها (جمعية أمناء الأزهار) عملها جمع الأموال التي يشتري بها أهل الميت وأصدقاؤه باقات الزهور التي تحمل مع الجنازة ثم توضع على القبر، وإنفاقها في بناء مساكن صحية للعمال والفقراء، يسكنون فيها بأجر يسير، وأنها أنشأت (إلى تاريخ ذلك الخبر) نحوا من ألف مسكن.
فلماذا لا يكون فينا رجال مثل رجال هذه الجمعية، يأخذون المال من هنا، فيضعونه هناك، فيصلحون به أخلاق الأمة بإنقاذها من داء التبذير والأثرة والمفاخرة بالباطل، ويدفعون عن أغنيائها حسد فقرائها وبغضاءهم، ويعودون عليها بالخير لها في أجسادها وعقولها وصناعاتها وحضاراتها إذ ينفقون هذا المال فيما هو أولى به من وجوه الإصلاح؟
لماذا نأخذ عن الأوربيين السم وندع الترياق؟
كم ينفق في الشام ومصر والعراق وسائر بلدان هذا الشرق الإسلامي في الزفاف وحفلاته، والمأتم وملحقاته. . . والأعياد والمواسم وأيام الولادة والختان، فيما لا ينفع أحداً ألبته، ولا يعود عليه بعائدة، ولا تناله منه فائدة؟
حتام تهدر الأموال ويراق الذهب، اتباعا لعادات قبيحة وتقليدا كتقليد القردة، وجمهور هذا الشعب يشكو الفقر والمرض والجهل؟
هل تذهب بشاشة العيد ويمحى رواؤه، لو اصطلح الناس فيه على تقديم السكر الملبس(668/7)
الوطني بدلاً من الشيكولاته وصرفوا فوق الأثمان في بناء مدرسة أو مستشفى في كل بلد؟
هل يبطل أنس العرس، وتضيع بهجته إذا لم يكن إلا باقتان من الزهر؟
هل يكتب على العروسين الشقاء الدائم إذا وزعت الحلوى على المدعوين في قراطيس بدلاً من العلب؟
هل يحرم الميت التقى من نعيم الجنة، ويضاعف على الشقي العذاب إذا لم يمش في جنازته رجال الطريقة المولوية التي لا يقول بها عقل ولا نقل، ولا يقرها شرع ولا طبع؟
فإلى متى نضيع أموالاً نحن اليوم أحوج إليها من كل يوم مضى لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال؟
فيا أيها الأغنياء لا تغتروا فإن النعم لا تدوم، وإن بعد اليوم غدا، وإن بعد الحياة موتا، وإن بعد الموت لحساباً عسيرا، أمام رب الأرباب الذي خلقكم وخلق الفقراء من طينة واحدة، لم يخلقهم من التراب ويخلقكم من الأسمنت المسلح. . . ولم يميزكم عنهم إلا بمال أعاركموه ليكون محنة لكم وليطول عليه حسابكم.
ويا أيها المصلحون هذا باب من أوسع أبواب الإصلاح فلجوه بارك الله فيكم إن فعلتم، وأيدكم.
ويا رب منك أنت التوفيق، فأعط المخلصين مقدرة، وأعط القادرين إخلاصاً، فإننا نشكو إليك شكاة عمر: ضعف التقى وفجور القوى!
(دمشق)
علي الطنطاوي(668/8)
على هامش النقد:
همزات الشياطين
مجموعة أقاصيص: عبد الحميد جودة السحار
للأستاذ سيد قطب
كان هذا الكتاب - وهو حلقة من سلسلة لجنة النشر للجامعيين - مفاجأة كاملة لي. فأنا أعرف مؤلفه الشاب، فأعرف أنه أديب مجتهد؛ وقد قرأت له ما سمح وقتي المحدود بقراءته من كتبه الكثيرة التي يتجه بها غالبا إلى التاريخ الإسلامي ليعيد عرض وقائعه الجافة في صورة قصصية يحافظ فيها على دقة التاريخ مع سهولة العرض وتشويقه، وهو عمل نافع مشكور.
وقرأت له قصته الأولى عن: أحمس بطل الاستقلال، وهي لا تبشر بشيء! ثم قرأت - على وجه الخصوص - كتابه (في الوظيفة) وأعجبني فيه قدرته على التصوير السريع باللمسات الخاطفة، وقلت عنه في عدد (الرسالة) بتاريخ 22 يناير 1945:
(إن صاحب هذه الصور الانتقادية موهوب في فن التصوير السريع. ومهما أخذت عليه من عيوب في عمله الفني، فإنك لن تخطئ الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي.
(إنه ذو عين لماحة، تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة المرسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة، حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة؛ تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة. . .)
ولكن هذا كله شيء، و (همزات الشياطين) شيء آخر، ومع أنها موسومة بهذه السمة التي عبرت عنها في تلك الفقرات، إلا أن الشقة بينها وبين جميع أعمال المؤلف الشاب بعيدة، فهي وثبة واسعة المدى، لا بالقياس إلى جميع أعماله، بل بالقياس إلى أقصى ما كان يتوقعه الناقد لهذه الأعمال!
وقبل أن أبعد في طريق التعميم أخصص ماذا أعني بأنه وثبة واسعة المدى: تحتوي هذه(668/9)
المجموعة على اثنتي عشرة أقصوصة، وقد صدرها المؤلف ببحث مختصر مفيد عن الرواية والأقصوصة يؤلف مع الفصل الذي احتوى عليه كتاب (فنون الأدب) عن القصة والمسرحية تأليف (هـ. ب تشارلتن) وتعريب الأستاذ زكي نجيب محمود. والفصل الذي كتبه الأستاذ محمود تيمور عن (فن القصص). . . كل ما تحويه المكتبة العربية تقريبا عن هذا الباب الضخم من أبواب الأدب: باب القصة!
من هذه المجموعة أقصوصة طويلة بعنوان (وسوسة الشيطان) تستغرق أكثر من ثلاثين صفحة، وهي الأقصوصة الرئيسية في المجموعة. . . وهذه هي الأقصوصة الفذة البارعة في المجموعة، وفي أعمال المؤلف كلها منذ أن أخذ يكتب وينشر. أما بقية المجموعة فشيء عادي فيه الخطأ وفيه الصواب، وبعضها تبدو فيه العجلة التي لا تغتفر لمن يملك أن يخرج مثل هذه الأقصوصة الرئيسية!
وهذه الأقصوصة التي هي فاجأتني مفاجأة تامة، جعلتني أعاود النظر في كل ما قرأته للمؤلف، لعلني أكون قد أخطأت في تقديري أول الأمر، أو لعل بعض كتبه التي لم أكن قرأتها توحي بهذه الوثبة الواسعة!
ثم عدت بعد هذا كله مقتنعا بأنها وثبة واسعة، ومفاجأة كاملة! وقادتني هذه المفاجأة إلى أن أراجع كل ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المؤلفة باللغة العربية - وهي تكاد تشمل كل ما تحويه المكتبة العربية في هذا الباب فوجدت هذه الأقصوصة تقف وحدها متفردة بين هذا الحشد من الأقاصيص.
وأردت أن أتابع الموازنة، فعدت إلى ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المترجمة - وهي تكاد تشمل كذلك كل ما نقل إلى اللغة العربية - فوجدت هذه الأقصوصة تقف رافعة الرأس مع أعظم ما أعجبت به في هذه المجموعة. . . ترتفع على معظمه، وتساوي أقله، وتنحني أمام عدد صغير جداً لا يبلغ عشرة أقاصيص من حوالي المائتين!
تصور هذه الأقصوصة تجربة نفسية كاملة للخطيئة. وهي تمثل - مع استقلالها وأصالتها - صراع كل (بافنوس) أمام (تاييس) وكل (عبد الرحمن القس) أمام (سلامة)، بل صراع كل (آدم) أمام فتنة الفاكهة المحرمة. وهي تصور هذا الصراع باللمسة الهينة، والإيماءة القصيرة، واللفظة الموحية، والحركة المعبرة، وتلم في الطريق بكل خلجة وكل خاطرة(668/10)
وكل تأثر وكل انفعال، وتجمع بين السرعة المتحركة في السياق، والدقة الكاملة في رسم الخلجات الخفية، والوسوسات الخافتة، وتصور (فلما) كاملا للصراع النفسي في موقف خاص!
وذلك كله دون حذلقة، ودون إبراز للتحليل النفسي الذي يأخذ هيئة التفسير العلمي فيفسد الفن القصصي، إلا في موضعين عابرين ألم بهما إلماما سريعا لحسن الحظ، فلم يفسدا السياق، وإن غضا من قيمته الفنية قليلاً.
والصعوبة التي تواجه ناقد القصة أنه لا يملك عرض الجمال الفني فيها كما يريد، فالتلخيص عبث وقتل لهذا الجمال، فهو - على أحسن الأوضاع - يلخص الفكرة، وماذا تجدي الفكرة إذا لم يستطع تصوير طريقة العلاج؟ وكل وصف لطريقة العلاج يعد تشويها بالقياس إلى حقيقة العمل الفني في السياق!
ولكنني بعد هذا كله ملزم أن أعرض على القارئ هذا التشويه:
صلاح شاب في الثلاثين، متدين، واثق بنفسه وبإيمانه، فقد وصل إلى هذه السن ولم يرتكب معصية قط - على الأقل حسبما يعتقد - فهو صاحب حق في الجنة لا منازعة فيه، ولأنه لم يعان من قبل أية تجربة نفسية، فهو يقسو على الخطيئة والخطاة، ولا تنفسح نفسه لأي عطف عليها أو عليهم، ولا يحاول أن يستمع لأية معذرة من الظروف والملابسات والاضطرار.
وحين يسمع من الواعظ تحذيره من النفاق وتخويفه للناس من عذاب النار، لا يحفل ولا يجفل، فإنه ناج من النار! وحين يقص على زوجته نبأ طرد عبد التواب أفندي من عمله لأنه اختلس يعلق على هذه الجريمة بقسوة، ولا يقبل من زوجه التماس أية معذرة لهذا السارق الأثيم! وحينما تتقاعس زوجه عن صلاة الفجر لأن حلاوة النوم تقعد بها في السرير، يلح عليها حتى تقوم، لأنه (يود أن يزحزحها عن النار. . .) وحينما يعلن أن فتاة يتركها أهلها لتشتغل بالتدريس بعيدة عنهم، يهم بأن يذهب إليهم ليوبخهم على هذا الاستهتار! ويخرج صلاح لعمله بعد الصلاة وقراءة (الحزب) وهو يحلم بالجنة التي دخلها فلم يجد (سميرة) زوجه، ثم إذا هي تدخلها إكراما لخاطره!. . . يخرج حيث يعد له المؤلف، أو تعد له الحياة، الفتنة الأولى مع هذه المدرسة ذاتها:(668/11)
(أغلق صلاح باب مسكنه خلفه، وقبل أن يهم بالنزول في الدرج، فتح باب المسكن المواجه له، وخرجت منه فتاة واسعة العينين، ناهدة الصدر، نحيلة الخصر، وما إن تلاقت عيناه بعينيها حتى غض من بصره، وتأخر خطوات ليفسح لها الطريق؛ فمرت من أمامه، وملأت خياشيمه رائحة عبقة أنعشت نفسه، ولكنه ظل مطأطئ البصر، وهبطت الدرج قافزة، ولم يقدر صلاح على أن يقمع شهوة التطلع طويلا، فنظر من بين أهدابه المسبلة، فوقع بصره على ثديين يترجرجان صاعدين هابطين، فأغمض عينيه، وتعوذ من الشيطان الرجيم، وخفت وقع أقدامها وتلاشى، فوجد نفسه يهبط مسرعا - وما كان لينزل إلا متمهلا وقورا، متخذا سمة الكهول الموقرين - وسأل نفسه عما دفعه إلى الهبوط السريع، فرد ذلك إلى جو الربيع الذي أنعشه، ودب فيه نشاط حبيب إلى النفس، وبلغ الطريق فلمحها تغذ في السير، وتصعد إلى الطوار خفيفة رشيقة، وما تقع في الطريق خطوات، حتى تعود لتقفز إلى الطوار ثانية كأنها خيال يطير، لا يبغي المكوث على الأرض ولا يطيق اللصوق بها. ووجد نفسه يغذ في السير، ولكن علام الإسراع، وما هناك حاجة إلى الإسراع، فما زال في الوقت متسع؟ وأحس همسا خفيفا ينبعث من داخله يستفسر: ترى أتغذ في السير لتلحق بها وتتطلع إليها؟ وما همس هذا الهاجس في نفسه حتى تفزع وجفل، وضيق من خطوه، وتعوذ وابتدأ في قراءة المعوذتين!)
ثم تتابع الحياة دورتها، ويتابع المؤلف خطوات صلاح. وصراعه مع نفسه، ومغالطته لها، وهواجسه وخطراته، وتناقض أحاسيسه، وإقدامه وإحجامه، واقترابه في كل إقدام وكل إحجام من الهزيمة والاستسلام؛ في أسلوب بارع فائق لا نستطيع مجاراته فيه ولا نملك تلخيصه، حتى نلتقي بالبطل في موقف الهزيمة الأول: (وانطلقا في الطريق الهادئ الساكن الممتد على النيل، وسارا صامتين كأنما استعارا صمتهما من صمت المكان، واقتربت (بديعة) منه حتى التصق كتفها بكتفه، واصطدمت يدها بيده أكثر من مرة، واستقرت يدها في يده أخيرا، فراح يضغطها ضغطا خفيفا، فكان يحس بنشوة لذيذة تسري فيه، ما كان يحسها لو أن اليد التي كانت في يده يد (سميرة)، واستمر السكون مخيما عليهما، وكان سكونا خارجيا، ولم تكن نفساهما ساكنتين، بل كانتا تعتلجان بشعور فوار، فقد كان كل منهما يتمنى أن يضم صاحبه إلى صدره ليطفئ ناره!(668/12)
(وبلغا مقعدا خشبيا، فجلسا يحدقان في النيل برهة، ثم زحفت (بديعة) على المقعد بخفة حتى التصقت به، فملأ عبيرها الشذي أنفه، وحرك نفسه، فتاق إلى أن يضمها إليه، ويطوقها بذراعيه، ويمطر وجهها قبلات، ولكنه قمع شهوته، وقاوم رغبته، ورمى بنظره إلى النيل، وجعل يرقب موجاته المتكسرة محاولا أن يتشاغل عن هواتف نفسه، ولكن رغبته خنقته وسيطرت عليه، فارتد بصره إليها، وراح يتطلع إليها في وله واشتهاء. . . والتقت العيون، فترجمت عما تخفي الصدور، فمالت (بديعة) وأسندت ظهرها إلى صدره، فخفق قلبه، وارتفع نبضه، وسرى الدم حارا في بدنه، حتى أحس به يكاد يشوي وجهه، وانبهرت أنفاسه قليلا، وضاقت حدقتا عينيه قليلا، واضطرب كثيرا، وأحس شعرها الأسود السبط الجميل الذي تمنى يوم جلست أمامه في السينما أن يمر بيده عليه، يلمس خده، فسرت رعدته في جسمه، وارتفعت يده دون أن يتكلف ذلك، وراحت تمر على شعرها في حنان، فرفعت عينيها المتكسرتين إليه وهي مستلقية على صدره، واستدارت قليلا كأنما استدارت للقبل. . . ورنت إليه في دلال، وزمت شفتيها تدعوه في خبث إلى اللثم والعناق. . . فلم يستطع أن يقاوم تلك الفتنة المرتمية في أحضانه، ولا نداء العينين الواسعتين الساحرتين، ولا الشفتين المزمومتين المرتجفتين قليلا، المغريتين كثيرا!)
وهكذا يمضي المؤلف بصلاح المسكين في سياق مصور دقيق على هذا الطراز حتى يصل به إلى الدار: (وتذكر في الطريق دعاء ما كان يجري له ببال قبل اليوم، ولم يتحرك به لسانه أبدا، فأخذ يردده في نفسه في حرارة يحس نارها تصهر صدره، ولأول مرة يحس جلال ذلك الدعاء، واستمر يردده وهو يصعد الدرج: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. . . اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي)!
(ودق الباب ففتحته زوجته، فدخل وأغلقه خلفه، ثم طوقها بذراعيه، وراح يقبلها في لهفة وهو يغمغم: (سميرة. . . سميرة؟) كأنما كان في سفر طويل عاد منه، وخطر داهم يهدد حياته، وأحس كأنه يود أن يفضي لها بكل شيء، وأن يقص عليها قصة ضعفه، ولكنه تريث، وتخلصت منه في رفق، وسألته في ارتياب: ما بك الليلة؟ فقال: لا أدري، إني إليك مشتاق كأني لم أرك منذ سنين! فقالت: أأعد العشاء؟ فقال: انتظري حتى أصلي العشاء!
(ودخل حجرته، وأخذ يخلع ملابسه، ولم ترحمه نفسه المهتاجة، بل راحت تخزه، فسمع(668/13)
صوتا يهتف به من أغوار نفسه: (يا لك من منافق! كيف سمحت لنفسك أن تضع شفتيك الآثمتين على شفتيها الطاهرتين؟ وكيف رضيت أن تلف ذراعيك الملوثتين بخصرها؟ وأن تلصق صدرك الخبيث بصدرها؟ يا لعارك!)
ثم يعتزم التوبة والتكفير بألا يلقى بديعة مرة أخرى. ويصر على ذلك إصرارا ونفسه تهتف به إليها هتافا، ويصمد في الظاهر وهو يقرب من الخطيئة الكبرى. . . ثم تقع هذه الخطيئة في أشد لحظاته إصرارا على ألا يلمح (بديعة) أو يراها!. ثم يصبح الصباح!. (واستمر ضميره يخزه وخزا شديدا، وهو يتلوى من العذاب، وضاق صدره فترقرق الدمع في عينيه فلم يستطع حبسه، فجرى على خديه، واستمر في عذاب حتى ارتفع صوت المؤذن يؤذن بالفجر. فأحس كأنه نار تصب في أذنيه. فوضع إصبعه في أذنه ليصمها عن سماع الأذان الذي يزيد من أشجانه، ولكن صوت المؤذن كان يقرع سمعه فكأنه شواظ من نار سددت إلى قلبه فحرقته حرقا، وارتفعت النار إلى صدره فأضنته، وأحس (سميرة) تنهض من فراشها، فأحس عرق الخجل يتصبب منه حتى يغمره، واقتربت من سريره فود أن تبتلعه الأرض قبل أن تمسه، ولكن يد (سميرة) لمست كتفه في رفق، وهمست في حنان: صلاح. . . صلاح. . . انهض قد أذن المؤذن. . .
(فهم بأن يصيح فيها أن تبتعد عنه، وألا تلمسه، ولكن صوته انحبس، ولم يجد مخرجا. فعادت تهزه وتهتف: - صلاح قم. الصلاة خير من النوم. واقتربت بوجهها من وجهه، فلمحت دموعه تجري على خده. فهمست في فزع: - صلاح. ما بك؟ أتبكي؟. . . قم يا حبيبي. قال: دعيني. قالت ما بك يا حبيبي؟ قال: رأيت رؤيا مفزعة. رأيت نفسي أطرد من الجنة).
ولا تنتهي الأقصوصة حتى يكون هذا الواثق في نفسه وقوة إيمانه، المستعز بمكانه في الجنة، القاسي على الضعف والخطيئة. . . معذبا مولها، لا تهب عليه نسائم الرحمة إلا من الإقرار بالضعف والخطيئة والرجوع إلى التواب الغفار عن طريق الخطأ والاستغفار! (ونهض صلاح ليغتسل من إثمه، وانطلق حزينا كئيبا يحتقر نفسه، ويعجب لضعفه، وسمع صوتا آتيا من أغوار نفسه كأنه همس ينبعث من مكان سحيق، ولكنه بلغ أذنيه واضحا قويا، وانساب فيها عذبا نديا:(668/14)
(كل ابن آدم خطّاء. وخير الخطائين التوابون)
فتمتم والدموع تخضب وجهه: (اللهم إني استغفرك وأتوب إليك)
هذا عمل فني رائع لا تصوره تلك المتقطفات بل تشوهه!
وإن المؤلف الشاب ليستطيع أن يلقى بكل أعماله إلى البحر، ثم يقف بهذا العمل الفني وحده. فإذا قدر له أن يخرج عشر أقاصيص فقط من هذا الطراز، فليكن على ثقة أنه سيسلك في سجل العظماء من رجال الفنون! ولكن هذا عمل عسير!!!
سيد قطب(668/15)
مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
للأستاذ كامل كيلاني
(بقية المنشور في العدد 666)
5 - صغار الأشياء
يقول شيخنا المعري:
العمل - وإن قل - يستكثر، إذا اتصل ودام، لو نطقت كل يوم لفظة سوء، لاسودت صحيفتك في رأس العام.
ولو كسبت كل يوم حسنة، عددت - بعد زمن - من الأبرار.
إن اليوم ائتلف من الساع، والشهر اجتمع من الأيام، والسنة من الشهور، والعمر يستكمل بالسنين. .
الرجل مع الرجال عصبة، والشعرة مع الشعرة ذؤابة (وهي الضفيرة المرسلة من الشعر) والحجر فوق الحجر جدار، والنخلة إلى النخلة حائش (جماعة من النخل).
ويقول بعض شعراء أوربة.
(قطرات المياه منها محيط ... وصغار الحصى تكوّن أرضاً
ودقيقاتنا تؤلف جيلا ... بعد جيل في إثره يتقضى
وقليل الحنان والحب مما ... يجعل الأرض جنة الخلد خفضاً)
فكيف يعبر صاحبنا عن هذه المعاني بأسلوبه الجحوي الفاتن:
6 - برميل العسل
يقول:
(كان والينا الجديد - فيما سمعت وسمع غيري من الناس - مما ترامى إلينا من أخباره يحب العسل حباً شديداً، ويؤثره على غيره من ألوان الحلوى ولذائذ الفاكهة جميعا.
وقد احتشدنا لاستقباله وتأهبنا للاحتفاء بمقدمه بعد أن اجتمع رأينا على أن نهدي إليه برميلاً كبيراً نملأه بأحب الطعام إليه وهو العسل.
وتعاهدنا على أن يسهم كل واحد منا في تلك الهدية بأيسر نصيب. فيلقى في ذلك البرميل(668/16)
الكبير بمقدار فنجان صغير.
وخطر ببالي - حينئذ - خاطر عجيب فقد سولت لي نفسي أن أهرب من أداء هذا الواجب اليسير الذي لا يكلفني شيئاً. وقلت في نفسي، والنفس أمارة بالسوء:
إن مئات غيري من الناس، سيقومون بأداء هذا الواجب عني. ولن تقدم هديتي شيئا ولن تؤخر. فلو ملأت الفنجان ماء أو عسلا لما نقصت الهدية شيئا ولا زادت، ولما شعر أحد بتقصيري.
ولكن شد ما دهشت حين فتح الوالي برميل العسل أمامنا. فوجده مملوء ماء كله. وليس فيه قطرة واحدة من العسل.
لعلكما أدركتما السر في ذلك - يا ولدي - فإن تلك الفكرة الخاطئة التي مرت على بالي ودفعتني إليها الأثرة والأنانية إلى إنفاذها قد مرت على بال كل واحد من أصحابي المئين الذين اجتمعوا لتكريم الوالي.
وهكذا كانت هديتنا إليه برميل ماء لا برميل عسل. وقد تركت الهدية في نفس الوالي بعد ذلك أسوأ الأثر، وكانت سيرته معنا كما كانت سيرتنا معه من أقبح السير.
وكان هذا أبلغ درس وعيته في شبابي، وأدركت مغزاه، فلم أنسه طول حياتي.
7 - دولاب الزمن
يتمثل بعض الشعراء، فيما يتمثلون من أخيلتهم البارعة؟ أن الزمن بحر، ونحن راكبوه على سفائن - من أعمارنا - لا تلبث أن تحطمها الأمواج المصطخبة الثائرة. وفي هذا يقول شيخ المعرة:
(ركبنا على الأعمار والدهر لجة ... فما صبرت للموج تلك الصفائن)
ثم يتمثل شاعر آخر أن سفينة الحياة تخيل لرائيها أنها واقفة على حين يجري بها الزمان، وفي هذا يقول (مهيار الديلمي):
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نُظَنُّ وقوفا والزمان بنا يجري)
ثم يتمنى شاعر ثالث لو استطاع أن يلقى بمراسي هذه السفينة في ذلكم البحر الزمني، لتقف ولو يوما واحدا، فيقول الشاعر المبدع (لامرتين) في قصيدته البحيرة وهو من المعاني التي افتن الشعراء فيها وأبدعوا في صوغها وتصويرها إبداعا:(668/17)
(هكذا وأبدا، نظل مدفوعين إلى سواحل جديدة من الحياة في ليل الأبدية المظلم، لا رجع ولا عود. فهل يتاح لنا أن نلقى مراسي سفينتنا فوق أوقيانوس الزمن؟ وهل يقر قرارنا يوما واحدا؟)
وقد أبدع البحتري - قبل لامرتين - في هذا المعنى أي إبداع حين قال:
(ليت أن الأيام قام عليها ... من إذا ما مضى زمان يعيده)
ومن قبلهما التفت (امرؤ القيس) إلى طول الليل التفاته فريدة، فتمثله خياله المبدع الوثاب، كأنه واقف لا يتحرك، بعد أن شدت نجومه - إلى جبل يَذبَلَ - بأوثق الأسباب، وأمتن الحبال لتمنع الليل عن الحركة وتعوقه عن الانتقال. فقال في معلقته الخالدة:
(فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل)
ثم جاء المعري فمثل لنا العاشق الولهان يود لو استطاع أن يديم ظلام الليل فلا ينتهي، ويتمنى لو يزيد في سواده سواد قلبه وسواد عينه ليطيله قليلا. فقال:
(يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر)
وقال صَرَّدر:
(يا ليت عمر الفتى يُمَدُّ له ... ما امتدُ منه الرجاء والأمل)
وقال:
(فليت الفتى كالبدر جدد عمره ... يعود هلالا كلما فنى الشهر)
ثم جاء (ابن الفارض) فقال:
(يا ليل طل، يا نوم زل ... يا صبح قف: لا تطلع)
ولو شئنا أن نتقصى ما قاله الشعراء في هذا الباب لامتد بنا نفس القول دون أن نبلغ من ذلكم مداه. ولكن حسبنا أن نشير إلى قول الشريف الرضي:
(يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر)
وقوله:
(ردوا عليّ ليالي التي سلفت ... لم أنهن ولا بالعيش من قدم)
وقول مالك بن الريب:
(فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه ... وليت الغضا ماشي الركاب لياليا)(668/18)
وقول الشريف أيضا:
(ولو قال لي الغادرون ما أنت مشته ... غداة جزعنا الرمل: قلت أعود).
يحسبنا هذا القدر على وجازته. وقديما قالوا:
(حسبك من القلادة ما أحاط العنق).
فلننتقل إلى الدعابة الجحوية لنرى كيف تعبر في سذاجة نادرة عن هذه الأعماق والدقائق المعنوية، التي صاغها المبدعون في دورة الفلك ودولاب الزمن:
يسأل جحا وهو صغير:
(أيكما أكبر: أنت أم أخوك؟)
فيقول:
(أخي يكبرني بعام واحد، فإذا جاء العالم القابل تساوينا في العمر).
ويسأل وهو كبير:
(كم سنك يا جحا؟).
فيقول: (أربعون عاما!).
فيقول له بعض سامعيه:
(ألم تقل لنا ذلك منذ سبعة أعوام؟).
فيجيب جحا في غير تلعثم ولا ارتباك:
(وهل يغير الحر كلامه؟).
فأنت ترى في القصة الأولى: تدفعه الرغبة المفكرة، أو التفكير الراغب إلى أن يتمثل: أن دولاب الزمن قد وقف بأخيه عاما ليدركه جحا.
فإذا كبر: دفعته الرغبة أن يتمثل قدرته على وقف دورة الفلك عند سن الأربعين لأنه لا يريد أن يتخطى هذه السن أبدا. وحسبه أن يعيش على هذه الأمنية ما دام في تخيلها سعادته.
ورحم الله الشاعر الذي يقول:
(مُني إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا)
8 - المرأة والسن(668/19)
ومن بديع لفتاته حين رأى صديقا له مكتئبا حزينا، فسأله عما يحزنه، فقال:
(لقد نشب بين زوجي وأختها عراك عنيف لا أدري كيف ينتهي، وقد جئت لأستعين بك على فض ذلك النزاع بحكمتك وكياستك).
فسأله جحا: (أتراهما تشاجرتا لاختلافهما على عمريهما؟)
فقال له: (كلا يا صاحبي لم يدر لهما هذا المعنى على بال).
فقال جحا: (عد إلى بيتك مطمئنا فلن يطول شجارهما يا صاحبي).
9 - الإسراف والاعتدال
يقول الشاعر:
(يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكرهُ
ليس يَرضَى المرء حالا واحدا ... قتل الإنسان ما أكفرهُ)
ويستمع صاحبنا جحا إلى رجل يشكو زمهرير الشتاء ويلعن برده القارس، وينبري للشاكي أحد المتحذلقين فيعنفه على شكواه، ويقول له: (لقد كنت تشكو في الصيف الماضي وقدة الحر، وعنف القيظ، فما لك تبرم بالشتاء إذا جاء؟
فيعجز الشاكي وأصحابه عن الإجابة، ويلتفت جحا التفاته رائعة. فيقول:
(لقد طالما شكا الناس زمهرير الشتاء، وقيظ الصيف، فهل رأيت أحدا يشكو: اعتدال الربيع؟).
وكأنما أوحى بهذه الإجابة البارعة إلى ابن الوردي قوله في ذم الإسراف والغلو:
بين تبذير وبخلَ رتبة ... وكلا هذين، إن زاد قتل
10 - مناجاة النفس
ويقولون: إنهم سمعوا جحا يتحدث في غرفته وليس معه أحد، وكأنما يحدث شخصا آخر؛ فلما فتحوا باب الغرفة ليتعرفوا جلية الأمر وجدوه يحدث نفسه. فسألوه (كيف تحدث نفسك يا جحا؟).
فقال: (لقد برمت بغباء الناس وضيق عقولهم، وعجزهم عن فهم الدقائق التي تقصر أفهامهم عن بلوغها. واشتقت إلى محادثة بارع فطن ذكي يفهمني وأفهمه، فلم أجد غير نفسي،(668/20)
فرحت أناجيها وأفضي إليها بدخلتي).
ألا تذكرنا هذه القصة بقول الشاعر الأندلسي المبدع (ابن حمديس).
(سواي من يعتد من أنسه ... ما نال من حظ ومن كأسه
وحق مثلي أن يرى خاليا ... بنفسه يبحث عن نفسه)
وقد نسبت هذه القصة إلى الساحر المبدع (برناردشو، كما نسبت إلى جحا من قبله. ولعلها من مختلقات الرواة؛ فإذا صحت نسبتها إليه أيضا فهي من توارد الخواطر، وما أكثر ما تلتقي العقول الكبيرة كما التقت عقول جحا وبرنارد شو وابن خفاجة الأندلسي.
كامل كيلاني(668/21)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
أشعاره في هورتون:
وكانت قصيدة ملتن الثالثة في هورتون هي الغنائية المسرحية أركادس، وهي في الواقع نبذة من غنائية مسرحية فهي لا تعدو مائتي سطر، ويمكن أن نعدها قصيدة مدح لولا هذه الصورة المسرحية التي وضعها فيها الشاعر.
نظم ملتن هذه الغنائية الصغيرة سنة 1633 تكريما لسيدة عظيمة علت بها السن هي كونتس سلسبري؛ وقد مثلها بين يديها أحفادها وهم أبناء إيرل بردجووتر وابنته؛ ووضع ألحانها رجل من أشهر ملحني العصر جميعا هو لو وكان صديقا حميما لملتن، ما ذهب ملتن إلى لندن مرة إلا قضى عنده ساعات يستمتع بموسيقاه، وكان ملتن يقدره حق قدره ويعجب بألحانه إعجابه هو بشعر صديقه الشاعر. وتبدأ المسرحية بأغنية صغيرة مدح للكونتس يتقدم بها منشدين بين يديها أحفادها بين بنين وبنات في ملابس ريفية، ويبلغ ملتن في هذه الأغنية أعلى درجات الإجادة والإمتاع؛ فثمة ألفاظ حلوة ولحن بديع ومعان جليلة تكافئ مقام السيدة التي يمتدحها. وبينما يتقدم المنشدون والمنشدات بين يدي السيدة يظهر جني الغابة فيتجه نحوهم ويوجه إليهم الحديث ممتدحا السيدة في شعر من النسق العالي بالغ الروعة والسحر؛ ويختتم الجني حديثه بأغنيتين إحداهما موجهة إليهم، والأخرى موجهة للقرويين والرعاة جميعا، وفيها يثني الجني على السيدة ويتغنى بمجدها وأنعمها.
وفي سنة 1634 نظم ملتن قصيدته الرابعة في هورتون فقد طلب لو إلى صديقه الشاعر نظم غنائية مسرحية أخرى لتكريم إيرل بردجووتر بمناسبة ولايته المنصب الرفيع الذي كان قد رقي إليه منذ ثلاث سنوات وهو منصب الرئيس اللورد لمجلس مقاطعة ويلز وذهابه ليقيم في قلعة لادلو. ولقد أقيمت الحفلات للورد في جهات كثيرة وبالغ عشيرته(668/22)
وأصدقاؤه في تكريمه، ومن هؤلاء لو الملحن النابغة، وكان لو أستاذ الموسيقى لابني اللورد وابنته، ولم يقتصر على تلحين الأغاني في هذه الغنائية المسرحية، بل أشترك كذلك في تمثيلها. . .
وكانت أليس ابنة اللورد وهي فتاة ناهد في نحو الخامسة عشرة من عمرها، وأخواها وهما دونها في العمر أهم الشخصيات في تمثيل هذه الغنائية.
تخيل الشاعر سيدة تاهت في مسالك الغابة وأحراشها وهي في طريقها وأخويها إلى قلعة أبيها، وظلت تبحث عبثا عن أخويها وظلا يبحثان عنها في غير جدوى، وتمثل لها كومسي الجني الشهواني الساحر في زي أحد القرويين، وتظاهر أنه يهديها السبيل، ثم إذا هو غوى مبين أخذ يحتال عليها ويراودها عن نفسها فاستعصمت، ولكنه دأب في غوايته حتى حضر أخواها فتغلبا على كومسي وقبيله إلا أنهما ألفيا أختهما لا تستطيع التحرك بما صنع بها سحر كومسي فأخذتهما الحيرة، ولم يخرجهما من ورطتها إلا سابرينا إحدى العذارى الخرافية التي أبطلت سحر كومسي وهي من خلق ملتن؛ وتنطلق الفتاة وأخواها بعد ذلك إلى القلعة، وكان يحمي الفتاة ويعصمها من الزلل من البداية حتى النهاية من عالم الأرواح روح ساهر عليها يتنكر في زي أحد الرعاة، وكان لهذا الروح فضل عظيم في القضاء على كومسي، وبعد انتصاره انطلق إلى عالمه الذي هبط منه.
هذا هو موضوع الغنائية، ولقد تأثر ملتن في بناء هذا الموضوع على هذه الصورة بما قر في خاطره من قراءاته المتنوعة الواسعة، فالشبه عظيم بين غنائيته في بنائها وبين (قصة الزوجات العجائز) لبيل، وملخص هذه القصة أن سيدة حملت من تسالي إلى برتين بسحر ساحر لعين يسمى ساكربنت تعلم من أمه ميرو وهي ساحرة شهيرة كيف يغير صور الناس، وتبقى السيدة في برتين مسحورة عن نفسها تنسى ذاتها كما تنسى أصدقاؤها، ويبحث عنها اخوتها فيرد عليهم صدى يتبعونه حتى يقعوا في يد ساكر بنت فيسحرهم ويسخرهم في أداء أعمال حقيرة. وينجي السيدة حبيبها بعد ذلك وقد اطلع على سر ساكر بنت على يد عفريت رجل فقير كان قد صاحبه. ويموت الساحر ولكن تبقى السيدة مسحورة ولن يفك السحر عنها حتى يحطم وعاء زجاجي له بيد أنثى لا هي عذراء ولا زوجة ولا أرملة، وينطفئ بتحطيمه ضوء كان يلقيه، وبعد لأي توجد الأنثى المطلوبة(668/23)
فيحطم الوعاء وينطفئ الضوء، وتنطلق السيدة المسحورة وغيرها من فرائس الساحر. . .
وثمة شبه كذلك بين غنائية ملتن ومسرحية جون فلتشر (الراعية الوفية) وهي مسرحية ريفية كتبها صاحبها سنة 1610 وأعاد نشرها سنة 1634 وهي السنة التي كتب فيها ملتن غنائيته. ومن هذه المسرحية أخذ ملتن فكرة انتصار العفة في النهاية كما أخذ فكرة الروح الحارس الذي يحمي العذراء. ففي المسرحية سيدة كانت عفتها في خطر لولا هذا الروح الحامي. وفي مسرحية فلتشر يبزر إله النهر فينجي العذراء كما تنجى سابرينا عذراء غنائية ملتن. ويستعمل في كومسي نبات لشفاء الجروح كما يستعمل نبات غيره في الراعية الوفية، وفوق ذلك تنطوي غنائية ملتن على فقرات لها أشباه في المعنى والفكرة في مسرحية فلتشر.
أما شخصية كومسي الذي سميت باسمه الغنائية، فهي من ابتكار ملتن فقد جعل لكومسي أبوين من المثولوجيا، فأما أبوه فهو باخوس إله الخمر، وأما أمه فهي سيرس الساحرة التي كانت تحيل من يشرب سائلا لها إلى حيوان، وعلى ذلك فقد جمع كومسي بين المرح والعربدة ورثهما عن أبيه، وبين السحر ورثه عن أمه، وامتاز كومسي عن أمه بأنه لا يحيل أشكال الناس إلى حيوانات فحسب، ولكنه يغير عقولهم حسبما يشاء فيوحي إليهم ما في نفسه من شهوة وفسوق.
وتعج غنائية ملتن بتلميحات مأخوذة كلها من ميثولوجيا الإغريق والرومان، كما أن فيها ألفاظا وعبارات وصفات تشبه نظائرها في شعر من سبقه من شعراء قومه، وعلى الأخص سبنسر وشكسبير.
أما فلسفة ملتن في الغنائية، فمشتقة من فلسفة أفلاطون وآرائه في الفضيلة. وقد تعمق ملتن دراسة هذه الفلسفة وأحبها حبا شديدا، إذ صادفت هوى في نفسه، وقد كانت نفسه حريصة على العفة كوسيلة إلى السمو الروحي والبياني.
ولكن على الرغم من هذا كله نجد الغنائية في جملتها وعليها طابع ملتن، فهي ملتنية الروح واللفظ والأسلوب والموسيقى والفلسفة، وفيها سمات عبقريته وشواهد قوته، بحيث لا يمكن ردها إلا إليه كما ترد آثار فحول الشعراء إليهم بمجرد سماعها، ولو لم يذكر أول الأمر أنها لهم، ففي إماراتها وخصائصها وروحها ما يشير إليهم إشارة تغني عن ذكر الاسم، وتلك(668/24)
ميزة هي مقياس فحولته، إذ لولاها لكان كغيره من سائر الناس، ومن هؤلاء الفحول الأفذاذ (ملتن) صاحب هذه الغنائية يومئذ وصاحب الآية الكبرى يوم يملي الفردوس المفقود. . .
مثلت أليس ابنة اللورد السيدة التي ضلت في الغابة، ومثل أخواها دور الأخوين، أما الملحن (لو) فقد أخذ دور الروح الحارس، ومثل أحد الشبان دور كومسي، كما مثلت إحدى الفتيات دور سابرينا، وهؤلاء هم أشخاص الغنائية جميعا، فهي كما ترى نوع من المسرحيات القليلة الحوادث والأشخاص تعني بالموسيقى والشعر وتقوم فيها الأرواح والأشباح إلى جانب الناس.
تبدأ الغنائية بمنظر يمثل غابة وحشية، ثم يظهر على المسرح أو يهبط عليه الروح الحارس، فيتكلم في شعر رقيق بليغ عن موطنه ورهطه في عالم السماوات، ويشير إلى دنيا الناس وما فيها من آثام بقوله: (هذه البقعة المظلمة التي يسميها الناس الأرض) وينعى على الناس حياتهم المضطربة وغفلتهم عما تهيئه لهم الفضيلة بعد ارتحالهم من عالم الفناء، ولكنه يغتبط بأن بين الناس قلة يطمحون إلى وضع أيديهم على ذلك المفتاح الذهبي الذي يفتح لهم قصر الخلود؛ ولهذه القلة مهبطه ومن أجلها رسالته، ثم يشير إلى اللورد بأنه من أنصاف الآلهة الذين يحكمون في الجزر مستمدين سلطانهم من نبتيون إله الماء، ويمتدح خصاله ويتحدث عن أبنيه وبنته وعن مسيرهم في الغابة، وأنه أرسل من قبل جوف كبير الآلهة ليحميهم في ظلمات الغابة، ومم يحميهم؟ هكذا يتساءل ليسترعي الأسماع، ثم يقول: إنه سوف يقص ما لم يرد مثله في شعر ولا في قصص، في كوخ كان ذلك أو في قصر. ثم يذكر في إثر ذلك كومسي ومولده وما ورثه عن أبيه وعن أمه، وما هو في مقدوره من السحر، فيصور للأذهان صورة عجيبة حقا، ويشوقها إلى ما عسى أن يقع على يد كومسي، ولكن جوف يكف شره عمن يرعاهم من الناس، ولذلك أرسل هذا الروح في مثل لمحة النجم ليحمي هؤلاء المدلجين، فليتنكر في زي شخص يعرفونه، وليكن هذا الشخص هو أستاذ الموسيقى، وهنا يثني الروح أعظم الثناء على فنه ووفائه؛ ثم يرهف سمعه ويقول: إنه يسمع خطوات بغيضة تقترب، فعليه أن يختفي؛ وبهذه الوسيلة يعبر ملتن عما يريد أن يقول عن اللورد وعن صديقه الموسيقي على لسان ذلك الروح في فيض من الشعر المرسل الرصين الرائع الذي يملك الأنفس عذوبة جرس وحلاوة معنى، والخيال الساحر البارع(668/25)
الذي يذهل السامعين عن أنفسهم وعن عالمهم برهة.
ويظهر كومسي في المنظر الثاني وفي إحدى يديه عصاه السحرية وفي الأخرى زجاجته، وفي إثره يمشي قبيلة تمثل رؤوسهم أنماطا من الوحوش، ولكن أجسامهم آدمية، ومنهم الذكور ومنهم الإناث، ويلبسون جميعا ملابس براقة، ويقبلون في زياط وجلبة يتواثبون ويتراقصون وفي أيديهم المشاعل، وتسكن ضوضاؤهم بعد برهة، ويتكلم كومسي وقد سكتوا، فيصف مولد الليل، ويجري الشاعر على لسانه وصفا رائعا لمغرب الشمس في شعر مقفى جميل اللحن، فالنجم الذي يوحي إلى الرعاة موعد العودة بقطعانهم يتخذ سمته في السماء، ومحفة النهار الذهبية تبرد في ماء الأطلنطي، والشمس على الأفق الغربي تطلق آخر شعاع لها صوب القبة قد تغشاها الطفل، ثم تهبط متخذة طريقها إلى غرفتها الشرقية في الجهة الأخرى. . .
ويدعو كومسي قبيلة بعد هذا الوصف إلى اللعب واللهو تحت أستار الظلام، ويصف ما عسى أن يجري في الليل من صور المرح، ويشير إلى الناس وكيف يغطون في نومهم ومعهم مواعظهم ونظراتهم وحكمهم فهم من الطين؛ ولكن كومسي وقبيلة من النار فهم لذلك أكثر خفة وانطلاقا، والليل كفيل أن يغطي لهوهم ولعبهم، وما دام الصبح الذي يكشف نوره العيوب لا يزال بعيدا، فهلم إلى اللهو والزياط والمجون؛ ويدعو كومسي أتباعه أن يمسك كل منهم بيد صاحبه ثم ليضربوا الأرض بأقدامهم راقصين. . . ويأخذ هؤلاء في رقصهم لاهين عابثين، ولكن كومسي لا يلبث أن يدعوهم إلى السكون ثم الاختفاء فانه يسمع أقداما قريبة وينبئه سحره أنها عذراء ضلت في متاهات الغابة، ويتحدث فرحا عما يعده لها من السحر ويصف كيف يحتال عليها وكيف يتنكر لها في زي فلاح تأخر به سعيه من أجل عيشه عن العودة إلى كنه حتى هذه الساعة، ثم يعلن إلى قبيلة أنه سوف يسمع ماذا تقول العذراء.
وتتقدم السيدة فتظهر على المسرح، وتحدث نفسها قائلة إنها سمعت لتوها جلبة وأصوات مرح وغناء ومزمارا كمزامير الرعاة والفلاحين، وتقول إنها توجس خيفة من عبث هؤلاء وتوقحهم، ولكن ماذا عساها تصنع، وإلى أي طريق في متاهات الغابة تلوي وجهها عما تحذر؛ وتذكر أخويها قائلة بأنهما تركاها لتستريح وقد بلغ بها الجهد وذهبا ليحضرا لها شيئا(668/26)
يمسك صلبها من ثمار الغابة وما تظن أنهما قد ضلا، وقد سرقهما الظلام منها. ثم تلتفت حولها وتقول إنها تظن أن هذا هو المكان الذي كان ينبعث منه الغناء والمرح، ولكنها لا تجد إلا الظلام وحده، وتهجس في نفسها المخاوف فكأنها تسمع أصوات رجال ينادونها وترى أشباحا تهتف بها وتتخيل ألسنة هوائية تنطلق بأسماء رجال، وهذه أشياء كفيلة بأن تلقى الخوف في النفوس ولكنها لا تزعزع عقلا يستمسك بالفضيلة ويمشي أينما اتجه في حمى حارس قوي هو الضمير، وتلوذ السيدة بالأيمان ذي العين البريئة وبالأمل ذي اليد البيضاء، وبالعفة الملك ذي الجناحين الذهبيين الذي لا يقهر، وتعوذ بهؤلاء أن يدرءوا الأذى عن حياتها وعن شرفها.
ثم تغني العذراء أنشودة جميلة توجهها إلى اكو تسألها عن أخويها قائلة (إيه يا اكو الحلوة يا أجمل عذراء، أنت يا من تعيشين خافية في قوقعتك الهوائية. يا من يطيب لك أغنية البلبل الحزينة يرفعها إليك متواجدا في لياليه على ضفة ميندر الخضراء وفي واديه الموشي بالبنفسج؛ أيتها العذراء ألا تدليني على اثنين جميلين أشبه ما يكونان بفتاك نرجس؟ أو إذا كنت أخفيتهما في كهف من كهوف الزهر فدليني عليهما يا ملكة الرجع ويا ابنة قبة السماء، ولئن فعلت لأدعون لك أن تبلغي السماوات فتكوني هناك الصدى الجميل الرشيق لكل ألحان الجنة).
(يتبع)
الحفيف(668/27)
فلسطينيات
قصة فتاة. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
قيل لي إن في الدار فتاة تحمل رسالة إلي، وتود مقابلتي. . فتوجهت إليها، فوجدت نفسي أمام فتاة في العشرين من عمرها، مكتنزة الجسم، (مبتسمة) العينين، وشعرها أسود كثيف، ووجهها لا يحمل المساحيق، فهو بطبيعته ناصع البياض، وخداها ورديان يعلوهما القليل من البثر، المعروف بين الناس ب (حب الصبا)، وقد عصبت رأسها بمنديل حريري ملون، ولبست ثوبا قصيرا، وكانت ساقاها عاريتين، وتحتذي حذاء صيفياً.
دعوت الفتاة إلى غرفة ربة البيت. . . وبعد أن تبادلنا التحية ناولتني رسالة ففضضتها، فكانت من صديق محام يقول فيها:
(أخي العزيز. . .
. . . وحاملة هذه الرسالة هي الآنسة سلمي ليان من سريان الجليل، وهي فتاة تحب الغناء، وأعتقد أن لها صوتاً جيداً، فهل لك أن تساعده في إبراز مواهبها. . .؟
خذ بيدها، ولك عند الله الأجر والثواب) (. . .)
ودار بيني وبين الفتاة الحوار التالي:
- ألك أهل في هذا البلد؟
- كلا. . . وهذا أول عهدي بالمدينة. .!
- وكيف تأتين إلى مدينة ليس لك فيها أهل تلجئين إليهم؟. . .
- سأعود اليوم إلى بلدي بعد أن آخذ ردك.
- غير أن ما تطمحين إليه لا يأتيك على وجه السرعة، يجب أن تنتظري بعض الوقت.
سأنتظر إذا ما رأيت في الأفق بارقة أمل. . .
- وكيف تؤمنين معيشتك إلى أن تبلغي مأربك؟. .
- أقوم بأي عمل كان. . . خادمة في بيت. . . أو ممرضة في مستشفى.
- وأهلك؟
وما يهمني أهلي!. . أريد أن أكون فنانة. . . إن صوتا يهمس في أذني دائما: قومي أيتها(668/28)
الفتاة، واطرقي أبواب الاستوديوهات، والإذاعات، والفرق الموسيقية. إنك ستكونين مطربة كبيرة، أو ممثلة بارعة. . . مارسي الآن الفن في هذا البلد الصغير، ومتى بزغ نجمك فارحلي إلى مصر التي تقدر المواهب والعبقريات. . .
- وهل تحملين رسالة إلى أحد غيري في هذه المدينة؟
- أجل أحمل رسالة إلى حميد أفندي صباره مدير ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . .
- عجباً. . إنني أدري بهذه المدينة ومؤسساتها الفنية، ولكني لم أسمع قط بأن فيها ستوديو للتمثيل السينمائي!. .
- كيف لا. . . وقد تلقيت من هذا الأستوديو لائحة التوظيف وطلب مني تعبئتها، ثم دعيت للحضور إلى المدينة، كي نشرع بالمفاوضة. . . وإليك صورة من تلك اللائحة إن كنت تود الاطلاع عليها. . .
وقرأت فيها:
(حضرة الآنسة سلمى ليان المحترمة.
تحية وسلاما، وبعد، تلقينا كتابك الذي تطلبين فيه الانضمام إلى ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . ويسرنا أن نحيطك علما بأن الهيئة الإدارية للستوديو نظرت في طلبك، ورأت قبل مفاوضتك أن تتلقى منك أجوبة على الأسئلة التالية: هل تحبين الرياضة؟. . أتركبين الخيل؟. . أتسوقين السيارة؟. . أتسبحين؟ وأي نوع من الرقص تحسنين: الشرقي أم الغربي؟. . . وهل أنت اجتماعية في حياتك العامة؟. . . أتعزفين على آلة ما؟. . أتحبين الغناء؟. . وإن كنت تغنين فهل صوتك من درجة سوبرانو أم آلتو؟. . وإلى أي ناحية من المطالعة تميلين. . . الرواية - القصة - الشعر؟. .
نرجو إعادة هذه اللائحة بعد الإجابة على ما جاء فيها من أسئلة، مرفقة بثلاث صور لك في أوضاع مختلفة، الأولى نصفية تتطلعين فيها بكامل وجهك. . . والثانية تمثل جانب وجهك. . والثالثة تبين هيكلك بأجمعه. . . ونأمل أن تأتي هذه الصور بعيدة عن التكلف، ومشبعة بالروح الرياضية. وتفضلي بقبول الخ. . . إدارة ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي.
ثم تابعت الفتاة حديثها قائلة: وذهبت في ذلك اليوم إلى ستوديو الزهرة فوجدته غرفة صغيرة تحتوي على طاولة، وتلفون وملفات، وأربعة كراسي، ومتكأ، وصور لجميع ممثلي(668/29)
هوليود، وكان حميد أفندي منهمكا في دراسة بعض الأوراق يدخن ويشرب القهوة. . ولما عرفته بنفسي، ورأى إمارات الدهشة بادية على محياي اضطرب وقال: المعذرة أيتها الآنسة، إننا نشغل هذه الغرفة مؤقتا الآن إلى أن يتم بناء الستوديوهات. . . نرجو ألا يزعجك ذلك. . فالفنانة يا آنستي لا تعير مثل هذه التوافه اهتماما. . الأيام أمامنا، وكل شيء مع الصبر جميل. . . أتعرفين كيف بدأ ستوديو مصر عمله؟. . لقد كانت حالة مؤسسيه مثل حالتنا تماما، استأجروا في بادئ الأمر غرفة في شارع كلوت بك، ثم نهضوا شيئا فشيئا إلى أن بلغوا درجة الكمال. تصوري أن الممثل السينمائي أستهل حياته في ستوديو مصر بعشرة جنيهات في الشهر؛ وهو يتقاضى اليوم خمسة عشر ألف جنيه لاشتراكه في فيلم من الأفلام. . التضحية يا آنستي هي مفتاح النجاح والسعادة. . .
هيا ضعي يدك في أيدينا، وقولي توكلت على الله. نحن عشاق فن مثلك، ومبتدئون تشجعي واعملي معنا. . لا تجعلي المال رائدك الآن. وثقي بأنه سيأتي عليك يوم ترفلين فيه بأثواب السعادة والهناء، وسننشر صيتك في كل أقطار العرب، وسيصير لك معجبون، وسترد لك الرسائل من كل حدب وصوب تحمل لك عبارات الثناء والإطراء، والكل يطلب رسمك أو توقيعك، وأنت لا تبخلين عليهم بذلك مطلقا. . . وإذا ما خرجت بسيارتك وقف الناس على جانبي الطريق يهتفون لك وأنت توزعين عليهم الابتسامات ذات اليمين وذات الشمال!
هيا يا فتاتي شمري الردن عن ساعد الفن!. . . أما شروط الاتفاق فستكون مدار حديثنا هذا المساء على مائدة العشاء.
وتركت حمدي أفندي على أن أعود إليه. . .
قلت لسلمى: أيتها الفتاة، احذري المدينة، ولا تغرنك مظاهرها، فهي أشبه بالمستنقع الذي تنمو على سطحه الحشائش الطرية الرقيقة، وأزاهير اللينوفر والأقحوان، فيظنها الإنسان مرتعا من مراتع أمنا الطبيعة، فينطرح عليها طالبا متعة النفس وراحة الجسم، فإذا بالأزاهير تغوص، وبالحشائش تزول، ويظهر مكانها حمأ أسود تنبعث منه رائحة المياة الآسنة، وهيهات للإنسان أن ينجو من براثنه، فهو كلما حاول الإفلات من الحمأ تشبث به وامتصه قليلا فقليلا حتى يختفي تماما.
قالت الفتاة: إني لا أفقه شيئا مما تقول، جئت المدينة لأكون ممثلة أو مطربة وأنت تحدثني(668/30)
عن المستنقعات!. . أتشك في حسن صوتي. أأغني لك (أيها الراقدون) أم (أضحى التنائي)!
قلت: ما هذا الذي تقولينه أيتها الفتاة؟. . . نحن لم نعتد أن نرى فتياتنا يتركن بيوتهن ليطرقن دور الفن، فالمطربة عندنا تكتشف صدفة أن صوتها جميل. . . هلا أطلعتني على حقيقة أمرك؟. . أفصحي القول، واسردي عليّ قصتك. . .
ارتبكت سلمى، وامتقع وجهها، وطأطأت رأسها قليلا، وروت لي مأساتها، ومفاد هذه المأساة أن قلبها مال إلى شاب من شباب الحي لكن أهلها منعوها من الاتصال به، وهددوها بالضرب والقتل إن هي حاولت التحدث إليه، ودعوها مرة لتقدم القهوة إلى ضيوف أبيها، وإذا بالضيوف أطباء جاءوا ليفحصوها، ولما تبين لأهلها أنها عذراء زوجوها من أبن عمها الذي تكرهه، وكان عاجزا في حياته الجنسية، والتحق بالجيش بعد شهر من زواجه، فأحب الفتاة أن تنفصل عنه، وقدمت شكواها إلى المحكمة الكنسية، فحولت هذه أوراق القضية إلى روما، وانقضت ثلاث سنوات والفتاة تنتظر النتيجة، فكانت مقيدة بزوج لا تشعر بكيانه، وكان أهلها يدفعونها إلى الخدمة في البيوت لتعول نفسها، وكانوا يهينونها، ويسمعونها لاذع الكلام، فضاقت ذرعا بهذه الحياة، وعقدت النية على أن تفر إلى المدينة لتمتهن التمثيل علها تأخذ فيه دور المآسي!. . ولتحترف الغناء علها تبث فيه ما في نفسها من لوعة وألم!. . .
استمعت إلى مأساة سلمى، ثم أقنعتها بضرورة العودة إلى ذويها. . . وبعد مضي سنة علمت أنها فرت ثانية من بيت أبيها، وأحبت شابا مسلما وسألته أن يتزوجها.
فقال لها - لكنني أريد أن تعتنقي الدين الإسلامي؟
قالت - أسلمت!. . .
قال - ولا أريدك أن تكوني سافرة.
قالت - سأتشح بالسواد من أجلك. .
قال - ولا أريدك أن تخرجي من البيت.
قالت - لن أخرج من البيت إلا إلى مثواي الأخير!. .
وأعلنت إسلامها في الجريدة الرسمية، وانزوت في بيتها الجديد. . . فقد مثلت دورها. .(668/31)
وغنت أغنيتها، ولا ينغص عليها حياتها إلا أهلها الأولون الذين يحاولون عبثا الوصول إليها فجاءها شقيقها مرة كبائع زيت. . . وجاءها عمها كبائع أقمشة متجول. . . وجاءتها شقيقتها كبائعة زهور. . وآخر من جاءها أبوها فكان يقرع باب الدار قرعا عنيفا ويصرخ قائلا: سلمى سلمى. . . ابشري يا ابنتي. . ابشري. . . لقد جاءك الطلاق من روما!. . . .
نجاتي صدقي(668/32)
نظرات فلسفية:
(الذات). . .!
للأستاذ زكريا إبراهيم
أجل (الذات)! صاحبة الجلالة (الذات)! حولها تدور كل موضوعات الفلسفة، ونحوها يتجه كل بحث إنساني. هي المركز في دائرة الوجود، وهي المحور في كرة الإنسان! غفل عنها الفلاسفة حينا، ثم اهتدوا إليها، فاهتدوا إلى نفوسهم، ومنذ ذلك الحين أصبحت هي نقطة البدء ونقطة الانتهاء.
أي موضوع لم يتطرق إليه شك المفكرين، وأية حقيقة لم ترق إليها شبهات الفلاسفة؟ لقد امتدوا بشكهم إلى كل موضوع، ونشروا شبهاتهم حول كل حقيقة؛ أما (الذات) فقد بقيت دون متناول الشك، وفوق كل شبهة! أستغفر الله، بل (ذاتي) هي وحدها التي لا سبيل لي إلى أن أشك فيها، لأن بيني وبينك هوة لا يمكن عبورها! فكل منا عالم مغلق على ذاته، وذاتك نفسها هي بالنسبة إلى (موضوع) كسائر الموضوعات الخارجية! أما الوجود فلا علم لي به إلا عن طريق شعوري الخاص؛ وهذا الشعور هو الحقيقة الوحيدة المباشرة التي يمكن أن تدركها (الذات). فالذات هي كل شيء بالنسبة إلى صاحبها، وكل حقيقة لا بد أن تكون موسومة بطابعها.
إننا لا نتلقى الحقائق التي نؤمن بها من الخارج، بل نصنعها في الأعماق الباطنة من نفوسنا. وكل حقيقة لا تنبثق من ثنايا النفس، لا بد أن تكون زائفة مموهة. فالحقيقة من شأنها دائما أن تكون (ذاتية)؛ وحتى إذا لم تنبع الحقيقة من أبعد أغوار النفس، فإنها لا بد أن تمر على (الرقيب) الذي يطبعها بالطابع الذاتي الخاص! ولعل هذا هو المعنى الذي قصد إليه جيته حين قال: (إن ما ورثته عن آبائك وأجدادك، لا بد لك أن تحصله بنفسك حتى يصبح ملكا لك). فالإنسان لا يفهم تماما إلا ما فكر فيه بنفسه، وهو لا يؤمن إيمانا قويا إلا بما هداه إليه عقله. أما ما قاله الآخرون، أو ما روي عن السابقين، فهذا ما لا يمكن أن يفهمه المرء جيدا، إلا إذا دلته عليه نفسه، وأثبته له عقله. فكل حقيقة مهما كان من انتشارها وسيادتها، لا بد أن تهبط إلى الأغوار السحيقة التي تصنع فيها الحقائق، حتى تتلقى من (الذات) اعترافا بصحتها، وإقرارا بصدقها. ولهذا فإن كل إيمان لا بد أن يكون(668/33)
(فرديا) حتى يكون إيمانا حقيقيا. . .
ولكن، هل جاءت قيمة (الذات) من أنها صانعة (الحقيقة) فحسب؟ كلا، بل هي أيضا خالقة (الشخصية). ففي أبعد أغوار الذات، تكمن قوى الفرد التي تحدد شخصيته وتعين سلوكه في الحياة. وهذه القوى الكامنة التي لا تظهر بوضوح في (الطبقة السطحية) من الذات، بل تنتشر في المسارب الخفية منها، مكونة وجودها الفردي الخاص بمعناه الحقيقي.
وكثيراً ما تكون هذه القوى الكامنة التي تكون جوهر الذات مجهولة لدينا، فتجيء أفعالنا مفاجئة للآخرين. وقد نزعم أن إمكانياتنا قد استوعبت واستهلكت، فإذا بنا نجد أن من الممكن أن ينبثق من أعماق نفوسنا شيء جديد. ولهذا فإن من الخطأ البالغ أن نحكم على نفوسنا بأنها ليست أهلا لهذا العمل أو ذاك، لأن التجربة كثيرا ما تظهرنا على أن في استطاعتنا أن نعمل ما كنا نعتقد أن ليس لنا عليه يدان!
وليست الحياة الفردية سوى تحقيق مستمر لكل القيم المتضمنة على شكل قوى أو إمكانيات في ثنايا الذات. وتحويل القوة إلى فعل هو جوهر الحياة الإنسانية ومعناها الأوحد. وهذا التوتر الذي يوجد بين ما حقق، وما لا بد أن يحقق، هو القوة المحركة الأولى في الحياة الإنسانية. فإذا حقق إنسان كل ما لديه من قوى مدخرة، وإمكانيات كامنة في أعماق نفسه بحيث لم تعد لديه قوة جديدة يمكن أن يحققها، فلا بد أن تصل حياته إلى نهايتها؛ لأن ذاته أقفرت، وإقفار الذات معناه الموت.
ولكن ما دام المرء حيا، فلن يكون في وسع أحد أن يقول عنه، ولن يكون في وسعه هو أن يقول عن نفسه، إن شيئا جديدا لا يمكن أن ينتظر منه! فطالما كانت الذات حية خصبة، كان لا بد لها أن تزهر! وقد تعرض للذات أحداث بسيطة، فتكون مدعاة لظهور أمور جديدة، أو إيقاظ أفكار كامنة، أو تولد معان لم تكن منتظرة!
أجل! إنها الذات؛ والذات عالم يعج بالأفكار والمعاني؛ ومن أعماق هذا العالم الصاخب تنبثق الأفكار العظيمة، والمعاني الجليلة؛ فهل من حرج على الفلاسفة إذا لخصوا رسالتهم في عبارة موجزة، فقالوا على لسان شيخهم سقراط: (أيها الإنسان: اعرف نفسك)!؟
إن (الذات) هي الحقيقة الأولى والأخيرة، فليس بدعا أن تؤكد الذات نفسها بكل قوة على لسان شوبنهور قائلة: (إن العالم من تصوري) وهل يقوم للعالم الخارجي وجود بدون الذات(668/34)
المفكرة، التي تخلع عليه معنى من عندها؟ إنها الذات وكفى!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(668/35)
طنجة والنظام الدولي
ضرورة تقرير وحدة مراكش واستقلالها في المؤتمر الدولي
القادم
للأديب عبد المجيد بن جلون
تقع مدينة طنجة عند المدخل الغربي للبحر الأبيض المتوسط وهي مدينة جميلة خضعت لمؤثرات غريبة وحكم عليها موقعها الجغرافي بأن تنفرد عن أمها مراكش بالنظام الدولي.
ولسنا نريد أن نتحدث هنا عن النظم المطبقة فيها بقدر ما نريد أن نلفت النظر إلى ما لهذا النظام من أثر سيئ في حياة المراكشيين الذين يقطنونها.
وأول ما يلاحظ هو أن المدينة أصبحت وكرا من أوكار الجاسوسية في العالم، ففيها تلتقي أجناس مختلفة لا حصر لها، تفد إليها من الشرق والغرب، وبذلك تلتقي فيها الأخبار ويسهل إذاعتها والتقاطها، ولكل من الشيوعية والفاشية والديمقراطية فيها عيون ساهرة أو أفواه ناطقة. وقد كان لوجود هذا المزيج البشري الغريب تأثير عميق على أحوال المدينة العامة، فانتشرت المراقص والحانات وأمكنة المقامرة ونقل إليها هؤلاء الوافدون عليها - وهم من طبقات منحطة في الغالب - كل ما يوجد في العالم من موبقات.
ثم إن هؤلاء الوافدين عليها قد تجاهلوا أن هناك غيرهم في المدينة مع أن عدد المراكشيين ينيف على مئة ألف يشتط الأجانب في اغتصاب حقوقهم من الإدارة الدولية، ولما كانت هذه الإدارة تتأثر بعوامل مغرضة، ولما كان الفرنسيون والأسبانيون يخشون من أن يستفيد المراكشيون من الأنظمة الحرة التي يعمل الأجانب على استصدارها، فقد استطاعوا أن يصلوا إلى غاياتهم بالتفريق بين التشريعات الخاصة بالأجانب والتشريعات الخاصة بالوطنيين؛ وبذلك صدرت قوانين استثنائية لحق الأهالي منها ضرر بليغ.
صحيح أن جلالة ملك مراكش الممثل بواسطة مندوب هو السلطة التشريعية العليا للمدينة، وأن كل ما يخصها يصدر بمراسيم ملكية، ولكن كل هذا من الناحية الشكلية فقط، أما الحقيقة الواقعة فهي أن حق الاعتراض الذي يتمتع به أعضاء مجلسها قد أفقد المراكشيين كل سلطان؛ وبينما يدفع الأهالي الوطنيون 90 % من ضرائب المدينة، إذا بالأجانب(668/36)
يتمتعون بالمدارس الخاصة والقوانين الاستثنائية والامتيازات المجحفة، أي إن الأجانب يعيشون فيها على حساب المراكشيين.
ولما كانت لبعض الدول الممثلة في المجلس أغراض معينة تعمل على تحقيقها، ولما كانت هذه الأغراض المعينة تتضارب في بعض الأحيان، ولما كان النفوذ يتنقل بالدور بين الأعضاء تحت الرياسة الاسمية لمندوب جلالة الملك - فقد تعرضت المدينة ونظامها للخلل بسبب كثرة الإبرام والنقض وفوضى الأهواء والنزعات.
ثم بعد ذلك نجد أن المدينة كانت تتمتع قبل النظام الدولي بنهضة ثقافية واجتماعية قد تعرضت في حياتها للشلل بسبب استفحال أمر الأجانب فيها؛ وهكذا تعطلت فيها مشروعات الإصلاح كما تعطلت فيها الصحف العربية وهي التي كانت يوما ما المهذ الذي نشأت فيه الصحافة العربية المراكشية، ويكفي أن نقول لكي نبرهن على مبلغ الضرر الذي ألحقه الأجانب بها، أنه لم تصدر فيها صحيفة واحدة باللغة العربية منذ نشأ النظام الدولي فيها، وأن الصحف تصدر فيها بعدة لغات أخرى، ذلك أنه يوجد في القانون الذي صدر سنة 1923 بند خطير يمنع الأهالي من القيام بأي نشاط سياسي مهما كان طابعه مراكشيا، وهذا البند ينص على منعهم من مطالبة فرنسا وأسبانيا بإصلاح الموقف في مراكش تحت ستار (منع الدعاية للقضية المراكشية) أو (عدم القيام بأي نشاط ضد نظام الحماية في منطقتي مراكش الخاضعتين للحماية الفرنسية والأسبانية).
ولعل الأجانب قد أدركوا مساوئ هذا النظام، ولذلك قرروا إعادة النظر فيه بواسطة عقد مؤتمر في خلال الشهور القليلة القادمة، وأملنا هو أن يدركوا هذه الحقائق التي سردناها، فيعيدوا إلى مندوب جلالة الملك سلطته الحقيقية، ويفكوا عن مئة ألف من المراكشيين القيود الثقيلة التي فرضها عليهم نظام سنة 1923 بحيث تكون الأغلبية الساحقة من المراكشيين بنسبة 10 إلى 100 بحجة أنهم يؤلفون هذه النسبة الضخمة. ونحن نعرف أن المؤتمر سوف يتألف من أعضاء دول الجزيرة كما نعرف أن مراكش إحدى هذه الدول، ولذلك يجب ألا تمثل فيه فحسب، بل يجب أن يكون صوتها مسموعا وأن يكون هذا الصوت صادرا عن الشعب المراكشي ذاته.
ونحن متأكدون من أن أي نظام دولي مهما كان لونه لن يحقق مصالح هذه المدينة ولا(668/37)
مصالح القطر كله، ولذلك يجب أن ينظر المؤتمر في مسألة مراكش كلها لا في مسألة طنجة وحدها، على اعتبار أن المدينة غير منفصلة عن أمها الكبرى، فلأجل بحث مسألة طنجة يجب البحث عن مسألة مراكش كما يرجع الباحث في الفروع إلى الأصول.
إن الداء الوبيل الذي لن يستقر معه نظام في أي شبر من الأقاليم المراكشية هو نظام الحماية، نظام التقسيم والتبديد والفوضى، ذلك أن الأساس الذي يقوم عليه نظام الحماية في مراكش أساس فاشل، وهو أساس يعبر عن قصر في النظر شنيع، وهذا الأساس هو تقسيم مراكش إلى عدة مناطق. فلو فرضنا أن الإخاء والحرية والمساواة والعدالة تحققت - ولو في الخيال - في كل منطقة من هذه المناطق، فإن ذلك لن يغني فتيلا في إرضاء المراكشي، لأنه ممنوع من أن يمد يده لمصافحة أخيه، ولأنه قد انتزع انتزاعا من أمه مراكش.
وإذن فليس هناك حل لهذه المشكلة المراكشية سوى إلغاء الحماية، وإلغاء التقسيم، وتقرير مبدأ جديد هو مبدأ الوحدة المراكشية، ولا سبيل إلى تحقيق هذه الوحدة - من وجهة النظر العملية - إلا بإلغاء الحماية وتقرير مبدأ الاستقلال، ثم بعد ذلك تجتمع دول معاهدة الجزيرة الخضراء - ومنها مراكش - لتنظر في نظام جديد يحفظ كرامة المراكشيين ومصالح الأجانب في وقت واحد.
مبدأ الحماية والتقسيم مبدأ جائر تحمل المراكشيون بسببهما أفظع التضحيات، ومبدأ الاستقلال والوحدة هو المبدأ الذي يجب أن يقوم عليه كل بحث يتعرض لأي جزء من أجزاء مراكش؛ وكل حل غير هذا بعيد عن أن يثبت الأمن والنظام، أو يضمن الديمقراطية لشعب حارب في سبيل الديمقراطية عشر سنوات كاملة في حربين عالميتين!
الديمقراطية! إنها النظام الذي ساهم المراكشيون في تدعيمه بأعز ما يملكون من دماء ومع ذلك ما يزالون إلى اليوم محرومين من التمتع بأبسط مزاياها.
عبد المجيد بن جلون(668/38)
وادي الخلود. . .
(مهداة إلى وفد الجنوب)
للأستاذ سيد قطب
على ضِفاف الخلودْ ... وفي شِعاب الزمنْ
والدهرُ طفلٌ وليد ... قد كان هذا الوطن
يا فجرُ من ذا رآك ... تطوف تلك السماء
وليس حيٌّ سواك ... تُهدي إليه الضياء؟
رأتك تلك الضِّفاف ... رأتك تِلك البُرور
رأتك قبل المطاف ... وأنت طفلٌ غرير
وشبتَ والدهر شابْ ... وحنَّكتْكَ الحياة
والنيلُ بادي الشباب ... والزهرُ يقفو خطاه
ينساب مثل النغم ... في عزف نايٍ طروب
وكانسياب الحُلم ... تُضِفي عليه الغيوب
خريرُه صلواتْ ... مُعطَّراتُ النشيدْ
وموجُه أغنياتْ ... مرتَّلات القصيد
يا نيلُ كم من شِراع ... يا نيلُ كم من سفين
أسْلَمْتَها للوداع ... على مدارِ السنين!
يا نيلُ كم من جُموع ... ماجتْ بتلك الضفاف
يا نيلُ كم من زروع ... وذي وذي للقطاف!
وأنت صِنْو الخلودْ ... وفي يديك الزِّمامْ
وكل عامٍ تعود ... مجدَّدَ الأيام
تَجري فتجري الحياة ... ويُمرِع الشاطئانْ
ويتسفيق الرُّعاة ... وتمرحُ القطعان
وينشط الزرزور ... فيجمعُ العيدان
وعشُّه معمور ... بفرخهِ الوسنان(668/39)
أكاد خلفَ القرون ... أحسُّ رِكزَ الجموع
أراهُم مُهطِعين ... في موكب للربيع
قد شمَّروا للحصاد ... وخلَّفوا (أمشير)
في فرحة الأولاد ... تسابقوا للبُكور
وموكب للرَّوَاح ... في كل يوم يَؤُوبْ
يزفُّه الفلاَّح ... على مدار الغُروب
من الحقول المريعة ... إلى الحِمَى والديار
تضمُّ فيه الطبيعة ... عيالها الأبرار!
لُحونُهُ من صِياح ... ومن رُغاء النَّعمْ
ومن رجيع النُّباح ... ومن ثُغاءِ الغَنَم
على مدار القرون ... يسيرُ فيه الرُّعاه
كأنهم خالدون ... ما بُدَّلوا في الحياة!
أحبُّ فيك الخلودْ ... يا أيها الوادي
أحب فيك الصمود ... للقاهر العادي
تصبُّ فيك الوفود ... وأن يقظانُ ساهر
تصوغهم من جديد ... كأنما أنت ساحر!
يا مهبط الأسرار ... من الغيوب العميقة
يا موطن الأسحار ... من القرون السحيقة
يأوي إليك الزمان ... خوف البِلى والفناء
يأوي لحصن الأمان ... فيستمد البقاء!
ووجهُكَ الفتان ... بلونِه الأسمر
يا طالما يزدان ... بزرعك الأخضر!
ترنو له عيناي ... في فتنة العاشق!
يا أرض يا دنياي ... يا آية الخالق
يا أرض كم تحلمين ... بالزهر أحلام شاعر(668/40)
رؤاك طولَ السنين ... يا أرض تلك الأزاهر
وريحك المعروف ... يشَمُّه أنفي
في خاطري مألوف ... ممَّيزُ العرف
يا أرض هذا الصعيد ... مقدس في ضميري
سرى عليه الجدود ... وأخلدوا للقبور
يكاد فرط الحنين ... إليهمُ في شعوري
يردُّهم شاخصين ... إلىَّ خلف الدهور!
يا أرضُ سرٌ دفين ... مغيَّبٌ في ثراك
يردَّنا مُوثَقين ... إليكِ أسرَى هواك
هذا الثرى المنثور ... في صفحة الوادي
عرفتُه في الضمير ... رفاتَ أجدادي!
يا أرض هذا النشيد ... من وحيك العبقريِّ
فنوِّليه الخلود ... بسرِّك القدسيِّ(668/41)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
713 - إن ذا من العجب
أمر بالكرم إن عبرت به ... تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب
714 - ولكن أعلل قلباً عليلاً
جحظة:
إذا ما ظمئت إلى ريقها ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقها ... ولكن أعلل قلبا عليلا
715 - على ما يقال
قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد:
وأطيب شيء إذا ذقته ... رضاب الحبيب على ما يقال
716 - أبو نؤاس الناسك
من مجون أبي نؤاس أن الأمير لما نهاه عن الخمر وحبسه، فكلمه فيه الفضل بن الربيع وأخرجه كتب إليه:
أنت يا بن الربيع علمتني الخي ... ر وعودتنيه والخير عاده
فارعوي باطلي وراجعني الحل ... م فأحدثت عفة وزهاده
لو تراني ذكرت بي الحسن البص ... ري في حال نسكه أو قتاده
التسابيح في ذراعيّ والمص ... حف في لبتي مكان القلادة
فإذا شئت أن ترى طرفة تع ... جب منها مليحة مستفادة
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمل بعينك السجادة
لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدها للشهادة
أثر لاح للصلاة بوجهي ... توقن النفس أنه من عباده
ولقد طالما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعادة(668/42)
717 - يعبد الله على حرف
قال أبو عمرو الزاهد: دلك بعض الزهاد المرائين جبهته بثوم وعصبها ونام ليصبح بها أثر السجود، فانحرفت العصابة إلى صدغه، فأخذ الأثر هناك.
فقال له ابنه: ما هذا يا أبت؟
قال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.
718 - وبيانها سحر مقلتها
وصف أحمد بن أبي خالد جارية كاتبة فقال: كان خطها أشكال صورتها، ومدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وقلمها بعض أناملها، وبيانها سحر مقلتها.
719 - ينسي المصيبة
قال المبرد: لما توفيت والدة إسماعيل بن إسحاق القاضي ركبت إليه أعزيه وأتوجع له، فألفيت عنده الجلة من بني هاشم والفقهاء والعدول ومستوري مدينة السلام، ورأيت من ولهه ما أبداه ولم يقدر على ستره، وكل يعزيه وقد كاد لا يسلو، فلما رأيت ذلك منه ابتدأت بعد التسليم فأنشدته:
لعمري لئن غال ريب الزما ... ن فينا لقد غال نفسا حبيبه
ولكن علمي بما في الثوا ... ب عند المصيبة ينسي المصيبة
فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه ورأيته بعد قد انبسط وجهه، وزال عنه ما كان فيه من تلك الكآبة، وشدة الجزع.
720 - أنت الفداء لمن ابتدأ هذا فأحسن
قال عون بن محمد الكندي: كنا مع مخلد الموصلي في مجلس وكان معنا عبد الله بن ربيعة الرقي، فأنشد مخلد قصيدته التي يقول فيها:.
كل شيء أقوى عليه ولكن ... ليس لي بالفراق منك يدان
فجعل يستحسنه ويردده، فقال له عبد الله: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول:
سلبتني من السرور ثيابا ... وكستني من الهموم ثيابا(668/43)
كلما أغلقت من الوصل بابا ... فتحت لي إلى المنية بابا
عذبيني بكل شيء سوى الصد ... فما ذقت كالصدود عذابا
فضحك الموصلي. . .
721 - خليا سبيل الصبا يخلص إليّ نسيمها
تزوج أبو الفرج بن الجوزي امرأة اسمها نسيم الصبا فأقام معها مدة، ثم وقعت بينهما وحشة ففارقها فاشتد كلفه وزاد غرامه وراسلها فأبت عليه وطال بينهما الأمر. ثم حضرت مجلس وعظه يوما فلاحت منه نظرة فرآها وقد استترت بجاريتين، فتنفس الصعداء وأنشد قول قيس بن الملوح (مجنون ليلى):
أيا جبل نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حزازة ... على كبد لم يبق إلا صميمها
فاستحيت ثم ذهبت وقد داخلتها الرقة، فحكت لبعض النساء ذلك فمضت فأخبرته فراسلها فأجابت فتزوج بها.
722 - الأقيشر والشرطي
في (الأغاني):
شرب المغيرة بن عبد الله الملقب بالأقيشر يوما في بيت خمار في الحيرة، فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه فغلق الباب دونه فناداه الشرطي: اسقني نبيذا وأنت آمن.
فقال: والله ما آمنك. ولكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده وأنا أسقيك منه. ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثقب، وصب فيه نبيذا من داخل والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر. فقال الأقيشر:
سأل الشرطي أن نسقيه ... فسقيناه بأنبوب القصب
إنما نشرب من أموالنا ... فسلوا الشرطي ما هذا الغضب
723 - وقع بين موسى وفرعون شمرية
قال الأصمعي: سألت أعرابيا وقد خرج من الصلاة: ما قرأ الإمام؟ قال: ما أدري إلا أنه وقع بين موسى وفرعون شمرية(668/44)
724 - مصيبتان
كتب أحمد بن يوسف الكاتب لبعض إخوانه من الكتاب وقد ماتت له ببغا، وقد كان له أخ يضعف:
أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
فلقد جل خطب دهر أتانا ... بمقادير أتلفت ببغاكا
عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا
كان عبد الحميد أصلح للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا
شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا(668/45)
زوجتي. . . .!
وفاء ورثاء
للدكتور أحمد زكي أبو شادي
سافر إلى نيويورك يوم الأحد الماضي الدكتور أحمد زكي أبو شادي ليقيم بها هو وأسرته، وقد أرسل إلينا ليلة سفره هذه القصيدة ومعها كتاب يقول فيه:
(كان بودي أن أزورك مودعاً قبيل مبارحة وطني الذي لم تسمح لي الظروف بخدمته كما أود، ولكن أحوالي الخاصة لم تمكني من مغادرة الإسكندرية لهذا القصد، وسأبحر منها مع أولادي على الباخرة فولكانيا يوم الأحد 14إبريل وعلى فمي بيت المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو!
وكان بودي لو حملت رسالة توديعي طاقة باسمه لا هذه المرثية الحزينة لزوجتي ولكنها أغلى ما أملكه الآن وقد ارتسمت فيها ذكرياتي وعواطفي وأشجاني)
كتب الله للدكتور السلامة، ومن عليه في مهجرة بطيب الإقامة.
ماذا تفيدُكِ لوعتي وبكائي؟ ... هذا فَناؤكِ مُؤْذِنٌ بفنائي!
أسديتِ عمرك للحياة فما وفت ... ومضيت للأبرار والشهداء
لهفي عليكِ وقد أتيتُ مودِّعا ... فبكيتُ فوق جبينك الوضاءِ
زات الممات جمالَه وتناثرتْ ... مني الدموعُ عليكِ كالأنداءِ
كانتُ حشاشتيَ المذَابةَ حرقةً ... وبقيَّةَ المكنوز من نَعمائي
فترنحتْ بفجيعتي، وتضوّعتْ ... بسريرتي، وتلألأت بوفائي
ورَوَت مُحياً كان جنةِ نِعمتي ... وملاذ تفكيري ووحي ذكائي
وطرحتِ آلام الحياة عزيزةً ... فبدوْتِ بين سماحةٍ وصفاءِ
وأقبلُ الوجه الحبيب، وطالما ... أودعتُ فيه صبابتي ورجائي
شملَ السلامُ هدوَءه وتبدَّدت ... غيرُ السنين، وزال بَرْحُ الدَّاءِ
وأكادُ أنسى للمماتِ خُشوعه ... لما نسيتُ تجلدِّي ومضائي
كم كنتُ أعْلقُ بالخيال توهماً ... وأرى الشِّفاَء ولاتَ حين شفاءِ
ويغالطُ القدرَ العتيَّ تفاؤلي ... وأنا الخصيمُ لخِدْعةٍ ورياءِ(668/46)
آبىَ اعترافا بالممات، كأنني ... لما بكيتُكِ قد أضِلَّ بُكائي
أو أن هذا الموت حق ثابت ... إلا على الأحبابِ والخلصاءِ
أو أن عيشي أن أراكِ بجانبي ... مهما هُزلتِ فلا يهدُّ بنائي
أعتاضُ باللمحات عن أُغنيَّةٍ ... وعن الحديث العذب بالإيماء
وأعدُّ أنفاسا وهَبْتِ، ذخيرتي ... وحفيفَ ألفاظ همسْتِ، رخائي
وأموِّهُ الألم الدفين وأتَّقي ... عِلما به، وأصدُّه بغبائي
وأكادُ أقسو في مُجانبةٍ له ... أوَ ليسَ جسمكِ رمزٍ كل نقاءِ؟
متنزِّهاً عن كل ما شان الورى ... مترفعا عن عِلَّةٍ وعناءِ
حتى صدمتُ، ولا كصدمةِ شاهق ... متحطمٍ بصخوره الصمَّاء
فجننتُ من حُزني وعِفْتُ حصانتي ... ودَفنتُ كلَّ رجاحتي العمياءِ!
لهفي عليك زميلتي في رحلتي ... وشريكتي في الصفو والضراء
لم أرْض غيري أن يسيرُ مُشيّعا ... أو أن تُوزَّع حرقتي وعنائي
وكتمتُ نعيك، كم أضن بذكره ... وأحوطُه بنُهايَ واستحيائي
لبيتُ رغبتك الزَّكيةَ دائما ... ووعيتُها نبلاً ولطفَ حياءِ
وجعلت مأتمك الرهيبَ عواطفي ... وبخِلْتُ بالتنويهِ والإفضاءِ
حتى تفجر بي الأنين مَلاحما ... وجرى النظيمُ بأدمعي ودمائي
ما كنت أحسب أن يومك سابقي ... أو أن أيامَ الحياةِ ورائي
كنا نهيئ للرحيل متاعنا ... وننسق الآمالَ غيرَ بطاءِ
ونهيب بالدنيا لتشهدَ حظنا ... ونهشُّ للأيامِ والأنباءِ
ونردُّ عاديةَ الأنامِ تسامُحاً ... مستغفريْنِ لجاحدٍ ومرَائي
متسابقين لنملأ الدنيا سَنىً ... بالحبِّ والإيثارِ والإيحاءِ
فإذا رحيلكِ للنّوىَ ووداعنا ... للحظِّ، والباقي الكليمُ ذَمائي
غدرت بيَ الدنيا، كأني لم أصُغْ ... فيها الثناَء فما أفادَ ثنائي
ووهبتها - كرما - عزيز مواهبي ... فجنت عليَّ شهامتي وعطائي
اليومَ أدركُ أيَّ عبءٍ فادحٍ ... عني رفعتِ وما مدَى أعبائي(668/47)
كم كنت أحلم بالهناءةِ والرَّضى ... لك في نهايةُ عمركِ المتنائي
فأودُّ من قلبي بقاَءكِ بعد ما ... أفنَى وأحسبُ في هواكِ بقائي
وأعدُّ عمركِ وحده عمري وما ... أرضَى سِواكِ من الحياة جزائي
فتناثرَ الحلمُ الجميلُ وأقفرَت ... دنيايَ من حُلمٍ ومن أضواء
وبقيتُ وحدي لا عزاءً أرومُه ... والذكرياتُ تزيدُ من بُرحائي
يا طالما ناجيتها في نشوَتي ... واليوم قد اصبحْنَ من أعدائي
ما نعمتي فيها؟ وأنتِ هي التي ... جعلتِ بصُحبتها الأسى نعمائي
يا من فتنت بكل ما هو رائعٌ ... وخلقتِ ألوان الجمالِ إزائي
ورسمتِ لي دنيا مُنوَّعة الشذى ... قدسَّيةَ الألحانِ والأصداء
وبثثت بي حبّ الطبيعة فاغتدت ... أميّ، أضعْتِ عزاَءها وعزائي
يا منِ غناؤكِ شدْوُها وحنينها ... وصداهُ في قلبي الشجي غنائي
لما سكتِّ تقاطَرتْ عبراتها ... واستسلمتْ للَّوْعةِ الخرساء
ومضى الرَّبيع مع الشتاء فلم أجد ... إلا مظاهر وحشة وخلاء
تبكيكِ أخلص من وفت لروائها ... وتصوفت بمروجها الغناء
ورأت بها الخير اللباب فما شكت ... منها وناجتها أرقّ نِجَاء
وتناولت ألقَ النجوم فأترعت ... منه دنان الحب للشعراء
كم ألهمتني من عيونكِ صورة ... جمعت أحبَّ عواطفٍ ومرائي
وتبسمٌ تتبسَّم الدنيا له ... ويغيب عن معنى وعن خيلاء
ورشاقةٌ معسولةٌ ملحونةٌ ... كقصيدةٍ خلابةٍ عصماء
كم كنت أهتف بالنشيد ولم يكن ... إلا خطوط جمالك الوضاء
تجري اليراعةُ في يدي مزهوةً ... بتغزلي، ويهزني إملائي
مترنماً بالحبِّ بين ولائمٍ ... للزهر والأمواه والأضواء
وإخالُ في دعةِ المروج جناننا ... وأشيم في ألقِ الغدير سمائي
أيامَ كنا والشبيبةُ والهوى ... حلفاء في أمنٍ من الغرماء
أيام كنا نستعيدُ ثراءنا ... قُبلا، ونضحك من غنى وثراء(668/48)
أيام كنا الحاكمين بأمرنا ... الساكنين منازلَ الجوزاء
أيام كنا ذاهلين عن الرَّدَى ... نجري ونمرح في الربى الفيحاء
ونخوض موج البحر ملء دعابة ... متعانقين على هدير الماء
متحمسين كأنما خمرُ الصبا ... خمر الألوهةِ من أعزَّ سماء
متلمسين بكلّ شيء لذةً ... ومطوعين المستحيل النائي
وإذا غضبنا عاد حبك غافراً ... وتعثرت شكواك عند ندائي
وفرحت بي فرح الحبيب بإلفه ... قد عادَ بعد مخاطرٍ هوجاء
عشنا السنين كأنها أنشودة ... علويةٌ جلَّت عن الضوضاء
متجددين، وإذ فقدتك لم يكن ... فقدِي لغير فتاتيَ الهيفاء
من رامها أهلٌ الفنونِ نموذجاً ... للمبدعين ومن لها أهوائي
من صوتها الحلو الشجي سلافتي ... وحنانها العذب السخي دوائي
من لم تدع غير البشاشة وحدها ... تفشي خواطرها لنقدِ الرائي
من أشربت حب الدعابة سمحة ... واستضحكت لمصاعب الأشياء
من لم تر الدنيا سوى تغريدة ... فأبت هواجسها أشدَّ إباءِ
من لم تردّدْ غير آمالِ الصبا ... لتردَّني لطلاقتي ورضائي
من عشت أفديها بكل جوارحي ... فإذا الفداء يهونُ وهي فدائي
من علمتني أن أقدس واجبي ... مهما شقيت فأستطيب شقائي
من لم تودِّع في السقام وفاءها ... للناس حين مضوْا بكلّ وفاءِ
من لم تفارقها الشجاعةُ مرة ... حتى الممات، شجاعة العظماءِ
فمضت وخلتني وحيدا عابرا ... قفر الحياة أنوءُ بالأنواءِ
هيمان، قربك وحده مستنقذي ... ظمآن، ليس سواك ريَّ ظمائي
أقتاتُ بالحزنِ المبرَّح راضياً ... وأعافُ كلَّ ملاحةٍ وسناء
وأضعت فني بعد موتك في الأسى ... وكأنما صوَرُ الجمال بلائي
من طالما ناجيتها متغزِّلا ... غرداً، فمات بهاؤُها وبهائي
كانت لروحك منك أنسَ مدامة ... ومجالَ أشواقٍ ونبعَ صفاء(668/49)
ومثلتِ أنتِ بكلِّ ما أحببتهٌ ... فالآنَ أينَ تهافتي ونجائي؟
أين ابتسامتكِ الشذيةُ بالمنى ... والنورِ حين أهيمُ في الظلماء؟
أين ابتداعكِ للحديثِ تفنُّناً ... وتسلسلا يغْنى عن الندماء؟
أين اغتباطك بالمروءة والندى ... والعطف والغفران والإسداء؟
قبرَتْ كما غاب النهارُ أشعةً ... وكأنما أشلاؤُها أشلائي
وتركت في دنيا القساوة والأذى ... متهالكا أمشي على الرمضاء!
قالوا: تصبر! إن حولك رفقة ... منها، وحسبك صفوةُ الأبناءِ
ورثوا مكارم خلقها وسماتها ... إرثاً تُدلُّ به على الآباء!
يا ليتهم عرفوا شمول عواطفي ... ووفاء وجداني وصدْقَ ولائي
شيم شقيت بها وما عف الورى ... فأثارُهْم شممي وفرطُ إبائي
وبقيت أسخر من جراحي هازئاً ... بفواجع الآلامِ والأرزاء
مستلهما من لم تدعني مرة ... في الحادثات أضيقُ بالأحياء
فالآن بعد ذهابها ومصابها ... لم يغنني شممي ولا استعلائي!
تمضي الحوادثُ والسنونُ وتنقضي ... أممٌ على أممٍ صباحَ مساءِ
ويظلُّ قلبي هيكلا لكِ خالداً ... أبداً يرتّل لوعتي ورثائي!
أحمد زكي أبو شادي(668/50)
البريد الأدبي
رواية من النسق العالي:
ليت الذين ينتصرون لعامية المسرح يشهدون رواية (تاج المرأة) في
دار الأوبرا الملكية فيروا كيف تتسلسل العربية البليغة على أفواه
الممثلين تسلسل الذهب، وترن في أسماع المشاهدين رنين الفضة،
وتؤدي معاني الكاتب الفرنسي النابغ أداء صادقا قويا لا تضيع فيه
لمحات النظر، ولا لفتات الذهن، ولا براعة الحوار، ولا حلاوة النكتة.
لقد كان تمثيل هذه الرواية نصرا عظيما للغة العربية وللفرقة القومية في وقت واحد: كان نصرا للغة العربية لأنها استطاعت بدقة الترجمة وقوة التمثيل أن تبرهن لخصومها على أنها اللغة الطبيعية للمجتمع الحديث والمسرح المهذب. وهل تكون الطبعية شيئا آخر غير هذا الانسجام العجيب بين الحركات والكلمات، وبين المواقف والعواطف، وبين التمثيل والواقع؟
كانت اللغة لسلاستها ومرونتها أداة جيدة التوصيل بين المؤلف والمترجم، وبين المترجم والممثل، وبين الممثل والجمهور؛ فالممثلون مندمجون في أدوارهم لا يحسون نبوا في العبارة ولا حرجا في الأداء، والمشاهدون مأخوذون بسحر التمثيل وجاذبية الرواية لا يشعرون بوجود مستقل عن هذا الوجود الذي خلقه في الفرنسية اسكندر دوماس، وصوره في العربية الأستاذ كامل البهنساوي!
ثم كان نصرا للفرقة القومية لأنها أقامت الدليل العملي على أن في مقدورها أن تؤدي رسالة الفن على وجهها الصحيح إذا تهيأت لها الإدارة الرشيدة والتوجيه المصيب، فقد كان الأداء خاليا من الشقشقة الخطابية، والتمثيل بريئا من البهلوانية المسرحية، وهما البليتان اللتان باعدتا من قبل بين اللغة والطبع وبين المسرح والحياة.
فإلى المترجم الفاضل التهنئة الصادقة على جمال الترجمة وحسن الاختيار، وللأستاذين والأستاذات: سراج منير، وجورج أبيض، وفاخر فاخر، وإحسان شريف، وأمينة رزق، وروحية خالد، الثناء الحق على روعة التمثيل وطبيعة الحوار.(668/51)
إلي الأستاذ بن مصطفى
لم يكن ما نشرناه في (الرسالة) الغراء عن (كعب الأحبار) تفصيلا لتأريخه، أو استيعابا لترجمته، وإنما هو - كما ذكرنا - طرف صغير من أمر هذا الكاهن قبسناه من فصل طويل كسرناه في كتابنا (حياة الحديث) - الذي لم يطبع بعد - على (الإسرائيليات في الحديث)، وحشدنا فيه كل ما عثرنا عليه من أدلة وحجج لاستيفاء بحثنا وتأييده.
على أنه مما يسرنا أن نقرأ كتاب (عمر بن الخطاب) الذي ألفه الأستاذان علي وناجي الطنطاوي، حتى إذا وجدنا فيه ما لم يكن في كتابنا، زدناه على بحثنا، وجعلنا هذا الكتاب من مصادرنا.
هذا، وإني أشكر لك ما تفضلت به من لفت نظرنا إلى هذا الكتاب القيم.
(المنصورة)
محمود أبو ريه
معرض الكتاب العربي الأول لسنة 1946:
تعتزم وزارة المعارف إقامة معرض يطلق عليه (معرض الكتاب العربي) لمدة أسبوع يبدأ من يوم الخميس 30 مايو سنة 1946 بالسراي الصغرى بالجزيرة. والغرض من إقامة هذا المعرض هو التعريف بالمسائل الآتية:
تطور حركة التأليف من فجر النهضة الفكرية الحديثة حتى الوقت الحاضر.
تطور حركة الطباعة منذ إنشاء مطبعة بولاق الأميرية
تطور الصحيفة اليومية الإخبارية والدوريات الأدبية منذ قيام الصحافة في مصر
تطور فكرة توضيح الكتب بالرسوم والصور
تطور الكتاب المدرسي من حيث موضوعه وطبعه.
تطور حركة التأليف للأطفال والشباب
نهضة التأليف والترجمة في عهد المغفور له الملك فؤاد
النهضة الفكرية في عهد صاحب الجلالة الملك فاروق.
هذا، ويسر الوزارة أن يتفضل كل أديب بالمساهمة في إقامة هذا المعرض بما يستطيع(668/52)
تقديمه على سبيل الإعارة.
وقد كلفت الوزارة مندوبها الدكتور إبراهيم جمعة مدير قسم المتاحف والمعارض الثقافية بالاتصال بعزتكم في هذا الشأن رجاء التكريم بإعارتنا ما يمكن تقديمه في موعد غايته يوم السبت 27 أبريل سنة 1946
(مراقب الثقافة العامة) محمد عبد الواحد خلاف
(وكيل المعارف) محمد شفيق غربال
(تاج المرأة) على مسرح دار الأوبرا الملكية
ما ألذ ساعة يقضيها الإنسان في دار التمثيل يشاهد صورة حية من صور المجتمع، ينقلها بوضعها الصحيح، ووقائعها المحسوسة الملموسة، ممثلون كأنهم أصحاب الصورة في إبراز الشعور وفي أداء الأغراض التي رمى إليها المؤلف في الابتداع، وفي تقسيم الفصول، وفي التفنن في التمهيد لكل حدث يقع، ولكل كلمة تلمح إلى ما يليها، والنكتة المضحكة وما يتبعها من لذعة مؤلمة، وأين تقع العقدة وأين ومتى يحلها وفق ما هو مفروض لمثله الأعلى الذي تصوره في ذهنه قبل خلق روايته.
ما أحلى تلك الساعة وما أشهاها لنفس تعلم جيدا أن التمثيل سيبقى أبد الدهر برغم مزاحمة السينما له ودفعها إياه بمناكبها الجبارة من طريقها، وأن بقاءه منوط بالحياة ذاتها، والاستمتاع بها نفسها، عن طريق المشاهدة والسمع، بانتشار العلم بين جميع الأوساط، وذيوع الثقافة الفنية، والإحساس الواعي بفتنة الفن وسحره.
ما أحلاها ساعة يرى فيها نصير التمثيل أينما تلفت مقاعد دار الأوبرا ومقاصيرها وشرفاتها حافلة بأيقاظ الذهن والروح والشعور يطمئنون دعاة الأدب والفن على أن البلد بخير وعافية، وأن نهضته صحيحة سليمة، وأنهم يتلقفون صور الحياة، ناطقة بالحياة، حبا للحياة.
بل ما أحلى أن يعي جيدا، ويدرك جيدا، ويعمل جيدا أولئك المشرفون على إبراز التمثيل إلى عالم الواقع، إن من أقدس واجباتهم، وأسمى غاياتهم إظهار ثقافة الأمة على حقيقتها، والأخذ بيد هذه الأمة لتتوقل معها مدارج الصعود، وأن هذا ميسور لها إذا قدرت أن مذهب(668/53)
الفن للفن هو رسالتها، وأن كسب المال الوفير هو وسيلة لا غاية.
لقد نعمت بهذه الساعة السعيدة في دار الأوبرا حيث كانت فرقة التمثيل تمثل رواية (تاج المرأة) لمؤلفها دوماس العظيم، ومترجمها الأستاذ الفاضل كامل البهنساوي.
لقد نعمت فعلا بساعة سعيدة، كانت تتجاذبني خلالها انفعالات شتى، وأحاسيس متنوعة، واضطرابات تميل بي تارة إلى كل جانب استجابة لعواصف الحياة وهي تعصف هوجاء دائما على غير قياس وبدون تدبر، وقد نسقها فأبدع تنسيقها مؤلف عظيم موهوب فطر على انتزاع أسرار الحياة ليبسطها على المسرح، وتارة تجذبني جمل وألفاظ، وإيماءات وإشارات وتنقلات، وانخفاضات في الصوت وارتفاعات، ولين في خارج الكلمات أو شدة، وانفعالات واضحة في قسمات الوجوه، واللواحظ والابتسامات أتقنها الممثلون والممثلات أجود إتقان. ولم تصدم سمعي كلمة واحدة نابية، أو جملة واحدة مخلخلة قلقة، أو لفظة تدل على أن المترجم لم يؤد الأمانة حقها، أو إلى ضعف في التوفيق بين اللغتين الفرنسية والعربية، أو التصرف والتهاون ولو قليلا في مقاصد المؤلف، أو التراخي في إبراز روحه العظيمة على حقيقتها في العظمة والجلال، هكذا يكون الانسجام الحقيقي بين المؤلف والمترجم والممثل والمخرج، فيمثلون روح الرواية الواحدة كل من ناحيته متساندين.
إنها لساعة تدفع بي بغير تحفظ إلى إسداء الشكر لهذه الفرقة التي أتحفتنا بتمثيل هذه الرواية في هذا الفصل، وكنت أود أن أطالبها المزيد من هذه الروايات الرفيعة، لأنها على الأقل تنفع كتاب الرواية المسرحية منا فتفتح أمامهم آفاقا لم يجرءوا بعد على ولوجها، فضلا عن أنها تعالج مشكلات اجتماعية لا تختلف عن مشكلاتنا الاجتماعية والخلقية والعائلية في وسطينا الراقي والوسط، ولكني أوفر على نفسي مطالبة هذه الفرقة التي لا تريد أن تعترف بأن لها رسالة ثقافية، وأن عليها واجبات نحو الأمة والحكومة.
حبيب الزحلاوي(668/54)
الكتب
الأوذيسة. . . .!
بين هوميروس ودريني خشبه
للأستاذ زكي المحاسني
أين أنت يا عولس بعد أن دكت العصور عهدك القديم، وهدمت حرب الأمس قومك الحديث، وضاع كل شيء من آثارك إلا كتابا خلدك بين أناشيده هوميروس أبو الشعراء؟
هلم عولس من أطباق ثراك إن كان معروفا ثراك، وجيء حمى العربية تلق كتابك فيها منشورا، وذكرك بلسانها مسطورا.
تلك هي (الأوذيسة) تنشر في لغة العرب اليوم أول مرة، ولئن سبق الأستاذ دريني خشبه فأخرج للناس (قصة طروادة)، فإنما كانت (الإلياذة) معروفة لدى العرب المحدثين منذ نظم ملحمتها الكبرى سليمان البستاني بلغة الضاد.
ولئن لم يكن للأستاذ خشبه في (قصة طروادة) سابقة التعريب، فقد كانت له فيها طرافة الرواية ورقة البيان، وقد كثر فيها صليل السلاح وعراك الحروب، فدارت حوادثها في البطولة والحماسة. أما (الأوذيسة)، فأكسبت الأستاذ خشبه سابقة النقل إلى العربية منذ نظمها (هومير) باليونانية العتيقة، وكانت سيرة الأخطار في البحار، وغرائب الحدثان في الحب والوفاء.
وقد ذكر المؤرخون أن العرب في العصر العباسي عرفوا (الإلياذة) وترجمها المرحوم (الرهاوي) أحد المقربين من الخليفة المهدي. أما (الأوذيسة)، فلم أجد أحدا من المؤرخين وأهل الأدب القديم قد ذكر أن العرب ترجموها أو عرفوها، فأكبر عندي ذلك أن أجدها اليوم بالعربية في جملة آثار النهضة الثقافية التي تهب في هذه الآونة على وادي النيل.
لكن الأستاذ خشبه لم يلزم ترجمتها في النص، ولا رعى الأناشيد في الشعر، وإنما ابتكر طريقة أخذ نفسه بها في سرد الأدب اليوناني القديم منذ أخرج كتابه الأول (أساطير الحب والجمال عند الإغريق)، وهي طريقة تنزع إلى الفن ومرانته أكثر مما تلم بالتاريخ وجموده. إن حوادث (الأوذيسة) لفي وعي راويها الأديب الذي يجيء بها على أنماط(668/55)
قصصية آخذ بعضها بهامات بعض، وهو بهذه الطريقة ذو سابقة أيضا في أخبار الأساطير.
يتجهم لهذا الفن القصصي ناس يؤثرون عليه ترجمته بالنص، وقد يعسرون فيطلبون أن تكون الأوذيسة شعرا في العربية على نمط ما فعل البستاني بالإلياذة، لأن ذلك أبقى للأثر وأقرب تقليدا لأصله، وإن المذهب هؤلاء النقاد في نثر كان شعرا هو مذهبهم في ماء كان خمرا.
لكن أمثال أولئك الناقدين إذا ألموا بهذه الأوذيسة وتركوا مذهبهم قليلا، أنساهم أسلوب الأستاذ خشبه تلك الشروط، فراحوا مغمورين بسحر من القول وبراعة في الوصف، فجاسوا بأنظارهم خلال الحدثان منذ انتهت الحرب الطروادية، حتى عاد عولس إلى بلاده، فإذا فرغوا من كل ذلك حصلوا على السيرة الثانية التي تركها هوميروس ميراثا للآداب العالمية.
ضاع عولس في اليم وتفرق شمل صحابه، وأروع ما على اليم من أخطار تلك الجزيرة التي كان يملك عليها بوليفيم زعيم السيكاوب الإنسان الجبار. أما وصف بوليفيم، فنسج أسطورة مغرفة في الخيال. كان على هيئة إنسان ضخم كجذع شجرة السنديان عريض الألواح، وكان طوالا جسيما، يداه كغصنين، ورأسه كصخرة كبيرة، إنه ليستطيع أن يضع في كفه إنسانا، وأن يطبق أصابعه عليه. أما جبهته، فصفحة مبسوطة في بهرتها عين واحدة كفم البئر.
ومشى مهرولا، فاهتزت الجزيرة التي أرسى عليها مركب عولس وصحابه، وأحس عولس ورفاقه أن الكهف الذي أووا إليه يكاد يكون لهم مرقد المنية، فها هو ذا بوليفيم مقبل نحوهم بقطيعه يهش عليه بشجرة لها فرعان، كل فرع منهما كعمود المركب الكبير. أما أغنامه فكالثيران مرسلة الشعور إلى الأرض لحومها غذاؤه ولبنها شرابه.
ودخل الكهف البوليفيم فوجد ضيوفه، فلم يحسن لقاءهم؛ وإنما أخذ باثنين منهم فألقاهما في الفضاء حتى نطحا برأسيهما سقف الكهف ثم انحطا على الأرض هشيمين، فأكلهما شيا على النار بغير سفود، وجلس يتلمظ فسد باب الكهف بجسمه وأخذ يغط في نوم عميق.
فريع عولس وصحبه وعرفوا موتهم عند انتباهته، فاحتالوا له في يومهم الثاني. فتقدم إليه(668/56)
عولس بكيده ودهائه وسكب في فمه زق خمر معتقة من دنان القس فوبوس إله آزماروس. فكرعها الوحش وسكر بنشوتين، ثم نام. فهب عولس وجمعه إلى النار فأوقدوها وأشعلوا رأس ذلك الغصن الذي يهش به الوحش على غنمه، وفقئوا عينه كما يطفئ الحداد عمود الحديد المشتعل بحوض من الماء.
وكان عولس حين تقدم إلى الوحش بخمره فسأله عن اسمه أجابه: اسمي أوتيس. ومعناها (لا أحد). فلما أحس الجبار بهول النار صرخ صرخة دوت في الجزيرة حتى مادت. فريع الجبابرة وجاءوا ركضا يسألونه الخبر، وكان الظلام مطبقا على الكهف وما حوله. فسألوا من آلمك أو قتلك. فقال وهو يجود بالنفس الأخير: لا أحد.
فانصرفوا وهم به هازئون.
تلك حوادث عولس وهي كثيرة منذ أنصرف الآشوريون إلى أمصارهم بعد أن فتحوا طروادة وخربوها. عاد ملكهم آغا ممنون جريحا إلى بلاده متحاملا على نفسه، وارتمى البطل مينيلاس على شواطئ مصر، وغرق آجاكس عند الصخور التي تتلاطم عليها أمواج البحر. أما عولس فقد كتب له أوفى نصيب من العذاب فظل السنين العديدة في جزيرة كاليبسو أسيرا عند الجن، أو مطروحا على ثبج البحر بمركبه القلق من جزيرة إلى جزيرة، وكان ابنه تليماك يقطع الآفاق بالبحث عنه راكبا على عجلة مجنحة أعطاه إياها نسطور الساحر.
يقول (كروازي) في كتابه عن الأدب اليوناني القديم: (لئن كانت الإلياذة قصة السير إلى الغزوة، أو الغزوة ذاتها، فإن الأوذيسة إذن هي قصة العودة).
وعلى مثال كروازي يحاول من يدرس الأوذيسة أن يؤرخها وينقدها، وبين وجوه الصحة والأصالة فيها، ووجوه الوضع والاختلاق، وكل ذلك لم يتعرض إليه الأستاذ دريني خشبه لأنه أسلف الكلام عليه مجملا في مقدمة الإلياذة، ولو فصل الكلام فيهما بعض الفصل فجعل لكل منها مقدمة خاصة لكان ذلك به أجدى وبفنه أوفى.
وكأن المقادير قد سيرت قلم الأستاذ خشبة، فقد أخرج الإلياذة والحرب في دنيانا قائمة. وكانت الإلياذة تاريخ حرب مصبوغة بالدماء يشتجر فيها الحديد وتستعر النار. فلما وضعت الحرب أوزارها وسكنت أصوات المدافع أخرج أمس للناس قصة الأوذيسة وكانت(668/57)
الأوذيسة سيرة الصداقة والمحبة، والوفاء والألفة، بعد الشقاء والعذاب.
زكي المحاسني(668/58)
العدد 669 - بتاريخ: 29 - 04 - 1946(/)
يوم ولا كالأيام!
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان يوم الاثنين الماضي في مصر يوم شم النسيم.
وشم النسيم في مصر يوم ولا كالأيام أو عيد ولا كالأعياد.
لأن العالم كله لا يعرف يوماً من أيام المواسم تلاقي فيه من المراسم والشعائر وتراث الأديان الباقية والبائدة ما تلاقي في هذا اليوم.
ففيه من شعائر الأديان البائدة أنه يوافق عيد الحصاد أو عيد الربيع، ويحتفل به الناس كما كانوا يحتفلون بعيد الخليقة قبل آلاف السنين.
وفيه من شعائر الدين الإسرائيلي أنه يوافق عيد الفصح، أو عيد الخروج من مصر مع موسى الكليم.
وفيه من شعائر المسيحية أنه يأتي يوم أثنين ولا يأتي يوم أحد، ليقترن بعيد القيامة ولا يختلط به في احتفال واحد.
والغربيون يذكرون عيد القيامة بأسماء تدل على بعض هذه التواريخ من جوانب متعددة.
فاسم (أيستر) الذي يعرف به في اللغة الإنكليزية مأخوذ من استر أو اشتار، أي عشتروت ربة الربيع.
واسم باك الفرنسي وباسكا الإيطالي مأخوذان من كلمة باسكا اليونانية وهي مصحفة من كلمة فسح العبرية وتكتب بالحروف اللاتينية، وهي في العبرية تقارب معنى فسح في العربية بمعنى الإفساح والتسريح، إشارة إلى اقتران العيد بانطلاق الإسرائيليين من أسر فرعون.
فالربيع الفصح والقيامة وشم النسيم موسم واحد متفق الموعد مختلف المراجع والأصول.
ولكل شعيرة من شعائر هذا الموسم سبب جديد وسبب قديم، أو تعليل يقول به مفسرو الأديان، وتعليل يقول به التاريخ.
فالإسرائيليون كانوا يذبحون فيه الحملان ويأكلون فيه فطيراً غير مخمر، ويقولون في تعليل ذلك إن ملك النقمة الذي ضرب أبناء المصريين بالموت كان ينظر إلى الأبواب فإن رأى فيها أثر الدم من الضحية تركها، وإن لم يره دخل البيت وأهلك أول أبنائه، وهي(669/1)
علامة للتفرقة بين بيوت المصريين وبيوت الإسرائيليين.
ولما هب بنو إسرائيل للفرار من أرض مصر، اعجلوا عن انتظار العجين حتى يختمر فأكلوا خبزهم في ذلك اليوم فطيراً، فهم يحيون تلك الذكرى بأكل الفطير في مثل ذلك اليوم من كل عام.
أما مراجع التاريخ فتقول أن ذبح الحملان وأكل الفطير من أقدم شعائر الرعاة على سبيل القربان والاحتفال بالخير الجديد. فيتقربون إلى إله الزرع بذبح حمل مولود في عامه ويأكلون الحب الجديد غير مخلوط بخميرة من محصول قديم. وقد شاع أكل الفطير في المراسم الدينية تقرباً إلى الآلهة بين أتباع الأديان التي تعرف بأديان الأمومة، ويراد بها الأديان التي يعبد فيها الإله وأمه معاً، ويقال عن أمه في معتقداتهم إنها هي مصدر الخصب والولادة والنماء.
وقد كان المصريون الأقدمون يحتفلون بعيد الربيع في موسم قريب من موسم الفصح أو موسم القيامة بعد ذلك، وكانوا يرمزون فيه للخصب والولادة بأكل البيض لأن البيضة رمز كل ميلاد، ويرمزون فيه للمحصول الجديد بما يأكلونه من البقل الأخضر والبصل الأخضر كما نفعل في هذه الأيام.
فأخذ الإسرائيليون شيئاً من مراسم هذا الموسم، وجاء المسيحيون فمزجوا بين عيد الربيع الذي تبعث فيه الأرض وعيد القيامة الذي يبعث فيه السيد المسيح، واعتقد بعض شراحهم أن السيد المسيح حوكم وقضي عليه بالموت في يوم احتفال اليهود بعيد الفصح وهو اليوم الرابع عشر من شهر نيسان، وعدل فريق منهم عن هذا الموعد إلى الاحتفال بعيد القيامة في يوم الأحد الأول بعد أول قمر كامل يلي موعد الاعتدال الربيعي، أو موعد دخول الربيع.
ويأتي شم النسيم في الاثنين التالي لعيد القيامة، فهو يوم ولا كالأيام، لأنه من أيام الطبيعة وأيام العقيدة وأيام التاريخ، وفيه بيان ولا ككل بيان لمبلغ الاتصال بين الأديان من قديم وحديث، ولو تقصينا فروعه وشعابه في تاريخ كل زمرة وشعائر كل نحلة لما وسعه سفر كبير.
ولم يكن هذا العيد معروفاً باسم شم النسيم في العصور التاريخية القديمة، ولكنه سمي بذلك(669/2)
بعد شيوع اللغة العربية في البلاد المصرية، ولا يذكر على التحقق سبب هذه التسمية ولكننا قد نفهمه من مصطلحاتنا التي نجري عليها اليوم في الدلالة على معناه.
فالمصري يسمي الرياضة فسحة أو شم هواء، وليس أقرب من تحويل عيد (الفسحة) أو عيد الفصح إلى عيد شم الهواء أو شم النسيم، ولا سيما في الموسم الذي تستطاب فيه النسمات، وتضيق فيه الصدور برياح الخماسين.
وقد شاع بين المصريين المحدثين أن (شم النسيم) يوم تختلس فيه النسمات فجراً، وتباكر فيه الحدائق والبساتين قبل امتلاء الفضاء بأشعة النهار، ومن لزم منهم المساكن ولم يخرج للنزهة في ظلال الأشجار فالرأي عندهم في الاستمتاع بطيب الهواء خلال ذلك اليوم أن يغلقوا عليهم النوافذ من الصباح ليحفظوا في البيوت بقية من هواء الليل الرطيب قبل أن تلهبه حرارة الشمس بأنفاس الطريق.
وتذكرنا هذه العادة بطريفة من طرائف الزعيم الكبير سعد زغلول رحمه الله، وقد تحدث إليه بعضهم عن حصافة (ذوي الرأي) في البلاد، وكان الموعد كموعد هذه الأيام.
قال رحمه الله: إني محدثكم عن حصافة ذوي الرأي هؤلاء، ولا أعفي نفسي مما يصيبهم في هذه الأحدوثة، فقد اتفقنا قبل يوم من أيام شم النسيم أن نقضيه في دار صديق من أصدقائنا، ونحن جماعة من ذوي الرأي كما تسمونهم سامحكم الله، وكان فينا العالم والكاتب والفقيه والمنطيق ومن يشار إليهم بالبنان في كل معضلة من معضلات الزمان.
وتوقعنا حرارة الجو المعهودة في موسم شم النسيم فاتفقنا على أن نتقيها بإغلاق النوافذ والأبواب منذ الصباح، ثم أغلقناها كما اتفقنا وقضينا سويعات من بكرة النهار في هواء رطيب محتمل، ونحن نغبط أنفسنا على هذه الحيطة ونرثي لمن فاتهم أن ينعموا بهواء البيوت وخرجوا إلى القيظ في الخلاء.
غير أن الحجرة ضاقت بأنفاس من فيها، وزادهم ضيقاً على ضيق كثرة المدخنين من نزلائها، وجعلوا يقولون فيما بينهم أنه قدر أهون من قدر، وأن احتمال الدخان خير من التلظي بنار الجو المحترق الذي قد يلفحنا بشواظه من وراء النوافذ والأبواب، لو فتحت النوافذ والأبواب.
واختنقنا ضيقاً ونحن على هذا الاعتقاد، وتفصّدنا عرقاً ونحن على هذا الاعتقاد، ومضى(669/3)
نصف النهار ونحن على هذا الاعتقاد.
ثم قدم إلينا قادم من أصدقائنا ففتحنا له الباب اضطراراً؛ فأوشك أن يرجع أدراجه لحبسة الهواء في داخل الدار.
قال متعجبا: ما بالكم تسجنون أنفسكم هذا السجن الثقيل في هذا اليوم البديع؟
قلنا: قدر أهون من قدر أليست حبست الهواء هنا أهون من نار الفضاء خارج الدار؟
فضحك وهو يقول: أي نار فضاء؟ إن الفضاء ليخفق بالنسيم الجميل، وإنه كما يقولون ليشفي العليل.
وتقدم إلى النافذة ففتحها، وتقدم غيره إلى نافذة غيرها ففتحها، فإذا بالنسيم كما وصفه جميل يشفي العليل!
ونظر بعضنا إلى بعض متضاحكين، وفاتنا ونحن خلاصة ذوي الرأي أن نجازف بالتجربة، فنغنم نصف النهار ونستريح من كل ذلك العذاب.
وطرافة القصة كلها فيما ساقه فيها الزعيم الكبير من العبرة وأحاطه بها من التهكم والفكاهة، ولكنه قد جار على نفسه هنا وجار على أصحابه بعض الجور لأخذهم بجانب الخطأ وحرمانهم جانب الانتفاع بحق (الرأفة) في الحكم أو بحق الصواب.
فلو اتفق أن الهواء كان على عادته من الحرارة والغبار في تلك الآونة لما كان بقاؤهم وراء النوافذ المغلقة خلواً من الرأي السديد أو بعيداً كل البعد عن وجه الصواب.
ونحسب بعد هذا أن الخروج من شم النسيم بأضحوكة واحدة أو بمفارقة واحدة فريضة لا فكاك منها لتحية العيد الذي يسمى بعيد الربيع وعيد الشباب والحب والجمال. وهل يستحق الربيع اسمه إذا تنزهت فيه الدنيا عن الأضاحيك والمفارقات؟
ربما كان من مفارقاته الخالدة أننا نحن المصريين احتفلنا به زمناً إذ كان الاحتفال به - بين ظهرانينا - احتفالا بالنجاة منا والخروج من بلادنا. وأننا قد وصلنا به ما تقدم من تأريخنا العريق كأنما كانت فترة بني إسرائيل عارضاً بين فصول الرواية الأبدية لا يدخل في حساب المؤلف الخالد مؤلف التواريخ والأحقاب، وقد كانت لتلك الفترة العارضة صفحة متجاوبة الأصداء، لا يخفت دويها المتتابع مع الزمن في مسامع بني آدم وحواء.
عباس محمود العقاد(669/4)
أيام العروبة تبدأ في سورية!
للدكتور عبد الوهاب بك عزام
سورية الكريمة العزيزة، سورية الجميلة الجليلة، سورية العربية الأبية، سورية الشجاعة الجريئة المجاهدة الصابرة تغسل اليوم عنها العار، وتستقبل الكرامة، وتبسم للحرية بعد أن طال عبوسها للعبودية، وتطوي صحيفة لعدوها سوداء لتنشر صحيفة لنفسها بيضاء، وتختم جهاد المعتدين لتبدأ جهاداً في الحياة السعيدة المجيدة، وتستأنف سيرتها العظيمة لتصل حاضرها الكريم، وماضيها الخالد بمستقبلها الو ضاء.
دمشق العتيقة الحديثة، دمشق الماضية الحاضرة التي ثبتت للخطوب ثبات قاسيون، وابتسمت للمحن ابتسام مروجها وجنانها
دمشق مجتمع الأحداث قد زخرت ... فيها كما اندفقت في البحر أنهار
دمشق قد استدار لها الزمان، ورد عليها الدهر مجدها المنشود، فهي اليوم ظافرة فرحة تأسو جراحها، وتعد للمستقبل عدتها. قد انجلت عنها الغمرات كما ينجلي النقع عن البطل المرزأ يعصب جراحه ولواء النصر في يده.
مرزأ بتلقي الخطب منصلت ... تنشق عنه من الأهوال أجفان
ليت شعري كيف الغوطة والربوة ودمّر والهامة اليوم؟
أترى أشجارها تتمايل طرباً، وأوراقها تصفق فرحاً! وكيف قاسيون ذو القمة الجرداء والسفح الأخضر.
نسر يرى اللّوح منه هامةّ عطّلاً ... لكنه ذنب الطاووس جرار
كيف قاسيون اليوم؟ أتراه شمخ برأسه عزة، بعد أن رمى عنه آثار المذلة. وحلق على الرياض فرحاً في هذا النهار، بعد أن وقع كئيباً في ذلك الليل؟
وكيف بردى ذو الفروع السبعة؟ أهو اليوم جذلان مطرد يصفق مائه بنسيم الحرية، وتمحو جريته الظلال البغيضة التي تراءت على صفحته سني الاستعباد؟
وليتني أرى الآن جامع بني أمية هل نطقت جوانبه تسبيحاً وتهليلا، وهل تهم قبة النسر بالتحليق كما يحلق الطائر الوحشي قطع الشرك أو أنفتح عنه المحبس!؟
وكيف أبطال تاريخنا في المدينة وحولها! كيف معاوية والوليد؟ وكيف نور الدين وصلاح(669/6)
الدين؟ وكيف الظاهر والعادل؟ وكيف أبطال الجلاد في عصرنا الذين نازلوا الباطل المدجج عزلا فزلزلوه حتى هدموه؟
وليت شعري هل انبعث الأذان من قبر بلال في مقبرة الباب الصغير أذانا بالفجر من هذا العهد المبارك؟
وحلب الشهباء، مدينة سيف الدولة والمتنبي، حلب التي أمدت الثغور بأبنائها قروناً، ودفعت الروم عن الشام عصوراً، كيف جذلها اليوم، وأين متنبيها ينشد قصائد المجد ليرويها الدهر؟
وكيف قلعة حلب اليوم وقد لفظت المذلة، واعتزت بما فيها من آثار المجاهدين الأولين. لقد دخلتها أول مرة قبل خمسة عشر عاماً ورأيت جنود السنغال فيها يخطرون، وينهون ويأمرون فأنشدت وفي النفس ما فيها من حسرات:
سادت كل أناس من نفوسهمّ ... وسادت المسلمين الأعبد القزّم
فقد رفع اليوم عليها لواء الحرية، ورحض عنها عار العبودية، فحالت بناء جديداً، ومرأى حميداً، وكأن كل شيء فيها قد استحال! ليت شعري هل نطقت فيها الآثار الصامتة، وضحك على بابها الأسد الباكي.
وليتني اليوم في حمص أقف في روضتها كما وقفت من قبل، أستمد من ضريح خالد بن الوليد كل معنى جليل! ليتني اليوم على قبر خالد أبشره أن الزمان قد استدار، واستقلت الشام بأبنائها الأحرار، فليصفق نهر العاصي طرباً، وليزهر الديماس فرحاً فقد أقبل الربيع بربيع الحرية الناظر، وعهدها الزاهر.
يا دار هذا أوان السعد فاغتبطي ... لا عادك النحس بعد السعد يا دار
وحماة المجاهدة، هل تبدّل أنين نعيرها غناء، واستحالت دموعها في البساتين ماء؟ ما أجمل غناء النواعير في حماة اليوم! قد مضى عهد البكاء، فليدم اللهم هذا الغناء.
وكيف أبو الفداء في قبره اليوم؟ يا أبى الفداء لقد طال الهجود، فقم وأضف إلى تاريخك هذا الفصل الجديد.
يا سوريتنا الجميلة الحبيبة! حيا الله فيك كل مدينة وقرية، ونظر كل دارة وبقعة، وحباك السعد مطّرداً مع الزمان، دائراً مع السنين.
ورحم الله كل مجاهد أمدك بحياته، وسقى ترابك بدمه، وثوى في الأرض كلمة باقية في(669/7)
سطور تاريخك الخالد.
ونظر الله وجوه المجاهدين الأحياء، الذين صبروا وصابروا، وبسموا للخطوب السود في الظلام المكفهر حتى تبلج الصباح.
(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا)
وحيا الله هذا الرئيس الأمين، الطاهر القلب، المبارك الناصية (شكري) شكر الله مساعيه، وحيّا أصحابه الكرام، وحيّا كل من شارك في تحرير سورية بيده أو لسانه.
وبعد فيا سوريتنا العزيزة، قد رفع الزمان الأعباء عن كواهل الأعداء فوضعها على كواهل الأبناء، فليحملوا أعباء الواجب وليؤدوا تكاليف المجد، وليبنوا مستقبلهم بأيديهم لأبنائهم، وليعلموا أن حاضر العرب يؤمّل فيهم، وماضي العرب ينظر إليهم، ومستقبل العرب ينتظرهم، فليجمعوا القلوب والأيدي، وليحسنوا البناء.
إلا أنه قد فتحت لهم صحائف في التاريخ جديدة، فليجيدوا الكتابة في هذه الصحائف التي تخلّد كل شيْ.
إنهم يبنون أجيالا، ويكتبون تاريخاً، فلينظروا كيف بناء الأجيال وكتابة التاريخ.
يا سورية الجميلة! إن أبنائك اليوم قد رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
عبد الوهاب عزام(669/8)
الأزهر في مفترق الطرق
منذ أعوام. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
حيّاك الله - يا صاحب الرسالة - وبياك، ولا زلت موفقاً راشداً تنافح عن الحق، وتدعو إلى الخير، وتهدي إلى الصواب.
وجزاك الله خيراً عن (الأزهر) أنت وصاحب (العبقريات) عباس، فلقد نوهتما به في الناس، وما كان خاملا، ولكن بعض الذكر أنبه من بعض، وأقررتما حقه في حياة عزيزة كريمة، يرفع بها لواء الإسلام، ويذود عن حمى الدين، وينشر ثقافة العرب، ويحفظ التراث الغالي الذي لم يبق على ظهر الأرض من يستطيع أن يحفظه سواه!
ولا زالت (الرسالة) الغراء مشرق نور، ومصدر علم وأدب ومنتدى رأي وحكمة، ومحجة صلاح وسداد. . .
أما بعد فإن الأزهر من حيث نظامة، وأقسامة، وخططه، ومناهجه، وقوانينه، ولوائحه؛ لا يكاد ينقصه شيء: جمع بين الحديث والقديم في نظام رتيب رزين لا إفراط فيه ولا تفريط، وقرر من الكتب والدراسات والأساليب ما هو أدنى إلى تحقيق غايته، وتقريب رسالته مع احتفاظه بشخصيته التاريخية، وطابعه القومي الإسلامي، وقسمّ مراحل التعليم فيه أقساماً لا يستغني لاحقها عن سابقها، وأعد للدراسات العلى وللاخصاء كليات ثلاثاً، له أن يزيد عليها كلما قضت لذلك حاجة العلم توسعاً وإخصاء، وفيه إلى ذلك (جماعة) ذات شأن وخطر، كفل لها القانون حصانه، وجعل لها مقاماً محموداً، ومنحها سلطاناً أي سلطان في شئون العلم والدين، وله مع هذا مجلة تحمل اسمه الرنان وذهبه الرنان أيضاً!، وللمجلة (مدير) عظيم!. . . و (مدد) من الكتاب كذلك عظيم. . .
هكذا الأزهر في نظامه وأقسامه، وخططه ومناهجه، وقوانينه ولوائحه، وهو من هذه الناحية بخير والحمد لله، وإن كان في بعض التفصيل محتاجاً إلى تهذيب أو تقويم.
وكان فضيلة الأستاذ الأكبر المغفور له فضيلة الشيخ المراغي يعتقد - ويعتقد معه رجال دعوة الإصلاح - أن هذا النظام في جملته هو خير النظم، وإن الأزهر لا يحتاج إلى تعديله، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه)، وليس الغرض تنفيذه شكلا ومظهراً، ولكن جوهراً(669/9)
وروحاً، وبأيد قويه حازمه، وأعين بصيره، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة، فإن المظهر الذي لا روح له، ولا حقيقة تؤيده، يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدم، وإن التطبيق الصالح لنظام فيه بعض المزايا خير من التطبيق السيئ لنظام من أرقى النظم.
كانت المعركة بين رجال الإصلاح وبين فضيلة الأستاذ الأكبر المراغي رحمه الله لا تعدو هذه الدائرة، وكان لفضيلته ناحيتان: ناحية يرى بها رأى المصلحين، ولا يجادلهم عليه، ولا ينازعهم فيه، بل كان يقرر في عبارات صريحة جريئة أن نظام الأزهر لم ينفذ، وأنه هو منذ تولي أمره لم يخط خطوة جادة في سبيل تنفيذه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه ويستريح إليه ضميره؛ وناحية كأنها تحول بينه وبين مايريد، وتغلبه على أمره، ذلك بأنه كان رجلا خطيراً، نزّاعاً إلى غايات، نظّاراً إلى جوانب، يغار على نفسه، ويعتز بشخصه، ويحسب للسياسة حسابها، فيلمحها ويتطلع إليها، ويراقب تياراتها، ويفيد منها، ويحارب بها، ويجري في كثير من أعماله وأحواله على أساليبها، فلم يكن من السهل عليه مع هذا أن ينفذ ما شرع، وأن يحقق ما رأى، فكان قصاراه أن يصابر الداعين، ويلاين المهاجمين، وينتحل المعاذير في لباقة وحسن تخريج، ويحيل على الزمن، ويرى أنه يتربص للظروف والمناسبات، ولكن رجال الدعوة أعيوا به وأعيابهم، فانقلبوا عليه وانقلب عليهم. . . فكانت ثورة الأزهر!
ولعل الأستاذ الزيات وقراءه الكرام لم ينسوا أن الرسالة الغراء كانت حاملة لواء تلك الدعوة. ولست أنسى أنها نشرت في بعض أعدادها المذكرة المراغية المشهورة في إصلاح الأزهر، ثم علقت عليها بهذه الكلمة الجامعة اللاذعة التي ضمنها الأستاذ الزيات خلاصة الدعوة وغايتها حيث يقول: (هذه المذكرة هي مقطع الصواب في هذا الباب، وما نظن أحداً ممن تحري وجوه الصلاح لهذه الجامعة الإسلامية العظمى قد بلغ من ذلك بعض ما بلغ الإمام (المراغي) في هذه الكلمة. . . فلم يبقى عليه إلا أن ينفذ ما وضع، ويطبق ما شرع.
(إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا)
وقد توالت النذر، وتتابعت الصيحات، على صفحات الرسالة، وفي التقريرات المرفوعة، وفي المحاضرات العلنية الجامعة، وكان منها تلك المحاضرة التاريخية التي ألقاها رجل(669/10)
كبير مسئول، لرأيه وزن وتقدير في الأزهر وفي غير الأزهر، هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة العلماء ووكيل كلية الشريعة (يومئذ)، وقد عرض فيها لحالة الأزهر قديماً وحديثاً، وبين مدى انتفاعه بقانون الإصلاح المبنى على المذكرة المراغية ثم قال موجها كلامه إلى إخوانه وأبنائه من الأزهريين:
(أيها الإخوان. أيها الأبناء. لا أحب أن أبرح مكاني هذا حتى أصارحكم بما يجب أن نحسب حسابه، وأن نجعله نصب أعيننا من التفكير والعناية: إن الأزهر حقيقة كان مقصراً فيما مضى، ولكن الأمة لم تكن قد نهضت هذه النهضة، ولم تكن قد مارست من الشئون ما تمارس اليوم، فلم يكن الفرق بينها وبين الأزهر يومئذ ملحوظاً، أما اليوم فإن الأمة قد تنبهت وأصبحت تكلف أبنائها نشاطاً في خدمتها، ودأباً على ترقية شؤونها، وإخلاصاً وتفانياً في أداء واجباتها، وهي ترقب عن كثب ما تعمله كل طائفة لتحل هذه الطائفة محلها من الاعتبار أو الإهمال.
(ولست أشك في أن أبناء الأزهر اليوم قد وسعت الحياة مداركهم، وملأت بالآمال نفوسهم، وخلقت فيهم استعداداً حسناً للاضطلاع بأكبر المهام، ومنافسة أعظم الجامعات، وإنه لا ينقصهم سوى شيْ من العناية الجادة الحازمة يتصل بهم، فيربط بين قلوبهم، ويكشف لهم عن وجهتهم، وينظم جهودهم ويبرز أعمالهم؛ وليس من الرأي أن نترك هذه النفوس المستعدة المتطلعة إلي المجد حائرة دون أن نهديها السبيل)
تلك صفحة من تاريخ الجهاد في سبيل الأزهر، وفي الرسالة صفحات وصفحات!
و. . . أما بعد - مرة أخرى - فأن الأزهر كما تقول يا صاحب الرسالة في مفترق الطرق، وهو في مفترق الطرق منذ ذلك العهد، حين وضع نظامه الجديد ثم اكتفى في تنفيذه بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللباب، وسيظل في مفترق الطرق حتى يأذن الله له بنفحة من نفحات الجد والعزم والإقدام يقصد بها وجه الله فحسب، ولا تلويها السياسة ولا الأغراض ولا المناصب ولا الدسائس عن غايتها. يومئذ يندفع الأزهر من مفترق الطرق سيراً إلى الأمام، يسابق فيسبق وإنه لسباق!
أما إذا طالت وقفته، فأن ركب الحياة لا يستأني له، ولا يصبر عليه، ويومئذ تكون التي نسأل الله ألا تكون!(669/11)
وأحب أن أقول: أن عهد المغفور له الأستاذ الأكبر المراغي قد مضى بماله وما عليه، واستأنف الأزهر عهداً جديداً وشيخاً جديداً، فمن الخير أن نعتبر بما كان حتى لا نقع في مثل أخطاء الماضي. من الخير أن نقدم مصلحة الأزهر جامعتنا المحبوبة على كل مصلحة، وأن نسوسه بسياسة غايتها نجاحه هو لا النجاح على حسابه؛ غايتها توجيهه توجيهاً علمياً إسلامياً نافعاً مثمراً صادقاً لا توجيهاً سياسياً ولا حزبياً ولا طائفياً ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب!
لقد انقضى هذا العام الدراسي في الأزهر كما انقضت أعوام من قبله، ولم نر إلا وجوهاً جديدة، ومناصب جديدة، وعلاوات ودرجات وترقيات، أما ما وراء ذلك فإني أكون مقتصداً جداً إذا قلت أن الحال هي الحال!
وقد يقال: إن الإدارة الجديدة لم يمض عليها بعد زمن تحاسب معه على ما قدمت أو أخرت، ولكن هبوا الصبح لم يشرق فأين تباشيره؟ أين ما يدل على نوايا الخير والإصلاح والنهوض؟
كنت أتوقع أن يكون أول ما يهتم به فضيلة الأستاذ الأكبر الجديد، أن يجمع كل ما كتب في الصحف أو التقارير على عهد فضيلة الشيخ السابق، وأن يضم ذلك إلى محاضر اللجان المتعددة التي ألفت لبحث أسباب الركود وعوامل الضعف، وأن يراجع جميع المشروعات التي وضعت ثم طويت، وأن يدرس جميع المشاكل التي تسبب القلق للدراسة في كل عام من مطالب للطلاب أو الأساتذة، وأن يتصل بالمختصين في كل وزارة ليصون حقوق الأزهر التي في يديه، ويسترجع حقوق الأزهر التي انتزعت منه.
كنت أتوقع أن يسأل عن البرنامج العملي الذي وضعته لنفسها (جماعة كبار العلماء) باقتراح من بعض أعضائها، لوضع تفسير للقراَن الكريم خال من الحشو والروايات الموضوعة والإسرائيليات، ولبحث ما جد ويجد من المعاملات، ولتنظيم الوعظ والإرشاد على طريقة مجدية، ولكذا وكذا. . . مما جاء في هذا البرنامج الذي وضع ثم أقر ثم أميت. فبأي ذنب قتل؟
كنت أتوقع أن يسأل عن قسم تخصص المادة في الأزهر وما سبب توقفه؟ وهل كانت ريحه تجري رخاء كما أراد القانون؟(669/12)
كنت أتوقع أن يسأل عن اللجان التي ألفت لترجمة المفيد من كتب الغرب العلمية تمهيدا لإخراجها والانتفاع بها.
كنت أتوقع أن يسأل عن حالة البعوث العلمية التي تفد إلى الأزهر من سائر البلاد الإسلامية شرقيها وغربيها ليعلم: أيقوم الأزهر بأداء أمانته في هذه الناحية؟ وما مدى قيامه بها؟
كنت أتوقع أن يقرأ مجلة الأزهر، ثم يسأل عن مشروع إصلاحها وماذا فيه؟ وفي أي درج من الأدراج هو الآن؟ لينفض عن الغبار، وينفي عنه القتار!
كنت أتوقع أن يسأل عن (مشروع بناء الجامعة الأزهرية) وبعض المعاهد الدينية تمهيداً لاستئناف العمل فيه، وقد شرف فضيلته بعد انتهاء الحرب، وفي ظلال الأمن والسلام.
كنت أتوقع ذلك كله، وكنت أتوقع أكثر منه، لأني أعرف أن الأستاذ الأكبر الجديد رجل أزهري من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، يغار على الأزهر، ويسره صلاحه ونجاحه، وأنه قد ضم إلى ثقافته الأزهرية ثقافة أوروبية، وتقلب في مناصب عدة، وكنا نسمع عنه من أصدقائه المتصلين به أنه غير راض عما كان قبله من المطاولات والمراوغات.
كنت أتوقع ذلك كله ليسير الأزهر في عهده الجديد سيراً حثيثاً إلى الإمام، فيتدارك ما فاته، ويحقق ما أخذ على عاتقه تحقيقه ويثبت للناس بالأعمال لا بالأقوال أنهم في حاجه إليه، وأن غيره لا يغني عنه.
ولكن شيئاً مما توقعته لم يكن، أو أنا على الأقل لم أره ولم أعلم به، وما أحسب الآمر من السر والكتمان، بحيث يكون ولا أعلم أنه كان!
ومهما يكن من شيء فلا أحب أن نيأس، وقد كنا سمعنا أن فضيلة الأستاذ الأكبر قال في أول خطبة له بعد أن تولى منصبه مخاطباً أبناء الأزهر: (أما والله لأدفعنكم بكلتا يديّ إلى الطريق!) فإن كان موعد هذا الدفع لم يحن بعد فنرجو ألا يطول بنا الانتظار!
وأما بعد مرة ثالثة، فإن لي في شأن اقتراح الأستاذ الكبير الزيات، وما أتبعه به الأستاذ الكبير العقاد، رأياً، وليس المجال اليوم بذي سعة فأدلي به، فإلى اللقاء - إن شاء الله - في حديث بعد هذا الحديث.(669/13)
محمد محمد المدني
المدرس في كلية اللغة العربية(669/14)
لمحاربة المرض والفقر والجهل:
إلى القرية. . . يا شباب
للأستاذ علي الطنطاوي
لما كنت موظفاً (في بغداد) كنت أجلس كل عشية على سطح منزلنا في (الأعظمية) أشرف على الحقول التي تمتد إلى ما حدّ، أرقب الشمس وهي ترجع إلى خدرها، والفلاحين وهم يؤوبون إلى منازلهم في خط طويل متسلسل كأنه نهر جار، نهر يجري منذ عصور مديدة لا يقف ولا ينقطع ولا يبلغ مصبه، يسوقون دوابهم التي أنهكها العمل، وأضناها الكد، كما أضنى أصحابها الشغل المتواصل في الحقول، الشغل السرمديّ الذي يبدأ مع الفلاح حين تبدأ حياته، ولا ينتهي حتى تنتهي، يشتغلون وهم أطفال، ويشتغلون وهم شباب، ويشتغلون وهم شيوخ، لا يستريحون ولا ينالون على تعبهم إلا لقمة من خبز الشعير. . .
فيا لروعة الواقع!
هؤلاء الذين يشتغلون هم ونسائهم وأطفالهم ودوابهم ليقدموا للناس القمح لا يأكلون خبز القمح! هؤلاء الذين يرفعون عماد الدولة لا تدري بهم الدولة، ولا تهتم بهم! هؤلاء الذين يملئون بالذهب صناديق السادة الكسالى يحتقرهم السادة، ولا يدعون في جيوبهم قرشاً يشترون به ثوباً نظيفاً لطفلهم الذي يتبع طفل السيد، كأنه الكلب الجائع يسأله قطعة من (العيش) الأبيض الذي يزرعه أبوه هو، فلا يعطيه إلا الحجر الذي يرجمه به، أنه يستنكف عن أن يمسه بيده الناعمة الرخصة البنان. . .
كنت أرى ذلك فيذهب بي الفكر إلى عشرات من المشاهد رأيتها في قرى الشام وفيما زرت من قرى مصر. . .
يذهب بي الفكر إلى حوران يوم زرت رفيقاً لي كان معلماً في إحدى قراها، فرأيته يسكن عند الفلاح في داره المبنية من الأحجار السود المكدسات، بعضها فوق بعض، لا يمسكها أسمنت ولا طين، ولا يدري الساكن تحتها متى تهبط عليه فترديه قتيلاً. وفي هذه الدار غرف متعددات، في الأولى البقر، وفي الثانية الحمير، وفي الثالثة الخرفان، وفي الرابعة الفلاح وأسرته، يعيشون كما تعيش تلك البهائم. . . ولقد أمسكت بأنفي لما دخلت الغرفة. . . لأن الرائحة كادت تقتلني: رائحة الدواب التي تأتي من هناك، ورائحة (الجلّة. . .) التي(669/15)
يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلا على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إلى الخبز الذي أعيش به، والمال الذي اَخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم. أن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب. . . ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني اعفي القاريْ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي. . . أخشى أن يصيبه الغثيان!
ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في وقت الحصاد، يوم حق للفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجد يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقى عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة. . .
يا للقانون! يا لحق الخزينة. . .
يا أيها الجابي شد ركابك! يا أيها الجندي أعدّ سوطك وسلاحك! يا أيها الناس أقيموا القيامة على هذا اللص الذي أكل أموال الدولة. . .
حل البلاء بساحة الفلاح المسكين، ونزل عليه جنود الدرك يقيمون حتى يؤدى المال، يتشهون عليه المآكل، ولا يرضون بغير الدجاج والخرفان، وهم في بيوتهم لا يأكلون إلا الزيتون والجبن، ويأخذون شعيره ليطعموه دوابهم ويضربون وجهه وظهره. . . أنهم يطلبون بقية الضريبة. . .
ولكن لم يبقى عنده شيء.
إذن فلتبع أمتعته.(669/16)
ولم يجدوا عنده إلا الفراش القذر، واللحاف الخلق، والبساط المخرق، والقدر الأسود، فباعوها بالمزاد العلني وتركوه على الأرض.
ولما رجع الجباة كلهم إلى العاصمة. . . وجمعوا ما ملأ الخزانة تبسم ولي الأمر، وقال لأعوانه:
- لقد اجتمع مال يكفي السنة كلها، وإننا لا نستطيع أن نرد هاتيك الوسائط كلها والشفاعات، فأعدوا مرسوماً بإعفاء فلان بك من الضرائب المتراكمة عليه من سبع سنين، وهي تسعة وعشرون ألف ليرة وسبعة وخمسون قرشاً. . .
أعفوه، ولكن تسعة عشر ألف فلاح صاروا ينامون على الأرض، لم يبق لهم فراش!
كنت أذكر ذلك وأنا أنظر إلى خط الفلاحين الذين يعودون إلى دورهم، وقد غاب أوله خلال الظلام، فأفكر في هؤلاء الفلاحين إلى متى يمشون؟ أما لممشاهم نهاية؟ أما لطريقهم أخر؟ أكتب عليهم أن يشاركوا البقر والحمير في عملهم وطعامهم وسكناهم؟ أكان لزاما عليهم أن يعملوا أبداً ليستريح ال (بك) أو (الباشا)؟ ويجوعوا ليأكل؟ ويفنوا جسومهم ونفوسهم ليأخذ هو الذهب فينفقه على موائد الخمور ومجالس الفجور؟
أيبق هؤلاء الناس جاهلين، يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم والسلام عليهم، وإذا بعثوه ليكون معلماً لهم، أو موظفاً فيهم، أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها؟
إن الفلاحين في بلاد العرب، هم جمهرة السكان، هم حياة البلاد، هم الشعب، فإلى متى يبقون محرومين من العلم والصحة والنظافة والإنصاف والمدنية؟
فكروا في هذا أيها الشباب. . .
يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها. . .
يا أيها الشباب الذين يحبون بلادهم، ويريدون صلاحها. . .
أن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً صالحاً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً، إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب، وذكائهم، ومعرفتهم ونشاطهم، لا أريد أن يترك الطلاب مدارسهم ليزرعوا الأرض، ويعيشوا في الحقل، ولكن أريد أن يفكروا بمثل (مشروع إنعاش القرى) الذي قام به في صيف سنة 1933 نفر من(669/17)
طلاب الكلية الأمريكية في بيروت، فانتخبوا من المتطوعين للعمل في القرية فريقاً بحثوا أسبوعاً في (مؤتمر) عقدوه، ودرسوا أحوال القرية اللبنانية، وعرفوا داءها، وفتشوا عن دوائها، وكان يعاونهم بعض الأساتذة والخبراء الفنيين، ثم ألفوا أربع بعثات وأرسلوها إلى القرى، فدرست الحال عن كثب، ورأت أن العمل في قرية واحدة يقيمون فيها الصيف كله اسهل وأنفع، وأنه يجب على أعضاء البعثة أن يحملوا خياماً يبيتون فيها، وطعاماً لهم وشراباً، ليخففوا عن الفلاح ولا يرزؤوه شيئاً، وليروه لوناً من الحياة جديداً ويحببوه إليه، وكان من أهم أغراض أصحاب ذلك المشروع:
1 - الصحة، فيكون في البعثة الصحية قسم للدرس والإحصاء والتعليم، وقسم للتطبيب.
2 - النظافة، بتعليم الناس ومحاضرتهم، وبالعمل على إصلاح مجاري الماء الطيب والخبيث، وتنظيف الطرق وتجفيف البرك.
3 - الزراعة، بإرشاد الفلاح إلى طرقها الجديدة، وآلاتها الحديثة، وأصول مكافحة الحشرات والأمراض.
4 - تعليم الأميين من الفلاحين، والعمل على إنشاء المدارس لأولادهم.
إننا اليوم على أبواب العطلة الصيفية، وسيبقى أكثر الطلاب في المدن، يرتادون القهوات، ويؤمون السينمات، ولا ينفعون خلالها ولا ينتفعون. فهل يعمل فريق من الطلاب في كل بلد على (إنعاش القرى) على نحو ما ذكرنا، فيكون لهم من ذلك صحة في أجسامهم، وقوة في نفوسهم، وخبرة ببلادهم، وخدمة لإخوانهم، ومأثرة باقية عند الناس وعند الله، ونجاة من ملل الصيف وحره، وبكون لهم من هذه الإقامة في القرية تحت الخيام، وهذا التعاون مع إخوانهم على هذا العمل الصالح سعادة تمر الأيام ويذهب الشباب، ولا تمحي من النفس ذكراها، ويكون ذلك هو الدواء الشافي لهذا الداء المثلث الذي استعصى على الأساة، داء الفقر والجهل والضعف. . . هل يقبل على ذلك شباب (الإخوان المسلمين) السباقين إلى كل خير؟
وهل يعمل هؤلاء الشباب على إنشاء (أدب القرية)؟ ذلك بأن يدعوا الكتاب والشعراء إلى وصف حياة القرية، وأن يكتبوا فيها القصص، والمباحث، ويختلطوا بالفلاحين، ويترجموا لنا آمالهم وآلامهم. وهذا اللون من ألوان الأدب موجود في كل الألسنة واللغات إلا لسان(669/18)
العربي، فإنه قليل فيه أو هو نادر، وعلة ذلك احتقارنا الفلاح، وإهمالنا شأنه، ونسياننا أن الفلاحين ناس مثلنا، يبذلون في سبيلنا كل شيء دون أن تصل إليهم مكافأة، أو ينالوا ربحاً، أو يسمعوا شكراً؛ بل إنهم ليتمنون أن ينظر إليهم الـ (بك) كما ينظر إلى كلبه العزيز عليه، الأثير لديه. . .
فيا لهؤلاء المساكين!
إن المروءة والشرف والواجب الوطني، والدين والإنسانية، وكل مبدأ مقدس يدعوكم إلى مساعدة الفلاح، يا أيها الشباب. . .
فيا أيها الشباب: إلى القرية. . . إلى القرية!
لا. لست اشتراكياً، ولا شيوعياً، ولكني إنسان، وإني مسلم!
علي الطنطاوي(669/19)
نظرية الأجناس البشرية
والكونت دي غوبينو
للأستاذ ماجد بهجت
جدير في هذا الظرف الذي يمثل فيه زعماء النازية أمام محكمة نورمبرج الدولية ومن بينهم روزنبرج حامل لواء العقيدة الجنسية وزعيم حركتها، أن نقدم إلى قراء العربية خلاصة عن نظرية الأجناس البشرية التي بشر بها الكونت دي غوبينو الفرنسي، ولا سيما وأن هذه النظرية شغلت الرأي العام طول الحرب وهي ما تزال موضع تفكير الناس واهتماهم. على أنا حاولنا جهدنا الاختصار تاركين لأهل العلم والاختصاص الإفاضة والتطويل. وقد اقتصرنا على ما جاء في أصل النظرية لدى الكونت دي غوبينو وتأثيرها في حينه. هذا ولعلنا نعود إليها ثانية لنستكمل بحثها والتطور الذي طرأ عليها في العهد النازي.
الكونت دي غوبينو:
في يوم من أيام 14 يولية الذي دك فيه الباستيل وخرج الأحرار منه يعلنون حقوق الإنسان ومبادئْ الحرية والمساواة تمخضت امرأة حامل من الأسر الفرنسية النبيلة عن غلام هو الكونت (جوزيف ارتوردي غوبينو)، وقد اشتهرت هذه الأسرة بعدائها للثورة الفرنسية ومبادئها فشب الطفل يوسف على المنوال نفسه، شريفاً فيه نزعة الأرستقراطيين وعلى شفتيه نبرات الأمر، محباً للمطالعة مشغوفاً بالسياحات، أراد أبوه الضابط في حرس شارل العاشر ملك فرنسا أن يجعل منه ضابطاً مثله في السلك العسكري فأدخله بعد إعداده الإعداد الدراسي اللازم مدرسة سان سير الشهيرة، لكنه لم يحظ برؤية ابنه متوشحاً الأوسمة يختال ببزته العسكرية إذ أنتقل إلى دار الفناء، فانتقل ابنه إلى عهدة عمه الكونت تيبو يوسف دي غوينو الذي اشتهر في يوم 9 بترميدور بإطلاقه رصاص مسدسه مع بعض المتهوسين على يعاقبة المؤتمر الوطني. أراد الكونت العم أن يستعمل سلطته فلا يدع ابن أخيه يتصرف في الأموال التي خلفها له أبوه على هواه فكان نزاع بينهما انتهى بأن استقل الكونت الشاب بثروته فسكن باريس وانكب انكباباً منقطع النظير على الدرس والقراءة،(669/20)
فأنه ليستمر عليها أياماً طوالاً حتى إذا شعر بحاجته إلى اللهو والراحة عمد إلى قطعة من الحجر ينحت فيها على شكل أقنوم أو تمثال جميل أو إلى يراعة يحبر على القرطاس ما تجيش به نفسه من المشاعر والأهواء، وكأن كتاب مدام دي ستال عن سياحتها في ألمانيا قد أثر فيه فيؤثر تلك البلاد برحلاته وتجوله ثم يتحول إليها ويلتحق بجامعة مدينة ينا، وهناك يبدأ حبه للعنصر الجرماني الأشقر حتى إذا عاد إلى بلاده أنكب كعادته على مطالعة كتب المشرقيات محاولاً استخراج برهان لشيْ يجول في خاطره، أو غاص في كتب علمية مختلفة بيولوجية وفيزيولوجية أو فلسفية وتاريخية يستنتج منها مادة لنظرية جديدة.
العوامل النفسية لدى الكونت دي غوبينو:
هي نظرية جديدة تتجاوب مع نفس هذا الشاب الأرستقراطي الذي أتت الثورة على امتيازاته فزحزحتها، وتتفق مع هذه النزعة الاستعمارية في الفتح والتوسع التي بلغت أشدها في القرن التاسع عشر أوحت إليه بها كل هذه العوامل المحيطة به، فهو لا يرتضي أن يتساوى مع غيره لأنه أرفع منهم شأنا، ولا يريد أن يكون وإياهم على صعيد واحد من حيث سلالة العرق وجريان الدم، لكن مثل هذه الأوهام لا يمكن أن تنطلي على طبقات الشعوب الأوروبية، لاسيما وأن مبادئ الثورة أعطتهم الدليل تلو الدليل على أن مسألة تأخر أناس وتقدم آخرين هو محض تهذيب وتثقيف أصاب منه واحد بسهم وحرم منه الآخر.
من هم إذاً؟ هم هؤلاء الشرقيون الذين انحطت مدنيتهم في هذه العصور الحديثة وقلت وسائل دفاعهم، مما جعلهم عرضة لأطماع سكان أوروبا الغربيين. وجد الكونت دي غوبينو ضالته فلم يبقى عليه إلا أن يدعم رأيه بالبرهان ويؤيده بالمنطق العلمي.
يدخل الكونت السلك السياسي الخارجي وتظهر له كتابات أدبية عديدة، منها مأساة في خمسة فصول وقصص فروسية مختلفة، وإنها لتمضي خمس عشرة سنة يقيم في أثنائها تارة في برن عاصمة السويسريين، وتارة في فرانكفورت من أعمال ألمانية حيث تجري له مقابلة مع الوزير الألماني الشهير بسمرك، ولكنه يظل في كل هذه المدة دائب العمل على البحث والتنقيب، وفي حوالي سنة 1853 يدفع بنظريته إلى النشر.
النظرية:(669/21)
إن المخلوقات من حيوان ونبات وجماد تخضع لقانون طبيعي أزلي يتميز بعضها من بعض. فهناك فصيلة خير من فصيلة، وعنصر خير من عنصر، وبطون خير من بطون.
ففي الحيوان ترى الخيول العربية مثلاً أفضل من غيرها.
وفي النبات ترى الورد الجوري له رائحة زكية هي أعبق وأشهى على الشم من غيرها.
وفي الجماد تجد للفولاذ متانة تفل الحديد. كذلك الإنسان - وهو عنصر من الحيوان - فإن لبعضهم تفوقاً على آخرين، وهذا الإنسان المتفوق (إنسان أعلى) وإنه ليكثر عدد المتفوقين في شعوب دون شعوب، فبطبيعة الحال تكون هذه الشعوب التي كثر أفرادها المتفوقون، شعوباً متفوقة (شعوباً عليا) وما دام قانون الطبيعة يعطي الغلبة للسامي المتفوق فإن من الحق الطبيعي لهذه الشعوب المتميزة أن تكون لها السيطرة، وأن تقبض بيدها على مقدرات العالم.
هذا وإن تطور تاريخ تطور الشعوب - كما تقول النظرية - هو تطور العرق ذاته، ولقد كانت الأمم ذات البشرة البيضاء سباقة إلى المدنية والرقي؛ بل إنه كتب لها دائماً الظفر في جميع الميادين فدلت على علو كعبها وسمو محتدها. وهناك فوارق ذات بال في الجنس الأبيض نفسه؛ فإنها ليست كلها سواسية، فالرفعة والسمو منحصران في العناصر المنحدرة من أصل آري فقط، لاسيما ما كان منها من هذه الكتلة المختارة أحفاد الجرمان والفرنك القدماء، وأن زعم الساميين القديم بأرجحيتهم وحصر مظاهر القوة والجمال والذكاء فيهم، والعوامل التي تؤهلهم لان يتحكموا بالعالم على هواهم، هو مجرد بطلان وأوهام، فأن العنصر السامي أحط من أن يبلغ المستوى الذي فيه العنصر الآري فلا عبرة هنا لبياض بشرته.
تعتمد النظرية في إثبات دعواها على أربعة عوامل: روحية، وعلمية، وتاريخية، وواقعية.
1: إن القدرة العلوية شاءت أن تختار عنصراً متفوقاً من بني الإنسان، لتعهد إليه بالإدارة، ولتكل إليه أمر القيادة في العالم.
2: إن العلم في ذاته فيه دافع إلى السيطرة والغلبة، فإنه يسلم صاحبه وسائل ارتقائه وسموه.
3: إن التاريخ يحدثنا عن الأبطال وحدهم، فهم السادة المطاعون القابضون على زمام(669/22)
الأمور.
4: إن الواقع يصف لنا حاجة الأمم الماسة إلى التوسع، وبسط النفوذ نتيجة لزيادة الإنتاج وكثافة النسل.
وتنتهي النظرية بالدعوة إلى وجوب إنشاء إمبراطورية واحدة تضم جميع هذه الشعوب التي كتب لها ابيضاض الجلدة وصفاء الدم فتهيمن على العالم وتسيره بإرادتها الجبارة.
وقع النظرية في فرنسا:
لم يؤبه للنظرية عندما نشرت في فرنسا، ولم تلق شيئاً قليلاً أو كثيراً من الاهتمام، الأمر الذي أسقط في يد صاحبها ووقع في خيبة شديدة على عكس ما كان يؤمله ويرتجيه، بل كانت مثار للهزء والضحك الشديدين، فكل ما قيل فيها أن الكونت دي غوبينو وهو من الأشراف أراد أن يثأر لأهل طبقته التي تدهورت عزتها هي والجاه الذي حملته دهراً طويلاً؛ بل إن الكتاب الذي أصدره الكونت نفسه فيما بعد عن قراءة الخطوط على أشكالها المختلفة أي قراءة ما يكتب بالعكس، وبشكل عمودي أو مائل وغير ذلك كان له وقع أكبر من النظرية للبراعة التي أظهرها الكاتب في هذا المضمار لدى غواة هذا الفن.
وإذا أردنا أن ننصف النظرية لا نجد أنها أتت بشيْ جديد فلم ينتظر الأنبياء وكبار المتشرعين أو القواد الفاتحون من الاسكندر المقدوني إلى يوليوس قيصر إلى شارلمان إلى نابليون أن يطمعوا في جمع العالم في إمبراطورية تحت إمرة واحدة. ويظهر بطلان النظرية وفساد دعواها من تجريد الشعوب السامية عن كل سؤدد ومجد، وقد دلت هذه الشعوب في مختلف أدوار التاريخ على تقدمها ونجاحها. وليس أدل على ذلك من هذه المدنيات الباهرات التي سطع نورها من شواطئْ النيل وما بين دجلة والفرات وفي رياض الشام وأنحاء العربية السعيدة في اليمن يوم كانت تلك النخبة المختارة من الجرمان والفرنك قبائل بربرية تعيش عيشة ابتدائية. ولقد كان يهون الأمر لو أن النظرية قدرت أن تبرهن على صفاء الدم وطهارة أي جنس من الأجناس البشرية عن الاختلاط بغيرها.
وقع النظرية في ألمانيا:
ظل الكونت دي غوبينو حياته مسافراً متنقلاً من بلد إلى بلد ومن عاصمة إلى عاصمة،(669/23)
يمثل بلاده كمعتمد أو سفير فلم يعتب عليه بلد أوربي، ناهيك عن أنه مكث حقبة من الزمن في طهران وعاش مدة في الريو دي جانيرو، ولقد كانت آخر هذه العواصم مدينة استوكهلم، قام على أثرها بجولة في روسيا وأنحاء بلاد اليونان، ثم عاد إلى فرنسا وأحيل على المعاش. ولا يخطر على بالنا أنه أنقطع في كل هذه الحقبة عن الحياة الأدبية فهو ما فتئ مؤمناً بنظريته إيماناً أعمى يجد فيها فتحاً جديداً، يتحدث عنها في كل مجلس يضمه، الأمر الذي حدا بالأميرة غون تجشتيان أن تقول فيه: (هذا دون كيشوت حقيقي في قالب علماء الاجتماع ولباس رجال السياسة).
لم يشأ القدر أن يترك الخيبة التي لحقت بالكونت تقتله من جراء الفشل الذي أصيبت به نظرية الأجناس البشرية؛ فقد قدر له أن يجتمع في روما بالموسيقار الألماني الشهير ريشار فجنر، فأغرم هذا بالنظرية وبصاحبها ووعده إذا قدم وإياه ألمانيا أن يعمل على جهده نشرها. وهكذا كان فاجتمع الصديقان في مدينة بايرون حيث احتفل أدباؤها بصاحب النظرية احتفالاً باهراً وأظهروا استعدادهم لنشر آرائه، وكان أول عمل قاموا به. أن أسسوا من بينهم رابطة سموها باسمه ونشروا كتبه بالألمانية، ومنذ ذلك الوقت اشتهر دي غوبينو في الأوساط العلمية والسياسية، إذ أن النظرية جاءتهم في وقت كانوا فيه على وشك انتهائهم من تحقيق الوحدة الجرمانية يفكرون بتأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف، فأتخذها رجال غليوم الثاني وسيلة لدفع الشعب على غزو المستعمرات ونشر العلم الألماني في الآفاق البعيدة حيث تقول النظرية بأن السيادة للغالب المتفوق، وليس جديراً بالغلبة والتفوق غير الآريين، والعنصر الجرماني أسمى عنصر آري.
ولقد لعبت النظرية دوراً مهما في عالم الأدب والسياسة، فتغنى بها الكاتب الألماني الشهير فريدريك نيتشة وأوحت إليه بعض آرائه عن السبرمان، ومنها انبعثت فكرة المدى الجرماني قبل حرب سنة 1914، وكانت للوطنية الاشتراكية بمثابة الحجر الأساسي، ولها التأثير الأول في تجريد الأقلية اليهودية عن الجنسية الألمانية واعتبارهم عرقاً رديئاً منبوذاً لا يجوز الاتصال به ولا ندري ما ستخلقه في المستقبل.
عامل انتشار النظرية في ألمانيا:
لاشك في أن الشعوب الشمالية هي أرقى الشعوب المتمدنة على الإطلاق. ولقد ولد فيهم هذا(669/24)
التفوق كثيراً من العنجهية والعزة بأنفسهم، بل ويخامرهم في بعض الأحايين احتقار لغيرهم من الشعوب التي لم تبلغ شأوهم في العصر الحديث. وما من أحد زار لندن عاصمة الإنكليز المعروفين بأنفتهم إلا قرأ على بعض الأندية ومحلات اللهو العامة هذه العبارة (الشعوب الملونة غير مرغوب فيها) وقد شاهدت بنفسي في برلين شريطاً سينمائياً تظهر فيه فتاة أوربية شقراء تنشأ وتترعرع عند جماعة من أهل سيبيريا النائية فتحب فتى جميلاً من بينهم وتتأهب وإياه للاحتفال بالعرس، ولكن المصادفة تجعلها تلتقي بفتى أوروبي أقل جمالاً من عريسها المنتظر الذي أحبته من كل جوارحها، وبالرغم من ذلك كله تشعر بإحساس يدفع بها إلى الأوروبي عندما يفضي إليها بإعجابه بها، وإيثاره إياها فتلحق به غير لاوية على شيْ تحت تأثير هذه القوة الكامنة فيها التي جذبتها نحو جنسها طائعة أو كارهة. فإذا كان بعض هؤلاء الشماليين كأهل سكنديناوة مثلاً لم تظهر غطرستهم، فلأنهم مكتفون بأرضهم لا يطمعون في سواها. كذلك الشعب الألماني فإنه شعب راق شمالي أولع بنظرية الأجناس البشرية لأنه كما ذكرنا يطمح إلى إنشاء إمبراطورية واسعة تليق به كأكبر أمة في أوروبا، فوجد فيها باعثاً يدفعه إلى تحقيق مآربه وصدى لما يصبو إليه في الفتح والتوسع. أما الإنكليز والفرنسيس فانهم ليسوا بحاجة إليها فقد أسسوا إمبراطوريتهم منذ عهد بعيد، واستولوا على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وخلاصة القول أن هذا الشعور بالتكبر والخيلاء أحس به كل غالب مسيطر إلا أنه لم يأخذ شكلاً علمياً في قالب نظرية إلا على يد الكونت دي غوبينو.
الوطنية ونظرية الأجناس البشرية:
يخيل إلى البعض لأول وهلة أنه ضرب من الخرق أن يقال إنه كان وما زال لنظرية الأجناس البشرية تأثير فعال في إيقاظ الروح القومي وتأجيج الشعلة الوطنية في العالم، لعلمهم أن الوطنية هي الشعور بواجب كل شعب من الشعوب نحو أرضه ولغته وتاريخه. ونحن لا نذهب غير هذا المذهب في تعريف الوطنية؛ إنما نريد أن نقول إن ظهور نظرية الجنس جعل كل شعب يفكر في أمره، وينعم النظر في مصيره لعاملين اثنين: الأول دعوة النظرية إلى ضم الأمم الجرمانية في إمبراطورية واحدة. والثاني زعم النظرية بوجوب وضع العالم أجمع في قبضة هذه الكتلة الجرمانية المختارة، فلا يخفى أن العامل الأول يفقد(669/25)
الشعوب التي من أصل جرماني استقلالها، والعامل الثاني يضع الشعوب الأخرى تحت نبر الاستعمار يضاف إلى ذلك أن كل شعب غره الشنآن القومي الذي تطنب به النظرية، وإذا كان الكونت دي غوبينو يحصره في الجرمان وحدهم فإن الأقوام الأخرى فسرته على هواها، وفيما ورثته من تقاليدها وأيامها ترى الرفعة فيها والتفوق في قومها.
كل هذه الأمور أيقظت الروح القومي، فأخذت الشعوب تقوي في أفرادها فكرة الوطن والتعلق به، ولم تفت الإشارة إلى ذلك العالم الفرنسي هنري ديسون فأتى في كتابه عن الإسلام بما ملخصه (رأينا في العالم إثر نشر الكونت دى غوبينو نظريته عن الأجناس البشرية تحولا غريباً، فقد تمسكت أكثر الأمم بأهداب القومية تمسكاً شديداً، وادعت باتصالها الوثيق بعرقها الأصلي في حين أن الحقيقة تكذب ذلك، فلم تسلم أمة من الامتزاج والاختلاط حتى لنتمكن من القول إنه ليس في هذا العالم من جنس صاف سليم. وقد شملت هذه الموجة القومية إبان الحرب العالمية المنصرمة أمم الشرق المسلمة؛ فبينما كانت تدعو إلى الجامعة الإسلامية تحولت إلى السعي وراء جامعة عربية. وهكذا الأمر في تركيا وفارس؛ فقد تركت زعامتها الإسلامية في سبيل المثل الأعلى التركي، واهتمت الثانية بشؤونها الخاصة. وهكذا الحال في وادي النيل، فقد رأى سكانه أنفسهم مصريين قبل أن يكونوا مسلمين. ولعل أقوى ما بقى عليه الشعور الإسلامي في أقصى الشرق المسلم في وزير ستان والهند وفي أقصى المغرب المسلم في طرابلس الغرب وتونس وما وراءهما).
يغلب على ظن الناس أن النظام القومي خير نظام يعيشون فيه، ولكن الواقع وبخاصة في هذه الأيام الأخيرة يرينا العداوات تجرهم إلى التقتيل والتفظيع كأن مدنيتهم لم تفدهم في غير التفنن في شحذ الشحناء واختراع المهلكات. ماذا كان يضير هذه الشعوب أن تعيش متآخية مجتمعة لا غالب ولا مغلوب، ولا آكل ولا مأكول؟. . . غير أن العلماء يجدون بأن النظام القومي هو مرحلة لا بد منها يمر فيها الناس قبل أن يجمعوا شملهم في إنسانية واحدة. وإنا نتمنى من صميم الفؤاد أن يمر العالم بهذه المرحلة فلا يقضي عليه الجشع والأثرة وحب الاستيلاء، ولنا في التاريخ أكبر العبر، وقد جاء في القران الكريم (ولا تنازعوا فتفشلوا).
ماجد بهجت(669/26)
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
للأستاذ محمود الخفيف
- 10 -
تابع لمسرحية كومس الغنائية:
وما إن تتم العذراء أغنيتها حتى يبدو كومس، وقد طرب لهذه الأغنية وعجب كيف ينبعث مثل هذا اللحن من صدر أحد بني الفناء، وما يذكر أنه سمع لحنا مثله حتى ولا ذلك الذي كانت تغنيه أمه مع عذارى البحر فتسحر الملاحين به عن أنفسهم، وتغرق سفنهم؛ ويتقدم الساحر من الفتاة فيسألها من تكون فما يمكن أن يكون مثلها ممن ينتمون إلى هذه الغابة إلا أن تكون هي إلهتها، فهي تقيم فيها مع بان إله الرعاة أو سلفان إله الغاب، وترد الفتاة عليه وقد تمثل لها راعياً عليه سيماء الورع والهدوء قائلة إنها ما غنت فخورة بلحنها، إنما تستميل (إكو) علها ترد عليها من مخبئها. ويسألها الراعي ماذا أضلها، فتجيب بأنه الظلام وهذه المتاهات الملتفة الأوراق؛ فيستنبئها أكان تركها بسبب عدم الوفاء أم بسبب الجفاء؟ فتقول إنما كان ذلك ليبحثا في الوادي عن نبع سائغ برود. ويعجب الراعي كيف يتركانها على ضعفها؛ وليس معها من يحميها، فتجيب أنهما أزمعا أن يعودا على عجل؛ ويقول ربما كان العائق الظلام، فتجيب بقولها ما أسهل الحدس عليها وهي فيما هي فيه من تعس؛ ويسألها الراعي أيكون فقدهما أهم عندها مما هي فيه من حاجة إلى معين، فتنبئه أنهما أخواها، ويستفهمها أوصافهما، فما تجيبه حتى يقول إنه رأى اثنين كما وصفت عند تل قريب، وأنه أكبرهما أن يكونا من بني الإنسان وحسبهما من تلك الخلائق السماوية التي تعيش في ألوان قوس الغمام وتلعب فوق السحب المشتبك بعضها ببعض، وقد أخذه خوف منهما فصلى إذ مر بهما، فأن كان هذان من تبحث عنهما فأن رحلة أشبه بالارتحال إلى السموات تصل بها إليهما.
وتسأله الفتاة عن أقرب السبل إلى ذلك فيقول إنه يقع صوب الغرب من أجمة أشار إليها؛ وتبدي الفتاة خوفها وقلة حيلتها، فأن التنقل في الغابة فيما يرسله النجم من ضوء قليل أمر(669/28)
يشق على أمهر هداة السبيل. ويعرض الراعي عليها أن يهديها أو أن يسير بها إلى كوخ متواضع ولكنه أمين؛ وتقبل الفتاة ما يعرض قائلة إن الرفق الذي يبديه إنما يوجد في الأكواخ المسقوفة بتلك الأخشاب المسودة بالدخان أكثر مما يوجد في الأبهاء المزدانة من قصور الأمراء؛ ثم تتجه إلى السماء مستعيذة، وتسترد بصرها ملتفتة إلى الراعي قائلة: دونك أيها الراعي فاهدني السبيل. . .
ويظهر على المسرح بعد ذلك الأخوان فيناجي أكبرهما القمر والنجوم مستعيذاً بنورها، أو متلهفاً إن لم تجبه الكواكب إلى بصيص من الضوء ينبعث من كوخ. ويقول الآخر إنه يرهف سمعه عله يصيب صوت قطيع ينبعث من حظيرة أو زمارة راع أو صياح ديك بعد ساعات الليل؛ ثم يعلن أسفه على أخته العذراء الضعيفة ويتساءل ترى أين أنت يا أختاه! ربما كنت مستلقية على ضفة باردة رطبة أو مسندة جسمك الواهن من الحزن والخوف إلى جذع خشن، وقد نال منك الجوع والحر. ويعود أكبر الأخوين فيدعو أخاه إلى الهدوء والصبر، ويقول له إنه لا يخلق بالمرء أن يقدر السوء وأن يستعجل بالشر، وأنه لا يظن أن الخطر أحدق بأخته فمثلها من لا يزلزل هدوءها الظلام والسكون لأنها معتصمة بالفضيلة. ويسترسل الأخ الأكبر في امتداح العزلة، ويذكر كيف تريش الحكمة فيها جناحيها بالتأمل، ويقول إن من يحمل بين جنبيه نفساً مضيئة يستمتع بالنور وإن كان في قاع الظلمة، وإن من ينطوي على نفس مظلمة وأفكار سوء فإنه يكون في مثل حلكة الليل، وإن مشى في شمس الظهيرة فهو من نفسه في جب. ويلوح أن ملتن يشير هنا على لسان المتكلم إلى عزلته هو في هورتون وطلبه الحكمة والمعرفة لتستضيء بهما نفسه.
ويرد أصغر الأخوين بقوله إن الزاهد لا يمسه في عزلته أحد ولا يطمع في توافهه أحد، ولا يريد رأسه الأشيب أحد بسوء، ولكن أحرى بالجمال وهو أشبه بشجرة التفاح الذهبي أن يقوم على حراسته تنين. وكيف يطمئن قلبك على عذراء لا حول لها تخبط في ظلام الغابة؟ إنك إذن كمن يلقي بكنز بخيل لدى باب أحد اللصوص ثم يطمئن على سلامته. وما أخشى على أختنا من الظلام والوحشة وإنما أخشى مما يجرانه عليها من اعتداء وقاح تطمعه وحدتها.
ويعود أكبرهما فيذكر لأخيه أنه لا يتكلم عن سلامة أختهما كلام الواثق، ولكنه إن وجد نفسه(669/29)
بين الخوف والأمل فإنه يفضل أن يميل إلى الأمل. ثم يقول أن أخته ليست كما يتصور أخوه لا حول لها قط، فإن لديها قوة خفية لا يتذكرها أخوه، ويسأله أخوه متعجباً ما تلك القوة إلا إذا كان يقصد قوة الله، فيجيب إنه يقصد قوة الله إلى جانب قوة أخرى وهبها الله إياها فصارت قوتها هي، ويعني بها العفة. ثم يستطرد قائلاً العفة يا أخي العفة، ويقرر أن من تتدرع بها لا تخاف شيئاً ولن يستطيع أن يلطخ طهرها أحد. ويسأل أخاه أيؤمن بهذا الذي يقول؟ فإن كان لا يؤمن به فإنه يعيد على سمعه ما ذكره الأقدمون من الإغريق عن قوة العفة، وذكره بقصة ديانا آلهة القمر والصيد وقوسها وسهامها وعفتها التي هابها الآلهة والملوك.
ثم يذكر مينرفا آلهة الحكمة، وما كانت منيرفا تحول إلى مثل الحجارة الباردة إلا بنظراتها الناطقة بقوة العفة، ويسترسل في قوله فيذكر أن النفس إذا اعتنقت العفة في إخلاص، أحيطت بألف من الملائكة يدرؤون عنها كل ما هو بسبب من الذنب والخطيئة، ويصلونها بالسماء فتسمع ما لا تسمع غيرها من الآذان. وفي هذا الموضع من الغنائية يطنب (ملتن) على لسان أحد الأخوين في بيان فضل العفة كما امتدح من قبل العزلة وطلب الحكمة.
ويطرق سمع الأخوين صوت فينصتان ويقدران أنه إما أن يكون صوت ضال مثلهما أو صوت لص يدعو منسره؛ ويسأل الله أصغرهما لأختهما السلامة والنجاة، ويتأهب أكبرهما للدفاع، ويستنجد السماء له ولأخيه. . .
ويظهر عقب ذلك الروح الحارس في زي أحد الرعاة فيظنه الأخوان راعياً يعرفانه من رعاة أبيهما، ويسألانه ما خطبه، وهل فقد من غنمه شيئاً، فهو يبحث عنه، ويجيبهما أن الأمر أخطر مما يظنان، ثم يسأل عن أختهما فينبآنه أنهما تركاها قليلاً وعادا فلم يجداها، فيطلعهما على مخاوفه وهواجسه، فيسألانه أن يفصح فيقص عليهما ما علمه عن كومس وقبيله وما برع فيه من السحر، ويصف ما يبعثون في الغابة من جلبة وضوضاء، ثم يقول: قد سمعت أغنيه حلوة يرتفع بها صوت رقيق ملؤه الخشوع يسري فوق متن الهواء كما تسري نفحات العطر المقطر صوت بات الصمت ذاته حياله كالمأخوذ عن نفسه حتى لقد ودّ لو أنكر ذاتيته ذهب إلى غير عودة إذا كان صوت كهذا يحل محله. . . وأرهفت أذني أستمع فتبينت أنه صوت سيدتي أختكما الحبيبة، فمضيت لتوي صوب الصوت ولكني(669/30)
ألفيت ذلك الساحر اللعين قد أدركها قبل أن أصل وظهر لها في لباس قروي وهي تسأله عن اثنين تاها في ظلمات الغابة فاستخلصت أنها تسأل عنكما فخففت أبحث في الغابة حتى لقيتكما هنا، ولست أعلم ماذا كان من أمر الفتاة بعد ذلك.
ويجزع أصغر الأخوين مشفقاً على أخته؛ أما أكبرهما فيظل على يقينه وثقته في الفضيلة والاعتصام بها، فقد تهاجم الفضيلة ولكنها لا تغلب، وتباغتها القوة الظالمة ولكنها لا تزعزعها؛ وأن ما يريده السوء من خطر جسيم يصبح إذاً امتحنت به الفضيلة أعظم دواعي الفخر. ولا بد من أن يرتد الشر فينطوي على نفسه فهو من نفسه ينبت ثم إنه يأكل نفسه. ويعلن الفتى عزمه على مقاتلة ذلك الساحر حتى يرد ما اقتنص وهو صاغر أو يجره من ذوائبه إلى ميتة كريهة فيذهب لعيناً كما لعنت حياته؛ ولكن الروح الحارس أو الراعي يرد عليه بأن شجاعته هذه وإن كان يكبرها لن تجدي عنه شيئاً فذلك الساحر قادر على أن يشل بسحره مفاصله ويتلف كل عضلة في جسمه؛ ويتعجب الفتى ويسأله كيف تجرؤ إذن على أن يدنو من الساحر كما فعل؟ فيظهره الراعي على سر، وذلك أن صبياً من الرعاة دله على نبات يكشف السحر ويأمن به من غوائل السحرة ويفرح بذلك الإخوان، ويعتزمان لقاء الساحر وكسر زجاجته وقهره.
ويتغير المنظر على المسرح، فإذا جانب من قصر عظيم يتبدى للأعين وقد صفت فيه الموائد المغطاة بالأقمشة الموشاة، وزخر بأنماط الزينة وترقرق فيه لحن موسيقى هادئ. وتجلس العذراء على كرسي مسحور، ويظهر كومس وقبيله فيمد إليها يده بكأس، فتأخذها ولكنها تضعها جانبا وتهم بالوقوف، فيأمرها الساحر أن تجلس، فإنه إن هز عصاه أحالها إلى تمثال من المرمر أو صنع بها كما صنع أبولو بدافني؛ وترد العذراء عليه مغضبة بقولها لا تفخر أيها الأحمق، إنك إن استطعت أن تسيطر بسحرك على جسمي فلن تنال من حرية عقلي بكل ما أوتيت من السحر.
ويترفق الساحر في قوله، ويحاول إغراءها بأن تشرب من كأسه وألا تغضب، وأن تنفي عن نفسها الهم، ففي ذلك القصر لا يعرف الحزن؛ وهذا الشراب الذي تحتويه الكأس يملأ النفس حبوراً وقوة وشباباً. ولن يبلغ مبلغه في هذا السبيل ذلك الشراب الذي أعطته في مصر زوجة ثون لهيلينا ابنة جوف؛ وما أحوج العذراء إليه كما يحتاج كل امرئ إلى ما(669/31)
ينعشه بعد النصب ويريحه بعد العناء، وقد مسها التعب والجوع، وهذا الشراب يدرأ عنها ذلك جميعاً، وتصيح به الفتاة: إنه لن يفعل أيها الكذوب الخائن، وإنه لن يرد إلى لسانك ما نفيته عنه بكذبك من الصدق والأمانة. أهذا هو الكوخ الأمين الذي حدثتني عنه؟ وما هذه الأشباح المنكرة التي أرى؟ هذه الشياطين القبيحة الرؤوس! يا رحمة الله احرسيني. . . اذهب عني بسحرك أيها الساحر البغيض، لو كان ما تقدمه لي كأساً من شراب جونو الذي تشربه إذ تطعم على مائدتها ما تناولته من يدك الخائنة؛ إنه لن يعطي الطيبات من الأشياء إلا الطيبون، ولن تسيغ الخبيث نفس عاقلة تضبطها الحكمة.
ويعلن كومس عجبه من حماقة بني الإنسان وتصديقهم كلام الفلاسفة في القناعة والزهد؛ ولم تخرج الطبيعة إذاً كنوزها وثمارها وزينتها إن لم يك ذلك لتدخل بها السرور على الأنفس المتطلعة إلى كل معجب جميل، وما غناء الحرير والذهب الذي يعبده الناس جميعا وغيرهما من الجواهر؟ إن الإنسان إذا قنع بالتافه من الطعام والشراب والخشن من الثياب لم يعرف أنعم الله ولم يشكره؛ وأين تذهب تلك الأنعم إذا تراكمت بعضها فوق بعض لزهد الناس فيها؟ ويهيب الساحر بالعذراء ألا تخدع نفسها بتلك الكلمة الجوفاء ألا وهي العفاف؛ فإن الجمال لا يكنز وإنما يجب أن تتناوله الأيدي؛ وإذا تصرمت الأيام ذوى كما تذوي الورد في عودها. والجمال فخار الطبيعة، ولذلك يجب أن يعلن في القصور والولائم وعظيم الحفلات حيث يتدبر الناس في عجيب صنعه؛ ويختم الساحر كلامه بأن يدعو الفتاة إلى التفكر فيما يقول فهي في زمن الشباب. . .
وترد عليه العذراء قائلة: ما تصورت من قبل أن تنفرج شفتاي بالكلام في جو كريه كهذا الجو، ولكن ما الحيلة وهذا الساحر يدلس على الرأي ويظن أنه قادر على أن يسحر فكري كما سحر عيني فيأتي بكلام زائف يلبسه لباس العقل؛ وإني لأكره أن تتمكن الرذيلة من أن تدلي بحججها ولا يكون للفضيلة لسان يصد تبجحها. أيها المخادع لا تتهم الطبيعة البريئة كما لو كانت تريد أن تبث في قلوب بنيها الزهو والخيلاء بما تفيض عليهم من كنوزها. إنها ما تخرج خيراتها إلا للطيبين الذين يعيشون وفق قوانينها الحكيمة، ويسيرون حسب ما يقتضيه الاعتدال. ولئن أتيح لكل رجل ممن أضنتهم الفاقة قدر بسيط لائق به مما جعلته الأبهة والترف ركاماً بعضها فوق بعض في أيد قليلة، فإن أنعم الطبيعة بذلك توزع في(669/32)
عدالة، وعندئذ فلا تتلف في خزائنها، وعلى ذلك يكون شكر المتفضل المنعم قد أدته كل نفس. ألا أن النهم لا يتجه إلى السماء ومن حوله ما تمتلئ به مائدته الفخمة، ولكنه يضيف إلى تهمه كفرانه بالنعمة، ذلك الكفران الدنيء الغبي فيمتلئ ويخوض في حق طاعمه. أأزيدك من قولي أم كفاك ما قلت؟ إنه لا يسعني إلا أن أقول شيئاً أرد به على ذلك الذي يجرؤ أن يسلح لسانه البذيء بكلمات حقيرة يوجهها ضد تلك القوة المتشحة بأشعة الشمس، قوة العفة ولكن ما غناء ذلك؟ إنك لا أذن لك ولا قلب حتى تفهم ذلك الرأي السامي وذلك السر العلوي اللذين ينبغي النطق بهما ليتكشف لك الخطير العاقل ألا وهو مبدأ العفاف، ومثلك من لا يستحق أن يعرف من السعادة أكثر مما هو فيه فأهنأ بلباقتك الحبيبة إليك وفصاحتك المرحة التي مرنت على لجاجها الخادع. وإنك لأصغر عندي من أن ترى نفسك وقد لزمتك الحجة. ولئن تكلمت فإن ما لهذه القضية الطاهرة من أحقية في الكلام لا تقاوم جدير أن يشعل جوانب نفسي حماسة بحيث يتحرك بالعطف على كل أصم من الجماد وتهتز الأرض الجافية فإذا بصرح سحرك الذي امتد عالياً صوب السماء ينقض كومات فوق رأسك الزائف.
ويحدث كومس نفسه قائلاً: إن لكلامها لوقعاً، وإني لأحس أن كلماتها إنما تمليها عليها قوة عليا ومع أنني لست من بني الفناء، فإن رعشة باردة تهز كياني كله كما بعث جوف الرعد إذ غضب فألقى بأبيه ساتورن في العالم السفلي، وكما تثير السلاسل المهتزة من رعد في آذان ملاحي ساتورن، ومع ذلك فيجب على أن أتغافل عما أجس وأعود إلى محاولتي معها وأنا أكثر مما كنت قوة، ثم يتجه إلى العذراء قائلاً حسبك هذا فإنه مما تلغون به في الحديث عن الخلق، وإنه ليخالف قوانيننا وقواعدنا، ولست أطيق منه أكثر مما فعلت، وما هو إلا مظهر نفس غاضبة، ولكن هذه الكأس تشفي ذلك كله سريعاً. إن رشفة واحدة منها تغرق النفس المكتئبة في فيض من السرور تقصر دونه مباهج الأحلام فارجعي إلى صوابك واشربي. . .
ويندفع أخواها وقد شهر كل منهما سيفه، ويضرب أحدهما زجاجة فيلقيها من يده فتتحطم فوق الأرض، ويهم أتباعه بالمقاومة ولكن الأخوين يدفعانهم بسيفيهما، وعندئذ يدخل الروح الحارس. . .(669/33)
(يتبع)
الحقيف(669/34)
عن الفرنسية:
يوسف الثاني والضابط
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
خرج الإمبراطور يوسف الثاني - عصر يوم - يرتاض بالقرب من مدينة فيينا - قصبة النمسا - في عربة مقفلة ذات مقعدين كان يقودها بنفسه.
وكان الإمبراطور يرتدي لباساً عادياً بسيطاً، وفي صحبته رجل من حاشيته متجرد من زيه الرسمي.
فلما استهل الإمبراطور الإدلاج في طريق المدينة بغتة وابل من هطل غزير. . . ورأى - على مسافة قريبة منه - رجلاً يصطنع الزي العسكري من رتبة الملازم الثاني يشير إليه علامة الاستيقاف. وكان بينا من اتجاه الرجل أنه يتخذ الطريق إلى المدينة. . . كالإمبراطور تماماً؛ فجذب الإمبراطور مقود الخيل وتريث ينتظر مقدم الضابط!
قال الضابط:
- هل يتفضل سيدي بمنحي المقعد الخالي إلى جواره. أظن سيدي لن يضيق بهذا الطلب كثيراً! وأكون شاكراً لسيدي تجنيبه الثوب الذي أرتديه اليوم - لأول مره - معابثة ماء المطر!
فقال الإمبراطور في بشاشة:
- لا عليك! ق ثوبك وهيا معي! من أين أنت قافل؟
فأجاب الضابط:
- آه! لقد كنت في زيارة واحد من أصدقائي. . . يشتغل حارس صيد وقد بالغ في إكرامي. . . وقدم إلي وجبة مختارة!
- وما هذا الذي قدم إليك؟
- خمن.!
- حسن. . . أيكون قدم إليك الثريد الفاخر مع نبيذ الشعير؟!
- آه! حسن! لقد قدم خيراً من هذا!
-. . . طبقاً من الكوكروت(669/35)
- أفضل من هذا!
- ماذا؟! لسان العجل!
-. . . أطيب من هذا أيضاً!
- أوه. . . صدقني. . . لقد أفرغت كل جعبتي، ولا إخالني مستطيعاً - بعد - أن أذهب في التخمين إلى أبعد من هذا!
-. . . لقد قدم إليّ أيها السيد ديكا برياً. . . ديكاً قنص في حقول صيد جلالة الملك!
- أولاً توجد أراض أكثر جودة من أراضي جلالته؟
- هذا أمر مفروغ منه يا سيدي!
وخيم الصمت برهة؛ وكانا قد قاربا المدينة وقطعا الطريق إلى نهايته. ولكن المطر ظل على تدفقه وانهماره؛ فاستوضح الإمبراطور رفيقه أي حي يقطن؟ ولكن الضابط أبدى رغبته في النزول متأدباً.
- سيدي. . . هذا إفراط منك في الأريحية، أخشى أن أكون قد. . .
فقطع عليه الإمبراطور:
- لا. . . لا تقل هذا، دلني على متجهك؟
فلم يسع الضابط إلا أن يعين مسكنه، ثم بدا له أن يتم تعرفه بالرجل الذي أفاض عليه من كرمه وظرفه. فتوجه إلى الإمبراطور مستفسراً أي مهنة يشغل؟ ولكن يوسف قال متخابثاً:
- حسن. . . أظن أنها الآن نوبتك في الحدس والتخمين!
- ربما كان سيدي من رجال الجيش؟
- تماماً. . .
- سيدي من رتبة (الملازم الأول).
- آه! تقول: ملازم أول؟! أوه. . . لا! أرفع من هذا.
- أيكون سيدي من رتبة (اليوزباشي)؟!
- أعلى من هذا أيضاً!
- أيكون سيدي من رتبة (الأميرالي)؟!
- يمكن تخطئة هذا الحدس أيضاً.(669/36)
- كيف؟! ماذا يكون سيدي إذن! أيكون (مارشالا)
- لا. . . ما زلت بعد مجانباً التوفيق!
- آه! يا إلهي!! إنه الإمبراطور!!
فقال الإمبراطور وهو يفك عرى معطفه ليظهر أوسمة الشرف التي تزين صدره:
- هو كذلك.!
وفقد الضابط إتزانه، وأرتج عليه حين أراد أن يلتمس المعاذير؛ ولكنه استطاع - بعد لآي - أن يفصح للإمبراطور ضارعاً عن رغبته في الإذن له بالنزول من العربة؛ فأجاب يوسف الثاني متلطفاً:
- ليس الآن! إنني لن أفارقك إلا عندما تقف العربة ببابك!. . .
وهنالك أذن له في النزول.
عبد العزيز الكرداني(669/37)
في كتاب البخلاء
طبعة وزارة المعارف
لأستاذ عظيم
- 3 -
الجزء الثاني
جاء في صفحة 7: (قال: فهو ذا المجوس يرتعون البصرة وبغداد وفارس والأهواز والدنيا كلها بنعال سندية). وقال الشارحان (يرتعون البصرة) أي يجوبون هذه البلاد ويطفون بها. . . ولكن رتع لازم فضمنه هنا معنى جاب أو قطع فعداه. وأقول: إنها يرقعون أو يترقعون؛ يقال: رقع الأرض برجليه، ضربها. ويقال: ترقع البلاد، تكسب فيها في الخصب.
وجاء في صفحه 13: (بقيت مخفقاً معدماً، وفقيراً مبلطاً) (بفتح اللام). وأرى أن الأرجح أن تكون مبلطاً بكسر الللام لتزاوج مخفقاً ومعدماً. وأبلط الرجل بالبناء للفاعل أو المفعول من معانيها أفتقر وصار لاصقاً بالأرض أو بالبلاط.
وجاء في صفحة 27: (وكان على ثقة أنه سيأتي عليه في الشتاء، مع صحته وبدنه، وفي شك من استبقائه في الصيف). وفسر الشارحان: (استبقائه) بالاستبقاء منه. وأرى الأولى أن تكون الكلمة محرفة عن (استيفائه)؛ لأن الشك إنما يكون في قدرته على استيفاء أكل الرأس لا على استبقاء بعضه. وهذا يتلاءم مع اللفظ بدون تقدير كلمة (منه).
وجاء في صفحة 30: (وكيف صنع فيلويه فيما بينك وبينه؟ قالت: كان يجرى على في كل أضحى درهماً! فقالت: وقد قطعه أيضاً)؛ والصواب: وقالت أو ثم قالت.
وجاء في صفحة 31: (وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن، جلاد الدم). وقال الشارحان: (جلاد الدم) قاتل كما يفهم من المقال وإن كان المعنى اللفظي لا يؤدي ذلك إلا بشي من التجوز. وأرى أنها (حلال الدم) وهي عبارة مفهومة لا تدعو للتجوز.
وجاء في صفحة 34: (وبعد، وكيف تشتهي الطعام اليوم) وأظن الواو زائدة أو هي فاء.
وجاء في صفحة 52: (وإذا مد أحدكم يده إلى الماء فاستسقى). والواو قبل إذا زائدة قطعاً(669/38)
كما في عيون الأخبار لأنها مبدأ كلام صاحب البيت الذي يطلب إلى الضيوف سماعه.
وجاء في صفحة 54: (قلت له فلم لا يتخذ موضع (مذار) من بعض (دقاق) أرضه فيذري لكم الأرز؟ ثم يكون الخيار في يده، إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد، أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري). وقال الشارحان: إن العبارة غير مستقيمة في جميع النسخ، ثم تكلفاً في تفسير الفرد والجوهري تكلفاً ظاهراً. وأرى أن عبارة الجاحظ محرفة، ولعل أصلها: (فلم لا يتخذ موضع مذر في بعض رقاق أرضه فيذري الخ وكلمة (الفرد) أصلها العرض، والجوهري أصلها الجوهر. ويكون المراد: فقلت له: لماذا لا يعمد إلى بعض عماله فيكون هو المذري لأرزه، وتكون التذرية على أرض رقاق أي لينة متربة. وما نتج من التذرية سيكون بالطبع أرزاً، ثم عصفاً، فعبر عن الأرز بالجوهر، وعن العصف والكسارة بالعرض. فإن كان الضيوف مستعجلين صنع لهم العرض خبزاً، وإن انتظروا صنعه لهم الجوهر. وهذه الفكرة الخبيثة قد استعاذ الخاطب بالله منها أن يحاذيها ذلك الضيف البخيل.
وجاء في صفحة 80: (فتذاكروا الزيت وفضل ما بينه وبين السمن، وفضل ما بين الأنفاق وزيت الماء) ولعل (الأنفاق) محرفة عن (الأنفاط) وهي الأنواع المختلفة من النفط وهو الزيت الحجري. ولعل مراده بزيت الماء زيوت الأزهار التي تستقر بالأنبيق، فكأنهم فاضلوا بين السمن وزيت الطعام، وجرهم هذا إلى الكلام في أنواع الزيوت الأخرى، من معدنية ومائية.
وجاء في صفحة 95: (ولقد وهب لرجل ألف بعير، فلما رآها تزدحم في الهوادي قال: أشهد أنك نبي) وقد فسر الشارحان الهوادي تفسيراً غير مفهوم، والأقرب أن تكون (المرادي) جمع مرداء، وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها، والازدحام فيها مفهوم بلا عناء.
وجاء في صفحة 172: (ولأن الحوائج تنقضّ) والصواب تقتضي. وجاء في الصفحة نفسها قوله: (قلت له فإذا أتيت رجلاً في أمر لم تتقدم بمسألة، كيف يكون جوابه لك؟) وصواب (أتيت) أنبت؛ لأن هذا البخيل قال لسائله إنه مستعد لا للإعطاء بل لتأنيب من يشاء أن يؤنبه هذا البخيل لمصلحته، سواء أكان من يقع عليه التأنيب هو من يسأل هذا البخيل غداً رد جميلة بإعطائه الغير مقابل هذا الجميل، أم كان من يقع عليه التأنيب(669/39)
شخصاً آخر. فلما سمع السائل من البخيل هذا القول دهش ولم يفهم كيف يستطيع هذا البخيل أو غيره أن يؤنب إنساناً على أمر لم يسبق أن كلمه فيه ذلك الإنسان. وقد دفعه هذا الدهش إلى الاستفهام من البخيل عن هذا التأنيب الغير المسبوق بما يقتضيه وعما يكون جواب المؤنب. واستفهامه عن جواب المؤنب ليس استفهاماً حقيقياً بل لفت نظر إلى ما يكون حتماً وعادة من دفع هذا المؤنب إلى مقابلته بكل شر.
وجاء في صفحة 195: (وقال الأفوه الأودى:
تهنا لثعلبة ابن قيس جنفةُ ... يأوي إليها في الشتاء الجوع
ومذانب لا تستعار وخيمة ... سوداء عيب نسيجها لا يّرقع
وكأنما فيها المذانب حَلْقَةّ ... ودم الدلاء على دلوج يّنزع
وقال الشارحان في تفسير البيت الأخير: (يقول كأن المغارف (المذانب) وقد أحاطت بحافة هذه الجنفة حلقة لاستدارتها حولها، وكأن ما يغرفه منها الآكلون لعظمه وثقله ماء دلاء يرفعه النازعون بمشقة. وأقول: إن هذا التفسير متكلف ملتبس، وأظهر مبهماته عبارة (ماء دلاء) فإن المذكور في البيت دم دلاء، ولا ندرى كيف يجعل الدم ماء. والأصح أن كلمة (حلقة) في البيت محرفة عن (خفة)، وكلمتي (ودم) مصحفتان عن كل كلمة واحدة هي (وذم) والوذم جمع وذمة وهي الرباط من جلد أوليف مثلاً يشد بها طرفاً خشبة الدلو إلى عروتيه. وإذن يكون معنى البيت بعد التصحيح: كأن تلك المذانب (المغارف) إذ تراها متعاقبة يخلف بعضها بعضاً على النشل من القدر تحسبها أخشاب الدلاء انفصلت وانتزعت على أربطتها من عروتي تلك الدلاء أثناء الدلوج من البئر إلى الحوض. هذا ما يخيل إلى أنه الأصل وأنه المراد. ويؤكده عندي أن المغرفة هي ساق متصلة بكتلة مقورة من الخشب وهيئتها كهيئة الدلو إذا انفصلت، وفي أحد طرفيها الوذمة التي هي أوسع قطراً منها. والتصحيح والتفسير على هذا الوجه يقتضيان جعل (ينزع) بالتاء بدل الياء. وبعد أن كتبت هذه الملاحظة اتفق أن زارني الأستاذ الشيخ علام نصار وكيل محكمة مصر الشرعية فلما قرأها قال: إنه لا يتصور كيف تكون المغارف كخشب الدلاء المنزوعة من عرواتها عند الدلوج من البئر إلى الحوض. وفي ذات مساء قال لي في التليفون: إنه راجع هذه الأبيات في ديوان الأفوه الأودى فوجدها كما صححتها.(669/40)
ولكن هناك تحريفاً آخر في كلمة (دلوج) فإنها بالديوان (قليب) وأن (تهنأ) في البيت الأول أصلها (فينا) وأن (خيمة) و (نسيجها) و (ترقع) في البيت الثاني أصلها (جفنة) و (نشيجها) و (ترفع). وقد أرسل إلى كتاب الطرائف الأدبية وفيه هذه التصحيحات بصفحة 19 فشكرته على فضله، وطلبت إلى حضرة مراقب المجمع إعادة الكتاب إليه. ومن رأيي أن (فينا) لا بد أن تكون هي الصحيحة دون (تهنأ)، وأما (جفنة) بدل (خيمة) في البيت الثاني فمحل نظر؛ وأن (نشيجها) لا بد أن يكون أصلها (نشيشها). وهذا التصحيح قد يجعلني أعدل عن تصوير حالة المذانب عند الدلوج وأن أقول أنه يستعمل (الوذم) في معنى رشاء البئر. أي أن استخراج ما في القدر بواسطة هذه المذانب يصور دلاء تنزع من القليب برشائها وهي صورة جيدة لا بأس بها.
وجاء في صفحة 207: (وقال الأعشى:
المشرف العَود فأكنافه ... ما بين حمران فينصوب
ومن رأيي أنها العود بالضم لا بالفتح، وهو كناية عن ارتفاع قامته مادياً أو ارتفاع هامته معنوياً، والثاني هو المقصود طبعاً.
وجاء في صفحة 220:
ونار كسحر العّود يرفع ضوءها ... مع الليل هبات الرياح الصوارد
والصحيح أنها كسحر العود، أي حمراء كرئة البعير. ولو جاز أن يكون الأصل كما هنا لكان الكلام تافهاً؛ لأن النار دائماً هي سجر العيدان ضؤل خشبها أو جزل.(669/41)
حنين. . .
للشاعر مصطفى علي عبد الرحمن
أنيري لي الدنيا وهاتي الذي ينسى ... فيا طالما لجَ اشتياقي إلى أمسي
أنا التائه العاني أنا المدلج الذي ... يسيرّ على شك ويخبط في يأس
أريد من الدنيا رضاءك لحظة ... أّعيد بها أنسي وأحي مدى حسي
وأخشى على نفسي من الموت قبلما ... تقيمين أعلام البشائر في نفسي
ذكرت ليالينا الحبيبات مّبعداً ... عن الدار لا صفو لدي ولا كأسي
أبيتّ على هم وأصحّو على أسى ... الأشدَ ما أصحو عليه وما أّمسي
وأمشي وراء الوهم والوهمّ قاتلّ ... فلا شاطئّ يدنو ولا زورق يرسي
فياضلة الفكر المعذب ما ونتْ ... تكيلّ له الأيام تعساً على تعسِ
هنا ملعب فيه انتشينا مع الصبا ... وكأن لنا منه مراح وسامرّ
هنا في ضياء العمر كان لقاؤنا ... بعيدين عما تتقيه النواظر
هنا كانت الدنيا ونشوة سحرها ... وطوفان نور من سنا الحب غامر
به سبحت أحلامنا كل مسبح ... وغنت لنا آمالنا والبشائر
بكيت على يومي يمرّ ولا أرى ... له في شعاب النفس رجعاً لأنغام
بكيت على أحباب قلبي تفرقوا ... وخلفت وحدي في مجاهل إظلامي
بكيت على الآمال تذوي على المنى ... على بسمة كانت على ثغري الدامي
أما عودة للأمس في ظل نشوة ... أحطمّ في أنوارها كيد آلامي
أيا شاطئ الإلهام كيف تمزقت ... أمانيَ في تلك الرحاب النواضر
وأصباحنا ما بال أصباحنا مضت ... وخلَفن لي ظلم العشايا البواسر
فؤادي ألا تحنو على قلبيَ الذي ... أتاك لهيفاً مستثار الخواطر
أرى بسمة تعلو محياك نورها ... كأنك من أحلامنا جد ساخر
ويا أيها الحلم البهيج الذي انطوى ... أتلقاك منى النفسّ والعين ثانيا
فأسبح في أنوارك البيض لحظة ... وأمرح في أجوائك الزهر هانيا
وتنسى بك الهمَ الدفين حشاشة ... على الألم اللذاع تقضي اللياليا(669/42)
حشاشة قلب بات لهفان صاديا ... ينادى فلا يلقى المجيب المواسيا
يحن إليك القلب لهفان مثلما ... يحن جديب القفر للسلسل العذب
أهيم بدنيا الناس وهى جديبة ... وإن حاط بي أهلي ورافقني صحبي
ذنوبي هوى في ثورة الجن صاخب ... يناديك قلبي لا رأيت جوى قلبي
فهل آن إسعادي وهل آن أن أرى ... من العطف ما يحي البشائر في جدبي(669/43)
إلى سعادة الأمين العام لجامعة الدول العربية:
كن حامل النار
للأستاذ حسن أحمد باكثير
(جاء في تصريح رسمي لعبد الرحمن عزام باشا أن جامعة
الدول العربية تطالب بجلاء الجيوش الأجنبية عن شمال أفريقيا
كما تطالب بجلائها عن سوريا ولبنان ومصر، فقابلت صحف
فرنسا هذا التصريح بعاصفة من الاحتجاجات وكتبت ترد عليه
بعناوين ضخمة قائلة: لا يا باشا!! وفي اعتقادي أن الجامعة
ينبغي أن تعجل بإنشاء جيش عربي ضخم يتولى عنها الرد
على أمثال هذا التحدي الفرنسي الوقح).
يا حامل النور في يمناه مؤتلقاً! ... ما نفع نورك إن لمّ يمْس نيرانا؟
ما نفع نورك في دنيا تسود بها ... شرائع كفرت بالنور كفرانا؟
النور ينفع في دنيا مطهرة ... وليس ينفع في دنيا كدنيانا
دنيا يسود بها من حاز في يده ... ناراً ولو كان رب النار شيطانا
أما رأيت فرنسا غير عابئة ... بحق قومك طغيانا وعدوانا؟
أما سمعت نواياها يردّدها ... في مجلس الأمنِ بيدو نحو لبنانا؟
أما شهدت صنوفا من جرائمها ... في المغرب المتلظي روحا وجثمانا؟
ماذا أجابت فرنسا حين قلت لها: ... (العالم العربي استيقظ الآنا
وأمة الضاد تأبى أن يظل به ... جيش غريب يريها الذل ألوانا)
ماذا أجابت؟ لقد قالت مزمجرة ... صخابة: (لا) بصوت ظل رنانا
صوت تؤيده نار ولو تركت ... تأييده لانقضى وأرتد دخانا
يا حامل النور! خل النور ناحية ... إن لم تحِلْه لظى توري حنايانا(669/44)
كن حامل النار وارفعها مؤججة ... ألهب بها كل قلب ذل أو هانا
وأسحق بها كل ضعف في عزائمنا ... وامحق بها كل وهن في سجايانا
وأبعث سخائمنا وانشر حفائظنا ... واملأ جوانحنا حقدا وأضغانا
أحرق بها كل جبار يهددنا ... والذع بها كل طاغ قال بهتانا
وابلغ بها كل ناء من مقاصدنا ... واحلل بها كل صعب من قضايانا
يا صاحب الحق ليس حق منتصراً ... إن لم يجد من جيوش الحق أعوانا
كوَن لحقك جيشا غير مدخور ... إن كنت تبغي له عزاً وسلطانا
الحق شرعتنا والحق عبئنا ... والضعف علتنا والضعف بلوانا
والجيش عدتنا والجيش عزتنا ... والجيش سطوتنا والجيش منجانا(669/45)
رسالة الفن
معرض القاهرة السادس والعشرون التصوير والنحت
للأستاذ نصري عطا الله سوس
نحب أن نمهد الحديث عن هذا المعرض بذكر بعض الأصول والبديهيات التي اهتدينا بهديها حين كتبنا هذا المقال، والتي كثيراً ما يؤدي الجهل بها أو التشكك فيها إلى الخطأ في الحكم والتقدير، ومن ثم فوات المقصود من إنتاج الفن أو مشاهدته:
البديهية الأولى - والأخيرة! - هي أن الفن هو التعبير الموفق عن العاطفة الصادقة، فالمصور يلجأ إلى التصوير للتعبير عن عاطفة جاشت بها نفسه وامتلأ بها قلبه، وهذه العاطفة تختلف عن عواطفنا اليومية العادية بقوتها، ووضوحها وكمالها، وفي الفن لا ترى الأشياء بعين الحاجة أو المنفعة؛ بل نراها لمجرد رؤيتها ونتأملها لغاية التأمل، وهذه النظرة للأشياء تتسم بدقة الإدراك ونقاء الأثر الذي تحدثه في نفس الفنان، وبالتالي في نفس المشاهد.
وخاصية فن التصوير هي التعبير عن عاطفة أو إحساس تلقيناه عن طريق العين، أثارته فينا الخصائص الشكلية للأشياء والمعاني، ولذا لا يمكن التعبير عنه إلا بالأشكال والألوان. ولو أمكن التعبير عنه بوسيلة أخرى، كاللغة مثلاً، لبطلت الحاجة إلى فن التصوير وانتفى وجوده.
وليست الغاية من الفن محاكاة الطبيعة أو النقل الأمين عنها كما يظن الكثيرون، فالفن لا يعطينا صورة من الأشياء بل من جوهر الأشياء، وحقيقتها الكاملة بما فيها من إمكانيات مستسرة وقيم عليا. ويختلف نصيب الأعمال الفنية من العظمة والجودة باختلاف نصيبها من القوة التعبيرية التي تقوم على قوة الحافز العاطفي ومتانة وصدق الأداء، وقوة الأثر وخلود الذكر من نصيب الأعمال الفنية التي تعالج العواطف الإنسانية العنصرية والأصيلة، والتي تطرد في الناس على اختلاف البيئات والزمان، والتي تعالج الحقائق الباقية والقوانين الكونية والمثل الإنسانية العليا، على أن يتسم الأداء بالقوة والكمال والبساطة، ويعبر عن دقة الفهم ولطف الإحساس.
المستوى العام للمعرض أعلى منه في السنوات القليلة الماضية، وهناك عدد لا بأس به من(669/46)
المصورين ينفرد كل منهم بطابع مستقل، وشخصية متميزة وعالم خاص وأعمالهم الفنية مرآة صافية لعواطف واحساسات، كثيراً ما تحول مشاغل حياتنا اليومية دون تعهدها والتمتع بها. ورسالة الفن أولاً وأخيراً هي أن يتم نواحي النقص في حياتنا النفسية والروحية، وأن يمهد لنا سبيل استنهاض هذه العواطف والاحساسات، وأن يعاونها على ارتياد آفاق جديدة، حتى يعاودها شبابها وعمقها وحيويتها، كما أن عددا كبيراً من الصور التي ينقصها النضوج والإتقان. وقديماً قيل أن الذوق لا يعلل، وكثيراً ما اتخذ هذا القول ذريعة للتسامح والتهاون والاستهتار، وحسبنا هذه الإشارة، وفيما يلي عرض سريع لمآثر المعرض:
عرض محمود سعيد بك لوحتين لا تمثلان خير إنتاجه. ومكانة سعيد بك معروفة، ولكنه لا يحاول أن ينوع أو يرتاد آفاقاً جديدة. وصورة هذا العام ليست إلا نسخاً أخرى من موضوعاته التي ألفناها.
وقدم الأستاذ مصطفى دربالة دراسة رائعة (للبوظة) في عدة لوحات وفق في معظمها توفيقاً نادراً إلى التعبير الصادق المتقن عن روح (البوظة) وطابع شخصيات روادها ونفسياتهم.
وفي صور الأستاذ زوريان أشود طلاقة وحرية في التعبير الجيد عن الخصائص الكلية للأشياء. وله صورة وجهيه (صورة نورا) نعتبرها أنموذجاً كاملاً لما يجب أن يكون عليه هذا الفن، ففيها يمتزج المعنى والمبنى وتأتلف كل عناصر الفن، وفضلاً عن أنه وفق إلى التعبير عن روح صاحبة هذه الصورة، منعكسة على سماتها وملامحها، فالصورة ذات مميزات بارزة إذا نظرت كشيْ قائم بذاته.
وعرض الأستاذ نعيم جاب الله ثلاث لوحات قيمة تدل على حيوية كبيرة: فالطبيعة التي تبدو للعيون هامدة خامدة تتجلى في صورة نشطة نشاطاً عارماً مليئة بالقوة والحياة. ونحن نشهد لهذا المصور الشاب بعمق الشعور ودقة الذوق الممثلين في حسن اختياره للألوان، ونشهد له بإحساسه القوي بالنور المصري الصافي، وهو إحساس نفسي لا بصري فقط - ورسالة الفن تتلقاها العين ولكن تؤديها النفس - وصورة تذكرني بقول الشاعر كيتس: (الألحان المسموعة حلوة، ولكن غير المسموعة أحلى) لأن فيها ألحاناً غير مسموعة، وهي بذلك تؤدي رسالة الفن التي تقصر عن أدائها الألفاظ.(669/47)
وقد قلت عن (الآنسة إحسان خليل) لعامين خليا في مجلة الرسالة: (إن هذه الفتاة فنانة حتى أطراف أناملها. والذي يتأمل المناظر الطبيعية التي رسمتها يحس أنها تتناول الفرشة بقلبها الرقيق لا بأصابع يديها). وصورها هذا العام تعبر بجلاء عن شاعريتها وروحها الصوفية الرقيقة، ففيها صلاة وعبادة للطبيعة، وفيها نفاذ إلى روح المنظر، وفيها موسيقى تراها العين ويحسها القلب، كما أنها توحي بالسلام والاطمئنان اللذين نحسهما عندما نخرج من أسر النفس، ونرتفع عن مستواها لنندمج في الكون الكبير.
والأستاذ عز الدين حمودة رسام أنيق ودقيق في اختيار موضوعاته: (مدام سول، في أحلام الترف، شرقية) وهو موفق في الأداء، وصورة جياشة بالمعاني النفسية. ولعل حسن اختياره لموضوعات صورة، وكلها صور سيدات، هو سر توفيقه. غير أني أحس أنه غير موفق كثيراً في (في أحلام الترف) ويبدو هذا بجلاء عندما نقارن هذه الصورة بصورة سعيد بك: (زبيدة) ففي الأخيرة تكاد كل ذرة تعبر عن (أحلام اللحم) كما أن المشاهد يحس على الأثر أن للصورة روحا، وهذا لا يتوفر في صورة حموده.
والأستاذ منير شريف موفق جداً في التعبير عن إحساسه بمناظر البحر، وهو يؤدي إحساسه هذا ببساطة وخلو من التعقيد ودون لجوء إلى التزويق والمحسنات. وسر نجاحه أن الأداء عنده طريق ممهد سهل للوصول إلى عاطفته ومشاركته فيها.
وتطغى الروح الأكاديمية على معروضات جماعة الدعاية الفنية (وقوامها الأساتذة حبيب جورجي، شفيق رزق، نجيب أسعد، الآنسة صوفي جرجس) ولكنهم ينسجون على منوال واحد في التعبير. ومن الصعب جداً تمييز أعمال أي منهم من أعمال بقية الجماعة، وجانب الصنعة عندهم يطغى على جانب الإحساس وإن كانت الصنعة نفسها لا تمتاز بالقوة أو المهارة. وتنطبق هذه الأقوال على مدرسي الفن في المدارس والمعاهد ومنهم الأساتذة عبد العزيز درويش، وسند بسطاً، وكامل مصطفى محمد (ونشهد له بالنجاح في صوره الوجهية: الآنسة كوليت، جارتي) وصدقي الجباخنجي ورمزي السيد مصطفى إلى حد ما. فهل نستنتج من هذا أن ممارسة الفن كمهنة يقتل الموهبة ويذهب بحيويتها؟؟
وللأستاذ يوسف كامل صور وجهية لا بأس بها (نصري. عبد القدوس). والأستاذ طويل ريمي يقتصد جداً في الأداء فينجح إذا كان الاقتصاد اقتصاراً على التعبير على الخصائص(669/48)
الجوهرية مثل (شيخ يقرأ) ولا ينجح إذا انقلب الاقتصاد إلى قصور في التعبير مثل (فناء العزبة).
وقد خطا الأستاذ أحمد شاكر خطوة موفقة في صوره الوجهية (المصور: مدام نجاتي بك) وبقى أن يعمل للوصول إلى المستوى نفسه في المناظر الطبيعية. وينطبق القول نفسه على الأستاذ عزت إبراهيم.
وفي المعرض أكثر من صورة تمثل الأمومة، وأحسنها وأقواها صورة الأستاذ إدوار رزق الله، وما من ناقد يستطيع أن ينكر على الآنسة مرجريت نخلة قدرتها التعبيرية، ولكن النهج الذي تؤثره في الأداء يغلب عليه طابع (الكاريكاتور). وأعتقد أن الأستاذ جمال الدين سجيني رساماً أكثر منه مثالاً.
وتمتاز صور الآنسة جينان جاكلين، بشيء من الشاعرية، والعاطفة الشابة، وإحساس بالنور يبدو على أتمه وأقواه في (في الجزيرة)؛ ولكن الأداء يخونها أحياناً. وتدل معروضات الآنستين بثينة أحمد وعائشة عبد العال على روح فنية لم يكتمل نضجها بعد، ولكنها سليمة، كما أن الآنسة تحية وهبة لم تبذل كل ما كان يمكنها أن تبذله من مجهود.
ومما يلفت النظر أن خصائص الروح المصرية ممثلة تمثيلاً ملحوظاً في التماثيل المعروضة هذا العام. ويكفي أن نذكر تمثال (العمدة) للأستاذ عبد الحميد حمدي وهو يمثل الطيبة والسذاجة التي تكاد تصل إلى حد البلاهة، و (رأس شيخ) له أيضاً، و (عامل) للأستاذ ميشيل جرجس، وهو يمثل الطيبة والخشونة وقوة الاحتمال. ومن أبرز المثالين هذا العام الأستاذ ناتان أبسخيرون، وحسبه تمثاله الرائع (أحلام). وللأستاذ حلمي يوسف تمثال جيد للمرحوم أحمد ماهر باشا.
وقد عرضت الآنسة عايدة عبد الكريم - وهي ما تزال طالبة - عدة تماثيل تمتاز بالحيوية والنضوج. وما من شك في أن هذه الفتاة ينتظرها مستقبل باهر في النحت؛ فهي واسعة الأفق، قديرة على التنويع، خبيرة بالعواطف النفسية وتجيد التعبير عنها.
والمعرض في مجموعه جدير بالدراسة والتأمل، وفيه فرصة متاحة للجميع للمتعة الذوقية الرفيعة.
نصري عطا الله سوس(669/49)
البريد الأدبي
في مقالين:
أرسل ألينا الأستاذ الشيخ محمود أحمد الغمراوي شيخ معهدي دسوق والزقازيق سابقاً مقالاً بهذا العنوان يناقش فيه ما كتبناه وكتبه الأستاذ العقاد في موضوع الأزهر. وقد جاءنا المقال بعد طبع الملازم الأولى من (الرسالة) فاضطررنا أن نرجئه إلى العدد المقبل.
. . . . ولا تقولن ذاك هناك:
في الرسالة الغراء (666) في المقالة البليغة ذات العنوان (أين الأقلام) لصاحب الفضيلة العالم الأديب الأستاذ (الشيخ علي الطنطاوي) الدمشقي - هذا القول:
(أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوربة فهو خير ورشاد، وكل ما بقى لنا من الشرق فهو شر وفساد.
وهذا من أقبح ما خلفه فينا الاستعمار.
فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، ونقيم لهم الميزان العادل، ونحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون).
وقد ذكرني كلام القاضي الفاضل بشيء سمعته في خطبة خطيب في بيروت سنة (1343 هـ) فرأيت روايته في الرسالة الكريمة، وهو يظاهر مذهب الشيخ.
سمعت ذلك الخطيب منذ ثلاث وعشرين سنة يقول:
(. . . فقد اعتقدت العربية العقد لبنيها وكنزت، واحتشدت لهم في تأثير خير المال وورثت. فما أجن من ضيع هذا الميراث وما الأمة. وإذا استجديت (يا هذا) غيرك بعد فقدان ثروتك لا يجديك، وإذا انتميت إلى غير جدك وأبيك لا يعليك ذلك لكن يعطيك. وهل يسوغ لعاقل أن ينسى نفسه (ونفسه كريمة لديه يوم الذكر) ويجحد صنيعه أهله وقد أحسنوا إليه فيغدو مثلاً مضروباً في السفه واللؤم والكفر؟ ومن يجنح إلى الخسران وفي يده الريح، ومن يقبل الخذلان وقد ماشاه النجح؟ ومن يستحب على العدم، وأن تضمحل أمته في الأمم؟
فيا أيها العربي، إنك عربي ولا يراك سواك إلا عربياً، وإن شئت أن تأبق إباق من بيت(669/51)
عربيتك وتسل ثيابها، وتصرم أسبابها، فلن يعطيك الغرب ذلك ولن يضعك وأن أبيت إلا هنالك، وهو إما يلقاك حياً قمياً، وإما يلقاك عربياً قوياً، فيحتقرك ضعيفاً صغيراً، ويوقرك عظيماً كبيراً، ويتعبدك ذليلاً، ويؤاخيك جليلاً، فالبس البس جلد القوة، وجد كما جد الغربي، واستعد بما استعد، واعلم علمه واخبر فنه، وابل نظامه، وحقق (يا هذا) تحقيقه، وأسلك في الكون طريقه - وقبيح الشرق قبيح الغرب. فلا تجهل ولا تقبح ولا تقولن ذاك هناك، فثمة داء، وهناك دواء. فيا عليل أطلب هذا ودع السم - وجود عيشك تجويدة، وأتقن صنعك إتقانه؛ فلن يفلح بعد اليوم إلا التقن واقتصد في دنياك اقتصاده، وجد إما وفر مالك جودة، وأخلص أخلص في كل عمل إخلاصه.
وذر السخفاء من العظاميين وانبذ عبيد الجهل، والزم العصاميين وخالص أهل الفضل، فليس من يهدم دعائم عربيتك كمن يشيد، ولا الأفين كالرجل الحازم الرشيد، وما جاهل أمر مثل عالمه. . .)
السهمي
إنها مشكلة التعليم كله لا الأزهر وحده!
نحن في حاجة إلى المصلح المثقف الذي يتفرغ إلى دراسة المشاكل الاجتماعية دراسة فهم وخبرة ورغبة، قبل أن يخرج إلينا وفي يده مشروعات مرتجلة. ونحن في حاجة إلى الكاتب الذي يحسن التوجيه ويجيد الكشف عن خفايا الأدواء ويصدق في وصف الدواء.
حياتنا. . . كلها ارتجال. . . وما ينفع الارتجال في إصلاح حياتنا الاجتماعية وملاك الأمر فيها - كما يقول الأستاذ الكبير الزيات - (الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. . .)
أجل لقد صدق الأستاذ في وصفه أسباب فشل وسائل الإصلاح في مصر. . . ولقد صدق أيضاً وبلغ الغاية في مقاله عن مشكلة الأزهر. . .
فقد كان في مقاله ذاك باحثاً يسير في هدى عقيدة، ويمضي في ظل معرفة، ويقرر في ثقة الدارس الواعي المتبصر. . .
قرأت المقال فأثار في نفسي خواطر شتى كلها تدور حول أصول التعليم ووسائل التربية(669/52)
في مصر. . . أحببت أن أسارع فأعرض بعضها عرضاً سريعاً.
رأيت أن اتجاهات التعليم في مصر اتجاهات تنكبت سبيل الصواب وبعدت عن مقتضيات الأحوال فلم تساير طبيعة الواقع، ولم تتساوق مع واقع الظروف. . . كلها ارتجال في ارتجال. . أو لنكن أكثر صراحة فنقول إنها برامج فرضتها ظروف أطل من بين ثناياها شبح المستعمر يملي رغبته تارة من بعيد تلميحاً، وتارة أخرى من قريب تصريحاً. . .
وما ظنك ببرامج جاءت أصولها على هذه الحال وفي هذه الظروف. . . ولغرض معروف؟ إنها تهدف أول ما تهدف إلى تقييد العقلية الفتية المصرية بقيود الاستعمار. . . ولقد أثرت حقاً وكان تأثيرها الإيجابي مركزاً في قهر روح الابتكار في الشبيبة المصرية، وقتل روح الاختراع والتجديد. . . بفرض نظام مدرسي عقيم لا يعمل على اكتشاف مواهب الطفل صغيراً، ولا يهدف إلى توجيه رغبة الشاب يافعاً.
نظام مقسم تقسيماً عقيماً. . . خدعنا بما فيه مقاييس للسن فليست المسألة مسألة تقسيم مراحل تعليمية أولية وابتدائه. . . وثانوية وعالية.
المشكلة مشكلة تقسيم الوسائل التربوية. . .
والمشكلة مشكلة مسايرة هذه الوسائل التربوية للظروف الاجتماعية والمادية والثقافية والنفسية.
والمشكلة مشكلة التطبيق السليم لهذه الوسائل السليمة.
فهل أدرك رجالنا هذه الحقائق؟ هل عملوا على تلافي الأخطاء؟
الواقع أنهم تركوا الأمور تسير سيراً مرتجلاً كما ارتجلت من قبل البرامج؛ ففي كل عام نظام جديد يهدم نظاماً قديماً. . . وحتى هذا الجديد لا يلبث طويلاً، وقبل أن ينتج أثراً يمكن الحكم به على صلاحيته يقذف به في أغوار النسيان ليحتل مكانه غيره. . .
قد يقال إننا أخذنا عن الغرب طرائق التربية. . . نعم أخذنا ولكن كان تقليدنا في الشكل لا في الجوهر. . . غيرنا البرامج بيد أننا لم نحسن التطبيق. . . ولم نستطع أن نفهم أن المدرسة توجيه وإرشاد وخلق وإصلاح. . .
فالإعداد فاسد، لأنه يمهد السبيل لنيل شهادة النجاح في المدرسة فحسب، ولكنه لا يسلح الطالب بما يظمن له أسباب النجاح في خضم الحياة. . . فالمدرسة المصرية تعني كل(669/53)
العناية بالامتحان وتغفل عن خلق روح الاجتماع والكفاح في الحياة.
والمدرس المصري يأمر ويبطش ليطاع، على حين أن المدرس الأوربي يوجه ويشجع ويعطف ليطاع عن حب متبادل. . . وشتان بين طاعة أنت مجبر عليها ومحبة أنت راغب فيها. . .
إن إعداد المدرس في مصر إعداد مرتجل. والأمل لم يزل معقوداً على معهد التربية ودار العلوم والآداب والأزهر. . . ولكن على شريطة أن تأخذ وزارة المعارف بما اقترحه الأستاذ الكبير صاحب الرسالة.
إسكندرية
آنسة عواطف بيومي
الفيلسوف جحا:
على أثر المحاضرة التي ألقاها الأستاذ كامل كيلاني عن جحا وتاريخه وفلسفته ارتجل الأستاذ محمود غنيم هذه الأبيات:
أني حسبتّ (جحا) مجانة ماجن ... فإذا به رجل جليلّ الشأنِ
هو فيلسوف قام ينشر ذكره ... بين البريَةِ فيلسوف ثان
ما زال يطريه ويعلي شأنهّ ... متحدثاً عنه بكل لسان
حتى حسبتّ (جحا) رشيداً ثانياً ... أو من أقارب (كامل كيلاني)
وارتجل كذلك الأستاذ حليم دموس هذه الأبيات:
يا حارس الفصحى وناشرَ من طوى ... من تالدٍ منها ومن مستطرفِ
ألفتَ بين فكاهة ونباهة ... وكشفت عن ذهن نقي مرهفي
وجعلت هزل (جحا) دروساً للحجى ... فإذا الحقائق تنجلي في أحرفِ
وعصرت منها للعصور وأهلها ... كأساً من الأدب الرفيع الألطف
فوقفت في الوادي أمامك خاشعاً ... وعرفتّ أنيَ جاهل لم أعرفِ
فأهنأ بحكمتك التي دونتها ... لتنير من سبل الهداية ما خِفي
والبيت الأخير لسعادة أحمد حلمي باشا مدير بنك الأمة العربية(669/54)
القصص
الغلاف ذو الأختام الحمر
للكاتب الفرنسي موريس ليبلاق
بقلم الدكتور محمد غلاب
في مساء اليوم الخامس والعشرين بعد وفاة (جاكيلين) أنس زوجها (جيوم) من نفسه الشجاعة على دخول غرفة تلك التي أحبها حبا شديد العمق خصب السعادة.
وكان يريد أن يتنسم على الأخص عطر الماضي بقراءة تلك الرسائل التي كتبها هو إليها في الأوقات التي كانت الحياة فيها ترغمهما على مفارقات قاسية. وكانت (جاكيلين) تحفظ كل رسائلها في علبة من الأبنوس المطعم بالصدف لا يفارقها مفتاحها أبدا. فلما فتح هذه العلبة ألفى بها عدة حزم من الرسائل مربوطة بأشرطة مختلفة الألوان، ووجد على كل جزمه علامة تميزها من غيرها وتعين عصرها، فعلى إحداها مثلا كتبت (جيوم في الجزائر) وعلى الثانية (جيوم في الجيش) وهكذا، وكانت تحت هذه الحزم كراسة معروفة تماما لجيوم، وهي نوع من اليوميات التي كانت (جاكيلين) تقيد فيها إحساسهما المشترك، ومسراتهما وأحزانهما.
غير أن جيوم حين أخرج هذه الكراسة زحزح قطعة من القطيفة كانت تغطي قاع العلبة، فلما رفع هذه القطعة دهش كل الدهش إذ ألفى تحتها غلافا أصفر مختوما بخمسة أختام حمر وكأنه يحتوي على كمية من الأوراق.
فلما نظر إلى هذا الغلاف عرف خط زوجته وقرأ عليه هذه الجملة: (يسلم بعد موتي إلى صديقتي هانرييت ديسيز).
لم يتردد جيوم ثانية في فتحه، فمع أنه حميد الأخلاق إلى حد بعيد، وبرغم أنه طول حياة جاكيلين لم يفتح قط رسالة موجهة إليها فإنه بحركة فجائية وبدون تردد، وبدافع غريزة تغلبت فيه على كل شي قد فض الأختام ومزق الغلاف.
إنها رسائل، ورسائل رجل.
تناول إحداها بيد مرتعشة.(669/56)
إنها تبتدئ بهذه الكلمة: (عزيزتي المعبودة. . .).
أدار الصفحة ونظر إلى الإمضاء فألفاه (رفائيل).
وفي الحال فهم كل شيء فقد كان (رفائيل دور ميفال) أثناء الشهور الأخيرة التي سبقت مرض (جاكيلين) يتردد على منزلهم، بل طالما دخل جيوم فألفى هذا الرجل جالسا بالقرب من زوجته، فالآن قد أدرك معنا صمتهما الذي كان يسببه لهما حضوره المضايق.
وفي هذه اللحظة كانت الساعة تدق الحادية عشر مساء، فنهض وغادر الحجرة وتناول قبعته ومعطفه وخرج إلى الطريق، فاستقل سيارة أجرة إلى نادي شارع كابوسين فصعد إليه فألفى هناك عدة مناضد مشغولة بلاعبي الورق، وفي نهاية إحدى القاعات الكبيرة كان عدد من الأشخاص يلعبون (البوكر) فوقع نظره بينهم على رفائيل دور ميفال، فاقترب جيوم من المنضدة ألقى عليها بضع قطع من الذهب ليشترك في اللعب. وبعد دقائق رأى الحاضرون بدهشة فائقة أنه بدون مبرر، أو بمبرر تافه قد أخذ يسب دور ميفال بأفضع الأساليب وفي النهاية تبادلا البطاقات واتفقا على تعيين شهود المبارزة.
وبعد ذلك عاد جيوم إلى منزله فتناول صورتي جاكيلين الفوتوغرافيتين التين كانتا تزينان موقد غرفته وألقى بهما في النار. ثم دخل حجرة الاستقبال فخلع صورتها الزيتية ومزقها وألقى بها في النار وكذلك قطعة إثر قطعة، وعلى أثر هذا نام نوما هادئا بعض الشيْ وحينما استيقظ في اليوم التالي ألفى نفسه ساكنا لأنه يخيل إليه أنه قتل تلك الميتة مرة ثانية مادام قد قتلها في نفسه نهائيا وإلى الأبد، وأن ذكريات الخيانة المرعبة لن تتسلط عليه أبدا، وأن كائنا واحدا يمكن أن يذكره بهذه الخيانة وهو رفائيل دور ميفال، وهذا الكائن سيموت ولن يبقى بعد ذلك شيْ من الماضي.
وفي الساعة العاشرة اجتمع الشهود، وفي الرابعة حدثت المبارزة، وعندما ألفى جيوم نفسه تجاه خصمه أحس كأن الغيظ منه والحقد عليه يقفزان به، وإذ ذاك فقط تألم وعرف بحق وبهيئة عميقة أن الحياة لن تكون ممكنة بالنسبة إليه مادام هذا الرجل يحيا.
هاجمه مرتين بعنف بالغ أشده حتى اضطر الشهود إلى التفريق بينهما، وفي المهاجمة الثالثة ألقى بنفسه عليه واخترق جسمه بضربة من سيفه فهوى وأسلم الروح لساعته.
وبعد أن فارق جيوم شاهديه أخذ يتنزه في الغابة ساعة، ولم تكن أية فكرة تهيجه إذ ذاك،(669/57)
غاية ما في الأمر أنه كان يحس بأن عقله كثيف مظلم مختلط لا تستطيع الفكرة أن تصدر عنه، بل لم يعد يعرف هل لا يزال يتألم؟ وهل شفى غليل حقده من خصمه؟ وفي ساعة العشاء ألفى نفسه من جديد في منزله، وعلى أثر ذلك أنبأه خادمه بأن سيدة تنتظره في حجرة الاستقبال منذ ساعة على الأقل، فاتجه إليها فألفاها (هانرييت ديسيز) تلك الصديقة المخلصة وكاتمة السر التي أوصت (جاكيلين) بتسليم رسائلها الغرامية إليها والتي لم يكن جيوم قد رآها منذ وفاة زوجته لأنها كانت قد سافرت في اليوم التالي، فتبادلا معاً بضع كلمات أعلنت إليه هانرييت فيها أنها تصل الساعة مباشرة من الجنوب، وأنها نالت الحكم بالطلاق ضد زوجها، وأنها معتزمة الزواج على أثر مضي العدة. فقال بغير اكتراث: - آه.
وفي الحال سألته في نبرة مرتبكة قائلة:
ألم تجد بين أوراق جاكيلين حزمة لي. . . غلافا مختوما؟
فنظر جيوم إلى تلك الشابة نظرة شزراء وكاد يوبخها على تآمرها مع زوجته الراحلة، ولكن ما الفائدة في ذلك؟
أجابها على سؤالها بقوله:
- نعم وجدت غلافاً باسمك
- وإذاً، فأين هو؟
- قد أحرقته.
فظهرت الكاَبة على وجهها وقالت:
- كيف! أحرقته! كيف! لكن لم يكن ذلك من حقك
- لم يكن ذلك من حقي!
- لا، فهذه الرسائل كانت ملكي، وجاكيلين كانت تحفظها، لتؤدي لي بذلك خدمة، ولكن كان من المفهوم أن أستعيدها في يوم أو في آخر. . . ولما رأت أن جيوم لا يظهر عليه أنه فاهم استمرت تقول في دهشة:
- آه! ألم تقل لك جاكيلين؟ مسكينة جاكيلين! أنا لم أطلب منها كتمان السر إلى هذا الحد ولا سيما ما يتعلق بك
فقال في رعدة وفزع: - ماذا؟ ماذا؟(669/58)
نعم لما كنت منتظرة الطلاق فقد كنت أخشى أن تكتشف هذه الرسائل عندي، وكنت أحتفظ بها إلى حد يمنعني من إبادتها! وقد كانت جاكيلين وحدها هي التي تستطيع أن تحفظها لي ما دامت تعرف سر حياتي.
- أي سر؟. تمتم جيوم بهذا السؤال فأجابته قائلة:
- آه! أنت لا تعرف، فأنا أحب أحد الناس. . . هو أحد أصدقاؤك، وكان يتردد كثيرا على منزلك. . .
فتمالك جيوم قواه وسألها قائلا:
- أهو رفائيل دور ميفال؟.
فأجابته الشابة وفي قلبها ذلك الاسترواح الذي يشعر به المحب حينما يذكر اسم محبوبه قائلة:
- نعم، نعم هو رفائيل. يجب أن نتزوج، وسأراه بعد قليل.
نطقت بهذه الكلمات وهي واقفة تستعد للخروج، وكان وجهها جميلا سعيدا يتلألأ بكل ما لديها من سرور وكانت عيناها تبتسمان، وكانتا مبللتين قليلاً كأن الهناء قد ألانهما.
- ففأفأ وتمتم قائلا: - أنت ذاهبة. . . أنت ذاهبة. . .
- نعم أنا ذاهبة إلى منزله. . . إنه لا يتوقع مجيئي إلا غدا.
- أية مفاجأة! لهذا كنت أسر لو حصلت على رسائله لأننا كنا نعتزم أن نقرأها معاً على أثر نيلنا حريتنا.
- اسمعي. . . اسمعي. . .
كان جيوم إذ ذاك يشعر أنه صار مجنونا، إذ فهم أن شيئا هائلاً وفظيعا قد وقع، شيئا سيترك له ذكرى أكثر إرعابا وتعذيبا من موت زوجته نفسها، وكان يود أن يهيْ هذه السيدة لوقع ذلك النبأ المؤلم، ولكنه لم يكن يعرف ماذا يقول فقد رفضت شفتاه النطق بتلك الكلمات المروعة، وجعل ينظر إليها مضطربا كما ينظر الإنسان إلى أولئك الذين أصيبوا بكوارث تتجاوز القوى البشرية. وبدون أن ينبس بكلمة، وبدون أية إشارة، وفي رعشة الخوف والغم والقلق تركها تخرج.
محمد غلاب(669/59)
العدد 670 - بتاريخ: 06 - 05 - 1946(/)
إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته
تقرأ بعد هذه الكلمة مقالا للأستاذ محمود الغمراوي صور فيه المخاوف التي تساور بعض علماء الأزهر من عواقب الاقتراح الذي اقترحته الرسالة في عدد مضى على مشيخة الأزهر ووزارة المعارف لحل مشكلة الأزهر. صور الأستاذ الفاضل ما توهم من تلك المخاوف تصويراً يروعك منه حفاظ المؤمن وإشفاق الناصح؛ ولكن الألوان والضلال التي اختارها صورته جعلتها ادخل في باب الخطابة منها في باب المنطق! من تلك الظلال (هذه السهام التي تسدد إلى الأزهر، وهذه الأسنة التي تشرع على القرآن). ومن تلك الألوان هذا (الفرض الذي يقتل الأزهريون بأيديهم لغتهم ودينهم) وهذا التهويل عليهم (بالبلاء الوافد والخطب الراصد والموت الحاصد). والأستاذ اعلم الناس بأن المستعمرين أنفسهم لم يبلغوا من الجحود بآيات الله أن سول الشيطان لهم بعض ذلك، بله الذين يؤمنون بأن العالم لا يسعد إلا بالدين، وأن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وأن الأزهر متى أستكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.
على أن الأستاذ الغمراوي قصر جهده في مقاله على عرض اقتراح الرسالة في صورة الهولة ليفزع بها المخلصين لدينهم ولغتهم فلم يشر بتعديل فيه ولا ببديل منه، كأنه يرضى للأزهر أن يظل كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!
ولكن الأستاذ من صدور العلماء المعروفين بطول الباع في علوم الدين، وسعة الاطلاع على فنون اللغة؛ فلا بد أن يعلم أن ميزة الإسلام التي تفرد بها مسايرته للتطور ومطاولته للزمن؛ فإذا حصرناه في زمان محدود، أو قصرناه على نظام معين، سلبناه هذه الميزة، وفصلناه عن دنيا الناس؛ فهو إذن من المصلحين المحافظين الذين يجددون بقدر، ولا يتقدمون إلا في أناة وحذر، لأنه يرى الحال داعية إلى الإصلاح، ولكنه يطلب من الأستاذ العقاد ومني أن نراجع الرأي فيما كتبناه لعلنا نجد (لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية).(670/1)
ذلك هم المجددون المحافظون، وأما غيرهم ممن يعارضون الاقتراح فطائفتان: طائفة السلفيين المتزمتين، وهؤلاء قد وقفوا عند حدود النقل، فلا يرون لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا لمصلح أن يجدد، لان التجديد بدعة، وكل بدعة على إطلاقها ظلاله. وطائفة الأحرار المستقلين، وهؤلاء يعارضون الاقتراح لا لأنهم يناهضون الإصلاح، وإنما يخشون أن يفلت زمام الأزهر من أيديهم فتصبح قيادته لوزارة المعارف. ويخيل إلى أن المعارضين الأفاضل على اختلافهم في أسباب المعارضة ولو قرءوا الاقتراح على عادة الأزهريين من التفلية والتحليل لما وجدوا فيه مبعثاً للخوف ولا مثاراً للشك. وبحسبنا أن نوضح ما أشكل من جوانب الرأي لنصبح جميعاً متفقين على الأسس التي يجب أن يقوم عليها بناء الأزهر القديم والجديد.
يرى الأستاذ الغمراوي والذين يذهبون مذهبه أن الاقتراح (يجب نصف الأزهر ويدق رأسه):
1 - لأن إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية يستتبع إلغاء حفظ القرآن، إذ كان حفظه كله أو نصفه شرطاً في قبول الطالب، وإلغاء هذا الشرط ينقص الإعداد الديني تلك السنوات الست التي كان يقضيها الصبي في حفظ القرآن.
2 - ولأن تحويل المعاهد الدينية إلى مدارس ثانوية تساير منهاج وزارة المعارف في الثقافة العامة، وتنفرد في سني التوجيه بعلومها الخاصة، يحرم الأزهر ست سنوات أخرى كان يقضيها الطالب في دراسة اللغة والدين بأقسامه الابتدائية والثانوية.
3 - ولأن المواد المدنية على نهجها المعروف في برامج الوزارة ستطغي على المواد الدينية، فيقل المحصول الديني واللغوي لدى الطلاب، وتضعف الملكة الأزهرية الخاصة لفهم الدرس والكتاب.
4 - ولأن الاعتماد على حملة الشهادة الابتدائية العامة في تغذية أقسام الأزهر الثانوية يعرضها للهزال بانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الثانوية الأخرى اتباعاً لأهواء العصر المادية.
وسترى بعد إيضاح ما أنبهم من استراب إلا إجمال فكرته وإيجاز شكله
1 - لا يستتبع إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية إلغاء حفظ القرآن واستقطاع ست(670/2)
سنوات من زمن الإعداد الديني واللغوي، لأن المعاهد الدينية الابتدائية إنما تستقبل داخليها وهم في سن الثانية عشر، وهي السن التي ينتهي فيها الصبي من الدراسة الابتدائية العامة دون أن يأخذ من زمن الدراسة الأزهرية وقتاً كثر أو قل، وإنما تكون مداركه وملكاته قد تهيأت لحفظ القران في مدى السنوات الثانوية الخمس أو الست عن رغبة وفهم. ومن الذي يمنع مشيخة الأزهر أن تجعل حفظ القرآن فرضاً على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدرس الثانوية الأزهرية وأمرها في يديها، وإعدادها منها واليها؟
2 - إن المعاهد الدينية التي نقترح جعلها مدارس ثانوية بالمعنى الرسمي المعروف ستظل بالطبع تابعة للأزهر خاضعة لإدارته، فله إذا شاء أن يزيدها سنة أو أكثر، وأن يبدأ الدراسة الدينية واللغوية من سنتها الأولى، على شرط أن يحافظ على مواد الثقافة العامة المقررة في برنامج الوزارة من لغات وآداب وعلوم ورياضة، وأن يتقدم طلابها المنتهون إلى امتحان التوجيهية العام، ليكون لهم ما لسائر إخوانهم من ميزة الشهادة الرسمية، ولتفتح لهم أبواب الوظائف التي أجملناها في الاقتراح لحاملي الشهادة الثانوية. وإذن تكون مدة الدراسة الدينية واللغوية اثنتي عشرة سنة لا ستاً كما ظن الأستاذ.
3 - لا خوف من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤاً، والكتاب مهذباً، والمنهاج مستقيما، وتوزيع المواد دقيقاً، والإدارة حازمة، والمراقبة يقظى؛ فإن الوقت إذا أحسن استخدامه اتسع ضيقه، والكتاب إذا حذف فضوله قصر طوله.
4 - من المحال أن ينصرف التلاميذ عن المدارس الثانوية الأزهرية؛ لأن الاقتراح يقصر وظائف تدريس الدين واللغة والأدب في جميع مدارس الدولة والأمة على الأزهر، فإذا أضيف إلى ذلك وظائف التحرير والترجمة ومهنتا الصحافة والتمثيل، كان الراغب في ممارسة أمر من هذه الأمور محتوماً عليه أن يدخل الأزهر لأنه لا يستطيع بلوغه إلا عن طريقه.
وجملة الأمر أن الاقتراح يرمي إلى تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها. فإذا تجاذب الباحثون أطراف الرأي في حدود هاذين الغرضين، استبان الطريق، واتحدت الوجهة، وتلاقوا جميعاً عند الغاية المقصودة لا محالة!(670/3)
أحمد حسن الزيات(670/4)
في مقالين:
حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً
. . . أما بعد، فقد قرأت ما كتبتم في العدد رقم 666 من مجلة (الرسالة) إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف من حل حاسم لمشكلة الأزهر، وما كتبه حضرة الأستاذ عباس محمود العقاد في العدد رقم667 عن مستقبل الجامعة الأزهرية، فوجدتكما ترميان إلى غرض واحد يستوقف النظر ويدعوا إلى التأمل.
وقبل التحدث أقدم بين يدي الحديث إلى حضرتي الأستاذين شكراً خالصاً لعنايتهما بأمر الأزهر وبحث أدوائه ودوائه في وقت شغل فيه المنسوبون إلى الأزهر بالتافه من شؤمهم، غير مكترثين لما يكتنف الأزهر من خطر، ولا ناظرين إلى ما يهدد وجودهم ووجوده من بلاء وافد، وخطب راصد، وموت حاصد.
وإن في عناية الأستاذين الكبيرين بالبحث في ستقبل الأزهر وحل مشكلته، قياما بحق تتقاضاه من كل ذي شعور كريم مكانة الأزهر التاريخية، وقيامه بحفظ الشريعة واللغة العربية زهاء ألف عام، فاستحقت مصر بذلك تقدير الأمم الإسلامية وأن تكون زعيمة الأمة العربية. وفي هذه العناية من جانب الأستاذ الزيات خاصة وفاء واعتراف بما للأزهر من صلة وثيقة بفنه البارع وأدبه الرفيع، وبما يدين به قلمه العربي الفصيح من بلاغة وحسن الهام امتاز بهما على الأقلام؛ ففي قنة الأزهر نبتت شجرته، ومن ماء مزنه ارتوت نبعته، ومن عودها كانت قصبته. وإذا كان رجل الفن من أغير الناس على فنه، وأحرصهم على خلود مدرسته، فأكبر ظني أن الأستاذ الزيات حين تقدم إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بما تقدم به من علاج رأى أن فيه حلاً حاسماً لمشكلة الأزهر، كان ثائراً من أجل الأزهر لا عليه، وغاضباً مما يجري فيه من الأحداث وحواليه، وإلا فما أظن طبيباً يتقدم لطب مريضه بدواء قاتل يرديه، ولا أحسب ابنا بارا يريش سهمه لمثقفه ويرميه فيصميه. ومن أجل ذلك يطمع الأزهر أن يراجع الأستاذان الرأي فيما كتباه عن مستقبله وحل(670/5)
مشكله، فقد يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية فيوافيان به القراء إن شاء الله.
اتفقت كلمة الأستاذين على أن غاية الأزهر أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم؛ وأن سبيله إلي هذه الغاية أن يعلم اللغة وما اتصل بآدابها من مختلف الفنون. فالدين واللغة هما علة وجوده، وجوهر علمه، وثمرة عمله؛ وأنه لهذا ولكونه أقدم جامعة في العالم بأسره تكون الأمة ذات الشأن الأول فيه حقيقة بأن تحافظ عليه وتستديم بقاءه وازدهاره.
واستشرف القاري، وأذن لما يرد بعد هذا القول لعله يسمع رأياً نافعاً، أو يرى علاجاً ناجعاً، يطب الأزهر فيشفى داءه، ويرجع إليه العافية ويكفل بقاءه، حتى يرى الأزهر قد تشامخ بناؤه، وعمر فناؤه، وصفت سماؤه، وطاب ورده وماؤه، وحي أمله وقوى رجاؤه، وازدحمت بالوافدين عليه لطلب العلم أرجاؤه، وتجاوبت بالعلم في جوانبه أصداؤه.
ولكننا لم نجد بعد البيان الذي مهداه، والقول الذي قدماه، سوى سهام تصوب، وسنان تحرَّب، وقد شمر الراميان عن ساعديهما، وكشفا عن ساقيهما ينتضلان، والأزهر بينهما كدريئة تتنائل إليها السهام، تارة من عن اليمين ومرة من الأمام، مسددين إليه الرماية، يرميان جاهدين إلى غاية!
أما الغاية فهي:
1 - أن يلغى التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقى بمقاليده إلى وزارة المعارف تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه، وذلك تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة.
2 - أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة الابتدائية العامة وتعلم فيها اللغات والرياضيات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاهاً إلى الدين وعلومه، وإما اتجاهاً إلى اللغة وفنونها. . .
3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية أصول الدين وتندمج فيها كلية الشريعة، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم(670/6)
اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والإفرنجية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. . .
ويقول الأستاذ العقاد: إنه لا يرى من جانبه ما يخالف فيه الأستاذ الزيات قبل الدخول في التفصيلات التي تعرض عند البحث في تقسيم الكليات، وفي مدة التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.
والمهم عنده أن ينتهي التقسيم إلى نظام واحد في التعليم فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق الآن بين كلية الطب وكلية الزراعة أو كلية الآداب. .؟
فالهدف الذي يرميان نحوه، وبيت القصيد عندهما هو تحقيق الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة، أو كما يقول الأستاذ العقاد: ألا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات؛ وتوحيد الثقافة أو إبطال الثنائية في التعليم لا يتم في رأيهما إلا إذا ألغي نظام التعليم في المعاهد الابتدائية التابعة للأزهر وحولت المعاهد الثانوية إلى مدارس ثانوية كنظام وزارة المعارف على النحو الذي رسمه قلم الأستاذ. فإذا رضى الأزهر أن يترك ست سنوات وهي نصف المدة المقررة لتأهيل الطالب لنيل الشهادة العالية (إذا ساعده الحظ ولم يرسب في أثناء الطلب مرتين أو ثلاثاً) وإذا تجاوز أيضا عن ست سنوات أخرى يقضيها الراغب في دخول المعاهد الدينية في حفظ القرآن الكريم وتبع ذلك أن يتجاوز عن اشتراط حفظ القرآن في قبول الطالب بالمعاهد الأزهرية، لأن القرآن لم تبق له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية؛ إذا تجاوز الأزهر عن هذا طوعاً أو كرهاً، ورضى أن يجب تصفه وتدق رأسه، كان الأزهر جديراً بالحياة حرياً بالبقاء: فيحتفظ بقديمه؟! ويشارك في جديد الناس، ويساهم في شركة المدنية. وحينئذ يصير الطالب الأزهري جديراً بأن يكون عالماً حقاً، وأن تفتح له أبواب السماء فيجد مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم!
يقولون لا تبعد وهم يدفنونه ... ولا بعد إلا ما توارى الصفائح
أما إذا ظل الأزهر على تعصبه كما هي عادته، وأبى له جموده أن يتنازل عن وجوده، فإنه يكون غير صالح للبقاء وليس أهلاً للحياة؛ لأنه غير قادر على مسايرة الزمن فيجب أن(670/7)
يسلب اختصاصه ويعطى تراثه لمن هو أقدر منه على مسايرة الزمن والمشي مع القافلة، فيكون تراث الأزهر نهباً مقسماً بين كلية الحقوق ودار العلوم وكلية الآداب: تستقل الحقوق بالشريعة، وتحمل دار العلوم لواء اللغة، وتضطلع كلية الآداب بدراسة أصول الدين: تدرسها على المنهج الجامعي في التقصي والاستيعاب والموازنة.
وإذا حرك أزهري ساكناً أو نبس ببنت شفة قيل له: صه! لست هناك: لست في العير ولا في النفير، إنما أنت شخص متبطل، تنتمي إلى طائفة معاشيه، يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش؛ أو حاجتها هي إلى المعاش؛ فلا هي لنفسها ولا لله ولا للوطن.
لقد جربناك وجربنا أزهرك فلم نجد عندكم غناء، ودعونا الأزهري للسير في ركب الحياة فلم يستجب للداعين نداء، وقال بهير قطع. وسألته الأمة أن يمدها بشيوخ الدين والعربية فعجز ولم يستطع، حتى اضطر أولوا الأمر بسبب عجزه، إلى طرحه ونبذه؛ وأنشئوا دار العلوم لتخرج لهم أئمة في علم اللغات، وابتنوا مدرسة القضاء لتصنع لهم أئمة قادرين على تشريع ما يوافق الهوى والرغبات. فها نحن أولاء ندعوكم أيها الحمقى الجامدون والغلاة المتمردون لتختاروا إحدى خصلتين لكم في كلتيهما هدى وقصد وفلاح ورشد. وليستا كخصلتي الضبع إذ خيرت الثعلب بين أن تقتله أو تمزقه؛ ولكنها خيرة فيها صلة للرحم ورعاية لذمامه وهي أقرب للعدل والتقوى؟ أعرض عليكم لآخر مرة أن تختاروا واحدة من اثنتين: إما أن تقتلوا أنفسكم وتقبروا لغتكم وتتخلوا عن دينكم وتتركوا من زمن دراستكم للغة وللدين ست سنوات تقضونها في دراسة اللغة والدين بالأقسام الابتدائية والثانوية بالمعاهد الدينية وذلك شي يسير لا يتجاوز نصف الزمن المقدر للدراسة في الأزهر وفي المعاهد لنيل شهادة العالمية.
ثم لا تتشبثوا باشتراط حفظ القرآن فيمن تحدثه نفسه بالدراسة فيما يسمى كليات الأزهر فقد علمتم مما قدمناه لكم أن حفظ القرآن لم تبقى له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية، فسوف نكتفي ونستغني عن كل ذلك بما دون في الكتب الأخلاقية والقوانين المدنية.
فإن لم تختاروا هذه ولم تطب نفوسكم بأن تتركوا جمودكم وتقبروا بأيديكم لغتكم ودينكم، فإنكم تكونون قد اخترتم الخصلة الثانية: وهي أن نقتلكم بأيدينا، فنقطع الصلة بينكم وبين(670/8)
الأمة، ونعلن البراءة منكم في العالمين، كما تبرأ الهنود من المنبوذين، وحينئذ ترون العذاب، وتنقطع بكم الأسباب، وتغلق في وجوهكم السبل والأبواب.
هذه هي النذر التي يراها الأستاذ الزيات ظاهرة في الأفق، رآها بما جعل الله له من نور يمشي به، ويسعى بين يديه وبيمينه، فأنذر الأزهريين (وهم قومه وعشيرته) أنذرهم ما يرصدهم في الأفق من المصائب، وحذرهم ما يرتقبهم وينتظرهم من وخيم العواقب؛ ونصح فأبلغ وأخلص في النصح، فجزاه الله من أخ وفي، ومؤمن صادق أبي. ولقد أعذر إذ أنذر، فعسى ألا نتمارى نحن الأزهريين بالنذر.
أما الخطتان اللتان عرضهما للاختيار، فانهما كما بينت ليس فيهما حظ لمختار. وعسى أن يكون الله مدخراً خيراً منهما للأزهر عنده.
يحيي رفات العظام بالية ... والحق يا مال غير ما تصف
ولعله يرى بما أوتي من نور سبيلاً لا حباً يصل منه الأزهر إلى النجاة والحياة.
وقد وددت لو أن في الوقت سعة لأبين أن الأزهر قد أدى للأمة ما طلبته منه: فهو الذي أعطى الأمة دار العلوم في خير عهودها إثماراً وإنتاجاً حيث كانت تخرج أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش. وهو الذي قامت على كواهل رجاله وعقول علمائه وعلومهم مدرسة القضاء. وهو الذي خرج للأمة بل العالم الإسلامي عظماء العلماء والمفكرين أمثال المرحومين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأبي خطوة والطويل والبحيري والشربيني وغيرهم ممن لا يتسع الوقت الضيق لذكر أسمائهم. وإنه لم يضق ذرعاً بما أدخل فيه من علوم نافعة فقد أوسع لها صدره حتى صار لا يستطيع أن يتنفس بالمقدار الذي يحفظ كيانه وحياته التي تمكنه من أداء مهمته التي بينتموها في صدر مقالكم. ولعل الأزهر قد قصر في حق نفسه من هذه الناحية.
وددت لو أن في الوقت متسعاً للإفاضة في هذا؛ غير أن حرصي على أن تدرك هذه الكلمة في عدد الرسالة القادم هو الذي يحملني على أن أختم الحديث بإهدائك أكرم التحيات والسلام عليك ورحمة الله.
محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً(670/9)
يوم الجلاء. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(. . ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)
- 1 -
ماذا في دمشق؟ ففي كل ميدان فيها عرس، وفي كل حي فرح، وفي كل شارع مهرجان! ما هذه الزحمة؟ ما هذه الوفود؟ الطرقات كلها مترعات بالناس ما فيها موطئ قدم، وحيثما سرت تر قباباً من الزهر وستائر من الحرير، وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام ومصابيح الكهرباء، قد أنتظمتها حبال فدارت بها، ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان، فكانت منظراً عجباً، إذا رأيتها في الليل حسبت السماء قد ركبت فيها، فسطعت كواكبها ولألأت نجومها، وإذا أبصرتها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرة ثانية، فكان كل شارع روضة فتانة، ضرب فيها موعد حب، وكل بناء عريشة ورد وفل وياسمين. . . وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران، وأحلى الصور معلقات على الطنافس، والسيوف المذهبة والتحف الغالية. . . ما يضن الناس بقيم ولا يبخلون بثمين.
والرايات: السورية والمصرية والعربية السعودية والعراقية واليمانية والأردنية. . . أستغفر الله العظيم، بل هي راية واحدة اتحدت حقيقتها وتعددت ألوانها، لأمة واحدة اختلفت أزياؤها وتناءت أوطانها، فألفت بينها قبلتها وأدناها قرآنها. أمة آخى الله بين أفرادها من فوق سبع سماوات، فأراد الظالمون تفريقها بخشبات ينصبونها على الطرقات، يسمونها حدوداً خسأ الظالمون. . . وخابوا. . . إن بناء تقيمه الله لا تهدمه خشبة نخرة ولا خرقة مرقعة!
لقد أوقد الليلة في دمشق خمسمائة ألف مصباح، ونشر فيها ألف ألف علم، عدت عداً، ورفع فيها مائة قبة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها، ووضع في أرجائها مائة مذيع مصوت، يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيسمع في أقصى الغوطة ويردد صداه الجلمود من قاسيون، ومشت فيها خمسة آلاف (عراضة) وموكب، وأقيمت ألف (دبكة)، ففي كل مكان ازدحام، وعلى كل ثغر ابتسام، وفي كل قلب فرحة، وكل الناس مبتهج(670/11)
مسرور، الرجال والنساء والشيخ والأطفال، والهتاف متصل ما ينقطع، والنشيد دائب ما يسكت، والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني، من المصوتات والرداد والحاكيات والأفواه، والطبول تقرع، والمدافع ترعد، والطيارات تركض في السماء، والسيارات تزحف على الأرض، والصواريخ تنفجر في الجو فتساقط منها الأنوار أمطاراً، والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر، يشارك الأمة في أفراحها، وما عهدنا (هذا) الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح! ما عهدناه إلا عوناً للغاصب علينا، ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا. . . يدور بالمشاعل في شوارع دمشق، يذكر بالجيش الإسلامي لما حمل القرآن مشعل النور الهادي فأضاء به الأرض وهدى أهلها. وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها، كما أضرمت من قبل نيران (الفتح) على جبال مكة، إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام، و (إجلاء) الشرك عن البيت الحرام.
وفي كل دقيقة يفد على دمشق وفد جديد: مواكب وعراضات من كل بلد وقرية وناحية، قد لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا يعرضون أمتع فنونهم، وأعجب ألعابهم، ويهتفون أجمل هتافاتهم، فكأنه عيد الأولمب عند اليونان: فمن صراع إلى دبكة إلى قفز إلى لعب بالسيف والترس، إلى عدو بالخيل، إلى تمثيل وغناء. . .
وهياكل ضخمة، أعدها الشباب، فوضعت على ظهور السيارات، على أشكال القلاع والمدافع والمدرعات، وشيء يمثل أيام العذاب، ومراحل الجهاد من ميسلون إلى الجلاء - فالعين رائية كل لون وشكل، والأذن سامعة كل نغمة ولحن، وفي كل فؤاد هزة طرب، وعلى كل لسان صيغة حمد وكلمة ابتهاج، والليل يتصرم وما تخلو الساحات، ولا يفتر النشاط، ولا يسكت الضجيج، وما يفكر أحد بمنام، فكأنما قد جن البلد.
فماذا في دمشق؟ أي يوم هذا من أيامها، عظمت أيام دمشق وكرمت وجلت؟
ألا إنه يوم الفرحة الكبرى، إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه، ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده. إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، نطأ الحراب، ونخوض اللهب، ونسبح في الدم، ونتخطى الجثث، وننشق البارود.
إنها الأمنية الكبرى التي كان يتمناها كل سوري، وكل عربي وكل مسلم.
إنه يوم الجلاء.(670/12)
لقد جنت دمشق وحق لها أن تجن، فقد عاد الحبيب بعد طول الفراق، وآب المسافر بعد ما امتد الغياب، وعانقت الأم وحيدها بعد ما ظنت أن لا لقاء، وخرج الفرنسيون وزال الانتداب!
إنه يوم الجلاء. . .
فيا أيها الذين عادوا ميسلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتل وطغيانه ووحشيته، والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى، والبلاد التي برأها الله واحدة قسمت فجعلت دولاً. . . والوطني المخلص نفي أو سجن، أو حكم عليه بالموت شنقاً، والخائن المعلون قد أعطي الرتب والذهب. . .
ويا أيها الذين خرجوا على الظلم، وعرضوا أروحهم للموت، على شعفات الصخر، من جبال اللاذقية إلى جبل الدروز، وعلى السهول الفيح، من أعالي حلب إلى أدنى حمص، وعلى ثرى الجنات من أرض الغوطة، لم يخشوا فرنسا إذ كانت تخشاها الدول، ويرهب بأسها الأقوياء. . .
ويا أيها الذين نشأوا في عهد الانتداب، فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي والمدير تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك. . . والوزير صنم، وفي كل قضاء مستشاراً هو الحاكم المنفذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدو، وعلى الجبال قلاعاً له قد وجهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحق أو أبوا ظلماً، لا إلى الفضاء لترد عنه الأعداء، وفي كل طريق جنداً من الفرنسيين والمغاربة المسلمين. . . والسنغاليين والشركس والأرمن و. . . الدمشقيين الخائنين، يلوحون بأسلحتهم في وجوه أهل البلد، ويرمونهم بالشرر (في السلم) من نظراتهم، وبالنار (في الثورات) من بنادقهم. . .
ويا أيها الشهداء الذين بنيران العدو الباغي، في سبيل الله في سبيل الحرية، وهل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟
ويا معشر العرب في قاص من الأرض ودان.
إنا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه، وجل جلاله، فقد أكمل نعمته، وأتم منته، وأخرج الفرنسيين(670/13)
من الشام كله، فلم يبق منهم أحداً.
اذهبوا الآن إلى (المزّة) وادخلوا القلعة، وأموا الثكنة الحميدية، فإنه لا يمنعكم حارس سنغالي وجهه يقطع الرزق، ولا يردكم ضابط فرنسي، ولا تحجزكم سلك ذات أشواك. . . وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر (المفوض السامي) الذي كان يتنزل منه وحي الضلال على قلوب الخونة المارقين من طلاب الحكم وعشاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلة، وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين، ولجوا قصر (المندوب) الذي كان ينصب منه (أمس) الموت الزؤام على من يدنو من حماه، واسرحوا وامرحوا حيث شئتم، فالبلاد بلادكم، لا فرنسي، ولا إنكليزي، ولا طلياني ولا روسي، ولا أشقر ولا أسود. . .
ألا لا مفوض (سامي. . .) اليوم، ولا مندوب!
لقد ذهبوا جميعاً، وما تركوا من جنات زرعوها ولا عيون، ما تركوا إلا بيوتاً كانت عامرة فجعلها حكمهم خرائب، وجناناً صيروها مقابر، وضمائر نفر منا كانت نقية فدنسوها. . . ذهبوا وما أورثونا خيراً قط.
هذا قصر المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض، تعالى الله ما من اله غيره، وكان كلما نزت برأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً، وحمل الناس عليها بسنان البندقية وفم المدفع، قوانين ينقض بعضها بعضاً، ويلغي أواخرها الأوالي، ولا يحصيها عالم ولا جاهل: (إن المفوض، بناء، وبناء يقرر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادة 18 من القرار 1105 ل. ر) فلا يعرف جني ولا إنسي، ما هذه الفقرة، ولا ما هذه المادة، ولا ما هذا القرار. . . لقد ذهب وأورثنا عشر آلاف قرار مثل هذا! ذلك هو التشريع الفرنسي الذي يحسبه القردة المقلدون، أفضل من شرع ربنا، لأن عليه (الطابع الأوربي)!
هذا هو قصر المفوض الذي سرقه من فيصل، فيا فيصل، يا أيها الملك! ارفع رأسك مرة واحدة وانظر. . . إنها لم تطل المدة. . إن اللص قد طرد، وان الباغي قد دارت عليه الدوائر، فما دافعت عنه جنوده، ولا حمته حصونه، ولا أغنت عنه مدافعه وطياراته. لقد جرب فينا أسباب الموت كلها فما صنعت شيئاً. لم تحرقنا ناره، ولم يقتلنا حديده، لأننا أمة لا (يمكن أن) تموت! وأحرقته هو نار حماستنا، وقتله حديد عزائمنا، فولى عنا باللعنة، كما(670/14)
دخل علينا باللعنة!
اليوم يوم الجلاء.
اليوم يبكي رجال (منا) كانوا يأكلون الطيبات، وينامون على ريش النعام، من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب، ويأكلون الخبز اليابس.
اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العز في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين.
اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلات (الاستخبارات) أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأجراء في المزبلة بعدما مات الكلب.
ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا.
اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك الليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك النواقيس بالرنين، وتضحك الأرض والسماء!
اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان!
لقد نامت دمشق البارحة ملء جفونها من بعد ما صرمت تسعة آلاف وثلاثمائة وسبعاً وتسعين ليلة وهي تنام مفزعة الفؤاد، مقسمة اللب، تخشى أن تصيبها من الفرنسيين بادرة طيش، أو نوبة لؤم، تذهب بدار عامرة: أو تضيع حقاً ظاهراً، أو تريق دماً بريئاً؛ وأغفت تحلم بالمجد والحرية، وقد مرت عليها تلك الآلاف من الليالي، لا تحلم فيها إلا بتهاويل الظلم والموت والخراب، وتأنس بطيوف الأحبة من جند العرب في مصر والعراق والحجاز ونجد، وقد زهت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً بل إخواناً وأصحاب البلد، وقد كانت تروعها كلما نامت أشباح الأبالسة تتراءى في صور جند من الشقر أو السمر أو السود الفرنسيين والمغاربة والسنغاليين، وأمنت الأم على ولدها أن تتخطفه الشراكسة زبانية (كوله) فتلقيه في سجن عميق، أو منفى سحيق، أو تذيقه النكال والتعذيب، لوشاية كاذبة، أو تهمة باطلة، أو طمعاً بفدية أو مال، واطمأن السكان على منازلهم أن تدمرها في هدأة الليل قنابل الطغاة أو تحرقها نارهم أو تسرقها أيديهم! لقد نامت دمشق البارحة وهي(670/15)
تودع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤم الشوارع التي يعرض فيها جيش العروبة، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور البنى والعمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسنجقدار، وميدان المرجة وضفاف النهر، وفوق قباب التكية السليمانية، وعلى أشجار المسالك، وفي كل مكان يشرف عل الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خال من رجل إنسان قد قام لينظر ويتطلع، وأجر المقعد الواحد بعشر ليرات، ومكان الوقوف بليرتين. فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب.
ونصب الفسطاط، واجتمعت تحته الأقطار العربية كلها، جاءت وفود ملوكها وأمرائها من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت وعمان، وصنعاء والقدس، يهنئونها في عيدها ويشاركونها في أفراحها، ويقبسون أول شعاعة من شمس الحرية التي أشرقت على العرب بعد ليل طويل، وكان مشرقها دمشق.
قفوا لحظة على هذا الفسطاط فإنها ستقف عليه الأجيال، إنه سيقدسه التاريخ، إنه سيكون لنا كما كانت حطين للجدود.
إنها ساعة حاسمة في تاريخ العالم، فقد تحرك فيها الفلك، وانقلبت فيها تقويم البشر ورقة جديدة. إن الأيام ما زالت سجالاً بين الشرق والغرب، والدنيا بينهما نوباً: قام الشرق يحمل منار الحضارة وسيف الظفر بأيدي المصريين والبابليين والحيثيين والفينيقيين، ثم انتقلا إلى الغربيين إلى اليونان والرومانيين، ثم عادا إلى الشرق الذي أيقظه محمد، إلى المسلمين، ثم آبا إلى الغرب لما ترك الشرقيون هدى محمد، وهاهما يتحركان الآن، ليعودا إلى الشرق. . .
وعز الشرق أوله دمشق. . .
لقد ضاع حلمك ياغورو، وتبدد، وخابت أمانيك يا دي غول، وحقق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة، شهيد ميسلون، وسيحقق أماني سعد ورشيد وعبد الكريم وعمر المختار وعبد القادر وجناج في الهند، ولم لا؟ وأهل سورية التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلا قليلاً عن سكان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم. . . أقل من مسلمي الهند!(670/16)
فتيهي يا دمشق واعتزي، فقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر، حين أنشئ فيك الملك الضخم، وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش عبد شمس على ثراك، فطالت فروعه النجم، وأظلت المشرق والمغرب، وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمنا. وعدت اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصي ولا محتل. . .
يا دمشق لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد، لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون!
(لها بقية)
علي الطنطاوي(670/17)
بعد الجلاء عن سورية:
سحر الجلاء!
للأستاذ سيد قطب
(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)
في العدد الماضي من جريدة (أخبار اليوم) وصف صحفي بعنوان (رأيت يوم الجلاء في سوريا) بقلم الأستاذ توفيق الحكيم صدرته الجريدة بهذه المقدمة:
(رأت أخبار اليوم بمناسبة الجلاء عن سوريا أن توفد الأستاذ توفيق الحكيم لشهود عيد الجلاء، وكذلك أوفدت مصورها الخاص ليسجل حفلات الجلاء. . وفيما يلي ننشر أولى رسائل الأستاذ توفيق الحكيم)
وقد بدأ الأستاذ توفيق. وصفه الصحفي يقول:
(أولئك الذين عرفوا أو سمعوا بذلك الكسلان الجالس طول يومه على إفريز مقهى لا يصنع شيئاً ولا يعنى بأحد ولا يهتم لأمر، قد دهشوا ولم يصدقوا أعينهم عند ما أبصروه ينزل من طائرة حربية محلقة في جو دمشق، وخلفها سرب من طائرات القتال المصرية.
(ما هذا الشعور الذي حرك الساكن، ونشط الهامد وأحيا الجماد؟ إنه الفرح بالجلاء الأجنبي عن أرض شقيقة لنا عربية، والجلاء عن سوريا ليس إلا مطلع ذلك الفجر الجميل في ليل الشرق الطويل. . . الخ الخ)
قرأت هذا فلم أدهش ولم أكذب عيني لأن توفيق الحكيم قد طار مندوباً لأخبار اليوم مع مصورها الخاص ليسجلا حفلات الجلاء عن سورية!
فما في هذا شيء يدعو إلى الدهش أو العجب، فهي (واحدة) من (وحايد) الأستاذ توفيق (كصينية البطاطس) و (عدو المرأة). و (البيريه) على الرأس و (حمار الحكيم). . . وأخيراً (قطط الحكيم) التي ظهر في مجلة الاثنين يحملها بين يديه، كآخر رفيق بعد الحمار الذي أوفده في مهمة خاصة!!
لم يدهشني إذن أن يطير الأستاذ توفيق ليسجل حفلات الجلاء في سورية مع مصور أخبار اليوم. . إنما الذي أدهشني حقاً هو ذلك الانقلاب في رأي الأستاذ توفيق وشعوره إزاء(670/18)
قضايا الشرق العربي والاستعمار الفرنسي. وهو انقلاب يجب تسجيله، لأن تسجيله مفيد.
حينما كانت الأزمات على أشدها بين أمم الشرق العربي وفرنسا. . . حينما كان بعض الكتاب يحملون على فرنسا حملات نارية لأنها تستخدم الوسائل البربرية في قمع الشعور الوطني في نفوس العرب. . . حينما كانت دماء بعضهم تغلي لأنه لا يطيق أن تتحكم هذه البربرية في مصير العرب في سورية ولبنان وفي الشمال الإفريقي. . .
في هذه الأوقات كان للأستاذ توفيق الحكيم رأي آخر، أشار إليه الأستاذ (عبد المنعم خلاف) إشارة صريحة على صفحات الرسالة بعد مشادة عنيفة بينه وبين الأستاذ توفيق في جلسة من جلسات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأشرات إليه من بعيد في مقالة لي بالرسالة بعنوان: (هذه هي فرنسا)!
ولقد كان الأستاذ توفيق يثور وينفعل، لأن فرنسا في خطر، ولأن فرنسا ذخيرة إنسانية فداؤها كل شيء. ومن كل شيء هذا الشرق العربي الجاهل المجنون!
لقد أدهشني ولا شك ذلك الانقلاب. ولكنه أفرحني أيضاً، فهذا (سحر الجلاء) وسره العميق! هذا هو النور الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحجب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم!
(وهبطنا مطار المزة، فوجدنا في الانتظار دولة سعد الله الجابري رئيس الوزراء. فما كاد يراني حتى ابتدرني قائلاً:
- وأين حمارك؟
فقلت على الفور:
- أوفدته ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وكدت أتابع الحوار فأنوب عن دولة سعد الله الجابري لأقول:
- ولكن المحتل الراحل هو (فرنسا) يا أستاذ توفيق!
إلا أنني ذكرت (سحر الجلاء) سحلا الاستقلال ذلك الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم.
كم في مصر من المخدوعين بفرنسا! وكم فيها من المخدوعين ببريطانيا! وكم فيها من المخدوعين بأمريكا! وكم فيها من المخدوعين بالعالم الغربي على وجه العموم!(670/19)
هؤلاء جميعاً أدعوهم لمراجعة الوصف الطلي الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم عن يوم الجلاء في سورية، بعد الانقلاب العظيم
كم هم كثيرون. . . أولئك الذين حجب الاحتلال الطويل لبلادهم ذلك النور عن عيونهم، فتركهم لا يتطلعون إلا إلى وهج الغرب المستعمر الذي يعشي الأعصاب والعيون.
وكم نحن في حاجة إلى (سحر الجلاء) ليجلو الغشاوة عن هذه العيون، فتبصر النور القريب. النور الذي يشع من داخل نفوسهم هم، وهم به لا يشعرون!
إنني فرح بهذا الانقلاب في شعور الأستاذ توفيق الحكيم، فليعذرني إذا أنا تجاوزت معه أسلوبي المعهود!
وبعد فما أحرى هذا الانقلاب أن يزيد كلمة (الجلاء) في أنفسنا إعزازاً، وأن يزيدنا عليها إصراراً. فهذا الجلاء في سورية هو الذي سحر أحد عشاق فرنسا المعجبين المتحمسين، فجعله يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وليس هو بالمكسب اليسير أن يسترد الشرق رجلاً فناناً من طراز الأستاذ توفيق الحكيم، يطير ليحضر حفلات الجلاء في سورية، فهذا وحده كسب يغرينا بطلب الجلاء العاجل عن الشرق كله. ولعل الأستاذ توفيق الحكيم وإخوانه من عشاق فرنسا، لا ينسون سحر الجلاء إذا نحن طلبناه للشمال الإفريقي أيضاً. ولعله يومئذ يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام.
سيد قطب(670/20)
أوراق مبعثرة
من ظلال الهوى
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ماذا تريدين مني، في هذه العشية الصافية؟
لِمَ تنظرين إلى بعينيك المجرمتين، هذه النظرات الفاتنة؟
لم ترسلين من شفتيك، الرفافتين بالخطايا، بسمات آسرة؟
أتحاولين إغرائي مرة أخرى؟
لقد أوى قلبي، كعصفور جريح، إلى عشه وأغمض عينيه. فدعيه ينعم بالهدوء. . .
وابتعدي عني. . . أنت يا خائنة.
نشواي، يا أفعى من أفاعي الجحيم.
اسمعي. . لن آسف على ما مضى.
لقد ذبت في هواك الخادع،
وقدمت إليك روحي صافية كالدرة، نقية كالندى.
فلما آنست مني الحب والعطف،
وشع في عيني الوله واللطف،
تلونت تلون الحرباء، يا نشوى، وأعرضت عني لاهية جذلى. فانثنيت على قلبي، أبكي هواي، وأذيب في دمعي أساي. فلم عدت هذه العشية يا نشوى تؤرثين أشجاني، وتهيجين أحزاني؟
لقد مللتك فدعيني.
دعيني، ويلك، يا خائنة!
نشواي يا نشوى.
أيامك المواضي، حلم شهي، رف وامَّحى.
وهمسك الحلو في أذني، في عشيات الربيع، ضاع ونأى.
وزهرك المنضور، المخضل بالعطور، جف وذوى.
لا تقربي شفتيك اللاهبتين من فمي.(670/21)
ابتعدي، فأنفاسك تهيجني. . .
حولي نظراتك عني، فالشهوة فيها تفور، والنار في جسمك تثور.
أتبكين. . .؟
عودي، ودعيني، أنت يا خائنة.
كانت بسماتك زهرات فردوس موهوم، في رحيقها سم مختوم؛
وغمزات عينيك، كن شظايا من جحيم ملعون.
وكانت شفتاك ترعشان بين شفتي، كورق الورد الندي، في نسمات الربيع.
وكنت أرويك الهوى حلواً.
فاصفرت البسمات يا نشوى، وضاعت غمزات.
وتلوت الأفعى وقالت لا أريد، لا أريد.
فلم عدت تهيجين أشجاني يا نشوى، وتثرين أحزاني.
فجراحي ندية وقلبي متعب، ودمي يسيل.
فابتعدي عني، ابتعدي، أنت يا خائنة.
لكن تعالي يا نشوى تعالي. . .
لا تخفك نظراتي وزفراتي.
لم تدبرين وكنت مقبلة، وترعشين وكنت هادئة؟
أأدعك قبل أن أنتقم. . .
أين دمائي التي أهرقتها، وقلبي الذي ضل؟
سأمتص دماءك، فهي دمائي.
وسأمزقك ألف قطعة وقطعة.
شد ما أبغضك. . .
اقتربي، ولا تعودي، أنت يا خائنة. . .
آه ما أضعفني. . .
لا تخافي، فأنا كاذب فيما أقول. . .
اقتربي، فأنت قرة العين، وهواي المرتجي.(670/22)
اقتربي، ولا تعودي، أنت يا فاتنة. . .
(القاهرة)
صلاح الدين المنجد(670/23)
الأدب في سير أعلامه
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 11 -
تتمة الكلام عن مسرحية كومس
ويهرب كومس وقبيله، ويحسب الأخوان أنهما غلباه على أمره، ولكن الروح الحارس يلقي إليهما أن أختهما لا تزال مقيدة بسحر كومس لا تستطيع حراكاً كأنها التمثال الحجري، فكان عليهما أن يختطفا عصاه، فإنه لا يبطل سحره إلا إذا قرأ ما على العصا قراءة عكسية تبتدئ من النهاية. على أن الروح يخبرهما بأن لديه حيلة فليس لهما أن يبتئسا، أما حيلته فهي أنه سيستنجد بسابرينيا عذراء نهر السفرن، ويصف لهما سابرينيا ومستقرها بين عذارى الماء، وكيف أتيح لها أن تكون من نبات الخلود، ويذكر ما في طاقتها من عون لطالبي العون حتى أن الرعاة لينشدون لها الأغاني ويلقون في النهر زهرات من كل لون تحية لها، وهي تحب أن تنجد العذارى مثلها إذا كن في مثل ما كانت فيه من ضيق وشدة، وأعظم ما ينهض بها إلى النجدة الغناء، ولذلك فإنه يستحثها بأغنية، ثم يهتف منشداً متوسلاً إلى سابرينيا بكل عزيز عندها من الآلهة والإلهات فلا يكاد يخلوا سطر من نشيده من اسم من أسماء هؤلاء.
وتظهر سابرينيا وحولها بعض عذارى الماء، فتغني أغنية قصيرة تصف فيها من أين أتت وكيف أقبلت سريعة خفيفة حتى إنها لتطأ الزهر فلا تنحني سوقه، وتعلن إلى الراعي أنها رهن طلبه، ويشير الراعي إلى الفتاة المسحورة ويؤكد عذرتها ويذكر ما عانت من السحر، وتجيب سابرينيا أنه ليس أحب إليها من أن تأخذ بيد العفة المضطهدة، وتتجه إلى الفتاة وتلقي على صدرها نقطاً من سائل معها وعلى شفتيها وطرف إصبعها فتبطل سحر كومس.(670/24)
وما تكاد تنطلق حتى تنهض الفتاة كأن لم يكن بها شيء. ويبتهج الروح الحارس أو الراعي فيثني على سابرينيا ويدعو لها من قلبه بكل جميل، وينبئ الفتاة أنه سيصحبها إلى قصر أبيها حيث يلتقي المهنئون من الأصدقاء، ويطرب الرعاة والقرويون، وسيضاعف حضورها طربهم، ويزيد الحاضرين جميعاً فرحاً على فرح.
ويتغير المنظر على المسرح، فتمثل مدينة لادلو وقلعة الرئيس اللورد، ويتقدم على المسرح رهط من الراقصات القرويات وفي إثرهن الراعي ومعه الأخوان وأختهما، ويخاطب الراعي القرويات ويسألهن في أغنية قصيرة أن يذهبن، ويتمنى لهن عودة إلى سرور كهذا السرور، ثم يقدم الأخت وأخويها إلى أبيها في أغنية أخرى مثنياً على شباب الفتيين، وعلى عفة الفتاة، وانتصار الجميع على الحماقة والنزق.
ويختم الراعي المسرحية بأغنية طويلة، فيذكر إلى أين يذهب بعد أن أتم عمله، ويصف مواطن الحبور والجمال التي ينطلق إليها وصفاً يعيد إلى الذهن قصيدة الأليجرو، وما تفيض به من صور المرح وتلميحات الميثولوجيا.
ويعلن الراعي أن من يريد أن يلحق به من بني الفناء فسبيله الفضيلة، فالفضيلة وحدها هي التي تعلم النفس كيف تسمو وكيف تنطلق، ولئن مس الفضيلة الضعف فلها من السماء عون.
تلك هي خلاصة الغنائية المسرحية، وهي تتضمن كثيراً من آراء ملتن وفلسفته، فكل شخصية في الغنائية تعبر عما يريد ملتن من معان، وتصف في الواقع ناحية أو موقفاً من مواقف حياته، فالعذراء تستمسك بالعفة كما استمسك هو بها، وتواجه الإغراء الشديد وتقاومه كما واجه وقاوم، وأكبر الأخوين يمتدح الفضيلة ويدافع عنها ويؤمن بها كما يفعل ملتن وكما يحس، وكومس نفسه نراه في وصف الطبيعة وصلتها بالنفس عن طريق ما تحدثه مشاهدها ومسراتها من أثر في الحواس يعبر عن جانب من إحساس الشاعر الشاب، وأصغر الأخوين يفصح بكلامه عن وساوس الشك التي تطوف أحياناً بنفس ملتن على الرغم من استعفافه وزهده وعزلته والتي يتغلب عليها بالصبر وقوة العزيمة فيحس لذة النصر.
أما عن فلسفته في الغنائية، فأساسها الصراع بين العفة تمثلها العذراء، والشهوة يمثلها(670/25)
كومس، ومهما يكن من إغراء الشهوات وتحايلها فإن الغلبة للفضيلة؛ ولن تعدم الفضيلة عوناً من الله، ويتجلى هذا العون في الروح الحارس الذي دل الأخوين على طريق الخلاص.
ولملتن نظرة في الطبيعة وصلة النفس بها، فهو لا يحرم طيباتها وزينتها، ولكنه كذلك لا يذهب في الاستمتاع بها مذهب كومس، فيجعل الأمر فيها أمر لذة وفجور واغتنام ونهب في غير مبالاة كما تفعل البهيمة. وعنده أن تأخذ النفس من طيبات الحياة كما تقضي الحكمة، ومقومات الحكمة عنده الاعتدال والقناعة والعفة، وعلاقة المرء بالحياة والطبيعة على هذه الصورة طريق من طرق السمو الروحي بالنفس الإنسانية إلى معارج الكمال ومسالك الهداية
وينم كلام كومس في امتداح الطبيعة عن نزوع نفس ملتن إلى الطبيعة وجمالها وقوة إحساسه بمباهجها وزينتها؛ ويتضح هذا الميل القوي في ذلك المعنى البديع الذي نطق به كومس، ألا وهو قوله: إن الإنسان بزهده في جمال الحياة ومتعها لا يؤدي حق الشكر للمنعم ولا حق الثناء عليه. وما يخاف ملتن إلا شيئاً واحداً هو الفتنة، ولكن إذا اعتصمت النفس بالفضيلة تمتعت بأنعم الله ونجت من الزلل، فالطبيعة مما أنعم الله به علينا، وأنعم الله خير كلها، والغرائز والميول الطبيعة كذلك خير واتباعها تنفيذ لمشيئة الخالق، وهو لذلك يحب الطبيعة من ناحيتين: أولاهما: ما تظهره من جمالها الذي يبهج النفوس؛ وثانيهما: ما تخرجه من كنوز خيراتها وما تبثه في الكون من نماء وتجديد واتساع وكل أولئك من مقومات الحياة
وكذلك ينم كلام أكبر الأخوين عن الفضيلة كما ينم كلام العذراء عن العفة والعذرية، عن ميل كان في نفس ملتن أثناء مقامة في هورتن، فقد كان يميل إلى البقاء عزباً حتى يتفرغ لرسالته، وأراد أن يستعفف حتى لا يزل، فتولدت في نفسه فكرة، وهي أن الشهوة أصل الفسوق كله والفجور والرجس؛ وعلى ذلك فلا بد من تغليب العقل على العاطفة، أو الروح على الجسد، وهذا الصراع بين العفة أو الطهر وبين الشهوة يتضمن بالضرورة قيام وساوس الشهوة في نفسه، شأنه في ذلك شأن كل فتى مثله، ومرد الشهوة إلى العاطفة، ومرد الرغبة في قهرها إلى الحكمة، وما دام أنه يحس العاطفة في نفسه إحساساً قوياً، وأنها(670/26)
أمر طبيعي، فهي إذا لم تخرج في مظاهرها أو نتائجها عما تقضي به الحكمة كانت أمراً مشروعاً لا نكران له، ومن ذلك نشأت في رأسه فكرة سوف تظهر في كثير من آثاره، وهي العمل على وجود التوافق والانسجام بين القلب والعقل
وثمة شيء آخر نستخلصه من الغنائية، وهو صفة شائعة في بقية شعرة في هورتون، ونعنى بها روحه الإنسانية وتتضح في شدة إحساسه وصدق استجابته لمعاني الحياة، وشعوره بكل ما يشعر به القلب الإنساني من دواعي الفرح أو الحزن أو الراحة أو الألم، وكل ما يهجس في النفوس من رغبات وينهض بها من مطامح؛ وفي هذا كله أبلغ دليل على أن ملتن لم يكن الشاعر المتزمت كما عسى أن يفهم من تمسكه بالفضيلة، كما فيه خير مصداق لقول القائل: (إن ملتن كان خاتمة الأليزابيثيين)
ليسيداس:
كانت ليسيداس آخر قصيدة نظمها الشاعر في هورتون، وكانت في رثاء صديق له هو إدوارد كنج أحد زملائه في كمبردج وكان شاعراً له قدره، وقد غرق هذا الصديق سنه 1637 أثناء رحلته من شستر إلى أيرلندة، وأعد أصحابه في كمبردج عدداً من المراثي انتظمها كتاب صغير، وكان من بينها مرثية ملتن!
بدأ ملتن مرثيته بإشارة إلى بعض الأزهار التي يوحي ذكرها الشعر قائلاً إنه يعود ليقتطفها مبتسرة لم تتفتح، وهو يرمي بذلك إلى أنه يعود مرة ثانية إلى الشعر قبل أن يتم استعداده كما يجب، فإن حادثاً جللاً يعز عليه معه أن يظل صامتاً، وذلك هو موت ليسيداس، وكان ليسيداس اسماً اصطلاحياً على أي راع من الرعاة، وقد شبه ملتن صديقه بالراعي تلميحاً إلى الشعر الغنائي ونشأته على ألسنة الرعاة. . .
ويتساءل الشاعر: منذا الذي لا يغني لليسيداس وهو الذي عرف كيف يغني وكيف يطرب؟ فلا أقل إذ من أغنية دامعة على هذا الراحل العزيز!
ثم يستحث ملتن ربات الشعر اللائي يقمن في سفح الأولمب عند البئر المقدسة، حيث موطن (جوف) وسألهن العون، فقد كان ليسيداس قرينه، كانا راعيين معاً على تل واحد يطعمان غنماتهما ويسقيانها من نبع واحد ويأويان بها إلى ذل واحد ويغينان لها بزمارة واحدة. . . ويستطرد في وصف حياتهما معاً وما يحيط بهما من مظاهر الجمال والاستمتاع(670/27)
على صورة أشبه بما جاء في قصيدته الإليجرو، وهو إنما يقصد حياة الشعر وجمال دنياه!
وينتقل بعد ذلك انتقاله حزينة بذكر ما حدث من موت ليسيداس فيذكرنا بقصيدته البنسروزو؛ فسوف يقع نبأ فقده في أنفس الرعاة أو الشعراء كما تقع الحشرات والصقيع على الزهر والحشائش النضرة.
ثم يسأل الشاعر عذارى الماء أين كنا حينا أطبقت اللجة على ليسيداس الذي أحببن؟ ولكن ماذا يجدي هذا الحلم وما عسى أن يصنعن لو أنهن كنا حاضرات. . .
ويتساءل الشاعر بعد ذلك في فقرة حزينة تعد من أبلغ ما كتب عن جدوى الشعر ومعاناة قرضه إذا كان مصير الشاعر إلى مثل هذا الفناء المباغت؛ أليس أجدى على المرء أن يرتع ويلعب؟ إن الصيت والرغبة في المجد هما اللذان يحفزان الأنفس النبيلة فتحتقر اللعب وتقبل على المتاعب، ولكن القدر المباغت يذهب بهذا كله. وإنما يشير ملتن في هذه الفقرة إلى ما يخشى على نفسه كما يشير إلى ما حدث لصاحبه، ثم يستدرك قائلاً إن أبولو يرد عليه مذكراً إياه ان المرء يفنى ولكن المجد والصيت لا يلحق بهما الفناء، وكأنه بذلك يعزي نفسه. . .
ويعتذر الشاعر عن نبتيون إله البحر بفقرة جميلة رائعة الخيال ويبرئه من إغراق ليسيداس ويعود باللائمة على الحظ العاثر، ثم يلمح إلى جامعة كمبردج ويذكر مبلغ حزنها على ابنها الذي فقدته.
ويبتعد الشاعر عن جو المرثية الذي جعله كله ريفياً فيحشر في آله الإغريق التي يلمح إليه (لود) كبير الأساقفة يومئذ ويشتد في الحملة عليه وعلى شيعته ويرميهم بالجهل، ويأتي في حملته عليهم بجمله قوية فيصفهم بأنهم (تلك الأفواه العمياء) ويقصد بالأفواه الهم والجشع والإقبال على الدنيا، والابتعاد عن الحياة الروحية. وأمل العمى فهو عمى بصائرهم وموت أرواحهم. وتفسر هذه الحملة على لود في هذا المقام بأن صاحبه إدوارد كنج كان يكره كبير الأساقفة وشيعته كما كان يكرهه ملتن لجمودهم واستبدادهم، وطالما قرأ ملتن وصديقه كنج الفلسفة معاً وعلوم الدين فكأنما يكره الشاعر إذ يرثي صديقه أن يموت ذلك الصديق ويعيش لود وأتباعه.
ويعود ملتن إلى جوه القروي، جو الرعاة والشعر، فينادي الوديان والشطآن أن ترسل(670/28)
زهرها من كل لون وفي مآقيه دموع الندى ليوضع هذا الزهر حيث يوسد ليسيداس.
ويدعو الشاعر الرعاة أن يمسكوا عن البكاء فما مات ليسيداس وإن طواه اليم، فهو كالشمس كوكب النهار، تغرق في ماء المحيط، ثم ما هي إلا ساعات وترفع جبهتها الوضاءة من اليم فيكون ألا صباح، وسيرفع ليسيداس جبهته في عالم النعيم الدائم؛ حيث يتلقه القديسون والصالحون، وهو منذ اليوم جني الماء يتلمس الخير عنده كل من يرد الشط.
وتعد هذه المرثية من أجمل المراثي في اللغة الإنجليزية إن لم تكن أجملها وأعظمها جميعاً. وهي في غير تحفظ أجمل مرثية في صديق في تاريخ تلك اللغة. أما من حيث قوة الشعر فيها فقد بلغ ملتن هنا ما لم يبلغه في غيرها من السمو والقوة، حتى لتعد نموذجاً لشعره إذ يكتمل، وللشعر الإنجليزي في أرفع درجاته، ولروح الشعر على الإطلاق في أي لغة وفي أي مناسبة، إذ يكون له من السحر والروعة ما يكون للأثر الفني الخالد المعجز.
هذه القصائد الخمس هي كل ما نظم ملتن أثناء مقامه في هورتون، وهي كما أسلفنا القول كفيلة أن تحل ملتن بين الصفوة من شعراء الغناء، كما أنها كيله وحدها لو لم يكن له غيرها أن تجعل منه شاعراً فذاً مرموق المكانة، بيد أنها على الرغم من ذلك لم تخل كما قلنا من هفوات.
تزدحم قصيدتاه الأليجر والبنسروزو بتلميحاته الميثولوجية ازدحاماً يكاد يحس معه المرء أن شعر ملتن هنا غلبت فيه الصنعة على الفن، وأنه يميل إلى إظهار معرفته بالإغريقية واللاتينية أكثر مما يعنى بفنه. وكذلك تعد عليه في هاتين القصيدتين هفوات عند وصفه الطبيعة تدل على أنه أحياناً ينقل عما يقرأ أكثر مما ينقل عما يرى، فهو يشير مثلاً إلى زهرات في زمان غير زمانها يجعل لها لوناً غير لونها، كما أنه يصف أوراق شجرة من الأشجار بما هو بعيد عن طبيعتها. ويؤخذ عليه في قصيدة الأليجرو وأنه أغفل أمر الحب كصورة من صور المرح، وإغفال صورة كهذه تعد من أقوى صوره أمر معيب وبخاصة إذا كان مرده إلى مبالغة ملتن في الحرص على العفة، فلا يصح أن يتعمد شاعر إهمال هذه الناحية الإنسانية القوية تشيعاً منه لنزعة من نزعات الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع صدق الفن وصراحته.
أما مسرحيته الغنائية كومس فإننا وإن صرفنا النظر عن ضعف بنائها كمسرحية غنائية(670/29)
نجدها لا تخلو من مآخذ، وأهمها هذه الطريقة الوعظية التي لجأ إليها ملتن، أو هذه النزعة التعليمية التي جعلته يطنب في إرسال آرائه على ألسنة المتحدثين في المسرحية بصورة كادت تبعث على الملل في كثير من المواقف. وحسبك أن يتناقش الإخوان في مائة وستين سطراً فيما إذا كانت الفضيلة تعصم أختهما من الخطر، وأن يطيل الروح الحارس حبل الكلام فيستنفد وحده مائة وسبعين سطراً قبل أن تتخذ أية خطوة لإنقاذها، مما يبعد المسرحة عن روح المسرح وما تتطلبه من حركة وفعل، ومما يجعل المرء يحس أن مواقفها متكلفة لمجرد التعبير عن أفكار الشاعر. ويأتي بعد ذلك عيب آخر وهو مبالغة أكبر الأخوين في ثقته بالفضيلة، الأمر الذي يضعف في النفس اللهفة على الفتاة وقد تاهت في ظلمات الغابة. ومثل ذلك العيب إغراء كومس الفتاة، فإن إغراءه لم يزد على كونه بعض الآراء الفلسفية الجامدة مع إشارة إلى سحر ذلك الشراب، ولو أنه كان حواراً قصيراً تعرض فيه جوانب الرأي لكان أوقع في النفس وأدنى إلى روح الدراما، وأبلغ في الإغراء وفي امتحان عفتها من ذلك الكلام الشبيه بلغة المدارس أو أسلوب المقالات. والحق أن الغنائية كلها مواقف وأشخاصاً إن هي إلا وسيلة أراد بها ملتن أن يعبر عن أفكاره، فلو أننا قارنا بينها وبين الدراما المسرحية لرأينا كأنما ظهر الملقن على المسرح في هذه الغنائية، وأخذ يلقن كل شخصية ما تقول. . .
أما من حيث فلسفته الغنائية، فقد خلط ملتن بين العفة وبين العذرة، والعفة إذا انتهت إلى الزواج أمكن الجمع بين مباهج الحياة وجمال الطبيعة والحكمة المطلوبة، ولكن أن تظل الفتاة عذراء أبداً أو يظل الفتى عزباً أبداً دون أن يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم يحاول مع هذا الزهد الصارم أو هذا الحرمان أن يأخذ بقسط من جمال الحياة وثمرات الطبيعة فهذا ما يصعب تصوره. ومرد هذا الاضطراب إلى تذبذب الشاعر بين الطبيعة وفرط حبه إياها حباً تجلى فيما قاله على لسان كومس وبين حرصه على قواعد الخلق التي ألتزمها منذ صغره، والتي هي أقرب الأشياء إلى طبيعة البيوريتانية التي كان يميل إليها. ولعل تمسكه يومئذ بأن يظل عزباً ليتفرغ لرسالته مع شغف نفسه بالجمال وإحساسه بالحياة كان له أثره في هذا التناقض الذي أضعف فلسفته.
وكذلك يؤخذ على ملتن أنه لم يرنا كيف تكون العفة سبيلاً إلى قوة خفية سماوية، فهذه(670/30)
مسألة ظلت مبهمة، ولهذا ضعف وقعها في النفس.
ومما يلفت النظر في الغنائية أن كومس في محاولته إغراء الفتاة قد سخر من العفة في ذاتها وعدها كلمة جوفاء، كما أنه أغراها بالطبيعة ومفاتنها وطيباتها، فلما أرادت أن ترد كان ردها موجهاً إلى محاجته في الطبيعة، أما سخر به فلم ترد عليه إلا بامتداح العفة فحسب، كقولها إنها القوة المتشحة بأشعة الشمس، وكان أولى أن تبين أثر العفة في تطهير النفوس لتستبين قوتها، ولقد بدا ملتن هنا في أضعف مواقفه في الغنائي، حتى لكأنه لا يدري ماذا يقول.
هذه هي المآخذ التي توجه إلى شعر ملتن في هورتون، ومهما يُقل فيها، فهي أقل من أن تذهب بشيء من قيمة هذا الشعر الذي بلغ الذروة الفنية، والذي قل أن يقع المرء على نظيره في اللغة الإنجليزية كلها روعة أداء، وعذوبة موسيقى، وإشراق لفظ، وسمو معنى، مما يجعله مزيجاً فذاً من جمال العصر الأليزابيثي ومن ثقافة ملتن، مزيجاً طبعه بطابع الفحولة، حتى بات بين ما أنتجت الدنيا من شعر في قديمها وحديثها وله مقام معلوم.
(يتبع)
الخفيف(670/31)
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية زيد وزينب
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
قضية زيد بن حارثة وزينب بنت جحش من أكبر القضايا الإسلامية، وتمتاز بما كان فيها من تنحي القاضي الذي رفعت إليه أولاً عن الحكم فيها، لأنه رأى أن له فيها شأناً، فلا يصح أن يحكم فيها وله شأن بها، وذلك أصل معروف من أصول القضاء وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وإن لم يكن محل ريبة، ليضع ذلك التشريع في القضاء الإسلامي، ويأخذ به القضاة في التنحي عن نظر القضايا التي يكون لهم فيها شأن.
ويرى الذين كتبوا في هذه القضية أنها تبتدئ من النزاع الذي حدث بين زيد وزينب بعد زواجهما، وإني أرى أنها تبتدئ من ذلك الزواج نفسه، وأن ذلك الزواج لم يكن إلا تمهيداً لهذه القضية التي لم يكن أمرها مقتصراً على زيد وزينب، وإنما كانت وسيلة لإبطال عادة ظالمة من أكبر عادات العرب في جاهليتهم، بل من أكبر عادات الأمم القديمة من عرب وغيرهم. وقد اختيرت هذه القضية لإبطال هذه العادة، واختير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو البادئ بإبطالها في أمر نفسه، لأن ذلك هو شأن كل مشرع، ولأنه كان لتلك العادة سلطان على النفوس، فلا يهون من أمرها إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو البادئ بإبطالها.
كان العرب في الجاهلية يلحقون بعض الأجانب بأولادهم، ويعطون الدعي جميع حقوق الولد في الإرث وحرمة النسب وغيرهما، كما كانوا يخلعون أبناءهم من نسبهم لسبب من الأسباب فيأتي الرجل منهم بابنه إلى الموسم ويقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلب، فلا يؤخذ بجرائره.
وكان زيد بن حارثة من بني كلب، وأمه سعدى بنت ثعلبة من بني بن طي، فزارت قومها ومعها زيد ابنها، فأغارت خيل من بني القين على قومها، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفقه، فأتوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وقد مكث عنده حتى حج ناس من كلب فرأوه فعرفهم وعرفوه، ولما رجعوا إلى قومهن أعلموا أباه حارثة بموضعه، فخرج هو وأخوه(670/32)
كعب بفدائه فقدما مكة، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبعث بعد، فقالا له: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال: أو غير ذلك؟ ادعوه فخيروه، فإن أختاركم فهو لكم بغير فداء، وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. ثم دعاه فقال له: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي. فقال له: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا له: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك. فقال لهما: قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، ثم انصرفا إلى قومهما.
فصار زيد يدعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فكان من أسبق الناس إسلاماً، ثم هاجر إلى المدينة، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له ابنه أسامة. فلما كانت السنة الخامسة من الهجرة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل عادة التبني، لأنه لا يصح أن يكون الولد ولداً بقول تنطق به أفواهنا، وإنما الولد قطعة من أبيه، فهو أبوه بذلك أراد أو لم يرد، وهذه هي الحقيقة والفطرة وما عداها كذب وغش، وليس للرجل أن يكون له حق إرث أقربائه، ثم يأتي بأجنبي عنهم فيجعله ولداً له، ويؤثره بإرثه دونهم، فذلك ظلم من أكبر الظلم، وقطيعة لا ترضاها شريعة من الشرائع العادلة.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار له زوجاً ليعقبه عليها ويبطل بالفعل قبل القول تلك العادة الظالمة، ولهذا خالف ما فعله معه في الزواج الأول حين اختار له مولاته أم أيمن، فكان نسبها قريباً من نسبه، لأن قرب منزلة الزوجين في النسب له أثر في الألفة بينهما، وفي عدم تعالي أحدهما على الآخر، فتطيب بذلك عشرتهما، وتستقر به رابطة الزوجية.
ولكنه في الزواج الثاني كان يعلم أن مآله إليه، فلم يختر فيه لزيد بل اختار لنفسه، ليقضي الله ما أراده من إبطال عادة التبني ولا يكون عليه حرج في زواج من لا يريدها إذا أرادها(670/33)
لنفسه أولاً، ولهذا اختار لزيد هذه المرة زوجاً من أعلى قريش نسباً، وهي زينب بنت جحش الأسدية، وأمها أميمة بنت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق، ومن أتم نساء قريش، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت ذلك وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله، فلا أرضاه لنفسي. وكذلك أبى أخوها عبد الله بن جحش، فأنزل الله في شأنهما الآية من سورة الأحزاب (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) فلما سمعت ذلك زينب وأخوها رضيا وسلما. وجعلت زينب أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكحها زيداً ليقضي الله ما أراده من زواجه بها.
وما كان الله ليزوج زينب زيداً على غير رغبتها لتكون زوجاً دائمة له، وهو قد شرع فيما شرع استئمار النساء في النكاح، حتى يكون النكاح عن رغبتهن، ويكون عشرة طيبة راضية لا نزاع فيها ولا خلاف، بل محبة وإخلاص وتعاون على المعيشة، وذرية صالحة متألقة بتآلف الأب والأم.
فلما دخل زيد على زينب لم يمكنها أن تتغلب على ما تشعر به من رفعة نسبها على نسبه، ولم يمكنها أن تحبه كما تحب الزوج بعلها، لأن الحب ميل فطري من صنع الله تعالى، وليس من صنع الإنسان ولا غيره من الخلق، فلم تحسن عشرتهما، ولم يهنأ بذلك الزواج كما يهنأ غيرهما، فكانت تتعالى على زيد بنسبها، وكان زيد لا يطيق ذلك ولا يحتمله، لأنه لم يكن أرادها لنفسه عن حب لها حتى يحتمل ذلك منها، وإنما كان شأنهما واحداً في ذلك الزواج. أريد لها أن تتزوج به فرضيت تنفيذاً لأمر الله، وأريد له أن يتزوج بها فرضى تنفيذاً لأمره أيضاً.
فكان زيد يشتكيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، فيأمره باحتمالها والصبر عليها، فيصبر زيد ويحتمل تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ضاق بها ونفذ صبره، ولم ير بداً من طلاقها، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه وأخبره هذه المرة بأنه يريد طلاقها، فأمره أيضا باحتمالها والصبر عليها، وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.(670/34)
كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي له بفراقها. ولو كانت القضية غير هذه القضية لقضى فيها بالفراق، وأراح الزوجين من هذا الشقاء الذي ينافي شريعة الزواج، ويخالف حكمته المذكورة في قوله تعالى في الآية (189) من سورة الأعراف: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها ليسكن إليها).
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن له صلة قوية بقضية زينب، وأن الله لم يرد أن يزوج زيداً زينب على غير رغبتها إلا ليطلقها فيتزوجها بعده، ويبطل بذلك بنوته له بالفعل قبل أن يبطلها بالقول، فأمسك عن الحكم فيها بما كان يجب أن يحكم به في نظيرها، ليضرب بذلك مثلاً للقضاة بعده، فيمسكوا عن الحكم في كل قضية يكون لهم صلة بها. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أعداء من اليهود والمنافقين، فخشي أن يطعنوا عليه بالباطل، وأن يقولوا انه تزوج امرأة ابنه، وأخشى على زيد أن يقوم بنفسه شيء إذا تزوجها بعده.
ولم يكن بعد ذلك إلا أن يتولى الله الحكم فيها، حتى لا يكون لأحد كلام في حكمه، فأنزل في الحكم بطلاقها وزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الآية (37) من سورة الأحزاب: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وكان أمر الله مفعولا) وكانت زينب تفتخر بذلك علة أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
عبد المتعال الصعيدي(670/35)
الجذام
للدكتور أصلي محمد باهي
لمحة تاريخية
إن من أخبث الأمراض التي مني بها الإنسان في هذه الدنيا هو (الجذام) أو (الأسد)؛ ويرجع تاريخ نشأته إلى العصور الخالية. وقد حاول بعض علماء أوربا أن يثبتوا أن مصر من عهد الفراعنة كانت مهد هذا الداء الوبيل مستشهدين على ذلك بما وجد من نقوش في هياكل لأناس لا بد أن يكونوا قد أصيبوا بهذا المرض وهم على قيد الحياة، وخلدوا إما لسمو مكانتهم أو لأغراض أخرى وخلدت معهم أمراضهم لا عن تعمد بل عن براعة في فن النحت في ذلك العصر الغابر. إلا إن هناك فريقاً آخر يقيم الحجة، ويؤكد أن الصين والهند وبطاح آسيا هي منبته الأصلي، وهو إنما جاء إلى مصر عن طريق العدوى بالتنقل والاختلاط. وأخيراً جمع الفريقان رأيهما في صعيد واحد وقالوا سواء أكانت مصر منبعه أم آسيا منبته، فمما لا مراء فيه إنه انتقل إلى أوربا من مصر في القرون الأخيرة قبل الميلاد، وقد ذكره الشاعر الفيلسوف: (تيتوس لو كيتيوس كاروس). (عاش من سنة 99 إلى سنة 55 ق. م) في شعره. ووصفه الطبيب الروماني (سلزوس) (عاش من سنة 53 ق. م إلى سنة 7 ق. م) وصفاً دقيقاً بيناً مما لا يدع شكاً في أنه مرض الجذام بعينه. وقد نعت في ذاك الوقت بداء (التفيل الإغريقي) وأثبت العالم الألماني (فون برجمان) أن هذا المرض انتشر في إسبانيا وسهول لومبارديا بشمالي إيطاليا وألمانيا وفرنسا في القرن الثاني بعد الميلاد. وجاء بعده زميله العالم الباتولوجي (فرشو) وذكر في مصنفاته أن أوربا أنشأت مئات الملاجئ للمجذومين في مختلف أنحائها وذلك في القرن السابع بعد الميلاد. وذلك يدحض الرأي الذي كان شائعاً قبلاً، وهو أن الجذام لم يغز أوربا إلا عقب الحروب الصليبية أي حوالي القرن العاشر للميلاد، ويقول الداحضون لهذا الرأي إن هذا المرض جاء إلى أوربا قبل فجر المسيحية، إلا أنه ازداد انتشاراً عقب الحروب الصليبية.
وما جاء القرن الثاني عشر حتى شمل الجذام إنجلترا والدانمارك والبلاد الاسكندنافية وسائر أرجاء أوربا، ثم استمر في الانتشار والازدياد حتى القرن الرابع عشر إذ بلغ إذ ذاك أوج ازدهاره، فلما أفاقت أوربا من غفوتها وأدركت خطره، ومن ثم أخذت في مكافحته، ابتدأ في(670/36)
الهبوط والزوال إلى أن جاء القرن السابع عشر فاختفى من بعض الأقطار تماماً، وهي تلك التي ضربت بسهم وافر في المدنية، وبقي منه النزر اليسير في تلك التي لم ترتق بها سبل الكفاح بعد إلى القدر المطلوب.
جوهره:
الجذام مرض مكروبي، أي أنه لا ينشأ إلا بالعدوى بجرثومته. وقد تكون العدوى عن طريق الاختلاط أو بالوراثة، أي أن يولد الطفل من أبوين مجذومين. ومكروب الجذام يشبه كثيراً مكروب السل، وهو صغير جداً ولا نقصد أنه صغير لعيننا المجردة؛ بل نقصد أنه صغير جداً بالنسبة لأنواع أخرى من المكروبات. ولأجل أن نعطي القارئ فكرة تقريبية عن حجم هذا المكروب نقول إنه إذا وضع من المكروب ألف واحد وضعاً طولياً بحيث يكون رأس الواحد بعد نهاية الآخر، وفي خط مستقيم على نمط عربات قطار السكة الحديد كان طول هذا الخط أربعة ملليمترات فقط. أما إذا وضعت الألف منه عرضياً أي كصف من الجند كان سمكه 3 ,. من الملليمتر، ومن ذلك يمكن للقارئ أن يصور لنفسه طول المكروب الواحد وعرضه.
ويعزى اكتشاف مكروب الجذام، إلى العالم النرويجي (أرماور هانزن) في عام 1873، وأما الذي درس حياته بالتفصيل، ووضع الأسس الحديثة لدراسته البكتريولوجية، فهو العالم الألماني (نايسر) وذلك سنة 1879، ومدة تفريخ المرض، أي الوقت الذي ينقضي من وقت دخول جرثومته في الجسم حتى تظهر أعراضه عليه، هي من 3 إلى 5 سنوات وقد تصل في بعض الحالات إلى 10 سنوات.
أعراضه:
هناك نوعان يتميز بهما المرض في نشأته ونموه ونهايته، وهذا يتوقف على الطريق الذي يسلكه المكروب بعد دخوله في الجسم، فمنه ما يلازم أعصاب الجسم ويسير معها أينما سارت ومنه ما يحاول النفاذ إلى الجسم عن طريق الأقنية اللمفاوية. وأهم أعراضه أورام تظهر على جسم المريض في مواضع مختلفة على شكل عقد متفاوتة في الحجم تثبت في مكانها؛ وتتجمد وتنمو بمرور الوقت، وقد تتقيح وتخرج منها إفرازات صديدية. وأكثر ما(670/37)
تظهر هذه الأورام في الأطارف والوجه، وقد تنتشر على طول الحاجبين والأنف والشفتين والخدين بحيث يتشوه الوجه، ويكتسب طابع وجه الأسد، ولذا سمي الجذام أيضا بمرض (الأسد) أو (التأسد).
وكثيراً ما تنتشر العقد الجذامية على طول أصابع اليدين والقدمين، فإذا ما أصابها التقيح أعقب ذلك عادة تنخر في عظام الأصابع فتسقط من نهايتها، وقد تكرر هذه العملية إذا سار المرض من تلقاء نفسه في هذا الاتجاه، فلا يلبث المريض أن يفقد أصابع يديه أو قدميه. وقد يجيء الوقت الذي لا ترى من يديه إلا الكفين بعد أن فقدتا أصابعهما العشر كذلك يكون الحال بالقدمين.
وبعد أن ينال المرض غايته من أجزاء الجسم الخارجية يحول طريقه إلى الأعضاء الداخلية فيصيب الكبد والطحال والكليتين والأعضاء التناسلية وهلم جرا كلا بدوره، ويحدث فيها من التشويهات ما شاء له، ويأكل خلاياها الحية ويترك مكانها أوراماً خبيثة ملآى بملايين الملايين من مكروبه تزحف بمرور الوقت إلى ما يجاورها من أجزاء الجسم السليمة أو تبعث برهط منها عن طريق الدورة الليمفاوية إلى أجزاء أخرى من الجسم بعيدة عنها، وتلك تنشئ مستعمرة لها في هذا الجزء الذي حلت به، وهكذا دواليك إلى أن يقضي المريض نحبه. وعلى ذلك فمريض الجذام شخص حكم عليه بالموت البطيء، لا بل هو شخص تعس حكم القدر عليه أن يرى جسمه يتساقط أجزاء ويأكله المكروب حياً كما تأكل الديدان رمة بالية. هذه صورة مصغرة لأعراض هذا المرض الوبيل، في بدئه ونهايته.
ولدراسة هذا المرض ومكافحته أجرى العلماء تجارب عدة على أنواع مختلفة من الحيوان، فحقنوا الفيران والماعز والقرود بمكروب الجذام، وفي كثير من الحالات ظهرت أعراض المرض عليها بعد ردح من الزمن. وقد وفق (آرننج) للحصول على إجازة من السلطات المختصة بجزيرة (هاواي) لعمل تجارب على قاتل يدعى (كينو) حكم عليه بالإعدام، وقد خفف هذا الحكم إلى السجن المؤبد لكي يحقنه (آرننج) بمكروب المرض، وبعد حقنه بعامين تقريباً ظهرت عليه أعراض الجذام المعروفة، وابتدأ جسم هذا الرجل الذي كان يتدفق قوة وبطشاً يتهدم شيئاً فشيئاً. وبعد سنتين أخريين كان (كينو) في أثنائهما يكافح المرض بقوة جسمه، قرر طبيب السجن إحالته إلى مستعمرة المجذومين (بمولكاي) بجزيرة(670/38)
(هاواي) حيث قضى المريض نحبه متأثراً من وطأة المرض.
مدى انتشاره في الأمم المختلفة:
سبق أن ذكرنا أن الجذام بعد أن كافحته أوربا تضائل وقل عدده حتى يمكن أن يقال إنه قارب الزوال من تلك القارة، وإذا تبسطنا في القول قلنا إنه تركز الآن في النرويج وروسيا وإسبانيا والبرتغال والبلقان وجزيرة ايسلنده. وهما يكن مجموع ما هو موجود منه اليوم في أوربا بالنسبة لعدد سكانها فإنه لا يعد شيئاً مذكوراً في عالم الوبائيات، ولا سيما بعد أن تتاح لنا فيما بعد فرصة للمقارنة بينه وبين ما هو موجود في بقاع أخرى من الكرة الأرضية. ويقدر الأخصائيون ما هو موجود الآن منه في أوربا بنحو 5000 حالة، وإذا علمنا أن عدد سكان الصين يعادل تقريباً عدد سكان القارة الأوربية اعترانا الدهش أو بالأحرى الذهول حينما يقال لنا إن بالصين ما يزيد عن مليون مجذوم، وهذا يوضح لنا مرة أخرى مبلغ تأثير المدينة في مكافحة المرض والقضاء عليه وكذلك استتبابه وتغلغله في تلك الأقطار التي لا تزال تغط في سبات عميق من التواكل والخمول. أليس من المزعج لا بل من المؤلم أيضا أن يكون المرض منتشراً في الصين بنسبة تعادل 200 ضعف قوة انتشاره في أوربا. . .!!؟
ويوجد في الهند نحو300. 000 مجذوم وفي مصر نحو10. 000 مصاب بهذا المرض، وأكثر بقاع الأرض إصابة به هي (كولومبيا) في أمريكا الوسطى وجزيرة (مدغشقر) بالمحيط الهندي، وهذه الجزيرة هي التي تحمل الرقم القياسي لهذا المرض. وليس أدل على ذلك من أن بتلك الجزيرة التي يزيد سكانها عن المليون نحو 8000 مريض بالجذام أو ما يعادل أضعاف قوة انتشاره في الصين وعشرة أضعاف قوة انتشاره بمصر. ولا داعي لأن نقارنه بقلة انتشاره في أوربا إذ ربما نصاب بدوار بالرأس أو ذهول.
كيف كافحته أوربا حتى قضت عليه:
لا مشاحة في أن الحضارة في العصور المختلفة هي التي تكيف حياة الفرد؛ بل حياة الأمة، والأمم التي تأخذ بأسبابها تطبعها بطابعها الخاص فتهديها إلى ما يجب عليها عمله في أمر من الأمور أو في مشكلة اجتماعية خاصة، وتنهاها عما لا يتفق وروح تلك الحضارة. وقوة(670/39)
تفكير الفرد مستمدة من ينبوع حضارته. وهذا مرض الجذام خير دليل على ما للمدنية من قوة فعالة للقضاء على الخبيث من الأمراض، وإسعاد الشعوب بإرشادها إلى ما يحميها مما يهدد كيانها أو ينغص عليها حياتها.
إن أول ما فعله الأوربيون في القرون الوسطى حينما انتشر المرض بين ظهرانيهم، ورأوا من ضحاياه الكثيرين في الشوارع والطرقات يسيرون هنا وهناك، أن اشمأزوا من رؤيتهم، وتأففوا من لمسهم وتجنبوا الاختلاط بهم أو التعامل معهم، وهذا هو العزل الفطري، عزل السليقة والإيحاء، وهو في تاريخ الطب الحجر الأول في نظام العزل الذي نعرفه اليوم (بالعزل أو الحجر الصحي). أزعجتهم في بادئ الأمر تلك التشويهات الخطيرة التي أحدثها المرض بأجسام ضحاياه، وبالرغم من أن جوهره وأسبابه كانت مجهولة لهم تماماً إذ لم يكونوا يعلمون من علم المكروبات شيئاً، إلا أنهم رأوا بالرغم من ذلك كله ضرورة إسكانهم في بيوت خاصة بهم ومنعزلة عن الأصحاء من أبناء جلدتهم، وقد اختيرت لهم في أغلب الأحيان بيوت واقعة خارج المدن لضمان عدم اختلاطهم بباقي السكان.
ولما كان عدد المجذومين في ذاك العهد كبيراً، وإيواؤهم ثم إطعامهم لا تقوى الحكومات إلى القيام به منفردة، انبرى أغنياؤهم إلى مد حكوماتهم بالإعانة والتبرع والإحسان، صرح للمجذومين فوق ذلك أن يجوبوا الطرقات للاستجداء ليساهموا هم أيضا إلى حد ما في سد نفقاتهم، إلا أنه فرض عليهم في نفس الوقت أن يرتدوا لباساً خاصاً، ويضعوا فوق رءوسهم غطاء معيناً ليراهم الجمهور من بعيد ويتميزهم. وإذا غفل عابر سبيل عن أن يرى مجذوماً مقبلاً عليه كان محتماً على المجذوم أن يرفع رداء نصفياً يغطيه حتى الذراعين بضع مرات متوالية في الهواء مؤدياً حركة تشبه طائراً يرفرف بجناحيه حتى يسترعي نظر من هو مقبل عليه ليحذره، ولا يصطدم به، والويل ثم الويل للمجذوم إذا هو غفل عن ذلك فإنه كان يعاقب إذا ذاك عقاباً صارماً.
أصلى محمد باهي(670/40)
في كتاب:
(معالم تاريخ العصور الوسطى)
للسنة الثانية الثانوية طبعة سنة 1945
للأستاذ محمد الطنطاوي
كتاب قيم طوى شتيت المعاني في وجيز العبارات، تلبية لداعي الوقت الدراسي الذي تتناهبه مختلفات العلوم. وجمل هذا الاختصار الأنيق الرعاية الدقيقة في رواية المعاني من حوادث وغيرها، وكذلك ينبغي أن توضع كتب الوزارة، فإنها المصادر الفريدة لمعلومات النشء العالقة بعقولهم، الخالدة في صحائف أذهانهم يئلون إليها عندما يتسع أفق تفكيرهم كأساس يعتمدون عليه في تنمية معارفهم.
طالعت قرابة نصف كتاب (المعالم) الأول، فعنت لي ملاحظات فيما قرأت أبتغي بعرضها تلافيها في الطبعة المقبلة خدمة للعلم والتاريخ.
جاء في ص13: (ولم يكن لبني هاشم منافسون سوى بني أمية وهم أحفاد عبد الدار أحد اخوة قصي)
والجملة الثانية تفيد أمرين: الأول أن بني أمية أحفاد عبد الدار، والثاني أن عبد الدار أحد اخوة قصي.
وأقول إن كلا الأمرين لا ينطبق على الواقع. فإن كتب الأنساب تروي أن قصياً نسل عبد الدار وعبد مناف وغيرهما، وأن عبد مناف نجل عبد شمس وهاشماً وغيرهما، وأن عبد شمس أعقب أمية واخوته.
ومن ذا يتضح أن بني أمية حفدة عبد مناف كبني هاشم، وأن عبد الدار أحد أبناء قصي. فصحة الجملة (وهم أحفاد عبد مناف بن قصي) والجملة حينئذ يستبين منها أن بينهما رحماً ماسة وذلك هو الهدف الذي ترمي إليه.
وجاء في ص18 في الغزوات: (وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم في تسع منها)
والظاهر من هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم لم يشترك في باقي الغزوات.
وأقول إن المعروف أن الغزوة ما خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سواء أوقع فيها(670/41)
قتال أم لا، وأن القتال كان في تسعه منها فقط. فالنبي صلى الله عليه وسلم اشترك في الغزوات كلها، وبتالي قاتل مع المسلمين في التسع. فالصواب في الجملة (وقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في تسع منها) كما في سيرة ابن هشام وغيرها
وجاء في ص18 أيضاً: (ونالوا أول انتصار لهم في السنة الأولى بعد الهجرة في غزوة بدر. . . وقد أحسن المسلمون معاملة الأسرى). . .
تقتضي الجملة الأولى أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى بعد الهجرة.
وأقول إن كتب المغازي والسير اتفقت على أن تلك الغزاة وقعت في السنة الثانية. وبها اعتز المسلمون وأوهن كيد الكافرين.
وجاء في ص18 و 19: (ولما نكث بنو قريظة عهدهم. . . فقاتلوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً. . . فأخذ النبي بعد هذا يقلب وجهة في السماء. . . فأمر أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام)
يفيد القارئ لهذا الكلام من الجملتين الأخيرتين أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بعد غزوة بني قريظة التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة.
وأقول إن كتب المغازي والسير وأسباب النزول مطبقة على أن تحويل القبلة لم يتأخر حتى هذا الحين بل كان قبيل غزوة بدر الكبرى التي كانت في السنة الثانية بعد الهجرة.
وجاء في ص49 لمناسبة قتل الحسين رضى الله عنه: (ومن علي زين العابدين بن الحسين تناسلت ذرية النبي صلى الله عليه وسلم)
إن هذه الجملة بوساطة تقديم المعمول تشعر بقصر التناسل من الذرية الشريفة على سيدنا علي زين العابدين.
وأقول إن التناسل قد استمر في ذريتي السبطين (الحسن والحسين) معاً إلى عهدنا والأعلام منهما مشهورة فالصواب حذف الجملة أو تقديم الفعل.
وجاء في ص66: (منافسة العلويين لخلفاء بني العباس. . . ومن ذلك دولة الأدارسة بالمغرب والدولة الفاطمية. . . ودولة بني بويه وهي من غلاة الشيعة).
أقول يحسن حذف , وهي) بعد بني بويه لتكون جملة مستقلة ليس فيها عطف دولة بني بويه على ما قبلها لئلا يوهم العطف أنها علوية نسباً كالأدارسة والفاطمية.(670/42)
وجاء في ص82 عن والي مصر عبد العزيز بن مروان (ويظن أن أول الدنانير العربية ضربت في عهده)
أقول هذا الظن غير منسجم مع ما سلف في الكتاب نفسه من اليقين عن الخليفة عبد الملك بن مروان، ففيه ص51 (وضرب نقوداً خاصة للعرب بعد أن كانوا يتعاملون بنقود الرومان والفرس فضرب في عهده الدينار وهو نصف جنيه بالتقريب) - وهذا ما ينبغي التعويل عليه من أقوال مذكورة في النقود الإسلامية للمقريزي و (الكامل) لابن الأثير، ليس منها من أضاف الضرب إلى عبد العزيز. نعم ورد في النجوم الزاهرة أنه أشار على الخليفة بذلك لكن لا تصل الإشارة إلى حد النسبة إليه.
محمد الطنطاوي
المدرس في كلية اللغة العربية(670/43)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
725 - فلما وردا علي لم أعقل ما عملت
في (الأغاني): اصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات، ومعهم مغنية، فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ معنا جارية لبعضنا وهي مغنية فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت لنا فعلنا، قال: أنا أصعد إلى ظلال السفينة فاصنعوا أنتم ما شئتم، فصعد، وأخذت الجارية عودها فغنت:
حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم '
أقبلت - والوطء خفي - كما ... ينساب من مكمنه الأرقم
فطرب الشيخ وصاح، ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات وجعل يغوص ويطفو ويقول: (أنا الأرقم، أنا الأرقم) فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأي ما استخرجوه، فقالوا له: ما أصابك؟ فقال: دب شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل، ونزل في رأسي مثله فلما وردا على قلبي لم أعقل ما عملت.
726 - وفي بيته مثل الغزال المربب
قال المبرد: اتهم سعد بن مصعب بن الزبير بامرأة في ليلة مناحة أو عرس، وكانت تحته ابنة حمزة بن عبد الله بن الزبير، فقال الأحوص (وكان بالمدينة رجل يقال له سعد النار):
ليس بسعد النار من تذكرونه ... ولكن سعد النار سعد بن مصعب
ألم تر أن القوم ليلة جمعهم ... بغوه فألفوه لدى شر مركب
فما يبتغي بالشر لا در دره ... وفي بيته مثل الغزال المريب
727 - ثم لم يرجع إليكم
قال الجاحظ: قال رجل من فقهاء المدينة: من عندنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم رجع إليكم.
728 - أصبت
في كتاب الأم للشافعي: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء. قال سمعت(670/44)
عبيد الله بن عمير يقول: اجتمعت جماعة فيما حول مكة، فحانت الصلاة، فتقدم رجل من آل أبي السائب أعجمي اللسان، فأخره المسور بن مخرمة وقدم غيره. فبلغ عمر بن الخطاب، فلم يعرفه بشيء حتى جاء المدينة، فلما جاء المدينة عرفه بذلك، فقال المسور: أنظرني يا أمير المؤمنين، إن الرجل كان أعجمي اللسان، وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحجاج قراءته فيأخذ بعجمته. فقال: هنالك ذهبت بها؟ فقلت: نعم. فقال: أصبت
729 - وتأخذ الواحد من أمه
يا موت، ما أجفاك من نازل! ... تنزل بالمرء على رغمه
نستلب العذراء من خدرها ... وتأخذ الواحد من أمه
730 - فاقرأ عليهم سورة المائدة
دعي ابن حجاج إلى دعوة مع جماعة فتأخر عنهم الطعام، فقال لصاحب الدعوة:
يا ذاهباً في داره آيبا ... من غير ما معنى ولا فائدة
قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة!
731 - لا كان دهر يولى على بني الناس مثلك
قال أبو الفداء: غضب أرغون شاه على فرس له قيمة فضربه حتى سقط، ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه:
عقرت طرفك حتى ... أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولى ... على بني الناس مثلك
732 - كلام بكلام
مر رجل بآخر فسلم عليه فقال: هلم، فهم الرجل أن يقعد معه، فقال الآكل: رفقاً، أما عرفت هذا ما هو؟
فقال: ما هو؟
قال: علي أن أقول هلم، وعليك أن تقول هنيئاً حتى يكون كلاماً بكلام. فقام الرجل.
فقال: قد أعفيتك من التسليم ومن تكليف الرد(670/45)
فقال: قد أعفيت نفسي إذا من هلم
732 - وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر
نظر شيخ من الأعراب إلى امرأته تتصنع وهي عجوز فقال:
عجوز ترجى أن تكون فتية ... وهل لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
وما غرني إلا خضاب بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وجاءوا بها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر
733 - ونطقهم عندها بهمس
قال أبو مروان عامر بن غصن:
يا فتية خيرة فدتهم ... من حادثات الزمان نفسي
شربهم الخمر في بكور ... ونطقهم عندها بهمس
أما ترون الشتاء يلقي ... في الأرض بسطا من الدمقس
مقطب عابس ينادي: ... يوم سرور ويوم أنس(670/46)
الرباط الأسود
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
قد غبرَ العامُ وما يحمدُ ... وحلّ عامٌ مُثله أربدُ
دنيايَ مِن بَعدك يا زوجتي ... آنسُ منها قبرُك الموصَد
وكلُّ أيامَي مسئومةٌ ... ولو طغى اللهوُ بها والدَّد
نِضْوُ أسىً، في عُنُقي ربْطةٌ ... سوداءُ كابٍ لونُها أكمد
يرنو إليها صاحبي مُنْكِراً ... وقد تولَّى العامُ أو أزْيد
يسألني من رحمةٍ لحظُهُ ... أما أَنَي لَخلْعها الموعد
يا لَوْعَتَا من خاطرٍ مزعجٍ ... يهتاُج أشجاني ويسْتَوْقد
يرُوع نفسي، وكأني به ... يروع مَن تحت الثرى ترقد
كأنني أجحد عهدَ الهوى ... وعهدُنا الموثوقُ لا يُجْحَد
يا مهجتي قَرِّي، ويا روحَها ... قَرِّي، فما انحلّ لنا مَعْقَد
لمَّا نَزَلْ عِرْسَيْن نمشي معاً ... تشابكتْ مِنّي ومنك اليد
أسْرِي وتَسْرِين على بَرْزَخٍ ... يتّصل اليومُ به والغدُ
يربط روحَيْنا برغم الردى ... هذا الرباطُ الثَّاكلُ الأسود(670/47)
أمل الفلاح
(القصيدة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر البريطاني
هذا العام)
للأديب حسن جاد حسن
الله للفلاح في بؤسه ... وصرخة الآمال في نفسه
يبخسه الدهر، وأوطانُه ... عون مع الدهر على بخسه
وما سرى في أفقه كوكبٌ ... إلا وغض الطرف من نحسه
مضنى يقصّ الدهر عن كدحه ... وتسمر الأيام في بأسه
على محيّاه سطور الضنى ... قد خطَّها المقدور في طرسه
مغصّن الصفحة يطوي بها ... دفائنَ الأسرار عن تعسه
تحسّ ذل البؤس في صوته ... وتدرك التبريح في جرسه
الفقر والجهل وأسقامه ... معاولٌ تهدم في أُسِّه
يبيتُ صفر اليد من عُدمه ... والذهب الأبريز من غرسه
وقوتُه ما خلّفت أرضه ... من حنظل الزرع ومن يبسه
يعيش بين البهم في كونه ... كأنه لم يك من إنسه
من أسكن المترفَ فردوسه ... يسكن في المعتم من رمسه
ومن كسا الوادي حرير المنى ... مرقع الأطمار من لبسه
فكم شواه القيظ في جمره ... وكم طواه البرد في قرسه
جندّيه المجهول في كدحه ... ورمزه الصادق في قُدسه
مَن كلما مسَّ الثرى كفُّه ... أحاله تبراً ندى مَسِّه
عَيٌّ فصيح الشكو في عِيّه ... يبثه لله في همسه
قد خطَّها شكوى على أرضه ... ذاك اليراع الحرُّ من فأسه
هل للمني الجرحى بأحشائه ... هزة عطفٍ من بني جنسه؟
فكفكفوا المسفوح من غربه ... وبدّدوا المربدَّ من يأسه(670/48)
طِبُّوا لعاصي الداء في جسمه ... واشفوا عضال الجهل في نفسه
واسقوه عذب الماء، لا آسناً ... يرنق (المكروب) من كأسه
وكافحوها فيه أميَّةً ... تنفث روح الشر من رجسه
تضاعفِ الصحة من عزمه ... ويرهف التعليم من حسّه
لا تحرموه من جنى غرسه ... واحموا الجنى الغاليَ من وكسه
واستبدلوا من كوخه جنةً ... مِن رافة العيش وفردوسه
هذى أمانيه، نواعيرُه ... أشجتْ بها الشادوف في مَيْسه
يلهو الحمى في خيرها ... عن مأتم الفلاح في عُرسه
خلُّوه والسلم رفيف المنى ... يستقبل الآمال من شمسه
إن تُسعدوه اليوم في ظله ... ينس مرير العيش من أمسه
أو تُنهضوه تنهضوا بالحمى ... وترفعوا المخفوض من رأسه
حسن جاد حسن
بقلم الأستاذية بكلية اللغة العربية
-(670/49)
البريد الأدبي
رأي معالي العشماوي باشا في رواية تاج المرأة:
نشرنا في العدد 666 من (الرسالة) رأينا ورأي الأستاذ الزحلاوي في رواية (تاج المرأة) التي نقلها إلى العربية الأستاذ كامل بك البهنساوي، ويسرنا أن ننشر اليوم رأي صاحب المعالي وزير المعارف في كتاب أرسله إلى المترجم الفاضل هذا نصه:
عزيزي الأستاذ كامل البهنساوي بك
تلقيت كتابك، وإني ليسرني أن أعبر عن إعجابي براوية (تاج المرأة) التي ترجمها للمسرح المصري ومثلتها على مسرح الأوبرا (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى). ويعنيني بصفة خاصة أن أعبر لك - فوق إعجابي بالموضوع والتمثيل - عن إعحابي بلغة الترجمة التي أعدها لوناً من الأدب الرفيع يهنأ عليه من استطاع أن يقدمه للمسرح المصري العربي وأن يلفته إلى هذا الفن الرفيع.
ولقد كان قيام (الفرقة القومية) أول قيامها في العهد الذي كانت تتبع فيه وزارة المعارف وكنت وكيلاً لها - لكي تحقق هذه الناحية وتعني بها دون نظر إلى الربح أو الخسارة أو توازن الميزانية. فالأمر أمر نشر ثقافة فنية عالية لا ينبغي النظر فيه إلى مقدار ما يكلف الدولة من نفقات. وقد قدمت الفرقة طائفة مختارة من هذا الأدب الراقي متأثرة بالفكرة التي أوحت بإنشائها. ولعل من الخير أن تبقى هذه الخطة تترسمها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى).
وإني أوافقك على ضرورة التقدم إلى زميلي وزير الشؤون الاجتماعية بالسعي لتحتفظ الفرقة برسالتها الأولى في خدمة المسرح المصري العربي خدمة تقوم على أساس من الفن الرفيع والأدب العالي. وتفضل بقبول تحيات المخلص
محمد العشماوي
نوادر المخطوطات العربية في المكتبة التيمورية:
في المكتبة التيمورية التي ضمت إلى دار الكتب المصرية من عشر سنوات حوالي عشرين ألف مجلد من أقيم المؤلفات بينها بضع مئات من الكتب المخطوطة النادرة في مختلف(670/50)
علوم اللغة والدين والفقه والأدب وسواها، ولمناسبة ظروف الحرب نقلت هذه الكتب كلها من المكتبة العامة إلى المغارات في المعادي لحفظها فيها، وقد بدئ أخيراً بإعادتها جميعاً إلى موضعها في دار الكتب.
وقد تقرر تكليف القسم الأدبي بالدار بمراجعة المخطوطات النادرة في المكتبة التيمورية لاختيار ما ينبغي نشره وطبعه منها، وبيم المؤلفات الخطية 500 بأيدي بعض جلة العلماء لتكون خاصة بمكتباتهم، و 300 بأيدي المؤلفين أنفسهم، و400 ليست مؤرخة، و 300 بها تواريخ كتابتها وهي منذ القرن الهجري السادس وما بعده.
وقد ندب للقيام بهذا العمل الأستاذ أحمد لطفي السيد، والأستاذ محمد عبد الجواد الأصمعي من محرري القسم الأدبي.
1 - نص ثالث
كنت قد أشرت في جوابي للأديب الذي عقب على مقالتي (من غزل الفقهاء) بشأن بيتي عروة بن أذينة، إلى نصين معتبرين: نص الأغاني للأصبهاني (الجزء 21) ونص البكري في شرح الأمالي لأبي علي القالي (1: 137)، على أن البيتين لعروة لا لعمر بن أبي ربيعة وإن ذكرا في ديوانه الذي جمع في عصر متأخر، وأخذهما من هناك (فيما يظهر) الأستاذ العقاد. وقد أراني اليوم الطالب النابغة السيد عصام العطار من طلاب المعهد العربي في دمشق نصاً ثالثاً أورده شاكراً له مثنياً عليه.
جاء في الجزء الأول من زهر الآداب للحصري (ص151):
(وكان عروة بن أذينة على زهده وورعه، وكثرة علمه وفهمه، رقيق الغزل كثيره (إلى أن قال) ومرت به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق، وأنت تقول:
قالت وأبثثتها سرى (الخ) البيتين.
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط.
ولو تتبعت المصادر لوجدت نصوصاً أخرى كثيرة، ولكن المسألة أهون من أن يبذل فيها هذا الجهد.
2 - جواب(670/51)
على ما نشر في بريد (الرسالة) (666):
جوز أبو حنيفة وحده ولاية المرأة القضاء في المدنيات دون الجنائيات ومنعها سائر الفقهاء، ولم يعرف التاريخ امرأة واحدة وليت القضاء.
أو ما كفى المرأة أن تكون (نائبة) الرجل ووكيلته في الدار، حتى تكون (نائبة) الأمة في البرلمان و (نائبة) العدل في المحكمة؟
إنه ما بعد هذه (النائبات) إلا أن تكون هي (القاضية)!
علي الطنطاوي
القاضي
جامعة أدباء العروبة:
اجتمع مجلس إدارة جامعة أدباء العروبة في دار الدكتور محمد وصفي نائب رئيس الجامعة طائفة من رجال البيان والأدب وتدارسوا فيما بينهم وسائل النهوض بالأدب ليؤدي رسالته كاملة في تحقيق الوحدة العربية والحرية والكرامة لشعوبها. وتكلم حضرات الأساتذة صاحب المعالي دسوقي أباظة باشا، والدكتور وصفي، والدكتور إسماعيل حسين، وطه عبد الباقي سرور، وعبد العزيز الإسلامبولي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم المحامي، ومحمد عبد الوارث الصوفي، وعبد الله شمس الدين، وخالد الجرنوسي، وعبد الحميد الإسلامبولي، ومحمد مصطفى حمام. ثم قرر الحاضرون إقامة مهرجان لأدب الربيع في النصف الأول من شهر مايو المقبل، وترجو الجامعة من حضرات الشعراء والأدباء الذين يريدون المساهمة في هذا المهرجان الاتصال بالسكرتارية 196 شارع محمد علي تليفون 47350
إلي قراء الرسالة في سوريا ولبنان:
نرجو أن تطلبوا من شركة فرج الله ما ينقصكم من أعداد الرسالة ولا سيما الأعداد التي تأخرت عنكم أثناء الإضراب في فلسطين.(670/52)
الكتب
طفل من القرية
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ وديع فلسطين
وهذا صوت آخر من القرية يردده الأستاذ القدير سيد قطب فيدعو في أسلوبه التهكمي الخاص إلى تدارك الريف المصري بعناية أولي الأمر، لأن الجهالة لا تزال تختم على عقول قطانه، والفقر ما فتى يحرمهم قوتهم، والداء ما برح ينهش أبدانهم في غير رحمة ولا إشفاق، والخرافات تتناقلها الألسن والأجيال فتصير لها صفة الحقيقة الماثلة الثابتة.
هي ذكريات وعاها الأستاذ سيد مذ كان صبياً يعيش في القرية ويتعلم فيها ويخضع لقوانين الفطرة التي لم تكن المدنية قد تغلغلت إليها بعد. ذكريات شاء أن يدونها في كتابه الجديد (طفل من القرية) يبسط فيه أحوال طلاب الكتاتيب والمدارس الأولية ومدرسيهم وأهليهم وبيوتهم وعاداتهم ووسائل تربيتهم وتطبيبهم.
فهو يحدثك عن الأولياء والمشايخ الذين يقدسهم الريفيون وينسبون إليهم أداء أعمال يعجز عنها الطب ويحار فيها نطس المطببين. فإذا مرض طفل أمكن شفاؤه بحمله على الرقاد ليلة إلى جانب رجل مجذوب مخلول العقل! وإذا عالج (تمورجي) عليلاً وشفاه، جعلوا منه طبيباً نابه الذكر ويؤخذ برأيه وإن كان خطلاً، وتنفذ مشورته وإن كان فيها القضاء العاجل على السقيم! وإذا باع رجلاً جانباً من أرض ليوسع على نفسه قليلاً في معيشته ويرد عنه الضائقات، حزنت زوجه وانتحبت وبكت بئس المصير! وإذا هجر ابن القرية إلى المدينة طلباً في المزيد من العلم، وما يستتبع ذلك من جاه مؤات ومستقبل مضمون، ودعته عائلته بالزفرات الحارة، وسكبت على فراقه العبرات مدرارة! وإذا أمت القرية بعثة طبية تتقضى حالات البلهارسيا والانكلستوما وديدان الاسكارس ومدى تفشيها في القرية، كان الإهمال ديدنها وأداء المهمة بغيتها، ولا جرم إذا كانت جميع المعلومات التي حصلتها في بحوثها غير دقيقة! وإذا لعبت الجرذان ليلا في كومة تبن على جانب طريق، شاع أن الجن والعفاريت يقطنون هذا المنعرج، وأن السير فيه خطر لا تؤمن مغبته! وإذا اقتنى رجل(670/53)
كتاباً في السحر وفك العقد، سعت إليه النسوة متخفيات، واستعرنه ليقرأنه في خلوة بمنأى عن الأنظار!
هذا بعض ما عكف الأستاذ قطب الإسهاب في وصفه وتصويره في كتاب (طفل من القرية) في سلاسة وبساطة مصحوبتين بتهكم وازدراء. وهو لا يكتم ألماً ممضاً دفيناً بين جوانحه على تلك الحالة الفاشية في القرى المصرية، ولا يخفى رغبة مشبعة بالأمل في إصلاح تلك الأحوال المؤسية المؤسفة.
ولئن كانت بعض المدارس الأدبية الحديثة تبشر بدعوة جديدة قوامها أن يسخر الأدباء أقلامهم - ولو قليلاً - في خدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه، فإن كتاب الأستاذ سيد قطب يعد مساهمة طيبة منه في هذه الحركة المباركة وتأييداً لهذا الاتجاه المحمود.(670/54)
الزواج والمرأة
للأستاذ أحمد حسين
لفضيلة الأستاذ محمود أبو العيون
أهدي إلى الكاتب الألمعي الأستاذ أحمد حسين كتابه (الزواج والمرأة) ولقد قرأته بإمعان وتأمل فرأيته قد عرض لمسألة المرأة من نواح كثيرة موضع جدل ونقاش عنيف بين كتاب الاجتماع في العصر الحديث - عرض لنظرية الداعين إلى محاربة الغريزة الجنسية وتعطيل عملها في الحياة ولنظرية الدعوة إلى الإباحة الجنسية إطلاقاً وخطرها على الأمن والسلام. . . وعرض بإسهاب للدولة والأسرة، وأن الأسرة أوفق للمجتمع الصحيح ولنظرية التسوية بين الرجل والمرأة في الوظيفة، ولمسألة الزواج والأمومة، هل فيهما غض من شأن المرأة، ثم عرض للمرأة وحقوقها في الإسلام، وللبحث في السفور والحجاب وللشروط اللازمة لنجاح الحياة الزوجية
وفي الحق إن عرض الأستاذ لتلك النظريات والبحوث كان عرضاً شيقاً بديعاً وفي أسلوب رائع حكيم وأدب رفيع ومنطق سليم؛ ومما بهرني وأخذ في نفسي ما أثبته بالأدلة من الكتاب والسنة من حقوق المرأة في الإسلام مما لم يتوفر مثله للمرأة الغربية التي تحررت من القيود والأوضاع.
بقى أنه عرض في ختام كتابه لمسألة تعدد الزوجات والطلاق في الإسلام، ووددت لو كان قلم الأستاذ قد بلغ نهاية الشوط مجلياً، ولكنه للأسف حاول ربط آيتي العدل في النكاح: (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)، ليصل من ذلك إلى ما قصد إليه، وهو وجوب الاكتفاء بزوجة واحدة، وأن القرآن ذهب في رأيه إلى حد كاد يلغي معه هذا الحق (تعدد الزوجات) أصلاً، ولكن الربط الذي فهمه وقرره غير صحيح، فإن معنى العدل في الآية الأولى كما فسره فقهاء المذاهب جميعاً العدل في النفقة وفي المبيت، والعدل في الآية الثانية قصد به العدل المطلق، وهو يشمل المحبة والميل، وهذا ليس في استطاعة الإنسان مما لا يصح التكليف به، ولهذا أتبع الله ذلك بقوله: (فلا تميلوا كل الميل)، فقال صلى الله عليه وسلم ما معناه: (اللهم إني قد عدلت فيما أملك فاغفر لي فيما تملك وما لا أملك)، أي العدل في المحبة، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان(670/55)
يحب بعض نسائه أكثر من البعض الآخر، وقد مرض مرة فكان يحمل من بيت إلى بيت استيفاء للعدل في المبيت بين أزواجه، فأستأذن نساءه في أن يتمرض في بيت عائشة فأذن له.
فالعدل في الآيتين ليس واحداً، والتوفيق بينهما ما قلناه، كما هو ظاهر واضح، وللأستاذ العظيم رأي في تعدد الزوجات غلا فيه عن أكثر القائلين بتقييده فهو يرى منع التعدد إطلاقاً ولأي سبب من الأسباب، وغيره يرى منع التعدد لعاجز عن الإنفاق على أكثر من واحدة فحسب.
ورأينا في تعدد الزوجات معروف وهو الإباحة المطلقة وفي تقييده شر مستطير. . . بعض هذا الشر يمس الأخلاق والآداب وبعضه يمس ناحية الاجتماع، والكلام في ذلك كثير لا تحتمله هذه العجالة العابرة.
أما الطلاق فله فيه رأي، وهو اشتراطه أن يقع في ساحة القضاء. . . فهو بهذا الشرط قيد حقاً ثابتاً منحه الشارع الحكيم للإنسان وأعطاه الحرية الكاملة أن يطلق حينما يشاء - واستحب أن يتقدم ذلك بعث حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة (إن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما) ولكن الأستاذ على أي حال كان أيسر من غيره ممن رأى تقييد الطلاق بقيود لم تكن مشروعة في كتاب الله ولا سنة رسوله فهم يدينون من طلق بغير إذن القاضي ويرون تغريمه وحبسه بل الحكم عليه بالتعويض لمطلقته.
ولقد كتبنا في هذا الموضع ووفيناه حقه وأدرك جمهور المسلمين ما ينجم عن تعدد الزوجات وعن تقييد الطلاق من الشرور مما يهدد نظام المجتمع ويفسد قدسية الأخلاق.
وبعد فأننا نثني الثناء الجم على الأستاذ الجليل أحمد حسين لجهوده المشكورة التي بذلها في هذه البحوث القيمة ونظرياته السليمة، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يكثر من أمثاله العاملين المجاهدين.(670/56)
محمد عبده
لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
شيخ الأزهر الحالي شخصية لها جهادها الحافل في خدمة الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والدين. ولها تأثيرها القوي في هذا الازدهار العلمي المتوثب، وفي تقديمه اليوم لشخصية - محمد عبده - من معاني الوفاء، والتقدير ما يعد مأثرة من مآثره العديدة في ميدان الوفاء، ومن أولى بالاحتفاء بأنجب أبناء الأزهر من الأزهر، وشيخ الأزهر، وهو المكان الذي غذاه - الإمام - بعلمه، وتعهده بجهاده؛ حتى صار متجه فكره، وهدف إصلاحه ومسرح نشاطه. . .
لقد أقدم شيخ الأزهر على دراسة شخصية الإمام دراسة علمية ترتكز على إبراز تلك العوامل المختلفة التي لها أثرها الفعال القوي في تكوين شخصيته، وصقل رأيه وقوة منطقه، وتزويده بتلك الخصائص التي كان لها في مجرى سياسة أمته، وعقليتها، ودينها أقوى المؤثرات، وشخصية الإمام لها أكثر من جانب، فعلى من يأخذ في تصويرها أن يسرح طرفه في كل تلك النواحي ويعمل عقله حتى يتهدى له الإلمام بها؛ فكان لها مجالها في الثورة العرابية، ولها رأيها في المبادئ الوطنية، ومذاهب الإصلاح، وفي ميدان التدريس والصحافة. وهذا النضج العلمي الذي يطالعك في كل ما يتناوله، وصلته بالأفغاني، وكفاحه في الأزهر ونشأته، كل هذا يتطلب من يجلوه، ويكشف عنه بدراسة الأسباب التي انتهت إلى المسببات، أو المقدمات التي أنتجت هذه النتائج، وليس هذا بالمركب الذلول؛ بل هو مزلة الأقدام ومضلة الإفهام، فتحليل الظواهر الفكرية والخلقية، والرجوع بها إلى مصادرها الأولى؛ دونه كل مشقة وعسر. ولقد وفق الأستاذ الأكبر في إعطائنا تلك الصورة على تعدد جوانبها، واختلاف نواحيها، على أتم ما تكون جلاء، وأوفى ما تكون دقة ودراسة وتمحيصاً، فعرفنا الإمام في نشأته ودراسته، وفي الأزهر، ومع الأفغاني، ودعوته إلى الإصلاح، والتقينا به في ميدان التدريس والصحافة، وتبينا مبادئه الوطنية، ومنهجه في الإصلاح، وموقفه من الثورة العرابية.(670/57)
العدد 671 - بتاريخ: 13 - 05 - 1946(/)
من الدعوة الهندية
للأستاذ عباس محمود العقاد
أتلقى منذ كتبت بالرسالة مقالي عن الإسلام والنظام العالمي الجديد كتبا ورسائل مطبوعة وغير مطبوعة، يتكلم المطبوع منها عن القادياني والجماعات التي تناصره أو تنفصل عنه، وتفسر الرسائل الأخرى بعض ما يؤخذ على الدعوة القاديانية أو تنحى على هذه الدعوة باللائمة وتحاسبها على التفرقة بين المسلمين وإحداث البدع في عقائد الإسلام.
ومن أعجب هذه الرسائل رسالة مؤيدة للقادياني من زاوية الحصني بدمشق طبعت في أعلاها الشهادتان والبسملة، وأن الدين عند الله الإسلام، ثم هذه العبارة: (نحمده ونصلي على رسوله الكريم وعلى عبده المسيح الموعود، وقال كاتبها: (إن أحمد عليه السلام ادعى النبوة حقا، وليس في ادعاء النبوة مخالفة للإسلام أو لدين من الأديان كما تقولون، وإن المسيحية تنكر مجيء أحد بعد المسيح عليه السلام سوى رجوعه إليها بالرغم من وجود ذكر النبي بعد المسيح في أول إصحاح من إنجيل يوحنا. وأما القرآن المجيد فآياته بينات واضحات في بقاء الوحي وبقاء النبوة غير التشريعية، ولا يوجد غير آية واحدة تخالف حسب تفسير الشيوخ الآيات الكثيرة المفسرة بعضها لبعض وهي قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ولم يتفق المفسرون على معنى لفظ خاتم النبيين بمعنى أخرهم زمانا، وهم لو اتفقوا لنجم عن اتفاقهم تكذيب للقول بمجيء المسيح عليه السلام. فإن لفظ خاتم النبيين لا يفيد انقطاع النبوة بل على العكس يفيد ضرورة عرض كل دعوى من دعاوى النبوة على خاتم النبيين أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم ليختم ويصدق على صحتها سواء أكانت تلك الدعوى قبله أم بعده. . .) إلى آخر ما قال في هذا المعنى.
على أن البريد قد حمل إلينا رسائل أخرى تنفي عن القادياني أنه ادعى النبوة بمعنى من معانيها المعروفة في الأديان الكتابية، ومن تلك الرسائل رسالة مطبوعة في لاهور أذاعتها (الجماعة الأحمدية لإشاعة الإسلام) وذكرت في صدر البيان عن هذه الجماعة أن مقاصدها هي خدمة الإسلام وتوحيد المسلمين والدفاع عن الدين ونشر الدعوة إليه، وأن أعمالها لخدمة هذه المقاصد هي تأليف بعوث للتبشير في أنحاء العالم وتدريب المبشرين على هذا(671/1)
العمل، وترجمة القرآن الكريم إلى لغات مختلفة، واستخدام الإذاعة في تعميم الآداب الإسلامية. ثم شفعت ذلك بتلخيص عقائدها وهي:
1 - إننا نعتقد باختتام النبوءات بمحمد، كما قال مؤسس الجماعة: إنه لا نبي من الأولين أو الآخرين يعقب نبينا المعظم، وإن الذي ينكر ختام النبوءات يعتبر خارجا عن حظيرة الإسلام وليست له عقيدة فيه.
2 - وإننا نؤمن بأن القرآن الكريم كتاب الله الكامل والآخر، وإنه باق لم ينسخ منه جزء إلى آخر الزمان.
3 - إننا نحسب من المسلمين كل من يشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله كائنا ما كان المذهب الإسلامي الذي ينتمي إليه.
4 - وإننا نعد حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية مجدد القرن الرابع عشر، ونثبت أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه: إنني لا أدعي النبوة. . . وكل ما أدعيه أنني محدِّث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. . . كلا. ما أنا مدع للنبوة وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب عليّ الذين يحسبونني من أولئك المدعين).
وأيا كان الصدق فيما يقال عن دعوى النبوة هذه من إثباتها أو إنكارها ومن قبولها أو رفضها فإن الصدق الذي لا نشك فيه هو أن أتباع القادياني يخسرون بادعاء النبوة له ولايكسبون، وأن حركة التجديد في الإسلام يقوم بها الداعون إليها دون حاجة منهم إلى أمثال هذه الدعاوى التي تفض الأنصار وتفرق المتفقين، ولا تستميل إليها أحداً من المؤمنين بالأديان في المشرق أو المغرب، إن لم تجمعهم كلهم على محاربتها وتكفير المبشرين بعقائدها.
ونعود فنقول إننا قرأنا شيئاً من الكتب التي ألفها المجددون المسلمون في الهند ممن لا يقولون بنبوة القادياني ولا يقولون بأنه هو المسيح الموعود أو مهدي آخر الزمان، فلم نر في أقوالهم ما يمس عقائد الإسلام وإن كانت لهم تفسيرات وتخريجات لا يقرها جميع الفقهاء، وشأنهم في التفسير والتخريج شأن الفرق الإسلامية التي تجتهد في الدين ولا تنقض أصلاً من أصوله، فهي في حظيرة الإسلام لا تضيق بها حرية البحث التي كفلتها(671/2)
للباحثين هذه الديانة السمحة في مختلف العصور والأقطار.
ومما تتميز به هذه الجماعات المجددة أمران:
(أحدهما) فرط النشاط في التبشير بالدعوة المحمدية وترجمة الكتب النافعة في هذا المسعى إلى اللغة الإنجليزية على الخصوص مع المثابرة على نشرها وترويجها في أمريكا وأوربة والجزر البريطانية، وإسناد هذا العمل إلى فئة من الشبان المثقفين المستعدين لدفع الاعتراض العقلي أو النقلي بالمعقولات التي يفهمها الغربيون، أو بالنصوص التي يتوسع أولئك الشبان في تفسيرها على نحو كفيل بالإصغاء والإقناع. وقد يتصرفون في تفسيراتهم كما قدمنا ولكنهم يقتربون بها من عقول المتعلمين والمتعلمات هناك فلا يعرضون عنهم كما يعرضون عن الجامدين المتحجرين في فهم الكلمات والحروف.
والأمر الآخر طرائفهم العجيبة في تطبيق النصوص القرآنية على الأحوال الزمانية، لأنهم يعلمون أن أحوال الزمان لا تخرج على مدلول تلك النصوص إذا اهتدى ذو البصيرة إلى فهمها وحسن تطبيقها، ومادام القرآن كتابا باقيا لا يختص به عصر دون عصر ولا قبيل دون قبيل، فهو يحتوي في مضامينه كل ما يشغل المؤمنين به في العصور الحديثة كما احتوى في مضامينه كل ما شغل المؤمنين به منذ نزوله في عصر النبي عليه السلام.
وهذا مثل من أمثلة كثيرة من طرائف هذه الطبيقات العصرية التي ينشرونها باللغة الإنجليزية، وهو رسالة عنوانها: (تسليم أوربا وأمريكا) أي تحويلهم إلى عقيدة الإسلام لمؤلفها السيد محمد علي مترجم القرآن إلى الإنجليزية ومؤلف الرسالة التي لخصناها عن نظام العالم الجديد.
فالسيد محمد يستشهد في صدر هذه الرسالة بكلمة للكاتب المشهور برنارد شوفي (الزواج) يتنبأ فيها بأن الإمبراطورية البريطانية كلها ستدين بديانة إسلامية منقحة قبل نهاية القرن العشرين).
ويقول السيد محمد علي إن هذه النبوة قديمة في القرآن والتوراة، ولكن الذين يقرأون الكتب السماوية لا يفطنون لمعانيها ولا يفسرونها على وفاق مدلولها. فإن ظهور المهدي أو المسيح بين المسلمين مقرون بظهور المسيح الدجال، وسيادة بعض الأمم التي سميت يأجوج ومأجوج!(671/3)
والقرآن الكريم يقول عن يأجوج ومأجوج إنهم سينطلقون في اليوم الموعود (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) وأنهم كانوا محبوسين محجوزين (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).
قال السيد محمد علي: وقد ذكرتهم التوراة في سفر حزقيال حيث جاء فيه: (يا ابن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب. ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأرجعك وأضع شكائم في فيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلهم لابسين أفخر لباس، جماعة عظيمة مع أتراس ومجانّ كلهم ممسكين السيوف: فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومز وكل جيوشه وبيت توجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك).
أو حيث جاء فيه: (ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك، وتوبال، وأدرك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال.
فهل يدري القارئ من هم يأجوج ومأجوج هؤلاء في رأي السيد محمد علي ورأي القادياني من قبله؟
إنهم الروس والإنجليز، أو السلاف والتيوتون في الشمال؛ ومصداق ذلك أن الماشك قريبة من الموسكو، وأن الروش قريبة من الروس، وأن ميشك وتوبال نهران في روسيا تنسب إليهما موسكو وتوبلسك العاصمتان المعروفتان الآن، وأن الروس والإنجليز معاً قد جمعوا شعوب الأرض للتغلب على ملك الدنيا، وسينقلب بعضهم على بعض ويموج بعضهم في بعض، قبل أن يجمعهم داعي السماء إلى كلمة الحق والسلام.
وهذا مثل من أمثلة التفسيرات والتطبيقات التي قلنا إنهم يترخصون فيها ويمتدون بها إلى حوادث الزمان الحاضر وما يليه، ويعتقدون أنها وما سيعقبها من الحوادث العالمية مكنونة في آيات الكتب السماوية تنتظر من يفتح الله عليه بفهمها وإدراك مغازيها فيتولى تبصير الأمم ما أنذرتهم به السماء وما ساقته إليهم من البشائر، وهم لا يفقهون.
أما الفتح أو الإلهام فقد جاء في كتاب من تأليف ميرزا أحمد القادياني نفسه عنوانه (تعاليم الإسلام) وموضوعه حل المشكلات الدينية من وجهة النظر الإسلامية. وفيه أن العقل والتعليم مصدران من مصدر المعرفة الإلهية ولكنهما في مرتبة دون مرتبة الإلهام، وأن(671/4)
الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي (بعين اليقين) وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير. وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة لتيسير السرقة، ثم تيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه.
وبعد فإن الأمر الجدير بالعناية من حركة هؤلاء الدعاة أنهم يذيعون محاسن الإسلام ويجتهدون في نشره وتفسير الاعتراضات الغربية التي تتجه إليه، وفي هذه الحركة نفع مشكور، وإن لم تبلغ مرماها المقصود من (تسليم الأوربيين والأمريكيين) لأنها تزيل الشبهات، وتدحض الأكاذيب، وتقرب بين الشعوب، وترفع المسلمين في أنظار الأمم التي كانت تظن بهم الظنون.
أما التفسيرات التي ذكرنا آنفا مثلاً من أمثلتها فلا ضير فيها مادامت تصون الإيمان ولا تفسد العقل بما يناقض التفكير المستقيم. ونعود فنقول إن الغيورين على الدعوات المجددة على اختلافها يخسرون بالغلو في تعظيم أئمتهم، ويكسبون لعقائدهم ولأولئك كلما وقفوا على حد الاعتدال.
عباس محمود العقاد(671/5)
غرضان أساسيان
للأستاذ محمد محمد المدني
غرضان أساسيان يجب أن يرمي إليهما كل من تهمه حالة الأمة الثقافية، ويغار على مستقبل الدين والشريعة واللغة العربية؛ ولا أعتقد - مهما تعددت الآراء، وتقارعت الحجج أن أحداً ينازع فيهما على الحقيقة، أو يغض النظر عما تجنيه الأمة من إصابتهما.
هذان الغرضان هما:
1 - توحيد الثقافة العامة بين أبناء البلاد.
2 - الاحتفاظ بما تفردت به مصر - بفضل الأزهر - من تخريج طائفة من العلماء بعضها يبرز في الدين، وبعضها يبرز في الشريعة، وبعضها يبرز في اللغة العربية.
والأول من هذين الغرضين أمر طبيعي بالنسبة للأمم، ذلك بأن الأمة السعيدة الهانئة المثمرة القديرة على أن تؤدي رسالتها في الحياة، هي الأمة المتقاربة ثقافة، المنسجمة عقولاً، المتفاهمة أفراداً، المتوحدة النظرة إلى نواحي الحياة. ولا تجد أمة تفرقت بها الأسباب في الدين أو اللغة أو الأفكار أو الآمال أو الآلام أو الغايات إلا كانت أمة مقضياً عليها بالقصور والضعف والخمول والتقطع والانحطاط والذل.
والثاني من هذين الغرضين أمر عظيم قد ندبت له العناية الإلهية مصر من بين سائر الأمم، وجعلته من أسباب زعامتها على العالم العربي، وكان لها ذكرا في الأولين، وسيبقى لها - إن شاء الله - لسان صدقاً في الآخرين.
على هذا الأساس يجب أن يدور الكلام، وبهذا الميزان يجب أن توزن الآراء، فالنظام الذي يستطيع معه الأزهر أن يحقق هذين الغرضين، هو النظام الحسن المقبول، وأي نظام يظلم أحدهما أوكليهما يجدر بنا أن ننظر إليه في احتياط وحذر.
والأستاذان الكبيران: الزيات والعقاد، يقرران هذا، فهما حين يدعوان إلى توحيد الثقافة العامة لا يغضان النظر عن رسالة الأزهر، ولا عن حاجة الأمة الإسلامية لهذه الرسالة.
فالأستاذ الزيات يقول: (إن العالم لا يسعد إلا بالدين، وإن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وإن الأزهر متى استكمل أداة التعليم، وساير حاجة العصر، نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر(671/6)
الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد الله به تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره).
والأستاذ العقاد يقول: (الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقدم جامعة في العالم بسره، فالأمة التي تملكها قمينة أن تحافظ عليها، وتستديم بقاءها وازدهارها).
ويقول حين يعرض للمدارس الفكرية الإسلامية ومحصولها العظيم: (إن هذا المحصول لا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعة الأزهرية. . . وإنه أمانة لابد لها من حفيظ بين أمم الحضارة الإنسانية؛ فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهمها ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية. . . وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال).
ففيم إذن الخلاف، وقد اتفقنا على القاعدة والأساس؟
1 - لقد أظهرت التجارب أن الدين والشريعة الإسلامية واللغة العربية لا يمكن دراستها دراسة عالية لها حظ من التبريز والتفوق، ما لم يسبق ذلك إعداد خاص وتكوين معين يستطيع معهما الطالب أن يخوض هذا المجال. ومن تلك التجارب التي أصبحت معروفة مشهورة مسلماً بها أن طلاب دار العلوم وطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب إنما يفلح منهم ويتقدم في طريقه بخطى ثابتة، أولئك الذين درسوا دراسة أزهرية حتى نالوا الشهادة الثانوية، أما الذين درسوا على نظام التجهيزية أو الذين حصلوا على الشهادة الثانوية الحكومية فانهم يلاقون الأمرين في دراستهم للغة العربية، ويحملون منها وتحمل منهم عبأ ثقيلاً يود كلاهما لو استطاع أن يتخفف منه. وقل مثل ذلك في طلاب كلية الحقوق فإنهم لا يزالون يعتبرون دروس الشريعة الإسلامية أشق الدروس لا فرق في ذلك بين من لم يحصلوا على الليسانس ومن حصلوا عليها والتحقوا بقسم الدكتوراه، وما ذلك إلا لأنهم لم يتمرسوا بما يتمرس به الطلاب الأزهريون في دراستهم الابتدائية والثانوية ولم يعودوا البحث والفهم الاستقلالي وتلقي كتب الشريعة كما عود الأزهريون.
على أن الطالب الأزهري نفسه إذا لم يكن قد أتقن دراسته الابتدائية والثانوية، وكون بها(671/7)
عقله تكوين فهم واستقلال، فإنه يعاني في الكليات ويعني، وقد لا يتمكن من الاستمرار في هذه الدراسات العلى.
2 - والمدارس الثانوية التابعة لوزارة المعارف مكتظة بالبرامج في كل ناحية إلا في النواحي التي تعد للدراسة الأزهرية العليا. والتعليم الثانوي مع ذلك موضع شكوى عامة لضعفه، فإن جميع كليات الجامعة تشكو من هذا الضعف (الذي تبدو آثاره في المعلومات العامة واللغات العربية والأجنبية) وتشكو من (أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العالية من حيث روح التعقل وقوة الملاحظة والاعتماد على النفس وحب البحث، حتى إنهم يضطرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء مما يعوق سير الدراسة العالية في صورتها الكاملة)
بذلك تشهد تقارير وزارة المعارف نفسها، ومنها نقلت ما نقلت من النصوص؛ فإذا أردنا أن نقوي هذا الطالب في دراسته الثانوية ليكون قادراً على الدراسة في الكليات الأزهرية فماذا نصنع معه؟ والمفروض أن هذا الطالب لم يدرس على الطريقة الأزهرية فيما تلقى من التعليم الابتدائي، وأنه لم ير بعد علوم الأزهر ولم يألف أساليبه في البحث والدرس؛ أنضيف إليه أعباء أخرى فوق أعبائه التي ينوء بها كاهله؟ أنكلفه بدراسة النحو والصرف والبلاغة والفقه والتوحيد والمنطق والعروض وما إليها من العلوم التي لابد من حصول الطالب الأزهري على قسط وافر منها يحيط به إحاطة فهم وتدبر، ويهضمه عن تعقل وتصرف؟ وهل يؤدي ذلك إلا إلى ضياعه من الناحيتين، واشتداد ضعفه؟
وهبنا ألزمناه درس هذه العلوم الأزهرية إلى جانب منهاجه الحكومي، أفندرسها له بمقدار ما كان في التعليم الابتدائي الأزهري فننزل بالمستوى الثانوي إلى المستوى الابتدائي؟ أم بمقدار المنهاج الثانوي فكيف يطيقه؟
3 - ومن حق القراء علينا أن نذكر لهم منهاج المعاهد الأزهرية الابتدائية ليعلموا: أتغنى عنها المدارس الابتدائية الحكومية فنلغيها من الأزهر؟ أم هي معاهد واجبة البقاء لأنها تحقق الغرضين: توحيد الثقافة العامة، والتمهيد للدراسة الأزهرية الثانوية والعالية.
قد يظن بعض الناس أن الطالب الأزهري الابتدائي إنما يدرس بعض الأحكام الفقهية، وبعض العقائد الدينية، وبعض كتب اللغة العربية، وأنه إنما يتلقى إلى جانب ذلك تجويد(671/8)
القرآن وطرفا من سيرة الرسول والصحابة، أما ما وراء ذلك من مواد الثقافة العامة فهو منها محروم، ولذلك نسمع النداء بوجوب توحيد الثقافة العامة كأن الأزهر يعيش في صومعة، ولا يشارك في دنيا الناس! كلا أيها القراء: إن الأزهر في معاهده الابتدائية يدرس على منهاج جامع شامل لا يذكر بجانبه منهاج المدارس الابتدائية؛ وبين يدي الآن هذا المنهاج الأزهري، ولو استطعت لنقلت لكم صورة منه، ولكني أقربه إليكم تقريبا:
مواد الدراسة بالقسم الابتدائي على وجه الإجمال هي: الفقه بمذاهبه الأربعة. التوحيد، السيرة النبوية وسيرة كبار الصحابة، تجويد القرآن الكريم، الإنشاء، النحو. الصرف. الإملاء. المطالعة والمحفوظات. التاريخ. الجغرافيا. الحساب. الهندسة. الجبر. تدبير الصحة. الرسم. الخط.
ففي الفقه يقرأ كتابان أحدهما صغير في السنة الأولى، والآخر أكبر منه في السنوات التي تليها، وفي النحو تقرأ كتب أربعة: الأجرومية وشرحها، والأزهرية، وشرح القطر، وشذور الذهب؛ وفي الصرف يقرأ كتاب متوسط في سنتين، والتوحيد يقرأ في ثلاث سنوات، وفي التاريخ تدرس كل الموضوعات التي يدرسها تلاميذ المدارس الابتدائية من تاريخ مصر القديم والحديث بتوسع؛ وتزيد المعاهد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، والحساب في المعاهد أوسع جداً من الحساب في المدارس، وقل ذلك عن الهندسة والجغرافية وتدبير الصحة. . . الخ.
فماذا بقي على الطالب الأزهري في المعاهد الابتدائية من مواد الثقافة العامة حتى ينادي المنادون بضرورة استكماله؟ لم يبق إلا اللغة الأجنبية، ولسنا نجد مانعا من إدخالها في المعاهد الدينية، بل نحن نرى ذلك واجباً فليخفف عن الطالب الأزهري كتابان من كتب النحو الأربعة مثلاً، ليعطى بدلهما لغة أجنبية في سنتيه الثالثة والرابعة كما يعطى تلاميذ المدارس، وحينئذ تكون معاهد الأزهر الابتدائية قد أعطت الأمة طلاباً يشاركون في ثقافتها العامة ويمتازون بعلوم الشريعة والدين واللغة على طريقتهم الخاصة التي لا غنى لهم في أقسامهم الثانوية ولا في دراستهم العالية عنها.
فإذا قيل: إن هذا المنهاج المزدوج ثقيل على الطالب فإننا نقول: إن طالب الأزهر ليس كتلميذ المدرسة الابتدائية؛ فالأول يلتحق بمعهده بين الثانية عشرة والسادسة عشرة بينما(671/9)
يلتحق الثاني بين الثامنة والعاشرة، فهذا الفرق في السن يجعل الطالب ناضجا قادراً على تحصيل ما يكلف تحصيله من هذه العلوم في سهولة ويسر، ولذلك مزية أخرى هي أن طالب الأزهر يستطيع في الفترة الأولى من حياته وقبل انتسابه إلى معهده أن يتفرغ لحفظ القرآن الكريم الذي هو شرط أساسي لقبوله، والذي هو أمر ضروري لطالب الدين والشريعة واللغة: يقوم لسانه، ويصحح لهجته؛ ويضبط لغته، ويكون مرجعه الملازم له في العقائد والآداب والأحكام، بل يكون له طول حياته كنزاً ل ايفنى، ومعيناً لا ينضب.
وقد دلت التجارب على أن من لم يحفظ القرآن الكريم في أول حياته وعهد صباه المبكر، فلن يستطيع حفظه بعد ذلك. وليس من الممكن أن يستكمل التلميذ في المدرسة الابتدائية علومه ولغته الأجنبية ثم يكلف في أثناء دراسته الثانوية أن يحفظ القرآن.
هذا، وفي المعاهد الدينية بعد ذلك معنى لا ينبغي أن ننساه: ذلك هو تربية الطالب تربية دينية يستمدها من هذه المصادر التي يعتمد عليها في دراسته من كتاب وسنة وعقائد وأخلاق وأحكام تشريعية وكتب تغلب عليها الروح الإسلامية، وتغرس في نفسه حب الدين واحترام الشريعة وتقديسها، فيشب على ذلك ويشيب عليه، وبذلك نكون قد أوجدنا طائفة من مثقفينا تتحمس للدين والخلق الإسلامي الكريم، وتغار على علومنا وآدابنا القومية في وسط هذه التيارات المضطربة الجامحة التي تهدد كياننا، وتكاد تقطع الصلة بيننا وبين ماضينا المجيد. وقد أدرك هذا المعنى غيرنا من رجال الأديان الأخرى، فهم يبكرون بإعداد رجل الدين منذ نعومة أظفاره ليضمنوا له التحمس الديني والانفعال الروحي على صورة تصاحبه طول حياته، لأنها تكون قد ارتسمت في نفسه، وصادفت منه قلبا خاليا فتمكنت كما يقولون. فأين لنا مثل ذلك إذا اعتمدنا على تلميذ المدرسة الابتدائية، وهو لا يعرف من دينه إلا معارف سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع؟
4 - أما الدراسة الثانوية في الأزهر، فقد كانت عدلت مناهجها يوماً ما لتكون مشابهة تمام المشابهة لمناهج المدارس الثانوية بزيادة العلوم الدينية واللغوية والعقلية؛ فلما طبق هذا النظام بدأ وجه الخطأ فيه سافراً، فقد طغت علوم المدارس على العلوم الأزهرية، وعلى روح التفكير والاستقلال في البحث المقصود بثها في نفوس الطلاب، وحينئذ لم يجد الأزهر بداً من إلغاء ذلك النظام وإحلال النظام الحالي مكانه، وهو نظام لم يقطع الصلة(671/10)
بين الطالب الأزهر وبين مواد الدراسة الثانوية المدرسية قطعاً، ولكنه زحزح هذه المواد عن مركز الصدارة ليفسح لعلوم الدين والشريعة واللغة والعلوم العقلية مجالا لا تجده في غير هذه المعاهد، وهذا من غير شك تصرف حكيم، على أن يضاف إلى برامجه أيضا دراسة اللغة الأجنبية كما في المدارس الثانوية.
هذا هو رأيي الذي وعدت به في مقالي السابق، وأعتقد أني قربت به من شقة الخلاف، بل لعلي أزلت أسباب الخلاف، وما كان الأستاذ الزيات، وهو الذي يعيب على الأزهر الضعف، وتعطيل العقل، وإبطال الاجتهاد، ويرجو بالأزهر تجديد الدين، ونهضة الشرق عن طريق ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة؛ ما كان ليرضى أَن يُبتر الأزهر هذه البترة النكراء، أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين؛ وذلك أيضا ما أعتقده في الأستاذ الكبير العقاد الذي يتحدث عن العقلية الأزهرية حديث الاعتراف والإعجاب، وما كانت العقلية الأزهرية لتفوز بهذا الاعتراف وهذا الإعجاب لو نشئت في المدارس الابتدائية.
أما بعد، فإن الأزهر - كما قلت في مقالي السابق - لا يحتاج إلى تعديل جوهري في نظامه الحاضر، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه) معنى وروحا بأيد قوية حازمة، وأعين بصيرة، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة. . . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. . .
محمد محمد المدني
(الرسالة): يوفقنا صديقنا الأستاذ المدني على الغرضين المفهومين من اقتراح الرسالة وهما: (تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها، ولكنه يخالفنا في التطبيق. وأرى أن المناقشة في تطبيق المبدأ قبل إقراره عناء لا يجدي، وبناء لا يقوم.(671/11)
يوم الجلاء. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون مُتَحدِّرَة في دَرَك الماضي، مسرعة إلى هوة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى مشرقة لا تغيب. . . وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها لما قام لها بنيان، ولا ثبت لها وجود. . . أيام قد عمت بركاتها، وشملت خيراتها البشر جميعاً. . . أيام هي ينابيع الخير والحق والعدل في بيداء الزمان، وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار، وما أكثر هذه الأيام الغرّ في تاريخنا! تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالم كله، وسمونا به إلى ذرى الحضارة: يوم الهجرة، وبَدْر، والقادسية، واليرموك، ونهاوند، وأيام قتيبة وابن قاسم في المشرق، وعقبة وطارق في المغرب، ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت، وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين، وكان فجر اليوم الجديد للعرب بل للمسلمين أجمعين: (يوم الجلاء)!
إنه يوم مُعْلَم في موكب الزمان، إنه شَعَارَةٌ من شعائر المجد يقف عليها الفلك كلما دار دورته وقفة فيها خشوع وفيها فرح وفيها إجلال. إننا قد ابتهجنا بالجلاء وهتفنا له ورقصنا وصفقنا، وملأنا منازل العربية أنساً به وفرحاً، ولكنا لم نعرف قدر يوم الجلاء، إنما يعرفه من سيأتي بعدنا، يعرفه غداً من ينعم بظلّ هذه الشجرة التي نبتت اليوم. هنالك وقد امتدت فروعها ونمت حتى ظللَّت بلاد العربية والإسلام، يقول أبناؤنا: يا ما أكرم ذلك القضيب الطريّ الذي صار الجذع الضخم لهذه الدوحة الباسقة! وهنالك يبلغ من خطر هذا اليوم أنه سيمجد الجيل الجديد شيوخاً قد لا تكون لهم مرية إلا أنهم رأوا هذا اليوم بعيونهم، وعاشوا فيه حقيقة لا بالخيال. وسيجلس هؤلاء الشيوخ في صدور المحافل يحدثون الناس عن الذي رأوه، ويصفون كيف بدت تباشير الفجر المبارك، ليوم العروبة الجديد، وسيكون لكل حركة تحركناها اليوم وكل كلمة قلناها، معنى كبير لا نتصوره نحن الآن! سيصير هذا اليوم بتفصيلات وقائعه ودقائق أحداثه ملكاً للتاريخ الذي يقدس كل ما يدخل حماه، ويومئذ يعرف (يوم الجلاء)!(671/12)
وقد زعم العداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين إذ يطلب فلساً فيمنح ديناراً، كلا! إننا لم نأخذ إلا الأقل من حقنا. إن الجلاء ليس عجباً، وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال. العجب أن لا نحكم نحن الأرض ونحن خلقنا من أصلاب من حكموها، وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الأرض!
ولكنا فرحنا لأن الله جعلنا نقرأ هذا التاريخ الماجد العظيم قبل أن يكتب، وأن ندرك أول الإقبال كما شهدنا آخر الأدبار، فنحن المخضرمون. . . وإذا كان نور التوحيد قد سطع من الحجاز فكانت المدينة عاصمة الراشدين، ثم مشى إلى دمشق فصارت عاصمة الأمويين، فكذلك كان مطلع شمس الحرية، بدت من الحجاز والجزيرة فكانت أول قطر لنا خلا من أجنبي، ثم امتدت أنوارها إلى دمشق. . . وهي تمشي الآن إلى القاهرة وإلى بغداد، ثم تسلك طريق الأندلس، الفردوس الإسلامي المفقود الذي سيعود، والطريق الآخر الذي يصل إلى الـ (باكستان) ديار الأطهار، فلا يبقى في ظلال المآذن كافر يحكم بغير ما أنزل الله!
وزعموا أن هذا الجلاء أتى عفوا بلاتعب، وأننا لم نرجف عليه بخيل ولا ركاب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنجليز ما جاء! وكذب هؤلاء الزاعمون ولؤموا. . .
كذبوا والله. . . أَوْ فليخبروني: أجاهدت أمة على ضعفها وقلة عددها، وعلى كثرة عدوّها وقوته مثلما جاهدنا؟ إن في مصر العزيزة سبعة عشر مليوناً، وفي إندونيسية سبعين، وفي الهند مائة، ونحن لا نعدّ كلنا بدونا وحضرنا، رجالنا ونساؤنا، أكثر من ثلاثة ملايين، وقد ابتلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين المائة والعُدَدَ والآفات. . فسلوا الفرنسيين: هل أرَحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارن: أما أباد حملته مجاهدون منا، لم يتعلموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كله فلم يعد من الحملة بعد معركة المزرعة إلا مائتان وخمسون جندياً فقط! سلوا الغوطة عن معارك الزور وعما صنع حسن الخراط؟ سلوا النَبْك وجبالها، وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قوادنا الأبطال، فوزي القاوقجي، وسعيد العاص، والبطل المفرد سلطان الأطرش، وعشرات وعشرات إن لم أعدهم اليوم، فما يجهلهم أحد!
أما ضرب الفرنسيون دمشق أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين، في عشرين سنة؟(671/13)
أما أحرقوا حي الميدان وهو ثلث دمشق ودّمروه فلم ينهض من كبوته إلى اليوم؟ أما أضرموا النار في جرمانا والمليحة وزبدين وداريا ودير بحدل والهيجانية والغزلانية وتلّ مسكن ودير سلمان وقرى أخرى لا يحصيها من كثرتها العدّ؟
بل سلوا شوارع دمشق ودروبها وساحاتها، عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها؟ أما لبثت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطلت تجارة التاجر، وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، وطوى ليله من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر، بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل، ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة، وجباههم عالية، ولم نسمع أن (دكاناً) من هذه الدكاكين قد مس أو تعدى عليه أحد، ولم يسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير، فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوربة أو أمريكة أو المريخ يسير في اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد (الأموي) أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه. . . ففتح (حلواني) مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور (البقلاوة والنمورة والكنافة) إلى المسجد، وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له!: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع!!
فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريز ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟
وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدعونها مفتوحة ولا يقتربون منها، وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم.
و (التبرعات)؟ ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الناس أخذ (الإعانات) ويقولوا: أعطوها غيرنا ممن هم أحوج إليها منا، نحن نجد طعاماً هذا النهار!
لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً، فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية؟ وأيّ اتحاد أوثق من(671/14)
هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟
والبطولة والجهاد؟ ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد، ويقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العزل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمونه صدمة الند للند، ثم لا ينجلي الغبار إلا عن حق يظفر أو شهيد يقتل، أو جريح يؤسر؟ ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب ساحتها شوارعها وميادينها، لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى، ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر، ودمشق ثابتة على جهادها؟
ألم يشيّع الأمهات أبناءهن إلى المقبرة ضاحكات هاتفات؟ ألم يجاهد الطفل الصغير، والمرأة العجوز، والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون بالأبرياء، ألم تضق المقابر بالشهداء؟
فهل تكلم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آدانهم؟ هل عوفوا لهذا الشعب حقاً، هل قدروا له تضحيته، هل رفعوا قبعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم حينما رأوا مسيل دمائه؟ لا. إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعواهم أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان، وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو، وما قاله ميرابو وسيّيس ولافايّت، وما كان يكذب به الفرنسيون (أيام ثورتهم تلك) على الشعوب، إذ يعلنون أنهم نصراء المظلومين!
إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرخ فيها جهاد الشام، فأنها تؤلف فيه الأسفار الضخام، ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين، لأتقصى أخباره، وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة مازلنا نسمعها حتى من الأصدقاء. . .
وما عظمة جهادنا في هذا الإضراب الشامل وحده؛ ولا في المظاهرات الدامية، ولا في القتال والنضال، بل العظمة في هذه التربية الوطنية العجيبة التي أثبتت الشعب العربي في الشام أنه بلغ فيها غاية الغايات، فكان في اتحاده واجتماعه على الفكرة الواحدة وتحمله الجوع والألم في سبيلها، وإقدامه على الموت من أجلها، مثلا للشعوب القوية الحرّة. وما ظنك بشعب فقير يدع في التاجر مخزنه، والعامل مصنعه، والطالب مدرسته، ثم يؤلفون(671/15)
جميعاً صفاً واحداً، فينتزع حقه من أفواه البنادق، ومنافذ الدبابات ويسجل جهاده على ثرى وطنه بمداد دمه؟ وما ظنك بشعب تودع فيه المرأة ولدها، ثم تدفعه إلى الشوارع ليجاهد ويناضل، ثم ينعى إليها، ثم يحمل إلى دارها ميتاً، فتغسله بيدها، وتخرج في جنازته تهتف وتزغرد، ودموعها تسيل على خدّيها، وتدع المرأة أولادها بلا عشاء لتدفع المال للفقراء من أبناء الوطن. . .
أيقال لهذا الشعب إن استرد حريته، وجلا عن أرضه عدوّه: لقد جاءك الجلاء عفواً وبلا تعب؟
كلا. إنها ما جاهدت أمة مثل جهادنا، ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت، وألفنا الفقر، واعتدنا الجوع، وأصبحت مدينتنا بلاقع، وأهلها مفجوعين، ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ وهل أخذناه بعد ذلك منحة من الإنكليز؟
كلا ثم كلا، إنا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد فأستلبه منا أهل الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم حتى نستعيده كاملاً أو نموت دونه. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته!
أستغفر الله! اللهم إنا نبرأ إليك من أن نعتمد على أنفسنا، فانه لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لك الحمد وبك التوفيق، ولا اعتماد إلا عليك.
اللهم لك الحمد على أن أحييتنا حتى رأينا هذا اليوم العظيم، وشهدنا جيشنا يعرضه زعيمنا تحت علمنا. . . فإن هذه الفرحة تغطي على تلك الآلام. . .
على أننا لم نعرض هذا الجيش الصغير الذي ربّاه الفرنسيون، وأعانهم على حرب هذا الوطن، ثم جاءنا تائباً فقبلنا من كرمنا توبته، واستغفَرَنا فغفرنا له حوبته، بل عرضنا الفصيلة الأولى من جيش العروبة، فرفرفت أعلامها فوق الصفوف، واجتمع فيها جنودها من أقطارها كلها. . . هذه بقية جيش الماضي الذي خففت له تحت كل نجم راية، وسما له في كل رَبْع علم، وكتب له في كل معركة ظفر، وهذه نواة جيش المستقبل الذي سيعيد بعون الله تلك الأمجاد.
لقد طالما رأيناه يعرض علينا هذا الجيش، يعرضه سادة الأمس كما يعرض المعلم الظالم عصاه على التلاميذ، والطاغية الجبار سيفه. يقولون لنا: انظروا إلى قوة فرنسا. . .(671/16)
واحذروا أن تفتحوا باسم الحرية أفواهكم. . . وإلا نزلت هذه السيوف على أعناقكم، وضربت هذه المدافع دوركم، وكان هؤلاء الجند الذين هم أبناؤكم عونا عليكم. . . فجاء رئيسنا يعرضه اليوم، ليقول: انظروا إلى جيشكم الذي يذبّ عنكم، ويحمي حريتكم، إنه لكم!
فلا تلوموا دمشق إن مشت كلها من قبل مطلع شمس يوم الجلاء لتشهد هذا العرض. إنه عرض مبارك، التقى فيه أول مرة الأخوان الذين كانوا يتعارفون على السماع لا عرف الأخ منهم أخاه، فمشى فيه الجندي المصري إلى جانب العراقي، والنجدي إلى جنب اللبناني، والأردني مع اليماني، مشوا جميعا في طريق واحدة على قدم واحدة إلى غاية واحدة.
اسمعوا، فهذه هي المدافع ترعد وتدويّ وتزلزل الجوّ رجّة واهتزازاً انظروا فهذه هي الطائرات تحوّم وتحمحم، وتعلو وتنحط، وتجيء وتذهب، ولكن لا تفزعوا، فإنها لن تؤذيكم، إنها ليست مدافع الفرنسيين التي تدمر، ولا هي طائراتهم التي تصبّ الحمم! لقد ذهب الفرنسيون ولن يعودوا. إنها مدافعنا نحن، لقد صارت لنا يا قوم مدافع. . . إنها طياراتنا، لقد صار للعرب طيارات، إنها أول مرة نسمع فيها المدافع تنطق بإرادتنا وأيدينا، ونرى الطيارات تعلونا فلا ترمينا بالقنابل التي فيها الموت بل بالقراطيس التي فيها السكر، تسقط في مظلات صغيرة هدية من مصر ومن العراق، وبشرى بأن أيامنا الآتية ستكون حلوة كالسكر.
فيا أيها الأخوان المصريون والعراقيون: شكراً شكراً. ويا إخواننا جميعاً لكم الشكر.
أنتم أفضتم على هذا العيد بهاءه. أنتم ألبستموه رونقه. أنتم جعلتموه أعظم وأجلّ، حين جعلتموه (يوم العروبة) كلها، لا يوم سورية وحدها، وبكم بعد الله قوينا على حمل أثقال الجهاد، وأعباء الظلم، حتى منّ الله علينا فظفرنا، وعليكم أنتم ستقف عزائمنا وأموالنا وسواعدنا، وفيكم سنبذل مهجنا وأرواحنا، حتى يمنّ الله على أقطار العربية كلها بالحرية كما منّ بها علينا، بالحرية النقية التي لا تعكرها حماية ولا وصاية ولا انتداب، إننا لن نلقي السلاح وفي الدنيا بلد إسلامي يحتله أجنبي!
وأنت يا علمنا. . . اخفق مطمئناً، فقد عدت إلى مكانك، ولن تنزل منه أبداً. لن يغلبك عليه(671/17)
علم غاصب آخر ولو ظاهرته عفاريت الجن ومَرَدَة الشياطين وجاء معه بعشرة قنابل ذريَّة، لن يأخذه منك أبداً ونحن أحياء، إلا علم (الوحدة العربية) أولاً ثم علم (الخلافة الإسلامية) ثانياً إذ يبقى فيه عالياً خفاقاً إلى يوم القيامة.
(دمشق)
علي الطنطاوي(671/18)
بين الشرق والغرب
قمر مصر. . .
في سماء باريس
للأستاذ راشد رستم
صديقي. . .
لقد عدتَ يا صديقي إلى مصر بعد أن أكملت في الغرب دراستك، وها أنت ذا اليوم من آحاد الوطن الذين بهم يستبشر، ومنهم الخير ينتظر.
ولقد أديت لك ما طلبت مني - فتزودت لك بما شئت من النظرات، ومررت على ما سألتني أن أمر عليه من المشاهد، وجست خلال ديار أردت مني أن أذكرك فيها، كما أني وصلت لك ما أنقطع برحيلك مع من كان بينك وبينهم مودة. . .
ولعل فيما قمت لك به من الرغبات ما يخفف عني ما أنت فيه الآن، كما تقول، من (وحشة المكان وغرابة السكان). . .
أليس غريباً حقاً أن يعود الوطن مكاناً للوحشة وأن يصير أهله موضعاً للغرابة!.
لا تحزن يا صديقي على عودتك من هنا (هكذا سريعاً) كما تقول، مع أنك مكثت فينا خمس سنوات كاملات! وأنك خلفتنا هنا بعدك (نستمتع بحياة الغرب الهنية طويلاً، ونرشف من بحرها الطامي كثيراً وكثيراً). . .
تأكد يقيناً أنك السابق في رحلتك، وأنك الفائز في عودتك، أما نحن فسنتحمل الغربة زماناً آخر، إلى أن نلحق بك لنجتمع كما كنا نجتمع، ونلتقي مثلما تلاقينا، ونلهو ونعمل كما كنا نلهو ونعمل، ولا تحسبن للفوارق التي بيننا وبينك الآن حساباً، فقد يستمتع المرء بالقليل كثيراص، ويلهو بالكثير قليلاً. . .
أتظن يا صديقي أنه في الإمكان أن يبقى هنا كل من يجيء إلى هنا؟ أم أن له أن يبقى ليكون عليه أن يعود!. . .
إن الأوطان تنتظر أبناءها. . .
(وهذه مصر أم الدنيا، ولعل الذين يقولون عنها ذلك هم الذين لم يروا غيرها. أو لعلهم هم(671/19)
الذين جاءوها من بلاد أقل منها) على رسلك يا أخي. . . ما هكذا يقال عن الأوطان. . .
ومالنا وهذا التحليل بل هذا التعلل!. لماذا فكرت فيه؟ ولماذا يخطر على بالك وقد عشت في بلاد كلها وطنية وحماسة للوطن! أليس بلاد كل إنسان هي (أم الدنيا) عنده؟
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
إن مصر هي مصر، وهي أم الدنيا، وهي مما ليس منه بد، رضيت بذلك يا صديقي أم حملت به تحميلا. . .
وها أنا ذا أترك هذا الأمر القليل. . . فقد سرح مني الفكر أمام هذه الخاطرات الخطرات. . وما جئتنا به من النزعات الغريبات، بل النزوات الغربيات. . .
وقد لاحت مني نظرة إلى النافذة نحو العلاء في السماء. وقد سكن الليل إلا من دوىّ المدينة العظيمة الساهرة، فإذا بقمر باريس يطل خلال الستائر الشفافة، ساخراً من ضوء مصباحي الصغير، ضاحكاً مما أنا فيه من تفكير، وما جئت به أنت يا صديقي من تعيير. . .
إن هذا القمر يذكرني بأصفى سماء يسبح فيها قمر. . يذكرني (بأقمار) في مصر كثيرة. في شمالها وصعيدها، في غيطانها وعند غدرانها، في الريف والحضر، عند السوق وتحت الشجر، على رمال الصحراء، عند سفح الهرم. بين المعمور وبين المهجور، في البحر وفي النهر، في الليل وبعض النهار، وحيداً وغير وحيد، ثم قمراً في آخر الليل عالقاً بذيل الظلام، محتفياً بموكب الفجر، مختفياً أمام ذات الخدر وقد أزاحت عن وجهها الحجاب. . .
هذا القمر المصري لا أنساه وصوت المزمار البلدي الشجي آخر الليل عند سفح الهرم، والأربعون قرناً تشاطرنا الحظ والإيناس. . .
هذا القمر لا أنساه مع نغمات الغاب، في جلسة الحصير بالريف، وقد نام أهل القرى في غسق الليل من قسوة النهار، إلا قليلاً منهم الساهر السامع، يستمتع وينتعش بنغمات الصبا والبياتي على صوت هذا الغاب، والهمّ به قد غاب، وتلك المواويل الحمر وفيها أجناس الناس أجناس، وفيها غرام أهل الغرام موكول إلى من هو رابض بين الضلوع، وإلى ما هو صاعد مع الأنفاس. . .
هذا القمر الساخر لا أنساه وهو ينظر إلينا صامتاً ونحن في البيداء. . فيزيد التيه تيهاً، ويجعل من الحقيقة خيالاً ومن العقل خبالاً، ومن الرمال حبالاً. . . ومن النفس حالاً وحالاً(671/20)
- هنالك في العراء، وسط رهبة السكون المخيف يزداد المجهول في علمنا مجهولاً. . .
هذا القمر الباسم لا أنساه في بيتنا الكبير العتيق ذي الحركة المدوية نهاراً، والسكوت المهيب ظلاماً، وقد أطل القمر عليَّ صغيراً كما يطل الليلة علي كبيراً. وكانت مربيتي العجوز، وقد احتوتنا رهبة الجدران العالية والغرف الواسعة، تقول لي: أطفئ المصباح يا ولدي. فهذا القمر ما أحلاه، وهذا السناء ماأبهاه، ثم تتولانا وحشة الليل فتأخذنا سنة من النوم، ثم نصحوا فإذا القمر قد تحرك في بروج السماء قليلاً. . . فتقول العجوز: سبحان الخلاق!. . .
وها أنا ذا اليوم هنا في باريس أطفئ الليلة هذا المصباح كما أطفأت أخا له من قبل، في تلك الليالي الخوالي، وهذا هو القمر لا يزال ما أحلاه، وهذا هو الضياء لا يزال ما أبهاه. . .
وأنت يا قمر باريس! هل أنت قمر ذاك الزمان، وقمر ذلك البيت الكبير العتيق، وقمر مربيتي العجوز! أم زادتك هذه السنون الثلاثون تحويلاً وتحويراً، كما زودتني الليالي والأيام تحميلاً وتعذيراً. . .
هنالك كنت تسمع أيها القمر حديثاً ساذجاً، بين صغير وعجوز، كلاهما مغرم بالقمر المنير وبما يغرى الوجه المنير في خيال هادئ ولطف جميل.
هنالك كان يسمع الصغير أحاديث العجوز، وهي تناجي القمر تسأله عن كل شيء وتطلب منه كل شيء، تدعوه أن يحمل لها في رهبة الليل وجلال الصمت سؤالها عند ربها (فالق الحب والنوى، وفاطر السماوات العلا) تسأله أن يحمل سلامها إلى أهلها فرداً فرداً، وأن يعود إليها في غدها لتراه في غدها. . .
ثم تقول وكأنها قد أدت صلاتها - نم يا ولدي. نم وادع ربك يستجيب لك، وأنت يا قمر مُسّيت خيراً وفي حفظ الله. . .)
ثم تقرأ الفاتحة وتنام إلى الصباح. . .
نعم إن وجه هذا القمر يذكرني الليلة تلك الأحاديث وذاك النغم وذلك الجو السحري البريء، فيثير مني في هذا الغروب وفي هذا السن تفكيراً. . قد يكون عن تلك السذاجة تكفيراً. . .
وإن المرء لينعم بالخيال كما يشقى بالذكرى، على أنه لا يدري أكان خيراً له أن تقف به(671/21)
الليالي أم أنها به تجري. . .
وهاهو ذا القمر يختفي وراء السحب وإلا فستخفيه منازل باريس. . فأين سهلك الفسيح يا مصر. . حيث يمتد البصر فيذهب فيه مع النهاية إلى اللانهاية. . .
أين النخيل يا مصر لكي يختفي هذا القمر خلالها كما يختفي وجه الحسناء خلال أصابع الحسناء. . .
يا صديقي. . .
هذا القمر أول ما عرفناه كنا في مصر، وحقاً إن لمصر قمرها كما أن لها غير القمر.
أما أن يكون لمصر كل ما لغيرها، فتلك أمنية يرجوها الجميع لها، ولكن أين الشرق من الغرب، وأين ما بينهما من خيالات الحقيقة، وحقائق الخيال. . .
فاجعل الأمر سهلاً، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، ولا تجعل مصراً من الغرب وهي في الشرق، بل اجعل لمصر في الشرق ما لمثلها في الغرب.
اجعل من مصر أعظم ما يمكن أن يكون من مصر، وستجدن منها إذن كل ما تطمع من حياة ذقتها غرباً وتريدها شرقاً. . .
راشد رستم(671/22)
السيد جحا الحالم اليقظان
للأستاذ كامل كيلاني
1 - ترجح الأضداد
يقول ابن زيدون:
(يا هل أتى من ظن بي، فظنونه ... شتى ترجح بينها الأضداد)
وما أكثر ما تترجح الأضداد في الحياة، فيصعب تمييزها وتشتبه على الألمعي البارع، حتى ليصرخ شاعرنا (أبو العلاء) متبرماً بعجز الإنسان عن تعرف الصادق من الكاذب، والجاد من الهازل والغافل من المتغافل، والهادي من الهاذي فيقول:
(يكفي عناء من الدنيا ومنقصة ... ألا يبين الهادي من الهاذي)
وقلما رأينا خلة محمودة، أو ميزة فريدة مشهودة، إلا رأينا ضدها من الخلال، شديد القرب والشبه بها، وثيق الاتصال.
وكثيراً ما تشتبه على أذكى الباحثين سمات العبقرية بالجنون، والشجاعة بالتهور، والاقتصاد بالبخل، والإبداع بالسخف، والتسامح بالعجز، والتغابي بالغباء، والتباله بالبله.
وقديماً قال ابن المقفع:
(وما من خلة هي في الغنى مدح إلا وهي في الفقر ذم)
وقال الشاعر:
(وسورة علم لم تسدد فأصبحت ... وما يتمارى أنها سورة الجهل)
2 - قصة الحكم الثاني
وما أكثر ما تجلو لنا ملابسات القول وبواعثه ما يقلب المعنى الذي يتبادر إلينا رأساً على عقب.
وكيف تحكم على إنسان يسمع بهزيمة جيشه فلا يتحرك، وينادي خادمه ليأتيه بالعطر يتطيب به قبل أن يقتحم عليه الثوار قصره ويقتلوه.
لا شك في أنها غفلة بلغت المدى.
أو شجاعة لا تعبأ بالردى.(671/23)
فإذا تجلت لنا ظروف القصة، وعلمنا أن صاحب القصة هو الحكم الثاني الذي وهب حياته لتشجيع العلم والعلماء. وعلمنا كيف تألب عليه الحساد وحرضوا عليه سواد العامة، بعد أن اتهموه بالمروق من الدين، فاقتحموا عليه قصره بعد أن هزموا حرسه، وكادوا يفتكون به فلم يجد وسيلة يعبر بها عن احتقاره لخصومه وتساميه إلا أن ينادي خادمه قائلا:
(عليّ بالغالية يا غلام)
وهنا تشتد دهشة الخادم فيقول:
(عجباً أهذا وقت الغالية يا أمير المؤمنين؟)
فيجيبه الحكم الثاني ساخراً:
(ويلك بما يُعرف رأسي من رؤوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضخماً بالغالية؟)
رأينا حينئذ في هذا الرد الساخر، أبلغ تحقير لخصومه، وأفتك إزراء بأعدئه الثائرين المتوثبين للإيقاع به.
3 - بين الأمين وكوثر
ولعل قريباً من هذا الباب قول الأمين لمن بلغه نبأ اندحار جيشه: (ويلك، لقد اصطاد كوثر سمكتين وأنا لم أصطد إلا سمكة واحدة) وقريب من هذا قول الساخر الذي سئل عما يطلب قبل أن يصلب بلحظات يسيرة:
(لا أطلب غير الماء)
فلما سئل: (ألا تفضل الجعة؟)
أجاب: (كلا فقد أخبرني الطبيب أنها تسبب لشاربها مرض الزلال).
4 - كيسان النحوي
من بدائع الجاحظ وطريف دعاباته، ذلكم التندر الكاريكاتوري البارع الذي رسّم به أعجب نموذج للذاهل الحالم وألصقه بكيسان النحوي فنعته: (بأنه يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ماكتب، ويفهم غير ما قرأ).
وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
(تقول له: زيد، فيكتب خالداً ... ويقرؤه عمراً، ويفهمه بكراً)(671/24)
وهي غفلة يكاد يتسم بها كل مفكر عميق، إذا حصر ذهنه في فكرة بعينها.
5 - غفلة نيوتن
ولعل أكثركم يعرف قصة نيوتن الذي هدته دقة الملاحظة إلى تعرف الجاذبية، وكيف أراد أن يلقي بيضة في الماء الغالي ويمسك بساعته عشر دقائق حتى تنضج وكيف نظر - بعد قليل - فرأى أنه يمسك البيضة في يده، أما الساعة فقد ألقى بها في الماء مترقباً نضجها وشيهاً.
6 - بين وزيرين
ولعل بعضكم يذكر قصة الوزيرين العباسيين حين التقى مركباهما في نهر دجلة، فأراد أحدهما أن يلقي إلى صاحبه بتفاحة، وما كاد يهم بذلك حتى شعر بحاجة مفاجئة إلى البصق في النهر.
فماذا صنع؟
ألقى بالتفاحة في النهر، وبصق في وجه صاحبه.
وحاول أن يعتذر عن سوء فعله فقال: (غلطنا) فأجابه الآخر: (ثُلطنا) (أي: لحقنا العار ولطخنا).
7 - ضلال المتسرعين
وإنما لجئنا إلى هذه المقدمات لننبه إلى أن كثيراً من الطرائف والدعابات الجحوية قد حملت على غير محملها وفهمت على غير وجهها فتوهم بعض المتسرعين من سامعيها أو قارئيها أن صاحبها أبله أو مخبول.
وما هو - على الحقيقة - بأبله ولا مخبول، ولكنه ساحر يتلعب بالعقول.
ومن هنا وجب على الباحث أن يجلو الظروف والبيئة، ويوضح الملابسات، حتى يأمن الناقد من الحيف والجور، وينجو من التسرع والخطأ فيما يرتجله من أحكام بعيدة في الغالب عن الصواب.
8 - سفينة السلام
وكيف نحكم إذا سمعنا أن رجلاً رأى مركبه تعنف به العواصف، وتشتد فتتقاذفه الأمواج(671/25)
الثائرة، ولا يلبث أن تتمزق أشرعته، فينهمك ملاحوه في إصلاحها. فيصيح بهم هذا الرجل:
علام تتكبدون عناء الصعود إلى أعلى السفينة؟ إنها لا تهتز من أعلى بل من أسفل. فما بالكم لا تربطون أسفلها بقاع البحر حتى تأمنوا اهتزازها؟
لاشك في أننا نحسبه معتوها إذا لم ننظر إليه على ضوء ما أسلفناه. ومن يدري؟ فلعلنا إذا رأينا ما يصنعه قادة العالم لإنقاذ سفينة السلام التي تتقاذفها الأنواء وتمزق العواصف أشرعتها، ورأينا كيف تشغلهم أسافل الأمور عن أعاليها، فيقترحون ربط السفينة من أسفل، بدلا من العناية بإصلاح أشرعتها العليا. عذرنا جحا فيما رآه.
9 - جواب الحانق
ونحن إذا سمعنا أن رجلاً كان يملأ جرته من النهر، فأفلتت الجرة من يده، فجلس يترقب خروجها من الماء، حكمنا عليه بالبله، كما حكم بعض الناس على صاحبنا جحا.
ولكننا حين نتمثله وهو محنق مغتاظ لسقوط الجرة وضياعها وإنه لفي دهشته وحيرته وهو مسترسل في غيظه وغظبته، وإذا بثقيل يقطع عليه تفكيره ويزعجه بسؤاله:
(عم تبحث يا أستاذ؟)
فلا يرى متنفساً لغيظه في غير التهكم والسخرية بذلكم الفضولي فيقول:
(لقد أفلتت الجرة من يدي إلى قاع النهر فجلست أترقب عودتها إلي، ومتى عادت أمسكت بها من أذنها وفمها حتى لا تعاود السقوط مرة أخرى.
(البقية في العدد القادم)
كامل الكيلاني(671/26)
التاريخ في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 12 -
رحلة إلى إيطاليا:
قضى ملتن نحو ستة أعوام في هورتون بين كتبه وأوراقه، وهي في الحق عزلة طويلة ما كان ليطيقها لولا عزم مصمم ورغبة قوية في الاستزادة من المعرفة والتأهب لعظيمة في دنيا الشعر.
بيد أن القلق أخذ يساوره والسأم يهجس على قلبه في نهاية العام الخامس من مقامه في القرية أي سنة 1637 قبيل نظمه مرثيته الرائعة ليسيداس، نتبين ذلك مما كتبه إلى صاحبه ديوداتي في سبتمبر من تلك السنة، وكان ديوداتي قد صار يومئذ طبيباً تشغله مهنته فعتب عليه ملتن عتباً عنيفاً أن لم يف بوعده في زيارته وكانت لهجة الكتاب غاضبة شاكية تنم عن حال من الضجر والسأم من طول مصاحبة الكتب والابتعاد عن الدنيا إلى هذا المضطرب الضيق المحدود في القرية.
والحق إن هذه العزلة وإن أجدت على الشاعر كثيراً من الثقافة والاطلاع لم تخل من بعض الآثار السيئة، فقد زادت من ذهابه بنفسه واعتداده برأيه ووثوقه من ارتفاع مستواه من غيره، وإلى ذلك يعزى إلى حد ما صرامته في الجدل فيما كتب بعد وتعاليه على مخالفيه في الرأي وعنفه في الخصومة، وغياب ما عرفه خلانه في مجالسته من عذوبة روحه ورقة حاشيته وطلاوة حديثه.
وكانت قد ماتت أمه في أبريل من هذه السنة، وبموتها ازداد قلقه وازداد ميله إلى الرحيل عن هورتون، وأصبح يحس أن مقامه فيها قد أشرف على النهاية، فقد كان يجد في ابتسامة أمه له وحدبها عليه وثقتها في مستقبله وفرحها بطموحه عزاء له وبهجة لروحه في هذه(671/27)
العزلة القاسية، أما أبوه فقد جاوز السبعين وهجر ألحانه وقراءاته، ورغبت نفسه عن الحديث في الأدب والفن إلا قليلاً، ولهذا لم يعد ابنه يجد عنده ما كان يجده من قبل من بشاشة وإقبال إذا كان يفضي أليه بآماله ويحدثه عما يقع عليه من مطالعاته من رأي سديد أو تعبير بليغ أو نادرة حلوة.
ورد عليه ديوداتي يتمنى له راحة البال وهدوء الحال، وسأله عما هو فيه. وكتب إليه ملتن كتاباً لم يك فيه ما كان في سابقه من الضجر، ما ذلك إلا لأنه قد عقد العزم على أن يرحل. وكان يفكر أول الأمر في الإقامة في أحد فنادق لندن، وفي هذا الكتاب أجاب ملتن إذ يرد على تساؤل صديقه بتلك العبارة التي أسلفنا الإشارة إليها ألا وهي تهيؤه لعمل يسلكه في الخالدين.
وصح عزمه في ربيع سنة 1638 على الرحيل إلى إيطاليا لتكون رحلته فيها متعة لنفسه وثقافة لعقله، فما إن تزال الثقافة هي حافزاً إلى كل ما يعمل من عمل، كأنما يضن بوقته أن يكون فيه قسط للراحة أو للمتعة الخالصة.
ولم يبخل الموثق الشيخ على ابنه بالمال اللازم له ولخادم يتبعه فأمده بثلاثمائة وخمسين من الجنيهات وكانت تساوي يومئذ نحو ألف مما نتداوله اليوم، وحمد ملتن لأبيه سخاءه، وكان يتوجس خيفة منه حين هم بطلب ذلك المال، وكان حرياً أن يخاف، فهو قد بلغ الثلاثين من عمره ولما يزل في رأي أبيه عاطلاً لم ينهض بعمل مما كان يحبه له، وكأنما لم يكفه ذلك فجاء يطلب من أبيه مالاً ليستمتع بالرحيل إلى إيطاليا!
والحق إنها يد للموثق الشيخ تضاف إلى سالف أياديه على ابنه، ولم ينس الابن أنه تركه لما كان فيه من الشعر، إذ آنس منه وهو بعد غلام أنه يحب أن يجعل من نفسه هوميروس آخر وكان أبوه يحب أن يكون منه كلفن ثان، ولم ينس أنه قبل ولو على كره انصرافه عن الوظيفة مدنية كانت أو دينية، وأنه وافق على مقامه في هورتون ليتفرغ للدرس والاطلاع وهو خريج الجامعة؛ لم ينس الشاعر الشاب شيئاً من هذا ولذلك فهو مغتبط بسماحة أبيه ونور بصيرته، ومرد ذلك فيما يرى الشاعر إلى ما تذوقه أبوه من نعمة الثقافة، وما فتح عليه عينيه من نور المعرفة.
وكانت إيطاليا يومئذ منتجع خواطر الرجال والشباب من كل أمة على اختلاف ثقافاتهم(671/28)
وميولهم، فكانت تجتذبهم إليها اجتذاباً، وكان لا يحس المرء بكامل ثقافته إلا إذا زار معالمها أو معالم النهضة في أنحائها، وكان بها لكل عقل متعة، يجد فيها ضالته رجل الفن ومحب البحث في الآثار القديمة والعاكف على دراسة التاريخ والمولع بالمعمار، والمفتتن بمشاهد الطبيعة والمشتغل بالفلسفة والعلم، ولا عجب ففي إيطاليا ازدهرت الحضارة الرومانية، وفيها أشرقت شمس النهضة الأوربية منها انبعثت أشعتها، وهي مهد أوفيد وفرجيل، وموطن دانتي وبتراك وتاسو ورفائيل وميكائيل أنجلو وجاليليو، وكانت في النصف الأول من القرن السابع عشر حين رحل إليها ملتن كسوق انقضت إلا قليلاً، فلا يزال بها من سحر النهضة وجمال مواكبها بقية.
وكان أمر طبيعياً أن ينجذب ملتن إلى إيطاليا وهو ابن النهضة بدراسته وروحه وفنه، وما يزال يتجه بخياله وعقله إلى الربيع الأليزابيثي الراحل وكان موكباً من مواكب النهضة وإن له في مشاهد إيطاليا وفي لقاء شعرائها ورجال الفن والذوق فيها وإن كانوا ظلالاً لمن مضى من الأفذاذ، لمتعة يطرب لها قلبه، وتأنس بها روحه.
وكان لملتن أكثر من عدة إلى إيطاليا، فإلى جانب ما أمده به أبوه من مال، كان له باللغة الإيطالية علم كاف، وبتاريخ إيطاليا معرفة وثيقة، كما أنه حصل على كتاب توصية به من بعض ذوي الحيثية، وكان من بين تلك الكتب كتاب من سير هنري وتون وقد قضى سير هنري سنين من عمره في إيطاليا، وله فيها أصدقاء من ذوي المكانة
ونصح سير هنري لملتن فيما نصح له به أن يتجنب المناقشات الدينية، وأن يكون حريصاً في هذا ما وسعه الحرص؛ وكان سير هنري خبيراً بما عسى أن يجلب على المرء المتاعب في إيطاليا، كما أنه كان يلمس من تحمس ملتن لرأيه ومن شدة كراهته لبابوية روما وقساوستها ما جعله يكرر النصح في إلحاح وشدة
وصل ملتن إلى باريس في أبريل أو مايو سنة 1638، وهناك لقيه السفير الإنجليزي بالترحاب والحفاوة وقدمه إلى جروشْيَسْ وكان جروشيس يعيش منذ بضع سنين في كنف ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وكان رجلاً مشهور المقام في الأدب والفلسفة والسياسة والبحث الديني، وكان قد حكم عليه في بلاده بالسجن مدى الحياة بسبب آرائه الدينية التي خالف بها مذهب كلفن في القضاء المحتوم، وفر بمساعي زوجته إلى فرنسا، حيث طاب له(671/29)
المقام، وأظهر جروشيس الحفاوة بملتن وأبدله المودة وأثنى عليه، وذكر له ما سمعه عن نباهة شأنه في الشعر
وفي يوليو بلغ ملتن فلورنسه عن طريق نيس وجنوة، وأقام الشاعر في فلورنسة شهرين، وقد أحب ملتن فلورنسة وأهلها حباً قوياً، وكانت تمتاز يومئذ بجماعاتها الأدبية، وكان بها من تلك الجماعات ست شهيرة، وكانوا يسمونها الأكاديميات، وشتان بينها وبين الأكاديميات الحديثة ذات القوانين المحددة والأصول المرعية في البحث والدرس، وإنما كانت هي منتديات يلتقي فيها ذوو الثقافة فيتناقشون فيما يعرض لهم من المسائل في جلسات ترفع فيها من بينهم الكلفة وتزداد الألفة؛ وقد تنقل ملتن بين هذه الجماعات وكان يقابل فيها جميعاً الحفاوة والمردة، وأصغى ملتن وتكلم في تلك المنتديات، وكان هو ومضيفوه ينتقلون من حديث إلى حديث حيثما تتشعب طرق الكلام، فتناولوا الأدب والعلم والفلسفة والرقابة على المطبوعات والسياسة والدين؛ وتكلم ملتن عن عقيدته الدينية كما تعرض لعقيدتهم، وأصغوا إليه في دماثة وهدوء، ووافقوه على كثير مما يقول، بل إنهم ذهبوا إلى أكثر من ذلك فشكوا إليه وقد وثقوا منه ما يعانون من استبداد الكنيسة وطغيانها، الأمر الذي يمقتونه أشد المقت؛ وقد جاء فيما كتبه ملتن عن تلك الزيارة 1644 قوله: (جلست بين المثقفين من رجالهم، وقد عدوني سعيداً أن ولدت في إنجلترا بلد الحرية الفلسفية كما تصورها يومئذ، في حين أنهم لم يترك لهم شيء إلا أن يئن المثقفون منهم مما يلاقونه من عنت وشدة، وإلى ذلك يعزى ما أحاط بأولى الألمعية من الإيطاليين من ظلمة، وإليه يعزى أنه لم يكتب طوال هذه السنين الكثيرة في إيطاليا إلا الملق والادعاء!)
وكان مما اعتاده أعضاء هذه الأندية أن يلقى كل واحد منهم ما يبرهن به على ذكائه وسعة اطلاعه، واستمع ملتن إلى كثير مما ألقي أمامه بالإيطالية، وجاء دوره فتلا في إحدى هذه الجماعات عن ظهر الغيب بعض قصائده اللاتينية التي نظمها في أول شبابه، وبعض قصائد أخرى نادرة وقع عليها أثناء مطالعاته، كما أنه ألقى عليهم بعض ما نظم بالإيطالية، وقد طربوا كثيراً لهذه القصائد الأخيرة وبالغوا في امتداحها، وعبورا عن شعورهم نحو صاحبها بمدائح لاتينية ذكر ملتن أنها (مما يضن به الإيطاليون على من يقطنون في هذا الجانب من الألب).(671/30)
وبلغ من فرط سروره بهذه المدائح أنه اعتزم أن تكون معظم أشعاره في المستقبل باللاتينية ليذيع صيته في القارة، ولكنه ما لبث أن ترك هذه الفكرة بعد أن عاد إلى وطنه؛ على أنه لم ينس تلك المدائح التي اختصه بها أهل فلورنسة فنشرها في مقدمة ما نشر من أشعاره اللاتينية سنة 1645، ولعله أراد بنشرها أن يطلع الحاقدين عليها من بني وطنه على ما لقيه من ثناء وحفاوة بين الإيطاليين، فقد أثنى الإيطاليون فيها على ذكائه وعلمه وحذقه اللغات، وجماله وفصاحته وما يتصف به من فضائل، وطول باعه في الفلك والفلسفة والتاريخ وبالغ أحدهم وهو السنيور فرانسيني فراح يؤكد لملتن في قصيدته أنه ما من سر مهما بلغ من عمقه تخبئه الطبيعة في السماء أو في الأرض إلا وهو على علم وثيق به، وأنه قد بلغ حد اكتمال الفضيلة وأن ألحانه الحلوة ترفعه إلى السماء.
واتخذ ملتن طريقه إلى روما فقضى فيها شهرين؛ وهناك طاف بأبنيتها وآثارها القديمة وتعرف إلى كثير من ذوي النباهة والمكانة، وقوبل بالحفاوة فيها كما قوبل في فلورنسة، وإن كانت حماسة أهل روما لم تصل إلى حماسة أهل فلورنسة، ولم يتبع ملتن في روما ما نصح له به سير هنري، فأخذ يتكلم في حماسة وصراحة عن مذهبه البروتستنتي ورأيه في الإصلاح الديني، ولعل ذلك هو السبب في فتور حماسة أهل روما نحوه، بل إن بعضهم انصرف عن الحفاوة به حينما نما إليهم ما يقول في الدين، وما كان ملتن بالرجل الذي يستطيع أن يخفي في نفسه رأيا يؤمن بصوابه، وما كان ليخاف عنتاً أو أذى في سبيل عقيدته، ومن أبرز خلاله منذ صغره الجهر بما يعتقد لأنه يرى أن الكتمان نوع من المذلة إذا كان الباعث عليه الخوف. وهكذا أخذ في المدينة البابا نفسه يتكلم في طلاقة وجرأة لا يهمه كيف يقع كلامه في نفوس سامعيه، ولا يخيفه أقل خوف ما عسى أن يكون من موقف السلطات حياله؛ أشار إلى ذلك فيما كتب فقال (لم يكن من دأبي أن أثير المناقشات الدينية فيما أغشاه من الجماعات، ولكني كنت إذا سئلت عن عقيدتي لا أخفي شيئاً مهما يكن ما أتعرض له من ألم. . . لم أخف عن أي سائل يسألني أي مذهب أعتنق مهما كان هذا السائل؛ وكنت إذا هاجم أي شخص في المدينة البابا العقيدة الأصلية لا أتردد في الدفاع عنها بكل طلاقة)
وتعرف ملتن إلى رجل ألماني الجنس هو لشتنيس، وكان يقوم على شؤون مكتبة الفاتيكان،(671/31)
وكانت له مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من عظماء القساوسة، وقد أراد أن يظهر للشاعر الإنجليزي عرفانه لجميل أهل إنجلترا معه حين كان يطلب العلم في اكسفورد وقد قدمه هذا الألماني إلى الكاردينال العظيم فرنسسكو باربريني، وكان الكاردينال يومئذ هو كل شيء في روما، وأقيم للشاعر حفل موسيقي في قصر باربريني وهناك استمع ملتن إلى المغنية الشهيرة ليونارة باروني فأعجب بها إعجاباً شديداً عبر عنه في قصائد ثلاثة لاتينية قصيرة أهداها إلى المغنية العظيمة.
ولو كان رجل آخر مكان ملتن لأثرت فيه أمثال هذه الحفاوات وبخاصة ما جاء منها من قبل رجال الدين، ولتخفف من صراحته وحدته في الكلام عن عقيدته الدينية وركن إليهم شيئا قليلاً، ولكنه لم يدع لمثل هذه الأمور سبيلا إلى التأثير في رأيه فلم يتحول عنه قيد شعرة الأمر الذي جعل البعض يصدون عنه بعد إقبال، وجعل الجزويت ينكرون أقواله ومسلكه إنكاراً شديداً.
ولم تك تلك القصائد الثلاث كل ما أوحته إيطاليا إلى ملتن، فبين قصائده اللاتينية خمس غيرها وجهها الشاعر إلى سيدة إيطالية لم يذكر اسمها سحرته (بسمو حركتها وبحاجبها الأسود الذي يلقي في النفوس الحب).
وتوجه ملتن بعد ذلك إلى نابلي، وهناك زار رجلا كان لزيارته إياه أجمل وقع في نفسه وذلك هو مانسو العظيم ماركيز فيلا، وكان مانسو في الثامنة والسبعين من عمره، ومرد عظمته إلى أنه كان راعي الأدب والفن مدة جيلين، آوى في أولهما الشاعر تاسو وفي ثانيهما ماريني؟ وهاهو ذا يلقى شاعراً ثالثاً سوف يكون أعظم خطراً في تاريخ الأدب العالمي من ذينك الشاعرين، وقد رحب به مانسو واستطاع على الرغم من شيخوخته أن يطوف به على الأماكن التي وصفها حين كتب حياة تاسو، وأحب ملتن هذا الشيخ فامتدحه بقصيدة جميلة ذكر فيها أنه يود لو كان له راع مثل مانسو راعي الشعراء؟ ليعنى بدفنه إذ يموت، ويقيم له تمثالا من المرمر يتوج الغر هامته، وقد أشار ملتن في هذه القصيدة إلى ما يعتزم في دنيا الشعر كما أثنى على موطنه إنجلترا وعلى مكانتها في الشعر والأدب؛ وأهدى إليه مانسو كأسين منقوشين وعبارة جاء فيها (لو أن دينك كان مثل عقلك وهيكلك ورشاقتك ووجهك ومزاجك ما كنت بريتانيا فقط بل كان مقامك بين الملائكة).(671/32)
واعتذر إليه مانسو لأنه لا يستطيع بسبب عقيدته الدينية أن يظهر له من الحفاوة به ما يستحق مخافة الرقباء في المدينة، وعاد ملتن إلى روما فلبث فيها شهرين آخرين ثم ذهب مرة ثانية إلى فلورنسة، وفي هذه المرة استطاع أن يزور العالم العظيم جاليليو وكان نزيل السجن في المرة الأولى؛ بسبب آرائه في الفلك وخالفته بها رأي الكنيسة، وزاره ملتن في بيته على مقربة فلورنسه بعد أن حصل على إذن من السلطات، وكم تأثر الشاعر لمرأى هذا العالم الشيخ فقد كف بصره وأحيط بالرقابة الشديدة وبدا محطم الهيكل شديد الضعف، على أنه كان لا يزال محتفظا بقواه العقلية، ولو اطلع ملتن على الغيب ساعتئذ لرأى نفسه صورة شبيهة بصورة جاليليو في ضعفه وفقد بصره ومعاناته الآلام من أجل عقيدته. . .
وسافر ملتن بعد ذلك إلى البندقية ومنها أرسل إلى وطنه ما اشترى من كتب ومخطوطات وكان بينها صندوقان لكتب الموسيقى، ومن البندقية اتجه إلى جنيف ليعود منها إلى موطنه، وكان يجب أن تطول رحلته أكثر من هذا، ولكن ما ترامى إليه من أنباء وطنه جعله يؤثر العودة، عبر عن ذلك في قوله (رأيت أن ما يلحق بي الشين أن أرتحل طلباً للمتعة في الخارج بينما يعاني بنو وطني الآلام من أجل الحرية في بلادي).
هذه هي رحلة ملتن إلى إيطاليا ولسنا نجد لما شهده من المدن والآثار صوراً في شعره اللهم إلا ما وصف به روما في الفردوس المستعاد، وهي صورة ليست بذات أهمية كان يستطيع مثلها لو لم يسافر؛ كذلك لم يظهر ملتن أثر لاستمتاع بلهو الحياة، بل إنه أشهد الله وهو في جنيف في طريقه إلى موطنه أنه لم يأت شيئا في رحلته تخجل منه الفضيلة.
(يتبع)
الخفيف(671/33)
نظرات في أدب المتأخرين
للأستاذ عباس حسن خضر
الأدب والحرفة:
منذ احتاج الأديب إلى استكمال عدته من الدراسة والثقافة اضطر إلى استدبار وجوه المكاسب، ونحي عنه الصوارف، وراح يمتص رحيق الآداب ليخرجه للناس أدباً مصفى. واتخذ كثير من الأدباء بعض آدابهم بضاعة نافقة في سوق المدائح، فطافوا بها على القصور، وانتجعوا الغنى؛ وقد جعل ابن الرومي مكافأة الأديب حقا لازماً إذ قال:
إن امرأ رفض المكاسب واغتدى ... يتعلم الآداب حتى أحكما
فكسا وحلى كل أروع ماجد ... من حر ما حاك القريض ونظمَّا
ثقةً برعى الأكرمين حقوقه ... لأحقُّ ملتمس بألا يحرما
فاجتمع لأولئك المال وإحكام الآداب، على أننا لم نعد من عزف عن ذلك المورد، وعكف على منهل الأدب، ينهل منه ويعل، ويفيض على خاطره، فيرسله غزلاً وتشبيباً أو حكمة وفلسفة.
وكثيرا ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت (حرفة الأدب) مجلبة للبؤسى وشؤماً على من أدركته، قال يعقوب الخزيمي:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم
وقرنها شاعر آخر بإجادة الخط، فشكا من اصطلاحهما عليه:
لما أجدت حروف الخط حرفني ... عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب
أقوت منازل مالي حينُ وطِّنها ... مخيِّما سفطٌ الأقلام والكتب
ولقد وصل ما جرته حرفة الأدب إلى قصر الخليفة الشاعر ابن المعتز حين قتله المقتدر، وزعم أنه مات حتف أنفه، فقال علي بن محمد ابن بسام:
لله درك من ميْت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
قال مؤرخو الأدب: ولما ولي الأمور أولياء من الأعاجم لا يقيمون للشعر وزناً أهملوا الشعراء، فنصرف هؤلاء إلى الحرف والصناعات، فكان منهم الجزار والحمامي والقصار،(671/34)
وكثر قولهم في الأشياء التافهة كالسبحة والمخدة والمروحة؛ وعدوا ذلك نزولاً بالأدب عن درجاته وحطاً له في دركاته، وقد رأيت أن هذا ليس صحيحا كله، ولئن صح أن الشعر فقد شيئاً ببعده عن ظل الممدوحين الوارف - لقد كسب به أشياء، أولها أن هؤلاء الشعراء - وقد عدموا الممدوحين المغدقين من الملوك والأمراء - وجدوا بديلاً أجل منهم وأعود عليهم باللذة الروحية، وهو سيد الخلق، فهشت له نفوسهم، وجعلوا ينشدون المدائح النبوية، وازدهر هذا الفن في قصائد لا تتأخر قيد أنملة عن قصائد الفحول من المتقدمين، وحسبك بردة البوصيري التي أولها:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
وقد كان من الشعراء ذوي الصناعات المعيشية من أجاد وأفتن في القول كأبي الحسين الجزار؛ وإلى جانب إجادتهم في أغراض الشعر المختلفة برزت صناعاتهم في أشعارهم، واستخدموا مصطلحاتها في معانيهم، فأحسنوا وظرفوا، قال الجزار:
لا تلمني مولاي في سوء فعلي ... عندما قد رأيتني قصابا
كيف لا أرتضي الجزارة ما عش ... ت قديماً وأترك الآدابا؟
وبها صارت الكلاب تُرِّجي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكتب إليه النصير الحمامي:
ومذ لزمت الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأسى وبارده ... وآخذ الماء من مجاريه
فكتب إليه الجزار:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والعقول تختلف
والعبد قد صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
على أنه لا يقدم الأدب ولا يؤخره - من حيث القيمة الذاتية - أن يكون الأدباء من ذوي الحرف أو من أهل الرياسات
وصف الأشياء التافهة:
رأيت مما عابه مؤرخو الأدب على الشعراء المتأخرين وصفهم للأشياء التافهة. ولست أدري كيف يعد هذا تخلفاً في مضمار الشعر؟! كأن مقياس الإجادة في الوصف عندهم أن(671/35)
يكون الموصوف جليلاً، فمن يصف الفيل مثلا أشعر ممن يصف العصفور، لمجرد أن العصفور صغير والفيل كبير؛ وواصف جبال (الهملايا) - على هذا القياس - أشعر شعراء العالم ولا جدال. . .!
والهبل لأم عنترة القائل:
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
لأنه يصف الذباب فيشبهه في مرحه بالشارب المترنم، ويمثله وهو يحك ذراعه بذراعه بمقطوع اليد مكباً على الزناد ليقدحه، وما الذباب؟ وما الأجذم المكب؟ أوَ ليسا تافهين حقيرين؟! وما إعجاب النقاد ومنهم الجاحظ بهذا التصوير؟!
ويا ويح امرئ القيس! ألم يجد غير قلوب الطير المتناثرة، والحشف البالي، فيبني لها بيتاً فخماً كهذا:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكره العناب والحشف البالي
والعجب العجاب أن يكون العائبون مؤرخي الأدب المحدثين وهم يعلمون أن كل شيء يصلح موضوعا للأدب ما دام موضع حس الأديب وانفعال نفسه، ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا الشيء جبلا أو نملة. ثم لننظر ما قال شعراؤنا المتأخرون في أشيائهم التافهة، قال شهاب الدين الحلبي في سبحة:
وسبحة مسودة لونها ... يحكي سواد القلب والناظر
كأنني عند اشتغالي بها ... أعد أيامك يا هاجري
وقال محمد بن سور بن إسرائيل في مروحة:
ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد ... وفي القر تجفوها أكف الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا ... أتت بالهوا الممدود من كل جانب
وقال ابن نباتة في دواة فولاذ:
دواة لها جنس الحديد وبأسه ... وزادت عليه في الندى فهي أبهر
وكمل معناها يراعك منشئاً ... ففولاذها في الحالتين مجوهر
على أنك ترى هؤلاء الشعراء لم يتصدوا لوصف هذه الأشياء باستقصاء أجزائها وصفاً(671/36)
مقصوداً لذاته، وإنما استثاروا بها خواطرهم فأتت بهذه المعاني الشعرية الجميلة، فجاء قولهم متحركا نابضا بالحياة، لا عيب فيه إلا أنه ليس مقولا في رضوى وثهلان!
البديع:
يكاد ينعقد الإجماع على استهجان ما امتلأ به أدب المتأخرين من ألوان البديع، فهم يأخذونه جملة واحدة بأن العناية مبذولة فيه إلى الزخارف البديعة والتحسينات اللفظية، مرتبين على ذلك انتقاصه وتهجينه وتنفير المتعلمين منه، ولعلهم يبتغون من وراء ذلك صرف الناشئين عن التكلف إلى الاسترسال. ولكني أقرر أولاً أن ثمة فرقاً بين الصنعة والتكلف، فالصنعة لابد منها في كل عمل فني يقترب من الكمال، يزاولها الفنان فتكون من تمام جمال الفن. ولقد كان زهير يأخذ شعره بالصنعة إذا كان يعاود حولياته بالتنقيح والتثقيف، وتعاقب بعده شعراء تناولوا أشعارهم بالتصنيع والتحسين كالحيطئة وبشار، حتى كان مسلم ابن الوليد وأبو تمام وابن المعتز فالتفتوا إلى المحسنات اللفظية والمعنوية وحسن موقعها في الكلام، فاتخذوها في صناعتهم الشعرية قصداً، وكثيراً ما كانت تواتي أسلافهم عفواً ومن فيض الخاطر، وازدانت بها آيات الكتاب وأحاديث الرسول. أما شعراؤنا المتأخرون فقد زادوا فيها وأكثروا منها حتى صارت ركناً من أركان الأدب، وأصبحت غرض كل أديب، وقد ترامى بها الحال حتى جاوزت الألفاظ إلى الأشخاص في البيتين الظريفين الآتيين:
وقالوا يا قبيح الوجه تهوى ... مليحاً دونه السمر الرشاق
فقلت: وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق!
ولا ينبغي أن يغض المتكلف المرذول من قدر البديع المحكم الصنع، وما البديع إلا مادة زينة كالذهب والأزهار، يختلف المزيَّن بها باختلاف الصياغة والتنسيق، وهنا الحد بين الصنعة والتكلف.
وكيف تحمل على التخلي عن الصنعة في الآثار الأدبية؟ أليس اختيار الألفاظ وإحكام النسج وترتيب الأفكار والمعاني صناعة؟ ولو تخلينا عنها لما استقام للشعر وزن ولا اطردت له قافية.
ويقولون: إن المتأخرين كانوا يصنِّعون في أدبهم ليعوضوا فقره في المعاني. ولو أنهم حقاً شعروا بشيء من ذلك لعملوا على تلافيه، والشعور بالنقص مبدأ الكمال، كما يقال. ولا(671/37)
يصح الخلط بين أدب عصر المماليك وبين أدب العصور السابقة، فإن الأول كان حقاً فقيراً في المعاني والأفكار، بل كان فقيراً في الصنعة نفسها، وكان متكلفاً غير مقبول، وما عنه نتحدث.
وبعد فقد قصدت إلى نفض الغبار عن محاسن في أدب المتأخرين عدت عليه مساوئ، ولعلي بهذا قضيت بعض حق الزمني من التمتع بقراءة بعض هذا الأدب زمناً لقيت فيه العنت من نبش قبور المخطوطات بدار الكتب المصرية، وإلى القائمين على إحياء الآثار الأدبية يساق الحديث.
عباس حسان خضر(671/38)
كتب قرأتها:
في غربال ميخائيل نعيمة
للأستاذ حبيب الزحلاوي
كتاب يساير الجيل بعد الجيل، يمضي قدماً مع الفكر في تطوره، والعقل في تدبره، والقلب في يقظته. تقرأ فيه صور التوثب في شبابك، وسورة الترصّن في كهولتك، وآية التوطد والاستقرار في شيخوختك. تلمح فيه الدقيق من رسوم الحياة مجسمة في سطور تعبر كل كلمة وجملة وعبارة فيها عن معنى جديد من معاني الحياة دائمة التجدد. إنما هو كتاب خالد، قد يصلح على كر السنين، لزمنك، ولمن يأتي بعد زمنك
هذا الكتاب هو (الغربال) ومؤلفه هو الأستاذ ميخائيل نعيمة. . .
من خلائق مؤلف كتاب (الغربال) صفاء في الذهن، كما يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، واستقامة في النقد، وغيرة على الإصلاح، وفهم لوظيفة الأدب، وقبس من فلسفة، ولذعة من التهكم).
لم يغال الأستاذ العقاد في وصف مزايا المؤلف الأدبية، ولم يفتعل له من الخلائق ما ليس فيه.
إن نظرة فاحصة تلقى على فصول الكتاب تكفي لإقامة البرهان وإنهاض الدليل، على أن الأستاذ العقاد لم يداهن مؤلف (الغربال) ولم يرائه كما يرائي ويمالق أكثر أدباء هذا العصر خصوصاً من يدعون أنهم من النقاد المتجردين عن الأهواء والأغراض. كما أنها تشير بوضوح إلى اتجاهات المؤلف وإلى الهدف الذي صوب إليه سهمه والغاية التي رمى إليها وأنه كان لا محيص البتة لصاحب نفس كبيرة مثله، يعرف الحب والتمرد، والحرية، عن صرخة مدوية يصرخها في وقت كثر فيه لغط الرجعيين المتحجرين من الكتّاب المحافظين في مستهل هذا القرن واشتد نقيق الضفادع، أعني الكتاب الذين أخذوا يهرفون بالتجديد العصري، والحديث المبتكر.
صدر كتاب (الغربال) إثر صدور (الديوان) لمؤلفيه الأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وانفجرت فوهة بركان (الديوان) تقذف الحمم عقب صدور (منهل الوارد في علم الانتقاد) لمؤلفه المرحوم قسطاكي بك الحمص، لذلك رأيت أن أقول كلمة(671/39)
عابرة في الكتابين الأخيرين توصلا إلى تعريف الكتاب الأول، ولأقرر أيضا أن فن النقد الأدبي سلك إلينا المسلك الطبيعي في تدرجه وتطوره.
لم يكن الأدب العربي يعرف أن للنقد قواعد بأصول تعرف به مزايا هذا الفن ومدارسه وأساليبه وتقسيماته. وقد عرفنا نحن أبناء هذا الجيل أن المرحوم قسطاكي الحمصي نقل لنا ما كتبه جهابذة فن النقد عند الفرنسيين أمثال سنت بوف، ورينان، وتين، وفرديناند برونتير، وأميل فاجيه، وأدلف بريسون، وجول لوميتر. فكان رحمه الله مشعل المصباح الأول في جادّة هذا الفن في مستهل القرن العشرين أي في عام 1907.
أما كتاب الديوان فقد كان معولاً في قبضة رجلين قويين اهويا به على ثلاثة من (أصنام الأدب) كنا نحسبهم آلهة في ثياب شعراء وقد حدث ذلك في عام 1921.
أما كتاب (الغربال) فقد صدر في عام 1923 يحمل في طياته جواهر القواعد التي نقلها قسطاكي الحمصي عن الفرنسيين، ولباب فنون النقد التي أخذها هو عن كبار النقاد من الروس والأمريكان والإنجليز، ولم يتحرج من انتزاع المعول من قبضتي العقاد والمازني وهزّه في وجوه شعراء وكتاب، فأرعبتهم هزة المعول تلك أكثر مما أوجعتهم ضربات العقاد والمازني، ثم أخذ يعرفنا بالكاتب والشاعر والناقد، يوضح لنا معالمهم، ويعدد خصائصهم، ويشرح مزاياهم، فقال في الكاتب:
(. . . إنما الكاتب قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب.
(الشعر والفكر والبيان، ثلاثة لا يكون رجل كاتباً إلا إذا توفرت له أكثر من توفرها لسواد إخوانه في البشرية، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، وحدّة الفكر واندفاعه، وجمال البيان وجلائه، لكان من عرف القراءة والكتابة كاتبا. . .
(على سطح هذه الأرض قلوب عديدة، غير أن أكثرها تتدفق الحياة من حوله ومن فوقه، فتنحدر عنه انحدار الموجة عن الصخرة. إن أمثال هذه القلوب لا تخبر، وإن خبرت، فعن تخمة في البطن، أو تكمش، أو عن وجع في الرأس.
(وعلى الأرض عقول كثيرة، وأكثرها تتناوله الأشياء ولا يتناولها، وتغربله ولايغربلها، فأمثال هذه العقول لا تفكر بل تدور مع الليل والنهار، بقوة العادة والاستمرار.(671/40)
(وعلى الأرض قناطير من الأقلام، ولكن منها ما يقول له العقل والقلب اكتب (نعم) فيكتب (لا) إن مثل هذا القلم لا يسطر، وإن سطر فحروفاً سوداء على أوراق بيضاء لا علاقة لها بين عقل الكاتب وقلبه.
(ومن نكد البشرية - وقد يكون من حسن حظها - أن أمثال ما ذكرت من العقول والقلوب والأقلام، هي القاعدة السائدة فيها، وما أختلف عنها فشذوذ، وكل شاذ نادر، لذلك ندر وجود الكتاب والشعراء وأبناء الفن.
(للناقدين ولع بتحديد مراتب الكتاب والشعراء، والمقابلة بين الواحد والآخر، وتفضيل هذا على ذاك، أو ذاك على ذلك، وقد يكون في مقابلتهم وتفاضيلهم نفع لهم ولقارئيهم، أما أنا فإن عثرت على كاتب له قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، شكرت ربي ألف مرة ومرة، وتركت للقارئ المقارنة بينه وبين سواه، ومحاسبته الخطأ والصواب، والحلال والحرام، والنفع والضرر، فتقديرك الكاتب منوط بما تقرأ من نفسك وعنها، في سطوره وبين سطوره، لا بما يقرؤه سواك، فرب كتاب أطالعه فألفيه ترديد أصداء بعيدة، هي أصداء أفكار وعواطف خبرتها ونبذتها من زمان، ويطالعه سواي فيرى في كل سطر من سطوره فكراً جديداً وعاطفة جميلة والعكس بالعكس.
(لذلك لست أرى جزيل نفع في المقارنة بين الكتاب والشعراء، ومتى أنست من كاتب قلباً يحس، وفكراً يقابل ويستنتج، وقلماً يصور بإخلاص، قست إذ ذاك مقدرته الكتابية، لا بعدد ما ضمن سطوره من (الحقائق الراهنات) و (المعجزات البينات) وغريب المفردات، بل ما يثيره فيّ من العواطف والأفكار، وبما يوجه إليه بصري من ظواهر الأمور وبواطنها حتى إني لأوثر كاتباً يخالفني في كل رأي أراه، على كاتب ينطق بأفكاري وعواطفي، فقد يروقني من الثاني جلاء في الإفصاح ليس لي، وتلك منّة صغيرة، ولكن منة الأول عليّ أكبر وأوفر، لأنه يكشف لعيني عوالم كانت خفية عنها، ويفسح لفكري وعاطفتي مجالاً ما كان لهما، فيدفعني بذلك إلى تصفية حسابي مع نفسي، وإلى تقويم بضاعتي الروحية، ولولا ذاك لما عرفت أني من أبناء هذه الحياة. . .)
في الناس من يعتقد أن لا فائدة ألبته للنقد الأدبي مادامت أقيسته قائمة على الذوق الذاتي، وفيهم من يقول إن في مكنة كل كاتب التصدي للنقد، فيتجنى إذا طاب له التجني، ويتعسف(671/41)
إذا حفزته نزوة إلى العسف، وإنه في الواقع لا يجني من النقد سوى عداوة الناس، وخصومة الأصدقاء. فإلى هؤلاء وأضاربهم أقول: ما أكثر ما يقال في الناقد من حق ومن باطل، وما أحوج الناقد إلى الجرأة والصبر على مخالفة الناس، لا لأنه أعرف ببواعث نفسه على النقد من سواه، وأبصر من تسديد سهامه إلى أهدافها، وأكثر نخوة على الحياة الأدبية من كل الناس، بل لأنه غيور على الأدب مخلص للحياة الأدبية، بيد أن مؤلف (الغربال) يقول. . .:
(. . . إن مهنة الناقد الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. . . وظيفة الناقد حك فكره بفكر المؤلف، واستجهار عاطفته، وتنقية قمحه عن زوانه واحساكه.
(البقية في العدد القادم)
حبيب الزحلاوي(671/42)
بناة العلم في الحجاز الحديث:
السيد أحمد الفيض آبادي
للأستاذ عبد القدوس الأنصاري
(فصل مستل من الجزء الأول من سلسلة (بناة العلم في الحجاز الحديث). وهو الكتاب الذي يمثل مبادئ اليقظة العلمية الحديثة لمهد العروبة والإسلام، في العصر الحديث، بأسلوب يجمع بين متعة الفن القصصي وعمق البحث العلمي، لمؤلفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة (المنهل) بمكة ورئيس تحريرها. والكتاب تحت الطبع.
عهد جديد:
كان الفتى قد بلغ الخامسة عشرة من عمره. وكانت الأحلام المعسولة تتراقص أمامه كما تتراقص مياه الغدير الصافي للظمآن في الفيافي الجرداء. وكانت الحياة في نظره رؤى وأحلاماً فيها الكثير من الغموض والإظلام. وقد كسبته الحوادث والأحداث الجسام التي مرت عليه قطعانها وهو ناعم الأظفار، مرونة محدودة ودقة نظر غير بعيدة الأهداف في الحياة والأحياء. . . وكان الفتى خجولا منطويا على نفسه محباً للعزلة أنى وجد إليها سبيلاً.
وكان لا يبتسم لشيء بقدر ما يبتسم للدرس والكتاب، وما يستتبعانه من حفظ ومطالعة وتكرار.
وكأن انطوائيته فتحت له آفاق الدأب على تحصيل ما يرسم له من علوم. فكانت متعته وهجيراه أن يتخيل نفسه وقد بز الأقران، وصار علماً في العلم والأدب العربي يشار إليه بالبنان.
وكانت لديه مع ذلك نفس مكبوتة نزاعة إلى الإلمام بهذه الفنون العصرية التي بدأت تستهويه نغماتها القادمة من آفاق مصر والشام؛ كما استهوت نغمات (سلامة) ابن أبي عمار المشهور بالقس لعبادته وتقواه. ولكنه في حالته الراهنة، وهو الطالب بالمسجد النبوي، لا يكاد يشعر بوجود أية فجوة ينسل من خلالها إلى ذلك الروض الذي يتخيله أنيقاً كل الأناقة، والذي يحن إلى الاستظلال بافيائه كل الحنين.(671/43)
وفيما هو كذلك وإذا به في أمسية من أماسي الربيع الساجية أمام شخصية بعيدة الصيت هي شخصية السيد أحمد الفيض آبادي التي اشتهرت بالنبل وسمو الأخلاق، وقد تسربت إلى الفتى إشاعات بأن هذه الشخصية مزمعة أن تفتتح معهداً لتعليم الناشئة ما يصلح مستقبلهم في معاشهم وفي معادهم. فيتقدم بالفتى أستاذه ومربيه إلى هذه الشخصية، ويجري بينهما حوار لا يتذكر الفتى الآن أكان قصيراً أم طويلاً، ولكنه يتذكر على كل حال أنه كان حواراً ممتعاً رصعت حواشيه بالبسمات وحسن التفاهم، وتبودلت خلاله عبارات المجاملة والتقدير. وكان الفتى طيلة جلوسه بين يدي الشيخين المتحاورين يحدق النظر ملء عينيه وبقلبه أيضا إلى هذا الرجل الذي بدأ يستشعر له الحب والتقدير برغم بساطة مظهره وتواضعه. وسرعان ما علم الفتى من أستاذه عقب افتراق الرجلين أنهما - في تلك الجلسة الرزينة الهادئة - قد وضعا تصميم الاتفاق على دخول أستاذ الفتى في المدرسة الجديدة الناشئة رئيساً للمدرسين بها، كما علم أنه قد فتح له باب عهد جديد بما تقرر من أن سيكون ضمن طلاب هذا المعهد في عهده الأول.
ومن الحق أن نقول: إن قلب الفتى قد امتلأ غبطة بهذا النبأ السار الذي يحمل في طياته تحولاً جديداً في مجرى حياته بما سيفتح له من أجواء معرفة أوسع مدى من المعرفة التي هو بسبيلها.
وبقدر اغتباط الفتى بهذه الناحية كان اغتباطه أيضا لما أدركه - عقب دخوله المدرسة - من أن المدير قد قرر صرف مكافآت شهرية للطالبين بقدر جدهم وتفوقهم. . . ولم لا يغتبط الفتى بهذه الإعانة التي ستمهد له قسطاً وافراً من حياة الاستقلال الذاتي، وتساعده على التفرغ لتحصيل العلم؟. . . فهو وإن يك مكفي الشؤون لدى مربيه الذي هو خاله وابن عمه وأستاذه، إلا أنه مع ذلك كان يشعر من زمن الطفولة الغضة أنه يتيم، ومن دأب اليتيم أن يشعر بأنه في حاجة رتيبة إلى المعونة المادية الوافرة ضماناً لتحسين حاله في المستقبل الغامض المجهول.
وقد ازداد جهد الفتى وتضاعف إقباله على التحصيل، وواصل ليله بنهاره، ولم يرض مطلقاً إبان دراسته إلا أن يكون الأول في كل الاختبارات، وآثر النصب على الراحة، وأعرض بالكلية - وما كان من قبل مقبلاً - عن ألوان اللهو والمتع التي كانت تستهوي(671/44)
أقرانه الآخرين.
وكان الفتى مغتبطاً بهذا العهد الجديد أيما اغتباط، وقد شعر المدير بما يحمله قلبه من حرص واجتهاد، فما قصر في إغداق المساعدات عليه، وحباه بمختلف الرفد والمعونة، وصار يعهد إليه، فوق ذلك، ببعض المهام زيادة في تنشيطه ورفعاً لمستواه الفكري في ميدان الأعمال الإدارية والاجتماعية.
وقد ظل على ذلك المنوال حتى إذا أكمل مقررات الدراسة العالية دخل فحصاً طويلاً مرهقاً، ويخرج منه وقد نال أرقام الدرجة الأولى في أغلب العلوم والفنون، وبذلك أخذ الشهادة العالية في طليعة من أخذها.
وكم كان اغتباط المدير بنجاح الفتى ونجاح زميله معه، هذا النجاح الباهر المرموق، وكان الفتيان الزميلان يمثلان وحدهما (الفوج الأول) من متخرجي هذا المعهد. . . وفي أيام الاختبار الذي تخرج منه الفتى لوّح المدير له بأنه سيعينه عقب نجاحه مدرساً معيداً بالمدرسة غير أن ضرورات اجتماعية دعت الفتى إلى أن يقبل وظيفة كتابية بديوان إمارة المدينة المنورة، وقد أحس يومئذ بشيء من وخز الضمير تجاه مديره الذي طالما عطف عليه فذهب إلى داره مبكراً ليقدم إليه جميل العذر، فالعذر مقبول عند كرام الناس، وانه ليصافحه إذ يسأله في تأثر:
- أحق أنك وظفت في الديوان؟!. . .
- أجل يا مولاي، ولقد قضت بذلك ضرورات اجتماعية، وسأخدم المعهد الذي له عليّ فضل وافر، وأنا خارج عنه، أكثر مما أخدمه وأنا فيه.
وكانت هذه الجمل التي خرجت من قلب الفتى يتهدج بها صوته في نبرات الصدق والإخلاص والوفاء بلسماً لتأثر المدير الوقور، فهتف قائلا:
- سنرى ما يكون من البر بوعدك الذي اقتطعته على نفسك.
وتلا ذلك صمت أدرك الفتى منه أن المياه قد عادت إلى مجاريها أو كادت، فيستأذن منصرفاً إلى تأملاته في الحياة والأحياء، ماذا كان أمره من قبل وإلى ماذا صار؟ وإلى ماذا سيؤول هذا الأمر؟ ولكنه لم ينس قط لا في تلك اللحظة الدقيقة العابر، ولا فيما تلاها من لحظات وساعات وشهور وسنين، واجب البر بوعده الذي اقتطعه على نفسه يومئذ لتلك(671/45)
الشخصية النبيلة الممتازة.
عبد القدوس الأنصاري(671/46)
الكتب
ثورة سنة 1919
(للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)
منذ سبع وعشرين سنة زلزلت أرض مصر بثورة انفجر فيها غضبها مما نزل بها، وجاش فيها تيار وطنيتها بعد أن عب عبابه ثم اندفع ذياداً عن كرمتها؛ وقد كان هذا الحادث العظيم من مفاخر مصر التي تبقى على وجه الدهر صفحة مجيدة يزدهي بها كتاب جهادها.
وقد كان كل مصري يود لو ينهض لتأريخ هذه الثورة عالم ثبت يحصي كل ما ذهب فيها من ضحايا وخسائر، ويسجل ما عانته البلاد في سبيلها من مشقات وشدائد، عادل نزيه يتولى درسها وتحليل أحداثها بروح الحق والإنصاف، فلا يستمليه هوى، ولا يلوي به أرب.
وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدور أبناء مصر هذا الزمن الطويل، حتى ظهر في هذه الأيام كتاب قيم في جزأين كبيرين يؤرخ هذه الثورة الشاملة من قلم رجل أجمعت الأمة على صدق وطنيته وسعة إدراكه وعظيم جهده، ذلك هو الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك الذي توفر منذ عشرين سنة على دراسة الحركة القومية من فجر انبعاثها في العصر الحديث، وأخرج في تأريخها تسعة مجلدات غير هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، جعلها سلسلة متصلة الحلقات تؤرخ كل حلقة منها فترة من هذه الحركة أصدق تأريخ وأوفاه، حتى لقد أصبحت هذه المجلدات النفيسة أوثق الأسانيد وأصحها لتاريخ مصر الحديث
قال مؤرخنا الجليل في كتابه الحديث: (إنه عرض وتأريخ لثورة سنة 1919 أعرضها وأؤرخها كما أرخت الثورة العرابية من قبل، فهما ثورتان متعاقبتان في تاريخ مصر الحديث تتشابهان في الأغراض والمقاصد، وإن كانت الثانية تفضل الأولى في النتائج)
ولما كانت هذه الثورة قد شبت عقب الحرب العالمية الأولى، فقد مهد المؤلف بصدر صالح من القول فيما كانت عليه مصر أثناء هذه الحرب من سنة (1914 - 1919) وما أصابها في هذه الفترة من فرض الحماية البريطانية، وإعلان الأحكام العرفية، والرقابة الصحفية، ووقف الجمعية التشريعية، واضطهاد الحركة الوطنية، وتشتيت شمل رجال الحزب الوطني الذين كانوا يقومون وحدهم حينئذ بهذه الحركة، وذلك بالاعتقال والنفي، وعدَّد ما استولت(671/47)
عليه السلطات الإنجليزية من مؤن ورجال ودواب وما إلى ذلك مما يطول القول فيه. وفي الفصل الثاني استقصى كل الأسباب التي بعثت على الثورة من سياسية واقتصادية واجتماعية، ورجع بها إلى سنين خلت. وبعد أن فصل القول في ذلك تفصيلاً قال: إن تأليف الوفد المصري قد جاء معجلاً لظهور هذه الثورة، ذلك بأن أعضاءه لما لم يذعنوا للإنذار البريطاني الذي يقضي بالا يجعلوا الحماية موضع مفاوضة، وألا يعرقلوا تأليف وزارة تخلف وزارة رشدي باشا ألقي القبض عليهم واعتقلوا (فكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت نار الثورة).
ثم مضى بعد ذلك يتحدث عن هذه الثورة التي شملت البلاد جميعاً مدنها وقراها، وعمت أهلها أفرادها وجماعاتها، وأسند حديثه بإحصاء دقيق لكل ما حاق بالبلاد من الفظائع التي اتخذها الإنجليز لقمعها، وشرح المحاكمات التي قضت بالقتل على المئين ممن اشتركوا فيها. ثم أنشأ يتكلم عن لجنة ملنر وما قوبلت به من إعراض الأمة ومقاطعتها إياها، ثم اضطرارها إلى مفاوضة الوفد المصري الذي كانت تتجاهله ولا تعترف به، وأفاض في القول عن مراحل هذه المفاوضة واستشارة الأمة في المشروع الذي انتهت إليه، ثم ما جرى بعد ذلك فيها إلى أن انتهى أمرها.
وعقد الفصل الأخير للكلام عما أدت إليه هذه الثورة وهل نجحت؟ وفيم كان نجاحها؟ وهو فصل ممتع يمتد بنا نفس القول لو عرضنا لتلخيص ما اشتمل عليه من تحليل عميق واستنباط سديد. ثم ختم الكتاب بوثائق قيمة منها عهود الإنجليز باحترام استقلال مصر ووعودها بالجلاء، وقد بلغت ستين عهداً ووعداً، ومنها معاهدة الآستانة المؤرخة 29 أكتوبر سنة 1888.
هذا عرض موجز ألممنا فيه بأطراف مما جاء في كتاب (ثورة سنة 1919). ولو كان الأمر لنا لأشبعنا القول في كل فصوله القيمة، ولكن صفحات الرسالة الغراء تحول الآن بيننا وبين ما نريد. ولعلنا - بهذه الكلمة الصغيرة - نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا من تنويه وتقدير لمؤرخ العصر الحديث الذي قضى من عمره المبارك ما قضى في خدمة بلاده عملاً وتأليفاً، وكان من أقطاب هذه الثورة، وممن وقع عليهم من المحتلين من قبل شبوبها عنت الجور والإرهاق وظلم السجن والاعتقال. سدد الله خطاه، ووفقه في كل ما يتولاه.(671/48)
محمود أبو رية(671/49)
القصص
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
بقلم الدكتور محمد غلاب
1 - الاسوداد:
20 مايو
لماذا أنا مهتاجة ومحزونة؟ لماذا قلبي مفعم باسوداد بشع كما كانت تقول الأم (ملكة الملائكة) في ذلك الوقت السعيد الذي لم أكن مشغولة فيه إلا بشواغل فتيات الدير، والذي لم أكن فيه متزوجة، ولا. . . ماذا كنت سأكتب؟ إن كل سروري اليوم ينحصر في أني أم. كل سروري اليوم هو عزيزي الذي يبلغ من العمر تسعة عشر شهراً، إنه هو (رينيهي) الصغير.
إن الأم (ملكة الملائكة) كانت قد وضعت هذا الاسم أي (الاسوداد) لتنعت به الأشياء المتوجة الثقيلة المظلمة التي تضغط على القلب دون أن يعرف أحد مم جاءت، ولاماهي، ولكنها كانت أيضا قد ابتدعت برنامجاً لمحاربة هذا الاسوداد وهو أن يعتزل الإنسان الناس ويأوي منفرداً إلى غرفته، وفي يده قلم وورقة بيضاء، وأن ينظر بعناية إلى أعماق نفسه، فبفضل إدمان هذا الامتحان يصل الإنسان دائماً إلى اكتشاف ذلك الاسوداد مختبئاً في زاوية من زوايا قلبه. ومعنى أن جميع الأسباب الغامضة التي عنها ينشأ الحزن ستنتهي بأن تتكشف يوما ما، إذ كلما يلمح الإنسان سببا من هذه الأسباب يقيده في تلك الورقة بقدر ما يتيسر له من إيضاح ونظام، فإذا ما تمت كتابة هذه النقط وجب على ذلك المخزون أن يتأمل فيه جميعها في شيء من التفصيل. ولقد كنا نفعل ذلك كلما ألم بنا الحزن، وكنا نجتهد دائماً في أن نجد الدواء لكل اسوداد، وإلا فقد كنا نوطن النفس على الاحتمال، وكانت هذه العملية دائماً تنجح في إعادة الهدوء والتفاؤل إلى النفوس.
واحر قلباه! إني بقدر ما أخطو في الحياة المستقلة التي يدعونها بالحياة الزوجية ألمح أن هذه الحياة عابثة ومليئة بالضعف والبؤس، وليس لهذا من سبب إلا أنني لم أعد أتمسك(671/50)
بتلك الالتزامات الحكيمة التي تلقيتها في الدير، ولو أن مثيلاتي من السيدات (الأرستقراطيات) استطعن أن ينقلن تلك النصائح النفيسة إلى حياتهن الاجتماعية والزوجية لخلقن من أنفسهن نساء قويات.
ولكن الوقت لم يضع لم أراد أن يعمل خيراً كما يقول المثل. فلنحاول تجربة دواء الأم (ملكة الملائكة) ولأطبقه على حالتي الخاصة.
أنا (جينيفييف أوليفيه) تلميذة الدير سابقاً، و (الكونتيس دي بواستيل) اليوم والتي تبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً وقد مضى على زواجها ثلاثة أعوام، وهي متمتعة الآن بحب طفل تعبده، وبزوج خبيث وفاتن تعبده أيضا مع الأسف الشديد.
هاهي ذي الورقة البيضاء أمامي، وها أنذى امسك بقلمي وأجلس إلى مكتبي
إن الطفل الآن نائم، وإن مربيته الإنجليزية بجانبه، وإن (راءول) زوجي في النادي (في الساعة الثالثة بعد الظهر وفي يوم الأحد. . .! وعلى كل حال فلنصدق ذلك مؤقتاً) ولكن الذي لاشك فيه هو أنه لن يعكر علي صفوي أحد قبل مضي ساعتين، فلنبتدئ:
أنواع الاسوداد التي في نفسي الآن:
(أ) إن هذا اليوم هو يوم الأحد، وهو عندي يوم حزين ولاسيما في الساعات التي تفصل بين الغداء والعشاء، وفوق ذلك فإن الطقس حار جداً، وأنا حينما تشتد الحرارة أحس كأني لا أحيا في الوجود.
(ب) إن بشفة طفلي دملاً صغيراً؛ وعلى العموم إن هذا الطفل يقلقني منذ أسبوع لأنني ألاحظ أنه ممتقع قليلا، ودرجة الحرارة عنده تتخطى الحد الطبيعي، ومربيته تقول: إنه لا ينام نوماً هادئاً.
(جـ) إن (وايت فيرن) لم يفلح في صنع ملابس السفر التي كان يخيطها لي بالرغم من محاولاته المتكررة، وبعد عشر تجارب بعثها اليوم إلي قبل أن أستيقظ من نومي، ولاشك أنه فعل ذلك متعمداً لكي لا أجربها فألاحظ أخطاءها الجديدة وأعيدها مع العامل. وإنني في هذه الملابس مرعبة ومضحكة فعندما ألبسها أظهر كأنني أمثل دور سائق العربة في إحدى روايات (البولفار الهزلية). ولا ريب أن هذا الأمر سخيف لأن رحيلي إلى (تالوار) سيؤجل.(671/51)
(د) وأخيراً؛ إن الاسوداد الحقيقي الذي يملأ نفسي، والذي هو جدير بأن يعد كنتيجة للتفكير الطويل هو أنني غيورة، وغيورة بصورة مزعجة. ولكنها ليست غيرة غبية حمقاء بلا مبرر إلا التلذذ بعذابي وعذاب زوجي. كلا بل إن لدي أسباباً قوية ومبررات قيمة لهذه الغيرة.
فقبل كل شيء لم يعد (راءول) يحبني، ومع ذلك فلو أني مت لسبَّب له موتي حزناً. غير أني أعتقد أن عاطفته نحوي تقف عند هذا الحد، إذ أن من الواضح أني أضايقه، وأنه يتمنى أن يكون حيث لا أكون (أنا أجرح قلبي بيدي عندما أكتب هذه الكلمات، ولكن الطريقة محددة، وهي أن من أراد أن يكتنه الاسوداد الذي في نفسه، فعليه أن يكون صريحاً ومخلصاً إلى حد القسوة). من فظائع الأمور ألا تروق المرأة زوجها، ولكن ليس هذا كل شيء، فراءول يروقه شيء آخر في الخارج
أوه! أنا لا أدري بالضبط من هي تلك التي سلبتنيه، ولا أدري كذلك إلى أي حد أنتزع مني. . . آه لو كنت أدري! غير أن الذي لاشك فيه هو أنه مستلب الآن مني! إن شكوكي تتردد بين آنسة وسيدة شابة! آنسة؟ هل يمكن أن تدعى واحدة من هذا النوع (بآنسة)؟ تلك الكلمة نفسها التي كانت تطلق علينا ونحن في الدير، تطلق علينا نحن الطاهرات البريئات الحبيبات المحفوظات من كل دنس! أما تلك الفتاة فهي الآنسة (لوس دي جيفيرني)، وهي واحدة من هاتيك الشابات الباريسيات اللواتي أفرطن في الحياة الاجتماعية إلى حد الابتذال، واللواتي نقلن إلينا العادات الأمريكية بعد أن جردنها من الكرامة واحترام الذات، لأن الأمريكيات - وإن بدا عليهن المجون والخلاعةـ يعرفن كيف يدافعن عن أنفسهن عند الإحساس بالخطر! إن الآنسة (لوس دي جيفيرني) تخرج للنزهة في المركبة وحدها، وأحياناً يصادفها بعض الناس في معرض رسام مع شاب يشرح لها اللوحات، ومادامت مركبة والدتها الفخمة تنتظرها على باب المعرض، فهذا يكفيها كشهادة حسن سلوكها. وفي المرقص تختار راقصاً على ذوقها، وبعد الرقص تختلي وإياه في زاوية بعيدة عن أعين النظارة ثم تحتفظ به طول السهرة. وفي حفلة أسرة (أفرزاك) أمس الأول كان زوجي هو الذي وقع عليه الاختيار. . . ومع ذلك فقد كان هذا الزوج دهشاً حينما اعترتني النوبة العصبية في المركبة ونحن عائدان إلى المنزل.(671/52)
وكما أن الآنسة (دي جيفيرني) توجد كسحابة في أفق حياتي كذلك تلوح من خلال هذا الأفق سحابة أخرى، وهي (مدام ديلافو) زوجة الرسام، وهي سمانة صغيرة، شقراء بيضاء مشربة بحمرة كأنها وردة. إنها لجميلة، بل تخطت حد الجمال
لماذا نستقبل في طبقتنا أشخاصاً ليسوا منا في شيء كديلافو وزوجته وأمثالهما الذين كانوا قبل أن نرفعهم إلى صفنا يتناولون طعامهم في حوانيت الجبن والزبدة، ويرقصون في المراقص العامة، ويعملون كصناع في معارض الرسامين. من أين جاء هذا الرجل بزوجته هذه؟ يخيل إلي أنه طالما اتخذها نموذجاً لصوره زمناً طويلاً قبل أن يتزوج بها، وأن حياتهما معاً سبقت عهد زواجهما بوقت غير قصير. غير أنهما قد استُقبلا في عالمنا الأرستقراطي، لأن الزوج موهوب وحاضر النكتة، وقد أصبح ثريا، ولأن زوجته جميلة إلى حد أنها تستطيع - بلمسة أو بإيماءة - أن تسحر الرجال فتحولهم إلى حيوانات. إنها أغرت زوجي وليس هذا بغريب، فكل النساء يحاولن إغراءه. أيها الإله! لقد كنت أتمنى أن يكون زوجي أقل فتنة منه الآن، ولو كان كذلك لكان حبي إياه مساوياً لحبي الحاضر، ولكانت محاولة سلبه مني أقل مما أعانيه الآن.
ظلت إذاً مادام لافو نحو خمسة عشر يوما تحاول إغراء زوجي كما تفعل معه النساء الأخريات، وقد كان (راءول) أثناء هذه الأيام يظهر عليه الافتتان والسرور، ولكنهما لم يلبثا أن غيرا خطتهما فلم يعودا يتحدثان معاً كأن القطيعة قد تمت بينهما؛ أما أنا فحين رأيت هذه القطيعة الظاهرية كنت أشبه شيء بالحيوان غباوة وبلادة، وأخذت أحس بالسرور وأقول في نفسي: أية سعادة! إنهما لم يتحابا قط، وإنني كنت مخدوعة في هذه الريبة.
غير أن والدتي التي كانت دائماً بعيدة النظر وكانت هي التي تنبئني قبل كل إنسان بما يفعل راءول معي من شر، وتفهمني متى ينبغي أن أغضب، قالت لي: احترسي، إنهما لم يعودا يتضاحكان أمام الناس كما كانا يفعلان قبل الآن، ومعنى هذا أنهما يستعيضان عن ذلك في مكان آخر فراقبي زوجك.
وعلى أثر هذه النصيحة ألقيت على والدتي هذا السؤال:
- إذا فليس هذا الإغراء متجهاً إلى الآنسة جيفيرني. . .؟
- واحترسي أيضا من جيفيرني.(671/53)
ونتيجة هذا كله أنني أتألم ألماً مزعجاً!
هذه هي مجموعة الاسوداد التي تحتل نفسي، وإنني لا ألمح غيرها، فلأمر يتعلق الآن بمناقشة هذه النقط وبمحوها إذا كان ذلك مستطاعاً. وسوف لا أقف طويلا عند النقطة الأولى، فيوم الأحد وحرارة الطقس، هاتان ظاهرتان يمكن إسنادهما إلى القدر، والتخلص منهما سهل، فأما الحرارة فإني أستطيع أن أتقيها بالأمر بإغلاق النوافذ المعرضة للشمس، وأما بقية نهار الأحد فإني أستطيع أن أقضيها في الكنيسة بالاستمتاع إلى الأناشيد الدينية، وفي هذا خير شاغل للوقت ومنسٍ للضجر.
أما النقطة الثانية أو الاسوداد الثاني وهو توعك الطفل فإن الدكتور (أرنو) أعلن أنه لا يوجد لديه ما يخيف، ومع ذلك فلما كان وباء الجدري منتشراً في المدينة فقد اعتزمت أن أكتب إلى الدكتور. . . (روبان) الذي لي فيه كبير الثقة لأرجوه أن يجيء غداً لفحصه.
أما الاسوداد الثالث - وهو الملابس التي فسدت - فسأتخلص منها بردها إلى (وايت فيرن) وسأنبئه بأنني لن أحتفظ بها، وإنني مستعدة لقبول الشروع في غيرها، وفي مدة خمسة أيام ستكون أخرى قد أعدت، وبناء على ذلك فلن يتأخر سفري إلى تالوار مطلقاً. وبعد هذا كله لم يبق إلا الاسوداد الأساسي، وهو زوجي أو (راءولي) الخبيث.
أيتها الأم الخيرة (ملكة الملائكة) ألهميني في هذا الموقف أن أكون زوجة متعقلة ومتدينة. أنت تفهمين تماما أنني لا أستطيع أن أقبل بسرور أن أكون مهجورة من أجل امرأة كمدام ديلافو أو فتاة كالآنسة (جيفيرني) ولاسيما أني لا أجد في نفسي ما أستحق عليه التأنيب، إذ أنني أحب (راءول) ولا أفكر إلا فيه، وفوق ذلك فأنا لست دميمة، بل إني أؤكد لك أيتها الأم أن كثيراً من الشبان قد حاولوا إغرائي منذ اندمجت في المجتمع فلم يفلح واحد منهم في ذلك مطلقاً، فهل من العدالة أنه بقدر ما يحس أنني ملكة يمعن في ألا يكترث بي؟. وهل ينبغي إذاً ألا أشعره بحناني نحوه، وأن ألهب غيرته على نحو ما هو مألوف في المهازل التمثيلية؟ كم هذا يقززني! كلا، كلا. أنا لن أقف نفسي - ولو في الظاهر - موقف المرأة الساقطة، لكي أجتذب حب زوجي. غاية ما في الأمر أنا أعتقد أن من الحكمة أن أراقب قلبي وأن أفهم (راءول) حزني، ولكن لا بواسطة الدموع، بل عن طريق السكوت وتجنب مظاهر المودة. ولا ريب أن هذا سيكلفني كثيراً، وسيكون شاقاً على نفسي، ومع ذلك فهو(671/54)
الذي ينبغي عمله. سأعامل زوجي منذ اليوم بفتور وبخضوع فحسب. والآن، ماذا أستطيع أن أعمل ضد عدوتي اللدودتين: الآنسة (دي جيفيرني) و (مدام ديلافو)؟. أنا لا أريد أن أمثل معهما رواية عامة طبعاً، وفوق ذلك، فإن (راءول) - على الرغم من صلته الشائكة بهاتين المخلوقتين - لا يزال زوجاً مهذباً، لا يؤخذ عليه شيء في كل ما يتصل بي. ولو أنني أردت أن أمثل منظراً عاماً من هذه الرواية لما مكنني من فرصة تمثيله. وإذاً، فلم يبق لي إلا أن أحتمل؛ ولكن كلا، فأنا لا أستطيع ذلك الاحتمال لأني لست بطلة إلى الحد الذي أقبل معه أن يخدعني زوجي. ولست أحسب أن الإله يكلفني ذلك، فإن لي الحق في أمانة زوجي، فإذا لم تتحقق لي هذه الأمانة فإنني أفضل أن أحيا وحيدة مع طفلي العزيز الذي قد يعزيني عما أقاسيه.
ها أنذى قد صممت على أن أعرف الحقيقة، فإذا كانت شديدة القسوة فإنني سأرجو من والدتي أن تصحبني وطفلي إلى ممتلكاتنا في الريف لنعيش معاً هناك، ولكن كيف أعرف هذه الحقيقة؟
لقد تسلمت منذ أيام كتاباً وارداً باسمي ففضضته أمام زوجي ولم أكن أعرف ماذا يحتويه فإذا به آت من مكتب البوليس الخاص يعرض علي أن يراقب زوجي إذا أردت ذلك ليرى أله صلة خفية بإحدى السيدات أم لا؟ وبعد أن قرأت هذه الرسالة ناولت زوجي إياها فألقى عليها نظرة مقززة، ثم دعكها وقذف بها إلى الأرض؛ ولقد كان مخطئا في هذا الغضب، لأني لن الجأ أبداً إلى مثل هذه الطريقة؛ ولكني سأرقبه بنفسي كما يراقب القائد الجندي المتهم بأن نفسه تحدثه بالتفريط في واجبه العسكري. نعم إنه ليس لديه ما يخشاه مني من حيث فض رسائله أو تفتيش أدراج مكتبه، ولكن مادام للمرأة أن تتبع زوجها في أي مكان، ومادام ليس للرجل أن يذهب إلى أي موضع دون أن يصطحب زوجته فليحذر هذه النتيجة، إذ قد يذهب يوما من الأيام ملبياً أحد مواعيده، سعيداً بإحدى تلك المسرات الرديئة التي أقرئها في عينيه أوفي صوته، أو في حركاته، فإذا وصل إلى مكان هذا الموعد ألفاني هناك ووقف أمامي وجهاً لوجه.
هاهي ذي نهاية تفكيري، وهي لم تعزني، ولكنها هدأتني قليلاً، وسأغادر اللحظة مكتبي لأنظر هنيهة من نافذة غرفتي المطلة على الطنف، لأنني أريد أن أتنسم هواء المساء(671/55)
الرطيب؛ فلقد فكرت طويلاً والآن قد احتجبت الشمس خلف أشجار الكافور التي تنتصب في حديقة المنزل كأنها سور عظيم. وعندما تختفي الشمس من الحديقة يسود جوها هواء فاتر لذيذ. إن الطقس الآن بديع، وإن هذه الحديقة وذلك المنزل من النوادر التي يحسد عليها في وسط باريس. كم لدي من الأسباب الظاهرية ما يجعلني أتذوق الحياة وأسعد بها: أسرة عطوفة، وزوج رشيق، وطفل محبوب، وفوق ذلك كليه فجميع رغباتي محققة. آه! لو أن العينين الزرقاوين والعينين السوداوين لم تكن موجودة لكنت أعبد الحياة!
أنا لست شريرة، ولكن لو أنني كنت أستطيع أن أطفئ نور هذه الأعين الأربع بهدوء دون أن أولم صاحبتيها، ودون أن أحزن الذين يحبونهما، وأقصد طبعاً الذين لهم الحق في حبهما لفعلت!
(يتبع)
محمد غلاب(671/56)
العدد 672 - بتاريخ: 20 - 05 - 1946(/)
آفة الشرق هذا الغرب!
يخيل إلي من هول ما أسمع وأرى أن هذا الغرب قد مسخ حوتاً من حيتان الأساطير له رؤوس أربعة قد فغر أفواهها جميعاً على الساحلين الأفريقي والأسيوي، يريد أن يطبق فكوكها على العالم العربي بأسره، وإنما عوق هذه الحلاقيم عن الازدراد هذا الخلاف الصاخب بين تلك الرؤوس على الاقتسام كيف يكون، وعلى الالتقام متى يبدأ! وإذا تصورت أفواج السمك حين يسوقها التيار إلى شبكة الحوت فتجزع وتضطرب؛ تصورت أمم الشرق الصغيرة وقد روعها هذا الوحش الهائل وهي وادعة في ظلال دينها، قانعة بحلال الرزق من أرضها، فتنظر إليه نظر المقضي عليه، تستنجد بالعهود فلا تنجد، وتستغيث بالمواثيق فلا تغاث، وترى بين منخري الحوت تشرشل جالساً وقد انقلب سيجاره الفخم بين شفتيه مدفعاً ضخما يقذف بالحمم السود على أرض (العلمين) وعلى ظهرها وبفضلها كتب الله له المجد ولشبعه السلامة!
تشرشل هذا الذي وقف ذات يوم على الساحل البريطاني يستقبل الهزيمة الساحقة الماحقة من دنكرك وقلبه واجف ودمعه واكف، يضرع إلى الله أن يثبت قدميه العجوزين المتخاذلتين أمام الإعصار النازي الجارف ليعيد نعمة الحرية إلى الناس، ويقيم ميزان العدالة في الأرض؛ فلما تمت له المعجزة، وقتل هتلر كما قتلت البعوضة النمرود، قام اليوم يدعو أمريكا إلى شركة أخوية بين الناطقين باللغة الإنجليزية تصوب أسهمها المراشة إلى كل دولة تطلب المساواة، وإلى كل أمة تريد التحرر، لأن الذي ورث ملكوت هتلر وسلطانه، يجب أن يرث كذلك عنصريته وطغيانه!
تشرشل هذا الذي كان كلما لكمه هتلر بجمع يده الحديدية لكمة الموت، خر فاقد القوة والوعي كالثور المنزوف، فيدركه المرحوم روزفلت، فيجلسه ويسنده، ويمسح الدم عن وجهه، وينفض التراب عن جسمه، ثم ينضحه بالماء حتى يفيق. فإذا أفاق قام مترنحاً إلى الكنيسة يصلي، أو إلى المذياع يستغيث، أو إلى مجلس العموم يبكي، أو إلى البيت الأبيض يستجدي، أو إلى المحيط الأطلسي يستوحي السماء رسالة العدالة الاجتماعية فتنزل عليه ألواحها المزيفة من سجيل؛ هذا الرجل الذي نجا لأن عمره طويل، وانتصر لأن جهده قليل، يتبجح اليوم بالعصبية والإمبراطورية والدومنيون، ويألم أشد الألم لأن وزارة العمال قررت إجلاء الجنود الإنجليزية عن مصر بعد أربع وستين عاماً جثمت فيها على صدرها(672/1)
المكروب، فلا تنسم إلا كما ينسم المحتضر، ولا تتحرك إلا كما يتحرك المبهوظ؛ والمستر تشرشل يعلم كما يعلم كل الناس لماذا دخلوها، وكيف احتلوها، وكم سجلت مضابط برلمانهم العتيق وعود أسلافه بالجلاء عن بلد لم يملكوه بالفتح ولا بالإرث ولا بالهبة، وإنما فرضوا لأنفسهم عليه (حق ارتفاق) بالمرور، ثم جعلوا احتلاله واجباً لحماية هذا (الحق)! ثم اختلفت الأسماء على هذا الاحتلال، من الاستعمار المقنع، إلى الحماية السافرة، إلى الاستقلال الصوري، إلى الصداقة الجبرية؛ ولكن المسمى ظل في جميع هذه الحالات واحدا، وهو الوزير الذي يأمر في (دوننج ستريت)، والسفير الذي ينفذ في (قصر الدبارة)، والأسطول الذي يهدد في (مالطة)!!
حتى غيرت هذه الحرب الدنيا، فتغيرت عقول الناس، وتبدلت وسائل النقل، واختلفت أسلحة القتال، وتغلبت مبادئ الاشتراكية، وتأصلت فكرة الحرية، واستحيا بنو آدم أن يظلوا على شريعة الوحوش يحكمون الأظفار والأنياب فيما يشجر بينهم من خلاف؛ فاتخذوا (ميثاقا) للأمم، وألفوا مجلساً للأمن، وأقاموا محكمة للعدل، وطمعوا أن يقيموا العالم الجديد على هذه القواعد؛ ولكن تشرشل وسائر المحافظين لم يكونوا جادين يوم نادوا مع ترومان وستالين بهذه المبادئ، لأنهم مطمئنون إلى براعتهم في مماطلة الموت كلما طلع عليهم بمنجله الرهيب! ومن يدري! لعل الموت الذري في زيارته القادمة لا يقبل من المخادعين بعد ذلك مطلا ولا ختلا ولا فدية!
لقد كان الشعب الإنجليزي بعيد النظر سديد الرأي حين دهور تشرشل وإيدن وأعوانهما عن كراسي الحكم في صبيحة يوم النصر؛ فإن من انتصر بالسيف لا يصالح إلا بالسيف، ومن عشش الاستعمار في رأسه وفرخ في نفسه لا يستطيع أن يؤمن بالديمقراطية والحرية إيماناً يحمله على أن يحبهما في نفسه وفي غيره، ويرجوهما لصديقه ولعدوه!
على أن عذر تشرشل في موقفه من مصر ومن غيرها ناهض؛ فإن الرجل ربيب العسكرية والاستعمار منذ درج؛ ولكنك تكلف العقل شططا إذا حاولت أن تجد بعض العذر لموقف ترومان الرجل الشعبي من فلسطين!! لقد دس أنفه في هذه القضية دساً، لأن المقادير شاءت أن يكون له في قضايا العالم رأي! فهل فغمت أنفه رائحة العدل فيها، أم سطع في خيشومه عبير الذهب الصهيوني وهو يفيد في الانتخابات والدعايات، وينفع في الحروب والملمات؟(672/2)
وماذا يضر إذا نافس الأمريكان الإنجليز في إرضاء اليهود على حساب العرب ما دام الأمر لا يكلفهم إلا إيفاد (لجنة) تبحث وتحقق، ثم إرسال (حملة) تنفذ وتطبق؟ أما فلسطين فحسبها من العيوب والذنوب أنها شرقية، وأنها عربية، وأنها مسلمة، فلم لا تكون مشاعاً بين أهل الديانات الثلاث، ثم تقطع إقطاعاً ليهود القارات الخمس؟ ولا تسل بعد ذلك عن حرية الشعوب وحرمة الأوطان وقدسية الحقوق، فإن ذلك كلام كان يقرر ويكرر وسيف هتلر مصلت على الأعناق، وكابوس النازية جاثم على الصدور!
واستالين، ما شأنه والوصاية على طرابلس؟ هل كان يظن أن إنجلترا تترك مفتاح (كرارها) في يد القط؟ إنها ترضى إذا حيل بينها وبينها أن تعود إلى إيطاليا، لأن إيطاليا ريح لا تثير الغبار، وحصى لا يعوق السائر! فإذا سألت هؤلاء الذين يحكمون ويقسمون: لماذا تردون المسلوب إلى سالبه، ولا تردونه إلى صاحبه؟ أجابوك جواب المستعمر الخبير: إنا إذا أعدنا طرابلس إلى أهلها خرجت برقة من قبضة بريطانيا، وأفلتت تونس والجزائر ومراكش من ربقة فرنسا. وجعلها في وصاية الجامعة العربية لا يختلف عن استقلالها في الخطر الذي يهدد الجامعة الغربية؛ لأن الشرق ما دام سوقاً للاستعمار ظلت سلعه المباركة موضع المقايضة والمعاوضة! فإذا حررت رقاب العبيد، وأغلقت سوق الرق، انقلب المستعمرون إلى ديارهم خاسرين يقتل بعضهم بعضاً من الخوف، ويأكل بعضهم بعضاً من الجوع! والرد الذي تقتنع به عقلية الغرب، إنما هو مجابهة العدوان بالعدوان، ومواجهة القوة بالقوة. وليست الإشارة هنا إلى العدوان والقوة من القول الجزاف؛ فإن قوتنا الفكرية متى ذهب عنها مركب النقص الذي اعتراها من طول ما ضامها المستبد وسامها الدخيل، استطعنا أن نقول صادقين لأي أمة من أمم الأرض: لقد اجتمع رجالنا برجالكم في مؤتمر الميثاق وفي مجلس الأمن، فهل وجدتم في عباقرة أوربا وجهابذة أمريكا من يفوق عبد الحميد بدوي، أو محمود حسن، أو حافظ عفيفي مثلا، في رسوخ القدم في القانون، وأصالة الرأي في المشورة، ومتانة الحجة في الجدل، ومقطع الصواب في الحكم؟ وأما القوة المادية، فالعدد وفر، والإيمان صدق، والرأي جميع، والعروة وثيقة. فإذا أعوزتنا الوسائل تبرع بها من يترقب هذه الفرصة ليكيد، ويستعجل هذا اليوم ليستفيد!
أحمد حسن الزيات(672/3)
2 - في مقالين:
حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا
بينت في كلمتي السابقة في العدد 670 من مجلة الرسالة ما ينجم من اقتراح حضرة الأستاذ مدير المجلة الذي تقدم فيه إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بإلغاء التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، وإلغاء سنتين من مدة التعليم بالمعاهد الثانوية لأزهرية، وإحلال اللغات الأجنبية وعلوم الرياضة والكيمياء والطبيعة محل علوم اللغة العربية، ومحل علوم التفسير والحديث والفقه والتوحيد التي يدرسها الطالب الأزهري في مدة التعليم بالقسم الابتدائي، وفي السنتين المطلوب إلغاؤهما من القسم الثانوي.
وقلت إن هذه السنوات الست المطلوب إسقاطها من زمن تعليم العلوم الدينية والعربية في المعاهد الدينية تعدل نصف المدة التي كانت - إلى زمن بعيد - تؤهل الطالب لنيل شهادة العالمية وألمحت إلى ما يكون لهذا الحل المقترح من أثر سيئ في حياة اللغة العربية: إذ تهن قواها، ويقف نموها، ويضعف نتاجها، ويضؤل محصولها، وتفسد حاسة الذوق اللغوي في أهلها. ذلك إلى ما يستتبعه الاقتراح من تضييع حصص الدين المقررة في ست سنين وإلغاء حفظ القرآن، وفقد حفاظه، فتغلق أبوابه في وجوه المسلمين، ويحجب نوره عن قلوب المؤمنين وتنطمس معالم هدايته فلا ترى للمستهدين، وتستخفي عن الناس حجة الله على العالمين.
ولقد طلبت من الأستاذين الفاضلين أن يعيدا النظر فيما ارتأياه ويراجعا الرأي فيما اقترحاه، لعلهما يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر صلاح ورشد، ونجاة وقصد، فيوافيا القراء به. بيد أن ما طلعت به الرسالة علينا العدد 670 تحت عنوان (إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته) جاء ترجيعا لما ارتآه الأستاذ أولا، محاولاً فيه أن يوضح ما ظن أنه أشكل من جوانب رأيه على من سماهم معارضين للاقتراح؛ وأباة للإصلاح، مستعيناً بسحر فنه، يبغي منه أن يرسم له تلك الحقائق الملموسة، والآثار الثابتة المحسوسة، والنتائج البينة(672/5)
اللازمة للاقتراح، والتي لا يخطئ في إدراكها حدس، ولا ترتاب في وجودها نفس، إلا من يرتاب في وجود الظلام بعد مغيب الشمس - فيصور لك هذه الحقائق ظلا حائلا، وخيالا ماثلا، ووهما باطلا!
فهذه السنوات الست التي يراد اقتطاعها من المدة المقدرة للتعليم في المعاهد الدينية ليست نصف اثنتي عشرة سنة كانت قبل كافية لنيل الطالب المجد شهادة العالمية! وليس لها أثر يذكر في إعداد الطالب وتزويده بزاد نافع من الشريعة ومن علوم اللغة العربية؟ ومن ذا يقول إن الستة نصف الإثني عشر؟!
وكيف يزعم زاعم أن هذا الحل الحاسم الذي ارتضاه الأستاذ العقاد يستلزم إلغاء حفظ القرآن، أو يسلب الطالب الذي يريد أن يلحق بالمعاهد ست سنوات أخرى كان يقضيها في حفظ القرآن استعداداً لقبوله بالمعاهد - كيف؟ وهذا الحل الحاسم يعطي الطالب فرصة واسعة يستطيع أن يحفظ فيها القرآن، وأن يحفظ غير القرآن من المتون التي لا بد من حفظها لتحصيل ما لابد منه من المسائل الدينية واللغوية؟
ألم يأذن له هذا الحل بثلاث سنين كاملة من خمس السنين التي للقسم الذي كان يدعي أمس (القسم الثانوي)؟
أو ليس في هذه السنوات الثلاث وفاء بما يلزم له من الوقت لدراسة مواد الثقافة المقررة على أمثاله في الشعب التوجيهية بمدارس وزارة المعارف حتى يتم للأمة بهذه الدراسة الحصول على حجر الفلاسفة، فتقبض بكلتا يديها على حقيقة الحقائق، ووحدة الوحدات؛ وحدة الثقافة!
أو ليس في هذه السنوات الثلاث بعد متسع لتحصيل الطالب ما تشتد حاجته إليه من علوم اللغة، وقواعد الدين وفروع الشريعة ليصير أهلا للدراسة العالمية في كليات الأزهر، وسيكون أهلا للاجتهاد (حتى لا يظل الأزهر كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!)
ثم إن لم يكن في هذه الثلاث السنين بلاغ إلى الزاد، الذي يوصله إلى مرتبة الاجتهاد! ولم يجد الطالب فيها بديلا من الست السنوات التي سلبها، وكان يحفظ فيها القرآن قبل التحاقه بالأزهر ومعاهده - فهل تظن أن النظام المقترح يكلفه طائلا أو يجشمه أمراً هائلا؛ أو أنه(672/6)
يعدل به عن قصد السبيل ويسلك به طريقا جائرا، يظل فيه عمره حائرا، يهيم في أودية الظلال، ويخبط بين شعب الخيال، لا يجد دليلا، ولا يهتدي سبيلا؟. . . كلا!
أليس للأزهر الحق في أن يزيد في زمن الدراسة بالقسم الثانوية منه سنة أو سنتين أو ما شاء أن يزيد من سنين يرى في زيادتها فائدة الطالب، ونجاح التعليم، وتقدم العلم طبقا لمقتضيات التطور العلمي والاجتماعي في هذا العصر الجديد.
ثم هو بعد أن بلغ الحلم، وحصف عقله، مستطيع في يسر أن يحفظ القرآن وهو بحال: يحفظ ما يفهم، ويفهم ما يحفظ.
وهل على الأزهر من بأس في أن يقبل هذا الوضع الجديد الذي يمليه منطق الحوادث، وتقتضيه طبيعة الزمن فيضاف إلى رجليه القديمتين اللتين كان يمشي بهما رجلان أخريان من أرجل الثقافة الموجودة بمصانع وزارة المعارف ليساعد التطور، ويجاري الزمن. وبذلك تتحقق للأمة وحدتها المفقودة، وتنتفع بميزة الإسلام: مرونته، ومسايرته للتطور، ومطاولته للزمان، وذلك من مزاياه المعدودة. ثم لماذا يخاف الأزهر من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعا؛ والأستاذ كفئاً؛ والكتاب مهذباً؛ والمنهاج مستقيماً؛ وتوزيع المواد دقيقاً؛ والإدارة حازمة؛ والمراقبة يقظى.
وأقول إن هذا الذي يذكره الأستاذ حق ولكن:
كيف السبيل إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف
والرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف؟
وهل توافرت هذه الشروط السبعة في مدارس وزارة المعارف وهي أقوى في النظام وحسن الإدارة ويقظة المراقبة؟
لا ريب في أن الأستاذ الزيات يرمي بما كتب إلى غرض جليل، يحمله على الدعوة إليه قصد شريف، ووجدان نبيل. فأما الغرض الذي يرمي إليه فهو إصلاح الأزهر ليتحقق بهذا الإصلاح أمران عظيمان: وحدة الأمة بتوحيد الثقافة، وإنشاء جيل من العلماء القادرين على الاجتهاد، لتجد الأمة في علمهم المثقف ما يحمل مشكلاتها الاجتماعية والعائلية، بما في الشريعة من سماح وما في الدين من يسر. فإصلاح الأزهر هو الوسيلة إلى تحقيق هذين الغرضين الجليلين؛ وما اقترحه مدير الرسالة، وآزره عليه الأستاذ العقاد، هو سبيل(672/7)
الإصلاح المنشود.
1 - وحدة الثقافة:
يرى الأستاذان الجليلان أن وحدة الثقافة؛ أو وحدة الأمة بتوحيد التعليم - كما جاء في تعبيرهم تتم وتتحقق إذا درست العلوم والآداب في الأزهر على النحو الذي تدرس عليه وبالمقدار الذي تدرس به في المدارس الابتدائية والثانوية التابعة لوزارة المعارف.
فأما وحدة الثقافة فإن الأزهر منذ خمسين سنة - على عهد المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده - قد أفسح صدره لما يسمونه اليوم علوم الثقافة: فأدخل فيه علم الحساب والجبر ومبادئ الهندسة وعلم الجغرافيا، والتاريخ، والميقات، والهيئة؛ وعلى الرغم من أن تعلمها كان على سبيل الاختيار فإن الطلاب قد أقبلوا عليها راغبين حتى كادت تعم جميع الطلبة، ولعل الأستاذ الزيات كان ممن استوفوا حظهم منها، ثم أنشأ المغفور له الخديو عباس الثاني معهد الإسكندرية، واختار شيخا له القاضي العادل والمربي الكبير المغفور له الشيخ محمد شاكر فنهض بالمعهد نهوضا فائقا، وجعل تعلم هذه العلوم إجباريا؛ فازدهر معهد الإسكندرية بهذه العلوم إلى جانب علوم الدين واللغة أيما ازدهار. وتطور نظام التعليم في الأزهر: فمنذ سنة 1911 صار تعلم هذه العلوم واجباً على جميع الطلاب. ثم توجهت عناية الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد طيب الله ثراه، حيث وجه عنايته - أغدق الله عليه سحائب رحمته - إلى تنظيم الأزهر وإصلاحه إصلاحا شاملاً يعم ناحيتيه العلمية والمادية: فبسط يده بالعطاء الجزل، وزيد في ميزانية الأزهر زيادة عظيمة، وأنشأ نظام الكليات وأقسام التخصص، وعدلت مناهج التعليم تعديلا يلائم الوضع الجديد، وزيد فيها دراسة علوم الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة وتوسع في مقرر الهندسة، وزيد في مناهج الكليات وأقسام التخصص ما يناسب كلا منها من علوم التربية والفلسفة والتاريخ والاجتماع وأصول القوانين حتى اللغات الأجنبية. وقد كان هذا النظام كفيلا بأن يرقى بالأزهر ويوجد منه علماء أخصائيين لو أنه وجد من يرعاه وينفذه.
ولقد اضطر الأزهر أن يقبل طائعا أو كارها أن يعدل النظام الأساسي للتعليم فيه تعديلا هد من قوته وأوهن من علمه وأضعف من قوة الطالب الأزهري في العلوم الدينية ونقص في حظه منها. فقد كان الطالب الأزهري لا يستحق أن يمنح شهادة العالمية حتى يؤدي امتحانا(672/8)
في علوم الأصول والفقه والبلاغة والتفسير والحديث والتوحيد والمنطق. . .؛ وحتى يجوز هذا الامتحان مجليا! واليوم تدرس هذه العلوم موزعة مجاميع في شعب ثلاث! قبل الأزهر أن تشعب رأسه إلى ثلاث شعب حرصا على تثقيف طلابه ليظل باب الأمل في الحياة العملية مفتوحا أمامهم - ثم يدهشك أن تسمع ذلك الصوت البغيض ينبعث من أبواق السوء في وزارة المعارف يصك سمع الزمان بكلمة (توحيد تخريج المعلم) (وحدة الثقافة) (الطالب الأزهري تنقصه الثقافة) (الأزهر في حاجة إلى الإصلاح) فماذا يبغون من تلك الصيحة؟ وماذا يخفون في هذا النعير؟
إن كانوا يزعمون أن الغرض هو توحيد الثقافة وصولا إلى وحدة الأمة، فالأمر مشكل. فإنا نجد الوزارة ترعى عدة مدارس في ظلال نظم متعددة، وتدير عدة مجاميع من المدارس مختلفة الغاية منوعة الأساليب، متفاوتة الرتب والإعداد؛ فهناك التعليم الأولي، والألزامي، والتعليم الابتدائي والثانوي والعالي؛ والتعليم الصناعي، والتعليم الزراعي، ومنه التعليم المتوسط والتعليم العالي، والتعليم العالي أنواع كثيرة في كليات الآداب، والحقوق، والطب والهندسة، والزراعة، ومعهد التربية وكلية العلوم.
وإعداد الطالب لنوع من هذه غير إعداده لغيره من سائر الأنواع: فإعداد الطالب في التعليم الأولي والإلزامي غير إعداده في التعليم الابتدائي والثانوي. وثقافة هذا غير ثقافة ذاك؛ وثقافة طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ليست كثقافة طلاب المدارس العالية ولا هي كثقافة طلاب المدارس الثانوية، ومناهج التعليم في كل من هذه الأصناف والأنواع غير مناهج الصنف الآخر منها ضرورة السير بالطالب منذ الخطوة الأولى من عمره التعليمي في الطريق الذي هو مستعد لسلوكه في الحياة وإعداده لما هو مستعد له. وهؤلاء الجماهير من الطلاب الذين هم عناصر الحياة في جسم الأمة هم جمهرة الأمة وأعضاؤها العاملون.
فإذا كانت وحدة الأمة متوقفة على وحدة الثقافة؛ وكانت وحدة الثقافة مستحيلة الوجود مع تعدد هذه النظم وتنوع طريقة الإعداد وتفاوت مراتب الثقافة في هذه المدارس التي تعلم أبناء الأمة وتعدهم للحياة - فمتى وكيف تتحقق وحدة الأمة؟ ولماذا لا يكون اختلاف هذه الجماهير في التنشئة والتثقيف، والتكوين الصناعي، والإعداد للحياة الاجتماعية - مؤثراً(672/9)
في وحدة الأمة؛ ثم يكون تعليم اللغة والدين في الأزهر (ولو أخذ الطالب حظه من الثقافة) خطراً على حياة الأمة؛ هادماً لوحدتها.
لقد كان معروفا - وأظن أن الناس ما برحوا يعرفون - أن وحدة الأمة تتحقق بثلاثة أشياء: وحدة الجنس، ووحدة اللغة ووحدة الدين، وأظن أن الأزهر قام بحراسة هذه الوحدات الثلاث أو باثنين منها على الأقل مدة ألف سنة، وبذلك تكون الأمة مدينة له بحفظ وحدتها على الرغم مما تداولها من تسلط الأجانب عليها وعملهم على تفكيك عراها بما كان جديراً أن يمزق وحدتها، ويبدد شملها، فاليوم ينعق الدخلاء بأن الأزهر خطر على الأمة مفرق لوحدتها!؟
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزي سمار
محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا
(الرسالة): يمنعنا من العودة إلى مناقشة الأستاذ الفاضل هذا الأسلوب التهكمي الذي يتراءى التعريض من خلاله وهذا الإلحاح في مسائل تتصل بالزمن والمنهاج بعد أن تركنا ذلك للتطبيق هو من إختصاص الأزهر وحده ثم هذه المقدمات التي سيكرهها الأستاذ على أن تقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان! فإن تفيدها يدعو إلى الكلام في أشياء ليس من البر أن نهتك عنها ستار الماضي لنعرضها إلى سخرية الحاضر. على إن ذلك لن يمنعنا من نشر ما بقي من كلام الأستاذ.(672/10)
بمناسبة (يوم الجلاء)
إبراهيم بك هنانو قال لي. . . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
هذا إنذار أستحلف كل قارئ من قراء الرسالة في الشام أن يحدث به وينشره ثم يحفظه. . . فانه سيجيء يوم تضطره أحداثه أن يعود إليه فيقول: (يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليتنا. . . ويومئذ لا تنفع شيئا (ليت). . . إنها لا ترد ما ذهب، ولا ترجع ما فات!
وهذا أعذار إلى الله، ثم إلى كتاب التاريخ، لئلا يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر، ولم يعل فيها صوت ناطق بحق. . . وإن كتابها وأدباؤها حضروا مولد سنة من (ألعن) سنن إبليس، فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، وتركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دهياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك. . . ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد!
وبعد فقد حدثني صديق لي فقال:
كنت أمس في مجلس، وكنا نتحدث فيما كان (يوم العرض) من (مناظر الكشافات. . . ومنظر الأسيرة. . . والعروس) حديث إنكار وأسف لما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني، وهم فيما نرى أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض، وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النواب: إبراهيم بك هنانو، فرأيته يعرض عن هذا الحديث ويصرف عنه، وانقاد له الحاضرون فضربوا في أحاديث أخرى. . . فلما انفض المجلس خرجت معه، فعاد إلى يوم العرض وخبره، واختصني بهذا الحديث وأذن لي أن أنشره. . . .
قال رعاه الله: إنك لتعجب كيف تم هذا الخزي، وكيف مر على رجال هذا العهد الوطني فلم ينتبهوا له، وأنا أخبرك بسر ما تعجب منه وقعت عليه مصادفة. . . وذلك أني ذهبت قبل العرض بأيام في حاجة لي إلى منزل (فلان) الفرنسي، ومنزله في الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان الكبيران: شارع يوسف العظمة، وشارع كلية الهندسة، فوجدت المنزل كأنه خال، والمتاع مرصوص مربوط، فعل المتهيئ للسفر، وكان النور يسطع من شق باب غرفته، فهممت أن أدخل عليه، فسمعت كلاماً وحديثاً، فانتحيت ناحية أنتظر تمام الحديث،(672/11)
إذ ليس من الأدب أن أدخل على متحدثين، فسقط إلى كلام لا يستطيع المرء أن يغلق أذنيه عن مثله، ولم يكن استراق السمع من عادتي، غير أني وقفت، وقد أدركت أن (فلاناً) هذا، يتحدث مع (رجل. . .) أعرفه من أذناب القوم ومن أعوانهم، وممن رفعوا إلى المناصب العالية، وكانا يتشاكيان الفراق، ويتحدثان وكأنما يتباكيان. ورب كلمات يقطر منها الدمع! ورب حروف هي قلوب تتفطر! ويتذكران الأيام الماضية، وكيف دارت الأيام، وكان من حديث صاحبنا الشامي الذي سمعته مترجماً إلى لغة القلم ولسان الأدب، قوله:
- لئن كتب عليكم أن تذهبوا، فإنكم ستعودون عاجلاً، ثم لا تذهبون أبداً. على أني سأنتقم لكم، وسأعد وحدي العدة لعودتكم. سأصنع في ليالٍ ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. . . سأريكم قوتي. وليست القوة أن تسوق على عدوك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده، فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدس لهم دسيسة في عيد الجلاء. لا أصبر والله حتى ينتهي العيد. إنها فرصة إن لم أغتنمها لم أكد أجد مثلها وأنا أعرف بأهل بلدي، وإن لم يكن دينهم من ديني: إنهم لا يؤتون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جربتم ورأيتم، فما قتلتم منهم مبغضاً لكم إلا ولد عشرة هم أبغض منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلا هدمتم معها ركناً من (انتدابكم) عليهم، ولا أشعلتم النار في حي لهم إلا كانت هذه النار حماسة في قلوبهم عليكم ونار ثورة تتبعكم. ولا يؤخذون بالشبه تلقى عليهم في دينهم، ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفن، وما جئتموهم بكتاب هو في زعمكم هدم لدينهم إلا أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم، فهبوا يدافعون، فإذا أنتم قد قويتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما ينالون بالقوانين التي تبطل قرآنهم، وقد علمتم حينما جربتم أن تأتوهم بالظهير البربري مهذبا ملطفاً لابساً ثوب (قانون الطوائف) ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم، ولا بالأموال التي تشرون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم: لأن من هذه الضمائر ما هو كالموقف (عندهم) لا يباع ولا يشرى ولا يوهب، ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالكم بعصيهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها. . .
فقال له (فلان) الفرنسي:(672/12)
- ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟
- قال: نعم. ولو كنتم قد سمعتممني ما عجزتم. إني آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلا ولجه. إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وألقى الضعف والخلف فيهم، فأفسد عليهم رجولتهم، وأخرب أسرهم، وأجعل جيشهم أخشابا قد شغلت كل خشبة بهواها ولذتها. إني آتيهم من باب (الغريزة الجنسية) الذي لم تدخل منه أمة إلا دخلت جهنم التي تحرقها ولا تخرج منها من بعد أبداً. . .
- قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم، إن تعريض أجسام الشباب والشابات صحة لهم وقوة، فأبوا وقالوا، كلا، إنه تعريض (بالصاد)؟ أما قلنا لهم، إن هذا الحجاب همجية ووحشية، وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر مما صنعت الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل بعد كله إلى شيء!
- قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعت أن أضرب ضربة واحدة ضمنت النجاح، وإني سآتيهم من طريق الوطنية، سأقول: إنه يوم عيد الوطن، عيد الجلاء، عيد الرجال والنساء. . .
قال إبراهيم بك:
ثم دخل داخل فتنحيت عن مكاني، فلم أسمع شيئاً بعد ذلك. فلما حضرت العرض، ورأيت الذي كان، عرفت من أين جاء البلاء. على أن هذا الرجل وأشباهه لم يصنعوا ما صنعوا حباً بفرنسا ولا إخلاصاً لها. إن قلوبهم أضيق من أن تتسع لإخلاص حتى ولو لفرنسا. . . ولكن حباً بأنفسهم، وحرصاً على لذتهم، إنهم يكادون يجنون، إذ يجدون دمشق لا تزال نساؤها مستترات متحجبات، ولا يفتئون يسائلون أن كيف السبيل إلى هتك هذا الحجاب؟ لماذا لا نكون كفرنسا حيث لا تستر عورة، ولا يحجب جمال، ولا يمنع من لذة طالبها؟ لقد احتجوا بالصحة وأن الحجاب ضعف ومرض، فكذبهم كون المتحجبات أصح أجساماً وأقوى وأبعد عن المرض، وأن من السافرات مصابات بالزهري والسيلان وبالتمدن، وأن الحجاب رجعية وتوحش، فلم يصدقهم أحد، فجاءوا هذه المرة فأخذونا على حين غرة وغفلة،(672/13)
وأفادهم أن كان الناس في الفرحة الكبرى، في عيد الجلاء، فقالوا للناس: إنه يوم الفرح، فلتشارك المدارس فيه الأمة، ليظهر الطلاب والطالبات سرورهم، ويعلنوا عاطفتهم ثم ذهبوا فأعدوا هذه (المناظر) التي كانت يوم العرض، كبقعة النجس في ثوب العروس الأبيض. . .
ألا من كان يظن أن مثل هذا يكون في دمشق ولا تزلزل الأرض زلزالها؟ من كان يظن أن الآباء ينسون نخوتهم؟ وهؤلاء النفر من رجال المعارف، وهم الأمناء على الطالبات يضيعون أمانتهم، ويحولون العرض عن وجهته؟ فبعد أن كان للعزة الوطنية وللمجد والنبل، صار للشهوة واللذة والغريزة والجنسية! لقد جعلته هذه المشاهد (مرقصاً)!. . . كل ذلك تقليداً للأجنبي الذي نحتفل اليوم بجلائه عنا، الأجنبي الذي هزم في الحرب ووطئته نعال أعدائه، وقد كان له جيش لجب يزيد ألف ضعف عن هذا الجيش الذي نعرضه، وقد كان له خط ماجينو، وأمة تعد أربعين مليوناً، ومستعمرات. . . فلم يغن عنه جيشه ولا حصونه ولا عدده لما أضاع الأخلاق وفرط بالعفاف.
لا، لا تقولوا: (إنه يوم العيد يجوز فيه ما لا يجوز في غيره) فإن المرأة التي تسقط يوم العيد، كالتي تزل يوم المأتم، والناس يزدرون المرأة (الساقطة) من غير أن يسألوا متى كان سقوطها!
ألا من كان له قلب فليتفطر اليوم أسفاً على الحياء.
من كان له عين فلتبك اليوم دماً على الأخلاق.
من كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عز الوطن، وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان.
فإذا كنت تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر، من ضرورات التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون، وأنكم ستندمون (ولات ساعة مندم) إذا ادلهمت المصائب غدا، وتتالت الأحداث، وتلفتم تفتشون عن حماة الوطن، وذادة الحمى، فلم تجدوا إلا شباباً رخواً ضعيفاً، لا يصلح إلا للرقص والغناء والحب. .
فالله الله، والأمة والمستقبل. . . إننا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات، وهمم(672/14)
تحمل الجبال، فلا تضيعوا هذه العزائم، لا تذهبوا هذه الهمم، ولا تناموا عن حماية استقلالكم فمن نام عن غنمه أكلتها الذئاب.
إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقوها بالشكر والطاعة، واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تبيد وتهلك، إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد، وكذلك تفعل الأمم الحية اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، لقد كان نصفها في الكنيسة، فلماذا لا يكون احتفالنا بالجلاء إلا اختلاطا وتكشفا وغناء ورقصاً واستهتاراً، كأننا لم ينزل علينا كتاب، ولم يبعث فينا نبي، ولم يكمل لنا دين؟
إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنا، وترك فينا قنابل تنفجر كل يوم، فتدمر علينا أخلاقنا، وأوطاننا، واستقلالنا. إن كل عورة مكشوفة، وفسوق ظاهر، قنبلة أشد فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفي ضررها إلا على أحمق!
يا أيها الناس!
لقد جلت جيوش العدو عن أرضكم، فأجلوا عن بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم.
وذلك هو الجلاء الحق، وذلك هو العيد الأكبر.
هذا ما قاله لصديقي، الزعيم إبراهيم بك هنانو عضو مجلس النواب السوري، أنقله بنصه، والعهدة على هذا الصديق.
علي الطنطاوي(672/15)
حول قضية فلسطين:
الكلمة اليوم للعرب فماذا همن صانعون؟
للأستاذ سيد قطب
نحن - الأمم العربية - نستأهل كل ما يجري علينا، ما دمنا نختار لأنفسنا دائما موقف الانتظار، ولا نخطو خطوة إيجابية واحدة؛ بل ندع ذلك لخصومنا وننتظر دائما ماذا يصنعون!
ومصيبتنا الكبرى أن فينا من (العقلاء) أكثر مما ينبغي، وهؤلاء (العقلاء) هم الذين يشيرون علينا دائما أن نتريث و (نتعقل) ونسلك الطرق (السلمية) حتى لا نخسر عطف العالم المتمدين، أي العالم الأوربي والغربي على العموم!
فماذا جنينا اليوم من الانتظار بعد الانتظار؟
جنينا أن ظلت قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم يوما بعد يوم، حتى انكفأت أخيرا في هوة (لجنة التحقيق)! ومع ذلك فالعقلاء لا يزالون إلى اليوم ينصحون لنا بالهدوء والتريث حتى نعرف ماذا سيصنع خصومنا. وخصومنا في هذه المرة هم الإنجليز والأمريكيون! ونحن الذين تطوعنا بأن نضمهم إلى صفوف أعدائنا اليهود، بعد تقرير لجنة التحقيق!
ولنرجع بذاكرتنا قليلا إلى الوراء.
في وقت من الأوقات كانت فلسطين العربية ثائرة فائرة. فأسرع الإنجليز يدعون الأمم العربية - ولم تكن الجامعة العربية قد أنشئت بعد - إلى مؤتمر في لندن وهم يحاولون ترضية العرب الثائرين. وفي هذا الوقت أو بعده بقليل، صدر الكتاب الأبيض الذي يضع حدا لهجرة اليهود، ويحظر بيع الأراضي، وبعد باستقلال فلسطين. . .
ولم يرض للعرب عن هذا الكتاب الأبيض. ولكن (العقلاء) أشاروا عليهم بالتزام الهدوء، حتى لا يفقدوا (عطف العالم المتمدن)! وانخدع العرب بكلام (العقلاء) فأخلدوا إلى الهدوء!
ثم جاء دور اليهود الإرهابيين، فجعلوا يخاطبون الإنجليز باللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز. ولحسن حظهم لم يكن فيهم (عقلاء)، فراحوا ينفذون خطتهم في دأب وإصرار.
ووقف عقلاؤنا يبسمون في دهاء ويقولون: (دعوهم في حماقتهم فإنهم يفقدون عطف العالم(672/16)
المتمدن. وسينقلب الشعور الإنجليزي ضدهم بسبب أعمالهم الإرهابية وجرائمهم المنكرة)!
وكانت هذه سذاجة هي والغفلة سواء!
وفهم الإنجليز اللغة الوحيدة التي يفهمونها. وانتهزوا فرصة ضغط الولايات المتحدة في مصلحة اليهود، وأعلنوا إلغاء الكتاب الأبيض وتأليف لجنة للتحقيق، والسماح بالهجرة بعد انتهاء أجلها المحدود!
وتحرك العرب. ولكن (العقلاء) قالوا لهم: (كونوا عقلاء أيها العرب، وانتظروا قرار لجنة التحقيق، ولا تقوموا بأية حركة الآن لئلا تفقدوا عطف العالم المتمدين، ودعوا اليهود الحمقى يرتكبون حماقاتهم ليفقدوا هذا العطف دونكم بما يرتكبون كل يوم من الإرهاب في فلسطين وغير فلسطين)!
وسكت العرب، وصدر قرار لجنة التحقيق!
فيا أيها العرب ماذا أنتم اليوم صانعون؟
يقول لكم (العقلاء): انتظروا حتى تروا ماذا يصنع الإنجليز. فرئيس وزرائهم يقول: إنه لا ينفذ التقرير إلا إذا ضمن مساعدة الولايات المتحدة العسكرية والمالية. وما دام الاتفاق لم يتم بين إنجلترا والولايات المتحدة على هذه المساعدة فنحن منتظرون!
أيها العقلاء. . . . . .:
إنكم مغفلون. . . .!
إن موقف الانتظار البليد في كل مرة هو الذي جعل قضية فلسطين تتقهقر دائما ولا تتقدم، منذ أن سمع العرب نصائحكم الغالية، وحرصوا على عطف العالم المتمدين، ووثقوا معكم بالضمير الأوربي، أو الضمير الغربي على العموم.
أيها العقلاء!
إن الضمير الغربي كله ضمير متعفن. فالمغفلون وحدهم هم الذين يثقون بهذا الضمير، ويعلقون على يقظته حقوقهم القومية!
واللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العالم المتمدن، هي اللغة التي يخاطبهم بها اليهود: القوة والمال، والإقلاق المستمر الذي لا يدع أعصابهم مستريحة، ولا يدع تدجيلهم الدولي مستورا، وكلما هاجت أعصابهم وانكشف موقفهم زاد ضميرهم يقظة وتحركت في نفوسهم(672/17)
عواطف الرحمة والإشفاق على هؤلاء المقلقين الثائرين!
أيها العقلاء!
ليس أمامنا تجربة واحدة تثبت أن الضمير الغربي قد تحرك مرة واحدة لقضية إنسانية بريئة يتبع أصحابها نصائح (العقلاء) فيدعون الضمير الغربي هادئا يغط في نومه العميق.
لا بد من ضجة وجلبة لإيقاظ هذا الضمير النائم، واليهود اليوم يدركون هذه الحقيقة؛ ولذلك هم ناجحون!
أيها العقلاء!
مجرم في حق أمته، وفي حق العرب أجمعين، كل من يدعو أمته أو يدعو العرب إلى الثقة بهذا الضمير المزعوم.
وبعد، فالكلمة الآن لعرب، لا لمستر أتلي، ولا للرئيس ترومان، ولا للجنة التحقيق!
فإما أن يخاطبوا الضمير الغربي باللغة الوحيدة التي يفهمها، والتي يحذقها اليهود، فيلبيهم الضمير الغربي في كل مكان.
وإما أن يخاطبوا هذا الضمير بلغة (العقلاء) وينتظروا حتى تنطبق الحلقة، ويتم الاتفاق بين أتلى وترومان. . .
وحينئذ لا يلومن إلا أنفسهم، وإنهم لملومون.
سيد قطب(672/18)
السيد جحا الحالم اليقظان
للأستاذ كامل كيلاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
10 - في عيادة الطبيب
ومن بدائع ما يروى عنه في هذا الباب، أعني باب الغفلة والنسيان ما حدث الرواة عنه حين رأى المرض يبرح بزوجته فتسأله في إلحاح أن يستدعي لها الطبيب. فلا يكاد يخرج من البيت حتى تسرع زوجته إلى منافذه فتطل عليه، مبشرة بشفائها مما ألم بها من ألم.
ويستولي على صاحبنا الذهول بعد قليل فينسى أن زوجته لم تعد بحاجة إلى استدعاء الطبيب، وتسوقه قدماه - وهو هائم في سيره - على عادة الكثيرين من المفكرين ذوي اليقظة الحالمة فإذا به في عيادة الطبيب:
(ماذا جاء بك؟)
فلا يكاد يهم باستدعائه حتى يذكر ما نسى. فيتباله - على عادته - ولا يجد في غير التغابي مخرجا له من مأزقه، فيقول:
(لقد مرضت زوجتي، واشتد بها الألم فأمرتني باستدعائك، وما كدت أخرج من البيت حتى أطلت زوجتي من النافذة وبشرتني بشفائها، ثم ختمت حديثها طالبة ألا أستدعيك. وقد جئت إليك لأخبرك بذلك حتى لا تكبد نفسك عناء الحضور.
11 - غفلة أديب
وقريب من هذا ما حدث لأديب يعرفه القارئ. فقد استأذنه كاتبه ذات مساء في إجازة، ليستدعي الطبيب لأمه المريضة.
وعرف الأديب أن الكاتب الخبيث يخلق سبباً موهوماً ليمكنه من الذهاب إلى دار السيمي في تلكم الليلة، وأنه ينتحل مرض أمه جاريا في ذلك على مألوف عادته في انتحال الأعذار.
وشاءت المصادفة أن يلمح الأديب - بعد قليل من الزمن - وهو في طريقه لإنجاز بعض عمله، جماعة من الشبان يتوسطهم كاتبه أمام دار السيمي. فأسرع الأديب إلى كاتبه، ليؤنبه(672/19)
على كذبته، ويقول له:
(أين السيمي أيها الغبي من الطبيب الذي ذهبت تستدعيه لأمك؟)
وما كاد يتم قوله: أين السيمي أيها الغبي؟) حتى تبين تسرعه وخطأه، فقد أدرك أنه يحدث شخصاً قريبا الشبه بكاتبه.
ودهش الجميع لهذه المفاجأة، فلم ير الأديب له مخرجا من هذا المأزق في غير الأسلوب الجحوي، فقال للفتى متبالها:
(أما السيمي، فهي أمامك! وأما أنت فلست بغبي).
قلت: لكم إن صاحب هذه القصة هو أديب يعرفه الكثيرون منكم لا لشيء إلا لأنه ماثل أمامكم الآن يحاضركم في غفلة جحا الذكي الحالم اليقظان.
12 - سرعة الخاطر
وهذه الغفلة كثيراً ما تعرض للإنسان إذا استغرق في التفكير، فتذهله عما حوله، فيأتي بأعجب المتناقضات. وثمة يتبين بحرج الموقف فإذا لم تسعفه إجابة حاضرة، أو لفتة ساخرة، تنقذه من الحرج وتخلصه من المأزق الذي انزلق فيه، أصبح سخرية الساخرين وهدف الهازئين، وضحكة العابثين.
وعلى ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم حقيقة أمره، وبعده عما يرمي من غفلة وتناقض واضطراب، ورحم الله المعريّ القائل:
فيا لك من يقظة ... كأني بها حالم
13 - ريشة المصور
وكما أن المصور لا يستطيع أن تظهر لك ريشته ما ينفرد به العملاق من ضخامة إلا إذا وضع إلى جانبه رجلا آخر أو نخلة أو شجرة أو شيئاً تقيس إليه طول العملاق، لا يستطيع الكاتب أن تظهر لك براعته مدى التناقض والشذوذ مثلا إلا إذا وضع بجوارها شيئاً آخر، يوضح لك مقدارهما، ويجلو لك مسافتهما.
ومن هنا غلبت البرودة والغثاثة على جمهرة النكت التي تروي عن أفذاذ المتهكمين متى انقطعت عن ملابساتها ودواعيها.(672/20)
ومن هنا نعرف لماذا استهجن الناس كثيراً مما نشر من دعابات جحا وإجاباته بعد أن رويت منفصلة عن بواعثها ودواعيها.
ولا عجب في ذلكم فإن المصور - كما أسلفت القول - إذا حاول أن يرسم عملاقا ضخما لم يرسم رجلا يملأ فراغ الصفحة كلها. لأنه لن يشعرك بهذا أنه يصور عملاقا. على حين يستطيع في نصف الصفحة أو ربعها - كما تعلمون - أن يدخل في روعك هذا الشعور إذا رسم بالقياس إليه شيئاً آخر تعرفه ليتبين لك نسبة ضخامته.
والشيء لا يعرف مقداره ... إلا إذا قيس إلى ضده
14 - تاجر الأيام
ونحن إذا سمعنا أن جحا يسأله سائل:
(في أي يوم نحن من أيام الشهور؟).
فيجيبه: (لست أتجر في الأيام والشهور). خيل إلينا أنها نكتة بائخة. ولكننا متى عرفنا أن السائل ثقيل الظل، وأن جحا لا يريد أن يجيبه بل يتوخى تصغيره، ويتعمد تحقيره، أدركنا أنه إنما يقصد إلى هذا الجواب قصداً، ليشعره بثقله وسماجته، ويتخلص في الوقت نفسه من إجابته.
وليس أفتك بالثقلاء من أمثال هذا الرد.
15 - القمر والنجوم
وقريب منه قوله لثقيل آخر، حين سأله:
(أين يذهب القمر القديم، بعد أن يحل مكانه القمر الجديد؟).
فقد أجابه على هذا السؤال البائخ مستهزئاً:
(ألا تعرف ما يصنع به؟ إنه يقطع - بعد ذلك - نجوما تنثر في السماء).
16 - الأقمار والبروق
ويعترضه في طريقه مخبول أحمق بادي الغفلة وهو يسير على هضبة مشرفة على بعض الوديان فيقول له المخبول:
(أنظر أمامك في هذا الوادي، وخبرني ماذا ترى؟).(672/21)
فيقول له جحا واجماً:
(أرى جثثا ملقاة على أرض الوادي!).
فيسأله المخبول:
(أتعرف قاتلهم؟ إنه الماثل أمامك)
فيشتد ارتباك صاحبنا جحا فيعاجله قائلا:
(أتعرف لماذا فتكت بهم؟ لقد عجزوا عن إجابتي عن سؤال واحد حيرني. فإذا أجبتني عنه كتبت لك السلامة).
فيسأله جحا عن ذلك السؤال العويص. فيقول:
(لقد حيرني أن أعرف لماذا يبدو القمر أول الشهر هلالا صغيراً ثم لا يزال يكبر حتى يستدير ويتم نوره، ثم يعود فيصغر شيئاً فشيئاً حتى يختفي ويطلع غيره. فماذا يصنع بالقمر القديم؟).
فيبتسم له جحا متلطفا ويهون عليه الأمر قائلا:
(تباً لأولئك الأغبياء. أما كان فيهم من يفضي إليك بالنبأ اليقين؟ ألم يعرفوا أن الأقمار بعد أن تغيب عنا تظل مختبئة، حتى إذا جاء فصل الشتاء، تألفت منها البروق التي تلمع في السحب والغيوم).
وهنا يثلج صدر المخبول فيقبل يدي الفيلسوف العظيم قائلا:
شكراً لك أيها السيد الجليل فما خطر لي - والله - ذلك الرأي على بال!).
17 - تغابي الأكياس
وكم نرى - أيها السادة - في كل عصر ومصر، حمقى يسألون أمثال هذا السؤال، وأكياساً من قادة الفكر يتغابون فلا يجدون مندوحة عن الإجابة بأمثال هذا الجواب ليتخلصوا من أذية المجانين وينجو بأنفسهم من كيدهم سالمين.
ثم يأتي بعض الباحثين فيحملون أجابتهم الساخرة محمل الجد. ويتهمونهم بالغفلة والجنون، ناسين أن لكل مقام مقالا.
18 - فضل التغابي(672/22)
ولقد أجمع الناس - أو كادوا - على فضل التغابي في كل عصر كما تعلمون، وأفاض المبدعون وافتنوا في تصويره ما شاء لهم خيالهم وافتنانهم.
فقال (زهير بن أبي سلمى) في معلقته الرائعة:
(ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم)
ثم تلاه معاوية فقال: (السرو التغافل).
ثم جاء عمر بن أبي ربيعة. فقال:
(تبا لهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن: امرؤ باغ أضل وأوضعا)
ثم تلاه المتنبي فقال:
(ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي)
وأعقبه شيخ المعرة فقال:
(. . . . . . . ... وتبا له، فإن دهرك أبله)
(قوم سوء، فالشبل منهم يغول ... الليث فرسا والليث يأكل شبله)
بعد أن قال:
(ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في إنحائه ومقاصده)
تعاميت حتى قيل: إني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده)
ومن أبرع ما عرفته في هذا الباب الذي استفاض فيه فحول الشعراء والكتاب ذلكم المثل التركي الذي يقول:
(عظموا أقداركم بالتغافل).
ويقابله قول ابن زيدون:
(إن السيادة - بالإغضاء - لا بسة ... بهاءها، وجمال الحسن في الخفر)
وقريب منه قول بعض الأفذاذ من القدامى المبدعين:
(أقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أجلك من أرضاك ظاهره ... وقد أطاعك من يعصيك مستترا)
كامل كيلاني(672/23)
إبليس والفن
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لا تظهر صورة الشيطان في العصور الأولى من تاريخ الكنيسة، وينبغي أن نبدأ من القرن السادس، لنرى التخيلات الأولى، للشيطان.
وأقدم هذه التمثيلات توجد الآن في مخطوط قديم عن أعمال القديس غريغوار. في المكتبة الوطنية بباريس.
فهذا المخطوط الذي يرجع عهده إلى القرن التاسع، يتضمن صوراً أقدم من هذا التاريخ بثلاثة قرون. فإحدى الصور، تمثل محاولة الشيطان فتنة أيوب، وفيها يظهر أيوب في قصره يفكر والشيطان بالقرب منه، حاملا في يده حقة طيب، تتأرج منها الروائح العطرة المسكرة، وكأنه يسخر من الحكيم ويهزأ به.
ولا يظهر الشيطان في هذه الصورة مخيفاً، بل ما يزال الملك المطرود، المتكبر، وهو هنا ذو جناحين طويلين منتشرين، وله وراء رأسه إكليل من النور، تذكر بأصله. ثم هو عاري الجسم حول خصره زنار من السيور، وليس في مخايله ما هو بعيد عن خلقة الإنسان، ولكن يديه ورجليه المعقوفة الأظافر، تميزه ميزة خاصة.
وفي هذه المخطوطة، صور أخرى للشيطان وكلها متماثلة. والظاهر أن الفن الإغريقي، والفن البيزنطي، لم يشاءا أن يشوها شكل الشيطان. والفنانون الشرقيون في بيزنطية كانوا ذوي شغف بالجمال، فلم يهتموا بتصوير هذا الشيطان، قرينا بالشر، المخيف المنظر والمخبر.
ولم يقل رجال الدين في الكنيسة قط، إنهم رأوا مثلا الشيطان يوما، بشكل شاب غرانق جميل، أو بشكل فتاة حسناء كاعب، ذات وجه ناضر. ولذلك كانوا يصورون الشيطان بالقبح، ويلونونه باللون المظلم القاتم، كالأسود أو لون البنفسج، فهذا ملك الليل الشرير.
وانتقلت هذه الصورة من بيزنطية إلى الغرب، فاتخذ الشيطان صورة البطل المغلوب المنهزم، أو صورة الملك المطرود، الذي ما زال يحفظ سمات الملائكة وصفاتهم.
ولم يلبث أن تبدلت هذه الصورة، فعندما أراد نحاتو الكنائس الرومانية أن يصوروا الشيطان، ملاك الشر تمثلوه بصورة أخرى.(672/25)
وهناك أسباب عدة بعثت على هذا التبديل، الأول هو رغبة الكنيسة نفسها، إذ لا ينبغي أن ننسى أن الشيطان شيء خطر، فهو الخبيث، الذي لا هم له غير الإغواء والفتنة، ولا بد إذن من منحه صفات مخيفة راعبة، كي تنقش هذه الصورة الرهيبة في قلوب المؤمنين، فتحفظهم من إغوائه، وتبعدهم من فتنته.
ولا يجهل من جهة ثانية، أن أكثر المشاهد المنحوتة في الكنائس قد استوحيت من الصور أو من القصص الدينية الممثلة في أفنية الكنائس. ففي هذه الأقاصيص يظهر الشيطان محاطا بقناع منحط مزر. فمن هذا الإزراء والانحطاط، استوحى الفنانون تصورهم للشيطان.
وسبب آخر، هو أن الكنيسة كانت تتعمد أن يستخلص الرائي من صورة الشيطان عبرة وعظة؛ فكانت تجبر النحاتين أن يجعلوا الفرق شاسعاً بين الملك والشيطان، مع المحافظة على روح التصاوير البيزنطية.
وفي القرن الثاني عشر، كان الشيطان يصور في أغلب الأحايين كما يلي: شكل إنساني، ذو جسم وفخذين وذراعين. ولكنه تارة ضئيل الجسم كأنه القزم، وتارة بالعكس، عبل القد مستطيل القامة كأنه العملاق. وسواء أكان قزما أم عملاقا، فقد كانوا يجعلونه ذا هامة ضخمة، وعينين جاحظتين واسعتين، وأنف أفطس، وفم غريب الخلقة لا يشبه فم الآدميين، قريب إلى فم الكلب، وأسنان ضخام مخيفات، وشعور منفوشة، قائمة كأنها ألسنة اللهب. وقد اصطلح الفنانون على إلصاق هذه الشعور في رسومهم لكل من له صلة بالشيطان، وخاصة بالنساء.
أما هامة الشيطان فتستدعي الرنو والعجب لضخامتها. وأما جسمه فهو نحيف، والبشرة ذابلة جف ماؤها، ورجلاه وذراعاه عظام لا تكسوها لحم، وتنتهي بأظافر معقوفة جارحة. وعلى هذا الشكل صور الشيطان، في مواساك أوتين فزبلاي.
ويذهب نقتبس منه هذه المعلومات إلى أن الرهبان هم الذين كانوا يختلقون هذه الصورة.
وقد ساعدت القصص الدينية، وما في الإنجيل خاصة، على تمثيل الشيطان، فصوروه تصاوير مختلفات، تمثله مطرودا من الجنة كاسفا حزيناً، أو جالساً في الجحيم على عرش في وسط النار رجلاه على منصة، تدور حدقتا عينيه المخيفتين، أو ساعيا في إغواء(672/26)
المؤمنين المخلصين.
وفي القرن الثالث عشر، تظهر أكثر الصور التي كانت في القرن الذي قبله. على أن شكل الشيطان نفسه قد اختلف اختلافا محسوسا؛ لأن تخيلات الرهبان وأوهامهم صورته على شكل قزم قبيح في منتهى القبح، ولكنه أقل إرهابا. أما ملامحه فعادت كملامح الإنسان، هي قبيحة بلا شك؛ ولكنها أقل تشويها من الماضي. وتبدل مفهوم الشيطان، فهو لا يخيف كما كان يخيف من قبل؛ ولا شك أنه أضخم من الماضي أيضا؛ فلا ترى - إذا رأيت صورته - عظاما تخيف؛ فوقها جلد نحيف؛ ولكنه كان أملأ جسما. وقد يلاحظ أن بعض الصور، كانت تلصق به بعض الملامح الحيوانية، كأن يجعل له رأس قط كبير، أو كأنه القطة الكبيرة، كما في نوتردام دباري.
على أنه يلاحظ أمر، هو أنه كلما كان الفن يبتعد عن الدين كانت أشكال الشيطان تجنح عن إثارة الرعب. ففي القرن الخامس عشر كان يخيل للرائي أن الشيطان مخلوق مضحك. وكان يحافظ، في أكثر المشاهد التي يصور بها، على الملامح الإنسانية؛ أعني أنه كان له دائماً رأس وجسم وذراعان وفخذان.
وبالعكس عصر النهضة في فقد الشيطان هذه الصفة الآدمية. فنحن نلاحظ أنه بعد منتصف القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر، قد طرأ تبديل كبير على ملك الشر.
فلقد فهم رجال النهضة خطأ ما يرمز إليه الشيطان. ولا بد من التنويه بأن فكرة الشيطان لم تعرف في الديانات اليونانية والرومانية. ففي الديانة اليونانية كان للشياطين شأن أقل. فهي أرواح لا أثر لها، تذهب وتجيء أحايين بين الآلهة والأبطال. ووجودها في الديانة الرومانية أكثر غموضا أيضا. ولا بد من أن نذكر أن الآلهة في أثينا وروما كانت في آن معا، أرواح خير وشر، تضر من تشاء، وتنفع من تشاء على هواها. أما فكرة وجود ملك للشر يقابل ملك الخير التي كانت توجد لدى الفينيقيين والفرس والهند فلم تعرفها اليونان والرومان.
فليس من الغريب إذن إذا كان فن عصر النهضة تحت التأثير اليوناني الروماني قد أهمل بعض الإهمال تصاوير الشيطان التقليدية الموروثة، واستعيض عنها بتصوير آخر. فقد أصبح الشيطان يرمز رمزاً كبيراً إلى القبح الشديد، وهذا سر انقلابه حيوانا، له ملامح(672/27)
الحيوانات كلها؛ كالثور الوحشي، والخنزير والدب وغيرها. وتعددت الشياطين، فكثرت صورها أيضا. ولم يبق كم كان من قبل، صورة واحدة لشيطان واحد.
وفي عصر النهضة، من جهة أخرى، ظهرت موضوعات أخرى طريفة تمثل الشيطان، مثال ذلك أن صوروا الموت يخاطب الشيطان، لأن الموت كان قد بدئ بتصويره منذ القرن الخامس عشر بإيحاء من الكنيسة أيضا كي تخيف المؤمنين مما يعقبه من جحيم ونعيم وعذاب. وفي كتاب , لفيرارد، وهو مزوق مصور، تظهر صور كثيرة للشياطين، كلها ذات ملامح في أغلب الأحايين حيوانية؛ فقد جعل لها أذناب وقرون وحوافر وغير ذلك.
ويلاحظ أن الشيطان قد أصبح حيوانا عند فناني وادي أشباه ستيفان ومارتان وبعدهم عند البير دورر ومن جاراهم. ثم يلاحظ كلما تقدمنا في القرن السادس عشر، قلة تصوير الشيطان لأن (مجمع ترانت) عندما منع تصوير الشخوص المخيفة ونحتها ضرب الأقاصيص الدينية وشخوصها ضربة قاضية، فقل تصويره.
حتى إذا أقبل القرن التاسع عشر، ظهرت صورة جديدة للشيطان، فقد أثر ظهور فوست لغوته، وانتشارها الواسع في ذلك، ودفع الفنانين إلى تصوير هذا الشيطان الرجيم؛ فصوروه كما يلي:
ملك مطرود من رحمة الله، ترافقه فترة شقاء من قبح، والجناحان طويلان ينتشران حول الجسم المشوه. وجهه يمثل صورة جانبية مسنونة مضطربة، وقد تدثر بدثار. وهكذا صوره دلا كروا في فوست سنة 1828. وبقيت هذه الصورة شائعة بين الناس؛ وهي التي يلجأ إليها اليوم في تمثيل الشيطان.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(672/28)
التاريخ في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 13 -
بين الطغيان والحرية:
لم يقف ملتن بمعزل عن حوادث العصر الذي عاش فيه، السياسية ومنها الدينية، فدخل في غمارها ورمى بنفسه في بركانها وأصابه ما أصابه من نارها، وكاد يحيط بعنقه حبل المشنقة. وما كان لنفس مثل نفسه تعشق الحرية وقد فطرت عليها أن تهاب الضرر أو الموت فتنكل عن الوقوف في وجه الطغيان، وهذا ركن من أهم أركان شخصيته كرجل وكشاعر. لهذا كان لا بد من فصل يجلو حوادث ذلك العصر لننظر بعده على أي صورة كانت صلته بتلك الحوادث وإلى أي مدى أثرت فيه وأثر فيها.
إنتهى بموت إليزابيث عام 1603 حكم أسرة تيودور، وبدأ حكم أسرة سيتوارت في شخص جيمس الأول، وقد ولد ملتن بعد خمس سنوات من اعتلاء هذا الملك عرش انجلترة، وظل جيمس يحكم حتى وفاته سنة 1935 وهي السنة التي التحق فيها ملتن بالجامعة، وخلف جيمس على العرش ابنه شارل الأول، وظل شارل يقود سفينة الملك وسط الأنواء الشديد التي انتهت بريح عاتية هي الثورة أو الحرب الأهلية، واختتمت هذه الثورة بإعدام شارل بتهمة الخيانة سنة 1649، أي بعد عشر سنوات من عودة ملتن من إيطاليا. وحكم البلاد بعد شارل القائد الحربي للثورة أوليفر كرمويل أحد كبراء البيوريتانز وسمى حامي الجمهورية، وظل يحكمها حتى وفاته سنة 1658. وخلفه ابنه فحكم البلاد سنة واحدة، ثم عزل لضعفه وأعيدت الملكية في شخص شارل الثاني سنة 1660.
وكانت تلك السنوات السبع والخمسون مليئة بالأحداث، وهي من أهم السنوات لا في تاريخ(672/29)
إنجلترة فحسب؛ بل في تاريخ الحكم النيابي والحرية في العالم كله، إذ كانت صراعا متصلا بين الطغيان تمثله الملكية وبين الحرية يمثلها البرلمان؛ وكان هذا الصراع حول مسألتين: المسألة السياسية والمسألة الدينية.
ظهرت المسألة السياسية في صورة نظرية أول الأمر، وذلك حينما أعلن جيمس الأول تمسكه بالحق الإلهي للملوك، أو نظرية التفويض من قبل الله. وقد أنكر البرلمان عليه هذا الزعم كما أنكره طالبو الحرية من غير رجل البرلمان. ثم اتخذت المسألة وضعا عمليا حين وقع الخلاف بين الملك والبرلمان على أمور معينة، إذ حاول كل أن يبرر مسلكه حسبما يذهب إليه من رأي في التمسك بنظرية التفويض الإلهي أو في إنكارها والتمسك بالحقوق التي اكتسبها الشعب منذ منتصف القرن الثالث عشر.
كان يقصد بالحق الإلهي للملوك في القرن السادس عشر معنى خاصا، وذلك أن الدولة سواء أكان يرأسها ملك أم أمير لها حق البقاء، وافقت الكنيسة على ذلك أو لم توافق، وكان ذلك المعنى مما قصدت به البروتستنتية إلى الفصل بين سلطان الكنيسة وسلطان الدولة رغبة في إضعاف الكنيسة.
ولكن الملوك فسروا هذه العبارة تفسيرا جديدا في القرن السابع عشر، فقالوا إن هناك حقا خاصا بأشخاص الملوك، فهم خلفاء آدم في الأرض، وقد أعلن الله في كتابه إقراره سلطة الملوك المطلقة فلا يجوز أن تلاقى تلك السلطة أية مقاومة أو تدخل في شؤونها.
وكان جيمس الأول يحكم اسكتلندة باسم جيمس السادس وآل إليه عرش إنجلترة بالوراثة فاتحد في شخصه حكم المملكتين، وقد قتل الملك لصا وهو في طريقه إلى إنجلترة بغير أن يحاكمه فخرج بفعلته هذه على حق أكتسبه الفرد في إنجلترة منذ لائحة العهد الأعظم التي ظفر بها الإنجليز سنة 1215، والتي جاء فيها صراحة أنه لا يجوز حبس أي إنسان أو نفيه أو مصادرة أملاكه أو إعدامه إلا بعد محاكمة تكفل له فيها وسائل الدفاع عن نفسه.
وتمسك جيمس منذ هبط إنجلترة بالحق الإلهي للملوك، وتحدى البرلمان هذا الحق، وكان من محاسن الأقدار أن لم يقف النزاع عند وضعه النظري بل تعدى ذلك إلى مواقف راح البرلمان فيها يبرر مسلكه أو يؤيد حقه على ضوء السوابق والحقوق المكتسبة، وملابسات الحال، ومقتضيات الظروف من النصفة والعدالة.(672/30)
وكان البرلمان في عهد أسرة تيودور قد خضع للحكم المطلق فعلا، ومرد ذلك إلى أن ملوك تلك الأسرة لم يتمسكوا في حكمهم بالنظريات؛ بل كانوا يعملون على كسب مودة أعضاء البرلمان وضمان تأييدهم إياهم ليكون الأمر في ظاهره للبرلمان وفي حقيقته لهم. هذا إلى أنهم كانوا أحيانا يتزحزحون عن مواقفهم خطوات إذا لاحت نذر الشر، أو يحاولون بالكلمة الطيبة أن يكسبوا قلوب النواب، نجد خير مثال لذلك في موقف نبيل وقفته إليزابث في أواخر حكمها سنة 1601 حين لمحت اتجاه الرأي العام في معارضة البرلمان لقانون من القوانين، فقالت للنواب: (ولو أن الله رفعني مكانا عليا فإن ما أعده في الواقع مجد تاجي هو أني أحكمكم مستندة إلى محبتكم، وهذا ما يجعلني أشعر بالسعادة لأني ملكة شعب شكور، أكثر مما أشعر بها لأن الله جعلني ملكة فحسب).
وكانت البلاد في عهد تلك الأسرة تخشى الحرب الأهلية بين فرعي بيت الملك كما كانت تخشى الغزو من الخارج، وعلى الأخص من جانب أسبانيا الكاثوليكية. هذا إلى أنه كان للناس منصرف عن السياسة وأمورها إلى النهضة العلمية الأدبية وحركة الكشف الجغرافي والاستعمار وراء البحار، فخمدت جذوة السياسة حتى كادت تتحول إلى رماد.
وكانت تقتضي المحكمة وبعد النظر مسالمة رجال البرلمان بعد زوال الخطر الداخلي وابتعاد شبح الغزو الخارجي إثر تحطيم الأرمادا أسطول أسبانيا العظيم، ولكن جيمس الأول أخذ في ظروف كهذه يعلن تمسكه بنظريته، فنفخ بذلك في الرماد حتى توهج، ثم إذا به يشتعل في عهد خلفه اشتعالا
وكان جيمس غداة ولايته عرش انجلترة في السابعة والثلاثين من عمره، وكان ملكا مثقفاً على شيء غير قليل من اللباقة، وفي نفسه قدر من روح الفكاهة، ولكن لم يكن يحسن وزن الأمور لتمسكه بالجانب النظري منها، كما أنه لم يحسن كيف يحيط شخصه بما يجب للملوك من وقار وهيبة، بل لقد اجتمعت فيه كل الصفات التي يجب ألا تنسب واحدة منها إلى ملك، وقد قال عنه هنري الرابع ملك فرنسا: (إنه أعلم مغفل في العالم المسيحي!)
اجتمع أول برلمان في عهد جيمس سنة 1604، فكان أول خلاف بينه وبين الملك أن تدخل الملك في الانتخاب، فقد حذر الناخبين أن ينتخبوا المتطرفين في الآراء الدينية والمحرومين من حماية القانون، ولكن إحدى الجهات انتخبت واحداً من هؤلاء فأبطل انتخابه بأمر الملك(672/31)
توطئة لانتخاب غيره. وثار البرلمان وتمسك بأنه صاحب الحق في النظر في هذا الأمر، وأذعن الملك مكرهاً وتأكد بهذا الإذعان حق البرلمان في القيام على أمر الانتخاب!
وأعقب ذلك حادثة أخرى، وتلك هي حبس أحد أعضاء البرلمان لعدم دفعه ما عليه من دين، وإذ ذاك أعلن النواب أنه لا يجوز القبض على عضو من الأعضاء إلا بتهمة الخيانة أو تعريض السلم العام للخطر. ولكن الملك أصر على موقفه ولم يعبأ برأي النواب!
وفي نفس السنة أظهر جيمس عطفه على الكاثوليك وأراد أن يغير بعض القوانين الضارة بهم، فعارض البرلمان، وكانت ميول أعضائه بيرويتانية، ولعله إنما أراد بالمعارضة أن يقف في وجه الملك أكثر مما أراد أن يكيد للكاثوليك. . وأسرها الملك في نفسه. . .
على أن أكبر خلاف وقع بين الملك والبرلمان كان على مسألة الضرائب، وذلك سنة 1608 حين أراد الملك أن يفرض من تلقاء نفسه ضريبة إضافية على التجارة، فعارض البرلمان معارضة شديدة، لأن هذا العمل يقوض حقاً هو أهم حقوقه من أساسه، ولكن الملك تمادى في عناده، وامتنع أحد التجار عن الدفع وقدم إلى المحاكمة، وكان الملك يومئذ يخيف القضاة بعزلهم من مناصبهم على الرغم مما نص عليه العهد الأعظم من منع تدخل الملك في سير العدالة، وحكم القضاة على التاجر؛ ولكن صوت البرلمان في الاحتجاج لم يخفت بهذا الحكم وأن لم يجده ذلك شيئاً، وما لبث أن تخلص منه الملك في غير عناء!
وفي سنة 1614 اشتدت بالملك الحاجة إلى المال بسبب إسرافه وإسراف حاشيته ومن اصطفاهم، فجعلهم من المقربين إليه أولى الخطوة عنده، فدعا الملك برلماناً جديداً ليعينه على الخروج من الأزمة، وحرص أتباعه على أن يأتي موالياً للملك، ولذلك أطلق الناس عليهم أسم المتعهدين استهزاء بهم؛ ولكن البرلمان ما كاد يجتمع حتى أظهر المعارضة للملك وللمقربين إليه، وأنكر سياسة الملك الخارجية، فقد كان يريد جيمس مسالمة أسبانيا ومصالحتها، وكانت انجلترة تكره ذلك أشد الكره!
وغاظ الملك أن يكون هذا البرلمان أشد من سالفه عناداً، فأسرع إلى حلة بعد شهرين من اجتماعه، ولما يتخذ قراراً واحداً، ولذلك أطلق عليه أسم (البرلمان العقيم)!
وحكم الملك ست سنوات من غير برلمان، يعمل بمشورة خلصائه حيناً، ويتبع هواه حيناً، يعزل من يشاء ويذل من يشاء، لا يسأل عما يفعل ولا يفكر في عاقبه أمره.(672/32)
وفي سنة 1621 دعا جيمس برلماناً جديداً، وكانت الحاجة إلى المال هي التي تجعله يدعو البرلمانات ليعتمد على معونة النواب في فرض ما يطلب من الضرائب، وقد تذرع في هذه السنة برغبته في نصرة البروتستنتية وذلك بمساعدة صهره البروتستنتي فردريك حاكم البلاتينات في ألمانيا ضد النمسا وأسبانيا؛ وتحمس البروتستنت في انجلترة لمعاونة زملائهم في القارة، ولكن ما كان أشد غضبهم أن رأوا الملك يجحم بعد تحمس، دون أن يستخذى لما حل بصهره أو يأبه بتألم الشعب لما نال البروتستنت من هزيمة في القارة، وإذ ذاك عاد البرلمان إلى مناوأة الملك في المسائل الداخلية، فطالب بمحاكمة بعض وزرائه وأصفيائه على ما نسب إليهم من تهم أهمها الإثراء بغير حق عن طريق الاحتكار، وكان ثمة عرف قديم أهمل منذ سنة 1450 يتيح للنواب حق الاتهام على أن تكون المحاكمة أمام اللوردات، وأحيا النواب هذا العرف فغضب الملك غضباً شديداً ليحمى وزراءه وأصفياءه، وأعلن كلمة جريئة اهتزت لها البلاد هزة الغضب والألم وهي قوله (إن امتيازات النواب واللوردات ليست حقاً لهم كما يظنون وإنما هي منحة من الملك، وإن عمل النواب ينبغي ألا يتعدى الأمور المحلية كالمناقشة فيما يطلب من المال والإعراب عن آراء ناخبيهم، أما أمور الدولة العليا في السياسة والدين فمن اختصاص الملك وحده. . .) ورد البرلمان بصيحة بالغة الجرأة فقال (إن كافة ما لدى البرلمان من الحريات والامتيازات والأمور المتصلة بالانتخاب وبسير العدالة، إنما هي حقوق قديمة مؤكدة تثبت بمجرد الميلاد لكل فرد في انجلترة ويتوارثها الأجيال، وكل ما هنالك من مسائل خطيرة لمحة تتصل بالملك والدولة والدفاع عن المملكة وعن كنيسة انجلترة ووضع القوانين والمحافظة عليها والعمل على إزالة أسباب الشكوى في الداخل، إنما هي من صميم ما يختص به البرلمان ويدير فيه المناقشات ويتبادل أعضاؤه فيه المشورة.)
وساء وقع هذا بالضرورة في نفس الملك المتجبر فأخذته العزة بالإثم وحل البرلمان ولم يجتمع إلا سنة ومزق بيديه هذا القرار من مضبطة المجلس وألقى ببعض أعضائه في غيابه السجن، وظل يحكم مستبداً بالأمر حتى سنة 1624 حين جمع عزمه وأراد أن يعلن الحرب على أسبانيا، وشعر بحاجته إلى المال، وإذ ذاك دعا برلماناً جديداً لم يكن أقل من سابقيه معارضة للملك المستبد وظل قائماً حتى مات الملك سنة 1625.(672/33)
ومن عجيب أمر جيمس أنه كان أقل الطغاة خطراً لضعف شخصيته، ولكنه كان مع ذلك أكثرهم استفزازاً للنفوس بتهوره وبكلامه. والحق أنه أساء إلى الإنجليز بما قال أكثر مما أساء إليهم بما فعل؛ كأنما كان مولعاً بأن يستعجل الثورة في البلاد، وكأنما كانت رسالته إشعال نار هذه الثورة؛ فما كان بمستطيع أن يحمل الناس على احترامه بناحية من نواحي القوة والعظمة كما عسى أن يفعل إذا أرادوا أن يغطوا طغيانهم لأنه لم يكن على شيء من هذا؛ ولا كان بقادر على أن يقف في طريق الحرية الثائرة معترضاً لها ليصدها عن وجهتها. ورأى الإنجليز أنفسهم لأول مرة في تاريخهم تلقاء ملك يشعرون باحتقاره، ويسخرون من ضعفه وإن تظاهر بالقوة فما كان ما يزعمه لنفسه من قوة إلا الحماقة في أسخف صورها. . .
أما عن المسألة الدينية في عهده فلم يك جيمس فيها أقل حمقاً ولا أخف طغياناً إن لم يكن أقبح عتاداً وأبغض استبداداً.
(يتبع)
الخفيف(672/34)
كتب قرأتها:
في غربال ميخائيل نعيمة
للأستاذ حبيب الزحلاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ويقول: (لكل ناقد موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا على الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيّمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي فيما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية، والمحبة للمهنة، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لتنفيذ ما يقوله لعقل القارئ وقلبه. . .
(لا يكون الناقد ناقداً إذا تجرد من خلة (قوة التمييز الفطرية) تلك القوة التي تبتدع لنفسها مقاييس وأوزاناً ولا تبتدعها المقاييس والأوزان، فالناقد الذي ينقد (حسب القواعد) التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء.
(. . . نحن في حاجة إلى الناقدين لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا، والذي يضع لنا اليوم محجة لندركها في الغد، هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوه.
ويقول: (إذا لم يكن للناقد من فضل سوى رد الأمور إلى مصادرها، وتسميتها بأسمائها لكفاه ذلك ثواباً. إلا أن فضل الناقد لا ينحصر في التمحيص والتثمين والترتيب، فهو مبدع ومولد ومرشد، مثلما هو ممحص ومثمن ومرتب.
(هو مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد، حتى صاحب الأثر نفسه.
هو مولد، لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفاً نفسه.
وهو مرشد، لأنه كثيراً ما يرد مغروراً إلى صوابه؛ أو يهدي شاعراً ضالا إلى سبيله.
(رب ناقد لم ينظم في حياته بيتاً، ولا عرف ما في النظم من مشقة الأوزان والقوافي؛ ولا(672/35)
في لذة الفوز بها؛ غير أن ذلك لا يعوقه عن إدراك ما في الإفصاح عن عوامل النفس من لذة روحانية، ولا يعميه عن تموجات الألوان في الرسوم الكلامية، ولا يصمه عن رنة الألحان في مقاطع الألفاظ والعبارات.
والناقد في إمكانه الدخول إلى مستودع روح الشاعر، وتفقد مخبئاته إلى أن تتولد فيه حالة نفسية كالتي تمخضت في الشاعر بتلك القصيدة؛ فيصبح الناقد كأنه الشاعر وكأن القصيدة من وضعه.
(إن حظ الناقدين من دهرهم قليل، فهم لا يرضون فريقاً من الناس إلا بإغضاب فريق آخر، غير أن القوي بينهم - والقوي من أخلص النية - لا يحفل بمن يرضى وبمن يغضب، لأنه يخدم غاية أكبر من رضاء الناس وسخطهم، ويتمم وظيفة هي من أهم وظائف الحياة. .) ويضيف الأستاذ العقاد على هذا التعريف الشامل للناقد فيقول: (عمل الناقد تصحيح كثير من مقاييس الأدب، وإن من يصحح مقياساً للأدب فقد يصحح مقياساً للحياة).
(. . . كلنا يتكلم عن الشعر؛ بعضنا يؤلهه، والآخر يعشقه والثالث يقرضه، والرابع يقتات ويتنفس به، هذا يشحذ ذاكرته بالمعلقات والموشحات والخاليات واللاميات، يرددها في وحدته ويتلوها على مسمع أصحابه، وذاك يكتب القصيدة بعد القصيدة يستعد لأن ينشر درر أفكاره في (ديوان). . . فلا بدع فنحن من سلالة قوم هم، إذا مات منهم شاعر قام شاعر. . . نحفل بالشعر لأنه لغة النفس وترجمان عواطفنا وأفكارنا. . .) والشاعر هو نبي وفيلسوف وموسيقي وكاهن.
نبي: لأنه يرى بعينه الروحية ما لا يراه كل البشر.
ومصور: لأنه يقدر أن يكسب ما يراه وما يسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام.
وموسيقي: لأنه يسمع أصواتا متوازنة حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة.
وكاهن: لأنه يخدم إلهاً هو الحقيقة والجمال.
. . . إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة، وقلبه يردد صداها، ولسانه يتكلم (بفضلة قلبه).
(ليس الشاعر من يخلق عواطف ويولد أفكاراً، إنما الشاعر من يمد أصابع وحيه إلى أغشية(672/36)
قلوبكم وأفكاركم، فيرفع جانباً منها، ويحول كل أبصاركم إلى ما انطوى تحتها فتبصرون هناك عواطف وتعثرون على أفكار. . . هي أفكاركم. . ثم يترككم وإياها تستجلون ألوانها، وتتفحصون معانيها. . . عندها تستفيق أنفسنا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها، لأن الحياة فينا لا خارجا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار)
(الشاعر ترجمان النفس والشعر لغتها. . . خيال الشاعر حقيقته. . . الشاعر الذي يستحق أن يكون شاعرا لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية، ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته ولو كانت عينه المادية قاصرة عن رؤيته.
. . . بين شعرائنا المعاصرين الذين في شعرهم مدى، أي قوى التفكير والعاطفة والبيان، شاعر أقل ما يقال فيه إن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. وبعبارة أخرى، إن في شعره شخصية لا تندغم في شخصية أحد من الشعراء. . .
ما هو الشعر؟ هو نسمة الحياة. والذي أعنيه بنسمة الحياة، ليس إلا انعكاس بعض ما في داخلي من عوامل الوجود في الكلام المنظوم. والشعر الذي ينزل بفكري إلى أغوار تحتها أغوار، ويعلو به إلى سماوات تلوح من ورائها سماوات، ويفتتح لخيالي آفاقا خلفها آفاق، ويفسح لعاطفتي مدى يجرها إلى أمداء، هو الشعر الذي تستأنس به روحي، وتتفتح له براعيم الحياة في داخلي. ولا بد للشعر من عاطفة وخيال يجعل من الشعر والموسيقى توأمين
ما هي الغاية من الشعر؟ قوم يقولون إن غاية الشعر محصورة فيه ولا يجب أن تتعداه (الفن لأجل الفن) وآخرون يقولون إن الشعر يجب أن يكون خادما لحاجات الإنسانية، وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصر عن هذه المهمة. ولهذين المذهبين تاريخ طويل. . . إنما نكتفي أن نقول إن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه. ولكننا نعتقد أن الشاعر لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحيه إليه نفسه فقط، سواء كان لخير العالم أو لويله، وما دام الشاعر يستمد غذاء لقريحته من الحياة، فهو لا يقدر إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره. . . لذاك يقال إن الشاعر ابن زمانه.(672/37)
يطول بي القول إذا أشرت إشارات عابرة، أو وقفت هنيهة عند كل ما يستوجب الوقوف حياله من مواضيع هذا الكتاب الذي لا تبلى جدته، ولا تنصل ألوانه. ويكفي أن أشير إلى موضوعات لا مناص للأديب من قراءتها وإملاء الذهن منها، كموضوع (محور الأدب) و (الرواية التمثيلية العربية) و (المقاييس الأدبية) و (الحباحب) و (نقيق الضفادع) و (الزحافات والعلل) فكلها موضوعات تشخص الأدواء، وتداوي العلل، وتهول بالمبضع والمشرط على الضعفاء من الشعراء والكتاب.
من أوجه خصائص الأستاذ الكبير ميخائيل نعيمة أنه لم يكن في (غرباله) الخالد موضوعياً بحتاً ولا ذاتياً بحتاً، ولا متشرعا يسن السنن ويقنن القوانين، بل كان (معلما) وقف فوق المنبر وقد أخذته الغيرة على الأدب، وثارت نخوته، نخوة الخائف على نهضة العصر أن تلوث في باكورة انبعاثها، فراح يصرخ صرخات الصدق والإخلاص، ويشرح مؤلفات الأدباء والشعراء المعاصرين، على طريقة المثال لا الحصر، ولم يكن (مقلدا قط) بل كان (نعيميا) أي نسيج وحده في القوة والتمييز والابتداع والخلق والرفق والشفقة، وما كان قط مموهاً أو ممالقا، لأن المموه الممالق ليس بأديب ولا بمخلص للأدب، ولو كان من كبار الكتاب والشعراء والمؤلفين.
حبيب الزحلاوي(672/38)
هذا العالم المتغير:
الصم يسمعون بعيونهم
للأستاذ فوزي الشتوي
قد لا تمر فترة قصيرة حتى يسمع الصم بعيونهم، أو بطريق آخر سيقرءونبعيونهم ما تنطقه شفتاك، وليس من الضروري أن يروك، بل تستطيع أن تحدثهم بالتليفون فيقرءوا صوتك بذات الطريقة التي تقرأ بها هذه الكلمات
وقد يبدو لك هذا الحديث غريباً، فتعال معي إلى أحد المعاهد الأمريكية لنرى رجلا ولد أصم، ومع ذلك يتحدث بالتليفون إلى أحد معارفه عن طريق جهاز حديث يحول الحديث إلى مركبات. وكان الأصم يرقب لوحة صغيرة تترجم عليها الأصوات إلى صور أمواج ظاهرة تتباين باختلاف مقاطع الحروف والألفاظ فيعرف هو معناها ويجيب عنها بصوته كأي إنسان عادي
فالصوت - كما تعرف - يبدو في لغة الطبيعة أمواجاً، وهي نفس النظرية التي تنقل إليك الأصوات في المذياع وفي آلة التليفون، ولكنه بدل أن ينعكس ويرد إلى أصوات تسمع يسجل في الموجات المرئية كما هي في الطبيعة بالاستعانة بصمام يشابه الصمامات المستخدمة في المذياع المصور (التليفزيون)
وهذا الجهاز الجديد في حجم الآلة الكاتبة الجديدة، وعلى لوحته يرى الأصم أمواج صوت محدثه كما يرى أمواج صوته هو، فيصحح أخطاءها إن حدثت، فإنك تعرف أن الأصم غالباً ما يكون أخرس أيضاً، ولا سيما إن كان الصمم قد أصابه وهو صغير فلم يتعلم مخارج الحروف ولا طرق النطق. فتعليم اللغة وإتقانها عادة نحصل عليها بالتقليد، كما أن القراءة والكتابة عادة أيضاً نحصل عليها بالمران، وما هو معروف بطريقة الخطأ والصواب
فالطفل في مهده يسمع أباه وأمه وجيرانه يتحدثون ويحاول تقليدهم، فمرة يصيب ومرات يخطئ، ويستفيد من خطئه كما يستفيد من صوابه، لأنه ينحو إلى تصحيح أخطائه في النطق كما يطمئن إلى نطقه المضبوط، وبالتكرار يتعوده ويصبح جزء منه ومن ثم تختلف اللهجات كما تختلف اللغات(672/39)
فإن كان الطفل أصم فهو لا يسمع، ومن ثم لا يقلد، أو بطريق آخر يصعب عليه أن يتعلم الحديث فنطلق عليه لقب أخرس؛ ولكن البلاد التي تعنى بتوفير الرفاهية لأكبر عدد ممكن من شعبها تسعى لتذليل هذه العقبة، ومن ثم ظهرت في أمريكا مدارس لتعليم الأطفال قراءة الشفاه، فإذا لعبت شفتاك أمام عيونهم عرفوا ما تقول وأجابوك فلا تكاد تحس بأنهم صم.
ورسم الكلمات أيضاً شيء اصطلاحي تواضع عليه أبناء اللغة الواحدة، فالعربي يرسم الفتحة الطويلة شرطة عمودية نعبر عنها بالألف، ويختلف عنه الإنجليزي أو الصيني وإن كان الجميع يتفقون تقريباً في نطقها. والطبيعة لا تعرف ما تواضع عليه الناس ولها كتابتها الخاصة التي تصور بها مخارج الألفاظ ورسم الحروف.
وكانت كتابة الطبيعة للألفاظ معروفة. ولكنها كانت كثيرة التفاصيل يعز على الناس التفريق بينها وفهمها فهماً دقيقاً حتى تيسر أخيراً تبسيطها باستخدام مرشحات تبرز المقاطع الواضحة، فمن سياق المعنى تعرف ما أقصد بكلمة (كتب) إن كانت كتب أم كتب إلى غير ذلك من الألفاظ.
ولهذا التبسيط ميزته إذ هو يزيل اختلاف اللهجات، فأجريت تجربة على ستة أفراد - ثلاثة رجال وثلاث سيدات - ولكل منهم لهجة تخالف لهجة الآخرين ونطق كل منهم بكلمة واحدة فكان شكل الموجة الصوتية واحداً في الحالات الست برغم اختلافهم في نطقها وحدتها ووضوح النبرات أو اندماجها.
وتكتب الطبيعة المخارج الصوتية بطريقة تخالف الطرق الإنسانية وتبذها في التعقيد، فبعض الألفاظ تظهر كثلاثة خطوط أفقية في أعلى اللوحة وخط في أسفلها وبعضها يبدو كالقارب أو مثل الثعبان مما يتطلب مراناً لا يقل عن المران الذي يتطلبه تعليم وسائلنا في كتابة اللغات البشرية.
وقد قدر تعليم الصم قراءة الكتابة الصوتية بقدرتهم على تعليم لغة حركات الشفاه، فوجد أن الأولى أصعب ولكن مواصلة المران لبعض أفراد فريق التجارب الأول أن يتلقى الإشارات التليفونية كأي إنسان عادي.
ومنذ فترة قصيرة أجريت تجربة هذا الجهاز أمام فريق من رجال الصحافة وكان المتحدثان رجل اسمه بلوم وامرأة اسمها جرين ولدا اصمين، خاطبته السيدة بقولها: (أهلا وسهلا(672/40)
يامستر بلوم. . . وكيف حالك). أجابها على الفور (إنني بخير يا آنسة جرين أشكرك) واستمر الحديث بينهما مدة تناولا فيها عدة موضوعات وهما متفاهمان كل التفاهم.
ولا تزال هذه الطريقة في تيسير الحياة للصم في مرحلة التجارب وإن كانت الخطوات التي خطتها واسعة يسرت كثيراً من العقبات؛ ولكن القائمين بأمرها يعتقدون أنها ستكون من خير الوسائل لتعليم الأطفال الصم وستخفف كثيراً من العناء الذي يلاقيه من يدربونهم على الحديث ويلقنونهم العلوم.
وهم يسجلون جميع المراحل التي تتناول صقل الجهاز وتبسيطه كما يسجلون مراحل تعليم الأفراد أيضاً ويقارنونه بشتى وسائل التعليم ليعرفوا أخطاءها فينقحوها، وبواسطة هذا الجهاز تيسر إصلاح النطق الفاسد في بعض الصم وإتقانه مما يبعث على الأمل في تعليم الصم في فترة أقصر.
ويتعلم الطفل الأصم في سنته الأولى نطق ستة ألفاظ فقط، فإذا بلغ سنته الثالثة في المدرسة تعلم نطق 50 كلمة، بينما الطفل العادي يتعلم في ذات الفترة 3000 كلمة وهو فرق كبير سيخفف منه ولا ريب رؤية الأطفال تصور موجات ألفاظهم الصوتية ومقارنها بصور الألفاظ الصحيحة.
وأهمية هذا الجهاز الكبرى في سهولة تعليم الأطفال أن ولدوا صما فنادراً ما يتاح للطفل الحصول على أي جانب من التعليم فيظل جاهلا طول حياته ويتعذر عليه أن يجيد صناعة يكتسب بها رزقه فضلا عن إحساسه بالنقص وتكوين مركبه في نفسه مما يقصيه عن المجتمع. وأعرف شابا بلغ العشرين من عمره ولكنه يهرب من أي إنسان يحاول الاتصال به فقد كون لنفسه بما رآه في صغره فكرة جعلته سيئ الظن بالمجتمع وأناسه.
ومن أكبر المشاكل التي يعانيها والده كيف يوفر له الحياة وسبل العيش في الحال وفي المستقبل؛ فالأب يعول همه وهو حي وبعد أن يموت، ولم يدرك وسيلة يمهد بها لمستقبل هذا الابن الذي لا يحسن عملا وليس في وسعه الانخراط في مهنة.
ومثل هذا الأشكال موجود في كثير من بيوتنا المصرية وغير المصرية ولا ندري كيف نحله ولكن تهذيب هذا الجهاز ووضعه في متناول الناس سيتيح فرصة تعليم الأبناء الصم؛ فهم حين يحسنون الكلام يحسنون القراءة أيضاً، وعندئذ تتفتح أمامهم أبواب الفنون والعمل(672/41)
فيعرفون ما يقوله المدرس وأصحاب العمل
وقد تيسر بوسائل أخرى مكافحة الصمم فخرج من أبنائه المهندسون والأدباء وأصحاب حرف شتى وهم يمتازون دائما بدقتهم وحذرهم مما يعد نتيجة طبيعية لعلتهم.
ولم يزل هذا الجهاز في مرحلة التجارب. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مائة ألف طفل مصابين بالصمم الكامل وعن طريقه يرجو الأخصائيون تخفيف متاعبهم وجعلهم أعضاء عاملين في مجتمعهم.
ومن البديهي أن الاستعانة بمثل هذا الجهاز ستوفر على كثير من الصم ونتيح لهم حياة أفضل حتى لا يكاد الإنسان يشعر بعلتهم، كما أنهم هم سيشعرون بأن العالم أقل غبنا لهم وأكثر ابتساما، ففي وسعهم بواسطته رؤية التمثيل والسينما وإدارة الأعمال بغير وسيط.
فوزي الشتوي(672/42)
فكرة وصورة. . .!
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
هذا خيالك قد بَرَح ... نسي المحبة وانتزح
وهجرت أحلامي فلا ... طيف يزور ولا شبح
فكأن قلبي من كؤو ... س هواك يوماً ما اصطبح
وكأن روحي في سما ... ئك يا فتاتي ما سبح
وكأن روض غرامنا ... بشذى الأزاهر ما نفح
وكأن بلبل حبنا ... بين الجوانح ما صدح
لم يبق بعدك يا فتا ... تي اليوم حزن أو ترح
ألفيت فيك مشاعري ... ووجدت فيك مثالها
إذ كنت صورة فكرتي ... فهويت فيك جمالها
فالصورة الحسناء من ... ك أنا اكتشفت خلالها
والفكرة الحسناء مني ... صرت أنت خيالها
لكن عبث بحسنها ... فعزمت عنك زوالها
إذ خنت رونقها الجمي ... ل وقدسها وكمالها
فسلبت حسنك فكرتي ... وبهاءها وجلالها
فإذا أتاك حنين شع ... ري في النسيم السائر
وذكرت ماضي بهجتي ... أيام حبي الغابر
وذكرت عهدك في الدجى ... ذكر الحزين الساهر
فأنا أناجي فكرة ... لا صورة في خاطري
فالصورة الحسناء فاني ... ة كأمس الدابر
والفكرة الغراء خا ... لدة خلود الشاعر
كانت وسوف تظل مل ... ء خواطري ومشاعري
عبد المجيد بن جلون(672/43)
البريد الأدبي
حول كتاب (الزواج والمرأة):
إلى الأستاذ الكبير الشيخ محمود أبو العيون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد، فقد طالعت ملاحظاتكم القيمة على كتابي (الزواج والمرأة). وأبادر فأشكركم على كلماتكم الرقيقة التي تفضلتم فوجهتموها إليّ ثناء على مجهودي في الكتاب، ولقد تقبلت هذه العبارات على أنها وجهت إليّ على سبيل المجاملة والتشجيع.
بقي أنكم أشرتم في رسالتكم أنكم كنتم تودون أن أبلغ نهاية الشوط مجلياً، فلا أغلو في الدعوة إلى منع تعدد الزوجات منعاً باتاً لأي سبب من الأسباب، ولاحظتم عليّ أنني أخطأت في فهم آيات القرآن، فربطت بين آيتي العدل في النكاح (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) لأصل من ذلك إلى حد كاد يلغي معه هذا الحق أصلا
وأبادر فأقول إنني ما نازعت أبداً في حق المسلم في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، ولقد قلت في بدء الفصل الخاص بتعدد الزوجات ما يأتي بالحرف الواحد: (لا جدال في أنه من حق المسلم بموجب نصوص القرآن وسنة الرسول والصحابة ما جرى عليه إجماع المسلمين في فترة من الزمان أن يتزوج أكثر من واحدة، وأن يتزوج اثنين وثلاثاً وأربعاً)
وهذه العبارة صريحة وقاطعة، فلا تحتمل شكا ولا تأويلا في أنني أعترف للمسلم في حقه في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الكتاب والسنة، ولكنني بعد ذلك رحت أبحث الكتاب من الناحية العلمية في وقتنا الحاضر، وأن التعدد في بلادنا قد أوجد مفاسد كثيرة وعمل على تفكيك روابط الأسرة إلى درجة أصبحت تهدد المجتمع المصري ما جعل الإمام المصلح الشيخ محمد عبده يدعو إلى منع تعدد الزوجات عملا بالقاعدة الشرعية (لا ضرر ولا ضرار). وإذن فقد ناقشت الموضوع، لا من حيث الشريعة، ولكن من حيث الضرورات الاجتماعية في وقتنا الحاضر، واستندت فيما دعوت إليه إلى روح التشريع الإسلامي التي تهدف في هذا الأمر إلى التضييق، وتعتبر كل تقليد فيه فضيلة بحيث يمكن(672/44)
القول بأن تحديد الزواج بواحدة من أهم الأغراض التي تقرها الشريعة الإسلامية وتستحبها.
وقد سقت على ذلك الأدلة القاطعة التي تظهر روح الشريعة الإسلامية ورغبتها في الحد من هذا الحق واستعماله. وقد أشرت في آخر البحث إلى إمكان إعادة النظر في قانون تحديد الزواج والعودة إلى إباحة التعدد متى حتمت ذلك الضرورات الاجتماعية، فقلت بالحرف الواحد: (فإذا تخيلنا ما يشيرون إليه دائماً من حدوث نقص في عدد الرجال خطير، بحيث يصبح عددهم نصف عدد النساء، فإنه من الممكن في مثل هذه الحالة الشاذة أن يعاد النظر في قانون حظر الزواج بأكثر من واحدة. . . فليس هناك ما يمنع تطور القوانين الاجتماعية بحسب الظروف والأحوال، وهذه هي روح الشريعة الإسلامية)
وظاهر من ذلك أنني لست ممن ينكرون حق المسلم في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الشريعة الإسلامية، وإنني لست ممن يغالون في منع التعدد لأي سبب من الأسباب، وكل ما هنالك أنني أرى في ظروف مصر الحاضرة ما يجعل حظر التزوج بأكثر من واحدة من الأمور المرغوب فيها لإصلاح المجتمع وتثبيت دعائم الأسرة المصرية.
أما في موضوع الطلاق، فإنني على رأيي من أنه يجب أن يتم في حضرة القاضي على أن يكون القاضي ملزماً بالحكم به بعد أن يعجز عن التوفيق بين الزوجين. لقد كان القدامى يعرفون قيمة الكلمة، أما اليوم وقد انحلت الأخلاق، فقد أصبح من الواجب ألا نجعل انحلال الأسرة وقفاً على كلمة يقولها شخص ما في حالة غضب أو نزق، وأحسب أن الشريعة الإسلامية التي تقرر أن أبغض الحلائل عند الله الطلاق، لا تأبى بحال من الأحوال أن يكون الطلاق على يد القاضي
وأنتهز هذه الفرصة لأقدم لفضيلتكم وافر شكري وتقديري، وتفضلوا بقبول عظيم احترامي.
أحمد حسين
أمل الفلاح:
نشرت مجلة (الرسالة) في عددها 670 هذه القصيدة التي نالت الجائزة الأولى في مسابقة الشعر البريطانية، وهي قصيدة جيدة ترفع من قدر ناظمها، وتشهد بعدالة المحكمين في(672/45)
المسابقة وفهمهم للشعر، غير أنه عن لي فيها مأخذان جديران بالملاحظة: الأولى في قوله:
وما سرى في أفقه كوكب ... إلا وغض الطرف من نحسه
فإن إقحام الواو بعد إلا لا تجيزه العربية، لأن جمهرة العلماء مجمعون على أنه إذا أتى بعد إلا فعل ماض امتنعت الواو من الدخول عليه، ويشهد لهم قول الله تعالى (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)، وقوله: (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون)، وقد حكموا بالشذوذ على قول الشاعر:
نعم امرءاً هرم لم تعر نائبة ... إلا وكان لمرتاع به وزرا
والأخرى في قوله:
واسقوه عذب الماء لا آسنا ... يرنق (المكروب) من كأسه
فإنهم نصوا على أن (لا) إذا وقعت بين الصفة والموصوف وجب تكرارها قال ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب) ص 346 ج2 ما نصه: (وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفرد خبراً أو صفة أو حال لا نحو زيد لا شاعر ولا كاتب، ونحو جاء زيد لا ضاحكا ولا باكياً، ونحو أنها بقرة لا فارض ولا بكر. وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية).
ومهما يكن من شيء، فإن مثل هذا لا يغض من جمال هذه القصيدة وروعتها.
علي جلال الدين شاهين
الملك:
قال لي صديق أمريكي وفد على مصر في غضون هذه الحرب: (إن المُلك قد أصبح على يد ملككم الشاب فناً جميلا، فقد جمع بين القدوة والمثال)
ذكرت هذه العبارة يقولها رجل تذكى الغربة مع نفسه كوامن التطلع وأنا أكاد أفرغ من دراسة ديوان الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل (الملك)
وما نستطيع أن نضع هذا الديوان مع دواوين شعراء المديح، وهي في العربية أكثر من الكثير، فلم تتغن شاعرية محمود في جلالة الفاروق لأنه (ملك)، ولكنها تغنت بها لأنه (الملك) أي (القدوة والمثال)، وأغلب الظن أنه فطن إلى هذا ساعة هدته فطرته إلى عنوان(672/46)
ديوانه. . .
وما نستطيع كذلك أن نسلك هذا الشاعر المصري وهو يسجل آيات المصري الأول مع شعراء المناسبات، وهو إنما كان المصري الشاعر الذي استطاع أن يقول ما يريد أن يقوله كل مصر فلا يستطيع!
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يصعد إلى أسوان ويجوس بين مصريين أضناهم المرض والإهمال فواساهم ونبه إلى العناية بهم وبأمثالهم؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك كالغيث في الصحراء على الأعراب البائسين في مضارب خيامهم يسعد فقيرهم ويبرئ سقيمهم ويحي فيهم كيان الأسرة، وهو يمنح الهبات للراغبين في الزواج؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يلتفت إلى هؤلاء الذين أدمى الحفاء أقدامهم، فكانت نداء بالعدالة الاجتماعية ويقظة الشعور الإنساني بهؤلاء المكدودين العاملين؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يمد جناحه على الناقهين لا تستطيع المصحات إيواءهم فيعدمون الغذاء والمأوى؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يكرم النوابغ من شباب المتعلمين، فيدعوهم إلى قصره ويحفزهم على إذكاء شعلة العلم النافع والعمل الصالح؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يوم تداعت الحدود القديمة وتهيأت الوطنية العربية للنهوض، فكان أول من حمل لواءها وجاهد في سبيل تحريرها، فرأينا أرزة لبنان تغرس على ضفة وادي النيل وتحت شرفة الفاروق؟
فإذا لم تتحرك شاعرية المصري العربي محمود حسن إسماعيل بآيات المصري العربي الأول، ففيم تتحرك إذن وبمن تشيد؟!
ويقول بعض الأدباء الذين يغلب النقد على فطرتهم: ما لهذا الشاعر يكثر من ذكر النبت من زهر وثمر، والأرض من نجاد ووديان، والماء من نبع وغدير؟
بل ماله يسرف في ذكر الخمر وكئوسها وأكوابها؟ وماله يسرف في ذكر النيل والهرم؟
حسب أولئك وهؤلاء أن يعلموا أن هذه الوحدات التعبيرية لم تقصد لذاتها، وإنما قصدت للدلالة على وطن أو حالة نفس، فهي رموز مشهورة ودلالات معروفة، وإليك مثالا واحداً:(672/47)
القصيدة التي عنوانها (فاروق)، فقد أورد فيها كثيراً من هذه الرموز ووضعها في مواضعها الدالة عليها، ولا على الشاعر إذا وقع على الرمز المشهور، وقد تجلت عبقريته في تأليف الصور وجمع الأحاسيس وعرض المعاني، وفي ذلك تتفاوت عبقريات الشعراء، بل وفيه تتفاوت آثار الشاعر الواحد بتفاوت موضوعه وانفعاله.
ومن الإنصاف أن نقول: إن شاعرنا كان شاعر الأمة المصرية العربية بهذا الديوان، وإن هذا الديوان ليس من دواوين المديح، كما يظن الأغرار، وإنما هو من دواوين الوطنية الصادقة
عبد الحميد يونس
عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية
العرب في إندونيسيا وموقفهم من القضية الإندونيسية:
يقطن بلاد إندونيسيا عدد كبير من العرب نزحوا إليها منذ عهد بعيد من جنوبي جزيرة العرب، وقامت بينهم وبين أهل تلك البلاد علاقة وثيقة تقوم على أساس الأخوة الإسلامية الوطيدة، ووقفوا إلى جانب إخوانهم الإندونيسيين تجاه أحداث الزمن خيرها وشرها.
إن رسالة العروبة والإسلام رسالة واحدة هي رسالة المساواة والعدالة والحرية والمثل العليا للإنسانية، فلما قامت إندونيسيا تناضل عن سيادتها واستقلالها وقف العرب هناك إلى جانب إخوانهم الإندونيسيين في هذا النضال، وهم الآن في الجيش الإندونيسي يخوضون معهم غمار المعارك تحت علم واحد، وفي سبيل غاية واحدة، كما أكد لنا ذلك أعضاء الوفد الإندونيسي عند اجتماعنا بهم في القاهرة قبل سفرهم إلى هولندا. ولا غرو فإن الهدف الذي تجاهد إندونيسيا في سبيله هو هدف كل عربي وكل مسلم أينما كان على وجه الأرض، بل هو هدف كل إنسان يؤمن بالحرية الإنسانية الحقة.
وقد سبق للعرب في إندونيسيا في مؤتمرهم الذي عقد بمدينة (سولو) بجاوة في شهر مارس 1946 أن وجهوا إلى سعادة الأمين العام للجامعة العربية، وإلى الدول العربية نداء طلبوا فيه تأييد إندونيسيا والاعتراف بجمهوريتها.
ونحن نكرر هنا هذا النداء إلى جميع الدول العربية، فإنها أحرى من يبادر إلى تأييد(672/48)
إندونيسيا والاعتراف بحكومتها الجمهورية
عرب إندونيسيا بمصر(672/49)
القصص
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
عضو المجمع اللغوي الفرنسي
بقلم الدكتور محمد غلاب
2 - المواسي:
26 مايو
ها أنذا منفردة هذا المساء أيضاً شأني في كثير من أمسية هذا العام، فأين راءول الآن يا ترى؟
لم أسأله هذا السؤال، لأني تعبت من كثرة الكذب المستمر السهل على لسانه، ومن تشابه الجواب دائما، وهو (إني ذاهب إلى النادي، بيد أنه ينبغي أن أكون مخلصة، ففي هذا اليوم وضع نفسه تحت تصرفي وعرض عليّ أن أصحبه إلى منزل أحد أصدقائنا حيث تمثل رواية (الضابط) الهزلية، ولكني علمت أن الآنسة (دي جيفيرني) ستمثل في هذه الرواية دور (الساذجة العصرية) وهذا النبأ سلبني كل رغبة في مشاهدتها. أما راءول، فهو لا ريب ذاهب إليها، وكذلك مدام ديلافو من غير شك. وفي هذه اللحظة هو بجانب إحداهما، وهو يلقي على صدريهما تلك النظرة التي هي مزيج من إعجاب وسخرية، والتي يلقيها دائما على النساء اللواتي يشتهين ولا يحترمهن، أما أنا ففي الوقت الذي كان يحبني فيه لم يكن يلقي عليّ مثل هذه النظرات الساخرة، ومع ذلك فلا ينبغي أن أفكر في شيء من هذا، إذ لديّ ما يعزيني وينسيني كل شيء، وهو طفلي العزيز، ولقد أذنت لمربيته الليلة في أن تتنزه، وإذاً، فأنا التي سألاحظه في سريره.
إن رينيه نائم الآن على ظهره، وهو يضغط شفتيه، ويزقزق من حين إلى آخر كالعصفور الصغير، فيجب ألا نوقظه، لأنه إذا استيقظ من نومه الأول لا يغفو إلا حين يجيء موعد نومه الثاني إذ أنه ينام بنظام وفي أوقات معينة.
إن مربيته تقول لي إن الناظرين إليه في الحديقة العامة يقدرون له أكثر من سنه، ولعلها(672/50)
تقول ذلك لتسرني، لأنني أتمنى أن يكون أطول الأطفال وأقواهم وأجملهم وأذكاهم من غير استثناء، إذ هذه كبرياء الأم أنانيتها، وهي كبرياء مباحة وأنانية مشروعة فيما أعتقد.
ما ألذ لغة رينيه المكسرة على مسمعي! ولقد تقدمت صحته قليلا منذ بضعة أيام، ومع ذلك فالطبيب يجيء ليعوده في كل صباح. واليوم لم أستطع أن أحصل منه على جواب صريح يطمئنني على صحته كما كنت أرجو. وكلما أفكر في ضعف صحة هذا المخلوق المعبود وأتخيل أن حمى خبيثة تستطيع أن تخطفه مني في بضع ساعات، أصير على أتم استعداد للجنون، وعلى أثر هذا الخيال أنتصب واقفة وأجري إلى مهده دون أن أشعر، ولا أطمئن إلا حين أرى تنفساته تحرك الغطاء بنظام، أو أرى فمه الحالم يلوك في هدوء لغة النوم. وفي أثناء هذا كله، وحين أكون ساهرة بالقرب من سرير طفلي يكون راءول مشغولا بالحصول على وعد من مدام ديلافو، أو بمحاولة الاختلاء بالآنسة جيفيرني لأن الأمر انتهى بي إلى أن أومن بأن هذه المغازلات لم تعد بريئة طاهرة، فتجاربي الشخصية من ناحية، وآراء والدتي من ناحية أخرى قد أزالت من نفسي تلك السذاجة التي كانت تغشيها إلى عهد قريب. لقد كانت والدتي تقول لي دائما: (إذا لاطف زوجك سيدة، فكوني على يقين من أن الفرق بين المغازلة والخيانة منحصر في غيبة الإمكان المادي، فإذا تيسر هذا الإمكان زال ذلك الفرق). آه من المغازلة! تلك الكلمة المرعبة المنافقة التي تخفي تحتها كثيراً من المزعجات التي كلما أسمعها تنطق أمامي أرتاع كما لو أني أسمع إحدى الكلمات الوقحة الجارحة.
لكي أمضي الساعات التي سأقضيها ساهرة إلى جانب سرير الطفل، دخلت حجرة تدخين زوجي التي يستقبل فيها أصدقاءه الأخصاء، لأتصيد منها بعض صحف أو مجلات أتلهى بها، فوجدت (الفيجارو) و (جيل بلاس) و (الجولوا) و (الكلمة الحرة) فجمعتها، لأتصفحها. غير أن راءول - لتفريطه في النظام وإفراطه في حسن النية - كان قد ترك حلقة مفاتيحه معلقة في درج المكتب، ولكن هل فتنتني هذه الفرصة فخطر لي أن أتعقبه؟ حقا إني لا أعتقد ذلك، بل إن الذي استولى عليّ في هذه اللحظة هو حب الفرار من هذه الفتنة فنجوت بنفسي نقية اليدين وعدت إلى حجرتي. وفي الحال دعوت الخادم جوزيف وهو أخلص الخدم إلى زوجي، لأنه في خدمته منذ أن كان صبياً، وهو لهذا كان يعاديني، فلما جاء(672/51)
أمرته أن يأتيني بالصحف فأتى بها ونزع المفاتيح، وهذا هو الذي كنت أقصده لأنجو من هذه الفتنة الأخلاقية.
فلنقرأ الصحف لنتسلى بها. إن بعض هذه الصحف تضايقني لأنها جدية جافة، أما البعض الآخر الذي يستعذبه شبابنا من الأخوة والأزواج فهو مالا أتذوقه ولا أفهمه. وهناك عدد من الصحف تؤلمني مطالعته لأنني أرى فيه تشويه الأخلاق أو جرح الفضيلة. ومن هذا النوع الأخير هذه الصحيفة التي يقول عنها راءول إنها تُعنَى بأخبار النوادي والحفلات، وأنباء النساء الماجنات. وفي الواقع أنها كذلك حيث أرى الآن فيها هذا العنوان (الرجل الذي قتل كلبه بعد موت زوجته). ولاشك أني لا أفهم هذا النوع الشائك من الأخبار ولا أستحسنه.
وهناك نبأ آخر في هذه الصحيفة يحدثنا أنه قد لُمحَت أمس في غابة بولونيا الآنسة (إيرماديكلوزبيه) و (مارجريت ديبورجوني) و (ميس شامباني). ولست أدري أي شخص يعنيه هذا النبأ الذي استنفذ أثني عشر سطراً؟ لا ريب أنه يعني عشاق هاتيك النساء ولابد أن يكونوا كثيرين حتى تكترث هذه الصحيفة بإرضائهم. فأما السياسة فسنتخطاها، ولننظر حالا في الحوادث المختلفة. هاهو ذا نبأ عنوانه (سيدة غيورة تطلق المسدس على زوجها). مسكينات تلك الزوجات! إنهن في جميع الطبقات من أعلاها إلى أدناها هن المهجورات، ولكن كيف يستطعن التصميم على قتل من أحببن؟!.
والآن لنلق نظرة على رسائل القراء التي يتخاطبون بها عن طريق الصحيفة ففيها شيء من التسلية، لأنها تحوي طائفة كبيرة من المآسي والمهازل.
وبينما أنا أقرأ في هذه الرسائل، إذ رأيت الدنيا تضطرب في عيني فجأة، وأحسست كأن قلبي يتشرب كل ما في جسمي من دم، وسقطت الصحيفة من يدي، ومال جسمي على المقعد بعد أن فقد توازنه الطبيعي. وظللت كذلك ساعة من الزمن، فلما عدت إلى نفسي تناولت الصحيفة من جديد وحدقت في نفس السطر الذي قلبت كياني مطالعته، وهو يشتمل على ما يلي: (ر. - سرور! غداً مساء (السبت). إني نجحت في أن أتخلص من هذا الريف المزعج، وسأكون في العش المختار في الساعة العاشرة مساء، ولكن لا تجيء إلا إذا كنت قد صممت على أن تكون عاقلا (الإمضاء) سوز).
لماذا اقتنعت في الحال ولأول وهلة أن حرف الراء رمز لراءول زوجي، وأن سوز هي(672/52)
سوزان ديلافو؟ فأما التعقل المنطقي فليس ما يؤيدني في هذا اليقين، إذ لا أعرف أن مدام ديلافو غائبة عن باريس، بل إنني قلت لراؤول محاولة المزاح قليلا: إنك سترى في حفلة الليلة سوزان الجميلة، فبتسم ابتسامة لم تلبث أن اختفت خلف لحيته السوداء ولم يحاول الدفاع عن نفسه.
فهل كان يجهل غيابها أو كان يسخر مني؟ لا أدري، ولكن الذي أنا واثقة منه هو أن هذه الرسالة الصغيرة موجهة إلى راؤول من مدام ديلافو، وأني موقنة بهذا إيقانا لا يقبل الجدل وعن طريق خفي. إني أعيد قراءة تلك السطور المرعبة كلمة كلمة؛ وإن كل عبارة من عباراتها تبدو لي كأنها كائن حي. يا لله! إنها مبدوءة بهذه اللفظة الماجنة: (سرور) حقاً إنه لسرور حينما تنفلت من زوجها معتذرة إليه لا أدري بأي كذب، لتلقي بنفسها بين أحضان أدنأ الجرائم وأشنعها. . . سأكون في العش المختار. . .!. إنني محتفظة بعواطفي، ومع ذلك فلم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. (العش المختار!) إذاً، إن ما كنت أخشاه منذ زمن لحق، وإنه لحق أيضاً أن الرجل الذي منحته نفسي بواسطة الزواج يستمتع بحب في باريس، وفي منزل آخر غير الذي أعيش فيه أنا وطفلي. غير أن الجملة الأخيرة من هذه الرسالة وهي: (لا تجيء إلا إذا صممت على أن تكون عاقلا). هذه الجملة - على ما بها من رفع الكلفة المقززة - تركت في نفسي شيئا من الأمل، إذ لو أنها تحبه لما قالت له هذه الكلمة. هاهي ذي حاضنة الطفل قد عادت من دار التمثيل، فلنرسلها إلى غرفتها لتنام، أما أنا فسأقضي الليلة هنا إلى جانب مهد ابني، ولعل وجودي بجانبه يحول بيني وبين اليأس، وأما راؤول فلا أستطيع أن أراه اليوم مطلقاً. أوه يا عزيزي المواسي الصغير!.
3 - القلق:
27 مايو
مبدأ حزين ليوم حزين، فالسماء تمطر، والمطر الحزين يتفق مع ما أنا فيه الآن من حزن وألم. وكل شيء يثقل كاهلي وجميع العوامل السيئة قد تكاتفت على إنهاكي، إذ ان الطفل قد أمضى ليلة سيئة وكان في نهايتها شديد الهياج، مرتفع الحرارة وإن كانت حالته قد تحسنت قليلا في هذا الصباح. وأنا أنتظر الدكتور (روبان) بفارغ الصبر. أليس ذلك كثيرا عليّ يا(672/53)
إلهي؟ أو ليس فوق طاقتي أن ترسل إليّ هذه المحن الأخرى على أثر الأولى؟ لأني الآن لم أعد أشك في صحة ما ظننته، إذ قد سألت راؤول في هذا الصباح بعد أن حاولت أن أكون هادئة فقلت: هل مدام ديلافو كانت أمس في تلك الحفلة؟ فتردد لحظة قبل أن يجيبني ثم قال: (لا أظن ذلك، لا، إنها لم تكن هناك يقينا).
ولكني ألححت قائلة: (هل كانت غادرت باريس؟)
فلما سمع هذا سؤال ظهرت على وجهه حركة جزع ثم قال في غضب: - لا أدري يا صديقتي العزيزة! وهل أنا حارس مدام ديلافو؟ ومع هذا فإني أتوسل إليك أن لا تحدثيني عن هذه الإنسانة التي تبغضينها ولا أدري لماذا، لاسيما وأنها تحرص دائما على أن تكون في حضرتك غاية في الكمال.
في هذه اللحظة بألوان من الحقد تتجمع في نفسي حتى منعتني من أن أجيب على عبارته الأخيرة؛ بل أني لم أرد أن أنبئه بقلقي على الطفل، فليكن مايكون، وليعبث كما يشاء، ولينغمس في اللهو خارج المنزل، فأنا أريد أن أحمل مفردة عبئ قلقي، والطفل لم يعد ابنه فسأتولى وحدي شؤونه.
كانت الساعة العاشرة صباحا حينما دخلت الخادمة إلى غرفتي وأنا غارقة في هذه الهموم ومعها علبة مليئة ببعض المشتريات، ونبأتني أن عاملا من أحد المتاجر الكبيرة التي نعاملها قد حملها إلى المنزل وكلفها إيصالها إليّ، ثم قالت الخادمة: إن العامل منتظر خارج الباب، لأنه ليس متأكدا أن هذه العلبة مرسلة إلى سيدتي، فتناولتها فإذا عليها هذا العنوان: (مدام دي بواستيل) رقم 13 شارع فيزيليه.
هذا هو إسمي، ولكنني أنا أسكن (فوبورسان أو نوريه) لا شارع فيزيليه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اسمي في هذا المتجر (الكونتيس دي بواستيل) تبين أن في الأمر شيئا أو أن هناك خطأ، فدعوت العامل وقلت له:
- إنني لم أوصي بشيء من متجركم، فاحمل هذا وانصرف لأني لا أدري ما هو.
- يا سيدتي: - نحن شككنا ذلك، وظننا أن هنالك خطأ، لأن عنوان سيدتي عندنا، بيد أن سيدي الكونت جاء بنفسه فأوصى بهذا الطلب وأعطانا هذا العنوان؛ ولكن بما أني ذهبت إلى شارع فيزيليه فلم أجد أحدا في المنزل الذي الذي عينه لنا. . . وفي هذه اللحظة امتقع(672/54)
لوني، فأدرك العامل أنه اقترف غلطة كبرى، فصمت فجأة، لأنه فهم كل شيء، فتحاملت على نفسي وقلت له: حسن ما تقول، ولكن احمل هذا فإنه ليس لي. قلت ذلك للعامل وانزويت في غرفتي واستسلمت إلى البكاء.
وهكذا بعثت المصادفة إلي بسر زوجي، فأنا كنت أعرف أن مدام ديلافو قد حددت هذا المساء لاجتماعها به.، والآن أعرف كذلك أين مكان هذا الاجتماع، إذ أن راؤول قد بلغ به الاستخفاف إلى حد أنه لم يحاول إخفاء اسمه في هذا المنزل الذي اختاره للخيانة الزوجية. ولا ريب أن شريكته في الجريمة تدعى في ذلك المنزل بالكونتيس دي بواستيل، فماذا يجب عليّ أن أعمل؟ أليس من واجبي أن أحول بين زوجي وبين الإجرام؟
نعم قد كنت فيما مضى أمتعض من أن أقوم بتحقيق هذه الخيانة وأن أتعقب الجناة، ولكن ما الذي يمنعني الآن من أن أنذره ومن أن أجاهد ضد هذه المرأة، لأصرفه عنها؟
إنني أستطيع حين يعود راؤول للغداء أن أقول له: إني عرفت كل شيء، وأن أشرح له المصادفة التي أنبأتني بالرغم مني. أجل سأشرح له ذلك، ولكنه سينكر، فقد تعلم الكذب بمعاشرته تلك المخلوقة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فأنا أصبحت لا أحسن المناقشة معه، ولهذا أخشى أن تنتهي المسألة بمشهد عام. وعلى أثر ذلك سيخرج من المنزل جاذبا الباب وراءه بقوة كما هي عادته، ثم يذهب ليتعشى في النادي ويتجه بعد ذلك إلى شارع فيزيليه، ليلتقي بعشيقته. فمن الخير إذاً، ألا أقول له شيئا وأن أسبقه إلى ذلك المنزل فأقف أمام الأمر الواقع بين زوجته وعشيقته، وإذ ذاك لا يستطيع أن ينكر، وله في تلك الساعة أن يختار بيني وبينها. ولكن ما أفظع الانتظار في الطريق وما أشنع تلك المقابلة وإن كانت هي الواجب!
الساعة الثانية بعد الظهر من اليوم نفسه:
- لقد جاء الطبيب ولم يطمئني عن صحة الطفل فحالته سيئة ودرجة حرارته مرتفعة وهو يبكي ويرتعد، وكلما ألمس أي عضو من أعضاءه الصغيرة أجده يتصبب عرقا. ولقد سألت الطبيب قائلة: هل هو في خطر؟ قل لي الحقيقة، إنني أريد أن أعرف.
فهز رأسه وظهرت عليه علائم الشك ثم قال:
- خطر. . . يا إلهي. . . أنا لا أدري. . . في هذه اللحظة هو محموم، وهذا كل شيء،(672/55)
والحمى يمكن أن تذهب كما جاءت.
فسألته قائلة:
- وإذا لم تذهب؟
- أوه! إذا لم تذهب، فإنها ستتطور إلى مرض من أمراض الأطفال مثل الحصبة أو الحبوب القرمزية.
- إني آمل على الأقل أن لا يكون الجدري.
الجدري! هذا هو الذي يروعني، إذ قد قرأت في الصحف هذا الصباح أن ذلك الوباء قد بدأ يقل، ولكن لا يزال له ضحايا. فهل الإله الذي سلب من تلك الأمهات المسكينات نعمة سرورهن وهي أطفالهن، سيعافيني أنا من هذه الكارثة؟
إن الطبيب لا يعرف ماذا يقول، ولهذا ينطق بمثل الكلمات التي أنطق بها لأسلي بها نفسي، وهي: أن الطفل في صحة حسنة، وأن مرضه إلى الآن ليس خطرا، ولكن من المؤسف أن كل ما يقال لي لا يطمئنني.
اليوم لم نكد نتحادث على مائدة الغداء، ومع ذلك فقد لاحظت على راؤول اتجاها حسنا ينعطف به نحو الاستسماح وكأنه كان يقوم بمجهود، لأغفر له سوء المزاج الذي ظهر منه في هذا الصباح أو الخيانة التي ينتويها في هذا المساء، وقد سألني قائلا:
- هل الطفل أحسن حالا؟
فأجبت قائلة:
- لا، بل بالعكس، إن ليلته كانت سيئة، وإنني لقلقة. قلت هذا والدموع تطفر من عيني غضبا بقدر ما كانت تطفر حزنا. فلما رأى هذا نهض واقفاً وأراد أن يقبلني، وإذ ذاك تذكرت تلك المرأة التي يلمس خديها وشفتيها أيضا، فابتعدت سريعاً مدفوعة بغريزتي ولم يلمس مني إلا شعري، فعاد إلى مقعده ولاحظت عليه في هذه اللحظة أن لونه صار شديد الامتقاع، وتملكه الانفعال حتى كسر قاعدة كوبته، ثم ظللنا ساكتين إلى أن انتهى الغداء. وعلى أثر ذلك، وفي نفس اللحظة التي أخذ يشعل فيها لفافته صعدت إلى حجرة الطفل.
كن رؤوفا بي يا إلهي وساعدني وامنحني الثقة والشجاعة اللتين تمنح المرأة المتدينة إياهما في وسط ما تبتليها به من أحزان، فأنا أشعر في قرارة نفسي أن قوتي لا تكفي لمقاومة(672/56)
هجوم كل هذه المقلقات، وأنا أعلن ضعفي وانهزامي أمام هاتين المحنتين! يا إلهي اعف عني، فأنا لا أعرف إلا شيئا واحدا وهو أني أسألك أن تنجيني منهما كلتيهما، فليس عندي من الشجاعة ما يجعلني أحتمل أن يسلب مني راؤول ورينيه، إنني أفضل أن تصعقني أنا، لأني عديمة النفع في هذه الدنيا، ولأن أقدم إليك حياتي عن طيب خاطر خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة طفلي.
(يتبع)
محمد غلاب(672/57)
العدد 673 - بتاريخ: 27 - 05 - 1946(/)
الله وما بعد الحرب!
للأستاذ عباس محمود العقاد
سئلت في أواخر الحرب عن الموضوعات الأدبية التي ستكثر الكتابة فيها بعد عودة السلام، فقلت: أنها هي الموضوعات الروحية والموضوعات الجنسية.
وسبب الإكثار من الكتابة في كلا الموضوعين واحد وهو الحيرة وقلق النفوس والرغبة في السلوى والاستقرار.
فالذين فقدوا الأعزاء يحبون أن يشعروا بعالم الأرواح ليشعروا (بوجود) أولئك الأعزاء وأنهم غير مفقودين.
والذين يئسوا من حكمة البشر يحبون أن يركنوا إلى حكمة الله، لأنهم لا يستريحون إلى اليأس من الأرض واليأس من السماء.
والذين غلبتهم الأحزان والآلام يحبون أن يغلبوها بقوة الإيمان، وأن يقابلوا شيئاً من الخوف بشيء من الاطمئنان.
قلوب تشعر بالهم والقلق وتحب أن تشعر بالسلوى والاستقرار، لهذا يكثر البحث عن الأرواح والكتابة في مباحث الأرواح ولكن القلق الإنساني قد يلتمس السكينة من طريق غير هذه الطريق.
فالأجسام المستثارة تطلب الراحة فيما يلهيها وما يلذها، ويهيئ لها الأسباب في مجال اللهو واللذة أن الحرب تركت مئات الألوف من الفتيات بغير أزواج وبغير عائلين، وأنها تركت ألوف الألوف من الدنانير في أيدي العاطلين أو أشباه العاطلين، وأنها علمت الناس أن يحفلوا بساعتهم ولا يحفلوا بما بعدها، وأن يستمتعوا بالحياة لأنهم على نذير في كل لحظة بفقد الحياة.
لهذا يكثر الإقبال على موضوع الجسد كما يكثر الإقبال على موضوع الروح، ولهذا توقعنا أن تنجلي الحرب عن إقبال عظيم على متاع هذه الدنيا وإقبال مثله على متاع السماء.
وانتهت الحرب فرأينا أول الشواهد على شيوع الدعوة الدينية من قبل العالم الإسلامي في الهند خاصة، وسرنا أن يتيقظ المسلمون في هذا المجال مع الإيقاظ، فإن النوم في هذا العصر يضيع على صاحبه الحقيقة ويضيع عليه الأحلام.(673/1)
وجعلنا كلما قلبنا مجلة من المجلات السيارة في الغرب رأينا فيها دليلاً على هذه اليقظة الروحية وهذا الشوق العريق في النفس البشرية إلى عالم غير عالم الحس والعيان.
ومن أمثلة هذه اليقظة تحفز العالم البروتستانتي في الولايات المتحدة لاستعادة سلطان الكنيسة على اتباعها وإدخال التعليم الديني في جميع المدارس العصرية. فإن رؤساء الكنيسة هناك يستعيرون عنوان ويلكى (للعالم الواحد) لينشروا الدعوة إلى (عالم واحد في ظل العقيدة الدينية) ويودون لو هيأت الحرب ومنازعاتها فرصة للسلام بين الأديان أو فرصة لاتفاق الناس في عالم الروح.
قال خطيب منهم في المجمع البروتستانتي بمدينة نيويورك: (إن الدين خليق أن يكون أكبر القوى الموحدة بين الأسرة البشرية. فهي تعرف به قوة إلهية واحدة وقانوناً أخلاقياً واحداً وأسرة واحدة من بني الإنسان. ولكنه على نقيض ذلك كان عاملاً من أكبر عوامل التفريق والتمزيق بين كل قبيل، ومهد الغدر لذلك الأيرلندي الساذج الذي أحزنه طول الخصام بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية فقال: ليت الله يجعلنا كلنا ملاحدة ننكر وجود الله أصلاً لنعيش معاً بعد ذلك كما ينبغي أن يعيش المسيحيون. . . في سلام!)
وقال هذا الخطيب - هاري ايدسون فوسديك - إنه لا يعني بالوحدة الدينية أن المسيحية مثلاً تعلم أتباعها ما يتعلمه البوذيون من ديانتهم أو من البيئة البوذية، ولكنه يلاحظ أن الذين سعدوا بعشرة أناس من البوذيين أو المسلمين المهذبين يحسون شيئاً من القرابة بين المؤمنين بهذه العقائد الدينية، ويرجون صادق الرجاء أن تتيح لهم هذه القرابة سبيل التعاون على بلوغ الغاية المشتركة التي ننشدها أجمعين.
وعند الخطيب أن الخلافات الدينية قد نشأ أكثرها من الجدل العقيم، ويضرب لذلك مثلاً رواه عن لويد جورج السياسي البريطاني المشهور بفكاهاته الجدية وفكاهاته الهزلية على السواء. قال إنه كان يسوق سيارته في بلاد الغال الشمالية ومعه صديق يتحدث إليه في شؤون الديانة، فقال السياسي الكبير: (إن الكنيسة التي أتبعها تتمزق الآن بنزاع عنيف على مسألة التعميد، فطائفة منها تقول إن العماد إنما يحصل باسم الأب، وطائفة أخرى تنكر هذا وتقول: بل يحصل العماد إلى اسم الأب ولا يحصل بحرف الباء. وإنني لا أكتمك أنني تابع إحدى هاتين الطائفتين وإنني شديد الغيرة عليها وعلى استعداد للموت من أجلها.(673/2)
ولكنني نسيت أي الطائفتين هي التي أتبعها. . . طائفة (أمي) أو طائفة الباء!
وما رواه لويد جورج من باب الفكاهة هو الحاصل جداً وفعلاً في جميع الديانات الكبرى. فإن الشيع التي تتفرق فيها إنما تختلف أحياناً على شيء أيسر من الاختلاف بين حرفي الجر الصغيرين، ولكنه اختلاف يكفي كل طائفة من طوائفها لتكفير الطائفة الأخرى وإرسالها مع اللعنة إلى قرارة الجحيم!
وإذا جاز هذا في عصر الجدل فإنه لغريب جد الغرابة في عصر المشاهدات والأعمال. فقد كان (البرهان الجدلي) أساس المعرفة كلها سواء في العلوم أو في العقائد والأخلاق. فأما وقد أصبح لهذا (البرهان الجدلي) شركاء لا يقبلون منه استبداده المطلق فقد آن لحروف الجر وما شابه حروف الجر أن تقنع بمكانها في الأجرومية، أو أن تستغني بما يسفك حولها من المداد عما كان يسفك حولها من الأرواح.
وقد أشار الخطيب الأمريكي بحل لهذه المعضلة لا يبشر بالخير الكثير، لأنه يرجع بالخلافات التي من هذا القبيل إلى إباحة التفسير الديني لمن يشاء من قراء الكتب المقدسة، فكلما أتفق خمسة أو ستة على تفسير جديد لكلمة من كلمات الإنجيل خرجوا من كنيستهم وأنشئوا لهم كنيسة جديدة تنتمي إلى رئيس جديد، حتى عدت هذه الكنائس المتشعبة بالعشرات وصح فيها قول لويد جورج إنهم يختلفون ثم ينسون سبب الخلاف.
وإذ كان هذا هو الداء فالعلاج الذي يومئ إليه الخطيب أن يناط التفسير بالقادرين عليه ولا يستباح لكل مستبيح من العامة وأشباه العامة، فينحصر الخلاف إذن في أضيق الحدود. ولكنه علاج غير جديد في الديانات، فقد كان (حق التفسير المحصول) علة الانشقاق ومبعث الهجوم على حرية التفسير.
وإنما العلاج الجديد الذي يرجى أن يفيد فيما نعتقد هو توسيع حق التفسير حتى لا يكون فيه حرج على أحد ولا يوجب من فريق أن يعادي الفريق الآخر كلما عارضه في تفسيره. فتوسيع الأفق هو خير علاج لضيق الحظيرة، وقلة الصبر على فوارق الكلمات والحروف، وإقامة الدين على الأسس العامة هو العاصم للدين من تفتيت العقائد في الزوايا والسراديب. فليشمل الدين جميع المختلفين إذن ماداموا متفقين على الإيمان بقواعد الحق والخير والصلاح، وليذهب عصر الجدل الكلامي ليخلفه عصر الوحدة الواقعية التي تقوم على(673/3)
اتفاق العقول في النظر إلى حقائق الوجود.
وقد أحسن الخطيب الأمريكي في كلامه عن الفصل بين الدولة والكنيسة لأنه يقول إن الفصل بينهما قاعدة أساسية في حكومة الأمة الأمريكية، ولكنه ينتقده إذا فهم القول من معناه أن تعليم الأديان محرم في المدارس وأن تعليم الإلحاد فيها مباح ومطلوب.
ففي الوقت الذي تدرس فيه كتب (فرويد) ويتعلم منها الناشئ أن الديانات وهم من أوهام العقل الباطن وحيلة من حيل الغريزة الجنسية، ينبغي أن يتفتح عقله لسماع كلام غير هذا الكلام عن دعاة الروح وسير القديسين والأنبياء، وينبغي أن يتوازن تفكيره بين وجهات النظر حتى لا يصبح التحيز إلى جانب الإلحاد آفة عقلية شراً على رأس الناشئ من التعصب الديني الذميم، ومن ضيق العقل في ناحية الإيمان والتسليم.
وهذا كله صحيح لا يختلف فيه المنصفون. فمهما يكن من شأن الدين فهو تراث إنساني عريق الأصول شديد السلطان على العقول، فليس في وسع أحد أن ينساه أو يتناساه في دور التنشئة والتعليم. وليس من العقل نفسه أن يستخف بقوة كهذه. القوة كأنها قد خرجت خروج الأبد من ميدان الحياة الإنسانية فإن الذي يريد أن يخرجها خروج الأبد لم يلبث هو نفسه على قدمين بضع سنين!! وقد رأينا المبشرين بالفلسفة المادية في روسيا الشيوعية يحنون الرؤوس أمام هذه القوة ويفسحون لها الطريق مكرهين، فإذا كانت في هذه التجربة عبرة (عقلية) و (علمية) فعبرتها العقلية والعلمية أن قوة الدين حقيقة راسخة لا يستأصلها كل من يريد، وهو لا يدري ما يريد.
وفي مجلة أمريكية - هي مجلة هاربر المشهورة - بحث آخر عن موضوعين: موضوع التقاليد الدينية وموضوع الغريزة الجنسية، يقول فيه الكاتب - جون مكبارتلاند - إن كنيسة الشعب الأمريكي في الأجيال الثلاثة الأخيرة قد تغيرت مدى بعيد، ولكن العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية لم يصاحب هذه التغيير إلى أقصى مداه ولا إلى بعض مداه. فنحن أمريكين اليوم نحب النهود والأفخاذ لأننا نشاهدها كلما فتحنا الشرفة أو ذهبنا إلى الصور المتحركة أو نظرنا إلى غلاف رواية، ولكننا نستعيذ منها في (البيئات المحترمة) كأنها رجس من عمل الشيطان، فما مصير هذه (الثنائية) الكاذبة في المعيشة والأخلاق؟
مصيرها تدل عليه وثائق الزواج والطلاق. فقد أحصيت نسبة الطلاق في أربعمائة ألف(673/4)
وخمسين ألف زواج فإذا هي تربى على تسع وتسعين في المائة. . . فهلا تكفي هذه النسبة لإعادة الحجر على الموضوعات الجنسية أو عندك أيها القارئ - كما يسأل الكاتب الأمريكي - علاج جديد؟
ونقول: بل العلاج الجديد غير بعيد.
فالعلاج الجديد في عالم الروح، ولكنه الروح الرشيد الذي لا ينكر الجسد كما أنكره الأقدمون، وفي هذا الميدان متسع لدعاة الإسلام (الراشدين) الذين يوسعون الآفاق ولا يضيقون الخناق، لأن الإسلام دين يعرف للجسد حقه ولا يناقض بينها وبين حقوق الروح.
عباس محمود العقاد(673/5)
3 - في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل
الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
معذرة أيها الأستاذ الكريم، وعتباً!
لم أقصد - شهد الله - أن أهمز أو ألمز، أو أرمي بعبارة، أو أومئ بإشارة، إلى ناحية الرسالة، أو مكان رئيسها العزيز الكريم. وما كنت يوماً بذي وجهين، ولا أنا ممن يتكلمون بلسانين، وأرجو أن يكون الله يعلم ذلك مني ولم يكن للرسالة عندي، وليس لصاحبها الجليل في نفسي، إلا التقدير والاحترام؛ وإلا ما عنيت من أنه أبن الأزهر البار، البارع الفن، المعتدل الرأي، الذي يعده الأزهر فيمن يعدهم من مفاخره، ويعتز بهم جنوداً يدفع بهم عن كونه في مستقبله وحاضره!؟
إنما كان من سوء حظي وسوء حظ الأزهر أن جرى قلم الأستاذ الفاضل برأي لم يسبق للأزهر أن سمعه فيما سمع من دعاوى تقام عليه، وتهم توجه إليه، وسهام تصوب عليه. وآخر ما كان يجري على ألسنة أولئك الذين يرون الأزهر قذى في الأعين وشجى في الحلاقيم: أن الأزهر تنقصه الثقافة، وتعزه اللباقة والحصافة: وأنه لابد من توحيد تخريج المعلم، ليصقل خريج الأزهر بصقال العصر الحديث. هذا اشد ما كانت تلوكه ألسنة المتجنين على الأزهر أو ترمى به نبال الجانين عليه: سمعناه غير مرة فيما شهدناه من مجالس اجتمعت فيها لجان ألفت لبحث ما كان يسمى بمشكلة تخريج المعلم، على أننا لم نسمع من أحد ممن جلسنا معهم من أعضاء هذه اللجان وتحاورنا معهم: لم نسمع من أحد من هؤلاء، وهم من كبار رجال المعارف المسؤولين، وعظمائهم المعدودين، لم نسمع كلمة منهم تومئ إلى مثل ما جاء في الرسالة من أنه يجب تعديل نظام التعليم في الأزهر تعديلاً يقتطع ست سنين من مدة التعليم فيه لتحقق وحدة الثقافة التي تتوقف عليها وحدة الأمة.
فهل يلام الأزهر إذا جزع لسماع هذه الكلمة وإذا رآها مكتوبة في إحدى صفحات الرسالة بقلم مديرها المفضال؟
يا لهول الموقف! نظام الأزهر القائم يأبى وحدة الثقافة ولا يرضاها، ووحدة الثقافة تتوقف عليها وحدة الأمة!(673/6)
أليس معنى ذلك أن نظام الأزهر القائم خطر على وحدة الأمة لأنه يأبى ولا يرتضي الثقافة التي تتوقف عند وحدة الأمة؟ وهل هذا إلا إلقاء الأزهر في فوهة المدفع؟ ومن ذا يستطيع أن يكون حجر عثرة في سبيل وحدة الأمة؟
وهل الأزهر: أرضه، وسماؤه، وبناؤه، ورجاله، وأبناءه إلا فداة الوطن والعرش، وبناة وحدة الأمة: يفدون الوطن والعرش بحياتهم وأرواحهم، ويشيدون بناء وحدة الأمة بعقولهم وجسومهم، ودمائهم!
أجل، إنه كان من سوء حظي ومن سوء حظ الأزهر أن تسطر هذه الكلمة بقلم الأستاذ الزيات، وأن تقرأها أعين الناس على صفحات الرسالة. فإذا كان فيما كتبت ما رأى الأستاذ فيه تعريضاً، فإن ذلك موجه إلى الرأي وحده؛ وليس موجهاً إلى رائيه أو حاكيه، فإني لا أرتاب في حسن نيته، ثم أعود إلى الموضوع.
2 - إنشاء جيل قادر على الاجتهاد والتجديد:
إنشاء جيل من العلماء العاملين القادرين على الاجتهاد والكشف عن حكم الدين ويسره، وسماحة الشريعة فيما تضمنته من الأحكام هو أمنية كل مؤمن ونشدة كل مسلم يود أن تكون الأمة الإسلامية حيثما توجد جماعاتها عزيزة في أوطانها، سعيدة في حياتها، تستمد القوة والعزة من اعتصامها بالدين، وتجد طمأنينتها وسعادتها في ظل شريعته الوارف الظليل، وتدفع الظمأ بما تستنبطه من ينابيع هذه الشريعة العذبة الموارد الغزيرة الفيضان. ولقد كان الأزهر من أهم المدارس الدينية التي يرجى أن تسعف الأمة بحاجتها من أولئك العلماء المبرزين، وقد أخرج للأمة كثيراً من كبار رجال العلم في مختلف العصور ممن يشار إليهم بالبنان من الفقهاء وحفاظ الحديث، وعلماء اللغة، ورجال القضاء ممن أوفوا بطلبة الأمة إلى هذا العهد الأخير على قدر زمانهم.
أما الاجتهاد في الدين فليس من حق الناس في هذا الزمان أن يتطلعوا إليه، أو يتكلموا فيه وهم لا يعنون بشؤون دينهم، عنايتهم بنظافة أحذيتهم؛ وقد جعلوا من سفائن البحر مراكب ليقطعوا بها المهامه والفلوات، وأعدوا من النوق والأبعرة سفناً يشقون بها عباب بحر الظلمات. ثم هم لا يريدونه ديناً يرقى بالإنسانية إلى ذروتها العليا، ويسمو بآخذيه إلى أعلى المنازل العزة والقوة والمجد، فلا يرضى أن ينزلوا منها في المنازل الدنيا!. ولكنهم يريدون(673/7)
أن يتخذوا لهم ديناً على غرار ما كان يتخذ بعض العرب معبوديهم في أزمنة الجاهلية؟
يريدون أن يستخدموا لهم ديناً من الحلوى، إن طاب لهم أكلوه وإذا لم يوافق شهواتهم تركوه!
يريدونه ديناً يحطب في حبال رغباتهم؛ ويضرى ما شره من شهواتهم؛ ويطعمهم الخبيث من لذاتهم، فهم في غيهم يعمهون، وما الله بغافل عما يعملون.
ثم أعود إلى ما كنت فيه من الحديث عن الأزهر الذي قد وضع في مفترق الطرق. فإذا كانت مهمته وغايته هي - كما قال الأستاذ الزيات بحق - أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم، وأن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون - فالأمر بين؛ والطريق غير مشتبه؟ فلتترك له الأنظمة وأقسامه الابتدائية والثانوية تعد الطلاب لدراساته العالية في الكليات الأزهرية مع تعديل قليل في وضع المواد التي تدرس في هذه الكليات وليحمل الطلاب على احترام النظام ودراسة المقررات. وبقاء الأقسام الابتدائية والثانوية على نظامها الحالي الذي يعد الطلاب للدراسة في الكليات الأزهرية هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن الأزهر من أداء مهمته وتحقيق غايته، كما أن نظام الدراسة في المدارس الابتدائية والثانوية يعد طلاب هذه المدارس للدراسة في كليات الطب والهندسة والعلوم والزراعة وغيرها كما هو واضح من نظم الدراسة ومناهجها في هذه المدارس. محاولة جعل النظام الدراسي في معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية في غرار نظام المدارس الابتدائية والثانوية التي لوزارة المعارف يجعل من الخرافة التاريخية التي تروى للأطفال في قصة الغراب والقطا قصة واقعية نرجو أن لا تمثل في الأزهر.
إن الأزهر لا تزال فيه بقية من الذماء، وصبابة في الإناء، هي هذه البقية الصالحة من الغراس النافع الذي امتدت بالإحسان به إلى الدين وإلى الوطن الإسلامي العام يد الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد، طيب الله ثراه، وخلد بأعماله الصالحة الباقية ذكراه، وجعل الجنة مأواه.
فهذا الغرس الصالح الذي غرسته يد فؤاد المباركة، وهذه الصبابة النافعة الباقية من بركات يده وسيبه الجزل جديران بأن ينالا حظهما من عطف شبله العظيم، ورعاية نجله الملك الهمام جلالة الملك فاروق، أيد الله عرشه وأدام ملكه محروساً بعناية الله، ليؤتى هذا الغراس(673/8)
العزيز أكله، ويثمر هذا الزرع المبارك بفضل من عطف جلالته ثمره، فإن العهد بجلالة الفاروق (حفظه الله) الحفاظ بما تركت يد والده من غراس - وكل غراس له صالح، وتعهده بما يكفل له النماء والبقاء.
وهذا النظام الإصلاحي الباقي في الأزهر شبحه لم تكلأه عين ساهرة، بل شغلت الشواغل الخارجة عنه تلك الأيدي الماهرة. ثم أنه لم يوضع عفواً، ولم يجعل لهواً؛ ولكنه ألفت له اللجان، وتصافحت فيه المجان، ورفعت له البنود، وتزاهت فيه البرود. فمن الحيف عليه، والتخون لواضعيه أن يوأد وهو وليد، أو يشوه خلقه وهو غصن جديد.
والأمل معقود بعطف جلالة الملك المعظم في الإبقاء عليه حتى يشتد هذا الفطيم وينهض قائماً على ساقيه، ويعدو في ميدان الحياة سباقاً على قدميه. وهذا ما نرتقبه للأزهر بهمة شيخه الجديد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق وفقه الله وأعانه وحقق على يديه الآمال.
وأختم كلمي كما بدأته بإسداء أكرم التحيات إلى الأستاذ الزيات مدير (الرسالة) ممجداً فيه حرية الرأي، ورحابة الصدر، وبراعة الفن، وبلاغة القلم. والسلام.
محمود أحمد الغمراوي
المفتش بالأزهر وشيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً(673/9)
شيخ في مرقص!
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
كنت أصلي أمس في مسجد العباس، فلما قضيت الصلاة وتلفت للسلام لمحت (فلاناً) فكذبت بصري وعدت إليه أتثبته فإذا هو بلحمه ودمه، وإذا هو يصلي صلاة خاشع لله متبتل أواب، وكان آخر عهدي به أنه ركب في طريق الغواية رأسه، وأقدم إقدام الفرس الشموس، فحب في الضلال ووضع، وأغار ونجد، ثم انتهى به الخبط إلى الهاوية، فوقع (على أم رأسه) في اشتهاء راقصة مشهورة، وحسب هذا الاشتهاء حباً كالذي قرأ وصفه في الروايات فصنع مثلما يصنع المحبون: نسى عقله ودينه، وجاد بقلبه وماله، وعرفت منه الفاجرة هذه الحماقة، فاستنزفت دم (جيبه) وماء قلبه، ثم لم توصله إلى إربه ولم تمتعه بحبه. . . وكان له ضمير يناديه فأعرض عن نداء ضميره، وكان له إخوان ينصحونه فسد أذنيه عن نصح إخوانه، فلما يئسوا منه ومن صلاحه انصرفوا عنه وتركوه لنفسه وللراقصة ولإبليس، ثم للمرض والفقر وجهنم!
. . . فلما رأيته في المسجد عجبت وانتظرته حتى فرغ، فأقبلت فسلمت عليه وسألته، فقال: إن حديثي عجب، وإني لا أحب أن أتحدث به في بيت الله فتعال معي إلى بيتي تسمع حديثي. . .
وحدثني فقال:
إن الفضل علي فيما رأيت من توبتي لله ثم للشيخ صلاح الدين أحسن الله إليه، فلقد هداني الله به وهدى أقواماً بعد إذ كانوا ضالين. ولقد عرفت رجالاً شجعاناً أولي عزم وإقدام، وسمعت أخبار العلماء الذين واجهوا الملوك بما يكرهون، وأحاديث أهل الجراءة والصدع بالحق؛ ولا والله ما سمعت ولا عرفت بأجرأ من هذا الشيخ، ولا أثبت منه جناناً. . .
قلت: إذ صنع ماذا؟
قال: إذ وعظ في المرقص! أما سمعت الحكاية؟ لقد استفاض خبرها وتناقلته الصحف، وكان حديث السوامر أياماً طوالاً. . . وذلك أنه نظر فرأى طلاب العلم لا يزالون ينقصون، ورأى الناس ينصرفون عن المساجد فلا يحضرها إلا الكهول والعجز، وما(673/10)
يحتاج هؤلاء الوعظ إنما يحتاجه الشباب. وسأل أين الشباب؟ فأجلوه عن أن يخبروه، ثم قالوا: إن الشباب في السينمات والمراقص ونوادي القمار. . . قال: وما السينمات والمراقص؟ لم يكن الشيخ يدري ما هي، ولم يكن يعرف من الدنيا إلا مسجده وداره، ولا يسمع إلا حديث العلم، وقال المصنف، وذكر الشارح وعقب عليه المحشي. . .
قالوا: إن المراقص أبهاء واسعة تمتلئ بالناس وفي صدرها منصات عالية لها ستر ترتفع وتنسدل، يقوم عليها نسوة عاريات إلا من خرق لا تكاد تستر من أجسادهن شيئاً، يقفزن ويلعبن ويحركن أيديهن وأرجلهن. . .
قال: حسبكم، حسبكم! إنا لله وإنا إليه راجعون! نساء يلعبن أمام أعين الرجال الأجانب؟! ما ظننت أن مثل هذا يكون في دار الإسلام، قوموا بنا إلى المرقص!
قالوا: إلى المرقص يا مولانا؟!
قال: نعم. نتقى مثل لعنة داود وعيسى بن مريم، ونغير هذا المنكر بألسنتنا إذ قد قعدت بالحكام رقة دينهم عن أن يغيروه بأيديهم.
قالوا: يا مولانا، إنهم يسخرون منا ويؤذوننا، ولا يصغون لمقالنا.
قال: ما نحن بأفضل من الأنبياء، وما نفوسنا بأكرم علينا من نفوسهم. ولقد سخر منهم وأوذوا في سبيل الله فما ضعفوا ولا استكانوا، وإنما علينا البلاغ والهدى هدى الله.
قالوا: إن المدارس قد ابتدعوا فيها هذه الأيام بدعة جديدة من أخزى البدع وأرضاها لإبليس، وهي أن تبرز البنات سافرات حاسرات فيلعبن أمام الرجال، فلنبدأ بالمدارس قبل المراقص فأنهم سيقتلون فيها الأخلاق، باسم الرياضة والصحة والفن!
قال الشيخ: بل نبدأ بالمراقص إن شاء الله.
فلما رأوا منه الجد والإصرار، قالوا: أمهلنا يا مولانا حتى نعد لك مكاناً فيه تعظ من الناس.
وذهبوا إلى (مرقص أبي نؤاس) فسألوا صاحبه أن يؤجرهم المسرح ربع ساعة ما بين الفصلين، ليجئ الشيخ فيعظ فيه الناس. فنظر الرجل فيهم لعله يبصر تحت معاطفهم المسروقة ثياب المستشفى التي فروا بها من (القصير) وابتعد عنهم خشية أن تعاود أحدهم جنته فيثب على عنقه فيخنقه أو يشج رأسه بحديدة يخفيها في كمه، ودعا أعواناً له لينقذوه من هؤلاء المجانين الذين يريدون أن يجيئوا بشيخهم ليعظ الناس على مسرح التياترو. . .(673/11)
ولكن القوم قطعوا عليه ما هو فيه وجروه من رسنه فانقاد ذليلاً طيعاً، حتى عرضوا عليه في هذا ال (الربع من الساعة) نصف ما يكسبه في الليلة كلها، وقبل منهم وشيعهم إلى الباب، ولكنه لم ينس أن يقبض المبلغ منهم قبل أن يغلقه دونهم.
وفرح الرجل بهذا الإعلان الجديد عن مرقصه، وأمل أن يغلب به (مرقص مطيع بن أياس) الذي يقوم إلى جنبه يزاحمه ويقاسمه قصاده، وانتظر أن (يمثل) الشيخ (مهزلة) تكون (رواية الموسم)، وذهب فطبع (إعلانات) ضخمة عن (المفاجأة المدهشة) التي ستروع الناس، وجاء الناس يرون هذه المفاجأة وما يقع في وهم أبعدهم خيالاً، إلا أنها راقصة جديدة، أو أنها رقصة مبتكرة، وماذا يكون في المرقص إلا الرقص؟!
وكنت تلك الليلة هناك، ورقصت (فلانة) رقصة عبقرية مبدعة عرضت فيها من فنونها وفتونها عجباً ما رأى الراءون مثله، وجننت الحاضرين حتى ما يدرون من الفتنة ما يصنعون، وحتى دميت الأكف من التصفيح والتصفيق، وبحت الحناجر من الهتاف والصراخ، وأرخى الستار على الراقصة وهي أحب إلى كل واحد منهم من زوجه وولده، وما واحد منهم إلا ويبذل في ساعة منها ماله وشرفه ودينه، وجعلوا ينادون باسمها، يريدون أن يمتعوا أبصارهم برؤيتها كرة أخرى، فلما تمادى غيابها أقبلوا يرددون أسمها في إلحاح واتصال، ويقرعون الأرض بأقدامهم فعل الصبيان، ورواد الملاهي. لهم عقول كعقول الصبيان، فارتفع الستار ونظروا. . .
نظروا فإذا هم يرون مكان ذلك الجسم الحبيب المشتهى، وذلك العرى المغري الفتان، شيخاً جالساً بعمامته ولحيته وجبته، شيخاً حقيقياً لا تمثال مكسواً ثياب المشايخ، ولا شيخاً مزوراً من شيوخ (التمثيل)!
وبدأ الشيخ درسه بحمد الله والصلاة على رسول الله؛ وربطت الدهشة ألسنة الحاضرين لحظة، فكانت سكتة شاملة، ثم صحوا فجأة، فكان الانفجار. . .
إن كل محاولة لوصف هذا الانفجار إنما هي إفساد وتشويه لصورته في نفس السامع، وإنك تعرف هؤلاء الناس وإن فيهم كل ماجن خبيث، وجبار فاجر، وفيهم السكران وفيهم الحشاش، وقد جاءهم هذا الشيخ في الساعة التي اكتملت فيها نشوتهم، وطغت (براح الراقصة) سكرتهم، ليتلو عليهم حديث التقى والصلاح من فوق منصة المرقص، وليقول(673/12)
لهم دعوا هذه المرأة فأنها رجس، وغضوا عنها أبصاركم فأنها عورة، وانصرفوا عن هذه البقعة فأنها دار دنس وإثم، وقد طلع عليهم وهم يرتقبون طلعة الغادة العارية المغناج. . . فتصور ماذا يكون منهم!
لقد صفروا له وسخروا، ورموه بكل قبيح في القول، وسألوه أن يتجرد فيرقص لهم ويريهم غنجه، وعرضوا عليه كؤوس الخمر مترعة، وهو ماض في كلامه كأنما هؤلاء ذباب يحوم حوله من بعيد، بل أن الرجل ليحفل بالذباب وهو لم يحفلهم ولم يبال بهم. وتعب الشاغبون ومل الساخرون، وكان في القوم من يعرف الشيخ، فصاحوا بهم أن اسكتوا ويلكم نسمع ما يقول، وكانت سكته أخرى، وهي كل ما كان يتمنى الشيخ فتمكن فيها من آذانهم ونفذ إلى قلوبهم، فأصغوا ثم اطمئنوا، ثم خشعوا، ثم انقادوا إليه وتعلقوا به، وحل من قلوبهم محل (تلك)، ولكن حبهم إياها كان حباً سفلياً، وهذا حب طاهر مقدس. . . فلما انتهى كلامه، وقام ليخرج، قاموا معه وخرجوا وراءه، وتركوا المرقص لصاحبه وللشيطان. . . ولازمته أنا من ذلك اليوم كما لازمه كثير ممن كان هناك. . .
قلت: ألم تحفظ شيئاً من كلامه؟
قال: هيهات إنه تكلم بكلام علوي، كنا نحس به ينصب في القلوب انصباباً فتستشرفه وتتسامى إليه، ومازال يقول وهي ترتفع حتى خلصت من هذه الحمأة الدنسة التي كانت غارقة فيها، إلى الفضاء الأرحب وإلى الجو الطهور. إنه لم يتكلم كما أتكلم أنا وأنت، ولا كما كان (هو) يتكلم، فقد سمعته قبل ذلك اليوم، فما سمعت منه مثل هذا، وإني لأظن أن ملكاً نطق بلسانه فمن هنالك خرج الكلام نورانياً سماوياً.
قلت: مثل ماذا؟
قال: أنا رجل عامي، فإذا أعدته عليك لم آت به من ذهني الكليل إلا أرضياً منطفئاً، كالشهاب المنير إذا روته الأرض لم يكن على لسانها إلا صخرة باردة جامدة. . . أفتحب أن أرد عليك ما حفظت منه من ذهني أنا لا من ذهنه، وبلساني لا بلسانه؟
قلت: نعم.
قال: إن مما حفظت منه قوله. . .
(البقية تأتي)(673/13)
علي الطنطاوي(673/14)
الإنسان، هذا المجهول. .
الدوافع البيولوجية وأثرها
للأستاذ فؤاد عوض واصف
كانت ظاهرة التقليد التي قال بها العلامة تارد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هي التفسير الوحيد عند علماء الاجتماع للحياة الاجتماعية؛ فظهور فرد قوي أو قائد شجاع أو مشرع كبير في مجتمع ما يمكن من خلق عرف جديد ينتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم. ذلك لأن الناس على دين ملوكهم وحكامهم وقادتهم، يقلدون تقليداَ أعشى كل ما يبتدعه رعاتهم، ولقد ملك تارد بتفسيره هذا عقول العلماء ردحاً كبيراً من الزمن إلى أن ظهر العلامة الأمريكي الأشهر ماكدوجل، فطلع علينا بتفسير جديد هو على خلاف فيه مع نظرية تارد، وقد عرفت نظرية تارد بنظرية الدوافع. ولئن كانت معرفتنا بالدوافع قديمة قدم أرسطو، فإن الاهتمام بها لم يبلغ الحد العظيم الذي بلغته بعد أبحاث ماكدوجل. لقد كشف لنا ماكدوجل في أبحاثه عن أثر الدوافع البيولوجية في الإنسان وأسرارها العظيمة ونتائجها العديدة، حتى لقد رد الحياة الاجتماعية كلها إلى هذه الدوافع البيولوجية الكامنة في الإنسان، ومن هنا كان أن عرف بأبي علم النفس الاجتماعي.
وقد كان من أثر أبحاث ماكدوجل في الدوافع أن ظهرت في معامل علم النفس مقاييس لقياس الحوافز والدوافع بطريقة دقيقة كل الدقة حتى لقد مكنتنا من معرفة درجات القوة والضعف في الدوافع العضوية الداخلية معرفة يسرت لنا تفسير أنواع الانحرافات النفسية والجنسية والاجتماعية أيضاً؛ فالسلوك الإنساني يرد في النهاية إلى الدوافع الداخلية، كما هو الحال مثلاً في سن البلوغ، إذ يشاهد أن تولد الميل الجنسي ناتج عن دافع عضوي، وهذا الميل الجنسي يقترن بتغيرات في الهيئة والسلوك، فيميل البالغ إلى الحياة الخيالية كما هو معروف في الحب الصبياني.
ويمكن تعريف الدافع العضوي بقولنا (هو كل حافز يدفع إلى فعل يتحول بالتحليل إلى حالة تنبيه، تثير الفرد وتدفعه إلى سلوك ما عن طريق مجموعات خاصة من العقد العصبية!!
ومن أهم الدوافع الداخلية، إفرازات الغدد الصماء التي تثير النزعات والميول والرغبات، وتحمل الشخص أن يقوم بحركة وأن يسعى نحو تحقيق الميل وإشباعه بطريقة أشبه بأن(673/15)
تكون آلية جبرية.
ولكل دافع من الدوافع العضوية الداخلية استجابات خاصة به تختلف من دافع إلى آخر، فلدافع الجوع والعطش استجابات تختلف عن استجابات الدافع الجنسي مثلاً.
والدافع الجنسي من أمثلة الدوافع الكيميائية التي تتمثل في إفرازات غدد خاصة موجودة في الإنسان. وكل أنواع الاستجابات والسلوك الجنسي هو نتيجة ترد في النهاية إفراز الغدد التناسلية. فقد أثبتت التجارب العديدة أن عملية استئصال الإفراز الجنسي من الخصيتين أو المبيض يقضي على الميل الجنسي، في حين أن تجديد هذا الإفراز يعيد الميل الجنسي إلى حالته الطبيعية؛ فكأن الاختلاف بين الذكر والأنثى في السلوك الجنسي يرد إلى اختلاف الغدد فحسب؛ والرجل والمرأة لا يختلفان في تكوينهما، وما السمات المميزة لكل منهما إلا أثر بل استجابة لإفراز معين تفرزه غدة تناسلية تختلف في الذكر عنها في الأنثى. وإنه لمن السهل علينا الآن أن نجعل من الدجاجة ديكاً، ومن الديك دجاجة تقريباً، وذلك بعملية استئصال غددي فتتحول الدجاجة إلى ديك وتفقد كل سماتها الأولى وتصبح ذات عرف يأخذ في النمو، وينقلب سلوكها ولا يمكن تمييزها في النهاية من ديك آخر. وكذلك الحال إذا أردنا أن نجعل من الديك دجاجة فما علينا إلا استئصال الخصيتين فيفقد الديك عرفه ويتسم بكل سمات الدجاجة وسلوكها.
ولا يقتصر تأثير الدافع العضوي على الهيئة والتكوين الفسيولوجي فقط، بل أيضاً في اتجاه السلوك والأخلاق؛ ويمكن أن نوضح هذا جيداً بحالة بعض الأفراد الذين يتأخرون في بلوغهم نجد الواحد منهم في سن العشرين مثلاً وكل مظاهر الرجولة معدومة فيه لا في المظاهر الفسيولوجية فحسب، بل أيضاً في السمات الخلقية، ففيه نجد حياء الأنثى وخوفها ومرونتها وما إلى ذلك. فإذا عولج هذا الشخص المتأخر في بلوغه بواسطة خلاصة الخصيتين لا يلبث بعد مدة يطول زمنها أو يقصر، حسب حدة الحالة، أو يصبح وقد ظهرت عليه سمات مختلفة من ذي قبل فيرتفع صوته ويتضاعف نشاطه ويزول الخجل منه والخوف وما إلى ذلك من مظاهر الأنوثة الأخلاقية، ويتولد في الميل الجنسي. ومن هنا يظهر لنا، أن سمات الرجولة والأنوثة سواء كان ذلك من الناحية الفسيولوجية أو الخلقية إنما يرد في النهاية إلى الدافع الكيميائي وهو إفراز الغدد التناسلية.(673/16)
والآن إذا أردنا أن نحصي الدوافع في الإنسان بسائر أنواعها فإننا سنجدها من الكثرة بحيث يصعب معها العد والحد؛ فإن دافعاً كدافع الجوع العضوي قد يبدو بسيطاً مع أنه مركب من عدة دوافع: فالحاجة إلى الأكل، تتضمن الحاجة إلى موالح ونشويات ودهنيات الخ. ودافع العطش ليس هو الحاجة إلى الماء فحسب؛ لأننا إذا أعطينا عاملاً مجهداً في يوم قائظ ماء ساخناً ليرتوي، فإنه بذلك لن يرضي دافع العطش، لأن الحاجة هنا تتضمن غير الماء، درجة خاصة من الحرارة وغيرها. ومن هذا يبدو أن دافعاً واحداً كدافع الجوع أو العطش يتضمن في ذاته عدة دوافع. من أجل ذلك فإن إحصاء عاماً للدوافع كما أراده ديكارت وهويز يعد ضرباً من المستحيل، إذ ان الحاجات تتعدد، وبالتالي تتعدد الدوافع المولدة لهذه الحاجات. وعمل الدوافع في الإنسان يقترن بتغيرات كيميائية وعضوية في جميع أنحاء الجسم حتى في البشرة. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الحب مثلاً الذي هو إرضاء للدافع الجنسي. وتعمل الدوافع على أن تلائم بين الإنسان والطبيعة، فقد يبدو أن لون البشرة السوداء عند زنوج المناطق الاستوائية ناتج في الأصل عن تأثير حرارة الشمس المحرقة، مع أنها نتيجة لأفعال منعكسة قامت بها خلايا البشرة لإرضاء دافع الحاجة إلى درجة حرارة مناسبة للجسم؛ فليست الحرارة هي التي تحرق البشرة، لكونها حرارة، بل هي تقوم فقط مقام الباعث لاستجابات ناتجة عن دوافع وحاجات، أعنى في هذه الحالة أن هنالك دافعاً في الإنسان قد اقتضى تغيرات فسيولوجية حتى يتم التوافق بين الإنسان في نزوعه إلى الحياة وبين الطبيعة الخارجة عنه.
ونريد هنا أن نلفت النظر إلى أنه في كثير من الأحوال يكون المنبه الخارجي هو المحرك للدافع إذا كان في حالة كمون. فإذا كنت في وقت ما جائعاً وكان دافع الجوع في كمون لانشغالي بأفكار وخواطر، فإن الساعات تمر بدون أن يتعدى الدافع العضوي حدود الشعور؛ فإذا فرضت أن رائحة شهية لطعام قد وصلتني وشغلت شعوري برهة من الزمن، كان هذا المنبه كافياً لتحويل الحاجة إلى الطعام من حالة الكمون إلى حالة النشاط أي إلى رغبة، وكذلك الحال فيما يختص بالدوافع الأخرى.
وقد سبق أن ذكرنا أن إحصاء عاماً للدوافع ضرب من المستحيل ولكن يمكن ان نقسم الدوافع إلى أنواع أربعة:(673/17)
دوافع عضوية: كدافع الجوع والعطش الخ. . .
دوافع كيميائية: كالدافع الجنسي ودافع التعب.
هو عبارة عن بعض السموم تكونت في دم الإنسان فأوجدت فيه حالة التعب. والذي يثبت لنا أن التعب ومظاهرة ليس نتيجة مباشرة لمجهودات عضلية التجربة التي قام بها عالم نفساني كبير. وتتلخص في أنه حقن كلباً لم يقم بأي عملية إجهادية بدم كلب ظل طوال اليوم يرافق سيده في الصيد، فكانت النتيجة أن ظهرت في الكلب السليم كل مظاهر التعب والإنهاك الموجودة في الكلب المتعب. فكأن التعب ومظاهره نتيجة لعامل كيميائي موجودة في الدم وهو سموم أشبه ما تكون بالسموم المعروفة، ومن هذا يبدو أن التعب ومظاهره استجابة لدافع كيميائي موجود في الدم.
دوافع نشاط وتكون ذات استجابات مناسبة تتلاءم مع ما يحيط بالإنسان من ظروف.
4 - دوافع الجمال: مثل أن تظهر في استجابات الطفل الصغير لما يحيطه من ألوان وموسيقى ذات مقاطع، تجذبه إلى أن يسلك سلوكاً معيناً، هو استجابة ساذجة لما يحيط به من جمال. كذلك الحال في البالغين لقد ركب فينا دافع للجمال، لعله الروح تنزع إلى الجمال وتستجيب له كما ينزع الأليف إلى أليفه ويستجيب له. وفي السجون الحديثة يعالج المجرم بسماع الموسيقى وبإحاطته بألوان من الجمال تستجيب لها نفسه فيبعث بعثاً ويعود إنساناً.
لقد ذكرنا من الدوافع ما هو عضوي وكيميائي ونشاطي وجمالي؛ بقي نوع خامس من الدوافع يستجيب للمؤثرات الفجائية العنيفة كالخوف والغضب والبغض والعار. وتسمى هذه المجموعة من الدوافع بالانفعال
والدراسات العلمية الكثيرة في مجال علم النفس المقارن، حققت لنا وجود ظاهرة الانفعال عند الكثير من الحيوانات، مع ملاحظة خاصة، وهي أن الإنسان كثيراً ما يخضع انفعالاته ويوجهها توجيهاً خاصاً، في حين أن الحيوان ينفعل فلا يكاد يملك أسباب التوجيه أو إخفاء انفعالاته.
وقد قامت مشكلة كبيرة في علم النفس خاصة بالانفعال وتتلخص في هذا السؤال: هل أنفعل أولاً ثم أضطرب أم أضطرب أولاً ثم أنفعل؟ والرأي الصحيح عند وليم جيمس هو أن(673/18)
الإنسان يضطرب أولاً ثم ينفعل، أعني أن الانفعال في ذاته هو نتيجة لاضطرابات عضوية وكيميائية في جسم الإنسان. ففي حالة الخوف مثلاً، تحدث في داخل الجسم إفرازات عضوية معينة، تكون نتيجتها ظهور سمات الخوف على الإنسان. وبكلمة مختصرة، الانفعال في أساسه فسيولوجي قبل أن يكون نفسانياً.
وهنالك ثلاثة أنواع من الانفعالات الأولية في الإنسان وهي الخوف والغضب والحب. والظواهر المختلفة التي تبدو على الإنسان نتيجة لهذه الانفعالات نتيجة لإفرازات معينة في الغدد الصماء بتأثير الجهاز العصبي.
أما انفعال الخوف فينتج شعوراً رديئاً؛ فبالإضافة إلى ما يثيره من الاضطراب في بعض أجهزة الجسم كما يكون الحال في سرعة دقات القلب والتنفس السريع، بالإضافة إلى ذلك يكون للخوف طابع خاص يظهر في امتقاع الوجه واضطراب المفاصل والأطراف وقفوف شعر الرأس. . . الخ. . . وللغضب مظاهره الخاصة كذلك وهي في جملتها أقل عنفاً من مظاهر الخوف، وفي حين تكون نتيجة الخوف تقهقراً تكون نتيجة الغضب تقدماً واندفاعاً. أما الحب فهو أحد الانفعالات الأولية التي تحدث شعوراً طيباً محبباً. والذين جعلوا للحب مركزاً خاصاً في القلب لم يبتعدا كثيراً عن الحقيقة. فانفعال الحب في الواقع يتركز أثره في وجهة ما فوق القلب نتيجة لتأثر الدورة الدموية بباعث الحب وما يثيره في الدورة من نشاط. وللحب طابعه الخاص، يظهر في ابتسامة الفم وإشراق الوجه، ولعل أروع صورة ساذجة لطابع الحب الجميل، تظهر في محيا الطفل الصغير وهو يرنو إلى أمه.
هذه المعرفة الخاصة بالدوافع، قادتنا إليها دراستنا للحيوانات العليا وللطفل وللإنسان البدائي.
وإن دراستنا للإنسان البدائي الساذج، تجعلنا نقف أمام صورة كائن يمضي أغلب وقته في الأكل والشرب مبتعداً عن الأصوات المزعجة والحرارة اللافحة، يجري ويقفز، يصيح وينصت ويتأمل ويشاهد أنه مدفوع إلى النشاط بما يبعثه الكون المحيط به؛ قد يجد لذة في أن يداعب كلبه أو في أن يقفز على شجرة، كل هذه الاستجابات تتولد من الكون الفسيح وما يبعثه من مؤثرات ومنبهات. وإنه لمن الإنصاف أن نقرر ما ذكره ثورنديك من أن قائمة الدوافع التي قال بها ديكارت وهوبز لا تصور الحقيقة، فإن الدوافع في الإنسان(673/19)
والحيوان من الكثرة بحيث يختلط بعضها ببعض، وإن حيل الحيوان وحتى أبسطها في السعي لرزقه، تجعلنا نقرر بأن إحصاء عاماً للدوافع ضرب من المستحيل.
هذه هي الدوافع، وهذا موضوعها. والإنسان في سعيه إلى رزقه وفي سعيه إلى الحياة، إنما يستجيب إلى الدوافع التي ركبت فيه تركيباً. ولو شئنا التطرف مع ميرفي ونيوكمب إن الإنسان ليس شيئاً آخر غير الدوافع التي ركبت فيه وجاءته عن طريق الوراثة، ومن هنا يكون الإنسان في هيئته وجنسه وسلوكه الأخلاقي، مدفوعاً بدوافع داخلية لا قبل له بردها. فالحب تبعاً لهذا ليس إلا استجابة لإفراز الغدد الصماء، والإجرام في بعض الأفراد ليس إلا استجابة طبيعية لتكوين المجرم الجسماني الذي أتاه عن طريق الوراثة. إن الدوافع الداخلية في الإنسان هي التفسير الوحيد لحياته الجسمية والأخلاقية. ومن هنا لا يكون الإنسان مخيراً بل مسيراً ولا يكون للتربية مجال كبير أو صغير في توجيهه وتهذيبه.
وهكذا يذهب ميرفي ونيوكمب ومعهما جمرة من العلماء، ويقولون بنوع من القدرية في تقرير الكائن الحي، إن كان سيولد إنساناً أم فأراً أم عصفوراً، إن كان سيولد بمنقار أو بشفتين، بأربع أرجل أم برجلين. فاختلاف الكائنات الحية عندهم نتيجة لاختلاف الدوافع التي وهبت للكائن الحي قضاء وقدراً. وكذلك الحال عندهم في اختلاف الأفراد بعضهم عن بعض، فليس هذا إلا نتيجة لاختلاف الدوافع فحسب. ولئن زعم الناس بمرونة الإنسان وقبوله للتشكل والإصلاح، فلينظروا إلى هذا الاختلاف البين بين الأفراد بعضهم وبعض في نموذج كل مجتمع. أجل إن هذا الاختلاف لمثير، ومجموعة من الكلاب الصغيرة يمكن أن ترمز إليه كما ترمز إليه مجموعة من الأطفال في معهد خاص.
ليست هنالك إذن مرونة في الإنسان أو قابلية للتشكل في نظر تلك الفئة من العلماء، فالإنسان يستجيب للمؤثرات المحيطة به كما يستجيب لها الحيوان.
وكذلك يذهب أيضاً العلامة لمبروزو أستاذ القانون الجنائي في جامعة روما؛ فهو يرى أن الجريمة فرع من القضاء والقدر لا دخل لحرية الإنسان فيه؛ فالمجرم يولد مجرماً بالطبيعة وإنه لمن التعسف أن يعاقب المجرم عن شئ لا يملك فيه اختياراً أو مشيئة. وليس في الإمكان إصلاح مجرم ولد هكذا ولا تجدي فيه التربية أو التوجيه الحسن.
وقد خصص لمبروزو لشرح نظريته كتابين شهيرين هما: كتاب الرجل المجرم '(673/20)
والمرأة المجرمة فاللص عند لمبوروز ذو تكوين خاص في هيئته وكذلك سائر المجرمين، وما الجريمة إلا استجابة لتكوينهم العضوي الناقص الذي جاءهم عن طريق الوراثة. وكثير من اتجاهات علم النفس الجنائي إلى يومنا هذا تستلهم موضوعاتها من بحوث لمبروزو.
ولكن البحوث التي قام بها علماء الأحياء منذ ربع قرن في موضوع الوراثة وكذلك علماء سلوك الإنساني، وخاصة في دراستهم لأنواع الشذوذ والانحرافات، أدت إلى الإقلال من حتمية الوراثة، وأثبتت مرونة الإنسان وقابليته للتشكل والإصلاح، فسلوك الإنسان قابل للتغير والتحسن، ويتوقف نجاح التربية إلى حد كبير على إحكام طرقها وإتقان أساليبها.
ليس الإنسان إذن أسير وراثة أو تكوين عضوي خاص كما كان شائعاً من قبل، بل إنه يملك إلى حد كبير أسباب التغير والإصلاح. لا يوجد هنالك ما يسمى طبيعة مجرمة في النفس الإنسانية؛ بل على العكس من ذلك، إن طبيعة النفس الإنسانية كما يقول كانت خير وكل الخير، وإنما هنالك نفوس مريضة تدافع عن توازنها الاجتماعي، فتضل في المعترك عن الطريق السوي.
إن للدوافع في الإنسان كما سبق وذكرنا شأناً كبيراً، ولكنها في الإنسان غيرها في الحيوان. لا، بل إن الحيوان نفسه قابل للترويض وللائتلاف، فكم يكون الحال في الإنسان وفيه من نور الله قبس! أوليس فيما وصل إليه علم التربية والنفس أكبر الدليل على مرونة الإنسان وعلى كونه يختلف اختلافاً بيناً عن سائر الكائنات بما وهبه الله من عقل يفكر ويتذكر؟ إذاً فللدوافع في الإنسان شأن كبير ولكنه أقل من أن يجعل الإنسان مسيراً لا مخيراً.
فؤاد عوض واصف
ليسانسيه في العلوم الفلسفية(673/21)
الشرق كما يراه الغرب:
الصين الجديدة
للأستاذ أحمد أبو زيد
إن أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان حين يذكر اسم الصين هو ذلك الجمود الذي ران عليها طويلاً دون بقية أمم العالم، حتى صارت بذلك رمزاً على التأخر والتخلف والمحافظة على القديم وعلى كل ما هو ثابت راسخ لا يكاد يتحرك ولا يتغير ولا يتطور. ولقد كان للصين في يوم ما حضارة تعتبر من أقدم وأرقى الحضارات التي عرفها الإنسان، ولكن الصين اليوم تأتي في ذيل الأمم المتحضرة المتمدينة.
ومع أن الناس جميعاً يعرفون عن الصين ذلك، إلا أنهم لا يكادون يعرفون عنها شيئاً صحيحاً عدا ذلك؛ وقد ساعد على هذا الجهل بالصين وبحياتها وبعادات أهلها بعدها النائي وشبه العزلة التي تعيش فيها، وبعد الشيء قد يكون سبباً كافياً للجهل به. ولكن الصين مع ذلك كتب عنها الشيء الكثير، ولكن كثيراً مما كتب بعيد كل البعد عن الحقيقة. . .
إن معظم الذين يكتبون عن الشرق من الأوربيين قليلاً ما يتوخون الحقيقة والواقع، وكثيراً ما يصدرون فيما يكتبون عن بعض أهواء وشهوات في نفوسهم يريدون إرضاءها ويظهرون الشرق على غير ما هو عليه، بل وحتى إذا كانوا منزهين عن تلك الأهواء والشهوات فقليلاً ما تكون كتاباتهم صادرة عن الفهم العميق الصحيح لما يرون أمامهم؛ لذلك قلما نجد كتاباً يتناول مسائل الشرق وحياته بدقة وصدق وفهم على الرغم من كثرة ما كتب عن الشرق وحياته.
ومن تلك الكتب الدقيقة القليلة كتاب عن الصين ظهر تحت عنوان: (الصينيون وكتبته سيدة تدعى وينفريد جالبريث أمضت فترة طويلة من حياتها بالصين؛ فقد نزحت إلى هناك من إنجلترا بعيد الحرب الكبرى الماضية واشتغلت بالتعليم في مدارس الصين، ولا تزال تعيش هناك حتى الآن، أو على الأقل حين أصدرت كتابها في عام 1942. ولا شك أن طول الفترة التي أمضتها في الصين، وطبيعة العمل الذي زاولته هناك، قد أتاحا لها فرصاً طيبة للوقوف على خصائص الحياة الصينية وأسرارها قلما تتاح للكثيرين. وعلى ذلك نستطيع أن نقول مطمئنين آمنين إن ذلك الكتاب صدر عن فهم عميق للصين وطبيعتها(673/22)
وشؤونها المختلفة، كما نستطيع - من قراءته - أن نلمس بوضوح النزاهة والدقة والتجرد عن الغرض التي لازمت المؤلفة في كتابته. . . والكتاب على لطافة حجمه يتناول كثيراً من المسائل، فيعرض لتاريخ الحضارة الصينية كما يتناول آداب الصين وفنونها وقيم الحياة اليومية فيها ونظم الحكم بها وغير ذلك من المسائل. ولم تنس المؤلفة زيادة على ذلك أن تبين لنا ما يختلج في صدور أهل الصين من آمال وأمان في المستقبل وما يرجون لبلادهم من حياة جديدة زاهرة تغاير ماضيهم وحاضرهم، وإن لم تقطع الصلة بهما تماماً.
ولا تشك المؤلفة في أن الصين الجامدة الخامدة آخذت تفيق من سباتها العميق الطويل من أوائل هذا القرن، وأن قيام الحرب الصينية اليابانية قد ساعد على هذه اليقظة، بل ولعلها تكون المسئولة الأولى عنها، فأخذت تنفض عن نفسها ذلك الخمول الذي ضرب عليها، أو الذي ضربته بنفسها على نفسها، وتتجه نحو حياة أخرى، وتنتحل أساليب جديدة سواء في الصناعة أو الفكر أو السياسة تختلف أشد الاختلاف عن تلك الأساليب العتيقة البالية. ولكن ينبغي مع ذلك ألا نغفل عن حقيقة واضحة جلية، وهي أن ذلك التطور لا يتم في الصين إلا ببطء شديد وبصعوبة شديدة بحيث لا يكاد الإنسان يدرك لأول وهلة أن هناك حياة جديدة أخذت تدب في أوصالها الميتة؛ ذلك لأن حياة الصين لا تقوم في الواقع على مجرد بعض قوانين وضعية أو قواعد يرسمها من بيدهم مقاليد الحكم ويأخذون الناس بتنفيذها، إنما تقوم حياة الصين على قيم أساسية عامة متغلغلة في أعماق النفوس تستمد منها قوتها وسطوتها، بحيث لو انعدمت كل سلطة في الصين ولم تصبح ثمة أي هيئة حاكمة فيها لظلت الصين مع ذلك قائمة على ما هي عليه، ولاستمرت تلك القيم الأساسية تعمل عملها في حياة الناس والبلد وتحفظ عليهم طابعهم التقليدي القديم الذي يتعارض مع كل ما هو جديد.
ولا ريب في إن الأمة التي تريد أن ترقى وأن تصل إلى غاية بعيدة من الكمال والرفعة لن يتسنى لها ذلك ما لم تسر أولاً تحت قيادة موحدة تخضع كلها لها، وما لم تختف منها العوامل الانفصالية والنزعات الشخصية التي من شأنها تمزيق الدولة أقساماً وشيعاً. وقد كانت الصين في معظم تاريخها دولة واسعة ممزقة منقسمة إلى مقاطعات وحكومات متفرقة تستقل كل منها عن الأخرى تماماً، ولم يكن الرجل الصيني العادي يعرف من وطنه إلا(673/23)
حدود قريته أو مدينته أو على الأكثر المقاطعة التي ولد ونشأ وتربى فيها، ولم يكن يعرف أنه فرد في وطن أوسع وأعظم من ذلك كله، وأن وراء تلك الحدود الضيقة التي نشأ فيها ملايين أخرى من الناس ينتمون جميعاً إلى نفس الوطن الذي ينتمي إليه؛ ولذا كان الرجل من الشمال إذا اجتمع برجل من الجنوب لا يعرف إلا أنه من الشمال وأن صاحبه من الجنوب دون أن يحس الصلة الوثقى التي تربط بينهما. وقد ساعد على ذلك أن الصيني مغلق على نفسه، ولا يحب الهجرة ولا السفر ولا الانتقال كمعظم الشرقيين، فهو يفضل الاستكانة والالتصاق بالبقعة التي وجد نفسه فيها. وقد نشأ عن ذلك تعدد كبير في اللهجات المحلية واختلاف عظيم بينها بحيث أن الرجل من إحدى المقاطعات لا يكاد يفهم اللهجة التي يتكلم بها غيره من مقاطعة أخرى. وكان ذلك كله عاملاً على ظهور الحركات الانفصالية وخاصة في أطراف الصين البعيدة. ومن هنا كان كثير من الكتاب يظنون أن الصين لا يمكن أن تعيش كدولة موحدة ما لم تخضع للحكم الأجنبي. وقد يكون لهؤلاء الكتاب العذر كل العذر فيما يذهبون إليه، إلا أن السيدة جالبريت ترى أن ذلك كله أخذ يزول شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعور القومي يزداد بين الناس وخاصة بعد الغزو الياباني؛ فقد شعر الصينيون جميعاً أن أرضا عزيزة عليهم أخذ العدو يغتصبها منهم، فقاموا جميعاً يشتركون في الدفاع عنها ضد الغاصبين. وهكذا اختفت كل النزعات الانفصالية أمام الخطر المشترك، وأخذ الصينيون يحسون أنهم أبناء وطن واحد وأرض واحدة. وقد ساعد على ذلك حركات الهجرة من المناطق المحتلة أو المعرضة للغزو إلى الداخل، فقد عمل ذلك على تقريب اللهجات المتباينة، وأصبحنا نجد على ما تقوله المؤلفة: (في غرب الصين ما لا يقل عن أربعة عشر صنفاً من الناس نزحوا من مناطق ومقاطعات مختلفة يعيشون جميعاً عيشة واحدة، ويأكلون طعاماً واحداً، وينشدون أغاني وأهازيج واحدة انتشرت في أرجاء الصين جميعاً، وذلك ما لم يكن له وجود من قبل). ومع أن الوحدة في العادات لم تتبلور تماماً حتى الآن، ومع أن الاختلاف بين تقاليد كل فريق لا يزال اختلافاً قوياً صارخاً، إلا أن جالبريت ترى أن كل ذلك يسير في طريق الاندماج شيئاً فشيئاً ولكن بقوة، بحيث لا يتأخر اليوم الذي تصطبغ فيه الصين من أقصاها إلى أقصاها بصبغة واحدة من العادات والتقاليد.(673/24)
وقد أخذت الصين تتجه منذ بداية هذا القرن على الخصوص نحو الحضارة الأوربية، واعتنقت الكثير من مظاهرها المادية، ولكن تلك المظاهر المادية لم تصل في الواقع إلا إلى الطبقات العليا فقط من السكان في المدن الكبرى وفي الأطراف الخارجية، ولم تفلح في التغلغل قليلاً ولا كثيراً إلى داخل الصين ذاتها، أو إلى طبقات الشعب الفقيرة من سكان الريف ومن الفلاحين والعمال، وهم يمثلون الغالبية العظمى من السكان. وقد كان لذلك - ولا ريب - أسوأ الأثر في المجتمع الصيني، إذ ساعد على توسيع الهوة التي تفصل بين مختلف الطبقات، كما ساعد بالتالي على إضعاف قوة التماسك الاجتماعي في الصين. ولكن الحرب الصينية اليابانية قللت أيضاً من ذلك الأثر حتى كادت تمحوه؛ فقد أصبح من العسير - نتيجة للحرب - على المنتجات الأوربية أن تصل إلى الصين؛ والقليل النادر الذي يصل إلى هناك يباع بأسعار خيالية لا تصدق ولا يكاد يقوى على شرائها إلا فئة قليلة جداً من الناس؛ وكانت نتيجة ذلك كله أن أخذ الناس ينصرفون عن ذلك النوع من الحياة المادية المترفة التي قبسوها عن أوربا، ويعتاضون عنها تدريجياً بالإنتاج المحلي البدائي؛ وبذلك عاد أهل الصين جميعاً إلى أساليب حياتهم القديمة، واشتد تبعاً لذلك التقارب بين مختلف الطبقات عما كان عليه. وقد يبدو ذلك الرجوع إلى القديم نكسة أصابت الصين في تطورها ورقيها، ولكن السيدة المؤلفة ترى عكس ذلك، فهي تعتقد أن الرقي الحقيقي هو في تماسك الشعب وتقارب طبقاته قبل كل شئ، ثم رقيه كله معاً مرة واحدة.
وفي الصين الآن اتجاه قوي يرمي إلى الأخذ بنظم الحكم الديمقراطي؛ ولكن هذا النظام لم يتحقق بعد، ولا ينتظر أن يتحقق كاملاً في الوقت الحاضر على الأقل، كما أن من الصعب على الإنسان أن يتكهن بطبيعته في صورته الأخيرة، وإن كانت كل الدلائل تدل على أنه لن يكون نظاماً نيابياً ديمقراطياً بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون. ويقف دون تحقيق النظام الديمقراطي الأوربي اتساع مساحة الصين وترامى أطرافها بشكل غير معهود في بقية الديمقراطيات الأخرى. ولا شك أن من أصعب الأمور على شعب حديث عهد بالنظم النيابية أن يحقق ذلك النظم تحقيقاً كاملاً في دولة في مثل حجم الصين. وقد حاول الدكتور صن أن يؤلف مجلساً نيابياً للصين، ولكن ذلك المجلس لم يقدر له الاجتماع قط، ولكنه حين يتم تأليفه، فسوف يكون مكوناً من 1681 من النواب، منهم 395 نائباً تعينهم الدولة. ويبدو(673/25)
أن الانتخابات في الصين لن تكون من درجة واحدة كما هو الحال في الديمقراطيات الأوربية، بل سوف يجتمع رؤساء كل مائة أسرة معاً وينتخبون من ينوب عنهم، وبذلك سوف يكون نظام الحكم في الصين مزيجاً من الديمقراطية والبطريركية التي تسود الصين الآن. ومن الدلائل التي تبشر بقيام الحكم النيابي في الصين وجود مجلس الشعب السياسي هناك ' وهو يتألف من مائتي عضو من الرجال والنساء، وكلهم معينون. وهم يمثلون كثيراً من مدارس الفكر والمهن والأعمال المختلفة؛ وقد أبدى المجلس براعة كبيرة في مناقشة وبحث أمهات المسائل التي عرضت عليه، ولكن يقلل من أهميته أنه لا يعد مسؤولاً أمام الشعب.
وهناك عامل آخر تظن السيدة جالبريت أنه سيكون له شأن كبير في تطور الديمقراطية في الصين، وهو سعة انتشار الشيوعية هناك ووجود حزب شيوعي قوي يضم كثيراً من الأفراد من أصحاب الثقافة العليا ومن أكابر المفكرين الصينيين. وقد أمضى معظم أعضاء الحزب الشيوعي أعواماً طويلة في خدمة الجيش الأحمر الروسي، كما أنفقوا جهوداً كبيرة في تعليم الفلاحين وإصلاح حالهم؛ وقد ساعدهم ذلك على تعرف ظروف حياة الطبقات العاملة هناك، كما أصبحت لهم خبرة واسعة بوسائل الإصلاح التي يمكن أن تجدي عليهم. بيد أن الحكومة المركزية في الصين لا تعترف بالشيوعية ولا تقر طرقها، بل إنها تناصبها العداء صراحة، ولا يزال الصراع سجالاً بين الحكومتين إلى الآن.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أبو زيد(673/26)
التاريخ في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 14 -
بين الطغيان والحرية:
تربى جيمس في أسكتلندة تربية بروتستنتية إلا أن هواه كان مع الكاثوليك، ولم يك ذلك بدافع العقيدة فما كان يعبأ مثله بعقيدة. وإنما كان بدافع الرغبة في الاستناد إلى الكنيسة كدعامة من دعائم الاستبداد.
وكان البيوريتانز قد تزايد عددهم في البلاد حتى أصبحوا قوة عظيمة، وكان هؤلاء خارجون على كنيسة إنجلترا لأنها كاثوليكية العقيدة وإن كانت رياستها لملك إنجلترا منذ فصلها هنري الثامن عن رياسة روما.
وقد كان هؤلاء البيوريتانز عند نشأتهم كما رأينا فريقاً من قساوسة الكنيسة الإنجليزية ولكنهم في الواقع أصبحوا يعدون من البروتستانت في ميولهم ومبادئهم ورغبتهم في الإصلاح وأن أطلق عليهم أسم خاص بهم؛ وطمع كل من الكاثوليك المتشيعين لروما والبيوريتانز أن ينالوا عطف جيمس. أما طمع الكاثوليك فلأنه ابن ماري الكاثوليكية ملكة أسكتلندة، وأما طمع البيوريتانز فلأنه تربى تربية بروتستينتية في أسكتلندة وفق الكنيسة البرسبتيرية، ولكنهم جميعاً ما لبثوا إلا قليلاً حتى رأوه يميل إلى نظام كنيسة الدولة كما نشأت في عهد هنري الثامن وتوطدت في عهد اليزابيث.
وأجتمع سنة1604 مؤتمر من قساوسة الكنيسة وممثلي البيوريتانز بغية التفاهم على حل، ولكن ثلاثمائة من البيوريتانز آثروا اعتزال مناصبهم على الاعتراف بكتاب الصلاة الذي تقره كنيسة الدولة. وأعلن جيمس كلمته الشهيرة يومئذ التي أفصح بها عن رغبته في(673/27)
التمسك بالنظام الأسقفي في رياسة الكنيسة وفروعها وهي قوله: (إن لم يوجد القس فلن يوجد الملك)؛ وتهدد البيوريتانز بطردهم من المملكة إن لم يذعنوا له.
وكان أعضاء البرلمان يميلون إلى البيوريتانية فاشتد غضب أشياع روما عليهم، كما أنهم غضبوا على الملك لتمسكه بنظام كنيسة الدولة فدبروا مؤامراتهم الشهيرة مؤامرة البارود لنسف البرلمان والملك جميعاً، ولكن مؤامراتهم أحبطت إذ نما خبرها إلى الحكومة، وأزيل البارود والفتائل من تحت البناء ولاقى المؤتمرون نكال الملك جزاء بما أجرموا، وحاق بهم سوء ما مكروا فنسف ما بقي لديهم من البارود عدداً منهم، وأصبح أشياع روما موضع سخط الناس جميعاً وكراهتهم وظل الناس زمناً طويلاً يعلمون بحادثة منكرة إلا ردوها إليهم، وظل السذج من العامة ينسبون كل شر يقع مهما كانت صورته إليهم، ولا يزال بعض القرويين حتى اليوم يحرقون تمثالاً رمزياً للبابا في ذكرى هذا الحادث من كل عام.
وعظم ميل الناس إلى البيوريتانية بقدر ما أشتد سخطهم على الكاثوليك، ولكن القساوسة على الرغم من ذلك يوحون إلى الملك اضطهاد البيوريتانز والعطف على الكاثوليك من أتباع الكنيسة الإنكليزية، والتمسك بالنظام الأسقفي، وأصبح هؤلاء القساوسة في نظر البيوريتانز وأنصار الحرية الفكرية جميعاً رمز التعصب الأحمق والاستبداد الغبي، لا يدرون أهم أم الملك أحق منهم بالمقت والازدراء؛ وكان كلما أشتد سخط الشعب على الأساقفة ازداد عطف الملك عليهم وحباهم بالمودة والرعاية وبالغ في التمكين لهم في سلطتهم وتنفيذ ما يشيرون به يكيد بذلك لمخالفيه ويشرح صدور مؤيديه.
وتناصر على الملك وحزبه البرلمان البيوريتانز، ومازالت هاتان القوتان تعملان على مناوأته في ثبات ويقين حتى أدركه الموت سنة 1625، وخلف لابنه شارل الأول العرش والثورة معاً، ولسوف تكون البيوريتانية في عهده أشد خطراً عليه من النزاع الدستوري بينه وبين البرلمان.
واستوى على عرش إنجلترة شارل الأول، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وكان شارل على الضد من أبيه في خلقه فلم يعرف التبذل واللهو، بل كان ملكاً من جميع أقطاره يملأ النفوس هيبة باحتشامه ووقاره، ولم يك ضعيف العزيمة ولا خواراً ولا أرعن الكلم ولا ثرثاراً؛ بيد أنه لم يتوفر له من الثقافة بقدر ما توافر لأبيه منها. وكان البرلمان قد مرن(673/28)
على أساليب المعارضة والمقاومة في عهد جيمس، فلم يك أمام شارل ألا طريقاً واحداً هو مسالمته، ولكنه تنكب هذا الطريق، وبالغ في إعنات البرلمان وأسرف في تمسكه بالحق الإلهي المزعوم، وأصبحت سياسته تنحصر في مقاومة الرأي العام حتى مل الناس، لا يحفلون رضاه أو غضبه.
لم يكد يجتمع أول برلمان في السنة الأولى من حكمه حتى دب الخلاف بينه وبينه، وذلك أن البرلمان لم يمنحه المال إلا بقدر حتى يظل محتاجاً إليه فلا يحله، كما أن البرلمان لم يعتمد له ضريبة التجارة إلا لسنة وكانت للملك طول حياته، وكانت الحرب قائمة بينه وبين أسبانيا فكانت حاجة الملك إلى المال شديدة، وأمدت انجلترة فرنسا ببعض سفنها لتقذف بها أسبانيا ولكن فرنسا قذفت بها البروتستنت في أرضها حيث تحصنوا في ميناء لاروشل فغضب البرلمان وما زال ينتقد سياسة الملك حتى ضاق به الملك فحله.
ولكنه دعا برلماناً جديداً في السنة التالية أي سنة 1626 فاشترط هذا البرلمان أن يزيل الملك أسباب ما يشكو الناس منه وإذ ذاك يجيبه في سخاء إلى ما يطلب من مال. واتهم البرلمان لورد بكنجهام توطئة لمحاكمة أمام اللوردات، وكان أقرب المقربين إلى شارل، وكان بكنجهام هوفلير أحد أصفياء أبيه جيمس من قبله، وكان يعتقد الناس أنه هو الذي يوحي إلى الملك الطغيان ويدفعه إلى محاربة البرلمان، واستشاط الملك غضباً وأمر بالمحرضين على ذلك فألقى بهم في السجن، وامتنع البرلمان عن العمل حتى يطلق الملك سراحهم، وأعلن ألا تجبى ضريبة التجارة إلا بموافقة البرلمان، وأذعن الملك فأطلق المحرضين، ولكن البرلمان عاد إلى اتهام بكنجهام فلم يطق الملك صبراً، وتخلص منه بحله.
وعمد الملك إلى فرض قرض جبري لمواجهة الحرب وأخذ في جمعه بالقوة، وكان يرسل إلى السجن من يرفض أن يدفع، وكان ممن دخل السجن بسبب الامتناع جون همبدن أحد زعماء البرلمان وقد أصر على امتناعه معلناً في صراحة وجرأة أن الملك لا يملك فرض مثل هذا القرض، وزاد على ذلك قوله (أن العهد الأعظم ينبغي أن يقرأ مرتين كل سنة في وجه من يخرجون عليه).
واشتدت الضائعة بالملك، فقد ساقته حماقته إلى خلاف بينه وبين فرنسا وانقلب الخلاف إلى(673/29)
حرب وما تزال الحرب بينه وبين أسبانيا قائمة؛ وأرسل شارل حملة بحرية لمساعدة البروتستنث الفرنسيين (الهيوجونون) في لاروشل، وكانت قيادتها لبكنجهام وباءت بالفشل، فازداد الناس سخطاً عليه وعلى الملك، وراح الملك يجمع القرض الجبري بكل ما في وسعه من عنف حتى لقد ألقى بنحو ثمانين من العلية في السجن ممن حذوا حذو همبدن، أما العامة فكان الجلد جزاء من يمتنع أو الحشد في صفوف الجيش أو في سفن الأسطول، ولم يغني عن الملك بطشه فقل المال في يديه وأيقن أن لا بد من دعوة برلمان ومهد السبيل لذلك بإطلاق من سجن، كما أنه طمع أن يكتسب بذلك مودة الشعب
واجتمع البرلمان الثالث سنة 1628 فافترض حاجة الملك إلى عونه وعاد إلى اتهام بكنجهام، وتحرج الأمر بينه وبين الملك. ثم أعد النواب ملتمساً سموه ملتمس الحقوق، وأعلنوا استعدادهم لإجابة الملك إلى بغيته من المال إذا أجابهم إلى ذلك الملتمس، ووافق الملك فأجابوه إلى ما أراد، ونص الملتمس على أنه لا يحق للملك فرض ضريبة إلا بموافقة البرلمان، وألا يسجن أي شخص إلا وفق القانون، وألا يجعل الجند عالة على الناس، وألا يلجأ إلى الأحكام العسكرية بدل القانون العام، وهذا الملتمس مستمد في روحه من العهد الأعظم، ويعد بعده الوثيقة الثانية لحقوق الإنجليز وحرياتهم.
على أن أشد ما استاء منه الناس هو مسلك الملك يومئذ في سياسته الدينية. أظهر شارل من أول الأمر ميله إلى نظام الكنيسة الإنجليزية، ومع أنه لم يك كاثوليكياُ وفق مذهب روما فإنه كان يكره البيوريتانز كرهاً شديداً ويخاف من تزايد عددهم ويشك في دعوتهم الإصلاحية ويراها ضربا من التطرف لا مبرر له ويميل بالرجوع بالدين إلى مظهره الكاثوليكي القديم.
وحدث أثناء إجازة البرلمان أن قرب الملك إليه أحد رجال الدين وهو وليام لود ورقاه أسقفا للندن، وأخذ يعمل بما يشير عليه به، وكان لود من أشد أعداء البيوريتانز، وكان هؤلاء يمقتونه أشد المقت لتعصبه لنظام الكنيسة الإنجليزية ولميله الفطري إلى الاستبداد بالرأي والقسوة في معاملة خصومه ولضيق تفكيره وفظاظته، وغلظ قلبه، فلما قربه الملك إليه، عد البيوريتانز عمل الملك نذيراً لهم فأجمعوا أمرهم بينهم على مقاومته ومعاندة لود وممالأة البرلمان عليهما، وأصبح البيوريتانز من أكبر المتحمسين في طلب الحرية السياسية، فهي(673/30)
فضلاً عن كونها من مبادئ مذهبهم تعد في رأيهم الآن طريق الخلاص من وليم لود أسقف لندن خصمهم العنيد.
وقتل بكنجهام بيد مغتال لأمر لا يتصل بالسياسة فتنفس الناس الصعداء، وخفف عنهم ذلك مروق ونتورث شيئا قليلاً ودأب الملك في جمع ضريبة التجارة، وعاد الجند يفرضون على الناس لإطعامهم وإيوائهم أينما انتقلوا، ونظر النواب فإذا ملتمس الحقوق لم يبقى فيه من الحقوق شيء.
فلما اجتمع البرلمان سنة 1629 كانت قلوب أعضائه مليئة بالسخط على الملك الذي نقض عهده، وأخذ البرلمان يدعوا إليه بعض المسؤولين ليستجوبوهم عما عدهم مخطئين فيه مما يتصل بحماية ضريبة التجارة فكان عمله هذا تحدياً لإرادة الملك.
وأعد بعض النواب مقترحاً فحواه أن جباية هذه الضريبة عمل غير قانوني فليس على الناس أن يدفعوها، وصاح فيهم رئيس المجلس أن الملك قد أمره ألا يكون موضع مناقشة، ونظر الرئيس فكأنما أنقلب المجلس بركاناً يلفظ الحمم، وصعب عليه أن يتبين ما هز أرجاء القاعة من عبارات صاخبة فمن احتجاج على التدخل الملك في إدارة الجلسة ومن هتاف بوجوب الإصرار على المقترح، ومن صيحات موجهة إلى الرئيس أن ينزل عن كرسيه إلى غير ذلك من مظاهر الغضب والسخط، وذهب بعض النواب فأغلقوا باب القاعة وجاءوا بمفتاحها فوضعوه على المنصة وأنزل عضوان الرئيس عن كرسيه بالقوة وبعض اللوردات وكبار الموظفين يطرقون الباب في غير جدوى إلى أن قرء المقترح ووافق عليه النواب في حماسة عظيمة، ومما جاء في فيه قول النواب (إن من يحدث تغيراً في الدين أو من يفرض ضريبة جديدة أو يدفعها بغير موافقة البرلمان فهو عدو للملكة).
ولما نما ذلك إلى الملك لم يسعه إلا حل البرلمان فحله في اليوم الذي تحدد لاجتماعه بعد هذه الجلسة المشهودة، وأمر الملك فقبض على بعض أعضاءه وأرسلوا إلى السجن، وكان في مقدمتهم سيرجون إليوت صديق همبدن وصاحب المقترح، وبعد مضي بعض الوقت تاب الأعضاء مما فعلوا فخلى سبيلهم إلا اليوت فقد ظل على إصراره. وساءت في السجن حالته ومشى السقم في بدنه فما زاده ذلك إلا عناداً وإصراراً. واقترب منه الموت بعد بضع سنين فما أخافه شبح الموت ولا أوهن له اصطباراً ولقي النائب الشجاع حتفه بين جدران(673/31)
السجن فكان أحد شهداء الحرية، وكان من السهل أن يشتري حياته بإذعانه لمن سجنه ولكنه آثر ميتة البطل؛ ولم يتورع الملك عن أن يكيد له وهو بعد رفات فمنع أهله من أن يدفنوا جثته خارج السجن فوسد حيث استشهد، ودفن حيث أبت روحه أن تدفن.
(يتبع)
الخفيف(673/32)
نظرات في الأدب:
الأدب والمجتمع
كان من نتائج شيوع المذاهب الاشتراكية، أن بدأ كثير من الكتاب - ولاسيما دعاة تلك المذاهب - يتجهون في كتاباتهم اتجاهاً جمعياً؛ ويحاولون أن يعالجوا كل ما يمس المجتمع من قريب أو من بعيد؛ ويجهدون - قدر الطاقة - في وسم كل إنتاج لهم بالميسم الاجتماعي.
ولا شك أن هذا الاتجاه إلى معالجة شئون المجتمع، والنظر إليها هذه النظرة الفاحصة الممحصة لمما يحمد أثره في النهوض بالشعوب والرقي بالأمم.
ولا شك في أنه أيضاً اتجاه طبيعي إلى حد كبير؛ وهو - في ذاته - معقول ومجد، لأنه يتفق وغلبة النزعة الاشتراكية على بلاد العالم جمعاء. . . حتى الديمقراطية منها.
ولكن كل هذا - وإن كنا نقره ونعترف به - لا يبرر - بأي حال - وجوب اتجاه الأدب - بوصفه فناً من الفنون الجميلة - إلى المجتمع. . . والمجتمع فحسب: يعالج شئونه، ويجاهد أن يحل قضاياه، ويتلمس أن يتعرف علله الظاهرة منها والباطنة؛ ثم هو لا يتجه من بعد ذلك إلى غير هذا؛ فهو من المجتمع: ابنه البكر ووليده المشمول برعايته - وإليه؛ ولا ينبغي أن يبتعد عنه ويروح يغوص في لجج التيارات الفردية والنزعات الإنسانية التي تلغي قيود الزمنية والمكانية.
. . . هذا بعينه - هو ما يذهب إليه دعاة الأدب للمجتمع. . . ذلك النفر المغالي في إنكار الذات إلى حد غير متقبل عقلاً وبداهة
لقد ظن أولئك الدعاة أن الأديب يحيد عن رسالته الروحية حين لا يصرف كل جهوده في توجيه المجتمع وحل قضاياه؛ وارتأوا أن في انتهاجه المنحى الفردي - الذي يحصر حدود الكلام فيما يعتلج في النفس ويدور حولها ويتعلق بها ويرتد إليها - انحرافاً يستدل منه على أنه لا يماشي المجتمع ويجري وراء الأوهام والتعلات!
وهذا قول من شأنه أن يضيق من حدود مجالات الأدب الفسيحة، حتى يضيق الأدب به ويضيق بأصحابه على خلاف ما يتوهمون!
إن الأدب - أسوة بغيره من الفنون - تعبير. . . تعبير بكل ما نريد بهذه الكلمة من تبيان(673/33)
معاني (الإفصاح والإبانة والتجلية). وفن هذا شأنه وهذه طبيعته، لا يمكن أن نقسره على أن يكون صدى لمجتمع بعينه أو بيئة بعينها. وكل ما ينبغي أن نطالبه به وننشده فيه، هو أن يكون صادقاً مبيناً صادراً عن نفس تحس فتتأثر ثم تؤثر.
والكاتب حين يصدر في إنتاجه عن حس صادق مستوفز للمؤثرات والحوافز، وملكة مواتية ذلول تموج فيها تيارات الإلهام الدافق المتفجر - لا يمكن أن يكون (مسؤولاً) بعد ذلك، عما إذا كان قد تناول شؤون المجتمع أم طوى كشحاً عنها. . . لا يمكن أن يكون (مسؤولاً) في (عرف) آلهة الفن وحواريه وملائكته. . . وشياطينه أيضاً! ولا علينا بعد ذلك أن يكون (مسؤولاً) أمام المجتمع أو أمام الساسة المهرجين!
أجل. . . حسب الأديب الفنان أنه عبر. . . في صدق وإخلاص يكون لهما في القلب رنين. . . حسبه هذا، وكفى به رصيداً - أي رصيد - يضم إلى تراث الإنسانية الرفيع!
وتعبير هذا شأنه من الصدق وتحري نفحات الإلهام هو - من غير شك - لذو أثر في السمو بالإنسانية عامة - أيا كان لونه واتجاهه. ولا يعنينا - بعد ذلك - أن يكون إحساس هذا الأثر جلياً ظاهراً للعيان، صادرا عن مجاوبة مجتمع بعينه، أم خفياً ينسرب إلى التراث الإنساني في خفة العصفور الدقيق الرشيق. . . بل إني لأراه أطيب وأوقع في النفس، وأقوى على تحمل البقاء في رصيد الإنسانية، حال خفائه وإنسرابه إليه في خفة العصفور الدقيق الرشيق!
وأني لأسمع الكثيرين يتساءلون حين يصادفون نتاجاً أدبياً، يتناول وقائع خاصة أو أحداثاً شخصية فردية بحتة، بحيث لا تمس أحوال المجتمع في كثير أو قليل. . . إني لأسمعهم يتساءلون في أسى وحيرة: (. . . وما جدوى هذا الإنتاج للمجتمع؟!)
. . . وما أحراهم أن يديروا هذه الأسئلة التالية في عقولهم - وفي قلوبهم أيضاً! - ليجدوا المخلص من أساهم وحيرتهم اللذين لا مبرر لهما. . . في نظري:
أليس هذا الإنتاج (إنسانيا) على كل حال؟ أليس المجتمع - في ذاته - ليس إلا مجموعة أفراد؟. . . ومهما تمايزت المجتمعات واختلفت الشعوب وتباينت النحل والأجناس، ألا توحد بينهما جميعاً رابطة الإنسانية العليا؟!. . . ثم. . . أليس في حكم البدائة المقررة أن النفس الإنسانية - مهما تعددت في شكولها الظاهرية، وبالنسبة إلى الزمنية والمكانية -(673/34)
واحدة في جوهرها وفي صميم فطرتها الأصيلة؟!
. . . ولا ينبغي أن يخشى أولئك الاجتماعيون - الذين يريدون أن يستأثروا بهذا الوصف وحدهم. . . لست أدري لماذا؟! - لا ينبغي أن يخشوا أن ينحرف الأديب - إذا لم يقيد إنتاجه بالغرض الاجتماعي والهدف النفعي - إلى قضايا الشر يؤيدها ويمجدها ويحث على إثارتها. . . فيهود بذلك المجتمع ويصبح حرباً عليه، حين كان يؤمل فيه - لو أنه توجه في تياره - أن يكون عوناً له ونوراً به يستضئ. . . لا ينبغي أن يخشى أولئك الاجتماعيون، شيئاً من ذلك على الإطلاق، لأننا لا نعرف الفنان إلا خيراً، ولا نعرف الفن إلا خيراً صرفاً كله؛ لأنه لا يجوز في الذهن - والفنون بالبداهة أسمى كنوز الإنسانية، وأغلى ما تعتز به من تراث - أن تكون نفس الفنان مركبة على حب الشر والنزوع إليه. وما هذا الأدب الشرير الذي منه يتوجسون وعلى مجتمعهم منه يشفقون، إلا غطاء ظاهري نسجه المجتمع اللعين، وظاهره في ذلك القدر فطمر على ينابيع الخير الثرة في النفس الفنانة الشفيفة
. . . لا خوف على الإنسانية من شر ظاهري زائف، يفضحه الخير المتأصل في النفس - ونعني بها هنا نفس الفنان - تأمل الخصب في الأرض الطيبة السمحة!
(مصر الجديدة)
عبد العزيز الكرداني(673/35)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
734 - جاء الزمان إلي منها تائباً
دخل عبد الله بن عبد الواحد على الملك العادل بن المنصور (من ملوك الأندلس والمغرب) فقال له العادل كيف حالك؟
فأنشده:
حال متى علم أبن منصور بها ... جاء الزمان إلي منها تائباً
فاستحسن ذلك منه وولاه أفريقية.
وهذا البيت للمتنبي وإنما تمثل به لموافقة اسم منصور فيه لاسم والد العادل فحسن التمثيل به.
735 - تسأل عنها أخاك إبليس
في (العقد) كان ابن سيرين إذا سئل عن مسألة، فيها أغلوطة، قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
736 - يبكي الغمام وتضحك الأزهار
قال ابن ظافر: اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأديب أبو العباس بن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب برق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء. فقال ابن القبطرنة:
هذى البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار
فقال ابن صارة:
وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والأضرار
ثم قال:
وإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار
فقال ابن القبطرنة:
من أجل ذلة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار(673/36)
737 - أتاك مني بما لا تشهى القدر
كان أبو الهذيلي العلاف المعتزلي يبغض العباس بن الأحنف ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلواً كان ناصركم ... قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم ... فكل ذلك محمول على القدر
فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره.
فقال العباس بن الأحنف:
يا من يكذب أخبار الرسول لقد ... أخطأت في كل ما تأتى وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك فقد ... أتاك منى بما لا تشتهى القدر
738 - لم لم يروحه كما أغداه؟
في (الموشح) قال الصولى: قال الأصمعي: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدى من قصيدته الطويلة:
فتى تمّ فيه ما يسّر صديقه ... على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت أعراقُهُ غيرَ أنه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا
أشمُّ طويل الساعدين، شَمردلٌ ... إذا لم يرح للمجد أصبح غادياً
فقال الرشيد: ويله! ولمَ لمْ يروحه في المجد كما أغداه؟
إلا قال: إذا راح للمعروف أصبح غادياً.
فقلت: أنت والله (يا أمير المؤمنين) في هذا أعلم منه في الشعر.
739 - سؤال الحوائج عند الطعام
في (شذرات الذهب): كان أبو العباس - أول خلفاء العباسيين - إذا حضر طعامه أبسط الناس وجهاً، فكان إبراهيم بن مخرمة الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخرها إلى أن يحضر طعامه، ثم يسأله. فقال له يوماً: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك؟
قال: يدعوني إلى ذلك التماس النجح لمن أسأله له.
فقال أبو العباس: إنك لحقيق بالسؤدد لحسن هذه الفطنة.
740 - مصيبة. . .(673/37)
يهودي بلا مال ... وأعمى ماله صوت
741 - من أدب السلف الصالح
في (الآداب الشرعية والمنح المرعية):
ابن عقيل في الفنون: مما وجدتهُ في أدب أحمد إنه كان مستنداً وذكرَ عنده ابن طهمان، فأزال ظهره عن الاستناد وقال: لا ينبغي أنْ يجرى ذكرُ الصالحين ونحن مستندون.
قال ابن عقيل: فأخذتُ من هذا حسن الآداب فيما يفعله الناسُ عند إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته.
742 - إن اللئام إذا ما سافروا ضجروا
كانت العرب تقول (السَّفر ميزانُ القوم) كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم. قال العطوي:
أكرمْ رفيقك حتى ينقضي السفر ... إن الذي أنت موليه سينتشر
ولا تكن كلئام أظهروا ضجرا ... إن اللئام إذا ما سافروا ضجروا
743 - ويكون جُرحك جبارا
في (نفح الطيب) كان ابن الصابوني الأندلسي في مجلس أحد الفضلاء بأشبيلية فقدم فيما قدم خيار، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين، فخطف ابن الصابوني السكين من يده. فألح عليه في استرجاعها. فقال له ابن الصابوني كف عنى وإلا جرحتك بها.
فقال له صاحب المنزل: أكفف عنه لئلا يجرحك ويكون جرحك جبارا. . .
744 - الأعرابي وفن العروض
في (محاضرات الراغب): دخل إعرابي مسجد البصرة فانتهى إلى حلقة علم يتذاكرون الأشعار والأخبار وهو يستطيب كلامهم ثم أخذوا في العروض فلما سمع المفاعيل والفعول ورد عليه ما لم يعرفه فظن أنهم يأتمرون به فقام مسرعاً وخرج وقال:
قد كان أخذهمُ في الشعر يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاماً لست أعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم(673/38)
ولَّيت منفلتاً والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم(673/39)
شهادة. . .!
للدكتور إبراهيم ناجي
قولها بين يدي صديقي الشاعر الوجداني الأستاذ أحمد عبد
المجيد الغزالي تحية معطرة بشذى (زهر الربيع)
وفيْنانةٍ ريَّانةٍ بجمالها ... بتول، كأملاك السماء كَعاب
رآها أخ بالحسن والسَّحر عارف ... عليم بشُهدٍ في الحياةِ وصاب
بها صور شتى من الحسن، لم تدرْ ... ببال، ولا جالت له بحساب
بدت سافرات تنهب القلب والحجى ... ولو كان هذا الحسن خلف نقاب!
إذاً لتحدَّى صولةً كل حائل ... وشق إلى الأنوار كل حجاب
فيالك من حسن قوي وإن يكن ... كفجر وديع في الضَّياء مذاب
رآها. . . فصاح القلب في الصدر هاتفاً: ... ألا ليتني أدركتها بشبابي. . .!(673/40)
هي. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(أرفع تلك الورقة المخضلة بهذه الأبيات وكأنها زهرة منداة من (زهر الربيع)
أطلَّت على دنيايَ فجرَ شبابي ... فعشت بقلب في الضَّياء مذاب
يباكره منها السنا كلما سرَت ... فتشرق آمالي به ورِغابي
حبتنِيَ من نور الجمال ونوْره ... ضياء ظلامي وازدهار يَبابي
عرفتُ بها سرَّ الجمال محجّباً ... وأدركتُه سرًّا بغير حجاب
فلا أنا في الحاليْن أرضى ضلالتي ... ولا أنا أرضى جانب المحراب
محيَّرةٌ في القرب والبعد يستوي ... شرابي من كأساتها وسرابي
حنانَيْك أودت بي قُطيعتكِ التي ... مضت. . . والتلاقي قد أضاع صوابي
ولست بشاك ما أعانيه من ردَّى ... لغير التي منها أكابد ما بي!(673/41)
عيد الجلاء. . .!
للأستاذ أنور العطار
دمشق ترفل في أفواف وادينا ... غنَّى لها (برَدَى) هيمان مفتوناً
السلسل العذب يُهدي (النيربينْ) هوى ... كالروض يَعبقُ أوراداً ونسْريناً
و (قاسيون) انتشت بالنور هامته ... كأنه قبس الأنوار من (سينا)
وضجت الغوطة المنضور جانبها ... بيوم (جلَّقَ) واهتزت أرانينا
يوم أغرُّ على الأيام مؤتلقٌ ... مُشَهَّرُ ما يزال الدهر ميمونا
يا صفحة قد كتبناها بأيدينا ... بالدمع والدم قد زِينتْ أفانينا
ويا جهاد الأُلى أعتز الجهاد بهم ... أرضيتم اليَعْر ُبيّين الأبيّينا
نزَّهتمُ الشام من باغ يعيثُ بها ... وصُنتمُ مهدها مهد النَّبِيِّينا
ملأتمُ ساحها عزاً وتكرِمة ... فكان حاضرُنا رمزاً لمِاضينا
أتت على الشام أعوام مُرَوًعة ... كأنما هي أجيالُ تُعَنًينا
جرُ المغير ' علينا نقمةَ عَظُمت ... فكانت الدار نهب الأجنُبيِينا
فهبًّ من مهدوا يوم الخلاص لنا ... يصارعون الرٌزايا غيرَ وأنينا
فكان إقداُمهم بعثاً لهامدنا ... وحافزاً يحفز الشًّعْت المساكينا
مشوا إلى الهول يرتادون جاحمه ... يستعذبون المنايا غير خاشينا
كأنهم أرَجُ الفردوس تَنفحه ... رياض جلٌقَ فوٌاحاً تحاسينا
تباركَ الدم قد أهرَقتموهِ فداً ... وقدًّ ستْ أنفسُ سُالتْ قرابينا
لم تُلهِكم مُتعُ الدنيا وزينتها ... أن تبعثوها على الباغي براكينا
ولم يُخفكم أذى العادي وصولته ... أن تذعنوا أو تقرٌوا الذٌل عانينا
ولا ارتضيتم مِهاد العيش لينة ... والحرٌ لا يعرف الإذعان والهُونا
الخالدون وما الدنيا وبهجتها ... إلا سنا الخالدين العبقريينا
عاشوا جمال الدٌنا حتى إذا نزلت ... بهم مناياهم ظلوا عناوينا
كأنما يبدءون العمرَ ثانية ... حتى إذا ما تواروا أشرقوا فينا
يا حفنة من ثرى الأجداد طيبة ... تكاد من طِيبها تَندى رَوابينا(673/42)
هبت فكانت ربيعاً في حواضرنا ... وبهجة وائتلاقاً في بوادينا
يلفٌهَا الحبُّ مختالاً بها فرحاً ... كأنها الشام قد رفٌتْ بساتينا
نبثها فرحة الأحفاد قد نهضوا ... وأثْلُوا الملك تدْعيماً وتمْكِيناً
بثٌوا الرسالة في أوج العلى ومشوا ... للمجد والعزة القَعْساءِ سامينا
طافوا بقبر صلاح الدين واستلموا ... فعل المطيفين بالبيت المناجيا
شادوا كما شادتِ الأجدادُ في وطنٍ ... صُنْعَ الأباةِ الحماةِ العَبْشَمييٌنا
المالكين وعزُّ الملكِ يلحظهم ... والمالئين فِجاجَ الأرض تمدِينا
الناهجينَ إلى العلياءِ منهجها ... والألمعيين إتقاناً وتحْسينا
حيوا لأوطانهم حتى إذا رقدوا ... تفرٌدوا بجلال الذٌكر باقيا
لم يطمئنوا إلى الأيام خادعة ... والدهر مازال حرب المطمئنينا
مَن مبلغ راقداً في الرمل متشحاً ... بُرد الشهادة مغموراً رياحينا
الجوهرَ المحضَ تاهت (ميسلون) به ... كأنه البدر في راجي ليالينا
والصادق العزم لو لاقى بعزمته ... صم الجنادل رد الصخر موهونا
من آثر الموت أن يحيا إلى زمن ... يذوق فيه الردى صاباً وغساينا
تدرًّع العزم لا يلوى به أمل ... ولقٌن الصبرَ في الهيجاء تلقينا
إنٌ الوفيينَ قد صحٌتْ عزائِمهم ... فزحزحوا عن حِمى العرب المغيرينا
وشيٌدوا المجد بالهامات طائحة ... وللمآثر والعلياء بانونا
تلكم دماؤُهم ضجت مزغردةً ... وتلكم يا بني قومي أضاحينا
وأنت يا عيدَهم بوركتَ من أمل ... حلو على الدهر نُحييه فيُحيينا
في (ميسلون) طريف من مفاخرنا ... وفي حماها رفيف من أمانينا
وفي تضاعيف سوح الشام أمثلةُ ... من الفداء تُناجينا فتُصْبينا
وعداً عليًّ وقد أصغى الزمان لنا ... لأ نظمنٌ بها أحلى أغانينا
يا وحدة العرب لوحي في أباطحنا ... وأشرقي كالدراري في مغانينا
وأنت يا نفحة الضاد التي سكرت ... بها النفوس وما تنفك تغرينا
لأنت زاد الأُلى ازدان الوجود بهم ... وأنت أنت السٌنا في الخطب يهدينا(673/43)
إذا ضللنا ولم ترشد محجتنا ... لذنا بوحدتنا الكبرى تؤاخينا
وإن ضعفنا وأوهى الضعف عقدتنا ... كانت لنا داعماً في الضعف يعلينا
وإن حننا إلى الأطيار صادحة ... شدت لنا اللغة الفصحى تناغينا
يا فرحة الملتقى أذكيتني طرباً ... وهجت أحلى المنى في أرض (جيرونا)
تركت قلبي مغموراً بنشوته ... سكران تصيبه أفراح النجيينا
يا طول شوقي إلى الآلاٌف قد رجعوا ... ولم يكن طيفهم يوماً يصادينا
غنى لَهم خاطري فرحان مبتهجاً ... لحن اشتياقٍ يسيلُ الدمعِ مخزونا
تساءل النفسِ في شوقٍ وفي لهفٍ ... منْ أنتَ يا من أذاعَ الوجدِ مكنونا
أأنتَ ذيالكَ الطيف ' الذي خفقتْ ... له الضلوعِ وغناة المغنونا
أم أنتَ دنيا مِن الأحلامِ طيبةُ ... كالمسك نشراً وأنفاسِ الربا لينا
أم حققَ اللهُ وعداً فاتناً لهجت ... به النفوسَ ونصراً كانَ مضمونا
أأنتَ طيفُ سَرى في العينِ ناعِمة ... أم أنتَ حققت للعُرب الأظانينا
فصحتُ من طربٍ والزهوُ يملكني: ... (أضحى التداني بديلاً من تنائينا)
ماذا على القلبِ إنْ هاجتْ هوائجه ... فراحَ ينشد أشعارَ (أبن زيدونا)
يا جيرة العُرب صان الله عقدكم ... وزادهُ الحب توثيقاً وتمكينا
حلٌلتُم الوطن المزهوًّ جانبه ... من بعدِ ما نهلتْ منه أعادينا
وبعد داء عياء لا كفاَء له ... جمٌ المواجع يُشجينا ويُبكينا
الغاشم المرٌ ولُى عن أباطحنا ... وأنهارَ كالسيلِ سكباً من صياصينا
قد حطٌهُ وهو في عليائه قدر ... يردِى المغير ويطوى المستبدٌينا
فقل له زاجراً نهلان ِمن سخر ... لا عدتَ يا من صحبت الرأي مأفونا
ولا أظلٌتك دنيا الناس تملؤها ... غماً طويلاً وويلاتٍ أفانينا
أثرْتَ للحق تُعليه وتُعظمه ... أم كان ذلك تضليلاً وتلويناً
غررت ناساً فقالوا ثورة عجب ... قد صاغها الحق حيناً والعلى حينا
يعيش فيها الحجا جذلان مغتبطاً ... ويستنير برأي الألمعيينا
ثم انجلتْ فإذا طغيان مختبل ... جم المخازى فما زينت ولا زينا(673/44)
تفيض بالفتنة الكبرى جوانبها ... وتملأ الأرض تفكيكاً وتوهينا
يا يوم (جلق) ضم العرب فائتلفوا ... فما ترى بيننا غير المحبينا
الهائمين تلاقوا بعد ما افترقوا ... وعاهدوا الله أن يحيوا وفيينا
تمازجوا في إخاء رائع عجب ... فعل الأخلاءِ في الدنيا المصافينا
(نجد) الهوى و (الحجاز) السمح قدْ سربا ... في (جلق) وانثنتْ (بغداد) تطرينا
وأشرقتْ (مصر) باللأ لأء باهرة ... وبالحياةِ وبالأرواحِ تفدينا
ومر (لبنان) في خلابِ صورتهِ ... كأنه الشِعر ترتيلاً وتلحيناً
(عمان) طافت تهز النفس روعتها ... ورفتْ الشام في وشى (اليمانينا)
لكنما العين مازالتْ مؤرقة ... تبكي الأحبة في دنيا (فلسطينا)
تهيب بالعْربِ في علياءِ عزتهمْ ... أن ينقذوا اليعربيينِ المصابينا
العرب في (المغرب) الأقصى تناجينا ... والعرب في (المغرب الأدنى) تنادينا
لهفي عليهم وقدْ ضاقَ الفضاء بهمْ ... ماذا من الغاشمِ العادي يلاقونا
ما زالتْ الأرض تندى من دمائِهِمْ ... وما تزال عواديهمْ عوادينا
العرب في ثورةِ للمجدِ شاملة ... علياء وطدها الصيدِ المحامونا
حراس وِحدتنا الكبرى ومن سفكوا ... أرواحهمْ في سبيلِ العربِ فادينا
ومن أشاحوا عن الدنيا ومن تخذوا ... هوى العروبةِ فيما بينهم دينا
هذا هو المجد خطته أناملهم ... وخلدته على الدنيا قوافينا
كأنما هو مسكُ من دمائهِم ... قد استطارَ دموعاً من مآقينا(673/45)
البريد الأدبي
في مقالة للأستاذ العقاد:
روى العلامة الأستاذ الشيخ المحترم عباس محمود العقاد في مقالته: (من الدعوة الهندية) في الرسالة الغراء 671: (وكل ما أدعيه أنني محدث) وقد ضبطت هذه اللفظة الأخيرة بكسر الدال وتشديدها - ولا ريب في أن ذلك تطبيع - ومقصود القائل، هو المحدث بفتح الدال وتشديدها. قال أبن الأثير في النهاية.
(قد كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر أبن الخطاب. جاء في الحديث تفسيره أنهم المهملون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة، وهو نوع يختص به الله (عز وجل) من يشاء من عبادة الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه).
والمروع - بفتح الواو وتشديدها - مثل المحدث. جاء في لسان العرب:
(وفي الحديث المرفوع أن في كل أمة محدثين ومروعين فإن يكن في هذه الأمة منهم أحد فهو عمر. المروع الذي ألقى في روعه الصواب والصدق وكذلك المحدث كأنه حدث بالحق الغائب فنطق به).
وقد رأى الشيخ المحترم أن (التسليم) هو للكلمة الفرنجية قائساً إياها - كما أوقن - على التهويد والتنصير والتمجيس. روى البخاري:
(ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. . .).
وفعل ذلك المصدر (سلم يسلم) ولهذا في العربية معان كثيرة ليس الحرف المختار للفرنجية منها، وإذا لم نسلم بما قال الأستاذ العقاد فماذا نقول؟. . .
السهمي
إلى الأستاذ أحمد حسين:
خذ - يا أخا العرب - غير مأمور هذا الخبر في الطلاق إن لم تكن قد رويته في كتابك (الزواج والمرأة) وهو حجة لك وفيه قضاء عدل:
(. . . عن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مئة سوط فامرأتي طالق. قال: لا(673/46)
يجلد غلامه، ولا تطلق امرأته؛ هذه من خطوات الشيطان). ذكره (ابن داود في تفسيره) في لا تتبعوا خطوات الشيطان).
فلا طلاق إلا أمام القاضي من بعد فحص وبحث، وتذكير وتحذير، ونصح طويل، ولوم جميل. و (آخر الدواء الكي). هذا الذي يرضي النبي محمداً.
مسلم
الجامعة العربية تنشئ معهداً للفقه الإسلامي:
من المشروعات التي ستعرض على اللجنة القانونية لجامعة الدول العربية في شهر يوليو القادم إنشاء معهد للفقه الإسلامي تدرس فيه المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة، ومقارنة بعضها ببعض، ثم مقارنتها جميعاً بالقوانين الغربية الكبرى. والغرض من إنشاء هذا المعهد تهيئة جو مناسب لدراسة الفقه الإسلامي دراسة علمية حديثة تسير بهذا الفقه العظيم في طريق التطور الذي اختطه السلف الصالح من الفقهاء المتقدمين، حتى إذا تهيأت الأسباب أمكن أن يكون الفقه الإسلامي ركناً من الأركان التي تقوم عليها دراسة القانون المدني في العالم؛ وأمكن في الوقت ذاته أن يكون هذا الفقه مادة خصبة تستمد منها التشريعات الحديثة في دول الجامعة العربية. فهل تستطيع كلية الشريعة في الجامعة الأزهرية أن تضطلع بهذا المشروع الخطير لذي تقتضيه حال التطور الدائم في الأقطار العربية والإسلامية؟ إحدى اثنتين: إما أنها تستطيع، لأنها وحدها وريثة الفقهاء الأربعة، وإذن يكون إنشاء هذا المعهد من الفضول الذي يأخذ ولا يعطي، ويعدد ولا يوحد، وزيد ولا يفيد. وإما أنها لا تستطيع، لأن الذين ينهضون بهذا العبء يجب أن يكونوا فقهاء من طراز عبد العزيز فهمي، وعبد الحميد بدوي، وعبد الرزاق السنهوري، وإذن يكون رأي الأستاذ محمود الغمراوي محتاجاً إلى التعديل، حتى لا يتبدد تراث هذا المعهد الإسلامي الجليل.
التربية الدينية في المدارس:
أرسل صاحب المعالي الأستاذ محمد العشماوي باشا وزير المعارف إلى سعادة الأستاذ وكيل الوزارة الكتاب الآتي نصه:
(يهمني العناية بالتربية الدينية بالمدارس على اختلاف أنواعها ودرجاتها بالثقافة حسب(673/47)
مستوى التعليم، وأن يعني بجانب تعليم العبادات وتفهم روحها ومراميها بإحاطة الطلبة والطالبات علماً بمبادئ الدين الإسلامي في إصلاح النفوس والأجسام وتنظيم المجتمع وتنظيم العلاقات بين الأفراد والأمم على أساس من العدل والاستقامة والأمانة، وتعريف الطلبة بأبطال الإسلام تعريفاً يقوي فيهم روح التقدير للمثل العليا ويحفزهم إلى القدوة الحسنة.
وإني أرجو أن تعرض على اقتراحاً بتشكيل لجنة لهذا الغرض، يكون من المستحسن تشكيلها من الشيخ محمود شلتوت والشيخ حسن البنا وعميدي اللغة العربية بالوزارة لتقترح الخطة، والمنهج، والكتب المحققة لهذا الغرض حسب مراحل التعليم بعد بحث الوضع الحالي لدراسة الدين والثقافة الإسلامية، ويعرض مشروع قرار وزاري بذلك على وجه السرعة بعد الاتصال بحضرات الأعضاء من خارج الوزارة للاتفاق معهم على المساهمة في هذه المهمة.
الجوائز الملكية للعلوم والآداب والقانون:
أوشكت اللجنة الوزارية التي يرأسها صاحب المعالي وزير المعارف أن تفرغ من قواعد النظام الخاص بتوزيع جوائز صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد الأول.
ومما استقر الرأي عليه في ذلك أن يكون توزيع الجوائز الثلاث التي باسم المغفور له الملك فؤاد الأول في 27 إبريل من كل سنة تخليداً لذكرى وفاته، وهي ثلاثة آلاف جنيه، كل جائزة قيمتها ألف جنيه.
ويكون توزيع الجوائز الثلاث التي باسم صاحب الجلالة الملك فاروق الأول وهي على نفس النظام في يوم ذكرى عيد جلوسه السعيد. وهذه الجوائز توزع:
1 - لأحسن عمل أو إنتاج في العلوم.
2 - لأحسن عمل أو إنتاج في الآداب.
3 - لأحسن عمل أو إنتاج في القانون.
وقد سمعنا أن معالي وزير المعارف قد اقترح على اللجنة أن تخصص الوزارة من عندها جوائز أخرى لتشجيع العلوم والفنون فتقرر الأخذ بهذا المبدأ.
من شهادة الفرنج للإسلام:(673/48)
تلقى (مستر لايس) المفتش السابق للمدارس الإنجليزية بمصر دروساً في اللغة العربية على أستاذنا العلامة اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك عضو المجمع العلمي بدمشق، وقرأ القرآن على أستاذنا العلامة المفسر الشيخ عبد الله العلمي. وقد سمعه الأستاذ المبارك يقول:
لسان العرب وتاريخ الإسلام يغنيان عن كل لسان وكل تاريخ، وما من حسنة في بلاد الفرنج إلا وأصلها من بلاد الإسلام، وما من سيئة في بلاد الإسلام إلا وأصلها من بلاد الفرنج.
فوزي محمد القباني
في الفقه المقارن:
أظهرت مكتبة الآداب بالجماميز الطبعة الرابعة لكتاب الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية، بعد أن أضاف إليه مؤلفه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المدرس بكلية اللغة العربية كثيراً من الزيادات والتنقيحات، فجاء في 152 صفحة من القطع المتوسط، وقد درس فيه الميراث في الشريعة الإسلامية بتفصيل، وبين فيه طريق حساب الإرث بالقواعد الحسابية الحديثة بعد بيانه بالقواعد القديمة، وذكر فيه جدول المواريث مع تحقيق الخلاف في واضعه.
ثم بين فيه بعد هذا المواريث عند قدماء المصريين، وعند الأمم الشرقية القديمة، وعند العرب في الجاهلية، وعند الأمة اليهودية، وعند قدماء اليونان وعند قدماء الرومان، وهذه هي أشهر الشرائع القديمة.
ثم بين فيه بعد هذا الأصول الحديثة للمواريث الوضعية، والميراث في القانون الفرنسي، والميراث عند الاشتراكيين، واكتفى بذكر الميراث في القانون الفرنسي عن ذكر الميراث في غيره من القوانين الحديثة؛ لأن هذه القوانين مستمدة من القانون الفرنسي، ولا تختلف عنه إلا قليلاً.
ثم ذكر فيه بعد هذا الموازنات بين الميراث في الشريعة الإسلامية والمواريث في هذه الشرائع، فانفتح بذلك باب جديد ظهر فيه أسرار عظيمة في الميراث الإسلامي، أظهرتها تلك الموازنات بينه وبين غيره بعد خفائها، وبينت أن ما جاء بها الإسلام في الميراث(673/49)
يوافق الأصول الحديثة الصحيحة للمواريث أكثر من المواريث الحديثة والقديمة، وأنه يكفل مراعاة ميل المورثين، والعدل بين الوراثة، والمحافظة على الجيل الجديد، أكثر من المواريث التي وضعت لها هذه الأصول.
وتلك أسرار جديدة لم تكن لتظهر في المواريث الإسلامية لو اقتصر في دراستها على الطريقة القديمة، لأنها تظهر فيها أحكاماً تعبدية لا يفقه لها حكمة إلا اختيار الشارع لها، وإيثاره لها على غيرها، كما جاءت صلاة الصبح ركعتين، وصلاة الظهر أربع ركعات، إلى غير هذا من الأحكام التعبدية.
وما أحوجنا في هذا العصر إلى دراسة أبواب الفقه الإسلامي كلها على هذه الطريقة الجديدة، ليعرف فضلها بالموازنة بينها وبين غيرها من الشرائع، وتظهر فيها أسرار جديدة تجذب الناس إليها، وتحملهم على تقديرها وإنصافها.
اقتراح:
كانت الرسالة تختم كل مجلد بفهرسين: فهرس لإعلام الكتاب وفهرس للموضوعات، ثم ضيقت الحرب صفحاتها، فتركت الأول واكتفت بالثاني.
والرسالة سجل الأدب الحديث لا يكاد يستغني عن الرجوع إليه متأدب ناشئ أو ناقد أديب. ولقد احتجت اليوم إلى النظر في مقالة أعرف موضوعها واسم صاحبها ولكني لا أعرف عنوانها بالضبط لأعود إليه في فهرس الموضوعات، فاضطررت للتفتيش عنها ساعتين كاملتين، ولو كان للإعلام فهرس لوجدتها في خمس دقائق.
فأنا اقترح على الرسالة أن تصل ما كان انقطع وتنظم فهرساً واحداً لإعلام الكتاب عن سني الحرب كلها يكون مكملاً للفهارس السابقة فتعظم فائدته ويجزل شكر القراء عليه. وأحسبه يكلف تعباً كثيراً ولا يأخذ من صفحات الرسالة أكثر من ست صفحات أو سبع، أو يتطوع أحد القراء بتنظيم هذا الفهرس وتقديمه للرسالة لتنشره باسمه وتكون عهدته عليه.
(دمشق)
أحد القراء
مهرجانات جامعة أدباء العروبة في الأقطار الشقيقة:(673/50)
اعتزمت جامعة أدباء العروبة أن تقيم مهرجانات أدبية في القدس ودمشق وبيروت تحقيقاً لغرضها الأسمى، وهو وحدة الفكر العربي والنهوض بالأدب ليحمل رسالة الإصلاح والبعث والتوجيه. وسيسافر أعضاء الجامعة برياسة معالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا إلى الأقطار العربية في الأسبوع الأول من شهر يوليه القادم، وقد تبرع الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم عضو الجامعة بسياراته لتقل حضرات المدعوين كما ستنزل الجامعة في ضيافته خلال هذه الرحلة.
وقد تألفت لجنة لإعداد هذه المهرجانات من حضرات الأساتذة الدكتور محمد وصفي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم، وطه عبد الباقي سرور، وجميلة العلايلي، ومحمد عبد الوارث الصوفي، وعبد الله شمس الدين.
والجامعة تدعو أدباء العالم العربي للمساهمة في هذه الأسواق الأدبية الكبرى نظماً ونثراً، وترسل الكلمات إلى سكرتيرية الجامعة 196 شارع محمد علي بالقاهرة.
طه عبد الباقي سرور
السكرتير العام(673/51)
القصص
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
عضو المجمع اللغوي الفرنسي
بقلم الدكتور محمد غلاب
4 - حسن الختام:
يونيو في مدينة تالوار.
إن كل ما يحوطني الآن مفعم بالهدوء والسلام والعظمة والجلال والابتسام، وحول منزلنا الصغير النائم تحت أشعة الشمس تبدو الجبال زرقاء وبيضاء. وقبالة هذا المنزل توجد البحيرة العظيمة بلونها الفضي، وباريس الآن بعيدة.
نعم باريس بعيدة وكذلك الماضي بعيد، وتلك الساعات القاسية التي احتملتها والتي كنت أتصور أنها ستقضي على حياتي، كل ذلك قد انتهى كما انتهى الماضي البعيد، والحياة الآن ستستأنف متحدة مضيئة. ولقد كان هذا التغيير فجائياً بدرجة لا أكاد أصدقها.
يا عجبا! إن آخر سطر في مذكراتي الماضية كان غاية في اليأس والقنوط، وهو: (لأن أقدم حياتي خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة ولدي).
ولقد كنت أكتب هذه المذكرة في حجرة الطفل المريض وبجانب سريره، وكانت الحاضنة تقرأ في تلك اللحظة نبأ قدوم الطبيب في الساعة الخامسة، وكنت أنتظر حضوره في جزع شديد، ولو أني كنت عارفة قراره مقدماً، وهو قوله: لا جديد، فلننتظر. وفي الواقع لم يكن هنالك جديد، إذ أن جسم الطفل كان غارقاً في العرق، وهو يئن في سريره في وسط نوم مضطرب. وعند الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم دخل خادم زوجي ولقد كنت أكره لونه الذي هو مزيج من: صفرة وزرقة ورمادية، وعينيه اللتين لا يمكن كشف ما وراءهما، وفمه ذا الشفتين اللتين لا تكادان تريان من كثرة انقباضهما، فسألته قائلة:
- ماذا تريد يا جوزيف؟
- إن سيدي الكونت يسأل سيدتي أصحة سيدي الفيكونت أحسن الآن؟(673/52)
- إن سيدك إذا لم يخرج.
- لا يا سيدتي، إن سيدي ظل من بعد الغداء إلى الآن في مكتبه، وهو يرجو من سيدتي أن تنبه حينما يحضر الطبيب.
- حسن يا جوزيف، ستنزل الحاضنة لتنبئ سيدك عندما يحضر الطبيب.
لم يكن زوجي إذا قد خرج، لأنه كان قلقاً على صحة الطفل وكان يريد أن يحضر زيارة الطبيب، فهل كان أحد يصدق ذلك؟ لقد زاد هذا الاهتمام الفجائي بصحة الطفل من غضبي حتى أحسست في تلك الساعة أن الحقد يتضاعف في نفسي إلى درجة أني لم أعد أحتمل حنانه عليه وقلت في نفسي: ليتركني وحدي مع هذا الصغير العزيز المريض، وليذهب إلى تلك المخلوقة. ولا ريب أن كبرياء الألم هي التي خلقت عندي هذه العاطفة، لأنه كان ألماً مبرحاً.
وبعد الساعة الخامسة بقليل حضر الطبيب، ولما نبأت الحاضنة الكونت صعد فوراً، وكان في هذه اللحظة يختلف كثيراً عن طبيعته المفعمة بقوة الإرادة والشجاعة إلى حد أنني أحسست بالشفقة عليه، لأنه كان متألماً من ذلك العراك الذي كان يحتل نفسه في تلك الساعة بين هذا الخلق الكريم الحقيقي الذي حببه إلى الناس جميعاً، وبين ذاك الهوى الوضيع الذي كانت نفسه تلح عليه في إطاعته.
(لا جديد فلننتظر). هذه الكلمة التي تنبأت بها قالها الطبيب بحروفها وهو يضع على الوسادة رأس الطفل بعد أن فحص جسمه.
أعاد الطبيب كلمة (فلننتظر) وأضاف إليها قوله: يجب أن تستعدوا لكل شئ، فالأزمة بدأت تتطور، وسيظهر في هذا المساء حدث جديد، ولو أن في الأمر شيئاً سيظهر لما استمرت الحمى على هذا النحو، فهل عندكم طبيب ماهر في هذا الحي ليلاحظ الطفل في حالة حدوث ما لا ينتظر؟
- نعم. يوجد طبيب ماهر في ميدان (بوفو) وهو: الدكتور (جيل).
- إنه لشاب ذكي، وإني أعرفه وسأكتب إليه كلمة، لأوصيه بكم، فإذا ما حدث أي شئ جديد فأدعوه على عجل في أية ساعة كانت.
- انصرف الطبيب وبقيت مع راءول وحدنا في الحجرة، فتصنعت أني لا أنتبه إلى(673/53)
وجوده، إذ كنت أسير في الغرفة جيئة وذهاباً دون أن ألتفت إليه أو أحادثه، وأخيراً قال بلهجة غير طبيعية:
- (إنني سأتعشى الليلة في المنزل يا جينيفييف)
وحينما كان ينطق بهذه الكلمة كنت أقرأ في نفسه كأنما أقرأ في كتاب مفتوح أمامي هذه الأفكار الآتية: (إنه لرديء من جانبي أن أترك جينيفييف المسكينة وحدها في مثل هذا القلق فلنتوسط في الأمر، ولنمنحها مرافقتنا إياها في العشاء، تلك المرافقة التي ستجن بها سروراً، وبهذا أكون قد أديت واجبي ثم أذهب بعد ذلك إلى شارع (فيزيليه).
وفي الواقع أنه لو كان قد عرض علي هذا العرض قبل ذلك اليوم بليلة واحدة لقفزت فرحاً وطرت سروراً، ولكن اليقين الذي احتل عقلي اليوم من جهة، والقلق المضني على صحة الطفل من جهة أخرى قد غيراني تماماً فأجبته في فتور قائلة:
- تعش هنا إذا أردت يا صديقي، أما أنا فلن أنزل إلى حجرة المائدة لا سيما وأنني لا أرغب في الأكل.
وعلى أثر سماعه هذا الجواب حل اليقين من نفسه محل الشك وآمن بأني لا بد أن أكون قد عرفت شيئاً، فامتقع وجهه ورأيت في عينيه أنه يتردد في أن يعترف لي بكل شئ وأن يطلب مني الصفح والتصافي، ولكن تأثير الرغبة السيئة لم يلبث أن غلبه على أمره فاكتفى بأن يقول لي في لهجة فاترة: (حسن! اعملي ما تريدين) وقد كنت إذ ذاك منحنية على الطفل، فلم يتجرأ على الاقتراب منه، ثم تردد قليلاً، وأخيراً خرج. وعلى أثر ذلك طفقت الساعات الطويلة تسير في بطؤ، وأنا جالسة إلى جانب سرير المريض الذي يئن في نومه، وفي كل دقيقة أنحني عليه وأنظر إلى جسمه الذي أخذ يزداد حرارة وحمرة، ولكن لم يظهر على جلده شئ من الحبوب. وفجأة هدأت الحمى وأخذ المريض في التحسن واستيقظ وطلب لعبه، فأفهمته ألا يكشف ذراعيه وصدره فأذعن ونام في هدوء مطمئن، فلما رأيت ذلك سررت واستسلمت إلى النعاس، فأخذتني سنة من النوم لم تطل، إذ لم ألبث أن استيقظت على أثر حركة خفيفة أحسست بها، فلما تبينتها وجدت زوجي منحنياً على سرير الطفل يحدق إليه بعناية وكان مرتدياً ملابس الخروج، غير أنه قد ارتدى فوق هذه الملابس (جاكتة) منزلية، وكانت الساعة إذ ذاك التاسعة والثلث فقلت في نفسي: إنه سيخرج، وبعد(673/54)
نصف ساعة سيكون بين ذراعي تلك المرأة. وفي الحال خطرت لي فكرة انتظاره في ذلك المنزل كما كنت قد قررت آنفاً، ولكن هذه الفكرة لم تبق في رأسي إلا لحظة قصيرة، إذ وجدتني أقول في نفسي: (كلا، كلا، إن مكاني ليس هناك، بل هو هنا).
وفي الحال قدمت لي بإخلاص إلى إلهي ضحية كبريائي وعاطفتي كزوجة محبة لينجى لي هذا الطفل.
وفجأة هتف راؤول قائلاً:
- (جينيفييف جينيفييف!)
فنهضت واقفة لأني أيقنت أن هذا الإيقاظ له علاقة بصحة الطفل، وفي ثانية واحدة انمحى من نفسي كل الحقد الذي كنت أحمله له ثم قلت:
- ماذا؟ ما الذي حدث؟
- انظري
قال هذا وأشار إلى نقط كحبات العدس قد أخذت تنتشر في وجه الطفل وذراعيه، ولونها أحمر باهت، فصحت في جنون قائلة:
يا إلهي يا إلهي ما هذا؟ إني أرجو على الأقل ألا يكون الجدري قل لي يا راؤول. وفي هذه اللحظة تناولت يده وضغطت عليها ناسية كل شئ.
- امكثي هنا يا جينيفييف فسأذهب لإحضار الطبيب ثم خرج. وفي الوقت الذي فصل بين خروجه وعودته كنت أنا والحاضنة تائهين نذهب ونجئ في الحجرة تارة، وننحني من النافذة لنسمع ضجيج المركبة تارة أخرى. ولقد كنت أدعو ربي وأتوسل إليه وأجدد النذر القديم وهو أن أحتمل في سرور خيانة زوجي كزوجة خاضعة تحرس في أمانة منزل الخائن.
وفي النهاية عاد الكونت يصحبه الطبيب فأخذ يفحص الطفل وكنا في هذه اللحظة: أنا وراؤول ننتظر حكمه مرتعدين كطفلين يسيران في الظلام، وكان كل منا يعتمد على ذراع الآخر رهبة وخوراً. ومضت على هذا خمس دقائق كاملة قبل أن يفوه الطبيب بكلمة، وأخيراً قال:
- أنا أظن أنه ليس في الأمر خطر، أظن ولست متأكداً، لأن المرض لم يتحدد بعد.(673/55)
- فقلت في تمتمة مضطربة:
- ولكن على كل حال هل هو الجدري.
- لا، يقينا إن هذا ليس هو الجدري.
كان الطبيب يقول هذه الكلمة ببساطة وهو لا يدري أنه قد رد بها إلي التنفس والحياة. وعلى أثر ذلك سقطت بين ذراعي راءول فاقدة القوى وإن كنت قد أحسست أن ثقة خفية بزوال الخطر قد احتلت نفسي دفعة واحدة وشعرت بالرضى والسعادة، فطفرت من عيني دموع غزيرة لا أدري أهي دموع رد الفعل أم دموع السرور، ثم انتابتني على أثر ذلك أزمة عصبية لم أفق منها إلا حين لاح نور الصباح. وحينئذ وجدت راءول جالساً عند وسادتي فلم أشأ أن أضيع الوقت في سؤاله عن سبب جلوسه بجانبي، وإنما هتفت به قائلة: ورينيه كيف هو؟.
- إنه الآن أحسن حالاً، وإن مرضه لخفيف وبسيط، وإن الحبوب الآن بادية على وجهه بهيئة تجعله دميماً في هذه اللحظة فقط، ولكن الخطر قد زال، والحاضنة والخادمة - ساهرتان عليه. وأنت كيف صحتك؟
- أنا صحتي جيدة جداً.
وإذ ذاك أردت أن أنهض فخانتني قوتي وسقطت على الوسادة فقال راءول وهو يقبض على يدي.
- مسكينة يا صديقتي.
وبعد ذلك ساد بيننا صمت كنت أثناءه أقول في نفسي: من حيث أن راءول هنا فهو إما أن يكون قد عاد من شارع فيزيليه وإما أنه لم يذهب ثم سألته قائلة:
- في أية ساعة عدت يا راءول؟
- إني عدت مع الطبيب، وإني بجانبك منذ أن نمت إلى الآن.
قال هذا وقرب وجهه من وجهي فتمتمت قائلة:
ثم ماذا إذاً؟
وإ ذاك فهم كل شئ، فأجابني بصوت خافت: إذاً. . . أن أحبك وحدك وينبغي أن تصفحي عني، وهذا هو كل شئ(673/56)
وعلى أثر ذلك تبادلنا قبله لم نذق مثلها منذ عهد خطبتنا!
مضت على هذا الموقف ثلاثة أسابيع جعلت صحة الطفل أبانها تتحسن باطراد حتى استطعنا أن نسافر به إلى (تالوار). وها نحن أولاء بمنزلنا سعداء شأننا في صيف كل عام. ولقد أطلعني راءول على برقية وردت إليه من هذه المرأة في صباح تلك الليلة المزعجة، وقد جاء فيها ما يلي: (لقد انتظرت أمس ساعتين كاملتين في هاتيك الغرفة الدميمة، وإنني لا أحب الأشخاص السيئ التربية فعم مساء يا سيدي).
ويبدو أن هذا ال (عم مساء) كان معناه الوداع الأخير. أما الآنسة جيفيرني فهي ستتزوج.
إن الطفل قد برئ تماماً، وإنه لجميل كما كان ولم يبق في وجهه أي أثر للحبوب، وإن الدكتور روبان قد قال لي: إنه سيكون شاباً فاتناً له من أسيرات حبه مثل ما لأبيه.
فأجبته قائلة:
- مثل أبيه! إني أسأل الله أن تكون أسيراته في الغرام أقل عدداً من أسيرات أبيه.
محمد غلاب(673/57)
العدد 674 - بتاريخ: 03 - 06 - 1946(/)
وعينا القومي ينضج مثال في سورية ومثال في
شرقي الأردن
يخطئ من يقيس تقدم أمة أو تأخرها بما يشاهد من حال السابقين منها أو المتخلفين عنها؛ فإن من سبق إنما سبق بإعجازه، ومن تخلف إنما تخلف بعجزه؛ والإعجاز والعجز من الشذوذ الذي لا يسبب حكماً ولا يبني قاعدة. إنما يصح القياس بحال الكتلة التي ظلت متماثلة في اللون والكثافة والحركة بعد أن انفصلت منها قطعة إلى الأمام، وانخزلت عنها قطع إلى الوراء؛ لأن هذه الكتلة تمثل القدر المشترك من الشعور والإدراك والوعي والقلق والطموح والاندفاع؛ فرأيها هو الرأي العام، وأمرها هو الدستور الحاكم، ووحيها (هو السياسة القومية، وغضبها هو الثورة الوطنية، ورضاها هو السلام الدائم. والحكم على الأمة العربية - لمن يحلو له أن يحكم - يجب أن يكون، بناء على هذا القياس أو الأساس، قائماً على حركات كتلتها العجيبة التي ما فتئت منذ مؤتمر فرساي تتقارب وتتضام وتتماسك وتتحد على الرغم من الأسباب المفككة والعوامل المهلكة التي ابتليت بها من سفه الأحزاب السياسية في الداخل، وطمع الدول الاستعمارية في الخارج.
كانت هذه الكتلة الممزقة فاقدة الوعي حين أراد محمد علي إحياء الإمبراطورية العربية؛ وكانت فاقدة الوعي حين ثار أحمد عرابي على العناصر الأجنبية؛ وكانت فاقدة الوعي حين دعا مصطفى كامل إلى الفكرة الوطنية؛ ولكن وعيها القومي أخذ يتنبه حين زلزلت الأرض قنابل الحرب العالمية الأولى، فثارت الجزيرة وسورية والعراق على استعباد الأتراك، وتمردت مصر على احتلال الإنجليز، واستجابت الأمة العربية جمعاء لدعاء الحرية هنا وهناك، وسارت وراء قادتها بخطى الواثق المطمئن، فأضلوها السبيل، وأوردها السراب؛ ولكنها استفادت من كلال السير ووعوثة الطريق وسعار الظمأ، بنصراً في الوعي، وقوة في الموازنة، وصدقاً في التمييز، وصحة في الحكم؛ فلم تكد الحرب العالمية الثانية تنطفئ حتى أمام زعمائها تلهمهم فيقولون، وتأمرهم فيفعلون، وتوجههم فيتجهون. ومتى عرفت الأمة نفسها، وأحست نقصها، وتبينت قصدها، أبت على ولاة أمرها أن يدلسوا عليها الرأي، ويموهوا لها الباطل، ويقنعوها بما دون الحق. وفيما يجري الآن في مصر وفي وغيرها من الحوادث، ويذيع في المجالس والصحف من الأحاديث، شواهد صادقة على(674/1)
اتساع الوعي القومي في نفوس المصريين والعرب تثب في عين المنكر إذا وازن بين ما كانوا عليه وبين ما صاروا إليه. كان الساسة الذين احترفوا الوصاية عليهم يفاوضون في أمورهم، ويعاهدون على مصيرهم، دون أن يحفلوا لهم برأي، أو يرجعوا إليهم بخيرة، وإن زعموا أنهم استشاروهم فأشاروا، وخيروهم فاختاروا! وهم اليوم يفاوضون تلك المفاوضة، ويراجعون تلك المعاهدة، ولكن الأمة التي وضعت المبادئ، وحددت المطالب، وأملت الخطط، وقدرت العواقب؛ فليس لمفاوض أن يقولها ما لن تقل، ولا الحاكم أن يريدها على ما لم ترد!
وهل نسيت يوم الجلاء في سورية؟ وكيف تنساه أذن الحي ولا تزال أناشيده وزغاريده تدوي في سمع الزمان؟ جلت جنود الاستعمار عن أرض سورية العزيزة، فاهتز العالم العربي اهتزاز الغبطة، واعتز اعتزاز النصر؛ وشعر كل فرد من أفراده، في مختلف بلاده، أن فريقاً من أهله تحرر من القيد، وأن جزءاً من وطنه تطهر من المغير؛ وأقبلت وفود الدول العربية تشارك دمشق في الاحتفال بإقامة العرش الأموي بعد أن خرت قوائمه وابتذل حماه؛ وقال العراق لمصر: ذلك يا أختاه هو الجلاء الذي يكشف الضر، والاستقلال الذي يرضي الحر، فمتى يكون لنا ولسائر أقطار العروبة مصير كهذا المصير يوم كهذا اليوم؟!
ذلك مثال من أمثلة الوعي القومي العربي تجلى في هذا الحادث الخطير صريحاً غير مشوب، وصحيحاً غير مزيف، فإذا وازنت بين موقف العرب من استقلال سورية، وموقفهم من استقلال شرقي الأردن، فلن يخامرك بعد ذلك شك في أن الأمة العربية الكريمة إنما تصدر عن وعي بصير، وتنقل عن شعور صادق.
فاوضت إنجلترا شرقي الأردن مفاوضة الند للند، ثم منحته الاستقلال التام، وعقدت بينها وبينه معاهدة الشرف والفخار، ثم رفعته من الإمارة إلى المملكة، واحتفل إخواننا الأردنيون بمبايعة أميرهم العظيم عبد الله بن الحسين ملكاً عليهم، فزاد ملوك العرب ملكاً، وزادت ممالك العروبة مملكة. وكان هذا النبأ العظيم عن هذا النصر الأعظم جديراً بأن يزلزل النفوس من الفرح، ويبح الحناجر من الهتاف، ويدمي الأكف من التصفيق، ويحشد جيوش العرب في ميادين عمان، ويدعو شعراء العرب إلى منابر عمان، ولكن هذا النبأ العظيم سرى به البرق، وتموج به الأثير، وكأنما ضرب الله على الآذان فلم تسمعه، وختم على(674/2)
القلوب فلم تنفتح له! واحتفلت عمان وحدها بيومها التاريخي المجيد احتفالاً رسمياً لا روعة له ولا بهجة فيه. ذلك لأن العرب الذين لا ينفكون يسخرون من استقلال مصر، ويهزؤون باستقلال العراق، قد سئموا هذه المظاهر الكاذبة، وأنكروا هذه الألفاظ الفارغة، وكبر عليهم أن يشاطروا إنجلترا السرور بافتلاذ قطعة من الوطن العربي لا يزيد عدد سكانها عن خمس سكان القاهرة، لتجعلها وكراً للاستعمار يثب منه متى شاء علينا أو على من حوالينا من الأمم المطمئنة الوادعة.
أليس الوعي القومي هو الذي جعل العرب يميزون بين استقلال سورية واستقلال شرقي الأردن؟ أليس الوعي القومي هو الذي جعل لإنجلترا من جامعة الدول العربية، ما جعل الله لآل فرعون من موسى بن عمران؟ آووه وتبنوه ليكون ظهيراً للكفر، ونصيراً للظلم، ووزيراً للاستبداد، فكان لهم نذيراً من الله، وداعياً إلى الحق، وبشيراً بالحرية؟
أليس الوعي القومي الذي ولد صاحب الجلالة الفاروق في صحوته، ثم ترعرع وشب ومللك في ضحوته، هو الذي ألهمه أن يوطد أساس الجامعة العربية باجتماع الملكين في رضوى، وأن يوثق الوحدة العربية بمؤتمر الملوك والرؤساء في إنشاص؟
بلى، هو الوعي القومي الذي تيقظ واستبصر في نفوس العرب من ملوكها ورؤسائها، إلى سوقتها ودهمائها. ولن تجد مصداقاً له ولا دليلاً عليه أبلغ من هذا القلق الذي يساور كل نفس، وهذا الامتعاض الذي يرتسم على كل وجه، وهذا الانتقاد الذي يجري على كل لسان. كل امرئ يريد التغيير، وينشد الكمال، ويطلب الأحسن، وكل امرئ يحاول أن يفرق بين رجل ورجل، ويميز بين عمل وعمل، ويوازن بين مبدأ ومبدأ.
بلى، هو الوعي القومي الذي يذكر العرب اليوم أنهم خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتسارع إلى الخير، وتتعاون على البر، وتتناصر في الشدة، وتأبى إلا أن تتبوأ مكانها الأول من قيادة الإنسانية. ذلك الوعي القومي هو ضمان النهضة العربية من الانتكاس والردة، وأمان السياسة العربية من الغش والخديعة، ووقاء الوحدة العربية من الشتات والفرقة. فمن حاول بعد اليوم أن يقود الأمة العربية قيادة القطيع ليذبح، أو يسوسها سياسة الخيل ليركب، نبت في يديه كما ينبو المارد في يد الرجل إذا انطلق من حبسه، وامتنعت عليه كما يمتنع الثور على الطفل متى شعر بنفسه.(674/3)
أحمد حسن الزيات(674/4)
شيخ في مرقص!
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
(إلى كل شاب تريده نفسه على الإثم، ويدفعه دينه إلى العفاف،
وتسهل له دنياه طريق الفجور، وتوعر عليه سبيل الزواج. .)
قال: لما كانت تلك الهدأة، وسمعنا صوت الشيخ الوقور الخاشع يطل علينا من فرجة الضجيج، كما يطل شعاع البدر من خلال السحاب الداكن في الليلة الداجية، تبيناه يدعو الله، لا كما يدعوه خطباء الجمعة على المنبر، ذلك الدعاء الرسمي الذي يستحضرون به هيبة الناس أن يمسكوا عليهم لحنه أو حبسه، وهيبة الحكام أن يبلغهم عنهم أنهم نسوا ذكرهم أو قصروا في تعظيمهم أكثر مما يستحضرون في نفوسهم هيبة الله، بل دعاء مسلم يعلم أنه يخاطب رب الأرباب، فلا يعلق أمله إلا به، ولا يرجو غيره ولا يرهب سواه. وأشهد أن الله فتح لدعائه أبواب السماء، وأنه قد استجاب له لأننا وجدنا اثر الإجابة في رقة قلوبنا، وما عهدناها ترق ولا تلين، وفي انصباب دموعنا برغمنا، وبكائنا على نفوسنا، وكان إذ يقول (يا الله) تحس أن قلبه قد خرج من صدره بهذه (الهاء) التي تمشي في الجو مبللة بدموع الخشية، فتنعش القلوب وتحييها. .
ثم قال الشيخ: لا تقولوا إنه مرقص، فما المرقص لمن يدعو الله خاشعاً صادقاً وهو يبكي على خطيئته إلا مسجد مبارك، وما المسجد لمن يدعو بلسانه وقلبه معلق بالشهوات وفكره باحث عن سبل الموبقات إلا ملهى، وما كان الله لينظر إلى صوركم وأزيائكم وهندسة عماراتكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. وكم في الأسواق والقهوات والسينمات من ولي لله كتب له بإخلاصه حسن الخاتمة! وكم في التكايا والزوايا من ولي للشيطان يرائي بالدين ليأكل الدنيا!
ثم تكلم عن الدنيا كلاماً عجيباً، وساق أحاديث لم أحفظها، وأخباراً من أخبار الصالحين، قلبت والله قلوبنا، والله مقلب القلوب، فعظمت في عيوننا ما كنا نحقره قبل ساعة واحدة، وحقرت ما كنا نبالغ في تعظيمه، وأرتنا هذه الدنيا صغيرة، حتى لكأنما هي حقاً جناح(674/5)
بعوضة!
ثم أخذ في الكلام عن (الشهوة الجنسية)، فحفظت من كلامه شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، لا أستطيع أن آتى به على نسق، فأنا أقدم فيه وأؤخر، وربما أخللت بمعنى أو أخطأت في لفظ، فلا تأخذه هو بخلل أو خطأ مني!
وكان مما قال:
إن الله ركب هذه الشهوة في الإنسان، وجعل لها سراً عجباً من العجب، وسرها أنك وضعتها في موضعها، واتقيت الله فيها، سكنت واستقرت، وربحت مع السكينة والاستقرار الصحة في الدنيا والجنة في الآخرة، وإذا أنت أطلقتها ولم تقيدها بقيد الشرع والخلق، لم تزل هائشة هائجة كالنار كلما زدتها حطباً زادت للحطب طلباً، ثم إنك معها كالذي يطلب الماء من السراب لا يزال في عناء وظمأ، وكلما اشتد طلبه زاد عطشه ونصبه، والسراب عنه بعيد!
يرى الفاسق المرأة، فيملأ منها بصره، فيتبعها قلبه، فلا يزال يتخيل فيها المفاتن، ويتوهم في وصالها الملاذ، حتى يعتقد أن لذائذ الدنيا كلها ومسراتها قد اجتمعت في لقائها، وأن آلامها كلها في بعدها، ويجعلها مطلبه من دنياه، ويجن بها جنوناً. . . فإن هو استطاع الوصول إليها، وجد اللذة بها (نصف دقيقة) من الزمان. . . ووجد أنه لم يشبع منها، ولم ينل من وصالها ما كان يصور له وهمه. . . فيعود إلى التفكير فيها. . . وإلى تخيل اللذة بلقائها. . . ويتوهم أنه سيحظى هذه المرة بما فاته المرة الأولى. . . فإذا عاد إليها عادت إليه خيبة الأمل. . ولا يزال هذا دأبه معها حتى يملها وببأس من أن يجد عندها لذته الموهومة فيتعلق بسواها. . ولو أنه قارب ألف امرأة، ثم رأى واحدة أخرى، لعلقها وظن أن طلبته عندها. . فلا يشبع أبداً ولا يستريح!
وما هي لذة الوصال؟ إنها ليست في هذا التقارب الجسمي، كلا. . . إنما هي في انفصال القلوب. وإن عباس بن الأحنف هو عندي أدق شعراء الدنيا إحساساً بالمرأة، وأعظمهم بالحب معرفة، وأحسنهم لجوع العاطفة تصويراً حين يقول:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني؟!
وألثم فاها كي تزول حرارتي ... فيشتد ما ألقي من الهيمان(674/6)
كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحين يلتقيان
وما يعانقها على الحقيقة فقط، ولكن على المجاز، فما يروي ظمأ نفسه إلى الحب ذلك (العناق)، وأنه يتمنى أن لو قطعها عضاً، وأن لو أفناها فيه، حتى عادا شخصاً واحداً. . . وذلك ما لا يكون!
لا. . . ما في إطلاق الشهوة من راحة ولا شبع، وإن نساء الأرض كلهن لا يرضينها، وامرأة واحدة بالحلال ترضيها وتشبعها. وهب أن رجلاً وسعته أحواله وأمواله أن يمد يده حيث شاء. . . أفتسعه صحته؟ هل يحمل جسمه أثقال هواه؟ إنه لا بد أن تجيء ساعة يعجز فيها ويرتد مريضاً وانياً يشتهي (الشيء) ولا يقدر عليه، ويقعد بالحرمان، فلماذا لا يرتد عن الإثم صحيح الدين والجسم والشرف؟ أليس ذلك خيراً له من أن يجمع على نفسه الحرمان والمرض وجهنم؟!
وإن من بديع صنع الله أنه لم يخلق امرأة تشبه في جمالها الأخرى، فالنساء مختلفات، ولكن طعم المتعة بهن واحد لا يختلف، وما فرق بين هذه الراقصة وبين امرأتك إلا أن الأولى تأتيك على جوعك بالرغيف قد لفته بمنديل الحرير، ووضعت المنديل في شملة، وألقت الشملة في صندوق من الفضة المذهبة، وجعلت حول الصندوق الورق الشفاف، فأنت كلما رفعت حجاباً من هذه الحجب اشتد جوعك، وشوقك إلى ما وراءها. . . فإذا بلغت الرغيف حسبته قد قطف من قمح الجنة، ثم طحنته الملائكة، ثم عجنته بأيديهن الحور العين. . . وتلك تأتيك بالمائدة الحافلة مكشوفة ظاهرة. . . وأنت لا تأكل المنديل ولا الشملة ولا الصندوق، إنما تأكل الرغيف، وأنت لا تريد هذه الثياب ولا هذه الأنوار. . . إنما تريد المرأة، ولعل امرأتك أبهى منها وأجمل!
وهب أن هذه أطرى جسماً، وأحلى وجهاً، وأقدر على الفتنة، فمن قال لكم إن الجمال هو هذا؟ هو الإخلاص. إنك ترى أمك جميلة في عينك، حبيبة إلى قلبك، ولعل في وجهها من تجاعيد الكبر أودية وجبال. . . ولعل فمها كالمغارة الخالية. . . ولعل يديها كمخالب الطير، وترى المرأة التي خانتك وغدرت بك قبيحة بغيضة، وإن كانت في عين الرائي) أجمل النساء. . .!
إنكم تفتشون عن السعادة، ولكنكم لا تعرفون طريقها، ولا تفكرون بعقولكم فيها. لماذا تسعد(674/7)
أيها التاجر الذي يملك الآلاف إذا ربحت ألفاً آخر؟ لأنك كنت تطلب هذا الألف وتشتهيه، فجاء يسد مطلبك، ويوافق شهوتك، فمن هنا كانت سعادتك به، ومن هنا ألمك لفقده، على حين أن التلميذ الذي لا يبلغ أقصى أمله أن يمتلك عشرين قرشاً لا يألم إن يربح هذا الألف، بل هو لا يفكر فيه، أفليس التلميذ ذو العشرين قرشاً أغنى بها منك يا ذا الآلاف بآلافك؟!
والموسر الفني الذي يملك عشر عمارات يألم إن عرضت للبيع عمارة أخرى ولم يقدر على شرائها، على حين أن الموظف الصغير الذي يسكن غرفة بالأجرة لا يجد هذا الألم، وينام ملء جفونه في الليلة التي يتقلب فيها الموسر من الأرق أسفاً على العمارة التي أضاعها، أفليس الموظف بغرفته المأجورة أغنى منك يا صاحب العمارات بعماراتك؟!
والفاسق الذي قارب مائة غانية وراقصة يألم إذا جاءت راقصة جديدة فلم يحظ بقربها، ويبيت الليل مسهداً من أجلها، ويبذل حر ماله وماء وجهه في سبيلها، وينغص عيشه من بعدها، على حين أن التقي الذي لم ير في عمره إلا امرأته، لا يأبه لها ولا يدري بها، أفليس هذا التقي أسعد بامرأته الواحدة منك يا ذا الخليلات ويا زير الراقصات؟!
إن الحياة النفسية كدفتر التاجر، ليست العبرة بضخامة أرقامه، ولكن بالباقي بعد الجمع والطرح، فالذي يملك مليوناً ويطلب منه مليون، مثل الذي لا يملك شيئاً ولا يطلب منه شيء، والذي نال من دنياه كل لذة. . . وهيهات! مثل (الدرويش) السائح في البرية الذي لا يطلب إلا لقمة يسد بها جوعه وجرعه يبل به جوفه، وأرضاً يلقي عليها جنبه، ومعه رغيفه وركوته، وله أرض الله الواسعة. . . إن هذا هو أسعد السعداء، لا لأنه نال من الدنيا كل شيء. بل لأنه حقرها عن أن يطلب منها شيئاً. فمن قنع أسعده الأقل الأقل، ومن طمع لم يسعده شيء مهما جل، لأن النفس تطمح إلى اللذة، فإن وصلت إليها، أبطلت الألفة اللذة فتطلب غيرها. . . إنك أيها الفقير تسعد لو ركبت يوماً سيارة الغني، ولكن الغني ذا السيارة لا يحس هذه السعادة بها. إنها عنده كالترام عندك، بل ربما كان الترام أمتع لك، بل ربما اشتهى هو أن يركب الترام، كما يشتهي المترف صاحب المائدة الملوكية أكلة فول على التراب!
إن الله (جلت ودقت حكمته) لم يجعل السعادة في مال ولا نشب ولا متعة، ولكنه جعلها(674/8)
صلة خفية بين الأشياء وصاحبها، فلا تأخذوا الأمور على ظواهرها، فإن المريض الزمن لو حمل من الألم ما تظنه أنت حامله ما عاش، والغني لو نال من اللذة ما تحسب أنه نائله ما وسعته الدنيا، ولكن العادة تبطل اللذة والألم، وتهون السجن على السجين، والحرب على المحارب، وتجعل الخليفة الذي كان في قصره عشرة آلاف غادة من جميلات الأرض حشرن إليه حشراً، مثل الذي في بيته امرأة واحدة! إنما اللذة التي لا تفنى ولا تنقص لذة القلب، لذة التأمل، لذة المتعبد في هدأة الليل، والمناجي ربه في الأسحار. . . ومن هنا قالت طائفة الصوفية: (لو ذاق الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف). . . إي والله وبالمدافع والرشاشات!
ذلك هو النعيم المقيم، ولكن ذلك شيء لا يفسر ولا يعرف:
لا يعرف العشق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
إنها تمر على المتعبد ساعات في كل لحظة منها لذة تفضل لذة (الوصال) كما تفضل الشمس الشمعة، والبحر الساقية، ومن ذاقها عرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ليس معناه أن نبينا مولع بالنساء - كما فهم دواب المستشرقين - ولكن سر المعنى في قرن الطيب والنساء، وهما من لذات كل نفس بشرية، ثم في رفعها عنهما، للدلالة على أن الصلاة لذة ومتعة ولكنها أسمى وأعلى. . .
إن مرد ما تجدون من عرام الشهوة وشدتها إلى أمرين: حب الغلبة، والتطلع إلى المجهول. يسمع أحدكم أن فلاناً من الفساق قد صنع كذا من الآثام، فيتصور ما نال بإثمه من اللذائذ، فيمتد أمله إلى تذوق مثله لعل فيه لذة جديدة، وتأبى عليه غريزة المكافحة والتغلب أن يبقى محروماً مما نال فلان هذا. . . ولو هو فكر، لعلم إنما اشترى فلان لنفسه الحرمان من لذة أنقى وأبقى هي لذة الآخرة، ولسكت عنه الإغراء وذهب الألم، وما يألم لفقد المعصية إلا من جعلها أكبر همه، وترك لنفسه الحبل على الغارب، فأطلقت الجوارح كلها في شهوتها: فالعين تنظر العورات، والأذن تسمع أحاديث الموبقات، والذهن يحفظ هذه الصور والذكريات، والخيال يوشيها ويزينها بالمبالغات. . . فلا ينتبه الشاب إلا والسم قد مشى في جسده من تلك النظرة، وإذا هو قد نسى الدين والخلق ومطالب الوطن، ولم يبق له في الدنيا(674/9)
عمل إلا ابتغاء الوسائل إلى لذته تلك، فهي في فكره يقظان، وفي أحلامه نائماً، وعلى لسانه متحدثاً، وهي دينه إن كان متديناً، ودرسه إن كان طالباً أو معلماً، وشغله إن كان موظفاً. . . ولذلك أمر الله بغض البصر، وقال عليه الصلاة والسلام: (لك الأولى وعليك الثانية)! ووصفت النظرة بأنها سهم صائب من سهام إبليس:
كل المصائب مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
يا أيها الناس، لقد عشتم من عمركم سنين، وعصيتم الله وأطعتموه، فانظروا الآن ماذا بقي من ذلك في أيديكم؟ أين لذة المعصية؟ لقد ولت وخلفت سواداً في صحائفكم! أين تعب الطاعة؟ لقد ذهب وترك حسنات كتبت لكم! أفما تتمنون الآن لو أنكم ما عصيتم الله قط؟! بل تخيلوا أنكم في ساعة الموت. . . هل من الموت بد؟! فماذا تنفع من يعالج سكرات الموت كل لذة كان قد نالها بجنب تلك الآلام؟! ثم تصوروا موقفكم بين يدي جبار السماوات والأرض، وقد ذل الأعزة بالإثم، وسيق المتكبرون إلى العرض على الله حفاة عراة، ونادى المنادي من جانب العرش: لمن الملك اليوم؟! وأجاب المجيب: لله الواحد القهار!! وكان الامتحان الأعظم، ونودي بأسماء الناجحين. . . ففتحت لهم أبواب الجنة. . . وبأسماء (الراسبين). . . ففضحوا على رؤوس الخلائق، وقذفوا في النار فرسبوا فيها. . .! أين يومئذ تلك اللذائذ؟! أين متعة العين بهذه الراقصة؟! أين لذة الجوارح بوصالها؟! أين جمالها وفتنتها والصديد يسيل منها؟!!
يا ناس!! إن لهذا الكون إلها. إن في الكون عدلاً. إن من زنى زني به ولو بجدار داره، أفما لكم بنات؟! أما لكم أخوات؟!. . . فعفوا تعف نساؤكم، إنكم لا تدرون ماذا يكون في غد، ولعل ابنة أحدكم تقوم هذا المقام، فأشفقوا على هذه المسكينة، فإن لها أباً وأماً. . إنها ما جاءت من جذع شجرة!!
قال صديقي: لما بلغ الشيخ من كلامه هذا المبلغ، سالت دموعنا رحمة للراقصة، وإشفاقاً عليها، وصرنا ننظر إليها كما ينظر أحدنا إلى ابنته يسعى ليسترها ويحميها، بعد أن كنا لا ننظر إليها إلا لنقطف زهرتها ونذويها. . . ولقد وفق الله بعد ذلك، فأخرجنا المسكينة من هذه الحمأة، وزوجناها برجل صالح، فهي الآن ربة بيت وأم أولاد!!
قال: حتى صاحب المرقص صار يتردد على الشيخ، وأحسبه سيغلق مرقصه اليوم أو غداً،(674/10)
ويجد لنفسه عملاً شريفاً!!
هذه هي قصة الشيخ في المرقص! فيا ليت كل مرقص يدخله (شيخ)! ويا ليت (شيخاً) يدخل وزارة المعارف!!
(دمشق)
علي الطنطاوي(674/11)
(مرآة نفسي)
ديوان للدكتور عبد الرحمن بدوي
للأستاذ سيد قطب
1 - من نشيد البعث الوطني
ثورةٌ!
ثورةٌ!
ثورةٌ! أماه شبت من بعيد ... انظريها! إنها البعث الجديد
هبّ وادي النيل شعباً واحدا
طارحاً نيراً ثقيلاً راقدا
يطلب استقلال مصر خالدا
هبّ يحيي مجد فرعون القديم ... ينشر الآمال والنور العظيم
من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء
ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء
صلصل الناقوس! هيا يا شباب ... هيئ المركب وامخر في العباب
في نضال ... مستحر
وبقلب. . . ... مستقر
وبعزم ... مستمر
صارع الأنواء حتى تبلغا ... شاطئ المجد العظيم المبتغي
من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء
ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء
ودعي أماه ليثاً كاسراً ... واطلبي لي العود حراً ظافرا
واذكري - إن جاء نعيي من منادي
أنني قد مت من أجل بلادي
ميتة الأبطال في سوح الجهاد(674/12)
فابشري، أماه، حقاً فالمنون ... في سبيل الأرض حظ الخالدين
من مصب النيل حتى ... خط عرض الاستواء
ومن القلزم حتى ... معمعان الصحراء
2 - من تحية العلم
رفرفت في الجو طيات العلم ... فانهضوا حيوه عنوان البلاد
رمزنا! في طية مجد الوطن ... وثناياه أسارير البدن
وسجل الفخر في كر الزمن ... ولعرش المجد والعليا عماد
إنه الروح لأبدان الأمم
من صميم القلب نهديك السلاما ... ودواماً ما به تعلو مقاما
نعملن عن طيب نفس، وإذا ما ... رمت من أجلك إشعال الجهاد
فلك الأنفس تفدى يا علم
3 - من ملحمة دنشواي
وموسيقاك (يوتربا) أعدي ... (وملبومين) فيضي بالمآسي
أعيدا هذه المأساة لفظاً ... وقد كانت عياناً للأناسي
ففي الذكرى اتعاظ وانتباه ... وزلزلة تلاعب بالرواسي
بريشكما سويا صوراها ... بصبغ الزهر: ثالوث وآس
ولون البدر يعلوه شحوب ... لما يرنوه من حزن الأناسي
أقرية (دنشواي) تسام هذا ... أفردوس الطهارة قد تضام؟
أينبوع الفضائل والأماني ... يلوث ماءه العذب القتام؟
وأيم الله كدت أطير شكا ... من الدنيا وما يبلو الأنام
فأضحى زورقي في اليم يسرى ... شريداً قد تحير لا ينام
تجاذبه الرياح من النواصي ... ومن أقسى زوابعها يسام
4 - من نشيد الشهداء
لا تئنوا، لا تمنوا، لا تضنوا ... بالجهاد للبلاد نعم الاستشهاد(674/13)
كل هم، كل غم، كل دم ... لا يراق بانطلاق يفسد الجهاد
الضريح، يستريح، والجريح ... إن رواه من دماه كان نعم الدار
والضريح، لا يريح، الطريح ... إن سكنا واستكنا صار ويل النار
القداسة. . . بالحماسة، والنجاسة ... بالسكون والركون بئس الاستسلام
كل فيض بعد غيض، كل روض ... بعد حزن بعد مزن فاتركوا الأحلام
يا شباب الذئاب بالغلاب ... والفداء والدماء تترك الأوطان
الجلاء لا يفاء بالرجاء ... بل بقهر ثم نصر ثابت الأركان
5 - من رؤيا ملاك
يا ملاكي! طار بالروح إلى ... ملكوت الرب منطاد الخيال
فرأت فيما تخطى زحلاً ... منظراً قد فاض تيها بالجلال
يتجلى في الفراغ اللا نهائي ... جمع أجرام تغني وتدور
ترسل الألحان من سحر الغناء ... فيسود السحر في كل الأثير
كل جرم خلف جرم يتغنى ... كفراش حول مصباح يحوم
أو زنابير تجاه السقف تفنى ... في حديث مستفيض وتهيم
6 - مناجاة
سألت لبى: إلام حبي ... فقال قلبي: مدى البقاء
بذلت جهدي، فصنت عهدي ... وعشت وحدي على الشقاء
حطمت روحي، وهجت لوحي ... فلا تبوحي، بذا الغرام
جلوت شوقاً، وكان برقاً ... أكان حقاً، فما المرام
سألت سمعي، منال لوعي ... فكان دمعي، لك الجواب
رميت نفسي، بقاع يأسي ... فصرت أرسي، على تباب
طغى سقامي، على كلامي ... وما ملامي، سوى ابتهال
غدوت معنى، أشاع لحناً ... وحل مبنى، من الخيال
هفا حنيناً، فرد حيناً ... فصار ديناً، له الصلاة(674/14)
فأنت ربي، سكنت قلبي ... بفضل حبي، مدى الحياة
أقسم بالله العظيم، أن هذا الذي مر بك - أيها القارئ - هو من عمل الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشره بتوقيعه في كتاب مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1946 تحت عنوان مرآة نفسي ديوان شعر. تأليف عبد الرحمن بدوي) وأنني لم أكن كاذباً ولا مدعياً ولا مزوراً، ولم أدس شيئاً على (الشاعر) لم يثبته في ديوانه؛ وأنني لم أقصد إلى (القذف في حقه) ولا (التشهير به) بنسبة هذا الكلام إليه!!!
ولقد هممت أن أثبت هذه النصوص (بالزنكوغراف) لتكون شاهدي إذا خطر للنيابة العامة أن تقدمني إلى المحاكمة بتهمة (القذف) في حق الدكتور بدوي. وتعريفها: (نسبة أشياء إلى شخص بحيث لو صحت لأوجبت احتقاره بين أهل وطنه)!
ولست أتعمد الإساءة إلى هذا الشاب الذي نشر هذا الكلام بل الحق أنني قد أكون شديد الإعجاب - إلى حد الدهش - بجرأته الخارقة!
إنه مدهش!
مدهش أن ترتفع جرأته النادرة إلى حد أن يواجه الناس بهذا الكلام، وينشره في ديوان، ثم لا يقدمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أو يرفضوه، بل يطلع عليهم به في ادعاء عريض ويقدمه إليهم بإعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال!
كل هذه الفهاهة في التفكير والتعبير؛ وكل هذه الركة في النظم والأداء؛ وكل هذه الأخطاء اللغوية. . . وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري؛ وكل هذه التفاهة الصبيانية في الحس والتصور. . . وكل هذا الإعياء حتى في النظم اللفظي. . .
كل هذا. . . وينشر سنة 1946 لا سنة 1820 أيام كانت هذه اللغة (الوقائع المصرية) ولغة جماعة من الأرمن المستعربين!
إنها جرأة تستحق الإعجاب بكل تأكيد!
ولفت نظري في القصيدة الأخيرة (مناجاة) أنه يقول عنها (وهذا ضرب جديد من النظم. وفيه كل بيت مقسم ثلاثة أقسام مقفاة بقافية واحدة)
لفت نظري هذا؛ لأن هذا الضرب قديم يعرفه كل من قرأ شعراً قديماً. . . ثم لقد نظم منه (الغول) الذي نعرفه جميعاً في (حواديت) العجائز.(674/15)
فالدكتور عبد الرحمن بدوي يقول:
طغى سقامي، على كلامي ... وما ملامي، سوى ابتهال.
والغول يقول:
لولاش سلامك، سبق كلامك ... لكلنا لحمك، قبل عظامك
مع فارق صغير في ترتيب المقاطع بين (شعر) الدكتور بدوي و (شعر) الغول
ولقد كنت أقرأ بعض ما ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي من الشعر الغربي فأحس هذه الفهاهة وهذه الركة، فأقول: لعله اضطراب فهمه للنصوص وعدم قدرته على التعبير عنها تبعاً لهذا الاضطراب. . .
فلما قرأت (مرآة نفسه) عرفت السبب وتبينت العلة. ورثيت للمساكين الذين مروا بهذه المرآة حين ترجم لهم هذا الشاب العجيب!
لقد علمت أن سائلاً سأل ناشر هذه الكتب: من الذي يقرأ كتب الدكتور بدوي؟ فكان جوابه: إنها تقرأ في العراق. . .!
وإنني لأسأل بدوري: ترى هذا الديوان كذلك قد طبع للعراق. . .؟
ومعذرة لإخواننا العراقيين. فناقل الكفر ليس بكافر. . . وفي وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الاتهام!
وبعد فمعذرة للقراء! إنهم لم يعهدوني أكتب بهذه اللهجة عن أحد ولا عن عمل أدبي كذلك.
ولكنني هنا لا أكتب نقداً، ولم أقصد إلى شيء من ذلك ولم أكن لأملك أن أكتب بأسلوب الناقد الجاد. . . إن مجرد الحديث في لغة الجد والنقد عن مثل هذه (المساخر) لهو احتقار للشعر والأدب والنقد، واحتقار للصحيفة التي أكتب فيها، وللناس الذين أكتب لهم.
هذه (عَمْلةٌ) لا يجوز أن تمر. فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة، ولا بد أن يوضع حد لهذه (المساخر) بأية طريقة
وإذا كان القانون لا يملك - مع الأسف - أن يعاقب على مثل هذا الاستهتار فيجب أن يرد الناس عن أنفسهم هذا الاحتقار. فما يجرؤ إنسان على نشر مثل هذا الكلام بمثل هذا الادعاء إلا أن يحتقر نفسه أو يحتقر القراء.
سيد قطب(674/16)
العصبية المعهدية
للأستاذ عبد الحميد يونس
في هذا الوقت الذي تلغى فيه الحدود الجغرافية نفسها على عتوها وجبروتها، وتتقارب الجماعات البشرية التي طال اصطراعها حتى أصبح التاريخ الإنساني كله عبارة عن سرد متصل لمشاهد حروبها وأهوال أيامها؛ بل وفي الوقت الذي تغلب فيه الدعوة إلى العدالة الاجتماعية سائر الدعوات فتعمل على محو الفروق بين الطبقات، أو التقريب فيما بينها على الأقل؛ أقول في هذا الوقت تقوى في مصر عصبية خطيرة تخلق طبقات جديدة وتنشر الإحن والأحقاد في نفوس الأفراد والجماعات
ومن عجب أن هذه العصبية تفرق أولاً وقبل كل شيء بين المتعلمين على الرغم من أن المصادفة وحدها جعلت المتعلم متعلماً والجاهل جاهلاً، وكان الأحجى أن يتقارب الاثنان ويأخذ الفاقد من الواجد، ولا أقول يعطي الواجد الفاقد
وفرقت هذه العصبية كذلك بين المتعلمين أنفسهم، فجعلتهم طبقات، واخترعت لهذه التفرقة مراحل وأقسماً، فهؤلاء هم أهل الطبقة الأولى، وهؤلاء أهل الطبقة الثانية، وأولئك أهل الطبقة الثالثة. . . وهكذا
ولم تكتف هذه العصبية الوبيلة بذلك، بل راحت تفرق الطبقة الواحدة شيعاً وأحزاباً لا تتعاون فيما بينها، لأن الأحقاد والإحن هي أساس وجودها والباعث على بقائها واطراد نموها.
ترى ما هذه العصبية الحمقاء التي صورتها بهذه الصورة المنكرة؟ هذه العصبية هي التي سميتها (العصبية المعهدية)، ولطالما نبهت إليها وحذرت منها، فلم يأبه للتنبيه والتحذير أحد، لأن الكل متهم بها، منتفع من وجودها، وعامل على إذكائها.
هذه (العصبية المعهدية) هي السر فيما تسمعه كل يوم من أن طائفة بعينها، أو قسماً بعينه يريد أن يسوي بينه وبين طائفة أخرى وقسم آخر في بعض المزايا والحقوق؛ أو أن أبناء معهد بعينه ينكون على أبناء معهد آخر ما يضطلعون به من جهد وما يقومون به من عمل، وكأنما العلم بضاعة يحتكرها أولئك دون هؤلاء، والقوامون على مرافق هذه الأمة يساعدون أحياناً، عامدين أو غير عامدين، على تقوية هذه العصبية بتفضيل طائفة من المتعلمين على(674/18)
غيرها، أو معهد من معاهد التعليم على غيره، وفيهم من تأخذه عنجهية هذه العصبية إلى أبعد مدى، فيحتكر العلم أو التعليم لأبناء طائفته أو معهده
ولعل من المضحكات أو المبكيات ما روى من أن مصلحة من مصالح الحكومة أرادت أن تتحرى العدالة في اختيار في اختيار موظفيها لتبرأ من المحسوبية المتفشية في الدواوين وغير الدواوين، فعقدت امتحان مسابقة تختبر به كفايات المتقدمين ومقدار صلاحيتهم للأعمال التي ستناط بهم وتوكل إليهم، ولم يكن العمل يتطلب تخصصاً ضيقاً، وتقدم إلى هذا الامتحان جمع من معاهد شتى، وانقضت أيام وأعلنت النتيجة، فإذا الأول من معهد، والثاني والثالث والرابع من معهد آخر، فاختار مدير المصلحة الثلاثة دون الأول، لأنهم من المعهد الذي تخرج فيه، فهم لذلك دون غيره أصلح للعمل معه!
ولا تظنن أن هذا المثال الفريد في بابه، فكثير مثله يجري كل يوم في كل مصلحة وفي كل عمل، يختار المتعلم من هذا المعهد دون سواه، لأن رؤساءه منه، أو لأنه ينتمي إلى طائفة قد أصبحت طبقة يجب أن يعمل حسابها ولا يستغضب أبناؤها، ولسنا نبالغ في تجسيم هذه العصبية المعهدية وبيان أثرها مبالغة المتعصبين المعهديين في امتداح أنفسهم وطوائفهم ومعاهدهم، والحط من قدر الآخرين وطوائفهم ومعاهدهم، وذكر العنت الذي يقع عليهم دون سائر الناس
ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين خريجي المعلمين العليا ومعهد التربية، والانتصاف لهؤلاء مرة ولأولئك أخرى، لأن مقاليد الأمور كانت في يد هؤلاء مرة وأولئك مرة أخرى؟!
ألم يبلغك الخلاف الذي قام قبل ذلك بين هؤلاء المعلمين وبين الجامعيين والذي لا تزال له آثاره حتى اليوم؟
ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين بعض الجامعيين وأبناء دار العلوم، وما له من أثر وبيل إلى يومنا هذا؟!
ألم تقرأ عن هذه الحرب الشعواء بين أبناء الأزهر وأبناء دار العلوم، والتي اتخذت لنفسها صوراً وأشكالاً لم يكن الشعب المصري يألفها من قبل؟
اختر لنفسك أي مدرسة من مدارس هذا القطر من الإسكندرية إلى أسوان للبنين أو للبنات، واختبر حالة المعلمين والمعلمات، فسيأخذك الدهش من كل جانب لأنك ترى هؤلاء الذين(674/19)
يعيشون للعلم وللتعليم أحزاباً متنافرة، لا لشيء إلا لأن كل فريق من معهد، وقد أدت سياسية الارتجال وأنصاف الحلول والإصلاح المؤقت واسترضاء الطوائف إلى أن يتخرج المعلمون في المدرسة الواحدة من أكثر من خمس معاهد لا يدعو التخصص وحده إلى هذا التفريق فيما بينهما، فأنت واجد مدرسي اللغة العربية المتخرجين في الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، وأنت واجد في المدرسة نفسها أبناء معهد التربية العالي والابتدائي معاً، إلى جانب خريجي المعلمين العليا، وهم جميعاً يدرسون مجموعة واحدة من المواد. وكذلك الحال في مدارس البنات، فخريجات السنية والمعاهد الإضافية إلى جانب الجامعيات وخريجات معهد التربية الابتدائي، وهكذا. . . ولكل فريق من هؤلاء رؤساء يذكون في عصبية ويساعدونه في وجدوده وارتقائه
وأفرخت هذه العصبية عصبيات أخرى من نوعها وإن كانت أصغر وأقل شأناً، فإن المعهد الواحد قد ألزمه قانون تقسيم العمل والتخصص إلى أن يفرق طلابه على الأقسام ونشأت (عصبيات قسميه)، إذا صح هذا التعبير، ورأينا هؤلاء الطلاب إذا تخرجوا، ألفوا ما يشبه النقابات تضم أبناء قسمهم، بل ورأينا أنه إذا ابتسم الحظ لواحد منهم وجعله من أصحاب الحل والعقد في ناحية من النواحي، ضاقت نفسه بأبناء غير قسمه، وإن كانوا من معهده، ورأينا أكثر من ذلك أن رجال العلم والتعليم في هذا المعهد أو ذاك، قد يضطرهم قانون التعاون إلى أن يجتمع بعضهم وهم من أقسام شتى للقيام بعمل علمي أو اختبار طالبات أو طلاب فينتصر كل إلى قسمه وأبنائه، وإن كان ذلك تحيف على العدالة الواجبة في كل شيء وفي العلم ومعاهده بنوع خاص
نعم، إن هذه الهيئات والجامعات قد تكون لها وظيفة نقابية فتدافع عن مصالح أبناء المهنة الواحدة، وتحافظ لهم على حقوقهم، وتستغل الفرد لمصلحة الجماعة كلها، وتجند الجماعة لمصلحة الفرد من أبنائها؛ ولكن ما رأيك في أن المهنة الواحدة تتوزعاه نقابات مختلفة، وتتنازعها اتحادات شتى، تتسمى كل واحدة منها باسم (معهد)، أو حتى قسم من معهد، فأنت تجد اتحاد خريجي الجامعة، وتجد اتحاد خريجي كلية الآداب، بل واتحاد وخريجي قسم اللغة الإنجليزية، بل إن جماعة المعهد الواحد تنقسم بدورها إلى شعب، من ذلك أن لخريجي دار العلوم أكثر من ناد واحد في مدينة القاهرة وحدها(674/20)
وهذه العصبيات تؤرق الحكام وتضنيهم، وقد أزعجت الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأزعجت وزير المعارف، وأزعجت وزير المالية ووزير الداخلية وسائر الوزراء، واضطرت أولي الأمر إلى إقفال هذا المعهد أو ذاك أمداً ليس بالقليل، والتلويح بالوعود لهؤلاء، والنذر لأولئك، فيرضى قوم ويغضب آخرون، وتبقى العصبية المعهدية على حالها تنخر في عظام هذا المجتمع الناشئ المتطلع وتفسد ما بين المتعلمين، وكان الأحجى بهم وبرؤسائهم أن يجتمعوا على مكافحة الفقر والجهل والمرض، وهم الذين أدبتهم الأمة للاضطلاع بهذه المهمة، لا لأن يحارب بعضهم بعضاً
والعلاج الوحيد لهذه العصبية المنكودة هو أن نأخذ الداء من أساسه ونجتثه من جذوره، فنوحد بين سبل التعليم العام أولاً، فلا نكون هناك مدارس أولية وأخرى ابتدائية تؤدي هذه وتلك إلى غيرها بنظام الحلقات المتداخلة في التعليم الذي يدرج عليه نظامنا الواهن السقيم، وأن تتوحد فرصة هذا التعليم العام المشترك لجميع المصريين، فلا يستطيعه الواجدون دون الفاقدين، ولا أبناء الحضر دون أبناء الريف، ولا المسلمون دون النصارى كما هو الشأن في بعض معاهدنا المتسمة بسمة القرون الوسطى إلى اليوم
أما التعليم العالي وما فيه من تخصص واستعداد مهني فيجب أن يكون في كليات واحدة، لا في معاهد مستقلة برأسها، والمتخرجون في هذه الكليات يجب أن يكونوا في نظر الدولة سواء، فلا ينظر رجال البوليس في شيء من الحسد إلى رجال الجيش، ولا يطلب المهندسون المساواة بالقضاة، والمدرسون المساواة بأولئك وهؤلاء، وتختفي هذه الشكايات التي تملأ أعمدة الصحف وتبرأ المنفوس من الحقد والجشع، ولا نسمع أن طبيباً أهان وكيل نيابة، أو أن طلبة الأزهر تماسكوا مع طلبة دار العلوم
عبد الحميد يونس
عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية(674/21)
شعراؤنا المؤرخون
كيف نرتب دواوينهم ونقرؤها
للأستاذ محمود عزت عرفة
قد يستسيغ قارئ الأدب منا أن يطالع شعر ابن أبي ربيعه مثلاً في غير ما ترتيب ولا تبويب - كم هو الشأن في ديوانه المطبوع - فلا يفرق بين أوائل شعره وأواخره؛ ولا يتدرج في المطالعة من شعر صباه وشبابه، إلى شعر رجولته واكتهاله، ثم إلى شعره وهو يدب هوناً إلى الثمانين. . .
قد نستسيغ ذلك لأن ابن أبي ربيعه وأمثاله من الشعراء العاطفيين لا يصدرون في أقوالهم إلا عن بواعث نفسية وموحيات خاصة، لا ترتبط عند القارئ، ولا عند الشاعر في أكثر الأحايين، بزمان محدود أو مكان معلوم.
ولكن الشأن يختلف في ذلك كثيراً مع شعرائنا الاجتماعيين من أمثال المتنبي والنواسي والبحتري وأبى تمام والشريف ومهيار والسري وصردر؛ أولئك الذين سجلوا في شعرهم صوراً كاملة من أحداث عصورهم، وجروا في حلبة التاريخ أشواطاً تختلف طولاً وقصراً باختلاف سني أعمارهم. فارتبط شعرهم بحوادث تاريخية مشهورة، محدود زمانها ومكانها؛ وتجلت من أجل ذلك أهمية الترتيب والتبويب في مطالعة إنتاجهم، ترتيباً وتبويباً ليس منهما في شيء مراعاة أبجدية القوافي، ولا الاكتفاء بملاحظة أغراض الشعر المختلفة، كما هو الشأن في معظم الدواوين المطبوعة اليوم، وفي أصولها المخطوطة من قديم.
ولنضرب هنا المثل بشاعر كالبحتري؛ فهو قد ولد في أوائل عهد المأمون، وتوفي - عام 284 هـ - في خلافة المعتضد. وبذا يكون قد عاصر عشرة من خلفاء بني العباس اتصل بستة منهم اتصالاً وثيقاً، هم على ترتيب عهودهم: المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد؛ وله في كل منهم مدائح أو أهاج تكشف عن مدى اتصاله بالحياة السياسية على عهده وانغماسه في تيار الحوادث الجارف خلال هذه الحقبة الطويلة الهامة من حكم العباسيين. وإذا نحن نظرنا إلى هؤلاء الأعلام الستة كنجوم لوامع نيرات في أفق ديوانه تحدد لنا أهم اتجاهاته، كان لنا أن نتخذ من سائر الأعلام المنبثة فيه نجوماً أو كواكب أقل التماعاً نملأ بها الفجوات الفسيحة فيما بين ذلك؛ فنخرج من شعر البحتري(674/22)
بصورة تاريخية مشرقة المعالم واضحة التعابير، لحمتها حقائق التاريخ وسداها الفن الرفيع والأدب المعجب. . . ذلك أننا نجد إلى جانب ما قاله في أولئك الخلفاء قصائد ومقطعات أخرى تبلغ المئات عدداً من مدائح وأهاج ومعاتبات ومراث ومداعبات، ومن سائر ما يدور بين المتعاصرين - كلها تتعلق بشخصيات تاريخية هامة من الوزراء والقواد والولاة والسرة والأدباء والأعيان وغيرهم؛ وأكثرها يسجل معالم واضحة دقيقة لأسر خطيرة الذكر على هذا العهد من أمثال آل طاهر وآل المدبر وآل حميد، وآل مخلد وسهل ووهب وخاقان ونيبخت وبسطام. . . وغير هؤلاء
ومثل ذلك يمكن أن يقال عن أبي تمام الذي مدح المأمون والمعتصم والواثق من الخلفاء - وتوفي قبل الأخير بعامين - ثم التمعت في ثنايا ديوانه الحافل بالأعلام، أسماء آل دواد ووهب وسهل ورجاء وحميد ومزيد الشيباني وطوق التغلبي ويوسف الطائي. . . الخ يمكن أن نقول ذلك عن كل شاعر اجتماعي من أمثال من أشرنا إليهم، فترتيب شعر هؤلاء وفق أبجدية القوافي أو أغراض الشعر كما هو متبع إلى اليوم، تشويه لعرض إنتاجهم ليس بعده تشويه، وإعراض عن ناحية هامة كان ينبغي أن تتجه إليها العناية منذ بعيد، تلك هي الناحية الاجتماعية التاريخية من هذه النفائس الخالدة.
وإن عذر القدماء لواضح في لزوم هذه الطريقة الفجة في جمع الدواوين، إذ كان الأمر في ذلك موكولاً إلى جماعة الرواة منهم والحافظين، والغاية منه حفظ هذه الكنوز من الضياع، ثم مساعدة المتأدبين والأدباء على اقتناء مجموعات شعرية وافية تسهل مراجعتها واستخراج البيت منها أو الأبيات بأيسر المجهود، لتذوق ما فيها من شاعرية، أو لدراستها دراسة لغوية لا تخرج عن دائرة النحو والبلاغة والعروض وما إليها. أما هذه الناحية التاريخية التي نشير إليها فلم تكن مما يخطر للقوم على بال؛ وإنما هي غرض يتجدد ويزداد شعورنا بالحاجة إليه كلما تطاول الزمن على هذه القصائد فاكتسبت صفة السجلات التاريخية الوثيقة.
وإن تحقيق هذا الغرض ليقتضينا أن نرتب كل ديوان ترتيباً تاريخياً نراعي فيه تسلسل الحوادث المختلفة التي يسجلها الشاعر، وتاريخ حياة كل من الأشخاص الذين يتحدث عنهم. وليس يطعن في صدق هذا التاريخ الأدبي أو ينتقص من قدره ما قد يتجه إلى الشعراء(674/23)
عامة من الريبة في صحة أحكامهم لأنهم كمؤرخين معاصرين للحوادث التي يوردونها، يمتازون من الخبرة وسعة الاطلاع بما لا يتأتى لغيرهم ممن سجلوا هذه الحوادث بعد انطواء أزمانها. وأي وصف لخيانة الأفشين للمعتصم أصدق عبارة مما سجله أبو تمام في قصيدته: الحق أبلج والسيوف عوار؟. . بل أي تسجيل لحوادث فتح عمورية أبلغ أثراً في النفس مما تقرؤه في بائيته: السيف أصدق أنباء من الكتب؟
والأمثلة على ذلك كثيرة نومئ إلى بعضها فيما يلي:
1 - رحلت عن الربع المحيل فعودي: لأبي العتاهية في عقد الرشيد العهد لأبنائه الثلاثة في ذي الحجة عام 186 هـ
2 - شغلان من عذل ومن تفنيد: للبحتري فيعقد المتوكل البيعة لأبنائه المنتصر والمعتز والمؤيد في ذي الحجة عام 235 هـ
3 - قل للسحاب إذا حدته الشمأل: للبحتري في وفود الروم على المتوكل، ومفاداته الأسرى (في شوال عام 241 هـ)
4 - ذاد عن مقلتي لذيذ المنام: لابن الرومي في إيقاع صاحب الزنج بأهل البصرة أيام المعتمد (شوال 257 هـ)
5 - عواذل ذات الخال في حواسد: للمتنبي في حروب خرشنة على عهد سيف الدولة عام 340 هـ.
6 - فتوحك ردت بهجة الملك سرمداً: للسرى الرفاء في الغرض السابق.
7 - فتح أعز الإسلام صاحبه: للسرى الرفاء في هزيمة الدمستق وبناء قلعة الحدث عام 343 هـ.
8 - على قدر أهل العزم تأتي العزائم: للمتنبي في الغرض السابق
وينبغي بعد ألا يفوتنا النص على أن هؤلاء الشعراء كانوا من حزب الخلافة في أكثر أمرهم، فلهجتهم هي الرسمية، ووجهة نظرهم هي الوجهة العامة الغالبة. وكتب التاريخ التي ننحني أمام صدقها لا ينظر أكثرها إلى الحوادث السائرة إلا من هذه الزاوية. فهؤلاء الشعراء في تسجيلهم لحوادث التاريخ العامة لم يكونوا إلا لساناً ينطق برأي الهيئة الحاكمة، ولا يخالف كثيراً - إن لم يمثل تماماً - رأي الهيئة المحكومة من عامة الشعوب الإسلامية.(674/24)
هذا، ولم تكن الأطماع التي تعتلج في نفوسهم، والتي يحتمل معها الشك في صدق أحكامهم، بالأطماع الجريئة بعيدة الغور التي قد تتشوه بها الحقائق ويختل معها ميزان الأحكام. فهم مع انجذابهم في تيار السياسة لم يكونوا من رجالها بالمعنى المفهوم، وإنما أهل فن وأدب: مطلبهم العيش الرغيد وأمنيتهم الحياة السهلة الوادعة؛ يفتنهم جمال الحق، ويعجبهم الانضواء تحت لوائه والقيام بنصرته. وإنهم لأقل الناس انحرافاً، وأقلهم تبعاً لذلك تشويهاً للحقائق بزيادة فيها أو نقصان.
وكبار المؤرخين أنفسهم يتجه إليهم من النقد شيء كثير، ويؤخذ عليهم من المآخذ ما يكفي أقله لأن يودي بقدر مؤلفاتهم التي نعتمد عليها الاعتماد كله، ونستنبط منها حقائق التاريخ - فيما نزعم - جلية ناصعة.
جاء في (ضحى الإسلام) عند الحديث عن مؤرخي العصر العباسي الأول:
(قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحياناً، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيراً من وصف النواحي الاجتماعية وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته. . . الخ).
ونقول إنه لن يكون نصيب الشعراء من أمثال هذه المآخذ أكثر من نصيب المؤرخين، مع ما ينبغي الاعتراف به دائماً من وفرة حظ الأولين من الصراحة وصدق التعبير، وقلة تعلق أكثرهم بالماديات تعلقاً يدفعهم إلى اعتساف سبيل التحيز أو التحيف.
على أنه ينبغي لنا ندرك الفرق بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين؛ فلا نجشم الشعراء طريقاً غير طريقهم. . . وإنهم لأصحاب الإغراق والإسراف والمبالغة والتهويل. . . تلك الهالات المونقة التي تزين جبين الشعر، والتي لا يصعب على المتفرس أن يتعرف إلى وجه الحقيقة من ورائها. ثم هم بعد ذلك يتفردون بالإبداع في تصوير نفوس الأفراد والجماعات والتعمق في تحليل الشخصيات التاريخية التي يعاصرونها إلى الحد الذي لا يتأتى لكثير من المؤرخين. ورب أبيات قصيرة يصف بها الشاعر حالة من حالات خليفة أو أمير في مجلس سمر أو ساحة قنص أو محفل مناظرة أو مقام مشاورة - تكشف لنا من خلجات هذه النفسية التاريخية ونوازعها ما يعلل الكثير من الأحداث الهامة التي يكتفي(674/25)
المؤرخون بسردها، ثم هم يتخبطون في مجاهل الغيب إن تطاولوا إلى ما فوق ذلك بتعليل بواعثها.
ولتحديد موقف الشعراء من المؤرخين، وبيان مدى الاعتماد على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ نورد ما ذكره الدكتور طه حسين بك في كتابه (مع المتنبي)، وهو يتحدث عن وصف الشاعر لحروب سيف الدولة، قال: (قد يقال إن المتنبي أغرق وأسرف، وعظم من أمر هذه المواقع أكثر مما ينبغي، وأضاف إليها من الخطر أكثر مما تستحق، وأعرض عن تصوير الهزيمة، ولم يعن إلا بتصوير الانتصار. ولكن يجب أن نتفق، فلم يكن المتنبي مؤرخاً ولا محققاً، وإنما كان شاعراً، وشاعراً ليس غير. أستغفر الله، بل كان شاعراً يشترك في الجهاد، يذوق لذته ويشقى بآلامه. فالذين يطالبون هذا الشاعر بالتاريخ وتصوير الحق كما وقع يسرفون عليه، ويسرفون على أنفسهم، ويسرفون على الشعر نفسه. وأين كانت تقع حرب طروادة التي وصفت الإلياذة طوراً من أطوارها من هذه الحروب التي شهدها المتنبي ووصفها تسعة أعوام كاملة. أفيعاب شعراء الإلياذة بأنهم لم يصفوا التاريخ كما كان، أم يحمد من هؤلاء الشعراء أنهم صوروا نفوس الجماعات والأفراد التي اشتركت في هذه الحرب أبدع تصوير وأروعه؟).
ثم يعتذر صاحب الكتاب مع المتنبي عن تهويل الشاعر في وصف وقائع سيف الدولة فيقول: (كلا إنه لا يتجاوز الحق، ولا يفسد التاريخ بالقياس إلى الذين لا يحسنون استنباط التاريخ من الشعر، ولا يفرقون بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين) هـ.
وإذا كنا قد أطلنا الحديث عن الناحية التاريخية من الشعر، فحسبنا أن نجتزئ بالإشارة العابرة إلى ناحية أخرى تتعلق بعلم الجغرافيا. وخير من الإطناب في هذا المقام أن ننقل للقارئ فقرة موجزة من كتاب (امرئ القيس) للدكتور محمد صبري حيث يقول: (قد جرى امرؤ القيس في معظم قصائده، وتبعه في ذلك جميع شعراء العرب من جاهلين وإسلاميين، على سنة تحديد الأماكن وذكرها، ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا هذه السنة التي سنها الشاعر لضاعت نصف جغرافية بلاد العرب، إذ من المعلوم أن معجم ياقوت ومعجم البكري كان الشعر مرجعهما الأول لوصف بلدان كثيرة. على أنهما لم يستوعبا كل شيء ولا تزال العناية بدراسة شعراء كالمتنبي والبحتري وأبي تمام مثلاً من شأنها أن تساعد على تصحيح(674/26)
أسماء بلدان كانت معروفة في العصر العباسي، ولكنها وردت مغلوطة في تواريخ الطبري، وابن الأثير) هـ.
وبعد، فهاتان ناحيتان من الشعر طالت غفلة النقاد عنهما قروناً. ويبدو أن أول خطوة عملية ينبغي لنا اتباعها هي أن نضيف إلى كل (ديوان تاريخي) بعد ترتيب قصائده ملحقاً بتراجم أشهر الأعلام التي ورد ذكرها فيه، ثم معجماً لأهم البلدان التي نوه فيه بذكرها. . .
وكيفما كان أمر شعرائنا أو القول فيهم، فإن من اليسير أن نستقري ما خالف من شعرهم، ثم نلتقي على ظلمته ضوءاً من حقائق التاريخ الثابتة بعد أن ندرج كل قصيدة في موضعها من مجموعتها حتى تتصل بما قبلها وبما بعدها من شعر، اتصالاً قوياً وثيقاً تبتهج له نفوس طلاب الحقائق، وتكتسب به الدواوين حرارة وحيوية يبدو معهما كل شاعر إنساناً حياً، لا شبحاً باهت الظل متخيل الوجود. بل تكتسب المعاني والحوادث المسرودة نفسها قوة لم تكن لها من قبل، وتنطبع في الأذهان بهيئة لا يدرك تناسقها وروعة جمالها إلا من تهيأ له - في مرة أو أكثر. . . أن يمارس هذا الترتيب بين القصائد، فيرى كيف تنطق الحقيقة الجافة بلسان الخيال الرطيب، ويشهد كيف يتواطأ التاريخ الدقيق والأدب الرقيق معاً على غزو العقول بسحر جمالها؛ وكيف يتجليان في مرايا العقول كالفرقدين، تنزلا من أفق واحد، ليشرقا على دنيا واحدة.
محمود عزت عرفة(674/27)
الأدب في سير أعلام:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 15 -
بين الطغيان والحرية:
واستبدل شارل بالأمر أحد عشر عاماً لقي أثناءها الإنجليز ما شاء له طغيانه من ضروب العسف والإذلال، وكان وليم لود الذي رقى في عام 1633 إلى منصب كبير الأساقفة مشيرة في الشؤون الدينية ولورد استرافورد مشيرة في الشؤون السياسية.
وامتحنت الحرية امتحاناً طال ليله واشتد بالناس هوله، وسلط لود على البيوريتانز من أنواع الاضطهاد وأساليب العسف ما شاء له سلطانه وما أملاه غيظه وغلظه فكانت تكوى جباههم وصفحة وجوههم بالحديد المحمي أو تقطع أطراف آذانهم أو أنوفهم وليس لهم منجاة من هذا العذاب إلا أن يطرحوا عقيدتهم؛ ولكنهم كانوا يمدون آذانهم وجباههم ووجوههم وأنوفهم جماعات إلى من يكويها أو يتحيفها دون أن يذل لهم إباء أو تهن لهم عقيدة، وكانوا كلما أمعن لود في تعذيبهم ازدادوا تمسكاً بمذهبهم وازداد مذهبهم رسوخاً وانتشاراً كالشجرة كلما امتدت إليها الأيدي بالتقليم تغلغلت في الثرى جذورها وامتدت في الجو فروعها.
ولم يقتصر التعذيب على عامة البيوريتانز، فامتد إلى الخاصة وشمل كل من كتب شيئاً ضد الملك أو الأساقفة، وكان يعين الملك في طغيانه محكمتان: إحداهما هي محكمة غرفة النجم، والأخرى محكمة عليا أنشأتها اليزابيث أول الأمر للحكم على من يخالف قرار توحيد العبادة؛ وكان من الضحايا العديدين لهاتين المحكمتين أحد كبار رجال الدين فضرب وحبس ووضع في الأصفاد وقطعت أذناه لأنه كتب ينتقد لود وأساقفته؛ وأحد رجال القانون لأنه كتب كتاباً يعيب فيه على من احترف التمثيل من الأوانس والسيدات مسلكهن فظن أنه يعرض بالملكة فيما كتب ولم يك جزاؤه أخف من سألفه؛ ومن هذين المثلين ندرك مبلغ ما(674/28)
حل بالناس من ألوان العذاب.
ولما كانت المشكلة المالية هي التي تضطر الملك إلى الاستعانة بنواب البلاد، فقد أشار سترافورد على الملك باتباع سياسة الاقتصاد ليطرد استغناؤه عن البرلمان، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، فتحسنت الحالة المالية إلى حد ما وخيل إلى سترافورد أن ليس للبرلمان رجعة.
ولكن الملك وازن بين دخله ومنصرفة فلم تسره الموازنة ووجد نفسه لا يزال في حاجة إلى زيادة الدخل وإلا اشتدت به الضائقة ثانية، فسلك سنة 1634 مسلكاً كان أبعد ما سلك عن الصواب، وذلك أنه عمد إلى فرض ضريبة مباشرة، وكانت تسمى ضريبة السفن، وهي ضريبة قديمة كان من حق الملك وفق الدستور أن يفرضها على المواني إذا تعرضت المملكة لخطر الحرب فتقدم المواني سفناً أو ما لا يقوم مقامها؛ ونظر الإنجليز هذه المرة فإذا بالملك يفرض هذه الضريبة وليس ثمة من خطر يتهدد المملكة ولكن الملك احتج بأنه يبتغي بها مطاردة ما يتهدد التجارة من القراصنة، وتمادى الملك فخرج على القانون والعرف وفرض هذه الضريبة لا على المواني فحسب بل وعلى داخلية البلاد، ثم استمر يفرضها عاماً بعد عام وكان الأصل فيها ألا تفرض إلا حين الخطر
ويأبى القدر إلا أن يرتطم الملك وكبير أساقفته في ورطة كانت هي القاضية عليهما، فقد شاء لود أن يدخل في اسكتلندة النظام الأسقفي على الرغم من تمسك الاسكتلنديين بنظام الكنيسة البرسبتيرية، وأعد لود كتاباً للصلاة على نمط كتاب الصلاة في انجلترة، وأراد أن يحمل الاسكتلنديين على اتباعه في كنائسهم، فثار الناس هناك وأعلنوا سنة 1638 في مجلس عام رفض النظام الأسقفي وطردوا الأساقفة الذين أرسلهم شارل إليهم فكان هذا تحدياً صريحاً لمشيئة الملك؛ وأصبحت المسألة في الواقع تتصل بحق شارل في حكم اسكتلندة أكثر مما تتصل بالنزاع الديني، وبات الموقف بالغ الخطورة، فإذا استطاع الاسكتلنديين أن يعصوا الملك فماذا عسى أن يكون وقع هذا في إنجلترا.
ولجأ الملك إلى الحرب وتأهب الاسكتلنديون للقتال وتلاقى الجيشان فأحس الملك ضعفه فهادن الاسكتلنديين وهادنوه وسكنت ريح الحرب إلى حين.
وأحس الملك بضرورة دعوته برلماناً فدعا ذلك البرلمان في ربيع سنة 1640 وعرف باسم(674/29)
البرلمان القصير لأنه لم يلبث أن أنكر على الملك فرض ضريبة السفن، ولما ساومه الملك وعرض أن يتنازل عن ضريبة السفن نظير أن يمنحه البرلمان مبلغاً معيناً رأى البرلمان أن قبوله هذا العرض يتضمن الاعتراف بحق الملك في فرض تلك الضريبة فأبى إلا أن يكون تنازل الملك عنها بغير قيد وضاق الملك بالبرلمان فحله في نفس العام.
ولكن الاسكتلنديين عبروا نهر التويد في الصيف زاحفين على إنجلترا، ودعا الملك مجلساً من الأعيان فأشار هذا المجلس بوجوب الاستناد إلى برلمان، ولم يجد الملك بداً من الإذعان فدعا برلماناً جديداً في نفس السنة وعرف هذا البرلمان بالبرلمان الطويل، وظهر في هذا البرلمان زعماء أشداء كان من أشهرهم بم وهمبدن وأليفر كرمول. . .
ووجد البرلمان الفرصة سانحة ليصفي حسابه فوجه إلى لود واسترافورد تهمة الخيانة العظمى للشعب الإنجليزي وأطلق السجناء من أنصار الحرية، وأزال من الكنائس كل ما يصلها بروما من مظاهر وصور وتماثيل، واحتاط البرلمان للمستقبل فأصدر قراراً يقضي بأنه لا يجوز أن ينقضي أكثر من ثلاث سنوات بغير أن يدعى برلمان، وقدم سترافورد إلى المحكمة، ووضع تحت الحراسة كيلا يهرب، وكان لا بد من موافقة الملك حتى تقام الحراسة فوافق الملك مه أنه وعد سترافورد أن يدافع عنه وأدين سترافورد وأعدم وتنفس أنصار الحرية الصعداء، وبالغ البرلمان في الحيطة فأصدر قراراً فحواه ألا يجوز حل البرلمان إلا بموافقة أغلبية أعضائه؛ وقضى البرلمان بحل محكمة غرفة النجم والمحكمة العليا المختصة بالشؤون الدينية.
وخيل لأنصار الحرية أنه لم تعد تعترضهم عقبات، ولكنهم ما لبثوا أن أحسوا روحاً رجعية في مقاعد البرلمان نفسه، وذلك بسبب مغالاة البيوريتانز ضد النظام الأسقفي، فقد قدم هؤلاء مقترحاً إلى البرلمان يقضي بإزالة هذا النظام كله وسمي مقترحهم باسم مقترح الأصل والفرع، ولكن بعض النواب كانوا يميلون إلى النظام الأسقفي فعارضوا هذا المقترح وانضم إلى هؤلاء نواب آخرون أشفقوا من تطرف البرلمان في استلاب سلطة الملك ورأوا أن الملك قد أذعن أكثر مما يجب أن يذعن وتوجسوا خيفة من عواقب هذا التطرف كأنما يلمح لهم شبح الفوضى.
وأخافت هذه الرجعية بم وزملاءه، فأقدم بم على عمل خطير وهو ما سمي الإعلان الأعظم(674/30)
وهو عريضة قدمت إلى البرلمان وفيها جميع ما ارتكب الملك وأعوانه من أخطاء في السياسة والدين منذ بداية عهده وطلب إلى البرلمان أن يقرر صحة ما جاء فيها، وبعد مناقشة عنيفة في جلسة طويلة استمرت الليل كله وافق البرلمان عليها بأغلبية تسعة أعضاء فحسب فأظهرت هذه العريضة عدد أنصار الملك في البرلمان وتبين أنه عدد لا يستهان به.
وتزايدت مخاوف بم وأنصاره، وكان الملك قد ذهب إلى اسكتلندة على أثر وفاق البرلمان بين إنجلترا والجيش الثائر في اسكتلندة، فلما عاد شارل إلى إنجلترا استقبل في لندن بحفاوة عظيمة. . . . . .
وكأنما أغرته تلك الرجعية في مقاعد البرلمان وهذه الحماسة التي لقيه بها أهل لندن بأن يضرب ضربة، فخطا خطوة جريئة ود كثير من أنصاره أنفسهم لو أنه لم يخطها، وذلك أنه وجه في سنة 1642 إلى خمسة من أعضاء البرلمان على رأسهم بم تهمة الخيانة العظمى، وبعد يومين ذهب إلى البرلمان بنفسه على رأس قوة من حرسه وقفت عند بابه شاكية السلاح وطرق شارل الباب ودخل القاعة ليقبض على الأعضاء الخمسة، ونهض النواب وقوفاً وحسروا القبعات على رؤوسهم، واتجه الملك إلى منصة الرئيس فخر أمامه على ركبتيه وساد الصمت فلا يسمع إلا همس، ودار الملك بعينيه يطلب الأعضاء فلم يتبين في الصفوف منهم أحد فقد نما إليهم ما اعتزمه الملك قبل حضوره بدقائق ففروا فسأل عنهم الرئيس فأنكر معرفته متى حضروا ومتى انصرفوا، ونظر الملك إليه نظرة شديدة ثم خرج هادئ الخطى يعلن إلى حرسه أن قد (طارت الطيور الخمسة).
وتسامعت لندن بما كان من أمر الملك فهبت المدينة التي لقيته بحفاوتها منذ قليل تدافع عن النواب، واشتدت حماسة الناس، وصمموا على أن يعود الأعضاء إلى مجلسهم في مظاهرة كبرى وأعدت الزينات في الشوارع وعلى صفحة النهر في القوارب، وكان لا بد أن تمر المظاهرة بقصر الملك فلم يطق الملك أن تقع عيناه عليها أو تسمع أذناه ضجيجها فترك المدينة.
وأخذ البرلمان يعد العدة للدفاع عن كيانه، وأعد الملك عدته ليسحق بها البرلمان ومن يظاهره من الناس، واندلعت نيران للحرب الأهلية التي انتهت بهزيمة شارل بعد أن دارت رحاها لأكثر من أربع سنوات(674/31)
(يتبع)
الخفيف(674/32)
حرفة الأدب
للأستاذ عباس حسان خضر
ألممت في مقال (نظرات في أدب المتأخرين) المنشور في عدد مضى من (الرسالة) بحرفة الأدب إلماماً وجيزاً. وقد رأيت أن أجيل القلم في نواح من هذا الموضوع أوجزت القول في بعضها بالمقال السابق، ثم رأيت أنها تحتاج إلى شيء من البسط والنواحي الأخرى جال بها الفكر بعد.
قلت في ذلك المقال: (وكثيراً ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت حرفة الأدب مجلبة للبؤس وشؤماً على من أدركته).
فقد سارت كلمة (أدركته حرفة الأدب) مسير المثل، تقال في كل أديب يناله شر، وعند كل حالة يمنى فيها بالخيبة والإخفاق. وكل أمر يقترن بالمحن والرزايا معدود في المشئمات، مرمى بجرائره دون نظر إلى الملابسات؛ فالأديب إنسان له حاسة سادسة إلى حواسه الخمس، هي طبيعته الفنية التي تستعمل الحواس الأخرى في إحساسها بنواحي الحياة إحساساً ينفرد به الأديب كما ينفرد ببيان لا يتأتى لغيره من سائر الناس، وهو بفنه هذا مشغول، مستهلك جل قواه، مصروف عن مقومات حياته وضرورات عيشه، فإذا مسه ضر عد أدبه شؤماً وقيل: (أدركته حرفة الأدب).
فلست أرى الشؤم من واقع الأمور، وإنما هو حالة نفسية تنشأ عن اقتناع بأن المتشائم منه يجلب الشر والأذى، ومن مقتضيات هذه الحالة تهيب المتطير منه والإعراض عنه أو الإقبال عليه مع الكره وتوقع الشر، وكأن المتطير يستدعي بذلك ما يخشاه، وكأنه يهيئ نفسه ليكون مهبطاً له؛ فتستجيب له النوائب وتنزل بساحته الكوارث وقد أعد لها.
ولست أرى بأساً على من ينحى عنه خاطر التشاؤم ولا يدع له إلى نفسه سبيلاً؛ وقد اقتنع بذلك ابن الرومي (وهو رأس المتشائمين والقائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان) لما أنشده أحد الشعراء وقد علم أنه يتطير:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت على نفسي فوطنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب(674/33)
فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير دار أو تفاؤل صاحب
راقت هذه الأبيات ابن الرومي، وتأثر بها، فحلف ألا يتطير أبداً (من هذا ولا من ذاك) وأومأ إلى جاره الأعور، وكان يتشاءم منه. فقال له أحد الحاضرين: (وهذا الخاطر من التطير) فهو وإن كان اقتنع رأيه بفساد مذهب التطير فقد غلبته طبيعته فأخطرت له التطير وهو يحلف ألا يتطير!
على أنني أعود من هذا لأشاطرك ما لا بد أنه يجول بذهنك وهو أن الأدب لم يكن دائماً قريناً للبؤس والحرمان، وليس كل أديب كيعقوب الخزيمي القائل:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم
ويخطر لك هذا لأنك تعلم أن الأدب نفع ورفع كثيرين، فأنالهم المال، وأبلغهم المناصب. وقد اختلفت حظوظ الأدباء من حيث انتفاعهم بأدبهم أو (إدراك الحرفة إياهم) باختلاف أسباب، بعضها من ذات أنفسهم، وبعضها خارج عن ذواتهم؛ فالنوع الأول كاباء الأديب واستنكافه أن يسلك مسلكاً يراه غير لائق، وليس في المجتمع الذي يعيش فيه غيره من طرق الانتفاع بالأدب، على حين لا يتحرج أديب آخر من ذلك؛ أو أن يكون الأديب واسع الحيلة أو ضيقها، أو حسن التدبير أو سيئه. والنوع الثاني من تلك الأسباب كظروف الزمان والمكان، فهذه دولة يشجع رجالها الأدباء، على مختلف بواعث التشجيع، وبمختلف وسائله؛ وتلك أخرى يحتجن أصحابها البر عن الأدباء، أياً كانت أسباب هذا الاحتجان. وقد لا يكون الأديب بحاجة إلى الانتفاع بأدبه، لأن له من ثرائه أو كسبه من طرق أخرى ما يغنيه عن ذلك، فيتنقل بين زهر الآداب ويغرد على أفنانها لا لشيء إلا ليرضي حاجة نفسه، ويمكن (حاسته السادسة) من القيام بوظيفتها.
وبالطبع كانت تروج كلمة (أدركته حرفة الأدب) كلما توافرت معوقات الاكتساب، وأنت تراها قد قلت في عصرنا هذا فإن التأليف والصحافة قد أصبحا سوقاً نافقة للكتاب وخاصة المعروفين منهم لدى جمهور القراء، وقد ربح بعضهم في السنوات الأخيرة ما يعد من جملة أسباب (التضخم النقدي) ومما يؤسف له أن هذا الربح الوفير قد أغرى الكثيرين بكثرة الإنتاج التي لا تتم إلا باللهوجة والسلق، ولا سيما سلق البقول التي تجمع من حقول(674/34)
الأسفار، فتصنف المؤلفات كما تصنف (شربة الخضار) كأن الأذواق قد اعتلت، فهم يصنعون لها هذا اللون من الحساء. . .!
وقد عمد مديرو بعض المجلات الشعبية إلى بعض الكبار من الكتاب يستكتبونهم بأجور مغرية، ومفهوم أن أصحاب هذه المجلات يقصدون ترويجها أو ازدياد رواجها بأسماء المشهورين من الأدباء، ولكن بعض هؤلاء الكتاب الفحول أسفوا في كتاباتهم لأنهم قصدوا إلى الدنو من ذهن القارئ العادي، وطلبوا طرائف الموضوعات فلم يوفقوا، وتكلفوا الظرف ومسايرة روح تلك المجلات؛ وذلك ليس في طبعهم، فجاء إنتاجهم في هذا المضمار بائخاً لا غناء فيه.
وأن تدرك حرفة الأدب هؤلاء وأولئك خير من إفساد السوق الأدبية برديء المنتجات، وإفساد السوق الاقتصادية بتضخم النقد واستمرار الغلاء.
وإن من حق الكتاب الناضجين - بلا شك - أن يستثمروا فنهم ويجنوا ثمرته، ولذلك أثره حفز الهمم وشحذ القرائح، ولكن من حق الأدب ومن حق (مستهلكيه) إجادة الإنتاج وألا يزاول الكاتب من أنواع الكتابة إلا ما يحسنه، وإذا كانت المصانع المشهورة تحرص على جودة مصنوعاتها لأنها تحمل أسماءها، أفلا يجدر بهؤلاء الكتاب المشهورين أن يتعهدوا أسماءهم بالجلاء والصقل؟
أما الشعراء فلم يعد لهم سبيل لائق بكرامة الأدب في العصر الحديث إلى الاكتساب من فنهم، وكم كان ظريفاً ذلك الشاعر - وهو من أساتذة اللغة العربية - الذي قال: إنني أتكسب بالشعر ولكن لا بشعري أنا وإنما بألفية ابن مالك!
وممن أدركتهم حرفة الأدب في عصرنا أفراد معرفون بالانتحال، ينشئون المقال أو الخطبة أو القصيدة أو الكتاب، وينحلونه من لم تدركهم الحرفة لقاء قروش أو جنيهات معدودات فيتسلق هؤلاء المجدودون أولئك الحرفاء، لأنهم لا سيقان لهم في الأدب يقومون عليها. وهؤلاء وأولئك يرتكبون التدليس والتزوير في الأدب، حتى ليصح أن يقال إن الأدب أدركته حرفتهم! فنكبته بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .
ونخلص من كل ذلك إلى ما قررناه وهو أن الأدب لم يكن دائماً مجلبة للشقاء والحرمان، بل كثيراً ما كان سبباً إلى النعمة والرفاهة، فلا يصح أن نقرنه بالشؤم، لأنه يتخلف عنه،(674/35)
وما بالذات لا يتخلف، كما يقول الفلاسفة.
على أن فن الأدب نفسه متعة؛ فإن لم يصل صاحبه إلى الأعراض الأخرى فحسبه إمتاع فنه والحياة الرفيعة التي يضطرب فيها بفكره وصفاء روحه، والله المستعان.
عباس حسان خضر(674/36)
الشرق كما يراه الغرب:
الصين الجديدة
للأستاذ أحمد أبو زيد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ليست الديمقراطية مجرد نظام صوري من نظم الحكم تفرضه الدولة على رعاياها وتنتحله لسياسة أمورهم؛ بل الديمقراطية شيء أبعد من ذلك، إذ أنها تعتمد في أصلها على مزاج الشعب ذاته وعلى طبيعته وعلى مدى استعداده لتلقي ذلك النظام وقبوله؛ أو بقول آخر يتوقف نجاح الديمقراطية على مدى رغبة الشعب وميله إلى الاتحاد والتعاون والتضامن فيما بينهم، وعلى مقدار قابليته لتأليف الجماعات التعاونية المختلفة؛ فحيث يكون الناس أقدر على التضامن والتعاون فيما بينهم بروح سمحة يكون الأمل في قيام الديمقراطية كبيراً. ومن هنا تنتقل السيدة جالبريت إلى دراسة الحركات التعاونية في الصين لترى مدى نجاحها. . . وهي تعتقد أن الصينيين يميلون بطبعهم إلى التعاون والتآزر؛ فقد ظهرت منذ أقدم العصور أنواع شتى من الزمر والهيئات والجمعيات التي تقوم في أساسها على التعاون مثل جماعات العائلات (ويتألف كل منها من مائة عائلة) وغيرها. فالهيئات التعاونية نشأت إذن في الصين منذ أمد بعيد واتخذت صوراً مختلفة وأغراضاً متفاوتة أشد التفاوت. وقد قامت الحكومة الصينية في عام 1935 بإحصاء عام لحركات التعاون فزادت الجمعيات هناك على مائة ألف جمعية تعاونية، ولا تزال الحكومة المركزية تولى حركة التعاون جانباً كبيراً من اهتمامها.
وقد خطت الحركة التعاونية في الصين خطوة جبارة منذ عام 1938، بعد ظهور جمعيات التعاون الصينية للصناعة: وما لاقته من نجاح واسع سريع. وقد انبثقت فكرة هذه التعاونيات في أذهان بعض الصينيين ممن لهم سابق خبرة بالتعاون لأول مرة في أغسطس من عام 1938، إذ أدركوا أنه لا مندوحة لهم - أمام التوغل الياباني - عن إعادة تنظيم موارد الصين واستخدام كل القوى فيها حتى يمكن تعويض ما فقدته البلاد من المراكز الصناعية الرئيسية التي دمرتها الحرب. وبدأت تلك الجماعة من الخبراء عملها بتقسيم(674/37)
الصين إلى مناطق ثلاث؛ فالمنطقة الأولى أزالوا منها كل وسائل الإنتاج وجميع المصانع حتى لا تقع في أيدي الأعداء، وخصصوا المنطقة الثانية لقيام بعض الصناعات الخفيفة التي يمكن نقلها بسهولة وسرعة إذا حدث ما يستدعي ذلك. أما المنطقة الثالثة - وهي في وسط الصين حيث تكون بعيدة عن متناول الأعداء - فقد تركزت فيها كل الثروة الصناعية لإنتاج ضروريات الحرب. وقد نتج عن ذلك التنظيم الجديد لمواجهة حاجات الحرب وأخطارها أن انضم كثير من المصانع بعضها لبعض واندمجت معاً وبذلك أمكن إيجاد تعاونيات لصنع الملابس الصوفية والزجاج ودبغ الجلود وتكرير السكر والطباعة وغير ذلك. ولما كانت الصين تنقصها الأيدي العاملة وخاصة بسبب الحرب التي تستنفذ معظم العمال المدربين فإن الصناعة الآن تعود على المهاجرين المدنيين وعلى الجنود الجرحى؛ ولا شك أن هؤلاء تنقصهم الخبرة والدربة ولذلك بنيت مدارس تعاونية لتمرينهم على العمل، كما أنشئت لهم وحدات علاجية تعاونية؛ بل وأفضل من ذلك إنشاء مدارس تعاونية لتعليم أطفالهم على نفقة أصحاب المصانع. وهكذا تنتهي الكاتبة إلى أن هذه الحركة التي أظهرتها ضرورة مواجهة أخطار الحرب قد عادت على الصين بخير عميم، وهي ترى أن هذه الحركة سوف تؤدي في نهاية الأمر - إن لم تتدخل الحكومة فيها وإن لم تدب الخلافات ويستبد الطمع مرة أخرى بأصحاب المصانع - إلى نوع من الاشتراكية الصحيحة الصالحة.
ولكن مهما يكن من أمر التقدم الصناعي في الصين ومستقبله، فإن مشكلة الصين الأساسية لا تزال - ولن تزال - تنحصر في الميدان الزراعي. فالصين بلد زراعي قبل كل شيء، وسوف تظل هكذا أبداً، والصينيون أنفسهم يعرفون ذلك، ولذا ظهرت حركة جديدة قوية هي بمثابة رد فعل لانصراف الناس إلى الاشتغال بصناعة الحرب، وهي تدعو إلى العودة إلى الأرض التي تقوم فيها حياة الصين كلها. والحكومة ذاتها لا تألو جهداً في العمل على تحسين حال الزراعة وحال الفلاح؛ وهي تنفق في ذلك عن سخاء حتى في أيام الحرب؛ وترجو أن يعود عليها ذلك بالخير. وقد أنشأت الحكومة مدارس زراعية تجريبية ومحطات للبحث - بلغ عددها الآن خمساً وعشرين مدرسة ومحطة - وكل غرضها هو إقامة التجارب لتحسين إنتاج الأرز والقمح والشعير وحفظها من الأوبئة والآفات. كذلك تعمل(674/38)
الحكومة - عن طريق الجمعيات التعاونية الزراعية - على تحسين حال الفلاح ورفع مستوى المعيشة في القرى على العموم. ولكن كل تلك الجهود لم تأت حتى الآن بالثمرات المنشودة. . . ولعل ذلك يرجع أولاً وأخيراً إلى طبيعة الفلاح نفسه؛ فالفلاح الصيني - كأي فلاح آخر - محافظ بطبعه على القديم وعلى الوسائل التي اعتادها وورثها عن آبائه، فليس من الأمور السهلة الميسرة إقناع الفلاح بأن ينبذ وسائله العتيقة وأن يأخذ بتلك الوسائل والآلات الحديثة التي تحاول الجمعيات التعاونية ومدارس التدريب نشرها بين الفلاحين؛ وإن كان ذلك لا يمنع من أنه سوف يجيء اليوم - قرب أو بعد الذي تحل فيه تلك الوسائل الحديثة محل الوسائل القديمة لأربعة آلاف عام مضت.
ولكن لا يمكن للصين ولا غيرها من الأمم أن تجني ثمار ما تقوم به من الإصلاحات المختلفة وأن تصل إلى ما تبغيه لنفسها من حياة سعيدة راقية ما دام شعبها يرسف في أغلال الجهل، فكل حركة يراد بها الإصلاح، وكل تحسين يدخله المصلحون على أي مظهر من مظاهر الحياة سوف يكون عبثاً، ولن يتأصل في الدولة ما لم يتعلم الشعب أولاً؛ فمحاربة الجهل والقضاء عليه ونشر التعليم بين الناس هو أول ما ينبغي للدولة أن تأخذ نفسها به إن أرادت لنفسها رقياً. ولقد شعرت الصين بما يتهددها من جراء الجهل الفاشي بين الناس، فاتخذت وسائل كثيرة شتى للقضاء عليه، وقد أفلح بعض تلك الوسائل والبعض الآخر لم يفد شيئاً مذكوراً. ولا شك أن القضاء على الجهل في بلد واسع كثير السكان كالصين يعتبر من أشق المهام؛ ولكن الدولة بذلت مع ذلك الكثير من الجهد والمال لتحقيق تلك الغاية. ومن أشيع الوسائل المتبعة في الصين لذلك تنظيم سلسلة من الدروس القصيرة في المدن تجبر الدولة الناس على الاستماع إليها؛ إلا أن هذه الدروس القصيرة تنتهي سريعاً، وهي وإن كانت تعلم الناس بعض العلم وبعض القراءة إلا أن الكاتبة تشك في أن لها قيمة جدية لأن ما يتعلمه الإنسان سريعاً دون أن يبذل فيه جهداً كبيراً ينساه سريعاً أيضاً. . .
وفي الصين مشروع ضخم الآن يرمي إلى إنشاء مدرسة واحدة لكل جماعة تتألف من مائة عائلة، وذلك في بحر خمس سنوات؛ وسوف تقوم تلك المدارس بتعليم الصغار والكبار على السواء - ما بين الخامسة عشر والخامسة والأربعين - القراءة والكتابة. والأمل أن يفلح(674/39)
هذا المشروع في القضاء على الجهل تماماً في الصين.
ولكن من ناحية أخرى نجد في غرب الصين حركة فكرية ناهضة تتمشى معها ثورة صناعية يقوم بهما الشباب المتعلم المثقف. وتشبه السيدة المؤلفة هذه الحركة الناشئة بحركة النهضة الأوربية (الرينسانس) وقد كان الدافع الأول عليها هو الحرب اليابانية أيضاً؛ فقد اضطرت الجامعات من جراء الغزو الياباني للصين أن تتقهقر من أماكنها في المدن الكبرى إلى المدن الصغيرة في غرب الصين تاركة وراءها كل آلاتها الفنية ومعامل الأبحاث التي كان الطلبة يتمرنون فيها، ومكتباتها الزاخرة بالكتب، وعلى ذلك كان يتعين على الطلبة أن يعتمدوا في حياتهم العلمية الجديدة على مجهوداتهم الخاصة، وقد أحدث ذلك بلا ريب انقلاباً هائلاً في طرق التعليم الجامعي ومناهجه ومادته أيضاً، وبدلاً من أن يدرس الطلبة تلك المعلومات التي كانوا يقرؤون عنها قي الكتب الأوربية، وبدلاً من أن يقوموا بتجاربهم العلمية في معاملهم المدرسية الصغيرة نزلوا إلى ميدان الحياة والواقع وذهبوا للعمل والدراسة في المصانع والمعامل والحقول، وبذلك أصبحت المناهج أقرب إلى الواقع وترمي إلى أهداف ونتائج واقعية. ولا ريب أن الصين سوف تفيد كثيراً من جراء هذه النزعة الواقعية العملية في التعليم، وسوف يساعدها ذلك إلى حد كبير على حل مشكلاتها.
إن الصين تبذل الآن بغير شك مجهودات جبارة في سبيل الاتجاه نحو مثال جديد ونحو حياة جديدة، ومع أن السيدة جالبريت تعترف بأن الصين قد أفلحت في تحقيق جانب كبير مما رسمته لنفسها إلا أنها مع ذلك تحتاط ولا تبالغ في قيمة الإصلاحات التي تمت بالفعل حتى الآن. وهي ترى أن كثيراً من الوسائل والطرق التي تتبعها الصين وسائل عقيمة وطرق غير مجدية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأعمال التي أنجزت بالفعل وقعت في أيدي الأعداء فخربوها، كما أن سكان المقاطعات الصينية التي وقعت تحت سطوة اليابانيين قد تدهوروا ورجعوا إلى حالة من الانحطاط لا تبشر بخير؛ وذلك ذل العبودية التي فرضها المنتصرون عليهم من ناحية، وبتأثير الأفيون والمخدرات الفتاكة التي كان اليابانيون يوزعونها عليهم بسخاء من ناحية أخرى. فقيام الحرب اليابانية ولو أنه كان أهم الدوافع التي دفعت الصين إلى التقدم وإلى التطلع إلى حياة أفضل من حياتهم التي حيوها آلاف السنين إلا أن الحرب كانت هي أيضاً العقبة الكؤود في سبيل استكمال تلك الحياة(674/40)
والوصول إليها. . . ولقد انتصرت الصين أخيراً على غزاتها، ولكنها وقعت في حرب أهلية لا يعرف بالضبط مدى تأثيرها وإن كان لا شك في أن عاقبتها تكون وخيمة. ثم إن مستقبل الصين ليس في يدها وحدها، فهو لذلك لا يزال متقلقلاً غير ثابت تتقاذفه كثير من التيارات، ولكن الصين في أحلك ساعاتها كانت تتمسك بأهداب الأمل وكانت تؤمن بنفسها وبمستقبلها، ودفعها ذلك الإيمان إلى العمل وإلى الإصلاح وهي مشغولة بالحرب. ولعل ذلك الإيمان الراسخ يساعدها على التغلب على ما تلاقيه في طريقها من صعاب. لقد قال كونفشيوس حكيم الصين (إن شعباً يعيش بلا إيمان لا يمكن أن يعيش).
أحمد أبو زيد(674/41)
تصحيح كتاب (البخلاء)
للدكتور داود الجلبي
قرأت باهتمام في هذه المجلة في أعدادها (667 - 669) المقالة التي عني فيها (أستاذ عظيم) بنقد كتاب البخلاء للجاحظ طبعة وزارة المعارف بمصر. وسبب اهتمامي أني حاولت قبلاً تصحيح الكتاب المذكور المطبوع في دمشق سنة 1357 هـ باعتناء علماء من أبناء الشام، نشرت تصحيحي في مجلة المجمع العلمي العربي بعنوان: (تصحيح أغلاط كتاب البخلاء) في الجزء الأول والثاني المزدوج، وفي أربعة أجزاء مزدوجة أخرى تليه من المجلد العشرين مع تصحيح واستدراك في الجزء الأول والثاني المزدوج من المجلد الحادي والعشرين. فأردت أن أرى هل تنازل الأستاذ العظيم إلى مطالعة تصحيحي، وما الذي جاء في تصحيحي موافقاً لتصحيحه، وما الذي خالفه. وبعد المطالعة ظهر لي أن الأستاذ لم يعلم بوجود تصحيحي، ووجدته عظيماً حقاً في انتقاده وآرائه الصائبة، وعددت نفسي سعيداً لاتفاق التصحيحين في الغالب. ولست في صدد تعداد ما جاء موافقاً، وما جاء مبايناً أتركه لحكم من أراد الاطلاع والتتبع.
ولكن لا بد من ذكر بضع فقرات وردت في كلام الأستاذ العظيم تحتمل النظر فيها، فأقول:
جاء في الرسالة في عددها 669 ص 475 كلمتا (الفرد) و (الجوهري) وقال الأستاذ: إن الفرد أصلها (العرض) والجوهري أصلها (الجوهر). أما أنا فقد كنت صححت الفرد بال (قصرة) سقطت منها الصاد وحرفت وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال. وصححت الجوهري بال (حواري) وهو لب الدقيق الأبيض الخالص. وتصحيحي هذا ينطبق على القصة دون الالتجاء إلى المجاز أو الاستعارة أو التشبيه.
وفي الصفحة عينها استنكر الأستاذ كلمة إنفاق، وأراد تصحيحها بأنفاط جمع نفط، ولكن الكلام كان على الزيت والسمن، أي على الأدهان المأكولة، والنفط ليس منها. أراد الجاحظ بالإنفاق زيت الإنفاق، وهو الزيت المعتصر من الزيتون الفج، ويسمى بالزيت الركابي أيضاً. جاء في التاج في مادة (فوق): الإنفاق وهو الغض من الزيت. وجاء فيه في مستدرك مادة (نفق): وزيت أنفاق: غض. وجاء في مادة (ركب): ويقال زيت ركابي لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل. أهـ. وقال ابن سينا في الجزء الأول من القانون في(674/42)
مادة (زيتون): وقد يعتصر من الزيتون الفج الزيت، وقد يعتصر من الزيتون المدرك. وزيت الإنفاق هو المعتصر من الفج. أهـ. وقال داود الانطاكي في الجزء الأول من كتابه تذكرة أولى الألباب: (زيت) وهو الدهن المعتصر من الزيتون، فإن أخذ أول ما خضب بالسواد ودق ناعماً وكب على الماء الحار ومرس حتى يخرج فوق الماء فهو المغسول؛ ويسمى زيت أنفاق. وإن عصر بعد نضج الثمرة وطبخ بالنار بعد طحنه وعصره بمعاصير الزيت فهو الزيت العذب. أهـ. وفي بحر الجواهر لمحمد بن يوسف الطبيب الهروي (طبعة الهند على الحجر): والزيت قد يعصر من الزيتون المدرك، وزيت الإنفاق هو المعتصر من الفج، وإنما سمي به لأنه يتخذ للنفقة، ويقال له الركابي أيضاً لأنه كان يحمل على الركاب أي الإبل من الشام إلى العراق، كذا قال بعض الفضلاء. وقال مولانا نفيس: نقل أبو ريحان في الصيدلة عن ماسر جوبه أن كل ثمر يكون غضاً نضيراً يقول له أهل الروم انفاقين، والانفاق مشتق منه. أهـ. أقول إن قول ماسر جويه هو الصحيح، فإن الكلمة معربة من اليونانية، ويريدون به كل ثمر فج، ومنه الحصرم. وجاء في لاروس الكبير أن مشتقة من امفاكس المذكورة وجاء في قاموس ليتره الطبي في مادة قوله: , وترجمته: زيت الإنفاق زيت مر معتصر من الزيتون الذي لا يزال غضاً. أهـ.
أما زيت الماء فالمفهوم أنه المعتصر من الزيتون المدرك، سمي به في مقابلة الركابي، لأنه كان يجلب إلى البصرة بالسفن نهراً.
وأما الأبيات الواردة في ص 476 من الرسالة وهي:
تهنا لثعلبة ابن قيس جفنه ... يأوي إليها في الشتاء الجوع
ومذانب لا تستعار وخيمة ... سوداء عيب نسيجها لا يرقع
فكأنما فيها المذانب حلقة ... ودم الدلاء على دلوج ينزع
فكنت قد صححت (ودم) ب (وذم). ورأى الآن أن الأبيات تحتاج إلى تصحيحات أخرى كي يظهر لها معنى مقبول؛ ففي البيت الأول تستبدل (فينا) (بتهنا) و (خيمة) (بجفنه) وفي الثاني تستبدل (جونة) (بخيمة) و (سخامها) (بنسيجها) و (لا يرفع) ب (لا يرقع)، وفي الثالث (تنزع) (بينزع)، و (ولوج) جمع ولاج وهو الولادي (بدلوج) ذلك أن الإنسان يبرد(674/43)
في الشتاء فيحتاج إلى كن يقيه البرد وبخاصة إذا كان جائعاً، وهذا الكن في البادية هو الخيمة لا الجفنة. وقال الافوه الأودي هذه الأبيات مفاخراً. ولكن كيف يفخر الإنسان بخيمة سوداء لا ترقع خروقها. الصحيح أنها جونة. وأراد بالجونة القدر السوداء الظاهر، لأنهم يفخرون بها لكونها دليلاً على كثرة الطبخ بها. قال أحدهم يفخر بسواد قدره في جملة أبيات:
بقدر كأن الليل سحمة قدرها ... ترى الفيل فيها طامياً لم يقطع
أراد بالفيل الجمل الضخم. وبعد هذه التصحيحات تكون الأبيات هكذا:
فينا لثعلبة ابن قيس خيمة ... يأوي إليها في الشتاء الجوع
ومذانب لا تستعار وجونة ... سوداء عيب سخامها لا يرفع
وكأنما فيها المذانب حلقة ... وذم الدلاء على ولوج تنزع
عبر عن سخام القدر بالعيب، وهذا مدح في معرض الذم، كقول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وأما تصحيح الأستاذ العظيم كلمة العود بالفتح بالعود بالضم في البيت: المشرف العود فأكتافه. . . الخ، وقوله وهو كناية عن ارتفاع قامته مادياً أو ارتفاع هامته معنوياً، فلا أدري قامة من، وهامة من قصد، في حين أن لا ذكر لرجل هناك. يجب تصحيح البيت هكذا: للشرف عوض المشرف، واللام الأولى في للشرف مفتوحة وهي للتأكيد؛ والفرد عوض العود؛ وجمران عوض حمران، (كما في طبعة دمشق) فالشرف هو الجبل، والفرد وجمران وينصوب (جمعه يناصيب) أسماء جبال في البادية ذكرها ياقوت في معجم البلدان. والشاعر يقول في امرأة بدوية أنه إذا وجدت منعاً وضيفاً من زيد بن أيوب (ولعله كان حضرياً) يكون خيراً لها أن تعود إلى منازلها التي ألفها عند الجبال المذكورة. . .
ولقد أصاب الأستاذ بتصحيحه كلمة (كسجر) ب (كسحر) في البيت، ونار كسجر العود. . . الخ كما أتى بآراء صائبة يشكر عليها في مقالته.
(الموصل)
الدكتور داود الجلبي(674/44)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
746 - والمقصود حتفي
أنا ما بين عدوي ... نهما قلبي وطرفي
ينظر الطرف، ويه ... وى القلب والمقصود حتفي
747 - عمك أبو سماك الأسدي
في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء):
قال جد كناسة: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني فكحلتني ثم قالت: اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجعت ثم تمثلت بقول الشاعر
امخترمي ريب المنون ولم أزر ... طبيب بني أود على النأي زينبا
فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟
قلت: لا
قالت: فيّ (والله) قيل. وأنا زينب التي عناها وأنا طبيبة بني أود أفتدري من الشاعر
قلت: لا
قالت: عمك أبو سماك الأسدي
748 - والدهر لجة ماء
قال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر:
الناس مثل حباب ... والدهر لجة ماء
فعالم في طفو ... وعالم في انطفاء
749 - فشق أثوابه من الطرب
قال ابن دحية في المطرب: اجتاز الوزير أبو بلال يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر وهو ينظر من بعض مناظره ومجلسه بخواص ندمائه حال، وصوت المثاني والمثالث عال. فقال: أطلعوا لنا هذا الفقيه؛ فلما مثل بين يديه أمر بمناولته الكأس فتقبض متأففاً والسلطان يستغرب ضحكاً بما هجم عليه، ويد الساقي ممدودة إليه.(674/46)
واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة فظهر من السلطان التطير من ذلك فأنشد الفقيه مرتجلاً:
ومجلس بالسرور مشتمل ... لم يخل فيه الزجاج من أدب
سرى بأعطافه ير نحه ... فشق أثوابه من الطرب
فسر السلطان وسرى عنه، واستحسن من الفقيه ما بدا منه وأمر له بجائزة سنية.
750 - علم أو أدب أو فائدة
نقش مأمون بن آدم على باب داره هذين البيتين:
إن كنت صاحب علم أو أخا أدب ... أوفيك فائدة فانزل ولا ترم
وإن تكن صورة لا فيك فائدة ... ولا مؤانسة فارحل ولا تقم
751 - ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس
في صبح الأعشى: اعلم أن اللحن قد فشا في الناس والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً، والنطق بالكلام الفصيح عيا والذي يقتضيه حال الزمان والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي الشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها؛ ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم، ويتحاورون به في مخاطبتهم، وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام منذ فسدت الألسنة.
752 - فوجده كما قال
قال أبو السحن المدائني: أصبح عبد الملك يوماً في غداة باردة فتمثل قول الأخطل:
إذا اصطبح الفتى عنها ثلاثاً ... بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشية لا شك فيها ... وأرخى من مآزره الفضولا
ثم قال كأني أنظر إليه الساعة محلل الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق ثم بعث رجلاً يطلبه فوجده كما قال.
753 - يا سدرة الوادي
قال أبو السعادات بن الشجري:
هذى السديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح(674/47)
يا سدرة الوادي الذي إن ضله الس ... اري هداه نشره المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضي في ظلالك صالح
ولقد مررنا بالعقيق وشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا به نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
يا صاحبي تأملا حييتما ... وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خُرَّد، أكفالهن رواجح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح
754 - قل في إهلاكه
قال رجل: كنا في أملاك فلان.
فقال حكيم: لا تقل في أملاكه، قل في إهلاكه.
755 - غنيمة
إذا كان الزمان زمان سوء ... فيوم صالح منه غنيمة
756 - عمود الجمال ورداؤه وبرنسه
قالت امرأة لخالد بن صفوان: إنك لجميل يا أبا صفوان.
قال: وكيف تقولين هذا وما فيّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه.
فقيل له ما عمود الجمال؟
قال: الطول ولست بطويل، ورداؤه البياض ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشعر وأنا أشمط، ولكن قولي إنك لمليح ظريف.
757 - وويل جيراننا كلهم
ذكر الخرائطي عن بعض العلويين قال:
بينما أنا عند الحسن بن هانئ وهو ينشد:
ويلي على سود العيون ... النهد الضمر البطون
الناطقات عن الضمير ... لنا بألسنة العيون
فوقف عليه إعرابي ومعه ابن فقال: أعد علي فأعاد عليه. فقال: يا ابن أخي ويلك أنت(674/48)
وحدك من هذا؟ ويلي أنا وأنت وويل ابني هذا، وويل هذه الجماعة، وويل جيراننا كلهم!
758 - كيف كنت وكيف كانا
نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب، وهو مخمور فقال له:
عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتك مبي ... ت صاحبها عيانا
759 - هذه بضاعتنا ردت إلينا
قال ابن حجة: كان قاضي علاء الدين بن أبي البقاء قد عزل من وظيفة قضاء بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته وألبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع الأموي على العادة (ومعه أخوه بدر الدين قاضي القضاة بالديار المصرية)، فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرئ وقرأ: (قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا) الخ الآية فحصل بالجامع الأموي ترنم صفق له النسر بجناحيه.
760 - الكون الباكي
في (لوعة الشاكي)
كل من في الوجود يشكو فراقاً ... من حبيب أو لوعة من غرام
فصليل الرعود أنة حزن ... وانسكاب الغيوث دمع الغمام
تتعرى الغصون من حلل الزه ... ر فتبكي عليه ورُق الحمام
وعيون الغوار خوف المنايا ... في رباها لم تكتحل بمنام
وإذا مال للغرور قضيب ... ضحك الزهر منه في الأكمام(674/49)
من وحي المرأة
وسواس. . .!
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
يعاودني الوسواسُ، يا طولَ وسواسي ... إذا جَدَّ ذِكرٌ للدواءِ وللآسي
يساورني الوسواسُ أني مقصِّرٌ ... ولولاه لم تُمْسي رهينةَ أرماس
عذابيَ نَطْسٌ في الأُساة جهلتُه ... كأنّ الأُولَى آسوكِ ليسوا بأنطاس
وثَمَّ دواءٌ مُحْدَثٌ كنتُ أرتجي ... عجائَبه لو أمهل الزمنُ القاسي
أُجرِّد من نفسي لنفسي مُخاصماً ... وحبُّكِ في النفسَيْن كالجبل الراسي
فيا هول حربٍ كالجبال صِدامُها ... تَداعَى لها ركني، وشباب لها راسي
وما ذاك إلا أن حبَّكِ فوق ما ... بذلتُ وما اسْتقضيتُهُ سائرَ الناس
ولو أنه صحَّتْ لعُمْرِك وُصْلةٌ ... وَصَلْتُكِ مِن عمري وُجدْتُ بأنفاسي
محنة مضاعفة:. .!
ربي! أراني شقيّاً ... مشرَّداً في فضاكْ
أكاد من فرط يأسي ... أشكو إليك قضاك
يُطيف بالنفس شكٌ ... كالنارِ نارِ غَضاك
عدْمتُ بالأمس زوجي ... فلا عدمتُ رضاك
عبد الرحمن صدقي
زهر الربيع. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
يا طيورَ الرَّوض غنينا النشيدا ... وانثري فوق الرُّبى زهر الربيع
واهتفيِ باللحن ريان جديداً ... واسبحي في ذلك الأفق الوسيع
أيقظي الفجرَ نديّاً باسماً ... يتهادى من وراء الأفق
يرسل النور عليه حالماً ... ويحييه بصبح ألِق(674/50)
رددي في الروضِ ألحانَ الصباح ... وانهَلي الألحان من زهر الربيع
واسكبيها بين أنفاس الأقاحي ... قبلةً تمسح أنداء الدموع
داعب الظلُّ شعاعَ الجدولِ ... وعلى شطَّيْه قام السامرُ
ها هنا دنيا الهوى والغزل ... صفَّق الموج، وهام الشاعر
إيه يا (زهر الربيع) الباكر ... يا متاع القلب، يا أنس الأماني
جدِّدِ العمرَ لهذا الطائرِ ... يملأ الروضَ بأصداء الأغاني
كانت اللُّقيا حناناً وحنيناً ... وطبيباً بين دائي ودوائي
يشهد الرِّعشة والداء الدفينا ... يا طبيبي، أتُرى آن شفائي؟
ها هنا الدَّاءُ وفي (زهر الربيع) ... لي آسٍ من جراحي ونُدُوبي
ما له يَنْسى أنيني ودُموعي ... ويُولِّي هارباً غير مجيْب
عَلَّهُ آتٍ، فحسْبي ألمُ ... صحَّ في لُقياه عِندي أملُ
طابَ يا (زهر الربيع) الحلم ... وعلى خديك تحلو القُبَل
فاسقنيها في ربيع الزمن ... خمرة من رِّيها العذبِ أُوامي
علَّني أنسَى شتاء المحَن ... وتندِّي الفرحة الكبرى هُيامي
أحمد عبد المجيد الغزالي(674/51)
البريد الأدبي
الرسالة وإصلاح الأزهر:
علمنا من لدن عليم مسئول أن اقتراح (الرسالة) لحل مشكلة الأزهر قد وقع من الجهات الرسمية موقع التقدير والنظر. والنية معقودة على أن يسير الإصلاح الجديد في طريق هذا المقترح حتى تتبوأ الجامعة الأزهرية مكانتها بين الجامعات الحديثة فتؤدي رسالتها الدينية والأدبية على النحو الذي يقتضيه تطور العالم وتقدم العلم.
كفل المال وبالمال
في الجزء الأخير من (مجلة المجمع العلمي العربي الغراء) مقالة عنوانها: (التنبيه والتوجيه) خطأ فيها الأديب اللغوي الفاضل الدكتور مصطفى جواد عبارة كانت قد وردت في مجلة المجمع وهي (ولنا ما يكفل إعادة النظر) قال:
(ويكفل من الكفالة يتعدى بالباء لا بنفسه. وفي أساس البلاغة (وهو كفيل بنفسه وبماله؛ وكفل عنه لغريمه بالمال وتكفل به) فالصواب ما يكفل بإعادة النظر، أما للإنسان فيقال يكفله).
كلام الأساس على العين والرأس، وكتاب جار الله هو في الحقيقة في المجاز، وهو مصنف عبقري منقطع القرين قد حدت على وضعه ووضع الكشاف عقيدة الرجل تؤيدها العربية - وللعقائد فوائد - فالكتابان من حسنات خصومنا المعتزلة، ولكن الإمام الزمخشري لم يقل إنه أودع أساسه كل لفظة وتركيب. ورأينا الضعيف فيه أن جميع ما يحتويه هو حجة، بيد أنه لا يستضعف أو يغلط ما خلا منه، ورواه غيره من أئمة اللغة.
في (لسان العرب): (كفل المال بالمال ضمنه) وكلام اللسان - كم يلوح صحيح.
السهمي
الأعرابي وفن العروض:
في العدد الأخير من (الرسالة) روي الأستاذ الكبير النشاشيبي عن محاضرات الراغب ثلاثة أبيات منسوبة إلى أعرابي في فن العروض. ولكن الزبيدي في طبقاته قال ما خلاصته:(674/52)
إن أبا مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان كان قد نظر في النحو فأعجبه، بيد أنه لم يحسن التصريف فأنكره. وقد جلس معاذ الهراء يوماً يتكلم في الصرف، فسمع منه أبو مسلم كلاماً لم يعرفه، فقام عن أصحاب النحو وقال:
قد كان أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاماً لست أفهمه ... كأنه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم!
والرواية تختلف عما في المحاضرات قليلاً. وقد أجاب أبا مسلم معاذ بقوله:
عالجتَها أمرد حتى إذا ... شبت ولم تحسن أبا جادها
سميتَ من يعرفها جاهلاً ... يصدرها من بعد إيرادها
سهل منها كل مستصعب ... طود علا القرن من أطوادها
وبعد، فما رأى الأستاذ الكبير، أي العلمين أجدر بهذه الأبيات: الصرف أم العروض؟!
(كلية اللغة العربية)
أحمد إبراهيم الغرباوي
الأدب والمجتمع:
عرض الأستاذ الفاضل الكرداني في مقالة (الأدب والمجتمع) لموضوع الفن لذات الفن، والفن لخدمة المجتمع الذي كان نقطة نقاش بين الأستاذين أحمد بك أمين وتوفيق الحكيم على صفحات (الرسالة) منذ زمن.
ولكن نظرته كانت جديدة حينما ربط بين الأدب وبين النزعة الاشتراكية التي وجهت أكثر الكتاب إلى الوجهة الاجتماعية وصرفتهم عن الفن لذاته. وبذلك يكون الأستاذ الفاضل قد أضاف إلى موضوع الفن الرفيع شيئاً جديداً يشكر له، ولفت الأنظار إلى السبب الرئيسي أو المباشر الذي حول الكتاب إلى الناحية الاجتماعية.
ثم يقول في كلامه عن الإنتاج الأدبي وعلاقته بالأفراد: (أليس المجتمع سوى مجموعة أفراد؟) ولكني أقول له: إن علم الاجتماع ينظر إلى المجتمع على أنه وحدة لا تنقسم، وجميع عناصره أو أعضائه لا يمكن أن توصف أو تفسر تفسيراً علمياً إلا إذا نظر إليها(674/53)
ككل واحد لا ينقسم. وعلى ذلك فليس من الضروري إذا تناول الأديب وقائع خاصة أو أحداثاً شخصية فردية أن يكون ممثلاً للجماعة، بل إنه لم يزد في هذه الحال على أن يكون ممثلاً لنفسه ولنفسه فقط.
على أني أسلك في تفسير الأدب الرفيع مسلكاً آخر غير الذي سلكه الأستاذ فأقول: إن الأدب، سواء وصف أحداث المجتمع أو تناول أهواء الفرد، هو أدب له قيمته. ولا يغض من شأنه، أو ينقص من قيمته، إلا عجزه عن التصوير الدقيق والتأثير البليغ.
ويقول الأستاذ في آخر المقال تقريباً: (لا نعرف الفنان إلا خيراً، ولا نعرف الفن إلا خيراً صرفاً كله). وأكرر ما قلته أولاً أن الأدب لا يكون غثاً إلا إذا جاء تصويره فاتراً، وتأثيره على النفس واهناً. والشر في الأدب لا يقلل من قيمته، بل قد يكون من دواعي رفعته. ونضرب مثلاً على ذلك أبا نواس في الأدب العربي، وبودلير في الأدب الغربي؛ فهذا صور في شعره شهواته الجارفة وخمره وغزله بالمذكر، وذلك أتى من ضروب تصوير اللذة البهيمية ما رفعه إلى الذروة في الفن. وكلاهما لم يخرج عن الشر في صوره الأدبية في الغالب.
جبريل خزام
قبور بعض آل البيت:
كتب الأستاذ أحمد أبو زيد مقالاً قيماً عنوانه (الموالد المصرية) في العدد 632 من (الرسالة) الغراء جاء فيه:
(وتعتبر القاهرة أسعد مدن مصر، بل أسعد مدن العالم الإسلامي أجمع نظراً لكثرة ما تضمه من رفات الأشراف والأولياء من نسل النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. فالقاهرة في ذلك لا يضارعها حتى مكة نفسها، ففيها رأس الحسين، ورأس ابنه زين العابدين، ورفات فاطمة، وسكينة ابنتي الحسين أيضاً الخ)
وهذا القول مخالف للواقع، لأن الإمام زين العابدين قضى في المدينة سنة أربع وتسعين أو خمسة وتسعين أو تسع وتسعين على مختلف الروايات، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن(674/54)
قال السيد محسن الأمين في كتابه (المجالس السنية):
(يقال إنه مات مسموماً، سمه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقال الكفعمي: سمه هشام بن عبد الملك في ملك أخيه الوليد، فلما توفي غسله ولده الإمام محمد الباقر، وأعانته على غسله أم ولد له، وحنطه وكفنه وصلى عليه ودفنه. قال سعيد بن المسيب: وشهد جنازته البر والفاجر، وأثنى عليه الصالح والطالح وانهال الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ودفن في البقيع بالمدينة الخ ج5 ص271)
أما سكينة بنت الحسين، فإنها توفيت بالمدينة ودفنت فيها عام سبعة عشر ومائة، وقد جزم بهذا القول أكثر المؤرخين كابن خلكان في وفيات الأعيان، وأبي الفرج الأصبهاني في الأغاني، والمازندراني في كتاب (معالي السبطين) وندر من قال إنها دفنت في مصر. وقد جاء في كتاب (السيدة سكينة) لمؤلفه الأستاذ عبد الرزاق الموسوي ما يؤيد هذا القول:
(ولادتها بالمدينة ووفاتها فيها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة سبع عشرة ومائة، وقيل توفيت بمكة في طريق العمرة، كما قيل رجعت إلى الشام وقبرها هنالك. وينص الشعراني في لواقح الأنوار أنها توفيت بمراغة من أرض مصر، وقبرها بالقرب من السيدة نفيسة، حيث أن أكثر المؤرخين نصوا على أنها بالمدينة، فهو بالصحة أجدر. ص6)
فاضل خلف التيلجي
تغريدات الصباح:
(ديوان شعر للأستاذ الأسمر)
هذا الديوان يمثل المدرسة الأدبية المحافظة تمثيلاً قوياً، إذ لا تروعك معانيه وأخيلته بقدر ما تأخذ بمجامع قلبك رصانة أسلوبه، وروعة بيانه. وهذا لا يطامن من قدر الشاعر، ولا يتنقص من جلاله؛ لأن الأستاذ الأسمر قد وفي لبيئته واستجاب لطبعه، فهو ربيب البيئة الأزهرية، ترى أثرها في متانة أسلوبه، وإشراق ديباجته، ومجافاته التحليق في أجواء ينفر منها الخلق، ويألم منها الضمير. أما معانيه فليست من الطراز الذي يتملك القلوب، ويستحوذ على الشاعر، ولكنها من النوع الذي نعجب به العجب الذي نملك معه الزمام، إلا(674/55)
أن فنه الأدائي - كما قلنا - يبلغ مبلغ الجلال والجمال والروعة في كثير من المواطن.
محمد عبد الحليم أبو زيد
مكتبة الطفل:
الأستاذ كامل كيلاني، صاحب فكرة، أقسم بالله جهد أيمانه ليوفين فيها على الغاية مهما أدمت يديه ورجليه أشواك الزمان، وليس هذا فرضاً أفترضه، أو كلاماً ألقيه على عواهنه. فأديبنا ما زال يدأب على خدمة هذه الفكرة، متجاهلاً كل العقبات ما زال والمتاعب، فكرة إنشاء مكتبة الطفل في الأدب العربي - الذي خلا منها في جميع العهود - ابتدعها الأستاذ كامل كيلاني بقلمه الذي يشبه (البطاريات) الكاشفة عن مواقع الأهداف في غلس الظلام؛ فأدبنا العربي تجاهل الطفل، والفتى اليافع، بل والشاب الناشئ، ولم يفتح عينيه إلا على الرجل الناضج، ومن يستطيع أن يقفز إلى أعلى السلم متخطياً درجاته الأولى دفعة واحدة؟!
ها هي ذي الدرجات الأولى في سلم الأدب العربي يضعها الأستاذ كامل كيلاني ببراعة المهندس، وحكمة البناء، وذوق الفنان الذي، يتحدث عن عمله فيقول: (أخذت في إظهار مكتبة الأطفال التي أمضيت في تأليف أجزائها عدة أعوام، وجعلت منها مجموعات يقرؤها الطفل على مراحل مرسومة، كل مرحلة تناسب سناً معلومة، دفعاً للحرج، وتمشياً مع سنة الترقي من درج إلى درج؛ فهو يقطع هذه المراحل في المطالعة والدرس، مستريح البال، مطمئن النفس، لوضوح مقاصدها، وسهولة مآخذها ومواردها، لا يجد فيما يطالع منها إلا ما يناسب مزاجه ويوائمه، ولا يصادف فيما يقرأ إلا ما يوافي طبعه ويلائمه)
وكان من أثر هذا المجهود الفذ أن ظفر صاحبه بثناء الأمراء المثقفين، والوزراء المتأدبين، وحملة الأقلام في الشرق، اعترافاً منهم بتبريزه وفذاذته؛ فها هو ذا الأمير سيف الإسلام عبد الله ولي عهد اليمن يوجه إليه خطاباً كريماً يفيض بالتقدير ويختمه بقوله: (وسنقتني منها ومن مكتبة الكيلاني للأطفال - كمية يستفيد بها الأولاد في اليمن)
وها هو ذا سعادة الأستاذ نجيب الهلالي باشا يوجه إليه رسالة من نيانه الرائع فيقول: (ضالة الجبل، ومنطق العرب الأصيل رجال في مرح الأطفال، وأطفال في هدى الرحال، جد في لعب، وجوهر من الصدق في عرض من الكذب. . .) ثم يقول سعادته: (وإن طفلاً(674/56)
تتعهده هذه الكتب، وينشئه هذا الأدب لهو خليق أن يمضي في البلاغة قدماً، حتى يطلع في سمائها نجماً ولقد جئت في ذلك بدلائل الإعجاز، وسموت فيما دبجته يراعتك من إطناب وإيجاز).
بين يدي الآن مجموعة من مكتبة كيلاني للأطفال فهذه قصة: (أصدقاء الربيع) وقصة: (زهرة البرسيم) وقصة: (في الإسطبل) وقصة: (جبارة الغابة) وقصة: (أسرة السناجيب) وكلها قصص علمية للأطفال قصص تقوم على أساس علمي من حيوات الحيوان والنبات، فهذه ظاهرة علمية من حياة حيوان أو عمر نبات، ولكنك تترشفها من بيان كيلاني أفكوهة أو موقفاً مسرحياً يبتز منك الإعجاب والاهتزاز. ولأديبنا كيلاني قدرة عجيبة على مزج الحقائق بالأساطير مما يجعل لنفسك متنفساً حينما تنتقل من فئ إلى فئ، ومن ضوء إلى ضوء. وليس هذا عجباً ممن مارس الطبائع في شتى الصور حينما تصدى للكشف عنها في قصص ممتع شهي كهذا الذي بأيدينا الآن.
ورجاؤنا أن يتناول أديبنا الكبير في قصصه الآتية - إن شاء الله - ناحية التاريخ الإسلامي بما هو أهل من العناية، ويظهر ما فيها من كنوز؛ فإن العالم الإسلامي الذي يقرأ ويتعلم اللغة العربية من كتب الكيلاني مشوق إلى هذا النوع من القصص بأسلوب الكامل.
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر(674/57)
العدد 675 - بتاريخ: 10 - 06 - 1946(/)
مصادفات في الطريق
للأستاذ عباس محمود العقاد
نعم هي مصادفات في الطريق
ولكنه طريق التاريخ لا طريق المدنية، أو طريق الزمان دون طريق المكان، وقد يحدث في هذه الطريق ما يحدث في كل طريق من المصادفات والمناقضات، فيعيش الناس في حي واحد ولا يلتقون، ويلتقون وهم يعيشون في أحياء لا يجمعها مكان. أيذكر القارئ كيف يتفق له أن يقضي السنين ولا يلقى في خلالها وجهاً من الوجوه التي تعود النظر إليها، ثم تعرض له فترة من الزمن فإذا هو يستقبل ذلك الوجه أمامه حيث سار على غير موعد وعلى غير انتظار؟
ذلك ما حدث لي في طريق التاريخ مع (عمر الخيام) خلال الأيام الماضيات، فما فتحت كتاباً إلا أطل منه (الخيام) بصفحة من صفحات وجهه أو جانب من جوانب نفسه، على تعدد الموضوعات وتباعد المناسبات. إذ كان من تلك الكتب ما أفتحه للمراجعة العاجلة في مسألة من مسائل التصوف أو مسائل السياسة أو مسائل الفلسفة أو مسائل الأدب وما إليه. وكنت مشغولاً بالشيخ الرئيس ابن سينا فما تعمدت لقاء الشيخ مرة إلا خراج لي الخيام في بعض الطريق كأنهم يقيمون من عالم الأرواح في عالم واحد أو كأنهم يحضرون معاً بدعوة واحدة على خلاف الآداب العصرية في استجابة الدعوات.
تحدث العروضي السمرقندي في (مقالاته الأربع) عن الفيلسوف ابن سينا وعن الفلكي عمر الخيام، فروى عن كليهما الأعاجيب، وكلاهما قد عاش زمناً في إقليم واحد وإن تلاحقا بالزمان. . .
وراجعت بعض الأقوال في تناسخ الأرواح فرأيت أناساً ممن يدينون بهذا المذهب العجيب يعممون التناسخ ولا يقصرونه على الحيوان والإنسان، فانتقال الروح من رجل إلى امرأة أو من رجل إلى رجل نسخ، وانتقالها من إنسان إلى حيوان مسخ، وانتقالها من إنسان إلى نبات فسخ، وانتقالها من إنسان إلى جماد رسخ. . . وما من انتقال منها كما رأيت إلا وهو على قافية الخاء، دون غيرها من حروف ألف باء، وهو حرف لا يوجد في معظم اللغات الأوربية ولغات الأمم على الإجمال. فكيف تسعفهم القافية يا ترى في تلك الأمم إذا احتاجوا(675/1)
إلى التقسيم والترتيب في أطوار هذا الانتقال العجيب؟ وما بال أصحاب التناسخ يا ترى قد فكروا في انتقال روح الإنسان ولم يفكروا في انتقال الروح من الجماد إلى النبات أو من النبات إلى الحيوان؟
إنهم لم يفكروا في ذلك ولكن فكر فيه على نحو غير هذا النحو جماعة من شعراء (التطور) القديم ومنهم جلال الدين الرومي الشاعر الفارسي المشهور. فعنده كما يقول: (إن الإنسان في بداية أمره قد ظهر في عالم الجماد، ثم ترقى من هذا العالم إلى عالم النبات، ثم عاش هنالك شجرة من الشجر أو عشبه من العشب لا يذكر شيئاً مما كان فيه من تلك الحال المختلفة بين المعادن والحجارة الصماء، وصعد من طبقة النبات إلى طبقة الحيوان فلم يبق في ذاكرته أثر للطبقة التي كان فيها إلا ذلك الشوق الذي يميل به إلى الأوراق والأشجار ولا سيما في إبان الربيع وازدهار الرياض، كأنه الطفل الذي يهتدي إلى صدر أمه من حيث لا يدري سر هذه الهداية. . . وشاء الله بعد ذلك أن يرفعه من زمرة الحيوان الأعجم إلى صورة الإنسان حتى بلغ ما نعلمه من القوة والعقل والمعرفة، وما به من ذكر في هذه الحال لعيشته الأولى، وإنه ليترك في مصيره الأبدي، هذه العيشة التي هو فيها. . .)
فهذا انتقال من الرسخ إلى الفسخ إلى المسخ إلى النسخ على انعكاس في ترتيب التناسخ الذي يقول به التناسخيون ولا يقول به الصوفية المتطورون!. . .
والعجيب أن صاحبنا الخيام قد سلك بين هذه الزمرة وهذه الزمرة بشهادة أناس من الزمرتين، فقيل فيه إنه من المؤمنين بالتناسخ كما قيل فيه إنه من المؤمنين بارتقاء الأرواح في معراج الكمال إلى قدس الأقداس
زعموا أن الحكيم كان يتمشى مع مريديه عند مدرسة الحكمة والعلوم بمدينة نيسابور، وكانوا يرمون بعض جدرانها وينقلون إليها اللبن والحجارة على ظهور الحمير. فأبى حمار منها أن يدخل دار المدرسة أي إباء، وحاروا في دفعه إلى الدار وهو مصر على الوقوف دون ذلك أشد الإصرار، فلما رأى الحكيم ذلك منه تبسم ومال على أذنه يهمس بأبيات يقول فيها: أي هذا الذي ضل وعاد اليوم إلى مكانه وهو أضل سبيلاً!. . . إن أظافرك قد تجمعت فصارت حافراً، ولحيتك قد استدارت إلى موضع الذنب، فانتقلت من الأمام إلى الوراء. . .)(675/2)
قالوا: فما سمع الحمار هذه الأبيات حتى عدل عن إبائه وأسلس قياده ودخل إلى الدار. وسأل التلاميذ أستاذهم عن سر ذلك الأباء وسر هذه الطاعة فقال: إن الحمار كان أستاذاً بهذه المدرسة فأبى أن يدخلها وهو دابة تحمل اللبن والحجارة وقد كان يدخلها وهو أستاذ يحمل الأسفار. . . فلما عرف أننا عرفناه كان له بعض الأنس بهذه المعرفة فأطاع
والحمير والله مساكين مظاليم
إنما الحمير حقاً أولئك الذين تناولوا هذه القصة فشكوا فيها تارة وأثبتوها تارة أخرى ليتهموا الرجل بمذهب تناسخ الأرواح. وتحضرني هنا قصة الصحيفة الإنجليزية التي أعلنت عن معرض للحمير يقام في حديقة هايد بارك بعد أيام، وكان موعد المعرض المزعوم موافقاً لليوم الأول من شهر إبريل، ولم يفطن له قراء الخبر إلا ساعة أصبحوا في الحديقة ولم يروا هنالك حميراً. . . فعلموا أنهم هم الحمير!
وما نخال الخيام إلا قد غلبه عفريت السخر في تلك اللحظة فسخر بنفسه وسخر بمريديه، وقال لهم إنهم كلهم يدخلون الدار ويحملون الأسفار!!
وشاءت المصادفات أن يصل البريد الأمريكي في هذه الآونة وفيه طوفان من كتب الجيب التي طبعت قبل ذلك في مختلف الأحجام بمختلف الأثمان
ومنها رباعيات الخيام
وهي على صغر الطبعة قد جمعت الصيغ المتعددة التي نقحها مترجم الرباعيات وأعاد تنقيحها في كل طبعة جديدة من طبعاتها الكثيرة. . .
ولا جرم يحتفل الأمريكيون بالرباعيات وهم يعيشون اليوم على مذهب الخيام، ويخرجون لميادين الحرب قائداً يسمى (عمر) تيمناً بسيرة الشاعر الفيلسوف!
فقلت: الخيام. الخيام. الخيام.
أفي كل مكان يسنح لنا طيف الخيام في هذه الأيام؟ وفتحت الصفحة على رباعية يقول فيها: (إن الكرم قد أنبتت عرقاً يلتف به كل كياني. . . فدع الصوفي يسخر ما يشاء، فإنني أسبك من معدني الخسيس مفتاحاً يفتح الباب الذي يطرقه ولا يجاب.)
وقلبت صفحة أخرى فرأيته يقول: (هذه الكرمة التي أنبتها الله، من ذا الذي يعاف عصيرها؟ وهذه العناقيد إن كانت شبكة من الشباك فمن ذا الذي وضعها هناك؟)(675/3)
وفي صفحة أخرى يقول: (إلى الكون دخلت كالماء الدافق ولا أدري لماذا. ومن الكون خرجت كالهواء الخافق، فهل أدري لماذا؟. . .)
ومهما تقلب من صفحة في الرباعيات فما تخليك هنا أو هناك من بعض هذا المعنى أو بعض ذاك
قلت والله لقد ظلموك يا صاح بالتصوف كما ظلموك بتناسخ الأرواح. وصدق مترجمك فتزجرالد وهو أدرى بترجمة نفسك وشعرك من أولئك الرواة والمؤرخين. فما كانت خمرتك بالخمرة الإلهية، وما كانت عبارتك بالإشارات الخفية، ولكنك كما قال المترجم الأمين كنت تنظم الشعر في ماء العناقيد، وكان نظمك في معناه أكثر من شرابك إياه. . . وذلك فصل المقال فيما بين قولك وعملك من الاتصال
وأعجب العجب أنني فتحت مجموعة من الرسائل الفلسفية لابن سينا وغيره فظهر لي الخيام بين دفتي تلك الرسائل يسألونه عن سر الوجود كله وهو حائر في سر وجوده لا يعلم لماذا أقبل كالماء وانصرف كالهواء
سأله القاضي الإمام أبو نصر النسوي تلميذ ابن سينا (عن حكمة الخالق في خلق العالم خصوصاً الإنسان وتكليف الناس بالعبادات.)
فحاول الشيخ أن يروغ كعادته ولم يجد مهرب أمان، ولا عذراً مقبولاً للزوغان. وكيف يجهل ما يسألونه عنه وهو عندهم وعند أبناء زمنه جميعاً حجة الحق، فيلسوف العالم، نصرة الدين، سيد حكماء المشرق والمغرب، نادرة الزمان؟. . .
على أن الرجل قد أجاب بما ليس يعدوه جواب، فرجع إلى سبب الأسباب وهو واجب الوجود: ما من سبب إلا وله سبب إلا واجب الوجود فلا سبب لوجوده ولا لصفاته. . . وإلا لزم التسلسل بالأسباب إلى غير انتهاء، وهو في عقل الإنسان مستحيل. . .
والوجود فيض الجود الإلهي. فلماذا جاد بالوجود على المخلوقات. . .؟
الجواب أنه جاد لأنه جواد، ولا تعليل لصفاته كما لا تعليل لذاته. لأن التعليل يرجع بنا إلى سبب وراء واجب الوجود، ولا سبب هناك
ثم قال: (فإن قال قائل لم خلق المتضادات المتمانعة في الوجود؟ فيكون الجواب عنه أن الإمساك عن الخير الكثير من جهة لزوم شر قليل هو شر كثير، والحكمة الكلية الحقة(675/4)
والجود الكلي الحق أعطيا جميع الموجودات كمالها الذاتي لها من غير أن يبخس حظ واحد منها. إلا أنها بحسب القرب والبعد متفاوتة في الشرف. . . لا لبخل من جهة الحق عز وجل، بل لاقتضاء الحكمة السرمدية ذلك)
أجل هكذا يقول الخيام
ولو سمعه قراؤه المفتونون برباعياته - من فتيان أمريكا وأوربا وفتياتها - لما صدقوا أن صاحبهم يسأل عن هذا، ولا صدقوا إن سئل عنه أنه يجيب بغير الكلمة التي تلخص جميع الرباعيات.
من يدري؟! من يدري أيها الناس؟
والناس قد حيروه حقاً بين زاعم أنه ينكر الروح وزاعم أنه يثبتها للإنسان والحيوان في الحياة وبعد الممات، وزاعم أنه يعلم سر الوجود كأنه من أصفياء مبدع الوجود.
وأخشى ما أخشاه أنني صرفت الحكيم الظريف بهذا المقال فلا ألقاه كما كنت ألقاه في كل منعطف طريق من مكامن التاريخ. . .!
عباس محمود العقاد(675/5)
من صميم الحياة:
طبق الأصل. . .
(يا أيها الآباء: إن الذي لا يعتبر بغيره، يصير هو عبرة
للناس)
للأستاذ علي الطنطاوي
إن الحياة تؤلف قصصاً، يعجز أبرع أهل الفن عن توهم مثلها؛ ولكن الحياة لا تذيع (مؤلفاتها) ولا تعلن عنها، فتبقى (مخطوطة) مخبوءة لا يصل إليها ولا يقرؤها إلا رجل حديد البصر، طويل اليد، ذو جلد على البحث وصبر على التنقيب، ولست ذلك الرجل، ولا أنا من عشاق المخطوطات ورواد المباحث، ولكن الأيام ألقت هذه القصة في طريقي؛ فوجدتها (مطوية) في سجلات محكمة من المحاكم، مقطعة الأوصال، مفرقة الأجزاء، فألصقت أوصالها، وجمعت أجزاءها و (نشرتها) في الرسالة، ومالي فيها إلا الرواية!
بدأت هذه القصة في مخفر للشرطة في مدينة (كذا) في ظهيرة يوم وهج عصيب من أيام تموز تسعر فيها الجو، وأقفرت الشوارع من السالكين إلا سالكاً بسيارة تطوى له الأرض، أو عربة تخب به خيولها يقطر العرق من صدورها وأعرافها، أو صاحب حاجة مفلساً يخوض الهاجرة ماشياً في قضائها، أو موظفاً مسكيناً انصرف إلى منزله لا يجد إذا كان أميناً أجرة سيارة ولا عربة ولا حمار لو أنها كانت تؤجر الحمير الآن، كما كانت تؤجر من زمان. . .
وكان في المخفر أربعة من الشرطة قد نزعوا أرديتهم، وحلوا مناطقهم، واستلقوا على مقاعدهم في كسل وارتخاء، واستسلم كل لأفكاره وهمومه، أو انطلق سادراً في أودية الأحلام؛ فذو العيال منهم يفكر في هم البيت ومشاكل النفقات، والخبيث يكد ذهنه يفتش عن شيء براني وما أهون الوصول إليه في هذه الأيام التي فشت فيها الرشوات والبراطيل حين غلت الأشياء كلها ولكن رخصت الضمائر، وسعرت الحكومة الأشياء كلها وتركت الذمم، والعزب التقي يداري من شهوته مثل لذع النار تؤرثها مشاهد الطريق، ويحبسها خوف الله والعار، إن كان قد بقى في (العشق. . .) اليوم من عار.(675/6)
والماجن يتعلل بذكريات ليلة فاجرة ويتلمظها ويلتذ بالتفكير في فجور جديد. . . وكانوا سكوتاً لا تسمع منهم إلا أغنية الصمت التي ليس لها آخر، يقطعها بين الفترة والفترة سؤال مختصر يلقيه أحدهم بصوت خافت تتعثر كلماته وهي سائرة في الفضاء من الضجر والملل، يجيب عليه الآخر بهزة من رأسه أو بكلمة مفردة يمضغها بين أسنانه ويبتلع الحرف الأخير منها، يعود السكون كما كان!
ويفتح الباب.
ويرفع الشرطيون الأربعة رؤوسهم ينظرون من هذا المتطفل الثقيل الذي دخل عليهم في هذه الساعة، وكل واحد منهم يتمنى أن يكفيه غيره مشقة صرفه والتخلص منه، ولم يكن فيهم من ينشط لعمل ولا لحديث؛ ولكنهم لا يرون القادم حتى يطير الخمول من نفوسهم، ويدب النشاط في أجسامهم، وينسى ذو العيال هم البيت، وطالب الرشوة لذة المال، وينسى (العاشق) المحروم فتاة أحلامه، وتتعلق أبصارهم بالقادم وكأن الدهشة قد ثبتتها في محاجرها فهي لا تتحرك ولا تطرف، ثم ينظر كل في ثيابه فيصلح منها ما يستطيع، ويمد يده إلى قميصه فيحكم زيقه وإلى ردائه فيرتديه، ويقف مستعداً كأنما قد فاجأه المدير العام، ويتم ذلك كله في لحظات!
ولم يكن القادم المدير العام بل تلك الفتاة الجميلة المتكبرة التي كانت تمر بها كل يوم شامخة الأنف تنظر دوماً إلى الأمام، لا تتنازل أن تلقي عليهم نظرة واحدة. . . وكانت تترك وراءها كلما مرت عبقاً من الروعة والسحر، فقد كان جمالها من الجمال الشرس الأخاذ الذي يروع الناظر إليه ويشدهه حتى يتركه وكأنما قد أصابه دوار حلو وخدر لذيذ. . .
فإذا ابتعدت وصحوا من سكرة جمالها، عادوا إلى الحديث عنها فأنفقوا فيه نهارهم. ولقد تسقطوا أخبارها فلم يسمعوا عنها ما يريب، برغم هذه الثياب (الفظيعة) التي كانت تخرج بها، ثياب أزهى من زهر الربيع، وأرق من دين الراقصات، وأقصر من عمر الحب! غشاء من الحرير إلى ما فوق الركبتين، يبرز ما تحتهما ويصور ما فوقهما، والذراعان باديتان والشعر يتموج على الكتفين خصلاً تزري بحر العسجد وخالص الحرير.
ووقفت الفتاة تصوب فيهم نظرات متعالية ثم قالت عابسة زاوية ما بين عينيها، ضامة شفتين كزر الورد على فم لا يتسع للكلمات، لا يصلح إلا للقبل:(675/7)
- إن أمام باب المخفر شاب وقح لا يزال يلاحقني كلما مشيت في الطريق، فأرجو سؤاله عما يريده مني!
وعرفوا الذي يريده منها، وكانوا في قرارات نفوسهم يريدون مثله، وكانوا قوماً همجاً متأخرين ذوي عقول قديمة رجعية. لا يفهمون من تكشف البنات إلا (ذلك) المعنى العتيق جداً. . . لا يعلمون أن الدنيا تقدمت، وأن البنت تتكشف على الساحل للسباحة، وفي المدرسة للرياضة، وفي الطريق وفي الترام للصحة وحدها فقط. . . لا غير. . .
ولكنهم أسرعوا مع ذلك إلى الباب ليقبضوا على هذا (الوقح) الذي تطاول إلى سماء الجمال، فأراد أن يدنس الكوكب الذي تستنير به قلوبهم، ولا يجرءون على التأميل فيه والتفكير في الوصول إليه، وكل منهم يود أن يسبق إلى اتخاذ اليد عند الآنسة الفتانة المتكبرة ذات الثياب (الفظيعة)! وجاءوا به.
وكان شاباً مخنثاً خليعاً، تحس إذا نظرت إليه أن رجولته كورقة النقد المزورة لها لونها ونقشها، ولكن ليس لها قيمتها، ولا تشتري لصاحبها إلا مكاناً في السجن، كما أن رجولة هذا الشاب لا تكسبه إلا موضعاً في جهنم. . . وكان الشرطيون لأربعة يحفون به بقاماتهم المديدة، وأجسامهم التي تتفجر بالقوة، كما تحف أربعة سنانير بفأر هزيل، ينظرون إليه بازدراء احتقار، أهذا هو المخلوق الذي يطمع في هذه الآنسة ويطمح إلى أن يكون (رجلها) من دون الرجال؟!
وزجروه وأوعدوه، ولكنه لم يزدجر ولم يخف، ولبث ينظر إلى الفتاة بعيون ثعلب، ويبتسم ابتسامة قرد مهذب، فلم يكن من أحد الشرطيين إلا أن لطمه (بيد ما وقف عليها طبيب) لطمة تركت على وجهه من آثار الأصابع خطوطاً يكاد ينبثق منها الدم، وترنح ومال، ولكنه تصبر واستند على نضد، وقال لها:
- أيرضيك هذا يا آنسة؟ أتحبين أن أفضح السر؟
فانتفضت وقالت:
- أي سر أيها الكلب؟ أيها السادة: أرجوكم وضع حد لهذه المهزلة!
فكروا عليه بالضرب واستاقوه إلى (القفص)، فلما ابتعد عن الفتاة، قال لهم:
- أنا أحذركم. إنكم تعتدون علي بغير (موجب قانوني) إن هذه البنت برغم ما تظهره من(675/8)
التسامي. . . إنها عشيقتي، وأنا أعرف كل بقعة في جسمها، وآية ذلك أن مكان كذا منها علامة كذا، وقد قبضت مني ليلة أمس إذ باتت عندي إلى الصباح، ثلاثين ليرة ذهبية.
ابتعد الشرطيون فتشاوروا فرأوا أن يدعوا أباها، وكان تاجراً كبيراً وثرياً من أثرياء الحرب الذين أصابوا فيها غنى فاحشاً جعلهم ينتقلون نقلة واحدة إلى منازل (الأكابر. . .)، فتركوا حياة الفقر، ولكنهم تركوا معها حياة العفاف والستر، وقلدوا الأكابر في مناعمهم، ولكنهم قلدوهم أيضاً في رذائلهم. وأكثر ما تعيش الرذيلة راسبة في القعر أو طافية على الوجه، فلا تراها إلا في أسفل السلم الاجتماعي أو في أعلاه، أما الأوساط فهم الأخيار وهم الصالحون. . .
واستبقوا الفتاة والشاب في المخفر ريثما يحضر الأب.
ووقفت السيارة الفخمة بالباب، ودخل أخو البنت جاء به الرسول إذ لم يجد والدها، فلما أبصر أخته في المخفر وأبصر معها هذا الشاب المخنث زاغ بصره وحدثه قلبه بالشر، فانتحى به الشرطي ناحية ونفض إليه خلاصة القصة، فلم يتمالك أن جرّ أخته فأدخلها غرفة خالية عند الباب، وواراها وهي متعجبة تبصر ولا تفهم، وتحسّ منه الغضب ولا تعرف السبب، ومدّ يده مسرعاً فرفع ثوبها الرقيق القصير قبل أن تتنبه له أو تدري ما هو صانع. فلما رأى العلامة، أحسّ أن دماغه قد غلي فجأة كما يغلي الماء في إبريق الشاي، وثار كما يثور المرجل ثم شعر أنه قد (تبخر) من رأسه وأنه انقلب مجنوناً. . . ودارت به الأرض وتداخلت المرئيات ونسي هذا (التجدد) الذي استحبه ودعا إليه وارتضاه لأخته وزوجته كما ارتضاه أبوه. . . ونسي أنهم هم الذين اشتروا للبنت هذه الثياب، وهم ألبسوها إياها بعد الملاءة السوداء والنقاب الصفيق، وهم أرسلوها إلى المدرسة (الحديثة) التي أنشأتها الجمعية النسائية. . . وهم تركوها تقرأ على الشباب وتجالس الأغراب، وهم بعثوا بها وحدها تقيس الطرقات وتجاور في السينمات. . . وأحسّ بالجرح في قلبه، وانصبت نقمته على الفتاة وحدها، فبصق عليها ولعنها، ثم رفع يده فصك هذا الوجه الجميل صكه طنت في آذان الشرطيين فأحسوا حرّها على وجوههم وحزتها في قلوبهم، إذ قد فهموا منها أن قصة هذا (المخنث) صحيحة، وأن الفتاة التي حسبوها بطهرها وكبرها وسحرها أمنع من نجم السماء، قد بذلت أعز شيء عليها لهذا. . . المخلوق!(675/9)
وأقبل الأخ فأعطى الشاب ثلاثين ليرة ذهبية من غير أن يلقي عليه نظرة أو يقول له كلمة، ثم استاق أخته وخرج، ولم يبصروا منها إلا قفاها، ولكنهم أبصروها مطأطئة الرأس، قد ذهبت عنها تلك الكبرياء وبطل ذلك السحر، أو أن إيمانهم بزلتها خيل إليهم ما زعموا أنه رأوه. . .
ومضت السيارة بالأخت وأخيها.
تركها في مقعد السيارة كأنما هي عدل ملقى، وقاد السيارة إلى الضيعة المعتزلة حيث كان أبوه، فأسرع عليه فسارة وأعلمه بالأمر، فسرعان ما أمحى طلاء (التمدن) الكاذب عن هذا التاجر الذي أعطاه الله مالا ولم يعطه عقلاً ولا ديناً شأن أكثر أغنياء الحرب. وسرعان ما عاد ذلك العربي الذي كان يئد البنات خوف العار، والذي تحوي لغته كلمة لا يمكن أن تترجم لأنه ليس في لغات الناس ما يقابلها ويحمل معانيها هي كلمة: العرض، وكذلك يبين إذا جد الجد، وكانت النتيجة الضرورية لهذه المقدمات (التي هي التكشف والانطلاق والاستهتار). . . أننا لا نزال كعرب الجاهلية في غيرتنا، وأن هذا التجديد تمويه، وقديماً قال المثل الأوربي: حك جلد الروسي يظهر لك التتري!
ثم عاد فجاء بالبنت؛ فلما رأت أباها، انفجرت عواطفها التي كبتتها المفاجأة الظالمة التي فاجأها بها أخوها وأجهشت وألقت بنفسها بين ذراعيه، وقالت: أبي! وحسبت أنها بلغت الحمى الآمن. وإذا بالأب يدفعها فتسقط، ثم يركلها بقدمه ويقول:
- أنا لست أباك أيتها العاهرة، لعنة الله عليك!
فتجحظ عيناها دهشة، ثم تثور مرة واحدة، وتصرخ:
- ما لكم؟ هل جننتم؟ إذا كانوا قد حكوا لكم شيئاً، أو وشوا وشاية فاسألوني وتحققوا، فإن. . .
فيقول الأب:
- أولك عين تحدق، ولسان يناقش يا ملعونة؟ قولي: ما هي صلتك به؟ قولي الحق وإلا ذبحتك كما تذبح النعجة. . .
- من هو الذي تعنيه؟ إني لا أفهم!
فيقول الأخ:(675/10)
- لا تفهمين يا فاجرة؟ الكلب الذي دفعت له ثلاثين ليرة بدلاً عن التي قبضتها ثمن بكارتك وعرضك وشرفك. . .
- أنت والله مجنون، أي ثلاثين ليرة؟ وما دخل عرضي وشرفي، وأنا لم أكلمه في عمري، ولم أعرفه. . . والله والله إن. . .
- لا تذكري اسم الله بلسانك الدنس.
ويهجم عليها فيشدها من شعرها، ويخرج بها. . . إعلانا لختام المحاكمة، وثبوت الجرم!
ارتقب الشرطيون أياماً فلم يروا البنت تمر بهم، وطفقت أمها تسأل عنها في المنزل، ومعلمها يسأل عنها من المدرسة، فيقولون للأم: هي في رحلة مدرسية. ويقولون للمعلم: هي في سفرة عائلية. وكاد الشرطيون ينسونها، وتضيع صورتها في مشاهد الحياة وهمومها، وفرغت كأس الحديث عنها فلم يبق لهم ما يتساقونه، فعادوا إلى صمتهم وتكاسلهم واستلقائهم على كراسيهم. . . ولكن الشرطي (العاشق) الذي رآها تشبه فتاة أحلامه لم ينسها. . . فكان كلما انتهى عمله في المخفر يلقي بزته العسكرية ويلبس ثيابه المدنية، ويتعقب ذلك (الشاب) يحصى عليه حركاته وسكناته، ليضبطه (متلبساً بجرمه) ويمسكه معها فلا يراه إلا منفرداً. . . حتى كاد ييأس منه وينصرف عن ملاحقته لولا هذه المصادفة:
وجده مع فتية من لداته عند حلاق، فدخل فقعد كأنه ينتظر دوره ليحلق، فسمع منه حديثاً خافتاً ورأى على وجهه ابتسامة ظفر، ثم أبصره يخرج لهم من جيبه الذهب ليروه، فخفق قلبه وعلم أن الحديث عنها، فتلطف ودنا وأصغى فسمعه يقول:
- (لا والله إني لم أكلمها في عمري، ولم أمسس جلدها ولا أعرف اسمها، ولكنها كانت بنتاً جميلة في السابعة عشرة، وتلبس هذه الثياب القصيرة التي يهب عليها النسيم، فيحركها فتكشف كل ما تحتها، فألحقها عن بعد لأمتع البصر بما يبدو من خفايا حسنها. وكانت يوماً على درج المدرسة، وكنت واقفاً تحت الدرج بحيث لا تراني، فانحنت لتصلح حذاءها انحناءة كشفت نصفها الأسفل كله، وكانت تلبس (كلسوناً) من الحرير الشفاف يوضع من صغره في علبة كبريت، ويصغر عن منديل، فأبصرت هذه العلامة. . .).
وعاد الشرطي إلى رفاقه بالنبأ، فوجدوا شيئا يعملونه.(675/11)
أحضروا الشاب ومن كان معه، وحققوا واستنبطوا وهددوا فلم يسعه إلا الإقرار، ولم يسعهم إلا الشهادة، وكتب الضبط بالحادث ودعي الأخ الذي دفع المال.
فلما حضر وسمع الحديث شحب لونه حتى كأنه قد نزف دمه كله، وانقلب وجهه فصار كوجوه الموتى، ودنا من الشاب وهو يرتجف كمن مسته قشعريرة، وقال له بصوت رهيب مخيف لا يشبه أصوات البشر:
- ألا تعرفها؟ ألم يكن بينك وبينها شيء؟
قال الشاب فزعاً:
- لا والله، لا والله، ما كلمتها في عمري ولا مسستها، وهذه ليراتك. . .
- قال: ليراتي يا ابن الكلب، بعد ما ذبحت البنت البريئة؟
وانقلبت عيناه في أم رأسه، وصار مثل الوحش الهائج، وتلفت حوله فوجد قضيب حديد يتخذونه مزلاجاً. . . فتناوله ونزل على الشاب ضرباً به على رأسه، وهم جميعاً يحاولون إمساكه فلا يقدرون عليه، حتى سقط الشاب ميتاً عند قدميه وسط بركة من الدم، فداس على عنقه وبصق عليه، ثم ارتخت يداه بالقضيب، وقال:
- أسلم نفسي! أنا ذبحت أختي وقتلت هذا الشاب!
وارتمى على المقعد ينتظر حكم المحكمة عليه في الدنيا، وحكم الله عليه وعلى المحكمة في الآخرة. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(675/12)
من خواطر جحا (الحالم اليقظان):
قصة الساحر والتاجر
(مهداة إلى أعلام السياسة وأساطين الاقتصاد)
للأستاذ كامل كيلاني
ننقل القصة التالية عن المقدمة النفيسة التي افتتح بها (أبو الغصن جحا) خواطره التي أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحيّة). وقد ضمها مخطوط جحوّي نفيس، لعله مكتوب بخط أحد معاصريه أو بخط ابن أخيه: أبي السّبهلل: (طارق بن بهلل بن ثابت).
وسيرى قارئ القصة كيف استطاع الساحر أن يحول الدنانير الذهبية ذات الرنين الفاتن والبريق الخلاب، - منذ مائتين وألف من السنين - ورقاً عادياً لا قيمة له ولا خطر، قبل أن يهتدي إلى ذلك أعلام السياسة وأساطين الاقتصاد في هذا العصر، الذين استطاعوا - بفنون سحرهم - أن يحولوا الملايين من أموال حلفائهم ورقاً لا نفع فيه ولا غناء، ولا قدرة له على البيع ولا الشراء. كما استطاعوا من قبل - بفنون حقدهم - أن يحولوا ثروة العالم وصواعق ومهلكات تدمر الدنيا بمن فيها، وتنسف المدن بساكنيها، وتحيل الجبال الشم أودية ووهاداً، والأحياء - من الحيوان والإنسان - فحماً ورماداً.
قال (أبو الغصن عبد الله دجين بن الثابت) الملقب بجحا:
(كنت في زمن الطفولة الباكر حين وقعت حوادث هذه القصة لأبي عويف بن جعفر، وكان تاجراً أميناً معروفاً بين الناس بالورع والتقوى، موصوفاً بالبر والإحسان، وهو من جيراننا الأقربين، وكان جزاراً ناجحاً في تجارته، فلم يلبث أن ذاع صيته، واستفاضت الأحاديث الحسنة عما يسديه إلى الفقراء والمعوزين من فنون البر سراً وعلانية.
وذا صباح وفد عليه شيخ وقور مهيب الطلعة رائع السّمت يدعى (أبا تميم بن زهير) قد جلل المشيب رأسه ولحيته، وتألق وجهه بشراً ونوراً، حتى ليحسب من يراه - أول وهلة - أنه من أولياء الله الصالحين.
ولم يكد يحييه حتى خفّ إليه التاجر مرحّباً بمقدمه، متبركاً بلثم يده، يسأله أن يأمر فيطاع.
فهمس الشيخ (أبو تميم) في أذن التاجر يخبره بما اجتمع عليه أمره من بذل في سبيل الله.(675/13)
فقد اعتزم أن يشتري منه كل صباح لحم خروف بدينار ليفرقه على طائفة من المحتاجين. ثم أعطاه - من فوره - ديناراً لامعاً مشرق الجدة. وانتهزها التاجر فرصة للتبرك بنقود هذا الشيخ الصالح، فاعتزم أن يدّخر ديناره حتى ينتهي العام، فيشتري بها ما يحتاج إليه من ماشية وأغنام، فأسقط الدينار من ثقب في أعلى درج خفي. وجرى كلاهما على عادته: يشتري الشيخ كل يوم خروفاً بدينار، ويضعه الجزار في صندوقه، حتى إذا أشرف العام على نهايته، فتح التاجر درج النقود المدّخرة، فهاله ما رأى، وفزعه أن يجد أوراقاً صفراً مستديرة - بعدد أيام السنة - مكان الدنانير الصفر الجديدة التي أخذها من الشيخ.
وسرعان ما تبين التاجر جلية الأمر، وعرف حقيقة الشيخ وأدرك أنه مدلس كبير وساحر خطير، فتربص به وهو يكاد يتميز من الغيظ، حتى إذا أقبل (أبو تميم) اندفع إليه الجزار صاخباً لاعناً مشّهراً بسوء فعلته.
وثمة عرف الساحر أن أمره افتضح، وسره وضح. فهمس في أذن التاجر مستعطفاً يرجوه أن يخفض من صوته حتى لا يسيء إلى سمعته، واعداً إياه بمكافأة سنية عاجلة إذا صفح عن زلته، وتجاوز عن إساءته. فلم يزد الجزار إلا تمادياً في صياحه وتشهيره، ووعيده ونكيره. وأقبل الناس يحاولون أن يهدئوا من ثورته الجامحة وهو آخذ بتلابيب خصمه، ممعن في هياجه، متماد في لجاجه، حتى إذا يئس الشيخ من صفح التاجر قال له منذراً متوعداً بصوت ثائر، مجلجل في أجواز الفضاء كأنه الرعد القاصف:
(لقد صبرت عليك طويلاً، فلم تزد إلا تمادياً وإصراراً، فاعلم أن لكل شيء اَخراً، وأن للحلم حداً لا سبيل إلى تجاوزه. وإني منذرك - على ملأ من الحاضرين - أنني معلن ما خفي من أمرك، ومذيع ما بطن من سرك، إذا لم تكف عن هذيانك وخرافاتك، وتقلع عن إساءتك وترّهاتك) فاشتد غيظ التاجر على الساحر وقال له في تهكم الساخر:
(وأيّ تهمة يستطيع مثلك أن يعزوها إليّ؟).
فأجابه الساحر في جرأة سافرة، ووقاحة فاجرة، وقد جمع كيده وسحره، وحشد مكره وغدره:
(أستطيع أن أعلن لهم حقيقتك وأفضي إليهم بما تقترفه من فنون الإجرام وكبائر الآثام، فأدلهم على ما تخفيه في الصندوق من رءوس الآدميين الذين تذبحهم كل يوم لتبيع الناس لحومهم بعد أن تخفي رءوسهم).(675/14)
ولم يكد الساحر يتم فريته حتى أسرع الناس إلى دكان الجزار فرأوا مصداق ما افتراه الساحر بعد أن خيل لهم سحره أن لحوم الخراف المعلقة لحوم بشرية، والرؤوس التي في الصندوق رؤوس آدمية. ولم يتمالكوا من فرط غيظهم أن ينهالوا على التاجر سباً وشتماً وضرباً ولكماً، حتى إذا أغمي عليه رآها الساحر فرصة سانحة للهرب، فتسلل إلى بيته ناجياً بعد أن أفلحت مكيدته ونجحت دسيسته.
وذاعت قصة التاجر، فأقبل القاضي عليه، بعد أن زال سحر الساحر، فلم ير إلا خرافاً معلقة لحومها على باب الدكان. فلما فتح الصندوق لم ير إلا رؤوسها. ولما أفاق التاجر عرف القاضي منه تفصيل ما حدث. فأدرك - حينئذ - براءته من تلك التهمة النكراء، والخزية الشنعاء، بعد أن هدم شرفه ولوثت سمعته. ولم يلبث أن ذاع صيت هذا التاجر بين الناس، بعد أن رأوا من المظاهر الكاذبة ما أقنعهم بأن الشيخ جان أثيم، وشيطان رجيم، وإن دلّ مخبره على أنه محسن رحيم وملك كريم.
مات هذا التاجر المحسن اليوم - بعد أن مرّ على قصته ربع قرن - وكان مشيّعوه إلى قبره يذكرونها متعجبين لما أصابه من كيد الساحر الأفاك. أما أنا فقد وعيت قصته منذ طفولتي، فلم أقع في مثل هذه الورطة مع أحد من الأشرار - وما أكثر ما لقيت منهم - فقد وجدت في التغابي مهرباً من الاشتباك معهم في صراع قلّ أن ينتهي بخير.
وقد آثرت أن يتهمني الأغرار بالغفلة على أن أزج بنفسي في محرجات لا أدري كيف أخرج منها.
وطالما ذكرت ما دار بين عمرو بن العاص ومعاوية من حوار معجب حين قال أولهما للثاني مفاخراً بلباقته وسرعة خاطره: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).
إلا عرفت كيف أخرج منه وكيف أجابه معاوية بقولته الحكيمة: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).
وقد وعيت قصة الساحر وحكمة (معاوية)، منذ عرفت الحياة، فانتفعت بهما أيما انتفاع.
أذكر على سبيل المثال أنني كنت أمشي - ذات يوم - في الفلاة، فأحسست وقع خطوات تقترب مني، فأرهفت أذني - دون أن ألتفت إلى الوراء - فسمعت همساً أدركت منه: أن لصين يأتمران بسرقتي. وليس معي شيء يسرق غير الحمار. فلم ألتفت إليهما خشية أن(675/15)
يصيبني منهما مكروه، وتشاغلت بمحادثة نفسي تارة وبالغناء تارة أخرى، حتى أهيئ لهما الفرصة لسرقة الحمار. وشعرت أن أحد اللصين يفك مقود حماري، ثم يضعه في عنقه ويسلم الحمار إلى صاحبه.
فتغاضيت ومشيت - على عادتي - متبالهاً حتى دانيت المدينة واقتربت من العمران. فالتفت إلى الخلف، وإذا باللص الخبيث مكان حماري الطيب القلب، والمقود في عنقه، وهو يمشي خلفي.
فتظاهرت بالحيرة والدهش، وسألته متبالهاً لأهيئ له الجواب:
(من أنت؟ وأين حماري؟ وكيف حللت مكانه؟).
فأجابني متخابثاً: (إن قصتي أيها السيد الكريم، لا تكاد تصدق لغرابتها، فأنا آدمي مثلك، ولكني غلوت في الإساءة إلى أمي - فيما مضى من الزمان - فلما نفذ صبرها، واشتد غيظها علىّ، ابتهلت إلى الله داعية أن يمسخني حماراً فاستجاب الله دعاءها.
فخرجت من البيت هائماً في الطريق، فلقيني بعض الأشرار، فأسرع بي إلى السوق وباعني لك. وما زلت أخدمك - في أمانة وإخلاص - إلى اليوم، ولعلي بذلك قد كفرت عما أسلفته لأمي من إساءة.
وقد رأيتني الآن أسترد آدميتي، فمشيت خلفك مطرقاً مفكراً فيما لقيت من عجائب الحياة. وأغلب الظن أن أمي قد عاودها رضاها عني، فراحت تستغفر الله لي حتى استجاب دعاءها مرة أخرى، فخلعت عني ثوب الحمارية، واسترددت من فوري ثوب الآدمية.
ترى كيف أجيب هذا الألعبان؟
تمثلت في الحال قصة الساحر والتاجر، فلم أجد لي مندوحة عن التظاهر بتصديق هذا الكيذبان الماكر. فقلت له متبالها:
(حسبك ما لقيت من عقاب إلهي، فهل تعاهدني على أن تتحرى مرضاة أمك، وأن تبذل في هذا السبيل قصارى جهدك) فعاهدني اللص على ذلك، وهو يحسبني - لغباوته - أكبر مغفل لقيه في حياته.
ثم لقيت حماري بعد أيام يبيعه اللصان، ولم أكد أدانيه حتى اختفى أولهما الذي لقيته منذ أيام، وأسلم الحمار إلى شريكه ليتم بيعه.(675/16)
فدنوت من الحمار ثم تظاهرت بأنني أسرّ في أذنه حديثاً موجزاً.
فاشتدت دهشة الناس مما رأوا. ودفعهم الفضول إلى سؤالي عما همست به في أذن الحمار. فقصصت عليهم قصتي بمسمع من اللص، ثم ختمتها قائلاً:
وهاأنذا أجد صاحبي قد خالف عهده، وأغضب أمه مرة أخرى، فلم يلبث أن عاودته حماريته وزايلته آدميته. فلم أتمالك أن أسررت في أذنه معاتباً:
(لقد حذرتك - يا صاحبي - هذه العاقبة، فلم تسمع. فلا تلومن إلا نفسك). ولم يكد الحاضرون يستمعون إلى هذه القصة حتى استغربوا (أي: أغرقوا في الضحك).
وشعر اللص الأفاك بالحرج، فتسلل هارباً وترك لي حماري، فعدت به إلى داري، وقضيت يومي راضياً محبوراً، قرير العين مسروراً.
وسرق بعض الأشرار مقود حماري، فبحثت عنه طويلاً فلم أجده. وبعد أيام رأيته معلقاً في رأس حمار أكبر من حماري. فلم أكد اقترب منه حتى رأيت صاحب الحمار - وكان شريراً فاتكاً معروفاً - ينظر إليّ شزراً.
فتذكرت قصة الساحر والتاجر، وقلت متظاهراً بأنني أحدث نفسي: (يا للعجب العاجب! هذا رأس حماري، ولكن ما بال جسمه قد تغير).
فكاد اللص يستلقي على قفاه من شدة الضحك، وتجاوز لي عن المقود طائعاً مختاراً.
واستيقظت قبيل الفجر ذات ليلة على صوت لص، فصبرت عليه حتى سرق كل ما في البيت من متاع، وتسللت في أثره مقتفياً خطواته - وهو لا يراني - حتى بلغ داره. فلم يكد يراني حتى تملكه الدهش والحيرة. فنظر إليّ يسألني: كيف جئت إلى هنا؟
فقلت له مداعباً: (جئت لأعرف الدار الجديدة التي انتقلت إليها).
فاستظرف إجابتي، واستحسن دعابتي، ورد إلي أثاث بيتي ولم ينلني منه أذى بعد ذلك اليوم.
وشعرت ذات ليلة بلص يقتحم داري فاستولى عليّ الخوف، وأسرعت إلى خزانة صغيرة فاختبأت فيها بين ثنايا الفرش، وكنت أعلم أن الدار خالية والحمد لله مما يسرق. وقد بحث اللص طويلاً فلم يظفر من بحثه بطاثل. وهم بالخروج، ولكن خاطراً دفعه إلى فتح الخزانة، فلما رآني صاح فيّ غاضباً:(675/17)
(مالي أراك مختبئاً؟) فلجأت إلى الدعابة قائلاً: (لقد أخجلني أنك لم تظفر بما يستحق السرقة في داري فاختبأت في هذه الخزانة ولم أجرؤ على مواجهتك).
فضحك اللص مما سمع وكفاني شره وأذاه.
وشعرت بلص من الأشرار يسرق متاع داري ذات ليلة، فتشجعت وقلت له مداعباً:
(ما أضيع بحثك أيها السيد الكريم! إنك تحاول عبثاً أن تعثر في ظلام الليل الحالك على شيء تسرقه من داري. ولقد حاولت ذلك من قبلك في رائعة النهار، فلم أر شيئاً في الدار).
ألا ليت الناس يذكرون دائماً قولة صديقي الألمعي الحكيم عبد الله بن المقفع: (إن الماء يبلغ - مع ليونته - ما لا تبلغ النار مع شدتها).
عبد الله جحا
وفق الأصل
كامل كيلاني(675/18)
جلالة الفاروق ولويس الرابع عشر
للدكتور محمد غلاب
الآن، وبعد أن تكسرت على صخرة أحداث المفاوضات موجة التأثر التي أثارها في النفوس التجاء ملك إيطاليا المتجرد من عرشه إلى مصر، فإننا نستطيع أن نرسم في إيجاز تلك العاطفة التي أحسسنا بها عندما طالعنا في الصحف وصف تلك الحفاوة الملكية الرائعة التي استقبل بها عاهل أرض الكنانة ذلك الملك المبعد عن بلاده. ولقد كانت في طليعة تلك الأحاسيس التي شعرنا بها حين قرأنا هذا النبأ عاطفة النشوة الناجمة عن الإحساس بأن مصر قد بدأت تسترد عزتها الداثرة، وتستعيد عظمتها الغابرة، وأن أشعة هذا الأمل العذب قد أخذت تتمثل في استعداد وادي النيل لإيواء الملوك اللاجئين والأمراء المبعدين، ولم لا؟ ألم يكن من أبرز مفاخر فرنسا إلى هذه السنين الأخيرة أنها قبلة اللاجئين، وغاية المهاجرين، ولا سيما الملوك والأمراء الذين لأمر ما تعذر عليهم الثواء في بلادهم. ولا جرم أن في هذه الخاصية من خصائص الدول معنى من أبهى معاني الرفعة والسمو، لأنه يلطف آلام فريق من أولئك التعساء، ويحيي الأمل في نفوس فريق آخر منهم، ويشعر فريقاً ثالثاً بأن الإنسانية لم تتحول كلها إلى وحوش ضارية، لان الإكرام العملي والحفاوة الواقعية يتركان في النفوس من محمود الأثر ما تعجز عن تأديته العبارات المعسولة التي لا تكلف المتفيهقين بها كثيراً ولا قليلاً. ونحن إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة نظرة عميقة ألفينا أن الفضل الأول فيها عائد بالذات إلى حضرة صاحب الجلالة مليكنا المفدى الذي عرف كيف يكشف أسرار عظمة الدولة، ثم يطبعها بطابع خاص تتحقق فيه الدقة والرقة والمثالية إلى جانب ثماره الأساسية، وهي المجد والفخار والخلود. وكيف لا تكون هذه السماحة النادرة، وتلك البشاشة النبيلة، وذلك الإكرام الكامل من الأمور المثالية في هذا العصر الذي كادت الإنسانية فيه - مع الأسف الشديد - تفقد كل معالمها، والذي أصبح فيه الشغل الشاغل لأكثر الدول هو التفكير في وسائل ونتائج الاستيلاء على حقوق الغير واغتصاب ممتلكاتهم الشرعية تارة في مجون واضح وصفاقة بغيضة، وأخرى تحت ستار الدفاع عنهم أو تحسين حالاتهم الاجتماعية.
وفوق ذلك، فإن هذه الحادثة قد أعادت إلى مخيلتي ذكريات تلك المحامد النبيلة التي انفرد(675/19)
بها الشرق، وهي البشاشة التقليدية والسخاء الموروث وإكرام الضيف دون أية علة أخرى غير الالتذاذ النفساني بتحقيق العمل المجيد وما إلى ذلك من العواطف العالية التي أوشكت واقعية عصرنا الحاضر أن تسحب عليها أذيال النسيان.
أسند بعض الكتاب ذلك المظهر الملكي الجليل الذي استقبل به مليكنا ضيفه اللاجئ الأخير إلى فضيلة عرفان الجميل من جانب جلالته نحو أسرة سافوا، وتلك بلا ريب عاطفة جليلة جديرة بأن تدفع النفوس الملكية أكثر من غيرها إلى رد خير الصنيع إلى أهله، ولكن أليس تعليل أولئك الكتاب هذا المظهر الفاتن بتلك العاطفة وحدها يخفي كثيراً من جوانبه الأخرى الخلابة وعناصره الجوهرية التي نحن على يقين من أنها قامت بدور أساسي في تصرف جلالة مولانا الملك وبواعثه؟ ومن هذه العناصر الأولية التي غفل عنها أولئك الكتاب تلك الدوافع التي فطرت عليها النفوس النبيلة والطباع الكريمة، والتي لا تزال تنعش ذوي المحاتد العريقة وتدفعهم إلى القيام بالأفعال الخليقة بالخلود في ذاكرة التاريخ تتخذ منها الكافة نبراسها في دياجير الحياة، وتجد فيها الخاصة دروساً في العظمة، والتي تنشئ لدى الشعوب ملكة تذوق المجد المجرد من النفعية، وهل يحسب أولئك الذين طغت عليهم روح الواقعية أنه من الممكن أن تستغني الإنسانية عن هذه الأحاسيس السامية، وأن تكتفي بتلك المدنية المادية مهما بلغت أعلى آواج السطوع والإخصاب؟
نحن لا نحسب أن الإنسانية مقصورة على هذه الروح الواقعية منحصرة في هذه الدائرة العملية الضيقة، وإلا فما هو سر جاذبية تلك الصور التاريخية الساحرة التي فتن جمالها القلوب، وخلب سموها النفوس، والتي قدمت إلى أهل الحياة العملية فريقاً آخر من البشرية ضحوا براحتهم وهدوئهم، بل بحياتهم أحياناً في سبيل الشهامة والمروءة المثاليتين. وهكذا لم أطالع في الصحف نبأ تلك الحفاوة الرائعة المؤثرة التي قام بها جلالة مليكنا المفدى نحو ملك عريق مهاجر من وطنه حتى أحسست بذكريات تنبثق من غياهب التاريخ وتنقذف إلى ذاكرتي، وسرعان ما أحسست بتوثق وجه الشبه بين تلك الأحداث التي طوت العصور ممثليها ولم تقو على محوها من سجل الزمن، وبين ذلك الحادث الكريم الرفيع. ولقد كان في طليعة هذه الذكريات الخالدة حفاوة لويس الرابع عشر ملك فرنسا العظيم بجاك الثاني ملك إنكلترا حين قلب له الدهر ظهر المجن.(675/20)
ومجمل ذلك أنه لم تكد سنة 1688 تشرف على الانتهاء حتى كانت الثورة الإنجليزية الثانية قد بلغت أقصى حدودها وأعلن الثوار - في مقدمة ما عابوه على مليكهم جاك استوارت - أنه كاثوليكي، وأن الأمة بروتستانتية، فلا ينبغي أن يجلس على عرشها من اختلف دينه مع دينها، ثم دعوا للتملك عليهم الأمير الهولاندي جيوم الثالث. وعلى أثر نزول هذه الكارثة بالأسرة المالكة، كان ذلك الملك المنكوب بين عاملين متعارضين: أحدهما يدفعه إلى الالتجاء إلى فرنسا والاحتماء بعاهلها الأعظم والعيش في كنفه المنيع، وهو عامل الصلة الأسرية التي كانت تربطه بالبيت المالك فيها. والعامل الآخر هو ذلك العداء الذي كان مستحكماً بين دولتيهما في ذلك الحين، إذ أن شارل الثاني والد هذا الملك التعس كان قد أعلن الحرب على فرنسا في سنة 1678 أي قبل هذه الصدمة بنحو عشرة أعوام. وأكثر من هذا أن شارل الثاني نفسه كان يحنق على فرنسا حنقاً خاصاً ويحسدها على أسطولها، وأنه سجل هذا الشعور الإنجليزي التقليدي البغيض الذي يجري في نفوس أفراد هذا الشعب جريان الدماء في أوردتهم وصوره في هذه العبارات التالية:
(إن كبرى العقبات التي تعترض سبيل الحلف الفرنسي هي تلك العناية العظمى التي يبذلها الفرنسيون الآن لينشئوا لهم كياناً تجارياً، وليكونوا قوة بحرية تفرض إرادتها، إذ أن كل خطوة تخطوها فرنسا في هذه السبيل، تخلد الحسد بين هاتين الدولتين).
بيد أن ذلك الملك السيئ الحظ بعد أن وازن بين الحالتين رجح الالتجاء إلى فرنسا لثقته بنبل مليكها وكرم خلقه، وسمو طبعه. وفي أواخر ديسمبر سنة 1688 نجحت ملكة إنجلترا وولدها ولي العهد في اجتياز المانش إلى كاليه بفضل تلك المحاولة الجريئة التي قام بها أحد النبلاء الفرنسيين، وهو دوق دي لوزان مدفوعاً إلى ذلك بالشهامة البريئة التي تتغلغل في فطرته النقية من العلل النفعية. ولما كان الملك قد وعدها أن يلحق بها في كاليه فقد انتظرته هناك بعض الوقت، ولكن لويس الرابع عشر لم يلبث أن بعث إليها بموكب فخم يحف بها إلى باريس لتنتظر رفيق حياتها في العاصمة مكرمة معززة. وفي اليوم السادس من يناير سنة 1689 وصلت الملكة وولدها إلى ضواحي باريس، فلم يكن من ملك فرنسا - هو ذلك الملك الأريستوقراطي النزعة - إلا أن انتقل ترافقه حاشيته لاستقبالهما، وعندما لمح المركبة الملكية ترجل واتجه إليها، فعانق ولي العهد في حنان أبوي ثم هرول إلى(675/21)
الملكة، وبعد أن حياها تحية رقيقة مفعمة بالاحترام والإكبار، أصعدها إلى مركبته وأجلسها إلى يمينه كما تقتضي أرقى مراتب الذوق واللياقة. ولما وصلوا إلى العاصمة وضع ذلك الملك الكريم تحت تصرف ضيوفه قصر سان جيرمان، وهو ثاني قصر في الدولة بعد قصر فرساي، ثم بذل كل ما في وسعه لإسعادهما وللحيلولة بينهما وبين الشعور بغيبة أدنى الكمالات. وفي أثناء رحلة الملكة إلى باريس ظفر زوجها بعد عناء شديد بنعمة الوصول إلى الساحل الفرنسي.
وفي اليوم السابع من يناير وصل بدوره إلى ضاحية سان جيرمان حيث كان لويس الرابع عشر في انتظاره. وعندما أعلن قدومه أسرع لاستقباله وتعانقا عناقاً مؤثراً أحس أثناءه ملك إنجلترا بالحقيقة المرة وقدر منزلته الراهنة تجاه أعظم ملوك الدنيا في عصره، فانحنى حتى ركبتي لويس الرابع عشر، ولكن هذا الأخير تأثر كثيراً وأبى أن يعامله إلا معاملة الند للند، وبعد أن تسارّا ملياً اقتاده إلى حيث تقيم قرينته وولده ثم ودعه قائلاً له: (هذا هو منزلك تستقبلني فيه كما أستقبلك في فرساي). ولم يكتف ذلك الملك الجليل بهذه البشاشة الفائقة، وإنما خصص الأيام التي تلت يوم قدوم ضيفه الكبير للاحتفالات بمقدمه والحفاوة بشخصيته، وليس ذلك كل شيء، بل إنه أمر أن يعامل ذلك الملك المخلوع في البلاط الفرنسي معاملة ملك على عرشه. وما أبهى ما تحدثنا به ما دام دي سيفينييه في تعليقها على هذه الحادثة إذ تقول: (إن الملك قد سلك بازاء جلالتي ملكي الإنجليز مسلكاً إلهياً بحتاً، أفليس من أوصاف ذي القدرة والجلال إعانة ملك طريد لفظته بلاده، وغدر به أصدقاؤه وهجره أنصاره؟ لا شك أن نفسية الملك العالية قد راقها أن تقوم بهذا الدور العظيم).
وهكذا بقي جاك الثاني في ضيافة ملك فرنسا عزيزاً محترماً حتى فارق الحياة في سنة 1702.
وأخيراً ألست ترى معنا أن وجه الشبه بين هذين الملكين: فاروق الأول ولويس الرابع عشر قوى متين إلى حد يلفت النظر ويسترعي الانتباه.
محمد غلاب(675/22)
الطاقة الذرية
لم يكن انطلاق الطاقة الذرية بالشكل الذي تبين حديثاً للعالم وليد فكرة
تخيلها العلماء وأخرجوها من حيز الفكر إلى حيز العمل في وقتنا
الحاضر. بل نتيجة لسلاسل طويلة من التفكير الطويل والبحث
المتواصل.
الاستنتاجات والبحوث الأولية:
منذ 2500 سنة مضت، عارض ديمقراطيس وهو أعظم فلاسفة اليونان القول بأن المادة قابلة للتجزئة من غير حد. وقرر وجود الجزء الذي لا يتجزأ، أو الجوهر الذي يقف عنده التجزؤ وتحلل إليه الأجسام. وكان يرى أن الجزء الذي لا يتجزأ (أي الذرات) صغير لا تدركه الحواس. وهو في حركة دائمة وباق لا يدركه الفناء. وقد تطورت تلك الأفكار على يدي ليوراطيس ووضعت في المنظومة المشهورة المسماة (في طبيعة الأشياء).
وقد اعترف الإنسان بداهة منذ أن بدأ في التفكير والتعليل والوصول إلى شرح العمليات الطبيعية في احتمال صحة النظريتين اللتين تنص إحداهما على (الاستمرار) والأخرى على (عدم الاستمرار)، فحبذ ديمقراطيس نظرية عدم الاستمرار، بينما حبذ (أفلاطون) وتلاميذه نظرية الاستمرار، أي النظرية التي تنص على أن الطبيعة مركبة من سائل شامل. أو بتعبير آخر (انشغال الفراغ بالهيولي) وكل من هاتين النظريتين صحيحة من الناحية الفلسفية. على أن هنالك اختلافاً ظاهراً بينهما إذا ما وضعا تحت البحث التجريبي العلمي. ولما كانت العبودية مسلماً بها في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر اعتبرت الفلسفة الفكرية من مكملات الحياة الأرستقراطية، بينما العمل اليدوي مهين لكل من يزاوله. وترى من هذا أن فلاسفة ذلك العصر كانوا يعتبرون العمليات اليدوية، أو بعبارة أخرى البحث التجريبي العلمي أحط طريقة للوصول إلى حقيقة الأشياء. ولما كانت الفلسفة الأفلاطونية معترفاً بها في الفترة الأخيرة قبل ميلاد المسيح وكانت آراؤه وتعاليمه تمثل التفكير السائد في ذلك العصر أخذت نظرية الاستمرار مكانتها وسادت، وكانت هي النظرية المعترف بها لمدة 2000 سنة تقريباً.(675/23)
نشوء العلم الحديث:
وفي أواخر العصر الأوسط نشأت حركة فكرية جديدة بظهور جيل جديد من الفلاسفة الطبيعيين. وربما كان السبب في هذه النهضة ارتقاء منزلة العامل اليدوي مثل البناء والرسام والمهندس والطبيب من ناحية، والتفكير في الفلسفة الرومانية واليونانية على أساس جديد، وذلك بظهور عصر الإصلاح، أو النهضة العلمية من ناحية أخرى. وقد ظهرت النظرية الذرية للمادة من جديد واستخدمها (فرانسيس باكون) كقاعدة لنظريته في الحرارة؛ واستخدمها أيضاً (روبرت بويل) لتفسير ماهية التغيير الكيميائي. وباستخدامها كذلك تمكن نيوتن من الوصول إلى قانون بويل وكان في هذا أول من توصل إلى تعبير رياضي لنظرية طبيعية. غير أن الفخر يرجع (لجون دالتون) الكيميائي الإنجليزي الشهير في وضع تلك النظرية في شكلها الحالي. فكانت هي الحجر الأساسي الذي بني عليه علم الكيمياء الحديث. وكانت تلك النظرية أيضاً بمثابة الهام لكل باحث كيميائي حديث.
ولما قارب القرن التاسع عشر على الانتهاء كانت نظرية دالتون للدقيقة في أنها النهاية القصوى لكل مادة كيميائية دقيقة لا تتغير ولا يمكن نفوذها يتميز بها كل عنصر عن الآخر، نظرية مقبولة اعترف بها كل علماء العالم تقريباً كأساس لطبيعة الأشياء.
المواد الرديومية. أو المواد ذات الفعل الرديومي:
ظهر كشفان خطيران في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر: الأول هو الكشف عن المواد الرديومية في عام 1896، والثاني الكشف عن الإليكترون في عام 1897. لما كان الهدروجين هو أخف العناصر وزناً ظن العلماء أن ذرة الهيدروجين هي أصغر الدقيقات الممكن الحصول عليها، والإلكترون دقيقة وزنها 1 على 2000 من وزن ذرة الهيدروجين. وعلاوة على ذلك يمكن الحصول على الإلكترونات من أي نوع من الذرة. ويمكن القول من هذا أن الذرات لا بد أن تكون ذات تركيب وأنها قادرة على التغيير. وقد أمكن إثبات هذه النتيجة بعد دراسة ماهية المواد الرديومية دراسة شاملة. وقد كان (أندرو بكرل) هو أول من كشف عن المواد الرديومية في عام 1896 إذ لاحظ أن أحد العناصر (اليورانيوم) ينبعث منه إشعاعات دائمة تخترق المادة وتؤثر على الألواح الفوتوغرافية وتنتج في الوقت(675/24)
نفسه على ما يظهر مقداراً من الحرارة لا ينفد. وقد تابع (بيير ومارى كوري) بحوث بكرل وكشفا عن مادة الرديوم. وهي مادة رديومية أقوى بكثير في تأثيرها من اليورانيوم.
وقد ظهر في هذا الوقت عالم نيوزيلاندي اسمه (أرنست رثرفورد) وهو من أعظم علماء هذا العصر شهرة وأعلاهم مكانة. كان رثرفورد يبحث في أشعة إكس والإلكترونات تحت إشراف العالم البريطاني المشهور (السير جوزيف تومسون) في كامبردج. ولما علم رثرفورد بالكشف عن المواد الرديومية وخواصها تاقت نفسه في الحال للبحث فيها وعلى تركيز قواه الفكرية ومعلوماته التجريبية في بيان ماهيتها. وقد عين رثرفورد فيما بعد أستاذاً لعلم الطبيعة بجامعة مونتريال بكندا. وفي بضع سنوات تمكن من وضع الخواص الأساسية للمواد الرديومية. وقد اقترح رثرفورد وزميله (سودي) في عام 1902 أن الأصل في الفعل الرديومي هو (الاستحالة) الذاتية للذرات. وقد بينا أيضاً أن الذرات تستحيل على ما يظهر حسب قوانين المصادفة. وكانت هذه النظرية الخطيرة هي الثالثة من النظريات التي وضعت للكشف عن ماهية المواد الرديومية، ويتبين من هذا أن قوانين المصادفة على ما يظهر هي في الواقع أساس كل العوامل الطبيعية. وهذه نتيجة خطيرة يعد حدوثها مثالاً جديداً من أمثلة الاستحالة.
الطاقة:
جاء الكشف الذي نص على أن في داخل الذرة مقداراً هائلاً من الطاقة في وقت كانت فيه النظريات التي وضعت في تفسير الطاقة قد تطورت تطوراً خطيراً أمكن بها تفسير ماهية الطاقة في العناصر الرديومية. ولم يضع الباحثون قبل القرن التاسع عشر نظرية يمكن بها تفسير طبيعة الطاقة تفسيراً ظاهراً مبنياً على التجارب. ولما تطورت الآلة البخارية تقدم (جيمس وات) بالتعبير السائد وهو (قوة الحصان). وبعد أن بحث العلماء في آلات الحرارة تبين أن هناك تعادلا صحيحاً مضبوطاً بين مقدار الشغل الذي تعمله الآلة ومقدار الطاقة التي توضع فيها. وقد وضع (ماير وجول) في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً برهاناً قاطعاً بينا به أن الطاقة على اختلاف أنواعها سواء كانت ميكانيكية أو كهربائية أو طبيعية أو كيماوية أو حرارية كلها متعادلة يمكن تحويل كل منها إلى الأخرى. ثم أمكن في الوقت نفسه الحصول على تعبير رياضي دقيق لمقدار الطاقة الممكن الحصول عليها من قطعة من(675/25)
الفحم وذلك بوضعها تحت ظروف خاصة. ثم وجد العالم الألماني الطبيعي (ماكس بلانك) في عام 1900 أنه من المستحيل تفسير توزيع الطاقة في الأشعة الملونة المختلفة في الضوء المنبعث من مصدر ساخن مثل الشمس بدون الفرض أولاً بأن الطاقة قد انبعثت في شكل حزم صغيرة ذات حجم محدود. ويظهر من هذا إذن أن الطاقة لا بد أن تبقى في شكل ذري.
وضع (إينشتين) في عام 1905 نظريته المعروفة في (تبادل الانتساب) لشرح الحقيقة الغريبة التي تنص على أن سرعة الضوء ثابتة في المادة بقطع النظر عما إذا كان منبع الضوء متحركاً أو غير متحرك. وتخالف هذه النظرية النظريات القديمة المألوفة للمسافة والزمن مخالفة تامة، بل تؤدي إلى نظرية جديدة تبين فيها المسافة والزمن كعاملين مختلفين لنفس الأساس الواحد. ولما تبع هذا البحث الكشف عن العلاقة العضوية بين المسافة والزمن، بين إينشتين أن هناك علاقات مماثلة بين الخواص الأخرى المميزة للمادة كانت تعتبر حتى هذا الوقت كأنها خواص مميزة ظاهرة لا يرتبط بعضها مع بعض. وقد بين إينشتين أيضاً أن كلاً من الكتلة والطاقة قابلة للتغيير والتبديل، وأنهما خاصتان من أساس واحد. ويمكن الاستدلال من هذا أن المادة هي عبارة عن طاقة متجمعة.
ولم يمض من الوقت غير القليل حتى تنبه العلماء إلى أن هذه النظرية يمكن بها شرح أصل تلك الكميات الهائلة من الطاقة التي تنبعث من الشمس والنجوم شرحاً وافياً كاملاً. فقد أشرقت الشمس من ملايين السنين، وهي مستمرة في الإشراق ولم تنقص طاقتها إلا بكمية ضئيلة جداً.
نشوء علم طبيعة النواة:
كان المعروف إذن في أوائل القرن العشرين أن كل الذرات تحتوي على جوهر مشترك وهو الإلكترون، وأنه يمكن تحويل ذرات العنصر إلى ذرات لعنصر آخر، وأن هذا التحويل يلازمه انطلاق الطاقة.
وقد تابع رثرفورد بحوثه، وتصور في مخيلته فكرة جريئة جداً نصت على استخدام تفكيك الذرات للبحث عن تركيبها، أو بعبارة أخرى البحث في الدقيقات المنبعثة من الذرة للكشف عن ماهية موضوعها أو أصلها في الذرة. وأعقب ذلك أن أجرى سلسلة من التجارب تعد(675/26)
من أمهر التجارب العلمية وأدقها. وضع من نتائجها نظرية النواة للذرة في عام 1911. وقد بين رثرفورد أن ظاهرة التشعيث أو سلوك الدقيقات المندفعة بانفجار الذرات تدل على أن الذرة تتركب من نواة صغيرة جداً تكاد تحتوي على الكتلة الكلية للذرة. ويحوط النواة إلكترونات عدة موزعة حول النواة على أبعاد شاسعة نسبياً، وعلى هذا تعتبر الذرة وكأنها شيء فارغ فسيح جداً، وأن الكتلة الذرية الكلية للذرة تقريباً مركزة في دقيقة في وسطها (أي في النواة) وأن النواة مشحونة بشحنة كهربائية موجبة، وأن هذه الشحنة الموجبة توازن تماماً الشحنة السالبة التي تحملها الدقيقات الأخرى (أي الإلكترونات) الموجودة في الأجزاء الخارجية من الذرة، وقد ظهر أيضاً أن الذرة إذا استحالت نشأ هذا عن تفكك النواة نفسها، وليس نتيجة لفقد بعض الإلكترونات الخارجية الموجودة في الفراغ حول النواة، أي أن المقدار الهائل من الطاقة المنبعث من المواد الرديومية يتأتى من داخل النواة.
التشعيث الصناعي:
ولما كانت المواد الرديومية مثل اليورانيوم والراديوم تتفكك باستمرار بالمصادفة كان من الجائز الفرض إمكان تفكيكها صناعياً، وقد بدأ رثرفورد في تحقيق هذا.
حضر في هذا الوقت من كوبنهاجن أخصائي هولندي في علم الطبيعة حديث السن اسمه (نيل بور) للبحث مع رثرفورد في مدينة منشستر، وقد كان أن وضع بور قبل مقدمه تفسيرات للكثير من الخواص المعروفة للذرات، أساسها أنموذج رثرفورد للذرة والنظرية الكمية للطاقة التي وضعها ماكس بلانك، وقد أمكن باستخدام (النظرية الكمية للذرة) التي وضعها بور تفسير عدد كبير من الحقائق الطبيعية في التحليل الطيفي تفسيراً صحيحاً شاملاً، وكذلك تفسير وجود (جدول مندليف) للعناصر.
استمر رثرفورد إبان سني الحرب (1914 - 1918) في محاولة شطر الذرة وتجزئتها صناعياً، وتوصل إلى أول نتيجة أثبت بها نجاحه قبل انتهاء الحرب، وبعد انتهاء الحرب مباشرة في عام 1919 توصل وهو في كامبردج إلى برهان قطعي في إمكان شطر ذرات الهيدروجين والألومنيوم، وقد توصل إلى ذلك بتصادم تلك الذرات بدقيقات مندفعة من مواد رديومية.
وقد كان من الطبيعي البحث في إمكان استخدام تلك الطريقة في شطر الذرة بطرق(675/27)
ميكانيكية، وقد تحقق هذا بتصميم زميله المهندس الكهربائي (كوك كروفت) لجهاز استخدم فيه ذرات الهيدروجين التي حصل عليها صناعياً في تفريغ كهربائي، والتي زيدت سرعتها زيادة كبيرة باستخدام مجال كهربائي لتحطيم ذرات عنصر متوازن آخر وهو عنصر (الليثيوم). وقد وجد أن ذرات هذا العنصر تتحطم، وأن الطاقة المنبعثة هائلة جداً بالنسبة إلى تفاعل صغير جداً مثل تحطيم نواة واحدة، ولما كانت التفاعلات النووية قليلة في نفس الوقت كانت كمية الطاقة المنبعثة نتيجة للتفاعل صغيرة جداً بالنسبة لمقدار الطاقة الكلي وهناك ثلاثة عوامل ساعدت على الوصول إلى هذه النتيجة وهي: أن الدقيقات المصادمة شحنت بشحنة موجبة التكهرب، أي مثل شحنة النواة المطلوب التصادم معها، وإن الدقيقات ذات الطاقة العالية جداً هي التي تتحمل التنافر الناتج، وإن حجم النواة صغير جداً جداً بالنسبة إلى حجم الذرة؛ وأخيراً إن التفاعل لا يتولد ذاتياً.
النيوترون:
وفي الوقت الذي كان كوك كروفت يجري فيه بحوثه كان زميله (جيمس شادويك) يبحث في الطرق التي يمكن بها شرح النقط الدقيقة المرتبطة بشطر الذرات صناعياً، وذلك باستخدام مواد رديومية طبيعية. ففي الفترة الأولى من عام 1932 عقب بحوث أجراها (بوذ، بيكر، جوليو) بين شادويك وجود دقيقة أخرى. شحنتها الكهربائية متعادلة. لها نفس الكتلة في النواة كذرة الهيدروجين، ولكنها تختلف عن تلك النواة وذلك في أن ليس لها أي شحنة كهربائية. فكان من المنتظر حينئذ أن يكون لتلك الدقيقة الجديدة التي سميت (بالنيوترون) قوة اختراق (أي نفوذ) هائلة. فإذا تصادم النيوترون بذرة ما لا ينجذب نحو الإلكترونات السالبة التكهرب التي تحوط الذرة، كما أنه لا يتنافر مع نواة تلك الذرة الموجبة التكهرب. أو بعبارة أخرى يكون من السهل نسبياً للنيوترون أن يؤثر على الذرة التي يتصادم معها فيحدث تحطيمها. وخلاصة القول أن العلم قد كشف عن طريقة جديدة قوية جداً لتحطيم نواة الذرة، بل كشف عن طريقتين لتحطيم هذه النواة في بحر أسابيع قليلة
البقية في العدد القادم(675/28)
عن النشرة العلمية الإنجليزية(675/29)
كتب قرأتها:
الأدب الشعبي اللبناني
للأستاذ حبيب الزحلاوي
يطيب للنفس في بعض الأحايين أن تنضو ما عليها من أردية مستعارة لتنعم بساعة من وجودها النقي الأول، كما يحلو للذهن أن ينحى عنه شواغله وينفلت من قيوده ليغتبط ببرهة من هدوء تعود به إلى عهد البراءة الخالصة يوم كان خلياً من متاعب الحياة.
ألم نلتفت مرة إلى أنفسنا وقد لقيناها تعود من سبحات لا هي يقظات واعية ولا هي هجعات غافية نجد في غضونها الراحة والهناءة؟
ألم نر رجلاً من ذوي العقول الراجحة والاتزان الصحيح يطمئن إلى صحبة من هو دونه بمراحل استجماماً لذهنه وترفيهاً عن نفسه؟
أليس الأدب الشعبي عوداً على بدء الفطرة للتعبير عن المشاعر والغرائز بلغة البداهة الساذجة؟
لعلي بهذه المقدمة أستطيع أن أغري القارئ بعودة ذهنية إلى خميلة من خمائل الطبيعة الفطرية نكشف بها عن ناحية من جمال أدب شعبي لشاعر لبناني من زحلة يدعى أميل مبارك قصر أغانيه على الضيعة.
للضيعة اللبنانية طابع خاص يختلف عن طوابع القرى في أغلب الأقطار والأمصار، كما أن للريف اللبناني ميزة تميزه من بقية الأرياف، فلا غرو إذا خصه شاعر بأغانيه ووقف على وصفه ديوانه (أغاني الضيعة).
يمتاز الأدب الشعبي اللبناني بخلال طبيعية ومزايا اجتماعية، وأوصاف محلية قل أن تتوافر لأدب شرقي سواه.
يمتاز بالحنين وإثارة الوجدان، لأن أكثر من نصف أهالي لبنان يعيشون في مهاجرهم النائية عن الوطن، ولأن هاتيك المهاجر لم تقو ولن تقوى على أقلمة اللبنانيين ومزجهم بها في الروح والشعور والخلق.
ويمتاز أيضاً بالبقاء لسهولة حفظه وعذوبته في الإنشاد الجماعي، واشتراك المرأة في تذوقه، ولجمعه بين الوجدان والعاطفة ولطابعه الدال على كيانه اللبناني الفريد، وعلى(675/30)
الحرص على إبراز هذا الكيان في المهجر.
ويمتاز أخيراً بالنقاء من شوائب اللهجات والتعبيرات المجاورة للحدود اللبنانية، بمحافظته على المفردات العامية والاصطلاحات التي تتقارب قليلاً، ولا تتباعد كثيراً بين قرية وقرية سواء أكانت في الجنوب أم في الشمال، بصوره المنقولة نقلاً حسياً عن جمال طبيعي من صنع المجهول لجبال وأودية وينابيع وغدران وأشجار وأثمار وأطيار ندر وجود ما يضارعها في فتنتها الساحرة وجمالها الأخاذ في أنحاء هذه الكرة الأرضية، وفي رسم عادات أهل الضيعة، وطبائعهم وسذاجتهم وبساطتهم في حياتهم القريبة من البدائية.
مشتاقْ أرجعْ للضيعة ... مشتاق كتير
إتعمشقلي بشي تينه ... وصيد عصافير
عنت عَ بالي الضيعة ... وياما مشتاق
عبِّي السلة بكوعي ... وحوِّش جرجير
قد يجد غير اللبناني بعض الصعوبة في فهم الكلمات لارتباطها بحروف أو لإدغامها في حروف أخرى، ولكن بيسير من إعمال الفكر تدنو المعاني من الإفهام، لأن الكلمات ليست بدخيلة على اللغة ولا هي ببعيدة عن أصول آدابها.
نحن نرى أن البيت الأول واضح كل الوضوح لكل قارئ أما البيت الثاني فقد استعمل الشاعر كلمة (تعمشق) بمعنى (تسلق) وفي البيت الثالث كلمة (ع بالي) المحذوفة منها بعض الحروف بمعنى (على بالي).
مشتاق ارجع عالضيعه ... شوفْ رفاقي
واسرحْ بمروج الخُضرةُ ... وجو الناقي
واسمع دجاجات ستي ... عمبِتقَاقي
ورافق جدي وبقراتو ... واحّملوا النير
يجب أن نلاحظ أن أكثر أهالي لبنان يلفظون القاف بصحيح مخارجها، بعكس الكثيرين من أهالي مصر والشام يلفظونها همزة، أما أهالي حلب فيلفظونها (آف) مفخمة.
كِنتْ صغير، وصرت كبير ... برمت قطار المسكوني
غني عشت، وعشت فقير ... وشفت كتير بزماني(675/31)
وما عا بالي بيعنّ ... غير البيت الرباني
بهذه الكلمات الموجزة البسيطة يعبر الشاعر عن خلجات صدر كل لبناني كان في الأصل صغيراً يوم ترك قريته في طلب الرزق، ثم صار كبيراً وقد جاب أقطار الأرض، وعاش فقيراً ثم غنياً، ورأى الكثير من دهره، ولم يبق ثمة من شيء يخطر بباله سوى البيت الذي نشأ فيه، ودرج منه، ليعود إليه، ولو يدب إليه دبيباً.
مَحْلا الضيعة والرزقات ... والراعي وصوت العنزات
ومحلا خرير الشلالات ... تحت سلاح السندياني
يا هل ترى بَرْجع بعد ... بَسْكن بيت الرباني؟
محلا الضيعة محلاها ... محلا مناخا وهواها
كيف ما بدِّي أهواها ... يلاّ الهجر كفاني
راجع يا بيتي مشتاق ... بَهْواك وأنت بتهواني
يقام حتى هذه الساعة، أسواق للأدب الشعبي تعقد حلقاتها في الساحات العمومية، يؤمها الناس من الجنسين من كل حدب وصوب يستمعون مباراة الزجالين ويشتركون معهم في الهزيج والإنشاد. وتمتاز هذه الاجتماعات العامة بميزة الارتجال التي لا أحمدها كثيراً لاضطرار مرتجليها إلى الارتكان على الذكاء وحده دون الروية والتبصر. وقد حدثونا عن إحدى هذه الحلقات وقد حضرها الدكتور طه حسين بك فقال الزجال مرتجلاً
وحياتك يا طه حسين ... مِنْي عاوز التِّنْتين
عين الواحدة تكفيني ... خد لك عين وخلي عين
أما الزجال أميل مبارك صاحب ديوان (أغاني الضيعة) فهو نسيج وحده، لا يحتذي سواه من الزجالين، بل ينظم القصيدة في شهر أو في شهور، وما يزال بها نحتاً وصقلاً، تارة في تنحية الكلمات الذاهبة في الأدب مذهب المثل، وتارة في استبعاد الكلمات العامية التي صارت شبه منسية أو هي في حكم المندثرة الحوشية، حتى يبلغ الغاية من الرضى عنها. ويكفيه أن ينشدها مرة واحدة حتى تتلقفها الآذان، وتتداولها ألسنة الناس إنشاداً، وينقلها البريد إلى كل صوب يأوي إليه لبناني في بقاع الأرض
اشتقت لزقزقة العصفور ... ولريحة هوا بلادي(675/32)
بدي أرجع لمّ زهور ... عن حفة نهر الوادي
ربينا سنين وربينا شهور ... بالوادي بين الصخور
ربينا وكان يجي العصفور ... يشاركنا عَ الزوادي
كم لمشاركة العصفور على الزاد من سحر روحي جذاب قد لا يستعذبه سوى أليف الضيعة والمرهف الحس!
لا يشغل الغزل حيزاً واسعاً في ديوان (أغاني الضيعة) المتواضع، فكأن الحنين إلى المكان ألهى ناظمه عن السكان، وكأن حرصه على ذكر الدالية بعناقيدها، والتينة بما على فروعها من أعشاش، والعليق المتشابك عند الغدير، وتشوقه إلى قطف (كبوشه) أي عناقيده المزة الطعم، والصفصافة المنحنية الأغصان، والالتفاتات الكثيرة إلى ما جل ودق في طبيعة أشياء وأشخاص الضيعة من جرود وسهول وجبال إلى البقرة والعنزة والدجاجة، أنساه عنصر الحياة الأول، عنصر المرأة، وهي سر الغريزة الحقيقي، لا نسياناً كلياً، ولكنه توسل به توسلاً عرضياً فجاء وكأنه يستغني بالتلميح عن التصريح.
لما شافتني تنهدت بدون حَكِي ... ورغرغت بالدمع قصدا تشتكي
واحمر ورد خدودها وبكيت خجل ... ومن غصّتي ما قدرت قلها شو بِكي
لنلاحظ أن النظرة هي التي عطلت لغة الكلام، وأن الخجل هو الذي أحنى الرأس، وأن الغصة اشتركت مع النظرة في تعطيل اللسان فخفق القلب.
ضميت واقف وهي كمان وقفت معي ... رحنا ما قلنا رْجاع ولا ارجعي
وتنينا بها الوقت كنا بلا وعي ... عرفنا شو حكيو قلوبنا من التكتكي
فهذه الصورة على ما فيها من بساطة التصوير الرائع لاضطرابات النفس وخلجات الوجدان ونبضات الغرائز تماثل الصورة التالية وهي أكثر إمعاناً في سذاجتها وأدق في براءتها.
قديش كنا نروح ع دْروب الهوا ... وكبوش شِنْا محببي نقطف سوى
وكل ما حكينا ينقِّزنا الهوى ... قديش كنا نخاف لمح خيالنا
قديش كنا نروح نلعب بالحقول ... ونفرفط الزعرور ونفز الجلول
وقديش كان بَيَّك لبييِّ يقول ... بعدو ولدْ لا تضربوا كرما لنا(675/33)
كم من مرة ذهبنا إلى الحقول وتخطينا الحواجز لنفرط الزعرور؟ وكم كان يقول أبوك لأبي دع ولدك إكراماً لي ولا تضربه لأنه لم يدرك بعد.
لناظم ديوان (أغاني الضيعة) ميول بينة إلى تسجيل كل ما يحيط بحياة القرية اللبنانية من ظواهر جوية وتغييرات مردها إلى تبدل فصول السنة وهي جد مضبوطة في ربوعه يعرفها قطانة باليوم الواحد يعدون لها العدة، ويرى طوالع الشتاء في فصل الخريف. . .
تجمعوا النحلات ورجعوا للقفير. . . . . . . . . . . . . . . . . .
والشمس بردوا حبالها، وناص القمر ... والميْ شحت ما بقى لها خرير
بردت أشعة الشمس وقل ضوء القمر، وشحت المياه وقلت، وعاد النحل إلى قفاره لأن البرية تتعرى في الخريف.
ويستقبل الشتاء بابتسامة المتأهب:
محلا الشتا ومحلا البرد ... لو عندك موني تكفاك
وندف الثلج وطق الشرد ... والقعدة حدّ الشباك
ومحلا الهوا بقلب الغاب ... ومحلا الكبوة حد النار
والرعد وطرق المزراب
وهو يتشوق إلى نسيم الصيف من خلال زهور الحقل في فصل الربيع.
رجع عالعش العصفور ... عا لحقلَهْ طار الفرفور
المرجة فرشت أرضا زهور ... تانيّم قمر نيسان
وبتشوف الندى بنيسان ... عا مدَى السهل وطولو
بتحسِّب فوق الريحان ... الدنيا مشتَّابي لولو
على مدى السهل، ترى الندى فوق الريحان في شهر نيسان كأنه اللؤلؤ أمطرته السماء.
يعلم الشاعر مبارك أن عدد القاطنين جبال لبنان اليوم يساوي عدد المهاجرين المتناثرين في أميركا الجنوبية والشمالية وفي المستعمرات البريطانية وسواها، ويعلم أيضاً أن لا سبيل ألبته إلى عودتهم إلى قراهم إلا بالتحبيب والتشويق والتذكير، ولم يتوسل بالموازنة بين مدن يسكنونها وهي عامرة، وبين مساقط رؤوسهم وهي شبه مقفرة، ولا بالمقارنة بين عواصم نزلوا بها وبين مباءات طفولتهم ومعقد ذكرياتهم، بل ابتكر طريقة حوار وسؤال(675/34)
بين لبناني مقيم وبين لبناني مهاجر:
بتسألني شو في عندك ... بالضيعة، تنّك مهم
عندي أحسن ما عندك ... عندي بَسْطٌ وعندك هم
عندي البيت الرباني ... والمعبور ودروب الكرم
عندي قدحة وصوّانة ... والضبوة وتتنات الغرم
عندي البيت الذي ربيت فيه، وعندي الطريق الموصل إلى كروم العنب والتين، وعندي أيضاً عدة التدخين عامرة بالتبغ وقداحة الشرارة.
في عندي القعدة بكِّير ... تحت صنوبر ضيعتنا
وترويقه قُرَّه وجرجير ... بتسوي العيشة وغربتنا
عندي أن الجلوس في الصبح الباكر تحت ظلال الصنوبر وتناول طعام الفطور من الجرجير والقرة وهي من فصيلة الجرجير إلا أنها حريفة يساوي حياة بأكملها نقضيها في الاغتراب.
يا ما عبينا السلة ... تين أسود من تينتنا
يا ما لعبنا عالتلة ... نِحْنا وبنات جارتنا
كم ملأنا السلة من التين، وكم لعبنا على الربوة مع البنات ويعود أيضاً فينطق اللبناني المهاجر فيصور خلجات صدره وأمنيات نفسه ويقول:
بعد بيفتح درب البحر ... ولبنان بشوفلو صوره
تخمين برجع للرزقات ... ويعيش عيشة مستوره
وبرجع بفني فراقيات ... عا عنات الناعورة
ترى يسهل ركوب البحر فأعود أرى لبنان مرة ثانية؟ ترى أعود إلى بيتي وكرمي اكتفي بالعيش الهنيء؟ أتراني أعود أخيراً إلى ضيعتي أسمع صرير الساقية فأتخذ منه لحناً للغناء والتذكر بالأحباب المفارقين وطنهم؟
هيهات!! تلك أمان تختلج في فؤاد المهاجر، ولكن مغالبة الحياة، وزحمة العمل، والتقيد بروابط الزواج والنسل تهدئ حركة تلك الخلجات، وتخفف من اضطراباتها. أما وما برحت أبواب الهجرة مفتوحة للبنانيين، وما دامت المدينة اللبنانية تجذب أبناء الضياع إلى(675/35)
حواضرها لتلفظهم من جديد إلى ميادين رحبة في طلب الرزق، فإن الزجال اللبناني سيجد المعين الغزير الذي يبعث فيه روح الحنين والشوق فينشد القصائد الحية كما أنشدها أميل مبارك في (أغاني الضيعة).
حبيب الزحلاوي(675/36)
8 - الزندقة في عهد المهدي العباسي
أصولها الفارسية
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(بقية الكلام في مذهب زرادشت وكتابه: الثنوية: مرقيون وابن
ديصان)
يروي الراغب الأصفهاني أن (زرادشت شرع زواج الأمهات) كما يروي القلقشندي أن المجوس (يستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين) كما يروي الجاحظ في أخباره في الحمقى أن ابن عوانة الكلبي قال: (استعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم! والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي! فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله! أترونه لو زاده على مائة ألف فعل! فعزله) وقال اليعقوبي عند كلامه في الفرس: إنها (تنكح الأمهات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن وبربهن وتقرب إلى الله فيهن، وينسب عبد القاهر البغدادي إلى المجوس هذه الأنواع وغيرها من الزواج كزواج بنات البنات وبنات البنين وقد ظلت ضروب الزواج هذه شائعة بين المجوس وغيرهم من الطوائف الأخرى حتى بعد فتح المسلمين فارس وظل المسلمون يعيبونهم بها، وينكرونها عليهم، وليس من همنا هنا أن نبين رأينا في هذه الأنواع بل نرجئه إلى الكلام في أثرها عند الزنادقة، وحسبنا أن نبين أن العرب قد عرفوا في جاهليتهم بعض هذه الأنواع وكانوا يستبيحونها ولا ينكرونها حتى جاء الإسلام فأنكرها عليهم وعلى غيرهم وحدد من يحل للإنسان أن يتزوجهن ومن يحرم عليه الزواج منهن.
عرف العرب في الجاهلية زواج الأم كما حكي عنهم المؤرخ اليوناني استرابو، وعرفوا زواج امرأة الأب فقد تزوج الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي امرأة أبيه في الجاهلية، ولم يكن راضياً عنها كما تزوجت باهلة أم القبيلة المعروفة بهذا الاسم زوجها معناً أبا قبيلة باهلة ثم تزوجت بعده ابنه، بل عرف العرب من ضروب الزواج ما يسمى نكاح الضمد وهو - كما جاء في السيرة الحلبية - أن تجتمع جماعة دون العشرة ويتزوجوا(675/37)
امرأة واحدة ولذلك كله أسبابه الاجتماعية مما لا يعنينا هنا الخوض فيه، ويكفي أن نبين أنه من التعنت واللغو النظر إلى أنواع الزواج التي كانت تجري عند المجوس بالعين التي ننظر إليها بها لو أنها وقعت الآن، فقد تحولت أسبابها الاجتماعية، وصرنا الآن ننكرها ونعدها فاحشة ومقتاً، ونرجح أن زرادشت لا يسأل وحده عن هذه الأنواع من الزواج، فهو كما نرجح لم يشرعها، وكل ما عمل أن أقرها فبقيت سارية بين المجوس، وكان لها أثرها عند الزنادقة قبل عهد المهدي العباسي وأثناءه وبعده، فقد زاولها بعض الزنادقة في عهده على ما سنبينه إن شاء الله.
وقال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ما نصه: (ومما أخبر به زرادشت في زندوستا، قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناها الرجل العالم بالدين والعدل، ثم يظهر في زمانه بلياره فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى، وينقاد له الملوك وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن).
ونحن لا نعدم ملامح أشيزريكا هذه في كل المنقذين كما تصورتهم الفرق الفارسية والإسلامية التي آمنت بهم وانتظرتهم، وهذه الملامح تتضح لنا في المهدي الذي آمن به الشيعة العلويون على اختلاف طوائفهم ولا يزال باقياً فيهم حتى الآن وهو ركن من أركان مذهبهم، كما تتضح ملامحه في المهدي الذي اخترعه العباسيون وآمنوا به، ونحن نرجح - وسنبين الأسباب - أن أبا جعفر المنصور إنما سمى ابنه محمداً - المهدي حين رأى الشيعة العلويين ينادون بالمهدي منهم، واخترع أولئك وهؤلاء الأحاديث في المهدي ليشدوا بها أزرهم، كما اخترع الأمويون منقذاً سموه السفياني يعيد إليهم مجدهم وكان ذلك في أول عهد الأمويين حين وقع الخلاف بين أفراد البيت الأموي فنهد لهم شياطين الشيعة فلم يكذبوا بالسفياني بل صدقوا به. غير أنهم نحلوا النبي عليه السلام من الأحاديث ما يدل على أن السفياني بعد ظهوره وذيوع أمره وسلطانه وجوره في الناس سيأتي له المهدي من آل البيت فيقتله ويملأ الأرض عدلاً وأمناً كما ملأها السفياني جوراً وخوفاً فأسندوا بذلك إلى السفياني مهمة بلياره الفارسي وإلى مهديهم مهمة أشيزريكا، وفي ذلك ما فيه من الإشارة إلى قيام(675/38)
الدولة العباسية بعد الأموية، وللزنادقة مهديوهم المنتظرون كلما ساءت الأحوال واحتاج الأمر إلى مخلص، فمنهم ماني ومزدك وأبو مسلم الخراساني والمقنع صاحب الزنادقة المبيضة وعبد القهار صاحب المحمرة في عهد المهدي العباسي، ومنهم بعده بابك الخرمي صاحب الفتنة التي وقفت الخلافة عاجزة عن إطفائها نحو عشرين سنة. . . وقد كان لفكرة المنقذ أثر كبير في الزنادقة، وإن كان هذا الأثر فيما نرجح يرجع أكثر ما يرجع إلى إيحائه في النفوس كلما تعقدت الأمور الاجتماعية واحتاج الحال إلى منقذ. فأثر هذا الإيحاء أكثر من أثر الاطلاع على ما كتب زرادشت وغيره.
قدمنا أن زرادشت خلف مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد تحدثنا بما يهمنا منه فيما سبق بقدر ما يسع المقام، وقد اتضح لنا من بيان ما بينا منه أن زرادشت كان فيلسوفاً ومصلحاً ومشرعاً ولم يكن نبياً ولا متنبئاً ولا صاحب دين كما نفهم من معنى الدين بالرغم من أن مذهبه يحتوي على بعض الشعائر والآراء التي تحسب من الدين، فليس المقصود بتلك الآراء في الكون إلا أن تكون أساساً للآراء الفلسفية والتشريعات الإصلاحية التي هي عماد المذهب وأهم ما فيه، كما أن تلك الشعائر القليلة لم يقصد بها التعبد المحض بل الرياضة النفسية ومثلها في ذلك مثل نظيرتها في الفلسفة البوذية والبرهمية في الهند والكنفشيوسية في الصين، بدليل تفضيل زرادشت العمل في الحياة على الصلاة والصوم والأدعية والقرابين، فعنده أن من يصلح الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أفضل ممن يقرب ألف قربان ومن يصلي عشرة آلاف صلاة وممن يدعو عشرة آلاف دعاء، بل إنه حرم الصوم لأنه يضعف الإنسان.
وأما الكتاب الذي جاء به زرادشت فهو أفستا ويظهر أن هذا الكتاب كان يحتوي على آراء غامضة رفيعة لا قبل للعقول العادية حينذاك بفهمها وقبولها بدليل عجز الكثير منهم عن ذلك مما جعلهم يحيطونه بكثير من الخرافات، وبدليل ما أدى إليه غموضه عند الكثير من اضطرار زرادشت إلى شرحه بكتاب يسمى (زندافستا - ثم إلى شرحه الشرح بكتاب سماه (بازند) ثم إلى شرح علمائهم هذا الشرح بكتاب سموه يازده، وبدليل ثالث هو منع كيستاسب تعليمه العامة، وقد قدمنا الكلام في هذا التحريم وسداد رأى كيستاسب فيه، ولم يكن لزرادشت في هذا الكتاب الأفضل تقييد ما ارتضى هو وحكماء الفرس من آراء بعد(675/39)
الاستطلاع والمشاورة كما قدمنا في بيان مذهبه، ومن أجل ذلك نحن في غنى عن الخلاف الذي أشار الشهرستاني والمسعودى والقلقشندي فيما إذا كان هذا الكتاب من تصنيف زرادشت أم هو وحي نزل عليه من السماء، وقد كان لهذا الكتاب أثره في نشأة الزندقة واشتقاق لفظها نرجئ بيانه إلى موضعه من هذا البحث حيث الكلام في المانوية لأنه بهم أمس ولبيان مذهبهم ألزم، ونشير هنا إلى أن كيستاسب الملك صان هذا الكتاب في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة بعد كتابته بالذهب على جلود البقر ومن أجل ذلك سمي ذلك المكان (دزنبشت) أي حصن الكتاب و (كوه نبشت) أي جبل الكتاب، وهناك بناء فخم على هيئة برج ما يزال إلى اليوم يعرف بكعبة زرادشت في أطلال مدينة اصطخر عاصمة الفرس أيام الدولة الساسانية وهي بالقرب من مدينة برسبوليس عاصمتهم أيام الدولة الكيانية.
سادت الزرادشتية البلاد الفارسية ودان بها الملوك والعامة منذ ظهر زرادشت، فقد بذل كيستاسب جهداً جباراً لحمل الناس عليها وتعرض من أجلها لثورة من أحد عماله وفقد فيها ابنه وكادت تدك ملكه لولا أن أسعفه الحظ بموت غريمه، وقد بذل الملوك بعده جهدهم حتى استأثرت الزرادشتية بفارس وبقيت متسلطة عليها حتى كانت موقعة أربل بين الإسكندر الأكبر ودارا الثالث سنة 331 ق. م وانهزم دارا فضاع استقلال فارس وانهارت الوحدة الفارسية، وعم الاضطراب البلاد طوال حكم ملوك الطوائف الذين حكموا البلاد متفرقين أكثر من خمسة قرون ونصف قرن بدأت عقب هزيمة دارا آخر ملوك الكيانية سنة 331 ٌق. م وانتهت بقيام أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الساسانية سنة 226 موران عليها طول تلك المدة الانحلال العقلي والخلقي والسياسي، وكان لذلك كله أثره في ضعف الزرادشتية، ويقال إن الإسكندر أحرق كثيراً من كتب الفرس العلمية وفيها جزء كبير من كتاب زرادشت وأحرق وهدم كثيراً من الآثار الفارسية المكتوبة على الخشب والمباني ونقل كثيراً منها إلى مصر وبلاد اليونان وكان قد أمر بترجمة بعض ما وجد من كتب فلما ترجمه أحرق أصوله، فلما قام أردشير ابن بابك سنة 226 مووحد البلاد الفارسية وحاول ما استطاع أن يجمع ما تفرق من هذه الذخائر وبعث في طلبها الرسل إلى الهند والصين ومصر وبلاد الروم، وجعلها أساس النهضة العلمية في فارس، كما جمع ما استطاع من(675/40)
كتب الزرادشتية واعتنقها وعمل بها فأرجع لها بعض سلطانها الذي فقدته أثناء ملوك الطوائف.
كان ضياع جزء من كتاب زرادشت إبان الفتح المقدوني مما أوهن الزرادشتية أيام ملوك الطوائف وهيأ لقوم الإتيان بآراء ومذاهب جديدة لم يأت بها زرادشت وحكماؤه، كما هيأ الفرصة لإحياء كثير من الخرافات والعقائد القديمة التي هي أدنى إلى عقول العامة من الصفوة التي اختارتها الزرادشتية، لكن ذلك لم يمحها ويستأصلها، فقد بقيت حية في فارس أثناء حكم ملوك الطوائف على ضعف واستحياء، فلما جاء بنو ساسان أنهضوها وشدوا سلطانها وجعلوها دينهم الرسمي، وظلت قائمة حتى بعد فتح المسلمين فارس، وكانت قد تسللت في الجاهلية إلى البلاد العربية ودانت بها بعض قبائلها النازلة على حدود فارس، وآمن بها بعض الصحابة قبل إسلامهم، وكان يدين بها كثير من الفرس في العصر الإسلامي عن رضا من المسلمين عندما سنوا بهم سنة أهل الكتاب كما بينا في مقال سابق فتركوهم عليها واكتفوا منهم بالجزية، وكان مما أيدها أن فرض المسلمون الجزية على من أسلم ومن بقي على عقيدته على السواء في أكثر سني الحكم الأموي والعباسي، وقد اصطنع المسلمون كثيراً من أهلها في الأعمال التي يجهلها الحكام المسلمون كأعمال الدواوين، بل كان لأهلها ضلع في انتصار العباسيين على الأمويين، ودارت بينهم وبين المسلمين مجادلات في العهدين معاً، وتبادلوا في ذلك كتب الجدل، وكانت لهم أياد على كثير من العلوم المحدثة في الإسلام إلى وقت متأخر، ويقول الأستاذ لينجوبرث (إن القصص التي يستطاع إرجاعها إلى أفستا بقيت معروفة في زرنكة حتى زمن الفردوسي سنة 1000 م) وكان لهذه القصص فضل على الفردوسي إذ كانت بعض مادته تأليف الشاهنامه، وقد انتشرت الزرادشتية حتى فيما وراء بلاد فارس كالصغد وبلاد الترك قديماً فيما وراء النهر في العصر الإسلامي فقد امتدت إلى هذه البلاد في القرن التاسع الميلادي، وكانت في الهند في القرن الرابع عشر الميلادي وأهلها يسمون هناك الإكنواطرية، بل لقد نشرها هؤلاء الهنود وإخوانهم من الفرس فيما حول باكو في القرن الثامن عشر، وهم لا يزالون إلى الآن بالهند ويسمون الفرسيين، وكان أولهم قد هاجروا إليها من فارس عندما فتحها المسلمون ولم يضعف شأن الزرادشتية - إلى ما قدمنا - إلا مرقيون وابن ديصان(675/41)
وماني.
محمد خليفة التونسي(675/42)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
761 - فإن شهدت عليه بالمعصية فاشهد له بالطاعة
الفصول والغايات لأبي العلاء المعري:
اعلم - أيها المسكين - أن الأيام شهود لك وعليك، فإن تمالأت على تزكيتك فأنت السعيد، وإن توافقت على تكفيرك فأنت حامل العبء الثقيل، وإن جرح بعضها شهادة بعض فإن الله كريم. أيها اليوم الحاضر، إن أمس ذهب وأنت أقرب الأيام إليه، وقد حمل عني كتاباً يشتمل على الغفلة والتفريط، فدراكه دراك، إن فاتك فأنا أحد الهالكين. وإن عجزت أن تلحقه فإن الغد أعجز منك. وكيف تدركه وغداتك لا ترى ضحاك، وأصيلك لا يتفق مع الهجير، والله على الممتنعات مقيت. فناد في أثره عليه بإذن الله يسمع دعاء الداعين، فإن أجابك فقل: إن البائس فلانا يسألك أن تلقي الصحيفة من يدك. ولو نطق لحلف لا أستطيع، أنا أمين عالم الدفين، ولو فعلت لرهبت من المعصية كما تخاف، ولكن أنا وأنت عند الله كفرسي رهان، فإذا شهدت عليه بالمعصية فاشهد له بالطاعة.
762 - بعد فهمهم وتأخر معرفتهم
كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري:
قد رأينا الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطاً. فمما خاطب به أهل مكة قوله سبحانه (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب) وقوله تعالى: (إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) وقوله تعالى: (أو ألقى السمع وهو شهيد) في أشباه لهذا كثيرة. وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم.
763 - إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال
كان أبو بكر الباقلاني (العالم المتكلم المشهور) كثير التطويل في المناظرة مشهوراً بذلك(675/43)
عند الجماعة، وجرى يوماً بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا علي، إنه إن أعاد ما قلت لا غير لم أطالبه بالجواب.
فقال الهاروني: اشهدوا علي، إنه إن أعاد كلام نفسه، سلمت له ما قال.
764 - الحياء، الخجل، الوقاحة
(الذريعة) للراغب: الحياء انقباض النفس عن القبائح، وهو من خصائص الإنسان. والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ويحمد في النساء والصبيان، ويذم باتفاق من الرجال. والوقاحة مذمومة بكل إنسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية، وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح، واشتقاقها من حافر وقاح أي صلب، وبهذه المناسبة قال الشاعر:
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافراً للأشهب
765 - اسمه غازي
(وفيات الأعيان):
كان أبو الفتح غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ملكاً مهيباً عالي الهمة حسن التدبير والسياسة.
يحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة، منها أنه جلس يوماً لعرض العسكر وديوان الجيش بين يديه، وكان كلما حضر أحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه حتى حضر واحد فسأله عن اسمه فقبل الأرض، فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعادوا إلى سؤاله فقال الملك: اسمه غازي، وكان كذلك؛ وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقاً لاسم السلطان، وعرف هو مقصودة.
766 - وجه المليح أطل من شباك
قال القاضي محيي الدين بن قرناص:
وحديقة غناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك
والبدر في خلل الغصون كأنه ... وجه المليح أطل من شباك
767 - ليس هذا من سؤال القضاة(675/44)
في (نفح الطيب):
خرج أبو حازم القاضي من داره إلى المسجد يريد الصلاة، وإذا بسكران يمشي في الشارع فقال الناس: سكران سكران!
فوقف القاضي وقال هاتوه فأدنوه منه.
فقال له القاضي: من ربك؟ (يريد امتحانه)
فقال له السكران: ليس هذا من سؤال القضاة (أصلحك الله) إنه من سؤال منكر ونكير.
فغلب القاضي الضحك وقال: خلوا سبيله.
768 - عواد المرضى
عاد رجل مريضاً فقال له ما تشتكي؟ قال: وجع الخاصرة. قال والله كانت علة أبي فمات منها، فعليك بالوصية يا أخي. فدعا المريض ولده وقال يا بني أوصيك بهذا لا تدعه يدخل علي بعد هذه.
عاد رجل مريضاً فلما خرج قال لأهله لا تفعلوا في هذا كما فعلتم في الآخر، مات وما أعلمتموني.
عاد بعضهم مريضاً فلما خرج قال لأهله: أحسن الله عزاءكم! فقالوا إنه لم يمت، قال: قد عرفت، ولكني شيخ كبير لا أستطيع النهوض في كل وقت، وأخاف أن يموت فأعجز عن المجيء لأعزيكم به.
دخل قوم على مريض فأطالوا. ثم قالوا: أوصنا. فقال: أوصيكم ألا تطيلوا الجلوس عند المريض إذا عدتموه.(675/45)
رثاء نسيب عريضة
هكذا حدث. . .!
للدكتور أحمد زكي أبو شادي
(ألقى في الحفلة التذكارية للشاعر الكبير المرحوم نسيب عريضة لمناسبة صدور ديوانه اليتيم (الأرواح الحائرة) ومرور أربعين يوماً على وفاته. وقد أقامت الحفلة لجنة أدباء الجالية السورية (والرابطة القلمية) في نزل تاورز في بروكلن بمدينة نيويورك مساء الأربعاء 15 مايو سنة 1946، وكانت الحفلة برعاية سعادة الدكتور قسطنطين زريق القائم بأعمال المفوضية السورية في واشنطن)
ما كان عمرك موهوباً لإنسان ... ولا لإحساس هذا العالم الفاني
ولا لأرض وأوطان حننت لها ... فالعبقرية لم تخلق لأوطان
والشاعرية لم تُقصَر منازلها ... على الحياة ولو من رسم فنان
بل كان عمرك آيات هتفت بها ... ولم تفسر بإنجيل وقرآن
ولم تكيف بأوصاف ننمقها ... ولم تقدر بمقياس وميزان
ولم تخصص، فحتى أنت كنت بها ... في نشوة بين مشدوه وحيران
ملء الزمان تُناجينا وتُسعدنا ... وتحمل النور ميراثاً لأزمان
وتبعث الوحي فينا وهو ينقلنا ... إلى عوالمَ من حسن وإحسان
تُشنام بالروح أطيافاً وأخيلة ... علوية، وجِناناً دون جنّان
أكُنَّ من صنعك الفتان أم نشأت ... عن معجزات سمت عن خَلق إنسان؟
لعل في مقبل الأجيال عارفها ... إن فات تعريفُها روحي ووجدان!
يا شاعر الهمسات الساميات بنا ... المبدعات لنا قدسيّ ألحان
كأنها صلوات لا حدود لها ... يغني الوجود بها من قلبك الحاني
جم التواضع، جم العلم، يسعده ... أن لا يميز في مدح وشكران
وليس يبخس إلا نفسه أدباً ... كأن أخلاقه أخلاق ديان
وليس يعرف غير الحب منقبة ... ويحسب الزهو من أوزار شيطان
يحنو على الشعب في البلوى ويسعفه ... ويستثير شعور الغافل الواني(675/46)
ويرفض الضيم حتى لو أنى ملك ... به، وكان رسالاتٍ لأديان
يا حامل العبء في إيقاظ أمته ... حملت عبئين بل رزأين في آن
ما بز آثارَك الغراء مبتدع ... ولا بنى فوق ما أعليته باني!
تركتُ مصر وقلبي ذائب حرَقاً ... وجئت أطفئ لوعاتي ونيراني
وكنت جانبت أطياف الربيع بها ... وقلت حسبي بكم جنات (لبنان)
ومذ وفدت رأيت الربع مكتئباً ... كأن أحزانه من لون أحزاني
فلا الجمال قرير في مباهجه ... ولا النسيب على روض وأفنان
كأن (آذار) عاداه وباعده ... وما رأت عينه أفراح (نيسان)
ما للبشاشة قد ماتت بنضرته ... وللأزاهر ما هشت لبستاني؟
وللجداول قد غصت بحسرتنا ... كأنها لم تكن راحاً لريحان
وللنسيم قتيلاً بعد عاصفة ... وللسحائب في رعد وإدجان
وللطيور التي كانت مغردة ... تنقر العشب في يأس وإذعان
وللنواطح لم يشمخن في نظري ... وللروائع قد خيبن حسباني؟
شاهت جميعاً بعيني بعدما حرمت ... لقاء من عشت أهواه ويهواني
جعلت قلبك قرباناً وتقدمة ... للناس، والآن ما حبي وقرباني؟
وما رثائيَ مَن آثاره عَمم ... وكل بيت له كنز لديوان؟
غنيتَ عن كل صيت من عوالمنا ... وعن بكاء وتمجيد وعرفان
وعشت فينا غريباً، فلتعد ألقاً ... لموطن الأصل أو للموطن الثاني
فأنت وحدك تدري الآن ما عجزت ... عنه مواكب أذهان وأذمان
وحسبنا ذكريات منك عاطرة ... وموحيات بأنغام وألوان
وخالدات من الإيمان ناصعة ... تهدي العزاء وتسِمى كل إيمان
من مات موت شهيد لم يمت أبداً ... وقد تبدل أبدان بأبدان
ومن تكن نفسه شعراً وفلسفة ... وبسمة من أغاريد وأوزان
يأبى الإسار وإن وافى مجاملة ... من الشموس، ويأبى العالم الفاني!
(نيويورك)(675/47)
أحمد زكي أبو شادي(675/48)
البريد الأدبي
في العروض والقوافي:
كان هذا الضعيف نبه في مقالاته (في العقد) و (في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) في (الرسالة الغراء) على التشديد في القوافي المشددة ووجوب تركه والاكتفاء بالسكون حتى لا يختل الوزن. وقد وجدت في (المخصص) - ج13 ص184 - وأنا أراجعه هذا الخبر الطريف:
(قال ابن الأعرابي: نزل بعض العرب بامرأة منهم، فأحسنت ضيافته، فقال: ما رأيت أم بيت أحسن ثغراً منك، وراودها على القبل، فزينته، فقال:
تقول أم عامر بالغمز: قِلْ
فإن تَقِل فعندنا ماء وظلْ
وإن أبيت فالطريق معتدلْ
أما الذي سألتنا فلا يحلْ)
فرأيت محقق الكتاب العلامة اللغوي الكبير الشيخ محمد محمود الشنقيطي - رحمه الله - قد ضبط (ظل، يحل) بالتشديد مع السكون كما ضبط مثل ذلك كثير من المتقدمين. وربما حملت مكانة العلامة الشنقيطي محققي الكتب القديمة وناشريها على المضي على الخطأ، والحق هو ما أعلنته في تلك المقالات. ولم أزل منذ دهر طويل أفتش عن نص لإمام من المتقدمين يؤيد انتقادي. فلقيت (الضالة المنشودة) عند أبي العلاء المعري، ولا كلام لعالم من بعد قول الشيخ (الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروض من الخليل) كما روي ابن القارح في رسالته.
قال أبو العلاء في كتابه (عبث الوليد) ص180:
(ومن التي أولها (قالت الشيب بدا قلت أجل) كان على القوافي المشددة مثل (الأقل والأشل) تشديد، وذلك عندهم خطأ لأن التخفيف لازم. وكان بعض أهل العلم يعاب بأنه وجد بخطه قول لبيد:
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
مشدد اللام في (المصل) وحكي ابن عثمان بن جني كان يرى مثل هذه الأشياء أن يكون(675/49)
التشديد من تحت الحرف. والأجود أن يعلم الناظر أن التشديد لا يجوز في مثل هذه المواضع).
محمد إسعاف النشاشيبي
من مزايا الرسالة:
من مزايا الرسالة، وبحمد الله ما أكثر مزاياها، أن حولها نفراً من كرام الكاتبين وحذاق الناقدين، قريبة دارهم، حديدة أبصارهم، لا يدعون غلطة تمر حتى يصححوها؛ فإذا بدت لعين عاجز مثلى غلطة، وبعث تصحيحاً لها، وجدهم سبقوه إلى ذكرها، فيضيع تعبه ويذهب هباء.
ولقد سبقت في هذه الفترة مرات: بعثت أستدرك على أستاذنا النشاشيبي أنه لم يذكر وجه الصواب في تفسير بيتي حسان، فإذا بالأستاذ محمد الطنطاوي (وبارك الله في طنطا بلدنا وبلده) يسبق حفظه الله إلى الاستدراك. وبعثت بالجواب بشأن بيتي عروة فسبقني بلدينا الفاضل السباق إلى الجواب عني (جزاه الله خيراً). وأرسلت كلمة في المحدث فسبقني إلى بيانها الأديب الكبير (القارئ) (السهمي) النشاشيبي (المسلم)؛ وكثرة الأسماء دليل على شرف المسمى. ولكن السهمي لم يصحح تفسير الأستاذ الكبير العقاد لكلمة المحدث؛ فقد ذكر (أن المحدث الذي يسمع كلام الله) مع أن الذي قالوه في المحدث أنه الملهم، أنظر (البخاري 149: 4 ومسلم 7: 145 ومسند أحمد 2: 339) أما ما كتبه أستاذنا بتوقيع (مسلم) بشأن الطلاق، وقوله إن (هذا الذي يرضي النبي محمداً) فإن الكلام في رده طويل، وليس يرضي محمداً ولا رب محمد إلا قول استنبط من محكم الكتاب، أو من صحيح السنة، وجاء الاستنباط فيه من (أصوله) واقترن بدليله.
علي الطنطاوي
(فكرة الشر) واقترانها بسلوك لفنان:
إلى أخي الأستاذ جبريل خزام:
تناولت - بالنقد - بعض ما جاء في مقالي (الأدب والمجتمع) وأود أن ألفت نظرك إلى (فكرة الشر) واقترانها بمظاهر سلوك الفنان في بعض الأحيان، فأقول: إنه لا ينبغي أن(675/50)
نحكم (النظرة المادية) في هذا الموضوع الخطير، فيكون الشخص - بناءً على هذه النظرة - شرّيراً. . . كلما ارتكب فعلا يدل - في ذاته - على قيام فكرة الشر عنده؛ بل يتعين علينا أن نحاول استكناه (النوايا) و (البواعث) الدافعة إلى ارتكاب الفعل، فإذا دل البحث عن سوء نية الفاعل، ألصقنا به تهمة الشر بناء على ذلك. وهذه هي (النظرة الشخصية) التي نبه إليها دعاة المدرسة الإيطالية وعلى رأسهم الفقيه لمبروزو، والذين كان لهم فضل توجيه نظر الباحثين إلى وجوب تقدير العقوبة على أساس من دراسة دوافع السلوك وبواعث الأعمال والعوامل الاجتماعية المحيطة المؤثرة.
والنفس الفنانة كثيراً ما يستحثها توفر الحس فيها وتعدد شعورها بجوانب الحياة المختلفة - علويها وسفليها - إلى التورط في الشر والانكباب عليه. . . ولا يكون هذا السلوك إلا دلالة قاطعة على ما تلاقيه هذه النفس العاثرة الجد - التي تنطوي على الخير المحض - من عسف وإعنات من جانب المجتمع والقائمين على رعايته. وبالتالي يروح الرجل - المتميز بأي ضرب من ضروب الامتياز - يغرق همومه ويعالج إخفاقه في الحياة بالتهالك على المتعات الحسية واستياف اللذات الرخيصة. وما هذا السلوك من جانبه - في واقع الأمر - إلا برهان قوي على قوة الحيوية في نفسه وتعدد طاقاته وعدم ارتضائه الاستكانة إلى الظلم ومذلة الهوان!
ولا أظن أحداً يتشكك في حسن طوية (النّواسيّ) ونقاوة سريرته ورحابة آفاقه؛ وإن فيما أورده المعنيون بالبحث في طبيعة نفسه، ما يستشعر منه تشبث هذا الفنان الممتاز بعاصم الكبرياء وقوة شعوره بذاته.
ولعل فيما أثبته الأستاذ الفاضل عبد الرحمن صدقي عن (بودلير) في كتابه (الشاعر الرجيم) ما يؤكد ما ذهبنا إليه في إمكان رد أغلب سيئات الفنان وحماقاته إلى ظروف الأسرة وقساوة المجتمع!
عبد العزيز الكرداني
تجديد علم المنطق للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
قامت مكتبة الآداب بدرب الجماميز بطبع كتاب تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي(675/51)
على التهذيب في (مطبعة الرسالة) وهي الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وتمتاز على الطبعة الأولى بكثير من الزيادات والتنقيحات.
وقد جاء الكتاب كاسمه تجديداً في شرح الكتب الأزهرية وفي طبعها وترتيبها، وما إلى هذا مما جاء من التجديد والتهذيب فيه، بعد أن مضت عليها أزمان تطبع فيها أقبح طبع، وتظهر في أقبح ترتيب، وتتجافى عما حدث في علومها من تجديد، فتتغير الدنيا ولا تتغير، وينقلب العلم من حال إلى حال وهي باقية على حالها، ويسير إلى الأمام بخطى واسعة وهي واقفة في مكانها، وتقف تبعاً لها عقول الطلاب، وتتأثر بجمودها وسوء ترتيبها وقبح طبعها، لأن عقل الطالب يتأثر بالكتاب في أسلوب بحثه، وفي طريقة ترتيبه، وفي هيئته وشكله.
وقد بدأه مؤلفه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بمقدمة بين فيها ما وصل إليه المنطق عند علماء اليونان، وعند علماء العرب، وعند علماء أوربا، وبين فيها كيف يجري المنطق في اللغة العربية، وقد وضعه علماء اليونان على أساليب اللغة اليونانية، وهذا إشكال قد أثاره الإمام الشافعي رضي الله عنه، وتأثر به رجال الأدب والشعر الذين أنكروا أسلوب المنطق اليوناني، كأبي عبادة البحتري من الشعراء، وكابن الأثير من علماء الأدب، فحل المؤلف هذا الإشكال في مقدمته أحسن حل، وأنصف المنطق اليوناني من الذين أزروا به من رجال الشعر والأدب.
ثم عني الأستاذ بعد هذا بالموازنة بين المنطق القديم والمنطق الحديث، فذكر عقب شرح كل فصل من فصول هذا الكتاب ما وصل إليه المنطق الحديث فيه، ووازن بين المنطقين في كل فصل من هذه الفصول، فأحدث بهذا تجديداً له قيمته في شرح الكتب الأزهرية، وجمع في كتابه بين المنطق القديم والحديث، ليكون الطالب على بينة منهما، وهي طريقة أجدى على الطلاب من قصرهم على دراسة المنطق القديم، أو على دراسة المنطق الحديث، وتكاد الجامعة الأزهرية تمتاز بها على سائر الجامعات.
وما أحوج الكتب الأزهرية كلها إلى مثل هذه الطريقة في الشرح والتجديد، وفي حسن الطبع والترتيب، لتلائم حال هذا العصر، وتجذب إليها نفوس الطلاب، فيقبلوا على دراستها وتتأثر عقولهم بما تجده فيها من التجديد والترتيب، وتتهيأ بهذا إلى تجديد أتم،(675/52)
وتستعد إلى إصلاح أكمل، ومن سار على الدرب وصل.(675/53)
العدد 676 - بتاريخ: 17 - 06 - 1946(/)
من مخلفات الحرب هذا الطبلاوي أفندي
تخلص الإنجليز والأمريكيون من أوزار الحرب التي انقطع منها النفع، فباعوا كل ما تركت من شيء حتى القنابل المحشوة! وأقصوا كل ما خلفت من شخص حتى تشرشل الجبار! ونحن في مصر لا نزال نعاني من مخلفات الحرب وجرائرها ما يرمض الجوانح ويقض المضاجع.
لا أريد بمخلفات الحرب هؤلاء الجنود الغرباء الذين يملئون الدور
ويزحمون الشوارع، ولا هذه الضرائب الاستثنائية التي تقصم الظهور
وتقوض المصانع، إنما أريد بها أثرياء الحرب الذين يُفحِشون أسعار
الخبز واللحم والفاكهة على الفقراء في العواصم، ويرفعون أجور
القصور و (العشش) و (الكابينات) على الأغنياء في المصايف،
ويخفضون مستوى الخير والحق والجمال والذوق والفضيلة في جميع
الأماكن؟ أكثر هؤلاء طغام رُبوا في أحجار الفاقة، ودرجوا في أكواخ
البؤس، وأعوزتهم التربية الدينية التي تجمل الفقر بالزهد، والثقافة
المدنية التي تلطف الشقاء بالأمل، فشبوا على غرائزهم الأصلية،
يحتالون عند العجز احتيال الذئاب، ويفترسون عند القدرة افتراس
الأسود، وهم بين أحوال العجز والقدرة يكابدون آلام الشوق الملح
المحرق إلى المال في يد الغني وفي بيوت التجار، وإلى اللحم في جسد
المرأة وفي حانوت الجزار، ويحاولون ما استطاعوا أن يطفئوا هذا
السُّعار القاتل بالسرقة والقمار والتدليس والاحتيال والغش، فلم يزدهم
هذا الري إلا ظمأ، ولا هذه المتعة إلا حسرة!
فلما أوقد المستعمرون نيران الحرب لا خيرة في بقاع الدنيا فأكلت شباب الأمم، وأهلكت ثمار الأرض، ونقصت نتاج الناس، قُيدت المعاملات، وحددت الأرزاق، فوجد هؤلاء(676/1)
الشرهون الجياع أن الانطلاق من هذه القيود إلى الحرام المشتهى والثراء المرجو، أسهل على نفوسهم من تكلف العفاف وإضاعة الفرصة، فاحتكروا السلع، واغلوا الأسعار، وطففوا الكيل، واخسروا الميزان، وأقاموا في ظلمات الطرق وفي كهوف الأرض سوقاً سوداء يستغلون فيها عُرى الفقير وجوعه ليسلبوه ما تجمع في يديه من ثمن عرقه ودمعه. وظلت الحرب بضروراتها وشواذها تركم على أجسادهم اللحم والشحم، وتكدس في خزائنهم الأوراق والأرزاق، حتى أصبحوا في المجتمع المصري طبقة متميزة لها طابعها الخاص، وسمته الفرد، وهندامها العجيب، وحياتها التي أصبحت للتصوير الهازل والصحافة الفكاهة مدداً لا ينقطع ومنبعاً لا ينضب!
أسخطني على هذه الطبقة الجديدة قصة سمعتها عن أحد أعيانها البارزين سأقصها عليك. وليست هذه القصة أول القصص ولا آخرها، فإن أغنياء الحرب ينفجرون كل يوم من فرط السمن والانتفاخ، فيكون هم من الشظايا والضحايا ما لهذه القنابل التي لا نزال نسمع انفجارها في الطرق أو في الملاهي!
أستزارني يوم الأحد الماضي صديقي الأستاذ (ج) في دارته الجميلة بالدقي، فزرته في وقت الشاي، وكانت الشرفة التي اختارها لجلوسنا تنظر إلى دارةٍ تقابل دارته، إلا أنها أوسع وأرفع وأفخم، ولكن أنماط الناس الذين يدخلونها أو يخرجون منها أو يحفون بها لا تأتلف مع جمالها ولا ترتفع إلى مستواها. دع هذا الصياح الذي يتفجر فيها، والزياط الذي ينبعث منه، فربما كان أصحاب الدارة غائبين والخدم ينفسون عن حريتهم المكظومة بهذا الهرج. فسألت صديقي من باب الكلام الذي يقصد به تحريك اللسان قطعا للصمت أو فتحا للحديث:
لمن هذه الدارة الفخمة؟
فابتسم صديقي وقال وهو يشير إلى امرأة تجلس وحدها على مقعد من مقاعد حديقته:
لهذه المرأة!
ونظرت إلى المرأة التي أشار إليها فوجدت جسما كالخيال دقيق الشبح معروق العظم تستره ملاءة لف من الطراز الذي كانت تلبسه الخادمات قبل أن يصبحن (أرتستات) حرب! فقلت لصديقي وأنا أبتسم كما يبتسم: ماذا تعني؟ فقال: إنما عنيت ما قلت، وهو أن تلك الدارة(676/2)
لهذه المرأة، وهي مع ذلك لا تجد اللباس ولا تملك القوت، ولا يمر أسبوع دون أن تزورني مرة أو مرتين لألتمس لها من جانب هذا الثراء الضخم فضلة من الرزق تمسك الرمق وتديم العفة، ولكن!!
فقلت له والتعجب يترقرق في عيني ووجهي: لم أفهم ما تريد فماذا تعني؟
قال بلهجة الجد: أعني أن هذه المرأة زوجة صاحب الدارة، وهو فلان الغني الذي يسميه الناس (الطبلاوي أفندي) لأن بطنه المنتفخ المتسع المستدير يجعله أشبه بضارب الطبل العظيم حين يحمله على صدره. كان هذا الرجل فقيرا غير شريف، ووضيعا غير متواضع، تزوج وهو في تلك الحال من هذه المسكينة فولدت له خمس بنات وثلاثة بنين أكبرهم كما تقول لا يبلغ الرابعة عشرة، وكانت تعيش معه هي وأولادها على الكفاف، تساعده في حدود ما تستطيع بالعمل والتدبير والتقتير والقناعة، وتحتمل سرفه ونزقه بالصبر والإغضاء والنصيحة، حتى أدركته (نعمة) الحرب في سنتها الثالثة، فوصلت حباله بحبال المتعهدين لجيوش الحلفاء بالمواد الغذائية فشاركهم في الجمع والتوريد، وانفرد عنهم بالمصانعة والمهاواة، حتى استطاع بجرأته بعد قليل أن يدخل على رؤساء العمل الإنجليز من الباب الخلفي، فعاملهم بالغش وشاركهم في الربح، واستعان بهم على إخراج المحظور من السكر والرز، وإدخال الممنوع من الحشيش والأفيون؛ فتساقطت على رأسه وقفاه رزم البنك نوت تساقط البرد الغليظ، حتى اجتمع له في نهاية الحرب ربع مليون جنيه!
ومنذ رحل جيوش الحلفاء خلع الطبلاوي رداء العمل، وحشر نفسه في صفوف المترفين والعلية، فألفف جسمه بالحرير، وختم أصابعه بالماس، وعدد الألوان الفاقعة في بذلته وحذائه؛ ثم خلا جسمه المنهوم يضخم ويسترخي وينبعج جانباه، وترك شاربه الخشن يغلظ وينتفش ويطول سبالاه؛ ثم اقتنى الضياع والعقار، واشترى الرلزرايز والباكار. وكان يطلب الأغلى من كل صنف، والأعلى من كل شئ. ولا شك في انه هو الذي تحدث الظرفاء عنه بأنه استشار الطبيب فأشار عليه بفيتامين بيه فقال له: ولم لا تشير بفيتامين باشا؟ وانه طلب إلى رسام أن يرسمه فسأله: أتريد الصورة بالزيت؟ فقال له: كلا، بل أريدها بالسمن. وأن طبيب الأسنان أراد أن يصنع لأحد أضراسه المنخورة غلافا من الذهب، فطلب إليه أن يصنعه من الماس! ثم سكن هذه الدارة وألقى زمامه في يد الغاوين(676/3)
من رواد اللهو وسماسرة الفجور، فجعلوا له في كل غرفة ماخوراً، ومن كل ردهة مرقصاً، ومن كل بهو حانة.
وأعجب ما في الأمر كله أن صورة بيته القديم كصورة ماضيه العظيم قد انمحت من ذاكرته، فلم يعد يذكر عنوان بيته ولا سكانه ولا جيرانه، كأنه لم يستقبل الحياة ولم يبصر الدنيا الأسنة 1945! وها هي ذي امرأته على الحال التي ترى، تأتي كلما دفعتها الحاجة لتتوسل بي وبغيري إلى هذا الوغد ليرمي إليها من وراء السور من فضلات الغواني وفتات الموائد ما يمسك الحياة عليها وعلى أولادها، وإن لم ينقص فلن يزيد.
فهل كنت تظن قبل هذا الحديث أن في خلق الله أمثال هذا الرجل؟ فقلت له: والله يا صديقي لو كان المحدث غيرك لاتهمته بالتزويق والتزوير، ولما صدقت أن يكون في بني الإنسان هذا الخنزير!
أحمد حسن الزيات(676/4)
في النحو:
لا غير أبو العلاء المعري
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
يقول الشيخ أبو العلاء المعري في كتابه (عبث الوليد) في هذا البيت لأبي عبادة البحتري:
(أنابّ به بسطامه ومحمد=قمام علا يعيي الملوك حلولها
كان في النسخة: (أناب به) وهي كلمة نافرة في هذا الموضع ولو أنها (أثاب) لكانت أشبه. وفي النسخة (القمام) مرفوعة وإنما يجوز ذلك إذا جعلت بدلا من (بسطام ومحمد) والمعنى يصح على ذلك إلا أنه بعيد. والأحسن أن يكون (أبنَّ) في موضع (أناب) أي أقام ولزم. (قمام علا) ينصب بوقوع الابنان عليها وقد أساء في قوله: (قمام) لأن المعرفة قمم إلا إن زيادة الألف هاهنا جائزة تشبه بقلال وقباب. وفي بعض النسخ (أناف) وهو أشبه بمذهبه، وينصب حينئذ قمام لا غير)
فيكتب الأستاذ الأديب محمد عبد الله المدني المعلق على الكتاب هذه التعليقة على (لا غير) في قول الشيخ (ص190): (غير أسم ملازم للإضافة في المعنى ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقديم عليها كلمة ليس وقولها لا غير لحن: المغني لابن هشام. اهـ).
وهذا قول الأمام جمال الدين بن هشام في (غير) أرويه بتمامه - وإن طال - إذ قد يميل قارئ إلى الوقوف عليه:
(غير: اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يقطع عنها لفظا أن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة ليس، وقولهم: (لا غير) لحن. ويقال: قبضت عشرة ليس غيرها برفع غير على حذف الخبر أي مقبوضا، وبنصبها على إضمار الاسم أي ليس المقبوض غيرها.
وليس غير، بالفتح من غير تنوين على إضمار الاسم أيضا، وحذف المضاف إليه لفظاً، ونية ثبوته كقراءة بعضهم: (الله الأمر من قبل ومن بعد) بالكسر من غير تنوين أي من قبل الغالب ومن بعده.
وليس غير، بالضم من غير تنوين، فقال المبرد والمتأخرين إنها ضمة بناء لا إعراب وان غير شبهت بالغايات كقبل وبعد، فعلى هذا يحتمل أن يكون اسماً وأن يكون خبرا. وقال الأخفش ضمة إعراب لا بناء لأنه ليس باسم زمان كقبل وبعد ولا مكان كفوق وتحت،(676/5)
وإنما هو بمنزلة كل وبعض، وعلى هذا فهو الاسم، وحذف الخبر، وقال ابن خروف: يحتمل الوجهين.
وليس غيرا بالفتح والتنوين، وليس غير بالضم والتنوين، وعليهما فالحركة إعرابية لأن التنوين إما للتمكين فلا يلحق إلا المعربات وإما للتعويض فكأن المضاف إليه مذكور، ولا تتعرف غير بالإضافة لشدة إبهامها).
فعند الأستاذ المدني - وتلكم تعليقه - أن الشيخ قد لحن، وسنده هو ابن هشام. وقد فتشت طويلا عن اللحن في عبارة المعري فلم أجده، ولن أجدها أبداً. وإن خيل أنه قد جاء من إعمال (لا) عمل (ليس) فالملحن نفسه يسطر في (المغني) هذه الأسطر:
(الثاني - من أوجه لا - أن تكون عاملة عمل ليس كقوله:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
وإنما لم يقدروها مهملة والرفع بالابتداء لأنها حينئذ واجبة التكرار، وفيه نظر لجواز تركه في الشعر، و (لا) هذه تخالف ليس من ثلاث جهات (آدها) أن عملها قليل حتى ادعي أنه ليس بموجود. (الثانية) أن ذكر خبرها قليل حتى أن الزجاج لم يظفر به، فادعى أنها تعمل في الاسم خاصة وأن خبرها مرفوع، ويرده قولة:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر مما قضى الله واقيا
وأما قوله:
نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصنا بالكماة حصينا
فلا دليل فيه كما توهم بعضهم لاحتمال أن يكون الخبر محذوفا وغير استثناء. الثالثة أنها لا تعمل إلا في النكرات خلافا لابن جني وابن الشجري، وعلى ظاهر قولهما جاء قول النابغة:
وحلت سواد القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا عن حبها متراخيا
وعليه بني المتنبي قوله:
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا)
فهذه (لا) تعمل - أذن - عمل (ليس) - ودع قولهم إن عملها قليل فالقلة لا تمنع العمل. وما عدها أحد خطأ أو لحنا - وقد زاد العرب الباء في خبر أختها أو قريبتها فقال قائلهم:(676/6)
فكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ... بمغني فتيلا عن سواد بن قارب
و (لا وليس) تتناوبان، قال اللسان:
(قد تجيء ليس بمعنى لا ولا بمعنى ليس، ومن ذلك قول لبيد: (إنما يجزي الفتى ليس الجمل) أراد لا الجمل. وسئل سيدنا رسول الله عن العزل عن النساء فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا فإنما هو القدر، معناه ليس عليكم الإمساك عنه من جهة التحريم وإنما هو القدر، أن قدر الله أن يكون ولد كان)
وهل (ليس) أصلها - كما قالوا - إلا (لا) ضمت أليها (أيس) ثم كان ما أراده الله تعالى وعمله الانتخاب الطبيعي في اللغة عمله في كل شئ، وهل أنت - يا فتى - من قبل أنت، هل دريت كيف كنت؟ قال التاج:
(أصلها - يعني ليس - (لا أيس) طرحت الهمزة ولزقت اللام بالياء، وهو قول الخليل والفراء، قال الأخير: والدليل على ذلك قولهم أي العرب: ائتني به من حيث أيس وليس، أي من حيث هو ولا هو، وكذلك قولهم جئ به من أيس وليس أو معناه من حيث لا وجد، أو أيس أي موجود ولا أيس أي لا موجود فخففوا. . .)
وقد استعمل الشيخ (لا غير) في كتابه العجيب العبقري (الفصول والغايات) وفي كتابه المدهش (رسالة الملائكة) كما استعملها في (العبث) فقال في شرح جملة في الأول ص 339:
(والعرف الرائحة الطيبة وغيرها، والريا الرائحة الطيبة لا غير).
وقال في الثاني ص 70:
(. . . ومعيشة عند (سعيد بن مسعدة) مفعُلة لا غير، وهي عند الخليل وسيبويه مفعِلة ولا يمتنع أن تكون مفعلة).
واستعمل (لا غير) أئمة قبل المعري وبعده. وهذه جريدة قصيرة في استعمالهم إياها:
الكتاب لسيبويه (ج 2 ص 317):
(ويكون الاسم على أنفعل في الوصف لا غير).
تهذيب إصلاح المنطق (ج 1 ص 181)، والتهذيب لابن السكيت والإصلاح للتبريزي:
(بفية الإثلِب والأثلَب أي الحجارة والتراب، قال أبو يوسف: أشك في الإثلب والأثلب(676/7)
وأحسبه أفعل وأفعل. الحوفي هي أفعل لا غير، لأن الهمزة إذا كانت أولا يقضي عليها بالزيادة إلا أن يقوم دليل بأنها من الأصل).
الفصيح لأبي العباس ثعلب (ص 31):
(جلا القوم عن منازلهم جلاء وأجلوا أيضاً، وأجلوا عن قتيل لا غير إجلاء).
وفيه في (ص 81):
(ولد المولود لِتمام وتَمام، وليل التمام مكسور لا غير). الكامل للمبرد (ج 6 ص 54 رغبة الأمل من كتاب الكامل):
(قال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه:
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سِمعان قسطاس الموازين
من لم يكن همه عينا يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين
أقول لما أتاني ثم مهلكه ... لا يبعدنّ قوام الملك والدين
يقال هذا الأمر وملاكه لا غير، وتقول فلان حسن القوام مفتوح تريد بذلك الشطاط، لا يكون إلا ذاك).
الفائق للزمخشري (ج1 ص 126):
(النبي صلى الله عليه وسلم قال حري: رأيته دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفها على كتفيه: هي التي على لون ما أحرقته النار كأنها منسوبة بزيادة آلاف والنون إلى الحرق، يقال: الحرَق بالنار والحرق معا والحرق من الدق محرك لا غير). المخصص لابن سيده (ج 3 ص 50): (وقالوا: جزاك الله خيرا والرحم بالنصب والرفع، وجزاه الله شرا والقطيعة بالنصب لا غير).
شرح المفضليات لأبي محمد ألا نباري (ص 565):
(أنكرته حين توسمته ... والحرب غول ذات أوجاع
قال عامر: أنكرته شككت فيه، يقال: أنكرت الرجل إذا كنت من معرفته في شك ونكرته إذا لم تعرفه، قال الله عز وجل: نكرهم وأوجس منهم خيفة. قال أبو عبيدة يقال أنكرته ونكرته بمعنى واحد وكذلك استنكرته، وأنشد بيت الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... مني الحوادث إلا الشيب والصلعا(676/8)
أي إنما أنكرت شيبي وصلعي لا غير، فأما كرمي وطبيعتي فلم أتغير عنهما). لسان العرب لابن منظور (ج 4 ص 346):
(قال الجوهري: وأما قولهم: قدك بمعنى حسبك فهو اسم تقول: قدي وقدني أيضا بالنون على غير قياس لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال وقاية لها مثل ضربني وشتمني. قال ابن بري: وهم الجوهري في قوله: إن النون في قدني زيدت على غير قياس وجعل نون الوقاية مخصوصة بالفعل لا غير. وليس كذلك، وإنما تزاد وقاية لحركة أو سكون في فعل أو حرف كقولك في من وعن إذا أضفتهما إلى نفسك مني وعني فزدت نون الوقاية لتبقى نون من وعن على سكونها، وكذلك في قد وقط تقول قدني وقطني فتزيد نون الوقاية لتبقى الدال والطاء على سكونهما. وكذلك زادوها في ليت فقالوا: ليتني لتبقى حركة التاء على حالها، وكذلك قالوا في ضرب ضربني لتبقى حركة الباء على فتحها. وكذلك قالوا في اضرب اضربني أيضا أدخلوا نون الوقاية عليه لتبقى الباء على سكونها).
وفيه في ج 6 ص 279:
(العَمر والعُمْر والعُمُر: الحياة، يقال: قد طال عمره وعمره، لغتان فصيحتان، فإذا أقسموا فقالوا: لعمرك فتحوا لا غير، والجمع أعمار، وسمي الرجل عمرا تفاؤلا أن يبقى). فهل يرى السيد عبد الله المدني أن شيخنا أبا العلاء وهؤلاء الأئمة المتقدمين كلهم أجمعين كانوا من اللاحنين؟. . .
محمد إسعاف النشاشيبي(676/9)
مجانين. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(تعليق على ما كتبه الصديق النبيل الأستاذ كامل الكيلاني في
العدد 671 من الرسالة عن (نيوتن والوزير العباسي) مع
تحياتي وأشواقي إليه. . .)
(علي)
إذا رأيتم رجلا يمشي في الطريق منفوش الشعر، شارد النظر، قد لبس معطفه على القفا، ومشى على غير هدى. . . قلتم إنه (مجنون). . . وقد يكون (مجنوناً)، ولكنه قد يكون فيلسوفاً. . . أو شاعراً. . . أو رياضياً. . .!
وإذا سمعتم أن رجلا لا يفرق بين السراويل والقميص، ولا بين الجمعة والخميس، قلتم إنه (مجنون). . . ولكن (أناتول فرانس)، والعهدة على الراوي (جان جاك بروستون) دعي إلى وليمة يوم الأحد، فذهب يوم السبت ولبث ينتظر متعجباً من تأخر الغداء، ولبثتْ ربَّة الدار تنظر متعجبة من هذه الزيارة المفاجئة، ثم لم يرض أن يصدق أنه يوم السبت. . . فهل كان (أناتول) نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر مجنوناً؟!
وإذا شاهدتم رجلا يعتزل في كوخ، أو ينفرد في غار، لا يقبل على الدنيا، ولا يكلم الناس قلتم إنه (مجنون)، ولكن (الغزالي) عاف الدنيا وقد اجتمعت له، والمجد وقد أقبل عليه، والرياسة وقد أتته منقادة تسعى إليه، وحبس نفسه في أصل منارة الجامع الأموي في دمشق، فهل كان (الغزالي) حجة الإسلام وعلم الأعلام مجنوناً؟!
وإذا بلغكم أن إنساناً نسي اسمه قلتم إنه (مجنون)، ولكن (الجاحظ) نسي كنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلقياها، فقال له: أنت أبو عثمان؟ فهل كان (الجاحظ) عبقري الأدب، ولسان العرب مجنوناً؟.
ونيوتن. . . وقد كانت في داره قطة، كلما أغلق عليه بابه، وقعد إلى كتبه ومباحثه، أقبلت تُخَرمش الباب وتخشخش بأظفارها فتشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها، فلما طال عليه الأمر كدَّ ذهنه، وأطال بحثه، فاهتدى إلى المَخْلَص. . . ففتح في أسفل الباب فتحة تمر(676/10)
منها فاستراح بذلك من شرها. . . ثم ولد لها ثلاث قُطيْطات ففتح لكل واحدة منها فتحة. . . لم يستطع هذا العقل الكبير الذي وسع قانون الجاذبية أن يتسع لحقيقة صغيرة: هي أن الفتحة الواحدة تكفي القطة الأم وأولادها!
وأمبير. . . وقد كانت تعرض له مساءل في الطريق، فلا يجد قلماً لها وورقاً، فحمل معه حواَّراً، فكلما عرضت له مسألة، ورأى جداراً أسود، وقف فخط عيه، فرأى مرة عربة سوداء واقفة، فجعل يكتب عليها أرقامه ورموزه، واستغرق فيها، حتى سارت العربة، فجعل يعدو خلفها وحَوَاره بيده، وهو لا يدري ما يصنع!
وهنري بوانكاريه. . . وقد دعا قوماً إلى وليمة في داره، وضرب لها الساعة السابعة موعداً، فلما حل الموعد وجاء القوم، كان مشغولا. . . فدعوه فلم يسمع، وألحوا عليه فلم ينتبه، وكانوا يعرفون شذوذه، فأكلوا وانصرفوا. . . وقام بعد ساعتين فأمَّ غرفة المائدة، فرأى الصحون الفارغة والملاعق المستعملة وبقايا الطعام، فجعل يفكر: هل أكل أم هو لم يأكل؟ ثم غلب على ظنه أنه أكل فعاد إلى عمله!
وأمر الله أفندي. . العالم التركي المشهور صاحب المَعْلَمة التركية، وقد كان يركب البحر كل يوم ما بين داره في (اسكدار) وعمله في (اسطامبول)، فركب يوماً وكان إلى جنبه موظف كبير في السفارة البريطانية، وكان في جيبه فستق حلبي، وكان (أمر الله أفندي) مشغول الفكر، فجال بيده وهو لا يشعر، فسقطت في جيب البريطاني ووقعت على الفستق فأخرج منه فأكل، وظن الرجل أنه مزاح، فسكت، ولكن الشيخ عاد وأوغل في الأكل حتى كاد يستنفد الفستق كله، وكان الفُلْك مزدحماً ما فيه مفر للبريطاني من هذه الورطة، فأحب أن يتلطف بالشيخ حتى يكف، فسأله: كيف وجدت الفستق؟ قال: (عال!) وعاد إلى تفكيره وأكله؛ فقال له: ولكن ليس في جوار الدار مثله اشتريته للأولاد، وإذا دخلت عليهم من غير فستق بكوا. . . قال الشيخ: (عجيب)! وعاد إلى الأكل والتفكير، فقال له: أفلا تتكرم بإبقاء شيء لهم؟ قال: (بلى، بكل امتنان)، وأخرج طائفة من الفستق فدفعها إلى الإنكليزي وأكل الباقي!
وقد وُلِّي وزارة المعارف وأعطي سيارة، فكان كلما بلغت به السيارة المنزل، وفتح له السائق الباب، أخرج كيسه وسأله كم تريد؟ فيقول له: يا سيدي هذه السيارة لمعاليك، فيتذكر(676/11)
ويقول طيب!
وقد سألته امرأة مرة، وكان يمشي أمام داره: أين دار وزير المعارف يا سيدي؟ فقال لها: ومن هو وزير المعارف الآن؟ وصديقنا اللغوي العراقي عبد المسيح وزير. . . وقد دخل مرة غرفة غير غرفته في وزارة الدفاع، وكان (طاب ذكره) من كبار موظفيها، فرأى أثاثها على خلاف ما كان يعهد، فغضب ودعا الفّراش، وقال له: حوّل هذه المنضدة، انقل هذا الهاتف، اعمل كذا، افعل ذاك. . . فلما استوت له ما يريد، نظر فقال: أهذه غرفتي؟! قال: لا يا سيدي، فانتقل إلى غرفته!
وكنا نزوره أنا وأنور، فدعا لنا مرة بشاي وتدفق بالحديث، وهو يشرب كأسه، فلما فرغت، وضعها وتناول كأس الأستاذ العطار فشربها، ثم ثلث بكأسي، فلما جاء الفراش يأخذ الكؤوس، قال سألتكم بالله، هل تريدون كأساً أخرى؟!
وشيخ الشام ومربي الجيل طاهر الجزائري، وقد حدثني الشيخ قاسم القاسمي أنهم احتالوا عليه حتى اشتروا له جبة جديدة وألبسوه إياها، وذهبوا به إلى دمّر فجلسوا حول البركة العظيمة في منزل الأمير عمر، وكان في المجلس الشيخ عبد الرزاق البيطار، وأشيخ جمال الدين القاسمي، وجلة العلماء، فما كان من الشيخ طاهر إلا أن قام فنزع اجبة، وجعل يغمسها في البركة، ثم يدلكها بالتراب، ثم يغمسها، ثم علقها على غصن حتى جفت وتكرّشت فلبسها وقال: الآن استرحت، إن الجبة الجديدة تشغل فكر صاحبها، أما العتيقة فإنه لا يبالي بها فينصرف إلى تفكيره. . .
وصديقنا الكبير سامي بك العظم مفتش العدلية العام، وقد حدثني من فمه أنه دعا (فلاناً) وكان رئيساً للوزراء إلى الغداء في داره في أقصى المهاجرين، فلما كان اليوم الموعود جاء الرئيس بسيارته إلى باب المنزل، فنزل منها وصرف السائق لئلا يطول عليه الانتظار، واجتاز الحديقة الممتدة، وصعد الدرج العالي، وقرع الباب، فلم يرد - أحد عليه، فعاد إلى البلد ماشياً في شمس الهاجرة من آب. أما سامي بك، فقد نسي الموعد، ولم يكن في الدار أحد، لأن أسرته في القاهرة، فذهب فتغدى في المطعم!
وصديقنا الأديب العالم الراوية عز الدين التنوخي، وقد دعا للبحث في إعداد مهرجان المتنبي من سنين جمهرة من أدباء البلد إلى المجمع العلمي يوم كان سكرتيره، فلما جاءوا(676/12)
وجدوا المجمع مغلق الباب، فذهب بعضهم إلى دار الأستاذ يسأل عنه خشية أن يكون به مرض، وإذا هو يشتغل بتحقيق كتاب أبي الطيب اللغوي، وإذا هو يحدثهم عن الكتاب، أما حكاية الدعوة، فقد نسيها من أساسها!
أفكان هؤلاء، وفيهم كل عبقري علم، وكل نابغة إمام. . . أكانوا كلهم مجانين؟
أما في رأي الناس، فنعم!
ذلك لان القافلة تمشي، فمن سايرها عدة أهلها عاقلا، ومن تقدم عنها يسلك طريقاً جديداً قد يكون أقرب وآمن، عدّوه مجنوناً، كمن تأخر عنها ليتيه في مجاهل الصحراء!
لكن ذاك جنون العبقرية، وهذا جنون المارستان!
إن العبقري شغل بالعلم فكره كله، فلم يبق منه شيء لفهم الحياة، فصار عند أهلها مجنوناً! وبين جنون العبقرية وجنون المارستان نوع ثالث، ألا وهو جنون الغرام:
وكل الناس مجنون ولكن ... على قدر الهوى اختلف الجنون
والهوى. . . يا ويح الهوى، ما أكثر شعابه، وما أضلّ أوديته؟!
الهوى. . . ومنذا الذي لم يته في واد من أوديته، ولم يسلك شعباً من شعابه؟
إن من لم يهوَ الغيد الحسان، هَوِىَ الرياض والجنان أو الأصفر الرنان، ومن لم تفتنه العيون التي في طرفها حور، فتنته الشهرة واستهواه الجاه. . . كل الناس مجنون، ولكن أخطر المجانين: مجانين الهوى!
وهل في الدنيا اشد جنوناً ممن ينكر الحياة ويعرض عنها، لا يريد أن يبصر وجهها، ويراها سوداء في عينه لا تنيرها الشمس ولا يضوئها القمر، كل ذلك لأن (امرأة) لم تمنحه قبلة. . . يا حفيظ! اللهم إنا نسألك السلامة!
أما عرفتم مجنون (ليلى)؟ هذا الذي زهد في المجد والرفاهية والعلم والمال والجنة. . . احتوى حياة البشر، وهام مع الوحش في البرية، وملأ أيامه حسرة وكآبة وغمام، لأن. . لأن الله خلق عيني ليلى سوداوين فتانتين، وجعل أنفها رقيقاً دقيقاً وبرأ فمها أحمر كالوردة، حلواً كالسكر، صغيراً لا يعرف إلا لغة القبل. . .
نعم، إنه جُنّ لأن الله لم يخلق ليلى هذه قبيحة شوهاء!
لقد كان يعيش قبل أن يعرف ليلى كما كان يعيش سائر أبناء آدم، وكانت حياته كاملة سعيدة(676/13)
من غير ليلى، فاشتهى يوماً أن يدنو من امرأة كما يشتهي كل رجل، فقادته المصادفة إلى ليلى، فأرادها. . . فلم يصل إليها فجن. . . ولو كان عاقلا لرأى في كل امرأة في الدنيا غناء من ليلى. . . إن مثله مثل رجل أراد أن يدخل بيتاً له مائه باب، فطرق باباً منها وعالجه، فلم يفتح له، فتوقف يبكي وينتحب، شوقاً إلى الدخول، ويضرب الجار برأسه، والأبواب التسعة والتسعون مفتحة أمامه!
وإن لكل رجل (ليلى):
كل يغني على ليلاه متخذاً ... ليلى من الناس أو ليلى من الخشب
فان فاتته ليلى الناس أجزأت عنها ليلى الخشب، فما بال قيس؟ أو لم يخلق الله في النساء جميلة إلا ليلاه؟ أو ليست المصادفة هي التي ألقتها بين يديه، ولو كان رأى سعدي أو سلمى، لكان مجنون سلمى أو سعدي؟
وهذا مجنون آخر هو ستيفن ماجدولين:
ولقد عرفته مذ نقله إلى الشرق إمام الكاتبين المنفلوطي رحمة الله على روحه، ثم رأيت وجهه الفرنسي الأصيل في يوم كنت فيه أنا أيضاً مجنوناً يفكر بأعصابه لا بدماغه، ويرى الدنيا كلها خلوة من خلوات الحب، والحياة قصة من قصص الغرام، والوجود كله وجه فتاة فتانة. . وقاتل الله الصبا وحماقات الصبا. . . عرفته يومئذ فرايته (بجنوني) بطلا من أبطال الحب، وشهيداً من شهداء العاطفة، ولكني عدت إليه اليوم، وقد عقلت، أو كدت، فإذا هو. . . أعوذ بالله!
يقول المجانين إن الحب يطهر النفوس ويزكيها، ويوسع آفاقها وينميها، ويسمو بها ويعليها، فتعالوا اسمعوا حديث هذا المحب الفرنسي ما صنع به الغرام:
هجر أباه وتبرأ منه، وأنكر حق أبوّته. . . ثم ذهب أخوه إلى المعركة وخاف أن يسقط عن سرجه، فبعث إليه يسأله ثمن سرج جديد، فلم يرد عليه، لأنه يحتاج إلى المال لينفقه فيما هو أهم، يريد أن يستأجر به مقعداً في المرقص يرى منه وجه ليلاه، أي ماجدوليته، فسقط أخوه عن سرجه، ومات في المعركة. . . ثم فارق أباه وبقي في العراء، فأحسن إليه واحد من أقربائه، وأعطاه ما يبغي من المال، فكانت مكافأته إياه على إحسانه أن سرق ماله، ودفع في صدره، فعجل موته. . .(676/14)
فعل ذلك كله من أجل امرأة، أضاع كل شيء ليجدها، ولكنها أعرضت عنه، ومالت إلى غيره. . إلى صديقه الذي قاسمه خبزه، وشاركه فراشه، صديقه الذي سلبه سريره من تحته، فباعه لينفق ثمنه على مآربه وهواه، وهذا المجنون المغفل لا يحس ولا يدري، لأن الحب أعماه وأصمه. وهل رأيتم محباً له بصر؟ أعرضتْ عنه، ولها الحق في الأعراض. . . هل تتزوج مجنوناً؟ إن الزواج إذا بني على هذا الجنون الذي يسميه أصحابه (حباً)، صار البيت من بعده مستشفى مجاذيب، ومارستاناً من المارستانات!!
تزوجت بغيره، فذهب ينتزعها من زوجها الشرعي، ويرى أنه أحق بها، لأن اسمه واسمها منقوشان على شجرة زيزفون. . .
ما شاء الله كان! إنك تستطيع أن تأخذ المرأة من بين ذراعي زوجها، لأنك حفرت اسمها مع اسمك على شجرة. . . اسمعوا يا عقلاء (وأين العقلاء) شريعة المجانين. . . اسمعوا منطق الحب!
هذا هو الحب الفرنسي: تفريط بحق الأسرة، واستهانة بواجبات الشرف والدين، واستئثار قاتل يمحو من الحياة أسمى فضائلها، لهذه اللذة التي ينالها، ويفقر النفس العامرة بالإيمان والفضيلة والمجد، ولا يبقى فيها إلا صورة الحبيب، يراه العاشق في الأفق إذا نظر إليه والشمس واقفة للوداع، وفي السماء إذا تأمل فيها ونجومها تتوقد في هدأة الليل، وفي صفحة الماء والروض البهيج، وفي كل كتاب يقرؤه، ومشهد يراه:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فيا رحمتا لهؤلاء المجانين! إنهم عُمْى لا يبصرون من الدنيا إلا وجه امرأة واحدة. . . صُمّ لا يسمعون إلا صوتها. . . بُلْه لا يشتغلون إلا بها. . . مجرمون لا يبالون بكل رذيلة إذا أوصلتهم إليها. . . أذلاَّء لأنهم فقدوا الرجولة والكرامة، وغدا المثل الأعلى لهم أن يطيعوا هذه الرعناء الطائشة. . . لأن لها عيناً بلون السماء وزرقة البحر. . .
هذا هو الحب يا أيها الشباب الصغار!
كل عاشق هو (ستيفن)، ولو تناءت الديار، وتباعدت الأزمان، فاقرءوا سيرة ستيفن تقرءوا سيرة كل عاشق. . .
لقد ارتضى أن يخسر كل شيء ليربح ماجدولين، فلما خسرها لم يبق له شئ. . . لقد غدا(676/15)
مجنوناً. . . وهل يمكن أن يكون محب عاقلا؟ ها هو ذا يحرق الورقة المالية التي لا يملك غيرها. . . ليقرأ على ضيائها رسالة الشيطانة. . . أعني الحبيبة، ويبقى من بعدها طاوياً يتضور جوعاً، لا يدري أن أحلام الحب وحماقاته لا تملأ المعدة الفارغة، وأن الرغيف الواحد أثمن عند الجائع من كل ما في الأرض من لَيْلَيَات وماجدولينات. . . لقد غدا تائهاً يدور في السبل والطرقات. . . وينام حيث يدركه المنام. . . لقد صيّره الحب موجوداً كالمعدوم. . . صار عضواً من الأمة أشلّ لا ينفع ولا يضر، بل إنه يضر ولا ينفع!!
لقد سَدَّ في وجهه طرقَ المجد، وحجب عن باصرتيه نور الشمس، فلم يبق فيه فائدة لنفسه ولا للناس، بل لقد صار هُزْأة وغدا مَسْخَرة. . . وكذلك يكون العاشقون!
وينال هذا المجنون خمسة عشر ألفاً يستطيع أن يصنع بها الجلائل، ويرفع بها لنفسه ولأمته مجداً. . . فماذا صنع بها؟ دفعها إلى عابر سبيل لا يعرفه. . . فما أكرم هؤلاء العشاق الذين يمنحون ثروتهم كلها إلى من لا يعرفون، ويضن الواحد منهم على أخيه بثمن سرج لفرسه، ويتركه يموت في المعركة. . .!
ثم يأتيه المال الوفير، فينفقه في أتفه الأمور وأحط الرذائل، يستأجر مقاصير المسرح كلها، ويرى الرواية وحده. . لماذا؟ ليغيظ المرأة التي أحبها فتزوجت بغيره، لأنها تريد أن يكون زوجها رجلا مثل الرجال، لا امرأة لها شاربان ولحية ولا عقل لها ثم يترقى ستيفن في فضائل الحب، فينتهي إلى الغصب والنهب من حانة. . . ويعلن جنونه ليهدم به الحياة البشرية، فيزعم أن الحب أقدس الواجبات، والزواج شر الرذائل، ثم تختم هذه الحياة النبيلة. . . السامية. . . بجريمة القتل!
هذا هو مجنون ماجدولين، وذلك مجنون ليلى. . . أما سائر المجانين , فهم بقية العاشقين!
فإذا كان في الدنيا جنون عبقرية، وجنون مارستان، فإن جنون الهوى هو جنون الإجرام، لاسيما إذا كان هوى على الطريقة الفرنسية. . .
فيا أيها الشباب الصغار! إذا لم يكن بد من الجنون، فلنجن بالمعالي والمكارم والعلم والفن، أو لنسكن المارستان. . . أما المرأة، فصدقوني إذا قلت لكم: إنها لا تستحق أن يجن بها أحد!!
(دمشق)(676/16)
علي الطنطاوي(676/17)
على هامش النثر:
دفاع عن البلاغة
تأليف الأستاذ الزيات
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
شغلتني الشواغل عن قراءة هذا الكتاب عند ظهوره، اعتمادا على أنني قرأت معظم فصوله منشورة في (الرسالة). . . فلما عدت إليه في هذه الأيام، وأنا أستعرض كتب النقد الحديث في المكتبة العربية عامة، وجدت أنني كنت مخطئا في اعتمادي على ما قرأته فصولا في الرسالة. فقراءة هذه الفصول شيء، وقراءة كتاب كامل في موضوع معين شيء آخر. ووجدت ان القضية التي يعرضها الكتاب جديرة بان تطور حولها الشروح والتعليقات، في هذا الأوان بالذات.
فللمرة الأولى بعد كتابَيْ (عبد القاهر) في القرن الرابع الهجري، تعرض قضية البلاغة على بساط البحث في هذا المحيط الشامل، وتناقش بوصفها وحدة في بحث مستقل، لا في صدد دراسة لكاتب أو كتاب.
ونحن قد نخالف الأستاذ في الكثير من قضايا هذا الكتاب كما نوافقه على أسس معينة لهذا البحث. ولكن هذا كله شيء آخر لا يمس القيمة الذاتية للكتاب في المكتبة العربية بوصفه أول علاج شامل لقضية البلاغة بعد كتابي عبد القاهر. لا يقف فيه مؤلفه عند الأدب العربي وحده، بل يسترشد كذلك بالنقاد الفرنسيين، وتطور المذاهب الأدبية هناك، كما يسترشد بالنقاد العرب، وتطور الأساليب في العصر الحديث.
وعنوان الكتاب قد يدل على موضوعه دلالة كافية (دفاع عن البلاغة) والأستاذ الزيات أولى الكتاب المعاصرين بالدفاع عن البلاغة فهو صاحب (مذهب التنسيق التعبيري) وضعت له عنوانه في كتابي القادم: (المذاهب الفنية المعاصرة) ذلك المذهبي المتفرع عن المنفلوطي، صاحب (مذهب الابتداع التعبيري).
والذي يجعل للتعبير وتنسيقه أهمية كبرى في الفن بل الذي يجعل الفن هو أساس هذا(676/18)
(التنسيق التعبيري).
نحن نتفق مع الأستاذ في أساس القضية، وهو أن العمل الفني في الأدب لا يوصف بالجودة إلا أن يتهيأ للفكرة الجيدة، أو الإحساس الجيد، أسلوبا جيدا، وعبارة جيدة. وأن لا يفسد ويرك ويتعقد ثم تبقى لهذا العمل قيمته الفنية.
(فالفكرة والصورة في الأسلوب كل لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك: أعنيك، غير قولك: إياك اعني. وقولك: كل ذلك لم يكن، غير قولك: لم يكن كل ذلك. وقولك: ما شاعر إلا فلان، غير قولك: ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن. . . ص60
(من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة، يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار والصور والعواطف ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة. والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسة. وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبر عنه أو لتنفر منه). ص62
أوافق الأستاذ على هذا الأساس الذي عبرت عنه على طريقتي في كتاب (التصوير الفني في القرآن). والذي سبقنا إليه الإمام عبد القاهر فعبر عنه على طريقته في كتابه (دلائل الإعجاز). ولقد قررت هذه الحقيقة هناك بهذه الفقرات:
(وبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات (موضوعات القرآن) ويرى ما فيها من دقة وعظمة، وصلاحية ومرونة، وإحاطة وشمول، يحسبها ميزة القرآن الكبرى، ويحسب أن طريقة التعبير تابعة لها، وأن الإعجاز كله كامن فيها، كما أن بعضهم يفرق بين المعاني وطريقة الأداء، ويتحدث عن إعجاز القرآن في كل منهما على انفراد.
(أما نحن فنريد أن نقول: إن الطريقة التي اتبعها القرآن في تعبير، هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات، فهي كفاء هذه الأغراض والموضوعات.
(ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول اللفظ والمعنى وقد استغرقت من النقاد العرب(676/19)
ما استغرقت منذ أثارها الجاحظ فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة وأبو هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين. وأنا لنحسب أن (عبد القاهر) قد وصل فيها إلى رأي حاسم حين انتهى إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه؛ وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير، إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه. وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
(لم يصغ (عبد القاهر) القضية هذه الصياغة المختصرة، فنحن نترجم عنه، وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا، ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية، ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني، فنحن نقول عنه: إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى، وإنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد، اختلفت صورتا هذه المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد، فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة؛ فإذا تغيرت الصورة تغير المعنى بمقدارها. وقد لا يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تتغير. وهي المعول عليها في الفن - إذ التعبير في الفن للتأثير - فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه فالمعنى المنقول مختلف بلا مراء). ص 190
ويرتب الأستاذ الزيات على هذه الحقيقة نتائجها الطبيعية التي رتبها عليها بعض النقاد في الشرق والغرب، ولكن في شيء من الحماسة قد يجاوز القصد. قال في ص 66
(وقد غإلى علماؤنا البيانيون، فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها، فمن أخذ معنى بلفظه كان سارقا، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظا أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه.
(على أن هذا الرأي الجريء لم يكن من رأي العرب وحدهم. وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن (الأسلوب) التي ألقاها يوم دخل(676/20)
الأكاديمية الفرنسية: إن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.
(نعم قال: (بوفون) إن الأسلوب من الرجل نفسه، ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل، كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال، إن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب، ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس؛ وإنما أراد أن الأسلوب، ويعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة؛ ومعنى ذلك أن الأفكار تكون قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكا خالصا له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه، فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك. ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة، فلما أجاد شوقي سبك اللفظ عليه في بيته المشهور:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة، وأبياته المروية!)
ونحن - على اتفاقنا مع الأستاذ في المبدأ السابق - نختلف معه هنا كما نختلف مع الجاحظ صاحب نظرية المعاني الملقاة على قارعة الطريق.
فإن كون العمل الفني يتألف من المعنى والصورة، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. لا يقتضي أن تكون الصورة وحدها هي العمل الفني الذي يثبت ملكيته من يجيده، ولا يقتضي كذلك أن تكون جودة الصيانة كفيلة برفع المعنى إلى مرتبة الجودة، كما جاء في بحث الأستاذ في مكان آخر حيث يقول في ص 73:
(إذا حلى في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبت إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها فدعك من أولئك الذين عادوا الكمال الفني بطباعهم. . الخ)
أو حيث يقول في ص 26:
(وليس أدل على أن الشأن الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، من أن المعنى المبذول أو المبذول أو التافه قد يتسم بالجمال، ويظفر بالخلود، إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا بأس أن أقدم إليك مثلا من آلاف الأمثلة، بلغ معناه الغاية في السوقية(676/21)
والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنة بلغ من سر الصناعة تطلع دونها اكثر الأقلام.
(قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابه: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا انه لم ير عرضا فيمضغه، ولا مجدا فيهدمه.
(فقال له ابن ثوابه: ما أنت والكلام يا مكدي؟
(فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة، قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه، ثم رماه بمعنى مكشوف. فقال ابن ثوابه:
(الساعة آمر أحد غلمانى بك.
فقال أبو العيناء:
(أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)
فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمى ابن ثوابه في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقيان يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة. وانك مع ذلك من هذه الجملة موقف المشدوه المعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها، فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط).
إلى أن يقول في ص 28:
(فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن، وتناقلتها الكتب. وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ، فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأذن، ويلذ الشعور وإن لم يترجم. أما المعنى فكالكهرباء، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل، انقطع تياره، فلا يعرب ولا يطرب. اقرأ قول القائل:
لما أطعناكم في سخط خالقنا ... لا شك سلَّ علينا سيف نقمته.
(ثم وازن معناه الشريف ونسجه السخيف، بما رويت لك من كلام أبي العيناء، فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول:
(إن القَذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل، وإن المسك يوضع في تافجة الطين فيرفض ويهمل)
ونريد نحن أن نقف عند الحقيقة الأولى التي اتفقت فيها مع الأستاذ كل الاتفاق، فتجاوزها(676/22)
قد يوقع في الزلل
والسبيل الأقوام في هذا المجال أن نقول:
إن العمل الفني لا يكون بالفكرة الجيدة المبتكرة وحدها، ولا بالإحساس الصادق الجميل وحده، إنما يتم بالصورة الجميلة التي يبرز فيها المعنى والإحساس
أما الصورة وحدها، فلا تستطيع أن تخلق فناً إنسانياً خالداً إذا خلا من الإحساس الجميل الصادق، ومن الفكرة العميقة المبتكرة، ومن التصور الفذ الخاص، هذه العناصر التي يجب أن يحسب لها حسابها في كل فن يراد له السمو أو الخلود
وأقصى ما تصل إليه الصياغة أن ترفع المعنى أو الإحساس في صورة عنه في صورة أخرى، ولكنها لا ترفع بذاتها عملا فنياً على عمل فني آخر، إذا ارتفعت في الأول مع سفول معانيه، وانخفضت في الثاني مع ارتفاع قيمته.
إنها تصلح مقياساً حين تتحد الفكرة أو المعنى العام ثم تختلف الصورة، ولكنها لا تصلح للقياس الدقيق حين يكون هناك فكرتان أو معنيان يختلفان في قيمتهما الإنسانية والشعورية.
وهذه كلمة أبي العيناء، إنها ستبقى - على براعة صياغتها - مجرد نكتة لاذعة، لا تتسامى إلى الآفاق الشعورية في الفن العالي، وكذلك سيبقى بيت (شوقي) حكمة مكرورة شائعة، ولكنها لا تسلك في مستوى الحكمة النابعة من طبع ذي خصوصية وامتياز. أما البيت الذي استشهد به الأستاذ على ما تصنعه الركة بالمعنى العالي، فهو صالح كذلك للاستشهاد به على سوقية التفكير، إذ لا خصوصية ولا ارتفاع عن تفكير العوام
والخصوصية في الأحاسيس والمشاعر والأفكار شيء ثابت، وله قيمته التي لا تنكر، وهي مناط الأصالة في الفن، وكل ما نريده هو القول بأن هذه الخصوصية لا تبدو كاملة إلا في صورة جيدة الصياغة، وفي أصالة أسلوب وتعبير تكافئ أصالة الشعور والتفكير، وإلا بقيت مطموسة ناقصة لا تبدو في جلالها الكامل، ولا ترقى إلى الآفاق العالية في الفنون
وقد تحدث الأستاذ عن الأصالة والخصوصية في الأسلوب حديثاً في غاية الجودة والصحة حين قال في ص 82:
(يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة، وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. ومِلاك(676/23)
الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس، ملاكها أن تكون أصيلا في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، واكنه مضطرب الدلالة، مختلط الألوان، تفه المذاق، لا تستقله روح، ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة، ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر)
وكان من حق الأصالة في الشعور والتفكير أن تنال من الأستاذ ما نالته الأصالة في الأسلوب والتعبير، فالمعاني والأحاسيس ليست شائعة ملقاة على جانب الطريق، وإلا فأين تذهب الطبائع الأصيلة الممتازة التي ترى الدنيا والأشياء بعين خاصة، فإذا هي تعيش في كون خاص بها من صنع أحاسيسها وتفكيرها؟
تلك فلتة من فلتات الحماسة للبلاغة من صاحب (دفاع عن البلاغة) يرد بها الغلوّ في إنكار قيمة التعبير، فيجعل المزيّة كلها للتعبير
على أن الأستاذ يعود فيضع الأمر في نصابه إلى حد كبير في ص 78 حين يقول:
(خلص لنا من محض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة، كما يتكون الماء القراح من الهيدروجين والأكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزأيه. ولا أقصد وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب إنما أمدُّ الشَّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهيدروجين إلى الأكسجين في الماء! وإذن لا يعد من الأساليب ألفية تلك المعاني الحكيمة التي تعرض في معرض بشع من الركاكة والغثاثة والتعقيد والخطأ، ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة)
ففي هذا التقرير قصد ودقة تعود بنا إلى الحقيقة الأولى التي اتفقنا عليها، وتحسب لكل من الفكرة والصورة حسابها الصحيح
(للكلام بقية)(676/24)
سيد قطب(676/25)
الأدب في سبر أعلامه:
مِلْتُن
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للكاتب محمود الخفيف
- 16 -
بعد أوبته من إيطاليا:
آب ملتن إلى وطنه بعد أن غاب عنه سنة وثلاثة أشهر! وكانت الحرب بين إنجلترا واسكتلندة في أولى مراحلها؛ وكانت السياسة الداخلية دائبة في عصفها لا تكاد تجنح إلى السكون حتى تهب ريحها عاتية من كل جانب.
وكان يتوقع منه بادي الرأي وقد آثر العودة إلى بلاده على المضي في رحلته حياء منه، كما ذكر، أن يستمتع بالرحيل والأحرار في وطنه يعانون ضروب البلاء، أن يلقي بنفسه في غمار السياسة أنفة منه وحفاظا ودفاعا عن الحرية التي يعشقها والتي ركب في فطرته الميل إلى نصرتها؛ ولكنه ركن إلى الدرس ولاذ بالعزلة كما كان يفعل قبل رحيله.
وقد ملأ الحزن جوانب نفسه على صديقه ديوداتي، وآلمه ألا يجد مكانه من يستطيع أن يفضي إليه بأنباء رحلته، ويظهره على ما لقي أثنائها من حفاوة وما اكتسب من حسن السمعة وذهاب الصيت.
والتمس العزاء لنفسه في مرثية كتبها فأدى بها حق الوفاء لصديقه. وقد اختار لها اللغة اللاتينية كما اختار لها الجو القروي وصور الرعاة وحياتهم، والذين يعرفون اللاتينية ممن كتبوا حياة ملتن على اتفاق أنها من حيث الفن في ذاته لا تنزل عن مستوى مرثيته ليسيداس؛ وإنها من حيث العاطفة أعمق وأصدق من أختها لأن صلة ديوداتي بملتن كانت أوثق من صلة كينج به، فقد كانا ديودتي قرينه منذ صغره وقرب خلانه إلى قلبه وأشدهم محبة له؛ واخذ ملتن يذكر له في مرثيته ما كان يحب لولا أن طواه الموت أن يلقيه على سمعه؛ وجعل ملتن من نفسه ومن صاحبه راعيين كما فعل في ليسيداس، وأثنى على خلال(676/26)
صاحبه ولا سيما وفاءه وذكاءه ومرحه وتألم أن كان بعيداً عن وطنه في غير ضرورة ملجئة فلم ير نهاية صديقه. وأشار ملتن في هذه المدينة إلى أنه سوف يجد العزاء في الشعر فيكتب إلياذة عن تاريخ قومه وأساطيرهم جاعلا الملك أرثر وفرسانه أبطال ملحمته متخذاً اللغة الإنجليزية أداته؛ ولكن هذه الملحمة التي وعد بها ظلت مجرد وعد فقد صرفته عنها شواغل السياسة والدين كما صرفته عن الشعر جميعاً اللهم إلا بضع مقطوعات قصيرة زهاء عشرين عاماً. . .
وكما أطلق ملتن على إدوارد كنج اسم ليسيداس أطلق هنا على ديوداتي اسم دامون؛ وكان دامون من مشاهير الفلاسفة ورجال الموسيقى بأثينا، وكان صديقاً وأستاذاً ابركليس؛ وقيل إنه كان كذلك أستاذاً لسقراط، وكان مضرب المثل في الوفاء، فقد اقترف أحد أصحابه جريمة كان قصاصها القتل، وعول ملك سيراكوز على قتله فاستأذنه أن ينصرف ليقوم على بعض شؤون أسرته ثم يعود لينفذ فيه القصاص. وتقدم دامون فرضي أن يكون رهينة عند الملك ليقتله بدل صاحبه إن لم يعد في موعده؛ وحل الموعد وهم الملك بقتل دامون فجاء صاحبه معجلا فأنقذه؛ وأثر وفاء الرجلين في نفس الملك فعدل عن قصاصه وطاب إليهما أن يكون ثالثهما في هذه الصحبة الوثيقة.
ونجد في اختيار ملتن هذه الاسم لصاحبه شاهداً من شواهد فنه، فهو يلمح كما ذكرنا من قبل إلى المعنى الواسع بالكلمة الواحدة. . .
واختتم ملتن مرثيته بإشارته إلى موت صاحبه ولم يتزوج، فذكر الحب وقال إن من حق الشباب أن يحب، وأن الذي يذوق طعم الحب وقد تقدمت به السن يذوق طعم الحسرة مضاعفا؛ ثم يبشر صاحبه بأنه سيلقى في الجنة خير العوض عما فاته في الدنيا فسيستمتع بزواج خالد في عرس بهيج من أعراس الفردوس.
ويجد بعض الكتاب في ذكره الحب وأنه من حق الشباب وفي تألمه على موت صاحبه ولم يتزوج تلميحا منه إلى حالته هو، وإن خفي هذا التلميح، ويقولون إن ملتن كان يفكر يومئذ في الزواج وإنه قد مل أن يعيش أعزب.
على أنه يعود إلى القراءة في إقبال لا يقل عن سالف إقباله عليها أثناء مقامه في هورتون؛ وقد اتخذ له بعد أوبته من إيطاليا مسكنا في لندن فلم يعد إلى القرية. ورضى أبوه الشيخ أن(676/27)
يمدد بما يطلب من المال وإن كان لا يزال يعجب ويتألم ألا يتخذ ابنه عملا إلا ما لا يبرح يردده من تثقيف نفسه أيكون أهلا لما يستشرف له في دنيا الأدب؛ وراض الرجل نفسه على سماع هذا وعلى الجود بما يطلب ابنه من المال. والحق أن ابنه لم يطلب منه كثيراً وحسبه من المال ما يشتري به قوته وما يلزم له من الكتب وما يدفع منه أحر مسكنه. . .
وضاق المسكن الجديد بكتبه ما اقتناه منها في هورتون وما اشتراه من إيطاليا، فاتخذ له مسكنا أوسع منه في أطراف المدينة. وهناك عكف على القراءة والدرس تاركا الشؤون العامة إلى (عناية الله أولا ثم إلى من وكل إليهم الناس القيام على هذه الشؤون).
وأشرف ملتن في مسكنه الجديد على تعليم ابني أخته وقد قبلها ليقيما عنده بعد موت أبيها وزواج أمها من غيره، وما لبث أن ضم إليها عددا من أبناء أصحابه الأقربين. وأقبل على تعليمهم جميعا في حماسة ولذة لا تقل عن شغفه بالقراءة والدرس ولقد عجب دكتور جونسون من عمله هذا وسخر منه فأشار إليه بقوله: (إنه ينظر بشيء من الفكاهة إلى ذلك الرجل الذي يبادر بالعودة إلى وطنه لأن قومه يكافحون في سبيل الحرية، ولكنه لا يلبث وقد ميدان العمل أن يدع وطنيته تتبخر في مدرسة يفتحها في بيته).
وأقبل ملتن على تعليم هؤلاء الصبية وعلى قراءة فلا يدع فيها ساعة من نهاره إلا ملأها بعمل حتى أيام الآحاد فلم يدع فيها كتبه وأوراقه إلا ريثما يؤدي واجب الدين. ونتبين مما كتبه أحد ابني أخته فيما بعد عن حياته وأخيه في بيت خالهما أنه كان يأخذهما بالجد في غير هوادة ومن كان معهما من أبناء أصحابه، ولكنا لا نتبين فيما كتب أن ملتن قد اهتدى إلى طريقة خاصة في التعليم أو أنه جرى على أسلوب اقتنع بسلامه وفائدته، فكل ما ذكر ابن أخيه لم يعد الكم؛ فهو يباهي بأنهم قرءوا كثيرا وتعلموا كثيرا. . .
بهذا الدأب وبهذه العزيمة أقبل ملتن على العمل بعد عودته من إيطاليا. على أن ابن أخته يذكر من أنباء تلك الأيام أن خاله كان ينصرف عن العمل كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر مرة فيقضي يوما بين نفر من صحابته يستمتعون بالمرح واللهو البريء.
وماذا كان يقرأ ملتن بعد أوبته من إيطاليا؟ إنه اليوم شديد الولوع بالتاريخ وعلى الأخص تاريخ قومه، وإن الملحمة التي داعبت خياله في إيطاليا عن تاريخ قومه أو الآرتريادة ليعاوده حلمها اليوم ويلح عليه. ولقد أشار إليها كما ذكرنا في مرثيته عن صديقه ديوداتي؛(676/28)
كما أنه أثبت كثيرا مما يتصل بها في كشكوله الذي اتخذه منذ إقامته في هورتون ليكتب فيه كل ما يعن له من الآراء والملاحظات. . .
وأثبت ملتن في تلك الكراسة من الإشارات ما يدل على دراسة شؤون السياسة، كالمعضلة المالية والضرائب والملكية والجمهورية وحرية الرأي وحرية النشر والقوانين والاستبداد، وغيرهما مما يتصل بأحوال عصره.
ولن يزال يقرأ ويتدبر، ولن يزال يعتقد أنه لم يفرغ بعد من أهبته لما يجب أن ينهض له من عمل في دنيا الشعر، تجد دليلا على ذلك في قوله إنه يساير (ذلك التلقين الباطني الذي يزداد يوما بعد يوم فيوحي إلى أنه بالجد والدراسة المقصودة وهو ما أعده حظي في هذه الحياة مضافا إلى ذلك ميل فطري قوي، قد يتأتى لي أن أترك أثرا كتبته لمن يأتي بعدي من الأجيال فلا يدعونه إلى النسيان).
وما عسى أن يكون ذلك الأثر ومتى ينهض له؟ لعل الشاعر لم يكن أكثر بينة من أمره فيما يتصل بموضوع ذلك الأثر الخالد منه فيما يتصل بتاريخ البدء فيه، فأن كراسته تنطوي على نحو مائه موضوع غير الآرثريادة وكثرتها تتصل بالدين ومسائله من عهد آدم وحواء والخروج من الجنة وما إلى ذلك مما يدل بكثرته وتنوعه على حيرة الشاعر بين ما يأخذ وما يدع. . كذلك حار ملتن بين الصور التي يختار واحدة منها لموضوعه، أتخذله الملحمة على نحو ما فعل هوميروس ودانتي، أم يتخذ له الدراما؛ أم يترك هذه وتلك إلى سلسلة من الأناشيد مثل أناشيد بندار، فلكل من هذه الصور مميزاته ومحاسنه، ولعل مرد حيرته في اختيار الصورة إلى أنه لم يحدد الموضوع، إذ أن الموضوع في الواقع هو الذي يعين الصورة التي يؤدي فيها.
ومهما يكن من أمر هذه الحيرة فقد على الشاعر أن يدع قيثارته جانبا نحو عشرين سنه لم يكن له فيها أداة إلا النثر اللهم إلا مقطوعات قليلة نفس بها عن صدره في بعض المناسبات.
اجتمع البرلمان الطويل في نوفمبر سنه 1640، وقد إليه مقترح الأصل والفرع، ذلك المقترح الذي شمر له البيوريتانز، وأرادوا به القضاء على النظام الأسقفي ومن المشفقين من التطرف في الدين والسياسة الذين آثروا الوقوف إلى جانب الملك ودب الخلاف على(676/29)
هذا النحو بين أعضاء البرلمان.
وانتقل الخلاف إلى خارج البرلمان فانقسم الناس فريقين: أنصار النيوريتانز، وأشياع الملك وكبير الأساقفة
وظهر الجانب السياسي من تفكير البيوريتانز يومئذ في وضوح، وأخذوا يشيعون آراءهم في الناس؛ فالناس جميعا أمام الله سواء، ولا يكون الخوف إلا من الله وحده، والعدالة الاجتماعية وإقرار الحق في كل أمر هما دعامتا المجتمع الأساسيتان إلى غير ذلك من الآراء الحرة التي تناهض الاستبداد والطغيان.
وأما في الدين، فلم يبرح البيوريتانز يعلنون مقتهم لكنيسة روما وللنظام الأسقفي وازدراءهم لهما، وما يرجوا كذلك ينسبون إلى القساوسة أنهم هم الذين يوحون إلى الملك طغيانه وعلى الأخص كبيرهم وليم لود، وراحوا يذيعون أن لا حاجة بالناس إلى أخذ الدين عن القساوسة، فلكل امرئ الحرية أن يتفقه في دينه مستعيناً بكلام الله، وإذا فلم لا يستغني الناس عن الأساقفة ولم يعد لهم ما سلف من خطر؟
وتمسك لود وحزبه بوجوب طاعة الملك، وأعلنوا أن لا غنى للدولة عن النظام الأسقفي، وأن الكنيسة هي دعامة الملك والمجتمع، فإذا قضى عليها شاعت الفوضى في كل شيء. وكان يعمل لود على العودة شيئاً فشيئاً إلى كنيسة روما في روحها ونظامها ومظهرها، وكان يحارب مبدأ كلفن في القدر المحتوم، ويعضد المبدأ القائل بالاختيار، ويضطهد من يدعوا إلى الاعتماد على الإنجيل وحده بغير رجوع إلى القس، وأمعن لود في الكيد للنيوريتانز، واستعان بسلطة الدولة فأذاقهم سوء العذاب!
على أن فريقاً من المعتدلين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وان كانوا قلة. ويرى هؤلاء المعتدلون أن المرء حر فيما يفكر فيه، أو فيما يأتي من عمل ما دام يطيع الملك والقس. وكان ملتن أقرب إلى هؤلاء المعتدلين منه إلى متطرفي البيوريتانز؛ فقد كان يجب التسامح ويدعو إليه. وخالف البيوريتانز في تزمتهم ومبالغتهم في الزهد والتقشف. وعنده أن المرء إذا وفي واجب الدين حقه، واستمسك بالفضيلة فلا تحرم عليه زينة الله التي أخرج لعباده. وللناس أن يستمتعوا أيام الآحاد بما يشيع البهجة والمرح في نفوسهم بدل أن يحشروا حشرا إلى الكنائس ويحملوا على البقاء فيها طويلا. . .(676/30)
ولكن ملتن أنكر بكل ما في نفسه من حب للحرية على القساوسة تعصبهم واستبدادهم، وألقى بقيثارته من يده على رغمه وخرج من عزلته ليبدأ ضد القساوسة كفاحا ثائرا عنيفا تجلى فيه كل ما في طبعه من إنكار ومقت للتعصب، وكل ما في روحه من تمرد على الاستبداد وميل إلى نصرة الحرية.
(يتبع)
الخفيف(676/31)
التطورات السياسية في الشرق الأقصى
للأستاذ محمد جنيدي
تمخضت الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى عن ظهور الجمهورية في جزائر الهند الشرقية المعروفة في القاموس السياسي الحديث باسم ولكي يدرك القارئ مدى مدلول استعمال هذه الكلمة - حديثا وقديما - نقدم له تعريفاً أولياً عن الوضع الطبيعي والسياسي للجزائر الإندونيسية، كما ذكره علماء التاريخ والجغرافيا.
الوضع الطبيعي:
قرر علماء التاريخ والجغرافيا أن الشعوب الأسيوية المنتشرة في جزر المحيط الهادي والمحيط الهندي، وفي شواطئهما الطويلة تفرعت من أصل واحد، هو الأصل الإندونيسي، الذي وجد في هذه الجزائر قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة آلاف سنة! وبنوا تقريرهم على الحقائق الثابتة للصفات واللغات والسمات التي تنسجم عليها هذه الشعوب في حياتها الحاضرة فعرفوا بلدانها بكلمة جامعة هي وهي كلمتان ركبتان تركيباً مزجياً هي بمعنى الهند والثانية بمعنى الجزائر في اللغة اليونانية. وتشمل إندونيسيا الجزر والبلدان الواقعة في شرق وجنوب آسيا، وهي:
1 - جزر الفلبين. 2 - تايلاند (سيام). 3 - أنام (الهند الصينية). 4 - بورما. 5 - ملايا. 6 - جزائر الهند الشرقية - جاوا، سومطرة، بورينو - سليبيس.
وأشهر حاصلاتها الزراعية: الأرز، قصب السكر، السمسم، البن، الشاي، الخان، القطن، البردي، النارنج، الكينا، المطاط، الكاكاو، النيلة، الأناناس، الفوفل، القات، الفلفل،
وأكثر معادنها المستخرجة: الذهب، الفضة، الفحم الحجري، النفط، القصدير، الألمنيوم، الحديد.
وأشهر حيواناتها: الجاموس، البقر، الخيل، الغنم.
إما جوها فمعتدل: إذ تهب عليها الرياح من المحيطين، والأمطار تتساقط عليها دوماً، حتى جعلتها زمردة خضراء في الشرق الأقصى!. . .
الوضع السياسي:(676/32)
لما بدأ الاستعمار الغربي للشرق في القرن السابع عشر، شرعت حكومات إسبانيا والبرتغال وهولندا وإنكلترا في الفتح الاقتصادي للشرق الأقصى، فإنشاء شركات تجارية تنقل المحصولات الزراعية الإندونيسية. من الشرق إلى الغرب، عن طريق الشرق الأوسط ورأس الرجاء الصالح. وكانت التوابل الإندونيسية أهم الصادرات من الشرق الأقصى لأوروبا. ولما تمكنت الشركات الأوروبية من السيطرة على الحياة الاقتصادية للشرق الأقصى، اندفعت حكوماتها إلى ميدان السياسة الاستعمارية وفرضت سيادتها على البلدان الإندونيسية، بعد قتال ومعارك عنيفة؛ ففي هذا الظرف كانت في إندونيسيا حكومة إسلامية مركزها مدينة ديمك بجزيرة جاوة، وحكومات أخرى في سومطرة وبورنيو وملايا والجزر الأخرى.
فالدولة الأسبانية استعمرت الفلبين التي تبلغ مساحتها 114000ميل مربع، والدولة الفرنسية استعمرت (أنام) التي تبلغ مساحتها 281000 ميل مربع، وإنكلترا استعمرت (بورما وملايا) اللتين تبلغ مساحتهما 262000 ميل مربع لبورما، 36000 ميل مربع لملايا. وجاوة وسومطرة وبورنيو استعمرتها هولندا، وتبلغ مساحتها 731000 ميل مربع. أما تايلاند فقد حافظت على استقلالها.
وتطلق كلمة (إندونيسيا) في العصر الحديث على المستعمرة الهولندية سابقا التي أشهرها الجزائر الآتية:
جاوة، سومطرة، بورنيو، سلبيس، غينيا الجديدة، جزائر الملوك، بالي، مادورا، بنكا، بليتون، سمباوة، تيمور، فلوريس، وتبلغ مساحتها 731 ألف ميل مربع، وعدد سكانها 75 مليون نسمة.
ففي هذه الجزائر ظهرت الجمهورية الحديثة، التي هي أول حكومة جمهورية في الشرق الأقصى. وسنتابع الآن البحث عن التطورات السياسية التي حدثت في إندونيسيا منذ فجر القرن العشرين حتى عام 1935، ليقف القارئ العربي على أهم الحركات الاستقلالية التي قام بها الشعب الأندونيسي، خلال خمسة وأربعين عاما.
لقد تأثر الشعب الإندونيسي بنتائج الحرب اليابانية الروسية في عام 1904، وزاد تأثره قوة الدعايات اليابانية الشهيرة، بدعوة الشرق إلى ضم صفوفه للقضاء على الاستعمار الغربي.(676/33)
فكان انفجار القنبلة الأولى (الشرق للشرقيين) التي حفزت الشعوب الشرقية لمقاومة الاستعمار الغربي يهدر في المحيط الشرقي فيرتجف الغرب له، ويزيد في تقوية مركزه. وفي 20 مايو سنه 1908 نهضت إندونيسيا الكبرى نهضة قوية مركزها على أسس علمية حديثة. فقد أنشأ طلبة كلية الطب برئاسة الدكتور وحيدن بمدينة جاكرتا جمعية أو النزعة الفاضلة للمقاصد الآتية:
1 - السعي لاستقلال إندونيسيا السياسي.
2 - العمل لنشر الثقافة العالية.
3 - العمل لإصلاح الحالة الاقتصادية.
وفي شهر أكتوبر عام 1908 عقدت الجمعية أول مؤتمراتها. فبلغ عدد الأعضاء 000، 10 عضو، وهذا رقم يدل على قبول الشعب لمقاصد الجمعية.
كان أكثر المنتسبين للجمعية طلبة المدارس والكليات العالية وأبناء الأسر الراقية، وانتشرت فروعها في أنحاء إندونيسيا. تسعى لتحقيق مقاصد الجمعية، واشهر من قاموا بالدعاية للجمعية الدكتور لشلومو الذي اصبح في عام 1936 زعيما لحزب إندونيسيا الكبرى وشكري أمينوتو الذي اصبح في عام 1912 زعيما لحزب (الرابطة الإسلامية). وتعتبر جمعية (بودي أوتومو) الحجر الأساسي للأحزاب الوطنية، والدعامة الأولى في صرح النهضة الإندونيسية الحديثة.
استطاعت جمعية بودي أوتومو إثارة الروح القومية، وإشعال نار الحماسة في نفوس الإندونيسيين. فأصبحت إندونيسيا أتونا يتقد، وفي 10 سبتمبر سنة 1912 ظهر في المسرح السياسي - الهولندي الإندونيسي - حزب سياسي له سلطته الدينية وقوته القومية، هو حزب برئاسة شكري أمينوتو لتنفيذ الخطط الآتية:
1 - العمل لتحرير إندونيسيا السياسي التام.
2 - الدفاع عن الإسلام.
3 - توسيع نطاق التعلم، وإصلاح الحالة الزراعية والاقتصادية.
وفي عام 1916 بلغ عدد أعضائه ثلاثة ملايين عضو. أما فروعه فمنتشرة في المدن والقرى، وللحزب أقسام عليا رئيسية هي: التشريع، والقضاء، والتنفيذ. وأقسام أخرى(676/34)
للشباب والرجال والمرأة والفتاة، والتعليم، والمالية، والصحافة , والنشر والرياضة، والاقتصاد، ودائرة كبيرة للتحكيم.
وأبرز أعضاء الحزب: مستر أغوس سالم، وهو وكيل الحزب، كان قنصلا للمفوضية الهولندية بمكة قبل نشوء الحرب العالمية الأولى، ثم استقال واشتغل بالسياسة في حزب الرابطة الإسلامية. وفي عام 1923 مثل نقابات العمال الإندونيسيين بجنيف. وفي العهد الحاضر يتولى منصب وكالة وزارة الخارجية للجمهورية الإندونيسية. وفي عام 1921 انتخب عضوا في المجلس النيابي في دورته الثانية عن حزبه.
وفي 6 سبتمبر 1912 أنشأ الدكتور دويزديكر والدكتور شفتو ماعون كسومو والبروفيسور كي هاجر ديوانتارا حزب أو الحزب الأندولندي، قابلا أعضاؤه من الهولنديين ما داموا ولدوا في إندونيسيا. والحزب يسعى لاستقلال إندونيسيا. وفي عام 1913 نفت الحكومة الهولندية زعماء الحزب إلى الجزر الإندونيسية البعيدة عن المجتمعات المتحركة الحية. ثم في عام 1914 نفتهم جميعا إلى هولندا مراعاة لمركزهم الاجتماعي لدى الشعب. وبهذا العمل، قضت السلطة الهولندية على الحزب.
وفي مايو عام 1914 أسس المستر سنفليت الهولندي الحزب الاشتراكي الديموقراطي مع بعض زملائه الهولنديين ممن تشبعوا بالأفكار التي حملها المستر سنفليت من أوربا. وهي الأفكار الاشتراكية الحديثة، ولخشية السلطة الهولندية من انتشار الروح الشيوعية في المجتمع الإندونيسي حلت الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وأرجعت إلى هولندا بعض زعمائه. أما سنفليت فمكث في إندونيسيا.
ومبادئ الحزب الاشتراكي الديموقراطي، القضاء على الرأسمالية الدولية، وإنشاء قوة شعبية اشتراكية، تمكن إندونيسيا التحرر من الاستعمار الهولندي الذي يؤيده الإمبريالية العالمية.
وفي سبتمبر عام 1914 أنشأ بعض الزعماء الإندونيسيين حزب أشهرهم رادين أوتو اسكندر ديناتا. وكان الحزب يرمي إلى إيجاد رابطة شعبية مكونة من كبار الموظفين والتجار والصحفيين والأسر الراقية، لتقود الشعب إلى ميدان الجهاد لتحرير إندونيسيا من السيطرة الهولندية. وفي عام 1917 ظهر في جزيرة سومطرة حزب أو (رابطة سومطرة)(676/35)
قاصداً إلى توحيد الجبهات الشعبية في جزيرة سومطرة للعمل متحدا في حقل الميدان السياسي لمقاومة الاستعمار.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى قدمت الأحزاب السياسية الوطنية مذكرة إلى الحكومة الهولندية بإنشاء حكومة إندونيسية وبرلمان، فوعدت السلطة الهولندية الأحزاب السياسية بإنشاء مجلس نيابي بعد أن تضع الحرب أوزارها. وفي مايو 1918 افتتح المجلس النيابي جلسته الأولى، فجاء مخيبا لآمال الوطنيين، إذ كانوا يرمون إلى إنشاء برلمان وحكومة وطنية. وانتخب أعضاؤه من الإندونيسيين وعددهم ثلاثون عضوا، ومن الهولنديين وعددهم خمسة وعشرون عضوا، ومن الشرقيين خمسة أعضاء. ودلل هذا الانتخاب على أن هذا المجلس ليس مجلساً نيابيا أندونيسيا؛ بل هو مجلس هولندي، فما نسبة ثلاثين عضوا من سبعين مليون نسمة؟!. . إنها نسبة تتضاءل جدا أمام هذه الأرقام الهائلة!
(البقية في العدد القادم)
محمد جنيدي(676/36)
الشيوعية الخُرِمَّية
للأستاذ عباس حسان خضر.
الخُرمية نسبة إلى خُرَّم بمعنى الفرح، وأصحابها يحللون كل ما يريدون ويشتهون، فيسمون مذهبهم مذهب الفرح. وقد أخطر لي الكلام على هؤلاء الخرميين الشيوعيين الذين قاموا بأذربيجان منذ أحد عشر قرناً - تلك الحوادث الجارية في ذلك الإقليم من شمال إيران المتاخم لروسيا. ولك أن تلاحظ صلاح تلك البيئة لنمو الأفكار الشيوعية فقد نشأت بها مذاهبها متجهة من الجنوب إلى الشمال: كانت المزدكية القديمة في بلاد فارس، ثم كانت الخرمية (موضوعنا) في شمال فارس ولعل الفكرة قد تابعت سيرها إلى الشمال حيث استقرت في روسيا في عصرنا الحاضر شيوعية مغربلة منخولة، نفي التنظيم الحديث منها كثيراً من العناصر الفوضوية القديمة، حتى أصبحت نظاماً من نظم الحياة في هذا العصر، له مبادئه وفلسفاته، وله أنصاره ومعارضوه. قامت الشيوعية الخرمية بتلك الأصقاع في عهد المأمون، واستطار شرها وعظم خطبها، وهب إعصارها على لحضارة الإسلامية في إبان ازدهارها، فحشدت لها الدولة العباسية قواتها وظلت تكافحها عشرين سنة، حتى أخمدت أنفاسها.
كانت الخرميةُ الميلاد الثاني للشيوعية في تلك البلاد، بعد مزدك الذي ظهر في عهد قباذ ملك الفرس، فدعا إلى المشاركة في كل شئ، بحيث لا يمنع أحد مما يشتهي، كما دعا إلى ترك المنازعات والخصومات والحروب. ومال قباذ إلى هذا المذهب، فلما ملك بعده ابنه أنوشروان قتل مزدك وقضى على الشيوعية الأولى. أما الخرميون فقد زادوا على المزدكية القديمة القتل والغصب والحروب، وكانوا - إلى تلك الإباحية - يدينون بالتناسخ، أي حلول الأرواح في أجساد أخرى غير التي فارقتها، وقد أدعى زعيمهم بابك الخرَّميّ أنه إله، حلت به روح كبيرهم الأول جاويدان
كان بابك في حياته الأولى راعياً صغيراً في قرية بأذربيجان، وقد زعمت أمه أنها نظرت إليه وهو نائم فرأت تحت كل شعرة من رأسه وصدره دما، فلما انتبه من نومه اختفى هذا الدم، فقالت إنه سيكون لابني نبأ جليل. .
اتصل بابك بجاويدان ملك الخرمية، فقر به إليه، لما رأى من فطنته وخبثه وشهامته. فلما(676/37)
مات جاويدان استدعت امرأته بابك وقالت له: إنك جلد شهم، وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغد. . .
فلما أصبحت تجمع إليها جيش جاويدان، فقالوا: لمَ لمْ يدعنا ويوصي إلينا؟
قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث إليكم وجمعكم انتشر خبره، فلا يأمن عليكم شِرَّةَ العرب، فعهد إليَّ بما أؤديه إليكم.
قال لي: أني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني، وتدخل في بدن بابك، وتشترك مع روحه؛ وإنه سيبلغ بكم أمراً لم يبلغ أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة، ويرد المزدكية، ويعز به ذليلكم، ويرتفع وضيعكم.
فآمن القوم ببابك، وتزوج امرأةُ جاويدان. ومن غريب ما جرى في الاحتفال بهذا الزواج أنهم أتوا ببقرة، فقتلوها، وسلخوها، وبسطوا جلدها، وجعلوا فوقه طستاً مملوءاً خمرا، ووضعوا خبزا حوالي الطست، فكان كل رجل يأتي يأخذ لقمة ويغمسها في الخمر ويأكلها ويقول: آمنت بك يا روح بابك، كما آمنت بروح جاويدان.
أخذ بابك ومن معه يعيثون في الأرض فسادا، وينشرون مذهبهم الإباحي. وبلغ المأمون خبره سنة 201 هـ الموافقة لسنة 816 م، فأهتم بأمره، وعزم على مطاردته، والقضاء على مذهبه، وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع، والمضادة لتعاليم الإسلام، والمنذرة لأركان الحضارة الإسلامية بالتصدع والانهيار. فوجه المأمون إلى بابك أربعة من قواده في أربعة حملات متعاقبة، فلم يستطيعوا التغلب عليه، لمكانه الحصين، وقوته الكبيرة، وشدة تأثيره في قلوب جمهوره. وأدركت المأمون منيته قبل أن يتمكن من القضاء على الخرمية الإباحية، فكان من وصيته لأخيه المعتصم أن كتب له: (والخرمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك واعمل لذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه).
وفي أول عهد المعتصم استفحل أمر الخرمية في أذربيجان، ودخل فيه خلق كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وغيرها؛ ولكن المعتصم شمر عن ساعد الجد، وبذل جهده في الخلاص من هذا الشر، فاختار لحرب الخرمية قائداً من كبار قواده، هو المعروف(676/38)
بالأفشين، وسيره إليهم في سنة 220 هـ على رأس جيش منظم، فدبر الأفشين أمر القتال، وأحكم تدبيره، ووزع قواده على الحصون والمعاقل لحراسة القوافل والسابلة، وأطلق عيونه وجواسيسه حتى يعرف خطوات الثائر وحركاته. واستمر يحاربه سنتين، حتى انتصر عليه في سنة 222 هـ الموافقة لسنة 837 م.
وفر بابك متنكرا حتى نزل مكانا بأرمينية، فعرف خبره سهل بن سنباط أحد بطارقة أرمينية، فذهب إليه، وسلم عليه بالملك، وقال له: قم أيها الملك إلى قصرك الذي فيه وليك، حيث تكون في أمان من عدوك. فسار معه إلى قصره، ورفع سهل مجلسه وعظمه، وقدمت المائدة، وجلس يأكل معه، فاستشعر بابك جبروته غافلا عما يدبر له فقال لسهل: أمثلك يأكل معي؟ فقام سهل وقال: أخطأت أيها الملك، وأنت أحق من احتمل عبده. ودخل حداد كان سهل أرسل في طلبه، فقال لبابك: مد رجلك أيها الملك. والتفت إلى الحداد قائلا: أوثقه بالحديد. فقال له بابك: اغدرا يا سهل؟ قال سهل: يا ابن الخبيثة، إنما أنت راعي غنم وبقر، ما أنت والتدبير للملك ونظم السياسات؟ وسلمه إلى الأفشين، فأرسله إلى الخليفة بسامرا، فأمر بقتله وصلبه.
وكان يوم دخول الجيش ببابك مدينة سامرا يوما مشهودا، خرج فيه الخليفة، ومعه أشراف الدولة، فاستقبلوا الأفشين استقبالا باهرا، وكان فرح المعتصم عظيما، حتى أنه كان يرسل إلى قائده الباسل في صبيحة كل يوم حلة شرف ومعها الهدايا الثمينة.
وجلس الأفشين للشعراء، يستمع إلى أشعارهم في الثناء عليه إذ أراح الناس من شر ثائر روع البلاد والعباد عشرين عاما، قتل فيها مائتين وخمسة وخمسين ألف انسان، وأسر ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل وسبعة آلاف وستمائة امرأة، وقد ظلوا في أسره حتى أنقذهم الأفشين.
عباس حسان خضر(676/39)
الطاقة الذرية وكيف صارت سلاحا حربيا
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الفعل الرديومي الصناعي:
بين (جوليو) في العام التالي. أي عام 1933. إن من الممكن صناعياً تحويل عدد كثير من الذرات إلى ذرات ذات فعل رديومي. أي أصبح في الإمكان صناعة مواد كثيرة ذات فعل رديومي بأية كمية مطلوبة. وفي عام 1934 كشف العالم الإيطالي (فيرمي) وزملاؤه بروما، أنه عند تصادم أثقل العناصر المعروفة وزناً أي اليورانيوم بالإلكترونات، أعطى اليورانيوم ذرات معروفة؛ وذلك طبقاً لإحكام إحلال الفعل الرديومي. وتدل هذه النتائج على ما يظهر أن من الممكن الحصول في المعمل على ذرات أعلى في عددها الذري من الذرات الموجودة في الطبيعة. وقد دلت الدراسات والتجارب التي أجريت بعد ذلك على أن عدد العناصر (عبر - اليورانيوم) - المتكونة كثير شاذ، على أن البحوث الكيميائية الدقيقة التي أجريت في نفس الوقت للتعرف عن نوع الذرة الناشئة بذرات تلك العناصر التالية لليورانيوم مباشرة في العدد الذري أو الوزن قد فشلت.
انقسام اليورانيوم انقساماً ذاتياً:
وفي يناير من عام 1939 كشف العلم أيضاً عن نتيجة في غاية الخطورة. فقد أيد (أوتو كاهن) وزميله (ستراسمان) ببرلين الحقيقة الثابتة التي نصت على أن ذرات اليورانيوم يمكن شطرها مع إطلاق كمية هائلة من الطاقة. وقد توصلا بجانب هذا إلى كشف آخر في غاية الأهمية، وهو الذي نص على أن أحد مركبات (عبر - اليورانيوم). هو عبارة عن نظير العنصر (باريوم) الذي في عدده الذري وكتلته لا يختلف اختلافاً تاماً عن نصف العدد الذري وكتلة اليورانيوم. وقد كان أن فطن العلماء عقب هذا مباشرة أنه ينشأ عند استحالة اليورانيوم تفاعل نووي يختلف اختلافا تاماً عن أي تفاعل درس حتى هذا الوقت، بمعنى أن ذرة اليورانيوم وهي ذرة كبيرة جداً، لابد وأن نفرض بأنها قد انقسمت إلى قطعتين، وأن هاتين القطعتين تحتويان على ذرتين عاديتين وزنهما متوسط. ولما أضيف وزن هاتين الذرتين كل منهما إلى الآخر وجد أن الوزن الكلي أقل بمقدار محسوس عن(676/40)
وزن ذرة اليورانيوم، وأن النقص في الوزن قد ظهر في شكل طاقة منبعثة , وأن هذا التأثير أقوى عشرين مرة من أي تأثير من نوعه كشف عنه العلم من قبل. وفي الحال بدأ الباحثون في الكثير من بلدان العالم في إجراء بحوث دقيقة شاملة لمعرفة ماهية انقسام ذرة اليورانيوم انقساماً ذاتياً.
وفي بحر شهور قليلة توصل (جوليو) وزملاؤه بباريس إلى الكشف عن أدلة بينوا بها أن ذرة اليورانيوم عند انقسامها إلى ذرتين ينطلق منها في الوقت نفسه عدة نيوترونات - من المؤكد أكثر من أثنين - أي أصبح من الممكن إذن الوصول إلى سلسلة من التفاعلات مبينة في شكل متوالية هندسية. فلنفرض أن في متناولك كتلة من اليورانيوم أطلق فيها نيوترون واحد. النتيجة أنه يصحب استحالة ذرة واحدة من اليورانيوم انطلاق 2 نيوترون على الأقل؛ وأن ال 2 نيوترون يسببان استحالة ذرتين أخريين من ذرات اليورانيوم، وينتج من هذا انطلاق 4 نيوترون على الأقل. وتستمر العملية على هذا المنوال حتى تحدث استحالة عامة في الكتلة. وقد كان من الواضح الجلي أنه من الممكن باستخدام عملية كهذه الوصول إلى منبع هائل من الطاقة.
وفي ربيع عام 1939 وقت أن كان الأستاذ (نيل بور) يزور أمريكا، وضع مع الأستاذ (هويلر) بجامعة برنستاون بمقاطعة نيوجرسي نظرية في عملية الانقسام الذاتي. وعلى أساس هذه النظرية تكهن العلماء أن من بين نظائر اليورانيوم الثلاثة المعروفة ب (نم 238، نم 235، نم 234) (نم) هو الرمز الكيميائي لليورانيوم باللغة العربية) إن من المتوقع أن النظير الشائع (نم 238) ينقسم انقساماً ذاتياً في حالة ما إذا كانت النيوترونات المنطلقة ذات طاقة عالية فقط. وأن (نم 235) النادر الوجود لا ينقسم انقساماً ذاتياً إلا إذا كان طاقة النيوترونات، أو بعبارة أخرى سرعة النيوترونات، المنطلقة بطيئة جداً. وقد تأيدت تلك التكهنات في مارس من عام 1940 بتجارب أجراها (نير) (بجامعة مينيسوتا)، بود، دانينج جروس بجامعة (كولومبيا بنيويورك) وقد نصت تجاربها على استخدام عينه من اليورانيوم زيدت فيها كمية (نم 235) عن الكمية العادية بواسطة (الأسبكتروغراف الكتلي) الذي اخترعه (نير).
وعند تصادم اليورانيوم بنيوترونات ذات طاقة معينة معتدلة. تكون نظير له عدد يساوي(676/41)
94. وقد تكهن العلم أيضاً على أساس نظرية (بور - وهويلر) أن هذا النظير - الذي أطلق عليه اسم (بلوتونيوم) وعبر عنه بالرمز الكيميائي يمكن انقسام ذاتياً بنفس السهولة التي ينقسم بها (نم 235).
انطلاق الطاقة الذرية:
كان الكشف عن انقسام اليورانيوم انقساماً ذاتياً بمثابة قوة دافعة حركت أذهان كل المهتمين بالبحث في هذا الفرع من العلم. فبدأ في الحال الأستاذ (جوليو) وزملاءه بباريس والأستاذ (فيرمي) وبعض علماء الطبيعة الذرية الآخرين في الولايات المتحدة الأمريكية، والسير جورج تومسون وزملاؤه في لندن، في إجراء التجارب بقصد الوصول إلى طاقة ذرية منبعثة يمكن ضبطها.
وقد دلت التجارب التي توصل إليها العلماء في لندن، والتي أيدها زملاء الأستاذ جوليو بعد وصولهم إلى إنجلترا بتجارب كانوا قد أجروها مستقلين قبل هذا بباريس، على أن الأمل كبير في استخدام الطاقة الذرية كمنبع للقوة. ولما كانت النتائج في هذا الوقت ليس لها أهمية حربية منتظرة أبطأت البحوث في هذا الموضوع في لندن.
وفي الشطر الأول من عام 1940 اقترح على الحكومة كل من الأستاذ شادويك والدكتور (فريش) والأستاذ (بيرليس) كل على حدة أنه من الممكن الحصول على فرقعة هائلة على جانب كبير من الخطورة إذا استبدل النظير النادر (نم 235) باليورانيوم العادي. وعليه ألفت الحكومة لجنة من العلماء المتخصصين تحت رئاسة السير جورج تومسون، وبدأت عملها أولا في جمع كل المعلومات العلمية التي ظهرت في هذا الموضوع وقد تطور البحث الذي كان قد بدأ في لفربول تحت إشراف السير جيمسشادويك بتعيين الدكاترة فريش وروتبلات مساعدين له. ولما أخذ البحوث تترى ظهرت هناك مسائل أخرى لها علاقة بهذا الموضوع. وعليه ساهم معمل (كافنديش) المشهور بكمبردج بنصيبه في هذا البحث الخطير تحت إشراف الدكاترة (فيذر، برتشر) وقد أجريت التجارب في فصل (نم 235) في معمل كلارندون تحت أشرف الدكتور (سيمون) يعاونه في البحث من الناحية الكيميائية الأستاذ (هوارث). وقد أجريت البحوث من الناحية النظرية الأستاذ (بيرلس) يعاونه الدكتور (فوش) وغيرهما من العلماء. وذلك بجمع المعلومات التجريبية من مختلف المعامل. وقد(676/42)
وضعت اللجنة في 15 يولية سنه 1941 تقريراً أثبتت فيه إمكان تحضير سلاح حربي له قوة تخريبية لا مثيل للها، أي استخدام الطاقة الذرية كسلاح حربي:
وقد تطور في نفس الوقت في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما اقترح المرحوم الرئيس روزفلت في عام تبادل المعلومات والنتائج بين الباحثين البريطانيين والباحثين الأمريكان وافق المستر تشرشل على هذا الاقتراح. وعليه قدم فريق من العلماء بريطانيا. وفي فبراير من عام 1942 رحل فريق من العلماء البريطانيين إلى أمريكا. واستمر العمل بعد ذلك في إنجلترا وأمريكا في جويشوبه التعاون التام بين البلدين. أما في إنجلترا فقد زيد في عدد العلماء الباحثين؛ وانضمت جامعتا برستول ومانشستر، ووضع لكل منهما برنامج بمسائل للبحث فيها. ولما اشتدت الغازات الجوية على بريطانيا أصبح من الضروري نقل الكثير من المجهود البريطاني إلى أمريكا عام 1943 رحل العدد الكبير من الفريق البريطاني إلى أمريكا للعمل مع زملائهم هناك. وقد كان من تأثير هذا النقل أن وقع معظم الحمل على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تم استخدام المواد الخام اللازمة من كندا. واشتغل العلماء الأمريكيون والكنديون والبريطانيون جنباً إلى جنب في جو يشوبه التعاون التام والإخلاص لغرض واحد. والعالم أجمع يعرف الآن نتيجة تلك الجهود الموفقة وهو فوز لا نظير له في التاريخ. فوز في تطبيق المعلومات الجديدة لتركيب الذرات ونواتها. وقد اشترك علماء لكثير من الدول في الوصول إلى هذه النتيجة الباهرة التي لا مثيل لها في تاريخ العلوم. ولكن الفخر كل الفخر يرجع بلا شك لرثرفورد الذي عاجلته المنية منذ بضع سنوات قبل تطبيق هذا الفرع الجديد من العلم تطبيقاً ناجحاً، والذي ساهم فيه لرثرفورد بنصيب وافر.
المستقبل:
قد رأينا كيف استخدم الطاقة الذرية كسلاح حربي في غاية الخطورة. بيد أنه من الممكن استخدامها في الوقت نفسه في الكثير من النواحي لسعادة المجتمع بنجاح تام وفائدة لا مثيل لها فمن الممكن مثلا استخدام المفرقعات الذرية لتحويل الأصقاع. ومن الممكن أيضاً استخدامها للحصول عل حفرة هائلة في الحجم خنادق في الأرض وتحويلها إلى بحيرات وأقنية أو مصارف. بهذا يصبح في الإمكان إنشاء بحيرات في وسط الصحراوات. أي(676/43)
يمكن تحويل أردأ بقاع الأرض إلى واحات وأرض خصبة. من الجائر أيضاً توليد كميات هائلة دائمة من الحرارة في المناطق القطبية للراحة والاستجمام.
ومن المنتظر في القريب العاجل تطبيق منبع الطاقة الجديدة تحريك السفن والقاطرات. أو على الأقل يمكن استخدام الطاقة الذرية للوصول إلى قوة بدون الدخان والقذر المألوف.
وستنتج معامل الطاقة الذرية كميات هائلة من مستخرجات مواد الرديومية يمكن توزيعها على الجامعات لأجراء بحوث أخرى شاملة، وعلى المستشفيات للبحث واستخدامها في الأغراض الطبية العديدة. فإذا ما تصادمت النيوترونات بسرعة محددة مع نظير اليورانيوم الأكثر ثقلا، كتلتة238 وحدة، وقعت سلسلة من التحويلات، يتغير فيها اليورانيوم أولاً إلى (نبتيونيوم) ثم إلى (بلوتينيوم) ولكل من هذين العنصرين اللذين ليس لهما وجود في الطبيعة خواصه الكيميائية الفريدة. فالنبتيونيوم ذو فعل رديومي يتحول نصف وزنه إلى بلوتنيوم في فترة أكثر من يومين بقليل. ولما كان البلوتينيوم يتبع نظرية الانقسام الذاتي أصبح من الممكن استخدامه في انبعاث الطاقة الذرية.
فالعلم إذن قد كشف عن عناصر جديدة من المادة في الوقت الذي كشف العلماء فيه عن قوة فتاكة. فماذا عسى أن يكون مأربه الجديد؟ هل البحث عن تطورات جديدة في الحياة؟
عن النشرة العلمية الإنجليزية(676/44)
هُتَاف. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
هاتف، عله الذي أتمنى ... من وراء الغيوب، روحاً وفنا
عشقت روحه الزكية روحي ... فمتى تلتقي العيون؟ وآينا؟
هو في خاطري رؤًى؛ وبقلبي ... حلُم راعه زماناً فجنا
هو ظلُّ نديتُه بدُموعي ... وتفيأته سلاماً وأمنا
هو نور هدى يقيني، ونارُ ... صليتْها شكوكُ قلبي المعنًّى
هو في الزهر والفراش تراءى ... لخيالي وفي الشعاع استكنَّا
عله الهاتفُ المسرُّ لي الشو ... قَ ملحاً، فكنتُ كأي أُذنا
أسمع الصوت في (المسرة) حلواً ... عبقرياً؛ يهتزُّ ناياً ولحنا
يرقص الكونُ كله من حواليَّ ... فأفنى في الكون ناياً وغصنا
شارداً في عوالم الوهم، هل آ - ن لهذا الطريد أن يطمئنا؟
إيه يا هاتف (المسرة) أشرق ... إن لي مقلة بليلك وسنى
آن أن يشرق الصباح عليها=لترى الكون بين عينيك كون(676/45)
رباعيات عثمان
للأستاذ عثمان حلمي
يا أخي إن قرأت هذا الكتابا ... بعد أن صرت في التراب ترابا
لا ترع وابتسم فسخرك بالدن ... يا صواب إذا ضللت الصوابا
وتذكر أني حكيتك في الأر ... ض غروراً وبهجة وعذابا
صورة منك كان قلبي وقبلي ... من حكاني كهلا بها وشبابا
لا جديد بالليل أو بالنهار ... وقديم ما جدَّ في الأخبار
فوليد في مهده وفقيد ... صرعته مخالب الأقدار
والليالي هي الليالي كما كا ... نت قديما سلالة التكرار
قمرٌ جدَّ في المسير وشمسٌ ... لاحقتها النجوم في التسيار
فالعجيبُ العجيبُ غيرُ عجيبِ ... ومريب الأمورِ غيرُ مريب
والذي أنت فيه صورة فا ... تَ ولون القديم ولونُ القشيب
فابتسمْ ما استطعت واسخر إذا اسطع ... ت بما جدَّ من جديد الخطوب
إنَّ جدَّ الحياة أخلق بالسخ ... ر وأجدى لا بالأسى والنحيبِ
كلٌّ ما أنتَ مبصرٌ لك يٌغري ... لو تأملت بابتسامة سخرِ
ليت شعري أيٌّ النفوس وإن خ ... لّ خلا من ضعفٍ به ليت شعري
وزوايا النفوس فيها كثير ... من خفايا غرورها المستقرَّ
فابتسم يا أخي إذا خدّ أمرٌ ... ساخراً إن فطنتَ من كلّ أمر
ضائع ما أفاده كلّ حي ... من جميل محجبٍ ورديَّ
ما أفاد الذكيٌّ في الكدح إلاّ ... ما أفادت في الكدح نفس الغبيَّ
تعبٌ غيرٌ مثمر فوق ثرى الأر ... ض تساوي سعيدٌها بالشقىَّ
وعناءٌ لا ينقضي يتساوى ... جاحدٌ في عنائه بالتقيَّ
أيٌّ جهدٍ جازاهٌ أيٌّ رجاَء ... فوق هذا الثرى وتحت السماءِ
إن تساوت مصائر الناس يوما ... بمصير البهيمة الخرساء
من تراب إلى تراب ومن مح ... ض فناءٍ حق لمحض فناء(676/46)
يتلاقى الجهول فيه وذي الحك ... مة والأقوياء بالضعفاء
فعلامَ الأسى على غير مجدٍ ... بين ماضٍ ومقبلٍ مستجدَّ
واقعٌ ما أُعدَّ في الغيب لا تست ... طيع نفسٌ تبديل حتم المعَدِّ
ومحالٌ عليكَ ردُّ الذي فا ... تَ محالٌ إرجاءُ ساعةِ فقد
عاجز أنتَ يا أخي عجزَ أهل الأ ... رض عن ردِّ فائتٍ مسترد
كلُّ غادٍ أو رائحٍ غيرُ غادِ ... يتولى بغصةٍ في الفؤادِ
والذي لم ير الحياة وإن كا ... ن جماداً أسعدْ به من جماد
ساعة الموت لو تأملت في السا ... عات خَيرٌ من ساعةِ الميلاد
منتهى هذه الحياة فسادٌ ... مبتد في نشوئه من فساد
هذه سنة الحياة ولولا ... جهلنا لم نقم على الأرض نسلا
راحة جهلنا الحقيقة بالخل ... ق فزدنا بالحق والخلق جهلا
فمن الجهل راحة ورضاءٌ ... ورضاءُ النفوس بالعجز أولى
إنّ عقل الإنسان لم يك يوماً ... بخفايا الوجود للفهم أهلا
إن عجزي عن فهم أسرار روحي ... ثم بخلي بالنفس بخل الشحيح
من مُلحٍّ من الغرائز فيها ... تتجلى قناعتي وطموحي
في حياة منها الصحيح تساوى ... في احتكام النهي بغير الصحيح
لم يدع لي من مطلب في وجودي ... غير سعيي وراء كل مريح
ولقد جزتُ من حياتي عُمرا ... ذقت فيه الحياة خيراً وشرا
وبلوت الأمور في هذه الأي ... ام فيما عرفتُ طياً ونشرا
كلما زدت في المقادير خبرا ... زادت النفسُ بالمقادير سُخرا
وانتهى بي المطاف أني رأيت ال ... يأس في الناس راحة لي كبرى
بين يأسي أحيا وبين رجائي ... لا أُبالي بشقوةٍ أو هناء
لا أبالي أسارَ زيدٌ أمامي ... دون حقٍّ أو سار زيد ورائي
علمتني الأشياء كيف أرى الشئ ... بعين لم تُعنَ بالأشياء
وسواءٌ لو تغرب الشمسُ في المش ... رق أو لا تنير جوف السماء(676/47)
لا أُبالي إن مر ركب الوزير ... بيَ بين التهليل والتكبير
أو هوى صاعق على الأرض لا يخ ... شى فؤادي ماذا يكون مصيري
وضميري أرحته وكفاني ... أنني لم يثر علىَّ ضميري
لي وحدي تقدير من هو أولى ... باهتمامي في الخلق أو تقديري
كل كسبي من التجارب أني ... عشت في الأرض عيشة المطمئن
وكفاني من كل ما أتمنى ... أنني لا أُطيل فيه التمني
إن تجّنى علىّ من يتجنى ... دون حق بسمتُ للمتجني
وكفاني أن نلت منه بسخري ... ضعفَ ما نال بالحماقة منّي
أنا في موكب الحياة أسير ... في زحامٍ على الرغام يمورُ
موكبٌ دائبُ المسير فما يع ... روه كلُّ أو يعتريه فتور
صاخبُ في غروره لم يفارق ... هـ طوال الزمان هذا الغرور
لا يبالي بمن تخلف أو يع ... ني بمن كَلَّ أو دهاه قصور
ولقد حار في وجوديَ فكري ... وتبرمتُ فاستعنتُ بصبري
وأخذت الحياة باليسر حتى ... لم يضق بالحياة والناس صدري
لا أرى أن أكون غِرّاً ولا أر ... ضى لنفسي في الناس تفكير غرِّ
كيفما كانت الأمورْ فإني ... لم تفارقنيَ ابتسامة سخري
فوجودي ما لي يد في وجودي ... لا ولا في النحوس أو في السعود
غفر الّله للجدود فلما أر ... غب في أن أُعيد حمق الجدود
لا أرى الأرض بعد ما ملأ النا ... س فضاها تواقة لمزيد
خلني خلني فنفسيَ أولى ... باهتمامي من كلِّ وجهٍ جديد
ما كفى ما أحاطني من قيود ... فأزيد القيود في التعقيد
علم الله ما يخبئه الغي ... ب لنفس السعيد والمجدود
هكذا تسخرُ الطبيعةُ بالخل ... ق وتغري نفوسهم بالخلود
ويصيب العمى القلوب فما تب ... صر ما في الثرى وما في اللحود
جاء من جاء في الوجود ومرَّا ... كخيال على الثرى ما استقرا(676/48)
ضاقت الأرض بالجميع فألفوا ... جوفها للجميع أوسع صدرا
أكلتهم من بعد ما أكلوها ... فاسأل الأرض فهي بالناس أدرى
ما لها أنبتت من الرّم أثم ... اراً طعاماً للآكلين وبذرا
ربَّ تفاحةٍ كخدٍ صقيل ... نبتتْ من صميم خدٍّ صقيل
مضغتها الأضراس ثم طواها ... في ظلام الأحشاء جوفُ ثقيل
والليالي بالهمس تضحك من ك ... لِّ قبيحٍ وكلِّ زاهٍ جميل
كالرحى ما تني عن الطحن أو تس ... كن في سعيها سكون ملول
(الإسكندرية)
عثمان حلمي(676/49)
البَريد الأدَبي
توفيق الحكيم وقواعد الفن:
لا يزال في كتابنا النابهين من يكتب بالسليقة فلا يكلف نفسه عناء
الرجوع إلى معاجم اللغة، أو النظر في قواعد الأعراب، أو البحث في
أصول الكتابة. وقد ساعدهم على الإخلاد إلى هذا الكسل الأدبي
إغضاء النقد وغفلة القراء. وعاقبة هذا الكسل وخيمة على الفن في
ذاته، وعلى الفنان في مستقبله.
ومن أقرب الأمثلة على الخروج عن قواعد الفن الأولية أن صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم قد سمح لحماره أن يتدخل في فنه، فنشر في عدد السبت الماضي من (أخبار اليوم) أقصوصة جعل عنوانها (وكانت الدنيا)، ومن حول هذا العنوان كتب بخط ظاهر: قصة العدد خيالية. ثم بدأها بقوله: (لماذا تمرد إبليس؟ قصة ذلك مدونة جاءت بها الكتب السماوية ولا سبيل للشك فيما روت؛ ولكن خيال الروائي يجنح أحياناً إلى اختلاق صور أخرى للحادث الواحد، ولا بأس من عرض إحدى هذه الصور على سبيل التفكهة لا الاعتقاد). ثم نقل عن (أبى الفداء) كلاما في إبليس، ثم قال بعد ذلك: (وتبدأ قصتنا هذه المخترعة بعد أن تم خلق آدم. . . الخ).
فهل يجوز للقصصي أو الروائي أن يفضح سر فنه للناس فيقول لهم أول ما يقول: إن هذا الحادث الذي ستقرءونه أو ستسمعونه أو ستشاهدونه اختلاق محض وكذب صريح؟ وهل يسمح لنفسه كاذب أو فياش من عامة الناس أن يبدأ حديثه الذي احتشد له وأفتن فيه بأنه تلفيق أو إغراب أو مبالغة؟ إن المحدث متى اعترف بكذب حديثه أول الأمر جرده من اللذة والفائدة فلا يهتم له السامع أو القارئ مهما كان موضوعه طليا وعرضه فنيا؛ ولذلك شرطوا في القصة أو الرواية الصدق أو قابلية الصدق وأوجبوا على القصاص أو الروائي أن يستعين على تمثيل الحقيقة بالخداع الشعري أو المسرحي , محافظة على التأثير والتشويق، وحرصاً على التوفيق بين الفن والحقيقة. ويظهر أن الذي دفع الأستاذ الحكيم إلى هذه المخالفة الفنية، مخالفة الأقصوصة للنصوص الدينية، ولكنه كان حقيقاً بأن يحتال(676/50)
بفنه على أن يمكن القارئ من فهم ذلك بنفسه، أو بأن يختار من الموضوعات ما يستطيع التوفيق فيه بين فنه واعتقاده.
هيج أو هاج لا أهاج:
جاء في (رسالة لم تنشر للجاحظ) الجزء الأخير في مجلة (الكاتب المصري) الغراء:
(وأهاج المتبلد).
واليقين كل اليقين أن هذا من تحريف الناسخين، فبعيد بل محال أن يقول أبو عثمان (أهاج) وإنما يقول (هيج أوهاج) (وهاجه غيره يتعدى ويلزم).
السهمي
جامعة هارفرد تهتم بالشرق العربي:
تبدي حكومة الولايات المتحدة اهتماماً شديداً بالشرق الأدنى والأوسط كما يستدل عليه من خطاب الرئيس ترومان الأخير في شيكاغو في احتفال (يوم الجيش). وقد رددت صدى هذا الاهتمام الصحف والمجلات والراديو والأندية السياسية وغيرها من المعاهد التي تهتم بشؤون الشرق.
ومن أدلة هذا الاهتمام أن جامعة هارفرد - كبرى جامعات أمريكا - عقدت مؤتمرا للبحث في شؤون الشرق الأدنى والأوسط برعاية دائرة الدروس الحكومية لتلك الجامعة، وذلك في اليومين الثالث عشر والرابع عشر من شهر نيسان - أبريل - وقد كان المشتركين في البحث بهذا المؤتمر الأستاذ جيمس لاندس - عميد مدرسة الشريعة في جامعة هارفرد والمستشار الاقتصادي لحكومة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أثناء الحرب الأخيرة - والأستاذ كارل فريد ريخ أحد أساتذة الجامعة المذكورة - والأستاذ وليم رابارد - أحد أساتذة جامعة جنيفا ورئيس لجنة الوصايا سابقا في جمعية الأمم المنحلة.
وقد طلب القائمون بالمؤتمر من معهد الشؤون العربية الأميركية إرسال ممثل عنه للاشتراك في أبحاث المؤتمر، فلبى المعهد الطلب وندب عنه الدكتور خليل طوطح الذي اشترك في جميع أبحاث المؤتمر وخطب مظهرا أهمية معرفة الشرق العربي عن كثب، وبالاختبار لا بالمطالعة، ومن الوثائق الرسمية فقط. ولفت الأستاذ طوطح أنظار(676/51)
المحاضرين إلى أهمية البعث العربي الأدبي والسياسي والاجتماعي الذي شمل جميع أقطار الشرق العربي، ولا يزال من أهم عوامل تقدمه في جميع مرافق الحياة ومظاهرها. وأشار بوجه خاص إلى التقدم في طبقات الشعب المتوسطة وبين الفلاحين والعمال. فقال إن كلمة (أفندي) لا تعني طبقة خاصة من الناس تمتاز بشيء عن غيرها، واستشهد على ذلك بنفسه، وبالعصامي المعروف السيد عبد الحميد شومان. فقال أنا أدعى أفندي مع أنني ابن فلاح وكذلك السيد شومان الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وأحرز ثروة لا بأس بها في شارع واشنطون - نيويورك - قبل أن عاد إلى فلسطين وأسس مصرفا عربيا في القدس له فروع مختلفة في مدن فلسطينية عديدة، وفي غير فلسطين من الأقطار العربية المجاورة.
يوم ولا كالأيام!
هكذا كان عنوان إحدى المقالات الرائعة في الرسالة. وفي تركيب هذا العنوان ما إلى عكس ما قصد إليه الأستاذ الكاتب؛ إذ أن المعنى الحقيقي لهذا التركيب: إنه يوم لم يبلغ أن يكون في أوصافه شبيها بالأيام، والأستاذ إنما يريد أنه يوم لم تبلغ الأيام أن تكون في أوصافه مثله. وقد شاع هذا النوع من الخطأ في كلام كثير من الكتاب فيقولون مثلا: شاب ولا كالشباب، فيضعون منه من حيث لم يريدوا الإطراء. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدون، فتى ولا كالشباب، فيضعفون منه من حيث لم يريدوا إلا إطراءه. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدان، فتى ولا كمالك، ماء ولا كأصداء، فهي تضرب للشيء الذي فيه وغيره أفضل منه كما يقول أبو الحسن الأخفش في تعليق على الأمل للمبرد.
عبد الغني الدفر
مدرس الأدب العربي في المعهد العلوم الشرعية في دمشق
كتاب أنساب الخيل:
قد أتمت دار الكتب المصرية طبع كتاب انساب الخيل لابن الكلبي، وهو معروض للبيع يوميا وثمن النسخة للجمهور 250 مليما، ولباعة الكتب 200 مليم، ولمن يشتري عشر نسخ فأكثر
خطأ أم عمد؟(676/52)
رويت في مقالتي في العدد (674) من الرسالة، أبيات: أعناقها والنفس بعد مشوقة الخ. . . ونسبتها لابن الرومي، فلما جاءت المقالة منشورة وجدت اسم العباس ابن الأحنف مكان اسم ابن الرومي، فإذا كان خطأ فأرجو تصحيحه وإن كان عمداً فأرجو بيان دليله.
(دمشق)
علي الطنطاوي
(الرسالة): الأبيات لابن الرومي والتغيير قد حدث خطأ.
في الكتب
عبد الله فكري:
تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن
هذه ولا ريب نهضة مباركة أن يقوم شبابنا المثقف بتعريف الجيل الحديث بأعلام القرن الماضي، حتى تتم حلقات التاريخ، ويعتمد الحاضر على دعائم وثيقة من الزمن. وحياة الأمم تقاس برجالها وتاريخها وماضيها.
وليس الأستاذ محمد عبد الغني حسن غريباٌ عن قراء العربية، فهم يعرفونه أديباً شاعراً كاتباً، وقد أحسن الكتابة عن عبد الله باشا فكري، لأنه كان أديباً وكاتباً وشاعراً كذلك. فهذه المماثلة بين صاحب الترجمة وبين المؤلف هي في نظرنا السر في ظهور هذا الكتاب في هذه القوة وهذا الإشراق.
بيّن المؤلف نشأته ومولده، وتعليمه في الكتّاب، ودراسته في الأزهر، وصور حياة الأزهر في ذلك الوقت أحسن تصوير، ولقد كانت حياة العلم في الأزهر في القرن الماضي أفضل منها في العصر الحاضر بعد أن تقيد الطلبة بالمناهج، وتقيد الأساتذة بطائفة من الحصص. لقد كانت الحرية الواسعة التي يلقاها الأساتذة والطلاب في الأزهر القديم سر نجاحه ومصدر بروز بعض المتخرجين فيه. لقد كانوا يطلبون العلم للعلم وهو أفضل الغايات. تقلب عبد الله فكري في وظائف الحكومة حتى بلغ نظارة المعارف وهو مثال الموظف(676/53)
الأمين على وظيفته، الناظر في مصلحة الشعب، المخلص لعمله، فليتدبر من يقرأ هذا الكتاب من الموظفين في الحكومة ماذا تكون نتيجة الإخلاص للوطن
ولم تمنعه الوظيفة الحكومية على ما فيها من أعباء ثقال، وعلى الأخص في ذلك العهد العصيب من الناحية السياسية، الذي ظهرت فيه حركة عرابي وانتهت بالاحتلال، لم تمنعه هذه الأمور كلها من التأليف وقرض الشعر.
وبعد، فهذه دراسة جدية بذل فيها المؤلف جهداً واضحا، ورجع إلى نحو ثلاثين مرجعاً أثبتها في صدر الكتاب مما يدل على التحقيق وسعة الاطلاع.
ونرجو إن يستمر الأستاذ عبد الغني حسن على هذا النمط، فيترجم لنا عن بعض الشخصيات الأخرى من أعلام الماضي، ليكون ذلك نبراساً يهتدي به شبان هذا الجيل.
أحمد فؤاد الأهواني
ليلة النهر:
(للأستاذ علي أحمد باكثير)
لا عجب ومصر بلاد فيها نهر النيل، فيهب الحياة لقطانها وحيوانها وزرعها، أن يتغنى المرء بفضل ذلك المنهل الخصيب على كل مرفق من مرافق الحياة. ولكن الأستاذ على أحمد باكثير - هو الأديب المطبوع - يرى أن لهذا النهر وحياً آخر أسمي من الماديات، فهو بالحب يوحي، وناره يزكي , ويلهم للشاعر أغاريده فتصدح بها نفسه دون وعي.
(ليلة النهر) قصة حب رعته الطفولة البريئة الباكرة، ونماه الشباب الطموح الوثاب، وألهب أدواره ليلة أمضاها العاشق مع معشوقته في زورق حمله النيل الرؤوم كما تحمل الأم رضيعها، فتفجرت من العاشق عاطفته فإذا بها شعر وجداني رقيق يصاحبه نغم موسيقي رائع، وإذا بالأيام تقبل على الشاب فيصبح من أعلام الشعراء والموسيقيين والمطربين وهنا تنهض التقاليد في وجهه، فلا يستطيع الظفر بمحبوبته والزواج منها لأن خالها القيم على شؤونها، رأى أن يعقد عليها لشاب متعطل مفتون ليس له من مؤهلات سوى أنه نجل أحد الأثرياء من حملة الألقاب.
وتزداد الدنيا على الفنان إقبالا، فيصيب من المال والنجاح والشهرة ما لم يسبقه إليه مفتن(676/54)
سواه، لأنه ينظم الشعر جيدا، ويكسوه رداء غير فضفاض من الموسيقى ذات النغم الخالد، ثم ينشده بصوت يشيع الطرب في النفوس، ويدفع السأم عن القلوب، ولا يسع المرء إزاء إلا أن يستزيده ويقبل على الإصغاء إليه.
وتمعن الدنيا في التنكر لذلك الشاب العاطل زوج الفتاة، فتكبل بالحديد يداه، ويزج به بين غياهب السجون لإثم اقترفه ويختلف وراءه زوجة وطفلا يعانيان من نكد الدنيا أمره.
ولكن الأيام بالأحداث حبالي، فإن الشاعر الموسيقار وإن سخت عليه المقادير بالمال والجاه، لم تسخ عليه بغذاء قلبه؛ وإن واتته الشهرة والمجد، لم تواته عاطفة الحب بأكلها، فأنسى ظامئاً يتلهف على ري نفسه فلا يستطيع، وسرعان ما تذيل زهرة العمر وتنزل المنية به وهو في شرخ الشباب وأوج المجد، فينعاه الناعي من المذياع الذي طالما تردد صوته منه فأطرب وأشجى، وتستمتع إليه محبوبته التي فرقت الأيام بينهما، فينزل عليها النبأ نزول الصاعقة، وتصبح في اليوم التالي نزيلة صومعة من صوامع مستشفى الأمراض العقلية.
هذا موجز قصة (ليلة النهر) التي وضعها الأستاذ باكثير، وصاغ لها قصائد ثلاثاً من جيد الشعر، ولم يقنع المؤلف بسرد أحداث تتكرر في روايات أخر، بل رأى أن يضيف إلى ذلك عنصراً جديداً يمكن تسميته (عنصر الخفاء) وذلك لأنه جعل الشاعر بطل الرواية يتصل - في هيام روحه - بروح شاعر مات بعدما حرقت جميع لأشعاره، فاخذ يملي عليه ما ضاعت آثاره من شعره. فالشاعر العاشق في الواقع ليس سوى رواية لشعر غيره، ورجع لصداه، يقبل الشعر عليه من غير جهد فيسجله وتتوارد إليه عند تسجيله النغمات الموسيقية الملائمة، فتكتمل لها ناحيتان تضاف إليهما ناحية الغناء فيتم الثالوث الغني المطلوب.
وهذه الرواية ضرب من ضروب الحب العذري العفيف الذي يحرص الأستاذ على أحمد باكثير على أن لا يتجاوز في ما يكتب من الروايات كروايتي (سلامة القس) و (وا إسلاماه) اللتين أصدرهما من قبل وعلى الرغم من أن المؤلف (خلق) في رواية (ليلة النهر) رجلا من رجال الفن وأدار أحداثها حول بطولته، أبى أن يسمح لهذا البطل بالاستهتار والتبذل واحتساء الخمر، والإقبال على مشهيات الحياة. وقد يحسب البعض أن في هذا (الاعتدال) الذي أتصف به بطل الرواية تكلفا وخروجا عن المألوف، واكن الناقد المنصف لا يسعه إلا(676/55)
أن يحمد للمؤلف هذا الاتجاه. والمؤلف بعد ذلك وقبله، خلاق يخلق أبطال روايته كما يشتهي، ويجيد الخلق متى أخرج لنا شيئاً جديدا ليس لنا به من قبل عهد.
وبعد، إنها قصة جيدة متماسكة الجوانب تقف بين أترابها شامخة مرفوعة الرأس.
وديع فلسطين(676/56)
العدد 677 - بتاريخ: 24 - 06 - 1946(/)
أصول الكلمات
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت في (الثقافة) الغراء مقالا للكاتب الفاضل الأستاذ محمد فريد أبى حديد بعنوان (القواص المذهب) قال فيه:
(وكانت وظيفة القواص بسيطة جدا تتلخص في أن يقف ذلك الموظف على باب سيده الباشا الكبير، أو الحاكم الجليل لابسا ملابسه الزاهية الموشاة بالقصب الذهبي اللامع. ويحرص على أن يربي شواربه حتى تصير مثل الحبال الطويلة، ثم يبرمها برما شديدا ويشدها بالأذهان حتى تصير مجدولة ترفع طرفيها كالحراب، فيصبح منظره بهذا مهيبا يقع في النفوس موقع الرهبة؛ وصارت هذه الشوارب موضع تفاخر القواصين).
وقد التزم الأستاذ أبو حديد كتابة الكلمة في الأفراد والجمع بالصاد كما رايت، ولعله لاحظ في ذلك لهجتها التي كانت تلفظ بها وحروفها التي كانت تكتب بها في عهد الدواوين التركية، لان وظيفة (القواص) كما وصفها الأستاذ هي الوظيفة التي عرفت بين المصريين وغيرهم من الأمم التي شملتها دولة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها. فلم يكم (للقواص) عمل غير الوقوف على الأبواب ولم تزل الكلمة تقترن بأصحاب هذا العمل من الترك والارنؤود والشراكسة حتى حسبت من كلمات اللغة التركية، وكتبها بعضهم في أوربة كما كان ينطقها الترك كفاش ولكن الكلمة على التحقيق عربية من بقايا الدولة العباسية، لان القواسين كانت طائفة من طوائف الجند يحملون الأقواس كما كان اسليافون يحملون الاسياف، والنبالون يحملون النبال، والرماحون يحملون الرماح. ولك يكن عمل القواس في أول عهده مقصورا على الوقوف بالأبواب والأذن لطلاب المثول بين أيدي الأمراء والرؤساء، ولكنه كان يتقدم الأمير في مواكبه أو يخرج بين يديه كلما خرج للصيد أو في محافل العرض العسكري ليحمل له القوس التي يصيد بها أو يستخدمها في الرماية؛ لان الأمير كان يتقلد سيفه ولا يعهد في حمله إلى غيره كما يفعل بالأقواس والرماح.
وكان قادة الجند في أواخر عهد الدولة العباسية من الترك والديلم فاحتفظوا بمراسم الأمارة حتى قامت الدولة العثمانية ونقلت خلفاء المسلمين وأمرائهم من قبلها بعض مراسم الإمارة والحجابة، ومنهامشية القواس بين يدي الأمير ووقفته على بابه وقيامه قواسا بغير قواس(677/1)
بعد أن أغنى عن حامل البندقية والطبنجة، بل بعد أن اصبح القواس نفسه يحمل الطبنجة في حزامه، ولا يعرف ما القوس وما الرماية بالسهام.
وهكذا تعيش الكلمات احيانا، وتفنى الدول والإمارات وما اقترن بها من المعالم والأشياء.
على أن الرجوع بالكلمات إلى أصولها يمضي بنا بعيدا في مجاهل النقل والاستعارة. فإننا نذكر القواس والرماح والسياف ونعلم أن السياف حامل السيف، وان السيف كلمة عربية قديمة من ساف ماله أي هلك كما قال ابن دريد. ولكن بعض الأدباء ينكرون على ابن دريد هذا التعسف في رد الكلمة إلى ساف يسيف ويقولون إنها يونانية الأصل من سيفوس التي حذف منها العرب آخرها كما يفعلون بكثير من أواخر الكلمات وان العرب اخذوا كلمة الحربة من العبرانيين، وهي عندهم من حرب معنى الخرب أو الخراب.
قلت: لا ضير على العرب أن تنقص من لغتهم كلمة بمعنى السيف فقد تغنيهم عنها مئات الكلمات، ولا ضير أن يفقدوا (خربة) واحدة فعندهم الصحراء بل الصحارى التي لا يقدر عليها أحد غير أبناء يعرب وقحطان.
إلا إن الكلمة التي لا يفرط بها العرب ولو كان لهم من اصل معناها ألوف الكلمات هي كلمة (العقل) التي ظن الأب انستاس الكرملي إنها متحولة من اللاتينية فقال في مجلته لغة العرب: (. . . ذكر صاحب تاج العروس سبب تسمية العقل بهذا الاسم وسر اشتقاقه أو اصل اشتقاقه من مادة عقل فقال ما هذا حرفه: واشتقاقه من العقل هو منع لمنعه صاحبه مما لا يليق، أو من المعقل وهو الملجأ لالتجاء صاحبه إليه، كذا في تحرير لابن الهمام. وقال بعض آهل الاشتقاق: العقل اصل معناه المنع ومنه العقال للبعير سمى به لأنه يمنع عما يليق. قال:
قد عقلنا والعقل أي وثاق - وصبرنا والصبر مر المذاق
وقد راجعنا كتب كثيرة في هذا المعنى فرأينا أصحابها لا يخرجون عن القول بأحد هذه الآراء. ونحن لا نرى هذا الرأي، والذي عندنا أن اصل معنى العقل هو العين لأنه عين النفس وباصرتها. ثم مات المعنى المادي وبقى المعنى المجازي، يشهد على ذلك أن اللاتين يسمون العيون والعقل باسم واحد، وهو عقل. .).
كذلك قال الأب انستاس. وقد عقب عليه الأستاذ روكسي ابن زائد العزيزي معلم العربية(677/2)
بكلية ترسانته بالقدس في مجلة الأديب البيروتية فقال: (فلو قلنا أن العرب قالوا: عين القلب. ثم نحتوا من الكلمتين كلمة واحدة - عقل - لما أبعدناعن الصواب. ولو سايرنا ما ذهبتم إليه وقلنا أن العقل من عق لكان مقبولا، لان العقه هي البرقة المستطيلة في السماء، وهل العقل إلا وميض النفس وعين القلب؟).
ثم راح يقول: (ويقال عق بالسهم إذا رمى به نحو السماء وذلك السهم العقيقة. . . قال الجوهري:
عقوا بسهم ثم قالوا صالحوا - يا ليتني في القوام إذ مسحوا اللحى
وذلك السهم يسمى العقيقة وهو سهم الاعتذار، وكانوا يفعلونه في الجاهلية، فان رجع السهم ملطخا بالدم لم يرضوا ألا بالنقود؛ وان رجع نقيا مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية).
قلنا: والعقل براء من كل هذه الفروض والتخمينات في حرفه ومعناه؛ إذ ينبغي قبل أن نفرض النقل من اللاتينية أن نفرض استخدام الكلمة في لغتها الأصلية بهذا المعنى، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض الوسيلة التي يتم بها النقل من طريق السماع أو الكتابة، ونستبعد - عقلا - أن ينشأ معنى العقل من معنى العقال، وهو غير بعيد. . . بل هو اقرب شيء إلى ذهن العربي الذي يوازن أبداً بين حالتي الانطلاق وحالة الاعتقال،
الانطلاق وحالة الاعتقال، ويتحدث عن كبح الشهوات وكظم الغيظ، ويستعير الحجر في مادة أخرى من الحجر وهو المنع والتقييد. وصدق المتنبي حيث قال:
وبعض العقل عقال
والحجر كما لا يخفي هو العقل، والحجر كذلك هو المنع، كما في عقل وعقل بلا اختلاف.
فلماذا نرجع إلى العقل المنحوت من عين القلب أو نرجع إلى العقل المأخوذ من الكلمة اللاتينية وهي لم تطلق على هذا المعنى قط في أصلها الأصيل؟ ولماذا نأبى أن يكون الرجل العاقل هو الرجل الذي يملك زمام نفسه، فلا يندفع مع الأهواء والشهوات؟ وأي شيء أقرب شبها للعقل الزاجر عن الأهواء والشهوات من عقال البعير، ولجام الفرس، وكل كابح عن كل اندفاع؟
عرضنا لهذا التخريج في بعض المجالس فقال أديب: إذن هذا الكرسي مأخوذ من شير(677/3)
الإنجليزية.
وقال آخر: لا بل هو مأخوذ من كر ومن رسا، لأن الإنسان يرسي على الكرسي بعد الكر والتعب.
وقال آخر: بل هو مأخوذ من جلس، ثم صحفت الجيم كافا واللام راء، وهو قريب في مذهب التصحيف وقال غيرهم: بل هو مأخوذ من الكراسة، لن الإنسان يجلس إذا أراد الكتابة فيها.
وطال التصحيف والجناس على هذا القياس فلم يبلغ أحد منهم في هزلة مبلغ الجادين في رد العقل إلى عين القلب أو إلى كلمة قديمة في لغة اللاتين.
فحذار حذار من مراجعة الأصول بغير الأصول، وخير لنا أن نقنع بالفروع إذا كان الرجوع إلى الأصل ينقطع بنا في هذه المتاهة بغير دليل.
ونحن في أمان حين نقنع الآن بالرجوع من الصاد إلى السين في اسم القواس. فلم يبقى لهذه الوظيفة ما يخاف في اسم ولا في مسمى بحمد الله.
عباس محمود العقاد(677/4)
مقالات في كلمات
(إلى الأستاذ سيد قطب)
للأستاذ علي الطنطاوي
ذكرتني غضبتك للشعر والبيان في (الرسالة) 674 بأن في مكتبتي دواوين (شعرية. . . .) هي أولى إذا اطلعت عليها أن تكتب عنها، ففتشت عنها حتى وجدتها فإذا هي ثلاثة دواوين متشابهات في الحجم والقطع، وفي الوضع والطبع، كأنها قد صدرت عن ناشر واحد مع أن كلا منها قد ظهر في بلد - وكلاً من أصحابها يدين بدين من الأديان الثلاثة.
أولها: ديوان (الصيدح) لخليل جرجس خليل، طبع في مطبعة جرجس حنين بالمنيا في مصر سنة 1939، وهو جيد الورق أنيق الطبع في مائة صفحة وقد أهداه (الشاعر) لروح الرافعي!!
والثاني: ديوان (حنين النديم) لعبد الله نديم مويال بكالوريوس علوم وهو من فلسطين، طبع في مطبعة صادر في بيروت سنة 1936 على ورق صقيل مشكول الشكل الكامل، وهذا الشكل وحده أعجوبة الأعاجيب، وهو في مائة صفحة، وقد أهداه لوالده (المرحوم الدكتور شمعون بك مويال كلى الاحترام)،
وهذا هو نص الإهداء:
لذكرى والدي اهدي شعاراً ... لصدق الوحي في رفق الشعور
إليك الاحترامُ الُمجْزِ ودّاً ... حليف اللانهايات البحور
ولي الفكر والمبدأ وحسّ=لطيف خالد إهدا السطور
والثالث: ديوان (القلوب المنقطعة) لحسن محمود الحلبي، طبع في مطبعة الاستقلال العربي في دمشق 1938 وهو في مائة صفحة (أيضاً) وفي أوله صورة الشاعر في وضع سينمائي. . .
رمتني الليالي في القبور ذليلاً ... وسار شبابي في الحياة ذبولاً
خلقت منالأحزان شخصاً مهدداً ... وبين جموع الناس دمت هزيلاً
فليت أقول الشعر دون تلوّع ... يسود فيبدو الشعر حزناً طويلاً
ولكن أرى في مقلتي دمع ناحب ... يسيل فيعطي الشعر لوناً جميلاً(677/5)
وإذا نزلت يا سيدي بهذا الأسلوب أدركه اخرى، وجعلت الموضوع كله في وصف بنات (المحل العمومي) وما يكون منهن وصفاً سافراً مفصلاً، جاء معك ديوان (قالت لي السمراء) لـ (نزار قباني) الذي صدر في دمشق منذ سنتين، وإذا زدت لغة هذا الديوان لعنة على لعنتها، وأسلوبه عمى على عماه، موضوعه فجوراً على فجوره، جاء معك كتاب (في قصور دمشق) الذي أصدره في دمشق من نحو عشر سنين، موظف صغير في دائرة الصحة عامي يدعى (محمد النجار).
هذا كله عندنا فماذا يقول نحن يا أستاذ؟!
النثر والشعر في المدارس:
كنت كلما درست الأدب العربي اعجب لما أجد من انصراف الطلاب عن نثره إلى شعره، على حين انهم أميل إلى النثر في الأدب الفرنسي منهم إلى الشعر، ففكرت فرأيت أن السبب في ذلك المناهج.
والذي تقرر المناهج تدريسه من النثر العربي في مصر والشام والعراق لا يخرج في جملته عن رسائل ميتة لا روح فيها، أو فقرات جامدة مسجعة أو غير مسجعة ليس فيها وصف يهز القلب، أو معنى يوقظ الفكر، حتى أن ما يحتار لمثل الجاحظ وهو في رأيي أحد الخمسة الذين انتهت إليهم إمامة النثر العربي (الجاحظ وأبى حيان التوحيدي والغزالي وابن خلدون ومحيي الدين بن عربي) هو من الممل الممل المضجر كوصف الكتاب وصفاً هو مجموعة جمل مستقلة تشبه حكم اكثم بن صيفي ليس بينها ارتباط، ولا يفسدها لا تقديم فيها ولا التأخير، ويصعب استظهارها وحفظها، مع أن الجاحظ المعجب المطرب، والمبهج المرقص من القصص والاوصاف، فكان من ذلك أن رغب الطلاب عن أدبنا وكرهوه، واثروا عليه الأدب الفرنسي، لأنهم وجدوه اقرب إلى قلوبهم، وأدنى إلى أفكارهم.
ودواء هذا الداء أن يخرج واضعو المناهج من هذه الزاوية التي حبسوا أنفسهم والطلاب فيها، إلى فضاء الأدب ورحبة، ويدعوا الصاحب والقاضي والفاضل، وهذه الرسائل الباردة، وهذا الأدب الميت الذي لا روح فيه ولا جمال، ولا يصح أن يكون مثالاً يحتذي، ودليلاً يتبع، ولا يجوز أن يعرض على الطالب ألا علىانه لون من ألوان الكتابة، فيدرسه دراسة المؤرخ له، لا دراسة المتأدب به، ويفتشوا بين العلماء والصوفية والمؤرخين عن(677/6)
ذوي الملكات البيانية، فيجدوا فيهم من لا يعد معه أدب الصاحب وعبد الرحيم البيساني إلا لعب أطفال.
اذكر على سبيل المثال (ابن الجوزي) في كتابه صيد الخاطر وموضوعه ظاهر من اسمه، وهو خواطر كانت له فيدونها في هذا الكتاب، وليس في هذا الكتاب بلاغة الجاحظ وابن قتيبة، ولا صناعة ابن العميد، ولا فحولة الجرجاني، ولكن فيه شيئاً ليس مثله عند أولئك جميعاً، هو هذه السهولة وهذه السلاسة، وهذا الصدق في تصوير الخواطر، وهذه الإلمام بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية، وما فيه من وثبات ذهنية عجيبة، وما يقوم به من تحبيب الأدب إلى الطلاب، وهذا الكتاب لو نشر اليوم على انه لبعض الكتاب العصريين، لقامت له الصحف الأدبية وقعدت، وهللت له وكبرت، وأحلته الذروة والسنام.
واذكر (ابن السماك) هذا الرجل الذي تدل الفقرات القليلة التي رويت له على انه أحد أفرادالدنيا في بلاغة القول، وصفاء الأسلوب، وعلو التفكير، ولم يفكر مع ذلك أحد في استقراء اخباره، وتتبع آثاره، و (ابن حزم) في (طوق الحمامة) و (ابن القيم) في (روضة المحبين) وابن داود الظاهرى، والبطري، والغزالي، وابن عربي، وابن حيان، والشافعي، وأمم لو احب واضعو المناهج العناية بآدابهم، لوجدوا شيئاً ينسيهم وينسى الطلاب الصاحب بن عباد وإضرابه.
الكتب المدرسية والكتب الأدبية:
زرت من سنين أحد (الناشرين) في دمشق، وكان عنده صديقي الأستاذ التنوخي، ومعه كتاب (المثنى) لأبى الطيب اللغوي الإمام العلم قريع ابن خالويه، وزميله في بلاط سيف الدولة. وقد وقع على النسخة الوحيدة منه التي ليست في خزانة من الخزائن العامة في الشرق ولا في الغرب، وانه أعلن في مجلة المجمع العلمي العربي السؤال عنها فلم يكن عند علم بها. والنسخة الصحيحة مقابلة بالأصل (أي بنسخة المؤلف) عليها تعليقات بخطوط كبار العلماء كابن الشحنة وغيره، فاشتغل بنسخها وتصحيحها ومعارضتها بكتب اللغة أمداً طويلاً. . . فرأيته يعرض عليه طبعها بشرط واحد: هو انه لا يشترط شرطاً. . . ولا يريد مالا ولا يبتغي على تعبه أجراً. وعند الناشر (معلم) يعرض عليه كتاباً في القراءة والمطالعة كل عمله فيه انه نسخ من كتب الأدب قصصاً وأحاديث كتبها في أوراق(677/7)
ثم جمعها فخاطها فجعلها بأذن الله كتاب مطالعة للصفوف الثانوية، وهذا المؤلف يأبى إلا أن يكون أربعون في المائة من النسخ المطبوعة ثمن (تعبه. . .)!
وقد مرت ألان سنوات على هذه المقابلة طبع فيها هذا الناشر مائة كتاب مدرسي، وكتاب المثنى لا يزال مخطوطاً في دار أبي قيس.
أدباء المجالس:
من الأدباء من كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لسناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما ابتغي، فأتخيل شخصه، واتوهمه على أوفي ما يكون عليه المتفوه اللسن، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصموت، الذي لا يكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام، وإذا تكلم اخفي صوته، ولطف حروفه، حتى لا يسمع منه ولا يفهم عنه. . ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفياض الذي ينتقل من نكته إلى نكتة، ومن قصة إلى أبيات من الشعر، فيبتدع لها المناسبات، ويلقيها بصوت قوي، ويتكئ على الحروف، ويعظم مخارجها، فأكبره وأعظمه وأساله أن يكتب مقالة، أو ينشئ فصلاً، فيفر منه فراراً، وسوف يعتذر. . . فإذا أحرج وكتب جاء بشيء أشبه (بسفرة المسحر) فيها من كل طعام لقمة، ولكن الحلو مع الحامض، والحار مع البارد، وكل طعام مع طعام.
وقد تتبعت أحوال هؤلاء، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص، ولا يطالع بجد، ولا يبحث بإمعان، ولا تدع له (المجالس) وقتاً لدرس ولا بحث، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس، ويعيدها بعينها، ترث وتبلى وتصبح كالثوب الخلق، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث، فيطلقون على الاثنين اسم الأديب. . فمتى الناس بين الأديب الحق، وبين (أديب المجالس)؟
مجمع الشريعة الإسلامية:
اخبروني أن عالماً في دمشق يفتي الناس بان الورق السوري (البنكنوت) لا تجب فيه الزكاةلأنه ليس بذهب ولا فضة، ويقول بان هذا هو الحكم في المذهب الشافعي مع أن النقد في سورية كله من هذا الورق، وان الفضة فقدت خلال الحرب، وان التعامل بالذهب(677/8)
ممنوع، فتكون فتوى هذا العالم الفقيه. . . إنما هي فتوى بمنع الزكاة، وهذه الفتوى على فسادها وضلالها وانه لا يقول بها مذهب شافعي ولا مالكي ولا يقول بها مسلم عاقل، وان هذا الشيخ الفاضل الذي ينكر أن يكون الورق السوري مالاً يقبض في آخر الشهر راتبه ورقاً سورياً، ويشتري به خبزه وجبنته، ويقاتل أن منع عنه. . . إنها على هذا كله قد وجدت من يأخذ بها لتخلص من الزكاة ومن يرد عليها وخبروني أن عالماً آخر أفتى بسقوط فريضة الحج في هذه الأيام. . . ونسب الفتوى إلى مذهب الشافعية، ورحم الله الشافعي كم ينسب إليه.
وخبروني بان المناقشات قائمة بشأن الربا، وهل تعد المعاملات المصرفية منه أو لا تعد؟! وبشأن رؤية الهلال وكيف يثبت دخول الشهر، وبشأن التوسل، وكرامات الأولياء، وبشأن الطلاق. . . إلى غير ذلك من المشاكل الفقهية التي تحتاج إلى مرجع يرجه أليه فيها.
وكنت قد سمعت من الأستاذ الشافعي القاضي العالم الشيخ فرج السنهوري لما زرت مصر ان الملك فؤاداً رحمه الله، كان عازماً على إنشاء مجمع للشريعة على نحو مجمع اللغة العربية، يكون من عمله رد الشبهات، وحل المشكلات، والإفتاء، ووضع مشروعات القوانين، فلماذا لا يلتمس علماء مصر من جلالة الفاروق حفظه الله أن يأمر بإنشائه فيضم هذه المنقبة إلى مناقبه الكثيرة، فيرضى بذلك ربه، ويحقق رغبة ابيه، ويجدد للمسلمين دينهم، ويسن سنة في الاصطلاح يكون له اجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وينقذنا من هذه المناقشات، وهذه المجادلات، وهذه الجرأة على الإفتاء؟
(دمشق)
علي الطنطاوي(677/9)
سعيد. . . .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(أيها الأغنياء المجرمون. . أن هذا الفقير السعيد، لا شرف منكم جميعاً. . .!)
كان الضباب ينحدر ببط من حدود الجبال نحو القرية الهاجعة في أحضان الظلام، وكان الهواء يعصف ويزأر، ويهب من حقول الذرة تارة يحمل الزوابع والتوابع، ويهبط من الجبال الملأ بالزعرور، يحمل الجن والعفاريت، كأنه يريد أن ينقض على هذه القرية فينسفها نسفاً.
وكانت الطرقات قفراً، لا تلمح علة ظهورها أحداً، فقد دفع الهواء العاصف آهل القرية أن يختبئوا في دورهم تاركين المصاطب التي تحلقوا فوقها، يستمعون إلى أحاديث الحصاد، ويتحدثون عما لديهم من الآمال والأشغال.
وساد الظلام في كل مكان. . وعبث الهواء بمصباح القرية المعلق أمام الجامع فأطفأه وألقى به في الأرض. وانتشر فوق القرية رعب وكآبة، ونام القرويون. . حتى الحارس (أبو شنب) فقد ترك عصاه الغليظة أمام باب الجامع، وأغفى وراء الباب.
وفجأة ظهر في طرف القرية، من إحدى العلالي، نور ضعيف ثم اخذ يشتد ويقوي حتى أنارت العلية. . وظهر رجل يقترب من نافذتها.
ولو أن الحارس كان مستيقظاً لأسرع إلى العلية يستطلع أمر هذا النور، ويسأل صاحبها إطفاءه، لئلا يستدل العدو على القرية فيهاجمها بجنده، ويصب عليها نار مدافعه.
ووقف الرجل في النافذة، فنظر حوله، ثم اخذ يخطو في العلية خطوات غير متزنة، ثم عاد إلى النافذة ينظر. . . كأنه يترقب أمراً، أو يستطلع سراً، ثم أتفتل إلى المصباح، فاضعف نوره، وعاد إلى النافذة يتمتم بصوت ضعيف كأنه يخشى أن يسمعه أحد:
- (لقد سخر مني، عيرني بالفقر والعجز، لم يخجل من شيبي وضعفي. . . لقد تخطيت الستين. . اكتب عليّ أن أكون عبداً له، اتعب ليستريح، وأجوع ليشبع، وألبٍ المزق ليرفل بالحرير، وها أنذا لا املك شيئاً، وأولادي الصغار قضوا ثلاث ليال لا يأكلون، بل لا يجدون اللقمة الواحدة.
أمهم تعللهم بي، وأنا مختبئ أمام الدار، اسمع أصواتهم ويرن في آذني بكاؤهم، فيتفطر(677/10)
قلبي، وينهمل دمعي. انهم قطع مني كيف اتركهم يجوعون. . . انهم أولادي، فكيف ادعهم يبكون. . . ليقولوا أني سارق وأني مجنون. . وليسوقوني إلى السجن، فهم كفرة لا يرحمون، ولا طعم أولادي. فلعلهم يشبعون. أن الدراهم عندي، ولن أرجعها، ولكن، ما ادري! ما الذي يعيث في صدري، وبين أضلعي؟ انه يضنيني ويقلقني. . . ما اشد هذه الليلة عليّ. . .! أنها لأقل من هذه الجبال واقل من السماء. ماذا افعل يارب؟ أن عفريتاً يحطم منى. كأن في يده معولاً فهو يضربني. أني لأسمع همساته في كل دقيقة، بل في كل طرفة تزن في آذني وتطنّ (هات الدراهم، هات الدراهم) لكن لا ليس في العلية أحد، أجني يكلمني؟ ماذا أصابني؟)
ورفع الشيخ يده إلى جبينه يسمح العرق عنه، ثم حول بصره إلى الغرفة فنفضها، عله يجد فيها الذي يقلقه. ولكنه لم يجد أحداً. فخطر على باله أن ينام. لقد حاول النوم من قبل ففر منه النوم. أما الان، فلعل النوم يشفق عليه، وينقذه من هذا العفريت الذي يطن في آذنيه. فاضطجع على كيس من القش اتخذه فراشاً. فقرأ وتعوذ، ودمدم وهمهم، وسرد ما حفظه عن شيخ القريةيوم الجمعة، مما يذهب الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس. وتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال. وحاول أن ينسى الدراهم، بل تمنى لو كان اصم، فلا يسمع هذا الهمس الناعم، ولكن صورة الدراهم كانت تملأ عينيه، وهمس العفريت كان يرن في آذنيه.
وجفا فراشه، وقد تحطم جسمه. واخذ يطوف حول العلية، مطرق الرأس، حاني الظهر. كيف الخلاص مما يسمع؟ أن هذا الهمس: (هات الدراهم) يكاد يقتله، وماذا فعل؟ لأنه سرق؟ وقلبه ماذا أصابه؟ أنه يكاد يتمزق في صره. ونادى: (ألا دعني أيها العفريت. . أحرج من صدري، ابتعد عني. آه لو كنت شاباً. . . دعني فأنا شيخ محطم أكاد أموت.
دعني، فما أخذت الدراهم لنفسي، ولا لزوجتي، ولكن لأولادي.
انظرهم كيف يبسوا من الهزال، وسقموا من الجوع! أيبقون بلا رغيف ثلاثة أيام وفي صناديق جاري الدنانير؟ أيموت صغاري من الجوع، ولي عند (البيك - إلا لعنة الله على (البيك) - أجرة ثلاثة شهر؟ لقد طردوني، أيها العفريت، ولم ينقدني أجرها. فطفقت أشكو، فلم يصغ أحد ألي. لقد قالوا أني كاذب، لأني فقير ضعيف. وانه صادق لأنه سيد القرية(677/11)
الغني فدعني. فلم اعد أطيق. واذهب اليه، فهو مجرم كبير. اذهب أليه، وارقب غشه ودسه. . فأني فقير. اخرج أنت يا قلبي معه لاستريح. لقد طلبت بنيتي قرشاً فقلت لها غداً، وسألني بنيّ ثوباً، فقلت له غداً. وبت اخجل أن أراهما. أفلا أسرق يا رب، ويا عفريت، ويا قلب لأطعمهم وأفرحهم، وأدخل على قلوبهم السرور؟).
ولكن العفريت، كان أصم، فها هو ذا قلبه يخفق ويضرب ضربات كأنها القنابل مسكين لم يصغ إليه أحد، لا العفريت ولا قلبه. .
وضاق الشيخ بنفسه ذرعاً. أيقتل نفسه؟ لقد فكر في ذلك، ولكنه انصرف عن هذه الفكرة سريعاً، وفضل أن يفر من القرية. ثم رأى انه لا يطيق فراق أولاده، وقد رزقهم وهو شيخ قد بلغ الخمسين.
وفجأة التمعت عيناه. لقد فكر في الله. لم لا يصلي ركعتين، ويخلص لله النية، ثم يدعوه بدعاء تعلمه؟ لقد سمع هذا الدعاء من شيخ القرية، وحفظه عنه، ورسخ في ذهنه أن هذا الدعاء، وفيه توسل بالأولياء والصالحين، سريع الإجابة، عظيم التأثير. أذن فليدع الله. وسرعان ما قفز الشيخ فشمر عن ساعديه، فليتوضأ، وها هو ذا قد توضأ، وتوجه إلى القبلة، يصلي، فلما فرغ من صلاته رفع يديه، والدنيا سكون واخذ يدعو. وفرغ من دعائه، وانتظر قليلاً ولكن المعول ما يزال يهدمبين ضلوعه، والعفريت ما يزال يهمس في أذنه، والانقباض يغمر نفسه، والكآبة تشع حوله.
وجهد أن ينام مرة ثالثة، وأغفى إغفاءة قصيرة، وما لبث أن هب من فراشه، وقد عزم على أمر.
لقد ارتدى معطفه الممزق، ودلف برفق، بخطوات وئيدة نحو الصندوق الخشبي الصغير، لئلا تستيقظ زوجته وأولاده. ودس يده الراجفة في جيبه، فأخرج مفتاحاً صغيراً، فتح به الصندوق بهدوء.
لبث الشيخ لحظة مشدوهاً، وعيناه عالقتان بالصندوق تلمعان. ثم غاص بيده فيه، فاخذ صرة صغيرة بيد راعشة، وقلب راجف، وانتفض كالهر فهرول نحو الباب، تاركاً الحوائج مبعثرة، والصندوق مفتوحاً.
شار الشيخ مثقل الرأس، يحمل همه على كتفيه. يسرع الخطو تارة، يبطيء أخرى. وكان(677/12)
الهواء الثائر قد هدأ عصفه وخف زئيره، فلا تسمع سوى أنات النسيم الرقيقة يبثها فوق ورق الزعرور. . . وكانت السماء موشاة بغيوم متناثرات هنا وهناك. وقد ظهر القمر شاحباً يترنح بين الغيوم، كأنه ثمل أو سكران. . وكانت القرية مغمورة بكآبة نشرها عليها ضوء القمر الشاحب. وكان الشيح يمشي هو ساهم يترنح. ولم ينس أن يبتعد عن مخفر الحارس لئلا يقبض عليه. لقد تمثل في خاطره كيف ساقوه إلى الحاكم لأنه سرق دراهم جاره الغني، وكيف اقسم انه لم يسرق، لئلا يفتضح وقد شاب رأسه. وذكر ما أصابه منذ انفتل راجعاً إلى داره يحمل لأولاده لقيمات. وكان يخيل اليه، وهو يمشي، أن تلك الأنات التي ترسلها النسمات معناها (الدراهم) أما تلك الأشجار المنتصبة في الفضاء فهي أشباح، أو أناس يترصدونه لقبضوا عليه جزاء يمينه الغموس التي حلفها اليوم. وخامره خوف شديد لا عهد له به من قبل.
فكان يقشعر بدنه كلما ظهرت أمامه شجرة من وراء المنعرج، أو من يمين الطريق، كأنها الشبح. فإذا ما تبينها تنفس الصعداء وأحس كأن ماء حاراً صب فوقه، فيرفض جسمه عرقاً. ثم يعاود سيره بجد، ويلتفت من حين إلى حين يمنة ويسرة، ينظر أيتبعه احد، ثم يحدق أمامه ليطمئن إلى طريقه الطويلة. وينظر إلى الأحجار المبعثرة على جنبات الطريق، التي تبدو كأنها جماجم الموتى، تلمع، وهي صلعاء، تحت ضوء القمر.
وخرج الشيخ من القرية وابتعد عنها، وبلغ داراً كبيرة منعزلة قامت على رابية، وطرق سمعه أصوات عربدة تصدر من الدار فتقدم من نافذة الدار. فرأى النور يتدفق منها، فساءل نفسه، لم ينهره الحارس إذا رأى النور في عليته، ويسمح للحاكم أن ينير غرفته؟ ثم حدق في ثقب من النافذة، فرأى مائدة حفلت باللحوم والأطعمة والأشربة. ورأى الحاكم، وقائد الجند يكرعون الشراب كرعاً، ويلتهمون اللحم التهاماً، فأرتد بصره، وذرف دمعة، وصعد حسرة.
وتعالت أصوات المعربدين، لقد حار في أمره، انه ننا قائد الجند الفظ الغليظ، ذو العصا الضخمة. . . ولئن طرق الباب، فانه ليخاف عصاه، وهو يخشى أن ينهره الحاكم، أو يسلمه للجند. انه الحاكم، لا يخيفه أحد، ولا يحفل بإنسان.
وهجمت على رأسه فكر سود كالخفافيش، فذهل. ونبهه همس ناعم. وخفق قلبه. وهم أن(677/13)
يعود. فارتجف، واصطكت ركبتاه خوفاً من العفريت الذي يرافقه، والذي سيلقاه في غرفته، والذي سيؤنبه على السرقة، ويلحف عليه برد الدراهم، ففضل أن يضربه القائد آلف ضربة، وان ينهره الحاكم آلف مرة، على وخزات العفريت، ولسعات الضمير.
وتقدم من الباب، ومد يده المرتجفة، فدقه دقات ضعيفة، وقلبه يخفق.
لم يسمع الشيخ جواباً، فلقد كانت عربدات السامرين تحول دون سماع دقات الباب، فأعاد طرق الباب مثنى وثلاث، وفجأة هدأت الأصوات، وسمع صوت ينادي فيشق سكون الليل:
مين؟
فتلعثم الشيخ. . وعاد الصوت يسأل:
مين. .؟
فنادى الشيخ:
أنا. . أنا.
من أنت؟. .
واقترب الصوت. .
إنها جريمة، لابد. . أوف! في النهار شغل، وفي الليل شغل. . . وفتح الباب، وظهر الحاكم، ومن رائه القائد.
واخذ الحاكم يحدق في الشيخ، ولقد حسبه خادمه احمد:
احمد. . شو، في جناية. . مين مقتول. . مين. . وقال القائد وهو يتلعثم:
قبضتم على القاتل. . هو في السجن طبعاً. . مرحى. . أهرب؟. . لا. . لا. .
وارتبك الشيخ وقال:
لا. . آنا الشيخ جاسم:
وحدق فيه الحاكم وقال:
جاسم؟
نعم، جاسم، الذي اخذ الدراهم. .
ومسح الحاكم عينيه بكفيه وقال:
معك دراهم المقتول؟ كيف أخذتها. . اقبضوا عليه. . .(677/14)
وردد القائد:
هيا. . اقبضوا عليه. .
واضطربالشيخ. والتفت حوله. . ولكن لم يتقدم أحد لقبض عليه. .
وعاد الشيخ يقول:
أنا الذي أقسمت اليوم يمنياً، إنها يمين كاذبة. أنا الذي سرقت الدراهم. . لقد جئتك بها، والعفريت يتبعني، يضرب في قلبي. خذها. . يا سيدي. . افضل أن اجوع، ولا أتعذب خذها. . لا أريدها!
ورمى الشيخ بالصرة، وانفتل يهرول. .
وقهقه القائد، وهو يقول:
رزق جديد. . هو لا يأخذها؟ هه. . . نحن نأخذها. . هات، هات. .
وابتعد الشيخ عن الدار. فنظر إلى الارض، والسماء، ونظر أمامه وخلفه، وعن يمنيه وعن شماله. انه لا يسمع ألان شيئاً. قلبه لا يخفق كذا قبل، وكأن جبالاً رفعت عن كتفيه وأحس بالنسيم اللطيف يدغدغ رئتيه. . . ورأى القمر كألطف ما يكون. لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يبتسم، رغماً منه لقد أحس بالفرح، فانطلق يسرع في مشيه وهو يتمتم:
آه. . لقد استرحت. . الآن أنا سعيد!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(677/15)
على هامش النقد:
(دفاع عن البلاعة)
تأليف الأستاذ الزيات
للأستاذ سيد قطب
يبلغ الأستاذ الزيات فصل الخطاب حين يتحدث عن (الذوق) فيقول في ص33:
(ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكن في طرق الأداء، وتنوع الصور، وتلاؤم الألفاظ. وهذه العبقرية لا تدرك ألا بالذوق. والذوق لا يعلم، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن. واطلاع الكاتب على الأمثلة الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه، ويوسع افقه، ويريه كيف تؤدي المعاني الدقيقة، وتحيا الكلمات الميتة)
ولكي لا يقع اللبس في ما يعنيه الأستاذ بالكلمات الميتة، نقتبس فقرات له في ص82 توضح هذا المعنى ولها في ذاتها قيمة في بيان قضية البلاغة:
(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق، لأن الكلمة ميتة، ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة. وللكلمات أرواح كما قال (موباسان). واكثر القراء، وان شئت فقل اكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها، ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي اعد لها، وهندس عليها، ونفحت فيها الروح التي تعيد لها الحياة، وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة وذلك في الجهاد الفني فوز غير قليل).
وهذا كلام جيد، فلقد آن الأوان لان نقدر قيمة الكلمة في تلوين الصورة الفنية، فهي أشبه شيء باللون المعين في الصورة، وكما تتبين مهارة المصور في اختيار الألوان وتنسيقها(677/16)
لتحدث التأثير اللازم في جو الصورة العام، فكذلك اختيار الكلمات وتنسيقها لتشع ظلالها الخاصة، وليتألف من هذه الظلال مجتمعة صورة منسقة.
هذا الاختيار والتنسيق لا يتم عن طريق الوعي، فهناك الذوق الخفي، تربي شيئاً فشيئاً وأساسه موهبة لدنية، ولكن المرانة هي التي تبرز هذه الموهبة، وتلونها، وتجعلها في النهاية عاملاً من عوامل لخلق والاختيار.
ولقد غالت المدرسة العقلية في تقدير قيمة المعاني وإهمال قيمة اللفظ المصور، اكتفاء باللفظ الدال. والمسألة هي تعريف هذا اللفظ الدال في الفن. فنحن قد نرتضي هذا الوصف للفظ، ولكن لا يكون دالاً في الفن بمجرد أدائه للمعنى اللغوي أو الذهني فذلك يصلح في العلم وربما في الفلسفة. ولكنه لا يكفي في الفن، فالصورة - لا المعنى - هي المقصودة في الفن. واللفظ والعبارة يكونان دالين في الفن حين يؤديان المعنى الذهني، ويخلعان بجواره ظلالا معينة تتسق مع هذا المعنى، ويحدثان في الوقت ذاته إيقاعاً معيناً يتسق مع الظلال والمعاني. . . ومن مجموع هذه الخواص تتكون دلالة اللفظ أو العبارة في النص الفني، كما تتكون الصورة الفنية المعبرة عن فكرة فنية.
وفي هذا المجال يتفاضل الأباء وذلك مع عدم إهمال القيم الذاتية لخصائص الشعور، وطبيعة التفكير. هذه القيم التي لا تبدو على حقيقتها إلا عند ما يعبر عنها في صورة جيدة كما أسلفنا الحديث.
(لكل لغة عبقرية تستكن في طرق الأداء، وتنوع الصور، وتلاؤم الألفاظ)
ويرى الأستاذ الزيات أن عبقرية اللغة العربية من حيث طريقة الأداء تستكن في الإيجاز. وعبقريتها من حيث تلاؤم الألفاظ تستكن في السجع والازدواج.
وهذه ملاحظة صادقة في تسجيل خصائص المأثور من البيان العربي. ولكن الدعوة إلى الوقوف عندها في أساليبنا العصرية هي التي نفترق فيها عن الأستاذ.
فلننظر فيما يقول في هذين الأصليين الكبيرين.
(إذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصيل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية، والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك (قتل الإنسان!) فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة(677/17)
وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل. وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة. كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب؛ فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغو كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال. وكلاهما حسن في موقعه، بليغ في بابه. وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه)
وإلى هنا فالكلام جيد دقيق، لأنه يكتفي بتقرير حالة واقعة في اعتدال وقصد. وإن كان في هذا التعميم ما يستحق بعض الاستدراك. فالميل إلى الإجمال أو التفصيل قد لا يكون مزاج أمة ولا لغة، بل مزاج فرد أو جماعة في كل لغة. ولكن هذا الكلام مقبول في حدود السمات العامة للغات.
ثم يقول:
(اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين الأمويين وكتب العباسين فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز)
(وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى، وسهل أبن هارون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز. حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتن أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة)
وهكذا كلام جيد حين يراد به تسجيل حالة واقعة - ما عدا الكلام عن إيجاز القرآن فلنا فيه رأى آخر سنبديه - أما حين يراد اتخاذه مثالاً فلا أن طبيعة الموضوعات التي عالجها النثر العربي المأثور، وأهمها الحكم والأمثال، والتوقيعات، والرسائل، هي التي اقتضت هذه الإيجاز، وكان سائغاً فيها. ولكنه في الشعر بدا عيباً في كثير من الأحيان. فمعظم(677/18)
الشعر العربي يعمد إلى بلورة المعنى وإرساله كالقذيفة، وقلما يعني بتصوير الحالات النفسية ووصفها وبسط التجارب الشعورية التي تمتع الحس بتتبعها. إنه يخاطب الذهن غالباً بالمعنى الذهني الأخير الذي لا يتمتع به إلا الذهن وحده. وفي هذا تتفوق طريقة الأداء في غير الشعر العربي: في الشعر الأوربي والهندي والفارسي. ولقد كتبت عدة فصول عن (طريقة الأداء في الشعر) وعن (الصور والظلال في الشعر) وكلها تبرز تقصير طريقة الأداء في الشعر العربي عن نظائرها في الشعر العالمي. والعيب كله راجع إلى بلورة المعاني، واقتضاب التفصيلات، أي إلى هذا الإيجاز الذي قد يفلح في شعر الحكم ولكنه يخفق في تصوير الحالات النفسية، والخطوات الشعورية كل الإخفاق. كما يخفق في القصة التي تقتضي مزيداً من (العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات) تلك الخصائص التي ذكر الأستاذ الزيات أنها من خصائص اللغات التفصيلية. . . وقد نقل الأستاذ كلاماً لأبن الأثير في ص94، له دلالته في موضوعنا: قال أبن الأثير (جلس إلي في بعض الأيام جماعة من الإخوان، وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غر ائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: (إني كنت بالجزيرة العمرية، في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبنى فلان، وأخذنا نلعب على السطح، فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فخفنا أن يكون آذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطء البغل فختنه ختانة صحيحة حسنة، لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها).
فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عىّ فاحش، وتطويل كثير لا حاجة إليه. فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون، فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطء بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المغرب، لم يكن ذلك قدحاً في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان فإن مثال هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه) وتعليق أبن الأثير على لسان (شخص من الحاضرين) هو نموذج من فهم العقلية العربية التقليدية للفن. فالمعنى هو(677/19)
المقصود، المعنى أوجز لفظ وأخصره، مجرداً عن ظلاله وملابساته وظروفه. المعنى المركز في (برشامة)!
ونحن لا نتردد في إيثار طريقة صاحب الطاحونة! - من الناحية القصصية - لأنه يصور الجو والملابسات، ويطيل التشويق، ويتضمن المفاجأة في النهاية وهو على تفاهة حكايته (صاحب فن) في روايتها، يهيئ له أن يصبح قصاصاً!! أما صاحبه الآخر الذي رد عليه فرجل عجول، وهو قد يكون أشد عروبة، ولكنه ليس أحسن فناً!
أما القرآن فلم يتبع خطة واحدة. لقد استخدم الإيجاز والإصناب كلاّ في موضعه، وحسب الغرض النفسي الذي يتوخاه وقد جاء في فصل (التناسق الفني في القرآن) من كتاب (التصوير الفني في القرآن) ما يأتي:
(بعض المشاهد يمر سريعاً خاطفاً، يكاد يخطف البصر من سرعته، ويكاد الخيال نفسه لا يلاحقه. وبعض المشاهد يطول ويطول حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول. وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة، وبعضها شاخص لا يريم. وكل أولئك يتم تحقيقا لعرض خاص في المشهد، يتسق مع الغرض العام للقرآن ويتم به التناسق في الإخراج أبدع التمام)
ثم ضربت أمثلة متعددة للقصر الخاطف، وأمثلة متعددة للطول المقصود في عرض المواقف. ويحسن أن أختار هنا مثالين من تلك الأمثلة الكثيرة:
1 - يريد أن يصور للناس قصر هذه الحياة الدنيا التي تلهيهم عن الآخرة، فيخرج القصر في هذه الصورة:
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا، كما أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فاصبح هشيماً تذروه الرياح).
(وانتهى شريط الحياة كله في هذه الجمل القصار، وفي هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة: (ماء أنزلناه من السماء) ف (اختلط به نبات الأرض) ف (أصبح هشما تذروه الرياح).
(ألا ما أقصرها حياة!
2 - ويريد أن يبصر الناس بنعمة من نعم الله عليهم، هذه الصورة نفسها: صورة نزول الماء من السماء وإنبات الزرع به، وصيرورته حطاماً. . . ولكن في تطويل وتريث(677/20)
وتفصيل، لأن التذكير بالنعمة يقتضي التريث والتفصيل فالقسم الأول
من الصورة وهو نزول الماء من السماء يعرض هكذا:
(الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)
والقسم الثاني بعد وصول الماء إلى الأرض يعرض هكذا:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء، فسلسكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً)
فالرياح تثور، فتثير السحب في السماء، فيتراكم السحاب، فيخرج منه المطر، فينزل المطر من السماء، فيستبشر به عباد الله فإذا نزل إلى الأرض، فلا يختلط بالأرض ولا بنبات الأرض - كما حدث هناك - إنما يسلك ينابيع. (ثم) - في تراخ - يخرج به زرعاً. (ثم) مرة أخرى - يهيج فتراه مصفراً - وفي الوقت مهلة لتراه - (ثم) مرة ثالثة يجعله حطاما. (يجعله!) وهناك (اصبح هشيما) كأنما يصير هكذا من نفسه بلا حاجة إلى مصير!
وفي مشاهدة القيامة مثل هذه الإطناب وذلك الإيجاز، وفي المواقف القصصية. وفي كل موضع يقتضي التفصيل او الأجمال، فالقران في هذا خارج عن مأثور النثر العربي. متميز بخصائصه الفنية في كل موقف وفي كل حال.
فلننظر في السمة الثانية من سمات اللغة العربية في تلاؤم الألفاظ. وهي السجع والازدواج. والازدواج بشكل خاص: (فالازدواج على اطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ، منذ كان للعرب ذوق، وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف، وسمجت بالفضول. وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على أن ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس، ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب، وتنسب إلى خصائص اللغة، كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ والمعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، أو اتحاد الفاصلة(677/21)
والفاصلة في الروي.
(واقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي في القران، وهو (كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما)
ونحن لا نجادل الأستاذ في أن السجع والازدواج أساسان من أسس النثر العربي المأثور - وندع الحديث عن القران إلى موضعه - ولا نجادله في أن فيهما جمالا حين يسحن استخدامهما ولكن هذا لا يعني انهما مفروضان ضربة لازب على الأساليب العصرية.
وقبل كل شيء نود أن نقرر في صراحة: انه إذا كان في اللغة العربية شعر يبلغ نهاية الجودة وقمة الفن - في بعض الأحيان - فانه ليس في اللغة العربية نثر يتسم بهذه السمة! أن الأسلوب النثري المأثور في اللغة العربية أسلوب متخلف متضع تنقصه الطلاقة والحيوية والاندفاع. ولم يبلغ النثر العربي يوما ما بلغه على أيدي كتاب العصر الحاضر الذين أطلقوه من قيوده البطيئة في التعبير والتنغيم على السواء.
وهذه حقيقة تنفعنا، فانه إذا جاز أن نتجه إلى الشعر العربي المأثور للمحاكاة والانتفاع، فلا يجوز أن نتجه إلى النثر العربي المأثور إلا لتكوين الذوق اللغوي، لا المحاكاة الفنية.
وإيقاع السجع والازدواج - على تفاوت بينهما - هو إيقاع (التقاسيم) الشرقية في الموسيقى، فيه الارنان المتوازي أو المتقابل. ولكن تنقصه التموجات العريضة العميقة، وتنقصه الرفرفة الخفيفة والاندفاعات الطليقة. وهو على أية حال ليس إلا لونا واحدا من ألوان الإيقاع لا يصلح لجميع الأحوال. والتناسق الحقيقي هو اتفاق صورة الكلام وإيقاعه مع طبيعة الشعور الذي انبعث عنه الجو النفسي الذي يصوره. وهو بهذا الوضع جزء من دلالة العبارة كالمعنى الذهني سواء. والسجع والازدواج لا ينفسحان عن جميع الصور النفسية.
ثم نصل إلى الحديث عن القران.
وأنا الذي الفت كتابا كاملا عن (التصوير الفني في القران) وأبرزت سمة (الإيقاع الموسيقي) في هذا التصوير، لا اتررد في الجهر بان القران لم يستخدم السجع والازدواج في كافة أغراضه بل استخدمهما في المواضع الخطابية التاثيرية. وفي هذه المواضع(677/22)
وأمثالها دون سائر الأغراض يحسن السجع والازدواج.
فإذا خطر لنا أن نتأثر أسلوب القران، فلنعرف مواضع كل طريقة من طرق الأداء فيه. ولنفرق بين السمات المطردة فيه، والسمات الخاصة بموضوع دون موضع.
فطريقة التعبير بالتصوير سمة مطردة. أما الإيقاع في السجع والازدواج فسمة موضوعية.
ومن هنا يأتي الخطأ لجماعة ممن يعن لهم تقليد أسلوب القران في العصر الحديث. فهم لا يقلدونه في طريقة التعبير بالتصوير. ولكن في طريقة تركيب الجمل، وتنسيق العبارات. . . ولقد دعوت مرة إلى التأثر بطريقة الأداء القرآنية، عنيت بها الصور والظلال وتجانس الصور والإيقاع. ولكنني لم اعن تركيب الجمل على النسق القرآني في كل المواضع والموضوعات. وهناك أساليبه الطليقة التي استخدمها للشرح والتقرير، والأساليب التأثيرية التي استخدمها في مواضع خاصة تصلح لهذه المواضع، ولا تطرد في كل المواقف.
وهذا مفصل القول في هذا الموضوع الدقيق.
(للبحث بقية)
سيد قطب(677/23)
المفتى المهاجر
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
(فلسطين! وما فلسطين؟
هي الوطن، إذا كان الوطن أن نعيش فيه سادة أحرار.
وهي الدين، إذا كان الدين أن نذود عنه أعزة كراما.
وهي الأمل، إذا كان الأمل هو كل ما يملك النفس ويحركها.
وهي الحلم، إذا كان الحلم هو كل ما يشغل القلب ويجذبه مهما كانت حجب الزمان والمكان
فلسطين! هي ذلك التاريخ الحافل الذي حفظته الدنيا، فلن يمحى بعد ذلك!
هي ذلك المجد الخالد الذي صنعه الأباء، فلن يحيا بدونه الأبناء! هي ذلك التراث المجيد الذي يملكنا ونملكه، هو لنا الماضي، ونحن له المستقبل!
نعم! وهي هي التي دعتني إلى الفراق حين فرض الفراق، وتدعوني إلى اللقاء حينما يجب اللقاء. . .)
لعل هذه هي الخواطر التي شغلت دائما هذه النفس الهادئة القوية، وملأت هذا القلب الطاهر العميق، وانك لتستطيع أن تقراها واضحة ناطقة في هذا الوجه الباسم المطمئن، وهاتين العينين الصافيتين الهادئتين، عيني المفتى مفتى فلسطين الكبير!
انك لتراها واضحة لأنها تصدر عن فكرة قوية هادئة، تعبر عن إيمان صادق عميق، وثقة ثابتة لا تتزعزع، تلك هي العقيدة الإسلامية الخالدة التي تمثلت في تاريخنا الحافل، ولا يمكن أن يجحدها جاحد، وخاصة إذا تمثلت في رجل عظيم!
فكرة تكسب الرجل قوته وعظمته التي عجزت أمامها (السياسة) الإنجليزية الماكرة، وأفلست حيالها كل المكايد الاستعمارية الخادعة. . . أخرجته من فلسطين ولبنان، ومن لبنان إلى العراق، ثم منها إلى إيران، ومن إيران إلى تركيا فأوربا، وها هي أوربا قد قلبت رأساً على عقب، وهو هو، تطورت الأحداث، وهو ثابت لم يتزعزع بأيمانه القوى الثابت، وفكرته التي خرج بها من بلاده، والتي تجمعها هذه الكلمة التي لا تبرح خاطره ولا تغادر قلبه (فلسطين)!
(من اجلها استوى عنده الشرق والغرب والقرب والبعد! زمن أجلها خرج عن المال والولد،(677/24)
وطابت له الهجرة، ولكن إلى حين! من أجلها دار هذه الدورة التاريخية من الشرق إلى الغرب، مخترقاً قلب هذه القارة الطاغية الجبارة (أوربا) في سبيل تلك الغاية الواحدة (فلسطين)!
وأنه ليقيم في باريس، في ضيافة فرنسا، في تلك الفيلا الهادئة المنعزلة قرب (السين)، فهلا يستريح؟ كلا! وأي نجم في السماء يستريح؟ كلها تدور كما جار هو صابراً ثابتاً، من برج إلى برج، في هدوء وإشراق، لا تقف في منتصف الطريق، لا بد من أن تتم الدورة، لا بد من (العودة) إلى هذه النقطة التي بدأ منها، والتي أتجه إليها دائماً بروحه وقلبه، والتي يعيش من أجلها. . . فلسطين أنشودته الخالدة:
فلسطين يا فلسطين ... أنت لي دنيا ودين!
الإنجليز يطاردون واليهود يترصدون، والفرنسيون مترددون مراقبون، ولكنه هادئ باسم، لأنه مؤمن ولأنه واثق: مؤمن بالحق، وواثق بالله. . . . مؤمن بأنه يجب أن يعود، وواثق بأنه سيعود!
وماذا يكلفه ذلك؟ إنه لا يملك شيئاً إلا روحه، وهي رخيصة في سبيل غايته؟ لقد عرضها على الموت في كل آن، منذ أن بدأ جهاده في سبيل الحق وهو يبحث عن الموت ويطلبه في سبيل بلاده وعقيدته، ولكن الموت عنيد لا يطلب من يطلبه. . . فليجاهد حتى الموت!
وكيف يعود؟ لا بد من إذن الحكومة الفرنسية، ورضاء الحكومة الإنجليزية وطلب الحكومات العربية، ولا بد من إجراءات دبلوماسية تطول، وعقبات سياسية لا سبيل إلى تذليلها الآن!
كلا! دعوا كل هذا، وأقرءوا هذا الوجه الهادئ الواثق، هناك ابتسامة عريضة تكاد ترسم قوساً تحت هذا الأنف العربي الأشم، إنه سيعود، إنه لا يفصله عن غايته إلا مثل هذا القوس، الطريق من باريس إلى الشام لن يكلفه أكثر من هذه الابتسامة المؤمنة الهادئة، ما دام أنه يجب أن يعود، فلا بد أن يعود، ولا يمكن أن يبقى تحت رحمة السياسة الدبلوماسية، وخير له أن يخاطر ليعرض روحه على الموت مرة أخرى في سبيل غايته، فإنه سيبلغ بلا شك إحدى الحسنين! دين آبائه وأجداده من قبل! فليعد مخاطراً مجازفاً، سواء رضيت إنجلترا أو لم ترض، سواء أذنت أو لم تأذن. . . لا بد من العودة. . لا بد منها. . .(677/25)
فلسطين. . . الشام. . . وقد كان!
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد(677/26)
التطورات السياسية في الشرق الأقصى
للأستاذ محمد جنيدي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
يتولى الحكم في إندونيسيا نائب عن الملكة ولهلمينا يدعى باسم الحاكم العام، يساعده مجلس مكون من رؤساء المصالح الكبيرة، المالية، والحربية، والبحرية، والعدلية والاقتصادية وهم هولنديون، طبعاً!. ويسمى هذا المجلس المجلس الهندي، ويساعده أيضاً المجلس النيابي.
وفي يناير 1920 أنشأ بعض رجالات جزيرة حزب (شركت مادورا) عاملاً لتقوية الحركات التحررية في هذه الجزيرة. وفي 8 مايو 1920 تأسست جمعية سياسية في جزيرة (سيليبيس) باسم (شركة أمبون) لا تخرج غايتها غايات الأحزاب الوطنية التي ظهرت قبلها.
وخلال عام 1919 حدثت عدة اضطرابات في المرافق العامة إظهاراً للشعور المكبوت من سياسة الحكومة الهولندية في إدارتها أمور البلاد بطرق دلت على الاستغلال والاستعباد للشعب، وأشهر حوادث الأعتصاب: الإعتصاب الذي قام به موظفو وعمال ترام سومطرة الغربية، ثم موظفو وعمال مطبعة سورابايا الأميرية، ثم لإضراب نقابات الخياطين الوطنيين، ثم الإضراب النهائي الكبير في مصانع السكر العائدة للأميريالية الغربية، فشلت حركاتها أياماً.
في عام 1917 حاول الدكتور سمعون والمستر تان ملاكا والمستر عالمين نشر المبادئ الاشتراكية الحديثة في حزب الرابطة الإسلامية. فهؤلاء الثلاثة كانوا أعضاء في حزب الرابطة الإسلامية بمدينة (سمارانج) وقد تلقوا مبادئ الاشتراكية من المستر سنفليت الهولندي مؤسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي فوقف لهم زعماء الرابطة موقفاً رائعا، صدوا المبادئ الشيوعية من الولوج في المجتمع الإسلامي بإندونيسيا، وبعد مجادلات في الصحف وفي الأندية. انفصل اشتراكيو (شركة إسلام) منه وانشئوا حزباً سياسياً باسم (شركة إسلام ميرة) أو (الرابطة الإسلامية الحمراء) بزعامة الدكتور سمعون. وأما (شركة إسلام) الأصلية فقد زيدت في اسمها كلمة واحدة، وأصبحت تدعى باسم (الرابطة الإسلامية البيضاء) برئاسة شكري أمينوتو. ثم أبدل زعماء الرابطة الإسلامية الحمراء اسم حزبهم(677/27)
إلى (شركة رعيت) أو (حزب الأمة) وانتشرت فروعة في القرى والمدن وكانت الروح المعادية للإميريالية تكتسح المجتمع الإندونيسي وتهز دعائم الحكم الهولندي. وفي 23 مايو 1920 ظهر حزب الأمة بمظهر جديد، فقد بدل أسمه إلى حزب (الحزب الشيوعي الأندنوسي) المرموز إليه بحرف , ويعد هذا الحزب أكبر الأحزاب الأندنوسية المتطرقة، ومبادئه العمل الإيجابي لإزالة الاستعمار الهولندي من إندونيسيا.
وفي عام 1922 سافر الدكتور سمعون إلى أوربا ومنها إلى موسكو للاتصال بمركز قيادة الحزب الشيوعي الروسي واطلع على نظمه وبرامجه ومؤسساته، ثم عاد إلى إندونيسيا. ومنذ ظهور الحزب الشيوعي في المسرح السياسي اشتعلت اندنوسيا ناراً، فالمبادئ الشيوعية تنتشر في القرى والمدن، والأفكار الحرة تهدم معاقل الاستعمار.
من شهر نوفمبر 1926 إلى يناير 1927 اندلعت نار الثورة الشيوعية الكبرى في إندونيسيا، أشعلها الحزب الشيوعي الاندنوسي، فكافحتها السلطة الهولندية كفاحاً عظيماً استعملت خلاله المدافع الرشاشة والدبابات والسيارات المصفحة. أما الإندونيسيون فكانت أسلحتهم المسدسات والقنابل اليدوية!.
واستطاعت الحكومة الهولندية إخمادها لقواتها الكثيفة التي قذفتها إلى ميدان الثورة. وبعد انجلاء الموقف سجنت السلطة الهولندية (4500) إندونيسي شيوعي، ونفت أيضاً إلى غينيا الجديدة (1308) شيوعيين!
في 4 يوليو 1927 أنشأ الدكتور سوركانو (اتحاد الشعب الإندونيسي) وساعده في إنشائه المستر سر تونو، والمستر اسحق والمستر بودترات، والمستر سوجادي، والدكتور شفتو ماعون كسومو. وفي ديسمبر 1928 عقد الحزب مؤتمره الأول بمدينة سورابايا، وقررت الهيئة الرئيسية للحزب إبدال اسم الحزب. فسمى (الحزب الوطني الإندونيسي) برئاسة الدكتور سوكارنو فأنشا هيئات عسكرية من الشباب سميت بفرقة الهجوم. وفي هذا الظرف كان الشعب الإندونيسي يترقب مصير الحكم الهولندي في إندونيسيا، حيث أن الحزب الوطني كان أقوى حزب سياسي في إندونيسيا، سياسته رفع السيادة الأجنبية عن إندونيسيا. وفي نهاية عام 1929 داهمت جنود الحكومة الهولندية دار الحزب الوطني بمدينة (باندونج) فجمعت أوراقه ومستنداته، ثم داهمت أيضاً فرقة من الجنود الهولنديين (50)(677/28)
مدينة في إندونيسيا فيها فروع الحزب، وقبضت على (300) عضو من أبرز أعضاء الحزب. أما رئيس الحزب فقد سيق إلى السجن ليلاً والأسباب التي دعت الحكومة الهولندية إلى إجراء هذا العمل شعورها بثورة يشعل نارها الحزب الوطني في غرة عام 1930 لما رأت منه من الأعمال الثورية منذ ظهوره في الميدان السياسي. وبعد محاكمات طويلة قررت السلطة الهولندية سجن الدكتور سوكارنو أربع سنوات، وسجن كل من المستر غاتوت والمستر ماسكون والمستر سوفريا والمستر سنغيه مدداً مختلفة. أما الدكتور سوركانو فقد قضي عامين مسجوناً في سجن (سوكا مسكين) بسورابايا، وأنقص عامان من مدة سجنه بأمر من الحاكم العام وأما الأعضاء الآخرون فقد أتموا مدة سجنهم.
في 31 ديسمبر 1931 خرج الدكتور سوكارنو من السجن فوجد أتباعه قد اقسموا إلى قسمين: قسم برئاسة المستر سرتونو وقسم آخر برئاسة الدكتور محمد حتى. فأنضم إلى (الحزب الإندونيسي) أو بزعامة المستر سرتونو. ثم في عام 1932 اسند إليه رئاسة الحزب، وبدأ عمله السياسي كما كان وفي 5 مارس 1933 قبض عليه ثم نفي إلى جزيرة فلورس. وفي عام 1936 أعيد إلى مدينة (بنكولين) بجزيرة سومطرة، ثم عهدت إليه الجمعية المحمدية الأشراف على أقسامها الثقافية بفرعها بهذه المدينة.
أما الدكتور محمد حتى فقد أنشأ بمساعدة الدكتور شهرير (حزب التربية الإندونيسية) وكانت مبادئه تحرير أندونيسيا من الاستعمار الهولندي. وفي 25 فبراير 1934 ضربي السلطة الهولندية بيد من حديد على هذا الحزب. فنفت رئيسه الدكتور محمد حتى إلى جزيرة (بندانيرا) والدكتور شهرير إلىغينيا الجديدة، وهكذا تضرب الإمبريالية الغربية الحركات الشرقية التحريرية.
وفي ديسمبر 1297 تألفت هيئة سياسية باسم: (اتفاق الهيئات السياسية القومية الإندونيسية) أو المرموز غليه بالحروف الأولى , , , , لاتخاذ مناهج سياسية مستقيمة لمقاومتها الاستعمار الهولندي، وتولى رئاستها المستر محمد حسني تمرين من حزب (إندونيسيا الكبرى)، وتكونت هذه الهيئة من حزب (بودي أوتومو) وحزب (الرابطة الإسلامية) وحزب (قوم بتاوى) و (سومطرة بوند) وأدت هذه الهيئة خدمات سياسية في صالح الشعب.(677/29)
في 16 أكتوبر 1930 أبدل الدكتور ستومو (نادي التعليم) إلى حزب سياسي باسم (اتحاد الشعب) للتكاتف مع الأحزاب السياسية في كفاح الاستعمار. وفي 29 أبريل 1931 أنشأ الدكتور أمير شرف الدين حزب النهضة الإندونيسية للعمل لتحرير إندونيسيا من الاستعمار الغربي. وقد استطاع الدكتور أمين الدين بجهوده العظيمة إيجاد حالة سياسية للشعب أوضحت له ان أعماله وجهاده ستثمران بعد سنوات قليلة، ومنذ نشأت الجمهورية في إندونيسيا تولى الدكتور شرف الدين وزارة الأخبار ثم عين إلى وزارة الداخلية ثم عين إلى وزارة الدفاع، ولا يزال يشرف عليها للآن.
وفي 14 سبتمبر 1930 أنشأ المستر محمد يمين (حزب الشعب الإندونيسي)، وكانت سياسة حزبه ترمي إلى الاستقلال التام لإندونيسيا أو البقاء تحت الاستعمار! أما إنشاء حكومة ذاتية أو غيرها من أنواع الحكومات فليس من الحكمة الرشيدة، والسياسة المستقيمة! ويتولى اليوم المستر محمد يمين منصب حاكم جاوا الغربية.
وفي 24 ديسمبر 1935 أدغم الدكتور ستومو حزب أوتومو، وحزب اتحاد الشعب، وحزب دشركت سومترا، وأخراج منها حزباً سياسياً كبيراً هو (حزب إندونيسيا الكبرى) اتبع الحزب سياسية معتدلة تجاه السلطة الهولندية، وكان عمله الأول متجهاً نحو الحياة الاقتصادية والحياة الثقافية فمؤسساته الاقتصادية:
1 - البنك الوطني الإندونيسي. وله فروع كثيرة في أهم المدن الإندونيسية ويؤدي الأعمال التجارية.
2 - شركة الملاحة الوطنية.
3 - المعهد الزراعي. ومؤسساته الثقافية: 1 - معهد التربية الإندونيسية 2 - دور للأيتام 3 - مدارس ثانوية 4 - مدارس شعبية عامة 5 - هيئة للأيتام 6 - دور للأطفال لحمايتهم من داء - , , , إدارة للصحافة والنشر.
في ديسمبر 1936 أسس بعض الزعماء الإندونيسي (الحزب الإسلامي الإندونيسي) لعمل خطة سياسية لإسلامية يسير عليها الشعب الإندونيسي المسلم في جهاده في سبيل استقلاله وتولى رئاسة الحزب (رادين ويووهو) العضو بالمجلس النيابي وساعده في إدارته الدكتور سوكيمان، والمستر كسمات والدكتور سكارى. وقد جعل الحزب مبادئه مستمدة من القرآن(677/30)
والحديث مع مراعاة سير التطورات السياسية في الشرق والغرب. وأعطى لرئيس الحزب التصرف المطلق حتى لقنته الصحافة الوطنية بلقب (دكتاتور) ولهذا الحزب وزير في الحكومة الإندونيسية الحديثة هو الدكتور محمد ناصر ويشغل وزارة الاستعلامات، وكان قبل نشوب الحرب الأخيرة رئيساً لفرع بمدينه سورابايا.
في 21 مايو 1939 أنشأ المستر أبيكوسنو زعيم حزب (شركت إسلام إندونيسيا) والمستر محمد حسني تمرين وكيل حزب (فرندرا) والمستر أمير شرف الدين زعيم حزب النهضة الإندونيسية. انشأ هؤلاء رابطة سياسة باسم والمقصد السامي لها توحيد الأحزاب السياسية الوطنية للعمل متحدة في سبيل تحرير إندونيسيا من السلطة الغربية، والأحزاب التي اشتركت في هذه الرابطة السياسية هي:
حزب إندونيسيا الكبرى.
حزب النهضة.
حزب الرابطة الإسلامية.
حزب الاتحاد الميناهاسي.
حزب فاسوندان.
الحزب الإسلامي.
وأول عمل قامت به هذه الرابطة مطالبة السلطة الهولندية بإنشاء برلمان. وقامت الرابطة بدعاية واسعة النطاق لمشروع البرلمان في الدوائر الإندونيسية والهيئات الهولندية. وفي 23 - 25 ديسمبر 1939 أقامت الرابطة مؤتمراً قومياً باسم (المؤتمر القومي الإندونيسي) بمدينة جاكرتا لبحث ما وصل إليه زعماء الرابطة من أعمال مشروع البرلمان. واشتركت الجمعيات الإندونيسية في هذا المؤتمر قدمت الرابطة مذكرة إلى المجلس النيابي بطلب إنشاء برلمان للبلاد، وأوضحت فيها مستوى ما وصل إليه الشعب من الثقافة والتربية السياسية، ثم أحال المجلس النيابي مذكرة الرابطة إلى البرلمان الهولندي بلاهاى، فأغمضت هولندا عينيها وتجاهلت الحالة في إندونيسيا.
هذه خلاصة تاريخية للتطورات السياسية والحركات الاستقلالية في لإندونيسيا. فلعل القارئ تمكن من تصوير حقيقة الشعب الإندونيسي، والتكهن بمستقبله بعد أن أعلن استقلاله(677/31)
بين أصوات المدافع وهدير الطائرات، ثم خطى خطوات موفقة بين الأشلاء والدماء!. . .
محمد جنيدي(677/32)
في خطبة للنشاشيى:
كتاب أحمد شاكر الكرمي
كان وعد في (الرسالة) في المقالة (الفيلسوف أمين الريحاني) - رحمه الله عليه - أن ينشر كتاب النابغ الناقد مازني الشام وعقاده، المأسوف على آدابه وشبابه الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي) صاحب صحيفة (الميزان).
و (كتاب أحمد) هو في خطبة للنشاشيي اسمها (كلمة موجزة في سير العلم وسيرتنا معه) قالها منذ أربع وثلاثين سنة في الحزب الكبرى الأولى، في كلية صلاح الدين الأيوبي، في بيت المقدس.
وهذا هو الكتاب:
سيدي الأديب الجليل:
وصلتني (كلمتك الموجزة) فكنت أتمثلك وأنا أتلو سطورها، مدرهاً من فحول الجاهلية قهر تصاريف الأيام، وحظى بنعمة الخلود، وقام يقرع مسمع الدهر بآيات العلم والعرفان في عصر العلم والنور.
إني مدين لرسالتك بنشوة السرور التي خامرت قلبي في زمن لا يبعث كل ما فيه إلا على الحزن والأسى، فقد أطربني حقاً وجود أديب بين ظهرانينا يجلو أسرار العلم الحديث ومعجزاته في هذه الحلة العربية القشيبة في زمن استعجم فيه أبناء الضاد، وكادوا يضيعون آخر الذخائر وأثمن النفائس التي ورثهم إياها أسلافهم الأبرار.
وإني لأرجو أن تدفعك غيرتك على هذه اللغة المجيدة التي قلّ أنصارها إلى الإكثار من هذه الآثار التي تعتز بها دولة الأدب، وتهتز لها أعطاف البلاغة. والسلام عليك مكن أخ مخلص يجلب منزلتك، ويكبر أدبك وبيانك.
دمشق الشام في 18 آذار 1922
أحمد شاكر الكرمي
وهذه شذرة من الخطبة التي شرفها وأعلى قدر منشيها اسم النبي محمد فيها.
(ثم أتى على العالم من بعد ما اجتلى من الحكمة الإغريقية والعلم الإغريقي الذي اجتلاه(677/33)
حين من الدهر كربت تضمحل فيه الآثار هذه الحكمة. وتنطفئ من سمائها أنوار درارىء طالما هدت السارين، وأرشدت الضالين. (وبينما العسر إذ دارت مياسير) وبينا العالم يرتقب هادية وقد تطاول ليل ضلاله وحيرته صات صائت في فلاة لم تعتد الناس أن تسمع فيها للخير دعاء. فأرهفت لأسماع ما يقول الصوت أذنه: فإذا هو يوقظ الهاجد في عماه، وينبه الغافل من كراه، وينادي إلى الحق وصراط مستقيم. وذلك الصائت هو سيدنا وزعيمنا وإمامنا ومصلحنا. وقرة أعيننا، ومهوى أفئدتنا؛ شرف العرب بل المشارقة بل قطين الأرض قاطبة. موحد أهواء أهل (الجزيرة) المتشتتة. والمؤلف بين قلوبهم المتفرقة، ونازع ما في صدورهم من غل. والكادح الجاهد في إعزاز مكانتهم وأعلاه كلمتهم، وتمليكهم الدنيا. مهدم عروش الطغاة والجبابرة من الأكاسرة والقياصرة. محرر الشرق من الغرب. مخرج هرقل من سوريا. وطارد كل طارئ أوربي من كل قطر أسيوي أو أفريقي ذو الخلق العظيم والكتاب الكريم شائد الوحدة العربية وصفوة النوع الإنساني، وأكبر معاني الكون (محمد بن عبد الله) فتبدلت الأرض في ذلك الوقت غير الأرض، وارتدت من الخير بجلبات كانت قد نضته، ورحبت وأهلت بما قلته من الحكمة واجتوته، وغدا آباؤنا إلى طلل العلم الدارس والمدنية الطامسة. فشادوا في مكانه صرحاً لهما ممرداً).
ذلكم ما أملى على، فكتبته، ورويته. ولم يزد على الكلام وكاتبه حرفاً.
السهمي(677/34)
الشاعران المتشابهان
السابي (التونسي) والتجاني (السوداني)
للأستاذ أبي القاسم محمد بدري
الشابي:
انحدر أبو القاسم الشابي من أسرة عريقة ذات مجدودين، قبيلته الشابية، وبلدته توزر عاصمة الواحات التونسية. شدا طرفا من علوم الشريعة الإسلامية كالفقه والتوحيد والأصول، واخذ نصيباً من الثقافة العربية كالنحو والصرف والبيان والأدب. درس ذلك على الأساليب العتيقة، من متن وشرح وحاشية. وفاز بشهادة (التطويع) في جامع الزيتونة ثم التحق بمدرسة الحقوق، وحصل على إجازة الحقوق. ثم أصيب بداء الصدر الذي صده عن إتمام دراسته؛ فانقطع عن العلم والتفت إلى معالجة المرض العضال الذي ظل معه يغاديه ويراوحه، حتى اخترم حياته في ربيع شبابه.
التجاني:
أما التجاني يوسف بشير فهو شاب ينتمي إلى أسرة من كرائم الأسر السودانية سليلة أعرق القبائل العربية. تلقى تعليمه في المعهد العلمي بأم درمان. فاستلقى من نبعه الصافي علماً واسعاً وأدباً رائعاً، وأعانه ذوق مرهف وذكاء وقاد على فهم الحقائق العلمية، وتمييز الدقائق البيانية والاشتغال بها نع العلوم الدينية في زمن سادت معهده فيه أساليب التعليم العتيقة التي لم تعن بفن الأدب عنايتها بعلوم الدين. وأصيب أيضاً بداء الصدر العضال الذي غالبه حقبة من الزمن، ثم صرعه المرض وهو في سن باكرة نضج فيها إنتاجه، وبلغ ذروة الإتقان وموضع الافتنان. وافاه الأجل المحتوم وهو ناضر الصبا ريان الشباب في مقتبل حياته الأدبية، ومفتتح عبقريته الشعرية؛ وأمته وأسرته أحوج ما تكونان إليه، لأعواز العوض عنه وعظم الفجيعة فيه.
وجه الشبه في حياتهما:
نشى في بيئة دينية محافظة ونهلا من فيض الثقافة العربية الإسلامية العربية، ثم تأثراً بالأدب الغربي في قراءة الكتب المترجمة لأن كليهما لم يدرس لغة أجنبية وقد اتفق أن(677/35)
نظرتهما للحياة كانت متقاربة التقارب كله؛ وليس هذا يحدث إلا في النادر القليل. رغب كلاهما عن الحياة العابثة الماجنة، ونزعا نزعة التصوف والزهد وسخطا على عيشهما، وتبر ما بقومها، وتشاءما من حياتهما تشاؤماً، مبعثه حب الإصلاح وانتقاد ما يريان من أحوال وأعمال. وأودعا كل ذلك في شعر رائع زاخر يجيش ثورة واضطراما على التقاليد، ويفيض ناقماً على المنازعات والحزبيات، ثم يتدفق عذوبة ويتفجر إخلاصاً وحماسة في معالجة المشكلات وتقوية الأواصر والصلات بين المواطنين المخلصين وأبناء العروبة الغر الميامين.
وتشابها أيضاً في العلة فقد أصطلح عليهما داء الصدر الذي عاق نموها الجسمي وتقدمهما العقلي في العمل والتفكير؛ فماتا في عنفوان الشباب عندما تفتقت زهرتاهما عن أكمامها عبقتين فواحتين بأريج النضج والاكتمال، وشذى الإنتاج والإبداع. ومن غريب مصادفة القدر أن فقدهما حدث في زمنين متقاربين. مات الفقيدان طيب الله ثراهما وأخلد ذكراهما - بعد أن اقتطفا من متاع الحياة خمسة وعشرين ربيعاُ لم ينعما فيها بأطايب العيش ولذائذ الحياة، ولم يستكملا فيها مراحل تطورهما في النظم والتصوير، وابتكار النماذج العالية الخالدة في الأدب الشرقي والشعر العربي المستقى من الفن الغربي والمذهب الواقعي.
المشابهة في طريق النظم والتعبير:
من الواضح أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد. فلا بد له من الصورة الفنية والموسيقى الجميلة والخيال البارع. ومعلوم أن المقصود بالمشابهة في النظم والتصوير هو الشبه بينهما في لغة الشعر.
فما هي لغة الشعر إذن؟ هي أداة يستخدمها الشاعر في فنه قوامها الألفاظ والكلمات التي لا تخرج كثيراً عما يتحدث به.
الناس ويكتبونه به. وبهذه الأداة المألوفة يستطيع الشاعر أن يخرج فنا يفوق جميع الفنون.
وبما أن الشعر الصحيح ينبعث دائما من إحساس قوي ممتاز، فالشاعر ملزم حينئذ أن يتخذ للتعبير عنه لغة خاصة متجانسة مع هذا الإحساس. فليس المعنى وحده هو الذي يؤثر في النفوس؛ بل إن الألفاظ - التي هي منه بمثابة الجسد من الروح لها تأثيرها الخاص. ففي الشعر الرصين ينبغي للفظ:(677/36)
أولا: أن يتجانس مع المعنى فيكون رقيقا في مواضع الرقة، قويا عنيفا في مواضع العنف والقوة.
ثانيا: أن يكون اللفظ على قدر المعنى، فلا يكون هناك حشو ولا زيادة، ولا قصور في الدلالة على المعنى.
إذا أنعمنا النظر في شعر هذين الشاعرين نجد المشابهة قوية أخاذة ذات سحر وجلال ينفذان إلى شغاف القلوب ويؤثران في طوايا النفوس. قال الشابي يصف الجنة الضائعة: -
كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير
كانت ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور
والذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الغرير
أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير
وطهارة الموج الجميل وسحر شاطئه المنير
ووداعة العصفور بين جداول الماء النمير
ففي الأبيات المتقدمات يسكب الشاعر ذوب نفسه وعصارة فكره؛ وهو يتشوف إلى العهود العذبة التي قضاها في الوادي النضير؛ ويتحسر على ضياعها، لأنها كانت تسمو على كل لذة من لذائذ الوجود وتفوق كل متاع من متع الحياة. ألم يقل إنها ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور، والذ وأمتع للنفس من سحر الصبا وبسمة الطفل الغرير. وهل يوجد في الوجود شيء يعدل هاتين اللذتين في العذوبة والطهارة والوداعة والجمال.
ألا تسمع إلى رنين جرس العبارات وحلاوة الألفاظ والتعبيرات في الكلمات التالية. - سحر الصبا - بسمة الطفل - طهارة الموج - وداعة العصفور. أن الألفاظ فيها تجانس للمعنى وفيها رقة تسيل على القرطاس وتتفجر عن أنبل عاطفة واحساس. ثم إن اللفظ على قدر المعنى فلا حشو ولا زيادة مع اقتدار فيه على تأدية المعنى أداء بليغا مؤثرا.
ولنستمع إلى صاحبة التجاني يوسف بشير يناجي النيل في وقفة له شاعرية سمت بروحه إلى أعلى عليين حيث فاضت على السامعين من نبعها الصافي هذه الأبيات الخالدات في قصيدته (في محراب النيل). -
أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موقف في مسابك(677/37)
ملء اوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من انسابك
حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت على وضيء عبابك
وأمدت عليك أجنحة خضراً وأصفت ثيابها رحابك
ألي أن قال واصفاً مسير المياه.
يتوثبن في الضفاف خفافاً ثم يركضن في ممر شعابك
عجب أنت صاعداً بمراقيك لعمري أو هابطاً في اصبابك
اختار الشاعر النابغة احسن الألفاظ وقعاً في النفس وإثارة للعواطف، مما يناسب المعنى الذي تصدى لتوضيحيه وبيانه.
ألا تسمع إلى هذه الكلمات - نبيل موفق في مسابك، ثم المفيض من انسابك - ثم إلى يتوثبن - ثم إلى كلمتي خفافاً (ويركضن).
أنها ألفاظ تدعو إلى الفكر كل المعاني الجميلة التي تدانيه أو تمت إليه بسبب. فكلمة يتوثبن ترسم للذهن في أوضح صورة منظر الماء المنساب فوق الضفاف في سرعة وقوة حيث يغمر سطح الأرض ويفيض على روابيها العالية، ثم ينحسر عنها جاريا إلى المنخفضات والوديان، وهذا يتمثل في عبارة (يركضن في ممر شعابك) في قوة ووضوح. وكلمة أجنحة خضراً تدعو إلى ذهن السامع كل المعني الجميلة التي تلابسها، فيستعرض الذهن منظر الخضرة اليانعة والظل الوارف، والطير الصادح، وكل ما هو جميل مؤثر.
تصوير المرئيات والمناظر الطبيعية:
يقل في شعر هذين المفلقين وصف المرئيات - أو بعبارة أخرى رسم الصور لما يريان من الأشياء. بينما يزخر شعرهما بنفثات الصدور وخلجات النفوس، ومظاهر تأثيرهما بالأحداث والنكبات، واستهجانهما للتقاليد والعادات وتصويرهما الحقائق التي امتزج بها الخيال ولونتها العاطفة. ولكل هذه الموضوعات اثر في نفسيهما الثائرين، حيث يشتد الألم البالغ ويطغي الهيجان الفوار ويغلي الدم الحار، فتنطلق من الشفاه، همسة محزونة أو صرخة مدوية أو نفثة قوية تذهب في الناس مثلا سائراً وقولا مأثوراً أبقي على الزمن من الزمن.
افتن شاعرنا التجاني بمنظر الطبيعة الساحرة لما رأى جزيرة (توتي) تستيقظ في غلس(677/38)
الليل الدابر وتستقبل الصبح السافر كأنها روضة مفتنة حفها النيل وحتواها البر ففاح شذى زهورها وشدت على الأغصان طيورها، فطرب الشاعر وسكر، وعبر عن هذا الإحساس بلغة خيالها قوى ونغمها شجي، ومعانيها ساحرة. استمع إليه يقول: -
يا درة حفها النيل واحتواها البر
صحا الدجى وتغشاك في الأسرة فجر
كم ذا تمازج فن على يديك وسحر
يخور ثور وتثغو شاة وتنهق حمر
والبهم تمرح والزرع مونق مخضر
إلى إن قال: -
وذاب في الرمل أو ماج في الترائب تبر
هذا شراع مكر، وذا شراع مفر
يطوي وينشر الريح من هناك تسر
وزورق يتهادى وزورق يستحر
يرسي ويقلع والشاطئ هادئ مستقر
ورب قنواء للعصم والانوق مقر
أوفى على النيل فرع منها واشرف جزر
أتريد بعد هذا البيان بياناً يصور فيه الشاعر العبقري منظر الطبيعة الساحرة ويعطي صور كاملة العناصر موصولة الأواصر تنتقل فيها من خاطر إلى خاطر حتى تستوعب كل المعاني التي تكمل بها الصورة للناظر في أبيات هي السحر الساحر. ولقد أبدع التجاني أيما إبداع في رسم صورته؛ وفاق فيها المصور الماهر الذي يعمل في دائرة ضيقة حينما يرسم على لوحته حالة من حالات النفس أو صورة من صور الحس. على حين إن دائرة التجاني ارحب واوسع، لانه يستكمل تصوير منظره في أبيات متعددة إن عجز عن تعبيرها في بيت أو بيتين.
ولنستمع ألان إلى قصيدة مشابهة من قصائد الشابي التي يصور فيها صورة واضحة لما يحس من أشعة الوجود وألوان الطبيعة وعبر الحياة. يقول مخاطبا الحياة التي يريدها(677/39)
لشعبة في قصيدته (إرادة الحياة): -
وقال لي الغاب في رقة محجبة مثل خفق الوتر
يحل الشتاء: شتاء الضياء، شتاء الثلوج، شتاء المطر
فينطفئ السحر: سحر العيون، وسحر الثمار، وسحر الزهر
وتهوى الغصون وأوراقها وأزهارها عن جمال نضر
وتلهو بها الريح في كل واد ويدفنها السيل أنى عبر
لقد نقلك الشاعر الساحر إلى جو عبق زاهر فيه تحب الحياة ويحلو المتاع ويطيب النعيم. كيف يكون ذلك وهو يصف ذبولها ونحولها؟ انه يعطيك صور الحياة الممتعة بعرض صورها القاتمة وبضدها تتميز الأشياء. ويصور لك ما يغشاه من ظلام الشتاء، وانطفاء السحر والرواء، حينما تذوى الثمار وتذبل الأزهار، ويغيب النوار، وتسقط أوراق الأشجار التي تلعب بها النكباء في زمهرير الشتاء، ويدفنها السيل الدافق في أغوار المهاد والوهاد.
هذه صورة جميلة عبر بها الشاعر عن احساسات قوية وتاثرات عميقة رسمها باستخدام ألفاظ منتقاة مرتبة في أعذب الحان، واجمل موسيقى، وأقوى أشجان.
(البقية في العدد القادم)
أبو القاسم محمد بدري
مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)(677/40)
الأدب في سير أعلامه:
مْلتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 17 -
حربه على القساوسة:
اعتزل ملتن الشعر إلى حين لعله ظنه قريبا، فلم يدر بخلده أن هجران احب شيء إلى نفسه سوف يمتد عشرين عاماً. والحق أن اعتزال ملتن الشعر والأدب على ما كان من فرط تحمسه له وانكبابه على الأخذ باسبابه، امر يحمل المرء على العجب الشديد بادئ الراى، ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا عدنا إلى خلق ملتن ونزعات وجدانه
خلق ملتن محاربا يحب النضال ويعشق بفطرته الحرية، فلن يستطيع إن يغمض العين عما يرى من خلل أو فساد، ولن يستطيع أن يظل جامداً تلقاء ما يراه ظلماً أو استبداداً بالرأي في غير حق ولو كان في ذلك هلاكه؛ كذلك رأيناه وهو بعد طالب بالجامعة، وكذلك رأيناه وهو يفصح عن عقيدته الدينية في إيطاليا، وكذلك نراه اليوم يوقد نار الحب على القساوسة أو خلق ملتن ديناً تقياً مخلصاً لعقيدته تواقاً إلى الإصلاح، لذلك ركن إلى البيوريتانز في كثير مما ذهبوا أليه، وإن خالفهم في إسرافهم في التزمت ومغالاتهم في النفور من الفنون ومن طيبات الحياة وكانت روح البيوريتانية يومئذ، أو ما يهجس في نفوس أشياعها من الرغبات هو إصلاح الكنيسة كما أصلحت الكنائس في القارة وتقرير مبدا الحرية الفكرية والسياسية، وقد استقرت هذه الرغبة في نفس ملتن وآمن بها أيمانا قوياً واعتقد ملتن كما اعتقد جمهرة البيوريتانز ان القساوسة في انجلترة بتعصبهم لنظام الكنيسة وبمظاهرتهم الملك في عناده وطغيانه هم العقبة الكؤود في سبيل الإصلاح وفي سبيل الحرية؛ لذلك أيقن طالبو الإصلاح أن لا أمل لهم في عمل مجد ألا أن يقضوا أولا على الأساقفة وسلطانهم،(677/41)
ولهذا اقدم ملتن فيمن اقدموا لمحاربة الأسقفية؛ ولهذا اعتزل الارثريادا أو الفردوس المفقود، أو سواها مما كان يملا خيالة من الشعر، وآثر أن يجيب داعي الله بالدفاع عن دين الله
بيد انه على الرغم من حماسته إذ يقدم على مناضلة القساوسة كان يحس في أعماق نفسه عظم تضحيته بهجرانه الشعر، فلقد انقطع له منذ حداثته، وتوفر على الاستعداد والدرس، وأمتلات نفسه طموحا إلى شيء يسلكه في الخالدين؛ وكان هذا الطموح عزاء قلبه وبهجة نفسه وأنس روحه في عزلته القاسية، وفي دراسته الطويلة الشاقة!
ولكن لم يك من هذا الهجران بد، فلم يك يسعه في مثل ذلك الوقت كما قال أن يقف بمعزل (وكنيسة الله تحت أقدام من يهينها من أعدائها)، ولم يك لينجو من عذاب ضميره لو لم يجعل ما اكتسب من ثقافة ومعرفة وقفاً على الدفاع عنها، وفي رأيه انه إذا لزم الصمت، فان الله يؤاخذ بصمته، فلن يغفر الله له أن يقبل الفراغ والقدرة على الدرس، وقد تهيأ له بعروق قوم آخرين، ولا ينفقهما ألا في أن يزين بهما موضوعات هي من فخر الحياة وغرورها، ولكن (إذا كانت قضية الله، وحقت إجابة داعي الله بنصرة كنيسته، فان الله سميع إليك إذ تطلق صوتك. .
فان بقيت ابكم كالدابة، حق عليك منذ ذلك الوقت ما تصير أليه من أثم بصمتك الذي يشبه صمت البهائم!) ولئن كان همه أن يكتب موضوعاً يكسب به الفخر، فليس هذا وقته والجيل كله يشترك في صراع من اجل الحرية تتلظى ناره، إن يشهد على الأقل ذلك الصراع، وينتظر الناس وأنفاسهم عالقة ما إذ يكون من أمر هذه المعركة، أو كما قال ملتن (انه لمن الحمق أن تلقى بشيء كتبته جاهداً في نسق عال إلى قوم هم عنه ساهون، إذ يقطع إصغاءهم أليه ما يزخر به عصرهم من ضجيج وصخب). أضف إلى ذلك انه لم يكن يعتقد انه اخذ اهبته لذلك الشيء بعد، فانه يشير إلى ذلك حتى بعد بدء الحرب على القساوسة بنحو عام قائلا: (أني لم استكمل بعد في عقلي دائرة دراساتي الشخصية)!
لذلك يدع قيثارته إلى اجل لعله يكون قريبا يوم يرى وطنه على حد تعبيره: (وقد خلص نفسه من ذلك الطغيان الذي لم يكن مثل هذا الزمن أوانه، ذلك الطغيان المستند إلى مقام كبار القساوسة، والذي لا يرجى لأي فكر حر أو ذكاء المعي أن ينمو ما دام له تجسسه واستبداده) وتمت دافع آخر لا يقل خطرا على هاتيك الدوافع يسوق ملتن إلى تلك الحرب،(677/42)
وذلك هو عظيم ثقته في نفسه وفي الشعب الإنجليزي، فهو منذ صغره - كما رأينا - يعتقد انه كفء لعظائم الأمور، - مهما كان خطره - أل ابلغ منه ما يريد: واليوم يخالجه شعور أن نفسه تنطوي على قوة كامنة فيها أن هي أثيرت كانت ذات اثر عظيم في مستقبل الكنيسة وفي مستقبل وطنه. والحق أن وراء طموح ملتن أن وراء طموح ملتن نحو العظمة الأدبية طموحا آخر نحو العظمة في ذاتها في آية صورة من صورها، فلا ضير أن تواتيه في صورة الدفاع عن الحرية أو عن الكنيسة، أما ثقته في الشعب الإنجليزي فكان مردها إلى انه يرى بني قومه الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وانه تجلى لخلقه من الإنجليز أول ما تجلى، وانهم سوف يقيمون على هذه الأرض مملكه الله التي ترى رأى العين ومع شدة حماسه لما هو مقبل عليه نراه ينطبق قبيل دخوله المعركة بما يشعرنا بتردده وإشفاقه، نجد شاهدا على ذلك في قوله بعد أن أشار إلى ما كان فيه من استغراق في الأدب والشعر: (ما اقل ما يحفزني من ميل إلى أن اقطع ما أن اقطع ما أنا بسبيله من مثل هاتيك الآمال، وان اترك عزله هادئة ممتعة تكتنفها تأملات سارة وثيقة لا قلع بسفينتي في بحر مضطرب تملاه والضوضاء والجدل الصاخب). وهو فضلا عن ذلك يحس انه ترك ما يحسن إلى ما لا يحسن مما يزيده شعورا بتضحيته، وانه نسي نفسه وما كان يتحرق أليه من مجد أدبي ليجيب داعي الله، تجد ذلك في قوله: (ما كانت لاختيار لنفسي أن هذا النهج من الكتابة، وأنا على علم باتي هنا على باني هنا دون حقيقتي، فقد أعدتني قوة طبيعية صادقة لعمل آخر: ولذلك فإني في هذا المتجهة الجديد أحس كأنما استعمل يدي اليسرى) ولكنه يسلم إلى الله، انظر إلى قوله: (إذا جاء آمر الله بان نشرع البوق وان ننفخ فيه نفخه شاكية صاخبة، فلن يدخل في إرادة الإنسان بعد ذلك ماذا يقول ولا ماذا يخفي في نفسه). وكلن يؤمن ملتن بان الله سيثبه على فعله وسيهبه القوة والأقدام، ويمد له في حياته ليكون بوق النصر كما كان بوق المعركة، ولقد ظل أثناء المعركة يفكر فيما هو عائد آلية بعد أن تنهى الحرب. والحق أن ملتن قد أفاد من المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة الطويلة تكونت في نفسه ملحمته الكبرى الفردوس المفقود، فكانت كملحمة دانتي عملا ليس قوامه الفصاحة والخيال والمقدرة الفنية فحسب، بل أضيف إلي ذلك تجربة الحياة ومعاناة خصومتها والوقوف من(677/43)
كثب على عوامل الشر والخير في النفس البشرية وفي المجتمع، وتذوق طعم الأمل مرة والأخبية مرة، والنفاذ إلى أعماق العواطف والانفعالات ثم معرفة كيف يكون اليأس القاتم فلا عجب أن يتغنى الشاعر بعد ذلك بالفردوس المفقود، وقد شهد فقدان بني وطنه ما كان يرجوه لهم ويرجو معه المصلحون من حياة في الدين والسياسة على الأرض كحياة الفردوس. وفي هذه المعركة تهيأت في نفسه الملحمة فلم يبق إلا أن يغنيها وان يلبسها لباس الشعر: والحق أن المعركة أجدت علية اكثر مما أجدت قراءاته ودراساته، إذ استطاع أن يضيف خبرة الحياة إلى هبة الفن وان يترك أهذه الدنيا آثرا فذا من هاتيك الآثار الخوالد التي يغنيها كل عصر وتأنس أليها كل بيئة. ومن الخطأ أن نعد ملتن تلك المعركة انتصارا منه لأصدقائه البيوريتا فحسب فان حبة الحرية وميله إلى نصرتها أبدا هو الشعور الحقيقي الذي دفع به إلى الحرب، وكانت غايته التي يصبو أليها أن يعيش الناس طلقاء في أفكارهم وأعمالهم بعد أن يذهب سلطان القساوسة القائم على التعصب والاستبداد بالرأي والاضطهاد، وكان ملتن بحميته وثورة نفسه يمثل في الواقع روح العصر، ففي العصر كله ثورة على الطغيانفي أي صورة وما كانت فلسفة دينية ووثبة سياسية معا. ومهما يكن عنة من عبارات تشعرنا بتردده وإشفاقه فانه اقبل في حماسة عظيمة وشجاعة فذة بعد أن أبتدأ النضال ورأى نفسه في غمار المعركة، وإنما كان ما خيل آلية أنة تردد أسفاً منه على هجرانه الشعر والتهيؤ له. . .
وكيف بدأت المعركة؟ لم يكن ملتن البادئ بها وإنما بدأت في البرلمان الطويل سنة 1640 إذ تقدم البيوريتانز من النواب بمقترح الأصل والفرع فعندئذ نشر أحد القساوسة وكان يدعى هول كتيباً سماه (الإعلان المتواضع) ورد فيه على ما اسماه يم وزملاؤه الإعلان الأعظم كما ورد على مقترح الأصل والفرع؛ وأجاب خمسة من البيوريتانز سموا أنفسهم سمكتمنس يدحضون فيه ما ذهب إليه هول؛ وكان توماس ينج أستاذ ملتن القديم أحد أفراد الجماعة، ولذلك ظن أن ملتن اشترك في وضع هذا الكتيب؛ ثم توالت الكتيبات كالسهام من جانب البيوريتانز ومن جانب خصومهم. وشد ملتن قوسه فيمن شد وأطلق أول سهم من سهامه سنة 1641 في صورة كتيب له أول كتيباته جعل له عنواناً طويلاً هو (حول الإصلاح الديني فيما يتصل بنظام الكنيسة في انجلترة والأسباب التي عاقته حتى اليوم).(677/44)
كان هذا الكتيب الأول أقل كتيبات ملتن صرامة في القول وعرامة في الخصومة، وإن كان ليبعد كل البعد عن أن يوصف بالهدوء إلا أن يقاس إلى ما سيأتي بعده، وحسب القارئ أن يقع على خاتمته التي يدعو الله فيها أن يجعل العار خاتمة حياة القسيسين على هذه الأرض، وأن يلقي بهم في الدرك الأسفل من النار ليخلدوا فيها وليكونوا في مواطئ غيرهم من أصحاب الجحيم، وفي صفحات الكتيب غير هذا من صارم القول وقاذع الوصف ما يدل على غل الخصومة واحتدم السخيمة.
أتى ملتن في كتيبه هذا بموجز لتاريخ الكنيسة منذ القدم فلم تعجبه في قديمها ولا في حديثها، وما قساوستها الحديثون إلا مقلدون يسيرون على نهج أسلافهم في مظاهر الصوم والصلاة والتظاهر بالزهد، وما كان أسلافهم إلا ضالين غاوين، فالقسيسون أنفسهم خطأ في ذاتهم؛ وهؤلاء الحديثون منهم ليسوا قسيسين في شيء، ثم يشير إلى النهضة الإصلاحية في انجلترة ويذكر كيف تعثرت ووقفت بسبب تعصب القساوسة والملوك واستبدادهم بآرائهم، ويذكر الناس بهؤلاء الأحرار الذين هاجروا بعقيدتهم عن أوطانهم الحبيبة والذين (لم يكن لهم عاصم من غضب القساوسة إلا المحيط الفسيح وصحاري أمريكا الوحشية)، والرأي عنده أن يقضي على الأسقفية فتذهب إلى غير عودة وتحل البرسبتيرية محلها؛ ولئن تم ذلك أصبحت انجلترة (مدينة الله) وانتشرت الحياة الطيبة في أنحائها طولا وعرضاً، فأن هؤلاء القساوسة منذ حلوا بكنتربري قبل اليوم بنحو أثنى عشر قرناً وهم في جملتهم لم يكونوا في انجلترة لأرواحنا واسفاه إلا سلسلة من أئمة الهداية العميان الجهلاء، ولأموالنا وتجارتنا إلا عصبة متلفة من اللصوص ولدولتنا وحكومتنا إلا هيدرا الإساءة والعدوان).
ويتضمن هذا الكتيب ناحية من نواحي ملتن الدينية وهي ما تصوره عن ذات الله سبحانه، فعنده أن الله لا يحد ولا يوصف بصورة معينة ولا تدركه الأبصار، ولا يفوته هنا أن يتهم الكنيسة بأنها تحاول تحديد ذات الله وتصويره وذلك في رأيه أصل الخرافات جمعيا، يقول عن رجال الكنيسة (كما استطاعوا أن يجعلوا الله ينتمي إلى الأرض وأن يكون له مثل جسدنا، وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن ينتموا إلى السماء ولا إلى عالم الروح).
وجاء في هذا الكتيب رأيه لأول مرة عن الشعب الإنجليزي، فهو الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وخليق بهذا الشعب أن يبرهن على أنه جدير بهذا الاصطفاء، ويعلن ملتن(677/45)
رضاءه عن النظام الدستوري الإنجليزي في ذاته بل إنه ليغلو في امتداحه كل الغلو فيقول: (ليس فيما سلف من الحكومات المدنية نظام كنظام حكومتنا الإنجليزية، لا عند الإسبرطيين ولا عند أهل روما. . . حيث تجد أعظم الناس نبلا وأكثرهم جداً وأبعدهم نظراً ولهم بمحض إرادة الناس واختيارهم تحت سيادة ملك جر لا قيم عليه الكلمة العليا والرأي الفاضل في أعظم المسائل).
وينتهي الكتيب بابتهال إلى الله طويل حار ملؤه العاطفة الصادقة أن يخلص كنيسته من هؤلاء القسيسين وأن ينزل عليهم لعناته، ثم يتنبأ بنبوءة فحواها أن فجراً بهيجاً يوشك أن ينهل نوره على انجلترة، ولن يعدم ذلك الفجر طائرة الصداح، فلسوف يتمنى من بين هؤلاء القديسين الذين ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنهم الله ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار. .
(يتبع)
الخفيف(677/46)
رباعيات عثمان
للأستاذ عثمان حلمي
هكذا كانت الحياةُ فزنها ... كيف كانت وخذ نصيبك منها
لا تزنها إلا بعقلك إن شئـ - تَ خلاصاً من بطشها لا تزنها
إن ميزانها بمقياس إحسا - سك أدعى لأن يصدَّكَ عنها
وحرامُ عليك إن شئتَ ما فيـ - ها فإن الذكيَّ من لم يشنها
إن فيها لمن أراد خبالا ... وجمالاً لمن أراد جمالا
لوُنها لونُ ما بنفسكَ من حا - لٍ إذا ما بعينك حالا
وكذا تسمعُ النفوسُ صداها ... فترى الحق في الحياة ضلالا
إنما العقلُ للبصيرِ هو المر - جعُ والمستبدُّ من يتغالى
طالما جئتَ رغم أنفك فيها ... يا ابنها كنْ كواحدٍ من بنيها
كن حكيما مخذ نصيبك منها ... حسناً ما أصبته أو كريها
لا تكن جامداً إذا شئت أن تحـ - يا ولا مسرفا بها أو سفيها
وإذا لم تشأ فدونك نفسُ ... ما عزيزُ عليكَ ما يُرديها
علم النفس أن يكون رضاها ... بالذي كان واقتصد في مناها
وقليلُ من التجاهل والصبـ - ر أمانُ من بطشها وأذاها
أنت ما جئت في حياتك كي تصـ - لح ما في الحياة من أخطاها
لا ولا جئت كي تضيع من العمـ - ر كثيراً في همها وشقاها
إن يوماً مضى بغير سرورِ ... ليس من عمرك السريع القصير
وقليلُ من التجهّم والحز - ن كثير فما ترى في الكثير
ومن الحمق والجهالة بالخلـ - ق إذا عشتَ عيشةَ المصدور
فأتخذ من جوانب الجدّ للهز - ل مجالاً يحدّ جدّ الأمورِ
لك عمرُ مهما بلغتَ قصير ... طالَ فيه الأسى وقلَّ السرورُ
فتعلم كيف أنتها بك للعمـ - ر فإن الذي مضى لا يحورُ
والليالي لها جناحان بالأعمّـ - ار في غفلةِ النفوسِ تطيرُ(677/47)
يرجع الليلُ وما ير - جعُ يوماً ما غيبته القبورُ
وأتخذْ من تجارب الغابرينا ... لك عوناً حتى تذوق ألقينا
واضعف عِاَم من مضوا لتجاريـ - بك وأحذر من أن تموت حزينا
والذي مرّ في حياتك لا تأ - سف عليه أو ما عسى أن يكونا
خلَّ دنياك كيف شاءت وصلها ماجناً إن أوسعتك مجونا
وتبسّمْ للسعدِ والإقبال ... وتبسم في خيبة الآمالِ
وتنقلْ كما تشاء الليالي ... غير آس من أيّ حالٍ لحالِ
إن عمراً ختامه الموت جهلُ ... إن تقضّي في الهمَّ والبلبال
وعزيزُ علىَّ أن تَردَ الم - ت حزيناً في زمرة الجهّال
ما ارتوتْ بالبكاء مهجةُ باك ... لا ولا أثمرت شكايةُ شاكِ
إن موج الحياة يحمل في مدّ - هـ وفي جزره صنوفَ الهلاكِ
وتمر الأجيالُ والناسُ صرعي ... رممُ وسدتْ بغير حراك
سخر الدهر بالجميع وساوي ... بين رم الفجار والنساك
في اكتمال الشباب نقص المشيب ... وانتهاء الشروق بدء الغروبِ
ومصير المشيب ألعن ما في ... هـ خمودُ القوى وموت القلوب
ضجعة الموت لا تنغّصُ بالذء - ر ولا بالجوى ولا بالنحيب
فتأمل فليس في الأرض أو في الـ - خلق ما يستحق شقَّ الجيوب
لم أجد فيما مضى من حياتي ... لي عذراً في الهمّ أو في الشكاة
ولقد عشت ما ندمت على ما ... فاتني أو جزعتُ من أي آت
طىُّ قلبي ابتسامة ما توارتْ عن فمي للصحاب أو العداة
وكلامي في كل لفظ لمن يفطن ماضٍ من الصوارم عاتٍ
عادلُ من يصرف الأياما ... وغبيُّ من اشتكى أو لاما
وصميمُ الحياةِ ولغو ... فمن العدل أن نمرَّ كِراما
ما الذي نرتجيه في أمرنا الوا - قع إن كان في القضاء لزاما
لا يذم الزمان والناس إلا ... من تغابى عن فهمهم أو تعامى(677/48)
لا تلم مسرفاً على الإسراف ... لا أرى لومه من الإنصاف
لا تلمه وإن تمادى ومهما ... بلغت نفسه من الإتلاف
بيد الدهر للخليفة ميزا - ن دقيقُ وعدله غير خاف
إن هوتْ كِفةُ فمعناه شالتْكِفَّةُ دون أيما إجحاف
لا تلمني إذن فلستُ أبالي ... رغم ضعفي طول اعتلالي
إن جسمي الذي تضعضع وانهـ - ار جديرُ بسوء هذا المآل
قد تقاضى الزمان مني أثمـ - ان ضلالي على مرور الليالي
ومن العدل أن أرى العدل فيما ... نال مني جزاء هذا الضلال
قد نهبتُ في العمر نهبا ... ورأيتُ الإسرافَ في اللهو كسبا
وجرى بي الهوى فما بتُّ إلاَّ ... بفؤادٍ دوّى هياماً وحبْا
ورأيتُ الأيام تجرين خبّا ... فجرت بي من خلفها النفس خبْا
ولو اسطاع فوق ذلك جسمي ... أو فؤادي زيادة ما تأبى
هذه سنتي وحسبك نصحي ... فأرحني من كل ذمِ ومدح
ليس بالذم إن ذممتَ أو المد - ح إذا ما مدحت خسري وربحي
إنما شئت أن أصور ما أحـ - سست بالنفس من شعورٍ ملحَّ
في حياة أمضيتها وكفاني ... وكفاها إثباتُ جدْي ومزحي
وقصاري رأي وغاية قصدي ... وانتهائيْ من بعد أخذٍ ورد
أن تمر الأيام باليسر لا بالـ - عسر حتى بلوغ يوم التردّى
لا نحيبُ ولا تحدٍ ولا لو - مُ لفردٍ ولا عتابُ لفرد
طالما اسطعت بابتسامة سخر ... أن تحدًّ الأمورَ في خير حدَّ
لا أذم الحياة بعد المشيبِ ... طالما جُزتها بقلب طروبٍ
إنّ للشمسِ في الضحى من جلال الـ - حسن في العين ما لها في الغروب
ونصيب الشباب في العيش لا يفـ - ضل في حسنه نصيب الشيب
كل يوم له مذاقُ ولونُ ... ماله في صفاته من ضريب
لا تلمني وأنظر إلى تكويني ... فظنوني من كهنه ويقيني(677/49)
والتمس يا أخي لي العذر في رأ - يي وفي كل شارد من ظنوني
عن شمالي هادٍ وعنها مُضلُ ... ولنفسي سواهما عن يميني
فخفى يضلني وخفىُّ ... لست أدري مراده يهديني
ومحيط الإنسان أكبرجان ... هو أو رحمة على الإنسان
ومن الجو والوراثة والصـ - حاب جان ومن صروف الزمان
ومن العلم والجهالة والأهـ - ل ومن كل ما ترى العينان
ليس للمرء من يد في هدى النفـ - س ولا في الضلال والخسران
عثمان حلمي
-(677/50)
البريد الأدبي
إلى أدباء العراق:
حمل البريد إلى (الرسالة) وإلى عدداً من الرسائل الواردة من العراق، تتراوح لهجاتها بين الحملة العنيفة، والعتاب الرقيق، على ما فهم الأخوان هناك من اتهامي لهم بأنهم من قراء الدكتور عبد الرحمن البدوي!
فمن أمثلة الحملات العنيفة رسالة من الأديب (صلاح الدين بيات - كلية الحقوق ببغداد) يقول فيها:
(. . . قرأت في العدد 674 من مجلتكم ما أدهشني بل وأغضبني حقاً. حتى كدت من فرط غضبي وحنقي أن أمزق المجلة وألعن كاتب السطور. . .
(فقد كتب (سيد قطب) أن (كتب الدكتور بدوي تقرأ في العراق!) وقد زعم بأن سائلاً قد سائل (من الذي يقرأ كتب الدكتور بدوي؟. . . .) فكان الجواب ما أوردت)
ثم يقول في نفس الرسالة:
(معذرة يا سيدي. لا يذهبن بك الظن إلى هذا الحد - وإن بعض الظن إثم - فالعراق ليس بمثل هذه الدرجة من البلادة والغباوة بحيث يقرءون عبث صبيانكم وسفاسفهم).
إلى أن يقول:
(وثق أيها الأستاذ أن كثيرا من كتبكم التي تقرأ تنقد. بل أحياناً - أقول لك بصراحة - إنها تستخف، ويوصم بعض كتابكم بالمتاجرين في الأدب!
(أكتب هنا وأنا منفعل اشد الانفعال من كلمتكم الجارحة إذ لا يفتأ بعض كتاب مصر العزيزة من جرح شعور العراقيين في كل فرصة سانحة، ولا أدري سبب ذلك. . .).
ومن أمثلة العتاب الغاضب ما جاء في رسالة للأديب (عبد الله نيازي):
(مما حز في قلبي أني قرأت في عدد (الرسالة) 674 للأستاذ سيد قطب رأيا في العراق والعراقيين يخالف الواقع.
حيث أن حضرته الصق بالعراقيين تهمة قلة الذوق الدبي، وعدم التفهم لما يقرءونه، بتصريحه أن كتب عبد الرحمن بدوي لا تقرأ إلا في العراق. مع أني أؤكد بأنبدوي المشار إليه ليس إلا نكرة في العراق.(677/51)
(وحسبي أن أقول للأستاذ سيد قطب ما يلي:
(هل زرت العراق أيها الأستاذ وشاهدت بنفسك جمهور العراقيين يتهافتون على شراء كتب عبد الرحمن بدوي، أم القضية لا تعدو السماع؟. . . فإذا كانت الأخيرة، فليس من اللياقة والكياسة أن تتهم شعباً ناضجاً بتهمة هو بريء منها).
ومن أمثلة العتاب الرقيق ما جاء في رسالة (قارئ) حيث يقول:
(- لولا أنني أعرفك من كتاباتك. ومن بعض أخواني العراقيين الذين زاروا مصر وتحدثوا إليك، وعرفوا روحك بازاء أدب الشقيقات العربية وأدبائها. . . لولا هذا لاتهمتك بالتعصب الشديد ضد العراق. ولولا ذلك لما اتهمته في ذوقه مثل هذا الاتهام الجارح. . . فمن قال لك سيدي إن كتب دكتوركم عبد الرحمن بدوي تجد قراء كثيرين عندنا. وهل خفت أن نتهمكم أنتم - المصريين - في ذوقكم بمناسبة هذا الديوان فرأيت أن تلقي التهمة على العراقيين. . .؟!
(. . . على كل حال. هذه مغفورة لك. لما أعلمه ويعلمه الكثيرون عنكم هنا من عدم التعصب، وعنايتكم بآثار أدباء العربية في جميع البلدان الشقيقة. . . والسلام).
واكتفى بهذه الأمثلة الثلاثة للدلالة على تلك الحساسية في نفوس إخواننا العراقيين. ولكنني في الحقيقة أميل إلى أن التمس لهم العذر في أعنف حملاتهم عليّ وعلى (الرسالة).
إن التهمة ثقيلة، وجارحة. ومن حقهم أن يتبرءوا منه!!!
ولكن أسلوبي كان واضحاً مفهوماً، في أنني لست صاحبها. وقد جاء في كلمتي بالحرف الواحد:
(ومعذرة لإخواننا العراقيين. فناقل الكفر ليس كافر وفي وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الاتهام).
فكيف جاز لأحد منهم أن يفهم أنني أنا الذي ألقى عليهم هذه التهمة لولا أن سورة غضب جامحة، وحساسية كذلك شديدة لم تدع لهم أن يتبينوا مرامي قولي، وأن يدركوا كذلك وجه النكتة، وأسلوب التهكم المقصود؟!
اغلب الظن أن جماعة صغيرة من متحمسي الشباب هناك هم الذين ألهبهم الغضب، فأنساهم النظر في مدلول ما كتبت. وان الآخرين - وهم الكثرة - من القراء والأدباء في(677/52)
العراق، فهموا وجه القول، فلم يجدوا فيه طعناً للذوق العراقي، ولا منقصة ولا اتهاماً!
ولقد لمحت في بعض الرسائل الثائرة روحاً من التعصب المحلي الضيق، فلم أرد أن اقتطف هنا ما يدل عليها، فلعلها سورة غضب وقتي، ثم يعودون فيرون أم مصر والصحافة المصرية حفية بكل أدب عربي، وإنني أنا باللذات نوهت بمعظم ما وقع لي من هذا الأدب كالأدب المصري سواء. أما (الرسالة) بخاصة فلا يمكن أن تتهم بإغفال أدباء البلاد العربية وعلى صفحاتها تجري اقلامهم، وقد تكون هي أول من يعرفهم حتى إلى مواطنيهم. على أن هناك ما ينفي التعصب جملة: أليس الكتاب الذي يلقى هذا النقد كتاب شاب مصري؟!
ولقد شكوت مرة من صعوبة حصولنا على مطبوعاتهم. وعندي بحث عن شعراء الشباب وبحث عن القصة الحديثة أؤجلهما فترة بعد فترة لأنني ل ما أستطيع إلى اليوم الحصول على إنتاج البلاد العربية فيهما، ولم أرد الاكتفاء بالأدب المصري، فهل بعد هذا نتهم مصر بالتعصب
سيد قطب
كفل به وكفل أيضاً:
سعادة الأستاذ الكبير السيد احمد حسن الزيات - أطال الله بقاءه - قرأت - سيدي - كلمة طيبة في الرسالة لعالم فاضل من بني سهم، تتبع فيها ما كنت نشرته في مجلة المجمع العلمي العربي من وجوب أن يقال (كفل به) إذا يريد (تحمل به) لا كفله، واستشهد على صحة (كفله) بما ورد في لسان العرب خاصا بذلك وهو (كفل المال وبالمال ضمنه) وذكر أمورا أخرى تدل على نفس عطر في العربية ونفس كريمة، وأورد أن أذكر لخضرته أني أطلعت على ما في اللسان وعلى ما في غيره فقد جاء في المصباح المنير (وحكى أبن القطاع كفلته وكفلت به وعنه إذا تحملت به) وقد توفي ابن القطاع سنة (515 هـ) فهو من المتأخرين؛ وإني لم أنقل قول الزمخشري - وهو معاصر لأبن القطاع - لكون أساسه مستوعباً لكل لفظه وتركيب - كما ظن العالم الفاضل حفظه الله - بل كان ذلك من قبيل التمهيد لدعواي. فأنا أقول محتجاً لدعواي تلك: إن العرب ميزت بين (كفله وكفل به) فلكل منها معنى والمساواة بينهما تورث اللبس، وإن أخوف ما خافته العرب على لغتها هو(677/53)
الالتباس، فلذلك استعانوا بحروف الجر كل الاستعانة - كما هو بين للعالم الفاضل الناقد - ولو كان أمر (كفله وكفل به) من باب الحذف والإيصال الذي هو من خصائص هذه اللغة الكريمة لكان تنبيهي تشديداً وتحجراً تأباهما طبيعتها السهلة السمحة، وإنما هو أمر ذو بال، وإدخال الباء على المكفول به لازم، وكذلك الحال فيما أشبهه، فقد قالت العرب (تحمله) فلما أرادوا به (كفل به) وقالوا (زعمه) ثم قالوا (زعم به) أي كفل به. ولم يبقى بيني وبين من أجاز (كفله) إلا كلام العرب وهو الحكم الفيصل، فقد جاء في كتاب بهج البلاغة في أثناء وصف الحيوان (فهذا غراب وهذا عقاب وهذا حمام وهذا نعام، دعا كل طائر باسمه وكفل برزقه) وجاء في وصف النملة منه (تجمع في حرها لبردها وفي وردها لصدرها، مكفول برزقها مرزوقة بوفقها) وورد في كلام الأخطل للشعبي في حضرة عبد الملك ابن مروان (من يكفل بك؟ قلت أمير المؤمنين) وفي الغاني من يتكفل بك؟) فالباء لازمة في كليهما.
وقال المبرد في أخبار الخوارج (وطالب الكفلاء بمن كفلوا به فكل من جاء بصاحبه أطلقه وقتل الخارجي من لم يأت بمن كفل به منهم قتله) وقال الطبري (فلم يزل يحيي أبن عمر محبوساً إلى أن كفل به فأطلق)
وقد تعقبت هذا اللفظ وحرف جره خمس عشرة سنة فلم أجد من خالف فيه وجهه الصحيح إلا أبن الساعاتي الشاعر المتوفي سنة 604 هـ بقوله:
كفل الدمع رى سفحيك والدم - ـع ملئ بع النوى بالكفالة
وهو شاعر متأخر مضطر كسائر الشعراء. فمن يأتني بعبارة لعربي فصيح استعمل فيها (كفله) بمعنى (كفل به) فقد عارض الحجة وحقق صحة ما ورد في اللسان وفي غيره والزمني الرجوع عن قولي.
هذا وأني شاكر للعالم الجليل الفاضل ما اصحر به من كمال الأدب والغيرة على لغة العرب، أيده الله تعالى.
(بغداد)
الدكتور مصطفى جواد
حول ترجمة (المقامر) لدستويفسكي(677/54)
قرأت في عدد مايو من مجلة المقتطف نقداً لقصة (المقامر) التي نقلتها إلى العربية ونشرتها دار الكاتب المصري. ولقد كان أسلوب الكاتب في نقده جديراً بأن يصرفني عن الرد عليه، لولا أن هناك أموراً أريد أن أقررها لمن يعنون بالأدب الروسي من قراء العربية.
لقد تناول الناقد ترجمة كونستانس جارنت الإنجليزية، وترجمة ألمانية لم يذكر كراسم صاحبها، وظل يداول بينهما اشهراً حتى حصل على اختلاف يسير بينهما وبين ترجمتي، فصاغه في أسلوب القدح والنبز، وظن انه قد هدم القصة والمترجم. والحق انه كان (هجاء) بارعاً، فعادى بين المترجم والناشر، وكاد يوقع بينهما المؤلف.
هل يعني الأستاذ الناقد أن ترجمة المقامر ليست ترجمة مطابقة، وإنما هي ترجمة مقاربة؟ ومن ذا الذي يدعى أن ترجمة كتاب روسي عن الفرنسية أو الإنجليزية ترجمة مطابقة؟ أنني سيدي الناقد لا اقدس الأوربيين كما تقدسهم، فقد نقلت عن ترجمتين، كما راجعت أنت ترجمتين: أما أولاهما فترجمة هو جارث الإنجليزية، وأما الثانية فترجمة البرين كامنسكي الفرنسي. وقد لقيت من الجهد في التقريب بين الترجمتين ما يعرفه الناقد أن عنى نفسه بمثل هذا العمل. لن تكون تراجمنا عن الأدباء الروس تراجم مطابقة حتى ننقل عن الروسية، وهذا عمل لن نعتمد فيه على جيل قادم بل سوف ننهض نحن به. فكثير أن ندعي لأنفسنا العلم بالأدب الروسي ونحن نقلب بين أيدينا تراجم الناقد أن يرميني بركاكة الاسلوب، واستشهد بسبع عبارات عدها أخطاء لغوية، ويكفيني أن امثل لهذه (الأخطاء اللغوية) التي عثر عليها الأستاذ بعبارتين اثنتين.
فقد كتبت (نظر إلي باستعلاء) فعدها الأستاذ خطأ، ونص على أن صوابها (متعالياً، أو في عنجهية) وكتبت (تسمع احتجاجي) فعدها الأستاذ خطأ أيضاً، ونص على أن صوابها (تأذن إلى استنكاري). . . أما (الأخطاء) الباقية فقد نتجادل في صحتها إلى آخر الدهر، لان مرجعها رغبتي في التوسع، معتمداً على التضمين أو حذف الخافض أو غيرهما من قواعد اللغة، حتى يسهل الأسلوب ويلين، ويطوع لأكثرها ما في الأصل من معان، ومن ظلال معان. أما الأستاذ الناقد فيؤثر التنوق والاغراب، ويتفاصح بتخطئة الصحيح المقبول، ويعد من لا يتنوق ولا يتفاصح مثله ركيك الأسلوب.
على أن مثار دهشتي أن الأستاذ وهو المتشدد في اللغة، قد أرداه تنوقه فاستعمل كلمتين لا(677/55)
وجه لهما، ولا فائدة في الدلالة على معنى خاص، فقال في أول مقاله (ابهظته خيانة الزوجة) وليس في العربية إلا (بهظه) وليس في ابهظ معنى زائد. وقال في أخره (عد المعرب على عبارات المؤلف بالمسخ والتشويه والتقطيع) والتقطيع - يا سيدي - كأخيه الابهاظ، لم تذكره كتب اللغة.
هذا ما بدا لي في مقال الأستاذ، كتبه لأبين منهجي في ترجمة هذا الأدب. واعرض عن لغو كثير.
شكري محمد عباد
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
قلت في كلمتك من مزايا (الرسالة) المنشورة في بريد العدد 675 (لكن السهمي لم يصحح تفسير الأستاذ الكبير العقاد لكلمة المحدث فقد ذكر أن (المحدث الذي يسمع كلام الله) مع أن الذي قالوه في المحدث انه الملهم)
(منصف)
(تصويب):
في مقال (دفاع عن البلاغة) في العدد الماضي وقعت أغلاط منها غلطتان لا بد من تصويبهما في هاتين الفقرتين:
العمل الفني في الأدب لا يوصف بالجودة إلا أن يتهيأ للفكرة الجيدة. . أسلوب جيد) وقد كتبت (أسلوباً جيداً)!
(لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها اكثر الأقلام) وقد كتبت (تطلع)!(677/56)
العدد 678 - بتاريخ: 01 - 07 - 1946(/)
من صميم الحياة:
اليتيمان. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
أحس (ماجد) أنه لم يفهم شيئا مما يقرأ، وأن عينيه تبصران الحروف وتريان الكلم ولكن عقله لا يدرك معناها. انه لا يفكر في الدرس، إنما يفكر في هذه المجرمة وما جرت عليه من نكد، وكيف نغصت حياته وحياة أخته المسكينة وجعلتها جحيما متسعراً. ونظر في (المفكرة) فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد، ولا بد له من القراءة والاستعداد، فكيف يقرأ وكيف يستعد؟ وأنى له الهدوء والاستقرار في هذا البيت وهذه المرأة تطارده وتؤذيه ولا تدعه يستريح لحظة، وإذا هي كفت عنه انصرفت إلى أخته تصب عليها ويلاتها؟. . . هل يرضى لنفسه أن يرسب في أول سنة من سني الثانوية وقد كان (في الابتدائي) المجلي دائما بين رفاقه، والأول في صفه؟.
وإنه لفي تفكيره وإذا به يسمع صوت العاصفة. وان العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجئ الأمطار فتروى الأرض ثم تطلع الشمس، فتنمي الغصن الذي انكسر وتنبت معه غصنا جديدا، وعاصفة الدار تهب كل ساعة، فتكسر قلبه وقلب أخته الطفلة ذات السنوات الست، ثم لا تجبر هذا الكسر أبداً. . . فكأن عاصفة الحقل أرحم وأرق قلبا وأكثر (إنسانية) من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوة تسبي القلوب. وما هي إلا الحية في لينها ونقشها، وفي سمها ومكرها. لقد سمع سبها وشتمها وصوت يدها، شلت بدها، وهي تقع على وجه الطفلة البريئة، فلم يستطع القعود، ولم يكن يقدر أن يقوم لحمايتها خوفا من أبيه، هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها على حرب هذه المسكينة وتجريعها غصص الحياة قبل أن تدري ما الحياة. . فوقف ينظر من الشباك فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة، وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، والى جانبها أختها الصغرى، طافحة الوجه صحة، بارقة العينين ظفرا وتغلبا، مزهوة بثيابها الغالية. فشعر بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعا؛ ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب؟ أما كانت فرحة أبيها وزينة حياته؟ أما كانت أعز إنسان عليه؟ فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة، لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أما التدليل فلأختها،(678/1)
التي تصغر عنها سنتين، والطرف لها، وهي البنت المفردة، على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها، بل هي شر من الخادم، فالخادم قد تلقى أناسا لهم قلوب، وفي قلوبهم دين فيعاملونها كأولادهم، وأبوها هي لم يبق في صدره قلب ليكون في قلبه شرف يدفعه أن يعامل ابنته، إبنة صلبه، معاملة الخادم المدللة. لقد كتب الله على هذه الطفلة أن تكون يتيمة الأبوين إذ ماتت أمها فلم يبق لها أم، ومات ظمير أبيها فلم يبق لها أب!
وسمع صوت خالته تناديها: تعالي ولك يا خنزيره!
وكان هذا هو اسمها عندها: (الخنزيرة) لم تكن تناديها إلا به، فإذا جاء أبوها المساء فهي البنت: تعالي يا بنت، روحي يا بنت! أما أختها فهي الحبيبة: فين أنت يا حبيبتي؟ تعالي يا عيني!
وعاد الصوت يزجر في الدار: ألا تسمعين أختك تبكي؟ انظري الذي تريده فهاتيه لها! ألا تجاوبين هل أنت خرساء؟ قولي: ماذا تريد؟
فأجابت المسكينة بصوت خائف: إنها تريد الشوكولاته. . . - ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة اذهبي فأعطيها ما تريد! فوقفت المسكينة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها لقد اشتري لها أبوها البارحة كفا من الشوكولاتة، أعطاه لابنته الصغيرة فأكلته وأختها تنظر إليها، فتضايقت من نظراتها فرمت إليها بقطعة منه، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيه وهو يأكل، وأخذت المسكينة القطعة فرحة، ولم تجرؤ أن تأكلها على اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاتة. . .
- ولك يا ملعونة فين الشوكولاتة؟
فسكتت. . . ولكن الصغرى قالت: هناك يا ماما عندها، أخذتها الملعونة مني!
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت (متلبسة بالجرم المشهود) ورأت خالتها الشوكولاتة معها حل بها البلاء الأعظم!
- يا سارقة يا ملعونة هكذا علمتك أمك. . . تسرقين ما ليس لك؟
وكان ماجد يحتمل كل شيء، إلا الإساءة إلى ذكرى أمة، فلما سمعها تذكرها، لم يتمالك نفسه أن صاح بها:(678/2)
- أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي.
فتشمرت له واستعدت. . . وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائما، فكان يحتمل صامتا لا يبدو عليه انه يحفلها أو يأبه لها. فكان ذلك يغيظها منه، وتتمنى أن تجد سبيلاً غالى شفاء غيظها منه، وها هي ذي قد وجدتها. . .
- لا تسمح لي؟ أرجوك يا سعادة البك اسمح لي أنا في عرضك. . . آه ألا يكفي أني اتعب وانصب لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود. لقد ضاع تعبي معك أيها اللئيم، ولكن ليس بعجب أنت ابن أمك. . .
- قلت لك كفا عن ذكر أمي، ولا أسكتك.
واقترب منها فصرخت الخبيثة وولولت وأسمعت الجيران. . .
تريد أن تضربني؟ آه يا خاين، يا منكر الجميل، ولي. . . يا ناس، يا عالم، الحقوني يا أخواتي. . .
وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أي إلى الزاوية التي سموها غرفة، وخصوه بها لتتخلص سيدة الدار من رؤيته دائما في وجهها!
ودخل الأب المساء وكان عابسا على عادته باسراً لا يبتسم في وجوه أولاده، لئلا يجترئوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم، ولم يكن كذلك من قبل ولكنه استن لنفسه هذه السنة من يوم حضرت إلى الدار هذه الأفعى وصبت سمها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن ماجدا وأخته ولدان مدللان فاسدان لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة.
وكانت الخبيثة إذا دنا موعد رواجه إلى الدار، تخلع ثيابها وتلبس ثيابا جديدة، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني وتلبس وجها فيه سمات الطهر والطفولة، صنعه لها مكرها وخبثها، ولا تنسى أن تنظف البنتين وتلبسهما ثيابا متشابهة كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنتها على ابنته!. . .
دخل فستقلبته استقبال المحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة، ولكنها وضعت في وجهها لونا من الألم البريء تبدو معه كأنها المظلومة السكينة، ولحقته إلى المخدع تساعده على إبدال حلته وهناك روت له القصة مكذوبة مشوهة فملأت صدره غضبا وحنقا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه، ودعا بالبنت فجاءت خائفة تمشي مشية المسوق إلى الموت،(678/3)
ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عال، كأنه قوس المحكمة ووقفها أمامه، كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه، وافهمها قبح السرقة، وعنفها وزجرها. . وهو ينظر إلى ولده ماجد شزرا، وكانت نظراته متوعدة منذرة بالشر، ولم يسع ماجدا السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة وهي بريئة منها، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر، فتعجل بذلك الشر على نفسه.
انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالا، وأرعد فيها صوت الأب المغضب المهتاج:
- تريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، يا ملعون؟ حسبت أنك لو أبلغت الرابعة عشرة قد صرت رجلا؟ وهل يضرب الرجل خالته؟ إنني أكسر يدك يا شقي!
- والله يا بابا مو صحيح. .
- ووقاحة أيضا؟ أما بقى عندك أدب أبداً؟ أتكذب خالتك؟
- أنا لا أكذبها، ولكنها تقول لك أشياء ليست صحيحة.
عند ذلك وثب الأب وانحط بقوته وغلظته وما أترعت به نفسه من مكرها زوجته، انحط على الغلام وأقبل يضربه ضرب مجنون ذاهب الرشد، ولم يشف غيظ نفسه ضربه فأخذ دفتره الأسود الذي أودعه دروسه كلها، فمزقه تمزيقا. . ثم تركه هو وأخته بلا عشاء عقوبة لهما وزجراً. . .
تعشى الزوجان وابنتهما، وأويا إلى مخدعهما، والغلام جاثم مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه، وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبني عليه أمله ومستقبله. . ثم قام يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوحت به قنبلة. فإذا هي آلاف لا سبيل إلى جمعها، ولا تعود دفترا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشرا سويا يتكلم ويمشي. . فأيقن أنه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته، وكبر عليه الأمر، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم، وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره، وجعلت أيامه تكر راجعة أمام عينيه كما بكر فلم السينما. . .
رأى ذلك الوجه الحبيب، وجه أمه، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر، رآها في صحتها وشبابها، ورأى البيت وما فيه إلا السلم(678/4)
والهدوء والحب، ورأى أباه أبا حقيقيا تفيض روح الأبوة من عينيه الحانيتين، ويديه الممتلئتين أبدا بالطرف واللطف، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام. . .
ويكر الفلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها، ويحسبه مرضا عارضا. . ثم يرى الدار والاضطراب ظاهر فيها، والحزن باد على وجوه أهلها، ويسمع البكاء والنحيب، ويجدهم يبتعدون به، ويخفون النبأ عنه، ولكنه يفهم منهم أن أمه قد ماتت. ماتت؟ إنها كلمة تمر عليه مرا هينا لا يأبه لها، وكان قد سمع بالموت، وقرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره من قريب ولم يدخل داره، ولم يذقه في حبيب ولا نسيب، غير أن الأيام سرعان ما علمته ما هو الموت حين صحا صبيحة الغد على بكاء أخته الحلوة المحببة إلى أمها، والتي كانت محببة تلك الأيام إلى أبيها، ففتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانبها لترضعها وتضمها إلى صدرها، واشتد بكاء البنت، وطفق الولد ينادي: ماما. . . ثم جفا فراشه وقام يبحث عنها، فوجد أباه وجمعا من قريباته، يبكون هم أيضا. . فسألهم؛ أين أمه؟ فلم يجيبوه. وحين أراد الغدو على المدرسة، فناداها فلم تأت لتعد له حقيبته وتلبسه ثيابه ولم تقف لوداعه وراء الباب تقبله وتوصيه إلا يخاصم أحدا وألا يلعب في الأزقة، ثم إذا ابتعد عادت تناديه لتكرر تقبيله وتوصيته، وحين عاد من المدرسة فوجد امرأة غريبة ترضع أخته. . لماذا ترضعها امرأة غريبة؟ وأين ماما؟.
ويكر الفلم، ويرى أباه رفيقا به حانيا عليه يحاول أن يكون له ولأخته أما وأبا، ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم المشؤوم ورأى ذلك اليوم المشؤوم، يوم قال له أبوه: ستأتيك يا ماجد أم جديدة. . أم جديدة؟ هذا شيء لم يسمع به، إنه يعرف كيف تجئ أخت جديدة، إن أمه تلدها من بطنها، أما هذه الأم فمن أين تولد؟ وانتظر وجاءت الأم الجديدة، وكانت حلوة، ثيابها جميلة، وخدودها بلون الشفق، وشفاهها حمر، ليست كشفاه الناس. وعجب من لون شفاهها، ولكنه لم يحبها ولم يمل إليها، وكانت في أيامها الأولى رقيقة لطيفة، كالغرسة الصغيرة، فلما مرت الأيام واستقرت في الأرض ومدت فيها جذورها، صارت قاسية يابسة كجذع الدوحة، وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطري وزهرها الجميل. . . ولما ولدت هذه البنت انقلبت شيطانه على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة. والعياذ بالله من(678/5)
المرأة الجميلة إذا كانت في حقيقتها شيطانه على صورة أفعى!.
وانطمست صور الماضي الحبيب، واضمحل الفلم، ولم يبق منه إلا هذه الصورة البشعة المقيتة، ورآها تكبر وتعظم حتى أحاطت به وملأت حياته، وحجبت عنه ضياء الذكرى ونور الأمل. . . وسمع قهقهة فانتفض وأحس كأن رنينها طلقات (متراليوز) قد سقط رصاصه في فؤاده، وكانت قهقهة هذه المرأة التي أخذت مكان أمه يتخللها صليل ضحك أبيه. . . وأنصت فإذا هو يسمع بكاء خافتا حزينا مستمرا، فتذكر أخته التي نسيها، وذكره جوعه بأن المسكينة قد باتت بلا عشاء، ولعلها قد بقيت بلا غداء أيضا، فإن هذه المجرمة تشغلها النهار كله بخدمتها وخدمة ابنتها، وتقفل دونها غرفة الطعام، فلا تعطيها إلا كسرة من الخبز، وتذهب فتطعم ابنتها خفية، فإذا جاء الأب العشية، ولبست أمامه وجهها البريء. . . شكت إليه مرض البنت وضعفها:
- مسكينة هذه البنت، إنها لا تتغذى. . انظر إلى جسمها، إلا تريها لطبيب؟. . . ولكن ماذا يصنع لها الطبيب، إنها عنيدة سيئة الخلق. أدعوها للطعام فلا تأكل، وعنادها سيقضى على صحتها. . .
فيناديها أبوها ويقول لها:
- ولك يا بنت ما هذا العناد؟ كلي وإلا كسرت رأسك! فتتقدم لتأكل، فترى المرأة. . تنظر إليها من وراء أبيها نظرة الوعيد، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف وترتد. . .
فتقول المرأة لزوجها: ألم أقل لك، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية؟
فيهز رأسه، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها، وشد أذنها، وطردها من الغرفة، ويكون ذلك عشاءها كل عشية!
تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره.
- مالك؟ لماذا تبكين؟ أسكتي يا حبيبتي؟
- جوعانة!
جوعانة؟ من أين يأتيها بالطعام؟ وقام يفتش. . فأسعد الحظ فوجد باب غرفة الطعام مفتوحا، وعهده به يقفل دائما، ووجد على المائدة بقايا العشاء، فحملها إليها فأكلتها فرحة بها مقبلة(678/6)
عليها، كأنها لم تكن من قبل الابنة المدللة المحبوبة، التي لا يرد لها، لو طلبت، طلب، ولا يخيب لها رجاء. وآلمه أن يراها تفرح إذا أكلت بقايا أختها وأبيها يسرقها لها سرقة من غرفة الطعام، وعادت صور الماضي فتدفقت على نفسه وطغت عليها ورجعت صورة أمه فتمثلت له، وسمعها تناديه. . لقد تجسم هذا الخيال الذي كان يراه دائما ماثلا في نفسه، حتى رده إلى الماضي وأنساه حاضره. . ولم يعد يرى في أخته البنت اليتيمة المظلومة؛ وإنما يراها الطفلة المحبوبة التي تجد أماً تعطف عليها، وتحبها. .
ونسى دفتره الممزق، ومستقبله الضائع، وحياته المرة، وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنيه. . إلى صوت أمه. .
- قومي يا حبيبتي، إلا تسمعين صوت أمك، تعالي نروح عند ماما!
فأجفلت البنت وارتاعت، لأنها لم تكن تعرف لها أما إلا هذه المرأة المجرمة. وخافت منها وأبت أن تذهب إليها. لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة أجمل صورة عرفها الإنسان: صورة الأم!
- تعالي نروح عند ماما الحلوة: أمك. . إنها هناك في محل جميل: في الجنة. . إلا تسمعين صوتها؟
وحملها بين يديه، وفتح الباب، ومضى بها. . يحدوه هذا الصوت الذي يرن في أذنيه حلواً عذباً، إلى المكان الذي فيه أمه!
وقرأ الناس في الجرائد ضحى الغد أن العسس وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدا في الرابعة عشرة، وقد حملا إلى المستشفى، لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر، أما الغلام فهو على أبواب الجنون، فهو لا يفتأ يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه. . . والمرأة التي تشبه الأفعى!
(دمشق)
علي الطنطاوي(678/7)
ناثان الحكيم
للدكتور جواد علي
ناثان تاجر يهودي وهبه الله مالا غزيرا لما كثر أبناء جنسه، ووهبه عقلا كان خير دليل له في الخروج من مآزق الأمور، وفطنة كانت سلاحا فتاكا يستعمله في التغلب على خصومه.
وكان هذا اليهودي الذكي يعيش في أرض فلسطين في عهد السلطان صلاح الدين عيشة ناعمة يحسد عليها. وكان يرابي فيقرض الأمراء والسلاطين. وكان السلطان الأيوبي العظيم قد اقترض منه مبلغا عظيما من المال، لقاء فائض فاحش. وأراد السلطان كما تصوره الرواية الامتناع عن الدفع ومصادرة أموال اليهودي بطريقة لا يتمكن فيها هذا المرابي من الدفاع عن نفسه ومن إقامة الدعوى عليه.
فطلب منه ذات يوم أن يجيب عن موضوع طالما اهتم به وشغل باله به هو قضية الأديان، وأي تلك الأديان أفضل! وما هو الدين الحق من بين هذه الأديان. وكانت غاية السلطان من هذا السؤال هو إيقاع اليهودي في الفخ حتى إذا ما أجاب جواباً يناقض عقيدته وفضل ديانته على ديانة المسلمين أوقع به عقابا صارما وجزاه جزاء كبيرا فيصادر أمواله، ويصبح عندئذ في حل من الدفع.
أدرك ناثان ما كان يقصد السلطان من هذا السؤال، فالتفت إليه وطلب منه أن يقص عليه قصة من القصص المعروفة هي قصة والد شفيق كان له ثلاثة أولاد يحبهم حبا جما ولا يميز بينهم أبدا؛ وكان له خاتم ثمين ورثه عن أجداده ويريد المحافظة عليه بحيث يبقى في الأسرة، فلا يخرج منها. ولما كان لا يريد التفريق بين أبنائه ولا التمييز فيما بين هؤلاء الثلاثة في الدرجة حار فيما يصنع، أيعطى الخاتم للابن البكر فيزعج بذلك الأخوين ويعكر بينهما صفو الأخوة وهو حريص جدا على أن تبقى رابطتها قوية فيما بين أبنائه، أو يعطيه لشخص آخر من الأسرة، وفي هذا العمل مخالفة لوصية الآباء؟
وكان الرجل ذكيا، تمكن بذكائه من إيجاد حل أرضى به أولاده الثلاثة. ذهب إلى صائغ قدير كلفه بأن يصنع له خاتمين يشبهان هذا الخاتم تماما بحيث لا يمكن التفريق بينهما وبين الخاتم الأصلي. وقد صنع الصائغ ما طلب منه وأجاد الصنعة حتى صعب على الصائغ نفسه تمييز الخواتم الثلاثة.(678/8)
ولما توفى ذلك الوالد الشفيق تسلم كل واحد من أولاده الثلاثة خاتما. وبعد مضي أمد أدعى كل واحد منهم بأن خاتمه هو الخاتم الحقيقي، خاتم الأسرة. وقد حاول كل واحد منهم البرهنة على أن ما قاله هو الصحيح.
فلما سمع صلاح الدين بهذه القصة استحسنها، وامتدح ذكاء (ناثان) وقربه إليه، وغدا منذ ذلك الحين من أقرب الناس اليه، وهي قصة تمثل وجهة نظرة الإنسانيين الذين نظروا إلى الأديان بنظرة التسامح نوعا ما. أما القصة نفسها، فقد كانت معروفة في أوروبا، وقد أخذها هذا الأديب (لسنك)، وسبكها في قالب (دراما) شعرية، تمثل آراء الشاعر ومشاعره أحسن تمثيل. حتى لقد قال الفيلسوف الألماني (شليكل) (إن هذه الدراما تمثل نفسية لسنك فمن عرفها عرف لسنك كل المعرفة.
في سنة 1752 للميلاد كان شاعرنا صاحب القصة في مدينة (ويتنبرك) وكان قد تفرغ لكتابة رسائله وفصول بعد أن حنكته التجارب، وبعد أن تخرج من مدرسة (فولتير) تلك التي أنشأها هذا الأديب الفرنسي العظيم في قلب العاصمة البروسية وفي قصرها. تعلم على هذا الأديب شيئا كثيرا ودرس عليه أصول النقد الأدبي التي عرف بها تلك الأصول التي أثارت في نفس صاحبنا الميل لدراسة الآداب الغربية ولا سيما آداب الشعب الإيطالي سليل الرومان، وآداب الشعوب الشرقية، ولا سيما الأدب العربي وتاريخ المسلمين.
وكان مما قرأه (لسنك) من آداب الإيطاليين بعض مؤلفات الفيلسوف الإيطالي (كاردانوس هيرونيموس) (1501 - 1576) وكان هذا الفيلسوف الإيطالي الكاثوليكي حر النزعة بالنسبة إلى رجال وقته، واسع التفكير، يعتنق مذهبا يعارض مذهبه، هو مذهب (وحدة الوجود) يرى أن كل ما في الطبيعة حي يجري فيه ماء الحياة حتى المادة الجامدة لا تخلو من الحياة. وأن الخالق في الكون جميعه والكون جميعه في الخالق بحيث لا نستطيع الفصل بين الاثنين. هذه هي الحقيقة، حقيقة الله في الكون، إلا أن قليلا من الناس من يدرك هذه الحقيقة، وقليل من الناس من يحاول الإدراك وفهم الحقائق.
كانت في آرائه هذه جرأة بالطبع بالنسبة إلى العالم الذي عاش فيه، جرأة له مئات من المشاكل والمصاعب فيما بعد. وكان يرى بالإضافة إلى كل هذا بأن الأديان واحدة لها أهداف واحدة هي النظم الأخلاقية وضبط حياة الإنسان، فيجب أن تستخدم هذه النظم في(678/9)
خدمة الغرض الذي من أجله نشأت، وللمحافظة على الوحدة، ولذلك حذر من الخوض في المواضيع الدينية والمشاكل الدينية باللغة المحلية، لأن هذا الجدل من عقيدة فيصح لكل مواطن أن يعتنق ما يشاء من العقائد، وله أن يدين بأي دين.
وبهذه الفكرة كتب الفيلسوف الإيطالي أفكاره في: تلك المحاورة (ديالوك) الفلسفية التي ينبري فيها رجال يمثلون أربعة أديان للدفاع عن عقائدهم وديانتهم التي يعتنقونها، الديانة اليونانية الرومانية، والديانة اليهودية، والديانة المسيحية، ثم الديانة الإسلامية. وقد حدث في هذه المحاورة كل محام بما كان يعتقده أصحاب ذلك الدين. فتحدث على لسان الوثني، وتحدث على لسان اليهودي، وتحدث على لسان المسيحي، وتحدث على لسان المسلم، وذكر دليل كل واحد منهم. وهذه محاورة جريئة بالطبع، أوقعت المؤلف في مزالق الكلام، وهوجم على محاورته هذه هجوما عنيفا اتهم بأنه قصر في دفاعه عن عقيدة المسيحيين، وأنه أظهر المحامي المسيحي بمظهر المحامي الضعيف الذي لا يملك حججا قوية لأفحام خصمه، وقد كان في ذلك متعمدا لا محالة.
تأثر (لسنك) بآراء هذا الفيلسوف. وانبرى على الرغم من تفاوت عهده عنه للدفاع عن آرائه فدافع عنه في دفاعا أوقعه في مثل ما وقع فيه ذلك الكاتب المفكر. ذكر بأن الفيلسوف لم يكن مقصرا فيما كتبه ولم يكن متعمدا إضعاف دليل المسيحيين. وكل ما فعله هو أنه صاغ دليل النصارى على لسانه. ولم يتمكن النصارى من إبراز أدلة أقوى من تلك الأدلة، ولم يتمكن المسيحيون من إيراد حجج أقوى من تلك الحجج التي دونها كاردانوس فأضاف بهذا القول دليلا جديدا على تلك الأدلة التي كان يذكرها الناس في إثبات مروق (لسنك) وزوغانه عن جادة الحق.
ولم تكن دراسة الفلسفة في ذلك العهد من الدراسات التي يرتاح لها رجال الدين، وكان لسنك وهو في مكتبة (ولفنبتل) يقرأ كتب الفلسفة بينهم ويقبل عليها في ساعات فراغه كل الإقبال. ولم يكتف بالمطالعة بل صار يخرج كتب الفلسفة إلى الأسواق ويشوق الناس إلى دراستها، وكانت أحب فلسفة إليه هي فلسفة (رايمارس) (1694 - 1768م). وهذا الفيلسوف هو على راس الفلاسفة الذين عرفوا باسم وقد شاعت فلسفتهم في القرن الثامن عشر على الأخص. وكانت تحاول تبسيط مبادئ فلسفتها وتقريبها من أذهان الناس(678/10)
للحصول على أكبر عدد ممكن من الاتباع. وكان هذا الفيلسوف من أولئك الفلاسفة الذين اعترفوا بوجود إله هو أساس هذا العالم وسببه. غير أنه كان كأكثر الفلاسفة (التوضيحين) ينكر خوارق العادات ولا يؤمن بالمعجزات، ويجحد تدخل الله في شؤون العالم وفي شؤون الأفراد وكل ما في الكون من مخلوقات. وكان يدعو إلى (الديانة الطبيعية العقلية) ويهاجم أسفار التوراة والأناجيل وينتقدها انتقادا مرا، لذلك تعرض بالطبع إلى حملات رجال الدين عليه والى نقد قوي مرير.
تعرض لسنك إلى نقد رجال الدين، إلى نقد (كوتزة) على الأخص فكانت بينهما مهاترات علمية تدخل فيها أناس من عشاق الجدل الفلسفي الديني، وقد تمكن (كوتزة) هذا من إثارة مجالس الأقاليم على لسنك، فأصدرت تلك المجالس أمرا إلى دوائر الرقابة تطلب فيه إلا يسمح للسنك بنشر أي شيء إلا بإذن من الحكومة، فكان في هذا القرار توفيق لرجال الدين.
وكان (لسنك) قد اطلع على آراء فيلسوف إيطالي آخر هو (بوكاجيو) 1303 - 1375م) الكاتب الإيطالي الفيلسوف.
وقد وجه هذا العبقري كزميليه دانتي (1265 - 1321م) و (بترركا) أنظار قومه نحو مثل جديدة، نحو المثل الإنسانية التي تدعو إلى التسامح في مقابل تعصب الكنيسة وتمسكها بآرائها الدينية. وقد حث قومه على دراسة الشعر واللغة والفلسفة، وقد مهد هو وزملاؤه بذلك الطريق لما سمى فيما بعد باسم: (عصر النهضة والأحياء) واتصل لسنك عن طريق الترجمة بهؤلاء، فقرأ لبوكاجيو، وكان هذا الأثر الأدبي المهم قد ترجم إلى الألمانية في القرن الخامس عشر للميلاد وطبع في (أو كسبرك سنة 1489 للميلاد). ومنه استل صاحبنا مادة (ناثان الحكيم). أخذ من (دكامرون) عناصر القصة الأولى، وأضاف إليها بعض العناصر الجديدة التي كانت شائعة عند الأوروبيين في ذلك الوقت. ولعل بوكاجيو نفسه كان قد أخذ قصصه من القصص الأوربية القديمة التي كانت شائعة قبل ذلك العهد ففي أسبانيا حيث عاشت الأديان الثلاثة كان الناس يتحدثون عن ملك متسامح حكيم وعن قصة الخاتم، وفي أوروبا تحدث الناس عن السلطان صلاح الدين وعن تساهله بالنسبة للمسيحيين واليهود.(678/11)
وقد تطورت هذه القصة وأمثالها بمرور الزمن فنصت فيما بعد على أن الخاتم الحقيقي كان يعرف من بين الخواتم الأخرى بما كان يظهر منه من الأعمال الخارقة والمعجزات. وكان هذا دليلا على أنه هو الأصل وهو خاتم المسيحيين. كما تطورت صورة ناثان إلى أن جعل لسنك صورة هذا الشخص تنطبق على صورة صديقه الفيلسوف اليهودي (موسى مندلسن (1729 - 1786م) والكاتب الذي عاش في مدينة برلين. وكان شخصية فذة معروفة في أوساط تلك المدينة حتى تمكن بفضل منزلته من تخفيف حدة البروسيين بالنسبة لليهود.
وقد ساعد (مندلسن) صاحبنا كثيرا وسعى عند تاجر من تجار مدينة (هامبرك) حتى أقرضه مالا طبع به بعض كتبه. وتأثر بكثير من آراء مندلسن؛ فأخذ بأفكاره بالنسبة إلى الفلسفة اللاهوتية والأديان ولا شك في أن لتلك القصص الدينية التي كان يسمعها من (موسى مندلسن) دخلا في صقل عقلية لسنك وفي قصة (ناثان الحكيم).
واستعان لسنك بعنصر آخر هو التاريخ الشرقي ذاته.
وكانت أوروبا في هذا العهد ولا سيما فرنسا قد تذوقت الأدب الشرقي وأقبلت عليه، وصار الأدباء يبحثون بين ثنايا القصص الشرقي لينسجوا منه نسيجا جديدا. وكان فولتير الذي تعرف عليه لسنك في برلين، والذي اتصل به اتصالا وثيقا، في طليعة هؤلاء الكتاب الذين استعانوا بالخيال الشرقي وبتاريخ الشرق. ولفولتير هذا مسرحية زيير وكانت هذه المسرحية قد اكتسبت شهرة واسعة ومثلت في برلين، وكان لسنك بالطبع ممن حضر التمثيل ودرس الرواية وله (دراما محمد
تأثر لسنك في (ناثان الحكيم) بقصة كثيرا حتى إننا لنجد التشابه ظاهرة في كثير من المواضع، كما تأثر فولتير وبأفكاره السياسية، حتى أماكن النقد تكاد تكون واحدة. وقد استعار منه حتى المصطلحات التي كان قد تخصص بها فترجمها إلى الألمانية.
صور (صلاح الدين الأيوبي) في هذه الرواية وفي الروايات الأوروبية الأخرى بصورة الملك الفيلسوف، بصورة فيلسوف حديث يحمل آراء القرن الثامن عشر ويبشر بها بين الناس. فيدعو إلى (المذهب الإنساني) الذي استولى على أفئدة الناس في ذلك الوقت. ويحث الناس على اتباع الفلسفة التي كان يدعو إليها لسنك وأمثاله. فهو ملك شرقي وفيلسوف غربي في آن واحد.(678/12)
ولم يكن لسنك من المستشرقين كما أنه لم يكن من المؤرخين، ومعلوماته التاريخية عن الشرق معلومات عامة مأخوذة من هنا ومن هناك. أخذ حياة صلاح الدين من كتاب (صلاح الدين سلطان مصر وسوريا) للأب دي مارين الذي طبع سنة 1758م. كما أخذ معلوماته عن تاريخ الخلفاء من كتاب (تاريخ العرب في أيام الخلفاء) للأب (دي ماريني) وقد طبع هذا الكتاب بالفرنسية عام 1750 للميلاد واستفاد من كتاب (التاريخ العام) الذي طبع بمدينة لندن عام 1759.
وحاول لسنك الرجوع إلى المصادر الأولى، إلا أننا نشك في قدرة هذا الشاعر على ذلك لأنه لم يكن يعرف العربية، على أنه كان يستعين بالكتب المترجمة عن العربية. مثل ترجمات وترجمة جلان (1704 - 1708) لألف ليلة وليلة والترجمات الأخرى، وكان يستعين بالمستشرقين أنفسهم أمثال المستشرق ريسكي الشهير. ومع ذلك فإن قصة (ناثان الحكيم) لا تمثل التاريخ كما تمثل الأفكار الإنسانية والمبادئ الفلسفية التي تمثل نفسية هذا الفيلسوف.
(بغداد)
جواد علي(678/13)
على هامش النقد:
(دفاع عن البلاغة)
تأليف الأستاذ الزيات
للأستاذ سيد قطب
(تتمة)
هل هناك مذهب جديد؟
كان هذا السؤال الذي جعل الجواب عليه هو الفصل الأخير من الكتاب، وناقش فيه من يدعون إلى العامية، ويدعون إلى الرمزية. والعامية ليس من الضروري أن تكون عامية اللفظ، فهي عامية التعبير وعامية التفكير. وقد لا تكون الألفاظ عامية، ثم تكون طريقة الأداء عامية، كما تكون كذلك طريقة التفكير.
وفي سياق بحث الموقف الحالي للأساليب العربية شرح تطورات أساليب النثر العربي شرحا مختصرا وافيا دقيقا، ولخص مذاهبه تلخيصا جميلا مفيدا، ورتب على هذا التطور نتائجه المنطقية ترتيبا بارعا وصادقا في الوقت ذاته.
وفي اعتقادي أن هذا الفصل هو أبرع فصول الكتاب وأدقها وأصدقها. وهو كذلك بحث جديد في المكتبة العربية، لم يلخص من قبل مثل هذا التلخيص.
وأحب أن أشرك القارئ معي في تقدير قيمة هذا الفصل الجيد من فصول الكتاب.
جاء في ص 125:
(. . . إن المذهب الكتابي أو الشعري إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه مبتغوه. فأسلوب عبد الحميد بن يحيى إنما كان الطور الأول للأسلوب العربي الضيق الموجز، دعت إليه مقتضيات المجتمع الجديد من تشعب أطراف الدولة، وبدو ثمار الحضارة، ودنو العربية من الفارسية. وأسلوب ابن المقفع الذي ظهر في فجر الحضارة العربية كان طوره الثاني، دعا إليه اتساع الخلافة، وتنوع الثقافة، وشدة اختلاط العرب بالفرس. ثم كان طوره الثالث أسلوب الجاحظ الذي اقتضاه نقل العلوم الأجنبية، وازدهار المدنية العباسية، وانتشار المقالات الإسلامية، وتعقد الحالة(678/14)
الاجتماعية، وتولد المعاني الحضرية، واقتباس الآراء الفلسفية. ثم أترف المسلمون، وتقبلوا في أعطاف النعمة، وتأنفوا في مظاهر العيش، فظهر طوره الرابع في أسلوب ابن العميد المنمق المسجوع. والى هنا كان التطور في النثر الفني تطورا طرديا يسير من الضيق إلى السمة، ومن الجزالة إلى الرقة، ومن الترسل المتوازن إلى الصنعة المطبوعة. فلما ضعفت الخلافة وقام بالأمر غير أهله بدت على الكتابة أعراض الفساد والوهن، فكثرت المعاني المزيفة، وانتشرت الصنعة المتكلفة؛ وكان من ذلك مذهب القاضي الفاضل وهو الطور الخامس من أطوار الأسلوب العربي، غلا فيه أصحابه حتى أفسدوا الفكرة بالتفاهة والمبالغة، وشوهوا الصورة بالزخرف الكاب والسجع المجتلب. ومن هنا كان رد الفعل بظهور طريقة ابن خلدون، إذ رغب عن السجع، وزهد في البديع، وسار باللفظ وراء المعنى. وقد صرح بذلك في كلامه عن كتابته لأبي سالم أحد ملوك الأندلس قال:
(وكان أكثرها يصدر عنى بالكلام المرسل، بدون أن يشاركني أحد ممن يتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف احتمالها وخفاء المعاني فيها على أكثر الناس، بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة).
(وآثر النابغون من خريجي المدارس المدنية الحديثة الذين وقفوا على آداب الفرنجة، الطريقة الخلدونية على الطريقة الفاضلية، لجريانها مع الطبع، وملاءمتها لروح العصر، ومشابهتها لأساليب الغرب، فظهرت مهذبة عذبة فيما كتب قاسم أمين، وفتحي زغلول، ولطفي السيد، ومن جرى مجراهم. وانفرد بالأسلوب البديعي رجال دار العلوم ومن يمت بسبب إلى الأزهر، من أمثال الشيخ حمزة فتح الله، وتوفيق البكري، وحفني ناصف، ومن حذا حذوهم. وبدت على أسلوب هؤلاء مظاهر التكلف، فأسرفوا في المحاكاة، وأوغلوا في الصنعة، وتشددوا في القياس، وتصعبوا في استعمال اللغة. كما بدت على أسلوب أولئك مظاهر التطرف، فتجوزوا في القواعد، وتسامحوا في اللغة، واستخفوا بجمال الصياغة، وهبطوا إلى مستوى العامية. وفي ذلك الوقت نشأت على أقلام عرب لبنان النازحين إلى الأمريكتين طريقة ثالثة فيها الفكرة والطرافة والحركة والتنوع، ولكن فيها الركاكة والتساهل والدخيل والعجمة. فكان من رد الفعل الذي لا بد منه لهؤلاء الطرائق الثلاث أن تنشأ طريقة رابعة تأخذ من محاسنها وتخلو من مساوئها فترتضيها الأذواق جميعا. تلك(678/15)
كانت طريقة إحياء الأسلوب العربي الخالص مكمل النقص بما فاته من صور البيان، لانقطاع أهله عن مسايرة التمدن الفكري الحديث. استبانت هذه الطريقة في نثر المنفلوطي، كما استبانت في شعر البارودي. ثم نهجها الكتاب الموهوبون المطبوعون فتميزت بالرقة والدقة والسلامة والرصانة والقصد. ثم نبغت طائفة من الكتاب جمعوا بين ثقافة الشرق القديم وثقافة الغرب الجديد، فبلغوا بالنثر الفني منزلة لم يبلغها في عصر من عصوره. فالأسلوب الذي كتب به المنفلوطي والبشري والرافعي، ويكتب به العقاد وطه حسين والمازني، هو ثمرة التطور الحديث في الأدب والعلم والفن والحضارة. وهو إن اختلف بين الكتاب في القوة والضعف، والعمق والضحولة، والدقة والتجوز، والتركز والانتشار، يشترك في الصفات الجوهرية للغة وهي الصحة والنقاء والمرونة، وفي الخصائص الأصيلة للبلاغة وهي الأصالة والوجازة والتلاؤم. . .)
لقد استطردت في الاقتباس من هذا الفصل القيم، لأنني معجب بتصوير هذا التطور والتسلسل في ذلك الحيز الضيق بمثل هذه النصاعة؛ ولأنني أريد أن ادعوا وزارة المعارف للانتفاع بهذا الفصل خاصة - إن لم يكن بالكتاب كله - في مدارسها ومعاهدها بدل تلك الفصول القاصرة البائسة التي يدرسها طلاب المدارس الثانوية!!
والآن قد استعرضت وناقشت الأسس العامة في كتاب (دفاع عن البلاغة) يعن لي أن أناقش بعض الموضوعات الفرعية التي جاءت هنا وهناك في الكتاب.
يناقش المؤلف رأيا لأميل زولا في البلاغة، واستعراض هذه المناقشة مفيد في بيان رأي المؤلف وزيادة إيضاحه.
قال إميل زولا:
(ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكتاب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقا يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغير والزوال بسرعة. ولا بد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حيا؛ ولا يمكن أن يكون حيا إلا إذا كان حقا. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية).
ثم يقول بعد ذلك:(678/16)
(وهل نستطيع أن تبيين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟).
ويعلق الأستاذ الزيات على هذا الرأي فيقول:
(وهذا القول الظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب، لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما قال شاتوبريان)
(أما قوله: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟) فمرماه أن روائع اليونان والرومان لم تخلد على الدهر إلا بمعانيها المبتكرة ووقائعها المشوقة، وعواطفها الصادقة، وشخوصها الحية، بدليل أننا نقرؤها اليوم بمعانيها لا بمبانيها، وبفكرها لا بصورها. فلو كان خلودها منوطا بدقة الصياغة وجودة الصناعة لما عاشت بالترجمة. ثم يترتب على ذلك خطأ القول باتحاد الصور والأفكار في الأسلوب، لأننا حين نقرأ الإلياذة مثلا في الفرنسية أو في العربية لا نقرأ منها عين الموضوع.
(والحق الذي تؤديه الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم).
ونحن نرى أن أميل زولا كان على كثير من الحق وهو يقول: (والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية) وليس هذا القول (ظاهر البطلان) كما يرى الأستاذ الزيات؛ كما أن تعليق الأستاذ بعد هذا صحيح، ولا تتناقض صحته مع صحة رأى زولا في شيء. فالمخلوقات الحية التي بلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء إلا بالأسلوب. ولكنها يجب أن تكون (حية) ليحتفظ الأسلوب لها بالحياة وإلا عجز منحها الحياة!
وكذلك نحتاج إلى شيء من التحفظ في تعليق الأستاذ على خلود روائع هوميروس وفرجيل؛ فليس الأسلوب (وحده) هو الذي ضمن لها الخلود، فلا بد من عنصر آخر حي مع الأسلوب، كما اتفقنا من قبل، الأستاذ وأنا، على هذا الأصل الكبير (في أول مقال).
ويستطرد الأستاذ في تعليقه فيقرر في شأن الترجمة رأيا صحيحا نرجو أن ينتفع به من يتصدون لترجمة روائع الأدب العالمي! ذلك حين يقول في ص72:(678/17)
(والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجمانا ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلا لفظيا بأسلوبه الذي يترجم به عروض الأحوال، أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن نقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير؟ أم ترى أنك قرأت ألفاظا كالعظام المعروقة المبعثرة، لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه، ولا صورة من صوره؟. . . الخ).
وهذا دستور جيد للترجمة. وأشهد أني أقرأ في هذه الأيام مترجمات لا أدري إن كانت على رأي البحتري، إن كان صنع إنس لجن، أن صنع جن لإنس! فلعل من يتصدون للترجمة ينتفعون بهذا الدستور القويم!
وأخيرا نقف أمام لفتة طيبة تقرن فحولة الفن بفحولة الأمة عامة وفحولة البطل منها خاصة؛ وهي لفتة صادقة ولكننا لا نثبتها هنا لمجرد الصدق، بل للتوجيه أيضا:
جاء في ص122:
(وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما إذا حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماما واضطراما وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن، وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفا وزيفا وثرثرة)
وجاء في ص123:
(إن الأدب البليغ كامن في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برز فيه، وان لم ينتجه شجع عليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال، فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب(678/18)