على أن المنصور كان ألين منه، وأندى سمعاً للنساء. فقد تزوج ابنة منصور الحميرية، فشرطت عليه أن لا يتزوج ولا يتسرى إلا عن أمرها، ففعل. ولم يتعد سلطانها زوجها.
وبدأ سلطان المرأة يقوى مذ تولى المهدي الخلافة، وتزوج الخيزران. فقد كان لها سلطان على القصر، والندماء والحجاب والأطباء، تقرّب منهم من تشاء وتبعد من تشاء. ولقد أخذت مرة في مناكدة بختيشوع بن جورجيس الطبيب ومضاربته، وأثرت في المهدي، فلم ير بداً من إعادته إلى جند يسابور.
فلما ولي الخلافة الهادي زاد نفوذ الخيزران وتدخلها في شؤون الدولة. وقد كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب ويلهو، ويركب حماراً فارهاً، ولا يقيم للخلافة أبهة ولا عظمة؛ فلا عجب ممن كان هذا شأنه إن وكل أمور الدولة كلها إلى أمه الخيزران. فقد كان كثير الطاعة لها يجيبها فيما تسأل من الحوائج. فكانت المواكب لا تخلو من بابها. وبلغ الأمر بها أن استولت على زمام الأمور. واستيقظ الهادي من غفوته أو غفلته، ورأى أن أمور الدولة بين يدي أمه. فكلمته ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها سبيلا فاعتل بعلة، فقالت لابد من إجابتي. قال لا أفعل. قالت: إذاً لا أسألك حاجة أبداً. قال إذاً والله لا أبالي، ولئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك). ثم أخذ يعنفها ويؤنبها ويقول لها: (ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك، إياك إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي).
وكانت الخيزران من ذوات الأثرة. وهذا النوع من النساء لا يبالي بما يفعل في سبيل إرضاء الأثرة والأنانية وبسط النفوذ. ولقد كانت ترغب في الأمر والنهي والحكم. فوقف الهادي - بعد أن اتسع الخرق - ليسترد سلطانه. فلما ضايقها الأمر، وآنست من ابنها معارضة وقوة، وآلمها أن يذهب سلطانها، وترد المواكب عن بابها، أرادت أن تنتقم منه، فدست إليه جواري من جواريها، غطين وجهه وجلسن فوقه، فقتلنه. كل ذلك ليعود الأمر إليها وحدها كما كان. وقد تم لها ما أرادت وتدفقت عليها الأموال، حتى بلغت غلتها قبيل موتها مائة ألف ألف، وستين ألف درهم. وقد قدر أحدهم أن هذا المبلغ يعادل نصف خراج المملكة العباسية آنئذ وثلثبي غلة رو كفلر في أوائل هذا القرن.(654/14)
فلما ولي هارون الخلافة كانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحي بن خالد يعرض عليها ويصدر عن رأيها. وكان الرشيد لا يعصي لها أمراً. وقد ذكر الطبري أن الرشيد لما عاد من دفنها، دعا الفضل بن الربيع وقال له: وحق المهدي، إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي، فأطيع أمرها.
أما بعد مقتل البرامكة فقد استبد الرشيد برأيه، حتى إن ظئره أم جعفر - وكانت قد أرضعته وربته - دخلت عليه أيام النكبة، فتلقاها وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها. فقالت يا أمير المؤمنين: أيعدو علينا الزمان ويجفونا، خوفاً لك، الأعوان، وقد ربيتك في حجري وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري. . . ثم أخذت تستشفعه في يحيى والفضل، فلم يسمع لها ولم يرق لكلامها.
ولم يكن لزبيدة من الأمر، زمن الرشيد ما كان للخيزران وإن كانت هي أيضاً ذات سلطان. وكانت تهب وتصل وتعطي وتستشفع، ولكنها ما كانت لتتدخل في شؤون الدولة. ولعل ذلك راجع إلى البرامكة الذين استولوا على الأمور كلها.
وفي الحقبة الممتدة بين خلافة المأمون والمعتضد، نلاحظ تدخل القيان من مسمعات ومغنيات وشو اعر في أمور الدولة. ونلاحظ عظيم سطوتهن عند الخلفاء. فكن يستشفعن ويقربن ويولين ويبعدن. وإن كان بعض هذا قد حدث زمن الرشيد أيضاً. فقد كان كلفاً بذات الخال فحلف لها يوماً أن لا تسأله شياً إلا قضاه، فسألته أن يولِّي رجلا يحبها، الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب عهده به وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته. ولعله أجابها إلى ما سألت ليخلو له الجو. . .
ويذكر الأصبهاني أن إبراهيم بن المدبر، لما سجن، سألت عريب - وما أدراك ما عريب! - الخليفة في إخراجه، فوعدها بما تحب، ثم أطلقه.
وكانت القيان ذوات السلطان، يتعصبن لطائفة سياسية، ويشايعن مذهباً، ويقضين حوائج أهله عند أولي الأمر. وقد ذكر أبن المعتز أن فضلا الشاعرة - وكانت في نهاية الجمال والكمال والفصاحة وجودة الشعر - كانت تتشيع، وتتعصب لهذه العصابة من الناس، وتقضي حوائجهم بجاهها ومنزلتها عند الملوك والأشراف.
وغضب الواثق مرة على إسحاق الموصلي، فرضته عليه فريدة جاريته، وكانت فريدة(654/15)
أثيرة عند الواثق حظية لديه.
وإذا تتبعنا أخبار هؤلاء النساء والقيان، نجد أنهن، حوالي سنة 300هـ، أصبحن ذوات سلطان كبير. ويذهب آدم متز إلى أنهن كن يطالبن بالحق في المهام الكبيرة - وما أشبه الليلة بالبارحة - لأن أبن بسام الشاعر يقول:
ما للنساء وللكتا ... به والعمالة والخطابة
هذا لنا، ولهن منا ... أن يبتن. . .
على أن القرن الرابع قد أمتاز بالقهرمانات؛ فقد كان لهن الأمر كله، وكن يعملن الأعمال الكبار؛ يعزلن الوزراء ويولين الولاة، ويجلسن للمظالم. وقد ذهبن إلى أبعد من هذا وذاك، فكن يقضين بين الناس. فأم موسى القهرمانة هي التي أوصلت أبا الحسين بن أبي البغل إلى الوزارة، فكان لا يخرج عن أمرها وكانت تجلس أخاً لها عند القصر، فيلقاه الناس وأصحاب الحوائج فيأخذ رقاعهم وشكاواهم وقصصهم إليها.
وهي التي أغرت المقتدر بالله والسيدة أمه، بعلي بن عيسى بن داو ود في وزارته (سنة 304) فقبض عليه وأودع السجن.
وهي التي كانت تزيد في أرزاق الخدم وتنقص منها.
والسبب في تدخل هؤلاء القهرمانات في أمور الدولة، ضعف المقتدر. فقد كان مشهوراً بالتدبر بآراء النساء. وكانت السيدة والدته وخاطف، ودستنبويه، أم ولد المعتضد، يدبرن الأمر لصغره. ثم ظل تدخلهن جارياً. وهكذا انتقلت الحكومة في أيامه، في بغداد، من الرجال إلى النساء.
وفي سنة (306هـ)، صار الأمر والنهي لحرم الخليفة - المقتدر دائماً - ولنسائه. وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر قهرمانة لها تعرف (بمثل) أن تجلس للمظالم بالتربة التي بنتها بالرصافة، وأن تنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها.
وقبضت أم المقتدر على زمام الأمر. وامتد سلطانها على كل شيء حتى إنها كانت تراقب - لحذرها - ما كان يقرأه أبناؤها. وقد ذكر الصولي انه كان يوماً عند الراضي يقرأ عليه شيئاً من شعر بشار، وبين يدي الراضي كتب لغة وكتب أخبار، إذ جاء خدم من خدم السيدة(654/16)
جدته، وهي شغب أم المقتدر، فأخذوا جميع ما بين أيديهما من الكتب، فجعلوه في منديل أبيض كان معهم ومضوا. فاغتاظ الراضي. فسكن منه أستاذه، وأفهمه أنهم أردوا أن يمتحنوا الكتب. ولما مضت ساعتان أو نحو ذلك ردوا الكتب بحالها، فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم بهذا: قد رأيت هذه الكتب، وإنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء. وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد، والسنور والفأر.
وظل المقتدر على عرش الخلافة زهاء خمسة وعشرين عاماً، والنساء من حوله يحكمن.
ومن الطرافة أن نذكر هنا أن المعتضد كان قد تنبأ لابنه المقتدر بأن النساء سيستولين عليه. حدث صافي الحرمي مولي المعتضد قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم فلما بلغ باب (شفـ) أم المقتدر، وقف يتسمع ويتطلع من خلل الستر فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها وهو جالس، وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فيه عنقود عنب في وقت لا يوجد فيه العنب، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الوصائف كلهن على الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل عنبة واحدة، حتى فني العنقود، والمعتضد يتميز غيظاً. فاهتم ورجع، فسألته فقال: والله يا صافي لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت يا مولاي حاشاه، أي شيء عمله؟ أعيذك بالله من اللعين إبليس. فقال ويحك، أنا أبصر بما أقول. أنا رجل قد سست الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني علياً (يعني المكتفي)، وما أظن عمره يطول للعلة التي به (يعني الخنازير التي كانت في حلقه) فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، فلا يجدون بعده أكبر من جعفر (يعني المقتدر) فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء هذا الذي رأيت فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، ويقسم ما جمعه من الأموال كما قسم العنب.
وكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها.
وفي عهد المقتدر اشتد سلطان امرأة أخرى يقال لها (زيدان) وكان لها طبيب خاص بها، هو عيسى البغدادي، يحمل الرقاع بين الوزراء وربما حملها إليها لتعرض ذلك على(654/17)
الخليفة.
وقد استطاعت زيدان هذه أن تتمكن من جواهر المقتدر وأن تأخذ سبحة لم ير مثلها، كان يضرب بها المثل، فيقال سبحة زيدان. وكانت قيمتها ثلاثمائة ألف دينار. واستطاعت أن تجعل دارها سجناً. فقد سجن عندها علي بن عيسى بن داود بعد وزارته، ومن قبله وكل بابن الفرات عندها، كما سلم إليها الأمر الحسين بن حمدان أيضاً
وثمة خليفة آخر لعبت به النساء، هو المستكفي. فقد كان عبداً لحسن الشيرازية. وكانت هذه قد سفرت بينه وبين توزون القائد التركي، واستطاعت أن يكون خليفة، وتولت أيضاً سمل المتقي بيد غلامها السندي.
وأصبحت بعد ذلك تستبد بالمستكفي، وتتولى عرض الغلمان والحجاب في قصر الخليفة، في مجلس يقال له الحوذان. فانخرقت الهيبة بهذه المرأة، وذهبت الرسوم التي كانت للخلافة، وصارت الدار طريقاً لكل من يراها.
ويتضح من هذا، ما كان عليه خلفاء بني العباس، حتى منتصف القرن الرابع، وما كان من أثر النساء فيهم، وما أدى إليه تدخلهن في الأمور، من انخراق الهيبة، وضياع الأمور، وانتشار الفوضى. وهذه نتائج طبيعية محتومة لمن يولي أمره امرأة ويدعها تفعل ما تشاء.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(654/18)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 11 -
برّه بأهل الذمة:
من مزايا الشريعة الإسلامية، ومظاهر برّها، وشواهد فضلها، ودلائل إنعامها وخيرها، ومن آي تسامحها - كفالتها لأهل الذمة ورحمتها بهم، ورعايتها لهم، ودفع الظلم والأذى عنهم، فإنهم متى أعطوا الجزية - وجب تأمينهم، وحمايتهم،، والدفاع عنهم، وتوفير الحرية لهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم مالا يطيقون كالمسلمين، وينسمون أهل الذمة، لأن هذه الحقوق ثبتت لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما الجزية التي تفرض عليهم فليس فيها مشقة، ولا عنت، كما أنها لم تجب عليهم اعتسافاً وتحكما، فهي قدر يسير من المال، لا يفرض إلا على الرجل الحر القادر على الكسب: فلا جزية على صبي، ولا على امرأة، ولا على فقير غير معتمل، كما أنها لا تجب على أهل الصوامع، وهي عند الحنفية ثمانية وأربعون درهما على الغني كل سنة، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثنا عشر على الفقير؛ وعند الشافعي أقلها، وهو دينار، وأكثرها غير محدود، وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: ليس لهم قدر معين، وإنما هو متروك لاجتهاد الإمام.
واختلف العلماء في سبب أخذها منهم، وأقرب الآراء، وأولاها بالترجيح ما رآه العالم المحقق السيد محمد رشيد رضا، من أنها واجبة للدفاع عنهم وحمايتهم من الاعتداء عليهم، كما يفهم من سيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة، وأعدلهم في تنفيذها، فمن ذلك ما كتبه خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا، حينما دخل الفرات: (هذا كتاب من خالد ابن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني أعاهدكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا)، وذكر البلاذري في فتوح البلدان، والأزدي في فتوح الشام - أن الصحابة رضوان الله عليهم(654/19)
ردّوا ما أخذوه من أهل حمص من الجزية، حين اضطروا إلى تركهم لحضور وقعة اليرموك لعجزهم عن الدفاع عنهم في ذلك الوقت، فعجب أهل حمص نصاراهم ويهودهم أشد العجب من ردّ الفاتحين أموالهم إليهم.
ذلك، وقد أوصي الإسلام بأهل الذمة خيراً، أوصى ببرهم، والإحسان إليهم، وحرم ظلمهم، أو أخذ شي منهم بغير حق، كما أنه لم ينه المسلمين عن معاملة مخالفيهم في الدين - بالقسط والبر، وإن لم يكونوا أهل ذمة إذا لم يقع منهم عدوان ولا بغي، قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم - أن تولوهم - ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، وروى داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم - أن رسول الله قال: (من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجة يوم القيامة).
وجاء في كتاب لعمر بن الخطاب أرسله لعمرو بن العاص عامله على مصر (وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال: (استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)، ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله وعليه وسلم: (من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) فأحذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصما، فإنه من خاصمه فالله خصمه).
وجاء في كتاب آخر أرسله عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ابن الجراح قوله في شأن أهل الذمة (وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحقها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم).
أدرك المسلمون الأولون من هذه النصوص وغيرها، ومن تعاليم الإسلام وسمو مبادئه - مدى رحمة الإسلام وعطفه على مخالفيه من الذمة والكتاب - ما استقاموا على الطريقة، ونأوا عن الإثم والعدوان - فلم يعرف عنهم اضطهاد لهم في دينهم، ولا حرمان لهم من حقوقهم، واستخدمهم الخلفاء الأمويون والعباسيون في ترتيب دواوين الخراج، وترجمة علوم اليونان، وقربوا النابغين منهم، واعتمدوا عليهم في شفاء عللهم، بل عدهم المسلمون(654/20)
عضواً في هيئتهم الاجتماعية، يحافظون عليه، كما يحافظون على أنفسهم، وساسوهم بالعدل والرفق، وأشركوهم معهم في مرافق الدولة، وكان شعارهم - حيال أهل الذمة - (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهي سياسة عادلة رحيمة، جعلت المؤرخ الاجتماعي جوستاف لوبون يقول: ما رأيت فاتحاً أعدل، ولا أرحم من العرب.
(للبحث بقية)
حسن أحمد الخطيب(654/21)
حول تعقيب
الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو ريه
لما أجمعت النية على نشر كتاب عن (حياة الحديث المحمدي) بعد أن جمعت مواده وهيأت فصوله - قدرت أن هذا الكتاب ستضيق به صدور الذين يكرهون التحقيق في البحث، والاجتهاد في الفهم، والحرية في الفكر؛ ولا يرون العلم إلا فيما أخذوه عن شيوخهم تلقيناً، والاستمساك بما وجدوا عليه آباءهم غثاً كان أو سميناً.
وقد وقع ما قدرت، فلم تكد تبدو في أفق (الرسالة) لمعة عن هذا الكتاب حتى انبعث (حشوي) في إحدى صحف العوام ينضح علينا من رضاع ملكته سباً وشتما وسفاهاً، فلم نعره التفاتاً، لأن المناقشة بين العلماء لا تكون إلا بعلم وبرهان؛ أما الفحش والسفه والسباب، فهي أداة الجاهل الذي أعوزته الحجة واستعصى عليه الدليل، ولا يصح أن يتخذ الجهول في البحث قريناً.
ولما قرأت في العدد 642 من (الرسالة) كلمة الأستاذ محمد محمود أبو شهبه رأيتها تنزع إلى الحق وتطلبه، وهي وإن كانت قد حملت بعض مآخذ - تجاوزنا عنها - تستحق العناية، وتستأهل الرد:
1 - قلت في كلمتي التي نشرتها بالرسالة: إني وجدت بعد البحث والتنقيب أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه. فجاء الأستاذ أبو شهبة يسأل عن مبعث هذا الحكم، وبعد أن يسلم بأن من الأحاديث ما روى على المعنى قال: (ومن الأحاديث ما (اتفقت) الروايات على لفظها! وإن لم تصل إلى درجة المتواتر، ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب). كأنه يقول: إن هناك أحاديث كثيرة (معروفة) قد جاءت على كمال صياغتها كما نطق الرسول بها، فبدت تحمل مزايا نظمها واتساقها وأسرار بلاغتها، وخصائص ألفاظها ومعانيها.
ونحن لو سلمنا جدلا بأن هناك أحاديث - قد اتفقت الرواة على لفظها لأنا لم نقف على إحصاء صحيح لها، فإنه لا يصح اعتبارها ولا الاستشهاد بها ما دامت - كما يقول هو عنها - لم تصل إلى درجة المتواتر، ذلك بأنه ما دام شرط التواتر لم يتحقق لها فإنها(654/22)
تصبح في حكم الآحاد الذي لا يعطي إلا الظن، والظن سواء أكان في اللفظ أم في المعنى لا يغني من الحق شيئاً.
ومن هنا كان استشهادنا بكلمة الشاطئ وقولنا: إنه لا يكاد يوجد حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، وقد سبقنا إلى هذا القول ابن الصلاح فقال في المتواتر: (إنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من أهل الحديث أعياه تطلبه).
على أنا نزيد الأمر توكيداً فنسوق بعض ما قاله أئمة النحو في سبب عدم إثبات القواعد النحوية بألفاظ الحديث، لأنها لم تتواتر عن النبي.
قال السيوطي في الاقتراح: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم، فيستدل منه بما يثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلقة أيضاً، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. . . ومن ثم أنكروا علي ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الواردة في الحديث.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر والخليل، وسيبوبه منأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر، وهشاماً الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرين من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. . .) وقد قالوا: (إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بأن ذلك لفظ الرسول إذ لو وثقوا بذلك لجري مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم تنقل بتلك الألفاظ جميعها نحو ما روى في قوله: (زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك، خذها بما معك)، وغير ذلك من الألفاظالواردة في هذه القصة،(654/23)
فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ،، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ، فبعيد جداً لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى!
الثاني: إنه وقع اللحن كثيراً فيما روى من الأحاديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها. . .
وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه من تغيرات الرواة لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد.
ومن قول الشاطبي في شرحه على ألفية ابن مالك:
(. . . إن النحاة يستشهدون بكلام سفهاء العرب وأجلافهم وبأشعارهم التي فيها الخني والفحش ولا يستشهدون بالحديث. ثم روى عن أبي حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيده معمر بن المثنى بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم قال: فقلت له عمن أخذت هذا يا أبا عبيده، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم! فإن شئت فخذ وإن شئت فدع. . . ثم قال: ولا أعرف لابن مالك سلفاً إلا ابن خروف.
نجتزئ بما نقلناه من أقوال هؤلاء الأئمة، لأن الكلام في ذلك يطول:
2 - عرض الأستاذ لقولنا إن المعاني قد ظلت تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواة. فاتفق معنا في اختلاف الألفاظ وتباين الأساليب، وخالفنا في توالد المعاني. . . ونحن لا نتوسع بالرد عليه في ذلك، لأن فيما أوردناه من كلام أئمة النحو واللغة غناء، فقد أثبتوا أن الرواة قد زادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، ولحنوا وأخرجوا لفظ الحديث(654/24)
عن القياس العربي، فإذا لم يكن في ذلك كله توالد للمعاني، فمن أي شيء إذن يكون هذا التوالد؟!
ويقول الأستاذ: إنه كان يحب منا (أن نقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين، لنعرف ما خص الله به هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة.
وما كان يحبه الأستاذ منا قد قمنا به، بل زدنا عليه، فقد أبعدنا النجعة في مطارح البحث، حتى انتهينا إلى منطقة وجدنا فيها أن الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث، بل كانوا ينهون الناس عنها. ومما ألفيناه من أسباب ذلك أنهم كانوا يخشون أن تخونهم هذه الحافظة (القوية) فيروون الحديث على غير ما نطق به النبي فيبدو وقد أصابه التحريف أو الزيادة أو النقصان! وهم لم يكونوا يروون ما يروون عند سماعه ولا بعد سماعه بقليل، وإنما كانوا يفعلون في المناسبات، وقد لا تتهيأ هذه المناسبات إلا بعد سنين طويلة، فكان كل صحابي يروي ما يجدوه في ذهنه من معنى الحديث الذي سمعه من النبي (ص) أو من أحد أصحابه أو من التابعين، إذا لم تكن رواية الصحابة موقوفة على ما يسمعونه من النبي فحسب، فيعبر عنه بألفاظ من عنده ومن هنا جاءت رواية الحديث الواحد بألفاظ مختلفة.
وإلى الأستاذ بعض الأمثلة مما عثرنا عليه في بحثنا:
جمع أبو بكر الصديق الناس بعد وفاة نبيهم وقال لهم: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. ونسي عمر حديث تيمم الجنب، وعلى أن عماراً قد ذكره به فإنه لم يذكره!
وقال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويتحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمكم أنهم كانوا يغلطون وأنهم ما كانوا يتعمدون!
وقيل لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله فقال: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد. وكان عبد الله بن مسعود - وهو من هو - يتغير عند ذكر الحديث عن رسول الله، وتنتفخ أوداجه ويسيل عرقه وتدمع عيناه ويقول، أو قريبا من هذا! أو نحو هذا، أو شبه هذا. كل(654/25)
ذلك خوفا من الزيادة والنقصان أو السهو والنسيان. وسأل مالك بن دينار ميمون الكردي أن يحدث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه فقال: كان أبي لا يحدثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو ينقص!
ولهذه الأخبار نظائر كثيرة أوردنا طائفة صالحة منها في كتابنا.
وعلى أن الأستاذ قد اعترف بأن رواية الحديث بالمعنى كان لها ضرر من الناحيتين اللغوية والبلاغية فأنه قد منع أن يكون لها ضرر من الناحية الدينية. ونحن نعجب أن يخفي على مثله هذا الأمر وهو مشهور بين الفقهاء جميعاً.
وإذا كان الكلام في ذلك يطول فإنا نحيل الأستاذ إلى ما كتبه العلامة نجم الدين الطوخي في آخر كتابه (صفة المفتي) وإن أبى إلا أن يرى أمثلة على ذلك من بعض الأحاديث ليعرف ما جرى فيها من خلاف بين الفقهاء - ولا شيء أضر من الخلاف - بسبب رواية الحديث بالمعنى؛ فليرجع إلى حديث استفتاح الصلاة بسورة الفاتحة، وإلى الحديث الذي أوردناه من قبل وهو (زوجتكها بما معك).
3 - تكلم الأستاذ عن الحديث الذي قلنا إنهم استجازوا به وضع الحديث وهو: إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالا - وأصبتم المعنى - فلا بأس. فقال: وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع! وإن في قوله وأصبتم المعنى ما يدل على أن الحديث قيل تجوزاً للرواية بالمعنى!
ولم يقل أحد إن بعض هذا الحديث صحيح، وبعضه الآخر موضوع! وإنما ذكر الجوزقاني وابن الجوزي أنه موضوع. ولو أن هذه العبارة التي قضى الأستاذ بصحتها كانت معروفة للصحابة لمنعت من تحرج من تحرج منهم من رواية الحديث! ولرفعت ذلك الخلاف الكبير الذي وقع بين العلماء في جواز رواية الحديث بالمعنى وعدم جوازها.
على أنه قد وردت أحاديث صحيحة تقطع بأنه صلوات الله عليه ما كان يريد إلا أن تروى أحاديثه على حقيقة لفظها مهما تحري الراوي في إصابة معانيها، ولم يكن ليشدد في عدم استبدال لفظ بلفظ فحسب وإنما كان يضرب عليه، فقد روى أصحاب السنن هذا الحديث: نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع). وهذا الحديث القولي قد أيده النبي بسنة عملية؛ فقد روى البخاري وغيره عن البراء بن عازب أن رسول(654/26)
الله علمه دعاءً يقوله عند ما يأتي مضجعه، ومن هذا الدعاء: (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فقال البراء يستذكر ما علمه النبي (وبرسولك الذي أرسلت) فقال له النبي (وبنبيك الذي أرسلت) وفي بعض الروايات فطعن في صدره ورده إلى الرواية الصحيحة. ومعلوم أن اللفظ الذي جاء به البراء يؤدي المعنى وأكثر، فهو بهذا قد أصاب المعنى ولكن النبي لا يريد ممن يروى عنه إلا أن ينقل كما سمع.
4 - ويقول الأستاذ عن كلمة (معتمدا) التي جاءت في بعض روايات حديث من كذب على: إن القاعدة عند المحدثين أنه إذا تعارضت الروايات رجح الأكثر والأقوى، وهنا ترجح رواية ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد!!
ولا نطل القول في مناقشة هذه القاعدة ولا في طلب الدليل على هذا الأكثر والأقوى!! وإنما نقول إن علماء الحديث قد جعلوا للترجيح اعتبارات متعددة، منها اعتبار الإسناد، ومنها اعتبار المدلول وغير ذلك. وقالوا في اعتبار الإسناد إن رواية أحد كبار الخلفاء ترجح على غيرها، وكذلك ترجح رواية من كان فقيهاً ومن كان أكثر مخالطة للنبي الخ ورواية هذا الحديث بغير كلمة (معتمدا) قد نالت كل اعتبارات الترجيح فقد رواها ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم كبار فقهاء الصحابة وأكثر مخالطة للنبي، والزبير بن العوام - وهو من هو يؤيد روايتهم ورواية غيرهم من كبار الصحابة ويقسم بأن النبي لم يقل هذه الكلمة، وفي سنن ابن ماجه عن الليث بن سعد عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك قال رسول الله من كذب عليّ - حسبته قال معتمداً فليتبوأ مقعده من النار. ورسالة الشافعي التي هي الأصل الأول لعلم الأصول ومؤلفها أقرب إلى معين السنة الصافي قد ورد فيها هذا الحديث بصيغ كثيرة لم يأت في واحدة منها كلمة (معتمدا). وابن قتيبة الذي قالوا إنه لأهل السنة كالجاحظ للمعتزلة لم يوردها في كتابه (تأويل مختلف الحديث) الذي دافع فيه عن رجال الحديث إلا بغير هذه الكلمة. على أن الأقرب إلى العقل السليم والأشبه بخلق النبي العظيم أن تكون الرواية التي جاءت بغير هذا اللفظ هي الصحيحة، والتي يطمئن بها القلب؛ لأن الكذب هو الكذب.
5 - ذكرنا في كلمتنا أن تدوين الحديث قد تقلب في أدوار أربعة، فكان في أول أمره مشوباً بغيره من أقوال الصحابة في التفسير وغيره من مسائل دينية أو طرق أدبية الخ مما كانوا(654/27)
يعنون بجمعه وتدوينه على طريقة العصر الذي وقع فيه التدوين من غير ترتيب ولا نظام إلى أن جاءت طبقة ابن جريج الخ) فقال الأستاذ من أين وصلنا إلى ذلك! ونحن نذكر له بأن كل من درس تاريخ التدوين في الإسلام وبخاصة في عصر بني أمية يعرف ما عرفنا ويصل إلى ما إليه وصلنا، وإذا أراد أن يقف على (طفولة التدوين الإسلامي) فليرجع إلى مظانه، ولكي لا نشق عليه بكثرة البحث في المصادر الكثيرة نحيله إلى أدنى المصادر عليه: الجزء الثاني من كتاب ضحى الإسلام للأستاذ الكبير أحمد أمين بك. والجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي لجو رجي زيدان بك.
6 - قال الأستاذ في أول مقاله إنه تتبع الحقائق التي وصلت إليها فوجد أن فيها ما يجافي الحقيقة! ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة!. راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية!! ولا يؤاخذنا الأستاذ بما نصارحه به من أنه قد تعجل في الحكم وأسرع في القضاء، ذلك بأنه لم يقرأ الكتاب كله ولا درس مواده وفصوله، ولا عرف مراجعه وأسانيده، وكل الذي رآه منه إنما هو (لمعة ضئيلة عنه) وقد كان عليه إذا آثر الحق والعدل أن يستأني في الحكم ويتمهل في إبداء الرأي حتى يطلع على ذلك كله ثم يصدر بعد ذلك حكمه.
7 - وفي ختام مقالته جاءت عبارة غريبة لا أدري كيف أرسلها، ذلك أنه يقول، إن مما يحتاج إليه عالم الحديث (الرحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً!!).
وإني ولا مراء في الحق لم أكد أفهم ما هي هذه الرحلة التي يحتاج إليها علم الحديث في هذا العصر! وكذلك لم أعرف إلى أي الأقطار تكون؟ ومن هم أولئك الذين قد أحاطوا بعلم الحديث خبراً حتى نرحل إليهم ونأخذ عنهم!
أني لم أكد أعرف من ذلك كله شيئاً، وإنما الذي أعلمه أن طلاب الحديث في القرون الأولى هم الذين كانوا يحتاجون إلى الرحلة ليتلقوا الأحاديث من أفواه الرجال إذ كانت سلسلة الرواية في هذه القرون متصلة، والحفاظ يومئذ هم أوعية الحديث لا يوجد إلا عندهم ولا يؤخذ إلا عنهم، أما الآن وقد انقصمت هذه السلسلة بتدوين الحديث وأصبحت الكتب هي المراجع الصحيحة للحديث - وهي من كل طالب على حبل الذراع - فإن هذه الرحلة قد صارت لا حاجة إليها ولا غناء فيها. على أن عهد الحفظ نفسه قد انقطع أثره منذ قرون، حتى قالوا إنه قد ختم بالحافظ ابن حجر، وانقضى على أثره عهد المحدثين.(654/28)
وإذا كان الأستاذ أبو شهبه لا يرضي إلا بالرحلة فإني قد قمت بما يرضيه ورحلت في سبيل تصنيف هذا الكتاب إلى جميع الأقطار وقضيت في هذه الرحلة سنين طويلة اختلفت فيها إلى مئات من العلماء والمحدثين والأصوليين والمؤرخين ومن إليهم ممن يؤخذ عنهم ويستفاد منهم لكي يأخذ كتابي حظه من التمحيص والتدقيق وقد اصطنعت في سبيل التلقي عنهم الصبر والأناة حتى ظفرت منهم بما أرجو أن يكون عملي به موفقاً صالحاً إن شاء الله، وما آمل أن يجد فيه كل من ينشد العلم والحق ما يحبه ويرضاه.
محمود أبو ريه(654/29)
الملجأ الإسلامي الأول في عهد النبوة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لله أنت يا رسول الله يا سيد المصلحين وإمام المشرعين، لقد مضى على أتباعك المسلمين قرون طويلة مظلمة حجبت عنهم محاسن شريعتك، وجعلتهم ينظرون إليها فيها وعلى أبصارهم غشاوة من الجهل، فتبدلت أوضاعها عندهم، وانحرفت عن سبلها المستقيمة إلى سبل معوجة، وصار كل شيء صالح فيها إلى فساد، وكل نظام جميل فيها إلى اختلال، وكل مظهر نشاط فيها إلى كسل وخمول، والإسلام دين إصلاح ونظام، ولابد لنا في نهضتنا الحاضرة من أن نرجع به إلى عهد نهضته، حتى لا يعوق المسلمين عن النهوض عائق من ناحية دينهم، وتسير فينا النهضة الدينية إلى جانب النهضة المدنية، متعاونتين في الوصول بنا إلى الإصلاح المنشود.
وها نحن أولاء نعالج الآن مشكلة السُّولة عن أوضاع ديننا معالجة مدنية، ونضع في ذلك الأوامر تلو الأوامر، والنواهي تلو النواهي، فلا يفيد في ذلك علاج، ولا ينقطع السُّولة عن هذه الحرفة الدنيئة، لأنا نقتصر في ذلك على علاجها من ناحية القانون الوضعي، ولا نحاول علاجها من ناحية الشرع السماوي، ليعلم الناس أن دينهم لا يبيح لهم هذه الحرفة الدنيئة، فكيف السُّولة عن تعاطيها، ويكف الذين يتصدقون عليهم أيديهم عنهم.
لقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرفة وشدد في الوعيد عليها، ومدح الذين يتعففون عن سؤال الناس. ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس. وقوله أيضاً: لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وقد عالج الإسلام هذه المشكلة بعد منعه لها معالجة إيجابية، لأنه لا يصح أن يمنع المحتاجين من السؤال ويتركهم يتضورون جوعاً، أو يشقون في الحياة بجانب غيرهم من أهلها، فسنَّ الصدقة وفرض الزكاة على الأغنياء، وجعل من وظيفة الحكومة جمع الزكاة من أهلها، وصرفها على من يستحقها من الفقراء ونحوهم، فوقاهم بذلك ذل السؤال، وحفظ لهم كرامتهم، لأنهم لا يأخذونها من الحكومة امتنانا، وإنما يأخذونها حقاً تتقاضاه لهم من(654/30)
الأغنياء، وتقوم فيه بوظيفة الوسيط بينهم.
ولما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة منعهم المشركون أموالهم في مكة، فأصابهم من ضيق العيش في المدينة ما أصابهم، وعانى كثير منهم من شدة الفقر ما عانى، وهم أبناء سادة قريش وأشرافها، ولا تسمح لهم عزتهم وكرامتهم أن يمدوا أيديهم إلى الناس بالسؤال، فأنشأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم ملجأ يجمع بينهم، واختار له مكاناً متواضعاً بمسجد المدينة، وكان موضعاً مظللاً من ذلك المسجد، فسماه من أجل ذلك صفةً، واشتهر أهله بين أصحابه بأهل الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل من مهاجري قريش، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فآواهم النبيصلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، وكان بهذا أول ملجأ اتخذ للفقراء في الإسلام.
وكان لهذا الملجأ نظامه فيمن يدخله من الفقراء، فكان لا يدخله منهم إلا الفقير الذي لا يستطيع ضرباً في الأرض للكسب، فلا يجد من كسبه ما يغنيه عن قبول الصدقة في هذا الملجأ من المسجد، وقد جاء هذا الشرط في وصف الله تعالى لفقراء هذا الملجأ في الآية - 273 - من سورة البقرة (للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافاً، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
وكان من نظامه أن جعل مدرسة لأولئك الفقراء، وكان مدرسة ليلية يتعلمون فيها القرآن وغيره من العلوم، لأن لهم عملا آخر سيأتي بيانه بالنهار، وبذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من جعل من الملاجئ مدارس، لتكون دور علم وتعليم، وينتفع الناس بها في دينهم ودنياهم، ولا يذهب ما يتصدقون به عليها سدى.
وكان من نظامه أن جعل لهم عملا بالنهار ينفقون منه على أنفسهم، ولا يكلهم إلى الصدقة التي يتصدق بها عليهم، لأنها لم تكن مورداً دائما، بل كان من عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسى، ولأن الإسلام دين عمل وجهاد، فلا يرضى لفريق من أهله أن يقعد عن العمل، ويتكل على ما يتصدق به عليه الناس. فكانوا يخرجون بالنهار فيجمعون النوى، ثم يرضخونه ويبيعونه لأصحاب الجمال.
وكان من نظامه أن جعل منهم جنداً للمسلمين، فكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول(654/31)
الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل غزوة يغزوها بنفسه، فيكون شأنهم في ذلك شأن كل مسلم، ولا ينقطعون إلى ملجئهم كما ينقطع الرهبان إلى صوامعهم.
ولقد قام هذا الملجأ يؤدي عمله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تولى الخلافة أبو بكر رضي عنه فأبقاه على حاله التي كان عليها، ثم تولى بعده عمر رضي الله عنه، فاتسعت في عهده الفتوح، وفتحت للمسلمين خزائن الفرس والروم، وصارت أسباب الغنى سهلة وميسرة، فأمر رضى الله عنه بإغلاق هذا الملجأ، وأمر أهله أن يسلكوا تلك السبل الميسرة للغنى، لأنه لا يرضى بالفقر إلا أهل الخمول والكسل، والدنيا دار جهاد وعمل.
ومن ينظر إلى نظام هذا الملأ يجد أنه هو النظام الذي تأخذ به الأمم الحديثة في ملاجئها، لأنه هو النظام الذي يتفق وأسباب المدينة التي تأخذ بها، ولكن المسلمين حين انحرفوا عن دينهم بعد ضعفهم، تغير نظرهم إلى هذا الملجأ كما تغير نظرهم إلى غيره من أمور دينهم، فاتخذوا أساسا لما أنشئوا في تلك القرون المظلمة مما سموه تكايا وخانقاه، وأخذ أهلها من الصوفية يتمسحون بأهل ذلك الملجأ، ويزعمون أن اسمهم مشتق من الصفة التي كانوا يأوون إليها، على بعد ما بين اسمها واسمهم، وعلى بعد ما كان من نظام أهلها ونظامهم، وعلى انه كان نظاماً زال بزوال سببه، ولم يرضه عمر رضي الله عنه لأهله؛ ومثل عمر يؤخذ الدين عنه.
عبد المتعال الصعيدي(654/32)
الحياة الأدبية في الحجاز
تتمة النهضة السعودية
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
الخطابة:
لقيت الخطابة عناية فائقة من أدباء الحجاز في العهد الأخير، فسلكت طريقها إلى النهوض ووجدت في المجتمعات والأندية تشجيعا دفع بها إلى الأمام ولكنها مع ذلك لا تزال عند الحجازيين متأخرة عن الكتابة لأنها لا تروج إلا في الرجّات العنيفة التي تساق إليها الشعوب ولا تنمو إلا في ظل الخلافات المذهبية والسياسية، والحجاز - كما يعلم الناس جميعاً - آمن هادئ لا تتوزعه القلاقل ولا تثور به الخلافات، ثم إنه بعيد عن التحزب والحزبية ولا يعرف معنى المنافرات والمذاهب السياسية وهي تؤجج نيران الخطابة وتبعث فيها القوة والحياة.
ولعل الذي بعثفي الخطابة الحجازية بعض الحياة في العهد الأخير إنما هو نشاط الشبان ومساعدة أولى الأمر من الساسة وقادة الفكر؛ فهم يهتمون بالأندية الأدبية التي تقام في المدن الكبيرة ويولونها من عطفهم وعنايتهم ويمهدون لها السبيل لأداء مهمتها على الوجه الأكمل، فسمو الأمير فيصل والشيخ محمد سرور الصبان وغيرهما لهم أياد محمودة في تشجيع القائمين بها، فهم يشعرونهم دائماً بالعطف والتكريم؛ ولهذا نرى هذه النوادي جادة ناشطة، ونرى القائمين بها يحددون يوماً من أيام الأسبوع يجتمعون فيه حيث يستمعون إلى خطبة جيدة أو محاضرة قيمة حتى إذا ما انتهى القائل علقوا على كلامه بالنقد أو الإعجاب.
وليس في الحجاز من ألوان الخطابة غير خطب المحافل والخطب الدينية، ولعل أولهما أرقى من الثانية؛ إذ تقال في مناسبات التكريم وفي المحافل التي تكثر في الحجاز في موسم الحج وفي المدارس في المناسبات الكثيرة.
والخطب الدينية في الحجاز أقل من خطب المحافل؛ فلا تكاد تعدو خطب المساجد. ويظهر أن الحالة الدينية هناك لا تدعو إلى هذا اللون من الخطب: فالناس هناك منصرفون إلى العبادة، بعيدون عن الانغماس في الشهوات، وإنما يلقى هذا النوع من الخطابة رواجاً في(654/33)
المجتمعات التي يحيد الناس فيها عن جادة الصواب فيجد الوعاظ عندئذ مجالا لدعوتهم ومحلا لعظاتهم، فلا يكاد الزائر يسمع هناك إلا الخطب التي تلقى في الحرمين والمساجد الأخرى في الجمع والأعياد.
وقد كان الارتجال غير معروف إلى عهد قريب في الحجاز، ولكن العهد السعودي الذي شمل كل ناحية بالقوة خلق في الناشئين من الخطباء الاعتداد بالنفس فارتجلوا في المناسبات الاجتماعية خطبا لها مكانتها الأدبية.
ولا بد لي أن أشير هنا في هذه الكلمة إلى أثر (المذياع) في الخطابة، فهو - وإن توهم بعض الناس انه قليل الخطر - ذو أثر فعال في هذا الفن من الأدب، فقد كان في السنين الأخيرة حلقة الاتصال بين لهجات الشرقيين: في النطق والمواقف ومقاطع الكلام، ولهذا تجد المحدثين من خطباء الحجاز يتأثرون الخطباء المصريين في مواقفهم وطرائقهم، على حين تجد القدامى منهم يختلفون عنهم في الأداء واللهجة، وما ذلك إلا لأن الحديثين نشئوا يستمعون إلى خطباء مصر فقلدوهم وتأثروا خطاهم، ولم يستطيع القدامى مجاراتهم في هذا السبيل بعد أن سلخوا عهداً طويلاً وهم على طريقتهم الأولى.
الصحافة:
لم يكن للصحافة خطر كبير قبل العهد السعودي وإن صدر بعضها قبله، فلما كانت الحياة الجديدة في ظل جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، نشطت حركتها وأخذت تناضل في سبيل الأدب والإصلاح الاجتماعي، فكان يصدر منها إلى عهد قريب صوت الحجاز وأم القرى والمدينة المنورة وغيرها، وكان بجانب هذه الجرائد بعض المجلات التي تتناول الموضوعات العلمية والأدبية كمجلة المنهل لصاحبها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وقد قرأت حديثا في كتاب (ماذا في الحجاز) للأستاذ محمد أحمد جمال أن هذه الصحف قد عطلت بسبب غلاء الورق ولم يبق منها إلا جريدة (أم القرى) وهي لسان حال الحكومة السعودية.
وكانت هذه الجرائد والمجلات مع اجتهاد أصحابها المحمود وعنايتهم المشكورة لا تزال بادئة ناشئة: فالجرائد لا تصدر إلا كل أسبوع أو نصف أسبوع والمجلات لا تصدر إلا كل شهر.(654/34)
وكان الحجازيون يدركون هذا الضعف فيها ويودون لو تنهض فتساير زميلاتها في الأقطار العربية، وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الحميد عنبر: (من حسنات العهد السعودي هذه الروح الصحافية القوية التي نراها في أطراف البلاد، فقد شجعت حكومة جلالة الملك عبد العزيز الصحافة في الحجاز وأعطت امتيازات لعدة جرائد ومجلات صدر منها البعض وتوقف، وبعضها لا يزال يصدر حتى الآن، ومنها ما أعطى امتيازه ولم يصدر حتى الآن. ونحن نسأل لِمَ لم يصدر ما أعطى امتيازه؟ ولِمَ توقف عن الصدور ما كان صادراً؟
ذلك لأن الصحافة لم تستقر لدينا على أساس قوي وأنها في حاجة إلى تنظيم، كما أنها في حاجة إلى صحافيين مدربين يستطيعون قيادة الجماهير، وغرس المبادئ الوطنية والأخلاق الرفيعة في نفوسهم).
ويرى الأستاذ محمد جمال كذلك: أن في الحجاز تربة صالحة للصحافة ولكن ينقصها رجال الصحافة الماهرون.
ويبدو لي أن الصحافة في الحجاز لا تسمو إلى المنزلة التي نرجوها لها إلا إذا توافر لديها المال الكثير الذي تؤمن به حياتها وتقوي نواحيها المختلفة؛ فيكون لها بعد ذلك مراسلون في الأقطار المختلفة يوافونها بأخبار العالم، ويشترك في توجيهها طبقة متمرنة من صحافيي العرب في الأقطار الأخرى حتى تشتد وتقوي، وعندئذ نأمل لها الفوق والرواج؛ فالتشجيع الحكومي قائم، ولم يبق إلا العمل مع الأخذ بالأسباب.
وأهم ما تعنى به الصحف الحجازية النواحي الاجتماعية والأدبية والأخبار المحلية وبعض ما تقتطفه من حوادث العالم نقلا عن الصحف الكبرى. ويمتاز أسلوبها بالهدوء والاتزان؛ فلا نجد فيها تلك الثورةالجامحة التي نجدها في صحف مصر نتيجة للخلافات الحزبية الكثيرة، فإذا كان هناك من حماس ففي بعض مقالات النقد الأدبي والإصلاح الاجتماعي.
(تم البحث)
أحمد أبو بكر إبراهيم(654/35)
هذا العالم المتغير
(تصيب الذبحة الصدرية صفوة أبناء العالم، فكيف وفق
الأطباء المصريون إلى اكتشاف علاجها؟)
من وصفة بلدية: علاج للذبحة الصدرية
للأستاذ فوزي الشتوي
في حضرة عزرائيل - وصفة بلدية - جهل يقود العلم -
نجاح باهر - ونقدم العلاج أيضاً - عقبات
في حضرة عزرائيل:
جاءته الأزمة كما عرفها، فأوى إلى فراشه وقد نسى مهمته التي ارتدى من أجلها ملابسه، يرى زوجه وبينه يهرعون إليه بعقاقير الطبيب، فيتناول الجرعات في سكون، وهو يحس بتلك النغصة في صدره، ويشعر بحاجته الماسة إلى تنفس عميق، فلا يقوى على الزفير أو الشهيق، لأنهما يضاعفان الألم ويقربانه من عزرائيل وهو يطوف بفراشه. فيكتم الزفير ويمنع الشهيق إبقاء على سعادة أسرته، فأي مصير يحل بهم إن أتم عزرائيل مهمته في إحدى تلك الأزمات؟
ربما ينفذها في هذه الأزمة، وربما ينفذها في مرة تالية، وقد يهادنه مدة طويلة. ولكن أحمد بك كان يحس بجناحي ملك الموت تصفقان حوله كلما واتته أزمة الذبحة الصدرية، فيشفق على سعادة أسرته أكثر مما يشفق على نفسه!
وفي كل مرة كان ينظر إلى عقاقير الأطباء، فيعجب لعجزها، وتتولاه الدهشة لقصر يده ويد الطب عن إزالة غمته، واستقرار أمنة، ومستقبل عائلته. لم يدخر أحمد بك - كما حلا لي أن أسميه - وسعا في استشارات الأطباء والخضوع لوصاياهم، فقلل من نشاطه كما أمر، وداوم استعمال العقاقير، وهو يعرف أنها قد تأتيه بشر آخر، لأن الطب لم يعرف علاجاً أو مسكناً يهدئ العلة بغير أن يترك أثراً جديداً مؤذياً!
وهو يدرك تمام الإدراك أن العقاقير التي يتناولها تزيد ضربات قلبه وتضعفه، وتقلل ضغط(654/36)
الدم، وتجهد عضلات القلب قبل أن تؤثر على الشرايين الناجية للقب، وتكسبها السعة اللازمة لمرور كميات الدم اللازمة للحياة. فالذبحة الصدرية علة تصيب هذه العضلات، فتجعلها تنقبض وتضيق وتمنع مرور كميات الدم اللازمة لتغذية القلب، فتعرقل مهمته.
وصفة بلدية:
وأحمد بك كسواه من الطبقة المثقفة النشطة القليلة الإيمان بالوصفات البلدية: قدمت إليه زوجه مغلي بذر الخلة مرات ليجرب، فنظر إليها ساخراً أن يفلح الجهلة فيما فشلت فيه علوم الطب. سمع أحاديثها، وقصص جيرانه ومعارفه مرات عن فائدة بذر الخلة في شفاء الذبحة الصدرية، فلم يصدق أن الطب عمى عن رؤيتها. وقالوا له: جرب، فلن تخسر شيئاً. فأجابهم وأقنع نفسه بأنه قد يأتي لنفسه بعلة جديدة قد تكون أقوى وألعن.
واستشار أطباءه، فرأى في عيونهم نظرات السخرية والاحتقار، وقرأ فيها إمارات اللوم، لأنه يقبل أقوال الجهلاء والعامة. ولكن العلة كانت شديدة الإلحاح، فلا يكاد ينفعل، أو يبذل جانباً من نشاطه حتى تفاجئه، فتأتيه في مكتبه، وفي الطريق، وفي بيته أيضاً. فخشي أن ينفذ ملك الموت مهمته في غفلة منه، ودفعته فظاعة الألم وحب الحياة لأن يجرب، ولا سيما أن كثيراً من معارفه يتعاطونها، فلم تحدث لهم من مضاعفات كما يتوهم.
وأخيراً، استسلم وأقبل على تناول مغلي بذور الخلة وهو يتجاهل طعمه الكريه، ويتحمله في صبر؛ فإذا العلة تهادنه، وإذا النغصات المؤلمة تبتعد عنه، فتقصي شبح عزرائيل واصطفاق جناحيه. واستمر بضعة أسابع، فاسترد حالته المعنوية، وأحس في وصفته البلدية بسر جهله الطب وأنكره، أو سخر منه!
جهل يقود العلم:
فقصد إلى طبيبه واثقاً من توفيقه، متوقعاً أن يسمع عبارات السخرية، وأن يرى نظرات اللوم. ولكن الطبيب لم يكن أقل دهشة منه لما رآه في حالته من تحسن ملموس، ولما وجده فيه من إيمان ويقين. ومن ثم بدأ الكشف العملي يزيح الستار عن عقار جديد وعلاج فعال للذبحة الصدرية التي تفتك بالصفوة المختارة من أبناء العالم كله. فهي لا تصيب في الغالب سوى الطبقة المفكرة الشديدة النشاط، والكثيرة الحساسية والإدراك.(654/37)
واحتضن الكشف العلمي ثلاثة من أطباء كلية الطب وهم: الدكتور انرب أستاذ علم وظائف الأعضاء، والدكتور قناوي في الأمراض الباطنية، والدكتور شفيق برسوم من مدرسي علم وظائف الأعضاء أيضاً. وتكاتف ثلاثتهم لاستطلاع السر الجديد وإجراء أبحاثه وتجاربه منذ سنة ونصف، فاستخرجوا المادة الفعالة نقية خالصة من المواد الغريبة، وأطلقوا عليها اسم (الخلين).
واختبروا فعلها في الكلاب الضالة فيحقنونها بالبنج حتى تستغرق في رقادها العميق. وعندئذ يفتحون قفصها الصدري ويكشفون عن القلب والرئة، ثم يقيسون مقادير الدم الواردة إلى القلب عن طريق الشرايين التاجية، فإذا هي عادة تتراوح بين 30 إلى 40 سنتمتراً مكعباً في الدقيقة. ويحقنون الشرايين بمادة الخلين في جرعات تتراوح بين ملليمترين وعشرة ملليمترات، فإذا بالدم الوارد إلى القلب يتضاعف ثلاثة أمثاله في الحالات العادية، وإذا الشرايين تتسع ويستمر أثرها في الكلاب لمدة ثلاث ساعات.
نجاح باهر:
ولكن هذه النتيجة وحدها لا ترضى البحث العلمي الدقيق فأي أثر آخر يتركه الخلين على الأوعية التي يمر بها؟ وماذا يصيب القلب وعضلاته؟
واكتشف أطباؤنا نجاحاً باهراً، فإن الخلين لا يؤثر إلا على العضلات الملساء للشرايين التاجية، وهي العضلات التي تسبب الذبحة الصدرية. أما عضلات القلب كما يقول الدكتور قناوي فلا تتأثر. وكذلك القلب ذاته لا يتضخم، كما أن استخدام الخلين لا يؤدي إلي انخفاض ضغط الدم كما يحدث عند استخدام العقاقير الطبية المعروفة. وقد سجلت نتائج هذا البحث بالموجات الكهربائية مما يوضح تأثير العقار.
ومعنى هذا أن الطب وفق إلي عقار بالغ القدرة على اتقاء شر الذبحة الصدرية بدون أن يترك أثرا. أضف إلي ذلك أن تأثيره علي الإنسان يختلف عن تأثيره على الكلاب لأن مفعوله في الإنسان يتراوح بين 24إلى 48 ساعة تبعا لحالة المرض والمريض
وقد انتقل البحث فتناول الإنسان. ويعالج به الآن حوالي خمس وسبعين حالة أدي علاجها إلى نجاح باهر في 70 حالة. وكان نجاح خمس منها ضعيفا. ويرجع سبب ضعفها إلى تقدم المرض وإلى أن تصلب العضلات وصل إلى درجة التيبس نتيجة لكبر السن أو(654/38)
اقتران الذبحة الصدرية بمرض السكر أو غيرهما من العوامل.
وتقدم العلاج أيضاً:
وتقدمت أبحاث العلاج أيضاً فأن الخلين مادة لا تستسيغ النفس مرارتها، فجرب استعماله في أقراص (برشام)، وفي حقن تعطى في الدم. والخلين لا يزيل المرض نهائيا ولكنه وقتي التأثير حتى الآن. ويتعاطى المريض مقادير منه تبعا لحالته. ولكن الأمل قوي في أن يصل البحث إلى العلاج النهائي؛ فقد لوحظ أن بعض الحالات شفيت نهائيا، واستغني المريض عن مواصلة العلاج. والمهم أن يوالي المريض استخدام الخلين حتى لا يصاب بنوبات الذبحة، حتى تستعيد العضلات حالتها الطبيعية بالتدريج.
ونوبات الذبحة الصدرية أو أزماتها تفاجئ مريضها في أوقات مختلفة، وتتراوح مدتها من نصف دقيقة إلى 20. وقد تصيبه مرة في اليوم، كما أنها قد تصيبه بضع مرات. وهي غالباً تحدث على أثر أي إجهاد سواء أكان عقليا أم جسمانياً.
وتكثر الإصابة بالذبحة الصدرية في الفترة التي نسميها منتصف العمر نتيجة لكسل بعض الغدد عن أداء وظيفتها مما يسبب تصلب الشرايين. وبرغم أن نسبتها كبيرة في مصر إذ تبلغ 50 % من المرضى من الطبقة النافعة، فإن مصر تعد أقل بلاد العالم في انتشار هذه المرض الذي يموت بفعله حوالي 20 % من مرضاه نتيجة لهبوط القلب أو انقباض العضلة.
أما في الخارج فالإصابة بالذبحة الصدرية شديدة الانتشار مما جعل اكتشاف العقار من المسائل العالمية فاهتمت به الدوائر العالمية، ونشرته كبريات الصحف الطبية، مرحبة باستخدامه كعلاج ناجح لمرض مستعص.
ويقدر العنصر الهام من بذر الخلة بنسبة 3 %، أما الباقي فشوائب وجد أن بعضها يترك أثراً ضاراً بالكلى.
عقبات:
ولم تمر فترات البحث حتى الآن سهلة لينة، بل اعترضته عقبتان كادت أولاهما توقف البحث في مراحله الأولى. فعندما أريد استخلاص مادة الخلين من بذر الخلة تحطم جهاز(654/39)
التقطير. وواجه الأطباء معضلة إحضار جهاز آخر. وطريق الواردات ممنوعة أو مستحيلة. ولكنهم أقبلوا على صنع جهاز جديد، فاستعاضوا عن الزجاج بالمعادن، وأدخلوا عليها من التعديلات ما جعل الجهاز أصح استخداما، وأجدى نفعا من الأصلي.
وفي المرة التالية توصلوا إلى المادة التي يذاب فيها الخلين، ولكنها كانت قليلة وأوشكت على النفاد من القطر المصري كله؛ ولكن الحظ واتاهم فتطوع بعض مندوبي مصر إلى مؤتمر العدل الدولي لإحضارها من أمريكا، واشتروها فعلا. ولكنهم لاحظوا عند العودة أن الحقيبة التي تحملها ناقصة فأبرقوا إلى المحطات التي مروا بها حتى عثروا عليها وأعادوها لأصحابها وهم في المطار يستعدون لركوب الطائرة إلى مصر.
وهكذا قدمت مصر للعالم بحثا طبيا بالغ النفع لأنه يحتفظ للعالم أجمع بصحة صفوة أناسه ممن خبروا الحياة، ويساهمون في بناء المدينة بأكبر قسط. كما قدمت أيضاً لباحثينا مادة جديدة لأبحاث يانعة توارثناها مئات الأجيال في وصفاتنا البلدية التي طالما احتقرناها. ولو أنصف علماؤنا لاحتضنوها فلا يتركون منها واحدة حتى يثبت البحث العلمي الدقيق ضررها فما لاشك فيه أن شوائبها كثيرة وواجبهم تنقيتها.
فوزي الشتوي(654/40)
في مآتم الأشواق
للأستاذ محمد العلائي
(إلى طه حسين، والمازني، والعقاد، والزيات، إلى الصديق سيد قطب، إلى هؤلاء أولا، إلى أدباء العربية ثانياً أقدم هذه اللوحة المشبوبة، وهي: مواقد أشواق تسامت بلهيبها أوهام الليل، وترامت على ضوئها مخاوف الرحيل، فباركتها بدعائي، وأحرقت فيها مواهبي، ثم تنفس الفجر فعصفت بقداستها سخرية اليقيقن، وأختنق شيطانها بأريج السلام. . . فسارعت إليها وأطفأتها بأقدامي):
تذكرتُ أيامي ودَارَ متاعبي ... ومشرق أحلامي ومسرى مواهبي
تراءى لناالماضي ولاحت معاهدٌ ... تمليت أوهامي بها وتجاربي
ومأساتُنا الأولى هناك تنزلت ... عليّ بدار الشمس قبل الغياهبِ
وراحت توافيني بكل كريهةٍ ... وتقذف ألوان القذى بمشاربي
وتفجر ما بين الضلوع تزيفها ... لنغمة شادٍ أو لآهة نادبِ
لها كل يوم في الشروق مناحةٌ ... وأوجع منها عند زحف المغاربِ
ظلام الضحى أبلى جديدي وعاقني ... وبيّض في شرخ الشباب ذوائبي
وأطفأ مني القلب في ميعة الصبا ... ويتم أفراحي وأذوَي رغائبي
وحجبني بين اللدِّاتِ فكلهم ... لعوبٌ وهذا منزوٍ غير لاعبِ
وأخرج من أدنى القلوب محبتي ... فأمي لا ترجو بقائي ولا أبي
وأشهدُ أني كنتُ نور عيونهم ... وكنت عزيز الدار نجم الملاعبِ
ولكن أمراً والزمان أراده ... فلست على أهل الزمان بعاتبِ
تناسيتُ إلا محنتي ومواجعاً ... تُقَلِّبها الساعات بين جوانبي
ورحلتنا الأولى ويوم تضاحكت ... أمامي أساريرُ المنى والمطالبِ
ولاح رجاءٌ واطمأنت مشيئتي ... بطالعٍ يمن في جبين الكواكبِ
فأجمعت أمري لا أخاف على غدي ... لقاء العوادي أو ركوب المصاعب
وخلفتُ أحباباً ورائي وأنفساً ... يعزُّ عليها غربتي ومتاعبي
وتحنو على ضعفي وترحم جرأتي ... وتخشى على حظي عثار المراكبِ(654/41)
وقلت وداعاً وانتهجنا سبيلها ... وسرنا بأرض الله ذات المناكبِ
وكانت ليالٍ ثم أشرف ركبنا ... على شاطئ الصحراء مثوى العجائبِ
سلامٌ على دار المنايا وأهلها ... من ابن سبيل أشعث الوجه شاحبِ
يروم الغنى فيها ويبغي كنوزها ... ويرجو بها ظلا وضجعة لاغبِ
طلبتُ على جهل سواء سبيلها ... وأُنسيت حظي والتفاف المشاعبِ
وكلفني ما لا يراد توهمي ... وشفت أحاسيسي بروق المغايب
وأشربت حب الخير حتى أضلني ... وشبَّه معوجاً بآخر لا حبِ
وغشَّى على عقلي فأكبرت تافها ... وسُمْتُ البلايا رغبة في المكاسبِ
وران على نفسي صداها فعانقت ... - لها الله - أمواج السراب المُكاذبِ
وخايلها يمُّ غرورٌ فأنزلت ... بأتعس ثغر فيه أشأم قاربِ
أُسائل مَنْ حولي وليسوا نواطقا ... وليسوا سوى أشباح غرقى رواسبِ
وتُؤذن بالرجعى نوايا عُبابه ... وأين وما بالشط مرسى لراكبِ
أمامي سدود كالفضاء ومفزعي ... إلى غُصص مشبوبة وكواربِ
وأفنى السُّري زادي ومائي ولم أجد ... بها مستقراً واستدارت مذاهبي
وضاق بِوَعثاءِ الطريق تفكري ... ومصَّت شعوري موبقات السباسبِ
وضمَّت على أدهى من اليأس أضلعي ... وناءت بأثقالي ظهور النجائبِ
وأرَّقني خوف المصير ولم أعُد ... أطيقُ الدياجي وارتجافَ المهاوبِ
فأخرجت من صخبي كريماً يودني ... وذا بصرٍ يومَ الشدائد ثاقبِ
وملّكته أمري فكان دليلها ... وسيرت ركبي خلفه غير ناكبِ
وسِرْتُ زماناً مغمض القلب سادراً ... تُلِمُّ في الذكرى وأحدو ركائبي
وأخشع أحيانا أحيىِّ مقابراً ... دفنت بها أهلي وبعض صواحبي
وأسمع للصحراء جُنَّت رياحها ... وردَّت على الموتى نُواح الأقاربِ
وأهوى مع الآفاق جسما مفرغاً ... وروحاً أتاه الموت من كل جانبِ
وبعد أعاجيب تراءت كنوزها ... وراء ضباب كالدجى وسحائبِ
وأذَّن حادي الركب: لا هُمَّ نعمةًً ... ونادى بيوم طافح البشر واهبِ(654/42)
فصدقتُ مأخوذاً وجئتُ وصيدَها ... أغالبُ خوفاً واندفاعةََ راغبِ
وأشعلت مصباحي فلما تكشفت ... عرفت نصيبي عند بيض العواقبِ
ودرتُ كمغشىّ ٍ عليه وحينما ... تمالكت أنفاسي ابتسمت لصاحبي
وقلت جزائي يوم خدَّر مسمعي ... منجم سوءِ بالأماني الكواذبِ
وأيضاً جزائي يوم حمَّت بصيرتي ... وملكت أمري خائباً وأبن خائبِ
فقال: مقاديرٌ ولما تنزلت ... وقعتَ وخابَ الحزمُ يا أبن التجاربِ
وعدتُ كأن الأرض حولي مآتمٌ ... وليس عليها غيرُ باكٍ وناعبِ
أصانع أبناء السبيل وأشتكى ... تعثر أقدامي ورعشة غاربي
أراودُ يأسي والقضاءُ كخاتم ... وأسبحُ في بحر مخيف وناضبِ
أباعدُ عن نفسي حقيقة رجعتي ... وأجبر بلواها بشتى العصائب ِ
وأحكي رؤاها في مضاجع ذابل ... ينام على جنبين صادِ وساغبِ
ومرّ بما أبكى رحيلا مُرزءاً ... جنيت الردى منه وشوك المجادبِ
ولاحت على مرمى العيون مواطني ... تحيةَ وشتاقٍ وفرحة آيبِ
هي الجنة الأولى وفيها منازلٌ ... تنسمتُ أهلي بينها وحبائبي
وفاح شذاها من بعيدٍ فهزني ... وذكّرني عهد الصِّبا ومآربي
وهاج زماناً كالربيع فشاقني ... ترنح آصالي بها ومغاربي
وأنهارها تحت الظلال جوارياً ... وفلكي عليها بين طافٍ وراسبِ
تموج بما فيها كأن غصونها ... على شغب ما بين راضٍ وغاضبِ
هي الجنة الأولى وتحت سمائها ... رأينا تباشير المنى والشبائبِ
مجالان هذا للشراب وللندى ... وذاك لأفراح الهوى والكواعبِ
وقلبان في صدري أروح بجامد ... وأغدو بمنساب الإرادة ذائبِ
يفزعني مسُّ اليقين ولونه ... وأومن مسحوراً بما هو رائبي
أميل مع الأهواء وسنان حالماً ... مكانٌ ينادي وآخر جاذبي
وقلت سأنسى في رُباها مَهالكاً ... أضلَّت صوابي واستباحت مضاربي
ولكن دخلناها فيا بؤس جنتي ... ويا بؤس إيماني وبؤس مثاوبي(654/43)
هي الجنةُ الأولى ولستُ بتائه ... فهذى مغانيها وتلك ملاعبي
رجعنا إليها بعدهمّ وغُربة ... وبعد ملمّات أشبن ذوائبي
وهأنا فيها لا ضميري ضاحك ... ولا أملي بين الرياض بواثبِ
على بابها الميمون ظلُّ كآبةٍ ... وفي الساحة الكبرى عبيرُ النوائبِ
وأشهى جناها ليس فيه مذاقهُ ... وكوثرها - لا كان - جمُّ الشوائبِ
وأشجارها الموتى غصون تهدَّلت ... وكانت عناقيد الثمار الأطايبِ
وأزهارها صفرٌ عليها مَذَلةٌٌ ... وأطيارها مبحوحة كالنوادبِ
وما كان منها دافقاً رُدَّ ماؤه ... وصاخبها أمسى وليس بصاخبِ
مرابعها جفَّت وراحت أجادبا ... وكانت مزاراً للحيا والسواكبِ
خمائلها محزونةٌ وسماؤها ... تميلُ بأشباه النجوم الغواربِ
ومالت أعاليها وزارت رُبوعها ... عواصف شتى بين ساف وحاصبِ
تحوَّل عنها أهلها وتناوحَت ... بأبهى مجاليها ظِماءُ النواعبِ
وجوهٌ كأحداث الزمان مخيفةٌ ... أطلت عليها من قصور خواربِ
وتلك التي بالأمس كنا نُريدها ... ونسأل عنها كلَّ آتٍ وذاهبِ
هي الجنة الأولى وكنتُ أمامها ... أحس بأن الكون بين جوانبي
وأشهدُ آفاقاً كباراً وعالماً ... عرفتُ به قلبي وأولى عجائبي
ونادمتُ أشواقي هناك مواسماً ... أجِدُّ وألهو بالظنون اللواعبِ
وأرسلتُ أحلامي وراء غُيُوبه ... أخاف وأرجو مُبهمات العواقبِ
وفي النفس أهواء وفيها مواجد ... وفيها تهاويلٌ سدَدْن مذاهبي
وفيها تسابيحٌ لعرش أظلَّني ... وفكَّ قيودي واستفزَّ مواهبي
وألهمني حتى كأني مُنَوَّمٌ ... أزال حجاب السرعن كل غائبِ
وأنطقني حتى لخْلتُ أضالعي ... ستعلن أسراري وتُفشي مآربي
وأسكتَني حتى تجمَّد خاطري ... وماتت بأعراقِ اللسان غرائبي
وغيَّر حالاتي وصفَّى مشاعري ... أحس كمخدور وأهذي كشاربِ
وأغرى بأسباب الحياة نوازعي ... وحرَّكَ أوهامي وأذكى رغائبي(654/44)
ونضَّر أجوائي فأضحت خمائلاً ... يفوح شذاها من صبا وجنائبِ
وتحظى بما دون القليل مطامعي ... فتُشرق آمالي وتصفو مشاربي
وأصبح والدنيا بصدري مباهج ... وأمسى وأفلاك الزمان مواكبي
هي الجنة الأولى وبات نسيمها ... روائح أنقاضٍ ورجعَ منادبِ
معالمها ليست كأمس وإن هفت ... عليها ظلال من أمان ذواهبِ
وأمست خلاءً غير ماض يعودها ... وريح كأنفاس الخطوب الأشايبِ
سلامٌ عليها يوم كانت رياضُها ... مشارقَ أفراحٍ وقبلةَ راهبِ
سلامٌ عليها يوم أطفئ نورها ... وغشَّى زواياها نسيج العناكبِ
تعلمت من هذا الزمان ولم أكن ... لأعلم لولا واصبٌ بعد واصبِ
هضمنا الليالي واعتصرنا بلاءها ... وعريت أجسادَ المنى والنوائبِ
وقلبت في جدِّ الحياة وهزلها ... وما عفت إلا مائعات المصائبِ
وساجلت أقداري وكانت مريرة ... فعدت بما شاءت سليباً كسالبِ
وأدهى من الحالين سِلْمٌ تنالها ... بوجدان مغلوب وبسمة غالبِ
وملت إلى ظلِّ السلام فأطمعت ... سماحة إغضائي ضعاف الثعالبِ
وأبلغ رُزءٍ أن تكون فريسةًً ... لأفواه ما ليست ذوات مخالبِ
وقاويت دهري فاستحاني ضميره ... ولما يحذرني طريق المعاطبِ
وباصرته فازورَّ عني حنانه ... وألقى رزاياه حيال مساربي
حياةٌ وليست بالقليل وإنما ... يقلل منها كل أعزل هاربِ
خِضَمٌّ من اللذات يلعن موجه ... لفيف من الغرقى ضعاف المناكبِ
هي الكأس يحلو مُرُّها لمعاقر ... ويجزع منها كلُّ غر مُجانبِ
كرهنا على عجز ولم نر غيرها ... وعند بلوغ اليأس خلق المعايبِ
حياةٌ وموتٌ ليس بعدُ حقيقةٌ ... وليس سوى هذين معنى لحاسبِ
رسائلُ شتى والضمير مغيَّبُ ... وإغراءُ مطلوب وشهوة طالبِ
ومُعتركٌ والحظ يعرف أهلهُ ... وأنات مغصوب وتعليل غاصبِ
نصيبي مقدور فما اخترت موطني ... وما اخترت أمي قبل ذاك ولا أبى(654/45)
حبيب إليَّ العيش رغم توجعي ... ورغم شعورٍ بالفجيعة ناصبِ
ورغم انطوائي لا أضاحك غايةًً ... ولا أمنحُ الدنيا بشاشة راغبِ
أصَمُّ وفي أذنيَّ وقرٌ وإنني ... لتحرق سمعي هامسات المغايبِ
وأبكم لا أُفضىَ وأَنَّى لمنطقي ... وأسمى نواديهم صريرُ جنادبِ
بأنفسهم عَوْراتُ سوءٍ تردُّني ... وتخْجلُ وجداني فأغضى كهائبِ
وأرحمهم مما تكنُّ صدورُهم ... وأرثى لأبناء الأذى والعقاربِ
وأصغرت ما يرجون حتى زمانهم ... ودنيا غوانيهم وعُليا المراتبِ
وأوصدت باب المجد لما تكشفت ... أمامي أربابُ العُلا والمناصبِ
وأسأمني دهرٌ يَمُرُّ عجيبُه ... وأعجبُ منه ماثلٌ في تجاربي
(القاهرة)
محمد العلائي(654/46)
البريد الأدبي
عزها. . .
أقول - ومن أصعب الأشياء توضيح الواضح - أن الشاعر شبه خفقان قلبه الوجاب بارتجاف القطاة المسكينة وقد عزها الشرك (أي غلبها وقهرها) شبه حالة قلبه بحالتها (وقت مغلبة الشرك إياها) فاضطرابها الشديد هذا وتلك المجاذبة إنما هما من تلك الغلبة لا من الغر ولا من الجر؛ فما ارتعشت حين غرت وما كان ذلك الاضطراب العظيم لما جرت، ولكن تتابع اضطرابها حين استمكن الشرك منها وغلبها وقهرها ورامت الإفلات منه. وإنه لينادى على أن اللفظة (عز) لا غيرها هو ما جاء بعدها: (فباتت تجاذبه وقد علق أو غلق الجناح) ولو لم يكن هذا الحرف المروى ما كان أبو العباس أعلن في (كاملة) تلك الشهادة: (قد قال الشعراء قبله وبعده فلم يبلغوا هذا المقدار) وبلفظة يقوى ويسمو بيت وبلفظة يهوى. ورحم الله قائل الشعر ورواته، أبا تمام، وأبا العباس، وأبا الفرج وغيرهم، وشارحيه أبا زكرياء التبريزي وأبا علي المرصفي وغيرهما ممن لم تصل إلينا شروحهم. ورحم مخالف من شعر، ومن روى، ومن شرح الأديب العبقري (الرافعي)، وهم العبقريين يشذون ويخالفون، وحيهل بخلافهم وشذوذهم! ويا طول حزن العربية ومجلتها على حجة الأدب وأديب العربية حقا (مصطفى صادق الرافعي)، ومد الله في عمر الأديب العالم الباحث الأستاذ الشيخ محمود أبو ريه المصري المسلم الكريم المفضل.
السهمي
إلى الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق:
الآن، وقد سكنت تلك العجاجة واستنارت الشبهة بعد ذلك للناس وصرح الحق عن محضة - يحق لكل من ينشد الإصلاح أن يتوجه إلى جليل مقامك ليفضي إليه بما يريد.
تعلم - يا سيدي الجليل - أن الأزهر ظل قروناً معتسفاً في طريقه، مكبلاً بجموده، قائما على طريق أبعدته عن أداء ما عليه؛ فهو في الدين لم يكشف بعد عن جليل أسراره لينشرها، ولم يبين عقائده الصحيحة التي جاء بها، ولم يستطيع أن يثبت أن أحكامه الصائبة تساير نظام الاجتماع في كل زمان ومكان. وفى الدنيا لم يشارك سائر الجامعات(654/47)
العلمية في جميع أرجاء الأرض بقليل أو كثير فيما يتخذ من أسباب ونظم لإصلاح العمران. ولقد نهض أستاذك الإمام محمد عبده رحمه الله منذ أكثر من نصف قرن ليعمل على إصلاحه، ويجعل له مقاماً يعلو به فاصطلحت عليه قوتان تعارضانه وتصدان عن سبيله، أولاهما من كان بيدهم الأمر يومئذ، والأخرى المعوقون من الشيوخ الذين تراهم في كل زمان لا يعملون صالحاً، ولا يقبلون إصلاحاً، فقضى رحمه الله ولما يقض ما كان يحبه ويصبو إليه.
وجاء الإمام المراغي فكان كل ما رأيناه في عهده أن تحرك الأزهر (في مكانه) ولم يستطع الشيخ رحمه الله على كثير ما سعى أن يزحزحه أو يخطو به، - واليوم - يلقى أمر هذا المعهد العظيم على عاتقك والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى ما سيكون شأنه في عهدك، ويرقبون تحقيق ما يأملونه على يدك. وإنك اليوم للمرجو والمسئول بين يدي الله وأمام العالم الإسلامي عن إصلاح هذا المعهد وتقويم ما اعوج منه، فامض في هذا السبيل بقوة وعزم، واحشد لما تتخذ من ذرائع وما تبتغى من أسباب صادق العزم. ولا تن في ذلك فقد توافرت فيك - ولك - كل أسباب الإصلاح وعوامل النجاح. فأنت في نفسك من الفضل والعلم والكفاية بأعلى مناط العقد، وأمامك الفاروق يأخذ بيدك في الإصلاح إلى أقصى حد، ووراءك الصفوة المختارة من طلاب الأزهر وشيوخه - والأمة جميعا معهم - يؤيدونك في كل قصد، حتى يبلغ الأزهر مكانته اللائقة به بين جامعات الأمم، ويفاخر بحق بأنه كان أول جامعة شقت حجب الجهالة بين العرب والعجم.
أيها الأستاذ الجليل: لقد انشرحت صدور المسلمين جميعا بتوليك مقاليد أمور الأزهر وتمنوا أن يكون الله قد استجاب فيك دعوة أستاذك الإمام التي دعا بها قبل موته حيث قال:
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا ... رشيدا يضيء النهج والليل قاتم
يماثلني نطقاً وعلماً وحكمة ... ويشبه متن السيف والسيف صارم
فحقق أيها الإمام المصلح رجاء المسلمين فيك، وانهض بما كان أستاذك سينهض به من قبل والله معينك وكافيك.
محمود أبو ريه
حول كلمة (تاجيك)(654/48)
قرأت فيما أنا متصفح للرسالة الغراء مقالة: (العرب) للدكتور جواد علي فرأيتها بحثاً طيباً، وتحقيقاً شاملا، يشكر عليها الدكتور شكراً جزيلا.
وانتهت بي القراءة إلى فقرة من فقرات البحث يشرح فيها الدكتور لفظة وما طرأ عليها من تغير وتطور وكيف أطلقت على العرب إلى أن قال:
(ونقل الفرس هذه الكلمة بصورة محرفة تحريفاً يلائم لغتهم فقالوا (تاجيك) وو في العهد الأخير) مستنداً إلى مصدر.
وعلى أي حال نحن واجدون ههنا مجالا للتحقيق فنقول:
يطلق الفرس هذه الألفاظ الثلاثة (تَاْجِيْكْ) و (تَاوكْ) و (تِاويْ) على المغول الذين غزوا إيران فبغداد في القرن السابع الهجري، ويطلقونها أيضاً على بعض القبائل الشمالية في إيران فيقولون: (تُرْكِ تاجِيْكْ). وأما العرب فيعرفون عند الفرس بهذي اللفظة (تِاْزِي) ومعناها حرفياً (صحراوي) إذ أن لفظة (تَاْزْ) تعنى في اللغة الفارسية الأرض القفرة الخالية. ولما اشتهر العرب بأنهم قوم (صحراويون) أطلق عليهم الفرس هذه اللفظة بعد أن أضافوا إليها ياء النسبة فقالوا (تِاْزِي) فالمصدر الذي استند عليه الدكتور خاطئ بناءً على هذا البتة.
(نجف)
ح. م. ع(654/49)
القصص
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 1 -
قرأ أربعة رجال من نزلاء مصر خبر الحفلة التي أزمع السوريون إقامتها لتكريم رئيس الوزراء الذي قدم مصر ليشترك في حفلة افتتاح جامعة الدول العربية، فطاب لكل واحد منهم مشاركة مواطنيه في هذا التكريم الدال على أن الاغتراب عن الوطن والانتساب إلى غيره لا يحدان من العاطفة الوطنية ولا يصدان عن الحدب على أبناء وطنهم الأول، بل على العكس، يوقظ حادث كهذا الكثير من خبايا الذكريات الكامنة الحبيبة إلى النفس، خصوصاً ذكريات الطفولة والمدرسة والصبى.
لعل الذين اشتركوا في حفلة تكريم الوزير السوري، كان وجدانهم يضطرب بهذا الشعور أو ما يقاربه من أحاسيس بريئة، إلا أربعة رجال أزعم أنهم اشتركوا في هذا الاحتفال بدافع يخالف تلك الدوافع، ولعلنا لو سألنا كل واحد من هؤلاء الأربعة عن السبب لعجز عن ذكره.
رأيتهم يدخلون قاعة الاحتفال واحداً إثر واحد كأنهم على ميعاد، ولاحظت أنه ما من واحد من أعضاء لجنة الاستقبال التفت إليهم أو خصهم بكلمة ترحيب.
أهرعت إليهم وحييتهم أطيب تحية وأجلستهم مجلساً حسناً.
ما كاد أولئك السادة يطمئنون في مجلسهم حتى التفت كل منهم إلى جليسه ثم صوبوا نظرهم إلى فكانت مفاجأة من أبهج مفاجآت العمر وأحلاها، وكان أبهج من ذلك وأحلى أننا نتعانق ونبكى.
كنا أصدقاء، ولعل كلمة الصداقة تعجز عن تصوير الروابط الدموية التي كونت صداقتنا، وقد فرقتنا حوادث جسام ابتدأت في مستهل هذا القرن، ولم ننج منها إلا عقب إخفاق الثورة الدرزية، ولياذنا بمصر هذا البلد الأمين.(654/50)
كنا فتياناً أغرارا يوم اقتفينا إثر زعمائنا في مناصبة الدولة العثمانية العداء، وكنا في حمأة من الضلال يوم حاربنا الإنجليز في (كوت الإمارة) وعلى ضفاف قناة السويس مع الجند العثماني جنباً إلى جنب، وكنا في غمرة من الجهل يوم اقتادونا لننتظم في جيش الخلافة نقاتل الأتراك، وكنا في جنون مطبق يوم قاتلنا الفرنسيين في (ميسلون) على أبواب دمشق، ثم لم يدركنا الرشد إلا بعيد فشل آخر ثورة دموية، وكانت جبال الدروز ميدانا لآخر قتال اشتركنا فيه بعد حرب العصابات في (غوطة) دمشق.
مرت بذهني صور تلك الحادثات، وتذكرت أياما قضيناها في السجون، تارة مجتمعين وتارة متفرقين، أما الليلة، أي بعد مضى حوالي ثلاثين عاما، فقد جمعتنا مصادفة من مصادفات المناسبات لتكريم الوزير السوري الأول: الذي ساير ولا بد حياتنا الجهادية تلك التي فتحنا عليها أذهاننا قبل أن تفتح لأنوار المعرفة عقولنا.
هل يعرفنا الوزير؟ هل نعرف الوزير؟ من من شهود هذا الحفل الحاشد يعرفنا؟!!
أسئلة ألقتها عيوننا بالنظرات، وبالنظرات أجابت عنها، فتفاهمنا كما كنا نتفاهم على تنفيذ أمر خطير مدبر! فانسللنا من مكان الاجتماع متعاقبين ليضمنا مجلس هادئ نتكلم فيه على هوانا!!
استوينا في مقاعدنا بمقهى ندخن النارجيلة ونحتسي القهوة، نتكلم عن ماضينا وكيف قطعنا مرحلة الشباب في الثورات والتشرد والمحاكمات والسجون حتى وهنت عزائمنا، وكلت هممنا فصرنا لا نصلح إلا لِعَلْك حياتنا الماضية واجترار أحداثها.
قال أحدنا: (منذ أخفقت الثورة الدرزية بسبب اختصام زعمائها على الزعامة الكبرى، وعلى استئثار كل فئة من المتحزبين بالأموال التي كانت ترد من هنا ومن هناك باسم الثورة، انسللت من بين الصفوف ولذت بمصر أداوى جراحاً حملتها أوسمة لا تصدأ ولا تمجد حاملها؟!!
فأجابه أحدهم مازحاً: (ظننت والله أنك سبقتنا إلى العالم الآخر). فرد عليه بلهجة جدية قائلا: أتحسب وفاء مني أن أرحل وأترككم هنا؟
وقال آخر: لقيت السلامة في سكنى هذا البلد الذي لم يعرفنا أهله إلا عن طريق السياسة؛ فصرت أعمل، لا عمل المطمئن المستقر، بل عمل إنسان (على سفر). وبالرغم من هذا(654/51)
القلق المعنوي، أسست تجارة، وبنيت أسرة، وتطورت ميولي الوطنية فصارت أِشبه بميول المشتاق لحبيب بعيد، واستوطنت مصر.
قال أحدهم يذكر صديقه بموقعة مع الفرنسيين وقعت لهما (برأس بعلبك)، وذكر آخر حادثة ثانية وقعت له يوم ثورة (حماه)، وذكر هذا واقعة جبال العلويين، وذاك حادثة (القنيطرة) وأخذوا يذكرون حوادث لثورات أشعلوها على الاستعمار الفرنسي.
قلت وقد كفوا عن اللغط: حقاً يا إخواني إن ذكرياتكم سجل لتاريخ حقبة من حياة سورية، وإن هاتيكم الذكريات ستبقى مكتومة في الصدور، أو مبعثرة على ألسنة الرواة، حتى تصادف مؤرخا غير مأجور على تلفيق تاريخ لسورية، والآن وقد جمعتنا المصادفة، هل لكم أن تذكروا أروع حادث وقع لكم في جهادكم وأخطر موقف وقفتموه؟
لم يدم صمتهم طويلا، فقد انبرى واحد منهم وقال:
- 2 -
لست أحسن التنميق ولا التزويق، إنما أقص الواقعة كما وقعت: أخذنا الأعداء على غرة، كانت أجنادهم في ذلك النهار عديدة، وكانوا لوفرتهم وتراصهم هدفاً لطلقات من بنادقنا لا تخطيء ولا تطيش. أخذتنا نشوة الإمعان في التقتيل، وعلى الأخص حين رأينا طرائدنا تتلوى وتتساقط. كنا نسرف في إطلاق الرصاص ونرمى رمى الواثق المطئمن، ولكني فطنت إلى نفاد ذخيرتى، وكانت صناديق الذخيرة يحملها إلينا في متاريسنا فتيان كتموا حماستهم من شدة سرورهم بالقتال والنصر. أخذت الشمس تزول وتنحدر، ولم أفطن إلى عطش أو جوع، وإنما فطنت إلى نفاد ذخيرتي، ولما التفت إلى زميل كان إلى جانبي لأستعير منه طلقات لبندقيتي، لقيته في حالة من التوتر والانفعال يعبر عنها بزغردات الظافر الناجي، ولكن نشوة الظفر تلك لم تطل إذ افتقد جعبة (الخرطوش) فإذا بجيوبه فارغة، فالتفت يطلب النجدة منى، ولم نلبث أن سمعنا خطوات إخواننا تقترب منا تطلب قذائف.
أنى لنا بذخيرة لا نعرف لها مستودعاً غير أكتافنا والصناديق ملقاة على الأرض فارغة أمامنا؟ أجمعنا على الإفلات من العدو الذي أدرك نفاد عتادنا فأخذ يتقدم بل يسرع في الدنو منا.(654/52)
عمدنا إلى خيولنا، وكانت مربوطة في غيضة تبعد قليلا عن ميدان المعركة، وما كدنا نقطع بها البقعة الكثيفة الأشجار حتى تبين أن أسراباً من جند الأعداء تسرع من ناحيتين لتطويقنا. أطلقنا الأعنة لأفراسنا التي استثارتها صيحاتنا لننجو من الرصاص المصوب إلينا من الجانبين ومن الخلف وكان يتساقط علينا كالبرد.
ليس من المغالاة في شيء أن أقول لكم يا إخواني إن الخيول تنخو ككرام الرجال، وتنتشي إذا انتصرت كطبائع الناس. إن أنس لا أنس كيف كنت أتشبث بعرف فرسي كالطفل، وكيف ألصقت صدري بالسرج، تاركا لها العنان، وكيف تمهلت ثم التفتت، ثم أطلقت صهيلا تتحدى به اللاحقين بنا، وتندد بعجزهم عن إدراكنا، وأخذت تمشى الهوينا متبخترة كالغادة الهيفاء.
زال عنا خطر إحداق أعدائنا بنا، وأخذنا نفكر أين نبيت وماذا نأكل. قال أحدنا يمازحنا، ننام حيث تنام خيولنا، ولكن هل في وسعنا أن نأكل من زادها؟!
نبه مزاح صاحبنا معدنا فأخذنا نتلمسها، وبينما نحن نلاطف معدنا الخاوية، وإذ بأزيز طيارة يملأ الفضاء. نسينا الجوع كما نسيتنا معدنا، وفى هنيهة وجيزة، وبدافع من حب البقاء عمدنا إلى خيولنا؛ فأنمناها على جوانبها متباعدات، وانبطحنا بعيدين قليلاً عنها.
عجباً لتلك الأفراس كيف أدركت الخطر الداهم فاستنامت كأنها خائفة مثلنا، وكأن حب البقاء كان رائدها أيضا!
أخذت الطيارة تهبط كأنها فوقنا وتحوم حولنا. لقد كشفنا قائدها الخبيث، رأيتها ترتفع، ثم سمعت بأذني سكوت محركاتها، وسمعت أيضاً أزيز القنبلة في سقوطها وقد أدركت هدفها.
نزلت النازلة ورأيتها رأي العين تسقط على قيد أمتار منى، أحسست أنا الذي ما آمنت قط بغير قدرة الإنسان، أن كل ذرة من وجودي تهتف بقوة وضراعة تستنجد بخالق الإنسان، وقدرت أنى ورفاقي من الموت على طرفة عين.
انقضت الثواني والدقائق. لقد تفكك في غضونها كل عضو في مفاصلي إلا ذهني فقد بقى في يقظة يرتقب الموت المحتوم حين انفجار القنبلة. . .
القنبلة لم تنفجر! لم تنفجر القنبلة لأنها صادفت أرضاً رطبة!
آه. . . يا للأسف!! صرخة صرخها أحد المنصتين، وقد خرجت من أعماق صدره، وقد(654/53)
أتبعها بقوله: (والله لو انفجرت تلك القنبلة الخائبة وجرحت فرساً من أفراسكم لجزعت عليها، ولكن الله سلم)!!!
(يتبع)
حبيب الزحلاوي(654/54)
العدد 655 - بتاريخ: 21 - 01 - 1946(/)
في الحرم
للأستاذ عباس محمود العقاد
ركبنا البحر ونحن لا نعلم على التحقيق أين نلقي صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لأن برنامج الرحلة لا يشير إلى المكان.
فمن الجائز أن يكون في جدة، لأنها الميناء الذي ينتقل منه جلالته إلى يخت المحروسة، ولجلالته قصر منيف في أراضها هو القصر المعروف بقصر خزام.
ومن الجائز أن يكون في مكة المكرمة، لأن اليخت يصل إلى جدة قبل سفر جلالته بيومين.
فإذا كان استقبال البعثة الملكية في جدة فلا عمرة ولا إحرام، وإذا كان الاستقبال في مكة المكرمة، فقد وجبت العمرة ووجب الإحرام.
ولكن كيف السبيل إلى الإحرام؟ وكيف السبيل إلى خلع المخيط في الشتاء، وإن كان الجو في مكة أدفأ من جو القاهرة بدرجات؟
إنني ألبس الصوف شتاء وصيفاً منذ خمس وعشرين سنة، وإذا صح أن (الصوفي) منسوب إلى الصوف، فليس على ظهر الأرض رجل أحق مني بهذه الصفة، فكيف سبيل إلى التحلل من هذه الصفة التي لصقت بالموصوف، فلا فكاك منها ولا فرار؟
جاءنا النبأ في عرض البحر بأن صاحب الجلالة عاهل الجزيرة العربية يستقبلنا في قصره العامر بمكة المكرمة، فنوينا الفدية، ونوى أصحابنا الإحرام، ولم يبق معي بملابسه غير الأستاذ عوض البحراوي بك وزير مصر المفوض في المملكة السعودية، لأن الإحرام لا يلزمه، وإنما يلزمه أن يطوف بالكعبة عند مغادرة مكة طواف الوداع
وقد خصصت الحكومة السعودية قصر (الكندرة) بجدة لتبديل الملابس قبل المسير إلى الحرم الشريف. وتولى الإشراف على راحة البعثة ومن معها صاحب المعالي الشيخ يوسف ياسين وزير الدولة، وصاحب العزة الأستاذ فؤاد شاكر مدير المطبوعات. فلما تهيأ أصحابنا للسفر تحرك الركب بالسيارات، فكان من نصيبي الركوب في سيارة الوزير المفوض عوض البحراوي بك، وهو رجل فاضل عرف أهل البلاد كما عرفه أهلها، فانعقدت بينه وبينهم صلات المودة والزمالة، وارتفعت بينهم الكلفة كل الارتفاع فيما عدا المراسم التي تقضي بها المعاملات الدولية، وقد عبر الطريق مرات فعلمت منه كل ما احتجت إلى علمه(655/1)
من معالمها وأحوالها، ووصلت إلى مكة بزاد غير قليل من المعرفة العملية بالحجاز.
هذه جبال مكة
وهذا جبل حراء
بلغناه بعد ساعة ونصف ساعة من السير المعتدل في السيارة، ومررنا إليه بمناظر كثيرة نرى أمثالها في بلادنا، ولاسيما بلدي الذي نشأت فيه، وأعني به أسوان: جبال وبطاح ومراع يتخللها العشب في الأودية والسفوح، وبعض الجبال يليح لنا بألوان المعادن التي يحتويها، وبعض البطاح ينم على مجاري الماء في باطنه القريب
كل ذلك مألوف نرى أمثاله حيث نشأنا على مقربة من صحراء أسوان، أما الجديد كل الجدة على النظر وعلى النفس فهو غار حراء
هو قمة مرتفعة في جبل، كأنما بنيت بناء على شكل القبة المستطيلة إلى الأعلى، ولكنها عسيرة المرتقى لا يبلغها المصعد فيها إلا من شعاب وراء شعاب
أخبرني من صعدوه أنهم كانوا يعانون شديد العناء من وعورة مرتقاه، وأن القليل من الناس يصمد في صعوده إلى نهايته العليا، حيث كان الرسول عليه السلام يتنسك ويبتهل إلى الله
والحق أن الرؤية غير السماع
والحق أن ما يلمحه الناظر في نظرة خاطفة قد يعي الكاتب بوصفه في الصحف والأسفار
والحق أننا قرأنا ما قرأنا عن الجبل وعن الغار، ثم نظرنا إليهما، فعلمنا أن القراءة قد تركت الكثير من فراغ النفس لتملأه هذه النظرة العابرة في الطريق
مررنا به عابرين كما كان سكان البلاد يمرون به غادين رائحين في غفلة عن ذلك الرجل المفرد الذي يأوي إليه ويسكن إلى غاره.
كانوا في غفلة عن ذلك الرجل المتوحد في سبيل التوحيد، كما كان العالم كله في مثل تلك الغفلة وفي مثل تلك الظلمات
ولكنها كانت ساعات يرتبط بها تاريخ أحقاب ودهور، فلما انقضت مدتها لم يبق في الأرض المعمورة غافل عن ضيف ذلك الغار، أو جاهل بآثار تلك الساعات التي كان يقضيها فيه بالليل والنهار
وحسبك نظرة واحدة إلى الجبل ومرتقاه لتحيط بعض الإحاطة بتلك النوازع المرهوبة التي(655/2)
كانت تنهض بالرسول في صباه إلى ذروة تلك القمة مرات بعد مرات وأياماً بعد أيام
كل مرة من تلك المرات تترجم لنا عن قوة تلك البواعث المحتدمة في نفسه الشريفة، وترينا كيف بلغت هذه البواعث المحتدمة أن تدفع بالعالم كله في طريق غير طريقه، وإلى غاية لم تكن له من قبل في حساب، فلولا لاعج من الشوق الإلهي ينهض بالروح والجسد نهضة لا تصبر عليها طبيعة البشر لما توالت تلك المصاعد ولا تعاقب ذلك العكوف
إن اللواعج التي حملت الرسول إلى مرتقى الغار هي السر الروحاني الذي استجاش العالم كله بعد ذلك في حركة دافقة تقتحم السدود وتخترق الأسوار والحدود
وكل أولئك كان في نشأته الأولى خاطراً في قلب الرجل وحيد يتفرد في سبيل التوحيد
وكل ذلك السيل الجارف إنما تجمع قطرات قطرات عند هذه القمة العالية
كل ذلك كان في هذا المكان
وعبرنا خاشعين مطرقين، وسكتنا لأن مهبط الوحي هنالك قد ألهمنا السكوت
مكان آخر عند الكعبة كان له في قلوبنا مثل هذا الخشوع ومثل هذا الرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد
ذلك هو موقف الدعاء الذي كان الرسول عليه السلام يختار الوقوف فيه كلما طاف بالكعبة ودعى إلى الله.
أنت هنا لا ريب في مقام قام فيه ذلك الرسول الكريم، ذلك السر السرمدي الذي تتعلق به مقادير التاريخ ومصائر الأمم وضمائر بني الإنسان، ذلك الإنسان الذي يقترن اسمه في صلوات الألوف بعد الألوف باسم خالق الكون العظيم
أنت هنا تقف حيث وقف وتدعو حيث دعا وتنظر حيث نظر وتحوم بنفسك حيث حام في اليقظة لا في المنام
قيل لنا: هنا يستجاب الدعاء
قلنا نعم: هنا أخلق مكان أن يستجاب فيه دعاء، وألهم الله كلا من الواقفين معنا أن يدعو دعاءه وأن يستجمع في الدنيا والآخرة رجاءه، وساق إلى لساني هذه الدعوة فدعوت: اللهم ناولني ما أريد لي وللناس، واجعل الخير كل الخير فيما أريد لي وللناس وما بي منحاجة في الحياة إذا استجيب هذا الدعاء(655/3)
منظر ثالث أخذني بجماله في جوار البيت الحرام، وهو منظر الحمام الآمن الوادع في ذلك المقام
لا يخشى ولا يفزع، بل يظل طوال نهاره في طواف على الأرض وطواف على الهواء
وأعجب ما سمعت ورأيت أنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادي ولا جماعات
وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره، فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور
أدب الناس في هذا المقام المهيب نعرف سره ونعرف مصدر الوحي منه إلى القلوب الآدمية
أما أدب الطير في هذا المقام فسره عند الله
وأمن الحمام يذكرني بأمن السائلين في جوار الكعبة وجوار المسجد الحرام
إنهم ليتدفعون حول الزائرين ولا يتجملون كما يتجمل الطير فيقطع بعضهم رزق بعض، ولا يدعون لمن يريد أن يعطى سبيل العطاء
وهم في أمان لا يهانون ولا يصيبهم الأذى من الشرطة في جوار البيت الذي يأمن فيه الخائفون
وحسن هذا اليم الله
حسن أن يأمن المساكين كل سطوة في حرم الأمان، وأحسن منه أن يجيئهم الوازع من القلوب والعقول لا من العصي والسياط
فإن كان في تهافت السائلين على صغائر الدنيا غضاضة، فإن في هذا الأمان لقداسة البيت العتيق، وإنه لمن القداسة أن يتعلم الإنسان كيف يجيب من يسألونه، وهو يدعو الله ويرجو أن يستجاب.
عباس محمود العقاد(655/4)
حق تقرير المصير للأهل ليبيا وبرقة
للأستاذ أحمد رمزي
في أحد شهور عام 1911، روع العالم الإسلامي والعربي، بخبر اعتداء صارخ، قامت به إيطاليا، على القطر الطرابلسي، بغير إعلان حرب وبدون مسوّغ، ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل هناك أمن وسلام، ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان، وينبه العقول لمقدمه.
وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها، واستيقظ أهل مدن طرابلس وبنغازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع وجللها المتفجرة، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم. فيا لله! عندئذ وجمت النفوس - كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئا، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران، فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.
كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب، وشعر كل منا، بأن ساعة فاصلة في حياته قد دقت، نعم كان وقع الاعتداء شاملاً، وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.
وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، لرد العدوان وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه. وأتى المجاهد أنور ومعه حفنة ممن باعوا أنفسهم في سبيل الله، وصمدت عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوسي، ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس، فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.
وانتهت الحرب بقيام حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان، فخفتت أصوات المجاهدين،(655/5)
واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا، وتسأل الناس عن المصير.
أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان، ورتل قائل بشعر قديم فقال:
أحقاً خبا من جو رُندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منزلها ذات العلا وقصورها
أحقا خليلي أن رندة أقفرت ... وأزعج عنها أهلها وعشيرتها
وهدت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
ترى للأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستبعد وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
كلا لم تدم تلك المحنة، ولم تصبر على الضيم نفوس أبت إلا أن تعيش في ظلال الكرامة والعزة، وقامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914، ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد، وغمرتها تكبيرة المجاهدين، والدعوة إلى الخلاص، وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة، التي تقاتل فيها فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.
لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنة، وعين زاره وغيرها، من التي منّ الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان، وكان ذلك إبان الحرب التركية عامي 1911 - 1912. أما أيام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان كل يوم يمر يأتي إليهم بنصر جديد من عند الله، ولم تمض 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة، واستعادوا فزّان، واقتحموا حصونهم ومعاقلهم واحداً بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة، من سود وحبش وغيرهم، وساقوا بأسلحة الطليان لقتال الطليان، وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.
وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق، وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزيز رصاصهم، وغدا الساحل تحت سيطرتهم، فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.
فهل رأيتم دفعة كهذه الدفعة، أو قوة من المستضعفين يملؤها الأيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله، عملت في القرن العشرين عملاً يشبه هذا؟ إنها(655/6)
اليم الله وقفة رائعة. . .
وانتهت الحرب العظمى الأولى سنة 1918، وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطة وأقروا إمارة برقة، ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل، وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق، كان هذا وإيطاليا تلبس لباس الديمقراطية وقتئذ.
وفي يوم من أيام موسوليني، بعد أن اغتصب الحكم في بلاده، عبث الثعلب المستأسد بمواثيق بلاده وضماناتها وقيودها، وحنث بالأيمان المأخوذة، وأثار حرباً ضروساً مهلكة، يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره، كانت تعليماته وقراراته وأوامره واضحة لا شبهه فيها، فليراجعها من يشاء، يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.
أمامنا ما كتبه فولبي عن عهده، وما أذاعه جراتزياني، وما خطه بادوليو، فليقرأ كل من يشك فيما نكتب أو تحدثه نفسه أننا ننطق عن الهوى.
وكان أمامهم شعب أبي، يرغب أن يحيا حياته على النحو الذي يريده هو، لا كما يريد الغير أن يكون عليه، قد صمم أن يعيش بغير أن تفرض عليه سيادة روما وسياطها شعب يأنف أن تبسط عليه شخصية غريبة عنه، غير الشخصية المنبثقة من روحه وإيمانه وتاريخه وكتاب الله، أمة لا ترضى بلغتها وثقافتها بديلاً ولو أعطيت الكون بأكمله، وهي لا تتراجع أن تدفع العدوان لديها من شجاعة وصبر ومجالدة.
قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة، رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده، ضُيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر، أوذي في نفسه ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا طوى مطلباً من مطالبه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.
واتبعت إيطاليا سياسة العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً، خربت المنازل وأفنت قبائل، وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جرداً.
وفي تلك الحقبة المظلمة، والعالم لا يعرف شيئاً، عن مأساة أهل ليبيا وبرقة، ظهر عمر المختار، وكلنا قد سمع عنه، وعن عراكه وكفاحه وجهاده، فسألوا أنصاره ورجاله، ينبئوكم(655/7)
عن حوادث عشرين عاماً متتالية، والحرب سجال، يوم لك، ويوم عليك.
هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة، واتخذت من أسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه، وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.
وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعلقون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، ومن القائل سلموها للروس، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان.
أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا، إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا المتحجر الجامد، ثم ما يوحيه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.
إننا نعبر عن رأيه ونقول: هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول يد الإنسان، أنه يريد أن ينعم بحدوده وبلاده وموقعه الجغرافي واستقلاله وحريته - أي بتقرير مصيره - فهو يطلب كياناً تحت الشمس، كغيره من عباد الله، شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.
فهل تجاب دعوته، وهل يحسب لتضحياته حساب، وهل يعترف بجهوده؟
أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ.
الله يشهد أن هذه الأرض فقيرة، وأن تجربة إسكان الأوربيين التي قامت بها إيطاليا لم تنجح، فهل يقنع هذا الأقطاب الثلاثة بإعادة الحق لذويه أم ترد إلى سيطرة إيطاليا أو وصايتها نيابة عن الأمم المتحدة؟
أظن أن المنطق الأولى يقول: إن الأمم العربية ومعها شعوب الأرض الحرة بأكملها، لن تقبل ولن تسلم بعودة شعب شهيد، قد ذاق مرارة الاضطهاد إلى سيطرة جلاديه.
ونحن وإن كنا لا نصدق هذا، ونجده بعيداً عن المثل العليا، التي أعلنتها الدول المتحدة، لا نر غضاضة على أنفسنا، أن نصارح الأمم التي تسيطر على الأرض ببعض الحقائق فنقول:(655/8)
إن حق أهالي هذه البلاد الشقيقة في تقرير مصيرهم لا ينازع وأن إقرار استقلال البلاد وإيجاد حكومة ديمقراطية، أمانة في يد الأمم المنتصرة، حسب وعودها المتكررة.
كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة، وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكان هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره. فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟
هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان(655/9)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
ج7ص236: حدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلاً على باب همذان فرأيت الأديب الأبيوردي راجعاً من عندهم، فقلت له: من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالاً:
ركبت ِطرفي فأذرى دمعة أسفا ... عند انصرافيَ منهم مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني فإن سنحت ... جوانح لك فاركبني إلى الناس
وجاء في الشرح: سنحت جوانح: جرى فألك باليمن.
قلت: (سنحت سوانح لك) أي خطرت على بالك خواطر أو خطرات. في التاج: سنح الرأي والشعر لي: عرض لي أو تيسر. وفي الصحاح: سنح لي رأى في كذا أي عرض.
وقد يراد بالسوانح جمع السانح، وهو ما كانت العرب في القديم تتيمن به. ومن أمثالهم: (من لي بالسانح بعد البارح) والسانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك، ومنهم من يتشاءم بالسانح ويتيمن بالبارح. . .
لم أجد هذين البيتين ومقاطيع كثيرة في (الإرشاد) وفي (الوفيات) في ديوان الأبيوردي المطبوع في بيروت سنة 1317. ولهذا الشاعر الأموي ميمية خالدة ألهمه الله إياها في (الحروب الصليبية) لم تسعد بها تلك الطبعة. ولم يذكر منها في (الإرشاد والوفيات) شيء. وقد ذكرها العلامة النويري في (نهاية الأرب) قال: (قال أبو المظفر الأبيوردي لما استولى الفرنج على البيت المقدس في سنة (492) قصيدة منها) وروى اثنين وعشرين بيتا. يقول الأموي في هذه الخالدة المخلدة:
فأيها بني الإسلام، إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة ... وعيش كنوار الخميلة ناعم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وتلك حروب من يغبْ عن غمارها ... ليسلم يقرعْ بعدها سن نادم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم والدين واهي الدعائم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضي على ذل كماه الأعاجم(655/10)
فليتهم إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبرى ... فلا عطست إلا بأجدع راغم
دعوناكم والحروب ترنو ملحة ... إلينا بألحاظ النسور القشاعم
نراقب فينا غارة عربية ... تطيل عليها الروم عض الأباهم
ج5ص233: قال: (أسامة بن مرشد بن منقذ)، في أخيه يحيى:
بالشام لي حدث وجدت بفقده ... وجدا يكاد القلب منه يذوب
فيه من البأس المهيب صواعق ... تخشى ومن ماء السماء قليب
فارقت حتى حسن صبري بعده ... وهجرت حتى النوم وهو حبيب
وجاء في الشرح: حدث أي رجل فتى.
قلت: جدت، وهم يعنون من فيه. قال الحماسي (متمم ابن نويرة):
فقال أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
وقال الحماسي (مسلم بن الوليد):
قبر بحلوان استسر ضريحه ... خطرا تقاصر دونه الأخطار
في التاج: ابن برى: ثوى أقام في قبره.
ج6ص160: ومن شعره (الجوهري صاحب الصحاح):
يا صاحب الدعوة لا تجزعن ... فكلنا أزهد من كرَّز
فالماء كالعنبر في قومس ... من عزه يجعل في الحرز
فسقِّنا ماء بلا منة ... وأنت في حل من الخبز
وجاء في الشرح: الكرَّز اللئيم الخبيث، وفي الأساس: لا أحوجك إلى كرز أي غني لئيم.
قلت: (فكلنا أزهد من كرْز) إن اللئيم لن يكون زاهدا دع عنك أمر القافية. وربما عنى الجوهري كرز بن جابر الفهري أو كرز بن أسامة العامري أو كرزا التميمي، وهم صحابيون (رضوان الله عليهم) أو كرز بن وبرة وهو تابعي (عليه رحمة الله) أو زاهدا من زهاد زمانه اسمه كرز. والكرز هو كما نقل في الشرح من الأساس، وعبارته هي (لا أحوجك الله إلى كرز) ومن معاني الكرز ما ذكر الإمام موهوب الجواليقي في كتابه (المعرب) ص280:(655/11)
الكرز البازي، وهو الرجل الحاذق، وأصله بالفارسية (كرَّه) قال ابن دريد: الكرز الطائر يحول عليه الحول من طيور الجوارح، وأصله (كره) فعرب فقيل: كرز.
ج13ص194:. . . اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلح منهما.
وجاء في الشرح: الفلح الفوز، أقول: وربما كانت الفلج أي النصر.
قلت: هي الفلج. في الأساس: فلجت على خصمك، ولمن الفلج والفلج. وفي السادسة والعشرين الحريرية وتعرف بالرقطاء: (من لف لفه فلج وغلب). والفلح يحمل من المعاني أكثر من الفوز الذي فسر به. في التاج: الفلح والفلاح الفوز بما يغتبط به وفيه صلاح الحال والنجاة والبقاء في النعيم والخير. وفي النهاية: حيَّ على الفلاح: الفلاح البقاء والفوز والظفر أي هلموا إلى سبب البقاء في الجنة والفوز بها وهو الصلاة في الجماعة.
ج8 ص41: (أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك في الحسن أحمد العطار الهمذاني):
صبرا فأيام الهموم تزول ... والدهر يعطيك المنى وينيل
لا تيئسن إذا ألم ملمة ... إن الشدائد تعتري وتحول
لا تشتعل بالعسر واطو مشمرا ... بسط الفيافي والشباب مقيل
والبس سواد الليل مرتديا به ... إن التجلد للرجال جميل
حتى تنيخ العيس في كنف العلا ... حيث التحرم بالنجي كفيل
وجاء في شرح البيت الثالث: ويريد بكون الشباب مقيلا أنه في حياة المرء كالقيلولة.
قلت: (لا تيئسن إذا تلم ملمة) في (المغنى): ويكون الفعل بعدها ماضياً كثيراً ومضارعاً دون ذلك، وقد اجتمعنا في قول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
(بسط الفيافي والشعاب مقيل) ومن طوى بسط الفيافي فالشعاب فنادقه لمنامه ومقيلة. . . والشعب بالكسر - كما في القاموس -: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن الأرض أو ما انفرج بين الجبلين.
(حيث التحرم، بالنجاح كفيل) في الأساس: وتحرم فلان بفلان إذا عاشره ومالحة، وتحرمت(655/12)
بطعامك ومجالستك أي حرم عليك مني بسببهما ما كان لك أخذه.
ج9ص8: فكتب إليه المهلبي: وصل كتابك يا أخي. . . المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء. وفهمته، ووقع ما أهديته من نظم ونثر. . . موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، والأدب من ذي الغيبة.
وجاء في الشرح: الأدب التأديب. قلت: عندي أن المهلبي قال: (والغنم من ذي الغيبة) ويعزى إلى امرئ القيس:
لقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ج5ص13:
فإن يك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كل نائبة سلم
قلت: تمثل البديع الهمذاني بالبيت في إحدى رسائله وهو من قصيدة.
والرواية هي (وإن تك حرب) في اللسان: السيرافي:. الحرب أنثى، وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير، والأعراف تأنيثها، وإنما حكاية ابن الأعرابي نادرة، في التاج: ودار الحرب بلاد المشركين الذين لا صلح بيننا معشر المسلمين وبينهم، وهو تفسير إسلامي.
ج8ص231:.
القائل القول الرفيع الذي ... يَمرع منه البلد الماحل
قلت: في القاموس: مرع الوادي مثلثة الراء مراعة ومرعا أكلأ كأمرع، وفي الصحاح: قد مرع الوادي بالضم وأمرع أي أكلأ فهو ممرع، وفي اللسان والتاج: وقيل: لم يأت مرع وقال ابن الأعرابي: أمرع المكان لا غير.
ج13ص206:
قد عزمنا على الصبوح فبادر ... قبل أن تضحي السماء المخيلة
قلت: (قبل أن تضحي السماء مخيلة) وهي الخبر. في الأساس والسماء مخيلة للمطر: متهيئة له، وقد أخالت السماء، وخيلت، وتخيلت، وخايلت، وسحابة مخايلة إذا رأيتها خلتها ماطرة.
ج15ص215:(655/13)
يصوب على العافين مزن بنانه ... فيُكبت حسادا وينبت أنعما
قلت: (فيَكبت) هناك الكبت لا الإكبات.
في الأساس: كبت الله عدوك كبه وأهلكه، ومن المجاز: فلان يكبت غيظه في جوفه. في التاج: في التنزيل (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) أصل الكبت الكبد فقلبت الدال تاء، أخذ من الكبد وهو معدن الغيظ والأحقاد فكأن الغيظ لما بلغ بهم مبلغه أصاب أكبادهم فأحرقها، ولهذا قيل للأعداء: هم سود الأكباد. وفي الكشاف في تفسير (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين): أو يكبتهم أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، ويقال: كبته بمعنى كبده بالغيظ والحرقة، وقيل في قول أبي الطيب (لأكبت حاسدا وأرِى عدوا) هو من الكبد والرئة.
قلت: يقال للأعداء: هم زرق العيون كما يقال لهم سود الأكباد. في الكشاف:
إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم، وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. . .(655/14)
على هامش النقد:
شيلوك الجديد أو قضية فلسطين
مسرحية للأستاذ باكثير
للأستاذ سيد قطب
هذه المسرحية من عمل الأستاذ (علي أحمد باكثير) صاحب مسرحيات: (مملكة السماء، والفرعون الموعود، وقصر الهودج)؛ وقصص: (سلامة القس، وا إسلاماه). . . أصدرتها (لجنة النشر للجامعيين) في سلسلتها التي بلغت إلى اليوم أربعاً وثلاثين حلقة، معظمها لأسماء شابة أبرزتها اللجنة، وكشفت عن مواهبها، وهيأت لها فرصتها للظهور، والإنتاج المفيد؛ ولعلها كانت وشيكة أن تطمر، أو أن تنتظر طويلاً حتى تنال حقها الطبيعي في الميدان الأدبي. وذلك فضل للجنة ليس باليسير.
ومسرحية (شيلوك الجديد) عمل أدبي يجيء في إبانه، ليلقي على (قضية فلسطين) في هذه الأيام ضوءاً منيراً كشافاً، وليصورها على حقيقتها التاريخية والواقعية، وليرسم الحل الناجع لها، وهو الحل الذي اهتدت إليه جامعة الدول العربية بعد شهر من ظهور المسرحية. وحسب المؤلف - وهو فرد - أن يلتقي في تفكيره مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين!
وهذه المسرحية - من الوجهة الفنية البحتة - ليست أحسن أعمال الأستاذ باكثير؛ ولكنها من الجهة الأخرى تعد أكبر عمل أدبي تصدى لقضية فلسطين منذ نشأتها إلى اليوم. . .
أنها تقرير حي عن هذه المأساة، لا يسرد القضية سرد التقريرات، بل يعرضها عرضاً حياً على المسرح، فيكشف عن حقيقة مطامع الصهيونيين في هذه البلاد المقدسة، وعن وسائلهم الخسيسة والجهنمية في تحقيق هذه المطامع، وعن نواحي الضعف التي يستغلونها في جسم الأمة العربية أفراداً وشعباً، وعن مدى مشاركة السياسة البريطانية في هذه الوسائل، وهي مشاركة كانت كلية سافرة في وقت من الأوقات، وما تزال إلى اليوم تعمل، ولكن في حذر ومن وراء ستار؛ لأن القوانين والإجراءات المالية والنظامية التي سنتها لا تزال باقية تخدم القضية الصهيونية أجل الخدمات، وتهيئ لها امتلاك الأراضي، بعد أن تضيق الخناق على(655/15)
الاقتصاد العربي، وتجعله مضطراً لأن يمد يده إلى الاقتصاد الصهيوني، أو إلى الشرك الصهيوني بتعبير أدق!
ولا تخلو المسرحية - بعد هذا - من عرض لوحات حية من المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية، والغرائز البشرية تتصارع وتتزاحم، وإن كان المؤلف - على عادته دائماً - يغلب عواطف الخير والطهر، ويمكن للأريحية والنبالة. . . وذلك نضح نفسه الطيبة على أبطاله وقصصه
وهو إذ يصور الوسائل الخسيسة العجيبة التي تلجأ إليها الصهيونية لسلب أموال العرب وشبابهم!!! ويستعرض المكايد والدسائس المحبوكة التي تستخدمها، لا يكون الأمر مجرد حوادث ودسائس تستعرض؛ ولكنه يتعمق صميم النفس اليهودية، فيبرزها (نموذجاً بشرياً) واضح السمات متميز الملامح. وهذه المواضع في المسرحية هي أجودها من الناحية الفنية. ولو أن المسرحية كلها في مستوى هذه المواضع لارتفعت إلى مستوى شكسبير، في رواية (تاجر البندقية). فطبيعة النفاذ إلى صميم الشخصية الإنسانية تكاد تتساوى في هذه المواضع المعدودة!
وأخيراً يهتدي المؤلف إلى الحل الحاسم الذي اهتدت إليه الجامعة العربية أخيراً. . . يهتدي إلى سلاح المقاطعة الحاسمة الباتة؛ التي تخنق الصهيونية في فلسطين خنقاً. وقد ذهب المؤلف إلى أبعد الحدود، ففرض تخلي العرب عن فلسطين كلها، وضرب نطاق من الحصر الاقتصادي عليها. فما لبثت الصهيونية أن اختنقت فجاءت تطلب الصفح والمغفرة، وتتخلى عن مطامعها في الوطن القومي ليرفع العرب عنها هذا الخنَّاق المميت.
ولست أشك لحظة في أن هذه المسرحية تقدم لقضية فلسطين أعظم خدمة في طوق عمل أدبي واحد أن يقدمها، بل في طوق عمل سياسي ضخم أن ينهض بها؛ ذلك أنها لا تدع (قضية فلسطين) جملة رنانة ترد في الخطب الحماسية، ثم تنقضي مناسبتها فتبرد وتتلاشى. . . إنما تحيلها حقائق ووقائع حية، وتردها أموراً عملية محسوسة، في الوقت الذي تثير الأريحية الإنسانية، وتوقظ فيه النخوة العربية، وتكشف عن الوسائل والدخائل في الصراع بين العرب والصهيونية، وتوازن بين القوى الحقيقية التي يملكها الفريقان في الميدان. . . تكشف ذلك كله كما لم يكشف من قبل أبداً.(655/16)
وأنا أحد الذين كانوا يزعمون لأنفسهم أنهم ممن يهتمون بقضية فلسطين ويتتبعون خطواتها، ويهتفون بها هتاف المتحمسين لها. . . وقد تضمن ديواني الأول منذ أكثر من عشر سنوات تحية لأبطال فلسطين جاء فيها:
عهد على الأيام ألا تهزموا ... فالنصر ينبت حيث يهراق الدم
في حيث تعتبط الدماء فأيقنوا ... أن سوف تحيوا بالدماء وتعظموا
تبغون الاستقلال؟ تلك طريقه ... ولقد أخذتم بالطريق، فيمموا
وهو الجهاد حمّيةٌ جشَّامة ... ما إن تخاف من الردى أو تحجم
إن الخلود - لمن يطيق ميسّرٌ ... فليمض طلاب الخلود ويقدموا
وطن يقسّم للدخيل هديةً ... فعلام يحجم بعد هذا محجم؟
الشرق. يا للشرق! تلك دماؤه ... والغرب. يا للغرب! يغريه الدم
الشرق. ويح الشرق! كيف تقحموا ... حرماتِه الكبرى وكيف تهجموا
غرتهمو سِنة الكرى فتوهموا ... يا للذكاء! فكيف قد غرتهمو!
سِنة ومْرت والنيام تيقضوا ... فليعلموا من نحنُ أو لا يعملوا!
أبطالَ الاستقلال. تلك تحية ... من مصر يبعثها فؤاد مفعم
إخواننا في الحال والعقبى معاً ... إخواننا فيما يلذ ويؤلم
مصر الفتاة ولن تزال فتية ... تهفو إليكم بالقلوب وتعظم
في كل مطلع وكل ثنية ... نار من الشرق الفتي ستضرم
أنا الذي زعمت لنفسي يوم نظمت هذه القصيدة، وأيام تتبعت قضية فلسطين في مراحلها المختلفة أنني ممن يعرفون هذه القضية. أشهد أن رواية (شيلوك الجديد) قد أطلعتني على أنني كنت واهماً فيما زعمت، مغالياً في حقيقة اهتمامي بهذه القضية المقدسة، فلقد كشف لي الأستاذ (باكثير) عن حقيقة وضع القضية، وحقيقة العوامل التي تتصارع فيها، بما لم يكشفه لي كل ما وصل إلى يدي عنها في خلال خمسة عشر عاماً أو تزيد.
ولكنني أختلف مع الأستاذ (باكثير) في أمر واحد. ذلك أنه يبدو في سياق الرواية وفي ختامها أنه واثق بأن هناك شيئاً اسمه (الضمير البريطاني) أو (الضمير الغربي) على وجه العموم. يبدو ذلك في فصل (المحاكمة) الذي عقده في نهاية المسرحية!(655/17)
وأنا أخشى هذه الثقة على قضية فلسطين، كما أخشاها على جميع قضايا البلاد العربية.
ليس للسياسة البريطانية ضمير. وليس للعالم الغربي شرف.
هذه هي العقيدة التي أعتقد أن من واجب كل كاتب وكل سياسي في هذه الشرق العربي أن يمكن لها في ضمير الأمة العربية بل في ضمير الشرق الذي ما نكب في تاريخه كله بمثل ما نكبته الثقة في الضمير البريطاني، وفي الشرف الغربي!
ولن ينال الشرق العربي - أو الشرق عامة - شيئاً من حقه، ولن يعرف الطريق الصحيح والوسائل المجدية لنيل هذا الحق، قبل أن ييئس اليأس الكامل من هذا الضمير البريطاني، ومن هذا الشرف الغربي. وقبل أن يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً في الصراع مع ذلك الوحش الأوربي - والأمريكي أيضاً - ذلك الوحش الناعم الملمس، واللبد على بعد ملليمتر من هذا الأديم الرقيق!
وإذا كان الشرق العربي لا يزال مبتلي إلى اليوم بجماعة من الساسة المخدوعين في حقيقة هذا الضمير الغربي عامة، فإن من واجب حملة القلم أن يكون لهم شأن غير شأن الساسة، وإلا كانوا غير جديرين بالهبة الإلهية اللدنية التي منحتها إياهم السماء.
سيد قطب(655/18)
في جذور الشجرة العربية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يعمل ساسة العرب على طريقتهم في توطيد أسس الجامعة العربية. والسياسة ليست دائماً إيمان. . . ونحن أفراد الشعوب العربية ينبغي أن يكون اندفاعنا إلى هذه الجامعة حركة ذاتية فردية مؤمنة تعمل دائبة سواء أكانت السياسة تريد ذلك أم لا تريده، وسواء أكان السياسيون متحمسين أم فاترين. فالسياسيون كثيراً ما ينقلبون ويغشون ويدمرون ما اشتركوا في بنائه حينما يهزمون في المجال الشخصي الضيق، وتتصادم المصالح الصغيرة ويزول العمل للمصلحة الكبيرة. فيجب دفعهم بأيدي الجماهير المستنيرة حتى يكونوا دائماً شاعرين بحرارة إيمانها وقوة دفعها لهم.
وفي بعض الأحيان يجتمع السياسي ورجل الدعوة والإيمان في شخصية فتسير الأمور عندئذ في أمان وتقدم، ولا يخشى عليها من النكوص والتقلب والضعف؛ لأن عناصر الإيمان والإلهام المتجدد وشبح النجاح المأمول في تلك الشخصية من شأنها أن تحول بين الحركة وبين الارتداد والضعف مهما كان من عقبات ومغريات وعوامل تثبيط.
غير أن هذا النوع القيم من السياسيين لا يوجد كل حين. فيجب العناية والاهتمام والاحتراس من العناصر السياسية المحترفة التي تصطنع السياسة للحكم وشهوة الغلبة أو السيطرة أو الخيلاء ولا تعلم من أهداف السياسة إلا ما يحقق لها ذلك. ولا يكون ذلك الاحتراس إلا في إعلان إرادة الرأي العام وإظهار أعماق شعوره وجلو أهداف إيمانه وتجديدها دائماً أمام عيونه، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الوسائل الثقافية والوجدانية التي في أيدي الكتاب والأدباء المفكرين الذين يتعمقون الأشياء ويجلون دفائنها على أعين الجماهير جلواً يستهوي ويثير.
ومن الفطنة أن نعلم أن قيام الجامعة العربية على أسس فكرية ووجدانية يجب يسبق أن قيامها على الأسس السياسية، لأن قيامها على الأسس الأولى هو من طبيعة الأشياء إذا أردنا أن نسير على قوانين النمو والتقدم والارتقاء مسترشدين الله في إنضاج الثمار.
فالقلب هو أول ما يتكون في الجنين ومنه تمتد الشرايين لتغذية الجسم الصغير الذي يتخلق منه الكائن الإنساني أو الحيواني. وكذلك عقدة البرعم التي فيها سر الشجرة ونوعها هي(655/19)
منطقة النمو في النبات.
ذلك في عالم الأحياء والمحسوسات وهو بذاته في عالم الأمر والمعاني. فيجب أن نرعاه ونعرف له حقه ونؤدي له واجبه حتى لا نضل أو تلتوي بنا السبل أو يبطئ علينا نضج الثمرات المرجوة.
ومن الملحوظ في الحركات السياسية الكبيرة التي تمت في مراحل التاريخ، أن كل حركة عظيمة كان بجوارها مفكرون يفلسفونها ويضعون لها أسساً تنهض في أعماق الضمائر والعقول فتكون الحركة مدعمة بالإيمان والاستنارة.
فالبلشفية تقوم على فكرة وفلسفة وطدها كارل ماركس ولينين، والنازية كذلك استمدت من فلسفة (نيتشه) وكان بجوارها (روزنبرج)، والحركة الاشتراكية في إنجلترا يفلسفها الأستاذ (لاسكي).
وهكذا تقوم الحركات السياسية الكبيرة دائماً على واضعي الأسس الاجتماعية في أعماق الوجدان والفكر.
والجامعة العربية لها فلسفة أو يجب أن يكون لها فلسفة ملخصة تنير طريق العربي إلى غايته وتجعل إيمانه بقوميته وحركتها السياسية إيماناً بصيراً مستنيراً. حتى إذا خاب جيل في تحقيق الأهداف أتى الجيل الذي يليه فوجد الغاية صحيحة صالحة مركزة في قضايا واضحة تستحق العمل لها فيعمل لها بحرارة واندفاع ذاتي غير ملق بالا إلى الخيبة السابقة إلا بمقدار أخذ العظة منها.
والأسس الفكرية للعربية الحديثة تلخص في أننا (الأمة الوسط) بين أمم العالم جميعه من حيث المكان واللون والفكر.
فنحن في المكان الوسط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب غير منازع ولوننا وسط بين الجميع. وقد أخذنا من بيض الشمال وصفر الشرق وسود الجنوب وحمر الغرب بحيث يأنس بنا الجميع ولا يجدون بيننا وبينهم ما يجدونه حينما يتلاقى الأبيض بالزنجي أو بالأصفر أو يتلاقى الأصفر بالزنجي أو بالأبيض وهكذا. ومادام في الأرض فلسفة سياسة ظالمة تقوم على الفروق اللونية والجنسية، فموضعنا يرشحنا أن نكون الحكم بين الجميع، لأننا نرضي الجميع إذ أننا خليط من الجميع.(655/20)
ونحن أمة الوسط في الفكر. وهذا يستلزم بسطاً في الحديث لا تفي به هذه العجالة. ولكننا نجتزئ بطرف منه: وأعني بالفكر جميع القوى العليا في العقل والروح. وقد ورثنا ذلك من كثرة التجارب والأحداث والحضارات الروحية والمادية التي مرت بنا، ففي مهود بلادنا وعلى ضفاف أنهارنا قامت أول المادية وما زالت تقوم وتدول وتنتقل على هذه الرقعة التي تسمى اليوم الشرق الأوسط. حتى انتقلت إلى الغرب على يد اليونان والرومان في حضارتهم الأولى، ثم جاء عهد النهضة الأوربية الحضارة الحالية وهي الحضارة الثانية فقط لهذه البقاع. والأولى هي حضارة الدولة الرومانية التي قامت على أسس عسكرية عنيفة ولم تتصل بالروح إلا بعد أن أخذت بـ (المسيحية) وهي وليدة الشرق أيضاً.
وعلى قمم جبالنا تعلقت قلوب أجدادنا بالسماء وبكت لله وأدركت وحدته واتصلت بها رسالات وحيه فأتت بالخير والبر والتفاؤل والاطمئنان والسمو بالإنسان وكانت للإنسانية بمثابة الأمومة المربية المسددة المرشدة.
وفي صحفنا كتب أول السطور بالقلم الهيروغليفي ثم الفينيقي الذي ابتدأ به التاريخ البشري والفكر العظيم والجهد العنيف يدون ويسجل ويختزل في تلك (القماقم) السحرية الصغيرة: الحروف والكلمات، فينتقل بذلك الفكر الإنساني إلى المرحلة الكبرى التي ترجم بها كلمات الله في الطبيعة، وبنى على أسسها علومه وآدابه إلى ما شاء الله أن يبني.
فإذا كان حاضرنا سيئاً بفعل الجهالة والجمود وعدم إدراك رسالتنا بعد أن تقسمت العرب دول غريبة عن العربية، فإن ماضينا يبعث فينا الثقة بأنفسنا وبما فيها من استعدادات كامنة.
وإن مستقبلنا ينادينا أن ننهض لوصل الماضي بالحاضر بالمستقبل حتى نؤدي دورنا المنتظر من الأمة الوسط التي ترضي حكمها أمم الأطراف التي فيها دائماً الغلو والإسراف.
عبد المنعم خلاف(655/21)
بمناسبة تعديل المناهج في سورية
أسلوب جديد في التعليم
(مهداة إلى إمام المربين ساطع بك الحصري)
للأستاذ علي الطنطاوي
لي أخ كان كلما غشى المدرسة الثانوية رق جسمه ونحل وعراه ذبول، فأعفيته منها وأبقيته في الدار سنوات ثلاثاً لم ألزمه فيها مطالعة شيء من دروس المدرسة، وإنما كنت أدله على بعض كتب الأدب والتاريخ مما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، وما تجزل فائدته وتعظم المنفعة به، فقرأ فيما قرأ تاريخ الطبري كله والأغاني. . . فلما أزف موعد امتحان الكفاءة منذ سنتين قلت له: لو دخلت هذا الامتحان مع رفاقك فلعل الله يكتب لك النجاح. فأعطاني وأستعد للامتحان شهرا واحدا ثم دخله فكان من الناجحين، على رغم أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث، وعاد إلى مثل ما كان عليه، حتى كان امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) هذه السنة، فدخله كما دخل الأول ونجح فيه أيضاً. . .
هذا النجاح الغريب دفعني إلى التفكير في الموضوع الذي أكتبه اليوم، وجعلني أسائل نفسي فأطيل سؤالها: ألا يمكن أن نسهل للطلاب هذه الدراسة؟ وإذا كانت هذه الغاية وهي شهادة الكفاءة (والصحيح أن تسمى شهادة الكفاية) تدرك بمسيرة شهر واحد في طريق سهل لاحب، فعلام نمشي إليها ثلاث سنين في طرق صعبة معوجة من ينقطع فيها أكثر ممن يبلغ أخرها؟ أليس لنا بد من أن نضيعزهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم مالا يكاد ينفعهم في حيواتهم، إذا هم خرجوا منها، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعده بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد، وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه ونعفيه من علوم يكرهها ولا يعتقد فائدتها له في حياته؟
فقالت النفس: لقد أقمت بناءك على غير أساس، وجعلت من هذه الشاذة قاعدة، وأصّلت عليها أصلا. إن أخاك هذا وإن أخذ الشهادة فليس له علم من درس يوماً بيوم، وسار على الجادة خطوة فخطوة، ولم يقفز من فوق الأسطحة ولم يتسور الجدران، وهذه العلوم كلها لازمة لا استغناء عنها، وأسلوب التعليم صالح لا داعي لتبديله.(655/22)
فرجعتني والله إلى الشك وكدت أدع الموضوع. ثم فكرت فرأيت أن لكل عمل نتيجة، ولكل مسير غاية، والغاية من المدرسة إما أن تكون الشهادة أو العلم أو الإعداد لخوض لجة الحياة والنضال عليها. أما الشهادة فلا بحث فيها لأنها عرض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها لا يصح الوقوف عليها، ولا القناعة بها؛ وهي بعد كاسمها (شهادة) قد تكون مزكاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها، وتمنح من ليس من مستحقيها. وما ينفع الفقير المفلس أن يشهد له الناس جميعاً بأنه الغنى ذو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟ أما العلم فاسألوا المتعلمين ماذا بقى لهم من دروس الثانوية، بل تعالوا أحدثكم ما جربته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي، ولقد كنت في دراستي الثانوية مجلياً دائماً أو مصلياً، ولم أكن فسكلا، ولقد اشتغلت بالتعليم الأولى والابتدائي والثانوي، الأهلي والرسمي والديني، أربع عشرة سنة، قبل أن أَلي القضاء، في مدارس الشام والعراق ولبنان، وعرفت الآلاف من الطلاب. وأقل ما أستفيده من هذا أني إذا تكلمت أتكلم عن خبرة واطلاع. أقول: إني وجدت بالتجربة أنه لم يبق عندي الآن مما أمضيت في تعلمه السنين الطوال، إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (لا الطبيعية كما يقول بعضهم. . .) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً. أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها. ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات (مثلا) لأجبت صادقاً أني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتجيب (ثمام الجيب) والمماس. لا أعرف ما هو على التحقيق، حتى موضوع العلم على وجه التحديد فقد نسيته، مع أن علامتي في السنة لتي قرأنا فيها المثلثات كانت تسعاً من عشر وكنت المجلي (الأول) في صفي (أي فصلي) أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها إلى أن فيها شيئاً اسمه (الميتان) وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولد الماء أي الهيدروجين - وقد درست جغرافية بلاد الدنيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، وكنت مع ذلك كلما سمعت باسم مدينة جديدة يأتي في أخبار الحرب أجدني أجهل مكانها، وأذهب فأسأل عنها الكتب والمصورات، أستوي في ذلك أنا ومن لم يقرأ الجغرافية قط. وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم لا يستقر في رؤوسهم إلا ما يختصون به أنفسهم، وإخلاصات موجزة، أفما كان خيرا لهم لو أقرأناهم هذه الخلاصات من الأصل؟(655/23)
ولست أقول، دعوا هذه العلوم لا تقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سر ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح، وفقد المخترع والباحث. ولو أنا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين أو ثلاثة فإذا أحسنوها شرعوا بغيرها لكان أجدى علينا. فمدارسنا إذا لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العملية هل تبلغنا إياها؟ هل تعد مدارسنا التلاميذ إعدادا جيدا للنجاح في الحياة، وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان الديني والقومي؟ الجواب مشاهد ملموس هو أن مدارسنا لا (تكاد) تخرج اليوم إلا أطباء أو محامين أو موظفين. أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين ولا ينبغي أن يتسع لهم. أما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلهم يقتنع بالكسب القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم. . . ممن لم تخرجهم المدارس بل خرجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى، ولا نستطيع أن نغلو فنقول بأن خريجي المدارس يمتازون من الناس بأخلاقهم الشخصية والاجتماعية، أو أن المدارس جعلتهم طبقة مختارة ممتازة من طبقات الشعب بل إنهم كغيرهم من الناس، منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم من هو بين ذلك!
والسبب في هذا كله أن نظام التعليم في بلادنا كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح ولكنهم لا يجرءون على هدمه من أساسه وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحي نافع. إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا من دراسة المثلثات والهندسة النظرية و (حفظ) معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء أو في تدريس الأدب أو في فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟ سيقول قائل، ومن كان يدري أنك ستكون أدبياً أو قاضياً، أفما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً؟ بلى، ولكن الدراسة العالية حددت طريقي في الحياة، فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟
هذه هي المسألة، كما يقول شكسبير. إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها(655/24)
ثقافة عامة هي بمكان المقدمة إليها والتمهيد لها، أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق مثلا، من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ أو لا يجزئه ويكيفه أن يعرف عنها الشيء المجمل المختصر؟ وطالب الطب هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفته بعلل الشعر واختلافات الكوفيين والبصريين؟. لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً من المشتقات ولا تحول التابع ولا صفات البروم، وشاهدنا أطباء كباراً استطاعوا أن يعملوا عمليات في شق البطن وفتح الجمجمة، على جهلهم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وشروط عمل اسم الفاعل.
فما العمل؟ أنا أرى، إذا كان في الدنيا من يسمع رأيي، أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه الحرام؛ ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لابد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل.
فإذا تخرج الطالب منها عرضنا عليه فروع الجامعة، فإذا اختار فرعاً منها حضرناه له في سنتين أو ثلاث، علمناه فيها ما يتصل به، فيكون في كل كلية قسم تحضيري فيه من العلوم ما يحتاجه طالبها، فيتلقاها الطالب برغبة فيها وحب لها لأنه هو الذي اختارها، ووافقت هواه، وظهر له النفع منها، وينجو بذلك من خلق شاعراً من حفظ طلاسم الرياضيات، أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو من بعد لا يحتاج إليها أبداً، ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه مع اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطاع الاستفادة منه في تقوية الأجسام بالرياضة، ومعرفة الوطن بالسياحات، والعناية بالتربية الخلقية والوطنية. . . ومن شاء بعد الاكتفاء بالدراسة الثانوية ودخول معركة الحياة لم نسلبه وقته وسلحناه بثقافة عامة يعلو بها مستوى(655/25)
السوقة وأصحاب المهن، ومن أراد التخصص فتحنا له بابه، وعجلنا له دخوله وقويناه فيه. وهذا إيجاز للاقتراح والشرح حاضر إن احتاج إليه القراء.
أما التعليم الديني فلنعد فيه إلى مثل الطريقة الأزهرية الأولى مع إصلاح يسير فيها، فقد ثبت أنها أنفع وأجدى، دنيا وأخرى، وأن تلك الثورة عليها حتى تم العدول عنها، والقضاء على الجامعة الأزهرية، كان فيها إغراق أدركناه الآن. وأنا أعرف الأزهر الجديد وأعرف كليات ثلاثاً أنشيءت على غراره في دمشق وبغداد وبيروت علمت فيها كلها، وأشهد لله شهادة حق أن الأزهر القديم كان في الجملة خيراً منها، إذ كان أهله يطلبون العلم لله وللعلم فصار أهلها يطلبون للشهادات والوظائف، وكانوا يصبرون على تلك الحواشي المطولات وإن تكن عقيمات، فصار هؤلاء لا يقرءون إلا خلاصات يجوزون بها الامتحانات. وكانوا علماء عاملين لدينهم أهل تقي وورع في سمتهم وسلوكهم، وسرهم وعلنهم، فصار بعض المدرسين واكثر التلاميذ. . . صاروا على حال من عرفها فقد عرفها ومن جهلها فلا يسأل عن الخبر.
وأنا لا أعمم ولا أطلق القول، وإنما أعني الكثرة ممن أعرف، ولعل فيمن لم أتشرف بمعرفته خيراً لم يصل إليَّ علمه ولا بلغني خبره - هذا على أن تكون المدارس الدينية بمثابة مدارس الاختصاص لا يدخلها الطالب إلا بعد أن يدرس هذه الدراسة الثانوية ويفهم علومها ويأخذ شهادتها، لأنها ثقافة عامة يحتاج إليها عالم الدين وعالم الدنيا والموظف وصاحب العمل الحرّ.
ولا بأس بعد بارتياد مناهل العلم في غير بلادنا، على أن يطلب فيها العلم المبني على المشاهدة. أما علوم الرواية وما أصوله عندنا، كعلوم العربية فلا، وهذه الحماقة التي كان أتاها الفرنسيون إذ أرسلوا شبابنا يتعلمون العربية في باريس لا يجوز أن تعاد، وحسبنا أن صلينا نحن نارها، وتجرعنا صابها، (ولا نزال نتجرعه. . .) وأن أضحكنا الناس علينا، وزدنا طلابنا على ضعفهم في لغتنا ضعفاً.
هذه كلمة صغيرة في موضوع كبير، أعرف أنها تثير مناقشات وتحتمل جدالاً، وأنها لم تلم بأطراف الموضوع ولم تستوف البحث فيه وإنما هي تنبيه إلى الفساد، ودعوة إلى إصلاح، أهديتها إلى إمام المربين ساطع بك الحصري، لأنه مرجع هذا الفن أولا، ومرجع كل أمر(655/26)
في وزارة معارف الشام ثانياً.
دمشق (المحكمة الشرعية)
علي الطنطاوي
-(655/27)
فرنسيس بيكن لألفرد فيبر
للأستاذ عبد الكريم الناصري
في إنجلترا يتلقى الإصلاح الفلسفي طابع الخلق الأنجلوسكسوني، ويتخذ وجهة تختلف كل الاختلاف عن وجهة الحركة الإيطالية. فالعقل الإنجليزي الوضعي الرصين عديم الثقة بتقاليد الفلسفة المدرسية، وبما تصل إليه الميتافيزيقا المستقلة من نتائج متسرعة. وهو يؤثر التصعيد المتدرج البطيء في طريق التجربة على النظر الإيطالي الذي يبلغ القمة بسرعة، ثم لا يلبث حتى يهن عزمه، ويفقد توازنه، فيهوى في حضيض الشك. ثم إن هذا العقل متوقف عند حقيقة واقعة، وهي أن المدرسيين لم يساهموا قط في تقدم العلوم، وأن هذه الفتوحات الفكرية إنما تحققت خارج المدرسة، بل على الرغم منها.
أجل، فإن العلوم مدينة بنجاحها لا إلى أرسطو ولا إلى أي مرجع تقليدي سواه، بل إلى التأمل المباشر في الطبيعة، والتأثير المباشر للواقع، والفهم الواقعي المشترك. صحيح أن بحاث العلم الجريئين لم يكونوا أقل مهارة في القياس والاستدلال من مناطقه المدرسة، بيد أن استدلالهم يقوم على ملاحظة الواقع.
وكانوا - من جهة أخرى - إذا بدءوا من فرض أو تصور قَبْلي، تحققوا منه بالتجربة، كما فعل كولومبس، ولم يعترفوا بصدقه حتى يظفر بهذا (التصديق) الذي لا مفر منه.
وهكذا نجدنا، من جهة، حيال فلسفة رسمية عاجزة عقيمة، ومن جهة أخرى حيال تقدم مدهش في العلوم. وكان الاستنتاج الذي فرض نفسه على العقلية الإنجليزية العملية، هو وجوب ترك التأمل القبلي والقياس المساء استعماله، والأخذ بالملاحظة والاستقراء.
وهذا الموقف الذي أعرب عنه روجر بيكن في القرن الثالث عشر هو الذي أعلنه من جديد وبشر به ودعا إليه سُّميه فرنسيس بيكن بارون فيرولام (1561 - 1626) في مؤلفاته المختلفة (شرف العلم وتقدمه) و (آلة العلوم الجديدة) وسواهما.
والمشكلة هنا هي أن نبدأ مسعى العقل كله من جديد - أن نبني العلم على أساس جديد كل الجد فإننا إذا رمنا التيقن من طبيعة الأشياء الخفية، فيجب ألا ننشدها في الصحائف والكتب، ولا في ثقات المدرسة، ولا في التصورات السابقة والأنظار القبلية. ويجب قبل كل شيء أن نقلع عن تقليد الأقدمين الذين عاق نفوذهم تقدم المعرفة. فقد كان فلاسفة(655/28)
اليونان - باستثناء ديمقريطس وبضعة وضعيين - قلما يلاحظون، وإذا لاحظوا لم يبعدوا عن السطح. وقد حذا المدرسيون حذو الأوائل فضربوا بالواقع عرض الحائط، حتى ليخيل إليك أنهم فقدوا الشعور به.
هذا، إلى أن معارفنا مليئة بسوابق الأحكام فإن لنا أوهامنا وأهواءنا و (أصنامنا) - أصنام الجنس، والكهف، والسوق، والمسرح - التي نفرضها على الطبيعة، والطبيعة منها براء. فبما أن الدائرة خط منتظم يعجبنا انتظامه، ترانا نستنتج أن أفلاك الكواكب دوائر كاملة. إنا لا نلاحظ أبداً، أو لا نلاحظ إلا أسوأ الملاحظة، فإذا نجا قوم من كارثة خمس مرات، استدللنا من ذلك على أن قوى غيبية قد تدخلت في الأمر، ولم نحسب حسابا لخمس حالات أخرى لم ينج فيها قوم آخرون، لخليق بنا أن نقول كما قال ذلك الحكيم الذي أروه في بعض المعابد ألواح نذور علقها ناس نجوا من الغرق: (ولكن أين صور الذين هلكوا من بعدما نذروا؟). إنا نفترض عللا غائية، ونفرضها على العلم، ونحمل بذلك إلى الطبيعة ما ليس يوجد إلا في الخيال.
إنا بدلا من أن نتفهم (الأشياء) نتنازع على (الألفاظ)، التي يفسرها كل امرئ كما يهوى. إنا على الدوام نخلط بين موضوعات العلم وموضوعات الدين، فلا نظفر إلا بفلسفة مشوبة بالخرافة، ولاهوت مشوب بالهرطقة: (إن الفلسفة الطبيعية لم تلف بعد خالصة غير مغشوشة؛ وإنما هي فاسدة مشوبة بالمنطق في مدرسة أرسطو، وباللاهوت الطبيعي في مدرسة أفلاطون، وبالرياضيات في مدرسة أفلاطون الثانية - مدرسة أبرقلس وأصحابه - مع أن شأن الرياضيات أن تحدد الفلسفة الطبيعية، لا أن تولدها أو تنشيءها).
ورجاء الفلسفة الوحيد في هذه الفوضى من الآراء، ومن الأنظمة القبلية يستقر في الخروج على التقاليد اليونانية والمدرسية، وفي تقبل المنهج الاستقرائي. إن ما تدعوه الفلسفة التقليدية (استقراء) يسير بالتعداد البسيط ويؤدي إلى نتائج غير يقينية، وهو معرض للخطر يأتيه من مثال واحد يناقض تلك النتائج، لأنه يبث فيها استناداً إلى عدد قليل غير كاف من الوقائع. أما الاستقراء الصحيح، منهج العلم الحديث، فإنه لا يسرع من بضع ظواهر متفرقة غير محققة إلى أعم البديهيات، بل يدرس الوقائع والجزئيات في عناية وصبر، ويرتقي إلى القوانين بالتدريج وبغير توقف. وينبغي لنا عند وضع القانون من القوانين(655/29)
العامة: أن نفحص وننظر أنه هل صيغ وفصل بحيث يتسع للأمثلة الجزئية التي استنبط منها فحسب، أم هل هو أوسع وأعم؟ فإن كانت الثانية، فينبغي أن نلاحظ أنه هل يؤيد سعته وعموميته، ويضمن لنا ذلك، بأن يشير إلى جزئيات جديدة؛ فلا نقف عند معروفاتنا السابقة، أو نقبض على ظلال وأشكال مجردة.
من الغلو في تقدير بيكن أن نعتبره خالق المنهج الاختياري والعلم الحديث؛ بل عكس ذلك هو الصحيح، فقد كان بيكن نتاجاً للأحياء العلمي في القرن السادس عشر، وليست دعوته إلا النتيجة، أو قل المغزى الذي استنبطه العقل الإنجليزي من الحركة العلمية. ولكن إذا لم يجز لنا أن نعده منشيءنا لمنهج التجريب والاختبار، فلا أقل من أن نرد إليه فضل انتشال هذا المنهج من الحضيض الذي ألقاه فيه تحامل المدرسيين وإعطائه كياناً قانونياً، إن صح التعبير، بأبلغ دفاع قيل فيه فليس بالأمر اليسير أن نجهر بما يفكر فيه الكثيرون، ولا يجرؤ أحد على أن يعترف به حتى لنفسه.
بل وأكثر من ذلك. فإن (العلم) الاختياري وطرائقه وإن كانت أنشيءت قبل عهد بيكن بزمن طويل، فأنه مع ذلك مؤسس (الفلسفة) الاختيارية، وأبو الفلسفة الوضعية الحديثة، من حيث أنه أول من أثبت، بأفصح القول وأبلغه، أن الفلسفة الحق والعلم الحق مشتركا المصالح، وأن الميتافيزيقا المستقلة عبث لا طائل وراءه. انه، وهو العدو المجاهر بعداوته للروح (الميتافيزيقية)، ليرجو قراءه بصراحة: (ألا يحسبوا أنا نطمع في إنشاء فرقة فلسفية، كاليونان القدامى أو بعض المحدثين، فما نقصد إلى ذلك، وليس من رأينا، بعد، أن الآراء المخصوصة المجردة في الطبيعة ومبادئ الأشياء ذات أهمية تذكر في حظوظ الناس). ومن هنا فهو لا يعارض أرسطو فقط، بل (كل رأي مجرد في الطبيعة)، أي كل مذهب ميتافيزيقي لا يقوم على العلم.
وأيضاً فإنه يميز بين (الفلسفة الأولى) و (الميتافيزيقا). فالفلسفة الأولى تعالج التصورات والقضايا العامة المشتركة بين العلوم الخاصة، وهي (بحسب قسمة بيكن الغريبة (المشتقة من قوى النفس الثلاث): الذاكرة والخيال والعقل) ثلاثة علوم رئيسية: (التاريخ) الذي ينتظم التاريخ المدني والتاريخ الطبيعي، و (الشعر) و (الفلسفة) التي تنقسم عنده إلى اللاهوت الطبيعي والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الإنسانية. أما (الميتافيزيقا)؛ فهي(655/30)
القسم النظري من الفلسفة الطبيعية، وهي تنظر في الصور (بالمعنى المدرسي) والعلل الغائية؛ بينا القسم العملي من الفلسفة الطبيعية - وهو (الفيزياء) بالمعنى اللائق - ينظر في الجواهر والعلل الفاعلية. على أن بيكن لا يعطي (الميتافيزيقا) كبير قيمة؛ ويبدو كأنه يتهكم حين يسمى العلل الغائية (عذارى عواقر)، ثم يخص بها هذه الصناعة. أما اللاهوت الطبيعي فهدفه الوحيد (تفنيد الإلحاد): فإن العقائد موضوعات للإيمان دون المعرفة.
إن هذا الأسلوب، أسلوب التمييز بين العلم واللاهوت، وبين الفلسفة والدين، وبين العقل والوحي؛ يضاد أساليب المدرسة على خط مستقيم. لقد وحدت المدرسية الواقعية القديمة بين الفلسفة واللاهوت. أما بيكن فإنه كالإسميين، يطلب فصلهما إلى أقصى حد ممكن. وهو يبرر كونه طبيعياً في العلم وغيبياً في اللاهوت على أساس هذا التميز المطلق. وقد حذا حذوه في تلك عدد من مفكري الإنجليز.
بيد أن المسافة ليست كبيرة بين إقصاء المغيب عن ميدان العلم، وبين إنكاره وإبطاله: فإن توماس هوبز - من أصدقاء بيكن - يقول بضرب من المادية لا تكاد (محافظته) السياسية تفلح في تغطيته وإخفائه.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(655/31)
ذكريات عن أستاذي:
أمبرتو ريتشي 1879 - 1945
للأستاذ مصطفى القوني
(أمبرتو ريتشي الاقتصادي الإيطالي ذو الشهرة العالمية.
أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة روما، وأحد مؤسسي معهد
الزراعة الدولي. وأستاذ المالية العامة بجامعة فؤاد الأول، بين
سنتي 1928، 1940. وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة
اسطنبول بين سنتي 1942، 1945 كان ماراً بمصر، عائداً
من تركيا إلى بلاده، وكان مريضاً وبقى في سرير المرض
أسابيع ومات في القاهرة 30 يناير 1946 ودفن في أرضها).
أعود اليوم بالذاكرة إلى عشر سنين مضت، إلى يوم رأيت أستاذي (أمبرتو ريتشى) لأول مرة، في أول درس حضرته عليه. كنا في مقاعدنا ننتظر. وما هي إلا لحظات حتى أقبل وئيد الخطى، ممتلئ الجسم، قصير القامة، كبير الهامة. وجه أسمر فيه من سمات الشرق أكثر مما فيه من سمات الغرب، ولحية قصيرة فيها من البياض أكثر مما فيها من السواد، وعينان تطرفان وراء منظار سميك، وتنمان عما أضاع صاحبهما من نورهما في جريه وراء نور المعرفة، وكأنما كان عليه ألا يستبدل نوراً إلا بنور؛ ورجل لو رأيته، دون أن تعرفه، لما ترددت في أن تسائل من حولك: من يكون هذا (العالم)؟ هذا هو أستاذنا (أمبرتو ريتشي).
بدأ يعرض علينا موضوع العلم الذي جئنا نأخذه عنه عرضاً سريعاً، وانتهى درسه الأول. وبدا لي أن ليس في كلامه من جديد. وسرت إليه، ونحن خروج من قاعة الدرس، واندفعت أقول له: (لقد درست هذا العلم من قبل، ولست أدري ماذا علي أن أصنع في عامي هذا) قال متسائلاً: (درسته؟ وتعرفه كله؟) قلت: (حق المعرفة) فنظر إليَّ نظرة فيها كثير من(655/32)
العطف وفيها كثير من الإشفاق وقال: (اسمع يا بني! إن لي نحواً من ثلاثين عاماً، لا أكاد أذكر أن يوماً منها قد مر دون أن أفكر أو أقرأ أو أكتب شيئاً في هذا العلم الذي تقول إنك تحيط به. ومع ذلك. . . فإني لا أظن أني أستطيع أن أقول ما تقول).
ومرت الأيام، وتوالت دروس أستاذي ريتشى، وتوالت عنايته بي: فكان يختار لي ما أقرأ، ويسألني فيما قرأت، ويفتح لي آفاقاً جديدة للتفكير والتأمل. وبدأ نطاق العلم ينفرج أمامي، وبدأ طريقه يتشعب، هذا الطريق الذي كان يبدو لي، فيما مضى واضح المعالم بين الحدود. وتزداد صلتي بأستاذي، مع الأيام، ويرى ما أنا فيه من حيرة، ولكنه لا يقول لي عن ذلك شيئاً. ويقارب العام نهايته، ونحن نسير يوماً، وإذا هو يقف ويسألني باسماً: (هل تذكر ما قلت لي بعد درسي الأول؟ ألا تزال تظن أنك تعرف موضوع علمنا كله؟) فخجلت مما كان من اعتدادي بنفسي وقلت له: (لست أدري ماذا جرى. ولكن الذي أدريه هو أني أحس وكأني لم أعد أعرف شيئاً). فضحك وقال: (إني الآن سعيد. لقد أخذت بيدك إلى أول الطريق. لقد بدأت تعرف. إنه حق ذلك المثل الذي يقول، لو عرف الإنسان أنه جاهل لكان هذا قدراً غير قليل من المعرفة. ولكني لست أدري هل تحمد لي ذلك في مستقبل أيامك، أم سوف يساورك الشك أحياناً، وأنت تضرب في هذا الوادي، وادي المعرفة، الشبيه بوادي التيه، فتسأل نفسك: ما الفائدة؟ ما الفائدة من كل ما أضعت من أيام شبابي في الضرب في هذا الطريق الذي لا ينتهي؟).
وإنه ليعبر الطريق ذات يوم فتكاد سيارة تدهمه فيقص على الخبر. وكنت أعلم أنه لم يكن، في ذلك الحين، زوجاً ولا أبا، وأنه لا تربطه بدنياه هذه الروابط التي كنت أظن أنها هي كل ما يفرغ الناس من الموت فقلت له: (كنت أعتقد أنك لا تخاف الموت) ففكر قليلاً ثم قال: (ألا تدري أن بين يدي كتابين لما أتمهما. لو أني انتهيت منهما لكان سيان عندي أن أموت أو ألا أموت).
وتمر السنون وأزداد معرفة بأستاذي، فأرى كيف رفعه علمه إلى حيث لا حدود ولا قيود، إلى حيث يحس جوهر الأشياء الذي يستتر وراء مختلف الصور: صور المذاهب والأوطان والأجناس، التي لا ينفذ إلى ما وراءها إحساس عامة الناس. لقد كان (عالما). والعلم قبس من نور الله، لا شرقي ولا غربي.(655/33)
لقد طالما تمنيت أن أعود فألقى أستاذي يوماً ما، بعد غيبته عن مصر خمس سنين طوال، فأحدثه عما أصنع بأيامي وعما تصنع بي الأيام. ولكنه يفد إلى القاهرة، فلا أراه على فرط ما كنت أتمنى أن أراه، ثم هو يمرض ويموت دون أن أعلم من الأمر كله شيئاً، ودون أن أستطيع، الآن، شيئاً سوى مثل هذه الكلمات.
مصطفى القوني(655/34)
في الأدب الإنجليزي
ماثيو أرنولد
للأستاذ خيري حماد
- 4 -
آراؤه في التربية:
عندما انتخب أرنولد لمنصب مفتش المعارف قامت هناك معارضة قوية من قبل رجال الدين. فقد كان هنالك اتفاق بين الحكومة والكنيسة يقضى بانتخاب أحد رجال طائفة الاكليروس لشغل هذا المنصب العظيم. ولذا لم يكن من المستطاع انتدابه للتفتيش على مدارس الكنيسة؛ بل اقتصرت مهمته على زيارة مدارس الحكومة والمدارس الأهلية.
وكان من واجبه مراقبة زمرة المفتشين لأن الحكومة وضعته رئيساً عليهم. وعندما كانت الحكومة تقصد تشريع قوانين جديدة وأنظمة حديثة لإدارة المدارس كانوا يستشيرونه ويسيرون على ضوء آرائه ونظرياته. ومن أمثلة هذه القوانين الخاصة مشكلة تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس؛ فكانت لمدة خلت موضوعاً اختيارياً مثله كمثل الدروس الأخرى، كعلم الجغرافية والعلوم الابتدائية الأخرى. ولكن أرنولد حبذ تعليمها كدرس يجبر جميع الطلاب على تعلمه ودرسه فقد اعتبر كل نظام للتعلم العام ناقصاً إذا لم يبذل اهتماماً كبيراً نحو لغة البلاد كشرط أساسي في تعلم العلوم الأخرى.
وكانت الطريقة الرئيسية التي يعتمد عليها في تنفيذ آرائه، ووضعها موضع التجلة والاعتبار هي تقاريره السنوية التي كان يقرؤها نفر قليل من أفراد المجتمع الإنكليزي. وهذه التقارير تتضمن آراء قيمة ملذة في بعض المواضع الطريفة. وقد استنار خلفاؤه بهذه التقارير؛ فأصبحت طريقتهم واضحة وعملهم سهلاً لا يحتاج إلى كثير صعوبة وإجهاد.
(وقد اهتم أرنولد اهتماماً عظيماً في إدخال بعض العلوم الأولية التي يحتاج إليها الطالب كثيراً في حياته العملية المقبلة فهي تهيئه لقبول جميع النظريات والتعاليم التي جاء بها العلم الحديث. ومع أن علم الحساب والكتابة والهجاء ضرورية جداً للطلاب إلا أنها لا تتعدى(655/35)
حدود الكماليات بالنسبة إلى تهيئ الإنسان لما يقبله من العلوم في حياته المستقبلة. فمقدرة القراءة لا تجعل من الفرد قادراً على تحضير المواد التي يحتاج إليها في حياته المقبلة).
نصح أرنولد الطلاب بمطالعة الكتب التي تستحق القراءة. وفي رأيه أن دراسة الآداب من أهم العوامل التي يحتاج إليها الطلبة في حياتهم. فهي تساعد في تنمية ذوق الطلبة وقوة حكمهم وخاصة إذا حفظوا قطعاً من الشعر يحتاجون إليها في تغذية أرواحهم والترفيه عن أنفسهم. واعتقد أرنولد بأهمية دراسة قواعد اللغة في المدارس ودافع عن نظريته هذه بقوله: (إني لأعلق أهمية كبرى على دراسة قواعد اللغة في المدارس لمساعدتها الأطفال في التفكير وأشغال الناحية العقلية أكثر مما يحدثه علم الحساب؛ فهي تعلم الإنسان قواعد المنطق والمجادلة لأنها تختص بالكلمات المحدودة لا بالأرقام والحسابات.
فالإعراب من أهم محتويات هذا العلم ولا يصعب على الطلبة دراسته قط إذا كان تعليمه بطريقة دقيقة منظمة. وقوة التحليل في اللغة الإنكليزية تجعل من السهولة في مكان عظيم على الطلبة أن يطلعوا على القواعد بكل سهولة بدلاً من تعليمهم إياها بتلك الطرق العقيمة القديمة، التي كانوا يجرون فيها مجرى اللغات الجامدة. ويسرني جداً أن أرى الأساتذة يعتنون بالطريقة التحليلية الحديثة في تدريس علم اللغة).
وكان الناس يعتقدون أن اللغات اليونانية، واللاتينية والفرنسية لا تخرج عن كونها دراسات ثانوية يقوم بها المتقدمون في الثقافة والعلم. ولكن هذه الفكرة لم تكن لتتفق مع مذهب أرنولد في التربية والتعليم. فقد آمن بوجوب تدريس مبادئ هذه اللغات أو إحداها على الأقل في المدارس الابتدائية. وهذا الأساس يفيد جميع الطلبة الذين يقصدون الالتحاق بالكليات العالية والجامعات.
وأما الطلبة الآخرون الذين لا تساعدهم ظروفهم على متابعة دراستهم فإن هذا الاطلاع ينفعهم في تفهم الحقيقة الراهنة. وهي أن هنالك لغات غير لغتهم وعلوماً غير علومهم.
وزيادة على ذلك فقد ارتأى أرنولد أن دراسة الرياضيات وعلم الفسيولوجيا والجغرافية الطبيعية والنبات هي من أشد الأخطاء التي يرتكبونها في نظام المدارس الابتدائية. فإن من الحماقة تعليم الأطفال اصطلاحات علمية لا يتفهمونها ولا تستطيع أدمغتهم الفتية وقبولها وإساغتها.(655/36)
وأما الأساتذة فيجب أن يتوخى في انتخابهم مقدرتهم العلمية وميلهم إلى المطالعة ومتابعة الدرس، وقد كتب في أحد تقاريره: (إن الأستاذ الذي يستطيع أن يخلق في طلبته الميل لتوسيع أدمغتهم ليتحسن منه أن يزيد في معلوماته ومعرفته. وكلما استطاع أن يجعل آراءه العلمية واضحة أمكنه أن يجعل طلابه أكثر وضوحاً واتساعاً. وكم كان يسره أن يرى أحد الأساتذة الذين اشتغلوا معه يتابعون دروسهم في إحدى الجامعات.
وكنتيجة للجدل الديني الذي قام في عصره شعر أرنولد بفقدان الشعور الديني في تلامذته؛ ولذلك فكر في تدريس التوراة في الصفوف الابتدائية لمعالجة هذه الحالة. ولتنفيذ هذه الفكرة وضع أرنولد كتابا جمع فيه الفصول السبعة والعشرين الأخيرة من إنجيل أشعيا وشرحها شرحاً يمكن طلابه من فهمها حق الفهم.
وكان أرنولد يميل إلى النظام التربوي المتبع في المدارس الفرنسية مع انتقاده إياها بعض انتقادات لا تخرج عن جادة الصواب؛ فلا يوجد هنالك توافق وتعاون بين مختلف درجات العلم والتعليم. ولذلك فإن نظام المدارس الداخلية لم يكن مقنعاً. فإن العريف الذي كان يعد مسؤولاً عن سلوك الطلبة وأخلاقهم لم يكن في الحقيقة إلا واحداً منهم لا يسره أن ينم عن رفاقه أو يشي بهم.
وقد أعجب أرنولد بقلة النفقات التي يدفعها الطالب الألماني لمتابعة دروسه. فكان هنالك في بروسيا سلم تعليمي يمكن للطالب النابه ارتقاءه درجة إثر أخرى حتى يصل إلى القمة. وهذا النظام كان في رأيه أحسن نظام عرفته أوربا منذ القدم؛ فكان يجمع إلى الحرية الإنكليزية نظام الفرنسيين.
أما الجامعة فيجب أن تشمل ثلاثة فروع مختلفة، الأول منها فرع التعليم العادي الذي يمكن لجميع الطلبة على اختلاف مراتبهم العلمية مزاولته والاستماع إلى محاضراته الكثيرة في أي وقت شاءوا. والثاني يشتمل على بعض الدروس الليلية التي تعطى رجال الأعمال أو الموظفين الحكوميين الذين لا يمكنهم حضور الدروس النهارية. والفرع الثالث هو فرع المراسلة الذي يضم إليه جميع الطلبة الذين لا تمكنهم ظروفهم من الحضور إلى المدينة والاستماع إلى المحاضرات.
فلسفة الدينية:(655/37)
اعتقد غلادستون أن أرنولد قد جمع إلى الديانة المسيحية فكرة الإخلاص والتكريس المقدس بطريقة لا يمكن لأصدقائه وأعدائه على حد سواء تفهمها وحل غوامضها. وأما بول فقد كتب عنه قائلا: (إن أرنولد وضع لنفسه هدفاً منطقياً معقولا ولكن تعابيره الجميلة كانت موانع هامة أمام تقدمه ونجاحه).
لم يكن نقد أرنولد للتوراة نقدا قويا ولم يكن بحثه فيها بحثاً ناضجاً قيماً. وكتابة: (القديس بولس والبروتستنتية) لم يكن كتاباً دينياً حقيقيا. لكنه يخرج فيه على قواعد المسيحية الموروثة، وعلى الكنيسة المتحدة أيضا. فكان يؤمن بالمعجزات ويقف موقف الشك من شخصية الإله. فلم تكن عقائد الآخرين لتؤثر عليه أي أثر مهما كان ضئيلا.
أما كتابه (الأدب والعقائد) فيفوق سابقه بروعته وقوة أسره. فهو جد مشبع بالعواطف الدينية المختلفة مما جعله أداة فعالة في إعلاء الأخلاق وترقية أمرها. ويبحث هذا الكتاب في المسائل الدينية بحثاً جدياً منطقيا. فيبرهن بشتى الطرق على أن الديانة الحالية قد أفسدت التعاليم الجميلة الكثيرة التي جاء بها السيد المسيح منذ القدم.
وكانت رغبته تنحصر في منح الناس الحرية الكافية لتمييز الأشياء وتمحيصها. فقد رأى بعينيه التقلب والتطور الذي أخذ يدب دبيبه في روح الدين وتعاليمه فلم يستطيع احتمال ذلك. أصبح الناس لا يؤمنون بالمعجزات ولا بوحي التوراة؛ وقد خالف علماء الدين إلا بقوله إن التوراة كتاب أدبي أكثر منه كتاباً علمياً. وليس من واجب الدين إلا أن يهتم بالأخلاق التي تكون ثلاث أرباع الحياة الإنسانية. وصدق الديانة يجب أن يدعم بالتجارب العملية أكثر من الحقائق الفلسفية والأخلاقية. وخلاصة القول فقد عرف الديانة بقوله إنها الأخلاق تحفزها العاطفة والإخلاص.
أما إيمانه بالله فكان يختلف عن عقائد أهل عصره فلم يعتقد بشخصية الإله وأنه شخص له صفات تخالف صفات البشر؛ بل قال بأنه القوة السرمدية الأبدية التي تسيطر على هذا الكون. وتظهر لنا عقيدته هذه من جميع الفقرات التي اقتبسها من التوراة وسجلها في كتاباته فكان يغير لفظة الرب بلفظة الخالد.
والإيمان يجب أن يشمل جميع ما جاء به العهد الجديد وإلا فلا حاجة للناس بالإيمان ببعض أجزائه ونكران البعض الآخر. وأما عقيدة الاعتراف فيجب أن لا توضع بمنزلة عقيدة(655/38)
المعمودية، وإذا كان الناس لا يعتقدون الاعتقاد التام بجميع ما جاء في التوراة وبصدق الرواية والزمان والمكان كان إيمانهم بالسيد المسيح أشبه بالخرافات والأمور الخيالية.
أما ثالث كتبه الدينية فهو كتاب (مقالات في الكنيسة والديانة). ويبحث هذا المؤلف في وصف أحد المطارنة الملقب بمطران بتلر فهو يقول عنه (إن هذا المطران لم يعترف بوجود الإله فحسب؛ بل بوجود الحياة المستقبلية، وقد عرض للناس دوافع خطأ الإنسان وأغلاطه بطريقة دقيقة لا تقبل الشك والنكران. والعقل هو الحاكم الوحيد الذي يلجأ إليه الإنسان في فهم دقائق الأمور وخفاياها فهو الأداة الوحيدة التي يمكننا بواسطتها تفهم جميع العقائد حتى وجود الإله وحقيقته).
وفي مقدمة هذا الكتاب نرى أرنولد يوضح عقائده بشكل جذاب فهو يقول: (إني لأعتقد بخلود الديانة المسيحية نظراً لصدقها وصراحتها الطبيعيين. وإن هؤلاء الناس الذين اعتقدوا تخلصهم من حملها والإيمان بها تبعا للعقائد الزائفة التي بشر بها الكثيرون من رجال الدين سيرجعون إليها مرة ثانية ويدرسونها درساً أوفى، واشد دقة وتفهما). فكان يؤمن ببعث روح جديدة تطهر الديانة مما لحق بها من الأدران والأوساخ. وهذه الفكرة السامية تجاه الديانة المسيحية لتظهر لنا جلياً في فقرة ثانية كتبها حيث يقول: (إن الكنيسة يجب أن تعتبر كمؤسسة وطنية تسعى إلى إعلاء شأن الوطن ورفع كلمته. فمن واجب الناس على اختلاف طبقاتهم أن يتمنوا لها التقدم واطراد النجاح.
والهدف الوحيد الذي سعى إليه أرنولد في جميع مؤلفاته هذه وخاصة كتابه (الأدب والعقائد) كان لاسترداد التوراة مكانتها القديمة وإعلاء شأنها بين طبقة العامة الملحدة. وهذا الهدف كان سامياً في حد ذاته، ولذا فإن تحقيقه كان من السهولة بمكان عظيم. وقد أشبهت كتاباته هذه من نواح عدة مؤلفات الكردينال نيومن الكاتب الإنكليزي الشهير. فعرف أن الشك في المعجزات يقود الناس حتما إلى إنكار جميع الحقائق السماوية.
رأى أرنولد جمهرة المتعلمين من قومه يخرجون عن عقائد التوراة وأحكامها فحاول إرجاعها إلى قلوبهم بإقناعهم إن مكانتها في عقول الناس يجب أن لا تبنى على أساس المعجزات التي جاء بها أو على العقائد التي استخلصها الكاثوليك والكلفنيون من ثناياها بل إلى أدبها السامي وإلى روح النشاط والحماسة التي يبعثها السلوك الحسن والتضحية وحب(655/39)
الإنسانية.
فالديانة في رأيه لم تكن إلا الأخلاق تبعثها العاطفة وطهارة النفس، والرجل الورع هو الكريم الخلق الحسن الشيم. واندفاعه هذا في طريق الإخلاص يجب أن يكون ناتجاً عن عقيدة راسخة هي عقيدة العاطفة والميل. أما إذا كان الرجل مضطراً إلى اتباع سنن الأخلاق وتعاليمها فهو ليس بخير كريم. إذ أن الرجل الكامل، هو من كان مندفعاً برغبته وميوله لا تحت تأثير الطاعة والخنوع.
يتبع
خيري حماد(655/40)
عاهل الجزيرة في وادي النيل
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
حادٍ من البيدِ هزَّتني قوافله ... والنيلُ يصغي إليه أو يساجله
يلقى الغناء حجازياً فتحسبهُ ... تهجُّد الفجر أوَّابٌ يواصلهُ
أصْغت له مصر، فاهتاجت سرائرُها ... وللديارِ هوى تهفُو شواغله!
معلَّم كيف يُشجى الريح! كيف لها ... تعيدُ تسبيح (داودٍ) فواصِلهُ!
وكيف تخطفُ سحر الشمس نغمته ... فينتهي كل ما قصته (بابلهُ)
وكيف بالجبل الراسي مزامرهُ ... تشجيه حتى يريد الخطو كاهله
خرت لموكبه الوديان ساجدة ... إن الصحاري أذان، وهو قائله!
وللجزيرة وحيٌ في قياثِرهِ ... كادت تضيءُ به الدنيا أنامله
مهد النبوات أرض النور موطنه ... وفي مزار الهدى قامت منازله
سارٍ يهاب الضحى أنوار خطواته ... ويعلمُ الفجر أن الركبَ حاملهُ
وتسمع الطير عنه، وهي شاردة ... فإن دنا سرْبها قرَّت بلابله
حَبُّ، وماءٌ، وأعشاش، وأمنُ حِمى ... فيه الغريب أخٌ، والضيف أهلهُ
سألته: لمن الركبان سائرة؟ ... وللكريم اهتزاز إذ تسائله!
فقال إني من الشرق الذي سطعت ... ونورت منه للدنيا رسائله
من بقعة عَمدُ الإسلام في يدها ... سواعد الدهر يعييها تطاوله!
مشى الرسول عليها فاغتدت حرما ... يجرد النفس للتسبيح داخله
وشع منها كتاب الله، فهي حمى ... لابد يسجد قبل الخطو نازله
بني عليها، وشاد الملك معتلياً ... على المهابة، سيف عز حامله
عرش (الجزيرة) مركوز بقبضته ... وفوق خدَّيه أجرى البأس عاهله!
تلألأت منه فوق النيل زاخرة ... رُؤى جبينٍ أضاءته فضائلهُ
نورُ الشهادة تُبديهِ أسرَّتهُ ... وهالةُ المجد تُضفيها حمائله
وحوله من سماءِ البيد شارقةٌ ... من البداوة تذكها شمائله
عطر النبوات نضَّاح على يده ... كأنَّ خلداً زكَتْ فيه خمائله(655/41)
وفوق عينيه للتوحيد بارقة ... شعَّتْ ضياءً بما تطوي دخائله:
شهادتانِ هما للرُّوح مرفأه ... فيها منارُ الهدى، فيها مشاعله!
البيرقُ الأخضر الرفراف ضمهما ... هدْياً، نوراً، لمن زاغت دلائله!
(الله أكبر) في الشَّطين هاتفة ... كطير مكة إذ هاجتْ زِوِاجلهُ
رأيته وضفاف النيل تحمله ... والنيل يهتز للأبطال ساحله
في موكب تُفرح الإسلام عزَّته ... وتلفتُ الشرق للماضي مخايله!
وتدهش الدهر إرهاباً بضجَّتها ... ما خلَّفته على الوادي جلاجلهُ
ملكان في مفرق الدنيا ضياؤهما ... عالي الركاب، رحيب الخطو، جائله
قاما على عزةٍ للشرقِ شامخةٍ ... وموردٍ للعُلا فاضت مناهله
كان شعاعين للأيام في زمن ... كانت تَغطُّ على ليلٍ مجاهله
هذا على جبهة الصحراء صولجه ... يفني الجبال إذا هبَّت تصاوله
عالٍ مع الشمس، طواف بسيرتها ... على الوجود نَداه أو جحافله!
وذاك تسحرُ كبرُ الخلد هيبته ... بما بني لِبَنى الدنيا أوائله
على مَحارب من نهر ومن شجرٍ ... أسحاره قانتاتٌ أو أصائله
كم كَبرت لأذان الفجر نخلته! ... وسبَّحت بهوى الباري سنابله!
يا سائران على نور، وخلفهما ... قلب من الشرق تضنيه مشاغله
مُراً عليه بسحر في أكُفِّكُما ... داني التَّداوي، قريب البُرء، عاجلهُ
براحةٍ في حواشيها وصفحتها ... طبُّ الشعوب حَفي النور مائله
مازال (رضْوَى) يناجيها ويذكرُها ... عهداً إلى أبد الدنيا
روته للشرق كثبان مهللة ... وسطرته مواثيقاً جنادله
عهداً من الحب هز الطود فارتجزت ... به الخيام، وغنته قبائله!
ليث البوادي وحاميها وسيدها ... تاريخ سيفك إنشاد تواصله
ضممتها وعصبت البأس في يدها ... وكنت غيثاً تغاديها سوابله
تعلقت بك حين الركب قال: هلا ... وأوشكت بخطى النجوى تناقله
وحين يممت كاد البحر لجته ... تغدو بساط فلاً، غنت قوافله!(655/42)
ركبت بيضاء بالأرواح دارعة ... جنان مصر لها تهفو بلابله
أحبابك ارتقبوها منذ ما سبحت ... (فاروق) والنيل والوادي وآهله
جرى النسيم سعودياً بجنته ... وللرياض هفت شوقاً هوادله
(عبد العزيز) إليك الحب، يدفعه ... واد ترفف بالبشرى خمائله
حيتك منه سماء شاركته هوى ... بالغيث يفتر في الشطآن وابله
تحية البيد ساق الله فرحتها ... على يديك بشيراً أنت حامله
حار العباد أنجديُّ هواؤهم ... والقطر والريح أنسام تزايله
أم أنها فرحة الإسلام سار بها ... ركب المليكين في شوق يعالجه؟!
عبير يثرب تذكيه مطارفه ... وخيلة العُرب تحكيها صواهله
هذا أذان العلا يا شرق! فاتحة ... يراع منها غوى القلب غافلة!
ضيف الجزيرة، لا وصفاً ولا حلما ... جِنان مصر جنان أنت نازله!
أخوك (فاروق) راعيها وعاهلها ... وأنت فيها أخ طابت منازله!!
أواخر الخريف
(فيك اختفى سر الربيع كما اختفى ... في جنح أمسية جناح صباح)
للأستاذ أدوار حنا سعد
طير مروعة وخفق رياح ... وخمائل مهجورة الأدواح
صفراء عاطلة تجرد عطفها ... من ورد منطقة وزهر وشاح
طاف التجهم والذبول على الربى ... بعد الربيع الناضر الممراح
فرنت لماضيها الوضئ وأسبلت ... تبكيه أنوارا وطيب نفاح
تهتز راعشة وتذرف دمعها ... ورقا ينوح على رحاب الساح
يزجيه خفاق الرياح كساحر ... تزجي لديه مواكب الأشباح
وعلى الأصيل حلى سحاب أبيض ... متناثر متموج سباح
فكأنه زمر القطيع تفرقت ... ما بين أودية وبين بطاح
وكأنه بيض الزوارق هومت ... أرخت أعنتها يد الملاح(655/43)
فإذا تواكب جمعهن وركمت ... سود الغمائم في وضيء نواح
غالت بقيات النهار وغيبت ... من ضوئه المترفق الوضاح
كخريف آلامي وليل مواجدي ... وغيومهن وسيلها المجتاح
حجبت ضيائي واستباحت نغمتي ... وطحت بزهر مطامعي وطماحي
أقبلت تغني الزرع كي يحيا به ... وببذره زرع بعيد رواح
إن كنت شردت الطيور فإنما ... ليزدننا في العود سحر نواح
أو كنت حجبت الربيع وخمره ... فلكي تعتق من شهي الراح
وتزيد من سحر الأزاهر والسنا ... وجنى الرياض وهتفة الصداح
فيك اختفى سر الربيع كما اختفى ... في جنح أمسية جناح صباح
فرحة الحب
للشاعر حسين محمود البشبيشي
ما بال ثغرك ضاحك البسمات ... ما بال قلبك راقص النبضات
قد كنت والأحزان في ليل الأسى ... تسري وحيداً حائر النظرات
واليوم من أحياك؟ من بثّ المنى ... في جانبيك وضيئة القسمات
من ذا الذي أجرى الحياة خواطراً ... تنساب من عينيك مؤتلقات
فكأن فيض شعاعها أنشودة ... أبدّية الأصداء والنغمات
وكأن قلبك نغمة سكري الهوى ... من خمرها الروحي والكاسات
وكأن روحك ومضة أنوارها ... فتن الجمال وفرحة النشوات
ماذا بقلبك؟. . . أي سرٍّ لم يزل ... ينساب في جنبيه كالنسمات
. . الحب! ما أحلى الحياة إذا جرت ... أيامها نشوى من الصبوات
لمح الفؤاد جمالها. . . فسعى لها ... شوقاً يذيب الروح في الدعوات
وجري النشيد منغما بغرامه ... ثملاً من البسمات واللفتات
وشدا فطار القلب من أضلاعه ... نغماً يبث الحبِ في الصدحات!
ومضى يحلق في سماء غرامها ... لهفان مشتعلاً من اللهفات(655/44)
في كل صبح باسم اللمحات ... يرنو وفي عينيه شوق عاتي
ويكاد يهتف في الطريق متى؟ متى؟ ... يا صبح تقبل فتنتي وحياتي
حتى إذا ابتسم الطريق وأشرقت ... جنباته من رقة الخطوات
وهفا الفؤادُ يكاد يسبقني إلى ... محبوبتي ليبوح بالحرقات!
أسرعت والأشواق تصرخ في دمي ... والحب في عيني وفي نبراتي
وهتفت. . ما أحلى صباحك يا منى ... نفسي ويا قلبي وسرّ حياتي
وأكاد من فرط الغرام أغار من ... قلبي ومن عيني ومن خطراتي(655/45)
البريد الأدبي
فضيحة. . . فمن المسئول؟!
ليس لها اسم إلا (الفضيحة)، وقد وقعت مع الأسف في استقبال العاهل
العربي العظيم، الذي تهيأت مصر لاستقباله بما لم تستقبل به أحداً من
قبل. . . فمن يا ترى هو المسئول؟
لقد وددت أن أسكت حتى تنتهي الزيارة الكريمة، ولكني خفت أن تتهم مصر في ذوقها في حين أنها بريئة، وأنها (عملة) ذهن عامي كليل. ولا بد أن كثيراً من الضيوف الكرام قد لحظ هذه (الفضحية)، فمن حق مصر أن أبرئها من (عملة) هذا الذهن العامي الكليل!
في مصر شعراء والحمد لله - فلم تعقم بعد - وشعور هؤلاء الشعراء فياض بالحماسة والحب والتكريم للعاهل العظيم. . . ولكن ذهناً عامياً كليلاً في محطة الإذاعة، أو في غيرها، أراد أن يختار قطعة تغنيها مطربة الشرق العربي (أم كلثوم)، فلم يجد أن شعور مصر الدافق كله يستطيع أن ينشيء قطعة مناسبة لهذا الغرض الكريم، فبحث وبحث حتى وجد قطعة للمرحوم شوقي بك (قيلت في مناسبة المولد النبوي الشريف)، فاختار أن تغنيها لتحي بها الملك العظيم.
ولكن القطعة - وهي في مناسبة خاصة - لا تحوي نصاً صريحاً يتفق مع المناسبة الحاضرة. . . وهنا يتفتق ذلك الذهن العامي الكليل عن حيلة طريفة. . . يستدعي شاعراً معاصراً هو الأستاذ محمد الأسمر لينظم أبياتاً تلصق بأبيات (شوقي)، وتفي بهذا الغرض الجديد!
يا للذكاء!! أيجرؤ ذلك الذهن العامي على اتهام الشعراء المعاصرين أجمعين بأنهم لا يستطيعون الوفاء بمناسبة حاضرة كريمة تهز شعورهم وشعور المصريين أجمعين؟
وإذا كان قد قدر عليه المقدر (كما يقولون في العامية)، ولجأ إلى شعر قديم يستوحيه؛ فإما أن يجده وافياً بالغرض، وإما أن ينصرف عنه، بغير هذا الترقيع الذي لا أدري كيف أسميه!
وتشاء المصادفات أن تمضي (الفضيحة) إلى نهايتها، فتأتي الرقعة الجديدة - على غير(655/46)
مألوف الشاعر الذي قبل القيام بهذه المهمة العجيبة ركيكة مهلهلة ضعيفة، لا تتسق مع الأبيات الأصلية معنى ولا مبنى!
ثم يأتي التلحين رديئاً إلى الحد الذي يقضي على الصوت الغني الرخيم، فلا يكاد يبين!
من المسئول عن هذه الفضيحة؟ وهل يصلح مثل هذا الذهن العامي الكليل للأشراف على مثل هذه البرامج الخاصة بمناسبة عظيمة لا تعرض كل حين؟!
سؤال يوجهه الأدب والذوق والكياسة للمسئولين!
سيد قطب
الأستاذ النشاشيبي في مصر:
قدم القاهرة إمام العربية الأستاذ المحقق محمد إسعاف النشاشيبي وتبوأ الصدر من مجلسه المشهود في الكنتنتال، فأقبل عليه عارفو فضله وعشاق أدبه يرحبون به ويستفيدون منه. فأهلاً وسهلاً بحجة الإسلام وعمدة الأدب.
في قصيدة الغزالي:
نبهني إلى ما نشرته (الرسالة) الغراء في عددها رقم 652 تحت هذا العنوان الصديق الفاضل ثروت أباظة، وهو يواسيني في غمرة الأسى على والدي - ندّى الله مضجعة بفيض رحمته ورضوانه - ثم عاد - أمتعه الله بأبيه - فأثار هذا الموضوع بعد أن رجعت إلى عملي في مصر، فتذاكرنا معاً ما بقي بذهني من علمي العروض والقافية، أيام دراستي في الأزهر ودار العلوم.
والأستاذ رضوان يذكر أن صاحب (الشافي في علمي العروض والقوافي) قسم السناد، ثم مثل لسناد التأسيس بهذا البيت:
يا دار مية أسلمي ثم أسلمي ... فخندف هامة هذا العالم
فإهمال ألف التأسيس مشاهد في كلمة (أسلمي)، ويوافقني الأستاذ على أن البيتين المشار إليهما في قصيدتي ليسا من قبيل هذا البيت. والمثال كما يقولون مصدر القاعدة.
وفي بريد الرسالة الأدبي كلمة لكاتب فاضل يخطئ فيها الأستاذ رضوان ويذكر أن في البيتين سناد الإشباع لا سناد التأسيس فما رأي الأستاذ رضوان؟ إني لأرجو أن ينفي ما(655/47)
ذهب إليه صاحبه، كما نفي صاحبه ما ذهب إليه وبذلك يخرج البيتان في عافية.
وأحب أن أهمس في أذن الأديبين الناقدين أن كلمة (الخطأ) التي وردت في نقدهما فيها كثير من التجوّز، فلم يقل أحد من العروضيين إن هذا أو ذاك خطأ، ولكنه على حد تعبيرهم (خلاف الأولى).
وإني لأشكر للأديبين غيرتهما، وحينما أرزق سعة النفس والوقت أعدهما ببحث مستقل أستعرض فيه سنن الشعر العربي في مختلف عصوره لدفع هذا الزعم الذي يدفع الناقد لمثل هذه اللفتات.
والشعر مصدر ما وضعه العروضيون من قواعد، ويا ويل الشاعر من العروضيين
أحمد عبد المجيد الغزالي
1 - شعر حماد:
جاء في المقالة الخامسة من مقالات (حماد الراوية) العدد (651) عند الكلام على انتحال حماد (وإنما الذي به النحل لا الانتحال) أن شعره (يميل إلى الغثاثة والركة، ولم يبلغ من الجودة ما بلغه شعراء الجاهلية حتى تختلط أشعاره بأشعارهم). وجعل ذلك أحد أوجه ذكرها لأبطال روايات مشهورات عن ثقات، واستدل عليه:
1 - بنقل أبيات لحماد استهدى بها جبة من بعض الرؤساء. أولها (إن لي حاجة فرأيك فيها).
2 - بضبطه (فرأيك) بالرفع والتحشية عليها بأن حماداً (يريد أن يقول: فما رأيك فيها).
3 - بنقل أبيات جزلة منسوبة إلى حماد والإشارة إلى أن قائل تلك لا يقول هذه.
وأنا أقول:
1 - إن أبيات حماد في استهداء الجبة، ليست غثة ولا ركيكة بل هي أبيات بليغة. والبلاغة وضع الكلام في موضعه ومطابقته لما تقتضيه الحال، وتلك الحال لا تقتضي إلا مثل هذه الأبيات، ولو ساقها جاهلية فخمة غريبة اللفظ بدوية الأسلوب، لكانت باردة غثة، لأن لكل مقام مقالاً.
2 - أما (فرأيك) فالخطأ في ضبطها، جر على حماد عارها وإنه لبريء منه، وإنما هي(655/48)
(فرأيك) بالنصب. وهذه من قبيل (زناه فحده) التي كنا تكلمنا عنها. . .
3 - أما إن الذي يقول الشعر الخفيف الفكه في موضعه، لا يقول الشعر الجزل في موضعه، فغير صحيح، وهذا بشار يقول (ربابة ربة البيت) الأبيات وما تمنعه أن يقول (إذا ما غضبنا. . .) وبينهما أكثر مما بين قطعتي حماد، وشوقي صاحب المعجزة البيانية (قم في فم الدنيا وحي الأزهرا) هو صاحب (الحيوان خلق له عليك حق) وناظم (تلك) الأنشودة لجمعية الشبان المسلمين سنة 1929.
وما شاعر في الدنيا، ولا كاتب ولا متكلم يهزل كما يجد، ويقول لصديقه مؤنسا ما يقول لعدوه هاجيا، ويتغزل بأسلوب الفخر، ويخطب يوم المعمعة بمثل ما يناغى به الحبيب ليلة اللقاء، ويرقص وليده بمثل أراجيز العجاج، وهذا أبو نواس في خمرياته غيره في طردياته، والرصافي في أخلاقياته، أين منه الرصافي في مجونياته، ولولا أن هذا أمر قد فرغ من تقريره نقاد العرب والافرانج من زمن طويل، لسردت مثالا عليه من شعر كل شاعر!
2 - سادة الكتاب:
هذه حاشية على العمود الثاني، من الصفحة (1418) من الرسالة (652):
وأنا أقول: إن سادة الكتاب (عندي) خمسة: هم الذري وهمم القمم، وإن كثرت من دونهم الهضاب والجبال: الجاحظ في الأدب، وأبو حيان في الفكر، والغزالي. في التحليل النفسي وابن عربي (محي الدين) في التصوف، وابن خلدون في الاجتماع هؤلاء الأئمة المجتهدون، وأما الآخرون فأكثرهم مقلدون. وأستاذنا النشاشيبي أوسع منى علما، وأصح حكما.
3 - بين قوسين:
لتفهم كلمتي في بريد الرسالة (1418) ضع كلمة (عنوانه) في السطر الثاني بين قوسين، لأنها جاءت للتفسير لا للتقرير.
علي الطنطاوي
سناد التأسيس:(655/49)
في العدد (652) من أعداد الرسالة خطأ الأستاذ محمد محمود رضوان بيتي الشاعر أحمد عبد المجيد الغزالي وهما:
كأن به في حلة الملك رافلا ... يخب بدنيا ليس يدنو لها مدى
عوالم هذا العصر أنت وسعتها ... بفنك لم تعجز لسانا ولا يدي
وقال إن الخطأ فيما يسمعه العروضيون (سناد التأسيس).
والحقيقة غير ما قال الأستاذ الناقد إذ أن (سناد التأسيس) في البيتين السابق ذكرهما موجود وإنما الخطأ في (سناد الإشباع) كما يقول أهل العروض، وليس في (سناد التأسيس) كما قال الأستاذ المفضال.
فحركة الدخيل في الأبيات كلها بالخفض، إلا في البيتين المنقودين فإنها جاءت بالفتح، وذلك ما يسمونه سناد الإشباع.
ومنى على الناقد والمنقود تحية وسلام
عدنان أسعد
حول سجون بغداد:
أرجو، أن يتفضل من كان لديه أخبار تتعلق بسجون بغداد وما يتصل بها - لم أذكرها في مقالاتي التي نشرت في هذه المجلة - فينشرها في هذا البريد الأدبي، وله مني الشكر سلفاً.
صلاح الدين المنجد(655/50)
القصص
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 2 -
حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي.
كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقي مشاكسة من زملائي الفرنسيين، وتعالياً على الضبط (العربي) فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف، نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين) ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائما في وجه أولئك القادحين فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً (لزميلينا الضابط الكيس والخلصاء الذين عرفناهم من السوريين) فكان أولئك الضباط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط، نضر الله وجهه، يدافع عن حق السوريين وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط وأخبار رجال السياسة البعيدين عن مواطن الخطر، وأخبار إخواننا المهاجرين تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من الأجنبي المستعمر.
عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن، وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلو مترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الفرنسيين الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة.
في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار لنقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال، بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه،(655/51)
ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقفت في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها.
لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة هي التي تنفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، لا رجالا مثلنا من لحم ودم.
أخذت الشمس تميل إلى الغروب، ولم يتقدم العدو خطوة إلى الأمام، ولم يتبين له أآدميون يقاتلونه، أم مردة وشياطين يصبون عليه الموت، وبينما نحن في هذا الموقف ترفرف فوقنا أجنحة الشعور بالظفر على العدو وإفساد خططه، وإذا بصوت من الخلف يناديني باسمي مقرونا بصفة حبيبة إلى قلبي (يا صديقي العزيز، لا تظن أني أغتالك غدراً بل أقتلك دفاعاً عن قومي وشرفي العسكري) وصوب بندقيته وسددها.
يكفي أن أقول لكم يا إخواني إن خمس بندقيات صوبت في لحظة واحدة إلى صدر (صديقي العزيز) وإلى من مكان معه من ضباط، وأن رصاصتي كانت الأسبق إلى قلبه.
بكيت ذلك الصديق، وما برحت أبكي سجاياه وشمائله، لأنه إنسان مهذب.
سأل واحد من المستمعين بتلهف عن مصير تلك الموقعة فأجاب المتحدث بصوت تخنقه العبرة الجامدة، (لقد تولى رفاقي إدارتها بنجاح حتى ارتد العدو أما أنا فقد واريت قتيلي التراب).
من يراقب أولئك الأصدقاء يؤلفون دائرة في وسطها نرجيلات نكركر، وأنفاس تطلق في الهواء، يحس بأن لا فارق بين المتحدث والسامع في اعتصار أحداثه من قرارة نفسه، وأن الكلمات المهموسة تبلغ مكمن الضمير وحنايا الوجدان.
- 4 -
أحدثكم أيها الرفاق عن حادثين متناقضين يسبقان أحداث الثورات الداخلية، لعلي أعيد بهما نضرة الحياة إلى وجوهكم وقد فنيت فيها البشاشة وغاضت مياهها.
وحكايتي لابد لها من مقدمة أقرر لكم فيها، أن المبادئ التي يصطنعها أصحاب الأغراض الوطنية ويتخذها الشبان مثلا عليا، ليست إلا سطورا مسجاة في صدورنا، أو جثثا مدفونة(655/52)
فيها، قيمتها في الثرثرة عنها، وهي على وجه التمثيل كالبخور الذي يطلقه المشعوذ، أما تنفيذ المبادئ والعمل للمثل العليا، أو العمل على الأقل، في حيز غير عنها، فليس في وسع الرجل أو الشعب الذي قضى عليه بأن يكون محكوماً، ولا راد لقضاء القوة عليه؟!!
ولبيان ذلك أقول: ألفنا نحن الطلاب العرب، أيام كنا نطلب العلم في الأستانة، جمعية اتخذنا لها القانون الذي قننه لنا أصحاب المثل العليا في الوطنية والقومية، وأقسمنا بالله وبالشرف والوطن على تنفيذه بسلاحنا ودمائنا.
ساقتنا الدولة العلية التي كنا نعمل للخلاص منها، والإعتاق من عبوديتها، إلى محاربة دولة غربية كنا نؤمن آنذاك أن لا سبيل لنيل استقلالنا الوطني، وتحقيق آمالنا القومية العربية، إلا بمساعدتها إيانا.
وقفت ورفاقي نتحسس المبادئ المدفونة في صدورنا، وإذا الأوامر العليا تستحثنا على التقدم والقتال، وشعرنا بأن قوة جارفة من حديد ونار تجرفنا من الوراء إلى الأمام.
حاربنا، أجل لقد حاربنا من قال زعماؤنا عنهم إنهم عدتنا للاستقلال، وقاتلنا قتال المجاهدين في صفوف من قالوا لنا إنهم أعداء استقلال وطننا وقوميتنا!!!
لقد أنستنا الحرب إنسانيتنا وردتنا إلى أصولنا المتوحشة. كنت في بداية الحرب، وقد خفت ميدان القتال، لا تفارقني الأشباح المرعبة، والخيالات المزعجة لشخوص من كنت أراهم يسقطون بضربة سيف، أو بطلقة مسدس أطلقها من دون وعي، وما عتَّمت أن تأكسدت مشاعري فصرت كالجزار ينحر الكبش وهو يكبّر.
صدرت إلينا الأوامر من القيادة بأن نحتفظ بمواقفنا مهما كلفنا الأمر، وبأن نعمل على التقدم مهما باهظ الثمن. كانت المدافع تدوي، والقذائف تحفر فجوات في الفضاء فتكظم بزخمها نفس من يدنو من طريقها العريض، وبرغم ذلك كنا كالمناجذ نتقدم فنحفر حفرة تتحول في وقت قصير إلى خندق يقينا ويلات المدافع الرشاشة.
لم نكن نحفل بمن يستشهد منا، أو يجرح فيتلوى كالطفل الممغوص، بل كان همنا أن نتقدم وأن نقي أنفسنا، ونحتفظ بمراكزنا، كأن في ذلك منجاة لنا من موت يحوم فوقنا.
يا لله يا أصدقائي من نزعة حب البقاء كيف تدفع إلى الموت حباً للحياة، كان الوجود بأكمله في ناحية، وكنت أنا وحدي في الناحية الأخرى، فلو فني الوجود بمن عليه وبقيت أنا(655/53)
وحدي لكنت الوجود بتمامه وكماله، ولم أكن أفكر ساعة الموقعة إلا في شيء واحد هو (أنا).
لا أدري كيف لم تغب شمس ذلك النهار، لأن الجو كان مناراً بآلاف من ومضات المدافع وشرار البنادق فكان من مجموعها يتألف نور وضاء ساعد على مواصلة القتال.
لم يكن الزاد ينقصنا، وأكوام الذخيرة تطمئننا على أن في وسعنا الدفاع عن أنفسنا حباً في البقاء.
أين الراحة؟ كيف السبيل إليها والموقعة ما برحت تتطلب الدماء!! لقد ارتوت هاتيك البطاح بدماء المتقاتلين فلمن منهم تنبت الإصلاح يا ترى؟ كنا نتقدم تارة ونتراجع أخرى، هذه هي الحرب السجال ولكن متى تنتهي الموقعة أو تخمد نارها؟
انبلج الفجر، وأشرقت الشمس، وأقبل الليل الثاني!! لم أعد أحس بحماس للحياة، ولا بدافع إلى البقاء، إنما أنا في حاجة إلى النوم، إلى نوم عميق طويل ينقدني من نفسي، إلى هروب من هذه النفس التي تحوطها عناية الله، وينزل بها بلاء الإنسان.
يا للشيطان!! هل هناك تناقض بين غايتين غاية الله في الحياة وغاية الإنسان في إزهاق الحياة؟
ألقيت بجسمي في حفرة من هذه الحفر التي شققناها بمعاولنا وأظافرنا فصارت خنادق طويلة عميقة، ألقيت مسدسي كأن لم يعد لي حاجة إليه ونمت.
كم ساعة قطع النوم من عمري؟ لا أدري!! أقسم لكم يا إخواني أن لو اتصل نومي بالأبدية لما قلت إلا أنه الراحة الكبرى. . . ولكني استيقظت. لقد أيقظتني مياه غمرت الخندق وقد بلغ ارتفاعها فمي، وقد أخذت امتصها مع التنفس وكدت أختنق من الغصّة. نهضت كالكلب المبلول، أنفض جسمي والسعال يكاد يخنقني وكنت أرتعد من البرد، وإذا بجماعة من الجند يصوبون فوهات بنادقهم إلى صدري، سمعت منها رطانة تنبهني إلى أني أسير.
عرفت بعد إذ بلغت مكان الاعتقال من زملائي الأسرى الذين جاءوا بعدى أننا لم نخسر تلك الموقعة، ولم نفقد مراكزنا الأمامية، ولكن حين شعر الأعداء بإعيائنا وبحاجتنا إلى الراحة، خففوا ضغطهم علينا، وعند ما طلبنا الراحة مستسلمين للنوم، حوّلوا مجرى مياه النهر نحونا فغمرت خنادقنا وأغرقتها، فغطس فيها من غطس غرقاً، ونجا من الموت من(655/54)
أفاق من النوم وداهمته قناصة الأعداء ليلقي منهم الأسر كما لقيته أنا. ومن العجب العجاب أن حكومة الدولة التي أسرتني، بعثت بي إلى ميدان حرب جديد أقاتل فيه مع إخواني من كنا نقاتل في صفوفهم!! والفرق بين الدولتين أن العثمانيين ضنوا علينا بالاستقلال وأن الإنجليز وعدونا به فصدقنا وعدهم!!! والأغرب من هذا، أني بينما كنت أحارب الأتراك بسلاح من الإنجليز معار إلى الدولة العربية التي ارتجلتها السياسة ارتجالا، التقيت عفواً بأخي الضابط يحافظ على الخط الحديدي الحجازي الذي انتدبت لنسفه بالديناميت؛ وقد ساعدني على إتمام مهمتي وعاد هو ورجاله معي لا كأسرى حرب بل كجنود بالجيش العربي، جيش الخلافة العربي.
(يتبع)
حبيب الزحلاوي(655/55)
العدد 656 - بتاريخ: 28 - 01 - 1946(/)
بين شيخ وشاب:
حوار سياسي
في مجلس من مجالس الرأي يندوا إليه صحابة من أحرار الفكر قد اطمأنوا في حياتهم الوديعة إلى قسمة القدر بعد أن اضطربوا في المكاسب، وتقلبوا في المناصب، وتمرسوا بالأمور، وبلغوا غاية المقدور لهم من مطالب العيش ومآرب النفس؛ فهم يمثلون الرأي الصريح، ويستعملون المنطق الخالص، ويرفعون أنفسهم فوق الأوضاع والأطماع والسياسة، فلا تقيدهم وظيفة، ولا تعبّدهم شهوة، ولا يقودهم حزب؛ في هذا المجلس تستعرض كل ليلة أخبار اليوم وأقوال القوم، فتوزن بالميزان القسط، وتنقد بالنظر الثاقب، فلا يورد خير أو قول إلا حاكمه رأي، ولا رأي إلا هاجمه اعتراض، ولا اعتراض إلا ساوره شبهة.
وأكثر السامرين في هذا المجلس من الكنتيين، فكثيراً ما تسمع كنت وكنت، وقليلاً ما تسمع سأكون وأكون؛ لذلك كان التشاؤم الذي تقتضيه ذكرى الماضي، غالباً فيه على التفاؤل الذي يستوحيه رجاء المستقبل! والشباب الذين يختلفون إليه يهولهم منه عرى الحقيقة وجفاء الواقع، فيستحبون عليهما توشية الأحلام وتزوير المنى، ليستديموا لأنفسهم بواعث النشاط وحوافز الأمل.
وفي إحدى الجلسات الأخيرة جرى بين شاب من هؤلاء وشيخ من أولئك هذا الحوار نسوقه إليك على سرده تصويراً لروح هذا المجلس:
الشاب: وما ذنبنا في هذا الضعف الذي نعانيه؟ أيستطيع قصير القامة أن يطول، ورخو العظام أن يصلب؟.
الشيخ: أما الضعف الناشئ عن قلة العدد وضيق الرقعة فلا حيلة لنا فيه؛ وأما الضعف الناشئ من سوء الخلق وقلة العلم فلا عذر لنا منه. والناس يقومون بالأرواح لا بالأجساد، ويقدّرون بالصفات لا بالأعداد. فلو كان الشرقيون قد بلغوا ما بلغ الغربيون من المدنية والثقافة، لاستحيا هؤلاء أن يعاملوهم كما يعاملون الأرقاء، وأن يساوموهم كما يساومون الأشياء!
الشاب: وهل يمنعنا هذا الضعف العارض من أن نطلب الحق ونغضب له ونفاوض فيه؟(656/1)
الشيخ: وهل تطلب حقك من غاصبيه إلا بإحدى وسيلتين: وسيلة القوة وليس لك جيش، ووسيلة المنطق وليس عندك ساسة؟. إن طلب الحق على هذه الحال استجداء؛ والمستجدى يسأل ولا يفاوض، ويقبل ولا يعارض!
الشاب: إن الضعيف يستطيع أن يخدش إذا لم يستطع أن يبطش. والخدش في وجه القوى عيب يهمه ألا يكون.
على أن القوة ستحققها الجامعة العربية. ومن حبات الرمل يكون الجبل، ومن قطرات المطر يكون النهر. واستعباد العروبة المتحدة عسير؛ وازدراد الكتلة الضخمة أعسر. ومتى تيسرت القوة للقادة، تيسرت الحجة للساسة.
الشيخ: إن الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره. ولو كان (أيدن) يخشاها لما أوحاها. والعبرة ليست بالعدد كما قلت لك؛ فإن في الهند وفي جزر الهند كمية، ولكن في إنجلترا وهولندا كيفية. وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور!
على أن العرب تيقظوا متأخرين. تيقظوا في عصر الذرة، ولو أنهم استيقظوا في عصر الفحم لوجدوا مسافة تخلفهم عن الغربيين فيه تبلغ قرناً أو تزيد.
الشاب: وماذا يضير لو كانت الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره ما دام يومها لغدنا وأمرها بيدنا وقوتها بنا وخيرها لنا؟ وهل يقدح في ملكيتك لبيتك أو يمنع من انتفاعك به أن يعاونك صديق على بنائه ليستند إلى جداره، أو يفئ إلى ظله وهو في الطريق إلى داره؟
على أن الإنجليز أكيس من أن يناصبوا العرب العداء، فإن البلاد العربية إذا عادتهم يكون موقعها من ملكوتهم موقع الغصة في الحلق والخثرة في الدم، هذه تقف القلب وتلك تكظم النفس. وما كان أيسر الغصة وأهون الخثرة لولا أنهما اعترضتا طريق الحياة! ونشوب العظم في حلقك يؤذيك وقد يرديك، ولكنك لا تتخلص منه بالرصاص إلا إذا تخلصت من نفسك!
ذلك إلى أن الخلاف بين الدول العظمى على استعمار الشرق يقبض عنان كل دولة عن الافتيات بالأمر والجنوح إلى القوة. ولو صح أن روسيا وفرنسا تسيران وحيّاً في طريق الكشف عن القنبلة الذرية، لكان من أمل الأمم الضعيفة أن تجداها حتى يصبح التهديد بها(656/2)
عبثاً لا يجدي ولغواً لا يفيد!
الشيخ: أوافقك على أن موقع البلاد العربية يملك على إنجلترا الحياة والموت، وأن الخلاف بين الدول المستعمرة يفوّت على كل منها الانفراد بالرأي والحكم، وأن شيوع الطاقة الذرية يُبطل الركون إلى القوة في تسويغ العدوان والظلم؛ ولكن مَنْ مِن الساسة الذين تراهم اليوم يتبوءون كراسي الحكم في دول العروبة يستطيع أن يستغل هذه الأسباب لفائدة مصر ومنفعة العرب؟ إن أكثرهم يحترفون السياسة من غير أداة ولا آلة. وإن وثوب من يثب منهم إلى الحكم أو بقاءه فيه، إنما يعتمد على ذرائع غير طبيعية ليس منها على كل حال براعة الذهن ولا نبالة الغرض ولا إرادة الشعب. وأمثال هذه (الكفايات) التي أقامتها المصادفات والحظوظ على إسناد من الدعاية والخداع والتملق والتفريق والمحاباة والتساهل لا يمكنها أن تزاول الإصلاح لأنها صنيعه الفساد، ولا أن تصاول القوة لأنها وليدة الضعف، فقصارى أمرها أن تصانع ولا تصنع، وتقول ولا تعمل، وتدور ولا تسير. وما دام الرجل الذي يخلقه الله للإصلاح ويرسله بالهدى ويؤيده بالخلق، لا يزال وراء الغيب، فإن الأمل في وحدة العرب ونهضة الشرق يظل أوهن من حبال الهباء وأبعد من أشباح الوهم! وإني لأجيل النظر والفكر وأتقصاهما في الأفق الغائم البعيد فلا أتبين لظهور هذا الرجل المنتظر شرطاً ولا علامة.
الشاب: أراك أسقطت الشباب من حسابك، كأنهم غير أحرياء بحمل الشعلة وهم ثمار جهد طويل بذلته الأمة في تنشئتهم وتثقيفهم؛ فهل كانت الشهادات المختلفة الدرجات والغايات، والألقاب الممنوحة من المعاهد والجامعات، دلائل على الجهالة وعناوين للأمية؟
الشيخ: إن الأبناء أشبه بآبائهم من الليلة بالليلة. وإن الدار والمدرسة على حالهما الحاضرة لتعجزان عن تخريج طبقة من الشباب يخرج منها ذلك الرجل الموعود الذي تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمع شعوره، ويدرك نقصه لأنه محتلي عقله، ويملك قياده لأنه مظهر إرادته؛ ثم يرتفع بسمو نفسه ونزاهة هواه عن أوزار الناس وأقذار الأرض، فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه أرفع من العداوة، ولا يحابى لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي(656/3)
يقوده!
الشاب: إنك يا سيدي تسرف في التشاؤم لأنك شيخ!
الشيخ: وإنك يا بني تسرف في التفاؤل لأنك شاب. ولعل الحق أن يكون بيني وبينك!
أحمد حسن الزيات(656/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 24 -
ج14 ص 84: قال (علي بن عيسى الرّبَعي: أخرج إليََّ عضد الدولة بيده مجلداً بآدم مبطناً بديباج أخضر مذهباً مفصولاً بالذهب بخط أحسنَ، فيه شعر مدبّر وحسن ليس له معنى، فقال لي كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت: شعر مدبّر والذي قال خرب البيت، مسود الوجه. ثم يمضي على ذلك زمان ودخلت إليه، فأومأ إلى خادم وقال له: أمض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضى وجاء بالمجلد بعينه، وهو هو، فأبلست، فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي فقلت: حسناً جيداً.
قلت: (بخط حسن أو محسّن).
(فيه شعرُ مدْبِر ليس له معنى) أو (شعرُ مُدْبِرُ)
(فقلت شعر مدبر والذي قاله خرب البيت).
ومدبر متأخر متخلف، والأدبار نقيض الإقبال وأدبر أمر القوم: ولى لفساد كما في اللسان.
ويظهر من خبر رواه أبو البركات الأنباري في (نزهة الالباء في طبقات الأدباء) ص415 أن الربعي كان يستعمل هذا الوصف - أعني مدبرا - لكل ضعيف متأخر في صناعته، قال:
كان (الربعي) مبتلى بقتل الكلاب، فيحكى أنه اجتمع هو وأبو الفتح بن جنى يمشيان في موضع، فاجتازا على باب خربة، فرأى فيها كلباً، فقال لأبن جني: قف على الباب، ودخل فلما رآه الكلب يريد أن يقتله هرب، ولم يقدر ابن جني على منعه، فقال له الربعي: ويلك يا ابن جني! مدبر في النحو، ومدبر في قتل الكلاب. . .
قلت: قول الربعي لأبن جني - وهو يداعبه - مدبر في النحو - طرفة الطرف، ويا ليت أنه قال مدبر في التصريف حتى يجئ كلامه أعجوبة. . .
في يتيمة الدهر للثعالبي:
كان (عضد الدولة) على ما مُكن له في الأرض، وجُعل إليه من أزمة البسط والقبض، وخُص به من رفعة الشأن، وأوتي من سعة السلطان يتفرغ الأدب، ويتشاغل بالكتب،(656/5)
ويؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء، ويقول شعراً كثيراً يخرج منه ما هو من شرط هذا الكتاب من الملح والنكت.
في نزهة الألباء في طبقات الأدباء:
يحكى أن أبا علي (الفارسي) لما صنف كتاب (الإيضاح) لعضد الدولة وأتاه به، قال له عضد الدولة: هذا الذي صنفته يصلح للصبيان، فصنف له (التكملة) بعد ذلك. ولو صدر هذا الكلام من بعض أئمة النحويين لكان كبيراً فكيف من بعض الملوك؟
في وفيات الأعيان:
وهو (عضد الدولة) أول من خوطب بالملك في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان فاضلاً محباً للفضلاء مشاركاً في عدة فنون.
في شرح النهج لأبن أبي الحديد:
قال بعضهم دخلت على عضد الدولة فوجدت في وجهه ألف عين، وألف فم، وألف أذن. . .
في الإيجاز والإعجاز للثعالبي:
كان عضد الدولة يقول: الدنيا أضيق من أن تسع ملكين.
يقول أبو بكر الخوارزمي في عضد الدولة:
ختمت بك العجم الملوك وراجعت ... بك تاج ملكهم القديم المبهج
لم يفقدوا بك أردشير وإنما ... فقدوا نقيصة دينه المستسمج
وفيه يقول المتنبي:
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع من أمان
تذم على اللصوص لكل تجر ... وتضمن للصوارم كل جان
إذا طلبت ودائعهم ثقاة ... دُفعن إلى المحاني والرعان
فباتت فوقهن بلا صحاب ... تصيح بمن يمر أما تراني؟!
رقاه كل أبيض مشرفي ... لكل أصم صل أفعوان
حمى أطراف فارس شمَّري ... يحض على التباقي بالتفاني
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان(656/6)
دان له شرقها ومغربها ... ونفسه تستقل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
فإن أتى حظها بأزمنة ... أوسع من ذا الزمان أبداها
في كتاب الفَرقْ بين الفِرَق:
. . . كان أبو شجاع فناخسرو بن بويه قد تأهب لقصد مصر وانتزاعها من أيدي الباطنية (يعني العبيديين) وكتب على أعلامه السود: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، الطائع لله أمير المؤمنين، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. فلما أخرج مضاربه للخروج إلى مصر غافصه (فاجأه) الأجل فمضى لسبيله.
في كتاب تجارب الأمم لمسكويه:
وفي سنة 369 دبر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى، ففعل ذلك، وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار، وبُنى الأمر فيه على أن يرزق ولداً ذكراً منها فيولي العهد، وتصير الخلافة في بيت بني بويه، ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية. . .!!!
قلت: وهذه الخلافة لم يبق لها قبل أن ينوي القوم سلبها إلا الاسم. قال البيروني في (الآثار الباقية عن القرون الخالية): إن الملك قد انتقل في آخر أيام المستكفي من آل العباس إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي العباسيين إنما هو أمر ديني اعتقادي لا ملك دنيوي كما لرأس الجالوت عند اليهود من أمر الرئاسة الدينية من غير ملك ولا دولة، فالقائم من ولد العباس الآن إنما هو رئيس الإسلام. . .
ج12ص92:
تحبب أو تذرع أو تأبى ... فلا والله لا ازداد حبا
أخذت ببعض حبك كل قلبي ... فأن رمت المزيد فهات قلبا
وجاء في شرح (تأبى): كانت في الأصل تقيأ فأصلحناه إلى ما ذكر للمناسبة والألف للطلاق.
قلت: قال ابن خلكان في (وفيات الأعيان):(656/7)
أخبرني بعض الأفاضل بمدينة إربل في سنة (625) قال: كنت ببغداد في سنة (620) بالمدرسة النظامية فقعدت يوماً على بابها إلى جانب أبي الدر (ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين) ونحن نتذاكر الأدب إذ جاء شيخ ضعيف القوى والحال يتوكأ على عصا فجلس قريباً منا، فقال لي أبو الدر: أتعرف هذا؛ فقلت: لا، فقال: هذا مملوك حيص بيص الذي يقول فيه:
تشربشْ أو تقمص أو تقبّا ... فلن تزداد عندي قط حبا
تملك بعض حبك كل قلبي ... فإن ترد الزيادة هات قلبا
فجعلت أنظر إليه، وأفكر فيما كان عليه، وما آل حاله إليه. قلت: (تشربش) لبس ثوباً ذا شرابيش. في التاج: الشربش كجعفر: هدب الثوب جمعه شرابيش.
في (المعرب) للجوا ليقي: القباء قال بعضهم هو فارسي معرب، وقيل: هو عربي، واشتقاقه من القبو وهو الجمع والضم. وفي التاج: قال القاضي المعافى: هو (القباء) من ملابس الأعاجم في الأغلب، ومن قال إنه عربي فأما لما فيه من الاجتماع، وإما لجمعه وضمه إياه عند لبسه ج أقبية، وقبّى الثوب: جعل منه قباء وتقبّاه لبسه.
في الفائق: كعب رحمه الله تعالى: أول من لبس القباء سليمان ابن داود (عليهما السلام) فكان إذا أدخل رأسه الثياب كنصت الشياطين أي حركت أنوفها استهزاء به، يقال: كنص فلان في وجه صاحبه.(656/8)
الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي
تعليق على مقال
للأستاذ أحمد رمزي
أثار مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بعدد (الرسالة) الماضي حول الجامعة العربية وضرورة قيام فلسفة خاصة بها الكثير من الشجون، وأحيا لي ذكرى فترات من الماضي القريب، فرجعت إلى صفحات مطوية من مذكرات يومية وتقارير سياسية، لألمس مرة أخرى المصاعب والمشاكل التي وقفت في طريق الفكرة العربية بمصر، وما لقيه أنصارها من عنتٍ ومصادمة، وما واجه كل مؤمن بها مجاهد لأجلها من صدٍ عنها وتحويل عن طريقها السوي.
ونعيد النظر اليوم إلى ما وصلت إليه وما حققت من أهداف، فنفرح مع الفرحين ونتهلل، وتمتلئ نفوسنا إيماناً من جديد وثقة وأملاً في المستقبل، ونحمد المولى جل وعلا أن ظهرت جامعة الأمم العربية كعامل مستقل من العوامل التي سيحسب لها في شؤون العالم وأموره حساب، وذلك ما أشرنا له ونادينا به وتحملنا الكثير من الأذى في سبيل الوصول إليه.
وكلما رجعت بالبصر إلى الوراء، وقست المراحل التي قطعت، والعقبات التي أزيلت، مع قصر الوقت وضعف الجهود، ازددت يقيناً على يقين بأن نجاح الفكرة العربية بمصر ونضوجها وإيمان الناس بها: هي نفحة من نفحات الله، وإن هذه الحركة المباركة ليست من عمل الإنسان، بل يد الله فوق الجميع، هي التي هيأت لها الأسباب وجمعت لها القلوب، ودفعت بالفكرة دفعاً إلى الأمام فآمن بها جماعات من الناس، واقتنعوا بها أفواجاً، بعد أن كان اللائذون بها يعدّون على الأصابع.
وكان من دلائل الساعة وإرادة الله أنه ما ارتفع صوت ضدها إلا وانضم في النهاية إليها، وما جُرّد قلم لمحاربتها والحط من قٍيمٍها ومبادئها إلا وانطوى تحت لوائها، وأصبح بوقاً من أبواقها، وسيفاً من سيوفها.
فلا فضل لأحد على العروبة بمصر، وإنما هي إرادة الله، ولا راد لحكمه، سبحانه إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب. هذا هو إيماني، وتلك هي عقيدتي.
ومن الناس من يقول: إن الدفعة المصرية نحو العروبة مفتعلة وغير دائمة ولا جذور لها.(656/9)
ودليلهم على ذلك أنهم يردون أصولها إلى بعض عوامل السياسة الداخلية، فهي في نظرهم تسابق بين فريقين لنيل الحظوة واقتناص الظفر واحتكار الجهاد، وهناك آخرون ممن لا يؤمن بها قطعاً ويرى فيها شراً مستطيراً، فهو ينفر منها على أنها ليست من صنع العرب، وإنما هي من عمل الإنجليز تحمل طابع أيدين وختم وزارة الخارجية البريطانية، ولا سبيل لإقناع الطرفين، وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.
كل هذا لا يعنينا بقدر حماس الجماهير للفكرة وتشبثهم بها، وبقاء هذا الحماس حياً ملموساً واضحاً لا يعتريه هبوط أو فتور، وإنا لنأخذ على الجماهير أنها سريعة الحماس لأخذ الفكرة والتمسك حيناً من الدهر بها، ولكنها سريعة التسليم بخطأ هذه الفكرة إذا تأخرت عن تحقيق الأهداف العاجلة، وأن آفة الجماهير هو سرعة الانتقال من الغضب إلى الرضا، ومن الحماس إلى الفتور، ثم من الفتور إلى النسيان، فما الذي أعددناه لكل ذلك؟
الجواب على ذلك أننا لم نعمل شيئاً، إذ لا تزال الفكرة العربية في حاجة إلى حشد جميع القوى العليا في العقل والروح، لتكون عنصراً ثابتاً من عناصر الشخصية المصرية المنبثقة من روح الشعب وإيمانه وتاريخه.
ولقد أحسن الأستاذ عبد المنعم خلاف صنعاً حين أثار موضوع فلسفة العروبة لمّا قال: (إن السياسة ليست دائماً ذات إيمان)! إني أسلم بأن دعوته جاءت في وقتها، فله عظيم الشكر والأجر على إثارتها، وأدعو الله أن يوفق العاملين لتلبية هذه الدعوة، وأن تلقى دعوة العروبة من ناحية رجال الفكر ما تستحق من عناية، حتى تخرج لنا فلسفتها الحية التي سوف تملك النفوس والعقول معاً. وأعتقد أنه يسر إن وجد من يشاركه إحساسه، ومن يشعر بشعوره، فقد ورد شيء من ذلك في تقرير بعثتُ به إلى الحكومة المصرية قلت فيه: (إن مبادئ الحركة العربية ودوافعها لم تتبلور بعد التبلور الكافي في شكل مذهب سياسي وفلسفي، كما أن نشاطها وأهدافها واتجاهاتها لم تأخذ بعد القالب الذي يجعل منها عاملاً قائماً بذاته فيحسب له حساب في الشؤون الدولية مستقلاً عن العوامل الأخرى. ولكن القضية العربية عامة - برغم هذا - قد أصبحت حقيقة تاريخية لها وزنها وأهميتها بدليل تقدم الدول المحاربة وغير المحاربة لخطب ود العرب واستمالتهم والمناداة بصداقتهم، فليس من مصلحة مصر تجاهل هذه القضية والإعراض عنها أو الوقوف إزاءها موقفاً محايداً،(656/10)
خصوصاً وأن وراء مصر ثلاثة عشر قرناً من التاريخ العربي لها في حقبتها وأدوارها المختلفة مواقف تاريخية خالدة.
كان ذلك في 12 مارس سنة 1941، حينما أتاحت لي الظروف المساهمة بقسط ضئيل في خدمة قضية العرب، وقد مرت الأيام سراعاً، وحققت الفكرة بعض أهدافها السياسية وأخذت طابع العامل المستقل عن العوامل الأخرى في شئون العالم، ولكن لم تتحقق الناحية الأولى، وهي ظهور الفكرة كمذهب سياسي فلسفي.
فهل نؤمل أن تتبنى مصر هذه الفكرة وتخرجها كما تبنت الناحية السياسية؟
إن أشد الناس تفاؤلاً لم يكن يؤمّل نجاح الفكرة العربية هذا النجاح المشاهد اليوم، خصوصاً في مصر دون سائر البلاد العربية، حيث استمرت عوامل الهدم والتفرقة تعمل بنشاط وحماس ضد كل ما هو عربي لسنوات عديدة بغير أن تلقى أي مقاومة، حتى همدت الروح المصرية العربية المستمدة من عناصر الفتح وجهاد القرون الماضية. ولما كانت سنوات الحرب العالمية الثانية بمثابة فترة لا تقل في أهميتها عن نصف قرن من الزمن، جاء تطور الأهداف السياسية وتقارب الشعوب العربية سريعاً جارفاً لدرجة لم تتمكن العقول من استيعاب وتقدير ما مر حولها من الأحداث والتغييرات المفاجئة.
ولذلك لا تستغرب أن تجد الكثير من شباب مصر يتساءلون: ما هي العروبة؟ وما هي أهدافها؟ كيف تكون عربياً ومصرياً في نفس الوقت؟!
وهي أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، ويصعب إقناع ذويها بالقيم العربية إذا لم تكن إفهامهم وعقولهم وآذانهم مستعدة لقبولها، خصوصاً إذا كان بعضهم يجهل التأريخ العربي جهلً تاماً ولا تستهويه حلقات التاريخ المصري في العهود العربية، أو يكون قد تلقى دروس الماضي على طريقة تجعله يأنف منها كلما اتصلت بالعرب وفتوحاتهم ومدنيتهم وثقافتهم وأثرهم في قيادة العالم وشعوبه، فهو مضطر: إما أن يجدد معلوماته، وإما أن يترك الفكرة لغير سبب يبديه!
ونجد أن الجامعة العربية، وقد اختارت القاهرة مركزاً لها، من أول واجباتها أن تحضّر الرأي العام المصري لذلك، وأن تجعل لهذا النشاط قسماً خاصاً به، ولن تهتم بالناحية الفكرية التي تحدثنا عنها لتبنى بناء ثابت الأركان.(656/11)
وسوف تسمع أن فريقاً من الناس يستكثر ما تصرفه مصر على الجامعة، أو على بعثاتنا الثقافية في البلاد الشقيقة، وأن فريقاً لا يفهم معنى لحفلات التعارف والتفاهم بين العرب، وذلك كله نتيجة لسياسة التفكك التي فُرضت على المصريين، والتي عملت على قطع الصلات بين حاضرهم وماضيهم، وحصرت آمالهم في دائرة ضيقة، مما يجعل العناصر الإنشائية في البلاد محتاجة إلى بذل مجهود طويل لإزالة آثارها.
ونحن نؤمن بأن عناصر العروبة الكامنة في الشعب المصري لن تفنى بعد اليوم، بل ستخرج وهي أكثر مضاء وقوة وعزيمة، وستحطم هذا الغشاء الصناعي الواهي الذي أحاطتها به سنوات الخمود وسياستها الغاشمة التي أفهمته أنه أمضى آلاف السنين يرزح تحت أغلال العبودية، حتى لا يتعرف على صفحات المجد التي كتبتها العروبة في بلاده، ولكي يعمى عن شخصيته ومجد الآباء والأجداد.
لقد أوحى إلينا مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بهذه الكلمة العابرة عن هذه الحركة التاريخية، ونحن إذ نختتمها نؤمل أن يوالي هو وغيره من كتاب العرب في مصر وبقية البلدان العربية أبحاثهم، ذلك لأن أسس الفكرة العربية وفلسفتها ستأخذ مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين، ولكن أثرها سيكون عميقاً في مصر، إذ ستعيد حتماً للشعب المصري إرادته وشخصيته وتلقنه تاريخه الحي. وسنرى كيف أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية والتي تبدو لنا مستعصية الحل، سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي تخاطب الوجدان والفكر، وتحرّك القلوب والمشاعر.
إن الفلسفة التي تنير طريق الفرد منا إلى غايته، وتجعل إيماننا بالفكرة العربية وحركتها السياسية وأهدافها إيماناً بصيراً مستنيراً ستقود الشعوب العربية من الظلمات إلى النور، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الاستكانة إلى الرفعة، وتعلم الفرد والجماعات معنى الآية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). ولمثل هذا فليعمل العاملون!
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان(656/12)
من ذكريات بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
ما الذي هاج في نفسي هذه العشية ذكر بغداد، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها؟ ما الذي أرجعني إلى تلك الليالي حتى كأني - لفرط ما تشوقت إليها، وأوغلت في أذكارها - أعيش فيها؟ أي سحر فيك يا بغداد جذب قلبي إليك، فلم أنْسَك إذ أنا في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاق؟
بغداد. . . يا بغداد، عليك مني سلام الود والحب والوفاء، على المعظّم على الصُّلَيخ على الكرّادة على الكرخ سلام الفؤاد المشوق الولهان، على ليالينا (بين الرصافة والجسر). ما كان أحلى تلك الليالي! كنت أشكو فيها ألم الغربة وأحن إلى الوطن، فصرت في وطني أحن إلى تلك الغربة ولياليها، وما ظلمني موطني وما أنكرت، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمه بما ليس فيه، ولكنها هي الدَعة، مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم، ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ بأنني ذو قلب!
على الرستمية. . . ألا تزال الرستمية جنة من جنان الأرض، حافلة بالعاشقين وبالحور العين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب فجفت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية. . . بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد. على (قهوة المطار)، على ظبائها على جآذرها ألف سلام.
على الجسر. . . يا جسر بغداد، كم جمعت وفرقت، ماذا رأيت وسمعت، كم وصلت بين قلوب وقطعت، أنت الصلة بين ماض لنا كان أعز من النجم وأسمى، وآت لنا سيكون أسمى من النجم وأعز. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سرة الأرض، وكنت ليَ مسرّة القلب، عليك مني ألف سلام.
يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي، وخلقت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعت بفؤادي وحياتي يا ربوع؟!
ويا دارنا في (الأعظمية) من حلّ فيك بعدنا يا دار؟ وهل صوّح لبُعدنا زهرك أم ضحكت من بعدنا الأزهار؟ وهل حفظت آثارنا أم لقد طمست من بعدنا الآثار؟ لقد كنت أنت(656/13)
مستقرّي ومثواي، وكان إليك مفرّي من دنياي؛ وكنت شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنت مستودع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلا عنك، فهل كتمت سرّي هذه الجدران؟ هل سترت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟
ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفر إليها من رحب الحياة، وزحمة المجتمع، فأغلق بابها علي، وأخلو فيها إلى نفسي، فأحسّ أنها جزء مني، وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني، تنكرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها، رددت عنها، أو قبلت فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلا ما يراه الضيف، ولا ألبث إلا ما يلبث. . . لا يا سكانها؛ ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات؛ فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي!
ودار العلوم؟ خبروني سألتكم بحق الإخاء عن ظلال أيامي فيها. سقى الله ظلالها صَوْب القلوب! خبروني، ألا رجل كريم، يحسن إلى هذا البعيد النائي، فيمر بالدار عند مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فيصعد إلى الغرفة التي تطلّ من هنا على صحن المسجد المنوّر المبارك، ومن هناك على صحن المدرسة المزهر المشرق، فيحيي عني هذه الغرفة، فإني سكنتها عاماً، كان لي عام دنيا ودين، وفيها جددت طباعي وأفكاري وكونت نفسي.
ثم ليجل عني في هذه المدرسة في حدائقها، وفي صحونها، في ممراتها ودهاليزها، ثم ليصعد سطوحها الواسعة التي تمتد حتى تتصل بقبة المسجد، وتشرف على تلك الحديقة العتيقة، وتلك المقبرة المهجورة، وعلى طريق الكاظمية، فإن لي على هذا السطح ذكريات. . . وإنني إن أنس لا أنس يوم العيد، وقد خلت المدرسة من ساكنيها، فلم يبق فيها غيري، فأوغلت في هذه السطوح، وصعدت حتى انتهيت إلى أصل القبة، ونظرت فإذا أنا على بحر من النخيل، تهتز قممه من تحتي كأنها الأمواج في اللجة الساكنة، وتظهر في فُرَج النخيل طرق الفلاحين، وقد خرجوا مع أطفالهم وأولادهم بثياب لها مثل لون الزهر، ثم تختفي خلال الأشجار، كشاعر سادر أو محب متغزل، ذهب يناجي ذكريات الوصال، ودجلة عند منعطف الصليخ تلوح بعظمتها وجلالها، كأنها سماء من نور ركبت في الأرض؛ وبغداد، بلد الأساطير والأحلام؛ يبدو طيفها على حاشية الأفق البعيدة بقبابها ومآذنها، كأنه (هو أيضاً) أسطورة ساحرة، يقصها الأفق المشرق على الدنيا، وإلى اليمين(656/14)
قباب الذهب من الكاظمية، والقبة الخضراء التي ثوى تحتها رمس مُلك شابّ، وشباب مليك، حين ثوى غازي بن فيصل بن الحسين بن عليّ!
لقد لبثت مكاني حتى شملت الظلمة السكون، وضأت المصابيح في شبابيك المنازل فنظرت. . . إليها، أنا الغريب المنفرد، الذي يمضي عيده وحيداً على سطح المسجد، لا رفيق له إلا ذكريات سعادة ولت تؤلمه وتحزّ في قلبه ذكراها، وحبّ مات وليداً، وفكرت في أمري لو أصابني مرض فلبثت هنا شهراً، فمن ذا يصل إلى؟ من يسأل عني؟ وأي فؤاد يخفق من أجلي بعد أن سكت ذلك الفؤاد الذي كان خفاقاً بحبي، فؤاد أمي، إلى الأبد؟ فنظرت إليها فغبطت أهلها إذ يغلقون أبوابهم على الشمل الجميع، والأهل الحضور، والأنس والسعادة.
ونزلت في طريق الحديقة العتيقة، وإذا أنا أتعثر بحجز فنظرت إليه على شعاع ينحدر إليه من مصباح الشارع، فإذا هو قبر متخلف من المقبرة التي كانت هناك في غابر الأزمان، فامتلأت نفسي بصورة الموت، ولم أعد ألمس في هذه الغصون المخضرة إلا الربيع الماضي الذي مات، ولا أرى من الناس إلا قلوباً ميتة دفنت في صدور أصحابها؛ ولا أجد تراب الأرض إلا ناساً كانوا مثلنا وماتوا. . . فأكلت هذه الأشجار أجسامهم، وشربت دماءهم، فمنه كان زهرها الذي نشم عطره، وغصنها الذي نأكل ثمره. . . ولم أر الدنيا إلا موتاً في موت.
وأممت غرفتي وأنا غارق في بحر من الأفكار السود، فسمعت العٍشاء يرنّ في صفا الليل قوياً عذباً يومض ضياؤه في طيات الظلام، إذ يحمل اسم الله منيراً مشرقاً، فقمت إلى الصلاة، فلما قضيت وخرج الناس، رأيت المؤذن ينادي على عادته بذلك الصوت الممدود: الفاتحة! ثم يغلق المسجد وينصرف، وأبقى وحدي، ليس في المسجد ولا في المدرسة غيري، وبينهما باب من داخل، فأعود إلى غرفتي. . .
وما يكاد يكتهل الليل، حتى سمعت الصوت في المسجد كرة أخرى، ولكنه خرج هذه المرة ضعيفاً وانياً، في نغم حزين، من لحن الصبا، فنظرت من شباكي، فإذا في أرض المسجد الذي اشتمل عليه الظلام ثلاثة مصابيح بترولية خافتة النور، تكشف عن نفر من الناس، ولا يبدو منهم إلا أرجلهم وظلال لهم ممتدة فكأنهم الجنّ، أو كأنه فلم مخيف من أفلام ألف(656/15)
ليلة. . . ثم سمعت تكبيرات الجنازة، فنزلت فرأيتهم يصلون على ميت في نعش.
فسألت: من هذا؟ قالوا: مؤذن المسجد!
فانصرفت لأدوّن في دفتري ما عرض لي ذلك اليوم من صور وخواطر، ثم أضعت الدفتر ونسيت الخواطر والصور. . . وأن في الدنيا موتاً. . .
كذلك أمضيت يوم العيد في دار العلوم، وإني على هذا أشتاقها وأشتهي أن ترجع لي أيامي التي مرت فيها. فيا رحمة الله على أيامي في دار العلوم وعلى من بقي من أهلها السلام!
وإن أنس لا أنس (ليلة البلاط)، يا ليت ليلة البلاط تعود! لقد رجعت أنا وأنور العشية من الأعظمية إلى بغداد، فتركنا السيارات وجفونا الطريق الأعظم، وسلكنا محجّة على رصيف دجلة فسرنا فيها، وكانت تنكشف لنا تارة فنسلكها، وتعتل (طريقها. . .) تارات، فتتيه بين النخيل، وكان النهر أبداً عن أيماننا، يبدو حيناً بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه وعد الوصال، يشرق للمحبّ في ليل الهجران، والأمل البسام يلوح لليائس في غمرة القنوط، ثم يحجبه عنا النخيل ويستره الظلام، كما يخلف المحبوب بدلاله الوعد، وتمحو الحياة بواقعها الأحلام، وتطمس صور الأماني. وكان أنور يحدثني حديث ماضيه فيثير في نفسي عالماً من الذكر الأليمة، كلما نزلت به في أعماق قلبي، ودفنته في هوة النسيان، وحسبته مات. انبعث فجأة، كأنما ولد الساعة، عالم فيه صور أبي وأمي وآمالي وحبي، واستغرقنا في خواطرنا، وغبنا عن حاضرنا، فما نبهنا إلا جندي بحربته المسددة إلى بطوننا وبندقيته الموجهة إلينا، وصاح بنا؛ أن ارفعا أيديكما؛ ففعلنا.
قال: ما أدخلكما حمى (بلاط الملك)، وفي ما أنذركما فلا تقفان؟ لقد هممت أن أرميكما بالنار! وكانت تلم هي الأوامر، ما بعد الإنذار إلا النار، فقلنا: نحن أدبيان، أرأيت أدبياً نفع معه إنذار؛ أو أفاد معه تخويف، ثم إننا برمنا بالحياة لا نرى فيها إلا ماضياً لا سبيل إلى إرجاعه، وأملاً لا وصول إليه، ولو أنت رميتنا لمننت علينا بميتة سهلة، نرجو من بعدها ثواب الشهداء، وإن الموت عسكري درجات، وألوان بعضها أطيب من بعض، وما نظنك سمعت بدعاء الأعرابي الذي سأل الله ميتة كميتة أبي خارجة، لأن هذه الجفوة منك دلتنا على أنك لا تقرأ كتب الأدب. أتحب أن تعرف كيف مات أبو خارجة حتى صار موته أمنيّة؟(656/16)
أكل حنيذاً، وشرب نبيذاً، ونام في الشمس، فمات شبعان دفأن ريّان!
قال الجندي، ولم يفهم منا شيئاً:
- شنوا أنتو يابه؟
قلنا: نحن معلمون!
فضحك وأرخى سنان بندقيته، وقال: معلمون صحيح، أما غير مخبّلين، (وغير هنا للتأكيد ومخبلين، أي مجانين)! وتركنا نمضي لأن المجنون لا يسأل. . .
تلك هي ليلة البلاط، وإني لا أذكرها إلا أسفت على هذه الميتة الحلوة التي فاتتني، وخشيت ألا أتمكن من مثلها، وأظن أنور آسفاً مثلي، إلا إذا استطاب حياته بعد الزواج وتعليم البنات الأدب. . . أما حياتي أنا فليس فيها لذة تستطاب، وليس فيها ألم يستكره. أعني أنني لست إنساناً يحيا ولكن (شيئاً) يعيش!
مالي كلَّ هذه الليلة ذهني، ولم يسعفني شيطاني؟ مالي أكتب عن بغداد، فلا أذكر من أيامها إلا هذا الحديث التافه، وأيام بغداد، مواسم للمجد وأعياد، ولياليها فرحة الفؤاد، وأسرّة للحب ومهاد، وماضيها مآثر ومفاخر وأمجاد؟
مالي لا أتحدث عن دجلة، ويا طول شوقي إليها، وإلى زوارق المحبين وهي تمضي فيها حالمة سكرى، والأغاني تتراقص على أمواجها ضاحكة مرحى، والسمك المسقوف. خبروني، ألا تزال مرفوعة سقوفه. مشتعلة ناره، أم هوت من هول الحرب الدعائم وانطفأت النار؟
مالي لا أناجي إخواني وتلاميذي الذين عشت دهراً من عمري بهم ولهم، وأسألهم أيذكرون هذا المعلم. . . أم قد مرّ في حياتهم مرور شخص (السينما) ثم تنقضي الرواية، ويسدل الستار، فكأنما لا شخص مرّ بهم، ولا (فِلْم) عرض عليهم؟
أما أنا فاشهدوا يا تلاميذي ويا إخواني أني نسيتكم. أأنسى نجدة وعلياً ونزارَ بن البطل الشهيد، إلا إذا نسى الأدب أولاده؟ أأنسى الأخ الأكبر (بهجة) العراق، وقد طالما قبست الجزْل من فضله، ورأيت الفذَّ من نبله؟ ما نسيت، ولئن كبا بي القلم الليلة، فسأعود إلى الحديث عن بغداد، وما كل مرة يكبو الجواد.
وعلى إخواني وتلاميذي وبغداد وأهلها سلام الله ورحمته وبركاته.(656/17)
علي الطنطاوي
المدرس (سابقاً) في ثانويات بغداد والبصرة وكركوك(656/18)
بمناسبة عيد الجهاد الوطني:
مراكش حية. . .!
للأستاذ عبد الكريم غلاب
في يوم 11 يناير احتفلت مراكش بعيد جهادها الوطني، وهو يوم يقف فيه المراكشيون خاشعين أمام قبور شهدائهم الذين صرعتهم بنادق السينيغاليين ومدافع الفرنسيين. يقفون خاشعين ليتذكروا تلك الأيام السود التي حرصوا فيها المراكشيون من كل صوب، وسلط عليهم جحيم المادة، فلم يفقدهم صوابهم، ولم يثنيهم عن عزمهم في استرجاع استقلالهم من الذين استلبوه منهم بالقوة، فعبثوا به واستهانوا بقدسيته. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1944 أعلنت الأمة المراكشية مطالبتها باستقلالها، وقدمت لذلك مذكرة طالبت فيها بإلغاء الحماية الفرنسية على مراكش، وبإفساح المجال أمام الشعب ليسلك سبيله في الحياة الديمقراطية الحرة، وليتمكن من الانضمام إلى إخوانه العرب في الشرق.
ولقد كان لتقديم هذه المذكرة إلى جلالة ملك مراكش والحكومة الفرنسية وسلطات الحلفاء، ولما صاحبه من مظاهر العزم - التي بدت من الشعب - على تحقيق هذه المطالب؛ كان لكل ذلك أثره العميق في الدوائر الفرنسية، فقررت أن تقمع هذه الحركة بكل ما يبقى لها من قوة، وبكل ما يملك أبناؤها من عزيمة صارمة في الدفاع عما يسمونه إمبراطوريتهم. وتقابلت القوة مع الإيمان الأعزل، وكان من ذلك تلك المأساة المروعة التي يندى لها الضمير الإنساني الحي، والتي برع الفرنسيون في تمثيلها. مع العرب سواء في الشرق أو الغرب.
ولكن المراكشيين لم ترعهم هذه المأساة، فقد ألفوا ذلك منذ وطئت أقدام الفرنسيين أرضهم المقدسة في سنة 1912. فالمأساة الأخيرة ليست إلا فصلا من رواية الجهاد الوطني المراكشي الذي ابتدأ منذ ثلث قرن، والذي سينتهي لا محالة بفوز المراكشيين، لأنهم أصحاب حق، ولأنهم أهل لأن ينالوا هذا الحق. لقد دافع المراكشيون عن بلادهم يوم فرضت عليهم معاهدة الحماية، وواصلوا جهادهم في الجبال والغابات الجنوبية، ثم قام الأمير عبد الكريم الريفي يسترد أرض أجداده من الأسبانيين والفرنسيين، وما كاد يضع سلاحه حتى قام الجهاد السلمي ممثلا في الأحزاب والهيئات الوطنية التي انتهى بها(656/19)
المطاف - رغم ما أصيبت به من نكبات - إلى أن تعلن مطالبة الأمة المراكشية باستقلالها في 11 يناير من سنة 1944.
هذا هو جهاد مراكش الذي يعد صراعاً بين الموت والحياة، وهو إن دلنا على شيء، فإنما يدلنا على أن هذه الأمة الكريمة لن تموت، لأن عناصر الحياة كلها تتدفق في دمها، وهي كفيلة بأن تحفظ هذه الأمة من الانهيار.
وأول عنصر من عناصر الحياة في مراكش هو تأريخها الطويل في الاستقلال والحرية، وقد تسللت حلقات هذا التاريخ منذ عرفت الحياة على الأرض المراكشية، فلم يحكم مراكش غير أبنائها الذين دافعوا عن أرضهم طوال عصور التاريخ إلى أن تآمرت عليهم الدول الأوربية في أوائل القرن العشرين، وكان نتيجة لذلك الاتفاق الإنجليزي المصري سنة 1904 الذي بمقتضاه أطلقت إنجلترا يد فرنسا في مراكش، كما أطلقت فرنسا يد إنجلترا في مصر. وقد أتاحت هذه المؤامرة الفرنسية الإنجليزية لفرنسا أن تفرض حمايتها بالقوة على مراكش، فخرت هذه الأمة صريعة أمام قوة الفرنسيين وغدرهم وخيانتهم. وبذلك وضع حد لتاريخ الاستقلال في مراكش.
والعنصر الثاني من عناصر الحيوية المراكشية هو العنصر الخلقي، فقد ورث هذا الشعب عن أجداده البربر والعرب الأنفة والكبرياء والدفاع عن النفس والصبر والتضحية والاستهانة بالحياة في سبيل كرامته؛ وتلك الصفات - ولا شك - تجعل هذا الشعب من أكثر الشعوب استعداداً للدفاع عن أرضه ونفسه، بل تجعله من أكثر الشعوب شعوراً بالكرامة وتمسكاً بالاستقلال. وقد أدرك هذا أولئك الذين وضعوا أسس الحماية الفرنسية - وفي مقدمتهم المرشال ليوطي - فحذروا فرنسا من الاستهانة بهذا العنصر الحيوي في مراكش.
والعنصر الثالث هو الدين، فالمراكشيون من أشد الأمم تمسكاً بالدين الإسلامي، وهم يدركون إلى حد كبير معنى التدخل الأجنبي في الشؤون المراكشية، ويفسره ابن الشعب في مراكش بأنه تدخل ينافي عقيدته ودينه، وهو من أجل ذلك يعمل على أن يكون صحيح الإيمان سليم العقيدة. وذلك ولا شك عنصر من عناصر الحيوية في مراكش.
وعنصر آخر لا يقل عن العناصر السابقة قيمة، وهو عنصر اللغة. فمراكش تستعمل لغة(656/20)
واحدة هي العربية، وهي بذلك تتصل بماضيها العتيد، فتستمد منه الوحي والإيمان وتتصل ببقية الشعوب العربية في الشرق التي تكافح وتجاهد في سبيل استكمال استقلالها، وذلك من شأنه أن يجعل شعور هذه الأمم كلها واحداً نحو قضاياها الاستقلالية، ويجعلها تسلك سبيلاً واحداً نحو الهدف الأسمى. ولعل تاريخ الحركات الاستقلالية في البلاد العربية كلها يدلنا على قيمة هذا العنصر ومظهره. فاللغة العربية - إذن - هي السبيل الوحيد لاتصال مراكش بالشعوب العربية في الشرق اتصالاً روحياً ومادياً.
ولسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن من أكثر الأشياء حيوية في الشعب المراكشي هو العرش. فالعرش العلوي في مراكش عتيد في التاريخ، لأنه ناهز ثلاثة قرون كاملة. ومن أجل ذلك اتصل العرش بالشعب والشعب بالعرش، وأصبحا يعملان معاً لخير البلاد المراكشية ومصلحتها. وهكذا نجد الشعب يتعلق بملكه المحبوب وخاصة في أوقات الفزع، فينجده جلالة الملك ويرفع عنه عدوان المعتدين.
تلك هي عناصر الحياة في مراكش، وتلك هي الدعامات الأساسية التي تعتمد عليها في دفاعها عن استقلالها، وقد عرف الفرنسيون خطر هذه العناصر، فأرادوا هدمها حتى يتمكنوا من إدخال هذا الشعب تحت إمبراطوريتهم. وعرف المراكشيون بدورهم نية الفرنسيين فقاوموها بكل ما يملكون من قوة. وذلك هو جوهر الصراع بين المراكشيين والفرنسيين منذ سنة 1912. أراد الفرنسيون أن يفصلوا مراكش عن تاريخها ويهدموا خلقها، ويحولوا بينها وبين دينها، ويفرنسوا لغتها، ويقطعوا ما بينها وبين الشرق العربي من صلة، ثم أرادوا أن يفصلوا بين الشعب والعرش.
ولكن المراكشيين تشبثوا بتاريخهم وخلقهم، ثم دافعوا عن دينهم ضد (الظهير البربري) المشئوم سنة 1930، وقاوموا برامج التعليم الفرنسية التي طبقت في مراكش حتى يحتفظوا باللغة العربية كلغة رئيسية في المدارس المراكشية، ثم هم يعملون على أن يضموا إلى الجامعة العربية، حتى يضمنوا بذلك اتصالهم بإخوانهم العرب في الشرق. أما صلتهم بالعرش وإخلاصهم له، فلا تزداد إلا توطداً ونمواً.
تلك خلاصة الصراع في مراكش طيلة ثلث قرن. وقد نجح المراكشيون في الاحتفاظ بعناصر الحياة فيهم، وهم إذ يطالبون اليوم باستقلالهم، فإنما يريدون أن يبنوه على أساس(656/21)
متين من التاريخ واللغة والدين والخلق. وذلك ما يجعلنا نؤمن بأن مراكش ستصل. . . وأنها حية تسير - رغم ما ينتابها من نكبات - نحو الحياة الحرة الكريمة.
عبد الكريم غلاب(656/22)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 12 -
الدعوة إلى الخير
إن من أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، وأبرز محاسنها - إرشادها إلى أعظم وسيلة لإصلاح المجتمع، وتنقيته من أدراك الشر والفساد، وخير أداة لإصلاح الأفراد والجماعات، وتحقيق التضافر والتعاون الاجتماعي - تلك هي الدعوة إلى الخير؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من فروض الكفاية، إذا قام به بعض الأمة سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثموا جميعاً ووقعوا في حوب كبير، ولم يكن فرض عين فلم يجب عليهم أجمعين لما ينبئ عنه قوله عز وجلّ: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، ولأنه من عظائم الأمور وعزائمها التي لا يضطلع بها ولا يتولاها إلا من هو أهل لها - والأهلية تتحقق بشروط: منها العلم بالأحكام، ومراتب الاحتساب، وطرق إقامة هذا الواجب، ومعرفة الأحوال المختلفة وما يناسب كل حالة، فإن من لا يعلم ذلك قد يأمر بمنكر، وينهي عن معروف، ويغلظ في مقام اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا تمادياً وإصراراً - كما يشترط في الوجوب التمكن من القيام به، غير أن الأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً - على حسب المأمور به - أما النهي عن المنكر فهو واجب في كل حال لأن جميع ما أنكره الشرع حرام.
وإنما وجب ذلك لأن صلاح الأمة في أمر دينها ودنياها، ونفي الفساد عن الأرض، وتقليل الشرور والآثام - لا يكون إلا بأداء هذا الواجب، فإن الظالمين والمفسدين ومرتكبي الآثام إذا تركوا وشأنهم - من غير نكير - استشرى داؤهم وتفاقم شرهم، وكثر سوادهم، فتقع الأمة في بلاء عظيم وسوء لا مرد له، وتبوء بسخط من الله وعذاب، وذلك هو الخسران المبين.
والأصل في ذلك ما ورد في الكتاب والسنة من تلك النصوص التي جمعت بين القوة(656/23)
والكثرة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمةُ يدعونَ إلى الخيرٍ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أعظم الواجبات وأبعدها أثراً في إصلاح المجتمع - مدح الله به المؤمنات كما مدح به المؤمنين، وجعله من صفات الرجال والنساء معاً، وقرنه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبطاعة الله ورسوله، فقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله).
وجعل الله - جلت حكمته - قيام الأمة بهذا الواجب دليلاً على تمكن الخير من نفسها، ورسوخ خلق الإصلاح فيها فقال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، بل أنبأنا - جل شأنه - أن من أسباب استحقاق بعض الأمم اللعنة أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه: (لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وسئل عليه صلوات الله وسلامه عن خير الناس، فقال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم)، بل روى عنه أنه جعل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر خليفة الله ورسوله في الأرض، فقال: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه).
وقد ورد في الحديث ما يدل على أن سنة الله في الأمة التي فرطت في هذا الواجب - أن يسومها سوء العذاب، وألا يتقبل دعاء خيارها إذا سكتوا عن منكراتها، فقد روى عنه - صلوات الله وسلامه عليه: (لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم). وقال عليّ رضي الله عنه: (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنئ الفاسقين وغضب الله - غضب الله له).
ولتقصيرنا في أداء هذا الواجب - ظهر فينا الفساد الذي جنى على كثير من آدابنا الاجتماعية، وعاداتنا المرضية، وأخلاقنا الإسلامية، فمتى نثوب إلى رشدنا، وننفذ أحكام(656/24)
شريعتنا؟!! ومتى ينجم فينا رجال أشداء على الباطل والظلم ليحيوا ما اندثر من السنن القويم، ويجددوا ما رثّ من حبل الدين المتين؟!!، اللهم جدّد عزائمنا، وابعث فينا مشبوب الهمم لإحياء مجد الإسلام ووصاياه وأحكامه، وهيئ لنا من أمرنا رشدا
حسن أحمد الخطيب(656/25)
توماس هوبز
لالفرد فيبر
للأستاذ عبد الكريم الناصري
كان توماس هوبز (1588 - 1679) المولود في مالمسبرى، من أعمال ولتشاير، صديقاً مخلصاً لآل ستيوارت، وكان ذا حظوة عندهم، بفضل نفوذ تلميذه اللود كافندس.
وقد غاب فيلسوفنا عن وطنه ثلاثة عشر عاماً، فلما عاد إليه انقطع للبحث والتأليف.
غطت شهرة هوبز كمؤلف سياسي وأخلاقي - إلى حد ما - على شهرته كأنطلوجي ونفساني؛ وبغير الحق، فانه السابق إلى المادية، والنقد، والوضعية الحديثة.
يحد هوبز الفلسفة بأنها الاستدلال على المعلومات من العلل، وعلى العلل من المعلولات.
والتفلسف هو التفكير الصحيح؛ ولكن التفكير معناه (أن تركب وتحل التصورات أن تجمع أو تطرح، أن تحسب وتعد. فالتفكير الصحيح إذن هو تأليف ما يجب أن يؤلف، وتفريق ما يجب أن يفرق). ويلزم عن هذا أن الفلسفة ليس لها من موضوع سوى الأشياء القابلة للتركيب والتجزئة، وهي (الأجسام). أما الملائكة، والأشباح والأرواح المحض والله، فليست بموضوعات للفكر والعلم، ولا شأن للفلسفة بها، وإنما هي موضوعات للدين والإيمان، ومردها إلى اللاهوت. وبحسب انقسام الأجسام إلى أجسام طبيعية وصناعية، وأجسام أخلاقية وسياسية، تنقسم الفلسفة إلى: فلسفة طبيعية (المنطق، والأنطلوجيا، والرياضيات، والفيزياء) وفلسفة سياسية (الأخلاق والسياسة). والفيزياء والفلسفة الأخلاقية كلتاهما علم تجريبي، موضوعه الأجسام، وآلته الحس - الحس الظاهر للأول، والحس الباطن للثاني. وليس وراء علم الملاحظة من معرفة حقيقية.
إن هذه المقدمات تسلم هوبز إلى نظرية في الإدراك مادية من كل جهة. فالإدراك الباطن، الذي هو أساس حياتنا الفكرية وشرطها الأول، ليس إلا شعورنا أو إحساسنا بفعل الدماغ. فأن تفكر هو أن تحس والمعرفة تتكون من إضافة الأحاسيس. والإحساس، بعد، ليس إلا حركة تحصل في الجسم. ثم إن الذاكرة، التي تلازم الفكر، ليست شيئاً أكثر من ديمومة الإحساس؛ فتذكرك الشيء هو إحساسك بما سبق أن أحسست به. وليس من الممكن أن تعلل الاحساسات، على طريقة بعض القدماء، بأنها فيوض صادرة من الأجسام ومشابهة(656/26)
لها. إن أشباح الأجسام هذه، أو - على حد تعبير المدرسين - (أنواعها المحسوسة والمعقولة)، لا تقل بطلاناً عن (الكيفيات المستورة) وأشباهها من فرضيات القرون الوسطى. وإنما الواجب أن نقول: إن الحركة البسيطة التي تثيرها الموضوعات الخارجية في المادة المحيطة بها تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب.
وهوبز يقرر هنا حقيقة خطيرة، عرفها من قبل ديمقريطس، وبروتاغوراس وأرستبس؛ وهي أن الإدراك الحسي ذاتي بالكلية فإن ما ندركه - كالضوء مثلا - ليس موضوع خارجي ألبتة، وإنما هو حركة أو تكيف يحدث في المادة المخية. وليس أدل على ذلك من أننا نبصر ضوءاً إذا لُطمت العين، إذ ليس هذا الإحساس إلا نتيجة التهيج الحاصل في العصب البصري. وما يصدق على الضوء بوجه عام يصدق على تعيناته المختلفة التي هي الألوان. فالحواس إذن تخدعنا حين تلقى في روعنا أن الصوت والضوء والألوان تقوم خارج النفس. إن موضوعية الظواهر وهم خادع، وليست صفات الأشياء غير أعراض لاحقة بكياننا، وما من شيء موضوعي سوى الحركة التي تثير فينا هذه الأعراض، وهي حركة الأجسام الخارجية. . . إن فيلسوفنا ليستدل كما استدل بعده (بركلي)؛ بيد أن الأخير يسير بحجته إلى النهاية فإنه بعد أن يبدأ بمقدمات أهل الحس، ينتهي إلى إنكار وجود الأجسام، وإلى القول بالمثالية الذاتية. أما هوبز فيقف في منتصف الطريق، لأن شيئية المادة عنده عقيدة لا تقبل الشك.
أما النفس أو الروح فإنه يحدها أحياناً بأنها فعل الدماغ، وأحياناً بأنها مادة أو جوهر عصبي؛ ويقول في ذلك: إني أقصد بالروح جسماً فيزياوياً يلطف عن إدراك الحواس. أما الروح (اللاجسمانية) فحديث خرافة. والتوراة نفسها لا تذكر موجوداً من هذا القبيل. إن الإنسان لا يختلف عن الحيوان إلا بالدرجة، إذ كلاهما كائن جسماني. وإذا كان لنا من مزية حقيقية عن العجماوات، فتلك هي النطق. إنا، كهذه الأحياء الدنيا، لا خيار لنا فيما نفعل، وإنما تسيرنا شهوات لا تقاوم؛ وليس للعقل بغير انفعال، ولا للمبادئ الأخلاقية بغير جاذب مادي، أدنى تأثير في إرادة الإنسان؛ وإنما هي مدفوعة بالخيال وما يتوقعه، وبالعواطف والانفعالات: بالحب والبغض والخوف والرجاء.
نعم: (إن الفعل الإرادي هو الذي يصدر عن الإرادة)؛ ولكن الإرادة نفسها ليست (إرادية) -(656/27)
آنا لا سلطان لنا عليها، ولا يد لنا فيها. لكل فعل سببه الكافي. والقائلون بالاختيار يذهبون إلى أن الفعل الإرادي أو الحر هو الفعل الذي وإن كان للقيام به سبب كاف، فإنه - أي الفعل - ليس ضروريا. وتهافت هذا التعريف ظاهر لا خفاء به. فإنه إذا لم يقع حدث أو فعل ما، فلأن سبباً كافياً لوقوعه لا يوجد. إن السبب الكافي يرادف الضرورة. والإنسان، كسائر المخلوقات، خاضع لقانون الضرورة، للقدر، أو - إن شئت - لإرادة الله؛ والخير والشر، بعد، معنيان نسبيان، فالأول يرادف الموافق أو المرضى، والثاني يرادف المكروه أو الغير الموافق. و (المصلحة) هي الحكم الفصل في الأخلاق وفي كل شيء. أما الخير المطلق، والشر المطلق، والعدالة المطلقة، والفضيلة المطلقة، فأوهام ابتكرها العقل اللاهوتي، وما بعد الطبيعة. . .
إن فلسفة (هوبز) السياسة تتفق مع هذه المقدمات الأنطلوجية. فالحرية ممتنعة عنده في ميدان السياسة، كما هي ممتنعة في ميدان الأخلاق، وميدان ما بعد الطبيعة. وإنما الحق للقوة، في الدولة وفي حال الطبيعة على السواء. وحالة البشر الطبيعية عبارة عن (حرب الجميع (ضد) الجميع). والدولة هي الوسيلة التي لا بد منها لوقف هذا الصراع. وهي تحمي حيات الأفراد وأموالهم في مقابل خضوعهم لها خضوعاً مطلقاً. فما تأمر به خير، وما تنهي عنه شر، وإرادتها هي القانون الأعلى.
لا نريد أن نقف عند هذه النظرية التي تقول بضرورة الحكم المطلق، والتي هي النتيجة المنطقية لمذهب المادة. وإنما نريد أن نشير - في ختام هذا البحث - إلى أن هوبز يختلف عن بيكن في ناحيتين هامتين: أما أولاهما فهي أنه يقول بنظام ميتافيزيقي: النظام المادي. وأما الثانية فهي أنه يعطي القياس قيمة تفوق قيمته عن بيكن. لقد أغفل هذا الأخير، حين جعل الاستقراء المنهج الكلي، أمرين:
1: الدور الذي يلعبه الاستنتاج في الرياضيات.
2: الدور الذي لعبه العنصر الرياضي والنظر القبلي في مكتشفات القرن الخامس عشر. ومن هنا فإن هوبز يقف موقفاً وسطاً بين مذهب التجربة الخالص ومذهب ديكارت العقلي.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(656/28)
ماثيو أرنولد ,
للأستاذ خيري حماد
- 5 -
آراؤه السياسية:
كان أرنولد محافظاً معتدلاً، ورغما عن أنه لم يرشح يوماً ما لعضوية البرلمان إلا أنه كان شديد الميل للسياسة. وقد ظهرت هذه الرغبة جلية في السنين الأخيرة من حياته؛ فلما نزع يده من الأمور الدينية اشتغل يبحث المسائل والمشاكل السياسية بحثاً استنفد قسماً كبيراً من اهتمامه ووقته. وكانت له من تجاربه في وظيفته الحكومية حنكة سياسية يندر أن توجد في أمثاله. ناهيك عن قدرته على استطلاع خفايا المشاكل العويصة وطريقة حلها بأسلوب منطقي محكم لاسيما وقد امتزج بسائر طبقات الشعب فعرف عنهم جميع صفاتهم وأخلاقهم.
ولكن أولى مهامه السياسية باءت بالفشل الذريع، فقد عارض بكل قواه قانون الدفن. ولكن جهوده السياسية كانت خائبة فطبق هذا القانون مدة طويلة من الزمن، وكان يرهب نتائج الحكم اللامركزي ويعارضه بكل قواه، فجاهد في سبيل القضاء عليه جهود الجبابرة، ولكنه لسوء حظه فشل للمرة الثانية وباء بالخسران. ولتبرير سقوطه كتب قائلاً: (لست أدعي السياسة، ولكني شخص عادي أبصر بهذه الحالة التي تسود البلاد. ولم يعتمد على أنصار وأحزاب منظمة؛ بل جاهد بمفرده ليسعى في إنالة بلاده قسطاً أوفر من المدنية).
وفي مقدمة مقالاته الأيرلندية نراه يكتب: (إن دهاة القوم وكبار الساسة ليعارضون فضول رجل أديب مثلي. ولكنهم في الحقيقة لم يعارضوه إلا عند مخالفته لآرائهم السياسية. وفي الجدال السياسي الذي حدث سنة 1886، نرى كلا الطرفين من أنصار الوحدة والحكم الذاتي في أيرلندة يعتزون بانتساب عدد من الأدباء والكتاب لحزبهم.
وكل محاولة لتبيان آرائه السياسية تعد ناقصة إذا لم تتناول عقيدته في الحكم الذاتي لأيرلندة. فقد عارض بقوة قانون الحكم الذاتي الذي صدر سنة 1886، وكتب إلى جريدة التايمس مقالاً يحتج فيه على السياسة الخرقاء التي يرتكبونها بسن مثل هذا القانون. وفي هذا الاحتجاج نراه يعدد المساوئ التي يرتكبها القوم في أيرلندة وطالب بإزالتها والقضاء(656/30)
عليها. واقترح إنشاء نظام حكومي في أيرلندة يرتبط تمام الارتباط بالحكومة المركزية في لندن.
وهذه المحاولات العديدة التي قام بها من الناحية السياسية لم تكن كافية لإقناع القوم بشخصيته كسياسي بارع. فلم يصبح عضواً في البرلمان ولم تكن له القوة يوماً ما لإدارة دفة الإنتخاب، ولكن عند وفاته نرى البرلمان يعلن الحداد عليه رسمياً مدة ليست بالقصيرة، مما يدل على تأثرهم بنظرياته وآرائه التي كان لها شأن عظيم في التأثير على أفكار القوم، ووضعها في الصورة التي يريدها.
وفي الحقيقة كان أرنولد حر الفكر يجاهد في سبيل إعطاء سائر الأمم المستعمرة حريتها وخاصة أيرلندة. ولكن هذه الحرية لا تعني انفصال هذه المستعمرات انفصالاً تاماً عن الحكومة المركزية؛ بل تظل تهتدي بهداها وتستن سننها.
كتبه ومؤلفاته:
إن من الصعب علينا في هذا المقال القصير أن نحاول تحليل جميع الكتب التي ألفها أرنولد من أدب وشعر وفلسفة ودين. ولكني أكتفي بتحليل بعض مؤلفاته تحليلاً موجزاً يظهر لنا نبوغه وعبقريته الأدبيتين. وهذه المؤلفات هي: -
1 - أمبر وكليس على جبل أتنا
ظهر هذا الكتاب سنة 1852 يحوي بعضاً من خير القصائد التي كتبها المؤلف فقابله الجمهور بفتور شديد مما كان يدعو إلى يأس أرنولد وقنوطه لولا التشجيع الذي قابله به الشاعر روبرت براونينج المشهور. ويشتمل هذا الكتاب على قصائد عدة أهمها (أشعار الذكرى) التي قالها في رثاء الشاعر الكبير وليم وردزورث. ومطلع قصيدته كما يلي:
(لقد دفن جيتي منذ مدة طويلة في مدينة ويمر.
(وقد شهدت بلاد اليونان جهاد بيرون الطويل وموته
(ولكن وفاة هذا العظيم كانت منتظرة منذ مدة طويلة
(لتخمد جذور الشعر.
(ما الذي يمكننا أن نقوله في وصف وفاة وردزورث؟)(656/31)
وقد أعجب براوننج بهذا الكتاب إعجاباً شديداً دعاه إلى إعادة طبعه مرة ثانية سنة 1867. فكلا الموضوع والأسلوب كلاسيكي جذاب. وقد وصف أرنولد أمبدوكليس وصفاً دقيقاً وأظهره بصورة فيلسوف يوناني ولد في جزيرة صقلية في القرن الخامس قبل الميلاد وفلسفته الباقية لدينا تدل على تصوفه وعلى حياة الأحلام التي كان يحياها.
والأغنية التي يناشد أمبدوكليس كما نه بها لا تقل عن قصيدة (ربي بن عزرا) في القوة والخيال الشعريين فهي تحوي بعض الأبيات الرائعة كقوله:
(قد نرغب في الحصول على الهدوء النفسي.
(ومع ذلك فإننا لا نتطلع إلى أنفسنا.
(ونحب القضاء على التعاسة والبؤس.
(بينما لا نحاول الامتناع عن الشرور والآثام).
وأكثر أبيات هذه القصيدة روعة هي أغنية غالسيس في نهايتها.
(إن هذه الأمكنة لا تصلح لسكناك أيها الإله العظيم أبولو.
(ولكن حيث تلتقي الجبال الغربية بصخور الشواطئ والبحار.
ويتممها بقوله:
(لقد أتى أبولو قائداً.
(بفرقته الموسيقية المؤلفة من تسعة أشخاص.
(فالقائد جميل.
(وكل الأعضاء من أهل السماء).
وجمال هذين المقطعين يتلخص في احتوائهما على بعض الاصطلاحات الشعرية ويمتاز المقطع الأول بأسلوبه الشعري الذي يعد أسّاً من أسس الفن والأدب.
والقسم الثاني من هذا الكتاب يشمل على أقصوصة تريسترام والفنانتين الملقبتين بأيسولت. وقد أحب تريسترام إحدى هاتين الفنانتين ولكنه اضطر إلى الزواج من الفتاة الأخرى. ولم يكن أرنولد موفقاً جداً في سرد هذه القصة لأنه لم يتمها ولكنه جاء بها بطريقة جذابة. وبعض أبياتها لا يسعنا إلا تردادها لنشبع شهوتنا باللذة التي تجنيها منها:
(إن صوتها ليعلو على الضوضاء فيصل إلى أذني.(656/32)
(وأرى لآلائها من خلال الرماح المتشابكة.
(فتظهر ميتة تحت غطاء الشباب والعنفوان).
وليس من المستحسن قراءة هذه القصيدة للقصة التي تحكيها. فهي أشهر من أن تقرأ في مثل هذا الشعر الذي لا يظهرها بل يحافظ على غموضها وإبهامها. ولكنها تقرأ في نفسها لهذه الأبيات الرائعة التي لا يمكن نكران قوتها وعذوبة أسلوبها.
2 - رستم وسهراب
أجمع محبو أرنولد على أن هذه القصيدة من خير ما نظمه الشاعر. وقد ظهرت لأول مرة سنة 1853 تحمل بين ثناياها جمالاً طبيعياً مبتكراً يندر أن يوجد في قصائده الأخرى. فهي قصة بطولة أسيوية نظمها الشاعر في قصيدة من الشعر المرسل متبعاً فيها أسلوب الشاعر اليوناني العظيم هوميروس في إلياذته. والقصة في حد ذاتها رائعة ولكنها طويلة، ولا يمكنني سردها في هذه الرسالة لطولها. ولكنها تتلخص في مبارزة وقعت بين والد وولده وكلاهما يجهل صاحبه. سقط الولد صريعاً فعرفه الوالد وحزن حزناً شديداً لقتله ولده. صمم على الانتحار فشجعه الولد بقوله:
(لا ترغب يا والدي في الانتحار - يجب عليك أن تعيش.
(لأن كثيراً من الناس خلقوا للقيام بأعمال جليلة في حياتهم.
(بينما هناك كثيرون قدّر عليهم أن يعيشوا مغمورين الذكر ثم يموتون.
(وإني لأتوسل إليك أن تقوم بجلائل الأعمال التي كنت
(أتوق لعملها فتجني نصراً آخر وفخراً في حياتك)
يقلد أرنولد هوميروس في سهولة وبساطة. فهذه القصيدة تحوي مشاعر خيالية رومانتيكية تعبر عنها تضحية الشاب في سبيل القيام بجلائل الأعمال وعظائمها. فيموت في الآونة الأخيرة التي كان يطمح فيها أن يصبح من كبار المحاربين والأبطال مقتولاً بيد والده الذي يجهله ولا يعلم بوجوده.
3 - ميروب
في هذه الرواية التمثيلية نرى أرنولد يحاول أن يجعل من بوليفونتيس ملكاً قوياً عاقلاً يقوم(656/33)
بخير الأعمال للتكفير عن الذنوب العديدة التي ارتكبها أيام شبابه. ولم يكن أرنولد في هذه الرواية موفقاً تمام التوفيق لأنه لم يخلق فيها شخصية تجتذب الجماهير وتأسر قلوبهم. ومع أن أسلوبها يوناني صرف إلا أن تقليده ليفوق تقليده في رواية (الاطلانتيد في كاليدون) أما من حيث الجمال والروعة فإن (ميروب) تقصر بكثرة عن سابقتها التي مع شذوذ أسلوبها وعدم ترتيبه تحوي روحاً فنية خالدة. فميروب جسد بلا روح وهي لا تحوي العاطفة التي تتقد في الرواية الأخرى.
وقد نجحت الرواية نجاحاً لم يكن ينتظره مؤلفها وبيعت بكثرة في الطبقات الراقية من الأمة، بينما طبقة العامة لم تأبه لها لعدم تفهمهم الآراء الفلسفية العديدة التي يضمنها فيها. وفي القصائد التي تحويها أبيات رائعة خالدة. ومنها هذه الأبيات:
(إن الطغاة ليجعلون من البشر رجالاً حسني الأخلاق
(أكثر مما يتظاهرون). أو
(إن تاجك ليقضي عليك بينما لسانك ينقذك مما يحل بك)
أو الأربعة أبيات التالية:
(اسمع هذه الضوضاء التي تنبعث من الشوارع الأخرى
(واسمع ما يحدث من قتل الناس في مثل هذه القاعات
(وهكذا تحكم أنت كما كان والدك يشاء ويهوى
(أو تحكم فتجعل من أعدائك عبيداً يخضعون لأمرك)
وجميع هذه الأبيات تخلو من القافية والوزن، ولذا فأنها عدت خشنة الأسلوب مع احتوائها لبعض الأفكار المألوفة.
ولكنا لو أردنا مقارنتها مع غيرها من روائع الشهر لعدت من سقط المتاع.
4 - مقالات في النقد:
ظهر هذا الكتاب سنة 1865 ويعد من أحسن مؤلفاته في عالم النثر؛ فهو المحور الرئيسي الذي يرتكز عليه نقده، وتعتمد عليه شهرته. ومع قلة انتشاره بين طبقات الشعب؛ إلا أن جمهرة النقاد أعجبوا به أيما إعجاب. وقد أحدث حركة جديدة في عالم النقد الإنكليزي. فهو لم ينتقد في كتابه هذا جمهرة الكتاب ولكنه علم الآخرين كيف ينتقدون؛ فوضع قواعد جديدة(656/34)
يسير عليها النقاد في البحث والتحليل.
وفي الطبعة الثانية من كتابه هذا كتب أرنولد مقدمة قيمة يخاطب فيها جامعة أكسفورد خطابه الشهير الذي يقول فيه: (إنها مدينة جميلة، صفحتها بيضاء ناصعة لم تلطخها الحياة العقلية التافهة التي سادت البلاد مدة من الزمان).
وفي هذا الكتاب وضع أرنولد بعض قواعد في علم النقد، منها ما هو مهم ومنها ما هو تافه.
ومن شروط النقد في رأيه الرغبة والميل. فكل ما هو مرغوب حسن وقيم والعكس بالعكس. وفي هذا الكتاب يعرف مؤلفنا الشعر بقوله: (الشعر هو أحسن الطرق في الدلالة على الأمور وأكثرها تأثيراً في نفوس القراء).
ومن آرائه القيمة في عالم النقد الطريقة التي خالها أحسن الطرق في دراسة الشعر والتفكير فيه. فقد أعتقد أن أهم ما يتوخاه دارس الشعر هو الفكر أو الغاية. فالفكر هو الحقيقة الراهنة التي يبنى الشعر على أساسها. ولا شك أننا بعد مدة قصيرة سننظر إلى الشعر كالوسيلة الوحيدة لتفهم الحياة ودراسة مناحيها المختلفة؛ فبدونه لا قيمة للعلوم وسيأتي يوم عما قريب يحل فيه الشعر محل الفلسفة والأديان. فقديماً دعاه وردزورث بخلاصة روح المعرفة أو بالنتيجة المتوخاة في عالم العلوم والمعرفة. وما الدين والفلسفة إلا خيالات وأشباح تجول جولاتها المعهودة في عالم المعرفة. وسيأتي يوم عما قريب ننظر فيه نحوهما نظرة المستخف المهمل فنشعر بسخافتهما وقلة ما فيهما من المدارك والمعلومات.
(البقية في العدد القادم)
خيري حماد(656/35)
هذا العالم المتغير:
هل يكشف الفيتامين عن سره؟
للأستاذ فوزي الشتوي
الفيتامين والأكسوجين:
يسجل الفيتامين في هذه الأيام صفحة جديدة في تاريخ الصحة البشرية وعلاج العقم الإنساني والروماتيزم ووجع الظهر وكل ما له صلة بتليف العضلات وتصلبها. وهو يطرق اليوم وادياً جديداً غير الوادي الذي عرفناه فكلنا يدرك أهمية الفيتامين للاحتفاظ بالصحة ولكننا لم نعرف السبب.
ويدور الآن بأذهان العلماء سؤال: ما هي العلاقة بين كمية الفيتامينات في الجسم والتفاعل الأكسوجيني مع أعصابه وعضلاته؟
ولا يجول هذا السؤال في أذهانهم عن مجرد تخمين أو فرض خيالي، بل تدعمه حقائق واكتشافات علمية. وله قصة طويلة بدأت عام 1922 حين اكتشف فيتامين وخلاصتها أن حيوانات التجارب تصاب بالشلل إذا حرمت منه. فإذا استخرجت عضلاتها الملتهبة وجدتها مخرمة كقطعة جبن نخرها الدود.
وقيست كميات الأكسوجين التي يستنشقها حيوان التهبت عضلاته فوجد أنها تتضاعف مرتين ونصفاً عن الكمية التي يستهلكها وهو في صحته، ومن ثم نبت الفرض العلمي بأن فيتامين يحفظ أنسجة الجسم من الاحتراق بالأكسوجين ويمنعه من التأثير عليها. ويقصر عمل الأكسوجين على مهمته الأساسية التي نعبر عنها بالتنفس.
تأثيره على العقم:
ظنّ العلماء على أثر اكتشاف هذه المادة أنهم وفقوا إلى علاج يشفي حالات العقم في الإنسان ويزيل الأسباب التي تقضي على الأجنة وهم في بطون أمهاتهم أو بعد ولادتهم بفترة معينة. واحتضن البحث عالم دانمركي اسمه فويت موللر.
واختار العالم 74 امرأة يلدن الأطفال أصحاء، فلا يلبثون أن يقضوا نحبهم بعد سنة أو بضعة شهور. واتبع في علاجهن إعطاءهن مقادير وافرة من زيت الحنطة الكريه الطعم(656/36)
وهو أغنى مصدر لفيتامين ونجحت تجربته ولكن إلى حد، فإن 59 امرأة فقط تيسر لهن القدرة على ولادة أطفال أصحاء لا تتأثر حياتهم بالعوامل الخارجية. وظلت الباقيات محتفظات بسيرتهنّ الأولى يعانين الحمل والوضع ويرين أطفالهنّ في شعورهم الأولى ثم يوارينهم التراب.
وجربه العالم مراراً فكانت النتيجة واحدة ولم يصل إلى حل حاسم لجميع أطراف الموضوع بل وجد العلم سبيله إلى اتجاه آخر يؤدي إلى فكرة جديدة، فلوحظ أن حيوانات التجارب إذا منع عنها فيتامين تصاب بالشلل، كما لوحظ أن نشاط القردة في تسلقها الأغصان يقل كلما قل نصيبها منه حتى إذا وصل النقص إلى حد معين رقدت مشلولة بدون حراك.
وكان من الطبيعي أن تشرح فإذا بعضلاتها كالمصفاة بتناوبها الثقوب، وإذا العلم يلمس ناحية من المرض المعروف بتصلب العضلات فأية علاقة بين الفيتامين وبين العضلات؟
اتجاه جديد:
والمعروف أن تصحيح العضلات والأعصاب إن انتابتها مثل هذه الأعراض من المسائل التي يعجز الطب عن إرجاعها إلى حالتها الأولى، فهي في عالم العلاج بمثابة ساق يفقدها الإنسان ولن يفيد لإعادتها أية جرعة أو أي دواء ولكن فيتامين أرسل في العلماء بصيصاً جديداً من الضوء.
فهل آلام العضلات إنذار ينقص كميات فيتامين
إننا نسمي التهاب العضلات بأسماء مختلفة فأن كانت في الظهر سميناها لومباجو وإن كانت في الساق سميناها روماتزما، ومنشؤها واحد. وهي بأنواعها وأسمائها المختلفة منتشرة بين الناس.
وتوافر الدكتور شارلس ستينبرج من أمريكا على البحث فاختار 60مريضاً وغذاهم بجرعات كبيرة من فيتامين فبرئ منهم 55 من أمراضهم في مدة تراوحت بين ثمانية أسابيع وثلاثة وثلاثين ولكن آلامهم توقفت عقب الأسبوع الأول.
من ذكريات الطفولة:
وصادف الأطباء عقبة تحول دون استخدام فيتامين على نطاق واسع فأن الحصول عليه(656/37)
بالطرق الصناعية التي اكتشفت عام 1938 كانت باهظة التكاليف فيساوى الرطل الواحد منه 360 جنيهاً إلى أن ظهر كيماوي اسمه هكمان كان يشتغل في تجارب تجفيف الأفلام في مصانع كوداك. وكان يجرب إحدى طرق التجفيف في أنبيق مفرغ من الهواء للحصول على ضغط منخفض يساعد على سرعة الغليان بدون ارتفاع كبير في درجة الحرارة.
وفي أحد الأيام كان هكمان يسير الهوينا في طريقه فوقف قبالة أحد الحوانيت يرقب معروضاته، وهناك شهد زجاجات زيت كبد الحوت، فأحس بالقيء يتولاه، إذ ذكر طفولته حينما كانت أمه تجرعه مادته الكريهة التي عافت نفسه طعمها ورائحتها فسأل نفسه:
- لماذا لا يستخرج الفيتامين الحيوي من هذا الزيت المؤلم؟ لماذا لم يجمعه العلماء في أقراص صغيرة يبتلعها الإنسان فلا تتلوى أمعاؤه؟
وشغلت الفكرة باله، فما كاد يرى الأنبيق المفرغ من الهواء حتى طرأت على ذهنه تجربة: فلماذا لا يغلي ذلك الزيت في الأنبيق فيتيسر له الحصول على مبتغاه دون أن يقتل الفيتامينات؟ وهرع إلى الحانوت ثانية، فأشترى زجاجة من زيت كبد الحوت، وعاد بها إلى أنبيقه لينفذ فكرته.
ونجحت التجربة وولدت صناعة جديدة، وافتتح مصنع كوداك فرعاً جديداً لتقطير الزيوت، فلما أعلنت الحرب وحرمت الولايات المتحدة من حيتان النرويج وزيتها غذت المصانع الشعب بالفيتامين المستخرج من أسماك المياه الأمريكية.
من مخلفات المصانع:
وتحول (هكمان) إلى فيتامين يجرب استحضاره، وكان هدفه الإنتاج الرخيص الهين. وكان من اليسير أن يستخرجه من زيوت الحنطة، ولكنها كانت غالية الثمن مما يتعذر معه إنتاج الفيتامين بأثمان ميسورة للفقراء ورقيقي الحال.
وفكر في زيوت النباتات وأهمها حبوب الصويا والفول السوداني وبذرة القطن. والمعروف أنها تحتوي على واحد في الألف من فلما مرت في عمليات الحزم والضغط، وجد أن فيتامينها قل إلى النصف، فأين ذهب النصف الآخر؟
ووجه همه وهم أتباعه إلى مهملات المصانع التي تستغل هذه الزيوت، فوجد النصف الباقي قد تسرب إلى قاذوراته ومهملات من أوراق لف ونباتات حزم. وإلى كل مكان(656/38)
انتقلت إليه الحبوب أو زيوتها.
ومن هذه المخلفات التي تعودت أن تلقيها المصانع (كزبالة) استخرج مادته الثمينة بتقطيرها بالأنبيق المفرغ، فهبط ثمن رطل الفيتامين من 360 جنيهاً إلى عشرة جنيهات. ووجد الناس وفرة من مادته كما تيسر للأطباء ومعامل التجارب ما يساعدهم على الاستمرار في أبحاثهم.
ويحتاج جسم الإنسان من هذا الفيتامين في كل يوم إلى كمية تتراوح بين 10 - 30 ملليجرام أي ما لا يتجاوز ثمنه بضعة مليمات.
وكثير من آلام الظهر والمفاصل تنتج من تأثير أمراض أخرى ليست وحدها كفيلة بإلقاء المريض في فراشه، ولكن إحداثها للألم يلزم المريض الفراش شهوراً وسنين، فكان من المباحث الرائعة أن عولج أولئك المرضى بحبوب فيتامين فزالت آلامهم وعادوا إلى أعمالهم.
ويكثر فيتامين في ردة القمح والخضراوات، ولاسيما أوراقها والإكثار من التغذية بها مفيد جداً للحوامل وأطفالهن. ويعد حيوياً لصحة الأعصاب والعضلات، ولعل هذا البحث يفسر عادة المرضعات عندنا من الإكثار من أكل الفجل والجرجير.
قلم حبر لسنة كاملة:
سجلت إحدى شركات صناعة أقلام الحبر، قلماً عادياً جديداً يستطيع الكتابة في الماء على عمق خمسين ألف قدم فلا يؤثر الماء على الحروف ولا يزيل المداد.
ويتغذى سن هذا القلم بنوع جديد من المداد يجف بمجرد ملامسته لورقة أو قطعة قماش أو أي مادة صالحة للكتابة. ويصلح خزانة لتغذية القلم مدة سنة كاملة يتغير بعدها بخزان جديد.
ولهذا القلم أهميته في اكتشافات أعماق البحار، فكثيراً ما كان الغواصون يفقدون حياتهم نتيجة لحوادث تحدث لهم وهم في الأعماق فلا يدري أحد ماذا حدث أو الأسرار التي رأوها في الأعماق وبواسطته يدونون ملاحظاتهم فيستطيع زملاؤهم معرفتها.
ومن الطبيعي أن فائدته قد تعم المدنيين، فكثير من مستخدمي أقلام الحبر يتضايقون من عمليات ملئه بين يوم وآخر، ولكن مثل هذا القلم سيوفر عليهم ملأه عاماً كاملاً لا يخشون(656/39)
فيه نفاد مداده.
عصر الطيران يبدأ:
بدأت المطارات الأمريكية تهتم بتنظيم حركة مرور الطائرات المدنية فتضع في طرقها علامات لسير الطائرات والسيارات. فالمعروف أن الطائرات تحتاج إلى طرق خاصة لهبوطها ولوضعها في حظائرها.
وتنتظر شركات أمريكا أن يقبل شعبها على الطيران إقباله على السيارات فيصبح لكل فردين من السكان طائرة كما هي الحال في السيارات. وتصمم مصانع الطائرات أنواعاً من ذات الراكبين، منها يصعد عمودياً وما يحتاج إلى مسافة لسيره.
وقد وضع مطار لاجارديا لافتات يديرها رجال البوليس كما يفعلون مع السيارات. وهذه اللافتات مؤلفة من جزأين أحدهما يأمر بسير الطائرات والآخر يوقف الطائرات ويسمح للسيارات بالمسير.
14مليما للميل بالطائرة
وتنتج شركات الطيران البريطانية طائرات صغيرة تصلح لنقل 12 راكباً أو حمولة طن من البضائع ولكن عملها سيقتصر على المسافات القصيرة.
ومدى طيران هذا السفن الهوائية 450 ميلاً تسيرها بسرعة 125 ميلاً في الساعة ويتكلف مسيرها 14 مليما في الميل الواحد.
ويقول غواة الرحلات الخلوية إن هذا النوع صالح جداً للرحلات الخلوية وأعمال الكشافة لأنها مصنوعة مثل سيارة نقل كبيرة يسهل تحويلها لشتى الأغراض.
فوزي الشتوي(656/40)
بعد الحرب
للأستاذ كمال النجمي
لمن أربع يشجو القلوب دثورها ... تحمل أهلوها وأقوت قصورها
منازل كم باتت بأمن وغبطة ... ونازٍلها غافي العيون قريرها
تحيّفها الموت الوحٍي فأصبحت ... بلاقع تهتاج الدموعَ قبورها
نعم درست من حسنها كل لمحة ... إذا ذكرتها النفس هٍيج ضميرها
ولولا يد للحرب ما غيل أمنها ... ولا باعد السَُمَّار منها سرورها
سلوا: أين أوربا وما شاد أهلها ... وأين مجاليها الفساح ودورها؟
وأين رياض أثَّ منهن كرمها ... وأين دنان طاب فيها عصيرها؟
وأين صباياها الملاح سوافرا؟ ... وهل حبَّب الأقمار إلا سفورها؟
معاهدُ فيها للقلوب منازه ... أضاءت لياليها الحسان بدورها
لسرعان ما جال الردى فأدالها ... كأن لم يكن ريَّ القلوب حبورها
سلوا غائل الأرباع لو يُسأل الردى ... ألم تجن موتاً إذ زهاها غرورها
تملكها زهو القويَّ فأوفضت ... جوارح تغتال اليمام صقورها
فأين ليوث يتقي الدهر بأسها ... إذا ما دأت هز السماك زئيرها
تباهي بها الجرمان حتى تبددت ... حزائق أسرى لا يُعدُّ غفيرها
وما العاشقون الحرب إلا عصابة ... إذا مُكٍّنتْ في الأرض فاضت شرورها
وليس الذي يستبعد الخلق بطشه ... بناج إذا ما غيظ يوماً شعورها
فهل مُبلغ عنا بني مصر عصبة ... حموا أمماً أن تُستباح ثغورها
بأنا وقد كنا لهم خيرُ مسعد ... إذ الحادثات الدهم طمّ نكيرها
نذكٍّرهم والحرب أُخمد وقدها ... بما قطعوا والحرب ذاكٍ سعيرها
بذلنا لهم أمناً ومالاً وأنفساً ... يجل عن الحصر القليل وفيرها
ولما دجا ليل الخطوب وأشرقت ... قناتهمُ أن يُستلان عسيرها
مددنا لهم راح المعونة بَرَّةً ... تعاضدهم حتى انجلى قمطريرها
وإن وردت أجنادهم حوض وقعة ... فنحن لها خلف الخطوط ظهيرها(656/41)
منحناهم من قوتنا ونفوسنا ... فهم أمة جازت ونحن جسورها
ولم تنس مصر دورها إذ تقوضت ... وغيل بها ولدانُ مصرَ وحورها
تعاورها (الأعداء) بضعة أشهرٍ ... ولم تك إلا الدهر طولا شهورها
طوائرُ تجتاز السماء مغيرةً ... ألا شد ما راع النفوس مغيرها
إذا زأرت هبَّ الرقود كأنما ... دعاهم إلى يوم القيامة صورها
أصابت رجالاً آمنين وروّعت ... صغاراً وشيخاناً يجل وقورها
إذا قوضت من لندن بعض دورها ... على الرغم مما زاد عنها نسورها
ففي مصر أمثال لذاك عديدة ... إذا أُنصفت لا يُستقل كثيرها
ولما سطا (روميلُ) سطوة ظافر ... وبان من المهواة حيناً شفيرها
وقفنا لهم دون الحوادث وقفة ... تغنت بها أقلامهم وصريرها
وكنا لهم أعوان صدق تحاشدوا ... على المحنة الكبرى فهان خطيرها
صبرنا لها حتى تبلج فجرها ... وأذَّن بالنصر المبين بشيرها
فيا حلفاء النيل أين مواثق ... منمقة ألفاظها وسطورها؟
صدحتهم بها فوق المنابر عذبة ... كما صدحت فوق الغصون طيورها
فكانت حداءً ساقنا عذبُ لحنه ... كقافلة تُحدى فتدأب عيرها
فهل حان تحقيق الذي قد قطعتمُ ... وآن لمصر أن يبين مصيرها؟
ولسنا وإن كنا السِّماحَ ضيافة ... سوى أُسدِ غيلٍ لا تُرام ظهورها
أنلقحها حرباً عواناً إذا انجلت ... عدانا ولم يعد الأباعد خيرها
وكيف يذيق النيل أولها لظى ... أليماً ويغتال الرجاَء أخيرها؟
على أننا نرجو اعتدال أمورنا ... وحق لمصر أن تصح أمورنا
بني مصر إن الأرض خيس ضياغم ... فهل أنتم مثل الضعاف جزورها
حييتم حياة المسنتين لتنصروا ... قضية قوم لا يُضام نصيرها
فها هي ذي أمنية النصر حققت ... وجلجل في سمع الوجود نضيرها
ولا أرىَ إلا أن تهبوا جماعةً ... فما صلحت دار تشظى عشيرها
لنا وطن حر نريد حياته ... كما حي عملاق الدنا وصغيرها(656/42)
وأنفس أحرار إذا سيمت الأذى ... رأى عسلا صابَ المنون غيورها.
وإنا وإن نيأس من الشيب إذ جروا ... لإحراز أسلاب يُذم حقيرها
لفينا شباب يعجب المجد فعلهم ... هم روح مصر في الحياة ونورها
فإيه بني مصر دعتكم بلادكم ... وما غيركم من جور عاد يجيرها
سراعاً صغار النيل لبوا نداءه ... فقد خذل الأوطان ضعفاً كبيرها
وما غيركم ينتاشها من عذابها ... ويطلقها من بعد ما ضاق نيرها
فكونوا لها جيش الخلاص فإنكم ... نفوس زكت حتى أضاء طهورها
بني مصر قد حان التفات لأخوة ... تبيت من البلوى بحرِّ صدورها
إذا العدل لم ينظم بني مصر كلهم ... فأقرب شيء أن يجوع فقيرها
عجبت، وهل في مصر إلا عجائب ... إذا خطرت في نفس حُر تثيرها؟
للصانعين الخبزَ واللبس كسرةٌ ... وخرقةُ جلباب تهاوت ستورها
وللنائمين المترفين نعيمها ... وآكلها موفورةً وحريرها
لهم بُر مصر طامعين وشُهدُها ... وللشعب منها فُومُها وشعيرها
ألا مصلح فينا فيدرأ ديمة ... إذا انبجست أعيا الجهود مطيرها
كمال النجمي(656/43)
البَريدُ الأدَبيَ
مقاطعة الصهيونية:
كان الأستاذ عادل حمزة بدير من المحامين المعروفين في دمشق وكيلاً لجماعة من يهود فلسطين في قضية مهمة في محكمة الاستئناف في دمشق موضوعها ملكية قرية على حدود سورية له منها فائدة ومنفعة وأجر كبير، فلما قُررت مقاطعة الصهيونية، رأى أنه لم يعد يجوز له السير في القضية، فكتب إلى موكليه أنه قد عزل نفسه من الوكالة تنفيذاً لقرار الجامعة العربية وأبلغهم وجوب حضورهم بأنفسهم المحاكمة، أو توكيل غيره، وأنه مُرجع إليهم الأجر المقدم الذي دفعوه له.
أخبرني بذلك، فرأيت فيه مأثرة تستحق أن تنشر في الرسالة مجلة العرب، وقدوة صالحة يقتدي بها، فأنا أنشرها وأبعث إليه بإعجابي وإكباري.
علي الطنطاوي
زرقة العين يمن:
نقل الأستاذ العلامة النشاشيبي (في عدد الرسالة 655) قول الزمخشري: (إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب. . .).
والحافظ السخاوي والمحدث العجلوني يقولان: زرقة العين يمن، ذكره في الجامع الصغير عن أبي هريرة بلفظ: الزرقة في العين يمن، قال المناوي: أي بركة. . . قال الشاعر:
وما عليك أن تكون أزرقاً ... إذا تولى عقد شيء أوثقا
كما في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني) والمقاصد الحسنة للسخاوي
محمد شفيق
1 - النفاق في الأدب:
النفاق في الأدب يجري على سنن النفاق الاجتماعي سواء بسواء، فكما أن الناس أسرفوا في مجاملاتهم الكلامية الكاذبة، أسرف الأدباء في مراعاة التجمل، ولجئوا إلى الكناية(656/44)
والمجاز، واستعملوا المحسنات البديعية ليخفوا المعنى الصريح الذي يريدون.
ولا كان كذلك الأدباء في عهود الأدب الزاهرة، وما زلنا نقع كلما شققنا كتاباً من الكتب القديمة، على المعاني تلتمع صريحة واضحة. ولا مشاحة في أن العهود الماضية كانت عهود تماسك خلقي، والوازع الديني أشد ما يكون أخذاً للناس في أسباب الحياة، فإذا نزع الأدباء في هاتيك الأزمان إلى الصراحة التي نستهجنها اليوم في كتب الأدب الحديث، فإنما يحمل ذلك على أن الكتب لم تكن متداولة قديماً إلا بين الخاصة، فلا خطر ولا ضرر من شيوع بعض ما فيها من ألفاظ قد يأباها الذوق أو يأباها العرف.
أما الآن، ونحن في عصر تزايل خلقي، فلا مرية في أن الذوق لا يستسيغ كثيراً من الألفاظ كالتي استعملها الجاحظ مثلاً في كتاب الحيوان أو كتاب المحاسن والأضداد، ذلك لأن هذه الكتب أمست في متناول الناس جميعاً، يطالعها الأستاذ ويطالعها تلميذه، ومن ثم يكون الضرر في الشيوع.
غير أن للتاريخ حرمة، فينبغي ألا تحل كلمة محل أخرى، ولا يحذف لفظ ليظهر مكانه خاوياً ويكتب في هامشه مثل هذه العبارة (كلمة تنافي الأدب) أو غير ذلك، فالحذف هنا لا يتفق والأمانة الماضية، وقد يذهب القارئ مذاهب شتى في تأويل اللفظة المحذوفة، فيجئ الضرر على حين قصد الناشر النفع.
لقد قرأنا كثيراً من الكتب القديمة التي أعيد طبعها وتصويبها ففزعنا لكثرة ما حذف منها من العبارات (النابية) أو (التي تنافي الأدب)، فاضطررنا إلى الرجوع إلى الطبعات القديمة الممسوخة الطبع والمشوهة الحروف، فوقعنا منها على الأصل القريب. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا ما قلنا إننا في كثير من الأحيان لم نر نبواً ولا خروجاً على الأدب المألوف.
على أن للعلم حقه، وهو فوق الأدب، وفوق الذوق، والناس لا يجترئون على حذف لفظ من ألفاظ القرآن الكريم أو الكتب المقدسة الأخرى، ولا يطمسون ألفاظاً في الحديث الشريف بحجة قصاراها أنها لا تتسق والعصر الحديث. فأحرى بالناسخين أن يبقوا على أمانتهم تلك في نشر الكتب القديمة، وليس شيء أولى بالاتباع من الحق الصريح.
2 - فيشر ومعجمه:
قالوا: إن إرادة مجمع فؤاد الأول للغة العربية أرسلت تستفسر عن مصير المستشرق(656/45)
الألماني الدكتور فيشر عضو المجمع منذ نشأته.
ولقد عرفنا الدكتور فيشر عن كثب يوم كان كاتب هذه السطور في عداد موظفي المجمع، فإذا هو رجل ذرًّف على السبعين ضربه الشلل في فكه الأسفل، إذا تكلم فلا يكاد يبين.
ولقد كان الدكتور فيشر أظهر الأعضاء المستشرقين، حين مهد لوضع معجم لغوي تاريخي يبدي تحولات الألفاظ العربية خلال القرون.
ولقد نذكر أن كثيراً من اللغويين شجبوا عمل هذا المستشرق الكبير وسمعنا المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري يقول عنه إنه عمل لا يتم، وقال غيره متهكما إنه (مشروع نازي)! بيد أن كل أولئك لا يذهب بجلال هذا العمل، ولو أنه تم لكان مفخرة لمصر ولمجمعها. ولا نريد أن يصرف غياب الدكتور فيشر المجمع عن إكمال عمل يستحق الكمال.
3 - ديوان ابن الرومي:
أصدرت وزارة المعارف قراراً بتأليف لجنة لجمع ديوان ابن الرومي ونشره مصححاً. وهذه اللجنة مؤلفة من الأساتذة: كامل كيلاني، ومحمد شوقي أمين، ومحمد جبر، ومحمود لطفي.
والأدبيان الأولان غنيان عن التعريف، وأما الآخران، فقد غلب عليهما التواضع العلمي فلا يكادان يظهران للجمهور في كتاب أو مقال. ولعل هذه هي الساعة الأولى للتعريف بفضلهما ونشر أدبهما بين الخاصة والجمهور.
وأول ما قرأنا ديوان ابن الرومي إنما طالعنا النسخة التي نشرها صديقنا الأديب الكبير الأستاذ كامل كيلاني، أذاعها على الناس أيام الشباب والفراغ، يوم انصرف هو للأدب، وانصرف غيره لملاذ الحياة وأطايبها. فإذا اقتنص له الكاشحون بعض المآخذ فحسبه أنه كان أول المتصدين لعمل لا يقدم عليه سوى المغامرين الشجعان.
(الرمل)
منصور جاب الله
لجنة النشر الفلسفية:
تكونت هيئة من بعض خريجي قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول قوامها الأساتذة: أنور فريد،(656/46)
وسعيد زايد، ومحمد إمام الحوت، ومحمد محمد وهبة، باسم (لجنة النشر الفلسفية)، تهدف إلى نشر الدراسات الفلسفية التي ترتبط بحياتنا الواقعية ارتباطاً وثيقاُ، وذلك عن طريق ترجمة وتأليف بعض الكتب وإذاعة بعض المحاضرات. وستظهر باكورة أعمالها قريباً، وهي ترجمة سلسلة الكتب السيكولوجية التي تصدرها مجلة (بسيكلوجست) تحت عنوان(656/47)
القًصصُ
حازم. . .!
للأستاذ عدلي طاهر نور
- 1 -
- حنان!
- ماذا يا حازم؟
كانت حنان مستلقية على العشب تنظر إلى السماء بعينين حالمتين وقد شبكت يديها تحت رأسها لتتقي صلابة الأرض، وسقط شعرها الفاحم متدرجاً على ذراعيها الناصعتين والخضرة الناضرة فأكسب تآلف هذه الألوان وجهها جمالاً بارعاً، وكان حازم مضطجعاً على جانبه بالقرب منها يعبث بالعشب وعلى شفتيه ابتسامة الذكرى.
مالت حنان برأسها قليلاً لترد على نداء حازم بقولها: (ماذا يا حازم؟) فقال:
- هل تذكرين يوم تعارفنا، حينما قدمت إليك فظللت ممسكاً بيدك وقد بهرتني صورتك وأذهلني جمالك فلم يردني إلى صوابي غير تخضب وجهك وتهكم الأصدقاء؟ يا لها من لحظة لا أنساها! فقد تاه الطرف في صفاء تقاسيمك، لا يستقر على جمال حتى يجذبه جمال آخر. وهل تذكرين ذلك اليوم، حينما ابتعدنا عن الأصحاب فوق المقعد تحت الصفصاف؟ كم بقينا طويلاً في صمت عميق، هذا الصمت الذي يخدر الحواس وينشط المخيلة ولا يقطعه غير اختلاس النظر ليغذي الخيال. وتلك اللحظة، هل تذكرينها يا حنان؟ تلك اللحظة التي تقابلت فيها عينانا فحاول كل منا أن يحول نظره ولكنه ما استطاع. فقد شخص بصرانا وتخضب وجهانا من المفاجأة، ثم ابتسمنا فكانت الابتسامة إذناً بالكلام.
أغمضت حنان عينيها تستعيد الماضي وقد أشرق وجهها بنشوة الذكرى، وامتلأ صدرها بلذة الرؤية. وصمت حازم وعاد يعبث بالعشب ويستنشق النسيم المليء بالذكريات، وهاج قلبه بالحب فنطق يقول:
- لاشك يا حنان أن حبي لم يخف عليك. فكل ما فيّ ينبض بالعاطفة. ولكن هل تعلمين قدره؟ إن المرأة تأسر الرجل بجمال خلقها أو حسن خُلقها؛ وأنت يا حنان قد جمعت الجمال(656/48)
كله. ويزيد في ولهي ما بك من سمو ساذج يصدر من القلب. فلست كمن شاهدت من النساء يتصنعن السمو في نظرة أو لفتة أو مشية، فلا يعدو الأمر الظاهر. إن ما بك من فضائل يا حنان يسحر لبي ويملك قلبي.
فاعتدلت حنان وعيناها تفيضان حباً، وقالت وصوتها يصوّحه الوجد:
- وأنت يا حازم. أما تعرف أنك سيد قلبي؟ لست أملك فصاحتك فأصف لك حبي؛ ولكنني أشعر. . . أشعر أنك كل شيء في حياتي؛ فطيفك يلازمني في يقظتي وأحلامي. وإني لأمرض لبعدك وأسعد بقربك. آه يا حازم إن حبي لك لعظيم!
- إن روحينا يا حنان قد امتزجتا؛ فما من قوة تفرق بيننا. أنا سعيد يا حنان. وما أستطيع أن أكتم سعادتي فأنا أرددها لكل ما حولي، للشجر والطيور، للقمر والنجوم. وأوحي بها إلى كل من يصادفني فتنبسط الأسارير وتبتهج الأنفس. ما أجمل الحياة إذا ملأها الحب والسعادة معاً. . . وسكت حازم فجأة فقد بدت في عيني حنان سحابة حزن انحدرت دمعاً. ولم يلبث أن صاح:
- حنان أنت تبكين؟ بالله أما تفصحين! فكم لمحت هذا الشجن يكسر طرفك ويؤلم قلبي. ولكن غمرة السعادة جارفة فما كان ألمي يدوم أطول من خفقه، والآن أنت تبكين فما أستطيع صبراً. بالله يا حنان ماذا بك؟ حدثيني.
لم تستطع حنان أن تغالب الدمع فقامت تجري وارتمت على مقعد قريب تذرف العبرات. وأسرع حازم وراءها وجلس بجانبها يجفف دمعها ويخفف تأثرها: أنا آسف يا عزيزتي؛ فما أردت أن أثير ذكرى أو أنكأ جرحاً. وإنما ظننت أن الإفضاء بذات الصدر يرفع عن النفس الحمل. هيا يا حنان. انسي كل شيء ولا تفكري في غير حبنا وسعادتنا.
فأجابت حنان على الفور: (لا يا حازم، يجب أن تعلم. فأنا. . . ولكن البكاء غلبها فلم تنبس بغير شهقة. فمدت يدها إلى حقيبتها وظلت تبحث فيها وهي لا تستطيع الكلام ولا تنقطع عن البكاء حتى أخرجت (دبلة) ذهبية وضعتها في بنصرها الأيسر. وكان حازم يتبعها بنظره مشدوهاً، لا يعي ما تفعل؛ ولكنه سرعان ما صرخ فزعاً: (أنت يا حنان. أنت!) فأجابت بحزن عميق: (نعم يا حازم. تلك مشيئة القدر) وساد سكون طويل أثقله صمت الطيور كأنها أشفقت من التغريد على قلبين يتعذبان. ساد السكون فبدا صوت حازم(656/49)
المتصاعد فاجعاً يرسل القشعريرة إلى البدن. لمَ يا حنان؟ لمَ تركتِني أتدله في حبك؟ لم هذه القسوة؟ ثم أمسك بيدها متوسلا: (قولي إنك تمزحين. قولي إنك لم تتزوجي. قولي لي أي شيء غير ذلك). ولكن أصابعه لمست الدبلة فجذب يده بشدة وابتعد عنها قليلاً وهو ينظر إليها نظرة الحزن والغضب والحب الخائب.
واندفعت حنان تقول: (أنا شقية يا حازم. فلا تقس عليّ ولا تزد في شقائي. أواه! لو علمت كم قاسيت، وصبرت حتى مل الصبر. أرهف الله حساسيتي إلى حد المرض فلم أنعم في دنياي بسعادة. وكان شغفي بالمطالعة منذ فجر شبابي طريقاً إلى الشقاء، فقد غذيت عقلي وقلبي بأعلى المثل وأجمل الأحلام. فكانت صدمة الواقع قاسية وتبدُّد أوهامي مؤلماً. وغشيني هم من الناس فأخلدت إلى العزلة وانطويت على نفسي حتى أذواني السقم وشفني الهزال. وأزعج أمري والديّ ففزعا إلى الأطباء يرجوان لي علاجاً، ولكن هيهات أن ينجع دواء الجسد في شفاء النفس، فقررا آخر الأمر أن يزوجاني. واستقبلت حياتي الجديدة تهدهدني الآمال وتغمرني الأماني؛ فقد كان قلبي يهفو إلى دار هانئة يرعاها زوج حنون ويبهجها أطفال عزاز؛ ولكن جسدي العاثر كان يلاحقني فكنت كالظمأى في صحراء، أنشد السعادة وهي سراب.
أحببت زوجي لطبية أخلاقه، ولكنه كان يقتل حبي بإعراضه؛ فقد طغى عشقه لعمله على كل عاطفة. وما كان يعني بي أكثر من عناية الثري بتحفة تجمل بهو منزله. والله أعلم كم حاولت أن أوجد نفسي في حياته أثراً؛ ولكنه سامحه الله كان يعتقد أن سعادة المرأة أن تنعم بفاخر الزينة وأن تفوز بحرية التصرف. فنسي أن الزواج ألفة يوحي بها الحب المتبادل، وأن العشرة الخالصة لا تتحقق بغير صيانة هذا الحب. نسي أن الزواج شرّع للصحبة المشتركة والتعاون الوثيق فتصفو الروح وترقى الحياة. نسى أن ملاطفة المرأة والتودد إليها ليس مقدمة للزواج فحسب، بل عاملاً حيوياً في علاقة الزوجين. آه لو حاول الرجل أن يخبر زوجه فيحقق لها أحلام الصبا وسعادة الشباب، إذن لأحبته العمر ولظل سيدها الأوحد وسلطان قلبها المطلق، ولكن الرجل وا أسفاه لا يحاول فهم المرأة وإدراك حقيقة نفسيتها، ثم ينعتها بالبرود والأعراض، ولا يلبث الزواج أن يصبح واجباً يؤدى. وهكذا عشت مع زوجي لا أحبه ولا أستطيع أن أكرهه. عشت معه بقلب يغص بالخيبة والحسرة.(656/50)
ولم يقف عذابي عند هذا، ولم يغفل القدر عني. ففقدت والديّ واحداً بعد آخر. ففقدت معهما قلبين كانا يعطفان عليّ ويخففان عني قسوة الحياة، وشعرت باليتم يصهر قلبي والوحشة تفجع نفسي. ثم كانت صديقاتي؛ فقد كنّ يروين لي بعضاً من حوادث لهنّ ليخففن عني. فكان شعوري بهذا الفضاء الذي أحدثته النوائب في نفسي يشتدّ وينتشر. ولم ألبث أن ضعفت يا حازم تحت إلحاح صاحباتي، فانطلقت معهن ذلك اليوم إلى حيث قابلتك. فكنت أنا الزهرة الذاوية، وكنتَ أنت القطر الباعث. وساقني القدر في طريق الحب فلم أفكر لحظة، ولم أثب إلى نفسي إلا بعد أن أحببتك. ولم أقو على الإفضاء لك بزواجي، بتعاستي يا حازم.
وغلبها البكاء فانقطعت عن الكلام. وصاح حازم وهو يكفكف دمعه: (مسكينة يا حنان!).
- 2 -
مضى كل منهما في سبيله مكسور الفؤاد. وعادت حنان إلى عزلتها وقد حرّك اليأس رماد قلبها وأهاج لهيب شجنها. وكانت تعمد، حينما يشتدّ بها ألم الشوق إلى الذكريات تلتمس منها عزاء ضن به عليها العالم الخارجي، فتصبح كصريع المخدر تقاسي بعد لذة قصيرة وسعادة واهية أشد الآلام. وكان أكثر ما يعذبها شعورها بما يكابد حازم من اضطراب نفسي بعد هذا الحادث، ويأسها من جل لموقفها البائس. فما كانت تستطيع أن تهجر زوجها لطيبة قلبه، وقد همت بذلك خضوعاً لحبها الجارف لولا أن خشيت لوم حازم فانتظرت أن يخطو هو الخطوة الأولى واستسلمت في انتظارها لحزن داهم وعزلة شديدة.
وعاد حازم وهو لا يفكر في غير اعتراف حنان، ورأسه يدق بالحقيقة القاسية، وقلبه يخفق بحبه الشديد. وكان كل عصب فيه ينبض بقوة كأنه يصيح: إنها متزوجة! ومضت أيام قبل أن يسكن هذيانه ويروق ذهنه. ثم لم يلبث أن اختلى بنفسه في محرابه وهو يرتعد لمجابهة قلبه لعقله. كم كان يود أن يفر في هذه الساعة الحاسمة، ولكنه كان يشعر بقوة خفية تدفعه إلى مكتبه.
أخذ يراجع حديث حنان وهو يقطع الغرفة بخطوات واسعة وقد وضع يديه خلف ظهره وطأطأ رأسه لشدة التفكير. وكان عقله الرشيد وتربيته القويمة قد حصنا نفسه؛ ولكن قلبه كان قوياً بالحب ملتهباً بالشوق. فكان الصراع بين ضميره وعواطفه عنيفاً. كان ضميره(656/51)
يثور تارة وقلبه يطغى أخرى، ونفسه بين هاتين القوتين حائرة معذبة.
كان يحدث نفسه قائلاً: (ماذا دهاك يا حازم؟ كيف تخلد إلى هذا الوسواس فيحرضك على الشر، وتثابر على هذا الحب فتسلب بريئاً امرأته؟ كيف تقدم على هذا الأمر فتنقلب شيطاناً يحث على المعصية ويهدم بيتاً هادئاً؟ كيف تحل رباطاً مقدساً وتقطع صلة طاهرة فتحقر نفسك وتفقد عزتك؟ ثب إلى رشدك وعد إلى جهادك. فحذار حذار أن تستسلم لعواطفك. فالعاطفة المطلقة كالسيل، أوله انقضاض يجرف ويقتلع، وآخره نضوب وقحط. وقد وهبنا الله العقل لنقيمه سدا يحبس تلك القوة الطاغية وينظم تصريفها. إن حنان ليست لك يا حازم. . .).
ووقف حازم فجأة وضرب كفه بقبضته صائحاً: (يجب أن تنساها). وتابع سيره وهو يكرر تلك العبارة بتؤدة ويقطعها ليوحي إلى نفسي معناها ويملي عليها إرادته. ولكن أنى لعقله أن يثبت ولم يكن أمر حبه مشكلة دارجة؟ فهو لم يكن يعرف الحب من قبل. أما وقد نهله فقد أصبح الأمر مشكلة حياته. فكان قلبه المضطرم يصهر عزيمته ويشوش منطقه، وحبه المتدفق يخنق ضميره ويذهب بصورته فلا تلبث نفسه أن تصيح:
(تباً لك يا حازم! ما دمت عبداً لعقلك فقد تحرم الحياة ومتعها وتعرض عن الحب، فيطغى العقل وتنضب النفس ويفسد الذوق وتنقطع صلتك بالحياة. لا يا حازم. لا تفعل ذلك! إن حنان لك، فالأقدار لم تجمعكما عبثاً. إنه نداء القلب فأنت تلبيه، وماء الحياة فأنت ترشف منه. وكيف يقبل عقلك أن يعيش زوجان بلا حب ويأتلف قلبان بلا تمازج؟ إن حنان لك يا حازم. ولك وحدك).
كان حازم يجد في حديث نفسه لذة عظيمة، ولكنها لذة يدركها صوت الضمير الذي يأبى أن يخضع فيعود ويرتفع من الأعماق: (حذار حذار أن تسلك هذا الطريق). فكانت نفسه كرمال الشاطئ بين كر الأمواج وفرها لا تهدأ ولا تستقر. كان حبه قوياً، ولكن عقله كان يقضاً وضميره حياً. ولهذا كان حزيناً برماً. فهو لا يستطيع أن يعود إلى حنان، ولا أن يبتعد عنها.
وبينما هو في عذاب اليأس والتردد، إذ فاجأ نفسه بهذه الهمسة: (مسكينة يا حنان!). وكان يكرر تلك العبارة ولا يفطن بادئ الأمر إلى معناها. ولكن سرعان ما قفز من كرسيه حيث(656/52)
أقعده الأعياء، وهو يهتف: (نعم! مسكينة يا حنان) ألم ينطق بتلك العبارة من قبل عندما قصت حنان عليه قصتها المحزنة؟ ألم تذرف حنان وقتئذ دموع الشقاء بين يديه فأرمضت قلبه؟ إذن كيف يتركها تذبل وتعذب؟ كيف يقتلها بالهجر وهو لم يقس قط؟ كيف لا يعطف عليها ويؤنس وحدتها؟ إن في حبه لها صداقة، والصداقة عاطفة تجمع بين القلب والعقل. أليس من واجب الصديق أن يعين صديقه؟
ملأت الشفقة نفس حازم بغتة. وقد أثارها الحب ليستعين بها على العقل؛ فما كانت هنا غير قناع لبسه الحب فجأة فشلَّ العقل وأسكت الضمير. والحب قد يأتي بالمعجزات.
وخف حازم إلى حنان يتمتعان بسعادتهما السابقة فيركبان سيارته ويتنقلان بين الرياض، فتستلقي حنان على الأعشاب الغضة تنظر إلى السماء بعينين حالمتين، ويضطجع حازم على جانبه بالقرب منها، تعبث يداه بالأزهار ويشع وجهه بالغبطة.
- 3 -
وحدث ذات يوم أن قام حازم وحنان برحلة من رحلاتهما العزيزة إلى ضواحي القاهرة، ودهمهما الليل في طريق العودة. وكان الليل مقمراً، فأغراهما جمال الطبيعة بالبقاء حيث كانا على شاطئ النيل.
كان القمر يسيل رقة تلين الأبدان، وكانت أشعته تهبط على المياه كقبلة العاشق على كتف حبيبته فتسري فيها رعشة لذيذة وتهتز لها اهتزازاً لطيفاً. وكان هذا الاختلاج يسحر الناظر ويهدهد عقله فيغوص في هذا المزيج من الأشعة والماء.
وكان السكون رائعاً يقطعه بل يزيده صفير الصرصور المتتابع فتؤثر وحدة الصوت المتواصلة في المرء، فتصيبه غشيه هادئة ترفعه إلى عالم الأحلام، ويزيد نشوته عطر ثقيل من الزهور المختلفة ينتشر إلى جسمه فيثقل تفكيره وأطرافه.
كانت الطبيعة تنشد نشيدها الأبدي في معبدها الساجي، وقد أطلقت بخورها العبق، ولبست حللها الفاخرة، فيتصاعد إلى السماء تآلف من الأصوات والعطور والألوان، ينعقد سحباً رقيقة لازوردية رنانة تخلع على الأرض غموضاً مقدساً، يحير البشر فيعتريهم الخشوع ويغشاهم الوجوم.
وكانت حنان مستلقية على العشب، وقد أكسبها القمر شحوباً عاجياً ليس في الإنسان،(656/53)
وجمالاً مبهماً ليس على الأرض ولا في السماء، جمالاً يتصوره الشاعر في مخيلته ويعبده في خلوته كلما تردد عليه وتراءى له. وكان حازم مضطجعاً إلى جانبها يقلب الطرف في جمالها وقد سلبته الفتنة كل إرادة، وأثار الوجد كل حواسه. وتحولت حنان بنظرها إليه فتلاقت عيناهما وشخص بصراهما، وكان ينبعث منهما بريق ساطع متدفق لم يلبث أن هدأ ورق. وقد همس يقطعه الهيام امتزج اسماهما: حازم! حنان! والتقت شفتاهما في قبلة حارة طويلة. كانت عواطفهما كحمم البركان تصعد من الأعماق متراخية ملتهبة ثم تفيض فتنحدر بشدة كاسحة. وفي ذلك الوقت اختفى القمر وراء سحابة كثيفة كبيرة. وفي تلك اللحظة التي ينسى الإنسان كل شيء غير أن الطبيعة حبته بقوة عاطفية جامحة، في تلك اللحظة التي تطغى فيها حرارة القلب على قدرة العقل، وفي تلك اللحظة لبيا نداء الجسد. إنهما في جسد، والجسد ضعيف والهوى غلاب، فكيف يعدمان الشهوة؟ كان عقلهما في يقظتهما راجحاً؛ ولكن الطبيعة خدرت ذلك الحارس، فتنفست الشهوة المكبوتة، وكانت تعمل فيهما خفية والعقل يحجبها، فجلاها حتى نمت واشتدت فتحركت وغلبت.
وظهر القمر ومر أحد العسس يقرع بنعليه الطريق، فاستيقظ العاشقان من حلمهما اللذيذ وتبينا أمرهما مضطربين: وما أقسى أن ينقلب المرء من حال إلى آخر بلا انتقال. فاستولى عليهما الوجوم والحيرة، وفرق الخجل بينهما لحظة طويلة قطعها حازم بعد جهد بقوله:
- إن الليل قد تقدم، فدعيني أصحبك إلى منزلك.
ولم تجب حنان بغير نظرة مبهمة، وقامت تخطو وئيدا إلى السيارة، وأدار حازم المحرك وسأل:
- أين تسكنين؟
ولم يكن حازم يعرف حتى ذلك الوقت مسكن حنان إذ كانت بعد كل لقاء تفضل أن ترجع وحدها. وأجابت حنان:
- في الدقي، سأبين لك الطريق.
- 4 -
واندفعت السيارة إلى منزل حنان. فكان حازم يشعر كلما توغل في السير أن الطريق مألوف. ولكن هذا الشعور لم يتعد طبقات نفسه الأولى فلم يلتفت إليه تماماً، حتى أشارت(656/54)
حنان بالوقوف. وبينما هو يودعها وقع نظره على منزلها فثبتت عيناه في محجرهما وتملكه فزع شديد؛ فصاح بصوت قلق يكاد يسمع:
- أنت. . . تسكنين هنا؟
فأجابت حنان وقد راعها حاله:
نعم! ولكن ماذا بك؟ هل رأيت شبحاً؟
ولم يجب حازم وانطلق إلى مسكنه بأقصى سرعة. كان همه الأول أن يبتعد عن هذا المنزل ولكن صورته باتت تلازمه وتزيد في عذابه. فكان يهمس: رحماك يا إلهي. فما أقسى العقاب!
كان منزل صديقه أحمد، فكانت حنان إذاً زوج صديقه. . . وكان أحمد لا يجتمع بأصدقائه كثيراً لشغفه بالعلم وانقطاعه له، ولكنهم كانوا يكنون له الحب والاحترام لدماثة خلقه وكرم طباعه. وهذا هو حازم، يا لقسوة القدر، يكتشف أنه كان يخون صديقه فينقض عهد الصداقة. كأن يخونه في عرضه. والعرض كيف يلائم صدعه. . . آه. لو استمع إلى صوت عقله!
كان حازم يفكر في ذلك فيحز الألم في نفسه. كانت الصدمة عنيفة أودت بكل عاطفة أثارها الحب. فما وجد لفعله عذراً ولا لضميره رداً. وساد ضميره وقام يؤنبه بعنف ويلاحقه بشدة، ونفسه قد خلت من كل توازن يقيه شر الاختلال. كان صوت الضمير يتبعه وصورة صديقه لا تفارقه؛ فلم يستطع البقاء في مكانه وخرج يهيم على وجهه في الطرقات. ولكن الصوت كان يطارده فيعدوا المسكين هرباً منه، فيملأ أذنيه، فيسرع في الجري حتى يصرعه التعب، فلا يلبث طويلاً حتى يبدو له وجه صديقه يشخص إليه في حزن وأسف، فيعود إلى الجري ليسقط مرة بعد مرة حتى خر على الأرض مغشياً عليه.
وأشرقت الشمس وقامت الطيور تعلن قدوم الصباح ودبت الحياة في السكون، ووقف الشرطي يتأمل جسماً طريحاً وانحنى يهزه ليتبين أمره؛ فانتفض النائم وجلس لحظة ورأسه بين يديه، ثم نظر إلى الجندي المستفهم نظرة بلهاء ولم يلبث أن نهض مسرعاً وهو يهمهم بكلام لا يفهم.
إنه كان حازماً الرقيق. صرعته الصدمة فأختل عقله، وأصبح يكفر عن خطيئته. كان ملكاً(656/55)
في وحدته فسولت له النفس أن يهبط إلى الأرض؛ فتدهور من العلياء وعاد آدمياً تسوده الغرائز الشهوانية والرغبات الدنيئة، واقترف الخطيئة فاستحق العقاب، والسماء لا تغفر لملك هوى.
عدلي طاهر نور(656/56)
من ذكريات الشباب
سقط بعض السطور من مقدمة القصة الثانية (اجترار)
المنشورة في العدد الماضي للأستاذ حبيب الزحلاوي فرأينا
إعادة نشرها.
(حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي:
كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقى مشاكسة من زملائي الفرنسيين وتعالياً على الضابط (العربي)، فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف.
نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين)، ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائماً في وجه أولئك القادحين، فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً لي: (أنا زميلهم الضابط الكيس وللخلصاء الذين عرفناهم من السوريين). فكان أولئك الضابط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط - نضر الله وجهه - يدافع عن حق السوريين، وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط سلطانهم على شعب لا تنقصه خصيصة من خصائص الاستقلال، ولا تحوجه الدراية بتحمل المسؤولية الاجتماعية، ولا الوعي القومي، فقد استمد مزاياه من تاريخه العربي ومن الانقلابات التي تأثر بها في مطلع هذا القرن، وكان يقول:
(لقد أيقضنا نحن الفرنسيين نفوس الشعب السوري ذاته بتلقينه في مدارسنا مبادئ ثورتنا للحرية والمساواة وتعاليمنا فن الحياة، وكان يساير زملاءه في الطعن على الدهماء في كل الأمم، لأنهم يتساوون والسوائم في إرضاء شهواتهم وتسكين معدهم، ولا فرق في طوائف العامة بين شرقي وغربي وبين ألوان وأجناس. وكان كلام ذلك الضابط الأريب يشجعني على إبراز فضائل قومي الأصلية والمكتسبة، وعلى إبداء الرأي أيضاً في الوسائل التي قد تقرب بين الحاكم والمحكوم) اشتعلت نار الثورة في جبل الدروز، وسرعان ما امتدت(656/57)
ألسنتها إلى دمشق فمدينة حماه. جن جنون الفرنسيين، فأمر قائدهم الأرعن الأعلى بإطلاق المدافع تدك قذائفها أحياء دمشق، وأنطلق أجناد الجيش في (حماه) يمعنون في قتل الناس وإحراق بيوتهم ومزارعهم. كانت أخبار الثورة في كل ميدان تصلنا بالميعاد، عرفنا بما حل بحملة الجنرال (ميشو) وكيف مزقها أبطال الدروز شر تمزيق، وعرفنا أيضاً بفزع زهرة شبان دمشق من طلاب المدارس العليا يلتحقون بثوار الغوطة، وهكذا كانت أخبار إخواننا الثائرين في داخل البلاد من نساء ورجال، وأخبار رجال السياسة منا البعيدين عن مواطن الخطر تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من حكم الأجنبي المستعمر.
عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلومترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة. . .
. . . في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار نقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال. بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه، ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقف في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها. لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة، هي التي تصد قنابل المدافع، وهي هي التي تتفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، وكأن رجالنا الأبطال ليسوا من لحم ودم، بل قدر محتوم ينزع أرواح المستعمرين الخ.
حبيب الزحلاويس(656/58)
العدد 657 - بتاريخ: 04 - 02 - 1946(/)
هؤلاء الفرنسيون. . .
للأستاذ سيد قطب
في الوقت الذي تنال فيه قضية سوريا ولبنان عطفنا وعطف الجامعة العربية، وتتمتع بالاهتمام الذي تستحقه من كل عربي، توجد قضية أخرى لا تتمتع بهذا الاهتمام بالدرجة الكافية. . . تلك هي قضية الشمال الأفريقي - الجزائر وتونس ومراكش - الذي ترتكب فيه الدولة الفرنسية أشنع مأساة يخجل منها المتحضرون.
والواقع أن أشنع ما ارتكبه الفرنسيون في سوريا ولبنان، لا يعد شيئاً بالقياس إلى ما يرتكبونه في الشمال الأفريقي إلى هذه اللحظة. فلم تزد شناعاتهم في سوريا ولبنان على فعلة حمقاء - جرباً على طبيعتهم في تاريخهم الطويل - بالقبض على رئيس جمهورية لبنان ووزرائه؛ ولم تزد على مؤامرة خسيسة دبروها لاغتيال أعضاء الوزارة السورية وأعضاء البرلمان في أثناء اجتماعهم؛ هذه المؤامرة التي فشلت لوقوع بيانات سرية في أيدي الحكومة السورية قبل تنفيذ المؤامرة الخسيسة! ثم ضرب دمشق بالقنابل مرتين في خلال عشرين عاماً. . .!
وهذه كلها بالقياس إلى ما يرتكب في الجزائر ومراكش خاصة لا تعد شيئاً. وقد هزت شعورنا تلك الحوادث التي ارتكبت في البلدين الشقيقين، فمن حق ما يقع في الشمال الإفريقي أن يثير نفوسنا وأن يدفعنا إلى التدخل الحاسم.
وأنا لا أتوجه بهذا الكلام إلى الجامعة العربية وحدها، ولا إلى رجال السياسة في البلاد العربية كذلك؛ إنما أتوجه إلى ضمير الشعوب العربية جميعاً. فأنا على ضعف ثقتي برجال السياسة في هذا الجيل لا أزال شديد الثقة في الجماهير، وفي ضمير هذه الجماهير؛ وهو وحده الضمان لتقوية الجامعة العربية ودعمها، ولدفع رجال السياسة مهما اعتور نفوسهم من الضعف والتردد.
فإلى هذا الضمير الشعبي العام أتوجه بالحديث.
ولكي لا أتهم بالتحامل فإني أعرض على قراء العربية صورة لتصرف الفرنسيين في الجزائر ليست من صنعي ولا من صنع كاتب عربي، إنما هي من رسم رجل فرنسي شذ فكان له ضمير! ولعله هو أيضا ضمير مدخول، فهو يكشف لأبناء وطنه عن شناعة الحكم(657/1)
الفرنسي في الجزائر خشية أن يؤدى بهم هذا إلى فقدان الجزائر. فليس شعوراً إنسانياً هو الذي يدفعه إلى بسط سوء الحالة فيها، إنما هو روح استعماري بصير، هدأت فيه الحماقة التي هي طابع السياسة الفرنسية التقليدي في التاريخ!
هذا الكتاب هو المسيو (جان ميليا) من كبار الدبلوماسيين الفرنسيين، وقد ضمن ملاحظاته هذه كتاباً باللغة الفرنسية نستعرض هنا مقتطفات منه نقلها إلى العربية الأستاذ (محمد عبد الكريم) ونشرها مجلة (الشرق الجديد).
(ضرب المؤلف الفرنسي مثلا مما يسميه مواطنوه الفرنسيون قانوناً بالجزائر، بذلك القانون العجيب المسمى قانون الغابات.
(فالمستعمر الفرنسي يُمنح الأرض ليستغلها، وهو يُعطى ما يختاره بسخاء بدون مقابل. وقد حدث مرة أن احترقت غابة يستغلها فرنسي، وحامت الشبهة في هذا حول الوطنيين، فكان أن عمدت الحكومة إلى إصدار قانون ينص على أنه في حالة إحتراق أي غابة يملكها فرنسي، فإن العرب المقيمين في أقرب منطقة مجاورة للغابة يلزمون بدفع تعويض للمستعمر الفرنسي صاحب الغابة حسب ما يقرره حاكم المدينة.
(ويردف الكاتب الفرنسي ذلك بقوله: ومن يوم أن صدر هذا القانون أصبح شائعاً في أوساط المستعمرين الفرنسيين أن من يصاب في مشروعة بالفشل أو من يسوقة الحنين للعودة إلى بلاده فما عليه إلا أن يعمد إلى غابته يحرقها، ويبلغ الحاكم ليشهد في اليوم التالي إبلاً وغنماَ وحميراً وخياماً وأقوات أهل القرية المجاورة تباع كلها في السوق قسراً، ليعطى ثمنها تعويضاً لذلك الفرنسي عن ضرر أحدثه هو بيده!)
هذا ما قاله الكاتب الفرنسي، أما الذي لم يقله في هذا الصدد فهو أن المساحات الشاسعة من الحقول والبساتين تنزع ملكيتها من أيدي ملاكها العرب لتعطي إلى المستعمرين الفرنسيين حيث يطرد هؤلاء الملاك إلى البقاع الممحلة، حتى إذا راحوا يفلحونها بالجهد الشديد ويصلحون ترتيبها بسواعدهم وكواهلهم والبقية الباقية من أموالهم إلى أن تصبح صالحة للزراعة. . . عاد الفصل السابق يمثل معهم من جديد فيطردون منها لتعطى للمستعمرين من جديد!
ثم يقول المؤلف الفرنسي:(657/2)
(إن حق المواطن في الجزائر يمنحه كل يهودي دون استثناء ولا يجوز منحه للمسلمين إلا لعدد قليل ممن يرى الحاكم الفرنسي منحه لهم: ولم ينتفع بهذا الحق حتى الآن من المسلمين أكثر من ألف وخمسمائة
(وجرمان رجل أولى حقوقه العامة كمواطن لا لجرم سوى أنه مسلم هو أعجوبة الأعاجيب في الأوضاع الدستورية، حتى أن (بارتلمي) أستاذ القانون الدستوري بجامعة باريس لم يستطيع كتمان تعجبه، فهو يسائل مواطنيه في مناقشته حتى الانتخاب بكتابه الذي يدرس بالجامعات الفرنسية: إنا لنعجب للتفرقة بين مواطنين من بلد واحد! كيف يمنح حق المواطن لأحدهما ولو كان من الرعاع لأنه يهودي، ويحرمه الآخر ولو كان مؤهلاً بالدكتوراه وحاملاً لوسام جوقة الشرف، لا لذنب إلا لذنب لأنه مسلم؛!)
وينقل الكاتب الفرنسي في كتابه شهادة كاتب فرنسي آخر هو (بليسيه دى رينو) حيث يرجع رينو (عدم تحقق الألفة بين الوطن الفرنسي إلى ما يكنه ويبديه الفرنسي للجزائري من مهانة واحتقار. فالمستعمر الفرنسي بل الحكام الفرنسيون يهبطون إلى أرض الجزائر مشبعين بفكرة وعقيدة لا تتزعزع، هي أنهم بين أعداء، وهم لهذا لا يبدون نحو العرب أي عطف أو حسن معاملة)
وينقل كذلك شهادة كاتب فرنسي ثالث هو (جوليوفيرى) (إن المستعمر يستبد بالوطني أي استبداد، وهو يستشعر العسف لا في أقواله فحسب، بل في سلوكه الذي لا يرعى فيه للعرب حقاً ولا كرامة)
هذا ما قاله المؤلف الفرنسي وما نقله من غيره. أما ما لم يقله، فهو أن كلمة (عربي)! هس من ألفاظ الشتائم والتحقير في الاصطلاح الفرنسي، فإذا شاء أن يشتم إنساناً أو يحقره نبزه بلفظ (عربي)!
وهذه حقيقة معروفة أضعها تحت أنظار العرب لينظروا في رد هذه الإهانة عن أنفسهم باحتقار كل ما هو فرنسي - مهما اشتدت حاجتهم إليه - واحتقار كل من يخدع بفرنسا أو ينتمي إليها، أو يرفع رأسه ليعجب بهؤلاء الذين يدعون أنفسهم متحضرين
أما الفرنسيون في مراكش فهم الفرنسيون في الجزائر - وفي كل مكان على ظهر هذه الأرض يبتلى باستعمارهم الوحشي.(657/3)
بين يدي نشرة صغيرة وزعتها (رابطة الدفاع عن مراكش) في 11 يناير الماضي، بمناسبة (ذكرى عيد الجهاد الوطني) الذي بدأ في 11 يناير سنة 1944. وقد جاء فيها بأسلوب معتدل كل الاعتدال تحت عنوان (السياسة الفرنسية في مراكش) ما يأتي:
(هناك مبدأ شعاره السيف والمحراث، وهو مبدأ قديم ابتدع شعاره الكونت ديسلى منذ أوائل القرن التاسع عشر؛ والسيف رمز لقهر أصحاب البلاد وإرهابهم؛ والمحراث رمز لاستغلال كل الخيرات التي تشتمل عليها تلك البلاد، وإذا أردنا أن نقلب العبارة من الرمزية إلى الصراحة قلنا: الاستغلال بالقوة!
(ومراكش اليوم مستغلة بالقوة بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى. وفرنسا حجر عثرة في سبيل رخائها وتقدمها بأكثر مما في هذه العبارة من معنى. ومبدأ العرقلة يتمثل في كبت الحريات، وعدم التشجيع على التعليم، وعدم السماح بوجود صحافة حرة أو جمعيات حرة، وغير ذلك من الحقوق البسيطة التي تتمتع بها أحط المستعمرات في العالم. فالمثقف غريب في مراكش لا عمل له ولا مستقبل. بينما يتقلب الجهال في الوظائف العليا؛ وبذلك يساعدون على بث الانحلال في أداة الحكومة الوطنية. وسلطة الحماية تعرقل أيضا كل ما من شأنه أن يغير أسلوب الحياة الاجتماعي. وهي لا تسمح للصحف العربية بالدخول إلى البلاد ولا تسمح للطبقة المثقفة بإصدار الصحف لتنوير عقول الناس. وهي تعرقل قيام المؤسسات الوطنية الاقتصادية. وهكذا لا توجد وسيلة لعرقلة التقدم في مراكش إلا تفنن هؤلاء الموظفون في تنفيذها.
(أما سياسة السيف والمحراث أو الاستغلال بالقوة فهي تتمثل في نزع ملكية الأرض من الأهالي وتوزيعها على المستعمرين الفرنسيين؛ وفي تأسيس الشركات الاحتكارية التي تستحوذ على الصادرات والواردات، وتهيمن على السوق؛ وفي استغلال المناجم استغلالاً لا تعرف عنه مراكش شيئاً؛ وفي تسخير الأيدي العاملة بأجور زهيدة؛ وفي إشعار رجل الشارع بأنه دون الفرنسي؛ وفي فرض الضرائب الفادحة حتى أصبح المراكشي يدفع من الضرائب ما لا يدفعه أي شخص في العالم؛ وفي استغلال المياه الإقليمية والأنهار والغابات والمزارع وآبار البترول وكل الخيرات التي توجد في هذه البلاد. وقد تمت سياسة الاستغلال هذه بشكل أصبح يهدد كيان البلاد الاقتصادي بالإفلاس)(657/4)
هذا ما قالته مذكرة رابطة الدفاع عن مراكش. أما ما لم تقله - ولديّ عنه أخبار وثيقة - فهو الوحشية البربرية المتبعة في نفي الزعماء السياسيين وتعذيبهم واختيار أماكن اعتقالهم، حتى أصبح معظمهم مريضاً بالسل. وهي وحشية مقصودة لتخويف الآخرين!
وليس لأحد أن يشك في صحة هذه البيانات المراكشية، فهناك ما يؤيدها في الجزائر بشهادة الكتاب الفرنسيين أنفسهم. فهي إذن سياسة واحدة تدل على هذه العقلية البربرية التي تعيش بها فرنسا في القرن العشرين في ساحات شاسعة تستحق الاهتمام.
ومما يدل على الظلم والجحود أن هؤلاء الجزائريين والمراكشيين هم الذين نصروا فرنسا في حربين متواليتين؛ فكل الشجاعة التي يتشدق بها الفرنسيون في معركتين كبيرتين في هذه الحرب والحرب الماضية - وهما معركة بئر حكيم ومعركة المارن - كان أبطالها هم الجزائريين والمراكشيين. أما الجندي الفرنسي - الذي يشيع المغرضون عنه خرافة الشجاعة - فقد تحطم وانهارت قواه وهو يدافع عن بلاده في الحربين على السواء
معركة المارن كسبها (الفيلق الإفريقي) وكانت نقطة التحول في الحرب العظمى. ومعركة بئر حكيم ثبت فيها الجزائريون واللبنانيون. ومعركة الصحراء الغربية كسبها جنود مستعمرة تشاد وإفريقية الاستوائية. أما الجندي الفرنسي فقد انهارت قواه أو استأسر استسار الجبان في كل مكان!
ثم تكون المكافأة التي يوحى بها الجحود لهؤلاء الذين نصروا فرنسا مرتين في ربع قرن هذه هي المعاملة القاسية!
ولكن مما يعزى الشرق العربي أن فرنسا قد انتهت - على الرغم من كل تشبث لها بالبقاء - انتهت، ومن واجب الشرق العربي أن يدق المسامير في نعشها
وآية انتهائها هو هذا الجمود في سياستها وعقليتها الاستعمارية، بينما الآخرون يحاولون التجديد، ولو في الألفاظ والأساليب
ففرنسا قد استحالت أمة جامدة متمسكة بكل وضع قائم تمسك الغريق. كانت هي الأمة الجامدة المحافظة في إلغاء الامتيازات بمصر بمؤتمر مونتريه. وكان هذا موقفها مع سورية ولبنان، فلم تبرم معهما المعاهدة التي اتفقا عليها، وكانت النتيجة أن فقدت نفوذها كله. وبالمثل كان موقفها في هيئة الأمم المتحدة وهي تتمسك بالاستعمار والانتداب ولا تقبل كلمة(657/5)
(الوصاية) كما قبلتها إنجلترا الماكرة المرنة اللعوب!
هو التحجر. وهو آية الفناء. فليعمل كل عربي مخلص على الإسراع بهذه النهاية السعيدة. وليكن اهتمامنا بالشمال الأفريقي العربي ضربة حاسمة في دق المسمار الأخير.
سيد قطب(657/6)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 25 -
ج2ص192: جواب الخوارزمي (عن رسالة الهمذاني): شريعة ودي لسيدي إذا وردها صافية، وثياب بري إذا قبلها ضافية، هذا ما لم يكدّر الشريعة بتعنته وتعصبه. ولم تحترق الثياب بتجنيه وتسحبه، فأما الإنصاف في الإخاء فهو ضالتي عند الأصدقاء، ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والإخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان. ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظل
رجل يوازنك المودة جاهداً ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان
وقد كان الناس يقترحون الفضل فأصبحنا نقترح العدل، وإلى الله المشتكى لا منه.
قلت: أغلب الظن أن الأصل (ما لم تكدر الشريعة. . . ولم تخرّق الثياب) بالخاء لا بالحاء. وعجز البيت الأول هو: (يروق ويصفو إن كدرت عليه) والبيت الأول لأبي العتاهية، وقبله:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفالي ولا إن صرت طوع يديه
والبيتان صوت، في الأغاني في خبر:
(قال علّويَةْ: فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الديوان، وأغني بالصوت (بالبيتين) فسمع المأمون والمغنون ما لم يعرفونه فاستضرفوه، وقال المأمون. ادن يا علويه، ورده، فرددته عليه سبع مرات، فقال لي في آخرها عند قولي (يروق) يا علويه: خذ الخلافة، وأعطني هذا الصاحب).
وجواب الخوارزمي عن رسالة الهمذاني (وما أوردته هو قسم منه) لم أجده في رسائل أبي بكر المطبوعة في قسطنطينية سنة 1297 كما لم أجد رسالة أخرى للخوارزمي رواها ياقوت وذكره الهمذاني في حديث المناظرة المشهورة. وهذه الرسالة جواب عن رسالة للهمذاني. ولا ريب في أن الرسالتين هما للخوارزمي وفقدهما في تلك الطبعة دليل على(657/7)
خلوها من غيرهما.
يقول الإمام الثعالبي في اليتيمة: أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي باقعة الدهر، وعلم النثر والنظم، وعالم الفضل والظرف، وكان يجمع بين الفصاحة العجيبة والبلاغة المفيدة، ويحاضر بأخبار العرب وأيامها ودواوينها، ويدرس كتب اللغة والأدب والنحو والشعر، ويتكلم بكل نادرة، ويبلغ في محاسن الأدب كل مبلغ، ويغلب على كل محسن بحسن مشاهدته، وملاحة عبارته، وديوان رسائله مخلد سائر، وكذلك ديوان شعره.
وفي (وفيات الأعيان) أبو بكر أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير كان إماماً في اللغة والأنساب، وله ديوان رسائل وديوان شعر، وكان يشار إليه في عصره، وهو إن أخت محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ، مات سنة (383).
وجاء في (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) قال الحاكم: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر.
ذلكم أبو بكر الخوارزمي، وتلكم منزلته، فلن تخدع أحداً براعة (البديع) وشيطنته وشعبذته في رسالته ذات الأفانين في تلك المناظرة. ومن يصدق أن الخوارزمي لا يعرف (أن للشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف كما أن له رأيه في القصر والحذف) ويجهل أن معنى (كند النعمة كفرها) ويقول: (ذئب غاض. . . يأكل الغضا) وينظم (تسعة أبيات جمع فيها بين إقواء وإكفاء وإخطاء وإيطاء) فيقول البديع (لمن حضر من وزير ورئيس وفقيه وأديب: أرأيتم لو أن رجلاً حلف بالطلاق الثلاث لا أنشد شعراً قط ثم أنشد هذه الأبيات فقط، هل كنتم تطلقون امرأته؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا الطلاق. . .).
من يصدق هذا الشيطان (بديع الزمان) في الذي نمقه وزوقه، وقد سمعنا قصته، وغابت عنا مقالة خصمه وإن أيقنا بأن بداهة الفتى أعجزت روية الشيخ. ورسائل الخوارزمي تحقق قول الثعالبي وغيره فيه، وتخبر بأن منشيها يفوق الهمذاني علماً وسعة اطلاع. وكلام أحمد بن الحسين الهمذاني ألطف وأرشق، وكلام الخوارزمي أرصن وأدق، وهو مسجع وكأنه مرسل.
ولأبي بكر رسالتان عجيبتان كتب الأولى إلى جماعة الشيعة بنيسابور، وكتب الثانية إلى أبي الحسن البديهي الشاعر. وقد اشتملت كلتاهما على إشارات وأسماء كثيرة تدهشان(657/8)
القارئ، وتطيلان تعجبه من تلك الإحاطة. وتشاكل الأولى في الاستقصاء رسالة أبي العلاء في تعزية خاله ابن سبيكة بأخيه. وتشبه الثانية رسالة ابن زيدون إلى ابن عبدوس الملقب بالفار؛ وهذه مشهورة، شرحها ابن نباتة المصري. والظن بل اليقين أن ابن زيدون قد وقف على رسالة الخوارزمي وقلدها واقتبس منها. ورسالة الأول أطول وأكثر تشعباً، ورسالة الثاني أقصر، والمقصد في الرسالتين واحد، وهو التقريع والتهكم. وهذه الإغارة - وسمها معارضة - لا تنقص شيئاً من مقدار ابن زيدون الشاعر الساحر والناثر القادر، و (الذي رزق السعادة في سعة العبارة) كما قال صاحب (الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم)
أوردُ من رسالة أبي بكر إلى جماعة الشيعة بنيسابور هذه القطعة نموذجاً، وهي العقيدة، وهي الخصومة، وهو الخوارزمي الداهية يلغو (يتكلم) كما يهوى:
(. . . وقل في بني العباس فأنك ستجد بحمد الله تعالى مقالاً، وجل في عجائبهم فإنك ترى ما شئت مجالاً. يجبى فيؤهم فيفرق على الديلمي والتركي، ويحمل إلى المغربي والفرغاني، ويموت إمام من أئمة الهدى وسيد من سادات بيت المصطفى فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته. ويموت (. . .) لهم أو لاعب، أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة، ويسلم فيهم من يعرفونه دهرياً أو سوفسطائياً، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً أو مانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمى ابنه علياً).
ثم يَعلق الخوارزمي يقول. . . ويجول. . .
أخبرني العلامة الأستاذ أمير البيان الأمير شكيب أرسلان أنه كان ينوي شرح هذه الرسالة. وقد ثناه عما نواه أن الشرح يشيّع ناراً أشعلتها المذاهب والمقالات، ويزيد (الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً) تفريقاً، ويظَّلم كباراً لم يكونوا ظالمين، وكانوا خير مظاهرين لشائد هذا المجد. والأمير شكيب يستظهر رسائل الخوارزمي كلها، ذكر ذلك في إحدى مقالاته في جريدة (المؤيد) يوم سأله أحد الأدباء كيف وصل في الكتابة والأدب إلى هذه المرتبة العليا.
وهذه نتف من رسالة الخوارزمي إلى البديهي:
(. . . كأنك لم تخلق إلا لتطمس عين النور، وتقلب أعيان الأمور، وتعكس البدعة سنة حتى كأن سوفسطا استخلفك على جحد ما يدرك عياناً، ويعرف إيقاناً.(657/9)
(. . . ولو ذوكرت في القائم ادعيت أنه مضى. . . ولو ذكر أبو جهل حكمت له بالإسلام، ولو مررت بإيوان كسرى استقللت بنيانه، ولو رأيت إرم ذات العماد استصغرت شأنه، ولو خوطبت في التراويح أخذت بابتداعها الشيعة، ولو عد الأجبار والتشبيه ألزمت دينهما المعتزلة، ولو حلم الأحنف بن قيس استخففت عقله، واستعظمت جهله، ولو تعجب الناس من بناء الهرمين أخذت تذكر انتقاصه ووهنه. . . ولو فضل التوحيد أفردت به النصارى. . .)
(لقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأنك قارون وكيل نفقتك، وكأن بلقيس ذات العرش العظيم دايتك، وكأن مريم البتول أمتك، وحتى كأن العود وجميع الملاهي وضعت لطربك، وحتى كأن المريخ يستقي من صولتك ومضائك، وعطارد يستمد من لطفك وذكائك، وحتى كأن زرقاء اليمامة لم تنظر إلا بمقلتك، وكأن لقمان لم ينطق بغير حكمتك، وكأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وكأنك علمت زياداً السياسة، وأفدت عبد الحميد الكتابة، ولقنت يحيى بن خالد الفصاحة، وألقيت على الحسن البصري المحبة، وعلى الحجاج بن يوسف الثقفي الهيبة، وحتى كأنك زرعت غوطة دمشق، وشققت أنهار البصرة، وهندست كنيسة الرها، ووضعت قنطرة سنجة. . . وحتى كأن فضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من فضائلك مسترقة. وحتى كأن خالد بن الوليد قاتل تحت رايتك، وقتيبة بن مسلم فتح البلاد ببركة دعوتك، وحتى كأنك وضعت التقويم لآدم بن يحيى، وحللت الزيج الأول، وعدلت الطبائع الأربع، وحتى كأنك كشفت لبطليموس الفلك حتى نظر إليه، ومثلت لجالينوس تركيب الجسد حتى وقف عليه، وحتى كأنك أورثت بني أسد العيافة وبني مدلج القيافة، وعلمت شقا وسطيحاً الكهانة، وحتى كأنك علمت حاتم بن عبد الله السخاء، والسموءل بن عاديا الوفاء، وقيس بن زهير المكر والدهاء، وإياس بن معاوية الفطنة والذكاء، وأخذ عنك سيف بن ذي يزن أخذ الثأر، والإدراك بالأوتار، وحتى كأنك لا أحد أعلم منك فأضربه مثلاً، ولا أعلى منك فأجعله غاية وأمداً، ومن شبهك به فقد رد الوصف إليك، ووفره عليك، والقرد لا يشبه بغيره، والراجح لا يوصف بمن تقاصر عن رجحان قدره. . .)
(قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأمله علينا، وأجمعوا على ذهاب(657/10)
قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود فأخرجهما إلينا، وتخالف الناس في المهدي وشكوا في السفياني وفي الأصفر القحطاني فعرفْنا متى يخرجون؟ فإني أعلم أنهم إليك يختلفون، وفي أمرك ونهيك مترددون، وبمشورتك يغيبون ويحضرون. وآل أبي طالب قد علمت أنهم مسلوبون حقهم، ومغصوبون إرثهم، فتقدم إلى غلامك الدهر بأن يرفع رايتهم، ويرد إليهم ولايتهم. . .)
(. . . إني - وفقدِك - فلا شيء أعز علي منه ولا أحسن منه ما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين بادية ومحتضرة
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
إلا غضبت عنك عليه، واعتقدت أنه سرق صنعتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قول ليلى:
فتى كان أحيا من فتاة حيية ... وأشجع من ليث بخفان خادر
إلا قلت: فكيف لو رأت ليلى أخاها فتعلم دعواها من دعوانا؟
أنت (رحمك الله تعالى) من أيدي هؤلاء الشعراء الكذابين مرحوم، وفيما بينهم مظلوم؛ سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم. . .)
اجتزئي بهذه النتف القصيرة القليلة من تلك الرسالة المتبحبحة المتفننة الطويلة.
وللخوارزمي شعر كثير جيد، منه هذه المقطوعة في نقد الألقاب في زمانه:
مالي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجلاً لو عاش أولهم ... ما كان يرضى به (للدار) بوابا
قل الدراهم في كفي خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقابا
وأختم الحديث عن أبي بكر بهذا الخبر الدال على فرط كلفه بالعلم: (قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته: ما تشتهي؟
قال: النظر في حواشي الكتب. . .!)(657/11)
وأين صالحية مصر؟
للأستاذ أحمد رمزي
كتب الأستاذ علي الطنطاوي مقالاً في عدد الرسالة الماضي تحت عنوان من (ذكريات بغداد)، أشار فيه إلى صالحيتين فقال (بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد)، ونسي صالحية مصر، فسامحه الله - لذا جئت أذكره بها.
أما موقعها فعلى نهاية الخط الحديدي المعروف بها، وكانت تربطها بالقنطرة سكة حديدية، أقيمت أيام الحرب الماضية، ثم نزعت قضبانها الحكومة المصرية لسبب لا يعلمه إلا الله، وبقيت المحطات بين الصالحية والقنطرة أنقاضاً، تذكّر الناس بحملة فلسطين وأنفار السلطة، وكانت القطارات تمر على الخط بعد منتصف الليل، ولا يزال صدى صوت المجنّدين للسلطة وأغانيهم البريئة يرن في أذني، حينما كنا صغاراً فيقطع نومنا الهادئ صفير القطارات العسكرية تحمل العتاد والرجال للجبهة في شرقي القنال.
وصالحية مصر، فيها جمال الواحة وجمال الريف، ولقد دخلتها وقت طلوع الفجر، فأخذتني روعة الصحراء، ورأيت الرمال ممتدة إلى نهاية النظر، تلك الرمال التي قال عنها العرب: الجفار والغرابي والهبير، وهي الواقعة وراء جبال طي إلى أرض مصر، أما نخيلها فيبدو كغابة من غابات إقليم الشرقية، التي ينفرد بها إقليم الحوف كما كان يطلق عليه قديماً، إذا أتيت إليها من الغرب مشرقاً، شممت لأرض الحوف نسيماً أرق من نسيم الدلتا، لأنه يحمل أريج الصحراء، وإذا نظرت إلى نخيل الصالحية عند الشروق أو في ليالي القمر، شهدت منظراً لا تشبع العين منه، وتحس في صالحية مصر بالنشاط الذي يملأ النفس والجسد، ويجعلك تفكر في آفاق بعيدة فيما وراء النظر، فيما وراء هذه الرمال، حيث مشرق الشمس ومطلع سراج الدنيا. والصالحية من بناء سلطان عظيم، هو الملك الصالح نجم الدين أيوب، طيب الله ثراه، أنشأها سنة 644 هجرية، على طريق القوافل بين مصر ودمشق، لتكون منزلة لعساكر الإسلام، إذا خرجوا من مصر للجهاد في الأراضي المقدسة، أو عادوا من الحرب إلى مصر، وبنى بها قصراً وجامعاً وسوقاً، وكان ينزل بها ويقيم فيها، ودخلها من بعده الكثير من ملوك مصر وأمرائها في ذهابهم للفتوح ودعوتهم منها، ولذا تألق اسم الصالحية في تاريخ مصر العربي، وعرف صعيدها الكثير من العز والمجد، وورد ذكرها(657/12)
في مختلف التواريخ والسير.
وأهلها من صميم العرب، لهم في التاريخ والمواقف الخالدة، وكانت الرياسة فيهم ولا تزال إلى اليوم في آل الحوت، وهم فرع من بني سليم، جاءوا مع السيد عزّاز صاحب الجزيرة البيضاء، وكانت هذه النواحي وما حولها من قديم الزمن وقبل بناء الصالحية منازل لجماعات من القيسية واليمنية، وكان كبيرهم ربيعة بن قيس، ورد ذكره إبان حوادث المأمون وأخيه الأمين، فهو الذي تمسك ببيعة الأمين الخليفة العباسي، وكانت مصر قد خطبت باسم المأمون وله عامل بالفسطاط، فبعث برجل أسمه الجروي، الذي سار في جماعة من لخم وجذام إلى بلدة فاقوس، فنزل مع قومه بها وكانت له مع قبائل البلاد وقائع وحروب.
وكانت هذه المناطق موطناً للعرب، ومن بني عمرو وبني حرام وبني عقبة وبني زهير وبني واصل والبقرية، وهم الذين تفرقوا في النواحي وعمروا القرى والبلاد ببطونهم وأفخاذهم.
ولما تم بناؤها أصبحت الصالحية من أهم منازل الدرب السلطاني الذي كان يربط قلعة مصر القاهرة بقلعة دمشق، طوال الأزمان الماضية، وقد وصفه المقريزي فقال أنه كان عامراً إلى سنة 806 هجرية، وكان لا يخلو من المسافرين لأنه ممر البريد السلطاني بين العاصمتين. ولما جاء الفرنسيون رسموه على خرائطهم ووضعوا عليها أماكن الآبار، وساروا فيه بجنودهم إلى الشام وفي عودتهم إلى مصر.
ولقد قطعت الطريق بين مصر وفلسطين في ذهابي إلى سوريا وعودتي منها مراراً عديدة، وكنت أقطع القنال أحياناً من السويس وأحياناً من الإسماعيلية مخترقاً سينا، وكنت كلما لاح لي نخل القرين وأنا على مفترق الطريق قبل بلدة التل الكبير، أذكر الدرب السلطاني القديم، الذي كان يتجه من العباسة إلى بلدة القرين ثم إلى الصالحية، وأحدّث نفسي بالآمال فأقول (متى يعبّد للسيارات فتسير عليه)، ومتى تهتم السلطات المختصة بالنواحي التاريخية؟ أليس في كل مرحلة منه ذكريات، وفي كل محطة بريد أثر أو بقايا أثر، يحدثنا عن ماضينا المجيد الذي يحاول البعض أن تنساه مصر، وما كان لمصر أن تنساه.
وهذا الدرب السلطاني يعرفه ابن بطوطة الرحالة المشهور فقد سار فيه وتحدث عن(657/13)
منازله، ووصفها بقوله (ولكل منزل منها فندق ينزل فيه المسافرون بدوابهم، وبخارجه ساقية للسبيل وحانوت للشراء) وذكر الصالحية عند نزوله بها.
أما الشيخ عبد الغني النابلسي فكان أوسع وصفاً منه حينما تناول الصالحية بكلامه، فقال (وفي داخل القرية جامع السلطان قايتباي وعمارته متينة، له إيوان عريض فيه المنبر والمحراب وله منارة عظيمة. . . وأهل الصالحية حارتان متميزتان في الألفاظ والمعاني فمنهم القيسي الأحمر واليمني الأبيض)
ولو شئت دليلاً على قيام القيسية واليمنية بقرى مصر، فأذهب اليوم إلى بلدة السماعنة من قرى فاقوس، تجد فتياتها لا يتخذن غير اللون الأبيض لخمارهن، وإذا جئت لجزيرة سعود وجدت نساءها يلبسن الحزام الأحمر، ولا تعرف واحدة منهن شيئاً عن النزاع القديم الطويل الأمد بين اللونين، والذي يمكن تتبعه من خراسان إلى ما وراء النهر في أواسط آسيا والعودة به إلى أيام الجاهلية، والتحدث عنه في الجزيرة الخضراء أي بأرض الأندلس.
ونعود إلى الصالحية فنقول إن موقعها على طرف الأراضي الزراعية وعلى حافة الصحراء، قد جعل منها مركزاً هاماً لتجمع وحشد الجيوش الإسلامية في القرون الوسطى، حتى بعد انتهاء الحروب الصليبية، فورد اسمها كثيراً في حملات ملوك مصر ضد هولاكو وأبنائه وأحفاده، وكانت لها شهرة تاريخية بتوالي هذه الحروب، وتتابع الأحداث التاريخية والمواقف الرائعة التي حدثت بها.
ففي سنة 656 هجرية دخل هولاكو بغداد مقتحماً الجزء الغربي من بلاد المسلمين فقضى على خلافتهم، وكان جدّه قد سبقه عام 618 فدّمر الأجزاء الشرقية من أرض الإسلام في بخارى وسمرقند والري، فأراد أن يتم عمله بتدمير مصر والشام، ولذا زحف على حلب واستولى عليها، وبعث برسالة إلى سلطان مصر الملك المظفر، يهدّد ويتوعد، وسار إلى دمشق ففتحها، وكان المظفر من أبطال المسلمين، فلم يرهبه التهديد ولا الوعيد، وكانت جيوش هولاكو لا تقهر ولم يسبق لقوة في العالم أن هزمتها أو صمدت أمامها، فاكتسحت بقية الشام ووصلت طلائعها إلى غزة فقام المظفر يدعو إلى الجهاد، واتخذ الصالحية مركزاً تجتمع فيه الجيوش المصرية، وكان الناس في قلق وخوف ووجل، حتى هاجر الكثيرون(657/14)
إلى بلاد اليمن وبرقة والنوبة، ولما تكامل حشد الجنود في معسكر الصالحية؛ طلب السلطان الأمراء وتحادث معهم بشأن الرحيل لقتال هولاكو وجنوده، وكان الرأي الغالب أن جيش التتار لا يقاوم ولا يدفع، فلم ينطق أحدهم بكلمة واحدة بل امتنعوا عن الكلام فاحتد السلطان وقال لهم (يا أمراء، لكم زمن تأكلون أموال بيت المال وأنتم للجهاد كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع لبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين) ولما جاء الليل ركب المظفر وقال (أنا ألقي التتار بنفسي).
فقويت العزائم وسار الأمراء معه وتحرك الجيش إلى الشام، والتقى الجمعان في يوم الجمعة 15 رمضان سنة 658 هجرية بأرض فلسطين، في بلدة عين جالوت وهي المعركة التي صرخ فيها السلطان ثلاثاً (وا إسلاماه) فمن الله بالنصر المبين عليه، فخلصت الشام ونجحت مصر.
كان هذا الجمع في النصف الأخير من شعبان سنة 658 بالصالحية، وكنت كلما قرأت عنه في المراجع؛ أحدّث نفسي؛ متى أرى نصباً تذكارياً على ربوة عالية، في ميدان متسع، يذكر الناس ويوحي إلى الأجيال القادمة، بهذه الوقفة الرائعة به وهذه كلمة واحدة قد غيرت تاريخ المشرق ولو صدر مثلها من ملك من ملوك أمة من بعض الأمم لنقشوها على الأحجار وللقّنوها للأحداث والنشئ عندهم، وليس هناك أحق من الصالحية في نظري بمثل هذا الأثر، الذي يعلم الناس ما يجهلون من آيات تاريخهم، لأن على أرضها قيلت هذه الكلمة الفاصلة.
ويطول بنا الكلام إذا تحدثنا عن كل ملك نزل بها وأقام فيها، ولكني أكتفي بمناسبة سارة. ففي يوم الاثنين 20 المحرم سنة 701 عاد الناصر محمد بن قلاوون من الصيد بالبّرية إلى معسكره بالصالحية، وكان هناك بعثة من قازان ملك التتار من سلالة هولاكو، فخلع السلطان على الأمراء واستعرض الجيوش، فدهش السفراء من زي عساكر مضر واستعدادهم، وقال المقريزي (إن الرسل أدخلوا إلى الدهليز السلطاني بالصالحية بين يدي السلطان، وقد أوقدت الشموع والفوانيس والمشاعل وغيرها، حتى أن البرّية أصبحت حمراء تلتهب نوراً وناراً، فخلع عليهم وأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم)(657/15)
وانصرفوا بكتاب من الملك الناصر.
ومثل هذا كثير لو تناولناه بالجمع في تاريخ الصالحية لأخرجنا كتاباً عنها، ولكنها نظرات عابرة في حياة بلدة أعزها ولها مكانة في نفسي، أكتبها لعلمي بأن البلدان والرسوم والأطلال مثلها كمثل الرجال تتكلم أحياناً، وتوحي عن ماضيها ولا سيما إذا حفل هذا الماضي بعظائم الأمور.
ونزلها آخر ملوك مصر المستقلة، السلطان الغوري في يوم الثلاثاء 25 ربيع الآخر سنة 922 هجرية، ولما أراد الرحيل أذن لخليفة الإسلام وللقضاة الأربعة أن يتقدموه إلى غزة. وكانت رحلة بعيدة عن السعد، اختتمت بها مصر حياتها الحرة، فانتهى عهد وبدأ بها عهد، وجاء ذكر الصالحية في تاريخها كنغمة غير مسموعة، وسط قطعة موسيقية مملوءة بنغمات أقوى، ولكنها كانت للأسف نغمات الحزن والأسى والدموع. . .
هذه صالحية مصر، أشير إليها كي يذكرها الناس في وقت نسى الناس فيه كل شيء، وتقرر الحكومة المصرية فيه إنشاء مركز جديد، يقتطع من أراضي مركز فاقوس، فتقلب جميع الأوضاع، وتدرس مختلف الأسماء، وشتى القرى والبلاد، وتنسى الصالحية، كما نسيها الأستاذ الطنطاوي سامحه الله - وأجتهد أن أذكر الناس بها، وأحاول ذلك المرة بعد المرة، فلا يسمع لي أحد، ولكن الصالحية هي من بناء ملك عظيم، وكانت من منازل عظماء الملوك، ومنها خرجت جيوش الإسلام وعادت إليها منصورة. فكم منا من يعرف ذلك ويذكره! وكم من أهلها يعرف أن هذا الثرى الذي يمشون عليه، حمل أعلام العز والمجد والقوة والعمل في سبيل الله؟ لن يضيرها أن تتجاهلها وزارة الداخلية ولكن يضيرها أن ينساها الناس ولاسيما أهلوها.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(657/16)
من أخلاقنا:
الأمانة. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آية يعرف بها بين الناس، ومن آياته أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان. وهذه الثلاث أركان الحياة الخلقية الاجتماعية، وتضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله، وبيان خطر الأمانة وأنها عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وهنّ كنّ أقوى عليها، وحملها على ضعفه الإنسان. . . وإن المسلم ربما ألم ببعض الذنوب ولكنه لا يكذب أبداً، كما جاء في الحديث.
ثم إنك مع ذلك كله تجد المنتسبين إلى الإسلام اليوم، من أرباب الصناعات وأهل السوق، أكذب لهجة، وأخلف وعداً، وأضيع لأمانة من كثير ممن ليسوا مسلمين، حتى صار المثل يضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه، وصار من يريد أن يؤكد وعداً يصفه بأنه (وعد أوربي)!
اللهم إن هذا لمن العجب العجاب!!
إن الله بيّن خطر الأمانة، وأنزلها هذه المنزلة، وخوّف من حملها لأنها جماع الأخلاق، وسلْكة عقد الفضائل، وعمادها، فما من شعبة من شعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلا إليها مردّها، وما خصلة من خصال الشر إلا والخيانة أساسها وحقيقتها، وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة حتى تؤديها إلى صاحبها (فقط)، فإن هذه صورة من صورها، وشكل من أشكالها، وإن السلطان في يد الموظف أمانة، وضعه في غير موضعه، أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته، والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان، فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقها أو منع واحدة من يستحقها أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضاً أو موجدة فقد خان أمانته، والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان، والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع، فإن قصر في تجويده أو أفسد فيه شيئاً ولو كان الفساد خفياً لا يظهر فقد خان، واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سبباً إلى جمع(657/17)
المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا، أو كتمت الحق ابتغاء الخطوة عند العامة أو الزلفى إلى الحاكم فهي خيانة، إلى غير ذلك من الصور والأشكال.
بل إنك إذا دققت وتلطفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك، فإذا نظرت بعينك إلى حرام أو حركت به لسانك أو خطوت إليك برجلك، أو مددت إليه يدك، فقد خنت أمانتك، بل إن عمرك كله أمانة لديك، فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضي (صاحب الأمانة)!
فأين المسلمون اليوم من هذا؟
لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوفني الناس أن أعاملهم، حتى جعلني أحمل هما كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور على الجدار ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن من أكلني بغير ملح. . . وتعرق عظامي!
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدنية لا يستغني اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله. وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبق لك منجي من أن تؤم الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين، وتسأله أن يضرب موعداً لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر. ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل، فيعدك ويؤكد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك، فإذا زجرته أو أنبته أخذك باللين وراغ منك وحلف لك مائة يمين غموس. . . إنه نسي أو مرض، أو إنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان (سوء تفاهم)، وإنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك معداً، وتعود ويعود إلى كذبه، حتى يمضي العيد أو الزفاف، ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو ممتلأ أو مضاعفاً أو مجوفاً. . . أو على خلاف ما استصنعته عليه ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى(657/18)
إصلاح ما فسد، فتلبسه مكرهاً أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرضة. . .
وهذه الحال من إخلاف المواعيد، واختلاف الأكاذيب، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك. ولقد وقع لي أني كنت على جناح سفر إلى العراق، وقد أعددت له كل شيء، واتخذت لي مكاناً في السيارة ولم يبق إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكواء بحلتي الجديدة لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة، وبيّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي، ونهيته أشد النهي عن غسلها، لأنه يفسدها ويؤخرني عن غايتي، فما كان منه إلا أن غسلها، طمعاً بفضل أجرة ينالها، فأفسدها وجعلني أسافر وأدعها. . .
وآخر من الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الأهلية. . . فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشمّ من مسافة فرسخ)، وقلت: شمّها أليس لك أنف، فشمها بمثل خرطوم فيل. وقال: ما بها شيء! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده: شمو بالله عليكم. فمدوا أنوفهم إليها ونظروا إليه، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته. . . فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله!
واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به وكان كهلاً مشقشق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها، وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فأجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات التعذيب، ومقاعد الأذى، إن لم يشق ثوب القاعد عليه مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة. . .(657/19)
ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين.
وكيف أصنع إذا كان هؤلاء (المسلمون) لا يوثق بهم، ولا يطمئن إليهم، أأعامل الأرمني والرومي والصهيوني وأقاطع بني ديني ووطني؟
أما إنه لخطب جسيم - فماذا تصنع المدارس ومعلموها، والمساجد وواعظوها، والصحف وكاتبوها، إذا لم يعلنوا على الخيانة حرباً لا هوادة فيها ولا مسالمة حتى يكون النصر عليها؟ وكيف لعمر الحق يكمل لنا استقلال، أو تتم سيادة، أو نجاري شعوب المدنية ونسابقها، إذا لم تسد الأمانة فينا، وإذا كان الواحد منا لا يستطيع أن يطمئن إلى أخيه ولا يعتمد على أمانته؟ وإذا كنا نقلد الغربيين في الشرور فلماذا لا نقلدهم في الصدق في المعاملة والوفاء بالوعد، والاستقامة في العمل؟
أمَا إن من أشكال الأمانة وصورها، أن القلم المتين، واللسان البليغ، أمانة في يد الكاتب والخطيب، فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الإصلاح، كانا ممن خان أمانته، وأضاعها، وفرّط فيها. . . فلينظر لنفسه كل كاتب وشاعر وصحفي وخطيب!
(دمشق)
علي الطنطاوي(657/20)
صور من العصر العباسي:
القرية الفضية. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
هذه القرية، هي إحدى عجائب العصر العباسي في بغداد. وما أكثر ما كان من زمن العباسيين من عجائب! وكانت قرية من فضة، وفيها كل ما تجد في القرى من بقر، وغنم، وجمال، وجواميس، وأشجار، ونباتات، ومساح، وناس، وكل ذلك قد صنع بأدق صنعة من الفضة، وأنفق عليه آلاف من الدراهم.
وكانت هذه القرية قد صنعت للخليفة المقتدر، ليرى كيف تكون القرى، وأغلب الظن أنه اشتهى رؤية قرية فصنعت هذه له.
وقد نعجب بالحضارة الإسلامية التي بلغت في القرن الرابع نضجها فأبدعت أشباه هذه الأشياء. وقد يدهشنا ما أنفق هذا الخليفة من الأموال، لتصنع له هذه القرية، ولكن الذي يدعو إلى العجب والدهشة معاً، قصة هذه القرية، وأثر النساء في مصيرها.
وهذه القصة جديرة بأن تكون خاتمة لمقالي السابق عن حكومة النساء لدى الخلفاء في زمن بني العباس.
ذلك بأن أم المقتدر، - وكان لها من الشأن ما عملت - كان لها داية تخدمها تسمى (نظم) وكانت نظم بارعة ذكية، فما زالت حتى صارت من قهارمها، وصارت تجري على يديها الكبير من الأمور والصغير، وكانت نظم ترغب في رجل أسمه أبو القاسم يوسف بن يحيى، فرفعته، وانتهت به إلى أسنى الأرزاق وأوسع الأحوال، وقربت بينه وبين السيدة حتى أخرجت له الصلات، فتأثلت حاله، وصار صاحب عشرات ألوف من الدنانير ثم خلطته بخدمة السيدة الأم، فزاد منها تقرباً.
وعزم أبو القاسم هذا، على تطهير ابنه يوماً، فأعد وليمة الختان عدة كبيرة، وأنفق على ذلك ما لم يسمع أن فعل مثله رجل من الحاشية، حتى إنه لكثرة ما ابتاع من الحاجات أفرد عدة دور للحيوان، وعدة دور للفاكهة، وبلغ (نظم) خبره، فسعت عند السيدة الأم وجاءته من عندها بالأموال والفرش والآنية والثياب والمخروط (وهو نوع من الزجاج)، فلما مضت أيام سألت السيدة نظماً: يا نظم إيش خبر طهر ابن يوسف؟ قالت: يا ستي قد بقيت عليه(657/21)
أشياء يريدها، فقالت: خذي ما تريدين واحمليه إليه، فجاءت نظم إليه فقالت: إن كان قد بقي في نفسك شيء، فعرفني. فقال لها: الختان غداً، وما بقي في نفسي شيء إلا وقد بلغته بك، وقد بقي في نفسي شيء لست أجسر على مسألته. قالت: قل ما في نفسك. قال: أشتهي إعارة القرية الفضية التي عملت لأمير المؤمنين ليراها الناس في داري، ويشاهدوا ما لم يشاهدوا مثله، فيعلموا ما لي من الاختصاص والعناية. فوجمت، وقالت هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، ومقداره عظيم، وفي هذه القرية مئات الألوف من الدراهم، ولا أحسب جاهي يبلغ إليها. وكيف يستعار من خليفة شيء؟ ومتى سمع بخليفة يعير؟ ولكن أنا أسأل السيدة. ومضت.
قال أبو القاسم: فلما كان الليل جاءتني، فقلت ما الخبر؟ فقالت كل ما تحب، قد جئتك بالقرية هبة لا عارية، وجئتك معها بصلة ابتدأ بها أمير المؤمنين من غير مسألة أحد. فقلت ما الخبر؟ قالت: مضيت وأنا منكسرة القلب، آيسة من أن يتم هذا. فدخلت على السيدة، على هيئتي تلك. فقالت من أين؟ قلت من عند عبدك يوسف، وهو على أن يطهر ابنه غداً. قالت أراك منكسرة، قلت: ببقائك ما أنا منكسرة. قالت: ففي وجهك حديث، فقلت: خير، قالت: بحياتي عليك، ما ذاك؟ قلت: قد شكر ما عومل به ودعا وقال إني كنت أحب أن أتشرف بما لم يتشرف به أحد قبلي ليعلم موضعي من الخدمة. قالت: وما هو؟ قلت: يسأل أن يعار القرية ليتجمل بها، ويردها من غد. فأمسكت. ثم قالت: هذا شيء عمله الخليفة لنفسه، كيف يحسن أن يرى في دار غيره؟ وكيف يحسن أن يقال إن الخليفة استعار منه بعض خدمه شيئاً ثم استرده منه، وهذا فضيحة. وليس يجوز أن أسأله هبتها له لأني لا أدري إن كان قد ملها وشبع منها أم لا؟ فإن كان قد ملها فقيمتها عليه هينة. وإن كان لم يملها لم أرض أن أفجعه بها، وسأسبر ما عنده في هذا.
ثم دعت بجارية فقالت: اعرفوا خبر الخليفة، فقيل لها هو عند فلانة، فقالت (أي لنظم) تعالي معي، فقامت، وأنا معها وعدة جوار حتى دخلت، وكانت عادته إذا رآها أن يقوم لها قائماً، ويعانقها، ويقبل رأسها، ويجلسها معه في دسته (قالت نظم): فحين رآها قام وأجلسها معه، وقال: يا ستي - وهكذا كان يخاطبها - ليس هذا من أوقات تفضلك وزيارتك! فقالت: ليس من أوقاتي. ثم حدثته ساعة، وقالت: يا نظم متى عزم ابنك يوسف (!) على تطهير(657/22)
ابنه؟ قلت. غداً. فقال الخليفة: إن كان يحتاج إلى شيء آخر أمرت به. فقالت: هو مستكف داع، ولكن قد التمس شيئاً ما أستحسن خطابك به. قال أريد أن أشرف على أهل المملكة كلهم، ويرى عندي ما لم ير في العالم بمثله. قال: وما هو؟ قالت: يا سيدي يلتمس أن تعيره القرية، فإذا رآها الناس عنده ارتجعت. فقال يا ستي، والله هذه ظريفة! يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعة، فأعيره ثم أرتجعه، هذا من عمل العوام لا الخلفاء. ولكن إذا كان محله من رأيك، هذا، حتى قد حملت على نفسك بخطابي وتجشمت زيارتي، وأنا أعلم أنه ليس من أوقات الزيارة، فقد وهبت له القرية، فمري بحملها بجميع آلاتها إليه، وقد رأيت أن أشرفه بشيء آخر، يحمل إليه غداً جميع وظائفنا، ولا يطبخ لنا شيء البتة، بل يرسل إليه، وبؤخذ لنا سمك طري فقط.
وأمرت السيدة بنقل القرية، فتملكها أبو القاسم.
فهذه قصة بسيطة، على أن فيها كثيراً من حياة القصر زمن المقتدر، وهي تبين لنا طرق الكلام، والمحادثة، وطرق تآمر النساء على الخليفة، وطرق تبذير الأموال. على أن أعظم هذه الأشياء كلها، هو تأثير نظم والسيدة في الخليفة، وانقياد هذا الخليفة للنساء، وتركه الأمور لهن يصرفنها كيفما شئن وأردن.
دمشق
صلاح الدين المنجد.(657/23)
في الأدب الإنجليزي:
ماثيو أرنولد
للأستاذ خيري حماد
(تتمة)
ولكن إذا كان الناس ينظرون للشعر هذه النظرة العظيمة، أليس من الخليق بهم أن ينهضوا به نهضة عظيمة، ويعلوا من شأنه إعلاء لا يجارى. أليس من الحرى أن يبوئوه مكانة بين العلوم الإنسانية حتى يمكنهم الحصول على ما يتوخونه له من نتائج هامة، فإن من أهم العوامل الضرورية في الشعر التفريق بين الغثّ والسمين، بين الجيد والسيء، بين الجميل والقبيح. فالشعر هو المرآة الحقيقية التي نصور بواسطتها الحياة في أحسن معانيها، وأبهى حللها، وهو المصلح الاجتماعي الأوحد الذي تتجاوز سلطته العقائد والقوانين، وتتعدى عرف المجتمع.
إن أحسن الشعر في رأي أرنولد ما أردنا إنشاءه ونظمه؛ فهو الذي باستطاعته أن يسرنا وأن يخلق فينا الأفكار والظنون التي نريدها. ويجب علينا دائماً عند دراستنا للشعر من مختلف نواحيه أن نخلق في أنفسنا روح الإعجاب بالحسن والاستنكاف للسئ أو الرديء. فإن أغراضنا وميولنا الشخصية لها قيمتها العظمى في الحكم على الشعر وتقديره بالميزان الحقيقي الذي لا غلط فيه ولا ميل. فكثيراً ما تقود الإنسان ميوله الشخصية إلى المبالغة في الأحكام التي يصدرها. وهذا مما يقود إلى ارتكاب الأخطاء، وتحمل المشاق في إصدار الحكم الذي يريده.
يعتمد جمال الشعر على المقدرة التقليدية أو الإبداعية عند الشاعر. ويختلف تقديرنا للشعر باختلاف جماله وابتداعه، فإن كان من النوع العالي، من النوع الخالد، وجب علينا تقديره والثناء عليه، وإن كان من النوع الرديء تحتم علينا أن نصب عليه جام غضبنا، وأن نظهره للناس بمظهره الحقيقي خالياً من الرونق والبهاء، وتقدير الشعر واستحسانه مصحوبان بالتمييز بين الحسن والسئ هما الغايتان الوحيدتان لدراسة الشعر والإقبال عليه. وكل ما يعوقنا عن نيل هذه الغاية فهو مضر وغير صالح.(657/24)
وإذا كنا نرغب في دراسة الشعر الحقيقي كما هو دون أيما مبالغة أو عز، فما علينا إلا أن نظل مفتوحي الأعين بعيدين عن عالم الخرافة والكذب محاولين وزن القصيدة بقسطاس عادل، فنحكم على الشعر حكماً صادقاً. ويتحتم علينا عند دراستنا للشعر أن ننظر إليه نظرة نقدية من الوجهة التاريخية فنطلع تمام الإطلاع على الحقائق التاريخية ونحاول ربطها بما جاء في القصيدة أو الملحمة، ويجب على الشاعر عند انتخابه لأشخاص قصدته أن يتوخى الرجال المشهورين فيضع في كل ناحية من مناحي البطولة رجلها اللائق بها.
فأغنية رولند في رأيه تختلف تمام الاختلاف في معناها الشعري ومغزاها العاطفي عن قصائد هوميروس. وعندما ننقل بصرنا من هذه القصيدة إلى تلك نشعر كأننا انتقلنا من عالم إلى آخر مخالف له. وعلينا أن نزن كلمات الثناء والحمد وزناً فلا نضعها دون أي تمعن. وقد قال أرسطو قديماً: (إن الشعر يمتاز من التاريخ بميزات كثيرة أهمها الصدق والثبات اللذان لا يوجدان في التاريخ كوجودهما في الشعر. فإذا عبر الشاعر في قصيدته عن فكرة ما كان في شعره مثلاً أعلى للصدق والنزاهة يحاول جهده أن يعرض على قرائه وسامعيه أفكاره الحقيقية النزيهة دون أي رياء ونفاق. فمن الواجب المحتم على الشاعر إذن أن ينتقي مواضيع له سداها الصدق ولمحتها الثبات.
ويختلف شعر شوسر الشاعر الإنكليزي المعروف عن شعر سابقيه من ناظمي الملاحم والقصائد الطويلة في شيئين هامين: أولهما المادة، وثانيهما الأسلوب. فنشعر عند انتقالنا من قراءة شعر أسلافه إلى قراءة شعره أننا انتقلنا من عالم مادي إلى آخر ملؤه الخيال والابتداع. وامتيازه في مادة الشعر يتناول نظرته الواسعة نحو الحياة البشرية بما فيها من بساطة ودعة، جلاء ولطف، فله المقدرة الشعرية على اختراق حجب الحياة والتطلع بعين المستطلع نحو صور الحياة الحقيقية. وأما أسلوبه فيختلف عن أسلوب سابقيه اختلافاً واضحاً بيناً، فهو أول من وضع للشعر الإنكليزي صورته الحقيقية التي نشاهدها في عصرنا هذا. وقد أثنى عليه النقاد في مختلف عصور اللغة الإنكليزية، فمدحه جونسون، وأطراه درايدن.
وفي شعر شوسر نرى عذوبة وسلاسة لا نشاهدهما في شعر غيره من أسلافه ومعاصريه، فقد كانت له المقدرة اللغوية التامة للتحكم بألفاظ ووضعها في أوضاعها الحقيقية دون أي(657/25)
تكلف، ومع كل هذه الميزات فإن شوسر لا يعد من كبار الشعراء المقلدين. فقد كانت تعوزه المقدرة على ضبط الوزن والموسيقى الشعرية التي نجدها كثيراً في شعر الشاعر الخالد دانتي الإيطالي، ولكن يمكننا أن نجزم أن هذه الموسيقى لم يستطع أحد من الشعراء الإنكليز حتى عصر وليم شكسبير أن يأتي بمثلها أو يقلدها.
واعتقد أرنولد أن عصر درايدن وما تلاه من العصور كان عصر تأليف وابتداع وترقية للشعر عما سلفه من العصور. وكان درايدن يظن أن أسلافه لم يفهموا الشعر الإنكليزي حق فهمه. وكولي نفسه لم يؤمن بشاعرية شوسر ونبوغه. وعندما أراد جوزيف أديسن أن يمتدح شعر درايدن اتخذ من قصائده مثلاً أعلى للمقابلة والمقارنة. وكان الاعتقاد السائد طوال القرن الثامن عشر أن درايدن وجونسون وبوب وأديسن هم فحول الشعر الذين لم يجارهم سابق ولا لاحق.
وهنا يسائل أرنولد نفسه: أنعتبر درايدن وبوب شعراء مقلدين؟ وهل التقدير التاريخي في معظم الكتب الأدبية لهذين الشاعرين تقدير صحيح؟ فقد أنكر وردزورث وكوليردج على هذين الشاعرين مقدرتهما الشعرية. ولكن القرائن والدلائل تشير بأنه سيأتي يوم عما قريب، ترجع فيه سطوة القرن الثامن عشر الشعرية، ويرجع الناس إلى تقدير شعرائه وكتابه.
وينتقل أرنولد بعد هذا البحث الطويل في الشعر إلى تطور النثر وأثره في الأدب الإنكليزي. وفي هذا الكتاب تتجلى لنا عظمة أرنولد في النقد، وكيف ينقد بأسلوبه اللاذع الكتاب والشعراء من أسلافه ومعاصريه.
ولأرنولد كتب أخرى أهمها كتاب: (الثقافة والفوضى) وكتاب: (القديس بولس والبروتستنية). وكتاب: (الأدب والعقائد) وكتاب: (الله والتوراة) وغيرها من الكتب الكثيرة.
خاتمة:
مما تقدم في بحثنا عن حياة ماثيو أرنولد وفنه، يمكننا أن نتأكد من أن حياته كانت مثمرة مفيدة. فقد كتب قبل وفاته أكثر من عشرين كتاباً اعتبر البعض منها من أحسن ما كتب في اللغة الإنكليزية.
ويجدر بنا قبل أن نختم مقالنا أن نضيف بعض الحقائق التي لا غنى لنا عنها. لقد هجر(657/26)
أرنولد الشعر وسنه لم تتجاوز الأربعين حيث اعتقد أن الشعب الإنكليزي لا يفهم الفن والشعر مطلقاً، وإنما يهتم بالأمور المادية فحسب، وهذا ما حمل أرنولد على أن يهاجم مجتمعه هجمات شديدة في كتابه الأول الذي أصدره في عالم النثر. ومن هذه السنة إلى يوم وفاته يندر أن نجد له قصيدة مشهورة، فقد وجه معظم انتباهه إلى النقد والنثر والسياسة.
كان أرنولد من أنصار المدرسة الكلاسيكية التقليدية في أفكاره، ولذا نراه يحاول أن يعيد لهذا العصر بهاؤه ورونقه بعد أن طغت عليه صروف الزمان وظهرت تلك الثورة الأدبية المخيفة التي بدأ بها الشاعران وليم وردزورث وكولردج سنة 1798، عندما أخرجا إلى العالم كتابهما الخالد: (القصائد الغنائية)، فقضت على الأدب الكلاسيكي قضاء مبرماً. ولكن أرنولد بدوره رغب في الرجوع إلى المواضيع الكلاسيكية القديمة، فنظم بها عيون قصائده كقصة تريسترام وامبدوكليس وميروب، وكان ينكر على الرومانتيكيين فرديتهم ومحاولتهم إشباع رغبتهم فحسب، بينما في الحقيقة على الشعب أن يهتم بالآداب العالية في جميع اللغات، ولا يقتصر بحثهم على الآداب الإنكليزية فقط.
وقد حمل حملة شعواء على المتطهرين لاعتقاده أن هذه الفكرة أو هذا المذهب يحصران الدماغ في محيط لا يتجاوزه ولا يتعداه، وهذا مما يضيق نطاق الأدب، ويهدم ذلك الصرح الذي بناه الأدباء من سالف العصور.
وعلى الإجمال فإن أرنولد يعد من خير حملة الأدب في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وشهرته آخذة بالازدياد شيئاً فشيئاً، فلا غرو أن رأيناه بعد مدة ليست بالطويلة يتبوأ محله اللائق به في عالم الفن والنقد والأدب.
خيري حماد(657/27)
كيف نحبب الكتاب إلى الأطفال؟
(مقدمة الجزء الأول من كتاب حكايات الأطفال بمناسبة الطبعة
الأخيرة منه.)
للأستاذ كامل كيلاني
من المشاهد المألوف إن الطفل إذا قص عليك خبراً، لجأ إلى تكرار الجمل كأنما يتثبت من معانيها في ألفاظها المكررة، فلنكتب له - وهو في هذه السن - محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ، لنثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً، ولنكرر له الجمل برشاقة، لنسهل عليه قراءتها، فإن لكل مقام مقالاً.
ومن المقرر أن الطفل - في هذه المرحلة - ملول يتهيب الكتاب، فلننزع من نفسه هذا الملل، ولنحبب إليه الكتاب بكل وسيلة، فنبسط له الأسلوب تبسيطاً، ونكثر له من الصور الجذابة الشائقة التي تسترعي انتباهه، لنشعره أن الكتاب تحفة تُهدى إليه إهداء، وليس واجباً يكلَّف به تكليفاً، فإن الطفل - إذا ساء ظنه بالكتاب - صعب اجتذابه إليه بعد ذلك.
وقد وفق أكثر من تصدوا لتأليف كتب الأطفال توفيقاً عجيباً في تبغيض القراءة إلى نفوسهم، وتنفيرهم من المطالعة، فأصبحوا يمقتون الكتاب أشد المقت، ويهربون من قراءته، لأن المؤلفين لم يراعوا سن الطفل وميوله ورغباته، ولم ينزلوا - أو هم على الحقيقة - لم يستطيعوا النزول إلى مستواه ومخاطبته باللغة التي يفهمها وترتاح إليها نفسه، ومن الإنصاف أن نقرر - بصراحة - أنهم لم يضعوا كتبهم على نسق خاص أو منهج بعينه، وأنهم في تأليفهم لم يتشبعوا بفكرة فنية تنتظم الكتاب وتؤلف بين أجزائه؛ لأنهم يقنعون بتصيد موضوعات الكتاب - كيفما اتفق لهم أن يتصيدوها - فيخرج الكتاب خليطاً مضطرباً لا تؤلف بين أجزائه فكرة بعينها، ولا يتناسب أسلوبه مع مدارك الأطفال.
إن الطفل ميال - بطبعه - إلى الحكايات والقصص، وهو بغريزته مفتون برؤية الصور الجذابة. فلنختر له منها ما يناسب سنه، ويتفق مع ميوله ورغباته وتفكيره، وقد حفزنا هذا الاعتبار إلى تأليف (قصص للأطفال) بالأمس، كما حفزنا اليوم إلى تأليف (حكايات الأطفال). وقد كتبنا الأولى لكبار الأطفال، والثانية لصغارهم. ولقيت قصص الأطفال -(657/28)
من الإقبال والعناية - ما شجعني على تأليف هذه الحكايات.
أما الفكرة التي انتظمت هذه السلسلة (حكايات الأطفال) فهي (التكرار)، يكثر في أولها ثم يقل - كلما تقدّم الطفل في القراءة - بالتدريج، حتى يصل إلى قراءة الأسلوب الموجز الذي لا تكرار فيه بلا مشقة أو إعنات.
وقد تدرجنا بالطفل في هذه السلسلة حتى يكون آخر جزء منها ممهداً لقراءة أول جزء من أجزاء السلسلة الأخرى (قصص الأطفال)، وإنما عمدنا إلى التكرار عمداً، بعد أن أقنعتنا التجارب العملية، أنه أصلح أسلوب يلائم الطفل الناشئ ويشجعه على القراءة.
وذلك أن الطفل الناشئ لا يقرأ الكلمة إلا بجهد كبير، ولا يتم قراءة السطر إلا بشق النفس، فلنقتصد جهدنا في استعمال الألفاظ الجديدة، ولنؤلف له من الألفاظ القليلة التي يقرؤها الكبير في بضعة أسطر عدة صفحات كاملة لندخل في روعه أن القراءة ليست صعبة كما يتوهم، وليست شاقة مضنية، كما ألفها في الكتب الأخرى، بل هي سهلة ميسورة، وهي - إلى سهولتها ويسرها - ممتعة شائقة. تملأ نفسه بهجة وانشراحاً، وثمة يشعر الطفل بثقة في نفسه إذ يرى أنه يقرأ صفحة كاملة بجهد يسير، فهو لن يتم قراءة السطر الأول حتى يسهل عليه قراءة السطر الثاني والثالث والرابع وهكذا، لأن الألفاظ لا تكاد تتغير في الجمل إلا بمقدار يسير.
هذا هو المنهج الذي أخذنا به أنفسنا في تأليف هذا الجزء وما يليه من الأجزاء. فإن وفقنا في هذه الخطوة - ونرجو أن يكون ذلك - فقد أدينا بعض ما يجب علينا أداؤه لهذا الجيل الناشئ الذي نعلق عليه أكبر الآمال.
كامل كيلاني(657/29)
تأملات:
من الساخر!؟
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
ذات يوم. . . ركبت ترام (المترو) في رفقة صديق له مثل اتجاهاتي ونظراتي وتأملاتي في الناس وفي الحياة. وكان الوقت مساء. . . وكانت الأضواء الباهتة تترنح سكرى في سدفة الليل. . . وكانت النسمات لينة تنفذ إلى الرئتين في رفق ودعة، فتستجيش انفعالات وخواطر شتى!
ولما بلغنا في الطريق إلى منتصفه، أشار صديقي خفية إلى رجل يجلس قبالتنا. . وهمس في أذني قائلاً: (انظر. .!)
. . . ونظرت. . فإذا شيخ هِمٌّ أرسل لحيته الكثة إرسالاً فطرياً مستبشعاً، فبدت كأنها دغل كثيف منّن. وكان الشيخ في أسماله الحائلة الرثة، ووجهه القذر المتغضن، وفمه الفاغر، ونظراته الشاخصة، قابعاً في غفلة وتلبد أشبه ما يكون بركام مطَّرح من قذر وعفونات!
قال صديقي بعد فترة من النظر المتأمل إلى وجه هذا المسخ الآدمي (أترى إلى هذا (الشئ!)؟! أتراه يكون (إنساناً)؟!)
. . قالها صديقي، ولم يكن يرمي إلى الزراية بهذا التعس. . ولا يكاد يقصد إلى اصطناع السخر منه. . وكل ما كان يبتغيه هو أن يفصح - في صدق - عن حقيقة تجسمت أمام ناظريه!. . . وافترقنا. . وطوت الذاكرة هذا المشهد فيما طوته من مشاهد، وإن تحصِّل في نفسي راسب منه، لم يكن من اليسر أن يقتلعه النسيان ومرور الأيام من واعيتي الباطنة. . . حتى كان يوم من أيام هذا الشتاء الجهم لقيت فيه صديقي. . فتذاكرنا سوياً هذا المشهد، واسترجعنا في خيالنا صورة ذلك الشيخ. ثم خلفت صديقي، ومضيت إلى داري. وهنالك - حين خلوت إلى نفسي - وجدتني أردد هذه العباْرة: (من. . من الساخر؟!)؛ ثم وجدت الذهن ينبثق عن خواطر. . رأيت أن أسجلها في هذه القطعة الفنية، التي أقدمها لصديقي. . شريكي في النظر والتأثر - هدية متواضعة. . طالباً منه أن يعمل الفكر والحس والشعور في مضمونها وفحواها. . ثم أسأله - بعد ذلك - أن يتحرى أو يحاول مطابقة الراسب المتحصل في نفسه بتأثير هذا المشهد، بالراسب الذي أوحى إلى هذا الكلام:(657/30)
(. . من؟! من يكون الساخر في هذه الحياة؟!
أتراه يكون ذلك الشيخ الهم الذي طوى السنوات الطوال - وما زال يطويها - لا يدري من أمر خلقه شيئاً. . لا يعلم للحياة غاية إلا أن يعيش. . ويظل يعيش!
. . لا يعرف من هدف في الدنيا سوى أن يعمل على أن تمتد به الحياة. . ليظل يحيا. . لينسأ أجل الوفاة!
إنه ليتأدم بالخبز مختلطاً بالقذر؛ ويطعم شرائح اللحم ممزوجة بروث البهائم، ويكرع في الماء الآسن، حميماً ذائباً فيه الطين؛ وينام الليل الطويل على فراش من حصى وقش باسر! إن حياته لتطرد على هذه الصورة السنين تلو السنين. وهو على حاله من طلب البقاء والرغبة الملحة في الدوام!
أترى ذلك (الشيخ) يكون الساخر؟ أم يكون هذا (الفنان) الذي انصرف عن كل شيء إلا فنه. . ونظر إلى الكون على أنه مرسح تمثل عليه رواية، لا يهمه من أمرها شيء. . إلا بقدر ما تشبع حاسته الفنية وتروي. . .
إن كل ما في الكون، إنما يتخذ قِيَمه وخصائصه - عنده - بهذا الفن. . هذا الفن وحده!
وإن ناساً يعيشون في هذه الحياة، ولا يعرفون من أمر (هذا الفن) شيئاً، لهم - في نظره - والعدم سواء!
إنه ليلهو عن الحياة في واقعها، بتلك الحيوات الكثيرة المتنوعة. . وتلك العوالم العريضة الرائعة يفتقها خياله المفتن الصناع، الذي يجد معينه الدافق - دائماً - في عالم النفس الرحيب، وعالم الروح الطليق!
أترى الساخر يكون ذلك (الفنان). . أم تراه يكون هذا (الباحث) المنقب الذي سلخ جل حياته حبيس عقله الراصد للظواهر، المستكنه للعلائق المستورة الخفية، والخصائص الكامنة المطوية. . تتقلب به الدنيا، وتدور من حوله الأحداث، ويجلل الشيب رأسه يوماً بعد يوم. . . وهو لا يدري من أمر هذا كله شيئاً. . إلا هذا (الكل) الذي يعيش فيه. . . ويعيش من أجله ويأمل أن يمتد به العمر ليصل حلقة من حلقاته المفزعة!
أتراه يكون الساخر في هذي الحياة؟ أم يكونه هذا (الطفل) الغزير الذي لا يستشعر (الوجود) وجوداً إلا أن يرد ظواهره كلها إليه. . . إلى ذاته؛ ولا يحس (الحياة) حياة إلا أن(657/31)
تتفاعل بكل ما فيها وكل من فيها في داخل نفسه. . . في محيطه الخاص المستقل، الحافل بالصور الغريبة ومستطرف التهاويل!
إنه ليرى أن كل شيء في هذا الكون له. . وهو لا يملك شيئاً منه في واقع الحال، وما من شيء في الكون - إن علم - ليقبل أن يخضع للتخصيص!
كل أهدافه أن يستشعر الناس أحاسيسه، ويجاوبوه عنها!
كل مبتغاه أن تلبى مطالبه، وتقضَّى حوائجه للحظة التي هو فيها، وبالصورة التي يريد!
أيكون هذا (الطفل) هو الساخر في هذه الحياة؟!
أيكونه؟! أم يكونه واحداً من هؤلاء؟ أم يكونه جميعاً؟ أم لا يكونه واحد من أيهم!
لست تدري. . . ولست أدري. . . ولسنا - جميعاً - نملك إلا أن نتساءل: من؟!. . . من يكون الساخر في هذي الحياة!
لنجد الجواب - دائماً - حيرة أبدية مشبوبة. . . وقلقاً سرمدياً. . . هما وسم كل (حي). . . وسر كل (حياة)!
(مصر الجديدة)
عبد العزيز الكرداني(657/32)
هذا العالم المتغير:
أبحاث الذرة وفلسفة الكون
للأستاذ فوزي الشتوي
(لكي تفهم ما هي الذرة يجب أن تعرف شيئاً عن تاريخ فلسفة الكون فقد عرفنا الذرة بالفلسفة لا في العمل وعرفنا بعد تفكير دام آلاف السنين):
الشمس في الأرض
يخطئ من يظن أن أبحاث الذرة وطاقتها بنت القرن الحاضر أو الماضي، فدارس التاريخ. والفلسفة يجد بذورها الأولى في عصور قد ترجع إلى ما قبل التاريخ. والذرة باليونانية وقد عرف المصريون القدماء في عصور الاسرات الأولى إلها باسم أتوم ورمزوا له بالشمس وما تضم من قدرة وحيوية. فإن أردت أمثلة من تراتيله تجدها منتشرة في كل كتب العبادات المصرية. فله قالوا:
المجد لك يا أتوم خالق نفسه بنفسه.
فأنت إله الشمس وخالق العالم.
خالق الآلهة ومنتج كل شيء.
وهو أيضاً: خالق الجرثومة في المرأة.
وصانع البذرة في الرجل.
ومانح الحياة للابن في جسد أمه.
وأدرج مع التاريخ تجد فلسفته تنتشي مرة وتخبو أخرى حتى يظهر له مثيل على يدي إخناتون الذي رأى فيه إلهاً عالمياً سماه أتون، ورأى فيه (القوة التي تمثل الشمس في الأرض) لا يقتصر أمره على مصر أو طيبة بل يمتد ويشمل الأرض كلها. فهو الرمز الماثل في كل حيوان أو نبات أو جماد أو غاز، أو ما يفسره العلماء الآن من أن ذرات الأجسام تشبه النظام الشمسي.
من مصر إلى اليونان
ولكن الخلافات الدينية وقوة كهنة الآلهة آمون عصفت بفلسفة أتون وديانته. وهي خلافات(657/33)
سياسية أكثر منها دينية. فلم يكن الفرق بين فلسفة الإلهيين يبرر استئصال شأفة أتون عقب وفاة إخناتون مباشرة
وقد بلغ الحقد بالكهنة حداً دفعهم إلى تدمير كل ما وصل إلى أيديهم فلم تنج منه سوى تراتيل قليلة لا ندرك منها بالضبط سر فلسفة أتون، ونظرها إلى الكون وتركيبه. ولكن الثابت أن سلطة الكهنة أكرهت الملك توت عنخ آمون الذي ولى العرش عقب إخناتون على تغيير اسمه من توت عنخ آتون إلى توت عنخ آمون كما لقبوا إخناتون (بمجرم اخيتاتون) وهي إحدى المدن التي جعلها مقراً لفلسفته الجديدة
ولا يستطيع باحث أن يجزم بأن الفلسفة اليونانية لم تتأثر بالفلسفة المصرية في عهد الفراعنة. بل الراجح انهم أخذوا عنهم الكثير من دياناتهم، ومبانيهم، وحضارتهم، وشتى نواحي الحياة، بما فيها فلسفة الكون وعناصر تركيبه
وقد نتساءل وما دخل الذرة بفلسفة اليونان أو قدماء المصريين؟ ولكن علومها بنيت على أساس فلسفي، ولم تبن على أساس كيمياوي أو طبيعي منبته المعمل. بل شيدت نظريات الذرة والكون على منطق دقيق أطلق فيه الفلاسفة العنان لخيالهم وتقديرهم
اليونان والذرة
ففي عام 400ق. م. ظهر فيلسوف يوناني اسمه ديموقريطس قال إن العالم يتألف من فراغ لا نهائي ومن عدد لا نهائي من دقائق لا تدرك، وإن المادة تتألف من تجمع هذه الدقائق المعروفة باسم الذرات ومعناها باليونانية التي لا تتجزأ. وفسر خلفاؤه دعواه فقالوا انك لو تناولت قطعة من المعدن وقسمتها إلى جزأين متساويين ثم واليت التجزئة فانك ستصل في النهاية إلى جزء لا يمكن تقسيمه
وكان هذا التفسير هو بدء عهد الذرة كما يسميه التاريخ الواضح. وامتدت العقول أيضا إلى خواص الذرة وطبيعتها فقالوا إن السوائل تتألف من ذرات ناعمة سهلة الحركة، بينما الأجسام الصلبة تتألف من ذرات خشنة ذات خطاطيف تتشابك إحداها بالأخرى. ولكن علماء اليونان ومنهم أرسطو رفضوا الأخذ بهذه النظرية فانغمرت حينا من الزمن، وان بقي لها أتباعها ومؤيدوها
وفي عام 1348 ظهر نيقولا انتروشيا وقال إن الظواهر الطبيعية يمكن أن تفسر على(657/34)
أساس اتحاد الذرات وتفرقها ولكنه اضطر إلى نقض أقواله التي عدت في ذلك الوقت إلحاداً.
ولكن أرسطو ابتدع نظرية جديدة حين قال إن المواد التي نشهدها ونتناولها تتألف من أربعة عناصر: هي الأرض والهواء والماء والنار. ولم يفهمها بالمعنى الكيمياوي المعروف الآن بل من حيث خواصها. فالأرض مركب من الجفاف والبرودة، والماء من البلل والبرودة، والنار من الجفاف والحرارة، والهواء من البلل والحرارة.
العرب وحجر الفلاسفة
وأضاف العرب إلى هذه العناصر في العصور الوسطى ثلاثة عناصر أخرى هي الكبريت والزئبق والملح. وكان من الطبيعي أن تؤدى هذه النظريات إلى أنه من الممكن تحويل معدن إلى معدن مما أنتج البحث عن حجر الفلاسفة، أو قلب المعادن الخسيسة إلى ذهب، وضمان دوام الصحة الكاملة، والشباب الناضج الحي
وكان أصحاب هذا المذهب يتفرقون شيعاً في الاحتفاظ بأسرار أعمالهم التي كانوا يحرصون كل الحرص على اخفائها عن عيون الناس وإفهامهم. وقد وصلت قصص دعاياتهم إلى نهايتها في عام 1782 حين قدم جيمس بريس أحد أعضاء الجمعية الملكية في لندن إلى الملك جورج الثالث عينة من الذهب، وقال انه استطاع استخراجه من معادن أخرى
وكان لتصريحه ضجته، فمنحته جامعة اكسفورد إحدى درجاتها العلمية. كما قام المعارضون يناقضونه ويهاجمونه في قسوة، فطلب إليه مدير الجامعة أن يكرر التجربة أمام أعضائها. وتلكأ بريس بضعة أشهر ثم وافق على الاقتراح. فلما حان موعد التجربة. تجرع بريس سماً زعافاً من قارورة صغيرة فقضى عليه في دقائق
الذرة في مرحلة النشاط
ودبت الحياة مرة ثانية في أبحاث الذرة واستنتاجاتها، حين نشر جوزيف بروست مبدأ النسب المحدودة. ومضمونه أن أي مركب كيمياوي يحتوي دائماً على ذات النسب المتساوية في الوزن ثم تبعه جون دالتون في عام 1808 فاعتنق مذهبه وأضاف إليه مبدأ(657/35)
النسب المضاعفة، ومضمونه أن عناصر كيمياوية معينة تتحد ببعضها البعض لتؤلف مركبات كيمياوية مختلفة في أوزان ذرية مضاعفة.
وقد كان جون دالتون مدرساً بائساً في مدرسة صغيرة بإنجلترا ولكنه وضع أسس النظرية الذرية، حين قال إن قانون النسب الثابت لبروفست يمكن أن يفسر بأن العناصر مؤلفة من ذرات ثابتة. كما بين أن ذرة عنصر يمكن أن تتحد بذرات عناصر أخرى في حالات مختلفة. وعلى هذين الأساسين تقوم الكيمياء الحديثة
وكانت لفظة الذرة تستخدم بطريقة غير محدودة، حتى قام اماديو افوجادروا العالم الإيطالي في عام 1811، ففرق بين الذرة والجزئ.
والمعروف الآن أن الماء يتكون من ذرتي ايدروجين وذرة اكسوجين؛ ولكن العلماء كانوا يقولون ذرة ماء وذرة ايدروجين برغم الاختلاف بينهما، وان الذرة جزء من كل. فلما جاء افوجادرو فرق بين المعنيين وجعل الذرة وحدة العنصر. والجزئ وحدة المركب، أي أن الجزئ يتكون من عدة ذرات تختلف باختلاف المادة
ووضع فوجادرو مبدأ آخر، وهو أن المواد الغازية تتألف من جزيئات لا من ذرات. فجزئ الايدروجين مثلاً يتكون من ذرتي ايدروجين، ومثله جزئ الاكسوجين من ذرتي اكسوجين وان الذرة لا توجد مفردة
والمفكرون أيضاً
وكما ساهم رواد الكيمياء والطبيعة في التفرقة بين الذرة والجزئ، ساهم المفكرون من أمثال بيكون وديكارت في تعليل بعض الظواهر الغريبة وأهمها الحرارة فسموا الوحدات الحرارية (بالسعر) وقالوا أنها تحرك دقائق المادة. فلما كانت سنة 1728 تقدم دانيل بارنويلي بنظريته القائلة بأن دقائق المواد الغازية في ذبذبة وحركة مستمرة. وان ارتفاع درجة الحرارة معناه زيادة في ذبذبة الدقائق. وافترض بأن الضغط الذي ينشأ على جدران وعاء ليس في الواقع سوى احتكاك تلك الدقائق ببعضها البعض.
وقد فسرت هذه النظرية خواص الغازات بطريقة طريفة مقبولة منازلنا نعتنقها حتى الآن، ونسير على هديها في أبحاثنا، وإن كنا قد فسرناها على ضوء الأبحاث والتسميات الجديدة، فوضحت لنا لماذا تتمدد الغازات بالتسخين وتحتاج إلى حيز أكبر لما ينتابها من شدة(657/36)
الذبذبة، وحاجة حركتها إلى فراغ أكبر. وهي التي تعلل سبب اندفاع الغاز بقوة أكبر إن سخناه في حيز محدود.
ولم يفهم العلماء آراء نويلي لأنها كانت سابقة لأوانها فتجاهلوها، ولكن الأيام مرت، وأوشك قرن كامل أن ينقضي على دعوته، حين ظهر العالم الإنجليزي جيمس برسكوت جول وكان من تلاميذ دلتون، فأحيا نظرية نويلي. وفسرها بأن النشاط الميكانيكي يمكن أن يحول إلى حرارة تتناسب مع مقدار الجهد. ويمكنك أن تلحظ هذه الظواهر في حياتك العملية، فعندما تحس البرد تفرك يديك إحداهما في الأخرى لتسخنا. وإن نشرت قطعة خشب ترتفع حرارة المنشار تبعاً لسرعة حركته.
مواد لا وجود لها في الحياة
ومن المكتشفات الذرية قائمة العناصر التي وضعها الكيمياوي الروسي ديمتري إيفانوفتش ماندليف في عام 1869 فقد أثبت أنه إذا رتبت العناصر الكيمياوية ترتيباً تصاعدياً تبعاً لوزنها الذري فإن العناصر تتشابه كل عدد معين. فإذا بدأت باللثيم مثلاً وعددت ثمان مواد فانك ستجد الصوديوم ثم عد ثمانية عناصر أخرى فتجد البوتاسيوم. فهذه العناصر الثلاثة تشترك في كثير من الخواص وكلها معان بيضاء تتفاعل مع الماء بشيء من العنف.
وعلى أساس الأوزان الذرية، وضع مندليف قائمة بأسماء المواد. وكان من الجرأة والثقة بعلمه وبنظريته حتى ترك بعض الأماكن بيضاء لأنها تنقص معادن غير معروفة. ولكنه تنبأ بخواصها تبعاً لنظريته. فلما مرت السنوات واكتشفت بعض هذه العناصر الناقصة كانت خواصها مطابقة للخواص التي تنبأ بها مندليف. وتتألف هذه القائمة الآن من 92 عنصراً ما زال اثنان منها مجهولين.
ولعلك تتساءل عن حجم الجزئ أو الذرة. وهو سؤال يصعب تصوره، ولكن البوصة المكعبة من الهواء تتألف من 800. 000. 000. 000. 000. 000 جزئ. والذرة أصغر من الجزئ لأنها جزء منه. فإن أردت لها قياساً، فتصور أنك لو رصصت ذرات حول الجدران الخارجية لأدق نقطة تراها فإن عدد هذه الذرات يبلغ خمسة ملايين ذرة.
وقد تنكر وجود هذه الدقائق التي لم يرها إنسان، ولكن العلماء يرونها ضرورية لتفسير بعض الظواهر الغريبة التي تطرأ على المادة، كما يجدونها معقولة من الناحية المنطقية.(657/37)
ولم يجدوا ما يمكن أن ينفيها. وعندما تتحدث عن الذرة، فيجب أن تذكر شيئين، وهما الصلابة والسكون. فهما لفظان لا معنى لهما في عالم الذرة والجزئ لأنهما ليسا صلبين ولا ساكنين. والجسم الساكن الصلب الذي تراه يتكون من رقم بالغ الضخامة من الأجسام الدقيقة الدائمة الاهتزاز، والتي لا تمس واحدة منها الأخرى ولكن تربطها قوة جاذبية. ويمتنع التصاق جزئ بآخر بفعل هذه الذبذبة الدائمة.
فوزي الشتوي(657/38)
بنلوب. . .!
أسطورة تمثيلية غنائية
للشاعر عبد الرحمن الخميس
الراوي: اطرحْ قيودَ الحاضر ... واحلمْ بعصرٍ غابرِ
واصنعْ جناحَ توهمٍ وخيالِ ... واعبرْ إلى الماضي ذرى الأجيالِ
طرْ نحو عهدٍ في الزمان سحيق ... واشهدْ (أثيكا) درةَ الإغريق
تلك المدينةَ جلَّ من أنشاها ... انظرْ إليها ودّعتْ مولاها
هرعت يزين جموعها أوديسيوس ... مَلكٌ تخر إذا أرادَ له النفوسْ
لي نداء الحرب والأوطانِ ... متدرعا ببطولة الشجعانِ
هذي أثيكا نسوةً وصغارا ... وقفتْ تودع جيشها الجبارا
اسمع وداعَ الأهل للفرسانِ ... من كل معتنقين يفترقان!
كورس: حاربوا المعتدينْ ... بالسلاح اليقينْ
وارجعوا ظافرينْ ... للحمى. . . والربوعْ
يا شباب الجهادْ ... يا حماة البلاد
اغمروا كل واد ... بالدما. . . والدموعْ
ليس بعد الحروبْ ... غير لقيا الحبيب
وشفاء القلوبْ ... وارتياح الضلوعْ!
حاربوا المعتدينْ ... بالسلاح اليقين
وارجعوا ظافرين ... للحمى. . . والربوع
الراوي: طوى الجيوش عباب ... من الزمانِ رهيبُ
وليس يُسمع عنها ... إذا سألتَ مجيبُ
وكلُّ ما قيلَ حدسٌ ... مما تودُّ القلوبُ
وأدبرتْ سنواتٌ ... ما عاد فيها غريبُ
وزوج أوديسيوسٍ ... جارت عليها الكروب
غام الأسى في سماها ... مسكينةٌ بِنِلوبُ!(657/39)
أكلما جنْ ليلٌ ... أوهى قواها النحيبُ؟
وراقَ في ناظريْها ... خيالُه المحبوبُ؟!
يا شوقها إذ تنادي ... هـ والحنايا لهيبُ
في مخدعٍ ليس فيه ... سوى خُطاها دبيبُ
يا حزنها إذ تناجي ... هـ وهو لا يستجيبُ
بنلوب: أوديسيوس حبيبي ... طال الحنين إليكا!
ولم تَعُدْ. . . يا بلائي ... يا ويل روحيَ منكا!
أقمتُ في البُعد محرا ... باً للهوى والوفاءُ
ورحتُ أسجد فيه ... لذكريات هنائي
وليس يرحم مابي ... سوى الدجى والسكونِ
وطيفُكَ الحلو يغري ... بالسهد نورَ عيوني
كفّنتُ من أجل حبي ... باليأس زهر شبابي
وعشتُ أحرق نفسي ... ومهجتي في عذابي
الراوي: وفية أوردتْ صباها ... متالفَ الدمعِ والحنينِ
ودار باليأس حولها العم ... رُ شاكياً فاجعَ الأنينِ
ولم يَعُدْ ذاكرٌ سواها ... لزوجها الفارس الأمينِ
فهذه حولها (أثيكا) ... تضج باللهو والمجونِ
نسيانُ! يا طبّ كلِّ داءٍ! ... أبْعِدْهُ عن قلبها الحزينِ
وَضُمَّهُ مثلما ضمتَ الذي ... ن تاهوا مع السنين
وانفضْهُ من روحها وأغرق ... هـ في دجى سرك الكنينِ
أنتَ الذي تمنحُ الشقيَّي ... نَ كلَّ سلوى في كلِّ حينِ
وتمسحُ الهمَّ بالتأسِّى ... وبالأمانيِ وبالحنينِ!
صغرتَ والله عن أساها! ... وضقتَ عن شوقها الدفين!
نسيانُ! إني أراكَ أوهَى ... من حُبَّها الخالدِ المكينِ!
كم مرة أحرقتْ فؤاداً ... بنظرة غضة الجفونِ(657/40)
يشع من وجهها سني خا ... طفٌ من السحرِ والفتونِ
يضئ يغري القلوبَ بجثو ... لحسنها الرائع الحزينِ
كم راجح العقل تًيَّمَتْهُ ... فَصَيَّرَتْهُ إلى الجنون!
وكم أميرٍ مُدَاهِنٍ عط ... فها لدى قلبها الحصينِ
وطيفُ محبوبها مقيمٌ ... يُقْصِيه عن حرمة العرين
الأمير: وهبتكِ قلبي فلا تنبذيه ... وصونيه. . . إن غرامك فيهْ
ألا ترحمينَ له خفقةً ... تنادي فؤادك كي يحتويهْ
بحسنك يا ربَّتي أنقذيهْ ... وفي قبضةِ اليأسِ لا تتركيهْ
بنلوب: نأيتُ بروحي عن الحب
الأمير:. . . . . . . . . . . . . . . لا ... لقد ظلَم الحبُّ فيكِ الجمالْ
بنلوب: وأوشك يطفئ في ناظري ... بريقَ الشبابِ ونورَ الخيالْ
فما ترتجيه بحبيَ؟
الأمير:. . . . . . . . . . . . . . . . . . إني ... أراه يُنيلُ فؤادي المُحَالْ!
بنلوب: واهمٌ فيما تراهْ ... أنا أحيا لهواهْ
هو زوجي وحبيبي
الأمير:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حلمٌ طاحت رُؤَاهْ
فخُذِي مني حليلاً ... وأخا عيش سواهْ
وارحمي حسنك أن تُذْ ... وِيهِ أحزانُ الحياةْ
بنلوب: مرحباً بالهم لو غا ... لَ شبابي فيِ نواهْ
حبه كعبة نفسي ... ودمي طولَ الحياة
وشجوني. . . ودموعي ... هي قربان الصلاة
الراوي: تنافسَ الأمراءُ ... في حبها كيف شاءوا
كلٌ غريقُ هواها ... وفي يديها النجاءُ
فليرحم العشاقَ ال ... مُتَيَّمِينَ الرجاءُ
لم يسمعوا صوتَ قلبٍ ... تغلي به البُرَحَاءُ(657/41)
وخيَّروها لتحظى ... بمن ترى وتشاءُ
لكنها والأسى أج ... رى دمعَها والوفاءُ
آلت بأن تنتقي مَنْ ... يكون فيه الكفاءُ
وأرجأت ذاك حتى ... لها يتمّ رجاءُ
تريد تنسجُ بُرْداً ... فليصبرِ الأمَراءُ!
عذرٌ تصير لها من ... هـ عصمةٌ ووقاءُ
تظل تعمل في الْبُرْ ... دِ والظلامُ دعاءُ
وحينما تنثر الفج ... رَ في الأعالي ذكاءُ
تحلُّ ما نسجته ... حتى يحينَ المساءُ
وهكذا ليس للبُرْ ... دِ والنسيج انتهاءُ
مَلَّ انتظارُ المحبي ... ن جمعَهم واستاءوا
مَنْ ذلك الفارسُ الفر ... دُ حوله لألاءُ؟
تفيض من مقلتيه ... عزيمةٌ وَمَضاءُ
يمشي فتعمر دنيا ... هُ فرحةٌ وضياءُ
يزهي بما قد حَباهُ الش ... بابُ والعلياءُ!!
الفارس: كواني لهيبُ الجوى فانطلقتُ ... ألوذ بظلك يا جنَّتي!!
بنلوب: وما أنا فاعلة يا أميري؟
الفارس:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أعيدي بوصلك لي مهجتي
حرامٌ عليَّ نسيمُ الحياة ... إذ أنتِ لم تصبحي زوجتي
بنلوب: ولكنني لم أتم النسيج
الفارس:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأشعلتِ يا أملي حرقتي
تعاليْ نذوق الهناء
بنلوب:. . . . . . . . . . . . دعوني ... ولا تحرمونيَ من شقوتي
الراوي: أكلما لاح عاشق با ... عدتْهُ مُرْبَدَّةَ الجبينِ؟
وكلما ضاَء بارقٌ أس ... دلتْ عليه من الدجونِ؟(657/42)
واستعذبتْ وحدة الحزانى ... بلا أنيسٍ. . . ولا خدين!
واستسلمتْ للشجونِ حتى ... لم يبق منها سوى الشجونِ
وشبَّ في يأسِها (تليما ... كُ) صورةً من أبٍ أمينِ
وكلما أبصرْتهُ. . . ثارتْ ... لزوجها موجةُ الحنينِ
نما ولم يَدْرِ ما أبوه ... إلا على صفحةِ الظنونِ
منرفا: تليماك!! يا ولدي!
تليماك:. . . . . . . . . من أرى؟
منرفا:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... منرفا تَشُقُّ عبابَ الظلامْ
تليماك: وتنفضُ عن مقلتيَّ الكرى؟
منرفا:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وتسكبُ بين يديكَ السلامْ
تليماك: ومن أين جئتِ؟
منرفا:. . . . . . طويتُ إليكَ ... بساطَ السماءِ وَهوْلَ الجبالْ
تليماك: وماذا تريدين؟
منرفا:. . . . . . . . . . . . إني حملتُ ... لأحزانِ أمك آيَ الزوالْ
أبوك الذي شردتْهُ السنينُ
تليماك:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أراهُ ولكنْ بعينِ الخيالْ
أما زالَ في حلقاتِ الحياةِ؟
نرفا:. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وسوفَ يعودُ وفيرَ الشبابْ
تليماك: تباركتِ يا ليلتي!
منرفا:. . . . . . . . . قُل لأمَّ ... ك أوشك يذهب عنها العذابْ
الراوي: وطارت ربة الحكمة عنه وهو مذهول!!
أيكذبها؟ وكيف؟ وإن ما قالته تنزيلُ!
وهبّ إلى حمى بنلوب يطرح باقة البشرى
وزف الصبح أوديسيوس وهو الفرحة الكبرى
كورس: بنلوب يا أوفى النساءُ ... ضاءتْ حواليك السماءُ(657/43)
راح الأسى وأتى الهناءُ ... هذا أليفُ الروح جاءْ!
استقبلي طيرَ السلامْ ... واشتكي له ظلم الغرامْ
وأريه ما جرح الهيامْ ... وأريه ما فعل الوفاء
بنلوب يا أوفى النساء ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عبد الرحمن الخميس(657/44)
البَريدُ الأدَبيّ
وهذه أيضا. . . فضيحة!
ساء نفراً في الشام أن اختصت مصر بمكرمة محاربة الشيوعية بجد وحزم، فبعثوا يحتجون على حكومة مصر، بأسلوب أقل ما يوصف به أنه كفر بالجامعة العربية، وإساءة للخلق النبيل، وإخفاء للحق الظاهر، وتزويق للباطل القبيح، فغضب لذلك وزير مصر المفوض في دمشق، وأركان حكومة الشام، وأساتذة المدارس (لأن هؤلاء النفر الشيوعيين المعلنين شيوعيتهم من كبار موظفي المعارف!) وغضب علماء دمشق وتجارها وطلابها، والجمعيات الإسلامية والعربية فيها، وغضب عمالها الذين يتخذهم الشيوعيون في الشام، كقميص عثمان. . . وبعثوا بسيل من البرقيات والمقالات، يدفعون بهذا الحق باطل النفر المخالفين، ويثبتون به أن دمشق بلد العربية المسلمة لا تكون أبداً دار الشيوعية الملحدة، وأن هؤلاء النفر لا ينطقون إلا بلسان أنفسهم ولا يعلون إلا بوظائفهم - فإذا أنزلتهم عن كراسيهم في وزارة المعارف لم يعودوا شيئاً، وما (فلان) و (فلان)؟ أي حسب وأي نسب؟ أي علم وأي أدب؟ أي مال وأي نشب؟ كراسي على كراسي. ومناضد وراء مناضد! ولولا إنها فضيحة قبيحة أن يكون بيد هؤلاء تنشئة أمة المستقبل، وأن في هذه الكلمة اعتذاراً إلى مصر، وتبرئة للشام وإحقاقاً للحق، وتقوية للجامعة العربية ما بعثت بها إلى الرسالة.
(دمشق)
علي الطنطاوي
1 - قصة عجب
من أيادي الحكومة المصرية تعليم الصم والبكم، فقد اجتمعت في دار الأستاذ فهمي رضوان بحسن أفندي شاهين أحد المتخرجين من (مدرسة الصم والبكم بالإسكندرية) فأخبرنا أنه ولد أبكم وتعلم في هذه المدرسة، وتفاهمنا معه بالكتابة وبالكلام أيضاً، فإنه يدرك ما يحدثه به مخاطبه من حركة الشفتين أو حركة اللسان في الحروف غير الشفهية، ثم أدهش الحضور بوضع راحته على حنجرة أحدهم وتحويل وجهه عنه، وطلب منه أن يتكلم بما يريد، فعرف ما قاله تماماً من حركة الحنجرة، وأعاد مثل ذلك مرات مع عدة من حاضري(657/45)
المجلس المعجبين به.
محمد شفيق
2 - بل هي حوائج:
أورد الأستاذ النشاشيبي (في عدد الرسالة 655) بيتي الأبيوردي المذكورين في إرشاد الأريب.
ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم مضمر اليأس
وقال حتام تؤذبني فإن سنحت ... جوانح لك فاركبني إلى الناس
ورأى أن الصواب (سنحت سوانح لك). والصواب ما جاء في الكامل لابن الأثير عند ذكر وفاة الأبيوردي وهو (حوائج) حيث ذكر البيتين. وقال الأستاذ النشاشيبي أيضاً. كانت وفاة الأبيوردي سنة 557 ولعله اعتمد على وفيات الأعيان أو الأعلام للزركلي، والصواب أنها سنة 507 كما بينت ذلك (في العدد 561 من الرسالة) نقلاً عن (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) وورد مثله في معجم البلدان لياقوت وتاريخ الكامل وغيرهما.
محمد شفيق
فن تاريخ مصر المجهول:
في مكتبتي مخطوطة من كتاب (التنوير في إسقاط التدبير) لابن عطاء الله الإسكندري. وابن عطاء الله هذا مفخرة من مفاخر الإسكندرية بل من مفاخر مصر. توفي سنة 709هـ وكتابه التنوير من أشهر كتبه بعد كتابه (الحكم العطائية) وقد طبع التنوير عدة مرات ونسخه المخطوطة كثيرة. أما مخطوطتي فحسنة الخط مشرقة الحرف فيها تواليع بالحمرة في عناوينها وبعض كلماتها ولم يذكر في آخرها اسم ناسخها ولا تاريخ نسخها، غير أن الناسخ بعد أن أتم نسخها عاد فنقل من كتب الوعظ والحكم فوائد ملأ بها عشر صفحات وقد بدأ الفائدة الأولى بقوله: (ومن فوائد مؤلف هذا الكتاب: الوجود أقسام أربعة: خير محض وشر محض وشر وخير ولا شر ولا خير إلخ) ثم ذكر أبياتاً في الحكم ثم ثلاث قطع من الشعر في آخر كل قطعة تاريخ بحساب الجمل سجل فيه حادثة جرت في مصر منذ ثلاثمائة سنة ونيف. وقد كتب الناسخ القطع الشعرية الثلاث من دون مقدمة ولا عنوان ولا(657/46)
تعليق ولا مناسبة لما قبلها أو لما بعدها.
وبعد أن أتم القطع رجع إلى سرد فوائده الحكيمة كأنه لم يأت بشيء جديد ولم يستطرد إلى خبر غريب لا علاقة له بالفوائد والرقائق التي يسردها. وهذه هي القطع الثلاث نثبتها هنا على ما فيها من خلل في الوزن وركاكة في التعبير أو أن ذلك كله إنما وقع من جهل الناسخ لا من بلادة الناظم.
- 1 -
لقد كانت الأمصار تحسد مصرنا ... وتدعى بروض الملك في سائر القرى
رماها ملكها بالنُّحاس فأصبحت ... خراباً وأهلوها غدت أفقر الورى
وصارت ديار الذل من بعد عزها ... ألا في سبيل الله يا مصر ما جرى
وقد قلت في عام النُّحاس مؤرخاً ... نحاس كأحجار على مصر أمطرا
1034هـ
- 2 -
بمصر كل إنسان ... قد صار مسكين حيران
من كثرة الغم لما ... رموا بها الزيف بهتان
زمانه أرخوه ... به نحاس وخسران
1043هـ
- 3 -
بمصر حل تشويش ... وتنكيد وأحزان
برمي نحاس أرسله ... لها سلطاننا الآن
فأضحت مصر في وهج ... وأهلوها بها انهانوا
رميته نؤرخها ... بها نحس وخسران
1043هـ
والتاريخ في القطعة الأولى مغاير للتاريخ في القطعتين الأخيرتين والفرق قليل لا يتجاوز بضع سنوات. وربما كان سببه اختلاف الاعتبارات في حساب بعض الكلمات أو أن(657/47)
المحادثة تكررت ويكون السوء أصاب مصر مرتين أصابها سنة 34 و 43 وبينهما تسع سنوات وكلمة (نحاس) مضبوطة بالشكل بضم النون وفتح الحاء غير المشددة. ومن معاني النحاس الدخان وبه فسر النحاس في آية (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) فهل كانت الكارثة التي نزلت بمصر في ذلك الزمن شيئاً من هذا القبيل؟ بيد أن الشاعر قال (نحاس كأحجار على مصر أمطرا) فجعل النحاس كالأحجار، أو لعله يريد بالنحاس قنابل مدافع من نحاس محشوة بأحجار. وفي دار الكتب المصرية ست نسخ مخطوطة من كتاب التنوير المذكور فقلت في نفسي لعل نسختي نقلها ناسخها من إحدى هذه النسخ فيكون خبر (النحاس كالأحجار) مثبتاً في آخرها فراجعتها فلم أجد أثراً فيها. وراجعنا بمعونة موظفي دار الكتب بعض كتب التاريخ التي وصلت في تدوين الحوادث إلى سنتي 1034 و 1043 فلم نجد بينها أثراً للخبر العجيب المذكور.
فنحن نروي لقراء الرسالة هذا الخبر على علاته، ونصه على زلاته، فلعل فيهم من يسعفنا باليقين من أمره فنكون له من الشاكرين.
عبد القادر المغربي
عضو المجمع
الأبيوردي
تساءل الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي في مقاله بعدد (الرسالة) الماضي عن (إرشاد الأريب) عند ذكر قصيدة الأبيوردي المعاوي التي قالها عند استيلاء الفرنج على بيت المقدس سنة 492هـ تساءل في بعض حواشي المقال: هل نظم الأبيوردي القصيدة وهو صغير أم نظمها بعد ذلك التاريخ، ويرجع تساؤل الأستاذ الجليل إلى اعتماده رواية ابن خلكان أنه مات سنة 557هـ وللأستاذ الجليل الحق في هذا التساؤل لأن المدة حينئذ بين نظم القصيدة وبين الوفاة هي خمس وستون سنة. . . وأقول: - لعل الحق أن وفاته كانت سنة 507هـ لا سنة 557هـ كما في بغية الوعاة صفحة 16 والدليل الذي لا يتطرق إليه الشك على صحة هذا التاريخ أن السيوطي ذكر نقلا عن السلفي أن الأبيوردي (أحضر عند السلطان أبيَ شجاع محمد بن ملك شاه تشخيصاً وهو على سرير ملكه فارتعد ووقع ميتاً(657/48)
وذلك يوم الخميس بين الظهر والعصر العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبعة وخمسمائة) وإذا علمنا أن هذا السلطان توفي سنة 511 هـ كما في تاريخ آل سلجوق للعماد الأصفهاني صفحة 108 بين لنا وجه الحق في وفاة الأبيوردي العظيم. . .
جعفر محمد
الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي للدكتور محمد البهي
من الجوانب الفكرية التي لا تزال يتغشاها كثير من الضباب؛ ذلك الجانب الفلسفي من التراث الإسلامي؛ ومبعث الاختلاف هو: هل هذا اللون من التفكير؛ وليد العقلية الإسلامية؛ وبين أحضانها درج؛ وفي بيئتها شب وترعرع؛ أم هو ربيب بيئة أخرى لا صلة لها بهذه البيئة؛ وإن كانت تلك البيئة قد آوته في كنفها حينا؛ فطبعها بطابعه؛ كما خلعت عليه هي أيضا بعض شياتها؛ فموقف المؤرخ لهذه الظاهرة العقلية الإسلامية؛ موقف دقيق يحيط به الغموض؛ ويحتاج إلى منطق متئد، وفكر ثاقب؛ حتى يتسنى له أن يرد كل فكرة إلى مصدرها، وأن يحرص على أن يظل بمنأى عن التورط والانغماس فيما يلبس عليه المحجة؛ ويجره إلى التحزب والمشايعة؛ وقد استطاع الدكتور محمد البهي أن يحتفظ بموقفه بعيداً معتصماً بكنف البحث العلمي الذي يرد عنه عوادي الأهواء، ويقيه مزلة الانزلاق؛ فخرج البحث عن أن يكون رواية للمشاكل الإلهية كما تركها المسلمون؛ وصح أن يعد تاريخاً للتفكير الإسلامي الإلهي؛ يبين قيمة العمل العقلي للمسلمين في الناحية الإلهية من حيث هو في ذاته؛ وأثره في تطور العقيدة باعتبار أنها شيء قام على أسلوب الدين؛ وعلى ما لطبيعته من خصائص. وهذا المبحث يقع في قسمين: الأول يصور الفكر الإسلامي في مرحلة عزلته، والقسم الآخر يصوره بعد اختلاطه بالثقافات الأخرى. فالمرحلة الأولى تتناول تاريخ الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي؛ وهي مرحلة العزلة؛ ويعني بها ما كان تفكيرها عربياً محضاً لم يشتبك بعد فيها مع تفكير آخر غير عربي؛ ثم بعرض لموضوع التفكير في هذه المرحلة وهو - الله - فالله باعتبار ذاته؛ وباعتبار علاقته كخالق للمخلوقات؛ وباعتبار علاقته بالإنسان؛ كان المحور الذي تركزت حوله الدعوة المحمدية كما عرفها القرآن؛ وعوامل التفكير التي نلتمسها أولاً وبالذات في الخلاف والتصدع الذي(657/49)
طرأ على الجماعة الإسلامية بعد وفاة الرسول؛ والمرحلة الثانية هي تدفق الثقافات الأجنبية في القرن الثامن الهجري؛ ولهذه الثقافة غير الإسلامية مصدران: شرقي. وهو ما قام حول الديانات وخصوصاً اليهودية والمسيحية وشروحهما؛ وغربي وهو الفلسفة الإغريقية. ثم تكلم المؤلف عن طريق الترجمة وأسبابها؛ وسبب ترجمة المنطق؛ والفلسفة الإلهية؛ والأخلاقية والنفسية؛ وأشهر الكتب المترجمة؛ والكتب المزيفة؛ ومقياس الصحيح والزائف؛ وأسباب التزييف؛ تناول كل هذا تناول الفاهم الملم؛ الهاضم لموضوعه؛ فسد ثغرة كانت لا تزال غير محكمة السد في هذا الجانب الفلسفي من التفكير الإسلامي.
محمد عبد الحليم أبو زيد(657/50)
القَصًصُ
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
(تتمة)
- 5 -
تلبس القصة الواقعية، في بعض الحين، ثياب الأسطورة الخرافية ونبذها في الغرابة، وكثيراً ما يحار العقل في تحليل وقائعها فينسبها إلى المصادفة والاتفاق، فإذا أعيته الحيل وعجز عن بلوغ الحقيقة المادية لجأ إلى القول بالقدرية والأسرار المجهولة، وأخيراً يعترف اعتراف المستسلم بالعناية الإلهية وهي قدرة فوق طاقة العقل الإنساني تحده عن إدراك الغاية الإلهية من صنع العجائب والخوارق والمعجزات
وحكايتي أيها الأصدقاء فيها الأعجوبة الخارقة، والأسطورة الخرافية الحية، والواقعية المادية
كنا عشرين رجلاً، منا الطبيب والجرّاح والمساعد والصيدلي فضلاً عن الأتباع، وكان عددهم يناهز الثمانين، وقد انتحينا ناحية في مؤخرة الجيش في ميدان القتال اتخذناها مستشفى للأعمال الجراحية والإسعافات الطبية، وكان كلما تقدم المحاربون من رجالنا تأتينا النقالات حاملة الجرحى فنضمد البسيط منها ونقطع الرأي في الأمور الخطيرة التي تتطلب السرعة
تقدم جنودنا تقدماً محسوساً أدركنا مداه من الدوي الذي كان يصل إلى أسماعنا مخنوقاً خافتاً حتى حسبنا أننا انقطعنا عن الجيش
لم نأبه لتقدم الجيش لأن حاملي المحفات لم يشكوا من طول الشقة الفاصلة بيننا وبينهم، وبينما نحن في مكاننا ذاك تستغرقنا أعمالنا إذا بالدوي قد عاد، وإذا بصفير الرصاص وقرقعة القنابل وجلبة القتال كأنها استردت نشاطها الحي، وأخذت المدافع تقصف وترعد وبدت كراتها تشق الفضاء وتمزقه تمزيقاً ولكنها كانت بجانب الاتجاه السوي(657/51)
لفت نظر زميل طبيب إلى تحول المعركة من الجبهة إلى جناح فأجابني إجابة تهكمية أسكتتني، كان زميلي المتهكم ذاك، سبط القوام، عريض الألواح، بديناً يحسن السخرية والتندر. لقد أحسن ذلك الزميل مبلغ ألمي من تهكمه فتقدم مني يلاطفني ويطيب خاطري
في تلك اللحظة سقطت قذيفة بالقرب منا، أقول سقطت، لأن العجاجة التي أثارتها، والرجال الذين تراكموا منا فانقلبوا على الأرض، والحصى والحجارة والأتربة وقد عقدت سحابة داكنة فوقنا، ثم تساقطت علينا جعلتني أرجح سقوطها بالقرب منا
ألقيت جسمي بين يدي زميلي الطبيب البدين فاحتضنني كما تحتضن الأم ولدها، ورأيتني أتشبث به كصبي مقرور أو مرعوب انفجرت القذيفة بعيدة عنا، ولم أكد أنحى وجهي عن صدر زميلي حتى رأيت محفات جرحانا تطير في الفضاء وأحسست بجسمينا تحملهما عاصفة شيطانية كأنها خرجت علينا بغتة من أودية الجحيم ففقدت الوعي!!
لست أدري كم كان عدد الساعات أو الدقائق التي رحت فيها في غيبوبة أحسبها تماثل راحة الموت. . . ولكني تنبهت على معالجة إخراج وجهي من حمأة كادت تكتم أنفاسي
الحمأة لزجة كريهة الرائحة، وجفوني مقفلة بإحكام. . . أجفلت من نفسي. . . حاولت التخلص مما أنا فيه لأتبين حالي على حقيقته فإذا ركبتاي لا تسعفانني بالنهوض وساعداي غريقان في بركة من دم ولحم
دم ولحم؟!! صورة مفزعة وثبت إلى ذهني فكدت أجن، أخذت أنزع يدي كأني ملسوع، رفعت أصابعي إلى جفوني. . . رفعت أصابع ملطخة تنقذ جفوناً ملطخة؟! حاولت مجتهداً الابتعاد عن بركة أنا الغريق فيها، لأني ما كدت أنقلب على ظهري حتى أحسست أني أتوسد أرضاً مرملة. . . استعنت بالرمل على تنظيف يدي فكانتا تتلطخان من جديد؟! هل هما مجروحتان؟ لا أحس ألم جراح ولكنني أشم رائحة الدم. . . عدت إلى أصابعي أمسحها بالرمل، وإلى أهداب جفوني أغسلها بلعابي، كنت حتى تلك الساعة أجهل أن الدم كريه الطعم كريه الرائحة، ولكن لامناص من إنقاذ جفوني من التصاق أهدابها حتى أرى على أي حال أنا وفي أي بقعة من الوجود أكون، وهل من وسيلة إلى تضميد جراحي؟ وهل هي تنزّ وتتفصد، ولم يجل في خاطري أني كنت ميتاً ولا في حالة قريبة من الموت بل كانت دوافع الحياة تدفعني إلى الكفاح للنجاة مما أنا فيه(657/52)
انفتح جانب من طرف إحدى عيني فاندفع النور فيها أو كأن النور انبثق من هذا الجانب!!! حاولت الجلوس فإذا بركبتي تشعرانني بألم محتمل، طأطأت رأسي وأخذت أفتح ثغرات أخرى في أهدابي
ها أنا ذا أرى الحياة من جديد!!
شمس ساطعة، وسماء صافية، وصحراء هادئة ساجية، كأن ليس عليها سواي أنا المهشم المجروح وهذه الجثة المهروسة التي كنت غريقاً فيها، جثة مهروسة حقاً أنا هرستها بجسمي فآويت إلى أحشائها أتقي الموت فحملت عبئه وحدها وأنقذتني، جثة إنسان ضخم الجسم غرقت فيها من شدة ضغط القنبلة المعادية ولم تكن غير جثة زميلي الطبيب المفراح المزّاح
في تلك اللحظة التي تبينت فيها جثة زميلي وتحققت أنه الميت وأنا الحي، في تلك اللحظة جمد ذهني، وركد تفكيري. . . كنت أنظر فلا أرى، وأعي فكأني لا أعي! كانت صورة جثة زميلي المهروسة ماثلة أمامي، أرى الأحشاء مندلقة بشكل تنفر منه العين وتتقزز منه النفس، وأشم رائحة نتنة هي رائحة الإنسان!!
لازمني ذهول مركز، كنت أرى فرق الجيش تمر بي من بعيد، وثاب اليّ رشدي ساعة أقبل رسل الإنسانية فحملوني على محفة إلى المستشفى.
ساد المجلس صمت. . . أما أنا، فلم أكد أهم بحكاية أخرى من وقائعي حتى شعرت كأن رفاقي يستمهلونني بل يستوقفونني وقال لي أذلقهم لساناً، عليك أنت أن تدون حكايتنا ولا عليك أن تبتدع لنا حكايات، يكفيك أنك ألهبت شعورنا الوطني وإحساسنا القومي بما كنت تكتب وتنشر على رغم أنه مقتبس أو مستمد من أرواح الزعماء، فالزعماء يا صاحبي أرواح لا يفهمها الشعب، وإن ميعاد عظمة الزعيم رهينة بلبس ثياب الأسطورة ليصير خرافة لا حقيقة، وفي مقدرته على إنارة هالة قدسية حوله تجعل الشعب يؤمن به، فهو في كل أمم الشرق مجموعة من شخوص متحركة يعرفها جيداً كل زعماء الشرق، يعرفونها جيداً لأنها شخوص مثلهم تتحرك بدوافع غير منظورة لا يراها الشعب ولا يعرفها. . . كلنا يا صاحبي ذلك المجتر، شعب وزعماء!
حبيب الزحلاوي(657/53)
العدد 658 - بتاريخ: 11 - 02 - 1946(/)
شئون عربية
فلسطين - شرقي الأردن
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا ندري كيف نعلل سماح الحكومة البريطانية لليهود بأن يهاجر منهم إلى فلسطين ألف وخمسمائة كل شهر حتى تقدم لجنة التحقيق البريطانية الإنجليزية اقتراحاتها أو توصياتها، وهي مكلفة أن تفعل ذلك في أربعة أشهر.
فقد نقضت عهدها الصريح في الكتاب الأبيض أن لا يباح ليهودي أن يهاجر إلى فلسطين بعد انقضاء السنوات الخمس - وقد انقضت - ودخول العدد المنصوص عليه في الكتاب، وهو خمسة وسبعون ألفاً، وقد دخلوا - إلا بإذن العرب وموافقتهم، وقد أبى العرب كل الإباء أن يأذنوا ويوافقوا.
ولسنا نظن أن أحداً سيزعم أن الحكومة البريطانية جنبت أي خير بنقضها هذا العهد. فإن ستة آلاف يؤذن لهم في الهجرة إلى فلسطين في أربعة شهور رقم ضئيل لا يرضي اليهود أو يقنعهم، ولا يتألفهم من نفرتهم، ولا يسكن من ثائرتهم على بريطانيا، ولا يغريهم بالكف عن قتل أبنائها في بلاد فلسطين. وإذا قيل إنها فعلت ذلك مجاملة منها للرئيس ترومان، قلنا: وما ستة آلاف، وقد كان يطلب السماح لمائة ألف بالدخول؟ وأين المجاملة وقد مضى على طلبه هذا شهور وشهور ألفت في خلالها لجنة التحقيق وشرعت في أداء ما وكل إليها؟ ومثل هذا يقال عما بزعمه البعض في أنها أرادت أن تظهر للكونغرس الأمريكي أن هواها مع اليهود، وآية ذلك أنها نقضت الكتاب الأبيض بهذه الهجرة الجديدة، وأول الغيث قطر كما يقولون. وبها حاجة إلى رضى الكونغرس الأمريكي، حتى لا يرفض القرض الذي عقد لها في أمريكا.
فلا هي أرضت اليهود، ولا هي أحسنت المجاملة، ولا أقنعت الكنغرس، وكل ما كسبته بهذا النكث أنها أثبتت لليهود أنها ضعيفة، وأنها توسعهم حلماً وليناً كلما أوسعوها عدواناً وأسرفوا في تقتيل رجالها.
وأثبتت للعرب أنها لا وفاء لها ولا عهد. فما حاسنها أجد محاسنه العرب، وعاونوها أصدق معاونة في أيام الحرب، ولو شاءوا وكان ذلك في طباعهم لغدروا بها واغتنموا فرصة(658/1)
الحرب، فأقلقوها وأزعجوها، وكانوا شوكة في جنبها، وإنها لتعرف بالتجربة، في ثورتيهم، أنهم لا يخافون البطش، ولا يهابون القوة ولا يروعهم البأس، إذا صمموا وألقوا عزمهم بين أعينهم، ولكنهم آثروا الوفاء لها في محنتها وكانوا كراماً، وهذا جزاؤهم! يضربها اليهود بسلاحها الذي يسرقونه من مخازن قواتها، وينسفون منشآتها، ويقتلون رجالها، ويستخفون بقوتها أيما استخفاف، فتربت لهم على ظهورهم وتقول لهم: تعالوا ادخلوا على بركة الله! وكانت أيام ثورة العرب عليها قبل هذه الحرب، إذا عثر رجالها على بندقية قديمة بالية ليست أجدى على صاحبها من سيف أبي حية النميرى تشنق الرجل، وتفرض الغرامات الفادحة على القرية، وتفعل الأفاعيل المنكرة!
ومن الغريب أنها تسوغ السماح بهذه الهجرة الجديدة بأن عليها تبعات تفرضها عليها شروط الانتداب ما دام قائماً. كأن الحكومة البريطانية التي أصدرت الكتاب الأبيض كانت تجهل شروط الانتداب حين قررت أن تنقطع الهجرة الصهيونية بعد السنوات الخمس إلا بإذن العرب! أو كأن شروط الانتداب لا تنص صراحة على اجتناب أي عمل يضر بأهل البلاد الأصليين أي العرب!
ومن الغريب كذلك أنها تقول في البلاغ الذي أذاعته في هذا الصدد إن (المداولات) مع العرب طالت، والذي نعرفه أنها لم تطل، فقد رفض العرب أن يوافقوا على هذه الهجرة الجديدة، وكانوا على حق في رفضهم، فإنها بلادهم، ولهم أن يأبوا أن يدخلها من لا يأمنون جانبه ولا يطمئنون إليه، بل من يخافون شره. وطبيعي أن يرفضوا دخول يهود آخرين لئلا يصبح اليهود هم الكثرة، فيؤول أمر البلاد إليهم، ويصبح العرب قلة وغرباء في أرضهم. ثم إن الكتاب الأبيض الإنجليزي نفسه يخول لهم الحق في القبول أو الرفض، ويجعلهم أصحاب الرأي والقول الفصل في ذلك، وقد رفضوا بحقهم، فكان على بريطانيا أن تحترم ما ذهبوا إليه، وان تحترم عهدها هي نفسها. فأما وهي لم تفعل، فمن ذا الذي يسعه أن يثق بعهد جديد لها، أو يطمئن إلى لجنة التحقيق وقد بدا من بريطانيا هذا الهوى؟
وقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستعترف قريباً باستقلال شرقي الأردن، وكان تحت الانتداب تبعاً لفلسطين، وسيسافر صاحب السمو الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن إلى لندن للاتفاق على الشروط التي يتم بها الاعتراف باستقلال إمارته، وسينادى سموه بنفسه(658/2)
ملكاً بعد ذلك على الأرجح، فما يبقى بعد الاعتراف لبلاده بالاستقلال ما يحول دون اتخاذه أي لقب يشاء بإرادته الحرة.
ولا ريب أن الاعتراف باستقلال شرقي الأردن سيكون خطوة لها ما بعدها، وقد يعفى - أو لا يعفى - بريطانيا من العون المالي الذي تبذله له كل عام، فإنه بلد فقير إلى الآن، وقليل عديدة، وإن كان من أطيب البلاد وأكثرها كنوزاً، وسيحول استقلال شرقي الأردن دون امتداد الصهيونية إليه ودخولها فيه، وكان ذلك مطمعها، وقد سخطت ونقمت لما أذيع الوعد بالاستقلال، وعدت هذا غدراً من بريطانيا بالصهيونية، لأن الصهيونية تعد البلاد العربية كلها والشرق الأوسط أجمعه مجالاً حيوياً لها، كما كان (هتلر) يعد شرقي أوربا وشرقيها الجنوبي مجالاً حيوياً له أو للرايخ. على أني لا أظن إلا أن هتلر كان تلميذاً لليهود، فقد أخذ عنهم (العنصرية) وأسرف فيها كإسرافهم الذي كلف العالم - ويكلف العرب الآن - شططاً.
ونحن نعرف معنى الاستقلال في معجم السياسة البريطانية، وما يحتاج الاعتراف باستقلال بلد ما، إلى شروط، فإذا احتاج فالشروط ولا شك قيود، وتدلنا التجربة على أن بريطانيا قد أعدت لاستقلال شرقي الأردن شروطاً تجعل لها نفوذاً فيه وسلطاناً عليه، وتخولها اتخاذ مطارات - على الأقل - في أرضه، على نحو ما صنعت في العراق. بهذه الشروط - كائنة ما كانت، وفي أي قالب صبت - يدخل شرقي الأردن في منطقة النفوذ البريطاني.
ومثل هذا الاستقلال لا يعد تاماً، ولا حقيقياً، ولا وطيداً، وقد رأينا ما آل إليه استقلال العراق واستقلال مصر، وعرفنا حقيقة الأمر في البلدين، ولن يكون شرقي الأردن أجزل حظاً، فإن الاستقلال (يؤخذ ولا يعطى) كما قال المرحوم الملك فيصل في خطبة له بالشام بعد أن دخلها في أخريات الحرب العالمية الأولى على رأس الجيش العربي، فإذا أعطى فهو منحة، والمنحة تكون بقدر.
ولكن هذا الاعتراف سيكون خطوة على كل حال، لها ما بعدها كما أسلفنا، وبه يستفيد البلد قدراً من الحرية تتيح له أن يتجه وجهته إلى حد ما، وتشجعه على الأمل والتطلع والسعي، وتغير ما به تغييراً غير هين، ومن المحال بعد أن ينعم بهذا القدر من الحرية أن يُسلبه، بل الطبيعي أن يتسع النطاق، فتصدع القيود شيئاً فشيئاً على الأيام. وتلك سنة الحياة، فلا وقوف ولا رجوع. وهل تكف الأيام عن الدوران، وسن الإنسان الحي عن الارتفاع؟ أو هل(658/3)
تكر الكهولة راجعة إلى الشباب الذي ولى عهده، أو الطفولة التي تقضى أوانها؟ كذلك الأمم لا وقوف في حياتها ولا رجوع، حتى تستنفد حيويتها ويبلغ أجلها مداه، كما يبلغ أجل الفرد مداه وكل ما هنالك من الفرق أنها لا تفنى فناء الفرد، بل يدركها ما نسميه الانحطاط، وليس يحفظها من الانقراض إلا دخول دماء جديدة فيها، فتصبح وكأنها تسربت في غيرها وغابت فيه، لأن هذا الغير أقوى وأزخر حيوية، فإذا لم يتح لها ذلك بادت كما بادت القرون الخالية.
من أجل هذا نؤثر أن نستبشر بالاعتراف القريب باستقلال شرقي الأردن، ويسرنا أن الله قد حقق لصاحب السمو الأمير عبد الله ما كان مأربه من أول يوم دخل فيه هذا البلد الطيب، فما دخله ليضعه تحت الانتداب البريطاني، بل ليستقل به ويكون ملكا عليه حراً فيه، غير أن المقادير جرت بخلاف ذلك، فالآن تم له ما أراد، أو بعضه، فله ما التهنئة، والرجاء المخلص أن يرى في هذا ما يغنيه عن التفكير في (سورية الكبرى)، فأن نجاح المسعى إذا اتجه إلى العراق أقرب منه إذا أتجه إلى سوريه.
والله أعلم وهو الموفق.
إبراهيم عبد القادر المازني(658/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
لأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 26 -
ج6 ص210: قال أبو حيان: قال الصاحب بن عباد لأبي واقد الكرابيسي:
يا هذا، ما مذهبك؟ قال مذهبي أن لا أقر على الضيم، ولا أنام على الهون، ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي، ولم تصل عصمته بعصمتي. قال: هذا مذهب حسن، ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعاً، ويركب الهون سامعاً؟ ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوية في صدري، لا أتقرب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاك، ولا أجادل فيها المؤمن. قال فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته، فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فضلاً عن مثل متيقن. فقال له أبن عباد: صدقت. ولكن أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: إن كان مخلوقاً كما يزعم خصمك فما يضرك، فقال: يا هذا، أبهذا تناظر في دين الله، وتقوم على عبادة الله؟
قلت: ضبطت (الهون) في (لا أنام على الهون) (ويركب الهون سامعاً) بالفتح وإنما هي بالضم. في الصحاح: الهون بالضم الهوان، وفي الكشاف في تفسير (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب): على هون على هوان وذل، وقرئ على هوان. وقال في تفسير (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق): الهون الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه.
و (الهون) بالفتح: السكينة والوقار كما في الصحاح. وفي الكشاف في تفسير (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما): الهون الرفق واللين.
(ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي) هي (ولا أعطي عصمتي) أي قيادي وزمامي. في التاج: قال محمد بن نشوان الحميري في (ضياء الحلوم): أصل العصمة السبب والحبل. وفي اللسان أصل العصمة الحبل وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه.(658/5)
(إن كان مخلوقاً كما يزعم خصمك) هي (إن كان غير مخلوقكما يزعم خصمك) لأن (القدم) قول خصمه و (الخلق) قول الصاحب ومن تمذهب بمذهبه. وفيه يقول أبو محمد الخازن في إحدى قصائده:
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أي إلقاء
فنساس سبقتها منه بأربعة ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك (توحيده) ألوى بأربعة ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
(والمعتزلة - كما في رشح المواقف - لقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد وذلك لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة يعني أنهم قالوا: يجب على الله ما هو الأصلح لعباده ويجب أيضاً ثواب المطيع فهو لا يخل بما هو واجب عليه أصلاً، وجعلوا هذا عدلاً، وقالوا أيضاً بنفي الصفات الحقيقية القديمة القائمة بذاته تعالى احترازاً عن إثبات قدماء متعددة وجعلوا هذا توحيداً).
في (الفرق بين الفرق): (وكلهم (أي فرق المعتزلة) يزعمون أن كلام الله عز وجل حادث، وأكثرهم يسمون كلامه مخلوقاً).
في (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): (قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة إن القرآن كلام الله سبحانه وإنه مخلوق الله لم يكن ثم كان. . . وحكى عن ابن الماجشون أن نصف القرآن مخلوق، ونصفه غير مخلوق، وحكى محمد بن شجاع أن فرقة قالت: إن القرآن هو الخالق، وإن فرقة قالت هو بعضه، وأن فرقة قالت: إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن، والاسم هو المسمى كان الله في القرآن).
قلت: روى ياقوت في معجم البلدان عن كتاب لمسعر بن مهلهل في ذكر ما شاهده في بلاد الترك والصين والهند أن (تعرف يالبغراج لهم أسبلة بغير لحى يعملون بالسلاح عملاً حسناً فرساناً ورجالة، ولهم ملك عظيم الشأن يذكر أنه علوي وأنه من ولد يحيى بن زيد، وعنده مصحف مذهب، على ظهره أبيات شعر رثى بها زيد، وهم يعبدون ذلك المصحف.
والزمخشري يقول في ديباجة الكشاف: (الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاماً مؤلفاً منظماً، ونزله بحسب المصالح منجماً وجعله بالتحميد مفتتحاً وبالاستعادة مختماً، وأوحاه على(658/6)
قسمين متشابهين ومحكماً، وفصله سوراً آيات، وميز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع، وسمات منشأ مخترع. فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم).
قال السيد الجرجاني في حاشيته: (يروى أنه وقع في أم النسخ (نسخ الكشاف) خلق مكان أنزل ثم غيره المصنف لأن كون القرآن حادثاً أمر شنيع عند الخصم فأراد أن يكتمه أولا ثم أن يظهره بعد سوق مقدمات مسلمة عنده، ومستلزمة للحدوث في نفس الأمر، فإن ذلك أقوى في استدراجه إلى التسليم من حيث لا يشعر به).
وشاعرنا البحتري كان قوله في القرآن يدور مع الدول. . . قال الإمام المرزباني في كتابه (الموشح):
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكجي قال: قلت للبحتري: ويحك! أتقول في قصيدتك التي مدحت بها أبا سميد (أأفاق صب هوى فأفيقا):
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم ... ويحرقون كلامه المخلوقا
أصرت قدرياً معتزلياً؟ فقال لي: كان هذا ديني في أيام الواثق، ثم نزعت عنه في أيام المتوكل. فقلت له: يا أبا عبادة، هذا دين سوء يدور مع الدول. . .
قلت: في تعريفات الجرجاني: القدرية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله.
وفي (شرح المقاصد): اتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم، واجترأ المتأخر ون فسموا العبد خالقاً على الحقيقة.
ج19ص39: وقال ابن شرف القيرواني في وصف وادي عذراء بمدينة برجة من أعمال المُريَّة.
رياض غلائلها سندس ... توشت معاطفها بالزهر
مدامعها فوق خط الربا ... لها نظرة فتنت من نظر
وكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سفر
وجاء في شرح (سفره وأسفره أضاء، فلعله يريد أن الطريق إليها مشرق، فإن هذا مناسب للشطر قبله وللمدح.(658/7)
قلت: (المرية) بفتح الميم وكسر الراء مخففة كما ضبط ياقوت، وقد أورد مقطوعة في (معجم البلدان) لابن حداد يقول فيها:
أخفي اشتياقي وما اطويه من أسف ... على المرية والأنفاس تظهره
وصدر البيت الثاني (مدامعها فوق خدي ربا) وعجز البيت الثالث (وكل طريق إليها
سقر) أي وعر صعب.
في النفح: وبمدينة برجة (وهي من أعمال المرية) معدن الرصاص، وهي على واد مبهج يعرف بوادي عذراء، وهو محدق بالأزهار والأشجار، وتسمى برجة بهجة لبهجة منظرها، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني: (رياض تعشقها سندس)(658/8)
صحائف مطوية
الجنرال فيجان في سوريا ولبنان
للأستاذ أحمد رمزي
حينما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية، عين في سبتمبر 1939 الجنرال فيجان القائد الفرنسي المعروف، وصاحب الشهرة الذائعة في الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 على راس جيش الشرق في ميدان الأبيض المتوسط، وقد حضر إلى بيروت وجعل عمارة كبيرة ذات عدة طبقات مركزاً لقيادته - وهي العمارة التي أصبحت بعد الاحتلال البريطاني مركزاً لبعثة الجنرال اسبيز - فكأن المقادير قد ربطت هذا البناء بأكبر الحوادث التاريخية لسوريا ولبنان إذ اتخذت في حجراته أخطر القرارات وجرت في معظم المفاوضات التي غيرت الكثير من أوضاع البلدين
وكان الجنرال فيجان في نوفمبر1939 ويقيم في قصر شاهق برأس بيروت تعرفه من مفرزة الجنود الجراكسة التي تتولى حراسته ليل نهار، والتي كانت موضع انتقاد زميلين لي من ممثلي الدول الشرقية، وقد حظيت بمقابلة الجنرال في مركز قيادته، ودارت بيننا محادثات، ففي المقابلة الأولى لقيته في صباح يوم من شهر نوفمبر، وكان قد تحدد موعدها قبل ذلك بيومين، وقد أخذت الأهبة لهذا اللقاء لعلمي بمنزلة القائد التاريخية، ولوثوقي من شخصيته ونظرته النافذة، ولذلك حرصت على أن أتحين الفرصة وأخرج من المقابلة الأولى، وقد توطدت بعض الثقة بيننا، أو أسي شيء من العلاقة غير الرسمية، أقصد التي يتخللها بعض الصراحة.
فكيف أعمل لذلك؟
كان عليّ أن أستجمع كل معلوماتي وما يبقى بالذاكرة من حوادث الحرب الماضية وتجاربها ودروسها، فمنها بعض ما قرأته في المؤلفات المختلفة وبعض ما سمعته بمعهد زوريخ، ثم كان عليّ أن أراجع ما قرأته من مؤلفات الجنرال فيجان نفسه، وأولها مؤلفه عن (حرب محمد علي)، وهو كتاب معروف متداول، ولم ينقصني سوى كتابه (تاريخ الجيش الفرنسي)، وسرعان ما جبت المدينة باحثاً منقباً لدى باعة الكتب، حتى حصلت على نسخة من هذا الكتاب، فأمضيت ليلتين في تصفحه، وقرأت المقدمة مرات، وأخذت(658/9)
أتعرف على أسلوبه وطريقته في سرد الحوادث وشرح المعارك التي خاضتها فرنسا؛ ولا تنس أن فيجان عضو في الأكاديمية الفرنسية، فهو قائد وكاتب وأديب.
ولقد أفادني ذلك كثيراً: أولاً لأني من ثنايا كتابته تعرفت على الجنرال، ومن تقليب صفحات كتابه الأخير فهمت ميوله السياسية، ولذلك شعرت بهدوء وثبات، وكأني أعرف الجنرال معرفة أكيدة قديمة لما توجهت إلى مركز القيادة، واستقبلني ياوره وصعد بي إلى الطابق الثاني، وأدخلني إلى حجرة تطل على ناحية المدينة بعكس الجنرال اسبيرز الذي حينما احتل المكان كانت حجرته دائماً تطل على البحر، ولما استأذن لي من الجنرال أدخلني إلى غرفة متسمة، أول شيء لفت أنظاري هو أن حيطانها قد غطيت بالخرائط المفصلة: لأفريقية الشمالية إلى حدود مصر، وأخرى لسوريا ولبنان مع الجزء الجنوبي لتركيا، وفي مقابل المكتب خريطة كبرى لأوروبا الوسطى تظهر فيها بوضوح تام أراضي المجر والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، والجزء البلقاني الذي يبدأ من مقدونيا، وفيه أراضي بلغاريا ويوجوسلافيا، وقد ظهرت على التضاريس الأرضية وطرق المواصلات بمختلف الألوان. وقد أكثرت من ذكر الخرائط لأن الجنرال يحتاج دائماً إليها للتعبير عن أراءه إذا اتصلت بالناحية العسكرية، وتتجه أنظاره باستمرار إليها في حديثه، وأحياناً يشير بأصابعه إليها.
وكان أثاث الحجرة بسيطاً للغاية، لدرجة إنه لا يرضى به موظف بسيط لإحدى المصالح إذا أعطى بعض ما يشبه الرئاسة في بلاد مصر. وكان المكتب على شمال الداخل، فما فتح الباب حتى خف الجنرال من أمام مكتبه مرحباً بي، ولازمني حتى على مقعد أمامه، وعاد هو إلى مكتبه، معتذراً بأن حالة الحرب لا تمكنه من الحصول على أثاث لائق.
وبعد تبادل العبارات المألوفة بدأ حديثه: بأنه ليس غريباً عن مصر، إذ هو عضو بمجلس إدارة شركة قنال السويس، ومن أتاحت له هذه العضوية رؤية بلادنا، ثم هو مدعو قريباً لزيارتها بناء على طلب مجلس الحرب الأعلى للحلفاء لتقديم تقرير واف عن الحالة العسكرية وما يتطلبه الموقف الحربي إذا دخلت إيطاليا الحرب وقررت مهاجمة مصر.
أفادتني معلوماتي التي حصلت عليها بمطالعة ليلتين، والتي أشرت إليها في إلقاء بعض الجمل والتعليقات التي جعلته يطمئن يحدثه لبعض الأمور، فاعتدل في مجلسه وأخذ يتحدث ببعض الإسهاب عن القوات التي تجمعت تحت قيادته في بلاد الشرق فقال: إن فرنسا لم(658/10)
تقصد من حشدها أن تدافع عن سوريا ولبنان، لأن القوات المحتلة للبلدين تكفي لحفظ الأمن وتوطيد سلطتها، ولرد كل عدوان يقع عليها، وإنما القصد من تجمع هذه الوحدات أن تكون تحت التصرف مجلس الحلفاء الأعلى، لترسل إلى الجهة التي يبدو الخطر فيها، فهو كقائد لهذه المنطقة على رأس مجموعة جيوش فرنسية بينها قوات مؤلفة من البولونيين وتشيكوسولوفاكيين وغيرهم ممن لم تمكنهم الظروف أو لم تسمح لهم وسائل النقل من الالتحاق بوحداتهم الأصلية في بلدانهم. وقال إن هذه القوة منظمة تنظيماً تاماً، وعددها يزيد كثيراً عما يعتقده الكثيرون، بل هي دائمة الزيادة بفضل البواخر التي تنقل من فرنسا ومن مستعمراتها الرجال والعتاد.
وهنا اتجه الجنرال لجهة الخريطة الأوربية وقال: إن حملة سلانيك في الحرب الماضية قد قصرت أجل الحرب وساهمت في النصر النهائي بتعجيل انهيار النمسا والمجر وبلغاريا، وأعتقد أن مجموعة الجيوش التي تحت قيادتي قد تفتح جبهة ثانية في الميدان؛ وأشار إلى سهول المجر المتسمة قائلاً: إذا لم تدخل إيطاليا الحرب ولم يحدث شيء على الميدان الغربي، فإن الحلفاء قد يضربون الألمان بفتح ثغرة من هذا المكان ضد ألمانيا، وقد تكون ضربة حاسمة، وذلك باعتمادهم على جيش الشرق حينما يتم تجمع وحشد قواته ومعداته. وتفهم طبعاً من حديثه هذا أنه قصد تطمين الحكومة المصرية وتمهيد زيارته القادمة لمصر.
وكنت أتلهف لمعرفة رأيه عن المدة التي قضاها في سورية ولبنان، ولذلك أردت أن أنقل الحديث إلى ناحية تشير إلى الماضي، فذكرت له المدة التي أقامها بهذه البلاد وأنها برغم قصرها لا يزال يذكرها الكثيرون - ففهم مرادي من هذه الناحية وقال: إن أصدقاءه يأتون إليه من كل جانب، وأنه يحب هذه البلاد وأهلها، وإن صلات فرنسا بها صلات قديمة راسخة.
والجنرال أقرب إلى القصر منه إلى الرجل المتوسط الطول، يبدو لك في الخمسين من عمره، وإن كان قد ترك الستين وأخذ يقترب من السبعين، وهو دائم النشاط والحركة، يظهر لي من حركاته أنه شديد الوطأة على معاونيه، إذ يطلب درجة فوق المستوى اللاتيني من الضبط والربط، وهذه الدرجة غير متوفرة في ذلك الوقت، لأن جيوشه تنقصها(658/11)
المعسكرات والثكنات، فهي في حكم المضطرة لمشاركة الأهالي في مساكنهم، وناهيك بأثر ذلك في نفسية الجنود ومعنوياتهم وخضوعهم لأنظمة الجيوش. ولما كان غالب هذه الفرق قد وصل من أفريقيا الشمالية، وأكثر من الجنود الملونة من أهالي المستعمرات والسنغال والمغرب، كان جل اعتمادها في النقل على الحيوان أو على عربات يجرها الحيوان، فكانت أشبه شيء بالجنود التي زحف بها اللورد اللبني عام 1917على فلسطين وسوريا وحارب بها الأتراك.
كنا نعلم الكثير من هذا، ولكن ثقتنا بالجنرال كانت كبيرة ولا حد لها، خصوصاً في فنه وعبقريته. ولما استأذنت، ودعني قائلاً: إنه يسر أن يراني من وقت لآخر. ولم تعرض المرة الثانية إلا قبيل سفره إلى مصر في فبراير التالي، إذ بدأت حديثاً معه، فأشرت إلى الماريشال فوش، وكان الجنرال رئيساً لأركان حربه وقلت: إنني أقف في كل مرة أزور ألانفاليد بباريس أمام الخريطة الكبيرة التي كان يدير بها العمليات الحربية بالميدان الغربي، وأعجب من عبقريته، وأفضى بنا الحديث إلى معركة لمارن وأثر فوش، وإلى النظرية الفرنسية للحروب، وعبقرية نابليون وإشادة فوش بها في دروسه بأكاديمية الحرب الفرنسية.
وانتقلنا عرضاً إلى الديمقراطية، وهي إن بدت ضعيفة في الاستعداد الحربي، إلا أن الكلمة الأخيرة لها، لأنها ستكسب في النهاية المعركة الفاصلة.
وكان هذا الحديث الشائق يسير متواصلاً إلى أن قطعه بان أخذ يتحدث عن الجيش المصري فوجه إلى عدة أسئلة دقيقة مثل: من كم فرقة يؤلف جيشكم؟ كم شهراً يأخذ التدريب الفني لجندي المشاة؟ هل لديكم مدارس لضباط الصف؟ ما هو التسليح الجديد والأنظمة الحديثة التي أدخلتها البعثة العسكرية البريطانية على جيشكم؟ ما هي الوحدة الأساسية التي يبن عليها التدريب لكي تدخل القتال مستقلة اللواء أم الفرقة؟ هل لديكم سلاح للمهندسين بالجيش؟ هل بوسع جيشكم أن يدخل الميدان أمام قوات منظمة على الحرب الحديثة ولصد هجوم جيوش أوربية؟ ما هو مستوى ضباط الأركان حرب عندكم، وهل لديكم ضباط درسوا في دول غير بريطانيا؟
كانت ثرثرتي حول بعض المبادئ العامة مما جعله يعتقد أنه أمام جندي في زي ملكي، أما(658/12)
أنا فقد احترت كثيراً، وكنت كمن فتح لنفسه باباً لا يقدر عليه، ووقفت أسائل نفسي: هل أجيب على أسئلة الجنرال على الطريقة المعتادة لدينا، وفي صحفنا وأنديتنا فأقول: إن جيشنا على تمام الأهبة والاستعداد لتلبية واجب الوطن، وإن لدينا معدات كاملة، وإن قوادنا من الدرجة الأولى في فنون الحرب والقتال، بل إن منهم من وضع خطط الدفاع الصحراء الغربية. لا شك في أن قولي هذا لم يكن يقدم أو يؤخر، ولكن أمامي قائد من كبار قواد فرنسا سوف يذهب بعد أيام إلى مصر، وسيلتقي برجالنا وقوادنا، وسيعرف بالضبط مقدار معلوماتهم، وسوف يحادث رجال فرنسا عندنا ويقابل الجنرال ويفل والجنرال ويلسون وضباط البعثة البريطانية، وسيقف على كل صغيرة وكبيرة. فوقفت متردداً ثم قلت: أن الجيش المصري يتطور بسرعة نحو استكمال أسلحته، وسترى في مصر وتسمع الكثير عنه، ولا شك أن الخطوات ثابتة. ويذكرني حديثكم عن أيام قضيتها بإيران، والتقيت مرة بأفراد البعثة العسكرية الفرنسية المكلفين بتنظيم الجيش الإيراني، فسمعت أحدهم يقول: (أن الحكومة الإيرانية تطلب منا أن نخرج لها ضباطاً صالحين للقيادة بعد دراسة لا تطول أكثر من سنتين، ونحن في فرنسا نحتاج إلى عشرين عاماً لتهيئة وتكوين ضابط من ضباط الأركان حرب الذين تستطيع أن تعتمد عليهم الدولة في تحريك فرقة من الجنود وقيادتها في ميدان القتال).
وهنا نظر إلي الجنرال طويلاً وابتسم، إذ في ذلك كل الإجابة على أسئلته المحرجة، ولكني أردفت ذلك بقولي له: إن مواد العمل صالحة وجيدة، وإن قوة احتمال الجنود وصبرهم من ميزات الجيش المصري، بل هي أهم عوامل البناء التي يمكن الاعتماد عليها في إخراج جيش حديث يعيد بعض مواقف السلف من الماضي، ولا شك أنكم كتبتم شيئاً من ذلك فارجعوا إلى ما أشرتم إليه في كتابكم.
فهز رأسه موافقاً على ما قلت، وافترقنا، وبعد أسبوع من هذه المقابلة سافر الجنرال إلى القاهرة، ولقي من السلطات المصرية والبريطانية كل ترحاب، وأقيمت له المآدب وحفلات التكريم، منها مأدبة رفعة على ماهر باشا التي أقامها على شرف الجنرال في فندق سمير اميس، وقد دعي إليها كثير من العظماء وأهل الرأي من العظماء وكبار ضباط الجيشين المصري والبريطاني، وأدلى رفعته بحديث نقلته وكالات البرق قال فيه:(658/13)
(إن مصر تغتبط باستقبال القائد العظيم وتقدر صفاته العسكرية الممتازة وماضيه المجيد وتحيي فيم ممثل فرنسا النبيلة).
وأقيم له استعراض عسكري اشتركت فيه بعض الوحدات الميكانيكية من القوات البريطانية والمصرية والهندية، وكان يرافقه القائد البريطاني ويفل أثناء العرض.
وتعود بي الذكرى هنا إلى عام1942، حينما تعددت مقابلاتي مع الجنرال كاترو الفرنسي، وذلك بعد احتلال سوريا ولبنان، وفي إبان المفاوضات التي أنهت بعودة الحياة الدستورية بالبلدين، إذ أنني قابلته في يوم16أكتوبر1942، وتناول الحديث مسائل متنوعة، ولكنه صرح لي وقد قيدت ذلك في حينه:
إنه كان حاضراً في مجلس الحرب الأعلى للحلفاء في باريس، وذلك قبل خروج فرنسا من الحرب، حينما عرض التقرير الذي وضعه الجنرال فيجان عن رحلته إلى مصر في فبراير1940وعن الحالة الحربية، وإن الجنرال سجل إعجابه بالجنود المصريين وحسن استعدادهم للخدمة العسكرية، واقترح وجوب زيادة الجيش المصري، كما أشار إلى ما يجنيه الحلفاء من الفائدة والمعونة إذا وقف بجانبهم جيش مصري قوي، وقد أخذ مجلس الحرب الأعلى بهذا الاقتراح وكان من ضمن القرارات التي وافق عليها.
وعاد الجنرال فيجان من مصر فبدأ رحلاته إلى الداخل، وكثرت تنقلاته، وكانت مقابلاته بعد ذلك عرضية ونادرة، وأغلبها في ميدان السباق، ولكن توطدت مع معاونه الجنرال كايو ومع أركان حربه ومكتبه علاقات ودية، فما اتصلت بشيء لدى السلطات العسكرية عن طريق القيادة، إلا وأجيب طلبي أو رجائي فوراً، أو كان محل اهتمامهم وتحرياتهم بعكس السلطات المدنية التي طالما تمهلت وتأخرت، ثم ألقت أسباب عجزها على السلطات العسكرية، ولقد كان موضع سمرنا في المفوضية الفرنسية خصوصاً المكتب الدبلوماسي الذي أحتج بالعسكريين بادرت بأن أعلمه أنني مستعد للذهاب إليهم رأساً لإزالة ما نشكو منه، وكان المكتب يعلم بما تقدمه السلطات العسكرية من تسهيلات لمصر في مقابل ما تبذله من تسهيلات للعسكريين
هذا هو الجنرال الفرنسي الذي ساهم مساهمة فعلية في قيادة فرنسا إلى النصر في الحرب الأولى، والذي وطد نفوذ بلاده في الأشهر الأولى من الحرب العالمية الثانية، كان حركاته(658/14)
ومشيته تفيض منه الطمأنينة والثقة، فيتأثر منها الغير لدى مواجهته أو مصافحته أو رؤيته، ويشعرون بنفس الثقة والاطمئنان.
وأذكر مرة أني رأيته داخلاً الجامع العمري بمدينة بيروت بمناسبة المولد النبوي الشريف، فهتفت له الجماهير الإسلامية طويلاً، وحملته على الأعناق، ودخلت به المسجد.
ولقد رأيت الكثيرين من ممثلي البلاد الأوربية في المشرق فلم أر مثل فيجان، ولقد وصل غيره، ورتبت لهم الهتافات، إلا أن الجماهير لم تغمرها روح الحماس الذي كانت تحس بع عند رؤيتها الجنرال الشيخ والشاب في نفس الوقت.
وفي ليلة ومن الليالي استدعى باريس لقيادة جيوش الجمهورية وسد ثغرة سيدان، لقد تحطمت الجبهة واندكت حصون خط ماجينو في الشمال والزحف الألماني لا يقف، وراديو برلين يصيح: (لو بعث نابليون من قبره، لما كان في وسعه أن يغير القدر المحتوم!) لقد هزمت فرنسا وتمزقت جيوش الجمهورية!
وكنت جاراً للجنرال كايو، وقد زالت الكلفة بيننا، وفي عصر أحد الأيام دعاني لمنزله، وقال انه يغادر البلاد الليلة إلى مصر فالسودان فأفريقيا الغربية فمراكش إلى فرنسا، وذلك بناء على دعوة فيجان، إذ يجب أن يكون بجبهة القتال قبل أربعة أيام. قلت أنكم تنتظرون قرارات حاسمة. قال: إن إنقاذنا يحتاج لمعجزة
ودمعت أعين القائد أمام هذا التصريح، فاستأذنت بعد أن حملته سلاماً للقائد الذي وضعت فرنسا وبلادي مصر وغيرنا من البلاد آمالها في عبقريته وفنه العسكري يوماً من الأيام.
وانتهت صفحة من تاريخ العالم بمعاركه وفواصله وأسلاكه الشائكة.!
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان. . .(658/15)
دمشق. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(كتب إلى صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق، وأن أعرفه بمتنزهاتها وآثارها، وإن ذلك لمطلب على مثلي عسير، وحمل علي قلمي ثقيل، وإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني في زحمة الأدب منسكباً، وأحد فكرا، وأمضى قلما. . .).
هذي دمشق يا أيها الأخ السائح، قد لاحت لك أرباضها، ودنت رياضها، أفما تراها وأنت قادم عليها من نحو فلسطين، مع الصباح الأغر كيف نامت من غوطتها على فراش من السندس صنعته يد الله، وقد توسدت ركبتي حبيبها البطل الشامخ بأنفه الصخري: قاسيون، فكان رأسها في الصالحية، وقدمها في (القدم) وقلبها في (الأموي) بيت الله الأطهر، فانظر أما تراه أول ما يبدو من دمشق للقادم عليها، يطل على بقيته التي ليس لها في الدنيا نظير: قبة النسر التي راعت بجلالها الأولين والآخرين وما رأى الرائي أضخم منها ولا أعلى، ومآذنه الثلاث معجزات الصنعة في تاريخ العمران الإسلامي، يسبغ على المدينة جلال القرون الأربعين التي رآها وعاشها، مذ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار منسكاً مسيحياً، إلى أن استقر مسجداً إسلامياً، يخرج من مناراته خمس مرات كل يوم النداء الأقدس: (الله أكبر لا إله إلا الله) فيردده إخوان مسلمون في الشرق، وإخوان في الغرب حتى يفيض طهره على الأرض كلها. ألا تراه يعلو كل عمارة في المدينة على ما فيها من عمارات شاهقة، حتى كأن أعلاها إلى جانبه الطفل بجنب الرجل الضخم الطوال؟ فإن كان برج (إفِّل) علم بارز وذلك التمثال علم نيويورك. فعلم دمشق بيت الله العلي ذي الجلال.
لقد دنونا، وهذا المطار إلى يمينك، وهذه القرية من ورائه (داريا)، والغوطة الغناء، جنة الأرض، ما رآها أحد إلا أحس بأنه يرى مدينة مسحورة من مدن (ألف ليلة. . .)، وقد ترامت له من غمرة حلم ممتع. . . لقد اقتربنا منها. . . هذه (المزة) ضاحية دمشق، أصح المنازل، وأبعدها عن العلل، مساكن العرب الغر من سالف الدهر، لقد جاوزنا سهلها المشرق، وجبلها المشرف، وساحتها الفيحاء، وعماراتها البارعات، وولجنا حمى الغوطة. هذه بساتينها التي تتصل حافلة بالثمار، مليئة بكل ما يفتن ويفيد، مسيرة تسع ساعات على(658/16)
الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة، أو نبتة مزهرة، ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ. . . لاجتمع أكثر من ثلاثمائة صحن ما صحن منها مثل ما في الآخر، وحسبك أن في الشام من العنب أكثر من خمسين نوعاً. . . ومن التفاح فوق الثلاثين. . .
هذه هي الغوطة، أفما ترى نساءها يلحن من بعيد وهن ساريات خلال الأشجار، أو منثورات وسط الحقول، بثيابهن التي لا يحببنها، على سترها وشمولها، إلا زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهن الزهر، وتظن الربيع قد جاء في كانون والأرض مفروشة يبسط نسجت بخيوط الذهب، من صفرة الأوراق التي بعثرها وتركها الخريف، فكانت كنثار الدنانير، على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الصافي اللون، تماثيل في متحف الطبيعة صبت من خالص المسجد، والشتاء إذ حلت فحلمت فيه الأشجار ثيابها، على حين يتدثر الناس بالصوف، فكأنما هي الغيد الفواتن تمرين على الشط، ليضنين الشباب لوعة وشوقا:
وما ينتحين الشط يبنين برده ... ولكن ليقتلن البريء (المغفلا. . .)
فهذا الحور لم يبق منه إلا عيدان، فكأن الحور فتية أذاب جسومهم الحب، فأضحوا من جَواه جلداً على عظم، والمشمش كملاح هجرهن الأحبة، بعد ما قطفت زهراتهن، فأبن بلوعة ليست تنفع وحسرة، ورحن إلى خزي لا يريم وإلى ألم؛ والجوز العاري على جلاله، ملك عزل واستلب منه تاجه، ولكنه كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون، وما أعظم الزيتون، فلا يرى إلا لابساً ثيابه التي لا ينضبها ولا تبلى عليه، ثابتاً على حاله، لا يحس بالغير، ولا تستخفه الأحداث، فلا يضحك بالزهر إن أقبل الربيع، ولا يبكي إذا جاء الشتاء، فهو الفيلسوف الساخر بالحياة، أفراحها وأتراحها، الذي لا يبالي نعمها ولا نقمها، والسواقي وهن جوار من الشرق إلى الغرب إلى الشرق، ومن كل جهة إلى أختها: ساقية تجري عميقة - بين الأعشاب، لا يوصل إليها، ولا ينال ماؤها، وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر تحدراً ولها صخب وهدير - وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار وصافية نقية - وعكرة خبيثة - وسالكة طريقها قانعة بمجراها، وكاسرة حدودها عادية على غيرها. . . . . . فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس، كل يعمل على شاكلته، وكل(658/17)
ميسر لما خلق له، مول وجهته ساع إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها، والناس يهبطون إلى حضيض الشهوات والمعاصي على أهون سبيل ولكنهم يلقون في التسامي إلى معالي الأمور عنتنا وأينا. وكذلك السواقي تتحدر بلا سوق ولا تعب، ولكنها لا تعلو إلا أن تضخها بمضخات وترفعها بآلات، وهذا عميق النفس لا تدرك قراراته ولا تعرف حقيقته، وهذا واضح بين ظاهره كباطنه - وهذا جياش صخاب، وهذا صامت سكوت، ونقي الطوية وخبيث الداخل، ومنصف وظالم، وكبير وصغير، وكل يستمد من غيره، ويمد سواه، وكذلك سواقي في الغوطة. . .
هذه هي الغوطة إن يفتنك جمالها وبهاؤها، فقد فتنت من قبلك ملوكاً وقواداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي، وما فقدت على الأيام فتنتها ولا شاخت على طول المدى، بل ازدادت شباباً وفتوناً وحسناً. . . هذه هي الغوطة رأيت جانباً منها في الشتاء؛ ولو رايتها وهي مياسة في حلل الزهر تختال في أفراح الربيع، عرس الدهر، تملأ الدنيا بالعطر والسحر، وتقرأ على القلوب أبلغ الشعر، لرأيت عجباً، ما يبلغ وصف حقيقته بيان!
لقد تركنا هذا الطريق القديم الذي يمر على ثكنات الجند، ومنازل الجيش، وملنا من هذه الجادة المحدثة إلى الشارع العظيم شارع فاروق الأول لندخل دمشق من أفخم مداخلها. هذا هو بردى أيها الأخ! وهذا؟. . . أترى هذه العظمة وهذا الجلال؟ أتسأل ما هذا الوادي، وما هذه الأنهار تجري في سرة الجبل وعلى السفح، سبعة بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في عنق كأنه العاج، والشلالات تهبط من أعاليها إلى أسافلها؟ هذا يا سيدي معبد الجمال، هذا دير الحب، هذا منسك القلوب، هذه الربوة. . . لا يا أيها الأخ، إن من الإلحاد في شرعة الجمال أن نصف الربوة ونحن نمر بها مرور الكرام باللغو، إن لها حديثها وستسمعه إن شاء الله. ولقد قلت عنها كلاماً كثيراً، ولكن مكان القول ذو سعة، وسأقول عنها إن أنا وفقت كلاماً اكثر، على أنه لا يغنى فيها كلام عن شهود، ولا يجزئ بيان من عيان. . .
وصلنا أيها الأخ؛ هذا ميدان دمشق (المرجة) وهذا النصب الفخم في وسطه المتوج بتمثال مسجد السراي في (اسطامبول)، هو نصب التذكار بمد الأسلاك البرقية إلى دمشق وهذا القصر الصخري الهائل، سراي أحمد عزت باشا، وهذه دار البلدية، وهذا البناء الرفيع(658/18)
الذري، نُزُل أمية، وهذه الشوارع الثمانية المفضية إلى الميدان، بسيارتها وتراماتها، وطرق أحياء دمشق. . . أتعجب من هذه الحانات وهذه الملهيات. ومن كثرة السينمات؟ هذه يا صاحبي (دمشق الجديدة. . .)، لا تلقي فيها ما لا تلقي مثله في أي مدينة كبيرة: خير وشر، وعلم وجهل، وتقى وفجور، وحجاب وسفور، حياة كالبحر فيه اللؤلؤ وفيه الحصى، وفيه الحياة وفيها الموت. هذي دمشق التي مزقت ثوبها لتلبس ثوباً أوربياً، فلم تجده على مقياسها فبقيت عريانة إلا من خرق وأسمال، هذه هي القبرة التي أراد لها حمقها أن تقلد الغراب فنسبت على جمالها مشيتها، ولم تتعلم على قبحها خطوة الغراب. أنزل في نزل أمية، أو في فندق الشرق (أوريان بالاس) الضخم، القائم هناك، بحيث يشرف على بردى وواديه، والشرف الأعلى ومغانيه، وقاسيون وقصور المهاجرين. . . تحس أنك في (شبر د) القاهرة، أو (الكونتتنتال) - أعني أنك في أوربة؛ فالأثاث والرياش، والطعام والشراب، والزي واللباس، والسماع والغناء، واللغة واللسان، كل ذلك أوربي أوربي أوربي!
ولو أنك عرفت هذه (المرجة) في عصورها الخوالي؛ وهذان الشرفان الأعلى والأدنى، وما كان فيهما من مدارس ومساجد وزوايا وتكايا، وما قام الآن مقامها، وأخذ مكانها. . . ولكني لن أسوق لك المزعجات وأنت قادم على البلد، فأقرأ إن شئت ابن عساكر، والمحاسن للبدري، ورحلة ابن بطوطة، وما أظنك إلا قد قرأتها كلها!
هذه دمشق الجديدة. . . أما دمشق العربية المسلمة، بلدك وبلد خلائف الأرض، من أبناء عبد شمس، من إذا قالوا لبت الدنيا، وإن مالوا مالت الأرض، وإن حكموا أطاع الزمان، من كانت دولتهم (تفصل. . .) تسع عشرة من دول هذه الأيام، من كانت راياتهم تحقق على بطاح فرنسا وسهول الهند، وما بينهما وكانت قصورهم تتيه على النجوم، وكانت أبوابهم تقف عليها الملوك. أما دمشق معاوية والوليد فليست هنا، أنها مختبئة هناك في دروب ضيقة وحارات حول المسجد الأطهر، هناك المجد والعلم والتقى وبارع الخلال، فامش إليها وادخل دورها، وجالس أهلها، تقرأ تاريخ المجد في صفحات من دور ووجوه وعادات، وتر بقايا الحضارات من لدن نوح قد استقرت فيها، ففي كل بقعة منها تاريخ، وكل حجر منها يتلو من سور الجلال آيات.
فإذا أردت أن تعرفها وتصل إليها، فاخرج من نزل أمية، ومل قليلاً تجد أمامك جامع الأمير(658/19)
(يلبغا) الذي سرقوا نصفه فجعلوه مدرسة للصبيان، وتركوا منارته قائمة في المدرسة، تعلن لكل ذي عينين شكواها وتذيع خبر بلواها، فلا تقف عليه، وخذ إلى يمينك إلى جادة الفنادق، (الجوزة الحدباء)، حتى تبلغ سوق صاروجا الذي كان حي الباشوات الأتراك والمجددين فصار الآن حي التجار المحافظين، فزر في طريقك جامع الورد ثم سر إلى العقيبة، منزل الأمام الأوزعي وادخل جامعها الأنور المبارك الذي لا يخلو من قائم الله بحجة، جامع التوبة ثم اسلك طريق العمارة، وجز بزقاق النقيب، وعرج على منازل علماء الأمس، فقد كانت هذه المنازل مدارس، وكانت جامعات، وكانت منائر هدى للناس، وكانت هي دعائم نهضتنا، ووزر الكلية الشرعية ثم ادخل الجامع الأموي، وامكث فيه وسائله عن الماضي واستنطقه، وطر بروحك في سمائه، واسم بها إلى عليائه، ثم عد إلى أحدثك إن شاء الله حديثه، وإن حديثه لطويل!
ثم جل في القيمرية، ولج تلك الدور، وشاهد تلك القاعات والأبهاء، وهذه الزخارف والنقوش والبرك والنوافير، فمنها سيدي أخذ الأندلسيون هندسة هاتيك القصور، ومر بهذا الزقاق الذي تباع فيه القباقيب، ولا تحقره لضيقه وفقره، ثم انزل إلى تلك الحارة المعتمة القذرة، فاقرع باب مصبغة هناك، فإذا فتحوا لك فاهبط درجها ولا تفزعك رطوبتها وظلمتها، ثم قف خاشعاً متذكراً معتبراً؛ فإن غفي مكان هذه المصبغة التي يسمونها (مصبغة الخضراء) كان قصر الخلفاء من بني أمية. . .
فإذا خرجت منها فاسأل عن زاوية هناك، فإن فيها قبر معاوية الصغير (ابن يزيد)، ثم اذهب إلى السيمساطية تلك المدرسة المحدثة البناء، العامرة، فقف عليها فقد كانت منزل خامس لخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، ثم أم المعاهد في جوارهما: الجقمقية ومدرسة بطل الدنيا صلاح الدين، فقم على قبره ساعة، وترحم عليه واحمد الله، على أن خّزى ذلك الطاغية (غورو) وذل والظاهرية دار الكتب، والعادلية مثوى المجمع العلمي العربي ثم اسلك على باب البريد، ومر بخرائب (المرادية) التي كانت إلى العهد القريب مدرسة عامرة، حتى تزور العادلية ودار الحديث الأشرفية، التي كان فيها البدر الحسنى بقية السلف وزر المارستان النورى، الذي كان مستشفى كأكبر ما يكون مستشفى في هذه الأيام وكان مدرسة للطب، ثم أم قبر الملك العظيم صاحب هذه المآثر ونور الدين القائد(658/20)
الظافر والملك العادل والحاكم الكامل، ثم ادخل القلعة، وشاهد السور والأبواب. . .
هذه دمشق يا سيدي، أفيوفي حديث دمشق في مقالة؟ فأمهلني أعد إليك محدثاً. . . وأطل الحديث.
هذي دمشق أقدم مدن الأرض وأجملها، هواؤها أطيب هواء، وماؤها أعذب ماء، وطعامها أمرأ طعام، ومنظرها أبهى منظر، ومخبرها أحسن مخبر، ولسانها أفصح لسان، وسكانها من أكرم السكان، فيها العلم والأدب، والتقى والصلاح، والحب فيها واللهو، وفيها الفتون والجمال.
هذي دمشق كانت لب العربية، وبقيت لب العربية، وستطلع على العصور القوادم وهي للعربية لب وقلب وفؤاد، لها بين الماء الذي لا يضحك به بردى وشدة الصخر الذي يشمخ به قاسيون، وصراحة السهل الذي تزدهي به المزة، وكرم الأرض التي تعطى (في الغوطة) أكلها أربع مرات في العام.
لها لين بردى، ولكن بردى إذا ضيوق بالسدود، علا وفاض واجتاح البلاد والعباد، ودمر كل شيء يقف في طريقه، ويقطعه عن مراده، فقل للغافلين: (لا يغرركم من بردى لينه وابتسامه) فأنه سرعان ما يعبس ويثور). فاتقوا غضب الحليم!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي الشرعي
ومدرس الأدب بالكلية الشرعية (العليا)(658/21)
صور من العصر العباسي:
مآكل الخلفاء العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لعل الملوك والخلفاء من أشد الناس حرصاً على انتقاء ما لذّ من الطعام وطاب، فهم يتخيرون اللذيذ من كل شيء، وما عليهم إن أتعبوا غيرهم، أو أنفقوا الأموال الطوال في سبيل ذلك.
والخلفاء العباسيون، كانوا يعنون بهذا الأمر كل العناية، وكانوا يحرصون على ألا يفوتهم من لذائذ المآكل والثمار شيء. فكانت هذه اللذائذ تحمل من الأقطار إلى قصورهم في بغداد ليتمتعوا بها، وكانوا يفرضون أن يحمل إليهم مع خراج كل بلد، ما حسن فيه من مأكل أو ثمر أو زهر. وهكذا كان يحمل مع خراج الري الرمان والخوخ المقدد، ومن أصبهان والموصل العسل والشمع، ومن الكوفة البنفسج، ومن جرجان النرجس، ومن الصيمرة النارنج، ومن طبرستان الأترج. وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز إلى الخليفة العنبر والزبيب، ومن الأهواز ثلاثون ألف رطل من السكر، ومن فارس ماء الورد والزبيب الأسود والرمان والسفرجل والتين، أما دمشق، فكانت ترسل إلى الخليفة التفاح، وكان المأمون معجباً به، يؤخذ إليه منه ثلاثون ألف تفاحة مع الخراج.
وكانوا إذا اشتهوا شيئاً ولم يكن له نصيب في الخراج، أرسلوا يطلبونه. فقد كانوا يطلبون ألوان اللحوم والطيور، ولو بعد مكانها، فتأتيهم على البريد. وينفقون في ذلك الأموال الكثيرة. وكل هذا ليمتع الخليفة بالطيبات من المآكل والأثمار.
ومظهر هام من مظاهر هذه العناية يتجلى لنا، عند بعض الخلفاء، بالألوان الكثيرة التي كانت تهيأ له من الطعام. وقد كان عدد هذه الألوان يبلغ مبلغاً، ما سمع ولا عرف. حدث جعفر بن محمد - وكان أحد العشرة اللذين أختارهم المأمون لمجالسته ومحادثته من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم - قال: تغدينا يوماً عنده - أي عند المأمون - فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون. وكلما وضع لون، نظر إليه المأمون فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا.
ومهما يكن أمر هذا الظن الذي ظنه هذا الفقيه، فلا بد أن يكون عدد ألوان الطعام كبيراً.(658/22)
وقد كنا نرتاب بالخبر لولا أن ذاكره هو ابن طيفور، ولم يؤرخ المأمون أحد مثله.
ويؤيد ما ذكرناه من تكثير الخلفاء ألوان الطعام ما رواه
المسعودي، فقد ذكر أن الرشيد كان ينفق على طعامه في كل
يوم عشرة آلاف درهم. وأنه ربما أتخذ له الطباخون ثلاثين
لوناً من الطعام. وكان يتخذ للقاهر اثني عشر لوناً (آدم
متز1247)
فلننظر الآن فيما كانوا يرحبون فيه.
نلاحظ أن أكثر ميل ملوك بني العباس كان إلى اللحوم، وخاصة لحوم الدجاج. يقول الجاحظ: وملوكنا وأهل العيش منا لا يرغبون في شيء من اللحمان رغبتهم في الدجاج. وهم يقدمونها على البط والنواهض والدراج، وعلى الجداء. . . وهم يأكلون الرواعي كما يأكلون المسمنات.
أما رغبتهم في الدجاج فذلك لأنه أكثر اللحوم تصرفاً. فهي تطيب شواء، ثم حاراً، وبارداً، ثم تطيب في البز ما ورد، وهو طعام من البيض واللحم، أو رقائق ملفوفة بلحم، ثم تطيب في الهرائس، وتطيب طبيخاً، وإن قطعتها مع اللحم دسم ذلك اللحم، وتصلح للحشاوى، وسمينها يقدم في السكباجة على البط.
وفي الشتاء كانوا يرغبون في الأطعمة الحارة المهيجة. فقد قال المأمون لأبي كامل الطباخ يوماً: اتخذ لنا رؤوس حملان تكون غداءنا غداً. ثم التفت إلى علي بن هشام، وكان حاضراً، فقال إن من آيين الرؤوس أن تؤكل في الشتاء خاصة، وإن يبكر آكلها عليها، وألا يخلط بها غيرها، ولا يستعمل بعقبها الماء.
وكان المأمون يميل أيضاً إلى لحم الغنم، وقد قال للحسن بن سهل يوماً: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة، سوى سبعة. قال الحسن: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد. . وعد أربعة غيرها.
وقد يعجب بعضهم بالمملحات والممقورات. فقد خرج المقتدر يوماً إلى بستان الخلافة،(658/23)
فطلب طعاماً، فلم يحضر طعامه، فقدم له، ملاح جونة مليحة من خيازر (ج خيزران) فيها جدي بارد، وسكباج مبرود، وبزماورد وأدام، وقطعة مالح ممقور، وأرغفة سميد جيدة. فاستنظفها وأكل منها، واستطاب المالح والادام، فكان أكثر أكله منه.
وعلى ذكر البزماورد، نقول أنه كان يسمى في العصر العباسي لقمة الخليفة، ولقمة القاضي، ونرجس المائدة. وهذه التسمية تدلنا على أن الخلفاء والقضاة كانوا يأكلونه ويحلون به موائدهم. وهذا البزماورد، كان يتخذ من اللحم والبيض في بغداد. ويذكر لنا الجاحظ أن أهل خراسان كانوا يعجبون باتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير.
ويبدو أن اتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير ليس بعجيب، فقد كان الفضل بن يحيى يوجه خدمه في طلب فراخ الزنابير ليأكلها، وفراخها ضرب من الذبان الكبار، كما يقول الجاحظ.
وكانوا يرغبون في السكباج، ويسمونه مخ الأطعمة وسيد المرق. ولقد تشكى خليفة يوماً لجارية له من هذا الطعام، فقال لها، إلى كم سكباج؟ قالت: هو مخ الأطعمة، لا يكره بارده ولا يمل حاره، بل يستطاب في الحضر، ويتزود منه في السفر، ولا يؤثر عليه الضيف في الشتاء والصيف.
وإلى جانب ما ذكرنا، كانو يعنون بالسكارج والبقول، ويقولون: لكل شيء حلية، وحلية الخوان السكرجات والبقول. ويقدرون الأرز حق قدره، ويقولون الأرز غذاء ضحيح.
وكانوا يأكلون ألسنة السمك، يعمدون إلى السمك فينزعون ألسنته ويأكلونها. ولقد دعا إبراهيم بن المهدي الرشيد مرة فأعد له طبقاً ألسنة السمك، وأنفق على صحفة صغيرة منه مبالغ طائلة.
أما السمك نفسه، فكانوا يأكلونه أيضاً، ويلاحظ أنه كان مرغوباً فيه من النصارى كثيراً، فكانوا يأكلونه أكلاً ذريعاً. ويحدثنا الجاحظ أنه لكثرة إقبالهم عليه كانوا يغلونه على الناس، حتى تتوخى أياماً بأعيانها فلا يشترى السمك إلا فيها طلباً للإمكان والاسترخاص وهي يوم الخميس، ويوم السبت، ويوم الثلاثاء.
ومن المآكل التي كانوا يعجبون بها ألبان الضباء. وكان الرشيد يسر بها. ولقد زار جعفر بن سليمان والي البصرة سنة196، فأحضر له على مائدته ألبان الضباء وزبدها فاستطاب طعومها وسر بها.(658/24)
ولون آخر كانوا يشتهونه، هو كبود الدجاج وحدها. ويحدثنا التنوخي أن إبراهيم الحراني الصابئ الطبيب كان بين يدي الموفق يوماً، فقال له: أنا أشتهي شهوة منذ سنتين، وأستقبح أن أطلبها وقد عن لي الساعة مواضعتك على طلبها. قال إبراهيم: قلت يا أمير المؤمنين مر، قال: ويحك أنا والله منذ سنتين كثيرة أشتهي كبود الدجاج وقوانصها مطبهجة، وأستقبح أن أطلبها. . . وأريد إذا قدمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تشتهي ذلك علي وتشير به من طريق الطب لأتقدم إليهم باتخاذ شيء منه، بشيء يسير، فيصير ذلك القدر رسماً في كل يوم لا يؤثر عليهم قدره. قال فعجبت من كرمه وفرط حيائه من خدمه حتى يلفق الحيلة، وقدمت المائدة، فجلس يأكل وحده وجلست مع الندماء آكل على مائدة بين يديه. فلما أكل بعض أكلة قلت: لم لا يأمر أمير المؤمنين بأن يتخذ له شيء يسير في زبديات من كبود الدجاج المسمن وقوانصه بالبيض والمري فيطحن بعضه. . . فأصلح له زبدية من كبود الدجاج وقوانصها، وصار رسماً جارياً.
أما الخبز. فكانوا ينوعونه، ويتخيرون أطيبه، وقد كان الرشيد يأكل يومين متواليين خبز السميذ، والثالث الحواري، والرابع الخشكار والخامس والسادس خبز الأرز النقي من خبز التنور.
ويبدو أن الخبز وكثرته كان يؤثر في نفس بعض الخلفاء. فلقد سأل الواثق بن أحمد بن أبي داؤد يوماً ما جمال الموائد؟ فقال: كان يقال: جمالها كثرة الخبز عليها. فقال: أصبت وأحسنت فإن اختلفت الألوان وكان الخبز كثيراً شهد لصاحبها بالشرف.
فهذه بعض الألوان التي كان الخلفاء العباسيون يرغبون فيها من المآكل وهي ألوان فيها النادر والغريب. ولقد كانوا ينفقون في سبيل الحصول على هذه المطاعم الأموال الكثيرة في كل شهر. وقد ذكروا أن الرشيد كان ينفق على طعامه كل يوم عشرة آلاف درهم.، وأن نفقات المطابخ والخابز بلغت في القرن الرابع، في دار الخلافة عشر آلاف دينار في الشهر. وهذا المبلغ دليل على كثرة الإنفاق. وإن كان أكثر هذا في باب الإسراف. ويحدثنا التنوخي أن المعتضد طلب يوماً لوناً من الطعام، فقيل له ما عمل اليوم، فأنكر ذلك، وقال يجب أن لا يخلوا المطبخ من كل شيء حتى إذا طلب لم يتعذر، ووقع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يعمل وينفق عليه دراهم كثيرة ولا يحظر(658/25)
المائدة توقعاً أن يطلبه، فيقدم عند الطالب كما رسم. فمضى على ذلك سنة ولم يطلبه. وهو يصنع. وكان هذا اللون جزورية وكان الطباخ يذبح في كل يوم قلوصاً.
على أنه إذا كان بعض هؤلاء الخلفاء ينفقون الأموال على الدجاج وكبود الدجاج وعلى ألسنة السمك والجداء وغير ذلك، ويحرصون كل الحرص على التلذذ بها، فقد كان بعضهم الآخر كالقاهرة يستكثر صنوف الطعام أن توضع أمامه، ويقتصر على ما يكفيه وكان آخرون كالمهتدي لا يأكلون غير الخبز النقي ومعه الملح والخل والزيت.
وسنفصل في مقال آخر ما يتعلق بعلمهم فوائد المآكل، وانتقائهم صاحب الطعام والشراب في قصورهم، وكيف كانوا يأكلون، والآلات التي كانوا يرغبون فيها لآجل ذلك.
دمشق
صلاح الدين المنجد(658/26)
المجلس الأعلى وسياسة التعليم
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
أخيراً عاد وللحمد لله مجلس التعليم الأعلى إلى الظهور بعد أن طال احتجابه وبعد إن طلبنا مراراً ونادينا تكراراً على صفحات (الرسالة) الغراء بضرورة إحيائه من جديد ليوجه التربية والتعليم الوجهة الصحيحة النافعة المثمرة. وإنه لجميل حقاً أن اضطلع بعضويته رجالاً ذوو خبرة ودراية كوزراء المعارف السابقين وآخرون من ذوي الفكر وحملة القلم، وهم جميعاً بتعاونهم جديرون برسم السياسة المستقيمة وتوجيهها التوجه الطبيعي القويم.
ولقد سبق إحياء هذا المجلس مؤتمر لرجال التعليم دام عمله لثلاثة أيام في شهر نوفمبر الماضي عقد فيها عدة جلسات وألقيت عدة محاضرات ودارت مناقشات ومباحثات بين المؤتمرين عن أهداف التعليم وسياسته، وأصدروا عدة قرارات كان أهم ما جاء فيها ضرورة العمل على خلق المدرسة الشعبية لتضم أطفال الأمة جميعاً بين السادسة والثانية عشرة على أنقاض المدارس المتعددة الأساليب والمقاصد التي سبق أن نددنا بقيامها لما ينتاب الوالد من حيرة إذا أراد أن يلحق ولده بإحداها ولما تبعث في نفوس أطفال البلد الواحد من غل وضغينة وحسد وسخيمة وتكون عوامل جفاء وفرقة بين أفراد الشعب طوال الحياة. تلك هي المدارس الابتدائية والمدارس الأولية والمدارس الإلزامية والمدارس الريفية ومدارس رياض الأطفال.
قرر مؤتمر التعليم إدماج هذه المدارس جميعها في مدرسة واحدة مدتها ست سنوات وأن تكون مرحلتها هذه خالية من اللغة الأجنبية، وهو قرار حكيم طالما تُقنا إليه، وإنا نؤيده بكل قوانا لدى مجلس التعليم الأعلى ولدى جميع المهيمنين على التعليم تخفيفاً من حدة نظام الطبقات الذي لا تعرفه عقائدنا ولا تقاليدنا إلا في العصور الأخيرة التي طغى عليها زيف المدنية المادية، وصوناً لوحدة هذا الشعب الذي مزقت وحدته اختلافات نواحي التفكير واختلافات الوحدات والمقاصد، فأصبح تراثه نهباً للمستعمرين ولبعض السياسيين المحترفين الذين أشعلوا نار الخصومة والفرقة بين أفراده وأسره وجماعاته، وساعدهم على ذلك تكوين الناشئة في مدارس متباينة في الأساليب مختلفة في الأوضاع والمقاصد.
وإنا وإن كنا حمدنا الله تبارك وتعالى لتوفيق المؤتمر إلى هذا القرار، إلا إنا كنا نرجو منه(658/27)
أن يوفق إلى أكثر من ذلك. كنا نرجو توكيداً لفكرة الوحدة الشاملة أن يعنى في قراراته بالقضاء على ثنائية التعليم التي تقضي بوجود نوعين متباعدين منه، هما التعليم في المعاهد الدينية والتعليم في المدارس المدنية، خصوصاً وقد تناول هذا الموضوع بالبحث أحد أعضائه. فإنها ثنائية ما أقساها على شعب موحد اللغة موحد العادات موحد التقاليد. ثنائية لا يعرفها شعب من الشعوب المتحضرة قد أدخلها علينا المستعمرون في غفلة الزمان بل في غفلتنا عن تقلبات الأيام، دون مراعاة لحاجتنا الملحة إلى أساس نهضات الأمم من الاتحاد والوئام، فكانت عاملاً قوياً من عوامل الفرقة الحقيقية بين المتعلمين في المعاهد الدينية والمدارس المدنية منذ فجر حياتهم التعليمية. ولن تجد هذا النوع من التفرقة في بلد آخر غير هذا البلد. فهلا تزال مصر بلد المفارقات والعجائب، وهل يصح أن نستمر على هذا الحال من السكوت على عوامل الفرقة وتركها تنخر في عظام الأمة!
فإذا كان التعليم في المرحلة الأولى بالمدارس المدنية سواء في ذلك المدرسة المقترحة أو المدارس القائمة أصبح مجانياً كما هو الحال في المعاهد الدينية؛ وإذا كانت اللغة الأجنبية لن يبقى لها وجود في هذه المرحلة في المدارس المدنية كما هو الحال في المعاهد الدينية، وإذا كانت هذه المعاهد الدينية قد أخذت من زمن بعيد بفكرة إدخال العلوم الحديثة جميعها في مناهجها فماذا يبقى بعد ذلك من فروق تستوجب هذه الثنائية الممقوتة!
لم يعد هناك غير فارق واحد يستند عليه الأزهر وشيوخه في بقاء هذه الثنائية، ذلك هو إهمال المدارس المدنية لدراسة الدين دراسة علمية وعملية توحي إلى نفوس الأبناء بنور الروحانيات وجلالها وعظيم أثرها. إننا نعرف حقاً بأن المدارس المدنية قد فقدت هذه الروح فقداناً تاماً، حتى وُجدت عندنا طبقة من الكتاب والأدباء وطبقة من أصحاب النفوذ والسلطان لا يقدرون للروحانيات قدرها ولا يدركون أثرها!
وإنه ليؤسفني أن اقرر أن المدنية المادية التي ساقها إلينا الغرب قد طغت على عقول هؤلاء جميعاً. غير أن الحرب الأخيرة التي استخدم فيها العلم شر استخدام لم تكن كلها شراً، بل كان فيها بعض الخير لأنها نبهت أذهان الكثيرين من علماء الغرب واتباعهم في الشرق إلى إن ساسة العلم وقادته يجب أن يغيروا من عقلياتهم القديمة، وأن يفكروا تفكيراً جديداً يناسب ما اوحته هذه الحرب المدمرة إلى النفوس، ويناسب ما أوحاه النصر في(658/28)
نفوس المنتصرين من غرور وجشع، وما أملاه عليهم من سخرية بالمواثيق وهزء بالعهود وقضاء على حقوق الضعفاء، وأثرة ونهم وطمع استولت كلها على نفوس الأقوياء.
نعم إن هذه الحال التي أوجدتها الحرب المدمرة وما تلاها من تصادم قوى بين الآراء الاستعمارية الجشعة التي زادت من تمكنها من النفوس سكرة النصر والشغف بالتسلط وبين الآراء الجديدة التي توحي بحرية الأمم والشعوب قد هزت الكثيرين من كتاب الغرب والشرق فنادوا بضرورة العودة إلى الدين ودراسته دراسة عملية بين جدران المدارس لأنه صمام الأمن الذي يهدئ النفوس ويردها عن الغي والظلم والطمع والفساد في الأرض حتى لا يكون طغيان الماديات سبباً في القضاء على المدنية القائمة. من أجل ذلك أنذرنا رجال التعليم في مؤتمرهم وأعلناهم بما يجره إهمال التعليم الديني والانصراف عن الروحانيات في أهداف التعليم وسياسته من استهتار بالفضائل في تكوين أخلاق النشء ومن ابتعادهم عن المثل العليا الروحية التي تربي القلوب، والتي تشيع في الصدور النور والهداية والتي تحفز النفوس أبداً إلى الرقي والسمو وتعلو بها عن مدنسات المادة ودناياها، كما تحفزها إلى العمل أبداً للمثل العليا للفضيلة والأخلاق الكريمة. ولكنا مع الأسف لم نجد من المؤتمرين سميعاً لأن قادة الشرق وزعماءه وكتابه لا زالوا سائرين على نسق الغرب وما يجري فيه. والغرب الآن لم يستقر على رأي، ولا زالت الآراء والأفكار تصطرع فيه اصطراعاً. وقادتنا وكتابنا في انتظار ما يتمخض عنه الصراع. ولا أدري لماذا نعيش عالة على آراء الغرب وتفكيره، في حين إننا نجاهد في طلب الاستقلال. وهل هناك استقلال سياسي إلا إذا صحبه أو سبقه استقلال فكري؟
وإذا كان مؤتمر التعليم قد اقتدى بالغرب القديم فانصرف انصرافاً عن الأخذ بجعل التعليم الديني في صلب مناهج المدارس المدنية وامتحاناتها كما يجب أن يكون، وعن العمل للقضاء على ثنائية التعليم التي رسمها المستعمرون، فإنا نرى في رجال المجلس الأعلى وهم البعيدو النظر من المفكرين ضماناً كافياً لبحث هذين الموضوعين الجليلين بحثاً حراً غير متأثر بالسياسة القديمة في سبيل وحدة هذا الشعب وتقارب أفكار أبنائه وتعاونهم وانسجامهم في اتجاهاتهم المختلفة. أما الأزهر ورجاله على رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر وهو من أعلام الأدب وقادة الفكر فبعيد عن الظن إنهم يعارضون في فكرة التوحيد في(658/29)
صفوف الناشئة ما داموا يضمنون أن التعليم الديني سيأخذ سبيله المستقيم إلى المدارس، وسيكون معنياً به كسائر العلوم الأخرى. بل أعتقد إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيكون أول مناد بهذا التوحيد الذي أصبح من الضرورات الملحة في سبيل لم الشمل وتخفيف حدة المنازعات والمخاصمات التي لا تجر على هذا البلد غير الويلات والنكبات.
ولقد أحس بعض القادة والمثقفين بضرورة العناية عناية صحيحة بالتعليم الديني في المدارس فتألفت لجنة في المركز العام للإخوان المسلمين للعمل على إحياء الروح الدينية ألحقت في المدارس المدنية، وجعل الدين من العلوم الأساسية التي يمتحن فيها التلاميذ امتحاناً حقيقياً لا صورياً حتى يأخذ حقه من عناية المدارس نظارها ومدرسيها وتلاميذها فيكون له أثره الفعال في النفوس. وإنا لنأمل أن تلقى هذه اللجنة تعضيداً من جميع الهيئات الإسلامية العاملة في مصر، وأن يشد أزرها الكتاب والأدباء المؤمنون بالفكرة حق الأيمان والذين لم تتلوث قلوبهم بالشبهات والزيغ عسى أن تلقى الفكرة ما تستحقه من عناية وتقدير في المجلس الأعلى وعند أولى الأمر جميعاً، والله ولي التوفيق.
عبد الحميد فهمي مطر
المفتش بوزارة المعارف(658/30)
6 - الزندقة في عهد المهدي العباسي
أصولها الفارسية
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ذهبنا في المقال الخامس (الرسالة652) إلى إن الفرس آمنوا بإلهين: أحدهما للنور والآخر للظلمة قبل أن يظهر فيهم زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم الأولين، وبينا أن المعتنقين لهذا المذهب قبل زرادشت هم الذين يسمون (الكيومرتيه) نسبة إلى كيومرت أبي االبشر في رأيهم مما يدل على إيمان الفرس يقدم هذا المذهب فيهم، وقد أوضحنا شيئاً من آراء هذه الفئة وعبادتها في المقال السابق.
لا خلاف في أن الفرقة الأولى من المجوس هي الكيومرتيه. فأي الفرق ظهر في التاريخ بعدها؟
كل الكتب التي بين يدينا والتي تعرضت لهذه الموضوعات من طريق مباشر لا تجيب جواباً صريحاً على هذا السؤال، وتجدها تذكر الكيومرتيه والمجوسية والثنوية والزنادقة والزرادشتية والمانوية والمزدكية ولكنها لا تحدد تمام التحديد مكان هذه الوظائف من حيث ظهورها في التاريخ وإن حدثتنا أنه قد ظهر زرادشت وتلاه ماني ثم مزدك. ثم نسأل ما المراد بكل كلمة من هذه الكلمات، وماذا تمتاز به تعاليم كل طائفة عن مثلها؟ هذا على فرض أن هذه الكلمات ليست مترادفة ولا مشتركة ولا متداخلة. فأن كانت مترادفة أو مشتركة أو متداخلة فكيف تترادف أو تشترك أو تتداخل؟
إن النصوص التي بين أيدينا فيها كثير من الاضطراب والخلاف، فالمجوسية تطلق أحياناً على كل المذاهب الفارسية، وتطلق أخرى على بعضها دون بعض، والزندقة تطلق على جميع الثنوية أحياناً وتطلق أخرى على طائفة من الثنوية، وهكذا، ثم إن الثنوية قد تذكر قبل الزرادشتية، وأحيانا تذكر دون أن يعين موضوعها في التاريخ إزاء الزداشتية وهكذا، ونحن مضطرون في معرفة معنى الزندقة ولا سيما في عهد المهدي العباسي وهي موضوع هذا البحث - مضطرون إلى فهم أصول التعاليم التي ظهر بها الزنادقة على عهده، وأذن فنحن مضطرون إلى فحص هذه المذاهب لبيان ما له أثر منها في هذه الزندقة وما ليس له اثر منها فيها. هذا وإن كثيراً من الكتب التي بين أيدينا تربك عقولنا لأنها تفاجئنا بآراء من(658/31)
غير أن تذكر لنا أصولها وتطوراتها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة، ومن شأن هذه المفاجأة أن تربك العقل لسقوط بعض الحلقات في سلسة تطورها، ومن أجل ذلك نستميح القراء و (الرسالة) الصفح لهذا الاستطراد الذي لا مفر لنا منه ولا غنى لنا عنه لفهم الزندقة في عهد المهدي فهماً يسيراً لا تعقيد فيه ولا مفاجأة.
في الفصل الذي عقده القلشقندي للكلام في المجوسية وفرقها يقول: (المجوسية: وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) ثم يقسمهم ثلاث فرق: الفرقة الأولى الكيومرتية والثانية الثنوية والثالثة الزرادشتية، وفي الزرادشتية يفصل القول في زرادشت وماني ثم يذكر مزدك. فهو يطلق المجوسية على كل المذاهب الفارسية، وترتيبه الفرق على هذا النحو يدل على إنه يذهب إلى إنها قد ظهرت في التاريخ كذلك: الكيومرتية ثم الثنوية ثم الزرادشتية، وكل هذا غير صحيح، وسندلى بحججنا في ذلك إن شاء الله، على إنا لم نجد في ما قرأنا من رتب هذه الفرق من حيث ظهورها في التاريخ فلابد من ترتيبها الترتيب الصحيح.
سبق الكلام في الكيومرتية وإنها الفرقة المجوسية الأولى وأقدم الفرق الفارسية بلا شك، وهي كذلك في رأي القلقشندي فأما الثنوية فلم يقل فيهم إلا ما نصه: (هم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة، إلا إنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان) قد أنكرا عقلاً أن تظهر في التاريخ الثنوية قبل الزرادشتية لأن الزرادشتية لم تقل بقدم النور والظلمة، بل ذهبت مذهب الكيومرتية في سبق النور الظلمة، ومعنى ذلك - كما فهمنا من الكيومرتية والزرادشتية - القول بتضاد الأشياء وتعاقبها وإن النور قد سبق الظلمة في الوجود أما القول بقدم النور والظلمة معاً ففكرة زائدة جديدة، فمن المنكر عقلاً أن تظهر الثنوية القائلة بالقدم قبل الزرادشتية، لأن رأيها أعقد من رأي الزرادشتية، والآراء - ككل ما في الوجود - تبدأ بسيطة ثم تتعقد، ولا عكس، ومن أجل ذلك شككنا ثم أنكرنا رأي القلقشندي في وضع الثنوية قبل الزرادشتية ورجعنا إلى ما بين يدينا من المصادر فوجدنا فيها ما يؤيد هذا الإنكار، ونبادر بدفع ما قد يسبق إلى العقل من توهم يوقعنا فيه ما يدل عليه لفظ الثنوية لغوياً، وهو إن الثنوية تطلق على كل القائلين بأن للكون أصلين: النور والظلمة؛ أو خالقين أحدهما إله النور يزدان وإله الظلمة أهرمن. بل(658/32)
إن الثنوية فرقة يميزها سائر الفرق القائلة بأصلين: النور والظلمة - إنها تقول بقدم الاثنين كما حكى مذهبهم القلقشندي، فالقول بالقدم ركن هام في العقيدة الثنوية.
ويسند ابن النديم في الفهرست القول بالقدم إلى ماني المولود في سنة 215م فيقول إنه (يزعم بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وإنهما أزليان سرمديان، وإنه ما من شئ إلا وهو من أصل قديم) وكل ما ذكره ابن النديم صحيح، ولكن ليس ماني أول من قال بقدم الأشياء من بين الحكماء عامة ولا حكماء الفرس خاصة. لقد ظهرت الثنوية بعد الزرادشتية وقبل المانوية فيما نرى، فلنتكلم في الزرادشتية قبل الثنوية، ولينظرنا القراء الأدلة على رأينا وبيان المراد من الثنوية ومن ظهر مذهبها على يده إلى حيث الكلام في الثنوية إن شاء الله.
ظهرت الزرادشتية بعد الكيومرتية وصاحبها الذي تنسب إليه هو زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكماء فارس، وقد ظهر في عهد الملك كيستاسف السابع من ملوك الكيانية وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وكان مولده في منتصف القرن السابع قبل أن ينهض الفرس بقرن كامل نهضتهم السياسية على يد كورش الأكبر (550ق. م) ويستقلوا ببلادهم ويطردوا منها الميديين ثم يمتلكوا ميديا أيضاً ويخضعوا الليديين في آسيا الصغرى وتصل حدودهم إلى البسفور، لقد سبقت النهضة العقلية في فارس النهضة السياسية بأكثر من نصف قرن كما سبقت النهضة العقلية في الصين والهند بنحو قرون فلم يولد جوتاما مؤسس الفلسفة البوذية في الهند ولا كنفشيوس مؤسس الفلسفة المنسوبة إليه في الصين إلا في منتصف القرن السادس قبل الميلاد.
وليس من همنا هنا أن نخوض بالإثبات أو النفي فيما يحيط به الفرس حكيمهم زرادشت ومولده وخلقه وحياته من مناقب ولا فيما روته القصص الفارسية في ذلك من أساطير مما يدل على إنهم كانوا يكنون له أسمى درجات الحب والتقديس، ولمن شاء ذلك أن يرجع إلى المبسوط من كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفلسفة، كما إنه ليس مما يعنينا الحكم على هذه الروايات فلها مثيل عند كل الأمم قديمها وحديثها في موقفها تجاه أبطالها أياً كانت الناحية التي برزوا فيها، ولن نعرض لما نسب إليه من صلات ببعض أنبياء بني إسرائيل وما قيل عن تأثير ذلك فيه وما كان من خيانته وهربه من فلسطين إلى بلخ فكل ذلك فيما(658/33)
أرى زعم يهودي أساسه العصبية اليهودية التي تأبى إلا أن تحتجز الفضل في كل نبوغ في اليهود، وترد كل نبوغ خارج عنهم إلى أصل فيهم، وحسبنا من الكلام في زرادشت أن نبين إجمالاً تعاليمه التي كان لها أثر في الزندقة الفارسية قبل الإسلام ثم الزندقة على عهد المهدي العباسي، وحسبنا في هذا الإجمال ما يجنبنا المفاجأة المربكة.
ولد هذا الحكيم في منتصف القرن السابع في أذربيجان من إقليم ميديا الذي كان تابعاً في ذلك الوقت للدولة الكيانية التي عاصمتها بلخ، وقد طوف بالبلاد الفارسية واتصل بكثير من حكمائها للدرس والمشاورة في العقائد والأساطير الكيومرتية التي كانت قبله والإصلاحات التي تحتاج إليها فارس في عهده وهي تتأهب للنهضة السياسية التي ظهرت آثارها بعد وفاته، وقد اتصل بالملك كيستاسف في عاصمة بلخ واستطاع أن يقنعه بالدخول في مذهبه، وقد كان ذلك نصراً كبيراً له إذ عمل الملك على نشر مذهبه وإدخال الناس فيه فانتشر في جميع الأنحاء الفارسية، ومما أعان على ذلك بقاء زرادشت يبشر بمذهبه في الفرس خمساً وثلاثين سنة ومات نحو سنة 583ق. م بعد أن عاش سبعاً وسبعين سنة، وقد خلف زرادشت مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد جاء به مصدقاً لما بين يديه من الكيومرتية أو الصابئية التي كانت قبله فأيد القول بإلهين اثنين أحدهما يزدان للنور والآخر أهرمن للظلمة لأنه وجد من المتعذر إسناد الخير والشر في العالم إلى مصدر واحد مع اعتقاده بأن يزدان أسبق من اهرمن وإنه خالقه، والقول بأن العالم خلق من النور يدل على عبقرية ثاقبة، ولولا ضيق المقام لفصلنا القول فيما تدل عليه هذه النظرة الرائعة، وحسبنا أن نشير إلى إنها لا تختلف عن النظرة العلمية الحديثة في بناء الكون، فقد فقدت المادة اليوم ماديتها بعد أن ثبت إن أجزاءها كالضوء ذات خاصية موجية، وإنها مؤلفة من كهرباء، وثبت ذلك بالبرهان المحسوس بعد أن أخذت صور البروتونات والإلكترونات المتحركة وثبت إن كتلة الإلكترون وهي معيار ماديته علتها حالته الكهربائية، وبذلك صارت المادة نوعاً من أنواع الطاقة، فيقال الطاقة المادية، كما يقال الطاقة الكهربائية والطاقة المغناطيسية بلا خلاف، ولا ريب إن زرادشت عبر عن هذا بلغة الأسطورة لا لغة العلم وإنه لم يصل إلى ذلك من طريق المنطق ولا التجربة، بل من طريق اللمح الفني العبقري المنبعث من الشغف القوي بالطبيعة، وقد كان(658/34)
لهذا الرأي أثر في كثير من مفكري الأمة الفارسية وغيرها كاليونان والعرب، وقد رمز القرآن الكريم إلى هذا المعنى العميق وعبر عنه تعبيراً واضحاً في الآية الكريمة: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس)
(يتبع)
محمد خليفة التونسي.(658/35)
أغنية:
سماء الهرم. .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
جئت لا أحمل إلا سقمي
فتعالي. . أطفئي نار دمي!
واشفعي لي يا سماء الهرم ... كم تلونا هاهنا سفر الجدود
هذه الصحراء والليل شهود
طالعتني بين أطواء الرمالِ
قصة للحب وارتها الليالي
نسجت من ذوب قلبي وخيالي ... آهِ لو كانت لياليها تعود
هذه الصحراء والليل شهود
كم دعونا ليلة البدر هنا
وارتمى الفجر على أقدامنا
فإذا نحن. . حبيبي وأنا ... في جلال الهرم العاتي سجود
هذه الصحراء والليل شهود
كان يصغي لأناشيدي السكون
وتباهى بغرامينا السنين
يا حبيبي. . إنني قلب أمين ... عدت للماضي أغني من جديد
هذه الصحراء والليل شهود
أسكر البيد هنا وقع خطانا
وأعاد الليل الحان هوانا
وتمنى الصبح لو كان يرانا، ... فيغني حولنا كل الوجود!
هذه الصحراء والليل شهود
يا حنبني. . كل شئ ذاكري
وأنا أسأله عن هاجري(658/36)
كيف ينساني ويشقى حاضري؟ ... أين ولَّي يا تماثيل الخلود؟!
هذه الصحراء والليل شهود
عدت لا أحمل إلا سقمي
فتعالي. . أطفئي نار دمي
واشفعي لي يا سماء الهرم ... كم تلونا هاهنا سفر الجدود
هذه الصحراء والليل شهود(658/37)
في ليلة قمراء. . .
للشاعر إبراهيم محمد نجا
كل قيس مع ليلى قد طواها ... ومعي الأحلام لا شئ سواها!
وأنا الشاعر قلبي مسرح ... لمنى علوية لا تتناهى
أخلق الحب من الوهم، وكم ... تخلق النفس من الوهم رؤاها!
وهنا الحب. . . قلوب تلتقي ... حيث تدعوها أمانيُّ صباها
إيه يا بدر لمن هذا السنا ... غازل الأمواج وهْناً فسباها؟
ولمن يا ليل تسري حالماً ... بليالٍ موجك الشادي رواها؟
وتغني أغنيات حلوةً ... فيوافيك من الشط صداها
ولمن يسري نسيم هامس ... بأغان تفهم الروح لُغاها؟
لقلوب لقيتْ أُلاَّفَها ... فاطمأنت واستراحت من جواها
ونفوس سعدت في حبها ... حين نالت منه ما بلَّ صداها
من لقلب لم يعانق إلفه ... ولنفس لم تجد بعدُ هواها؟
إيه يا نيل لطير مغرد ... في مغانيك، وآهاً ثم آها
كلما وافى المغاني شادياً ... غلب الحزن عليها فبكاها!
إيه يا نيل لروح شارد ... مستطار ضل في الدنيا وتاها
كلما جدَّد في الحب المنى ... غلب اليأس عليه فطواها!
إيه يا نيل لصب ضارع ... يشتهي اللقيا، ويشتاق جناها
طافت الغيد عليه في الكرى ... ورأى فيهن (ليلى) فاصطفاها
وتغنى بهواها، وشدا ... بصباها، وهفا نحو سناها
ثم ردَّته شاكياً ... ثائراً لأشواق يبكي من لظاها
إيه يا نيل لعمر ضائع ... في منى الروح، وأحلام كراها
وشباب تنقضي أيامه ... وخطى الحرمان واليأس خطاها
روضة العشاق في دنيا الهوى ... ليس لي من زهرة فوق رباها
غير همس من رباها ذائع ... ونسيم عطَّرته من شذاها(658/38)
آه لو جئتك يوماً ومعي ... فرحة النفس، وأنوار دجاها
فجلسنا نتناجى في الهوى ... بقلوب طائف الشوق دعاها
ونسينا العمر والدنيا معاً ... وتركنا الروح تسرى في عُلاها
وبنينا حيثُ شئنا معبداً ... وعبدنا مبدع الحب إلها
أيها العشاق غنوا في الهوى ... وانهبوا اللذات فالعمر فداها
واذكروني زهرةً لم يُروها ... نبع حب. . . آه لو كان سقاها!
واسمعوني يا رفاقي طائراً ... طاف بالآفاق يبكي فشجاها
فعسى الأيام أن يبسمن لي ... ولعل النفس أن تلقى مُناها(658/39)
البريد الأدبي
1 - هذى دمشق!
ما بدا حب دمشق أختها الكبرى مصر، وتعلقها بها، وتمسكها بالعروبة وكرهها لهذه الشيوعية الآثمة كما بدا في هذين اليومين، أثر تلك البرقية الوقحة التي بعث بها النفر الضالون المنكرون من رجال وزارة المعارف، ولم يقتصر الأمر على البرقيات والاحتجاجات بل لقد أضربت مدارس دمشق كلها يوم الخميس وخرج تلاميذها يقدمهم طلاب الجامعة السورية، في مواكب لها أول وليس لها آخر يهتفون للعروبة ولمصر، ويبرؤون من هذه النحلة والداعين إليها. وتبعتهم مظاهرات العمال، تهتف مثل هتافهم، وتنادي بندائهم، ولم يبق الجمعة منبر مسجد في دمشق إلا هبطت من فوق أعواده اللعنات على الشيوعية وعلى أذنابها في المعارف، أما الصحف الشامية، فلقد قرأ الناس في مصر ما كتبت ونشرت، وكان أول من انتدب نفسه من الصحفيين لدرء هذا الشر الأستاذ نجيب الريس صاحب (القبس) ونائب دمشق في المجلس، وأبن عمه الأستاذ منير الريس، المجاهد ذو المواقف صاحب (بردي)، فيسجل هذا لهما في (الرسالة) سجل العرب.
وما كان ذلك اهتماماً بأصحاب تلك البرقية، فهم أقل وأذل من أن تهتم بهم دمشق، ولكن اعتذارا إلى مصر، ومحاربة لهذه الشيوعية المدمرة، واحتجاجاً على وزارة معارف الشام إذ تجعل كُبْرَ أمر التعليم إلى مثل هؤلاء، مع مجاهرتهم بالدعوة إلى الشيوعية، والعمل لمصلحة دولة أجنبية، والتدخل في شؤون المملكة المصرية، ومع ما هم عليه من الخفة والرعونة والطيش، ولقد وعدت الحكومة وعد الصدق بطردهم من وظائفهم ومحاكمتهم، وأنا لمنتظرون!
2 - تأديب السفهاء:
أما وقد عرف قراء الرسالة بداية خبر تلك البرقية التي تطاول فيها النفر الشيوعيين على حكومة مصر، فليعرفوا نهايته، وهي أن وزير المعارف الأستاذ صبري العسلي بك قد أحال هؤلاء النفر إلى (لجنة تأديب الموظفين) - وكذلك يؤدب الكبار إذا فعلوا مثل ما فعل الصغار. . .
وإنا لنشكر الوزير على أن أنقذ أبناءنا من مربين ومؤدبين، لا يزالون محتاجين إلى التربية(658/40)
والتأديب!
دمشق
(علي)
إلى الأستاذ الفاضل محمد محمود شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة المباركة في العدد الخاص بالعام الهجري فأعجبت به كثيراً. إلا أني دهشت في أوله من عبارتك (السلام عليكم) موجهة للأستاذ الزيات، ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذه العبارة، هي أن نبتدئ في أول الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم بدون (أل) التعريف، ثم ننتهي بـ (والسلام عليك أو عليكم) بذكر (أل)، وتكون أل هنا نهاية العهدية، وهذا نظير قولك: (جاءني ضيف فأكرمت الضيف)، ولك يا أستاذ أن ترجع إلى كتاب أدب الكاتب لتقف على حقيقة الأمر.
وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تشير إلى صحة قسم من القاعدة. قال تعالى: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقال تعالى: (قال سلام قوم منكرون). . . الخ فالملاحظ هنا أنه لا حاجة إلى تعريف (سلام عليكم) بالألف واللام.
وقال ذو الرمة:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... هل الأزمن اللائي مضين رواجع
وقال البحتري:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ... أما لكم من هجر أحبابكم بدُّ
والواقع أن هذه غلطة شائعة في الوقت الحاضر، وما كنت أستغرب لو وجدتها عند بعض الكتاب، إلا أن ثقتي القوية بعلمك في اللغة العربية وتبحرك بها هي التي دفعتني إلى الاستغراب.
وأخيراً: أرجو التفضل بإبداء رأيك في هذا الموضوع، ففي ذلك خدمة للأدب العربي وأدبائه. والسلام عليك.
بغداد(658/41)
صبحي البصام
صحف طرابلس الغرب:
كانت في طرابلس الغرب قبل احتلال الطليان لها نهضة أدبية مباركة، وكان للأدباء فيها رابطة كما لهم صحف ومجلات، وقد نبغ الكثيرون من الشعراء والأدباء الذين لولا استعمار إيطاليا لبلادهم - كان لأدبهم شأن يذكر في البلاد العربية. وقد كانت جريدة (الرقيب العتيد) رسولة هذه النهضة وحاملة لوائها. وكان صاحبها المرحوم الأستاذ محمود فهمي نديم بن موسى من قادة الرأي والفكر يسانده نخبة من الشباب المثقف الحر.
وهناك جريدة (العدل) وصاحبها الأستاذ محمود بانون التي كانت نبراساً للوطنية والحق. وما احتل الإيطاليون هذه البلاد حتى خمدت هذه النهضة الأدبية، وخارت عزائم الأدباء، ولكن الإيطاليون بدءوا يدفعون فاقدي الضمائر ومريضي القلوب من الأدباء إلى تمجيدهم والإطناب بذكرهم، وأجبروا صاحبي الرقيب والعدل على السير بموجب سيادتهم، وأصدروا مجلة مصورة سموها (ليبيا المصورة) كانت هي المجلة الرسمية للإيطاليين، تعبر عن رغباتهم وتشيد من ذكرهم ومجدهم، وظلت الحال هكذا حتى كانت الحرب الأخيرة، إذا اضمحلت الروح الأدبية تماماً، واختفى ذلك البصيص الضئيل من الشعر والنثر، وساد القطر جهل وصمت وسواد! فهل نرى الآن وقد بدأ طائر السلام يرفرف بجناحيه نهضة جديدة في طرابلس الغرب تقوم على أكتاف وسواعد شبابه العربي ونرى مجلاته تشق طريقها في الحياة كزميلاتها صحف العروبة؟ فلعل ذلك قريب.
(دمشق - دار المعلمين)
صلاح الدين بن موسى
الشيخ نصر الهوريني وتيمور باشا:
ذكر الأستاذان أحمد أمين بك، ومحمد كرد علي بك في كتاب (ذكرى أحمد تيمور باشا) الذي ظهر حديثاً في 30صفحة وص77 أن العلامة أحمد تيمور باشا كان في جملة أساتذته الشيخ الهوريني(658/42)
وأنا أعلم أن وفاة الشيخ نصر الهوريني كانت سنة1291، كما ذكره العلامة تيمور في كتابه (تصحيح القاموس) ص42، والأستاذ الزركلي في (الأعلام). والعلامة تيمور ولد سنة1288، فتكون سنه ثلاث سنوات عند وفاة الشيخ الهوريني. وممتنع أن يكون الباشا تيمور في هذا السن صديقاً للهوريني أو تلميذاً له. فذكره في معارف أحمد تيمور خطأ، وجل من لا يخطئ.
عبد الفتاح غدة
حول سناد التأسيس
أخذ الأستاذ - رضوان - على قصيدة الشاعر الغزالي في عدد652 أن في بيتين منها ما يعده العروضيون سناد التأسيس.
فقال الأستاذ - عدنان - بل هو سناد الإشباع عدد 654 والواقع بأن في البيتين سناد التأسيس لأن الإشباع إنما يعرض الدخيل ولا يكون الدخيل إلا بعد التأسيس وقد أنعدم التأسيس فلا دخيل فضلاً عن سناد الإشباع فليس في البيتين إلا سناد التأسيس. وقد حاول الشاعر الغزالي أن يدفع عن البيتين مستنداً إلى أن ما استشهد به - الكافي وعمي العروض والقوافي - لسناد التأسيس من قول العجاج:
يا دار سلمى يا أسلمي ثم أسلمي ... فخندف هامة هذا العالم
يختلف عن بيتيه؛ والواقع أن بيت العجاج وبيتي الشاعر متساويان في سناد التأسيس.
وبعد فاستكملا للفائدة نقول: الاستشهاد على سناد التأسيس بيت العجاج لأن روايته المشهورة همز ألف. فقد استشهد به الزمخشري - في فصله لهمز الألف في باب الإبدال. وكذا - الرضي - في شرحه للشافية
محمد الطنطاوي
أستاذ بكلية اللغة العربية
1 - تصوير الأنبياء:
رأينا في مجلة (الطالب) التي تصدر في القاهرة صورة على غلاف العدد (70) صورة(658/43)
تمثل سيدنا إبراهيم الخليل وأمامه أبنه إسماعيل الذبيح عليهما الصلاة والسلام، وفوقهما ملك ذو جناحين يمثل سيدنا جبريل وأمامهما كبش. . .!
ثم رأينا على غلاف العدد (71) صورة تمثل ناقتين أمامهما رجلان، والصورة تشير إلى الهجرة. فاستنكرنا واستنكر معنا الكثيرون هذه الطريقة الجديدة في تمجيد الذكريات المجيدة والأعياد الإسلامية. . .
أنها طريقة لا يقرها الشرع ولا العقل ولا الذوق؛ وفي العدد نفسه صورة متخيلة للأمام الجليل أحمد بن حنبل. وإن مجلة لا تحترم الأنبياء ولا الأئمة، ولا تعرف لهم مكانتهم، لهي مجلة جديرة بالوأد في المهد. . .
2 - وقاحة الشيوعيين:
ثارت في هذا الأسبوع في دمشق ضجة كبرى بشأن الكتاب الذي أرسلته إلى مصر فئة ضالة من أذناب الشيوعيين تحتج فيه على حكومة مصر لمكافحتها لجماعة الشيوعيين ومقاومتها إياهم، وكانت النقمة شديدة على موقعي الكتاب، وهم من أبرز موظفي وزارة المعارف، وقد اهتمت الحكومة السورية بهذا الأمر وقررت أن تفصل هؤلاء الموظفين عن مناصبهم، وأن تحيلهم على لجان التأديب لينالوا جزاء وقاحتهم وخيانتهم. ولا يزال هياج الشعب على أشده، وهو يطالب باتخاذ التدابير الفعالة للقضاء على الشيوعية الخبيثة قضاء مبرماً لا قيامة لها بعده.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(658/44)
القصص
دهاء سيدة
للقصصي الإيطالي (موفاني بوكاشيو)
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
كان يقطن في بلدة أرامينو بإيطاليا تاجر غني متزوج من سيدة جميلة صغيرة السن. وكان هذا الزوج شديد الغيرة والقسوة على زوجته، لا لشيء إلا لأنه كان يحبها غاية الحب، ويهواها من كل قلبه هوى عنيفاً مبرحاً. فكان يظن لهذا السبب أن الناس جميعاً يحبونها كما يحبها، ويهوونها كما يهواها، وإنها تبادلهم إعجاباً بإعجاب، وافتتاناً بافتتان! ومن هنا نشأت غيرته العمياء عليها، وتولد في قلبه الخوف والقلق من حسنها الذي كان يخلب الألباب ويستهوي الأفئدة. فكان يراقبها مراقبة شديدة ويمنعها من الذهاب إلى الكنائس والولائم والحفلات العامة، بل لقد بلغت به الغيرة إلى حد إنه كان يمنعها من الخروج في المواسم والأعياد التي كان يحتفل بها عامة الشعب، فكان ذلك سبباً في تنغيص حياتها وتكدير صفوها.
وهداها التفكير أخيراً إلى أن تقابل هذا العدوان وتلك القسوة بمثلها. ففي أحد الأيام وقعت عيناها على شاب جميل وسيم الطلعة يقطن في المنزل الملاصق لمنزلها. وقد استرعى هذا الشاب انتباهها قبل ذلك عدة مرات، ولكنها لم تكن تعيره أدنى التفات، ولم يخطر ببالها أن تهتم بغير زوجها في يوم من الأيام، حتى إذا ما طفح الكيل، وبلغت غيرته وقسوته أقصى حدودهما، لم تستطع السيدة صبراً أكثر من ذلك، فأخذت تبحث في جدران مسكنها علها تعثر على ثغرة يمكنها أن تخاطب هذا الشاب بواسطتها، لتذهب عن نفسها ذلك الملل الذي كانت تحس به من جراء حبسها في المنزل آناء الليل وأطراف النهار. وهداها البحث أخيراً إلى العثور على ثغرة صغيرة في إحدى الغرف الخلفية لمسكنها، فسرت لهذا الكشف السعيد سروراً عظيماً وخاطبت نفسها بقولها (إذا كانت الثغرة تؤدي إلى غرفة فلبو - وهو اسم الشاب فإن خطتي لابد أن تصل إلى النجاح المنشود، والفوز المرتقب!) ولم تلبث أن دعت إليها خادمتها وكلفتها بأن تتحقق من هذا الأمر بنفسها. فعادت إليها الخادمة التي كانت(658/45)
ترثي لحالها، وتتألم لسوء معاملة زوجها لها، وأخبرتها إن فلبو يبيت في هذه الغرفة التي عثرت على الثغرة المؤدية إليها بطريق المصادفة. فسرت السيدة لهذه البشرى الطيبة وأتت بباقة صغيرة من الزهور اليانعة ذات العطر الشذي، والأرج الزكي، وألقتها من الثغرة التي كانت لا تتسع لأكثر من إدخال رأسها، في مكان ظاهر من غرفة فلبو وظلت واقفة في مكانها تترقب أوبته بفروغ صبر. فلما حضر الشاب ووجد باقة الزهور في حجرته دهش لذلك دهشة عظيمة، سيما وإنه لم يكن متزوجاً وكان يقطن في هذا المسكن بمفرده، وزادت دهشته حينما أطلت السيدة برأسها من الثغرة الضيقة ونادته باسمه ثم عرفته بنفسها! ووقف الشاب مبهوتاً زائغ البصر لحظة ولكنه لم يلبث بعد أن هدأ روعه، واسترد هدوءه، أن رحب بهذه الصداقة الجديدة التي كان ينتظرها منذ زمن طويل من غير طائل، ومن هذا الوقت بدأت السيدة والشاب يقطعان الوقت في المسامرة والحديث فكان ذلك سبباً في سرورهما وغبطتهما معاً.
ولما أقترب عيد الميلاد كانت السيدة قد دبرت خطتها للانتقام من زوجها فقالت له ذات يوم وهي تحاول جهدها أن يكون كلامها طبيعياً على قدر الإمكان:
- إنني أود الذهاب إلى الكنيسة لأعترف للقسيس بخطاياي! فذعر الزوج لهذا الطلب الغريب الذي لم يكن يتوقع سماعه منها وقال:
- وأي خطيئة ارتكبتها حتى تودين الاعتراف بها للقسيس؟ فابتسمت زوجته ابتسامة ماكرة وقالت:
- أو لستُ يا عزيزي بشراً كسائر البشر؟ أم تحسبني قديسة من القديسات أو راهبة من الراهبات؟
ثم سكتت سكتة قصيرة واستطردت قائلة:
- وهل تعتقد إنني معصومة من الزلل، أو بعيدة عن الوقوع في الخطأ ما دمت تشدد الرقابة علي وتحبسني بين جدران منزلك؟
وهنا أطرقت برأسها إلى الأرض وقالت له بلهجة حزينة، ونغمة مؤثرة:
- آه لو كنت قسيساً لاعترفت لك بكل شئ، ولكنك مع الأسف لست إلا فرداً عادياً كسائر الأفراد، وبشراً سوياً كبقية البشر!(658/46)
فذهل الزوج لجرأة زوجته وكاد يصعق في مكانه لأنه كان يعتقد إنها آخر من تفكر في ارتكاب الخطيئة أو الوقوع في الإثم، ولكنه تظاهر أمامها بالهدوء والسكينة بالرغم من إنه كان يغلي في قرارة نفسه كالمرجل.
ثم صمم أخيراً على أن يعرف خطاياها بنفسه مهما كلفه ذلك من جهد، أو كبده من مشقة وعناء. . .
فلما حل عيد الميلاد صرح لها بالخروج في ذلك اليوم ولكنه حظر عليها الذهاب إلى كنيسة غير كنيستها، وأمرها بالا تعترف بخطاياها لقسيس غير قسيسها، ثم نبه عليها بأن تعود بعد ذلك إلى المنزل مباشرة. ففهمت السيدة غرضه وأجابته إلى رغبته بهزة خفيفة من رأسها!
وكان زوجها قد سبقها في الذهاب إلى الكنيسة قبل ذلك ببضعة أيام وأتفق مع القسيس على أن يرتدي ملابسه ويحل محله في مقابل أجر كبير أعطاه إليه ليتسنى له معرفة خطايا زوجته بنفسه، فلما حضرت وسألت عن القسيس ذهبوا بها إلى زوجته الذي كان قد سبقها في الوصول إلى الكنيسة ببضع دقائق! فعرفته زوجته لأول وهلة بالرغم من أنه قد أخفى وجهه بحيث لم يكن يتبين منه سوى عينيه، ولكنه لم يستطع أن يغير لهجته، ولا أن يبدل صوته بالرغم من انه كان يحاول ذلك جهد طاقته! وهذا ما أكد للسيدة أن الواقف أمامها ليس إلا زوجها دون سواه!
فابتسمت لمرآه ابتسامة مريرة متكلفة وخاطبت نفسها بقولها: (حمداً لله وشكراً! لقد أصبح هذا الزوج الغيور قسيساً، ولكني لن أبوح له بما يود معرفته، ويتوق اللحظة إلى سماعه!) ثم تظاهرت بأنها لم تعرفه وارتمت تحت قدميه وقبلت يديه بمذلة وخشوع وقالت:
- بالرغم من أنني متزوجة من رجل غني كما تعلم، إلا أنني أحب قسيساً يأتي إلى منزلي ويبيت في مخدعي كل ليلة!
فدهش الزوج لهذا الاعتراف الفاضح ولكنه أخفى دهشته بكل مشقة وصعوبة لأنه أراد الوثوق من هذا الأمر، والتأكد من معرفته، فقال لزوجته وقد بهت لونه، واكفهرت سحنته:
- وكيف ذلك يا ابنتي؟ ألا يقضي زوجك الليل في مخدعك؟ فقالت زوجته وهي تخفي براحة يدها ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها:(658/47)
- بلى يا سيدي. . .
فقال الزوج وقد زادت دهشته عن ذي قبل:
وكيف يبيت إذن هذا القسيس في مخدعك في الوقت الذي يكون زوجك موجوداً معك؟
فتظاهرت الزوجة بالغرابة لهذا السؤال وقالت:
- لست أدري ذلك تماماً يا سيدي، ولكني أعتقد أنه ليس هناك باب إلا ويفتح بمجرد ملامسة هذا القسيس له. وقد أخبرني أنه يتلو عند مجيئه إلى منزلي تعويذة فتلقي بزوجي المسكين من فراشه على الأرض وتجعله يروح في سبات عميق دون أن يدري بمجيئه، أو يحس بزيارته لي!
فارتبك الزوج في موقفه ارتباكاً شديداً وقال لها وهو يحاول أن يكظم غيظه، ويكبح جماح غضبه:
- أنني أرثي حقاً لحالتك يا سيدتي، ولكن ليس لك عندي مع الأسف أي حل. وكل ما أستطيع أن أفعله أنني سأصلي كل ليلة من أجلك، وسأرسل إليك - فضلاً عن ذلك - رسولاً من قبلي بين الفينة والفينة لأرى نتيجة صلاتي لك، عسى أن يغفر الله لك ويبعد هذا القسيس إلى الأبد. . .
فتظاهرت السيدة بالخوف الشديد وقالت:
- لا ترسل بربك أحداً إلى منزلي لأن زوجي شديد الغيرة علي!
ولكن القسيس - أو الزوج - طمأنها بقوله:
- لا تهتمي بذلك مطلقاً لأنني سأتخذ الحيطة اللازمة لذلك.
فقالت السيدة وهي تهم بالوقوف:
- إذا استطعت أن تفعل يا سيدي؛ فإنني لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت، وسأكون مدينة لك بشكري مدى العمر بالرغم من أنني أحب هذا القسيس حباً جماً ولا أطيق فراقه عني بأي حال!
قالت ذلك ثم غادرت لكنيسة على عجل وهي تضحك في سرها من سذاجة زوجها الذي كان يتميز من الغيظ، ويقرض على أسنانه من شدة الغضب! وألقى الزوج بعد أن تركته زوجته بقلنسوة القسيس وبردائه على الأرض ثم هرع من فوره إلى منزله. فلما وصل إليه(658/48)
خطب زوجته بعد أن فكر ملياً في هذا الأمر، ودبر خطته للانتقام منها ومن القسيس الذي يأتي لزيارتها كل ليلة فقال:
- سأتناول الليلة عشائي خارج المنزل لدى أحد أصدقائي، وإذا تأخرت قليلاً فلا تقلقي لغيابي لأنني سأقضي سهرتي عنده.
وقبل أن يغادر المنزل حدجها بنظرة حادة صارمة ثم قال لها بغلظة وجفاء:
- لا تنسي أن تغلقي ورائي باب المنزل بالمزلاج، وكذا باب مسكنك، بل وباب غرفة نومك كذلك إذا شئت أن تأوي إلى فراشك مبكرة. . .
ففهمت السيدة غرضه وابتسمت له على كره ثم تمنت له ليلة طيبة دون أن تسأله عن المكان الذي سيقضي فيه سهرته. . .
ولما غادر المنزل هرعت إلى الثغرة وأخبرت فلبو الذي كان في انتظارها بكل ما حدث لها مع زوجها في صباح ذلك اليوم، ثم قالت له وهي تضحك ملء شدقيها:
- أنني واثقة من أن زوجي لن يتحول هذه الليلة من أمام المنزل ليتسنى له القبض على هذا القسيس المزعوم فهل يمكنك أن تأتي إلي في المساء عن طريق سطح منزلك لنتبادل الأحاديث الحلوة والأقاصيص الشهية؟
فأجابها فلبو وهو يكاد يطير من شدة الفرح لهذا اللقاء القريب الذي كان لا يشتهي في الدنيا غيره:
- سأحاول ذلك يا عزيزتي.
فلما أقبل المساء تسلح الزوج بهراوة ثقيلة واختبأ خلف بوابة قريبة من المنزل. ثم وقف ينتظر على مضض مجيء ذلك القسيس الذي اعترفت له زوجته بأنها تحبه! وقد حدث ذلك في نفس الوقت الذي ذهب فيه فلبو إلى مسكن معشوقته عن طريق سطح منزله! وظل الاثنان في لهو ومرح إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم عاد الشاب ثانية إلى مسكنه!
فلما بزغ النهار عاد الزوج إلى بيته بعد أن فرغ صبره، وجمدت أطرافه من شدة البرد! ثم ذهب إلى غرفة نومه وهو خائر القوى، منهوك الأعصاب، واستلقى على فراشه وراح في سبات عميق! فلما استيقظ من نومه غادر المنزل ثم أوفد إلى زوجته رسولاً من قبله على زعم أنه موفد من القسيس الذي اعترفت له بخطاياها بالأمس، عما إذا كان القسيس قد جاء(658/49)
لزيارتها في الليلة الماضية أم لا؟ فأجابته السيدة بقولها:
- لا! أنه لم يأت في الليلة الماضية، وإذا انقطع عن زيارتي عدة ليال أخرى فإنني لن ألبث أن أنساه بمضي الزمن وإن كنت سأتألم بعض الشيء لغيابه عني، وانقطاعه عن زيارتي!!
وكرر الزوج مراقبته للقسيس الموهوم عدة ليال في الوقت الذي تلهو فيه زوجته مع جارها فلبو كل ليلة دون أن يدري أحد من أمرهما شيئاً! فلما عيل صبره، ولم يجد أدنى فائدة من تلك المراقبة، سأل زوجته ذات يوم وشر الغضب يتطاير من عينيه، والحنق الكامن في أعماق نفسه يلوح على أسارير وجهه المتجهم فقال:
- ما الذي اعترفت به للقسيس في صبيحة يوم عيد الميلاد؟
فذعرت الزوجة لهذا السؤال المفاجئ، ولاذت بالصمت المطبق، والسكوت العميق، فلما كرر عليها زوجها هذا السؤال استولى عليها الغضب ثم التفتت نحوه وقالت:
- أظن أنه ليس من حقك، ولا من حق أي إنسان آخر أن أطلعك على أسراري، أو أكاشفك بخبيئة نفسي! فازداد غضب الزوج لهذا الرد وقال:
- أيتها المرأة المنافقة، والمخادعة الشريرة، أنني أعلم بكل ما اعترفت به في الكنيسة، وسأجبرك الآن على إخباري بكل شيء عن ذلك القسيس الذي يبيت في مخدعك كل ليلة. . .
فلم تكترث زوجته لتهديده وقالت:
إنني لا أستقبل في مخدعي أحدا سواك. . .
ولكن الزوج الغاضب لم يقتنع بإجابتها وانفجر فيها قائلاً:
- ماذا تقولين؟ أتنكرين هذا أيتها الحية الرقطاء؟ أو لم تخبري القسيس الذي اعترفت أمامه بذلك؟
فنظرت إليه زوجته نظرة شزراء ثم قالت له بجرأة وثبات:
- إنني لا أنكر شيئاً مما قلته له، وما دمت قد سمعت اعترافي كاملاً فلا حاجة بي إلى تكراره أمامك مرة أخرى!
فقال لها زوجها وهو يعجب من شجاعتها ورباطة جأشها:(658/50)
- والآن ما دمت قد اعترفت بخطيئتك، وكاشفتيني بإثمك فيجب أن تخبريني بكل شيء عن هذا القسيس، وإلا فالويل لكما مني معاً. . . . . .
فهزت زوجته كتفيها بسخرية واستخفاف ولم تأبه لوعيده أو تكترث لغضبه، ثم أرادت أن تلقي عليه في تلك اللحظة درساً قاسياً لا ينساه مدى الحياة، فقالت له بصوت هادئ، وعبارة متزنة هادئة:
- إنني في أشد العجب من تلك الغيرة العمياء التي تظهرها نحوي في كل وقت، وبدون سبب. أتظنني غبية قصيرة النظر مثلك؟ لا! فلقد عرفت لأول وهلة أن القسيس الذي اعترفت أمامه بخطاياي هو أنت دون غيرك! ولكني أردت أن أثير انتباهك بهذه الحكاية الملفقة، وأظنني قد نجحت في ذلك إلى حد بعيد! ولو كنت عاقلاً حقا لما حاولت الاطلاع على أسرار زوجتك بهذا الشكل المزري القبيح! ولكن الغيرة - قاتلها الله - أعمت بصيرتك، وذهبت بلبك وجعلتك عاجزاً عن تبيان الحقيقة الواضحة أمامك وضوح الشمس في رابعة النهار! ولقد اعتقدت خطأ أن كل كلمة من كلماتي إنما هي حقيقة ثابتة لا شك فيها، وغاب عنك أنها محض اختلاق، ولم تكن إلا مجرد درس لك ولأمثالك من الأزواج الذين تعمي بصيرتهم الغيرة الحمقاء عيونهم عن معرفة أبسط قواعد اللياقة والذوق! ولقد قلت في اعترافي إنني أحب قسيساً، أفلم تكن أنت ذلك القسيس الذي كنت أحبه في تلك اللحظة التي اعترفت فيها أمامك؟ وقد قلت أيضاً إنه لا يعصي عليه باب عندما يأتي إلى منزلي وهل هنالك باب في منزلك يستعصي عليك دخوله؟ ولقد قلت أخيراً إن هذا القسيس يبيت في مخدعي كل ليلة، أو لا تفعل ذلك حقاً يا زوجي العزيز؟ وكلما أوفدت إلي رسولاً من قبلك ليسألني عما إذا كان القسيس لا يزال يكرر زيارته لي كنت أجيب بالنفي، وهذه حقيقة لا شك فيها لأنك اعتدت أن تسهر إلى ساعة متأخرة من الليل خارج منزلك منذ اليوم الذي اعترفت فيه أمامك في الكنيسة، حتى ظننت بدوري أنك تقضي سهراتك عند امرأة سواي وتلهو معها ما شاء لك اللهو والمجون! وقد كان يجب عليك أن تفهم كل هذه الحقائق بنفسك دون أن تكلفني عناء شرحها وتوضيحها لك!
وهنا تظاهرت أمامه بالبكاء فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت له بلهجة مؤثرة، وصوت مختنق النبرات:(658/51)
- فكر في هذا الأمر المشين بك يا عزيزي، واطرح عنك هذه الغيرة العمياء التي نغصت علينا صفونا وراحتنا. وإذا كنت تعتقد أنك بحبسك لي بين جدران منزلك تمنعني من اللهو والعبث مع غيرك، وتحول بيني وبين تحقيق رغباتي، فأنت جد مخطئ في ذلك يا زوجي العزيز، لأن المرأة كما تعلم لا يقف أمامها أي حائل، ولا يمكن لأي مخلوق مهما كان، أن يعترض سبيلها إذا هي أرادت ذلك بمحض مشيئتها ورغبتها. . .
فلما سمع الزوج ذلك تأثر لكلامها، وأحس بالحسرة والندم على ما فعل، ثم أبعد هذه الغيرة التي سببت له كل هذا التعب والعناء! وفي الوقت الذي كان يجب عليه فيه أن يغار عليها، ويشدد في مراقبته لها، نراه قد أهمل هذا الأمر إهمالاً تاماً وترك حبل الأمور على غاربها! وزيادة على ذلك فقد صرح لها بالخروج في أي يوم تشاء، وفي أية ساعة ترغب، ولم يعد يهتم كثيراً بغيابها عن المنزل أو عدم غيابها! فلما نالت الزوجة حريتها، واطمأنت إلى عدم شك زوجها في وفائها، تمادت في غيها وأوغلت في ضلالتها، واصبح حبيبها فلبو يقابلها مرة أو مرتين في اليوم. فإذا تصادف وحضر زوجها في أثناء وجوده فسرعان ما يفر إلى مسكنه عن طريق سطح منزله دون أن يدري به أحد، أو يعلم بأمره إنسان!
وهكذا ظل العاشقان يرتشفان معاً كؤوس الهوى حتى الثمالة بعد أن أفلحت الزوجة في خطتها، ونجحت في الانتقام من زوجها!
إسكندرية
محمد اللطيف حسن(658/52)
العدد 659 - بتاريخ: 18 - 02 - 1946(/)
حمام الحرم
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشرت في مقالي السابق عن الرحلة الحجازية إلى حمام الحرم فقلت عن أعجب ما سمعته ورأيته من شأنه (إنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات).
(وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور).
وهذه خاصة لا بد لها من سبب مفهوم، ولا بد من استقصائها في جميع أحوالها قبل التيقن منها وقبل تعليلها بالخوارق التي لا تقبل التعليل، فإن الذهن لا يقبل الخارقة إلا إذا ضاقت به علل الطبائع التي أودعها الله في خلقه وتواترت بها المشاهدة في جميع الأحوال، وبخاصة حين لا يكون هناك مقتضى من حكم الدين ولا حكم العادة لامتناع الطيران في فضاء الكعبة أو أي فضاء مقدس مصون، ولا معابة على فضاء السماء في كل مكان أن تحلق فيه الطيور أو تعبر به الطائرات.
وقد شغلني أن أتيقن أولا من تطابق الأقوال على اطراد هذه الظاهرة، وأن أجرب حماما غير حمام الحرم لأرى كيف يطير إذا أطلق في جوانب الكعبة وحده، وأن أجرب طيراً غير الحمام من القماري أو العصافير أو فصائل اليمام، لان الجوارح قد يصرفها النظر إلى فرائسها عن تحقيق التجربة بما يفيد الحرية في اختيار جو الطيران، وخطر لي قول الطائي:
يسقط الطيرُ حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء
ولكن الطير يسقط حيث يلتقط الحب ولا يقصر طيرانه على مواضع التقاطه، فإذا كان حمام البيت قد تعود أن يلتقط غذاءه في المماشي التي حول الكعبة فليس ثمة ما يمنعه إذا صعد في الجو أن يتجاوز تلك المماشي إلى ما جاورها، وهو قريب من قريب.
وأوصيت بعض رفاقنا أن يرقبوا هذه الظاهرة في زياراتهم المتعددة، وهم يزورون البيت متفرقين حسب النوبة التي يفرغون فيها من العمل في اليخت أو في الطوافتين. فلما عادوا جميعاً كُفيت مؤنة التجربة أو التجارب الكثيرة التي كان لا بد لنا منها قبل التيقن من تلك(659/1)
الظاهرة وتعليلها بما يكشفها على جليتها، لأن ثلاثة منهم اتفقوا على أنهم شاهدوا الحمام يطير أحياناً فوق الكعبة وإن لم يكن ذلك مطرداً في جميع الأوقات، وممن شاهدوا ذلك إمام اليخت الملكي المحروسة وهو شاب مهذب أديب حسن المعرفة بالدين حسن التفسير لأحكامه وفروضه، فأنه قال إن الحمام يطير فوق الكعبة ولكنهم يلحظون فيما يطير منه عليها شيئاً من الضعف والانكسار، كأنه مريض يلتمس الشفاء ببركة العبور على ذلك المقام، وهذا وحده يبطل ما ذهبوا إليه من تلك الملاحظة. . . لان طالب البركة لا يلتمسها بما يخالف حرمة المكان فيما جرى عليه عرفه أو عرف بداهته الفطرية، فإن كان طير البيت يتجنب الطيران فوق الكعبة تقديساً لها كما يتخيلون فليس من شأنه أن يلتمس البركة بما يخالف التقديس.
وقد أصبحت الظاهرة معقولة بعد ما سمعته من تلك المشاهدات بغير خارقة أو التجاء إلى أغراب.
حتى ندرة الطيران فوق الكعبة لا تستعصي على التفسير الموافق للعادات والمشاهدات، فإن الحمام الأليف يجتمع إلى أسرابه في ملاقط الحب، ولكنه لا يطير أسراباً أسراباً كالفصائل البرية من نوعه حين تهاجر من مكان إلى مكان. فإذا جاوز الحمام الأليف مساقط أسرابه فإنما يطير زوجين زوجين أو فرداً فرداً في التماس أليفه الذي يغيب عن نظره وسط الأسراب، وهذه العادة خليقة بأن تفسر لنا ندرة الطيران على بعد من المماشي التي يتجمع فيها الحمام كما تفسر لنا بطئ حركة الطائر الذي يخرج على الطريق في بحثه واستطلاعه، لأنه لا ينوي الطيران إلى بعيد حيث يعبر فضاء الكعبة لينظر حواليها إلى أليفه المفقود.
على أن جمال المعنى الذي يتمثل في حمام الحرم لا ينقص ذرة بطيرانه هنا أو طيرانه هناك، لان معناه الجميل هو الأمن في حماية الإيمان لا في حماية الحراس أو حماية الأبراج والسدود. فهذا أضعف الطير يراه الجائع والطامع ولا يمسه بسوء، وهو يطمئن إلى هذا الأمن بطبعه وإن لم يفهمه بعقل فيه يفهم أمثال هذه الأمور، فلا يجفل من الإنسان ولا تراه يطير منه إلا طيران الدلال واللعب لا طيران الفزع والاضطراب.
ولم يزل للحمام نصيب من القداسة أو الطهارة منذ آمن الناس بالدين على سنة الوثنية أو(659/2)
سنة التوحيد، وكان هذا النصيب ينفعه حيناً ويجني عليه في أحايين، فكان قربان الحمام مفضلا في شريعة موسى على القرابين من سائر الطيور، وكان الإغريق يتقربون إلى الزهرة ربة الحب عندهم بالحمام الأبيض أو باليمام وما إليه، ولا يزال السحرة في أيامنا يخدعون السذج بالحمامة البيضاء أو الحمامة السوداء، ويتوسلون بالأولى في استعطاف الملائكة والأرواح الكريمة، وبالأخرى في استعطاف الشياطين والأرواح الخبيثة، بل لا يزال أناس من المعاصرين يعتقدون في الحمام اعتقاد الأقدمين الذين زعموا أنه أقدر الطير على استجابة داعي العشق والغرام، وأنه من ثم طعام صالح للأزواج وهدية صالحة في الأعراس.
والشعراء يضربون به المثل في الوفاء والغناء، وبعضهم يسمي هديله بالبكاء لفرط الحنين إلى الألفاء والأحباء، ويجاري الشعراء في هذا الرأي بعض من كتب عنه من الطبيعيين والمشغولين بتسجيل عادات الطيور.
أما الصواب فهو ما قاله المعري حيث قال:
أبكت تلكم الحمامة أم غنت ... على فرع غصنها المياد
وهو أيضاً ما قاله حيث قال:
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حُسبت ... في الصالحات كظلم الصقر والبازي
ويؤيد المعري في هذه الملاحظة هواة الحمام من العرب، وأشهرهم مثّنى بن زهير حيث يقول فيما رواه عنه الجاحظ في كتاب الحيوان: (. . . لم أر شيئاً قط في رجل وامرأة إلا وقد رأيت مثله في الذكر والأنثى من الحمام: رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها كالمرأة لا تريد إلا زوجها وسيدها، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكورة كالمرأة لا تمنع يد لامس، ورأيت الحمامة لا تزيف إلا بعد طرد شديد وكثرة طلب، ورأيتها تزيف لأول ذكر يريدها ساعة يقصد إليها. . . ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن ذكراً آخر لا تعدوه. . . ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيت الحمامة تقمط الحمام الذكور ورأيت الحمامة تقمط الحمامة. . .).
إلى آخر ما قال وهو صواب:
ولا ندري هل ذم الحمام أو أثنى عليه حين قال إنه يشبه الناس في أطواره ذكوره وإناثه.(659/3)
فقد يكون ذلك غاية الذم في عرف قوم وغاية الثناء في عرف آخرين!
ولسنا نختم هذا المقال قبل أن نستوفي سيرة الحمام كما عرضت خلال الزيارة الحجازية إما بمكة أو خلال الطريق.
فقد كان الحمام ذات عشاء بعض صحاف المائدة على اليخت (المحروسة) أثناء عودته الأولى من جدة إلى السويس، فعلمنا أن جلالة الملك عبد العزيز لا يأكل منه ولا من السمك على اختلافه إلا في النادر القليل.
وأراد صاحب السعادة مراد محسن باشا أن يوفق بين رغبة الملك عنه ورأي بعض الفقهاء في تحريمه، فقال: أن أناساً من المتشددين يحرمون أكل الحمام الذي يربى في بروج الحقول والغيطان فصمت جلالة الملك وتردد ثم سأله: ولم يحرمونه؟
قال مراد باشا: لأنهم يتركونه يأكل من مال غيرهم ولا يطعمونه من عندهم، فحرمه أولئك الفقهاء كما يحرمون مال (الغير) المأخوذ بغير علم من أصحابه.
وكنا نحسب أن هذا التشدد مما يرتاح إليه فقهاء نجد لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب منسوب إلى التشدد فيما يترخص فيه عامة الفقهاء.
ولكن جلالة الملك ظل على تردده والتفت إلى أخيه صاحب السمو عبد الله بن عبد الرحمن كمن يستفسر رأيه في هذا التحريم.
فقال سمو الأمير: لا حرج في أكله وما أرى وجهاً لتحريمه ولا قولا يعتد به في ذلك، وإنما حكمه حكم العصافير التي تأوي إلى أشجار الناس وتأكل من حيث أصابت الطعام.
فعرفنا شيئاً جديداً من مذاهب أهل نجد في التحريم والتحليل، فهم لا يأخذون بكل تشديد ولا يعزفون عن كل ترخيص، وأن كانت لهم أقوال يخالفون بها جمهرة المتشددين والمرخصين.
وأطراف من هذا أن رئيساً من رؤساء الحكومة السعودية سأل الباشا: أهم يحرمون من الحمام الـ أو الـ لان الأول يأوي إلى البيوت والثاني قلما يأوي إليها وأن عرفت الأمم القديمة استئناسه في بعض البلدان.
فكان هذا السؤال مما لم يخطر على البال، قبل الاستدلال على الحرام والحلال.
عباس محمود العقاد(659/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 27 -
ج1 ص268: ومن شعر نفطويه:
الجد أنفع من عقل وتأديب ... أن الزمان ليأتي بالأعاجيب
كم من أديب يزال الدهر يقصده ... بالنائبات ذوات الكره والحوب
وامرئ غير ذي دين ولا أدب ... معمر بين تأهيل وترحيب
ما الرزق من حيلة يحتالها فطن ... لكنه من عطاء غير محسوب
وجاء في الشرح: (كم من أديب يزال الخ) لا يزال حذفت لا كما في كلام العرب أو هي يظل حرفت يزال والأول أوفق لوروده كثيراً. (وامرئ غير ذي دين الخ). لا يستقم الوزن إلا إذا جعلت همزة امرئ همزة قطع.
قلت: (كم من أديب يظل الدهر يقصده) يظل هي الرواية (وجاهل غير ذي دين ولا أدب) و (لا) لا تحذف قياساً إلا بعد قسم، وقد شذ الحذف - كما قال ابن عقيل - دون القسم كقول الشاعر:
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقاً مجيداً
أي صاحب نطاق (منطقة) وجواد.
وحذف هذا النافي بعد القسم كثير بل أكثر من الكثير، وقد بينت المصنفات في علم العربية (أعني النحو) وفي أسرار العربية، وفي فقه اللغة وسنن العرب في كلامهم، وفي فنون البيان والأدب، وفي التفاسير - هذه القاعدة خير تبيين، بيد أن المتسمين بـ (المبشرين) المتجسمين من الضلالة والجهالة والوقاحة والسفالة أبوا إلا تخطئة علوم العربية كلها وأقوال العرب جميعاً فأدبروا يقولون - أبادهم الله - في كتابهم (مقالة في الإسلام وذيلها) ص459: (ومنه (أي خطأ القرآن في العربية) قوله في سورة يوسف: تالله تفتأ تذكر يوسف، والوجه لا تفتأ لأن فتئ وما جرى مجراها لا تستعمل إلا منفية).
والوقح صخر الوجه لا يستحي من شيء.(659/6)
لا يعمل المبرد في وجهه ... بل وجهه يعمل في المبرد
والقول القرآني يعضد في بلاغة الحذف وصحته قول معقل ابن خويلد (ديوان شعراء هذيل ج1 ص101 الطبعة الأوربية):
إذا أقسموا أقسمت أنفك منهم ... ولا منهما حتى أفك السلاسلا
وقول ساعدة بن جؤية (شعراء هذيل ج2 ص15 الطبعة الأوربية):
تالله يبقى على الأيام ذو حيَد ... أدفى صلود من الأوعال ذو خدم
وقول الملتمس في قصيدته وهي من (المنتقيات) في (جمهرة أشعار العرب):
آلية حَبَّ العراق الدهرَ أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
وقول امرئ القيس في قصيدة مشهورة رويت في ديوانه وفي كتب كثيرة:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وقول النابغة في قصيدة في ديوانه وفي كتب كثيرة:
فقال: تعالى نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره
فقالت: يمين الله أفعل أنني ... رأيتك مشؤوماً يمينك فاجره
وقول ليلى الأخيلية في قصيدة في رثاء توبة (الأغاني 11ص 320):
فتالله تبني بيتها أم عاصم ... على مثله أخرى الليالي الغوابر
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا ... وأحفل من نالت صروف المقادر
وقول امرأة سالم بن قحفان رواه المفصل وشرحه (ج7 ص109):
حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي ... تكفل بالأرزاق في السهل والجبل
تزال جبال مبرمات أعدها ... لها ما مشى يوماً على خفه جمل
وقول الأعشى (روى في تهذيب إصلاح المنطق ص224، والإصلاح لابن السكيت، والتهذيب للتبريزي):
وإني ورب الساجدين عشية ... وما صك ناقوس النصارى أبيلها
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
وقول أبي حنبل الطائي (رواه الميداني في مجمع الأمثال في شرح: أوفى من أبي حنبل ج2 ص223):(659/7)
لقد آلية أغدر في جذاع ... وإن مُنيتِ أمات الرباع
إن القرآن الكريم ليعضد هذه الأقوال المتقدمة وأقوالا غيرها لا تحصى روى طائفة منها سيبويه (ج1 ص454) والفائق (ج1 ص48) وأمالي الشجري (ج1 ص332) والمثل السائر (الطبعة الجديدة ج2 ص111) والطبري في تفسيره (ج13 ص25).
وكتاب (المضللين) المعزو إلى الشيخ اليازجي قد شرحت حاله في مقالاتي في الرسالة الغراء، وبرأت الشيخ اليازجي بالحجة الشهباء من ذلك الهذر والسفه والجهل والهراء، وأثبت أن المضللين مزورون ومفترون، وأظهرت من أغلاط كتابهم في العربية نحواً من مائة غلطة. . .
ج2 ص18: أبو إسحاق المتوكلي (إبراهيم بن ممشاذ) كتب للمتوكل، ثم صار من ندمائه فسمى المتوكلى، ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل والفتح بن خاقان يتداولها كتب العراق إلى الآن، وتسخط صحبة أولاد المتوكل فتركهم ولحق بيعقوب بن الليث. كتب من عند يعقوب إلى المعتمد:
أنا ابن الأكارم من نسل جم ... وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزهم ... وعفَّى عليه طوال القدم
وطالب أوتارهم جهرة ... فمن نام عن حقهم لم أنم
يهم الأنام بلذاتهم ... ونفسي تهم بسوق الهمم
إلى كل أمر رفيع العماد (م) ... طويل النجاد منيف العلم
وأني لآمل من ذي العلا ... بلوغ مرادي بخير النسيم
معي علَم الكائنات الذي ... به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين (م) ... هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكنا كم عنوة بالرما ... ح طعناً وضرباً بسيف خذم
وأولاكم الملك آباؤنا ... فما أن وفيتم بشكر النعيم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز (م) ... لأكل الضباب ورعى الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك (م) ... بحد الحسام وحرف القلم
قلت: رواية الراغب في (محاضراته): (أنا ابن الأكارم من آل جم).(659/8)
(وعفى عليه طَوال القدم) في الصحاح: الطوال بالفتح من قولك لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنى. وفي القاموس: الطوال كسحاب: مدى الدهر، وضبط في المخصص ج7 ص73 وفي اللسان بالفتح. وجاء في التاج: (وذكره ابن مالك في المثلثات) ولا ادري من أين جاء ابن مالك بهذا التثليث.
(لنا علم الكابيان) كما روى الراغب، وأغلب الظن أنه مثل الدرفس في بيت البحتري:
والمنايا مواثل وأنو شروان (م) =يزجى الصفوف تحت الدرفس
(وأكل الضباب ورعى الغنم) رواية الراغب.
(بحد الحسام ورأس القلم) رواية الراغب.
والميمات في الأبيات الأربعة يحذفن، فليست الكلمات فيها في الصدر بمتصلات بالأعجاز، والشعر هو من بحر المتقارب، والقبض في هذا البحر كثير، وقال بعضهم: القبض في عروض هذا البحر أحسن من التمام، وعزوا إلى امرئ القيس هذا البيت الذي لم يقله:
أفاد فجاد، وساد فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل
وفي هذا البحر تجتمع العروض الصحيحة والمحذوفة والمقبوضة.
يقول الإمام ابن قتيبة في (كتاب العرب أو الرد على الشعوبية): لم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكره القرى، فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم فيعرفون مالهم وما عليهم. . . وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لان منهم قوماً تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف، وقوماً اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم، فمنهم من الحق نفسه بأشراف العجم، واعتزي إلى ملوكهم وأساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه. ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب؛ يتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تسلح عليها.(659/9)
واحة كفرة
كيف احتلها الطليان وفتكوا بأهلها سنة 1930
(كيف وأن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)
(سورة التوبة)
للأستاذ أحمد رمزي
إني من القوم الذين يؤمنون بأن مصر بلادنا هي قلب العروبة. هذا ما ناديت به، وكنت أول من أذاعه من راديو الشرق أيام الانتداب الفرنسي، وأعتقد أن موقع مصر بين بلاد العرب في الجزيرة وبلاد العرب في شمال أفريقية وجنوبي وادي النيل، يجعل لها هذه الميزة، ويحتم عليها أن تحمل الأمانة التي عجز عنها غيرها، وأعتقد أن تاريخ مصر في عهدها العربي قد ألقى هذه الرسالة على المصريين، ولذلك اتجهت أنظارهم وآمالهم نحو هذه البلاد الشقيقة المحيطة بهم، وكلما مرت الأيام ازدادت النفوس اطمئنانا لمصر، وتقاربت القلوب وتماسكت واتجهت نحو حياة جديدة. ونحن الذين نشأنا على هذه العقيدة قد أشربت نفوسنا محبة هذه البقاع وتاريخها.
ومن بين دروس الماضي المملوءة بالذكريات، لا أجد درساً أشد وقعاً على نفسي، وإيلاما لها من درس احتلال الكفرة وما حل بها، يوم خرج أهلوها من أوطانهم وهم يعدون بالمئات خشية بطش الطليان وفتكهم، فأخذتهم الصحراء وماتوا في سبيل الله.
وواحة كفرة معقل من معاقل الإسلام والعروبة، في هذه الصحراء الكبرى الممتدة من وادي النيل إلى مياه المحيط، ذلك الجزء من العالم، الذي كان بوتقة تختمر فيها الدعوات والحركات الشعبية؛ التي إذا قامت اكتسحت في وجهها كل شيء، فلا تصمد أمامها الحصون ولا الأسوار، ولا تردها الممالك ولا الجيوش، ولا تقف البحار بينها وبين الفتوح، ففيها قامت دعوة أبي عبد الله الشيعي، مؤسس قواعد الملك للخلافة الفاطمية، فكان من أمرهم ما كان، ملك يطاول ملك الشمس، لا تزال آثارهم باقية ظاهرة واضحة في هذه القاهرة المعزية، التي احتضنت العروبة والإسلام لألف عام، والتي أصبحت اليوم موطن العروبة ومقر الجامعة العربية(659/10)
وفي هذه البطائح موطن الأسود، ظهرت دعوة المرابطين، فانتشرت وامتدت. ومن منا يجهل يوسف بن تاشفين وجهاده وحروبه بالأندلس؟ والله لو تأخر مقدمه، لاكتسح الفرنجة أرضها قبل يوم الميعاد بأربعة قرون. فبالله ما رأيك في سيف يؤخر حكم القدر أربعمائة عام؟
وعلى هذه الرمال ظهرت قوة الموحدين، وهم أناس شيدوا ملكاً وقادوا الجحافل ولهم أيام ومعارك وفتوح.
وإذا نزلت جنوباً عن الكفرة، ذكرت حركة المهدي، وهي دعوة إصلاح وإخلاص تحركت بها النفوس وآمنت، وسارت في طريقها، ولم يضعف من شأنها غير وفاة صاحبها قبل أن تثبت جذورها.
وأخيراً دعوة السنوسية وانتشارها، وافتتاح الزوايا والأربطة والعمل في سبيل الله، والدفاع عن أراضي برقة وليبيا.
إن أرض العروبة في أفريقيا، سواء في شمالها أو صحاريها أو جنوبي مصر، موطن للحركات القوية، التي تنبثق من أيمان أهليها، فتخرج إلى الدنيا، لتهز الدنيا، وتؤسس الملك وتقود الشعوب وتحرك الهمم. هذا شأن هذه البقاع منذ عرفتها العروبة وعرفها الإسلام.
فأهل مراكش في جهاد دائم منذ الأعصر الأولى، يرابطون في منازلهم ويقاتلون في سبيل الله، وما من ملحمة في تاريخ العرب بالأندلس إلا وسمعت أن لأهل المغرب لهم فيها المواقف الباسلة والأيادي التي لا تنسى.
وقس على ذلك سائر سكان هذه البلاد، كان هذا شأنهم حتى دهم الاستعمار بلادهم، فهل هبطت عزائمهم؟
إن تاريخ المغرب في قرن من الزمن، هو صفحة مجد لم تكتب ليومنا هذا، ولكنها ستكتب يوماً وسيعلم الناس من أمرهم الشيء الكثير. . .
وأعود إلى الكفرة، بقيت هذه البقعة آخر معقل للإسلام والعروبة، حتى دهمها الطليان في يوم من آخر أيام سنة 1930 فافتتحوها واقتصوا من أهلها وشردوهم، وفي طريقهم إلى واحات مصر، حلت بهم أكبر نكبة في القرن العشرين.
والآن وقد طوى حكم الطليان عنها هل عادت لأهلها؟ كلا لا تزال تحتلها جنود فرنسا، بل(659/11)
هناك أكثر من ذلك، فقد قرأنا أنها تطالب باقتطاع إقليم فزان وأجزاء من جنوبي طرابلس وبرقة لضمه إلى مستعمراتها. فهل سمعتم بذلك؟ وما هو موقف جامعة الأمم العربية وشعوبها؟
لم يقصر أهل الكفرة عن الدفاع عنها بأموالهم وأرواحهم بل استشهد الكثير منهم في سبيلها. . . وإليكم صفحة من آخر أيام عاشتها الكفرة وكيف استولى الطليان عليها. . .
يحدثنا الطليان في كتبهم ومراجعهم بأن جراتزياني قائدهم يعرف تماماً أن البادية بأخطارها وفيافيها كانت دائماً معقلا للمجاهدين، فكانت حكومات المستعمرين تهاب الرمال، ولذا اتخذت فرنسا وهي العتيقة في أساليبها وتقاليدها الاستعمارية واتصالها بالشعوب المظلومة، سياسة خاصة بالصحراء الكبرى، إذ أخذت تتقرب لزعماء الطوارق وتتخذ منهم أنصاراً لها.
ولكن إيطاليا الفاشستية أرادت أن تضرب للناس مثلا، وأن تقوم بأكبر العمليات الحربية في صحراء ليبيا، وأن تحرز لأسلحتها نصراً عجز الغير عن إحرازه، فتراه يتحدث مفتخراً بأن فرنسا لم تبدأ حملاتها ضد الصحراء قبل سنة 1900، حينما احتلت واحة عين صلاح، على حافة الصحراء الكبرى في الجنوب من أراضي الجزائر، أي بعد مضي سبعين عاماً من دخولهم القطر الجزائري الشهيد، واستخلص من تجارب الفرنسيين، أنهم اقتنعوا باستحالة إتمام الفتح، إذا بقوا معتمدين على كواكب الخيالة من السباهيين الوطنيين، ولذا فكروا منذ سنة 1900 في إنشاء قوة من الرجال سموها: قوات البادية وألقي عليها عبء القتال والفتح - والفضل في إنشائها وتدريبها وتكوينها يعود إلى ضابط فرنسي اسمه الماجور لابيرين.
أما الطليان فقد أخذوا بكل تجارب ودروس من تقدمهم في فن الاستعمار، ولذلك اتجهوا إلى إنشاء قوة ممتازة من الرجال، في مستعمرة طرابلس، أطلقوا عليها أيضاً اسم قوة البادية، وهي التي أشرف على تدريبها وقيادتها المرحوم الدوقا داوستا الذي أسر في الحرب الحبشية ومات باستراليا. وهذه القوة الجديدة باشرت عمليات الفتح في مستعمرتي ليبيا وبرقة، وبعد أن كانت مشكلة من فصيلة واحدة من الهجانة في سنة 1922، إذا بها مكونة من عدة وحدات وإذا بجنودها يتدربون على استعمال الأسلحة الخفيفة السريعة الطلقات.(659/12)
وعلى هذه الوحدات مدعمة بسيارات النقل والطيران ألقى واجب افتتاح واحة الكفرة، والقضاء على آخر معقل من معاقل الإسلام والعروبة في الصحراء.
وكان الزحف على الكفرة من إجدابية إلى جالو، وهي تبعد (240 كيلو متراً) ومنها إلى بئر ذيجن (400 كيلو متر) ومنه إلى الكفرة (140 كيلو متراً) وتحركت الحملة في 20 ديسمبر سنة 1930 من إجدابية متجهة إلى الجنوب فقطعتها السيارات في أربعة أيام للوصول إلى جالو، وكان جراتزياني قد زار إجدابية في 25 نوفمبر سنة 1930 متفقداً المعسكرات، فوجد أن الحملة تجهز في أقرب وقت، وقد ذكر في تقاريره، أنه وازن الأمور والمصاعب وقدر لكل شيء ما يلزمه، وذكر أن الحملة بأكملها دربت تدريباً شاقاً بحيث يكون بوسعها أن تنزل أثقالها في 20 دقيقة وترفعها للسير بها بعد مضي نصف ساعة من صدور الأمر إليها بالسفر.
وذكر أنه في ليلة 28 و29 ديسمبر سنة 1930 هبت عليها ريح صرصر عاتية محملة بالرمال فأخفت كل شيء أمامها، حتى فكر الجنرال الإيطالي في إصدار أمره بالعودة، حينما امتنعت الجمال والدواب عن العليق والماء، وأعقب ذلك زمهرير قارص. ولكن جاء يوم 30 ديسمبر هادئاً صحواً، فأنتهز الفرصة وأصدر أمره الحاسم بالسير إلى الجنوب حتى لا تفلت الفريسة من يده.
وكان المرابطون بتلك الجهات حفنة من الرجال، هم بقايا الأمم والممالك التي سادت الصحراء، ليس أمامهم إلا المقاومة في بئر زيجن، أو على الطريق، أو الوقوف للدفاع عن الكفرة، وكانوا يعتقدون أن الطليان سيأتون من الغرب عن طريق فزان، أما جراتزياني فاستعان بسرب من الطائرات للاستكشاف، ثم أصدر أمره إلى فصيلتين من قوات البادية أن تتقدم كل واحدة منهما في طريق يفصلها عن الأخرى ثمانون كيلو متراً، فالتقت إحداهما بالمجاهدين واشتبكوا معها في قتال دام ثلاث ساعات، واقتحم الطليان الواحة على أجساد الشهداء.
ويهلل القائد بأن قواته دخلت في الموعد الذي سبق له أن حدده على خريطته. . .
وانتهت بذلك آخر مأساة في تأريخ الاستعمار الإيطالي بالصحراء
أحمد رمزي(659/13)
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(659/14)
بعد إباحة الهجرة الصهيونية
اللغة الوحيد التي يفهمها الإنجليز
للأستاذ سيد قطب
كتبت في (الرسالة) بتاريخ 26 نوفمبر الماضي كلمة تحت عنوان: (أيها العرب. استيقظوا واحذروا). واليوم وبعد أن قررت الحكومة الإنجليزية إباحة الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، على رغم أنف العرب، وأنف الكتاب الأبيض الإنجليزي أيضاً. اليوم يهمني أن أعيد نشر الفقرات الأولى من هذا المقال، قبل التعليق على هذا القرار الأخير:
(إن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تقدم!
(ويسوءني أن أكون نذير سوء؛ ولكن لأن نواجه الحقائق الواقعة، خير من أن نستنيم للأحلام. . .
(حينما صدر الكتاب الأبيض الإنجليزي، أعلن كل عربي مخلص أنه لا يرضى عن هذا الكتاب، وأنه صدمة لآمال العرب بما تضمنه من استمرار الهجرة الصهيونية فترة أخرى - وأن تكن موقوتة - تصبح الهجرة بعدها مرهونة بمشيئة العرب، أن شاءوا أمضوها، وأن شاءوا لم يسمحوا من بعد بها.
(واليوم يتمسك العرب بسياسة الكتاب الأبيض، ويدعون إنجلترا للمحافظة عليها.
(إذن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!
(تتأخر، فيصبح الكتاب الأبيض الذي كان بالأمس موضع شكوى العرب، هو موضع رجائهم، وينقلب الحد الأدنى - أو ما هو دونه - حداً أعلى لآمال العرب، أو الناطقين باسمهم في هذه الأيام!
(ألا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!
(فلننظر فيم كان هذا الانقلاب؟
(صدر الكتاب الأبيض بالأمس ترضية للعرب الثائرين الساخطين. فرفضوه واستصغروه. فلما سرى البرد إلى دمائهم الفائرة، ودب الخدر إلى أعصابهم الثائرة، رضوا عن الكتاب الأبيض، ووقفوا ينتظرون. . .
(وألغى الكتاب الأبيض اليوم ترضية للصهيونيين الثائرين المعتدين، وهم يرفضون إلغاءه،(659/15)
ويستصغرون اقتراحات (بيفن) الأخيرة، لأن العرب لا يزالون في خدر لذيذ يستنيمون إليه. . . ذلك أنهم يثقون بالضمير البريطاني!!!
(ومن هنا نستطيع أن نعرف: متى يسترضينا الإنجليز، ومتى يسترضون الصهيونيين؟!). ثم قلت في نهاية ذلك المقال:
(والآن. . . ما هو طريقنا المأمون؟
(طريقنا ألا نثق بضمير أحد، فما لأحد في العالم الغربي ضمير! لقد برهنت هذه الحضارة الغربية على إفلاس في الضمير لا عهد للعالم به في جميع الحضارات السابقة
(وقبل أن نثق بالضمير الأوربي أو الأمريكي، يجب أن نتذكر لفرنسا حوادث سوريا ولبنان - وهي قريبة لم تغب عن العيان - ويجب أن نذكر لإنجلترا يوم 4 فبراير الشنيع، ثم موقفها في إندونيسيا - وهو حاضر الآن - ويجب نذكر لأمريكا نداء (ترومان) ونصرته للصهيونيين!
(وطريقنا ألا نستنيم لمخدرات التأجيل، إلا إذا وقفت الهجرة وقفاً تاماً حتى يتم التحقيق. فلقد رأينا أن الزمن ليس في صالحنا. وإذا شاء أحد أن يستنيم، فليتذكر متى صدر الكتاب الأبيض بوقف الهجرة الصهيونية في موعد محدد، ولماذا صدر هذا الكتاب؟ ثم ليتذكر متى ألغى الكتاب الأبيض وأبيحت الهجرة من جديد، ولماذا كان هذا الانقلاب؟
(صدر الكتاب الأبيض ترضية للعرب الساخطين الثائرين، وصدر تصريح (بيفن) الأخير ترضية لليهود المعتدين الإرهابيين)
قلت ذلك من نحو ثلاثة أشهر، فقال لي قوم ممن يسمونهم (العقلاء!): لا تنس أن إباحة الهجرة الصهيونية مرهونة بمشيئة العرب، وأن مستر (بيفن) قدم قراره الأخير في صورة (اقتراح)، فإذا رفض العرب، فلن تكون هجرة للصهيونيين!
ثم هاهو ذا مستر (بيفن) يقرر تنفيذ اقتراحه، بعد أن رفضه العرب وأبلغوه قرار الرفض مجتمعين!
ذلك أن قرار الرفض من جانب العرب لم يبلغ للمستر (بيفن) باللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز! فهم معذورون حين لا يفهمون!
ومصيبتنا الكبرى - سواء في قضية فلسطين أو في قضايا البلاد العربية جميعاً - أننا لا(659/16)
نخاطب الإنجليز باللغة الوحيدة التي يفهمونها كل حين!
ويبلغ بنا البله والغفلة أن نخاطبهم باللغة الدبلوماسية - وهم لا يفهمون هذه اللغة مع الأسف من الشعوب الصغيرة، بل هم لا يفهمونها من الشعوب الكبيرة في بعض الأحايين!
والضمير السياسي البريطاني؟ تلك الخرافة التي يتعلق بها ساستنا حينما تضعف نفوسهم عن اختيار الطريق الوحيد المؤدي إلى حقوقنا الوطنية، وتعجز ألسنتهم عن اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز.
هذه الخرافة التي لم ننكب مرة واحدة إلا عن طريق التعلق بها، ولم ننجح مرة واحدة إلا عن طريق اليأس منها. . ومع كل التجارب الماضية يوجد بيننا من لا يزال يثق في هذا الضمير
هاهي ذي الهجرة الصهيونية تباح أيها الواثقون بالضمير السياسي البريطاني. فماذا أنتم قائلون؟ بل ماذا أنتم فاعلون؟
مذكرات ديبلوماسية! وبيانات ديبلوماسية! وانتظار للردود على هذه البيانات والمذكرات، تأتيكم أو لا تأتيكم بعد حين!
والهجرة تستمر، والصهيونيون يدخلون!
أيتها الأمة العربية:
أفيك رصيد مذخور، أم أنت من الهالكين؟ فأما أن تكن الأولى أيتها الأمة فخاطبي القوم باللغة الوحيدة التي يفهمون، وأما أن تكن الثانية، فإن الإنجليز معذورون، والصهيونيين محقون!
أيتها الأمة العربية: لا تعتمدي على رجال السياسة، فقد تكون لهم قيود وحدود. ولكن اعتمدي على نفسك، وادفعي إلى الأمام ليتخطوا هذه السدود والقيود!
أيتها الأمة العربية:
(احذري رجال السياسة من أبنائك، لا لأنهم قد يخونونك أو يخدعونك؛ ولكن لأنهم هم قد يخانون ويخدعون. ولأن كراسي الحكم والمناصب، قد تكون في بعض الأحيان وثيرة إلى حد تستنيم له الأعصاب الثائرة، وتخمد فيه الدماء الفائرة!
أيتها الأمة العربية:(659/17)
خذي الأمر في يديك من جديد. فأني أرى الموقف يستدعي جهود الشعوب نفسها، لا جهود زعماء الشعوب!
وما يخدعك أيتها الأمة - في كل قضاياك الوطنية لا في قضية فلسطين وحدها - إلا مخدوع، يقصيك عن الأمر ويستنيم للوعود!)
تلك صيحتي لك بالأمس، وأنها لصيحتي لك اليوم. فخاطبي القوم باللغة الوحيدة التي يفهمونها، وإلا فسيذهب صوتك الديبلوماسي الناعم صرخة في واد. والأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين!
سيد قطب(659/18)
بمناسبة (المولد):
حقائق مؤلمة
للأستاذ علي الطنطاوي
(الكتاب أطباء الأمة. فإذا جامل الطبيب مريضه فكتم عنه
داءه، لم يبرأ منه أبداً).
علي
هذا يوم (المولد)، وأنه لمحطة في طريق الزمان، فلنقف عليه كما يقف المسافر في المحطة، ليلقي ببصره حوله، فينظر إلى أين يسير، وكم قطع من طريقه إلى غايته، وهل يمشي إليها على الصراط السوي، أم قد ضل عنها وجانفها، وهل يساير القافلة أم شرد عنها وفارقها؟ ولنحاسب فيه أنفسنا كما يحاسب التاجر نفسه، فيرى ماله وما عليه. . .
أما أنا، فقد وقفت ونظرت، فأبت وقد فاضت النفس حسرة، وامتلأت ألماً، وأيقنت أن الذي علينا، أكثر من الذي لنا، وأننا قد (خسرنا)!
ولم يكن التشاؤم من شأني، ولا اليأس مذهبي، ولكن ما نحن فيه يؤْيس الأمل، ويكرب المتفائل، وأين لعمري باب الأمل حتى ألجه، وأية حال من أحوالنا تبشر بالخير، وتدعو إلى السرور: أحالنا في بيوتنا، أم في مدارسنا، أم في أسواقنا، أم في دواوين حكومتنا؟ وأي طبقة من طبقاتنا تتبع هدى نبينا: أعلماؤنا أم قادتنا، أم أدباؤنا، أم عامتنا؟ وأي بلد من بلداننا، كان البلد الإسلامي الخالص: أحجازنا، أم شامنا، أم مصرنا، أم عراقنا؟
أما البيوت، وهي الحجارة في صرح الوطن، لا يصلح أن فسدت، ولا ينهض أن تهافتت، فلقد كان العهد بها مؤسسة على التقوى، قائمة على الخلق النبيل، والود المبذول، وكان الرجل فيها سيداً يطيعه أهلها ويطيع هو ربه، وكان لعمله وبيته، لا يعرف غيرهما، ولا يهمه سواهما، وكان الولد براً بأبيه، والزوجة موافقة لزوجها، همها دارها، ومطمحها إسعاد زوجها وولدها، فتغيرت الحال، فصارت المرأة قوامة على رجلها، والولد متكبراً على أبيه، والرجل داره قهوته أو ملهاه أو ناديه، والمرأة بيتها الشارع ودينها زينتها، تتخذها لتتجمل بها للرجال الأجانب في الترام والطريق، لا لزوجها في المنزل، وآثرت على دارها(659/19)
زيارتها وسينماها، وربما خالف الزوج إلى غير أهله، وخالت هي غير زوجها، ونشأ الولد على المجون، وشبت البنت على الاستهتار، هذا وميزان النفقات في البيت مختل، وحبل الود مصروم، والتعاون على الخير مفقود، وظل الدين غير ممدود، وما بقى من البيوت صالحاً، فإن الفساد يسعى إليه، وهو يسعى إلى الفساد!
أما المدارس، فقد كنا نعرفها مشارق أنوار العلم، ومنابع الهدى، ونعرف المعلمين فيها مربين مهذبين، ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، ونعرف التلاميذ وهم طلاب علم وقصّاد خلق، دنياهم مدرستهم، وعملهم درسهم، وأئمتهم معلموهم، فكانت المدارس تخرج علماء ومهذبين، أصحاب خلق متين ودين، تعتز بهم بلادهم، وتسمو أوطانهم، فصار همّ التلاميذ حزب سياسي ينتسبون إليه ويصرخون في مظاهراته، ويضعون أكتافهم سلماً لزعمائه، يرتقون عليه إلى ما يشتهون من كراسي الحكم، أو نحلة ينتحلونها، ويحملون في صدورهم شارتها، ويهرعون إلى ناديها، ثم لا يفهمون من حقها أو باطلها إلا هذه المظاهر التي طلبوها لها وحدها، ثم يشتغلون عن الدرس بالخلاف عليها والكلام فيها، من غير فقه لها، أو وقوف على مبادئها، أو فلم سينمائي يحرصون عليه أكثر من حرصهم على دروسهم وعبادتهم، أو رواية في مسرح، أو صورة مكشوفة في مجلة، وصار المعلمون - أعني أكثر المعلمين - أصحاب شهادات لا علوم، ودعاة مذاهب سياسية أو اجتماعية، لا دعاة إلى الله ولا إلى الخلق، وصاروا قدوة الطلاب في قصد السينمات والملاهي، لا قصد المساجد والمكتبات، وصار منهم الشيوعي الذي يعلن شيوعيته، والقومي الذي يظهر قوميته، والجاحد الذي لا يتوارى بجحوده، والماجن الذي لا يتستر بمجونه، أي والله العظيم، ووسدت الأمور إلى غير أهلها، فجعل غير العالمين معلمين، والمحتاجون إلى التربية مربين، وتكلم في المسائل من ليس من أربابها، وتصدر في محرابها من لم يلج بابها، وجيء بالشباب العزاب ليعلموا البنات، فكنا كمن يدني سلكتي الكهرباء، حتى تنقدح شرارتهما، ويضع إلى جانبهما البارود، ثم ينام الأحمق آمناً من الانفجار، ما بقى والله إلا أن نجيء بالبنات ليعلمن الشباب، وما دمنا نمشي على هذا الطريق، فما بقى شيء عجيب، وكل آت قريب!!
اللهم ألطف بنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تسلط علينا سفهاءنا، يا رب!(659/20)
أما الأسواق، فلقد كانت فيها التجارة فصار فيها الاحتكار، وكان فيها قوم منا، يجلبون لنا أرزاقنا، فصار فيها أعداء لنا، يسرقون فيخزنون أقواتنا، ليجمعوا القروش من جيوبنا فيجعلوها ذهباً في صناديقهم، ولقد انتهت الحرب، وحل السلام، ولا يزال هؤلاء الفجار الأشرار يرفعون الأسعار، ويكوون الفقراء بالنار، لا يعرفون الإنصاف ولا الرحمة ولا الإنسانية. . .
أما دواوين الحكومة، فقد نسي من فيها أنهم أجراء الناس، يأكلون الخبز من فضل أيديهم، ويجلسون مجالسهم هذه لخدمة مصالحهم، وحسبوا أنهم ملوك والناس لهم خول، وسادة وهم لهم عبيد. ثم لم يكف أكثرهم ما يأخذون من وقت من يرجع في حاجته إليهم، ومن كرامة نفسه حتى أخذوا الرشوة من جيبه، وربما. . . وربما مدوا أعينهم إلى عرضه. . . وهم بعد ذلك جيش مجيّش، نصفهم لا يحتاج اليه، ولا ينتفع به، قد جاءت به الوساطات والشفاعات، فرفعته من غير كفاية على أهل الكفايات، ومن اقتصر منهم على مرتبه ليعيش به، عاش من قلة المرتب حياة هي كالموت، ولم يكفه المرتب ثمن الخبز، فكأن الحكومة تقول لصغار الموظفين: اذهبوا فاسرقوا لتعيشوا، فإن ثمن خبزكم أعطيناه لكبار الموظفين، لينفقوه على الترف والسرف والقرف.
ثم أن العلماء، وهم عدة الإصلاح، ولسن الحق، ودعاة الله، هربوا واختبئوا في بيوتهم، فمنهم من لا يرى المنكر ولا يعرفه، ومنهم من يراه ولا ينكره، ومنهم من ينكره همساً، ومنهم من يعلن ولا يعرف الطريق الموصل إلى رفع المنكرات، ومنهم من ملأت قلبه الدنيا، فهو يسعى إليها، ويزاحم عليها، وربما اصطادها بشبكة من لحية عريضة، وقيدها بسبحة طويلة، وأخفاها تحت عمامة ضخمة، وذل من أجلها للحكام، وخضع للأغنياء، وفقد القلب الذي يقتحم الأهوال، واللسان الذي يصدع بالحق، فغدا يقول ولا يستمع لقوله، وينكر ولا يلتفت لإنكاره، وجلهم لا قلم له يخاطب به الناس، ويسوقهم به إلى الحق، ولا لسان، فكيف يكون داعياً من لا يكون خطيباً ولا كاتباً؟
والقادة ما صاروا قادة بعبقرية اختصهم بها الله، ولا بعلم اختصوا به أنفسهم، وأحيوا في تحصيله لياليهم، ولا بعقل هو فوق العقول، وذكاء لا يدانيه ذكاء، ولكنها هي حرفة احترفوها ومسلك سلكوه: زيد وعمرو، أما زيد فجد واستقام ودرس حتى أكمل المدرسة،(659/21)
فصار معلماً أو كاتباً، أو موظفاً. . . وأما عمرو، فأهمل درسه، وأضاع وقته، والتوى مع الطرق الملتوية، فالتحق بالأحزاب، وعاشر الأغراب، وولج حيث لا يحسن الولوج، وخرج من حيث يستقبح الخروج، ورفع ووضع، وخرب وأصلح، حتى عرفه الناس، فكان نائباً، ثم صار وزيراً، ثم تمت آثار قدرة الله القادر على كل شيء، فاستحال قائداً من القادة. . .!
والأدباء وأهل الصحف، همّ أكثرهم التزلف إلى القراء، والوصول إلى رضاهم، رأوا أقرب الطرق طريق الشهوة فسلكوه، وركبوا فيه الصعب والذلول: من الصور العارية، والقصص المثيرة، وطريق الأغراب في عرض الأخبار، وتكبير الصغير، وتعظيم الحقير، وتشويه أوجه الحقائق، فيقرأ الناشئ الشيء وضده، فلا يؤمن من بعد بشيء، وإن كان في الكتاب من يدعو إلى إصلاح، في لغة صحيحة، وأسلوب منقح، لم يقرأه إلا الخاصة، وإن كانت مجلة على هذه الصفة لم يبع منها مع كل ألف من تلك عدد واحد!
ولعلي بالغت، أو غلب علي التشاؤم، فلم أر إلا ما ذكرت ووصفت، ولكني صدقت ولم أقل إلا حقاً، ولعل الذي قلت أقل من الحق!
أن العالم اليوم واقف على مفرق الطرق، حائر بينها أيا يسلك منها، ونحن أشد أهل العالم حيرة وتردداً، فنحن في المكان الذي تلتقي فيه نحل الشرق والغرب ومذاهبهما كلها، فيأخذ كل واحد ما تصل إليه يده، ثم يصيح في الدعوة إليه، ثم يزاحم ليشق له طريقاً. . . فنحن في زحمة وضجة دونها ما يروون عن ضجة برج بابل، والله وحده يعلم عمّ تنجلي. . . ففي الدين سلفيون وصوفيون، ودعاة إلى التمسك بالمذاهب وترك الاجتهاد ونبذ التقليد، وإلى الأخذ بالحديث وترك كتب الفقه وإلى الاقتصار عليها، وفي البدع دعاة إلى القاديانية والبهائية والنصيرية والتيجانية ووحدة الوجود، وفي غير الدين شيوعيون وقوميون سوريون، وملحدون ومستهترون، ثم الدعاة إلى السفور والاختلاط، والمدافعون عن الحجاب، وفي السياسة كتلويون وعصبويون ومعارضون ومؤيدون، وعاملون للإنكليز أو للفرنسيين أو للروس، وقائلون بالجمهورية أو بالملكية، أو بالاستقلال أو بسورية الكبرى أو بالوحدة العربية، والمناقشات مستمرة لا تنقطع، والخلافات قائمة ما تقعد، قد انشقت البيوت، وانصدعت الأسر، وأني لأعرف أخوين: شيوعياً أحمر، وعضواً في شباب محمد،(659/22)
شقيقين في دار واحدة، وأبوهما شيخ طريقة. . . وأعرف شيوعياً وأبوه نقيب أشراف، فالإخوان في المنزل، والرفاق في المدرسة، والزملاء في الديوان، يختلفون أبداً ويتقاتلون. . .!
فعم تنجلي هذه الغمرة؟ الله وحده العالم!
هذا في دمشق، أما الحجاز ومصر والعراق، فإني أعرفها كلها وعشت فيها، ولكن ليكتب عنها كتاب من أهل مصر والعراق والحجاز، يفتح في (الرسالة) باب من أبرك الأبواب، وأكثرها فائدة ونفعاً، إذ أن أول الدواء تصوير الداء. . .!
دمشق
علي الطنطاوي(659/23)
الكذب والنسيان
كما يراهما (أبو العلاء المعري)
للأستاذ كامل كيلاني
1 - آفة الأخبار
المعري أديب محقق، وراوية ثبت، ومؤرخ نافذ البصيرة، وناقد منصف، يستخدم كل ما وهبه الله من ميزات باهرة، وثقافة شاملة نادرة، في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتحليتها مما يكتنفها من الأستار والحجب، وإماطة اللثام عما يعترض الباحثين عنها من الشكوك والريب.
يقول الشاعر:
(همُ نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفة الأخبار إلا رواتها)
2 - آفة الرواة
وآفة الرواة - فيما يرى أبو العلاء - شيئان: الكذب والنسيان. فلا غرو إذا ضجر بهما، وعرض لهما في كثير من المناسبات، واحتفل لهما ما شاء له أدبه وخياله، وأتى في الحديث عنهما بالشائق المعجب.
3 - قتل الفكرة
فهو إذا فزّعه من الموت أنه يبيد الجسم الذي لا يعنيه منه إلا أنه سياج الروح وهيكلها، فزّعه من الكذب أنه قتل للفكرة وإضاعة للحقيقة التي يبحث عنها جاهداً، وفزعه من النسيان أنه قتل للعقل الذي يعتز به ولا يعدل به شيئاً. قال: أصبحت في بيت مدر لا أملكه، كبيت قريض استدراكه، اشتمل عليه النسيان فهو مهلكة.
4 - تمنى الموت
على أنه قد يتمنى الموت أحياناً، لأنه يريح الإنسان من آلام الحياة، ويريح الجسم من أذيتها، ويغني صاحبه عن حاجات الدنيا فيقول:
العيش أفقر منا كل ذات غنى ... والموت أغنى بحق كل محتاج(659/24)
إذا حياة علينا للأذى فتحت ... باباً من الشر لاقاه بإرتاج
أو يقول:
على البلى سيفيد المرء فائدة ... فالمسك يزداد من طبيب إذا سحقا
5 - تسويغ الكذب والنسيان
وقد يوصى بالكذب إذا عرّض الصدق صاحبه للهلاك فيقول:
أصدق إلى أن تظنّ الصدق مهلكة ... وبعد ذلك فاقعد كاذباً وقم
فالمين جيفة مضطر ألمّ بها ... والصدق كالماء يجفي خيفة الشم
وقد يتمنى النسيان والذهول ليتمثل بذلك همومه وأحزانه فيقول:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة ... تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفا ... رزي الأماني لا أنيس ولا مال
مقل من الأهليين يسر وأسرة ... كفى حزنا بينُ مشِت وإقلال
وهي لفتات ذهنية عارضه لا يجهل القارئ مغزاها، وصور كلامية لعله أعرف منا بغايتها ومرماها.
6 - تمجيد العقل
على أن الأدب العلائي قد حفل - شعراً ونثراً - بتمجيد العقل، وحب الصحيح والتفزع من الذهول والنسيان فهو يقول:
الفكر حبل متى يمسك على طرف ... منه، ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل كالبحر غيضت جوانبه ... شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف
ويقول:
وينفر عقلي مغضباً أن تركته ... سدي واتبعت الشافعي ومالكا
ويقول:
وإذا الرياسة لم تعن بسياسة ... عقليه خطئ الصواب السائس
ويقول:
صدقت يا عقل فليبعد أخو سفه ... صاغ الأحاديث إفكا أو تأولها(659/25)
7 - طول الأمد
ويرى طول الأمد كفيلا بالنسيان. فيقول:
لأنسينك إن طال الزمان بنا ... وكم صديق تمادى عهده فنسي
ويقول:
وسوف ننسى فنمسي عند عارفنا ... وما لنا في أقاصي الوهم أشباح
ويقول في رسالة الغفران على لسان المهلهل، حين سأله ابن القارح عن بيت ينسبه إليه، كان الأصمعي ينكره ويقول إنه مولد، وكان أبو زيد يستشهد به ويثبته: فيقول المهلهل:
(طال الأبد على لُبدٍ، لقد نِسيت ما قلت في الدار الفانية).
8 - رسالة الشياطين:
ومن أبدع ما قرأناه للمعري في هذا الباب ما كتبه عن النسيان في رسالة الشياطين التي ألحقناها برسالة الغفران في طبعتها الثالثة. فقد نسي أسمه أحد عارفيه ولم يثبته، وجعله محمداً بدلا من أحمد، ثم نسى مرة ثانية فقصر كنيته فقال: (أبو العلا) بدلا من (أبي العلاء) فعاتبه المعري متلطفاً وإن بدا من ثنايا عتابه الرقيق ألمه لنسيان صاحبه الذي حداه إلى تبديل اسمه وقصر كنيته. قال: (ودلني كتابه على إنه يحسبني قد أضعت وده، وتناسيت في طول الزمان عهده. إني إذاً لمن الظالمين. عرفني بنفسه أنه من أهل البصرة، وقد صح معي أنه من أهل البصيرة الساكنة في خلده، وتلك أجل من البصرة بلده، وهل البصرة إلا حجارة بيض، يطأها إنس وربيض (يعني الأغنام ورعاتها) إلى أن يقول: وأهل البصرة - سلمهم الله - ينسبون إلى قلة الحنين. أليس قد مرت به هذه الحكاية، وهي أنه وجد على حجر مكتوب:
ما من غريب، وإن أبدى تجلده ... إلا سيذكر - عند العلة - الوطنا
وقد كتب تحته: إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم.
9 - تغيير الاسم
وهنا خلص إلى غرضه الذي يهدف إليه فقال:(659/26)
والدليل على ما قلت إنه - أدام الله عزه - لم يثبت اسمي. جعلني (محمداً) واسمي (أحمد) فإن احتج بأن هذين الاسمين سواء لقوله تعالى: (محمد رسول الله، والذين معه. . . الخ).
ولقوله في موضع آخر: (برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن ذلك إنما كان للنبي (ص) خاصة، لأنه قال: (اسمي في السماء أحمد، وفي الأرض محمد).
فإن قال: (إن العرب قد يكون للرجل منهم الاسمان والثلاثة) واحتج بقول دريد بن الصمة:
(تنادوا فقالوا: أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردى)
وقال فيها:
فإن تُنْسنا الأيام والعصر تعلموا ... - بنى قارب - أنا غضاب بمَعْبد
(والمعري إنما يستشهد بهذا البيت لأن معبداً وعبد الله علمان على شخص واحد) فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين:
(إما أن يكون للرجل اسمان) ولست كذلك، وإما أن يكون الشاعر غيّر اسمه للضرورة. ولو كان غير اسمي في النظم - دون النثر - لكان عذره في ذلك منبسطاً لأن الشعراء الجلة يغيرون الأسماء. قال الحطيئة:
(وما رضيت لهم حتى رفَدتهم ... من وابل رهطِ بسْطامً بإحْرام
فيه الرماح، وفيه كل سابغة ... قضّاء محكمةٍ من نَسْج سلام
أراد سليمان عليه السلام. وهذا تغيير على غير قياس لا يسلك مسلك غيره، من قولهم: عالية وعُلية. وفاطمة وفطيمة في القصيدة الواحدة يعنون امرأة بعينها.
ولا مجرى قولهم أبو قابوس وأبي قبيس للنعمان بن المنذر لأن هذا ترخيم التصغير. إلى أن قال: (ولا ندفع أن الشعراء قد سموا الرجل باسم أبيه على سبيل الضرورة وهكذا إلى أن قال: (وأنا أتسامح له، وأعدها زيناً لا شيناً، إذ كانت قذاة في بحر مزبد، بل أثر سجود في جبهة متعبد. وله أن يقول: إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. أما أنا فحفظت اسمه ونسبه وكنيته، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته. وقد جعلت جواب كتابه نائباً مناب الاجتماع معه، فلا ينكر عليّ الإسهاب في المحاورة، والإكثار من المفاوضة.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني(659/27)
العرب واليهود
للدكتور جواد علي
صلات العرب بالعبرانيين صلات قديمة، ترجع إلى عصور مضت قبل المسيح. وقد تعرضت التوراة والتلمود وكتب يهودية أخرى إلى أخبار العرب. ونحن نعول في أكثر ما نكتبه عن صلات العرب بالعبرانيين في العصور التي سبقت الإسلام على هذه الكتب.
وكانت صلات العرب بأرض فلسطين قديمة كذلك، ولعلها أقدم من علاقة العبرانيين بهذه الأرض. وكلمة (فلسطين) نفسها لا ترجع إلى أصل عبراني على رأي بعض العلماء، ولعلها كلمة عربية قديمة. وبهذه الصورة انتقلت إلى اليونانية واللاتينية ثم إلى سائر اللغات العالمية. ولعلها استعملت في العبرانية المتأخرة عن الاستعمال العربي القديم.
وقد أطلقت هذه الكلمة في الأصل على المنطقة الساحلية الضيقة التي تقع في جنوب الكرمل والتي كان يسكنها شعب يطلق عليه اسم (فلسطية ثم أطلقت من قبيل التعميم على جميع الأراضي المجاورة لهذه المنطقة. وقد وردت اللفظة في العهد القديم بأشكال مختلفة. جاء في سفر الخروج (يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين). وجاء في سفر أشعياء (لا تفرحي يا جميع فلسطين لان القضيب الضارب بك انكسر فيه من أصل الحية يخرج أفعوان وثمرته تكون ثعباناً ساماً طياراً).
وتاريخ فلسطين تاريخ غامض جداً، ولا يمكن أن نجد أي أثر للشعب القديم الذي كان يسكن في هذه البلاد قبل ثلاثة آلاف عام قبل المسيح. والظاهر أن الشعب الذي أقام في هذه البلاد بعد هذا التاريخ كان على شيء من الانحطاط. فكانوا يسكنون الكهوف الطبيعية والكهوف الصناعية، والظاهر أنه لم يكن من السلالة السامية، وأنه كان من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم يتمكن العلماء على كل حال من تشخيص ما تبقى من عظام هذا الشعب لقدمها وتلف أكثر ما تبقى منها، ولعل الحوريين الذين ورد ذكرهم في سفر التكوين من بقايا هؤلاء:
وأول سلالة سامية هبطت أرض فلسطين، هي سلالة: (الكنعانيين) أو (العموريين) والظاهر أنها نزلت في هذه البلاد بعد سنة (2500 قبل الميلاد).
وقد حاول بعض العلماء التفريق بين الكنعانيين والعموريين إلا أنهم لم يتمكنوا من إيراد(659/29)
حجج علمية قطعية، تؤيد هذا الرأي. وسكن هؤلاء العموريون في منطقة واسعة هي منطقة الهلال الخصيب في أرض بابل حيث كوّن ملكهم (حمورابي) مملكته في العراق وسكنوا في مختلف مدن سوريا كذلك.
ولما كانت أرض فلسطين على اتصال تام بمصر فقد بدأت تتأثر بالحضارة المصرية وبالسياسة المصرية منذ سنة 1500 قبل الميلاد، ثم أصبحت تابعة للإمبراطورية المصرية بعد أن فتحها تحتمس الثالث 3) (1500 و. م) ثم أمنهوتب الثالث (1450 و. م) فكان يحكمها مشائخ باسم حكام مصر.
ولم يتمكن الفرعون أمنهوتب الرابع 4) من الاهتمام بشؤون مصر ولا بشؤون سائر الأقطار الأخرى التي كانت تابعة للإمبراطورية المصرية، بسبب انشغاله بالإصلاح الديني ولاعتقاده بعقيدة التوحيد التي أراد جعلها العقيدة الرسمية للدولة ولمعارضة رجال الدين لهذا الإصلاح. فانتهزت المستعمرات المصرية تلك الفرصة وأخذت تستقل.
استقلت فلسطين قبل مجيء القبائل الآرامية إليها، وقد وردت كلمة في نص تل العمارنة إلا أن تلك الكلمة لا ترادف كلمة عبري التي وردت في التوراة.
وليست هنالك أدلة علمية تثبت ترادف الكلمتين.
والذي يفهم من المصادر العبرية هو أن اليهود كانوا مستعبدين في مصر، ثم خرجوا من هذا الاستعباد في أوائل القرن الثالث عشر قبل المسيح إلى أرض كنعان (فلسطين) وكان زعيمهم جميعاً (يشوع)، وذلك ما يفهم من سفر يشوع (وكان بعد موت موسى عبد الرب، إن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات. فالان قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات. جميع أرض الحيثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم، لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.
والذي يظهر من مصادر قديمة أخرى هو أن اليهود عندما دخلوا أرض كنعان، دخلوا على صورة قبائل متفرقة وبأوقات مختلفة، فلم يكن عليهم زعيم واحد. ويؤيد مضمون نص تل العمارنة هذا الرأي غير أنه يحتاج إلى فحص وإلى تدقيق تاريخي عميق، لمعرفة كيفية(659/30)
هجرة اليهود إلى أرض كنعان.
لم يتمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على أرض فلسطين دفعة واحدة، بل كان ذلك تدريجياً، ظلت الأرض الساحلية السهلة في قبضة الفلسطينيين وهنالك نظريات مختلفة عن أصل هذا الشعب. وتدعي أحدث نظرية من هذه النظريات بأن أصل الشعب الفلسطيني من جزيرة (كريت) على أنها نظرية لا زالت في حاجة إلى أدلة علمية.
وظل (الجعبونيون) والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون وأمثالهم أماكنهم يقاومون اليهود.
وبدخول اليهود إلى أرض فلسطين ولا سيما بعد استقرارهم فيها تكونت الصلات التاريخية فيها بين العرب واليهود. وقد كان العرب يسكنون في أرض فلسطين ذاتها وفي جوار شعوب فلسطين. فلما تمكن اليهود من بعض هذه الشعوب احتكوا احتكاكاً مباشراً بالعرب.
يرى المستشرق الإنكليزي مارجليوت أن صلات العرب باليهود مرت في أدوار ثلاثة:
أما الدور الأول فهو الدور الغامض الذي تعرف فيه العرب باليهود بعد دخول اليهود إلى أرض كنعان، ومعلوماتنا عن هذا الدور لا تكاد تكون شيئاً. وهي تستند على الدراسات المقارنة فقط، على دراسة الخصائص اللغوية والكلمات المشتركة فيما بين اللغتين العبرية والعربية وعلى الأساطير والعقائد الدينية القديمة، وتشير مثل هذه الدراسة، إلى وجود احتكاك قديم بين العرب واليهود.
وفي المرحلة الثانية اتصل اليهود بالعرب اتصالاً مباشراً. وقد ذكر ذلك الاتصال في التوراة في مواضع مختلفة منه، وقد كانت صلات العرب باليهود صلات حسنة نوعاً ما في بادئ الأمر، ثم ساءت تلك الصلات على أثر ما ظهر للقبائل العربية من ميل العبرانيين إلى الاعتداء عليهم، ومحاولة الاستيلاء على أرض فلسطين. وأكثر معلوماتنا عن هذا الدور من التوراة ومن المصادر العبرانية ذاتها ونادراً ما تشير المصادر العربية إلى ذلك.
وفي المرحلة الثالثة والأخيرة ينتقل اليهود من فلسطين إلى الحجاز واليمن والعراق بعد احتلال الرومان لأرض فلسطين وبعد العبث بالهيكل، فيتشتت شمل اليهود، وتسقط آخر حكومة لليهود. وتكاد تكون المصادر العربية الإسلامية في طليعة المصادر التاريخية بالنسبة لهذا العهد.(659/31)
البقية في العدد القادم
جواد علي(659/32)
الرغيف القومي
للدكتور محمد بهجت
حتى الرغيف نحاول أن نضفي عليه صفة القومية، فيصبح كالسياسة والتعليم واللباس وغيرها من المسائل العامة، وتصبح له مشكلة كمشاكلها العديدة! ولم لا تكون له مشكلة نعطيها من وقتنا وتفكيرنا شيئاً يتناسب مع خطره وأثره في اقتصاد الشعب وصحته؟
والرغيف كاللباس في مصر، يجمعهما شبه واحد، فبينا ترى للرؤوس أنواعاً شتى من العمائم والقلانس والطرابيش والقبعات، وللأجسام أشكالاً عديدة متباينة من الثياب لا تقارب بينها ولا تشابه، وللأقدام ضروباً متعددة من الخفاف والنعال والمراكيب والأحذية، حتى ليخيل للزائر الطارئ أننا أفراد أمم مختلفة امتزجت ببعضها على صعيد واحد، كذلك نرى لأكثر المدن رغيفاً معيناً، فلبعض مدن الوجه القبلي رغيفاً بشكل ولون خاصين، ولبعض قرى الوجهين البحري والقبلي أرغفة خاصة تشتهر بها، حتى ليقول لك خبير إن هذا الرغيف من ناحية كذا أو كذا، وترى للأجانب وأشباههم أرغفة مميزة ذات طابع خاص وهكذا.
وهذا الاختلاف الظاهر في أشكال وأحجام وألوان الأرغفة يتبعه بطبيعة الحال اختلاف باطني في طعومها وتركيبها الكيميائي ومشتملاتها الغذائية، ومن ثم اختلاف في تأثيرها على صحة الأجسام ونشاطها. وقد لا يعنينا هنا ظاهر تلك الأرغفة بقدر ما تعنينا قيمتها الغذائية وأثرها في الأجسام والعقول. ومما لا ريب فيه أن مكونات الرغيف تختلف كثيراً أو قليلا تبعاً للمواد الأولية التي يصنع منها والتي ينتجها إقليم ما. فإذا كان الإقليم ينتج قمحاً فرغيفه من القمح، وإذا كان ينتج ذرة فرغيفه من الذرة، بينما يكون الرغيف في إقليم ثالث خليطاً من القمح والذرة بنسب تتفاوت كثيراً أو قليلا تبعاً لغلبة أحد المحصولين على الآخر وهكذا.
ولا ينبغي أن ننسى أن للتقاليد والعادات الموروثة أثراً كبيراً في عمل الرغيف كما هو الأمر في عمل بعض ألوان الطعام الأخرى.
ومع قيام مثل هذه الاعتبارات وغيرها نرى أن الأرغفة المصنوعة من القمح تختلف فيما بينها أيضاً. فبعضها يكون أبيض اللون ناعماً قوامه الدقيق الخالص، وبعضها أسمر خشناً(659/33)
نوعاً تدخله كل عناصر الطحين، وبعضها يكون بين هذه وتلك. ومع أنها كلها مصنوعة من القمح أو من بعض أجزائه دون الأخرى فإن لكل منها تأثيراً مختلفاً في تغذية الجسم كما سنرى فيما بعد.
دخلت مخبزاً من المخابز الإفرنجية أطلب شيئاً معيناً فشاهدت أرغفة من الخبز الأبيض الجميل مرتبة بجانب بعضها بشكل يثير الشهية ويغري بالشراء، ولا سيما بعد أن احتجبت عنا طوال مدة الحرب. فابتعت شيئاً منها وحملته إلى بيتي وهناك أكلناه في شراهة ولذة عجيبتين. ولم لا؟ إن نظافتها وطعمها ورائحتها لتبرر ذلك وتدفع إليه. وعند ذلك ذكرت رغيفنا الذي نأكله الآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها وما به من عيوب وشوائب تجعل المرء يأكله في تحفظ، ثم ذكرت رغيفنا الذي كنا نأكله طول سني الحرب - ذلك الرغيف المخيف الذي كان يصنع من القمح مخلوطاً بالذرة أو الأرز، وبكل ما يمكن أن يختلط به من ردادة وسوس وطين وحصى وخيوط وحشائش أخرى تطحن معه وتعجن وتخبز، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله والذين كانوا يصنعونه، ولا يعلمه أحد ممن يأكلونه، حتى إذا خرجت منه أرغفة جاءت بشعة تنبو عنها العين وتعافها نفس الحيوان فما بالك بنفس الإنسان. نعم ذكرت ذلك الرغيف الذي كنت إذا اقتطعت منه لقمة أحاول مضغها وازدرادها لم أستطع فألفظها من فمي محنقاً مغضباً. ذكرت ذلك مما يذكره الكثرة من هذا الشعب المسكين الذي يخيل إلى أنه أذل بفرض هذا الرغيف البغيض الملعون عليه فرضاً. ولعمرك لا يمكن أن يستذل شعب بأكثر من أن يلقى إليه برغيف هذه بعض صفاته. وتزداد بشاعة هذا الذل إذا علمنا أنه ضرب على شعب مصر صاحب أخصب أرض في العالم، الذي تحترف كثرة أهله الزراعة والذي أرغم على زرع 60 بالمائة من أرضه حبوباً ومع ذلك لم يستطع أن يأكل رغيفاً نظيفاً، ذكرت ذلك وذكرت معه دوي الشكاوي التي جأر الناس بها على غير جدوى، وذكرت الكثيرين مماً أصابهم السوء وأنتابهم العلل من جراء سوط العذاب الذي سيطوا سبه في غير شفقة أو رحمة. ذكرت كل ذلك وكثيراً غيره ثم هززت رأسي أسى وقلت عسى أن يكون هذا بعض الثمن الذي اقتضاه نصر الديمقراطية!
وأخيراً انكشفت الغمة وعاد الرغيف الأبيض - وقد علت مكانته وقدر الناس قيمته - وها نحن أولاء نأكل منه شبع بطوننا، واختفى الرغيف الأسود أو كاد. ولكن مهلا فما الأول(659/34)
بخير كله ولا الثاني بشر كله. فقد ذكرت بعد الذي ذكرته أن الخبز الأبيض مصنوع من دقيق القمح الصافي بعد أن خلص بالغربلة من الردادة والنخالة التي هي عبارة عن القشور اللابسة للحبوب، وكذلك من حبيبات الأجنة التي بأطرف حبات القمح، فقلت بذلك قيمته الغذائية لحد كبير، إذ تذهب مع النخالة مواد غذائية عظيمة الفائدة يحتاج إليها الجسم في غذائه ونموه، أودعتها الطبيعة الحبوب المختلفة ولكن الإنسان يفصلها جهلا ويرمي بها إلى الحيوان والطير لتعلفها فتصح هذه ويعتل هو. أما هذه المواد فهي بعض العناصر المعدنية والحوامض العضوية والفيتامينات والألياف. وهذه كلها كان يحتويها الرغيف اللعين الذي لولا قذارة ولوثة به لكان صالحاً للجسم أي صلاح. وكلما بولغ في تبيض الدقيق ازداد فقراً في العناصر الغذائية.
وهاك بعض الفقد الذي يحصل من تصفية الدقيق الأبيض الناصع:
100 % من الألياف وفيتامين د والكاروتين ومعدن المنجنيز.
85 % من الثيامين وحامض النيكوتين (كلاهما فيتامين) والحديد.
75 % من الفوسفور والبوتاسيوم والنحاس والريبوفلافين (والأخير فيتامين).
50 % من الكالسيوم وبعض فيتامينات أخرى.
13 % من الزلال وحوامض زلالية هامة.
وعلى ذلك لا ينبغي أن نفرح الفرح كله بأكل الرغيف الأبيض، بل يجب أن نصنع الرغيف الصحي ونأكله، ولا يخرج هذا الرغيف عن حبة القمح بكل مشتملاتها الطبيعة.
ولما شعر العلماء بسوء التغذية تتفشى بين عامة الشعب في أمريكا فكروا في معالجة هذه المسألة بإضافة بعض الفيتامينات أو بعض المواد الغذائية الأخرى كالزبيب ولكن هذا لم يأت بالفائدة المطلوبة، ففكروا أخيراً في عمل رغيف قومي يأكله جميع أفراد الشعب مصنوع من الدقيق الأبيض مضافا إليه قليل من اللبن الفرز وبعض الفيتامينات الضرورية كالتي فصلت من الدقيق، ولازالت هذه أمنية تجول في أذهان علماء التغذية هناك ولما تخرج إلى حيز التنفيذ بعد.
أما الإنجليز فقد وفقوا إلى اتخاذ رغيف قومي بمعنى الكلمة بل قل إنهم اضطروا إلى اتخاذه اضطراراً، وذلك عندما نشبت الحرب وقل الوارد وأصبح الاقتصاد في الغذاء أمراً(659/35)
محتوماً، والمحافظة على الصحة العامة بين أفراد الشعب الذي ينتج الميرة والذخيرة للجيش المحارب في المرتبة الأولى من الأهمية.
وبعد دراسة طويلة في بداية الحرب قرر علماء التغذية الإنجليز الحصول على دقيق يعادل 80 % من وزن القمح النظيف
بعد أن كان المتحصل منه قبل الحرب 75 %، وهذا معناه إضافة 5 % من قشرة الحبة إلى الدقيق الأبيض، وبعد ذلك بقليل قررت الحكومة زيادة النسبة إلى 85 % وذلك بعد أن أثبت العلماء أن خبزاً يصنع من هذا الدقيق يكون صحياً ومحتوياً على جميع العناصر الغذائية اللازمة لسلامة الجسم والعقل. ومن ثم كان الشعب الإنجليزي كله يأكل في زمن الحرب خبزاً موحداً مصنوعاً من دقيق القمح النظيف غير مخلوط بذرة أو أرز أو غيرهما من الحبوب الأخرى ولم يستبعد منه إلا 15 % من وزن القمح أي الأجزاء الخشنة فقط، ومع ذلك فإن هذا الجزء المستبعد به عناصر غذائية هامة أيضاً. وكان الخبز المصنوع من هذا الدقيق لذيذا ًشهياً إلا أنه أقل هضماً من خبز ما قبل الحرب بنحو 3 % غير أنه يفضله من حيث احتوائه على المواد الغذائية. ويكفي الفرد الكامل النمو رغيف واحد في اليوم زنته ثلاثة أرباع الرطل يحصل منه على أكثر ما يحتاجه جسمه من الفيتامينات وغيرها من مقومات الحياة. وفي يناير من عام 1945 أرادت الحكومة الإنكليزية الرجوع إلى حالة ما قبل الحرب بالتدريج فقررت خفض نسبة الدقيق المستخرج من القمح من 85 إلى 80 % ظناً منها أنها بذلك ترفه عن الشعب، فذعر العلماء من هذا القرار ونوهوا بما سيفقده الرغيف القومي من المواد الغذائية الهامة مما قد يؤثر على صحة أفراد الشعب وطالبوا بإبقاء النسبة التي كانت مقررة في زمن الحرب لثبوت فائدتها ثبوتاً قاطعاً. ولا يفوتني أن أقرر هنا أن رغيف الجيش الروسي كان من القمح الخالص بجميع أجزائه.
فلم لا نفيد من هذه التجربة القيمة ونعمل على إيجاد رغيف قومي تأكله الكثرة الغالبة من الشعب تتوفر فيه العناصر الغذائية حتى لو اضطررنا إلى خلطه بنسبة صغيرة من نوع آخر من الدقيق على أن يكون طيب الرائحة لذيذ الطعم، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى دراسة وافية تقوم بها هيئه مكونه من الطبيب والاجتماعي والكيميائي والضابط الحربي وصاحب المطحن والمخبز والمزارع وغيرهم على أن تؤدي هذه الدراسة إلى وضع تشريع يحدد(659/36)
تركيب هذا الرغيف ودرجة نظافته بحيث يفيد منه الشعب في الظروف العادية وفي الظروف الطارئة كأية حرب محتملة الوقوع حتى لا ننكب برغيف خطر كالرغيف الذي فرض علينا في هذه الحرب الأخيرة.
ورجاؤنا أن نصل في هذا إلى قرار سريع، وأن لا يكون نصيب الرغيف القومي ما للسياسة والتعليم واللباس وغير ذلك من تذبذب وتأرجح واختلاف في وجهات النظر وعدم الاستقرار، وأن لا يبتلي بلجنة تنعقد وتنحل بضع مرات ثم لا تنعقد بعد ذلك أبداً فيموت المشروع بين يديها.
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(659/37)
القضايا الكبرى في الإسلام:
مجرمو الحرب في فتح مكة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
حكم أسير الحرب في الإسلام القتل أو الاسترقاق أو المن بفداء أو غير فداء، وقد جاء في كتاب المبسوط للسرخسي أن بعض الفقهاء ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير، واستدل على ذلك بأن القتل لم يذكر في قوله تعالى في الآية (4) من سورة محمد (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء) ولو صح هذا لقضي بأنه لا يجوز استرقاق الأسير، لأنه لم يذكر في تلك الآية أيضاً، وهذا هو حكم الأسير بالنظر إلى اشتراكه في القتال، فإذا كان عليه تبعات أخرى كان عليه عقابها الخاص بها، ومثل هذا يسمى الآن مجرم حرب.
وقد كان من مجرمي الحرب في فتح مكة خمسة عشر شخصاً:
عبد الله بن خطل، وكان ممن قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان أسمه عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وبعثه لأخذ الصدقة، وبعث معه رجلاً من الأنصار يخدمه، فنزل منزلاً وأمر الأنصاري أن يذبح تيساً ويصنع طعاماً ونام، ثم أستيقظ فلم يجده صنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله وارتد مشركاً، وكان شاعراً فجعل يهجوا النبي صلى الله عليه وسلم في شعره.
2، 3 - قينتان لعبد الله بن خطل: وهما فرتني وقريبة وكانتا تغنيّانه بما كان يهجوا به النبي صلى الله عليه وسلم.
هبّار بن الأسود، وكان قد عرض لزينب بني النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها الجمل حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ولم تزل مريضة حتى ماتت.
5 - الحويرث بن نقيد، وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بها المدينة، فنخس بها الجمل فرمى بهما الأرض، ثم شارك هبّاراً في نخس جمل أختهما زينب.
6 - مقيس بن صبابة، وكان قد أسلم ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ في غزوة ذي قرد، ظنه من العدو، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم(659/38)
قتله وارتد ورجع إلى قريش.
7 - وحشيّ بن حرب، وكان قد قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم غيلة في غزوة أحد، وكان حمزة قد قاتل في ذلك اليوم قتالاً شديداً، وكان يقاتل بسيفين، وكان آخر قتيل قتله ساع بن عبد العزى، فلما أكبّ عليه ليأخذ درعه قتله وحشي بن حرب، وهو غلام جبير بن مطعم.
8 - هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب، وكانت قد مثلت بقتلى أحد من المسلمين، فكانت هي ونساء معها يجدّعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت منها خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشي بن حرب، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
9 - عبد الله بن أبي سرح، وكان قد أسلم وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه كان يملى عليه - عزيز حكيم - فيكتب - غفور رحيم - ثم يقرأ عليه فيقول: نعم سواء، فإن كان يوحي إليه فقد أوحى إلىّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله.
10 - عكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ في أذى المسلمين بمكة ما بلغ.
11 - كعب بن زهير، وكان يهجو النبي صلى الله علية وسلم بشعره، ويعيّر أخاه بجيراً لإسلامه.
12 - الحارث بن هشام، وكان شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان شديد الأذى على المسلمين بمكة.
13 - زهير بن أبي أميّة، وكان شديداً في كفره كعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام.
14 - صفوان بن أميّة، وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله علية وسلم، ومن أشدهم أذى للمسلمين بمكة.
15 - سارّة مولاة لبنى المطّلب، وكانت مغنية بمكة، فقدمت على النبي صلى الله علية وسلم بالمدينة تشكو الحاجة، وتطلب الصلة، فقال لها: ما كان في غنائك ما يغنيك. فقال: إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء. فوصلها وأوفر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى مكة، وكان ابن خطل يلقى إليها هجاء النبي صلى الله عليه واله وسلم فتغني به.(659/39)
فلما كان يوم الفتح نادى النبي صلى الله عليه وسلم بأمان من يترك القتال من قريش، واستثنى منهم هذا العدد فحكم بإهراق دمائهم، وأمر المسلمين بقتلهم لهذه التبعات التي أخذت عليهم، وكانوا بها من مجرمي الحرب الذين يؤاخذون على إجرامهم بعد أسرهم.
فأما عبد الله بن خطل فإنه ركب في ذلك اليوم فرسه، ولبس درعه وأخذ بيده قناة، وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل المسلمين خاف وذهب إلى الكعبة وتعلق بأستارها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم عند طوافه وهو بهذه الحالة فقال: اقتلوه، فإن الكعبة لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. فقتله أبو برزة الأسلمي.
وأما فرتني وقريبة قينتا ابن خطل فإن أولاهما وهي فرتني أسلمت فلم تقتل، ولم تسلم قريبة فقتلت.
وأما هبّار بن الأسود فإنه هرب واختفى، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بذنبه وأسلم فعفا عنه.
وأما الحويرث بن نقيبد فإنه دخل بيته وأغلق عليه بابه، فقصده علي بن أبى طالب فقيل له: هو في البادية. فتنحى علي عن بابه، فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله الليثي وهو رجل من قومه.
وأما وحشيّ بن حرب فإنه هرب إلى الطائف، ولما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت عليه المذاهب، فخرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فعفا عنه ثم قال له: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ فحدثه بذلك إلى أن فرغ منه، فقال له: ويحك غيّب وجهك عني. فكان يتنكبه حيث كان لئلا يراه حتى قبضه الله.
وأما هند بنت عتبة فإنها اختفت في بيت زوجها أبي سفيان، ثم أسلمت واتت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح فقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به. ثم كشفت نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال لها: مرحباً بك، وعفا عنها.
وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه لجأ إلى عثمان بن عفان، وكان أخا له من الرضاع، فقال: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله علية وسلم قبل أن يضرب عنقي. فغيبه عثمان(659/40)
حتى هدأ الناس واطمأنوا، ثم أتى به النبي صلى الله علية وسلم فصار يقول: يا رسول الله أمنته فبايعه. والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ثم قال: نعم. فبسط يده فبايعه.
وأما كعب بن زهير، فخاف وخرج حتى قدم المدينة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، فأسلم أمامه ومدحه بقصيدته:
(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
فلما وصل إلى قوله فيها:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
رمى إليه بردة كانت عليه، فلما ملك معاوية بذل له فيها عشرة آلاف درهم، فقال له: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطانيه أحدا.
وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب ليلقى نفسه في بئر، أو يموت تائها في البلاد، وكانت أمرائه أم حكيم أسلمت فاستأمنت له النبي صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه حتى أدركته فرجع معها فأتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية فإنهما هربا واختبأ في بيت أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم جوارها، ثم جاءته بهما فأسلما.
وأما صفوان بن أبي أميه فاختفى وأراد أن يلقى نفسه في البحر، فأتى أبن عمه عمير بن وهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود. فقال له: أدرك ابن عمك فهو آمن. فخرج فأدركه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني. قال: صدق. فقال: أمهلني على الشرك شهرين. فقال: لك أربعة أشهر. ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما قسم الغنائم أعطاه مائه من الإبل ثم مائه ثم مائه، ثم رآه يرمق شعباً مملوءاً نعماً وشاء فقال له: يعجبك هذا. قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقبض صفوان ما في الشعب وقال: إن الملوك لا تطيب نفسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداُ رسول الله. فأسلم وترك المدة التي كان طلبها.
وأما سارة مولاة بني المطلب فإنها هربت واختفت ثم أستؤمن لها النبي صلى الله عليه(659/41)
وسلم فأمنها، فجاءته فأسلمت.
فقتل من هذا العدد الذي كان مجرم حرب قاتلان: هما عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة، وقد قتل عبد الله بن خطل بعد استعاذته بالكعبة، فلم تنجه استعاذته بها من القتل، لأنه كان شديد الجرم بقتله ذلك الأنصاري الذي كان يخدمه، والكعبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقد قتل منهم بعد ذلك اثنان لم يتولى النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما، ولو أنهما أسلما وطلبا الأمان منه لأمنهما كما أمن الذين كان جرمهم مثل جرمهما، وهما الحويرث بن نقيد الذي قتله علي بن أبي طالب، وقريبه مولاة عبد الله بن خطل
والمهم في هذه القضية ما حصل من عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ذلك العدد، فهل حصل هذا بما له من حق العفو، فرأى أن ما ارتكبوه من جرم لم يصل إلى القتل حصل في حال لهم فيها شيء من العذر، فيكون أخذهم بالعفو أولى من أخذهم بالعقوبة. أو حصل هذا لأنهم أسلموا والإسلام يجب ما قبله، كما قال تعالى في الآية (38) من سورة الأنفال: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين).
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن المراد أنهم إن ينتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف منها، وذهب بعضهم إلى أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، ويخرجون منها كما تنسل الشعرة من العجين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما قبله. وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعه قط، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله، وتبقى عليه حقوق الآدميين.
وما حصل في هذه القضية يشهد للذين ذهبوا إلى أن الإسلام لا يسقط شيء من تبعات الدنيا، ولو كان الذي أسلم حربياً، ولهذا قتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خطل مع استعاذته بالكعبة، ولو كان الإسلام ينجيه من القتل لعرض عليه الإسلام قبل أن يقتله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر سراياه بأن يعرضوا الإسلام على أعدائهم قبل أن يقاتلوهم، ومثل هذا يجعل الإسلام خالصاً لله تعالى، ولا يجعله وسيله للتخلص من تبعات(659/42)
الدنيا.
فلم يبقى إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم بما له من حق العفو، ليضرب بذلك مثلا صالحاً في معاملة مجرمي الحرب، فيعلم الناس أنه لا يجب التشديد في أمرهم، وأنه لا يصح أن يؤاخذوا إلا بمثل ما أوخذ به عبد الله بن خطل، وقد قال الأول في أمثالهم: القدرة تذهب الحفيظة.
عبد المتعال الصعيدي(659/43)
أنشودة المشاعل
في عيد (الفاروق)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَنِ القبسُ الذي طارا ... يشق رُبىً وأنهارا؟
وَيطوى العشبَ، والغارا ... ويسكبُ أينما سارا
ضياءً يبهَرُ الشطاَن؟!
تدفق منه بالأنوارْ ... شعاع يسحرُ الأبصارْ
فتحسَبُه من الأقدارْ ... أذاناً بالليالي دارْ
ليوقظ فجرَها الوسنان!
لهيبٌ واثبٌ خفاقَّ ... سناه يفجِّرُ الأشواقْ
إذا ظمِئَتْ له الآفاق ... وأهلك زيتَهُ الإحراق
سقته سواعِدُ الِفتيان!
سقته بعزمها الجَّبار ... فراح يُسابقُ الإعصار؛
سواعدُ فتيةٍ أحرار ... توهج فوقهَا بالنار
هوىً مُترنّحٌ سكران!
أضاء الكرنكُ المسحور ... وشعشع حوله الدَّيجور
بنرِّ معابد وقصور ... وغيب ممالكٍ وعصور
وفّنٍ حيَّرَ الأزمان!
وساق لمصرَ من دنياه ... تماِئمَهُ، وسرَّ علاه
إلى (الفاروق) طار هواه ... وشق طريقَه لضُحاه
شعاعاً يوقظ الأوطان!
هفا متطّلعاً للقاه ... حبيبٌ ضفافه، وأخاه
من الجبل الذي يهواه ... ويعشق أرزَهُ ورُباه
أتاه محيّياً (لبنان)!
شُعاعاً عزّةٍ وجلال ... ورمزا صَحوةٍ ونِضال(659/44)
على نهر، وفوق جبال ... طوى ركباهما الأجيال
إلى كفَّيهِ يستبقان!
فيا فاروق هذا النور ... ضياؤُك سابغٌ منشور
يطوف على الحمى ويدور ... كِرفّ ٍللعلا مسطور
ليقرأ وحيَه الهرَمان!
وهذا الحبُّ يا (عبْدين) ... حياةٌ للعبادِ ودين!
لِبابكِ خفَّ كلُّ قطين ... تقودُ خطاهُ نارُ حنين
كأنّ قبابكِ الحرَمان!؟
محمود حسن إسماعيل(659/45)
أندلسية
ميلاد ملك
للشاعر محمد البرعي
شارف الأرض وحيَّا في ابتسام ... فسألنا من على الأرض هفا
وتلفتنا لأطياف الغمام ... لم نجد إلا شعاعاً مرهفا
كلما أمعن سيراً في الظلام ... شقق الفجر وأسنى وصفا
ملك جاء إلى دنيا الأنام ... أم على أجفاننا حلم غفا
هذه أنسامه دلت عليه ... حينما لاح مع الصبح وبان
كل روح طيرت قلباً إليه ... وتملت من مرائيه الحسان
الهدى والنور والسحر لديه ... معجزات للورى في كل آن
لو تمس المزن إحدى راحتيه ... جاءنا الوبْل بخيرات الزمان
صولجان الملك ملء الراحتين ... وعلى المفرق تاج لمعا
سجد النيل له بالضفتين ... حينما رفّ به وارتفعا
وشدت طيبة لحن الهرمين ... وعلى سيناء نور سطعا
ورنا الشرق وحيا باليدين ... لوليد كنبي طلعا
ومضى فاروق يسمو قدما ... نحو عرش تالد المجد عتيق
ثابت الأصل له فرع سما ... مده عهد من الماضي السحيق
هذه أعلامه تطوى السما ... ولها ظل مديد وبريق
عرش من أحيا بمصر الهمما ... جد إسماعيل والبيت العريق
تاجه للشرق نور الأرب ... وهوىً يخطر في أحلامه
وحمى مغناه حصن العرب ... تستمد العزم من إقدامه
زاره بالأمس من أرض النبي ... عاهل كالسبط في إسلامه
طيب الجد نقي النسب ... تجتلى معناه من أعلامه
وعلى النيل تلاقى الأخوان ... تاج فاروق وتاج ابن سعود
موكب يوحي بآيات المعاني ... ولقاء حظ ذكراه الخلود(659/46)
وعهود حققت حلم الأماني ... لشعوب شفها مطل الوعود
وحدة قامت على أقوى كيان ... غيلها الشرق تفدّيه الأسود
شعلة تطوى دياجير الدروب ... تحمل البشرى لمن تفديه نفس
نورها من نور فاروق الحبيب ... فهي شمس قد تسامت فوق شمس
في سناها فرحة الروح الغريب ... حينما يلقى حبيباً بعد يأس
إنها من ذلك الوادي القريب ... من ربى لبنان جاءت يوم عرس
ليلة الميلاد حياها الشباب ... عامر الإيمان مرفوع الجبين
إنها فتح لوعد مستجاب ... رب وعد جاء بالحق المبين
شعلة الفاروق سيري في الشعاب ... نجمة تسرى بليل المدلجين
وأضيئي في دياجير السحاب ... واخلدي ما شئت في كف السنين
ليلة الميلاد عيد أي عيد ... هات كأسي واسقني من خمرها
ليلها راح وشعر ونشيد ... نغمة مستلهم من سحرها
في سماها فجر ميلاد سعيد ... رفرفت أعلامه في غمرها
أنه فاروق ذو الملك العتيد ... فرحة الدنيا ومجلي نورها
محمد البرعي(659/47)
البريد الأدبي
الأمير شكيب أرسلان والنشاشيبي:
أضيف هذه (الحاشية) إلى الحديث عن (أبي بكر الخوارزمي) في (الرسالة) الغراء 657، القسم 25 (في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب):
يطلع العلامة الأستاذ أمير البيان الأمير شكيب أرسلان على خطبة النشاشيبي (كلمة في اللغة العربية)، فيبعث إليه بهذا الكتاب:
أخي العلامة الأستاذ:
أهنيك بهذه الخطبة في محاسن اللغة العربية، لا بل أهنئ هذه اللغة الشريفة بك، وأرجو لها من خير الحافظين بقاءك. كتبت إلى مصر بأن يرسلوا لك نسخة من (حاضر العالم الإسلامي)، وعليك أن تسدل عليه ذيل الستر، لأنه كتب وأنا أجوب في الأقطار، ومن قطار إلى قطار، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
(مرسين 8 حزيران 1925) شكيب أرسلان
وينشر الأمير - بعد الكتاب - مقالة بليغة في مجلة (الزهراء) الغراء، منها قوله:
(قرأت هذه الخطبة أولاً في الجرائد، وفتنت بها، وأعجبت بما حوته من جزالة لفظ، وبلاغة معنى، وسداد حجة. ثم أهديت إليّ في كتاب نفيس الطبع، بهج المنظر، لم أر أليق منه قالباً لتلك الروح العالية، ولا أبدع صدفة لهاتيك الدرّة الغالية. فمذ الآن أقول: إنه كتاب مع وجازته قد زخر عبابه، ومع قلة قراطيسه قد قرطس نشابه. . .
ولتهنأ العربية بهذا النصير قليل النظير، والعاشق الساهر الليالي في رعي نجوم التحقيق والتنقير. ومع أني هجرت الشعر لم أملك نفسي أن قلت:
قد قالت اللغة الفصحى بغربتها ... قد أحسن الله إسعافي ب (إسعاف)
هو المجيب لمن قد بات ينشده ... أنصر أخاك لدى ظلم وأس عافى)
ولما قرأ النشاشيبي تلك الحواشي العظيمة في (حاضر العالم الإسلامي). أرسل إلى الأمير بكتاب جاء فيه:
(ذكرتني هذه الحواشي بقولين لإمامين: قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته: منتهى! قال: النظر في حواشي الكتب. وقال أستاذ الدنيا جار الله: الزيت مخ الزيتون؛ والحواشي مخخة(659/48)
المتون).
فبعث الأمير إلى النشاشيبي بهذا الكتاب:
أخي الأستاذ الأجل:
شفيت غليلي بهذين الشاهدين اللذين جئت لي بهما على فائدة الحواشي، ومن كان يقدر أن يأتي بهم غيرك؟ لله درك! وقد أتممت تحبير كتاب اسمه (أناتول فرانس في مباذله)، يحتوي ترجمة كتاب لكاتب سره (بروسون)، وخلاصة آخر لصديقه (سيغور)، وتلخيص لتأبين أدباء فرانسة (لفرنس) يوم وفاته. ولما كان من الأعلام الكثيرة وسائل الفلسفية والاجتماعية والأدبية ما لا بد من تفسيره على القارئ الشرقي على فهم الكتاب، فقد جاءت في هذا التأليف أيضاً حواش، إن لم تكن على نسبة حواشي (حاضر العالم الإسلامي)، فهي حواش لا بأس بها، وما كان أسرعني إلى تأييد وجهتي في (الحواشي) إلى نقل كلام ذينك الإمامين عن الأستاذ محقق النشاشيبي، ولعمري لو أنجدتني بجيش مجر ومال دثر، ما أحسست فضل تلك النجدة كما أحسست بها عندما قرأت ذينك الشاهدين. . .
(مرسين 24 تموز 1925) شكيب أرسلان
مد الله في عمر الأمير، وأعز به دولة الأدب!
(السهمي)
تهجم على التخطئة (السلام عليكم):
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد رأيتك تستغرب هذه التحية المباركة التي يهديها الرجل إلى أخيه، واُتاك هذا الاستغراب من أن قوماً زعموا أن (القاعدة) هي أن نبتدئ الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم)، بدون (ال) التعريف، فإذا جاء الختام قلنا: (السلام عليك أو عليكم). . . وأن بدء الكتاب بقولنا (السلام عليكم) خطأ شائع في هذه الأيام!! الخ. واستدللت بقول الله تعالى في كتابه الكريم: (سلام عليكم طبتم. . .) وقوله سبحانه: (سلام قوم منكرون) في أكثر من ثلاثين موضعاً على وجوه مختلفة. وصدق الله الذي يقول في سورة مريم: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) ب (ال) التعريف، وصدق الله الذي(659/49)
يقول في سورة طه لموسى وهرون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) بـ (ال) التعريف أيضا. فلا تستغرب يا سيدي!
ولا تستغرب أيها السيد الكريم إذا علمت أن أهل القبلة جميعا كانوا، ولا يزالون، وسيظلون إلى آخر الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى من سجوده وقعد للتشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ولا تستغرب إذا أنت قرأت في صحيح البخاري في باب (ما يتخير من الدعاء بعد التشهد ليس بواجب): (حدثنا مسدّد، قال حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا، السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء، أو بين الأرض والسماء - أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو). وكذلك في باب (التشهد في الآخرة) من صحيح البخاري
ولا تستغرب يا سيدي أيضا إذا مر بك وأنت تقرأ في مسند أحمد بن حنبل ج4 ص439 من حديث عمران بن حصين: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد، ثم جلس فقال (يعني رسول الله): عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد، ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد، ثم جلس، فقال: ثلاثون). أقول: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حسنة. وكل ذلك ب (ال) التعريف أيضا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا رأيت في مادة (سلم) من لسان العرب: (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام، بحذف عليكم. ولم يرد في القرآن غالباً إلا منكراً. . فأما في تشهد الصلاة، فيقال فيه معرفاً ومنكراً. . . وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول). ومن هنا أتى من لا يحسن العربية، وقل اطلاعه على كتبها وفقهها. والاستحسان هنا منصّب على ما(659/50)
كان في التشهد. فإنه كما ترى، عني بالأول، ما كان في التشهد، وبالآخر السلام الذي يخرج به من الصلاة. وهذا شيء قال به بعض فقهائنا وأئمتنا استحسانا من عند أنفسهم أو مما رووا.
ولا تستغرب يا سيدي إذا وقفت يوماً على قول الأخفش: (ومن العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم. فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود). ثم عاد فقال: (وفيهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن)؛ ثم ذكر العلة فقال: (حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل على نحو (لم يك)؛ والآخر أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف واللام، حذفا لكثرة الاستعمال، كما حذفا من اللهم فقالوا: لهمّ). وكأنه جعل (السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كثر استعماله).
فلا تستغرب إذا نظرت فرأيت أن الذي جاء في مقالتي ليس خطأ ولا مجاراة على خطأ. ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إن أدعياء اللغة إنما يؤتون من سوء التقدير لما يقرءون، ومما انطوت عليه قلوبهم من حب التعالم على الناس بشيء يدعونه ويلتمسون له الحجة، حتى ما يدرك أحدهم فرق ما بين (سلام عليك) و (سلام) و (سلاماً)، كما جاءت في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعاً، وبين ما جاء في كتاب الله أيضا من قوله: (والسلام على من اتبع الهدى)، وقول رسول الله الذي تلقاه المسلمون عنه في تشهد الصلاة وفي التحية.
واعلم يا سيدي أني قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجرداً، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا تحريت لك ولا للناس أن ألج بهم موالج في دقيق العربية وغامضها تدل على أن من نقلت أنت عنه هذا القول قد تمحل وتهجم على ما لا علم به، وعلى ما لا يحسنه ولا يجيده!
فلا يغررك التبجح بالعلم، ولا تقنع من المتحذلقين بما يسمونه (القاعدة)، فلعلها باطل مزور، وكذب مختلق، واجتراء على العربية هي من سوأته براء، ولعل دليلهم يكون هو الدليل على بطلان ما يزعمون كما رأيت. وفي هذا مقنع وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله
محمود محمد شاكر(659/51)
القصص
في الريف. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
هناك في منحدر التل الواقع بقرب مجرى النهر، وفي كوخين حقيرين متجاورين، كان يقطن فلاحان يشتغلان بكد وعناء ليخرجا من الأرض المجدبة ما يقوم بأودهما وأود عيلتيهما الفقيرتين. . .
وكان يقيم في كل كوخ منهما أربعة أولاد تتراوح أعارهما بين الست سنوات والخمسة عشر سنة، وكثيراً ما كان هؤلاء الأولاد الثمانية يتجمعون بمقربة من الكوخين ويظلون في لهو دائم ومرح مستمر من الصباح إلى الغروب.
وكان كلا الفلاحين متزوجان، وكلاهما ينجب الأولاد بنسبة واحدة وفي وقت واحد تقريباً! وكانت كل أم من الأسرتين تميز أولادها بصعوبة من بين أولاد الأم الأخرى، ولا سيما حينما كانوا يلعبون جميعاً أمامهما!
وكان الأبوان يخلطان في كثير من الأحيان بين أولادهما وبين أولاد الأب الآخر! وكم كان فكها إذا أراد أحدهما أن يدعوا ولداً من أولاده أن يردد على الأقل اسم ولدين أو ثلاثة قبل أن تنطق شفتاه باسم الولد الذي يريده!
وكانت عيلة توفاسن تسكن في الكوخ الأول ولها ثلاثة أولاد وبنت، في حين أن عيلة فالنس التي كانت تقطن في الكوخ الآخر لها ثلاثة بنات وولد.
ففي ظهر يوم من أيام شهر أغسطس الحارة، وقفت مركبة صغيرة أنيقة أمام هذين الكوخين، وقالت السيدة الصغيرة التي كانت تقود المركبة لزوجها الشاب الجالس بجوارها حينما وقع بصرها على الأولاد الثمانية الذين كانوا يلعبون وقتئذ أمام الكوخين:
- أنظر يا هنري إلى هؤلاء الأطفال السعداء.
ثم أشارت بيدها إلى طفل منهم كان يتمرغ مع آخر على الأرض وقالت:
- ما أظرف هذا وهو يتقلب على الأرض بفرح وسرور ويمرغ نفسه في التراب مع زميله(659/53)
الآخر!!
فلم يجب زوجها على ملاحظتها بشيء على حين استطردت السيدة قائلة:
- كم أود أن أقبل هؤلاء الأطفال جميعاً!!
ثم تنهدت تنهدة عميقة حارة صادرة من قلب يائس مكلوم وتابعت حديثها إليه فقالت:
- كم اشتهي يا هنري أن يكون لدينا ولد من هؤلاء الأولاد ولا سيما هذا الولد الواقف هناك بمفرده، وأظنه أصغرهم سناً.
قالت ذلك ثم قفزت من المركبة بخفة ونشاط وهرعت نحو الأطفال وأمسكت بالولد الذي أشارت إليه ورفعته بين ذراعيها وأخذت تقبل خديه القذرين وشعره المجعد المعفر بالتراب، ويديه الصغيرتين اللتين كان يحاول أن يخلص نفسه بهما من بين يديها اللتين كانتا تمسكان به بحنان بالغ ورفق عظيم، ثم تركته وعادت إلى المركبة منصرفة إلى حال سبيلها.
وفي الأسبوع التالي عادت هذه السيدة مرة أخرى وجلست تشاطر الأطفال ألعابهم كما لو كانت واحدة منهم! وقد أحضرت لهم معها في المركبة في هذه المرة كمية كبيرة من الكعك والفطائر والحلوى، وأخذت تقدمها إليهم وتوزعها عليهم بنفسها، بينما كان زوجها، واسمه هنري دوبرييه، ينتظرها في المركبة على مضض، وينظر إلى ما يجري حوله بشيء من الدهشة والغرابة.
وصارت تلك السيدة الرحيمة الطيبة القلب تتردد على الكوخين من وقت لأخر، وكانت تحشو حقيبتها وجيوبها في كل مرة بالحلوى التي كان يتقبلها الأطفال منها بكل لذة وسرور.
وبمرور الأيام تعرفت مدام دوبرييه إلى كل من العائلتين المتجاورتين، وعرضت عليهما صداقتها التي كانت لها أحسن وقع وأجمل أثر في نفوسهما الحزينة البائسة.
وفي صباح يوم نزل المسيو هنري دوبرييه من المركبة واصطحب زوجته معه ثم دخلا كوخ ال توفاسن دون أن يخاطبا في هذه المرة أحداً من الأطفال الذين كانوا قد تعلقوا بهما وأحبوهما حباً جماً.
وكان توفاسن وزوجته موجودين في الكوخ في ذلك الوقت فدهشا لدخول مدام دوبرييه وزوجها الفجائي، وقدما أليهما مقعدين نظيفين، وانتظرا بفارغ صبر ما ستقوله لهما هذه(659/54)
السيدة التي بدأت حديثها وقتئذ بصوت خافت ولهجة مترددة:
- لقد أتينا لزيارتكما اليوم، لأننا نريد أن نتبنى ولدكما الأصغر شارلوت. فذهل توفاسن وزوجته لقولها وعقدت الدهشة لسانيهما فلم ينبسا ببنت شفة. ولكن مدام دوبرييه لم تكترث لدهشتهما البالغة وتابعت حديثها فقالت:
- ليس لدينا أطفال ولهذا نود أن نتبنى ابنكما، فهل تقبلان ذلك؟
وهنا بدأت مدام توفاسن تفهم ما تعنيه مدام دوبرييه بهذا الكلام فقالت لها بلهجة لا تخلو من الاستنكار:
- هل معنى ذلك أنكما تريدان أن تأخذا ولدنا شارلوت منا؟
فتدخل المسيو هنري دوبرييه عند ذلك في الحديث وقال:
- إن زوجتي لم تبين لكما غرضنا تماماً، فكل ما في الأمر أننا نرغب في أن نتبنى طفلكما الصغير، وليس معنا ذلك أننا سنحول بينه وبين زيارتكما، بل أننا سنترك له مطلق الحرية في التردد عليكما في أي وقت، وإذا سلك معنا مسلك حسناً - وهو ما ننتظره منه في المستقبل - فسنجعله وريثناً الوحيد، وحتى إذا أنجبنا أطفالاً في المستقبل فسنشركه مع أبنائنا في الميراث. وإذا لم تثمر فيه تربيتنا وتعليمنا، فأننا لن ندعه وشأنه كما يفعل بعض الناس، بل سنعطيه حينما يبلغ أشده عشرين ألفاً من الفرنكات وسنودع هذه المبالغ باسمه في أحد المصارف الكبيرة على أن يسحبه إذا بلغ سن الرشد ضماناً لحسن تصرفه فيه، وزيادة على ما تقدم فإننا سنمدكما بمنحه شهريه قدرها مائة من الفرنكات مدى الحياة.
ولكن أبت عقيلة مدام توفاسن البسيطة الساذجة إلا أن تفهم هذا القول على غير حقيقته، وتؤوله تأويلا آخر، واستبد بها الحنق والغضب عندئذ فقالت:
- أتريدان منا أن نبيعكما ولدنا شارلوت في نظير جاهكما العريض، وثروتكما الطائلة؟ هذا محال. . . محال!!
وكان يبدوا على محيا توفاسن - زوجها - علامات التردد والتفكير العميق دون أن ينبس طول هذه المدة ببنت شفة، ولكن كان يلوح عليه أنه موافق على اعتراض زوجته بدليل أنة كان يهز رأسه من وقت إلى آخر موافقة منه وتأييداً لقولها!!
وبدأ اليأس يتطرق حينئذ إلى نفس مدام دوبرييه فحولت وجهها شطر زوجها وقالت له(659/55)
بصوت مكتئب حزين:
- هنري! إنهما يمانعان في أن نأخذ ولدهما شارلوت معنا!
وحاول المسيو هنري دوبرييه أن يقنع الزوجين العنيدين لآخر مرة فقال: فكرا جيداً في مستقبل ولدكما وهنائه قبل أن ترفضا هذا الطلب نهائياً. . .
فهزت مدام توفاسن كتفيها بسخرية واستخفاف وقاطعته بقولها: لقد فكرنا يا سيدي في كل هذا من قبل، والآن أرجو منكما أن تكفا عن الكلام في هذا الموضوع ولا تحاولا إثارته مرة أخرى. وبينما المسيو هنري دوبرييه وزوجته يهمان بالخروج إذ فتح باب الكوخ في تلك اللحظة ودخل منه ولد صغير يشبه شارلوت إلى حد كبير حتى أن من يراهما لأول وهلة يظن أنهما توأمان! فلما وقع بصر مدام دوبرييه عليه سألت زوجة توفاسن قائلة: هل هذا الولد الصغير ابنكما أيضا؟؟ فأجاب توفاسن باقتضاب وهو يحك بيده لحيته البيضاء الكثيفة الشعر: كلا أنه جان فالنس، ابن جارنا الآخر الذي يقطن في الكوخ المجاور، ويمكنكما أن تحاولا أخذه منه إذا استطعتما ذلك!!
فرد عليه المسيو هنري دوبرييه بحزم وإصرار وقال: سنحاول ذلك بكل تأكيد! فأبتسم توفاسن ابتسامة عريضة ما كرة وقال له وهو يهم بالوقوف لتوديعه: إذن أرجو لكما النجاح والتوفيق في مهمتكما!! ولما دخلت مدام دوبرييه وزوجها الكوخ المجاور، وعرضا على فالنس وزوجته اقتراحهما السابق، رفض الزوجان هذا الاقتراح في بادئ الأمر، ولكن مدام دوبرييه وزوجها مازالا بهما حتى أقنعاهما بوجاهة فكرتهما، وصواب رأيهما، ولا سيما حينما ذكرا لهما المبلغ الذي سيمنحانه في كل شهر!! وبعد فترة قصيرة وجهت مدام فالنس حديثها لزوجها فقالت ما رأيك في هذا العرض السخي يا زوجي العزيز؟ فأجابها زوجها وهو يفتل بيده الخشنة شاربيه الكثيفين: إنني لا أمانع في ذلك يا عزيزتي، وليس عندي أي اعتراض مطلقاً. وتكلمت مدام دوبرييه حينئذ عن مستقبل الطفل، وسعادته، وعن النقود الكثيرة التي سوف يمد بها عائلته في المستقبل. فلما أتمت كلامها سألها فالنس وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا والارتياح، وشاعت الغبطة والسرور في قسمات وجهه الكثير التجاعيد: وهل سنأخذ المائة فرنك على يد أحد المحامين؟ فأجابه المسيو هنري دوبرييه وهو يهز رأسه موافقاً: بلا شك. . . بلا شك!!(659/56)
وأرادت مدام فالنس أن تنتهز الفرصة فتزيد هذا المبلغ قليلا فقالت لمدام دوبرييه وهي تنظر من طرف خفي إلى زوجها نظرة ماكرة ذات معنى:
- أظن أن المائة فرنك ليست بالمبلغ الكافي في نظير انتزاع ولدنا منا لأنه سيصبح بعد بضع سنوات قادراً على العمل والكسب، ولذا يستحسن أن يكون هذا المبلغ مائة وعشرين فرنكا في الشهر!! فوافقت مدام دوبرييه على ذلك بعد قليل من التردد دون أن يخفى عليها جشع مدام فالنس وشدة طمعها!!
ولكي تثبت للزوجين الفقيرين مدى غناها وجودها، فقد أخرجت من حقيبة يدها مائة وعشرين فرنكا وأعطتها لمدام فالنس التي تناولتها منها بمزيد من الغبطة والسرور، في حين جلس زوجها هنري يكتب شروط الاتفاق بتؤدة وإمعان، فلما انتهى منه استدعى عمدة القرية وأحد الشهود فوقعا معه على العقد الذي أصبح قانونياً من كل الوجوه. . .
وخرجت مدام دوبرييه من الكوخ فرحة مسرورة لنجاح مسعاها، وتوفيقها في مهمتها، في حين كان الطفل الذي حملته بين ذراعيها يبكي بحرقة وحرارة لفراق والديه وتخليهما عنه، ويحاول أن يخلص نفسه من بين ذراعيها ولكن بلا فائدة. . .
وشاهد توماس وزوجته رحيل الطفل جان بوجهين كالحين. والظاهر أنهما قد لاما نفسيهما على رفضهما التنازل عن ولدهما شارلوت، وندما - بعد فوات الوقت - على ضياع هذا الكنز الثمين منهما!!
ولم يسمع أحد من أهل القرية شيئاً عن جان فالنس لمدة طويلة من الزمن. وكان أبواه يذهبان في أول كل شهر إلى مكتب المحامي فيتسلمان منه المائة والعشرين فرنكا ثم يعودان إلى كوخهما آمنين مطمئنين. . .
وساءت العلاقات حينئذ بين عائلة فالنس وبين عائلة توفاسن التي كانت تعيرها وتحط من شأنها أمام أفراد القرية لأنها فرطت في ولدها جان وباعته لمدام دوبرييه وزوجها بيع السلع! وكانت مدام توفاسن تمسك بولدها شارلوت من وقت لآخر وترفعه بين ذراعيها ثم تخاطبه بقولها:
- إنني لم أبعك ولن أبيعك يا ولدي العزيز بالرغم من أنني لست غنية كما تعلم ويعلم جميع الناس. . .(659/57)
وكانت لا تفتأ تردد هذه العبارات التهكمية وأمثالها في كل يوم بلهجة ساخرة وبصوت عال مسموع كان يصل في كثير من الأحيان إلى مسامع فالنس وزوجته! وبلغ الغرور بمدام توفاسن إلى حد إنها كانت تزعم نفسها أعظم شأناً من أهل قريتها جميعاً، وأرفع منزلة منهم وأعلاهم مقاماً، لا لشيء إلا لأنها لم تبع ولدها شارلوت! ولم يغب هذا الغرور عن أهل القرية أنفسهم ولم يفتهم أن يلاحظوا عليها ما كانت تدعيه من العظمة المصطنعة والخيلاء الكاذب، ولكنهم كانوا مع ذلك لا يفتئون يرددون أمامها أنها سلكت مسلك الأمهات الطيبات القلب!! ولما بلغ شارلوت الثامنة عشرة من عمره كان يتباهى على أقرانه، ويعتقد - كوالديه - أنه أعلى منهم مرتبة وأسمى مكانه لأن أمه المحبة لم تبعه كما باعت مدام فالنس ولدها جان!! وبينما كانت عائلة فالنس ترتع في بحبوحة العز والرفاهة، كانت عائلة توفاسن لا تزال على ما هي عليه من الفقر المدقع والفاقة البالغة! وكان يسار أسرة فالنس وغناها هما السر في هذا البغض، والباعث على تلك الكراهية التي كانت تبديها عائلة توفاسن نحوها في كل وقت وفي أي مناسبة!! وبعد مضي مدة انخرط الابن الأكبر لمدام توفاسن في سلك الجندية، بينما توفى ولدها الآخر إثر مرض خطير ألم به ولم يمهله إلا بضعة أيام. أما شارلوت فقد ظل في القرية ليساعد والده الذي كان قد بلغ من الكبر عتياً، وليعين أمه العجوز وأخته الوحيدة على العيش ومكافحة صعاب الحياة. وكان شارلوت قد بلغ الحادية والعشرين من عمره حين وقفت في صباح يوم مركبة صغيرة جميلة أمام الكوخ المجاور، ونزل منها شاب قوي وسيم الطلعة، أنيق الثياب،. ثم دخل الكوخ بقدمين ثابتتين، وخطوات متزنة واسعة. . . وكانت مدام فالنس تغسل ثيابها في ذلك الوقت، بينما كان زوجها الذي بلغ من العمر أرذله يستدفئ بنيران المدفئة. وقبل أن يفيق الولدان من دهشتهما تقدم الشاب - ولم يكن إلا ابنهما جان فالنس نفسه - نحوهما وقال لهما وهو يمد كلتا يديه لمصافحتهما: أسعدتما صباحا يا والديّ العزيزين. . .
فهب الأب من مكانه دهشاً مذهولاً، وعقدت المفاجأة السارة لسانه عن النطق، بينما ألقت الأم بقطعة الصابون في الوعاء الذي كانت تغسل فيه ثيابها لفرط اضطرابها ودهشتها وهرعت نحو ابنها الذي لم يكن قد زارها منذ أن اصطحبته مدام دوبرييه معها، وقالت له بصوت مضطرب مرتعش النبرات وهي تتأمله بزهو وإعجاب من قمة رأسه إلى أخمص(659/58)
قدميه: هل أنت حقاً ولدنا جان؟؟ فضمها الشاب إلى صدره بحنان ورفق وقال لها وهو يضحك ملء شدقيه: نعم إنني ولدكما جان! وقد جئت اليوم لزيارتكما بعد أن أصبحت أحد المحامين الذين يشار إليهم بالبنان وسأمكث في ضيافتكما بضعة أيام. فقال له الأب بصوت يرتجف من فرط الانفعال وشدة الفرح والسرور: على الرحب والسعة يا بني العزيز. وبعد أن استرد أنفاسه اللاهثة استطرد في حديثه فقال: كم أنا سعيد بلقائك يا والدي، ولا سيما بعد أن أصبحت رجلا كامل الرجولة. . . ولما أفاق الأب والأم من دهشتهما صمما على أن يقدما ولدهما جان إلى أهل القرية جميعاً. فعرفاه أولاً بعمدتهما وقسيسها وناظر مدرستها. ثم عرفاه أخيراً بباقي أفراد أهل القرية الذين استقبلوه بحفاوة بالغة وسرور عظيم. وشاهد توفاسن كل هذا بعين دامعة تفيض بالألم والهم والعذاب، ونفس حزينة تملاها الحسرة والندم على ما فات! وقد تغيرت نظرته إلى الحياة بعد ما رأى جان فالنس في ملبسه الأنيق وثيابه الغالية وشبابه الحيوي الفياض، بينما هو لا يزال في فقره المدقع وأسماله الرثة البالية،
وفي المساء حينما اجتمع شارلوت بوالديه حول المائدة، قال لهما بصوت باك حزين تخنقه العبرات: أظنكما رأيتما جان فالنس في هذا الصباح وشاهدتما ما هو عليه الآن من وسامة الشكل وفخامة الثياب؟ فأجابته أمه باكتئاب دون أن يفوتها تغير ابنها الفجائي غير المنتظر: نعم يا بني! لقد شاهدنا كل ذلك! ولكننا لم نشأ أن نبيعك إلى مدام دوبرييه وزوجها كما فعلت مدام فالنس وزوجها بابنهما جان! لأننا رأينا أن في ذلك عاراً عليك وإثماً في حقك كما هو عار علينا وإثم في حقنا أيضاً. . . ولم يفه والده أثناء ذلك بكلمة واحدة، بينما استمر الابن في حديثه الساخط المؤلم فقال:
- إنها لغباوة منكما حقاً أن تدعا جان فالنس يذهب مع مدام دوبرييه وزوجها بدلا مني! وإنه لمن سوء حظي أيضاً أنكما لم تضحيا بي بسبب حنانكما وغروركما وأنانيتكما. . . وهنا تدخل الأب في الحديث فقال موجهاً كلامه لأبنه: هل تلومنا الآن يا ولدي لأننا لم نشأ أن نفرط فيك كما فرطت مدام فالنس وزوجها في ولدهما جان؟ ولكن شارلوت لم يأبه لدفاع والديه بل هز كتفيه ساخراً واستمر في ثورته فقال: نعم إنني ألومكما لأنكما فوتما علي هذه الفرصة التي قلّ أن يجود الدهر بمثلها. وإن الآباء والأمهات أمثالكما كثيراً ما يجنون على(659/59)
أولادهم بجهلهم، ويحطمون مستقبلهم بمثل هذا الحنان الضار، والحب المرذول، والأنانية الممقوتة. فقالت له أمه وقد حز في نفسها حديث ولدها المؤلم وثورته الصاخبة: هل هذا جزاء حبنا لك واحتفاظنا بك؟ فأجاب شارلوت وهو يكاد يبكي من شدة الحنق والغيظ وقد اعتمد ذقنه براحة يده: كم أتمنى الآن لو لم اكن قد ولدت حتى لا أظل في هذه الحالة المؤلمة التي أنا عليها الآن. وبعد لحظة سكوت قصيرة تابع حديثه إليهما فقال بلهجة أشد وأعنف من الأولى: إنني عندما رأيت جان فالنس في صباح هذا اليوم وهو ينزل من مركبته الأنيقة الفاخرة جرت دماء الحقد والغضب حارة في عروقي وقلت مخاطبا نفسي: (لو قبلت عائلتي ما عرضته عليها مدام دوبرييه وزوجها من قبل، لكنت الآن في مركزه وظل هو في مركزي). قال ذلك ثم نهض من مقعده فجأة وقال لهما وشرر الغضب يتطاير من عينيه الدامعتين، والحنق الكامن في أعماق نفسه الثائرة يلوح على أسارير وجهه الحزين المكتئب: إنني لن اغتفر لكما هذه الغلطة ما حييت، وقد استقر رأيي الآن على مغادرة هذه القرية إلى الأبد، والنزوح إلى قرية بعيدة نائية لا يعرفني فيها أحد ولا أعرف بها أحداً، لأكسب فيها عيشي بعيداً عنكما وعن أهل هذه القرية جميعاً. قال ذلك ثم فتح باب الكوخ بسرعة وهرع إلى الخارج بعد أن صفق الباب وراءه بشدة وعنف حتى لا يتمكن والداه من اللحاق به وإثنائه عن عزمه، ثم سار في الطريق مسرعاً على غير هدى واختفى في ظلام الليل الحالك السواد.
محمد عبد اللطيف حسن(659/60)
العدد 660 - بتاريخ: 25 - 02 - 1946(/)
أحمد حسنين باشا
1889 - 1946
مات صاحب المقام الرفيع والخلق الرفيع والأدب الرفيع أحمد باشا حسنين في غير الميادين التي تحدى فيها الموت!!
تحداه في الصحراء المجهل حين رحل، وفي السماء المرعدة حين طار، وفي الداء العقام حين مرض، فخنس عن تحديه؛ ثم اختلسه اختلاساً في حادث من حوادث القدر على غفلة من إرادته وحيويته!! ولو كان الموت حليفاً للحياة لأمهل الفقيد حتى يتم عمله الذي تهيأ له بخير الفضائل والوسائل من تربيته وخلقه وثقافته وتجربته؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر!
كان أحمد باشا حسنين - سقى الله بصيّب الرحمة ثراه - مزيجاً حلواً من طبيعتين كريمتين: صوفية مؤمنة، وعسكرية مغامرة. أخذ الأولى عن أبيه وكان من علماء الدين في الأزهر، وورث الأخرى عن جده وكان من أمراء البحر في الأسطول. أما أثر البيئة الأزهرية فيه فخلوص العقيدة، وبلاغة الأسلوب، واستقامة الطريقة؛ وأما فضل الوراثة العسكرية عليه، فحبه للنظام، وولعه بالرياضة، وميله إلى المخاطرة. ثم تخرج في اكسفورد فوجدت هاتان الطبيعتان في البيئة الإنكليزية والثقافة السكسونية الغذاء الناجع والجو الصالح، فنمتا أعظم النمو، وأثمرتا أكرم الثمر. والخلق الإنكليزي الأصيل قائم على جوهر هاتين الطبيعتين وفي هذا سر نجاحه.
كان الفقيد الكريم رياضي الروح والعقل والجسم؛ فمن رياضة روحه نبالة نفسه، ومن رياضة عقله سلامة تفكيره، ومن رياضة جسمه شجاعة قلبه. وهذه الصفات هي التي تنذر في أكثر الناس، وتعسر على قادة الشرق؛ لذلك كان فقد أمثاله رزءاً لا يحتمل وخسارة لا تعوض.
وكان من خواص الأدباء وبلغاء الكتاب؛ وكتابه (في صحراء ليبيا) وآثاره في منشآت (القصر) تتسم بسمة الفكر الناضح والذوق السليم والفن العالي. والبلاغة ظاهرة من ظواهر القوة، وأدب اللسان مظهر لأدب النفس.
وكان من حملة العرش الأقوياء الأوفياء المخلصين. آثر التاج بحبه، وآزره بقلبه، وأحسن(660/1)
السفارة بينه وبين شعبه. ومن اعتدال الزمان وإقبال الأمور أن تكون بطانات الملوك من هذا الطراز: رأس مفكر، ولسان عف، ويد طاهرة، وقلب مؤمن.
ومما يُطمئن القلب على سلامة الفطرة في هذه الأمة أنها أجمعت على حب هذا الرجل، فكأنها تحب الفاضل لذاته، وتكره أن يدخل الهوى في تقدير حسناته.
إن الشعب الفقير في الرجال خليق بأن يطول حزنه على فقد رجل. وإن المصاب في أمثال أحمد باشا حسنين مصاب في الكيف لا في الكم، وفي الجوهر لا في العرض، وفي الرعاية لا في القطيع. تغمده الله برحمته، وأجزل له ثواب المتقين في جنته، وأخلف بالخير على أسرته وأمته.
أحمد حسن الزيات(660/2)
دمعة. . .
على مساجد الفسطاط وآثاره
للأستاذ أحمد رمزي
كانوا مصابيحاً لدى ظلم الدجى ... يسري بها السارون في الإدلاج
كانوا ليوثاً لا يرام حماهم ... في كل ملحمة وكل هياج
فانظر إلى آثارهم تلقى لهم ... علماً بكل ثنية وفجاج
نشرت مجلة الإخوان المسلمين كلمة في عددها الماضي تتلخص في أن أحد النواب صرح بأن في مصر القديمة ثمانية أديرة وكنائس عدة، تقابلها مصلاة واحدة من الطين والبوص على شاطئ النيل وقد اهتمت السلطات لهذا الأمر.
وأبدأ حديثي بأن أشكر إخواننا المسيحيين من مختلف طوائفهم ومللهم أن عرفوا كيف يحفظون آثارهم ومعابدهم وهي حق لهم ومفخرة لمصر؛ وأجزل لهم الشكر والثناء لأنهم بعملهم هذا وسهرهم على تراث آبائهم والمحافظة عليه قد ألقوا علينا درساً مفيداً نحن معاشر المسلمين في القرن العشرين.
ولا أجد ما أعبر عنه للسلطات إذا صدق ما قيل من اهتمامها لهذا؛ فإن هذه الحمية لدليل على وعي قومي ويقظة لم نعهدها من فبل؛ ولذلك نؤمل وننتظر أن تتبع هذه الحمية أو هذه البادرة الطيبة بالعمل الصالح الجريء النافذ؛ فتعيد لهذه البقعة بعض ما اندرس من آثارها ومفاخرها.
ولقد أثارت هذه الكلمة الكثير من شجوني وآلامي، وأعادت إلى ذكرى الماضي العربي في أجلي مظاهره؛ فعدت لنفسي ورجعت إلى الوراء، وتذكرت ما قرأته وسمعته عن عهود كانت فيها هذه البقعة من الأرض عامرة بمساجد الله وبالآثار الإسلامية؛ فعلمت كيف نزلت بها القبائل العربية أيام الفتح الإسلامي، وكيف استوطنتها واتخذت فيها الخطط والمنازل وكيف أصبحت اليوم خالية خاوية.
فمن المسؤول عن هذا الخراب الشامل، وهذا الدليل الذي نعيش فيه؟
إن تحميل الزمن وأحداثه كل العبء من الأخطاء والأرزاء التي نعانيها أمر سهل؛ ولكنه لا يتفق مع الحياة؛ والأمم تحيى وتتغلب بحيويتها ونشاطها وتصميمها وعنادها على حوادث(660/3)
الزمن ومصاعبه؛ ولذلك فإني أحمّل المسلمين في مجموعهم مسؤولية هذا العبث بآثارهم، لأنهم جهلوا ماضيهم وآباءهم وأجدادهم وتهاونوا في أمورهم لما تنكروا لأصولهم وأمجادهم، وتناسوا منزلة دينهم وأثره في شؤون العالم، فحقت فيهم كلمة التنزيل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها).
وقلت أين علماء الإسلام؟ ما لهم لا يقومون بأداء الأمانة التي في أعناقهم فيعلمونا ما نجهل من أمرنا وأمر ديننا وشؤون من تقدم منا؟ لقد قرأنا عن السلف الصالح من رجال الدين ممن حملوا رسالة الشافعي وغيره من أئمة المسلمين طول القرون الماضية أنهم قوم جاهدوا في الله خير جهاده؛ بذلوا أنفسهم في سبيل العلم، والبذل في سبيل العلم بذل في سبيل الله، وكانوا أشداء إذا اقتنعوا بالحق فجهروا به، رحماء بين أنفسهم ومع الناس.
فأين جهودهم وأين علومهم وهم أولى الناس، أن نتلقى دروس الماضي عنهم؟
والآن قف بالله على أرباض الفسطاط ومنازل العروبة الأولى وموطن الإسلام أيام الفتح! ماذا نرى؟ أطلالا وراء أطلال، وكانت هذه الجهة عروس الدنيا. إنني أنظر إلى وصف الأقدمين لها، وأرجع إلى ما كتبه المقريزي والسيوطي وابن دقماق وغيرهم وإلى علماء المزارات، فأشعر بالحسرة تملأ نفسي وتحزّ في قلبي. وأعود إلى الخرائط الحديثة والقديمة وإلى وصف الرحالين لهذه البقاع فلا أعثر على ضالتي، وإلا فاعلمني أين جامع الفتح مثلاً، بل وأين جامع راشدة؟
لقد كان موقعه بين دير الطين والفسطاط، في خطة راشدة وهي قبيلة من قبائل العرب وبطن من لحم، نزلوا هناك عند الفتح، وأنشأوا لهم جامعاً، ثم عاد الحاكم بأمر الله فجدده وعلّق فيه قناديل من فضة، وعمّر بعد ذلك مراراً؛ وكان يمتلئ بالناس لكثرة ما حوله من السكان. هذا هو قول المقريزي، فانظر ما يقوله على مبارك باشا في خططه، وقد زال هذا الجامع ولم يبق له من أثر.
أما جامعنا العتيق وهو جامع عمروا فباق مع الزمن، يحدّث عن أمجاد العروبة والإسلام، وقد فكر المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيّب الله ثراه أن يعيده إلى سابق مجده، متخذاً في ذلك سنة من تقدمه من ملوك الإسلام في مصر، وعملت له مسابقة دولية، فمتى يتم هذا العمل الجليل وأراه يتألق في مجده القديم، وأمتع ناظري بلوحة من الرخام وقد نقشت عليها(660/4)
بحروف ذهبية كلمات عمرو بن العاص في إحدى خطبه حينما قال لأهل مصر:
(إعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية) وكانت خطبته بجامع عمرو
واستشهد بما سمعه عن الرسول صلوات الله عليه إذ قال:
(إذا فتح الله عليكم مصر فأتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض) فمتى يتم ذلك وتعمر الأحياء حوله، وتعود أيام المسجد العتيق فتمتلئ رحباته بالمصلين يوم الجمعة؟ وهو الذي يمثل وحده إذا ذكر، أمجاد مصر وأياديها في خدمة الشريعة ونصرة دين الله، وهو الذي سطع نجم الشافعي فيه، والإمام مفخرة من مفاخر مصر العربية في الماضي، وموضع اعتزازها في الأجيال القادمة بإذن الله.
وذكر صاحب النجوم الزاهرة أن الملك المعزأيبك، وهو أول ملوك الدولة التركية بالديار المصرية والشامية، أنشأ المدرسة المعزية على النيل بمصر القديمة ووقف عليها أوقافاً، وكان مدرسها القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن السنجاري. فأين الآن هذه المدرسة الإسلامية؟ ولماذا لا تعاد إلى مكانتها من العز السالف، كما أعزها منشئها وبانيها؟
لئن قلت موارد وزارة الأوقاف ونضبت، فهل أعلنت أن المدرسة في حاجة إلى المال فقبض الناس أيديهم عنها، وبخلوا بأعطياتهم وتبرعاتهم ليعيدوا أثراً لهم من آثار السلف الصالح يقيمون فيه شعائر الإسلام ويفخرون به.
وكان على شاطئ النيل الجامع الجديد الناصري، أنشأه الناصر محمد سنة 712 هجرية وكانت له أربعة أبواب وفيه مائة وثلاثون عموداً وكان بمصر القديمة، ووصفه المقريزي وصفاً دقيقاً وقال (تولى الخطابة فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الشافعي، ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف). وكان الملك الناصر محمد قلاوون ملكاً ملء عين الزمن، وكان أئمة الدين وعلماء الإسلام وقضاتهم يتقربون إلى الله بخدمة الشعب والامتزاج به ورعايته كما رعى أنبياء إسرائيل خراف إسرائيل الضالة، ولم تكن أخذتهم الأنفة وعلو علواً عظيماً، فوجدوا كبيرة على أنفسهم، إذا تولوا الخطابة والإمامة بمساجد الله، وقد كان الملوك والخلفاء والعظماء يتولونها في السابق، وكان النبي يؤدي رسالته بالمسجد ويقوم بين الناس إماماً وخطيباً.(660/5)
وأعود لمسجد الناصر فهل تعرفون له مكاناً فتدلوني عليه؟ من أستملك أرضه واستحلّ بنائها؟ وأين أنقاضه وحجارته؟
وتعال معي إلى أثر النبي، وهي التي يريدون برغم أنف الزمن، تعويد الناس أن يطلقوا عليها اسم الساحل القبلي، وابحث عن رباط الآثار النبوية، تجده لا يزال قائماً، ولكن لو كان ملكاً لطائفة من طوائف الأديان الأخرى، سواء أقلت أم كثرت، هل ترضى لنفسها أن تتركه على مثل حالته؟ وهل يليق بدولة إسلامية عربية أن تترك هذا الأثر الإسلامي المنسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه، وهو أول مسجد يقابلك وأنت تدخل القاهرة من الجنوب؟ ذكره القدماء وأشاروا إلى الآثار النبوية التي كانت مودعة فيه وإلى تبرك الناس به. وقال المقريزي إنه أدرك لهذا الرباط بهجة وللناس فيه اجتماعات، وقال إن سلطاننا الملك الأشرف شعبان تغمده الله برحمته، قرر فيه درساً للشافعية وكانت به خزانة كتب عامرة.
وهذه الآثار النبوية هي التي أوحت بالشعر لكثير من شعراء ذلك العهد ومنهم خليل بن أيبك الصفدي فقال:
أكرم بآثار النبي محمد ... من زاره استوفى السرور مزاره
يا عين دونك فانظري وتمتعي ... إن لم تريه فهذه آثاره
فهل فكر أحد من الناس أن يعاد ترميمه وأن ترجع آثار النبي إليه؟ وأن تزرع حوله حديقة على النيل، وأن ترد إليه مكتبته، والكتب رخيصة الآن؟ وأخيراً درس الحديث في هذه البقعة ما أجمل وقعه على النفس!
هذه مصر القديمة أو العتيقة أو الساحل القبلي، لماذا لا نعيد إليها اسم الفسطاط الذي عرفت به وعرف بها طوال القرون الماضية، ونعيد اسمي العسكر والقطائع للجزء الشمالي منها؟ فنقول قسم الفسطاط بدل مصر القديمة، ومحطة الفسطاط ونضع مشاريع الإصلاح بشرط ألا نمس القديم، ونتخذ فيها ما يحفظ الباقي منه.
إنني أرسلها كلمة حق في سبيل الله، لأنها في نظري البقعة الطاهرة ذات التاريخ التالد، أبينا أم رضينا، إذ يقع بينها وبين قرافة الإمام الشافعي مئات من المزارات والقباب والقبور والآثار التي تستحق عناية المسلمين ويقظتهم وانتباههم. وسيكون من نتيجة الوعي القومي(660/6)
العربي، العود إلى الماضي، وسيؤوم هذه الجهة عالم الآثار للبحث عن آثارها وما ترك السلف، ويأتيها عالم المزارعات لتحقيق موضع قبر من قبور العلماء أو القضاة أو الأولياء، ويجئ إليها المؤرخ المولع بتتبع حوادث الفتوح الإسلامية والعصور الأولى من الهجرة، فهل تترك هذه الجهات كما هي عليه الآن بغير حمايتها ممن يهدمون الأنقاض وينقلون الأسمدة، وهل ضاقت مصر القاهرة بضواحيها وبيدائها، فلم تجد للمدابغ والمذابح ومخامر الأسمدة غير بقعة الفسطاط وجوار جامع العسكر ودار الإمارة؟ بالله زر هذه الأماكن وتأمل ثم احكم معي وضم صوتك لصوتي لتقول:
إن أشنع تحقير لعصر الفتح الإسلامي وللمسلمين وكرامتهم وعزتهم في القرن العشرين بقاء هذه الحالة في جهة تتصل بماضيهم كما هي في الوقت الحاضر.
وأعود لما كنت فيه، إننا سنجد هناك ما يدعو الواجب الإسلامي والعربي إلى إعادته كما كان في أوج عظمته ومجده، مثل جامع عمرو وجامع العسكر ورباط الآثار والمدرسة المعزية، ومنها ما يكتفي بالمحافظة عليه انتظاراً لمجهود الأجيال القادمة، ومنها ما اندثر مع الزمن فيجب تحقيق موضعه، وبناء نصب يذكرنا به. ولقد سمعت من بعض الجهات أنها تطلب مليوناً من الجنيهات لتصرف على تحسين أماكن الآثار القديمة بالوجه القبلي، فهل فكر أحد في الفسطاط، إنها المدينة التي خرجت من تحت الأنقاض، أنفقوا عليها جزءاً من أجزاء هذا المبلغ الضخم لتكون فرجة لمختلف الفرنجة من السائحين إذ فيهم من يشتاق لرؤية آثار العرب ويقدر ذوقه آثارهم إن لم نقدرها نحن.
ونحن لا نبالي بذلك، بقدر اهتمامنا بالشعب المصري الذي يطالب بما يذكره بماضيه وانحداره من تلك الأصول الثابتة. إن وراء الآثار الإسلامية مجداً وقوة، إذ تلمس من أبنيتها صولة تملأ النفس، وعظمة تخلق جيلاً من الناس، سيسلك حتماً مسلك السلف الصالح من المسلمين. وإياك أن ننسى فتصدق فينا الآية الشريفة بصورة الأنعام:
(فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان.(660/7)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 28 -
ج8ص230: قال أبو حيان انعقد المجلس وغص بأهله فرأيت العامري وقد انتُدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله؟ فعجب الناس من هذه المطالبة. . .
وفي ج16ص312:
وحبذا همة في العزم ما انتُدبت ... لمبهم الخطب إلا زالت الحجب
قلت: ضبطت (انتدب) في الموظعين بلفظ ما لم يسم فاعله.
في الجمهرة: ورجل ندب إذا كان معواناً منجداً ينتدب للأمور إذا ندب إليها.
وفي الصحاح: ندبه لأمر فانتدب له أي دعاه فأجاب. ومثل ذلك في (النهاية) وقال الأمام الزمخشري في مقدمة مقاماته: وحين أتاح له الصحة التي لا يطاق شكرها انتدب للرجوع إلى رئاس عمله في إنشاء المقامات حتى تممها خمسين مقامة. وقال في الشرح: ندب إلى كذا فانتدب له من كلام العرب.
فانتدب المتعدية لم ترد في كلام العرب الأقدمين ولا المحدثين الأولين ولم يذكرها معجم نعرفه ما عدا (المصباح).
وللعلامة الأستاذ الجليل أحمد بك العوامري بحث محقق في هذه اللفظة روى فيه قول القاموس وشرحه والأساس واللسان والمختار والمصباح ثم قال:
(فأنت ترى أن أحداً ممن روينا عنهم لم يتعرض لانتدب المتعدي إلا صاحب المصباح وتبعه الشيرازي في (معيار اللغة) نقلاً عنه، فقد قال: (وانتدبه للأمر على افتعل: دعاه إليه، فانتدب له يتعدى ولا يتعدى)، فقد جاء انتدب متعدياً، والمصباح من الكتب التي نرجع إليها ونعول عليها، وإن انفرد أحياناً بما لم يروه أحد ممن سبقوه فيما نعلم).
قلت: نقل (التاج) من (المصباح) مسمياً إياه شيئاً في مادة (ندب)، ولم يذكر هذا (الانتداب) المتعدي ولم يشر إليه. واليقين أن (التعدي) مولد متأخر نجم في عصر العلامة الفيومي،(660/9)
ولم يكن في زمان الإمام السيرافي.
وإذا قبلنا الانتداب اللغوي العوامري في هذا الوقت، فلن نقبل (انتداب) غيره ولا (حمايته) ولا (وصايته) ولا (مشاركته) ولا شيئاً من هذه (المترادفات) الممقوتات الملعونات اللواتي أطرفتنا إياها بعد الحربين - عجّل الله بالثالثة! - تلكم (الديمقراطيات) ذوات الختل والمين، و (أنا أعرف الأرنب وأذنيها).
ج8ص216: صاحب مخرقة وزرق.
وجاء في الشرح: المخرقة مصدر خرق، والمراد الحمق بالتمويه والكذب. الزرق: المعمى.
قلت: المخرقة: مصدر مخرق، وقد أوردها اللسان والتاج في هذا الفعل لا في الفعل خرق. قال اللسان الممخرق المموه، وهي المخرقة مأخوذة من مخاريق الصبيان. وقال التاج: المخرقة إظهار الخرق توصلاً إلى حيلة وقد مخرق. والممخرق المموه وهو مستعار من مخاريق الصبيان، هنا أورده صاحب اللسان، وهو على شرط المصنف. . . فبالأحرى أن تذكر المخرقة هنا، وأما الجوهري، فإنه أورده في (خرق) وحكم على أنها مولدة، والميم عنده زائدة.
قلت: أوردها الصحاح بعد قوله: (والمخراق المنديل يلف ليضرب به، عربي صحيح. . . وأما المخرقة فكلمة مولدة)، فكأن الجوهري يشير إلى أن اللفظة مأخوذة من المخراق - كما قال غيره - ولا يدل إيراده إياها في (خرق) على أخذها من هذا الفعل، وأن ميمها زائدة. وفي شفاء الغليل: قال ابن جني في سر الصناعة في وزن مفعل وقالوا: مرحبك الله ومسهلك، وقالوا مخرق الرجل وضعها ابن كيسان. . . وأصل اشتقاقها من المخراق، وهو منديل يلعب به. وجاءت اللفظة في المقامات الحريرية في المقامة الأربعين التبريزية: (فقال أبو زيد: إنها ومرسل الرياح، لأكذب من سجاح. فقالت: بل هو من طوّق الحمامة، وجنّح النعامة، لأكذب من أبي ثمانة، حين مخرق باليمامة).
وأما (الزرق)، فهذا ما وجدته فيه. في اللسان والتاج: ورجل زراق خداع، وفي شفاء الغليل: أكذب من زراق، وهو الذي يقعد على الطريق، فيحتال وينظر في النجوم، وزرقت أي موهت عليه، قاله أبو بكر الخوارزمي في أمثاله، ولم يذكر كونه مولداً، لكنه مذكور في اللغة الساسانية، وهو يدل على أنه مولد. وفيه: بنو ساسان قوم من العيارين والشطار، لهم(660/10)
حيل، ووضعوا بينهم لغة اخترعوها، ونظم فيها أبو دلف قصيدة طويلة، وكان الصاحب يتحاور معه بذلك اللسان ويعجب بحفظه، وهي قصيدة بديعة مذكورة في اليتيمة. ويقع من لغتهم كثير في أشعار المولدين، فلا يعرفها الناس. . . منها قول أهل مصر لآكل الحشيش مسطول، ومنها زرق، وهو تعاطى التنجيم وصاحبه زراق.
ذكر الثعالبي في اليتيمة صاحب القصيدة التي أشار إليها الخفاجي فقال: أبو دلف الخزرجي مسعر بن مهلهل شاعر كثير الملح والظرف. . . وكان ينتاب حضرة الصاحب. . . ويتزود كتبه في أسفاره، فتجري مجرى السفاتح في قضاء أوطاره، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته، وذكر (فيها) المكدين. . وأنواع رسومهم، وتنادر بإدخال الخليفة المطيع في جملتهم. . . اهتز ونشط وأجزل صلته عليها.
يقول العلامة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة المصري (رضي الله عنه) في شرحه مقامات أحمد بن الحسين الهمذاني:
(بنو ساسان الشحاذون وأهل المسألة، وساسان يقولون إنه كان رجلاً فقيراً حاذقاً في الاستعطاء، دقيق الحيلة في الاستجداء، فنسب إليه المكّدون. وعندي أن الساسانية وبني ساسان، وما شاكل ذلك من الألفاظ المشيرة بالتحقير لساسان، وأنه جد السفلة أو شيخهم، إنما جاءت بعد زوال الدولة الساسانية من الفرس التي كان مؤسسها أردشير بابك، فلما محقها الإسلام، وبقى من أطرافها أفراد أذلاء سقطوا في ألسنة فتيان المسلمين الأولين، فكانوا يطردونهم من مكان إلى مكان، ويعيرونهم بعنوان آبائهم. فبعد أن كانت نسبتهم إلى ساسان نسبة مجد وحسب صارت نسبة قذف وسب. وكان في شهر هذا الإسم بالتحقير غاية سياسية فضلاً عما تطمح إليه نفس الغالب من إذلال المغلوب، وهي أن لا يبقى لدولة الساسانية ذكر في لسان، ولا أثر في جنان، ينبئ عن سلطانها أو رفعة شأنها، وإذا خطر أمرها بالبال، فلا يخطر إلا مع لازمه الجديد، وهو السفالة والدناءة، ثم نسى ذلك بمرور الأيام، وبقي اللفظ مستعملاً في الشحاذين، وهم أدنى طبقة في الناس.
قلت: سجاح في كلام الحريري المذكور آنفاً هي بنت الحارث بن سويد بن عقفان من بني يربوع ارتدت وتنبأت، ثم حسن إسلامها، وفيها يقول عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا(660/11)
وأبو ثمانة هو مسيلمة بن حبيب الحنفي ارتد وفطس قتيلاً كافراً و (لم يكن مسيلمة نبياً صادقاً ولا متنبياً حاذقاً). كما قال الأحنف ابن قيس، وقد عده عربانيون غربيون - مهرئين ومبطلين - وطنياً ثائراً. . . وهي عداوة الإسلامية لا تزايل علماء القوم في أقوالهم ولا ساستهم - أرى الله بهم - في أعمالهم. وقد نسبت إلى مسيلمة مقولات سخيفات صاغها صواغها كي يجعلوه شهرة، منها قوله:
والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً إهالة وسمنا - لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه.
ومن تلك المقولات (يا ضفدع ابنة ضفدع. . .) وهي مشهورة.(660/12)
2 - بمناسبة (المولد):
لا تخافوا. . .!
(مهداة إلى (جماعة الأخوان المسلمين)
للأستاذ علي الطنطاوي
لاتخافوا، فوالله لا الفرنسيون ولا آل صهيون، ولا دول الأرض كلها تستطيع أن تبيد شعباً عربياً مسلماً، أو تذلّه فتسلبه عزّة نفسه وقوة إيمانه. فجدوا واعملوا، ولا تدحروا وسعاً ولا طاقة، وفتشوا عن القادة، فإنما تنقصنا القيادة، ولكن لا تخافوا على العرب فلسطين أو أفريقية، ولا على مسلمي أندنوسية، فإن (محمداً) قد وضع في دمائهم المصل الواقي من الحور والجبن والتهافت، وصبّ المناعة في أعصابهم صبّا، وعلمهم الصبر على المصائب وإن تتالت، واشدائد وإن تعاقبت، مع العمل على دفع المصائب ورفع الشدائد، فكان الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس من أجل الدين والشرف، فطرة في أتباع (محمد)، وخلقة فيهم أو أرادوا الانفكاك عنها ما طاوعتهم قلوبهم!
ألا ترون إليهم كم غامروا وجاهدوا واحتملوا من الأذى، ثم هاهم أولاء يدعون إلى الجهاد نزْلة أخرى فيمسحون الدموع، ويربطون على الجروح، ويقومون من القبور، ويثبون مع الداعي يأخذون الطعام من أفواه بناتهم، والكسى من نحور صبيانهم، ليبيعوها فيشتروا البندقية ويمشوا إلى الجهاد!
أولئك هم الأبطال حقاً، لا أعني الزعماء الذين يملأون بطونهم من الطيبات، ويمضون إلى الحفلات بالسيارات، ثم يقومون إلى المنبر لا يطيقون الوقوف من التخمة، فيخطّبون بصوت متقطع ألأنفاس من البَشَم لا من الحماس. . . يصرخون: نحن المجاهدون، نحن الذين فعلوا والذين يفعلون. . . ثم يروحون إلى دارهم فينامون وهم يحلمون بالمجد المؤثّل الذي شادته لهم خطبهم في الهواء!
ولا السياسيين الذين لا يعرفون من الوطنية إلا أنها أقرب الطرق إلى الكراسي، فإن جاءت من قبل الشعب، فهم من الشعب وإلى الشعب، وإن لم تجىء إلا من الفرنسيس والإنكليز، فما هم غرباء عن الإنكليز ولا عن الفرنسيس!(660/13)
ولا التجار الفجار الذين يعبدون الدرهم والدينار، والذين أجاءونا في هذه الحرب وعرّونا، لييريقوا ما سرقوه من ثمن خبزنا وكسوتنا على قدمي كل بغى، وزلفى إلى كل شيطان، فهؤلاء جميعاً ليسوا منا، وإنا منهم لُبرءَاء!
وإنما أعنى هذا الشعب الذي ثار في غوطة دمشق، وميادين القاهرة، وسهول العراق، وصحارى طرابلس والجزائر، ورحاب الريف الأقصى، وثار في فلسطين من ديار الشام، فأترع الدنيا بطولة ونبلا. . .
هذا الشعب الذي خرج منه حارس أميّ من حراس الليل إلى غوطة دمشق، فوقف على نهر ثورا، وما نهر ثورا؟ جدول عرضه سبعة أمتار. . . ووقف جيش فرنسا في الشرق على الضفة الأخرى، وبينهما جسر، وما معه إلا فئة من الثوّار، فلم يستطع جيش فرنسا وقائده الجنرال اجتياز هذا الجسر إلا بعد ما مات الحارس الدمشقي، حسن الخراط، بعد ثمانية عشر شهراً كلها وقائع داميات ومعارك حاميات، ولقد ردّ حسن وأصحابه الجيش الفرنسي مرّةً حتى ألجأوه إلى دمشق، ثم حاربوه في شوارعها حتى أخرجوه منها إلى المزّة، ولبثوا في دمشق ثلاثة أيام وما فيها فرنسي واحد.
هذا الشعب الذي فرّ ضابط من ضباطه من بغداد مع ستين جندياً، إلى الصحراء التي قطعها (خالد) من قبل والعدوّ من أمامه، والعدو من ورائه، والعدو من فوقه، ولو وقفت عليه سيارة، أو كشفته طيارة، لذهب بدداً، فقطع الصحراء، ثم بلغ فلسطين، ثم قاد الثورة فيها، فظفر كما ظفر خالد بالروم، وقذف الله به الرعب في قلوب الجند، فكانوا يرتجفون هلعاً، وينهزمون فزعاً إذا قيل: (فوزي القاوقجى)!
هذا الشعب الذي كان يحارب ضابطاً آخر من ضباطه مع فئات من أتباعه، جيشان أوربيان جيش فرنسي فيه مائة ألف، وجيش أسباني فيه مائة وخمسون ألفاً، هؤلاء كلهم يكافئون في الميزان الأمير المسلم عبد الكريم بطل الريف.
هذا الشعب الذي قابلت حفنة منه مفلولة السلاح، قليلة العتاد، إنكلترا ذات الحول والطول، ومالكة خمس العالم، وثبتت في وجهها سنتين اثنين، لا يوماً ولا يومين، وأرتها من قوة الإيمان العجب العجاب:
بين يدى الآن عدد قديم من جريدة (بيروت) صادر سنة 1937، أفتحبون أن ألخص لكم(660/14)
خبراً وجدته فيه:
(التقى في (حيفا) نفر من المسلمين المجاهدين في سبيل الله، وفرقة آليّة من الجيش البرطاني، ودارت رحى الحرب، فهجم المجاهدون على الدبابات والمصفحات، فكان إيمانهم أمضى من نارها وأقوى من حديدها، فنفذ منها إلى قلوب من فيها، فلم تغن عنهم صفائحهم ولابارودهم شيئاً، وَأعان الله عليهم حزبه بالرعب، فانهزموا، وهربت مصفحة. . . فطار على وجهها، لا تلوي على شيء، إلي. . . أتدرون إلى أين؟ إلى عكا. . . إلى صور. . . إلى صيدا. . . إلى بيروت. . . إلى طرابلس - إي والله - ولولا أن الأخبار سبقتها إليها حملتها الأسلاك، فقطعوا عليها الطريق بالحجارة، ووقفوها، لولْت منهزمةً إلى بريطانيا!)
هذا الشعب الذي أدهش أهل الدنيا بفتوحاته غابر الدهر، وأدهشهم بثوراته حاضره، وسيدهشهم في مستقبله ويدعهم مفتوحة أفواههم من عظم ما يرون، حين يثب الوثبة الكبرى، التي يعود بها كما بدأ شعباً واحداً، يعبد رباً واحداً، ويتبع الكتاب قانوناً واحداً، لا تعجبوا فتقولوا: أين السبيل إلى الاتحاد الإسلامي؟! فهذه إنكلترا لها خمس الأرض، قد تفرقت بلادها في أرجائها، ثم إن لها ملكاً واحداً وراية ورابطة، أفنعجز أن نوجد للمسلمين نظاماً جديداً مبتكراً، يجمع متفرقهم، ويدني بعيدهم، ويصلحهم ويصلح لهم؟!
وليس الذي انتصر حسن الخراط، ولا فوزي القاوقجي، ولا عبد الكريم، لأنه لا يعقل أن يغلب أفرادُ دولةً، ولكن الذي انتصر هو الإسلام، ولو ثار هؤلاء لغيره ما صنعوا شيئاً، إذا يُتركون لقوتهم وذكائهم وعلمهم، وأعدائهم أشد قوة وأحد ذكاء، وأكثر علما. الإسلام أعجوبة الدهر الباقية، معجزة كل عصر، فيا أيها الأغبياء الذين يجرؤون على قياس الإسلام بنزوات هتلر، وخيالات لينين، وحماقات كل متسلط على العقول أو البلدان، يحسب لجهاه أنه يشرع ديناً ويضع شريعة، إنكم لفي ضلال مبين، أين الهتلرية؟ لقد ذهبت به هزيمة واحدة، وهزيمة مثلها تذهب بباقي الحماقات التي حسبتموها أدياناً!
أما الإسلام: فهو في ذاته قوة لا يحتاج إلى قوة أتباعه ليؤيدوه بها، بل هو الذي يؤيدهم بقوته فينصرون. ولقد تأخر المسلمون ورجع بهم الزمان القهقري، ولكن الإسلام نفذ من الحجب، ولبث يتقدم. إن المبشرين ينفقون كل سنة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ثم لا يأخذون واحداً، حتى يأخذ الإسلام بغير مال ولا عمل تسعة وتسعين. . .(660/15)
الإسلام ينتشر اليوم بنفسه في أرقى ممالك أوربة، وفي أحط بقاع أفريقية، والمبشرون لم يستطيعوا أن يدخلوا في النصرانية (مسلماً) واحداً. إنهم يجمعون الجهلة من المغاربة الذين لا يعرفون ما الإسلام، فيطمعونهم ويطمعونهم، ثم يلقون عليهم عجائب المسيح، فإذا وصلوا إلى موضع المعجزة، صاحوا كلهم بلسان واحد متعجبين: الله أكبر، لا إله إلا الله!
وينزل المبشر على القبيلة في أواسط أفريقية فيعطى ويرغْب، ويبقى سنة كاملة، فلا يستجيب له منها إلا النفر المعدودون، ثم يأتي التاجر المسلم الجاهل، فينام عندهم، ويأكل طعامهم، فلا يأتي الشهر حتى تكون القبيلة كلها قائمة وراءه تصلي على دين (محمد). . . والمبشرون ينظرون!!
أتشكّون بعد هذا أن الإسلام قوة هائلة للمسلمين؟!
هل عرفتم الصواعق المنقضة؟ هل رأيتم الصخور المنحطة من أعالي الجبال، والسيول الجارفة، والبركان الهائل، و. . . وكل ما في السكون من قوة؟ إنها لن تصد غضبة المسلم إذا كانت لله ولمحارمه ولدينه! هل فيها أشد من الموت؟ فهل يخيف الموت رجلاً خرج يطلب الموت؟!
إن سر قوة هذا الشعب، إنما هي عقيدة القضاء والقدر على الوجه الإسلامي الصحيح، ولكن القادة قلما يدركون هذا السر وقلما يعمدون إلى الاستفادة منه، لأنهم نشأوا يوم كان الشرق ينظر إلى أوربة نظر التائه في البحر إلى المنار الهادي، ويأخذون كل ما يأتيهم منها على أنه الحق الصراح، فكان فيما أخذوه وقلدوا فيه بلا فهم، مبدأ (فصل الدين عن السياسة)، ورأوه استقام في النصرانية، فحسبوه يستقيم في الإسلام، وما درسوا الإسلام على حقيقته، حتى يعلموا أنه دين وسياسة وسأخلاق، وأن سورة (براءة) سياسة، أفنفصل سورة (براءة) عن القرآن؟!
وأمر آخر، هو أن هذا الشعب تلقى عشرة آلاف دعوة إلى البذل في سبيل الله، فلبها كلها، ولكن الدعاة لم يكونوا يلبون أنفسهم في كل حين، وكان فيهم من يلقي كلمته لا يتصور منها إلا ألفاظها ووقعها في الآذان، فهي من لسانه إلى أسماع الناس، لا من قلبه إلى قلوبهم، فهو من أجل ذلك يدع الشعب وحده ويمضي إلى داره ليتحدث عن براعته في الإلقاء، وقدرته على الخطابة، وفيهم من يريد أن يسوق الناس ويقعد، وهذا الشعب لا يطيع إلا من يمشي(660/16)
أمامه، ويشاركه سرّاءه وضراءه، أما المترفون الذين يريدون أن يناموا على عواتق الشعب، ويغتنوا من مال الشعب، فإن هذا الشعب ينكرهم ويبرأ منهم فعلى الزعماء أن يفهموا ذلك حق الفهم، وأن يكون لهم في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يجوع كما يجوع قومه، ويتعب كما يتعبون، ويعمل بيده مثلما يعملون، بنى معهم مسجد المدينة، وحفر معهم الخندق، وكان يسرع إلى الخطر بنفسه. وقع الصريخ مرة في المدينة، فخرج الناس عجلين، فإذا هم برسول الله، قد وصل إلى مكان الخطر على فرس عريان، لم ينتظر حتى يسرج له، ورجع يطمئنهم بأنه لا شيء هناك. ولقد ثبت يوم أحد ويوم هوازن لما انهزم الناس، وكان يقول معرفاً بنفسه: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. لم يسق الناس إلى الموت ويقم في قصره، ولم يختص نفسه بمأكل ولا ملبس ولا مركب، ولم يربط لنفسه وظيفة من بيت المال، ولم يحمل أسرته وأهله على الناس، ولم يول عاجزاً ولاية لصداقة أو قرابة، ولم يبعد عنها قادراً لبغض أو عداوة، ولم يتخذ قصراً، ولم يقم حاجباً. وكذلك كان خليفته وصاحبه أبو بكر، وكذلك كان أمير المؤمنين عمر، ومن أجل ذلك أجمع الناس على طاعة أبي بكر وعمر، فلم يختلف عليهما اثنان!
أما إن الشعب أقوى الشعوب روحاً، وأطيبها عنصراً، وأصفاها جوهراً، ولكنه ينقصه الزعماء، فهاتوا واحداً مثل عمر ليقوده، وانظروا كيف يأتي بالمعجزات!
(دمشق)
علي الطنطاوي(660/17)
الأدب في سير أعلامه:
ملْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
في اليوم التاسع من شهر ديسمبر سنة 1608، فتح الوليد جون ملتن عينيه على نور الوجود؛ وبمولده رزقت إنجلترة أعظم شعرائها قاطبة حتى يومنا هذا، إذا استثنينا (شكسبير) وحده، واستقبلت الدنيا قرين الثلاثة الأفذاذ من شعراء الغرب الخالدين: وهم (هوميروس) و (دانتي) و (شكسبير).
وكانت إنجلترة حين مضى الطفل يستقبل حياته، تستدبر في حياتها الأدبية عهداً وتستقبل عهداً. كانت إذا شبهنا ذينك العهدين بفصلين من فصول السنة، بين أعقاب الربيع وطلائع الصيف؛ فأما الربيع المدبر، فكان العصر الأليزابيثي، وأما الصيف المقبل، فكان العصر البيوريتاني. ولقد ألف مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يسموا العصر الأول عصر (شكسبير)، والعصر الثاني عصر (ملتن).
وكان العصر الذي تستدبره إنجلترة ويستدبره ذلك الوليد، عصراً فذاً في العصور الأدبية جميعاً، إذا استعرضنا التاريخ الأدبي لهذه الدنيا قديمها وحديثها. . .
كان حافلاً كما يحفل الربيع بالضوء والنماء والزينة، وكانت ألحانه كألحان الربيع أنماطاً تملأ الأسماع من كل ركن وفي كل سهل، وكانت نفوس أهله تستشعر روح العصر كأقوى ما تستشعر الأنفس روح الربيع، ففي كل قلب تسري الفرحة، وفي كل جسم تدب القوة، وفي كل ذهن يقوم إحساس قوي غامر بجمال الحياة، والأمل في الحياة، والرغبة في الاستزادة من لذائذ الحياة. . .
وإنك لتجد لهذا العصر روحاً مميزة شاعت في حياة الناس، وسيطرت على تلك الحياة، وتتلخص هذه الروح فيما يفهم من كلمتين هما النهضة والحرية: فأما الأولى، فقوامها إحياء(660/18)
علوم الأقدمين من اليونان والرومان، وإحياء فنونهم وآدابهم؛ وأما الثانية، وهي ثمرة للأولى، فقوامها الانطلاق من ليل العصور الوسطى، والانعتاق من قيودها إلى حيث يفيض النور، ويتسع مجال التفنن والابتداع.
أقبل الناس على دراسة مخلفات اليونان والرومان في حماسة ولذة، وآمن الناس إيماناً قوياً بأن لهم أن يستمتعوا بالحياة أعظم استمتاع وأوسعه، فيغنموا ما في الدنيا من مسرات وزينة؛ فما منحوا الحياة لكي يقضوها متزمتين منها برمين بها؛ وأيقن الناي أن من أهم ما يجب أن تتصف به حياتهم الجديدة هو بث روح الجمال في النفوس والعمل على السمو بها حتى تستشعر الجمال وتبحث عن الجمال وتأنس به لا كمتعة من متع الدنيا فحسب بل كنشوة روحية لا غنى للروح عنها إن هي أرادت التحليق والسمو. وتمسك الناس بفكرة لن يحيدوا عنها، وذلك أن الله وهبهم العقل لينظروا ويتدبروا غير مقيدين بما سلف من آراء مهما بلغ من قيمتها، ولذلك كرهوا القيود كرهاً شديداً وأحبوا الحرية حباً شديداً، وظهر أثر هذا الحب فيما ابتدعوا من شعر ونثر، لا في مادة ذلك الشعر وذلك النثر فحسب، ولكن في الطريقة والصورة بل وفي الألفاظ المستعملة كذلك.
وملأ قلوب الناس التطلع إلى توسيع أفق الحياة العقلية في كل ناحية من نواحيها، وقد جاءهم ذلك مما تم لهم فعلاً من توسيع أفق الحياة المادية بعد كشف الدنيا الجديدة، نتيجة لمغامرة المغامرين منهم وراء البحار في الغرب وفي أسواق آسيا في الشرق؛ وأقبل الناس على كل طريف يتقصونه من الأنباء عن العالم الجديد وعن الشرق، فأثر ذلك في اتجاه عقولهم وفيما أنتجته تلك العقول، تلمس ذلك في الكثير من قصصهم ومسرحياتهم وما تعج به من مواقف مثيرة وحوادث تستهوي الألباب وأفانين من مبتدعات الخيال تبث الروح في النفوس وتحملها على الإعجاب والاستزادة وتيسر لها سبل الابتكار والخلق.
وطاف بالناس شعور بمجد وطنهم وعظمته وتفوقه على غيره، وبخاصة بعد أن حطم أسطولهم الأرمادا أسطول أسبانيا الهائل؛ كما ملأت أفئدتهم وطنية صادقة يلتقي عندها ويتفق عليها المتنازعون في الدين من الكاثوليك والبيوريتانز؛ وإلى جانب ذلك كله أنجب العصر من أفذاذ الرجال في كل ميدان من ميادين الحياة ما يصعب الوقوع على أمثالهم مجتمعين على هذا النحو في غيره من العصور، فلم تخل ناحية من النواحي من أماثل(660/19)
نابهين، ففي الأدب والفن والفلسفة وفي الجندية والبحرية والسياسية والحاشية عظماء يزدان بهم العصر وتعظم بهم الحياة.
هذا هو العصر الذي كانت تستدبره إنجلترة ويستدبره ملتن، أو هذا هو الربيع الراحل؛ ولن تعدم المعين في أخريات الربيع أن تقع على زهرات شتيتة هنا أو هناك في جنته التي تنذرها أنفاس الصيف بالفناء القريب؛ ولن تعدم الأذن كذلك أن تسمع في ذلك الفردوس الذاهب نغمات حائرة بين الحياة والموت. وكذلك كان الحال في أخريات عهد إليزابث، فكانت بعض ثمرات العقول مثل كتابات بيكون لا تزال تقدم إلى المجتمع، كما كانت بعض ألحان العصر كأصداء الربيع الذاهب لا تزال توقع على أوتار شكسبير إذ لم تسكت تلك الأوتار إلا بموت صاحبها عام 1616 أي بعد ثمانية أعوام من مولد ملتن.
وأقبل الصيف في إثر الربيع فجاء منذراً بالقيظ تلفح أنفاسه لفحاً يبدو قاسياً وتشعر النفوس في مقدمه بالصرامة والقسوة والعبوس حتى كان ينسيها ذلك طلاقة الربيع ومفاتن الربيع.
تمكنت البيوريتانية من المجتمع وتسلطت على الناس؛ وكان ملتن يستقبل شبابه بينما كان ذلك المذهب يستقبل فتوته وسلطانه. واعتنق ملتن ذلك المذهب وتحمس له، ولكن كانت قد استقرت في حسه وخياله تلك المواكب التي انطوت، وتلك النغمات التي احتبست، فراح كالطائر المنفرد المتخلف يغني في هجير الصيف ألحان الربيع!
وما هذه البيوريتانية التي سوف يعتنقها الشاعر في شبابه والتي سوف تؤثر تأثيراً قوياً في مزاجه وفنه وسلوكه وموقفه من حياة عصره؟ أجل، ما هذا الصيف الصارم العابس الذي أعقب ذلك الربيع الرضى الطلق؟
جدير بنا أن نعرف أولاً من هم البيرويتانز ولماذا أطلق عليهم هذا الأسم قبل أن نتعرض لمذهبهم ونظرتهم إلى مسائل الحياة وأثر تلك النظرة في العصر الذي تم لهم فيه السيطرة والجاه.
أطلقت هذه الكلمة أول ما أطلقت على فريق من رجال الكنيسة في إنجلترة في عهد الملكة اليزابث، فقد أرادت هذه الملكة أن توحد طقوس العبادة في كنائس مملكتها جميعاً، وكان أبوها الملك هنري الثامن قد فصل الكنيسة في إنجلترة عن كنيسة روما عام 1529 بسبب ما شجر بينه وبين البابا من خلاف يتصل بقضية زواجه، وجعل الملك نفسه الرئيس(660/20)
الأعلى للكنيسة بدلاً من البابا؛ فأصدرت الملكة عام 1559 المرسوم الذي يوحد العبادات ويحرم من صورها ما لم يرد ذكره فيه؛ فكان رجال الدين حيال هذا المرسوم فريقين، فريقاً رضى عنه، وفريقاً ودّ لو أنه كان أكثر تطرفاً في الابتعاد عن روما فأبطل ما لا يزال من صور العبادات يأتي على شاكلة ما يتبع في الكنيسة البابوية وما يعد في نظرهم من البدع والخرافات. وهذا الفريق الثاني هم الذين أطلق عليهم أسم البيرويتانز أو المطهرون، وذلك لأنهم كانوا يريدون تطهير العبادات من آثار كنيسة روما. ولم يمض على صدور ذلك المرسوم إلا نحو خمسة أعوام حتى كان هذا الإسم شائعاً على الألسن يطلقه الناس على هذه الفئة المغالية في القضاء على كل ما له صلة بروما.
ولكن ما هي إلا أعوام ثمانية أخرى حتى خرج بعض الناس ممن كرهوا هؤلاء المغالين بهذا اللفظ عن مدلوله البسيط فصاروا يطلقونه على كل من يرمونهم بالمروق من الدين ليلحقوا وصمة الفسوق بالبيوريتانز إذ يسلكونهم والفاسقين والمنافقين في سلك واحد، حتى لقد أوشك أن ينسى مدلول الكلمة كما نشأت في وضعها الأول وأصبح البيوريتانز في نظر خصومهم ومن يجهلون أغراضهم هم الضالين الملحدين.
وتزايد استعمال الكلمة في مدلولها الجديد الظالم حتى أصبحت البيوريتانية في أذهان بعض الناس مرادفة للألحاد والنفاق والضلال وما كانت حين نشأت إلا الرغبة في الإصلاح والتطهر من البدع والتملص من كل ما لا يعد من جوهر الدين.
وزاد بعض خصوم المذهب بعداً بالكلمة عن معناها الأول فنسوا ما في ذلك المعنى من عنصر ديني طيباً كان ذلك العنصر أو خبيثاً، وصارت عندهم كلمة سباب عامة يعبرون بها عن كل معيب ويطلقونها على كل من يريدون الطعن فيهم من الناس كما يطلق لفظ الشيطان مثلاً على كل شرير أو معتد أو عابث.
ولما شاعت البيوريتانية في المجتمع ونمت كمذهب لا يقتصر على النظرة الدينية بل يتناول كذلك السياسة والخلق والفكر والفن دأب خصوم هذا المذهب في محاربته بالطعن في أشياعه، وحسبهم أن يطلقوا على الرجل منهم ذلك اللفظ الذي بعد عن مدلوله كل البعد والذي أصبح مسبة عامة ليشفوا ما في صدورهم من غل. تجد مثلاً واضحاً لذلك في العبارة الآتية التي وصفت بها كاتبة في أوائل القرن الثامن عشر ما كان يلاقي البيوريتانز(660/21)
من خصومهم في عهد الملك جيمس الأول الذي خلف إليزابث على العرش عام 1603 أي بعد نحو أربعين عاماً من مبدأ ظهور البيوريتانية قال: (إذا أظهر الرجل حزنه على ما ينال شرف المملكة وما يصب من العذاب على رؤوس الرعية فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وجميع من لا يأبهون بمطالب رجال الحاشية الممتدة أيديهم والقساوسة المعتدين على الحقوق وذوي الرذيلة من النبلاء فهم كذلك بيوريتانز! ومن لا يطيقون سماع الأيمان الحانثة والحوار الذي يكنفه الأسفاف، والتعريض الماجن والاستهزاء بكلام الله فهم جميعاً في عداد البيرويتانز؛ ومتى كانوا بيوريتانز فهم أعداء الملك وحكومته وهم متمردون متبجحون منافقون وهم الطاعون في هيكل المملكة)
على أن هؤلاء البيرويتانز على الرغم من مطاعن خصومهم يتكاثر عددهم ويتغلغل في النفوس مذهبهم منذ أواخر القرن السادس عشر، ولن يزالوا في تكاثرهم وتحمسهم حتى تم لهم السيطرة السياسية على البلاد عقب الحرب الأهلية التي انتهت بأعدام الملك شارل الأول، وكان مرد الانتصار على الملك وحزبه إلى عبقرية حربية ظهرت في شخص أليفر كرمويل أحد أشياع ذلك المذهب.
(يتبع)
الخفيف(660/22)
العرب واليهود
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وقد قرب هذا الدور على الأخص اليهود من العرب كثيراً. فإن دخول اليهود إلى أراض عربية بحتة والتجاءهم إليهم بعد طردهم عن أوطانهم، جعلتهم يطلبون حماية العرب. ولأجل تقريب أنفسهم من القبائل العربية تظاهروا بروابط النسب والقربى ونشروا سلسلة الأنساب المعروفة عند العرب. وحاولوا ولا شك التأثير على العرب من النواحي الأخرى، ومن النواحي الدينية ومن النواحي الثقافية؛ إلا أنهم لم يتمكنوا من التأثير في العرب من الناحية الدينية على ما يظهر، فقد كان العرب منذ القدم اعتزاز عظيم بآلهتهم وبأصنامهم، ولم يكن من السهل عليهم ترك عبادة هذه الأصنام. في حين أن اليهود كانوا يعبدون إلهاً واحداً خلق هذا الكون بأجمعه، إلا أنه إله شعب واحد هو إله إسرائيل فحسب. والظاهر أنهم لم يرغبوا في إشراك شعب آخر بعبادة هذا الرب الذي خصص نفسه بهذا الشعب.
أما من النواحي الأخرى فلم يكن هنالك مانع يحول بين اليهود وبين الشعوب الأخرى، لأن في رابطة النسب خدمة عظيمة تساعد هذه الجاليات اليهودية كثيراً؛ فنشروا الأساطير اليهودية بين العرب وعلموهم شيئاً كثيراً من أخبار التوراة، ولاسيما ما يخص الخلقة ومنشأ التكوين وقصص بني إسرائيل. يجعل جدول الأنساب الوارد في العهد القديم العرب في نفس الحقل الذي دون فيه نسب اليهود. فابراهيم هو جد العرب الأكبر كما هو جد اليهود. وإذا كان إسماعيل هو والد العرب اإسماعيليين وهو ابن إبراهيم فإن اليهود وهم من نسل إبراهيم على هذا هم أقرباء العرب وأبناء عمهم ومن شجرة واحدة.
وتنتسب بعض القبائل العربية الشمالية إلى إبراهيم رأساً. وإبراهيم على ما تقول التوراة لم يترك له خلفاً في البلاد العربية، وإنما ذهب نسله إلى تلك البلاد، وأن إبراهيم كان قد ذهب إلى فلسطين فانتشر أحفاده الذين تكاثروا وظهرت من ذرياتهم تلك الشعوب.
وإسماعيل هو ابن إبراهيم من زوجته هاجر التي تعرف عليها أثناء هجرته إلى فاران في القسم الشمالي من شبه جزيرة طور سيناء. وقد ترك إسماعيل له أثنى عشر ولداً تشعبت منهم القبائل الإسماعيلية التي انتشرت في شبه جزيرة طور سيناء وفي وادي الأردن.(660/23)
وعلى هذه النظرية العبرية يكون موطن القبائل الإسماعيلية هذه المنطقة التي نزل بها إبراهيم وإسماعيل وهي منطقة فلسطين وطور سيناء وشرق الأردن ومنها انحدرت القبائل الإسماعيلية إلى سائر الأنحاء كالحجاز.
ومن رأى المستشرق مركليوث أن كلمة (إسماعيل) العربية التي وردت في القرآن الكريم عدة مرات، هي ذات الكلمة التي وردت عند اليهود بصورة (يشماعيل) مبتدأة بحرف العلة. وإن هذا التشابه يجعلنا نعتقد بأن العرب قد أخذوا عن اليهود بطريق اليونانية أو السريانية، لأن النصوص العربية القديمة التي وردت فيها كلمة (إسماعيل) كانت تكتبها (يشماعيل)، أي مبتدأة بحرف (ي)، أي على نحو ما كان يدونه اليونان أو السريان.
ويرى هذا المستشرق أيضا أن العرب القدماء لم يكونوا يعرفون شيئاً عن ابراهيم، ثم تعلموا ذلك في أيامهم المتأخرة بعد اتصالهم بيهود الحجاز، فلما تعلموا ذلك صاغوا الكلمة بالقالب الذي صاغوا به كلمتي (إسماعيل) و (إسرائيل) وما شابه ذلك. وعلى كل، فإن هذا هو رأي مستشرق وهو رأي يحتاج إلى دليل.
وما دامت معرفتنا بالأساطير العربية القديمة وبديانة العرب وأخبارها لا تكاد تكون شيئاً، فإننا لا نستطيع أن نبحث في هذا الباب بحثاً صحيحاً. والمصادر العربية الكتابية لا تشير إلى كل حال بأية إشارة إلى اطلاع العرب على جداول الأنساب اليهودية، بل يظهر منها أن القبائل العربية كانت تنتسب حينما تنتسب إلى آلهتها المحلية، فقد كان لكل قبيلة صنم أو أصنام تنتسب إليه أو إليها، وقد كانت هذه الأصنام هي رابطة تلك القبائل، وكانت تحتمي بتلك الأصنام، كما تدل على ذلك عبارات مثل (عم صدوق) أو (عم نكرح) وما شابه ذلك.
وإذا ما تقوت القبيلة وازداد نفوذها، تقوى صنمها طبعاً، وكثر أتباعه ومعظموه، فتندمج القبائل المتحالفة بها، وتنتمي إليها وتنتسب إلى ذلك الصنم، وتصبح وكأنها من نفس تلك القبيلة. وهذا النوع من النسب الذي يكثر وجوده في مملكة المعينيين والسبئيين لا يشابه جدول الأنساب عند اليهود.
وقد حاول المستشرق ماركليوث البحث عن الوطن الأصلي لليهود، ذلك الوطن الذي أهملته الكتب اليهودية تماماً ولم تتعرض له ألبتة. وقد قارن بين أسماء الآلهة عند اليمانيين(660/24)
وطريقة التفكير الديني والمعتقدات وأسماء الأشخاص عند عرب الجنوب وبينها عند اليهود، فتوصل إلى رأي هو أن الوطن الأصلي لليهود لم يكن أرض فلسطين أبداً، بل قد يكون أرض اليمن، وهي أرض الهجرات السامية، ذلك الوطن الذي ارتحل عنه هذا الشعب.
على كل، فقد هاجر اليهود إلى أرض فلسطين، وصاروا يحاربون الأمارات والمشيخات مدة طويلة. وقد تألف من هذه الأمارات حلف قوي لطرد العبرانيين أمثال: الكنعانيين والعموديين والحيثيين والفلسطينيين الذين كانت لهم حكومة متحالفة تشمل خمس مدن أو أمارات صغيرة، هي غزة وأشدود وعسقلان (اشقلون) وجت (معناها المعصرة) وعقرون.
أضف إلى ذلك الأمارات الأخرى أمثال إمارة العموتيين وإمارة بني عمون وإمارة موآب وأدوم التي تقع في جنوب البحر الميت على تخوم موآب في مرتفع من الأرض يطلق عليه اسم جبل سعير. وقد عارضت كل هذه الأمارات الاسرائيليين وقطعت عليهم الطريق، وكبدوهم خسائر كثيرة لم تنقطع طول مدة بقاء اليهود في فلسطين.
دخل اليهود فلسطين ومعهم فكرتهم الدينية، إلا أن هذه الفكرة لم تكن تتجاوز تلك العقيدة التي نقرأها في التوراة والتي تتمثل في سفر يشوع على الأخص. وهي أن إله إسرائيل قد وعد شعب إسرائيل بأرض إسرائيل، فعلى هذا الشعب أن يخلص تلك الأرض من أيدي الشعوب الساكنة فيها، وعلى يشوع أن يتشجع ويحارب ليخلص تلك الأرض وليسيطر عليها من نهر الفرات الكبير إلى البحر. فلما دخل الاسرائيلون تلك الأراضي وجدوا شعوباً كانت مقيمة فيها خضعت لهم ولكنها لم تخرج من أرض فلسطين بل ظلت جذورها باقية إلى زمن الفتح الإسلامي. ويرى بعض الاختصاصيين في التاريخ العبري أن الكنعانيين من شعوب فلسطين القديمة على الأخص لم يرحلوا عن فلسطين بل ظلوا فيها إلى الفتح الإسلامي. ولما أصبحت فلسطين أرضاً إسلامية دخل هؤلاء في الديانة الإسلامية وظل بعضهم على دين النصارى حتى هذا اليوم. ويستطيع الإنسان على ما يقوله هؤلاء الثقات في التاريخ العبري أمثال الأستاذ روبنسون والسير فرازر أن يلاحظ ملامحهم في سكان فلسطين الذين يتكلمون اللغة العربية، إلا أن كثيراً منهم ينحدر من ذلك الجيل الكنعاني القديم صاحب فلسطين قبل هجرة العبرانيين إلى الأرض الموعودة بمئات وألوف السنين.(660/25)
وهم يمثلون اليوم أرضهم خير تمثيل.
وهنالك فرق عظيم بين هذه الهجرة العبرية التي كانت تحمل فكرة دينية وبين تلك الهجرة الاسلامية التي كانت تحفزها فكرة دينية أيضاً. فالمسلمون الذين غادروا الحجاز لنشر كلمة التوحيد لم يكتفوا بالحجاز أو فلسطين أو سوريا والعراق وبشبه الجزيرة كلها، بل أرادوا فوق ذلك نشر دين الله في جميع أنحاء الأرض في كل بقعة يقيم فيها إنسان. ففكرتهم إذاً فكرة إنسانية عالمية تستوي عندها جميع الأقوام والجنسيات في الحقوق والقانون. أما هجرة العبرانيين فقد كانت موضعية تريد شعباً واحداً من بين سائر الشعوب.
جواد علي(660/26)
الكذب والنسيان
كما يراهما (أبو العلاء المعري)
الأستاذ كامل كيلاني
- 2 -
10 - َقْصُرالُكْنيةَ
ثم راح يعاتبه على قصر كنيته، بعد أن امتدحه في رسالته تلك بإنه قد برأنظمه من الضرورات التي يضطر إليها غيره من الشعراء، فقال بعد بيان ممتع: فمن هجر هذه الضرورات وغيرها مما ذكرته لطال به الكتاب، كالتقديم والتأخير، والفرق بين المضاف والمضاف إليه. . فكيف استجار أن يقصر كنية صديقه. أما السمة (أي: الإسم) فغيرها، وأما الكنية فقصرها. فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا أمر من الله، ليس من ضعف الشاعر ولا وهن القائل، ولكنه من سوء الحظ لمن خواطب، والاتفاق الردئ لمن سُمِّى وذكر.
11 - ضرورات الشعر
ثم قال وأبدع: ولا يقل سيدي الشيخ - أدام الله عزه - قد قصرت الشعراء، قديمها ومولدها، وأولها السالف وآخرها، وفصيحها الطبيعي ومتكلفها.
فإنه لو كان استعمل ضرورة غير تلك لقبلت حجته. ولكنه ألغى الضرورات بأسرها، ورفض العيوب فلم يستعملها. وإنما تنوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور النظر (أي: لازم له) محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
12 - سبب نسيان
وما زال المعري ينتقل في هذه الرسالة من طرفة، ومن دليل إلى دليل، وهو يدس في أثناء مديحه عتابه، ويمزج شهد الكلام وصابه، حتى كشف لنا عن سر ذهول صاحبه عن اسمه. فقال: وفي كتابة - أدام الله عزه - شكوى رعشة، وما أعرف سبباً يؤدي إلى ذلك إلا أن يكون الافراط في درس العلم، فقد قال الشاعر:(660/27)
أرعشتني الخمر من إدمانها ... ولقد أُرِعشْتُ من ير كبر
والعجب أن المعري كان لا يخشى من مصائب الدهر إلا أن تسلمه الشيخوخة إلى الذهول والنسيان وتفضى به إلى الهتر والخبال، فقال في لزومياته:
وما أتوقى والخطوب كثيرة ... يد الدهر إلا أن يَحُل بي الُهْترُ
والهتر - وقاكم الله ووقانا شره - هو ذهاب العقل من كبر، أو حزن. ولقد ظل شيخنا محتفظا ًبيقظة ذهنه ورجاحة عقله حتى لحن ذات يوم، فتننبأله بعض خاصته يدنو أجله، وصح ظنه فمات بعد أيام قلائل.
أما النسيان فيعلله المعري في رسالته الغفران أبرع تعليل في حوار ابن القارح والجنى أبي هدرش. يقول ابن القارح: (أيها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك) فيقول الجني: (لسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حما مسنون، وخلقنا من مارج من نار).
13 - طول الأمد
وإذا علل أحد الشعراء نسيانه بفرط الحب، فقال:
(وحبك قد أنساني الشي في يدي ... وأذهلني عن كل أمر أحاله)
فإن المعري يرى أن طول الأمد كفيل بنسيان كل شئ، فيقول في لزومياته:
(كل ذكر من بعده نسيان ... وتمر الدهور والأزمانُ
ويقول:
سيُنْسىَ كل ما الأقوام فيه ... ويختلط الشآمي باليماني
ويقول:
وسوف ننسى فنمسى عند عارفنا ... ومالنا في أقاصي الوهم أشباحُ
ويقول:
سيسأل ناس ما قريش ومكة ... كما قال ناس ما جديس وما طسم
أرى الدهر يفنى انفسا بفنائه ... ويمضي فما ببقى الحديث ولا الرسمُ
14 - الهول والفزع(660/28)
والمعزى يرى أن الهول والفزع ينسيان أذكر الناس وأذكاهم، فنرى في غفرانه صاحبه ابن القارح يسأل الخليل بن أحمد في الجنة عن أبيات ينسبها الرواة إليه فيقول الخليل:
(لا أذكر شيئاً من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقاً) فيقول ابن القارح: (أنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكى العرب في عصرك؟) فيقول الخليل: ((إن عبور الصراط ينفض الخلد مما استودع).
ونرى أبا العلاء يتخيل صاحبه ابن القارح وهو يسأل (تميم ابن أُبَيَ) عن معنى كلمة المرانة التي وردت في قوله:
(يا دار سلمى خلاءً لا أُكلِّفها ... إلا المرَانةَ حتى تسأم الدّنيا)
فيقول تميم: (ما أردت بالمرانة فقد قيل إنك أردت اسم امرأة وقيل هي اسم أمة، وقيل العادة) فيقول تميم: (والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر أو الرجز. وذلك أنني حوسبت حساباً شديداً، وقيل لي كنت فيمن قاتل (علي بن أبي طالب) وانبرى إلى النجاشي الحارثي، فلما أفلتُّ من اللهب حتى سَفعتني سفعات. وإن حفظك لمبُقِّى عليك. كأنك لم تشهد أهوال الحساب الخ.
15 - هول الموت
أما هول الموت فينسي كل شيء ويذهل الشجاع عن كل شيء. قال المعري:
والموت ينسي كَمِيَّ الحرب صارمه ... ودرْعهُ وفتاة الحي مِجْولَها
وقال:
وأظنني أن لست أذكر بعده ... ما كان من يُسر ومن إملاق
16 - نشوة الخمر
وقد رأينا - فيما سبق - كيف رأى في الخمر مذهلاً له عن كُرْبتهِ، منسياً لغربته، فتمنى أن تصبح حلالا لتذهله عن همومه وأحزانه، فلا يفوتنا أن نذكر قوله في لزومياته:
(أيأتي نبي يجعل الخمر طِلْقة ... فتحمل ثِقلا من همومي وأحزاني
وهيهات لو حلت لما كنت شارباً ... مخففة في الحكم كِفَّة ميزاني)
17 - شعر آدم(660/29)
والمعري يقول في لزومياته في معرْض الإشارة إلى نسيان الشيخ آدم أبي الخليقة:
احتج في الغي بالنسيان والدهم ... وقد غووا بادكار، لا أقول: نَسُوا
ويقول في غفرانه، متخيلاً صاحبه ابن القارح وقد عمد لمحله في الجنان، فيلقي آدم عليه السلام، في الطريق، فيقول: يا أبانا صلى الله عليك، وقد روُي لنا عنك شعر، منه قولك:
(نحن بنو الأرض وسكانها ... منها خلقنا وإليها نعودْ
والسعد لا يبقى لأصحابه ... والنحس تمحوه ليالي السعودْ)
فيقول: (إن هذا القول حق. وما نطقه إلا بعض الحكماء. ولكني لم أسمع به إلا الساعة.
فيقول: (فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت فقد علمت أن النسيان متسرع إليك. وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوة في قرآن محمد (ص): (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) وقد زعم بعض العلماء أنك سميت إناساً لنسيانك، واحتج على ذلك بقولهم في التصغير: (أَنيْسِيان) وفي الجمع أناسي. وقد روى أن الإنسان من النسيان، عن ابن عباس. وقال الطائي:
لا تنسَيَن تلك العهود، وإنما ... سميت إنساناً لأنك ناسي
فيقول آدم (ص) أبيتم إلا عقوقاً وأذية: إنما كنت أتكلم العربية وأنا في الجنة. فلما هبطت الأرض نقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت. فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة عادت على العربية. فأي حين نظمت هذا الشعر. في العاجلة أم الآجلة. والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة. ألا ترى قوله: (منها خلقنا وإليها نعود) فكيف أقول هذا القول ولساني سرياني. وأما الجنة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنه مما حكم على العباد. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي (وإليها نعود) لأنه كذب لا محالة. ونحن معاشر أهل الجنة خالدون مخلدون. فيقول: (إن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده يعرب في متقدم الصحف السريانية، فنقله إلى لسانه. وهذا لا يمنع أن يكون. وكذلك يروون لك - صلى الله عليك - لما قتل قابيل هابيل:
(تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
وأودي رُبْع أهليها فبانوا ... وغودر في الثرى الوجه المليح
ويندد به في معرض حديث ابن القارح مع آدم (ص) في الجنة، وسؤاله عن بيتين(660/30)
يعزوهما الرواة إليه فيجيبه آدم بقوله: س (أعزز عليّ بكم معشر أبينيّ. إنكم في الضلالة متهوكون (أي: خابطون على غير هدى) آليت ما نطقت هذا النظيم ولا نطق به في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذبْ بعضكم على بعض).
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني(660/31)
حرية الرأي
في مدى العوامل غير الشعورية
للأستاذ حسين الظريفي
إن حرية الرأي لا تتمثل في أن لنا أن نختار فيما نفكر وفي طريقة التفكير وفيما نصل أليه من مبدأ وغاية، ثم نقف عند هذا المرتفع من الحرية لا نتقدم. وانما هناك شيء يسبق الاختيار، هو أن نكون بمعزل عن التأثر بما ورثنا وبما حرثنا حتى إذا تلقينا الفكرة من غيرنا أو من عند أنفسنا بصفاء لا يشوبه كدر كان من حقنا أن ندعها أو نصدع بها، وتلك هي حرية الرأي في شقيها المتلازمين.
إذا كان من حق الباحث أن يكون حر الاختيار تجاه أية فكرة تعن له من محيط نفسه أو من الخارج، فأن من حق تلك الفكرة ألا تنظر بالعين الملونة بأصباغ الماضي القريب والبعيد، وما قيمة الخيرة في وسط غير مختار؟
لقد عرف التاريخ أناساً كان في وسعهم أن يأتوا ببعض الحقائق في بعض المواقف، وكان الظرف الذي عاشوا فيه يدعو إلى هذه الدعوة ويهيء لها، إلا أنهم كانوا من الخضوع لما عرفوا وألفوا بحيث تهيبوا التفكير بكل جديد فمروا بالحياة ولم تمر هي بهم. وعرف التاريخ أناساً جاؤوا بالفكرة الصالحة وبالمبدأ الصالح ثم قبروا وما جاؤوا به، ملومين غير مكرمين. ذلك لأن آراءهم لم تلمس إلا بيد كانت داخل قفاز مما وهب الماضي وكسب الحاضر، فتراءت بلون غير لونها وأعطى لها دون وزنها. وكذلك يفعل المقلدون.
وظاهر، أننا نرث ما ترك لنا الأولون من عقائد وتقاليد. . . بشيء كثير من التقديس. وكل فكرة جديدة تعن لنا أو تعرض علينا إنما يحدد لها أمد البقاء بالقياس إلى قوة اصطدامها بالقديم الموهوب أو المكسوب. أما التقديس فأنه وليد الغموض الذي يحيط بنشأة كل قديم، ولذلك نجد هذا التقديس يزداد أثراً في النفس وقوة على البقاء كلما كان أوغل في إبعاد الماضي السحيق وأبعد عن التعليل والتحليل. فالعقدة في تقديس الشيء هي فيما يعلو أصله من جهالة، فمتى ما استطعنا رد ذلك الشيء إلى أصله الذي صدر عنه، ظهر لنا تقديسه وكأنه ضرب من الوهم. وكان في استطاعتنا أن نأخذه بضروب النقد وبالأخذ والرد وأصبحنا أحراراً في موضوعه.(660/32)
إن الخطورة ليست في ذات الفكرة، وإنما هي في تلك الهالة التي تحيط بها وهي ليست منها في شيء. ولا حق لنا في حرية الرأي تجاه ذات الفكرة إن لم نهتك دونها الحجاب ونخرجها من الإطار الذي وضعت فيه. عند ذاك فقط يصح لنا أن نتمتع بحرية الرأي ونقول: هذا خطأ وهذا صواب.
وقد يقوم بيننا وبين حقيقة الشيء حجاب هو من صنعنا ومن وضعنا، فيخرج الشيء عن حقيقته ويظهر لنا بغير مظهره فنشط بالحكم ونجور فيه، على غير إرادة وعن غير شعور.
لقد قامت خصومات كثيرة على المناهج والمبادئ، ولكنها كلها لم تنته بالنصر لأحد الفريقين المتخاصمين وبالتسليم على الفريق الآخر وإنما بقيت الخصومة قائمة بينهما تهدأ تارة وتثور أخرى. كذلك الخصومات التي قامت وتقوم بين بعض المعاصرين على غير فكرة واحدة وفي أكثر من ميدان واحد، فأنها لم تنته إلى نقطة اتصال وتفاهم، وإنما زادت كل مخاصم تعصباً لفكرته ومقتاً لآراء الآخرين، ولم ينقطع البحث إلا على القطيعة. وما كان هذا الحوار في التلقي والإلقاء في ميدان البحث والمناظرة إلا وليد تلك الأحياء التي تعيش في أحشاء العقل الباطن، وهي من غور قاعه، ومن وراء قناعه تملي إرادتها على الشعور، فتعمل ولا تُسأل.
لتكن لنا نية الخلوص إلى الحقيقة فيما نلقيه وفيما نتلقاه. ولنرفع النقاب عن تلك الرغائب العاملة فيما وراء الوعي فنحسن بها الانتفاع هنا ونتجرد منها هناك ونتخذ منا علينا حافظاً ورقيباً
ونحن إذ انسللنا في ميدان البحث عما سوى المبحوث، أعطينا الفرصة لأنفسنا وللآخرين في تحري مواضع الحق والصدق واختصرنا الزمن لتطور الأذهان وتتابع الحقائق، فدنّا بما يدين به العقل السليم ولم يقل بعضنا لبعض: لكم دينكم ولي دين. وعرفنا من بيننا من الزعيم ولم نقل: منا أمير ومنكم أمير.
تلك هي خطورة التجرد من هوى النفس عند التعرض للآراء بالتأييد أو التفنيد. وتعظم هذه الخطورة عندما تحكم في الموضوع كلمة ولي الأمر ومن يستمد منه القضاء.
ونعود فنقول إن وراء الشعور منطقة نفوذ أخرى غير ذات شعور، تصنع فيها الألوان فتصطبغ بها الأفكار والآراء. وتصدر عنها الأوامر فتتكيف بها الأقوال والأعمال. ويخرج(660/33)
منها النور فيضئ الطريق ويسار فيه إلى الغاية. وكل أولئك عوامل تكوين وتلوين غير شعورية، يخضع بها العقل الواعي إلى أخيه الكبير فيما وراء الوعي. فإذا أردنا التمتع بحرية الرأي بالحق وبالصدق، والإتيان بالأفكار المستقلة، كان علينا التصرف بتلك المنطقة النائية من العقل والتجرد من نزعاتها الشاذة فيما ندع وفيما نصدع وفيما نقدر به الأشياء ونقول كلمة الفصل.
ليست الحرية عندي في أن نفكر فيما نريد وكيفما نريد وأن نقول وأن نعمل، وانما الحرية في تلك السيادة التي يفرضها العقل الشاعر على ما وراءه من عقل غير شاعر تحيا فيه جراثيم الزمن لتكون ذاته وصفاته وتجعل منه ولياً للأمر، ينطق بفصل الخطاب ولكن من وراء حجاب. ولسنا من الحرية في شيء إن لم نخضع العقل إلى تجارب الواقع وننقذه من غوائل ما بكته فكبته.
لا حرية إلا في ذلك التجرد الذي يجريه العقل على نفسه، فيمحو ويثبت غير خاضع إلا لما يرى أنه الحق المطلق من قيود الماضي وأثقال كل رغبة شاذة. وفي موضع هذا التجرد من العقل تتلاشى الألوان وتزول الموانع. ويصبح العقل في موقف من الطبيعة كموقف الطبيعة منه؛ يتفاعلان على هدى ويعملان على غير سدى ولا يزالان دائماً أبداً. (بغداد)
حسين الظريفي(660/34)
مراكش
هل تصبح معتركا دولياً؟
لباحث فاضل
نقلت الأخبار أخيراً تصريحاً أدلى به مستر تشرشل في نيويورك قال فيه (يجب أن تكون ميناء الدار البيضاء أو مدينة مراكش مركز قوات الأمم المتحدة) وقد سبق لوكالة الأخبار الأمريكية (يونايتد بريس) أن نشرت منذ بضعة شهور نقلاً عن مصدر مسؤول بأن مداولات تجري بين الحكومتين الإنكليزية والأمريكية في شأن ترشيح مدينة طنجة كمركز لقوات الأمم المتحدة، وزادت الوكالات الأخبارية بأن نفس الدوائر الأمريكية والإنجليزية تبدي قلقاً وتتساءل فيما إذا كان وجود جيش احتلال بمراكش تابع لواحد من أعضاء المؤسسة الدولية ليس من شأنه أن يعرقل أعمال المؤسسة أحياناً أو يضايقها على الأقل.
وقد احتج الجنرال ديجول على هذه الأخبار، ولكن أي تكذيب لم يصدر في شأنهما لا من الولايات المتحدة ولا من إنجلترا، وكانت بعض المصادر الفرنسية المطلعة ترى أن إذاعة كهذه في الوقت الذي سافر فيه جلالة ملك مراكش إلى باريس إجابة لدعوة ديجول ربما كان له مدلول خاص في العرف السياسي.
وقد جاء مؤتمر طنجة الذي انعقد في شهر أغسطس الماضي وانفصل في الواقع على غير شيء على أمل أن ينعقد بعد ستة شهور دليلاً على أن مراكش لغم دائم في السياسة الدولية، فقد صرحت روسيا بأن الدستور الذي يربطها بمراكش هو عقد الجزيرة الخضراء الذي أمضته سنة 1909 ولذلك فهي ترى أن الاتحاد السوفيتي غير ملزم بأن يرتبط بأية تصفية أو تعهد أو اتفاق في شأن مراكش أمضى بعد ذلك بدون مشاركته.
ولعل القراء يذكرون أن اتفاقية الجزيرة الخضراء التي تشير لها الروسيا هي اتفاقية دولية تقوم على مبادئ:
(أ) استقلال مراكش
(ب) وحدة الإقليم المراكشي
(جـ) سياسة الباب المفتوح من الوجهة الاقتصادية.
ولا نعرف بالضبط إلى أي حد ستساعد الظروف روسيا على الاستفادة من هذا الأساس(660/35)
الذي وضعته لسياستها في مراكش والذي قد يؤيده الشعب المراكشي المقدام على ما نظن إذا وجد فيه ضماناً لاستقلاله ووسيلة لتحريره من استعمار الفرنسيين الرجعي.
وإذا كان الأنجلو ساكسون لا يستطيعون أن يبقوا مكتوفي الأيدي وخاصة الأمريكيين حتى تنفذ روسيا خطتها في مراكش ويصبح بذلك البحر الأبيض بحيرة روسية والنفوذ الأمريكي تحت رحمة القوات السوفياتية المرابطة بالدار البيضاء واجادير فمن المحقق أيضا أن الأنجلو سكسون لا يستطيعون أن يدافعوا عن الوضعية الحالية التي تعيش فيها مراكش تحت السيادة الفرنسية والإسبانية.
وذلك لثلاثة أسباب:
(أ) لأن فرنسا وإسبانيا دولتان ضعيفتان لا يمكن التعويل عليهما مطلقاً في فرض حياد مراكش حتى لا يستغلها قوة عظمى ضد قوة عظمى أخرى لدى وقوع اعتداء ما.
(ب) لأن وجود فرنسا وإسبانيا بمراكش يعتبر كوجود الأعضاء الفزيولوجية الزائدة في الجسم الحي، أي كنتيجة باقية لسياسة سرية بائدة تغيرت عليها مقتضيات الأحوال ولا سيما بعد التصريح الروسي الذي لا يعترف بأي اتفاق أو تعهد وقع بعد 1909 وفي مقدمة العقود التي لا تعترف بها روسيا عقد 30 مارس 1912 الذي حول مراكش عملياً إلى مقاطعة فرنسية خالصة في صورة حماية.
(جـ) لأن حالة جديدة تكونت في البلاد العربية بسبب فكرة الجامعة العربية التي تستند على أساس دبلوماسي واضح ومعترف به، وهذه الجامعة تعتبر مراكش امتداداً طبيعياً لها ولذلك للأسباب نفسها التي تعتبر بها مصر مثلاً ولبنان وسوريا امتداداً طبيعياً لها، ففصلها عنها - بالنظر لشعور المراكشيين - قد يمهد الجو لجعل (اللغم المراكشي) أكثر حدة ويفتح الشهية للمتآمرين، ولاسيما وفرنسا قد فشلت في استمالة قلوب المراكشيين إليها وأصبحت الأحزاب السياسية هناك بعد أن تألفت في كتلة واحدة هي حزب الاستقلال تحرك الرأي العام بمشيئتها ساعية به لتحرير البلاد وحمل فرنسا على التصريح بإلغاء الحماية المفروضة، ويعتبر جلالة ملك مراكش على ما يقال من المؤيدين لهذه الاتجاهات التحريرية. ويظهر للإنسان خطورة الحالة من الآن عندما يرى في صحافة اليمين الفرنسية من حين لحين قلقاً على مستقبل الحماية وضغطاً على حكومة فرنسا بأن تبدل المندوب(660/36)
السامي الحالي بجنرال حازم يضبط الأمور ويزود بأوسع السلطات.
لهذه الأسباب نرى أن الأنجلو سكسون لا يستطيعون أن يدافعوا عن الوضعية الحاضرة في مراكش وهم في الحقيقة من الخاسرين فيها، فماذا إذاً سيكون موقفهم وماذا سيكون عمل روسيا بعد أن أعلنت موقفها أولاً وأكدته بصفة غير مباشرة في قضية طرابلس. . .
من الصعب التكهن بالأمر، ولكننا متحققون بأن مسألتها ستوضع تقريباً بنفس الحدة التي وضعت بها مسألة اليونان والمضايق التركية وسوريا ولبنان.
(باريس)
(خبير)(660/37)
قصة الذرة:
تلك الأشعة المحيرة!
للأستاذ فوزي الشتوي
- 1 -
وكذبه صدى صوته
وللذرة أيضا قصتها المثيرة المليئة بشتى أنواع المفاجآت. تقرأها مرة، فإذا أنت حيال قصة بوليسية شائقة لا يكاد متعقبو طلاسمها يوفقون إلى حل لغز حتى يتعثروا ويفاجئوة بألوان من العجائب والطرائف التي لم يفكروا فيها ولم تكن لهم على بال.
وفي وسعك أن تقسم قصتنا إلى ثلاث مراحل: أولاها في الاستنتاجات الفلسفية الكلامية، والثانية حين عثر رونتنجن على أشعة إكس المجهولة فانتقلت القصة من مجرد الفروض والتخمينات إلى الحقائق الثابتة على الحقائق الملموسة. والثالثة حين ألقيت القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما اليابانية، فسجلت ختام الحرب العالمية الثانية. كما بدأت عصراً جديداً يسعى فيه العلماء إلى القبض على لجام الذرة، وتطبيق معلوماتها على الكون، وكشف غوامضه وأسراره.
ولا تعجب لأن عالماً كبيراً وقف في عام 1893 ليعلن على الملأ أجمع أن الاكتشافات والأبحاث الطبيعية وصلت إلى ذروتها، وأن العلماء في المستقبل لن يجدوا من المكتشفات الحديثة ما يستحق الذكر، وأن كل ما سيعلمونه مجرد تكرار وصقل للتجارب البارعة التي أجراها القرن التاسع عشر.
الأشعة الغريبة
لا تعجب لأن صدى صوته أرتد إليه يكذبه ويستنكر عبارته، فما كاد شهر ديسمبر عام 1895 ينتهي حتى أعلن البروفسور رونتنجن اكتشافه لأشعة إكس المجهولة وأرفق إعلانه بصور لعظام اليد، وبمفاتيح ونقود تظهر من خلال أكياسها الجلدية. فهذه الأشعة ذاتها هي التي نستخدمها الآن في الكشف عن العظام والأعضاء الداخلية للجسم.
ومحا الكشف العلمي الجديد الغريب صوت العالم. وأثبت أن العلماء ومكتشفاتهم لا تزال(660/38)
ترسم الحرف الأول من حروف الهجاء ولم ينتقلوا بعد إلى الحرف التالي، فقد عثر رونتنجن على أشعة بالغة الغرابة تخترق الأجسام المعتمة كما تخترق أشعة الشمس لوح زجاج شفاف. فما هي؟ وكيف تحدث؟ ولماذا تحدث؟ ومن أين أتت؟ وما خواصها؟
أسئلة لم يجب عنها علم القرن التاسع عشر بحرف واحد، ولم يعرف لها علة ولا تعليلاً. فلقبوها بالأشعة المجهولة (إكس). ولو توفرت المصادفة لكثير من العلماء الذين كانوا يجرون نفس تجارب رونتنجن لاكتشفوها، فإن أنبوبة كروكس الكهربائية التي كان يسعى لمعرفة خواص أشعتها كانت من الأجهزة المشاعة بين العلماء.
أفادت الطب والصناعة
وقد تلقى الأطباء أبحاث رونتنجن وأشعته بكثير من العناية، فعلى هديها تسير لهم الكشف عن الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، ولاسيما في حالات كسر العظام ووجود أجسام غريبة في الجسم. فإذا أطلق الرصاص على إنسان حددت أشعة إكس مكان القذيفة ليخرجها الجراح. وإذا تكونت داخل الجسم أجسام غير طبيعية أصابته بالمرض استطاع الطبيب بأشعة إكس أن يتأكد من وجودها أو ينفيه، وعلى هذه الصورة يعالج العلة.
وعلى هدى أشعة رونتنجن أيضا يستطيع بعض الصناع فحص الأدوات الدقيقة التي يشترط فيها النقاء ومعرفة ما بها من مواد غريبة. ومثال ذلك كرة البليارد وغيرها. وقد أصبحت أشعة إكس الآن من مستلزمات الطب الحديث، وكثير من العمليات الصناعية.
ولكن رونتنجن نفسه لم يدرك شيئاً من خواص الأشعة الجديدة سوى طريقة صنعها التي عثر عليها بمحض المصادفة فقد كان كسواه من أكثر علماء تلك الفترة يجري تجاربه على أنابيب كروكس الكهربية. وهي أنابيب تشبه في نورها أضواء النيون التي تشهدها كل ليلة في شتى أنحاء البلاد في تلك الإعلانات الضوئية الوهاجة.
ولكن الأشعة المنبعثة من الجانب السالب لأنبوبة كروكس كانت ضعيفة وذات خواص عجيبة إذ تسير في خط مستقيم مرسلة أشعة خضراء ذهبية تنحرف إذا سلطت عليها مغناطيساً. كما كانت مصدر قوة. فلو وضعت في مسارها عجلة دوارة فأنها تديرها. وكانت أيضا ترسل الحرارة في الأجسام التي تعترضها، وتضئ الماس وغيره من الأحجار الكريمة.(660/39)
الحالة الرابعة
وكان السير وليام كروكس مكتشف هذا الأنبوب يعتقد أن هذه الأشعة فريدة من نوعها، واستنتج أن الأنبوبة تحوي حالة رابعة للمادة غير الحالات الثلاث المعروفة وهي الصلابة والسيولة والغازية، وتكهن بأن الحالة الرابعة هي تفوق الغازية أو الإشعاع. فكان من الطبيعي أن يدرس ظواهرها أكثر العلماء.
ولأنبوبة كروكس أم استنبطها هينريش جيسلر صانع الأدوات العلمية؛ وهي تتألف من أنبوبة زجاجية فرغ أكثر هوائها وفي كل من طرفيها قطعة من المعدن. وقد أثبت جيسلر أنه إذا وصل أحد طرفي هذه الأنبوبة بمورد كهربائي، فإن الأنبوبة كلها ترسل ضوءاً لماعاً. وقد كانت هذه الأنبوبة بالذات الأساس الذي صنعت منه أنابيب أضواء النيون.
وتختلف عنها أنبوبة السير وليام كروكس في أنها أكثر تفريغاً من الهواء نتيجة لاستنباطه لمضخة أقوى وأدق من طريقة جيسلر، ومن ثم خالفتها في خواص أشعتها وغرابة تطوراتها ودفعت بالعلماء إلى دراستها.
وكان رونتنجن كسواه من العلماء، فأجرى عليها التجارب العديدة. وفي أحد الأيام غطى الأنبوبة بمادة سوداء فكانت دهشته بالغة. فعلى مقربة منه اتفق وجود لوح مغطى بمادة مضيئة وجدها تلمع وتضئ في الظلام. وأدرك من فوره أن أشعة الأنبوبة اخترقت المادة وانعكست على اللوح، وعرض كيس نقوده فإذا هو يرى محتوياته أيضاً، وواصل تجاربه حتى أدرك أن أشعة كر وكس ترسل أشعة غريبة لا تراها العين، ولكنها تضئ الأجسام اللامعة. كما وجد أنها تخترق المواد الصلبة وتسجل صورتها على ورق التصوير الحساس. فاستمر في تجاربه حتى قدمها للعالم في ديسمبر عام 1895.
وكان من السهل على أكثر العلماء أن يتحققوا بأنفسهم من اكتشاف رونتنجن، فما لبثوا أن وجدوا أن أنابيب كر وكس التي لديهم كانت دائماً ترسل تلك الأشعة الغريبة فحسنوا أنبوبة كر وكس وأضافوا إليها مهبطاً من البلاتينيوم وسموها (أنبوبة أشعة إكس).
(البقية في العدد القادم)
فوزي الشتوي(660/40)
الزنبقة الذابلة
للمرحوم أبي القاسم الشابي
أزنبقة السفح مالي أراك ... تساورك اللوعة القاسية؟
أفي قلبك الغض صوت اللهيب ... يرتل أنشودة الهاوية؟
أأسمعك الليل ندب القلوب؟ ... وأرشفك الفجر كأس الأسى؟
أصب عليك شعاع الغروب ... نجيع الحياة ودمع المسا؟
أوقفك الدهر حيث يفجر ... نوح الحياة صدوع الصدور؟
وينبثق الليل طيفاً كئيباً ... رهيباً ويخفق حزن الدهور؟
إذا أضجرتك أغاني الظلام ... فقد عذبتني أغاني الوجوم
وإن هجرتك بنات الغيوم ... فقد لزمتني فتاة الجحيم
وإن سكب الدهر في مسمعيك ... نحيب الدجى وأنين الأمل
فقد أجج الدهر في مهجتي ... شواظاً من الحزَن المشتعل
أصيخي فما بين أعشار قلبي ... يرف صدى نوحك الخافت
معيداً على مهجتي بحفيف ... جناحيه همس الردى الصامت
فقد أترع الليل بالحب كأسي ... وشعشعه بلهيب الحياه
وجزعني من ثمالاته ... مرارة شجو تفت الصفاه
إليَّ فقد وحدت بيننا ... قساوة هذا الزمان الظلوم
فقد فجرت فيّ هذى الكلوم ... كما فجرت فيك تلك الكلوم
إذا جرفتني أكف المنون ... إلى اللحد أو سحقتك الخطوب
فحزني وحزنك لا يبرحان ... أليفين رغم الزمان العصيب
فيصدع عند سكون الدجى ... إذا نسيتنا عذارى السحر
صدى يتهادى كنغم شجى ... تطاير من خفقات الوتر
يرنمه شجن المستكين ... لدى القبر تحت ظلال المسا
فنهجع تحت الثرى الهاجع ... جميعاً على نغمات الأسى(660/42)
إلى الشاطئ
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
فاض بي شوقي وناداني إليك ... فهفا قلبي وأصغى للنداء
آه. لو ترجع أيامي لديك ... وشبابي من فتون ونماء
نبصر الفرحة في الشط الحبيب
والتماع النور في الأفق الرحيب
قبلما تذهب شمس للمغيب
ويولي من سنا العمر الرواء
أيها الشط وهل تذكرَني؟ ... أنا من غنى بألحان الوفاء
والرمال البيض هل تنكرني ... عندما يسأل عني الأوفياء
أبلغ الأحباب يا شاطئ عني
أن نيران الهوى تأكل مني
لتمنيت إذا أجدى التمني
لو على رملك نازعت البقاء
كم أتيناك مع الصبح سكارى ... نتساقى الكأس من خمر الضياء
نتبع الصفو ونمشي حيث سارا ... ونرى الفرحة في نعمى اللقاء
تسكر الارواح منا قبلات
وتشيع الأنس فينا صبوات
وعيون الدهر عنا غافلات
والليالي من فتون وهناء
ذكريات كلما مرت ببالي ... أسرفت عيني وقلبي في البكاء
لأمانٍ باسماتٍ وليالٍ ... كسنا الحلم وإقبال الرجاء
كن أنسى وأناشيدي وخمري
والذي أينع من يقظة عمري
والسنا اللماح في ظلمة دهري(660/43)
والربيع الطلق. أمن وصفاء(660/44)
الكتُب
رأى معالي عبد العزيز فهمي باشا في كتاب:
اللغة والمجتمع
تأليف الدكتور علي عبد الواحد وافي
(تفضل حضرة صاحب المعالي الأستاذ الجليل عبد العزيز
فهمي باشا فأرسل إلى الدكتور علي عبد الواحد وافى رأيه في
كتابه (اللغة والمجتمع):
تفضلتم فبعثتم إليَّ بكتابكم (اللغة والمجتمع)، فتناولته مسروراً شاكراً، ثم قرأته بكل عناية واهتمام. وقد وجدتكم تناولتم فيه موضوع تطور اللغات وبحثتموه لأمن (كل أطرافه) كما يقول الأدباء، بل فليتموه وفحصتموه من (شوشته إلى قدمه) كما يقول أهل قريتنا. ولقد نهجتم في عرضه طريقة البيان السهل الممتع الممتنع، وزدتم التنوير والإيضاح بما تزيدتم من التشقيقات والتفريعات، وبما ضربتم الأمثال من ماضي اللغات وحاضرها وقاصي البيئات ودانيها، وانتهيتم من استدلالاتكم القيمة إلى تقرير تلك الحقيقة الأبدية وهي: (أن اللغات وما يتفرع عنها من اللهجات كانت وما زالت ولن تزال في تطور مستمر، وأن هذا التطور قانون ثابت يجري مجراه ويأخذ حكمه حتماً كلما توافرت دواعيه وعوامله، وأن هذه الدواعي حاصلة لا محالة وإن أبطأ ظهورها حيناً طويلاً أو قصيراً). وأن هذا القانون - الذي حصَّلتُ بيانَكم إياه بالعبارة السابقة - هو قانون عام ما شذت ولا تشذ عنه أية لغة من لغات العالم قديمها وحديثها. فهو متمش على العربية كما تمشى من قبل على اللاتينية وغيرها، وكما هو متمش وسيتمشى حتماً على الألمانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها.
كل هذا يا سيدي من جانبكم كلام صحيح معقول مقبول رضى الناس أو أبوا؛ فإن القوانين الاجتماعية لا تعرف المحاباة، ولا ترعى لبني آدم حرمة ولا عاطفة ولا شعوراً، بل هي كقوانين الطبيعة من نشوء وشباب وهرم وموت، تسري على الناس كافة بغير تفريق بين أجناسهم ولا دياناتهم ولا لغاتهم.(660/45)
وأكرر أن هذا خلاصة رأيك، وهو حق كل الحق، وجميل كل الجمال.
غير أنني لاحظت أنك، وأنت في معرض الكلام على اللغات وتطورها، قد تعرضت - وبحق - إلى رسم كتابة اللغات. وهنا أشرت - فيما أشرت - إلى شكوى الناس قديماً وحديثاً من رسم الكتابة العربية. ولكن سعة علمك، وجميل منطقتك، وسلامة ذوقك، كل هذا أبى عليك إلا الاحتراس في التقرير، فقلت في آخر صحيفة 38: (ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد، ومطابقة للنطق).
بقطع النظر عن سلامة القول بأن في رسم العربية دقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق، أو عدم سلامته، فمن رأيك أن هذا الرسم محتاج للإصلاح، ولكن لا لكثير من الإصلاح. ما هو هذا الإصلاح الذي يستلزمه رسم العربية قلَّ أو كثر؟
إن سيدي الأستاذ يعلم حق العلم أن الشكوى من رسم العربية ليست آتية من جهة أن أهلها يصعب عليهم إخراج نغماتها الصوتية، فإن كل الأطفال الذين يقرءون شيئاً من القرآن الكريم بكتاتيب القرى، وكل أطفال المدارس الأولية يعرفون كيف ينطقون نغمات الثاء والجيم المعطشة والذال والظاء والقاف، تلك النغمات الخمس التي ليست أصيلة ولا عامة عند أهل اللهجات العربية البعيدة عن الفصحى. أما سائر حروف الفصحى كالباء والتاء والحاء والخاء والدال والراء. . . إلى آخر الأبجدية، فنغماتها يعرف المصري وغير المصري من أهل البلاد العربية أن ينطق بها نطقاً لا شائبة فيه، بلا فرق في هذا بين متعلم وأمّي. لكن هذه النغمات ليست هي اللغة العربية الفصحى المراد خدمتها، وإلا لما تعذرت على أحد. بل الفصحى هي هذه النغمات موجهة في الكلمة الواحدة توجيهات مختلفة يقوم بها في اللغات الأجنبية حروف الحركات ولا يقوم بها عندنا إلا الشكل الذي أفلس. هذا هو موطن الصعوبة عندنا ومثار الشكوى. وما يهم فيما يتعلق بنا أن تكون كتابة اللغات الأجنبية فيها مساوئ أو لا يكون، إنما الذي يهمنا هو رسم كتابتنا دون غيرنا. فعندما تقول إن رسم العربية هو من أكثر أنواع الرسم (سهولة ودقة وضبطا في القواعد ومطابقة للنطق)، اسمح لي أن أقول إن هذا لا يطابق الواقع إلا من جهة السهولة أي الاختزال المخل فقط. أما من جهة الدقة وضبط القواعد والمطابقة للنطق، فإن هذا تجوّز في التعبير.(660/46)
إذ معنى الكلمة العربية لا يتأدى بمجرد نغمات الحروف، بل هذه النغمات محركة في اتجاهات مختلفة. وهذا الغرض لا يؤديه الرسم العربي مطلقاً، أو هو يؤديه ويؤدي كثيراً غيره في آن، مما يوجب التشوش والاضطراب. وهيهات أن يسعفنا هذا الرسم العاجز، ولو أضيف إليه الاضطلاع المتين بقواعد اللغة من صرف ونحو وغيرهما - وما تقوله في صدر صحيفة 39 مما حاصله أن لجمود الرسم فائدة تخليد ما خلّفته قرائح أهل اللغة من الآثار، فاسمح لي أن أقول إن هذا كلام جيد معقول، ولكن على شرط واحد وهو أن تكون هذه المخلفات ممكناً لأي عارف بالقراءة والكتابة أن يقرأها على الوجه الذي أراده واضعها. وما أظن السيد يعارض في هذا الشرط أو يرى سهولة تحققه، خصوصاً مع تطور اللغة وعدم استقرارها على حال واحدة، ذلك التطور الذي وضع كل كتابه لبيانه. وإذن بقينا مرتطمين بالصعوبة التي نحن فيها الآن.
لا أريد أن أقول إن حضرة الأستاذ الفاضل يستعمل في عرض أفكاره القيمة التَّقِيَّةَ التي طالما استعملها الجاحَظ وغيره من كبار السلف المحترمين، بل كل ما أريد أن أقوله للسيد هو أني أنست كثيراً بكتابه وفرحت بسعة علمه. وإني أرجو الله أن يكثر من أمثاله وأن يوفقه في عمله ويأخذ بيده فيه، والسلام مع أوفى الشكر والاحترام.
عبد العزيز فهمي(660/47)
المدينة المسحورة
للأستاذ سيد قطب
بقلم الأستاذ وديع فلسطين
عز على الأستاذ سيد قطب أن تتوفر شهرزاد على العناية بأطفالها بعدما أمضت ألف ليلة وليلة تقص فيها على زوجها الملك شهريار قصصاً جذابة تستهوي فؤاده، وتحفزه إلى طلب المزيد. وعز عليه أن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح وفي جعبتها تلك القصة الرائعة (المدينة المسحورة) التي استطاع الأستاذ سيد أن ينتزعها من صدر الملكة بقدرة فائقة.
فلم تكد تمضي مئة ليلة على صمت شهرزاد، حتى دب الملل إلى قلب الملك شهريار وخرج يعسعس في الظلام صوب حجرة زوجه، تراوده نفسه على إيقاضها لتستأنف أحاديثها الشهية، ولكن العزة الملكية تحاول تنحيته، وسرعان ما تحس شهرزاد بحركته وهو بين الإقدام والإحجام، فتستوضحه الأمر، وهي به من قبل عليمة، ثم ترضى أن تمنح الملك عشر ليال من أجمل ليالي حياته، تقص فيها عليه قصة حب عجيب وقصة انتقام أعجب.
ملك تيمه حب راعية شويهات، فلم يطب له مستقر، ولم يستطع أن يستوي على أريكة عرشه، حتى تزوجها مؤثراً إياها على قريبة له من الأسرة الملكية أوصى والده بالزواج منها.
وينجب الملكان أميرة ذات قد مياس، ووجه مشرق، وجمال يشع على بدنها نوراً علوياً.
ويدور دولاب الزمن، فيستهوي قلب الأميرة راع من رعاة الغنم؛ ولكن المرأة المنبوذة التي أبى الملك أن يقبلها زوجة له احترفت السحر، ثم انتقمت من نابذها - ويالها من نقمة - في شخصه وابنته وعائلته ومدينته، فأخالت المدينة بسكانها تماثيل، وماتت هي بدورها مقتولة تضم بين جنبيها سر هذه المدينة المسحورة وكيفية فضه.
وبعد ألف من السنين، يجيء مثَّال من سلالة راعي الغنم الذي كان يزمع الزواج بالأميرة، لزيارة تلك المدينة المسحورة، فيستلبه تمثال الأميرة إعجابه، ثم لا يلبث أن يهوى هذا التمثال ويعشق صاحبته عشقاً مبرحاً، وإذ ذاك يُفَكُّ عن المدينة نطاق السحر الذي ضرب حولها، فما يشفى داء الحب سوى الحب، وما يبرئ المريض من كلَبِه سوى مصل الكلب.(660/48)
فتدب الحياة ثانية إلى المدينة، ولكن عوامل البلى التي أوقفها السحر ألف عام، سرعان ما تعمل في جسوم قطان المدينة بعد ما ردوا إلى الحياة، فتتحلل أجسادهم تراباً مذوراً.
أما الأميرة، فقد عجزت عوامل البلى عن إصابتها لأنها كانت تحب! وما حيلة الزمان أمام قلب يحب؟!
ذلك إيجاز القصة المسحورة التي كتبها الأستاذ سيد قطب. وما كنت أحسب أن الصديق سيداً يعرف عن الحب كل هذا، بل ما كنت لأتخيله بمستطيع أن يصور تلك العاطفة النبيلة في هذه الصورة الرائعة الأخاذة.
ويحق للقصاص أن يغتبطوا لأن ملقن شهرزاد - أعني الأستاذ قطب - أبدى في كتابة هذه القصة ميلاً فطرياً إلى مراس هذا اللون من الأدب، بل التمهر فيه. فالأسلوب له مطواع، والصورة في مخيلته مجلوّة، والتفكير متجه اتجاهاً صائباً والحبكة الروائية في مقدوره. فلا عجب إذن إذا أصاب الأستاذ سيد قطب من التوفيق قدراً كبيراً، وإذا كانت كتفه من النجاح راجحة
وديع فلسطين(660/49)
القصص
من أدب القصص الأمريكي
هدية عيد الميلاد. . .
للكاتب الأمريكي برت هارت
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
عيد الميلاد في (كلفورنيا) من أروع فصول السنة. . . فهو الفصل الذي تنحدر فيه المياه من جو السماء إلى أديم الأرض، فإذا به يهتز ويربو ويفيق من غفوة الشتاء، وإذا الأرض مجلوة مزهوة بما انبسط عليها من زهور الربيع وأقاحيه. . .
وكانت الشمس تسرب شعاعها خلال السحب المنعقدة - التي تتهادى أمام موكب الريح - فيلقى الروابي في روعة وجلال فإذا مظاهر الحياة قد تجمعت: الموت والحياة، والفناء والبعث، والألم والبهجة. . . نعم. . . فالروابي التي كان يطويها مطرف الموت والفناء قد زهت. . . وسرت نسمة الحياة تراودها، فإذا البعث والنشور يدب في أكنافها، وإذا البهجة والحبور تجول في أطرافها. . . وإذا الريح التي كانت تنوح في ثورتها تداعب براعم الأزهار وقد استقرت مكان الأوراق الذابلة الذاوية. . .
ربما كان هذا كله علة هذا الرونق الذي أحله عيد الميلاد في حجرة الاستقبال. . . والذي أكسب الحضور منظراً خلاباً فريداً وأكسب الأزاهر فتنة وجمالاً. . .
قال الطبيب وهو يدنو بكرسيه من النار: (والآن:.) ثم قلب طرفه في لطف ودماثة ولكن في حزم وثبات بين الوجوه الملتفة حوله. . . وقال:
- أود قبيل أن أمضي في قصتي. . . أن أحذركم من مقاطعتي بتلك الأسئلة الساذجة المضحكة. . . فعلى كل غلام منكم ألا يعبث برجله أو بذراعه. . . وإلا فسيكون جزاؤه الطرد والحرمان. . . أفتعدونني بذلك؟!)
فأجابته الجماعة في صوت واحد فيه غضاضة الطفولة ورنة الصبية - (أجل. . . يا سيدنا!)
فعاد الطبيب يقول في صوته الرقيق الحازم:(660/50)
- (إذن عليكم بالسكون. . . (بوب). . . دع رجالك. وارغب عن صليل هذا السيف الصغير. . . وستجلس (فلورا) جواري كالسيدة الصغيرة، وتكون في هدوئها وإصاختها السمع مثلاً يحتذيه باقي الجماعة. . . (تانج) اجلس كما يحلو لهواك وبغيتك، ولكن في هدوء وإصغاء. . . والآن. أديروا صنبور الغاز قليلاً لكي تستعر النار وتتوهج. . . وينبغي على كل صبي أن يجنح إلى الصمت. . . ومن يسبب أدنى ضوضاء، فلن يبقى بين جدران هذه الغرفة. . .)
وسادت إثر ذلك آونة من الصمت العميق. . . فأسند (بوب) سيفه إلى جانبه. . . وداعبت (فلورا) دميتها قليلاً، ثم أرقدتها وجلست جوار الطبيب. . . أما (فنج تانج) - ذلك الطفل الوثني الصغير الذي أتيح له أن يحضر مباهج (عيد الميلاد) - فقد ارتسمت على ثغره ابتسامة عذبة فيها حلاوة وفيها براءة.
وكانت الدقات التي تنبعث من الساعة الفرنسية المستقرة فوق المدفأة. . . تعكر صفو ذلك الهدوء الذي خلعته روعة (عيد الميلاد) على حجرة الجلوس حيث تناثرت اللعب، والعلب المصنوعة من خشب الأرز الطيب الرائحة. . . والأزهار الفياحة عطراً. . .
بدأ الطبيب يسرد قصته قائلاً:
(منذ أربع سنوات - في مثل هذا الوقت - حضرت حفلة (عيد الميلاد) في منزل صديق من أصدقائي المدرسين. . . وشملني شيء من المرح، إذ سيتاح لي أن أرى إبناً من أبنائه على الرغم من أنه في الثانية عشرة من عمره إلا أنه كان على مبلغ وافر من العبقرية والنبوغ. . . فقد حفظ من قصائد الشعر اللاتيني والإنجليزي ما لا أستطيع له حصراً. . .
كما كان في مقدوره أن يؤلف قصائد وأشعاراً رقيقة لها روعتها ولها جمالها. . .
وليس بمقدوري أن أحكم على أشعاره، فما أنا ممن أوتوا القدرة على النقد، ولكن ثمة بعض النقاد أعجبوا بما أوتي من الموهبة الفائقة على نظم الشعر في مثل سنه المبكرة. وتنبأوا له بمستقبل زاهر في ساحة الشعر والأدب. . . بيد أن والده كان على الضد من ذلك: رجل حقائق وعمل لا رجل خيال وأدب. . .
كانت الحفلة مبهجة مرحة. . . وكان الأطفال قد تجمعوا من كل صوب ومكان. . . ووقف معهم ذلك الغلام - وهو في طوله مثل (بوبي). . . وفي أدبه وخلقه مثل (فلورا) التي(660/51)
بجواري. . . كان الجميع يدعونه (روبرت). . . أما صحته فكانت معتلة ضعيفة واهنة. . . وطالما شكا إليّ أبوه من قلة لعبه مع من هم في سنه من الصبية وتفضيله اللبث في البيت مغموراً بين الكتب والأوراق يطالع ويكتب. . .
وكان ثم (شجرة لعيد الميلاد) كشجرتنا هذه. . . وكثيراً ما ضحكنا في عبث ولهو مع الأطفال الذين راحوا يتسلمون هداياهم المعلقة في الشجرة. . . وشملنا جميعاً جو من المرح والصفو. . .
وبغتة ندت عن غلام صيحة فيها مزيج من العجب والطرب وقال: (هاك!! شيء لروبرت! فماذا أنتم قائلون؟!)
فراح يخمن كل منا:
- (قلم من الذهب.)
- (كتاب للشاعر ملتون. . .)
- (قاموس للقوافي. . .)
بيد أن الغلام قال على دهش منا:
- (ليس شيء من ذلك إنما هو!. طبل.)
- (ماذا؟!!)
- (طبل. . . وعليه اسم روبرت)!
فارتفعت صيحات الضحك من أفواهنا. . . فقد كانت دعابة حقاً. . . وقال أحدنا: (هه. . . أرى أنك ستحدث في العالم دوياً هائلاً يا روبرت!.) وقال آخر (ما هذا الطبل إلا لوزن الشعر!) وترت الأقوال وتعددت فيها دعابة وفيها عبث. . . بيد أن روبرت أبى أن ينبس بكلمة. . . وشحب لون وجهه. . . وأطلق صيحة فيها حقد واضطراب، وبرح الغرفة. . . فأحس هؤلاء الساخرون شيئاً من التألم والتأنيب. . . وانهالت الأسئلة فيمن أتى بهذا الطبل. . . ولكن دون جدوى. . . ولم يعد (روبرت) إلى الغرفة ثانية تلك الليلة. . .
وضرب النسيان ستارة على هذه الحادثة فقد اشتعلت حرب العصيان الأهلية في الربيع التالي. . . وعينت في أحد الفيالق.
وفي طريقي إلى ساحة القتال مررت بالأستاذ المدرس. . . فكان أول سؤال - إبتدره به(660/52)
لساني - عن (روبرت). . . فهز الأستاذ رأسه في حزن وألم! وقال:
- (ليس على ما يرام! فقد أصيب بانحراف ظل ملازمه منذ عيد الميلاد حينما رأيته. . . حالة غاية في الغرابة. . . ولكن اذهب فانظره لملك تستطيع أن تزيل عنه ما يعتريه!)
فذهبت من فوري إلى منزل الأستاذ حيث وجدت روبرت مضجعاً في مقعد طويل. . . وقد تناثرت ثم حوله كتبه وأوراقه وعلق الطبل فوق رأسه. . . وكان وجهه شاحباً ذابلاً. . . ولكن عينيه كانتا في بريق ولمعان. . .
ابتهج وسر حينما رآني. . . ولما علم بوجهتي. . . طفق يسألني كثيراً عن الحرب. . . وظننت أني بحديثي إليه قد سليته عن مرضه، غير أنه فجأة أمسك بيدي وقربني إليه قائلاً في صوت خفيض كالنبأة تسري في الفضاء.
- (سيدي الطبيب. . . أرجو ألا تسخر مني حينما أخبرك بعض الأشياء! إنك لتذكر ذلك الطبل. . .) وأشار إلى الطبل المعلق في الحائط فوق رأسه. . . (وتعلم كيف أتى إلى من حيث لا أدري ولا تدرون. . . فبعد بضعة أسابيع من عيد الميلاد وكان الطبل معلقاً هكذا فوق رأسي. . . وكانت عيناي بين النعاس واليقظة. . . إذ يطرق أذني صوت قرعات خافتة تنبعث من الطبل ثم إذا بها تعلو وترتفع. . . ثم توالت وتتابعت سريعاً، ودوّى صوتها جليلاً رهيباً. . . حتى لكأنها ملأت البيت ضجة ودوياً. طرقت أذني ثانية عندما وافى الليل نصفه ولم أجرؤ على أن أنبئ أحداً بخبرها. . . ولكني كنت أسمعها كل ليلة إثر ذلك. . .
وانقطع صوته برهة. . . ولكنه لم يلبث أن عاد يقول في قلق واضطراب (أحياناً تكون القرعات خافتة هينة. . . وأحياناً تكون مرتفعة مدوّية. . . ولكنها ظلت سريعة متتابعة حتى كنت أخشى أن يسمعها أحد من أهل البيت فيسألني فلا أجد جواباً. . .
بيد أني أعتقد يا سيدي الطبيب، ونظر إليّ نظرة فيها ألم وفيها قلق (أعتقد. . . أن أحداً لم يسمعها سواي. . . إنها تأتيني من هذا الطبل مرتين في اليوم. . . عندما أكون غارقاً في القراءة أو الكتابة. . . أسمعها. . . فكأنها غاضبة حانقة في قرعها. . . وتعمل على أن تستلب عقلي من بين كتبي. . .).
وكانت عيناه تلمعان وتتألقان، وصدره بين ارتفاع وانخفاض، فحاولت أن أخبره أن هذا(660/53)
ليس إلا ضعفاً وإنهاكاً عقلياً وجسمانياً أدى إلى اضطراب في الحواس، كما يحدث لكثير من الناس. فأنصت إلى ما أقول، وعلى ثغره ابتسامة حزينة كأنه لا يعتقد ما أقول، ولكنه شكرني، ثم لم ألبث أن ودعته ورحلت، وقابلت الأستاذ في طريقي، فأوضحت له رأيي عن حالة ولده فقال:
إذن فهو يحتاج لهواء منعش، وجو رائق، ورياضة جميلة!
ولم يكن الأستاذ بالرجل السئ البغيض، ولكن كان كثير الألم والإشفاق لما يعتري ولده.
وغادرت المدينة في نفس ذلك اليوم، وكاد داعي النسيان أن يأتي على هذه الذكرى فيطويها ويمحوها، فقد انهمكت في تمريضي للجرحى، ومعالجتهم في مستشفيات القتال. . . لولا أن قدر لي أن ألقى رجلاً عسكرياً، كان على صلة صداقة بالأستاذ فأخبرني أن (روبرت) أصيب بلوثة وخبال في عقله، وفي إحدى النوبات التي كانت كثيراً ما تعتريه، فر من المنزل، ولم يعثر له على أثر، وكان الخوف من أن يكون النهر قد طواه في أعماقه.
فاهتزت نفسي في فرق وروع لهذه الفاجعة، ولكن لم يقيض لي الله وقتاً أجلس فيه حزيناً لما أصاب (روبرت) الصغير.
ومضت الأيام بعد هذا النبأ، وإذ بفيلق من جيشنا قد أتى عليه الثوار، وفتكوا به في وحشية وجنون.
فنقلت من ساحتي إلى مستشفى هذا الفيلق لأعاون زملائي الأطباء في معالجة حياة هؤلاء المنكوبين والصرعى.
وعثرت برجل طويل القامة عملّس بتع، كان مثخناً بالجراح في فخذيه، ولكن رجاني أن أدعه وأنصرف إلى زملائه الذين هم أحوج منه بالعناية والرعاية، بيد أني لم أكترث لرجائه في بادئ الأمر، لأن هذه الرحمة وإنكار الذات سائدة شائعة بين رجال الجيش جميعاً، ولكنه ما لبث أن عاد يقول: (بالله أيها الطبيب دعني، فثمت غلام كان يقرع الطبل، غلام باسل جسور، يجود بأنفاسه الآن، فاذهب إليه وانظره لعلك مستطيع له علاجاً، لقد أنقذ هذا الغلام ببسالته وجسارته كثيراً من رجالنا، لقد أنقذ شرف فيلقنا بما أتاه من جليل الأعمال هذا الصباح فأنقذه بالله أيها الطبيب!).
أثرت في نفسي روح هذا الرجل وسجيته أكثر من منظر هؤلاء الجرحى وهم مبعثرون في(660/54)
كل مكان يئنون ويصيحون في حشرجة ورحير مما بهم من ألم وعذاب. فمضيت بينهم إلى حيث كان ذلك الغلام - قارع الطبل - راقداً وجواره طبله ملقى. . . فلمحت وجهه فإذا به (روبرت).
ولم أكن في حاجة إلى وصف ذلك الرجل الجريح ولا إلى البرودة التي سرت إلى جبينه. . . لكي أعرف أن ليس ثمة من أمل في حياته - ناديته باسمه؛ ففتح عينيه وعرفني. . . وقال في صوت هامس فيه ضعف يسري (إني لمسرور بلقائك. . . ولكن أحسب أن القضاء حم ولا مفر من الحمام)، فلم أجد في نفسي القدرة على أن أكذبه القول، ولا القدرة على أن أخبره بالحقيقة، فأمسكت بيده وضغطت عليها في رفق ولطف أحثه على التجلد، وتابع حديثه في صوت أوهن وأضعف.
(. . . ولكنك سترى والدي، فاسأله أن يغفر لي، ويصفح عني، وقد يلام كل إنسان سواي، لقد تقضي وقت طويل قبل أن أدرك علة إرسال هذا الطبل لي كهدية في عيد الميلاد! وكذلك علة هذا النداء الذي ظل ينبعث من دقاته يدعوني ويدعوني. . . وأخيراً عرفت ما كانت تدعوني إليه، وإني لراض بما فعلت، فبهذا تحدثني نفسي: خبّر والدي أن هذا أفضل من لبثي معه، أنغص عليه عيشه، وأكدر عليه صفو حياته، لما يعتريني من شذوذ واضطراب ومرض).
وتوقف حديثه هنيهة، ثم إذا به يمسك يدي ويقول: (انصت!). . . فأصخت السمع، ولكن لم يطرق أذني سوى أنات الجرحى وزحير المرضى، فقال في صوت خافت: (الطبل! ألا تسمعه؟ إنه يدعوني)، ومد راحته إلى حيث ألقى طبله كأنه يود لو عانقه، وعاد يقول: (انصت! أفلا تسمع دقات الطبل وهي تنبعث في رهبة وجلال؟! ها هي الصفوف تنتظم. . . أفلا ترى الحراب والأسنة وهي تتألق تحت شعاع الشمس؟! إن وجوههم مشرقة طلقة يعلوها البشر والرضا. . مه! ها هو القائد إنه ينظر إلي وعلى ثغره بسمة الرضا والبر!) وانطبقت شفتاه، وارتخت أهدابه على عينيه، وسكن سكنته الأبدية!!
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(660/55)
العدد 661 - بتاريخ: 04 - 03 - 1946(/)
الإسلام والنظام العالمي الجديد
للأستاذ عباس محمود العقاد
في سنة 1889، ظهر في بنجاب بالهند، ميرزا غلام أحمد القادياني صاحب الطريقة القاديانية المشهورة، وأخذ - وهو في الخمسين من عمره - ينشر تلك الطريقة التي تشتمل على عقائد كثيرة لا يقرها الإسلام، ولا يقبلها دين من الأديان الكتابية، ومن ذلك أنه هو نبي الله المرسل وأنه عيسى بن مريم قد بعث إلى الأرض في جسد جديد!
وفي سنة 1914 تطورت تلك الطريقة إلى حركة إسلامية تنكر نبوة القادياني، وتنكر الحكم بالكفر على من يؤمن بالقرآن ورسالة محمد عليه السلام كائنا ما كان الخلاف بينه وبين الشيع الدينية الأخرى، وتحول إلى هذه الحركة كثير من اتباع القادياني وكثير من طلاب التجديد بين السنيين والشعيين، وظهرت لهم كتب كثيرة، باللغة الأردية واللغة الإنجليزية في التبشير بالإسلام، ومع ترجمة خاصة للقرآن الكريم، وتواريخ موجزة للنبي وخلفائه الراشدين.
وليست تفسيرات هذه الجماعة للكتاب والسنة بالتي توافق مذاهب الفقهاء المتفق عليها، لأنها تصرف معاني القرآن إلى تأييد أقوال لم تخطر للأولين على بال، وليست من مقتضيات الدين في رأي الأقدمين أو المحدثين.
ولكن الحق الذي لا مراء فيه أن هذه الطائفة هي أوفر المسلمين نشاطا، وأشدهم دفاعا عن العقائد الإسلامية، وأكثرهم اجتهاداً في نشر فضائل الدين واعرفهم بالأساليب التي توجه بها الدعوة إلى العقول الأوربية، وإلى جماهير المتعلمين في الشرق والغرب على الإجمال.
وهم يحسنون انتهاز الفرص من الحركات العالمية والدعوات الثقافية حيثما ظهرت في قطر من أقطار المعمورة، فيدركونها في أبانها بكتاب يثبتون فيه أن الإسلام اصلح من تلك الدعوة لعلاج المشكلة التي تتصد لعلاجها، ويقرنون ذلك دائما بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد التاريخية، وان فسروها بعض الأحيان تفسيرا لا يقرهم عليه السلفيون أو المتزمتون.
فلما دعا النازيون والشيوعيون إلى (نظام عالمي جديد) لإنقاذ العالم من معضلاته الروحية والسياسية والاقتصادية بادر كاتب من اقدر كتاب هذه الجماعة إلى تفصيل موقف الإسلام(661/1)
من هذه النظم أو من مذاهب الفلسفة التي تعتمد عليها، فصدر باللغة الأردية مؤلف قيم لهذا الكاتب القدير - وهو السيد محمد علي مترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية، ثم نقله حديثا إلى اللغة الإنجليزية فوصل إلينا عن طريق العراق منذ أسبوع.
قرر السيد محمد علي في الصفحات الأولى من كتابه أن خلاص النوع الإنساني لا يتأتى ولا يعقل أن يكون بغير عقيدة روحية عاطفية صالحة لتوحيد الناس في نظام واحد، يتكفل بحاجات الضمائر والأجساد، وان تقسيم الأرزاق بالأسهم والدوانق والسحاتيت قد ينشئ بين الناس - إذا تيسر - شركة من شركات التجارة وتوزيع الأرباح، ولكنه لا يخلق في الإنسان تلك العواطف النبيلة التي تسمو به على مطالب الجسد، وتكبح فيه نوازع الأثرة العمياء وهو مغتبط قرير الفؤاد.
قال: ولم تفلح عقائد الغرب في إحياء هذه العاطفة الروحية، لأن أوربة قد انحرفت بالمسيحية عن سوائها، ولأن المسيحية تعني بخلاص روح الإنسان في حياته الأخروية ولا تعرض عليه حلا من الحلول التي تقبل التطبيق في الحياة الدنيا بين وحدة عالمية من جميع العناصر والأقوام، ولو كانت مسيحية الغرب علاجا لمشكلات الإنسان في العصر الحاضر لعالجت تلك المادية الماركسية التي طغت على الروسيا الحديثة واقتلعتها من أحضان الدين والإيمان بالله.
أما الشيوعية فيقول السيد محمد علي عنها أنها شر من نظام راس المال، لان شرور هذا النظام تتفاقم كلما قل أصحاب رؤوس الأموال، ومن خطط الشيوعية أنها تحصر رؤوس الأموال في يد واحدة هي يد الدولة، وهي نهاية شر على الإنسان من حصر رؤوس الأموال في يد فرد واحد أو جملة أفراد، لان الدولة تصول بالقوة التي لا تقاوم ولا يملكها الأغنياء بالغا ما بلغ نصيبهم من الثراء. وقصارى الأمر إذا اجتمعت الأموال في أيدي الحكومة أن يصبح الحكام عصبة مستغلة تحل مع الزمن محل الشركات والمصارف الكبرى، وتصول على الماس بقوة لا تملكها تلك المنشات.
لكن الإسلام وسط بين نظام راس المال ونظام الشيوعية، ينفي المساوئ عن النظامين معا، ويأخذ بالمحاسن منهما بالقدر الصالح للجماعات.
فهو يكره للمسلم أن يكنز الذهب والفضة قناطير مقنطرة، ويحرم علية الربا الذي يتيح(661/2)
لأصحاب رؤوس الأموال أن يستغلوا جهود العاملين بغير جهد مفيد، ثم هو يأمر بالزكاة ويسمح بالملك، ويطلق السبيل للمنافسة المشروعة، فلا يقتل في النفوس دواعي السعي والتحصيل.
وقواعده الخلقية صالحة لإنشاء الوحدة العالمية، لأنه يسوى بين الأجناس، ولا يرى للأبيض على الأسود فضلا على الأسود بغير التقوى، ويعترف للأفراد بالمساواة والحرية، ويجعل الحاكم (إماما) يقتدى به ولا يجعله ربا متصرفا بمشيئته في عباد الله.
ومن هنا يتقرر المستقبل في العالم الحديث لمبادئ الإسلام، لأنه يقود العالم كله إلى الخلاص بعد فشل راس المال، وفشل الشيوعية وقصور العقائد الروحية الأخرى عن تدارك أحوال المعاش وتدبير الحلول للجماعات الإنسانية في مشكلات الاجتماع والاقتصاد وما يتفرع عليها من مشكلات الأخلاق والآداب.
والإسلام يحول بين الإنسان وبين الاستغراق في شؤون المعاش ومطالب الأجساد، لأنه يناديه إلى حضرة الله العلي الأعلى خمس مرات في الليل والنهار، فلا تطغى عليه النزعات المادية وهو يتردد بين عالم الروح وعالم الجسد من الصباح الباكر إلى أن يضمه النوم بين جناحيه.
وقد دبر الإسلام مشكلة البيت، كما دبر مشكلة السوق والسياسة، لأنه فرض للمرأة حق الاكتساب ولم يجعلها سلعة تباع وتشترى لإشباع الشهوات، وربما دبرت لها حكومات الغرب صناعات للرزق وأجورا في حالات البطالة، ولكنها لا تدبر لها (البيت) الذي هو الزم لها من القوت والكساء.
ومما يؤكد السيد محمد علي أن الإسلام يزكى وحدة الزوجة ويفضل هذا الزواج على كل زواج، إلا ان الشرائع لا توضع لحالة واحدة، والدنيا كما نراها عرضة لطوارئ الشذوذ والاختلال، ومن هذه الطوارئ ما ينقص الذكور عدة ملايين ويزيد الإناث بمقدار هذا النقص في عدد الذكور، فضلا عن الزيادة التي تشاهد في عدد النساء من كل أمة على وجه التقريب في غير أوقات الحروب. وان تعدد الزوجات في أمثال هذه الأحوال الخير من البغاء المكشوف، فقد قبلت المرأة الأوربية مشاركة الخليلات المعترف بهن وقبلت مشاركتهن في الخفاء، وأصبحت هذه المشاركة نظاما اجتماعيا مقررا لا معنى بعد قبوله(661/3)
وتقريره للاعتراض على تعدد الزوجات الشرعيات، فهو على الأقل أصون للآداب، واكرم للنسل، واجمل بمنزلة المرأة من مهانة الابتذال، واصلح للاعتراف به في علاقات المجتمع وقوانين الأخلاق.
والكتاب لطيف الحجام لا يتجاوز مائة وخمسين صفحة من كتب اللغة الإنجليزية الصغيرة، ولكنه واف بموضوعة متقن في أدائه واستدلاله، ولا نعده من كتب التبشير التي تراد بها الدعوى بين الأمم الأوربية وكفى، فقد يحتاج المسلم لقراءته والتأمل في مرامية، ليعلم أن المذاهب المادية والدعوات السياسية التي تتمخض عنها أفكار المبشرين بالاصطلاح في أوربة وأمريكا لا تحتوي من أسانيد الإقناع ما هو أقوى واجدر بالتأمل من هذه الأسانيد.
عباس محمود العقاد(661/4)
آمال نزكيها صحائف مطوية:
المساجد الجامعة
وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية
للأستاذ أحمد رمزي
يوم أول مايو 1933 بأنقرة. طيف وفلسفة ثورة:
كانت دعوت غداء شائقة تلك التي أقامها الأستاذ الكبير توحيد بك السلحدار، وهو قائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، لشرف حمد الله صبحي بك، وزير تركيا المفوض في رومانيا بمناسبة وجوده بالعاصمة التركية، فجلس في صدر المائدة وعلى يمينه الوزير المحتفى به، وأمامه السيدة زوجة روشن اشرف بك، وعلى يمينها صاحب السمو الملكي الأمير زيد بن الحسين وزير العراق المفوض بتركيا، ثم تلا ذلك ترتيب مقاعد غيرهم من المدعوين. وامتازت هذه الدعوة على غيرها من الدعوات، بما دار فيها من الأحاديث الشائقة التي اهتم كل من الحاضرين بتتبعها والإصغاء أليها، وحرصت من جانبي على تدوين بعضها.
وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق أول مايو سنة 1933، ولم يكن اختيار هذا اليوم بالذات موضع تفكير وإنما جاء وليد المصادفة. وما أدراك ما أول مايو، هو يوم عيد الطوائف العمال من مختلف الأجناس والألوان، علمنا بمقدمه من العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناء سفارة السوفيت، إذ كانت حكومتهم أول دوله اعترفت رسميا بهذا العيد وكانت بنايتهم أمامنا.
أما وكالات الأنباء والإذاعة فأخذت تتحدث عن الاجتماعات والخطب والمظاهرات التي سينفرد بها أول مايو. واذكر أنني اعتكفت في صباح ذلك اليوم فراجعت بعض مؤلفات (كارل ماركس) وصاحبة (انجل) وقلبت بين يدي صفحات مما كتبه راس الثورة الروسية (لينين) وكنت مشغوفا به لدرجة أنني بحثت عن المنزل الذي كان يقيم به في مدينة زوريخ من مدن سويسرا الألمانية، وتعرفت على المقعد الذي كان يجلس عليه في قاعة المطالعة بمكتبة جامعتها، ولكثرة ما قرأت عنه وعن حياته لم تعد شخصيته غريبة عني، وكان من(661/5)
تكرار ما رايته من صوره في أوضاع مختلفة أن ثبتت صورته في مخيلتي، فإذا وضعت ذلك بجانب الكتب التي قرأتها عنه بمختلف اللغات صدق قول الأديب العربي: (والبحر وان لم اره، فقد سمعت خبره) فهو أمامي كلما تلوت في كتبه، برأسه الكبير وعينيه الصغيرتين الحادتين وفمه الجبار وبروز عظمتي الوجنتين وهذا الاسم الذي يحمله، أجدها دائما مشاهد تؤكد لي اصله الأسيوي المغولي المنحدر من سلالة الفاتحين التتار الذين سادوا أنحاء روسيا مدة قرون طويلة، وصبغوها بلونهم وتركوا فيها آثارهم ودماءهم. وليس في هذا ما ينقص من قدر الزعيم الروسي والمعلم الشيوعي، إن لم يكن في ذلك ما يزيد من قدره وما يرفع من شانه كبطل أسيوي عالمي.
قلت خلوة صباح ذلك اليوم لنفسي وأطلقت لها العنان تحلق كما تشاء، فأخذت انتقل بالمطالعة من كتاب إلى كتاب غير مقيد بنظام أو قاعدة، والوقت يمر سريعا حتى وقع ناظري على جملة تقول: (هذا عصر تنظيم الجماعات وقيادة وتوجيه الحركات الشعبية الكبرى، عصر عمل ونشاط وخلق وتصميم اكبر مظاهر سيطرة الإنسان بيديه القويتين على قوانين الطبيعة وإخضاعها لمشيئته وإرادته. تعالوا إلى الفلسفة المادية وارجعوا إلى المنهج التاريخي لكي تتفتح أذهانكم لآفاق بعيدة. إننا لا نؤمن بالعاطفة إلا إذا احتجنا إليها لمحاربة الجمود والرجعية ولتحطيم الأصنام المزيفة.)
أيمان تظهره جرأة، وجرأة يدعمها علم:
وبينما أنا أقرأ هذا الكلام، إذ قرع حاجب المفوضية الباب ودعاني لاستقبال الضيوف مع أستاذنا الكبير، فقمنا للترحيب بهم. وبعد برهة اجتمعوا ودخلنا حجرة المائدة، وقد رتبت احسن ترتيب يدل على ذوق الداعي واهتمامه بالصغيرة والكبيرة من تنسيق واختيار وتدقيق في كل ما يقدمه لضيوفه. وما بدأت الخدمة حتى اخذ الحديث حمد الله صبحي ضيف الشرف، وهو محدث من الطبقة الأولى يتناوله بأسلوب عذب وصوت هادئ ويعبر عن آرائه بالفرنسية وبالتركية، فتكلم عن أمور مختلفة، وأشياء متعددة، ولفت الأنظار حينما أخذ يتحدث عن حياة المسلمين في رومانيا، فأحاط بما هم عليه في وقته وما كانوا عليه في الماضي وما تنبأ لهم به في المستقبل، وأشار إلى اللغة المستعملة في رومانيا وكيف تأثرت بالألفاظ التركية التي امتزجت بها، وكثير من هذه الكلمات عربي الاصل،(661/6)
دخلت وأصبحت من لغة يتكلمها الملايين من الناس، ثم عدد مساجدهم وعلماءهم، وما عليه من التمسك بدين الإسلام وما يلقونه من حرية العقيدة والتسامح في القيام بشعائرهم الدينية، بغير حرج ولا ضغط عليهم.
ثم رايته انتقل فجأة لموضوع شائك وعر الملك لا يجرؤ أحد من الأتراك أن يخوض فيه وقتئذ، فقال: (أن الدين لازم لكل أمة وفي كل عصر) ثم استشهد بعقلية الشعب اليوناني الحديث، فقال: (أن هذا الشعب الذي يجاورنا ونجاوره ويعاصرنا، يستمد إلهامه ومثله العليا من ثلاثة منابع: تاريخه القديم، وعصر بيزنطة والدين الأرثوذكسي. فهذه دعائم ثلاث لتفكيره ولمثله العليا ولحياته).
وهنا التفتت السيدة زوجة دوشين اشرف بك، وكان زوجها نائبا بالمجلس ثم وزيرا مفوضا وسفيرا، وهو كاتب من المع كتاب الأتراك وأدبائهم، وسبق أن شغل منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية في أول عهد الغازي كمال اتاتورك، فأبدت الكثير من الشك في أقوال الوزير التركي وكان مما قالته: (هناك أشياء أخرى غير الدين ومبادئه، تستلهمها الأمم في حياتها وجهادها ونهضتها، ثم ما هو الدين؟ أليس هو المثل الأعلى الذي يكونه الفرد منا لنفسه)، وعبرت عن المثل الأعلى باللفظ التركي المستحدث.
أما حمد الله بك فاستمر في حديثه لا يبالي بالرد على ما يوجه إلى كلامه من اعتراض، وكان صوته يعبر عن أيمانه العميق وشعوره بالألم والحسرة، فخرجت كلماته وهي تلهب الصدور، ولذلك بقيت عالقة بأذني، قال: (نحن معاشر أهل الإسلام في اشد الحاجة إلى ما اسميه تربية المسجد، وأقول بكل أسف أن المسجد لا يلعب في حياتنا الدور الذي تقوم به الكنيسة في حياة المسيحي أو المعبد في حياة الإسرائيلي، ونحن أحوج ما نكون إلى رجل الدين الذي يوفق بعلمه وروحه وشخصيته وجرأته لان يحيط المسجد أو الجامع بهالة من القدسية والاحترام، وان يتخذه مركزاً لعمله الروحي والاجتماعي، الرجل الذي يمكن أن يطمئن الناس إليه في تربية النشء وتثقيفهم وتلقيتهم قواعد الدين الصحيح وأسسه وفضائله، أن المساجد بيوت الله وبيوت العبادة وبيوت المسلمين، فيجب أن تتجه أنظارهم إليها وان تجمعهم وقت الصلاة وفي أعيادهم ومنا سباتهم المفرحة والمحزنة، وارى إن تربية المسجد عنصر أساسي من عناصر نهضة المسلمين).(661/7)
واخذ يشرح هذه الناحية يوجهه نظر جديرة بكل اعتبار وتقدير، ويؤيدها بمنطق الرجل المسلم الشاعر بأهمية العمل الروحي، والمؤمن أيمانا لا يتزعزع بقوة المبادئ والدوافع التي قامت عليها الرسالة المحمدية.
وكنا نشعر وقتئذ بما بين تركيا وروسيا السوفيتية من علائق الود والصفاء والتحالف، وكنا نعرف أشياء عن محاربة البلاشفة للعقائد ولنظام الأسرة، وكان الأتراك يقلدون الروس في أشياء، ولكن حمد الله بك صرح بما يعتقد انه الصواب بقوله (لا يمكن لمجتمع بشري يحترم نفسه أن يحارب الاسرة، إذ هي الرابطة الأساسية والأولى التي تصل بين الفرد والمجتمع وبين الطبيعة والبشرية وبين المادة والروح)
كنا نستمع إليه جميعا ونحن نسلم بان هذه الكلمات تخرج من وحي أيمانه وعقيدته فهي ليست من قبيل المجاملة، بل نتيجة تفكير طويل ورأى ناضج. وكان يتحدث عن الشعب التركي حديث رجل يفيض قلبه بمحبة هذا الشعب الإسلامي الكبير، كما يتحدث والد عن اعز بنيه أو احب شئ لديه. وكان وطنيا بغير تعصب، قوميا مع سعة صدر. واذكر انه ختم كلامه بقوله: (ليس اصعب على السياسي أو المتصدر لقيادة نهضة أمة وهي في غمرات تحررها ويقظتها، من أن يلقنها كيف توفق بين الشعور بالوطنية الصحيحة ومراميها وأهدافها المشروعة وما يلابسها من حماسة وتطرف، وبين الإيمان بمحبة الأمم الأخرى والأخذ بالتساهل معها والشعور بأهمية العمل في حقل التعاون الدولي وما يتطلبه من تفاهم وتساند).
أن قليلين من رجال السياسة الذين استبقوا حوادث الزمن ونظروا هذه النظرة، وان هذا المبدأ من المبادئ التي تحاول أن تحققها الأمم بعد الحرب العالمية التي انتهت اخيراً، ولكني انقلها كما هي من مذكرات عام 1933.
من هو الرجل؟
إلى هنا انتهى حديثه، وانفض بعد ذلك جمع أناس من أهل الرأي والفضل، كان أستاذنا الكبير توحيد بك السلحدار يعرف كيف يجمعهم في دار المفوضية، حينما مثل مصر تمثيلا عاليا ورفع من شانها، وجعلها موضع احترام الأمة التركية وحكومة الجمهورية، فكان أول ممثل لدولة أجنبية جاء إليه رئيس الدولة، وعد ذلك بين الأتراك ورجال السلك الأوربي(661/8)
وبين من يفهم من الناس، اكبر توفيق حصل عليه ممثل دبلوماسي لمصر منذ أنشئت علاقات سياسية بين المملكة المصرية والجمهورية التركية.
وتعجب معي كيف يتحدث حمد الله صبحي بهذه الشجاعة وكيف يجاهر بآراء لا تتفق مع الرأي السائد لدى السلطات العليا بتركيا، ولكن الرجل القوي المخلص لمبادئه لا يبالي بان يجهر بما يقول وبما يشعر، وكان حمد الله بك عالما فاضلا، والعلم قوة دافعة تسبغ على صاحبها شجاعة وجرأة وثباتا، وكان تاريخه نقيا صافياً، فقد خدم بلاده اجل الخدم، يوم كان زعيما لحركة (التورك أوجاغي) وهي التي أيقظت غريزة الشعور القومي لدى شباب الأتراك، ونفخت فيهم روحا جديدة، ومهدت الطريق لثورة مصطفى كمال التي قادتهم إلى حرب الاستقلال، فهو رجل من صميم الشعب، خرج من صفوفه وأمضى السنوات يعلم الشعب ويلقنه ويقوده، ولما اختلفت وجهة النظر بينه وبين الغازي سلم لرئيس الجمهورية مقاليد الحركة، التي أمضى عشرات السنين في بنائها وقنع بمنصب دبلوماسي خارج بلاده، ولكنه يحن إلى الشعب التركي ويتحدث بفضائل الإسلام ويأبى أن يفرق بين الترك والإسلام، ويجاهر بما يعتقد ولا يخشى إلا الله، وتلك منزلة لا يرقى إليها كل الناس كما نعلم ونلمس لدينا.
كان ذلك في عام 1933 وها نحن في عام 1946، وقد مضت السنوات وتغيرت الأيام، وتبدلت الأوضاع، وبينما اكتب مقالا للرسالة عن مساجد الفسطاط، وجدت مجلداً من مذكراتي اليومية، فإذا أنا أمام حديث حمد الله بك عن تربية المسجد. فرأيت أن انقله كما هو وان اعلق عليه بما دار في خلدي طول السنين الماضية، واجعله تتمة لحديث الفسطاط ودمعتها الغالية على مساجدها وآثارها.
(يا أيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة)
بهذه الآية الكريمة خاطب الله رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأدى النبي رسالته، فهل اتبع المؤمنون سنة رسولهم، وقاموا بتبليغ الأمانة التي حملوها في هذا العصر الذي نعيش فيه؟
إن الرسالة المحمدية للعالم قائمة، فإذا أدّاها أصحابها، نشروا بين الخلق تعاليم ومبادئ(661/9)
ودوافع تنفخ فيهم روحا جديدة، وتكون كشعلة لا يلبث ضياؤها أن يزيد يوما بعد يوم حتى تعم أجزاء الأرض فتؤثر في حركة العالم وسيره وتطوره، وفي تكاتف الأمم وتساندها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
هذا هو أيمان كل مسلم دخل في زمرة طائفة المؤمنين، وهذه آماله نعبر عنها، ونحن على ثقة منها؛ ولكن كيف الوصول إلى تحقيق ذلك؟
(البقية في العدد القادم)
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(661/10)
منطق الدماء البريئة في يوم الجلاء
للأستاذ سيد قطب
أيا كان الألم الذي يعتصر قلب كل مصري لمنظر الدماء البريئة تراق، والأرواح الطاهرة تزهق، والبيوت العامرة تخرب، وقلوب الآباء والأمهات تقطر دما على فلذات الأكباد تخرج في الصباح ولا تعود في المساء!
أيا كان هذا الألم الدافق الحار في حنايا كل مصري لتلك الدماء البريئة التي أريقت في (يوم الجلاء) الذي أرادته الأمة المسالمة تعبيرا بريئا عن الحق الطبيعي في إبداء الشعور؛ وأراده المستعمرون القساة، معركة دموية تهرق فيها الدماء!
أيا كان هذا الألم، فإن له ثمنه الذي لن يضيع. فالدم هو عربون الحرية في كل زمان ومكان، والاستشهاد هو ثمن الكر أمة على تغير الازمان، وان لليوم لغدا، وان للحرية لفجرا، وان النصر لآت!
لا، بل أن ثمن تلك الدماء البريئة لحاضر، وأنا لنقبضه الآن
أن لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا، يكذب ويجبه أمته الكتاب المصريين والعرب أجمعين الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويدعون لهم في أمتهم، ويقربونهم إلى قلوب مواطنيهم، مأجورين أو مخدوعين. فالمخدوع في حق أمته لا يبعد كثيرا عن المأجور.
وان لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا يكذب ويجبه، أمته الزعماء والساسة من المصريين والعرب اجمعين، الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويؤيدون لهم جميع الخدمات التي تكفل النصر، دون أن يحصلوا في ذلك الوقت حتى على وعد قاطع بالجلاء، اعتمادا على شرف الضمير السياسي البريطاني المزعوم!
أن ثورة واحدة مدة ثمان وأربعين ساعة، إبان معركة العلمين، وتوالى الإمداد والذخائر، ثورة واحدة تعطل المواصلات، كانت كفيلة بترجيح كفة النصر، وانقلاب وجه الحرب كلها - باعتراف القادة البريطانيين والأمريكان في هذا الأوان - ولكن مصر لم تعملها، وثوقا بشرف هذا الضمير المزعوم. ولم تنتفع بهذا الظرف في قضيتها الوطنية، ضعفا، أو جهلا، من الساسة والزعماء المصريين!(661/11)
ولقد ظل هؤلاء جميعا: الكتاب المأجورون، أو المخدوعون. والساسة الضعفاء، أو الجهال. . . . ظلوا يسكبون في سمع الأمة المصرية، وال أمة العربية كلها، منطقا زائفا مدخولا عن الديمقراطية الغربية، وعن الضمير البريطاني، وعن ميثاق الأطلنطي، وعن الحريات الأربع، وعن الحرية والإخاء والمساواة، إلى أخر تلك الخدع الماكرة اللئيمة، التي ألقاها الأقوياء للضعفاء، فتلقفها هؤلاء، وغنوا بها كالببغاء!
ظل هذا المنطق البائس المجرم يسكب في سمع الأمة، حتى انبعث أخيرا ذلك المنطق الحق الصارم، الذي لا عوج فيه ولا خفاء. ذلك منطق الدماء!
انبعث هذا المنطق من جراحات الجرحى، ومن طعنات القتلى، في ميدان الإسماعيلية، وانطلق كذلك من أفواه البنادق الآثمة، التي دوت بالموت والجراح، في الأبدان والأرواح. فغطى هذا المنطق الحاسم الصارم، على ذلك المنطق المريب الكذوب، الذي ظل الكتاب المأجورون أو المخدوعون، والساسة الضعفاء أو الجهلاء، يسكبونه في سمع الأمة ستة أعوام!
وإذا كان المنطق الزائف البائس، قد وصل إلى سمع الأمة ووقف هناك، فلقد اخترق المنطق الحق الحاسم سمعها، واستقر في قلبها، وردده ضميرها. . . فهيهات هيهات أن تخدع بعد اليوم! وهيهات هيهات أن تنسى منطق الدماء!
انتهينا. . . . انتهينا أيها الحلفاء!!!
لقد قبضنا اللحضة الثمن الغالي لتلك الدماء!!
قبضناه وعيا وصحوا لن تخدرنا المخدرات! قبضناه حزما وعزما لن تفلهما المغريات! قبضناه احتقارا ومقتا لكل تلك الدعايات!!
الحمد لله. لقد انكشف الغطاء!
انكشف في مصر في يومين خالدين في تاريخها الحديث، على ما يثيران من آلم فاجع في صدور المصريين أجمعين: يوم 4 فبراير المشؤوم. ويوم الجلاء. . . المضمون!
وانكشف في لبنان يوم انقضت السلطات الغاشمة الفرنسية على رئيس الجمهورية ووزراء الجمهورية، فأودعتهم بطون السجون! وانكشف في سورية يوم انطلقت المدافع المتبربرة تصب حممها على دمشق، وتنثر الأشلاء، وتقتل المجاهدين الأبرياء!(661/12)
وانكشف في فلسطين، يوم قام (ترومان) يطالب بفتح أبواب الهجرة لمئة ألف من اليهود، وقام (بيفن) يسحب كلمة (الشرف) في الكتاب الابيض، ويبيح الهجرة للصهيونيين!
وانكشف في إندونيسيا يوم قامت القوات البريطانية، تقتل الأندلسيين المسلمين، وتسلط عليهم الفرق اليابانية، وتزعم إنها جاءت لتجريد الجنود اليابانية!
أن النضال بين الشرق والغرب في الحقيقة يثيره الإنجليز والأمريكان والفرنسيون والهولنديون، على الشرقيين عامة، والبلاد الإسلامية على وجه الخصوص.
هذه عقيدة يجب أن تستقر في ضمائر الشرقيين. في ضمير الهنود الإندونيسيين والمصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والحجازيين والنجديين والفلسطينيين والطرابلسيين والجزائريين والتونسيين والمراكشيين. . . وهم كما يرون حشد عظيم، حين يواجهون الاستعمار الغربي متكاتفين.
إنه النضال. . . والويل فيه للمتخاذلين!
وبعد. . . .
فبوركت هذه الدماء الزكية التي كشفت عن عيوننا القناع! بوركت هذه الدماء التي أسكتت بمنطقها الحق الواضح، كل منطق مبهرج أو مدخول!
لقد ارتفعت صيحة الجلاء البريئة، فقوبلت بصيحة الرصاص الأثيمة، هذا منطق، وذلك منطق. ولقد شهدت الإنسانية في مواقع كثيرة انتصار الصيحة الأولى مهما بدت ضعيفة، على الصيحة الثانية مهما بدت عنيفة. بل لقد شهدنا نحن انتصارها في عام 1919.
هنالك فارق واحد بين الموقعتين:
في سنة 1919 كان على راس الأمة سعد زغلول، ولم يكن هذا الرجل يعرف ذلك المنطق المخنث الضعيف. منطق الثقة بالضمير البريطاني المزعوم. وكان الشعب مثله لا يقر مثل هذا المنطق المضحك في تلك الظروف!
فيا أيتها الأمة!
اعرفي طريقك، واعرفي زعماءك، واعرفي أبناءك!
انبذي كل من يحدثك عن ثقته في الضمير السياسي البريطاني.
فالضمير السياسي البريطاني هو هذا الذي يضربك بالرصاص، لأنك تهتفين هتافا سلميا(661/13)
بالجلاء! والذي يدعوك من أبنائك إلى الثقة بهذا الضمير، يطعنك اشد من طعنات الرصاص، لأنه يطعن ضميرك، وهو ملاذك الأمين!
أيتها الأمة!
لقد هتفت مرة بالجلاء، وإنه لهتاف مطرب رخيم، وهتاف شريف كريم. . . فاهتفي أيتها الأمة بالجلاء، وصفقي لمن يهتفون معك به من الساسة والزعماء، على أن تكوني أنت الرقيب عليهم فيما يقولون وفيما يفعلون!
سيد قطب(661/14)
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
1 - حرية الكتابة
لست أدعو في هذا الكلمة إلى سلب الكتاب حرية الكتابة، ولكني أدعو إلى الإبقاء على حرية الناس في التدوين والتخلق بكريم الأخلاق. وان لكل حرية حدوداً، لا ينبغي لها أن تعدوها وإلا كانت حرية المجنون الذي يفعل ما شاء وشاء له الجنون. أنت حر في دارك ولكنك لا تستطيع أن تتخذ منها أتونا للفحم ولا ماخورا للفجور، ولا تستطيع أن تحرقها أو تنسفها بالبارود. وأنت حر في نفسك ولكنك لا تقدر أن تبسط سفرتك فتأكل في المحراب يوم الجمعة والناس في الصلاة، ولا تقدر أن تلقى الصحون وتصلي على المائدة ساعة الوليمة في الحفل الحاشد، أو أن تحضر المحاضرة بلباس الحمام، أو أن تصرخ في المستشفى أو تغنى في المأتم. وأنت حر في قلمك، ولكنك لا تملك ان تدعو إلى هدم استقلال وطنك، والخروج على قوانين بلادك. إنهم يمنعونك ويسكتونك ويضربون ان فعلت على يدك.
فلماذا لا يمنعونك أن تكفر بالله، وتهدم الأخلاق، وتخرج الناس على الدين، والأخلاق أساس الاستقلال والدين أولى من القانون؟ وكيف صح ذلك المنع، وساغ، ولم يمش حرمة هذه الحرية، ولم ينل من قدسيتها، ولا يصح هذا ولا يسوغ ولا يكون إلا عدوانا على حرية الكتابة، وإلحادا فيها.
أو ليس من عمل الحكومة الذي كانت من اجله الحكومات ان تقر الأمن والسلام في الأمة، وتضمن لها العزة والسيادة بين الأمم؟ إنه لا يكون أمن أو تكون عزة إلا بالخلق المتين وبالدين، فإن ذهبا لم يخلفهما شئ. . . وما القانون؟ هو الشرطي. . فإن أمن العاصي أن يراه الشرطي أو يدري به القاضي، أو يناله العقاب، ركب في طريق الغواية رأسه فلم يرده شئ، أما المؤمن فيردعه عن المعصية علمه أن الله مطلع عليه في سره وعلنه، وأما صاحب الخلق فربما رده خلقه، وعصمه الله به، فلماذا نهدم بأيدينا هذين الحصنين، وندع الضعف والهوان يدخلان علينا بدخول الإلحاد والفجور.
أو من العدل أن تحفظ الحكومة أموال الناس من اللصوص وتضيع عقائدهم؟ وتحمي(661/15)
جسمهم من القتلة وتبيح قلوبهم؟ وتقيم الحراس يحرسون البيوت والأثاث وتدع أعراض البنات وأخلاق الصبيان هملا يسرقها ويعبث بها، كل صحفي مفسد، وشاعر ماجن، وكاتب خبيث؟
سيقولون: حرية الكتابة. . .
نعم إنها حرية ينبغي أن تصان وتضمن، ولا يعتدي عليها، ولا ينال منها، ولكن الدين والأخلاق، ينبغي كذلك أن يصانا وان يضمنا، وألا يعتدي عليهما ولا ينال منهما، فإن تعارض الأمران، فلنحمل أخف الضررين، ولنقبل بأهون الشرين، وأهونهما أن نخسر حرية الكتابة (أحيانا) لنحفظ الدين والشرف، لا أن نخسر الدين والشرف لنحفظ (حرية الكتابة)، ونقول لكل صاحب نحلة ضالة، أو هوى خبيث، أو رأي هدام: اكتب ما تريد، واطبعه، وهاته نقرأه على أبنائنا وبناتنا، ونصبه في عقولهم وننشئهم عليه!
ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، وقد غيرت هذه الحرب المقاييس، وبدلت قيم الأشياء في إفهام الناس، وكانت امتحانا قاسيا للأمم لم تنجح فيه أمة فشا فيها الفجور، وعمت الفاحشة وضعفت الرجولة، ونسيت العقيدة، ولن يدوم نجاح لأمة لا تزال تستهين بالعفاف وتميل إلى المجون وتؤمن بالكفر. . . وحسبنا فرنسا مثلا معروضا لكل ذي عينين تبصران وعقل يفكر فلنعتبر بغيرنا قبل أن نصير عبرة للمعتبرين، ولتفهم حكومتنا انه لا حياة لنا إلا إذا أنشأنا من أبنائنا جيلا مؤمنا متين الخلق، ظاهر الرجولة، مقبلا على الجد، عارفا بالواجب عليه فإذا تركت الحكومات الصحفيين والكتاب (اعني بعضهم) ينقض كل يوم حجرا من صرح الأخلاق، ويوهي جانبا وينشر في الناس حديث الشهوة الهيمية، ويستكثر من القراء بإثارة أحط الغرائز البشرية، لم ننشئ والله إلا جيلا رخوا ضعيفا همه شهوته، ومطلبه لذته، قد ضاعت رجولته وذهبت قوته ثم نبي بهذا الجيل مجدنا ونقيم عزنا ونأخذ بين الأمم مكاننا!
أن المسالة اكبر من أن نلوك فيها هذه الألفاظ (حرية الكتابة) (وحرية الفكر). . . إنها مسالة حياة أو موت!
2 - أمثلة على حرية الكتابة
وما في نشر الفاحشة صعوبة، ولا يحتاج إلى عبقرية أو بلاغة أو أدب أو نبوغ، وحسب(661/16)
الرجل ان ينشر في كتاب ما يطوى في الخلوة، أو أن يظهر في صورة ما يستر من العورة، حتى ينال منه ما يريد.
فتجرأ الناس على الأدب، واقتحموا حماه من غير أن يعدوا لذلك عدته من وقوف على اللغة وأساليبها، واطلاع على صرفها ونحوها، ونظر في رسائل بلغائها ودواوين شعرائها. وفيم هذا العناء كله، وأدب الشهوة، لا يحتاج إليه، ولا يعتمد عليه؟ وما هي إلا سهرة في الخمارة، أو ليلة في (المرقص. . . .) حتى تجمع أسبابه كلها ومقوماته.
طبع في دمشق منذ سنة كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعم ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علبه (الشكولاته) في الأعراس، معقود عليه شريط احمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور (بعضهن) ليعرفن به، فيه كلام مطبوع على صفة الشعر فيه أشطار طولها واحد، إذا قستها بالسنتمترات. . يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرسة المتوقحة وصفا واقعيا لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غني، عزيز علي أبويه وهو طالب في مدرسة. . وقد قرا كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات.
وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه فلم يكن بدمن هذا التجديد. ومع ذلك فقد قرانا في الجرائد من نحو شهر، أن صاحب هذا الكتاب قد دعي إلى محطة الإذاعة في القاهرة، ليذيع منها شعره، رغبة منهم بنشر الأدب السوري، وتوثيقا للتعاون الثقافي بين الأقطار العربية!!
وهاكم مثالا اخر، هو الكتاب الذي صدر في دمشق منذ عهد قريب، واسمه (مختصر تاريخ الحضارة العربية)، وقد وضع لطلاب المدارس الثانوية ونصف مباحثه، في القرآن وعلومه، والحديث وفنونه والفقه أصوله وفروعه، والكلام، والفرق الإسلامية وعقائدها، والذي راع صدوره العلماء لما فيه من التخليطات التي يكفر بمثلها المؤمن، ويجهل العالم، ويضحك منه على ذقن قائله، وألف مفتي الجمهورية لجنة للنظر فيه فنظرت فوجدت فيه من الغلطات ما لا ينتهي العجب من صدوره ممن ينتسب إلى العلم ولو من وراء خمسة(661/17)
جدود. . . فكان مثال مؤلفيه فيه - كالنحوي إذا ألف في علم التشريح، والكيميائي إذا كتب في فن التمثيل.
على أن النظر في الغلاف إلى اسم مؤلفيه يبطل هذا العجب، لأن أحدهما اسمه جورج حداد - والأخر اسمه من أسماء المسلمين ولا اعرف عنه ولا عن زميله شيئا، ولكن أبحاث الكتاب تدل على ان هذا المسلم اجهل بعلوم المسلمين من الخوجه جورج! إنها (حرية الكتابة)، فليتعلم طلابنا الأباطيل على إنها حقائق، والأوهام على إنها الإسلام، ويحفظونها ليؤدوها يوم الامتحان، ما دامت هذه الحرية مصونة، والكلام في الحد منها عدوان على الفكر المقدس.
(دمشق)
علي الطنطاوي(661/18)
الأدب في سيرة أعلامه
ملْتن
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
بين عهدين: منشأ البيوريتانية
وما ذلك المذهب الذي جر على اتباعه كراهة مخالفيهم زمنا، والذي قدر له أتخر الأمر أن يظفر بخصومه جميعا ويسيطر على البلاد حقبة من الزمن؟
إذا أردنا أن نعرف كيف نشأت البيوريتانية في إنجلترة، وجب ان نرجع إلى تلك الحركة التي انبعثت في أوربا في أوائل القرن السادس عشر، والتي اصطلح المؤرخون على تسميتها الإصلاح الديني ففي هذه الحركة الإصلاحية أرومة البيوريتانية، على أن نراعي في نظرنا إلى حركة الإصلاح الديني مشاعر الإنجليز التي هي نتيجة ما أحدثته بيئتهم من اثر في ميولهم ومزاجهم وفلسفة حياتهم؟ لتبين كيف استجاب فريق منهم لدعوة الاصلاح، نرى من ذلك أن استجابة هذا الفريق على نحو اختصوا به هو روح البيوريتانية؛ فما كانت البيوريتانية في إنجلترة إلا صورة معينه من صور الإصلاح الديني العام الذي شملت دعوته أوروبا في النصف الأول من القرن السادس عشر.
كانت هذه الحركة الإصلاحية ثمرة من ثمار النهضة الأوربية العامة ومظهرا من مظاهرها فقد نفذ نور النهضة إلى كل ركن من أركان الحياة ومنها الدين؛ وما كان لوثر بطل الدعوة الإصلاحية في ألمانيا وأول رجل تحدى البابوية إلا معبرا في الواقع عن معان وآمال كانت تهجس في نفوس كثيرة من المفكرين غيره، وإنما كان له فضل البدء والسبق في مضمار الجهاد، وكان بدء دعوته سنة 1517.
وكانت دعوة لوثر في جوهرها ثورة على دعوى البابوية أنها تحكم مفوضة من الله في(661/19)
أمور الدين والدنيا، وعلى امتيازات القساوسة واطماعهم، وعلى ما ورثته المسيحية من مظاهر الوثنية القديمة؛ فهي من ناحية وثبة على سلطان الكنيسة ومن ناحية أخرى رغبة في العودة بالدين إلى جوهره الخالص من شوائب البدع والضلالات. . .
رأى لوثر أن في وسع كل مؤمن أن يتصل بربه مباشرة لا عن طريق قسيس كما تزعم الكنسية، بل إن في وسع كل امرئ أن يكون قسيسا إذا اخلص قلبه لله. وأنكر لوثر عقيدة الكنيسة في العشاء الرباني إنكارا شديدا، فما يقبل عقله أن صلاة القسيس لدى قربان من الخبز والنبيذ على المذبح تحيله فعلا إلى مادة المسيح نفسه لحما ودما. وطعن لوثر اشد الطعن على زعم البابا انه يملك الغفران والحرمان، وسخر اعظم السخرية من بيع الكنيسة صكوكا تمحو الذنوب والآثام. وخطا لوثر خطوة إيجابية فترجم الإنجيل إلى الألمانية، وطلب إلى الناس أن يكون مصدرهم الإنجيل وحده لا تعاليم الكنيسة. وتداول الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم ولم يأخذوه عن القساوسة وشاع فيهم هذا الكتاب عامتهم وخاصتهم بفضل ما استحدث من وسائل الطباعة فرأوا مبلغ ما دخل على الدين من زيف، وعجي الناس إذ وجدوا في الإنجيل أن القديس بطرس نفسه لم يعصم من الخطأ وأنه أنب على أخطائه. وإذا كان هذا شان بطرس القديس فما بال رجال الدين، وقد بعدوا عن المسيح وعهده هذا البعد الزمني، يزعمون العصمة لأنفسهم من الأخطاء؟
وأمعن لوثر في إظهار مبلغ ما صار إليه رجال الدين من إقبال على الدنيا وبعد عن الزهد، فما يهم الرجل منهم إلا جمع الهبات والصدقات، وانهم ليديرون الأراضي الموقوفة على الكنيسة منذ الاقطاع، ويشغلون أنفسهم بأمور دنيوية بحتة، ويتدخلون في الشؤون السياسية يطمعون أن تكون له سلطة كما للأمراء سلطة، حتى قلد نسوا رسالتهم الروحية ولم يبق لهم إلا مظهر يتجلى في ملابسهم وفيما يشخصون فيه من طقوس الأدعية والصلوات وما إليها مما لا يعد من جوهر الدين ولا من رسالته العليا. وألقى لوثر تبعة هذا الفساد على عاتق البابوات الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الدنيوية في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى مخالفين بذلك آباء المسيحية ولأولين الذين كانوا يدعون ما لقيصر وما لله لله. . .
ولم يكن مرد ما أحدثه من عظيم الأثر في ألمانيا ثم في أوروبا كلها إلى آرائه وحدها، ولكنه اثر في الأذهان اعمق الأثر بمسلكه كذلك؛ بهذه الجرأة البالغة التي خيل إلى الناس(661/20)
أنها اعظم من أن تكون صيحة بشر؛ فهذا أحد رجال الدين يتحدى البابا ويسخر من الكنيسة، وكان من يفكر بينه وبين نفسه آن أحد القساوسة يخطئ بله البابا نفسه يأثم بهذا إثما لا يمحوه إلا التوبة والندم!
وكثيرا ما يؤثر العظماء في الناس بأعمالهم ولو لم يقولوا شيئا فتكون أعمالهم ابلغ من كل مقال، هذا لوثر بقوله وعمله، فهو لا يتردد أن يحرق رد البابا على آرائه وفعل ذلك على أعين الناس، ثم يقابل قرارا البابا بكفرانه وطرده من رحمة الكنيسة، بكل ما في وسعه من عدم مبالاة وسخرية. . . ويعد عمل لوثر هذا في الحق فصلا رائعا في تاريخ حرية الفكر منذ أن بدا الناس يعشقون حرية الفكر وينادون بحرية الفكر، وستظل وثبته وقوته وجرأته حديثا عذبا تجري به الألسن وتبتهج له النفوس كلما اتجه الناس بأذهانهم إلى ذلك الأمل الحلو اعني به انطلاق الفكر من قيوده. . .
عصفت دعوة لوثر بسلطة الكنيسة وزلزلت القساوسة ومكنت لحرية الفرد اكبر تمكين، فلكل امرئ الحق أن يفكر في أمر دينه تفكيرا حرا لا يتقيد فيه بقيد؛ وكانت ترجمة للإنجيل إلى الألمانية فتحا ونورا، بهر العقول، وحرك النفوس الجامدة، وكشف للناس العقيدة الأولى نقية من شوائب الوثنية سليمة من ضلالات الكنيسة.
وما لبثت دعوة الإصلاح أن نهض بها زعماء غير لوثر، نخص منهم بالذكر كلفن الفرنسي الأصل الذي أحدثت آراؤه من عميق الأثر في أوروبا كلها ما لم تبلغ إلى مثله أراء لوثر نفسه.
وقد بدأ هذا الداعي دعوته سنة 153، وكانت أول خطوة خطاها هي توجيه الطعن إلى كنيسة روما وإظهار معايبها على نحو ما فعل لوثر.
ولئن اثر لوثر بإقدامه وحميته وتحديه وفصاحته، فلقد اثر كلفن بفلسفته القوية، ومنطقه الصارم الواضح الذي لا عوج فيه، ثم بمبادئه الخلقية التي استمسك بها ولم يسمح في تنفيذها بأية هوادة.
آمن كلفن بعقيدة القدر المحتوم؛ فكل إنسان مقدر عليه أمره من قبل أن يبرأ؛ والناس من اجل ذلك فريقان: فريق هدى وفريق حقت عليه الضلالة، وليس يتسنى في هذا العالم أن يعرف من هم أهل النعيم ومن هم أهل الشقاء، اعني لا نستطيع أن نحكم على امرئ أمن(661/21)
الذين شقوا هو أم من الذين سعدوا.
وإذا كان لوثر قد مكن لحرية الفرد وشعوره بذاتيته وكيانه، فإنه في الوقت نفسه مكن لسلطة الأمراء، وذلك لأنه استعان بهم واعتمد عليهم واستغل رغبتهم في التخلص من سلطان الكنيسة ومطالب الكنيسة. أما كلفن فقد كانت فلسفته ترمى إلى التحرر من كل سلطة استبدادية، سواء أتمثلت في الكنيسة أم في الأباطرة والملوك والأمراء؛ وكانت نزعته ديمقراطية ترمي إلى الاعتماد على جمهور الناس، وكان يرى أن القوى هو الله وحده وان الذي يخشى هو الله وليس غير الله؛ فالناس جميعا ملوكهم وسوقتهم أمام قوة الله سواء، وليس على الأرض من يتمتع بما يسمى حقا إلهيا وإنما الحاكمون هم ممثلو إرادة المجموع، وكان يرمي بآرائه هذه إلى تدعيم نظامه الكنسي الذي كان قوامه قوما يختارون من عدد من القساوسة وعدد من غير رجال الدين لإدارة الكنائس الكلفية، فلا سلطة على كنائسه لبابا ولا لأمير.
وثبتت عقيدة الخوف من الله وحده في نفوس اتباعه عدم الخوف من غيره بل والتمرد على كل مستبد من ذوي الطغيان؛ ولكن إذا كانت هذه الحرية حقا للفرد، فعليه فيما يقابلها واجب يتلخص في اتباع المبادئ الخلقية التي رسمها كلفن، وكان صارما كل الصرامة في تنفيذها. وعنده أن الفضائل تطلب لذاتها أولا قبل أن تطلب طمعا في ثواب أو خوفا من عقاب.
حرم كلفن الخمر والميسر والرقص والخلاعة وأعمال السحر والشعوذة والربا الفاحش وفرض لكل منها عقوبة صارمة وجعل عقوبة الزنا الموت، وكانت وظيفة كنائسه إرشاد الناس ومراقبتهم وأخذهم بالشدة إذا فرطوا في جنب الفضيلة.
شاعت اللوثرية والكلفنية في أوروبا، ثم انتقلت آراؤهما إلى إنجلترة؛ فكان أثرها هناك على صورة خاصة توضحها مشاعر الإنجليز واثر البيئة في تلك المشاعر.
ونقصد اثر البيئة الطبيعية وما يتصل بها من مؤثرات مناخية، فما لا شك فيه أن لهذه البيئة فعلها في تكوين مزاج أهلها على نحو معين، ثم فعل الوراثة متمما لفعل البيئة فتتكون مشاعر الأمة بمرور الزمن وهذه المشاعر هي مزاجها العام.
وكان لبيئة الضباب والسحاب والبرد الشديد ولأعاصير الهوج والغالات الموحشة والبحر المخوف أثرها في بث نوع من الظلمة العابسة والجد الصارم يشبه أن يكون كآبه في(661/22)
مشاعر الإنجليز والأمم التيوتونية على العموم؛ وقر في مشاعرهم أن صعوبة الحياة وقسوتها ضرب من القدر يقاوم في شجاعة وتحد، ويذعن له في رضى واستسلام؛ وذلك على خلاف ما كان في الطرف الجنوبي الشرقي لأوروبا مثلا حيث الشمس والدفء والنور كانت تبث المرح والحيوية في مشاعر الإغريق، وتميل بهم إلى متع الحياة ومسراتها.
فلما تحررت العقول نتيجة للنهضة الأوربية العامة، لم يكن عجبا أن يتجه الإنجليز بعقولهم المحررة إلى أمور الدين أكثر مما اتجهوا إلى مسائل العلم والفلسفة والفن، وأحدثت آراء كلفن أثرها العميق في نفوسهم وعلى الأخص رأيه في القدر المحتوم الذي لا سبيل قط إلى تغيير حكمه.
وعم تيار النهضة فغمر الحياة العامة وأشاع فيها البهجة والمرح والجمال والزينة، والرغبة في الاستمتاع بجمال الحياة ولذاذاتها، فكان منه ربيع حافل يتمثل في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير
ولكن الربيع لم يطل؛ وما ذلك إلا لأنه كان أمرا طارئا على مشاعر الأمة غريبا على مزاجها العام. وما أسرع ما استيقظت تلك المشاعر من حلم العصر الأليزابيثي فكانت يقظتها هي البيوريتانية وفلسفتها التي أخذت تسيطر على المجتمع الإنجليزي. والفرق بين ما أنتجته العقول في الأدب والفن في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير وبين ما أنتجته في العصر البيوريتاني أو عصر ملتن، يرينا مدى التغير الذي اخذ يطرأ على الحياة بعد حلم النهضة. ولقد لوحظت شواهد ذلك التغير في فن شكسبير نفسه في أخريات ايامه، وتجد أمثلة لذلك في روايتيه (العاصفة) و (قصة الشتاء).
هذه اليقظة من الحلم البهيج الفاتن، أو هذه الفلسفة التي عادت بمشاعر الأمة إلى طبيعتها هي روح البيوريتانية، ولكن رد الفعل كان شديدا؛ فداخل الحياة الإنجليزية نوع من التزمت الشديد كان أكثر مما تطيق النفوس في مواطن كثيرة، والبرهان على ذلك ما شاع في الأمة من سرور مع الملكية العائدة بعد زوال عهد كرمويل.
وقد رأينا كيف ظهر البيوريتانز كجماعة أول الأمر حين أصدرت الملكة اليزابيث مرسوم توحيد العبادات عام 1559، ورأى فريق من رجال الدين انه كان ينبغي أن يكون المرسوم أكثر تخلصا من مظاهر روما والكنيسة البابوية، فهؤلاء هم البيوريتانز. ونستطيع أن نلمح(661/23)
اثر اللوثرية والكلفنية في رغبة هذا الفريق في التخلص من مظاهر الكنيسة البابوية. ولقد كان لغضبة هنري الثامن على البابا وفصله كنيسة إنجلترة عن كنيسة روما أثره كذلك في نفوس هذا الفريق، فلئن كان ذلك الفصل من حيث الرياسة فحسب، مع بقاء العقيدة الكاثوليكية وطقوسها على ما هي عليه، إلا انه زعزع هيبة البابا في نفوس الإنجليز إلى مدى واسع، وجعل نزعة الإصلاح تستند إلى دعوى مشايعة السلطة الحاكمة ضد البابوية.
واخذ يزداد عدد هؤلاء الذين رغبوا في التخلص من مظاهر البابوية، وأخذت تشيع فيهم مبادئ الإصلاح الديني العام وعلى الأخص آراء كلفن وتعاليمه الخلقية، فلم ينته القرن السادس عشر حتى كان منهم فئة دينية رأينا كيف سميت باسم البيوريتانز؛ وأصبح لهذه الفئة نظرة إلى الحياة خاصة بها، لا في العقيدة الدينية وحدها، ولكن في السياسة كذلك وآداب المجتمع والأدب والفن؛ ولما تم لهم السيطرة السياسية استطاعوا أن يأخذوا المجتمع بمبادئهم أخذا قويا لا هوادة فيه، ولكنهم غلوا في تلك المبادئ غلوا كبيرا حتى تجاوزوا ما تطيقه مشاعر الأمة.
(يتبع)
الخفيف(661/24)
الكذب والنسيان
كما يراها (أبو العلاء المعري)
للأستاذ كامل كيلاني
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
18 - شعر الضب:
ويندد في رسالة الأغريض بالرواة الكاذبين فيقول: (وقد تمادى بأبي يوسف - رحمة الله - الاجتهاد في إقامة الاستشهاد، حتى انشد رجز الضب، وان معدا من ذلك الجد مغضب. أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأجناس الأرض. ما رؤية عنده بنصير، فما قولك في ضب دامي الأظافير.
19 - كذب النجوم
وقد خشي أن يصل الكذب إلى الكواكب والنجوم فقال:
(فيا ليت شعري هل تُراعُ من الروى ... وتركَعُ نُسكا بالعشاء وبالظهر
وتكذب أن المين في آل آدم ... غرائز جاءت بالنفاق وبالعهر
20 - حديث مهلهل
ويسأل عدي بن ربيعة المعروف بمهلهل التغلبي، اخبرني لم سميت مهلهلا فقد قيل إنك سميت بذلك لأنك أول من هلهل الشعر، أي رققه. فيقول: إن الكذب لكثير. وإنما كان لي أخ يقال له امرؤ القيس، فأغار علينا زهير بن جناب الكلبي، فتبعه أخي في زرافة من قومه، فقال في ذلك:
لما توقل في الكراع هجينهم ... هلهلت اثأر مالكا أو حنبلا
وكأنه باز، علته كبرة ... يهدي بِشِكته الرعيل الأولا
فسمى مهلهلا، فلما هلك شبهت به، فقيل لي مهلهل. فيقول الآن شفيت صدري بحقيقته اليقين.
21 - حديث المرقشين(661/25)
ويسال المرقش الأكبر عن الأبيات التي يرويها له بعض الناس:
(تخيرت من نَعمانَ عُودَ أراكة ... لهند، ولكن من يبلغه هِندا
خليلي جوزا - بارك الله فيكما ... وان لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولهما لها:
ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جُزنْا لنلقاكم عمدا)
ويقول له: ولم أجدها في ديوانك، فهل ما حكي صحيح عنك؟) فيقول المرقش: (لقد قلت أشياء كثيرة، ولكني سرفتها (أي: غفلت عنها وجهلتها) لطول الأبد.
وينعطف إلى المرقش الأصغر، فيسأله عن شانه مع بنت المنذر، وبنت عجلان فيجده غير خبير، قد نسى لترادف الأحقاب. فيقول: (ألا تذكر ما صنع بك جناب. فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقودين (أي: الدواهي) وشربت الأمرين.
22 - نطق اللسان
ومن ابرع ما قاله في التنديد بالكذب قوله في رسالة الغفران: (وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان لان العالم مجبول على الكذب والنفاق ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تدينا، وإنما يجعل ذلك تزينا يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض من أغراض الخالية أم الفناء. ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن (دعبل بن علي) لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب، وكم اثبت نسبا بتنسب.
ولا ارتاب إن دعبلا كان على رأي الحكمي وطبقته. والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشية.
23 - الكذب الفني
أما الكذب الفني الذي كان يضطر إليه إليه الخيال، فقد أبدع شاعرنا في الاعتذار عنه في مقدمة سقط الزند - كما قلت في رسالة الهناء - حين عرض لتسويغ اضطراره إلى حذف أسماء من غلي في مجاملتهم، وأسرف في تخيل المزايا الباهرة التي نحلها إياهم في قصائده، معتذرا عما ارتكبه من الشطط بأنه لم يعن أحدا منهم بما قال، ولم يقصد - بما(661/26)
نظم في ربان الحداثة (أول الشباب) وجن النشاط (شدة المرح) إلى غير مرانة الطبع ورياضته، ثم شفع ذلك الاعتذار بآخر فقال: (ولم اطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس (الطبع) فالحمد لله الذي ستر بعفة من قوام العيش، ورزق شبعة من القناعة أوفت على جزيل الوفر).
ولكنه لم يلبث أن عزف عن هذا الباطل ونفر طبعه من تلك الأكاذيب فهجر الشعر قائلا في مقدمة سقط الزند: (ثم رفضته (يعني الشعر) رفض السقب غرسه، والرأل (ولد النعام) تريكته (بيضته التي خرج منها وهو فرخ)، رغبة عن أدب معظم جيده كذب ورديئة ينقص ويجدب (يعيب) وهنا يقول: (وما وجد لي من غلو، علق - في الظاهر - بآدمي، وكان مما يحتمله صفات الله - عز سلطانه - فهو مصروب إليه.
وقد اخذ نفسه - في قابل أيامه - بهذا العهد فوقف تمجيده وإجلاله على خالقه وحده، كما ترى ذلك في اللزوميات ورسالة الغفران، والفصول والغايات.
24 - المثل العليا
وقد أشار في تلك المقدمة النفيسة إلى مبدأ جليل ما اجدر محبي الأدب العربي أن يتنبهوا إلى خطره ونفاسته، فآثر أن يوجه مدائحه إلى المثل العليا - حيثما وجدت - في أفذاذ الموهوبين، من سالف القدامى الغابرين، وقابل الذراري القادمين، فقال: (وما صلح لمخلوق سلف من قبل أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به). ثم أعلن براءته مما جمح به طبعه فقال مستغفرا نادما: (وما كان من محض المين لا جهة له، فأستقبل الله الثرة فيه).
ثم وصل إلى ذروة التوفيق في تعليل الكذب الفني وتسويغه، فقال: (والشعر للخلد، (للنفس أو القلب) مثل الصورة لليد، يمثل الصانع مالا حقيقة له، ويقول الخاطر (القلب)، ما لو طولب به لأنكره).
ثم لخص دستور الشعراء ومن لف لفهم من رجال الفنون فقال: (ومطلق - في حكم النظم - دعوى الجبان: انه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير، وتحلى العاجز بحيلة الشهم، الزميع (النشيط الجريء).
ومما نقتبسه في هذا الباب قوله في رسالة الشياطين 139:
وزعم صاحب المنطق في كتابه الثاني من الكبت الأربعة: أن الكذب ليس بقبيح في(661/27)
صناعة الشعر والخطابة. ولذلك أستجازت العرب أن تقول فتفرط، وتسرف في الشيء فتغرف.
كامل كيلاني(661/28)
فلسطينيات:
أخيال أم حقيقة؟
فلسطين بعد ربع قرن!. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
سيقول ولدي: اذكر أنني في ليلة من ليالي الشتاء القارس جلست إلى جانب والدي وقد حاطني بذراعيه وكان يمتحنني في دروسي، ولما تطرقنا إلى الجغرافيا وأوضاع الدول والأمم، سألني في أية سنة تم تقسيم فلسطين يابني؟ فاجبته على الفور: سنة 1950 يا والدي!.
فربت على كتفي وقال: عافاك الله، حقا انك لتلميذ نبيه، ولكن هل طالعت شيئا عن تاريخ ذلك التقسيم وكيف حصل؟
قلت: قرأت في كتاب تاريخ فلسطين للأستاذ سعيد الزيتاوي الصادر في يافا سنة 1965، والذي أقرته وزارة المعارف العربية الفلسطينية، أن مشروع التقسيم لاقى وقتئذ مقاومة عنيفة من العرب واليهود على السواء. وكانت وجهة نظر العرب في ذلك كما أوجزها الأستاذ الزيتاوي في كتابه تتلخص في أن الموافقة على التقسيم يعني الاعتراف بحقوق اليهود في جزء من فلسطين وانه يخول اليهود حق إقامة دولة لهم في أراضيهم وتأليف جيش وفتح باب المهاجرة إليها على مصراعيه، ثم انه يمكنهم من تصميم الصناعات في دولتهم الأمر الذي يهدد كيان الدولة العربية الاقتصادي، وان الدولة اليهودية في ذلك الجزء من فلسطين ستصبح المخفر الأول للرأسمال الأمريكي في الشرق الأوسط!. . كما أنها ستكون مصدر متاعب لا نهاية لها للجمعية العمومية الدوليه، ولمجلس الأمن العالمي!
وهنا قاطعني والدي وقال: ولكن ألم يكن اليهود أحرارا في تل أبيب والمستعمرات اليهودية؟ ألم تكن لهم مجالسهم البلدية وصناعاتهم المحلية، ومدارسهم الأهلية؟ وهل كان العرب يتدخلون في شئون اليهود الخاصة؟ أو هل كان بمقدور أية أسرة عربية أن تسكن تل أبيب؟ أو هل كان يحق لعربي أن يقيم له حانوتا في مستعمرة (بني براك) مثلا؟ أذن كان التقسيم واقعا فعلا قبل سنة 1950، وكل ما فعلته لجنة التقسيم الدولية أنها خططت(661/29)
الحدود، وعينت منطقة الحرام!.
ارتبكت لدى سماعي اعتراض والدي هذا والتزمت الصمت، إلا انه ابتسم وقال: يظهر أن معلومات الأستاذ الزيتاوي كانت غير كافية، فجاء كتابه التاريخي هذا ناقصا، وهذا عيب لا يغتفر للمؤرخ النزيه.
واسترسل والدي قائلا: شرحت لي وجهة نظر المعارضين من العرب لمشروع التقسيم فهل لك الآن أن تبين لي وجهة نظر ذلك الفريق من العرب الذين أيدوا مشروع التقسيم بواسطة حزبهم المعروف بحزب الديمقراطية الأحرار العرب؟
قلت: روى لنا الأستاذ الزيتاوي في الصفحة 97 من كتابه المذكور، أن أنصار التقسيم من العرب رأوا في التقسيم الحل الوحيد للقضية الفلسطينة، لأنه يضع حدا فاصلا للمطامع الصهيونية، ويمكن العرب من إقامة دولة مستقلة لهم في فلسطين، فيضربون حولها نطاقا حديديا قوامه الخنادق والمخافر والأسلاك الشائكة المكهربة، والجيش العربي الفتي المتيقظ المجهز بأحدث الأسلحة؛ ثم أن العرب إذا ما رأوا أنفسهم في جوار دولة مالية صناعية مخيفة تمسكوا بناموس المنافسة والتطور واستنجدوا برؤوس الأموال العربية وأرسلوا أبناءهم إلى البلاد الراقية ليتخصصوا في مختلف العلوم والصناعات، وهكذا فلا تنفضي حقبة من الزمن حتى يكون العرب قد أقاموا في فلسطين مجتمعا عربيا راقيا فاضلا تتضاءل إزاءه أخطار الدولة اليهودية، ويصير مصيرها إلى التلاشي أو إلى البقاء في الشرق كما هي أمارة تنشتاين في الغرب!
قال والدي: أحسنت الجواب. . . لكن هلا حدثتني عن موقف اليهود من مشروع التقسيم وكيف قبلوه؟
قلت: هذا ما افتقر إليه كتاب الأستاذ الزيتاوي ولم يتطرق إليه إلا لماما واذكر انه قال: أن غلاة الصهيونيين عارضوا مشروع التقسيم بشدة. فمنهم من نعته ب (غيتو) يهودي كبير ومنهم من قال أن الدولة اليهودية بمقتضاه تكون بمثابة (معتقل) للمهاجرين اليهود! وان المهاجرين لن يجدوا متسعا لهم في تلك الرقعة الضيقة فيزاحم بعضهم بعضا فينغص عليهم عيشتهم، وتتحول دولتهم إلى جحيم لا يطاق! أما أنصار التقسيم منهم، فيدحضون هذه المخاوف بقولهم: ستنمو الدولة اليهودية عموديا لا أفقيا!(661/30)
فقاطعني والدي قائلا: وما الذي تفهمه بالنمو العمودي لا الأفقي؟
تلعثمت بالجواب واحمر وجهي خجلا، وقلت: لا ادري!
فقال: عيب عليك أن تتلفظ باصطلاحات وأنت تجهل معناها أأنت ببغاء؟ فالتطور العمودي هي ناطحات السحاب التي تراها اليوم في بعض مناطق الدولة اليهودية المجاورة، والتي أقامها أصحابها لضيق الرقعة، وكثرة السكان. . . أما التطور الأفقي فهو التوسع على حساب الأراضي العربية، وهذا غير ممكن، لأنه يؤدي إلى وقوع حرب بين الدولتين، لن يسمح بها مجلس الأمن الدولي!
وإذ هم والدي بطرح أسئلة مضنية أخرى، طرق باب الدار، وكان الطارق السيد عبد الحليم الملاح صاحب جريدة (الكوكب) وكان من عادته أن يسهر ووالدي ويتبادل وإياه أطراف الأحاديث. فرحب به والدي كعادته، وأجلسه على الأريكة إلى جانبه، وكان مدار حديثهما أخبار الحدود، فروى السيد الملاح خبر اكتشاف قوة الحدود العربية نفقا نقبه اليهود تحت الحدود، كانوا يهربون منه البضائع المصنوعة في تل أبيب، وان مصلحة الجمارك اليهودية القائمة بالقرب من مرج بني عامر أو (ايمك) صادرت سلعا عربية غير مجمركة، وان عربيا حاول الانتقال من يافا إلى تل أبيب بلا جواز سفر، فاعتقل وظل طيلة يومه في استجواب مستمر، ولم يفرج عنه إلا بعد أن اثبت للمسئولين انه يجهل وجود دولة يهودية مجاورة، وما إلى ذلك من أخبار الحدود المتعاقبة يوميا!
وهنا أخذني النعاس واستغرقت في نوم عميق، تاركا والدي وصديقه يتناوبان أحاديث السهرة. . .
نجاتي صدقي(661/31)
تحقيق علمي واستنتاج
الأبيوردي. .
ولادته ووفاته
للأستاذ ممدوح حقي
تتجه أكثر عناية مؤرخينا القدماء إلى تعيين وفاة من يؤرخون وقد يقدرون عمره يوم وفاته أحيانا ولكن ذلك نادر، أما يوم ميلاده فاقل ما يأبهون له أو يتحرون صدقه. وانك لواجد كتاب وفيات الأعيان وفوات الوفيات ولكنك لا تجد كتاب ميلادهم غالبا. ومع هذا فإن الاختلاف على سني الوفاة عظيم جدا قد يبلغ الخطأ فيه أحيانا نصف قرن، ووفاة أبي المظفر الأبيوردي مثال لهذا الاختلاف بينهم، فبن خلكان ومن نقل عنه يعينون سنة وفاته في عام557 هـ. وياقوت ومن روى عنه يعينونها في عام507 هـ. ولقد قرأت كل من ترجم للأبيوردي من قدماء ومحدثين مما عثرت عليه مخطوطا ومطبوعا، فلم الق واحدا تنبه لهذا الاختلاف بله أن يبحثه ويحققه مع طول المسافة بين التاريخين وإنفساح مجال البحث فيهما، فدائرة معارف البستاني وشارح الديوان والزركلي الشاعر في أعلامه من المحدثين يتبعون رأي ابن خلكان ولعلهم نقلوا عنه ساهين سهوت العلماء، ودائرة المعارف الإسلامية تؤكد رأي ياقوت فأيهما الصحيح يا ترى؟ أو أيهما اقرب إلى الصحة أن شئنا التوفيق؟!
إن في تحليل الوقائع التاريخية شفاء من هذا الكسل العقلي، ولنقرا ديوان الشاعر نفسه ونتجه إلى من مدحهم أو اتصل بهم، فإن تجاوز أحدهم نصف القرن السادس، فالابيوردي زميله.
واكثر قصائد شاعرنا في المقتدى (توفى عام 487هـ) والمستظهر (توفى عام 521هـ) ونظام الملك (قتل عام 486هـ) وعميد الدولة (قتل عام 493هـ) وسيف الدولة صدقة بن دبيس (قتل عام 501هـ) وشيرويه (توفى عام509 هـ). . فهؤلاء جميعا ماتوا حول أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس مما يؤكد رأي ياقوت أن وفاة شاعرنا كانت سنة 507هـ إذ كانوا كلهم معاصريه.(661/32)
ولو قبلنا رأي ابن خلكان لأضعفه الحساب التالي: نفترض أن الأبيوردي اتصل بالمقتدى - وهو أول خليفة اتصل به الشاعر - وعمره لم يتجاوز الثلاثين، فيكون عمره يوم وفاته نحو مئة عام، والمسافة بين رأيي ياقوت وابن خلكان نصف قرن بالضبط فكيف أنفقها الشاعر؟ وبمن اتصل مادحا أو مصاحبا؟! ونحن لا نجد لذلك أثرا في ديوانه وكله بين أيدينا، اتفق عليه كل من أرخه بأنه هو نفسه نسقه ونظمه بيده وقسمه إلى فصول ثلاثة سماها: النجديات والوجديات والعراقيات،. نعم لا نجد إلا قصيدة واحدة رثى بها الملك أحمد معز الدين المتوفى عام 552هـ فيكون عمره يوم نظمها - على الحساب المتقدم - خمسا وتسعين سنة. ولو رجعنا إلى القصيدة، لوجدنا فيها روح شاب متفلسف لا روح شيخ هرم وضع قدميه على حافة القبر. فنحن هنا بين أمرين: إما أن نقول بان القصيدة مدسوسة عليه - وهذا رأي يبرزه النقد - وإما أنها له لكنها قيلت في إنسان أخر اسمه أحمد عاصره الشاعر. ونحن إلى الرأي الثاني أميل، لأن روح الأبيوردي ترفرف عليها في كل مقطع (ولعله أحمد بن مروان صاحب الموصل المتوفى عام 453هـ بعد أن حكم إحدى وخمسين سنة وكان كعبة شعراء زمانه).
هذا وان من أوائل من نوه بالشاعر تاج الإسلام ابن السمعاني المتوفى عام 562هـ، وهو ينقل عن شيرويه المتوفى عام 509هـ. فلو قبلنا رأي ابن خلكان لكان معناه أن شيرويه حدد وفاة الأبيوردي قبل سبع وأربعين سنة، وهل يعقل أن يحدد من سبق نهاية من لحق؟ ولقد كان السمعاني ثقة لا شك فيه ونعتقد أن ابن خلكان لم يخطئ وإنما جاء الغلط إلى كتابه عن طريق النساخ والكتبة الذين شغلوا من رسالتنا هذه صفحات لتحقيق صفر كوروه فكبروه فرقم كخمسة في العدد!!
ويؤكد هذا الرأي الأبيوردي تسلم خزنة الكتب في المدرسة النظامية بعد الاسفرائيني المتوفى عام 498هـ، وهذا المنصب لم يكن يتولاه إلا ذو مكانة علمية كبيرة وللسن قيمتها فيه، ولا نعتقد أن الأبيوردي وصل إليه إلا بعد أن اجتاز مرحلة واسعة من عمره تسلح فيها بعلم وفير وظهرت مؤلفاته ونبهت شهرته وانتشر شعره.
إذا تأكد لدينا هذا، وعرفنا أن الأبيوردي توفى عام 507هـ ففي أي سنة ولد يا ترى؟ وكم كانت سنه يوم وفاته؟ هذا ما لم يذكره أحد فلنرجع إلى ديوانه، ولن نطوف فيه كثيرا حتى(661/33)
نقع على قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدولة المتوفى عام501 هـ وبصور له فيها ألمه لبياض شعره إذ ألم الشيب برأسه قبل بلوغه الأربعين فيقول:
اقبل بلوغ الأربعين تسومني ... صروف الليالي أن أشيب واهرما
ونحن نعلم أن سيف الدولة ولي الإمارة مدة اثنتين وعشرين سنة، فلو فرضنا انه مدحه سنة توليه الملك أي عام 479هـ لكانت ولادة الأبيوردي عام 439هـ على ابعد تقدير.
غير أنا لا نلبث حتى نرى له قصيدة أخرى يشكر بها الوزير محمد بن منصور المتوفى عام456 هـ فيكون عمر الشاعر يوم نظمها - على حسابنا المتقدم - سبعة عشر عاما فقط وهذا غير معقول إذ لا يحتمل أن تكون شهرته في هذه السن المبكرة قد بلغت من الذيوع درجة تجمل شرف الدين منصور يترع تبرعا بجميل يسديه إليه التماسا لشعره وشكره كما يدعي في القصيدة فنسها إذ يقول:
تبرع بالمعروف حتى كأنه ... يعد اقتناء المال إحدى المثالب
ونحن أميل إلى الظن انه ولد قبل هذه السنة، وما وصفه الشيب الذي حدث عنه سيف الدولة إلا حكاية ألم متقدم مزمن، وانه حين توفى عام 507هـ كان قد بلغ من العمر طولا مديدا ظهر أثره في شعره المحكم حين اتصاله بالمقتدي والمستظهر وسيف الدولة وكلهم عاصروه أواخر القرن الخامس.
ممدوح حقي(661/34)
أبي. . . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
راحل! يا ضلالَ هذا الوجود ... هو باق في خاطري ونشيدي
ومن الرحلة البعيدة لقيا ... بين روحين فوق دنيا القيود
هامتا بعد فرقة الجسد الفاني ... إلى غير فرقة أو شرود
تنثران الأشواق همساً ونجوى ... وتعيشان في ادّكار العهود
السرار الخفي يسري بسمعي ... سريان الحنين بين العود
يا أبي. . . شاهت الحياة بعيني ... والجديد البهيج غير جديد!
الق لي الحكمة الكبيرة واملأ ... مِسمعي من يقينها المنشود
قد عبرت الحياة من شاطئ دانِ ... إلى شاطئ قريب بعيد
واجتليت الأسرارَ في حلَك الدنيا ... بهاد من فطرة التوحيد
عشقت روحك الرياضة والسَّبْح ... بواد لا ينتهي لحدود
أنت أطلقتها فهامت بسرّ ... أدركته على رماد الشهيد
ما انطلاق الأرواح؟ ما هجعة الجسم؟ وقد قرَّ فوق هذا الصعيد
ما انطفاء الحياةِ حين ُتوّلى؟ ... ما حياة الأرواح فوق اللحود؟
ما اللقاء الكبير في الجدث الضيق؟ ... ما السر بين تلك السدود؟
ما ارتياد المجهول من سبل الغيب؟ ... أنمشي لغاية أم نودى
طالما قلتَ لي تحدثُ عنها ... وتعيد الحديث للمستعيد
كاشفاً عن صفاءٍ حقائق الكون دقتَّ ... وتابّت على اللجوج العنيد
ترسل القولةَ الصريحة لله ... وما عن رضائه من محيد
صادراً عن صفاءِ نفس تسامت ... وتعالت عن الهوى والحقود
عشقت عالم السماء وباعت ... عالمَ الأرض بإرضاء الحميد
عشت لم تدخر سوى العمل الصالح ... لله لا لجاه العبيد!
لهف نفسي، وقد ضمت وليدي ... قائلا: ذاك طارفي وتليدي!
واثباً حوله تناغيه فرحان ... فيهتز هِزَّة الأملود(661/35)
وتغنيه في ضجيج وشدو ... ناسياً عنده وقار الجدود!
من له بعد رحلة لك طالت ... فيناديه صائحاً: يا حفيدي؟!
لكأني به يسائلني الآ - ن وتلك الدموع سؤل الوليد
حين يلقى بنظرة لي حيرى ... ويجيل العينين بين الشهود
دافق الدمع في صراخ كئيب ... ذقت منه مرارة التسهيد
يرسل النظرة الأسيفة ولهى ... تتندّى في طرفه المكدود
موحش شافه حنوُّ عطوفٍ ... ما جفاه في يقظة وهجود
حينما يشتكي تهده شكوا - هـ ليغفو في صدرك المجهود
فإذا نام كنت أحلى رؤاه ... أي حلم يرف فيها سعيد؟!
جلَّ فيك العزاء يا والدي البر ... وآه من يومك المشهود!
شئت أن ترتقي لربك في الفجر ... مع النور هادياً في الصعود!
سمةُ المؤمنين، يسعى سناهم ... بين أيديهم بدار الخلود
وُعَد المتقون جنة عدن ... فتمتع بظلها الممدود
وانهل السَّلسَل النمير رحيقاً ... شعشعوها في حوضها المورود
يا أخي والعزاء منك جميل ... ما لجرح القصيد غير القصيد
مسحت ادمعي دموعك تنثا ... ل عقوداً؛ اكرم بها من عقود
نثروها فوق الضريح وروداً ... فتندى بدمع تلك الورود
يا بن أمي. . . .
للمرحوم أبي القاسم الشابي
خلقت طليقا كطيف النسيم ... وحراً كنور الضحى في سماه
تغرد كالطير أين اندفعت ... وتشدو بما شاء وحي الإله
وتمرح بين ورود الصباح ... وتنعم بالنور أنى تراه
وتمشي كما شئت بين المروج ... وتقطف ورد الربى أنى تراه
كذا صاغك الله يا ابن الوجود ... وإلقتك في الكون هذي الحياء(661/36)
فما لك ترضى بذل القيود ... وتحنى لمن كبلوك الجباه
وتسكت في النفس صوت الحيا ... ة القوى إذا ما تغنى صداه
وتطبق أجفانك الناعسا ... ت عن الفجر والفجر عذب ضياه
وتفتح بالعيش بين الكهوف ... فأين النشيد؟ وأين الأباة؟!
نمشي نشيد السماء الجميل؟ ... أترهب نور السما في فضاه؟!
لا انهض وسر في سبيل الحياة ... فمن نام لم تنتظره الحياه
ولا تخشى مما وراء القلاع ... فما ثم إلا الضحى في صباه
ولا ربيع الوجود النضير ... يطرز بالورد ضافي رداه
ولا أريج زهور الصباح ... ورف الأشعة بين المياه
ولا حمام المروج الأنيق ... يغرد مندفعاً في غناه
إلى النور! فالنور عذب جميل ... إلى النور! فالنور ظل الإله!
شفتاها. .!
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
كلما قبَّلتُ فاها ... أسكرتني شفتاها
وهما كأسان من صَهْ - باءَ لا أسلو هواها
صَبَّها باخوسُ في فيـ - ها وكوبيدُ احتساها
فغدا باخوس رباَ ... وكيوبيد إلها
شفتاها غنُوَتا نج ... وى لعشَّاق صباها
اسمعُ الأنغامَ بالأذ ... ن وبالعين أراها
أي لحن ذلك اللح ... ن الذي قبَّل فاها؟!
شفتاها منهل الأش ... واق للصب المشوق
وشعاعان من الشم ... س زهتْ وقتَ الشروق
وهما عاشقةٌ ما ... لت على صدر عشيق
مَن رأي جمرة نارٍ ... فوق قوسٍ من عقيق؟(661/37)
أو رأي الورد زها واخ ... ضلَّ في كأس رحيق؟
تنهلُ الأنظارُ منها ... رِيَّها وهو صداها!
ويودُّ الثَّغر لو كا ... ن محيَّاها شفاها!
فما ذاك الفم الور ... ديُّ ريُ وعبير
شفتاه من صفاء النَّ ... فس ورح وضمير
وهما من رقة الإح ... ساس شعر وشعور
ومحياها هو الجن ... ةُ والثغر سعير
وهي الحسناء من خفَ ... تها كادت تطى!
أنا أهواها وتهوا ... ني ولن أهوى سواها
شفَّها الوجد ولكن ... شفتاها. . . شفتاها!!(661/38)
قصة الذرة:
تلك الأشعة المحيرة!
للأستاذ فوزي الشتوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
المصادفة أيضا
وقضى اكتشاف أشعة اكس على أحدوثة القرن التاسع عشر من انه ختم الاكتشافات الطبيعية العظيمة ودفع العلماء والباحثين في شتى أنحاء الأرض لكشف مجاهل هذه الأشعة وموادها.
3 - اكتشف أنطون هنري بكرل العالم الفرنسي أن اليورانيوم دائم الإشعاع فأجرى العالم انطون هنري بكرل في باريس مجموعة من التجارب أراد بها أن يعرف إن كانت المواد التي تضئ عند عرضها في الشمس تخرج أيضا أشعة اكس. ولحسن حظه وحظ العالم اختار أحد أملاح اليورانيوم فلف ورق التصوير حساسة في ورقة سوداء ووضع فوقها صليبا ثم عرض ملح اليورانيوم لضوء الشمس ثم وضعه فوق الصليب. فلما حمض الورق الحساس ظهرت عليه صورة الصليب.
وكأن المصادفة تأبى إلا أن تتحكم في كل كشف بالغ الأهمية. ففي أحد الأيام أراد أن يكرر تجربته، واعد الورقة الحساسة في لفتها السوداء وفوقها الصليب. وانتظر أن تبزغ الشمس ليعرض في ضوئها ملح اليورانيوم ولكن الغيوم تجمعت فحجبتها تماما فوضع الملح فوق الصليب، وحفظ الجميع في أحد أدراج مكتبه.
ومضت أسابيع فتذكر بكرل تجربته وعاد ليكررها. ولكن إحساسا غريبا دفعه لان يحمض الورقة الحساسة بغير أن يعرض اليورانيوم للشمس، فأصابته الدهشة التي أصابت رونتجن فإن صورة الصليب ظهرت فيها أيضا. وأدرك من فوره أن عرض اليورانيوم في أشعة الشمس ليس له من قيمة في إرسال ذلك الإشعاع الغريب وان ملح اليورانيوم مجهول يرسل باستمرار أشعة غريبة تشابه أشعة اكس.
المواد المشعة؟(661/39)
وكان بيير كوري وزوجه ماري يعملان في معمل بكرل. وكان كلاهما مغرما بالأبحاث فلما أعلن بكرل كشفه في عام 1896 استأذنته مدام كوري في مواصلة البحث وكان هدفها أن تعرف أن كانت هناك أملاح أخرى غير ملح اليورانيوم ترسل هذا الإشعاع الغريب فوجدت ملحا واحدا أخر هو ملح الثوريوم يرسل مثل هذا الإشعاع.
ولكنها اكتشفت أيضا أن خام اليورانيوم يرسل إشعاعا قوي أربع مرات من إشعاع ملحة الملح النقي. وكان معنى هذا أن خام اليورانيوم يحتوي على مادة غنية بإشعاعاتها العجيبة. وعزم بيير كوري على أن يتخلى عن إكمال بحثه ويعثر هو وزوجه على تلك المادة الفذة.
الراديوم
وتبرعت لهما الحكومة النمساوية بطن من اليورانيوم الخام. فأخذا يحللانه بكل حذر، ويستخلصان مواده مادة بعد أخرى. فكانت نتائج عملهما العثور على مادة تعطي (أشعة بكرل) وقد أطلقت عليها مدام كوري اسم (بولونيوم) تكريما لبلادها بولونيا. ولكنه لم يكن غنيا بالأشعة ليحقق أحلام البحث فواصلاه حتى كانت سنة 1898 فاستخلصا آل كوري من الطعن اقل من قمحة من مادة تشع مليونين ونصف مليون ضعف إشعاع مادة اليوارنيوم وسمياها (الراديوم).
4 - في عام 1898 عرف آل كوري الراديوم كما عرفا الدرجات
وكانت ذات خواص أخاذة فتشع الحرارة. وتكهرب الجو حولها وتجعل كثيرا من المواد مضيئة إن قربت منها. كما كانت تقتل أنواع الميكروبات والأحياء الدقيقة. وأصيب العالم والعلماء بهزة عنيفة، ففي سنوات ثلاث فوجئ العالم بأكبر اكتشافات عرفها التاريخ، وأولها أشعة اكس عام 1895 ثم أشعة بكرل عام 1896. ثم الراديوم عام 1898.
ولكن الأيام لم تترك آل كوري ينعمون بنتائج بحثهم ففي أبريل عام 1903 دهمت سيارة بيير كوري وقتلته. وأسدلت الستار على حياة عالم وضع أساسا جديدا لأبحاث العلم الحديث. ففي جميع أطراف العالم وعلى أثر اكتشاف الراديوم بدأ العلماء يبحثون عن سبب الأشعة المجهولة، والنشاط الإشعاعي. وان يحصلوا على تفسير معقول للمواد الطبيعية ومنها هاتان الظاهرتان.(661/40)
فوزي الشتوي(661/41)
البريد الأدبي
إلى معالي دسوقي أباضة باشا:
(كان معاليه في الصدر ممن نالوا رضا المليك فانعم عليهم، وقد كان من نصيب معاليه الوشاح الأكبر من نيشان النيل)
يا سيدي، اقل من ... كما أراك نِلْتَهُ!
ما زانك اليوم الوسا ... مُ. . . إنما قد زنته
صدرك يوحي مجده ... لكلّ ما حمَلْتَهُ
المجد بحر خضته ... ومنهج سلكته
المجد معنى مبهم ... وأنت قد أوضحته
بيت الأباظيين أف ... ق قد رفعت سَمتْه
يألق بالنور من الأق ... مار. . . . لكن زدته
أعزك البيت الكري ... م قدر ما أعززته
فإن اكن جعلته ... منك. . . فقل أنصفته!
من الفراش ذلك الشع ... ر إليك يرسل
ما عاقني عن نظمه ... أني بسقمي مثقل
خلا هواك. . كل شي ... ء في النهى معطل
إن لم اقله. . . إنه ... في خاطري يرتل
إن بك حب صادق ... فالنظم شئ يسهل
يا سيدي. . أنت الذي ... نحبه ونأمل!
فنل علاء دائماً ... وأننا نسجل!
وابق وازدد علا ... أنت بذاك امثل
العوضي الوكيل
إلى من يكتبون باللغة العربية:
من المعلوم أن رقم (100) يكتب (مائة) بزيادة الألف ويلفظ (مئة) وهذه قاعدة قديمة في(661/42)
اللغة لجأ إليها الناس تحاشيا من الالتباس بين (مئة) و (منه) وذلك حين لم يكن للشكل والأعاجم وجود. قال ابن قتيبة (و (مائة) زادوا فيها ألفا ليفصلوا بينها وبين (منه) إلا ترى انك تقول: (أخذت مائة) و (أخذت منه)؟ فلو لم تكن الألف لالتبس على قارئ).
أما ألان فنحن نستعمل الشكل والإعجام ولم يبق ما يدعو إلى الالتباس في القراءة بين الكلمتين المذكورتين أنفا أو غيرهما أو لم يبق ما يدعونا إلى أن نكتب (مائة) بزيادة الألف.
وبديهي انه إذا زالت العلة زال المعلول.
ولست أسوق كلمتي هذه عبثا، فإن كثيرا ممن يحسنون قراءة اللغة العربية يغلطون في هذه الكلمة فإذا رأوا (مائة) لفظوها (مائة) حسابين أن الألف اصلية، وربما توهم السامع فظنها (ماءة) أي ماء، وهنا نكون تجاه التباس أخر ناشئ من غلط فظيع حتى أن جماعة من مذيعي الإذاعات العربية يقعون في هذه الغلطة ولا شك في أن ملايين من المستمعين يتعلمون ذلك واذكر أني كنت يوما مع أستاذ جليل في بيته نستمع إلى المذياع فوقع المذيع في هذه الغلطة؛ فتأوه الأستاذ وقال: (لقد فسدت لغتنا فإنا لله وأنا إليه راجعون)
وأخيرا: اقترح على كل من يكتب باللغة العربية أن يكتب (مئة) ويلفظ (مئة) جاريا على القول الذي قدمناه: (وإذا زالت العلة زال المعلول).
(بغداد)
صبحي البصام
من خماسيات الأميري:
من الذين يزورون القاهرة في هذا الشتاء الأستاذ عمر بهاء الأميري، وهو من شعراء حلب المجيدين، ومحاميها النابهين. وقد اعتاد أن يجالس الأستاذ كامل كيلاني رجلا استثقله في فندق (الكونتنتال) فمر به ذات ليلة فوجد في مجلسه ثقيلا فجرى لسانه بهذه الأبيات يقابل فيها بين ظرف صديقه وسماجة جليسه:
شتان بين مهفهف ... غض الحواشي، كالفراشة
يصغي إليك، ووجهه ... زانته أضواء البشاشة
وغليظ أوداج، إذا ... لاطفته، أبدى انكماشه(661/43)
فظ السكوت، وإن يناقش ... قلت: ما أذرى نقاشه
هذا يضيع به الحشي ... ش، وذاك يفدى بالحشاشة
البعثات الأزهرية إلى الخارج
إلى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر:
أنت يا مولاي أزهري نلت أرقى الشهادات الأزهرية، وهي (شهادة العالمية من الدرجة الأولى) ولكنك لم تقنع بهذا الزاد العربي الشرقي مع خصبه ودسامته، بل أردت أن تجمع بين علم الشرق الموروث وعلم الغرب المستحدث، فرحلت إلى فرنسا، وطلبت العلم في رحاب (السوربون) وأجدت الفرنسية، وكنت أستاذا في الجامعة الفؤادية سنوات وسنوات، وبذلك أدركت أكثر من سواك مبلغ الخير الذي يحصله الأزهري إذا ما جمع بين القديم والحديث، وقارن بين تراث العرب وتراث الغرب؛ فهل يكون عجيبا بعد هذا، أو غريبا أن نلجأ إليك هاتفين بك لتسارع بتنظيم البعثات العلمية الأزهرية إلى الخارج من شباب الأزهر المعمور الذين أتموا دراستهم في الكليات الأزهرية، وعندهم استعداد وقدرة على الارتحال ومواصلة الطلب أكثر من الطاعنين في السن المقتربين من هدوء الشيخوخة والهرم؟!.
لقد سارعت الجامعات المصرية، والوزارات والهيئات في مصر فكتبت كتائبها وحشدت جموعها، وأوفدت بعثاتها إلى الخارج، عقب الحرب مباشرة مع أن هذه الجامعات والوزارات تجد من أبنائها القدامى والمحدثين من ينوبون عن هذه البعثات أو يحلون محل أفرادها. . . .
أما الأزهر الشريف الذي يحتاج إلى البعثات أكثر من غيره فلم نر من أبنائه فردا واحدا يرسل إلى الخارج في بعثة من البعثات!
أن الأزهريين في أمس الحاجة إلى دراسة اللغات الأجنبية، وإلى الوقوف على شبه المستشرقين والملحدين ليدافعوا عن دينهم وإلى معرفة الحياة الاجتماعية والثقافية عند الغربيين، ليستفيدوا منها في بناء مجتمعهم الإسلامي الجديد! فمتى يتمكنون من تحقيق هذه الأهداف!!. . .(661/44)
لقد تشرفت يا مولاي الأستاذ الأكبر بالحديث أمام فضيلتكم منذ حين عن موضوع البعثات، وتفضلتم بتقدير هذه اللهجة التي تهدف إلى الخير العام، وتتحدث عن الرغبات الإصلاحية الشاملة، واعتذرتم بان العام الدراسي قد انتصف أو كاد ينتهي، ولا يمكن أيفاد أحد من المبعوثين الأزهريين في هذا العام، ووعدتم بتنفيذ هذه الرغبة في بداءة العام القادم؛ ولكنا نخشى يا مولاي أن تشغلنا الأيام القادمة بشواغلها فلتستخر ربك ولتصدر أمرك بتنظيم لجنة تنظر من الآن في تنظيم البعثات حتى إذا ما بدا العام الجديد أو اقبل كانت الكتائب مجهزة، والبعوث مهياة، والله يسدد خطاك ويديم عليك هداك، ويحقق بك الآمال
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف
ابن حكينا:
في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد): الحسن بن أحمد بن حكينا الشاعر المشهور، قال العماد الكاتب: اجمع أهل بغداد على انه لم يرزق أحد من الشعراء لطافة طبعه. وقيده في تاج العروس بكسرتين مشدد الكاف (في حكن)، ومع شهرته وقع في (فوات الوفيات) و (دائرة معارف البستاني) و (الأعلام للأستاذ الزركلي) مصحفا إلى (جكينا) بجيم مفتوحة وكاف مكسورة.
عبد القادر محمد(661/45)
الكتب
الملك. . .
ديوان شعر للأستاذ محمود حسن إسماعيل
للأستاذ زكي طليمات
في عنوان هذه الديوان كفاء للدلالة على ما تضمنه ولن أجد ابلغ ما أقدم به مقالي عنه غير هذه العبارة التي اقتطعها من إهداء الشاعر شعره إلى سيد الكنانة وأمير البلاد.
(هذا هتاف الفن لأنوارك الجديدة في كل آفاق الحياة، سكبته من دمي غناء يفيض للدنيا بحبك، وينبض في جوانح الزمن بآيات وطنيتك)
وفي الحق انه لهتاف يشق أجواز السماء، أرسله الشاعر في تواجد الصوفي وفي نشوة الفتى الشابل، فإذا الهتاف تارة تمتمات وتسبيح وترانيم تشع منها أضواء الروح، وتارة أخرى إرنانات مدوية تشهر في الفضاء شهر السيوف تحي مقدم للبطل وتشيد يفاخر البطولة، وترفع رفع أعلام الأعياد ومشاعل الزينات.
ومباعث هذا الشعر مآثر (الفاروق) حفظة الله، وقد فاضت به يداه في مناسبات فكانت أمن الخائفين والمروعين، وأفراح المحزونين والمكروبين، وبشائر الخير والفرج للمحرومين والصابرين مآثر سجلها الشعر الموفق الآثر، فإذا هي دستور للبر والإحسان، في زمن قل فيه البر والإحسان، فهبت النظم الاجتماعية تفرض على الغني أن يشاركه الفقير في ماله وتقضي على المتخومين ذهبا وفضة بان يخففوا مما ثقلت به بطونهم بان يبذلوا مما بين أيديهم. ثم يشرق الشاعر إشراقة أخرى فإذا بالشعر بين يديه يحكى قوله الحق في (الفاروق)، قولة تتلخص. . في انه ملك بنفسه وبشعبه وليس ملكه لنفسه وبدون شعبه.
كرم الباعث الذي فجر الشعر عيونا ونبل، كما طاب قول الشاعر ونبه.
ولكل قصيدة في هذا الديوان مناسبتها وفي كل مناسبة تسجيل لمأثرة فاروقية هذا والقصيد يجرى على غرار ما هو مألوف في شعر المدائح والمناسبات، فهو عرض لمآثر من سيق الشعر في ركابه، ثم تنويه بفعل هذه المآثر في كشف الغمة وزوال الكروب، ثم رسم لأصداء هذه المآثر في نفوس متلقيها. . .(661/46)
ولو قصر شعر (محمود حسن إسماعيل) عل هذا فحسب، ولم يتجاوزه إلى ما هو اعرق في الشاعرية، لقصر كلامنا على التنويه بشعر شاعر دفعه إخلاصه لمليك البلاد إلى أن يصدر ديوانا يحمل اسمه الكريم فالمدائح وشعر المناسبات يتسم أكثره بفيض في المبالغة والاجتلاب وبوشي محمل بالتزاويق البيانية، هذا والأدب العربي، قديمه وحديثه، ينوء بأحمال ثقيلة منه، وما كان ليؤبه بهذا اللون من الشعر لو لم ينسب منه عرق رفيع يعتبر تحق من جيد الشعر مبنى ومعنى، إذ يحمل طالع الصدق والاعتدال في التعبير، ويلمع باشرا قات الحذق الفني في الصياغة والأسلوب، ويتسم بالاتزان إذ فيه يعوض الشاعر عن شطحاته وهو يزف آيات المديح، غوص على المعاني وتوفيق في استخراج طريفها ولطيفها، ويتجاوز استيحاؤه صفات الممدوح إلى الاستلهام من القيم الإنسانية العامة، فتكون للشاعر التفاتات تجئ من غير افتعال وكأنها هجس الخاطر، فتشد إلى القصيد صورا أخرى كم من الحياة لا تلبث أن تزوده بجديد من المعاني فيتسع أفق الشاعر فيما يقول وتعظم متعة القارئ أو المستمع له وكأن الشاعرية الدافقة في نفس الشاعر لا يكفيها محور واحد تدور عليه، فهي تتجاوزه قادرة إلى سواه من غير أن تجعل العرض يطغى على الجوهر، وبدون أن تنفصم عرى التلاحم بين المعاني الأصيلة والواردة عليها.
والمتأمل شعر (محمود حسن إسماعيل) في هذا الديوان، لا يعدم موطنا يطالعه بهذا.
انظر إلى قصيدته (نور من الله)، فبعد مديح في الفاروق يبلغ ذروته في هذا البيت:
(مُمَلَّكٌ في شباب العمر تحسبه ... لحكمة الرأي تحدوه القدسات)
إذ بك منقول على جناح خياله، وقد يمم شطر الأهرام في لفتة لطيفة، ليحيط بك في رحاب البطل (إبراهيم)، وأذ بالشاعر يقول:
أهرام خوف تهاب الجن ساحتها ... كأنما هي الأقدار خيمات
مخيمات وأسرار السماء بها ... كأنما هي الأفلاك جارات
وخيل رمسيس ما زالت سنابكها ... تلقى حديث الوغى عنها الفتوحات
والسيف في يد إبراهيم ما فتئت ... للنصر ترعش حديه الخيالات
واد أشم العلى، مرت به حقب ... أيامهن بكف الدهر رايات
واسمع الشاعر يقول في قصيدته (تشهد الفأس). . .(661/47)
قل لسارينا مشوا فوق الثرى
بقلوب كخطاهم داميات. . .
ومشت أيامهن بين الورى
في ظلام البؤس حيرى حافيات
اسبغ التاج عليكم نوره
ورعاكم وحباكم بره
فاطرحوا الشكوى وان طال الثرى
أيقظ الله لكم جفن الحياة.
في عبير الحقل أو رمل الهجير
تشهد الفأس على آلامكم
الخ. . . ما ورد في هذه القصيدة. . . . .
هذا شعر يتفجر من القلب وليس مما يخرج من اللسان، من قلب رجل لابس حياة الفالح وشاهد حفاه وعريه، وصلى في محراب أحزانه وآلامه، واشترك في ضراعاته. وفي هذا الشعر ما ينبئ عن أن قائله إنما يصدر مخلصا عما يحسه، وليس عن هوى في زف الكلام الموزون الموشي، ومثل هذا الشعر ياسر القارئ وغريه بإعادة تلاوته، لا لجودة الحبكة في الصياغة ولا لطف التعبير ولكن لما يتمشى في جنبات الشعر من نفس حار يشع منه الصدق واليقين.
وفي الديوان ما يماثل هذا، ولكن في ألوان أخرى من المعاني والمناسبات، فلا عجب أن يجئ أكثر الشعر فيه، تارة زفرات وتنهدات، وأخرى ابتهالات وتمنيات، والشاعر في كل هذا فتى الريف، سليل حملة الفؤوس، وعروس شعره جنية من الريف لها خفر أهله، تطيف به وتهوم فوق رأسه في دلال المرأة اللعوب، أن اقبل عليها أدبرت، وان أغضى عنها أقبلت، كما وصفها الشاعر في قصيدته (تكلم أيها البحر).
ومحمود حسن إسماعيل قد عرفناه بهذا ولهذا في ديونه الأول (أغاني الكوخ) وهي قصائد يجري فيها الشعر جريان السيل الجارف، ويحمل من الريف غبار مساربه، وعبقة حقوله، كما يتنفس عن آلم الفلاح وسقم العامل، ويصف وصف المستبطن دخائل النفوس، من(661/48)
طرحتهم عبودية الفقر والجهالة في كهوف النسيان.
ونرى أن الصلة بين ديوانه (أغاني الكوخ) وبين ديوانه الجديد (الملك) قائمة على احسن حال من حيث الباعث اللاشعوري لإطلاق شعره، بيد أن الشعر في الديوان الجديد يتسم بمسحة ظاهرة من الأناقة ولا أقول التأنق، لأنه يحني الرأس في ساحة المليك، فإذا الشاعر الذي عرفناه في (أغانيه) وغيرها يهدر هدر الأمواج الصاخبة وينطلق بيانه كالسيل العرم الذي يحمل من الأرض كل ما يعلوها يستحيل نهرا صافي الأديم، رقراق الماء ينساب منمقا حوافيه على إيقاع نسمات الأصيل. .
فإذا افتقدنا هي هذا الشعر الجديد الفورة المزبدة، فقد أعاضنا الشاعر عنها الهدءة المؤنسة الموحية، ولهذه كما لتلك، جمال ودلال، ومذاق ومتعة.
ولا عجب أن يبدو محمود حسن إسماعيل أنيقا منمقا في شعره هذا، فأي امرئ لا يصلح من هندامه ونفض عنه ما عسى أن يكون عالقا به ويأخذ بأسباب الأناقة والنظام ما دام يعرف انه سيمثل بين يدي مليك البلاد!!
وثمة ظاهرة جديرة بالتوضيح في هذا الديوان، فإن أبياتا من الشعر قد وردت وهي تأبى إلا تكشف عن معانيها إلا بعد ممانعة ومماطلة، فهي تلوح ولا تفصح، وتومئ ولا تبين. وقد يتوهم البعض أن هذا غموض أو أغراب من جانب الشاعر في سوق المعاني، وما هو كذلك، وإنما هو طبع في الشاعر يدفعه أحيانا - وقد يصدر في هذا عن وعي أو في غير وعي - إلى أيراد بعض من معانيه في صيغة (التركيب) أو الأجمال. فتكون مناوشة ومصاولة بين المعنى وذهن القارئ ذي النظر والتأمل، وتكون متعة ذهنية دونها كل متعة يحسها القارئ بعد أن يمانعه الشعر في الكشف عن كل مفاتنه عند النظر العجلي
وقد تكون إلى جانب هذا الطبع الغلاب، نزعة من جانب الشاعر إلى أيراد غير المطروق والمبذول من المعاني فيأخذ بأسباب التنقيب والتوليد، ويمعن فيهما إمعانا قد يحوطه شئ من التعقيد الذي ينشط التأمل، فإذا الخطوط التي تستوي فيها معانيه منكسرة وليست مستقيمة، وقد تلم بأكبر قسط من حيز المعنى كما يشغل الخط المنكسر أطول مسافة وهو منطلق من نقطة إلى أخرى تقابلها في حيز المرسوم، ولكن المعنى على هذه الحال قد يأتي على غرار لم يألفه من تعود أن يلم بالأشياء في كامل كيانها عند النظرة الأولى، وعلى نمط لا يروق(661/49)
من داب على أن يأخذ الأشياء في يسر ومن غير كد وإنعام نظر.
في شعر (محمود حسن إسماعيل) ما يعطي طواعية ومن غير حساب وما لا يعطي إلا بعد مطالبة وممانعة وحساب، والناس أما هذا وذاك أذواق وإفهام.
زكي طليمات
مدير المعهد العالي لفن التمثيل العربي(661/50)
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 1 -
كانت الساعة تدق السابعة صباحا، حين طرق الخادم باب المكتب ودخل قائلا لسيده فريد أن بباب المنزل قرويا يلح في طلب الدخول لأنه سيتحدث إليك في أمر على جانب كبير من الخطورة كما يقول، فبماذا تأمر؟
- قروي؟! ّ
_ نعم يا سيدي!
- يريد أن يتحدث إلى أنا أم إلى والدي؟
- لقد أخبرته أن سيدي الكبير خرج مبكرا إلى السوق، وهو ألان في متجره، وانك أنت الذي هنا، فقال: سيتحدث إليك.
- وهل أخبرك من هو؟
- لا، ولست اذكراني رايته قبل ألان.
- ما دام الأمر كما تذكر فأذن له. قال (فريد) هذا ثم اخذ يحرك يده في سرعة على الآلة الكاتبة لأنه كان يريد أن يتمم الرسائل التجارية الخارجية قبل الحادية عشر ثم يذهب ليساعد والده في المتجر لذلك لم يرفع رأسه ليرد على تحية الزائر إلا بعد أن اكمل السطر ثم قال: خيرا تريد أيها الفاضل! فتلفت الرجل يمنة ويسرة وكان قصيرا واسع الصدر، عريض المنكبين، يرتدي حلة واسعة من حلل الجيش، وقد ربط رأسه بمنديل احمر تدلى تحت ذقنه، وامسك بيده عصا عجراء، فوقعت عينه في جانب من جوانب الحجرة على(661/51)
مكتب رصت فوقه أكداس مكدسة من الدفاتر والملفات التجارية، ورأى الكاتب قد انهمك في تقيلها واحدا واحدا، وقد امسك القلم بيده يثبت في ورقة أمامه ما يلزم منها؛ وانه لم يشعر بدخول القروي لانصرافه إلى ما بين يديه. ورأى أيضا الخادم الذي قاده ما زال ممسكا بمقبض الباب في انتظار أمر سيده ثم قال: أريد أن أقول لسيادتك كلمة على انفراد. فأومأ (فريد) إلى الخادم أن ينصرف والتفت إلى الكاتب وقال:
- (يا اكرم)! اعتقد انه ليس لديك ما يمنع أن تشرب القهوة في حجرة الاستقبال وان تأمر لنا بقهوتنا هنا، فغادرهما الكاتب صامتا. ثم أن فريدا ابتعد بكرسيه عن المكتب وجلس قريبا من الموقد وأذن للقروي أن يجلس بجواره، ثم اخرج علبة (التبغ) وقدمها للضيف فاعتذر بأنه لا يدخن فقال له فريد: وأية كلمة تلك التي تريد أن تتحدث ألي بها؟
- وهل أنت السيد عفت
- نعم أنا هو.
- اعذرني يا سيدي! فقد أزعجتك وأنت مشغول ولكني - أطال الله عمرك - أظطررت إلى ذلك لأني في مسيس الحاجة إلى صادق معونتكم، وحسن إرشادكم، لنصبح في وقت قصير ذوي مال وفير وجاه عريض
- وأي معونة تحتاج أليها منا. . .؟
- أنت - ولله المنة - في بسطة من العيش؛ فقد وهبك الله فوق ما يتمنى الإنسان من الغنى. وأنا - والحمد لله - لا أشكو ضيق العيش فحالتي المادية ليس بها من باس ولكن قل أن يقنع المرء.
دهش فريد من هذا الكلام وأراد أن يطلب إلى الضيف أن يختصر هذه المقدمة وان يأخذ في الموضوع الذي جاء من اجله، ولكن مهارة (بيرام) - وهكذا كان يسمى - في إلقاء الكلام حملته على أن يصغي إليه ليتم حديثه فقال: منذ أيام وأنا أواصل البحث في (اشقودراه) عن رجل جمع إلى شرف النفس، مضاء العزم، وأصالة الرأي، وغزارة المعرفة، وسل أمة التفكير، وأني اعتقد أني قد وصلت الآن إلى ما كنت ابغي فأني أقرا في صفحات وجهك آيات الحزم والوفاء وأني واجد - لا محالة - في قلبك حصنا للأسرار حصينا.(661/52)
- هو ما تقول. ولك - أن شاء الله - ما تريد
- لست ادري يا سيدي من أين ولا كيف أبدا الكلام؟ فإن موضوع الحديث مستغرب وستشاركني في الدهش والحيرة عندما تسمع ولا أخالك إلا متعجبا وهنا أدنى فريد كرسيه من القروي حتى تلاصقا، فقد استهواه أن يقف على جلية الخبر بعد هذه التقدمة الشائقة وقد شرع (بيرم) يتكلم في موضوعه بعد أن تحرك في كرسيه فقال: لقد عثرت في الأدغال على أشياء كثيرة ذات قيمة عظيمة جدا وهي لا بد أن تكون غالية الثمن. فصوب إليه فريد نظره في هذه اللحظة ليستدل من ملامحه على نصيب حديثه من الصحة، فلم ير أمامه إلا وجها كساه جمال الرجولة، وبدت عليه سمات الجد، ومخايل الذكاء، وحب المغامرة. أما بيرام فقد استمر يقول: لا تيئس أيها السيد فإني أود أن ابسط لك الموضوع من بدايته كما حدث وأرجو أن نفسح لي صدرك وتلقى إلى بالك فانه من الخطورة بمكان.
لك ما تشاء وستجد منى صدرا رحبا.
- أني امتلك قطعة أرض قريبة من بيتي وقد نبت العشب والكلأ فيها بكثرة وبها كثير من الأحجار الصالحة للبناء ولما كنت على عزم تجديد البيت واستصلاح الأرض رأيت أن اجمع تلك الأحجار لانتفع بها ولأنظف الأرض منها لتصير صالحة للإنبات، ولم يكن يساعدني في ذلك غير والدتي وبينما نحن نعمل بجد وقعت فأسي على حجر كبير ودفعني حب الاستطلاع إلى إزالة ما عليه من الأتربة وإخلاء ما حواليه فدعوت والدتي لتعاونني في ذلك العمل ولتعينني على نقله وبد جهد ومشقة استطعنا أن نحركه من مكانه فإذا به غطاء لبئر عميقة يصل الإنسان إلى قاعها بواسطة سلم طويل قد نحت في الصخر، وكانت البئر حالكة الظلمة فأرسلت والدتي إلى البيت فأحضرت المصباح بسرعة!. . . أني عاجز يا سيدي عن أن أصور لك حالتي في تلك اللحظة وقد كنت اسمع والدي - عليه رحمة الله - دائما يقول: لو حفر إنسان هذه الأرض لثر على كنوز قيمة
جدا كان فريد يستمع إلى (بيرم) وهو مبهوت وكانت عيناه لا تبرحان النظر إلى شفتيه وهو يتكلم وحينما وصل من حديثه إلى هذا الحد سأله: هلا دخلت البئر؟
- وكيف لا يا سيدي؟ سأحدثك بكل شئ فلا تتعجل فانه لما عادت والدتي بالمصباح امسكنه بيدي ونزلت وكل همي أن اعرف عن المكان كل شئ: عددت درجات السلم فوجدتها(661/53)
خمسين درجة، وبعدها انتهيت إلى حجرة واسعة تبلغ مساحتها ضعف مساحة هذه الحجرة ثم فرك (بيرم) عينيه وغير من نبرات صوته مما زاد في التأثير على فريد الذي كان بجواره جامدا كالتمثال، كله انتباه وإصغاء حتى لا يفوته من حديث القروي شئ، لذلك نراه يستعجله بقوله: وأخيرا ماذا رأيت؟
- رأيت يا سيدي أشياء غريبة جدا! لا ادري عن أيها أتكلم أولا: رأيت تماثيل لرجال من الأحجار ورأيت كثيرا من الأواني الكبيرة المصنوعة من الفخار التي يطلق الناس على الواحد منها اسم (الزير) ويبردون فيها مياه الشرب؛ هذه الأواني ملأا بتراب ثقيل لامع ورأيت كرسيا كبيرا من الذهب فاستعاد (فريد) في استغراب وفي صيغة سؤال عبارة بيرام الأخيرة: (كرسيا كبيرا من الذهب)؟ ثم مال بجسمه نحوه كأنه يريد ان يفصح أكثر من هذا وقال له: وماذا رأيت أيضا؟
- ماذا أقول لك يا سيدي؟ أن ذاكرتي لا تعي كل ما رأيت فأنها كثيرة جدا، وستراها بنفسك عندما تذهب معي!. . . هناك أسلحة كثيرة مزينة بالأحجار الكريمة. وهناك لوحات كبيرة من الرخام على الجدران نقشت عليها نقوش قديمة ثم سكت برهة كأنه يستذكر ما رآه وعاد يقول: فأنني أن أقول لسيدي أن في وسط الحجرة أن كرسيا طويلا جدا وهو دقيق الصنع جميل الشكل فاقع الاصفرار، وقد ثبتت في الأرض بمسامير وتتدلى فوقه من السقف سلسله طويلة من الذهب الخالص تنتهي بقنديل صغير الحجم اصفر اللون لم أرى قي حياتي اجمل منه. . . وفي ركن من الأركان مهد م الذهب تجلت فيه آية الفن القديم، وأبدعت فيه يد الصانع فكان تحفه نادرة المثال. هذا كل ما اذكره الآن يا سيدي من تلك الأشياء التي تخلب اللب وتبهر العين. ثم سكت ونظر إلى فريد إيذان بان حديثه قد انتهى وليعرف مدى تأثره بما سمع. وفي هذه اللحظة كان الخادم يدق الباب حامل أليهما القهوة فصاح فيه فريد بصوت الذي أستيقظ من نومه دون أن يتم حلمة الذيذ: لا نريد قهوة، فاخرج واتركنا وحيدين. ثم التفت إلى بيرام وقال له: هل أنت متأكد أن أحد غيري لم يطلع على هذا الموضوع
- قلت لسيدي أنني قضيت أكثر من سبعة أيام أفتش في (اشقودراه) عن رجل أستطيع أن اعتمد عليه. وأنا يا سيدي رجل ولدت ونشأة في الجبل ولم تمكني ظروفي من الاختلاف(661/54)
إلى المدرسة ولذلك تنقصني الشجاعة لأقوم بمثل هذا العمل وحدي لجهلي بقيمته من ناحية، ولان حالتي المادية وحالتي الاجتماعية لا تساعدانني، ولخوفي من أن أحد يكتشف أمري فيرشد ولاة الأمر على من ناحية أخرى. وان القدر ساقني إليكم؛ فقد علمت من أهل الناحية أنكم - أنت ووالدك - أهل ثقة وكرم، ومروءة وشرف، فكن على ثقة يا سيدي من إنني لم أتحدث إلى أحد قبلك في هذا الشان وانه لا يعلم به الآن سوى ثلاثة: أنت، وأنا، ووالدتي.
انتصب فريد وافقا واخذ يذرع أرض الحجرة ذهابا وجيئة؛ فقد هجمت عليه جيوش جراره من الأفكار؛ ساوره أولا قليل من الشك لم يلبث أن تبدد وحل محله إيمان راسخ بكل ما قال بيرام حينما اقترب منه وألقى عليه نظرة جبارة لم يتأثر القروي منا، فاعتقد فريد إنما ما سمعه لم يكن حلما يزول بالاستيقاظ من النوم، ولا قصة اعمل الكاتب فيها خياله، ولا أكذوبة لفقها بيرم؛ فإن سذاجته وعدم تعلمه ومظهره العام وما يدل عليه من طيبة نفس، وسل أمة ضمير، ونقاء سريرة كل ذلك يباعد بينه وبين الكذب. لا شك أن هذه حقيقة واقعة وان الحظ قد ساقها ألي والحظ هو كل شئ في الدنيا. والآن نحن في حاجة إلى سرعة العمل، وحكمة الإرشاد وكتمان الخبر. ثم كف فريد عن المشي في الحجرة وتيار هذه الأفكار يدور في رأسه ونظر إلى القروي الذي كان يشم في اطمئنان عبير ورده كانت في يديه مما لا يجعل للشك اثر في نفس فريد، ولذلك قال له: أنت تعرف يا آخى أن مثل هذه الحكاية يجب إلا يطلع عليها أحد حتى لا يتسرب خبرها إلى أذن الحكومة فتتركك صفر اليدين لان الآثار ملك للدولة، وقد أحسنت صنعا بالمجيء إلى هنا فهذا عمل لا يستطيع امرؤ أن يقوم به وحده، أو هل تعتقد في نفسك القدرة على الاستفادة من هذه الكنوز من غير أن تستعين بأحد؟
- لو كان الأمر كذلك لما كلفت نفسي مشقة البحث عمن اطمئن إلى معونته.
- أؤكد لك - وأنا صادق - أن التوفيق قد حالفك حين اهتديت إلينا وإني أعاهدك عهد لا احنث فيه أن كل شئ نكسبه من هذه سنقسمه مناصفة وهذي يدي وعلى عهد الله وميثاقه وهو على كل ما نقول شهيد، فمد ليه بيرام يده وتعاقدا على ذلك، ثم اخذ فريد يقطع الحجرة ثانية ذهابا وإيابا تاركا العنان لأفكاره التي تضاربت وتعددت وتشعبت، فمن رحلات البلاد النائية، إلى مشروعات تجارية واسعة إلى تمرغ في أعطاف النعيم وتمتع بما لذ وطاب من(661/55)
أنواع المتع، إلى إنشاء فنادق فاخره، وابتياع سيارات فخمة وعبث مع النساء وغيرها هذا وذاك مما يمليه الهوى وتسعف به النقود. ثم انه تذكر فجأة أن الوقت اثمن من يضيعه في مثل هذه الأفكار، ونما يجب العمل السريع الحاسم، فرجع إلى بيرام وجلس بجانبه. وقال له: قل ثانية ماذا رأيت في هذا الكهف العجيب؟ فاخذ القروي يعيد تعداد الأشياء التي سردها أنفا مسهبا في وصفها وفريد يستزيده ويستوضحه ويمطره توابل من الأسئلة فقد سأله ما عدد الأزيار؟
- أربعة عشر كل واحد منها أطول من قامتي
- وهل أدخلت يدك في أحدها؟
- لا! ولكني رأيت فيها تراب اصفر اللون
- وهل هو ذهب
- لا أستطيع أن أؤكد هذا
- وماذا في الكهف غير ما ذكرت؟
- فيه كل شئ!. . فيه تمثال لإنسان في ناحية منه وحجمه كبير جدا وفي وسط التمثال باب من الحديد.
- وهلا فتحت ذلك الباب؟.
- في اليوم الأول اعتراني خوف شديد فلم افتحه وإنما فتحته بعد يومين اثنين.
- وماذا رأيت؟
- رأيت أشياء لا يكاد العقل يتصورها، فالباب الحديدي الذي في وسط التمثال إنما هو باب حجرة تبلغ مساحتها مثل مساحة الأولى سبع مرات تقريبا. وهي مملوءة على سعتها بأعمدة من الرخام وتماثيل رجال من الأحجار وكراسي كثيرة صنعت من معادن مختلفة وكلها موضوعة في نظام دقيق غريب.
- وهل هذه المقاعد من الذهب؟
- لست ادري لآني لم اقترب منها.
- ولماذا لم تأت بقطعة منها (كعينة)؟
- نحن يا سيدي أناس جهلة! تصور أن والدتي ترتعد خوفا عندما تراني أهم بالدخول،(661/56)
وهي لا تتركني ادخل إلا إذا أقسمت لها اغلظ الإيمان إنني لن أمس شيئا من الآثار بيدي. وهي تؤمن بالخرافات أيمانها بالله فتعتقد ان هذه الكنوز أمانات للموتى تحرسها الأرواح وان هذه الأرواح تنال بالأذى من تمتد يده إلى تلك الأمانات.
- هذا كلام فارغ! واعتقاد فاسد ووهم باطل. كم من الوقت تستغرق المسافة بين هنا وبين منزلكم؟
- تستغرق ساعتين أو ساعتين ونصفا على أكثر تقدير.
- أني أود أن أرى قطعة من هذه الآثار فما رأيك! أود أن أراها لأتحقق اذهب هي أم فضة أم ماذا؟ فرجائي أن تذهب ألان وتعود بقطعة منها.
- أمرك نافذ يا سيدي! ولكني أرى أن القيام بهذا العمل في النهار غير مناسب، وإنما يناسبه الليل؛ لأنه احفظ للأسرار ثم أني على ميعاد ولا بد من الذهاب إليه قبل العودة إلى المنزل.
- أنصحك بترك كل عمل أخر لنتفرغ لعملنا نحن؛ فإننا سنعيش منه مترفين ولن نحتاج لشيء ولا لأحد مدى الحياة.
- الحق ما تقول، وأنني لن اذهب إلى السوق لقضاء مصلحة وإنما لمقابلة صديق ينتظرني فسأله فريد في صوت الخائف الشاك ومن يكون ذلك الصديق؟
- رجل لا تعرفه. وساكون بعد غروب الشمس في بيتي، ومهما تأخرت فسأرجع إليك الليلة (بالعينة) موضوعة في غرار تين مملوءتين بالفحم.
- وأي شئ تأتى به من هذه الآثار؟
- سآتي - أن استطعت - بشيء من القنديل ومسامير المقعد الكبير وما يمكنني قطعه من المهد.
- لا! لا! لا تمس المهد بسوء ولكن ادخل يدك في قاع (زير) وات بشيء مما تحت الغبار وان لم تجد غير الغبار فيكفي أن تأتي ببغضه في منديل
- أنها يا سيدي مهمة شاقة؛ فأني كلما أردت الدخول بكت والدتي وملأت الدنيا صياحا ولكني سأفعل المستحيل لإرضائها، والقيام بما أمرتني به. . وهنا ادخل فريد يده في جيبه واخرج كيس نقوده واخذ منه جنيهين من الذهب ووضعهما في يد بيرام وقال له: خذ هذا(661/57)
المبلغ الضئيل واشتر لوالدتك هدية وحاول أن تقنعها أنها أن تركتك حرا فستصبح بعد زمن يسيرا من أغنى الناس وان ما تدعيه من أن ما في الكهف أمانات تحرسها الأرواح إنما هو خرافة فاخذ بيرام المبلغ ووضعه في جيبه ثم استأذن في الخروج على أن يعود ثانية بعد الظهر.
فقال له فريد: سنتعشى هنا معا.
- لا! يا سيدي أشكرك.
لا! لا! لابد بعد عودتك من السوق أن نتناول العشاء معا ثم تخرج إلى بيتك.
- أمرك سيدي!
- سأنتظرك ولما هم بيرام بالخروج ناداه فريد وقال: هل تسمح أن تشرفني بمعرفة اسمك.؟ فأني نسيت.
- اسمي بيرام يا سيدي. . . . قال هذا ثم انصرف.
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله(661/58)
العدد 662 - بتاريخ: 11 - 03 - 1946(/)
جمال الدين الأفغاني
جهاده في سبيل الشورى والحرية
(بمناسبة ذكرى وفاته التاسعة والأربعين)
في اليوم التاسع من شهر مارس عام 1897 قضى السرطان في عاصمة الخلافة على الحكيم الثائر المصلح السيد محمد جمال الدين الأفغاني، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ومسح عن عيون الشرقيين ما فتَّرها من همود الكرى، وجلا عن قلوب المسلمين ما غشاها من صدأ الجهل، فاطمأن الاستبداد، وأمن الاستعمار، وظن الذين ينقضون أوطانهم ليقيموا عروشهم، والذين يزيفون أديانهم ليملئوا كروشهم، أن الصوت قد خفت، وان المشعل قد انطفأ؛ ولكنهم نسوا أن الرسل يبلغون والله يُثْبت، وأن المصلحين يبذُرون والدهر يُنبت، وأن جمال الدين إنما كان صيحة الحق وإشراقة الهدى انبعثتا من يومهما الموعود كما ينفجر المكظوم فيدوّي، ويحلو لك الليل فيُصبح. وهل كانت الثورات الديمقراطية التي شبها العرابيون ثم المهديون ثم الاتحاديون ثم السعديون ثم الهاشميون ثم الفهلويون إلا أقباساً من تلك الشعلة المباركة التي حملها الأفغاني وتنقل بها في ممالك الشرق، يحرق ويضىء، وينضج ويُحمى، وُيقبس ويشعل، وساعده مرفوعة لا تكل، وعزيمة لا تنكل؟
وسر القوة في هذا الرجل أنه كان صاحب رسالة لا طالب مُلك: هاجم السياسة الإنجليزية في (العروة الوثقى) أعنف الهجوم أيام الثورة المهدية، فدعي إلى لندن ليلوح له اللورد ساليسُبري بُملك السودان ليطفأ الثورة ويقترح الإصلاح. فما كان جواب الأفغاني إلا أن قال: (إن السودان لأهله. وهل تملكونه حتى تملكوني عليه؟!).
وأراده السلطان عبد الحميد على مشيخة الإسلام فأباها وقال: أن وظيفة العالم فيما يزاول من تعليم، وان رتبته فيما يحسن من علم.
أما كيف تهيأت نفسه لرسالة البعث والتجديد على فترة من رسل الهدى وأئمة الإصلاح فجَر فيها الحاكم وكفر المحكوم، فذلك من علم الله الذي يصطفي من يشاء كما يشاء لنصرة حقه وهداية خلقه. وكل ما نظنه معيناً على هذا التهيؤ أنه ولد في بيت كريم الأصل يجمع إلى جلالة النسب إلى الحسين، سؤددَ الإمارة على بعض الأقاليم الأفغانية؛ وانه درج في بيئة تعتز بطباع البداوة من حرية وحميَّة وأريحية وأنفة؛ وانه درس فيما بين الثالثة(662/1)
والثامنة عشرة من عمره علوم الدين والدنيا، وفنون اللسان والعقل، على منهاج محيط شامل؛ وانه حذق في مراحل حياته ومواطن رحلاته اللغات العربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية، وألم بالإنجليزية والروسية، فاتصل منها بثقافة الشرق والغرب في القديم والحديث؛ وانه طوّف ما شاء الله أن يطوّف في أقطار الهند وإيران والحجاز ومصر وتركيا وإنكلترا وفرنسا وروسيا، فازداد بصرا بأحوال الدول وأخلاق الشعوب؛ وأن موقع أفغانستان بين الهند وإيران أمكنه من أن يرى ميادين الاستعمار المدل المذل تتواثب عليها قوى الإنجليز والروس ظاهرة وباطنه، فهاله منذ شب عدوان الأجنبي على استقلال أمته وجيرته.
كل أولئك الذي ذكرت من كرم المحتد، وشرف المولد، وبداوة البيئة، وعمق الثقافة، وحذق اللغات، وإدمان الرحلة، ومعاناة الاستبداد، ومكابدة الاستعمار، لم يخلق وحده الرجل المصلح في جمال الدين، وإنما كان مساعداً لسر العبقرية الذي اكنّه الله فيه على أن يظهر مهيأ الأسباب مستكمل الوسائل.
كان رضى الله عنه متواضع النفس لأنه عظيم، جريء الصدر لأنه حر، ندى الراحة لأنه زاهد، ذرب اللسان لأنه قرشي، أبى الضيم لأنه أمير، حاد الطبع لأنه مرهف، صريح القول لأنه رجل. ولم يبتغ من وراء هذه الصفات - كما قال - إلا سكينة القلب. وكان يحمد الله على أن آتاه من الشجاعة ما يعينه على أن يقول ما يتعقد ويفعل ما يقول. ومن تمازج هذه الشمائل وتلك الوسائل فيه اتسعت حوله الأرض، وامتد أمامه الافق، وانصرف همه البعيد عن الدار والزوجة والعشيرة إلى الوطن الإسلامي كله، والشرق الإنساني كله، فجعل قصده ووكده أن يدعو إلى إنهاضهما بالوحدة الإسلامية لتدفع غائلة المستعمر، وبالحكومة الدستورية لتقمع شرَّة المستبد.
وقد آمن بهذه الدعوة إيمانه بالله حتى رأى في سبيلها السجن رياضة والنفي سياحة والقتل شهادة!
وكان الذين يقفون من سيرة الأفغاني على الهامش يظنون انه قصَر جهده في تحقيق هذه العودة على الكتابة والخطابة؛ والواقع الذي لا شك فيه انه فكر ثم قدّر ثم دبّر، ولكن الوحدة كانت من الشتات بحيث لا تلتئم، والاستبداد كان من الثبات بحيث لا ينهزم.(662/2)
تولى الوزارة وهو في ريق شبابه لأمير الأفغان محمد أعظم، فجمع نفسه على الاستقلال، وأدار أمره على الشورى، فأوجس الإنجليز خيفة من هذه النزعة، فأرسلوا ذهبهم إلى منافسه فأضرم الثورة وفرق الكلمة وطرد الأمير. وخرج السيد إلى الهند يبتغي السكينة عند تاجر صديق، فاستقبله الإنجليز على الحدود، وأنزلوه بالإكراه ضيفاً على الحكومة. فسألهم الإقامة شهرين، ولكنهم حين رأوا إقبال الناس عليه، وإصغاءهم الشديد إليه، قصَّروا هذه المدة وأمروه بالخروج. وكادت الأعصاب الهندية المخدّرة تثور حين قال لزعماء الهنود وهو راحل:
(وعزة الحق وسر العدل، لو أن ملايينكم مُسخت ذباباً لأخرجت الإنجليز بطنينها من الهند. ولو انقلبت سلاحف، وخاضت البحر إلى الجزر البريطانية لجذبتها إلى القاع)!
وفي الآستانة استقبله الصدر الأعظم استقبال التجلة، وأحله أعيان الدولة محل الكرامة. ثم عُين عضواً في مجلس المعارف، فرى في التعليم رأياً، وخطب في الصناعة خطبة، احفظا عليه أعوان الجهل من رجال العلم، وإخوان الضلال من شيوخ الدين. وتولى قيادة الإرجاف شيخ الإسلام لحاجة في نفسه، فافترى على الرجال الأباطيل، وبسّ حواليه النمائم، فلم يجد الأفغاني بدَّا من النزوح إلى القاهرة.
وهنا وجد الصدر الأرحب في رياض باشا، فتجلت عبقريته في التعليم والتنبيه والتوجيه؛ وأوقد بالزيت المقدس شعلته الوهاجة في البيت وفي القهوة، فعشا على ضوئها الهادي طلاب المعرفة وعشاق الحكمة من علماء وأدباء وساسة وقادة. ثم اتخذ من المحفل الماسوني الذي أنشأه، منارة لهذه الشعلة، فقسم الإخوان العاملين فيه شعباً لكل وزارة من وزارت الدولة شعبة. فشعبة الحربية تنظر في ظُلامة الضباط المصريين، وتنذر (ناظر الجهادية) أن ينصفهم من الضباط الجراكسة. وشعب الحقانية والمالية والأشغال تنذر وزراءها أن يساووا المصريين بغيرهم في العمل والمرتب. وراع أولى الأمر ما قرءوا في تقارير الُّشعب، وما سمعوا من لغط الموظفين، وما رأوا من قلق المثقفين، فاستدعاه الخديوي توفيق وفاوضه في ذلك، فقال له فيما قال: (إن سبيل الإصلاح أن يشترك الشعب في حكم البلاد عن طريق الشورى). ثم ازداد جمال الدين إمعاناً في حملته، وانقلب الأدب كله أصداء لأحاديثه وأبواقاً لدعوته، حتى انتهى الأمر - بعد جهاد ثماني سنوات - إلى أن(662/3)
ضاق الإنجليز بسعة نفوذه، فزينوا للخديوي أن يخرجه من مصر فأخرجه.
وانتقلت الشعلة إلى باريس، وسطعت في العروة الوثقى، وظلّت ألسنتها ثمانية عشر شهراً تومض في جنبات الشرق كما تومض المنارة في ظلمات المحيط، حتى دلت على أوكار الطغيان ونمت بأسرار القرصنة، فاستقدمه شاه العجم واستوزره، فلما أشار عليه بالشورى أشاح بوجهه عنه. واستزاره قيصر الروس واستخبره، فلمّا نبأه بحديث الشورى نفر منه. واستدعاه خاقان الترك واستشاره، فلما نصح له بالشورى وتقسيم الإمبراطورية إلى عشر خديويات يتولاها أمراء عثمانيون، زوى عبد الحميد ما بين عينيه؛ ولكنه ألطف الجواب للحكيم الشجاع، وظل على إكرامه واحترامه أربع سنين حاول فيها أن يكبله بحبال المنصب والزواج فلم يستطع، ولكن الموت استطاع أن يكبل الثائر الحر ليبلغ الاستبداد اجله المقدور!
وهكذا كانت حياة جمال الدين كلُّها جهاداً مضنياً في سبيل الله والعلم والحرية والشورى.
كان أينما حل تنفس الصبح واستيقظ الهجود، وأينما رحل ارتجفت العروش واضطربت القيود!
طيب الله ذكرى هذا الإمام العظيم، واجزل له ثواب المصلحين المخلصين في جنات النعيم!
احمد حسن الزيات(662/4)
آمال تذكيها صحائف مطوية:
المساجد الجامعة وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية
للأستاذ أحمد رمزي
كانت فكرة تربية المسجد تعاودني من وقت إلى آخر. وكانت حوادث الزمن تمر عليّ فلا اشعر بمرورها. لقد قضيتُ اسعد سنوات العمر وأزهرها مغتربا عن بلادي، مشرِّقاً حيناً ومغرِّباً أحياناً، وأطلقت العنان لنفسي أقرأ وأستمع وأبحث، وأدرس الحركات الشعبية وتأثيرها، واتصل بأصناف مختلفة من الناس، وألمس عن قرب تطور العالم وتمخضه بالحركات الفكرية الكبرى، ومع ذلك كانت تلازمني فكرة حمد الله صبحي عن تربية المسجد وأثرها في حياة المسلم.
وأجتهد أن أصل إلى تكييفها وفهمها لإيجاد طريقة أو منهج لتحقيقها. وكان أشد ما يقابلني من المصاعب، ويصدني عنها هو مناقضتها بمنطق ستند على أنها بعيدة عن الإسلام وأنها تقليد للمذاهب والأديان الأخرى، وفي ذلك هدم للفكرة وإخراج لها من حيز المقبول إلى حيز التحريم والإنكار.
ففي يوم من أيام إقامتي بسوريا ولبنان مدة هذه الحرب اتجهت نية بعض الإخوان إلى زيارة الحصون والقلاع التي تركتها الحروب الصليبية. فلما زرناها وقفنا مدهشين لأن ما نقش على الحجارة ينطق بفتحها على يد ملوك مصر أمثال بيبرس وقلاوون وابنه الأشرف خليل، فبدأت اشعر شعورًا جديداً، بعظمة مصر الإسلامية العربية وأثرها في العالم العربي، وحنقت على وزارة المعارف التي أهملت هذه الناحية فلم تلقني شيئاً عن تاريخ بلادي في معاهدها سوى أنها أنقصت من قدر ملوك الإسلام الذين تولوا الحكم فيها، فلم تكشف لي عن صفحة مجد واحدة تحبب إليَّ ذلك العصر المملوء بالفتوح والحروب والمعارك والانتصارات التي منّ الله بها على جند مصر العربية الإسلامية وملوكها، ومكنتهم من هذه الحصون التي وقفت تقارع الزمن حتى مهد الله فتحها على أيديهم بعد أن عجز غيرهم عنها، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
وكان أن أخذت نفسي بقراءة المراجع كما كبها المعاصرون لتلك الحوادث، فهداني الله إلى حقائق كانت مغلقة عليَّ، إذ عرفت أهمية المساجد الجامعة وأثرها في تاريخ المسلمين،(662/5)
وكيف أسند ملوك الإسلام وظائف الإمامة والخطابة للقضاء وكبار العلماء من مشايخ الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وكيف ارصدوا الأوقاف والأموال والخيرات والنعم والوافرة على مساجد الله. فأين ذهب كل هذا؟
ولم نتلق شيئاً عن هذه المساجد وتاريخها ما يدفعنا لزيارتها والتحدث عنها كجزء متمم لتاريخنا وشخصيتنا ولكن هذا النقص تكفلت به كتب التاريخ والتراجم والأدب.
فقرأنا في صبح الأعشى الكثير عن الوظائف الدينية ودرجاتها وأهميتها، فمن ذلك صورة تقليدين لمشيخة الشيوخ أحدهما للخانقاه الصلاحية (سعيد السعدا) من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله العمري، والثاني لمشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس من إنشاء السيد الشريف شمس الدين، وكلاهما تحفة من تحف الأدب الديواني، ودليل على العناية والاهتمام بمراكز الدين وأهمية الإمامة والخطابة بالمساجد في صميم الدولة الإسلامية.
فبالله عليك ماذا يكون موقفنا لو أبقى الزمن على محفوظات ملوك الإسلام بمصر بأكملها؟ وإنه لشيء عظيم يدل على أن المساجد الكبرى مثل جامع عمرو وابن طولون والجامع الأزهر بعد ذلك وجامع الحاكم والسلطان حسن وجامع الملك الظاهر، وجامع القلعة، كان يتولاها أكبر علماء العصر. ولو شئنا أن نؤرخ لكل منها وان نصف ما مرَّ من العزّ عليها، لاحتجنا إلى كتاباً لكل منها.
إذا تقرر ذلك، فما الذي يمنع أن يرد اعتبار هذه المساجد إليها؟ فتسند وظائف الخطابة والإمامة إلى أكبر علماء الدين وأعلاهم قدراً، وأكثرهم غيرة على الدين، مثل فضيلة الأستاذ الأكبر، ومفتي الديار المصرية، وقاضي القضاة وهو اسم تاريخي ما اجمل وقعه لو أطلق على رئيس المحكمة العليا الشرعية، وإلى غيرهم من هيئة كبار العلماء وأساطين الشريعة السمحاء، وان يقلدوا هذه الوظائف بمراسيم عالية تصدر بالألقاب التي كانت تستعمل في العهود الإسلامية.
فجامع عمر بن العاص متى يتولى الإمامة فيه شيخ من فطاحل شيوخ الإسلام من ذوي المراكز العالية والمراتب الكبرى؟ فيضع بطاقته مفتخراً بأنه إمام جامع عمرو بن العاص قبل وظيفته الرسمية العالية، حينئذ يأتي الكبراء إليه ويزدحم المسجد العتيق بجماهير المصلين ليؤدي لهم بحق رسالة الإسلام.(662/6)
أما جامع ابن طولون فمتى يعود لسابق عهده، فمتى تعلق ستائره وتفرش أرضيته بالأبسطة والطنافس ومتى تعود أيامه وتوقد القناديل فيه؟ إنهم يرونه أثراً من آثار الجاهلية الأولى كمعابد الكرنك وإدفو، وأراه دعامة من دعائم الإسلام في هذا البلد المسلم. إنه ينتظر عالماً كبيراً بمنزلة القاضي بكار، يرجْ بصوته الجهوري أركانه ويدعو فيه إلى ذكر الله ويعلم الناس في أروقته الكتاب والدين والتقوى. وإذا سألتني ومن يأتي إليه؟ أجبتك إن شخصية الإمام العامل العالم تكفل لك أن تنقل المسجد الجامع من معبد أثري إلى بيت من بيوت الله، حينئذ يؤمه الألوف لسماع ذلك النداء الخالص الذي يدعو إلى الرسالة المحمدية.
وإذا ذهبت إلى حيّ العباسية مخترقاً الظاهر قابلك الجامع الظاهري، مفخرة العمارة الإسلامية في العصور الوسطى. لو كان ملكا لشعب من أصغر شعوب الأرض لما قبل أن يتركه على هذه الحالة. بالله هل سمعتم ان كاتدرائية ريمس حينما هدمتها الحرب الأولى أو كاتدرائية وستنمستر حينما هدمتها الحرب الثانية، اتخذ الناس أرض الأولى متنزها والثانية مرتعاً؟ أما في مصر، فقد انفردنا بهذا الفتح إذ جعلنا الجامع الظاهري الذي بناه أعظم ملوك الإسلام متنزها في حي أشعر أنه بحاجة لمسجد جامع يؤمه الناس. إن أهل العباسية في مجيئهم من محطة باب الحديد إلى مساكنهم، ألا يشعرون بشيء من الخجل حينما يرون المعابد العالية التي يقوم بالإنفاق عليها أفراد من مختلف الطوائف، وأن مسجدهم العظيم يتخذ متنزهاً؟
حينما أعادت فرنسا كاتدرائية ريمس، توالت عليها التبرعات من جميع أنحاء الأرض، ولو رغبت وزارة الأوقاف في إعادة جامع الظاهر أظن أن الكثيرين من عشاق الفن الإسلامي لا يتأخرون عن مد يد المساعدة إليها وسيكون لنا عودة لهذا الجامع فنذكر ما مر به من حوادث الزمن.
(وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).
إن الطوائف الأخرى تقيم أعيادها واجتماعاتها في معابدها، ونحن معاشر المسلمين، في حاجة للرجوع إلى المساجد في هذه المناسبات، وليس في ذلك من حرج، لأن ذلك كان سنة من تقدمنا - ذكر ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات في تاريخه عن حوادث رمضان سنة 677 أنه بمناسبة مرور سنة على وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس(662/7)
(عملت عدة أعزيه بمدرسة الإمام الشافعي رضي الله عنه وجامع أحمد بن طولون والجامع الظاهري بالحسينية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الصالحية النجمية ودار الحديث الكاملية بين القصرين والخانقاه الصلاحية برحبة باب العيد والجامع الحاكمي داخل القاهرة المحروسة وذكر الختمات التي قرأت والخيرات التي عملت وفي ذلك دليل على أن المآتم كانت تقام بالمساجد وكان الناس يجلسون للعزاء، وكانت تقام فيها صلاة الغائب وينادي بالنعي من المآذن.
فهل هناك ما يمنع من الأخذ مرة أخرى بتلك السنن، وان يجتمع الناس بالمساجد الجامعة في أحيائهم لذكرى المولد النبوي، وللاحتفال بأعيادهم؟ لا أجد نصاً واحداً يمنع الأخذ بذلك، بل قد رأيت طول القرون الماضية ما يؤكد المنزلة التي كانت للمساجد الجامعة في مصر وغيرها.
ذكر صاحب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، حديثا طويلا عن الخطباء، الذين أمرهم السلطان الغوري أن يخطبوا بين يديه في أيام الجمع، يفهم منه الاهتمام الكبير الذي كانت توليه الدولة المصرية في عهدها الإسلامي العربي لشؤون الخطابة في المساجد الجامعة، ولذلك لا نختلف مع نظرية حمد الله صبحي بك في شيء بل إن الفكرة تستند على ماض طويل، وتحتاج أولا إلى من يحييها ثم من يجعلها ملائمة لتطور الزمن. ونقول بكل صراحة: إن مظاهر الضعف والتفكك والتدهور الأخلاقي البادية في صفوف المسلمين المعاصرين، ترجع إلى اعتكاف علماء الدين، وإلى اتخاذهم المكاتب والحجرات بدل المساجد، ولو نزلوا إلى الشعب الإسلامي كما نزل الرسول وأصحابه والتابعين وتابعوا التابعين، وتولوا الإمامة والخطابة بأنفسهم، لخلقوا حول المساجد هالة من التقديس والاحترام، ولأصبحت المساجد الجامعة في قاهرة المعز لدين الله، عامرة آهلة بألوف المصلين من عباد الله.
إن المساجد الجامعة بيوت الله، يجب أن يعمل علماء الدين على اجتذاب الناس إليها، وان يربى الطفل والطفلة والشاب والفتاة والنساء والرجال على المداومة على الذهاب إليها، وان يكون الإمام والخطيب رجل دعوة وإيمان وعلم وجرأة، عالماً بشؤون الدنيا بقدر علمه بشؤون الدين، أعظم صفة لديه (الابتكار) وأن يفيض قلبه بمحبة الشعب ودعوة الناس(662/8)
وخدمتهم وإقالة عثرتهم، فيقول للحيارى تعالوا: هذا هو بيت الله وهذا هو دينه وهذه شريعته وهذه سيرة رسوله، (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).
تمر الأيام سريعاً ويتطور العالم ويسير ويواجه أزمة وراء أزمة، فهل نعيش لنرى ذلك اليوم في مساجد الله؟ وهل سيسمع لنا نداء؟ أم سيخرج من صفوفنا نحن الذين لم نلبس العمامة من يقوم بهذا الغرض الاجتماعي ويدعو لهداية الله ويحمل الأمانة التي تخلى عنها رجال الدين؟
هذه أسئلة يجيب عنها المستقبل. . .
أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(662/9)
الفتح الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
لما وثب الألمان تلك الوثبة، فطحنوا جيوشاً، ودّوخوا ممالك، وطمسوا في مصور أورّبة حدوداً ومحوا دولا، وأخذتهم العزة بالإثم والعدوان فقال فرعونهم: أنا ربكم الأعلى!. . .
وقام من بعدهم اليابان فقفزوا كالجنّ على جزر المحيط، وحازوا أطراف المشرق، وتمَّ ذلك في اللمحة الخاطفة كأنه حلم نائم أو كأنه سحر ساحر. . .
. . . أذاع مذيع (عربي. . .) من محطة لست اسّميها، يمجد هذا النصر، ويفرغ فيه كل ما يملأ رأس الضعيف من الإعجاب ببطولة القوىّ، وكان مما وسوس له به شيطانه أن قال: (هذا هو الفتح، لا فتوحاتنا التي لم نملَّ من الفخر بها وقد مضى عليها ألف وثلاثمائة سنة)!
وقالوا: رد عليه، وَضعْ في فمه حجراً. قلت: لا! إنه لم َيئنِ أوان الردّ عليه، فانتظروا، فأنها ستردّ عليه الأيام.
وها هي ذي الأيام قد قالت فأبلغت، وردّت فأفحمت، ولكن أين ذلك المذيع ليستمع ويفكر، فيرى فتوح هتلر كفتوح تيمورلنك، عاصفة عاتية مدمرة، تهب على الكون فتقتلع الأشجار، وتهدم البنى، وتدحرج الصخور، ثم تضعف العاصفة وتضمحل، ولا تدع وراءها إلا الموت والخراب والفوضى! وما أسهل الهدم، وما أهون القتل! إن كلباً عقوراً يقتل أعظم نابغة في الدنيا. وأكبر عالم في الأرض لا يستطيع أن يخلق ذبابة. والبناء الفخم الذي ينشئه مائة مهندس بارع، يهدمه اللص بقنبلة واحدة، أو يحرقه بعود كبريت. . . والسفينة المدرعة العظيمة التي يجتمع على إنشائها الآلاف، ويمضي العمر، يغرقها مجنون في ساعة. . . كذلك كان فتح تيمورلنك وهتلر. . . وأين اليوم هتلر وتيمور ومن كان بينهما من فاتحين وغزاة مظفرين؟ وأين من كان قبلهما؟ لقد طواهم الزمان، فلم يبقى منهم إلا قبور تحتها رفات رميم، أو صحائف فيها مجد ميت، وربما أغرقهم النسيان في لجته، فلم يمنحهم قبرا على الأرض، ولا ذكراً في التاريخ. . . وكذلك الفتوح التي تفخر بها الأمم، ويشغل بها الطلاب في المدارس، كلها فتوح قوة وتغلب، فإذا ضعف القوىّ، أو قوي الضعيف، عاد الغالب مغلوباً، والمغلوب غالبا.(662/10)
أما (الفتح الإسلامي) فنسيج وحده في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به. إن هذا (المذيع) رأى جانباً واحداً منه، وخفيت عنه جوانب: رأى الظفر في المعارك والغلبة في الميادين، فقاسها على أشباهها ونظائرها، وتحكم فيها بما أوصله إليه عقله، وما دفعه إليه هواه. . . أما الجوانب التي لم يرها، فقد وصفها الإمام العبقري ابن تيمية بكلمة جامعة، لو كان إعجاز بعد القرآن، لقلت إنها من معجزات البيان، هي: (إن المسلمين الأولين لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام). إن في هذه الكلمة القصيرة سرَّ الفتح الإسلامي ومزاياه وعلة بقائه واستمراره، وهاك بعض البيان:
إنها لم تدر في الأرض رحى الحرب، لم يطأها جيش فاتح، إلا ابتغاء أرض يضمها الفاتح إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه، هذه هي غايات الحروب، وهذه مقاصد الفاتحين.
أما المسلمون فقد خرجوا يعلنون كلمة الله، وينشرون دينه، ويبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم، لا يريدون علواً في الأرض ولا استكباراً، ولا يبتغون دنيا ولا يريدون مالا. وهذه هي المزيه الأولى.
وكانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم ومعايشهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فكانوا يحملون إليهم مفتاح هذه السعادة، وهو القرآن، فإن كانوا عقلاء وقبلوا الهداية واستجابوا لها، وارتضوا هذه السعادة ورحبوا بها، كفُّوا عنهم فلم يقاتلوهم، ولو وإن لم يقبلوا وركبوا رؤوسهم عناداً، ولم يحبوا أن يجلبوا لأنفسهم النفع ويمنعوا عنها الضرر، عدّوهم كالأولاد القاصرين أو المعتوهين والمجانين، لابد لهم من وصيّ يقوم عليهم، ويصرّف شؤونهم فيما فيه صلاحهم، وفرضوا عليهم أجرة قليلة هي كأجرة الوصيّ الأمين، فإن دفعوها برضائهم قبلوا منهم، وان والوا عنادهم وأبوا إلا الإفساد في الأرض، وأذى أنفسهم وإخوانهم في الإنسانية، دعوهم إلى الحروب، لان الإسلام يرى البشر كلهم كراكبي السفينة إذا أراد أحدهم أن يخرق موضعه، كان عليهم أن يمنعوه ويكفوه ويضربوا على يده، لئلا يهلك نفسه ويهلكهم معه، فكأن الإسلام وصل منذ أربعة عشر قرناً، إلى ما تسعى إليه الآن ولا تدنو منه (هيئة الأمم المتحدة). وهذه هي الميزة الثانية.
وكانوا إذا حاربوا، حافظوا على شرفهم، وأقاموا على كرمهم، فكانوا أشرف محاربين(662/11)
عرفهم ظهر هذه الكرة، لا يغدرون ولا يمثلون ولا يجهزون على جريح، ولا يحاربون امرأة، ولا يعرضون لعاجز، ولا يمسّون معبدا ولا يؤذون متعبداً، ولا يحرقون داراً، ولا يفسدون ماء، وإن هذه الخلائق في الحرب تعدُّ غريبة في هذا القرن، الذي يسمونه (قرن العشرين)، ويزعمون أنهم بلغوا فيه نهاية الارتقاء، وذروة المدنية، فكيف وقد جاءت في القرون (المظلمة!!) التي يسمونها القرون الوسطى؟! هذه الثالثة.
ولم يكن يلهيهم عن غايتهم مال، ولا يشغلهم جاه، ولا ينسيهم هذه الغاية خطر، فكانوا إذا اشتد الخطب، وادلهمت المعركة وعبست، يلجئون إلى الله الذي حاربوا من أجله، وقاتلوا في سبيله. هذا قتيبة بن مسلم الفاتح المظفر، يثب عليه كمين من الترك، ويقع بين حجري الرحى، فيقول: انظروا إلى محمد بن واسع ماذا يصنع؟ فيقولون: هو قاتم هناك يشير بإصبعه نحو السماء، فيشرق وجهه ويطمئن، ويقول: والله لهذه الإصبع أحب إلي من عشرة آلاف سيف يشهر، أقدموا على بركات الله.
وكانوا يعملون لله وحده، لا لجاه ولا لذكر. هذا بطل الدنيا وعبقري الحروب خالد، يعزله عمر فيقاتل جندياً كما كان يقاتل قائداً، لأن الله لا يجزي القواد وحدهم ولكنه يجزي كل عامل مخلص. وهذا رجل لا يعرفه أحد، يفعل الفعلة التي تكسبه مجد الدهر ثم يخفي اسمه ولا يعلنه ويقنع بثواب الله: يلقى المسلمون في معركة من المعارك شدة وكيدا من أحد أبطال العدو، فينادي قائدهم إن من قتل هذا الرجل فله ألف دينار، فلا يصبحون إلا ورأسه ملقى في خيمة القائد ولا يعرف من قتله، ويسألون فلا يجابون، فيقوم القائد فيقول: انشد بالله من فعل هذا، إذا كان يسمع كلامي إلا خرج إلىّ. فيخرج رجل لا يعرفونه، فيسأله: أأنت فعلت هذا؟ فيقول: نعم. فيقول: خذ الجائزة فيأبى، ويقول: إنما فعلت ذلك لله وحده. فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: وما لكم ولأسمي، أتريدون أن تنشروه في الناس، فتضيعوا عليّ ثوابي، وتفسدوا علي نفسي، دعوني.
ووقعوا - وهم المصحرون المعدمون، الذين كانوا يأكلون القد، ويتبلغون بالتمرة - وقعوا على كنوز كسرى، وإن الحبة الواحدة منها يأخذها الرجل تغنيه وتغني ولده من بعده، وما يراه إلا الله، فلم يغلًّوا منها شيئا وأدوها كاملة، لأن نّبيهم نهاهم عن الغلّ، ولأنهم إنما خرجوا لله، لا للمال ولا للكنوز! هذه الرابعة.(662/12)
ثم إنهم إذا دخلوا بلدة لم يحملوا إليها الإسلام في محاضرات يلقونها، ونشرات يذيعونها، وكتب يطبعونها، فيكونوا هم الأساتذة أبداً، وأولئك كالتلاميذ، ويكونوا المتقدمين إلى كل خير، والمستأثرين بكل نفع، لا ولكنهم يدلون أهلها على منابع الإسلام، ويرشدونهم إلى الكتاب والسنة، ثم يتركونهم لينتقلوا هم بأنفسهم إلى الإسلام. فلم تمر برهة حتى سبقوا العرب وبزوهم، وكان منهم أُئمة الدين، وعلماء القرآن والحديث والفقه وعاد العرب الفاتحون وجلسوا بين أيديهم، وتتلمذوا عليهم، وأخذوا الدين عنهم. وهذه الخامسة.
ثم إن الفاتحين الأولين، لم يعلنوا عن الإسلام بألسنتهم ولم يدعوا إليه بأقوالهم، ولكن أروا الناس في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة من أحكام الإسلام، فحببوه بذلك إليهم ورغبوهم فيه، وها هم أولاء في حمص بعد أن فتحت لهم ودخلوها واخذوا الجزية من أهلها، يبلغهم أن الروم قد توجهوا إليهم، ويعرفون عجزهم عن مقابلتهم، وحماية أهل البلد الذين صاروا في ذمتهم ويعزمون على الخروج منها، فيدعون البطاركة والرؤساء، ويخبرونهم بعجزهم ويردون إليهم ما قبضوا منهم من مال الجزية كاملا فيبلغ العجب والإعجاب قرارات نفوسهم، ويقولون: والله ما رأينا مثل هذا من الروم وهم أهل ملتنا، وإن ديناً يأمر أصحابه بهذا لنعم الدين هو، ولأنتم أحب إلينا منهم، هذه السادسة.
ولم يَنْجلِ الفتح، عن غالبين ومغلوبين، ولا تزال تهيج بينهم الأحقاد، وتضرم نيران الثورات والحرب، كما هي الحال في كل فتح، وإنما انجلى عن أمة واحدة لها ربّ واحد، ونبي واحد وكتاب واحد، أمة مسلمة، فلا عرب ولا فرس ولا روم، ليس منهم من دعا إلى عصبيته، بعد أن تبت يدا أبي لهب العربي القرشي عم النبيّ، صلى الله عليه، وكرمت أيدي بلال الحبشي وصهيب الرومي وكان من أهل البيت الفارسي سلمان. هذه السابعة.
بهذا استقر (الفتح الإسلامي) وخلد، وبقيت هذه البلاد للإسلام إلى يوم القيامة، وإذا كان أحياناً حروب عصبية ومعارك على الملك، فإنما كانت لمخالفة قواعد الإسلام، والدعوة إلى العصبيات والقوميات، وجعل الخلافة ملكا، وتحويلها وراثية كسروية، ولو بقيت بكرية عمرية، لما كان خلاف ولا نزاع.
هذه هي الجوانب التي لم يشهدها ذلك (المذيع) ولم يعرفها، فحسب أن الفتح الإسلامي كفتوح هتلر، فتح غلبة وقهر. . . كلا إنما هو فتح هداية وإصلاح. على أننا كنا أقوى من(662/13)
جند هتلر قلباً، وأعظم بطولة، وأعجب نصراً، فلقد حارب هتلر بعدّة ضخمة وعديد، وجيش مدرب شديد، ووسائل إلى التقتيل والتدمير يعجز عن تصورها إبليس، ثم غلب هتلر ووسائله وجيوشه، وقام العرب لفتح الدنيا أمام القرآن، وهم لا يملكون جيشاً مدرباً، ولا قائداً عسكرياً متعلماً، وما سلاحهم إلا سيوف ملفوفة بالخرق، ثم طحنوا بأيمانهم أعظم إمبراطورية في معركتين اثنتين، القادسية ونهاوند، وأزاحوا عن ظهر الأرض أثقل عرش، وخلصوا دنيا القرن السابع من جبروت كسرى وقيصر، ثم انتشروا في أرجاء الكون، من جنان الشام إلى سهول العراق ومصر، إلى صحارى أفريقية وتركستان، إلى جبال الألب والقفقاس، إلى جزر البحار إلى ثلج روسيا، إلى لظى الحبشة، لم يدعوا بقعة من الأرض إلا سكنوها وحكموا فيها باسم الله وبشرع محمد، وهم كانوا القابعين في رمال الجزيرة، يخشون تابعاً من أتباع قيصر في الشام، ويرجون تابعاً من أتباع كسرى في العراق، ويسمونه ملك العرب!
هذه هي مزية الفتح الإسلامي؛ فإذا كانت الفتوح عاصفة مدّمرة فهو الغيث الممرع، وأن كانت القتل والحراب والفوضى، فهو البناء والنظام. . . فيا أيها (المذيع) قد بطل فخرك بفتح هتلر، وقد ذهب هتلر وفتوحه مع أمس الدابر، ولم يعقب إلا الفساد في الأرض، وسيذهب كل فتح قام على القهر واعتمد على الظلم. . . . ويظلّ (الفتح الإسلامي) راسخاً رسوخ الأرض، باقياً بقاء الزمان، ولا يزال مفخرة لكل من قال أنا إنسان!
فيا أيها المنتصرون؛ هاتوا مثل هذا الفتح، أو فاسكتوا، لا تفتخروا!!
(دمشق)
علي الطنطاوي(662/14)
الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .).
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
البيوريتانية كمذهب:
يتلخص مذهب البيوريتانز في العقيدة الدينية، في الأيمان بالقدر المحتوم، ويرون وجوب خشية الله أشد خشية في عمق وإخلاص، فالله وحده هو الحاكم، وهو وحده القادر ذو الجبروت والجلال؛ ويعتقدون أن معينهم الذي يجب أن يستقوا منه دينهم هو كلام الله كما ورد في الإنجيل، فلا وساطة للكنيسة البابوية بشرح أو تأويل؛ وهم ينفرون أشد النفور من الكنيسة البابوية لتحكمها في العقول وانغماسها في السياسة والحكم وأخذها بالبدع والضلالات، واعتمادها على الزخرف والبهرج الزائف من النقوش والصور والغناء والتماثيل وما إليها من مظاهر الوثنية؛ وبعد رجالها عن روح الدين ورسالته، وإقبالهم على الحياة الدنيا وزينتها، وانخداعهم بغرورها ومادتها، وجرى الأشراف على كنائسهم وفق نظام (كلفن)، فلا تكون الرياسة للقساوسة، وإنما تكون لفريق منهم يختار، ويشاركهم فريق من غير رجال الدين على نحو قريب من الديمقراطية بعيد كل البعد عن الاستبداد؛ ويتمسك البيوريتاني بأهداب الدين، ويحرص على العبادة، ويغلو في ذلك كل الغلو، فكل رب أسرة هو في الواقع قسيسها ومرشدها ومنفذ ما توجبه روح الدين فيها، وقاري الإنجيل ومفسره لأبنائها وبناتها. . .
أما في السياسة، فإن شعورهم القوي بان الله هو الحاكم الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، الملوك منهم وغير الملوك، جعلهم يستصغرون كل سلطة غير سلطته، ويرون الناس جميعاً بالقياس إلى الله سواء،؛ وينفرون من كل استبداد أو إرهاب في أية صورة من صورهما؛(662/15)
وقوى هذه الروح عندهم شعور آخر هو تمسكهم بحرية الضمير في الفكر الديني بتخلصه من آراء الكنيسة، وعلى هذا فحرية الرأي في السياسة جزء من هذه الحرية الفكرية التي بثها مذهبهم في نفوسهم واستمدها من التحرر العقلي العام الذي هو وليد النهضة والإصلاح الديني، والذي هو مظهر من مظاهر شعور الفرد بشخصه وذاتيته بالنسبة للمجتمع كله. . .
وفي آداب المجتمع نرى لهؤلاء البيوريتانز مبادئ خلقية يتمسكون بها تمسكهم بدينهم ويغلون فيها غلوهم فيه، وعندهم إن الروح فوق الجسد، فتطهير الروح من مفاسد الحياة لا يكون إلا بقهر الجسد وفطامه عن الشهوات ومحاربة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولقد أسرفوا حتى كرهوا كل زينة وخافوا من كل متعة، وعدوا طيبات الحياة مبعث النزوات ووسائل الشيطان وحبائله. والبيوريتان صريح شجاع حر الرأي، إذ هو يميل إلى الطهر في كل شيء، ويميل إلى النزاهة في جميع صورها، ولذلك يطلب العدالة والحق قولا وعملا. وكما ان الأسرة البيوريتانية تأثرت بالدين نراها تأثرت كذلك بهذه المبادئ الخلقية، فرأس الأسرة حريص على أن يغرس هذه الصفات في أفرادها في صرامة وحزم، ولقد صبغ ذلك الأسرة البيوريتانية بصبغة خاصة في المجتمع الإنجليزي. . . .
وأثرت نزعتهم الدينية ومبادئهم الخلقية في نظرتهم إلى الفن والأدب، فمن حيث نزعتهم الدينية نجد انشغالهم بالدين وما يتصل به وتأثرهم بمذهبهم وتحمسهم له، يصرفانهم عن التفكير فيما سواه من معرفة أو أدب أو فن، مما يتصل بالحياة الدنيا ومسائلها؛ بل لقد كرهوا هذه الأشياء وخافوا مغبتها على عقيدتهم ومذهبهم ومالوا إلى حصر الأدب في أضيق نطاق له. وعندهم أن في الإنجيل غناء عن كل كتاب غيره، وحاربوا في شدة وعنف دراسة آداب الإغريق لما فيها من وثنية ومادية ورجس من عمل الشيطان. . . ومن حيث مبادئهم الخلقية نجدهم يحاربون الفنون في ضروب تعبيرها، لأنهم يعدونا لهواً ولعباً من غرور الحياة وفتنتها، فلا يقرون التمثيل، بل يرون فيه أنواعاً من الإغراء والفتنة تسوق إلى الفجور والضلال؛ وهم بالضرورة يمقتون الرقص ويعدونه فسوقاً وضلالاً بعيداً وحيوانية جامحة؛ وينظرون إلى الموسيقى نظرة أخف حدة من نظرتهم إلى المسرح والرقص، فإذا كانت للعبث واللهو والفتنة، فهي باطل وإثم، وإذا ذهب الناس إلى الكنيسة ليستمعوا إلى الموسيقى فحسب، وهم منصرفون عن العبادة بعيدون عن الخشوع، فوجب(662/16)
إبطالها من الكنيسة. وكره البيوريتانز إلى جانب ذلك التصوير والنقش والحلي والزينة وما يتصل بالجمال، لأنهم يرون في ذلك مدعاة للترف وصلة قوية بالدنيا توبق الروح وتميت في القلب الورع والخشوع.
هذا هو الجانب السيئ من البيوريتانية، وأي شيء أسوأ من أن تكون حرباً على الأدب والفن والمعرفة إلا ما كان معرفة دينية تستمد من الإنجيل؟
ولم يقتصر الأمر على هذه العيوب الأساسية في البيوريتانية، بل إن المذهب نفسه قد تطرق إليه الفساد، شأن كل مذهب ينشأ قوياً صالحاً، ثم يجر إليه الغلو والجهل وسوء الغرض ما يبعد به كل البعد عن حقيقته حتى ليقلب كل حسنة من حسناته إلى سيئة وبيلة.
فأول ما دخل عليه من فساد هو التعصب، فقد انقلب التحمس للمذهب والغلو في الدفاع عنه تعصباً فيه الزراية بغيره، وإنكار كل حق إلا ما يراه أصحابه أنه الحق؛ وتبع ذلك التمسك بالشكل دون الجوهر في كثير من المواقف.
وتطرق إلى بعض النفوس النفاق، فأصحابها يظهرون في العلن التمسك بالمذهب، ويأتون في سر ما ينكره ذلك المذهب أشد الإنكار، وشاع الحمق والغضب وحدة الجدل وسرعة التخاصم والتنابذ بين فريق من البيوريتانز الغالين في مذهبهم وبين الناس، وأساء هؤلاء بلا ريب إلى أصحاب المذهب جميعاً، إذ يحسبهم الناس كلهم من هذا الطراز. . .
وظهر بعض البيوريتانز بمظهر الضعف العقلي لمجافاتهم المعرفة كما ظهرت في بعضهم الجلافة والغلظة لإنكارهم الفنون ونفورهم من الجمال.
إلا أنه لا يجوز أن نحكم على هذا المذهب بما تطرق إليه من فساد؛ ولئن كان فيه ذوو العقول الضيقة والمتعصبون والمنافقون، فلقد جاء إلى المجتمع بمبادئ سامية وبث في النفوس الحمية والأقدام وحبب إليها الحرية.
هذه هي البيوريتانية أو هذا هو الصيف الصارم العابس الذي يمثل عصر ملتن والذي أعقب ذلك الربيع الطلق الرخي الذي يمثل عصر شكسبير؛ وبين الربيع الراحل والصيف القادم ولد ملتن كما أسلفنا عام 1608، ولد والبيوريتانية تستقبل فتوتها، وسيستقبل كذلك فتوته ويبلغها إذ تبلغ البيوريتانية اشدها، فيكون شاعرها الفذ الذي تتمثل فيه روحها في أسمى أوضاعها وأجمل صورها، والذي يجتمع في فنه جمال الربيع الراحل وجد الصيف(662/17)
القادم.
طفولة ملتن ونشأته
أنتصف الليل أو تجاوز المنتصف ولا يزال صبي جميل في الثانية عشرة من عمره جالساً إلى مكتبه في حجرته الخاصة به في بيت أبيه بلندن يفرك عينيه الواسعتين الجميلتين بيديه الصغيرتين، وقد أخذ النعاس يداعب جفنيه، وأخذ الكلال يغمض مقلتيه، والمصباح يكاد زيته ينفد، بعد ساعات طويلة لم يكد يحول فيها الصبي عن الكتب بصره، وذلك دأبه في أكثر لياليه. وجلست على مقربه من الصبي إحدى الخادمات وقد أمرها أبوه أن تظل بقربه حتى يأوي إلى مضجعه؛ وقد أوى أبوه إلى مضجعه منذ وقت غير قصير بعد أن عزف بعض ألحانه الجديدة والقديمة كما يفعل كل ليلة ما عدا ليلة الأحد؛ وإنها لتعجب من إقبال الصبي على كتبه واستغراقه في قراءته على صورة لم تشهد مثلها قبل في صبي مثله لم يتجاوز الثانية عشرة.
وماذا يقرأ الصبي في تلك السن؟ أيقرأ القصص الخرافية وحكايات الجن وأشباهها مما يقرأ أنداده في مثل سنه؟ لا فهو لا يحب هذا النوع من الكتب كثيراً كما يحبها الصبية من أقرانه؛ ومثل هذه الكتب لا تكون إلا للتسلية، ولن يكون من أجل التسلية هذا السهر الذي تكاد تعشى منه العينان.
كان الصبي يقرأ كتب الأدب وعلى الأخص الشعر، وكان يقرأ التاريخ على قدر ما تسمح سنه، ويدرس اللغات اللاتينية والعبرية واليونانية والطليانية. وفي ليالي الآحاد حين كانت تجتمع الأسرة حول الموقد، كان يستمع الصبي إلى ما يذكر أبوه عن آخر لحن له من ألحان الموسيقى، إذ كان يشغل الأب نفسه بالموسيقى كما كان يشغل الابن نفسه بالقراءة، وكان لأبيه في صوغ الألحان حس مرهف وذوق مهذب وإن لم يكن طويل الباع؛ كما كان له إلى قرض الشعر ميل، ولكنه سرعان ما انصرف عن الشعر إلى الموسيقى إذ أعيته معاناة قرضه من أول الأمر. . .
وانه ليعجب إذ يستعصي عليه الشعر، وهو يجده سهل الانقياد إلى ابنه منذ سن العاشرة! وها هو ذا ابنه الآن في الثانية عشرة يسمع أباه وأصحابه من نظمه ما يطربون له جميعاً وعلى الأخص أبوه؛ وكان ينظر إليه أبوه في تلك الليالي التي يخلوان فيها من الجد،(662/18)
ويجلسان قرب الموقد نظرات ملؤها الإعجاب والمحبة؛ ويقول لمن حوله: لقد كنت أريد أن أجعل منه كلفن ثانياً بتوجيهه الوجهة الدينية وإلحاقه بالكنيسة، فإذا به ينفر من هذا ويأبى إلا أن يجعل من نفسه هوميروس آخر، ولست أحب أن أميل به إلى غير ما يريد ويهوى، ولئن فعلت ذلك فما آتى غير العبث، فليمض فيما هو فيه من شعر وأدب.
ويرهف الرجل أذنيه إلى ابنه إذ يتكلم أو يقرأ الشعر فتملأ نفسه الغبطة، فلهذا الغلام الجميل المحيا، فضلاً عن ذكائه ورشاقته، صوت حلو النبرات، موسيقى الجرس، وكأن مقاطع كلامه أسجاع مفصلة؛ وإن أذني أبيه لتحسان ذلك إحساساً صادقاً، فليس يلقى ذلك في روعه فرط محبته إياه، ولا هي أمنية يخالها حقيقة كما عسى أن يتوهم الآباء من صفات ينسبونها لأبنائهم وان لم يكن لهم منها شيء.
ولطالما ارهف الصبي أذنيه إلى الحان أبيه فطرب لها قلبه واستقرت نغماتها في أعماق نفسه؛ وإن أثر هذه الألحان ليبدو جلياً في أشعاره الأولى وهو بعد غلام، فأخص ما يميزها موسيقى حلوة تختلط بالنفس، حتى ألفاظه فإنك تحس في كل لفظ منها سحر الموسيقى، وتجده منذ أول شوط له قادراً على أن يختار اللفظ الذي يؤدي المعنى إلى الذهن ويطرب بوقعه وجرسه النفس.
كان أبوه مُوَثِّقاً وتلك هي حرفته التي اكتسب منها ماله، أما الموسيقى فكانت هوايته؛ وكان يكتب للناس الوثائق والعقود والظلامات وغيرها من ضروب الكتابة، وكان الموثق في تلك الأيام رجلاً عند الناس عالي المكانة ينظر إليه عامة الناس إلى عالم خبير، إذ لم يكن الأمر مجرد الكتابة، وإنما كان نوعاً من الكتابة يقتضي معرفة الصيغة الخاصة والعبارات التي جرى بها العرف، وذلك كله يطلب عند الموثق وله أجره على ما يكتب؛ وبقدر ما يتفق له من طالبي خبرته يكون كسبه؛ ولقد مهر الرجال في عمله وبات بحرفته ينعم برغد العيش.
واحترف الموثق حرفته في لندن؛ وقد جاءها منذ أن طرده أبوه من بيته؛ وكان أبوه يعيش على مقربة من أكسفورد، وكان مزارعاً من ملاك الأرض يتعصب للكاثوليكية تعصباً شديداً، فلم يعجبه من ابنه ميله إلى البروتستنتية وإقباله على البيوريتانية وعد ذلك منه مروقاً من دينه وعصياناً لأمره، ولما لم تجد معه حيلة طرده ساخطاً عليه. فلما جاء لندن اشتغل بالتوثيق فنبه فيه شأنه، وبنى له بيتاً تمتع فيه بهدوء الحياة ونعم بالطيبات من(662/19)
الرزق.
وكانت لندن غداة شخص إليها في ربيع العصر الاليزابيثي؛ فلم تشغل الموثق جون ملتن حرفته عن الأدب والفن والعلم فأخذ من كل بطرف.
(يتبع)
الخفيف(662/20)
أوهام آثارية
للأستاذ صلاح الدين المنجد
العادلية أم الأشرفية؟ سنان المهندس أم سنان باشا الوالي؟ -
النصب التذكارية - قصير عمرة، أهو حمام أم قصر؟ تاريخ
بناء مسجد نور الدين في الموصل.
1 - العادلية أم الأشرفية:
ذكر العلامة الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام بك في مقاله المسمى (في عيد المعري) المنشور في هذه المجلة (العدد 600) ما نصه:
(واجتمعنا، نحن وجماعة من علماء الشام وأدبائها أعضاء المجمع، في دار المجمع، وهي المدرسة الأشرفية التي بناها الملك الأشرف الأيوبي. اهـ).
قلت: دار المجمع العلمي بدمشق، هي المدرسة العادلية، وهي غير الأشرفية. وتنسب إلى الملك العادل سيف الدين أخي صلاح الدين. كان نور الدين أول من بدأ بها، فمات ولم يتمها. ثم شرع الملك العادل سنة 612هـ ببنائها، ومات سنة 615هـ ولم يتمها. فأتمها من بعده أبنه الملك المعظم.
وقد ذكرتها أمهات الكتب كلها بأسم العادلية.
أما الأشرف الأيوبي، فلم يبن العادلية، وإنما بنى دار الحديث الأشرفية الجوانية. وهي (جوار باب القلعة الشرقي، غربي العصرونية) وما تزال قائمة. ودرس بها في أيامها أبن الصلاح وأبو شامة وغيرهما.
وبني الأشرف مدرسة ثانية هي دار الحديث الأشرفية البرانية وهي في السفح شرقي المرشدية، وغربي الأتابكية.
(وإن شئت التفصيل فانظر من المخطوطات: النعيمي في إرشاد الطالب، والعموي في مختصر النعيمي، وبدران في منادمة الأطلال، وبدران في مختصر المنادمة، وأبن طولون في تاريخ الصالحية، وأبن كدن في المروج السندسية. ومن المطبوعات: بالعربية: أبن كثير في البداية والنهاية ج13 ص68، وبالفرنسية المباني الأيوبية بدمشق لسوفاجه ج2(662/21)
ص76، ومباني دمشق التاريخية للمؤلف نفسه ص62، وبالألمانية: وتزنجر وولزنجر , 3 , 5. يمكن مراجعة سوفير في المجلة الآسيوية: مايس وحزيران سنة 1894. الفصل الثالث ص423).
2 - سنان المهندس أم سنان باشا الوالي؟
وذكر فضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في مقاله الممتع عن (دمشق) المنشور في العدد 658 من الرسالة الغراء، أن مسجد السنانية سمي نسبة إلى سنان المهندس التركي المعروف.
قلت: المعروف أنه ينسب إلى بانية سنان باشا، نائب الشام والوزير الأعظم. ولى الوزارة للسلطان مرادخان، ومات سنة (1004) هـ. وقد بدأ بعمارة مسجده هذا سنة 995هـ، وتمت عمارته سنة 999هـ.
أما سنان المهندس، فهو الذي وضع تخطيط التكية السليمانية التي قامت مكان القصر الأبلق الذي بناه الملك الظاهر بيبرس في المرج الأخضر.
(انظر للتفصيل: المنادمة لبدران، ومختصر المنادمة له، وذيل العلموي للعدوي، وكتاب الباشات والقضاة لأبن جمعة، وولزنجر ووتزنجر 5. 8، ومباني دمشق التاريخية لسوفاجه ص78، 84).
3 - النصب التذكارية:
وذكر الدكتور زكي محمد حسن في مجلة الكتاب الزاهرة في مقال له عن قصور الأمويين انه لا يوجد نصب تذكارية لتخليد انتصارات العرب.
قلت: في دمشق، فوق ذروة من ذرى قاسيون، بناء مربع مفتوح الجوانب، فوقه قبة. كانت من متنزهات الصالحية، لإشرافها على الربوة، وعلى دمشق، اسمها قبة النصر، بناها نائب الشام برقوق الذي قاتل سوار بك فأخذه غدراً، ثم أقام هذه القبة سنة 877هـ ذكرى انتصاره، وقد ذكر هذا ابن طولون.
(انظر للتفصيل: تاريخ الصالحية لأبن طولون، المروج السندسية لأبن كنان، المباني التاريخية بدمشق ص15 لسوفاجه ولزنجر ووتزنجر ويمكن مراجعة:(662/22)
4 - قصير عمرة، أهو حمام أم قصر؟
وأدخل الدكتور زكي محمد حسن، في مقالة عن قصور الأمويين، المنوه به في الفقرة السابقة، أدخل قصير عمرة، وحمام الصرخ في عداد القصور.
أما حمام الصرخ، فأسمه حمام، ولا محل لدسه بين القصور، بقى قصير عمرة، فما هو؟
لقد أصر الدكتور على جعله أو سرده مع القصور لأمرين:
1 - لأن علماء الآثار ساروا على ذلك.
2 - لأن فيه، وفي حمام الصرخ قاعات استقبال (؟)
قلت: قول الدكتور لا يطمئن إليه، فالرجل ذو الفكر الناقد لا يجعل الحمام قصراً ولو قال ذلك أكبر العلماء الأجانب. لأن قولاً كهذا يجدر التروي فيه قبل نقله. فالدراسات الآثارية الحديثة أجمعت على جعل قصير عمرة حماماً لا قصراً، وان أمام هذا الحمام كان قصر فتهدم واختفت معالمه. (انظر مجلة المجمع العلمي بدمشق المجلد السابع عشر مايس حزيران سنة 942).
إن تخطيط قصير عمرة، وحمام الصرخ يدل على وجود غرفة كبيرة واسعة في كل منهما، وقد ظن بعضهم أنها غرفة إستقبال (!) ونقل الدكتور هذا الظن. أغرفه استقبال في حمام؟ أمر عجب. على كل أنا أشك فيما نقله الدكتور، وأشك أن تكون غرفة استقبال، ولن يجد الدكتور أي نص قديم صحيح يثبت ما ذهب إليه، ويؤيد أن خليفة استقبل الناس في حمام.
والأقرب للعقل أن تكون هذه الغرفة الواسعة للاستراحة بعد الاستحمام أو للهو واقتناص اللذة قبل الاستحمام، أو للأمرين معا، فالملوك لا يستقبلون في الحمامات.
إن وجود هذه الغرفة الواسعة في الحمام لا يجعل الحمام قصراً، فالحمام الأموي الذي كشف في جبل سيس في بادية دمشق، يشبه تخطيطه قصير عمرة والصرخ تماماً. وبرغم الغرفة الواسعة فيه لم يقل أحد إنه قصر ولا جعله في عداد القصور (انظر:
وفي دمشق حمام أسمه حمام السروجي، فيه غرفة واسعة تشبه تماماً غرفة قصير عمرة، وقد لاحظ هذا ايكوشار، ومع ذلك فلم يجعل أحد هذه الغرفة غرفة استقبال أو يجعل الحمام قصراً. وأنت واجد مثل هذا في أغلب حمامات دمشق (انظر:(662/23)
على أن ما يؤيد ما ذهبنا إليه، من أن هذه القاعة الواسعة في قصير عمرة ليست للاستقبال، وجود مشاهد مثيرة على الحيطان، لا يمكن أن يضعها خليفة في قاعة يستقبل بها الناس. فمن هذه المشاهد: مشهد امرأة ذات قامة فارعة نصفها الأعلى عار رفعت يديها فوق رأسها المحاط بضفائرها، ومشهد آخر يمثل امرأة عارية تماماً يبدو جسمها كله وهي ترقص وتقوم بحركات تظهر فتنة جسمها. ومشهد ثالث يمثل امرأة مستلقية في سريرها، وضعت يدها على ذقنها وأخذت تنظر بيأس. ومشهد رابع يمثل امرأة عارية، يخفق ثوب شفاف عند سيقانها، وهي مستندة إلى رجل نضد، كفها اليسرى على ذقنها، تحلم وترنو إلى رجل في الطرف الثاني، مستلق يتأملها أيضا ويرنو إليها، وغير ذلك. (انظر:
111 87 - 92.
وانظر هذه المشاهد مصورة في ملحق هذا الجزء).
فهذه المشاهد المثيرة لا توضع إلا في مكان يلهو الخليفة به مع قيانه قبل الاستحمام أو بعد الصيد، وهذا أقرب للعقل لو تفكر المرء فيه.
وعلى هذا يكون إدخال قصير عمرة وحمام الصرخ في عداد القصور غير صحيح.
5 - تاريخ بناء مسجد نور الدين في الموصل:
في المقال الجيد الذي كتبه معالي الدكتور داود الجلبي عن بدر الدين لؤلؤ في مجلة سومر (ج1، م2) - التي تهنئ مديرية الآثار العراقية عليها - إشارة إلى تاريخ بناء مسجد نور الدين محمود زنكي في الموصل.
فقد ذكر الدكتور أن المسجد كملت عمارته سنة 586هـ.
قلت: أن نور الدين توفي سنة 569هـ بدمشق. والمصادر تشير إلى أن نور الدين أمر بعمارة مسجده في حياته، وما أدري أن كان المسجد كملت عمارته بعد سبع عشرة سنة من وفاة نور الدين؟ ولعل الصواب سنة 568 أي بتقديم الثمانية على الستة، ولعل الدكتور يصف لنا هذا المسجد، ويحدثنا عنه.
دمشق
صلاح الدين المنجد(662/24)
7 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
وقد أيد زاردشت عبادة النار وشجع على زيادة بناء بيوتها، وذهب إلى أن يزدان في حرب دائمة مع أهرمن لتنازع السيطرة على الكون ولاسيما الإنسان، وأن من يعمل صالحاً يساعد يزدان في النصر على أهرمن، ومن يعمل سوءاً يساعد أهرمن على يزدان؛ ولذا دعا إلى عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان مبالغاً في التفاؤل فأدعى أن النصر سيكون أخيراً ليزدان على أهرمن فينتصر الخير على الشر ويقضي عليه، فتبطل المتاعب والفتن، وعندئذ ينتهي العالم. وبين أن الإنسان بعد موته يحاسب على أعماله فمن رجحت حسناته عبر الصراط فلقي يزدان وأنزله منزلاً طيباً، وأن من رجحت سيئاته وقع من الصراط في النار وصار مستعبداً لأهرمن، وان من استوت حسناته وسيئاته صار إلى الأعراف، وهذه الآراء تمثل آراء كثير من الطوائف الإسلامية منذ ظهر الإسلام إلى اليوم، وقد ذهب إلى أن الخير هو الأصل وان الشر طارئ، ويؤيد ذلك الشهرستاني في كتابه الملل والنحل فقد قال: (زعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خير محض ونعيم خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن).
ويقول ماسبرو في كتابه (تاريخ الشرق) ما خلاصته: (إن يزدان خلق كل شي بكلمته، وأتخذ ستة أرواح لنفسه من طبقة سامية يعينونه على تدبير شؤون العالم وصونه، وجعل لهم أرواحاً دونهم يأتمرون بأمرهم وهم منتشرون في العالم، وحيال ذلك خلق أهرمن ستة أرواح شريرة تعادل أولئك الستة في البطش وجعل لهم جنداً دونهم من الشياطين يطيعونهم في أداء ما يكلفهم به أهرمن من أعمال، والقوتان دائماً في نضال مستمر حتى ينتصر يزدان أخيراً على أهرمن وعندئذ تقوم القيامة).
ومن تعاليمه وجوب إكثار النسل لإكثار جند يزدان في نضاله أهرمن ووجوب إصلاح الأرض وزراعتها وتربية الحيوان والجد في العمل، وتحريم الصوم لأنه مضعف للقوة وثبط على العمل في الحياة، وتفضيل العمل على العبادة، فمن يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أكرم ممن يتزلف بألف قربان أو يصلى عشرة آلاف صلاة أو يدعو عشرة(662/26)
آلاف دعاء.
ويزعم القلقشندي أن زرادشت: (أدعى النبوة وقال بوحدانية الله وأنه واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة رآها في التركيب، وانهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، وانه لا يزال الامتزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر إلى عالمه وحينئذ تكون القيامة). والقلقشندي يخلط صواباً بخطأ فيما زعم، وأواخر زعمه تنقض أوائله، ولا يصعب تمييز الخطأ من الصواب في زعمه هذا إذا عورض بما قدمنا في بيان مذهب زرادشت وسيرته، فزرادشت - وأن كان يعتقد بان أصل الكون واحد هو النور - اضطر إلى القول في تفسير الظواهر الكونية والحياة الإنسانية بقوة أخرى ضد النور هي الظلمة ونسب إليها الشر الذي هو ضد الخير، فهو موحد في أصل الكون، ولكنه ثنائي في تفسير ما يجري فيه، ويزدان عنده ليس في تدبير الكون وخلقه واحداً لا شريك له ولا ضد ولا ند، بل له شريك وضد وند هو أهرمن، فهو يقول كالكيومرتية بأصلين. ومما أسنده القلقشندي إلى زاردشت يشبه أن يكون محاولة للتوفيق بين القول بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام، والقول بأصلين كما جاءت بها المذاهب الفارسية. وتشبه هذه المحاولة كثيراً رأى أبي العتاهية معاصر المهدي العباسي ومادحه وصاحب جاريته عتبة التي اتهم بالزندقة من أجلها حيناً، ولأسباب غيرها أحياناً أخرى فقد كان يدين بالتوحيد لله ويرى أن للكون طبيعتين على ما سنفصله في موضعه من هذا البحث إن شاء الله، ففي مزاعم القلقشندي هنا ظلال لمذهب أبي العتاهية، ومرجع الخطأ في هذا وغيره عند القلقشندي وأمثاله ممن لم يفهموا هذه الأقوال على أنها رموز - إنما هو الوقوف عند ظواهرها دون التأدي إلى البواطن المستترة وراءها، والجهل بالدوافع التي جعلت أصحابها ينزعون إليها من حيث يشعرون ولا يشعرون، وقياسها على غيرها من المذاهب الدينية دون مراعاة الفوارق كما أشرنا إلى ذلك قبل.
أما اتهام القلقشندي وأبن الأثير زرادشت بادعاء النبوة فأرى أنه غير صحيح، فأبن خلدون يقول فيه إن المجوس يزعمون نبوته ولم يقل إنه ادعى النبوة، وهناك أبو الريحان البيروتي، وهو أولى أن من تسمع شهادته في هذا الموضوع، لأنه أقدم من أبن الأثير(662/27)
والقلقشندي وقد كان فارسياً عارفاً بالثقافة الفارسية واللغة الفارسية ومؤلفاً بها وأطلع بنفسه على بقايا الطوائف التي تدين بالزرادشتية وغيرها في عهده واتصل بهم، وهو أكثر استقصاء وإحاطة بهذا الموضوع من سائر المؤرخين الذين خاضوا فيه وليس لهم ثقافته ولا استقصاؤه ولا عبقريته ولا علمه الواسع بأخبار الأمم الشرقية في عصره وقبله وإطلاعه على حوادثها وأساطيرها وأخلاقها لسياحته فيها ومعرفته بلسانها واتصاله بها ووقوفه على كتبها وآثارها. فلقد عقد هذا العالم الكبير في كتابة (الآثار الباقية) فصلاً عنوانه (القول على تواريخ المستنبئين وأممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين) وذكر فيه كثيراً منهم سواء من كانوا قبل زرادشت مثل بوذاسف الذي ظهر بأرض الهند ومن كانوا بعده مثل ماني ومسيلمة ولم يعد فيهم زرادشت، وكل ما ذكره في هذا الفصل أن الملوك البيشداذية وبعض الملوك الكيمانية ممن كان يستوطن بلخ كانوا يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت.
فزرادشت لم يدع النبوة كما نفهمها، وما كان الفرس ليفهموها ولا ليتصوروها كما نفهمها ونتصورها نحن حين نسندها إلى الأنبياء الحقيقيين كموسى وسواه من أنبياء بني إسرائيل وكمحمد صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، أو حين نفهمها ونتصورها كما ادعاها المتنبئون كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي، فهذه نظرة في أساسها يهودية، لم تصل إلى فارس إلا في القرن الثالث الميلادي على عهدماني كما سنذكره مع سببه عند الكلام فيه، وأمر آخر يؤيد ذلك هو أن هذا المذهب المنسوب إلى زرادشت ليس له من فضل فيه يتفرد به إلا التنقيح والبيان إذا بالغنا في إسناد الفضل إليه فانه قام بجولة في أنحاء البلاد الفارسية للاستطلاع ومشاورة حكماء الفرس لإصلاح العقائد التي كانت قبله مملوءة بالخرافات وتطهيرها من الشوائب، ولا يتفق الادعاء بالنبوة التي تقضي بنزول وحي من السماء حاسم القول في كل شئ مع هذه الرحلة والمشاورات الواسعة، ومما يؤيد ذلك أيضا أن كيستاسف الملك الذي أعتنق الزرادشتية، منع من تعليمها العامة حين منع تعليمهم كتاب زرادشت، فالزرادشتية كما اصطفاها زرا دشت كانت تحتوي على تعاليم وآراء لا قبل للعامة بفهمها واستساغتها فهي بذلك مذهب خاص وضع كثير منه للخاصة، وذلك لا يتفق وآثار النبوة التي يقصد بها الناس عامتهم وخاصتهم، وبذلك يكون كيستاسف قد سبق كثيراً(662/28)
من الفلاسفة الذين أوجبوا قصر بعض المعارف على الخاصة دون العامة لأن العامة لا تطيقها ولا تفيد منها وقد تتأذى وتؤذى بها: من هؤلاء الفلاسفة سقراط الذي أنكر الكتاب لأنه مفتوح لكل من يقع في يده وآثر التعليم بالاختصاص، ومنهم الفارابي الذي حرم تعليم العلم الرفيع على السفلة، ومنهم الغزالي الذي نادى بأن من المعارف (المضنون به على غير أهله) وألف كتابه (لجام العوام عن علم الكلام) لأن الناس كما قال في كتابه هذا، وكما يعرف العارفون بعقول الناس قد خلقوا أشتاتاً متفاوتين في المدارك، فهم كالمعادن تختلف صورة ولوناً وخاصة ونفاسة، وكذلك القلوب معادن فبعضها لمعدن النبوة، وبعضها للولاية، وبعضها للشهوة البهيمية والأخلاق الشيطانية، وكل ما قدمنا ينفي ادعاء زرادشت النبوة وإن كان لا ينفي ادعاء أتباعه النبوة له، والمرء غير مسؤول إلا عما يقول ويفعل لا على ما يتقوله عليه الناس ويسندون إليه من أعمال لم يأتها سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء، ونحن نعلم أن العظمة في كل زمان ومكان مبتلاة من هذه الناحية بأصدقائها ابتلاءها بأعدائها والعامية لا العظمة هي المسئولة عن كل ذلك.
وقد كان مما دعا إليه زرادشت إبطال عبادة الأصنام ووجوب التوجه للشمس أو النار عند الصلاة، وعدم تدنيس العناصر الأربعة: النار والهواء والتراب والماء، والشفقة على الحيوان، والتزام الفضائل في المعاملة، والامتناع ما أمكن عن أكل اللحم.
نجح زرادشت في إقناع الملك كيستاسف بالدخول في مذهبه وكان لذلك أثره من دخول الناس فيه وإيمان الشعب به، ولا سيما انه لم يكشف لهم منه إلا ما تطيق عقولهم، وبذلك صارت الزرادشتية المذهب الرسمي في البلاط الملكي والمذهب الذي ارتضته العامة طوعاً وكرهاً. ومن أسباب نجاح الزرادشتية أنها ولا سيما ما كشف منها للعامة لم تبعد كثيراً عما كان عليه الفرس قبله، فأعظم جهده ينحصر - كما قدمنا - في التنقيح والتبيين لما كان قبله، ومكانه في ذلك لا يزيد في رأينا كثيراً عن مكان الفيلسوف الهندي الكبير رابندرانات تاجور في الفلسفة الهندية البرهمية، حين نقحها وعبر عنها كما ارتضاها عقله. وما كتاب زرادشت الذي سنتحدث به بعد، إلا كمثل كتاب تاجور (السدهانا) ودواوينه التي نظمها عبر فيها عن آرائه واحساساته تجاه الكون الذي يحبه ويعد نفسه جزءاً منه، فلا نبوة ولا تهجم على المشاكل الغيبية عند زرادشت ولا تاجور، بل فلسفة وفن مردهما الشغف(662/29)
بالكون. والخطأ كل الخطأ أن ننتظر من البراهمة العوام أن يحدثونا حديثاً صحيحاً بفلسفة البراهمة كما فهمها تاجور، وكذلك الخطأ في انتظارنا أن نسمع حديث عوام الفرس بفلسفة الفرس القدماء كما ارتضاها زرادشت ومن شاورهم من حكماء فارس، وكان كيمستاسف سديد الرأي حين حرم تعليم العامة كتاب زرادشت. ومن أسباب نجاح المذهب الزرادشتي أنه كان ينزع إلى التفاؤل والإقبال على الحياة ويبشر العاملين فيها بالخير وهو في هذا وغيره بل في شخصيته إجمالاً يشبه شخصية تاجور شبهاً قوياً. ولا ريب عندنا في أنه بهذا التفاؤل كان بشيراً معبراً تعبيراً صادقاً عن الآمال القوية الطامحة التي كانت تثقل قلوب الفرس قي ذلك الحين، وانه كان ممهداً وصاحب فضل كبير على النهضة السياسية التي انتهت بقيام الملك الفارسي كورش الأكبر على تخليص الفرس من عبودية الميديين، ثمّ مد حدود الدولة الفارسية الناشئة إلى خليج البسفور، وهدم الدولة الليدية في آسيا الصغرى.
كان زرادشت بنهضته العقلية، بشيراَ وممهداً لهذه النهضة السياسية، فقد استطاع - وهو ينقح تعاليمهم القديمة - أن يحدد لهم طريق النجاح في الحياة ويدفعهم إلى حبها والكفاح فيها، ويركز آمالهم ومطالبهم منها، وربما كان ذلك أيضا سبباً من أسباب إقبال الملك كيستاسف المتطلع إلى المجد والسيطرة على الزرادشتية.
ولا ريب أن من أسباب نجاحه أنه عرف في تجوله خلال البقاع الفارسية ومراجعة أعلام الفكر فيها نفسية قومه والحالة التي كانوا عليها، والغاية التي يتوقون إليها، كما كان لانتسابه إلى أصل أرستقراطي أثر كبير في اتزان آرائه وذلك مما يسهل له حمل كيستاسف على مذهبه، ولا ريب أن مما ساعده على ذلك فهم كيستاسف حالة شعبه وما يتوق إليه وما يطيق وما لا يطيق من مذهبه، وكل أولئك مما ماز الزرادشتيين من غيرها من المذاهب التي بعدها على ما سنوضحه، فأنالها من الذيوع والثبات وإقبال الخاصة والعامة عليها ما لم ينل غيرها.
(يتبع)
محمد خليفة التونسي(662/30)
(فلسطينيات):
الأب جريجوري. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
(كلارا هاينز) فتاة يهودية ألمانية في الثلاثين من عمرها. . .
نشأت وترعرعت في (ليبزيغ) من أعمال ألمانيا. ولما بلغت الثامنة عشرة، أحبت (ريشارد كراوز) أحد زملائها في مدرسة ليبزيغ الثانوية، فعقدا النية على الزواج رغم مسيحيته ويهوديتها. غير أن هتلر استولى على الحكم - فجأة، فانضم ريشارد إلى الشباب الهتلري، وفرت كلارا إلى فلسطين.
وبينما كانت كلارا ذات مساء في زيارة صديقة لها في القدس، تعرفت إلى قسيس روسي في الخامسة والخمسين من عمره يدعى (جريجوري فون فيخت) وينتمي إلى عائلة روسية ألمانية أرستوقراطية كان قبل سنة 1917 ضابطاً في الجيش الروسي، ثم فر إلى فرنسا، واشتغل في جريدة (الترانسيجان)؛ وإذ حلت أزمة سنة 1925 في فرنسا، رحل جريجوري إلى فلسطين، واندمج في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بمثابة قس. . . وكان رجلاً متعلماً ذكياً، يجيد اللغات الروسية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية.
ودعي الأب جريجوري مرة لكي يلقي محاضرة خاصة في حلقة أصدقاء كلارا وصديقاتها فلبى الدعوة، وكان موضوعه (ديستوفيسكي) واتجاهاته الدينية، فأجاد فيها وأفاد، وبرهن على أن ديستوفيسكي رجل صوفي يؤمن بان الله هو المثل الأعلى للفن، وان روحه تكمن في الحب، والجمال، والعظمة، والعبقرية وفي كل شيء بديع. . . وإن الناس - في حبهم للفنون إنما يحبون روح الله المتجسمة في كل جزء من أجزائه. . .
طربت (كلارا) لهذه المحاضرة. وأعجبت بالمحاضر، وأمطرته أسئلة كثيرة مستفسرة مستفهمة. . . وعند الوداع سألته إذا كان يقبل إعطاءها دروساً باللغة الإنجليزية في بيته، فرحب الأب جريجوري بهذه الرغبة، ووعدها ألا يتقاضى منها أجراً، لأنه رجل زاهد في الحياة، لا تهمه المادة ما دامت الكنيسة تعني بمسكنه وقوته. . .!
وهكذا أخذت كلارا تتردد على بيت الأب جريجوري في القدس فقرأت عليه الدرس الأول والثاني بالإنجليزية، وكانت في هذين الدرسين تكتفي بجلب كتابها ودفترها، وأما الدرس(662/31)
الثالث فقد ذهبت الفتاة لتتلقاه على أستاذها، وهي تحمل حقيبتين تتضمنان كل ما لديها من ألبسة ومتاع. . .!
قال (زيد) احتجت في أحد الأيام إلى ترجمة مادة اللغة الإنجليزية فقيل لي: (عليك برجل روسي يدعى الأب جريجوري فهو مترجم من الطراز الأول، فذهبت إليه وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول (تفضل. . . تفضل. . .) ولما وطئت قدماي الغرفة وجدت في ركنها الأيمن رجلاً ذا لحية شقراء طويلة، وقد استلقى على سريره. فسألني أن أجلس وأفهمني بأنه يشكو قرحة في معدته، وبعد ثوان دخلت علينا من غرفة داخلية فتاة فتانة، آرية الهيئة، خرنوبية الشعر، عسلية العينين، ممشوقة القد، بارزة النهدين، وكان وجهها إذ ذاك ممتقعاً وعيناها تميلان إلى النعاس، وشعرها مشعثاً، وقد علت شفتيها ابتسامة مغتصبة، فمدت إلي أنامل طويلة رقيقة، ورحبت بي. . . فقلت للرجل: ألي الشرف بالتعرف إلى أبنتكم؟. . . ففتح جريجوري من بين شاربيه ولحيته فماً وأصدر منه ضحكة مزعجة وقال: كلا إنها ليست أبنتي. . . وأخذ يدها بين راحتيه وطبع عليها قبلة. . . وإنما هي سكرتيرتي. . . وزوجتي. . . وهي يهودية ألمانية. . .
لم يصدق الزائر ما سمع، وراح يجيل النظر في جريجوري تارة وفي الفتاة تارة أخرى، فاحتشدت في رأسه أسئلة عديدة حار في تعليلها. . . أقسيس ويهودية؟ أشيخ وصبية؟. . . أقبح وجمال؟. . . أموت وحياة. . . إلهي، كيف جمعت هذين الضدين؟ وكيف وفقت بين هذين العالمين؟
وخرج (زيد) من لدن الأب جريجوري وخرجت كلارا في أثره تشيعه، ولما بلغا الباب الخارجي قالت له: - لقد أصبحت الآن من معارفنا. . . فلا تبخل علينا بزيارات أخرى. . .
ورمقته بنظرة عميقة ساحرة. . .
وأقفلت الباب. . .
قضى (زيد) أياماً وليالي وهو يفكر في أمر ذينك المخلوقين، وكلما حاول تناسيهما عادا إلى مخيلته فتصور الأب جريجوري بلحيته الراسبوتينية، وهو يضحك، ويتألم من مرضه، وأرتسم أمامه هيكل المرأة الحسناء الغريبة الأطوار، فأحس بدافع الفضول أو حب المعرفة(662/32)
يدفعه إلى القيام بزيارة خاصة لهما فلعله يظفر هذه المرة بما يحل له تلك الرموز والمعميات. . .
وإذ بلغ (زيد) باب بيت القس شم رائحة البخور تنبعث منه، وسمع صوت تراتيل دينية تتصاعد من أرجائه، فدفع الباب برفق، وأطل برأسه إلى الداخل، فشاهد الأب جريجوري يلفظ النفس الأخير، ومن حوله رهط من الرهبان والراهبات الروس يصلون من أجل روحه وكلارا جاثية إلى جانب سريره تذرف الدمع السخين، فألتاع لهذا المشهد وأرتد إلى الشارع مضطربا مذهولاً.
ومضت أيام علم الشاب العربي في أثنائها أن الأب جريجوري مات، وان كلارا ظلت وحيدة حزينة فزارها مرة ليعزيها، فاستقبلته بوجه شاحب وبعينين غائرتين ووجد عندها (قواصاً) كان من معارف زوجها، وكان يعزيها بقوله: (موش لازم يبكي) مش لازم يزعل. . . مافيش جوزك، في. . . أنا!). . . ثم خرج القواص، وجاء رجل آخر من معارف المرحوم أيضا فسلم عليها وعزاها. ثم قال لها: -
(أوفدني أبونا أنسطاس كرياكوس رئيس دير (. . . . . .) وسألني أن أبلغك رسالة شفهية. . . يقول لك أبونا إنه تأثر جداً لفقدك زوجك. وان المرحوم كان من أصدقائه الحميمين، ولما علم انك غدوت وحيدة أحب أن يمد لك يد المعونة فهو يعرض عليك الإقامة في جناح من الدير ويتعهد لك بكل ما يلزمك من ملبس ومأكل أفلا تبلين سؤاله؟
فأجابته كلارا وقد أسندت رأسها بين يدها: قل لرئيسك إذا كانت كلارا قد تزوجت قسيساً وتوفاه الله فذلك لا يعني أنها مستعدة لأن تتزوج رهبان ديره. . .!
وتوطدت عرى الصداقة بين (زيد) كلارا وعلم منها الشيء الكثير عن علاقتها بذلك القس الروسي الراحل، علم منها انه كان يعلمها اللغة الإنجليزية، فسرعان ما سلبها عقلها بأحاديثه الطلية وبفلسفته الصوفية، وبآرائه الاعتزالية، فسألته بان تتلمذ على تعاليمه، فسألها بان تسكن وإياه، فلم تمانع وانتقلت للحال إلى مسكنه.
وإذ علم رؤساء الكنيسة بفعلته هذه ثارت ثائرتهم وتسائلوا كيف يبيح قس لنفسه الزواج بفتاة يهودية؟ فطردوه من الكنيسة وحرموه من لقب قس ومنعوا عنه كل مساعدة وألصقوا به شتى التهم. . .(662/33)
أما أهل الفتاة فقد حنقوا جداً على فعلتها هذه وقالوا كيف تبيح فتاة يهودية لنفسها أن ترتمي في أحضان قسيس روسي كان فيما مضى من الأيام ضابطاً في الجيش القيصري، وساهم في أعمال الاعتداء على اليهود، واغتصب نساءهم وقتل رجالهم؟. . .
وبعد مضي ستة أشهر على حياتهما المشتركة أحس جريجوري بألم في معدته وتبين له أنها قرحة، فلزم الفراش وكانت كلارا تشتغل وتقدم له القوت، ومرت بها أيام لم تعمل في أثنائها، فكانا يقتاتان بالشاي والخبز فقط، ولما أشتد عليه المرض نقلوه إلى المستشفى وأجروا له عملية، وتطوعت الفتاة بنقل دمها إلى جسمه فلم تنجح العملية، ومات ذلك الشيخ الذي أحبته كلارا بكل جوانحها. . .
لم يترك جريجوري لزوجته أو لخليلته من حطام هذه الدنيا سوى الوصية التالية: (أنا جريجوري فون فيخت، قس في هذه الكنيسة الروسية، أوصي بان ينتقل كل ما في هذا البيت من أثاث - سريران، وخزانة، وطاولة، وكرسيان، وأدوات منزلية - إلى السيدة كلارا هاينز وذلك مقابل ما قدمته لي من خدمات أثناء مرضي!).
وجرى مرة حديث بين (زيد) وكلارا حول الدوافع التي حدثت بها إلى معاشرة ذلك القس فقالت وهي تذرف الدمع بغزارة من ما فيها، أنني أحببته لأدبه وعلمه. . . إنني عشقته لخبرته وبعد نظره. لقد تهافت على عدد كبير من الشبان من أبناء جنسي ورفضتهم كلهم، لأنني لم أبحث عن مال. . . أو جمال. . . أو قوة جسدية، إنني بحثت عن رجل يشبع نهمي الروحي، ويرضي مطامحي الأدبية والفنية، فعثرت عليه في نهاية الأمر في شخص القس جريجوري.!. . .
لقد كان المرحوم جريشا (تصغير لجريجوري ويستعمل غالباً في التحبب) أستاذي الروحي، وزوجي الغيور، ووالدي الحنون!.
لم يود جريشا مفارقة هذا العالم. . . وكان وهو على فراش الموت يصرخ قائلاً: - لا أريد الموت. . . أريد الحياة. . . أريد البقاء إلى جانبك. . . لدينا رسالة روحية سنديها معاً. . . فلم يجبه الله على سؤاله وفاضت روحه بين ذراعي.
انظر إلى ملابسه. . . فها هي معلقة حيث تركها. . هاك كتبه اللاهوتية، وسريره وعصاه، وسترة نومه، ثم هاهي صورة (يسوع) لا تزال حيث أحب أن تكون. . . كلا، أن جريشا(662/34)
لم يمت. انه حي في قلبي. وقد قطعت على نفسي عهداً بأن لا أعاشر رجلاً سواه!. . .
فالداخل إلى بيت كلارا اليوم، يرى صدره تمثالاً نصفياً للقسيس جريجوري، وقد علقت أرملته فوقه قنديلاً زيتياً لا تنطفئ شعلته، وإذا ما جاء يوم الأحد من كل أسبوع ارتدت السوداء، وابتاعت باقة من الزهور واتجهت إلى مقبرة تقع على جبل صهيون في القدس لتبكي ذلك القس الغامض الراحل.
نجاتي صدقي(662/35)
الصهيوني الأول
(مهداة إلى الأقلام النبيلة المجندة لنصرة فلسطين)
للأستاذ محمد سعيد الأفغاني
في الفاجعة الكبرى: فتنة الجمل:
سقط الخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان مضرجا بدمه، ضحية المؤامرة الخطرة التي دبرها بإحكام عبد الله بن سبأ مالئ الأرض فتناً وشروراً وفساداً. فضج الناس من هول الفاجعة وفداحة الخطب وجأروا يطالبون بثأر عثمان. فانبلج ذهن أبن السوداء عن خطة مضاعفة ينجو بها هو ومن معه من القصاص، ثم يتحفز هو لأحكام مؤامرة أكبر، وسوق هذه الجماهير نحو فاجعة أكبر، وكارثة لا تذكر إلى جانبها الكارثة بعثمان رضي الله عنه.
انضم هو ومن تابعه إلى علي بن أبي طالب، حين انبرت السيدة عائشة وطلحة والزبير يؤلبون الجماهير للطلب بدم عثمان، فكان لابد للأمام علي من الخروج لرد السيدة ومن معها خشية أن ينبثق صدع جديد، فلما وصل إلى الكوفة كان أبن السوداء وأعوانه انشط جنده في الدعوة لأمره، وبذلك كانوا في حرز حريز من الثائرين لعثمان الذين احتلوا البصرة يستعدون.
جرت بين علي وأصحاب الجمل مكاتبات ثم سفراء ووفود، وتفاهم الفريقان، وفرح الناس بانقشاع الغمة، وتراضي المسلمين وجمع الكلمة على المشاورة في كل أمر، وعلى أن يكون أول الأمور حلاً أن يأخذ علي في قصاص قتلة عثمان، ورتق هذا الفتق الذي أحدثه أبن سبأ وأعوانه في أرض الجزيرة.
أرسل علي إلى رؤساء أصحابه بما تم عليه الإجماع من اتفاق وكذلك فعل طلحة والزبير، واتفقوا على الصلح، وبات الناس بليلة لم يبيتوا بمثلها فرحاً وابتهاجاً بما أشرفوا عليه من العافية والسلامة. أما أبن السوداء وأصحابه فقد باتوا بشر ليلة باتوها قط، وجعلوا يتشاورون ليلتهم في سر من الناس خشية أن يفطن أحد لما يبيتون من الشر.
المؤامرة:
أشرف الفريقان من أصحاب علي وأصحاب الجمل على الصلح والاجتماع، واطمأنوا إلى(662/36)
نوم هنئ لما وفقهم الله إليه، وكان في هذا ما يسر الناس جميعاً، إلا هذا الفريق الذين لا يطيب لهم عيش إلا بتأريث الشر، وهم هؤلاء السبئية المؤلبة على عثمان والوالغة في دمه، عرفوا أن لا مقام لهم سواء انتصر علي أم خصومه. لان علياً لم يسكت عن إقامة حد متى تم له الأمر وأمكنته الفرص، وكذلك أصحاب الجمل أن ظفروا لم يتركوا أحداً ممن شرك في دم عثمان، لقد كان هم الناس من الفريقين قتلة عثمان أينما كانوا.
جمع أبن السوداء هؤلاء النفر في ظلمة الليل إليهم، وكان منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وخالد بن ملجم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفي والأشتر. . .، في عدة ممن وقعوا في شرك الطاغية عبد الله بن سبأ فلعب بعقولهم وسيرهم وأتباعهم إلى عثمان، جمعهم فتداولوا بينهم هذا الكلام:
(ما الرأي؟ وهذا والله على - وهو أبصر الناس بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك - وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا قتلة عثمان والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام (نظر) القوم وشاموه، وإذا رأى قلتنا في كثرتهم؟؟. . . انتم والله ترادون، وما انتم بأنجى من شئ).
الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم. ورأى الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا فعلى دمائنا. . . فهلموا - يا قتلة عثمان - فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.
أبن السوداء: بئس الرأي رأيت: انتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا أبن الحنظلية (القعقاع أبن عمرو) وأصحابه في خمسة آلاف: بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً، فارقأ على ظلعك.
علباء بن الهيثم: - انصرفوا بنا عنهم ودعوهم؛ فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم. دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به، وامتنعوا من الناس.
أبن السوداء: - بئس ما رأيت، ود - والله - الناس أنكم على جديلة (ناحية) ولم تكونوا أقوام برآء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء.
عدي بن حاتم: - والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في(662/37)
خوض الحديث؛ فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس هذه المنزلة، فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح محموداً، فإن أقدمتم أقدمنا وان أمسكتم أحجمنا).
أبن السوداء: - أحسنت.
سالم بن ثعلبة: - من كان أراد فيما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزيد على جزر جزور. وأحلف بالله: إنكم لتفرقون من السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف.
ابن السوداء: - إن هذا قد قال قولا.
شريح بن أوفي: - أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون بنا غداً إذا ما هم التقوا.
ثم تكلم أبن السوداء بعد أن أدلى كل بدلوه فقال:
(يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر: فإذا من انتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون).
وعلى ذلك انفض الاجتماع الأثيم، وأحكمت الخطة.
قاتل الله ابن السوداء، فو الله ما أراه إلا شيطاناً خلق من مارج من نار، ما أبصره بطرق الفتنة وبث العقارب، وما أدق توهينه تلك الطرق التي أشار بها أصحابه، ما أفطنه إلى ضعفها وقلة غنائها، ثم كيف آل به تقليب الرأي حتى اهتدى إلى التي ليس بعدها شر منها: قاصمة الظهر ومبيدة الأمم.
ومنذ الذي يقرأ هذه المؤامرة، وكيف أدار أصحابها الآراء على وجوهها المختلفة، ثم لا يرجع ذهنه بسرعة البرق إلى ما ذكره أصحاب السير عن مجلس كفار قريش في دار الندوة: يجيلون الرأي في محمد صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وقد حضر اجتماعهم ذاك إبليس بهيئة شيخ نجدي، فجعل كما عرض أحدهم رأياً في القضاء على دعوة محمد وهنه وأظهر فساده، حتى أعيى القوم جميعاً بحجته، فسألوه: ما عنده؟ فقال: تختارون من كل قبيلة رجلاً جلداً، فيجتمعون ويضربون محمداً ضربة رجل واحد(662/38)
فيضيع دمه بين القبائل، ولا طاقة لبني هاشم بقبائل العرب كافة).
أليست تلك المؤامرة نسخة (طبق الأصل كما يقولون) عن هذا المجلس؟
أليس أبن السوداء هذا إبليس بعينه؟ وأستغفر الله، فأين يقع منه إبليس؟ لهو والله أبلغ نكاية بهذه الأمة من إبليس، وأبعد أثراً في الدس والكيد. وأخشى أن يكون الذي ظنوه إبليس أبناً من أبناء السوداوات أبطال الشر والمكر والفساد من اليهود: تنكر لهم شيخاً نجدياً أحكاماً لدسيسته.
لما كان الغلس انسل هؤلاء المؤتمرون - وما يشعر بهم جيرانهم - إلى الأمر الذي أجمعوا عليه انسلالاً وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بغتوهم، وحيرتهم الصدمة فقد كانوا باتوا على صلح تغشاهم الطمأنينة والسكينة.
فجئ الناس جميعاً، وخرج طلحة والزبير فسألا: (ما هذا؟) فقالوا: (طرقنا أهل الكوفة ليلاً). فقالا:
(قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة، وانه لن يطاوعنا).
ثم خرجا في وجوه الناس من مضر، فبعثنا إلى الميمنة - وهم ربيعة - عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يعبئها، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وثبتا في القلب.
استطاع أهل البصرة أن يصدوا أولئك المعتدين حتى ردوهم إلى عسكرهم، فسمع على الصوت - وكان السبئيون المتآمرون قد وضعوا طبقاً لخطتهم رجلاً قريباً منه ليخبره بما يريدون - فلما قال: (ما هذا؟) قال ذاك الرجل:
(ما فجئنا إلا وقوم منهم قد بيتونا، فرددناهم من حيث جاءوا فوجدنا القوم على رجل، فركبونا وثار الناس).
فقال علي لصاحب ميمنته (ائت الميمنة) وقال لصاحب ميسرته: (ائت الميسرة) ثم قال: (قد علمت أن طلحة والزبير غير منهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلا الحرمة، وانهما لن يطاوعانا).
والسبيئة مجتهدون في إنشاب القتال لا يفترون، والتحم الناس بعضهم ببعض، ودارت المعركة فاصطلى بنارها الناس جموعاً، وكاد هؤلاء الناس الذين باتوا مصطلحين على(662/39)
غير حال، كادوا أن يتفانوا، وانحسرت المعركة عن خمسة عشر ألفاً من القتلى وما لا يحصى من الجرحى، وكان فيمن قتل رؤوس المهاجرين والأنصار وزعماء الناس وعدد جم من القراء والعلماء والمجاهدين الأولين، وسجل التاريخ أفجع نكبة حلت بالمسلمين منذ كان للناس تاريخ.
وبعد، فهل ألب الأمصار على عثمان إلا أبن السوداء؟
وهل غرهم أحد بمثل ما زور لهم من كلام ترويجاً لدعوته؟
وهل دم عثمان إلا نجاح خطة أبن السوداء هذا؟
وهل استطاعت الروم وفارس أن تنال من هؤلاء الفاتحين بمثل ما نال منهم أبن السوداء؟
وهل هذه العشرات الألوف من دماء المهاجرين والأنصار من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم إلا ثمرة خبه وكيده ومكره بهذا الدين وأهله؟
وما زال المسلمون من يومهم ذاك إلى الآن في شرور متتالية يزجها إليهم أبناء السوداوات في مختلف الإعصار والأمصار: دساً في دينهم وتفرقة لكلمتهم، واستهانة بتاريخهم، واستخفافاً بتقاليدهم ومقوماتهم، ووضعاً من شان لغتهم، وإفساداً لأخلاقهم، وتهويناً من سلامة نظمهم، وإشادة بكل مذهب أجنبي يفكك عراهم ويأتي بنيانهم من القواعد. والغريب أننا قوم (طيبون جداً) لا نرى غضاضة في توسيد أمورنا الصغيرة أو الكبيرة إلى الذين كانوا مطايا الاستعمار وجواسيس الأجانب، وأجراء لكل دعوة هدامة ودولة طماع. نفعل ذلك عن غفلة تارة وعن غرور تارة، وقد كتب الله على هذه الأمة ألا تفطن إلى أبناء السوداوات هؤلاء إلا بعد أن يبلغوا منها ما أرادوا ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ترى هل بدأنا نتعظ؟؟
سعيد الأفغاني(662/40)
من أغاني الحرية:
صدى القيد!!
) إلى قطرات من دم رآها الشاعر في ميدان قصر النيل يوم
هب شباب الوادي هاتفين بالجلاء! (
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
صدئ القيد ألا نا ... رٌ من الوادي تذيبه. .
بعد ما طال النيل أساه ولهيبه؟!
صدئ القيد، وهذي ... صرخة الأرواح منه
زفرات، ودماء ... تنقل الأحزان عنه!
وهتاف زمجرت فيه أناشيد الضحايا
ظامئ للموت نشبوا ... ن إلى خمر المنايا!
صدئ القيد، وناح الغاشم الطاغي عليه
وتعايا كل ظلم ... وظلام في يديه!
دقت الأجراس. . فلنضرب على تلك السلاسل
بيد ملت هوان الطير في تلك الخمائل!
بيد للنار والنو ... ر بها ريٌّ وزاد
من دم الأحرار يغذو ... ها، ويسقيها الجهاد
غضب النيل، وإن يغضب، فقل: ذاب الحديد!
وانبرى كالعاصف المجنون شيخْ ووليد
دقت الأجراس، فلنسمع لها في كل صدر
ولنسر صفاً لنحيا ... أو نحطم قيد (مصر)!(662/41)
عزاء. . . .!
للأستاذ أحمد مخيمر
العزاء العزاء يا مبدع الشع ... ر عزاء لكل قلب عميد
أنا لولا مخافتي موقف الحز ... ن لما كنتُ باكياً من بعيد
وبكائي كتمته في ضلوعي ... ثم رقرقرتُ دمعه في نشيدي
حجزته عن المسيل قوافي ... هـ، فكانت لفيضه كالسدود
وأشد البكاء في النفس لذعاً ... ما تواري عن أعين وخدود
سهَّد القلب يا غزاليّ أن بتَّ ... تعاني مرارة التسهيد
وأن ارتبتَ في خطوب الليالي ... عندما حان باليقين السديد
وجعلتَ الحياة يأسَ سجينٍ ... ورجاء الحياة شجو طريد
وعبرتَ الزمان للغيب ملهو ... دا، ً وما كنتَ قبل بالملهود
ساخراً من حقيقة العيش والمو ... ت، ومن كل كائن في الوجود
كلما جاءك المواسون دافع ... تَ ابتسامات موجع مجهود
باهتات كأنما هن أكفا ... ن رجاءٍ مَيْتٍ، وبشر فقيد
بسمات من غور صمتك تنمو ... كورود نمون فوق اللحود
كشفتْ ما كتمت من لهب شب ... لظاهُ بأضلع وكبود
وأبانت عما دفنتَ من البش ... ر، وعما كفنتَ من تغريد
ولقد يبسم الحزين إذا لم ... يلق في الدمع غاية المستزيد. .
يا صديقي العزاء لا تبعث السخ ... ر عنيداً من الزمان العنيد
إنما الوالد الكريم سيبقى ... خالد الذكر، باقي التمجيد
زودته الحياة بالحكمة الأو ... لى، وبالسر أيما تزويد
وأتاحت لقلبه نبعها الأس ... مى، ليحظى هنيهة بالورود
خبر العيش فطرة، ورأى الدن ... يا بعيني مجرب محمود
وتعالي عن الدنايا، وصفّى ... قلبه من عداوة وحقود
فهو ناهيك من صفاء وحلم ... وهو ناهيك من عفاف وجود(662/42)
تشتكي الأرض منه من طول ما عفَّ ... ر في الترب وجهه بالسجود
وتظل الطيور تسأل عن مُلْ ... قٍ بمنقارهن حب الحصيد
فطرة ذلك الحنان، وهذا ال ... عطف في ذلك الأبيّ المجيد
العزاء العزاء يا مبدع الشع ... ر عزاء لكل قلب عميد
وإذا كانت الحياة إلى خل ... دٍ، فإن البكاء غير حميد
شهد الله أن والدك البر ... رجاء الحياة للتخليد
غاب في الرحلة إلى العالم الأسْ ... مى بوادي فردوسه المفقود(662/43)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمود محمد شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت ردك علي فاستغربته، فإنك ذكرت الآية الشريفة (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) واتخذت منها شاهدا على صحة عبارتك وعلى غلط رأيي فيها. والحق أن هذه الآية دليل على بطلان قولك ودليل على صحة قولي. ففيها عبارة (والسلام علي) معرفة بأل لأنها تشير إلى (سلام عليه) في آية قبلها هي (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا). قال الزمخشري في الكاشف عن هذه العبارة المتصلة بأل: (قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله كقولك: جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى). وإن لم ترض بهذا أيها الأستاذ فانظر إلى تعقب الزمخشري عليه، قال: (والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً بالأصل وباللعنة على متهمي مريم وأعدائها من إليهود، وتحقيقه أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة، فقد عرض بأن ضده عليكم. ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى، ويعني أن العذاب على من كذب وتولى).
وبديهي أيها الأستاذ انك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة للتعريض.
ولو أعدت النظر في تعقيب الزمخشري لوجدت رداً على شاهدك الآخر في الآية الشريفة: (فأتياه فقولا أنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى).
وبعد أن أظهرت لك الحقيقة بآيتين تناولتهما أنت من القران الكريم للرد علي، أقول:
إنك دللت على صحة عبارتك بالاستشهاد بصحيح البخاري ومسند ابن حنبل، وفاتك أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو لان كثيراً منه مروي بالمعنى وفي خزانة الأدب للبغدادي أقوال للعلماء كثيرة تؤيد ذلك. قال السيوطي: (فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ - ج1ص6).
وقال سفيان الثوري وهو أحد رواة الحديث المعول عليهم (إن قلت لكم إني أحدثكم كما(662/44)
سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى ج1ص6). وجاء في الكتاب نفسه لأبي حيان يفيد أن أئمة البصريين والكوفيين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم لم يستشهدوا بالحديث، وعلل ذلك بما تقدم من العلل.
وأظنك الآن أيها الأستاذ توافقني على إغلاق باب الاستشهاد بالحديث.
أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف فيه فمنهم من يقول (سلام عليك. . . . .) ومنهم من يقول (السلام عليك. . .) وحبذا لو أطلعتني على نص يوثق به يشير إلى انهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد (السلام عليك أيها النبي.).
وأما الأخفش الذي اتخذت منه حجة لقولك فلا يعتمد به لأنك لم تذكر المصدر الذي نقلت عنه.
وحسبك أيها الأستاذ أن تجد القاعدة مختصرة في هذا البيت القديم:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
والحق انه لم يكن ينبغي لي أن آتيك بشواهد من آي الذكر الحكيم أو الشعر لأني لست بصدد ذلك.
والمسألة هي أن العرف الجاري بين الكتاب القدامى أن يبدءوا كتبهم بـ (سلام عليك أو عليكم) ويختموها بـ (السلام عليك أو عليكم). وحسبي أن اثبت كلام أبن قتيبة الذي تحاملت عليه في ردك عليَّ، قال: (وتكتب في صدر الكتاب: سلام عليك وفي آخره: السلام عليك، لأن الشيء إذا بدء بذكره كان نكرة فإذا أعدته صار معرفة. وكذا كل شيء نكرة حتى يعرف بما عرف، تقول: مر بنا رجل. ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. وتقول: رأيته قد رجع. فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته انه ذلك السلام المتقدم - أدب الكاتب ص 254).
وحسبي أن أعزز قول ابن قتيبة بالأدلة، فتفضل بالاطلاع على قسم من الكتب للعصر الإسلامي.
كتب الرسول (ص) إلى المقوقس ما يأتي:
(من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. . . الخ - فتوح مصر لابن عبد الحكم ص42، والطبري ج3(662/45)
ص287).
وكتب الرسول (ص) إلى كسرى فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله. الخ صبح الأعشى ص276) وكتب أبو بكر (ر) للمرتدين:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا عامة أو خاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى. . الخ. . الطبري ج3 ص276)
ومعلوم أن هذه الكتب مدونة ويستشهد بها اللغويون والنحاة. .
واعلم يا سيدي أني - كما تقول - (قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجردا. . .) والسلام عليك.
بغداد
صبحي البصام
يا ابن أمي:
قرأت في الرسالة المباركة في العدد الأخير: قصيدة للمرحوم أبي القاسم الشابي تحت عنوان (يا ابن أمي) فدهشت لتلك القصيدة العصماء يجيء فيها هذا التعبير الذي تأباه قواعد اللغة.
ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذا العبارة هي: إذا أضيف المنادي إلى مضاف إلى ياء المتكلم وجب إثبات الياء إلا في ابن أم وابن عم فتحذف الياء منهما وجوبا لكثرة الاستعمال. وتكسر الميم أو تفتح فتقول يا ابن أم ويا ابن عم بفتح الميم وكسرها.
قال الله تعالى (قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) وقد قرر ابن ما لك هذه القاعدة بقوله:
وفتح أو كسر وحذف اليا استمر ... في يا ابن أم يا ابن عم لا مفر
محمد عبد المقصود هيكل
إلى الأستاذ محمود الحفيف:(662/46)
لاحظت أنكم جريتم في مقاليكم بالعددين الأخيرتين من الرسالة على كتابة كلمتي (بيوريتان) و (البيوريتانية) كما هما. وأرى أنه كان يحسن أن تستخدموا بدلا منهما تعبير (الطهريين) لان هذه ترجمة للكلمة الإنجليزية تؤدي بالضبط المعنى المقصود، فضلا عن أنها سهلة فصيحة لا تعقيد فيها.
فلعلكم ترون رأيي والسلام.
وديع فلسطين
نسبة بيت:
نسب الأستاذ العقاد في مقاله عن (حمام الحرم) هذا البيت:
يسقط الطير حيث يلتقط الح ... (م) ب وتغشى منازل الكرماء
إلى الطائي وهو بالطبع يعني أبا تمام، والمعروف أن البيت لبشار بن برد من قصيدة يمدح بها عقبة بن سلم، ويقول فيها:
إنما لذة الجواد ابن سل ... م في عطاء، ومركب للقاء
وأكبر الظن أن هذا الخطأ في النسبة وقع من استأذنا الكبير سهوا كما هو ظاهر.
محمد احمد عبد(662/47)
في عالم الكتب:
حواء الخالدة
) للأستاذ محمود تيمور بك (
بقلم الأستاذ وديع فلسطين
أفردت مجلة (الكتاب) في عدد يناير الماضي فصلا مسهبا عن التآليف التي ظهرت في عام 1945 سردت فيه هذه الكتب بعدما بوبتها ونسقتها وفقا لموضوعاتها. وقد استوقف نظري آنذاك أن المسرحية لم تظفر من هذا الحصاد الوافر بأكثر من أربعة كتب هي: مسرحيتان ترجمهما الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك عن شكسبير وهما: (الليلة الثانية عشرة) و (أنطوني وكليوباترة) ومسرحية شعرية للأستاذ عامر محمد بحيري عن (خالد بن الوليد) ومسرحية ترجمتها عن الكاتب السويدي أوجست سترندبرج وهي (الأب). ودفعني هذا إلى السؤال عن سبب تخلف الإنتاج المسرحي في مصر برغم أن المسرح أصبح من دعائم الثقافة ووسائل التهذيب، فضلا عن التسلية. فجاء الجواب من صديق من أصحاب دور النشر بان المسرحيات لا تصادف إقبالا من القراء وأنهم يصدفون عنها ويولون عنايتهم شطر الأقاصيص.
وإنه لأمر يدعو إلى العجب حقا، لأن المسرحية في الأدب الغربي لها مقام ممتاز، بل إنها كثيرا ما تتقدم على القصة. وما ذلك إلا لأن المسرحيات عامة - ولا سيما الأدبية منها - تعتمد إلى حد كبير على جودة الحوار وقوته، بينما الأقاصيص لا تعلق مثل هذا الشأن على الحوار لأن الوصف يغلب في معظم الأحيان على عنصر الحوار فيها.
ومما يدعو إلى الدهشة كذلك أن غالبية الكتاب العظام في العالم كتبوا المسرحية أمثال شكسبير (الذي اقتصر على كتابة هذا اللون من الفن) وإبسن وتشيكوف وجوركي وشنتزلر وجورج برنردشو، أما الأدب العربي فهو معرض عن هذا الفن لأسباب قد يكون منها المحافظة على القديم. والمعروف أن العرب الأقدمين لم يكتبوا المسرحية، وأن المرحوم أحمد شوقي بك كان من رواد هذا الضرب من الأدب بما أنتجه من مسرحياته الشعرية: (مصرع كليوباترا) و (مجنون ليلى) و (قمبيز). . . الخ.(662/48)
لهذه الأسباب مجتمعة، سرنا أن أقدم الأستاذ محمود تيمور بك على كتابة المسرحية الطويلة - إذا جاز أن يكون في المسرحيات طويل وقصير كالقصص - فهو ولا شك يمهد السبيل لازدهار هذا الفن الذي لم يرتد مجاله من كتاب الضاد سوى القليلين. وهؤلاء لم يكتبوا للأدب بقدر ما كتبوا للتسلية، مما أفضى إلى هزال حركة التمثيل المسرحي، لا في مصر وحدها، بل في الشرق قاطبة.
ومسرحية (حواء الخالدة) التي نحن الآن بصددها، قطعة من حياة العرب، بطلاها عنترة العبسي وعبلة بنت مالك.
أحب عنترة عبلة فتدللت وتمنعت بعدما حملته المشاق والصعاب وسخرته في معابثاتها ومغازلاتها ليقنص لها أسدا ويجيء إليها بجلده، ولما انصرف عنها أحبته وأخذت تتسمع أنباءه وانطوت على نفسها يوم أنبأها رسول كاذب أن عنترة لقي حتفه. ولكن عنترة لم يمت وعاد إلى بلده بعد غربته، ثرياً تعلم كيف يجرد الجيوش ويستل الحسام، وينازل الأعداء، ويحترب الحروب. عاد وقد غادرته ليونته وطراوته وتدلهه في الحب، وأصبح رجلا شديد المراس معتزاً بنفسه، يأبى أن يسأل أحداً أمراً ولو كان هذا الأمر حبيباً إلى قلبه.
وكأنما أرادت عبلة أن تسخر منه، فرضيت بالزواج من أمير ولكن عنترة بارز ذاك الأمير وبذه وسبى عبلة وشد بها الرحال.
هذا محصل (حواء الخالدة)، صور تيمور فيها تثني المرأة ودلالها، إعراضها وإقبالها، غيرتها، تشفيها ومخاتلتها، حبها وبغضها، وطمعها وطموحها، حشمتها وتبذلها. وجعل تيمور بك يوجه عنايته القصوى إلى لغة الحوار حتى إن المرء ليحتاج أحيانا إلى الرجوع إلى المعجم ليقف على معاني بعض الكلمات من أمثال: (الطباهج الرشراش) و (اللوزبنج) و (النياق العصفورية) وسواها.
ولعل المؤلف اضطر إلى الالتجاء إلى هذه الكلمات وأترابها لأنه تخير موضوعا عربياً تدور حوادثه في بيداء العرب، وهم حريصون على الفصاحة والعناية باللغة لأنها تجارتهم الوحيدة التي يتعاملون بها في الأسواق.
وحسبنا من المؤلف أنه ولج هذا الباب المسرحي وسلك هذا الطريق غير المطروق، وأنه(662/49)
حاول فيه محاولة موفقة سبقتها منه محاولات مماثلة. ولسنا نزعم أن تيموراً بلغ في (حواء الخالدة) حد الكمال، وإنما يمكن القول انه يسير في هذا الاتجاه.(662/50)
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي
(مهداة إلى الأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 2 -
. . . يلعب الحظ أدواراً عجيبة في حياة الإنسان؛ فبينما هو يستيقظ من نومه مبكراً ليباشر كعادته عمله في غير رغبة ولا اشتياق، وهو لا يفكر إلا أن يومه سيمضي كأمسه في عمل آلي لا يشعر معه بلذة روحية ولا بقيمة ذاتية، وإذا بيد القدر تمتد إلى مجرى حياته، فتحولها إلى ناحية مضادة كلها نعيم وكلها سرور. . . إن نقطة التحول في حياتي بدأت منذ زارني القروي اليوم، فكأني به قد نزل من السماء ليهيئ لي حياة أهنأ وأسعد، حياة تلمع بأشعة الذهب الذي يمكن تبديله بأرقام ليست لها نهاية من النقود. . . .
حقا، إن بيرام نقطة الفصل في حياتي بين منطقتين: منطقة الماضي الصامت العابس، ومنطقة المستقبل الزاهر الباسم، وعلى ذلك فأنني سأمتع النفس بكل أنواع المتع ما دمت أمتلك نقوداً بهذه الكثرة. . . سأجوب كل البقاع، وأشتري يختا كبيرا أستخدمه في رحلاتي. . . . إن والدي سيدهش عندما يطلع على الموضوع. ترى هل في الكهف حجر لم يرها بيرام؟ وكم يكون عدد الكراسي؟ وهل كلها ذهب؟ إن العالم كله ستعتريه موجة من الاستغراب وسيقول: من أين لهذا الشيطان بكل هذا المال؟ لعل بيرام لا يتحدث إلى أحد في هذا الشأن. كان يجب أن أكم فاه بمبلغ كبير، عشرة جنيهات على الأقل، ليكون ذلك تشجيعاً له على السكوت، وإغراء لوالدته على تركه حراً. . . . ترى من هذا الذي هو معه على موعد؟ كم سينال الاستغراب من صديقي الوفي الأديب (محمود)؟ سأهدى إليه مكتبة قيمة تقديرا لإخلاصه. سأجهز له مكتبا فخما. لا أدري إن كان من المستحسن أن أقص(662/51)
عليه القصة، أم أترك الظروف تتولى عني ذلك؟ وإن كنت على يقين أنه يستطيع أن يرشدني إلى ما يحسن عمله، كما يستطيع أن يعرف عهود تلك الآثار وقيمتها التاريخية؛ فهو أكثر مني ثقافة، وأطول تجربة، واعظم خبرة، وهو فوق ذلك مدرس نابه، وأديب ذائع الصيت؛ ولكن. . . . كم يكفيه من النقود للقيام بهذه المهمة؟ إنه يكاد يجب من فرط السرور عندما يقف على قيمة الكنوز المادية والتاريخية! على كل حال سأذهب إليه الساعة لأسرد له حكايتي، أنا في مسيس الحاجة إلى مخلص يأخذ بيدي إلى الطريق السوي، فهذا عمل شاق ومن غير المعقول أن أقوم به وحدي!
هذه هي بعض الخواطر التي كانت تمر بمخيلة فريد وهو يقطع الحجرة بعد أن غادره القروي على أن يعود إليه في المساء، ولم يقطع عليه سلسلة هذه الأفكار إلا دخول الكاتب يسأله عن رسائل اليوم وليستأذنه في الانصراف!
حرك فريد يديه حركة عصبية ولعن في نفسه المراسلات والمكاتبات، ثم إذن للكاتب أن ينصرف. ودعا الخادم وأمره أن يخبر الطاهي أن بعض الأصدقاء سيتناولون العشاء معه هنا في الساعة الخامسة، وأنه يود أن يكون الطعام فخما. وتناول عصاه وخرج ميمما صوب (الليسيه) ليقابل صديقه (محموداً) فقد وطد العزم على أن يستعين بنصائحه ويستفيد من إرشاداته. ولقد كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر لا يكف عن الانهمار، والطريق بما تجمع فيه من ماء ووحل يتعب المارة ويلوث ملابسهم، ولكن فريداً كان عن كل ذلك في شغل، فهو لا يبالي، بل لا يشعر: أفي جفاف يمشي أم في وحل. فقد طرأت عليه فكرة سيطرت على كل حواسه وصرفته عن كل ما يحيط به، هذه الفكرة كانت في مبدئها فرضاً، ثم لم تلبث أن صارت في قوة الحقيقة الواقعة عنده، وهي لا يبعد أن تكون الأزيار مملوءة بنقود ذهبية قديمة، ثم غطيت بهذا الغبار حتى لا تمتد إليها يد عابثة. . . أربعة عشر زيراً. . . يالها من ثروة طائلة. . . سأهرِّب الأشياء ذات القيمة في أسرع وقت إلى الخارج، وسأضع النقود في بنوك سويسرا وإنجلترا، لأنها بنوك مضمونة. . . وإلى هنا كان قد وصل إلى المدرسة وعلم انه قد بقي عشر دقائق على خروج التلاميذ، فرأى أن ينتظر في الحديقة بعيدا عن الناس، وليخلو إلى نفسه ويواصل حديثها. وما إن أخذ موضعه منها حتى تساءل: ترى ما هي اللغة التي نقشت على اللوحات؟ أهي اللاتينية أم اليونانية(662/52)
القديمة؟ كم من المكتشفات ستحتل الميدان في الأيام القليلة المقبلة؟ سأترك فخر الاكتشاف لزميلي وصديقي (محمود) إني واثق انه سيعجب كثيرات حينما أشرح له مقابلتي لبيرام. . . وفي هذه اللحظة دوى في الفضاء صوت المؤذن منبعثا من مئذنة مسجد (فوش كلَس) يملأ الأرجاء:: (الله أكبر. . . الله أكبر!) دعوة يلبيها المؤمنون الصادقون الذين امتلأت قلوبهم من خشية الله، وترطبت ألسنتهم بذكر الله. . . فيسرعون لصلاة الظهر شكرا لله على نعمائه، وابتهالا إليه أن يوفقهم لرضائه. . . في نفس الوقت دقت أجراس الكنائس القريبة تستحث أتباع المسيح عليه السلام أن يبادروا إليها للتبرك! وفي هذه اللحظة أيضا بدأ الطلبة يخرجون من المدرسة زرافات ووحداناً مسرعين إلى بيوتهم لتناول الغداء، وكلهم يتأبط كتبه وأدواته؛ فرأى فريد صديقه محموداً خارجاً مع زميل له، فناداه، فاستأذن صديقه ولحق بفريد. . . وبعد أن تصافحا قال له: لماذا أنت هنا يا فريد ولست في المتجر؟
- جئت آخذك لتناول الغداء معاً، ولأقفك على موضوع هام.
- ماذا؟ هل تمت خطوبتك؟
- لا! ولكن لدي أخبار في نهاية الغرابة. فتعال معي إلى المنزل.
لا أستطيع؛ فإني سأعود بعد الظهر لا تمام دروسي.
- إنك عندما تعرف الخبر ستنسى الدروس ولن تفكر فيها بل ستلعنها ولا تذهب إليها.
- ما دمت تقول ذلك فسأجيء معك وأفوض أمري إلى الله. ثم أخذا طريقهما إلى منزل فريد الذي بدأ يقول لصديقه: لا شك يا محمود أننا سندهش (أشقودراه) بل العالم بأسره.
- لست أفهم هذه الألغاز يا عزيزي فأرجو أن تفصح.
- لقد عثرت على كنز! فنظر إليه محمود في استغراب وقال: بربك قل الصدق ماذا بك اليوم؟ فقد تغير فيك كل شيء.
أؤكد لك أني وجدت كنزا.
بالله لا تهزأ بي، أنت الذي وجدته؟
- لا! ولكن قرويا جاءني في صباح اليوم وأفضى إلي أنه عثر عليه مصادفة، وشرح له فريد ما كان من بيرام فتعجب محمود وقال: وهل وقع كلام القروي منك موقع الصدق؟
- ولم لا؟ ومن أين لقروي مثله خيال يحسن سبك مثل هذا الموضوع بمثل هذه المهارة؟(662/53)
إن من يفعل ذلك لا بد وان يكون قد قرأ على أقل تقدير عجائب الكشف عن آثار (توت عنخ آمون) ذلكم الملك المصري القديم. ولكن أني لبيرام وهو الأمي الذي لا يقرأ أن يطلع على ذلك ويخترع مثله؟ وإنك ستسمع منه بأذنيك وستحكم كما حكمت أنا - استنادا على طيبته - بصدق قوله.
حرك محمود رأسه دهشة واستغرابا وكانا قد وصلا إلى البيت واستدار حول المائدة، وأخذ كل منهما يتكلم بهواه ويدلل لرأيه، قال فريد: إن قيمة الكنز المادية - وان كانت عظيمة - إلا أنها ليست بشيء يذكر بجانب قيمته التاريخية.
لا زلت أشك فمن المستحيل أن تكون هذه حقيقة؛ إن الرجل قد رأى كل هذا في المنام.
- في بعض اللحظات كان يعتريني مثل هذا الشك، ولكن نظرات القروي، وملامح وجهه، وسذاجة حديثه، جعلني أعتقد صدق خبره، وستجعلك كل هذه الأشياء تعتقد مرغما كما اعتقدت.
- كل شيء ممكن في هذه الدنيا!
ألا تكون هذه الآثار يا محمود من زمن أجدادنا (الإلير)؟
- لا أعتقد، فإن التاريخ لم يحدث عنهم أنهم برعوا في النقش على الأحجار وعمل التماثيل وأن كان غير بعيد أن يكونوا قد أخذوا هذه الآثار وهذه التماثيل من معابد يونانية؛ فقد ذكر التاريخ أنهم أغاروا على شواطئ بحر اليونان كثيراً. وقد يكون الملك (غنس) قد خبأ هذه الكنوز قبل معركته الأخيرة مع الرومان التي أسر فيها.
- لو كان هذا الفرض صحيحاً لكان كشفاً عظيما جداً. ونسى محمود أنه يأكل من فرط سروره بهذا الفرض، بل نسى انه فرض وتخيله حقيقة ناصعة، وأنه أول من اهتدى إليها فذاع صيته وخلد اسمه في صفحة كبار المكتشفين فقد أزاح الستار عن فترة من تاريخ ألبانيا كانت في زوايا الجهل فانتصب واقفاً والشركة لا زالت في يده وأخذ يخطو في الحجرة إلى نهايتها ثم يعود ببطء ثم كف المشي فجأة وقال بصوت ضعيف: لعل الحروف المنقوشة في الرخام تلقي لنا ضوءاً على اللغة الألبانية، ولعلنا نجد لهذه المسألة أدلة (إليرية) وان كان الشك لا زال يساورني. وكنا نستطيع أن نحكم على أفكار (هاهن) الذي يقول: إن أصل اللغة لهجة (البلازغ) وكذلك رأي (ماير) الذي يقول: إن أصلها من لهجة(662/54)
(إليرية). . . مستحيل أن يكون هذا حقيقة، وإلا كانت سعادة لا تعدلها في الدنيا سعادة، وكان فتحا جديداً في تاريخنا القومي العظيم.
لم يفهم فريد من كلام صديقه شيئاً فقد كان مشغولا بتقدير الأرقام الكثيرة التي يمكن تبديل الكنوز بها من النقود وكيفية إنفاقها. لكنه نادى محموداً وقال له: إن شهرتي - كصياد - ذائعة في (أشقودراه) فإذا حملت بندقيتي ورافقني كلبي واتجهت خارج المدينة نحو الغابة، فإن الأنظار لا تلتفت إليّ، وبذلك أستطيع أن أرى بنفسي محتويات الكهف على أن أكون مع بيرام على موعد، ولكن! بعد أن أطلع على الأشياء التي سيأتيني بها الليلة.
ترك محمود دروسه بعد الظهر وبقي مع فريد في حجرة الطعام يشربان القهوة بعد القهوة، ويدخنان (السيجارة) بعد (السيجارة) ينتظران بصبر قليل وشوق كثير عودة بيرام، وكانا كلما سمعا طرقاً بالباب قفزا من مقعديهما يستبينان الطارق، وقبيل الساعة الخامسة وصل بيرام وبعد أن تصافحوا قال فريد لبيرام مشيراً إلى محمود:
- الأستاذ محمود، صديق مخلص، ومدرس نابه، يحمل أرفع الشهادات، ويكتب في أرقى الصحف والمجلات. وإننا في أشد الاحتياج إليه ليقفنا على قيمة الكنوز التاريخية. فقال القروي في غير استغراب، تشرفنا يا سيد محمود؛ ثم التفت إلى فريد وقال: أنت أعرف بما يفيدنا وبمن يفيدنا في هذه المهمة، وقد اعتمدت بعد الله عليك فتصرف أنت حسبما تريد. فقال فريد: ولكن لينمحي كل أثر في نفس محمود يود أن يسمع منك وصفاً مجملا لكيفية عثورك على الكهف من الوقت الذي وقعت فيه فأسك على البلاط لأول مرة، فشرع القروي يقص عليهما في هدوء ما سبق أن تحدث به فريد الصباح. وقد حاول محمود أن يتأكد إن كان صادقاً حقاً، فأمطره وابلا من الأسئلة التفصيلية كان يجيب بيرام عليها بمهارة حملت محموداً على الاعتقاد بأن ما يقوله حق لا مرية فيه.
كانت المائدة قد أعدت فأخذوا يتناولون الطعام ونظر فريد ومحمود لم يرفعا عن بيرام الذي كان يأكل في غير نهم ولا شره وهو يجيب على ما يوجه إليه في هدوء ورزانة. وبعد أن انتهوا من طعامهم شربوا جميعاً القهوة واستأذن بيرام في الانصراف، وقبل أن يأذنا له أكد عليه ألا يتأخر عن المجيء بالعينات الليلة مهما تكبد من مشقة. وذكره فريد بما يلزم الإتيان به فطمأنهما بيرام بقوله: لكما ما تريدان. والتفت إلى فريد وقال: سآتي بما أمرت(662/55)
به يا سيدي. ثم مد يده مصافحا، فاستوقفه فريد وأسر إليه: هل أنت في حاجة إلى نقود أخرى؟ فقال بيرام بصوت مسموع. - لا يا سيدي لا يلزمني شيء! ماذا أفعل بها؟ ثم خرج. ولما عاد فريد إلى مجلسه نظر إلى محمود يستطلع رأيه في إجابات القروي وكل حديثه، وسأله عن الأثر الذي تركته مقابلته له. فقال محمود: ألا تعتقد معي أننا لو أدمنا التفكير في هذه المسألة لذهبت عقولنا من فرط السرور؟ وأي إنسان يعتوره أدني شك في كلام هذا الرجل الساذج؟
وبينما هما منهمكان في حديثهما هذا وإذا باب الحجرة يفتح ويدخل السيد عفت والد فريد ويحييهما تحية المساء. ثم صافح صديق ابنه والتفت إلى فريد وقال: لقد انتظرتك في المتجر فلم لم تجيء؟ فقال فريد في سرور:
- شغلني عن المجيء أمر مهم سيدر علينا مالاً كبيراً، فرفع الرجل عينيه وتأمل ابنه مليا في دهشة واستغراب كأنه يستوضحه فقال له فريد: سأقص عليك حكاية غريبة. فأخذ الرجل يجيل طرفه في وجهي الشابين اللذين كانت تلمع عيناهما سرورا؛ فلم يشأ فريد أن يطيل حيرته فأخبره بمجيء القروي في الصباح وما كان منه وانه كان معهما منذ قليل، وقد فارقهما على أن يعود حاملا عينة مما وجد. . .
تعجب السيد عفت مما سمع، ولم يصدق بادئ ذي بدء لكنه أذعن أخيراً عندما أكد له محمود الخبر وأنه ناقش بيرام كثيراً، ووجه إليه أسئلة عديدة وأن بيرام كان يجيب دون تردد ولا تلعثم، ثم هو فوق ذلك أكبر من أن تحوم حوله الشبهات، فهو سليم القلب، طيب النفس، نقي الضمير. . . ومع إذعان السيد عفت لم يبد عليه أن هذا الخبر سره كثيرا كما فعل الشابان فقد جلسوا معا وقتا غير قصير تدور أحاديثهم حول الموضوع، فلما لمس الشابان أنه لا يشاركهما الفرح استأذناه في الخروج.(662/56)
العدد 663 - بتاريخ: 18 - 03 - 1946(/)
إرادة الغفلة
للأستاذ عباس محمود العقاد
زيد وعمر تاجران لهما دكانان في حي من الأحياء.
وأنت تروّج بضاعة زيد وترغب فيها أبناء الحي وبناته. فليس لك في هذه الحالة إلا وسيلة من وسيلتين: إحداهما أن تثنى على الأصناف الجميلة التي يعرضها زيد في دكانه ولا وجود لها عند غيره، وأن تشيد برخص الأسعار وحسن المعاملة التي يلقاها المترددون على ذلك الدكان.
والوسيلة الأخرى أن تتناول عمرا بالقدح والتشهير وتنحى بالعيب على سلعة يعرضها وكل ثمن يطلبه وكل معاملة يتلقى بها قاصديه، وتتهمه بالاحتيال عليهم بهبوط البضائع وارتفاع الأسعار.
دعاية مكشوفة وأخرى مستورة، ولكنهما تؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي كساد واحد ورواج الآخر من الدكانين.
ولا شك في هذه الحقيقة ولا خفاء.
ولكنهما على ما يظهر لنا تحتملان الكثير من الشك، وتحاطان بالكثير من الخفاء عند أناس في هذا الشرق التعس يزعمون لأنفسهم أنهم (يفهمونها وهي طائرة) وهم لا يفهمون ما يحبو على أربع فوق جدار العينين.
في أيام الحرب الطرابلسية حمل المسلمون والشرقيون على الدولة الإيطالية حملة المظلوم المشترك في المصاب، فكانت حملتهم عليها حملة رجل واحد لا يشذ عنها مسلم أو شرقي كائناً ما كان مذهبه في السياسة والدين.
ثم عملت الدعاية الإيطالية عملها الذي لم تنقطع عنه قط في إبان الدولة الفاشية، فسكت عنها من كان قائماً قاعداً بالحملة عليها وعاش منهم من عاش في بلادها وبين أكناف حكومتها.
ثم نشبت الحرب الحبشية وتجددت الثورة على إيطاليا في الشرق العربي من أقصاه إلى أقصاه، وكانت الثورة عليها شاملة للمسلمين والمسيحيين وجملة العرب والشرقيين، لأنها ثورة المظلوم على الظلمة المستعمرين.(663/1)
وهؤلاء أصدقاء إيطاليا الجدد ماذا يصنعون؟
لقد كانوا بالأمس يحملون عليها فكيف يحملون عليها اليوم؟
إنهم قبضوا الثمن ولا بد من الوفاء بالبضاعة.
أو قل إن الإيطاليين بذلوا المال ولن يثابروا على بذله إلا إذا استفادوا منه بعض الفائدة.
فما هي الفائدة المنظورة؟ وما هي الفائدة المستطاعة!
أما الترويج لدكان (زيد) فغير مستطاع.
فلم يبق إلا التشهير بدكان عمرو المسكين. . . ورزقه على الله!
وكذلك قد كان!
وكذلك ظهر للسادة (الغيورين) على حين غرة أن النجاشية الذين جلسوا على عرش الحبشة في ماضي العصور وحاضرها كانوا يظلمون المسلمين ويعطلون شعائر الإسلام.
ولتسقط (الحبشة) معناها (لتحي إيطاليا) في ذلك الصراع القائم.
وتمت الصفقة على هذه الصورة بين قبض الثمن وتسليم البضاعة من غير الطريق المستقيم.
أما أنت أيها الرجل الذي لم تقبض ثمناً ولم تسلم بضاعة فقد باعك هؤلاء الدجالون واشتروك وأنت لا تدري ما تفهم وما تقول.
إن دخلت في الصفقة ومضيت مع التيار الذي حملوك عليه إلى حيث يشاءون فأنت كما رأيت بضاعة تباع وتشترى.
وإن فتحت عينيك وقلت لهم إنكم دجالون منافقون، وإنكم سماسرة استعمار مأجورون - فأنت إذن لست بالرجل الغيور على الدين، ولست بالمسلم المنافح عن الإسلام والمسلمين، ولكنهم هم الغيورون المنافحون. . . هم أولئك الدجالون المنافقون، الذين يبيعون فيك ويشترون!
ودارت الأيام ورأينا مذاهب النازية ومذاهب الديمقراطية تصطدم في أخطر ميدان.
ثم دارت الأيام ورأينا الشيوعية والديمقراطية تتصارعان.
وعادت حكاية الدكاكين من جديد: دكان زيد ودكان عمرو في الحي المأهول بالشرقيين المساكين.(663/2)
أما الدعاية لزيد فعرضة للاتهام الصريح.
فلماذا يتعرض لها (السماسرة الأمناء) وهم في غنى عنها بالإنحاء على عمرو في غير حرج ولا مبالاة.
لتسقط الديمقراطية معناها لتحي الشيوعية. . . والثمن مقبوض والبضاعة مسلمة، وكفى الله المؤمنين القتال.
فالديمقراطية إذن كذب وخداع، والديمقراطية إذن فخ منصوب للضعفاء، والديمقراطية إذن مسئولة عما يجنيه الديمقراطيون، والديمقراطية إذن هي مصدر البلاء وعلة الشرور.
وما شأن (الشيوعية) يا هؤلاء؟
شأنها أنها بذلت الثمن في الخفاء، فلا يليق أن تذكر في معرض النقد والاستياء.
هي ملك معصوم، أو هيشيء مسكوت عنه إلى أن يخرب دكان عمرو فيقبل (الزبائن) على دكان زيد طائعين أو مكرهين.
ومن المحقق أن الديمقراطيين يكذبون ويخدعون، ولكن من المحقق كذلك أن الديمقراطية خير من الاستبداد بعد كل ما يقال عن مساوئ الديمقراطيين.
هل تسقط الديمقراطية لأن الضعفاء في الأرض لا يعاملون اليوم معاملة الأقوياء.
هل تسقط الديمقراطية لأن الأرض البشرية لم يهبط عليها فردوس الملائكة أو لم ترتفع إلى ملكوت السماء؟
إن كانت المذاهب تعاب بذنوب أبنائها فماذا نقول في المسيحية والإسلام؟ وماذا نقول في سائر الأديان؟
منذ القدم تبشر الأديان بالخير ولا يزال الشر في هذه الأرض كما نراه، فهل نقول إن الأديان لم تنفع أبنائها بشيء لأنهم لا يسلمون من الخسار؟
منذ القدم تنص الشرائع والقوانين على عقاب الأثمة والمجرمين. ولكن الأثمة والمجرمين لا ينقطعون ولعلهم لا ينقصون. فهل نقول من أجل ذلك: دعوهم يجرمون ويأثمون وأغلقوا المحاكم وافتحوا أبواب السجون؟
منذ القدم ننادي بالإصلاح ويعمل الناس أعمال المفسدين. فهل نقول من أجل ذلك إن الفساد خير من الصلاح وإن الدعوة إلى الإصلاح سعي عقيم ورأي سقيم؟(663/3)
إن الذي ينكر الديمقراطية لأن الديمقراطيين يلامون ويعملون ما يستنكره المنصفون لخليق إن ينكر القوانين والشرائع لأنها تنادي بالخير ولا يزال في الناس شر كثير.
ولكنهم مع ذلك يقبضون الثمن ويعقدون الصفقة، ويدخلون فيها تلك الرؤوس التي تستمع إلى ذلك الهراء الذميم فتصغي إليه وتقرهم عليه.
ودعوا دكان عمرو أيها الناس.
وهات يا زيد أجرتك. . . فقد أقبل عليك أولئك الناس.
كان دارون يتحدث عن إرادة الحياة أو حب الحياة.
وكان نيتشه يتحدث عن إرادة القوة أو حب القوة.
فإذا جاز لنا أن ننشئ مذهباً جديداً نستمده من غفلة الأغرار وحيلة الشطار قلنا إنها (إرادة الغفلة) قد أصابت أناساً من الشرقيين بينهم المجال لكل أفاك دجال، وأصبحوا بين أمم العالم أعجوبة من الأعاجيب، لأن أمم العالم تخيب بينهم ألف تدجيلة لكي تصيب بينهم تدجيلة واحدة بعد طول التلفيق والتدبير وتكرار المحاولة والتزييف. أما هؤلاء المصابون (بإرادة الغفلة) من شرقيينا الأعزاء، فما أسرع من ظهور التدجيلة بينهم إلا أن يقبلوها ويقبلوا عليها، لأنهم يتلذذون بالاستغفال كما يتلذذ بعض الرجال بالإغضاء عن العرض في غير سبيل. . . ولو سبيل المال.
وأقسم إننا لا نمزح فيما نقول، لأن الغفلة لذة عند المغفلين المطبوعين على هذه الخليقة. فهي نوم أو استرسال، ولا عناء في النوم أو الاسترسال، وإنما العناء في اليقضة والانتباه، ومن ترك المخدوع ينام ويسترسل فهو لا يزعجه بهذا الترك المريح، ولكنه يزعجه أشد الإزعاج حين يفتح عينيه ويصيح في أذنيه، ويحذره من اللصوص والطراق.
معشر الدجالين!
ما قولكم في مذاهب الإصلاح كلها منذ القديم؟
إن قلتم إنها باطلة فقولوا عن الديمقراطية إنها باطلة لأنها لم تحسم الشرور ولم تجعل الديمقراطيين من الملائكة الأبرار.
وإن طال بكم المطال على هذا المقال فالبركة في (إرادة الغفلة) التي تفتح لكم مجال القول فتقولون ما تشاءون.(663/4)
عباس محمود العقاد(663/5)
صحائف مطوية:
أول زيارة للمسجد الأقصى
للأستاذ أحمد رمزي
كان حتماً عليّ أن أسافر بالباخرة التركية (أزمير) من ثغر الإسكندرية في ربيع سنة 1935، وإذا تأخرت احتج رياض بك الصديق العزيز مدير المستخدمين، ومحبته لدي فوق كلشيء، فلم يكن هناك بد من أن ألحق قطار الصباح المبكر من محطة صغيرة بالريف المصري لأكون على الباخرة قبل موعد سفرها. وكانت الساعة الرابعة صباحاً حينما استيقظت وخرجت من منزلي في يوم برده محتمل وسماؤه لا تزال نجومها ظاهرة، ورذاذ من بعض المطر الليلي يتساقط من جريد النخل العالي، وكان أمامي أكثر من كيلو متر ونصف سرتها على شريط السكة الحديدية قفزاً على الفلنكات الخشبية، حتى دخلت القرية وأهلها نائمون. وقد ظهر ضوء المحطة من بعيد، فإذا بقهوة عبد القدوس في الشارع الرئيسي تفتح أبوابها وعلى مقعدها قارئ يرتل آيات الذكر الحكيم، ما طللنا على الزاوية إلا وهو يستقبلنا بقوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) تهلل وجهي واستبشرت وفرحت بهذا اللقاء وزال أثر التعب، وعددت هذه نعمة من نعم الله.
ولم يمض على ذلك سوى شهر أو بعض شهر حتى صدر أمر ملكي عينت بمقتضاه قنصلاً لمصر بمدينة القدس على رأس قنصلية عامة يشمل اختصاصها كل أراضي فلسطين وشرق الأردن، فانتقلت من حياة ألفتها في تركيا أو عودت نفسي عليها إلى حياة أكثر نشاطاً وإنتاجاً وحركة وأعمق أثراً، ورددت كل ذلك إلى القارئ الذي استفتحت بوجهه.
شعرت بأن نفسي قد اطمأنت وقنعت وتركزت حينما نسيتني وزارة الخارجية لمدة تزيد على سبع سنوات في أراضي الجمهورية التركية، فغدوت لا أشكو منشيء ولا أطلب الرحمة من أحد، وتحجر قلبي فلم أعد أخاف من الوعيد أو التهديد، أو يحركني التهويش، وكنت أنظر إلى الماضي فأراه قد مرّ بغير تبديل، وإلى المستقبل فأقول بأنه سيمر على وتيرة واحدة كما ذهب الماضي، وأحدث نفسي بأن أرجو لكثيرين من ذوي الأطماع والنفوس الطامحة أن ينتهوا إلى الحالة النفسية التي انتهيت إليها، ذلك لأنني بمضي(663/6)
السنوات ومرورها متشابهة متلاحقة، وجدت اليقين المفقود ووصلت إلى تسكين البال وراحته، وهما أعظم ما يمكن أن يصل الإنسان إليه إذا بقى اسمه منسياً. ومر عليّ هذا الزمن وهو مملوء بالحوادث أتفرج عليها وأقيدها وأتأمل فيها، وكان أكبر انتصار على النفس هو أن يردها صاحبها عن أن تقف في الصف الأول أو يقعدها عن أن تزج بنفسها في أمور لا يتسامى إليها إلا أولو العزم الشديد والعبقرية الفائقة.
ووصلت إلىشيء من ذلك بالمران حيناً وبالضغط أحياناً حتى وفقت لحد ما إلى تكييف حياتي، فلاءمت بينهما وبين عملي وتفكيري، وعودتها الرضا مع اليقظة والقناعة مع الانتباه، ولم يمض وقت طويل حتى تبين لي أن أعظم الأشياء والحوادث من سياسية واجتماعية والتي يراها الناس بمظهر الجد ويلقون عليها مسحة من الاهتمام، تفقد رونقها الجدي وأهميتها إذا نظرنا إليها بنظرة بعيدة عن الجد، وحللنا كل موقف وكل حركة على أنها إنسانية صرفة. وقد أتاحت لي الخدمة بالخارج معاينة الكثير من هذه المواقف فأصبحت بعض المسائل ذات الصف الأول مثاراً للضحك والسخرية لو عرف الناس حقيقتها الأولى.
إن اعتقاد الكثيرين من الناس أن لديهم مزايا خارقة للعادة، وغالبيتهم من الأذكياء كان سبباً في وقوعهم في أخطاء، من ذلك توهمهم أنه بوسعهم غش المجتمع الذي يعيشون فيه أو الضحك على لحى كل من يتصل بهم، والوصول إلى تغطية الحقائق وإنكارها مدة طويلة من الزمن. إن هؤلاء قابلتهم كثيراً في أوساط الأمم الشرقية فكانوا أول الضحايا لأطماعهم، وكانوا هم المخدوعين بأنفسهم حينما حاولوا خداع الناس وغشهم. وكانت هذه الأفكار تعاودني في وقت انتهيت فيه إلى الاكتفاء بما كنت عليه، إلى الاقتناع بأن كفايتي وعمل تجاربي وهذه هي كل رأس مالي، أقول قد أوصلتني بالطرق والأساليب التي أطمئن إليها للنقطة التي تركزت فيها، فلم أكن أفكر ولا أؤمل ولا أنتظر شيئاً من التغيير أو التبديل أو المزيد.
هذه كانت حالتي حينما دهمتني حركة من حركات السلك السياسي المصري، فإذا أنا بغير تحضير أو بذل مجهود أو رجاء، أنقل من بلاد اقتطعت سبع سنوات ونصفاً من عمري في دراستها وفهمها إلى بلاد جديدة أعلم عنها أشياء وأجهل عنها أشياء، وما أجهله أكثر مما(663/7)
أعلمه برغم قربها وجوارها ومحبتي لها.
وكان هذا النقل حداً فاصلاً في حياتي، إذ لو بقيت بتركيا أو نقلت لأمريكا لاتجهت حياتي اتجاهاً آخر، ولربما لم يكن لي هذا الشرف بان أكتب هذه الكلمة، وأن يقرأ لي قراء الرسالة بعض ما أكتب اليوم. ولقد جاءت هذه النقلة وليدة المصادفة والأقدار، رمية من غير رام، ذلك لأن أولى الأمر لم ينظروا فيها إلى تحقيق شيء من المصلحة العامة أو ما يلابسها من اختيار الأصلح أو الأوفق وإنما قصدوا سد خانة من بعض خانات كانت مفتوحة أمامهم فقذفوا بي إليها، وكان ذلك من حظي إذ غدوت جندياً من جنود الإسلام والعروبة حينما تفتحت أنظاري على أرض فلسطين ومنازل الوحي الخالدة والنبوة.
وحضر قوم لتهنئتي أو لتعزيتي، إذ المتفق عليه أن القدس والشرق منفى يرسل إليه من أفلس في بلاد أمريكا وأوروبا ليستجم ثم يعود إلى بلاد النور. وهذا ما تراءى لهم، وقد كان يصح أن يبدو لي شيء من ذلك، ولكن الآية التي سمعتها من ذلك القارئ الأعمى في محطة من إقليم الشرقية كانت تخفف وقع كل هذا علي وتجعلني أسلم بأن في ذلك الخير كل الخير، وأقول هذه إرادة المولى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
ووصلت إلى مدينة القدس في الجزء الأخير من سنة 1935 لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوها جديدة. وكان أول ما قمت به هو توجهي لزيارة المسجد الأقصى، وكان ذلك في شهر رمضان، ودخلته وأنا على نية ثابتة بأنه المسجد الذي ورد ذكره في الآية التي تلاها القارئ.
ودخلته وقد غمرتني نفحة من نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلي التي حملها على هذا الصعيد، وكأن كل ركن من أركان هذا المسجد يشير إلي، وكأن كل حجر من أحجار قبة الصخرة يحادثني. ثلاث عشرة مائة من السنين، تركة ضخمة من الجهاد والمجد، هل يدرك أهلها ما هي؟
إن الأمم الإسلامية التي نعيش وسطها ونحيا، كانت تبدو في ذلك الوقت وقد أفلست إفلاساً يكاد يكون تاماً في حياتها وتنازلت عن حيويتها وعن أي مظهر من مظاهر الإستقلال، حتى اعتقد كثيرون أنها موطن الخمود والنوم والجمود والتخاذل، فهل تكون لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها الواهية على حمل الأمانة؟ أم ستقعد بها الهمم؟ يوم لم تعد(663/8)
تفكر في شيء سوى ملاذها وتكالبها على المادة وما تسوقه غليه غرائزها الواهية، حينما فقدت كل عناصر القوة والأنفة، وانحطت إلى درجة الجماد فلم تعد تهمها هذه المساجد والمدارس، أو تترك في نفوسها شيئاً أو بعض الشئ، وبعد أن خيل إلى كثيرين أن ماتت لديها كل دوافع الكفاح وفنيت فيها بواعث الثورة والدعوة لخير العمل؟
كنت أطوف بالصخرة وأنا أتأمل كل ذلك وأقول متى تتحرك أم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق وتخلع ما هي فيه من ذلة ومسكنة؟ إن كل ما أراه أمامي في وجوههم وسيرهم ومعاشهم وفي المدن وفي القرى يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كل البعد عن حيوية المبادئ التي قامت عليها الرسالة المحمدية الكبرى.
سرت في أنحاء الحرم وهو متسع الأرجاء، لا أقول يكاد يكون خالياً، بل هو أكثر من أن يكون خالياً، أما أنا فتخيلته في نفسي يفيض بصفوف المصلين: كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء والفضلاء فجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم.
كنت أفكر كيف أذن المؤذنون على منائر المسجد الأقصى وأسواره فارتجفت المدينة بأصوات التكبير والتهليل، ومر أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم للقاضي محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي، أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب جبة سوداء من تشاريف الخلافة العباسية، فلبسها وصعد المنبر واستفتح بسورة الفاتحة، فقرأها بأكملها، وقرأ أول سورة الأنعام، ثم قرأ من سورة الإسراء، ثم قرأ من سورة الكهف، ثم من سورة النمل، ثم من سورة سبأ، ثم من سورة فاطر، كما تجد ذلك مفصلاً في كتاب الأنس الجليل.
ثم شرع بالخطة فبدأها: (الحمد لله معز الإسلام بنصره) وصلى على نبيه الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى. . . وذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وصلى على آله وأصحابه والتابعين؛ وقال (أيها الناس ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام. . . وتطهير(663/9)
هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه). . . لقد جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية. . .)
كان كل هذا يمر أمام عيني ورأسي مطرق وخطواتي سريعة وأحبس الدمع في عيني حتى انتهيت من قبة الصخرة واتجهن إلى المسجد فدخلت إلى المحراب لأقرأ أثر السلطان المجاهد بحروف ذهبية:
(أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ما فتحه الله على يديه سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة).
فأديت تحية المسجد في هذا المحراب الخالد وترحمت على بانيه وعلى أرواح الشهداء وشعرت براحة تملأ نفسي حينما خرجت متجهاً إلى المجلس الإسلامي الأعلى، ماراً بمدرسة قايتباي سلطان مصر، واستقبلني أعضاؤه ومعهم سماحة مفتي فلسطين الأكبر، وقد غمر الإيمان نفسي وتملكتني نشوة لم أتمالك لساني عن التعبير بما يجول بين جوانحي. قلت:
(إننا في فلسطين ومصر أمة واحدة، اشترك الآباء والأجداد في هذا التراث الإسلامي العربي كما اشتركنا في السراء والضراء، فهم قد واجهوا الموت معاً، وعاينوا الهزائم سوياً، كما فرحت نفوسهم بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة. وها نحن اليوم نلاقي من أيام الشدائد ما يذكرنا بالأيام الحالكة السواد التي عاشها السلف ومن تقدمنا، فهل كانت أيامهم أقل سواداً من الأيام التي نعيشها؟ كلا كانت أشد وأوقع، فلم يفت ذلك في عضدهم ولا لانت قناتهم أمام مصائبها، ولذلك ألقوا علينا درساً باستشهادهم وموتهم وهزائمهم ومعاركهم وانتصاراتهم، ألقوا علينا درس يقظة وصبر وأناة وعناد وتمسك بالعروة الوثقى وتعاليم الإسلام الخالدة.
يا صاحب السماحة! إن دروس الماضي باقية في نفوسنا لن تبيد أبداً، وإننا نستمد منها قوة إذا ضعفت قوتنا، ونستلهم من وحيها آمالاً إذا ضعفت آمالنا في المستقبل. وإننا لنأتي إلى هذه البقعة الطاهرة وننظر إلى هذا الجامع وإلى صحنه ورحباته وصخرته فنجدد عهدنا لكم، وتغمرنا روح الإيمان والثقة والتمسك والأمانة التي في أعناقنا نحن إخوانكم الذين(663/10)
اشتركنا معكم طول القرون الماضية، ولنؤكد لكم مرة أخرى أن مصيرنا مرتبط بمصيركم وأن حياتنا لا قيمة لها بدونكم.
وأقول أننا نعيش أياماً مملوءة بالآلام والأحزان، ولكن المستقبل لله وحده، وهو الذي ذكرنا في محكم آياته، وأنزل سكينته على قلوبنا وخط في سجل القدر أن هذه الأرض لنا، وأن الأيام التي وعدنا بها مرة بعد مرة، آتية لا ريب فيها.
إن كل الدلائل لتقنعني أن الأمم ومعها مصر ستبعث بعثاً جديداً). . .
كانت عيونهم تفيض بالإيمان ودموع الغبطة، وكانت مودة وصداقة وأخوة، وبدأت حياة جديدة ودخلت دنيا يعمرها الإيمان والعمل في سبيل الله، وكان التوفيق وحقت كلمته تعالى فكانت هي العليا.
حصل ذلك في صباح يوم السبت 14 ديسمبر 1935 وكانت أول زيارة رسمية لي بالقدس وأول عمل أبدأه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(663/11)
على هامش النقد:
(بين الفلسفة والأدب)
تأليف الأستاذ علي أدهم
للأستاذ سيد قطب
عنوان يلخص موضوعات الكتاب، ويلخص الكاتب في الوقت ذاته - وهي مصادفة فذة! - فالكتاب بين اتجاهين في كل موضوعاته: إما فلسفة الأدب، وإما أدب الفلسفة. والكاتب كذلك في هذا الكتاب وفي سواه من كتبه وبحوثه يتجه إلى هذين الاتجاهين؛ فهما قطبا تفكيره وإحساسه بالحياة. سواء كتب في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ وهي موضوعاته المختارة
أخرج قبل هذا الكتاب: محاورات رينان (مترجمة)، وصقر قريش، والمنصور بن أبي عامر، والخطايا السبع (مترجمة). والمذاهب السياسية المعاصرة. ونظرات في الحياة والمجتمع. كما نشر عشرات الفصول في شتى المجلات في مثل هذه الموضوعات.
وحيثما نظرت في عمل من أعماله لاحظت أنه ينظر للأدب بعين الفيلسوف، ويتذوق الفلسفة بحس الأديب، ويتناول الشخصيات والحوادث بشعور مزيج من الفلسفة والأدب على السواء
والأستاذ أدهم هنا في كتابه الجديد يجول في ميدانه الأصيل، ويستخدم أفضل ملكاته، فينتج أفضل نتاجه. فالكتاب مجموعة فصول متفرقة يلخصها العنوان المتقدم، وتحتوي على الموضوعات التالية بعد المقدمة: (ملتقى الشعر والفلسفة، موازنة بين أبي العلاء وشوبنهاور، أبو العلاء وفلسفة التاريخ، تولستوي وفلسفة التاريخ، شوبنهاور وفلسفة التاريخ، فكرة التقدم، فلسفة تاريخ الفلسفة، البطل والإنسان الأعلى. السياسة والأخلاق، التمرد على العقل، التاريخ والأبطال)
فهي من حيث الموضوع تلخص اتجاهاته جميعاً على حسب ما أسلفنا. وهي من حيث الشكل فصول مستقلة. وفي هذا النحو من الكتابة يتفوق الأستاذ على أدهم. وهو هنا خير منه في أي كتاب ذي موضوع واحد وفصول مترابطة داخل هذا الموضوع(663/12)
ولست أدري إن كان هذا القول يسره أو يغضبه. ولكنه هو الواقع - في تقديري - فهو حين يكتب بحثاً في مقال تتجلى أفضل خصائصه من الدقة والعمق والوضوح، والإحاطة بأطراف موضوعه، وتحليلها للقارئ، بحيث تعطيه الكفاية التي يستريح إليها في حيز محدود؛ وبحيث يشعر أن في هذا الفصل غناء، ما لم يكن هواة المراجع المطولة في الموضوع الذي يطالعه
فهو كاتب مقالة جيد، بل هو في الصف الأول عندنا من كتاب المقالة.
ويحسن أن أصوب هنا خطأ أو بدعة يروّجها من يفهمون الأدب كما يفهمه عشاق الأزياء و (الموديلات)!
لدينا طائفة من هؤلاء يفهمون أن لفنون الأدب مواسم ومواعيد، ولكل فن أو لكل (موديل) باباً معيناً لا يتعداه.
فأدب المقالة قد انتهى في عرف هؤلاء المتحذلقة، كما أن الأوان هو أمان القصة، وكل ما ليس بقصة فهو فصل وتخلف في الأدب.
وفي وقت ما كان المطلوب من الأدباء أن يكتبوا تراجم أو يوميات. وكان المطلوب من الشعراء أن يكتبون ملاحم أو مسرحيات! كما يطلب من الأدباء اليوم أن يكتبوا قصة أو أقصوصة، وإلا فهم متخلفون!
كل هذه الحذلقات منشؤها ضيق الأفق وضعف التذوق، والنظرة إلى الأدب كالنظرة إلى الأزياء كما أسلفت، لكل موعد وإبان!
والحقيقة أن لكل لون من ألوان الأدب موسمه الحاضر في كل آن، والعبرة هي بطريقة التناول لا بشكله، وكل ميسر لما خلق له، وكل أدب أصيل في ذاته فهو أصيل في شكله على تعدد الأشكال وتباعد الأعصار، والمفاضلة بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي به مفاضلة زائفة، فالفنون كلها من هذه الناحية سواء
وإذا لم يكن بد من المفاضلة، فإنني أحس أن كتابة (المقالة) قد تكون أشقها جميعاً. إذا أردنا أن نحصل على مقالة جيدة، فلا بد في المقالة من فكرة وموضوع، ولا بد من تنسيق داخلي في تسلسل الموضوع، لا يقل عن التنسيق الخارجي بين الفصول المتعددة في الكتاب أو القصة أو المسرحية أو في الترجمة. وأقل فراغ في المقالة أو تقصير يظهر للقارئ بارزاً،(663/13)
في حين قد تختفي هذه المواضع في القصة، لأن الحكاية أو الحبكة تغطي عليها.
ولا أحب أن أرتكب الغلطة ذاتها التي يقع فيها من يفاضلون بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي فيه. ولكني أريد أن أقول: إن أدب المقالة ليس أسهل ولا أقل مؤنة من سائر الآداب.
ونعود إلى كتاب الأستاذ أدهم، فأقرر أنني خرجت من كل فصل من فصوله بفكرة واضحة كاملة عن موضوعه - بمقدار ما تستطيع (مقالة) أن تحيط بحدود الموضوع - وكل فصل من هذه الفصول لا يقف عند إعطاء فكرة عن الموضوع الذي يعالجه، بل هو يصلح مرجعاً قريباً للباحث في موضوعه، وعلى الأقل مفتاحاً لمراجعه ودليلاً إلى هذه المراجع مأمون الإشارة، موثوقاً بصدقه في الهداية إلى الطريق!
ويشعر القارئ - مع سهولة الأداء ودقته ووضوحه - بأن هناك جهداً ضخماً قد بذل في التحضير، وإخلاصاً للبحث قد توافر في المراجعة، وتثبتاً وتدقيقاً أمام الجزئيات التي يعرض لها. . . وهذه الخصائص هي أقوى ما تطلبه من كاتب يقدم لك قطافه من شتى حدائق الفكر في الشرق والغرب في حيز صغير محدود
كذلك يشعر القارئ في نهاية قراءته للكتاب أنه خير منه وأوسع نظرة إلى الأدب والأشخاص والحياة قبل أن يقراه - وهذه ميزة ليست بالقليلة، وليست كذلك بالشائعة في الكثير مما تخرجه العربية من سيل الكتب في السنوات الأخيرة - بل لا أبالغ إذا قلت: إنها لا تتوافر إلا لعدد محدود من الكتب الكثيرة التي تصدر في كل عام.
ومع أن طبيعة الموضوعات التي تناولها الأستاذ علي أدهم تجعل مجال الخلق الفني فيها محدوداً، إلا أنها استعاضت عن هذه السمة سمات أخرى من الدقة والعمق والوضوح تجعلها في النهاية عملاً فنياً في هذا الحيز المعلوم، وبخاصة ذلك الفصل القيم الذي كتبه عن أبي العلاء، فهو من أفضل ما قرأت عن المعري في القديم والحديث، وقد جاء في مقدمة المؤلف قوله:
(عمل المفكرين والفلاسفة هو إعداد الجو الذي يموج بمختلف الآراء والمذاهب والنظريات. ومن طبيعة القوة الخالقة أنها لم تكشف الأفكار ولا تبتكر النظريات، ولا توجد المذاهب الفكرية، لأنها موكلة بالبناء والتركيب والإنشاء، وليس من أربها الكشف والتحليل(663/14)
والتوضيح والتفسير. فهي تتناول الأفكار والمذاهب والنظريات، وتنفخ فيها روح الحياة، وتضفي عليها الحلل السابغة والألوان الزاهية، ولكي يزدهر الأدب ويسمو الفن، لا بد من وجود هذا الجو المليء بالأفكار، الحافل بالمذاهب والنظريات. ومن ثم كانت أزمة الخلق الأدبي العظيم في تواريخ الآداب قليلة نادرة؛ وبلوغ هذه الذروة في الأدب والفن يستلزم تلاقي قوتين: قوة العبقرية الخالقة، وقوة الزمن. والشاعر أو الكاتب أو الفنان يسمو ويتسع أفقه إذا عرف أشياء قيمة عن الحياة والدنيا قبل أن يتناولهما في فنه؛ والتفكير الفلسفي يجدي على الأدب ويزيد ثروة الخيال، ويعين على إطلاق العقول من قيود الأهواء والنعرات، وتصفيتها من شوائب التعصب والضيق؛ وتأمل عظمة الكون وجلاله، يكسب الفكر عظمة وجلالاً. وقد تخفق الفلسفة في معالجة مشكلات الحياة ومسائل الوجود، وربما كانت تلك المشكلات والمسائل من وراء طاقة عقولنا المحدودة؛ ولكني أعتقد أنها توفق على الدوام فيشيء واحد، وهو أنها ترينا أن الكون أرحب مما نقدر، وأعظم مما نرى).
وهذه كلمات جيدة، وهي تعطي القارئ فكرة عن طريقة المؤلف في تناول موضوعاته؛ وفكرة عن نظرته للحياة والأدب والفلسفة أيضاً، وهي جديرة بأن تفتح أعين الأدباء الخالقين من الشعراء والقصاصين وغيرهم على أن الموهبة وحدها لا تكفي، فلا بد من التزود والاطلاع، لا في موضوع فنهم وحده، ولكن في محيط أوسع، يشمل الفلسفة فيما يشمل.
ومع أنني أنا شخصياً ممن يدعون إلى تلخيص الفن، والشعر خاصة، من ربقة الذهنيات؛ إلا أن القصد والاعتدال والدقة في بيان الأستاذ أدهم لمنطقة الفلسفة ومنطقة الفن في مقدمته وفي الفصول التي تلتها، تجعلني أتفق معه في وجوب تنوع الدراسات والثقافات لمن يريد أن ينشئ فناً ذا قيمة إنسانية.
وكل ما أبديه من تحفظات هو إلا تظهر الذهنية، وقد أغالي فأقول، بل الفكرية، في العمل الفني، وبخاصة الشعر الذي أحب له أن ينطلق مرفرفاً متخففاً من أثقال الذهن المقيد، والفكر الواعي على قدر الإمكان.
وفي النهاية أذكر أن كتاب الأستاذ أدهم قد حقق في اللغة العربية قسطه المناسب من تحقيق هذا الغرض الذي يريده مؤلفه. وهو (تزويد الثقافة المصرية العربية الشرقية بطائفة من(663/15)
الأفكار والآراء والنظريات التي تمهد السبيل للخلق الأدبي والفني العظيمين)
وقد حقق هذا الغرض بأكثر مما حققتها كتب كاملة ظهرت في بعض الموضوعات التي تناولها أوفى موضوعات قريبة منها. وذلك بلا شك حسب فصول مختصرة في كتاب.
سيد قطب(663/16)
من صميم الواقع:
الكأس الأولى. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أكثر الموظفين قد شربوا هذه (الكأس الأولى) فصاروا من
بعدها سكارى ما يصحون، ولا ينتصحون. . وهذه قصة
(الكأس الأولى) فانظروا من هو المسئول عنها: آالذي أخذ
الرشوة، أم الذي أعطاها، أم الذي أمر بها، أم الحكومة التي
قللت المرتب فدفعت إليها؟
كانت ليلة مخيفة من ليالي شتاء سنة 1941، وكانت تعول رياحها كما تصرخ الشياطين، وترقص في الجو كأنها مردة الجحيم قد أفلتت من قيودها، وأقبلت تلذع ووجوه الناس بمثل حد المواسي من شدة بردها، ولثلج يتطاير كأنه القطن المندوف، ويتراكم على الأبواب والنوافذ، حتى لقد بلغ سمكه على الأعتاب وفي أصول الجدران قريباً من ذراع، والناي قد فرغوا إلى بيوتهم فاعتصموا بها، وخلت الشوارع وأقفرت السبل فلا ترى فبها سالكاً. . .
في تلك الليلة، كانت نوبة عبد المؤمن أفندي في مخفر (الكسوة): يقضي ليلته وحيداً يرقب الطريق ليحرسه من المهربين والفارين من المكس (الجمرك)، ومن مخالفي أنظمة التموين، منفرداً بعيداً عن رفاقه وعن مساكن القرية، وكان قد أخذ معه على عادته طعامه وسلاحه، ولبس كل ما يملك من دثر الصوف، واشتمل بمعطفه، ولف عليه شملته، وأدخل كفيه في قفازيه، وأغلق عليه بابه، وأوقد ناره، وأضطجع على سريره مطمئناً إلى أن أحداً لن يجتاز الليلة هذا الطريق إلا إذا كان مجنوناً والمجنون لا يؤاخذ. . . وحاول أن يهجع ساعة فيدفأ فلم يستطع لا خوفاً من أن يطرقه المفتش، فما في الدولة مفتش يخرج الليلة من بيته، بل من شدة البرد، فلقد كان النفس يتجمد على زجاج الشباك. . . ثم استدارت الريح فجعلت ترد الدخان على المدفأة حتى امتلأت به الغرفة ولم يجد لدفعه حيلة، فأضطر لإطفاء النار ولبث يتقلب في البرد حتى أحس بان أصابعه قد تجمد فيها الدم، فامتلأت نفسه بالنقمة على(663/17)
هذه الوظيفة وعلى حظه من الدنيا، وعلى الرئيس الذي ألقاه في هذه القفرة المنقطعة بعيداً عن زوجته وبنته وولديه بمرقب لا يتجاوز مائة ليرة سورية (نحو أحد عشر جنيهاً) وهو قد أشرف على الأربعين وقطع سن الأمل والنشاط، ونظر فإذا الذين هم دونه سناً وعلماً قد بلغوا بالوساطات والشفاعات المرتبة الخامسة أو الرابعة. . . وفكر في هذا المرتب ماذا يشتري به، وكيف يعيش. . . وأجرة داره الصغيرة المخربة التي أستأجرها من قبل الحرب ثلاثون ليرة في الشهر، وثمن رغيف الخبز من السوق عشرون قرشاً، وكيلو اللحم بخمس ليرات، وكيلو الرز المصري بأربع ليرات والسكر مثله، وكيلو الشاي بعشرين ليرة، والحذاء المتوسط بثلاثين، وثمن القميص مهما استرخصه عشرون، وأجرة الطبيب العادي المبتدئ خمس ليرات، وحبة الكينا الواحدة بأربعين قرشاً، ولوح الزجاج إن انكسر زجاج الشباك سبع ليرات. . .
وطفق يدير حسابه على الوجوه كلها، ويضرب الأخماس بالأسداس، ويتذكر كل ما تعلمه في المدرسة وفي الحياة من علم الاقتصاد وفن تدبير المنزل، وما سمعه من أشياخ قومه وعجائز أسرته، فلم يسعفهشيء من ذلك كله في الاكتفاء بهذا المرتب، وقصر مصروفه عليه، وتذكر ولده الصغير وأن أثمان كتبه بلغت أربعين ليرة. . . أما كتب ولده الكبير الطالب في الثانوية فإن مجرد التفكير في أثمانها يفقده ما بقى من عقله، وإذا هو أكمل الثانوية غداً، ودخل كلية الحقوق مثلاً. . . رأى بلاء أنكد وخطباً أشد، ذلك أن الأساتذة قد استحدثوا في هذه الأيام شيئاً سبقوا فيه التجار والمحتكرين، وأتوا بما لم يأته أحد من الأولين، فطبعوا كتبهم في مطبعة الجامعة، ثم حددوا لها أثماناً تجعل قرش أحدهم عشرة، ثم ألزموا الطلاب بشرائها إلزاماً، فلا يدخل الامتحان من لا يدفع هذه الأثمان، وحجتهم في ذلك أن الطلاب لا يشترونها إذا هم لم يجبروهم، مع أن الطلاب وغير الطلاب يشترون كتب العلماء والأدباء من غير إكراه ولا إلزام، لأنها نافعة لهم ولأن فيها متعة، فلماذا لا يجعل هؤلاء الأساتذة كتبهم ممتعة ويجعلون فيها نفعاً. . .؟ وماذا يصنع عبد المؤمن أفندي! أيدع ابنه محروماً من التعليم، ويضيع هذا الذكاء النادر الذي راعت بوادره المدرسين، ويسلمه إلى وظيفة حقيرة مثل وظيفته، لا لشيء، بل لأن المدرسين والأساتذة المحترمين ذاقوا لذة الربح، فنسوا فضيلة القناعة، ولأن وزارة المعارف وإدارة الجامعة، لا تحددان(663/18)
الأسعار، ولا تمنعان الأساتيذ أن يكونوا كالتجار.
وعى عبد المؤمن أفندي بهذا الحساب، وأحس بالبرد قد وصل إلى عظامه، فازدادت نقمته على الوظيفة وعلى الحياة وعلى نفسه. وعظم سخطه حين سمع صوت سيارة. . . من هذا المأفون الذي يمر الليلة على الطريق، فيزعجه من فراشه ليخرج فيفتشه؟ إنها سيارة مهربين من غير شك، ولابد له من ضبطها لئلا يخون أمانته التي يأكل من ورائها الخبز. ثم عاد فتذكر أن الخبز الأبيض القفار لم يستطع أن يأكله من وراء هذه الوظيفة، فحمل مصباحه البترولي وخرج وهو ساخط على كل شيء. فلما فتح الباب، هبت عليه عاصفة مثلجة كاد تقتلعه من أرضه، ولكنه استند إلى الجدار وقفز إلى الطريق، فأقفله بالحواجز الحديدية قبل أن تصل السيارة. . . وصفر لها بصفارته، فضاع صوتها في هزيم الرياح؛ بيد أن السيارة كانت قد وصلت ورأى من فيها المصباح الخافت، فوقفت، فنظر عبد المؤمن أفندي فلم يجد فيها إلا السائق، ووجدها من سيارات الشحن الكبار، وكانت عادته التي يعرفونها عنه أنه يقوم بالواجب عليه على الوجه الأكمل، ولم يمد يده في عمره إلى حرام، ولكن هذا البرد، وما في نفسه من السخط والضيق عدلا به عن عادته، فاكتفى بإدخال السائق إلى المخفر ليسأله. . . وأغلق وراءه الباب، وأعد مسدسه خوفاً من أن تطمع وحدته السائق وتغريه به، وكان عبد المؤمن أفندي رجلاً جلداً جريئاً حذراً، وكانت قد تراءت على وجهه ظلال نقمته التي كان يحسها، فبدا مخيفاً مروعاً.
ونظر إلى السائق فإذا هو أحد المهربين المعروفين الذين يقودون القوافل بين عمان ودمشق عن طريق البادية، وربما بلغت أثمان ما في السيارة الواحدة منها مائة ألف ليرة. . . فهز رأسه، وأزمع أن يضربه الضربة القاضية، فما يعقل أن يأخذ السائق أجرة السفرة الواحدة عشرين ألف ليرة، ويعطى مثلها رشوة لرجال الأمن على الطريق، ثم يأكل التاجر الباقي، يسحبه من أفواه المساكين والفقراء. . . ويبقى هو الموظف المسكين على مائة ليرة كل شهر، وقال له:
- أوراقك، والبيان المصدق بما معك في السيارة. ثم إن عليك أن تنتظر ريثما تهدأ العاصفة ويطلع النهار لنتمكن من تفتيشها فإذا كان فيها مهرب، صودرت السيارة وما فيها!
قال السائق: أتحب الصدق؟(663/19)
- قال: نعم.
قال: وهل تعدني أن نتفاهم بهدوء، ومن غير لجوء إلى الشدة، أو اقتراب من الهاتف (التليفون)؟
قال عبد المؤمن أفندي مستغرباً: وما ذاك؟
- قال: إن في هذه السيارة بضاعة مهربة، هي لفلان، وهو من تعلم مكانته وصلته بالنواب والحاكمين، وله فيها شريك لو سميته لك لأرعبك أسمه، وإذا أنت حجزتها، أطلقها هو، وأبت بسواد الوجه، وربما نقلك إلى الجزيرة. . .
- فصاح به: أسكت. . وقح! أتهددني؟ سترى كيف أفتشها وأحجزها، وأذهب فأعمل ما تستطيعه. إن القانون يمشي على الكبير والصغير. . .
- قال الرجل بهدوء: لقد وصفتني بالوقاحة، وإني أسامحك. إني أتكلم بلسان الواقع، وأنا أحب أن نتفاهم على مهل. إنك رجل أمين شريف، وأنا تقديراً لأمانتك أهدي إليك هدية، قد فوضني صاحب البضاعة بتقديمها إليك، تغنيك عن هذا المرتب.
فغضب وقال: أتعرض علي الرشوة؟ الآن أكتب ضبطاً بالحادث، وأريك ما جزاء من. . .
فوالى السائق كلامه وكأنه لم يسمع شيئاً فقال: وهذه الهدية هي عشرة آلاف ليرة. . .
فلما سمع بها عبد المؤمن أفندي تراخى، ورأى السائق ذلك منه، فقال:
وألف فوقها مني لتدعني أمر الآن، فهذا آخر مخفر قبل دمشق، وأنا أود أن أدخلها في هذه العاصفة كيلا يعرض لنا أحد، وإذا أنا وقِّفت فلن أخبر مخلوقاً بما كان بيننا، بل أقول أني قادم من طريق آخر. . .
لبث عبد المؤمن أفندي لحظة واجماً، ولكن فكره كان يدور كما تدور عجلة (الاكسبرس)، لا يستقر على فكرة حتى ينتقل عنها إلى غيرها. وكان ماضيه الشريف، والمستقبل الذي أطل الآن عليه يتقاذفانه. فكأنه بينهما كراكب الأرجوحة، لا يبلغ طرفاً حتى يكر مسرعاً إلى الطرف الآخر. وكان صوت ضميره يهتف به أن: دعها ولا تدنس نفسك بها، فإنها سحت، ونفسه تناديه أن خذها ووسع بها على عيالك، وعلم بها ولدك. . . ولبث كذلك وهو يسمع من داخله مثل دقات عقرب الثواني في الساعة: خذ، لا تأخذ. خذ. لا تأخذ. إلى ما لا نهاية له. . .(663/20)
وفي دقة منها، كان فيها (خذ)، مد يده فأخذ المبلغ ودسه في جيبه بلا شعور، وترك الرجل ينصرف.
أفاق عبد المؤمن أفندي من ذهلته، فأحس بمثل ما تحس به الفتاة التي فرطت ببكارتها في لحظة ضعف وخور، وتنبهت في نفسه عواطف الخير التي كان يملكا دفعة واحدة، وأحتقر نفسه وأبغضها وكره المال، وتمنى لو استطاع أن يلحق الرجل فيردها إليه، ورأى ماضيه الذي فقده حلواً جميلاً، وأحب ذلك الفقر الشريف، واستحال ما كان يجد من السخط عليه رغبة فيه وشوقاً إليه، وفكر كيف يلقي غداً أهله وصحبه، وتوهم انه سيكون بينهم كمن سقط في حفرة موحلة فامتلأت ثيابه طيناً، ثم جاء ليجالس الأطهار الأنقياء، وشعر بجسمه يتلهب كأن فيه ناراً تتوهج، وبالعرق يقطر في هذا البرد من فوْدَيه. . . وصار كلما حركت الريح الباب ظن أنهم قد جاءوا لاعتقاله، وأن أمره قد افتضح، وحار في هذا المال أين يخفيه، فوضعه في جيبه، ثم خاف أن يفتش، فنزع حذاءه وجواربه، فأحاط به رجله ثم لبسها عليه، ثم تراءى له أن أول مكان يفتش هو الجوارب، أليس كذلك كان يصنع كلما فتش مهربي الحشيش والهنات الصغيرات؟ وآلمه أن يرى نفسه قد انحطت إلى دركة مهربي الحشيش، ولكنه مع ذلك مضطر إلى إخفاء هذا المال، فأخرجه ولفه في منديل، ثم خلع سراويله ووضعه في المكان الذي لا يصل إليه أحد. . . وعاد يفكر ماذا يصنع بهذا المال، وماذا يقول لأولاده إذا سألوه من أين لك هذا؟ وما ألف الكذب ولا تعوده، وان هو كذب ألا تفضحه نظراته وحركاته؟ ثم ما هي الكذبة التي يكذبها؟ وتصور نفسه أمام المحكمة العسكرية، وقد سقط في أعين أولاده وأصحابه. . . إن زوجته تؤثر أن تراه فقيراً معدماً، على أن يدخل عليها سارقاً مرتشياً. . . واستغرق في خواطره. . . فما نبهه إلا حركة في الطريق، فأيقن أنهم جاءوا لاعتقاله، ففزع إلى مسدسه ليقتل به نفسه، ثم تذكر أن أشد المصائب أهون من أن يموت عاصياً، وأنها فضيحة الدنيا بين الرفاق، ولا فضيحة الآخرة على عيون الخلائق كلها. فمشى بنفسه إلى القضاء المحتوم، وفتح الباب، وكانت الرياح قد هدأت قليلاً والثلج قد أنقطع، فرأى سيارة مطفأة الأضواء قد تعثرت بالحواجز التي كان أعادها من غير شعور منه بالذي يفعله، وحاول سائقها أن يدوس الحواجز ويفر، ولكنها علقت بالدواليب واعترضت سيرها فاضطر إلى الوقوف، بعد حركة عنيفة كاد(663/21)
يطوّح فيها بالسيارة فيرميها في الأخدود الماثل على جنبي الطريق. . .
وصرخ عليه عبد المؤمن أفندي ومسدسه بيده، فخرج من السيارة وتبعه إلى المخفر وهو مصفر الوجه، مرتعد الأوصال، إذ كان حديث عهد بصناعة التهريب ليس له جرأة الأول وثباته، وأقبل على الجندي فزعاً يقول: دخيلك، أنا في عرضك، والله هذه أول مرة، وقد ورطوني، وليس لدي إلا هذه السيارة، هي مالي كله ومنها معيشة عيالي. . .
وانكب على يديه يقبلها، فتنبهت غزيرة الطمع في نفس الجندي، وعاد مثله مثل هذا الرجل الذي أقدم على الفاحشة، ثم ندم عليها وذهب يحاول التوبة، فدخلت عليه امرأة أخرى قد لبست بدل الثياب الفتنة والإغراء ودعته إلى نفسها. . . وقال للسائق:
- دعك من هذا الكلام الذي لا يفيد. لا بد من مصادرة السيارة وما فيها، إلا إذاشيءت أن نتفاهم. . .
وكان شعور عبد المؤمن أفندي، وهو يقول هذه الكلمة، وقد توترت أعصابه كلها واشتدت، وقد تجمع كالقط الذي يرى الفأر، مثل شعور المقدم على الوصال المحرّم، وهو يرى قبح عمله ولكن الميل إليه غالب عليه، فهو لا يملك لشهوته رداً، ولما رأى السائق لا يفهم، ويعود إلى استعطافه ورجائه، تجرأ وقال له:
باختصار: كم فوضوك أن تدفع؟ ثم نظر حواليه هل سمعه أحد؟ وحول وجهه حتى لا تقع عينه على عين السائق، وغلب عليه الحياء إذ كانت تلك أول مرة. . . فرأى السائق باب الفرج، وقال عاجلاً، الذي تريده، الذي تأمر به، بَسّْ أسمح لي أمر.
قال: اثنا عشر ألف ليرة! وتوهم لما قالها أنه قذف قنبلة ذرية أخرى، كالتي ألقيت على هيروشيما، وأحس رجتها في أذنيه. . . فارتاع الرجل وصاح: أرجوك، أنا داخل على حريمك، والله ما معي إلا خمسة آلاف، إن السيارة محملة غزلاً، وليس كالتي مرت قبلها، تلك فيها حرير. قال: هات وأمشِ.
وقبض عبد المؤمن أفندي المبلغ فصار معه ستة عشر ألفاً، مرتب مائة وستين شهراً في الوظيفة كسبها في ليلة، فكيف غفل عن هذا المورد أيامه الماضية كلها. . . وعاد يفكر في الشرف والطهر وفي الفضيحة. . وأحس كأنه قد جن. . . ففتح الباب وخرج يعدو مع الريح لا يدري إلى أين يذهب. . . لقد كان يريد أن يفر من المخفر ومن الحكومة، ومن(663/22)
الرشوات، ومن صوت الضمير. . . ويريد أن يفر من نفسه!
ولم يدر أنه شرب (الكأس الأولى) وفسد، ولم يعد يصلحه شيء!
(دمشق)
علي الطنطاوي(663/23)
الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
للأستاذ محمود الخفيف
طفولة ملتن ونشأته
وأحدثت الوراثة والبيئة أثرهما في جون ملتن، فأحب الأدب وأحب الموسيقى كما أحبهما أبوه، وظهرت فيه منذ صغره تلك النزعة الاستقلالية التي طرد بسببها الأب من كنف أبيه.
ولا ريب أن جون ملتن قد حرص على أن تنمو هذه النزعة الموروثة في نفس ابنه، وآية ذلك أنه لم ينشأ أن يحمله على ما لا يحب فتركه وشأنه حين أعرض عن الالتحاق بالكنيسة. والحق أن نزوع ملتن إلى الاستقلال سينمو مع الزمن حتى يصبح من أبرز صفاته.
وكان إعجاب جون ملتن بابنه عظيماً، وكذلك كان إعجاب أصحاب أبيه به، فما سمعوا أشعاره التي ينظمها وهو في الثانية عشرة من عمره إلا أفاضوا من ثنائهم عليه، وما رأوا إقباله على الدرس إلا تحدثوا بنباهة مستقبله؛ وأنهم ليرون سمات العبقرية تختلج على محياه الأبلج الجميل وهو بعد في سن اللعب واللهو. . .
وأحدثت كثرة الثناء عليه أثراً قوياً في نفسه سوف ينمو على مر الأيام؛ فقد داخله شعور منذ طفولته أنه فوق مستوى غيره من الأطفال، وأنه سوف يغدو رجلاً عظيماً، وكان يقوي شعوره بنفسه وإحساسه بمقدرته كلما أزداد إطلاعه وأتسع مجال ثقافته.
وكان أبوه عظيم الثقة في كفاية ابنه ومقدرته، فعول ألا يدخر وسعاً في تنشئته ليكون رجلاً عظيماً، فأختار له مربياً يعلمه في المنزل هو توماس ينج، وأرسله إلى مدرسة قريبة هي مدرسة سنت بول؛ وكان للمربي الذي يتعهده في البيت شهرة في فنه فائقة كما كان (لاسكندر جل) رئيس المدرسة التي ألحق بها صيت عظيم، يمتدح الناس أسلوبه وفنه في التربية والتعليم.
وكان أبوه إذا فرغ من توثيقه ومن ألحانه يعينه بنفسه على فهم ما يقرأ ويرشده إلى الكتب التي تلائم مزاجه وطبعه، وكذلك كان يعلمه الموسيقى إذا أنس منه إقبالاً شديداً على سماع(663/24)
الألحان وتذوقها وتفهم تأليفها.
وشهد مربيه في المنزل ومعلموه في المدرسة أن عقل الصبي أكبر من سنه، وأن له إلى الأدب ميلاً قوياً، وأن ذوقه الأدبي مولود فيه، فهو جزء من نفسه، وهو قوام إدراكه وحسه، وما وقعت عينا امرئ عليه إلا تبينتا فيه شاعر الغد؛ فالشواهد فيه على ذلك بينة متعددة، تطالع المرء في تأمله وتفكيره وفي عذوبة حديثه وسعة ثقافته وجمال عبارته وإشراقها، وقدرته منذ حداثته على اختيار اللفظ الجميل وقعه في النفس والذهن، وانفعال نفسه للموسيقى وللبليغ من القول منثوره ومنظومه، هذا إلى ما تنم عنه ملامح وجهه الوسيم وما تنطق به عيناه الحالمتان الواسعتان من رقة وظرف وصفاء نفسي، وما يتسم به مظهره من رشاقة وأناقة وسلامة ذوق.
وكان محيط قراءته واسعاً في اللغة الإنكليزية وآدابها. وكان للشاعر العظيم سبنسر المتوفى سنة 1599 مكانة عظيمة في نفسه، تعمق دراسته وتأثر به تثراً شديداً، واستوعب قصيدته العظيمة أو على الأصح كتابه الشهير (الملكة الجنية) وأحاط بما فيها من خيال وجمال، وفطن إلى ما أراده سبنسر فيها من آراء دينية وخلقية، فقد كان كل فارس من فرسانها الإثني عشر يمثل فصيلة من الفصائل، وكان كل من هؤلاء الفرسان بطل فصل من فصول القصة يدور حول معنى مقصود اتخذت الحكاية وسيلة لإبرازه وألبسه الشعر القوي الجميل لباساً ساحراً حبيباً إلى القلوب، وكانت شخصية الفارس الأمير أرثر هي الرابطة التي تربط بين فصول القصيدة كلها؛ ولهذا كانت أهم شخصيات الكتاب وأحبها إلى القراء. ولقد كان سبنسر أعظم شعراء عصر شكسبير غير المسرحيين، ومن أشدهم تأثيراً في جيله، ويعد قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الشعر الإنكليزي كله.
وثمة شاعر آخر أقبل على قراءته الصبي المجد، هو سلفستر المتوفى سنة 1618 أي بعد عامين من وفاة شكسبير والذي نقل إلى الإنكليزية القصة الشعرية الشهيرة التي نظمها الشاعر الفرنسي دي بارتس سنة 1578 وموضوعها يدور حول خلق الدنيا، والتي طبعت ثلاثين مرة في ست سنوات وترجمت إلى ست لغات. ولقد أعجب سبنسر نفسه إعجاباً شديداً بهذه القصيدة وبموضوعها. ولكم وجد فيها الصبي ملتن لنفسه وبخاصة موضوعها الذي ظل خياله في خاطره حتى ظهر بعض أثره فيما بعد في قصيدته الخالدة الكبرى،(663/25)
الفردوس المفقود. ولقد أعجب الصبي في تلك السن بمقدرة دي بارتس الفرنسي على اشتقاق ألفاظ جديدة لمعانيه، كما أعجب بمحاكاة سلفستر إياه في الإنكليزية، فكان لهذه الترجمة أثرها في ذوقه وفنه إلى جانب أثرها في خياله وحسه.
وتطاول الصبي إلى قراءة شكسبير فقرأه على قدر ما يتسع له إدراكه، كما قرأ بعض المسرحيات الشهيرة لشعراء المسرح النابهين غيره في العصر الاليزابيثي.
وكان كثير المطالعة للإنجيل حتى وعت ذاكرته أكثر أجزائه، وألف لغته وتذوقها وتأثر بها قلبه ولسانه.
ونهل مع هذا كله من مناهل الإغريق والرومان، في التاريخ والأدب والشعر والميثولوجيا، وأحب المنهل الأخير حباً شديداً فكان لا يمله مهما استزاد منه، وصارت له خبرة بهذه الناحية من خيال الإغريق والرومان قل أن يتوافى مثلها لمن كان في مثل سنه، ولسوف يمتلئ شعره منذ حداثته بالإشارات البارعة إلى آلهة الإغريق وإلاهاتهم فيما يعرض له من وصف فيلبسه الجمال والسحر. . .
هكذا نرى الصبي في أولى مراحل ثقافته ينتقل كالفراشة الطليقة بين أفواف الربيع الاليزابيثي فيبهج نفسه جمال الربيع، ويملأ حسه اقتتان الربيع، وترن في جوانب سمعه ألحان الربيع، وتستقر في خاطره تلك الأصداء الساحرة الجميلة التي تجاوبت بها قيثارات سبنسر وسلفستر وشكسبير. . .
فتطير روحه الوثابة فتطوى العصور إلى ربيع قديم أشبه بهذا الربيع الذي انطوى مهرجانه من قريب، وذلك هو الربيع الإغريقي فتنعم روحه بزينته وقوته وسحر أساطيره وأنغام مزاميره وتختزن ذلك نفسه كما تختزن الزهرة العطر، وتحلم تلك النفس الشاعرة أحلام الخيال والجمال حتى تصرفها عن حلمها البهيج الرؤى فترة فيها كثير من الجد ولا يكاد يوجد فيها شيء من الزينة.
ملتن في الجامعة:
وفي السادسة عشرة من عمره تأهب ملتن ليدخل الجامعة، فقد اجتاز الامتحان الذي يؤهله لها في يسر، وتفوق في نجاحه تفوقاً ملحوظاً وأقدم مزهواً ليلتحق بكمبردج، وكانت الكلية التي انتظم في سلك طلابها، والتي لبث فيها من عمره سبع سنين هي كريست، ولسوف(663/26)
تفتخر تلك الكلية فيما بعد بأن كان ملتن أحد أبنائها، ولكنها اليوم تتلقاه كما تتلقى غيره من الفتيان، لا تدري ماذا يكون غداً من أمره.
وأقبل الفتى على كليته فرحاً يداخله من الزهو ما يداخل كل يافع في مثل موقفه؛ يحدث نفسه في حماس عما هو عسى أن ينهل فيها من المعرفة ويصاحب من الأقران؛ وما هو عسىٌّ أن يأخذ منه بقسط من المناظرة والحوار وتبادل الرأي بينه وبين أقرانه، وكل أولئك حبيب إلى نفسه التواقة إلى الدرس الطلابة للعلم.
وتلفت الذين سبقوه إلى الكلية يتطلعون على عادة الطلاب إلى أقرانهم الجدد في أول الموسم، فوقعت أعينهم من بينهم على فتى أنيق الملبس، جميل الطلعة، حلو السِمت، في قسماته وسامة رائعة، وفي ملامحه أمارات الذكاء، وفي نظرته جد يشبه الكبرياء، وفي عينيه تأمل وحلم، وفي مشيته والتفاتته هدوء ودعة، وفي تحيته رقة ودماثة.
وسرعان ما تعرف إليه فريق منهم، فما لبثوا أن أعجبهم اتساع أفقه وحدة ذكائه؛ وإن كانوا يرون فيه كثيراً من الاعتداد بنفسه ورأيه، ويرون فيه كذلك حرصاً شديداً ما رأوا قبل مثله على قواعد السلوك واحترام النفس، يكادون يحسونه تزمتاً وانقباضاً لا يرتاحون إليه؛ وإن فيه لميلاً قوياً إلى الشعر، يحفظ منه قدراً عظيماً ويشير إلى مواضع الجمال ويستمع في شغف وطرب إلى ما ينشد أقرانه مما غاب عنه ويعجب كيف غاب عنه؛ ولما توثقت بينهم وبينه المعرفة رأوا فيه شاباً يأخذ نفسه بقواعد الطهر والعفة وهو في ذلك صلب الإرادة لا يلين ولا يحيد.
وما لبث ملتن أن أحس أنه علق من الآمال على الكلية أكثر مما يريه الواقع، فأين منه أيام قراءاته في بيته، وأين منه حريته في هاتيك الأيام الحلوة؛ إنه كلما ازداد صلة بالكلية أحس في نفسه النفور شيئاً فشيئاً من جوها، والضيق من كثيرين من القائمين بأمرها؛ ولكن ما من البقاء زمناً بها بد، وما على المرء إلا أن يحمل نفسه على الصبر حتى ينقضي أمر بقائه. . . بهذا كان يتحدث الفتى إلى نفسه، كلما ساوره من حاله ضيق أو كدر خاطره أمر.
وكانت الكلية غداة التحق بها ملتن لا تزال فيها على الرغم من النهضة بقية من العصور الوسطى، وذلك في روحها وفي مواد دراستها، وكانت أهم مواد الدراسة بها المنطق(663/27)
والبلاغة والفلسفة المدرسية، واللغتين اللاتينية والإغريقية، وشئ من علوم الرياضة، وقليل من الفلك، وقدر يسير من التاريخ الروماني ومن عجب ألا يكون التاريخ الإنجليزي ولا الأدب الإنجليزي من مواد الدراسة، على أنه كان لمن يشاء أن يدرس هاتين المادتين أن يفعل ذلك إذا أبدى للكلية رغبته.
ولكن على الرغم من طابع العصور الوسطى، دبت في الكلية النهضة، فشاعت فيها رغبة الإصلاح والنهوض، وملأ جوانحها كفاح من أجل هذا الغرض؛ وكان دعاة الإصلاح يبتغون أن يصلحوا نواحي الحياة كلها، والتعليم والسياسة والدين والاجتماع؛ ففي التعليم رغب فريق أن تتخلص الكلية من بقية العصور الوسطى، وتعني في مناهجها ودراستها بما هو أقرب إلى روح العصر، وما هو أدنى إلى الإنسانية والحرية الفكرية؛ وفي السياسة تطلع المصلحون إلى إبراز حق الفرد والاعتراف بكيانه واحترام إرادته؛ وفي الدين قوي الميل إلى البيوريتانية والبروتستنتية؛ وإن كان ثمة خلاف قد دب بين الكلفنية والأرمينية، أعني بين عقيدة القدر المحتوم التي آمن بها كلفن، وبين عقيدة قبول التوبة وغفران الذنب التي نادى بها ألرمينيوس الهولندي سنة 1603؛ وفي الاجتماع دعا المصلحون إلى الفضيلة وإلى محاربة الرذيلة، وظهر أثر ذلك في تشدد القائمين على أمر الطلبة ألا يسمحوا للفتيات اللائي يتعهدن حجرات نوم الطلاب بدخول تلك الحجرات إلا إذا غادرها أصحابها.
واستجاب ملتن لهذه النزعة الإصلاحية، فقد صادفت هوى في نفسه التي تعشق الحرية وتنزع إلى الاستغلال، وتعلقت بها روحه الوثابة الفتية؛ وبدأ بها أول شوط له في الدفاع عن حرية الفكر؛ ولكن ذلك أخذ يغضب عليه القائمين بالأمر إذ اتهموه بالتمرد والثورة إلا قليلاً منهم، وسبب له كراهة بعض أقرانه ممن لم يعجبه اعوجاجهم وإسفافهم وشراسة طباعهم.
لم يدع ملتن فرصة اجتماع إلا وقف يندد بالفلسفة المدرسية معلناً إنه لا يرى فيها أية فائدة، ولئن اقتصرت الكلية على هذا المنهج فلن يكون من ورائه جدوى. وراح ملتن يسخر من تلك الكتب التي تدرس في الكلية، والتي هي آثار أشياخ ضيقي الصدر من القساوسة تشتم فيها رائحة الحجرات الضيقة المظلمة التي كتبت فيها؛ ويتساءل: أليس أجدر بنا وأجدى(663/28)
علينا أن ندرس بدلاً منها طبائع الكائنات الحية وأخلاق الناس وأحوال دول العالم؟ ويوجه ملتن سهاماً لاذعة إلى مدرسي المنطق والبلاغة، فهم يتكلمون كما يتكلم المتوحشون والأطفال، وإنه يراهم أقرب إلى العصافير منهم إلى الرجال. . .
ويعجب الطلاب من حمية هذا الفتى الذي عهدوه في مجالسهم وديعاً رقيق الحاشية، وتعجبهم حماسته وجرأته وصراحته وتمرده على القيود التي طال بها العهد؛ ولكن المدرسين ساخطون عليه ناقمون على ثورته، يرمونه بالغرور ويتهمونه بالشغب والعناد والعصيان، وقد شاع أمره فيهم حتى ضاقوا به ذرعاً من يعلمه منهم ومن لا يعلمه.
وأدى بالضرورة مسلكه هذا إلى الشحناء بينه وبين القائم على أمره من رجال الكلية وهو (شابل) فكان يحس أن الطالب جون ملتن يحتقره بنظراته، ولعله يراه متوحشاً أو طفلاً أو نوعاً من العصافير؛ ويرى أنه يخالف عن أمره، فلا يؤدي ما يطلب إليه أداؤه كتابة من دروسه، ولا يتقيد بما يرسم له من نظام في حياته اليومية؛ يريد أن ينصرف إلى ما يحب من قراءة، ويعلن إلى معلمه أنه لا يقتنع بجدوى تلك العلوم التي هي تراث العصر المدرسي، وأنه يأسف على فقدانه حريته التي نعم بها قبل التحاقه بالكلية؛ ويرى أنه كان يد في مدرسه سنت بول من العلم المجدي ما لم يجد مثله هنا، ومن الحرية ما لا يجد بعضه في الكلية، ومن عطف معلميه ومسايرتهم إياه إلى ما يحب ما لا يتمتع هنا بشيء منه.
(يتبع)
الخفيف(663/29)
السلاجقة
عنصر قوة في الإسلام
(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)
(حديث شريف)
للأستاذ حسن حبشي
ليس من شك في أن ظهور السلاجقة على مسرح التاريخ يعد نقطة انتقال هامة في التاريخ الإسلامي، فقد نشأت عدة دويلات من هذه الزمرة الصغيرة التي خرجت من بخارى يقودها سلجوق ويدفعها حبها للمخاطرة. أما من الناحية الدينية فقد كانوا حماة الإسلام، يذبون عن بيضته، وينافحون عنه، ونبغ فيهم رجال نصروا الحنيفية السمحة، كما ظهر في أيامهم أئمة أدرجوا في عداد المجتهدين، وحسبنا أن نذكر من هؤلاء حجة الإسلام الغزالي. كتب الأستاذ هربرت لوي يقول: (إنه لا يعزي إليهم فحسب ما مني به الصليبيون من فشل ذريع، بل يرجع إليهم كذلك الأثر غير المباشر للشرق على الغرب، ذلك الأثر الناجم عن الاختلاط الذي كان بين الفرنجة والمسلمين في الحروب المقدسة، وقد كان ظهور شأو السلاجقة مقوياً للمذهب السني، كما يرجع إليهم الفضل في إعادة الوحدة إلى الإمارات الإسلامية الممزقة، كما أنهم وضعوا أسس الإمبراطورية العثمانية في القسطنطينية).
هاجر سلجوق من تركستان إلى بلاد ما وراء النهر، ويعزو الأستاذ هربرت ظهور سطوته إلى هذه الهجرة وإلى اعتناقه هو وقبيلته الإسلام. وأصبحوا من دعاة المذهب السني على عكس الفرس الذين سايروا المذهب الشيعي.
ظهر السلاجقة في وقت كانت عوامل الضعف والانحطاط تعمل في جسم الخلافة العباسية، فقد أحاط الخلفاء العباسيون أنفسهم بالحرس التركي، وذلك يرجع كما يذهب الأستاذ شفيق غربال بك إلى موازنة النفوذ الفارسي الذي كان قد تغلغل في جميع مصالح الدولة، وقصة البرامكة - وهم من أشراف الفرس - وما نكبوا به، أجلى برهان على ما وصلوا إليه من عليا المراتب في الدولة (حتى غدوا الحكام الحقيقين لها مما جعل الخليفة (هارون) يجمع العزم على التخلص من العائلة بأكملها).(663/30)
لما تسلم بنو العباس أزمة الحكم، لم يكن معنا ذلك استتباب الأحوال لهم، فقد أنقلب عليهم بنو عمهم العلويون الذين لولاهم لكان نجاح العباسيين ضئيلاً، وكان بجانب هؤلاء الخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرها من الفرق الإسلامية، وكان الشيعة أعداء أقوياء الشكيمة، وإن كان ينقصهم التنظيم. ودب الضعف في الدولة العباسية، فانسلخ منها كثير من الولايات الخاضعة لها (فكان قيام دولة الأدارسة في مراكش (788م) على يد إدريس بن عبد الله، والأغالبة في تونس (800م) على يد إبراهيم بن الأغلب، ودولتي الطولونيين والإخشيديين في مصر. كان قيام هذه الأمارات خسارات فادحة للخلافة منيت بها في نواحيها الغربية، ولم يكن الشرق أوطد مركزاً من ذلك، فقد كان من أثر السياسة التي سلكها الخليفة المأمون أن ظهرت في فارس وبلاد ما وراء النهر روح قومية عظيمة، كان من نتائجها قيام دويلات مثل الصفراوية (867 - 903م) والسامانية (874 - 999م) كما نشأ من الأخيرة الغزنويون، لأن البتجين مؤسس هذه الأسرة الأخيرة كان مملوكاً تركياً في البلاط الساماني، كما أن سلطان آل بويه قد شل قوة الخلفاء وألزمهم قصورهم) ومع أن هذه الدول اعترفت بالسلطان الديني للخليفة إلا أن هذا الاعتراف كان اسمياً. ويذكر السيد أمير علي أن هذا الاعتراف كان لإكساب هاتيك الدول قوة ظاهرة، وحتى تعتبر كل ثورة ضدها ثورة غير شرعية.
لكن متى بدأ الضعف في الدولة؟
التاريخ سلسلة متصلة الحلقات، ومعنى لا نستطيع أن نحده. ولو فعلنا ذلك، كان اعتمادنا عادة على الظواهر العامة البارزة التي يمتاز بها عهد من عهد.
وقد ذهب الأستاذ نيكلسون إلى تقسيم الخلافة العباسية قسمين: أحدهما عهد القوة، ويبدأ باعتلائها العرش حتى حكم الواثق وهو قرن من الزمان. أما عهد التدهور، فيبدأ بالمتوكل (847 - 891م)، ويمتاز بأنه عهد انحطاط سريع أعقبه سقوط هائل خابت كل الوسائل في علاجه. أما أبو المحاسن فيذهب إلى أن تدهور الخلافة بدأ باعتلاء المستكفي عام 902م. وربما كانت علة هذا التدهور أيضاً سعة الأقطار التي كانت تحت إمرة الخلافة العباسية، إذ كانت دولاً كبيرة متعددة لا يربطها بها غير دفعها الجزية.
والملاحظ في الدولة العباسية أن السلطة - أيام قوتها - كانت في يد الخليفة، أما حيث بدأ(663/31)
الضعف يدب في أوصالها، فقد انتقلت هذه السلطة إلى أيدي الوزراء، فأين وزراء المنصور والسفاح، من هذه الوزارات الست في عهد المأمون؟
هذه مقدمة وجيزة لتبيان حال الضعف التي وصلت إليها الدولة العباسية وكاد يؤدي بها لولا أن قيض الله لها (السلاجقة)، فأنقذوا الإسلام (كما أن شخوصهم شطر الغرب أضاف عنصراً جديداً إلى الإسلام مكن المسلمين من الوقوف ضد الغزاة الأوربيين، ووحدوا الإقليم الممتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى حدود الهند تحت زعامة واحدة وإن كان لفترة محدودة، وردوا الصليبيين والبيزنطينيين ماذين في حياة الخلافة العباسية التي ظلت قائمة حتى تخريب المغول لبغداد عام 1258م، ويعزى إليهم قيام الدولة الأيوبية في مصر).
من هذه العبارة نستدل على ما كان للسلاجقة من شأن عظيم في تاريخ الإسلام والشرق عامة، وبخاصة أنهم ظهروا في وقت قد تمزقت فيه أوصال الخلافة أو كادت، (وما كان من قبل مملكة متحدة تحت إمرة حاكم مسلم أصبح الآن عدة دويلات مبعثرة لا رابط بينها) ومما زاد في تفرق بعضها عن بعض هذه المذاهب المختلفة، فكان قيام السلاجقة رجحاناً لكفة أهل السنة ولم يطل بهم الزمن حتى أسسوا ممالك سلجوقية خارج العراق في الهند وتركيا.
وحد السلاجقة دويلات كثيرة منها فارس والعراق والشام وآسيا الصغرى، فرفرف علم إسلامي واحد على آسيا من حدود أفغانستان الغربية حتى البحر الأبيض المتوسط.
عرف السلاجقة بالجرأة والقوة والحول، وتعاور الحكم كثيرون من أمرائهم، وحسبنا إشارة موجزة لبعضهم.
كان لسلجوق أربعة أبناء يدعى أحدهم إسرائيل، ألقى القبض عليه السلطان محمود وأسره وظل في أسره سبع سنوات ومات في أسره، فأثر ذلك غضب أهله. ورأى ابنه قتلمش الخير في الهرب، ومن ثم اتخذ طريقه إلى بخارى حتى يكون بمنجاة من نقمة السلطان، وهناك أثار حمية أقاربه للأخذ بثأر أبيه، والثأر عند القبائل - كما يقول نيكلسون - مرض من أمراض الشرف هو أقرب إلى الجنون، أورد الأستاذ براون (عن الراوندى) أن هجرة قتلمش وأهله، كانت في أيام السلطان محمود وبأمره.
وأول من يهمنا أمرهم طغرل بك، دخل هذا الزعيم السلجوقي بغداد في ديسمبر عام(663/32)
1055م، (وأجلس على عرش وألبسوه لباس التشريف). ومما زاد في توثيق العلاقات بين طغرل وبين الخليفة القائم زواج الأخير من ابنة أخي الأول وتدعى خاتون خديجة، وتذكر الأقاصيص أن هاتفاً جاء لطغرل في المنام يدعوه للخروج لغزو بلاد الموصل وديار بكر وسنجار، فلبى الهاتف ثم عاد إلى بغداد فشكره الخليفة لنصرته الدين، وسماه ملك المشرق والمغرب.
لم يقنع طغرل بك بما نال من سلطة واسعة، وما هو فيه من نعمة يتقلب في مطارفها، بل تاقت نفسه لتوثيق صلاته أكثر بالخليفة، فهداه تفكيره إلى الزواج من ابنة السلطان، وتدعى سيدة النساء، ويظهر أن الخليفة لم يكن راضياً عن هذا الزواج ولعله كان يرى في ذلك طمع طغرل في أن يكون خليفة من بعده. ومن يدري؟ فلربما كان يريد الاستئثار بالحكم من دونه، ذكر ابن الأثير أن الخليفة انزعج من ذلك وأرسل في الجوب أبا محمد التميمي، وأمره أن يستعفى فإن أعفى وإلا تمم الأمر. وعقد له عليها، لكن عاجله الأجل إذ توفي في العام التالي في مدينة طغرشت، فرجعت ثانية إلى بغداد، وقد وصفه ابن الأثير بقوله: (إنه كان حليماً عاقلاً من أشد الناس احتمالاً، وأكثرهم كتماناً لسره، ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك، ولا تغير عليه، حتى أظهرها بعد مدة طويلة لغيره).
جاء بعده ابن أخيه جغري داود، ويدعى ألب أرسلان، وقد حدث قبل توليته أن مال عميد الملك الكندري لتولية أخيه سليمان بدلاً منه، غير أنه أخفق في مسعاه مما أثار ضغينة ألب أرسلان، فما كاد يتبوأ العرش حتى نفي الكندي إلى مرو، ولم يطل عليه الزمن في السجن فقد لقي مصرعه وقتل بأمر ألب نفسه، وهذا ما ذهب إليه الأستاذ براون، وكان مقتله كما يذكر أبن الأثير بعد سنة في الاعتقال، وفي ذلك يقول أحد الشعراء مخاطباً السلطان:
وعمك أدناه وأعلى محله ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا
قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا وخولته العقبى
واختير مكانه الأديب العالم (نظام الملك). وأهم ما يذكر به عهد ألب أرسلان انتصاره على ملك الروم أرمانوس كما انتصر على قتلمش، وامتدت رقعة مملكته حتى ليقول ابن الأثير إن ملكه امتد من أقصى بلاد ما وراء النهر إلى أبعد أطراف الشام. ولقد أجمل الأستاذ(663/33)
براون في كتابه تاريخ الفرس الأدبي (ص 177) كل أعماله، وهي جديرة بأن تجعله في مصاف أعظم السلاطين. أما مصرعه فكان على يد مستحفظ قلعة يدعى يوسف الخوارزمي إذ ضربه بسكين في خاصرته. وكان قد أخذ البيعة في حياته لابنه السلطان ملك شاه، وهو آخر السلاطين السلاجقة الذين ظلت أزمة الحكم في يدهم، ولم تتوزع الأهواء بينهم.
حسن حبشي(663/34)
قصص فرعونية:
قصة سينوحيت
لأديب مصري قديم
بقلم الأستاذ محمد خليفة التونسي
الأدب المغبون:
أما قبل أن نضع القصة بين يديك فلنقف وقفة قصيرة لننظر ما حل بأدب مصر التي تدين لحضارتها بالفضل العميم كل الحضارات التي أعقبتها منذ فجر التاريخ حتى حضارتنا الراهنة في جميع بقاع الأرض.
نعرف لكل أمة أدبها: فلكل من الإغريق والرومان والعرب والأتراك والفرس والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والروس أدبهم، ولأدب كل أمة قراء يقبلون على قراءته ودرسه للتمتع والانتفاع، وله في ثقافتنا نصيب كثير أو قليل، ولكن أدب مصر القديمة لم يقدر له حتى اليوم في اللغة العربية أنصار يقدمونه إلى أبنائها - ولا سيما المصريون - كمل قدر له أنصار مقتدرون في سائر اللغات الأجنبية الحية، ولا يعدو ما كتب باللغة العربية حتى اليوم أن يكون محاولات فردية ضئيلة لا تجد معيناً ولا موالياً، وهوشيء قليل لا خطر له، فهو لا يعرفنا بحقيقة هذا الأدب الرائع وآفاقه التي امتد إليها، ولم يقدر له أن يكون ذا أثر في ثقافتنا الراهنة التي لأدب كل أمة فيها نصيب.
ومحاولتي هذه لا غنى بها عن قراءة ما كتب في هذا الباب في المؤلفات الأجنبية المطولة والمختصرة، فهي محاولة ضئيلة لتعريف القارئ العادي ببعض آثار الأدباء الأقدمين في بعض نواحي الأدب؛ فليعلم أنها جهد المقل إن شاء قنع به في غير مقنع، وإن شاء المزيد اتخذ سبيله إلى التواليف الأجنبية الحافلة بكل ما يشتهيه، وكل ما يقنعه بخطر هذا الأدب الرائع. ولعل هذا يصادف قارئاً أوسع مني فراغاً وأغزر ثقافة وأوفر صبراً فيكون أقدر مني على النهوض بإنصاف هذا الأدب المغبون، وإعطائه ما له في اللغات الأجنبية الحية، فيصحح نظرتنا إلى أولئك الأجداد الكرام حتى نعرف لهم فضلهم ونقدر أدبهم قدره، وذلك في نظري مظهر للوطنية لا يقل جمالاً وفضلاً عن سائر مظاهرها الأخرى.(663/35)
عصر القصة:
أما بعد فربما كنت أيها القارئ محتاجاً إلى أن يتهيأ لك جو القصة لتكون أكثر فهماً لها وإحساساً بها، فقليل ما وقفنا عليه في تعليمنا المدرسي والجامعي من تاريخ المصريين الأقدمين، وهأنذا أقدمه على قدر المستطاع.
أمر ملك مصر بطليموس فيلادلفوس كاهناً مصرياً كان يعيش في مدينة سمنود ويسمى ما نيثون أن يكتب تاريخ الفراعنة قبله، فصدع بما أمر وابتكر تقسيمهم إلى طبقات أو أسرات.
ومنذئذ حتى الآن وكثير من المؤرخين الذين أعقبوه يتابعونه في ابتكاره فيسلسلون الفراعنة في ثلاثين أسرة، ويقسمون هذه الأسر إلى ثلاث دول: الدولة القديمة وتبدأ بالأسرة الأولى ومؤسسها مينا أو نارمر على خلاف وتنتهي بالعاشرة. والدولة الوسطى وتنتهي بالسابعة عشرة. ثم الدولة الحديثة وتمتد إلى الثلاثين حين أحتل الفرس مصر حتى أجلاهم عنها الإسكندر الأكبر.
قبل أن تأفل شمس الدولة القديمة، وانشيءت الدقة فقل في عهد الأسرة السادسة الذي أعقب عهد بناة الأهرام بدأت مصر تضعف بضعف ملوكها، وظهرت في كل إقليم أسرة قوية على رأسها أمير أغتصب من الملك وظائف الدولة كالإدارة والقضاء وصار له فيه شبه استقلال، وبذلك ظهرت الإمارات أو ما يسمى العهد الإقطاعي.
وكان لكل من هذه الإمارات عاصمة، فكانت تلك العواصم كأرمنت وطيبة وأسيوط تتنازع السلطان وتحترب فيما بينها طمعاً في توسيع رقعتها بالاستيلاء على أملاك جاراتها، وامتدت تلك الفوضى حتى نهاية الأسرة العاشرة.
كان اظهر أسرتين إذ ذاك أسرة هركليوبوليس (أهناسية) وأسرة طيبة (الأقصر) وقد ظلتا تحتربان زمناً وتم الغلب أخيراً لأمراء طيبة فبدأ شأنها يعظم وسلطانها يمتد حتى شمل مصر، وكان ذلك بدء نشوئها وارتقائها حتى نالت شهرتها التاريخية الخالدة. وكما انتصرت طيبة على سائر العواصم انتصر إلهها أمون على سائر الآلهة المصرية فصار أبرزها، وعمت عبادته أرجاء مصر وصار لكهنته السلطان على سائر الكهنة والمصريين.
وقد ساعد على نشوء طيبة وتفوقها موقعها الجغرافي. فهي تتوسط سهلاً خصيباً واسعاً(663/36)
أمامه أرض قاحلة ذات أخاديد ووهاد مما يساعد على حمايتها وسد وادي النيل عندها في وجوه غزاتها، كما ساعد على ذلك قوة حكامها، وبسالة رجالها الذين يؤلفون جيشها، وتلك طبيعة رجال الجنوب الأقصى حتى الآن بحكم ذلك الموقع الجغرافي. . .
وقد استطاع أميرها أن يوحد مصر، ويخضع سائر أمرائها لسلطانه، وذلك بدء الأسرة الحادية عشرة (الدولة الوسطى) ولعقبتها الأسرة الثانية عشرة التي يعد عصرها أزهر عصر في الدولة الوسطى، وأول ملوكها أمنمحعت الأول (سحتب آب رع) الذي شق طريقه إلى عرش مصر واستوى عليه فرعوناً جباراً برغم كل الاضطرابات التي كانت تسود مصر، واستطاع ضم مصر في وحدة قوية ضماً تاماً بأن استمال بعض الأمراء بتوسيع إقطاعاتهم وتأديب العصاة منهم، وأهتم بمصالح الفلاحين، ووضع الحجارة لتكون حدوداً بين الأراضي، وبين لكل منهم أرضه، وأمده بالمياه التي تكفيها، وجيش جيوش ورمى بها من كانوا يهددون حدود مصر ولا سيما في الجنوب لإخضاع بلاد النوية (كما ورد في القصة عن خليفته) وملأ جو مصر رغداً وأمناً، حتى قال بحق: لا جائع ولا ظمآن تحت حكمي.)
ومما يدل على حصافة الرجل وبعد نظره أنه ربى ولي عهده أسرتسن أفضل تربية، وأسند إليه قيادة كثير من حملاته التي وجهها لدفع الغزاة عن مصر أو لتوسيع أملاكها، وقبل أن يقضي نحبه بعشر سنوات شعر بضعف الشيخوخة فأعتزل الملك وأقام أسرتسن خلفاً له، وظل إلى جانبه يرعاه ويسدد خطاه في السياسة والإدارة والحرب، ويشرف على أعماله أثناء غيابه عن العاصمة في غزواته، إذ أنه كان يقود جيوشه بنفسه.
وحوادث هذه القصة تبدأ في هذه الفترة أثناء عودة أسرتسن من إحدى حملاته في غرب (ليبيا) قافلاً إلى عاصمته طيبة في الجنوب، ففي طريقه جاءه رسول من القصر ينعى إليه أباه، وكان من رجال حملته الأمير سينوحيت الذي أورد الكاتب القصة على لسانه - واقفاً بجانبه والرسول ينبئه بالنعى، ففر بحياته المهددة مجتازاً وادياً شرقي إدهى (الدلتا) ثم الصحراء الشرقية ثم شمال سينا حتى بلغ فلسطين التي كان يسكنها العامو، وبهذا الاسم ورد ذكرهم في القصة.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن سينوحيت الذي أجرى الأديب القصة على لسانه كان ابناً(663/37)
لامنمحعت، وقد يزيد بعضهم انه ابن غير شرعي بدليل ما ورد في القصة من اتصاله المكين بالملكة والأميرات، وهذه الألقاب الضافية التي أسبغها عليه الأديب مما يدل على قوة قرابته من الملك.
ويذهب البعض أيضاً إلى أنه لم يهرب من مصر إلى خوفاً على حياته من أسرتسن أن يقتله حتى لا ينازعه بعد موت أبيه العرش الذي استولى عليه قبلئذ بعشر سنوات في حياة أبيه.
وهذه القصة تصف كثيراً من أحوال مصر وأمنمحعت وأسرتسن والبدو من قبائل الصحراء الشرقية وسينا وسكان فلسطين وعلاقة مصر بجاراتها في ذلك العهد البعيد (نحو 2000 سنة ق. م) وكل اولئك ينطبق على ما هو معروف في التاريخ عن ذلك العهد حتى أن أثريا ثقة هو العالم الإنكليزي السير فلندرز بترى يذهب إلى أنها قصة دونها صاحبها لإثبات حوادث تاريخية كما كان الملوك قبل ذلك يدونون وقائعهم على جدران قبورهم وآثارهم. ويرى أنه لا يبعد أن يعثر المنقبون يوماً على قبر هذا الأمير سينوحيت، وأن يجدوا هذه القصة منقوشة في قبره.
القصة
حدّث الأمير سينوحيت حافظ أختام الملك ونديمه الوفي، والفيصل في المشكلات، والقيّم على أحوال الغرباء. قال: كنت في حاشية سيدي الأمير وقرينته العزيزة عنخت أسرتسن سليلة الملوك وشريكة حياة ولي العهد.
وحدث في السابع من بابة من العام الثلاثين أن تسلل الإله القصر، وقبض روح الملك الطيب سحتب آب رع (امنمحعت الأول) التي صعدت إلى السماء راجعة إلى مصدرها، وهكذا قدر للقصر الزاهر أن تطبق عليه الكآبة، فتوصد أبوابه، ويخر خدمه على وجوههم حداداً على مولاهم العظيم.
حدث ذلك بينما كان جيش مصري جرار يخوض غمار معارك طاحنة في الغرب، إذ كان الملك قد بعث قبل موته بهذا الجيش إلى تمهو (لوبية) وزوده بطائفة من خير قواده، وكانت قيادته العليا للإله الباسل الملك أسرتسن ابنه وخليفته في ملكه، وما انتهى الجيش من حروبه حتى قفل راجعاً وقد غنم كثيراً من الأسرى، وقطعاناً لا حصر لها من الأنعام.(663/38)
قرّ رأي رجال البلاط أن ينهوا إليه خبر الفاجعة، فبعثوا إليه برسول يحمل النعي إليه أثناء رجوعه من الغرب قبل أن يصل، ولما جاءه الرسول كان الظلام قد أطبق على الأرض فأفضى إليه برسالته قائلاً: (لقد طار الصقر).
كان غرض الرسول بهذه التعمية ألا يقف أحد من رجال الجيش على جلية ما حدث، غير أني لم أكن بعيداً حين أفضى إليه الرسول برسالته، فسمعتها، وما كدت أسمعها حتى وعيتها فزلزلت لها زلزالاً شديداً.
استحوذ الخوف عليّ، واشتدت خفقات قلبي، وسرت في أوصالي هزة هائلة، وإذا بساقيّ تنطلقان بي بعيداً عن الجيش، وكانت عيناي أثناء عدوي لا تنفكَّان تنقبان ذات اليمين وذات الشمال عن مأوى إليه من مخاوفي، فما ظفرت بعد لأي إلا بنباتات قليلة انطرحت خلالها مختفياً عن أعين الجيش، متربصاً أن يمر علىّ فلا يراني.
وعَبر بي الجيش فلم يرني أحد، ولم أكد آمن نظراته حتى انطلقت أعدو إلى الجنوب، ولكن لا لأعود إلى العاصمة بل لأهرب بحياتي؛ فقد رسخ عندي أن لا حياة لي بعد أن مات الملك.
وطفقت أغذ خطاي حتى انتهيت إلى الجميزة فجعلتها خلفي، وواصلت سراي حتى بلغت سنفرو فبت ليلتي تلك فيما حولها من المزارع.
وعندما أشرقت الشمس شرعت أسير، وفي أثناء الطريق لقيني رجل فخاف مني، وطلب مني الأمان، فتركته وتابعت رحلتي، وقبل حلول الليل رأيتني عند كرأهاو، وهنا وجدت طوفاً على شاطئ النهر لا سكان له، فامتطيته تاركاً نفسي تحت رحمة التيار الذي دفع طوفي إلى شرق آكو، وهي للرّبة حربت ربة الجبل الأحمر، وكان بها كثير من المحاجر، وهناك بلغت الضفة الشرقية فهبطت من الطوف وتركته.
ولم أتمهل هناك بل انطلقت إلى الشمال حتى بلغت مسلحة أقامها الملك في ذلك الثغر لمدافعة جموع الساتي، فأعتراني الخوف من أن يراني رجال الحامية الذين كانوا يتناوبون حراسة الحدود من فوق الأسوار، فاختبأت وراء شجرة هناك حتى لا تقع أنظارهم عليّ.
وقد أفلحت فيما أردت، وبقيت في مخبئي حتى إذا عسعس الليل برزت أحْدس في مناكب الأرض إلى ان تنفس الصبح، وإذا أنا عند بتن، فتركتها وانحدرت في وادي كيمور.(663/39)
وفي هذا الوادي مرت عليّ تجربة قاسية شعرت معها بأني هالك لا محالة، فقد عراني ظمأ ملح، جفف حلقي، وحشرج أنفاسي، وجعل صدري ضيقاً حرجاً. ولكني لم أيأس ولم أهن، بل اعتصمت بالصبر، وأجمعت أمري، وإذا أنا بأصوات تطرق أذني، وغناء عذب يهبط علىّ بالسكينة والأمل، ثم إذا رجال من الساتي كانوا يتجولون هناك، وكان فيهم رجل رحل إلى مصر فعرفها وأحبها، وقد عرفني الرجل فأكرم وفادتي، وسقاني ماء ولبناً فرويت وشبعت، وقادني إلى خيمته، وأضافني هو ومن معه فأحسنوا ضيافتي، ثم دعتني قبيلة أخرى إلى الإقامة بينهم فلبيت دعوتهم، ونزلت فيهم أياماً، ثم رحلت شرقاً حتى بلغت بي الرحلة أدوم فنزلتها.
(البقية في العدد القادم)
محمد خليفة التونسي(663/40)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
673 - عزله بنقرة
ولى عبد الله بن طاهر بعض بنى أعمامه مرو، فاشتكاه أهلها، ووفد جماعة منهم على عبد الله وشكوه إليه وأكثروا القول فيه. فقدر أنهم يتزيدون عليه فلم يعزله، فلما انصرفوا قال بعض المشايخ أنا أكفيكموه، وورد على عبد الله فسأله عن حال البلد، فأخبر بالهدو والسكون، ثم سأله عن خبر واليهم، فوصفه بالفضل والأدب وما يجمعه والأمير من النسب، وبالغ في ذكر الجميل ثم قال: إلا أنه، ونقر بإصبعه على رأسه نقرة (يعني أنه خفيف الدماغ).
فقال عبد الله: ما للولاة والطيش: اعزلوه فعزله.
وأنصرف الشيخ إلى مرو فأعلمهم انه عزله بنقرة. .
674 - أبو نؤاس والعباس بن الأحنف
في (المثل السائر) لأبن الأثير:
لما دخل أبو نؤاس مصر مادحاً للخصيب، جلس يوماً في رهط من الأدباء وتذكروا منازه بغداد فأنشد مرتجلاً:
ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فصبا صبوة ولات أوان
ثم أتم ذلك قصيدة مدح بها الخصيب. فلما عاد إلى بغداد دخل عليه العباس بن الأحنف وقال: أنشدني شيئاً من شعرك بمصر، فأنشده (ذكر الكرخ نازح الأوطان) فلما استتم الأبيات قال له: لقد ظلمك من ناواك، وتخلف عنك من جاراك، وحرام على أحد يتفوه بقول الشعر بعدك.
فقال له أبو نؤاسوأنت أيضاً يا أبا الفضل تقول هذا، ألست
القائل:
لا جزى الله دمع عيني خيراً ... وجزى الله كل خير لساني(663/41)
نم دمعي فليس يكتم شيئاً ... ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان
ثم قال ومن الذي يحسن أن يقول مثل هذا!
675 - العيوق
أبو تمام:
إن لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب عيون
البحتري:
قال بطلا وأفال الرأي من ... لم يقل: إن المنايا في الحدق
676 - هذا لا يدعها أبداً
قيل لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن بنيك يشربون الخمر. فقال: صفوهم لي. فقالوا: أما فلان فإذا شرب خرق ثيابه وثياب نديمه. فقال: هذا سوف يدعها. قالوا: وأما فلان فإذا شربها تقيأ في ثيابه. قال: وهذا سوف يدعها. قالوا: وأما آدم فإذا شربها فأسكن ما يكون، لا ينال أحداً بسوء. فقال: هذا لا يدعها أبداً. ومن قول آدم بن عبد العزيز:
شربنا الشراب الصرف حتى كأننا ... نرى الأرض تمشي والجبال تسير
إذا مر كلب قلت قد مر فارس ... وإن مر هر قلت ذاك بعير
تسايرنا الحيطان من كل جانب ... نرى الشخص كالشخصين وهو صغير
677 - وعيس بنى الدنيا لقاء بناتها
في (ثمار القلوب): بنو الدنيا هم الناس، وقيل لعلى (رضى الله تعالى عنه): أما ترى حب الناس للدنياء؟!
فقال: هم بنوها.
وسمعت الخوارزمي يقول: أحسن ما قيل في مدح النساء، قول الشاعر:
ونحن بنو الدنيا وهن بناتها ... وعيش بنى الدنيا لقاء نباتها
678 - فلم يفتلذك المال إلا حقائقه
نصيب:(663/42)
إذا المال لم يوجب عليك عطاَءه ... صنيعةٌ تقوى أو صديق توامقه
بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... فلم يفتلذك المال إلا حقائقه
679 - فنفشت أذنابها
في (خزانة الحموي): كتب ابن جلنك الحلبي إلى قاضي القضاة كمال الدين بن الزملكاني. رقعة يسأله فيها شيئاً فوقع له بخبز، واستحى أن أقول: انه رطلان، فتوجه ابن جلنك يوماً إلى بستان يرتاض فيه، فقيل: أنه لقاضي القضاة المشار إليه فكتب على حائط البستان:
لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها
والبان تحسبها سنانيراً رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها
680 - اتفاق عجيب
قال صاحب المسهب: كنت بمجلس القاضي ابن حمدين وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها وفي الجملة هلال شاعر غرناطة ومحمد ابن الاستجى شاعر استجه الملقب بحركون. فقام الاستجى وأنشد قصيدة منها:
إليك ابن حمدين انتخلت قصائدا ... بها رقصت في القضب ورق الحمائم
أنا العبد لكن بالمودة اشترى ... إذا كان غيري يشترى بالدراهم
فشكره ابن حمدين ونبه على مكان الإحسان، فحسده هلال البياني، فلما فرغ من القصيدة قال له هلال: أعد على البيت الذي فيه ورق الحمائم، فأعاده. فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق.
فقال له محمد الاستنجى في الحين: ولو أزلت أنت النقطة عن العين كنت تحسن (وكان على عين هلال نقطة) فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب.
681 - من زاوية إلى زاوية
كان مهيار الديلمي الشاعر الأديب صاحب المحاسن والشعر العذب الرائق مجوسياً فأسلم على يد السيد المرتضى وكان يتشيع.
قال له القاسم بن برهان يوماً: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية.
قال: وكيف ذلك؟(663/43)
قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب محمد في شعرك. . .
682 - فلا يسب أبا بكر ولا عمر!
قال ابن قطرال: كنت بالمدينة إذ أقبل رجل بفحمة في يده، فكتب بها على جدار هناك:
من كان يعلم أن الله خالقه=فلا يحب أبا بكر ولا عمرا
وأنصرف، فألقى على من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل، فجعلت مكان يحب يسب. ورجعت إلى مجلسي، وجاء فوجده كما أصلحته، فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، كأنه يطلب من صنع ذلك ولم يتهمني، فلما أعياه الأمر أنصرف.
محمد اسعاف النشاشيبي(663/44)
يوم في الجامعة
مسرحية في مشهد واحد
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
مثلها طالبات معهد التمثيل وطالباته في حضرة صاحب الجلالة الملك بقصر صاحبة السمو الأميرة شويكار في ليلة عيد الميلاد الملكي السعيد.
الممثلون:
شفيق. يحي. عباس. طلبة بالجامعة
زينب. سعاد. سميرة. طالبات بالجامعة.
(يدخل الخمسة الأولى)
زينب: (لشفيق وهو منهمك في قراءة صحيفة):
صاح ما الأنباء؟
شفيق: عن ماذا؟
سعاد: عن الدنيا
شفيق: مهازل!!
عالم يذخر بالخلف ... ويغلي كالمراجل
يقلب الباطل حقا ... ويرد الحق باطل
يحي: وبلاد تخلف الوعد=وسُوَّاس تماطل
وشعوبٌ في ظلال الس - ـلم بالختل تقاتل
شفيق: (في اشمئزاز)
قيل دويلات صغيرات ... ودولات كبيرة!!
عباس: قولة الظلم وإن لم=تطمس الحق كبيرة
قيل ضم الناس عدل ... وعلى الأرض السلام
ظلموا العدل فما العدل ... اعتداء واهتضام
شفيق: لن يعيش الكون في سلم=ولن تطوي شروره(663/45)
ما استمر العالم ... المغرور يحدوه غروره
يحي: كل يوم صور للعس - ف والغصب جديدة
احتلال فانتداب ... فوصايات رشيدة؟؟
عباس: حفظوا المعنى وزافوا=اللفظ والدنيا شهيدة
يحي: يا دهاة العصر رو - ح العصر عدل وتصافي
يا حماة السلم ليس الس - لم إذلال الضعاف
زينب: روِّحوا عنكم فمصر=حرسَ الله عُلاها
هي بالفاروق قد أو - فت على أسمى مناها
سعاد: ملك منًّ به الله=عليها فاجتباها
وحماها كل مكروه ... وبالنفس افتداها
يحي: مصر والفاروق صنوان=جلالاً وعلاء
هو يحبوها خلوداً ... وهي تحبوه ولاء
عباس: ذكرت الولاء لمولى البلاد=وباعث نهضتها الرائعة
وأولى العباد بهذا الولاء ... شباب البلاد بنو الجامعة
شفيق: رعانا وأنشأنا نشأة=نباهى بها في الشعوب الشبابا
زينب: وهيأنا لغد صالح=فكان الدعاء وكنا الجوابا
عباس: وشجع من نبغوا بيننا=فزدنا دنواً له واقترابا
شفيق: (في فخر وادعاء)
دعانا فأنزلنا قصره ... وبوأنا المنزل المستطابا
زينب: (في استنكار مرح)
دعاك؟ وهل كنت فيمن دعا؟
سعاد: (في حال كحالتها)
ومثلك ما همَّ إلا وخابا
شفيق: (ينظر لهما في غيظ مرح ويقول في نغمة يائسة):
دعاهم فأنزلهم قصره ... فنالوا المنى عنده والرغابا(663/46)
يحي: وأطعمنا قبل حلو الطعام=رضا فزكا الحمد منا وطابا
وكرمنا فحنينا الرؤوس ... بأعتابه وخفضنا الرقابا
شفيق: وحملنا
(ثم يستدرك ويقول)
وحملكم مشعلاً يهتدي ... به الجيل بين طوايا الظلَم
عباس: وأيقظ فينا شعور الجهاد=وزودنا بالحجى والهمم
وقال إذا شدتمو للبلاد ... صروحاً على الفضل لم تنهدم
زينب: وعلمنا السبق للمكرمات=وكرم من بيننا من سبق
شفيق: وقال بأخلاقكم فابدأوا=فإن عتاد النجاح الخلٌق
سعاد: وكان لنا مثلاً نحتذيه=فأنعمْ وأكرمْ بهذا المثل
يحي: رعى شعبه واتقى ربه=على سنة الراشدين الأوَل
فبوأه الله عرش القلوب ... وأسكنه الشعبُ بين المقَل
(تدخل سميرة وهي تكاد تعدو وتشير إليهم بأوراق في يدها في فرح وزهو)
الجميع: سميرة
سميرة: بشراكمو إخوتي=وأبناء جامعتي النابهينا
بلغنا مني العمر فزنا بما ... حسبناه حلماً
بعضهم: (في لهفة): ألا خبرينا
سميرة: مدينة فاروق زين الملو - ك للطالبات وللطالبينا
عباس: ألا إنها أمل لم يكن=به الدهر إلا شحيحاً ضنينا
يحي: قطعنا الزمان وأحلامنا=تداعبه وعبرنا السنينا
سميرة: ألا فاهنأوا قد ظفرتم به
شفيق: أحقاً تقولين أم تهزلينا
سميرة: أأهزل في منة للمليك=ستلزم أعناقنا ما حيينا؟
زينب: بربك قولي الذي تعرفين
شفيق: وقولي كذلك ما تجهلينا(663/47)
(تتكلف سميرة التحفظ في مرح)
سعاد: (في صبر نافد):
ألا تنطقين!!
سميرة: (تشير بيدها إشارة لا)
شفيق: (في حركة صبيانية): سنمضي إلى=العميد فنعلم ما تعلمينا
(يهمون بالخروج فتقف سميرة في سبيلهم مادة ذراعيها لمنعهم)
سميرة: تعودوا الصبر
يحي: إن الصبر عادتنا=في النائبات. وهذي فرحة العيد
شفيق: بحق فاروق قولي ما أحطت به=فما سكوتك عن هذا بمحمود
سميرة: (في فخر ومرح):
إذن خذوا أكرم البشرى وأروعها ... وتوجوها بتحميد وتمجيد
مدينة الجامعيين التي وعدوا ... قدما ًفكانت سراباً في المواعيد
قد هيأ العاهل الفاروق مولدها ... على يديه. فكانت خير مولود
قال ارفعوها وساق المال عن سعة ... وذاك أقدس تعضيد وتوطيد
وساهمت أمراء البيت تَقْدمهم ... أميرة الفضل والإحسان والجود
شفيق: قد كان يعلم ما يلقى الغريب إذا=نبت به الدار من هم وتسهيد
عباس: رمت بنا مصر من أقصى أطرافها=فلم تزل بين إرهاق وتشريد
يحي: (يشير لشفيق):
وبيننا فئة لجِ الشباب بهم ... سَمْت العثارِ فألقوا بالمقاليد
شفيق: لأنهم حرموا دوراً تزف لهم=رقابة الأهل في عطف وتسديد
يحي: ما زال فاروق يهدينا ويكلأنا
سميرة: في ظل مُلك منيع الركن ممدود
(الجميع في صوت واحد):
هذي مدينتنا كدنا نطيف بها ... يا عيد فاروق. هذي منحة العيد
ستار(663/48)
البريد الأدبي
عود إلى لقب السفاح:
كنت ذهبت في مقالات نشرتها بالأعداد (346، 347، 349) من مجلة الرسالة الغراء، إلى أن لقب السفاح لم يكن اللقب الحقيقي لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وإنما هو لقب أطلقه عليه بعض المؤرخين، وأخذه من قوله في بعض خطبه (فأنا السفاح المبيح، والثأثر المنيح) فغلب عليه في كتب التاريخ، وغطى على لقبه الحقيقي، ثم ذكرت أن لقبه الحقيقي كان القائم أو المهتدي أو المرتضي، كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والقلقشندي في صبح الأعشى.
وقد ذكر الأستاذ ميخائيل عواد نصاً جديداً في العدد الأول من السنة العاشرة من مجلة المعلم الجديد العراقية، نقله عن هلال بن المحسن الصابي صاحب كتاب رسوم الخلافة، وقد جاء في هذا النص أنه اختلف في لقب أبي العباس، فقيل القائم، وقيل المهتدي، وقيل المرتضي، لما غلب عليه السفاح، وإنما ذكر بذلك لكثرة ما سفح من دماء بني أمية.
ولا شك أن هذا النص يؤيد الرأي الذي ذهبت إليه، ويثبت أن لقب السفاح قد وصف به أبو العباس من بعض المؤرخين، ولم يكن لقباً حقيقياً له.
عبد المتعال الصعيدي
اللجنة الثقافية للجامعة العربية:
عقدت اللجنة الثقافية العامة جلستها الأخيرة في الأسبوع الماضي فبحثت في مشروع إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية الموجودة في العالم وتصوير أقيمها وأفيدها ووضعها تحت تصرف العلماء والباحثين والناشرين في أطراف العالم.
وقد قابلت اللجنة هذا المشروع بتحمس شديد لأنه يضمن الوصول إلى كنوز الفكر العربي ويحفظ تراثه الموجود من الضياع والتشتت، وقد أقرت هذا الموضوع، وطلبت عرضه على مجلس الجامعة العربية في دورته المقبلة، ثم نظرت في مشروع مؤتمر عام يجتمع فيه عدد كبير من علماء العرب الذين يعنون بالثقافة العربية فيبحثون في أمرين على غاية من الأهمية في تقوية الروح القومية والثقافية العربية.(663/50)
أولهما: وضع مناهج للحد الأدنى من الثقافة العربية في التاريخ والجغرافيا والأدب والأخلاق ينبغي أن يتلقاها طلاب العرب في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية لتقوي فيهم الروح العربية الفاضلة، ويطلعون على ما ينبغي عليه من الثقافة العربية.
وثانيهما: بحث وسائل تحسين الطرق والأساليب التي تدرس بها اللغة العربية، فأقرت اللجنة فكرة عقد هذا المؤتمر وعهدت إلى مكتبها الدائم بأن يؤلف لجنة من خبراء في الثقافة العربية يعدون وسائل عقد المؤتمر ويحضرون موضوعاته ويدعون إليه.
إلى فضيلة الأستاذ الطنطاوي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قدمت - أعزك الله - في معرض حديثك عن حرية الكتابة، مثالين اعتمدتهما سناداً لما رويته عما يرتكب في هذا الزمن من خطيئات، وما ينشر من مفاسد وإهانات، تسئ إلى أرباب العلم والأدب، فيكون نشرها جرماً بالنسبة إلى المجتمع العلمي والأدبي، كما يكون السكوت عن مثل هذه الافتراءات، وترك أصحابها يسرحون ويمرحون كمل يحلو لهم جرماً أشد وقعاً على ذلك المجتمع، وقد كان أول المثلين عن كتاب أو ديوان. . . (قالت لي السمراء)، الذي أر فيما قلته عنه إلا الحق الصراج، والنقد المباح الذي لا يترك في نفس المطالع حقداً ولا تميزاً، وإنما هو الإقناع مأتي من أحسن نقاطه، لكل من تهمه الأخلاق، ويهمه أن يكون الدين أو المجتمع مبنياً على ركيزها.
وأما المثل الثاني، فكان عن كتاب يدرس في الصف المنتهي للمدارس الثانوية، هو: (مختصر في تاريخ الحضارة العربية).
وهنا أيضاً لا أرى مانعاً من نقده بما حواه من تخليطات يكفر بمثلها المؤمن، وغلطات علمية لا تغتفر، يجب أن يحاسب المؤلف عليها حساباً عسيراً، وإنما الذي راعني وراع كثيرين غيري ممن يحفظون لكم كبير المقام، ويرمقونكم بنظرات الإكبار أن تأخذوا على المسيحي، أو غير المسلم، تدريس علم التاريخ، والعلوم كما يراها كل الناس، مشاع لا يجوز أن يحتكرها المسلم أو غيره، وليس عجيباً أبداً أن يدرس هذا العلم المسيحي ما دام يقوم بتأدية قسطه العلمي على أتمه، ويؤدي واجب هذا الفرع من العلم بما يرضي الله عباده العالمين الراسخين بذلك العلم.(663/51)
لقد قلت - حفظك الله - قبل الآن: (أفسمعت بأعجب من تدريس الخواجة ميشيل والخواجة توما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟)، وما يمنع - يا سيدي - الخواجة ميشيل من ذلك إذا رأيناه عند تدريس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، متحمساً لها، متعمقاً بدراستها، لا يترك كبيرة أو صغيرة، ولا شاردة أو واردة من تلك السيرة إلا أتى عليها، ولا مصدراً إلا كشف عنه وبين محاسنه ومساوئه؟ وما الفرق بين عدنان وغسان، أو (نظيم) و (ميشيل) أو سواهم، والكل درس في فرنسة، وتلقى علمه وأدبه ونال شهادته التي هو موظف بموجبها، ويتقاضى راتباً بموجب درجتها، من تلك البلاد الأجنبية؟ ليس من فرق بين هذا وذاك، سوى أن الأول رجع إلينا بمذهب شيوعي وزوجة فرنسية. . . ولم يرجع الأخر وهو أحرى بذلك - إلا بعلمه.
إن معظم هؤلاء المعلمين يا صاحب الفضيلة، ملحدون، ولأمور دينهم ودنياهم لا يفقهون، وعن طريقها القويم ضالون، وما أنت - أيها الأستاذ - بغريب عن كل ذلك، وما المشادة التي حصلت بينك وبين بعضهم في زمن ليس بالبعيد، وكانت السبب الأول في تركك التعليم في المدارس الثانوية، وتوجهك وجهة القضاء الشرعي، إلا من أدعم البراهين لما أقول.
أنا أول من يقول بإبعاد من لم يكن كفئاً للتدريس عن مسارح التعليم، كائناً ما كان دينه، وأول من يؤيد فكرة القيام بفحص عام لهؤلاء الذين يحملون شهادات الجامعات الفرنسية، وبينهم من يحمل الدكتوراه في الأدب العربي، وكانت أطروحته عن أحد الخلفاء الراشدين، والمجاز في علم الجغرافيا، ولا يعلم حدود بلاده على التحقيق! ويقول أثناء إلقاء دروسه: (هؤلاء الجبال يمتدون مرتفعين) وإذا كنت كذلك فلا أراني معارضاً إبقاء من هو أهل للتعليم من هؤلاء - وهم كثرة أيضاً - في مركزه.
وأخيراً، أرجو أن لا أكون أغضبت فضيلة الأستاذ، بما أقدمت على لفت نظره إليه، وهو الواسع الصدر؛ وما دفعني إلى ذلك إلا حبي لصراحته وأسلوبه النقدي أولاً، ثم لأدفع عنه تهمة أحب البعض ممن يدعون التجدد من الشباب إلصاقها به، وهو بعيد عنها، حيث قالوا: إن فضيلة من (المتعصبين) أو ممن يدعوهم مركزهم الديني ووظيفتهم الشرعية إلى مثل هذا الكلام في صدد بعض المعلمين المسيحيين، وأنا أول من يشهد بأن الأستاذ - وهو(663/52)
الجرئ في كلشيء - لم يقصد بما قال إلا وجه الحقيقة والدين والأخلاق، وهو عما ينعتونه بعيد، ومما يلصقونه براء
وعلى كل حال فالرأي له، وهو أجدر بالرد على هؤلاء، بما عرف به من لسان فصيح، ونطق بليغ، وحجة قوية؛ بشرط أن يميز بين هؤلاء وأولئك ممن عنيتهم في صدر كلمتي هذه، والسلام.
دمشق
عزت عثمان
مجاز في الأدب والفلسفة(663/53)
القصص
قصة البانية:
المهد الذهبي
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 3 -
اتجه الشابان إلى المقهى الذي اعتادا الجلوس عليه، وقبل أن يصلاه قابلهما صديقهما (شفيق حامد) ومر بهما دون أن يحييهما، فظنا أنه لم يرهما، أو أن شاغلاً شغله عنهما، ثم إنهما انتحيا في المقهى ناحية خالية من الناس واتخذا مقعدين متقابلين وبعد صمت لم يدم طويلاً قال فريد:
- لا يعلم إلا الله وحده أين أكون بعد شهر من هذا التاريخ؟
- من الرأي ألا تبرح المدينة إلا إذا دعت ضرورة ملحة.
- وهل أنا مجنون؟ كيف لا أبرحها وعندي جبل من النقود؟
- لا تبرحها لنرى أولاً مقدار النقود التي ستحصل عليها من هذا الكنز.
- إنها عدة ملايين على أقل تقدير.
- ما دمت تريد الملايين يجب أن تظل هنا مؤقتاً.
- أظل هنا لأخرج كل يوم إلى المتجر وأقضي نهاراً متعباً في البيع والشراء كما كنت قبلاً! إن ذلك لن يكون.
- أمهلني لأتمم حديثي. يجب أولاً أن تعرف قيمة الآثار المادية، ثم يجب ثانياً أن تبحث عن طريقة لبيعها، فإذا ما تم ذلك وأصبحت النقود معك فيجب إبقاء عليها من الضياع أن تضع مقداراً كبيراً منها في بنوك سويسرا وانجلترا، ومن النقود الباقية يجب أن تنشئ معهداً خيرياً يعلو به ذكرك، ويخلد اسمك.(663/54)
- نعم! في مقدمة مشروعاتي أن أعمل شيئاً خدمة للوطن وليكن معهداً كما تقول للتعليم بالمجان.
- معهد خيري لتعليم المواد المختلفة ويتبعه مستشفى لمعالجة الفقراء، وتجلب لهما كبار العلماء، ومشاهير الأطباء في العالم، عدا من يقع عليهم الاختيار من أبناء الوطن المبرزين، وتدفع لهم أجوراً طبية.
وماذا أيضاً؟
- تريث فحديثي لما ينته، ثم تنشئ أيضاً ملجأ للعجزة والمعوزين الذين نكبهم الدهر في أنفسهم وأهليهم. . . وتؤسس مكتباً للمحاماة يضم أشهر المحامين ليقوموا بالدفاع عن أولئك القرويين الذين تضيع كثير من حقوقهم لجهلهم بالقضايا وعدم ترددهم على المحاكم. وتلحق بهذا المكتب داراً للكتب! ولكن اترك أنا هذه الأخيرة فأني أريد أن أقوم بها.
لماذا؟
هل تريد أن تعمل أنت الآخر شيئاً؟ قال فريد هذه العبارة بتعجب رداً على استدراك صديقه كأنه لم يرقه. فأجابه محمود:
نعم! أريد أن أخلد أنا الآخر اسمي ولكن ذلك يتوقف على المقدار الذي ستتنازل لي عنه، فإن كان كثيراً فسأقوم أنا أيضاً بتأسيس معهد آخر.
ومن أي أنواع المعاهد يكون هذا المعهد؟
معهد ثقافي أجمع فيه علماء اللغة، وأقوم بطبع مجلة شهرية، وأدون مفاخر الألبان وقصص القدماء وأشعارهم وأغانيهم وعاداتهم بحيث لا أترك بقعة من بقاع الدنيا إلا سردت تاريخها وطبائع أهلها، وكل ما مر بها، وأخرج كل ذلك في كتب مفيدة، وأكافئ مؤلفيها أحسن مكافأة تشجيعاً وحثاً على الاستزادة، وسأؤلف لجنة تقوم بتصحيح وطبع القواميس وترجمة كتب من عيون الأدب العالمي، وسأنشئ داراً عظيمة للكتب وصالة عظيمة للمحاضرات.
هذا حسن، وستقوم به إن شاء الله.
ثم إنه يلزم بعثة من رجال ممتازين ممن تفوقوا في مدارسنا لإرسالها إلى الخارج لتتخصص في الفنون التي ستقوم معاهدنا بتعليمها. وفي هذه اللحظة داخل المقهى صديقهما شفيق حامد وتلفت عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه كأنه يبحث عن شخص بعينه، ولما(663/55)
وقع نظره على فريد ومحمود اقترب منهما فحياهما وسألهما عن السيد لطفي فأجابا أنهما لم يرياه فاستأذنهما وخرج يواصل البحث عنه، ولم تمض بضع دقائق على خروجه حتى دخل السيد لطفي يتلفت هو الآخر ولما مر بجانبهما قال له فريد: لقد كان هناك منذ قليل (شفيق) يبحث عنك.
وإلى أين ذهب؟. ألم يقل لكما؟
لا ندري! فقد خرج دون أن يقول إلى أين ذاهب؟
لعله يرجع، فإني متعب من البحث عنه، ثم أدنى كرسيه منهما وقال: هل لديكما ما يمنع من أن أتشرف بالجلوس إليكما فقالا له:
تفضل فليس أحب لدينا من ذلك.
خلع السيد لطفي معطفه ووضعه فوق مسند الكرسي ثم جلس مع الشابين تبدو عليه مظاهر الحزن ودلائل التفكير مما حمل فريداً ومحموداً على سؤاله.
ماذا عندك؟ وفيم تفكر؟
لا شيء، فلم يجد للآن جديد وإني أعتقد أنه بعد قليل من الزمن سيكون لدينا أخبار جديدة مهمة.
وهل تعتقد أن شيئاً مهماً سيحصل؟
أقصد أخباراً شخصية خاصة لا مصلحية عامة.
طبعاً، إنك تعرف أننا نحب أن نسمع عنك كل خير ونتمنى لك كل سعادة.
أعرف ذلك جيداً وأشكركما.
على كل حال فإننا نهنئك مقدماً بما تنتظر من خير.
آه! لو تعرفان ماذا أنتظر؟ ثم رأى صديقه شفيقاً قد دخل من باب المقهى فقال لهما: هذا هو شفيق؛ وناداه فاقترب منهم وقال للسيد لطفي: أين كنت؟ فقد فتشت عنك كثيراً، إني أريد أن أحدثك على انفراد في موضوع هام.
انتظر قليلاً حتى أشرب الشاي فقد أوصيت عليه.
المسألة مهمة، لا تحتمل الانتظار، فاعتذر السيد لطفي للشابين ولبس معطفه وخرج مع شفيق.(663/56)
قال فريد لصاحبه ضاحكاً ماذا بهما؟
قد سمعت إنه يقول: أعمال خصوصية، ولست أدري ماذا يريد بها؟
لا يبعد أن يكون قد التحق بوظيفة؛ فإنه يسعى لهذا من زمن بعيد، وأنا أعلم أن حاله سيئة جداً.
مسكين والله؛ فقد كانت أسرته من أغنى الناس، وكانوا جميعاً يرتعون في بحبوحة النعيم ولكن! هي الأيام.
يقال في المثل: ارحموا عزيز قوم ذل، فإن مصيبته أكبر من مصيبة من لم يذق للعز طعماً.
لقد باعوا كلشيء بالمزاد؛ فقد كانت بيوتهم مجاورة لبيوتنا. . . وبعد فترة سكوت قصيرة رجعا إلى ما كانا فيه من حديث قبل مجيء السيد لطفي، فأخذا يتباحثان في أحسن الوسائل وأنجح الطرق لإنفاق هذه الأكداس المكدسة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. . .
ولما دقت الساعة الثامنة خرجا من المقهى وفي الطريق دعا فريد محموداً للمبيت معه في منزله، ولكن محموداً اعتذر؛ فقد شم من بعيد أن والد صديقه قد ثقل عليه أن يراه مع أبنه في البيت.
وقال لفريد. سنتقابل في الصباح المبكر، ثم افترقا بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة.
عندما وصل فريد إلى منزله قصد إلى حجرة والدته التي كانت مريضة مرضاً مزمناً من سنوات مرت، وليست تستطيع أن تفارق الفراش ولا أن ترى الموقد غير مشتعل ليلاً أو نهاراً، وكان فريد يقضي معها بعض الوقت كل يوم في الصباح قبل الخروج إلى المتجر وفي المساء بعد العودة منه، ولم رأته في هذه الليلة والسرور يشع من قسمات وجهه قالت له بعد أن صرفت الخادم التي تقوم بشئونها: لقد أخبرني والدك بما حدث فهل أنت مسرور؟ فرد عليها بصوت تعمد أن يكون رزيناً هادئاً فقد ضبط شعوره حتى لا تتأثر والدته. . . نعم أنا مسرور جداً؟ فإن الحظ قد ابتسم لنا وأصبحنا نستطيع أن نمد يد المساعدة للآخرين. وأنت ماذا قلت عندما بلغك الخبر؟. فابتسمت ابتسامة لطيفة وإن ظل بريق الحزن المكبوت في قلبها يشع في عينيها؛ فقد كانت محرومة من كل نعيم في الدنيا،(663/57)
وقد علمها المرض أن التقديس لا يكون إلا للكنوز المعنوية وهي العمل الصالح الذي ستلقاه شفيعاً لها أمام الله يوم الضيق، والضنك، يوم القيامة ولذلك أجابت:
لم أقل شيئاً! وإنما سررت كثيراً جداً من أجلك أنت. فقال بصوت امتلأ حناناً وإجلالاً وتقديراً: سيكون أول عمل أبدأ به أن أرسل في طلب أشهر الأطباء العالميين المتخصصين ليقتلع جذور هذا المرض الوبيل من جسمك الطاهر. فأخذت يده في يدها وجعلت تضغط عليها تعبر بذلك على أنها سعيدة بسعادته وأنها تتمنى له كل خير. . .
غادر فريد حجرة والدته، وعطف إلى حجرة المائدة فوجد والده يتناول عشاءه وهو عبوس الوجه، مقطب الجبين، شارد اللب، مبلبل التفكير، ورد تحية ابنه بصوت ضعيف حزين، ثم خيم سكون شامل، لم يكن يقطعه إلا رنين الشوك والملاعق وخشخشة السكين في الأطباق، وإن فريد - وقد تناول عشاءه مع بيرام ومحمود مبكراً - جلس ساجي الطرف، مطرق الرأس متحيراً، لا يدري السر في حزن والده المفاجئ، ولا يعرف من أين ولا كيف يبتدئ الحديث معه؛ فقد انسدت عليه مسالك القول من هذا الجو القاتم، ولم ير من المستظرف أن يغادر المكان دون أن يتكلما في الموضوع على انفراد ليكونا طليقين. . . وأخيراً وبعد صمت طويل قال الوالد في تأثر ظاهر: كان يسرني أن تكون أبعد نظراً، وأسد رأياً، وأكثر حكمة، فلا تقع في هذا الخطأ الذي وقعت فيه فإن قعودك عن مرافقة القروي إلى الكهف قد يفوت عليك الفرصة، ففي المثل (إذا خرج الطير من الوكر فإن القبض عليه ثانية مصادفة قد لا تكون). وهاهي السيارات تحت تصرفك فلم لم تركب إحداها وتذهب معه؟ ألا تخشى أن يذهب القروي إلى غيرك؟
لست أعتقد ذلك، فقد خرج شاكراً لأني أعطيته جنيهين.
وهذا أيضاً تصرف سيئ؛ فإن جنيهين مبلغ لا يعري كان الواجب أن تعطيه خمسة على أقل تقدير.
أنه غير محتاج؛ فقد سألته عند انصرافه أن يأخذ غيرها فرفض.
سكت التاجر لحظة والغضب يشيع في وجهه، ثم قال فيشيء من الحدة: ولماذا أطلعت محموداً على هذا الموضوع؟ ألا تعلم أنك بهذا العمل قد برهنت على قصر نظرك، وقصور عقلك، وعقم تفكيرك، وأن محموداً سيطالب هو الآخر بمثل نصيبك في هذا الكنز؟ ولن(663/58)
تستطيع أن تدافع عن أحقيتك منه. . . فنكس فريد رأسه ولم يقل شيئاً بل جمد في مكانه يستمع إلى والده وهو يقول: أتستبعد أن يتسلل محمود في هذا الوقت إلى القروي ويعرض عليه شروطاً أسخى؟ وطبيعي لا يرفض القروي، بل إنه يرحب به وينساك وينسى هذه الساعات التي قضاها معك هنا. . . إنك دائماً لا تحسن التصرف في الأمور التي تتولاها وأنا غائب! فرفع فريد رأسه وعارض والده فيما نسبه لصديقه وقال له في قوة: لا يا والدي! إن محموداً لا يفكر في مثل هذا.
يا بني، مثل هذه الأعمال يجب على الإنسان أن يخفيها حتى عن أقرب الناس إليه، فقديماً قيل: (اسْتعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) وأنت لا زلت فتى غراً، قليل الدراية بأخلاق الناس ومعاملتهم. . .
إنني يا والدي لم يصادفني مثل إخلاص محمود ولا مثل مروءته وحفظه لحقوق الزمالة.
قد يكون ما تقول حقاً، ولكن على الإنسان أن يحتاط لنفسه. ثم ساد بينهما الصمت حتى فرغ الوالد من طعامه وقال: متى يأتي القروي؟
سيأتي في منتصف هذه الليلة.
أذن عليك أن تنتظره حتى يجيء بالعينات لنراها ونعمل حساباً مبدئياً لما قد نحصل عليه من مكسب. فإنه قبل الشروع في العمل يجب أن نتعقل ونتروى؛ لأن أقل خطأ يتركنا صفر اليدين. وإن عليك ألا تسير خطوة واحدة في غير الطريق التي أرسمها لك، فالآثار ذات القيمة يلزم نقلها على الخيل أو السيارات أولاً وإخفاؤها في الدور الأسفل من هذا المنزل، وإن كان في الأزيار نقود - كم أعتقد - فإنه لا بد من سفرك إلى الخارج لتبيعها على دفعات متواليات. وأما الأشياء الأخرى فما نستطيع تصريفه منها نبقيه وما لا نستطيع تصريفه نرسله إلى الخارج أيضاً.
هذه يا والدي عملية شاقة تحتاج - كما تقول - إلى كثير من التبصر والحكمة.
نعم يا بني! ومن أجل ذلك فإن المكسب سيكون عظيماً وسيعيننا على توسعة تجارتنا وإنشاء متجر كبير لنا في (تيرانا) العاصمة. . . إنك لم تقص عليّ ما اتفقت عليه مع بيرام، وماذا يكون نصيبه من المكسب؟
لقد اتفقت أن نبذل له معونتنا، وأن نقتسم ما نحصل عليه مناصفة.(663/59)
أبك جنون؟ كيف تتفق معه هذا الاتفاق؟ ولكن لا بأس! فسأعرف كيف أرضيه. إن مائتين من الجنيهات نفرغها في جيبه - بعد أن ننقل من الكهف كلشيء - مبلغ لن يحلم به ولن يقدر أنه سيحصل عليه. فقال فريد: وماذا نعطي محموداً؟
إنك قد أدخلت محموداً في هذا الموضوع من غير داع، وهذا خطأ كبير، فلنترك له تماثيل الأحجار، واللوحات المكتوبة وليذهب بنفسه ليأخذها بعد أن ننتهي من بيع الأشياء الأخرى
قد يكون ثمن التماثيل واللوحات أكثر من ثمن تلك الأشياء؟
إن ذلك هو الواقع! ولكن من المستحيل تهريبها خارج القطر، ثم إن الحكومة ستعلم - إن عاجلاً وإن آجلاً - بشأنها وتستولي عليها، والمهم أن ننجو نحن بما نريد.
مكث التاجر مع ابنه طويلاً يتحدث إليه في هذه المسألة وكان كل هم الوالد أن يؤسس لهما تجارة جديدة في (تيرانا) وفي العاصمة الثانية (دورس) أكبر مواني ألبانيا. ولكن (فريداً) كان غير مرتاح لهذا الرأي فكان إذا أبداه والده اعتصم بالصمت، وقد كان من رأيه أن التوسعة في التجارة لا فائدة منها ما دامت لديهم هذه الكثرة من النقود. . . ثم إن (السيد عفت) أوى إلى فراشه وترك ابنه في انتظار (بيرام) فقام (فريد) إلى الموقد - وكانت ناره قد خبت - فأشعله، وجلس بجانبه يتصفح جريدة صباحية؛ إذ لم يكن إلى هذا الوقت قد استطلع الأخبار؛ ولكنه عجز أن يحصر انتباهه في الجريدة فقد كان بعيداً بعقله عنها وعن كل ما حوت. وإن عينيه لم تغادرا السطر الأول؛ فقد احتلت اقتراحات محمود بؤرة شعوره، وسيطرت على تفكيره؛ فرأى نفسه على رأس معهدين كبيرين ومشى وراء خياله في تلك الشوارع الواسعة التي ضمت المؤسسات الخيرية التي أنشأها، وتحدث كرئيس أعلى لتلك المؤسسات إلى كبير الأطباء، ومديري المعاهد، وأمناء دار الكتب، وإلى المؤلفين، وإلى غيرهم من الموظفين الذين يأتمرون بأمره؛ فكانوا جميعاً يحوطونه بهالة من الإكبار والإجلال، كسباً لعطفه، واغتناماً لمودته، ثم طار في عالم اللذات فرأى أن المؤسسات تحت رعاية طبية لا تحتاج إلى الكثير من الرعاية، وأن في استطاعته أن يقوم بسياحات واسعة في أوربا، وأمريكا، وأفريقية، ليمتع نفسه تمتع من يملك مثل ثروته. وإنه لفي هذه الأحلام اللذيذة وإذا بأجراس الكنيسة تعلن انتصاف الليل فتدق اثنتي عشرة مرة، فاهتز جسمه، واضطرب قلبه، وأرهفت حواسه، وانقطعت سلسلة أفكاره؛ فقد اقترب موعد(663/60)
(بيرام). . . ولقد طغت عليه موجة من الخوف والحزن كادت تعتصر قلبه، وتسلبه شعوره، حينما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، فأخذ يدور في الحجرة في غير وعي؛ وظل هذا حاله إلى أن دقت الساعة دقتين فثاب إليه بعض الرشد وقصد إلى حجرة الأضياف وأطل منها على الطريق غير عابئ بقارس البرد؛ فإن حرارة جسمه، وثورة غضبه، وإشفاقه من أن يتحكم فيه سوء الطالع وتلعب به يد الأقدار، جعلته في حالة لا يحس معها برداً. . .
أمسكت السماء عن المطر، وانجابت السحب في بعض الأماكن، وأرسلت النجوم من عليائها على الأرض ضوءاً خافتاً ضعيفاً، ومضى الوقت وئيداً وئيداً، واشتد الحزن بفريد شيئاً؛ فشيئاً؛ فملأت الدموع عينيه وضاق به المكان، فرجع ثانية إلى حجرة المائدة، ووقف بجوار الموقد - وقد نسي أن يضع عليه وقوداً - جامداً كالتمثال، إلى أن طلع الفجر، واستنار الكون فأيقن أن رجاءه قد خاب، وأن أمله قد ضاع لأن (بيرام) لم يرجع.
(يتبع)(663/61)
العدد 664 - بتاريخ: 25 - 03 - 1946(/)
أعداؤنا الثلاثة
كانت (الرسالة) أول من حصر أعداؤنا الثلاثة في الجهل والفقر والمرض حين اقترحت على وزارة الشؤون الاجتماعية أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت هذه العناوين، لأنها جُمّاع الملل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؛ وقالت يومئذ: إن هذه الوزارة تجديد رسمي لدعوة النبوة، فملاك الأمر فيها الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. ثم انتظرنا وانتظر الناس، فإذا هي وزارة كسائر الوزارات: مكاتب وكتاب، وسعاة وحجاب، وأوراق تفرق وتجمع، وأرزاق تقّدر وتوزّع، ثم علم من غير عمل، أو عمل من غير علم؛ وإذا نحن بعد ثماني سنوات من عمرها لا نزال من الأمية والفاقة والعلة في الموضع الذي كنا فيه إذا لم نكن تأخرنا عنه. ذلك لأنها وزعت جهدها الضئيل ومالها القليل على ما سلبت من اختصاص الوزارات فعجزت عن أداء ما خلقت له؛ وتعاقب عليها الوزراء والوكلاء تعاقب الظلال الخفاقة ثم يمهلوا حتى ينضجوا الرأي ويرسموا الخطة ويبتغوا الوسيلة. فإذا سنح لها خاطر في الإصلاح بدأته من آخره أو أخذته من طرفه فينتشر عليها الأمر وتلتبس أمامها الوجهة. فالأمل إذن في استعدائها على الجهل والفقر والمرض وهي مصابة بهن جميعاً أشبه الأشياء باستثمار الصفصاف واستيراد العقيم. ولكن علل الشقاء المصري كانت قد برزت في وعينا القومي بروز العقيدة الراسخة والضرورة الملحة، فهي تثب إلى العيون وثوب الحصى، وتقع في القلوب وقوع النبل، فمن حاول أن يفر منها أو يغضي عنها كان كالمصحر في وسط الزوبعة أنى اتجه وجد الرمل في وجهه والظلام في وجهته. وذلك مثل الذين تزعموا نهضة الأمة في مدى ربع قرن فقصروا الجهود وحصروا الأفكار في مكافحة العدو الرابع وهو الاحتلال. ولو كتب الله لهم التوفيق لشبوها على الأعداء الأربعة في وقت واحد؛ ولو مهد لهم سبيل الفوز لجعلوا الميدان الأول للعدو الأول وهو الجهل؛ لأنه هو الذي ولد الفقر والمرض ثم استعان بهما على سلب الاستقلال، وجلب الاحتلال، وقتل الروح القومية في الشعب، فلم يكن له رأي عام لنقص إدراكه، ولا خير مشترك لضعف إنتاجه، ولا كيان صحيح لوهن جسمه. ولكن زعماءنا اختاروا أسلم الميادين، ونهجوا أسهل الطرق، وابتغوا عرض الحياة، لأن محاربة الاحتلال لا تكلفهم غير تأليف المظاهرات وإنشاء المقالات وإلقاء الخطب، ثم تنتهي بهم وشيكاً إلى الحكم والثروة والجاه عن طريق(664/1)
الدستور أطال الله عمره وأعز نصره! أما محاربة الجهل والفقر والمرض، فجهاد لا يثبت له ولا يصبر عليه إلا أولوا العزم من المجاهدين المخلصين المضحين الذين يعملون ليرضى الله، ويشقون ليسعد الناس، ويموتون ليحيى الوطن!
على أن الزعيم الحكيم يستطيع أن يدرك من وراء السياسة والحكم رضا قلبه ورضا شعبه ورضا ربه إذا تأبّى على المطامع، وتعالى عن الشهوات، ووجّه قوى الحكومة والأمة كلها إلى هذا الجهاد المقدس. إنه إن أحسن التنبيه وأخلص التوجيه وأحكم القيادة، أبلى بلاء الرسل دون أن يتصدى لمخاطر الرسالة، وجوزي جزاء الملوك دون يتعرض لمكاره المُلك، فأجناده يضحون وهو يعيّد، وقواده يحاربون وهو ينتصر، وأنداده يفنون وهو يخلد!
ليت شعري هل كان يفكر في ذلك صاحب الدولة رئيس الحكومة
القائمة حين قطع العزم على أن يكون برنامجه في الحكم مفاوضة
الاحتلال في مصر والسودان على الجلاء، ومجاهدة الجهل والفقر
والمرض حتى الفناء؟!
نعم، طوى برنامجه السياسي على هذين المطلبين، ثم أخذ يهيأ لهما الأسباب ويرصد الأهب، فألف وفد المفاوضة من رجالات السياسة، وفي الوقت عينه ألف مجلساً أعلى لشؤون الطبقات الفقيرة من وزراء المعارف والشؤون والصحة والزراعة والتجارة، وجعل لنفسه الرياسة في الوفد المفاوض وفي المجلس الأعلى، ثم بدأ العمل في الميدانين على السواء. والذي يعنينا اليوم ذكره أن هذا المجلس الأعلى قرر القيام بطائفة من اضخم المشروعات الثقافية والاقتصادية والصحية، تحقق العدالة الاجتماعية، وترفع مستوى العيش لجمهور الشعب وهو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه؛ ورأى تنفيذاً لتلك الأعمال الخطيرة أن يعقد لها قرضاً وطنياً بخمسين مليون جنيه يثمّر فيه عفو المال وفضلات الرزق فتجدي على صاحبها مرتين: مرة في نفسه، وأخرى في جنسه!
من تلك المشروعات العتيدة ما يعالج الجهل كإصلاح التعليم الإلزامي، ومحو الأمية فيمن شبوا عن الطوق وجاوزوا حد الإلزام. ومنها ما يعالج الفقر والمرض كتقسيم القطر إلى وحدات اجتماعية عامة، تنقسم كل منها إلى عشرة آلاف وحدة، تتمثل في كل وحدة جميع(664/2)
الوزارات المشتركة في هذا المجلس الأعلى فتكون سفيراً بين الحكومة والفلاح، وصلة بين العلم والزراعة، ورسولاً من الطب إلى المرضى، ووسيطاً بين التاجر والمنتج، وبرزخاً بين الناس والمعرفة؛ وتلك هي الأعمال التي أنشئت لها وزارة الشؤون فلم تستطع النهوض بها، ولم تصارح الناس بالعجز عنها؛ وظلت تعمل على هامش الحكومة: تصدر المجلة، وتعلن الموالد، وتسجل النقابات، وتزور المساجين، وتستقبل العمال، وتأخذ شيئاً من كل شيء، ولا تؤثر أبدا في أي شيء! وكان من وسائلها المرجوة لو رزقت ملكة الابتكار، أن تدبر المال والرجال بمثل ما يدبره اليوم رئيس الحكومة فتذلل العقبة التي وقفت دونها خائرة حائرة لا تعرف لأمرها قِبلة ولا دِبرة.
لقد عبأ رئيس الوزراء قوى الحكومة والشعب لمحاربة أعدائنا الأربعة، وليس في الأمة اليوم كما يقول شبابها ويردد كهولها من يضن بماله ونفسه على هذه الحرب، فهل آن لمصر السادرة في الخلاف والغي أن تدرك سر النهوض، وتعرف حقيقة الإصلاح، وتعلم أن الأمة لا تكون متمدنة إلا إذا امحت هذه الفروق المخيفة بين الخاصة والعامة، وبين المدينة والقرية؟ إنك ترى الفقير القروي في جسمه الضاوي وثوبه الخلق وجهله المطبق، ثم ترى الغني الحضري وعليه زهرة العيش ونضرة الصحة ونور العلم، فلا تصدق أن هذين الرجلين يرامهما وطن واحد، وترعاهما حكومة واحدة!
إن معرة الاحتلال العسكري تصيب المحتل في شرفه وضميره، لأنه يبرره بضعفنا ويؤيده بقوته؛ ولكن معرة الانحلال الفكري والجسدي والاجتماعي تصيب الشعب في كرامته ودينه، لأنه يرضاه وهو قادر على الإفلات من رقبته.
لذلك كنا أحياء أن نفكر بعض التفكير في عاقبة هذه الأمور؛ فأن الوزارة الصدقية محدودة الأجل بنتيجة المفاوضات، فإذا أخفقت مفاوضة الاحتلال، أو مال ميزان الانتخابات إلى الشمال، اعتزلت الوزارة الحكم لا محالة. وإذن يحق لنا أن نتساءل عن مصير العملين العظيمين اللذين بدأهما صدقي باشا؛ فأما المفاوضات السياسية فسيستأنفها وفد يتلوه وفد إلى أن يرث الله الجزر البريطانية ومن عليها، لأن هذا النوع من الجهاد كلام ونحن نجيده، وسلام ونحن نريده. وأما هذه الهبة الإصلاحية فأغلب الظن ألاَّ تستمر، لأنها بناء ونحن نحب الهدم، وعناء ونحن نؤثر الراحة، ومجد ونحن نكره أن يكون لغيرنا الإكرام! والله(664/3)
سبحانه وتعالى قادر على أن يخيب هذه الظنون. وأن يقول للشيء كن فيكون!
أحمد حسن الزيات(664/4)
كافور الإخشيدي
للأستاذ أحمد رمزي
احتدم الجدال في إحدى الليالي بين مصري وعراقي، فقال الأول: (رحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي)؛ ورد عليه الثاني وقد تملكته سورة الغضب: (رحم الله كافوراً الإخشيدي). وأشتد حنق المصري إذ وجدها كبيرة على نفسه أن يحكم بلاده كافور، فلما ألقى إليَّ ذلك قلت: (يا صاحبي لا تحزن، إن أبا المسك الأستاذ كافور كان أميراً من أكبر الأمراء، وعاهلاً من اعظم ملوك المسلمين بمصر، ويزيد بلادنا فخراً أن تولاها مثله كما لا ينقص من قدره سواد لونه، بل في ذلك دليل على علو همته. وأن لونه لم يقعد به عن بلوغ أعلى المراتب، ودليل على إننا لا نفرق بين الأبيض والأسود، لأننا جميعاً سواء. وإذا اخذ عليك ولاية كافور علينا، فقل أن ملكة شمس مصر والشام، وإنه كان يخطب له على المنابر بمكة والمدينة والحجاز جميعه ودمشق وحلب وإنطاكية والثغور وفيها طرسوس والمصيصة وغيرها من الأقاليم التي خضعت لسطوته ودامت لسلطانه كما ذكره الفرغاني ونقله ابن خلكان في ترجمته لكافور. فإذا وجدت معرة بكافور فاسأل غيرنا تجدهم قد شاركونا فيها، فكيف وليس في الأمر ممرة علينا، بل مفخرة لنا؟)
(أليس كافور من أبناء السودان، وكلنا ننشد الوحدة الشاملة؟ فكيف تستكثر على أحد أبنائه ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته؟ وهل كان كافور عاطلاً هملاً حتى تؤاخذنا به، أو نبرأ من ولايته وإمارته، وهو الذي قال فيه أبو الطيب المتنبي برغم تحامله بعد ذلك عليه:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلَّت بياضاً خلفها ومآقيا
وهو القائل فيه:
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هُمُ ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذبُ
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب)
قال: (أو لم تسمع بقارع الهجاء وشنيع الذم؟) قلت: (إذن فلنتخذ ما تنشره جرائدنا ومجلاتنا الحزبية دليلاً على إفلاسنا وفنائنا، فمتى كان يقام وزن للهجاء والتشنيع الذي يمليه الحقد والنفس الموتورة؟)(664/5)
أما أنا فآخذ بما ذكره الذهبي عن كافور إذ قال: (كان يدني الشعراء ويجيزهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية. وكان عظيم الحرمة، وله حجاب)؛ ثم قال: (إنه تقدم لدى الإخشيدي صاحب مصر لعقله ورأيه وسعده إلى أن صار من كبار القواد، ثم أتابك ولده أبي القاسم أنوجور، ووصل إلى زاد ملكه على ملك مولاه الإخشيد). وتكلم على مقدرته وكفايته وحسن تدبيره فقال: (إنه كان خبيراً بالسياسة فطناً ذكياً جيد العقل داهية)، وضرب مثلاً لذلك حين قال: (إنه كان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه وكان يذعن بالطاعة لبني العباس، ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء حتى تم له الأمر). أليس في ذلك دليل على قوته؟
وأذكر لك ما عثرت عليه من أن كافور كان أول من غزا، ولازمه التوفيق في فتح الأقاليم النوبية، فقد هاجمها قبله أبو منصور تكين التركي هي وبرقة في عام واحد، ولم يتم فتحها على يديه. ولما غزاها كافور كان التوفيق حليفه، لأن جيش المسلمين كان من السودان، وفي ذلك يقول الشاعر:
ولما غزا كافور دنقلة غدا ... بجيش كطول الأرض في مثلها عرض
غزا الأسود السودان في رونق الضحى ... ولما التقى الجمعان أظلمت الأرض
فهو أول من تمت الوحدة على يديه. وهو حامل لواء الإسلام والعروبة في أراضي السودان. ولو شئت أن تعلم عن كافور وأيام كافور وأياديه البيضاء وأنفاسه الطاهرة ومجده وسلطانه وحسن بلائه، فعليك بكتب التأريخ تنبئك عن عقل ودراية وحكمة وسياسة وحسن تصريف للأمور وفهم للناس وطباعهم، وهذه أشياء شهد له بها المعاصرون ووفوه حقه فيها. أما نحن فنرى فيه رجلاً عظيماً من عظماء القرن الرابع الهجري، خدم بإخلاص مولاه الإخشيد، وصان استقلال مصر لسنوات، وواجهته المصاعب والمشاكل والحروب فتغلب عليها وخرج من مآزقها، وهو بطل من أبطال تأريخ مصر العربية، ولذلك تجدني من أنصار كافور ومن المعجبين به ومن الداعين لحفظ ذكراه، ولو كان من الأمر شيء، لبحثت عن قبره، وأقمت قبة عليه، ثم لطلبت من أولي الأمر في مصر والسودان أن يطلق أسمه على ميدان أو شارع بالقاهرة وأم درمان والخرطوم، صيانة لذكره وإقراراً لفضله، وتوكيداً لصلات مصر والسودان.(664/6)
فإذا كان الأميركان من الملونين يبحثون عن صورة بوشكين الشاعر الروسي المشهور، ويضعونها في أحسن مكان لصلة القربى معهم لسمرة لونه، فكيف ينكر فضل كافور وهو ملك من اعظم الملوك؟ ولم لا يقوم السودان ويقعد له ويحتفي به وهو منه وإليه منسوب؟
إنني يا صديقي لا أتفق معك ولا أجاريك في قولك بأن الوطنية والكرامة تمليان حذف أسمه وسيرته وعهده من كتب التأريخ، بل أقول: إنهما تمليان علينا نشر فضائله ومحاسنه؛ وإنني كلما تأملت في عصر أستاذنا أبي المسك كافور وقرأت عنه وعن أخلاقه وسيرته بين الناس، بدت شخصيته ممتازة محبوبة عليها وقار واحترام وحشمة، لا بأعماله السياسية وحياته العامة، وهي ليست موضع نزاع، بل بأدبه وتواضعه وخضوعه لأحكام الله، وكرمه وإخلاصه لمن حوله، ولصلاته ودأبه على عمل الخير وإسداء المعروف، وهي نواح إن أهملتها بعض كتب التاريخ، فقد وجدت مبعثرة، ولذلك رأيت أن أشير إليها.
قال إبراهيم بن إسماعيل إمام مسجد الزبير: (إن كافوراً كان يداوم الجلوس بالغداة والعشي لقضاء حوائج الناس وكان يتهجد ويمرّغ وجهه ساجداً ويقول: (اللهم لا تسلط عليّ مخلوقاً). وكان لا يأنف من أصله ومولده، ويحمد الله إن رفع من قدره، وينسب ما لقي من خير إلى توفيق الله ونعمته. فقد ذكر أبو بكر المارداني، وكان وزيراً لكافور ولأبي منصور تكين التركي: (إن كافوراً كان دائم التحدث بنعمة الله عليه، ويذكر أيامه بالسودان، وكيف جيء به إلى مصر وعمره أربع عشرة سنة). وحدّث أنه كان بمدينة الفسطاط في السوق المنسوية لبني حباسة طباخ يبيع الطعام، فعبر كافور في شبابه وطلب منه شيئاً من الطعام، فضربه بالمغرفة على يده وهي حادة، فوقع مغشياً عليه فأخذه رجل ورشّ عليه الماء، وأواه حتى وجد العافية. قال: (فكلما عزّت عليه نفسه يذكر ما أصابه من الطباخ، وقد يركب ويأتي إلى ذلك الزقاق، ويسجد شكراً لله على نعمائه). وكان يفعل ذلك في إبان ملكه ومجده وعظمته.
قلت لصاحبي وقد يكون في ذلك بعض المبالغة من أصحاب السير؛ ولكن ما الحكمة في ذلك وكافور لم يعقب نسلاً ولم يترك أهلاً ولم تصمد دولته بعده ليتملقها الكتّاب والمؤرخون؟ وهذه ناحية أخرى تحبب إليّ الرجل: هي فهمه للناس وعطفه عليهم وأخذهم باللين مع تعاليه عن تصديق الوقيعة وقبول الفتن. فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة الشريف(664/7)
ابن طباطبا ولا يزال قبره يزار بقرافة الإمام الشافعي: (أنه كان طاهراً كريماً فاضلاً صاحب ضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية؛ وكان يرسل لكافور في كل يومين جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم، فحسده بعض الأعيان وقال لكافور (الحلو حسن فما لهذا الرغيف فأنه لا يحسن أن يقابلك به) فأرسل إليه كافور يعتذر عن قبول الرغيف، فركب الشريف إليه وعلم أنهم قد دسوا عليه، فلما اجتمع به قال له: (أيّدك الله إنا لا ننفذ الرغيف تطاولاً وتعاظماً، وإنما هي صبية حسنية تعجنه بيدها وتخبزه فنرسله إليك على سبيل التبرّك، فإن كرهته قطعناه) فقال كافور: (لا والله لا تقطعه ولا يكون قوتي سواه).
وكان محدثي قوياً لا يلين، فيه عنجهية من بقايا القرون التي سبقت الإسلام والرسالة المحمدية، فهو مصر على التفرقة بين الناس حسب ألوانهم كما قسم هتلر الناس وصنف الشعوب أصنافاً، فقلت له إن ابن زولاق، وهو حجة في الموضوع، قد اعترف لكافور فقال: (إنه كان ديِّناً كريماً)، فانظر ما نقله صاحب الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة عن ابن المجلي في تأريخه، إذ قال:
حدثني أبو الحسن البغدادي قال: (وردت إلى مصر وأنا مع أبي وكنت دون البلوغ في أيام كافور الإخشيدي، وكان أبو بكر المجلي يتولى نفقة كافور ومصالحه وخواص خدمته، فانتسجت بينه وبين أبي مودة، فكان يأتي إلى أبي ويزوره، فجلس في بعض الأيام يتحدث ويتذاكر أخبار كافور، فقال أبو بكر لأبي وأنا أسمع: إن هذا الأستاذ كافور له في كل عيد أضحى عادة، وهو إنه سلّم إليّ بغلاً محملاً ذهباً وورقاً وأمضى مع صاحب الشرطة ونطوف من بعد العشاء إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك لكل من أجد أسمه في تلك الجريدة فأطرق أبوابهم وأقول لهم هذا من عند أبي المسك كافور.
وقال أبو جعفر مسلم بن عبد الله بن طاهر العلوي النسابة: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يوماً وهو في موكب نظيف يريد النزهة وبين يديه عدة جنائب، فوقعت مقرعته من يده، ولم يرها، فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض، فقال: أيها الشريف أعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت أن الزمان يلفّني حتى تفعل أنت هذا معي، وكاد يبكي. . . فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ داره ودّعني. ولما سرت ألتفت، فإذا بالجنائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل مركبه إليك بجنائبه. فأدخلته داري،(664/8)
وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار!
تلك أقاصيص موزعة مفرقة أوقعتني الصدف عليها في مواضع متعددة، وهي تكشف الطريق لنا لبحث نفسية كافور، فهذا رجل وصل إلى درجة من أعلى درجات عصره وكانت تهابه الدنيا، فانظر إلى تواضعه وخجله، وإلى نفسه الهادئة المطمئنة، وقس على ذلك فقاقيع الرجال ممن نلقاهم كل يوم، وهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم من الأمر شيئاً تراهم يخفون ضعفهم بالتظاهر بالقوة، وجهلهم بتعاليهم على الناس، وهم في مشيتهم وغطرستهم وحديثهم وما يبدو في وجوههم مضحكة ومهزأة للعصر الذي نعيش فيه وللعصور القادمة: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الناس، ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب) صدق الله العظيم.
وفي ذي القعدة سنة 362 هـ، وهي السنة التي قدم فيها المعز لدين الله إلى القاهرة من بلاد المغرب، ركب لكسر خليج القنطرة، فكسر بين يديه، ثم سار على شاطئ النيل حتى بلغ إلى بني وائل، ومر على سطح الجرف في موكب عظيم، وخلفه وجوه أهل الدولة، ومعهم أبو جعفر أحمد بن نصر يسير في ركابه، ويعرفه بالمواضع التي يجتاز عليها، وتجمعت الرعية للدعاء له، ثم عطف على بركة الحبش، ثم على الصحراء، وسار على الخندق الذي حفره القائد جوهر، ومر على قبر كافور، وعلى قبر ابن طباطبا الحسني، ثم عاد إلى قصره.
عثرت على هذا النص عرضاً، فوقفت مندهشاً أمام النصوص التي تقول: بأن تابوت كافور نقل إلى القدس ودفن بها وكتب على قبره:
ما بال قبرك يا كافور منفرداً ... بصحصح الموت بعد العسكر اللجب؟
يدوس قبرك آحاد الرجال وقد ... كانت أسود الثرى تخشاك في الكتب
ودخلت بحراً يموج بالمسائل، وكلها تحتاج لتحقيق، وسنرى ما يكون من أمرها.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(664/9)
من غَزل الفقهاء
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي شيخ من المشايخ المتزمِّتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب:
مالك وللحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزَّه الله نبيه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرَّح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك لكان أشعر من لبيد. . .
فضحكت، وقلت له:
أما قمت مرة في السَحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق. . . وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟
أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغن حاذق قد خرجت من قلبه، فهزت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟
أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهداً كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغاً في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟
أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟
أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤساءك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس. . . فمن هم أهل القلوب؟
إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!
إن البشر يكدون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة هي(664/11)
هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وأن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال يعدُ أس الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدّمنة المقفرة، على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً، ولم يرجُ مستقبلاً، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً، فليس بإنسان.
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعراً كمن عرف العرب من الشعراء، ورد عليهم قولهم: (إنه شاعر). لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم!
وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعوراً نبيلاً؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.
ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب والغزل ووصف النساء؟
أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد. . . ويصفها بما لو ألقى عليك مثله لتورعت عن سماعه. . . وتصاممت عنه، وحسبت أن ذلك يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه قائلة. . .
وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظَلم إذ اابتسمت ... كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرةً ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
وأن عمر كان يتمثل بمثل ما تكره أنت. . . من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى(664/12)
إمام الغَزِلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:
اليوم عندك دَلها وحديثها ... وغداً لغيرك كفها والمعصم
وأن سعيد بن المسبب سمع مغنياً يغني:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إن مشت ... به زينب في نسوة خفوات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلّت بنان المسك وحْفاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فافتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
فكانوا يرَون هذا الشعر لسعيد بن المسبب!
ومالي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذ اسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من مال الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خُلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما ... يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها ... لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد ضَحيَت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا، فقال لعلها معذورة ... من أجل رقبتها، فقلت: لعلها!
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل!
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليداً، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:(664/13)
قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به): ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً لا يطفئها إلا الوصال:
إذا وجدت أوار الحر في كبدي ... عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتقد؟!
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لَمجلس بن عبيد الله لو كان حياً أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئاً كثيراً، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا ليس في يدي شيء!
وهو مع ذلك الشاعر الغزِل الذي يقول:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتام الفُطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذ القيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: (لا بد للمصدور من أن ينفث) فلا ينكر عليه ابن المسيب. هو القائل:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم
نم عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى وقد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها ... عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدى إذ مات حسرة ... على أثر هند أو كمن سقى السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما ... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم(664/14)
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
ألا إن هذا هو الشعر!
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي
-(664/15)
طبيعة البلاد العربية
للدكتور جواد علي
على الرغم من الموقع الممتاز الذي تشغله البلاد العربية في وجه الكرة الأرضية، وعلى الرغم من الأهمية العسكرية التي تتمتع بها هذه البلاد باعتبارها قنطرة عظيمة تصل بين قارات ثلاث هي قارات العالم القديم، فإنها كانت ولا تزال قليلة السكان جداً بالنسبة إلى سعة مساحتها واتساع أرضها، وفيها بقعة كبيرة تكاد تكون خالية من السكان تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، هي البقعة المعروفة بالربع الخالي، وحولها منطقة واسعة قليلة السكان كذلك. ويغلب على هذه المناطق الجفاف والتغير السريع في درجات الحرارة بين الليل والنهار تغيراً يؤثر في طبيعة المكان تأثيراً كبيراً، فيصعب على الإنسان والأجسام الحية تحمله.
على أن في الروايات اليونانية القديمة وفي المصادر السريانية والعربية ما يشير إلى أن بعض هذه المناطق الصحراوية الجرداء في الوقت الحاضر لم تكن في السابق على ما هي عليه الآن، بل كانت مخصبة معشبة كثيرة الكلأ والماء، معتدلة نوعاً ما في درجات الحرارة. ولم يكون هناك بطبيعة الحال فروق كبيرة بين الحرارة والبرودة في الليل والنهار، وإنها كانت عامرة توجد فيها المدن المأهولة والقرى.
وتلاحظ في الوقت الحاضر آثار أنهار وعيون ونبات وواحات لا بد وأنها كانت مأهولة معمورة، ثم تغير الطقس فيها وحدثت فيها كوارث طبيعية دعت إلى هجرة سكانها عنها وإلى تحولها إلى تربة صحراوية. ولما جاء الإسلام كانت هذه الأراضي نسياً منسياً، فتصور الناس أنها من أعمال قوم عاد أو من أعمال الجن.
وقد عرف أكثر الرواة العرب مثل تلك الانقلابات الطبيعية والتقلبات الجيولوجية، فأشاروا إليها فقالوا إنما حدث ما حدث انتقاما من تلك الأقوام القديمة والشعوب التي أجابت داعي الهوى وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله سوء العذاب.
وفي القرآن الكريم ـوهو أصدق مرجع بين أيديناـ إشارات كثيرة إلى تلك الأقوام التي عاشت في الأيام الخالية في شبه جزيرة العرب تؤيد هذا الرأي وتقويه. ففي كتاب الله آيات مفصلة عن عاد وأرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها البلاد وقوم ثمود الذين جابوا الصخر(664/16)
بالواد. وعن الأيكة. وردت عرضاً على سبيل القصة والموعظة.
وقد عرض المفسرون لهذه الآيات وأطنبوا في وصف تلك الأماكن والمحلات وذكروا شيئاً مما كان قد رسخ في مخيلتهم عن تلك الأقوام. وهي صورة وإن كان رواء الوضع يتغلب عليها، ومادة الخيال فيها خصبة، إلا أنها صورة مهما قيل فيها فأنها مستمدة من واقع قديم تؤيده الآثار والتجارب العلمية الحديثة.
وكانت عناية الأهالي بالسدود عظيمة على ما يظهر من آثارها في هذا اليوم. فعلى تلك السدود التي كانت تحافظ على مياه الأمطار أو مياه الأنهار والعيون كانت تتوقف حياة الأرض والسكان. والظاهر أن الناس في ذلك الوقت كانوا على علم بأصول خزن المياه كالذي نشاهده من آثار سد مأرب، ومن آثار السدود الأخرى في اليمن أو قرب يثرب في الحجاز (المدينة) وفي أرض بني سليم. وكانت تعرف بأسماء مختلفة تختلف باختلاف القبائل ولهجاتها فتعرف باسم (مسك للماء) أو (مسد) أو سد أو مساك للماء.
ولم تخل البلاد العربية الشمالية من السدود. وقد استمر العرب على إنشاء السدود حتى بعد تدهورهم في العصور الجاهلية التي سبقت الإسلام واتصلت به بل حتى في العصور الإسلامية كالعصر الأموي.
وامتازت منطقة يثرب بكثرة ما أنشئ فيها من النواظم والسدود والترع الفنية. ففي وادي بطحان وهو واد من أودية المدينة سد للماء. وفي وادي العقيق سد آخر عند جبل شوران وثالث في وادي محزول وقد كان حتى زمن الرسول ثم سد رابع هو سد معونة قرب الأرحاضية جنوب المدينة، وخامس في وادي أظم.
وحتى نجد لم تكن لتخلو من هذه السدود. وقد وجدت السدود بكثرة في جنوب الحجاز، وفي أراضي قبائل هذيل وبني سليم. وقد حافظت أراضي بني سليم على خصبها وإنباتها حتى العصر العباسي. ولما أهمل أمرها في هذا العهد بسبب الفتن والكوارث السياسية تحولت منذ هذا الوقت إلى أرض قاحلة صحراوية غادرها الناس وعافوها حتى غدت اليوم من المناطق المظلمة المقفرة التي لا تزار.
وقد اشتهرت بنو سليم على ما يظهر بنشاطها وبذكائها الخارق، فابتكرت ولا شك طرقاً فنية لاستنباط الماء ولخزنه إلى وقت الحاجة. فلما أراد الحجاج حفر آبار على طريق الحج(664/17)
لم يجد من يحسن حفر الآبار واستخراج الماء غير رجال هذه القبيلة.
وطبيعي أن يكون للعرب علم خاص بطرق استنباط الماء وإقامة الحواجز، وكيفية حفر الآبار والتعرف على نوع الأراضي التي يمكن استخراج الماء منها وإلا فكيف يعقل أن تنشأ هذه الحواجز وأن تحفر تلك الآبار لو لم يكن لهم علم بذلك؟ ثم إن النصوص اليمانية التي عثر عليها حتى الآن وهي قليلة تؤيد هذا الرأي وتدعمه.
وقد انتقل هذا الفن إلى المسلمين فظهر نفر من العلماء في العصرين الأموي والعباسي نظموا صرف المياه وكيفية السيطرة عليها وتوزيعه. وألف بعضهم في (كتب المياه) وفي إحياء الأراضي (الموات) وقد أضافوا إلى معلوماتهم العربية الخالصة ما أخذوه عن الأعاجم من آراء ونظريات وما قرءوه في كتبهم من أبحاث.
على أننا نسمع في نفس الوقت أصواتاً ترتفع من جوف البلاد العربية ومن مختلف الأنحاء تشكو الجفاف وتتألم من تراكم الأتربة في مجاري الأنهار. ومن جفاف مياه الواحات فجأة ومن موت النباتات والأشجار وتحول الأرض إلى صحار رملية، وقد استمرت تلك الشكاوي بدون انقطاع حتى القرن التاسع عشر.
وقد تكون من بين أسباب هذا الجفاف وتحول المياه أسباب سياسية نشأت عن تضعضع مركز الخلافة والثورات والانقلابات العسكرية الكثيرة التي كانت تدبرها الأسر الشريفة أو أصحاب القوة والبسطة من الأعاجم وأصحاب العساكر والأتباع. فلم يعد في وسع الحكومة الاهتمام بشؤون الزراعة والري وسائر الشؤون الأخرى. وقد تكون عوامل طبيعية وقتية أو طوارئ طبيعية فجائية سببت انحباس الأمطار وإلى غور المياه إلى الأعماق. على كل فهي كوارث مزعجة حولت تلك الأماكن المنبتة المأهولة إلى أماكن صحراوية رملية لا يمكن لأحد النزول بها لعدم ملاءمتها لشروط الحياة.
وقد خلقت هذه الكوارث الطبيعية والتقلبات الجيولوجية التي حدثت في الأزمنة التي سبقت الإسلام قصصاً مختلفة وحكايات توارثها الناس جيلاً بعد جيل عن هلاك تلك الأقوام وتبدل وجه المعمورة وتحول الأرض المأنوسة إلى أرض موحشة. وقد تردد صداها في الكتب العربية؛ ففي كتب الأدب والتأريخ سيل من هذه الأخبار من عاد وثمود وطسم وجديس ووبار.(664/18)
تكون الكوارث الطبيعية في بعض الأوقات على صورة انحباس مياه الأمطار مدة طويلة مقرونة برياح شديدة جافة حادة تحرق المزروعات، وتجفف الأرض. وقد يعقب ذلك هزات أرضية لا تترك شيئاً في تلك البقعة التي تتحول عندئذ إلى صحراء جرداء يتركها سكانها إلى منطقة أخرى تصلح للزراعة والرعي والعيش.
يقول المستشرق موريتس لا بد وأن تكون هنالك حقيقة تاريخية فيما يروي عن هلاك قوم عاد وثمود. فإذا عرفنا أن منطقة الحجر كانت منطقة ثمود، وأن هذه المنطقة هي منطقة بركانية كثيراً ما كانت تثور وتلقى بحممها على ما جاورها وأن (الحرات) هي فوهات تلك البراكين وأماكن حممها عرفنا لِمَ هلكت ثمود وزالت معظم آثارها من عالم الوجود.
والحرّات هي مناطق بركانية خمدت براكينها وبقيت حممها وموادها التي كانت تقذفها، وقد بردت منذ مدة قبل ظهور الإسلام، إلا أن الدخان كان لا يزال يخرج من بعضها حتى في العصور الإسلامية. فقد ذكروا أن النيران كانت تخرج من حرة النار في جنوب شرقي المدينة، وكانت تشاهد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وتحدث الناس عن نشاط بركاني ظهر فجأة في الحرة الكبرى التي تقع على مقربة من المدينة سنة 1256م. وقد دام ذلك عدة أسابيع، وذكروا أن حمم هذه الحرة أخذت تسيل وتزحف نحو المدينة حتى أصبحت على مسافة كيلومترات قليلة من المدينة التي لم تنج منه إلا بمعجزة.
ولم نعد نسمع بحوادث بركانية مهمة منذ سنة 1253 للميلاد في أكثر أنحاء شبه جزيرة العرب غير ما ذكرناه آنفاً. ففي هذه السنة حدث انفجار بركاني عظيم في منطقة عدن ثم خفت صوت البراكين منذ ذلك الحين ولم نعد نسمع بحوادث حرات تخرب وتدمر كما كانت تفعل في السابق. ومعنى هذا أن تطوراً جيولوجياً عظيماً حدث في هذه المنطقة بدون شك.
وقد بحث العلماء في طبيعة البلاد العربية من حيث الوجهة الجيولوجية ورأوا أن هذه البلاد قد جابهت عدة انقلابات وتطورات أرضية حدثت فيها منذ العصور الجيولوجية حتى الآن. ورأى الجوابون آثارا صدفية ومحاراً في الربع الخالي استدلوا منه على إن هذه المنطقة كانت مغطاة بالمياه ويجوز أنها كانت تحت مياه البحر.
وبنى المستشرقون على هذه الفرضيات العلمية نظرياتهم عن الأصل السامي وعن موطن(664/19)
الأصل السامي وهجرات الساميين. كما بحثوا عن موطن العرب الشماليين، ووطنهم الأصلي هل كان في اليمن أو شمال اليمن، وهل كانت الكوارث الطبيعية هي العوامل الأساسية في الهجرة أو عوامل أخرى.
تتحدث الكتب عن حادثة انفجار سد مأرب وكيف أن هذا الانفجار سبب جفاف منطقة كبيرة من أرض اليمن كانت تتغذى منه وكيف تمزق الناس أيدي سبأ وكيف هاجرت القبائل من الجنوب نحو الشمال.
وقد أدى ذلك الجفاف والتحول إلى تبدي القبائل المستقرة وتنقلها من مكان إلى مكان على سنة الإعراب. وهي ظاهرة تحدث كثيراً في شبه الجزيرة، فتتنقل على أثرها العشائر المتحضرة إلى البادية حيث تتخذ عيشة البدو الرحل. وقد حدث مثل هذا التطور في العصور الإسلامية أيضاً ولا سيما في الأوقات التي تردت فيها الحالة السياسية وضعف فيها نفوذ الحكومة فلم يعد في إمكانها صيانة الأمن ولا السيطرة على النظم الاقتصادية؛ فكانت القبائل المتحضرة أو النصف متحضرة تضطر لحماية نفسها إلى الالتجاء إلى الصحراء حيث لا تصل إليها لهيب الحروب السياسية والثورات وحيث لا تضطر إلى الاشتراك في حروب لا نفع لها منها ولا ضرر.
ويشاهد السواح في الوقت الحاضر آثار بيوت ومنازل في أمكنة قاحلة رملية لا يمكن أن يستقر بها الإنسان في مثل هذه الظروف بأي حال من الأحوال. وقد كانت مأهولة فيما مضى كما يظهر ذلك من هذه الآثار. فكيف حل فيها هذا الخراب وحوّلها هذا التحول!
وفي المصادر اليونانية أسماء مدن وقرى رآها الكتبة اليونانيون وحلوا بها وقد أعجب بها هؤلاء. إلا أنها اندثرت فيما بعد ولم يبق منها أي أثر حتى عند ظهور الرسول الكريم. وفي المصادر العربية مثل هذه الأسماء أيضاً زالت من عالم الوجود. وقد أنشأ المسلمون عدداً من المدن والقرى لم يبق منها اليوم أي أثر. وقد حدث مثل هذا الحادث في العصور الحديثة كذلك.
إن الجفاف هو أعظم عدو هدد البلاد العربية وحارب الحضارة والعمران في شبه جزيرة العرب. وهو الذي حول الجزيرة العربية إلى صحار رملية لا تصلح للإنبات ولا للسكنى. وللجفاف عوامل مساعدة هي الشمس والتغير السريع في درجات الحرارة وهبوب الرياح(664/20)
وتبدل مجاري المياه.
وقد بحث عن هذا العامل العالم المستشرق كيتاني فتوصل إلى هذه النتيجة، وهو أن جو بلاد العرب قد تغير وتبدل، ولما حل به الجفاف لم يعد في إمكان الإنسان ولا الأجسام الحية البقاء. فتركت تلك الأراضي التي تحولت إلى صحراء مقفرة.
والظاهر أن جو بلاد العرب كان مشبعاً في الأزمنة القديمة التي سبقت الإسلام بالرطوبة وكانت الأرض مخصبة منبتة لوجود المياه ثم جف الجو وتوسعت منطقة الجفاف هذه وارتحل عنها السكان.
جواد علي(664/21)
الأدب في سير أعلامه:
ملتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
وكان تشابل عنيداً ضيق الصدر، وكانت وظيفته تقتضيه ألا يتساهل فيما كلفته به إدارة الكلية، ولم يكن في وسعه أن يتغاضى عن مرد ذلك الطالب وإلا تتعرض لمؤاخذة القائمين بالأمر، فما يحب هؤلاء أن تشيع العدوى في بقية الطلاب؛ لهذا لم يكن بد من معاقبة جون ملتن عل في ذلك رادعاً له وعبرة لغيره.
وعوقب الفتى بإبعاده من الكلية إلى حين؛ وقيل إنه عوقب بالضرب إلى جانب ذلك، كان أكثر المترجمين له ينكرون ذلك أو يستبعدونه؛ على أن الضرب في ذاته يومئذ كان أمراً يقع في الكلية، فلم تكن العقوبة البدنية محرومة حتى في الكلية.
وقضى ملتن فترة النفي في لندن غير آبه بما حدث؛ يظهر في كل حين عدم مبالاته، فلن تنال منهَ قسوة مدرس يتجنى عليه، كما ذكر في بعض رسائله إلى (ديوداتي) أحد خلانه في مدرسة سنت بول؛ وإنه ليفضي إلى ديوداتي أنه جد سعيد بأبعاده عن كمبردج فما يطيب بها المقام لرهط أبولو؛ وأنه يستمتع بفراغه فيغشى المسارح كثيراً، ويقرأ من الكتب ما يحب غير مقيد بقيود تشابل؛ وأنه يسرح الطرف في شوارع المدينة إذ يذرعها جيئة وذهابا، ويمد عينيه إلى حسان لندن وقد لُحن له بعد أيامه الجافة في كمبردج أروع مما كن حسناً وأرشد فتنة، حتى إنه ليرى من الحكمة أن يبادر بالرحيل قبل أن تمسه جراح كيوبيد.
وتكشف لنا رسائله المنظومة والمنثورة إلى صاحبه عن بعض نوازع نفسه، فهو يحب المسرح ويكثر غشيانه؛ ولن يفعل ذلك متزمت يرى من أدلة الاستقامة أن يحرم على نفسه زينة الله التي أخرج لعباده؛ وهو يمد عينيه إلى الغيد ولكنه هنا يخشى الغواية فيطلب النجاة؛ وكان حريا أن يقع في حبالهن وأن يقمن في حباله بما توفر له من الجمال والوجاهة(664/22)
وأناقة الملبس ورشاقة الجسم، ولكنه حريص على عفته متمسك بطهره، تهفو إلى الجمال روحه إلا أنه يحلق ويأبى أن يرد. . .
وعاد ملتن إلى الكلية، وقد انقضى أمر النفي؛ ولكنه لم يعد إلى تشابل فقد نقل إلى غيره، وهو إجراء له مغزاه، إذ لم يكن مثل هذا النقل بالعمل المعتاد في تلك الأيام، ومنه يفهم أن القائمين على أمر الكلية يحملون تشابل شيئاً من اللوم.
ولم يفل النفي حدته ولا أوهن نشاطه ولا أذل كبرياءه؛ وعادت نفسه الحرة تنشد الإصلاح، وانطلق لسانه الفصيح يندد بما يرى من عيوب أيا كان أصحابها؛ فلا تنقطع له شكوى، ولا يفتر له نقد.
ونال أقرانه شئ غير قليل من نقده؛ وكانوا أحرياء إلا قليلا منهم، ألا يرتاحوا إليه، وأن أعجبهم كثير من خصاله وراقهم شخصه، فأن تمسكه بالفضيلة وتشدده في الطهر والعفة هو في ذاته تأنيب صامت أما يظهرون من نقائص، ناهيك بما يقول في كل فرصة، وبما يرسله كل آونة من عبارات التهكم أو نظرات الازدراء. وقف يخطب ذات مرة فقال (كيف آمل أن أجر فيكم الرغبة إلى الخير وأنا أرى في حفل عظيم كهذا الحفل وجوهاً تنطق بالعداوة يكاد يبلغ عددها عدد ما هنا من رؤوس).
وكان جزاؤه على ذلك العنت من الكثير من طلاب الكلية، فأخذوا على طريقة الطلاب يعابثونه ويهوشون عليه ويلاقونه أينما تكلم بشغبهم وزياطهم، ويسخرون منه كما سخر منهم، وجعلوا عفته موضعا لاستهزائهم به، وكانوا قد أطلقوا عليه من قبل اسم (السيدة) لما رأوا من رقته وظرفه ودماثته، فأخذوا الآن يعيدون هذه التسمية في موضع الإعنات والاستهزاء، فإذا سأل أحدهم صاحبه عنه قال هل رأيت سيدة الكلية، أو هل رأيت سيدة كريست، ويقصدون أن يسمعوه هذا وهو على مقربة منهم ليغيظوه، فيكظم غيظه ويحاول أن يغيظهم بترفعه عنهم وازدرائه إياهم.
ولم يأبه ملتن بما يقولون؛ ففيه على رقة حاشيته صبر على النضال، يلذ له الأذى في سبيل إعلان رأيه والدفاع عن مبدئه، ولذلك تراه ينهض ذات مرة خطيباً، فيشير في خطابه إلى هذه التسمية، فيقول متهكما إنه يعتقد أن ليس مردها إلا حسن وجهه وقصر قامته وجمال هيكله فحسب، ولكن إلى طهره كذلك ورقة حاشيته ودماثته وحسن سلوكه؛ ثم يتساءل في(664/23)
ازدراء عما إذ اكان يقصر اسم الرجولة على من كانت لهم القدرة أن يعبوا أقداحاً كبيرة من الخمر، أو الفلاحين الذين غلظت أيديهم وجمدت من أثر المحراث، أو على من يبرهنون على رجولتهم بالعربدة والفجور والفسوق؟. . . ويستخذى الجميع أمام حماسته وشجاعته ورباطة جأشه.
ولا يفوته أن يقارن بين نفسه بين من اتهموا قبله من النابهين الأعلام بمثل ما اتهم به، قائلا إن ديموستين نفسه لم ينج من اتهام أعدائه إياه بالنقص في رجولته!
والحق أن مرد هذه التسمية لم يكن إلى ضعف فيه ولا إلى خور، فقد كان منذ يفاعته شجاع القلب والرأي، ولسوف يقيم الدليل في المستقبل أيامه على أنه ما حمل القلم يوما أشجع منه؛ وكان في الكلية لا يهمل المران على استعمال سيفه يوماً؛ وكان لا يرهب التحدي، ولا يحب أن يصانع ذا غلظة أو يتواضع لذي كبرة، وإن كان في غير ذلك من المواقف جم الأدب مرموق الوداعة. . .
وما سماه أقرانه هذا الاسم أول الأمر إلا لأنهم أساءوا فهم وداعته ورقة حاشيته، ثم عادوا يرددونه رغبة منهم في إغاظته وإمعانا في إعناته، ولا يجد الشباب عادة في الزراية على من لا يتابعهم إلى ما يحبون من العبث واللهو الخشن أنكى من نعته بالأنوثة.
وكان مرد عفته واعتصامه بالفضيلة إلى معنى طريف يضاف إلى وازع الدين وداعي الخلق؛ وذلك أنه كان يرى أن الشاعر الذي يعد نفسه لرسالة سامية، ينبغي قبل كل شئ أن يكون أهلا لما يستشرف له، ولن يكون لذلك أهلا إلا إذا سمت نفسه وخلت من الأوضار، واتصلت في كل متجه بالمثل الأعلى لا تتخلف قط عنه، أو على حد تعبيره ينبغي أن يكون هو قصيدة سامية.
ولقد نجح ملتن نجاحاً عظيماً في توقد عاطفته وشاعرية روحه، وتفهمه أسرار الجمال، وتفطنه إلى موطن الفتنة في دنيا الطبيعة وفي دنيا الناس، وهذا إلى ما اتصف به من فراهة الجمال وروعة الشباب؛ ولذلك فأن سيطرته على نفسه مع هذا أعظم من أن تكون نجاحاً، فأنها تشبه أن تكون معجزة.
وحق لهذا الشاب أن يفخر بقهر نفسه، أو على الأصح بقهر شهوات نفسه، فقد أطلق نفسه على سجيتها بعد إذ جنبها مزال الضلال ومهاوي الفتنة لتنطلق حرة في مسارح الجمال(664/24)
ومواطن. الرأي. . .
وكان ملتن يؤمن بأن من يسمو بنفسه لا بد أن تواتيه قوة خارقة على التعبير عما يريد من معاني السمو، وبقدر ما يكون من طهر نفسه يكون ما يتوافى له من البيان فيما ينهض لبلوغه من معارج القول
وإلى جانب ذلك كان ملتن كثير الذهاب بنفسه، يعتقد أنه فوق غيره في الذكاء والعلم، يتداخله منذ صغره شعور قوي بتفوقه وامتيازه، وهو نوع من الاعتداد بالنفس حري أن يسمى الكبرياء العقلية، جعل ملتن الشاعر يؤمن بفكرة هي تغلب العقل على العاطفة، وهذه هي الحكمة، ثم يأخذ نفسه من غير هوادة بما تقتضيه منه الفكرة، فلا ينقاد لعواطفه يعيش حكيماً معتصماً بالزهد والعفة.
وإنه ليعتقد أنه خلق لعظيمة من العظائم في دنيا الشعر، وأن الزمن يهيئه فيعزله عن الناس ويرفعه فوقهم درجات ليتسنى له أن يأتي بما لا يستطيعون أن يأتوا به، وكان ولوعه بالأدب وشغفه بالبيان واستمساكه بالفضيلة، كل ذلك إرهاص يكون بعده الإعجاز!
ولم تصرف ملتن عنايته بالأدب والشعر عما فرضت عليه الكلية من دروس. كذلك لم تصرفه عنها كراهيته إياها ودعوته القائمين بالأمر إلى إصلاحها، وتوجيه المطاعن إليها، فهي أمر لابد منه إذا شاء أن يظفر بالإجازة الجامعية؛ وهو منذ صغره دؤوب على العمل صبور جليد، فما ينوء اليوم بأن يجمع بين دروسه الرسمية ومتعة نفسه من الأدب والشعر وغيرهما مما لا يدخل في محيط الدروس المقررة.
ويشهد أكثر القائمين على أمر الكلية أنه طالب مجد في عمله، نشط في طلب المزيد من العلم، يحب أن يحيط بما يدرس إحاطة، ولولا نزعته الاستقلالية ونفوره من القيود ورغبته أن يختار الوقت الذي يحب لينجز ما كلف من عمل، ما شكا منه أحد، ولا كان بينه وبين تشابل عريفه الأول ما كان من شحناء وتنابذ.
ولم يتخلف ملتن عن أقرانه على الرغم من فترة إبعاده عن الكلية، فحصل عند نهاية الأجل المقرر للدراسة الأولى على درجته العلمية الأولى، وكان اللاهوت هو العلم الأساسي الذي اختار من أول الأمر أن يمتحن فيه، ويحصل على درجته، فدرسه ودرس ما يتصل به أو يتفرع منه من معرفة.(664/25)
ولئن درس اللاهوت على عسره دراسة جد، واستوعب ما يحيط به، فإن قلبه كان يجد العزاء في مجال آخر محبب إليه، وأي مجال أحب إليه من الشعر وأنغامه وأحلامه؟ وهل يشغله عنه شاغل مهما جل، وهو من افتتن به وظن أنه خلق له منذ من العاشرة؟ لذلك كان يعمد إلى قيثارته يغنى عليها أناشيده كلما نفض من اللاهوت يده!
ففي أول سنة له في الكلية، وقد دخل في سنته الثامنة عشرة، نظم الفتى باللاتينية - أول ما نظم - قصائد ست، ثم نظم واحدة بالإنجليزية، ولعله اختار اللاتينية لأنها لغة أوفيد، وهو به متعلق مشغوف منذ صغره؛ وكانت معظم أشعاره اللاتينية مراثي في مناسبات على نحو ما يفعل عادة من يستطيع النظم من الطلاب؛ ولكن طموح ملتن وثيقته في نفسه ألقيا في روعه أنه شاعر حقاً، وأنه لا يتكلف النظم كما يتكلفه غيره، وأنه ما يسطر على القرطاس شيئاً إلا استحق أن يشيع في الأدباء! ولكن الذين كتبوا تاريخ حياته، ممن لهم علم باللاتينية، يرون التقليد في هذه الباكورة يغلب على الأصالة. وكان ملتن يقلد أو قيد، وقد اتجه بقلبه وخياله إليه، كما يصنع الأفراخ النواهض من الشعراء أن يتأثر كل منهم في صدر شبابه بواحد ممن حلقوا قبلهم في سماء الشعر!
وكانت القصيدة الإنجليزية كذلك مرثية بكى بها الشاعر الشاب طفلة من ذوي قرباء، وعنوانها (في موت طفلة جميلة أودت بها سعلة). ونلمس في هذه المرثية خصائص ملتن الأولى في الشعر: فموسيقاه حلوة، وألفاظه تنساب في يسر وإشراق، وإن لها في السمع لجرساً ساحراً جميلاً. . . وهو كثير الإشارة إلى الميثولوجيا الإغريقية والمسيحية، يكثر من ذكر الآلهة؛ وهو يأتي بالصفة تتداعى بها إلى الذهن المعاني المتصلة بما يصف في قوة ومهارة، فتوحي بذلك الأبيات القليلة معاني كثيرة، بل لقد يجعل للكلمة الواحدة معنى واسعاً بما يسبقها أو يلحقها به من الكلام، فيرمز للموت هنا مثلا بالشتاء، وقد ناجى الطفلة في مبتهل القصيدة باسم زهرة من أشهر زهرات الربيع يكفي النطق بها لتذكر الأنفس الربيع وموسمه الحفل؛ ثم يعود فيتحدث عن الطفلة كأنها ملاك عاد إلى أفقه، وقد اتخذ صورة الإنسان لحظة، لُيري الناس كيف يحتقرون هذه الأرض، وكيف تهفو إلى السماوات أرواحهم، ويسأل أمها تبعاً لذلك ألا تحزن، فما فقدت شيئاً. . .!
وبعد ذلك بسنتين ينظم باللاتينية أولى غرامياته، وفيها يذكر أن عينيه وقعتا في سرب من(664/26)
حسان لندن على فتاة استأثرت بلبه ونفذت نظرتها إلى أعماق قلبه. . . فتاة هي فينوس حسناً وشكلاً. . . وسرعان ما جرحه كيوبيد بها في ألف موضع من جسمه. . . ثم غابت عن بصره وتولت وقد شغفته حباً. . . فأحس كأنه يحترق وكأن اللهب يحتويه. . . ولم يرها بعد ذلك أبداً، وأصبح بعدها كغيره من العشاق ينعم بشقاء حلو!
وأردف هذه القصيدة بأخرى لاتينية غرامية كذلك يصف فيها الحب، ولا يشير فيها إلى موقف بعينه كما فعل في سالفتها، ولكن. . . إلى الهوى وأسقامه وأحلامه. . .
ويحرص ملتن دائماً أن يسمو بحبه، فما تم كلماته ولا إشارته عما يستهجن من قول أو فعل، وما يصدر عن مثله إلا كل سام نبيل، وقد جعل سمو النفس وطهرها كما رأينا وسيلة إلى سمو التعبير؛ على أنه يفصح أحياناً عما يظهره أنه يحس شيئاً من المرح إذ يصف هيام الحب وأحلامه ومتعه؛ ولعله أراد بذلك أن يوحي إلى لذاته أنه يتخفف من تزمته، أو مما يأخذونه على أنه تزمت منه، وما هو فيما يرى إلا التوقر والاحتشام والجد؛ ولقد أشار في بعض خطبه إلى شئ من هذا المرح الذي يصف والذي يحبذ، وفي هذا الحب الذي يصوغ ألحانه، ما يرد به على من أطلقوا عليه ذلك الاسم السخيف الذي ضايقه بعض الثقلاء به!
(يتبع)
الخفيف(664/27)
فلسطينيات:
أولجا رومانوف
للأستاذ نجاتي صدقي
يعرفها الناس باسم (السيدة المسكوبية)، وهي تجيد خمس لغات أوربية، كما أنها تتحدث قليلا بالعربية العامية، ويعجبها أن تعرب عن أفكارها أحياناً بالفظ العربي الفصيح فتقول مثلاً: (يتغلب على ظني أن الأمر كذا وكذا و (ثق يا عزيزي بأنني متمسكة برأيي)، و (أجل)، و (ربما). . .
والسيدة المسكوبية هذه تقع في حدود الخمسين من عمرها، قصيرة القامة، نحيفة الجسم، عظيمة الهيئة، مجعدة الوجه، غائرة العينين، مصفرة الأسنان، وبعضها قد نخره السوس، لكنها تحتفظ بشعر أشقر طويل تضفره وتعقده حول رأسها، وهي تحاول دائماً أن تكون ضحوكا لعوباً، ميالة إلى تقليد الفتيات اليافعات الطارقات حديثاً أبواب الحياة. . .
وتسكن هذه السيدة في دير الأرز الواقع بين منعطفات المرحلة الثالثة من طريق الآلام في مدينة القدس القديمة. . . وغرفتها على قدرها، طولها أربعة أمتار، وعرضها متران، ويتألف أثاثها من سرير مفرد، يستند إلى قوائم أربع، إلا أن فراشه يُقبل الأرض! وخزانة ضيقة عتيقة عرجاء، يقف في الزاوية كما يقف المسكين مستعطياً. . . ومائدة صغيرة تستعمل لكل شئ: للطبخ والأكل والزينة، فغدت سوداء براقة لاختلاط دهانها بالزيوت التي تنساب عليها من الصحائف والملاعق، وبساطاً (موزاييكا) حيك من مختلف الشرط البالية، وصورة علقت على الحائط تمثل (الخضر) راكباً على فرسه وهو يلقم التنين رأس حربته. . . وألبسة وقبعات نشرت على مشجب خشبي. . . أما باب الغرفة، فقد دقت فيه من الداخل مسامير صغيرة تستعمل لتعليق بعض المناشف وأوائل منزلية أخرى. . . وألصقت عليه من الخارج رقعة كتب عليها: (أولجا نيقولا يفنا رومانوفا)
وتدعى السيدة المسكوبية بأنها منحدرة من آل رومانوف قياصرة الروسيا، وأن (الدهر الخؤون) طوَّح بها إلى بلاد العرب، وأنها فقدت زوجها، ولم تنجب منه أولاداً، فتفرغت للعبادة والخدمة في الصليب الأحمر، وهي تعتقد أن لها (صلات قدسية) مع بعض القديسين، وبوسعها أن تكون وسيطة فيما بينهم وبين قاصديهم من طلاب الحاجات.(664/28)
وللسيدة المسكوبية جيران يشفقون عليها فيمدونها بين حين وآخر بما تيسر من حواضر البيت، وتغتنم هي الفرص في كثير من الأحايين فتقف عند باب غرفة جارها وتناديه، فإن كان داخلها ورد عليها سألته:
- هل لي أن أعرف الوقت الآن؟
وإن كان خارجها دفعت الباب صارخة:
- ما بك يا جاري. . . عساك بخير؟ فإن لم تجد في الغرفة أحداً تناولت شيئاً، وانسحبت على عجل!
وفي أحد أيام شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1943 حلَّ في الدير ضابط بولوني اسمه (يوزيك غروزني) سرح من الجيش لعدم صلاحيته للخدمة العسكرية، وأستأجر غرفة في الطابق الأسفل من الدير، وكان متاعه ما جلبه معه من الجيش من سرير عسكري وأحرمة وألبسة وأدوات أكل. . .
وهنا تبدأ القصة:
فبينما كان يوزيك مستلقياً على سريره ذات مساء، يستعرض بحرقة وألم الأيام العصيبة التي مرت به منذ أن فر من بولونيا، حتى اشتراكه في معارك ليبيا ووقوعه جريحاً، وإحالته إلى هذا الدير عاطلا، إذ به يلمح امرأة تقف عند نافذة غرفته وهي تبسم له وتقول بالبولونية:
- حضرتك جارنا الجديد؟
- نعم!
- أأنت جندي؟
- ومن أية بلدة بولونية أنت؟
- من لودز
- أحقاً أنت من لودز؟ يا لغريب المصادفات! إنني قضيت شطراً من شبابي في هذه المدينة الجميلة!
- وحضرتك ما اسمك؟ ومن أين؟
- أنا أولجا نيقولا يفنا رومانوفا! (ورفعت رأسها إلى العلاء قليلاً) إن الدم الأزرق يجري(664/29)
في عروقي، دم آل رومانوف!
فانتقض يوزيك في سريره وانتصب واقفاً وهو يحدق النظر ب (الأميرة) المشردة، وكان ينتابه عاملان خفيان: عامل الكره للروس، وعامل الحاجة إلى المعونة. يود أن يصرخ في وجه (سليلة) آل رومانوف، ويسمعها قارص الكلام في حق أبيها وعمها والحاشية القيصرية كلها، لكنه أحس أنه أصبح من مساكين هذا الدير، وهو في مسيس الحاجة إلى من يساعده ويواسيه، وعليه أن يكون سمحاً متواضعاً، فخرج إلى حيث تقف السيدة المسكوبية، وقرع قدمه اليمنى بقدمه اليسرى، وحياها بإصبعيه التحية العسكرية البولونية، ثم انحنى على يدها وطبع عليها قبلة رشيقة!
وتوالت الزيارات فيما بعد بين يوزيك وأولجا، فكانت هي تدعوه إلى شرب الشاي عندها، وكان هو يشتري لها بعض الهدايا من المعاش الذي يتقاضاه من الوكالة البولونية. وهكذا توطدت أواصر الصداقة فيما بينهما، وشعرا بالدفء إلى جانب بعضهما. . . وفي ليلة كانا يتبادلان فيها أنخاب الفودكا، فاتحها يوزيك بالزواج، فأسبلت عينيها خجلاً وتمتعت قائلة: (حقاً إنك لعفريت يا يوزيك. . . أيتزوج عملاق لم يبلغ الأربعين من امرأة ضعيفة قد ناهزت الخمسين؟!
قال: ولم لا؟ الحب يا سيدتي لا يقر بحد للأعمار، ولا يعترف بالسمن أو الهزل. . . الحب هو تبادل العاطفة المشبوبة بين نفسين متجانستين متفاهمتين. . .
قالت: أتحبني إذن؟
قال: فلتشهد السماء على حبي لك. . . ولنشرب نخب الحب والزواج. . .
ولم تمضي أيام على هذا الحديث حتى عرف كل من في الدير أن أولجا أصبحت زوجة ليوزيك، وأنهما سعيدان في زواجهما هذا. ومن مظاهر هذه السعادة أنهما كانا دائماً منطويان على نفسيهما في غرفة أولغا، يشربان الشاي نهاراً، والفودكا ليلاً، ويدخنان ويتماجنان ويقهقهان عالياً، ويعربدان أحياناً بصورة تقلق راحة الجيران، إلا أن هؤلاء كانوا يتسامحون مع العروسين الجديدين، ويغضون الطرف عما يبديانه في الدير من طيش ناتج عن انفعالات النفس والعاطفة. . .
وحدث في منتصف الليلة الثانية من الشهر الثاني لزواج يوزيك باولغا أن هبّ سكان الدير(664/30)
مذعورين على صراخ عنيف، وقرع شديد على باب الممر المؤدي إلى الغرف، وسمعوا أولغا تكيل السباب والشتائم ليوزيك، فتقول له: - اذهب أيها السكير إلى غرفتك. . . إنني آويتك وأحسنت إليك. . . اذهب أيها المتشرد. . . وكان يوزيك يجيبها: لقد سرقتني يا فاعلة كذا وكذا. . . والله لأبطشن بك. . . واحتدم الجدل فيما بينهما وحطم يوزيك باب الممر، ثم اقتحم غرفة أولغا ولكمها على عينها لكمة قوية تركت حولها هالة زرقاء، فاستنجدت بالجيران، ولكن أحداً منهم لم يجرؤ على التدخل، فاستنجدت مرة أخرى بأهل الحي، فجاءها الحراس واعتقلوا يوزيك، واقتادوه إلى دائرة الشرطة حيث حرر الضابط المسؤول محضراً، وكانت أولجا هي المدعية والمشاهدة، فقالت في إفادتها: - (لقد حطم زوجي الأبواب وضربني، فإنني أطلب له أقصى درجات العقوبة). . . ولما عادت إلى بيتها وسكنت إلى نفسها أخذ ضميرها يؤنبها، فراحت تبكي وتنتحب وتتساءل قائلة: - (رباه؛ من الذي سبب لزوجي الاعتقال غيري؟. . . ومن الذي أسكره، وسرقه، وقاده إلى سطح الدير سواي؟).
يبدو أن الإنسان مهما انحطت أخلاقه وفسدت، ومهما تدهور إلى مصاف الأسافل وتخبط في حضيض الحياة، يظل حاملاً في نفسه القليل من الكرامة، واليسير من المعنويات، فتراه إذا ما هزَّته مساوئه يثوب إلى رشده، ولو إلى حين، فيذكر أنه لازال ينتمي إلى بني الإنسان، وأن ما يقوم به من أعمال شريرة لأمر يناقض الأنظمة العامة التي اتفق عليها الناس، يخالف الطبيعة البشرية على الجملة.
وهكذا أحست أولغا يعامل خفي يدفعها لأن تسعف يوزبك، فعادت للتوّ إلى دائرة الشرطة وقالت للضابط المسؤول: - أود إدخال بعض توضيحات في إفادتي.
فقال - وما هي؟. . .
قالت: وأنني لأقر بأن زوجي لم يقصد من تحطيم الأبواب إلحاق الأذى بي، أو العبث بحوائجي، وإنه فعل ذلك وهو تحت تأثير الخمر فقط، وأما اللكمة التي أصابتني منه فقد كانت عفوا. . .
وبالرغم من هذا التوضيح في الإفادة حكم على يوزيك بالسجن أسبوعين: وفي السجن قص على زملائه قصته فقال فيما قاله:(664/31)
(. . . وكان من عادة زوجتي إذا ما وجدتني ثملا تفتش جيوبي، وتأخذ ما تجده من مال. وحدث مرة أن قبضت معاشي وجئت البيت، فوجدتها قد أعدت لي زجاجة كبيرة من الفودكا فأتيت عليها. ولما لعبت الخمر برأسي قالت لي: (هيا يا منى قلبي لنتنزه في ضوء القمر!) فقمت أترنح مستندا إلى ذراعها، واقتادني إلى حيث أرادت. ولا إذ كر كيف أفقت فوجدتني ملقى على السطح فتفقدت معاشي فلم أجده. . . فأدركت للحال أن (الأميرة) سرقتني.
فقال أحد المساجين: - ماذا تقول. . . أميرة؟. . .
فأجاب يوزيك: - أجل، تدعي زوجتي أنها من سلالة آل رومانوف!. . .
فقال سجين آخر: - ومن تكون زوجتك إذن؟
قال: - ليست زوجتي سوى امرأة مقامرة في حياتها.
فرت من روسيا إبان الحرب الأهلية، ثم قامت بأعمال مظلمة هنا وهناك، وتجولت بين تركيا والبلقان وعمان!. . . وهاهي اليوم تبارك الناس في النهار وتسطو علي في الليل.
ولما خرج يوزيك من السجن كانت أولجا تنتظره، وكانت هي قد أعدت له كعكا وشايا، فجلسا إلى المائدة، ودار بينهما حديث عتاب. وحديث آخر عن الإنسان وحظوظه العاثرة. . .
نجاتي صدقي(664/32)
وأيضاً، تهجم على التخطئة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فيخيل إلى - والله أعلم - أنك رجل واسع المعرفة، مغرى بالتحصيل، دقيق البصر، تطلب الكلام وإسناده ووجهه ومكانه وضوابطه. وحسب طالب المعرفة أن يكون كمثلك.
وقد طلع على مقالك في الرسالة، فما أدري والله من أي أمريك أعجب؟ من واسع معرفتك، أم من حسن تهديك إلى مواطن الشبهة في كلامي. أم لعلي أعجب من استجلابك للحجة بعد الحجة في تخطئة شيء كان الناس في غنى وراحة عن اضطرابهم بين صوابه وخطئه؟
ومختصر القول هو أنك تريد أن تقول إن الكتاب ينبغي أن يبدأ كما بدئ في بعض كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب أصحابه بقولك: (سلام عليك) فإذا كان الختام قيل: (والسلام عليك)، وأن من بدأ الكتاب بقوله: (السلام عليك) فقد أخطأ. أفهذا شيء من أدب الكتابة واتباع السنة وحسب، أم هو قاعدة توجب الاتباع نحواً ولغة ورواية، فيكون من بدأ بقوله: (السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ في حق النحو واللغة والرواية؟ وكلامه كله يدل على أن البدء بالسلام المعرف خطأ من قبل النحو واللغة والرواية. أليس كذلك؟
فإذا كان ذلك كذلك، فقد رويت لك قول صاحب اللسان في مادة (سلم): (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذف عليكم)، وهذا ولا ريب قول اللغة والرواية والنحو فيما رواه لنا الرواة، في تحديد بدء السلام (الذي هو التحية). هذه واحدة.
ثم ذكرت لك قول الأخفش الذي رددته علي، وقلت إنه لا يعتمد به (هكذا)، لأني لم إذ كر مصدره الذي نقلت عنه، وفيه تصريح بين كتصريح صاحب اللسان، ثم زاد فأظهرنا على العلة فقال إن (سلام عليكم، حذفت منه الزيادة (وهي الألف واللام) كما يحذف الحرف الذي هو من أصل الكلمة في قولنا: (لم يك). وعلة أخرى هي أنه لما كثر استعمال (السلام عليك) بالألف واللام حذفاً لكثرة الاستعمال. وهذا تقرير يدل على أنه اللغة والنحو والرواية تجعل الأصل في السلام المبدوء به هو التعريف.
فإن شئت أن تعرف أن وقع هذا الكلام عن الأخفش فاطلبه في ص 152ج1 من كتاب(664/33)
تهذيب الأسماء واللغات للنووي وفي غيره أيضاً. هذه ثانية.
فإذا شئت أن تزداد علماً فخذ كتاب (المخصص) لأبن سيده ج12 ص 311 وأقرأ قوله: (فأما قولهم: سلام عليك، فإنما استجازوا حذف الألف واللام منه، والابتداء به وهو نكرة، لأنه في معنى الدعاء، ففيه وإن رفعت معنى المنصوب. يريد كأنك تدعو فتقول: (سلاماً). وقوله (استجازوا) دليل على أن الأصل هو التعريف بالألف واللام في ابتداء التحية، وأن الحذف ترخُّص منهم، وهو شبيه بقول الأخفش. هذه ثالثة.
فإن شئت أن تضرب الأمثال لنفسك بالشعر كما ضربتها لي، فاقرأ قول جرير في ديوانه ص 443 وفي النقائض ج1 ص212
يا أمّ ناجية السلام عليكم ... قبل الروح وقبل لوم العذّل
هذه رابعة.
وأن شئت أن تقرأ قول لبيد في الخزانة ج1 ص 217 - 218، وفي ديوانه:
إلى الحول ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فافعل تجد قولهم أن كلمة (اسم) مقحمة، وتقدير الكلام فيما يقول النحاة: (ثم السلام عليكم) وتجد أيضاً في إحدى روايات (إلى سنة ثم السلام عليكما). هذه سادسة.
فانظر لنفسك هل أخطأ كل هؤلاء وأصبت أنت؟
واعلم مشكوراً أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكرَ غير معرف.
وأما نص ابن قتيبة فهو كلام لغموض فيه، فالرجل يقول لك: (تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك) ولم يقل لك إنه ينبغي، ولا أن القاعدة (أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . .)، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه (السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لم عُرّف ثانيا وقد جاء منكراً وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكراً مرفوعاً كما جاء في الأول فقال لك: (لأن الشيء إذ ابدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شئ تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. فكذلك لما(664/34)
صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم)، ويريد أن يقول إن التعريف هنا (للعهد لا للجنس). هذا كل ما في كلام الرجل، لم يوجب شيئاً ولم يمنع شيئاً.
وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى عليه السلام: (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت. . .)، وما جاء من قول الزمخشري فيها: (قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله) يعني في قول الله تعالى ليحيى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت. . .) فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبي الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد هاهنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (15)، ثم مضى بعدها (واذكر في الكتاب مريم) وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال: (والسلام على يوم ولدت. . .) في الآية (33)، فبين السلام الأول والثاني (1) انقطاع في المدة (2) وانقطاع في السَّرد (3) واختلاف في مبتدئ السلام وملقيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.
ومن أجل ذلك ذهب الزمخشري إلى أن التعريف هاهنا للجنس لا للعهد (وهذا كما ترى يخالف كل المخالفة ما أراده ابن قتيبة في كلامه). ثم ذكر الزمخشري نكتة البلاغة في التعريف فقال إن تعريف الجنس هو الصحيح لا تعريف العهد (ليكون ذلك تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وعلى أعدائها من اليهود). وهذا عندي تعليل ضعيف جداً من الشيخ رضي الله عنه، وكان خليقاً به أن يصرف عنه وجهه. ولولا أنه كان مولعاً بنكت البلاغة لما وقع في مثل ما وقع فيه. وأن شئت أن تزداد فقهاً ومعرفة بما قلت فاقرأ تفسير الشهاب الخفاجي والآلوسي والقونوي وأبا حيان وكتاب الأنموذج للرازي وتدبر ما فيها كل التدبر.
وأما قوله في الآية الأخرى من سورة طه: (والسلام على من أتبع الهدى) إن معنى التعريف هاهنا التعريض بحلول العذاب على من كذب وتولى، فهذا جيد وحسن لقوله تعالى في الآية التي تليها: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى). وهذا أيضا طلب لنكت البلاغة، وتبيان لأن التعريف هاهنا للجنس. ولكن الزمخشري لم يقل لك، ولا غيره(664/35)
فيما أحسب يقول لك: إن تعريف الجنس ينبغي أبداً أن يكون متضمنا معنى التعريض بشيء كالعذاب أو الويل أو الهلاك أو سوى ذلك كله.
ولو كان ذلك كذلك أيها الصديق لكان قصر تعريف الجنس على التعريض عجناً من العجب المضحك، فانظر إلى قولك (سلام عليك) التي كان أصلها (سلاما عليك) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى السلام واستقراره، مع بقائها في معنى الدعاء، فأنت إذا عرفتها تعريف الجنس فقلت (السلام عليك) اقتضت التعريض، فعندئذ تقول لي كما قلت: (وبديهي أيها الأستاذ أنك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة إلى التعريض).
فخذ عندئذ أختها وهي قولهم (حمد الله) التي كان أصلها (حمداً لله) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى الحمد واستقراره، مع بقائها في معنى من معاني الشكر والدعاء. فإذا عرفتها تعريف الجنس فقلت: (الحمد لله رب العالمين) أفيقتضي ذلك تعريضأً أو توبيخاً أو تهكماً!!! ألا يكون هذا عندئذ عجباً من العجب المضحك. . .
ومن أجل تعريف الجنس ما أتعب الزمخشري نفسه في آية مريم وفي آية طه، وفي سورة الفاتحة من تفسير قوله: (الحمد لله) فاقرأه هناك وتدبره كل التدبير.
وأما مسألة حديث التشهد فأراك جُرت فيها على الحق. ولقد قلت في مقالك: (أما أهل القبلة فتشُّهدهم بعد الصلاة مختلف فيه، فمنهم من يقول (للسلام عليك). وقبل كل شئ، فتشُّهد أهل القبلة لا يكون (بعد الصلاة) وهو (من الصلاة) ومن تركه أو بدّل فيه بطلت صلاته. هذه واحدة، وأما الثانية، فاختلاف أهل القبلة ليس يقال كما رويتَ، فالصحابة جميعاً والتابعون من بعدهم، وأئمة المذاهب من عرفت منهم ومن لم تعرف، مذهبهم تعريف السلام في التشهد كله إلا (ابن عباس) من الصحابة، والشافعي من أصحاب المذاهب، فإنه ارتضى تشهد أبن عباس وآثره لأنه عنده (هو) أتم الروايات وأكملها، ولكنه لم ينكر التعريف، ولا استنكره المزني ولا سواه من أئمة مذهبه. فلو أنت عنيت نفسك فرجعت إلى شرح البخاري كابن حجر (ج2 ص 261 وما بعدها) والعيني (ج6 ص 109 وما بعدها) لعرفت أن الصحابة والتابعين مجمعون على روايته بالتعريف في التشهد إن رسول الله صلى الله(664/36)
عليه وسلم كان يعلمهم التشهد كما يعلم السورة من القرآن، ولرأيت النووي وهو من أصحاب الشافعي يقول: (قوله السلام عليك أيها النبي، يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل). أبعد هذا يا سيدي تطالبني بأن أطلعك أنت (على نص يوثق به يشير إلى أنهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد السلام عليك أيها النبي)! عسى ولعل، ولعل أهل القبلة أخطئوا جميعاً وأصبحت أنت! بما أوتيت من التدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق!!
وأما إنكارك الحديث على ما خيّلت لك، وأنه مما لا يستشهد به أهل اللغة والنحو، واحتجاجك على ذلك بشيء اقتطعته من بحث في خزانة الأدب ج1 ص 6، ولم تتمه على وجهه بالتدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق كدأبك وعلى عادتك، فهذا باب وحده لو ارتطمت فيه لم تعرف مخرجك منه. وما الذي ألجأك إلى هذا أيها العزيز؟ الآني أتيتك بحديث المسند ج4 ص 439 وفيه النص على أن المسلمين كانوا يبدءون التحية بقولهم (السلام عليك)؟
والحديث الصحيح الذي استخلصه رواتنا رضي الله عنهم، فنفوا عنه كذب الكاذبين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين حجه في اللغة ولا في اللغة والنحو، ولو زعم لك أنه لا يكون حجة في اللغة ولا في النحو فاعلم أنه مبطل، وأنه غافل لا يدري ما يقول. ولو رجع إلى الخزانة التي نقلت عنها (وحسبك ولا أزيدك) علمت أن صاحبك نقل الذي نقلت لي في كلامك، وأنه رجل عالم طالبُ حق لا مغرور بباطل، فقد ذكر وجوه اعتراض المطلبين في الاحتجاج بالحديث ثم نقضها حجة حجة، وصرح بأن تدوين الأحاديث وضبطها وقع في صدر الأول من قبل أن تفسد اللغة وترتضخ الألسنة باللكنة الأعجمية، كما يعلم ذلك من درس تاريخ رواية الحديث وتدوينه حقّ دراسة، ثم صرح في آخر كلامه بأن لا فرق بين جميع روايات الحديث مهما اختلفت ألفاظها، في صحة الاستدلال بها في اللغة والنحو. وكنت حقيقاً أن تقرأ كلَّ هذا قراءة طالب العلم، فلا تسألني أن أغلق باب الاستشهاد بالحديث، من أجل كلمات رويتها لم تحسن وضعها في مواضعها.
وإلا فحدثني أيها العزيز لم ترى اللغة، كصاحب اللسان، وابن الأثير، والزمخشري صاحبك وصاحب كتاب الفائق، وسواهم ممن عرفت ومن لم تعرف كتبهم استشهاداً بالحديث على(664/37)
معان لم توجد في غير، ولو طلبت لها شاهداً من الشعر أو غيره لم تجد. فإما أن يكونوا هم المطلبين، وإما أن تكون أنت على حق، فنبطل من نصف اللغة ونصف النحو وأشياء أخرى كثيرة.
ثم انظر إلىّ أيها الصديق! لست أنت الذي تقول هذا، وتقول لي أيضاً في صدر من كلامك ومنهما ومقرعاً إنه (فإنني أن الحديث لا يستشهد به اللغة والنحو). هو أنت الذي لم يلبث في آخر كلامه أن يناقض هذا كل المناقضة، فنقلت كتاب رسول المقوس، وهو من الحديث، وكتاب أبي بكر إلى المرتدين، وهو من رواية أهل الحديث، ثم أردفت ذلك بقولك: (ومعلوم أن هذه الكتب مدونه ويستشهد بها اللغوين والنحاة)؟! يا عجبا كل العجب! فمن الذي روى لك هذه الكتب سواهم الذين رووا لك الحديث، وحديث التشهد، وحديث سلام في المسند؟ وأين دونت هذه الكتب إلا في الكتابة دوّن فيها الحديث؟ وما فرق ما بين تدوين الحديث وتدوير هذه الكتب؟
وإن كنت قد ارتضيت هذه (الكتب المدونة) حجة يوثق بها، فخذ كتاب الزمخشري، وهو المسمى بالفائق ج2 ص 3، واقرأ فيه وفي غيره: (من محمد رسوله. . .) إلى آخر الكتاب، ولم يعترض الزمخشري أيضاً على هذا البدء، ولم يقل إنه خطأ في اللغة ولا في النحو.
ثم خذ صاحبك الطبري ج3 ص 156 الذي نقلت منه كتاب رسول الله إلى المقوقس، وكتاب أبي بكر، وصاحبك (كتاب صبح الأعشى) ج6 ص 465، الذي نقلت عنه كتاب الرسول إلى كسرى، ثم أقرأ هداك الله: (لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. . .) إلى آخر الكتاب.
فهل قنعت أيها العزيز بما سقت إليك؟ وأمحضك النصح أن لا تتبع تلك الناجمة التي نجمت بين أهل اللغة تريد أن تتبجح بالعلم والمعرفة والفقه، فتأتي صواب الناس ترميه بالخطأ على الشك والتوهم وسوء التأويل وفساد الفهم. واعلم أن العربية تعَلم العقل، فمن شاء أن يطلبها بحقها فليصبر عليها صبر المؤمن. وأنت امرؤ فيك خير فلا تضيع ما آتاك الله بالعجلة والتسرّع، فتثبت قبل أن تحكم، وتدبر قبل أن تقطع، واستقصِ قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزل بك قدم، واعلم أن شر أخلاق الناس اللجاجة، وشر(664/38)
اللجاجة لجاجة العالم، وشر لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلم أو فيما لا يحسن، وأن نصف العلم قول المرء فيما لا يدري لست أدري، فالفهمَ الفَهمَ فيما تلجلج في صدرك، هداك الله وأعانك وسدّد خطاكَ. والسلام عليك ورحمة الله.
محمود محمد شاكر(664/39)
من مذكراتي في أمس القريب:
حول إنعام. . .
للأستاذ فؤاد صروف
في 26 أبريل 1945:
شرف الملك أمس حفلة افتتاح معمل المصل الجديد، وأنعم على الدكتور شوشه بريبة باشا. فنعم المنعم ونعم المنَعم عليه. . .
وقد كنت منذ سنوات في مجلس أديب كبير، فدار الحديث على الرتب والأوسمة. وكان أغلب الرأي بين المتحدثين أن تلغى الرتب كما فعلت العراق وسوريا ولبنان، ولكن الكبير قال: إذا ألغيناها فكيف نستطيع أن نميز الرجل الذي يستحق التقدير والتميز لما يتفوق فيه على الأقران من علم أو أدب أو فضل؟ وكانت الكلمات الأخيرة في السؤال لا تزال تضطرب على شفتي السائل، حين دخلت المجلس سيدة ذكية حصيفة، فوجه السؤال إليها، فقالت دون أن تتردد لحظة واحدة: حسبه تقدير النخبة من المثقفين. فكان قولها فصل الخطاب.
والدكتور شوشه، ظفر أمس بعد إنعام الملك السامي، بالحسنيين: تقدير الملك المتمثل في رتبة عالية، وتقدير النخبة من المثقفين، الذين عرفوه فأنزلوه من تقديرهم في المنزلة العالية.
وحين قرأت ذكر الدكتور علي توفيق شوشه أمس، تزاحمت الخواطر على ذهني، فقد عرفته أول ما عرفته، حين كان وكيلا لمعامل الصحة فمديرا لها. فكان يومئذ مكباً على البحث العلمي الأصيل، مستغرقاً فيه دون أن ينصرف عن شئون الإدارة. ولم يكن بحثه بحثاً في فراغ - على ما يقول علماء الطبيعة، بل كان بحثاً في مشكلة معينة، لها صلة بالإنسانية التي تتعذب، وبالإنسانية المصرية على وجه خاص. فقد كان همه أن يكشف سبيلا لمكافحة سم العقرب الذي يكثر المصابون به في مصر. وقد فعل.
ثم عرفته محاضراً مجيداً بالإنجليزية والعربية، وقد قيل لي إنه أحسن محاضر بالألمانية، ولكن لا أعرفها. وعرفته زميلا محترم في المجتمع المصري للثقافة العلمية، وكنت سكرتير(664/40)
المجمع حين تولى رئاسته. فتجلى لي في كل هذا رجلا آخر: فهو رجل ليس واسع العلم دقيق البحث وحسب، بل يستطيع أيضا أن يبسط العلم وينقله من لغة إلى لغة نقلا بارعاً، تعلو عبارته العلمية الدقيقة سمة من طرافة الأدب. وقد أتيح لي أن أنشر في المقتطف، وفي كتب المجتمع السنوية، نصوص أربع من محاضراته في الغازات الحربية، وسيرة كوخ وأعماله، والمعركة اليومية في الجسم البشري، وتقدم الطب خلال خمسين سنة. وكان لابد من أن أديم النظر فيها عند تصحيح التجارب، وكنت أتوسل بتلك التجارب لكي أذهب إليه في المعامل لأظفر بشيئين: أن أفحصها معه فأضمن دقتها، بين إدارة المعامل وبحثه العلمي الأصيل، أن أقدر أسلوبه البارع في تقريب العلم، وحسه اللغوي الدقيق في التعبير عن المعاني العلمية ومصطلحاتها، قديمها وجديدها على السواء.
ثم عين وكيلا لوزارة الصحة، وكأن السنين الطويلة التي قضاها في تحصيل العلم وممارسة بحوثه الأصيلة، وإعدادٍ المحاضرات لقريب معانيه وإلقائها، وما علمه بالتجربة من حاجة مصر إلى الإصلاح الصحي من وجوهه الكثيرة، وما فطر عليه من حب الخير والعمل - قد احتشدت جميعاً، لتكون الأساس لمشروعات الصحية المتعددة التي وضعها أو محصها مع الوزراء الذين تولوا الوزارة، والمتخصصين من رجال الوزارة ورجال كلية الطب، فصح فيه يومئذ ذلك القول المأثور: (هذا المنصب لهذا الرجل).
هذه المعاني الثلاثة: البحث العلمي الأصيل الذي يحول بعض المجهول معلوماً - والمحاضرة العلمية المثقفة التي تجعل بعيد معاني العلم دانياً منقاداً، وتطبيق قواعد العلم وأغرض العلم في أعمال الحكومة والإدارة لتحقيق خير الشعب - هي التي تألقت في ذهني حين علمت بأن جلالة الملك تفضل فحصه بأنعام سام، كان إنعاماً على العلم النافع جميعاً.
وهذه المعاني الثلاثة تقرر حقيقة، وترسم دستوراً لجميع العاملين. اما الحقيقة، فمسطورة في سجل خدمته، واما الدستور فزكن من الخطة العظيمة التي لابد لمصر من أن تختطها - منذ اليوم بل منذ الساعة، لكي تعد نفسها لمواجهة مشكلات الغد وحلها، حتى تستطيع أن تقيم في هذا الوادي عالماً افضل من عالم امس الغابر، عالماً يقوم على الوفر دون العوز، وعلى الصحة دون السقم، وعلى العلم دون الجهل، وعلى أخلاق الرجال.(664/41)
وفي وضع هذه الخطة وانفاذها لابد لنا من أن نربي العلماء الذين يتولون العلم ببحوثهم الأصيلة. ولست في حاجة الى إقامة الدليل على أن العلم قوة، وينبغي أن نطلبه ولو في الصين. فليس ثمة ناحية من نواحي حياة الفرد او المجتمع لم يتغلغل فيها العلم فرفع من شأنها وأصلح من أمرها: الزراعة والصناعة والغذاء والصحة والمواصلات والمخاطبات. وكثير مما أنجبه العلماء في سائر بلاد الناس، يصلح لنا فيصح أن نتعمق فيه ونتدرب عليه ثم نتخذه في ما يصلح له من شؤننا. ولكننا نجد في بيئتنا مشكلات خاصة، لا يصلح لبحثها أو حلها إلا علماؤنا. وهم ماضون في ذلك بحمد الله، ولكن عددهم يجب أن يزداد أضعافاً. وتأييدهم من الحكومة والشعب يجب أن يستفيض في الميزانية، وعلى ألسنة الناس وفي مجالسهم وصحفهم، وصلتهم بالصناعة المصرية ينبغي أن تتوثق. وحبذا لو طالع القراء الكتب السنوية التي أصدرها المجمع المصري للثقافة العلمية - وهذا المجمع الذي كان الدكتور شوشة أحد مؤسسيه، ثم احد رؤسائه - إذن لوجدوا في مئات من الصفحات، في خمسة عشر مجلداً نفسياً أو تزيد، عشرات من المسائل القومية في الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة، وحفظ التربة، وكفاح المرض، وتجويد الغذاء وتحسين الصحة العامة لا يصلح لبحثها وحلها إلا الاكفاء من المصريين، الذين جرى على حب البلاد والسعب في عروقهم، وتدربوا على البحث العلمي الأصيل. وما خبرية الدكتور شوشة وسم العقرب، ومرشحات الماء في المنازل الريفية والقرى الصغيرة والمتوسطة الذي أخرجها منذ سنوات، سوى مثلين وحسب.
أما تبسيط العلم وتقريب معانيه البعيدة، وبث روحه العالية في جماعات الناس التي لم تظفر لسبب من الأسباب بالقسط الذي تتوق إليه منه، فقد أصبح لزاماً في هذا العصر الذي اتسع فيه نطاق المعرفة اتساعاً لا عهد لنا بمثله في عصر سابق من عصور التاريخ. فكل علم من العلوم القديمة قد نما واتسع نطاقاً وتشعب فروعاً، فتولدت منه علوم جديدة كل منها أدق من سابقه معنى وأشد عناية بالتفاصيل، فهو لذلك أشق على الحصر والإحاطة به. فقد كشف المنظار عن كواكب ونظم منظومة من النجوم والسدم يتعذر على عقل واحد أن يلم بها جميعاً، وأصبح رجال الجيولوجيا يذكرون ألوف الملايين من السنين على حين كان رجال العصور السابقة لا يذكرون إلا الألوف، وأماط علم الطبيعة اللثام عن كون منتظم في(664/42)
الذرة، والبيولوجيا عن كائن حي في الخلية. وأبان علم وظائف الأعضاء طائفة يتعذر حصرها من أسرار الأعضاء، وأثبت علم النفس وجود عوالم من الفكر والشعور في كل حلم، وجاء رجال علم الإنسان فوصفوا لنا صورة عجيبة عن قدم الإنسان على سطح الأرض، وجاراهم رجال الآثار فأخرجوا من جوف الأرض مدناً وحضارات، وتبعت ذلك المخترعات العجيبة لتي يسرت أساليب الحياة، ولكنها خلقت طائفة كبيرة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية تكاد تستعصي علي الحل.
وفي هذا كله روعة تأخذ بمجامع النفس، ولكن يكمن فيه خطر لابد من تبينه والتحذير منه وصار لكم علم، ولكل فرع من علم ألفاظ خاصة لا يفهمها إلا المتخصصون. وصار زعماء معظم الأبحاث عاجزين عن وصف ما يكشفون بلغة الناس.
ومن هنا اشتدت الحاجه إلى المعلم الذي يستطيع أن يفهم الشعب ثم يحطم الحاجز الغوي القائم بين المتخصص والأمة، أو الحاجز الغوي بين لغة ولغة أو كليهما، كما هي الحال عندنا الآن.
ومن آيات التوفيق في كفاح هذا الطراز من العلم المثقف. والدكتور شوشه مثال بيننا لما أسداه أولئك العلماء إلى قومهم. فعلمه الواسع الدقيق يمده بالقدر على الغوص على المعاني البعيدة في العلوم التي توفر عليها، وخياله الخصب يمهد له تصوير تلك المعاني صورا شائقة قريبة، وحسه اللغوي الأدبي يمكن له إفراغها في عبارات ناصعة عربيه وبيان عال. والقوى الثلاث تضبط إحداها الأخرى: فالعلم يضبط الخيال فلا يشذ، ويمسك القلم فلا يغرق، وإذا العبارة القصيرة، أو المحاضرة الطويلة، آية في الوضوح والرواء والإحكام.
وهذه مهمة شاقه كالصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها، ولولا العمل العظيم الذي يضطلع به الدكتور شوشة في وزارة الصحة، وما لمشروعاتها من أثر خطير في مستقبل الشعب المصري، لكنت رجوته، ولكتبت أحثّ الحكومة، على أن ينقطع للمحاضرة في الموضوعات التي توفر عليها وشغف بها.
ولكن العمل الذي يضطلع به في الحكومة ينزل في الصميم من مستقبلنا. فصحة الشعب، من أي النواحي أتيتها، هي والأرض رأس مالنا الأول، وواجب محتوم على كل قادر أن يشارك في دراسة المشكلات واقتراح حلول لها والعمل عملا جاداً متصلا على تنفيذها. وقد(664/43)
مضت سنون على الدكتور شوشه، وهذه الناحية من حياة مصر في المركز من عنايته، وقد طالما سمعه يتحدّث فيها مع زملائه حين كانت وزارة الصحة وكالة، ثم في وزارة الصحة وكلية الطب ومعهد الأبحاث وغيرها من الهيئات.
وما قطعه هو وزملاؤه. ليس إلا مرحلة قصيرة من طريق وعر، في حرب تُشن على الجهل والمرض والفاقة، وستظل أرحاؤها تدور، حتى تصبح الكنانة جنة على الأرض.
فؤاد صروف(664/44)
من الأغاني العالمية:
حنين الغريب
(لناظمها فوستر)
بقلم الأستاذ كامل كيلاني
ذكرنا في العدد 614 من الرسالة أن جمعية مصرية ألفت لتعريب الموسيقى العالمية قوامها الأساتذة علي مصطفى ومشرفة باشا وكامل كيلاني ومحمد زكي علي اسماعيل راتب وعلي بدوي، وأنها أختارت عشر أغان لعباقرة الموسيقى ذكرنا فنقلها نظماً إلى اللغة العربية الأستاذ كيلاني، ثم نشرتها على الناس منظومة مدونة. ونزيد اليوم أن الجمعية لا تزال دائبة على تنفيذ هذا المشروع العظيم، وإنها على وشك أن تخرج للناس مجموعة أخرى من هذه الأغاني. ويسرنا أن ننشر منها هذه الأغنية الجميلة لتكون لعشاق هذه الفكرة ومرتقبيها عجالة لهفان وعلالة مشوق.
يا نهر سْوَاني: نفسي تهواك ... قلبي حَيّاكَّ
من كلَّ أرضٍ فكري يَرْعاكْ ... قَلْبي يَهْوَى نجْواكْ
في التّلَّ العالي فوق الَوديانْ ... أمُشِي حَيْرانْ
في الروْضِ الحْالِي تَحْتَ الأَفْنْان ... تَقْتُلني الأحزانْ
يا صِحابي: يا رفاقي: ... بلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي: كَمْ تُلاقي ... من لاعِجِ السَّقامْ
يا عهْدَ الْوادي، يا عَهْدَ النُّورْ ... عَهْدَ صِبايْ
أجري وأغِّني وأدُورْ ... وأناجِي لَْيلايْ
يا عَهْدّا وَلَّي والدَّهْرُ سَعِيد ... حُلْوُ التغريدْ
ترعاني أُمَّي، والعَيْشُ رَغِيدْ ... أتُراهُ يَعُودْ!
يا صِحابي يا رِفاقي: ... بَلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي كَمْ تُلاقي ... من لاعِجِ السَّقامْ
أوطانيِ فِيها كُوخٌ أََرْعَاهُ ... أنا لا أنْساهْ(664/45)
كم تَكْوي قَلْبي حُزْناً ذِكْراهْ ... سَحَرتْني رَيْاهْ
والنَّحْلُ تَجْنِي النُّورَ البَسَّامْ ... بَيْنَ اْلأَكمامْ
أَفْدِي بَحَياتي تلكَ الأيامْ ... أََفْدي عَهْدَ الأحْلامْ
يا صِحابي يا رِفاقي: ... بَلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي كَم تُلاقي ... مِنْ لاعِجِ السَّقامْ(664/46)
ليتني. . .!
للمرحوم أبي القاسم الشابي
(أيها الشعب ليتني كنت حطَّا ... با فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سا ... لت تهد القبور رمسا برمس
ليتني كنت كالرياح فأطوي ... كل ما يخنق الزهور بنحسي
ليتني كنت كالشتاء أغشي ... كل ما أذبل الخريف بغرسي
ليت لي قوة العواصف ياشع ... بي فألقي إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن ... أنت حي تقضي الحياة برمس
أنت روح غبية تكره النو ... ر وتقضي الدهور في ليل ملس
أنت لا تدرك الحقائق إن طا ... فت حواليك دون مس وجس
في صباح الحياة ضمخت أكوا ... بي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرق ... تَ رَحيقي ودست يا شعب كأسي
فتألمت ثم أسكتُّ آلا ... مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي ... باقة لم يمسها أي أنسي
ثم قدمتها إليك فمزق ... تَ ورودي ودستها أي دوس
ثم ألبستني من الحزن ثوباً ... وبشوك الصخور توجت رأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شع ... بي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب علِّي ... في صميم الغابات أدفن نفسي
ثم أنساك ما استطعت فما أن ... ت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشي ... دي وأفضي لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري ... أن مجد النفوس يقظة حس
ثم أقضي هناك في ظلمة اللي ... ل وألقي إلى الوجود بيأسي
ثم تحت الصنوبر الناضر الحل ... وتخط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تمشي حواليَّ ... كما كن في غضارة أمس
أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل مغس(664/47)
أنت في الكون قوة لم تسسها ... فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها ... ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلي ... في حساسيتي ورقة نفسي)
هكذا قال شاعر ناول الشع ... ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا ... واستخفوا به وقالوا بيأس:
قد أضاع الحياة في ملعب الجن ... فيا بؤسه أصيب بمس
طالما خاطب العواطف في اللي ... ل وناجي الأموات في كل رمس
طالما رافق الظلام إلى الغا ... ب ونادى الأرواح من كل جنس
طالما حدث الشياطين في الوا ... دي وغنى مع الرياض بجرس
إنه ساحر تعلمه السح ... ر الشياطين كل مطلع شمس
أبعدوا الكافر الخبيث عن الهي ... كل إن الخبيث منبع رجس
اطردوه ولا تصيخوا إليه ... فهو روح شريرة ذات نحس
هكذا قال شاعر فيلسوف ... عاش في شعبه الغبي بتعس
جهل الناس روحه وأغاني ... ها فساموا سوء بخس
فهو في مذهب الحياة نبي ... وهو في شعبه مصاب بمس
هكذا قال ثم سار إلى الغا ... ب ليحيا حياة شعر وقدس
وبعيدا هناك في معبد الغا ... ب الذي لا يظله أي بؤس
في ظلال الصنوبر الحلو والزي ... ون يقضي الحياة حرسا بحرس
في الصباح الجميل يشدو مع الطي ... ر ويمسي في نشوة المتحسي
نافخاً نايه حواليه تهتز ... ورود الربيع من كل قنس
شعره مرسل تداعيه الري ... ح على مكتفيه مثل الدمقس
والطيور الطراب تشدو حوالي ... هـ وتلغو في السرو من كل جنس
وتراه عند الأصيل لدي الجد ... ول يرنو للطائر المتحسي
أو يغني بين الصنوبر أو ير ... نو إلى سدفة الظلام المعبسِّي
فإذا أقبل الظلام وأمست ... ظلمات الوجود في الكون تقسي(664/48)
كان في كوخه الجميل مقيما ... يسأل الكون في خشوع وهمس
عن مصَب الحياة أين مداه ... وصميم الوجود أيان يرسي
وعبير الورود في كل واد ... ونشيد الطيور ساعة تمسي
وهزيم الرياح في كل فخ ... ورسوم الحياة من أمس أمس
وأغاني الرعاة أين يواري ... ها سكون الدجى وأيان تمسي؟
هكذا يعرف الحياة ويفنى ... حلقات السنين حرصاَ بحرس
يا لها من معيشة في صميم ال ... غاب تضحي بين الطيور وتمسي
يا لها من معيشة لم تدنس ... ها نفوس الورى بخبث ورجس
يا لها من معيشة هي في الكو ... ن حياة غريبة ذات قدس
أبو القاسم الشابي(664/49)
البريد الأدبي
كليتان تتنافسان:
بين كلية اللغة العربية وكلية دار العلوم تنافس طال أمده، وكنا نحب أن يكون هذا التنافس بينهما في ميدان التجديد الذي مات بموت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ولكنهما يتنافسان على وظائف التدريس في المدارس الأميرية، وفي دخول معهد التربية، وما كان يصح أن يكون بينهما تنافس على ذلك، لأن المدارس الأميرية بعد أخذ الحكومة في تعميم التعليم الابتدائي وتوسيع التعليم الثانوي ستسع أبناء الكليتين، وربما تحتاج الحكومة إلى كلية أخرى من نوعهما، ويجب أن يعلم أبناء الكليتين أنه يوجد كلية آداب بجامعة فؤاد وكلية آداب بجامعة فاروق، كما يوجد بهما كليتان للطب وغيره، وليس بين هذه الكليات مثل هذا التنافس على الوظائف، مع أن باب الوظائف لا يتسع أمام هذه الكليات، كما يتسع أمام كلية اللغة العربية وكلية دار العلوم. ويجب على الحكومة أن تبادر بإزالة أسباب ذلك التنافس، لأنه مما يضر بمصلحة الوطن، ونحن في أشد الأوقات حاجة إلى جمع الكلمة، وإزالة أسباب الخصام بين طرائف الأمة.
عبد المتعال الصعيدي
إلى الأستاذ وديع فلسطين:
قرأت بشغف تلك التي أهديتها إلي، وإذا كنت لم أر فيها أفكارك الخاصة، فقد رأيت فيها أسلوبك الخاص الذي أضفيته عليها، كما لمست في مقدمتها شخصيتك واستعدادك اللذين عرفتهما من قبل.
إنك تسير في الطريق الصحيح، وإنني أرى من الآن تلك المكانة التي ستتبوؤها قريباً بفضل اجتهادك ومثابرتك ومواهبك، فإلى الأمام.
حماده الناحل
موقف اليهود العرب من الصهيونية
كتب شيخ الصحافة في الشام الأستاذ يوسف العيسى صاحب جريدة (ألف باء) مقالا بليغاً(664/50)
عن الموقف الأخير الذي وقفه اليهود العرب من الصهيونية ذكر فيه أن ممثل اليهود أمام لجنة التحقيق السيد عبادي أجاب هذه اللجنة حين سألته عن الفرق بين اليهودية والصهيونية بقوله:
إن اليهود والعرب يسلمون كل التسليم بالفكرة الصهيونية، وبوجوب إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، وبلزوم هجرة اليهود والعرب من العراق ومصر وشمالي أفريقية إلى هذه الدولة اليهودية الجديدة
قال الأستاذ العيسى: (وهكذا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وانتهى التدجيل الكلامي الذي دأب زعماء اليهود العرب يسمعونه مواطنهم المسيحيين واليهود من أنهم يشجبون ويلعنون ويمقتون كل من يقول بالصهيونية لأنهم يعتبرون أنفسهم عرباً).
ثم قال الأستاذ: (كنا دائماً نتجنب إدخال اليهود الوطنين في القضية الصهيونية ونحافظ على التفريق بينهما كلما كتبنا في الموضوع؛ أما اليوم فقد أراحنا هؤلاء المواطنون من هذا التكلف وصاحوا بأعلى أصواتهم أنهم لا شأن لهم معنا بل هم مع الصهيونية ضدنا، أما اليوم وقد صرّح الزبد عن الخمر وأظهروا حقيقتهم برضاهم واختيارهم، فقد حذفنا من قاموسنا كلمة صهيونيين وغير صهيونيين لأن الخصام السياسي أصبح محصوراً بين عرب ويهود على الإطلاق).
(دمشق)
ناحي الطنطاوي
حول لفظ البيوريتنز:
لست أرى ما ذهب إليه الأستاذ وديع فلسطين مع احترامي له وثنائي على حسن عنايته، فليست هذه الألفاظ صفات، وإنما هي أسماء لها مدلول أوسع مما تدل عليه الكلمة في اشتقاقها اللغوي. وهل نترجم الكاثوليكية مثلا والبروتستنتية إلى العربية، والمعتزلة، والمرجئة، والقدرية، والشيعة، إلى الإفرنجية؟
هذا، ولست أنكر أن إيراد تلك الأسماء الإفرنجية وسط الكلام العربي فيه شئ من الثقل، ولكن ذلك هو الصواب فيما أعتقد والسلام.(664/51)
الخفيف
حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية:
قَدم الدكتور محمد شرف الدين سليمان منذ عامين في حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية للأستاذ علي محمود طه (أرواح وأشباح) وقد اختار لحفلته هذا العام أوبريت (دموع الرشيد) وهي للشاعر عبد القادر محمود وسيقوم بإخراجها الأستاذ عثمان أباظة فنرجو للمعهد التوفيق في عهد الجديد.
عين(664/52)
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي. . .
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 4 -
أخذ (محمود) طريقه إلى بيته - بعد أن فارق فريداً - وهو يكاد يطير من شدة الفرح، يلقي التحية على من يقابله من إخوانه، ويريد تحياتهم بثغر باسم، ووجه باش، وصوت يشيع فيه السرور. . . وإن رأسه لميدان فسيح تتسابق فيه الأفكار حول المشروعات العمرانية والثقافية التي أراد أن يشق بها طريقه إلى الخلود والمجد، فسيكون أول مكشف يجلو عن جبين التاريخ الألباني العظيم ما غمض من حقيقة. وسيتسع بذلك أفق حياته، ويصبح إنساناً آخر غير محمود المدرس الذي خرج في صباح هذا اليوم إلى المدرسة يعمل جاهداً طول نهاره، ويعود متعباً مع الليل. سيصبح (مليونيراً) ترنو إليه العيون، وتشير إلية الأصابع، ويسير في ركابه الاحترام. وإنه لمشغول بهذه الأفكار إذ مر به صديقه فتحي ماشياً على حذر خشية أن تزلق رجله فيسقط في الوحل، ولقد اختلس النظر إلى محمود على ضوء الكهرباء التي أنارت الطريق، لكنه لم يخطر له على بال أن محموداً سيكون - بين عشية وضحاها - مذكوراً على كل لسان، وموضوع حديث كل إنسان، وأن اسمه سيتداول مع الأجيال المقبلة، لما وفق إلية من اكتشافات غيرت وجه التاريخ، وسجلته مع الخالدين. . .
إن المظاهر الخارجية قد تعتبر تعبيراً صادقا عما تنطوي عليه نفس الإنسان، من نعيم أو شقاء، أو حزن أو سرور؛ فإن فتحي قد رأى محموداً ولم يلحظ فيه التحول، وكذلك لم يلحظ فيه هذا التحول، وكذلك لم تلحظه أمه ولا أخواته الثلاث عندما جلس معهن على المائدٍة، ليؤنسهن، ويسامرهن، فقد تناول عشاءه في منزل فريد. ولقد رأيته أكثر سروراً منه في كل(664/53)
وقت، ولكن لم يمتد بهن الخيال أبعد من أن نجاحه في عمله المدرسي وتمتعه بثقة أصدقائه هو الذي يضفي عليه ثوب هذا السرور دائماً.
إن الإنسان ليضيق به المكان، ولا يستطيع الاستقرار فيه إذ اأفعمه الفرح، وكذلك كان محمود؛ فقد استحال عليه أن يقنع نفسه بالبقاء في المنزل، بعد أن فرغت أمه وأخواته من عشائهن، وانصرفن لبعض الشئون، فغادر البيت وليس له مقصد معين. ولما كان الوقت قريباً من شهر رمضان: والناس جادون في الاستعداد له، فإن المحال التجارية والمقاهي كانت تعمل إلى وقت متأخر من الليل، فراق لمحمود أن يذهب إلى المقهى ثانية يقضى فيه شطراً من هذا الليل، وقدر أنه سيتلاقى - حتما - مع فريد، فإنه لن يستطيع الصبر على الانتظار في البيت، ولكنه أخطأ التقدير، فلم يجد إلا شقيق التحية وقال: ما دمت قد حضرت فلن أكون وحدي. ثم جلسا متقابلين ونظر محمود إلى شفيق وقال وهو يبتسم: إن ملامح وجهك، ونبرات صوتك، تدلنا على تغير طرأ عليك فماذا بك يا شفيق؟
- لاشيء! وكيف أتغير؟
- لا أدري! ولكنك لست كما أنت في كل يوم.
- إن الإنسان لا يدوم على حال واحدة، وتلك سنة الطبيعة وناموس الوجود. وعسى الله أن يأتي بالفرح. وعندما نطق شفيق بهذه العبارة اجتهد أن يملك زمام نظرات محمود النفاذة إلى القلوب. ولكن محمودا وقد أراد التسلية، وقتل الوقت، فقد أمطر شفيقا وابلا من الأسئلة؛ فقال له: ألست من أصدقائك، ومن حقي أن أعرف ما حل بك؛ فقد أستطيع أن أمد لك يد المساعدة؟
- لم يحل بي مكروه، والحمد لله. ثم لماذا تسألني هذا السؤال؟
لأني رأيتك هذا اليوم في الطريق مهموما، وآية ذلك أنك لم تحينا. فتحرك شفيق في كرسيه في حركة عصبية وقال في شئ من الغضب: ذلك لأن لدي أشغالا هامة، فليس صديقك فريد هو المشغول وحده.
- ولماذا تقحم فريداً في الكلام وهو ليس معنا.
- إنه متكبر، يدل بثراء والده، ويضع نفسه في غير موضعها، وأولى له أن يطرح هذا جانباً وإنني أمقته لذلك.(664/54)
- لو تعلم عنه مثل ما أعلم، ماخالجك شك في سمو خلقه، وصفاء نفسه، أنه مثل من أمثلة المروءة والنبل.
- أنا لا أعلم عنه إلا أن ثراء والده أفسد خلقه، ووأد مروءته، وإن الغني الذي يفاخر به ليس وقفا عليه؛ فربما أصبح أناس آخرون في وقت قريب أكثر منه ثراء، وأيسر منه حالا
- (اشقودراه) كبيرة وبها كثير من الأغنياء.
- نعم! ولكن أقصد أن من الممكن أن يظهر في سمائها أغنياء جدد فجأة لا يستطيع الخيال أن يصل إلى ما يملكون من مال. فاضطرب قلب محمود خوفا من أن يكون شفيق قد التق ببيرام وعلم من أخباره شيئا، ولكنه اجتهد في إخفاء تأثره وقال: نعم! ذلك ممكن وميسور، وإنه ليكفي الإنسان ليكون غنياً أن يربح (يا نصيب دوبلين).
- وما قيمة (اليانصيب)؟. إن سبلا كثيرة للغنى تنفتح أمامك، إذا أسعدك الحظ، وواتتك الظروف.
- وماذا تكون هذه السبل؟ بربك دلني على إحداها!
- ها أنت تسخر من كلامي! ولكن حقا توجد طريق كثيرة
- أنا لا أنكر أنها توحد! ولكني أومن بأن الحظ لن يحالفك أبداً.
- وأنى لك ذلك؟ ألأنه خدم صديقك فريداً، أم ماذا؟
- وما شأن فريد هنا، لكل إنسان خطة في الحياة.
- على كل حال، سأحدثك بعد قليل. ثم سكتا وقتاً تشتت فيه فكر محمود واعتقد أن شفيقاً قد اشتم عبير الكنز - لا محالة - وأن بيراما - لابد - وأن يكون قد خانهما. ولم يتحول عن هذا الاعتقاد إلا عندما قال شفيق: هل تعرف شيئاً عن مادة (أبونوس).
- نعم أعرفه! ولماذا؟
- ما قيمة هذا المعدن بين المعادن الأخرى؟
- إن قيمته عظيمة! كالذهب تقريبا، ولكن لماذا تسألني عنه؟ هل اكتشفت منجما؟
- إن لم أكن قد اكتشفته فسأكتشفه قريبا. فقال محمود ضاحكا - بعد أن اطمأن أن بيرام لم يفلت من يدهم، وأن شفيقا إنما يحلم بآبار من (أبونواس): أرجوك ألا تنساني يا شفيق، ثم أخذ الحديث مجري آخر إلى أن انتصف الليل فقام كل منهما إلى منزله. وقد آثر محمود أن(664/55)
يسلك إلى بيته طريقا طويلا يمر بمنزل فريد، رجاء أن يقابله بيرام عائداً فإن ميعاده قد حان، ولكنه لم يصادفه.
قضى محمود ليلة (نابغية) فقد أخذ موضعه من سريره، ولكن النوم ضل طريقه إلى عينيه، فلم يغمض له جفن. وقد تمثلت له حوادث النهار حقائق لا يعتريها شك، ولا يتسرب إليها وهم. ولقد امتد به الخيال فذهب يرافقه السيد عفت ونجله فريد إلى (دومن) وقابلو بيراما في بيته وأرشدهم إلى الكهف وقادهم في مسالكه ورأوا بأنفسهم ما احتواه الكهف من ذهب نضار، وتماثيل عجيبة، انفسح لها مجال الفخر بأن يد الزمن عجزت أن تمتد لها بسوء طوال هذه القرون البعيدة، التي مرت بها، وفي هذا دلالة على أن صانعها في ذلك العهد الغابر قد ضرب في جودة الفن بسهم وافر. وأن الألبان أهل حضارة قديمة، ومدينة عريقة، وهذا الكهف بما فيه شاهد عدل، وحجة دامغة على من يدعى الإنكار.
وهاهي ذي الأزيار الكبيرة قد امتلأت بالذهب ولا يعلم إلا الله وحده متى جمع هذا الذهب؟ ومن أين جمع؟ ومن جمعه؟ فقد تكون الجنود الألبانية المنتصرة قد غنمته من عدو مغلوب في ذلك العهد البعيد، أو تكون الحكومة القائمة آنذاك قد استبدلت به الأسرى والسبايا التي عادت بها جيوشها المظفرة، أو تكون قد جمعت من أفراد الشعب ظلما بأيدي حكام طغاة ضلت الرحمة طريقها إلى قلوبهم. . .
وهاهي ذي قد زالت من الوجود الوسائل والغابات التي جمع بها ومن أجلها هذا الذهب، وبقي هو ليبدأ اليوم صفحة جديدة في حياة أناس آخرين لا صلة تربطهم - في الواقع - بمن جمعه، ولم يقدروا في يوم ما أن القدر قد كتب لهم في سجل حياتهم هذه السعادة، وهذا النعيم.
ها هو ذا القنديل المعلق في وسط الكهف يقرأ علينا من أخبار ذلك القصر العظيم الذي كان يشع فيه ضوؤه، ويقص علينا من تاريخ أهله العجب العجيب، فهؤلاء أمراء الأجناد وأبطال الحرب ينتظم عقدهم كل مساء إذا أوغل الليل، يدبرون مع الحاكم خطط الهجوم على العدو، ويتشاورون في أنجح الطرق وأضمن الوسائل للتغلب عليه، وإن عددهم ليتناقص واحداً واحدا على مر الأيام حتى لم يبق منهم أحد، فقد فنوا جميعا، ولحق بهم الملك بعد قليل - سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولقد قام على أنقاضهم(664/56)
جماعة فهموا الحياة فهما آخر فكان وقتهم موزعا بين الرقص والغناء وغيرهما مما يشيع البهجة والسرور في النفس، ويمسح عن القلب ما يكون قد علق به مما يباعد بينه وبين الانشراح.
وقد طوى الزمن هؤلاء وأولئك فأصبحوا تاريخا يسرد وبقيت وحدي تذكاراً لذلك الماضي البعيد. . .
المهد في زاوية من زوايا الكهف يتحدث في صلف عن أولئك الملوك الذين تأرجحوا فيه أطفالا وداعبوا فيه صغارهم حكاما كباراً، وهم معقد رجاء الأمة، وملتقى آمال الشعب.
دارت كل هذه الخواطر في رأس محمود فباعدت بينه وبين النوم إلى أن طلعت الشمس، فهب من سريره واستبدل ملابسه وأسرع إلى منزل فريد، وكله شوق إلى رؤية ما استحضره بيرام من العينات.
ولكنه لما دخل على فريد، ورأى الألم والحزن مرتسمين على صفحة وجهه، والقلق والاضطراب في حركاته وسكناته قال له: ماذا بك؟ ألم يأت بيرام بعد؟
- لقد انتظرته إلى طلوع الشمس. لكنه لم يأت.
- كيف ذلك؟ أتراه كان يهزأ بنا؟
- لا أدري! وإني متعب جداً ولم أذق طعم الراحة طيلة الليل وأود أن أستريح فأذن لي، فخرج محمود وترك فريداً يستعد للنوم. ولما كان في الطريق غير بعيد عن منزل فريد رأى السيد لطفي يذهب ويجئ - في طول الشارع وعرضه - كأنه يراقب من في المنزل، أو كأنه على موعد مع أحد، فعجب من وجوده هذا الوقت المبكر في هذا المكان، الذي ليس لأحد فيه صلة به، ثم في سرعة البرق تذكر ما دار بينه وبين شفيق في الليلة المنصرمة، وبدأ يتسرب الشك إلى قلبه، وكان قد حاذاه، فحياه تحيه الصباح، فرد لطفي تحيته في صوت مضطرب خافت، وبدا عليه شئ من الارتباك، فقد كان يود ألا يراه أحد من أصدقائه في وقفته تلك. أما محمود فقد أسرع في طريقه إلى المدرسة شارد التفكير، حائر اللب، يود أن يعرف لماذا تأخير بيرام؟ ولماذا وقف لطفي أمام منزل فريد بالذات في هذه الساعة المبكرة وقد أحس في نفسه شعوراً قويا بأن شفيقا وصديقه لطفي إنما يقومان معا بعمل مشترك، وليس بعيداً أن يكونا قد أوقعا بيراما في الشرك. ولقد طغى هذا الشعور(664/57)
على محمود - وكان قريباً من المدرسة - فرأى أن من الحيطة أن يرجع، ويقف فريدا على ما كان من شفيق ليلة أمس، وأنه رأى السيد لطفي الآن يدور حول منزله، ويطلعه على إحساسه من أن شفيقاً ولطفي يعملان معاً لغرض مشترك. وبينما هو عائد لمح من بعيد السيد لطفي يتحدث في كثير من الاهتمام إلى قروي ربط رأسه بمنديل أحمر ستر كثيراً من وجهه، بحيث يصعب على إنسان لم يكن رآه كثيراً - أن يعرف من هو، ولكن محموداً أحس إحساسا قويا أن هذا القروي لن يكون غير بيرام، فاندفع نحوهما بغضب وقال بحدة:
- أين كنت يا بيرام؟ لماذا لم تجئ الليلة كما وعدت؟ أتكذب علينا؟
- تمهل يا سيدي! ولا تجعل للغضب سبيلا إلى قلبك، فسأقص عليكم كل شئ.
وهنا يدخل السيد لطفي، وقال لمحمود بصوت شاع فيه الغضب. . . . . .:
- إن هذا الرجل لا سلطان لك عليه، فقد تكلم معي أولا وليس من حقك أن تقف معنا، فامض في طريقك، ولا تتدخل فيما ليس من شأنك.
- كيف تقول إنه تكلم معك أولا؟ إنه أكد الأيمان أنه لم يسبقنا إلى معرفة أمره أحد.
- لا أريد أن أعرف ماذا قال لكم، ولكن أريد أن تفهم أنه مرتبط معي فقط.
- معك أنت؟ قال محمود هذه الكلمة بغضب شديد، دل عليه احمرار وجهه، وبريق عينيه، وتقلص شفتيه، وخشونة صوته
ثم تراميا بألفاظ شديدة اللهجة قوية الوقع. . . ولكن بيراما قد وضع حداً لهذا التراشق بالشتائم؛ فقد صاح فيها:
- مهلا أيها الفاضلان! فلست مرتبطا مع أحد منكما، فلا تقتتلا من أجلي، فمهمتي في هذا المنزل. وأشار إلى منزل السيد عفت والد فريد: فقال محمود:
- حسن! عليك أن تذهب إلية الآن.
فابتعد السيد لطفي عنهما وقال مهدداً متوعداً:
- اذهبا حيث شئتما، وسنرى.
(البقية في العدد القادم)(664/58)
العدد 665 - بتاريخ: 01 - 04 - 1946(/)
الأمريكيون والأمريكيات يتكلمون في تعدد الزوجات
والطلاق
للأستاذ عباس محمود العقاد
عرضنا في كتابنا عبقرية محمد لمسألة تعدد الزوجات، ولخصنا في عدد ماض من الرسالة ما كتبه المصلح الهندي السيد محمد علي عن هذه المسالة في كتابه عن الإسلام والنظام العالمي الجديد، وخلاصته (أن الإسلام يزكي وحدة الزوجة ويفضل هذا الزواج على كل زواج. إلا أن الشرائع لا توضع لحالة واحدة، والدنيا كما نراها عرضة لطوارئ الشذوذ والاختلال، ومن هذه الطوارئ ما ينقص الذكور عدة ملايين ويزيد الإناث بمقدار هذا النقص في عدد الذكور، فضلا عن الزيادة التي تشاهد في عدد النساء من كل أمة على وجه التقريب في غير أوقات الحروب. وإن تعدد الزوجات في أمثال هذه الأحوال لخير من البغاء المكشوف. فقد قبلت المرأة الأوربية مشاركة الخليلات المعترف بهن وقبلت مشاركتهن في الخفاء، وأصبحت هذه المشاركة نظاما اجتماعيا مقررا لا معنى بعد قبوله وتقريره للاعتراض على تعدد الزوجات الشرعيات، فهو على الأقل أصون للأدب واكرم للنسل وأجمل بمنزلة المرأة من مهانة الابتذال، وأصلح للاعتراف به في علاقات المجتمع وقوانين الأخلاق).
ولم يكد هذا المقال يظهر في (الرسالة) حتى وصلت إلينا مجلة أمريكية حديثة من طراز جديد تسمى المساجلة أو المناقشة أو الحوار وتدور على موضوعات سياسية أو اجتماعية أو سياسية تختلف فيها الآراء، ويؤيد كل رأي منها فريق من الكتاب أو القراء، ومن هذه الموضوعات موضوع الطلاق وتعدد الزوجات وهل الأفضل للمجتمع الإنساني أن نبيح تعدد الزوجات تجنبا للطلاق أو نبيح الطلاق تجنبا لتعدد الزوجات. فكان من الطريف حقا أن نطالع هذه الآراء كما تخطر عندهم للرجال والنساء والفتيان والفتيات. فانهم في الواقع يقدمون الوجهة (الذوقية) في هذه المسالة على الوجهة الاجتماعية الخطيرة التي من أجلها توضع الشرائع وتسن المباحات والمحظورات، ولكن الواجهة الذوقية مع هذا قد تتغلب في أثرها على الواجهات الاجتماعية مع جلالة خطرها وضرورة النظر في علاجها. لأن المعارضة في تعدد الزوجات تفقد الكثير من أسبابها القوية إذا أمكن التغلب عليها من جانب(665/1)
الذوق والشعور.
قالت الآنسة فرانسين دوفال وهي ممن قبلن تعدد الزوجات: إنها تعرف فتاة صديقة لها طلبت الطلاق بعد زواجها بستة شهور، لأنها علمت أن زوجها يغيب عن المنزل بعض الليالي ويعتذر بالاستعداد لامتحان الحقوق، وهو في الحقيقة يقضي تلك الليالي في صحبة فتاة أخرى كان يعاشرها قبل الزواج، وأن الطلاق في هذه الحالة أكرم الحلول فلا ملامة على الفتاة أن تطلبه ولا على الشريعة أن تنص عليه.
قالت: (وإنني وإن كنت أعتقد أن تعدد الزوجات يوافق الرجال أكثر مما يناسب النساء أحسبه شيئا لا يخلو من الطرافة والغرابة. ولست من الطفولة بحيث يخفى علي أن كواكب الصور المتحركة يعشقهم كثير من النساء ويعلمن وهن يعشقنهم أنهن لا يسيطرن على قلوبهم ومشيئتهم. ومهما يكن رائيك مثلا في (إيرول فلن) فإنك لن تجهل الواقع الذي لا شك فيه من أمره وهو أن طائفة كبيرة من النساء يقبلن الشركة فيه. نعم ليس كل الرجال في وسامة إيرول فلن أو فكتور ماتيور أو فإن جونسون أو كلارك جابل؛ ولكن الرجال الذين لهم نصيب من الوسامة والقسامة كثيرون في كل مكان. فلماذا لا تشترك في قربهم عدة نساء؟ إنهن ينفردن في الحجرات متى كبر الأطفال وتتقدم السنون فتبرد حرارة الشباب وتهدأ مرارة الغيرة ولا يبعد أن يجد هؤلاء الشريكات مواطن للتسلية والمقارنة في التحدث عن ذلك الرجل الذي ارتبطن به جميعا برابطة الزواج. ولقد عشت معظم أيامي في ضاحية مدينة كبيرة فلا أحسب صديقاتي إلا مستغربات عاتبات لو أصبح من حظي غدا أن أكون واحدة من هؤلاء الزوجات المشتركات. ولكن هب الرجال كان مليح الشمائل قادرا على إيوائنا جميعا ألا يخطر لك أن اللاغطات بحديث زواجي يلغطن إذن من الغيرة لا من الإنكار؟).
وكتبت آمي هتشنسون وهي زوجة لها ولدان - فقالت إنها نشأت في ولاية (أوتاه) التي أقام فيها المورمون الذين يدعون إلى تعدد الزوجات، وأنها قضت في عشرة زجها أربع عشرة سنة ولا ترى للزوجة أن تطلب الطلاق إلا إذا آمن زوجها بمذهب تعدد الزوجات!.
وقالت: (ما من امرأة ولدت في هذه الدنيا الحديثة ترضى أن تشاطرها أخرى في حقوق فراشها إلا إذا كانت قد أضاعت صوابها. وهذه كلمة مكشوفة لا مراء ولكنها هي أهم ما(665/2)
تفكر فيه امرأة حين يذكر لها تعدد الزوجات. ثم ماذا يقول الأطفال إذا فارقهم (بابا) ليلتين أو ثلاث ليالي أو أكثر من ذلك ليذهب إلى زوجاته الأخريات؟).
وكتب جوزيف ماردفلد - وهو من المشتغلين بدراسة علم الأجناس والسلالات - فاستحسن تعدد الزوجات وغلب عليه حكم الصنعة فعلل استحسانه بالفائدة العلمية التي يجنيها الإنسان من هذه التجربة الضرورية إذا صرفت إلى غايتها الصحيحة. فنأخذ رجلا قويا ذكيا وسيما ونراقب نسله من عدة نساء مختلفات النماذج والأخلاق، ونستخلص من ذلك أصدق المبادئ الصالحة لتحقيق الكمال المثالي في القران بين الذكور والإناث. أما الطلاق فهو لازم للفصل بين الزوجين كلما ظهر النقص في شروط القران واستحال التوفيق بينهما على النحو الذي ينفع الذرية ونوع الإنسان. ويرى هذا الكاتب أن تجربة المورمون في القارة الأمريكية قد أسفرت عن نجاح لا ريب فيه وأنجبت في إقليم أوتاه جيلا من أصحاء الرجال والنساء صمدوا للمقاومة التي كانت تحيط بهم من كل صوب، وذللوا الصعوبات التي أقمها لهم رجال الدين وغيرهم من أعداء تعدد الزوجات.
وأنكر فرانك شيهان تعدد الزوجات كما أنكر الطلاق لأنه لا يريد أن ينفصل ما عقده الله ليبقى منعقدا مدى الحياة. وحاول أن يعلل إنكاره بعلة اجتماعية فقال إن السماح بتعدد الزوجات ظلم للطبقات الفقيرة، لأن إيواء الزوجة في العصر الحاضر يكلف الزوج نفقات لا قبل بها للفقير بغير جهد جهيد. فكيف بالزوجات المتعددات؟ وكيف نستخدم القانون لتمييز طبقة واحدة من طبقات المجتمع وحرمان سائر الطبقات من هذه المزية؟.
قال: (ولنتكلم بعد هذا عن الحياة اليومية التي يحياها رجل يجمع بين زوجات متعددات، ولنقدر أنهن لا يعشن تحت سقف واحد بل في حجرات متقاربات. ولنتخيل الزوجة رقم (1) حين تنظر إلى النور موقدا في مسكن الزوجة رقم (2) ثم ينطفئ النور ساعة الرقاد. أين يا ترى يكون الزوج هذه الساعة؟ أعند هذه الزوجة أم عند الثانية أم عند الأخرى؟. . .).
وعلى هذا المثال تبدأ الآراء في هذه المسائل الجلي فيثبت للناظر فيها شيء واحد على الأقل وهو أن المعارضة في مذهب تعدد الزوجات لا تستند إلى سبب أخطر من سبب (المزاج) كما يصح أن تعبر عن أشباه هذه الأسباب.(665/3)
فالدواعي التي تلجئ المشرع إلى إباحة تعدد الزوجات عند الضرورة التي تسوغه أخطر جدا من هذه الموانع التي تساق لحظره على النحو الذي أجملناه فيما تقدم. فهذه الزوجة التي يغشى عليها الكاتب الأخير من وساوس الغيرة هل يظنها تنجوا من هذه الوساوس إذا كانت السهرة التي يغيب فيها زوجها قد انقضت في الحانة أو الماخور أو في الأندية التي لا فرق بينها وبين الحانات والمواخير؟ أو هل تنجو من هذه الوساوس إذا كانت السهرة مع زوجة رجل آخر يخونها في تلك الساعة كما تخونه لأنهم جميعا لا يستسهلون الطلاق؟
إن الذين يبيحون تعدد الزوجات لا يبيحونه لأنه حسنة مشتهاة ولا لأنهم يفضلونه على الاكتفاء بالزوجة الواحدة متى تمت شروط الوفاق والعشرة الدائمة بين الزوجين، ولكنهم يبيحونه لأن السيئات التي تبيحها الحضارة أبغض منه وأولى بالمحاربة والإنكار، ويعلمون أن كرامة الزوجة التي تشاركها في رجلها زوجة أخرى أعز وأوفر من كرامة الخليلة التي تعترف بها المجتمعات الأوربية والأمريكية ولا تحسب لها حسابا في الشرائع والقوانين غير حساب التهاون والإغضاء.
ولعل هذه الأجوبة التي قدمناها لا تشمل على جواب هو أولى بالتدبر وإطالة الروية من جواب الفتاة التي قالت إن النساء لا يرفضن المشاركة في الرجل الوسيم القسيم وإنهن إذا لغظن بحديث هذا الزواج فأغلب الظن أنهن لغضن من الغيرة لا من الإنكار. فهذه فتاة من بنات العصر الحديث في القارة الأمريكية موطن الحرية النسائية التي جاوزت جميع الحدود، كشفت عن دخيلة شعورها فإذا هو ينم على حقيقة المانع النفساني الذي يجنح بالمرأة إلى التأفف من المشاركة في المعيشة الزوجية، وإذا هو مسالة استحسان للزوج الذي يستحق هذه المشاركة لا مسالة كرامة أو مسالة من مسائل العقيدة والروح.
وتحسب أن الأجوبة الصريحة التي من هذا القبيل أجدى من الفصول المنمقة والمباحث المتعمقة في الإبانة عن مركز المرة الصحيح من مسائل الزواج والطلاق.
عباس محمود العقاد(665/4)
نظرة لمعركة عين جالوت
وقتل قائد التتار كتبغا في 25 رمضان 658 هجرية
للأستاذ أحمد رمزي
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا افرغ علينا صبرا
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) قرآن كريم
قلت مرة لصاحب من إخواننا الذي يغلب عليهم التشاؤم (أن في الكون قوات طبيعية هائمة لا تلبث أن تصيب الرجل الذي اختارته العناية لعمل عظيم، فستفيق من غشيته متنبهاً ليقبض على تلك القوى الضائعة ويجمعها ويحشدها ويحركها ويقودها ببصيرته وعزيمته وجرأته، ليغير معالم الأشياء فيخلق من الجمود حركة ومن الخمود حياة ومن التسلم أملا، ويحول مجرى التاريخ ليكتبه كما يشاء. هؤلاء الرجال الأفذاذ كثيرون في تاريخ الإسلام، كانوا كالصخور الصلبة التي تواجه السيول، وكانوا كالسدود الضخمة التي تحول مسير المياه إلى جهات ونواح غير التي كانت تقصدها بدفعتها الأولى).
(وأعرف في تاريخ مصر العربية معارك كثيرة ومواقف خالدة كانت كالسدود العالية تصد حوادث الزمن وتقارع نكبات الدهر لتتغلب عليها: ولكني اعرف منها معركتين فاصلتين يجب أن يعرفها كل واحد منا لأنهما مفخرة لنا ولآبائنا ولأجدادنا، وقعت كل منهما في أرض فلسطين الشهيدة، في الجزء الشمالي منها أي بالقرب من بحيرة طبرية، تلك البحيرة التي أعدها وما حولها بقعة من اجمل بقاع الأرض، أما أولى المعركتين فهي معركة حطين، وأما الأخرى فهي معركة عين جالوت. كان بطل الأولى سلطاننا صلاح الدين وكان صاحب الأخرى سلطاننا الشهيد المظفر قطز، ففي الأولى تحطم ملك أورشليم وفي الأخرى تحطمت أطماع هولاكو في فتح مصر، وفي الأولى ظهرت مزايا جند مصر وعسكرها على فرسان أوربا، وفي الأخرى انتهت خرافة العهد من أن جيش المغول لا يغلب، فغلب وتشتت شمله، وظهر أن الدماء التي تجري في عروق الأباء والأجداد، أقوى وامتن واثبت من الدماء التي تجري في عروق فرسان أوربا وزمازمها من الاستبار والداوية، وعلم الناس والعالم بأكمله والأجيال السالفة واللاحقة أن صلاح الدين وقطز هما(665/5)
من رجال الله).
فإذا فتحت خريطة لفلسطين الشقيقة، فابحث عن بيسان، تجدها تحت جسر المجامع جنوبي بحيرة طبرية وتطل على وادي نهر الأردن، وعلى اليسار وادي جالوت حيث كانت تقع بليدة باسم عين جالوت، ففي هذه الناحية ومنذ سبعمائة وسبع سنوات، التقى جيش مصر بقيادة سلطانها الملك المظفر قطز مع جيوش المغول ودارت بينهما معركة هائلة فاصلة، وكان مجيء المغول من الشمال حيث أراضى البقاع الخصبة - بقاع العزيزي المشهورة - وهي الواقعة الآن داخل حدود الجمهورية اللبنانية. وكان مجيء جيش مصر من القاهرة إلى الصالحية إلى غزة إلى الرملة ثم عكا ثم إلى المصاف بعين جالوت.
ولما التقى الجمعان كتب الله النصر للمسلمين فسجد ملك مصر المظفر قطز شاكرا الله ومرغ وجهه في تراب الأرض، أما قائد المغول فقد كان اسمه كتبغانوين، وقد قتله بطعنة واحدة أمير من أمراء مصر هو جمال الدين أقوش الشمسي. وكتبغا اسم تتري مركب من كلمتين قيل أن معناه الثور الذي يدهشك أو يدعو للدهشة أو يثير الإعجاب، وكان أولى أن يسمى بالثور الهائج. ونوين قيل في معناه قائد العشرة الآلف؛ وجندهم كما نعلم تتحرك بالآلاف وعشراتها.
وصفه الشيخ قطب الدين اليونيني فقال (رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها وكان شيخا حسنا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، يعلقها من خلفه بأذنه، وكان مهيبا شديد السطوة) دخل الجامع، وصعد المنارة ليتأمل القلعة ومن فيها من جنود الإسلام، قال: (خرج من الباب الغربي ودخل دكانا خربا وقضى أمرا والناس ينظرون إليه) ثم أردف ذلك بقوله: ولما بلغه خروج العساكر المصرية حار في أمره ماذا يفعل ولكن حملته نفسه الأبية على اللقاء وظن انه منصور على جاري عادته، فحمل يومئذ على المسيرة فكسرها ثم أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة) وجاء النصر من عنده تعالى.
وجئ بالأسرى وبينهم ابن القائد العظيم فأخذه الملك المظفر قطز وسأله: (اهرب أبوك). فأجاب: (أن مثله لا يهرب). وعرضت القتلى فتعرف الابن على أبيه وصرخ باكياً، فعلم المظفر بموته وسجد لله شكراً مرة أخرى.
وكان المغول يؤمنون بعبقرية كتبغا ويستبشرون به خيراً، إذ هو الذي اخضع البلاد لهم من(665/6)
حدود فارس الشرقية إلى حدود الشام، ولما قتل ذهب سعدهم، وألف قوادهم الهزيمة واعتاد رجالهم الفرار. وكانوا يعتقدون بالتنجيم والعرافة، ذكر ابن الفرات في تاريخه أن هولاكو ملكهم لما دانت له الدنيا بفتح بغداد واستيلائه على العراق وحلب وامتلاكه دمشق، حدث نفسه أن يقهر الديار المصرية ويفتحها ويطأها بجنده.
قال: إنه احضر نصير الدين الطوسي وقال له (اكتب أسماء مقدمي الجند وانظر أيهم سيملك مصر ويجلس على تخت السلطنة) فكتب أسمائهم وحسب ودقق النظر فما ظهر له أن يملك مصر غير رجل اسمه كتبغا فذكر ذلك لهولاكو وكان اسم صهره كتبغا نوين فسلمه قيادة جنده وسيره لفتح مصر وكان مقتله في عين جالوت) بعد أن أدرك أيام جنكيز خان وحارب تحت قيادته وقاد جحافلهم إلى النصر طول أيام هولاكو.
وإني لأتخيل كتبغا هذا على صورة (تاراس بولبا) في القصة الروسية رجلا جباراً عملاقاً مهيب الطلعة يلبس البغلطاق التتري وقد استبدل بالشاربين الطويلين المنحدرين على كتفيه باللحية الطويلة التي وصفها الشيخ قطب الدين والتي كان يعلقها على أذنيه لإرهاب الناس وقذف الرعب في قلوبهم.
ومن الغريب أن يكون بين عسكر المغول فتى لا يكاد يدرك سن البلوغ واسمه كتبغا أيضاً فيؤخذ أسيراً ويربى بقلعة مصر ويطلق عليه اسم زين الدين، ثم يؤمر في عهد المنصور قلاوون، ثم يستقر في نيابة السلطنة بالديار المصرية، وأخيرا ينادى به سلطاناً فتصبح النبوءة المذكورة بعد ست وثلاثين سنة من معركة عين جالوت التي اخذ فيها من بين الأسرى.
ويصح أن نشير إلى ما ابتدعه المغول في فن الحروب وما ادخلوه من التغيير في كيفية ترتيب الجنود والزحف وتسوية الصفوف لأنه ابتداءً من جنكيز خان اتجه هؤلاء إلى ضبط الزحف بعشرات الآلاف من الرجال وإلى توجيه ضربات حاسمة من عدة جهات بطرق وأساليب لم تخطر على بال هانيبال ولا الاسكندر الأكبر ولا غيرهم من كبار قواد العالم. وهذا ما سنعرض له أن شاء الله في دراسة حملات جنكيز وأولاده وأثرها في التربية العسكرية بمصر وفي عقلية كبار قواد الدولة المصرية وملوكها وما أخذوه من الأنظمة عنها، ولا اترك هذا دون أن أعطي فكرة أولى عن ما أبتدعه كتبغا نوين من(665/7)
أساليب الحروب وخداعها لأنه تلميذ من تلاميذ جنكيز خان في هذه الناحية.
فقد نقل صاحب البداية والنهاية انه كان يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها، فكان إذا فتح بلداً ساق مقاتله هذا البلد إلى البلد الذي يليه، فكان هؤلاء اللاجئون يدخلون في هروبهم الخوف والرعب على الناس. وإذا دخلوا البلد شاركوا الناس في أقواتهم، فإذا حاصرهم تقصر مدة الحصار عليه لاضطراب شؤون التموين والإعاشة لدى البلد الذي يقصده، وإذا رفض أهل البلد قبولهم وإيوائهم ساق هؤلاء المقاتلة اللاجئين عليهم لقتالهم وتلقى الضربات الأولى، وحينما يضعف الطرفان يقذف بجنوده لإتمام الفتح.
ومن حيله التي لا يمكن أن تقهرها قوانين الحرب أن يبعث إلى المدينة المحاصرة من يقول: أن ماءكم قد قل بعد طول الحصار وإننا على وشك أن نأخذكم عنوة فنقتلكم جميعاً، أما إذا فتحتم صلحاً أبقينا عليكم فيفتر أهلها بذلك ويقولون أن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى الماء فيقول الرسول لا اصدق حتى ابعث من عندي من يشرف عليه فإن اقتنعت بأنه كثير انصرفت إلى بلد أخر. فيقولون أبعث من يتأكد، فيرسل برجال من جيشه معهم رماح مجوفة محشوة سما، فإذا دخلوا إلى المدينة التي أعيته الحيل في فتحها لعظم أسوارها وقلاعها أدخلوا في آبارها وصهاريجها تلك الرماح على انهم يقيسون عمق المياه فيقذفون السم في عمق المياه ويكون سبباً في هلاك كل من يشرب منه.
ولو شئنا أن نعدد أساليبهم في القتال وطريقتهم في ابتداع الحرب الخاطفة والهجوم في جبهتين تفصل الواحدة عن الأخرى مئات الأميال لتبين لنا أن آسيا هي أهم الحروب وان الأوربيون لم يبتدعوا شيئاً جديداً. ولقد اجمع المؤرخون على مقتل كتبغا في عين جالوت، وذكر المقريزي أن رأسه حُمل إلى القاهرة، ولذلك تعجبت حين اطلعت على حاشية للأستاذ الدكتور مصطفى زيادة تقول (أن السلطان كتبغا كان تتري الأصل وهو الذي قاد الجيوش التترية التي انكسرت على يد السلطان قطز). إذ هناك إجماع على مقتل قائد التتار وعلى اسم قاتله وهو الأمير جمال الدين الشمسي وكان من أعيان الأمراء المصريين وأمثالهم وشجعانهم، ذكره صاحب النجوم الزاهرة في المنهل الصافي ضمن وفيات 678 وذكره ابن كثير ضمن وفيات هذه السنة فقال (إنه أحد أمراء الإسلام وهو الذي باشر قتل كتبغا نوين). أما المقريزي فيقرر وفاة الشمسي سنة 679 وهو الأصح إذا كان آخر عمل له أنه(665/8)
تولى نيابة السلطنة المصرية بمدينة حلب على السلطان المنصور قلاوون وتوفي ودفن بها كما جاء ذلك في أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، وكان قبل ذلك نائباً لسلطان مصر بمدينة دمشق وهو الذي قبض بها على الأمير عز الدين إيدمر الظاهري حينما توقف عن البيعة للمنصور قلاوون، ويدل تاريخه على الهيبة ووفرة الحرمة والوقار والنفوذ التي كان يتمتع بها لدى ملوك مصر نظراً لأياديه البيضاء في معركة عين جالوت وأن هذه الهيبة كان يتمتع بها حتى مماليكه بالقاهرة وهو غائب عنها لما كان أميراً بالشام. فقد قبض الملك الظاهر بيبرس على عدة من أمراء مصر بدمشق ولما وصل إلى جمال الدين الشمسي لم يجسر أن يقبض عليه بل تركه على حاله ومات رحمه الله في الخمسين من عمره.
فلا محل إذا لكي تختلط شخصية كتبغا نوين مع العادل زين الدين كتبغا وان تشابها في الاسم. وقد ورد في السلوك انه في سنة 678 أنعم المنصور قلاوون على أربعين من رجاله فرفعهم إلى مرتبة الأمراء وذكرهم واحداً واحدا بالاسم، وكان منهم زين الدين كتبغا وسنجر الشجاعي وأغلب المؤرخين يقررون أنه أخذ أسيراً في عين جالوت وهو شاب وإن كان البعض اشتبه عليه نسبته إلى المنصور بقوله المنصوري فضن أنه أخذ أسيراً من يوم معركة حمص (رجب 678) فيكون بين أخذه أسيراً وتعيينه أميراً أقل من سنة، وهذا لا يمكن وقوعه نظراً لما تطلبه الجندية الإسلامية في مصر من تهيئة واستعداد وتدريب، ولا يتحقق ذلك إلا بعد سنوات طويلة.
والعادل كتبغا رجل من أعظم رجال القرن السابع والقرن الثامن الهجري، وقد وفاه المؤرخون حقه أيام توليه السلطنة، وبعد عزله منها وإقامته أميراً بالشام وهو الذي قضى على الفتن عند مقتل الأشرف خليل، ووطد أركان الملك للناصر محمد وهو في العاشرة من عمره، وقد بدأ حياته وهو على دين التتار، وأسلم وحسن إسلامه، وقال عنه صاحب الدرر الكامنة (كان قليل الشر يؤثر أمور الديانة شجاعا مقداما سليم الباطن رفيقا بالرعية)
وفي عهد سلطنته لجأ إلى مصر آلاف من بلاد التتار وهم الاويراتية فسكنوا بالقاهرة واختلطوا بأهل البلاد. ولما عزل من السلطنة تولى قلعة صرخد ثم نائبا بمدينة حماة، وفي أثناء نيابته بها هجم التتار على الديار الشامية في عام 702 فحضر الجهاد وهو محمول على محفة لمرضه وكبر سنه وهذه نهاية ما يمكن أن يصل إليه الإيمان وكان ذلك في(665/9)
معركة (شقحب) التي شارك فيها شيخ الإسلام أبن تيميه وحرض فيها جيوش المسلمين على القتال.
وفي يوم الجمعة الموافق عيد الأضحى من تلك السنة توفي العادل زين الدين كتبغا التتري الأصل وهو مسلم ومؤمن ونقل إلى التربة التي بناها بسفح جبل قاسيون بمدينة دمشق غربي الرباط الناصري رآها ابن كثير وقال (هي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومئذنة وله عليها أوقاف للصرف على وظائف من قراءة وأذان وإمامة) وختم بقوله (كان من خيار الملوك أعد لهم وأكثرهم براً وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله).
وانتهت حياة الشاب التتري الذي جاء محارباً للإسلام والمسلمين فأصبح مجاهداً في سبيل الإسلام والمسلمين فأعطى مثلاً لقوة الإسلام وعظمته أثره في شؤون الكون وكيف ينقلب أعداؤه فيصبحون سيوفا يذودون عنه وأنصاراً يقاتلون في سبيله.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(665/10)
من غزل الفقهاء
للأستاذ علي الطنطاوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره.
هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص له القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:
ومن هواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واش إليك بأنه ... سال هواك فذاك من عذاله
أو ليس للكلِف المعنى شاهد ... من حاله يغنيك عن تسآله
جددت ثوب سقامه، وهتكت ستر غرامه، وصرمت حبل وصاله
أفزلة سبقت له أم خلة ... مألوف من تيهه ودلاله
وهذا الإمام الصوفي عبد الله بن القاسم الشهرزوري الملقب بالمرتضى أفما قرأت قصيدته:
لمعت نارهم وقد عسس الليل ... ومل الحادي وحار الدليل
التي لم يقل في معاني أهل الطريق مثلها، والتي نطاول بها أعلى شعراء (الرمزية) منكباً، ونسابق بها أوسعهم خطوة؟
أو ما سمعت شعره؟ هاك منه قوله:
فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفه ... عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
وغابت شموس الوصل عني وأظلمت ... مسالكه حتى تحيرت في أمري
وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي إسحاق الشيرازي:
وإني لأبدي في هواك تجلدا ... وفي القلب مني لوعة وغليل
فلا تحسبن أني سلوت فربما ... ترى صحة بالمرء وهو عليل
وقول آبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم:(665/11)
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا
لعلمت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
والبيت الثاني من مراقصات الشعر.
وكان مع ذلك علامة من الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:
ومن كان في طول الهوى ذاق لذة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصلها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق
ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنه 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم ما فارقتكم. ويقول:
سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلي لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
ويقول فيها:
بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معنى جيد وتشبيه عجيب.
وهو القائل:
متى يصل العطاش إلى ارتواءه ... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا(665/12)
ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها أني (فديتك) غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفا عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهيِ هميان خصرها! ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألمك تخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء، صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:
يقولون: لي فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب طرفي إثره متذمما
ولكنه أن جاء عفواً قبلته ... وإن لم أتبعه لولا وربما
وأقبض خطوي عن أمور كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
وأكرم نفسي أن أضحك عابساً ... وأن أتلقى بالمديح مذمما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟ ... إذن فاتباع الجهل قد كان احزما
ويا ليت كل عام ينقش هذه الأبيات في صدر محرابه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!.
والأبيات الأخرى:
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
ذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقفي بها العسر(665/13)
وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو منه قوله:
مالي ومالك يا فراق ... أبداً رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم ... فكذا يكون الاشتياق
وقوله:
قد برح الحب بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه ... فإنه آخر عشاقك
وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من القرن الثالث الذي يقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عوارى في أجلادها تتكسر
وأخيلة منها مخها فكأنها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق ترعدت ... مفاصلها من هول ما تتحذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنني أتستر!
وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبرزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت هاهنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
ولما فشا أمره، منع الملك انه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:
أن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية أنني ... أقضي ولا تدري الذي قد حل بي
قسما بوجهك وهو بدر طالع ... وبليل طرتك التي كالغيهب(665/14)
لو لم أكن في رتبة أرعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هزاك ولذ لي ... خلع العذار ولو ألح مؤني
لكني خشيت بأن يقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
فارحم فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
لا تفضحن بحبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب
وله فيه شعر كثير جدا.
ومن شعر محمد بن داود الظاهري، وكان فقيهاً على مذهب أبيه داود وكان شاعراً:
أنزه في روض المحاسن مقتلي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو انه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:
أشكو إلى الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سري وواش منه بالرصد
ومن ضعيفين صبري حين أبصره ... ووده ويراه الناس طوع يدي
لو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين بعد هذا يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟
أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر. . . فهل لعلمائنا العودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟!
وردت في المقال المنشور في العدد الماضي كلمتان في أبيات سعيد بن المسيب على غير وجههما الصحيح وهما:
وعلّت فتات المسك، وقامت ترائي يوم جمع، وصوابهما: وعالت، وتراءَى.
علي الطنطاوي(665/15)
هذا هو الريف
بعثة طيبة. . .!
للأستاذ سيد قطب
(إلى المترفين في المدينة أولئك الذين يتشدقون بإصلاح الريف
وهم لا يدرون شيئاً عن هذا الريف)
كانت الساعة تقارب العاشرة صباحاً. . . كانوا قد تلقوا الدرسين الأول والثاني في مدرسة القرية، ثم انطلقوا. . . انطلقوا من الفصول كالعصافير الحبيسة حينما تنطلق من القفص بعد حبس طويل، انطلقوا يقفزون ويركضون، ويزعقون ويتصايحون، لغير ما قصد ولا غاية إلا تأكيد شعورهم بأنهم طلقاء بعد الحبس الطويل!
ثم لكي يفرغوا لنقل ما تحمله جيوبهم من بعض الأطعمة إلى بطونهم، فلقد حملوه نحو ساعتين، ولكن (النظام) في الفصل لم يكن يسمح لهم بعملية تفريغ الجيوب!
ثم لكي ينصرف أبناء الأغنياء منهم إلى (عشة عم خليل) بائع القصب والبلح، فيشتروا منها بمليم!
ولم تكن هذه كل قيمة (الفسحة)، فلقد كان لهؤلاء الأطفال مآرب في تلك الفسحة القصيرة - ربع ساعة - لقد كانت المدرسة في طرف القرية على حدود الحقول الواسعة. وإذا كانت وظيفة الحقل أن ينبت للناس وللماشية الحبَّ والأبَّ، فلقد كانت له وظيفة أخرى عند تلاميذ المدرسة، وعند غيرهم من سكان القرية. . . إنه يقوم لهم بوظيفة المراحيض العمومية!
انطلق التلاميذ إذن في كل مكان يفرغون ما تحمله جيوبهم في بطونهم، وما تحمله بطونهم في الحقول القريبة. . . ولكنهم فوجئوا بجرس المدرسة يدق دقاً عنيفاً متواصلا قبل الميعاد المقرر للحصة الثالثة.
وانتظموا صفوفاً بعد قليل، ولم يسمعوا تلك النداءات المعهودة التي يؤدون على أساسها بعض الحركات الرياضية الساذجة، ولكنهم سمعوا ناظر المدرسة يلقي عليهم خبراً غريباً عجيباً لم يسمعوا به قبل الآن. . . إنهم الآن ذاهبون إلى (دُوّار العمدة)، وسيسيرون في الطريق بنظام. وكان هذا يقتضيهم أن يقطعوا شوارع القرية كلها تقريباً، فدوار العمدة في(665/16)
أقصى الطرف الآخر من القرية، والناظر يحذرهم من الإخلال بالنظام أثناء السير، والالتفات إلى اليسار أو إلى اليمين، وبخاصة عند مرورهم (بسويقة القرية)، حيث يعرض القصب والبلح والتفاح البلدي الفج!
يذهبون إلى دوار العمدة؟ ولماذا؟ وهم لم يدخلوا هذا الدوار قط، وان سمعوا من آبائهم وأهليهم انهم يذهبون في بعض الأحيان، عندما يستدعيهم أحد الخفراء، أو لأداء الشهادة، أو للشكوى من بعض الفلاحين. . . أما هم. . . هم تلاميذ المدرسة، فمالهم وكل هذه الأشياء؟
وكان هو جريئاً بعض الشيء على ناظر المدرسة ومدرسيها، فاستطاع أن يسأل: ولماذا نذهب إلى دوار العمدة؟
سأل، ويا ليته لم يسأل! لقد كان الجواب كارثة عظمى لم تخطر له على ولا لزملائه على بال. . أن (الحكيم) هناك - أي الطبيب - وهو يطلبهم جميعاً!
الحكيم؟ يا للداهية! اليوم دنت أخرتهم ولا شك، فعهدهم بالحكيم هذا ألا يزور القرية إلا في يوم اغبر أكدر، يوم يقع في البلد قتيل، ثم تحضر (النيابة)، ويحضر معها الحكيم لتشريح الجثة!
والنيابة والحكيم هذان هما الشيئان الهائلان المخيفان في القرية كلها. أما في أذهان الأطفال، فهما (هيولي) لا يتصورون لهما شكلا ولا حجما، فخيالهم الصغير يستطيع أن ينطلق في تصورهما كيف شاء، ولكنه لن يميزهما بحدود مما يميز الأشخاص والأشياء.
ثم ها هو ذا الحكيم يطلبهم، يطلبهم هم بالذات، فماذا يكون الأمر؟
إنهم لا يعرفون لماذا يطلبهم مطلقاً؛ ولكنهم واثقون في قرارة نفوسهم انه لن يكون خيراً. وأنهم لن يخرجوا من الدوار - إذا خرجوا - وهم سالمون مثلما دخلوا بحال من الأحوال!
وما وظيفة الحكيم؟
أليست وظيفته أن يشرحّ جثث الموتى، وأن يبقر بطون المصابين، أو يقطع أيديهم وأرجلهم لمجرد الإيذاء، أو لكي يفحصها ويلتذ بفحصها؟ أو أن يسقي بعض المرضى (الفنجان) - أي السم - ليموتوا، حتى لا يتعب في علاجهم، أو تلبية لرغبة العمدة الذي يرشوه للتخلص من خصومه الذين يصابون في الحوادث!
فما هم وهذا الحكيم؟(665/17)
إنهم ليسوا قتلى يشرحهم، وليسوا مصابين يقطع أوصالهم، أو يسقيهم (الفنجان). . . ولكن، أو يستدعيهم إلا لأمر ما؟ أخف شيء يصنعه بهم هو (التجريح). . . (وهو الاصطلاح الذي يطلقونه على عملية التطعيم)، تلك العملية المرعبة التي يندب لها بعض معاوني الصحة، وبعض الممرضين في الحين بعد الحين، فتروّع القرية ترويعاً. . . وما أن يعلن أن في البلد (الحكيم الصغير) (تمييزاً له من (الحكيم الكبير) الذي يطلبهم الآن والذي يرافق النيابة دائماً ولا يحضر منفرداً) ما أن يعلن هذا حتى ترتج وترتجف. فتخرج الأمهات إلى الشوارع مولولات مذعورات يلتقطن أطفالهن من كل مكان في ذعر وعجلة، ثم يغلقن على أنفسهن الأبواب، ويصعدن إلى السطح استعداداً للقفز عليها من بيت إلى بيت، فكثيراً ما يدق هؤلاء الشياطين الأبواب، ويكسرونها بمساعدة الخفراء، ويهجمون على من فيها (للتجريح)!
فأما من تستطيع القفز إلى البيوت المجاورة، فلن تقصر في سلوك طريق النجاة، وأما من لا تستطيع، فإنها تختبئ في صومعة الغلال، أو في خم الدجاج، حيث لا يخطر على قلب (الحكيم) أنها هناك!
هذا هو الحكيم الذي يعرفونه. . . فما بالهم بالحكيم الكبير الذي لا يحضر إلا مع النيابة، والذي لا يقع أحد في يده، ثم ينجوا إلا بمعجزة من معجزات القدر، أو ببركة (تميمة) لولى من كبار الأولياء؟!
وارتجفت مفاصلهم جميعاً وهم يسمعون الخبر الفاجع، اصفرت وجّوههم، وعلا صوت بعضهم بالنحيب والعويل!
ووصلوا إلى الدوار، ولا يعلم إلا الله كيف وصلوا. ووقفوا صفاً طويلاً. أوله في داخل الدوار - أي في منطقة الخطر - وآخره في الشارع أمامه. . . وعن اليمين وعن الشمال وقف الخفراء ببنادقهم (ولبدهم) الطويلة (جمع لبدة)؛ ووقف أحد المدرسين في أول الصف وأحدهم في آخره. أما الناظر فقد سبقهم إلى الحكيم ليطمئنهم قليلاً، ويظهر أمامهم بمظهر الشجاعة المطلوب!
وكان ترتيب الصف حسب الطول، فتقدم كبار التلاميذ وتبعهم الصغار أو القصار. وفي هذه اللحظة اصبح القصر نعمة من نعم الله!(665/18)
فأما الذين تقدموا فلا يعلم عنهم أحد شيئاً إلا الله، وأما المتخلفون فهم في تتطلع مستمر وقلق دائم، ينظرون ماذا سيُفعل بأول الداخلين، ليعرفوا نوع المصير الذي ينتظرهم بعد حين!
وكانت مفاجئة حين بدأ بعض الكبار يخرجون، بينما بقية الصغار ما يزالون في الصف الطويل. . . وانبعثت الصيحات والأسئلة التي لم يستطع كبحها الخفراء ولا المدرسون:
- دخلتم للحكيم؟
- نعم دخلنا!
- وماذا صنع بكم؟
- لا شيء! غزّنا في أصابعنا بالدبوس وشَفَطَ الدم! الدم! ولكن رؤيتهم لهم أحياء أصحاء مطمئنة على كل حال!
- وماذا هذا في أيديكم؟
- حق من الصفيح نأتي فيه بعينة براز وزجاجة صغيرة نأتي فيها بعينة بول!
- عينة براز وعينة بول! ولماذا؟
- لا ندري! هكذا طلب منا الحكيم!
- الحكيم نفسه طلب منكم هذا؟
- لا. . . الحكيم الكبير غزنا. والحكماء الصغيرون سلمونا الحق والزجاجة وطلبوا منا العينة للحكيم!
وتوارى الفزع قليلا ليحل محله التساؤل المصحوب بالدهشة والاستغراب لهذا الطلب الغريب!
إن أحداً لم يطلب منهم مثل هذا الطلب من قبل. وماذا يصنع الحكيم بهذه العينات العجيبة؟ انهم أن فهموا غزهم بالدبوس وشفط الدم، فإنهم لا يفهمون طلب العينات. أن الغز والدم لازمتان طبيعيتان للحكيم. . . ولكن هذا! من يدري؟ إنه الحكيم!
وعلى سهولة الطلب ورخصه إلا فإنه بدا عزيزاً وصعباً في كثير من الحالات. . . لقد طلب إليهم جميعاً أن ينطلقوا إلى دورات المياه بمساجد القرية، وأن يعودوا بعد نصف ساعة ومعهم المطلوب.
وليس كل تلميذ بمستعد لتلبية هذا الطلب في مثل هذا الوقت، ولا سيما أن (الفسحة)(665/19)
المدرسية كانت قد أفرغت ما في البطون. . . لو كان هذا قبل الفسحة لكان كل شيء حاضراً وبخاصة إحدى العينتين التي لا تأتي هكذا عند اللزوم!
فأما الذين كان في أمعائهم بقية فقد انطلقوا مطمئنين، وأما الذين أحسوا أن أمعائهم لا تستجيب لهم، أو حاولوا ولم يفلحوا، فقد علا وجههم الاصفرار، وارتفعت دقات قلوبهم من الخوف، وركبتهم الحيرة التي تركب المذعورين!
ماذا يصنعون؟ وكيف يعودون إلى الدوار، أو كيف يغيبون عن الموعد المرسوم؟
أن أقل ما يتصورون أن هم عادوا فارغين أن يقبر الحكيم بطونهم ليتناول منها العينة المطلوبة أو أن يدخل في أجسامهم قنوات طويلة لسحب هذه العينة. وفي الأولى الموت أو خطر الموت، وفي الثانية العار أمام إخوانهم وعند القرويين!
وهنا تتفق الحيلة، وتبدو قيمة التعاون!
إن التلاميذ لإخوة، فمتى تظهر قيمة هذه الأخوة إن لم تظهر الآن؟!
لقد انطلق المحرجون يرجون إخوانهم أن يمدوهم بعونهم، وان يتولوا عنهم ملء هذه الإحقاق!
وهنا تظهر الطبائع على حقيقتها. فالشدائد هي افضل محك لها فأما ذوو الأصل الطيب والطبع النبيل من التلاميذ فقد تقدموا لمعاونة زملائهم بلا تردد. وأما قليلو الأصل وذوو الطبائع اللئيمة، فبعضهم امتنع شفاء لحزازات قديمة، وبعضهم تمنع لؤما وانتهازاً للفرصة!
ولكن هذا التعاون لم يسد الحاجة إلا إلى حدّ معين، وبقى عدد من الإخوان الذين لا يجدون ما ينفقون!. . . وهنا تفتقت عبقرية أحدهم عن حيلة بارعة:
أن في مراحيض المساجد متسعاً للجميع!
أما كيف كان ذلك! فلا بد من بيان عن هذه المراحيض:
كان في القرية نحو عشرة مساجد كلها مبنية على الطراز العتيق. وكانت دورا المياه بها عجيبة. فهي مؤلفة من (مغطس) هو حوض مبني من الطوب ومطلي بالسمنت من الداخل والخارج، يملؤه عامل خاص، يمتح بالدلو من البئر ويصب فيه حتى يمتلئ. وفي الحائط الخارجي للمغطس ركبت صنابير تصل من البناء مباشرة إلى الماء بداخله. ومنها يتوضأ المصلون.(665/20)
ولكن المغطس لا يستخدم فقط للوضوء. إنما هو الحمام المختار لعدد كبير من الناس الذين يعوزهم الماء في بيوتهم للغسل، فيذهبون إليه في جنح الظلام قبيل الفجر، حيث يسورون حائطه، ويرفعون غطاءه الخشبي؛ ثم يغطسون، فينقّون أجسامهم من الأوضار المادية والمعنوية، ويدعونها هناك للمتوضئين!
ويلحق بدورة المياه المراحيض، وبنائها عجيب. فهي تقع في صف طويل، يفصل بين كل اثنين منها حائط؛ ولكنها من الداخل متصلة بقناة مكشوفة يجري فيها الماء للجميع من منفذ في الحوائط الفاصلة بسعة القناة وتملأ هذه القناة بالماء من البئر كما يملأ المغطس ومن هذا الماء الجاري المتصل، يتناول المصلون وغير المصلين للاستنجاء بأيديهم، وهم داخل المراحيض، والماء يجري ويتصل بالجميع!
أما بناء المراحيض ذاتها فأعجب. فالمراحيض يتكون من (كتفين) يجلس فوقهما من يريد. وبينهما فجوة واسعة تضطر الجالس أن يباعد ما بين رجليه كي لا يسقط في الفتحة الكبيرة. في هذه الفتحة يتساقط ما يتساقط، فيتراكم قريبا من الجالس. لأن خزانات المساجد محدودة، والعدد الذي يتردد عليها ضخم جداً - إذ ليس في المنازل مراحيض إلا نادراً - وجميع الرجال والأولاد الكبار يلجئون إلى المساجد والحقول. أما النساء والأطفال ففي سطوح المنازل متسع للجميع!
وتبقى هذه الحالة طوال السنة والرائحة التي لا تطاق تنبعث من هذه المراحيض المكشوفة، والمواد النازلة على مرأى من الجالس لقضاء الحاجة، والبعوض يتبادل مواقفه تارة على هذه المواد المكشوفة، وتارة على وجوه الجالسين، فإذا خلت منهم المراحيض اخذ طريقه إلى المصلين وإلى البيوت المجاورة جيئة وذهاباً حيثما يريد!
وفي موعد خاص يستقدم (السُّرَ بَاتِيّة) أي الذين يكسحون المجارير. يستقدمون من المدينة القريبة بمقاولة خاصة لنزح خزانات مسجد أو عدة مساجد، ولهذا النزح طريقة عجيبة.
أن العربات الخاصة لم تكن تستخدم هناك على النحو المتبع في بعض المدن الخالية من المجاري. وما الداعي لهذه العربات؟ وهناك طريقة طبيعية مقتبسة من البيئة الزراعية؟!
ألا تستخدم القنوات في الحقول لنقل الماء من مكان إلى مكان؟ فلماذا لا تستخدم كذلك في نقل هذه المواد من المجارير إلى الحقول؟!(665/21)
ألا إنها لتستخدم! فما هو إلا أن تحفر قناة مكشوفة من المسجد الذي يراد كسح خزاناته إلى الحقول خارج القرية، وتمر هذه القناة بالبيوت والحوانيت في وسط الشارع، ثم يربط جردل بحبل ويعلق هذا ببكرة، ويقف عاملان يتناوبان فوق الخزان، يملآن هذا الجردل من الخزان ويصبانه في أصل القناة وبعد هنيهة يجري التيار حاملاً كل شيء إلى الحقوق المحظوظة بهذا السماد الطبيعي الثمين!
هذا ويتفق أن تكون عدة مساجد متفرقة في القرية في حاجة إلى التطهير، فتوفيراً للقنوات المتعددة، توصل قناة بقناة، وإذا بالقرية كلها شبكة واحدة من القنوات المتصلة. . . وعلى سكان البيوت والحوانيت أن يتمتعوا بالنضر الفذ والرائحة القوية أسبوعاً أو أسبوعين. . . فتلك بيوت الله ولا يجوز أن يتأذى أحد من فضلات المصلين!
قرب المواد المطلوب في فتحات هذه المراحيض العجيبة، هو الذي فتق الحيلة البارعة التي نبتت في ذهن هذا التلميذ العبقري!
وما إن طلع بها على إخوانه الملهوفين، حتى طلع عليهم الفرج بعد الضيق. . . وما هي إلا دقائق حتى كانت الإحقاق كلها مليئة، فتسلمها الحكماء في اطمئنان عميق. . . وسمح للتلاميذ بإجازة بقية اليوم، فعادوا إلى منازلهم غير مصدقين!
وعلم فيما بعد أنها كانت بعثة طبية للقيام بإحصاء طبي عن حالات الأنيميا والبلهارسيا والانكلستوما والإسكارس.
ولكنه لم يعلم كيف كانت النتائج التي دونتها البعثة في إحصاءاتها الرسمية الوثيقة!!!
سيد قطب(665/22)
الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الحرية والجمال
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 6 -
وبينما كان يتكلف ملتن المرح، ويستجيب لدواعي الشباب فيغني أنغام الحب، كانت نفسه تنطوي على معاني غير هذه هي في الواقع أرب مشاعره ومنتجع خواطره ومتجه خياله، فتراه ينظم قصيدة استهلها بقوله (إيه يا لغة قومي) أشار فيها إلى رغبته في التخلص من العب واللهو وعبر عن عظيم طموحه فقال إنه يفضل أن يتخذ لغة قومه سبيلا إلى موضوع اخطر شأناً فيستخدمها إذ يسمو عقله حتى يبلغ أسباب السماوات فيطلع إلى الآلهة وهم منصتون إلى ما يترنم به أبولو؛ ثم يغني هو بدوره فينبئ عن الأشياء الخفية التي وقعت ولم تزل الطبيعة في مهدها.
وهكذا يصور له كبرياء عقله موضوعا عظيما لشعره فيتخيل وهو دون العشرين ملحمة كونية تدور على خلق الدنيا وتكشف عن أغراض الدين وعن وضيفته فيها؛ وما يرضي طموحه موضوعا أقل من هذا، ولا تقنع فطرته الشاعرة ولا عبقريته الباكرة بما يقنع به غيره من الشعراء فيتعلق خياله بأعظم ما يتعلق به خيال وأعمقه، وماذا وراء الخليقة والآلهة في مسارح الذهن ومطارح الخيال؟ وإنا لنلمح في ما يطمح إليه صورة مبهمة غامضة للفردوس المفقود، ونراها هنا إغريقية الأشباح أولمبية الآلهة، فهل كان يفكر الشاعر الناشئ منذ ذلك العهد في آيته الكبرى ويريد أن يتخذ من مثيولوجيا الإغريق مادتها ولباسها؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به؛ على أننا نجزم في هذا الصدد بأن الشاعر كان يومئذ يشغل باله ويهجس في نفسه موضوع عريض فخم، ولسوف نرى أن هذا الموضوع لن يبرح يطرق خياله ويهز نفسه حتى يتغنى بالفردوس المفقود. . .
وإنه ليرتفع بشعره إذا تناول أمراً يتصل بالدين، فيمد جناحي عبقريته ويرتفع ويحلق في(665/23)
أفق لم يكن ليبلغ في العلو مثله في غير ما يتصل بالدين؛ تجد مثلاً رائعاً في أنشودته الجميلة النبيلة التي نظمها سنة 1629 وهو في الحادية والعشرين من عمره في عيد ميلاد المسيح وسماها (أنشودة في صباح الميلاد) وهي إذا نظرنا إلى سنة وقتئذ جديرة بالإعجاب حقاً، تستحق ما نالت يومئذ من عظيم الثناء ويستحق صاحبها ما اكتسب من ذيوع الصيت ونباهة الاسم. ولقد أحس كل من قرأها أنه تلقاء روح عبقرية وثابة غلابة تملأ النفس شعوراً بتكامل القوة وإعجابا بروعة الفن وافتننا بسحر الخيال. هذا إلى براعة الموسيقى وسمو اللحن وجلال الفكرة، ولعلها في زعم بعض مؤرخي الأدب أجمل أنشودة في بابها في اللغة الإنجليزية كلها.
تخلص ملتن في هذه الأنشودة من تأثير أوفيد، وما عسى أن توحيه أوصافه وصور جماله من فتنة وإغراء، وأراد أن يلبس معانيه لباساً روحانياً طهوراً وذلك بأن يطلق روحه من عقال الجمال اللغوي فيختار موضوعاً يواتي ما يطلب. ولقد جمع في أنشودته هذه بين جلال الدين وجمال الطبيعة، وكأنما أراد بذلك أن يشير إلى وضيفة الشاعر الملهم إلهاما قدسياً وإلى صفات فنه، فجاءت هذه الأنشودة مثلاً يضربه لمقدرته على التوفيق بين الجمال الذي يطرب له والسمو الروحي الذي يتعلق به.
تتألف هذه الأنشودة من سبع وعشرين فقرة بكل فقرة ثمانية اسطر؛ ومهد لها بمقدمة من أربع فقرات، فهي كما ترى ليست بالقصيرة وبخاصة إذا ذكرنا بعض ما يختص به شعر ملتن وهو الإيجاز البليغ الرائع في التعبير عن المعنى المراد، والإيحاء القوي الواسع في استعمال الكلمة المختارة.
يصف ملتن الطبيعة قبيل مولد الطفل وبعد مولده فيبدع ويعجب؛ ويصور فرحة الكون المتطلع إلى المولود تنبعث من سمائه وأرضه لحناً جديداً تغنى به الكواكب وتجاوبها الأرض ويمتزج به غناء الملائكة، فتنتشي انفس الرعاة والناس، ويحسون تآلفاً واتساقا بين موسيقى الكون وموسيقى نفوسهم؛ وما هذا اللحن الجديد الذي تتجاوب به أرجاء الطبيعة وتستجيب له الأنفس إلا رمز لما يبشر به المسيح وما يدعوا إليه من سلام وصفاء ومحبة. ويملأ الشاعر نشيده بما أبدع من صور، فهناك رهط الرعاة فوق المروج الخضر في هيئتهم القروية الساذجة. وهناك الصفان الأول والثاني من قبيلٍ أولي أجنحة من الملائكة(665/24)
بين لابس خوذة وحامل سيف، ومدرع بدرع براق. ثم هناك رهط من الآلهة بين إغريقية وفرعونية، وأنماط من الأرواح الطيبة والخبيثة، وعدد من عذارى الميثولوجيا ومخلوقاتها من طير ووحش وجن. هذا إلى ما سوَّى خياله من مباهج الطبيعة ومفاتنها، وما ابتدع بيانه من ضروب التعبير وصور التشبيه، وأشكال المجاز، وألوان الاستعارة، تنظمها جميعاً موسيقى تكافئ موضوع الأنشودة وتواتي غرض الشاعر، وينهض كل أولئك على أدلة قوية على ذوق مطبوع وفن موهوب وذهن متمكن.
وكأنما أغراه نجاحه بأنشودته هذه بهذه الناحية الدينية فأراد أن يعكف عليها. فها هو ذا ينظم قصيدة جعل موضوعها صلب المسيح، وأخذ يمهد إلى ما لاقاه من ألم هائل وعذاب مخيف؛ غير أنها لم تصادف ما صادفته أنشودة الميلاد من هوى في نفوس سامعيها من أقرانه فكرهها وشهد على نفسه أنه أخفق فيها، وأمسك عن إتمامها لأنها (مطلب فوق ما يصح أن تتطاول إليها سنة يومئذ)؛ وكان ملتن على شدة اعتداده بنفسه يرى مواطن الضعف فيما يأتي من عمل فينتقد نفسه ويتخلص من ضعفه وتلك إحدى محامده ومن أجلها خليق بأوفر الثناء.
وفترت بعد تلك القصيدة حماسته لما هو موصول بالدين، وتطامن طموحه إلى حين؛ فأنصرف إلى مجال آخر لم يتناوله من قبل وهو مجال الطبيعة ومشاهدها وما أنبث فيها من جمال. ولعل إغلاق الكلية بضعة أشهر لتوقي الطاعون وزيارة ملتن أثناء ذلك للريف مما ساعد كذلك على إقباله على هذه الناحية الجديدة في شعره.
نظم ملتن في العام التالي قصيدة في عيد الربيع عنوانها: (أغنية في أحد أصباح مايو) فوصف شهر الورد وبهجته وما يبثه في النفوس من مرح وشباب وسحر، وكيف ترتدي الغابات والخمائل بردائها، وتزهى الربى والخمائل بنعمائه؛ ونظم قصيدة أخرى هي (نجوى البلبل) تفيض كسابقتها بإحساسه بالجمال والمرح وتعبر عن حيوية الشباب ولهوه؛ وتنبئ بأنه لا يزال يهفو إلى الحب قلبه وتتعطش إلى لذاذاته نفسه.
وبرهن ملتن بقصيدتيه هاتين على استعداد عظيم لوصف مشاهد الطبيعة، وتجلت في هذه الناحية مقدرته على الإيحاء والتصوير بالكلمة المختارة تجر وراءها مختلف الصور حتى ليرى المرء بعين خياله ما يرى مثله ببصره من صور الكون ومشاهده، وتلك موهبة تجعله(665/25)
يصنع بألفاظه ما يصنع الرسام بريشته؛ وسيغدو ملتن من شعراء الطبيعة الأفذاذ في أدب العالم كله، وسيظل في الأدب الإنجليزي بعد شكسبير في وصف الطبيعة الشاعر الذي لا يتطاول إلى أفقه أحد. . .
وظهرت دلائل ما يعتلج في أطواء نفسه من حب في سلسلة من الأغنيات نظمها بالطليانية، بعد قصيدتيه الأخيرتين، وقد كتب إلى صديقه ديوداتي يقول: (أكتب إليك ما اكتب وأنا مندهش منه! أعلم أنني أنا الذي طالما تهزأ بالحب واحتقرته وضحكت من شركه وقد وقعت بغتة في هذا الشرك). والحق أن ملتن كان يومئذ يضطرب بين الاستجابة القوية لداعي الحب والخوف من ضلالاته حتى غلبه الحب على أمره، فأخذ يغني ألحاناً يشهد من قراءها أنها من أجمل ألحانه وأعذبها ارتفع فيها بالحب إلى جوه المثالي وأفقه العذري وخياله الشاعر.
وكانت الفتاة التي يشير إليها في أغنياته الجديدة طليانية الأصل يزينها نمط من الجمال الأجنبي يعد جديداً على نفسه جديداً في ناظريه، وقد أفتتن بمحياها الأسمر وعينيها الدعجاوين، وأخذ حبها بمجامع حبه، وأحست بموقعها في نفسه فلم تلبث أن بادلته الحب، وطارحته أحاديث الهوى، فقد نظم أغنياته بالطليانية استجابة لطلبها إذ قالت له (أن الطليانية لغة الحب).
ونظم ملتن في نفس السنة أبياتاً عن شكسبير لطبع في صدر مجموعة من آثاره، وتبين للناس مبلغ ما أوتي من قوة البلاغة ومهارة التعبير فضلاً عن أصالة الخيال الشعري وجماله. وحسبك منه قوله (ما حاجة شكسبير إلى صرح من الأحجار يعمل جيل في إقامته فوق عظامه المجيدة؛ ما حاجة رفاقه إلى هرم يومئ إلى النجم؟ يا ابن الذكر الحي يا أيها العزيز، ويا وارث الصيت المجيد، يا أيها العظيم ما حاجة أسمك إلى تزكية ضعيفة كهذه، وقد بنيت لك من إعجابنا ودهشتنا تمثالاً لا يبلى؟ إنك قد أفضت علينا من شعرك الدفاق ما يخجل حياله كل فن متعثر بطئ، وأستمد كل قلب من أوراق كتابك الذي يجل عن كل قدر، تلك الأسطر التي تنتمي إلى (دلفي)، تلك الأسطر الخوالد التي تركت فيه أعمق الأثر، ولقد سحرتنا عن أنفسنا حتى أحالتنا إلى مرمر من فرط ما تخيلنا وعجبنا! وكان لك وأنت هكذا دفين، من عظمتك ومن أبهى ذكرك وفخامة قبر من أجل الظفر بمثله يتمنى الملوك(665/26)
الموت).
وبعد نشر هذه الأبيات القوية في صدر تلك المجموعة من آثار شكسبير دليلاً على أن ناشريها كانوا ينظرون إليه يومئذ وهو لا يزال طالباً في الكلية نظرتهم إلى شاعر بدأت تتحقق له نباهة الاسم.
ونظم ملتن في سنتيه الأخيرتين بالكلية بضع قصائد في مناسبات، أهمها ثلاث مرثيات وقصيدة كتبها عن نفسه هي أقرب إلى شعر التأملات. أما المرثيات فاثنتان منهما كانتا عن هوبسون الشيخ أحد الموظفين في الكلية وقد قضى فيها من عمره سنين طويلة، وفيها يمزج ملتن العطف بروح الدعابة. وكانت الثالثة عن سيدة في مقتبل العمر تدعى ليدي ونشستر أحدث موتها حزنا عميقا في أواسط المجتمع العليا. ولقد ذاعت مرثية الشاعر الشاب ذيوعا عظيماً في تلك المناسبة، أحبها كل من قرأها أثنى عليها ثناءً كبيراً.
أما القصيدة التي كتبها عن نفسه فكانت في عيد ميلاده الثالث والعشرين، وفيها يعجب الشاعر من سرعة انقضاء الزمن، ويأسف أن يخلوا ربيع حياته الأخير من البراعم والأكمام؛ وهو بهذه الإشارة يضطغن على نفسه، فربيعه زاهر بالحياة والنماء، ولعله يقصد أن أكثر ما جادت به براعته لم ينشر ليدل على وفرة ثماره، أو لعله ضرب من الطموح، فهو إذ يستقل ما عمل حتى يومه هذا إنما يشير إلى ما هو جامع له عزمه في غده.
والشواهد على عزمه المصمم قائمة في موضوع ألقاه في سنته الرابعة والعشرين وهي السنة التي غادر فيها الكلية، وكان الطلاب يتناظرون في العلم والجهل وأن العلم يجلب للمرء من السعادة أكثر مما يجلب الجهل؛ وتحدث ملتن فأفاض وأجاد في بيان فضل العلم وقارن بين أوربا في عصر الظلمات وبينها في عصر النهضة، وأشار إلى الإنسان في بداوته إذ كان يهيم على وجهه ويتخذ من الجبال بيوتاً ويعيش بلا دين وبلا قانون ولا ثقافة كما يعيش ضواري الوحش، وإلى الإنسان في حضارته وما ينعم به من المعرفة ويهتدي به من الدين ويتمتع به من روابط الثقافة. وأختم كلامه فأهاب بالمستمعين أن يكتسبوا كل يوم معرفة جديدة حتى يكون شأنهم شأن الاسكندر حين بكى لأنه لا يجد أمامه عوالم أخرى تطويها انتصاراته. . .
وفي سنة 1632 غادر ملتن الكلية بعد أن حصل على درجاته العلمية الثانية وبعد أن قضى(665/27)
فيها سبع سنين؛ رحل عنها وإنه ليأسف على رحيله كثيرون والكل به معجبون. ولا غرو أن تتغير نظرة الأساتذة والطلاب إليه عما كانت قبل ممن كانت له مثل متانة خلقه ورجاحة عقله وفصاحة لسانه وقوة جنانه وشاعرية روحه وطموح نفسه، خليق بمن عرفوه أن يأسفوا على فرقته وأن يعجبوا بشخصيته. ولقد طلب إليه أكثر من مرة القائمون على أمر الكلية أن يبقى بينهم زميلاً بعد أن تخرج فيها ولكنه لم يجد في نفسه الميل إلى ذلك؛ ونجد مصداقاً في تغير نظرتهم إليه فيما كتبه بعد ذلك بعشرة أعوام إذ أشار إلى ما لقي من احترام على أيدي أساتذة الكلية يفوق ما لقي أنداده منه وإلى رغبة هؤلاء الأساتذة في أن يبقى معهم إلى أن قال (وقد وثقت فوق ذلك من اختصاصهم إياي بالمودة والعطف وذلك من كتبهم التي تلقيتها قبل رحيلي وبعد ذلك بزمن طويل وكلها تفيض بعطفهم علي ومودتهم إلي ومحبتهم إياي).
أما هو فكان يذكر أيامه في كمبردج بخير، بل ما برح يشكوا ن تخلفها في المعرفة وتمسكها بالماضي وتعودها عما كان يرجوا من النهوض.
(يتبع)
الحفيف(665/28)
كعب الأحبار هو الصهيوني الأول
للأستاذ محمود أبو ريه
(نشر الأستاذ سعيد الأفغاني أن الصهيوني الأول هو عبد الله
بن سبأ الذي تظاهر بالإسلام على عهد عثمان. وأنا على
احترامنا لما نشر الأستاذ الأفغاني نبين أن الصهيوني الأول
فيما حققناه هو (كعب الأحبار) ذلك الكاهن اليهودي الذي اسلم
على عهد عمر خداعاً ونفاقاً، وكان أول من أرسل الصيحة
(بالصهيونية) في بيت المقدس، ولكن الفاروق فطن لهذه
الدعوة الخبيثة وقضى عليها. ولما وجد أن عمر صخرة عاتية
تحول بينه وبين ما يريد بالإسلام من كيد، أخذ مع جماعة من
فارس يأتمرون به ليقتلوه. ولما اندك حصن الإسلام بقتل عمر
أرصد مكره ودهاءه لما أسلم من أجله، فأنشأ يبث من إفكه -
ما شاء أن يبث - في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله. وأنا
نكشف هنا عن حقيقة هذا الحبر الذي لا يزال يظفر بثقة
المسلمين، ويعتبرونه من خيار التابعين، حتى يكون الناس
على بينة من أمره، ويعرفوا مبلغ ضرر هؤلاء اليهود الذين
تظاهروا بالإسلام وانطوت قلوبهم على غيره)
لما قويت شوكة الدعوة الإسلامية واشتد ساعدهم لم يرى الذين كانوا يقفون أمامهم، ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع، وبعد أن عجزوا عن(665/29)
النيل منها بوسائل القوة والنزاع.
ولما كان اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن رجالهم وأحبارهم لم يجدوا بعد أن غلبوا إلى أمرهم، وأخرجوا من ديارهم ألا أن يستعينوا بالمكر ويتغلبوا بالدهاء ليصلوا إلى ما يبتغون. وهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على غيره حتى يخفى كيدهم ويجوز على الناس مكرهم. وكان أقوى هؤلاء الدهاة (كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سبأ) فاستعانوا بإسلامهم واسندوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وتقواهم. ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اغتروا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم فيدسون فيه ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام لكي يهي هذا الدين ويضعف. ولكي يحكم هؤلاء الدهاة أمرهم كانوا يزعمون تارة أن هذه المفتريات من كتابهم ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما هي في الحقيقة إلا من مفترياتهم، وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من كلامهم، وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية وهي لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم لا يجارونهم في دهائهم ومكرهم. وبذلك كان الصحابة ومن تبعهم يأخذون كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وأنا نلم هنا بطرف صغير من تأريخ زعيم هؤلاء الدهاة وشيخهم وهو (كعب الأحبار) وهو الذي نسوق من أجله هذا الحديث.
كعب الأحبار:
هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاع - من اليمن - كان من أحبار اليهود وعرف بكعب الأحبار، أسلم على عهد عمر علي الراجح وسكن المدينة في خلافة عمر وتحول إلى الشام في زمن عثمان فسكنها ومات بحمص سنة 34هـ.
وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما كانوا يقولون عنه أو كما زعم هو في قوله (ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى، ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة!!!)
وقد أغتر به الصحابة ومن بعده فرووا عنه وسمعوا منه، وكان أكثر من روى عنه من(665/30)
الصحابة أبو هريرة الذي كان كذلك أكثر تحديثاً عن النبي، ذلك بأن هذا الكاهن سلط عليه قوة دهائه لكي يستحوذ عليه وينميه ليلقنه كل ما يريد. ومما أتخذه من أساليب المكر والخداع ليطويه تحت جناحيه أن قال فيه كما روى الذهبي: ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة!!
سبب إسلامه:
وضع هذا الكاهن لإسلامه سبباً عجيباً فقد أحرج أبن سعد عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبى بكر؟ فقال إن أبي كتب لي كتاباً من التوراة فقال اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد أن لا أفضي الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عني علماً ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلماً!
وروى عبد الله بن عمر أن رجلاً من أهل اليمن جاء إلى كعب فقال له: إن فلاناً الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة! فقال كعب هاتها، فقال له الرجل: انه يقول لك ألم تكن سيداً شريفاً مطاعاً؟! فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب أتراك راجعاً إليه؟ قال نعم! قال فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك! وقل له: يقول لك، أسألك بالذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها كل شيء!! ألست تجد في كلمات الله تعالى أن أمة محمد ثلاث أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد!! فإنه سيقول لك نعم! فقل له يقول لك كعب: اجعلني في أي الأثلاث شئت!
كيف كانوا يمكرون بالمسلمين:
أتبع هؤلاء الأحبار طرقاً عجيبة لكي يستحوذوا على عقول المسلمين، وإليك طرفاً من هذه الأساليب:
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام وهو من أحبار اليهود أنه مكتوب في التوراة في السطور الأولى (محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه في الشام) وهذا الذي قاله أبن سلام قد أحكمه الداهية كعب، فقد روي عنه الدرامي: في السطر الأول(665/31)
محمد رسول الله عبده المختار لا فظ ولا غليظ ولا صاخب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وفي السطر الثاني: محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزل ويكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة! ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
كعب وعمر:
لما أتى كعب إلى المدينة على عهد عمر مظهراً إسلامه أخذ يعمل في دهاء لما أسلم من أجله، فكان أول أمر وجه أليه همه أن يفتري الكذب على النبي، ولكن عمر فطن لكيده فنهاه على أن يروي عن النبي شيئاً وتوعده بأن يترك الحديث عن رسول الله أو يلحقه بأرض القردة.
وعلى أن عمر رضي الله عنه قد ظل يراقب هذا الداهية بحكمته وحزمه وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما جرى ذلك في قصة الصخرة التي ستعرفها فيما بعد، فأن شدة دهاء هذا الرجل قد تغلبت على حزم عمر ويقظته فظل يعمل بكيده في السر والعلن حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة أشترك فيها هذا الكاهن وجماعة معه منهم الهرمزان ملك خورستان وكان قد جئ به أسيراً إلى المدينة.
قتل عمر:
ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما أنصرف إلى منزله بعد أن أوعد أبو لؤلؤة جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين (أعهد) فأنت ميت في ثلاث ليال (رواية الطبري في ثلاث أيام) قال وما يدريك؟ قال أجده في كتاب التوراة! قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال الهم لا، ولكن أجد حليتك وصفتك، وأنت قد فني أجلك! قال ذلك وعمر لا يحس وجعاً، فلما كان الغد جاءه كعب، فقال بقي يومان! فلما كان الغد جاءه وقال: مضى يومان وبقي يوم! وهي لك إلى صبيحتها، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كّبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجره فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته. ودخل عليه كعب وقال له: ألم أقل لك(665/32)
أنك لا تموت ألا شهيداً وأنك تقول من أين وإني في جزيرة العرب؟ وفي رواية أخرى: لما دخل كعب على عمر قال له: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)
ومما يملخ عرق الشك في آمر تأمر كعب بعمر ما أخرجه الخطيب عن مالك، أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال ما يبكيك؟ قالت هذا (اليهودي) أي كعب يقول أنك باب من أبواب جهنم! فقال عمر ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة! فقال ما هذا! مرة في الجنة! ومرة في النار! فقال: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا!!
وقد برت يمينه فقد قُتل عمر في ذي الحجة سنة 23هـ
فهل بعد ذلك يتمري أحد أن كعباً هو رأس مؤامرة قتل عمر!
ولعل المسلمين قد ازدادوا ثقة بكعب بعد مقتل عمر إذ حسبوا أن التوراة كما يزعم فيها علم ما كان وما سيكون وما هو كائن! ولكن لما كثر كذبه وفشا بهتانه أخذ بعضهم يقابل ما يرويه بالشك فقد روى البخاري أن معاوية قال فيه (إنا كنا لنبلو عليه الكذب، وقال عنه علي (إنه لكذاب) وكذبه كذلك عبد الملك بن مروان.
قصة الصخرة بين عمر وكعب:
لما افتتحت إيلياء وأرضها على يد عمر في ربيع الآخر سنة 16هـ ودخل عمر بيت المقدس دعا عمر كعب الأحبار وقال له: أين ترى أن نجعل المصلى؟! فقال كعب: إلى الصخرة. فقال له عمر: يا أبن اليهودية، ضاهيت والله اليهود، وفي رواية أخرى خالطتك يهودية! وقد رأيتُك وخَلعَك نَعليك!
ولما أخذوا في تنظيف بيت المقدس من الكناسة التي كانت الروم قد دفنته بها سمع التكبير من خلفه فقال ما هذا؟ فقالوا كبر كعب وكبر الناس بتكبيره! فقال عليَّ به فأتىَ به فقال يا أمير المؤمنين: أنه قد تنبأ علي ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة! قال وكيف؟ فقال إن الروم قد أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه! إلى أن وليت فبعث الله نبياً على الكناسة فقال ابشري، أورى شلم، عليك الفاروق ينقيك مما فيك! وهكذا يلعب بعقول المسلمين.(665/33)
وقال كعب مرة: (إن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى وأنها موضع قدم الرحمن). وقد وضع كعب وإخوانه في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي في الشام أكاذيب كثيرة ملأت مؤلفات.
ما بثه كعب في التفسير والحديث:
بلغ من دهاء كعب أن جعل بعض الصحابة يروون عنه أحاديث معزوة إلى رسول الله. وفي كتب الحديث في باب رواية الأكابر عن الأصاغر أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار.
ولا نستطيع أن نسوق هنا كل ما بثه في تفسير كتاب الله، وما رواه من أحاديث عن رسول الله لأنها إذا جردت تملأ مجلدات وإنما نجتزئ ببعض الأمثال:
قال معاوية عن ذي القرنين: أنه كان يربط خيله بالثريا.
وقال عن العرش: إنه لما خلق اهتز تعظيماً فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح، وفي كل جناح سبعون ألف ريشة، وفي كل ريشة سبعون ألف وجه، وفي كل وجه سبعون ألف فم، وفي كل فم سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر وعدد ورق الشجر. . . الخ فالتوت الحية على العرش. . . وهي ملتوية عليه فتواضع عند ذلك!
وقال الأرضون السبع على الصخرة والصخرة في كف ملك والملك على جناح الحوت والحوت في الماء والماء على الريح والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح وأن قرونها معلقة في العرش.
وقال: إن الله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة.
وما قال كعب لم يلبث أن جاء حديثاً مرفوعاً.
وفي التوراة: أربعة أنهار في الجنة، وفي حديث أبي هريرة أحد من رووا عن كعب أن النبي قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة، أما أبن عباس وقد روى كذلك عن كعب فقد جعلهم خمسة أنهار.
هذا هو كعب الأحبار - الصهيوني الأول - أبرزناه على حقيقته بعد أن نزعنا عنه ثوب الرواية الإسلامية فبدا لهم عارياً - كما خلقته الصهيونية - حتى يكون المسلمون على(665/34)
بصيرة من أمره، ولعلهم بعد ذلك يعملون على تطهير كتب التفسير والحديث والتاريخ من مفترياته ومفتريات إخوانه من كهنة اليهود ليبدو نور الدين مشرقاً في محكم آياته، وتتجلى لهم فضائله في ناصع بياناته، ويتحقق قول الله: سنريهم آياتنا في الأفق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
(المنصورة)
محمود أبو رية(665/35)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
683 - قضية خمرية. . .
في (شرح المقامات) للشريشي:
قال أحمد بن ظبيان الحائز: أجمع قوم على شراب لهم فغناهم مغنيهم بشعر حسان:
إنّ التي ناولَتني فرددتُها ... قُتِلت (قُتِلتَ) فهاتها لم تُقتل
كلتاهما حلب العصر فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمِفصلِ
فقال بعضهم: امرأتي طالق أن لم أسأل الليلة عبيد الله بن الحسن القاضي عن علة هذا الشعر لمَ قال: (إن التي) فوحد ثم قال: (كلتاهما) فثنى؟ فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا عليه، ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا إلى بني شقرة، وعبيد الله بن الحسن يصلي، فلما فرغ من صلاته قالوا قد جئناك في أمر قد دعتنا إليه ضرورة، وشرحوا له خبرهم، فقال: (إن التي ناولتني فرددتها) عني بها الممزوجة بالماء ثم قال من بعدُ (كلتاهما حلب العصير) يريد الخمر المحتلبَة من العنب والماء المحتلب من السحاب المكني عنها بالمعصرات في قوله تعالى وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا.
648 - وصرت أنسى أنني أنسى
أبن الحجاج البلوي: أنشدني العثماني لبعضهم في النسيان
أفرط نسياني إلى غاية ... لم يدع النسيان لي حسا
فصرت مهما عرضت حاجة ... مهمة ضمنتها الطرسا
وصرت أنسى الطرس في راحتي ... وصرت أنسى أنني أنسى
685 - على يد الإفلاس
قال أبن الهبارية:
يقول أبو سعيد إذ رآني ... عفيفاً منذ عام ما شربت
على يد أي شيخ تبت؟ قل لي ... فقلت: على يد الإفلاس تبت
686 - وإن تركناك فلنفسك(665/36)
قال أبو العيناء: كنا عند أبي دؤاد ومعنا محمود الوراق وجماعة من أهل الأدب والعلم فجاءه رسول إيتاخ فقال: إن الحاجب أبا منصور يقرأ على القاضي السلام ويقول: القاضي يتعنى ويجئ في الأوقات وقد تفاقم الأمر بينه وبين كاتب أمير المؤمنين (يريد أبن الزيات) فصار يضرنا عنده، قصد القاضي. وما أحب أن يتعنى إليَّ لهذا السبب إذ كنت أصل إلى مكافأته.
فقال: أجيبوه عن رسالته. فلم ندر ما نقول ونظر بعضنا إلى بعض فقال: أما عندكم جواب؟
قلنا: القاضي (أعزه الله) أعلم بجوابه منا.
فقال للرسول: إقرأ عليه السلام، وقل له: ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً بك من ذلة، ولا طالباً منك رتبة، ولا شاكياً إليك كربة، ولكنك رجل ساعدك زمان، وحركك سلطان، ولا عِلم يؤلف، ولا أصل يعرف، فإن جئتك فلسلطانك، وإن تركتك فلنفسك. فعجبنا من جوابه.
687 - القدر والطلب
قال الطرطوشي: القدر والطلب كأعمى ومقعد في قرية يحمل الأعمى المقعد ويدل المقعد الأعمى.
688 - نصيحة. . .
قال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك، ومن أحتاج إليك أن لا يزول عنك، فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف فيما يحوجه إليك، وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقع أسبابه من الشكر. والمعين على الغدر شريك الغادر كما أن مزين الفجور شريك الفاجر.
689 - انظر إلى وجهك ثم أعشق
جاريةٌ أعجبها حسنُها ... فمثلُها في الناس لم يخلق
خّبرتها أني محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاة لها ... كالرشأ الوسنان في قرطق(665/37)
قالت لها قولي لهذا الفتى: ... انظر إلى وجهك ثم أعشق
إسماعيل القراطيسي:
وقد أتاني خبر ساءني ... مقالها في السر: واسوأتاه!
أمثل هذا ينبغي وصلنا ... أما يرى ذا وجهه في المراه؟!
690 - فتوى الفتوة
قال الصفدي في شرح اللامية:
أخبرني من لفظة الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان سماعاً من كتابه المسمى مجاني العصر في ترجمة جمال الدين الوراق الكتبي (عرف بالوطواط) أنه كان بينه وبين بعض القضاة مودة فلما تولى ذلك القاضي قضاء الديار المصرية توهم جمال الدين أنه يحسن إليه ويبره، فسأله فلم يجبه إلى شيء من مقصوده. فأستفتى عليه فضلاء الديار المصرية فكتبوا على فتياه بأجوبة مختلفة وصير ذلك كتاباً، وسماه (فتوى الفتوة ومرآة المروة) وقد راحت به نسخة إلى المغرب.
قلت: سألت أنا الشيخ أثير الدين عن ذلك القاضي فيما بيني وبينه فأخبرني أنه شهاب الدين محمد الخولي، وقد وقفت أنا على ذلك الكتاب ونقلته بخطي، وهو في الجزء الثاني عشر من التذكرة والفتيا نثر حسن، وأجوبة الجماعة هل عصره نثر ونظم. ومعنى الفتيا: أيجوز لمن حسنت حاله وارتفعت منزلته ألا يحسن إلى صاحبه ولا يفي له بشيء من دنياه؟
691 - فإن لم نجد عقلاً فماذا تحيف
قال الصاحب في رجل كثير الشرب، بطئ السكر:
يقال لماذا ليس يسكر بعد ما ... توالت عليه من نداماه قرقف
فقلت: سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد عقلاً فماذا تَحيّف؟
692 - ما يمنعك من ذلك؟
قال رجل لخالد بن صفوان: إني أحبك
قال: وما يمنعك من ذلك ولست لك بجار ولا أخ زلا أبن عم؟ (يريد أن الحسد موكل بالأدنى فالأدنى)(665/38)
693 - جوابان لسؤالين
سأل إنسان أبن الجوزي فقال: ما لنا نرى الكوز الجديد إذا صب فيه الماء ينش ويخرج منه صوت شكواه؟
فقال: لأنه يشتكي إلى برد الماء ما لاقاه من حر النار.
فقال السائل: فما لنا نراه إذا ملأناه لا يبرد فإذا نقص برد؟
فقال: حتى تعلموا أن الهواء لا يدخل إلا على ناقص(665/39)
نجوى الشهيد. . .
للشاعر حسين محمود البشبيشي
(لكأني بتلك الأرواح الشهيدة، قد ترنمت بهذه الأنغام وهي
تموت أجساداً، لتخلد أرواحا. . .)
أبي، إن مزقوا بالنار قلباً بين أحنائي
وسار الظلم مختالاً على أطال أشلائي
ومت ولم يعد مني سوى ماض وأصداء
أبي لا تبك فالدنيا سبيل النازح النائي
أبي لا تبكي فالموت لم يذهب بأضوائي
أبي لا تبكني أبدا
قُتلت على الثرى جسدا
وروحي ظل متقدا
أبي لا تبك من مخلدا
فلم يذبل سوى جسدي وروحي لم تزل تسرى
فسل فتياننا عنها. . . ففيهم يقظة العمر
وفيهم صورة لفتاك. . . رغم الموت والقبر
فما متنا. . . ولكن مات من لم يسعى للنصر
وماتت نفس من قد عاش بين الذل والقهر
أبي لا تبك من مخلدا
قُتلت على الثرى جسدا
وروحي ظل متقدا
أبي لا تبك أبدا
وأنتم يا بني الأوطان. . . أنتم عمري الثاني
ففي أضلاعكم قلبي وفيكم روح وجداني(665/40)
سأخلد في شبابكم بإحساسي وإيماني
إذا ما نصركم قد لاح أحيا ميت جثماني
وأسعد كلما ابتسمت بكم آمال أوطاني
قُتلت على الثرى جسدا
وروحي ظل متقدا
وبين قلوبكم خلدا
أبي لا تبكني أبداً
أبي أن حقق الله على الأيام مسعانا
وتم جلاؤهم عنا. . . فلا تحزن لما كانا
وحسبك أننا للنيل أرواحاً وأبدانا
تظللنا سماء النيل أطفالا وشبانا
وقد عدنا لأرض النيل يوم الموت قربانا
أبي لا تبكني أبدا
وحسب فتاك أن خلدا(665/41)
من ليالي الفراق:
دموع. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
دموعُك هذي التي تَسكُبين ... صبيبُ لظًى في فؤادي الأمين
فلا تحبسِي سَيْلها، إنّني ... أَراكِ بما فيه تحترقين!!
وصُبّي على كَبِدي. . . نارها ... فأحمل عنكِ الشقاَء الدفين
يُفَدِّيكِ مني ما خَلَّفَتهُ ... رزايا الزمان، وظُلم السنين!
أَلا قرِّبي شفتيكِ، وأَلْقي ... على كتفي رأسَك المْستكين
فذاكَ المسَاءُ لنا حارسٌ ... يُهومُ في رَحَباتِ السكون
وهذا هو النهرُ مَيْتٌ. . . عليه ... من البدرِ ثوبٌ وضئٌ حزين
وذاكَ الشتاءُ عجوزٌ تدِبُّ ... فتسرى البرودةُ في العالمين
وهذا هو البدرُ يصعدُ في ... مراقي السماءِ كليلَ الجبين
تحياته. . . دُرَرٌ من سَناهُ ... يُبعثرُها في حِمى العاشقين
ونحن على شاطئِ النيل، لا ... يرانا سوى شجرَ الياسمين
فلا تكتمي شهقةً في الضلوع ... بحرقتِها كدتِ تخنقيني. . .!!
دعينيَ أرشف دموعَك حتى ... أذوق بها لذعاتِ الشجون
وأشرب بأنفاسِك المحترقاتِ ... سلافاً تخدّرُ روحي الحزين
فأنسى الحياةَ وما فوقها ... سوى أننا في ذُرى الخالدين!
(يافا)
عبد الرحمن الخميسي(665/42)
البريد الأدبي
كيف صار والد المرحوم أحمد حسنين باشا أزهريا؟
كان الشيخ محمد حسنين البولاقي من كبار علماء الدين في الأزهر، وكان أبوه من عظام أمراء البحر في الأسطول، وكان العرف المتبع أن يكون التعليم المدني للخاصة والتعليم الديني للعامة، فكيف صار أبن أمير البحر الأرستقراطي أزهرياً؟
حدثنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي عن أبيه - وكان أبوه رحمه الله أستاذاً للطيب الذكر المغفور له أحمد حسنين باشا - أن الصبي محمد حسنين وقع في نفسه منذ صغره أن يقرأ القرآن ويحفظ آداب الدين، وازداد هذا الميل فيه حتى سأل أبوه أن يرسله إلى الأزهر. فسخر منه أبوه وأمره ألا يجري هذا الأمر على لسانه وألا يخطره بباله، فتوسل إليه بالشيخ الانبابي شيخ الأزهر إذ ذاك فلم يقبل الوسيلة. وأصر الابن على طلبه، وأصر الأب على رفضه، وزاد على ذلك أن توعده بالطرد أن أصر على هذه المعرة. ولكن العاطفة الدينية كانت تعصف برأس الغلام عصفاً شديداً فلم يحفل بوعيد أبيه، ودخل الأزهر وأوى إلى الشيخ الانبابي فآواه وأكرم مثواه وأنفق عليه حتى بلغ الغاية من الفقه في الدين والتبحر في علوم العربية. ثم ظفر بشهادة العالمية وارتقى إلى كرسي من كراسي الأزهر.
وفي ذات يوم دعا شيخ الأزهر أمير البحر إلى داره فلبى الدعوة، وعرض عليه أن يزور الأزهر فقبل العرض، وعلى حلقة من حلقات الدروس أزدحم فيها الطلاب وأصطف حولها الوقوف، وقف الشيخ الانبابي وسأل أمير البحر: أتعرف هذا العالم الشاب يا باشا؟ فحدق الباشا في العالم ثم فغر فاه وقال دهشاً: هذا أبني محمد! فقال الشيخ الانبابي في لهجة لا تخلو من تأنيب وسخرية: نعم هو أبنك محمد يا باشا؟ وإني أناشدك الله أن تقول الحق: أيكما أعظم قدراً عند الناس وأرفع مكانة عند الله؟ فلم يسع الباشا إلا أن يقول: هو ولا شك.
ومنذ ذلك اليوم كان الشيخ محمد حسنين ابن الباشا يغدو إلى الأزهر ويروح إلى القصر في عربة فخمة يجرها جوادان مطهمان!
من أخلاق العلماء:(665/43)
وعلى ذكر الشيخ الأنبابي روى لنا الصديق موقفا من مواقفه التي يعتز بها الخلق ويكرم فيها الدين؛ وخلاصته أن اللورد كورمر رغب في أن يزور شيخ الأزهر، وكان الشيخ الأنبابي قد جعل إدارة الأزهر في داره بحي الظاهر، فلما كلموه في أمر تلك الزيارة أنكر أن يكون للورد معه شأن، ولما قبل أن يزوره وسئل كيف يستقبله أبى أن يلقاه على باب الدار، وصمم أن يسلم عليه وهو قاعد. فقالوا له إنه كبير الإنجليز وقد يجد في هذا اللقاء إهانة له ولقومه، وخير من ذلك أن نجلسه في غرفة ثم يدخل الشيخ عليه فيقف هو وينتهي الأمر. فقال: هذه حيلة وأنا اكره الالتواء والتحليل، وسألقاه على الوجه الذي أختاره فدعوني وإياه.
وأقبل اللورد كورمر في جبروته وسلطانه فاستقبلوه استقبال الملوك؛ ودخل على الشيخ في البهو وفي يديه قبعته فلم يهتز الشيخ ولم يقف. إنما رد التحية وصافح اللورد وهو قاعد، ثم قال لكبير من كبار المصريين كان حاضر الزيارة: قل للورد إني أحترمه، ولكني سلمت عليه قاعداً لأن ديني ينهاني أن أقوم له. فانحنى اللورد وأثنى وشكره، ثم قال بعد ذلك لمن معه: هذا أول شيخ رأيته في مصر يكرم نفسه ويحترم دينه!
الأستاذ منصور جاب الله:
كان الأستاذ منصور جاب الله كالشمعة التي تحترق لتضئ ما حولها. كان أديبا ملء إهابه، وكان فناناً ملء ردنيه، أتخذ الأدب غاية، ولم يلتمسه وسيلة، فتعفف عن التكسب به على وفرة إنتاجه، وعلى أنه لم يكن شيء من الثراء قل أو كثر، وإنما كان غني النفس عفيف القلب طاهر اليد واللسان.
وكان رحمه الله آية الوفاء للصحب والأصدقاء، وإذ يعوزه أن يسد خلة لأحد منهم، أو تتقاصر يده عن معونتهم، يعمد إلى مساعدتهم بأدبه، فيكتب لهم المحاضرات أو المقالات التي تدر عليهم المكاسب، لا يقتضي على ذلك أجراً إلا المثوبة من عند الله. ولقد عرفنا فيما عرفنا عنه أنه كان يساعد بعض إخوانه الذين نالوا درجات جامعية عالية، فيعد لهم المراجع وينسق لهم الفصول والأبواب، ثم يصوغ الرسالة في صيغتها النهائية، ثم يتقدم بها الطالب فينال درجة الدكتوراه أو الماجستير!!(665/44)
إذن مات هذا الأديب المغمور، فهل ذكره أحد؟ أو نعته صحيفة من تلك الصحف التي كان يرسل فيها قلمه فياضاً جزلا؟ لم يذكره أحد، وجزى الله صديقه الأستاذ عبد اللطيف النشار إذ أنشد على قبره هذه الأبيات:
على (منصور) يبكي قارئوه ... فقد عرفوا له صدق الزماع
تنسك في اليفاعة للأمالي ... أخبت في الشبيبة لليراع
فكان بجده كهلا وشيخا ... فعاش كفاء أعمار تباع
له صغرى عجالات وضاء ... وكبرى ذات حسن وامتناع
فيا أسفا عليه وقد توارى ... وراء الغيب كالشفق المشاع
رحم الله الفقيد وعوض فيه الأدب خيرا.
فؤاد علي الأديب
جامعة فاروق - كلية الآداب
ملاحظة على مقال (غزل الفقهاء)
طالعت للأستاذ الكبير الطنطاوي في عدد الرسالة الأخير مقالاً ممتعاً عن (غزل الفقهاء) وقد نسب فيه ألف الشاعر الفقيه (عروة بن أذينة) ببيتين من الشعر هما:
قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به) ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطَّى هواك وما ألقي علي بصري
ولكني كنت أطالع في كتاب (شاعر الغزل) للأستاذ الكبير عباس العقاد فوجدته في صفحة 132 ينسب هذين البيتين ألف الشاعر الغزلي (عمر بن أبي ربيعة) المخزومي الذي لم يشتهر بالتنسك والتفقه وإنما بالتشبيب ومتابعة النساء في خلواتهن.
إبراهيم عبد المجيد الترزي
(مهد العرب) للدكتور عبد الوهاب عزام
مهما تباينت آراء النقاد في مقدار تأثير البيئة في الأدب فلا مفر لفهم هذا الأدب فهما صحيحا في دراسة بيئته التي أمدته بالغذاء، وتعهدته بالنمو، وأحاطته بالرعاية، واستمد(665/45)
عناصره من مشاهدها، والأدب العربي لا يزال يعوزه ليسهل هضمه تلك الدراسات التي تتناول بيئاته الطبيعية لاتصال تلك الآثار الأدبية ببعض الأماكن، أو القبائل، أو الحيوان، أو النبات أو القصص، مما يعين على استكناه روح البيئة التي ولدت ونشأت تلك الآثار بين أحضانها. فكانت هذه الدراسة الموجزة، الوافية لمهد العرب عاملاً قوياً يتكئ عليه طلاب الأدب العربي عامة، وقديمة خاصة؛ لأنها تجلوا لهم هذا المهد الذي كان له في حياة العالم السياسية، الاجتماعية، والروحية، والأدبية، أعظم الأثر، وبعين الباحث الأدبي على تمثيل هذا الشعر واستمراء روحه، وتعمق مراميه، والوصول ألف أهدافه، مما عجز عن القيام به المعاجم والشروح التي تتعلق بالألفاظ والأساليب، وهذا الكتاب يقوم على وصف الجزيرة العربية الطبيعي؛ وأقسامها وأعلام بلدانها؛ ومحالها؛ ووصل كل هذا بطرف مما يتصل به من الأشعار والأخبار والأساطير في غير توسع ولا تعمق، وذكر فيها أمهات القبائل ومواطنها فتناول بالكلام مهد العرب والجزيرة وأقسامها وما يتصل بكل قسم من بعض الأخبار والشعر، فتناول الحجاز مولد الإسلام ومبعث النور الذي تتجه إليه الأوجه والقلوب كل حين، ويملأ كل قلب أليه حنين
بهذا الروح القوي أستلهم - الدكتور - تلك الأماكن التي توحي بأروع الآيات التي تصور بهاء ذلك الماضي الحافل الذي يلقي في النفس الجلال، ويشيع فيها الخشوع، وهكذا تكلم عن نجد، والأحساء، واليمن، وحضرموت، والربع الخالي، وعدد سكان الجزيرة في القديم والحديث، تناول كل هذا التشتيت المبعثر، ونسقه عقداً جميلاً؛ بهذا الأسلوب الأدبي الجزل؛ فكان خير ما يقدم بين يدي الدراسات الأدبية والتاريخية.
محمد عبد الحليم أبو زيد(665/46)
القَصَصُْ
قصة ألبانية
المهد الذهبي. . .
(مهدة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل وحقي إبراهيم خير الله
تتمة
- 5 -
أسرع محمود إلى فريد في حجرة النوم - بعد أن قابل بيراما بالسيد عفت في حجرة الأضياف - فوجده ما زال مستلقيا في سريره، فقال له:
- قم، فقد جاء بيرام.
فقفز فريد من السرير وقال في لهفة:
- وهل أحضر العينة؟
- ليس معه شيء، إن الموضوع قد أرتبك، فإن الخائن قد أخبر أناسا آخرين.
- وكيف كان ذلك؟ ألا عليه اللعنة من الله.
قص محمود على فريد ما حدث - منذ دقائق في الشارع من منزله - بينه وبين السيد لطفي وبيرام، وسرد عليه ما دار بينه وبين شفيق في الليلة الفائتة، وختم حديثه بقوله:
- إنني بعد أن سمعت إلى شفيق ليلة البارحة في المقهى، بدأ الشك يتسلل في قلبي.
فقال له فريد وهو جاد في استبدال ملابسه:
- والآن ما العمل؟
- أمامنا مشاكل كثيرة، كلها يتطلب سرعة الحل.
وكان فريد قد أتم تبديل ملابسه، فصحب محمود إلى حيث والده وبيرام يجلسان، فلما وقع نظره على القروي ابتدره - من غير أن يحييه - بقوله:(665/47)
- كيف أخبرت غيرنا بهذه المسألة. . .؟
ولم يدعه بيرام يتم حديثه فقد أجابه في سرعة بقوله:
- لقد أخطأت خطأً كبيراً يا سيدي، ولكن مع الأسف الشديد، هذا هو الذي حصل.
- وكلنك، أكدت لي أنني الوحيد الذي أفضيت إلي بهذا الموضوع.
- ولم أكن كاذباً حين قلت لك ذلك يا سيدي.
- إذن ماذا حدث؟
- سأشرح لك كما وقع، ولك أن تحكم - بعد ذلك - لي أو علي. قبل أن أجئ إليكم، قابلت شاباً أعرفه معرفة سطحية، وهو طويل الجسم، حسن الهندام، جميل المنظر، يرتدي - في معظم أوقاته - معطفاً أسود، فصاح الجميع بصوت واحد:
- شفيق حامد.
- نعم، هو شفيق حامد، ها أنتم تعرفون اسمه. إنني متصل بهذا الشاب - من زمن بعيد - اتصالا غير وثيق. ونحن أيها السادة أناس أغبياء، لم تصقلنا التجارب، ومن السهل أن نتأثر بغيرنا؛ لعدم ثقافتنا في المدارس، ولقلة درايتنا بأخلاق الناس، بالأمس قابلت هذا الشاب، وسألته عن تاجر يبتاع الآثار، فأجابني أنه لا يعرف أحدا، ولم أتحدث أليه بأكثر من ذلك، ولكنه على - ما يظهر - كان ذكيا؛ فقد أرتاب في أمري، لأنني عندما خرجت من هنا ليلة أمس وجدته ينتظرني في المحل الذي اعتدت النزول فيه كلما جئت إلى المدينة، ولقد هددني بأنه سيرفع أمري إلى الحكومة إن لم أصارحه. أنا لا أستطيع الكذب، فقد خفته كثيرا، وخشيت أن ينفذ وعيده. ولما رأى ذلك مني، قادني إلى بيته، ثم تركني فيه وحيدا، وعاد بعد قليل مع صديق له.
فقال محمود:
- السيد لطفي؟ فقد تذكر أن شفيقا قد جاء إلى المقهى، واستدعاه حينما كان جالسا معه هو وفريد، فأجابه بيرام في هدوء واطمئنان:
- لم يذكر أسمه أمامي. ولكني - إزاء تهديدهما لي - أخبرتهما أنني عثرت - بمحض الصدفة - في حفرة قريبة من بيتي على بعض النقود القديمة، ولم أقل لهما أكثر من ذلك، وقد وعدتهم أن أرشدهم إلى الحفرة، فإني ما كنت أستطيع الإفلات منهم بغير هذا الوعد.(665/48)
فقال له فريد في حدة وغضب:
- إنك مخطئ.
ولكن السيد عفت - وهو الذي حنكته الأيام - بدأ يتكلم في هدوء ورزانة فقال:
- إن المسألة - بوضعها الآن - ليست صعبة التسوية، وإنه يجب البحث عن شفيق ولطفي والتفاهم معهما.
فأمن الجميع على هذه الفكرة، ثم سأل فريد بيراما:
- ولماذا لم تأت بالعينة؟
فتولى السيد عفت الإجابة عنه، - فقد عرف منه السبب - فقال:
- لقد فاض النهر هذه الليلة، وأضحى من المستحيل الوصول إلى (دونمي).
وقال بيرام:
- إن الجو جميل في مثل هذا اليوم، ونستطيع أن نذهب جميعا الليلة.
في هذه اللحظة دخل الخادم، يعلن سيده أن شابين يريدان مقابلته، فعلم الجميع أنهما لا بد وأن يكونان شفيقا وصديقه.
قال السيد عفت:
- انتظروا سأخرج أنا وحدي إليهما، وغادرهم إلى حيث الشابان ينتظران. ولكن القروي بدا عليه كثر من الاضطراب وعدم الاطمئنان، وخاض في بحر عميق لجي من الأفكار. ثم إن فريد قال له في صوت من العتاب:
- إنك السبب في كل هذا الارتباك يا بيرام! ولولا أنك أطلعت هذين الشقيين على هذا الموضوع، ما حدث هذا اللغط، ولا كانت هذه الضجة.
- إنني معذور يا سيدي! فأنا رجل غير مثقف، وإن قلبي يضطرب - خوفا وفرقا - عندما يذكر اسم الحكومة أمامي إنني أضحي بكل شيء في سبيل أني لا أقاد إلى دار الشرطة، وأني لا أوقف موقف الاتهام.
فخفت ثورة الغضب في نفس فريد وأسرع إلى حيث أبوه والشابان، فوجد شفيقا بجوار المكتب، يرغي ويزبد، ويهدد ويتوعد بأنه سيخطر أول الأمر، ووجد التاجر يجيبه - في هدوء لفظ، وخفوت صوت - قائلا:(665/49)
- ولكن ذلك في غير مصلحتك، وأولى لك وأنفع أن نتفاهم في جو يسوده الصفاء. فقال شفيق في صوت أقل حدة:
- أنا أريد قسطي من هذا الكنز.
وهنا تدخل السيد لطفي وقال:
- يا شفيق! إن السيد عفت أهل للثقة والشرف، وهو أكبرنا سنا، وأطولنا تجربة، فلنترك له هذه المسألة، يتولى التصرف فيها بحكمته، ولنا من مشهور عدالته، وكثرة خبرته، أكبر الرجاء في أن يصل إلى كل منا نصيبه في غير صخب ولا منازعة. فهدأت ثائرة شفيق، ووقع منه هذا الرأي موقع القبول. وانتقلوا جميعا إلى حجرة الاستقبال وانضموا إلى محمود وبيرام، ثم أخذوا يتبادلون الرأي ويتشاورون في الأمر، وبيرام بينهم ينظر إلى كل منهم نظرة فاحصة، في ثبات ورزانة، ولا ينطق بكلمة إلا إذا تطلب الموقف أن يقول شيئا. وأخيرا - وبعد طول جدل ومناقشة - أستقر الرأي على أن يخرجوا - بعد الظهر - في سيارة فريد بملابس الصيد ومعداته إلى قرية بيرام وينتظروا في بيته إلى أن يجن الليل، فيتسللوا إلى الكهف، ويحصون بأنفسهم الأشياء الموجودة فيه، ثم بعد عودتهم يبحثون عن أنجح الوسائل، وأنجح الطرق في تصريفها.
وقد أختتم التاجر حديثه بقوله:
- والآن! يجب أن نتعاهد على أن نعمل متحدين في إخلاص، وعلى أن تسمعوا لإرشادي ونصحي، فتعاهد الجميع على ذلك، ثم انصرفوا على أن يجتمعوا في الرابعة مساء وهم على أتم استعداد لبدء الرحلة. ولقد استبقى فريد محمودا ليعاونه على تجهيز السيارة، وأما السيد عفت فقد بقى مع بيرام؛ لأنه قرر بقاءه في البيت إلى أن يعودوا فيستأنفوا السفر إلى (دومن) حيث الكهف العجيب.
ولقد تناول محمود وبيرام غداءهما على مائدة السيد عفت، ثم توجه محمود إلى منزله بعد الغداء مباشرة ليستبدل بملابسه ملابس الصيد. وما إن وافت الساعة الرابعة حتى التأم الجمع، ولكنهم وجدوا أن السيارة لا تتسع لجميع كلاب الصيد التي معهم؛ فاقترحوا أن يتركوا كلب لطفي في منزل فريد إلى أن يرجعوا، ثم أخذوا أماكنهم في السيارة إلا بيراما، فإنه انتحى بالسيد عفت بعيدا عنهم وقال له هامسا:(665/50)
- إنني لا أستطيع مغادرة أشقوداره، قبل أن أدفع دينا صغيرا لتاجر هنا قد وعدته أن أؤديه إليه في هذا اليوم، وأخاف إن أنا لم أف بوعدي أن يجئ إلى القرية ويرانا هناك، وحينئذ نقع في ورطة يتعذر علينا الخلاص منها.
فقال له السيد عفت:
- وكم يبلغ دينك؟
- إنه صغير جدا، ولا يزيد على ستة جنيهات.
فتشكك التاجر لحظة، ولكنه طرد عنه هذا الشك عندما رأى السيارة وبها الشبان ينتظرون بيراما، وقال:
- انتظر إلى أن أحضر لك المبلغ، ثم دلف إلى المنزل وعاد بعد قليل وسلم له النقود، فوضعها في جيبه وعمد إلى السيارة وأخذ مكانه منها، فانطلقت بهم، والتاجر ينظر إليهم وهو يخشى أن تلفت كثرتهم الأنظار إليهم.
أخذت السيارة طريقها إلى القرية مارة بسوق المدينة، وقبل أن يتجاوزه رجا بيرام فريدا - وقد جلس على عجلة القيادة - أن يقف السيارة، فإنه سينزل ليؤدي دينا صغيرا - حل موعده - في هذا المكان وأشار إلى محل معين، فأوقف فريد السيارة، ونزل بيرام وأتجه إلى المحل الذي أشار إليه. فناداه شفيق وقال له:
- أسرع يا بيرام! لنصل قبل الغروب.
وانتحى فريد بالسيارة في الجانب الأيمن من الطريق حتى لا تعطل المارة، وانتظروا وقتا غير قصير، ولكن بيرام لم يرجع فزفر فريد زفرة حارة وقال:
- لست أعلم، ما سبب هذا التباطؤ!
فقال السيد لطفي:
- أسرع إليه يا شفيق! واستحثه على العودة بسرعة.
فنزل شفيق وقصد المحل الذي دخله بيرام، ولكنه عاد مسرعا وهو يصيح!
- أنني لم أجده هناك. فاستولت الدهشة على الجميع، وتملكتهم الحيرة، وقالوا:
- وإن أين ذهب هذا اللعين؟ عد ثانية يا شفيق! وسل عنه صاحب المحل. فرجع شفيق، ولما رآه الرجل قال له:(665/51)
- عمن تبحث يا سيدي؟
- أبحث عن القروي الذي دخل هذا المحل منذ قليل، فقال الرجل مبتسما:
- أظنك تبحث عن بيرام.
- نعم أبحث عنه، ولكن من أين لك معرفة هذا الرجل؟
- كيف لا أعرفه هو أكبر شيطان، وأذكى محتال أنجبته جبالنا. إنك لو علمت كيف لعب بكبار التجار، وأبتز أموالهم، لاستولى عليك العجب. إن الوقت لا يتسع لأقص عليك أعمال ذلك الداهية المغامر. ثم حانت من الرجل التفاته إلى السيارة في جانب الطريق، فاتسعت الابتسامة على شفتيه وقال:
- يلوح لي أنه قد أوقعكم في شباك حيله. وفي هذه اللحظة أنظم إليهما السيد لطفي، فقد أستبطأ شفيقا فجاء يستعجله، وقد سمع الرجل يقول لشفيق:
- إن هذا الشيطان يلج على التجار بيوتهم، في ساعات مبكرة، ويزعم لهم أنه أكتشف - مصادفة - آثار قديمة، وكنوزاً عظيمة، ويبتز نقودهم على حساب هذا الكشف. . .
جمد السيد لطفي في مكانه حينما سمع هذا الكلام، فقد انماعت الآمال التي بناها على أساس هذا الكنز في حرارة الحقيقة المؤلمة، لكنه لم يلبث أن انفجر ضاحكا حتى كادت أنفاسه تنقطع، فقد تذكر ما حدث منذ الصباح الباكر أمام منزل السيد عفت وفي داخله. ثم عاد مسرعا إلى رفاقه في السيارة، أكد لهم أن بيرام غير موجود، وأنه محتال كذاب، وأعاد عليهم ما سمعه من الرجل، فاصطبغ وجهاهما بحمرة الغضب وضاقت في عينيهما الدنيا، وامتلأ قلبهما بالحزن، وأخيراً لم يجدوا مناصاً من العودة إلى المنزل يجررون أثواب الخزي، وتركوا شفيقاً يواصل البحث في السوق عنه.
سمع السيد عفت صوت السيارة أمام المنزل فخرج مسرعاً فرأى السيد لطفي وفريداً ومحموداً ينزلون منها فسألهم في لهفة:
- لماذا عدتم؟ ماذا حدث؟ أين بقية الرفاق؟ فاستغرقوا جميعاً في الضحك وقالوا:
- لم يخطر لنا على بال أن قروياً ساذجاً، لم يذهب إلى المدرسة ولم يقرأ شيئاً عن المغامرات يستطيع أن يخدعنا إلى هذا الحد، ثم شرحوا للتاجر كل ما جدَّ بعد أن فارقوه. وكان كل واحد منهم يأخذ بنصيبه في الشرح والتفصيل ضاحكا. أما السيد عفت فلم يستطع(665/52)
أن يتمالك نفسه وقال مغاضباً:
- يجب البحث عن هذا السافل حتى نقبض عليه، ونسلمه للشرطة، إنه أخذ مني نقوداً، وكذلك أخذ من فريد.
- وقال السيد لطفي:
- لقد أعطيته أمس جنيهاً ذهباً، وكذلك فعل شفيق، وإن النقود لم تكن لنا، فقد اقترضناها.
وقال فريد - موجهاً حديثه إلى والده: -
- أعتقد يا والدي أننا لن نستطيع أن نمد له يد السوء، فإننا نعجز أن نثبت ضده إدانة يؤاخذ عليها القانون، ويبدو لي أننا لم نكن أول من وقع في فخه، وأنه مثل هذا الدور مع كثيرين.
- فأجابه والده - وهو يكظم غيظه - بقوله:
- الواقع أنني لم أصادف في حياتي كلها قرويا له ذكاء كهذا الرجل، فقد أتقن حيلته، وحملنا على أن نؤمن أيمانا عميقاً بكل ما يقول، فقد كان بريق عينيه، ونبرات صوته، ينفذان إلى القلب فيمسحان عنه ما يكون قد علق به من شك.
وقال محمود:
- لقد عرف هذا الرجل كيف يلقى في روعنا جميعاً أن ما جاء به حقيقة لا يشوبها خيال. فعباراته كانت دائماً هادئة ورزينة، خالية من المبالغة والتنميق، وأن أجابته - في غير ارتباك - على ما وجهته إليه من الأسئلة جعلتني أشعر بالفرح يغمرني من منبت شعري إلى أخمص قدمي؛ فقد أيقنت أن الحظ أبتسم لنا، وأن الدنيا قد أقبلت علينا، وما خالجني شك أن هذا الرجل يستطيع أن يتفنن في الكذب إلى هذا الحد.
واضطر السيد عفت - مع ما يحس به من حزن يعتلج في قلبه - أن يجاري الشبان فيما هم فيه فطلب قهوة للجميع وعطف بهم إلى حجرة الطعام واستداروا حول المائدة وأخذ كل منهم يقص على الباقين ما كان قد اعتزمه من المشروعات على أساس هذا الكنز، فقال محمود لفريد مازحاً:
- وهكذا بقيت معاهدنا - يا فريد - فكرة حبيسة في نفوسنا لم تتنسم نسيم الحقيقة، ولم تأخذ مكانها اللائق بجلالها في عالم الوجود. ثم أردف بعد صمت لم يدم طويلا. والله يا(665/53)
سادة! لقد كدت ليلة أمس - بعد أن طار عني النوم - أن أقوم إلى مكتبي فأحبر قصيدة عامرة في وصف ذلك المهد الذهبي الذي حرك بيرام في قلوبنا الشوق إلى رؤيته، ولكني - تحت تأثير الإعياء - فضلت الانتظار ريثما أراه ليكون الوصف أتم وأشمل.
أما السيد لطفي فقد أعتدل في جلسته وشرع يقول:
- تصوروا أنني قضيت ليلة أمس بين لذيذ الأحلام، ومعسول الأماني، وكان أول شيء فكرت فيه - استغلالا لهذا الكنز - أن أسترد - بأي ثمن كان - قصرنا الذي ألجأتنا الضرورة إلى بيعه - وهنا سالت على خديه عبرة لم يستطع ردها - واستمر يقول: ولم يكد ضوء النهار يشيع في الكون حتى أسرعت إلى هذا المكان وبي شوق كثير لرؤية القصر، ولقد مررت ببابه كثيراً، وناجيته أحرَّ مناجاة، وإنه ليدور بنفسي آنذاك أنه لن يمضي أكثر من يومين ثم نعود إليه، ونسعد مرة أخرى بسكناه، ونمرح في جنباته ونلبسه حللا من الفخامة ليتناسب مع عهده الجديد. . . كم رتبت من حفلات الابتهاج باستعادة مجدنا القديم، واسترداد عزنا الدابر. ثم التفت إلى محمود وقال: ولقد رآني محمود وقتئذ. فقال محمود:
- لعل ذلك حينما كنتُ خارجاً من هنا قاصداً إلى المدرسة قبل أن تقابل بيراما.
- نعم! وإني لم أكن أعلم أن بيراما سيحضر في هذا الوقت، فقد كنا على موعد معه بعد الظهر لنرحل إلى قريته سويا ويرشدنا إلى الكهف. وإنما الذي دفعني إلى الخروج في ذلك الوقت المبكر هو رغبتي في أن أرى قصرنا وأناجيه على ما سمعت، ثم صمت فصاح الجميع:
- أما أن بيراما لإبليس!
وفي هذه اللحظة وصل شفيق، وجعبته ملأى بشتى الأخبار وأخذ في سردها واحداً واحداً ثم ختم حديثه بقوله: فها أنتم أيها السادة - بعد أن سمعتم الكثير من أعمال هذا الرجل - ترون أننا لسنا أول ضحاياه، فقد سبقنا عدد ليس بقليل من سراة أشقوداره وكبار التجار فيها. فقال فريد:
- إنني لو رأيت بيراما بعد هذا فسأعانقه بحرارة وأقبل جبينه، اعترافا بفطنته وسرعة خاطره، وسأقول له: مرحى! مرحى! يا أذكى من أنجبته القرى!(665/54)
وقال السيد عفت ضاحكا، محاولا أن يستر ما يحسه من ألم وغضب:
- من الرأي أن تكتمون ما حدث لنا عن الناس جميعاً، حتى لا يفطن إلى بيرام أحد، فيقع غيرنا في مثل ما وقعنا نحن فيه، فإننا سنشعر من غير شك عند ذلك بشيء من التعزية تخفف من مرارة الخيبة التي ذقناها من يد هذا الرجل ولسانه،. . . وقال محمود أخيراً:
- الحق يقال: أن بيراماً ليس من الرجال العاديين. فهو فذ بين اللصوص، محبوك الحيلة، إنه لا يسرق وإنما يبيع أحلاماً لذيذة جميلة، تنتقل بالإنسان إلى عالم ملئ بالآمال والسرور والسعادة. إن النقود التي استطاع أن يسلبها منكم لهي ثمن زهيد جداً لما أضفاه علينا من سعادة يعجز الوصف عنها. فقد أرجحنا جميعاً بهوادة ولطف شعرنا معهما بلذة ليس في مقدور الإنسان أن يأتي على وصفها - في مهده. . . الذهبي. . . الخيالي. . .
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله(665/55)
العدد 666 - بتاريخ: 08 - 04 - 1946(/)
إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف:
حل حاسم لمشكلة الأزهر
غاية الأزهر التي أتجه إليها منذ أكتمل أمره أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع عن أصوله من شتى العلوم؛ وسبيله إلى هذه الغاية أن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون؛ فالدين واللغة إذن هما علة وجوده وجوهر علمه وثمرة عمله. ومن مزية الإسلام أن يمرن مع الزمن ويتجدد بالعلم ليلائم كل عصر ويعالج كل حالة. ومن طبيعة العربية أن تتطور مع الجماعة وتتسع بالحضارة لتعبر عن كل معنى وتدل على كل ذات. وكان من ثمر هذه المرونة في الدين هذا الفقه العالمي العجيب، ومن أثر هذا التطور في اللغة هذا الأدب الإنساني الخصيب. فلما تدفقت الخطوب على حواظر الإسلام والعروبة فمال الميزان ودال السلطان وأنتقض الأمر وعجز العقل، جهل المسلمون مرونة دينهم فأغلقوا باب الاجتهاد، وأنكر العرب تطور لغتهم فصدوا عن سبيل الأدب. وتقدم الغرب وتأخر الشرق، وسيطر العلم وتعطل الإسلام، وتطور التعليم وجمد الأزهر، وولى المصريون وجوههم شطر أوربا يأخذون عنها ما كانت أخذته عنهم، ثم استأنفوا السير في ركب الحياة. ولكن الأزهر ظل في موقفه فلم يسر، وأخذته الصيحة من كل مكان فلم ينتبه، وسألوه أن يمدهم بشيوخ الدين ورجال العربية وهما غايته ووسيلته فلم يستطع. حينئذ اضطر أولوا الأمر إلى إنشاء (دار العلوم) لتعليم اللغة، ثم إلى إنشاء (مدرسة القضاء) لتطبيق الشريعة، وتركوا الأزهر المعمور متحفاً لآثار غير ثمينة من الكتب القديمة والآراء العقيمة؛ يتعبد بألفاظها قوم من فارغي القلوب قد اطمأنوا إلى الخمول، ورضوا بالدون، وعاشوا على فضل الناس، حتى دخلت النهضة المصرية في أوائل ربيعها المزهر، فهب كل وسنان وأنتعش كل ذابل. وتيقظ الأزهريون من رقادهم الطويل فإذا هم عراة من حلل الثقافة الحديثة؛ فطفقوا يخصفون على سوءاتهم مما تناثر حول الأزهر من ورق الربيع؛ ولكنهم ظلوا متميزين من سائر المصريين بهذا الورق الذي لا يدفئ ولا يستر، فنزعوا بأنفسهم عن معرة التخلف، وتنافسوا في اقتباس المعرفة، وأرادوا الدين للدنيا، وطلبوا العلم للحياة، وهتفوا وهتفنا معهم بالإصلاح. ولكن بقايا الراقدين على حطام الماضي يفزعون من هذا الإصلاح لأنه يجرفهم كما يجرف السيل الهشيم! فهم يلقون بأجسادهم إلقاءً في طريق(666/1)
الشباب ليعوقوهم عن بلوغ الأمد المحتوم، والأمد المحتوم الذي سيبلغه الشباب الأزهريون ولا شك هو أن يتعلموا ليعيشوا ما دام الإسلام لا يتبنى الرهبان ولا يتبنى الأديرة. وقد أخذوا، منذ نقل الأستاذ المراغي طيب الله ذكره صورة النظام الجامعي إلى الأزهر، يفكرون في مصيرهم بعد العالمية والتخصص، وفي موقفهم من دار العلوم وكلية الآداب، ويقولون لا نفسهم حينا وللناس حينا آخر: نحن خمسة عشر ألفاً من شباب الأمة أو نزيد، فينا مواهب وعلينا تكاليف ولنا مستقبل؛ فلم نتعلم إذا قضي علينا ألا نعمل؟ وكيف تنفق أموال الدولة على معاهد قصارى أمرها أن تخرج في كل عام قوما متبطلين لا هم لأنفسهم ولا لله ولا للوطن؟ وإذا كان تعليمنا على هذا المنهج الخاص لا يؤهلنا لاكتساب الرزق إلا من تعليم الدين واللغة في المدارس، فما غاية الحكومة إذن من قيام هذه المعاهد التي تنافسنا في الحرفة وتخاصمنا على القوت؟ وإذا كان تخلف الأزهر في عهد إسماعيل قد اضطر على مبارك باشا إلى إنشاء (دار العلوم) فما الضرورة الملجئة اليوم إلى بقائها والأزهر جامعة والدرس مستقصى والمدرس مختص؟ ولكن الدرعميين والجامعيين في الجهة الأخرى يجيبون على هذه النجوى أو الشكوى بأن الإعداد مختلف والتحصيل متفاوت، وما تستوي الفوضى والنظام ولا النقص والتمام ولا التقليد والأصالة. ووقف الفريقان يتلاحيان، رأياً إزاء رأي، واضطراباً وراء اضطراب، واحتجاجا اثر احتجاج، ومن هنا نشأت المشكلة بين المعاهد وأعضلت. وجهدت مشيخة الأزهر ووزارة المعارف جهدهما أن تعالجها بالدواء المسكن لا بالطباب الحاسم، فكانت كالثوب المتداعي كلما رتق من جانب تفتق من جانب آخر.
لذلك نتقدم اليوم إلى هاتين الجهتين باقتراح نرجو إذا خلصت النيات
وصدقت العزائم، أن يكون مقطع الحق في فض الخلاف وإصلاح
الأزهر.
ذلك الاقتراح هو:
1 - أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف، تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه. وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة
2 - أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة(666/2)
الابتدائية العامة، وتعلم فيها اللغات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتوجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاها إلى الدين وعلومه، وإما اتجاها إلى اللغة وفنونها. فإذا انقضت السنوات الدراسية الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم من جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيهية فيما اختصوا به. والناجحون في هذا الامتحان سيجدون أمامهم طريقين هم بالخيار في سلوك إحداهما: طريق الوظيفة الوسط، وطريق الدراسة الأزهرية العليا. فإذا اختاروا طريق الوظيفة عينوا كتبة في المعاهد الدينية، أو في المحاكم الشرعية، أو في المجالس الحسبية، أو في بعض الأقسام من وزارات الأوقاف والمعارف والشؤون، أو عينوا موثقين شرعيين في المدائن والقرى. ذلك إلى أن لهم الحق بحكم شهادتهم أن يسابقوا في الامتحان إلى أي وظيفة من وظائف الدولة. وإذا اختاروا طريق الدراسة العليا دخلوا القسم الجامعي بالأزهر
3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتندمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين. وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق. ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوربية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين، أو من فنون اللغة. وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. ومدة الدراسة في الكليتين أربع سنين للعالمية أو الليسانس، وست سنين للتخصص أو الدكتوراه. ومن يرد من طلاب الكليتين الاستعداد للتعليم قضى في معهد التربية سنتين بعد الليسانس لمن يريد التعليم في الثانويات، ومثلهما بعد الدكتوراه لمن يريد التعليم في الكليات. والمتخرجون في كلية اللغة يزاولون تعليم اللغة والأدب في المعاهد الدينية، وفي جميع مدارس الدولة ابتدائية وثانوية وعالية، فضلا عن مزاولتهم الترجمة والتحرير والصحافة. وأما المتخرجون في كلية الدين فيزاولون القضاء، والمحماة، والإمامة، والوعظ، والخبرة، والتفتيش في المساجد والمعاهد، وتدريس الدين والشريعة في كل مكان يدرسان فيه.(666/3)
بهذا النظام يحتفظ الأزهر بقديمه ويشارك في جديد الناس، وبهذا النظام تمحى الفروق المعنوية والمادية بين طلابه وسائر الطلاب، وبهذا النظام تتحقق وحدة الثقافة وتنقطع أسباب الفرقة ويساهم الأزهر في شركة المدينة. فأن أردتم الإصلاح فهذه سبيله واضحة؛ وان أبيتم إلا التخدير والتجبير والتقية، فأضيفوا من فضلكم كلية للدين إلى جامعة فؤاد ثم أغلقوا الأزهر!
أحمد حسن الزيات(666/4)
يوم من أيام مصر الخالدة بأنقرة
الغازي مصطفى كمال
بدار المفوضية الملكية المصرية
للأستاذ أحمد رمزي
في مساء يوم الأحد 26 مارس سنة 1933 شرف أتاتورك أو الغازي مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية وزعيم تركيا بزيارته دار المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، وكان ذلك في منتصف الليل تماماً حين دقت الساعة الثانية عشر، وحدث هذا في الحفلة التي أقامتها المفوضية بمناسبة عيد ميلاد المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيب الله ثراه. ولما دخل وقف المدعوون من رجال الحكومة وأعضاء السلك السياسي وغيرهم، وقد تملكتهم الدهشة، لأنها كانت أول مرة يزور فيها الرئيس الغازي دار مفوضية أجنبية، إذ لم يسبق حدوث شيء من ذلك للسفارات أو المفوضيات التي يتولاها السفراء والوزراء المفوضون، فما بالك بزيارته لمفوضية على رأسها قائم بالأعمال!
وكتبت في مذكراتي اليومية عن أثر هذه المفاجأة وقت دخوله ما يأتي: (كنت ترى في عينيه بريقاً يشع من القوة المعنوية الهائلة التي تعتمد على إدارة راسخة فعالة، وتلمس من نظرته الحادة قدرة وثقة في النفس يدعمها إيمان ثابت وعقيدة لا تلين في الرسالة التي سلمتها الأقدار إليه لخدمة بلاده وأمته)!
كان يوماً لا ككل الأيام التي عشتها لا أدري كيف أبتدأ، ولا أشعر متى أنتهي حتى مطلع الفجر، إذ كان يحمل اليّ في كل ساعة مفاجأة، فقد أصبحنا كعادتنا لم نغير موعداً للقيام، ولكن المفوضية كانت في حركة دائمة منذ الصباح المبكر، إذ حضر (العتالون) فاخذوا ينقلون كل شيء من مكاتبنا، ويجيء الخدم بعدهم لترتيب الحجرات وتنسيقها لحفلة المساء. وفي الساعة الحادي عشر من صباح ذلك اليوم زارنا مدير المراسم أو التشريفات أو البروتوكول سمها كما شئت، وكان اسمه شوكت فؤاد بك، جاء لابساً بدلة (البونجور)، وفي يده قبعته العالية، ومعه قفازه، حضر ليعرب لحضرة توحيد السلحدار بك القائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية عن تهاني حكومة الجمهورية التركية وأمانيها الطيبة لجلالة(666/5)
ملك مصر المعظم ولشعب مصر، وقد أفرغت هذه الزيارة في قالب خاص من الود الصميم والمجاملة، فكانت خير ما يعبر عن العواطف الودية الأكيدة التي تشعر بها تركيا نحو مصر، ولما تناول القهوة والمرطبات أنصرف مشيعاً بالاحترام اللائق.
وأمضينا اليوم قياماً لا نملك وقتاً يتسع لطعام أو راحة، إذ المخابرات التلفونية لم تنقطع مع استنبول، والخدم في حركة وذهاب وإياب بين المحطة والمفوضية، وبينهما وبين المدينة لاستكمال ما يلزم لمأدبة العشاء التي سيحضرها رئيس الوزراء والوزراء، والتي ستعقبها حفلة ساهرة لمئات المدعوين.
وكنت مأخوذاً ذات اليمين وذات الشمال أتنقل بين الطابقين، ولما وجدت برهة أخلو فيها لنفسي أخذت أرتب ملابس السهرة وكانت الساعة السادسة مساء، فإذا بجرس التليفون يدق ويدعوني بسرعة إلى المستشفى العسكري، لأن القائم بالأعمال الأستاذ توحيد السلحدار بك قد أصيب في حادث تصادم وقع بين سيارته وعربة نقل محملة بالرمال. فتركت ما بين يدي، وخرجت مسرعاً إلى الطريق العام، وما لمحت سيارة أجرة من نوع فورد الخشبية، وهي التي تحمل أربعة أو خمسة من الركاب يشتركون فيها، حتى أشرت إليها بالوقف وقفزت فيها، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم (قابتي قاشتي)، وأهل أنقرة ينطقون الكاف قافاً، ومعنى ذلك أخذ وهرب، أي أستلم وأسلم رجليه للريح. وذهبت إلى المستشفى وأدخلت فوراً إلى غرفة العمليات، فوجدت توحيد بك هناك والدم قد غمر بدلته وقميصه، ورأيت طبيب الغازي يعني به ويضمد جرحاً كبيراً في جبهته، ويعالج ذلك برفق وتؤدة، وقد بدا بعض الاصفرار على وجه الجريح، ولكنه لم يفقد شيئا من ثباته وهدوءه ورباطة جأشه. ولما أراد الطبيب أن يستعمل مخدراً يخفف من ألم الجرح وشدة وقع الصدمة رفض ذلك، إذ تمثلت رجولته في شجاعته وصموده واحتماله لما يشكو منه في رأسه ويده، فدهش من حضر لما رأوه يقظاً واعياً يحادثهم والطبيب يلازم عمله في خياطة جرح الجبهة.
وكان معنا في الحجرة نعمان رفعت بك وكيل الخارجية، وقائد الحرس الجمهوري، وهو ضابط يجمع في شخصيته مظاهر الجندية التركية التي خلدتها المعارك والحروب الدائمة والأخطار المزمنة، وكان شديداً فأطلقنا عليه (صاحب الضبط والربط)، قال: (إنه حضر بأمر عال من فخامة رئيس الجمهورية، وأن الأمر الصادر إليه يلزمه إلا يترك توحيد بك(666/6)
لحظة واحدة حتى يستعيد قواه، وأن يتصل بالغازي مباشرة لأي حادث يطرأ. فشكره توحيد بك على هذه الالتفاته، وطلب إليه أن يرفع للرئيس شكر المفوضية وتقدير مصر قاطبة. ولما أتم الطبيب عمله وقام توحيد بك، التفت إليه وأعلمه بأن واجبه كطبيب يحتم عليه أن ينصحه بأن يستريح هذه الليلة ولا ينهك نفسه بالعمل). فأجابه بغير تردد: (كيف أقبل الراحة وقد دعوت الناس لحفلة مليكي؟ إن إخلاصي يملي عليّ أن أحضر الحفلة، أما الألم فشيء هين يسهل عليّ احتماله في سبيل قيامي بواجبي نحو بلادي، وقد اعتادت هذه الرأس أن تتحمل وتحمل الكثير). ثم التفت إلى قائد الحرس، وإلى وكيل الخارجية، وقد أبديا كلاهما ضرورة الرفق بصحته والعودة للراحة. فقال: (أبلغا الغازي والحكومة التركية أنني بخير والحمد لله، وأني لعاجز عن التعبير عن شكري لهذا الاهتمام الفائق الذي لا أعتبره موجها لشخصي، بل لمليكي وبلادي). وترك المستشفى مستنداً على ذراعي الطبيب وقائد الحرس، وركبنا سيارة أوصلتنا إلى منزله، وأستأذن وكيل الخارجية والقائد، وبقى معنا الطبيب لا يتركه حتى بدل ملابسه ولبس ثياب السهرة ووضع أوسمته، واتجهنا إلى دار المفوضية المصرية، وقد استعدت لحفلة الليلة كأن لم يحصل شيء، وكأن التصادم أمر كان لأيام مضت، ولم يظهر على توحيد بك غير رباط الجرح واليد.
وكان الوقت قد أزف لحفلة العشاء التي تبدأ في الثامنة، وأخذ المدعوون من علية القوم يحضرون ويأخذون أماكنهم، وفي مقدمتهم رئيس الوزارة التركية عصمت باشا، وهو الرئيس الحالي للجمهورية، وقبيل انتهاء المأدبة أخذ المدعوون للسهرة يفدون، وهم من كبار رجال الدولة والسلك السياسي بأكمله المكون من ثلاثين هيئة بين سفارة ومفوضية، وقد توزعوا في أركان الدار وحجراتها، وقد بدت تتألق في رونقها وحلتها.
وكان الجميع يهنئون بالعيد، ويستفسرون عن صحة توحيد بك، ويبدون إعجابهم بعزيمته، وقالت قرينة وزير النرويج: (لا أقدر أن أطيل النظر إليه وهو على هذه الحالة، فأرجو أن تنصحه ليعود إلى منزله فيستريح، إذ أخشى أن ينفتح الجرح في أي وقت فيسبب له نزيفاً). فقلت لها: (كيف يحصل هذا وطبيب الغازي يلازمه ملازمة الظل لا يتركه لحظة واحدة؟!)
وفي منتصف الليل تماماً، والناس في شغل بأنفسهم، وهم جماعات متفرقة، بعضهم يرقص(666/7)
على نغمات الموسيقى، وبعضهم يلعب الورق، والمقصف عامر، دخل الغازي فاستقبلته الفرقة بالنشيد الجمهوري، ثم بنشيد مصر، واتجه بخطوات ثابتة نحو القائم بالأعمال، فعانقه على مرأى من الحاضرين، وهنأه على رباطة جأشه وقال: نه يحضر إلى بيت مصر كما يحضر إلى بيته، فهو صاحب الدار، وأن مجيئه إلى المفوضية هو تحية منه للشعب المصري في عيد مليكه المعظم، فبلغ مصر ذلك، كما أنه تقدير مني لشخصك. ثم اتجه إلى ركن صغير بإحدى الصالات فجلس ومعه توحيد بك، ووزير الخارجية توفيق رشدي بك، وانضم إليه صاحب السمو الملكي الأمير زيد وزير العراق المفوض بأنقرة، فأجلسه الغازي إلى شماله على نفس المقعد، وجلس الكونت دي شامبران سفير فرنسا، ودارت في تلك الجلسة أحاديث تناولت الكثير من الشؤون، ولم يأتي الوقت بعد لإذاعتها وفي الساعة الثالثة صباحا طلب الغازي من توحيد بك أن يستريح وألح عليه في ذلك وقال له: إنني معجب بموقفك وتصميمك، وأفهم ما يمليه عليك الواجب، ولكني أنا (مصطفى كامل) سأنوب عنك في الترحيب بضيوفك. ونزل توحيد بك على إشارته، ولازمته حتى ركب إلى منزله. ولما رجعت من توديعه، إذا بوكيل الخارجية يدعوني إلى الركن الجالس فيه الغازي، وكان قد أنضم إلى الجماعة وزير المجر، وها أنا أعطي صورة من بعض ما دار من الحديث:
استؤنف الكلام بشأن المجر، فذكر وزيرهم ما نزل بهم من الظلم وما حاق بهم من الاضطهاد، وكأنه شعر بألم عميق، أو أراد أن يستعطف الغازي على وطنه، إذ ضرب مثلا لأنواع إرهاق التي يلاقيها، فقال وقد اغرورقت عيناه: (قد أصبح والدي تشيكوسلوفاكيا وصارت جدتي رومانية ليحافظا على أملاكنا ومزارعنا في البقاع التي انتزعت من وطننا، وهكذا تشتت أسرتنا وأصبحت مجريا وحدي. فنظر إليه الغازي محدقا وقال: (إنما أنت رب عائلة، ومواطن طيب القلب، ولكنك بعيد عن أن تكون رجل سياسة. انظر إلي تجدني لست بصاحب عائلة، ولم أشغل نفسي بطلب البنين، وذلك لأكرس حياتي منذ نشأت لخدمة بلادي). وكان الجنرال ناجي باشا، وهو أستاذ الغازي في الكلية الحربية، قد أنضم إلى الجماعة فعقب على ذلك بقوله: (لك سبعة عشر مليونا من الأولاد هم أبناؤك الترك). وهنا قال وزير المجر كلمة لم تعجب القارئ وهي: (أنك تستطيع أن تدفع العدوان عن بلادك،(666/8)
لأنك في الأناضول، أما بلادي فهي بين الأعداء المحيطين بها من كل جانب). فسأله الغازي مسترسلا: (إلى أي عنصر تنتسب؟) فأجاب بغير تردد: (إلى العنصر التركي كأهل المجر جميعاً) فضحك الغازي وأجابه: (لا تنسى إنكم ضللتم قرونا حتى نهاية الحرب الماضية (14 ـ 1918) كان كل رأس مالكم وفخركم اللذين تترقبون بهما إلى شعوب أوربا وحكومتها وسياستها هو أنكم أعداء الترك الألداء، وإنكم كنتم أول من تحرر من تحت نيرهم، فأنتم كما ترى تدفعون ثمن الكفارة غاليا الآن).
ثم التفت إلى سفير فرنسا، وقد دنا الكونت استرودوج سكرتير السفارة الفرنسية من المجلس بإشارة من الغازي، فقال فخامته: قل له أن يحضر ورقاً وقلماً، وأريد أن أملي عليه شيئاً ولما أحضر الورق أملاه ما يأتي: (لا أتستطيع بحال أن أقول للترك إن فرنسا صديقة لهم، إذ كيف أصل لاقناعهم بذلك؟ إن هذا لن يكون إلا بعمل ظاهر، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك، حتى المعاهدة التي عقدناها أخيراً لم تصادق مجالسها النيابية عليها للآن).
وأنتقل الحديث إلى ذكر جنيف وتخفيض السلاح ومشروع اتفاق الدول الأربعة العظمى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم (الديركتوار الرباعي) إحياء لنظام المحالفة المقدسة بعد حروب (نابليون). وهذا مشروع يبغضه الغازي، فتحمس كل التحمس وقال: (ما معنى الدول العظمى؟) وأشار إلى السفير أن يكلف استرورج بأن يكتب مرة أخرى ما سيمليه، وأن ينقل ذلك إلى دولته فيما يلي: (إن فرنسا لن تكون عليها سيطرة على تركيا، وان تركيا لن تذعن لشيء تقرره فرنسا مع تلك الدول ما دمت أنا على قيد الحياة، ولو فرضنا أن الحكومة قبلت ذلك ووافقها المجلس الوطني الكبير، فإني لن أقبل ذلك، ولو أحوجنا الأمر لوجدتم الشعب التركي بأكمله ورائي يشد أزري، ويبذل أقصى جهده، وأنه لجهد لو تعلمون عظيم، وقد سبق أن برهن على ذلك مرة للعالم، وأني مستعد أن أقوده ثانية ليبرهن لكم مرة أخرى!)
هذه صورة خاطفة لبعض ما كان يدور في أحاديثه العديدة التي حرصت على جمعها وصيانتها توفراً مني على رغبتي يوماً في نشرها، وكنت كلما أتاحت لي الظروف لقياه، وقفت أتأمل هذه القوة الدافعة المجسمة فيه، وأجب بسوقه للحديث ومجانبته الانزلاق وتوجيهه المخاطب للناحية التي يرمي الوصول إليها، فكنت أغبط نفسي على كل دقيقة(666/9)
أقضيها معه، وكان يعرف ذلك عني، ويفهم روحي، ويعلم أنني أعرف بالتفاصيل كل حادث مهم مر به في حياته، وإني أداوم على قراءة خطابه التاريخي بالتركية وباللغات الأخرى. وفي أثناء جلوسي أمامه مر الخادم النوبي الذي يخدم توحيد بك، وهو يلبس ملابس الحفلات بمصر، وعلى رأسه الطربوش، ليقوم ببعض الخدمة للجالسين ولما أتم عمله وتراجع صاح به الغازي بالعربية قائلا: تعال هون اخلع طربوشك فخلعه، ثم قال البسه فلبسه وانصرف. وكنا على مقربة من حادث الطربوش المشهور الذي وقع في 29 أكتوبر سنة 1932، إذ لم تمض على وقوعه خمسة شهور، وهنا أتجه الحاضرون إلي، وكانت وظيفتي ومركزي لا يسمحان لي بمواجهته بالخطاب، فإذا هو يقول لي: متى تخلعون الطربوش؟ وهنا وقفت متردداً كيف أجيب، وأخيراً فتح الله عليّ بكلمة قلتها في تلك الليلة هي: (يا فخامة الرئيس، إن الطربوش غطاء الرأس عندنا، كما كان يوما ما عندكم، وها نحن لا نزال في الدور البدائي من كفاحنا وجهدنا في سبيل تحريرنا وتحقيق مثلنا العليا التي تتمثل في مواجهة الحضارة الحالية وأخذها والاستفادة منها، ألا ترى إن الطربوش رمز يذكرنا بعصر نعيش فيه لنخرج منه إلى عصر جديد؟ وإنه عصر هام يذكي روح العمل لدينا؟ ويذكرنا كل يوم وكل ساعة بالواجب المحتم علينا وبالسعي في خلاص البلاد؟ ولا شك أنك لم تخلع القالباق أو الطربوش إلا حينما تخلصك بلادك من قيودها وانتصرت في عراكها وكفاحها، إننا في اليوم الذي نتخلص فيه من قيودنا ونتغلب على العقبات التي أمامنا نفكر في خلعه واستبداله، ويكون ذلك بوحي إرادتنا وحدها، ولكن قبل أن نصل إلى أهدافنا الكبرى، وننقلها من عالم الخيال إلى عالم الحقائق، لا توجد إرادة في العالم تفرض علينا أو تجبرنا على رفعه، ذلك لأنه يذكرنا كل يوم بعراكنا الدائم المستمر، وبان أمامنا واجباً نعمله وأعباء نحملها وعقبات نقتحمها ومصاعب نتغلب عليها).
ولم يكن الغازي ينتظر ذلك، فتلألأ وجهه وأدناني منه، وقال كلاماً كثيراًً عن مبادئ الثورة الكمالية ويقظة الشعب التركي وآماله، وهنا تحدث الزعيم الخالد عن أدوار حياته الأولى في البلاد العربية، والتفت إلى سمو الأمير زيد ووجه إليه عبارة رقيقة، وتكلم عن عرش سوريا وما يقال بشأنه، ثم عرض لحادث الطربوش المشهور، وقال كلاماً لا تسمح الظروف لي بنشره الآن، ثم قال: (كنت أقود الأتراك في داخل حدودهم وأراضيهم، وكنت(666/10)
أكتفي بذلك، أما اليوم، فسمعت صوتاً جديداً، ونغمة حلوة، جعلاني أشعر بان هناك خارج حدودنا من يفكر مثل تفكيري، ومن يأخذ نفسه بالعمل الصالح لخدم بلاده). وكان الجمع قد ازداد حولنا، إذ وصل الغازي إلى القمة في أحاديثه، فأخذ يعبر عن روحه وإيمانه، وقد ارتسمت على وجهه عظمة الخالدين، وازداد إشعاع العينين من قوته الدافعة المؤمنة، وكان الفجر قد أخذ يبدو وراء الشفق والتلول التي تحيط بأنقرة، وأمامه شباك بعرض الحائط، وقد بدأت شمس يوم الاثنين 27 مارس 1933 تقدم علينا، فنظر إلى العدد المحتشدين من الأتراك وممثلي الدول الأجنبية، وحدقّ في وجوههم واحداً واحداً ثم قال: (إن نهضة تركيا شاملة، وهي ستعم ما حولها من الأمم، إذ ليس بالتهويش والوعود تحيا الأمم، بل بالإخلاص والعمل الصالح، وإني لألمس نهضة الشرق وشعوبه وأراها قادمة لا ريب فيها، كما أرى فجر هذا اليوم وقدوم شمسه إلينا. . . انظروا إلى ضوء الشفق يحمل إلينا الشمس من الشرق مطلع سراج الدنيا، إن العالم ينتظر بعثاً جديداً، وسيعود الشرق - كما بدا - قوياً عظيماً). . . ثم نظر يميناً وشمالاً وقال: (إن الذي يتكلم هو مصطفى كمال، لا رئيس الجمهورية التركية، مصطفى كمال التركي: إنني أشعر بأن الأمم في الشرق ستتخلص من نكباتها وويلاتها، وان أول ما تشكو منه هو الاستعمار، فهذا لن يعيش ولن يبقى حينما تبدأ يقظتها ووعيها واتجاهها للحقائق بدل الأوهام والأحلام
(إن أكبر دعائم الاستعمار هم رجال السياسة المحترفين الذين تستعملهم الدول الأجنبية لأغراضها. لقد تأكدت مما رأيت في بلد من البلاد - ولا داعي لذكر اسمه - إن تسعين في المائة من المتصدين للمسائل العامة عملاء للدول الأجنبية، يخدمون مصالحها على حساب أمتهم).
وكانت الشمس قد أشرقت، فقال: (انظروا إلى طلوع الشمس، انه يمثل لنا نهضة الشرق وأممه!)
وقام الغازي من مكانه، وقد وضع يده بيدي، وسرت معه إلى الباب الخارجي ومنه إلى سيارته، حيث ركب ومعه ناجي باشا وقال: (إنه يذهب لتناول طعام الفطور لدى أستاذه الجنرال ناجي باشا). وانتهت ليلة من ليالي مصر الخالدة بأنقرة!
كثر التحدث عن تلك الليلة، وما دار فيها من أحاديث، وعلّق الكثيرون من أهل الرأي(666/11)
ورجال السياسة والممثلين الأجانب عليها، وكان لها صدى في الشرق والغرب ولدى الحكومة التركية والمفوضيات الأجنبية، إلا في مصر، وهي التي قصدت بهذه الزيارة وأكرمت بها، لم يكن لها أي اثر ولا صدى ولا حماس، ولا ما يشبه الحماس فيها، وسنعرض لهذا كله في حديث لاحق.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(666/12)
أين الأقلام؟
للأستاذ علي طنطاوي
نحن اليوم في معركة مع الاستعمار، قد اندلعت نارها، وطار في كل أرض الإسلام شرارها، فهل رأيت جيشاً في معركة يدع مدافعه فلا يطلقها، وينسى دباباته فلا يسيرها، ويلقي بنادقه فلا يحملها؟ هذا ما نفعله نحن نهمل أقلامنا فلا نسخرها في هذا النضال، وان من أمضى أسلحتنا وأنفذها وأبقاها على الزمان وأثبتها للغير، لهذه الأقلام. . . فما لهذه الأقلام نائمة لا تفيق، جامدة لا تتحرك؟ وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب، كأنه مدفع العيد يتفجر بالبارود الكاذب وسط المعمعة المدلهمة التي جن فيها الموت؟!
إنها معركة الاستعمار: استعمار البلاد بالجيوش، والأسواق بالشركات، والرؤوس بالمذاهب، والقلوب بالشهوات، فجنود العدو تخطر على أرضنا، وشركاته تتحكم في أسواقنا، ومذاهبه الخبيثة تملأ رؤوسنا، وتقليده في إباحته وشهوته وسفوره حسوره، وتكشفه في نسائه وأدبه يفسد قلوبنا. . . فأين تلك الأقلام تنبه القوم النيام، وتطهر الرؤوس والقلوب، وتحمل نور الحق لتبدد به ظلمة الباطل؟!
أين تلك الأقلام تعرّف هذا الشعب بنفسه، وتتلو عليه أمجاد أمسه، وتذكره أنه لم يخلق ليذل ويخنع، وإنما خلق ليعز ويحكم، وان الله ما برأه من طينة العبيد، بل سواه من جذم الصيد الأماجيد وأنه أثبت من هؤلاء المستعمرين. . . أصلاً في الأرض، وأعلى فرعاً في السماء، وأكرم نفساً، وأشرف عنصراً، وأنقى جوهراً، وإنها إذا أفقرت الأيام الغنى، وأذلت العزيز؛ فأن الفلك دوار، والأيام دولاب، فلا يغتر الفقير بالغنى الحادث، ولا يأس الغني على اليسار الذاهب، فإن كل شيء يعود إلى أصله، وإن كل حال إلى زوال. . .!
أين الفوهرر الذي نطح النجم كبرياء؟ وأين الدوتشي؟ فاعتبروا يا فهاررة اليوم. . . فما أنتم بأمنع من الموت وما أنتم بأعصى على القدر، وان لهذا الكون دياناً جباراً ما شاركه أحد كبريائه إلا قصمه. . . وما أنتم حتى تشاركوا الجبار كبريائه؟!
وأين تلك الأقلام تفهم الشعب أن المستعمرين ما زهدوه في قرآنه، وصرفوه عن دينه، وشغلوه عن تاريخه، إلا ليلبسوه أحد أسلحته، ويجردوه من أمتن أدراعه، حتى إذا قابلوه أعزل عارياً، هان عليهم اصطياده، وسهل استعباده، فكان إليهم قياده! وإنه آن لنا أن ننتبه(666/13)
لمكرهم بنا، وان نفيق من غفلتنا، ولا نمشي إلى الهوان بأرجلنا، ونمكن عدونا منا بملكنا. . .!
وأين تلك الأقلام تعلن للناس أن هذه القوانين الأجنبية في محاكمنا، إنما هي أثر من آثار الاستعمار الذي نحاربه، وأن لنا شرعاً أفضل من قانونهم، وديناً هو أحسن من نظمهم، وإننا نستطيع أن نأخذ القانون المدني والجزائي من ديننا وفقهنا، وأن نحكم في محاكمنا بما أنزل ربنا، وأن من العار علينا أن نفتقر إلى قوانين عدونا. . . إن كانت من فكره فلنا أفكار، وأن كانت من تجاربه فلنا تجارب، وان كانت من دينه. . . وأنىّ؟ فما في الوجود دين تستمد منه القوانين كلها إلا الإسلام. . . .!
فهل رأيت غنياً مؤلفاً (مليونيراً) أورثه أبوه صناديق الذهب، ثم يتكاسل عن القيام إليها، ومعالجة قفلها، ثم يذهب فـ (يحشد) ذليلا الملاليم والقروش من أكف أعدائه ليتبلغ بها؟
هذا مثلنا حين نترك ديننا ونأخذ قوانين المستعمرين!
أين تلك الأقلام تقول للناس: إن الإسلام جاء يكسر الأصنام وأنتم رجعتم تعبدون أصناماً من لحم ودم، تأكل الخبز والحلوى والذهب وورق النقد (البنكنوت). . . وتأكل كل شيء وتهضمه معدها. . . أصناما تسمونها (زعماء!) تجدون وتتعبون ليستريحوا هم، وتشقون لينعموا، وتنخفضون ليرتفعوا، وتدفعون إليهم ما كسبتموه بأيديكم الخشنة من العمل، وأنتم تقبّلون أيديهم الناعمة من الكسل، وتمنحونهم كل نعمة. . . ولا يمنحونكم شيئاً. . . وإن من بقايا الاستعمار هذه الأحزاب التي لا تتقاتل إلا على أكل لحمكم، وامتصاص دمكم وحكمكم!
وهذا الأسلوب الأحمق الذي يشترط في معلم المدرسة الابتدائية وكاتب المحكمة الجزئية، شروطاً في نفسه ودرسه، وامتحاناً وتجربة، ولا يشترط في الوزير شرطاً، فكل من أراد الوزارة وسلك سبيلها نالها، ومن نالها يوماً لصقت به (معاليها) إلى آخر أيامه. . .
ستقولون: وماذا نعمل وهذه سنة المتمدنين في كل بلاد الله؟ نعم هي سنة المستعمرين، ولكن في بلادهم هم علماء، فلا تلقى وزيراً جاهلاً، وشعباً يقضاً، وصحافة ساهرة، وإن فيها انتخابات صحيحة، وإدراكاً شعبياً، أما الأحزاب، ففي بلد واحد من بلادنا (كمصر مثلا) أكثر مما فيها كلها، وهل في أميركا إلا حزبان: الجمهوريون والديمقراطيون؟ وهل في إنكلترا إلا ثلاثة: الأحرار والعمال والمحافظون؟ فكم حزباً في مصر يا أيها(666/14)
المصريون؟
فإذا كرهتم الاجتهاد، وأبيتم إلا أن تكونوا مقلدين، فقلدوا في المذهب كله، ودعوا التلفيق!
وأين هذه الأقلام تقول للناس، إن ثكنات قصر النيل في القاهرة، ومطار المزة في دمشق، ومعسكر الحبانية في العراق، حصون العدو وقلاع المستعمر ما في ذلك خلاف، ولكن للاستعمار قلاعاً أخرى، إن تكن أخفى فقد تكون أخطر، وهذه القلاع هي بيوتنا التي أنتشر فيها (التحرر. . .) في الشباب والشابات، و (التجدد. . .) في الصلات بينهما، فقلل الزواج وزهد فيه الشبان، وكسّد البنات، ونشر الأمراض، وشغل بالهزل عن الجد، وبالسعي للشهوة عن العمل للوطن. . . ولقد قلت إنها أخطر، لأن ثكنات قصر النيل قتلت عشرين مصرياُ في عشرين سنة، وهذه تقتل كل سنة مليوناً من أهل مصر، كان يكون منهم العبقري النابغ، والقائد البارع، والأديب الملهم، والعامل النافع، ويكون منهم حماة الحمى، ودرع الوطن، خسرناهم لانصراف الشباب عن الزواج وزهدهم فيه، ولولا هذا التحرر، وهذا التجدد. ولو عادت بنا الأيام كما كنا من خمسين سنة، إذ لا تلقى شاباً في العشرين إلا متزوجاً، ولا فتاة في الثامنة عشر إلا ذات بعل، لزادت مصر مليون إنسان في كل سنة، أفرأيتم كيف قتل استعمار البيوت هذا المليون؟
أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وتردد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير لنا أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوربا فهو خير ورشاد، وكل ما بقي لدينا من الشرق فهو شر وفساد!
وهذا من أقبح ما خلفه فينا الاستعمار
فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، وتقيم لهم الميزان العادل، وتحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون!
وبعد، فهذي المعركة، وهاهم المسلمون في كل بقاع الأرض يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل. هاهم أولاء يردون بأيديهم وبأيمانهم وبحقهم الجيوش التي لم يستطع ردها هتلر بحديده وناره. . . لا يرونها أكبر من أن تغلب، ولا يرون أنفسهم أصغر من أن تغلب. هاهي ذي المعجزات تظهر كل يوم على(666/15)
أيدي أتباع محمد: في ميدان الإسماعيلية، وفي شوارع الإسكندرية، وفي بلاد الشام، وفي مدن فلسطين، وفي الهند، وفي جاوة، وفي إيران، فأين تلك الأقلام تدون خبرها وتخلد ذكراها؟!
أين الشعراء وأين ملامحهم فيها، وهناك شيء ينطق الجماد بالشعر؟ أين القصصيون وأين ما وضعوا فيها من القصص، وهناك قد جلس الزمان يقص من أفعال هذا الشعب أعجب الأقاصيص؟ أين من في نفوسهم قرائح، أفلا تفيض اليوم بالبينات هذي القرائح؟ أين من بين أصابعهم أقلام. . . ألا تلتهب اليوم بالحماس هذي الأقلام؟!
أين كتاب العربية وشعراؤها وبلغاؤها؟!
يا خجلتاه غداً من كتاب التاريخ إذا جاءوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجل الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفاً. . . لقد شغلته عنها شواغل الأيام، ومباهج الأحلام، وملذات الغرام!
(دمشق)
علي الطنطاوي(666/16)
ألدوس هكسلي مؤرخ طبيعي للإنسانية
بقلم اسكندر هندرسون
مؤلف كتاب (تفسير لشخصية ألدوس هسكلي)
كان ألدوس هكسلي في وقت ما لا أدريا ولا ماديا، أما الآن فهو يؤمن بمعتقدات مستمدة من الفلسفة الدينية الهندية وهو في قصصه ومقالاته وقصائده يكشف عن شخصية شديدة التعقيد دقيقة على الفهم، ذات ميول متضاربة لا يوازن بينها إلا ذهن جبار مشغوف بالتأمل والتفكر.
فمنذ سبعة عشر عاماً، قال في كتابه (دراسات صحيحة (1927): لو ألزمت بتحديد موقفي لقلقت إنني أمرؤ مثقف يوجه اهتمامه الأكبر لدراسة العالم الخارج دون التأمل الباطني. . . وأنا أفهم التفسير المادي للحياة الباطنة.
ولكنه في سنة 1944 يقرر أن أركان عقيدته هي: (أن هناك لاهوتا، أساسا، براهما، ضوء مبينا ينير الفراغ، هو القانون غير الظاهر الذي يكمن وراء كل المظاهر؛ وان الأساس حال في الأشياء ومتجاوز لها في وقت معا؛ وأن في مقدور الإنسان أن يحب الأساس الإلهي، ويعرفه، ويتحد معه وحدة فعل بعد وحدة قوة؛ وأن البلوغ إلى هذه المعرفة الاتحادية باللاهوت هو القصد والهدف الأخير للوجود الإنساني).
ولقد كان هكسلي دائما يدرك العناصر المتضاربة في شخصيته وفي مجموعة مقالاته: (أعمل ما شئت (1929) وضع خلاصة لفلسفة (عبادة الحياة أو (الإفراط المعتدل بناها على الإيمان بمبدأ أساسي هو تعدد جوانب كل شخصية. قال: (إن عابد الحياة هو يقيني أحيانا، وصوفي أحيانا أخرى، لا أدري، ملئ بالسخرية، ومؤمن فياض بالإيمان. . . والخلاصة أنه يقبل كل نفس من نفوسه المتعددة، حين تظهر في عقله الظاهر، ويعتبرها إذ ذاك نفسه الحقة في تلك اللحظة. وهو يقبل كل نفس وجميع النفوس - حتى الخبيثة، حتى الوضيعة المعذبة، حتى العابدة للموت والمسيحية بطبعها، هو سيقبل كلا منها وسيعيش في كل منها عيشة مفرطة).
إن شخصية ألدوس هكسلي المعقدة، والقالب العلمي لذهنه، وأسلوبه النثري الجلي الساطع، يمكن اعتبارها ميزات ومواهب موروثة، فإن من سلفه الذين حملوا اسم هكسلي أفرادا(666/17)
كانوا من جبابرة العقول في القرن التاسع عشر بإنكلترا.
ولد في 26 يوليه سنة 1894، وكان الابن الثالث لليونارد هكسلي وجوليا آرنولد. أما أبوه، الذي ولد سنة 1860، فكان ابن توماس هنري هكسلي العلم الذي بذل أعظم الجهد في تقريب مذهب داروين من عقول عامة الشعب. وأما أمه فكانت ابنة أخ ماثيو آرنولد، مؤلف (رستم وسهراب) وغيرها من القصائد الكثيرة، ومؤلف (الثقافة والفوضوية) وغيره من كتب الأدب النقدي الرائع. وكانت أيضا حفيدة توماس آرنولد القسيس والناظر المشهور لمدرس ركبي الذي أدخل إصلاحات كثيرة على نظام المدارس العامة الإنكليزية.
كانت البيئة التي نشأ فيها ألدوس هكسلي بيئة تهذيب وثقافة كما كان أجداده رجال تهذيب وثقافة. عين أبوه أستاذا مساعدا لليونانية في جامعة سنت أندروز ولما يتجاوز عمره الثالثة والعشرين ثم صار رئيسا لتحرير مجلة وهي من أبرز المجلات الإنكليزية. وقد احتفظ بهذا المنصب سنوات كثيرات، كما عين مستشارا أدبيا لشركة الطبع والنشر سميت والدر. وفي سنة 1872 تزوجت خالته ماري , غاستا آرنولد بالناقد والمحرر توماس همفري وارد، وكانت من أبرز كاتبات الروايات في عصرها. وروايتها (روبرت الزمير التي نشرت في سنة 1888، قد نالت الشهرة في كل أنحاء أوربا وأميركا.
وفي قصة (التاريخ الهزلي لرتشارد جرينو)، وهي من القصص الأولى لألدوس هكسلي، إشارة إلى تلك الرواية المشهورة التي كتبتها خالته، إذ يصف البطل بأنه (قد قرأ المجلدات الثلاثة لرواية روبرت إلزمير وابتلعها ابتلاعا وهو بعد في الثامنة من عمره). فقد استمرت المسز همفري وارد تكتب سنوات كثيرات، وظهرت روايتها الأخيرة في سنة 1920، وهي السنة التي توفيت فيها. وكان زوجها الناقد هو الذي خول ألدوس هكسلي فرصة نشر مقالاته النقدية الأولى، إذ طبعت في مجموعة منتخبات شعرية إنكليزية نشرها ت. هـ. وارد في سنة 1918.
هكذا ورث ألدوس هكسلي العلم عن أسرة والده والأدب عن أسرة والدته، فليس عجيبا أن يصير أديباً، ولا أن تتجلى الروح العلمية في أدبه بصور شتى. بل إنه حين كان صبيا أراد أن يتخذ العلم مهنته، مثل أخيه الأكبر جوليان، العالم البيولوجي العظيم. ولكن عينيه أصيبتا بمرض حال بينه وبين عمله العلمي ثلاث سنوات. وتلك السنوات الثلاثة أكسبته(666/18)
هذه النظرة المستقلة إلى الحياة التي تلاحظ في الكثير من كتاباته.
تعلم ألدوس هكسلي في إيتون، ثم ذهب كأبيه إلى كلية باليول بأكسفورد. وقد أحب كلا المعهدين. فهو يقول (إن ذهني من النوع الذي يحب التدريب المدرسي ويقبله قبولا تاما. فأنا ثقافي بولادتي، ذم ميل إلى الأفكار وصدوف عن النشاط العملي، ولذلك شعرت بالراحة والاطمئنان في الظلال المدرسية) وقد أحب أكسفورد حبا خاصا إذ تركت له هناك حريته الكاملة في أن يعمل كما يشاء، وكان معنى ذلك أنه أقبل على قراءة كل شيء، وفضل ذلك على مجرد تدوين الملاحظات أثناء سماع المحاضرات. فهو يقول (أما أنا فأني لم أستمع قط إلى أكثر من محاضرتين في الأسبوع).
أما في البيت فقد نشأ على حب شعر وردزورث وفلسفته، وآراء رسكن في الجمال والفن. يقول ألدوس: (لما تقوضت أركان الكثير من العقائد الدينية المتزمتة، صار الكثير من الأسرات الذكية ذات الفكر المتسامح يعتبر شعر وردزورث إنجيل ذلك النوع من الحلولية، ذلك الاعتقاد المبهم بوجود عالم روحي، الذي ملأ - إلى حد غير كاف - الفراغ الذي كانت تشغله العقائد القديمة. وحين كنا أطفالا ربينا على التقليد الوردزورثي، وغرس في قلوبنا الاعتقاد بان جولة بين التلال يوم الأحد تعادل بكيفية ما الذهاب إلى الكنيسة).
ومن قصتي هكسلي الأوليين، المليئتين بالتهكم والهزل، سنة 1920، سنة 1922، ومن روايته الأولى سنة 1921، يتبين رد فعل الذي قابل به جو الوقار الأخلاقي الرفيع الذي فيه نشأ. ففي شبابه كان بطبيعته الذهنية حذرا، متشككا، غير ميال إلى الغلو الأخلاقي، ولكنه تحت ظاهره المتهكم الساخر قد احتفظ دائما بعنصر جاد لا يقل وقارا ورصانة عن ماثيو آرنولد نفسه. وقد أخبرني مرة قائلا: (في قصصي المبكرة كنت أيضاً أرد على الناحية المتزمتة المتفيهقة من نفسي).
وكانت أهم المؤثرات في تطور أسلوبه المبكر كتابات الأدباء الفرنسيين في آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، وخاصة رمبو، ولافورج، وأناتول فرانس، وقد أخبرني في سنة 1953 قائلا: (أظن أن لافورج ذو شأن للمراهق، ولكني حين قرأته من وقت قريب لم أشعر له بإعجاب زائد. وأناتول فرانس. . . لقد كنت في وقت ما أظن أن تهكمه هو قمة الذكاء والبراعة). وقد مال أيضا إلى كتابات ريمي دي جومون، وخاصة بسبب(666/19)