في وهمه أن (الإمام) قيده وأقعده عن الحركة.
وقد أصرت زوجتي يومئذ - رحمها الله - على أن تصنع (خبزاً وفولا) لفقراء (الإمام)، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلم أعترض. وكيف كان يقبل مني اعتراض؟
إبراهيم عبد القادر المازني(642/4)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 13 -
ج 18 ص 39: قال محمد بن بركات السعيدي يخاطب أبا القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت البوصيري الأنصاري:
فله أوامر من حجاه حكيمة ... وله زواجر من نهاه
يقظان من فهم لكل فضيلة ... بنباهة جلت عن الأشباه
علامة ما مشكل مستبهم ... خاف عن الإفهام عن أساه
وجاء في الشرح: هكذا بالأصل وترى الشطرين الثانيين من البيتين الأول والثالث ليسا بالتامين إذ الأبيات من بحر الكامل.
قلت: وله زواجر من نهاه نواه:
علامة ما مشكل مستبهم ... خاف عن الإفهام - عنه بساه
ج 19 ص 301
وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
قلت: في اللسان والتاج: تقول: هذا رجل سوء بالإضافة وتدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجل السوء، قال الفرزدق بالفتح والإضافة: (وكنت كذئب السوء. أبيت) ولا يقال: هذا رجل السوء بالضم لأن السوء بالضم اسم للضر وسوء الحال. وإنما يضاف إلى المصدر الذي هو فعله كما يقال رجل الضرب والطعن فيقوم مقام قولك: رجل ضراب وطعان، فلهذا جاز أن يقال رجل السوء بالفتح، ولم يجز أن يقال: هذا رجل السوء بالضم. والسوء مصدر سؤته أسوأه سوءاً، وأما السوء فاسم الفعل.
قلت: ولبيت الفرزدق قصة، إن صحت فقد حرمه الله إياه؛ ففي أغاني أبي الفرج: عن الوليد بن هشام عن أبيه قال: أنشدني الفرزدق وحماد الراوية حاضر (وكنت كذئب السوء) فقال له حماد: آنت تقوله؟ قال: نعم، قال: ليس الأمر كذلك، هذا لرجل من أهل اليمن، قال:(642/5)
ومن يعلم هذا غيرك أفأردت أن أتركه وقد نحلنيه الناس ورووه لي لأنك تعلمه وحدك، ويجهله الناس جميعاً غيرك.
ج 1 ص 213:. . . والذي يأخذه من السلطان ينفقه في أهل طرسوس (المجاهدين).
قلت: في معجم البلدان: بفتح أوله وثانيه ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر لأن فعلول ليس من أبنيتهم.
قلت: قال المتنبي وقد سكن ضرورة:
صدق المخبر عنك، دونك وصفه، ... من بالعراق يراك في طرْسوسا
قال لي الأديب الكبير الأستاذ شفيق جبري: (من بالعراق يراك في طرسوسا) هذا (شهود البعيد) الذي ابتدعه هؤلاء العفاريت في هذا الزمان أو كما قال.
ج 19 ص 149: وله (لمظفر بن إبراهيم العيلاني):
يا نائما أسهرني حبُّهُ ... وعائداً أمرضني طبُّهْ
وخادعا رقّ لحبي له ... كلامه وقسا قلبه
قلنا على حسنك عيني جنت ... جثماني الناحل ما ذنبه؟
قلت: إما (حبهْ وطبُّهْ) والبيت مصرع. وإما (حبهُ وطبهُ وقلبهُ وذنبهُ).
وعجز البيت الثاني هو (كلامه لي وقسا قلبه) والشعر من بحر السريع.
ج 16 ص 34: وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فتعرف بركتها.
قلت: بروات أو برايات. في مستدرك التاج. البروة نحاتة القلم والعود والصابون ونحو ذلك. وفي اللسان: البراية النحاتة وما بريت من العود.
ج 5 ص 199: (أسامة بن مرشد بن منقذ):
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل ... طلق وقلبي كئيب مكمد باك
وراحة القلب في الشكوى ولذَّتُها ... لو أمكنت لا تساوي ذلة الشاكي
قلت: (في الشكوى ولذتها).
ج 18 ص 123: كان للرواسي (محمد بن الحسن) امرأة من أهل النيل، تزوجها بالكوفة وانتقلت إليه من النيل وشرطت عليه أنها تلم بأهلها في كل مدة، فكانت لا تقيم عنده إلا(642/6)
القليل، ثم يحتاج إلى إخراجها وردها، فمل ذلك منها وفارقها وقال فيها:
بانت لمن تهوى حمولُ ... فأسفت في أثر الحمولٍ
اتبعتهم عينا عليهم ... ما تفيق من الهمول
ثم أرعويت كما ارعوى ... عنها المسائل للطلول
لاحت مخائل خُلفِها ... وخلافُها دون القبول
ملَّت وأبدت جفوة ... لا تركنَنَّ إلى ملولِ
قلت: بانت لمن تهوى حمولٌ:
لاحت مخايل خلفِها ... وخلافِها دون القبول
ج 16 ص 249:. . . لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تماسكه في ذلك وتضايقه. وظني بأن الله سوف يريك.
وجاء في الشرح: تماسكه: تشاحه وتظلمه.
قلت: (وظني بأن الله سوف يديل) الأساس: أدال الله بني فلان من عدوهم: جعل الكرة لهم عليه. وفي الصحاح: الأدالة الغلبة، اللهم أدلني على فلان وانصرني عليه، و (تماسكه): تشاكسه.
ج 18 ص 144: وكان شليمة أولا مع العلوي صاحب الزنج ثم صار إلى بغداد.
وجاء في الشرح: (الزنج) بضم الزاي مشددة: قرية من قرى نيسابور.
قلت: الزنج بفتح الزاي وكسرها - الجيل المعروف، والعلوي المذكور هو على بن محمد الثائر على العباسيين في خلافة المعتمد.
ذكره أبو العلاء في (رسالة الغفران) فقال:
(وأما العلوي البصري فذكر بعض الناس أنه كان قبل خروجه يذكر أنه من عبد القيس ثم من أنمار، وكان اسمه أحمد فلما خرج تسمى عليا، والكذب كثير جم، وتلك الأبيات المنسوبة إليه مشهورة وهي:
أيا حرفة الزمني، ألمّ بك الردى ... أما لي خلاص منك والشمل جامع؟
لئن قنعت نفسي بتعليم صبية ... يد الهر إني بالمذلة قانع
وهل يرضين حر بتعليم صبية ... وقد ظن أن الرزق في الأرض واسع(642/7)
وما أمنع أن يكون حمله حب الحطام على أن غرق في بحر طام).
وقد صيغ في (النهج) في (صاحب الزنج) هذا القول:
(يا أحنف، كأني به سار الجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام (قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى يومي بذلك إلى صاحب الزنج ثم قال عليه السلام) ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم. . .).
قال ابن أبي الحديد في شرحه:
قوله لا يندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا لدهاقين البصرة وبناتها، ولم يكونوا ذوى زوجات وأولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزاباً فلا نادبة لهم. وقوله ولا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده. فأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرأت البصرة في سنة (255) رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصاً الطالبيين. وجمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس وأنه علي بن محمد بن عبد الرحيم وأمه أسدية. ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والألحاد، وهذا هو الظاهر من أمره لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم والسحر والاسطربالات. وكان حسن الشعر مطبوعا عليه، فصيح اللهجة، بعيد الهمة، تسمو نفسه إلى معالي الأمور، ولا يجد إليها سبيلاً، ومن شعره:
وإذا تنازعني أقول لها قرى ... موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قُضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
ومنه:
إني وقومي في أنساب قومهم ... كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما عُلّق السيف منا بابن عاشرة ... إلا وعزمته أمضى من السيف
وكانت بينه وبين عمال السلطان وقواده حروب عظيمة ووقعات كثيرة، وكانت سجالا تارة(642/8)
له وتارة عليه، وهو في أكثرها المستظهر عليهم. وكثرت أموال الزنج والغنائم التي حووها من البلاد والنواحي، وعظم أمرهم، وأهم الناس شأنهم، وعظم على المعتمد وأخيه أبي أحمد خطبهم، واقتسموا الدنيا فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج وإمامهم مقيما بنهر أبي الخصيب قد بنى مدينة عظيمة سماها (المختارة) وحصنها بالخنادق. واجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهي العدد والحصر إليه رغبة ورهبة، وصارت مدينة تضاهي سامرا وبغداد، وتزيد عليهما، وأمراؤه وقواده بالبصرة وأعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده إلى أن دخلت سنة (267) وقد عظم الخطب وجل، وخيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض، فلم يجد أبو أحمد الموفق وهو طلحة بن المتوكل على الله بدا من التوجه بنفسه ومباشرته هذا الأمر الجلل برأيه وتدبيره وحضوره معارك الحرب. وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى وإنما المعتمد صورة خالية من معاني الخلافة لا أمر له ولا نهي ولا حل ولا عقد، وأبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء والكتاب، ويقود القواد، ويقطع الأقطاع، ولا يراجع المعتمد في شيء من الأمور أصلا. وبحق ما سمى المنصور الثاني، ولولا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته ولكن الله ثبته لما يريد من بقاء هذه الدولة).
وكان (صاحب الزنج) مشعوذاً كبيراً. روى الطبري في تاريخه:
ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن (صاحب الزنج) قال في بعض أيامه لقد عرضت على النبوة فأبيتها. فقيل له: ولم ذاك؟ قال: إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها. . .
وذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها أني لقيت سوراً من القرآن لا أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها (سبحان والكهف وصاد) ومن ذلك أني ألقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له وأجعل مقامي به إذ نبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة. . .
وجاءه رجل يهودي خيبري يقال له (ماندويه) فقبل يده، وسجد له - زعم شكراً لرؤيته إياه(642/9)
- ثم سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله عن علامات في بدنه، فذكر أنه عرفها فيه. فأقام معه ليلته تلك يحادثه. . .
لما كان في شوال من هذه السنة (207) أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر، فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول. اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت فقيل لي: إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده.
قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعاء، وسجدت، وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى البصرة فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفاً في الهواء قد خفض يده اليسرى ورفع يده اليمنى يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكي عنها. وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. . .
قال الطبري: وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة (255) وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة (270) فكانت أيامه من لدن خروجه إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام. وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة (256) وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة (257).
قلت: ومما قاله ابن الرومي في خطب البصرة في ميميته المشهورة:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغلُها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعد ما حل بالبصرة ... ما حل من هنات عظام
أي نوم من بعد ما انتهك الزنج ... جهاراً محارم الإسلام(642/10)
دخلوها كأنهم قطع الليل ... إذا راح مدلهم الظلام
كم أب قد رأى عزيز بنيه ... وهو يُعلى بصارم صمصام
كم رضيع هناك قد فطموه ... بشبا السيف قبل حين الفطام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أضرم القلب أيما إضرام
رب بيت هناك قد أخربوه ... كان مأوى الضعاف والأيتام
رب قصر هناك قد دخلوه ... كان من قبل ذاك صعب المرام
عرّجا صاحبيَّ بالبصرة الزهراء ... تعريج مذنف ذي سقام
فاسألاها ولا جواب لديها ... لسؤال ومن لها بالكلام
أين تلك القصور والدور فيها ... أين ذاك البنيان ذو الأحكام
بدلت تلكم القصور تلالا ... من رماد ومن تراب ركام
بل ألِمَا بساحة المسجد الجامع ... إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه ولا جواب لديه ... أين عبّاده الطوال القيام؟
انفروا أيها الكرام خفافا ... وثقالا إلى العبيد الطغام
صدقوا ظن اخوة أملوكم ... ورجوكم لنوبة الأيام
إن قعدتم عن اللعين فأنتم ... شركاء اللعين في الآثام
وقال البحتري في مدح الموفق:
وما كان يدري صاحب الزنج أنه ... إذا أبطرته غفلة العيش صاحبه
وكان شفاء صلبه لو تألفت ... له جثة يُريٍ بها العين صالبه
تعجل عنه رأسه وتخلفت ... لطيبتها أوصاله ومناكبه
جبابرة الأرض استكانت لضربة ... أرت قائمَ النهج الذي ذاق ناكبه
محمد إسعاف النشاشيبي(642/11)
قصة:
هذيان مجنون!
للأستاذ علي الطنطاوي
ذهبت منذ أيام أزور (المستشفى الإسلامي) الكبير، الذي تعاونت على إنشائه الجمعيات الإسلامية الأربع في دمشق (الغراء، والهداية، والشبان، والتمدن)، فوجدته شيئاً عظيما يرفع الرأس، بناء ضخما يطل على الربوة من هنا ويشرف على سهل المزة من هناك، قد قام حيث كانت تقوم تلك (القلاع العادية)، فكان من تمام نعمة الله علينا به أن تخير له هذا المكان، فأبدلنا بعمارات الموت، وبنايات البلاء، تلك القلاع، هذا المستشفى، بيت الصحة، ودار الشفاء. . .
وجعل المدير، وهو شاب مسلم رضي الخلق، واسع الخبرة، يدور بي في المستشفى، ويمر بي على شعبه، حتى إذا وصلنا إلى جناح الأمراض العقلية قال لي:
- إن هاهنا مريضاً يلح علينا أن ندعوك إليه، وهو لا يفتأ ينادي باسمك ويرجو أن يراك. . .
قلت: ومن هو؟ وما شأنه بي؟
قال: هو شاب مصاب بنوع من الهستريا (الجنسية)، وهو يزعم أنه تلميذك، وأنه وثيق المعرفة بك
فلم أحب أن أخيب رجاءه، وإن كنت لا أدري ما أصنع له، وانطلقت مع المدير حتى دخلت عليه، فإذا هو شاب حديث السن، شاحب اللون، بادي الضعف، شارد النظرات مسجى، لا يبدو منه إلا وجهه، فتاملته. . . فإذا هو قد كان تلميذاً لي، وإذا أنا أعرفه، فسلمت عليه فرد السلام، وابتدرني فقال لي:
- أنت أستاذي، وإني أرتقب مجيئك. إن لي إليك حاجة
فقلت: مقضية إن كنت أقدر عليها
فظهر على وجهه خيال البشر، ولاحت على شفتيه ظلال ابتسامة. . . وقال:
- لقد نعشتني وبشرتني، إن الذي أريده منك، هو أن تعي حديثي وتنشره في الناس، أفلا تقدر على ذلك؟(642/12)
قلت: بلى، أقدر إن شاء الله. . .
قال: إنه خبر لا يكاد يصدقه أحد، ولكني أحلف لك أنه واقع، وإذا شككت فاسأل القرية، أتعرف قرية (الجمالية)؟
قلت: ما سمعت باسمها إلا الآن!
قال: لقد أردت أن أبتعد عن مرابع المصطافين ومواطن الازدحام إلى بلد أطلق فيه نفسي على سجيتها، لا أقيدها بقيد عادة ولا واجب مجاملة، فأممت بحيرة (العتيبة)، ثم صعدت (جبل عيرام)، حتى بلغت هذه القرية المختبئة في كنف واد عميق لا يصل البصر إلى قرارته، يجري في بطنه نهر (العامون) متحدراً هائجاً يقفز من صخرة إلى صخرة، فيكون له دوي وخرير، ويعلوه الزبد فتراه من خلال الأشجار، وأنت في القرية، كأنه البلور المذاب، إذا كنت قد رأيت في زمانك بلوراً مذاباً؛ يحمي هذا الوادي المسحور جبلان عاليان تنطح ذراهما النجم، وقد لبست سفوحهما وحدورهما ثوباً من الشجر أخضر، توارت خلاله هذه القرية. . .
واتخذت فيها داراً سلخت فيها شهراً من شهور الصيف، لم أعرف السعادة إلا فيه، ولم أدر حتى عشته ما لذة العيش وما الاطمئنان، فلقد كنت أغدو مع النور فأصعد في الجبل أحيي الشمس البازغة حين تشرق على الدنيا، وأهبط الضحى إلى بطن الوادي فأتخذ لي مكاناً على صخرة عالية، أو أقعد على حافة النهر الفياض. وكنت في أكثر الأيام أضع طعامي في سلة وأرتاد المرابع، فحيثما استطبت المكان أقمت. وكنت أحمل معي كتاباً أقرأ فيه مرة، وفي مصحف الكون أخرى، فأمتع النظر بأعجب المشاهد وأبهى المرائي، ثم أروح العيشة إلى داري، وقد طفحت نفسي بصور الجمال، وفاض جسمي بالعافية. . .
. . . حتى جاء ذلك اليوم الذي صب في كأس حياتي العلقم!
لقد صعدت في الجبل على عادتي حتى جاوزت حدود القرية، وقاربت ينبوع (البارة)، وبلغت الغابة المهجورة التي تطيف به، فما راعني إلا الحجارة تتساقط حولي كأنها المنجنيق، تنزل دراكاً نزول رصاص الرشاشات، فحرت لحظة، ثم وليت هارباً أعدو ما أطقت العدو، حتى وصلت إلى صخرة فاحتميت بها، فجعلت أنظر: ما خبر الحجارة! فأسمع قهقهة مرعبة. . . فأحسب أنها الجن تروعني. . . ثم أرى امرأة تخرج من بين(642/13)
أشجار الغابة، وتسير حذرة تتلفت، فلما صارت قريبة مني، رأيتها وهي لا تراني؛ فإذا هي فتاة سمراء محلولة الشعر، ذات جمال يروع الناظر ويأسر القلب، لها عينان سوداوان واسعتان. . . إذا نظرت بهما إليك أحسست بهما في الفؤاد، وجسم ممشوق قد لوحته الشمس، وما عليها إلا أسمال بالية لا تكاد تستر إلا الأقل منها، فكأنما جسمها فيها البدر قد حجبته قطع من المزن الرقراق. لها كتفان مدورتان ممتلئتان، وثديان ما فهمت قبل أن أراهما كيف يكون الثديان كالرمانتين حقاً، وصدر رحب كأنه خلق مهداً للحب، وساقان وفخذان لا أحب أن أؤذيك بوصف فتنتهما وجمالهما. . .!
وقد وقفت كالغزال المذعور، لا أقولها كما يقولها الأدباء المقلدون، بل أنا أعني ما أقول، ولا أجد صفة هي أدنى إليها وأعلق بها. . . وجعلت تنظر حواليها. . . فلما اطمأنت ألقت حجارتها التي كانت تحملها، وقعدت على الأرض. ونظرت إليها، فإذا ذلك الغضب الفاتن يسقط برفق عن وجهها ويسدل عليه نقاب من الألم، الألم العميق الذاهل، فازدادت به جمالا حتى لقد تخيلتها في قعدتها تلك تمثالا للجمال الحزين قد افتنت فيه يدا عبقري وعقله. . . فخرجت من مكاني وسرت إليها متلصصاً أسارق الخطو حتى إذا كدت أن أصل إليها وأضمها، أحست بي فوثبت وثبة ابتعدت بها عني، ثم عدت تلقاء الغابة. . .
. . . وجعلت أرتاد هذا المكان كل يوم، أفتش عنها وأطلبها حتى أنست بي واتصل بيننا الحديث. . . فسمعت لهجة فتاة ليست من بنات القرى، ولا من الجاهلات، ولكن حديثها حديث المجانين. . .!
سألتها ما شأنها، وأحببت أن أعرف خبرها، فكانت تجيبني بكلام لا يعقل:
قالت: إني أفتش عليه، لقد دخلت المدن، وولجت المدارس، وبحثت في القصور، وطفت الملاهي، وتهت في البراري، وضربت في الجبال، وجست خلال الخرائب، وسريت وحيدة، حيث لا تجرؤ النسور أن تطير. . . كل ذلك أملاً بلقائه!
قلت: بلقاء من؟
قالت: بلقائه. . . إني أحس بصوته أبداً يرن في أذني، وأرى حينما سرت عينيه، وألمس أبداً جلده الدافئ، فأشعر كأن الكهرباء تسيل في عروقي، ويطفر شيء إلى عيني ولكنه يحتبس فلا أستطيع أن أبكي. . .(642/14)
قلت: منذ كم فارقته؟ وهل مات أو سافر؟
قالت: أنت مجنون. . . ما فارقته قط ولا اتصلت به، هو معي إذا قمت، ومعي إذا نمت، أبكي لآلامه، ويبتسم هو للذيذ أحلامي، ويغضب فيخفق قلبي، ويأكل فتذهب جوعتي، ولكني لا أقدر أن أضمه إلي، ولا أستطيع أن ألمسه بشفتي!
ولو لم تكن أعمى لرأيته، إن رياه في عبق كل وردة، وصوته في كل أغنية، وصورته في صفحة البدر، وصفاء الينبوع، وخضرة الروض. . .
قلت: فمتى عرفته؟
قالت: مذ كان لي قلب، لقد همت به منذ وجدته في فكري، وقد ملأ علي نفسي، ولكني لا أدري أين يقيم، إني أراه في اليوم على ألف شكل، أرى في الرجل يمر بي عينيه، وأرى في آخر قامته، وربما استحال معنى من المعاني أحس به ولا أملك التعبير عنه. . .
قلت: فمن يدلك عليه؟
قالت: قلبي، ألا تفهم، أليس لك قلب؟ دلني على خفقانه، هو الجمال كله، فكل ما أرى من الجمال جماله. . .
ثم سكتت وأرخت أهداب عينيها، وغابت في ذهلة عميقة، فدنوت منها وضممتها إلي وأرحت ذينك النهدين على صدري، فاستجابت لي وتعلقت بي، ووضعت قلبها في شفتيها، ووضعت قلبي على شفتي، ثم ذقت منها قبلة، ما أظن أن إنساناً ذاق مثلها.
ولكنها انتفضت فجأة، وألقت برأسي على صخرة، فشجته وانطلقت لا تلوى على شيء، ثم لم أرها. . . وإن لم تغب خيالتها عن عيني. . .
ولما خرجنا من حضرة المريض قال لي مدير المستشفى:
لا تصدق كلمة مما قال، إنه هذيان مجنون لم يقع منه شيء!
قلت: إن آخر ما يهتم به الأديب، أن يقع الحادث أو لا يقع، أني أكتب قصة لا تاريخاً، وحسبي ما في قصته من جمال الوصف، وإن لم يكن لها مغزى، وإن كانت هذيان مجانين. . .
قال: شأنك. . . أنت أدرى به!
علي الطنطاوي(642/15)
الذرة في الصناعة
للأستاذ خليل السالم
بعد انفجار القنبلة الذرية وحين كان صداه يرن في الأسماع، اتفق رأي الرجال الذين صفت نفوسهم ونبلت مقاصدهم بالإجماع على أن الأشياء يجب أن تنتظم لئلا يسمح لهذه الآلة المرعبة أن تستعمل في الأغراض الحربية؛ ومعنى هذا الحيلولة دون نشوب حرب جديدة. وفي الوقت عينه حارت الأسئلة على الشفاه: ما هي أغراض الخير في الكشف الجديد؟ وكيف تذلل الطاقة الكامنة في نواة الذرة لتستغل في الأغراض الصناعية؟
يختلف انطلاق الطاقة الذرية كما أفضت إليه أبحاث العلماء عما تتطلبه الصناعة من ناحيتين: الأولى أنه أغفل حساب النفقات، والثانية أن انبعاث الطاقة وقتي ومفاجئ جداً. فقد بلغت النفقات نحو نصف مليار جنيه، واشتغل في إنتاج القنبلة (125) ألف عامل لا يزال في العمل منهم (65) ألفاً بينهم نفر كبير من أفضل الأدمغة العلمية في العالم. وإنه وإن كان تقدير الطاقة المتاحة متعذر لقلة الأرقام المرشدة إلا أننا سنعطي بعض التقديرات التقريبية.
تحطم نواة الراديوم تحطيماً عضوياً تدريجياً، وتمر بها ثمانية أدوار قبل أن تتحول إلى ذرة من الرصاص، وتنطلق الطاقة الكامنة المخزونة فيها خلال هذه الأدوار فتساوي الطاقة المتحررة من أوقية راديوم الطاقة الناتجة من حرق 300 طن فحم حجري. قد تختلف هذه الطاقة عن طاقة أوقية من القنبلة الذرية ولكنها بدون شك من نف الرتبة. فإذا فرضنا أن معامل القنبلة الذرية قد أنتجت 100 باوند من العنصر الفعال تكون هذه المبالغ والجهود المنفقة قد قدمت لنا طاقة نصف مليون طن من الفحم الحجري. وعلى هذا المعدل نخسر اقتصاديا كيفما كانت أشكال استثمار الطاقة. حتى لو كان تقديرنا بعيداً عن الدقة إلا إنه يضعنا أمام مشكلة اقتصادية حقيقية.
ثم إن قوة القنبلة الذرية في التدمير والتخريب تعود في أقوى أسبابها إلى انطلاق الطاقة الفجائي. وقد لا تزيد هذه الطاقة عن طاقة بضعة ألوف من أطنان الفحم إلا أن ظهورها في مكان واحد خلال جزء بسيط من الثانية يبعث في الجو حرارة وضغوطاً موضعية هائلة تثير موجة عاصفة تكتسح كل ما يقف في طريقها.(642/17)
وليس شرطاً أن تكون الطاقة عظيمة، فمثلها مثل الطفل الذي يحرك ذراعيه وساقيه عاماً بطوله ولا يكن أي خطر من بذل طاقته بهذا الشكل، ولكن لو تركزت جميع حركاته في ضربة واحدة لقتلت أقوى رجل على الأرض.
هذا التركيز في الزمان والمكان الذي يساوق انطلاق الطاقة من القنبلة الذرية أمر مرغوب فيه عندما يقصد التدمير والهدم، وهو سيئ مزعج في الصناعة، فتنحصر مشكلة المستقبل إذن في السيطرة عليه وضبطه.
ويجدر بنا قبل تناول هذه المشكلة بالبحث أن ننظر فيما حصله العلماء حتى اليوم:
أكتشف (بكرل) القوة الإشعاعية في اليورانيوم سنة 1896 وبعد ذلك ببضع سنوات استفرد آل كوري من اليورانيوم العنصر الأكثر فعالية وهو الراديوم. وسريعاً ما عرف أن الأخير يعطي قدراً من الطاقة ناقضاً بذلك كل النظريات القديمة. وانتظر البحث حتى سنة 1912 عندما وضع رذرفرد نظرية جديدة عن بناء الذرة، وبرهن بالتجربة على أن للذرة نواة صغيرة وصغيرة جداً بالنسبة للذرة نفسها التي لا تزيد أبعادها عن جزء من مائة مليون جزء من البوصة، وتكمن في هذه النواة كل كتلة الذرة وحولها تدور الكهارب (الإلكترونات). ففي الذرات الثقيلة، كذرات الراديوم مثلا، تنشطر الذرة من تلقاء نفسها، أو تتحطم كما يقول العلماء، وتقذف دقائق مع قدر من الطاقة المخزونة في النواة.
فالراديوم يعطي الطاقة من تلقاء نفسه ولكن ببطيء شديد. وليس لدينا إلا قدر ضئيل من العنصر نفسه.
أما الخطوة الثانية فقد خطاها رذرفرد وتلاميذه، ونخص بالذكر العلامة السر جيمس شادويك، إذ تبين أن قذف نوى العناصر بدقائق ألفا السريعة يغلق النوى ويحولها إلى نوى لعناصر جديدة. فاستعملت قذائف أخرى؛ وفي بعض الأحيان تحررت الطاقة النووية؛ إلا أن طريقة رذرفرد هذه لم تؤثر إلا في الذرات المفردة، وتم العمل في نطاق ضيق، وحرارة الطاقة المنطلقة لم تزد عن حرارة شرارة. بعدها أصبح انطلاق الطاقة ممكناً نظرياً؛ وبرغم أن فلق ذرات قليلة استلزم جهداً عظيما فإن لذة العلماء بالبحث كانت نظرية بحثه أكثر منها عملية تطبيقية.
وفي سنة 1939 أحدث العلماء نوعاً جديداً من التغير النووي. ولا يمكن أن يعزى الفضل(642/18)
إلى شخص واحد دون غمط حق الآخرين وفضلهم. . . فكانت القذائف هي النيوترونات. . . فانفلقت ذرة اليورانيوم إلى شطرين أو أكثر، وسميت هذه العملية بالانقسام النووي ونتج عن الانشطار نيوترونات جديدة ظن أنها تستطيع تحت ظروف مناسبة أن تشطر ذرات أخرى. . . فأي عدد ضئيل من الانقسامات الأصلية سيفضي إلى سلسلة طويلة متتابعة تهشم كل ذرات الكتلة كالنار المشتعلة التي تلتهم كل ما حولها. وحققت الأبحاث الأخيرة هذا الظن وأثبتت التجارب صحته.
لم تنجح التجارب الأولى لأن لليورانيوم ثلاثة اصناء (جمع صنو). خواصها الكيميائية متماثلة ولكنها تختلف في أوزانها الذرية، ويدعو رجل العلم هذه الأصناء (النظائر). ولمحض الصدف اكتشف أن نظيراً واحداً مقداره أقل من 1 % من اليورانيوم الطبيعي تتأثر ذراته، أما ذرات النظيرين الآخرين فلا تتأثر، وأكثر من هذا أنها تقف في طريق التفاعل وتقطع السلسلة. فكان الواجب الباهظ الملقى على أكتاف العلماء في أمريكا هو عزل هذا النظير المطلوب (يورانيوم 135).
وهكذا يتلخص تاريخ ما وصلنا إليه في خطوات ابتدأت باكتشاف المواد التي تنقسم نواها من تلقاء نفسها، ثم تهشيم بضع ذرات هنا وهناك في مجموعة من ملايين ملايين الذرات، ثم فلق النواة إلى شطرين يصاحبه تحرير الطاقة. ثم تحضير مادة ما يكاد يبتدئ انشطار الذرة فيها حتى يجري سريعاً من ذرة إلى أخرى كالنار المندلعة في مدينة خشبية.
وسريعاً ما يلحظ أنه لا فرق كبيراً بين تحطيم بعض الذرات بعد بذل جهود مضنية كبيرة وتحطيم عدد كبير منها في انفجار واحد متسلسل. فكأنه المتفجرات التي لا تتأثر إذا أصيبت برفق، وتنفجر ملتهبة إذا أصيبت بعنف. ولكن لا تستطيع أن تفرض عليها الاحتراق البطيء لتعطي طاقتها بطريقة مضبوطة مقيدة
وحتى الآن لم يبذل أي جهد لحل المشكلة الماثلة. فلا يمكننا تخفيف نظير اليورانيوم 235 من السيطرة على التفاعل كما يبدو لأول وهلة، ذلك أن النظائر الأخرى تكبح انطلاق الطاقة الذاتي. وتقترح طريقة أخرى نفسها علينا: هي سحق اليورانيوم الفعال إلى حبيبات دقيقة ناعمة نعلقها في الهواء أو في سائل ما وعندئذ يقتضي ترتيب هذه الحبيبات لتنفجر واحدة أو قليل منها فقط في آن واحد. وقد يستعصي امتلاك الطاقة في هذه الحالة أيضاً.(642/19)
ذلك أن انطلاق طاقة يمكنها تبخير قدر كبير من الماء لحظة واحدة يضع في وجه المهندس الفني مشاكل معقدة متعددة. أضف إلى ذلك أن الإشعاعات التي تتحرر كما تتحرر الحرارة من ذبذبات الانشطار المتكرر بين جزئي النواة مجهولة الأثر في معدن الآلة التي تحتوي على العنصر الفعال.
تدور في ذهني مجالات استخدام الطاقة الذرية بعد السيطرة عليها فأرى منها تدفئة المنازل وتوليد البخار والحصول على انفجار معتدل في أسطوانة كما في آلة الاحتراق الداخلي، واستعمال عاصفة القوة في محركات الدسر أو تدوير المراوح. . . وفي كل هذه الإمكانيات يجب الحصول على قدر ضئيل من العامل المتفجر ثم توزيع الطاقة الموضعية المنطلقة حتى يكون مقدارها عملياً في حيز محدود دون أن تحدث كارثة.
ومن يدري فربما يجيء استثمار الطاقة عن طريق أخرى. فمنذ 300 سنة اكتشف البارود أول متفجر حربي، وبذلت محاولات جمة لتشغيل آلة بقوته ولكنها فشلت، غير أن هذا لم يحل دون أن يستعمل نوع آخر من المتفجرات لتسيير كل آلات الاحتراق الداخلي وهو مزيج من بخار البترول والهواء أو ما يشبه المزيج لأننا نستطيع ضبطه والتحكم فيه بسهولة، فمن الممكن أو المؤكد، كما يخيل لبعض الناس، أننا سنكتشف تفاعلات ذرية تستمر وتمتد بنفسها وتكون السيطرة عليها والتصرف بها أكثر سهولة ويسراً.
نحن أمام كيمياء جديدة ستبتدئ. فالكيمياء القديمة المعروفة في الكتب المدرسية تبحث الذرات واتحاد الذرات كاملة غير مجزأة. أما الكيمياء الجديدة فستبحث نوى الذرات وبنائها وفلقها. ومع أن عدداً قليلا من الدقائق يكمن في نوى الذرات إلا أن سلوكها فرع جديد من العلم. وسترى السنون القليلة المقتبلة نتائج مدهشة جديدة باهرة.
ليست مشكلة استثمار الطاقة الذرية جديدة إذ انطوت عليها أدمغة العلماء منذ أن بين رذرفرد وأتباعه أن النواة مخزن للطاقة ينتظر طرق التحرير المناسبة.
وفي سنة 1927 كتبت (إن دراسة النواة كيمياء وفيزياء جديدتان نطرق بابهما اليوم. . . حقيقة هذا العلم يبحث أصغر الأجسام التي يتصورها العقل. ولكنه سينتج منبعاً للطاقة يبذ كل مناجم الفحم في العالم. . . فهل نستطيع تحرير هذه الطاقة بكميات وافرة وافية، وإذا استطعنا فهل نستطيع ضبطها والتحكم بها؟) لقد أجابت الأيام عن السؤال الأول بالإيجاب(642/20)
والثاني لا يزال بالانتظار.
لقد انقضى خمسون عاماً قبل أن يتقدم العلم من كشف القوة الإشعاعية إلى العجيبة الحاضرة، وانقضى خمسة وعشرون عاماً رأت تقدمنا من تحطيم نوى الذرات على نطاق ضيق إلى هذا التحطيم المريع الذي أذل اليابان وألقاها صاغرة راكعة. واليوم يقف تحصيلنا العلمي في الذروة، وتنتظم أعمال العلماء والفرق العلمية على أساس ثوري جديد. ولا يجسر أحد أن يرى بعد احتمال استعمال القوة الذرية في المصانع بعد خمسة وعشرين عاما أو بعد عشرة أعوام، وإننا لنرجو أن نستعملها لترفيه سعادة الجنس البشري وزيادة رخائه وطمأنينته وضمانه الاجتماعي.
خليل السالم(642/21)
الحديث المحمدي
تعقيب على مقال
للأستاذ محمد محمد أبو شهبة
قرأت بإمعان ذلك المقال الذي كتبه الأستاذ محمود أبو ريه بالرسالة العدد 633 عن (الحديث المحمدي)، وقد سرني منه أنه أراد أن يدرس دينه بالرجوع إلى مصادره الأصلية. وقد ذكر أنه لما أخذ في دراسة الحديث النبوي على هذا النحو ظهرت له حقائق وسرد بعضها، وقد تتبعت الأستاذ في حقائقه، فوجدت أن منها ما يجافي الحقيقة، ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية:
1 - ذكر الأستاذ أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم ترتيبه، حتى لقد قال الإمام الشاطبي: (أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر)؛ ولا أدري ما مبعث هذا الحكم: أهو نقل أم استقراء؟ فإن كان الأول فليدلنا عليه، وإن كان استقراء، فالواقع خلاف ذلك، ونحن لا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بألفاظها، وكيف؟ وقد ثبت أن القصة الواحدة، أو الواقعة، رويت بألفاظ مختلفة، وأساليب متباينة وإن كان المعنى واحداً؟ ولا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، وكيف؟ ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها - وإن لم تصل إلى درجة المتواتر - ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب؛ ومن قبل أدرك أئمة في اللغة والبيان هذه الحقيقة، فألفوا الكتب في البلاغة النبوية
ولقد أدهشني أن اتخذ كلمة الشاطبي مؤيدة لدعواه، وأنا أقول للأستاذ: فرق بين عدم وجود حديث متواتر بلفظه، وبين عدم وجود حديث بلفظه، فقد ينتفي الأول ولا ينتفي الثاني، لأن المتواتر نوع خاص (وهو حديث رواه جمع بحيل العقل تواطؤهم على الكذب). وهو لفظي أو معنوي؛ وقد بحث علماء الحديث عرضاً في التواتر وفي وجوده؛ وبعضهم - كابن الصلاح - حكم بندرته، وبعضهم منعه، وبعضهم حكم بكثرته. ومع هذا لم يقولوا إنه لا يكاد يوجد حديث بلفظه. ومن يشك في أن ما روى عن الرسول الكريم مثل (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) و (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) (أرحنا بها بلال) يعني الصلاة. وغير ذلك كثير من كلام النبوة، ومن ينكر ما في هذا المنطق من نور(642/22)
وما فيه من بلاغة؟ وحسب الأستاذ أن يخلو بنفسه وبكتاب كالبخاري، وأنا واثق بأنه سيعدل عن فكرته.
2 - تكلم الأستاذ عن الرواية بالمعنى، وإن بعض الصحابة رأوا الرواية بالمعنى، وكذا من جاء بعدهم، إلى أن قال: (وهكذا ظلت المعاني تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواه). وأقول (أما اختلاف الألفاظ، فهذا ما لا ننكره، وأما توالد المعاني، والتزيد فيها والتبديل، فهذا ما لا نقر الأستاذ عليه، والصحابة الذين أجازوا الرواية ومن أخذ عنهم، إنما أجازوها مع تحفظهم الشديد وتحوطهم البالغ في المحافظة على المعنى. وكيف يغيرون في المعنى ويتزيدون، وهم كثيراً ما طرق مسامعهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ ولهم من عربيتهم ودقة فهمهم للأساليب وإحاطتهم بالمعنى المراد ما يحول دون ذلك، ولا سيما وأن الرواية إنما تتصل بالحديث، وللحديث في نفوس الصحابة ومن بعدهم من القداسة والاحترام ما له. أليس الحديث هو الأصل الثاني من أصول التشريع؟ الحق أني كنت أحب من الأستاذ أن يقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين ليعرف ما خص الله هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة. وعلماء أصول الحديث بعد حينما تكلموا في الرواية بالمعنى، منهم من منع منها، ومنهم من بالغ في التثبت والتحوط، فلم يجيزوا الرواية بالمعنى إلا لعالم بالألفاظ، عارف بمقاصدها، خبير بما يختل بها معانيها؛ ولو أن تدوين الحديث تأخر قروناً معدودة، لكان هذا الفرض قريباً، ولكن التدوين بدأ في أوائل القرن الثاني وازدهر في القرن الثالث، وخصائص العروبة متمكنة من الرواة، ولم يكن لسان أهل العلم فسد بعد، وإن تطرقت لوثة الأعاجم إلى العامة.
ولئن كان لراوية الحديث بالمعنى ضرر من الناحية اللغوية والبلاغية - كما ذكر الأستاذ - فلا ضرر من الناحية الدينية بعدما بينا أن لا توالد في المعاني ولا تزيد ومن علم مبلغ ما وصل إليه علم الرواية في الإسلام وما امتاز به من التثبت والتحوط فإنه يستبعد ما قاله الأستاذ كل الاستبعاد وقد بلغ من يقظة أئمة الحديث أنهم كانوا يعلمون اللفظ الدخيل في الحديث من أين أتى وكيف دخل
3 - كتب الأستاذ كلمة عن الموضوعات وأنا أوافقه فيما قال وآخذ عليه قوله ولكي يشدوا عملهم بما يؤيده وضعوا على النبي أحاديث تجيز الوضع مثل مارووا: (إذا لم تحلوا حراما(642/23)
ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع وأن في قوله: (وأصبتم المعنى) ما يدل على أن الحديث قبل تجويزاً للرواية بالمعنى؛ وإلا فأي إصابة للمعنى النبوي إذا كان الكلام موضوعا وللحديث بقية تدل على ما سيق له. روى ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير عن عبد الله بن اكيتمة الليثي قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا؟ فقال: (إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وكان الأجمل أن يمثل بما روى زورا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث) فهذا يشد أزر الوضاعين.
4 - ذكر الأستاذ حديث من كذب على متعمداً الحديث وأنه وصل به البحث إلى أن لفظ متعمداً لم تأت في روايات كبار الصحابة وأن الزبير قال: والله ما قال متعمدا، ورأى أنها تسللت إلى الحديث من سبيل الأدراج الخ ما ذكر. وأقول قد روى هذا الحديث من روايات عدة عن كثير من الصحابة حتى قد أوصلها بعض رجال الحديث إلى المائة بل إلى المائتين. والحق أن الحديث روى من طرق تصل به إلى درجة المتواتر بهذا اللفظ. أما وصوله إلى هذا العدد الضخم فذلك فيما ورد في مطلق الكذب لا في هذا اللفظ بعينه، وقد جاءت كلمة متعمدا من رواية الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة وطرق ذكرها أكثر من طرق تركها والقاعدة عند المحدثين إذا تعارضت الروايات رجج الأكثر والأقوى وهنا ترجح روايات ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد، وأما تجويزه أن هذه الكلمة أدرجت في الحديث ليتكئ عليها الرواة فيما يروون عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الوهم الخ. فأقول رداً عليه إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة وإنما ذلك بما ثبت من أدلة أخرى وتقرر في الشريعة بأنه لا إثم على الخاطئ والناسي ما لم يكن بتقصيره منه وسر الكلمة دفع توهم الإثم على الخاطئ والغالط والناسي.
وأما تجويزه أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين يضعون حسبة من غير عمد عملهم؛ فلا أدري كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد، والوضع حسبة أن يقصد الواضع وجه الله والثواب وخدمة الشريعة - على حسب ظنه - بالترغيب في فعل الخير والفضائل، وهم قوم الصوفية والكرامية جوزوا الوضع في الترغيب والترهيب، فكيف(642/24)
يجتمع - أيها الأستاذ - قصد الوضع طمعاً في الثواب مع عدم التعمد؟ وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد لم أقع عليه ولا أعقله
5 - ذكر الأستاذ في تدوين الحديث أنه كان في أول أمره مشوباً بأقوال الصحابة في التفسير، وغيره من مسائل دينية، أو طرف أدبية، أو أبيات شعرية الخ. فمن أين وصل إلى الأستاذ أن الحديث في أول أمره كان ممزوجاً بالطرف الأدبية والأبيات الشعرية، وأقدم كتاب وصل إلينا ممزوجاً فيه الحديث بأقوال الصحابة وفتاوي التابعين موطأ الإمام مالك، فأين ما فيه من طرف وشعر؟ وإذا كان ذلك المزج قبل طبقة مالك، فمن أي مصدر استقى الأستاذ هذه الفكرة؟ والذي ذكره الحافظ في مقدمة الفتح أن الجامعين للحديث كانوا يجمعون كل باب على حدة إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، فصنف الإمام مالك موطأه بالمدينة، وابن جريج بمكة، وعلى رأس المائتين جرد الحديث من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، إلى أن جاء الإمام البخاري فميز الصحيح الخ ما ذكر.
6 - ذكر الأستاذ أن الفقهاء كبلهم التقليد فلم يعتنوا بكتب الحديث، ولم يعطوها حقها من البحث والدرس الخ ما قال
وكلمة الفقهاء شاملة للأئمة المتقدمين، ومن بعدهم من استقل باستنباط الأحكام العملية والفروع الفقهية؛ والثابت أن قدماء الفقهاء قد أحلوا السنة محلها الممتاز، وجعلوها المصدر الثاني من مصادر التشريع، وإنما اختلفوا في الأخذ بها قلة وكثرة، وما كان الفقيه ليصل إلى درجة الاجتهاد إلا إذا أحاط الكثير من السنة رواية ودراية. والإمام أبو حنيفة - رحمه الله - مع التخرص عليه بقلة البضاعة في الحديث - كان له سبعة عشراً مسنداً، أي كتاباً مؤلفاً على حسب أسماء الصحابة، وتلميذه محمد اشتهر برواية الحديث عن مالك
وأقرب الظن أن الأستاذ أراد متأخري الفقهاء الذين جعلوا همهم العصبية المذهبية ولم ينظروا إلى الحق في ذاته، وهم الذين كانوا في عصور الجمود الفقهي
هذا، وفي المقال بعض هنات تجاوزت عنها، وحيث أن المقال ملخص كتاب سينشر، فإني لأهيب بالأستاذ أن يراجع نفسه في بعض هذه الحقائق التي تكشفت، وليكر على الكتاب من جديد بالتمحيص والتدقيق، وعلم الحديث ليس بالأمر الهين والبحث فيه يحتاج إلى صبر وأناة وتمحيص وتدقيق، ورحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً؛ وقصارى قولي: ليس(642/25)
الخاطئ من يظهر له الحق فيعود إليه، وإنما الخاطئ من يظهر له الحق فيصر على الباطل.
محمد محمد أبو شهبة
عالمية من درجة أستاذ(642/26)
قصة نجاة المعري بالدعاء
هل هي خرافة؟
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
كتاب سر العالمين:
للإمام أبي حامد الغزالي كتاب صغير الحجم يسمى (سر العالمين، وكشف ما في الدارين) رسم فيه سياسة وافية للفوز في الدنيا والآخرة، جاء في أوله: (سألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتاباً معدوم المثل لنيل مقاصدهم، واقتناص الممالك، وما يعينهم على ذلك).
طبع هذا الكتاب لأول مرة في بومباي سنة 1314هـ (1896م) ثم طبع في القاهرة سنة 1327هـ (1909م).
وفي هذا الكتاب ذكر الغزالي قصة نجاة المعري بالدعاء، ثم تناقلها المؤرخون، والكتاب جيلا بعد جيل وعصراً بعد عصر من غير نكير ولا شك ولا ارتياب.
ولعل مما جعل المؤرخين ينقلون هذه القصة من غير ارتياب فيها ويتقبلونها على ما فيها - لعل من أسباب ذلك - فوق مكانة الغزالي في قلوب العلماء على تعاقب الأجيال - قرب العهد بين المعري والغزالي، فقد ولد الغزالي بعيد وفاة المعري والمسافة بين سنة 449 وفاة المعري وسنة 450، سنة مولد الغزالي ليست بذات بال في الحوادث التاريخية. فالغزالي على هذا أول راو لهذه القصة والمصدر الذي استقى منه كل من أتى بعده من المؤرخين.
قصة نجاة المعري بالدعاء:
بعد هذا التمهيد الوجيز نقدم للقارئ نص القصة كما ذكرها الغزالي قال:
حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار، قال: دخلت معرة النعمان وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق، لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل. فأمر محمود بحمله إليه من المعرة إلى حلب، وبعث خمسين فارساً ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يابن أخي قد نزلت بنا هذه الحادثة: الملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عاراً(642/27)
علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخاً العار والذلة، فقال له: هون عليك ياعم، فلا بأس علينا، فلي سلطان يذب عني، ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر. . . أين المريخ؟ فقال: في منزلة كذا وكذا. فقال: زنه، واضرب تحته وتداً، وشد في رجلي خيطاً، واربط به إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجد الموجودات، أنا في عزك الذي لا يرام وكنفك الذي لا يضام، الضيوف! الضيوف! الوزير. الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة؛ فسئل عنها، فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها، فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ، فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري، فقال: من أين أتيت؟ فقلت: من أرض الهركار، فقال: زعموا أني زنديق، ثم قال: اكتب وأملي علي:
أستغفر الله في أمني وأوجالي ... من غفلتي وتوالي سوء أعمالي
قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في ... مشاة وفد ولا ركبان أجمال
فقلت: إني ضرير والذين لهم ... رأي رأوا غير فرض حج أمثالي
ما حج جدي ولم يحجج أبي وأخي ... ولا ابن عمي ولم يعرف مني خالي
وحج عنهم قضاء بعدما ارتحلوا ... قوم سيقضون عني بعد ترحالي
فان يفوزوا بغفران أفز معهم ... أولا فإني بنار مثلهم صالي
ولا أروم نعيما لا يكون لهم ... فيه نصيب وهم رهطي وإشكالي
فهل أمر إذا حمت محاسبتي ... أم يقتضي الحكم تعناتي وتسآلي
من لي برضوان أدعوه فيرحمني ... ولا أنادي مع الكفار أمثالي
باتوا وحتفي أمانيهم مصورة ... وبت لم يخطروا مني على بال
وفوقوا لي سهاماً من سهامهم ... فأصبحت وقعاً مني بأميال
قالوا وهم كفيول في كثافتهم ... ولا نجاح لأفيال كأفيال
لما هتفت بنصر الله أيدني ... كأن نصرت بجبريل وميكال
وجاء إذ ذاك عزرائيل يغضب لي ... فيقبض الروح مغتاظاً بإعجال
فما ظنونك إذ جندي ملائكة ... وجندهم بين طواف وبقال(642/28)
لقيتهم بعصا موسى التي منعت ... فرعون ملكا ونجت آل إسرال
أقيم خمسي وصوم الدهر آلفه ... وأدمن الذكر أبكاراً بآصال
عيدين أفطر من عامي إذا حضرا ... عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
إذا تنافست الجهال في حلل ... رأيتني من خسيس القطن سربالي
لا آكل الحيوان الدهر مأثرة ... أخاف من سوء أعمالي وآمالي
وكيف أقرب طعم الشهد وهو كذا ... غصب لمكتسب نحل ذات أطفال
نهيتهم عن حرام الشرع كلهم ... ويأمروني بترك المنزل العالي
وأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إكرام وإجلال
أصون ديني عن جعل أومله ... إذا تعبد أقوام بأجعال
رأي الكتاب والمؤرخين في هذه القصة
هذه هي قصة نجاة المعري بالدعاء كما ذكرها الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب سر العالمين وكشف ما في بين الدارين. ثم تتابعت الأيام، ومضت السنون والأعوام والمؤرخون ينقلون هذه القصة لا يشكون فيها ولا يرتابون في أمرها. فقد نقلها عن كتاب سر العالمين سبط ابن الجوزي - 581 - 654هـ في كتاب مرآة الزمان.
ونقلها عن مرآة الزمان الصفدي - 696 - 764هـ في كتابيه: الوافي بالوفيات، ونكت الهميان في نكت العميان.
كما نقلها عن الغزالي أيضاً ابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668هـ في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء.
ونقلها عن ابن أبي أصيبعة كل من صاحب سكردان السلطان والشيخ العباسي المكي من علماء القرن الثاني عشر الهجري في كتاب نزهة الجليس.
وذكر ابن الوردي المتوفى سنة 749هـ في تتمة المختصر ملخص القصة، ثم قال: فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده، ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده.
كذلك نقل القصة أيضاً عن كتاب سر العالمين العيني - 762 - 855هـ في كتاب عقد الجمان.
والشيخ عبد القادر السلوي في كتاب الكوكب الثاقب.(642/29)
كل هؤلاء الأعلام من رجال العلم والأدب والتاريخ رووا هذه القصة كل على حسب مزاجه ورأيه من اختصار لها أو إسهاب فيها ولكن واحداً منهم لم يحاول إنكار الفكرة الأصلية فيها أبداً.
ولما كتب الدكتور طه حسين بك كتابه (ذكرى أبي العلاء) أنكر هذه القصة من أساسها لأن عم أبي العلاء مات قبل أبيه!، ولأن المعري لم يكن ينتحل السحر، ولا يعرف الطلسمات! ولم يرض هذا التكذيب القاطع الذي لا يستند إلى سبب معقول مؤرخ حلب الشيخ محمد راغب الطباخ فذكر في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (ج 4 ص 163) سبباً جديداً معقولا لإنكار هذه القصة. وهو أن محمود بن صالح تولى حلب بعد وفاة المعري بنحو أربع سنوات. فكيف تحدث هذه القصة في عهد محمود بن صالح؟.
وعن الشيخ محمد راغب الطباخ - فيما أعتقد - أخذ هذه الحجة الأستاذ الشيخ الميمني وأثبتها في كتابه عن المعري. جازماً بها، راضياً عنها.
وفي عدد الرسالة: 625 ص 675 قرر الدكتور الفاضل عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول: أن هذه القصة خرافية مروية. معتمداً في ذلك على كتاب الأستاذ الميمني عن أبي العلاء المعري.
بقي أن نذكر أن عالماً فاضلا بحاثاً مدققاً هو المرحوم أحمد تيمور باشا ذكر في كتابه الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد وفاته الخلاصة التي أوردها ابن الوردي ثم نقل تفصيل هذه القصة عن كتاب الكوكب الثاقب للشيخ عبد القادر السلوي ولم يحاول تكذيبها ولا الشك فيها ولكنه أراد استبعاد (رصد المريخ) لأن من يقف على كلام المعري في المنجمين، وتقبيح أعمالهم يحكم بأن ذلك من الموضوع عليه.
وبعد فهذه هي قصة نجاة المعري بالدعاء وهذه أدوارها التي مرت بها. فهل هي خرافة مروية حقاً.
برهان الدين الداغستاني(642/30)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 3 -
ويمعن أبو يوسف في تصوير هؤلاء العامة من السجناء فقول: وأغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم الناس؛ فإن هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا وأخطئوا، وقضى الله عليهم ما هم فيه فحبسوا، يخرجون في السلاسل يتصدقون. وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بإسارى المسلمين الذين في أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ وإنما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع.
ولقد بلغني، وأخبرني به الثقات، أنه ربما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم واليومين، حتى يستامر الوالي في دفنه، وحتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون، ويكترون من يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة).
وقد نجد في كتب الأدب والتاريخ، نبذاً عما كان يفعل بخواص المسجونين إذا دخلوا السجن. كانوا ينزعون عنهم ثيابهم فيلبسون غيرها، ثم يقيدون، ويقدم لهم طعام خاص:
حدث ابن وهب قال: أخذني اسحق (بن إبراهيم) فقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف. فأقمت كذلك نحو عشرين يوماً، لا يفتح عليه الباب إلا مرة واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع لي فيها خبز شعير وماء حار).
وحدث سليمان بن وهب قال: (كنت في يدي محمد بن عبد الملك يطالبني وأنا منكوب، وكان يحضرني كل يوم وأنا في قيودي، وعلي جبة صوف).
وذكر يعقوب بن داود قال: (حبسني المهدي. . . في بئر. . . وكان يدلي إلي في كل يوم رغيف وكوز ماء. . .) ولما سجن ابن عبد الملك أمر بتقييده فقيد، ولم يأكل في طول حبسه إلا رغيفاً واحداً. وكان يأكل العنبة والعنبتين).
وقيد جعفر بن يحيى في حبسه بقيد حمار قبل أن يقتل ثم ضربت عنقه.
وسأل الرشيد جعفر بن يحيى يوماً ما فعل بيحي بن عبد الله؟ قال بحاله يا أمير المؤمنين:(642/31)
في الحبس الضيق والأكبال.
وقيد إيتاخ في سجنه وصير في عنقه ثمانون رطلا وقيد ثقيل وكانت وظيفته رغيفاً وكوزاً من ماء.
ولما حبس اسحق بن إبراهيم عمر بن فرج ألبسه جبة صوف وقيده بالأكبال.
وحبس بختيشوع المتطبب في المطبق فضرب مائة وخمسين مقرعة وأثقل بالحديد.
وقد كانت جبة الصوف تدهن أحايين كثيرة بالنقط أو بماء الأكارع، كما فعل بجبة ابن الفرات وغيره. أما القيد فربما بقيت آثاره بعد فكه. وهذا ما حدث لأبي العباس أحمد. . . ابن الفرات، فقد علق بحبال في يديه بقيت آثارها فيها مدة حياته، وربما أصاب المسجونين الإهمال، فلم يكسوا أو يطعموا. وقد ذكر ابن المعتز أن الرشيد أرسل مسروراً الكبير إلى البرامك، وهم في الحبس يتعرف حالهم. فصار إليهم فوجد الفضل ساجداً فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط. وكان في ثوب سمل، وذلك في الشتاء والبرد شديد.
فأنت ترى أن لباس السجناء جبة من صوف، وأن طعامهم رغيف في اليوم، وشرابهم كوز من ماء، وقيودهم السلاسل والأكبال.
وربما كان للسفهاء في السجون العامة سيطرة وسلطان. نستدل على ذلك من أبيات قالها عبد الملك بن عبد العزيز وكان قد حبسه الرشيد، وهي:
ومحلة شمل المكاره أهلها ... وتقلدوا مشنوءة الأسماء
دار يهاب بها اللئام وتتقي ... وتقل فيها هيبة الكرماء
ولم يكن يسمح للمحبوسين أن يقابلوا أحداً. وقد يكون ذلك بالرشي. حدث محمد بن صالح العلوي قال: (وجاءني السجان يوماً وقال إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد. إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما، وهما في الدهليز، فاخرج إليهما. . .).
ويقول ابن المعتز إن البرامكة كان يزورهم في محنتهم من كان يألفهم أيام نعمتهم حتى أن الرشيد كان يقول لسعيد بن وهب (آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم).
وهنا قد يتساءل الإنسان: أكان السجناء يتعلمون في السجن صناعة ما أو علماً؟ ويذهب آدم متز إلى أن المسجونين كانوا يشتغلون بنسج التكك، مستنداً على بيت من الشعر قاله ابن(642/32)
المعتز، لم نجده في ديوانه، وهو:
تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرءاً قبل حبسي ملك
على أننا لا نستطيع أن نجزم بذلك. فابن المعتز سجن في مكان خاص منفرد؛ ولم تكن مدة سجنه طويلة حتى يتعلم، على أنه إذا نفينا ذلك عن ابن المعتز، فقد يكون لسجناء، في السجون العامة الأخرى.
ويحدثنا إبراهيم الموصلي أنه حبس أيام المهدي وضرب قال: فحذقت الكتابة والقراءة في الحبس. وليس في هذا أيضاً ما يوجب التعميم.
وما كادت المائة الثانية من الهجرة تمضي، حتى بدأت السجون تنال عناية من الخلفاء؛ ولا سيما المعتضد. فقد أوقف لها الأموال الكبار لنفقات المحبوسين وثمن أقواتهم ومائهم وسائر مؤنهم. وقد جعل في ميزانيته ألف وخمسمائة دينار في الشهر لذلك. ويحدثنا القفطي أنه عين لمن في السجون أطباء أفردوا لذلك. فكانوا يدخلون إليهم ويحملون معهم الأدوية والأشربة، ويطوفون على سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، كما جعل للمحبسين ديوان خاص تكتب فيه قصصهم في دفاتر خاصة يرجعون إليها دائماً.
التعذيب
وكانوا يلجئون في بعض الأحايين إلى تعذيب السجين تعذيباً مؤلماً. وقد يخص بالعذاب الوزراء والعمال. وسنعرض عليك ألواناً مختلفات من التضييق والتعذيب؛ فقد كان سليمان بن وهب في أول حبسه بالبئر (يأنس بالخنافس وبنات وردان ويتمنى الموت لشدة ما هو فيه).
وحبس محمد بن القاسم. . . بن علي بن أبي طالب في الحبس الذي شيد في بستان موسى (فلما أدخل إليه أكب على وجهه في أسفل بيت منه. فلما استقر به أصابه من الجهد لضيقه وظلمته، ومن البرد لندى الموضع ورطوبته، ما كاد يتلفه).
أما الضرب والتعذيب فكثير: فقد ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسون مقرعة. وضرب يحيى بن خالد، والفضل ابن يحيى وسوهر محمد بن عبد الملك، ومنع من النوم، وكان ينخس بمسلة (تؤلمه وتدمي جسده).
ولما سجن المعتز بعد خلعه دفع إلى من يعذبه ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب(642/33)
حسوة من ماء البئر فمنعوه منها، ثم جصصوا سرداباً بالجص السخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه فأصبح ميتاً).
وقد كان يحدث القتل وضرب الأعناق. وأورد التنوخي قصة قتل نوردها بكاملها، قال: (حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحسن. . . وكان خليفة أبي علي على الفتيا بسوق الأهواز بإسناده عن القاضي أبي عمر قال: لما جرى من أمر عبد الله بن المعتز ما جرى حبست وما في لحيتي شعرة بيضاء، وحبس معي أبو المثنى القاضي، ومحمد بن داود بن الجراح في دار واحدة، في ثلاثة أبيات متلاصقة. وكان بيتي في الوسط؛ وكنا آيسين من الحياة وكنت إذا جن الليل حدثت أبا المثنى تارة، ومحمد بن داود تارة. وحدثاني من وراء الأبواب. ويوصي كل واحد منا إلى صاحبه، ونتوقع القتل ساعة بساعة. فلما كان ذات ليلة، وقد أغلقت الأبواب، ونام الموكلون؛ ونحن نتحدث من بيوتنا إذ أحسسنا بصوت الأقفال تفتح. فارتعنا، ورجع كل منا إلى صدر بيته. فما شعرت إلا وقد فتح البواب على محمد بن داود، وأخرج، وأضجع على المذبح فقال: يا قوم ذبحاً كما تذبح الشاة؟ أين المصادرات؟ أين أنتم من أموالي أفتدي بها نفسي. فما التفتوا إلى كلامه، وذبحوه وأنا أراه من شق الباب، وقد أضاء السجن من كثرة الشموع، وصار كأنه نهار. واحتزوا رأسه فأخرجوه معهم، وجردوا جثته، وطرحت في بئر الدار وغلقت الأبواب. (قال) فأيقنت بالقتل، وأقبلت على الصلاة والدعاء والبكاء، فما مضت إلا ساعة واحدة حتى أحسست بالأقفال تفتح؛ فعاودني الجزع، وإذا هم جاءوا إلى بيت أبي المثنى ففتحوه وأخرجوه وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين، يا عدو الله، يا فاسق بم استحللت نكث بيعتي وخلع طاعتي؟ فقال. لأني علمت أنه لا يصلح للإمامة! فقالوا: إن أمير المؤمنين قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر، فإن تبت رددناك إلى محبسك، وإلا قتلناك. فقال أعوذ بالله من الكفر، ما أتيت ما يوجب الكفر. فلما أيسوا منه مضى بعضهم وعاد فأضجعوه وذبحوه وأنا أراه، وحملوا رأسه وطرحوا جثته في البئر. فذهب علي أمري، وأقبلت على الدعاء والبكاء والتضرع إلى الله. فلما كان وجه السحر سمعت صوت الأقفال، فقلت: لم يبق غيري وأنا مقتول. فاستسلمت وفتحوا الباب فأقاموني إلى الصحن، وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاعل ويا صانع، ما حملك على خلع بيعتي؟ قلت: الخطأ وشقوة الجد. وأنا تائب إلى الله عز وجل من هذا(642/34)
الذنب. . . فجاءوا إلي بخفي وطيلساني وعمامتي، فلبست ذلك وأخرجت، فجيء بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة. فلما رآني، أقبل يخاطبني بعظم جنايتي وخطأي، وأنا أقر بذلك وأستقيل وأتنصل فقال: (وهب لي أمير المؤمنين دمك، وابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار، ألزمتك إياها).
وقد يعذبون بغير ما ذكرنا. فقد رؤى في أيام المقتدر، رجل في المطبق مغلولا على ظهره لبنة حديد فيها ستون رطلا. ولما حبس إيتاخ أطعم كثيراً فاستسقى فمنع الماء فمات عطشاً.
على أن هناك صلة بين التعذيب عند العباسيين، والتعذيب على أهل أوربة في القرون الوسطى. وإن كان التعذيب في أوربة يفوق تعذيب العباسيين شدة وفظاظة. فلقد بلغوا فيه مبلغاً من القسوة لا يجاريهم فيه أحد. وقد ذهبوا في الظلم والإرهاق مذاهب شتى، وتنافسوا في ابتكار أشد وسائل الإرهاب في السجن فظاعة. من ذلك أن بعض السجون المظلمة التي كان يزج فيها السجناء كانت أشبه بمغاور تحت الأرض، يوصل إليها بسلاليم، لا ينفذ إليها النور. وكانت السلاليم مؤلفة من عدة درجات، يختلف بعضها عن بعض في حجمها وارتفاعها، والغرض من جعلها كذلك تضليل النازل حتى تزل قدمه فيهوي إلى قاع السجن الرهيب.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد(642/35)
الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة النثر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
أثرت العوامل الثقافية والقومية والسياسية في النثر الحجازي كما أثرت في الشعر، فتخلص من قيود القديم، ولم يعد الآن بين الكاتبين في الحجاز من يصب على قوالب الأقدمين فيطرب للمحسنات أو يتحرى موضوعاتهم في العتاب والشكوى والمقامات.
وإنك لتعجب لهذا الانقلاب السريع الذي طرأ على النثر الحجازي؛ فإنهم استطاعوا أن يغيروا اتجاهه في فترة قصيرة من الزمان، ولعل الذي سهل لهم هذا الطريق هو ما سبق أن قررناه في الشعر من أن الأديب الحجازي وجد نفسه - منذ أن تفتحت أمامه سبل النهضة - متخلفا عن الركب العربي فدفع بنفسه دفعة قوية آملا أن يصل إلى أقصى الغايات. ثم إنه وجد أمامه طريق التجديد سهلة معبدة قد سلكها غيره من أدباء مصر والشام والمهجر فلم يتعثر طويلا في الطريق التي تعثروا فيها قبله وصاح صيحة قوية في وجه التقليد ودعا في حرارة وشغف إلى التعلق الجديد ومن قول عواد في ذلك: (إذن فما لنا نرجع إلى الوراء حتى في الأدب؟! جناية جناها على أفكارنا وأقلامنا الأقدمون فطأطأنا لها الرءوس.
كفى يا أدباء الحجاز، ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات؟ أقسم لولا حركة عصرية في الأدب قائمة الآن في الحجاز بهمة لفيف من أحرار الأدب العصري، لما عرف العالم شيئا في الحجاز يدعي الأدب الصحيح. . .
وفي الحجاز الآن مدرستان للنثر تقابلان مدرستي شعر؛ فإحداهما متئدة وهي متأثرة أشد التأثر بأدب مصر والشام، والثانية مجددة ممعنة في التجديد وهي متأثرة بأدب المهجر، وكان طبيعيا أن تقوم هاتان المدرستان في النثر بجانب مدرستي الشعر لاختلاف المصادر التي يستقي منها التجديد أدباء الحجاز وانقسامهم فريقين يختار كل منهما ما يحلو له وما يغذي اتجاهه. وثمة سبب آخر لعله أوضح من سابقه في ظهور هذين الاتجاهين في الشعر والنثر معا وهو أن التخصص لم يظهر بعد ظهورا واضحا عند أدباء الحجاز فأكثر الأدباء عندهم شعراء وكتاب وخطباء ولو أننا عددنا كاتبين كالسباعي وزيدان لم يحاولا الشعر ولم(642/36)
يحفلا به لوجدنا بجانبهما عشرات من الكتاب الشعراء فعبد القدوس والنقشبندي وعلي حافظ ومحمد سرور وغيرهم يكتبون ويشعرون فكان طبيعياً أن تظهر نزعاتهم الشعرية في نثرهم وأن ينهجوا منهجين في النثر كما نهجوهما في الشعر.
والنثر الجديد في الحجاز يحمل طابع الشعر وخصائصه: ففيه خياله الفياض وحماسته المتدفقة، وفيه التعبير عن العواطف والأحاسيس حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ نثر المجددين منهم أنك أمام شعر شاعر قد تزاحم خياله ودقت عواطفه؛ فساق إليك المعاني في صور من الخيال مؤثرة، ولا تلحظ من الفوارق بين شعرهم ونثرهم إلا أن الأول موزون، والثاني غير موزون. فتأمل قول (عزيز ضياء) في قطعة عنوانها (وطني).
أنت يا وطني ينبوع تدفقت منه أنوار المدنية والحضارة والعلم.
من روابيك وربوعك، من جبالك وسهولك، من صحاريك وقفارك تعالى فيك صوت الدين الإسلامي الحنيف فسمعته الإنسانية؛ فاستيقظت فيها مواضع الإحساس وانبعث فيها روح الحياة.
منك يا وطني انبثق الفجر الذي بدد ليل الهمجية والوحشية الذي ظلت تتخبط في دياجيره الإنسانية قرونا طوالا.
يا وطني يا مهبط الوحي ومشرق الإصلاح.
يا منجم الأبطال الخالدين ومنبت العباقرة النابغين
يا مهد الحرية والعدالة والمساواة.
يا مهد طفولتي السعيدة، يا من استقبلت فيه وجه الحياة وعرفت فيه معنى الوجود.
يا جوهرتي الغالية يا كنزي الثمين، يا رمز مجد العالم، يا شارة فخر الإنسانية.
أحبك يا وطني.
أتفانى في حبك كما يتفانى الفراش في النور.
يلذ لي أن أحترق بخورا في مجمرة الواجب الذي على نحوك.
من ثدي أمي رضعت لبان حبك.
من حرارة شمسك استمددت حرارة إخلاصي.
من صفاء جوك اكتسب الصفاء ضميري.(642/37)
وسأظل يا وطني.
سأظل وفيا ما دامت لبان أمي تجري في دمائي.
وستظل حرارة إخلاصي ما دامت حرارة شمسك
وسيدوم صفاء ضميري مادام صفاء جوك.
أحبك يا وطني. . . . . . . . . الخ)
ألسنا نرى في هذه القطعة من الخيال وطريقة العرض ما يحملنا على القول بأنها شعر منثور قد توافرت فيه خصائص الشعر في المعاني والأخيلة والأساليب وطريقة الأداء؟!
وقد يكون هذا الإمعان في الخيال ناتجا من عدم تخصص أدبائهم في صنعة من الصناعتين، وقد يكون راجعا إلى قراءتهم أدب المهجر، فإنك لا تكاد تظفر بكاتب من كتاب المهجر لا يقول الشعر، بل إنهم ليحاولون دائما التقريب بين الشعر والنثر: فيخففون من قيود القافية ويتحررون من التزامها، ولكنهم في النثر يكررون بعض الجمل ويلتزمونها بل إنهم يسجعون أحيانا لا لأنهم يريدون السجع ولكنهم يرون مثل هذا في قافية الشعر فيريدون التقريب بينهما لتزول الفوارق.
وهذه الظاهرة يجدها القارئ لنثر الحجازيين فهم خياليون في نثرهم، وهم يتخيرون الألفاظ الموسيقية التي تشبه ألفاظ الشعر وهم فوق هذا وذاك يطرقون به أغراض الشعر العاطفية التي تتدفق حماسة وقوة. وهم كثيرا ما يفصلون الجمل فصلا كأن كل جملة من جمل النثر بيت من أبيات الشعر غير متصل بما بعده في تركيبه وإن اتصل به في معناه.
ومن الأمثلة الحديثة في نثر الحجاز ما كتبه (حسين خزندار) بعنوان (ذراع الجبار) وقد أراد في كلامه أن يصور بطولة جندي جاهد في سبيل الواجب حتى قتل فهو يقول من كلام طويل:
أرأيت تلك السهول الفسيحة؟
فهناك في تلك الأكمة الخالدة.
وهناك حيث التضحية والشهامة.
تثوي عظام الجبار الخالد.
فهي رمز البقاء الدائم.(642/38)
تنادي من أعماقها:
الحرية أو الموت.
تعالي يا فتاتي ولننشد نشيد السعادة.
مرددين مقطوعته العذبة.
الحرية أو الموت.
فالحياة بدونها كابية كئيبة.
والحياة بدونها موحشة قد ارتدت سلاب الحزن.
فهي سر الحياة كالأرواح.
ومنبع الإحساس في نفوس الأباة.
فإما الثريا وإما الثرى.
ولسنا نريد من هذا الكلام أن نقول: إن كل كتابة في الحجاز تتبع الطريقة التي ذكرناها فإن المدرسة المتئدة تتأثر أدب مصر والشام فتتحرى الدقة في التعبير وتحاول أن تخاطب العقل أكثر مما تخاطب العاطفة في كلام مترابط متسلسل يتبع أساليب المنطق، وقد رأينا من هؤلاء الأدباء
(عبد السلام عمر، وأحمد العربي، وعلي حافظ، وزيدان، وأمين عقيل، وعنبر وغيرهم).
أما أحمد سباعي وهو أثبت الناثرين قدما في الحجاز وأقواهم قلما فإنه يتبع المنهاجين ويسير على الطريقتين، فتارة يكتب كما يكتب أدباء مصر وأخرى يسير كما يسير أدباء المهجر في عرض الموضوع وطريقة الأسلوب، ومثله في طريقته الشيخ سرور الصبان.
قال السباعي من قطعة له بعنوان (حذار أن تكون ضعيفا).
(ما رأيت كالقوة منعة تحصن جانب المرء وتعزز مكانته وتحفظ عليه كرامته، وإنه يخيل إلي أن البسيطة بأهلها وأهلها بقواعدهم اصطلحوا على احتقار الضعيف وأطبقوا على الاستهانة به والسخرية منه، فحذار يا صاحبي، حذار أن تكون ضعيفا.
شهدت ضعيفا يدلج في أحد الشوارع وعاصفة من الصفير تدوي في أذنه وكوكبة من الأطفال تعبث به، فقلت هو الضعيف ويله من الصغار والجهلاء!
وشهدت آخر تكالب جمع غفير على إيذائه، هذا يصفعه، وذاك يمتطي ظهره وغيره يدفعه(642/39)
ليغريه بالرقص واللعب، وكانت زفرات المسكين تتصاعد فتتلاشى في ضحك الضاحكين وقهقهة الصاخبين، فقلت هو الضعيف ويله من غوغاء الشوارع وأوباشها!. . .
ويقول:
وسمرت ليلة في جمع من أرباب الحجى وذوي الفضل، فتصدرنا ضعيف أخذوه بيده إلى أرفع مجلس فأوهموه العظمة وراحوا على حساب ذلك يتغامزون ويعبثون. ومضت ليلة حسبت صاحبي سيقضي في نهايتها كمداً وهماً، فقلت هو الضيف ويله من أبناء الحياة صغارهم وكبارهم وغوغائهم وأشرافهم!!
فحذار. حذار يا صاحبي أن تكون ضعيفا. . .)
ومن هذا الكلام تستبين تأثر الكاتب بطريقة المنفلوطي كما تستبين حماسته التي استفادها من أدباء المهجر
والشعر الحجازي لا يزال أقوى من النثر، ويظهر أن هذه حقيقة مقررة في كل أدب ناشئ؛ فإن الشعر دائما في بداية النهضات يطغي على النثر حتى إذا ما توافرت أسباب النهوض ونمت دوحة الأدب تقدم النثر لاهتمام الناس به وتأخر الشعر عن منزلته شيئا فشيئا، وقد حدث مثل هذا في نهضتنا المصرية في العهد الحاضر.
ويعالج النثر الحجازي في الغالب الكثير النواحي الاجتماعية: فهو يتناول النواحي الخلقية يحاول إصلاحها وهو ينتقد ضعف الشباب وعدم طموحه ويرسم له المثل العليا، وهو يتحدث عن المرأة الحجازية ليقوي مكانتها الاجتماعية فتصبح أماً صالحة تستطيع أن تربي أبنائها وتأخذ بأيديهم إلى طريق الفلاح وهكذا. . . وهو يسوق ذلك كله في طرائق مختلفة، وأظهر تلك الطرائق التهكم من الحالة الاجتماعية القائمة والعرض القصصي والأسلوب الخيالي.
أما القصة العصرية عندهم فلا تزال مجهولة وذلك لأن إتقان القصة يحتاج إلى زمن طويل يتملأ فيه الأدباء مناهج الغربيين ويعرفون طرائقهم فيها، وإذا كانت مصر إلى الآن لا تزال متعثرة في فن القصص مع أنها بدأت تترجم هذا الفن عن الغربيين منذ عهد إسماعيل فما بالك بالحجاز ونهضته لا تعدو ثلاثين سنة.
نعم، لقد بدأ بعض الحجازيين ممن يعلمون اللغات الأجنبية يترجمون بعضا من الأقاصيص(642/40)
الأوربية وينشرونها في مجلاتهم ليربوا الذوق القصصي في البلاد، ولكن هذا العمل لا يزال في البداية وسوف لا تظهر ثمرته إلا بعد وقت طويل من الزمان.
أحمد أبو بكر إبراهيم(642/41)
من (لزوميات مخيمر)
(إلى هؤلاء الذين أرشدوني إلى ينابيع نفسي: الشبيشي
والزيات، والسباعي بيومي، والعقاد، وهاشم عطية أهدي هذه
اللزوميات)
للأستاذ أحمد مخيمر
ليلى
أتعلم ليلى بحبي لها ... وماذا فؤاديَ منهُ خَبأْ
تشّيعني بالخطوب الكبا ... ر، وتقتلني قتلة لم تُبَأْ
وتُظْمئني، وتُواري الميا ... هَ، وتلحَظَ ظِمْئِيَ بالمرْتَبَأْ
وتذهبُ أنباء حبّي لها ... وما جاء من هواها نبأْ
وما حفلتْ سرايا الحني ... نِ فؤادي لها من قديمٍ عَبَأْ
أرأْريءُ في شغفٍ للمزا ... ر، فيا ليتني كنتُ فيه الحَبأْ
سنَعْبدُها بذلت بحْضَهَا ... لتُكْرِمَنَا، أم سقتْنا الكّبَأْ. . .
خلود ليلى
أتطمعني في الخلد وحدي! وإنما ... خلودي بلا ليلى خلودٌ مضلَّلُ
إذا أشرقتْ بين الجوانح شمْسُها ... مضى القلبُ خفّاق المنى يَتهلَّلُ
وخف به شوقان: شوق معَللٌ ... يُحَسُّ، وشوق دونه لا يعلَّلُ
وأي بقاءٍ بعد ليلى أريده ... وليلى خلودٌ بالنعيم مكلّلُ
أنازُع قلبي عند أبياتها الخطا ... فأمضي، ويمضي وحده يتسللُ.!
الدليل
إذا رمضَت أقدام روحي تفيأت ... ظلال حبيب، أو فُيوَء خليلِ
وقد سرتُ في وادٍ بحسنك عاطرٍ ... وعشتُ بأيكٍ من هواك ظليل
وما خفتُ يوماً أن تضلَّ مسالكي ... وأنتِ بصحراء الوجود دليلي(642/42)
وكيف يخاف الفقر من كنت عونه ... وما بذلت عيناك غير قليل
طلعت فبدّدتِ الظلام بلامعٍ ... مهيبٍ، ومعشوقٍ أغرَّ جليل
وكنتِ على الأيام راحةَ مُجهدٍ، ... ونعمةَ محرومٍ، وبرَء عليلِ
وينبوعَ حب، كم أتَحْتِ لظامئ ... ملَّذة وِرْدٍ، أو شفاَء غليلِ
ألا كلّ ليلى طاولتْكٍ بحسنها ... هوتْ بجناح للتراب ذليل. . .!
قمم النور
يا فرحةَ الحبّ قد صعدنا ... إلى ذرا النور، وارتقينا
وقرّبنا لها الليالي ... في جيرةِ الخْلد فالتقيْنا
وهيَأت ظلّها فنمنا، ... ومدَّتِ النَّبَع فاستقيْنا
أيّ سرورٍ نريد منها ... وأي حزن قد اتقينا. . .!
قد عرضَتْ ذخرها فنلنا ... ما شاءت الروح، وانتقينا
وحدة الخلود
ستخلد بي ليلى، ويزخر قلبها ... بآباده، ملآنَ بالنشواتِ
وما لحظات الأرض، وهي قصيرة ... سوى زبدٍ طافٍ على السنواتِ
فيا أسفا إن رحتُ وحديَ خالدا ... وطال اعتساف الروح في الفلواتِ
وألقيت طرفي في الوجود، فلم أجد ... وراء الدجى ليلايَ والغدواتِ
وطال حنين القلب في قبضة الأسى ... وفاضت دموع العين في الخلواتِ
ستمسي حنايا النفس مغلقةَ الصدى، ... مخوفَ الجُذَا، مطوّيةَ النزواتِ
تدلَّى إلى مهوًى سحيقٍ قراره ... بعيد الحوافي، مظلم الفجواتِ. .
فلا تتركيني ليلَ وحدي، فإنما ... لحسنك ما غنيت من صلواتِ
إذا فرقتنا بعد حين يد النوى ... فإن رحيلي عنك من هفواتي.!
(ادفو)
أحمد مخيمر(642/43)
البريد الأدبي
الشيخ أحمد إبراهيم بك:
من الطفولة حتى الشباب في مراحل التعليمي الثلاث، وأنا أسعد بأستاذيته - رحمه الله - وقد كان لهذه الصلة في نفسي منذ نشأت أعمق الأثر، وكنت أشعر دائماً أن له عليّ فضل التوجيه وقد كان إكباري له وإعجابي بعلمه وورعه، وسمو نفسه وأسلوب تفكيره يحملني على أن أحاول اتخاذه قدوة صالحة.
فما عرفت أدق منه في سبر أغوار المشاكل العلمية، في يسر وسهولة، ولا أحرص منه على شعائر الدين والتقوى، في نقاوة وورع، ولا أسبق لمعاني الفضيلة، في جلال وجمال وروعة
ما عرفت من هو أوفر حظاً منه في هذا كله، نأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، فأحاط نفسه بسور منيع حال بينه وبين الزلفى، والعمل لغير وجه الله، في مراقبة شديدة لواجبه وضميره.
عف عن المادة في مختلف مواطنها، فما طلبها ولا سعى إليها، وقد كانت سبلها ميسرة معروفة لمن يلتمس حطام الدنيا الفانية.
كرس حياته - رضي الله عنه - لاستنباط أسرار الشريعة السمحاء، والكشف عن دقائقها ومميزاتها وذخائرها، وما تمتاز به عن سائر الشرائع، فكان يعني بالمقابلات الطريفة والمقارنات الدقيقة بين المذاهب والآراء، والعقائد وطرق التدليل والتفسير والتأويل التي تنطوي عليها مباحث علماء الإسلام، ثم بين هذه وغيرها في الديانات الأخرى، كل ذلك في تبسيط جم للمعقد، وتذليل للصعب العسير من نظريات الشريعة، فما كنا نلمح أثراً للجفاف الذي يبعدنا عن فهمها، ونحن في هذه السن الباكرة التي لا تقوى على استساغه هذه المقارنات المستفيضة الشاملة.
شغفنا بالبحث والقراءة، وسكنا إلى هذه الدراسة على ما فيها من تشعب واسترسال بفضل معونة أستاذنا وتوجيهه - أثابه الله - وحبب إلينا درسه، فما أذكر أنني تخلفت عنه يوماً، ولا كانت لي رغبة ملحة ولهفة في الإصغاء لأستاذ سواه.
طراز نادر بين الأساتذة والعلماء ورجال الدين، ولعله كان المثل الأعلى والنموذج النادر بين هؤلاء جميعاً.(642/44)
وفضيلة أخرى كانت من أخص فضائله - أكرم الله مثواه - تلكم هي الوفاء - هذه الصفة التي غاص نبعها في نفوس الناس حتى الخلصاء منهم والأصفياء.
فلقد شاء كرم أبناء المعهد الكريم - دار العلوم - أن تقام لي حفلة تكريم منذ شهور فلم تحجزه العلة المعقدة عن الخطابة على ما كان يشعر به من ضعف وألم، فأبحت لنفسي الكلام عنه وأنا العارف بزهده وبرمه - من أن يسمع الثناء عليه، فسجلت في كلمة الشكر، ما أدين به، وأعتقده في شخصه الجليل، ولست أرى ضيراً من أن أختم هذه الكلمة القصيرة بما جاء على لساني إذ ذاك وأنا أنعم برؤيته بين المتكلمين الإجلاء، ففيها ذكرى لحياة كانت حافلة بجلائل الأعمال، والذكرى تنفع المؤمنين.
أما أستاذي المفضل في سائر مراحل التعليم، فهو العلامة الكبير والباحث المدقق أحمد بك إبراهيم، فله علي فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم، وقد كنت أحاول أن أتخذه قدوة، ولو اقتدى به سائر المصريين لما بكينا على العلم، ولا على الأدب والدين.
إبراهيم دسوقي أباظة
(الرسالة) العاتبة و (الرسالة) المعتوبة
قرأنا (الرسالة) الفلسطينية العاتبة، وقرأنا جواب (الرسالة) المصرية المعتوبة. وكانت أحكام الأولى جائرة جد جائرة، وكانت احجاج الثانية دامغة جد دامغة، فتلك زعمت أن مجلة (الرسالة) تؤثر الأدب المصري فتنشره، وتضن على الأدب الفلسطيني فتطويه. وهذا زعم - لعمر الحق - باطل. ولست هنا بصدد أن أدفع تهمة أو أرد شبهة، ولكن العتاب الشديد والجواب السديد أثارا في نفسي ذكرى تتعلق بأول قصيدة نشرتها لي مجلة (الرسالة) الزاهرة لا أرى بأساً في تسجيلها على صفحاتها.
كان ذلك منذ سنوات سبع خلت، يوم انتهيت من نظم قصيدة في أبي الذي كان يرسف في قيوده إبان الثورة الفلسطينية الخالدة. أخذت أنظر في تلك القصيدة من وراء دموعي، وكانت في نظري جيدة، وأحببت أن أفاجئ بها شقيقي المرحوم إبراهيم منشورة في إحدى الصحف، وكثيراً ما كان يحلو لي أن أفعل ذلك معه اعتزازاً وثقة بشعري. ونزعت بي نوازعي إلى أن أبعث بها إلى مجلة (الرسالة). ولكنني ترددت وجفلت، إذ أين اسمي الخامد(642/45)
من تلك الأسماء الساطعة في سماء الشعر؟! وأخذت أقلب الرأي على وجوهه. وسولت لي نفسي أن أرفق القصيدة بتعريف بي يكتبه ابن عمي قدري طوقان إلى صاحب (الرسالة)، ولكن عزة الشعر، وللشعر والله عزة، ربأت بي عن التوسل إلى نشر القصيدة بما يوهم معنى الالتماس، وقلت لنفسي: وي! ما بالك يا هذه؟ إن هذا هو الحمق بعينه، وإذا كانت القصيدة جيدة حقاً، فلن يحول اسمك المغمور دون إنصاف المنصفين في الحكم لها. وبعثت بالشعر وثقتي بنشره بين بين.
وظهر الشعر في (الرسالة)، وقد فوجئ به شقيقي إبراهيم، فكتب إلي يقول: (يا أم تمام - وكثيراً ما كان يناديني بهذه الكنية لما يعرف من حبي للشاعر أبي تمام، ولكثرة ما أحفظ له - إن القصيدة لجميلة، وقد حدثني الأستاذ النشاشيبي بشأنها فأهنئك). ولما التقينا أظهرته على ما خامرني من شك في نشرها لعدم معرفة الأستاذ الزيات لي. فقال: (يا أختي، إن الشعر الجيد يعرف بنفسه وبصاحبه عند المميز المنصف، ولا يحتاج إلى من يعرف به).
وكان هذا مما شد من عزمي وزادني إيماناً بنفسي، ولا والله ما أجحد يداً للرسالة علي، ولا أنسى حقاً لها عندي
أجل، إن (الرسالة) مجلة الأدب العربي في جميع أقطاره، فلا صلة شخصية هناك، ولا أثرة إقليمية تغريان على نشر هذا وطي ذاك من الإنتاج الأدبي في القطر المصري وخارجه، وهي - منذ كانت - ميدان للمجلي والمصلي من أدباء العربية على اختلاف أقطارهم، وهاهي بين أعيننا واضحة المذهب، وقد أشهدت الله بحق: (أنها في مدى حياتها الصحفية لم تغفل أدباً يستأهل النشر، ولا أديباً يستحق التنويه). وغفر الله لأخينا العاتب عتبه واتهامه، فقد نكب عن محجة الصواب حين أسرف في هذا العتاب.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
إندونيسيا:
دخل الإسلام إلى إندونيسيا منذ قرون، وظل يتوغل فيها توغلا قد لا تدانيه فيه أية بلاد إسلامية أخرى إذ أصبحت تعاليم الدين الإسلامي والتقاليد الإسلامية هي وحدها السائدة في(642/46)
أمة بلغ عدد سكانها سبعين مليونا، تسعون في المائة منهم مسلمون.
والمسلمون الإندونيسيون أشد ما يكون تمسكا بدينهم الحنيف فلا عجب إذا كانت الروح الإسلامية هي السائدة في علاقاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم بغيرهم من الأمم ولا عجب بعد ذلك إذا كانت الأمة الإندونيسية دائما تشعر بوثيق العلاقة بينها وبين الأمم الإسلامية. وقد ربطتها وإياها الرابطة الروحية وما أشدها رابطة قوة ومتانة.
كانت إندونيسيا في اتصال وثيق بالعالم العربي الإسلامي قبل الحرب ولا أدل على ذلك من اشتراكها في جميع المؤتمرات الإسلامية الهامة المنعقدة في (مكة ومصر وفلسطين) كما كانت تراقب دائما الحركات السائرة في هذا العالم فتسر لسروره وتتألم لألمه. ظهرت سياسة التنصير البربري في شمال أفريقيا، فقامت قيامة الصحف الإندونيسية تحتج على فرنسا. فقامت إيطاليا في طرابلس وبرقة بتطبيق سياسة الحديد والنار. ولعل أفظع مظاهرها شنق الشهيد عمر المختار - فقامت الأمة الإندونيسية على بكرة أبيها تقاطع البضائع الإيطالية، وبلغت شدة هذه المقاطعة أن حرق الأهالي الطرابيش على أنها صناعة إيطالية. ورمى أحدهم سيارة (فيات) الإيطالية في قاع النهر.
اندلعت نار الحرب العالمية الثانية فانقطعت الأخبار عن هذه البلاد الإسلامية وما إن وضعت أوزارها إلا وقد زف إلى العالم العربي والإسلامي نبأ وأي نبأ، نبأ إعلان إندونيسيا استقلالها وقيام الحكم الجمهوري في ربوعها. لقد أثلج حقا هذا النبأ السار صدور المسلمين قاطبة ولم لا يطربهم هذا النبأ وقد قامت في أقصى الشرق حكومة إسلامية قوامها ما يقرب من سبعين مليونا من المسلمين أقوياء الإيمان فزادت بذلك شوكة الإسلام ودانت إلى الوجود الجامعة الإسلامية القوية البنيان.
على أثر ذلك سرعان ما أعلنت لجان استقلال إندونيسيا في (مصر والعراق والهند واستراليا وأمريكا وهولندة) ثقتها التامة في الزعيم (سوكارنو) المحبوب عند شعبه رئيساً للجمهورية.
لقد شعر العالم بحق الإندونيسيين في الاستقلال، فبادر عمال استراليا ونيوزيلندة إلى تأييده عملياً، فعم الإضراب في مواني الشرق الأقصى، وأيدت هذا الإضراب نقابات عمال الشواطئ الأمريكية كما أعلن وزير الحربية للحكومة البريطانية أن ليس في نية القوات(642/47)
البريطانية التي نزلت الآن في بتافيا مقاتلة الوطنيين الإندونيسيين في سبيل هولندا كما نشرت كل الصحف في حينها. ومع ذلك لم تكن الروابط التي تربط الأمة الإندونيسية وهذه الأمم أية رابطة روحية أو مادية، اللهم إلا شعورها واعترافها بحق هذه الأمة في تقرير مصيرها.
والآن، نوجه نحن الإندونيسيين إلى العالم الإسلامي عامة، وإلى العالم العربي خاصة نداء حاراً، لكي تتذكر الشعوب الإسلامية قاطبة العلاقة الروحية القوية التي تربطها وهذه الأمة الإسلامي - وهي في أدق مواقفها وأحرجها معاً - التي قد عاهدت الله والوطن على أن تدافع عن الاستقلال الذي أعلنته للعالم في التاسع عشر من شهر أغسطس المنصرم بكل ما فيها من عزم وقوة، فيؤيد موقف الشعب الإندونيسي المشروع في تقرير مصير نفسه بنفسه بجميع الوسائل التي ترى أنها أمضاها في تحقيق هذا التأييد وتعترف حكومتها بهذا الاستقلال، فتمد بذلك إلى الحكومة الجمهورية الإندونيسية الجديدة قوة فوق قوتها فتقنع هولندا المستعمرة بعبث محاولتها في العودة إلى احتلالها بالقوة الشنيعة.
وإنا حين نتوجه بهذا النداء إلى الشعوب الإسلامية والعربية لعلى يقين في أنها ملبية نداءنا. وإنها حين تؤكد الحركة الوطنية في أندونيسيا، وحين تعترف حكوماتها باستقلال إندونيسيا لا تخدم القضية الإندونيسية الحقة وحدها، ولكنها تخدم كذلك نفسها بنفسها، إذ بوجود حكومة إسلامية قوية في الشرق الأقصى تتقوى مراكز جميع الحكومات الإسلامية والعربية كلها، وتتحقق لكل منها أمانيها المشروعة. والحكومة الجمهورية الإندونسية لن تنسى أبداً ما تقدمه الشعوب الإسلامية والعربية من التأييد لها وما تفعله الحكومات الإسلامية من الاعتراف بها.
جمعية استقلال إندونسيا
تصويب:
التطبيعات (الأخطاء المطبعية) قبيحة، وأقبحها ما أبدل كلمة بكلمة. ظاهرها صحيح ولكنها تجيء في غير موضعها، فتفسد المعنى على القارئ، وتضيع مقصد الكاتب، وتقوله ما لم يقل، وتحمله ذنبا لا يد له فيه، وقد كثر ذلك في العدديين الأخيرين من الرسالة ولم يكن(642/48)
فيها من قبل.
فمن ذلك كلمة (المفتي) في مقالة (القضاء في الإسلام) العدد (640) الصفحة (1086) العمود (2) السطر (9) وقد وقفت عندها - أنا كاتب المقالة - ولم أفهمها علم الله، واتهمت نفسي حتى رجعت إلى الأصل فإذا هي (المفتش). ومن ذلك هذه الجملة التي جاءت عجباً في ركاكة الأسلوب، وضعف التأليف، في ص (1087) ع (1) س (17) لسقوط كلمة منها وصوابها (هذا الزمان الذي نجد فيه العلماء) كما سقطت كلمة (ذلك) من ص (1086) ع (2) س (25) وصوابها (إذا ولاه الخليفة ذلك) وأنكى من ذلك كلمة (استعار) التي جاءت في الصفحة (1088) ع (2) س (15) كأنها من لغة عرب مالطة وأصلها (استشعار).
هذا وقد نشرت هذه المقالة، وهي القطعة الثالثة من المحاضرة قبل نشر التي قبلها.
وفي مقالة (الموسيقي العاشق) تطبيع آخر شنيع نسيت التنبيه إليه هو (وصف الكلم) في ص (1058) ع (1) س (17) والصواب (رصف الكلم).
فماذا كان يضر المصحح لو رجع إلى الأصل وقابل عليه، وأراح الكتاب والقراء من هذا العناء الذي لا آخر له، فيا أخي المصحح. . . ارأف بنا وبنفسك، فرب عجلة تهب ريثا، ورب راحة تعقب تعبا طويلا!
ويا سيدي الأستاذ الزيات، إليك أشكو فاشكني، فإن ألمي لهذه التطبيعات أشد من فرحي بنشر المقالة، وآثار الكاتب كولده يحبها مهما كانت - ولا يريد بها بديلا - من من الآباء يعطيك عيني ولده بعيني (بهيجة حافظ)؟ فكيف إن أبدلته بهما عيني (الجاحظ)! فكيف إن تركته له بلا عيون؟!
علي الطنطاوي(642/49)
الكتب
بحث وتحليل:
قضية الجمال والحب
(أول تآليف طلبة قسم النقد والبحوث الفنية بمعهد فن التمثيل
العربي)
للأستاذ زكي طليمات
الحب والجمال قضية شغلت الإنسان في مختلف مداركه منذ القدم، وستكون شغله مادامت النفس البشرية على ما هي عليه، وذلك أن الجمال من عناصر الوجود، نتصيد مظاهره في المرئيات وما يقع عليه الحس، كما هو كامن فينا بفعل الفطرة بدليل أننا نخلعه أحياناً على ما يحيطنا، هذا والحب رباط الحياة وقوامها وسناد التجاذب الذي تقوم عليه غريزة حفظ النوع، وهي أقوى ما ركبته لفطرة فينا، لأنها أساس الحياة الدنيا وسر بقائها.
فإذا شغلت هذه القضية ذهن شاب في العقد الثالث من عمره، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر السرعة والآلة الذي يقوم على أثر حرب طاحنة ما زال انهيار الأنقاض فيها يسك مسامعنا إذا كانت تشغله هذه القضية إلى حد إصدار مؤلف جديد يعالج دخائلها وشعابها، ففي هذا ما ينهض دليلا على أنها قضية خالدة لا تبلى جدتها أبداً.
فقد أصدر الأديب (حلمي عبد الجواد السباعي) مؤلفاً يحمل هذا العنوان تناول فيه، ماهية الجمال، ووسائل الإحساس به، ومظاهر تعبيره وذلك في التصوير والنحت والرقص والموسيقى والأدب، ثم عرج على الحب فأحاطه به إحاطة كاملة فأوضح ألوانه، وكما تحدث عن حب الله، وحب الكرامة والواجب، وحب القرابة، فأنه أجرى قلمه في الحب المألوف وحب الشهوة، والحب الشاذ، أجرى كل هذا في لفتات سريعة تشهد له ببراعة في الإنشاء الذهني والأسلوب اللغوي.
ويزهيني، والمؤلف أحد طلاب قسم النقد والبحوث الفنية بمعهد فن التمثيل العربي، أن أقدم كتابه إلى القراء، وأن أقدمه متجرداً من عطف الأستاذ على التلميذ، ومن هوى الزميل(642/50)
للزميل، في خدمة المبدأ والفكرة العامة.
إن المتصفح هذا الكتاب، المتمعن عناوين أبوابه، لا يلبث أن يحكم بأن المؤلف ما زال في غمرة الشباب وأحلامه، وأنه للجمال وللحب، فإذا ما قرأ الكتاب انتهى إلى أنه لم يخطئ في حكمه، وأن للكاتب عرقاً في الأدب يمتد إلى القديم والحديث والشرقي والغربي في أفانينه.
بيد أنه عرق ما زال رطب العود بدليل أن المؤلف، وإن أحاط بما سبقت الإشارة إليه من مواضيع إحاطة شاملة تشهد له بالتقصي المحكم والاستقراء الحاذق في الشائع من الأدبيين العربي والأوربي، إلا أنها إحاطة تكاد تخلو من كشف جديد في أحكام قضية الحب والجمال، وتكاد تقفر من اللفتات الأصيلة البارعة التي تشق للقارئ أفقا جديداً من التأمل.
وهذا مأخذ إذا سجلناه، فلأننا ننفس بالمؤلف، وهو نابه في بدايته، أن تقف جهوده عند السير في السبل المعبدة المطروقة.
والمؤلف في كتابه يوحي بظاهرة نفسية جديرة بالتأمل، تراود الخاطر على استجلاء بواطنها، فإذا أخذنا في تحليلها، برد الفرع إلى الأصل، إذا تقصينا الحافز الباطني الذي دفع قلم المؤلف إلى معالجة هذه القضية بهذا النفس الحار والنشوة البالغة التي لا تتوانى عن أن تمتد إلى القارئ اليقظ الوجدان، إذا أخذنا بكل هذا فسرعان ما يتضح لنا أن المؤلف يصدر فيما كتب عن كبت حسي، كبت له طابع خاص، إذا تعاونت على تصفيته وتهدئته وإلجام نزواته قيود تأصلت في نفسه، وثقافة أمدت صاحبها بما يجعله يغلب المعنويات على الماديات في أحاسيسه فركبت فيه شاعرية حالمة تدخل في نطاق الحديث الشريف (إن الله جميل يحب الجمال).
المؤلف يكابد عقدة نفسية، ومن منا ليست له عقدة نفسية تسيطر على أعماله وسلوكه، ولكن من لطف الله بالأستاذ المؤلف وبنا، وبآنسات المعهد، أن عقدته النفسية رهينة قيود لا تشكو أسرها، جعلته للشباب في أحلامه وتهاويله العذراء البكر، وليس للشباب في متطلباته العادية، واستجابته لصوت الدم الدافيء، فهنيئا له فقد كفاه الله شر القتال في مجال قلما يكون الغالب فيه خيراً من المغلوب.
ولا يضير الأستاذ (حلمي) في شيء أن يكون من هذه الفئة المحرومة من لذاذات الواقع، الموفورة الحظ من متع الخيال وأفاويقه فإن كتابه جاء خالياً مما يسعر الحس، ويدفع إلى(642/51)
مزالق الشهوات.
ولا يهمنا إذا كان المؤلف قد انتهى إلى هذا عن عجز في الوسائل فهو مكره لا بطل، أو عن تعفف القادر الصادف عن وحل البهيمية، فالعبرة بالكتاب الذي أصدره وهو كتاب يصح أن يقرأه الجيل الشاب ليستبطن دخائل ما يختلج في واعيته من إشاعات الحس الفائر وموحيات الدم الشاب المستعر، وليتبصر بها، وقد عرضها الكتاب عرضا ينشط الإيحاء العفيف، بعد أن أضفى عليها المؤلف من روحانياته مسحة أحالتها إلى متع ذهنية تضيء ولا تحرق.
زكي طليمات
مدير معهد التمثيل العربي(642/52)
نظرة في كتاب:
حضارة العرب
تأليف الدكتور غوستاف لوبون
(الذي نقله إلى العربية الأستاذ محمد عادل زعيتر سنة
1364هـ سنة 1945م، والتزمت طبعه ونشره دار إحياء
الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركاه)
ظهر هذا الكتاب، والشبيبة العربية حائرة، لضعف في إيمانها، وعوج في تربيتها، ووهن في ثقافتها، وعجمة في لغتها، ويأس من أمتها، وخجل من ماضيها، وغموض في حاضرها، وخوف من مستقبلها. أجل ظهر هذا الكتاب النفيس ليقول - بلسان الأجنبي - لضعيف الإيمان هذا هو الصخر من عظمة الأجداد فابن عليه إيمانك الوطني الضاوي الهزيل. ويقول للبائس! من كان لأمته مثل هذا الماضي المشرق اللامع لا يمكن أن يتسرب اليأس في قلبه، إلا إذا كانت قد حقت عليه اللعنة، ويقول للخجل من أمته الذي لا يحدثك إلا وهو يخلط العربية بألفاظ من لغات متعددة، إنك من شعب لم تعرف البشرية أنبل منه ولا أشرف! وليقول للوجل من الحاضر الخائف من المستقبل (إن الخوف هو لعنة الحياة! وإن الشك في الانتصار هو الهزيمة العابسة النكراء!). . .
هذا السفر الضخم الذي يقع هو ومقدماته، وفهرساه، وثبت مصادره وتصحيح لتطبيعاته - وهي قليلة - في ستمائة وخمسة وسبعين صفحة من القطع الكبير، يسحرك ويستهويك فتمضي في مطالعته لا تشعر بسآمة ولا ملل، لا تحس إلا وقد قرأت آخر حرف فيه، ولكم تتمنى وأنت تطالع الكتاب، لو كانت أعصابك تسمح لك بقراءته في جلسة مهما تطل.
حقا إنك لا تشعر إلا وقد اتجهت أفكارك إلى الدكتور جوستاف لوبون تحييه تحية المعجب بصدقه، الممتن لإخلاصه وإنصافه. لأنك تجد في الكتاب كل ما تريد أن تقول في مثل هذه الأيام العابسة السود. فإذا اتهم قومك بالوحشية والتبربر، وإذا أنكر فضل أمتك منكر، وإذا قيل لك إنك من أمة ليس لها في المدنية والعلم من أثر، جاء الدكتور غوستاف لوبون بكتابه(642/53)
هذا يشهد للحق المهيض الجناح. وجاء قلم الأستاذ الزعيتري العادل ينقل تلك الشهادة لأبناء قومه بقلمه الساحر، وأسلوبه الغض الناضر، فإذا هو تحفة من التحف، التي تستحق أن تقتنى بثقلها ذهباً! لا أقول هذا مبالغة، ولا أقوله إفراطاً مني في تقدير مجهود الأستاذ العادل، فأنا والله لا أعرف الرجل ولكني مجل لفضله، محترم له لما خدم به قومه. فإذا قلت إن الكتاب يستحق أن يقتنى ولو بثقله ذهباً فما ذلك منى من الإفراط في شيء، فلقد كان عظماء العرب قبل اليوم يكافئون الشاعر المجيد بأن يملئوا فمه جوهراً فأين أحلام الشعراء الذين يتبعهم الغاوون من الحقائق الملموسة التي توقظ في النفس أنبل ذكرياتها؟!
ولو لم يكن الغرض من نشر هذا الكتاب باللغة المبينة أن يطلع عليه أعظم عدد ممكن من الناطقين بالضاد لقلت إن ثمته نزر يسير. أما والغاية من نشره تعميمه فأقترح أن تتولى إحدى الهيئات الوطنية شراء هذا الكتاب وتخفيض ثمنه إلى أقصى حد ممكن، حتى لا يظل بيت خالياً من نسخة منه لأنه من حق الرجل الذي أنصف العرب - يوم كان الإنصاف جريمة - من حقه أن ينشر كتابه أعظم نشر، ومن حق المترجم الذي جعل الحقائق التاريخية الجافة - بما أضفى عليها من بيانه العذب - أنغاماً عذبة أن يروج كتابه أوسع رواج جزاء لجهوده الموفقة.
فالكتاب في جملته وتفصيله لا غنى للأديب، ولا للكاتب، ولا للناشئ عنه، وهو خير تحفة لأنه شهادة من عالم كبير يكاد قومه ينكرون على العرب كل فضيلة، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان في الاطلاع على التمدن الإسلامي للمرحوم جرجي زيدان ما يغنى عن هذا الكتاب، ولكن أين شهادتنا لأنفسنا من شهادة الأجنبي لنا؟!
هذا ولئلا يكون كلامي مقصوراً على ناحية الجمال في هذا الكتاب أرجو من الأستاذ الزعيتري النابه أن يقبل بعض الملاحظات التي تتعلق بألفاظ جرى فيها قلمه على طريقة المعاصرين من أبناء هذه اللغة الشريفة، فجاءت بالنسبة إلى أسلوبه النضر كأنما هي الكلف في وجه الغادة الحسناء، فمن ذلك قوله: الخطأ: البطرا. الصواب: بطرا ليس غير. أذكر أن العلامة المرحوم أحمد زكي باشا طلب مني في كتابه المخطوط إلي في سنة 1934 أن أحقق هذه النقطة، فوجدت أن في شرق الأردن مواقع عدة خلط بينها الكتاب والمؤرخون خلطاً شنيعاً.(642/54)
بطرا - وهي المعروفة بالعربية الحجرية، وقد كان المرحوم صروف يكتبها البتراء وهو وهم، وكتبها الخبير الجليل بولس سلمان رئيس أساقفضة شرقي الأردن (بطرى) وهو وهم انفرد به سيادته. أما البتراء - فماء يرده الكركيون في شرق الأردن، وأرض معروفة هناك. وخلطوا أيضاً بين (بطرا) والرقيم - مع أن الرقيم شيء وبطرا شيء آخر، فالرقيم موضع في مساكن عرب العجارمة التابعة لقضاء مأدبا، وخلطوا بينها وبين (الرجيب) والرجيب - تحريف لكلمة (الرقيم) لأن عربان بني صخر يلفظون القاف جيماً والجيم باءً في بعض الأحيان، والرجيب هذه موقع بالقرب من عمان حاضرة شرقي الأردن. وخلطوا بينها وبين (بيتراس) وبيتراس آثار قرية في جهات عجلون من أعمال شرقي الأردن، إذا فالكلمة (بطرا) ليس غير. ويرى العلامة الكرملي أن كتابتها (بترآء) هي الوجه.
الخطأ: البحر الأبيض المتوسط
الصواب: هو بحر الروم، أو البحر المتوسط، أو البحر الشامي، أو بحر الشام. راجع صفحة 21 و99 و135 و136 من كتاب نخب الذخائر في أحوال الجواهر تحقيق الإمام الكرملي المطبوع في مصر سنة 1939. الخطأ: طيبة.
الصواب: طيبة المدينة المنورة، أما المدينة المصرية (فطيوه) ليس غير. من كتاب مخطوط وجه به الإمام الكرملي. الخطأ: أمريكه. الصواب: أمريكة - راجع صفحة 167 و102 و153 و199 و200 من كتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، تحقيق الإمام الكرملي طبعه في مصر سنة 1939. الخطأ: الأطلسي.
الصواب: الأطلنطي، أو الأتلنتي، أو الأتلنتيكي، راجع صفحة 30 و140 من كتاب نخب الذخائر المار ذكره. ومقدمة ابن خلدون طبعة بيروت الثالثة صفحة 44. الخطأ: الإمبراطور
الصواب: الانبراطور - وهو اللفظ الذي نطق به العرب،
راجع مقدمة ابن خلدون طبعة بيروت غير المشكولة ص 204
وص 234 من طبعة بيروت المشكولة. وقالوا الانبريارين
لنبات معهود، والسبب أن العرب تضع نوناً ساكنة قبل الباء(642/55)
المتحركة ولا يرد على ذلك بأن هذه النونات في مثل
انبراطور، وسبتنبر، ونوفنبر، وديسنبر تكتب ميمات في
اللغات الغربية، لأنها تلفظ نونات في تلك اللغات عينها، عن
رسالة مخطوطة، إلى من الإمام الكرملي في 25111940.
وهناك وهم شائع لا يكاد ينجو منه مؤرخ محدث وقد تردى في هوته المؤلف نفسه وهو القول بأن الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان هو أول ضارب للنقود في الإسلام.
ووجه الصواب: أن النقود ضربت في الإسلام قبل عبد الملك بن مروان. فلقد ضرب خالد بن الوليد باسمه نقوداً في طبريه سنة 15 أو 16 للهجرة. راجع التمدن الإسلامي ج 1 ص 120 نقلا عن الدكتور مولر، وصفحة 91 من كتاب النقود العربية وعلم النميات تحقيق الأب الشهير انستاس ماري الكرملي المطبوع في مصر سنة 1939. وضرب عمر بن الخطاب نقوداً حتى هم بأن يتخذ نقوداً من جلود الإبل. ص 17 و18 من كتاب النقود العربية وعلم النميات، وكان أول من ضرب النقود مستديرة عبد الله بن الزبير. راجع صفة 92 من كتاب النقود العربية. وضرب معاوية أيضاً دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً فوقع منها دينار رديء في يد شيخ من الجند فجاء به إلى معاوية وقال: يا معاوية إنا وجدنا ضربك شر ضرب. فقال له معاوية: لأحرمنك عطاءك ولا كسوتك القطيفة. صفحة 23 من كتاب النقود العربية وعلم النميات. فمما تقدم نرى أن ضرب الإسلام للنقود سبق عبد الملك بن مروان اللهم إذا أردنا أن نقول: (أن عبد الملك بن مروان كان أول موحد للنقد المتداول في البلاد العربية فيحق لنا ذلك).
هذا وأسأل الله أن يكون ما قلته خالصاً لوجه العلم والحق.
القدس
العزيزي(642/56)
العدد 643 - بتاريخ: 29 - 10 - 1945(/)
العدل الإنساني
في جرائم الحروب
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان بعض النقاد الأوربيين يكتبون عن حروب الإسلام الأولى فيذكرون منها في معرض النقد أن النبي عليه السلام كان يأمر بعقاب المشركين الذين أساءوا إلى المستضعفين كلما ظفر بهم بعد معركة من المعارك، ويحسبون أن عقوبة المقاتل لا تجوز لخصمه لأنه غير مسئول أمامه في شرعة القانون.
ومن الواضح أن هؤلاء النقاد قد نسوا أو تناسوا أن الأنبياء مطالبون بإصلاح الفساد حيث كان وليسوا هم حكومة من الحكومات تحاط دعوتهم بالأقاليم والحدود، فيجوز لهم على هذا الاعتبار ما ليس يجوز لساسة الدول وقواد الجيوش.
ولكن تشاء الأيام - بعد أربعة عشر قرناً - أن يأخذ الأوربيون بمبدأ معاقبة المقاتلين الذين يقترفون الجرائم سواء في ساحة القتال أو في غير ساحة القتال، وأن يبنوا ذلك على قاعدة مقررة لا يكثر الخلاف عليها، وهي أن الدول تسأل عن جرائمها وسيئاتها، فلا موجب لأن يعفى أفرادها - أو أجزاؤها - من العقاب، ولا يصح أن يخليهم من التبعة أنهم كانوا مأمورين مكرهين على الطاعة. فإن المتهم المكره لا يعفى من العقاب، وإن جاز أن تلاحظ حالة الإكراه في تقدير عقابه، إذا ثبت أنه كان مسوقاً إلى جناية بأمر رؤسائه وأصحاب السلطان عليه.
فالآن يجوز للخصم المقاتل الذي لا يطالب بما يطالب به الأنبياء من تعميم الإصلاح - أن يحاسب خصمه ويعاقبه على الجرائم التي تخالف القانون في بلاده. فإن كان القانون في بلاده لا يحرم الجرائم النكراء فقد سقط حقه في حماية الإنسانية وحماية الشريعة، وجاز أن ينال العقاب على هذا الاعتبار.
أما الجرائم التي يحاسب عليها المقاتلون فهي القتل والتحريض عليه، والغدر في طلب الإيواء أو اصطناع المرض والإصابة، واستخدام السموم والأسلحة المتفق على منعها، والإجهاز على الجرحى المستسلمين، والقسوة على الأسرى والمصابين بالجروح والأمراض أو اختلاس أموالهم التي لا تعتبر من الأموال العمومية، والتمثيل المعيب بجثث(643/1)
القتلى والأموات، والاعتداء على المستشفيات والمعابد والمدارس ومخلفات الفنون والآثار، وإغراق السفن المستسلمة وتخريب المدن المفتوحة التي لا يدافع عنها، واتخاذ ملابس الجيش الآخر للغدر والتغرير، ونقض العهود أو شروط التسريح.
هذه وأمثالها هي الجرائم التي تجيز الدول اليوم أن يساق مرتكبوها إلى القضاء، وأن يتلقوا عليها عقاباً قد يصل إلى الموت
ولم يعرف عن النبي عليه السلام أنه عاقب أحداً من المشركين على جريمة غير هذه الجرائم وأمثالها، ولا سيما الغدر ونقص الكلمة وتعذيب المستضعفين.
ونقول إن الدول الحديثة قد صنعت خيراً بتقرير هذا المبدأ السليم في جرائم الحروب، وأن العمل بهذا المبدأ سيفيد بعض الفائدة وإن لم تمتنع به الجرائم كل الإمتناع، لأن الجندي الذي يستحضر هذه العقوبات وهو يحمل السلاح خليق أن يتورع عن العدوان مخافة القصاص عند الهزيمة، وهو لا يأمن الهزيمة كل الأمان ولا يضمن النصر في جميع الأحوال.
وليس من الظلم أن يحيق العقاب بمن يؤمر فيطيع، لأن الرجل الذي يمثل بالأبرياء ويهتك الأعراض ويقترف المحرمات لأنه أمر بذلك فأطاع لا يعفى من العقاب في وطنه ولا يخليه من التبعة أن يحيل الذنب على آمريه. فلا اختلاف في الأمر إذا حمل السلاح وتجرد للقتال.
وإنما الظلم في رأينا أن يقصر على المجرمين في الأمم المهزومة دون المجرمين في الأمم المنصورة، لأن الذي يعاقب على الذنب أولى أن يتجنبه ولا يغضي عنه، وإلا سقطت حجته في الإدانة وتوقيع الجزاء.
نعم إنه منطق الواقع الذي تقرره القوة، ولكن حكم القوة وحكم الشريعة لا يتفقان، فلا شريعة حيث يفعل القوي ما يشاء، ولا قوة حيث يجري العدل في مجراه.
وربما تعذرت التسوية بين المهزومين والمنتصرين في الوقت الحاضر أو في وقت قريب، لأننا لا نزال قريبين من أحكام الحرب التي لا تحرم على المقاتل وزراً يقترفه في حق إنسان يناصبه العداء أو يلقي له يد السلم على ملأ من الناس.
ولكننا نرجو أن تبلغ الإنسانية هذه المرتبة الرفيعة بعد خطوات لعلها لا تطول.(643/2)
وأول هذه الخطوات أن تقام في بلاد المنتصرين أنفسهم محاكم مستقلة على مثال محكمة الغنائم التي تفصل في المنازعات بين حكوماتها وبعض الأفراد المحايدين أو المنسوبين إلى الأعداء. فقد حدث غير مرة أن قضت هذه المحاكم المستقلة على حكوماتها بالغرامة والتعويض، فكان فخر الحكومات بقضائها المستقل أنفع للأمة من كل مال تخسره في ساحة القضاء.
فإذا قامت هذه المحاكم وجب أن يباح لكل إنسان في أمة منهزمة أن يتقدم إليها بالشكوى من الجنايات التي اقترفها الجنود المنتصرون، وأن يدان الجناة بالعقوبات التي يدان بها المنهزمون، متى ثبتت جنايتهم بالبرهان الذي لا يقبل المحال.
وموضع الصعوبة هنا أن تعتبر شهادة المنهزم لتأييد دعوى المنهزم وكلاهما موتور متهم النية والشعور، ولكن الوقائع لا تثبت كلها بالشهادات، وليست الشهادات كلها مع هذا بالتي يلتبس فيها الحق والباطل كل الالتباس.
والخطوة الثانية في طريق العدل الإنساني بصدد الجرائم التي تقترف أثناء الحروب أن يؤخذ حق القضاء من الدول المنفردة ويوكل إلى هيئة عالمية يتبع في تأليفها نظام لا تغيره الهزائم والانتصارات، ويعرف أعضاؤها وأصول المقاضاة بين يديها قبل أن تعرف مصائر الحروب.
والخطوة الأخيرة - ولعلها لا تحسب من أحلام الخيال - أن تفلح الهيئات الدولية والمواثيق العالمية في منع الحروب وفض الخصومات من طريق التحكيم، فلا حروب ولا جنايات في أثناء الحروب ولا محاكمات أو عقوبات من جراء تلك الجنايات.
فإذا كان هذا حلماً من أحلام الخيال فدونه في الطمع أن تقع الحروب ولكن على الفيصل الواضح بين المحقين والمبطلين، فيتسنى للعالم كله أن ينصر المحق على المبطل، وأن يحصر شرور القتال في أضيق الحدود.
منى إن تكن حقاً تكن أعذب المنى! وإلا فهي على كل حال خير من اليأس الدائم من كل مصير.
عباس محمود العقاد(643/3)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الاديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 14 -
* ج 13 ص 30:
غنينا بلا دنيا عن الخلق كلهم ... وإن ما الغنى إلا عن الشيء لا به
وجاء في الشرح: أن مخففة من إن، اسمها محذوف والجملة بعدها خبر مفيدة للحصر.
قلت: وليس الغنى إلا عن الشيء لا به.
وقائل الشعر هو علي بن الحسن القهستاني، قال ياقوت: كان يميل إلى علوم الأوائل، ويدمن النظر في الفلسفة، فقدح في دينه، ومقت لذلك. . .
* ج 1 ص 256: كان (إبراهيم بن محمد نفطويه) عالماً بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد. قال المرزباني في المقتبس: وكان يخضب بالوسمة. وكان من طهارة الأخلاق وحسن المجالسة والصدق فيما يرويه على حال، ما شاهدت عليها أحداً ممن لقيناه.
قلت: في (الصحاح): الوسمة بكسر السين العظلم يختضب به، وتسكينها لغة. وفي (التاج): قال الأزهري كلام العرب الوسمة بكسر السين. قاله الفراء وغيره من النحويين.
في (الكامل): قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة؟ فقال: لم ذاك؟ فقال: لتصبو إليك النساء. فقال: أما نساؤنا فما يردن منا بديلا، وأما غيرهن، فما نلتمس صبوتهن. . .
* ج 11 ص 41:
أقلوا عليّ اللوم فيها فإنني ... تخيرتها منهم زُبَيريّة قَلْباً
أحب بني العوْام طراً لحبها ... ومن حبها أحببت أخوالها كلباً
وجاء في الشرح: ولها قلب كقلوب آل الزبير طهارة وحفاظ عهد.
قلت: في الأساس: رجل قلب محض واسط وامرأة
قلب وقلبة قلب عقيلة أقوام ذوي حسب=ترمى المقانب عنها والأراجيل
وفي النهاية: كان على قرشياً قلباً أي خالصاً من صميم قريش. وفي اللسان: يستوي فيه(643/4)
المذكر والمؤنث والجمع، وإن شئت ثنيت وجمعت. قال سيبويه: وقالوا هذا عربي قلب وقلباً على الصفة والمصدر، والصفة أكثر.
الشعر هو لخالد بن يزيد بن معاوية في امرأته رملة بنت الزبير ابن العوام. وهو مقطوعة روى المبرد منها ثلاثة أبيات (منها هذان البيتان) ثم قال: وزيد فيها:
فإن تسلمي أسلم وأن تتنصري ... يعلق رجال بين أعينهم صلباً
فيروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت، فقال له يا خالد، أتروي هذا البيت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، على قائله لعنة الله. . .
ورواية الكامل (فلا تكثروا فيها الملام) (ومن أجلها أحببت)
* ج 18 ص 18: أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي قال: هو أحد الفضلاء المعروفين، والشعراء المفلقين، صاحب التصانيف العجيبة المفيدة جداً وهزلا، والفائق أهل عصره ظرفا وفضلا، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حماة لسانه وعقارب هجائه ثانية. ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحداً من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس إلا هجاه. . . ومما حكاه لي (رحمه الله) أنه قال: ما وقع بصري قط على شخص إلا تصور في قلبي هجاؤه قبل أن أكلمه وأجربه أو أخبر حاله. . .
وجاء في الشرح: (حماة) جمع حمة وهي الحية أو إبرتها التي تلدغ بها.
قلت: حمات بضم الحاء وبالتاء المطولة جمع كثبة. وفي طبعة (القاموس): (حماة) مثل قضاة الهاء أو بالتاء المقصرة. وهو خطأ.
والحمة هي السم كما جاء باللسان. وفي الأساس فوعة السم وسورته. وفي اللسان: قال بعضهم الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور ونحو ذلك أو تلدغ بها. وفي (أدب الكتاب) لابن قتيبة:. . . حمة العقرب والزنبور يذهب الناس إلى أنها شوكة العقرب وشوكة الزنبور التي يلسعان بها وذلك غلط؛ إنما الحمة سمها وضرها. وفي (النهاية): ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة لأن السم منها يخرج.
* ج 1 ص 123:
يا حيائي ممن أحب إذا ما ... قلت بعد الفراق إني حييتُ(643/5)
لو صدقت الهوى حبيباً على الصحة ... لما نأى لكنتُ أموت
قلت: (إذا ما قال) (لو صدقتَ الهوى) (لكنتَ تموت) كما روى الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) ج 6 ص 38 ومثله ما رواه الخطيب وياقوت:
غابوا فصار الجسم من بعدهم ... ما تنظر العين له فيّا
بأي وجه أتلقاهُم ... إذا رأوني بعدهم حيا؟
يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لنا شيا!
* ج 9 ص 152:. . . وكان (أبو الحسن بن محمد العسقلاني) يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني منها استمد، وبها اعتد، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر، لأن في رسائله جوابات إلى الفساسيري. . .
قلت: البساسيري بالباء كما ضبط في (الوفيات) قال ابن خلكان: أبو الحارث أرسلان بن عبد الله البساسيري التركي وهو الذي خرج على الإمام القائم بأمر الله ببغداد، وكان قد قدمه على جميع الأتراك وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخورستان، فعظم أمره، وهابته الملوك ثم خرج على الإمام القائم وأخرجه من بغداد، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فراح الإمام القائم إلى أمير العرب محي الدين أبي الحارث صاحب الحديثة وعانة، فآواه وقام بجميع ما يحتاج إليه مدة سنة كاملة حتى جاء طغرلبك السلجوقي، وقاتل البساسيري وقتله، وعاد القائم إلى بغداد، وكان دخوله إليها في مثل اليوم الذي خرج منها بعد حول كامل، وكان هذا من غرائب الاتفاق.
وقال ابن خلكان في سيرة المستنصر: وجرى في أيامه ما لم يجر في أيام أحد من أهل بيته. . . منها قضية البساسيري فأنه لما عظم أمره ببغداد قطع خطبة القائم وخطب للمستنصر وذلك في سنة (450) ودعي له على منابرها مدة سنة. ومنها أنه ثار في أيامه على بن محمد الصليحي وملك بلاد اليمن، ودعي للمستنصر على منابرها. ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس. ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضا حتى قيل: إنه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً. وكان المستنصر في(643/6)
هذه الشدة يركب وحده وكل من معه من الخواص مترجلين ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا يتساقطون في الطرقات من الجوع. وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع وذلك في سنة (462) وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا، ولم يزل هذا الأمر على شدته حتى تحرك بدر الجمالي من عكا، وجاء إلى مصر، وتولى تدبير الأمور فانصلحت.
قلت: (انصلح) في كلام المتأخرين في الشعر والنثر كثيرة. أصلح الله الحال والأفعال والأقوال. . .!
* ج 9 ص 175: وكتب (الحسن بن محمد العسقلاني) إلى صارم الدولة بن معروف: أطال الله بقاء الحضرة الصارمية يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، وتحلى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وتنجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة.
قلت: الأهوية جمع الهواء، واليقين أن العسقلاني لا يريد هذا المعنى بل يقصد الهوى (المقصور)؛ ومن معانيه (مراد النفس) وهذا يجمع على الأهواء. وهو السجع، وكم أضل، وكم له من صريع. . .
* ج 15 ص 217:
تلاحظ عن سحر، وتسجر عن دجى ... وتسفر عن صبح، وتبسم عن عقد
وجاء في الشرح: وشعرها المسجر ليل، وشعر مسجر: مسترسل.
قلت: (وتسحر عن دجى) استعمل تسحر استعماله تسفر، والسحر قبيل الصبح آخر الليل، في الأساس: وإنما سمي السحر استعارة لأنه وقت أدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس الصبح. في التاج: السحر بفتح فسكون وقد يحرك، ويضم: الرئة. وقيل هو كل ما تعلق بالحلقوم من قلب وكبد ورئة.
* ج 16 ص 84: ومن كلام الجاحظ: أحذر من تأمن كأنك حذر ممن تخاف.
وجاء في الشرح: (في الأصل فإنك).
قلت: الأصل صحيح.
* ج 12 ص 248: قال أبو مروان بن حيان. . . وكان (ابن حزم) يحمل علمه هذا (في مذهب أصحاب الظاهر) ويجادل من خالفه فيه. . . فلم يك يلطف صدعه بما عنده(643/7)
بتعريض، ولا يرقه بتدريج، بل يصك به معارضه صك الجندل، وينشقه متلقعه إنشاق الخردل. . .
وجاء في الشرح: المتلقع الذي يرمي بالكلام رمياً.
قلت: (وينشقه متعقبه) وتلقع فعل لازم، وتعقب متعد. في اللسان: واستعقبت الرجل وتعقبته إذا طلبت عورته وعثرته. وفي الأساس: وتعقبت ما صنع فلان: تتبعته، ولم أجد عن قولك متعقبا أي متفحصاً يعني أنه من السداد والصحة بحيث لا يحتاج إلى تعقب.
قال ابن خلكان: قال أبو العباس بن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف الثقفي شقيقين. قال صاعد بن أحمد الجياني في كتاب أخبار الحكماء - كما روى ياقوت -: أخبرني ابنه الفضل أن مبلغ تآليفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التأريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارض نحو (400) مجلد، تشمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ولأبي محمد ابن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر، وصناعة الخطابة.(643/8)
القضاء في الإسلام
قطعة أخرى من محاضرة ألقيت سنة 1942 ولم تنشر
للأستاذ علي الطنطاوي
القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار. . . كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إلي، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له، فإنما أقضي له بقطعة من النار - وكيف يهدأ له بال، ويقر له قرار، ويلتذ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسميها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟
لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفروا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظل على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطلب ابن وهب ليولى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعل الله يحي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟! ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يارب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يارب، ولو قرضت بالمقاريض!
ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فر إياس من القضاء، فلما تعذر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلا باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي
خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون ما مغبتها، وبلاء لا يعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه(643/9)
أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم، وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صاحبه بالمذبوح بغير سكين، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار
نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجل الطاعات، فرغبوا فيه، وتقربوا إلى الله به، قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في طاعة الله؛ ورجل آتاه الله علماً، فهو يعلمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إلي من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسر علي رضي الله عنه والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما: قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم. وفسروا حديث المذبوح بغير سكين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجر، يسدده للحق ما لم يرد غيره.
وقد فصل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحباً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه، وأن من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتباع المغريات
وليس كل طالب للقضاء يولاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتوليه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأ أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت، ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمر من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار(643/10)
من أرباب المكان وخلاصة السكان، فإذا عدونا ذلك لم نجد في أصول تقليد القضاء عندنا مغمزاً
وتعالوا قابلوا بين شرائط تقليد القضاء اليوم، وقد نص عليها القرار ذو الرقم 238 وبين ما اشترطه الفقهاء في القاضي تروا أمرها من أمره قريب، فقد شرط القرار أن يكون القاضي سورياً، لأن القضاء مظهر من مظاهر السيادة، وأداة من أدوات السلطان، فهو يوسد إلى أبناء الأمة تثبيتاً لسيادتها وتقوية لسلطانها. وشرط الفقهاء أن يكون مسلماً، لأن الجنسية عند المسلمين هي الدين، وقد منعوا سماع شهادة غير المسلم على المسلم، لأنها ولاية، والله تعالى يقول: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، والقضاء بذلك المنع أولى
واشترط القرار ألا يكون القاضي محكوماً بعقوبة شائنة، وأن يكون فاضل الخلق، واشترط الفقهاء العدالة فيه، وإن ذهب الحنفية إلى صحة ولاية الفاسق إن لم يجاوز في أحكامه حد الشرع مع تأثيم من يولي فاسقاً
واتفق القانون والشرع على اشتراط صحة الحواس في القاضي، لأن بها تمييز ما بين الخصوم، وتمييز المحق من المبطل، وعلى اشتراط الذكورة في القاضي، ولم يجوز القانون تقييد امرأة القضاء بين الناس، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله بجواز تقليدها القضاء فيما تصح به شهادتها، أي في الشرعيات والمدنيات دون الجنائيات، فمن لي بإفهام هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أنصار المرأة أن الشرع أعطاها أكثر مما يطلبون لها، وأن مذهبهم يقوم على واحد من شيئين: إما الغفلة وابتغاء ما لا يكون أبداً من تساوي المرأة بالرجل، وإما المجانة واتخاذ هذه الدعوة مطية يبلغون بها حاجات في نفوسهم
ولم يرو لنا التاريخ خلال هذه العصور الطويلة أن امرأة وليت القضاء، ولا يكاد يسيغ العقل ذلك ولا الطبع يألفه، وقد قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض)؛ وفسروا الفضل بأنه العقل والدين
واتفقت قوانين اليوم وأحكام الفقه على اشتراط العلم في القاضي؛ غير أن القانون أوجب نيله ليسانس الحقوق قاضياً شرعياً كان أو مدنياً
وأكثر الفقهاء شرطوا في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، واحتجوا بحديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن(643/11)
لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فارتضى ذلك رسول الله، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله إلى ما يرضي رسوله؛ واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيما لم يوح إليه حكمه. ويقضي باجتهاده (ولكن الله لا يقره على الخطأ)، وأن الاجتهاد كان جائزاً للصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام
وجاء في المبسوط: إن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه، وإنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه، فكما أنه لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص، لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه
غير أن الحنفية ذكروا أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية لا شرط صحة التولية، وأنه يصح قضاء المقلد إذا قضى بفتوى غيره (الهداية والهندية)، أما المفتى، فأجمعوا على اشتراط كونه من أهل الاجتهاد، أو النظر في الدليل. قال أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعرف من أين قلنا. وهذا منتهى ما تصل إليه حرية البحث، وما تبلغه الروح الاستقلالية في العلم
قال في المبسوط: (وإذا لم يكن القاضي من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل، سأل المفتين (أي المجتهدين)، ونظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه، وهذا اجتهاد مثله، ولا يعجل بالحكم إذا لم يبن له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة)
ومهما كان من أمر، فالأصل في القضاء الاجتهاد، ولا يكون إلا كذلك، لأن النصوص محدودة، والوقائع لا حد لها، ولا ينقطع الاجتهاد في المسائل الجزئية أبداً، ومن قال بسد باب الاجتهاد، إنما أراد به الاجتهاد في غير موضع الحاجة أو الاجتهاد المطلق، أما الاجتهاد عند وقوع الواقعة لا بد من معرفة حكم الله فيها، أو عند تبدل العزف الذي بني عليه الحكم الاجتهادي، فلم يمنعه أحد ولم ينقطع أبداً، ولا يقلد في هذا الموطن إلا عصبي أو غبي كما قال القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب:
قال الطحاوي (أبو جعفر الإمام الحنفي الكبير)، وكان كاتب هذا القاضي: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها(643/12)
القاضي، أو كل ما قال أبو حنيفة أقول به؟! قال: ما ظننتك إلا مقلداً، قلت: وهل يقلد إلا عصبي؟ قال لي: أو غبي. فطارت هذه الكلمة في مصر حتى صارت مثلا، وكان ذلك في أول القرن الرابع
سمعتم خلاصة الخلاف في هذه المسألة، وعلمتم أن العزيمة هي كون القاضي من أهل الاجتهاد، والرخصة التي قال بها الحنفية هي جواز كونه مقلداً يا أيها السادة: إنهم كانوا يختلفون في القاضي هل يجوز له التقليد، فلم يبق خلاف بيننا اليوم في أن القاضي لا يجوز له الاجتهاد!
ونقل الماوردي، أن السلطان إذا قال للقاضي قد وليتك فلا تحكم إلا بمذهب فلان (من الأئمة) كان الشرط باطلا، وكان له أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده. ومن الاجتهاد اختيار من يفتي بقوله من المفتين كما جاء في المبسوط.
أما القضاء اليوم فالأهلي منه على مذهب (أئمة) الإفرنج، كأننا أمة من البرابرة لا دين لها ولا فقه، ولا كتاب. وقد بدت في سواد هذا الليل خيوط الفجر، وأوشك أن يفيق النائمون. وأما الشرعي فعلى مذهب أبي حنيفة، إلا مسائل بأعيانها جرى العمل فيها (في مصر) على غيره، منها ما عدل فيه إلى قول معتمد في أحد المذاهب الثلاثة، ومنها ما خولفت فيه المذاهب الأربعة اجتهاداً ورجوعاً إلى دليل كمسألة طلاق الثلاث دفعة واحدة ووقوع طلقة واحدة به، ومنها ما خولفت فيه بلا دليل شرعي كمنع سماع دعوى الزواج ممن لم تبلغ السابعة عشرة أو ما لم تسجل في كتاب وقد مات أحد الزوجين - ولو أنهم اجتهدوا في مصر ونظروا في الأدلة لهان الخطب، ولكن سبيلهم أن يهونوا حكما، كتوريث ابن الابن مع الابن، فيحتالوا عليه، فيسموه وصية إجبارية، أو يجدوا له مستنداً قولا لمجتهد من المجتهدين الأولين ولو كان مرجوحاً أو منقطعاً سنده، فيأخذوا به، وهذا ما سماه ابن عابدين في رسالته اتباع الهوى.
أما القضاء عندنا فليس فيه ابتداع أو مخالفة إلا في مسألة واحدة ولكنا خالفنا فيها ظاهر القرآن وثابت السنة والإجماع. لا تعجبوا يا سادة قبل أن تسمعوا البيان:
نصت المادة 7 من قرار حقوق العائلة على أنه لا يجوز لأحد أصلا أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة ولا الصغيرة التي لم تكمل التاسعة. ونص في المادة 52 منه على(643/13)
أن هذا النكاح فاسد. وفي المادة 77 على أن البقاء على الزوجية ممنوع في هذا النكاح فإذا لم يفترقا يفرق بينهما القاضي.
أما خلافها لظاهر القرآن (وظواهره حجة كما هو محرر في كتب الأصول) فلقوله تعالى: (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن). ففهم من ذلك صحة زواج المرأة وطلاقها قبل بلوغها سن الحيض. أما السنة فلزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في السنة السادسة من عمرها، والحديث (كما قال في فتح القدير) قريب من المتواتر. وقد انعقد الإجماع على أن حكمه عام وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بعائشة. وقد زوج الزبير ابنته لقدامة بن مظعون يوم ولدت، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة مع علمهم به. أفنكاح قدامة بنت الزبير نكاح فاسد يا أيها السادة؟ أم انه يجب التفريق بين محمد سيد النبيين وإمام المرسلين، وعائشة أم المؤمنين، لأن قرار حقوق العائلة يمنع بقاءهما على الزوجية؟ أم إنه يزعم أن أحكام الإسلام تتبدل ولو نطق بها القرآن وجاءت بها السنة المتواترة وانعقد عليها الإجماع؟
سيقول قائل منكم أو من غيركم إن قانون العائلة وضعه فحول من العلماء، وعرض على شيخ الإسلام وأمر به السلطان واستند فيه إلى اجتهاد ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم.
لا يا سادة، إنه لا شيخ الإسلام، ولا السلطان، ولا مائة مجتهد يستطيعون مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، وما أحسب قاضياً يخاف الله ويعرف طرق العلم يحكم بغير ما أنزل الله فيصح فيه الوصف بالفسوق والظلم والكفر، وقد وصف الله بها من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف بمن يحكم بخلافه؟!
وإني احب أن أسركم فأخبركم بأن هذه المادة قد وضعت من أكثر من ثلاثين سنة، ولكن قاضياً واحداً لم يقض بها، فلم يبق منها إلا سواد الحبر في بياض الورق، ذلك لتعلموا أن هذا القرآن قد تولى الله حفظه وحمايته (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وإن قلعة يدافع عنها الله لا يستطيع أن يقتحمها بشر!
علي الطنطاوي(643/14)
ملحمة الحرب والسلام
دراسة تحليلية لفكرة الحرب وعواملها والسلام وأسسه
للأستاذ فؤاد عوض واصف
يكاد يكون الشعار الغالب في حياة البدائي الأخلاقية هو أن يكون الإنسان سعيد الحظ في الحرب يقتل من استطاع من الأعداء. وأنجح الكشوف هو ذلك الذي يهيئ للقبائل البدائية اقتناص أكبر عدد من الأجانب والعودة بجماجمهم، يجمعونها في حرز حريز لأنها الثروة التي بها يتفاضلون، وهي ضمان الشجاعة والشرف التي يتقدم البدائي إلى عروسه في فخر وخيلاء. . .
فإذا انتقلنا إلى شعوب أكثر حضارة وجدنا أن الوحدة الاجتماعية تكبر وتتميز؛ وكلما قويت الوحدة الاجتماعية ازداد الشعب استنكاراً لجريمة القتل؛ إلا أن النظرة إلى الأجنبي تظل محتفظة بآثارها الموروثة عن القبيلة. فقوانين الملك اين تصور لنا كيف كانت حياة الأجنبي رخيصة في بلاد اليونان في العصور الأولى، فلم يكن له أي حق قانوني. وكذلك كان الحال في الشعوب الرومانية القديمة؛ فالكلمة اللاتينية ومعناها عدو كانت تعني الأجنبي أيضاً. فالأجنبي والعدو يدل عليهما بكلمة واحدة. والذي يدلنا على مدى نظرة هذه الشعوب - ومن شابهها في درجة الحضارة - إلى الأجنبي، تلك السهولة التي كانوا يقابلون بها حروبهم مع الأجانب. وفي التاريخ المصري القديم لا نشاهد أية صيحة على الحروب وأهوالها، وكأنما الحرب ضرورة مادام هنالك أجنبي. وكذلك الحال عند العبرانيين القدماء إذ كانوا يتصورون أن الحياة حق مقصور عليهم وعلى نسلهم. وعند العرب في الجاهلية كانت القبائل تتحارب لأتفه الأسباب، ومن ذلك ما يروى عن أيامهم، فيوم النباج وتيتل مثلاً كان من الوقائع التي أثارها حب الغزو فحسب.
وكل هذا يدلنا على أنه إذا كان نطاق القتل داخل البلاد قد ضاق كثيراً عنه في الشعوب البدائية، فقد ظل الأجنبي منظوراً إليه بنظرة لا تختلف عن نظرة الشعوب البدائية.
ولما دخلت المسيحية في أوربا أشاعت احترام الحياة الإنسانية بدرجة لم تعرف في العصور السابقة. وكان المسيحيون في عصورهم الأولى يرون أن القتل في جميع صوره خطيئة كبرى. وفي هذا يقول ترتيليو هل من الممكن أن يكون لنا حق امتشاق الحسام(643/15)
والسيد المسيح نفسه قد صرح لتلاميذه أن (. . . كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون).
ولئن كان السيد المسيح قد أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده عندما أراد بطرس أن يقاتل أعداء المسيح، فإنما كان يعني المسيح بهذا أن امتشاق الحسام محرم على كل جندي في المستقبل.
وفي سنة 314م صدر أمر بأن يحاكم كل جندي يترك سلاحه من أجل الدين، وذلك لأن البلاد كانت مهددة بغارات الأعداء. وهكذا نرى أن فكرة الحرب بدأت تعود، وأن آباء القرن الرابع والخامس الميلادي قد أخذوا يبررون امتشاق الحسام؛ حتى إذا جاء القديس أوغسطين ذهب إلى أبعد من هذا حين أراد تفسير العهد الجديد تفسيراً لا يتعارض مع فكرة الحرب، وعنده أن السيد المسيح عندما أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده لم يكن يعني كل جندي وإنما كان يعني بطرس بالذات لأن امتشاقه الحسام لم يكن قانونياً. وينتهي أوغسطين من هذا بقوله: (إذا كان السلام هو الخير الأسمى وكانت مدينة الله قد أقيمت من سلام أزلي فإن الحرب في بعض الأحايين ضرورة لهذا العالم الممتلئ بالخطيئة).
نجد في كلام القديس أوغسطين تحولا جديداً في فكرة الحرب عمل أتباعه على تدعيمه قائلين إنه ليس ثمة تعارض بين أن يكون الإنسان مسيحياً وجندياً في الوقت نفسه. وانتهى الأمر بأن يتناول الفارس سيفه من القسيس الذي يباركه ويقول له تلك العبارة باللاتينية:
, ,
أعني: في خدمة سيدك المسيح تتناول حسامك أيها الجندي باسم الأب والابن والروح القدس آمين. وهكذا أصبح الجندي يمتشق الحسام باسم الله، والحرب أصبحت قضاء من الله، والنصر هبة من هباته.
وفي العصور الوسطى أيضاً كانت الحرب قضاء من الله. فاللورد بيكون يرى أن الحرب هي الوسيلة المثلى التي يتجلى بها الحق واضحاً، إذ يحتكم الله عز جلاله بين الأمراء والمتنازعين. ويقول لاهوتي في هذا الصدد، إن الحرب مرآة تقرب إلينا صورة الله (فليس كرائحة البارود عطر يستطيع من يتنسمه أن يتعرف الحق السماوي في صورته العليا. . .)(643/16)
ولكن النزعة السلمية لم تعدم الأنصار في أوربا في تلك الآونة؛ ففي القرن الرابع عشر ظهرت جماعة اللولارد وقالوا إن الحرب في جميع صورها تتعارض مع تعاليم الإنجيل. وإن سلاماً غير عادل أكرم من حرب عادلة. ويقول (ارازم) إن الحرب ليست وحشية فحسب بل هي أكثر من ذلك، لأن الإنسان القاتل أكثر وحشية من الوحش نفسه، لأن الطبيعة إذا كانت قد هيأت الوحوش للحرب فإنها على العكس لم تهيئ الإنسان للحرب؛ ومن ذهب إلى الحرب فليعلمن أنه يمتشق الحسام ضد الطبيعة وضد الله وضد الإنسان. . .
وجماعة الكويكرز ترى أن الحرب أيا كانت تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس؛ وإذا كانت نهاية الإنسان هي الخلود فإن مستقبل فرد واحد في الآخرة يفوق كل خير وقتي لأمة بأسرها. . .
ومن هنا نرى أن الناس قد انقسموا أمام فكرة الحرب، في تلك الآونة، إلى فريقين: فريق يرى أن الحرب مرآة فيها يتجلى الحق السماوي، وفريق يرى أن الحرب تتعارض مع تعاليم المسيحية، وأن سلاماً غير عادل أفضل من حرب عادلة.
وأما الحال عند العرب فقد عرفنا أن الإسلام قد أبطل الكثير من عاداتهم القديمة وجعل القتل جريمة كبرى. وقد نص القرآن الكريم على هذا بقوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).
ولكن القرآن قد حث من جهة أخرى على مقاتلة الكفرة في ظروف معينة إذ يحق للعرب أن يعتبروا (الجنة في ظلال السيوف). وفي هذا يقول الله لنبيه: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وهكذا يكون الإسلام قد أجاز الحرب في ظروف خاصة.
وفي القرن السابع عشر ظهرت في أوربا طائفة الموسوعيين وعلى رأسهم ديدرو الذي استطاع أن يجمع إليه عدداً من أشهر فلاسفة أوربا من أمثال فولتير وروسو. والفلاسفة - في الانسيكلوبديا - وإن تباينت آراؤهم قد اتفقوا في معاداتهم للمبادئ الكاثوليكية ولم تكن إذ ذاك سلمية. ولقد قام فلاسفة الانسيكلوبدية بدعوة سلمية معتدلة تختلف عن دعوة ارازم، ففولتير وإن يكن يعترف بأن الحرب واجبة في بعض الأوقات إلا أنه ينعى عليها شرورها ويقول إن الذي يجر الناس إليها طمع الأمراء وجشعهم.(643/17)
ونحن نجد أيضاً عند فلاسفة النهضة الحديثة من أمثال كانت وبنتام وروسو نزعات معادية للحرب. ولكن ظهر رد فعل لهذه النزعات، في نزعة قومية زعم أنصارها أن وحدة عالمية ليست إلا حلماً فظيعاً؛ فليس ثمة ضمان لفضيلة عندهم إلا بوجود القوميات؛ وهكذا أخذوا ينفخون في نفير الحرب لأنها مقياس الحق ولأنها منبع ترتوي منه الفضيلة فيشتد عودها ويتقوى ساعدها. والحرب عند نيتشة قد جلبت للإنسانية من الخيرات أضعاف ما جلبه الحب الإنساني. وهي عند راسكين أم الفنون وجميع الفضائل المدنية. ولقد أصبحت الحياة عند هؤلاء حق يغتصبه القوي من الضعيف. وإن الصراع من أجل الحياة بين الأقوياء والضعفاء سيتمخض عن الإنسان الأعلى الذي يعلو على أعقاب الضعفاء ويقضي على جيلهم. ان فلسفة القوميات في الواقع هي فلسفة قوة وحرب وسيطرة.
وبعد سقوط نابليون شاع في العالم الرغبة في سلام طويل. ولكنها كانت فترة قصيرة تلك التي شاع فيها حب السلام استيقظت بعدها صيحة القوميات وتعطشها إلى الحرب والسيطرة.
عرضنا فيما سبق استقراء عاماً لفكرة الحرب وتحولها في أحقاب التاريخ. وإن نظرة واحدة إلى ما أمامنا من العناصر لكافية بأن تخرجنا بحقيقة أشبه بأن تكون يقينية، إن كان هنالك ثمة يقين في مجال العلم الحديث. . .
لقد وجدنا أن فكرة الحرب من المعاني الخلقية التي لم تثبت على حال واحدة، بل اختلفت وتبدلت باختلاف الشعوب والعصور؛ فبينا نرى الحرب في بعض الأحايين خيراً أسمى بل وضماناً للفضيلة، نراها في أحايين أخرى شراً مستطيراً، أولى بالحيوانات الكاسرة منها بالإنسان الأخلاقي. . .
هذا الاختلاف في نظرة الإنسان إلى معين الحرب نتيجة لعوامل اجتماعية تشكل الوجدان الأخلاقي فتارة تغلب عليه فكرة الحرب فيراها الإنسان خيرا، وتارة تغلب عليه فكرة السلام فتبدو الحرب للإنسان شراً ليس بعده شر.
فكرة الحرب إذا من المعاني النسبية، تخضع لعوامل اجتماعية معينة تتولد منها وتزول بزوالها.
والتاريخ يدلنا على ألوان أخرى من القتال غير الحروب بصورتها الحالية وذلك مثل(643/18)
الحروب الخاصة والثأر للدم والمبارزة بين الأفراد وغيرها. وقد كانت هذه الأنواع من القتال تتولد تحت ظروف اجتماعية معينة، وكانت تبدو للضمير الجمعي في صورة بطولة وشرف. حتى إذا زالت العوامل الاجتماعية المولدة زالت معها أنواع القتال المختلفة، وأصبحت نظرة الناس إليها غير تلك النظرة السابقة. . .
لذلك ليس بصحيح ما يزعمه بعض العلماء من أن الحرب ضرورة في فطرة الإنسان، فكما أن خلايا الجسم تتحارب فتتولد الحياة الفردية، كذلك يتحارب الناس فتتولد الحياة الاجتماعية. إنما الحرب كما أثبت الاستقراء التاريخي، نتيجة لعوامل اجتماعية خاصة قابلة لأن تزول، وعندئذ تصبح فكرة الحرب من المعاني المجهولة، كما أن الكثير من أنواع القتل كالمبارزة بين الأفراد أصبحنا نجهله كل الجهل.
وعند العلامة وسترمارك أن أنصار السلام يزدادون يوماً بعد يوم، وهكذا عندما تنحسر موجة القوميات - وهي العوامل الاجتماعية المولدة للحروب في عصورنا - ولا يعود الناس ينظرون إلى الحرب والسلام بالمنظار القومي، فإن كل الدلائل تدل على أن الصيحة ضد الاستبداد المنبعثة من القوميات ستخفت، كما خفت غيرها من صيحات الحروب الخاصة والثأر للدم. . .
وإن لنا الدليل كل الدليل في أن العالم يتجه نحو وحدة عالمية، تتلاشى عندها الدوافع القومية وتختفي معالمها، وذلك في روح المذاهب السياسية للدول المنتصرة في هذه الحرب. فالديموقراطية تنعت بأنها مبدأ يعلو على القومية - وكذلك الاشتراكية الحديثة في روسيا (البلشفية) ليست مبدأ قومياً، وإنما هي ترمي في النهاية إلى وحدة عالمية شأنها في ذلك شأن الديموقراطية. ففي حين أننا نرى الفاشيستية والاشتراكية القومية (النازية) تنظران إلى وحدة عالمية كحلم فظيع، نرى أن الديموقراطية والبلشفية تتجهان في جوهرهما إلى وحدة عالمية يسودها الوئام والسلام. . .
إن ملحمة الحرب ملحمة طويلة وحافلة، ولكن لها - ككل قصة في الحياة - نهاية وخاتمة
فؤاد عوض واصف
ليسانسيه في الفلسفة(643/19)
رأي جديد في
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
1 - منهج البحث
لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد (أعني روايته للشعر)؛ فقد أكثرت كتب الطبقات من ذكر أخباره والأحداث التي تقلبت عليه، ولكنها لم تعرض لروايته كما يعرض العلماء لمواضيع بحثهم، ولم تمحصها كما يجب أن تمحص الأشياء، وكل ما فعلته أنها اتهمته بالوضع والانتحال وذكرت من أخبار انتحاله الشيء الكثير.
أقول: لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد، ولكنني قبل أن أمحص هذه الرواية، يجب أن أعرض لحياة هذا الراوية في عصره وللراوية هذا العصر؛ فلعل اكتناه حياته والرواية في عصره يأخذ بيدنا عند تمحيص روايته؛ ولعله يكشف لنا منها جوانب ما كنا لنفطن لها لولاه؛ ولعله يكشف لنا عن الدواعي التي حدت به إلى أن يضع إن كان قد وضع حقا، أو الدواعي التي جعلت الرواة يتحاملون عليه إن كان هو من الوضع براء.
هذا منهج البحث لا أشك في أنه سيصل بي إلى النتيجة الحق. ذلك لأنه منهج قائم على أساس صحيح؛ فهو يربط بين حماد راوية وبينه إنسانا في ذاته وإنسانا في مجتمع، وهو يربط بين روايته ومجرى الرواية في عصره. والدراسات الأدبية لا يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة ما لم تربط بين من تدرسه وبين نفسه وبيئته.
2 - حياة حماد
يقول ابن قتيبة في كتاب المعارف (ص 183): هو حماد بن هرمز؛ وكان هرمز من سبى مكنف بن زيد الخيل، وكان ديلميا يكنى أبا ليلى. ويقول في كتاب الشعر والشعراء (ص 157 وحماد الراوية مولى مكنف.
وفي الأغاني (ج 5 ص 164 ط بولاق) أن الأصمعي سأل حمادا: ممن أنتم؟ فقال حماد: كان أبي من سبى سلمان بن ربيعة، فطرحتنا سلمان لبني شيبان، فولاؤنا لهم.(643/21)
ويقول ابن النديم في الفهرست (ص 91 ط فلوجل) إنه: أبو القاسم حماد بن سابور بن المبارك بن عبيد؛ وكان سابور يكنى أبا ليلى، من سبى الديلم، سباه ابن عروة بن زيد الخيل ووهبه لابنته ليلى يخدمها خمسين سنة، ثم ماتت، فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه.
ويقول ياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 137 ط مرجليوث) إنه حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي؛ مولى بني بكر بن وائل، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل الكوفي المعروف بالراوية
ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس) إنه أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور، وقيل ميسرة ابن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي.
فظاهر من هذه الروايات الخمس أن حمادا ديلمي الأصل؛ وأنه من الموالي، وإن كان قد اختلف في ولائه: لمن. على أن هذا اختلاف في الظاهر. فنحن إذا أخذنا برواية ابن النديم استبان لنا أن ولاء حماد كان لابن زيد الخيل (ابن عروة كما يقول ابن النديم، أو مكنف كما يقول ابن قتيبة وياقوت، ثم كان لعامر بن مطر الشيباني. وشيبان بن ثعلبة، وثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر. وهكذا نفهم تردد ولاء حماد بين ابن زيد الخيل وبني شيبان وبني بكر بن وائل. ولكننا لا نجد بعد هذا تفسيرا لما يقوله حماد من أن أباه كان من سبى سلمان بن ربيعة، فنحن لا نعرف من هم بنو سلمان هؤلاء.
والديلم - كما يقول هيار في كتابه: (ص 58) - هم ذلك الجنس الهائل الذي كان يحتقر العرب؛ والذي كان يسكن جبال جيلان الوعرة مستقلا غير خاضع لسلطة ما؛ والذي استولى على بغداد باسم بني بويه، فجرد الخلافة من سلطتها الزمنية، ولم يبق لها إلا سلطة روحية محضا، وكان لحق حماد ينم عن أصله الأعجمي.
وظاهر من هذه الروايات أيضاً أن هناك خلافاً حول اسم أبي حماد. فابن قتيبة يقول إنه هرمز، وهو في هذا يوافق الجاحظ فيما يحكيه عنه السيوطي في المزهر (ج 2 ص 206) وابن النديم يقول إنه سابور؛ ويتابعه في هذا هيار (ص 58)، وتشارلز ليال في كتابه: (المقدمة: هامش ص 39) وفي مقدمته لترجمة المفضليات (هامش ص 13): وياقوت يقول إنه ميسرة، وهو في هذا يوافق الهيثم بن عدي فيما يحكيه عنه أبو الفرج في الأغاني (ج(643/22)
5 ص 164) والبغدادي في خزانة الأدب (ج 4 ص 129 ط بولاق).
وقد ولد حماد بالكوفة. واختلف في تاريخ ميلاده؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 75هـ، وينقل عنه في هذا بروكلمان في كتابه: (ج 1 ص 63) وهو عند ياقوت (ص 140) سنة 95هـ، ويتابعه في هذا ابن خلكان (ص 241). كذلك اختلف في تاريخ وفاته؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 156هـ، وهو عند ياقوت (ص 140) وابن خلكان (ص 241) سنة 155هـ.
وحماد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. فتشارلز ليال يقول في كتابه الأول: (المقدمة، هامش ص 39): (علا ذكر حماد الراوية بن سابور الفارسي الأصل وجامع المعلقات ومعظم شعر امرئ القيس في دولة بني أمية خاصة، منذ عهد يزيد الثاني (يعني يزيد بن عبد الملك) (101 - 105) حتى سقوطها سنة 132، وبعد ذلك عاش في عصري المنصور والمهدي). فالذي يؤخذ من قول هذا المستشرق أن حمادا لم يدرك عصرا بعد عصر المهدي، وهو في هذا يتابع ما يرويه ابن خلكان إذ يقول (ص 241): (وقيل إنه توفى في خلافة المهدي). على أننا نجد في الأغاني (ج 3 ص 80) هذه الرواية: (ذكر أبو أيوب المدني أن حمادا الراوية حدثه، قال: رأيت عبد الرحيم الدفاف أيام هرون الرشيد بالرقة. . .)، وهي رواية صريحة الإشارة إلى أن حمادا أدرك عصر الرشيد، ولكننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نرجحها على سائر الروايات التي تقف بحياة حماد قبل عصر المهدي، أو عن هذا العصر، بل إننا لا نظن حمادا قد أدرك عصر المهدي، كما تقول الرواية التي أشار إليها ابن خلكان. فحماد قد توفى سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان؛ بينما المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. والرواية التي يشير إليها ابن خلكان غير صريحة النسبة، وهي لا تذكر تاريخا معينا. وقد رجع تشارلز ليال عما قاله في كتابه الأول (المقدمة، هامش ص 39) من أن حمادا توفى سنة 160هـ، وجعل يشك في أن حمادا أدرك عصر المهدي، وهذا في مقدمته لترجمة المفضليات (ص 18). ويبدو لنا أنه في الكتاب الأول قد أخذ بمفهوم الرواية التي يشير إليها ابن خلكان، فافترض سنة 160هـ تاريخاً لوفاة حماد، أي بعد ولاية المهدي الخلافة. وهذا افتراض محض، لأن المراجع العربية لم تذكر هذا التاريخ.(643/23)
وقال ابن النطاح (الأغاني ج 5 ص 171، وخزانة الأدب ص 131): (كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك، وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ). وهذه الرواية - إن صحت - تدلنا على طور من أطوار حياة حماد، لا بد أنه خلف في نفسه أثراً، ولا بد أنه كيف مزاجه تكييفا خاصا.
وكان خلفاء بني أمية يقدمون حمادا ويؤثرونه، وكثيرا ما كانوا يستحضرونه لينشدهم وليسألوه، فكان يفد عليهم فيجزلون صلته. ويروى أنه كان منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك في خلافته، فأسخط هذا هشاما أخا الخليفة وولي عهده؛ فلما تولى هذا الخلافة خاف حماد على نفسه، فلزم بيته سنة لا يبرحه؛ ولكن هشاما لم يلبث أن استدعاه إلى دمشق ليسأله عن بيت من الشعر: من قاله؟ فلما أجابه وأنشده أجازه وأحسن صلته. وهذه القصة مذكورة في معظم المراجع التي بين يدينا؛ وهي مذكورة على سبيل المثال في الأغاني (ج 5 ص 166 - 167)، وقد استغرق ذكرها جل ما كتبه صاحب نزهة الألباء عن حماد (ص 44 - 50)، وذكرها السيوطي في تحفة المجالس ونزهة الجالس (ص 69 - 71 ط مطر السعادة). ولكن الأستاذ أرندنك كاتب مادة حماد الراوية في الموسوعة الإسلامية، يشك في صحة هذه القصة فهو يرى أنها لا يمكن أن تقع في مثل هذا التاريخ، وأن سماتها تشبه سمات قصة تروى عن الوليد الثاني (يعني الوليد بن يزيد) الذي كان خاصة يستمع إلى حماد كثيرا. ويشك أبو الفرج (ج 5 ص 167) في صحة جانب من هذه القصة، وهو أمر هشام الجاريتين المذكورتين في القصة بسقي حماد الخمر؛ لأن هشاما - كما يقول أبو الفرج - لم يكن يشرب ولا يسقي أحد بحضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه. كما أن ابن خلكان يشك في جانب آخر من القصة، وهو أمر هشام يوسف بن عمر الثقفي باستدعاء حماد؛ فهو يقول (ص 241): (وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن عبد الله القسري). وفي اعتراض ابن خلكان تفسير للشطر الأول من اعتراض أرندنك.
ويبدو لنا أن قصة حماد مع الوليد بن يزيد التي يشير إليها أرندنك في الشطر الثاني من(643/24)
اعتراضه هي التي رواها أبو الفرج في الأغاني (ج 6 ص 128) حيث قال: (. . . قال (أي حماد): دخلت يوماً على الوليد، وكان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني، فأنشدته كل ضرب من شعر الجاهلية والإسلام، فما هش لشيء منه، حتى أخذت في السخف فأنشدته لعماد بن ذي كنانة مجتبذاً. . . فضحك حتى استلقى، وطرب ودعا بالشراب، فشرب، وجعل يستعيدني الأبيات، فأعيدها حتى سكر، وأمر لي بجائزة، فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم دخلت على أبى مسلم، فاستنشدني، فأنشدته قول الأخوة:
لنا معاشر لم ينبوا لقومهم
فلما بلغت إلى قوله:
تُهدى الأمورُ بأهل الرشد ما صلحت ... وإن تولَّت فبالأشرار تنقاد
قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس، فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل).
على أن هذه القصة غير صحيحة فيما يبدو لنا. فإن أبا مسلم الخراساني لم يبرز إلى الميدان السياسي إلا سنة 129هـ، أي بعد وفاة الوليد بن يزيد بثلاث سنين. وأغلب الظن أنها من وضع دعاة العباسيين وضعوها تشهيراً بالوليد وإظهاراً لما كانت عليه دولة بني أمية من انحلال وما كانت عليه الدعوة العباسية من فتوة. وهكذا يسقط الشطر الثاني من اعتراض أرندنك.
ومهما يكن من شيء، فقد كان حماد ذا حظوة لدى يزيد ابن عبد الملك، ثم لدى الوليد بن يزيد من بعده. وتفسير هذه الخطوة يسير. فقد كان الخليفتان يحبان اللهو والمجون، وكانا يجدان في حماد ما يوائم ذينك اللهو والمجون من شعر سافر ومذهب داعر.
على أنه لم يكن ذا حظوة لدى العباسيين. يظهر هذا مما يرويه أبو الفرج (ج 12 ص 102) إذ يقول: (. . . كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له من غير فائدة، فاجتمع يوماً مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذاكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها وحسن ملكهم وطيب دارهم بالشام وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور وشدة الحر وخشونة العيش وشكوا الفقر فأكثروا. . .)؛ ومما يرويه أبو الفرج (ج 5 ص 169 - 170) والبغدادي (ص 130 - 131) من أن جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكريه كان يستخف مطيع بن إياس(643/25)
ويحبه، وكان منقطعاً إليه، وله منه منزلة حسنة، فذكر حماداً وكان صديقه وكان مطرحا مجفواً في أيامهم، فقال له: ائتنا به لنراه، فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمصير إليه ومعه، فقال حماد: دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي مع هؤلاء خير، فأبى مطيع إلا الذهاب به، فلما أتيا جعفر استنشد هذا حماداً فأنشده قصيدة جرير التي مطلعها:
بان الخليط برامتين فودّعوا ... أَوَ كلما اعتزموا لبيْن تجزعُ
فلما وصل إلى قول جرير:
وتقول بوزع قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
أبدى جعفر نفوره من لفظ بوزع، وأمر غلمانه بصفع حماد وجر رجله. ويقول أرندنك إنه (كان أحد الشعراء الذين خرجوا عن بغداد في عهد المنصور في طلب المعاش فذهب إلى الكوفة؛ ولكن يقال إن المنصور استدعاه ثانية إلى بغداد من البصرة).
ومن اليسير علينا أن نفسر إعراض العباسيين عن حماد ورفاقه. فقد كان العباسيون في أول أمرهم يأخذون الحياة مأخذ الجد، ويصطنعون الصرامة والقسوة، ويعملون على تدعيم ملكهم الوليد. وما كان لمثل هؤلاء أن يقبلوا على حماد ورفاقه، وأن يسوغوا لهوهم ومجونهم. هذا إلى أن حماداً ورفاقه كانوا من المقربين إلى بني أمية، وما كان للعباسيين أن يقربوا من كان هواهم مع أعدائهم.
وقد اشتهر حماد بمجونه واستهتاره وفسقه وسكره. وتجد في الأغاني (ج 5 ص 169) قصة من قصص استهتاره، كما تجد صورة من صور فسقه في (ص 170).
ويقول ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 302 المكتبة التجارية): (وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان النحوي؛ وكانوا يتعاشرون، ويتنادمون، وكانوا يرمون بالزندقة كلهم؛ وكان حماد بن الزبرقان عتب على حماد الراوية في شيء فقال:
نعم الفتى لو كان يعرف قدرَه ... ويقيمُ وقت صلاته حمادُ
هدلت مشافره الدنانُ فأنفه ... مثل القدوم يسنُّها الحداد
وابيضّ من شُرب المدامة وجهُه ... فبياضُه يوم الحساب سواد)
على أن نسبة هذه الأبيات إلى حماد بن الزبرقان في هجاء حماد الراوية يحوطها الشك؛(643/26)
فأبو الفرج (ج 5 ص 171) ينسبها وثلاثة أبيات أخرى بعدها إلى أبي الغول الطهوي في هجاء حماد، والبغدادي (ص 132) ينسبها - مغيرة قليلا - إلى أبي الغول الطهوي أيضاً، وابن خلكان (ج 1 ص 295 ط مصر) ينسب البيتين الأول والأخير منها إلى بشار في هجاء حماد عجرد وكانا يتهاجيان، والمرتضى في أماليه (ص 92 ط صبيح) يذكر رواية يؤخذ منها أن أبا الغول النهشلي قال هذه الأبيات - مع اختلاف في صدر البيت الثاني - وبيتاً رابعاً في هجاء حماد عجرد.
ولما توفي حماد رثاه محمد بن كناسة بقوله:
أبعدْت من نومك الفرارَ فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ
لو كان يُنجي من الردى حذرٌ ... نجّاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخٍ يا أبا ... القاسم ما في صفاته كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفنى الع ... لم فيه ويدرس الأثر
وهذه الأبيات يذكرها ابن النديم (ص 92)، ويذكرها ياقوت (ج 4 ص 140 ط مرجليوث) وابن خلكان (ص 242 ط باريس) الأبيات الثلاثة الأخيرة منها مغيرة بعض التغيير.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر(643/27)
حول مذهب الشيخية:
بيان حقيقة وإيضاح شبهة
للشيخ عبد الله بن علي الموسوي
قرأت في الرسالة المباركة عدد (633) ما حرره الدكتور جواد علي بعنوان (الفلسفة الإسلامية المتأخرة) فرأيته، وفقه الله وسدده، قد خالف الحقيقة فيما نسبه إلى الشيخية ورئيسها المرحوم الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي؛ فتعجبت غاية العجب وقلت يا سبحان الله؛ إن مثل الدكتور جواد على المعروف بالتتبع والصدق والأمانة كيف يكتب خلاف الحقيقة ويسيء إلى التاريخ ويشوه سمعته حتى أني ظننت أنه، سلمه الله، لم يطلع على كتب الشيخ أحمد بن زين الدين ولا على كتب واحد من تلاميذه وأتباعه وما كتبه قد استقاه من عيون غير صافية. وها إني أبين ما جاء فيما كتبه صواباً وخطأ.
أما قوله: إن الشيخية هم المنسوبون إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي فهو حق، لأن الشيخية هم الذين يقلدون الشيخ أحمد ويأخذون فروع دينهم عنه كما هي سيرة الشيعة الإثني عشرية إلى يومنا هذا. وأما قوله: إن الشيخ أحمد تأثر بآراء الملاصدرا كثيراً فشرح بعض كتبه مثل كتاب العرشية والمشاعر، وهو عيال على الملاصدرا فهو مخالف للحقيقة، لأن الملاصدرا يقول بوحدة الوجود كمحيى الدين بن عربي، والشيخ أحمد عقيدته التوحيد الخالص، وقد رد على الملاصدرا في شرحه كتابيه: العرشية والمشاعر، لا أيده، والشرحان مطبوعان وبإمكان كل منصف طالب الحقيقة النظر فيهما ليعرف حقيقة الأمر؛ كما أن الشيخ أحمد في كتابه شرح الزيارة زيف آراء محيى الدين وعقيدته في وحدة الوجود، تجد ذلك في (صحيفة 22) من كتاب شرح الزيارة طبع سليمان خاقان. فالقول بأنه عيال على الملاصدرا بعيد عن الإنصاف جداً.
قوله: وبالنظر إلى ما كان يظهره من غلو في بعض الآراء نفر الناس منه فألتمس الشيخ أحمد حامياً له ومعيناً، وكان ذلك الحامي هو الأمير محمد علي بن فتح علي شاه إلى آخر عبارته
(اعلم) أن الشيخ أحمد لا غلو في آرائه، وكانت آراؤه مستقاة من كتاب الله سبحانه وسنة نبيه وأحاديث آل البيت الإثني عشر، وتلك المصادر لا غلو فيها.(643/28)
نعم إن الشيخ أحمد لما كانت له درجة رفيعة في العلم وكان ورعاً تقياً زاهداً عابداً لا همة له سوى إرشاد الناس وصلاحهم صارت له لدى الملوك والأمراء منزلة لا بأس بها، فأحب السلطان فتح علي شاه إقامته في طهران لما زارها وألح عليه فامتنع الشيخ أحمد عليه امتناعاً شديداً ورجع إلى يزد بعد أن زار خراسان، ثم بعد ذلك عزم السفر إلى زيارة أئمة العراق، ولما وصل إلى أصفهان أوفد الأمير محمد علي جماعة إلى أصفهان يستقبلونه وكان إذ ذاك في كرمنشاه والياً، ولما قارب الشيخ كرمنشاه خرج الأمير وحاشيته وجنده ورعاياه لاستقباله وقد طلب من الشيخ الإقامة في كرمنشاه فوعده بالإقامة بعد رجوعه من العراق، وبعد أن رجع أقام في كرمنشاه يدرس العلوم الدينية ويوضع الشريعة المحمدية.
هذه قصة الأمير محمد علي ميرزا ومن أراد الاطلاع عليها أو على غيرها فعليه بكتاب هداية الطالبين المطبوع في إيران.
قوله: يروى عن الشيخية أن الإمام تجلى للسيد كاظم الرشتي في ليلة من الليالي وكان عمره إذ ذاك إثني عشر عاماً وأشار عليه بوجوب الذهاب إلى مدينة يزد والالتحاق بحاشية الشيخ أحمد، ما أدرى من أين أخذ دكتورنا هذه الرواية وعلى من اعتمد في نقلها ومتى كانت الشيخية تعتمد على أمثال هذه المزخرفات وإن كان ما يرويه الدكتور جواد علي حقاً فليذكر الكتاب الذي فيه هذه الرواية.
قوله: ولما غادر الأحسائي إيران ثم ترك العتبات المقدسة في العراق لأداء فريضة الحج توفي في الحجاز ودفن في المدينة في جوار قبور الأئمة بالبقيع سنة 1243، الصحيح أنه توفي سنة 1241 لا سنة 1243 للهجرة.
قوله: وأصبح السيد كاظم الرشتي خليفة الأحسائي والنايب منابه. نعم إن الشيخية لما فقدوا الشيخ أحمد ورأوا السيد كاظم الرشتي عالماً فاضلا ورعاً تقياً صادقاً أميناً قلدوه وأخذوا الأحكام الفرعية عنه، حتى أن الشيخ أحمد الأحسائي خلف ولدين وهما: الشيخ محمد تقي والشيخ علي وقد كانا عالمين فاضلين إلا أنهما رحمهما الله لما لم تكن درجتهما العلمية في نظر الشيخية كدرجة السيد كاظم الرشتي قلدوه وأعرضوا عن تقليدهما، وكذلك لما توفى المرحوم السيد كاظم الرشتي خلف ولده المرحوم السيد أحمد وكان أيضاً عالماً فاضلا وله من المال ما لا بأس به، إلا أن درجته العلمية لما لم تكن موازية لدرجة المرحوم الحاج(643/29)
محمد كريم خان قلدوا الحاج محمد كريم خان، وذلك دليل تدينهم وعدم تأثرهم بالماديات وغيرها وذلك لا عيب عليهم فيه.
قوله: إلى أن توفى الرشتي بمرض أصابه ببغداد دون أن يتمكن من النص على تعيين شخص يكون خليفته من بعده وزعيم الشيخية الديني المطاع بالنص والتعيين.
يا سبحان الله ما أعظمها من فردية ما أدرى من أين اقترف الدكتور هذه التهمة التي اتهم بها الشيخية، ومتى كانت الشيخية تعتقد بأن زعيمها الديني لابد وأن يكون منصوصاً عليه من سابقه؛ وفي أي كتاب من كتبهم اعتقدوا ذلك، ولذلك فليحسن الدكتور إلى التاريخ وليوقفنا عليه من كتب الشيخية أنفسهم لا من أقوال المفترين نكن لسعادته شاكرين.
نعم عقيدة الشيخية في التقليد هي عقيدة المجتهدين من الشيعة الإثنى عشرية فكل من رأوه فقيهاً عالماً عاملا تقياً نقياً قلدوه وأخذوا أحكام دينهم عنه، وذلك ما نص عليه الإمام جعفر من آل البيت بقوله: أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، ولا أمنع أنهم يختارون تقليد الأعلم.
قوله: فانصرفت جماعة منهم إلى الميرزا علي محمد الشيرازي إلى أن قال والبابية عيال على الشيخية في آرائها وأفكارها المغالية ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي وعلاقة الإمامة بالإنسان؛ أظن أن الدكتور لم يطلع على كتب البابية وآرائها كما أنه لم يطلع على كتب الشيخية وعقائدها، ولو اطلع على الكتبين والعقيدتين لما افترى على الشيخية ولما ألحق البابية بالشيخية، فإن ميرزا على محمد الشيرازي ادعى البابية للإمام مرة، وادعى أنه المهدي الذي يخرج بالسيف تارة، ومرة ادعى أنه يوحي إليه وقد أنزل عليه بزعمه كتاب كالقرآن نعوذ بالله، وتارة ادعى الألوهية، ولولا الإطالة لسطرت من مزخرفاته التي أنزلت عليه في قرآنه بزعمه الذي سماه الذكر والبيان ما يهتدي به الطالبون، وأن ميرزا علي محمد أنكر شريعة سيد المرسلين وأسقط عن أتباعه الصلاة والصيام والحج والزكاة كما في قرآنه المزخرف وغيره من رسائله، وأول من زيف مزخرفاته ورد عليه وكفره بها هو زعيم الشيخية وعالمها المرحوم الحاج محمد كريم خان، وقد كتب في ذلك رسائل عربية وفارسية، وقد كان الميرزا علي محمد في قرآنه المزخرف يحرم على أتباعه النظر في كتب الشيخ أحمد والسيد كاظم وينهاهم عن مطالعتها، منها قوله في أول سورة من(643/30)
مزخرفه: (من اليوم الذي قرء عليكم كتاب ربكم كتاب البيان حرمنا عليكم يا حروف كلمة البيان ومظاهر النقطة السايرة في هويات الظهور إلى تفسير الزيارة وشرح الخطبة وكل ما كتب الأحمد بيمينه والكاظم بيمناه كما حرمنا على الذين من قبلكم النظر إلى عورات أمهاتكم وأن هذا من فضلنا عليكم وعلى الناس لعلهم يحذرون)
فهل يا ترى من الإنصاف لمتدين يدعي الإنصاف أن يتهم الشيخية بفكرة البابية ويجعل البابية عيالا عليهم، وما أدرى ما يجيب إذا سأله الله سبحانه يوم فصل القضاء عن ذلك فليستعد للجواب. وأما قوله: ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي، فاعلم أن الشيخية لا عقيدة لهم في المهدي كعقيدة البابية، بل عقيدتهم في الأئمة الإثنى عشر عقيدة الشيعة الإثنى عشر وهم: علي بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن المهدي فلا يغيرون ولا يبدلون؛ فالشيخية إن اعتقدوا أنهم يزاد عليهم فيكونون ثلاثة عشر أو ينقص منهم فيكونون أحد عشر، وكذلك إن اعتقدوا بأن المهدي ليس هو محمد بن المحسن وإنما هو نوعي فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وإن افترى عليهم أحد بذلك فلعن الله من افترى، وقد جاءت الرواية عن الرسول (ص) من طريق الشيعة وطريق إخواننا السنية بعددهم وأسمائهم وأسماء آبائهم في مائة وخمسة وستين حديثاً وقد رواها التويلي في كتابه (غاية المرام)، وإن كان ما يقوله الدكتور حقاً فليوقفنا عليه من كتب الشيخية لا من كتب غيرهم فإن المرء يؤخذ بمنطقه.
قوله: ومن أقوال الإحسائي في الحشر والمعاد إن هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة يفنى ويزول ولا يعود. الشيخية يعتقدون بالمعاد الجسماني وأن الجسم الذي عمل في الدنيا خيراً أو شراً هو الذي يعود في الآخرة؛ إلا أن المسألة مسألة علمية وقد شرحها مشايخنا ولا سيما المرحوم الحاج زين ألعابدين خان الكرماني في كتابه إيضاح الاشتباه وهو موجود ومطبوع في العراق وإيران.
قوله: وقد أنكر معراج النبي بالبدن العنصري البشري. الشيخية يعتقدون بمعراج النبي (ص) بروحه وجسمه كما أوضحه صاحب إيضاح الاشتباه الذي أشرت إليه.(643/31)
قوله: وينسب إليه الغلو في الأئمة حتى أنه أشركهم مع الله في الخلق وفي القدرة وفي مسائل أخرى هي من صفات الألوهية والربوبية، هذه فرية أخرى.
قال الشيخ أحمد في كتابه حياة النفس الذي صنفه في العقائد صحيفة (4) اعلم أنه واحد في أربعة مراتب لا شريك له فيها (الأولى) لا شريك له في ذاته. قال الله سبحانه وتعالى لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد (والثانية) لا شريك له في صفاته قال الله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). (والثالثة) لا شريك له في صنعه، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (والرابعة) لا شريك له في عبادته فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. هذا مذهبه وهذه عقيدته ولا يضره كفر من كفره إن صح ما قاله الدكتور فان من كفر مسلماً فقد كفر. (قوله) أما المذهب الشيخي فلم يظهر في وسطه زعيم قوي بعد وفاة الخليفة الإحسائي يستطيع الاستمرار على دعاية ذلك المذهب على الرغم من الجهود التي بذلها بمض علمائهم من أمثال الحاج محمد خليل خان الكرماني والملأ محمد المماقاتي.
بينت فيما سبق أن الشيخية لا مذهب لهم غير مذهب الشيعة الأثنى عشرية، ومن نسب لهم غير ذلك فقد بهتهم وافترى عليهم وظلمهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وأما علماؤها فقد ملئوا الأصقاع والبقاع بتصانيفهم ومؤلفاتهم في أغلب العلوم والفنون حتى أنها من زمان الشيخ أحمد الأحسائي إلى الآن تزيد على ألف مصنف ومؤلف. (قوله) ومع ذلك فلا زالت هنالك جماعة صغيرة مشتتة بين العراق وإيران وسواحل الخليج تنتمي إلى مذهب الأحسائي ولكنها لا تتظاهر بذلك ولا تجهريه
هذه النبذة الأخيرة التي سجلها الدكتور يقصد بها الإزراء على الشيخية والطعن عليهم في أنهم جماعة صغيرة فأراد أن يطعن عليهم بقتلهم مع أن المناط هو الحق فلا تجدي الكثرة نفعاً إن كان أصحابها مبطلين، كما أن القلة ليست بضائرة إن كان معتنقوها محقين. وقد مدح الله سبحانه القلة في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: (قليل من عبادي الشكور) وكقوله: (وما آمن معه إلا قليل).
(وأما قوله) سلمه الله: لا تتظاهر بذلك ولا تجهر به بينت مكرراً أن دين الشيخية دين المسلمين الذي أنزله الله سبحانه في كتابه المبين وبينه خاتم الأنبياء والمرسلين والبلاد(643/32)
والحمد لله بلاد مسلمة لا بلاد كافرة، والعدالة سائدة فيها، فعلام لا تجهر به فتلك مساجد الشيخية والحمد لله في جميع أنحاء العراق وفي جميع بلاد إيران وفي الإحساء والبحرين والكويت وغيرها من بلاد المسلمين معمورة بالأذان والعبادات؛ والشيخية معروفة بالمحافظة على الصلوات وأداء الفرائض في أوقاتها والصدق والأمانة وإن خفي ذلك على الدكتور فلا يخفى على غيره من المنصفين. وأنا أعلم أن ما كتبته الآن لا يجدي نفعاً لأن المسألة لم تكن مبنية على الإنصاف:
وقد حكى أن رجلا دخل على الإمام جعفر الصادق فقال له الصادق من أنت قال: أنا رجل أحضر عند العلماء. قال له: أي شيء عندك من الأخبار؟ قال: أخبرني سفيان الثوري أن جعفر ابن محمد الصادق يقول: إن الله قاعد على العرش ففضل منه من كل جانب من العرش أربعة أصابع. فقال له الإمام: أخبرني بغير هذا مما عندك فذكر له من هذا القبيل أموراً كثيرة وكلها ينسبها إلى الإمام جعفر فقال له الإمام جعفر لما سمع منه كثيرا من الأكاذيب عليه يا هذا هل تعرف جعفراً إذا رأيته قال لا. فقال الإمام جعفر إذا أخبرك جعفر وقال لك إني ما قلت كذا وأنا بريء من هذه الأكاذيب ما كنت تقول في حق جعفر بن محمد؟ قال أنكر عليه ولا أقبل منه وأقول له إن الذي أخبرني أعدل منك، فقضيتنا مثل هذه القضية وليس لنا إلا أن نفوض أمرنا إلى الله سبحانه ونتوكل عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(البصرة)
عبد الله بن علي الموسوي(643/33)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 4 -
وكان في نورمبرغ سجن يتناقل الناس أشد الأخبار هولا عما كان المسجونين يسامون فيه البلاء، وكان يعرف بالسجن الأحمر. وكانوا يقلعون أظافير السجناء، ويفقأون عيونهم، ويضغطون على عظامهم بآلات حديدية فتسحق وتهرس. أو يدفعونهم ليناموا في أسرة ذات مسأمير محماة، تنخزهم وخزاً مؤلماً فتسيل دماؤهم. وكان في السجن نفسه كساء حديدي يدخل فيه المسجون فيطبق عليه. وكان له من داخله مسامير حادة تنفذ في الجسم، فيقاسي الرجل أنواع الألم حتى يموت.
وكان في مدينة لاهاي سجن يسمى (جيفا نجن بورث) كان المسجونين فيه يصابون بالجنون قبل أن يموتوا لشدة ما كانوا يعانون من العذاب كالكي بالحديد وقطع الأعناق بحز الرؤوس حزاً بطيئاً.
وفي مدينة هاليفكس كانوا يأتون بالمسجون وهو موثق اليدين والقدمين فتوضع عنقه تحت آلة قاطعة مدلاة مربوطة إلى السقف بحبل، إذا انقطع سقطت الآلة الحادة على عنق الرجل فمات.
وفي سجن قمة سان ميشيل في فرنسا كان السجناء يدفعون إلى كهوف في بطن الأرض فيها الأفاعي وضروب الحشرات وقد ملئت بالماء الراكد القذر فيموت المسجون موتاً بطيئاً؛ وربما ضرب أو عذب حتى يموت.
اللهو
على أننا نرى من تمام البحث، وقد أوردنا طرفاً من ألوان التعذيب أن نسوق طرفاً من اللهو الذي كان يتمتع به بعض المسجونين في بعض السجون. حدث أبو علي بن مقلة قال (من ظريف ما اتفق لي في نكبتي التي أدنتني من الوزارة، أني أصبحت وأنا محبوس مقيد في حجرة من دار ياقوت أمير فارس. وقد لحقني من الأياس من الفرج وضيق الصدر ما(643/34)
أقنطني وكاد يغلب على عقلي. وكنت أنا وفلان محبوسين مقيدين في بيت واحد، إلا أنا على سبيل ترفيه وإكرام. فدخل علينا كاتب لياقوت كان كثيراً ما يجيئنا برسالته، فقال الأمير يقرأ عليكما السلام، ويتعرف أخباركما ويعرف عليكما قضاء أي حاجة لكما. فقلت: تقرأ على الأمير السلام وتقول له ضاق والله صدري، واشتهيت أن أشرب على غناء طيب. (قال) والمحبوس معي يخاصمني ويقولك يا هذا، والله ما في قلوبنا فضل لهذا. ثم مضى وعاد يقول: الأمير يقول حباً وكرامة لك، أي وقت شئت! قلت: الساعة، فلم يمض إلا ساعة حتى جاءوا بالطعام والمشام والفاكهة والنبيذ. وصفف المجلس، فجلست والمحبوس معي مقيداً، وقلت له تعال حتى نشرب ونتفاءل بأول صوت يغنى به لنا في هذه الساعة. وجاءت المغنية، وغنتنا غناء طيباً، فقطعنا يومنا بين لهو وشراب وغناء. . .).
وحدث أحمد بن المدبر أنه (لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل وسليمان بن وهب. فجعلت في بيت ثالث. وكنا نتحدث ونأكل جميعاً وربما أدخل إلينا النبيذ فنشرب ونلهو).
مدة السجن
ولم يكن للسجن مدة خاصة، ولم يكن لكل جرم عقوبة ذات أجل معروف. فقد حبس اسحق بن خلف القاتل حتى مات. وهذا ما يشبه السجن مدى الحياة في أيامنا. وسجن يعقوب بن داوود خمسة عشر عاماً. وحبس رجل في كساء بدرهمين سنتين، وسجن أبو نواس ثلاثة أشهر، وأبو دلامة ليلة واحدة، وحبس الرشيد زلزلاً المغني لوجد عليه عشر سنين، وسجن القاهر إحدى عشرة سنة، في حين سجن المتقي في جزيرة بمقابلة السندية خمساً وعشرين سنة. وهذا ما يشبه السجن مع الإبعاد في هذه الأيام.
فأنت ترى أن ليس للسجن أجل محدود وإنما كان الخروج منه منحصراً في سبل خمسة سنذكرها فيما يلي.
الخروج من السجن
أما هذه السبل فهي: (ا) الفرار، (ب) كسر السجن، (ج) موت الخليفة، (د) العفو، (هـ)(643/35)
حيلة يحتال بها.
ا - الفرار:
أما الفرار فحوادثه كثيرة نسوق إليك منها مثالا. حدث محمد بن القاسم وكان المتوكل قد قبض عليه وسجنه في سجن منفرد قال: كنت أدبر أمري في التخلص منذ حبست. وكان في البيت الذي حبست فيه خلاء إلى الغرفة التي فوقه وخلاء في الغرفة إلى سطحها. وكنت قد أدخلت معي منذ حبست لبداً. فكان وطأتي وفراشي. وكنت أرى (بغرش) وهي قرية من قرى خراسان حبالا تعمل فيها من لبود، كما يفعل بالسيور، فتجيء أحكم شيء. فسولت لي نفسي أن أعمل من اللبد التي تحتي حبلاً. وكان على باب البيت قوم وكلوا بي يخفظونني لا يدخل علىّ منهم أحد؛ وإنما يكلمونني من خلف الباب، ويناولونني من تحته ما أتقومه، فقلت لهم إن أظفاري قد طالت جداً، وقد أصبحت إلى مقراض. فجائني رجل بمقراض وقلت لهم إن في هذا البيت فيراناً يؤذونني ويقذرونني إذا قربوا مني، فاقطعوا لي جريدة من النخل تكون عندي أطردهم بها، فقطعوا لي جريدة من بعض نخل البستان، ورموا بها إلي. فأخذت أضرب بها في البيت وأسمعهم صوتها أياماً. ثم قشرت الخوص عنها، وقطعتها على مقدار ما علمت أنها تعترض في ذلك الخلاء إذا رميت بها. فضممت كل ما قطعته منها بعضه إلى بعض، وقعطت اللبد، وضفرت منه حبلاً على ما كنت أرى يعمل بغرش ثم شددت ما قطعته من الجريدة في رأس الحبل، ثم رميت به في الكوة، وعالجته مراراً حتى اعترض فيها. ثم اعتمدت عليها، وتسلقت إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، وفعلت ذلك أياماً، وشددت القيد مع ساقي. فلما كان ليلة العيد، وقد شغل الناس وانصرف من كان على الباب صعدت بين المغرب والعشاء إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، ثم تدليت بالحبل إلى بستان مجاور وفررت. . .).
صلاح الدين المنجد(643/36)
في الريف
غصون الصفصاف
للأستاذ إدوار حنا سعد
هذا لك فاتِن الورقات غض ... يرف نضارة ويميس ليناً
تدنى للمياه كأن ثغراً ... يقبل أو يهمّ بأن يبينا
فقولي، إن بي شجناً شبيهاً ... بأي هوى قديم تهمسينا
وما ألقى إليك الماء سمعاً ... يبادلك الحنان ولا جفونا
تتابع غير مكترث وولى ... وجفنك مظهر ألماً دفينا
إذا وهب الندى أجراه دمعاً ... شجياً في تسلسله سخيناً
فإن هبَّ النسيمُ معطرات ... غلائله يمسن ويزدهينا
ومسَّكِ لهفةً وحنا غراماً ... وأن بكل ناحيةٍ أنينا
ورقرق في غدائرك النشاوي ... مع الهمسات عطر الياسمينا
رعشت للمسه ولويت عطفاً ... وعدت إلى نهيرك تهمسينا
فواها للحياة تُعَذَّبينا ... بحب خائب وتُعذِبينا
وما أشقى المحبين الحيارى ... إذا نكبوا بحب المعرضينا
وقفت إلى جوارك نضوَ همٍ ... غريب الدار أبكي الغائبينا
ترفرف ثمَّ أطيار حيارى ... ملأن الجو ترجيعاً حزينا
تطالعني الزوارق سابحات ... قبيل الأفق تملأه فتونا
يرف بكل سابحة شراع ... رفيق الخفق يستهوي العيونا
كأن السابحات إذا تلاقت ... حمائمُ قد هبطن ليستقينا
فإن لعبت بها النسمات حيناً ... وشتت شملها التيار حينا
تمثل لي شيوخٌ (في مسوح ... طوال الردن بيض) راكعينا
وقد رفعوا أكفهم دعاءً ... وقد غضوا النواظر خاشعينا
أبنتَ الماءِ ما أوفى بناتٍ ... بضفته، وما أوفى البنينا
علوتِ وما شمخت عليه كبرا ... فعدت إليه تقضين الديونا(643/37)
حنوت على وسادته مسجى ... وحيداً لا مهدهدَ أو معينا
لمست جبينه الساجي فأصغى ... وأشرق وجنةً ورنا عيونا
فهل يرعى حقوق أب نبات ... وينساهن بعض العاقلينا
إذا بلغوا رجولتهم وشبوا ... تغاضوا عن حقوق الوالدينا(643/38)
غرام. . .
(أحبك حبين: حب الهوى) ... وحباً لأنك لم تخضعين
تزيدين سحراً بطول الدلال ... كماء تعايا على الظامئين
غزوت القلوب فما قاومت ... ولكن قلبك حصن حصين
أهاجمه في صيال ملح ... وأحميه من كل واش ظنين
وإني القنيص الذي تعرفين ... وإني المحب الذي تجهلين
عفيف الخلال وإن شتمني ... عنيف النضال كنسر طعين
جمال الرجولة أن تستبدَّ ... وسحرُ الأنوثة أن تستكين
وما هو ظن ولكنه ... يقين الجدود وإرث القرون
تجاريب آدم في خاطري ... فيا بنت حواء من تخدعين؟
لبست الدلالَ ولاقيتني ... لكي تستزيدي عُرامَ الحنين
فتمشي إلى الحب مأسورة ... يثور هواك ويعنو الجبين
وما أعذبَ القنص بعد الصيال ... وأحلى اللقا بعد صبر السنين
غرامي طوفان شوق عنيفٍ ... فلا تسخري فتظني الظنون
طحت بابن نوحٍ وأودت به ... شكوكٌ تمشت بنور اليقين
وقال سآوي إلى قمةٍ ... فضلَّ وكان من المغرقين
فإن أكُ داءً فإني الدواء ... وإن أكُ ماءً فإني السفين
وإلا فما لك من عاصمٍ ... ولا مهربٍ من سمائي الهتون
(الإسكندرية)
إدوار حنا سعد(643/39)
البريد الأدبي
بين ابن الزبير وتوفيق الحكيم:
قرأت في كتاب (محمد) للأستاذ توفيق الحكيم في صفحة 251 قوله:
(يحمي وطيس القتال ويثخن المسلمون أعداءهم قتلا وأسراً وسلباً. ويستلب عبد الله بن الزبير أدراع أحد القتلى ويأسر أمية ابن خلف وابنه).
عبد الله بن الزبير (رافعاً سيفه).
هذا أنت يا أمية بن خلف!. . . الخ.
فعجبت وحق لي أن أعجب فإني لأعلم أن عبد الله بن الزبير كان ابن سنة واحدة يوم غزوة بدر، فكيف استطاع الأستاذ أن يجعل من ابن السنة مارداً يرفع السيف، ويستلب الأدراع، ويأسر الرجال؟
إن الذي أسر أمية بن خلف هو عبد الرحمن بن عوف، وكان صديقاً حميما له في مكة قبل الإسلام، وما شهدت مكة عبد الله بن الزبير بعد.
فأخذت أحقق هذه الواقعة، فلم أجد مؤرخا واحداً، ولا مرجعاً واحداً قد ذكر ما ذكره الأستاذ فأسفت فقد كنت أود أن أجد للأستاذ مخرجا، وهاك ما أورده الطبري في حادثة أسر أمية بن خلف:
(. . . عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك، فأقول: نعم. فيقول فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه فقلت اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت قال: فأنت عبد الإله. قلت: نعم فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجيبه، فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية آخذاً بيده ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها فلما رآني قال: يا عبد عمرو، فلم أجب فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال: هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك، قال قلت: نعم هلم إذا، قال: فطرحت الأدرع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه علي وهو يقول: ما(643/40)
رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن. قال ثم خرجت أمشي بهما).
من هذا يتضح أن عبد الله بن الزبير قد ولد في السنة الأولى وأن غزوة بدر قد وقعت في السنة الثانية، وأن عبد الرحمن بن عوف هو الذي أسر أمية بن خلف. لذلك لزم التنبيه حتى إذا ما فكر الأستاذ في إعادة طبع كتابه القيم، عمل على إعادة ابن الزبير إلى مهده، واستل منه سيفه الذي رفعه قبل أوانه.
عبد الحميد جودة السحار
خطأ تاريخي في كتاب (على ضفاف دجلة والفرات):
قرأت في كتاب (على ضفاف دجلة والفرات) لمؤلفه الأستاذ طاهر الطناحي قوله:
(وكانت الشيعة قد بايعت محمد بن علي بن الحسين المعروف بابن الحنفية على طلب الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي عنها لمعاوية ابن أبي سفيان سنة 41 هجرية).
فوجدت فيه خطأين تاريخيين هما:
(1) إن محمد المعروف بابن الحنفية لم يكن ابن علي بن الحسين. بل هو ابن علي بن أبي طالب (ع) نفساً وأخو الحسين بن علي بن أبي طالب لأبيه.
(2) لم تكن الشيعة قد بايعته ألبته في زمن الحسن بن علي بعد تنازله عن الخلافة بل بايعت أخاه الحسين بعد وفاته وإذا نزلنا على قول المؤلف فعلي بن الحسين لم نعهد له ولداً في ذلك الوقت بل لم يكن متزوجاً وإنما كان عمره لا يتجاوز الثلاث سنوات.
(الكويت)
عبد الصمد تركي الجعفري
توقيع عبد الله بن طاهر
في العدد 640 من مجلة (الرسالة) الغراء لخاتمة المحققين، وأديب العربية - غير مدافع - في فلسطين، وأحد أفذاذها في العالم العربي الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي أمد الله في عمره ونفعنا به، ما يلي:
قال الزمخشري في شرح مقاماته: (ومن توقيعات عبد الله ابن طاهر فيما سمعته من أبي(643/41)
غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فلعلك بهذا تهدأ.
أقول: يغلب على الظن أن هذه (الرسالة) من وضع علماء البديع، فهم يقدمونها مثلا للجناس المصحف الذي تماثل ركناه وضعاً واختلفا نقطاً بحيث لو زال إعجام أحدهما لم يتميز من الآخر، وفي اختلاف نسبتها إلى واضعها دليل على هذا، والراجح أن واضعها ذهب في وصفها إلى ذكر ستة جناسات مصحفات لا أربعة، وكتابتها على هذا تكون على الوجه التالي
(غرّك عزك فصار قصار ذلك ذلك فاخش فاحش فعلك، فعلك بهذا تهدأ) مستبدلا بكلمة (فلعلك): (فعلك) وبكلمة (تهدأ) كلمة (تهدا) دون همز، تحقيقاً لما ذهب إليه واضعها من الجناس المصحف
وفي كلمة الأستاذ الجليل نفسها تحقيق في (حركة) (الشغب) قال: (والفتح لغة وليس بخطأ كما قال الحريري في (الدرة)، وليس هو من كلام العامة كما ذكر ابن الأثير في (النهاية).
أقول: شيخ أدباء القدس اليوم من أعظم أساطين اللغة والأدب تعلقاً بشيخ المعرة وفيلسوفها في الأسى، وهو من أكثرهم ارتياحاً لآرائه وأبحاثه وتحقيقاته، وأنا - على هذا - مورد ما ذكره فيلسوف المعرة في (الشغب) هذا
جاء في كتاب (عبث الوليد) - وهو ما علقه أبو العلاء على ديوان الشاعر المطبوع أبي عبادة البحتري - في أثناء تعليقه على قصيدته التي مدح بها أبا عيسى بن صاعد، والتي مطلعها:
كيف به والزمان يهرب به ... ماضي شباب أغذذت في طلبه
والتي منها:
إحاطة بالصواب تومن من ... لجاجة في المجال أو شغبه
قال رحمه الله:
(الاختيار عند أصحاب النقل الشغب بسكون الغين كما قال:
لقعقعة المفاتيح في رائد الضحى ... أحب إليكم من طعان ذوى الشَغَبِ
وقد جاء شغب في بعض الكلام، وقد شهر القول في أن الثلاثي، إذا كان أوسطه حرفاً من حروف الحلق الستة أجاز الكوفيين فيه التحريك والإسكان)(643/42)
قلت: وابن جنى يرى في خصائصه هذا ولا يستثنى
ولما كان (الشغب) من خصائص (الشعب) وتصحيفه حار في أمره العلماء وأرباب الفكر، فرأوا أن (التسكين) ألزم من (الحركة) في هذا المعنى، حتى ولو كان فيه استثقال في اللفظ والمبنى - والفتحة أخف الحركات - ولم يحركه إلا أهل الكوفة وليس بينهم في الشعب ملتب، وجلهم على السياسة والدولة شغب قبل أن يكون على اللغة والنحو شغابا، فقد خذلوا علياً (كرم الله وجهه) وغرروا بأبنائه من بعده قبل أن يودوا بواضع (الكتاب) سيبويه
(فلسطين)
رامز فاخرة
أستاذ الأدب العربي في مدرسة غزة الثانوية(643/43)
القصص
(عبث لطيف)
مسرحية في فصل واحد
للقصصي نويل كوارد
للأستاذ أحمد فتحي عبد التواب
(ترفع الستار والمسرح مظلم. وتسمع أصوات، ثم يدخل شاب تتبعه فتاة، يضيء الشاب الأنوار فيظهر كرسي ومائدة وأريكة ومكتبة بها كتب ودولاب وغير ذلك. . . ثم بقايا نار متأججة في المدفأة).
هو: ألا تتفضلين بالجلوس؟
هي: نعم أشكرك. (تدنو متباطئة ثم تجلس على الأريكة وتخلع معطفها)
- (بعد لحظة صمت): حقا إن الجو قارس للغاية.
- (بجهد): أليس كذلك؟ إن الإنسان يحس الخريف في الهواء.
- نعم، هكذا يشعر الإنسان. (لحظة انتظار أخرى)
- (بازدراء): إنني أحب لندن في الخريف.
- (بنفس الازدراء): وأنا أيضا.
- إنها تكون غاية في الكآبة.
- نعم، نعم، غاية في الكآبة - هكذا تكون.
- كم الساعة الآن.
- (ناظرا إلى ساعته): الثانية عشرة ونصف.
- الوقت متأخر، أليس كذلك؟
- متأخر جدا.
- ما أجمل هذه الغرفة!!
- نعم، أعني، هل ترينها كذلك؟
- أوه، نعم، إنها جميلة وفي غاية الأناقة والترتيب.(643/44)
- إن ذلك ليسرني.
- (تقف): وكتب أيضا!! أتقرأ كثيراً؟
- بين الفينة والفينة، أعني - أحيانا.
- (تقترب من المكتبة): كتب جميلة، ولا سيما ذلك الكتاب
- أي كتاب تعنينه؟
- ذاك: سترندبرج
- أوه، سترندبرج، إنه خامد العزيمة متشائم، أليس كذلك؟
- نعم، ولكن الحياة - الحياة الحقيقية دائما - ليست عاطفة مزيفة و. . . و. . . ونفاق.
- أوه، لا لا. وفي الحقيقة إنني لم أقرأ له كثيرا. وهذا المسكين ليس لي في الواقع وإنما استعرته فقط.
- هذا ما يبدو لي (تجلس ثانية).
- لم يمض على إقامتي في هذا المسكن طويل وقت.
- إنه في وسط المدينة.
- نعم. هو كذلك (بعد سكوت قليل) ألا تشربين شيئا؟
- (بسرعة): أوه، لا، أشكرك (تصلح من شأنها) إنه. . . عسى. . . (بتصميم) نعم، أشرب.
- أخشى ألا يوجد غير الويسكي والصودا. (يتوجه نحو المائدة)
- (بلا تكلف): وسكي وصودا!!
- نعم، ألا توافقين؟
- نعم، بكل تأكيد.
- متى شربتيه من قبل؟
- (بسرعة): لم أشربه كثيرا. . . قليلا جدا. . . الآن. . . في ذلك الكفاية.
- (مقدما إليها الكأس عديم اللون تقريبا): إنه ضعيف للغاية
- (مغمضة عينيها ورادة له الكأس) إذن. زده قليلا من الويسكي.
- (مأخوذاً بحدتها المفاجئة) أوه، حسن جدا، لك ما تريدين(643/45)
- (تتناول الكأس) شكراً لك. . . (ترتشف المشروب) أوه، يا عزيزي!!
- ما هذا؟
- لا شيء.
(ولا يلحظ رجفة الامتعاض حينما تشرب الويسكي)
- (يجلس بجوارها على الأريكة): لقد كان مضحكا أن أقابلك هكذا.
- (بضحكة عصبية): نعم، أليس كذلك؟
- أقسم إنني رأيتك قبل ذلك في مكان ما.
- لست موافقة لك على هذا.
- من الحماقة أن تفعلي. اسمعي، إنني. . .
- (قافزة صوب الباب) ماذا؟
- أوه، لاشيء.
- (بعد صمت قصير): يسرني ألا تنسى ذلك.
- نعم.
- (غاضة بصرها) أوه، لاشيء.
- (بغتة): لا فائدة، لا يمكني. . .
- لا يمكنك ماذا؟
- لا يمكني أن أذهب معك أكثر من هذا (بحدة) اسمعي، لا يهمني ما تظنينه بي، لاشك أنك تضحكين مني طول الوقت. . . ولكن هذا لا يعنيني. . . أعني. . . أسمعي. . . ألا ترحلين!
- (ويدها فوق جبهتها) أتعني؟. . . أوه، يا عزيزي (تسقط بين ذراعيه مغشيا عليها).
- يا إلهي (يروح لها) إنه مخيف. . . مخيف!! تنبهي، بحق السماء. . . أوه، إنه مرعب! (يسندها بوسادة).
- (تفتح عينيها) أوه، ماذا صنعت؟
- أغمي عليك.
- (تنفجر باكية): أوه مخيف. . . مرعب. . .!(643/46)
(تعتدل على حافة الأريكة وتدفن رأسها بين ذراعيها).
- أريد أن أقول، لم كل هذا؟ ما قصدت أن أكون فظاً. . . أقولها مخلصا. . .
- (متنهد): يا للعار. . . يا للعار. . .
- اشربي هذا (يقدم لها كأسها التي لم تتذوقها بعد)
- (دافعة الكأس بعيداً): خذها بعيدا، إنها تتعبني.
- حسن جدا، أريد أن أقول - بكل أسف. . . أرجوك أن تكفي عن الصراخ.
- اتركني وحيدة. . . دقيقة واحدة.
وبعدها أكون على ما يرام. (تجلس)
- إنني وحش.
- لست كذلك. . . شكراً لله (تقف) يجب أن أرحل حالا.
- أين تسكنين؟ - في كنسنجتن.
- سأوصلك حتى المنزل.
- أوه، لا، أرجوك لا. . . ليس من الضروري. . .
- سأحضر لك سيارة أجرة، إذن.
- حسن. . . أشكرك.
- انتظري هنا (يذهب صوب الباب)
- قف.
- (بفزع): ماذا حدث؟
- من فضلك تعال واجلس برهة. . . أريد أن أقول لك شيئا.
- ولكن. . .
- أرجوك. . . سأفعل حقا. . . وبقولي الصدق سأخفف من شعورك بقسوتك. . .
- يهمني ألا أراك تعسة.
- (بحدة) تعسة!! إنني يائسة. . . يا للعار الأليم. . . ألا أملك ذخيرة من الكلمات أعبر بها عن ازدرائي الكلي من نفسي.
- لم أفهم!!(643/47)
- أنا، لست كما ظننت أن أكون بتاتا.
- (مرتبكا): لقد تغير ظني بعد الدقائق القليلة الأولى.
- ولهذا طلبت مني الخروج؟
- لا، ليس هذا بالضبط. أعني. . .
- أوه، أشكرك كثيرا. . . إنك عزيز. . . إنه من حسن حظي. . . إنني. . .
- أقول. . . من فضلك. . .
- (مستجمعة قواها). حسن جدا. . . سوف لا أصرخ مرة أخرى. . . يجب أن تعتقد أنني حمقاء. . . إنني. . . أسوأ من هذا بكثير. أصغ إلي، إنني، بالضبط، فتاة عادية. . . أسكن في رتلاندجيت مع عمتي، أذهب إلى الملاهي وأراقص وأتريض في الحدائق وأساعد في جمع الإحسان للمعوزين. . .
- ولكنني. . .
- لا تؤخذ هكذا. . . فمما يزيد الأمر صعوبة أن أخبرك بكل شيء. . .
إن مشكلة المرأة في العصر الحديث، وحياتي المعقدة الكليلة التي أحياها - حياة المرأة على العموم - دفعاني إلى قراءة مقدار وافر مما أنتجه جميع الكتاب المحدثين تقريبا. قرأت الرسائل والأبحاث التي تعالج شئون المرأة وتبحث في المسائل الجنسية الحادة فشغلت نفسي، وأهمني هذا السؤال:
لم لا يكون للنساء من فرص التجارب ما للرجال؟؟ فيحيون حياتهم. . . ولا يخفى عليك ما أقصده طبعا، وكنت أعتقد أنني فتاة عصرية ماهرة أتمتع بالحرية المطلقة، وعواطفي واضحة ولو أنها خامدة. . . تأملني. . . تأملني. . . (تضحك ضحكة هستيرية)
ولقد رحلت عمتي أول من أمس إلى بورنموث لقضاء أسبوع وقد قررت أن أقوم بتجربتي. . . لأرى الحياة. . . الحياة الحقيقية العملية. . . في الأحياء المغلقة. . . فالشباب من الرجال مسموح لهم بالخروج أينما شاءوا ليمتعوا أنفسهم. . . فلم لا يتاح للشابات الفرص نفسها؟؟
خرجت بالأمس وقصدت الملهى وحيدة، وعزمت - بجسارة ملحة - على أن أعود إلى المنزل مشيا على الأقدام، ولكن انهمر المطر غزيراً فأسرعت إلى السيارة حيث آويت إلى(643/48)
الفراش مباشرة
والليلة أكدت العزم. فتناولت غذائي وحيدة في مطعم بشارع أكسفورد، ثم سرت في ميدان بيكادللي فهايماركت ثم على الشاطئ حيث عدت إلى ميدان ليستر، وجلست على كرسي وسط الحديقة الصغيرة حتى أقبل رجل سكران قذر وجلس بجواري، فقمت وعاودت المسير متأملة الناس أجمعين. . . مئات بعد مئات منهم. . . يتدفقون خروجاً من الملاهي ويزحمون الأفاريز. . . فكان في الواقع شعوراً مثيراً. . . ولا تستطيع إدراك هذا الأمر - كما أعلم - لأنك رجل قضيت حياتك غير مراقب ولا مدلل. . . بل شجعت على أن تكون طليقاً حراً. . . ولكن بالنسبة لي فقد هزني ذلك الأمر. وكنت وحيدة سيدة نفسي إطلاقا. . . وأدركت مبلغ جهدي وتعبي، فعرجت على أحد المشارب وتناولت فنجاناً من الشكولاته. وكان يشغل المائدة المجاورة لي سيدتان مزعجتان وشاب عليه سيماء المجد وقد بدأتا تعاركانه، ولو أن ما قالتاه له كان من البذاءة بمكان إلا أنه كان مضحكا للغاية، وفي النهاية خرجوا جميعاً وهم يتشاتمون كالمعتاد!! عندئذ خرجت ثانية وقد تبدل كل شيء، فقد اختفى الزحام وهدأت حركة المرور اللهم إلا بضع سيارات تجري مسرعة، فأسرعت الخطى - لأنني رأيت النساء حولي يتلكأن - قاصدة بيكاديللي. ولم أكد أحاذي بيركلاي حتى انفجر أحد المصابيح المعلقة في وسط الشارع فأزعجني وراعني انفجاره المفاجئ فضحكت من نفسي وابتدأت أقلل من سرعتي وأخذت أراقب كل شيء حولي،. . . فوجوه الناس من أغرب وأدهش ما لاحظت. . . ثم. . . ثم. . . أوه يا عزيزي (تسبل جفونها متخيلة لمدة دقيقة) ثم ابتسم لي رجل، وظننت لأول وهلة أنني أعرفه، فتلفت حولي ولكنه بقى واقفاً مكانه، ثم أخذ يتأثرني، فأسرعت دقات قلبي وحاولت أن أستجمع شتات أعصابي النافرة عسى أن تخمد وألتمس في هدوء نفسي طريق الخلاص، ولكنني عجزت، وعلى غير وعي مني جريت إلى الجانب الآخر من الشارع، ومن المؤكد أنه سخر مني، وفي شارع كرزن أخذت ألوم نفسي بعد أن استجمعت قواي. . . لقد كنت جبانة. . . ضعيفة. . . غبية. . . وعلى ذلك، وزيادة في معاقبة نفسي من أجل فقدانها الشجاعة والإقدام لا من أجل شيء آخر، فكرت أن أستسلم لأي رجل كان. . . أوه، أنا أعلم أنه شيء مهين حقير. . . لا تنظر إلي هكذا. . . ولكن تذكر أن هذا كان نتيجة دراسة الشهور بل السنين الطويلة(643/49)
للآداب العصرية، فرغبت في تجربة الحياة، ولم أكن أخشى على نفسي من شيء. . . فإنني قادرة كل القدرة على صيانة عفافي. . . وإنما أردت الاستطلاع ليس غير. . . وعندما قابلتك في شارع داون كانت ثورة العزم مالئة جوانحي، أوه يا عزيزي. . . أليس كل هذا مخيفاً؟ (تتنهد) إنه مرعب للغاية حتى لأن يقال. . .
- اسمعي، إنها لم تكن - كما تعلمين. . . ولن أفوه بكلمة.
- أعلم أنه لا يمكنك. . . ولكن. . . أشعر أنه لا يمكنني أن أنفي العار عن هذه التجربة.
- لا عار قط.
- كم أتمنى أن ألجأ إلى دير، هذه اللحظة مباشرة.
- إنك تفكرين في الأمر على أنه محزن بينما هو مضحك - حينما تحللينه.
- عندما أتزوج ويتقدم بي العمر أستعيد ذكراها على أنها كانت فكاهة، ولكن إلى ذلك الوقت، سأخر راكعة على ركبتي كلما فكرت فيها.
- لم أزر لندن وحيداً حتى هذا الأسبوع. . . وطلب مني أحد الأصدقاء أن أقيم هنا في هذا الطابق وتركني منفرداً وذهب لقضاء بعض شئونه.
- هل هذا صحيح. . . حقاً
- نعم. . . ولهذا السبب طلبت منك في المبدأ أن تخرجي. . . لأنني خفت الفساد.
- أحقاً ما تقول؟
- نعم. . . بكل تأكيد، فقد ظننت أنك تضحكين مني وتهزئين بي.
- أهزأ. . . يا إله السماء!!
- نعم. . . أليس من الحمق أن يخشى المرء دائماً أن يكون موضع سخرية؟ والواقع أنه قلما يحدث هذا.
- أقل من أي شيء.
- جميع أصدقائي يقولون مثل هذا عندما يقضون أوقات الخلاعة والسرور بالمدينة. . . كما تعلمين
- نعم.
- أفكر في نفسي، إنها لفرصة عجيبة، أن أبقى وحيداً. . . وكل شيء. . .(643/50)
- تماما مثلما أفكر.
- نعم بالضبط.
- كم عمرك؟
- واحد وثلاثون عاما.
- وأنا أيضاً.
- إنني جد آسف إن كنت قد أقلقتك وسببت لك الفزع.
- لقد كنت شفوقا وحريصاً منصفاً. ولست أدري؟ ماذا كنت أفعل لو كنت مع غيرك.
- وأنا أيضاً، لست أدري.
- كم أود أن تريق هذا الويسكي. . . فإنني أكره حتى رائحته.
- لست مولعاً به. . . ألا نجهز شاياً؟
- لا. بل يجب أن أذهب الآن. . . حقيقة. . .
- إن هذا ليسرني. . . أمتأكدة أنت؟
نعم كل التأكيد. . . يجب أن أذهب.
- حسن (يذهب إلى النافذة) لابد أن تكون مركبة في الموقف. ما هذا؛ إن المطر ينهمر. . .
- أوه!! ألا ترى مركبة هناك؟
- (ينظر من خلال زجاج النافذة): لا. . . من سوء الحظ. . .
- سأجد واحدة سريعا.
- لا - اسمعي - انتظري قليلا حتى ينقطع المطر. ويمكننا تناول الشاي بعد كل هذا. . .
- ولكن. . . ولكن. . .
- نحن أصدقاء. . . ألسنا كذلك؟ (ويمد يده)
- نعم - حسن - منذ فترة وجيزة. (يتصافحان)
- الأفضل أن تخلعي معطفك ثانية.
- حسن. (يساعدها في خلع المعطف ويضعه على الكرسي)
- والآن فلنجهز الشاي(643/51)
- أين الغلاية؟
- في المطبخ. سأذهب وأملؤها ونستطيع أن نغليها هنا، فالنار في المدفأة كافية. ويمكنك أن تخرجي فنجانين من الدولاب وكذلك بعض البسكويت.
- حسن
(يخرج فتأخذ من الدولاب فنجانين وبعض البسكويت وتضعها على المنضدة).
- (من الخارج): كم ملعقة من الشاي أضعها في الوعاء؟
- (متجهة نحو الباب): أثنين ونصف كما أعتقد.
- حسن. (تذهب نحو المدفأة وتحرك النار. ويدخل حاملا صينية صغيرة عليها غلاية ووعاء للشاي)
لم أضع ماءً كثيراً في الغلاية حتى يغلي بسرعة (يضع الغلاية على النار)
- والآن علينا أن نأخذ أنفسنا بالصبر (تجلس على الأريكة)
- يمكننا أن لا نلقي بالاً إليها حتى لو غلت.
- نعم، أعتقد أن تلك هي الطريقة الوحيدة.
- ما اسمك؟
- (مترددة) أوه. . .
- (بسرعة) آسف جداً. . . لقد نسيت. . . إذا كان حرياً بك تبدئيني بالسؤال. . . اسمي هج لومبارد.
- واسمي ماري جيفون.
- إنه اسم جميل.
- أفكر دائما في أنه اسم إنجليزي فاتر. . . ولكنه على ما ترى جميل. . .
- أوه، وقد دفعني إلى حبه كونه إنجليزياً.
- وأخيراً، يتلهف قلبي على شيء أجنبي. . .
- أثراً بعيداً أحدثته الآداب العصرية في الشباب.
- والآن، لا تهزأ بي. . .
- آسف.(643/52)
- أنت تعلم من نكون، أليس كذلك؟
- لا، من؟
- إننا ضحايا التمدين.
- أنحن هكذا؟
- نعم، إننا ضحايا - ولو أننا - في الحقيقة متوسطا التفكير عاديان، إلا أننا غصنا إلى الأعماق، ولكن كلامنا حاول بمشقة جاهدة أن يحافظ على الأمان والسلام وسط هذه الحياة العصرية. فإن كنا قد تمادينا قليلا لكنا قد أجهزنا على فضيلتنا الحقيقية.
- أرى أنك جد ماهرة
- (فجأة) أوه، إياك. . . إياك. . .
- إياي، ماذا؟
- إياك أن تقودني إلى الزلل. . . سوف تقوض كل ما أسديته لي من معروف!
- المعروف الذي قمت به؟؟ عما ذا تتكلمين؟
- لقد فعلت كل طيبة في العالم نحوي. . . إنك أمين كل الأمانة. . . ولطيف. . . وفي الحقيقة لم أهز شعورك بقدر ما هزه اسمي
- لست أرى أي إحسان في هذا؟
- لقد أنقذتني من نفسي - التي تدوي في عواطفي الفائرة - ولكنها في الحقيقة الكاملة.
- وهذا عين ما فعلته نحوي - لقد جعلتني أحس العار من نفسي - ولا سيما حينما صرخت.
- إنني مسرورة.
- وكذلك أنا. . . ولم سألتني ألا أقودك إلى الزلل؟
- (بخبث) لأنني كنت ماهرة. . . وكنت مفكرة عصرية.
- لا، لم تكوني كذلك. . . ولكنك كنت جميلة.
- لا تكن أحمق.
- ولكنك كنت. . . إنه مخيف. . .
- (بحدة) لا تعد إليها مرة أخرى. . . مطلقاً، مطلقاً، إياك(643/53)
- إياي أن أعود لماذا؟
- من الآن فصاعداً سأكون على حقيقتي - نفسي الحقيقية - لا أن أكون نسخة من شلسي.
- وأنا أيضاً. . . لن أكون بعد الآن صورة لابن المدينة الشاب
- يا للبلهاء!!
- لقد طرأت علي فكرة. . .
- وما هي. . .؟
- أصغي إلي. . . لم لا نكون. . .
- الماء يغلي.
- أوه. . . (ينهض) لا. . . لم يغل بعد.
- رأيت بعض البخار يتصاعد من الغلاية.
- قليلا جداً. حينما يتصبب الماء يكون قد تم غليانه. . .
- ماذا كنت تريد أن تقول؟
- سوف لا أقولها. . . بعد ذلك. . .
- ولمه؟
- أخشى أن أهدم ما بنيت.
- أوه!! (يصمتان قليلا)
- ألم ينقطع هطول المطر؟ (تنهض وتتوجه إلى النافذة).
- ألا تزال السماء تمطر؟
- ليست من السوء كما كانت - ومن العسير أن نحكم ونحن هنا - وإنما يمكن المرء أن يبدي رأيه مما يرى من أوحال.
- (يقترب من النافذة بجوارها) ألا تلمع الأفاريز كالزجاج.
- حقاً، بالضبط. . . وإذا نظرت من الركن قليلا أمكنك أن تلمح المتنزه (تلصق وجهها بالزجاج).
- نعم، إن قربه مما يزيد البهجة. . .
- من أي جهات الريف قدمت؟(643/54)
- من أجام كنت. . .
- لا!!
- ولماذا؟
- إنني خبيرة بتلك الجهة. . . بين راي وفولكستون. . .
- بالضبط. . . إيفيتشيرش. . . إن منزلي لبالقرب من إيفيتشيرش.
- ما أحبها إلى نفسي. . . بل ما أبهج شميم البحر، ورؤية الآجام وحواجز الماء والفضاء هناك.
- كم أنا سعيد لأنك تعرفينها. . . وتحبينها. . .
- انظر. حقاً. إن الماء يغلي الآن.
- تعالي وامسكي وعاء الشاي.
(يتقدمان معاً بجوار النار. ويجهزان الشاي ثم يضعان وعاء الشاي على الصينية).
لنشرب الشاي ونحن جلوس على الأريكة. . . ويمكننا أن نضع الصينية على ركبتينا.
- حسن. سأجلس هنا. . . ناولنيها. . .
- جميل. البسكويت أولا. . .
(يضع الوعاء على الأرض بجوار أقدامها، ثم يعطيها الصينية ويجلس بجوارها)
- كن على حذر.
- أليست جلسة مريحة!!
- في الحقيقة لم تستقر بعد. . . ولكن لا بأس. (تصب الشاي)
- أظن أنني لم أحب إنسانا مثل هذا الحب. . . وبهذه السرعة. . . من قبل.
- ما هذا الهراء!!. . . أتريد سكرا؟
- نعم، من فضلك. . . قطعتين.
- كان يخيل إلي منذ بضعة أشهر أنني أفضل الشاي ممزوجا باللميون. . . بدلا من اللبن.
- روسية صميمة. . . كما يظهر!!
- (مقهقهة): بالضبط.
- إنني أود في الحقيقة أن أقول لك شيئا هاماً. . . ولكنك تمنعينني.(643/55)
- أعرف ذلك.
- ماذا. . .؟
- لنفس الأسباب التي قلتها. . . سوف تهدم كل شيء. . .
- لا. . . لم أفكر في هذا. . .
- دون أن تلجئنا إلى المجازفة، بعد؟
- (بكآبة): لك ذلك. . . (يرتشفان الشاي في هدوء)
- ماذا تعمل؟
- ماذا تقصدين؟
- أعني ما صناعتك؟
- إنني مهيأ لأن أكون جنديا.
- أوه. . .
- أسوأ ما في الموضوع. . . إذ معنى ذلك الهند. . .
- أوه، ما أعجب حياة هذا الصنف من الجنود.
- نعم. . . الحياة وسط الأبهاء الفسيحة، والمراوح المعلقة في الأسقف وهي تتماوج، وصليل الثلج في الكؤوس، والنساء الجميلات اللائى يتأودن في مشيتهن كالهررة مرتديات أثوابهن البراقة اللامعة. . .
- وارتداء السراويل (البنطلونات) البيضاء النظيفة ولعبة البولو والمفاجآت الشعبية والمحاورات التي تهز الشعور. . . ألا ما أحب كل أولئك إلى نفسي!!!
- أتظنين أنك تحبينها؟
- أي نعم. . . ولو أنها في البداية. . . تبدو غريبة. . .
- كم يسرني أنك لم تكرهي الفكرة. . .
- كم الساعة الآن؟
- (واضعا فنجانه): لم يتأخر الوقت. . . انظري. . . (يريها ساعته)
- (تضع فنجانها بشدة فتسمع فرقعته) يجب أن أذهب الآن. . . حالا. . . يجب أن أذهب.
- أوه. . .(643/56)
- حتى ولو كانت تمطر سيولا جارفة. . . (تتوجه نحو النافذة)
- بودي أن تنتظري بعض الوقت.
- من الحمق أن أتمهل في الخروج. . . فأنني أحس تعبا مضنيا، كما أعتقد أنك تعب أيضا. . . ويجب أن ننام ونستريح. وقد سكن المطر تماما. . . وأرى عربة منتظرة هناك. . .
- فلتذهب تلك العربة إلى الجحيم!
- والآن.
- رغبت أن أرافقك في المسير حتى تجد أخرى.
- يمكنك أن توصلني إلى الخارج.
- حسن.
- ساعدني على ارتداء معطفي.
- لك ذلك.
(يساعدها على ارتداء معطفها. . . ثم يأخذها بين يديه)
كم أنا مدين لك بالشكر. . . على هذه الفترة السعيدة. . .
- حقا، ما أسعدني بها. . .
- دعيني أعبر لك. . . الآن.
- عما ذا؟
- أتقبلينني زوجاً؟
- لا تكن أحمق.
- لست أحمق. وإنما أعني ما أقول.
- لم يختبر كل منا الآخر.
- بالعكس. . . فقد خبر كل منا الآخر كل الاختبار.
- كلا. . . لم يكن الوقت فسيحاً.
- لقد تولهت بك. . .
- كلا. . . بالتأكيد كلا. . . إذ لا يمكنك. . .(643/57)
- ولمه؟
- لست أدري.
- أتحاولين؟
- (تطرق) ك إياك. . . وإلا فسأصرخ ثانية.
- ما أعزك إلى قلبي.
(يضمها إلى صدره ويهوي على شفتيها تقبيلا).
- (مرتجفة): والآن كادت تسقط قبعتي.
(يخرجان معاً وهو يحوطها بذراعه بحنان)
ستار. . .
احمد فتحي عبد التواب(643/58)
العدد 644 - بتاريخ: 05 - 11 - 1945(/)
نكبة فلسطين
في أيدي العرب سلاح ماض
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
نكبت السياسة البريطانية فلسطين على الخصوص، وبلاد العرب على العموم بوعد بلفور في إبان الحرب العالمية الماضية، ولم تحفل بالعهود والمواثيق التي أعطتها للمرحوم الملك حسين. وما كانت ثورة الملك حسين رحمه الله لتحرير الحجاز وحده، ولو أن هذا كان كل ما يبغي، لاكتفى بحصار الحامية التركية في المدينة، ولما كانت به حاجة إلى تسيير جيش كبير بقيادة ابنه الأمير فيصل (الملك فيصل فيما بعد) لم يزل يسير من نصر إلى نصر حتى دخل دمشق.
وقد ظهر من الصور الشمسية للمكاتبات التي تبودلت بين الملك حسين والسير هنري مكماهون المندوب السامي يومئذ في مَصر - وقد وزعتها وزارة الخارجية البريطانية على الوفود العربية في مؤتمر لندن الذي عقد في سنة 1938 من أجل فلسطين، أن الملك حسين طالب باستقلال العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق وشبه جزيرة العرب، وقد أجيب إلى ما طلب، في تحرز كان المراد منه إرضاء مطامع فرنسا في لبنان ليس إلا، أما فلسطين فلم يرد عليها أي تحفظ، ومع ذلك لم تحجم السياسة البريطانية عن وعد بلفور المشهور! ثم جاء الانتداب البريطاني على فلسطين في أعقاب الحرب مباشرة، فأبى الملك حسين كل الإباء أن يعترف به، فكان هذا من أسباب تغيّر القلوب عليه في بريطانيا.
على أن وعد بلفور، على ما فيه من نكث بالعهود، ليس فيه أكثر من إقامة وطن قومي للصهيونية (في) فلسطين. ولم يكن مقصوداً به قط أن يجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وغير أن الصهيونيين الذين حاولوا أن يدركوا غايتهم في العهد العثماني وأخفقوا، أرادوا أن يكون وعد بلفور خطوة أولى في سبيل الغاية التي كان يضمرونها، وهي اجتياح فلسطين والاستئثار بها دون العرب، ولو أن كل ما يبغون هو إنشاء الوطن القومي لقنعوا بما تم لهم من سنوات، فقد أنشئ الوطن القومي، وانتهى الأمر، ولكنهم أبوا أن يقنعوا عند هذا الحد، فجاءوا بالمهاجرين سراً وعلانية، وراحوا يتوسعون في شراء الأراضي ويخرجون منها العرب، فثار العرب ثورتهم المشهورتين حتى كانت سنة 1938(644/1)
فدعت بريطانيا إلى عقد مؤتمر مزدوج - أو مؤتمر على الأصح، واحد بينها وبين ممثلي فلسطين والعراق والدولة السعودية ومصر، وآخر بينها وبين ممثلي الصهيونيين. وعقد المؤتمران في وقت واحد ولكن في مكانين مختلفين. وحاول ممثلو بريطانيا في هذا المؤتمر أن يهتدوا إلى وسيلة للتوفيق بين الفريقين وإيجاد قاعدة للتعاون، فتعذر ذلك، فرأت بريطانيا أن تصدر كتاباً أبيض مبيناً لسياستها، وكان من قواعد هذه السياسة تحديد الهجرة الصهيونية في خمس سنوات، بحيث لا يتجاوز عدد اليهود في فلسطين ثلث السكان جميعاً أي نصف عدد العرب، وأن يخطر بيع الأراضي في مناطق، ويباح في مناطق، ويجوز في مناطق أخرى بإذن من المندوب السامي. ورأى العرب أن في هذا بعض دواعي الاطمئنان فتقبلوا هذه السياسة الوقتية إلى أن يتسنى الفصل في القضية على وجه حاسم. ثم كانت الحرب، فأخلد العرب إلى السكينة حتى تضع أوزارها.
ولكن الصهيونيين لا يسكنون ولا يكفون عن السعي، لأن لهم غاية أبعد من مجرد الوطن القومي الذي فازوا به، وهي أن يستولوا على فلسطين كلها ويخرجوا العرب منها، ويقيموا لأنفسهم فيها دولة. وحتى هذه ليست إلا خطوة ثانية في سبيل غرض أكبر وأعظم، فقد صرح مندوبوهم في المؤتمر الصهيوني الذي عقدوه منذ بضعة شهور في لندن، بأن الشرق الأوسط كله (مجال حيوي لهم) كما كان هتلر يقول إن شرقي أوربة وجنوبها الشرقي (مجال حيوي) للرايخ الثالث.
فالبلاد العربية كلها - لا فلسطين بمجردها - مهددة بالاجتياح والاستعباد والاقتصاد والسياسي إذا نجح الصهيونيون في إقامة دولة لهم. ومن هنا كان إجماع البلاد العربية على الحيلولة دون قيام هذه الدولة، دفاعاً واجباً عن الذات.
ولسنا ندري هل اليهود جميعاً صهيونيون، أو أن الصهيونيين جماعة منهم ليس إلا كما يزعم البعض، وإنما الذي ندريه أن الصهيونيين يملكون كل وسائل الدعاية، وإذا كان هناك يهود غير صهيونيين فإننا لا نكاد نسمع لهم صوتاً، على أن هذا التمييز لا قيمة له، والمهم أن الصهيونية قد استطاعت أن تحمل رئيس جمهورية الولايات المتحدة على مناصرتها، فطلب من بريطانيا أن تأذن في الهجرة لمائة ألف يهودي في ألمانيا، كان أكثر من مائة مليون في أوربة يعانون الفاقة والمرض لا يستحقون مثل هذا العطف. ثم إن المهم أن(644/2)
بريطانيا حائرة بين إرضاء أمريكا وإرضاء العرب، وهي لا تستغني عن أمريكا، ولا يوافقها أن تغضب العرب عليها، فإن بها حاجة إلى أسواقهم وبها حاجة إلى معونتهم إذ تأزمت الأمور وفسد ما بينها وبين روسيا. ثم هي تسعى للاقتراض من أمريكا لتفرج ما هي فيه من أزمة مستحكمة، وتود أن تضمن عونها أيضاً حيال روسيا.
وهذه حيرة لا تبعث على الاطمئنان، فيحسن بالعرب أن يتولوا بأنفسهم جميع أمرهم، وأن لا يعولوا في إحباط مساعي الصهيونية على أحد غيرهم، فإذا أنصفتهم بريطانيا فبها، وإلا مضوا في سبيلهم حتى يقضي الله بينهم وبين الصهيونيين.
ودعوتي هي إلى المقاطعة التامة الجامعة المانعة لكل ما هو صهيوني، لا في فلسطين وحدها، بل في البلاد العربية جميعاً، فقد غزا الصهيونيون أسواقها بسلعهم مغتنمين فرصة الحرب وقلة الواردات من الغرب. وليكن العرب على يقين جازم بأن هذا سلاح ماض، وانهم إذا نجحوا في مقاطعة الصهيونية، ارتحل القوم عنهم مؤثرين العافية.
ولا سبيل إلى نجاح المقاطعة إلا بالتنظيم وحسن التدبير، فما تصلح الأمور فوضى. وأظن أن هذا سلاح تستطيع جامعة الدول العربية أن تشهره وتصيب به الصهيونية في مقاتلها دون أن تحتاج إلى سلاح سواه. ولن يلومها أحد فيه إذا هي استخدمته فإنه وسيلة سلمية للدفاع عن النفس، وله مزية أخرى هي أنه يعلم الأمم الغربية أن العرب ليسوا كما مهملا يقضي في أمرهم بغير رأيهم. والغرب يجيد فهم هذه اللغة - لغة المقاطعة - وهو أحرى بأن يكون أحسن فهماً لها بعد هذه الحرب التي هبطت بتجارته إلى الحضيض الأوهد، وتركته أشد ما يكون حاجة إلى أسواق الشرق الأوسط خاصة.
وثم وسائل أخرى كثيرة، ولكن هذه الوسيلة أول ما يجب البدء به، ونجاحها مكفول فلنتوكل على الله، فما زال صحيحاً أنه ما حك جلدك مثل ظفرك
إبراهيم عبد القادر المازني(644/3)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
للتشريع الإسلامي مزايا ومحاسن، جعلت شريعته أغنى الشرائع وأوفاها بحاجات الأفراد والجماعات، وأكفلها بتحقيق طمأنينة الأمم وسعادتها، وقوتها وعزتها، بل هي إذا اتبعت مع آداب الإسلام ووصاياه الأخرى كفيلة بتكوين أمة مثالية تجتمع فيها عناصر القوة والمنعة، والحياة الصالحة والمدنية الفاضلة، وتتهيأ لها أسباب التقدم والنهوض إلى أرفع المراتب وأعلى الدرجات، وبها تستحق خلافة الله في الأرض لتملأها عدلا وأمناً، وإحسانا ورحمة.
وليس في قدرتنا أن نحصي هذه المزايا لتنوعها وكثرتها، فحسبنا أن نذكر بعض محاسنها ليكون شاهد يكشف عما فيها من قوة الحياة، ونصوع العدالة، وسمو المبادئ، ونبل المقصد، وشرف الغاية، فنقول:
1 - موافقة أحكامه لمقتضى العقل
إن جميع أحكام الشرع الإسلامي جرت على مقتضى العقل، وجاءت وفق الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها قبل أن تفسدها الأهواء، وتطغي عليها الشهوات: فما نص عليه من الأحكام في الكتاب والسنة معقول المعنى، له حكم جليلة، وأسرار تشريعية سامية، حتى العبادات، لها في جملتها من الحكم والمنافع والآثار النفسية والتهذيبية والخلقية والاجتماعية، ما لا يمكن أن يخفي على ذوي العقول السليمة، ولا يضيرها أنها في بعض تفصيلاتها قد يخفي علينا وجه الحكمة فيها، فإن خفاءها لا ينفي وجودها، وقد تكون حكمته في العبادات اختبار قوة الإيمان في العبد، وامتحان طاعته وامتثاله لربه، وما لم ينص عليه، وهي الأحكام الاجتهادية المبنية على الرأي والقياس، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد - مصدر العقل وحرية الرأي التي لا تتقيد إلا بمراعاة العدالة، وإقرار الحقوق، وما ينبغي أن يراعي من أصول الاجتهاد الشرعي وقواعده.
فشريعة الإسلام شريعة العقل والفطرة، وليس فيها شيء يخالف القياس الصحيح، ولذا جاءت رحمة وحكمة، ومصلحة ونعمة، قال ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية:
(ما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام، يقطع ببطلان سنته حساً أو عقلا، فحاشا أحكامه - سبحانه - من ذلك، فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه ولا أعدل، ولا يحكم حكما(644/4)
يقول العقل ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما شهد العقل والنظر بحسنها ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح في موضوعها سواها)
2 - غايته تحقيق مصالح العباد
ومن محاسنه جعل غايته من التشريع تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع الضر والمفاسد عنهم، وتحقيق العدالة المطلقة، فما من حكم منصوص عليه، أو حكم اجتهادي إلا روعي فيه تحقيق هذه الغاية. قال ابن القيم في كتابه المذكور: (من له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالاتها، وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها جاءت بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها - لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة).
وقال فيها أحد كبار الكتاب في هذا العصر: (الأمور الشرعية التي دونها الفقهاء المسلمون قبل نحو أحد عشر قرناً تبذ في عدالة أصولها وسمو مستواها واتفاقها مع الحق الطبيعي جميع القوانين الوضعية حتى التي سنت في القرن العشرين، ثم قال: إن من يتأمل في التشريع الذي استنبطه علماء المسلمين في الرق والأرقاء، وفي المرأة، وما يتعلق بها من حقوق طبيعية وروحية، وفي الأيتام والفقراء، وفي حقوق المحاربين والمعاهدين، والأجانب والذميين، وفي الشئون المدنية والجنائية، وفي العقوبات والتعزيز. . . من يتأمل في هذا كله يجد تفوقاً ظاهراً في التشريع الإسلامي على التشريع الأوربي في القرن العشرين).
ولا شك أن ذلك هو الجدير بشريعة جاءت مكملة لما كان في الشرائع قبلها من قصور أو نقص بعد أن استعدت أمم البشر لتلقي هذا الكمال، ونضجت لتقبل أسمى المبادئ وأشراف الغايات والمقاصد، وهو قُمن بشريعة عام جاءت لإصلاح البشر كافة بعد أن كانت كل شريعة قبلها خاصة بأمة معينة ومقصورة على زمن محدد: روى عن صاحب الشريعة محمد صلوات الله وسلامه عيه أنه قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها إلا موضع هذه لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها فأعجب بها قال: ما أحسن هذه الدار إلا موضع هذه اللبنة، فأنا اللبنة، بي ختم الله الأنبياء والمرسلين)(644/5)
(البحث موصول)
حسن أحمد الخطيب(644/6)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 15 -
ج 16 ص 200
ما أبو عامر سوى اللطف شيء ... إنه جملة كما هو روح
كل ما لا يلوح من سر معنى ... عند تفكيره فليس يلوح
وجاء في شرح (جملة): الجمالي من الرجال الضخم الأعضاء التام الخلق.
قلت: (فليس يروح) لا يذهب، لا يعزب عن علمه بل يدركه ويذهنه.
ويعني بقوله (جملة كما هو روح) أنك إن مددته إنسانا من الأناسي مؤلفا من لحم ودم أصبت، وإن قلت: أنه روح من الأرواح كأنه ملك من الملائكة صدقت. وصدر البيت - وفيه اللطف - يساعد على هذا التأويل.
ج 5 ص 168: ودعا بقهرمانة:
قلت: ضبط اللسان (القهرمانة والترجمان) بالفتح والضم.
وفي النهاية: هو كالخازن والوكيل والحافظ لما تحت يده والقائم بأمور الرجل بلغة الفرس.
وقد أخذت العربية ذات التقدم والشجاعة هذه اللفظة الأعجمية، ثم اشتقت منها فعلا جاء في تاريخ بغداد للخطيب (ج 7 ص 320):
الحسن بن سهل بن عبد الله أبو محمد هو أخوذي الرياستين الفضل بن سهل. كانا من أهل بيت الرياسة في المجوس، وأسلماهما وأبوهما في أيام هارون الرشيد، واتصلوا بالبرامكة، وكان سهل (يتقهرم) ليحيى بن خالد بن برمك.
ج 17 ص 216: قال (علي بن محمد الجلاني الواسطي): وأن شدنا (ابن بشران) وقد انقطع الناس عن عيادته والدخول إليه:
ما لي أرى الأبصار بي جافيه ... لم تلتفت مني إلى ناحية
لا ينظر الناس إلى الميت لا ... وإنما الناس مع العافية(644/7)
قلت: (لا ينظر الناس إلى المبتلى) والبيتان من مقطوعة عزاها أبو الفرج في (بعض أخبار إبراهيم بن المهدي) إلى علية بنت المهدي. وقال: في أخبار (عليه بنت المهدي): (الشعر لأبي العتاهية وذكر ابن المعتز أنه لعلية) وقد تمثل بالبيتين هذا العالم العظيم المحدود غير المجدود. قال ياقوت:. . . صاحب نحو ولغة وأخبار ودين وصلاح، وأليه كانت الرحلة في زمانه، وهو عين وقته وأوانه. وكان مع ذلك ثقة ضابطا محررا حافظا إلا أنه كان محدودا. . .!
ج 3 ص 100:. . . وضرب أعناقهم فيه، وسار، وأنكر الناس ذلك وتحدثوا به، ونحبت قلوبهم منه.
وجاء في شرح (نحبت): اشتد عليهم الأمر.
قلت: (نخبت): جبنت، فزعت. في الأساس: أنه لمنخوب ونخيب ونخب: لا فؤاد له. وقد نخب قلبه ونخب كأنما نزع من قولهم نخبت الشيء وانتخبته إذا نزعته، ومنه الانتخاب: الاختيار كأنك تنتزعه من بين الأشياء.
ج 4 ص 66: أحمد بن علي الأسواني:
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة ... قل الصديق بها وقل الدرهم!
في معشر خلقوا شخوص بهائم ... يصدى بها فكر اللبيب ويُبهَم
فالله يغني عنهم، ويزيد في ... زهدي لهم، ويفك أسري منهم
وجاء في الشرح: يقال: صدى الرجل يصدي صدى: عطش، أهو شدة العطش، كناية عن تبلد العقل.
قلت: (فالله يغني عنهم) و (يصدي) هي (يصدأ) فخفف وهو مثل حبيب:
لم آتها من أي وجه جئتها ... ألا حسبت بيوتها أجداثا
بلد الفلاحة لو أتاها جرْوَل ... أعني الخطيئة لاغتدى حراثا
تصدا بها الإفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثا
وروى ابن قتيبة في (عيون الأخبار) لبعض الشعراء:
إني أجالس معشرا ... نوكي أخفهم ثقيل
قوم إذا جالستهم ... صدئت بقربهم العقول(644/8)
لا يفهموني قولهم ... ويدق عنهم ما أقول
فهمُ كثير بي وأعلم ... أنني بهم قليل
وللأسواني هذا البيت من جملة قصيدة:
ومالي إلى ماء سوى النيل غلةٌ ... ولو أنه (أستغفر الله) زمزمُ
ج 19 ص 276: هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ كان واحد عصره في صناعة الطب متفننا في علوم كثيرة. . . وكان عارفا بالفارسية واليونانية والسريانية متضلعا بالعربية، وله النظم الرائق والنثر الفائق.
قلت: (متضلعا من العربية) كما جاء في (ج 19 ص 282) وهو كلام مولد غير مستنكر. والذي قالته العربية الأولى هو ما جاء في (المصباح): تضلع من الطعام امتلأ منه. وفي النهاية وفي حديث زمزم فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع أي أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه، وفي حديث ابن عباس: أنه كان يتضلع من زمزم. وقال الأساس: (وأكل وشرب حتى تضلع) ولم يذكره في مجازه. وفي مقدمة (القاموس). . . بما يتضلع منه (أي من علم اللغة) قال شارحه: قال ثعلب: تضلع امتلأ ما بين أضلاعه
ج 6 ص 60:. . . وكان (إسحاق بن إبراهيم البربري المحرر ويعرف بابن النديم) يحرر الكتب النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف في الطوامير، وكان في نهاية الحرفة والوسخ، وكان مع ذلك سمحا لا يليق على شيء.
وجاء في شرح (لا يليق) أي لا يمسك من جوده على شيء.
قلت: لا يبقى على شيء أو لا يليق شيئا. في الأساس: فلان لا يليق بكفه درهم، ولا تليق كفه درهما: لسخائه. وفي اللسان قال الأصمعي للرشيد: ما ألاقتني أرض حتى أتيتك يا أمير المؤمنين. الأزهري: العرب تقول: هذا أمر لا يليق بك، معناه لا يحسن بك حتى يلصق بك. وقول الأصمعي الذي رواه اللسان هو في هذا الخبر ذي الفائدة، نقله ابن خلكان:
الأصمعي قال: دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا!
قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك. فأمرني بالجلوس، فجلست(644/9)
وسكت عني. فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت للقيام فأشار إليّ أن اجلس، فجلست حتى خلا المجلس ولم يبقى غيري ومن بين يديه من الغلمان فقال: يا أبا سعيد، ما معنى قولك: ما ألاقتني بلاد بعدك؟ قلت: ما أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت قول الشاعر:
كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف دما
أي ما تمسك درهما. فقال: هذا أحسن. وهكذا فكن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، فانه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالما، إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب، وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت.
قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته. . .
ج 9 ص 231: (الرضى من قصيدة في رثاء ابن الحجاج):
لسان هو الأزرق القعضبيّ ... تمضمض في ريقه الأفعواني
وجاء في الشرح: القعضبي نسبة إلى قعضب وهو رجل كان يصنع السنان. الأفعواني منسوب إلى الأفعوان وهو الثعبان فهو صفة لريق.
قلت: (تمضمض في ريقة الأفعوان) في الصحاح: الريق الرضاب والريقة أخص منه. وفي (ديوان الرضي): (من ريقه) و (في) أصح من (من).
ج 16 ص 150: قال أبو العباس ثعلب: جمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائي والأصمعي وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة: (همكٌ ما أهمَّك) فذهب الكسائي يقول: يجوز كذا ويجوز كذا. فقال له عيسى: عافاك الله: إنما أريد كلام العرب، وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب.
قال أبو العباس: وليس يقدر أحد أن يخطئ في هذه المسألة لأنه كيف أعرب فهو مصيب. وإنما أراد عيسى بن عمر من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه.
قلت: هذا مما قيل في المسألة. . .
في (التلويح في شرح الفصيح) لأبي سهل محمد الهروي. والفصيح للإمام ثعلب:
وتقول: (همَّك ما أهمَّك) فهمك مرفوع بالابتداء، وما أهمك خبره، وتقديره حزنك هو الذي حزنك ولم يحزن جارك ولا غيره من الناس. وأهمني الشيء بالألف حزنني، وهمني بغير ألف إذابني. (ص 76)(644/10)
وفي (المخصص) للإمام ابن سيده:
(همَّك ما أهمَّك) يعني أذابك ما أحزنك (ج 13 ص 138).
وفي (مجمع الأمثال) للإمام أبي الفضل أحمد الميداني:
همَّك ما همك، ويقال همك ما أهمك. يضرب لمن لا يهتم بشأن صاحبه إنما اهتمامه بغير ذلك. هذا عن أبي عبيد. يقال: أهمني الأمر إذا أقلقك وحزنك. ويقال: همَّك ما أهمك أي آذاك ما أقلقك. ومن روى همك بالرفع فمعناه شأنك الذي يجب أن تهتم به هو الذي أقلقك وأوقعك في الهم.
وفي (لسان العرب) للإمام أبي الفضل محمد بن مكَرمَّ المصري:
قال أبو عبيد في باب قلة اهتمام الرجل بشأن صاحبه: (همُّك ما همك) ويقال: همك ما أهمك جعل ما نفيا في قوله ما أهمك أي لم يهمك همك. ويقال معنى ما أهمك أي ما أحزنك، وقيل: ما أقلقك وقيل ما أذابك. . .
ج 12 ص 233: كان ابن سيدة منقطعا إلى أبي الجيش مجاهد. . .
قلت: في (وفيات الأعيان) ابن سيده: بكسر السين وسكون الياء وفتح الدال وبعدها هاء ساكنة.
قال ابن خليكان: وكان ضريرا وأبوه ضريرا أيضاً. وكان أبوه قيما بعلم اللغة، وعليه اشتغل ولده في أول أمره.
ومن تصانيفه - كما ذكر ياقوت - (المخصص) وقد طبع و (المحكم والمحيط الأعظم) رتبه على حروف المعجم وهو اثنا عشر مجلدا. ومنه نسخة مخطوطة في (دار الكتب المصرية) عمرها الله!(644/11)
الأجانب في البلاد العربية
للدكتور جواد علي
في الكتب اليونانية القديمة أسماء مستعمرات أنشأتها الجاليات الأجنبية في البلاد العربية. تقع أكثرها على سواحل البحر الأحمر أو السواحل الجنوبية. وقد عنى المستشرقون بالبحث عن هذه المستعمرات وعن مواقعها وآثارها. ومن أشهر هؤلاء المستشرق النمساوي الشهير المرحوم كلاسر في كتابه القيم (صورة تاريخ البلاد العربية وجغرافيتها).
وقد أُنشئت هذه المستعمرات على ما يظهر لتموين القوافل البحرية ولحراستها من هجمات قرصان البحر. ولإقامة البحارة والتجار. ولما ضعفت الأم وهزلت ولم يعد في إمكانها إمداد هذه المستعمرات بالمؤن والرجال استعرب من كان في هذه الثكنات الحربية واندمج في مجموعة القبائل العربية. وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الكلمات الأجنبية في اللغة العربية قبل ظهور الإسلام بزمان طويل ووجود بعض القبائل العربية ذات السحن الغربية في داخل شبه الجزيرة.
ومن جملة تلك المستعمرات مستعمرة (العيلاميين) المتاخمة لأرض المعينين وقد ذكرها المؤرخ (بلينيوس) الشهير في جملة الأماكن التي ذكر أسماءها في أرض المعينين.
ورأى المستشرق كلاسر أن هذه المستعمرة العيلامية هي من بقايا العيلاميين المعروفين سكنة عيلام سكنوا في هذه المنطقة بعد أن تمكن العيلاميون من الاستيلاء عليها وظلوا فيها بعد زوال دولة العيلاميين. ويأتي هذا المستشرق بدليل هو أن هذه المنطقة التي نتحدث عنها وجميع أرض عمان قد كانت في عهد المؤرخ (بلنيوس) تحت سيطرة الإرشاكيين وورد في نص الأكسومي اسم بشبه هذا الاسم هو (عظالم) من كلمة (عظلم). وقد وردت هذه التسمية في كتاب (صفة جزيرة العرب) للعالم الشهير الهمداني الاختصاصي في تاريخ اليمن. فلا يستبعد إذاً أن تكون هذه الكلمة محرفة عن التي ذكرت في كتاب (بلنيوس) المذكور.
وتعرف المستشرق المذكور على مستعمرة أخرى هي (امبلونة) وقد ذكرها بلنيوس أيضاً ويرجح أن سكانها من الملاطيين اليونانيين. وتقع في المحل المعروف باسم وادي العمود على مقربة من السواحل التي اشتهرت بالذهب وهي بلاد العسير على رأي المستشرق(644/12)
شبرنكر غير أن أوصاف هذا المحل لا تنطبق على الأوصاف التي ذكرها المؤرخ بلنيوس تمام الانطباق.
والأرجح أن يكون هذا المكان في الشمال بعيداً عن منطقة نفوذ السبئيين. وأحسن مكان يصلح لأن يكون محلا مناسباً لسكنى اليونانيين هو في شمال الحجاز، على سواحل البحر الأحمر حيث تبعد المنطقة عن سيطرة السبئيين وحيث يمكن الاتصال بمصر وفلسطين.
والظاهر أن سكان هذه المستعمرة من المكان الذي أنجب الفيلسوف طاليس والفيلسوف انكسمندر وانكسمانس وكان سكانه على جانب عظيم من الرقي والحضارة والذكاء. وقد ازدهرت فيه الحضارة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. غير أن الحزب دب إلى هذا المكان فيما بعد منذ سنة 494 قبل الميلاد فارتحل أهله وهاجروا إلى شتى الأنحاء حتى نسى المحل تماماً في عهد الإسكندر المقدوني الكبير.
واختار هؤلاء اليونانيون فرصة مناسبة هي فرصة انتقال الملك من المعينين إلى السبئيين. ففي هذا الوقت لم يكن شمال الحجاز كله بأيدي السبئيين ولم يكن لأهل اليمن أسطول قوي يسيطر على شمال البحر الأحمر فاختار اليونان ذلك المكان.
وليس من المستبعد ذلك فقد كان سكان قد أنشئوا حوالي الثمانين مستعمرة انتشرت في ساحة واسعة على البحر الأسود وعلى بحر مرمرة وعلى سواحل البحر الأبيض. وأنشئوا لهم مستعمرة في مصر في عهد الفرعون حيث ألفوا أسطولا قوياً دخلوا به نهر النيل وسكنوا في أرض اختاروها سميت باسم مستعمرة نكراطيس
فمن الجائز كما يقول المستشرق مورتيس أن يلتجئ جماعة من هؤلاء إلى الفرس بعد تخريب مستعمراتهم التي أنشئوها في مصر وأن يطلبوا حمايتهم، وأن ينتقلوا إلى موضع آخر فاختاروا محلا لا يبعد كثيراً عن مصر ولا يعرضهم في نفس الوقت إلى اضطهاد المصريين، هو المكان الذي أسسوا فيه مستعمرة
وورد في تاريخ هيرودوتس نقطة مهمة جداً تخص هذا الموضوع أثناء بحثه عن داريوس الكبير ملك الفرس ذكر أن هذا الملك حمل الملطيين معه أسرى إلى سوسه حيث عاملهم معاملة حسنة ثم أسكنهم مدينة أمب التي أنشأها على سواحل بحر الإريتريا في النقطة التي يلتقي فيها نهر دجلة بهذا البحر. أما المدينة نفسها مدينة ملطية فقد استولى عليها(644/13)
الفرس.
أما موقع مدينة على حد وصف هيرودوتس فيجب أن يكون على الخليج الفارسي حيث يصب نهر دجلة فيه لا على البحر الأحمر كما يظهر ذلك من وصف الروماني بلينوس إذ من المعلوم أن مصب نهر دجلة في ذلك الخليج.
على كل فسواء كان موقع أو على الخليج الفارسي أو على البحر الأحمر فإن النتيجة واحدة وهي أن اليونانيين كانوا قد سكنوا مدينة أنشئت في بلاد عربية وعاشوا فيها وتاجروا، ثم اندمجوا بعد ذلك واختلطوا بالوطنيين.
والأرجح أن يكون محل تلك المستعمرة على سواحل البحر الأحمر في شمال الحجاز. وفي أقوال (288 ق. م) ما يؤيد هذا الرأي. وأصبح هذا المحل في عهد (بلنيوس) تحت سيطرة الحكومة السبئية. ولما ضعف نفوذ هذه الحكومة تغلبت القبائل المتوحشة على هذا المكان كما يظهر ذلك من أقوال مؤلف كتاب فصار التجار يتجنبون جهد الإمكان هذا المكان. يقول المستشرق كلاسر: كانت هذه المنطقة ملتقى مختلف القبائل. نقطة يجتمع فيها التجار من كل مكان. وقد كانت معروفة عند الكتاب اليونانيين والرومانيين وقد ذكر بطليموس أسماء عدة قبائل نزلت هذا المحل.
وتحدث ديودورس الصقلي عن شعب دبن كان يسكن على سواحل البحر الأحمر في موضع يصح أن يكون في عسير. وهذا الشعب لا يضيف أحدا من الغرباء إلا إذا كان الغريب من أو لاعتقاده وهذا يرجع إلى أسطورة قديمة إن هذه الشعوب الثلاثة ترجع في النسب إلى جد واحد هو هرقل
وفي العهد القديم اسم موضع دعي (ياوآن) ذكر في جملة الأماكن التي كانت تتاجر مع مدينة صور. تدل القرائن على أن المقصود منه موضع من المواضع الواقعة في جنوب البلاد العربية ولعل ذلك في اليمن، وقد يكون اسم قبيلة من القبائل العربية وتطلق كلمة في أكثر آيات العهد القديم على اليونانيين، فهل يمكن أن نجد صلة بين الاسمين؟
قال بعض المستشرقين: المعقول أن يكون هذا الموضع اسم مستعمرة كان اليونانيون قد سكنوا فيها بدافع المتجارة. لاسيما وقد ثبت عندنا أن الأجانب كانوا قد أسسوا لهم المستعمرات في مختلف أنحاء شبه الجزيرة. فمن المعقول أيضاً أن يكون موضع تلك(644/14)
المستعمرة في (جينة) الذي ذكره الهمداني في عداد الأماكن الواقعة في أراضي (جهينة) الواقعة بين حرة النار وبين الربذة وقد ورد ذكره أيضاً عند البكري في جملة الأماكن التي مر بها الرسول حينما غزا بني قريظة ثم بني لحيان.
وذكرت أسماء مستعمرات أخرى أنشئت في مختلف أنحاء بلاد العرب. مثل أريتوزا ولاريزا ومستعمرة كلسيس وغيرها. لم يذكر (بلنيوس) أماكنها بالضبط ولم يحدد مواقعها. فلا ندري أكان يقصد من مدينة لاريزا مثلا مدينة لرسا أو لرسام التي ذكرت في النصوص الآشورية، أو أنه قصد محلا آخر. ولا ندري أكان يقصد من أريتوزا المحل الذي ذكره هو وهو بحيرة كان نهر دجلة يمونها بالماء أم لا.
على أن هذه الأسماء الثلاثة هي من الأسماء اليونانية التي طالما يتكرر ذكرها في الشرق، وهي أسماء مدن حديثة أنشأها اليونانيون في الشرق لإعادة ذكرى المدن اليونانية القديمة. فهناك مدينة أريتوزا وهي مدينة أنشئت في سوريا قديماً بين حمص وحماة. وأطلق اكزينوفون اسم لاريزا على قسم من أقسام مدينة نينوى القديمة وربما عنى بذلك ريزن وهنالك محل آخر عرف بهذا الاسم يقع في منطقة أبامين في الشمال الغربي من (حماة) وأما كلكيس فهو الاسم القديم لمدينة (قنسرين) في جنوب حلب واسم مدينة أخرى تقع في جنوب البقاع بيكا يرى اصطيفان البيزنطي أن مؤسسها ملك يعرف باسم موفكسوس العربي، وكان يطلق على هذا المحل (عين غار) وعرفت اختصاراً في الأيام المتأخرة باسم (عنغار)
واشتهر أحد ملوك السلوقيين وهو نيكاطور السلوقي ببناء المدن وقد بنى ثلاث مدن حديثة في فلسطين حملت نفس الأسماء المتقدمة الثلاثة. ولا يستبعد أن يكون هذا الملك قد أنشأ ثلاث مستعمرات بهذه الأسماء على سواحل البحر الأحمر لحماية الخطوط البحرية ولتموين السفن. ولما انتزع البطالسة أرض فلسطين من خلفاء هذا الملك كانت هذه المستعمرات في جملة ما أخذ منهم.
وورد في النصوص اليونانية اسم أي جزيرة الدوريين. فهل لهذه الجزيرة علاقة باليونانيين الدوريين وهل حل هؤلاء في شبه جزيرة العرب؟
يقول المستشرق موريتس: لا نستطيع أن نقول شيئاً جازماً في هذا الباب، على أن هنالك(644/15)
جزيرة ورد اسمها في نقشي رستم لداريوس باسم والظاهر أنها جزيرة سقطرة وهنالك جزيرة حل بها اليونانيون بقرون عديدة قبل الميلاد يرى أنها هذه الجزيرة نفسها فلا يستبعد أن تكون جزيرة سقطرة إحدى الجزر التي نزل بها اليونانيون. ويستشهد المستشرق بدليل ما ذكره المسعودي عن استيلاء الإسكندر المقدوني على هذه الجزيرة بإشارة من الفيلسوف المشهور أرسطو إليه. وما ذكره المسعودي أيضاً من وجود النصرانية في هذه الجزيرة أيضاً، وهو قول يؤيده بعض الكتبة اليونانيين حتى قيل إن اللغة اليونانية كانت معروفة في هذه الجزيرة إلى القرن السادس الميلاد.
وورد في (نقشي رستم) اسم محل دعي بوتا في ضمن جدول أسماء الأماكن التي خضعت لهذا الملك. يرى المستشرق كلاسر أنه مستعمرة من مستعمرات اليونان الأيونيين الذين كانوا يسمون بهذا الاسم أيضاً. وحاول التوفيق بين هذه الكلمة وبين كلمة فودا التي وردت في نص المؤرخ بلنيوس والتي عين محلها. وعلى هذه الفرضية تكون مستعمرة مستعمرة يونانية من جملة المستعمرات التي أنشأها اليونانيون على سواحل البحر الأحمر.
وفي (نقش رستم) لداريوس أسماء أخرى كثيرة حاول المستشرق كلاسر أن يجد أماكنها في شبه جزيرة العرب من كلمة استبردا حتى كلمة بوتا وهو يجهد نفسه في ذلك إجهاداً بيناً، ويأتي باحتمالات قد تكون بعيدة لتأييد وجهة نظره. فيحاول مثلا أن يجد مناسبة بين عبارة (واليونانيين الذين يحملون على رؤوسهم غطاء مصنوعاً من الشعر) وهي عبارة وردت في نص (نقشي رستم) وبين عبارة وردت في كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني عن أهل مخلاف المعافر وما والاه من استعمالهم للسكينية في الرأس.
كان اليونانيون على رأس المستشرقين كلاسر وعلى ما يظهر من بعض الملاحظات الواردة في المصادر اليونانية القديمة وفي جملتها (الأوديسة) على اتصال دائم بالعرب وذلك منذ أزمنة بعيدة قبل المسيح. والظاهر أن اتصالهم هذا كان عن طريق القوافل البحرية التي كانت تدخل في المياه العربية، وقد تركت تلك الرحلات البحرية انطباعات مخيفة في نفوس اليونانيين ظهرت في الأساطير التي رووها عن بلاد العرب فيما بعد.
وفي المصادر العربية إشارات وردت عرضاً فيها تأييد لما تقدم. غير أن البحث لا يستقيم في الوقت الحاضر إلا بعد زمان حينما يتسنى للعلماء إجراء حفريات علمية وتنقيبات أثرية(644/16)
في أماكن مختلفة من الجزيرة العربية، وبعد دراسة النصوص اليونانية والرومانية والفارسية والحبشية وتحليلها وتدقيقها تدقيقاً علمياً صحيحاً. وسيظهر للأمة العربية تاريخ جديد تماماً عن العهد المظلم الذي سبق عهد الإسلام والذي نجهله تمام الجهل.
قد يجل لنا هذا البحث مشكلة عويصة قديمة هي مشكلة وجود كثير من الكلمات اليونانية والفارسية والأكسومية (الحبشية) في اللغة العربية قبل مجيء الإسلام. وقد ثبت وجود ذلك ثبوتاً لاشك فيه؛ ثم مشكلة تشابه بعض الأساطير والعقائد التي كان يدين بها العرب مع الأساطير والعبادات المعروفة في السابق عند اليونانيين والفرس.
ثم مشكلة أخرى هي وجود بعض القبائل العربية القديمة التي كانت تمتاز من أغلب القبائل العربية بصفات ومميزات لا يمكن أن تكون من صفات ومميزات الجنس العربي؛ مثل زرقة العيون وحمرة الوجه وبياضه ولون الشعر وشكل الأنف والجمجمة وطول القامة وغير ذلك مما ذكر عن بعض القبائل العربية القديمة وهي قبائل ربما كانت قد استعربت واندمجت في العرب ونسيت أصلها والوطن الذي جاءت منه.
ثم مشكلة أسماء بعض القبائل وعاداتها وتقاليدها ثم أصنامها وما شاكل ذلك؛ فكل هذه نقاط غامضة ستحل متى ما عرفنا بأن هنالك جاليات أجنبية كانت تنزل في بلاد العرب ولكن سرعان ما تندمج في هذا المحيط الجديد وتختلط بأهله وسكانه.
وفي التاريخ أمثلة ربما تؤيد هذا الرأي وتقويه، فقبائل اليهود التي حلت في خيبر ويهود بنو النضير وبنو فيينقاع ثم قبائل اليهود التي نزلت في اليمن بعد خراب المعبد على يد الرومان، ثم القبائل اليهودية التي نزلت على شواطئ الفرات والتي كونت مستعمرات (الكالوته) هنالك وهي أشبه ما تكون بحكومات المدن ثم القبائل السريانية المختلفة؛ كل هذه استعربت وانتسبت إلى أصل عربي وافتخرت بالعرب مع أنها لم تكن من هذا الأصل.
وما بالنا نذهب بعيداً وعشائر (الصليب) أو (الصلبة) وهي عشائر تتكلم العربية وتعيش عيشة بدو العرب في البوادي على رأي أكثر الباحثين من أصل لا يمت إلى العرب بصلة قد يكون من أصل مسيحي استعرب وتبدى. وقل مثل ذلك عن الفرس والأتراك الذين اندمجوا في العرب ونسو أصولهم وعدوا أنفسهم من أقحاح العرب.(644/17)
جواد علي(644/18)
معلومات جغرافية عن:
الحبشة
للأستاذ عمر رشدي
الإمبراطورية الحبشية القديمة:
تحتل الإمبراطورية الحبشية، فضلا عن الجزء الذي تحتله من حوض النيل، أودية الهواش والأدمو والجوبا وخور الجاش وخور بركة؛ وحوض النيل قوي الصلة ببلاد الحبشة القديمة التي يسكنها الشعب الحبشي والتي تقع في الجزء الشمالي والشمالي الغربي من الهضبة، وهذا الجزء الذي يرتكز على أعالي النيل الأزرق والسوباط والعطبرة هو النواة التي تكونت حولها الإمبراطورية الحبشية القديمة وتبلغ مساحته400 , 000 كيلو متر مربع. ومثل معظم الأقطار الجبلية الأخرى تقسم الظاهرات التضاريسية هذا الجزء إلى وحدات سياسية مستقلة أمثال تيجري وجوجام وشوا وامهرا، وهذه هي الممالك الأربع الحبشية الرئيسية ويحكم كل منها رأس، وليس من السهل توحيد هذه الأقطار تحت سيادة ملك واحد كشأن الأقطار الجبلية عموما.
الحروب والرفيق وأثرهما في اختلاط الشعوب:
هذا القطر الجبلي قد أصبح إلى حد ما ملجأ للعناصر المختلفة، ولذلك نجد به صفات ثقافية وجنسية متعددة. وعلى الرغم من أن بلاداً جبلية كالحبشة تساعد على أن تحتفظ الوحدات الجنسية المختلفة بميزاتها الثقافية وصفاتها الجنسية، فان هناك عوامل خاصة دعت إلى الاختلاط والامتزاج من أهمها الحروب الكثيرة وتجارة الرقيق التي كانت منتشرة في الحبشة إلى وقت قريب جداً على نطاق واسع حتى أن الفرد لم يكن يحسب لدينه حسابا بقدر ما يحسب له إذا ما كان رقيقاً أو حراً. لهذا نجد الصفات الجنسية الخليطة بين الزنجية والقوقازية هي الصفات الغالبة في الحبشة إذا تمثل نحواً من 70 % من السكان، وهناك حوالي 15 % من السكان من الزنوج الصرف كقبائل ال شنجلة (بمعنى العبيد) التي توجد في الجزء الجنوبي والجنوبي الغربي من الحبشة. هذا بالإضافة إلى الجماعات النيلوتية الموجودة في غمبيلا من الأتراك ثم هناك حوالي 15 % من السكان من الجماعات(644/19)
التي تغلب فيهم الصفات الجنسية القوقازية، وهذه توجد في الجنوب والشرق والشمالي الشرقي. والصفات الجنسية الغالبة هي القامة المتوسطة والشعر المجعد واللون الأسمر القاتم والشفاه المعتدلة.
الهجرة السامية:
الهجرة السامية التي صبغت البلاد الحبشية بالصبغة السامية التي تتصف بها هضبة الآن، قد دخلت البلاد قبل الميلاد بعدة قرون (حوالي القرن الخامس) فقد سمع أهل اليمن عن بلاد الحبشة وما فيها من خير وفير، وساعدهم تشابه بيئة الحبشة ببيئة بلادهم على عبور البحر الأحمر إليها واستيطان الجزء الشمالي منها، وكانت هذه القبائل التي هاجرت من بلاد العرب الجنوبية تعرف باسم (حبشات) ولذلك أطلق على هذا الجزء الشمالي من الحبشة اسمها، ومن ثم عمر العرب هذه التسمية فأطلقوها على البلاد كلها الواقعة بين خطي عرض 4، 15 شمالا.
اللغة الحبشية:
كانت الجماعات اليمنية التي هاجرت إلى هذه البلاد لا تتكلم بلهجة واحدة بل بلهجات متعددة، وكانت اللغة التي تتكلم بها تعرف باسم (الغيز) التي لا تزال لغة المعابد هناك، ولغة الغيز لا تستعمل الآن ولكن لهجات إقليم تيجري قريبة منها. أما اللغة السائدة الآن فهي اللغة الأمهرية وهي لغة سامية اختلطت بها بعض الألفاظ الحامية وتكتب بحروف تشبه الحروف اليمنية التي تكتب بها لغة اليمن والتي هي لغة حمير، واللغة الأمهرية هي لغة التعامل والتخاطب، ولا يزال هناك شعب الأمهرة الذي يحتل الجزء الواقع في شرق بحيرة تانا وإلى الجنوب الشرقي منها وعاصمتهم أديس أبابا.
الديانة الحبشية:
كما أن بلاد الحبشة كانت ملتقى العناصر المختلفة من حامية وسامية فهي كذلك البقعة التي اجتمعت فيها شتى الديانات من مسيحية ويهودية وإسلامية فضلا عن الوثنية. وقد كان الدين السائد فيها هو الدين اليهودي الذي جاء من اليمن التي كان يسودها هذا الدين قبل انتشار الإسلام، ولا يزال إلى الآن في الحبشة جماعات تدين بالدين اليهودي وتعرف باسم(644/20)
(الغلاشة) ويسكنون إقليم سيمين الجبلي، وإذا نظرنا إلى بيئتهم الجبلية المنعزلة استطعنا أن نفسر بقاءهم إلى وقتنا هذا بعيدين عن المؤثرات المسيحية التي سادت معظم تلك البلاد. ومن بين العشرة ملايين نسمة التي يتكون منها الشعب الحبشي نجد نحوا من ثلاثة ملايين يدينون بالمسيحية التي أدخلها المبشرون إلى البلاد في القرن الرابع الميلادي وأصبحت دين الأسرة الحاكمة الرسمي سنة 350م عندما اعتنقها الملك (عزانا)، أما البقية الباقية من السكان فكثرتها تدين بالإسلام ولا يقل معتنقوه عن خمسة ملايين نسمة.
وعلى الرغم من ظهور الإسلام ونفوذه في الحبشة وقربه منها فقد ظلت الحبشة ملجأ للدين المسيحي وسط الوثنيين والمسلمين واليهود، فتاريخ المسيحية هناك عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح لتثبيت قدمها ومقاومة انتشار الإسلام. وفي الواقع يصطبغ هؤلاء المسيحيون بالوثنية القديمة أكثر منها بالمسيحية، ويتمثل هذا في بعض عاداتهم مثل تعدد الزوجات، واكل اللحم النيئ، ومع أن مسيحيتهم سطحية فإننا نجد حوالي ربع سكانهم من الرهبان، والديانة السائدة في الحبشة هي الديانة الأرثوذكسية.
الصلات بين اليمن والحبشة:
كانت هذه الصلات قوية في أوائل العهد المسيحي وفي القرن السابق له مباشرة، والدماء الحبشية متأثرة تأثرا كبيرا بدماء سكان بلاد اليمن القدماء. ومما يدل على وجود هذه العلاقة بين الأحباش والساميين تلك الأسطورة الحبشية القديمة التي تتصل عناصرها بقصة من قصص الكتاب المقدس والقرآن الكريم وهي قصة ملكة سبأ وسليمان، فالأسطورة الحبشية تتحدث عن تنين عظيم كان يحكم البلاد قرونا طويلة وكان على جانب عظيم من البشاعة والشراهة إذ كان يفترس يومياً عددا كبيرا من الأبقار والثيران والماعز والظان إلى جانب ما يقدم إليه من العذارى حتى ضاق السكان به ذرعا فلجأ إلى شخص اشتهر بالقوة ليقتل التنين ويتولى الملك ففعل، وأنجب ابنة هي التي عرفت في التاريخ باسم ملكة سبأ، ودخلت في حرم سليمان وقد وضعت ولدا أطلقت عليه أسم سليا بن سليمان هو المعروف في التاريخ الحبشي باسم (منليك الأول) الذي أسس الأسرة السليمانية التي جلست على عرش الحبشة من سنة 95 ق. م إلى سنة 1855م.
شعوب الحبشة:(644/21)
يتكون مكان الحبشة من شعوب مختلفة، لا تختلف فيما بينها في الجنس فحسب، وإنما تختلف أيضاً في اللغة وفي الشكل وفي العادات وفي الدين. ويطلق خطأ على كتلة هذه الشعوب اسم (الأحباش) فهؤلاء لا يمثلون في الواقع إلا جزءا من هذه الشعوب يبلغ ثلث عدد سكان الحبشة الذي يتراوح بين 8 , 12 مليون نسمة على أرجح التقديرات. ويحتل الأحباش مقاطعتي تيجري والأمهرة وشمال مقاطعة جوجام وجزءا من وسط مقاطعة شوا، وتشمل هذه المقاطعات أكثر من ثلث مساحة الإقليم. ويتكون الجزء الأكبر من بقية السكان من فروع مختلفة من شعب الجلا العظيم الذي أخذ يغزو الإقليم منذ بدء القرن السادس عشر الميلادي واحتل جزاء كبيرا منه.
وتنتشر على طول الحافة الشرقية تلك القبائل المسلمة المعروفة باسم الدناقل والإيشا والصوماليين، وأخيراً توجد في الجنوب الشرقي قبائل أوغادن. وتعيش على هامش هذه القبائل الرئيسية السابقة وفي ثناياها أخلاط غريبة من الشعوب التي تميزها صفات خاصة، ولعل أكثر هذه الشعوب غرابة هي الغلاشة اليهودية التي تحتل خاصة منطقة جبال سيمين شمال بحيرة تانا، ثم الجوارج التي تعيش في المنطقة التي تحمل هذا الاسم في جنوب شرقي أديس أبابا.
الأحباس:
الأحباش شعب محارب وهم على استعداد دائم للحرب، إذا يحمل كل رجل منهم بندقية باستمرار. وهم شعب فخور باستقلاله الذي تمتع به قرونا طويلة، فخور بدينه الذي احتفظ به خلال ألف وخمسمائة عام، فقد ظلت الحبشة أربعة عشر قرنا، وهي أرض المسيحية في وسط هذه البحار من الوثنية. ومن صفاتهم المعيبة غلظتهم وقسوتهم الشديدة وسيما على الحيوان. ويحيط بالحاكم أو الرئيس أعداد كبيرة من الجند، وهؤلاء في العادة كسالى ولا نفع لهم. ولا تعني الطبقات الفقيرة بالأخلاق، فالخمور منتشرة والأمراض الخبيثة تفتك بهم فضلا عن أمراض الجذام والعمى، ولعل ذلك يرجع إلى كثرة الذباب الذي ينقل جراثيم هذه الأمراض، وإذا شعر الحبشي بالمرض يدب في جسمه أيقن بأن نهايته قد دنت وفقد كل أمل في الشفاه.(644/22)
الجالا:
مجموعة الجالا هي أكثر المجموعات الجنسية عددا في الحبشة وهي تسكن مساحات واسعة قد انتشروا عليها عندما لجئوا إلى هذه البلاد في أوائل القرن السادس عشر الميلادي. ويبدو مع ذلك أنهم جنس مميز حامي الأصل قد تفرع الآن إلى فروع مختلفة على الرغم من أنهم يتكلمون لغة واحدة وأنهم قد جاءوا - حسب ما يعتقدون - (عبر المياه) أي عبر البحر الأحمر أو ما هو أكثر احتمالا عبر بحيرات أفريقيا الاستوائية الكبرى، ولكن هذه المسألة لم تبحث بحثا وافيا. وهناك رأى يقول إنهم قد جاءوا من بلاد العرب في زمن بعيد مضى مخترقين أفريقية الشرقية البريطانية ومهاجرين إلى الجنوب الغربي إلى البحيرات الكبرى ومن هناك يمموا شطر الحبشة شمالا مخترقين بورانا وعندما جاءوا من الهضبة الوسطى استقروا في المناطق الجنوبية والغربية وبعضهم استقر على الحدود الشرقية بين الحبشة وصحراء آثار.
والجلا رعاة يحبون الحرب وفيهم صفاتها، وقد خضعوا أخيرا للإمبراطور منليك وذلك لكثرة ما أمده به الفرنسيون من الأسلحة ومن ذلك الحين لم تجد هذه القبائل وسيلة لإشباع هذه الطبيعة في نفسها إلا في مقاتلة بعضها البعض الآخر، أو في شن الغارات على جيرانها، ولكنهم مع ذلك لا يحتكون مع الأوربيين أو مع غيرهم من الأجانب. والجلا عموما أكثر سوادا من الأحباش وأقل تقدما. وكلما بعدنا عن العاصمة بدت وحشيتهم التي تتمثل فتشاهد في هيأتهم وعاداتهم خصوصا بين الجماعات الوثنية. وتجد في إقليم جيلي أقذر جماعة رأتها العين من الجلا، فالسواد يغشي وجوههم وملابسهم وماشيتهم أيضا، ويتخذون بيوتا أكواخا حقيرة محاطة بزريبة صغيرة حيث تساق إليها الماشية ليلا لحمايتها. ورائحة هذا المكان وقذارته لا يمكن أن توصف، ويبدو أن الشمس تعمل كمطهر لهذا الأمكنة، ولهذا السبب على ما يظن لا تصيبهم الأمراض على قدر ما يحيط بهم من الأوساخ والأقذار. وجماعات الجلا التي تسكن أقليم شوا أقل توحشا، فان تدينهم بالمسيحية جعلهم يفقدون العادات الوثنية القديمة، كما أن اقترابهم من أديس أبابا جعلهم يتصلون بالأحباش الغازين بطريق الزواج والاختلاط.
والجلا يلبسون ملابس بسيطة فيضع الرجال قطعة من الجلد على أكتافهم أو يلتفون بقطعة(644/23)
من القماش القطنية، أما النساء فيلبسن رداء من الجلد مكوناً من قطعتين إحداهما أشبه (بالجونلة) والأخرى توضع على الأكتاف، ويحلون بالأساور والعقود والخواتم المصنوعة من النحاس أو الحديد أو العاج. ويظهر أنهم يأكلون أي شيء تقع عليه أيديهم، ويعتمدون في غذائهم على ما يصيدونه من الحيوانات البحرية، ويستعملون في صيدهم للأسماك قوارب عجيبة لا تطفو فوق الماء بل تغطس تحته وبذلك يظل السمك طازجاً.
وللجلا طريقة عجيبة في جمع هدايا الزواج، فعندما يرغب شاب في الزواج يقوم والده بتوزيع بعض الهدايا كالماعز بين أقاربه لينال رضاهم، وتأخذ المسألة هذا النحو عندما تكون العروس المنتخبة لم تزل في المهد صبية، وعندما تبلغ الثلاثة عشرة أو الرابعة عشرة يحدد يوم الزفاف ويذهب والد العروس إلى أصدقائه جميعاً لينتقي الهدايا، ثم يعود إلى بيته ويصف للخادم هذه الحيوانات التي انتقاها ثم يكلفه بالذهاب لجمعها، ويندر أن يخطئ الخادم في معرفة هذه الحيوانات فان ذاكرتهم قوية جداً. وعندما يتسلمها الأب يرسلها مع الفتاة كنوع من الصداق، وهو يعلم تماما عند انتقائه لهذه الهدايا أنه سيجيء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء الأصدقاء هدايا لبناتهم ولذلك يختار هذه الهدايا بحذر. وإذا ما هربت امرأة من منزل زوجها وأنجبت من رجل آخر مولوداً ذكراً فان لزوجها الحق في أن يعتبر هذا الولد ابناً له وكثيراً ما يحدث ذلك.
بعض عادات الأحباش:
هناك عادات كثيرة للأحباش تجعلهم يختلفون تماما عن معظم شعوب أفريقيا، فعلى الرغم من أنهم يدينون بالديانة التي أدخلها اليهود الأول إلا أن كرههم لليهود ظاهرة تستحق النظر، ولعل ذلك الكره ناشئ عن تلك الحروب التي استمرت خلال الفترة بين القرنين الرابع والعاشر بين هؤلاء الذين تحولوا حديثا إلى الدين المسيحي وبين هؤلاء الذين ظلوا يهودا. ومن عادات المهاجرين الأول من الأحباش عادة قطع اللحم وأكله من الحيوان وهو حي، ويصف لنا (بردس) حادثتان من هذا النوع أولاهما: أن جنودا قادوا بقرة إلى مكان خال حيث أوثقوها وقطعوا منها قطعة من اللحم ثم وضعوا على الجرح بعض الطين، وأما الثانية فقد كانت في وليمة حيث أحضرت فيها بقرة حية أخذ الضيوف يقطعون من لحمها ويأكلون إلى أن ماتت بعد وقت ليس بالقصير، ولكن أهل البلاد الآن ينفون حدوث مثل(644/24)
ذلك.
والأحباش لا يدخنون على الرغم من أن الدخان ينمو بطبيعته هناك، وقد كان الإمبراطور (يوحنا) يعاقب الذين يدخنون بقطع شفاههم، ولعل هذا المنع جاء نتيجة لاعتقادهم بأن هذه العادة هي عادة إسلامية، ولكل منهم زوجة واحدة لفترة ما ثم يعقبها زوجات أخر واحدة فواحدة. والطلاق هناك سهل وكثير، وإذ ما طلقت المرأة مراراً رغب الرجال في الزواج منها لكثرة ما تملكه. وللمرأة الحق في تطليق زوجها بنفس السهولة التي يطلق بها الرجل المرأة. والنساء هناك لا يشتغلن بعمل ما فلا يحملن الماء ولا يغسلن ولا يصلحن من ملابس أزواجهن ولا يطهين. ونساء الطبقة العليا لا يخرجن إلا نادرا وإذا خرجن خرجن محجبات على ظهور البغال ويصحبهن حارس يسير إلى جوارهن.
عمر رشدي
ليسانسييه في العلوم الجغرافية(644/25)
من خواطر (جحا):
غداً تقوم الساعة. . .
(مهداة إلى الذين يزنون الأخبار بميزان المصلحة والهوى)
للاستاذ كامل كيلاني
بهذة القصة النفيسة التالية وأمثالها، أفتتح خواطره (أبو الغصن جحا)، وقد أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحية)، وما أجدرها أن تهدى إلى ساسة العالم وقادة الشعوب، في كل مصر وعصر. لما فيها من تذكرة وعبرة، نقلا عن المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه. ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه. قال (أبو الغصن عبد الله الدجين بن ثابت) الملقب بجحا:
(من الحقائق الثابتة عندي أن أكثر الناس قلما يعنيهم من الأخبار والأحاديث إلا ما يوافق أهواءهم ويلائم مصالحهم. وقد جروا على ذلك منذ بدأ الخليقة، وجارتهم بمثل منطقهم، هربا من الأشتباك وأياهم فيأخذ ورد وتفاديا من التمادي معهم في جدال عقيم.
فتم لي ما أردت، وأبتسمت وبتسم لي الحياة(644/26)
نقد
النشيد السوري
للأستاذ علي الطنطاوي
ناظم هذا النشيد أديب كبير، وصديق كريم، وهو يعلم أن ليس
له عندي إلا الإجلال والتوقير، وأن الشاعر (وإن نبغ) يسبق
تارة ويقصر، وأن النقد (وإن قسا) لا يصدر عن حقد، ولا
يرمي إلى تحقير، وإن مصلحة الوطن بإصلاح النشيد تسوغ
مفاجأة الصديق الكبير بنقد هذا النشيد
(علي)
كانت نشأتنا الأولى في عهد العثمانيين، وكانت لهم أناشيد يلقونها علينا باللسان التركي، لذا لم نكن نفهم معانيها الضخمة إلا بالترجمة، والترجمة لا تحمل دائماً المعنى كله، فلقد كانت تهزنا ألحانها القوية المثيرة التي وضعت لتكون لمشاة الجيش قوة وعوناً. وكنا إذا أنشدناها سائرين لا نستطيع أن نقف، وإذا تلوناها واقفين سرنا، وإن قرأناها قاعدين حركنا، من غير قصد منا، أيدينا أرجلنا - وإنها لتحرك الحجر! ثم جاء عهد فيصل، وكان عهد ازدهار وحياة، ونشاط بدا في كل شيء، فنشطت فيه الأناشيد العربية من عقالها، فترجمت أكثر الأناشيد التركية فكان منها نشيد:
أنا أمي لم تلدني ... إلا للحرب العوان
بنغمته القوية، ولحنه العاصف - وكان أسير أناشيد ذلك الزمان وأشهرها نشيد: (أيها المولى العظيم)، الذي اعتبر النشيد الوطني السوري بل العربي، على هلهلة أسلوبه، وضعف معانيه، يليه في الشهرة والذيوع نشيد:
أنت سوريا بلادي ... أنت عنوان الفخامة
كل من يأتيك يوماً ... طامعاً يلقى حمامه(644/27)
لفخري بك البارودي، وهو نشيد ضعيف النسج، متهافت البناء، لكن معانيه في الذروة، واشتهرت أناشيد أخرى منها نشيد:
(سيروا للمجد طراً سيروا للحرب، واستعيدوا بالمواضي دولة العرب)؛ ونشيد طلاب المدرسة الحربية: (نحن جند الله شبان البلاد)، وهو من خيرها لفظاً ومعنى، وقد جمعها (الفلاح العربي) في رسالتيه المعروفتين في تلك الأيام.
ثم لما قضى الله قضاءه فينا في (ميسلون)، ووقعت الواقعة، ودخل العدو ديارنا، منعت هذه الأناشيد كلها، إلا أن تردد همساً، واشتهر يومئذ نشيد الأستاذ أديب التقى رحمه الله: (في كل صوب حشدت عساكر مدججون)، الذي يصور فيه موقعة ميسلون، فكان ينشد وراء الأبواب، وحيث لا يسمعه الغاصبون، وهو نشيد جيد لحنه حزين مؤثر.
وانقطع بعد ذلك سبيل الأناشيد الوطنية، حتى قدم علينا من العراق الكشافون في العهد الوطني الأول (سنة 1936) فأخذنا منهم نشيدين اشتهرا فينا وسارا بيننا، حتى كان الطفل الذي لم يتعلم بعد الكلام يدير في حلقه كلمات منهما، وهما (هذا الوطن حق له أن يفتدى بالدماء والمهج) و (نحن كشاف العراق)، والشعر فيهما ليس بذاك، واللحن فظيع هو أشبه بصراخ لا دلالة له، منه باللحن الذي يؤثر في الأعصاب ويحرك القلب، ولكنهما مع ذلك نشيدان قويان
ووضعت على أثر ذلك أناشيد جيدة منه (نحن الشباب لنا الغد)، ولكن يعيب لحنه هذه الصيحة المؤنثة في آخر البيت، عند تكرار (نحن الشباب)، فهي صيحة عجوز ثاكل كان لها الأمس لا صيحة شباب لهم الغد، والنشيد العظيم حقاً في نظمه ولحنه، ولفظه ومعناه، نشيد: (موطني) لفقيد الشعر إبراهيم طوقان - رحمه الله - ومن أجودها لحناً نشيد الأستاذ حسني كنعان: (أيها الكشاف بادر وارتق أوج العلا)؛ ولحنه نموذج للألحان الحماسية - نسجل هذا للتاريخ!
وصحت النية على وضع نشيد للجمهورية السورية، وكانت مسابقة، ولجنة وجائزة، ثم عدل عن ذلك واختير النشيد الذي قدمه هذا الأديب الكبير، فلما قرأناه علمنا أنه لوحظ باختياره اسم الشاعر ومنزلته، وإنه لهما لا لبراعة الشعر فرض علينا هذا النشيد، واحتملناه سنين، غير أنه لا يصح أن نحتمله الآن، وقد تم استقلالنا، أو هو قد أشرف على التمام،(644/28)
واستقبلنا عهداً من حياتنا جديداً، ولا بد من بيان عيب هذا النشيد لنستبدل به:
الأصل في النشيد الوطني أن يكون على لسان المتكلم، لأن الأمة هي التي تردده وتنطق به، وهذا النشيد موجه إلى حماة الديار، مطلعه:
حماة الديار ... عليكم السلام
أبت أن تذل ... النفوس الكرام
فمن الذي يقول هذا الكلام، ومن المخاطب به؟ إن كان ينطق به الشباب وهم حماة الديار، لم يعقل أن ينادوا أنفسهم، ويسلموا عليها، وليس هذا من (التجريد) الذي كان يألفه شعراء العرب؛ وإن كان يقوله غير الشعب لم يكن مقبولا. لأن النشيد يوضع ليقوله الشعب، ويترجم به عن آماله ومطامحه.
ثم إن هذا السلام المنكر، من منكر القول، وهو بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام أشبه. وليس يليق بهذا المكان، ولا محل له في البلاغة، هذا إذا كان للسلام ورده داع ولا داعي له هنا أصلا.
ثم يقول بعد هذا:
عرين العروبة ... بيت حرام
وعرش الشموس ... حمى لا يضام
فلا يعرف السامع ما عرين العروبة هذا، أهو الجزيرة أم مصر أم الشام أم العراق؟ ولا يعرف المسلم (بيتاً حراماً) إنما يعرف البيت الحرام، لا ثاني له، فهذا التنكير أولا، وابتذال اسم البيت الحرام في كل مكان ثانياً، كلاهما قبيح. وما هو هذا العرش، والنشيد نشيد جمهورية؟ أفنظمه ليكون النشيد الرسمي لبني أمية وأي شموس هذه؟ وما هذا الإبهام حيث لا يحسن إلا التصريح والتوضيح؟ يأتي بعد ذلك هذا المقطع العجيب:
ربوع الشام ... بروج العلاء
تحاكي السماء ... بعالي السناء
وأرض زهت ... بالشموس الوضاء
سماء لعمرك ... أو كالسماء
أما (بروج العلاء) هذه فتصح في كل أرض يريد أن يبالغ في مدحها القائل، ولا تدل على(644/29)
ميزة للشام لا تصفها بصفة فيها، ولا تعرف بها الغريب عنها، ولا يحبها إلى أبنائها، فهي كمراثي الأستاذ علي الجارم التي تصلح لغازي وللإسكندر المكدوني وللشيخ المراغي، لأنها تهد الجبال وتبكي السماء، وتقيم القيامة، أو ترسل على الدنيا قنبلة ذرية، لا بحجم البيضة، بل بحجم الفيل، ثم لا تذكر المرثيّ بشيء مما كان عليه. وهذا استطراد نعتذر إلى الشاعر الكبير علي الجارم بك منه، فقد جرته المناسبة.
وما دامت الشام بروج العلاء، وكان ذلك قد تقرر لدى السامع فما معنى كونها تحاكي السماء، وبروج العلاء هي السماء في إفهام الناس كلهم، وهل السماء، أسنى سنا من البروج؟ المسألة تحتاج إلى خبير فلكي.
ثم إن الضياء هو السنا بالقصر وأما السناء بالمد فهو الارتفاع، ومن هنا أطلق على المجد مجازاً، فصار معنى قوله (بعالي السناء) برفيع الارتفاع، وهو الحشو نفسه، وهو إذا قبل في القصيدة لا يقبل في النشيد، لأن النشيد كلمات معدودة وألفاظ محدودة، لا يجوز أن يذهب لفظ واحد منها من غير أن يدل على شيء. وهو بعد أن جعلها بروج العلاء التي تحاكي السماء، عاد فهبط بها فجهلها (أرضاً زهت) ولكن بالشموس الوضاء! وما فهمت إلى اليوم ما يريد بهذه الشموس التي يرددها ولا يشبع من ذكرها، إن كان يريد الحقيقة فهي شمس واحدة ما خلق الله سواها، وأن كأن يقصد المجاز، فليذكر ما يدل عليه ويصرف الفكر إليه، وما كل سامع للنشيد أو تالٍ يستطيع أن يجد له التأويل، هذا إذا كان له ذا الكلام العجيب تخريج أو تأويل.
وأعجب العجب، وأقبح القبح، وأن يعود بعد كل ما مر، فيجعلها سماء، ثم ينزل بها فيجعلها كالسماء، وهذا ضد ما عليه البلغاء في كل عصر، وفي كل أمة ولا أحسب ذوقاً في الدنيا يسيغه، عدا عن هذا الحشو في كلمة (لعمرك)، وعمر من هذا الذي يحلف به؟ ولمن هذا الخطاب؟ والمفروض في النشيد كما بينت أن ينطق به الشعب كله؟!
وما هو مغزى هذا كله، وما دلالته، وأي مجد للشام يذكر، وأي عاطفة تثير؟ لا شيء إلا هذه المناقشة المزعجة في الشام: هل هي بروج العلاء تشابه السماء برفيع الارتفاع؟ أم هي أرض ولكن زهت بالشموس؟ أم هي سماء (وحياة عمرك. . .) أم كالسماء؟ هذه هي المشكلة الوطنية الكبرى، ملأ النشيد بذكرها، وهذه هي آمال الوطن ومطامحه، والله(644/30)
المستعان!
وباقي النشيد لا يختلف كثيراً عما ذكرت منه على حين أن النشيد يجب أن يكون موضوعاً على لسان الشعب، وأن يكون قوي العبارة، خالياً من الحشو، واضحاً كل الوضوح، صالحاً لكل زمان، معبراً عن آمال الشعب وآلامه ومطامحه، مثيراً نخوته وحماسته، مشيراً إلى ماضيه وأمجاده، وجمال أرضه ودياره، إلى غير ذلك مما يوصل إلى الغاية من وضع النشيد، وهي إثارة العزة الوطنية في النفوس، وأن يختار له النغم القوي من غير خشونة، العاطفي بلا ضعف. وحياة النشيد بلحنه وما يهز هذا اللحن من أوتار القلوب، ويحرك من أعصاب السامعين، فإذا كان لنا نشيد يشتمل على هذا كله. . . وألا فلا تقولوا: لنا نشيد!!
علي الطنطاوي(644/31)
3 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
الشعوبية:
(أكل كبدي عمر)
(الهرمزان)
(وأبى كسرى علا إيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي)
(مهيار الديلمي)
(أنا ابن المكارم من آل جم ... وطالب إرث ملوك العجم)
(فقل لبني هاشم أجمعين ... هلموا إلى الخلع قبل الندم)
(وعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... وأكل الضباب ورعي الغنم)
(الموبذ)
(بهاليل غر من دؤابة فارس ... إذا انتسبوا لا من عرينة أو عكل)
همو راضة الدنيا وسادة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاة والإبل
(أبو سعيد الرستمي)
(عاج الشقي على ربع يسائله ... وعجبت أسأل عن خمارة البلد)
(يبكي على طلل الماضين من أسد ... لا در درك قل لي: من بنو أسد؟)
(ومن تميم ومن قيس ولفهما؟ ... ليس الأعاريب عند الله من أحد!)
(أبو نواس)
أشرنا في المقال الأول (الرسالة - العدد 637) إلى أن كره الفرس العرب بدأ منذ وطئت أقدامهم أرض فارس في عهد عمر بن الخطاب، وأن الهرمزان كان - حين مقامه بعد الأسر في المدينة - حاقداً على عمر، وأنه حين وفد سبى جلولاء إلى المدينة كان يمسح(644/32)
على رؤوسهم ويقول: (أكل كبدي عمر
وأشرنا في ختام المقال الثاني إلى هناك صلة بين الشعوبية والزندقة ووعدنا هناك ببيان هذه الصلة، وهانحن أولاء نوفي بما وعدنا.
على أننا لسنا هنا في صدد الكلام المفصل في الشعوبية وكل ما يتصل بها، بل همنا أن نعرض بالإيجاز لما يوضح لنا أسباب الزندقة في عهد المهدي العباسي وآثارها وحقيقتها دون تعرض للشعوبية وما يتصل بها من سائر النواحي الأخر.
في زمن النبي عليه السلام بدأ بتوجيه كتبه إلى الملوك والأمراء في شبه الجزيرة العربية وفارس وبلاد الروم، وفيه توجهت بعض البعوث لمحاربة بلاد غير عربية، وفي أبي بكر بعد انتهائه من حروب الردة انطلقت الجيوش العربية الإسلامية شرقاً وشمالا تطرق أبواب مملكة فارس والروم، واستطاعت أن تستولي على بعض بلاد الدولتين، وما كاد عمر يلي الخلافة حتى عبأ الجيوش وقذف بها الدولتين فدك مملكة فارس دكا، وفيها انساحت جيوش قائده الأحنف بن قيس حتى بلغت نهر جيحون، وكاد يعبر النهر مطاردته يزدجرد ملك الفرس ولا أن نهاه عمر عن عبوره اتباعا لسياسته المشهورة التي تقضي إلا تكون بينه وبين جيوش المسلمين مياه، وفتحت جيوش المسلمين في عهده الشام ومصر وقد كان القطران خاضعين لمملكة الروم.
كان يسكن هذه البلاد أقوام من أجيال مختلفة لهم ديانات ونحل شتى وكان من رضى عن الفتح الإسلامي لبلاده، ومنهم من قابله بالحقد والكراهية، فقد كان معنى هذا الفتح سيطرة الجيل العربي على البلاد التي فتحها. وسيطرة الدين الإسلامي على أديان أهل هذه البلاد.
ومن الشائع أن المسلمين في هذه الفتوح إنما كانوا يرمون إلى نشر الإسلام تنفيذاً لفريضة الجهاد في سبيل الله، ولكن هناك أمراً ليس بالشائع وإن يكن غرض آخر من الفتوح، هذا الأمر هو التوسعة بهذه البلاد المفتوحة على سكان شبه الجزيرة من العرب: هو الهجرة من شبه الجزيرة إلى البلاد المفتوحة بعد أن ضاقوا به، ونصيحة عمر بن الخطاب لجنوده الذين وجههم إلى الفرس وتؤيد هذا الرأي، فالفتوح كانت موجة من موجات الهجرة الكثيرة من شبه الجزيرة إلى ما جاورها من البلاد، لكن هذه الموجة تمتاز بأنها تحمل ديناً وتدعو إليه.(644/33)
ونحن حريون أن ننظر إلى هذا الفتوح من هاتين الناحيتين لا من ناحية واحدة، وألا ندعي لأنفسنا من الفهم للإسلام والعصر الذي ظهر فيه أكثر من فهم عمر الذي كأن من أقرب الصحابة إلى النبي وأعظمهم فهما عنه.
ولقد نظرت الأمم التي دانت للسلام إلى الفتوح العربية على أنها فتوح أمة تنشد لنفسها السلطان على غيرها من الأمم، وتنشد لدينها السلطان على غيره من الأديان: لم ينظر كثير منهم إلى أن هذه الأمة العربية قد جاءت بدين عام للعربي وغير العربي، وأنها تفتح بلادهم لتدعو إليه، بل رأوا أنها فتحت بلادهم للتسلط والاستعمار، وإن كان حكمها خيراً من حكم سواها، وأنها تقصد من الدعوة إلى دينها الدعوة إلى سلطانها الدنيوي.
ولقد ساء الفتح العربي كثيراً من الأقطار المفتوحة، ولاسيما فارس، ولذلك سببه الذي لا بدلنا أن نكشف عنه.
كانت بلاد الشام وبلاد المغرب تحت سيطرة الروم، فلم يكن من نتيجة الفتح العربي إياها إلا أنها استبدلت سلطان العرب بسلطان الروم، ووجدت تحت الحكم العربي من العدل والرغد ما لم تجد تحت حكم الروم، فاستكانت إلى العرب واطمأنت إلى حكمهم حتى فقدت قومياتها ولغاتها.
وكانت فارس قبل الفتح العربي بلاداً مستقلة ذات سيادة وحضارة ومملكة، وكان لها سلطان حتى على العرب، وكانت تحكم قبل الإسلام بلاد اليمن والبحرين والعراق حتى أن كسرى أبرويز حين تلي عليه كتاب النبي الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، غضب ومزق الكتاب وكتب إلى عامله على اليمن (بازان) يأمره بأن يأتيه برأس هذا الرجل الحجازي، وكانت فارس تستعين بقبائل الحيرة في حروبها مع الروم، وتستعين بقبائل العرب على صد المعتدين على حدودها من الروم والأعراب، وعلى خفارة القوافل أثناء مرورها في البلاد العربية، بل لقد استعان بهرام جور برؤساء قبائل الحيرة في الجلوس على عرش فارس بعد أبيه يزدجرد برغم أنوف المعارضين له من الفرس، ولقد كانت لفارس ثقافة وحضارة، وفي اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية دخلتها قبل الإسلام، وفي سيرة ابن هشام أن النضر بن الحارث كان يقول لأهل مكة: (يحدثكم محمد بأخبار عاد وثمود، وأنا أحسن حديثاً منه: هلموا إلي أحدثكم بأخبار رستم واسفنديار والأكاسرة) وقد عرف العرب(644/34)
المجوسية (الديانة الفارسية القديمة) ويقال إن بعض بني تميم قد اعتنقوها.
ولم يكن لسلطان فارس مثيل قبل الإسلام إلا سلطان الروم، وقد وقعت بين الدولتين حروب كثيرة شهد ظهور الإسلام أواخرها، ويقول المقريزي: (إن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وصولة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب عند الفرس أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة)
ما من شك في أن الفرس كان لهم قبل الفتح العربي سلطان واستقلال ومملكة، وأنهم كانت لهم سيادة على بعض البلاد العربية، وأنهم كانوا يحتقرون العرب، وأن بلادهم هي البلاد الوحيدة التي كانت تتمتع باستقلالها ومملكتها وحضارتها عند الفتح العربي، فلما فتحها العرب سلبوا استقلالها ومملكتها ونظمها، ومن أجل ذلك تعاظمهم - كما يقول المقريزي - الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وأي مصيبة أعظم من فقدان استقلالهم على أيدي أمة كانت أقل الأمم خطراً عندهم. ومن أجل ذلك لقي العرب في إخضاع الأمة الفارسية من المشقات ما لم يلقوا في إخضاع غيرهم من الأمم.
ولقد بقيت فارس تتطلع إلى الاستقلال تحت الحكم العربي من أول يوم دخلت فيه تحته، وظلت موطن كفاح دائم بين الفريقين، واستعان الفرس في مناضلة العرب بجميع قواهم: فاستعانوا بقوة الجيوش مرارا فما أفلحوا، وظل العرب قابضين على نواصيهم لقوة عصبيتهم ضد عصبية الفرس، وشجاعتهم أمام شجاعة الفرس، فلما خانتهم قوة الجيوش حاولوا التمسك بلغتهم وحضارتهم وديانتهم فخابوا بعض الخيبة وظفروا بعض الظفر: ذلك أن اللغة العربية غلبت على لغتهم لغناها ووجوب التعبد بها، وغلب الإسلام ديانتهم بترك بعضهم دينهم خوفا من البطش أو تزلفا إلى الدولة الإسلامية أو إيمانا به، ووهت ثقافة اللغة الفارسية كما وهت المجوسية، وامتزجت الحضارتان، وأناب كثير من العامة إلى الحكم العربي والدين الإسلامي الذي جاءهم به العرب واللغة العربية، واختفت العصبية أول الأمر كثيرا، ومما ساعد على اختفائها عندهم حسن سيرة الحكام في العهد الأول في الرعية وتنفيذهم أوامر الدين في معاملة المغلوبين بنصها وروحها، فكان للمغلوبين ما للغالبين(644/35)
وعليهم ما عليهم فيما عدا الإدلاء ببعض المناصب، ولكن العصبية لم تذهب - وإن اختفت - من رؤوس رؤسائهم وذراري ملوكهم بل بقيت متأججة يتناقلونها خلفا عن سلف، وقد بدأ ظهورها يزداد منذ انقسام العرب بعضهم على بعض في أثناء الدولة الأموية، وظهور العصبيات الجزئية القبلية التي اجتهد النبي وخلفاؤه ونجحوا في إخفائها، وظهور التفرقة في المعاملة بين العربي وغيره ممن دخل في الإسلام عند الخلفاء والولاة، واحتقار العرب الموالي عامة.
وأول ما بدأ ظهور العصبية الفارسية في فارس، ففيها ضعفت أول ما ضعفت العصبية العربية لظهور العصبيات القبلية، وقلة العناصر العربية فيها لقلة العرب واندماجهم مع الفرس بالتزاوج والتناسل واستقرارهم فيهم وبعدهم عن مواطنهم التي خرجوا منها.
ولقد ظهرت حاجة العرب إلى الفرس بعد الفتح العربي بقليل، فقد انصرف العرب إلى الفتح والجهاد، فغفلوا عما سواه، كما يقول ابن خلدون في مقدمته، وانصرف الموالي من الفرس إلى الأدب واللغة والفقه والنحو فأسدوا إلى هذه النواحي أعظم الخدمات، وكانوا فيها المبرزين دون العرب، ومما يؤثر عن الخليفة سليمان بن عبد الملك (96 - 99هـ) قوله: (ألا تتعجبون من هذه الأعاجم! احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم)
وقوله: (العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم).
ومما يحكى أن عربيا وفارسيا تناظرا بين يدي يحيى البرمكي، فقال الفارسي للعربي: (ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم حتى أن طبيخكم واشربتكم ودواوينكم على ما سمينا ما غيرتموه).
(البقية في العدد القادم)
محمد خليفة التونسي(644/36)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 5 -
ب - كسر السجن:
وكان يحدث كثيراً أن يكسر السجناء أو العامة السجن ويخرج مَنْ في السجون، كلما غضبت العامة، أو ثار الجيش، أو قامت فتنة في البلد. وكثيراً ما نقرأ في الطبري (وفي هذه السنة كسر العامة السجن. . .) فمن ذلك أنه لما خرج الراوندية على أبي جعفر المنصور، وكانوا قوماً يقولون بتناسخ الأرواح، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. أخذ أبو جعفر رؤساءهم فحبسهم. فأقبلوا يطوفون حول قصر الخلافة وقد غضبوا. وأعدوا نعشاً، وحملوا السرير، وليس في النعش أحد، ثم مروا في المدينة حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدّوا على الناس، وكسروا باب السجن فدخلوا وأخرجوا أصحابهم.
ولما شغب الجند على الأمين نقب أهل السجون سجونهم وخرجوا منها فلم يجازهم أحد. وحاول أهل السجن أن يشغبوا زمن المأمون، وأن ينقبوا السجن. فسدوا الباب من داخل ولم يدعوا أحداً يدخل عليهم، وأخذوا في نقب السجن. فلما كان الليل، وعلا شغبهم وصوتهم ذهب المأمون، فدعا بنفر من الشُطّار وأصحاب الشغب في السجن، فضربت أعناقهم، وصُلبوا على الجسر.
وفي زمن المستعين سنة 249 اجتمع العامة في بغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الشاكرية، ففتحوا سجن نصر ابن مالك، وأخرجوا من كان فيه. وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء.
وفي زمن المهتدي (255) اجتمع جماعة من الجند والشاكرية ومعهم جماعة من العامة، حتى صاروا إلى سجن باب الشام، فكسروا بابه في الليلة الثالثة عشرة من رمضان، وأطلقوا أكثر من كان فيه. ولم يبق من أصحاب الجرائم إلا الضعيف والمريض والمثقل.(644/37)
وفي زمن المعتمد سنة (272) نقب المطبق من داخله وفر بعض المسجونين.
وقبيل وفاة الموفق سنة 278 قامت العامة فانتهبت دار إسماعيل ابن بلبل، وفتحت الجسور وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الجديد إلا أخرج.
وفي سنة 306 شغب أهل السجن الجديد، وصعدوا السور فركب نزار بن محمد صاحب الشرطة وحاربهم وقتل منهم واحداً ورمى برأسه إليهم فسكنوا.
ويذكر الخطيب البغدادي أنه في سنة 307 كسرت العامة الحبوس في مدينة المنصور، فأفلت من كان فيها. وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعاً حتى لم يفتهم منهم أحد.
وفي زمن المقتدر سنة 308 غلت الأسعار ببغداد، وشغب العامة، ووقع النهب، وركب الجند فيها، وشتتتهم العامة، وأحرقت الحبس وفتحت السجون.
ولعلك لاحظت أن كسر السجون كان نتيجة الشغب والفتن وعصيان الجند، وغلاء الأسعار، واضطراب العامة. وهذه أمور كانت مما امتاز به العصر العباسي الثاني. وقد كان للأتراك الشأن الكبير فيها. ولن نورد كل ما ذكره المؤرخون فحسبنا ما ذكرنا.
3 - موت الخليفة:
وكانوا يطلقون السجناء لموت الخليفة أو عزل الوزير: حدّث التنوخي عن أحمد بن المدبر قال: (لما سجنت مع احمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب معاً قال لي سليمان ذات يوم: رأيتُ البارحة في نومي كأن قائلا يقول لي: (يموت الواثق إلى ثلاثين ليلة. فلما كان يوم الثلاثين، وكان الليل، لم نشعر بالباب إلا وقد دُقّ دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق فاخرجوا).
وربما أطلق الخليفة الجديد المسجونين زمن الخليفة السابق كما فعل المهدي. فقد أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور. إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد. فأطلقوا من في المطبق.
وأطلق المقتدر أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، وأمر محمد بن يوسف القاضي أن ينظر في ذلك.
وذكر ابن الجوزي أن الراضي لما ولي الخلافة أمر بإطلاق من كان في حبس القاهر،(644/38)
فأطلقوا جميعاً.
وربما يطلقون لعزل الوزير أو موته. حدَّث محمد بن الحسن الكاتب صاحب الجيش قال: (قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب، في وزارته للقاهر على أبي وعليّ معاً. فحبسنا في حجرة من دار ضيقة، وأجلسنا على التراب، وشدد علينا. فقال لنا الموكلون بنا ذات يوم: قد عزم الوزير على قتلكما الليلة. . . فتغير حالي، وقام أبي يدعو الله ويصلي، فلما مضى ربع الليل سمعت الباب يدق، فذهب عني أمري، ولم أشك أنه القتل. وفتحت الأبواب، فدخل قوم بشموع، فتأملت فإذا فيهم سابور خادم القاهر. فقال أين أبو طاهر؟ فقام أبي وقال هاأنذاك فقال: أين ولدُّك؟ قال: هو ذا. فقال انصرفا إلى منزلكما. وإذا هو قد قبض على الوزير محمد بن القاسم، وأحدره إلى دار القاهر، وانصرفنا. وعاش محمد في الاعتقال ثلاثة أيام
ومات.
4 - العفو:
وقد يطلق المسجون بعفو من الخليفة. مثال ذلك ما حكاه المسعودي، قال: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي، وكان صاحب شرطة الرشيد قال: أتاني رسول الرشيد في الليل. فارتعت. . فلما مثلت بين يديه، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة، فقال إن لم تخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة فاذهب فخلِّ عنه، قال فمضيت إلى الحبس وأطلقته.
ومن الطرافة أن تقرأ هذه المنامات، وترى كيف يطلق السجناء بعدها. وقد سرد قسما كبيراً منها التنوخي في الفرج الشدة.
5 - الاحتيال:
وقد يحتال المسجون بحيلة لينجو. ذكر ابن طيفور أن طاهر بن الحسين كان يتعشق بخراسان جارية من جيرانه يقال لها (ديذا) وكانت توصف بجمال عجيب، وكان يختلف إليها. ولما صار إلى مدينة السلام، وقع في سجنه جار لديذا بجرم خفيف، وطال حبسه، ولم يعرف أحداً يشفع فيه، فاحتال لرقعة لطيفة، أرسلها إلى طاهر، وتوسل إليه بجوار ديذا فلما(644/39)
قرأها كتب في ظهرها:
ويا جار ديذا لا تخف سجن طاهر ... فواليك لو تدري عليك شفيق
أيا جار ديذا أنت في سجن طاهر ... وأنتَ لديذا فاعلمن طليق
ولما سجن عزّ الدولة، إبراهيم بن هلال الصابي؛ احتال هذا على الخروج بأن ألف له مصنفاً في أخبار آل بويه وهو التاجي، فخرج.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد(644/40)
يا نسيم الخريف
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
يا نسيم الخريف أحييت آما ... لي بريَّاك يا نسيم الخريف
لك في كل خطرة نفحات ... من حنان الحاني وعطف الأليف
ولدي كل مهجة ذكريات ... تجتليها الأحلام مثل الطيوف
أنت حققتها نجوماً وِضاءً ... في ظلام النسيان ذات رفيف
يا نسيما تهلل الأيك نشوا ... ن طروباً يشدو له بالحفيف
وجرى النهر راقصاً يتهادى ... صافحته يد النسيم اللطيف
يده تملأ الفضاء أريجاً ... عبهري الشذا كمسك مدوف
يا لذاك النسيم طليقاً عليلا ... سار في حيرة القوي الضعيف
في سهول فيح وواد فسيح ... ومروج خضر وريفٍ وزيف
داعب الدوح باعتناق الأمالي ... د وشَعر الصفصاف بالتصفيف
وخدود الورود بالقبل الريَّ ... امن الشوق والغرام العفيف
وقدود النخيل جمشها، يح ... سب أن النخيل أعطاف هيف
عجباً يا نسيم ما زلت تسعى ... حدباً حانياً كقلب عطوف
كم تفانيت في التلطف حتى ... قد وصلت المشتي بلطف المصيف
ووصلت الشتاء بالصيف والوح ... شة بالأنس والربا بالكهوف
وجعلت الضحى أصيلا وحر ال ... قيظ برد المساء بالتلطيف
وبلغت الشطوط وهنان فاستل ... قيت تغفي حيناً على كل سِيف
ثم دوّيت في الفضاء دوي الر ... عد في ثورة القوي العنيف
بارداً تجمد الحرارة فيه ... وهو ماض ببرده كالسيوف
نتمناه في الهجير ونخشا ... هـ شتاءً متى أتى كالحتوف
يا نسيْم الخريف طابت ليالي ... ك لقلبي طيب الجني والقطوف
وليالي الخريف أنشودة الشا ... دي وعيد المنى وحلم الريف
هي في الخفة الطليقة برد ... وسلام من الجمال الشفيف(644/41)
كم غمام يختال فيها خفيفاً ... فإذا اربد لم يكن بخفيف
وسحاب كالبحر أسبح فيه ... بخيال يجد في التجديف
ونجوم تجلو الدجى لتراها ... ولنصغي لهمسها المألوف
ولشدو الطنبور أدركه الأي ... ن فأصغي لأنه الشادوف
عجباً للطبيعة الحسن فيها ... صور بالألوف بعد الألوف
كم لها من مناظر وشكول ... وصنوف تجد إثر صنوف
هي حيناً تلوح في نزق الغر ... وحيناً في حكمة الفيلسوف
وإذا ما تبرجت فكم استح ... يت دلالا بوجهها المكشوف
كل ما في الطبيعة المثل الأع ... لى لنفسٍ تحيا بحس رهيف
وأراها بمقلة الشاعر الشا ... دي وقلب المتيم المشغوف
من يكن يعبد المحاسن طرًّا ... فبحسبي هذا الجمال الريفي(644/42)
يا شعب صهيون
(تحدى المؤتمر الصهيوني العام العرب في بيانه الصادر من
القدس)
للأستاذ حسن أحمد باكثير
يا شعب صهيون! لا تبطركم النعم ... ولا نفوذ لكم تعنو له أمم
ولا يغرنكم مال لكم لبد ... فالدهر يمهل حيناً ثم ينتقم
دعوا فلسطين وانأوا عن عزائنها ... ففي عرائنها الآساد والبهم
إن صودقوا صدقوا أو سوبقوا سبقوا ... أو هوجموا هجموا أو صودموا صدموا
لا تحسبوا أنها تغدو لكم وطناً ... إذا ارتضت طغمة في الغرب أو طُغم
مصيرها في يدي أصحابها فسدًى ... ما ترجفون وما شدتم سينهدم
إن كان في يدكم مال ففي دمنا ... بأس ورثناه عن آبائنا حطم
بأس جرى في دم الأجداد مضطرماً ... ولم يزل في دم الأحفاد يضطرم
إني لألمح خلف الأفق عاصفة ... عرباء لا تنقضي حتى يراق دم
وفتنة تتلظى في جوانبها ... حمر المنايا وتستشري وتحتدم
أعيذكم أن تثيروها بباطلكم ... فتندموا حين لا يجديكم الندم(644/43)
البَريُد الأدبيَ
البحتري وإسماعيل صدقي باشا، رؤية المكان البعيد:
1 - روُى لي أن الأستاذ إسماعيل صدقي باشا لما قابل (سعداً العظيم) بعد تلك الصدعات قال له: يا سعد كلما سعينا في هدمك بناك الله. والبحتري (أحد الثلاثة) يقول:
كم حاسد لأبي العباس مشتغل ... بنعمة في أبي العباس تشجيهِ
يروم وضعاً له والله يرفعه ... ويبتغي هدمه والله يبنيهِ
فإن كان الأستاذ إسماعيل صدقي باشا قرأ ديوان (الوليد) فإنه للمفتش المطلع، وإن كان القول من عنده فلوذعيته هي معطيته. وقد سمعت شاعرنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن يذكر (صدقياً) بخير.
2 - جاء في إحدى المقالات التي تنشرها (الرسالة الغراء) في عنوان (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب):
(قال الأديب الكبير الأستاذ شفيق جبري: (من بالعراق يراك في طرسوما) هذا (شهود البعيد) الذي ابتدعه هؤلاء العفاريت في هذا الزمان).
وقد وجدت خبرا في (طبقات الشافعية الكبرى) للعلامة عبد الوهاب السبكي في (رؤية المكان البعيد) فرأيت روايته، قال:
(التاسع عشر رؤية المكان البعيد من وراء الحجب كما قيل: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي كان يشاهد الكعبة وهو ببغداد).
السهمي
إلى صاحب العزة الأمين العام لجامعة الدول العربية:
من أخبار بغداد الأخيرة نبأ مؤداه أن مجلس الوزراء العراقي قرر منع طلبة البعثات العلمية العراقية من الزواج بالأجنبيات مدة دراستهم. .
ولما كان القرار بالشكل الذي نشر به في الصحف مطلقاً غير مقيد فهو يذكر الأجنبيات دون تحديد أو تخصيص
ولما كان كثير من طلبة البعثات العلمية العراقية يدرسون في البلاد العربية الشقيقة وخاصة(644/44)
مصر - فقد اختلفت الآراء في تفسير المقصود من هذا القرار وبيان مدى تطبيقه. .
ومهما يكن من أمر فلا شك في أن من سياسة جامعة الدول العربية تقوية الصلات وتنمية الروابط بين البلاد العربية بكافة الطرق والوسائل. كما لا نشك في أن تزاوج الأفراد من مختلف البلاد العربية هو من أنجع الطرق في تحقيق الوحدة القومية بين هذه البلاد إذ بالتزاوج والتصاهر تقوم علاقات لا يمكن أن تنفصم بين الأفراد والعائلات وتكون هذه العلاقات الشخصية الفردية أقوى دعامة للعلاقات العامة القومية في بناء الوحدة العربية المنشودة. .
فإذا نظرنا على ضوء ما تقدم إلى قرار مجلس الوزراء العراقي يكون شمول لفظ (الأجنبيات) لغير العراقيات عموما بما فيهن المنتميات إلى دول أعضاء في الجامعة العربية موضوع نقد معقول لما فيه من تفويت للمصالح المشار إليها ومن تسوية بين رعايا الدول العربية ورعايا سائر الدول الأجنبية وهي تسوية يأباها روح ميثاق الجامعة العربية. بل ويأباه نصه الذي تناول مسألة الجنسية فيما تناوله من الأمور التي تهدف الجامعة إلى توحيدها بين الدول الأعضاء وقد خصصت لها فعلا لجنة من لجان الجامعة.
لهذا أتشرف بأن أقترح على عزتكم أن تقوم الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بمباحثة الحكومة العراقية في إصدار تفسير للقرار سالف الذكّر يتحدد به المقصود بلفظ (الأجنبيات) بما يخرج من مدلوله المنتميات لدولة من الدول الأعضاء في مجلس الجامعة مراعاة لكل ما سلفت الإشارة إليه من الاعتبارات. . وإني لعظيم الأمل في أن تنال هذه المسألة التي لا تنقصها الأهمية حسن الالتفات والاهتمام وذلك لما نعهده في عزتكم بصرف النظر عن مهام منصبكم السامي من إخلاص صادق لقضية العروبة واهتمام دائم بكل ما يخدمها من قريب أو بعيد.
حمد عبد الجليل
رئيس رابطة العروبة بجامعة فاروق
رأي في الشرط الرابع في عضو هيئة كبار العلماء:
يدون الآن بمناسبة تعيين شيخ للأزهر خلاف كبير في الشرط الرابع فيمن ينتخب ضمن(644/45)
هيئة كبار العلماء، وهو أن يكون قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات، أو شغل إحدى وظائف الإفتاء أو القضاء الشرعي من درجة رئيس محكمة الخ الخ.
ففريق كبير من علماء الأزهر يرى أن المراد بالكليات التي يجب أن يكون قد أشتغل بالتدريس في إحداها الكليات الأزهرية الثلاث: (كلية اللغة العربية، وكلية الشريعة، وكلية أصول الدين) لا غيرها من الكليات الأخرى.
وقد أفتت لجنة الفتاوي بوزارة العدل أنه يدخل في الكليات الواردة في هذا الشرط غير الكليات الأزهرية من الكليات، مثل كلية الآداب، وكلية الحقوق.
وإني أرى أن هاتين الكليتين لا يمكن دخولهما في الكليات الواردة في هذا الشرط بطريق النص كما أفتت هذه اللجنة، وإنما يمكن دخولهما فيها بطريق القياس للشبه بينهما وبين كلية اللغة العربية وكلية الشريعة، فإذا اشتغل بالتدريس فيهما بعض علماء الأزهر، جاز انتخابه عضوا في هذه الهيئة، وإنكار هذا القياس لا يصح بعد أن جاء الإسلام باعتبار القياس، ولم ينكره إلا من لا يعبأ به من فرق الإسلام، وهذا الشرط لا يقصد منه إلا إخراج مدرسي المعاهد الابتدائية والثانوية
وقد صار للأزهر أبناء لا يحصون يشتغلون بالتدريس في غير المعاهد الدينية والكليات الأزهرية، فلا يصح أن يحرموا من منصب شيخ الأزهر.
عبد االمتعال الصعيدي
البعث:
قرأت أخيراً ديوان البعث للأستاذ الشاعر ابن محمود فوجدت في الديوان رقة عذبة تنساب في القصيدة التي أهداها إلى الآنسة أم كلثوم كما تظهر واضحة في القصيدة (الانطلاق) حيث يقول:
رب يوم أبصرتك العين في الجو طليقا
تنشد الألحان ألوانا، وفي الحب غريقا
ناعم البال بإلف عزفي الأيك رفيقا
وهفت نفسي إلى عيشك في شوق وحزن(644/46)
أي عيش كان حلوا حينما كنت تغني
غن لي يا طير غن، أي لحن أي لحن
ترى معي أن الشاعر قد رق في هذه الأبيات إلى درجة لا تملك معها إلا الاهتزاز والشوق إلى سماع هذا الطائر المغني.
وكم سرني أن وجدت الشاعر يبتسم للحياة ابتسامة نفتقدها على شفاه أغلب الشعراء فلا نجدها، سرني هذا وظلت به مسروراً إلى أن صادفته يتجهم للحياة مرة أخرى ويبرم بها فيقول: -
أنكر الناس حينما أنكروه ... فنأى عنهم بشتى المراحل
يا لقومي كم نابغ عبقري ... في حمى النيل ذكره اليوم خامل
أجل نجده يتابع الشعراء في هذا المضمار، وحبذا لو سلك الطريق المشرق الآخر. . وعلام التجهم والحياة كلها لا تساوي هم ساعة. . . ابتسم يا سيدي فستبتسم هي لك وتلفتك إلى أفراحها.
وأعجبني الشاعر أيضاً حينما تناول ناحية القصص وعالجها، الشيء الذي لا نكاد نجده في شعرنا، وهو بهذا أجرى الشعر في مضمار المجتمع خاصة في قصيدته (عقبى الجهل).
ولكن يظهر أن القافية كانت تتعب الأستاذ الشاعر بعض الشيء ويبدو هذا في قوله:
يسطع البدر بينها كمنار ... باهر الضوء بالسني مستطار
وقوله في قصيدة أخرى:
وعلى الدنيا وما أبهجها ... عالما يبهر أرباب العقول
ترى معي أن القافية مجهدة (فمستطار) كلمة أتى بها للوزن فحسب، (وأرباب العقول) كلمتان نسمعها في السوق ولا نقرأهما في الشعر.
وكنت حينما تطول القصيدة ألمس الضعف في الأبيات الأخيرة مع أن القصيدة قد تبتدئ قوية ثم تتدرج في الضعف حتى تصل إلى آخرها فترى البون قد بعد بين مطلع القصيدة وختامها ولو أنها بترت لأصبحت كاملة معنى وليس بها ما يشوب، ويبدو هذا المأخذ واضحا في قصيدته (في الزفاف الملكي).
ولا بد للمتكلم عن هذا الديوان أن يذكر ما به من روح متوثبة قد تقعد بها في بعض(644/47)
الأحيان وعورة اللفظ والقافية.
وأعتقد أن كل هذه المآخذ سهلة الاستدراك لو تفضل الأستاذ الشاعر وأولاها شيئاً من التفاته
ثروت أباظة(644/48)
الكتب
هتاف الجماهير
للأستاذ عبد الحفيظ نصار
(هتاف الجماهير) للأستاذ أمين يوسف غراب، ومجموعته تشتمل على خمسة عشر قصة لن يتسع لي المجال للتعرض لها كلها، وأعتقد أن مجموعته في الطليعة عندما يصح أن نختار قصصاً نضعها بكل فخر جنباً إلى جنب مع القصص الأجنبية القوية، كما أنها تتسم جميعاً بأسلوب بارع الوصف، كما أن الكاتب متأنق في اختياره لألفاظه أناقة محببة غير متكلفة، ويأخذك من تعبيراته عطر قوي نفاذ. . . لعله عطر المرأة التي تأخذ دوراً هاماً في أكثر قصصه.
وإليك قصة (طريق الدنس) وهي قصة امرأة ناضرة ناضجة شغل عنها زوجها بسهراته خارجا - فماذا قالت لنفسها وماذا قالت المرآة لها في خلوتها. . . فكرة بسيطة في حوادثها. . ولكني أؤكد أنها في تحليلها لعواطف المرأة لا تقل عما يكتبه مارسيل بريفو، وفي قوة وصفها تقف بكل فخار بجوار قصص موباسان. ليس في القصة حوادث أو حركة كبيرة بل تعتمد على (الحركة النفسية) التي هي موضوع القصة. وذلك شأن القصص الروسية الخالدة التي نعتبرها مثالا في القصص العالمية.
كذلك قصة (الأستاذه) وهي محامية كتبت عواطفها الحارة كامرأة، وتجاهلت نضج ثمارها كشجرة يانعة، فأخفت تلك العواطف وتلك الثمار، تحت رداء المحاماة القاتم، وتكلفت الجد الذي هو بعيد كل البعد عن طبيعتها المشرقة ومضت في الحياة عاملة كرجل. . . ولكن إلى متى يمكنها أن تمضي متجاهلة النداء؟
وأما قصة (البلبل والحمامات السبع) فتصور حياة سبع مدرِّسات في مدرسة إقليمية شاءت مديرتها أن تجعل منها ديرا منعزلا عن الحياة والأحياء - وعلى الأخص ذلك الجنس الآخر مصدر الشر وهو الرجال - فيعشن في سلام معيشة الراهبات.
وليست العبرة عند الكاتب في حوادث القصة. ولكنه يعالج فكرة قد تظهر بساطتها عند تلخيصها. ولكنك ترى عمقها في تحليله وروعتها في عرضه. كما أنه يرتفع في وصفه في هذه القصة إلى درجة عالية من البيان، وقد وصف لنا الرئيسة محللا نفسيتها بأنها امرأة(644/49)
حلت الأيام مشاكلها مع الزمن على حسابها، خلقة مشوهة دميمة وصوت أجش بغيض وعينان ضيقتان أكل الحقد أهدابهما ولم يبق منهما سوى نظرات نارية حادة لا تكاد تعكس مرئيات الأشياء على عينيها أبدأ وإنما تعكس صفحة وجهها المشوه على خاطرها فتراه دائما وتراه مقترنا بسلسلة تلك المصائب التي جرها عليها هذا القبح طيلة الأربعين سنة التي قضتها في دنياها الشقية. .) فهي لا تكاد تطيق رؤية الفتيات السبع يخطرن أمامها في مرح وسعادة ملء إهابهن الحب والأمل، ومن ذلك يفسر لك قسوتها عليهن وتزمتها في معاملتهن وأخذهن بالتقشف الشديد المر حتى نسين الشباب والابتسام
وأما (البلبل. . .) فهو ذلك العامل الذي تضطر المدرسة الضرورة لاستدعائه من المدينة لبعض الإصلاحات لبضع ساعات ثم تحتال الحمامات على إطالتها إلى ليلة. . وقد تيقظ الفتيات كما تفتح الزهرات لأنداء الربيع، حتى تلك الزهرة الذابلة. . الناظرة. وإني لأحس بأنني اظلم القصة عندما أحاول أن أعطي منها صورة فلا أستطرد في ذكر ما كان. ولكن أحب أن أقول إنها ذكرتني بقصة (ستة وعشرون رجلا وامرأة. . .) لمسكيم جوركي. والبلبل هنا امرأة، وعند قصاصنا فتى، ولكنها لا تشبهها في شيء من الحوادث أو طريق المعالجة ولكن في بعض الخطوط الرئيسية في الفكر النفسية وهي شيء يتشابه فيه البشر في كل مكان
ولكن يختلف الكتاب في تصويره. واله إلى هذا بعض قصص اجتماعية يصف فيها الريف بصميم تقاليده وعميق إحساس أفراده إلى بساطة وسذاجة هما طبائع أهله، قد دل على معرفة ودراسة لأحوال الريف قلما تجدها صادقة في غير تكلف كما تجدها في قصص الأستاذ أمين. ومن هذه القصص (الفطائر الثلاث) ومن أمتع قصصه (مفاتيح الأقفال) وإنه لعنوان رمزي لما استغلق من المرأة، وما المفاتيح إلا الإنسان الذي جعلها تلبي نداءه في أحضان الشيطان. وإنها لمأساة قد يخيل إليك أن الكاتب يصورها بألوان زاهية فاضحة. ولكنه فنان يعرف كيف يتصرف في هدوء حتى بالألوان الحمراء. . .
وقصة (هتاف الجماهير) ليست هي القصة الأولى في المجموعة كما اعتاد بعض الكتاب في تسميتهم المجموعة بأعظم قصة فيها؛ بل هناك قصص أخرى تعلوها. وهي مع هذا ذات نزعة رومانسية عنيفة وتجمع إلى هذا جانب التهكم اللاذع وعلى الأخص في الخاتمة،(644/50)
والخاتمة عند أمين كأبسط وأروع ما يمكن أن تكون التفاتة بسيطة ذات دلالة عميقة تكفي عنده لأن تكون عقدة القصة. وقصة (طريق الدنس) التي عرضنا لها تعتبر مثالا عاليا لذلك. وتوجد عنده عدة قصص يصور فيها شخصية (البروجوازي) كما تسميه الاشتراكيون، أذكر له قصة اتفق لي أن قرأتها له في إحدى المجلات ولا أدري لماذا لم يضمها إلى هذه المجموعة وهي (الحلوى المسمومة) فقد صور فيها مدى استغلال البروجوازية لعماله. وقد تعدى ذلك لأعراضهم، وله في تصوير هذه الشخصية في هذه المجموعة قصة (صفقة رابحة) و (السيد) وأنه ليعطينا صورة لا تقل عظمة عن تمثيلية (السيد) لموليير وإن كان هذا نموذج للسيد المصري وفرق كبير بين السيدين. أقلهما البيئة وعواملها مع المزاج والثقافة. كما يوجد فرق كبير بين الكاتبين في طريق المعالجة.
ويصدر الأستاذ أمين مجموعة بقصة (أفراح السماء)، وهي قصة إنسانية عالية تصف الطفولة وتشردها. قصة طفلة تتضور جوعا باحثة عن لقمة، تهديها حاستها أو معدتها إلى بائع طعمية تقف أمام دكانه تستنشق رائحتها المحببة، ولا تسل عن خواطرها حينئذ، ولا عن تصوير الكاتب لها، ولكنها أخيراً تتشجع وتطلب منه واحدة؛ فإذا بصاحب المحل الرجل الضخم يجيبها بصفعة هائلة فلم تولول ولم تتألم طويلا فقد تعودت مثل ذلك وكان أن جففت دموعها، وأصلحت أسمالها، وابتعدت عنه قليلا حيث واراها الظلام، وحيث أسندت رأسها المثقل جالسة على الرصيف بعد أن اطمأنت على مكان كوز أعقاب السجاير بين ركبتيها. وابتدأت قصة حلم رائع إذ تقدم منها شاب وسيم شكت إليه جوعها فحملها إلى القصور التي يعلو وصفها على قصور ألف ليلة وليلة، وكان أن رأت هناك استقبالا واحتفاء ومأكلا ونعيما وسعادة بجوار ذلك الشاب الوسيم ما كانت لتحلم به أو لتفكر فيه يوما فتتمتم شاكرة له: إنك لملك كريم. وبعد فراغها من حلمها اللذيذ يكون قد جاء الصباح وعاد صاحب محل الطعمية جلادها بالأمس إلى محله؛ فيجد هذه قريبة منه فتأخذه بها شفقة بعد أن تذكر ما كان منه بالأمس؛ فيحركها موقظا لها فإذا بها جثة هامدة!! ترفرف روحها في السماء. وهذه القصة تذكرني بقصة (بائعة الثقاب) لهانس أندرسون الكاتب النمساوي، وهي أيضاً حلم طفلة تضورت طوال يومها جوعا في البرد وفي ليلة عيد الميلاد ومع ذلك لم تبع شيئا من أعواد الثقاب التي تحملها فخافت أن تعود إلى أبويها؛ فجلست بجوار جدار(644/51)
وجعلت تستنشق رائحة الإوزة التي تشوى خلف جدار ذلك المنزل وتركت خيالها يدور حول ما فيه من طعام، وأحست بوطأة البرد فجعلت تدفئ أطرافها بإشعال أعواد الثقاب، وعلى ضوئه ابتدأت قصة حلمها فقد رأت جدتها الميتة التي كانت تحنو عليها وتحبها كل الحب وصارت تستنجد الجدة أن تأخذها عندها وأخيراً تستجيب لتوسلاتها. وفي الصباح ترى طفلة ميتة مرتكنة على جدار منزل، وما برح شفتيها ابتسامة الرضى؛ فقد كانت تنعم هناك قرب جدتها، ومع تقارب الفكرة في القصتين فلكل منهما طريقته وأسلوبه ولعل قصة أمين لا تقل روعة عن قصة هانس أندرسون
ولعل كاتبنا أبعد الكتاب تأثرا بالصور التي يأخذها للحياة عن طريق الثقافة بل يلجأ إلى الحياة نفسها ويتغمر بمشاعره بين شخصياتها إذ للكاتب معالجته الكثيرة في الحياة وصوره التي لا تنفد من فصولها ونماذجها الإنسانية التي تحس بحرارة حياتها ولفحات أنفاسها. بل تحس بأجوائه الشعرية العاطرة كأنك تعيش فيها.
بقي أن أقول إن مجموعته جديرة بأن يحتفل بها قراء العربية وأن كاتبها جدير بأن يحتفل به نقاد الأدب والقصة إذ في إنتاجه دليل على حيوية في القصاص المصري، وأمل كبير في أن تزاحم قصصنا الإنتاج القصصي العالمي. وما احسبني مغاليا فيما أقول.
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار(644/52)
القَصَصُ
أهذه قصة!؟. . .
سبيلك الجديد
للأديب عزيز الحاج
وأخيراً. . مزقتها ثائراً ثم محوتها محواً بعود ثقاب. . .
(مسكين أنت! لا تعرف من الحب غير اسمه الساحر الخلاب، تتوهم أنك فائز بأطايب الحب جميعاً وأنت محروم منها، محروم. وكيف ترضى أن تكتفي من حبيبتك ببسمتها الوضاءة، ونظرتها الحنون دون أن تهفو إلى ما وراء ذلك من المتع العذاب!؟
(لا، يا صاحبنا، لا! أضرم ثغرها بالقبلات الملتهبات، وضمها إليك ضماً يهدهد حواسك العطاش، وانظر إليها نظراتك إلى أنثى ناضجة، فاتنة، لا نظراتك إلى ملاك من نور).
ويصغي صاحبنا إلى أحاديثهم منكراً لها، مجدفا بها، حانقاً عليها؛ ولكنه يضمر إنكاره، ويخفف تجديفه، ويكبت حنقه، فيظنون أنه مقتنع، راض، ويتوهمون أنه سيلبي قريباً نداءاتهم المغريات. .
ويرحل الحبيب، ويتصدع منه الفؤاد، ولكن الرجاء يروح عنه. فهو يعرف أن الفراق لن يدوم، وأن القطار الذي مضى بالتي يهوى سيرجع بها بعد أربعة شهور. فالنأي المروع، أذن، لا يبطن اليأس الدامس، القتال، وإن كان - مع ذلك - يوجعه، ويبريه، ويذيقه اللوعة المرة، والهم الزعاف. .
ويجد أولئك (الأصدقاء) - قد ظل وحيداً - مجالا أفسح ليرددوا نغمات (الوعظ) و (الإرشاد) ماضين في ذلك دون أن يضجروا، أو يملوا، أو يضيقوا صدوراً بثباته العجيب وإخلاصه المكين.
(اهتد، اهتد يا صاح. فماذا تجني من هذا الوفاء الصوفي غير الأشواك والسموم!؟)
على أنه هو الآخر مصر على الوفاء، منطلق في الاسترسال مع هواتف الحب، واستحضار صورة الحبيب. . .
ولكنه إنسان! وإنسان يتعذب ويئن وينوح. فهو غير غني عن السلوى والعزاء، إن قلبه(644/53)
المصدوع سيودي به حتما إن لم يلتمس ألواناً من اللهو تذهله عن هواه ولو لحين. إن الوحشة السوداء تغلف لياليه والأيام، وإن اللقاء الموعود لن يتم إلا بعد أسابيع طوال مضنيات، فما أحوجه إلى العزاء - أي عزاء!
إنه لا يدرك كل ذلك، وقد ينكره إن يجابه به، ولكنه هو هو ما تهتف به نوازعه الخفية المهمة، وهو هو ما أخذ يهيمن شيئاً فشيئا على خوالجه الباطنة العميقة، وهو هو الذي مهد سبيل (المأساة). . .
أجل لقد ظلت، ظلت أسبوعاً كاملا، ما كنت أصغي في لغير نداء الجسد الحقير.
أبعدت الروح، فقلت للشهوات الراقدات: (هبي! هبي!)؛ وخاطبت المتع الترابية مردداً: (ضميني إليك، عانقيني. . هكذا!)؛ ونصحت الجسد الظمآن قائلا: (اغرف من الينبوع ما طاوعتك قواك، واحتس من الأباريق جهد المستطاع فمن يدري! لعل صاحبك يشمئز يوماً ما من هذه الحال، فيرتد عن ضلالة المبين ويهتدي إلى الحظيرة من جديد)
سعال عنيف، يتصاعد من صدر منهار، وعلى الفراش ثمة إنسان شاحب، هزيل، أضناه السقام، وشفه التبكيت، فيا للمريض!
إنه ليزيد نفسه تعذيبا بقراءة اليوميات (العذرية)، والتي كان يخطها بدمعه الثر، ودمه الغزير قبل فترة (الظلال) إن قرأتها تجسم له خطيئته، وتكبر زلته، وتوحي إليه أنه دنئ دنئ، فهو يتساءل متعجبا آسفا ثائراً: (أأنا الذي فعلت ما فعلت؟! أأنا - أنا الذي ما كنت أصبو ألا إلى السمو والتحليق - أمرغ نفسي في التراب المشوب والطين المهين؟!
(ويل لي! ويل لي من نفسي! وويل لي من الحبيب الذي خنت! وويل لي من الله!)
أيها الجسد الظمآن: ألم أقل إن صاحبك قد يبصر بعد عماه؟
. . . وهكذا مزقتك ثائراً، أيتها الصفحات، ثم محوتك محواً بعود ثقاب، أوديت بك في لحظة من لحظات ثورتي على نفسي وعلى أصدقائي الذين أضلوني؛ وفعلت دون تردد أو نكوص، أحرقتك لكي تصفيك النار، وتعيد إليك نقاءك المفقود، فأنت أيضاً قد دنست، وهم، هم أيضاً الآلي دنسوك، لقد لطخوك كما لطخوا صاحبك المأفون، الذي كان إليهم بين أيام وأيام، فيقرئونك ساخرين، صاحبك الذي أوحت إليه الغرارة والوهم
أن المعفر في التراب قدير على فهم عاشق السماء(644/54)
برغمي فارقتك، وبرغمي قضيت عليك، ولكن هيهات، هيهات أن أنساك!
هذا أيها العاشق سبيلك الجديد: الصمت المطبق والسكوت التام.
احبس عواطفك في حناياك، وأسدل بينها وبين الناس الحجب والأستار، وع - واذكر ذلك أبداً - أن الجسد لا يريد أن يفهم الروح، ولن يستطيع إن أراد
وأنتما، يا قلمه، ولسانه: صمتاً شاملا أبدياً كصمت القبر الرهيب في الليل البهيم، فقد جنى (المسكين) من ثرثرتكما أفانين النكد وضروب العذاب. . . ارحماه!. . .
عزيز الحاج
نزيل القاهرة(644/55)
العدد 645 - بتاريخ: 12 - 11 - 1945(/)
الفن عام
نعم. لكن بأي معنى؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
(سير كنيث ماكنزي كلارك) هو في الوقت الحاضر أكبر النقاد في فن التصوير بالبلاد الإنجليزية.
وقد تولى إدارة المتاحف الوطنية الكبرى عدة سنوات وهو لم يتجاوز الثلاثين، وبلغ هذه المنزلة الرفيعة في عالم الفن ولما يتجاوز اليوم الثالثة والأربعين.
كتب هذا النقادة العالمي في إحدى الصحف اللندنية بحثاً بدل عنوانه على فحواه وهو (أن الفن ليس لكل إنسان).
ولا نطيل في تلخيص آرائه لأننا قد نستغني عن الإطالة في تلخيصها بمثلين اثنين من أمثلة المتكررة فيهما الكفاية فيما أراد البيان عنه.
إحداهما أن المتحف الوطني اشترى سنة 1840 صورة لفان آيك بثلثمائة وثلاثين جنيها إنجليزياً واشترى معها صورة لجيدو بألف وستمائة جنيه. . . والآن تقدر الأولى بثلثمائة ألف جنيه لو سمح ببيعها، ولا تزيد قيمة الأخرى على الثلاثين.
أما المثل الثاني فهو نتيجة استفتاء لهواة الصور في مجموعة من القطع الفنية الخالدة ومعها بعض القطع التي لا تعلو على طبقة الصور المعدة للإعلان وترويج البضائع.
بيع من هذه المجموعة ثمانون ألف نسخ، وكان أربعة أخماس الصور المعروضة فيها من آيات الفن الكبرى، وما بقي من المجموعة أخلاط وأو شاب.
والذين سئلوا عن رأيهم في أبدع هذه الصور جميعاً هم بطبيعة الحال هواة الفن الذين يسهل على أحدهم بذل الثمن الغالي في كتب التصوير.
ومع هذه أحصيت الأجوبة فإذا بالصور الست المفضلة كلها من غير الآيات الفنية الكبرى، مع أنها تبلغ أربعة الأخماس من صور المجموعة وليست هي بالقلة التائهة بين زحام تضل فيه الأذواق والآراء.
ونعتقد أن المثلين يتكرران في كل بيئة وفي كل فن من الفنون الجميلة، وأن النتيجة لا تختلف عن هذه النتيجة كبير اختلاف.(645/1)
وإنما يلفت النظر في المثلين أن الغلطة في المثل الأول غلطة نقاد مختصين بالتقويم والتقدير في المتاحف العالمية المعدودة، وأن الغلطة في المثل الثاني غلطة جمهور غفير ولكنه هو جمهور الفن على كل حال.
فما الذي يفهم من هذين المثلين؟
لا يفهم منهما أن ذوق الفن حظ شائع بين سواد الناس، ولا أنه ذوق خاص بالعلية في عصر واحد.
فكيف يقال إذا إن (الفن عام) وإنه تراث عالمي أو تراث إنساني يقاس بمقياس الإنسانية جمعاء؟.
إنما يقال هذا بمعنى واحد لا معنى سواه.
وهو أن الفن (عام) بمعنى أنه للخاصة في جميع الأزمان وليس للخاصة في زمن واحد أو بيئة واحدة.
فإذا كان كذلك كان (إنسانياً) وكان عاماً بهذا المعنى دون غيره، لأن اتفاق الخاصة على استحسانه في كل زمن هو الدليل على أنه قائم على المزايا الإنسانية التي تنال بالفطرة المهذبة، ولا ترجع إلى الأسباب الموقوتة التي ترفع إلى منزلة الخاصة أحياناً في بعض العصور من لا يستحقون التمييز والترجيح.
فإذا كان العمل يروق الخاصة في بعض العصور ولا يروق الخواص في العصور الأخرى فذلك هو الدليل القاطع على أنه لا يروقهم لمزية إنسانية باقية، ولكنه يروقهم لسبب من سببين عارضين: أحدهما أن نزوة من النزوات التي تطغي على العقول والأذواق في بعض الأحوال قد طغت على أولئك الخاصة فأضلتهم عن سواء السبيل، والآخر أنها خاصة مزيفة قد صعدت إلى مكان العلية والسراة لعيب من عيوب المجتمع الذي برزت فيه.
فمن قال إن (الفن عام) لا يصح أن يعني بكلامه هذا أنه خلق للعامة وكل من يعقل أو لا يعقل على السواء، وإنما يستقيم كلامه على وجه واحد وهو أن الفن الرفيع إنساني لأنه يعجب الممتازين من بني الإنسان في جميع العصور.
ونحن نقول العامة والخاصة في مسائل الفن والأدب، ونقصد بهما العامة والخاصة في الأذواق والأخلاق والملكات، ولا نقصد بهما عامة العرف الاجتماعي أو خاصة الأوضاع(645/2)
والتقاليد.
فالغني قد يكون من أحقر العامة في أذواقه وأخلاقه وملكاته، والفقير قد يكون من أرفع الخاصة في تلك المزايا الإنسانية العليا، وقد يكون هو مبدع الآيات الغوالي في الأدب والتصوير والموسيقى والتمثيل كما حدث ويحدث إلى آخر الزمان.
بل نحن نرى أن العامية أوسع نطاقاً من فوارق الغنى والفقر والذكاء والغباء.
فقد يكون الرجل خاصة في الهندسة وعامة في الشعر والكتابة، وقد يكون خاصة في الأدب وعامة في الموسيقى والتصوير، وقد يكون خاصة في فقه اللغة وعامة في أذواق الفنون، وقد يكون خاصة في الخلق والإنتاج وعامة في النقد والشرح والتفسير.
لأن الإنسان الذي يرتقي إلى مرتبة الخاصة في جميع المحاسن الإنسانية غير موجود ولا يتأتى له وجود.
والمقصود على هذا بخواص الفنون والآداب هم أولئك الذين يحسبون فهمها ويملكون وسائلهم وموازين الترجيح فيها.
وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال كما قال أناتول فرانس إن الجمال الفني سهل وإنه على قدر سهولته يكون نصيبه من الجمال.
فأسهل الفنون هو أجمل الفنون.
ولكن ينبغي قبل ذلك أن تسأل: سهل هو على أي الناس؟
فلو كان المقصود أن تكون سهلا على جميع الناس لخرج من الفنون العليا فن المتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والبحتري وهو مر وجيتي وشكسبير، وارتقى إلى ذروة هذه الفنون كل نظام من سوقة الجماهير يطربهم بالأزجال والمواويل.
ولكن المقصود بالسهولة هم أولئك الذين استعدوا بفطرتهم وتهذيبهم لفهم الجمال الرفيع في آيات مبدعيه والمعبرين عنه من الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى هذا المعنى أيضاً يقال إن (الفن عام) لأنه يعم كل من تهيأ بفطرته وتهذيبه، وكلاهما من صفات بني الإنسان، وليسا من الصفات المستعارة للآدميين من خارج الحياة الآدمية.
والأمر بعد أوضح من أن يحتاج إلى عناء في إثباته وتمييز صوابه من خطئه.
لآن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الأذكياء أكثر من الأغبياء، وأن أصحاب الأذواق أكثر من(645/3)
المحرومين منها، وأن دقائق البلاغة وأسرار الجمال أخفى من البلاغة الشائعة والجمال المبذول، وأن الإنسان بالفطرة والتعليم معاً أرجح من الإنسان بالتعليم وحده أو بالفطرة وحدها.
ومع ثبوت هذه الحقيقة واستغنائها عن اللجاجة في إقامة البرهان على صحتها لا تكون الدعوة إلى تجريد الفنون من الخاص والعام، ومن الرفيع والوضيع، إلا مسخاً للمزايا وهبوطاً للصاعدين وتسوية بين الذي هو أدنى والذي هو خير.
ولم نر قوياً وهب له الله الصحة يتمارض لأن في الخلق مرضى وضعفاء.
ولم نر ذكياً رفيع الذهن يحرم على نفسه الارتفاع إلى ذراه لأن في الخلق أغبياء لا يطاولونه إذا ارتفع ذلك الارتفاع.
ولم نر صحيحاً موفور الاشتهاء للمآكل أكل الممعودين، لأن الممعودين لا يهضمون كل ما يهضم من الطعام.
فلماذا نحرم على النوابغ والموهوبين أن يفكروا في شيء لا يقوى على التفكير فيه من حرموا النبوغ وهبات الخلق والابتكار؟
ألان الطعام أرفع وأكمل من الذوق والفكر والشعور؟ ألان الارتفاع والامتياز حرام والشيء الوحيد المباح هو الانحدار والتساوي بين نزلاء الحضيض؟
ليقل ذلك من ينفعه أن ينحدر الصاعدون، وأن تخلو الدنيا من التفوق والرجحان.
وإذا قالوه فلا سبيل لهم إلى تحقيقه إلا بقوة الحيوان دون قوة الإنسان.
أما الإنسان فهو لا يقول هذا ولا يستريح إلى سماعه، ولا يأبى أن يكون الفن عاماً لا يستأثر به أناس بغير الحق والاستعداد، ولكنه يأبى أن يعم ليسقط فيه الرفيع إلى منزله الوضيع، لأن زواله خير من بقائه على هذه الحال.
عباس محمود العقاد(645/4)
في إرشاد الأديب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 16 -
ج 2 ص 227: أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخصيب كان بليغاً مترسلا شاعراً أديباً متقدماً في صناعة البلاغة، وكان بينه وبين ابن المعتز مراسلات وجوابات عجيبة. وهو القائل:
خير الكلام قليلٌ ... على كثير دليلُ
والِعيُّ معنى قصيرٌ ... يحويه لفظ طويل
وللبليغ فضولٌ ... وللعيّ فضول
قلت:
خير الكلام قليلُ ... على كثير دليلٌ
وللبليغ فصولُ ... وللعي فضولُ
فالبيت الأول مقفى، والبيت الثالث مصرع، وليس البيتان بمصمتين.
ج 18 ص 238: ابن التعاويذي:
وعلام أشكو والعهود نقضنها ... بلحاظهن إذا لوين ديوني
هيهات ما للغيد في حب امرئ ... أرب وقد أربى على الخمسين
ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أو وفاء خؤون
ليت الضنين على المحب بوصله ... ألف السماحة عن صلاح الدين
قلت: (وعلام أشكو والدماء مطاحة بلحاظهن) كما روٌى في (الوفيات) في سيرة بطل المسلمين صلاح الدين. وقد يكون الأصل (والدماء مفاحة) وأفاح دمه هراقه كما في (اللسان). وتخلص ابن التعاويذي هو من التخلصات المنكرة وإن لم يبلغ في القبح ما بلغه قول شاعرنا المتنبي:
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا(645/5)
قال ابن الأثير - وقد روى البيت في كتابه (المثل السائر): والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره، وما ألقاه في هذه الهواة إلا أبو نؤاس فإنه قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
وفي (معاهد التنصيص) هذا الخبر:
حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوماً وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري، فأذن له، فلما دخل عليه أعظمه وأكرمه واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف، فما قلت إنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نؤاس، فامتنع من الإذن له حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل سلم عليه، فما علمت ولا أمره بالجلوس ولا رفع إليه رأسه، فلما طال عليه الوقوف قال: معي أبيات أفأنشدها؟ قال: افعل، وهو في غاية التكره والثقل، فأنشد إياها، فلما بلغ إلى قوله (سأشكو البيت) قطب وجهه، وقال: أمسك، عليك لعنة الله! اغرب، قبحك الله! وأمر بإخراجه محروماً فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ وقال: ما رأيت مثل هذا الرجل ولا أقل تمييزاً في كلامه منه. فقال أنس: إن اسمه كبير!
فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند سقاط مثله وخلق يشاكلونه. . .؟
ج 18 ص 156: قد خدمت سيف الدولة - تجاوز الله عن فرطاته - وأنا ابن تسع عشرة سنة.
وجاء في الشرح: الفرط: الظلم والاعتداء.
قلت: لا يقصد القائل - وهو الحاتمي اللغوي - بهذا الدعاء الظلم والاعتداء. في الأساس: وتقول: اللهم اغفر فرطاتي، ولا تؤاخذني بسقطاتي. وفيه: ولا يخلو أحد من سقطة، وفلان يتتبع السقطات ويعد الفرطات، والكامل من عدت سقطاته. وقد روى التاج هذا القول وقال: السقطة: العثرة والزلة.
ج 6 ص 214: قال (الصاحب بن عباد): ما أفظعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاقٌ، فنظرت إلى حاجبي، فقال له وهو يصعد إلى: اخلع نعلك، فقال: ولم؟ ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني(645/6)
الضحك، وقلت: أتراه يريد أن يصفعني. .؟ وجاء في الشرح: يقال: أفظعه الأمر: اشتدت شناعته، وجاوز قدره، وأفظعه الأمر وجده فظيعاً. ويقال: نعل طاق عطف بعضه على بعض، وربما قيل طاق نعل، ومن إضافة الصفة إلى الموصوف قلت: (ما أقطعني) (وفي رجليه نعل مطرقة أو مطارقة) (أتراه يريد).
في التاج: ومن المجاز: قطع خصمه بالحجة. وفي الأساس: بالمحاجة غلبه بكته كأقطعه.
وفي الأساس: ونعل مطرقة ومطارقة: مخصوفة وكل خصفة طراق. وفي النهاية: طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق وركب بعضها فوق بعض. وفي حديث عمر: فلبست خفين مطارقين أي مطبقين واحداً فوق الآخر. وروى بعضهم المطرقة بتشديد الراء للتكثير، والأول أشهر.
ج 1 ص 157: الرجوع إلى الحق خير من التمادي عل الباطل.
قلت: (خير من التمادي في الباطل) في الأساس: وتمادي في الأمر: تماد فيه إلى الغاية. وفي اللسان: تمادى فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته. وفي (الكشاف) في تفسير (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)
فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر خبثاً مضاعفاً، وكفراً موجهاً لأن قو لهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق، وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان، فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً وكفراً إلى كفر.
ج 15 ص 196: وكتب (علي بن يوسف القفطي يعرف بالقاضي الأكرم) إلى القاضي الفاضل رقعة وضمنها البيت المشهور:
نميل إلى جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميلٌ على أبينا
قلت: الرواية (نميل على جوانبه) وبعده:
نقلبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا
والبيتان لأبي الجهم العَدوَى يقولهما في معاوية (رضى الله عنه) وقد رواهما ابن قتيبة في(645/7)
(عيون الأخبار) في (باب الحلم والغضب).
ج 1 ص 138: تنسم أعلى السماء. قلت: تسنم أعلى السماء. في التاج: تسنم الشيء تسنما وسنمه تسنيما علاه. وتنسم النسيم إذا تشممه كتنسم العليل والمخزون إياه فيجدان لذلك خفة وفرحاً.
ج 6 ص 15:. . . قد والله زانيته دفعات.
وفي الشرح: في الأصل زينته فأصلحتها إلى زانيته بمعنى نسبته إلى الزنا ويقال أزناه نسبه إلى الزنا.
قلت: الأصل صحيح وياقوت هنا ينقل من الأغاني واللفظة في كتاب أبي الفرج هي كما جاءت في (الإرشاد) في الأصل. وفي (الأغاني) هذا الخبر:
المدائني قال: قال عبد الله بن مسور الباهلي يوماً لأبي النضير وقد تحاورا في شيء: يا ابن اللخناء، أتكلمني ولو اشتريت عبداً بمئتي درهم وأعتقته لكان خيراً منك؟ فقال له أبو النضير: والله لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلها. فغضب الباهلي، فقال له بشار: أنت منذ ساعة تزني أمه ولا يغضب، فلما كلمك كلمة واحدة لحقك هذا كله. فقال له: وأمه مثل أمي يا أبا معاذ؟ فضحك ثم قال: والله لو كانت أمك أم الكتاب ما كان بينكما من المصارمة هذا كله.
وقد أورد اللفظة كما قصد هنا الصحاح والأساس واللسان والتاج. وفي كتاب سيبويه ج 2 ص 235: فأما خطأته فإنما أردت سميته مخطئاً كما أنك حيث قلت فسقته وزنيته أي سميته بالزنا والفسق كما تقول: حييته أي استقبلته بحياك الله.
ج 14 ص 107: فدخلت عليه وهو جالس على كرسي ملوكي وعليه بغدادية مشهورة وعلى رأسه بطيخية.
وجاء في الشرح. يريد ثيابا بغدادية، والبطيخية قلنسوة على شكل البطيخة.
قلت: (بطيخية) في المصباح: قال ابن السكيت في باب ما هو مكسور الأول. وتقول هو البطيخ، والعامة تفتح الأول، وهو غلط لفقد فعيل بالفتح.
ج 13 ص 36: وله (لعلي بن حسن الباخرزي):
يروقك بشرا وهو جذلان مثلما ... تخاف شباه وهو غضبان محنق(645/8)
كذا السيف في أطرافه الموت كامن ... وفي متنه ضوء يروق ورونق
قلت: (وهو غضبان محنق) في الأساس: مالك مغيظا محنقاً. وفي السيرة لابن هشام وديوان الحماسة:
هل يسمعن النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمدٌ ولأنت ضنء نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرِقِ
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنَق
فالنظر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تُشقق!
وهذه الأبيات من مقطوعة مصنوعة أوردها محمد بن إسحاق في (السيرة) وقال: (وَقالت قُتَيْلة بنت الحارث أخت النضر ابن الحارث تبكيه) وقد استجادها حبيب - وإنها والله لجيدة - فاختارها في (حماسته).
وابن اسحق هذا هو الذي يقول فيه ابن معين - كما جاء في ميزا الاعتدال ونقد الرجال -: (ما لابن اسحق عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة والأشعار المكذوبة) وجاء في الميزان: (قال أبو بكر بن الخطيب: روى أن ابن اسحق كان يدفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليلحقها بها) وقد ندد محمد بن سلاّم الجمحي في (طبقات الشعراء) بابن اسحق ونقل طعنه فيه السيوطي في (المزهر).
والنضر بن الحارث أسر في بدر وقتله على بن أبي طالب (رضى الله عنه) صَبرا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالصفراء وقيل بالأٌثيل. (وكان بن الحارث من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مجلساً فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا (والله) يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إلى، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار).
قال ابن هشام راوي خبر النضر:
(فيقال (والله اعلم) إن رسول (صلى الله عليه وسلم) لما بلغه هذا الشعر قال: لو بلغني هذا(645/9)
قبل قتله لمننت عليه).
قلت: إن الذي قيل هو من الأباطيل، فما عملت قتيلة في أخيها شعرا، ولم يقل النبي ما عزى إليه، وما كان النضر المحتشد المجتهد في هدم ذاك البناء الإسلامي الإنساني العربي حقيقياً بأن يمن ذلك الباني عليه.(645/10)
من خواطر جحا
الغراب الطائر. . .!
للأستاذ كامل كيلاني
(مهداة إلى نقله الشوائع والأخبار الذين عناهم الشاعر بقوله):
(هم نقلوا عني الذي لم أفه به وما آفة الأخبار إلا رواتها)
يسرنا أن ننقل إلى القراء القصة البارعة التالية من المقدمة الشائقة التي صدر بها (عبد الله جحا) خواطره وقصصه نقلا عن المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه.
قال: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا: (سمعت ذات يوم أن رجلا - في أقصى المدينة - تقايأ غراباً، ثم لم يلبث الغراب أن طار، وغاب عن الأنظار. فسألت مخبري عمن أخبره بهذا؟ فقال: (فلان) فرحت إلى (فلان) أسأله جلية الخبر، فقال: (لقد رويت لصاحبي هذا الخبر، ولكنني لم أقل إن الغراب طار، بل قلت إنه سار (أي مشى)، فسألته عمن أخبره بذلك؛ فقال: (فلان)، فلما سألت فلاناً أخبرني أن الغراب لم يسر ولم يطر، ولكنه وقف ساكناً، ثم مات بعد قليل. وسألته عمن أخبره بذلك فسماه لي، ومازلت أتقصى الخبر من رواته - واحداً بعد الآخر -: هذا يخبرني أنه سمع أنه لم يتقايأ غراباً، بل طائراً يشبه الغراب. وما زال الخبر يتناقص كلما تتبعته وقربت من مصدره، حتى لقيت صاحب القصة نفسه، فلما أفضيت إليه بما سمعته، وسألته عن جلية الأمر، ضحك متعجباً من تحريف الأخبار ثم قال: (لقد تقايأت - منذ أيام - فقال أحد الحاضرين مداعباً: إن قيئك يشبه لون الغراب. ومازال الخبر ينتقل من واحد إلى آخر حتى زعم الزاعمون أنني تقايأت - كما سمعت - غراباً، ثم لم يلبث الغراب أن طار، وغاب عن الأبصار). . .
(وفق الأصل)
كامل كيلاني(645/11)
التصوير الفني والعقيدة في القرآن
للأستاذ سيد قطب
طال الجدل بين الأستاذ عبد المنعم خلاف وبيني حول هاتين النقطتين منذ أصدرت كتابي (التصوير الفني في القرآن) ولم يكن بد من أن يطول، فالموضوع في ذاته خصب يحتمل الجدل الطويل، والأمر بيني وبين الصديق في هذا الجدل ليس فكرة عارضة ولا خاطرة سريعة، وإنما هما نظريتان مختلفتان للعقيدة بل للحياة. فما سجلته في كتابي وما ناقشت به الأستاذ عبد المنعم هو خلاصة عقيدتي ورأيي وفلسفتي الخاصة المبنية على كل تجاربي النفسية والذهنية في رحلتي على هذه الأرض. وما كتبه في مناقشتي هو امتداد لآرائه في كل ما قرأت له. وبخاصة في كتابه القيم (أومن بالإنسان)، ذلك الذي أقعدني المرض أربعة أشهر عن أن أفرغ له يستحق من النقد والتنويه
وقد تشعب الجدل بنا في تفصيلات وجزيئات لا مجال لإعادة الحديث فيها بعد هذا الأمد الطويل، فأحب أن أرد المسألة إلى أصلها الواحد الكبير لتكون لدى القراء منها صورة كلية يشارك في دراستها من يشاء
المسألة في صميمها تتلخص في كلمات:
أمن الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة. وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود؟
أما أن فلا أتردد في الإجابة بالنفي على هذا السؤال، فأنا لا أثق بالذهن كل هذه الثقة، ولا أعتقد أنه ينهض وحده لحمل هذه الأمانة؛ وإنما قصاراه في هذا المجال أن يكون منفذاً واحداً من منافذ العقيدة إلى النفس الإنسانية - وليس هو مع ذلك أقرب المنافذ ولا أصدقها - وإنه لن يصل إلى شيء يذكر إلا بوحي من البداهة وهدى من البصيرة، البداهة التي تدرك الحقائق الخالدة في هذا الكون منذ النظرة الأولى وبلا فلسفة ذهنية ولا قضايا منطقية، والبصيرة التي تتصل مباشرة بالله فتدرك وجوده إدراكاً كلياً قد يعجز الذهن عنه لو تركنا له وحده المجال. ومن هنا كان (المنطق الوجداني) الذي يعتمد على هذه الحقائق الخالدة، وعلى إدراك البصيرة لها وإقرار البداهة بها، هو الطريق الذي سلكه القرآن في تقرير العقيدة الإسلامية، لأنها (عقيدة)، وكل عقيدة مقرها الضمير الإنساني الكبير لا الذهن(645/12)
البشرى المحدود الصغير
وأما الأستاذ عبد المنعم، فيبدو أن ثقته بالذهن كبيرة إلى حد أن يعهد إليه بالأمر كله، ويأتمنه عليه في النهاية!
على أنه كان يكون هناك محل للجدل، لو أنني أخرجت الذهن كلية من المجال، ولكنني لم أرد هذا، وليس في كتابي ما يدل على أنني أردته، وقد نقلت منه في كلماتي الماضية نصوصاً كثيرة، ثم قرأه الكثيرون أيضاً، ولست أعتقد أن أحداً من القراء قد فهم أنني أطرد الذهن من الحلبة؛ إنما أنا أضع الذهن في مكانه المناسب، فلا أغفله إغفالا في مجال العقيدة، ولكنني كذلك لا أتجاوز به هذا المكان المحدود
وأحب أن أصحح هنا وهماً صححته من قبل في الكتاب في هذه الفقرات:
(كانت وظيفته القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة - عقيدة التوحيد - وموطن العقيدة الخالد هو الضمير الوجدان - موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.
(وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام بعد ما فتن الناس بآثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة فيؤمن بها، ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته عل قواعد المنطق الذهني أن التجريب العلمي!
(إن هؤلاء - في اعتقادي - يرفعون الذهن إلى آفاق فوق آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعو إليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن، و (المحسوس) في تجارب العلم، وليس كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشئون الكبار).(645/13)
والأمر الذي أريد أن أقرره، وأصحح به وهماً قد يرد على بعض الأذهان: هو أن العقيدة أكبر من الذهن، فلا يعيبها ألا تعتمد على الذهن وحده، وأن يكون لها منافذ إلى الضمير الإنساني غير هذا الذهن المحدود.
ولم يفتني أن أشير إلى هذا في ختام الفصل الذي عقدته في الكتاب تحت عنوان (المنطق الوجداني) فقد جاء فيه:
(لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لو اتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا يثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائماً في أفق أعلى من هذه الآفاق. وما يعيب العقيدة أن يكون عمل الذهن فيها ضئيلا. فما الذهن إلا قوة صغيرة محدودة، تتعلق باليوميات، وما هو بسبب من اليوميات)
والذي أعتقده أن (المجهول) قسط أساسي من بناء كل عقيدة - ومن عقيدة الإسلام بالطبيعة - وحين تخلو العقيدة من روعة المجهول تستحيل رأياً، ولا تملأ جوانب النفس الإنسانية جميعاً.
وما دامت للمجهول حصته في العقيدة، فهناك مجال لغير الذهن بكل توكيد. والعقيدة - أية عقيدة - كلٌّ لا يتجزأ في داخل النفس، وإن تجزأت قضاياه وتعددت أمام الذهن. والشك في قضية منها معناه تخلخل جميع قضاياه
ويجهد الذهن ما يجهد في فلسفة العقيدة فيكون له هذا، ولكن بعد أن تكون العقيدة قد استقرت في الضمير، وسلكت إليه طرائق شتى ليس الذهن إلا واحداً منها، لم يكن ذا أثر حاسم ولا أثر ظاهر في عملية البناء.
وإنه لحسب الذهن أن تكون وظيفته هي تفسير هذه العقيدة بعد بنائها. تفسير ما يستطيع تفسيره منها، أما ما لم يستطع، فليقف على أبوابه هناك، فقد استلهمته النفس من منافذها الأخرى التي لا شك فيها
أما الاستدلال بالآيات التي استدل بها الأستاذ على أن الذهن هو محور الإثبات فيها، فلا أزال فيه عند رأيي الذي أبديته: وهو أن القرآن كان أعرف بالنفس الإنسانية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الآيات سياقته لها، بل تركها في إجمالها الذي يخاطب قوى النفس جميعاً، ولا ينفرد بالذهن المحدود في نقاش جدلي قابل للردود الجدلية على طريقة الذهن(645/14)
المعهودة. . .
على أن هناك واقعة تاريخية لا سبيل إلى الجدل فيها: هي أولئك الذين آمنوا، أو كثرتهم التي لا يتخلف عنها إلا أفراد. وهؤلاء لم ينتظروا من يفلسف لهم الأدلة، حتى يؤمنوا بالمنطق الذهني؛ إنما هم استراحوا إلى نصوع هذه العقيدة ونفاذها إلى نفوسهم من شتى منافذها، فآمنوا مطمئنين!
أما القضية الأخرى التي يجادلني فيها الأستاذ، فهي قضية التصوير الفني في القرآن. . . وهي أيسر وأوضح من القضية الأولى
فأما أنا، فرأيي أن إدراك التصوير القرآني في هذا المستوى المعجز إدراك لسر الإعجاز في تعبير القرآن.
وأما هو، فيرى ألا أذكر كلمة الإعجاز هذه، لأن هذا السر يجب أن يبقى مجهولا أبداً حتى يتحقق له وصف (الإعجاز)
ولقد قلت من قبل، وأكرر اليوم: إنه ليس من الحتم أن يكون الأمر المعجز هو المجهول السر، فيكفي ألا يستطيعه أحد مع
التحدي. ولم يستطع أحد أن يرقى إلى مستوى التناسق الفني في هذا التصوير، فإدراكه إدراك لسر الإعجاز - على الأقل في هذا الأوان، وليس ما يمنع من ظهور أسرار أخرى غير ما ظهر منها حتى الآن -
على أنني كنت دقيقاً في التعبير، فلم أقل سر الإعجاز في (القرآن) إنما قلت: سر الإعجاز في (تعبير) القرآن. وفرق كبير ما بين العبارتين. فالإعجاز في القرآن شائع، وشامل لتعبيره ومنحاه وقضاياه. . . الخ
غير أن العجيب في الأمر أن الأستاذ عبد المنعم الذي يريد أن يعهد إلى الذهن البشري بقضية العقيدة كلها، لا يأتمن هذا الذهن على إدراك سر من أسرار الإعجاز في تعبير القرآن.
وكلمة أخرى تتصل بالجدل وإن تكن ليست منه:
لقد شكا الأستاذ عبد المنعم من عبارات جاءت من غير قصد في ردودي، فأحب ألا يكون في نفسه منها أثر، ليظل هذا الجدل العلمي المفيد بعيداً عن جميع المؤثرات(645/15)
وبدوري أشكو إليه كلمة ظالمة قالها عن كتابي، تاركا ما عداها مما لو رحت أعده عليه، لأربي على مواضع عتبه:
هذه الكلمة الظالمة هي أن يقرن بين بعض عملي في (التصوير الفني في القرآن)، وبعض عمل المرحوم الأستاذ (الرافعي) في (إعجاز القرآن)، وإنه ليعلم، وقراء الكتابين يعلمون أنه ما من نقطة ارتكاز واحدة بين النهجين والطريقتين. بل لقد قرر بعض النقاد المنصفين أن طريقتي في عرض الجمال الفني في القرآن غير مسبوقة في كل ما كتب عن هذا الموضوع الخالد على الزمان
وكل ناقد منصف عليه أن يسجل أولا هذه الحقيقة. ثم ليكن له رأيه في نقد هذه الطريقة وعيبها كما يريد؛ فهي قابلة للنقد والعيب ككل عمل إنساني في الوجود.
وعلى أية حال فللأستاذ عبد المنعم شكري الخالص، وإليه ثنائي الجم الذي أحسب القراء يشاركونني فيه، لإخلاصه فيما كتب وسلوكه طريق النقد الصحيح.
سيد قطب(645/16)
من التاريخ الإسلامي
رجل وامرأة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه وربما كان صحيحاً هذا الذي
يقولون)
(ع)
كان ذلك في يوم من أيام سنة 607هـ وكانت دمشق تصارع دهرها الغاشم الحرون، الذي رمى بلاد الشام بقاصمة الأصلاب: الصليبيين، فنزلوا على مدنه نزول البلاء، وفشت أجنادهم في نابلس وعكا وبلاد أخر فشو الطاعون، وكان صبرها يزيد كلما زاد الكرب، وحزمها ينمو كلما نمت المصيبة، شأن دمشق في كل عصر. وكأن طوفان المغيرين يمتد ويتسع، يحمل الموت والدمار، يأتي على البلاد والعباد، يجتث الحضارة من أصولها، وأهل الشام ينهضون له فلا يملكون له دفعاً، حتى كادت الديار تخلو من شبابها، ولا يبقى فيها إلا شيخ أو امرأة أو صبي. . . أو قَعدي نسى واجب الجهاد!
. . . وقد ذهب فيمن ذهب اخوة (ميسون) الأربعة، وبقيت من بعدهم وحيدة في دارها لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى اخوتها
أصبحت ميسون مهمومة، قد تقاسم فكرها العزيزان: وطنها وإخوتها، فما تدري ماذا جرى لهم، وماذا يجري عليه، ولقف
سمعُها طرفاً من أحاديث المارة، فعلمت أنه قد اشتد الخطر، ودنا الهلاك، وأن هؤلاء (الواغلين. . .) لا يفتأون يركبون جناح الليل الأسود، إلى شاطئ فلسطين، تحملهم المواخر الهاربة من عين الرقيب، المتسللة من وراء الحرس، فكلما دجا الظلام نزلوا إلى الشط أفواجاً فكانوا للغاصبين عوناً، وعلى أهل البلاد حرباً، وجعلت تفكر في هذه العصبة المجاهدة الكريمة، ماذا تستطيع أن تصنع لها؟ وكيف توقد النار في أعصاب هؤلاء الذين لا يزالون يروحون ويغدون على متاجرهم وأعمالهم، ويأخذون حظوظهم من مفاتن الطبيعة وجمال الكون، وتنسيهم ملذات أجسامهم ومرابح تجارتهم، وهذا الخطر الذي عم البلاد،(645/17)
والذي طال الزمان به، ونشأوا عليه، فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد، وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء (الواغلين. . .) ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا نؤمل لها رجعة، كيف لها وهي الفتاة المفردة بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تفهم هذه الشخوص التي تجئ وتذهب كشخوص من ورق في ألعوبة (الكراكوز)، أن الحياة ليست بطناً يملأ، ولا شهوة تقضى، ولا مالاً ينال، ولكن الحياة المجد والتقى، وجلائل الأعمال، وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي، وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين (واغل. . .) واحد من هؤلاء فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟
وأنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي اخوتها الأربعة. . .
صعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن، وقلبها الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر، وخلال غبار المصيبة، يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها فلتطلب ثأر وطنها واخوتها، ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع، تقرع أذنه بالرعود فيفيق أو ينام إلى الأبد. . .
وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيد الذي يفل الجيوش، ويدك الحصون؛ وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلا يغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان!
وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها لم تجد لها في الأرض قريباً، ولا ذا رحم، فقطعت أسبابها من الأرض ثم وصلتها بالسماء، فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية، اصطفتها من دون الناس، لتعلم، وهي الفتاة الغريضة الناعمة، لتعلم هؤلاء الرجال، الرجولة كيف تكون! ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر، وهي تمر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام، إن هذا هو سلاحها،(645/18)
لتشدن الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء، لتجعلن من ضعفه قوى تأكل القوى.
وذهبت فنادت جارات لها كن يقتدين بها، ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في اخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مصعدة، حتى سمت إلى فلك التضحية ونسيان النفس ورفعتهن معها، حتى إذا استوثقت منهن، قالت: إننا لم نخلق رجالا نحمل السيوف، ونقود الخميس، ولكنا إذا جبن الرجال لم نعجز عن عمل، هذا شعري أثمن ما أملك أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات.
وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه ليوم الكريهة، لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف، ولا لليلة العرس.
أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب (الجامع الأموي) سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفذ منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله، وينظر بعضهم في وجوه بعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم. . .
خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول، فيقذف به على لسانه، ولم يستطيع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح قد ذابت كلمتها في معانيها، ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كل عصر مرة، لسان محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامة من الكرامات، وواحدة من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر. . . وإنما حفظوا منها جملاً، نقلوها إلى لسان الأرض، فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. . وكان مما حفظوا:
(يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم، ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادكم بالحق أقطار الأرض، وحكموا هم(645/19)
بالباطل في ديارهم وأوطانهم!
يا من باع أجدادهم نفوسهم من الله بأن لهم الجنة، وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة!
يا أيها الناس:
ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين يا ويحكم أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم؟ مرأى عدو الله وعدوكم، يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويتعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟
أما يهز قلوبهم، وينمي حماستكم، وأن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟! أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي! والمسلم يعين المسلم! والإنسان يرحم الإنسان! فمن لم يهب لنصرة فلسطين، لا يكون عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً!
أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟
يا أيها الناس، إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وأذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل! يا نساء بعمائم ولحي! أو لا. . . فإلى الخيول. وهاكم لجمها وقيودها. . .
يا ناس. أتدرون مم صنعت هذه اللجم والقيود؟
لقد صنعها النساء من شعورهم لأنهن لا يملكن شيئاً غيرها، يساعدن به فلسطين. .
هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله، وفي سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها فخذوها فاجعلوا ذوائب لكم وضفائر. . . إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور!
وألقاه من فوق المنبر على رؤوس الناس، وصرخ:(645/20)
(تصدعي يا قبة النسر، وميدي يا عَمَد المسجد، وانقضي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم. . .)
فصاح الناس صيحة ما سمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت!
بلغت الحياة هذه القلوب فعاشت بحمية الإيمان، وحماسة الشرف، وعاش فيها إرث الجدود، فهبت دمشق، يستبق رجالها في طريق الجهاد، وتوالت الإمداد على الملك المعظم في نابلس، ونابلس دائماً مطلع شمس النصر، ونابلس دمشق فلسطين، وكانت هجمة الأسود على الأعداء (الواغلين. . .) فطردوهم حتى التجئوا إلى عكا، فحاصروهم فيها حتى أشرفوا على الهلاك، فاستسلموا. . .
وكذلك جاء النصر على يدي رجل وامرأة، وأما الرجل فقد أكرمه الله فجعله أحد العظماء الخالدين، وأما المرأة فقد كافأها فرد عليها اخوتها الأربعين سالمين مظفرين، لم يصبهم سوء. . .
وعلمت الدنيا أن أتباع محمد، لا يذلون ولا يستعبدون، ما بقي فيهم رجل واحد، أو امرأة مفردة، طوت صدرها على إيمان صحيح، وأنهم قد ينامون ولكنهم لا يموتون، وأن (الواغلين. . .) عليهم، في فلسطين وغير فلسطين قد يقيمون حيناً ولكنهم لا يستقرون ولا يملكون!
علي الطنطاوي(645/21)
من محاسن التشريع الإسلامي
المساواة في التكليف والأحكام
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 3 -
أحكام الشريعة الإسلامية، وتكاليفها مبينة على مبدأ المساواة، كلف بها الأفراد والجماعات بلا تمييز: فأحكامه، وعقوباته، وحدوده لا يستثني منها غني واسع الثراء، ولا أمير عريض الجاه، ولا خليفة تدين له الخلائق بالطاعة والأمتثال، فالمسلمون كلهم متساوون في الحقوق والواجبات، وفي التكليف والأحكام والقوانين، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، تقرر هذا المبدأ من يوم أن بزغت شمس الإسلام، وسطع النور المحمدي، منذ نيف وثلاثة عشر قرناً ونصف
وهنا تغلبنا الدلائل والشواهد كثرة، لذلك سنجتزئ بذكر بعضها فنقول:
1 - من أصول التشريع الإسلامي - وهو من مميزاته كذلك - اعتبار النصوص الشرعية موجهة إلى الأمة كلها، ما لم يدل دليل على الخصوصية، ومن قواعد أصول الفقه عدم الخصوصية في الأحكام التكليفية.
2 - صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه وضع هذا الأصل، وأقره عملا وقولا، ودعا أمته إلى الأخذ به وعدم التهاون فيه فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام دعا الأعرابي الذي خدشه غير متعمد، فقال له: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي، ما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير.
وفي خطبته في حجة الوداع عرض لبعض ما كان يقترف في الجاهلية، فحكم بأنه موضوع بالنسبة لجميع المسلمين، وخص بالذكر ذوي القربى لإدخالهم في الحكم الذي يؤخذ به الجميع، حتى لا يتوهم أن لهم مزية على من سواهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)، وخرج مرة في مرض موته، فكان مما كلم به الناس قوله: (أيها الناس، من كنت جلدت له(645/22)
ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء، فهي ليست من شأني).
ومن ذلك أن الربيع بنت النضير لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص. فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيعّ أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال: يا رسول اللَّه: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية الربيع، فقال الرسول: كتاب الَّله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الَّله حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به
كذلك نسوق إليك قضية، هي أروع ما يذكر في هذا الباب: قضية المرأة المخزومية التي سرقت حليا في زمن رسول الله، وكانت من بيت مجادة وشرف، فلما أراد الرسول إقامة الحد عليها عظم ذلك على المهاجرين، وقالوا من يشفع لها عند رسول الَّله؟ فقالوا من يشفع إلا أسامة بن زيد حِبْ رسول الَّله، فتكلم أسامة مع الرسول، فغضب وقال له: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
(ج) حدثنا التاريخ أن محمد بن عمر بن العاص زمن ولاية أبيه على مصر - كان يجري الخيل، فنازعه أحد المصريين السبق، فغضب، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها، وأنا ابن الأكرمين، فقدم المصري إلى الخليفة عمر يشكو، قال أنس بن مالك روى القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس. . . ومضت فترة، إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه، فقدما ومثلا في مجلس القصاص، فنادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة، فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: أضرب ابن الأكرمين، ثم قال: أجلها على صلعة عمر، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. . . قال عمروفزعاً: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت؛ وقال المصري معتذراً: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني. . . فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمر ومغضباً، وقال له تلك الكلمة الخالدة: (يا عمر، متى(645/23)
تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟).
(د) كذلك حدثنا أن جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان حج بعد إسلامه، فبينا هو يطوف بالبيت يجر ثوبه - وطئ رجل من فزارة ثوبه، فلطمه جبلة فهشم أنفه، وكسر ثناياه، فأستعدى الفزاري عليه عمر بن الخطاب، فقال له عمر: إما أن يعفو عنك الفزاري، وأما أن يقتص منك. فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ما كنت أطن إلا أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة حرص عمر على القصاص، قال: أنظر في أمري الليلة؛ ورحل بليل بخيله ورواحله ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر، ومما يعزى إليه قوله في ذلك سادما:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تَكَنَّفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ولا يخل بمبدأ المساواة تخلفها في بعض حالات قليلة محصورة لوجود مانع جبلي أو شرعي، ولحكم ومصالح تقتضي ذلك - على ما هو مبين في موضعه من كتب الفروع كعدم مساواة المرأة للرجل في استحقاق النفقة عليها، وعدم مساواته لها في حسانه الأولاد، وعدم مساواة المرأة للرجل في تعدد الأزواج وفي مقدار ما يورث.
بهذا المبدأ العظيم عزت نفوس المسلمين في صدر الإسلام، وسمت هممهم، وعظمت أخلاقهم، وبرزت فيهم قوة الشخصية والمواهب، ونجم فيهم رجال قادوا الأمة الإسلامية إلى أوج المجد والرفعة، وساسوا العالم كله بالقسط والمعدلة، والرفق والمرحمة، وتلك هي روح الإسلام التي بها دخل الناس في دين الله أفواجا، وكانوا له حماة وأنصار: (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب(645/24)
جيوردانو برونو
لألفرد فيبر.
للأستاذ عبد الكريم الناصري
ولد جيوردانو برونو في مدينة (نولا) - القريبة من نابلي - سنة 1548. وقد أنضم في صباه إلى الأخوة الدومنيكية؛ ولكن شغفه العميق بالطبيعة، وتأثره بكتابات (ليقولا الكوسيّ) و (ريموند لولوس) و (تيلسيو) سرعان ما حولاه عن حياة الرهبنة وعن المذهب الكاثوليكي. ثم ذهب مطوفاً في الآفاق، فزار جنيف وباريس ولندن، وزار ألمانيا فشرّق فيها وغرّب. ولكن البروتستانتية لم تقنعه أكثر مما أقنعه مذهب آبائه. وعند عودته إلى إيطاليا ألقى القبض عليه بأمر من محكمة التفتيش، وسجن عامين، ثم أعدم حرقاً في روما.
كان برونو أول ميتافيزيقي - في القرن السادس عشر - قبل نظرية مركزية الشمس بلا تحفظ. وكان ينظر إلى أفلاك أرسطو وتقسيماته للعالم على أنها محض أوهام. فليس للمكان مثل هذه الحدود التي رسمها له أرسطو، هذه الحواجز المنيعة التي تفصل عالمنا عن ملكوت علوي خاص بالملائكة، والأرواح المحضة، والكائن الأعلى. ما السماء إلا الكون الذي لا حد له، وما النجوم الثوابت إلا شموس تحيط بها كواكب سيارة، ترافقها توابع أو أقمار. والأرض كوكب من هاته الكواكب، ليس غير، فما تشغل مكاناً مركزياً ممتازاً في السماء. ومثل ذلك يقال في شمسنا، لأن الكون نظام من أنظمة شمسية.
وإذا كان الكون غير متناه فينبغي أن نقول: إنه لا يمكن أن يكون ثمت لا نهايتان؛ ولكن وجود العالم لا يمكن أن ينكر؛ إذن فالله والكون شيء واحد. وبرنو - لأجل أن يتخلص من تهمة الإلحاد - يميز بين الكون والعالم: فالله، أو الوجود اللانهائي، أو (الكون)، هو مبدأ (العالم) أو علته السرمدية: هو الطبيعة الطابعة (أو الطبيعة مصدراً أما العالم فهو كلية معلولات الله أو ظواهره: هو الطبيعة المطبوعة (أو الطبيعة معلولا وفيلسوفنا يرى أن من الإلحاد أن يعتبر الله والعالم شيئاً واحداً، إذ ليس العالم إلا مجموع الكائنات الفردية، والمجموع ليس بكائن، وإنما هو لفظ فحسب. فأما اعتبار الله والكون شيئاً واحداً فليس بإنكار له، وإنما هو، على الضد من ذلك، تعظيم له، لأنه توسيع لفكرة الكائن الأعلى إلى ما وراء الحدود التي يفرضها عليه هؤلاء الذين يتصورونه كائناً (بجانب) الكائنات الأخرى:(645/26)
أي كائناً محدوداً. ومن هنا كان يحلو لبرونو أن يدعو نفسه (فليوتيوس) أي (محب الإلهي)، إرادة أن يميز في وضوح بين تصوره لله وبين الإلحاد. بيد أن هذه الحيطة لم تجده نفعاً، ولم تفلح في تضليل قضاته.
والواقع أن إله برونو لا هو خالق العالم بل ولا هو محركه الأول؛ وإنما هو (نفس العالم). إنه ليس علة الأشياء المتعالية والموقتة؛ وإنما هو - على حد تعبير اسبينوزا - علتها الحالة أي الباطنة. إنه مبدؤها المادي والصوري معاً؛ إنه المبدأ الذي يحدثها وينظمها ويحكمها (من الداخل نحو الخارج). إنه بالإيجاز جوهرها السرمدي. إن الموجودين اللذين يميز بينهما فيلسوفنا بلفظي (الكون) و (العالم) ليسا في الحقيقة إلا شيئاً واحداً، يعتبر حينا من مقام (الواقعية) (بالمعني المدرسي) وحيناً من مقام (الاسمية).
فالكون الذي يحوي ويحدث جميع الأشياء ماله من بداية ولا نهاية؛ أما العالم - أي مجموع الموجودات التي يحولها ويحدثها - فله بداية ونهاية. ههنا - إذن - تحل فكرة الطبيعة الضروري محل فكرة الخالق والخلق الحر، وتعود الحرية والضرورة لفظين مترادفين ويرجع الوجود والقدرة والإرادة في الله فعلاً واحداً لا يتجزأ.
وإبداع العالم لا يكيف (الكون الإله) على أي نحو من الأنحاء، وهو الكيان الواحد الثابت السرمدي اللامتناهي، والممتع على القياس والمقارنة. فإنه إذ يفض نفسه يحدث مالا عداد له من الأجناس والأنواع والأفراد، وملا نهاية له من شتى القوانين والنسب (التي تقوم حياة الكون وعالم الظواهر) من غير أن يصير هو نفسه جنساً أو نوعاً أو فرداً، أو يخضع لأي قانون من القوانين، أو يدخل في أية نسبة من النسب. إنه وحدة مطلقة لا تقبل الانقسام، ولا شأن لها بالوحدة العددية. إنه في كل شيء وكل شيء فيه. وليس من موجود إلا ويحيا ويتحرك ويتقوم فيه. إنه حاضر في سنبلة القمح، وفي حبة الرمل، وفي الهباءة التي تسبح في شعاع الشمس، كما هو حاضر في (الكل) الذي لا حد له - لأنه لا يقبل الانقسام. وحضور (الواحد) اللانهائي في كل مكان، وحضوراً جوهرياً طبيعياً، يفسر - وفي الوقت نفسه يهدم - الاعتقاد الديني بوجوده الفائق الطبيعة في (الخبز المقدس)، هو الاعتقاد الذي يعتبره الدومنيكي السابق حجر الزاوية في المسيحية. وبسبب هذا المحضر الحقيقي للكائن اللانهائي في كل مكان، كان كل شيء في الطبيعة حياً؛ في سبيل إلى إعدام شيء؛ وما(645/27)
الموت نفسه إلا تحول في الحياة من شكل إلى آخر. . . إن مزية الرواقيين تستقر في أنهم رأوا في العالم موجوداً حياً؛ ومزية الفيثاغوريين تستقر في أنهم أدركوا ما تتسم به النواميس الحاكمة للخلق السرمدي من الثبات والضرورة الرياضية.
وبرونو يسمى (اللانهائي) أو (الكون) أو (الله) بالمادة أحياناً. وليست المادة عنده (اللاوجود) الذي قالت به المثالية اليونانية وقال به المدرسيون. فإنها عنده غير ممتدة، أي (لا مادية) في ماهيتها، وليست تقبل وجودها من مبدأ إيجابي خارج عنها (الصورة)، وإنما هي بضد ذلك الصدر الحقيقي للصور كلها، إذ هي تنطوي على أصول هذه الصور جميعاً، وتبرزها بالتعاقب. فما كان أول الأمر بذرة يصير ساقاً، ثم سنبلة، ثم خبزاً، ثم عصارة، ثم دماً، ثم نطفة، ثم جنيناً، ثم إنساناً، ثم جثة، ثم يعود إلى الأرض أو الحجر أو ما إلى ذلك من المواد، ليمر بعد بالمراحل نفسها من جديد. وهكذا نجد ههنا شيئاً واحداً يتحول إلى كل شيء، ويبق مع ذلك واحداً في جوهره. ومن ثم تبدو المادة وحدها ثابتة سرمدية، وجديرة بأن تدعى مبدأ. وأنها - وهي المطلقة - تتضمن الصور والأبعاد جميعاً، وتطور من نفسها ما لا حد له من شيء الصور التي تستعلن فيها وتظهر. ونحن حين نقول إن شيئاً قد مات، إنما نعني أن شيئاً جديداً قد ولد؛ فإن انحلال مركب من المركبات معناه تكوين مركب جديد.
والنفس البشرية أعلى ما تتطور إليه الحياة الكونية، فهي تنبثق من جوهر الأشياء كلها، بفعل القوة نفسها التي تخرج السنبلة من حبة الحنطة. على أن لكل موجود في الكون جسما ونفساً، فجميع الموجودات (مونادات) حية يستعلن فيها (موناد المونادات) أو (الكون الإله) في صورة جزئية وهيئة خاصة. والجسمانية هي الأثر الناشئ عن قوة الموناد التوسعية، أو حركته نحو الخارج؛ وفي الفكر ترجع حركة الموناد على نفسها. إن هذه الحركة المزدوجة، من توسع وتمركز، تقوم حياة الموناد. وهو يدوم ما دامت هذه الحركة، ويموت حين تقف، ولكنه يختفي ليظهر وشيكا في صورة جديدة. وعلى هذا يمكن أن يوصف تطور الكائن الحي بأنه اتساع مركز حيوي، وتوصف الحياة بأنها ديمومة الكرة، والموت أنه تقلص الكرة وعودتها إلى المركز الحيوي الذي انبثقت منه.
إننا سنصيب هذه التصورات كلها، وخصوصاً (تطوريّة) برونو، في أنظمة (ليبنتس) و(645/28)
(بونيه) و (ديدرو) و (هيجل) فأن فلسفة برونو تنطوي على أصولها البدائية البسيطة. هذا إلى أن هذه الفلسفة، من حيث هي توفيق بين الوحدية والذرية، والمثالية المادية، والنظر والملاحظة، تعتبر المصدر المشترك للمذاهب الأنطلوجية الحديثة.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(645/29)
4 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ولقد حاول الفرس مراراً الاستقلال عن العرب وطرح حكمهم ودينهم منذ ملكوهم، وقد اختفت هذه المحاولات أولا بعد خيبتهم فيها - كما قدمنا - ثم عادت إلى الظهور في أواخر الدولة الأموية. والقارئ لتاريخ عمر وعثمان وعلي والدولة الأموية في الكتب المبسوطة كتاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري والكامل لابن الأثير وكتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون وغير ذلك تهوله كثرة انتفاضات الفرس على العرب في البلاد الفارسية، ومما يدل على أن الاستقلال كان وسواسا لازبا في عقول سادة الفرس.
وما أظن أبا مسلم إلا بطلا فارسيا كان يرمي إلى هدم السلطان العربي والإسلام، وما لسبب غير ذلك حول أبو مسلم الملك عن العلويين إلى العباسيين بأن العلويين أحق منهم بالخلافة مادام الأمر أمر قرابة من النبي. وما ثار بعده تلميذه سنباذ وثارت الراوندية إلا لهذا الغرض، وما أبري البرامكة من الطمع في هذا الاستقلال مما دعا الرشيد إلى نكبتهم، وما استعان العباسيون بهم إلا وهم يحذرونهم، ويتخلصون منهم في الآونة المناسبة، ولا أهملوا العرب إلا بعد أن يئسوا منهم، ومع ذلك قربوا العرب وأنهضوهم حين خافوا نزوات الفرس ليضربوا هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء حذرا من الفريقين. وما كان النزاع بين الأمين والمأمون إلا نزاعا بين الفريقين، ولا كانت استعانة المعتصم ومن بعده بالترك إلا عن سوء ظن بهما معا مما أدى إلى ازدياد نفوذ الترك على نفوذهما.
غير أن الفرس لم ينوا في طلب الاستقلال حتى ظفروا به على يد الدولة البويهية (334 - 447 هـ) فقد أكثر العباسيون طوال القرن الثالث الهجري من إقطاع الفرس ولايات المشرق طعمه لهم ولأخلافهم، وهب دهاة الفرس ينشئون في فارس إمارت وطنية، ولكنهم حينما استعادوا بعض أملاكهم وجدوا الإسلام قد أتى على المجوسية، واللغة العربي كادت تهزم الفارسية، فأنابوا إلى الخلفية لأنه الحاكم الشرعي الذي تحب طاعته، ودعوا إلى نصرته استدراجا للعامة تحت سلطانهم، ومع غلبة الإسلام على مجوسيتهم لم يقض على عصبيتهم، فلما استقلوا بالولايات شرعوا في تجديد لغتهم ونقل ثقافة العربية إليها فنجحوا(645/30)
في تجديدها كثيرا وخابوا في نقل الثقافة إليها لأنها كانت قد انحطت بإهمالها زمنا طويلا.
ولقد كان الفرس البويهيون يحكمون بلاد الخلافة حتى بغداد عاصمة الدولة العباسية.
ويعنينا هنا أمر آخر أهم من كل ما تقدم هو أن العصبية الفارسية حملت الفرس على أن يحافظوا على كل ما هو فارسي، ويؤثروه على كل ما هو عربي ومن ذلك ديانتهم المجوسية القديمة التي تفرقت إلى نحل مختلفة قبل ظهور الإسلام.
ما من شك في أن كثيرا منهم قد دخلوا في الإسلام مخلصين واعتنقوه عن إيمان، واستطاعوا إلى حد بعيد أن يتخلوا عن ديانتهم القديمة، ولكن مما لا شك فيه أن كثير منهم أيضاً أبطنوا المجوسية وأظهروا الإسلام وأسباب ذلك كثيرة لا يعنينا هنا الكلام فيها. وما من شك في أن كثيرين دخلوا في الإسلام مخلصين ولكنهم لم يستطيعوا التخلي عن الميراث الذي تركته في عقولهم الديانة القديمة، وما من شك في أن كثيرا منهم لم يكونوا يؤمنون بالإسلام ولا بالديانة القديمة في قلوبهم ولكنهم تمسكوا بالديانة القديمة لأنها ميراث لهم قديم يدفعهم وقوف العرب بمفاخرهم أمامهم إلى التمسك به، فقد اعتبر العرب أنفسهم جيلا يمتاز على سائر الأجيال، ووضعوا أنفسهم في موضع سام، ووضعوا كل من عداهم في موضع وضيع، وسموا أنفسهم العرب، وسموا كل من عداهم العجم، وأظهروا مفاخرهم يتحدون بها العجم جميعا، وبرز لهم العجم فتحدوهم بمفاخرهم، وكثر احتكاك هؤلاء بهؤلاء في كل مكان وامتدت الملاحاة والمفاخرة حتى عاب العجم على العرب مثلا إمساك خطبائهم بالعصا، ورد ممن كانوا في صف العرب عليهم ذلك فعدوه مفخرة، وكثرت مجالس المناظرة بين العرب والموالي ولا سيما الفرس للأسباب السابقة، ولما كان للفرس من سلطان في أيام العباسيين وكان الفريقان يتبادلان الاحتقار والتفاخر، وظهر ذلك على ألسنة الشعراء والعلماء، فألف كثير من الفرس الكتب في مثالب العرب، وأول من شجع على ذلك الخلفاء والأمراء والعرب أنفسهم، فنحن نعلم أن العصبيات القبلية العربية التي نجح النبي في إسكانها قد بدأت تظهر بعده ولا سيما في الدولة الأموية، واستدعى هذا أن يطلب الخلفاء وأتباعهم من علماء الأنساب تأليف الكتب في مثالب القبائل العربية التي كانت تناهضهم، وكتب المفاخر في مفاخر القبائل التي تناصرها، فلما برزت الشعوبية لمناهضة العربية وجدت في كتب المثالب أصولا تحتذيها في الطعن على العرب متفرقين(645/31)
ومجتمعين، وإنا نجد في كتب التراجم أسماء كتب في مثالب العرب عامتهم أو قبائلهم لكبراء والأدباء والعلماء.
وقد شارك كثير من الشعراء الموالي قومهم في ذكر مثالب العرب والتندر بهم حتى في مجالس الخلفاء والأمراء العرب، ومن ذلك ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني، قال: (دخل أعرابي على مجزاة بن ثور السدوسي، وبشار عنده، وعليه بزة الشعراء، فقال الأعرابي: من الرجل؟ فقالوا: رجل شاعر. فقال أمولي أم عربي؟ قالوا: بل مولي. فقال الأعرابي: وما للموالي والشعر؛ فغضب بشار، وسكت هنيهة، ثم قال: أتأذن لي يا أبا ثور؟ قال: قل ما شئت يا أبا معاذ) فأنشأ يقول:
خليلي لا أنام على اقتسار ... ولا آبي على مولي وجار
سأخبر فاخر الأعراب عني ... وعنه حين تأذن بالفخار
أحين كسيت بعد العرى خزَّاً ... ونادمت الكرام على العقار
تفاخر يا ابن راعية وراعٍ ... بني الأحرار؟ حسبك من خسار!
وكنت إذا ظمئت إلى قراح ... شَرِكتَ الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر الموالي ... وينسيك المكارم صيد فار
وتغدو للقنافذ تَّدريها ... ولم تعقل بدراَّج الديار
وتتشح الشَّمال للابسيها ... وترعى الضأن بالبلد القفار
مقامك بيننا دنس علينا ... فليتك غائب في حرَّ نار
فقال مجزأة للأعرابي: (قبحك اللَّه! فأنت كسبت الشر لنفسك وأمثالك).
ولقد حذا أبو نواس حذو بشار في التعصب للشعوبية والطعن على العرب، وديوانه حافل بالسخر منهم. وما افتتاحه قصائده بمدح الخمردون مناجاة الديار إلا تعصب للشعوبية وليس تجديداً كما زعم أكثر من أرخوا عصره أو كتبوا فيه، فأطنبوا في الإشادة به، وفواتح قصائده تنبئ عن سخره من مناجاة الديار أو بوجه أعم من العرب جميعا، وإليك مثلا من عشرات الأمثلة قوله:
عاج الشقي على ربع يسائله ... وعُجْبتُ أِسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد ... لادر درك! قل لي: (من بنو أسد(645/32)
ومن تميم ومن قيس ولِفٌّهماَ؟ ... ليس الأعاريب عند الله من أحد!)
فقوله: (ليس الأعاريب عند الله من أحد) طعن صريح في العرب جميعا: ولو مضينا في الاستشهاد بشعره على ما تقول لضاق المكان، وما دمنا بصدد الموضوع خاص فلنضرب صفحا عن الشواهد، وحسبنا هذا الشاهد.
فهذا الطعن الصريح وغبره وليد العصبية الفارسية عند أبي نواس ومن عاصره من الموالي، وكان عصرهم عصر انتصار للفرس على العرب، فتمكنوا في التصريح برأيهم حتى في بلاط الخلفاء والأمراء العرب، ووافق ذلك ميلا في مزاج أبي نواس وأمثاله المستهترين الذين لا يحفلون بسنن العرف والأخلاق فجروا في هذا المضمار شوطا بعيدا.
وأصرح من بشار وأبي نواس قول الموبد:
(أنا ابن المكارم من آل جم ... وطالب إرث ملوك العجم
فقل لبني هاشم أجمعين: ... هلموا إلى الخلع قبل الندم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... وأكل الضباب ورعي الغنم)
وقول أبي سعيد الرستمي:
(بهاليل غر من ذؤابة فارس ... إذا انتسبوا لا من عرينة أو عُكْلِ
هموا راضة الدنيا وسادة أهلها ... إذا افتخروا لاراضة الشاة والإبل
ودون أولئك أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي الذي أسلم على يد أستاذه الشريف الرضي فحسن إسلامه، وظل بعد إسلامه حتى مات دون أن يظهر منه ما يدل على حنينه إلى ديانته القديمة (المجوسية)؛ فهو - على الرغم من إسلامه، وصلته القوية بالشريف الرضي - لم ينس أنه فارسي، وأن قومه الفرس كان لهم مجد أعظم حتى من مجد العرب، وأن ليس للعرب فضل إلا الدين، وإليك أبياته المشهورة التي تغنى في زماننا:
(أعجبت بي بين نادي قومها ... (أم سعد) فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي ... فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبا يخفضني ... أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى ... ومشوا فوق رءوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم ... وبنوا أبياتهم بالشهب(645/33)
وأبي (كسرى) على إيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي؟
سورة الملك القدامى وعلى ... شرف الإسلام لي والأدب
قد قبست المجد من خير أب ... وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه ... سودد الفرس ودين العرب)
هذه صورة موجزة للشعوبية وبعض آثارها وأسبابها، ولقد دفعت الشعوبية العجم جميعا ولا سيما الفرس على المحافظة على كل ما تستطاع المحافظة عليه من تراث فارس حتى المجوسية، وقد أشرنا في هذا المقال إلى الصلة بين الشعوبية والمجوسية، وسنفصل إن شاء في المقال الآتي القول في هذه الصلة، والقول في المذاهب المجوسية التي أظهرها الزنادقة أيام المهدي العباسي. وبيان أصولها القديمة عند الفرس القدماء، لنعرف صلة مذاهب الزنادقة المحمرة والمبيضة بالمجوسية القديمة التي دان بها أهل فارس قديما، ثم تفرقت مذاهب مختلفة، وتطورت أطوارا جديدة على يد دعاتهم ذرادشترا وماني ومزدك.
محمد خليفة التونسي(645/34)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 6 -
طرائف مختارة من أدب السجون
- 1 -
كتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد من الحبس:
(. . . إلى أمير المؤمنين، من عبد أوبقته ذنوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزال به الزمان، ونزل به الحدثان، وحلّ به البلاء بعد الرخاء، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهود، وفقد الهجود؛ ساعته شهر، وليلته دهر. قد عاين الموت، وشارف الفوْت: جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك، من موجدتك، وأسفاً على ما حُرِمتُه من قربك. لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وعارية في يدي منك. والعارية لابد مردودة. فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه، وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه؛ فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره. ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله، ولا كان مع ذلك بقاؤه أحب إلي من موافقتك. فتذكر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، وحجب عني فقدك، كبر سني، وضعف قوّتي، وارحم شيبي، وهب لي رضاك عني، ولتَمِل إلي بغفران ذنبي. فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل، ومِن مثلك الإقالة. ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى. فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري، وبراءة ساحتي، ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني، ورحمتك لي. زاد الله عمرك يا أمير المؤمنين، وقدّمني للموت قبلك:
قل للخليفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري ... ش والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير مَنْ ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذين ... رموا لديك بداهيه(645/35)
عمتهم لك سخطة ... لم تُبقِ منهم باقيه
فكأنهم مما بهم، ... أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهمُ ... خلع المذلّة باديه
متفرقين مشتتين (م) ... بكل أرض قاسيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازلٍ كانوا بها ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهُم ... منك الرضا والعافيه
فإذا رضيت فإن أنفس ... هم بحكمك، راضيه
فاليوم قد سلبَ الزما ... ن كرامتي وبهائيه
واليوم قد ألقى الزما ... ن جرانه بفنائية
يا من يود لي الردى ... يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلِّي، وذلّ مكانيه
يكفيك أني مستباح (م) ... معشري ونسائيه
ورزئت مالي كله ... وفدى الخليفة ماليه
إن كان لا يُرضيك إلا (م) ... أن أذوق حِماميه
فلقد رأيتُ الموت (م) ... من قبل الممات علانيه
وفجعتُ أعظم فجعةٍ ... وفنيتُ قبل فنائيه
ولبست أثواب الذلي ... ل ولم تكن بلباسِيَه
وعطبتُ في سخط الإما (م) ... م على رفيع بنائيه
فانظر بعينك هل ترى ... إلا قصوراً خاليه
وذخائراً مقسومة (م) ... قُسِّمْنَ قبل مماتيه
وحرائراً من بين صا ... رخة عليّ وباكيه
ونوادباً يندبْنَني ... تحت الدجى بكنائيه
يا با عليّ البرمكيّ! ... فما أجبت الداعيه
وبكاؤهن وقد سمع ... تُ مقلقَلَ أحشائيه(645/36)
أخليفة الله الرضا ... لا تشمِتَنْ أعدائيه
أذكر عهودك لي وما ... أعطيْتني بوفائيه
أذكر مقاساتي الأمور وخدمتي وعنائيه
ارحم، جعلتُ لك الفدا ... كِبري وشدة حاليه
ارحم أخاك الفضلَ ... والباقين من أولادِيه
فلقد دعوك، وقد دعو ... تُكَ إن سمعتَ دُعائيه
أخليفة الرحمن إنك ... لو رأيت بناتيَهْ
وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه
ومقالها بتوَجع ... وا شقوتا وشقائيه!
مَنْ لي، ولا مَنْ لي ... وقد قصم الزمان قناتيه
وعدِمتُ صفو معيشتي ... وتغيّرت حالاتيه
من لي وقد غضب الزمان ... على جميع رجاليه
يا عطفة الملك الرضا ... عودي علينا ثانيه
- 2 -
وقال مسجون:
إلى فيما نابنا نؤثر الشكوى ... ففي يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجان يوماً لحاجة ... عجبنا، وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا، فجلُّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كان بطيئاً مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
- 3 -
قال علي بن الجهم من قصيدة يذكر محاسن الحبس:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يحمي غيله ... كبراً، وأوباش السباع تردد(645/37)
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتجلي ... أيامه، وكأنه متجدد،
غيَرُ الليالي بادئات عوَدٌ ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حال ومعقب ولربما، ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يوئسنك من تفرج كربة ... خطب أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد
صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنية ... تزري فنعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا يستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه، ولا يزور ويحمد
- 4 -
فعارضه عاصم بن محمد الكاتب لما حبس وقال:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كان سربي مطلقاً ... ما كنت أؤخذ عنوة وأقيد
أو كنت كالسيف المهند لم أكن ... وقت الشديدة والكريهة أغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت ... فيَّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة ... فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه الصديق فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى ... أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخير برهة فكبا بنا ... ريب الزمان وصرفه المتردد
في مطبق فيه النهار مشاكل ... لليل، والظلمات فيه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لرقده ... طعماً، فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني إلى كم أسهرت ... ويقول لي قلبي إلي كم أكمد(645/38)
وغذاي بعد الصوم ماء مفرد ... كم عيش من يغذوه ماء مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجداً ... جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
(يتبع)
صلاح الدين المنجد(645/39)
أشواق. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
أرجعي قبل أن تشيب الأماني ... كرجوع الربيع في الأغصان
صوَّح الزهر، فامنَحيه رُواءً ... وغفا الطير، فانفحيه الأغاني
أنا أحيا على الأماني، ولكن ... أيُّ معنىً لها سوى الحرمان
طال في ظلِّها خداعي، فحسبي ... ذلك العمر في خداع الأماني
نفحة من شذاك. . تعبق نفسي ... وسنىً منك. . تُبصر العينان
وهدىً منك. . تستفيق ضلالي ... وادِّكاراً لذلك النسيان
شاقني وجهك العجيب وما فيه (م) ... من الفيْض عبقريَّ المعاني
أنا من هزَّهُ الحنينُ لِلُقْيا ... يتحدَُّى بها غُرور الزمان
ألحنينُ الذي يزلزل قلبي ... هو منْ ذلك الهوى والهوان
أيُّ لمحٍ ذاك الذي يتجلَّى ... في مُحيَّاك سارياً بكياني؟!
أي ومضٍ ترفُّ عيناك فيه ... فيلجَّ الفؤادُ في الخفقان!؟
أطفئي يا حبيبتي لهب الروح (م) ... وروِّي لواعجَ الظمآن
فيك من سَطوة الجلال أفانين (م) ... أُعاني من أَسْرها ما أُعاني
أُسكبي النور في متاهات نفسي ... وأَجيبي هواتف الوجدان
أنا في رحلتي إلى الغد أسعى ... ويكاد الغد البعيد يراني
قرِّيبه إليَّ. . . رُبَّ زمان ... قد تأبَّى فعاد طَوْعَ بنان
منك شكي، وأنت إيمان قلبي ... ليس للشك روعةُ الإيمان
ابعثي في غدي مسرات أمسي ... وأعيدي شباب هذا المكان
وأجمعي السامر الذي كان يوماً ... بين تلك الظلال والجدران
طاب فيه اللقاءُ فهو صفاءٌ ... ورخاءٌ لخاطري الولهان
كنتِ أنسَ الحياة فيه فلما ... غبْتُ شاهت مجالياً ومجاني
آن أن تُمْلأَ الكؤوس ونُسقي ... ضجت الخمرُ بين تلك الدِّنان
قلَّ منها النصيب إن لم تكوني ... أنت راح الكؤوس والنشوان(645/40)
فرحةٌ في غدي تلوح لعيني ... تلك زاد للمُجهَد الحيران
هو ذاك الغدُ البعيدُ المرجَّى ... رُبَّ ناءٍ محجَّبٍ وهو دانِ
أحمد عبد المجيد الغزالي(645/41)
الأعرابية الكادحة
للأستاذ محمد بهجة الأثري
(قرأت لأعرابية قديمة قولها:
أظل ارعي وأبيت أطحن ... والموت من بعض الحياة أهون
فقرأت في إيجازه البليغ كتاب عيشها المفعم بالكدح والشقاء، وألفيت في وصفها لحياتها وصفاً صادقاً لحياة أعرابية اليوم هزني هزاً فقلت:)
(أظلُّ أرعى وأبيت أطحن) ... ليليَ كَدْحٌ ونهاري شَزَن
يَطْوي حياتي بالشقاءِ الزمن ... (والموت من بعض الحياة أهون)
يا ليت شعري والورى تمتحن ... تسوؤها الأيام ثم تحسن
أكلَّ دهري ارتعي وأطحن؟ ... يُسْلِمُني ذاك لذا ويَقْرِنُ
ما طلعت شمس ووافى مُدجن ... أما بدهري ليَ يومٌ أيمن؟
لا أضطني فيه ولا أمتهن؟ ... أذوق فيه العيش وهو ليّن؟
أَقِيلُ في هجيره وأسكن! ... ويحتويني الليل وهو محسن؟
فيلفيَ الراحة جسمي الضمن؟ ... وتطعم السهاد مني الأجفن؟
لُماظَةً تُريحني يا وسن ... ولَفْتَةً تُسعدني يا زمَن
لم أدر ما العيش ولا ما السكن ... لكنه شيءٌ رَوَتْهُ الألسن
جَهِلتهُ وإن وَعَتْهُ الأذُنُ ... هل لي أن أدري ما لا أزكن؟
سلني عن البؤس، فعندي العلن ... من أمره والباطنُ المكتمنُ
إن فؤادي للهموم موطنُ ... فَهْوَ بها مُحَنَّطٌ مكفَّنٌ
ينحت جنبي الضحى والموْهن ... كأن صرف الدهر بي مرتهن
كم أكلتْ قلبي الرحى إذا أطحن ... وبَتَّ تأوينيَ هذا الشزَن!
عشيري البَهم وداري الدِّمن ... وزاديَ الجشب ووردي الآجن
ثوبيَ أسمالٌ وجسمي دَرِنُ ... أَرْحَضُهُ بعَرَقي فيأْسَنُ
وأرفأ الجيب فيهرا الرُّدُنُ ... لكن عرضي وافرٌ لا يمهنُ
أبيض لم تَلُثْ نقاه الظِّنَنُ ... حَسْبُ الحصان أن تطيب الألسن(645/42)
بها فلا تزُنّها أو تطعن! ... تجوع بنت يَعْرُبٍ وتغبن
وهي على لؤم الزمان تحصِن! ... رجنت يا ليل فلسْت تظعن
قل لي متى أنت بصبح مؤذن؟ ... أأنت دهر في الظلام مُمْعِن؟
أم صبحُكَ المشرقُ يومَ أُدْفَنُ؟!
محمد بهجة الأثري(645/43)
البَريدُ الأدبي
فلسطين والنشاشيبي
أرادت (السياسة) أن تسلها وأن تسميها (فلسطين) فسلتها وسمتها، قالت: هذى (تُخومها) وما شاها القوم في التسمية، وفي غير التسمية، وقالوا: (قضاء من الله العزيز أراده) وفي الضمير أن هذه المدعوة فلسطين تمسي مملكة، وسوف يؤمرون أو يزرون يعودون (يصيرون) أوزارا. قال فريق: هل خلصنا من (اصطنبول) حتى نروح لـ (دمشق) تبعا. وأبى شخص أن يزل وأن يضل فيدين بما دان به غيره، وصاح منذ أول يوم: يا قوم، إن هي إلا أسماء سموها ما أنزل الله والعربية بها من سلطان، وأن وراء الأكمة ما وراءها، فاحذروا ثم احذروا، لا تهتلكوا، لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
أمرتهمُ أمري بمنعرجَ اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وذلك الشخص هو (محمد إسعاف الشناشيبي) وهو على ما عاهد الله عليه، على ما واثق العربية لم يتبدل، ولم يتحول، ولم يقل:
وهل أنا إلا من غزية، إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولن يتبدل، ولن يتحول
يقول العلامة الأستاذ الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب في كتاب (رحلاته) ص 4:
(. . . وبينما نمني أنفسنا بالمبادرة إلى الفندق للاستراحة إذا بوفد من كرام إخواننا المقدسيين ينتظرنا. وأبصرنا في مقدمة لمستقبلين ذلك المحيا المحبوب المعروف أديب العرب إسعاف النشاشيبي. سارع الإخوان إلينا مسلمين وأخبرنا أن حفلا حاشد ينتظرنا في (روضة المعارف) فسارعنا إليها. نضر الله روضة المعارف وبارك في أهلها الأمجاد؛ لقد لقينا من حفاوتهم وإيناسهم ما هو جدير بنفوسهم الكريمة. . . دخلنا الروضة والموسيقى تعزف بألحان مصرية، ولقينا هناك جماعة من العلماء الإخلاء منهم الأستاذ الحسيني المفتي ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، والشيخ الخالدي، ولما اطمأن بنا المجلس خطب مدير الكلية مرحباً معرباً عما يكنه الشاميون (ولا أقول الفلسطينيون إرضاء للحق وللأستاذ النشاشيبي الذي لا يعرف إلا اسماً واحداً الشام لما يسمونه فلسطين وشرق الأردن وسورية(645/44)
ولبنان والعلويين) لإخوانهم المصريين من الحب والولاء والإكبار والإعجاب. . .)
(السهمي)
كيف نحتفظ بأرض فلسطين لأهلها
ذكر الأستاذ الكبير إبراهيم عبد القادر المازني في مجلة الرسالة الغراء أنه يجب أن تقاطع التجارة الصهيونية حتى تكف عن أطماعها في فلسطين، وإني أضيف إلى ذلك وسيلة أخرى لها شأنها في قطع أطماع الصهيونية، وهي أن يقوم كل فرد من أهل فلسطين بوقف ما يملك من عقار وقفاً أهلياً أو خيرياً، حتى لا يصح فيه بعد ذلك بيع أو شراء، وتقوم دول الجامعة العربية بدفع نفقات تسجيل تلك الأوقاف لكل فرد، وبذلك تنقطع أطماع الصهيونيين في ملك تلك الأراضي، فلا يهاجرون إلى فلسطين لتملكها، ويستقر أهل فلسطين في بلادهم فلا يبيعون ما يملكون فيها ويهاجرون عنها، وإذا كان الوقف الأهلي بعض مضار، فإنها لا تذكر بجانب حفظ أرض فلسطين لأهلها، وقطع أطماع الصهيونيين فيها.
عبد المتعال الصعيدي
على هامش الأدب الحجازي
فيما كتبه الأخ الأستاذ إبراهيم فلالي وفيما سطره الأستاذ الفاضل أحمد أبو بكر إبراهيم من حديث عن (الحياة الأدبية في الحجاز) ما يعطي صورة مصغرة عامة عن الأدب الحجازي، ولكن لا يجوز لنا بحال أن نتخذها مقياساً صحيحاً لما هو عليه الأدب الحجازي اليوم
فالأول، وهو حجازي، قد سرد علينا قصائد ومقطوعات من هذا الشعر في عجلة وبلا تحليل فني يرتكز إليه القارئ المدقق، وقد اغتفرنا له ذلك حملا على أنه في مجال عرض لقضية الأدب الحجازي يستدعيه السرعة والارتجال، وهو اغتفار - كما ترى - لغير النقد والمناقشة، إذا كان الأقمن به أن يقتصر على بعض النماذج التي سردها مع تبيين القيمة الفنية لها
أما الآخر، وهو مصري كريم، فقد أبت عليه أريحيته المشكورة إلا أن يعرض للأدب الحجازي منذ أدواره الأولى في تعمق وفلسفة، حتى الدور الذي يتمثل جله في مجموعة(645/45)
(وحي الصحراء)، فساق حديثاً عذباً طلياً، إلا أنه انتهى إلى قوله: (ولا ضير علينا بعد الذي فصلناه في باب الشعر أن نقرر أن الشعر الحجازي قد تقدم في هذه الفترة القصيرة في أغراضه ومعانية، واستطاع أن ينأى بالتلاعب بالألفاظ وألوان الزينة، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول: إن الحجاز مهد الأدب شعره ونثره لا يزال يتطلب من شعرائه المزيد، وبخاصة فيما يختص بقوة الأساليب ورصانتها، فإن الكثير منهم مع إجادته لا يهتم أحياناً بجزالة الأسلوب ورصفه، شأنه في ذلك شأن شعراء المهجر. . .) هنا تختلف نظرتنا، ولسنا متشيعين - عن نظرة الأستاذ الكريم، ولكن للأستاذ العذر، فلو قد له الآن - لا منذ صدور وحي الصحراء - أن يدرس شاعراً كالفقي أو قنديل أو شحاتة أو عواد مثلا، أسوى هؤلاء من شعراء الشباب في الحجاز - متوفراً على استيعاب أكثر شعر الشاعر الحديث، متذوقاً أسلوبه الرائع الجديد للمس ما يطرب له ويعجب من أصالة الأفكار ونضجها والتماعها، وروعة السبك وزخور الأسلوب بشتى الصور الشائقة الفاتنة، ولكن أنى يتسنى ذلك للأستاذ الفاضل، ونحن لم نر بعد شاعراً حجازياً واحداً قد أبرز ديوانه للقراء، وما أظن ذلك بالعسير لو تضاف أدباء الحجاز على خدمة فنهم، باذلين الجهد في تذليل كل مشقة وعناء ليضموا إلى العربية من كنوز قرائحهم ما تظفر به وتفخر
أما النثر الحجازي، فقد قطع مرحلة بعيد وبلغ مستوى عصرياً عالياً، وليس ببعيد إن شاء الله ذلك اليوم الذي تنتشر فيه صحف الحجاز الأدبية وتتألق فيه كتبه الحديثة ومنتجاته، وحينئذ سيتذوق قراء العربية في الأقطار الشقيقة، ولا فخر، من أدب أخواهم هنا شهداً سائغاً مصفى، يلذ لهم تناوله في فرحة وإكبار وبعد، فلحضرة الأستاذ المفضال أحمد أبو بكر إبراهيم، ولرصفائه من كرماء مصر الحبيبة، ممن يعنون بأدب هاته البلاد، مزيد التقدير والشكر والإعجاب. . .
حسن عبد الله القرشي
عبد الله أبي بكر وهيكل باشا
ذكر الدكتور هيكل باشا في كتابه (الصديق أبو بكر) (الطبعة الثانية صفحة 384) في باب مرض أبي بكر ووفاته: (وضع الجثمان في المسجد بين القبر والنبر، وتولى عمر صلاة(645/46)
الجنازة فكبر أربعاً، ثم نقل الجثمان إلى القبر، ودخل معه عمر وطلحة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله بن أبي بكر أن يدخل، فقال له عمر: كفيت). ومن هذا يفهم أن عبد الله بن أبي بكر قد حضر وفاة أبيه ودفنه، وهذا لم يحدث، والذي منع حدوثه أن عبد الله كان قد توفي قبل ذلك بعامين، وقد ذكرت جميع المظان موت عبد الله في خلافة أبيه، وهاك ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب: (ومات، أي عبد الله بن أبي بكر، في أول خلافة أبيه، وكان قد ابتاع الحلة التي أرادوا دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بتسع دنانير ليكفن فيها، فلما حضرته الوفاة قال: لا تكفنوني فيها، فلو كان فيها خير كفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفن بعد الظهر، وصلى عليه أبوه، ونزل في قبره عمر وطلحة وعبد الرحمن أخوه).
وقد ذكر الدكتور هيكل باشا نصاً في الصفحة السابقة للصفحة التي أورد فيها النص الذي نحن بصدده، لو أنه استقرأه ومحصه قبل أن يثبته لما وقع في هذا الخطأ، فقد ذكر حديثاً على لسان الصديق إلى عائشة أم المؤمنين جاء فيه: (يا بنية، إن أحب الناس غنى إلى بعدي أنت، وأن أعز الناس فقراً بعدى أنت، وإن كنت نحلتك أرضى التي تعلمين، وأنا أحب أن ترديها علي فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله، فإنما هو مال الوارث، وهما أخواك وأختاك، ولم يكن لعائشة غير أخت واحدة فسألت أباها ذلك فقال: (ذو بطن أبنة خارجة، فإني أظنها جارية). وهذا الذي قاله الصديق يدل على أن لعائشة أخوين اثنين لا ثالث لهما هما: عبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن أبي بكر، الذي ولد في حجة الوداع، أما التي كانت حبيبة بنت خارجة بها حامل، فهي أم كلثم، وقد ولدت بعد موت الصديق، فلو كان عبد الله حياً لما قال أبو بكر: (. . . وهما أخواك وأختاك)
وأظن أن الذي أو قع الدكتور هيكل باشا في هذا الخطأ هو أنه وجد النص الآتي في كتاب لطبري: (. . . أن أبا بكر حمل على السرير الذي حمل عليه رسول اللهم صلى الله عليه وسلم، ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله أن يدخل فقال له عمر: كفيت).
هذا ما أورده الطبري، وقد أضاف الدكتور هيكل من عنده ابن أبى بكر بعد عبد الله، فجاء هذا الخطأ، وقد يكون عبد الله هذا الذي ذكره الطبري هو عبد الله بن الزبير حفيد أبي(645/47)
بكر، وهذا يجوز إذا أخذنا بالرأي الذي يقول: إن واقعة اليرموك قد حدثت في أيام عمر، لا في أيام أبي بكر، وعلى ذلك يصح أن يكون عبد الله بن الزبير في المدينة لم يخرج مع أبيه بعد إلى اليرموك ليشاهد قتال الروم عن كثب، وإلا فإن عبد الله الذي ذكره الطبري هو أي عبد من عبيد الله خلاف ابن أبي بكر الذي كان قد قبر قبل ذلك بعامين
عبد الحميد جودة السحار
جائزة فاروق الأول للصحافة
كان الأستاذ ادجارجلادبك صاحب ومدير سياسة (الجورنال ديجيبت) قد تبرع بستة آلاف جنيه ترصد فائدتها لإنشاء جائزة سنوية باسم (جائزة فاروق الأول للصحافة)، وتمنح للصحفيين في البلاد العربية الذين لا تزيد سنهم على ثلاثين سنة والذين يتفرقون في مهنتهم
وقد تقرر توزيع ربع هذا المبلغ في هذه السنة وقدره ثلاثمائة جنيه على ثلاثة جوائز على الوجه الآتي:
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد كتب أحسن مقالة في موضوع وطني.
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد قام بأوفى تحقيق صحفي في موضوع عام
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد كتب أحسن مقالة بلغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية) في موضوع شرقي.
ويجب أن تكون هذه المقالة قد كتبت في المدة من 11 فبراير سنة 1945 إلى أول يناير سنة 1946
ويرسل منها ثلاثة نسخ إلى إدارة (الجورنال ديجيبت) بالقاهرة وستؤلف لجنة من كبار الصحفيين للحكم في هذه المباراة، وتعلن النتيجة في 11 فبراير سنة 1946 يوم عيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول ملك مصر. وحكم اللجنة غير قابل للاعتراض
مجلة (الكتاب):
صدرت هذه المجلة الشهرية عن دار المعارف بالقاهرة يتولى رياسة تحريرها الأستاذ عادل الغضبان، ويعاونه في ذلك بعض الأقلام البارعة في الأدب والفن. وهذه المجلة مثل(645/48)
عال للصحافة الشهرية في جمل التبويب وحسن الترتيب وطرافة المادة وأناقة الطبع. فرحب بالزميلة الجديدة ونرجو لها التوفيق في خدمة العربية والعروبة.
1 - تصويب
وقع مقالة (دفاع عن الأدب) تطبيعات هذا تصويبها:
صفحة عمودسطرالتطبيعالصواب
1111 220ويغرفواويعرضوا
1112 1 27 من مجالستهممن مجالستهم (أو) بمجالستهم
2 - الجيل
جاء في إحدى حواشي مقالة الزندقة (العدد 641) أن الجيل الأمة، وليس معناه العصر. وإطلاق النفي يوهم أن الجيل بمعنى القرن لا أصل لها، مع أنها قد جاءت في التاج في مادة (جيل) ومرت على ألسنة بعض الفصحاء، ولها مواضع لا يصلح لها غيرها.
علي الطنطاوي(645/49)
القصص
من الأدب القصصي الروسي
عمل شاق. . .
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
كانت ليلة من ليالي شهر مارس، والسحب مدجنة مطلخمة، وقد اسبطر الضباب فطوى الأرض والسماء في مطارفه. . حتى لا يكلف المرء نفسه الخطو خيفة العثر. . وهب الحارس فجأة وقد طرق أذنيه لغط وهسيس لبعض من الناس يمضي في مطارب المقبرة. وصاح في هيعة وتحوب (من ثمت يسرى؟). ولكن دون مجيب. . فراح يرجع صيحته قد توجس همساً وهجساً (من ثمت يسرى؟!) فأجاب صوت مختلج لرجل هرم. (أنا ذا. . أيها الرفيق.)
- ولكن من أنت؟!
- أنا رجل جوال.
فصاح الحارس في صوت حاول أن يستر به رنة الفزع التي سرت إليه:
- أي شيطان رمى بك إلى هنا؟! أتجول قدميك في المقبرة ليلا؟ أيها الشرير الخبيث!
- وَىْ! أتقول إن هذه المقبرة؟!
- وما في ذاك؟! إنها مقبرة. . ألا تلمح ذلك؟.
فتنهد الرجل الهرم قائلا: (آه. . يا للسماء. ما أقدر على إبصار شيء أيها الرفيق. . إن الظلمة لحالكة. . الظلمة. . فما يستطيع الإنسان أن ترى يده وهي أمام وجهه!
- ولكن من أنت؟!
- أما قلت لك. . زائر. . أيها الصديق، رجل جوال فنبس الحارس في يقين: (إلى الشيطان. . يالكم من معربدين أيها الجوالون، كل منكم يطل يجرع الخمر، ويأتي إلى هنا يقلق راحتنا ويسبب متاعبنا ليلا. . ولكن. . لقد سمعت أصواتاً تهمس معك فأين أصحابها؟!(645/50)
- إني بمفردي يا صديقي. . إني وحيد. . آه يا إلهي فدنا الحارس من العجوز ووقف إزاءه وسأله:
- كيف حضرت إلى هنا؟!
- لقد ضللت سبيلي يا سيدي بينما كنت أروم طاحونة (ميتريافسكي). .
- وي. . . أهذا طريق طاحونة (ميتريافسكي)؟ أيها الشرير؟ كان ينبغي أن تسري إلى يسارك ثم تدوم سيرك على استقامة. . . يخيل إلى أنك تناولت بعضاً من أقداح الخمر، فتنكبت سبيلك!
- نعم. . . لقد أتت يداي هذه الخطيئة، فما ثمت سبب للإنكار. ولن أعود فأركب هذا المتن الخاطئ ثانية. . . بالله أين الطريق الذي علي أن أسلكه؟
- امض أمامك في هذه المطربة حتى نصل إلى باب المقبرة، فافتحه، وانطلق إلى حال سبيلك. . . حاذر أن تعثر بالخندق فتتردى فيه. . وستلاقي الطريق حيث يمكنك أن تصل إلى الطاحونة إن سلكته.
- اسأل الله أن يسبغ عليك وافر الصحة والخير. . . أيها الرفيق، ويطهرك من ذنوبك برحمته وغفرانه. . . ألا يمكنك أن تصحبني حتى الباب. . . فيضاعف ثوابك، فما أكاد أتلمس طريقي في تلك العتمة. . .
- كأني بك ترى عندي الوقت الذي أضيعه عبثاً في السير معك. . . امض وحدك.
- كن رحيما يرحمك الله. . . فسأصلي من أجلك. إني لا أكاد أرى طريقي فالظلمة حالكة. . . بالله أرني الطريق.
- أيدور بخلدك أن وقتي متسع لصحبتك أيها الشرير الكهل!
- نشدتك الله. . . قدني إلى الباب. . . لا أقدر على أبصار شيء، كما أنني أخشى هذه المقبرة وما يجول فيها من أرواح وأشباح. . . هيا معي يا سيدي. . . بالله رافقني. . .
- ليس سبيل إلى الخلاص منك ومن ثرثرتك، هيا إذاً معي أيها العجوز. . .
ومضى الرج لان متلاصقين في صمت رهيب. . . وهبت الريح صرصراً تصطك منها الأسنان، والأشجار ضاربة في جو السماء تصفر في رهبة كأنها صراخ الجن. . . ويساقط منها الطلل والندى. . . وقد تناثرت في ساح المقبرة المناقع الضحلة. . .(645/51)
وبغتة قال الحارس بعد أن طال أمد الصمت بينهما:
- ثمت شيء يثير حيرتي وتساؤلي! كيف تسنى لك أن تدلف إلى هنا مع أن الباب مقفل؟! أتسلقت الحائط!؟ ما أظن ذلك فأنت هرم، فأنت آخر من أتي هذا العمل!.
- لست أدري! أيها الرفيق. . . لست أدري كيف أتيت إلى هنا. . . لعمري إنها مشكلة. . . رحماك يا رب. . . لا بد أن الشيطان مس عقلي، ألست حارس المقبرة أيها الرفيق؟
- بلى. . .
- أنت وحدك تقوم بحراسة كل هذه المقبرة؟!
وارتفعت حينئذ ريح عاصف كادت أن تنتزعهما من مكانهما فلما هدأت حدتها عاود الحارس حديثه مجيباً:
- إنا هنا ثلاثة رجال: واحد مضطجع في فراشه محموم، والآخر مستغرق في نومه، ونحن الاثنين نتبادل الحراسة. . .
- حسن. . . آه، يالها من ريح عاصف يكاد أن يسمع صفيرها الأموات في قبورهم. . . إنها تزأر كالوحوش الكاسرة. . . آه. . . آه. . .
- ولكن من أين أتيت إلى هنا؟
- كنت عند صديق في إقليم (فولجدا) على مبعدة من هنا. . . إني أتجول من مكان إلى آخر حيث أصلي وأعظ. . . اغفر لي يا إلهي. . .
توقف الحارس هنيهة ليشعل غليونه، وقام الرجل العجوز بينه وبين الريح. . . وأبرق عود الثقاب على المطربة التي يسلكانها واستقر شعاعه على بعض أحجار القبر التي إلى جانبهما؛ فأشعل العود الثاني فتألق ضوؤه ثم خبا على حين فجأة. . . أما العود الثالث فألقى بشعاعه إلى اليمين وإلى الشمال، فتمكن من إشعال غليونه قال الرجل الغريب:
- إن الراحلين راقدون. . . الراحلين الأعزاء. . . أنهم يرقدون سواسية لا فرق بين غني وفقير، حكيم وأحمق، قوى وضعيف، إنهم على حال واحد الآن. . . وكذلك سيمكثون إلى أن ينفخ في الصور وتبعث الأموات من القبور. . . أن هذه الحياة الدنيا لفانية مضمحلة أما الحياة الأخرى فخالدة سرمدية. فقال الحارس في جلال:
- نعم. . . إننا لنسير في هذا المكان الآن، وبعد حقبة تطوينا هذه الأرض فنصبح نسياً(645/52)
منسياً. . .
- لا مجال لريب في ذلك. . . كلنا جميعاً. . . جميعاً إلى هذا المصير سائرون. وليس ثمت من يخلد على أديم هذه الأرض. . . أواه. . . إن أفعالنا لآثمة، وأفكارنا تطمح إلى آمال كالسراب. إن الخطيئة لتسيطر علينا وليس ثمت خلاص من قضاء الله سواء في الدنيا أو في الآخرة. وإني لغارق في خطيئاتي كالحشرة تسعي في جوف الأرض. . .
- أجل. . . ورب منيتك كانت قلب قوسين منك!
- إنك لعلى صواب وحق، أيها الصديق. . .
فقال الحارس وهما يحثان الخطأ نحو الباب.
- إن الموت لأدنى إليكم معشر الجوالين منا نحن من نستقر في الأرض على الدوام!
إن هناك أنواعاً متباينة من الجوالين يا سيدي. فمنهم من أنزل الله السكينة على قلبه، فراح يصلي ويعبد ربه. ومنهم من أصابه الفجور فراح يعربد ويأتي المنكرات وليس له رادع يردعه عن أفعاله. وإن هؤلاء يجولون في المقابر لتتصل أنفسهم بالشياطين.
وهناك من في مقدورهم أن يهووا بفأسهم على هامة رأسك فتخر وقد بت على شفا الموت. . .
- هه. . . عم تتحدث أيها العجوز؟!
- آه. . . لا شيء. . . يخيل إلى أن هذا هو الباب. . . نعم إنه هو. أرجو منك فتحه. . .
فتلمس الحارس طريقه وفتح الباب، وقاد الرجل إلى الخارج من منكبه وقال:
- هذا هو منتهى المقبرة. . . وعليك بالانطلاق عابراً الحقول حتى تدرك الطريق، وحاذر الخندق أن تتردى فيه. وإذا ما لحقت بالطريق العام فانثن إلى يمناك وواصل سيرك حتى تصل إلى الطاحونة التي ترومها. . .
فزفر العجوز بعد فترة صمت:
- هيه. . . ولكن ما الذي يدفع بي إلى الذهاب إلى طاحونة (ميتريافسكي) إني أفضل البقاء هنا على المضي إلى هناك يا سيدي. . .
- وما الذي ترجوه من اللبث هنا؟!
- ستجد مني من يؤنس وحدتك، ويفرج عنك كربك.(645/53)
- العلك رجل لطيف المعشر، حلو النكتة؟!
- بلا شك يا سيدي. . . فستضل تذكرني. . . تذكر ذلك الجوال على الدوام. . .
- ولم تظل ذكرى إنسان مثلك ببالي على الدوام؟!
قال العجز في صوت أصحل ساخر:
- هه. . . اسمع. . . إنك تمعن في الجفاء. . . وأنا أتبسط في الحديث. . . فما أنا بجوال كما أنبأتك!
- إذن من أنت؟!
- رجل ميت لقد خرجت الآن من لحدي. . ألا تذكر (جبرياف) القفال الذي شنق نفسه في عيد (الكرنفال). . . حسن. إنه أنا (جبرياف).
- بالله خبرنا بشيء غير هذا. . .
لم يصدق الحارس لفظة مما قاله العجوز، ولكن سرت قشعريرة الهلع في جسده فراح ينتفض فرقاً. . . ويسرع بالنأي عن الباب، فقبض الرجل الغريب على كتفة وهتف قائلا:
- قف. . . أتمضي وتدعني وحدي أعاني مرارة الوحدة. . . فصاح الحارس وهو يحاول نزع ذراعه من براثن ذلك العجوز:
- دعني أذهبّ دعني أمض بسلام!
- قف. . . إني آمرك بالوقوف، وستقف حتماً. . . لا تناضل أيها الكلب الرعديد. . . إن كنت تبغي الحياة. فقف حتى آذن لك؛ هذا لأني لا أود أن أسفك دماً حقيراً كدمك أيها الخنزير الجبان. . . قف مكانك. . .
وتهاوى الحارس، وقد سرت عنه شجاعته فأغمض جفنيه وراح يرتعد ويرتجف وقد طارت نفسه شعاعاً. . . إنه يستطيع الصياح والاستغاثة ولكن عبثاً يحاول. . . فليس من حي تصل إلى أذنه صيحاته. . .
قام الرجل الغريب إلى جانبه وساعده في ثبات وقسوة. . . وتقضت ثلاث دقائق والكون غارق في صكت رهيب. . . فعاد الغريب يقول:
- واحد مريض محموم، والثاني غارق في النوم، والثالث يلقى الجوالين بجفاء وبرود. . . ألا بالله خبرني يا سيدي الحارس كيف تستحقون مرتباتكم، إنكم كاللصوص ولكن في(645/54)
الخفاء. قف مكانك. . .
انقضت خمس دقائق ثم تلتها عشر والصمت لم ينفك مخيما على المقبرة. . . وعلى حين غرة. . . قطع هذا الصمت صوت صفير سرى في جنح الليل. . . فقال الغريب إثر ذلك وهو يطلق ذراع الحارس: (حسن. . . الآن. . . امض. . . امض، واذكر أن الله يرقب أعمالك الشائنة. . .)
ثم أطلق صفيراً - يشابه سرى مذهنيهة - وانطلق خارجاً من باب المقبرة. . . وسمعه الحارس وهو يجتاز الخندق قفزاً ووقف الحارس هنيهة جامداً لا يتحرك. . . يرتعد فرقاً. . . كأن الغريب ما زال ماثلا أمامه.
ولما انقلب عقبه في المطربة طرق أذنه أصوات لأقدام تتسارع في سيرها، وسؤال يجري على لسان يقول: (أنت (تيموفي)؟ أين (ميتكا)؟) وابتعدت عنه الأصوات فراح يجد في سيره حتى لمح شعاعاً يخفق في الظلام. . . فلما أمعن في الدنو، وضح له الشعاع فراح يردد:
- كأن النور يشع من الكنيسة!. من أين أتى هذا الشعاع يا إلهي. . . فرج كربتي. .
دار الحارس حول الكنيسة حتى وقف أمام نافذة محطمة فراح يحملق نحو المذبح. . . في هلع وفزع. . وكانت هناك شمعة خلفها وراءهم اللصوص تخفق في رهبة، وتلقى الظلال الدامسة في الأرجاء. . . وقلب الحارس طرفه فرأى الخزانة مقلوبة محطمة وقد فتحت على مصراعيها، واختفى ما كان بها من كنوز وأموال. . .
وكذلك ذهبت القرابين وغيرها. . وأدرك الحارس سر ذلك الرجل الغريب الذي راح يداوره ويبعده عن الكنيسة حتى يهيئ الفرصة لزملائه اللصوص. . .
ومضت برهة، وعادت الريح تعصف وتصفر في جنون وكأنها تسخر من ذلك الحارس المسكين
مصطفى جميل مرسي(645/55)
العدد 646 - بتاريخ: 19 - 11 - 1945(/)
خواطر. . .
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتب إلي بعضهم يستشيرني في العيد كيف يقضيه! حتى عن هذا يسأل بعضهم! وقد حرت كيف، وبماذا أجيب؟ ثم خرجت من المأزق الذي زج بي فيه سؤاله بكتاب وجيز، هذا بعض ما فيه:
(والشروط في العيد أن يشتري لك سواك كسورة، فإذا لم يوفقك الله لهذا، أو كنت ممن يشترون ولا يشتري لهم، فلا عيد لك. ويجب أن يكون مع الكسوة لعبة - أي لعبة - كرة ملونة مخططة، أو زمارة، أو حصان خشبي، أو ما شئت غير ذلك، على انك سألتني فأنا اختار لك (البارود) إذا كنت غلاماً، وإذا كنت لا تعرفه فاعلم انه (فتيل) ملفوف عليه ورق أحمر، وبعضه في سمك القلم، والبعض اسمك من ذلك جداً، والأول يَرصُّ في علبة، والثاني يستعمل فرادى لضخامته. وإذا أشعلت النار في هذا أو ذاك، انطلق منه مثل أصوات البنادق والمدافع. أما إذا كنت (بنتاً) فأنا أشير عليك بما يسمى (على لوز) وهو سكر يُحل ويُعقد، ويزين باللوز والبندق والفستق، وما إلى ذلك، وتحمله الفتاة في طبق - بعد أن يبرد لئلا أصابعها الناعمة - وتدور به على الصبيان تبيعهم منه، كل ملء ملعقة صغيرة بمليم، وهذا هو السعر القديم، وزيادته جائزة.
(واحرص على أن تعطى في العيد بلا تقتير أو حساب، فتأخذ باليمين لتنفق بالشمال، وكلما فرغت يدك وذهب ما معك، عدوت إلى اهلك تطلب منهم أن يعطوك، وتبكي وتصيح وتدبدب برجليك - وبيديك أيضاً إذا شئت - وتتمرغ على البساط، أو على البلاط وهو افضل - إذا أبطئوا وتلكئوا في العطاء، أو بخلوا به. فإذا ملئوا جيوبك قروشاً ذهبت إلى الأراجيح، وبعضها خيل تدور براكبيها حتى تدور رءوسهم، والبعض (دكك) أربع كل اثنتين منها متقابلتان، تدور كالساقية وأنت معها، فتسر أو تخاف، وتصرخ أو تغنى على هواك، والدكك دائرة كالأيام، صاعدة بك طوراً، وطوراً هابطة، لا تبالي - كالأيام أيضاً - أضحكت أم بكيت، وفرحت أم جزعت. ومن الأراجيح أيضاً نوع لا أشير به عليك إذا كنت فتاة، فانه يعريك ويطير ثوبك عما تحته، وهو عبارة عن لوح مشدود من الجانبين إلى حبلين معلقين، يقف عليه الفتى ويمسك الفتى الحبلين بيديه، ويروح يدفع اللوح بقدميه،(646/1)
فيندفع من الخلف إلى الإمام، ومن الإمام إلى الخلف، فإذا كنت قويةً أو مدرباً، بلغ بك غلواً كبيراً.
(وإذا لم يعجبك هذا الذي اقترح به فانه لا يبقى لك إلا أن تذهب إلى القبور فتزور موتاك، وتترحم عليهم وتستغفر لهم، والسلام).
وقد ندمت بعد أن وضعت الكتاب في صندوق البريد، لأني خفت أن يصدر رأي، فيفعل ما أشير به! ومن الغريب أن هذا هو الرد الوحيد الذي بعثت به على ما جاءني من الرسائل في شهر كامل!
صدق من قال: يُثاب المرء رغم انفه!
ما اعجب غرور الإنسان! وما أحوج الإنسان إليه!
لي صديق - وفي هذا مبالغة قليلة ولكنه لا ضير منها - ليس بينه وبين الغوريللا فرق، وقد اعتاد أن يتخذ مكانه كل يوم على مقهى يكثر مرور الناس - رجالاً ونساء - على رصيفه، وهو على طريقي في أغلب غدواتي وروحاتي. ومن عجيب أمره انه شديد التألق في ملبسه، كأن من الممكن أن يحجب حسن الهندام قبح الوجه وسخافة القوام. وكان أولى به في رأيي أن يتواري عن العيون في مقهى في زقاق ضيق إذا كان لابد من الجلوس في مقهى. وقد سألته مرة وقد ألح على في مجالسته: لماذا تؤثر هذا المكان والضجة فيه عظيمة!
قال (أتفرج على الناس)
قلت (ويتفرجون عليك!)
فلم يسؤه قولي بل ضحك وقال (لا بأس: يتفرجون وأتفرج)
قلت (أواثق انك تحمد العاقبة!)
قال (لا شك! انظر إلى هذا الفتاة التي ترشقني بنظرتها الحلوة)
فأحنقني واستفزني هذا الغرور وقلت (لعلك تظن انك فتنتها بجمالك؟)
فما انهزم والله، بل قال (وهل في هذا شك؟)
فلم أطق صبرا على هذا الغرور فانصرفت عنه، وأني لأدرى أن بالإنسان حاجة إلى قدر من الغرور يعوذ ويعول عليه، ويستمد منه القدرة على احتمال حياته: ولكن هذا قد جار(646/2)
على نصيب جليه كله من الغرور.
وقد تعجبت في مستهل هذه الكلمة لغرور الإنسان، وأنا اختمها بالتعجب من المرأة؛ فقد رأيت اجمل امرأة أخذتها عيني في حياتي: تتأبط ذراع هذا الغوريللا، ويثنى إليه محياها الصبيح وهو ينضج بشراً وابتهاجا، وفي عينيها وميض الحب، وقد خيل إلي، وأنا انظر إليهما كأنها تشتهى أن تأكله!
وقد سلم على يومئذ بغير استخفاف، وبغير استخفاف كذلك. ولم يتمهل إلا ريثما يهز يدي، ويسألني عن صحتي، كعادته كلما لقيني، ولم يستعجل أيضاً، ولم أرى على وجهه ولا في سلوكه ما يدل على انه مزهو بمصاحبة هذه الحسناء الفاتنة. فكأن هذا أمر عادي جداً! فسبحان ربي القادر.
وعلى ذكر التعجب أقول إن عجبي لا ينقضي من عجز الإنسان وجهله. نعم استطاع أن يخترع اللاسلكي مثلا، فهو يرسل الموجة من جهاز فتمضى في الجو إلى أطراف المعمورة، ويلتقطها جهاز أخر فتستحيل كلاما وغناء وموسيقى. وهذه الأجهزة المصنوعة من مواد يستخرجها الإنسان من الأرض التي يعيش عليها، وهو أيضاً مخلوق من طينها، وفي بطنه كل عناصر هذه الأرض، ومع ذلك لم يخطر له أن يحتال حتى يتخذ من بدنه جهازين للإرسال والتلقي، أو أن ينمي قدرته على ذلك، فأن الناس بالنظر إلى حد ما، فماذا يمنع أن يتسع نطاق التفاهم حتى يشمل كل شىء، فيستغني الإنسان عن أداة اللغة التي قل أن يحسنها والتي هي عنوان العجز والقصور؟
وأمر آخر: حطم الإنسان الذرة، وهي لا ترى لا بالعين ولا بالمجهر. أطلق بتحطيمها قوة مهولة مفزعة، استخدمها أول ما استخدمها في التدمير، وسيستخدمها - إذا لم تقض عليه قبل ذلك - في التعمير. وما من شك في أن في الإنسان طاقات محبوسة أو مستكنة أو راكدة لو أطلقت بحساب وقدر - حتى لا تعصف به - لبلغ من القوة والاقتدار درجة يعجز الخيال عن تصورها. ولكنه لا يفعل، ولعل العلماء الذين حطموا الذرة لم يخطر لهم أن يعالجوا القيام بشيء من التحطيم في جسم الإنسان، وقد يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وقد يستغرق الاهتداء إلى وسيلة مأمونة إلى تحطيم ذرات الإنسان وإطلاق طاقاتها بقدر إلى قرن أو اكثر، ولكن ما قرن إذا قيس إلى هذه الغاية التي تقلب الإنسان مارداً جبارا؟(646/3)
إبراهيم عبد القادر المازني(646/4)
من ماضي مصر
بين فرنسا وإنجلترا
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
إن ما يحدث في الشرقين الأوسط والأدنى من الحادثات، ويقع فيهما من توليه أو عزل للحكام والحكومات، ويجري من السياسات، كل أولئك أمور يعتقد أناس كثيرون إنها جميعاً من تصرف الشرقيين وحدهم، وإنها لا اثر فيها لنفوذ غيرهم أو لدس أو سياسة من سواهم؛ لكنها أمور لا يستقل الشرقيون دائماً بالرأي فيها ضعفت الدول الشرقية أو تخلفت، بل يغلب أن تسببها وتلعب بها أيد صنُع أجنبية ظاهرة أحياناً وتارة خفية
وهذا مقال وجيز جاء بمثال أو أمثلة في موضوعه، فليس يزعم انه يبين جميع ما وقع لمصر بين فرنسا وإنجلترا من جراء تعاديهما، وطمعهما وتنافسهما الاستعماري؛ وإنما غرضه الإشارة الخفيفة إلى اثر ذلك التعادي والطمع والتنافس في بعض حوادث هذا القطر المتصل بالشرق الأدنى، والمنسوب إلى البلاد العربية بخلط في دم أهله، وبلغهم وتالد ثقافتهم.
طال العداء بين فرنسا وإنجلترا دهراً تحاربتا فيه حرباً عواناً، وخصوصاً لعهد حكومات الثورة الفرنسية الكبرى وإمبراطورية نابليون، بسبب المبادئ الثورية وأعمال أصحابها، والسيادة الدولية والبحرية، والتجارة والاستعمار. وقد ظلت إنجلترا في تلك الأيام تؤلب الدول الأوربية على عدوتها اللدود؛ ودخلت الحرب في الحلف الأولى على فرنسا بعد أن أعدمت لويس السادس عشر سنة 1793؛ ولم تكف إنجلترا بعد انحلاله، بل بقيت تحارب، وألبت الحلف الثاني الذي تحطم، ثم أنهت حربه سنة 1802 بمعاهدة أميان بينها وبين فرنسا.
فكانت إنجلترا في حرب مستمرة مع فرنسا يوم نزلت حملة بونابرت بأبي قير عام 1798، ويوم أبحر عائداً إلى فرنسا، ثم تبعه الجنرال بليار قسم من الحملة في 7 من أغسطس عام 1801 فتبعهما الجنرال منو في الشهر التالي بالقسم الباقي. وجاءت معاهدة أميان بعد ذلك بنحو نصف عام.
وكانت مصر على الدوام محسدة الدول التي سادت العالم القديم: لأنها كانت مركزه(646/5)
الجغرافي، وإنها تمكن من السيادة على البحر المتوسط. ومفتاح هذه السيادة هو على الأصح تونس لوقوعها في منتصف البحر وإشرافها على شقيه الشرقي والغربي، وعلى صقلية ومضيق مسينا الفاصلين بينهما. بيد أن مصر أيضاً مشرفة على البحر المتوسط ومشرفة مع ذلك على البحر الأحمر، وهي منفذ إلى الهند ووصلة بين أفريقية وآسية، ومجاز إلى طرقها البرية. وقد اتجه نظر بونابرت إلى مصر منذ كان يحارب في إيطاليا حيث انتصر وعد انتصاره طالع سعده، ومنها كتب إلى تالران 1797: (لن نلبث مليا حتى نحس انه ليس بد من أن نمتلك مصر لتحطيم إنجلترا). ولما عهدت إليه حكومته في الاستعداد لغزو الإنجليز شرع يستعد؛ غير انه وضع مشروعاً للاستيلاء على مصر، وشرح لحكومته ما تجنيه فرنسا من الثمرات إذا هي استبدلته بغزو إنجلترا فوكلت إليه قيادة الحملة وفتح القطر.
وملخص الأسباب التي شرحها بونابرت في إيثار مشروعه أن مصر أخصب أرض وثروتها الزراعية والحيوانية عظيمة؛ وإنها كانت هري رومة وهي يومئذ هري القسطنطينية، ومجمع القوافل الأفريقية والأسيوية، ومحل تبادل المتاجر الشرقية والأوربية؛ فإذا قامت فيها إدارة فرنسية خمسين عاماً يزيد عدد سكانها زيادة كبيرة، وتصبح سوقاً ومصرفاً لمصنوعات فرنسا، وإن حلول الفرنسيين بمصر يضر إنجلترا، ويمكنهم من السيادة على البحر المتوسط فيوطد الإمبراطورية العثمانية؛ وإذا كان الانهيار مقدراً عليها أخذت فرنسا أحسن حصة من سلبها؛ فإذا استعمرت فرنسا مصر، أو جعلتها مستودعاً للمتاجر أو موثباً تنقض منه فرنسا على مؤسسات الإنجليز في الهند، كان لها أن تستيقن بأنها سترد التجارة الكبرى إلى طرقها الطبيعية فتصل إلى الثغور الفرنسية، لأن فرنسا أحسن الدول الغربية الكبيرة موقعاً بالنسبة إلى مصر.
نزلت الحملة الفرنسية بإسكندرية في أول يولية عام 1798، وأعلن الباب العالي الحرب على فرنسا في 4 سبتمبر من العام نفسه، واخذ جيشين أحدهما في سورية، والثاني في رودس لطرد الحملة، فرأى بونابرت أن نزول جيش رودس من البحر لا يتيسر إلا في الصيف، فاثر أن يفاجئ الجيش البري قبل أن يتم احتشاده ليشتته في سورية ويفتحها كما فتح مصر؛ ومتى يقهر الترك ويجمع محاربين في صفه بالتجنيد من المسيحيين المنتشرين(646/6)
في تلك البلاد، ومن الدروز وغيرهم تمتد الحركة إلى سائر العرب ويتسهل له إصلاح العلاقات بين فرنسا والباب العالي، ثم يجتاز الصحراء زاحفاً إلى الهند. لكنه رجع إلى مصر مضطرباً بسبب صبر عكا على حصاره وتفشى الطاعون في عسكره وغير ذلك.
وجلت الحملة الفرنسية من مصر، لكن بونابرت المستسعد بجده وفرنسا التي أعزت به، فرنسا إلى ما فتئت تدافع عن مصالحها في الشرق لم ييأسا من إمكان فتح هذا القطر ثانية، بل أرادا العمل على إحياء النفوذ الفرنسي فيه ريثما تتاح فرصة الاستيلاء عليه.
ففي محفوضات وزارة الخارجية البريطانية وثيقتان: إحداهما مذكرة بمشروع لاستقلال مصر منسوب إلى المعلم يعقوب الذي ورد ذكره في تاريخ الجبرتى - وليس في كلام المؤرخ إشارة ما إلى انه عرف شيئاً يتعلق بهذا المشروع؛ والوثيقة الثانية كتاب من قائد سفينة حربية إنجليزية أرسل معه المذكرة إلى حكومته عقيب نقله يعقوب من مصر. ولهاتين الوثيقتين علاقة بعمل فرنسا على إحياء نفوذها في مصر.
فقد وجد رؤساء حملة بونابرت أن المعلم يعقوب رجل حرب وإدارة على ذكاء ومكر، فألحقوه بجيش الجنرال دُزِه مديراً للتموين، فأثبت إخلاصه لهم وشجاعته. وبعد هزيمة المماليك في الصعيد رجع في أسيوط إلى عيشة الثراء بجواز قائده، وعاشره هو وأركان الحرب من ضباطه وبعض أعضاء اللجنة العلمية الفرنسية، وكانت المحادثات بندى القائد شائقة وسامية المعاني في اكثر الاحيان، فلا غرو من أن تكون أرسخت الأفكار الجديدة في أعماق ذهن المعلم. ثم عهد إليه كليبر في تنظيم المالية المصرية؛ ثم جعله رئيساً لفرقة عسكرية قبطية؛ ورقاء خلف كليبر في القيادة العامة إلى رتبة اللواء (جنرال) وعينه مساعداً للجنرال بليار في دفع الجيوش الإنجليزية والتركية عن القاهرة، فعد هو وفرقته القبطية - عند استسلام العاصمة في 17 من يونية عام 1801 - من الجند الموكول أمرهم إلى بليار وأبحر مع هذا القسم من جيش الجملة إلى فرنسا على تلك السفينة الحربية الإنجليزية.
قال الجنرال يعقوب القائد السفينة، في حديث لم يحضره سوى رجل من اصل فرنسي اسمه لسكرى جاء من مالطة مع الحملة التي استولت عليها في الطريق إلى مصر: إنه يمر مشروعا لاستقلال مصر يريد من القائد أن يبلغه عنه سراً إلى الحكومة البريطانية.(646/7)
وخلاصته أن مصر إذا استقلت فأنها تكون في حكم الخاضعة لإنجلترا سيدة البحار، ولن تكون أبداً إلا دولة زراعية غنية بأرضها الخصبة وبتجارة أفريقية الوسطى؛ وهذه الفوائد تغنى الأمة التي لها دائماً أعظم مصلحة في تجارة مصر وبحارها، بسبب الهند؛ وهذا الاستقلال لا يكون انقلاباً أحدثه نور العقل أو قلق الخواطر بمبادئ فلسفية متنافضة، بل يكون تغيراً سببه عمل قوة قاهرة في حال أناس هادئين جهلاء، لا يعرفون على التقريب سوى المنفعة والخوف؛ فلا يكون استطاعة المصريين أن يحموا استقلالهم من الأوربيين قبل زمن مديد، حين تنتظم القوة الأهلية وتصبح مهيبة؛ أما حمايته من الترك والمماليك فان الدول الأوربية تستطيع أن تحرمهم كل اعتداء على مصر، ويمكن أن يستأجر المصريون فرقة أجنبية مساعدة تجمع إثني عشر ألف رجل أو خمسة عشر ألفاً، فتكون نواة الجيش المصري وتكفى لإيقاف الترك في الصحراء وإبادة المماليك في داخل مصر؛ ومصر منقسمة طوائف وشيعاً يسهل تزجيها إلى الاختلاف لتتوازن؛ وهو ومن معه من الأقباط وفد متصل بها جميعاً، مفوض إليه من وجهاء الإخوان الأحرار أن يفاوض الدول في الاستقلال (ولو فوضه أحد في شيء من نحو ذلك لما خفي جملة الأمر على مثل الجبرتي)؛ وغرضه أن يفاوض بطريقة تجعل فرنسا هي البادئة بطرح المشروع على إنجلترا إذا أيقنت هذه الدول بفوائده السياسية فعزمت على تأييده عند عودة السلام العام إلى أوربا فلا يتعرض الوفد لرفض مشروعه بسبب التنافر بين هاتين الدولتين الأوربيتين، أو حذر أن يكون حيلة من الجمهورية الفرنسية.
لم يكن الدين حائلا بين الفرنسيين والقبط ولم يكن بد من أن يحدث ضم يعقوب إلى الجيش الفرنسي، قراب ثلاثة أعوام، آثاراً عميقة في نفسه. فكان له أن يتوقع المكافأة الثمينة من بونابرت، ولا سيما بعد إذ اصبح القنصل الأول في حكومة القنصلية وهو الذي لم يكن ليغفل عم الجزاء السخي على مثل ارتياح المعلم إلى خدمة الفرنسيين في جميع الاحوال، واستسلامه لأرادتهم كل الاستسلام حتى جعلوه جنرالا فرنسياً. غير أن المعلم مات على السفينة البحرية الإنجليزية عقب الإفضاء بسره، فكتب لسكرى المشار إليه آنفاً مذكرة بالمشروع هي التي أرسلها قائد السفينة مع كتابة إلى الحكومة الإنجليزية. وكان يعقوب قبيل موته قد أبدى رغبته في أن يدفن بجانب (دزه) حباً فيه، فلم تلق جثته في البحر بل(646/8)
حفظت في برميل روم إلى أن دفنت في مرسيليا.
وواضح من نص الوثيقتين برمته، ومن سيرة صاحب المشروع في زمانه ومكانه، أن فكرة هذا الاستقلال وليدة السياسة العليا، وان المعلم يعقوب تبناها تحت رعايا الحملة الفرنسية. ولو امتد بالجنرال يعقوب زمنه لأيّدت فرنسا مشروع هذا القبطي الوجيه الثري، عند عقد معاهدة اميان، ليخدم مصلحتها بنفوذه في مصر إذ كان أحد رؤساء طائفته وقد صيره شخصية كبيرة الشأن. لكنه مات فلم يبق في الفرقة القبطية من يصلح للحلول محله والمفاوضة في مشروعه.
لما عاد بونابرت من مصر إلى فرنسا وتولى رياسة الحكومة القبطية أرسل ماتيو ده لسبس قنصلا عاما إلى مصر، وذلك في سنة 1804 من أيام القلق التي كان جلاء الجيش الفرنسي عن القطر تركه فيها لنفوذ المماليك وللفوضى. وكان من شأن المهمة الحقيقية المعينة لماتيو أن تعرضه للمخاطر في بهرة هذه الفوضى، إذ كانت المهمة هي إعادة النفوذ الفرنسي إلى حاله السابقة، وقد أداها بنجاح باهر: فان البيانات والأوامر السرية التي أصدرها إليه تالران المشهور، وزير الخارجية الفرنسية يومئذ، أوجبت عليه أن يبحث في الجيش التركي الذي حارب الفرنسيين عن رجل مقدام ذي كفاية للحلول محل المماليك؛ فاهتدى ماتيو بفراسة ذات بصيرة إلى محمد علي (المغفور له محمد علي باشا الكبير)، وفاز بصداقته، ومساعده مساعدة فعالة في سبيل علوه؛ فلم يبث محمد علي أن أصبح سيد البلاد وجعل المصريين ينادون به والياً على مصر، ثم أباد المماليك - كما كان يحدث لو نفذ مشروع يعقوب.
ومشهور أن فرنسا أيدت المساعي التي نال بها محمد علي فرمان الولاية عام 1805؛ بعد ذلك فرمان بنقله والياً على سلانيك، لأن الحكومة البريطانية طلبت من الباب العالي أن يعيد السلطة إلى المماليك ضامنة له أمانة محمد بك الألفي - الذي كان الإنجليز يؤيدونه إذ وعدهم وعوداً تعرض مستقبل مصر للخطر، منها انه سوف ينزل لهم عن الثغور المصرية الكبيرة.
ثم نجحت مساعي فرنسا في استنبول ففاز محمد علي بفرمان أعاده إلى ولاية مصر من غير أن يبارحها. لكن الإنجليز لم يرقهم نجاحه الملائم لسياسة فرنسا ونفوذها، فأرسلوا(646/9)
حملة على مصر؛ وكانت الخطة لدفع هذه الحملة الخائنة عن الإسكندرية من وضع دروفتي قنصل فرنسا في هذا الثغر.
استتب حكم محمد علي وغزا الشام - بعد أن قهر الوهابيين بنحو خمسة عشر عاماً. وكان لويس فيليب، ملك فرنسا. وحكومته والرأي العام الفرنسي، شديدي الرغبة في أن ينفذ والي مصر ما عزم عليه وأن يوطد سلتطه في الشرق إلى أقصى حدود الإمكان؛ فلما خرج احمد باشا القبطان بالأسطول العثماني من الدردنيل في سنة 1839 ليسلمه إليه حقداً منه على عدوه الشخصي خسرو باشا، الصدر الأعظم، كان أمير البحر للند يسد بالأسطول الفرنسي منفذ المضيق إلى البحر المتوسط، فلم يبذل أي جهد ليمنع الأسطول العثماني من الخروج تنفيذا للرغبة الدولية الأوربية مع علمه بنية أحمد باشا، بل أعانه على خدع الإنجليز والتخلص إلى مصر. لكن إنجلترا خشيت عواقب النصر الذي حازه محمد علي الكبير فحالت دون غرضه من توحيد الشرق العربي تحت حكمه وإن أيدته فرنسا في المفاوضات الدولية الأوربية حتى كادت تحارب من أجله، بل حرصا على نفوذ سياستها. وقد كتب بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، في 4 من مارس عام 1840 إلى جيزو، رئيس الوزراء الفرنسية: (أما كانت فرنسا تسر لو رأت في مصر وسورية دولة جديدة مستقلة تؤسس فيهما وتكاد تكون من إنشائها فتصير بالضرورة حليفتها؟ لكم الوصايا على الجزائر، فماذا يبقى يومئذ بينكم وبين حليفتكم مصر؟ هاتان الدولتان المسكينتان تونس وطرابلس، وهما تكادان لا تكونان شيئا. وهكذا يصبح ساحل أفريقية كله وقسم منه ساحل آسية على البحر المتوسط، من مراكش إلى خليج الإسكندرية، في قبضة يدكم وتحت نفوذكم. وهذا محال أن يكون من سبيلنا)
ضمن ماتيو بجرأته فيما ابتدأ به عمله السياسي صداقة محمد علي العظيم، ووطد في مصر نفوذ فرنسا لمدة مديدة، ومهد من حيث لا يدري لابنه فردينان طريقا قصدا إلى الأذن له في إنشاء قناة السويس: فإن صداقة الوالي، بعد إذ وصل إلى الحكم بمواهبه الفطرية وبتأييد من ماتيو، كانت صداقة مضمونة بادئ بدء لفردينان. وقد أكد الوالي أمر ذلك التأييد من الأب وهذه الصداقة للابن تأكيدا علينا يوم كان في سورية بين قواده وحاشيته ورأى فيه فردينان أول مرة فقال له (إن والدك هو الذي جعلني ما أنا اليوم. فاذكر أنك تستطيع دائماً(646/10)
أن تعتمد علي). ومن صداقة الوالي نشأت صداقة ابنه سعيد باشا لفردينان، ولولاهما لكان من الممكن جدا أن يخفق في أمر الفتاة. وليس شك في أن أحوال البيئة التي ظهر فيها محمد علي، ومنطق التاريخ في زمانه وتصرفه بسياسة اثبت حكمتها علو شأنه، أمور تؤيد هذه الحقائق. وإذا قال التاريخ بوقوع إرشاد له وإسعاد فان هذا القول ليس يصغر من جلال عبقرية سمت بصاحبها إلى أوج سودده ومجده: إذ أنقذ مصر من الفوضى وأحياها، ومنحها ملكا واسعا وعرشاً زعزع العرش العثماني المجيد، ولم يثبت أمامه سوى إجماع الدول العظمى.
ولما وقعت المذابح بسورية، في 9 من يوليه عام 1860، رفع الأمير عبد القادر الجزائري العلم الفرنسي على داره بدمشق، وحمى الفرنسيين هو ومن معه من أبناء الجزائر، وأعاد النظام إلى المدينة فمنحه نابليون الثالث الوشاح الأكبر لجوقة الشرف، وعظم أمل الفرنسيين في الأمير حتى طلبت صحفهم إنشاء إمبراطورية شرقية تضم جميع سكان العرب في سورية ولبنان والعراق وشبه جزيرة العرب. وهذا المشروع الفرنسي لم يعقبه أي إجراء فيه. لكن الإنجليز وجسوا بسبب النفوذ الذي أصبح يومئذ للأمير الجزائري في سورية فراقبوا أعماله ومسالكه مراقبة دقيقة؛ وكان شأنهم مع أولاده أن شغل أولئك الإنجليز واجسهم منذ أصبح الأمير رمز المصلحة الفرنسية في الشرق حتى اجتهدوا، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، في الحط من سمعة أمراء الجزائر لإبعادهم عن سورية حيث كانوا عقبة أمام السياسة الإنجليزية.
وكان من الشروط في عقد الشركة التي حفرت قناة السويس أن تملك جميع الأراضي البور التي تحييها في جانب القناة. وكانت نية ده لسبس أن يروى خمسة عشر ألف فدان من الصحراء في جانبها الغربي بمياه ترعة من النيل، وأن يستميل بدو سينا إلى سكناها؛ وقصد أن يوجد الثقة في قلوبهم بدعوته الأمير عبد القادر الجزائري، عام 1867 إلى زيارة الأعمال الجارية يومئذ في القناة وبتمليكه خمسمائة فدان في بئر بلاح جنوبي نفيشه. وقد شرع الأمير بحث البدو على التجمع حول منشات الشركة عازماً على إسكان واحد من أبنائه بينهم ليعيش معهم، ساعياً بوجاهته لإصابة الغرض. فأوجس بالمرستون خيفة من هذا المشروع الذي يلائم مصلحة الشركة ويوائم السياسة الفرنسية في آن معا: إذ رأى فيه(646/11)
نواة دولية عربية تابعة لفرنسا قد تنشأ في برزخ السويس وقد تسد ذات يوم طريق الهند. فتفادت إنجلترا من هذا الخطر البعيد باستعانتها نخوة الخديو إسماعيل، الذي كان يشغله ما حاز الأمير عبد القادر من الشهرة المتناهية؛ فطلب الخديو من ده لسبس أن يعدل عن مشروعه. ولقد بحث الإنجليز يومئذ عن سبب يمكنهم من إيجاد طريق حربي يسلكونه إلى الهند رأسا إن أغلقت دونهم قناة السويس، وينافسها في كل وقت؛ فكان مشروعهم هو حفر قناة من حيفا إلى البحر الميت ومنه إلى العقبة.
ودام تنافس الفرنسيين والإنجليز مؤثراً في شؤون مصر، آخذاً في الضعف رويدا حتى انتهى بالاتفاق الودي عام 1904.
محمد توحيد السلحدار(646/12)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيى
- 17 -
ج 1 ص 181:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشاه فنمنمه بيان ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشرات ... تجلى بينها حلل المعاني
قلت: (تجلى بينها صور المعاني) كما روى أبو الفرج. وفي (أغانيه): (فنمنمه مسد فصيح) وأسد القول أصاب السداد، والشعر لإبراهيم بن العباس الصولي.
ج 19 ص 209: حدث أبو عبيدة ان يونس النحوي سئل عن جرير والفرزدق والأخطل أيهم اشعر؟ فقال: أجمعت العلماء على الأخطل. قال أبو عبيدة: فقلت لرجل إلى جنبه: سله: من هؤلاء العلماء؟ فسأله فقال: هم ميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي. هم طرقوا الكلام وماثوه لا كمن تحكون عنهم لا هم بديون ولا هم نحويون.
وجاء في الشرح: (ماثوه موثا) هذا كناية عن بحثهم المتواصل واستقرائهم المتتابع كمن مات الشيء بالشيء إذا خلطه بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر.
قلت: (ماشوه ميشا) في الأساس: ومن المجاز: وتقول: هم نقشوا الكلام وماشوه وطرقوه للنحارير في العربية.
في التاج: ماش القطن يميشه ميشا: زبدَه بعد الحلج. وزبُد القطن نفش وجود حتى يصلح لأن يغزل. وفي اللسان: طرق النجاة الصوف يطرقه طرقا ضربه، واسم ذلك العود الذي يضرب به المطرقة.
ليمون الأقرن وعنبسة الفيل وسائر من ذكرهم يونس بن حبيب البصري النحوي أن يقدموا ويؤخروا، ويعلوا وينزلوا (فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما (بين الفرزدق وجرير) وبين الأخطل؛ لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له مثل مالهما من فنونه) كما قال أبو الفرج في كتابه، وقد أوردت قضاءه في مقالاتي (خليل مردم بك وكتابه في الشاعر(646/13)
الفرزدق) في (الرسالة الغراء) في سنتها السابعة، وبينت هناك ما بينت.
وهذا قول لم أروه في تلك المقالات وهو الأديب العظيم أبي بكر محمد بن يحيى الصولي في كتابه الفائق (أخبار أبي تمام): كنت عملت (أخبار الفرزدق) وبدأت (به) وفي نيتي عمل أخبار جرير والأخطل بعده، وإنما بدأت بالفرزدق لقوة أسر كلامه، وكثره معانيه، وجميل مذهبه، ولأنه يتقدم عندي الاثنين من طبقته في شعره، أعني جريراً والأخطل، ولا أعيب من يقدم عليه إذ كنا نجد أئمة من العلماء لهم فيهم أراء مختلفة، وتقديم لبعضهم على بعض، ولكنني في حيز من يقدم الفرزدق. وابتدأت في عمل أخبار جرير، فبلغني أن قوما تضمنوا عملها حلافا على وكياداً إلي، فأمسكت عن إتمامها امتحانا لصدقهم، فمات بعض وبقى آخرون، ولم تعمل حتى الساعة. . .
ج 2 ص 269:
لو دام لي في الورى وعاتقة ... لما حفلت بدى قربى ولا رحم
ولا بكرت إلى حلو لنائله ... ولا التفت إلى شيء من النعم
قلت: (لما حفلت) حفل يحفل (ولا بكرت إلى خلق لنائله) بكر إلى شيء - من باب قعد - أتاه بكرة أو في أي وقت كان، وبكر إلى الشيء كفرح عجل كما في التاج. وخلق اسم ومصدر كما قال سيبويه في (الكتاب) أو أصله مصدر كما في الصحاح. وخلق هنا أمثلة في قول المتنبي:
ولا تشكَّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرحم
والعاتقة في الشعر - وهو لجحظة البرمكي - هي الخمر.
والمعروف خمر عاتق وعتيقة ومعتقة وعتاق. قال حسان (رضى الله عنه):
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تسقى الضجيع ببارد بسام
كالمسك مخلطة بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام
ج 9 ص 178: فكم أهل هدته - نصر الله عزائمها - بعد الضلال، وحر استنقذته من حبائل الأقلال، ومرهق خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريد بوأته من حرمها أمنع المعاقل.
منازل عز لو يحل ابن مزنة ... بها لسلا عماله من منازل وجاء في الشرح: ابن مزنة(646/14)
المطر. قلت: (فكم تائه أو حائر أو ضال أو ضليل أو مضلل هدته بعد الضلال)؛ وابن مزنة هو الهلال.
في الصحاح: ويقال للهلال: ابن مزنة قال:
كأن ابن مزنتها جانحا ... فسيط لدى الأفق من خنصر
وقيل للهلال لبن مزنة لأنه يخرج من خلال السحاب، حكى ذلك عن ثعلب كما في التاج. ونسب البيت في اللسان والتاج إلى عمرو بن قميئة. والفسيط هو القلامة، في الأساس: ما لفلان مقدار فسيط، وأنشد يعقوب: كأن ابن مزنتها البيت.
ج 15 ص 207: لأبي علي المنطقي:
في البرق لي شاغل عن لمعة البرق ... بدا وكان متى ما يبد لي يشق
منفرا سرب نومي عن مراتعه ... كأنما اشتق معناه من الأرق
أخو ثنايا التي بالقلب مذ ظعنت ... أضعاف ما بوشاحيها من القلق
ما كان يسرق من حرز الجفون كرى ... لو انه من لماها غير مسترق
وجاء في الشرح: البرق الأول مكان والثاني برق السحاب.
قلت: (في البرق لي شاغل عن لمعة البُرَق) (لو أنه من لماها غير مسترق) والبرق الأول هو البرق المعروف واللفظة الثانية هي جمع برقة.
في اللسان: اللمعة الموضع الذي يكثر فيه الحلي، ولا يقال لها لمعة حتى تبيض، وقيل: لا تكون اللمعة إلا من الطريفة والصليان إذا يبسا، تقول العرب: وقعنا في لمعة من نصي وصليان أي في بقعة منها ذات وضح لما نبت فيها من النصي وتجمع لُمعا.
والبرقة (وجمعها برق) ذات حجارة وتراب، وحجارتها الغالب عليها البياض، وفيها حجارة حمر وسود، والتراب ابيض وأعفر وهو يبرق لك بلون حجارتها وترابها، وإنما برقها اختلاف ألوانها وتبت أسنادها وظهورها البقل والشجر نباتاً كثيرا، يكون إلى جنبها الروض أحياناً.
ومما رواه أبو الفرج في هذا البرق السائق قول أبي قطيفة:
إذا يرقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق منى برقها المتيامن
وقول ابن ميادة:(646/15)
أرقت لبرق لا يفتر لامعه ... بشهب الربى والليل قد نام هاجعه
أرقت له من بعد ما نام صحبتي ... وأعجبني إيماضه وتتابعه
وقول إبراهيم بن اليزيدي:
ماذا بقلبي من اليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردنَّ أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
وروت هذين البيتين (نهاية الأرب).
ج 2 ص 73: وقال (الصابي) في غلام له اسمه رشد اسود:
قد قال رشد وهو اسود للذي ... ببياضه يعلو علو الحائن
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن منى فيه خالا زانه ... ولو أن منه في خالا شانني
وجاء في الشرح: ويروى باليتيمة استعلى علو مباين.
قلت: (بياضه استعلى علو الخاتن) في المقامة الثامنة والثلاثين المروية للحريري: قال فقربه الوالي لبيانه الفاتن، حتى احله مقعد الخاتن.
في (نهاية الأرب): قال بشار وأجاد:
يكون الخال في خدنقي ... فيكسبه الملاحة والجمالا
ويونقه لأعين مبصريه ... فكيف إذا رأيت اللون خالا
في (الوفيات) هذا الخبر البارع في السواد:
قال إبراهيم بن المهدي: قال لي المأمون وقد دخلت عليه بعد العفو عني: أنت الخليفة الأسود؟ فقلت يا أمير المؤمنين، أنا الذي مننت عليه بالعفو، وقد قال عبد الحسحاس:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود الخلق إني ابيض الخلق
فقال لي: يا عم، أخرجك الهزل إلى الجلد، وأنشد يقول:
ليس يزري السواد بالرجل الشهم (م) ... ولا بالفتى الأديب الأريب
إن يكن للسواد فيك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي!
قلت: - ولا قول إلا الحق -: إن السواد عند الله وعند الطبيعة والحقيقة هو كالبياض، والبياض لد السواد، والأحمر أخو الأصفر، والبيئة - يا أخا العرب - هي التي قد لونت،(646/16)
وهي التي قد شكلت ونوعت، وصورت ما صورت؛ فلا يروق ذو لون على ذي لون، وليس في الدنيا عبد وحر، ولن يشين المرء لونه - يا أيها الغربي - لكنه يشينه تلونه. . .
في (أساس البلاغة) لجار الله: ورجل متلون: مختلف الأخلاق.
ج 7 ص 151: أبو محمد القاسم بن احمد الأندلسي قال:
وجدت في مسائل نحوية تنسب إلى ابن جنى: لم أسمع لأبي علي (الفارسي) شعراً قط إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، أبو علي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فان خاطري لا يواتيني على قوله مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط منه شيئاً البتة؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعاب
ولم أخضب مخافة هجر خل ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن الشيب بدا ذميم ... فصيرت الخصاب له عقاب
فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال، لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها.
وجاء في الشرح: كانت (المفاوهة) في الأصل (المفاوضة) قلت: الأصل صحيح، ومفاوضة العلماء محادثتهم ومذكراتهم، والمفاوهة: المقاولة والمناطقة، فهي تحكى المحادثة والمذاكرة.
وقد ضبطت (البتة) في هذا الخبر وفي مواضع أخر في الكتاب بهمزة مقطوعة أو بألف القطع، وقد وجدتها في البخاري والكامل وكتاب سيبويه والصحاح وغير ذلك بألف الوصل، ولم أعثر على نص للأئمة القدماء فيها، فمن وجده تقرب إلى العلم بنشره في (الرسالة) مشكوراً. وهذا ما قاله التاج:
(ولا افعله البتة) بقطع الهمزة كما في نسختنا، وضبط الصحاح بوصلها، ونقل شيخنا عن الدمامينى في شرح التسهيل: زعم في اللباب انه سمع في البتة قطع الهمزة، وقال شارحه في العباب: إنه المسموع. قال البدر: ولا أعرف ذلك من جهة غيرهما، وبالغ في رده وتعقبه، وتصدى لذلك أيضاً عبد الملك العصامي في حاشيته على شرح القطر للمصنف.
قال ابن خلكان: كنت مرة رأيت في المنام سنة (648) وأنا يومئذ بمدينة القاهرة كأنني قد خرجت إلى قليوت، ودخلت إلى مشهد بها فوجد له شعثاً، وهو عمارة قديمة، ورأيت به(646/17)
ثلاثة أشخاص مقيمين مجاورين، فسألتهم عن المشهد وأنا متعجب لحسن بنائه وإتقان تشييده: ترى هذه عمارة من؟ فقالوا: لا نعلم ثم قال أحدهم: إن الشيخ أبا علي الفارسي جاور في هذا المشهد سنين عديدة، وتفاوضنا في حديثه، فقال: وله مع فضائله شعر حسن، فقلت له: ما وقفت له على شعر، فقال: وأنا أنشدك من شعره، ثم أنشدني بصوت رقيق إلى غاية ثلاث أبيات، واستيقظت في اثر الإنشاد، ولذة صوته في سمعي، وعلق على خاطري منها البيت الأخير وهو:
الناس في الخير لا يرضون عن أحد ... فكيف ظنك سيموا الشر أو ساموا
ج 18 ص 286: قال (الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب):
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
قلت: (من قيل وقال) (أو إصلاح حال)
ج 19 ص 202:
كأن القلب ليلة قيل يغذى ... بليلى العامرية أو يراحُ
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
قلت: (غرها شرك) كما روى الكامل والحماسة والأغاني وفس التبريزي. وقد نسب الشعر في الإرشاد والحماسة إلى نصيب بن رياح. وقال صاحب الكامل: أحسبه توبة، وقال أبو الحسن الأخفش: يقال: إنه لمجنون بنى عامر وهو الصواب، وعزى في الأغاني في موضعين إلى (المجنون) فضاع - والحالة هذه - قائله.
مما قيل في (مجنون ليلى) في (الأغاني):
عن المدائن عن ابن دأب قال: قلت لرجل من بنى عامر: أتعرف المجنون وتروى من شعره شيئاً؟ قال: أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير، فقلت ليس هؤلاء أعني، إنما أعني المجنون بنى عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات، بنو عامر أغلط أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها، فأما نزار فلا.
عن أيوب بن عباية أن فتى من بنى مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر،(646/18)
وبنسبة إلى المجنون، وإنه عمل له أخباراً، وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.(646/19)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 4 -
حرصه على الأخلاق والفضائل
من خصائص الشريعة الإسلامية التي امتازت بها على الشرائع الوضعية كلها أنها قامت على الأخلاق المرضية، والفضائل المرعية، وخشية الله، ومحاسبة الوجدان والضمير، في كل ما يصدر عن الإنسان، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولا يجر منكم شنآن قوم على إلا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى)، وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق عليه: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، ويجتهد عمر رضى الله عنه في إبعاد الناس عما يغرس الأحقاد والإحن في النفوس، فيقول: (ردوّا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن)، ويشدد الرسول صلى الله عليه وسلم في النكير على من يخادع المسلمين ويغشهم، فيقول: (من غشّنا فليس منا) كما يقول صلوات الله عليه (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه، لا يبايعه إلا لدينا، فإن أعطاه منها رضى، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه الرجل - ثم قرأ - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
ولست قوانين أفلاطون، ولا الشرائع الرومانية، ولا القوانين الغربية الحديثة بمستطيعة أن تجاري الشريعة الإسلامية في هذا السمو الخلقي الذي بنيت عليه جميع التصرفات والمعاملات، وما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل.
- 5 -
اقتصار تشريعه التفصيلي على الأمور الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور، أما(646/20)
الحوادث الجزئية، والأحكام الفرعية التي تختلف باختلاف الأحوال والأمم فإنه لم يتناولها إلا بقواعد كلية، ومقاصد عامة، ليترك الباب مفتوحاً لأهل الاجتهاد من كل أمة، وفي أي عصر، ليستنبطوا من الأحكام ما يحقق مصالح العباد، ويتفق مع حاجاتهم.
لذلك كان من خصائص هذه الشريعة التي امتازت بها على سائر الشرائع أنها قائمة على دعامة الاجتهاد، من لدن أول مجتهد في الإسلام، وأعظم مشرع، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى مجتهدي الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء المجتهدين في كل عصر.
هذا الاجتهاد - فيما لا نص فيه - هو الذي يكفل تجددها على مدى الأيام، ومسايرتها لتطورات الأمم والشعوب، ويضمن قدرتها على وضع الأحكام لما يجد من الأحداث والوقائع، وضروب المعاملات، بل هو سر خلودها، ودوامها وبقائها على وجه الدهر، صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك يدع ولا يعجب، فإن أحكام الشريعة معللة، لها أسرار وحكم ومنافع، والنصوص المعقولة المعنى.
وقد تضافرت الأدلة الشرعية، والنصوص الدينية على أن الإسلام شرع الاجتهاد ودعا إليه في وضع الأحكام في وضع الأحكام عنده عدم وجود النص، فمن ذلك.
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر معاذ بن جبل على اجتهاده برأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام، لما بعثه إلى اليمن - قال له: (كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بما في كتاب الله، قال فإن لم يكن في كتاب الله، قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم يكن في سنة رسول الله، قال أجتهد رأيي لا آلو)، قال معاذ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله).
2 - ما ثبت من أقوال بعض الصحافة من إقرار الاجتهاد بالرأي والقياس، فمن ذلك ما جاء في رسالة عمر بن الخطاب في القضاء إلى أبى موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك القضاء مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق).
3 - ما ثبت من أن كثيراً من الصحافة كانوا يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض(646/21)
الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، ويرون استعمال الرأي عند عدم وجود النص، ولعل عمر كان أظهرهم وأجرئهم في هذا الباب، متى بان له وجه الحق فيه، فمن ذلك أنه رفعت إليه قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر، هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له علي أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً، أكنت قاطعهم؟ قال نعم، قال فكذاك، فعمل عمر برأيه، وكتب إلى عامله أن اقتلهما، وروي عن عمر أيضاً انه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، وأوقع الطلاق ثلاث بلفظ واحد ثلاثاً، وقال إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه.
كذلك ثبت اجتهاد بعض الصحابة في حياة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - في كثير من الأحكام، فلم ينههم ولم يعنفهم، فقد أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بنى قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون، وأخروها حتى وصلوا إلى قريظة، فصلوها ليلا، فنظروا إلى حرفية النص، واجتهد سعد بن معاذ في بنى قريظة، وحكم فيها باجتهاد، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
هذا هو حكم الاجتهاد في شريعة الإسلام، وهذا هدى السلف الصالح فيه، أفما آن لنا نعد العدة، ونأخذ الأهبة، لنحيي هذه السنة، ونقتفي أثر السالفين من علمائنا المجتهدين؟!
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب(646/22)
من خواطر جحا:
معلم النباح
على هامش وعد بلفور
للأستاذ كامل كيلاني
(مهداة إلى الذين علموا أصحاب المبكي، فنون النباح، فراحوا
يخلطون العواء بالنواح. وكانوا أول من تنكر لناصره
ومؤيده، ونبح في وجه معلمه ومرشده.)
ننقل القصة التالية عن المقدمة النفسية التي افتتح بها (أبو الغصن جحا) خواطره التي أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحية) وقد ضمها مخطوط حجري نفيس، لعله مكتوب بخط رجل من أصحاب جحا أو بخط أحد معاصريه، وما أجدر أن يعتبر بهذه القصة من يرسمون لغيرهم طرائق الاعتداء ومناهج الجور، ويطول هتافهم وتصفيقهم لها، وإطراقهم وإعجابهم بها، متى وافقت أهدافهم، وأعانتهم على قضاء لباناتهم، حتى إذا عارضت أهواءهم، واصطدمت بأنانيتهم، ضاقوا بتلك الطرائق ذرعاً ولاقوا من هذه المناهج أشد الويلات.
قال أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا رحمة الله: قاتل الله الأثرة والأنانية - يا ولديَّ العزيزين - فإنهما تضلان الذكي، وتلغيان عقله الراجح، وتفسدان عليه منطقة السديد، فلا يلبث أن يعميه الهوى، وبنسبة الغرض ما هو خليق به من القصد والاتزان! وما أخلق الرجل العاقل بأن يعرف أن اكثر ما يشير يه من الرأي إنما هو سلاح ذو حدين: أحدهما له والآخر عليه. ولا يجوز لمنصف بعد أن يتخير الرأي ويرتضيه أن يقبل منه ما هو له ويأبى منه ما هو عليه. وما أولاه أن يروض نفسه على احتمال عواقب مشورته، فلا يوجه إلى غيره بعد أن يسر له سبيل الشر والأذية.
أقول هذا لكما بعد أن قص على بعض جيراني في هذا الصباح قصته شاكياً باكياً مرارته تتميز من الغيظ، وهو يلعن أنانية صاحبه، بعد أن رسم له طريقها، ونهج له خطتها، وزين(646/23)
تطبيقها وتحقيقها.
وفد عليَّ صاحبي (أبو عامر) عابس الوجه متجهماً فسألته: (ما خطبه)
فقال: (أتذكر صاحبنا يا إسحاق؟)
قلت: أتعني (رأس الوزة؟)
قال: (ما عنيت غيره، يا أبا الغصن!)
قلت: (فليس في بلدنا أحد يجهله أو يجهل ما نزل به من كوارث وأحداث! لطف الله يا أبا عامر! لقد سمعت انه اختلط)
فقال: (هذا كلام يذاع ويملأ الأسماع، وإن بعد عن الحقيقة كله، إن رأس الوزة لم يختلط؛ ولكنه رأى في جنونه مهربا له من ديونه، فلاذ به، وتشبث بأذياله؛ ولم تلبث حيلته أن جازت على كل من رآه. وليس هذا بمستكثر على مثله، فهو آية من آيات الخداع والغدر والعقوق!).
قلت: (ما علمت عليه من سوء! فماذا بدر منه حتى ساء رأيك فيه، وقسا حكمك عليه؟).
قال: (لقد أرهقته ديونه، وألح عليه دائنوه، فلم يجد له وسيلة غير الاختباء في منزله ليهرب من الحاف غرمائه، وينجو من مضايقة دائنيه).
وكنت قد سلفته - فيمن سلفه - دينا يسيرا.
ورأيت إمعانه في الاحتجاب، فما زلت أحتال عليه، حتى وصلت إليه.
ولم يكد يراني حتى تجهم محياه، وظهرت الحيرة والارتباك على سيماه، فهونت عليه الأمر، وما زلت به حتى سكن روعه، وسرى عنه.
وما عتم أن راجعه أنسه وبشاشته حين عرضت عليه وسيلة للخلاص من دينه ودائنيه والفكاك من أسره، على أن يرد لي - إذا نجحت الخطة - ما أسلفته إليه من دين.
فهلل بشراً وقال: (لك على عهد وميثاق إن أظفرتني بذلك لأردنّ إليك ضعف دينك، ثم لا أنسين لك صنيعك ما حييت).
فقلت له: (افتح دارك - غداً أو بعد غدٍ، إن شئت - والبس أفخر ثيابك - وهيئ في ساحة الدار أفخر مجلس تستطيع أن تهيئه لاستقبال عارفيك - دائنين وغير دائنين - ثم اجلس متكئاً على أريكة تعدها في صدر مجلسك. وتظاهر بالجد والوقار.(646/24)
فإذا مر بك أحد فلا تلتفت إليه ولا تلق له بالا. فإذا حياك فلا تجب تحيته بغير النباح. فإذا أظهر لك دهشته فانبح ثانية وثالثة، فإذا تمادى في الالحاح، تماديت في النباح.
ثم اتخذ من النباح شعاراً لك بعد ذلك، فلا يجب بغيره كل من حياك، ولو كان أخلص عارفيك وأصدق محبيك وأقرب المقربين إليك من ولدك وأهلك. انبح ولا تكف عن النباح، واعو ولا تقصر في العواء، حتى يضجروا بك فيرفعوا أمرك إلى والي المدينة.
فإذا مثلت بين يديه فاعتصم بالصمت، فإذا سألك عن جلية أمرك لم تُحر من جواب إلا تملأ أذنيه عواء. وحذار أن تغير من ذلك شيئاً أو تبدله حتى يقر في نفس الوالي أنك - فيما تأتيه - غير متصنع ولا متكلف.
فإذا اقتنع أن طائفاً من الجنون قد ألم بك، لم يجد فائدة من حوارك، فيدفعه اليأس منك إلى إطلاق سراحك، ورد حريتك إليك، وإعفائك مما عليك من دين!
أتعرف يا أبا الغصن كيف استقبل (رأس الوزة) هذه النصيحة الغالية؟ لقد فاضت نفسه - حين سمعها - عرفاناً بالجميل. ولهج لسانه بأبلغ عبارات الثناء والشكر على ما يسر له من أسباب النجاة من ورطته، والخلاص من كربته. فلما جاء الغد نفذ الخطة وفق ما رسمها له في براعة وحذق!
قدم عليه زائر من جيرانه، فلم يكد يراه جالساً حتى أقراء السلام، فكان رده عليه نباحاً. وأقبل ثان وثالث ورابع، فلم يلقوا منه غير ما لقيه أول القادمين عليه.
ولم يمض زمن يسير حتى ذاعت قصته في المدينة، فأقبل عليه دائنوه يتقاضوه ديونه، فلم يلقوا إلا عاوياً. وراحوا يعنفون به تارة، ويلينون له تارة أخرى، ثم يسرفون في وعيدهم حيناً، وفي تلطفهم أحياناً، فلم تجد في رده عن عوائه حيله ولا وسيلة.
فلما يئسوا منه، ذهبوا به إلى الوالي، فسأله عن قصته، فنبحه. فزجره وتوعده، فوجده يسترسل في النباح. وما زال بالوالي حتى اضجره؛ فأمر بزجه في السجن، ووكل به من يراقبه عدة أيام ليخبر أمره، ويجلو سره، فلم يظفر منه مراقبوه بشيء غير ما تواصل من نباحه.
فأمر الوالي بإطلاق سراحه بعد أن ثبت له بعض العيون والأرصاد يكمنون في غدواته وروحاته، ليروا ما يصير إليه شأنه.(646/25)
فظلوا يتبعون ظله أياماً، فلم يتحول عن حاله فتيلا. فأيقن الوالي حينئذ انه لا بد قد أصابه لمَمٌ، وأدركه من الخبال طرف.
فلم ير له حيلة فيه، فقضى بإسقاط ديونه، وأمر دائنيه بالإقلاع عن مطالبته بما لهم قبلهُ من الحقوق.
وهكذا خلص (رأس الوزة) مما ركبه من دين. وتبدل خوفه أمناً، وفزعه طمأنينة، وأصبح يغدو ويروح حيث شاء، دون أن يزعجه دائن أو ينغص عليه صفو عيشه غريم
أتعرف كيف جزائي على هذا الصنيع يا أبا الغصن؟
فقلت له مبتسماً ساخراً وقد امتلأت نفسي زراية له ونفوراً منه: (لا شك عندي في انه سار على النهج القديم الذي رسمته له في اغتيال حقوق الناس، فنبح في وجهك كما نبح في وجوه دائنيه، ثم في وجه واليه).
قال: (أبو عامر)
ما أبدع ذكاءك وأنفذ فطنتك يا أبا الغصن: لقد جئته بعد أن هدأ باله وقر قراره أذكر عهده، واستنجزه وعده، فما زاد على النباح. فدهشت من جرأته، وتملكتني الحيرة من صفاقته.
وقلت له: (لك أن تمثل هذا الدور مع كل إنسان إلا معي، وأنا واضع خطته، ومُبدع قصته. فتكلم ويحك!).
فأبى إلا عواء يتلو عواء، وكلما تماديت في محادثة تمادى في عوائه، حتى نفذت حيلتي، ودب اليأس إلى قلبي، فغادرته محزون القلب مهيض الجناح.
ورجعت إلى داري أفكر فيما انطوت عليه نفوس الناس من غدر ولؤم وفساد، بعد أن رأيت من صاحبي ما لم يكن ليخطر على بال، من فنون العقوق، وسلب الحقوق.
ولكن خبرني بربك - يا أبا الغصن - كيف تبينت خاتمة القصة قبل أن أفضي بها إليك؟).
فقلت له: (إن عجبي منك - لا منه - شديد. فليس عليه - فيما صنع - غبار: لقد رسمت له الطريقة واضحة جلية، فسلكها مهتدياً بهديك، فما تنكبها ولا حاد عنها. فمن تلوم؟ ومم تشكو؟ ألم تعلمه كيف تغتال حقوق الناس؟ وهل أنت إلا واحد من الناس؟ فكيف تريده على ألا يغتال حقك فيما يغتال؟ ما أجدرك - يا صاحبي - أن تشكر لهذا الرجل أمانته في الانتصار لرأيك، والتحمس لخطتك، والانتفاع بتدبيرك ومشورتك. لقد لقنته درساً في الأثرة(646/26)
والأنانية فحفظه عنك ولم ينسه لك.
وسننت له سنة من سنين العقوق والغدر، فاقتفى آثارك، وارتضى سيرتك. ولو حسنت لو الوفاء، ورسمت له طريقه لوفي لك دينك فيما وفي الناس.
ثم خبرني بربك - يا أبا عامر - أتراك كنت شاكياً غدره وتفريطه في رد الأمانات إلى أهلها لو انه وفَي لك دينك وحدك، ثم اغتال ديون غيرك؟
أرأيت - يا صاحبي - لو سمعت أن رجلاً هدى الذئب إلى طريق الغنم بعد أن أخذ عليه شاه من عهود ومواثيق أن يعفي شاته من بينها جميعاً، أتراه كان فاعلاً؟
لقد علمته العواء فعوى، وأرشدته إلى طريق الغواية فغوى!؟
واستباح من الحقوق ما استباح، بفضل ما علمته من فنون العواء والنباح.
وليس هذا أول من نبح، فكسب بنباحه وربح. وكم من الناس آثروا أن يبلغوا أهدافهم بالهراء، ويتسنموا المجد بقولٍ جفاء. فتصنعوا الجنون ليصبحوا أعزة، بعد أن أعوزهم أن يظفروا في ظلال العقل بالكرامة والعزة، كما فعل صاحبك (رأس الوزة).
فلترض يا صاحبي بهذا الجزاء العادل، فما ظلم (رأس الوزة) ولا غبن، ولكنك ظلمت نفسك بتلك المشورة فيمن ظلمت الناس، فلا تجزعن من سنة سننتها، وخطة نهجتها، ولك أسوة سيئة في شبيهك الذي وصفه الشاعر حين قال:
وكنت إماما للعشيرة، تنتهي ... إليك، إذا ضاقت - بأمر - صدورها
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها، ... فأول راض سنة من يسيرها
عبد الله جحا
وفق الأصل
كامل كيلاني(646/27)
هند والمغيرة
للأستاذ علي الطنطاوي
في عشية (من عشايا سنة 41 للهجرة) ساكتة لا يسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على (الحيرة) إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق، عجوزاً طاعنة قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة: كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم، واستراحت من الحزن، تطوى أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها. إنها لا تعيش في دنيا الناس ولا يعيشون دنياها إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي افتقدته من زمان، عالم الحيرة وعديّ بن زيد والنعمان، العالم الذي احتوى مسراتها وأحزانها وروحها، فلما مر حمل ذلك كله معه فعاشت من بعده بلا حب ولا مسرات ولا أحزان ولا روح، إلا هذه الذكريات التي تنقر كل يوم نقرة في قلبها، فلو كان حجراً صلداً لتفتت فكيف وهو من لحم ودم؟
لقد بنت هذا الدير وتوارت وراء جدرانه، وعاشت منه في منطقة الحرام بين الحياتين، فلا هي بحياة الناس الدنيا، فيها متعها وملاهيها ومشاغلها، ولا هي بالحياة الأخرى، منطقة وراء الحياة ودون الموت، هي معيشة الدير. وزادها ضيقاً وجموداً أنها في الدير وحدها، بنته لتأوي إليه تناجي فيه ذكريات حبيبها الذي فجعت به، وعافت لأجله الأرض برحبها وسعتها، وصبرت على هذا السجن الدهر الأطول، لا تدري مما وراء بابه إلا طرفاً مما يحمله إليها رجال القوافل الذين كانوا يمرون بها، وكان أقصى ما تصنعه إذا هي نشطت يوماً، وأحبت أن تفارق منسكها، أن تسلك هذا الطريق الذي طالما مر عليها فاتحون ومنهزمون، وسارت فيه الحضارة مصعدة وهابطة، ومشى فيه ملوك وسوقة، وسوقة وملوك، ذهبوا جميعاً إلى حيث لا يؤوب ذاهب، حتى تتعب من المسير، فتجلس على(646/28)
رابية، وتشرف على البلد الحبيب: الحيرة، التي كانت يوماً موطن هواها، وكان فيها الإنسان الذي أعطته قلبها وأعطاها متعة العمر، فترى الحيرة لا تزال ترفل في حلل الخزامي والأقحوان، ولا تزال قصورها البيض تخطر تياهة بين البساتين، ولا يزال نسيمها معطراً بأنفاس المحبين، تطفو على وجهه وسوسات القبل وهمات الغرام. ولكنها لم تكن تحيا فيها، كانت تفكر في ماضيها، وما اصعب أن تعيش المرء في الماضي، ثم تذكر أنه لم يبق أحد من ناس بلدها الحبيب، لقد ذهبوا، ولا تدري أين ذهبوا، ولمَ بقيت هي وحدها من بعدهم؛ وجاء هؤلاء، ولا تدري من أين جاءوا، حتى تغرب الشمس وراء الأفق البعيد، وتمشى الظلمة إلى الكون، فتعود وفي قلبها ظلمة أخرى، ولكنها لا تأمل أن يكر عليها فجر يوم جديد. لقد خلقت ضياء الفجر في طريق العمر فلا تملك أن تعود إليه. لقد كتب عليها أن تعيش في ليل دائم وصمت سرمدي هو صمت هذه الصحراء التي آوت إليها، وآثرت سكناها، الصحراء التي وسع صدرها أسرار الزمان ثم أغلق عليه إلى الأبد. كم بين ترابها ورملها، كم تحت روابيها وقورها، من بقايا قلوب كانت محبة وكانت محبوبة، وأجسام كان فيها فتنة وجمال! وما اقرب ما يصير قلبها هي (أيضاً) تراباً فيها تطؤه أقدام لا تعرف أصحابها. . . فما الحب، وما الجمال، وما الدنيا؟ إنها زوال في زوال.
وقامت العجوز تجر برجلها إلى الدير لتبدأ ليلة مملة كآلاف الليالي التي مرت بها من قبل، ليالي لا آخر لها، ولا أمل يسطع من خلالها. إن السجين يأمل بالعفو ويرجو الحرية، ويتسلى بحديث الرفاق، ويأنس بأحداث السجن، وهي لا ترجو شيئاً ولا تأنس بأحد، ولا تتسلى بحادث. ولطالما أمضت ليالي قصيرة حلوة، تلك هي ليالي الحب والوصال، ليالي زوجها عدي فتى الفتيان، وأبيها النعمان. إنها كلما فكرت فيها رأتها دانية منها، قريبة كأنها لم يطله لها صبح، فأين يا تبصر مكانها من الوجود أفنيت وعادت عدماً؟ لا، إن الفناء لا يقوى عليها في الكون كوجودها في ذاكرتها. إن الفناء لا يدرك حقيقتها كما أن النسيان لا يقوى على محو صورها. إنها لا تشبع من الإيغال في هذا الماضي، لأنها كلما أوغلت فيه وجدت لها طرق ظليلة لا عهد لها بها، قد أزهر فيها المجد وبدا السنا، ورجُاً على كل رابية فراش غرام مرشوش بالعطر والشعر، ووجوه أحبةٍ كانت تعيش بهم ولهم. . .
ولطالما احتوت (من محبتها هذا الماضي) حاضرها فخامرتها فكرة الموت، فمشت تقصد(646/29)
النهر حتى إذا أدنتها خطاها الواهنة من مائه، ورأتها تلمع كالمرآة، أشفقت من الموت وهابته وارتدت عنه للمرة الخامسة بعد الألف. إنها لا تريد أن تموت، ولا تزال متعلقة بالحياة قد أقفرت من المجد والحب.
ولما دلفت إلى مخدعها في الدير سمعت ضجة، قالوا لها، إنه أمير المغيرة بن شعبة يستأذن عليك. الأمير؟ ما لها وللأمير؟ ما شانه بها؟ ما يبتغي لديها؟ أما تركت له ولقومه ملك أبيها فلم لا يترك لها ديرها؟ وفكرت. . . ثم أذنت له فدخل عليها فبسطت له مسحاً، وسألته: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؟
خاطباً؟ إنها كلمة لم تسمعها من عمر طويل، فلما طرقت سمعها هزت وتراً في قلبها كان قد صدئ، ونسيت ضيفها وقفزت إلى الماضي فغلبت عن حاضرها، وغرقت في ذهلة عميقة امتدت أبداً، والمغيرة يرقب جوابها ولكنه كان أكَيَس من أن يفسد عليها أحلامها، فانتظر صابراً. . .
تخيلت أنها قد عادت فجأة تلك الفتاة التي كانت فتنة القلب والنظر، وكانت مطمح الأنفس والفكر قد جمع الله لها المجد كله والجمال كله، فهي عروس الزمان بهاء وحسناً، وهي بنت النعمان أعز عربي عزاً، وأمجده مجداً، وإنها قد عادت أيام الحيرة، ورجع الفصح والشعانين، فخرجت إلى البيعة تتقرب فيها، فلما احتوتها البيعة، وأمنت الأنظار، وألقت عنها خمارها، وأخرجت هذه اللؤلؤة من صدفتها، وأبدت ذلك الجسم الذي كانت تتقطع على الوصول إليه قلوب الرجال، ولم تدر أن الزمان أراد أن يؤلف قصة حب تتلى بعد أربعة عشر قرناً، فجأة بعدي بن زبد الشاعر الجميل ليتخلص النظر إليها، ويقع في قلبه هواها، فلما رأته استنرت منه وسبت جواريها، وظنت أن القصة ختمت قبل أن تفتتح، لم تدر أنها قد سطرت منها الأسطر الأولى (لتكون سفر سعادتها العاجلة وشقائها الطويل) يدا (مارية) الجميلة الخبيثة. . .
لقد كانت مارية تحب عديا، ولا تجد إلى الوصول إليه سبيلاً. إلا أن تأتي بهند لتحلها مكان المحبوبة من قلبه، ترضي بذلك حبها ونفسها، وقد يفنى المحب في الحبيب، فيبنى مسرته على أساس من شقاء نفسه، ومشت بين عدي وهند تدير خيط الحب من حولهما، حتى غدا سبباً قوياً، وجامعة لا تنقطع. لقد صبرت حتى مضى حول كامل على يوم الشعانين ونسيته(646/30)
هند، فواعدت مارية عديا بيعة ثوما، وأغرت هندا بزيارتها، فاستأذنت أمها فأذنت لها وهناك عرفت هناك عرفت هند ما الغرام، وذاقت غصصه. . .
يا ويل مارية! لقد جعلت هنداً مهراً لها لزواج الليلة لقد تعرضت لعدي غداة يوم ثوما فهش لها وبش - وقد كان لا يكلمها - وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة! قال: اذكريها فوالله لا تسأليني إلا أعطيتك إياه.
قالت: أريد. . . وسكتت، وأدركها الخجل، ونطقت عيناها وفهم عنها، فأخذ بيدها إلى حانوت خمار في الحيرة. . . وكافأته بأن وعدته أن تحتال له في هند. . .
وتتالت الصور على قلب هند، فذكرت ليالي زواجها بعدي، فكانت لقوة الذكرى تحس على لسانها حلاوة تلك القبل، وتجد على عنقها لذة ذلك العناق، وعاد قلبها شابا؛ على أن قلب المرأة والمشاعر لا يفارقهما الشباب أبداً. ومدت يدها إلى المغيرة، تحسب أنه لما طغى عليها من الخيال، عدي الحبيب، فلما أحس بها أجفل منها وانتفض، فتهاوى الحلم وتهافت، وهبطت المسكينة إلى أرض الحقيقة الصلدة، فإذا هي لم تفارق أرضها ولم تطر في سماء الأماني وإذا هي تتحسس وجهها فتلقاه ذابلاً ذاوياً ذا غضون. ولا تلقي على لسانها من قبل الحبيب إلا مرارة الفقد، ولا تجد في قلبها إلا ذكرى الفاجعة التي تركت لأجلها دنياها وبنت ديرها فحسبت فيه نفسها، فماذا يريد منها هذا الرجل الذي اقتحم عليها معتزلها في هذه العشية الساكتة، أجاء يخطب عجوزاً قد بقيت وحدها إرثا من الدنيا التي فنيت واضمحلت: دنيا النعمان وكسرى، للدنيا التي يظهر أنها لن تضمحل أبداً: دنيا محمد؟ أيريد أن يتزوج ميتة تمشي؟ لا. بل هو يريد ابنة النعمان، ونسيت تطوافها الأليم بمرابع ماضيها، وغاب عنها الحبيب الذي كان يتراءى لها من وراء حجب الزمان - وأدركها ارثها الماجد من حزم النعمان - فقالت للمغيرة:
(لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم، ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته، فبحق معبودك هذا أردت)؟
قال: (أي والله) قالت: (لا سبيل إليه).
وخرج المغيرة؛ وعادت العجوز إلى مكابدة الذكريات وحيدة في لياليها الطوال. . . وعرض عنها التاريخ لا يلتف إليها فيواسيها؛ لأنه لم يتعود الوقوف إلا على أبواب(646/31)
الملوك؛ وفي ساحات الحروب!
علي الطنطاوي(646/32)
توماسو كمبانلا
لألفرد فيبر
للأستاذ عبد الكريم الناصري
إنا نصيب في بحوث توماسو كمبانلا - وهو كبرونو دومنيكي من جنوبي إيطاليا - ملامح من مقالات الإنجليز والألمان في العقل الإنساني، أعنى من النقد الحديث، ولد هذا البطل الجريء من أبطال إصلاح الفلسفي والحرية الإيطالية بمقربة من (ستيلو) من أعمال كالبريا، سنة 1568، وتوفي في باريس، سنة 1639، بعد أن أنفق سبعة وعشرين عاماً في غياهب السجن بنابُلي، بتهمة التآمر على الحكم الأسباني.
وكمبانلا تلميذ من تلامذة الشكاك اليونان. وقد علمته هذه المدرسة أن الميتافيزيقا تقوم على الرمل إن لم تُبنَ على أساس نظرية في المعرفة. ومن ثم تبحث فلسفته أول ما تبحث في المسألة الصورية.
تنشأ معرفتنا من مصدرين: التجربة الحسية، والاستبدال العقلي؛ فهي إما (تجربية) وإما (نظرية).
هل المعرفة المحصلة بالإحساس يقينية؟
يرى أغلب القدماء أن شهادة الحواس يجب أن تغفل، ويلخص الشكاك شكوكهم في الحجة التالية: ليس الموضوع الذي تدركه الحواس إلا تكفيناً في الذات، وإن الواقعات التي تحصل - فيما تخبرنا الحواس - خارج النفس، إنما تحصل على الحقيقة. الحواس هي حواسي؛ إنها جزء مني؛ والإحساس واقعة تحدث فيَّ؛ وهي واقعة أعللها بعلة خارجية، في حين أن الذات المفكرة قد تكون علتها المعينة ولكن غير الواعية؛ فليس هذا التعليل بأعسر من ذاك. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نستطيع أن نصل إلى علمٍ يقينيٍ بوجود الأشياء الخارجية وطبيعتها؟ إذا كان الموضوع الذي تدركه حواسي لا يريد على انه إحساسي، فكيف أبرهن على انه موجود في الخارج؟ يجيب كمبانلا: بأني أبرهن على ذلك (بالحس الباطن).
فالإدراك الحسي يجب أن يستمد صفة اليقين - التي لا يملكها في نفسه - من العقل: يحيله معرفةً. قد يشك الميتافيزيقي في صدق الحواس، ولكنه لا يستطيع أن يتهم الحس الباطن.(646/33)
بيد أن الأخير يكشف لي عن وجودي بلا واسطة؛ وبيقين لا ظل من الشك فيه. إنه يكشف لي عن نفسي كائناً يوجد، ويفعل، ويعرف، ويريد، ولكن هيهات أن يفعل ويعرف كل شيء. إنه - بعبارة أخرى - يكشف لي وجودي وحدوده معاً. ومن ثم أستنتج بالضرورة أن هناك كياناً يحدني، أو عالماً موضوعياً يختلف عنى؛ أو (لا أنا). وهكذا أبرهن بالمنهج البعدي على حقيقة فطرية، أو قبلية أو سابقة على كل تفكير: وهي أن وجود (اللا أنا) هو علة إدراكي الحسي.
أتدحض هذه الحجة مذهب الشك؟ ألحق أنها لا تبلغ من ذلك كثيراً، وإن فيلسوفنا ليعترف بهذا، ولا يدعى لنفسه النصر والغلبة. فإن قولك إن الحواس صادقة في إرادتنا الموضوعات الخارجية، لا يلزم عنه بالضرورة أنها ترينا هذه الموضوعات على ما هي عليه. إن التطابق الذي تفترضه (التوكيدية) بين نحو تصورنا الأشياء ونحو وجودها إنما هو - في رأى كمبانلا - نتيجة لتماثل الموجودات، وهذا بدوره نتيجة لحقيقة ممتنعة على البرهان: وهي أصل الموجودات الموحد. ثم إنه لا يسلم أن لدى النفس الإنسانية علماً مطلقاً بالأشياء. قد تكون معرفتنا صحيحة، لكنها لن تكون تامة أبداً. وهي إذا قيست بمعرفة الله تافهة أشبه بلا شيء. وقد كنا خُلَقاء أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، لو كانت معرفتنا فعلاً محضاً: لو كان إدراكنا خلقاً. إنا لأجل أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، أو بصورة مطلقة، يجب أن يكون (المطلق) من حيث هو، أي نكون (الخالق) نفسه. على أن معرفتنا وإن كانت مثلا أعلى لا يستطيع الإنسان تحقيقه - وهذا دليلٌ بين على أن هذه الدنيا ليست بداره الحق - فإن من واجب المفكر أن يشتغل بالبحث الميتافيزيقي.
والميتافيزيقا، أو الفلسفة الكلية، باعتبار موضوعها، هي علم مبادئ الوجود أو شروطه الأولى؛ وهي، باعتبار مصادرها وآلاتها ومناهجها، علم العقل، الذي يفوق العلم التجريبي يقيناً وسلطاناً.
والوجود أو الكينونة معناها الصدور من مبدأ والرجوع إليه. ترى ما هو هذا المبدأ؛ أو بالأحرى ما هي هذه المبادئ؟ فإن الوحدة المجردة شيء عقيم. وبعبارة أخرى: ما هي شروط وجود الموجود؟ الجواب:
1 - أن يكون (قادراً) على الوجود.(646/34)
2 - أن يكون في الطبيعة فكرة أو (مثال)، هذا الموجود تحقيق له (لأن الطبيعة لا تحدث شيئاً بغير علم).
3 - أن يكون ثم (نزوع) إلى تحقيق المثال. فالقدرة والمعرفة والإرادة هي مبادئ الوجود النسبي. ومجموع هذه المبادئ، أو (بالأحرى) الوحدة العليا التي تحويها، هي الله. فالله هو القدرة المطلقة، والمعرفة المطلقة، والإرادة أو المحبة المطلقة. وللمخلوقات أيضاً قدرة وإرادة وإدراك، وحظوظها من هذه الصفات تتفاوت بتفاوت قربها بمصدر الأشياء فإن الكون نظام متدرج ينتظم العالم العقلي أو الملائكي أو الميتافيزيقي (الملائكة، والنفس العام، والنفوس الخالدة) والعالم السرمدي أو الرياضي؛ والعالم الزمني أو الجسماني. وكل هذه العوالم - حتى العالم الجسماني نفسه - تشارك في المطلق، وتعكس عناصر الماهوية الثلاثة: القدرة والمعرفة والإرادة.
كل موجود فإنما يصدر عن الكائن المطلق ويسعى إلى الرجوع إليه. وبهذا المعنى يصح أن نقول إن الموجودات المتناهية كلها بلا استثناء (تحب) الله؛ كلها دينة؛ كلها تسعى إلى أن تحيا حياة الخالق اللانهائية؛ كلها تفزع من اللاوجود، وبما أنها جميعاً تحمل في نفسها اللاوجود بالإضافة إلى الوجود، فكلها تحب الله أكثر من ذاتها أن الدين ظاهرة كلية، مصدرها توقف الأشياء كلها على الكائن المطلق؛ وإن علم الدين أو اللاهوت ليسمو على الفلسفة سمو الله على الإنسان.
بالرغم من كل هذا الذي سلمه كمبانلا للكاثوليكية، وبالرغم من رسالته الموسومة (بالإحاد المنتصر)، كانت محاولاته في الإصلاح موضع ريبة الكنيسة، فلم يتحقق منه شيء. وقد يئست الفلسفة بعد أن تظفر بمزيد من التقدم في إيطاليا؛ فتراها من ذلك الوقت تقيم في البلدان التي أنارها أو حررها الإصلاح الديني: في إنجلترا، وعلى ضفتي الراين.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(646/35)
قصة بنى إسرائيل
في القران الكريم
للأستاذ علي محمد حسن
(مهداة إلى يهود القرن العشرين الذين يريدون دخول فلسطين
بالقوة بمناسبة وعد بلفور).
أشرت في عدد سابق من الرسالة إلى بعض مواقف بني إسرائيل مع نبيهم القوي الأمين موسى بن عمران، وعطفت بإشارة أخرى إلى بعض مواقف أجدادنا العرب في نصرة دينهم، وميلت بين الشعبين ووزنت أقدار أولئك بأقدار هؤلاء فشالت كفت الإسرائيلين وخفت موازينهم.
واليوم أهدي إليهم قصة آباهم مفصلة بعض التفصيل، ولست أتجنى عليهم ولا أتزيد فإن الحقائق نفسها أعجب من سبحات الخيال. وسأكتفي - ما استطعت - بما جاء في كتاب الله الحكيم الذي جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه.
ولقد عني القران بأخبار الأمم السابقة لمكان العبرة فيها وموضع العظة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ولكنه عنى عناية خاصة بأعاجيب بنى إسرائيل ليهون على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقاه من يهود المدينة فهم - كآبائهم - أهل غدر وخيانة، وطالما نكثوا عهودهم (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) وليهددهم إذا استمرأوا هذا المرعى الوبئ واستعذبوا هذا الورد الآسن من الغدر والكيد والخيانة بأن مصيرهم كمصائر آبائهم، كما حذر الله النبي والمؤمنين منهم (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) ولقد صدق الله فبأيديهم فتح باب الشر على المسلمين. فتحه عبد الله بن سبأ فنقذ منه الناس إلى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، ومنذ ذلك الحين ومعاول الفتن تهدم في دعائم السياسة الإسلامية، وبسوء دخائلهم اختلطت الخرافات والأساطير بالتراث الإسلامي فكدرت منهله الصافي، وغبرت منهاجه(646/36)
الواضح، ونالت من حقائقه السامية. واليوم يتجلى لنا مصداق هذه الآية، فنراهم مصدر قلاقل للعرب عامة وللمسلمين خاصة وإنا لعلى يقين أنه سيصدق فيهم قول الله عز وجل (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
والعجب - بل ليس بعجيب لان الأمم بأخلاقها - أن بني إسرائيل أعيوا جميع أنبيائهم، حتى بلغ من كفرهم أن قتلوا بعضهم (ويقتلون النبيين بغير الحق). شكا منهم موسى (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) وشكا منهم هرون (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). وشكا منهم داود وزكريا ويحيى؛ وأخيراً يسميهم الله بهاتين الآيتين ويصمهم بهما (لعن اللذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوا، لبئس ما كانوا يفعلون) ثم كانوا شوكة في جنب الدعوة الإسلامية، فحاولوا أن يطفوا نور الله بأفواههم، ولكن الله الذي يعلم خبث نفوسهم عاجلهم بالعقوبة (هو الذي اخرج اللذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتهم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف من قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين).
نزل يعقوب وهو إسرائيل مصر في زمن ابنه يوسف عليه السلام وأعقب بنين أثنى عشر كانوا فيما بعد فرقاً سماهم القران أسباطاً وتكرر ذكرهم فيه، وظلوا ينعمون بخيرات مصر وأرزاقها زمناً طويلاً حتى جاء (رعمسيس الثاني) فاضطهدهم وعاداهم عداء شديداً وجعل يقتل أبنائهم، وأراد الله أن يسبغ عليهم نعمه فنجاهم واهلك عدوهم و (دللهم وأعطاهم حكم الصبي على أهله فأتاهم بالعجائب وفعل بالأمم الظالمة لهم الأفاعيل، واحتمل صلفهم وطغيانهم ولم يترك وسيلة من وسائل استرضائهم إلا فعلها وهم لا يزيدون إلا عناداً ومخالفة عن أمره). جاء موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله وحده لا شريك له ويستوهبه بنى إسرائيل، ولكنه طغى واستكبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأوحى الله إلى موسى أن أسر بعبادي فرأوا فرعون يتبعهم، فالقوا إنا لمدركون. وقال كلا إن معي ربي سيهدين. وفرق بينهم البحر الأحمر وعبروا فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء(646/37)
العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون). وكانت هذه نعمة عظيمة لو أنفقوا أعمارهم ساجدين لله شكراً ما وفوها حقها، لكن نفوسهم الخبيثة أبت إلا أن تستعلن فما كادوا يعبرون البحر حتى نسوا ما كانوا فيه وجحدوا نعمة الله عليهم وطلبوا إلها غير الله يعبدونه (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) وعجبت لموسى أن يكون معهم هذه المرة لطيفاً هادئاً وأن يجادلهم بالمنطق ويدعوهم بالتي هي أحسن (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) وسكنوا إلى حين وخضعوا على دخن، فلما سنحت لهم الفرصة نهزوها فما كاد موسى يذهب لمناجاة ربه حتى صنعوا من حليهم عجلا يعبدون، وعبثاً حاول هرون أن يردهم قال (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فأتعبوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجروا إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).
وهنا نرى عجيبة من أكبر عجائبهم، وذلك أن موسى نخلهم واختار منهم سبعين رجلاً ليتوبوا إلى الله من عبادة العجل، وكان الظن بهم أن يكونوا بررة أطهاراً، ولشد ما دهش موسى حينما قالوا له (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فندد بهم القرآن، وجعلها مخزاة في أعقابهم (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) ووبخ للعرب لما حاولوا يعنتوا مع النبي (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل) ثم أخذ موسى يشرح لهم ما في الألواح ويعرض عليهم شريعته، ولكن رأى من كفرهم وعنادهم ما جعل الله تعالى يريهم آية من آية (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وكان من شأنه بعد ذلك ما ذكرته في (الرسالة) سابقاً من دعوة موسى لهم إلى دخول الأرض المقدسة ونكولهم عنها وخوفهم من سكانها فحرمت عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. وهناك في التيه انزل الله عليهم المن(646/38)
والسلوى وظلل عليهم الغمام ولكنهم يئسوا من هذه النعم وملوها وقالوا يا موسى (لن يصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). ومات هرون في التيه ومات موسى ومات جيلهم القديم فلم يكن من الناشئة إلا كما كان من آبائهم؛ أمروا أن يدخلوا (أريحاء) فدخلوها ولكنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم.
ولعل من أولى مواقف بنى إسرائيل بان نهديه إلى يهود اليوم ما كان منهم مع نبيهم صموئيل (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لهم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ قالوا أو ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليهم بالظالمين). ولو ذهبنا نتتبع جميع مساوئهم لطال بنا القول فنجتزئ بهذا القدر ففيه بلاغ. ولكن يبدو هنا سؤال وهو إذا كان بنو إسرائيل بهذه الأخلاق فكيف اختارهم الله؟ والجواب عند سيدنا موسى على ما ذكرته التوارة: لا تظنوا أن الله سيأتي بكم إلى الأرض المقدسة بسبب قداستكم وطهارتكم وأنكم أفضل الناس في طاعته. كلا. فإنه إنما يطرد الأمم أمامكم لرداءتهم ورجسهم العظيمين.
علي محمد حسن
المدرس بمعهد القاهرة(646/39)
مين دى بيران
(1766 - 1824)
فيلسوف المذهب الروحي في العصر الحديث
للأستاذ زكريا إبراهيم
مين دى بيران فيلسوف فرنسي ممتاز، أدرك الباحثون قيمته بعد وفاته، فاهتموا بنشر مؤلفاته، واعتنوا بدراسة فلسفته. وقد ذاعت شهرته على اثر ذلك، فلقي مذهبه رواجاً كبيراً بين الأوساط الفلسفية التي أقبلت على دراسته.
والفكرة الأساسية التي تقوم عليها مذهب (دى بيران) هي أن الحقيقة الجوهرية الأولى ليست (الذات) باعتبارها مريدة، أي (الروح) باعتبارها فاعلة. فما يكون جوهر الإنسان، إنما هو الإرادة. والإرادة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، لان الإنسان لا يحيى ويحس ويشعر فحسب بل هو يفكر ويريد ويفعل. وإذا كان الإنسان يدرك ذاته، فان لا يدرك هذه الذات فلا باعتبار أنها علة، وقوة، وإرادة، وجهد، وفعل. ومعنى هذا أن نقطة البدء في كل معرفة حقيقية، إنما هي تلك الواقعة الأولية للشعور أو الوعي الإنساني، وهي الحس الباطن أو التجربة الباطنة. وفي هذه البداية يتفق دى بيران مع فخته اتفاقاً كبيرا، حتى لقد سمى كوزان فيلسوفنا باسم: (فخته الفرنسي).
غير أن دى بيران يستبدل بفكرة فخته عن (الفعل) فكرة أخرى جيدة هي فكرة (الجهد). فالواقعة الأولية عند مين دى بيران ليست هي (الإحساس المجرد) الذي يقول به كوندياك وليست هي (الفكر) بالمعنى الذي قصد إليه ديكارت، بل هي (المجهود) الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها.
ولما كانت الواقعة الأولية للذات هي إدراكها لنفسها، من حيث هي قوة حرة، تعمل وتشرع في الحركة، بإرادتها الخاصة؛ فان الصواب (في نظر دى بيران) لا أن نقول (كما قال ديكارت): (أنا أفكر، فأنا إذن موجود) أو بعبارة أخرى: (أنا أدرك نفسي باعتباري حرة، فأنا إذن علة موجودة بالفعل). وفي موضع آخر نجد مين دى بيران يصحح مقال ديكارت فيقول: (إذا كان ديكارت قد توهم أنه اهتدى إلى المبدأ الأول لكل علم حين قال:(646/40)
(أنا أفكر، فأنا إذن شيء موجود، أو جوهر مفكر)، فان في استطاعتنا أن نقول - تصويباً لهذه العبارة - وبالاستناد إلى شهادة الحس الباطن التي لا ترد: (أنا أفعل، أنا أريد، أو أنا أتعقل الفعل في ذاتي، فأنا إذن أدرك نفسي كعلة، وإذن فأنا موجود، أو أنا كائن باعتباري علة أو قوة).
هذه الحقيقة الأولى التي يؤكدها دى بيران بكل قوة (حين يقول إن الذات تدرك نفسها باعتبار أنها مجهود، وإرادة، وفعل) تدلنا على أن فيلسوفنا هذا كان المؤسس الأعظم للمذهب الروحي في العصر الحديث؛ وهو المذهب الذي ساعد على تقدم علم النفس ونظرية المعرفة، العلوم الخلقية على وجه العموم، في نهاية القرن التاسع عشر. والواقع أننا إذا نظرنا بيران، سواء من الناحية الذاتية أو من الناحية الموضوعية، فإننا نجد أنه من أعظم المفكرين اللذين قادونا إلى الناحية الباطنة في الإنسان. بل ربما كان بيران أعظم فلاسفية المذهب الروحي في فرنسا. وهو بالفعل قد توفر على التوسع في المذهب الروحي الذي أقامه أستاذه (ليبنتس)، فأظهرنا على الإنسان (في حقيقة الأمر) ليس ألعوبة في اثر الأقدار، أو عبداً ذليلاً للضرورة المستبدة، بل هو ذات مريدة فاعلة، لا تستمد نشاطها وقدرتها على الفعل من الأشياء الخارجية، بل من جهدها الإرادي ونشاطها الذاتي، أعني من الإرادة)
والنفس الإنسانية - في نظر بيران - لا تتمثل باعتبارها ذاتاً فاعلة، إلا بالممارسة لقوتها الخاصة؛ ما دامت هذه الممارسة حرة غير خاضعة لأية ضرورة أو قوة خارجية، أي ما دامت غير متوقفة على قوى الطبيعة الخارجية.
وقد فرق بيران بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين الإنسان والله من جهة أخرى. غير أنه لم يقصد بهذه التفرقة أن يقيم هوات غير معبورة بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان والله. وإنما الذي اهتم به بيران وقصد إليه فعلا، هو أن يقرر تلك الحقيقة الهامة عنده، وهي أن الحياة الإنسانية بمعنى الكلمة إنما هي تلك التي تعلو على المستوى الحيواني، وما يميز الحياة الحيوانية (في نظره) هو أنها تخضع للانفعالات العمياء؛ أعني أنها لا تتميز بالحرية والإرادة والاختيار. وعلى الرغم من أن بيران لا ينزل بالحيوان إلى درجة (الآلة)، كما فعل ديكارت، فإنه يعتبر أن الحيوان يحيا دون أن يعرف ما هي حياته،(646/41)
ويشعر دون أن يعرف انه يشعر، أي بعبارة أخرى ليست لدية (ذات) أو (إنية).
أما الحياة الإنسانية فإنها تبدأ حيث تنتهي الحياة الحيوانية، أي حيث يبدأ الشعور بالذات، أو التجربة الباطنة التي تدرك فيها الذات نفسها على أنها قوة فاعلة وإرادة حرة. وبعبارة أخرى فإن الإنسان يحيا حياة إنسانية خالصة، إلا بقدر ما يتحرر من الضرورة العمياء، والأهواء الأنانية. والحيوانية داخلة في الحياة الإنسانية، نظراً لان الانفعال موجود في الإنسان إلى جوار الفعل؛ ولكن في استطاعته الإنسان أن يشارك في حياة غير إنسانية، هي حياة الروح التي تعلو على الحياة البشرية. وفي هذا الصدد يتفق بيران مع نيتشه الذي يقول: إن الإنسان وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى - وما يميز الحياة الإنسانية بالنسبة إلى الحياة الحيوانية والحياة الروحية، هو النشاط والشخصية وحرية الفعل؛ أعني المجهود الذي يبذله الإنسان في مقاومة الأهواء، وتنمية قواه النفسية، من أجل الوصول إلى حياة إنسانية بمعنى الكلمة. أما بالنسبة إلى ما هو دون الإنسان أو ما هو فوق الإنسان، فليس ثمة جهاد أو صراع، لأنه ليس ثمة جهد أو مقاومة -.
والحياة الإنسانية هي في أعلى صورها تحرر من نير الأهواء والانفعالات، وتجاوز لمرتبة الحياة الحيوانية، وارتفاع إلى مرتبة الحياة الروحية.
زكريا إبراهيم
مدرس الفلسفة بمدرسة السويس الثانوية(646/42)
من وحي الصيف:
على جبل الرويس
للأستاذ حسن الأمين
سقياً لأيام الرويس فطالما ... كانت لأدواء الفؤاد دواء
نلقي الجمال الغص في ذرواته ... وعلى السفوح الماَء والخضراء
ويشوقنا الإصباح في أفيائه ... وتطيب حول كرومه إمساء
قد جئته قلباً ينوء بدهره ... هماً ويرزح شقوة وعناء
عبست له الدنيا فلم ير باسماً ... للناس إلا أن يكون رياء
رضى الشجون من الحياة صحابة ... ومن الزمان همومه خلطاء
حتى إذا برز الرويس وأقبلت ... دنياه تزخر متعة ورجاء
بعثت هوى القلب القديم وهيجت ... للحب فيه الوجد والبُرَحاء
وجلت لنا الحسن الرفيع وأطلعت ... في كل أفق كوكباً وضاء
وطلعت يا ظمياء في صرح الصبا ... وجهاً أغر ومقلة نجلاء
ودعوت للحب المبرح والجوى ... قلباً خلياً من هواك فجاء
أحببت أفياء الرويس وإنما ... أحببت من حبي لك الأوفياء
فالليلة القمراء فيه لم تكن، ... إلا بوجهك ليلة قمراء
والروضة الغناء ما كانت لنا ... إلا بحسنك روضة غناء
لم يحل لولاك الرويس ولم يطلب ... أرضاً ولم يعذب لدى سماء
قد كنت بهجته وكنت رواءه ... فسما بعيني بهجة ورواء
تمشين في الأرجاء عاطرة الشذى ... فتعطرين بعرفك الأرجاء
ويطل وجهك في السجوف كأنما ... ألق السعادة في السجوف تراءى
وأراك في غسق الزمان فأجتلي ... نور الضحى من مقلتيك أضاء
يا أيها الجبل الأشم أسامع ... نجوى يرددها الفؤاد وفاه
إني لأطرح في ذراك كآبتي ... وأرد عن قلبي بك البأساء
وتهيجني ظمياء فيك ملاحة ... وتثير أشواقي لها إغراء(646/43)
كانت ليالينا عليك ضواحكا ... أبداً وأيام الهوى غراء
أرشفتنا العذب الزلال على الظمأ ... ومنعتنا الأكدار والأقذاء
وعرفت في واديك غر مباهجي ... ولمست تحت ظلالك السراء
إن تحبُني العيش الرغيد فلن أني ... أشدو بذكرك في الحياة غناء
وأرتل الشعر الرقيق منمقاً ... بجمالك الإنشاد والإنشاد
(بغداد)
حسن الأمين(646/44)
البريد الأدبي
رأي الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه:
من يوميات محام
عزيزي الأستاذ عبده حسن الزيات
قرأت كتابك الجديد (من يوميات محام) فقضيت في قرأته وقتاً غير قصير استوعبت خلاله ما جاد به قلمكم من سديد النظرات، وبديع الأفكار والتأملات، وصادق الأماني والآمال وقضيت وقتاً آخر في الإعجاب بالروح التي أملت عليكم هذا الكتاب، إنها روح الرغبة المتوثبة في الإصلاح والنهوض القومي والبرم بما يعترض هذا الإصلاح من شتى العلل والعقبات. فيا حبذا هذه الروح الطيبة ويا حبذا الكتاب الذي يبرزها ويجليها!
رأيتك أيها الزميل تدون خواطرك وملاحظاتك اليومية عن المحاماة والحياة القضائية والاجتماعية عامة، وما أحوجنا إلى أن نتعرف هذه الخواطر والملاحظات، فإن المحاماة ما هي إلا الحياة الاجتماعية على حقيقتها في معاملات الناس، وعلاقتهم ببعضهم ببعض وما يتخللها من صدق أو غش، ووفاء أو غدر، وشجاعة أو جبن، ونبل أو ضعة، وفضيلة أو رذيلة. إننا نشهد فيها صورة متناقضة من الحياة. ولقد جلوت هذه الصور، ومجدت النواحي السامية منها، واستنكرت نواحي القصص والضعف الخلقي فيها فجاءت يومياتك خير دعاية للمثل العليا.
رأيتك في كتابك تشرح بعض مواطن النقص من حياتنا القضائية عامة، سواء في دور المحاكم أو في ملفات القضايا أو في أقلام الكتاب والمحضرين، ولم يفتك أن تأخذ على زملائك في المهنة ما رأيت موضعاً للنقد، وفي الحق إنها لشجاعة أدبية تحمد عليها، وإنها لملاحظات ومشاهدات جديرة بأن تكون أساساً للنهوض في نواح عديدة من نظمنا القضائية والتشريعية؛ فإن هذه النظم على إنها سائرة إلى الأمام في حاجة إلى معالجة وإصلاح مستمرين لا ينقطعان.
وفي كتابك ناحية أخرى جديرة بالاعجاب، وهي انك ما أردت منه إلا الخير والإصلاح؛ وما قصت إلا وجه الوطن، وعندما انتهيت من قرأته عدت إلى التأمل في مقدمته التي تقول فيها: (إلى مصر الخالدة، التي عاهدت ربي أن أعيش من أجلها، وأفنى في سبيلها،(646/45)
عزيزاً على عداتها، ذليلاً على حمايتها، سيداً حر الضمير في خدمتها، عبداً متقرباً إلى الله بإطاعتها). فعلت وتحققت أن الكتاب يعرف من عنوانه.
فتقبل أيها الزميل الفاضل خالص تهنئتي على هذه التحفة الأدبية والاجتماعية والروحية التي أخرجتها لمصر وللناطقين بالضاد؛ وشكراً لك وألف شكر والسلام.
عبد الرحمن الرافعي
مكتبة الكيلاني للأطفال
. . . وهكذا نجحت - يا أستاذ - في أن تحبب إلى الأطفال مكتبتهم وتغريهم بالمطالعة. ولئن أدراك الأطفال - برياض الأطفال - مرداً بعيداً، لقد فتحت لهم، بمكتبة الأطفال - فتحاً جديداً. أدركت أرب نفوسهم، وأبدلتهم أنساً من عبوسهم، وهجت للمعاني أشواقهم، وحسبت لغتهم وأخلاقهم. والأستاذ الكيلاني منشئ مكتبة الأطفال أديب عالمي جدير بما يهدف إليه من نبيل الأغراض. وانه ليسرني - إذ أتابع مع التقدير هذا الجهد العلمي المتواصل - أن ألاحظ مقدار العناية التي تبذلونها في هذا السبيل، والفائدة التي تعود على النشء منه بتهيئة أذهان الأطفال وعقولهم لتقبل خير الأفكار والمعاني وتقديمها لهم على مثل هذه الصورة الطريفة. وإني قد تتبعت هذا المجهود القيم المتصل لا يسعني إلا الإعجاب بما تساهمون به في سد نقص يشعر به جميع الآباء في تعليمم أطفالهم. فشكر الله لك ما هدفت إليه من تنشئة الطفل: مشبوب الشغف بالقراءة والدرس، موفور الحظ من متاع الفكر، مستقيم اللسان على نهج البيان. فهي تتمشى مع طباع الطفل الشرقي وغرائزه حتى يترعرع، وتجعل الحلقة متصلة بين المدرسة والبيت، في قصص مناسبة متماسكة مع نفسية الطفل وعقليته وبيئته وما يهوى سماعه أو يميل لوعيه بأسلوب صحيح فصيح، إذا حفظه الصبي صغيراً نفعه كبيراً. ومن ثم يشب الطفل، وقد صحت ملكته، وأشرت الفصحى فكرته.
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
تفضلت أيها الأخ الكريم فكتبت كلمة جريئة موفقة في نقد (النشيد السوري)؛ وقد أعجبني هذا الشعور الوطني الجميل الذي يدعوك إلى أن تجدد للوطن أناشيده وأهازيجه كما تجددت(646/46)
فيه روح الحرية والاستقلال، ولكني لاحظت أنك عندما تعرضت لنقد هذين البيتين:
حماة الديار ... عليكم السلام
أبت أن تذل ... النفوس الكرام
قد قلت: (ثم هذا السلام المنكرَّ، من منكر القول، وهو بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام أشبه، وليس يليق بهذا المكان، ولا محل له في البلاغة). . . قرأت هذه الفقرة من حديثك فتوقفت، وتفكرت، فذكرت أن قول الشاعر (عليكم السلام) تعبير بليغ لا غبار عليه، وقد اقتدى فيه صاحبه بالقران الكريم - المثل الأعلى لكل بليغ - ففي سورة هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى، وقالوا سلاماً، قال سلام) وفي سورة الذاريات: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً، قال: سلام). ولا شك أن إبراهيم قد أراد أن يكون جوابه أبلغ من تحية الملائكة، اقتداء بأمر الحق تبارك وتعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) فاستعمل الاسم المرفوع الدال على الدوام والثبوت؛ ولذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى حينما تعرض لتفسير آية الذاريات السابقة القول (م 4 ص 29 الكشاف): (سلاماً) مصدر ساد مسد الفعل، مستغنى به عنه، وأصله نسلم عليكم سلاماً؛ وأما (سلام) فمعدول به إلى الرفع على الابتداء، وخبره محذوف معناه عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام كأنه قصد أن يحيهم بأحسن مما حيوه به، أخذا بأدب الله تعالى، وهذا أيضاً من إكرامه لهم)!. . .
ومن هذا يتضح للأخ المفضال أن تعبيره السابق عربي قرآني بليغ، ولولا أن نقد الأستاذ لتعبير الشاعر يمس تعبير القران الكريم من قريب أو من بعيد لما قوى الداعي الذي دعاني إلى توجيه هذا الحديث، وجل المتعالي عن النسيان!
أحمد الشرباصي
من علماء الأزهر الشريف
مجلة كلية البوليس:
صدر العد الثالث من مجلة كلية البوليس الملكية ويشرف على تحريرها الأمير الاي علي بك حلمي. وهى حافلة بالأبحاث القيمة المتصلة بحياة رجال البوليس وعلاقتهم بالمجتمع(646/47)
فضلا عما حوته من البحوث التشريعية والبحوث الاجتماعية الصلة بعمل البوليس. وقد اشترك في الكتابة بها طائفة من كبار رجال القانون والإدارة ممن أشهروا بضلاعتهم في العلم واكتسبوا خبرة عظيمة في شئون الأمن، ولذلك فسحت المجلة صدرها لفريق من طلا ب الكلية فظهرت بها آثار أقلامهم الناهضة.
ومن ذلك نرى أن هذه المجلة تعد نهضة ثقافية جليلة الأثر في حياة الكلية. ومرد الفضل في ذلك إلى مديرها الأمير الاي على بك حلمي الذي اشتهر بهمته في كل ما يلي من عمل والذي عرف ببحوثه القيمة في كثر من نواحي الاجتماع.
ونحن إذ ننوه بفضله نستحث رجال البوليس جميعا على الإفادة من هذا الأثر الطيب، ونستزيد محرري هذه المجلة بحوثاً جديدة في الأعداد القادمة، ونرجو لها التوفيق الدائم فيما ترمي إليه من غرض كريم.
م. ف
تصويب:
وقع (أيضا. . .) في مقالة (هذيان مجنون) في العدد 642 تطبيعات، هذا صوابها:
صفحةعمود سطر خطأصوابه
11421 16 برفقبرفقه
11422 19 على خفقانه عليه خفقانه
أما من ظن أني أسخر بالجمعيات الإسلامية فليسأل الله أن يرزقه الفهم!
علي الطنطاوي(646/48)
القصص
أسطورة من الأدب الروسي:
السلطان وولده. . .
للكاتب الروسي مكسيم جوركي
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
(يعد مكسيم جوركي - شبح الأدب الروسي - قطباً من أقطاب
الثورة البلشقية الذين مهدوا بما كانوا يسطرون لقيامها أمثال
تولستوي والأمير كورباتكين ولد جوركي في سنة 1868،
ونشأ فقيراً يعاني شظف العيش وذاق مرارة الحياة بين تلك
الطبقة السفلى من المجتمع. فكان لذلك أثر جلي في طبع أدبه
بطابع البؤس والشقاء. وفي هذا يصل مكسيم إلى ذروة فنه،
وقد لبث جوركي يقود الحركة الأدبية في روسيا إلى أن وافته
منيته سنة 1930 بعد أن أخرج عدة كتب تعد من روائع
الأدب الروسي؛ منها، (الأعماق السفلي) وكتب (ذكريات
الشباب).
وفي هذه القصة التي نقدمها اليوم إلى قراء (الرسالة) نهج جوركي لهجاً جديداً ولكنه رائع ممتع. . . نهجاً يتجلى فيه خيال جوركي الخصب، وأفكاره البديعة، ومعانيه الجليلة وأساليبه الرائقة.
وسيلمس القارئ الكريم ذلك بيننا في هذه القصة)(646/49)
م. جميل
اعتمد (التتاري) الأعمى إلى جدع الشجرة من أشجار التوت، وراح يقص واحدة من تلك الأساطير التي سطرتها الذكريات في عقله عن شبه الجزيرة القوم. . . والتف حوله حشد من (التتار) في بردهم الموشاة المفوفة، ومطارفهم الزاهية المخلبة. . . وقرت فوق رؤوسهم قلانس مطرزة بالذهب. . .
وقد جلسوا على أحجار دارسة، وأطلال بالية، كانت حيناً قائمة في جدران قصر فاخر لسلطان من السلاطين القدماء.
كانت الشمس تنحدر نحو مستقرها في البحر، فتبعث أشعتها الجاهدة الكليلة وقد راحت تخترق ستور الظلام. . . وتبعث بحلكته، وتميس بين أوراق الطحلب فتخلع عليها روعة وبهاء، وتسيطر على الأطلال فتبعث فيها شيئاً من الرهبة والوراء. . .
وبرحت الريح رخاء تداعب غصون الأشجار، وتصاول الأوراق فيسمع لها حفيف وزفيف. . . وكأن صوت الرجل ينبعث واهناً فيه بعض من الاختلاج والاضطراب؛ أما وجهه فكالصخر جامد لا ينم تجعده على شيء سوى الراحة والهدوء. وانسابت الألفاظ من لسانه حيناً، ومن قلبه أحياناً تعيد لسامعيه صورة جلية للأيام الخالية العامرة بالهناء.
ولم يلبث أن قال في صوت جليل، وجرس ندى:
(زعموا انه عاش في شبه الجزيرة القزم سلطان يقال له. . . (مسيلمة الأسراب) وكان له ولد يدعى (توليق الجلي).
كان هذا السلطان كهلا، يبد أن قصره ضم كثيراً من النساء اللواتي عشقن السلطان الكهل. . . فما زال جسده يمور قوة ونشاطاً، ولا زالت نفسه تمور مرحاً وشباباً. . . وما برحت النساء يعشقن ذا القوة والبأس.! إذ يقال أن الجمال يكمن في ثنايا القوة. . . لا تحت الأظافر الناعمة والوجنات الأسيلة المخضبة. . .
كن جميعاً يعشقن السلطان، ولكن السلطان ينصرف عنهن إلى ظبية سباها في حرب له مع (القوزاق) عند مروج النهر (الدنيبر). . . وكان يخص هذه الفتاة بجل حبه وعطفه وحنانه وينفر عن نسائه وجواريه وقد نيفن على الثلثمائة من كل فج وبلد. نسوة منهن العذراء والخود والبضة، والعطبول والغيداء والغانية والرقراقة إلى غير ذلك. . . كانت كل منهن(646/50)
على جمال رائع كالزهور، وقد تفتحت أكمامها في صبيحة يوم اضحيان من أيام الربيع. . .
لم يبخل السلطان عليهن بمال. . . بل كان ينفق عليهن بسعة ويجلب لهن ما يوددن. . . أتى لهن بالخمر الفاخرة. . . وبما لذ وطاب من طعام وشراب. وكان يأذن لهن بالرقص واللهو كما يحلو لهن. ولكن إيثاره للفتاة القوزاقية بحبه كان ينغص عيشهن بعض التنغيص. . .
كثيراً ما كان يدعو الفتاة القوزاقية إلى جناحه حيث يشرف على البحر المسيطر إلى الأفق. . . حيث أعد لها كل ما تطمح إليه نفس امرأة ويهفو نحوه فؤادها كي نلحقها السعادة في الحياة. . . الحلوة والفاكهة والشفوف والغلائل. . . والقلائد من ذهب، والأقراط من شذور، والوشائح من زمرد. . . وثمت الطيور المعتدلة بأغاريد عذبة. . .
هذا غير ما ميز به السلطان من لطف المعشر ودماثة وفتنته. . . في هذا الفردوس يقيم السلطان أياماً وليالي يمتع نفسه بهذا النعيم ويتذوق الراحة والسعادة وهي تسعى إليه بعد العناء الذي يلقاه من أعباء الحكم. . . يقضي أيامه وقلبه آمن على ولده. . . وقدرته في أن ينهض بعظمة السلطان إبان غيبته. . . فهو يعلم كيف ينسل ولده إلى مروج الروس كالذئب فيغزوها ويغير عليها. . . ثم يعود والنصر يعقد لواءه على رأسه. . . فيكللها بآيات المجد والفخار. . . يعود مثقلا بالغنائم والأسلاب. . . والسبايا الفاتنة. . . يعود بعد أن يخلف الذعر والاضطراب. . . وفلول الأعداء ملوثة بالدماء والهزيمة. . . وحدث مرة أن عاد (توليق) من إحدى غزواته للروس فائزاً مضفراً. . . فأقام حفلا دعا إليه الأمراء وعظماء الدولة ابتهاجاً بالنصر المبين. . . وعقدت المباريات ومدت موائد الطعام. . . وراح القوم يقذفون نبالهم على أعين الأسرى ليعرف من هم أشد الجمع ساعداً؛ وأصوب رمياً. . . وعادوا إلى الشراب ينهالون حتى أترعوا وهو بين ذاك وذاك يمجدون هذا الفوز والنصر الذي أحرزه بطلهم العظيم (توليق الجلي). . . ويشيدون بالخوف والهلع وقد خلفهما يفخران في عظام أعدائه أما السلطان فكان سروره بفوز ولده لا يعادله سرور. . . وكان يعتقد أنه إذا ما انتقل إلى السماء سيستوي على العرش من بعده سلطان قوي مرهوب الجانب. . .(646/51)
رغب أن يبدى لولده مبلغ حبه وإخلاصه له - على مرأى من شعبه ورعيته فهم والقدح في يده وقال:
(بني العزيز (توليق). . . فتح من الله ونصر مبين. . . والنصر آية من آيات رسوله ونبيه. . .)
فارتفع صوت الحشد يترنم بأنشودة حماسية تمجد نصر النبي؛ ثم عاد سلطان فقال: (إن الله عظيم خبير. . . لقد جدد قوته ومضائي في ولدي الأروع. . . إني لأبصر بعيني الغائرتين عندما يغيب شعاع الشمس عنهما إلى الأبد، وعندما يدب الفناء إلى قلبي النابض وأقضي نحبي. . . أني سأحيا ثانية في نفس أخرى. . . في نفس ولدي. . . فسبحانك اللهم أنت الإله الأوحد الجبار. . . لقد رزقتني ولداً عظيما صلبا الساعد، ثابت الجأش رزين العقل. . . فاللهم إني اشهد بوحدانيتك وقدرتك، وأشهد أن محمد رسولك ونبيك.
أبني توليق. . . ماذا تبغي أن تقدم لك يد أبيك؟. اذكر ما تود، وسأمنحك إياه.)
وخفت صوت السلطان رويداً حينما أخذ (توليق الجلي) يتأهب لإعلان رغبته، وقد تألقت عيناه تألق الحر في ضوء القمر. . . عيناه اللتان كأنهما عينا النسر وهو يحوم بقلة الجبل. . . قال أخيراً:
- مولاي وأبت. . . امنحني الفتاة القوزاقية. . .)
وصمت الوالد ليهدئ من روعه، ويسكن من نفسه المضطربة وفؤاده الجياش. . . وبعد برهة رفع صوته ثابتاً لا ينم عما يعتمل بنفسه: (. . . خذها. . . عندما يختتم الحفل).
شملت البهجة والمراح قلب (الجلي). . . وتألقت عيناه النسريتان بدموع الفرح. . . وقال لوالده السلطان في حب وبر:
- أي والدي ومولاي. . . إني لأقدر مبلغ هديتك إياي. . . إني لأقدره حق قدره. . . إني ابنك بل قل عبدك المخلص لك. . . خذ دمي. . . قطرة في كل لحظة. . . سأموت أكثر من ميتة فداء لك. . . يا أبت ويا مولاي. . .)
فقال السلطان وقد طأطأ رأسه إلى الأرض - رأسه الذي طالما كلله بالنصر بآياته سنوات متتاليات - (إني لأرغب عن كل شيء)
آذنت الوليمة بالانتهاء، فهم السلطان وولده يسيران من القصر إلى دار الحريم. . .(646/52)
وكانت السماء تغشيها السحب، فطوت القمر النجوم في حجب مغيبة دام السير طويلا في صمت وسكون. . . وأخيراً قال السلطان (الأسراب):
- ستفنى حياتي يوما بعد يوم، وسيخفت قلبي في خفقانه حيناً بعد حين. . . وستخمد رويداً هذه الجذور المستعرة في جسدي. . . جذوة الحياة. لقد كان الضوء الذي يشع في حياتي، والدفء الذي يبعث لي بالحرارة هي تلك الفتاة (القوزاقية). . . خبرني بني (توليق). . . خبرني إن كنت حقاً في حاجة إليها. . . خذ مائة من حريمي. . . خذهن جميعاً. . . بدلاً منها. . .)
صمت (توليق الجلي). . . فعاد السلطان المتيم يقول:
- لقد تقضت حياتي. . . ولن ألبث طويلاً فوق أديم هذه الأرض. . . فدعني أنعم بحب هذه الفتاة. . . إنها تعشقني. . . من ذا سيحبني بعد أن تنأى عني؟! يحبني. . . أنا يا من دبت في جسدي الشيخوخة. . . من؟ ليست واحدة منهم يا توليق. . .)
- ولكن (الجلي) لم ينبس ببنت شفة. (بالله. . . كيف يتردد لي نفس، وأنا أحسب أنك تعانقها. . . وأنها تقبلك؟. . . إذا كنا أمام المرأة يا توليق فلسنا والداً وولداً. . . ليت جروحي - وقد تناثرت في جسدي - نكأت فسال دمي حاراً دافقاً منها. . . فهذا خير وأفضل من عيشي حتى هذه الليلة. . .)
انتهى بهما المطاف عند باب الحريم، فوقفا - وقد طأطأ كل منهما رأسه إلى الأرض - وشاع الصمت بينهما، وشملهما الظلام. وفي السماء راحت بعض السحب تطارد بعضها والريح تميل الأشجار عن يمين وعن شمال. . . وكأنها تترنم لها. . .
قال (توليق) في صوت هادئ رزين (يا أبت. . . لقد أحببتها) فقال السلطان (أعلم هذا. . . كما أني أعلم أنها لا تحبك)
- إن قلبي لينفطر حينما أفكر فيها. . .
- إني لأشد منك حباً لها. . .
وعاد الصمت يحلق فوقهما ويرين عليهما. . . فقال (الجلي) في صوت فيه ألم، وفيه عزاء:
- لقد أدركت الآن صدق الحكمة القائلة (المرأة خلقت لمتاعب الرجل) إن كانت حسناء(646/53)
راحت تغري الآخرين ليتملقوها فتوقظ في زوجها آلام الغيرة والحسرة. . . وإن كانت قبيحة، فزوجها يعاني من قبحها ويعاني آلام الحسد ومرارة الحقد على غيره. . . وإن لم تكن بالجميلة ولا بالقبيحة راحت تتدلل على زوجها وتجعله يعتقد انه لم يقم بواجبه نحوها، فهي إذاً مصدر شقاء الرجل وتعاسته في هذه الحياة. . .)
فقال السلطان:
- ليست الحكمة دواء ناجعاً لشقاء القلب! يا بني
- يا أبت. . . يجب أن يشفق كل منا على الآخر
فرفع السلطان رأسه، وراح يحدق في ولده. . . فقال (توليق)
- يا أبت. . . دعنا. . . دعنا. . . نقتلها
فشك السلطان غير طويل ثم قال في تمتمة هادئة:
- إنك تحب ذاتك أكثر منها ومني؟!
- أجل. . . وأنت الآخر!
فقال السلطان بعد هنيهة في صوت شاع فيه الألم، وشاع فيه الحزن حتى لكأنه ارتد صبياً
- نعم، وأنا الآخر
- سوف نقتلها يا أبت
- لن ادعك تأخذها لنفسك. . . لن أدعك
- لا اقدر على مجالدة هذا طويلاً. . . إما أن تمزق قلبي أو تتركها لي. فلم يقل السلطان شيئاً. . . (أودعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى. . .) فراح السلطان يردد هذه العبارة، وكأنه رجع الصوت الذي أطلقه ولده. . . وهو يهز رأسه في شرود وألم
- دعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى. . .
دخلا الحريم، واتخذا وجهتيهما حيث مرقدها في فراش وثير وثمين. . . فوقفا ساهمين ينظران. . . وفي قلب كل منهما لهفة شوق. . . وألم
وانحدرت من مقلتي العجوز دمعات فسالت على وجنتيه. . . ثم تألقت على لحيته - وقد حاكت الفضة في لون شعرها - أما ولده فقد قام بعينين لامعتين. . . يصر على أسنانه ليخفى ذلك الهوى الذي يضطرب بين جوائحه. . . وقد راح يوقظ الفتاة (القوزاقية). . .(646/54)
أفاقت من نعاسها، تفتحت عيناها على وجنتيها الورديتين فكأنهما زهرتان من أزهار الأقحوان. . .
لم تبصر (التوليق) ولكنها مدت شفتيها الأرجوانيتين إلى السلطان
- قبلني، يا نسري العزيز. فقال السلطان في رقة:
- انهضي. . . ينبغي أن تأتي معنا. . .
ووقع طرفها على (الجلي)، والدمع يتألق محبوساً في عينيه. . . فما أسرع ما أدركت، وفهمت كل شيء. . . وقالت:
- هه. . . سآتي. . . سآتي. . . ليس لواحد منكما. . . أليس هذا مبتغاكما؟ وما قر عليه أمركما. . . للقلوب القاسية أن تقرر وعلى النفوس الضعيفة الواهنة أن تطيع. . . سآتي معكما. . .
وأنطلق ثلاثتهم شطر البحر في صمت وسكون. . . سلكوا في سبيلهم مسالك ضيقة، والريح لها صوت كعواء لبن آوى. . .
كانت الفتاة نحيلة الجسد، هيفاء القد. . . فما أسرع ما أدركها الوهن والعناء؛ ولكن كانت تعاني هذا في صمت، ولا يند عنها ما ينم عليه. . . وإذا لمح ابن السلطان ما اعتراها - وكان يسير إثرهما - أسر لها (أأنت خائفة؟!)
فلمعت عيناها، وأشارت إلى قدميها الداميتين. . . فقال وهو يمد ذراعيه إليها (دعيني أحملك!)
بيد أنها نفرت منه إلى عنق نسرها العجوز. . . فرفعها السلطان كالريشة حاملاً إياها. . . بينما راحت تثني أغصان الأشجار وتزيحها من أمام وجهه
وطال المسير. . . وأخيراً طرق أسماعهم صوت البحر وهو يهدر ويزمجر على مبعدة منهم. . . قال (توليق) موجهاً الحديث لأبيه (دعني أمض أمامك) وإلا حدثني نفسي الأمارة بالسوء أن أغمد خنجري في ظهرك)
- أمض. . . كما تشاء. . . إن الله سيغفر خطيئتك هذه. . . ويعفو عن إساءتك. . . فقد غفرت لك وعفوت عنك، إني لأعرف ما هو الحب يا بني!
وأخيراً أبصروا البحر يجثم تحتهم. . . كانت صخرتهم سامقة والظلام يسربلها. . . الظلام(646/55)
الذي ليس له حد ولا نهاية؛ وراحت الأمواج تهدر بألحان الموت وهو يسري بين الصخور. . . وقد أخفاها الظلام يحفه القر والخوف.
قال السلطان بعد أن طبع على ثغرة الفتاة قبلة حارة (وداعاً). وقال (الجليّ) وهو يحني هامته لها (وداعاً. . .).
ألقت الفتاة بطرفها إلى ما تحتها حيث صخب الموج يردد ألحان الرهبة والجلال. . . فضمت يديها إلى صدرها وقالت في هلع وفرَقَ (اقذفا بي. . .)
فمد (توليق) يديه إليها وهو يئن ويتأوه. . . ولكن السلطان أخذها بين ساعديه وضمها إلى صدره وقبلها ثانية. . . ثم رففهما فوق رأسه وألقى بها من الصخرة الشاهقة إلى واد سحيق. . . وارتفعت ألحان الموج. . . ألحان الموت. . . أجل رهبة وأشد فزعاً. . . ولم يسمع للفتاة صيحة وهي تلقى في الماء، أو تلقى حتفها على الصخور.
وتهالك السلطان على نشز وراح يحملق في الظلام يحاول بطرفه يخترق سجف الليل. . . سجف الغيب. . . وما برحت الأمواج تلطم الصخور في جنون وهوج. . . والريح تهب عاصفة في أعقاب موكب الموت. . . تعبث بلحية السلطان العجوز.
وجلس (توليق) جواره وقد دفن وجهه بين راحتيه، لا يتحرك ولا ينبس. . . وكأنه الصخر. . .
وتقضي الوقت والسحب يطارد بعضها بعضاً في جو السماء. . . شاعت الكآبة في ثنايا الظلام الرهيب المهيب، وكأنها تلك الأفكار التي راحت تطوف سوداء بخاطر ذلك العجوز. . . وهو جاثم على هامة الصخرة السامقة، ومن تحته البحر يهدر في وادِ عميق. . . قال (توليق):
- (يا أبت. . . دعنا نمض. . .).
فنبس السلطان همساً، وكأنه يتوجس نبأة تسري في الهواء: (مهلاً) وعاد الوقت يمضي، والأمواج تتلاطم في عبث وجنون من تحتها والريح تصفر بين الأشجار كعواء ابن آوى. . . وعاد الابن يردد عبارته، فردد السلطان إجابته. . . وكان هذا التردد مراراً. . . كأن السلطان لا يبرح مكانه. . . وقد قبر فيه بهجته ومراحه. . . وأيامه الخوالي. . .
بيد أن لكل شيء نهاية، فلم يلبث السلطان أن قام نشيطاً، ولكن عابس الوجه، مقطب(646/56)
الجبين وقال في صوت شاع فيه الجفاء:
- (هيا. . . بنا!)
وانطلقا. . . ولكن لم يلبث السلطان أن وقف قائلاً:
(لم أنطلق معك يا توليق. . . وإلى أين؟! لم أعيش بعدها؟! لم أعيش بعد أن ذهبت بعيداً عني. . . إني عجوز زلن يهوني أحد ثانية. . . وإذا يهواك فليس ثمت خير في أن تعيش بهذا الكون!).
- (إنك ذو مال! وذو مجد يا أبت!).
- دعني ارتشف من ثغرها قبلة من قبلاتها نظير هذا المال). . .
هذا المجد. . . يا بني. إن الناس جميعاً أموات في هذه الحياة والحي منهم الذي يعشق النساء. . . إن الحياة هباء بغير النساء،
يا بني. . . بارك الله فيك وفي ملكك. . . في حياتك وفي مماتك).
واتجه السلطان شطر البحر. . . فصاح (توليق) في هلع (أبت. . . أبت. . .). ولم ينطق بغير هذا. . . لأنك لا تجد الكلمات تلفظها لرجل يلقى حتفه باسماً راضياً. . . رجل آيس من حياته.
- (دعني أرحل. . .) فقال (توليق): (الله يا أبت. . .)
- (أن الله يعلم، وسيغفر لي) وبخطا سريعة مضى السلطان إلى نهاية الصخرة. . . وألقى بنفسه إلى أحضان الوادي. . . لم يسمع شيء فقد عصفت الريح إثر موكب الموت وهو يمضي في جلال. . . وراحت الأمواج تدوم هديرها، وكأنها في عراك عنيف مع الصخور. . .
- وأخذ (توليق) ينظر ويطيل النظر إلى حيث الهوة السحيقة. . . إلى حيث الموت تحت قدميه. . . ثم ارتفع صوته جليلاً ورأسه إلى السماء: (يا إلهي. . . أسألك أن تلهم قلبي الصبر والسلوان. . . وأن تغفر لوالدي وتشمله برحمتك إنك غفور رحيم).
ثم مضى عائداً إلى قصره والصمت يحف به. . . حتى غيبه الليل في مطارفه. . .).
مصطفى جميل مرسي(646/57)
العدد 647 - بتاريخ: 26 - 11 - 1945(/)
في مصر فلسفة
للأستاذ عباس محمود العقاد
نعم في مصر فلسفة
ونحمد الله على ذلك كما حمد فردريك الكبير ربه على أن في برلين قضاء
ولكننا نحن أولى بالحمد من فردريك الكبير، لأن القضاء العادل ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية يتفقدها الناس إذا فقدوها، ويجدونها إذا طال تفقدها، وكان بهم صلاح لوجودها.
أما الفلسفة فلا يبحث عنها من يفقدها، لأن من يفقدها يجهلها ولا يحفل بها، وقد يسخر منها إذا سمع بذكرها، وقد يتفق أصدقاؤها وأعداؤها على أنها نافلة من النوافل وزيادة من الزيادات، وإن قال الأصدقاء أنها نافلة الكمال ولا غنى عن الكمال، وزيادة الفضل ولا تطيب للفاضلين حياة المفضولين
فإذا كان القضاء العادل ضرورة محسوسة فصناعة الفلسفة ليست بضرورة من ضرورات المعاش، أو هي على الأقل ليست من الضرورات المحسوسات: تلك ضرورة وطن وزمن، وهذه ضرورة لا يشعر بها الإنسان إلا إذا تجاوز نطاق الأوطان وأصبح نطاقه الكون كله، في كل زمان
أو هي العلم الكلي كما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي:
(فان العلوم منها جزئية ومنها كلية، والعلوم الجزئية هي التي موضوعاتها بعض الموجودات أو بعض الموهومات. . . مثل علم الطبيعة فإنه ينظر في بعض الموجودات وهو الجسم من جهة ما يتحرك ويتغير ويسكن عن الحركة، ومن جهة ما له مبادئ ذلك ولواحقه. . . أما العلم الكلي فهو الذي ينظر في الشيء العام لجميع الموجودات مثل الوجود والوحدة، وفي أنواعه ولواحقه، وفي الأشياء التي لا تعرض بالتخصيص لشيء شيء من موضوعات العلوم الجزئية مثل التقدم والتأخر والقوة والفعل والتام والناقص وما يجري مجرى هذه، وفي المبدأ المشترك لجميع الموجودات، وهو الشيء الذي ينبغي أن يسمى باسم الله جل جلاله. . . لأن الله مبدأ للموجود المطلق لا لموجود دون موجود. فالقسم الذي يشتمل منه على إعطاء مبدأ الموجود ينبغي أن يكون هو العلم الإلهي، لأن هذه المعاني(647/1)
ليست خاصة بالطبيعيات بل هي أعلى من الطبيعيات عموماً. فهذا العلم أعلى من علم الطبيعة، وواجب أن يسمى علم ما بعد الطبيعة. . .)
وكلام صاحبنا الفارابي على تركيته العربية أوعربيته التركية كلام صحيح في التعريف بفضل الفلسفة أو البحث في ما وراء المادة وما وراء الزمان والمكان، ولكننا بعد ما قدمناه في موقع الفلسفة من الضرورة نعود فنقول: إنها ليست من البعد عن حياتنا الفردية أو حياتنا الاجتماعية بحيث تخرج من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، وإن الإنسان ما عيش وإن يعيش بغير فلسفة حياةٍ منذ بحث في العلاقة بينه وبين العالم المنظور والعلم المحجوب، ومرحلة الحياة كما قلنا في بعض كتبنا الحديثة: (كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة، ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها. غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة والثاني لا يقرأها، أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله والثاني يؤدي له الثمن من مال غيره.
والعجب أن بعض الفضلاء من طلاب الحقيقة لا ينظرون إلى الفلسفة هذه النظرة، ولا يحجمون عن نعتها باللغو الفارغ والهذر الذي ليس وراءه طائل، وكذلك فعل الكاتب النزيه الأستاذ نقولا حداد حين جرى البحث على صفحات (الرسالة) عن وحدة الوجود، فضرب المثل على سخف المذاهب الفلسفية القديمة بقول فيثاغورس أن العدد هو سر الوجود، وإن النسبة بين الأشياء هي نسبة بين أعداد
قال فيثاغورس ذلك قبل خمسة وعشرين قرناً، فكان فرضه هذا أقرب إلى الصدق من فروض علمية كثيرة فتن بها الناس إلى سنوات
وقاله فيثاغورس حين رأى أن الأوصاف كلها قد تفارق الموجودات من لون أو لمس أو صلابة أو ليونة أو وزن أو ما شابه هذه الأعراض الكثيرة إلا العدد؛ فانه ملازم لكل موجود، فرداً كان أو اكثر من فرد، وكاملا كان أو غير كامل، وأن الفروق بين الأشياء هي فروق بين تركيب وتركيب أو فروق بين نسب الأعداد، وأن الكون كله (دور موسيقى) هائل يدور على قياس منسجم كما يدير العازف الماهر الحان الغناء
وأنشد الكون ألحانه التي لا عداد لها، وتوالت الفترات التي بعدها نحن بالسنوات والقرون، وظهر اليوم للباحثين أن الأجسام نسب بين أعداد، وأن الفارق بينها فارق في هذه النسب(647/2)
دون غيرها، وأن التناسق في هذه النسب اصدق من أجرام المادة الملموسة باليدين، وأن الأصح في تركيب الذرة أن يقال انه (عددي) لا أنه (مادي) ملموس
وإذا قال فيثاغورس هذه المقالة قبل خمسة وعشرين قرناً، فليس من حقه أن توصف مقالته بالفراغ وهي أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود وفوارق الأجسام، وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء إن أصل المادة أثير
وكان الفلاسفة يبحثون في العقل والمادة من عهد الفراعنة إلى عهد اليونان إلى عهد العرب إلى عهد الأوربيين المحدثين
يسأل سائل: أهما محدثان أو قديمان؟
ويسأل آخر: وإذا كانوا محدثين فمن الذي أحدثهما؟
ويسأل غيرهما: وإذا كانا قديمين فكيف يتفق قديمان ليس لواحد منهما بداية ولا نهاية؟
ويعود هذا السائل أو ذاك فيقول: وإذا كان أحدهما سابقاً للآخر وموجوداً له فأيهما الأول وأيهما الثاني في ترتيب الوجود؟
ويفترق المجيبون فيقول فريق منهم: إن الحيوان ظهر بعد الجماد وإن الإنسان ظهر بعد الحيوان، فالمادة أذن اسبق إلى العقل من الترتيب
ويقول آخر: إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن العقل أشرف من المادة، فهي لا تخلقه وهو أولى بأن يخلقها ويسبقها في الوجود على الأقل سبق العلة للمعلول
كلام فارغ هذا؟
أهو كلام لا يعنينا ولا يدخل في حسابنا؟
كلا. . . لأن التفسير المادي للتاريخ مذهب عمليٌّ في الحياة الاجتماعية قام على القول بأن المادة هي القديمة وأن العقل هو الحديث، وتوطدت عليه دعوة (كارل ماركس) التي فعلت بعد ذلك الأفاعيل في مجرى السياسة العالمية وفي مجرى العلاقة بين الطبقات، ولو استطاع فيلسوف أن يقنع الإمام وأتباعه بقدم العقل وحدوث المادة لتغير تاريخ الكرة الأرضية وتغيرت نظرات الملايين من الناس إلى الحياة
فهذه الصناعة التي تسمى بالفلسفة لا تغادر الطبيعة كل المغادرة ولا تنطلق منها إلى ما وراءها بغير رجعة إلينا في حياة الغذاء والكساء(647/3)
وإهمال هذه الصناعة غير مأمون على مهمليها، لأن الفرق بين الفلسفة الصالحة والفلسفة الطالحة قد يكون فرقاً بين ثورة واستقرار، أو بين حرب وسلام، أو بين هداية وضلال
ونحن حين نذيع البشارة بقيام الفلسفة في مصر لا نذيع بشارة في سماوات الخيال، ولا ننسى الذين يعيشون ويعلمون أنهم يعيشون لأنهم يأكلون ويشربون ويلبسون، أو لأنهم لا يطلبون من هذا الوجود مطلباً غير المأكل والمشرب واللباس
نعم في مصر فلسفة
نعم وفيها عناية بالكتب الفلسفية
وآية ذلك أننا تلقينا في عام واحد نحو عشرين رسالة في المباحث الفلسفية وما إليها، وعلمنا أنها تقرأ في بيئة المتعلمين الذين يؤدون الامتحان المدرسي وتقرأ في بيئة المطلعين الذين يقنعون بالاطلاع
من هذه الرسائل القيمة رسالة للأستاذ الجليل مصطفى عبد الرزاق باشا عن فيلسوف العرب والمعلم الثاني والشاعر الحكيم وابن الهيثم وابن تيمية، فيها أو في تعريف ينال بمثل هذا الإيجاز
ومنها كتابا الأسرة والمجتمع والمسؤولية والجزاء للدكتور علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، وقد نوهنا بالكتاب الأول في (الرسالة) وثانيهما في طبقة الأول من حيث الإفادة والتحقيق
ومنها كتب ثلاثة في (الفلسفة الرواقية) وسيرة الإمام محمد عبده، وشخصيات ومذاهب فلسفية للدكتور عثمان أمين، وأولها أوفى كتاب بالعربية في موضوعه، ويضارع خيرة الكتب الأوربية في هذا الموضوع، وقد أنصف الأستاذ الإمام في سيرته الوجيزة، وصحح أوهاماً شائعة في الشخصيات والمذاهب الفلسفية، وأغنى المتطلعين إلى هذه البحوث عن كثير من المراجعات
ومنها التعليم عند القابسي للدكتور الأهواني، وهو بيان لفن من الفنون كان المضنون أن العرب أهملوه، فألم الدكتور بتاريخه وشرح آراء القابسي فيه
ومنها كتاب التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام، وكتاب الشعراني إمام التصوف في عصره، وكتاب الأحلام للدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بجامعة فاروق الأول، وكلها نمط(647/4)
واحد في حسن التقسيم وتقرير المعلومات وفطانة التعقيب
وظهرت إلى جانب هذه الكتب القيمة والرسائل المسعفة مجلة مقصورة على علم النفس للأستاذين يوسف مراد ومصطفى زيور تعنى بأشراف البحوث المتخيرة في موضوعها، وتشغل مكاناً لم يكن بالجميل أن يفرغ بعد الآن باللغة العربية
ويجب أن نقرر هنا أننا أحصينا ما رأيناه، ولم نحص كل ما صدر للجمعية الفلسفية أو لغيرها من دراسات الفلسفة والتصوف وعلم النفس وما إليها
وبعض هذا يكفل للمباحث الفلسفية حيزاً موقراً في هذا البلد ويجيز لنا أن نقول: أن في مصر فلسفة، وإنها بشارة تذاع، لأنها بعض الأدلة على انتقال المصريين من عالم الضرورة إلى عالم الحرية والاختيار، ومن أسر الحاجة التي لا تخلو من عبودية إلى شرف الكماليات التي لا تخلو من عزة وارتفاع
وقد وودنا لو استطعنا أن نبسط القول في كل كتاب من هذه المجموعة النفسية، لولا أنها حرب خاطفة تقابل بإشارات خاطفة، وإذا بلغ بأصحاب الفلسفة أن يشكو الناس سرعتهم ونشاطهم، فتلك علامة خير وحجة على من يحسبون الفلسفة قرينة للدعة والركون إلى السكون
لكن نشاطهم هذا يغريني باقتراح عليهم أوحاه إلى حديث مع أستاذ الجيل وكاشف أرسطو للعرب في هذا الزمان العلامة الكبير أحمد لطفي السيد باشا مد الله في عمره وأدام به النفع والهداية
فالأستاذ قد ترجم لأرسطو كتاب الأخلاق وكتاب الكون والفساد وكتاب السياسة، وينوي أن يترجم له كتاب الروح أو كتاب ما بعد الطبيعة
وما ترجمة الأستاذ الجليل هو أصح ما نقل عن المعلم الأول إلى اللغة العربية، وقرين في الصحة والوضوح لأفضل الترجمات في اللغات الأوربية
ولكن لا يزال الغلط البالغ محيطاً بالمنقولات الأخرى عن أرسطو منذ تصدى له البساطرة والإسرائيليون الأندلسيون، لأن الجلة من أولئك المترجمين كانوا يجهلون معاني الفلسفة ويجهلون دقائق العربية، ولا ندري الآن مبلغ علمهم باليونانية، وليس أولى بتصحيح أغلاطهم من عصرنا هذا الذي تيسرت فيه مراجع الفلسفة اليونانية وتيسرت فيه العناية بها(647/5)
والترجمة عنها
وقد قد خطر لي أن ترجمة أرسطو وأفلاطون عسيرة على الفرد إذا استقل بها، ميسرة للجماعة إذا تعاونت عليها، فماذا على شبابنا الفضلاء المتفرغين للفلسفة بأنواعها لو تقاسموا بينهم آثار الحكيمين جميعاً ففرغوا منها في عام واحد أو عامين؟
أن في أرسطو وأفلاطون لما يصلح العقول ويقوّم التفكير حتى في هذا الزمان، وما تباعد فيه الخلف بين آرائهما وآراء عصرنا حقيق بالدراسة كتلك الآراء الخالدة التي لم يطرأ عليها الخلف والتغيير، لأن دراسته دراسة لعقل الإنسان، وهو موضوع الدراسة في كل أوان
وعمل الجمعية الفلسفية ناقص إذا بقيت اللغة العربية بين لغات الحضارة خلواً من ترجمة صحيحة للحكيمين الخالدين، وظننا بها أنها قادرة على التمام
وطلب التمام على من يستطيعه فرض عين في لغة الحكماء، وهي هنا قريبة من لغة المتصوفة ولغة الفقهاء
عباس محمود العقاد(647/6)
تطور التجارة نحو وحدة عالمية
(وهي محاضرة ألقاها معاليه بقاعة بورت التذكارية)
لصاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا
دعاني قسم الخدمة العامة إلى أن أفتتح موسمه الثقافي هذا العام عن تطور هذا الاتجاه نحو وحدة عالمية. وإني لأشكر للقائمين بالأمر فيه هذه الدعوة، وإني أتقبل بالسرور أن أساهم بنصيب في نشر الثقافة العامة في مصر. ومما يسعدني أن المعاهد العلمية والدوائر السياسية في هذه الأيام تبدي اهتماماً بدراسة مصير العالم من حيث ارتباط بعضه ببعض، فإن الله بعث أرواحنا في الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزداد نوراً بالتضامن، وقد وضع في قلوبنا بذور السعادة فلا محل لأن ننتزعها بالحرمان والتفكك بل يجب أن ندعو دائما إلى الحقائق العلمية.
إن السلام العام لا يتم بترك الأمور تجري في طريقها، فحوادث العالم وتاريخها وطبيعتها كلها تحملنا على القول بأن نار الحروب لن تخمد، ولكن جهود التخريب يمكن مغالبتها بالعمل على تحويل وجهة الحوادث، وهذه المهمة تقع اليوم على عاتق الشعوب أكثر من غيرها، وهو أمر يتوقف على إرادتها الإجماعية. وهذه الإرادة لابد أن توجه مجر الحوادث إلى طريق وحدة عالمية للأمن والسلام
ولا ريب أن التطور الذي نشاهده اليوم نحو هذه الوحدة ليس وليد هذه الحرب بل قد بدأ منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما اخترعت الآلات الصناعية وانتشرت في مناطق الفحم والحديد فتوجهت جهود الشعوب إلى ميدان الصناعة والاقتصاد وبدأ العالم يتجه نحو وحدة اقتصادية؛ وإذا كان أساطين السياسة قد جهلوا أو تجاهلوا هذا التطور منذ بدايته مدفوعين بأغراض سياسية فإنهم اليوم يجهرون به ويعملون لتنظيم العالم تبعا لمقتضياته.
وإذا كلن مفهوماً أَيها السادة فيما مضى مع تباعد الأمم وعزلتها أن يقوم للوطنية المبنية على وحدة الجنس واللغة وحدها قائمة فقد أصبحت حال شعوب العالم اليوم مرتبطا بعضها ببعض، وأصبح القول بغير ذلك ضربا من الأثرة يرضي به كبار الساسة خيلاءهم. ولا عجب فالعالم يتطور قطعا نحو وحدة عالمية. إذ قد ارتبطت أجزاؤه كلها برباط وثيق وأصبح ما يصيب أدناه يشعر به أقصاه شعوراً ليس مبناه العاطفة وحدها وإنما أساسه(647/7)
المنفعة. فما أُحرى الناس أن يكونوا جميعاً في الإنسانية أخواناً يتميز الصالح بعلمه وعمله لا القوي ببطشه وجبروته؛ وهي كلمة قالها الله تعالى في كتابه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وهكذا قالها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً ولم يجعل للعرب فضلا على من عداهم من الأمم بل سوى بين الجميع وجعل الأفضلية للتقوى وللعمل الصالح المفيد
سادتي:
قبل أَن أتحدث إليكم عن أثر الواقع في تطور العالم اليوم نحو وحدة عالمية يجدر بي أن أضع أمام أنظاركم صورة من هذا التطور في القرن التاسع عشر فأروي لكم ما تحدث به مستر كارول رأيت الذي كان مديراً لمكتب العمل بالولايات المتحدة في أحد تقاريره من أنه كان يوجد صانع مسامير يدعى يوناتام في ولاية مسانشوسيت وقد رأى في منامه في ليلة من ليالي عام 1813 شبحاً يطلب إليه أن يرفع أجور عماله بما يوازي النصف وأن يخفض ثمن مبيعاته بما يوازي الثلث تقريباً، فشجب يوناتام قائلا إنه بهذا يسير نحو إفلاس محقق، ولكن الشبح أخبره أن أرباحه ستضاعف أضعافا مضاعفة. واستيقظ يوناتام من رؤياه منزعجاً وهو يعجب لهذا الأمر. ولم يمض وقت طويل حتى قدم إليه بعض المهندسين بآلة صناعية تدار بالبخار لعمل المسأمير؛ وما استخدمها يوناتام حتى تضاعف إنتاجه ونقصت أثمانه واتسعت تجارته وكثرت أرباحه وأصبح هو وأحفاده من أغنياء أمريكا.
يؤكد المستر كارول أيضاً أن هذه الرؤيا لم تكن خيالا وإنما كانت حقيقة واقعة، إذ أنه أجرى تحقيقاً دعمه بالأسانيد والأرقام فيما أنتجته الآلة البخارية التي استخدمها يوناتام من نتائج يستخلص منها أنه مع تضاعف أجور العمال قد تضاعفت الأرباح وتحقق للمستهلكين وفر كبير في أثمان المبيعات. وكذلك تحققت رؤيا يوناتام التي كانت في ظاهرها حلما من الأحلام.
أيها السادة:
إن اختراع الآلة الصناعية يدل على مبلغ التطور الذي حدث للعالم ويؤيد أن صاحب العمل والعامل والمستهلك جعلهم جميعاً يستفيدون وكانوا قبل أن توجد خصوماً لا ينتفع أحدهم إلا(647/8)
على حساب الآخرين.
هذا هو حادث يوناتام عندما استعمل الآلة الصناعية، وتذكرون بجانبه ما كان من أمر الزعيم غاندي في الهند إذ دعا منذ سنوات إلى العودة لاستعمال مغزل القرون الوسطى فلم يصب طريقته النجاح في مزاحمة الآلة الصناعية، فاضطر الهنود بعدها إلى استخدام الآلات للغزل والنسج. وذلك لأن الحياة في هذا العصر غيرها في القرون الوسطى، ولان الآلات الصناعية حلت محل الأعمال اليدوية بسبب سرعة إنتاجها وقلة تكاليفها.
ويظهر من هذين الحادثين أن الآلة الصناعية جعلت من حلم يوناتام حقيقة ومن حقيقة غاندي حلماً لم يتحقق، والواقع أنه منذ اخترعت الآلة وسخرت لخدمة الإنسان أحدثت انقلابا كبيراً في حياة الشعوب والأمم اقتصادياً واجتماعياً بل وسياسياً. وإذا كان هذا الانقلاب لم يتخذ شكلا ظاهراً منذ قرن كما هو وأضح لنا الآن فما ذلك إلا لأن هذا التطور لم يحدث طفرة، ولأن ارتباط الشعوب اقتصادياً كان متمشياً مع انتشار الآلات وتحسينها تدريجياً وتخصص كل بلد بما اعتاد صناعته.
وإليكم ما حدث في إنجلترا مثلا عندما استخدم رجال الصناعة آلة المنزل التي اخترعها هارجريفز في منتصف القرن الثامن عشر فإنهم لم يفكروا أصلا في غير أرباحهم ولم يخطر ببالهم أنهم - سيحدثون انقلاباً عظيما في حياة الأفراد - وفي علاقات الدول إذ أن الواقع أن انتشار صناعة الأقمشة الصوفية والأجواخ في إنجلترا فتحت أمام نشاطها آفاقا جديدة فأوجدت لها أسواقا عالمية جعلت مقادير الصوف الخام - من الخراف الإنجليزية غير كافية لسد حاجات تلك الأسواق الكبيرة فولت الصناعة وجهها شطر أستراليا والأرجنتين وغيرهما لتستورد منها الأصواف فانتعشت بهذا تربية الأغنام في تلك البلاد النائية وأصبحت في إنجلترا قاصرة على تحسين النسل، وبهذا اختصت إنجلترا بالغزل والنسيج، واختصت أستراليا والأرجنتين بتربية المواشي حتى قيل إن أجر جز الصوف في أستراليا يوازي ثمنه، وأن قطعة القماش من الجوخ المصنوع في إنجلترا من صوف استراليا أقل ثمناً في سدني باستراليا من مثلها المصنوعة في أستراليا نفسها؛ ذلك لأن كلا البلدين أصبح مع مرور الزمن أخصائياً في عمله لا يستطيع الآخر أن يزاحمه فيه.
وكان الحال كذلك في الأقمشة الصوفية، فمنذ عرف أن المناخ الرطب في منشستر لغزل(647/9)
ونسيج الموسلين ونحن نشهد إقامة الأنوال والمناسج في إنجلترا وأمريكا وغيرهما كما نشهد زراعة القطن في المساحات الواسعة في دلتا المسيسبي ودلتا النيل وغيرهما.
وكل ما قيل بصدد الصوف والقطن يقال بالنسبة لباقي المصنوعات من آلات حتى المواد الغذائية وغيرها.
هذا ولا ريب أن نقل المواد الأولية من الأقطار البعيدة إلى الأقطار الصناعية ثم توزيعها مصنوعة إلى البلاد الأخرى يقتضي تحسين طرق المواصلات البحرية والبرية، ولها نرى منذ منتصف القرن التاسع عشر بناء السفن التجارية فضلاً عن مد خطوط السكك الحديدية والخطوط التلغرافية كما ترون العمل على تحسين طرق المواصلات الجوية والوصول بها إلى أوجها - كل هذا جعل الكرة الأرضية معروفة اليوم بسكانها ومعادنها وحاصلاتها؛ فإذا بسطنا خريطة جغرافية رسمت قبل اختراع الآلات وجدنا مساحات واسعة مؤشرا عليها بما يدل على إنها مجهولة لنا كحوض الأمازون ووسط أفريقيا وأستراليا نفسها، أما اليوم فقد اكتشفت الأرض جميع ما تملك وعمل على استغلال كل ما بها بل أصبحت بلاد العالم مرتبطا بعضها ببعض وتأثر بعض الأمكنة بما يحدث في الأخرى
فإذا ما ظهرت دودة القطن في مصر، أو نزل الصقيع على محصول بأمريكا، أو حدث إضراب العمال في المصانع الإنجليزية هبطت أسهم شركات النسيج أو نقصت أثمان الصوف تبعاً لهذا.
كذلك إذا ما حدث اضطراب في وسائل النقل واضطربت حياة الشعوب والأمم، فقد رأينا كندا في الحرب الماضية تستخدم القمح كوقود لأفرانها بينما كانت شعوب أوربا لا تجد الخبز بغير البطاقات بشق الأنفس.
والخلاصة من هذا كله أن التطور الصناعي خلق أسواقا عالمية سواء لأجل استيراد المواد الأولية أو لتصريف المنتجات الصناعية وأن هذه الحالة تقتضي طبعا المزاحمة الأجنبية فلا يتسنى بسبب هذا الترابط الاقتصادي لأية أمة أن تستهلك وحدها كل محصولها أو كل منتجاتها فهي مضطرة أن تبحث عن أسواق للفائض عن حاجتها وتتخذ لهذا الغرض إجراءات داخلية تأخذ شكل الحواجز الجمركية، وإجراءات خارجية تأخذ شكل المعاهدات التجارية في صيغة (أولى الدول بالمراعاة) فإذا ما تصادمت مصلحة دولتين في كل هذه(647/10)
الميادين قامت بينهما حرب تجر وراءها بسبب الترابط الاقتصادي العالمي حرباً عالمية.
ولقد شهدنا في مدى جيل واحد حربين عالميتين وعرفنا الفروق بين هذا النوع من الحرب والحروب الأخرى، ففي العهود السابقة كانت الحرب موضعية تقع بين بلدين أو أكثر ولكنها لم تكن لتتعدى الجيوش المحاربة، وكانت تبتدئ وتنتهي دون أن يشعر باقي الأهالي المدنيين الآمنين بأهوالها، بل كانت أشبه شيء بعملية جراحية تلتئم جروحها سريعاً في موضعها لتعود الحياة العادية كما كانت من قبل.
أما الحروب العالمية اليوم فهي حروب تجند من أجلها الشعوب فيرسل الشبان إلى ميادين القتال، والشيوخ إلى مصانع الأسلحة والعتاد، والنساء إلى المزارع والمستشفيات؛ كذلك تجمع من أجلها القوات الزراعية والصناعية والمعدنية والمالية؛ وفوق ذلك فان ويلاتها وأهوالها تمتد من ساحة الوغى إلى ما وراء خطوط القتال فتخرب المصانع وتهدم المساكن وتدمر الطرق والجسور وتغرق البواخر وتقطع المواصلات البرية والبحرية كما تزهق أرواح الأبرياء من النساء والأطفال ثم تعقبها بعد إنهاءها الثورات السياسية والأزمات الاقتصادية.
سادتي:
لقد احتمل العالم هذه الويلات زهاء أربع سنوات في حرب سنة 1914 وست سنوات في الحرب الأخيرة؛ فإذا كانت المدنية الحاضرة لم تندثر معالمها وإذا صح أن يكون ذلك دليلا على ما لتلك المدنية الصناعية من قوة المقاومة إزاء هذا التدمير والتخريب فقد صح كذلك وجود عيوب في نظام العالم الحاضر الذي لم يستطع أن يتفادى في مدى جيل واحد حربين عالميتين من هذا النوع في التدمير والتخريب الذي لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.
وفي يقيننا أن هذه الحال لن تتغير وأن احتكاك الدول لن يتبدل ما لم يعمل على أن ندخل في نظام حياتنا العامة وعلاقاتنا الاقتصادية ما يضمن لنا الاستقرار والاطمئنان.
ولا ريب أن كل شيء في هذا الوجود يولد ثم ينمو ويشب ثم يكبر ويهرم فيموت؛ لذلك كان نظام الحكم وعلاقة الدول ببعضها من أكثر الأمور تطوراً لا في المظاهر الشكلية بل في جوهر الأمور وكيانها؛ فان الخمسة والعشرين قرناً الماضية من تاريخ الإنسانية تشهد بان نظام العالم قد انتقل من حكم أقوى العائلات إلى نظام الجمهوريات اليونانية القديمة،(647/11)
إلى محاولة أيجاد الإمبراطوريات العالمية في عهد الاسكندر والدولة الرومانية، إلى نظام الإقطاع في القرون الوسطى، إلى نظام الملكية المطلقة إلى الديمقراطية الحاضرة.
إن هذا التطور الدائم في نظام الحكم جاء تبعاً لتطور الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الأزمان الماضية.
كما لا ريب عندنا في أن العالم في وقتنا الحاضر وهو تحت تأثير الاكتشافات العلمية واختراع الآلات الصناعية وإتقان طرق المواصلات بين أجزاء العالم قد تطور تطوراً خطيراً من شأنه أن جعل جميع الشعوب والأمم التي وصلت إلى درجة ما من المدنية مرتبطة ببعضها ارتباطاً اقتصادياً فلا يسع شعباً من الشعوب أن يستكفي وحده بكافة حاجاته من المآكل والملبس وغيرهما بل هو في حاجة إلى تصدير الفائض، وبجانب هذا فان العلاقات بين الدول كانت تتطور حتى أخذت شكل القانون الدولي الذي كان يتطور هو كذلك تبعا لمقتضيات الظروف بعد كل نزاع.
(البقية في العدد القادم)
محمد حافظ رمضان(647/12)
حول قضية فلسطين
أيها العرب. . .
استيقظوا واحذروا
للأستاذ سيد قطب
إن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!
ويسوءني أن أكون نذير سوء؛ ولكن لأن نواجه الحقائق الواقعة، خير من أن نستنيم للأحلام.
حينما صدر الكتاب الأبيض الإنجليزي أعلن كل عربي مخلص أنه لا يرضى عن هذا الكتاب، وأنه صدمة لآمال العرب بما نظمته من استمرار الهجرة الصهيونية فترة أخرى، وإن تكن موقوتة، تصبح بعدها الهجرة مرهونة بمشيئة العرب، إن شاءوا أمضوها، وان شاءوا لم يسمحوا من بعد بها.
واليوم يتمسك العرب بسياسة الكتاب الأبيض، ويدعون إنجلترا للمحافظة عليها، وهم يرون في تصريح (بيفن) الأخير نقصاً لها، واستمراراً في الهجرة إلى غير موعد!
إذن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!
تتأخر، فيصبح الكتاب الأبيض الذي كان بالأمس موضع شكوى العرب، وهو موضع رجائهم. وينقلب الحد الأدنى - أو ما هو دونه - حداً أعلى لآمال العرب أو الناطقين باسمهم في هذه الأيام.
ألا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!
فلننظر فيم كان هذا الانقلاب؟
صدر الكتاب الأبيض بالأمس ترضية للعرب الثائرين الساخطين، فرفضوه واستصغروه. فلما سرى البرد إلى دمائهم الباردة ودب الخدر إلى أعصابهم الثائرة، رضوا عن الكتاب الأبيض، ووقفوا ينتظرون. . .
والغي الكتاب الأبيض اليوم ترضية للصهيونيين الثائرين المعتدين، يرفضون إلغاءه ويستصغرون اقتراحات (بيفن) الأخيرة، لأن العرب لا يزالون في خدر لذيذ يستنيمون(647/13)
إليه. . . ذلك أنهم يثقون بالضمير البريطاني!!!
ومن هنا نستطيع أن نعرف: متى يسترضينا الإنجليز، ومتى يسترضون الصهيونيين؟!
فلننظر إلام تؤدي اقترحات (بيفن) الأخيرة؟
ستفتح أبواب الهجرة الصهيونية بعد إغلاقها، وستؤلف لجنة تحقيق - لم تؤلف بعد - لتنظر في قضية فلسطين وقضية اليهود عامة. وما دامت هذه اللجنة لم تنته من تحقيقاتها الواسعة المدى فسيظل سيل الهجرة يتدفق على فلسطين!
أهي سنةٍ؟ أم سنتان؟ أم خمس سنوات؟ أم هي التعلة الدائمة لاستمرار الهجرة إلى غير ميعاد؟ فإن ضجر العرب يومذاك أو تبرموا كانوا قوماً عجلين، لا يريدون أن تعمل اللجنة في جو هادئ، ولا يمكنون للحقائق في الظهور!
ثم يوجد من العرب من يرى في مثل هذه الاقتراحات أساساً صالحاً لقضية فلسطين.
إلا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!
للإنجليز أن يهللوا لاقتراحات (بيفن) الأخيرة. فهي انتصار للسياسة الإنجليزية التقليدية. . . انتصار لها من شيء الوجوه:
1 - الانتصار الأول جر أمريكا لاحتمال التبعات في فلسطين دون أن يكون لها شيء من المغانم! وتصوير هذا بأنه استماع لصوت أمريكا في حل القضية المعقدة التي استطاع الصهيونيون الأثرياء أن يحركوا لها (ترومان) وسواه. فإذا انتهوا إلى حل فلن تستطيع أمريكا رفضه وهي الشريكة فيه!
2 - والانتصار الثاني تثبيت صفة الانتداب الإنجليز على فلسطين باسم جديد (الوصاية) باعتراف من الولايات المتحدة في هذه المرة. فلقد كان الانتداب من (عصبة الأمم) التي اعتزلتها الولايات المتحدة وكان المرجو هو استقلال فلسطين!
3 - والانتصار الثالث هو (التأجيل) طابع السياسة الإنجليزي الأصيل. فالتأجيل وترك العقدة للزمن يحلها الحل المناسب هو الطابع الدائم للسياسة الإنجليزية، وبخاصة مع الأمم الصغيرة الثائرة لحقوقها المهضومة، - والزمن دائماً في صف الأقوياء لا الضعفاء - وهذه الاقتراحات الأخير تضمن للسياسة التقليدية أقصى مدى، لأنها في أيدي لجنة تحقيق لا يجوز أن يستعجلها أحد عن استجلاء الحقائق! وإلا كان متعنتاً لا يريد للحقائق الظهور!(647/14)
4 - والانتصار الرابع هو التوفيق بين سياسة الأحزاب الإنجليزي كلها في علاج قضية خارجية. والإنجليز يبتهجون لمثل هذا التوفيق لأنهم جميعاً إنجليز!
للإنجليز أن يهللوا لهذه التصريحات الأخير في صحفهم عامة، ولكن ليس للعرب أن يخدعوا بهذا التهليل، لأن لهم في القضية موقفا آخر يستدعي التفكير المستقل عند النظر في الأمور. وقضية فلسطين قضية عادلة لا يضيرنا فيها التحقيق؛ ولكن متى كانت عدالة القضايا الوطنية كافية لتقرير الحق في الأمور؟
والآن. . . ما هو طريقنا المأمون!
طريقنا ألا نثق بضمير أحد، فما لأحد في العالم الغربي ضمير! لقد برهنت هذه الحضارة الغربية على إفلاس في الضمير لا عهد للعالم به في جميع الحضارات السابقة.
وقبل أن نثق بالضمير الأوربي أو الأمريكي، يجب أن نتذكر لفرنسا حوادث سوريا ولبنان - وهي قريبة لم تغب عن العيان - ويجب أن نذكر لإنجلترا يوم 4 فبراير الشنيع؛ ثم موقفها في إندونيسيا - وهو حاضر الآن - ويجب أن نذكر لأمريكا نداء (ترومان) ونصرته للصهيونيين!
طريقنا ألا نثق بضمير أحد، وإلا نستنيم لدعوة مّا من دعوات الثقة بهذا الضمير.
وطريقنا ألا نستنيم لمخدرات التأجيل إلا إذا وقفت الهجرة وقفاً تاماً حتى يتم التحقيق. فلقد رأينا أن الزمن ليس في صالحنا. بضمته شاء أحد أن يستنيم فليتذكر متى صدر الكتاب الأبيض بوقف الهجرة الصهيونية في موعد محدد، ولماذا صدر هذا الكتاب. ثم ليتذكر متى ألغي الكتاب الأبيض وأبيحت الهجرة من جديد. ولماذا كان هذا الانقلاب؟
صدر الكتاب الأبرياء ترضية للعرب الساخطين الثائرين، وصدر تصريح بيفن الأخير ترضية لليهود المعتدين الإرهابيين!
وطريقنا أن يرد زعماء الأمة العربية ما بأيديهم من السلطة إلى هذه الأمة نفسها لترى رأيها في الموقف الجديد، فهي صاحبة الأمر قبل الزعماء أجمعين.
ولأطلقها صيحة صريحة قاسية:
أيتها الأمة العربية: احذري حتى رجال السياسة من أبنائك. لا لأنهم قد يخونوك أو يخدعونك، ولكن لأنهم هم قد يخانون ويخدعون! ولأن كراسي الحكم قد تكون في بعض(647/15)
الأحيان وثيرة إلى حد تستنيم له الأعصاب الثائرة وتنحدر فيه الدماء الفائرة!
أيتها الأمة العربية: خذي الأمر في يديك من جديد، فأني أرى موقف يستدعي جهود الشعوب نفسها لا جهود الزعماء منفردين.
وما يخدعك أيتها الأمة - في كل قضاياك الوطنية لا في قضية فلسطين وحدها - إلا مخدوع يقصيك عن الأمر ويستنيم للوعود!!!
سيد قطب(647/16)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن احمد الخطيب
- 6 -
اليسر ورفع الحرج
من أبين خصائص التشريع الإسلامي، وأبرز محاسنه ومزاياه يسر أحكامه، وبسهولة تكاليفه، ومسايرة أوامره ونواهيه للطبيعة البشرية، والفطرة الإنسانية، التي لم يمسسها دنس ولا رجس، ليس في ذلك شيء يعنتها، ولا حكم يشق عليها؛ ولا غرو، فهي شريعة الرحمن الرحيم، وتنزيل من الخبير العليم، ووحي وهداية من العزيز الحكيم، وتفصيل وبيان من رسوله الصادق الأمين، الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم.
والآيات القرآنية في ذلك المعنى مستفيضة: قال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر)، ولما شرع الله - جلت حكمته - التيمم عند عدم وجود الماء أشار إلى حكمة ذلك التيسير والتخفيف في قوله في سورة المائدة: (وإن كنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون)، كذلك قال الله - جل شانه - في سورة الحج: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج).
ومثل ذلك الأحاديث، فإنها جمة متضافرة على هذا المعنى، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده: (أحب الدين إلى الله الحنفية)، وفي شمائله صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما).
وحسبك في ثبوت هذه المزية، ورعاية الإسلام لها، والبناء كثير من الأحكام عليها أن عدت أساساً من أسس التشريع الإسلامي، وقاعدة من قواعده، التي عول عليها فقهاء الإسلام، وعلماء النشر، والقائمون بالاجتهاد فيه، فراعوا اليسر، ورفع الحرج فيما استنبطوه من الأحكام، ووضعوا تلك القاعدة التشريعية التي جمعت بين وجازة اللفظ، وإصابة المعنى،(647/17)
واستحصاد الرأي، وهي قولهم: (المشقة تجلب التيسير).
بتلك القاعدة شرعت أحكام كثيرة، روعيت فيها طبيعة الإنسان، وقوة احتماله، وما يناسب غرائزه وجبلته وقدرته: فلم تجب الزكاة إلا إذا بلغ المال نصابا، ولم يجب إلا جزء يسير منه كربع العشر، وكره أو حرم الطلاق والمرأة حائض، حتى لا تطول عليها العدة، ووجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، رفعا للحرج، وفرض الحج في العمر مرة: نقل العلامة أبو السعود عند تفسير قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) أن عليا رضي الله تعالى عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله كتب عليكم الحج، فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محصن، وقيل هو سراقة بن مالك، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى إعادة مسألته ثلاث مرات، فقال رسول الله: ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم. . . فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). وعلى هذه القاعدة انبنت جميع رخص الشرع وتخفيفاته. وللكثرة الكثيرة المتفرعة عليها من أحكام الفقه ومسائله قيل إنه يرجع إليها غالب أبواب الفقه.
وقد ذكر العلماء للتخفيف أسباباً، ومنها:
1 - المرض، ومما يتعلق به جواز التيمم للمكلف عند الخوف على نفسه، والقعود في صلاة الفرض، والفطر في رمضان، والإنابة في الحج بشروطه، وإباحة محظورات الإحرام في الحج مع الفدية، وإباحة النظر إلى العورة للطبيب.
2 - السفر، ومما يتعلق به قصر الصلاة الرباعية، والفطر في رمضان، وترك الجمعة والعيدين.
3 - العسر وعموم البلوى: كوجوب الصوم شهراً في السنة، والحج في العمر مرة، ووجوب ربع العشر فقط في الزكاة تيسيراً - على ما سبق ذكره - وأكل الولي أو الوصي من مال اليتيم بقدر أجرة عمله، وإباحة النظر للمرأة عند الخطبة، ومن ذلك مشروعية الطلاق لما في البقاء على الزوجية المشقة والعنت عند تنافر الأخلاق، وتعذر المعاشرة بالمعروف، ومشروعية الوصية عند الموت ليتدارك الإنسان ما فاته من البر في حال(647/18)
حياته، ونفذت في الثلث دون ما زاد عليه دفعاً لضرر الورثة، حتى إذا لم يكن هناك وارث نفذت ولو كانت بكل المال. ومن التيسير في عموم البلوى إسقاط إثم الخطأ عن المجتهدين، والاكتفاء منهم بالظن، إذ لو كلفوا الأخذ باليقين لشق عليهم الوصول إليه.
4 - النقص، وهو نوع من المشقة، لأن النفس مجبولة على حب الكمال فناسب التخفيف في التكليف. ومما ترتب على ذلك عدم تكليف المجنون والصبي، وعدم تكليف المرأة بعض ما يجب على الرجل، كالجهاد إذا لم يكن النفير عاماً.
وفي معنى القاعدة المتقدمة قول الشافعي: (إن الأمر إذا ضاق اتسع)، وقول أئمة الحنفية: التسهيل يراعى في مواضع الضرورة والبلوى العامة.
هذا التيسير في التشريع، وهذه الرخص التي أتت بها الشريعة تخفيفاً على العباد في مواطن الحرج والمشقة - إحدى مزايا الإسلام وتشريعه مما يعد آية على أنه جاء رحمة للعالمين.
- 7 -
مراعاته مطالب الجسد والروح
كذلك من مزايا التشريع الإسلامي توفيته بمطالب الجسد والروح معاً في حدود الاعتدال، فهو وسط جامع لحقوق الجسد والروح، ومصالح الدنيا والآخرة، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).
فالإسلام بتعاليمه، ووصاياه وتشريعاته - جعل المسلمين وسطا بين الذين تغلب عليهم الحظوظ الجسدية، والمنافع المادية، وبين الذين تغلب عليهم التعاليم الروحية، وتعذيب الجسد، وإذلال النفس، كما يتجلى ذلك مما أسلفنا ذكره وبيانه في المميزين الرابع والسادس، وتلك مزية أخرى من مزايا الإسلام وتشريعه، تشهد له بمراعاته الفطرة الإنسانية السليمة، وبتحقيقه مصالح العباد، وتهيئة أسباب السعادة لهم في الدنيا والآخرة.
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب(647/19)
رأي جديد في
حماد الرواية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
الرواية في عصر حماد:
لن نتحدث هنا عن الرواية في عصر حماد من حيث هي رواية مستقلة لها مظاهرها الخاصة، وإنما سنتحدث عنها من حيث هي طور من أطوار الرواية العربية. ومعنى هذا أننا لن نفصل بينها وبين أطوار الرواية العربية قبلها، وإنما سنتحدث عنها وعن تلك الأطوار معاً. ونحن نقصد من هذا إلى أن نفهم هذه الرواية على وجهها، وان نتفهم المقدمات التي أدت إليها.
بدأ العرب يدونون شعرهم في أخريات القرن الأول للهجرة، وليس معنى هذا أنهم كانوا يجهلون الكتابة قبل هذا التاريخ، فقد كانت الكتابة معروفة لديهم قبل الإسلام بزمن طويل تدلنا على هذا تلك (المخربشات) التي تسمى خطأ بالنموذجية واللحيانية، وتلك (المخربشات) التي عثر عليها في الصفا بجوار دمشق؛ وهي كلها مكتوبة بخط ينتمي إلى الخط العربي الجنوبي. ثم هناك نقش النمارا بسوريا، الذي نجده على قبر امرئ القيس بن عمرو اللخمي، والذي هو مكتوب بالخط النبطي المشتق من الأرامي؛ وهو يرجع إلى سنة 328 م. تدلنا هذه الآثار كلها على أن الكتابة كانت معروفة لدى العرب قبل الإسلام. لكن هذه الكتابة لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار؛ فقد كانت لا تعبر عن الحركات الممدودة، كما كانت خالية من الإعجام. إنما أدخل الاعجام على الكتابة في أيام الحجاج فانتقلت به الأبجدية من 15 حرفاً إلى 28 حرفا؛ كما أن نظام الحركات لم يستقم إلا بعد أيام الحجاج بزمن طويل.
قلنا إن الكتابة العربية لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار. ولكننا نجد الأستاذ بروكلمان (تكملة الجزء الأول من كتابه صـ 131 - 132) يرى أن الخط النبطي الذي كتب به نقش النمارا ربما اصطنع في أمور الحياة الخاصة، وربما دونت به قصائد الشعراء النصارى بالحيرة؛ ويصل من هذا إلى أن مرجليوث وطه حسين قد حادا عن الصواب(647/20)
حين أنكرا اصطناع الكتابة لدى عرب الشمال قبل العصر الإسلامي، وحين انتهيا إلى أن الشعر الجاهلي منتحل كله.
يرى بروكلمان أن بعض الشعر الجاهلي قد دون في الجاهلية، وأنه لا سبيل إذن إلى إنكار الشعر الجاهلي كله. ونحن لا نستطيع موافقته على هذا الرأي، أولا لما قدمناه من قصور الكتابة قبل الإسلام عن أن تدون بها الأشعار. وثانيا لأننا لا نعلم شيئا عن ذلك الشعر الذي دون في الجاهلية. ومهما يكن من شيء، فهو على حق حين يأخذ على مرجليوث وطه حسين إنكارهما اصطناع الكتابة قبل الإسلام؛ ولكنه يحيد عن الحق حين ينتهي إلى أن بعض الشعر الجاهلي صحيح، لأن اصطناع الكتابة ليس معناه تدوين الأشعار وحفظها من الخطأ.
على أن بروكلمان يعود فيقول إن تدوين الأشعار في الجاهلية لم يغلب على روايتها شفاها، وإنما كانت الرواية الشفهية هي الغالبة. وهو في هذا القول يقترب كثيرا من الرأي الذي نأخذ به، من أن الرواية الشفهية للأشعار كانت السائدة في الجاهلية. بل إننا نرى أن الرواية الشفهية ظلت سائدة حتى أخريات القرن الأول للهجرة، أي بعد كتابة القرآن بزمن طويل. ونحن نفسر هذا بأن للعادة سلطانها وغلبتها، وأن العرب ظلوا على روايتهم الشفهية للأشعار جرياً مع العادة ومسايرة لها. هذا إلى أن طبيعة اشعر العربي القديم، وهي طبيعة غنائية، من شأنها الترغيب في الإنشاد والرواية الشفهية، لا الترغيب في التدوين والنقل.
بدأ العرب يدونون شعرهم في أخريات القرن الأول للهجرة. ومعنى هذا ن الشعر الجاهلي لم يتئد إلينا إلا بالرواية الشفهية. فهل من الممكن أن يكون هذا الشعر قد تئدي إلينا هكذا سالما؟ وماذا يضمن لنا أنه ظل بعد تلك المدة الطويلة من الزمن على حاله التي صاغه فيها قائلوه؟ ليس من ريب في أن أبياتا كثيرة يقولها الشاعر في الافتخار بقبيلته وهجاء أعدائها، فيتناشدها قومه ويتناقلونها، قد بقيت ولم تحل صورتها. ليس من ريب في هذا، ولكن هناك قصائد طويلة كالمعلقات ما كانت لتبقى لو كان بقاؤها وقفاً على تناشدها وتناقلها. إنما هم الرواة الذين حفظوها لنا، ونقلوها إلينا، فقد كان لكل شاعر راويته الذي يصحبه، ويحفظ أشعاره، وينقلها إلى الناس. وكان كثير من الرواة شعراء، وكان كثير من الشعراء رواة. فامرؤ القيس راوية أبي دؤاد، وزهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي، والحطيئة(647/21)
راوية زهير، وهدبة بن خشرم راوية الحطيئة، وجميل عذرة راوية هدبة، وكثير خزاعة راوية جميل. وكانت مهمة الرواية لا تقتصر على حفظ الأشعار؛ وإنما كانت تجمع إلى حفظ الأشعار شرح ما فيها من إشارة، وإيضاح ما فيها من انبهام، وحكاية ما أحاطها من ظروف.
كانت رواية الشعر في أثناء الجاهلية وفي خلال النصف الأول من القرن الأول هوية يقصد بها التلهي وتزجية الفراغ؛ ولكنها أخذت بعد ذلك تصطبغ بصبغة المهنة، وتلبس لبوس العمل الذي يرجى منه الكسب. وبعد أن كان كل راو مختصا بشاعر واحد في أغلب الأمر، يفرغ له ويعكف على شعره حفظا ورواية وشرحا؛ أخذ الرواة يكونون طبقة خاصة، تعنى بحفظ الكثير من الشعر القديم والمعارف المتنوعة. فلما بدأ تدوين الشعر في أخريات القرن الأول للهجرة، كان الكثير من أشعار الجاهلية وأخبارها دائراً على الألسنة والشفاه.
إذن فالرواة هم الذين حفظوا لنا الشعر القديم، ونقلوه إلينا؛ ولكن ليس معنى هذا أنهم قد أدوا إلينا كل هذا الشعر القديم. فقد امتدت يد العفاء إلى كثير من هذا الشعر. ذلك لأن كثيرا من الرواة قتلوا في الحروب، أو توفاهم الله، دون أن يخلفوا وراءهم من يصل روايتهم وينتهي بها إلى غايتها. هذا إلى أن قبائل كاملة، ومعها رواتها، قد انتشرت في البلاد البعيدة بداعي الغزو والفتح، فنسيت لغة صحرائها وأخبار جاهليتها وأشعار شعرائها الأقدمين. كذلك ليس معنى هذا أن ما وصلنا من الشعر القديم قد وصلنا سالماً صحيحا. ذلك لأنه قد زيد عليه أشياء، وسقطت منه أشياء، وأبدل فيه شيء من شيء؛ وهو ما يرجع السبب فيه إلى طبيعة الرواية الشهية وقصور الواعية الإنسانية.
قلنا إن رواية الشعر كانت في الجاهلية وصدر القرن الأول الهجري هَوِيّة يُقصد بها التلهّي وتزجية الفراغ، وإنها أصبحت بعد ذلك عملا يرجى من وراءه الكسب. ونقول الآن إن هذا التطور الذي لحق رواية الشعر ليس إلا صدى لتطور لحق الحياة والناس. ذلك لأن العصر الإسلامي الجديد لم يلبث طويلا. حتى أتى بوجوه من الحياة جديدة، وميول نفسية جديدة؛ وحتى صرف معظم المسلمين عن الشعر القديم، ذلك الشعر الذي أصبح يمثل روح الظلال والكفر، إلى ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، ألا وهو القرآن والحديث. وهكذا أخذت صناعة الشعر كما يفهمها القدماء في الاضمحلال والذبول وأخذت أشعار الجاهلية(647/22)
وأخبارها في الاندثار والعفاء. لكن شيئاً حفظ على الرواية رونقها الذي كاد يبليه العصر الجديد، وحفظ على الرواة مكانتهم التي كانت تريد أن تزول؛ بل جعل من هؤلاء الرواة طبقة خاصة لا هم لها إلا الرواية، ولا شغل لها إلا ما أبقته الأيام من الشعر القديم والأخبار القديمة وتدوينها.
هذا الشيء هو مساس الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. ذلك لان العرب حين انتشروا في البلاد المفتوحة، وامتزجوا بأهلها من الأعاجم، وانتأوا عن الصحراء مهد لغتهم، أخذوا يفقدون فصاحتهم الأولى، وجعلوا ينسوْن بلاغتهم المأثورة. هنالك غمضت عليهم لغة القران والحديث، وخفيت عليهم أسرارها. وهنالك مست الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. وكان الشعر القديم هو أداة هذا كله. فكان الفقهاء والعلماء يلتمسون البيت أو البيتين أو الأبيات عند الرواة، ثم يثبتونها في كتبهم. وكلما كان البيت أوغل في القدم، كان أوثق عندهم في الاستشهاد.
كانت اللغة إذن تُدرس لا لذاتها، ولكن لخدمة الشرع؛ وكان الأدب يُدرس لا لذاته، ولكن ليكون أداة لشرح الذكر الحكيم. ولكن لم تلبث الحال طويلا حتى فطن العلماء إلى أن في الشعر القديم ما يصور نفوس الشعراء القدامى، وإلى أن هنالك أسباباً من اللذة والمتاع في الأخبار القديمة. حينئذ أصبحت الحال غير الحال، وأضحى الأمر غير الأمر؛ فإذا بدراسة لغة القرآن تؤدي إلى دراسة الأدب نفسه، وإذا بالدارسين يصبحون إنسانيين بعد أن كانوا متكلمين
حدث هذا التطور العظيم في أخريات عهد بني أمية، وفي عهد أبي العباس والمنصور والمهدي من خلفاء بني العباس. فكان أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، والمفضل الظبي، وخلف الأحمر، أهم القائمين بجمع الشعر القديم وتدوينه؛ وكان أبو عبيدة والأصمعي، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام الكلبي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، والسكري، والطوسي، أهم القائمين بجمع الأخبار وتدوينها. وكان أعراب البادية يُدْعَوْن إلى الكوفة والبصرة، ويسألون عما يحفظون من شعر وأخبار. ثم أصبح من دأب العلماء فيما بعد أن ينزحوا إلى البادية، فينتقلوا بين قبائلها، ويستقوا من هذه القبائل الشعر(647/23)
والأخبار.
تجمعت إذن لدى الرواة والعلماء طائفة عظيمة من الأشعار والأخبار، ضمنوها ما خلفوه لنا من آثار. وهي طائفة فيها الدلالة كل الدلالة على نوع الحياة التي كان يحياها الجاهليون، وعلى النزعات التي كانت تعمل في نفوسهم. وليس من همنا هنا أن نفصل القول في صحة نسبتها أو انتحالها؛ إنما نرجع القارئ إلى ما قدمناه من أن طبيعة الرواية الشفهية وقصور الواعية الإنسانية قد أديا إلى زيادة أشياء وسقوط أشياء وأبدل فيه شيء من شيء. أعان على هذا ما تمتاز به اللغة العربية من كثرة المترادفات، وهو ما قد يؤدي إلى إبدال كلمات من كلمات. وأعان على هذا أيضاً أن القصيدة الجاهلية مهلهلة النسج مقلقلة الوضع، وهو ما قد يؤدي إلى سقوط بيت أو جملة أبيات أو إلى وضعها في غير موضعها. كذلك قد نجد في قصيدة واحدة أبياتاً لشعراء مختلفين، لم يؤلف بينهم إلا اتفاق الوزن والقافية. هذه كلها وجوه لما لحق الشعر الجاهلي من زيادة وحذف وتغيير. ثم لا ننسى أن من الرواة من كان يعتمد الحذف والتغيير. ودليلنا على هذا قلة ما نلقاه فيما لدينا من الشعر من أسماء الآلهة الجاهلية؛ وهي آلهة كانت تشغل جانباً من حياة الجاهليين، وكان لها صدى ولا شك في أشعارهم. ثم هناك من الرواة من كان يُصلح ما يصل إليه من أشعار، ويزيد عليه مُكمِّلا. هذا إلى ما يقوله ابن سلام (ص 22) من أنه لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعراءهم وما ذهب من ذكر وقائعهم؛ وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على السن شعراءهم. وأخيراً نصل إلى من كان يقصد الخداع من الرواة، فكان ينحل شعره الشعراء القدماء، ليشتهر بين الناس بكثرة الرواية؛ ويقول في هذا ابن سلام (ص 22 - 23) (. . . ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار. وليس يشكل على أهم العلم زيادة ذلك ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال). فهذه وجوه أخرى لما لحق الشعر الجاهلي من زيادة وحذف وتغيير وانتحال.
هذه صورة للرواية العربية قبل عصر حماد وفي أثناء عصره؛ جهدنا أن تكون واضحة الخطوط، بينة الملامح، صادقة التعبير. وهي صورة ستعيننا دون ريب على تفهم رواية(647/24)
حماد الخاصة به، وعلى بحثها البحث الصحيح القائم على أسس صحيحة، وعلى الخروج من هذا بالنتائج الصحيحة التي إنما نكتب هذا البحث في سبيل بلوغها.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر(647/25)
الوعود الثالثة في تاريخ فلسطين
وعد الله - وعد قورش - وعد بلفور
هل التاريخ يعيد نفسه؟
للأستاذ عيسى السفري
إذا وقع حدث تاريخي هام، ثم تكرر وقوع هذا الحدث، أو ما
يشبهه بعد مدة من الزمن قالوا: (إن التاريخ يعيد نفسه)
ومن يراجع التاريخ، قديمه وحديثه، يجد إن الوعود الثلاثة التي حصل عليها اليهود بالعودة إلى فلسطين كانت كلها متشابهة بأسبابها ونتائجها.
فهل كان ما حدث من قبيل الصدف؟. أم أن هناك عوامل غائبة جعلت التاريخ يعيد نفسه ثلاث مرات متوالية؟.
هذا ما تجد الجواب عليه في البحث التاريخي الآتي:
1 - وعد الله
(1) تمهيد: اليهود قبيلة سامية هاجرت (بزعامة إبراهيم) من أور الكلدانيين في العراق سنة 1921 ق. م بضغط من سكانه وتوطنت فلسطين أرض الكنعانيين، ولكن الكنعانيين قاوموهم وأجاعوهم فاضطروا للهجرة إلى مصر. واضطهدهم المصريون بدورهم وأذلوهم فأجبروهم على العودة إلى فلسطين يقودهم موسى النبي. وكان ذلك سنة 1191 ق. م
وتاه بهم موسى في بر سيناء أربعين سنة ليقضي على جرثومة الذل التي تأصلت في نفوسهم، ويجعلهم مستعدين لفتح فلسطين. وعبثاً كانت محاولته هذه، فقد تمردوا عليه وأبوا أن يدخلوا فلسطين، ذلك بان فيها قوماً جبارين (هم الفلسطينيون)
(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فان يخرجوا فإنا داخلون. . .)
(قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها. فاذهب أنت وربك إنا ههنا قاعدون)(647/26)
وهكذا اضطر موسى أن يذهب بهم إلى فلسطين عن طريق الجنوب الشرقي ليتحاشى بأس الفلسطينيين سكان الساحل. وصعد موسى إلى جبل تبو قبالة أريحا فأراه الرب أرض فلسطين وقال له:
(هذه هي الأرض التي اقسم لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر)
2 - وعد الله
ومات موسى، فتسلم يشوع بن نون القيادة من بعده. ونفذ (يهوه) وعده على يد يشوع. وفيما يلي نص هذا الوعد:
عبدي يشوع
قم الآن واعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى، من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات. تشدد وتشجع لأنك أنت تقيم لهذا الشعب الأرض التي لآبائهم أن أعطيهم
في الشهر الأول من السنة 2554 للخليقة (. . .)
فكان هذا أول وعد أعطى لليهود بالعودة إلى فلسطين.
وكانت أوامر يشوع لجيشه، عندما فتح أريحا، شديدة قاسية، فقد حرموا كل ما في المدينة من رجل وامراة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. واحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها
وهذه القسوة الوحشية في الفتح جعلت الكنعانيين وغيرهم من السكان يحقدون على اليهود الغاصبين، ويتربصون الفرص للإيقاع بهم. ومن حسن حظ اليهود، لا بل من سوء حظ فلسطين، أن كان الكنعانيون في أواخر مجدهم وسلطانهم، فمكن ذلك اليهود من الاستقرار إلى حين في فلسطين.
على أن استقرار اليهود في فلسطين لم يزد على 645 سنة، كانوا خلالها عرضة لغزوات أهل البلاد، الكنعانيين في الداخل والفلسطينيين في الساحل. ثم دب الخلاف بينهم فانقسموا إلى فئتين: مملكة إسرائيل وقصبتها السامرة (نابلس)، ومملكة يهوذا وقصبتها أورشليم(647/27)
(القدس) ولم تتعد حدودها هاتين المملكتين المنطقة الجبلية في فلسطين كلها. . .
ولم يفعل اليهود المستقيم عيني الرب، فتركوا عبادته وعبدوا تماثيل مسبوكة للبعليم وذبحوا لها. حتى أن جميع رؤساء الكهنة والشعب أكثروا الخيانة حسب كل رجاسات الأمم، ونجسوا بيت الرب لذي قدسه في أورشليم، وكانوا يهزئون برسل الله، ورذلوا كلامه، وتهاونوا بأنبيائه، وأساءوا إلى الله الذي أحسن إليهم الإحسان كله!. . . وهو الذي أخرجهم من أرض مصر من بيت العبودية، وأنزل المن والسلوى، وجعلهم أمة من الأمم.
وكانت أعمال اليهود المنكرة مثاراً لغضب الله. فأظهر شمنآصر ملك أشور على مملكة إسرائيل سنة 721 ق. م فأبادها وسبى شعبها إلى مملكته. كما أظهر نبوخذ نصر ملك بابل (بعد ذلك) على مملكة يهوذا سنة 588 ق. م فأبادها وقتل مختاري اليهود بالسيف في بيت مقدسهم، ولم يشفق على فتى أو عذراء، أو شيخ أو أشيب. وأحرق بيت الله وهدم سور أورشليم، وأحرق جميع قصورها بالنار، وأهلك جميع آنيتها الثمينة، وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل، فكانوا له ولبنيه عبيداً. . .
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
وهكذا كانت إرادة الله باليهود الذين اختارهم (كما تقول التوراة) من دون شعوب الأرض ليكونوا شعباً له مختاراً، وبإرادته هذه انتهى الفصل أقاول من رواية الوطن القومي اليهودي في فلسطين!
2 - وعد قورش
دام السبي البابلي مدة 70 سنة. ثم ورث قورش ملك الفرس إمبراطورية الكلدانيين، فاخذ اليهود ينوحون ويبكون، يرجون ويستعطفون، ويطلبون العودة إلى فلسطين!.
ولسياسة موضوعة. . . سار قورش المجوسي من المؤمنين بإله إسرائيل!. . . فأطلق نداء في كل مملكته، في السنة الأولى لملكه، فقال:
(إن الرب اله السماء قد أعطاني ممالك الأرض، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من جميع شعبه الرب معه وليصعد
ومات قورش فخلفه أرتحشستا، وهذا ثبت وعد قورش كتابة بالتصريح الآتي وهذا نصه:(647/28)
من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة السماء قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع إلى أورشليم فليرجع، وأن يبني بيت الرب إله إسرائيل. وليعلم أن جميع الكهنة واللاويين والمغنين والنثينيم وخدام بيت الله هذا لا يؤذن أن يلقى عليهم جزية أو خراج أو خفارة
في السنة السابعة للملك (529 ق. م)
(التوقيع)
فكان هذا ثاني وعد أعطى لليهود بالعودة إلى فلسطين.
عاد اليهود إلى فلسطين، بحسب منطوق هذا الوعد متحدين إرادة الله وإرادة سكان البلاد. وبنوا الهيكل ورمموا أسوار المدينة (القدس) فكانوا باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأخرى يمسكون السلاح.
وكتب زعماء البلاد، سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وجشم العربي، إلى الملك محتجين وقائلين:
(فتش في سفر أخبار آبائك فتجد في سفر الأخبار وتعلم أن هذه المدينة مدينة عاصية ومضرة للملوك والبلاد، وقد عملوا عصيانا في وسطها منذ الأيام القديمة، لذلك أخربت هذه المدينة. ونحن نعلم الملك انه إذا بنيت هذه المدينة وأكملت أسوارها لا يكون لك عند ذلك نصيب في عبر النهر. . .
وهكذا قام أصحاب البلاد بالواجب عليهم محذرين مملكة فارس من نتائج هذه السياسة!. . .
مرت سنون، تناوب الحكم في فلسطين اليونان والرومان وظلت المدينة عاصية، بالرغم مما عمله بيلاطس النبطي (عامل رومة على فلسطين) لليهود. فقد شيد بعض الحمامات في السامرة (نابلس) وجلب الماء الكافي إلى أورشليم (القدس) من الينابيع الموجودة جنوبي المدينة: وأنشا طريقين يؤديان إلى القدس من الشمال ومن الشرق، فنشطت حركة التجارة وحركة الحجاج، وهما مورد لا يستهان به لزيادة الدخل.
وأعمال كهذه يقوم بها بيلاطس لخدمة اليهود تستحق منهم أن ينصبوا له تمثالا!. . . وفوق هذا كله فان بيلاطس التعس لم يسمح له قيصر بان تنشب ثورات عنده، وهو في الوقت ذاته ممنوع من مكافحة التحريضات التي يقوم بها اليهود في الجليل(647/29)
أما أشر المحرضين فلم يكونوا الكهنة ولا رجال الشرع أنفسهم، وإنما كان الشبان الكثيري الإدعاء، ممن يحضرون حطبهم ومحاضراتهم. هؤلاء هم الذين يبثون في الجمهور العادي روح التمرد والشغب إنهم يهددون رومة وفي الوقت نفسه يساومون!. . . وقد علقوا لوحات ونشرات كبيرة على أسوار (أنطونيا) كتبت عليها جمل تحريضية فيها تشهير ببيلاطس وقيصر
(5) خراب ودمار: وتمادى اليهود في تمردهم وشغبهم حتى يئست حكومة رومة من إيجاد علاج لهذه الحالة. فأرسلت (تيطي) القائد الروماني سنة 71 ميلادية، فحاصر القدس ثم هدمها وهدم الهيكل إلى أساساته. فهلك من اليهود مليون ومائة ألف نفس بالجوع والنار والسيف، ونحو 97 ألفا بيعوا كعبيد، وما عدا جموعاً لا تحصى هلكت في أماكن أخرى في اليهودية، وتم بذلك قول المسيح عليه السلام:
(يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراحمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً.
وهكذا كانت إرادة الله، وبإرادته هذه انتهى الفصل الثاني من رواية الوطن القومي اليهودي في فلسطين!. . .
3 - وعد بلفور
ظل اليهود بعد ضربة تيطي مشتتين في بقاع الأرض، وحل الحكم العربي محل الحكم الروماني سنة 637 م. وقد فتحوا هذه لبلاد فتحاً إنسانياً عادلا. تدل عليه الوصية الخالدة التالية:
(ولا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا. ولا تقتلوا طفلا ولا شيخاً كبيراً، ولا تقعروا نخلا وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً. وسوف تمرون بأناس قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)
وهكذا كان الحكم العربي (الذي دام مدة 880 سنة) نعمة كبرى للناس وبخاصة اليهود قلدت به أعناقهم. ثم انتقل الحكم إلى الأتراك العثمانيين سنة 1517 ميلادية، وكان العرب شركاء لهم في الحكم مدة 400 سنة
وفي سنة 1917 احتل الإنكليز فلسطين وقلم اليهود بالتجربة القاسية للمرة الثالثة. ولسياسة(647/30)
موضوعة. . . أصبح الإنكليز القيمين على راحة اليهود وطمأنينتهم، فأعطوهم وعداً بالهجرة إلى فلسطين هذا نصه:
عزيزي اللورد روتشلد
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك بان حكومة جلالته تنظر بعين الرضى إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وتبذل الجهود في سبيل ذلك. على أن لا يجرى شيء يضر بالحقوق الدينية والمدنية لغير اليهود في فلسطين، أو يضر بما لليهود من الحقوق والمقام السياسي في غيرها من البلدان الأخرى.
في 2 تشرين الثاني سنة 1917
اللورد بلفور
وزير الخارجية البريطانية
وهكذا اختلف الناطقون بهذا الوعد باختلاف المكان والزمان. فمن وعد ينطق به الله، إلى وعد ينطق به ملك، إلى وعد ينطق به وزير. . . وهو ثالث وعد أعطى لليهود بالعودة إلى فلسطين. .
وطمع اليهود بعد ذلك في الوطن القومي بفلسطين كلها. . . واحتج العرب أصحاب البلاد على ذلك، وأنذروا بريطانيا من عواقب هذه السياسة الخاطئة.
وازداد تمرد اليهود وتحديهم لسلطة لندن حتى اعتادوا على رجالالتها المسئولين بالقتل والإرهاب وأتلفوا الكثير من دوائر الحكومة وممتلكاتها، ونسفوا مراكز البوليس بالديناميت، وأتلفوا خطوط السكك الحديدية، وتحدوا القانون بتهريب مهاجريهم الغير شرعيين. . . واعتداءاتهم المتواصلة على رجال الأمن، دون أن يسمح لهم بأن يطلقوا النار على المعتدين حتى ولو قتل هؤلاء إخوانهم ووزعوا المنشورات التحضيرية المختلفة، فيها تشهير بحكومة فلسطين وسلطة لندن!
وكما تحدى اليهود الإنكليز وأساءوا إليهم، كذلك تحدوا العرب في عقر دارهم بالسلاح وأساءوا إليهم، وهم الذين أووهم في بلادهم وكانت إمبراطوريتهم الواسعة فيما مضى الملجأ الوحيد لهم من الاضطهاد اللاسامي الذي أثاره عليهم الغرب!. . .(647/31)
والإنكليز هم الذين مكنوا اليهود في فلسطين، وألقوا مقاليدها التجارية والمالية والاقتصادية بين أيديهم. وهم الذين سهلوا لهم (بجميع الطرق) استملاك الأراضي في فلسطين لاستقرار مهاجريهم الشرعيين وغير الشرعيين فيها، ووقفت جميع أسلحتها لحمايتهم، وسخرت برلمانها لسماع أباطيلهم!. . .
وكان الواجب على اليهود أن يقبلوا اليد التي أحسنت إليهم لان أن يحاولوا قطعها، وأن يشكروا العرب جزيل الشكر على تمسكهم إلى الآن بأهداب الصبر الجميل!. . .
وما أشبه ثورة اليهود على الإنكليز اليوم بثورتهم على الرومان في الماضي. والعالم أجمع يتجه بأبصاره نحو فلسطين، ويرقب باهتمام نهاية الفصل الأخير من هذه الرواية المحزنة التي يلذ لرجال السياسة إعادة تمثيلها للمرة الثالثة!
والناس يتساءلون عن التاريخ هل يعيد نفسه؟. . . . وهل يؤدي وعد بلفور إلى نفس النتيجة التي أدى إليها وعد الله ووعد قورش؟. . .
أن النتيجة لا تزال في ضمير الزمن، والمستقبل القريب أو البعيد هو الذي سيقول، في الوطن القومي لليهودي، كلمته الفاصلة! وإرادة الله فوق الجميع!. . .
(يافا)
عيسى السفري(647/32)
المرأة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
(يطيب للصحف والمجلات في هذه الأيام، أن تغرق في
مجاملة المرأة الخارجة عن أنوثتها، الساخطة على الطبيعة
التي فيها لكل كائن عمل خاص. وكان حق المرأة على هؤلاء
أن يأخذوا بيدها إلى ما يسعدها من علم وخلق والى ما يعزها
في المجتمع سيدة بيت ومربية أجيال وكان من حقها أيضاً
على من يزعم نصرتها أن يمسكها عن أن يهوى بها الطيش
في مكان سحيق وتفقد ما لها من حرمة هي ملاك أمرها كله
في المجتمع.
وآخر ما قرأت دعوة متطرفة تذهب إلى وجوب تولية النساء الوزارات والإدارات، نصيبها من ذلك نصيب الرجال سواء بسواء. والفكرة ظاهرة التهافت، وقد سبق لأقلام بليغة في مجلتنا (الرسالة) أن أظهرت زيفها وبهرجتها فما بنا إلى معالجة من عودة، وإنما نذكر هنا نصيبها من ممارسة الشئون العامة في صدر تاريخنا فقي هذا النصيب لها مجد وأمن واعتدال.
الحكم في هذه القضية لسنة الله في المرأة، وما فطرها عليه من خصائص (فسيولوجية) وعاطفية وفكرية: خصائص قاهرة لا يد للإنسان في تحويرها إلا حين يستطيع تحويراً في تركيب الدماغ وبنية خلاياه، أو حين يبدل في وظائف الأعضاء.
إنها فوارق بين الرجل والمرأة أزلية أبدية، اقتضتها الحكمة العميقة الطبيعية التي تعنى بالتمييز الدقيق عناية تتطلبها عمارة هذا الكون القائمة على تقسيم الأعمال والوظائف، وتيسير كل من الكائنات إلى ما يلائمه وخلق له. وكل مجتمع يحاول بناته إلغاء تلك الفوارق الواضحة بين أعمال الجنسين وتجاهل السمات البينة، فمصيره إلى الاضطراب(647/33)
والفساد: لأن في ذلك ثورة على الطبيعة، وما كان ثورة على طبائع الأشياء فمنه الضرر كل الضرر، ولا يرجى له دوام، وان خيل لبعض الأفراد والجماعات (سطحية في تفكيرهم أو تعصبا لمذهبهم) إمكان الاستمرار عليه.
والطبيعة في هذا حكمها واحد لا يختلف باختلاف الأمم ولا باختلاف الإعصار والأمصار، ولا بتفاوت (البيئات) رقيا وانحطاطا ولا بتغاير الأفراد تربية وثقافة.
المرأة ربة لسرة وسيدة بيت، فمهما احتلت لتخرجها عما خلقت له من رعاية أطفال وتسلية أزواج وتدبير منزل. . . فإنما تحاول خرقاً لقانون طبيعي، إن أنت وفقت إلى إطالة هذا الشذوذ أزماناً فلن يخرجه العهد الطويل ولا العرف المنحرف عن أن يكون شذوذاً يقذى العين ويصدم الفؤاد.
فمن البداهة إذاً أن تكون قيادة الجيوش وإدارة المصالح وتدبير الممالك وسياسة الناس. . . فمن الرجال الخاص، كما أن الأمومة وتدبير المنزل فن نسوي محض.
ولئن حفظ التاريخ شواهد كثيرة في قيام المرأة بشؤون السياسة والإدارة، أني لا أجد في هذه الشواهد كلها ما يمس هذه القاعدة؛ بل أقرر أنها كلها تؤيدها. ولأي مثقف كان أن يسرد ما في ذهنه من ملكات أو قائدات أو زعيمات أو مدبرات ممالك، أو نائبات في المجالس. . . الخ يستقري أحوالهن واحدة واحدة ويمعن بها حف بهن. . . فسيدرك أن أكثرهن كن مسيئات بتصرفهن، عدن على بلادهن بأسوأ العواقب.
(وإذا زعم بعضهم أن حكومات النساء في بعض مماليك أوروبا كانت أرقى من حكومات الرجال، فذلك لأن حكومات النساء أدارها الرجال من وراء حجاب، و (الأمر) على العكس في حكومات الرجال: كثرت فوضاها في بعض الأدوار لأن النساء كن يدرنها في غفلة عن الرجال. . . وكن إذا تدخلن أمور الدولة تميل إلى الانحطاط؛ ولذلك كان عقلاء الملوك يحظرون على نسائهم الاشتراك فيما لا شأن لهن فيه من أمور السياسة. . .)
(وبعد فلماذا لم يقل لنا المنادون بإعطاء المرأة حقوقاً (سياسية) على مثال الرجال: كيف تمسى حال البيوت بعد انقلابهم الذي يتوقعونه؟ لا جرم أن الشقاء سيخيم على كل أسرة يشتغل رباتها خارج بيوتهن، اللهم إلا إذا كان في النية أن يعمدوا إلى دفع أولادهم إلى الحكومات تربيهم تربية مشتركة كأنهم بعض اللقطاء من أولاد النغول: لا يذوقون في هذه(647/34)
الملاجئ طعما لهناءة البيوت ولا يرون أثراً للروابط الروحية بين الأولاد والأبوين).
الحق أن الإدارة والسياسة تقتضيان بعداً في التفكير، وسداداً في المنطق، وحساباً دقيقاً للعواقب، وصبراً مضنياً وضبطاً للعواطف وكبحاً للأهواء. . . إلى صفات كثيرة كلها يعوز المرأة. فلا عجب أن كان اضطراب الأمور وتدخل المرأة في السياسة قرينين في التاريخ لا يفترقان إلا حين يدبر الأمور للمرأة وزراء حصيفون من وراء ستار. ومع هذا فقلما خلت امرأة - مهما حف بها من فحول محنكين - من طامع فيها مستغل لضعفها. وما اكثر ما حفظ التاريخ من عروش كان الغرام هو الحاكم في ممالكها.
وهناك كلمة متداولة منذ القديم، لا شك في أنها عصارة التجارب على الزمن، وهي قولهم: (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة.)
ويعجبني في ذلك حكم أصدرته الكونتس أف أكسفورد:
(. . هل تستطيع أن ترى امرأة صائرة إلى منصب رئيس وزارة؟ أني لن أستطيع أن أتصور نكبة أعظم من وضع هذه (الجزر البريطانية تحت قيادة إحدى النساء في شارع داوننج رقم 10)
ولقد سارت أمم غربية راقية في أوربا وأمريكا خطوات فسيحة في إنالة النساء حقوقاً سياسية، فما أظفرها ذلك بطائل بل كانت نتيجة التجربة أن ضج عقلاؤهم من تلك الأوضاع الشاذة، الخارجة على الفطر السليمة.
وليس في تاريخ العرب ببدع في تواريخ الأمم، فالحكم واحد كما أسلفنا، فحيث رأيت انحطاطاً في إدارتنا أو تقهقراً في سياستنا ففتش عن المرأة.
وكتابنا هذا (عائشة والسياسة) فيه أكبر عبرة في هذا الموضوع، ولم ينجنا من العاقبة الوخيمة: عاقبة دس النساء في السياسة، أن كانت الزعيمة هنا متحلية بمزايا عبقرية قل أن يحوي مثلها رجال عديدون، ولم ينجنا كذلك رغبتها القوية في الإصلاح ولا انطواؤها على الخير للمسلمين.
والعرب يتداولون منذ فجر الإسلام حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة.)
إذا أنت جاوزت السياسة إلى الجهاد في الإسلام، رأيت المسألة تختلف بين يديك، إذ تجد(647/35)
انه ليس لأحد أن يحرم المرأة شرف الجهاد، وأنها هي والرجل سواء في المطالبة به، كل بحسب استعداده واختصاصه: فالرجال للقتال والمرأة لتمريض الجرحى والعناية بشئون الجيش من نحو إسقاء وإطعام وغسل وخياطة. . .
ثم هي مع ذلك كله تحمس المقاتلين وتبصرهم العواقب السيئة التي تنتظرهم في أنفسهم وحرمهم إذا هم تهاونوا في الدفاع.
وللمرأة العربية في هذا الميدان الموقف المحمود الذي لا يجاري، كانت فيه مضرب الأمثال بشجاعتها وحسن بلائها وأخلاصها. وعلى هذا درجت في جاهليتها من قبل أيضاً فكان إليها في الحروب التمريض والعناية بالجرحى وسقى الماء وتحميس المحاربين.
جاء الإسلام ففتحت عينيها - لما أظلتها رايته - على رجال غير الرجال، ومجتمع غير المجتمع، ودين غير الدين، فكانها نشطت من عقال، فشمرت عن ساعدها، وأخذت من هذا الدين الجديد نصيبها الأوفى، وكان شكرها لله على نعمته هذه شكراً عملياً:
قاست في أوله ما قاسى الرجال من عذاب وهجرة واضطهاد وأذى، ثم انتظمت في صفوف المقاتلين إعلاء لكلمة الحق، وذوداً عن دين الله ورسوله، فقاسمت الرجل شرف الجهاد وآبت بثوابه وكرامته، وليس بعد بذل الروح غاية في الشكران.
صحب رسول صلى الله عليه وسلم النساء في مغازيه، وأبلين معه البلاء الحسن، فكن نعم المعينات للمحاربين: يداوين جرحاهم ويحملن الماء في القرب يسقينهم، ويتعهدن أطعمتهم وملابسهم وقربهم، وكن حين الحاجة يمارسن القتال.
ثم تتابعت المواقف المأثورة للمرأة من بعد الرسول، ولن ينسى أحد جهاد خولة بنت الأزور أخت ضرار في فتوح الشام وحسن بلائها في الروم، ولا موقف الخنساء في يوم القادسية وكانت واحدة من كثيرات:
ذكر الطبري أن أم كثير امرأة همام بنت الحارث النخعي قالت: (شهدنا القادسية مع سعد (بن أبي وقاص القائد العام) مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى: فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك ونصرفهم به).
وإذا كانت هذه الوقعة من الخطر بحيث أنها هي الفاصلة بين العرب والفرس، وأنها لها ما(647/36)
بعدها، استعدت لها القبائل بكل ما تطيق، حتى إن التاريخ ليذكر لقبيلتين من القبائل فخراً خالداً إذا أخرجتا نساءهما معهما، فكان في قبيلة النخع - على ما يذكر الطبري - سبعمائة امرأة لا زوج لها، وفي قبيلة بجيلة ألف امرأة، تزوجن جميعاً في هذه الحرب، وكانت النخع تسمى: (أصهار المهاجرين).
لقد شرع الرسول لمن بعده الاستعانة بالنساء في الجهاد، وأثابهن عليه من الغنائم، ودرج خلفاؤه من بعده على سنته، حتى إذا انقضى عهد الراشدين، وخف علم الناس بالسنة، شك بعضهم في هذه الاستعانة، فكتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله:
(هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وهل كان يضرب لهن سهما؟)
فكتب إليه ابن عباس:
(كتبت إلي تسألني: هل كان رسول الله يغزو بالنساء؟ وقد كان يغز بهن فيداوين الجرحى ويحذين (يعطين) من الغنيمة)
كل ما تقدم من استحباب خروج النساء ليشاركن الرجال شرف الجهاد وهو في حال الفتح والهجوم، حين يكون الجهاد فرض كفاية على الرجال أنفسهم؛ فأما إذا انعكس الأمر وهاجم العدو بلاد المسلمين أو احتلها، فحينئذ يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ذكراً كان أم أنثى، لا يستثني من هذا الفرض صبي ولا امرأة ولا رجل.
ونصوص الفقهاء - إزاء هذه الحالة - متضافرة على أنه يجب المرأة أن تخرج للقتال بلا إذن زوجها
وبذلك يصبح التكليف والوجوب بدرجة واحدة على الرجال والنساء والصبيان والأحرار والعبيد (يوم كان العبيد بعض الناس) لا يستأذن أحد أحداً في تأدية هذا الواجب
من شأن السياسة المزالق الخفية والأخطار الكامنة، فهي على المرأة حرام صيانة للمجتمع من التخبط وسوء المنقلب؛ أما الجهاد فطريق لأحبة عواقبها مأمونة وفوائدها مضمونة، فللمرأة أن تنال من هذا الشرف نصيبها الأوفى
ليتنا في غمراتنا اليوم نسترشد بتجارب الماضي، ونسير غير متخبطين: نبصر مواطئ أقدامنا ونتقي المزالق ونجند كلا في ميدانه الذي لا يصلح لغيره. لقد تداعت علينا الأمم وطمع فينا حتى (الصهاينة) من شذاذ الآفاق، وغزينا في أخلاقنا وبلادنا وأموالنا. . .(647/37)
وليس في جهودنا فضل ننفقه في رد العابثين عن عبثهم، فليتق الله حملة الأقلام، وليصونوا الشاردات عن القطيع وليرجعوا بهن عن طريق وضعن أقدامهن في أوله، وما آخره إلا مستقبل أسود حالك للأنثى أولا، ثم خراب البيوت وهدم الأسر وارتكاس المجتمع، وموت كل كرامة إنسانية!
(دمشق)
سعيد الأفغاني(647/38)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 7 -
(تتمة)
- 5 -
ولعلي بن الجهم قصيدة أخرى قالها في الحبس، منها:
وتوكلنا على ربّ السماء ... وسلمنا لأسباب القضاء
وَوَطَّنّا على غِير الليالي ... نفوساً سامحت بعد الإباء
وأفنية الملوك محجّبات ... وباب الله مبذول الفناء
هي الأيام تكلمنا وتأسو ... وتأتي بالسعادة والشقاء
حلبنا الدهر أشطره ومدّت ... بنا عقب الشدائد والرخاء
وجربنا وجرّب أوّلونا ... فلا شيء أعز من الوفاء
ولم ندع الحياء لمس خيرٍ ... وبعض الضرّ يذهب بالحياء
ولم نحزن على دنيا تولَّت ... ولم نسبق إلى حزن العزاء
- 6 -
ومن أروع وأرق ما قيل في الحبس قول محمد بن صالح العلوي، وكان خرج على المتوكل فظفر به وسيره إلى سر من رأى فحبس.
طرب الفؤاد وعاد أحزانه، ... وتشعّبت به شُعباً أشجانُه
وبدا له من بعد من اندمل الهوى ... برق تتابع مَوْهناً لمعانُه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانُه
فدنا لينظر أين لاح فلمُ يطق ... نظراً إليه وردّه سجّانُه
فالوجد ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحّت به أجفانُه(647/39)
ثم استعاذ من القبيح وردّه ... نحو العزاء عن الصبا إيقانُه
وبدا له أن الذي قد ناله ... ما كان قدّره له ديّانُه
- 7 -
ولإبراهيم بن المدبر في حبسه أشعار حسان منها قوله في قصيدة أولها:
أدموعها أم لؤلؤ متناثر ... يندى به ورد جنى ناضر
يقول:
لا تؤنسك من كريم نبوة ... فالسيف ينبو وهو عضب باتر
هذا الزمان تسومني أيامه ... خسفا وهاأنذا عليه صابر
إن طال ليلى في الإسار فطالما ... أفنيت دهراً ليله متقاصر
والحبس يحجبني وفي أكفانه ... مني على الضرّاء ليث خادر
عجب له كيف التقت أبوابه ... والجودُ فيه والغمام الباكر
هلا تقطّع أو تصدّع أو وهى ... فعذرته، لكنه بيَ فاخر
- 8 -
ولما غضب جعفر على ابن الزيات عذبه في التنور. وكان قد حبسه قبل تعذيبه في بيت. فوجد على الحائط قوله:
لعب البلى بمعالمي ورسومي،=ودُفنتُ حياً تحت ردم غموم
وشكوت غمي حين ضقت ومن شكا ... كرباً يضيق به، فغير ملوم
لزم البلى جسمي وأوهن قوتي ... إن البلى لموكل بلزومي
أبنيتي قلِّي بكاءك واصبري ... فإذا سمعت بهالك مغموم
فانعي أباك إلى نساء واقعدي ... في مأتم يبكي العيون وقومي
وقال في التنور الذي عذب فيه:
هيض عظمي الغداة إذ صرت فيه ... إن عظمي قد كان غير مهيض
ولقد كنت أنطق الشعر دهراً ... ثم حال الجريض دون القريض
- 9 -(647/40)
وبعث الإفشين إلى المعتصم من الحبس: (إن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين كمثل رجل ربي عجلاً له حتى أسمنه، وكبر، وحسنت حاله. وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم. فاتفقوا جميعاً على أن قالوا له ذات يوم: ويحك، ألم تر هذا الأسد وقد كبر، والسبع إذا كبر رجع إلى جنسه، فقال لهم: هذا عجل. فقالوا هذا سبع، سل من شئت عنه. وقد تقدموا إلى جميع من يعرفه انه إن سألهم عنه قالوا: هو سبع. فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف اقدر أن أكون أسداً؟ الله الله في أمري، فقد وجب حقي. وأنت سيدي ومولاي) فلم يلتفت المعتصم إليه
- 10 -
ومما نسب إلى ابن المعتز قوله:
تعلمت في السجن التكك ... وكنت امرأ قبل حبسي ملك
وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذلك إلا بدور الفلك
ألم تبصر الطير في جوه ... يكاد يلامس ذاك الحبك
إذا أبصرته خطوب الزما ... ن أوقعْنَه في حبال الشرك
فها ذاك من حالق يُصاد ... ومن قعر بحر يُصاد السمك
- 11 -
وعقد الثعالبي في اليتيمة لأبي اسحق الصابي فصلاً سماه (ما أخرج في شهره في الحبس) وأكثره في الحكمة والشكوى وذم الدنيا. فمن ذلك قوله:
يعيّرني بالحبس من لو يحله ... حلولي لطالت واشمخرّت مراكبه
وربّ طليق أطلق الذل رقه ... ومعتقل عانٍ وقد عزّ جانبه
وإني لقرن الدهر يوماً تنوبني ... سطاه ويوماً تنجلي بي نوائبه
ومن مدّ نحو النجم كيما يناله ... يداً كَيِدي لاقته أيدٍ تجاذبه
ولا بد للساعي إلى نيل غاية ... من المجد من ساع تدب عقاربه
وما ضرّني أن غاض ما ملكت يدي وفي فضل جاهي أن تفيض مذاهبُه
ولي بين أقلامي ولّبي ومنطقي ... غني قلَّما يشكوا الخصاصة صاحبه(647/41)
صلاح الدين المنجد
-(647/42)
هذا العالم المتغير
سمدوا الأرض تضاعفوا الإنتاج الحيواني
للأستاذ فوزي الشتوي
الحيوان وغذاؤه:
(لا تعلفوا الماشية بل تعلفوا الأرض). بهذا رد العلماء الأمريكيون والمهتمون بزيادة الإنتاج الحيواني من لحم ولبن وما يتفرع منهما. فلم تكن الثروة الحيوانية وتوفير أغذيتها من معضلات الشرق وحده بل امتدت إلى كل بلاد العالم. وظلت بضع سنوات مشكلة علماء الحيوان وموضوع بحثهم حتى حلت عن ايسر طريق فأزالت ما كان يهدد الصحة العامة من علل.
والفلاح عندما يدرك أن الحشيش والبرسيم وحدهما ليسا من الأغذية الكافية لبقرته فيلجأ إلى علفها بالفول برغم ارتفاع ثمنه. ومع ذلك فلدينا نقص ملحوظ، فكثير من الأبقار لا تلد ولا تنتج ذرية كالمعتاد.
ودرس العلماء ظواهر هذا الصنف وعزوه إلى سوء التغذية ومن ثم اقبلوه على أنواع الغذاء المختلفة، فجربوه كسب القطن والفول وشتى أنواع الأغذية الحيوانية، ولكن واحداً منها لم يوصلهم إلى هدفهم المنشود وزيادة وزن الحيوانات بما يتناسب وما تستهلك من طعام حتى تعادل النفقات الثمار.
الطبيعة أنسب:
وانتقلت التجارب إلى مرحلتها الكيماوية أيضاً فأضيفت مواد الحديد والمنجانيز والكالسيوم إلى أغذية الحيوانات فلم تؤد إلى نتيجة سارة. واحتفظت الماشية بنحافتها وسوء تغذيتها. واستمرت التجارب وقتاً طويلاً تقلب فيه العلماء بين شتى أنواع الأغذية الغالية والرخيصة فلاحظوا أن شهية الحيوان أقوى ما تكون إلى رعى الحشيش وليس إلى وسائلهم الصناعية. وأخيراً لجأ العلماء إلى تغذية قطعانهم بمركبات الفوسفور. والعظم كما تعرف من أغنى المواد بها فلوحظ تحسن ظاهر اكتسبت فيه الماشية لحما وتحسنا في إنتاجها وزيادة ذريتها.
وعندئذ عرف الباحثون انهم وضعوا أصابعهم على مفتاح حل معضلتهم وبقى عليهم أن(647/43)
يجدوا الطريقة المثلى لتطبيقه فأي نسب الفسفور لجدى؟ وكيف يطعم بها الحيوان بأرخص ثمن؟
وأسفرت التجارب الطويلة عن اكتشاف الحل المرغوب وهو: (سمدوا الأرض بمواد فسفورية)، وانطلقت على أثره الصيحة التي صدرنا بها المقال وهي أن: (اعلفوا الأرض ولا تعلفوا الماشية).
تسميد الأرض بالفسفور:
أما كيف وصل العلماء إلى هذا المبدأ، فانهم قسموا ماشيتهم إلى خمسة قطعان يتراوح عددها بين 40 و 57 بقرة اقتصرت تغذية القطيع الأول منها على الغذاء العادي.
وترك القطيع الثاني ليرعى حقلا نثرت على حشيش مساحيق العظام والملح ليكون مقبول لطعام من الماشية. وأضيف أحد محاصيل الفسفور إلى المياه التي يشربها القطيع الثالث. فخلط طعامه من كسب بذرة القطن بالفسفور.
وكان القطيع الخامس هو بيت القصيد، فترك يرعى في حقل سمدت أرضه بالفسفور قبل زرع حشيش بمعدل 77 رطلا للفدان الواحد وكان ما يخص كل رأس من الماشية من أرض المرعى اقل من المعدل المعتاد.
ولوحظ عند بدء التجربة أن يكون وزن جميع القطعان متساويا بمتوسط 700 رطل للرأس الواحد. وبعد سنة من بدء التجربة ارتفع وزن كل بقرة من الماشية التي كانت ترعى الحشيش الذي سمدت أرضه إلى 1036 رطلا بزيادة 84 رطلا عن معدل الزيادة في الأبقار الأخرى.
وكانت أقل القطعان في تربية اللحم القطيع الذي عاش على وسائل التغذية العادية. وكان القطيع التالي هو الذي أضيف إلى غذاءه مساحيق العظم.
60 % زيادة
وثمنه حقيقة أثبتتها تجارب العلماء فان الأبقار التي تغذت بحشيش الأرض المسمدة ولدت من كل منها وتضاعف عددها ولم تمضي شهور حتى وجد أن كل مائة رطل زادت في هذا القطيع لمعدل 60 % ما بين لحم زاد في الماشية الأصلية وما بين مواليد جديدة أفادها(647/44)
المرعى المسند بمحلول الفسفور.
وكانت كل أبقار هذا القطيع في صحة جيدة بخلاف مثيلاتها في القطعان الأخرى التي كانت عرضة لشتى أنواع الأمراض واقتصت من علماء الحيوان وأطباءه جهد العلاج ونفقات الدواء
والسماد الفسفوري معروف في كل مكان ورخيص القيمة بمعرفة كثير من علماءنا ولكنهم لا يجرؤن على تجربته لا لأنهم يجهلون بل لأن عقولهم جفت في الروتين الحكومي عن أي تفكير في أوقات الشدة. ومن واجبهم كاحصائيين أن يبحثوا لحل المشاكل ولكن هذا النجاح لن يأتي وهم جلوس إلى مكاتبهم.
إن العلم يتقدم بخطوات واسعة لحل جميع المعضلات الاقتصادية والتجارية وعن طريقه لم ينخفض مستوى التغذية ولم تتعقد الأمور في أسوا مراحل الحرب لأن علماءهم كانوا ساهرين على تعقب المشاكل وحلها.
فإن آثر علماؤنا البقاء في غرفهم المزركشة فلا يعلم إلا الله إلى أي مركز ينكمش موقفنا الاقتصادي والتجاري
التليفون الآلي للعالم كله:
تستطيع بعد سنوات قلائل أن تدعو صديقك في الإسكندرية أو أسوان إلى حديث تليفوني بغير تدخل السنترال بل بإدارة قرص التليفون كما تفعل حينما تتحدث إلى جارك.
والطريقة المتبعة الآن هي الاتصال بالمركز الرئيسي الذي يخلى لك الطريق ويوصلك بمن تريد في أي بلدة أخرى. ولا تستطيع الاتصال به بغير هذه الطريقة وذلك لسببين: أولهما قرص التلفزيون الذي يعجز عن احتمال الآلاف الأرقام لآلاف البلدان. والثانية عملية التحويلات الكهربائية وما فيها من تعقيد فني كبير.
وقد توصلت إحدى الشركات إلى استنباط طريقة تجعل بها هذا القرص الصغير يشمل ملايين الأرقام كما تيسر لها أيضاً اكتشاف وسيلة رخيصة أقل تعقيداً لنمر التحويلات الكهربائية وسهولة تنقلها بين الأرقام وفي المسافات المترامية، ويتنبأ مهندسوها بأنه لن يمضي زمن طويل حتى تصقل الطريقة فتستطيع أن تخابر نيويورك ولندن وربما طوكيو بمجرد إدارة القرص.(647/45)
فوزي الشتوي(647/46)
نور العروبة
للأستاذ إدورد حنا سعد
(مهداة إلى مجلس جامعة الدول العربية بمناسبة انعقاد دورته
الثانية بالقاهرة ابتداء من يوم الأربعاء 31 أكتوبر سنة
1945)
على الأفق مجد مشرق ونشيد ... وفجر أمانٍ ما لهن حدود
بحث الرعاة الصِّيد نحو صيائه ... خطاهم وتحدوا القافلات وفود
مطالعُ أمجادٍ وحلم تحققت ... رؤاه، وسِفرٌ في الحياة جديد
فيا شمس، تيهي بالضياء، ففي الربى ... دعاء، وفي أرض الكنانة عيد
تعودين من حيث ابتدأت منيرة ... ويبزغ فينا مجدنا ويعود
مضى الأمس إن نحمده فهو قد انقضى ... بعيدا وان ندممه فهو بعيد
مضى الأمس لم يورث ولا إرث في العلا ... مِلاكُ المعالي عدة وعديد
بداية دنيا المرء إدراكه لها ... وأول عزم المرء يوم يريد
فيا أيها الحشد الذي طافت المنى ... عليه وأصغى في الخلود شهيد
رنا الشرق خفاق القلوب ورأرأت ... حواضر ريا بالسرور وبيد
يراقبكم طلق الأسرة حامد ... وينظركم شزر العيون حسود
مني قد غدت حقا فما أعذب المنى ... يغرد محياها ويورق عود
مخايلها الغراء أضحت شمائلا ... ترود بها الأنوار حيث ترود
وقد وحدتنا في الشجون وفي المنى ... جراح حملناها معاً، وقيود
وكم ريش من سهم فأمسك جنبه ... قريبٌ إليه واستُفِز بعيد
وإن مكان الجرح في الجسم واحد ... فسيان صدر موجع ووريد
على كل أرضٍ قام حلف وعصبةٌ ... تنافح عن شان لها وتذود
وقد كان مدحاً أن يقال وحيد ... فأصبح ذماً أن يقال وحيد
وما حسنٌ أن يغفل الشرق أمره ... ويصحو بنو الدنيا ونحن رقود(647/47)
إذ نام راعى الضأن عنها تيقظت ... ذئاب قيام في الربى وقعود
وفي الشرق من نور الاخوة شعلة ... تذوب لهوليها ظُبى وحديد
فمن رام بغيا سار في الأرز راسخ ... وغامت غيومٌ في الكنانة سود
وثار عُرام الرافدين وأطلقت ... بنجد شبالٌ مرة وأسود
وباتت ورود الشرق جمراً مضرجاً ... وجُنّتْ طباق الأرض وهي نميد
ومن رام سلما أطلع التيه واحة ... وضاء له حال ورف نضيد
فلسطين منا حبة القلب لم تزل ... نبادئها أطماعهم وتعود
أقول - لمن أعنيه - اختر فإننا ... جحيم تلظى أو ندى وورود
تطامن موج البحر هو وأقبلت ... رخاء رياح رفهة وسعود
رمينا لها صدر الشراع وقد دنا ... إلى الركب شط بالوفاق سعيد
تضيء بفاروق دواجي سبيلنا ... ويدنو قصي في المنى وفريد
ومن نعم الدنيا مليك ممجد ... نماه إلى الدنيا عطارف صيد
أقالوا عثار الشرق قدما ووجهوا ... إلى الهدى ركب العرب وهو شريد
وشادوا لنا أساً فأعلى جداره ... وللمجد منهم مبدئ ومعيد
إدوار حنا سعد(647/48)
نفس. . .
للآنسة الفاضلة (دنانير)
وتساءلوا: ما بالُها عَقَلَتْ ... ولطالما جُنّت بنا حبَّا
ولكم سقتنا من مودتِها ... صِرفاً وعاطتنا الهوى عَذبا
إنَّا نرى من أمرها عجباً ... مذ فارقنا نافراً غضبى
هلاَّ تعود لنا فنُعْتِبَها ... ولها علينا الصدق في العتبى؟
أحبابنا. . . لا، لا، وحسبكم ... تُرخون دون هناتكم حجبا
لا تطمعوا أن مس حبكم ... قلبِي الغرير وخالط اللبا
لكن لي نفساً تندُّ إذا ... مذَقَ الصديقُ الودَّ أو خبَّا
تأبى سوى عرفان عزّتها ... ولقد تجور فتُنكر القلبا
وهبُوا فؤادي من غوايته ... يرضى الرجوع فهذه تأبى
ما أبصرت عيناي قبلكم=قوماً غَلَوْا فاستقربوا الشهبا
(فلسطين)
(دنانير)(647/49)
البريد الأدبي
على هامش الأدب الحجازي:
تفضل الأستاذ الفاضل حسن عبد الله القرشي فأثنى على كلماتي المتواضعة التي نشرتها غي مجلة الرسالة الغراء في موضوع (الأدب الحجازي)، فنعتها بعمق البحث وطلاوة العرض، وهو تفضل منه أعتده فخراً ولا ينهض بحقه شكري.
ولعل الأستاذ الكريم قد أدرك مما كتبت أنني معجب بنهضة الشعر الحجازي، فقد ذكرت في غير موضع أن نهضته توشك أن تكون طفرة، وان كثيرا من الشعراء قد استطاعوا أن يجمعوا بين المعنى السامي والأسلوب الرصين، وهي مرتبة لا تتهيأ للأمم في نهضاتها إلا بعد الزمن الطويل والدرس المستمر.
وقد كان في وسعى أن اقتصر على هذا القدر من التقريظ والثناء، لولا حرصي على تصوير حياة الشعر تصويراً يلم نواحيه ويبرز معالمه، ليتمثل لقراءة العربية واضحاً جلياً؛ فأشرت في موجز من القول إلى أن بعض الأشعار ينقصها جمال الأسلوب وحسن الرصف، مع ما فيها من براعة في المعنى وتصرف في الاغراض، واعتقد أن مثل هذا النقد الهين لا يغض من سمو الشعراء، ولا يضع من أقدارهم بعد الذي فصلته من براعتهم وبينته منفضلهم، وحسبهم أن أعلام الشعراء في كل عصر من عصور الأدب لم يسلموا من النقد والتجريح.
على أنني معترف مع هذا بأن الشعر الذي جادت به قرائحهم أبان الحرب الحاضرة لم يصلني منه إلا القليل، وأرجو أن يوفقوا قريبا لطبع أشعارهم في دواوين يستمتع بها إخوانهم العرب في سائر الأقطار، وعندئذ أسجل لهم معجباً فخوراً في كتابي (تاريخ الأدب الحجازي) ما بدا في أشعارهم من كمال وجمال - وأن كان هذا الإعجاب لم يفتني فيما كتبت إلى الآن
وأنا بعد هذا كله موقن - مع الأستاذ القرشي - بوثبة الشعر الحجازي، متفائل له بمستقبل مرموق بعد الذي عرفته من أن شباب الحجاز يمتازون بالذكاء النادر والخيال الخصب والأمل الفسيح.
وإلى أخي الأستاذ حسن عبد الله القرشي جزيل شكري وجميل تقديري.(647/50)
أحمد أبو بكر إبراهيم
مكتبة الكيلاني للأطفال:
(رأى سمو سيف الإسلام الأمير الجليل: عبد الله نجل جلالة الإمام يحيى: ملك اليمن)
الحمد لله رب العالمين
حضرة الأديب الكبير العلامة الأستاذ كامل الكيلاني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد، فقد اطلعنا على مؤلفاتكم القيمة النفيسة في تعليم الأطفال فإذا هي مكتبة برأسها تستحق التقدير
وأني اعتقد أن الاستفادة بها في كل بلد عربي، وكل قطر إسلامي، أمر نافع جداً، لسهولة أسلوبها، وإتقان وضعها، وفصاحتها التي يستفيد التلميذ منها بالتدرج الشيء الكثير في اللغة. وسنقتني منها كمية يستفيد بها الأولاد في البلد
بارك الله فيكم، وزادكم علماً، ونفع بكم
عبد الله ابن أمير المؤمنين
سيف الإسلام
الطهر الخائن لشكسبير من رواية (كما تهواه أنت)
طهارة بعض الناس حربٌ عليهمُ ... وفضلهم خصم لهم وغريمُ
وأنت من الأطهار، والطُّهْرُ خائنٌ ... ينمُّ كما نمَّتْ عليك خُصومْ
كامل الكيلاني
1 - هو عبد الله بن عمر:
عبد الله الذي أراد أن ينزل في قبر أبي بكر، فقال له عمر: كفيت، ليس ابن أبي بكر كما قال هيكل، ولا ابن الزبير كما ظن السحار (وبريد العدد 645)، بل هو ابن عمركما في كتاب (أبو بكر الصديق) ص 266
وهذا الكتاب المطبوع في دمشق سنة 1353 وقد نفذت نسخه وأخوه (عمر بن الخطاب)(647/51)
وهو في 800 صفحة بلغت مصادره 170، وما فيه فقرة إلا وقد عزيت إلى صفحتها من مصدرها، هما أوثق المراجع وأجمعها في سيرة العمرين، ولولا أن أمدح نفسي لقلت: إنه لم يؤلف في بابهما مثلهما، ولكن مطبوعاتنا في الشام لاحظ لها في مصر. . .
2 - زناه فحده:
ذكرني ما قال أستاذنا النشاشيبي في العدد 645 بالمثل المشهور عند الفقهاء (زناه فحده)، وفيه شاهد للأستاذ في أنها زناه لا زاناه، وهو بعد مثل لمن يشرح كتاباً فيحرف الأصل، ويقول المؤلف ما لم يقل، ثم يعلق عليه التعليقات، ويشرح الشروح.
علي الطنطاوي
هل هي جرها شرك كما يراها الرافعي رحمه الله:
عرض إمام العربية الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في تحقيقاته الفريدة لكتاب إرشاد الأريب إلى قول مجنون أبي عامر:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
فآثر حفظه الله رواية (عزها شرك) التي رويت في الكامل والحماسة والأغاني على رواية (غرها) وقد كنت جنحت للأخذ برواية الكامل وغيره منذ أربع عشرة سنة، ثم رأيت الاستئناس برأي الأديب الكبير مصطفى الرافعي رحمه الله فبعثت إليه بكتاب قلت فيه: إلا يصح أن نصحح غرها بعزها؟ فأجب طيب الله ثراه بقوله:
(. . . أما تصحيح غرها بعزها فلا قيمة له، لأن الشرك لا ينصب للقطاة إلا وهو يغليها، إذ لا ينصب إلا لصيدها! فليس هناك شرك لا يعزها. ويخيل لي أن صواب الكلمة جرها لأن الشاعر يقول: فأمست تجاذبه، ويقول قبل ذلك:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامرية أو يراح
فكأن ذكر الرحيل يجر قلبه جرا فكيف بالرحيل نفسه؟ وجرها تجعل المعنى أقوى وأفخم.
وأكثر النساخ حين ينسخون يعطون الكتاب لمن يملى عليهم، ومن السهل جداً انخداع السمع في جرها فيسمعها الناسخ غرها؛ ومثل هذا يقع في التحريف كثيراً، ومنه الكلمة التي(647/52)
انتقدتها على العقاد في ابن الرومي (فرأى رجل مضطرب العقل جاهلا) أملاها المملي (ذاهلا) فسمعها الناسخ جاهلا وكتبها كذلك. . .)
وإنا نعرض ما رآه الرافعي رضي الله عنه من الصواب لهذه الكلمة ليرى الأدباء فيه رأيهم.
ولحجة العربي النشاشيبي - بهذه المناسبة - تحيتنا الطيبة وتقديرنا العظيم لما يبذله من جهد في سبيل لغة العرب، وما يمدها به كل يوم من غزير أدبه، ومخزون تحصيله، وواسع اطلاعه.
محمود أبو رية
ذكرى الشاعرين:
نقرأ في المجلات بين الفينة والفينة مقطوعة لشاعر النيل حافظ إبراهيم ينشرها العاثر عليها على أنها من شعره الضائع، إذ ليست في ديوانه المطبوع.
وأخر ما رأينا من ذلك مقطوعة عن الهرم نشرت في الرسالة (العدد 639) عثر عليها ناشرها منقولة عن بعض الصحف القديمة.
فاستغربت أن يخلو منها الديوان مع أن مرتبه الذكر في جملة المصادر التي رجع إليها كتاب (ذكري الشاعرين) وهو مصدر قيم عن حافظ وشوقي فيه أشتات شعرهما الحديث وبحوث الأدباء ودراسات الكتاب عنهما ومراثي الشعراء فيهما. والمقطوعة المذكورة هي في الصفحة (290) من (ذكري الشاعرين).
ونحن إذ نلفت الأنظار إلى هذا المصدر القيم لا يسعنا إلا شكر تلك الجهود الكريمة التي بذلها الأستاذ المدقق أحمد عبيد في جمع المواد وتنسيقها وضبطها فجاء كتابه متقناً حافلا بالمتعة والفائدة فجزاه الله خيراً.
(دمشق)
(س)(647/53)
القصص
نهاية الطريق
للكاتب الأمريكي: نيو بولد نوبز
بقلم السيد محمد العزاوي
هناك بين تلك الصخور التي تحث بحيرة (كومو) فتعقد حول مياهها الضاحكة سداً من ضباب، وعلى شغاف جبل يرتفع عن البحيرة بثلاثة آلاف قدم تجثم كنيسة صغيرة عبثت بها عوادي الزمن وهي تشرف على قريتي (كادنابيا) و (مناجيو). ويدور بكل ذاك محيط من جبال فارعة الذوائب سامقة القنن، تتناهى سفوحها إلى جبال الإلب العظيمة، ويبعد أقصى منازل القريتين عن الشعب الذي يطوق الجبل بميلين كاملين
وقد كان القوم يحجون في كل عام إلى الكنيسة مرة، يبتهلون فيها إلى الله أن يكلأهم بعنايته، فينزل عليهم الغيث حين الجفاف وفيما عدا ذلك فغباً ما كانت تزار
وقد كان (بلاجدن) يصعد في طريق لاحب متمعج قد امتد لامعاً في مجموعة من منازل ألبسها الماء ثياباً من زرقة صافية وكان الجو ساكناً، لا تخفق فيه نسمة من ريح، فتداعب أوراق الزيتون التي أكسبتها الشمس بريقاً فضياً بديعاً في الجبل، وكانت أشجار السرو تلقي على الهضاب ظلالها المستطيلة الوارفة، بينما كان (بلاجدن) يتقدم في طريقه صعداً شاعراً بكل ما يدور به من بدائع الحسن وآيات الجمال
وعندما بلغ الكنيسة وولج الباب وجد من بردها وظلامها حائلين يقومان من دونه، ولكنه تخطى الباب إلى الداخل ثم خطى بضع خطوات، فكان لوقع أقدامه رنين كئيب قوي يطوف كل ربوع المكان، وكان من العسير عليه، أن يتبين في تلك الكنيسة شيئاً بعد أن كانت الشمس في الخارج تغمر ما يرى، غير انه ألف الظلمة بعد قليل، وبصر في الركن البعيد بأربع شمعات موقدات، فاتجه نحوها بخطى وئيدة، بينما يقعقع تحت قدميه هذا البلاط الذي تأكله الزمان
وتجلى للناظر فوق الشموع الأربع صورة لمريم في إطار بسيط رخيص مذهب. وأدمن (بلاجدن) النظر في الصورة مأخوذاً. فقد كانت تحفة من يد صناع بارعة. إذ تجسم فيها(647/54)
مثال رائع من جمال أنثوي رائع. ولعل العينين كانتا أبدع ما في الصورة: كان يشع منهما بريق الإيمان والتفكير والرحمة
وكان الرسم طبيعي الحجم والخلقة؛ يتجلى في لون دخاني أزرق يوحي بالفكر ويبعث التأمل، وقد أكسبها نور الشموع المتراقص تحتها وسحراً وروعة، وانجمدت على شفتيها بسمة تأمل، فبدا الرسم في بعض الأحيان حياً. ولكن ما هذا؟ لقد انصدع صدر العذراء صدعاً، وانشق عند القلب شقاً رفيعاً مستطيلا؛ ثبت بأسفله خنجر دقيق ذو نصل رهيف
وانثنى (بلاجدن) إلى الخنجر ينزعه مفكراً، ولكن انبعث من ورائه في الظلام صوت يقول:
- أيها السيد! ما أحب لهذا الخنجر أن يمس!
والتفت (بلاجدن) وراءه رجلا، فإذا بشيخ يرتدى مسوح الرهبان، وقد هزل جسمه، وذبل وجهه، وتهدل شعره الأشيب، ولم يبق من ذلك الراهب إلا ذماء قليل وعينان مضيئتان أثارتا طلعة (بلاجدن) بتوقدهما الغريب، وأما بقية وجهه فقد كان شبيهاً بوجوه الموتى
وسأله (بلاجدن)
- ولكن لماذا؟
فخطا الراهب إلى الأمام في ذلك النور الشاحب المتراقص، ثم رمق الشاب الواقف بإزائه برهة، وتفرس فيه بعينيه الثاقبتين الباحثتين. وكأنما وجد شيئاً في ملامح ذلك الوجه كان يبحث عنه، فانطلق لسانه في نبرات حنون عجب لها بلاجدن.
- سيدي! إن لذلك قصة. فهل لك في سماعها؟
فأومأ بلاجدن أن نعم. فسارا في الظلام حتى بلغا الصف الأول من مقاعد صغيرة واطئة، وقد استوى أمامهما رسم العذراء وتواثبت عليه أضواء الشموع الأربع وظلالها؛ وبدا الخنجر في أسفله يعلوه التراب.
وشرع الراهب يتحدث، وبلاجدن ينصت، وبصره قد انتظم الرسم البديع.
(كان ذلك من أمد بعيد، حين كانتا (روزا) تعيش مع أبويها في منزل صغير قائم في مناجيو. وكانت ترعى للشيوخ عنزاتهم، فتسبح كل يوم في أشعة الشمس ما سمحت لها دورة الفلك، وتغنى ما يطيب لها من فنون الغناء، فينساب صوتها في الجو كما تنساب مياه(647/55)
ضاحكة - كساها الظل - في جوف غدير صغير!
(كانت تغنى دائماً وتطرب أبدا؛ فقد كانت فتاة لم تبخل عليها الشمس بالسناء البهيج، ولم ينقصها الله حظها من الجمال البديع.
(وهناك كان (جيوفانى)؛ فقد كان يغدو كل صباح على وكرها الجميل حيث تنمو الزهور الصفراء ذات القلوب الوردية؛ فكانت دائماً ترشقه بأوراقها وقلوبها من وراء النافذة الصغيرة؛ فيضنى الفتى في الجد نفسه، ويكلفها في العمل شططاً. ولكنه كان يفنى ويفنى. أو لم يكن كل ذلك من أجلها؟
(وكثيرا ما كانت عنزاتها تعدو على كرمه وقت دلوك الشمس، فيسوقها أمامها إلى المنزل وهما يضحكان وينشدان، وقد اخذ كلاهما بذراع صاحبه، والشمس قد أرسلت عليهما - من وراء الجبال - أشعتها الذهبية فانعكست على مياه البحيرة، أو يسيران معاً وقد تلطفت أشعة الشمس من بعد توهج فيهيئ لها تاجا من الزهر مفتن في تنسيقه، متأنقا في ترصيعه؛ فتتقبعه وهى تضحك ضحكات مرحة.
(كانا كطفلين رعتهما العناية يا سيدي وغفل عنهما الدهر: فكثيرا ما كانا ينفقان الليل سامرين جالسين إلى البحيرة؛ يناقلها أحلامه، ويفضي إليها بأمانيه؛ بينما تنثر ذوائب شعرها الجميل على خده الأسمر نسمات لطيفة وانية، والقمر قد أرسل إليهما قبلاته، وانتظمت أشعة البحيرة، فبدا الماء طريقا من لجين يصل بين الشاطئين.
(وكان الناس يرددون من أمرهما أن زواجهما يتم في موسم جني العنب. وقد كان كذلك يا سيدي، لولا أن بدت قوة جديدة في أفقهما: تلك هي الكنيسة!
(وأكبر الظن أن ليس بين الناس من يدري أني تتحكم هذه القوة الطاغية في قلب فتاة غضة الجسم، ريقة الشباب. لقد هتكت صدرها رغبة ملحة أن تنضوي تحت لواء الكنيسة وتدخل ذلك الدير القائم خلف البحيرة؛ تاركة دفيء الشمس وراءها وضياءها.
(لم تكن تريد أن تذهب! وكان هذا التناقض بديعاً أليماً في وقت معاً. هذه الفتاة الغضة الحسناء، تلوح كأنما هي جزء من ضوء الشمس، وعبير الزهر، وشدو الطيور؛ كان عليها أن تجعل من دون ذلك حجابا كثيفاً فتوصد عليها باب الدير العتيق!
(أما جيوفانى فقد جن جنونه، وطار عقله شعاعاً. لا بأس عليه في ذلك ولا جرم. فقد كان(647/56)
من القسوة أن تنتزع من بين شفتيه كأس نسج حولها وشي الأماني، وحاك مطارف الأحلام. . . أخذ بين يديها الناعمتين ثم جثا على ركبتيه ضارعاً ملتاعاً، وقد غض بدمعه المتسايل على خده الأسمر. وبكت كذلك روزا. ولكنها ما استطاعت أن تجيبه إلى ما طلب. . . لعلها كانت تحب الفتى يا سيدي، ولكن شيئاً أعظم من حب فتاة، وأعتى من غرام فتى!
(واستمهله روزا ليلة أخرى، كيما تقرر فيها ما تفعل. وقد أزمعت أن تأتي هنا إلى هذه الكنيسة فتبتهل إلى مريم أن تنير لها الطريق وتدعوها أن تهديها سبيل الرشاد. وقبل الفتى شفتيها الباردتين ثم ذهبت. . . لقد كان طفلا حين ظن بأنها تؤثر ذراعيه القويتين!
(إلى هنا جاءت الفتاة لتجثو طوال الليل فوق هذا الصخر الجافي تبكي وتبتهل، فقد كانت: تحب الفتى حقا، ولكن العذراء رمت إليها من فوق الشموع الأربع واحتوتها بعينيها الحزينتين المفكرتين. وسريعاً ما امتزجت روح الفتاة بروحها. . . وما إن انبلج نور الفجر حتى عبرت البحيرة إلى الحيطان البيضاء دون أن ترى حبيبها مرة أخرى.
(ولعل الفتى - عندما انتهى الأمر - قد أصابه مس أو جنون. إذ خرج معلناً كرهه لله وللعالم. وانطلق في ذاك الطريق الأبيض الصغير إلى حيث نحن الآن جالسان.
(وهنا استل هذا الخنجر الذي ترى ثم طعن قلب العذراء وهو يتمتم بقسم خافت مبهم. . . ولهذا لن أدعك تلمسه.
وأومأ بلاجدن برأسه بينا صمت العجوز هنيهة ثم عاد يقول: (واختفى جيوفانا عن الناس يومين، ثم عاد فظهر دون أن تمحى سيماء الجنون عن وجهه. . . وهناك على شعب الحدور قابلته جنازة بيضاء. حقا لقد كانت جنازة فتاته. فأهطع إليها ولكنهم أوقفوه. لم يؤنبه أحد على ما أجترم؛ ولكن تنازع الناس حيال ذلك عاطفتان قويتان: خوف ورحمة.
(وكانت روزا قد ماتت في الدير جاثية على ركبتيها في نفس اللحظة التي طعن فيها جيوفانى صدر مريم. وقد أخبروه بعد مدة معدودة أن وجهها - حين ألفوها لدى الهيكل - كان يشبه وجه مريم إلى حد بعيد. ولم يكن لموتها من سبب معروف واضح، وإنما هو سر غاب عن أذهان البشر ودق عن إفهام الناس. ولقد أخبرته الراهبات أنها كانت إذ ذاك تبتهل إلى الله أن يمنحها من لدنه قوة.
(وتوقف الراهب عن الكلام، فبقى الرجلان صامتين برهة طويلة يصعدان النظر معاً في(647/57)
وجه جميل يشرف عليهما من فوق شموع أربع. وخيم سكون قطعه بلاجدن بقوله:
- وماذا تظنه قد حدث بعد ذلك؟
- لا ادري!
واتصل السكون فوق رأسيهما، فعاد بلاجدن يقول وهو يمرس عينيه:
- وعلى أية حال فقد أدت الفتاة دين الله عند جيوفاني.
- فاجبه الراهب في هدوء:
- هكذا يخيل إلي يا سيدي. . . فإني أنا جيوفاني!. . .
السيد محمد العزاوي(647/58)
العدد 648 - بتاريخ: 03 - 12 - 1945(/)
فلسطين بين العرب والصهيونية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
دخلت قضية فلسطين في مرحلة جديدة، أو كرت راجعة، على الأصح، إلى مرحلة قديمة. فما هذه بالمرة الأولى التي تؤلف فيها لجنة تحقيق، تبحث وتدرس وتقترح، وقد كان المأمول بعد أن تعددت اللجان، وصارت تقاريرها أكواماً أو تلالا، وصدر الكتاب الأبيض قبيل الحرب. أن لا يعاد فتح الباب على مصراعيه هذا الفتح التام كأنما هي مشكلة طارئة لا عهد لأحد بها ولم يسبق لبريطانيا نظر فيها وتدبر ودرس لها. وإنه لأمر محزن ولا شك أن يتكرر هذا كل بضعة أعوام وإن كان لا جديد هناك سوى أن الصهيونيين ضاعفوا نشاطهم ولجوا في العنف والعدوان وأغرقوا حتى وجب أن يحرموا كل حرمان. فإنه إذا كان هذا مبلغ استخفافهم بدولة قوية المراس شديدة البأس مثل بريطانيا، فمن ذا الذي يستطيع أن يأمن شرهم إذا صارت لهم - لا أذن الله - في فلسطين دولة خالصة لهم؟ أليست الدولة العربية المجاورة لفلسطين على حق جلى في مقاومتها لقيام هذه الدولة الخطرة؟
ويخطئ من يظن أن الصهيونيين تدرجوا في مطالبهم وتوسعوا فيها شيئاً فشيئاً، أو أنهم كانوا يخفون غايتهم في البداية، أو أن أطماعهم تفاقمت على الأيام. فليس مثل هذا الظن بصحيح، وتاريخ مساعيهم ينقضه. ولست أنوي أن أورد هذا التاريخ الطويل فما يتسع له هذا المقام، ولكني أذكر على سبيل التمثيل أن بريطانيا كانت قد عرضت على الصهيونيين في سنة 1903 أن تسكنهم أفريقيا الشرقية فأبوا هذا كل الإباء، وروت مترجمة اللورد بلفور - صاحب الوعد المشهور - أنه سأل الدكتور وايزمن (وهو بولندي الأصل) في سنة 1905 عن السبب في رفض الصهيونيين أن يرحلوا إلى أفريقية الشرقية، فكان رد الدكتور وايزمن أن سأل بلفور:
(هل تقبل باريس بديلا من لندن؟)
فقال بلفور: (ولكن لندن بلدي؟)
قال وايزمن: (وكذلك القدس!)
وفي سنة 1915 اقترح الصهيونيون على الحكومة البريطانية أن تعطيهم فلسطين على أن(648/1)
تكون تحت الحماية البريطانية، ولم تكن الحرب قد دارت دائرتها على الترك، وكان الإنجليز من ناحية أخرى يشفقون أن يأخذوا بهذا الاقتراح مخافة أن يغضب فرنسا ويثير أطماع الدول الأخرى. فكتب الدكتور وايزمن إلى اللورد بلفور يقول له ما معناها إنه كانت بريطانيا لا تطمئن إلى وجود دولة غيرها في فلسطين، ولا تريد أن تبسط عليها حمايتها، فإنها ستضطر إلى اتخاذ الحيطة خارج فلسطين، وهذا الاحتياط ليس أيسر كلفة من تولى الحماية. ومن أجل هذا يقترح الدكتور وايزمن أن يستولي اليهود على فلسطين فيقوموا لبريطانيا مقام الحارس!
فالغاية لم تكن خافية على أحد، ولا كانت مكتومة أو مجهولة.
وينبغي أن يقال هنا، إن هذه المباحثات بين الإنجليز والصهيونيين كانت تدور في الوقت الذي كان السير هنري ماكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر في أثناء الحرب العالمية الأولى بكاتب المغفور له الملك حسين (وكان لا يزال الشريف حسين) بمكة. وقد انتهت المكاتبات بينهما بأن تعهدت بريطانيا بمساعدة العرب على الاستقلال والاعتراف لهم به من حدود تركيا إلى المحيط الهندي، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسط والأحمر إلى حدود إيران والخليج الفارسي، واستثنت بريطانيا ساحل لبنان إرضاء لفرنسا. ولكن فلسطين لم تكن مستثناة، بل كانت داخله في البلاد التي تعهدت بريطانيا بالاعتراف باستقلال العرب بها ومساعدتهم على الفوز به. وكان ذلك كله في سنة 1915 أيضاً وهذه المكاتبات التي انتهت إلى الإتقان، وقام العرب بثورتهم المشهورة على أثرها، تعد معاهدة بلا مراء
ويعلل بعض الإنجليز هذا التناقض في سياسية بريطانيا بأن وزراء إنجلترا كان بعضهم لا يدري بما يفعله البعض الآخر. وهو تعليل لا يقبل. لأنهم في الوقت نفسه كانوا يفاضلون الفرنسيين بواسطة لجنة (سايكس - بيكو) المشهورة، وقد جاءت هذه اللجنة الثنائية إلى مصر، وكان المندوب السامي البريطاني في القاهرة على علم بما تصنع وعلى اتصال بها
وهذا التناقض هو الذي اضطر الإنجليز إلى الاكتفاء في وعد بلفور (بإنشاء وطن قومي للصهيونيين) في (فلسطين) والاختصار على ذلك حتى تتهيأ الوسيلة لإجابة الصهيونيين إلى ما يبغون، وهو إنشاء دولة لهم في فلسطين تكون لهم دون العرب. وكل ما قام به(648/2)
الصهيونيون في فلسطين بعلم الإنجليز وموافقتهم لم يكن إلا تمهيداً لقيام هذه الدولة.
وقد تنبه العرب وأدركوا مبلغ الخطر عليهم، ولست أعني عرب فلسطين فانهم كانوا يدركون هذا الخطر من أول يوم، وقد قاوموه وكافحوه بكل ما يدخل في الطاقة، وإنما أعني عرب البلاد الأخرى المحيطة بهم، فقد كان بعضهم أحسن إدراكا للخطر العام، من بعض، وكان كل فر يق منهم في بلاده مشغولا بقضيتها الخاصة، فالشام ولبنان في نضال مع الفرنسيين والعراق ومصر في مع نضال الإنجليز، وفلسطين المجاهدة واقفة وحدها لا تلقى من العون إلا أيسره، ولا يجود عليها أشقاءها إلا بالعطف على الأكثر، وإلا بقليل من العون لا يغني
أما الآن فتعتقد أن الخطر أصبح واضحا لا خفاء به. والفضل لعرب فلسطين في إيقاظ النفوس وتفتيح العيون على ما هو حائق بها، وما هي صائرة إليه لا محالة إذا لم يخف إخوانها إلى نجدتها. كما أن لهم الفضل أيضاً في التنبيه إلى الخطر على البلدان العربية الأخرى فليس يخفى الآن على أحد أن قيام دولة صهيونية في فلسطين يؤدي إلى ما يأتي: -
أولا - تفقد الجامعة العربية قيمتها، لأن فلسطين قلب البلاد العربية وقطب الرحى منها، فإذا ضاعت فلسطين ضعف الأمل في مكان التعاون الوثيق بين البلاد العربية على نحو يثمر الثمرة المنشودة
ثانيا - هذه الدولة الصهيونية تهدد كل بلد عربي مجاور لفلسطين، بل تهدد الشرق الأوسط كله. والصهيونيون أنفسهم يجهرون بأن الشرق الأوسط بأجمعه (مجال حيوي لهم) وسلوكهم قوامه (العنصرية) ولن يكون إلا بابا إلى النزاع
ثالثا - أقامت الصهيونية في فلسطين صناعات قد تثبت أو لا تثبت على المزاحمة الأجنبية، ولكنها على كل حال أضخم شابا وأوسع نطاقا من أن تكون فلسطين وحدها هي المقصودة بها. وقد اغتنم الصهيونيون فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأجنبية فغزوا بإنتاجهم الصناعي أسواق الشرق كله، حتى كادت مصنوعاتهم تغرق هذه الأسواق وتقتل الصناعات المحلية. ويلاحظ - على الأقل في مصر - أنهم يسعون لسيطرة على صناعاتنا؛ لشراء أسهم المصانع إذا تيسر لهم ذلك، وبالضغط الذي يتسنى لهم - حتى إذا(648/3)
لم يشتروا الأسهم - بفضل ما لهم من التحكم في الأسواق المالية والتجارية. ومن المشاهد المحسوس الملموس أن كل عمل تجاري له قيمة يخفق إذا لم يكن عن طريقهم، أو لم تكن لهم يد فيه. فإذا قامت لهم دولة في فلسطين، فلا شك في أن مركز الثقل المالي سيكون في تل أبيب، وأن بلاد العرب جميعا ستقع تحت السيطرة الاقتصادية الصهيونية، بل الاستبعاد الاقتصادي
وقد حاولوا أن يسيطروا على صحف مصر ويتحكموا فيها، واتخذوا (الإعلانات) وسيلة إلى ذلك، ولكنهم أخفقوا في هذا، فلجئوا إلى إصدار الصحف وتأليف شركات النشر وفي مرجوهم أن يصعدوا من هذا الباب إلى التحكم في الأقلام، أي في الرأي العام. ولكن أملهم في النجاح هنا، بعد اليقظة العامة، عسير جداً(648/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 18 -
ج19 ص 252: البحتري
ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهو ولا يتكبر
قلت: في ديوانه وفي كثير من كتب الأدب (يزهى).
في الصحاح: (للعرب أحرف لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول به وإن كان بمعنى الفاعل، مثل قولهم: زهى الرجل، وعني بالأمر، ونتجت الشاة والناقة وأشباهها. فإذا أمرت منه قلت: لتزه يا رجل، وكذلك الأمر من كل فعل لم يسم فاعله لأنك إذا أمرت منه فإنما تأمر في التحصيل غير الذي تخاطبه أن يوقع به، وأمر الغائب لا يكون إلا باللام كقولك: ليقيم زيد، وفيه لغة أخرى حكاها ابن دريد: زها يزهو زهوا أي تكبر، ومنه قولهم: ما أزهاه، وليس هذا من زهي، لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه. وقلت لأعرابي من بني سليم: ما معنى زهى الرجل؟ قال: أعجب بنفسه، فقلت: أتقول: زها إذا افتخر؟ فقال: أما نحن فلا نتكلم به). والبيت من قصيدة جيدة مطلعها:
أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر ... وألام من كمد عليك وأعذر
وقد روى ابن خلكان منها سبعة عشر بيتا (فيها البيت المذكور) ثم قال: (وهذا هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قيادة، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده. وليس فيه من الحشو شئ بل جمعيه نخب).
قال الصاحب بن عباد في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي): (جرى حديث أبي عبادة البحتري وهو - يعني ابن العميد - يوفيه حقه الذي استوجبه لجزالة لفظه، وبشاشة نسجه، وغزارة طبعه، وحلاوة شعره. وقال في أثناء هذا المجلس: ما علمت أن في طبع البحتري تكلفا إلى أن قرأت قصيدته في صفة الإيوان (صنت نفسي عما يدنس نفس).
قلت: إن العربية لتحمد الله كثيرا أن كان في طبع البحتري تكلف - كما يقول الأستاذ الرئيس - حتى ينظم شاعرنا هذه القصيدة البارعة الباهرة العبقرية. ولو لم تتجل صفة(648/5)
الإيوان في الديوان لخلا من درة يتيمة.
وأبو عبادة ثالث ثلاثة يرى ابن الأثير صاحب (المثل السائر) أنهم أشعر العرب، قال:
(والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولا وآخراً. ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون وهم: أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي، فان هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان طبعة الشعراء).
ووصف الثلاثة فقال في البحتري:
(وأما أبو عبادة البحتري فانه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأورد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينما يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق. وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه؟ فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري. ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فان أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربة إلى الإفهام).
وقد نسب قول المتنبي الذي تفضل بإيراده ابن الأثير إلى أبي العلاء. جاء في (وفيات الأعيان): (ويقال: إنه قيل: لأبي العلاء أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري).
وإنه ليستحيل أيما استحالة أن تفلت من الأحمدين هذه الفلتة، أو أن يتحرك لسانهما بها في المنام، وإنه كلام حاكه أديب، ومشى هذا المقول، هذا النجل مجهول النجل في الورى ذا نسبتني إن المتنبي ما كان يرى غير نفسه، وكان زهوه لا يعد الشعراء السابقين. وإلا قائلين صغيرين مبشرين بنبي في الشعر يأتي من بعدهم اسمه (أحمد)
هو في شعره نبي ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي!
وتعظيم أبي العلاء العجيب لأبي الطيب ثابت مشهور. جاء في (أوج التحري):
(وكان أبو العلاء يفضل أبا الطيب المتنبي على غيره من الشعراء كأبي تمام والبحتري وابن الرومي وغيرهم، وإذا ذكر أحدا منهم أو أورد له شيئا يقول: قال أبو تمام، قال(648/6)
البحتري، قال ابن الرومي، وإذا أورد شيئا لأبي الطيب قال: قال: الشاعر):
ولم يكتف أبو العلاء بأن يقصر هذا الوصف على سميه بل ظلم الناس من أجله، قال ابن خلكان:
(يقال: إن أبا العلاء كان إذا سمع شعر ابن هاني يقول: ما أشبهه إلا برحى تطحن قرونا لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ، ولعمري ما أنصفه في هذا المقال، وما حمله على هذا إلا فرط تعصبه للمتنبي. . . وليس في المغاربة من هو في طبقته لا من تقدميهم ولا من متأخر يهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه).
وإذا أجل نابغة الأدب العربي الطائيين، وقال فيهما في درعية:
مثل وشى (الوليد) لانت وإن كانت (م) ... من الصنع مثل وشي (حبيب)
فابن الحسين عند المعري في مرتبة لا يقاعده فيها أحد.
وإذا قال أبو تمام وأبو الطيب أمثالا وحكما كما يقول البحتري (وما نرويه هو نموذج من كثير):
لولا التباين في الطبائع لم يقم ... بنيان هذا العالم المجبول
ولا تقل أمم شتى ولا فرق ... فالأرض من تربة والناس من رجل
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل حتى عد ألف بواحد
تطلب الأكثر في الدنيا وقد ... نبلغ الحاجة فيها بالأقل
ومن يعرف الأيام لا ير خفضها ... نعيما ولا يعدد تصرفها بلوى
صعوبة الرزء تلفى من توقعه ... مستقبلا، وانقضاء الرزء أن يقعا
ينال الفتى ما لم يؤمل، وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر
ومن الحسرة والحسران أن ... يحبط الأجر على طول العمل
إن المشيَّع لا يبير عدوه ... حتى يكون مشيع الأصحاب
أرى الحلم بؤسي في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
واليأس إحدى الراحتين ولن ترى ... تعبا كظن الخائب المكدود(648/7)
إن التنازع في الرئاسة زلة ... لا تستقال، وذلة لم تنصر!
ما أضعف الإنسان لو همة ... في نبله أو قوة في لبه
وهل خلا الدهر أولاه وآخره ... من قائم بهدى مذ كُوِّن البشر
والعقل من صيغة وتجربة ... شكلان مولوده ومكتسبه
قدره مرتفع عن حظه ... لا يرعكَ الحظ لم يؤخذ بحق
ليس يحلو وجودك الشيء تبغيه (م) التماسا حتى يعز طلابه
يعرف السيف بالضريبة يلقاها (م) بنبي عن الصديق امتحانه
لا أحفل المرء أو تقدمه ... شتى خلال، أشفها أدبه
ولست أعتد للفتى حسبا ... حتى يرى في فعاله حسبه
وما سفه السفيه وإن تعدى ... بأنجع فيك من حلم الحليم
متى أحفظت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أفعال اللئيم
وأرى الإملاق أحجى بالفتى ... من ثراء يطّيبه بالملق
وأصوب رأي في الصنيعة ردُّها ... إلى رجل يغنى غناء رجال
لنا في الدهر آمال طوال ... ترجيها وأعمار قصار
والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه
إذا قال أبو تمام والمتنبي مثل هذه الأبيات الحكمية البحترية فهل يقال: (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري) وليس حبيب بن أوس وأحمد بن الحسين مثل صالح بن عبد القدوس في إكثاره في شعره من الأمثال (التي لو نثرها في شعره وجعل يبنها فصولا من كلامه لسبق أهل زمانه) كما قال الملك الأديب عبد الله بن المعتز في كتابه (البديع).
ويظهر مما نقل إلينا من أقوال المتقدمين في حبيب والمتنبي أن أكثرهم وفيهم ابن الأثير نفسه فارقوا الدنيا ولم يعرفوا هذين الشاعرين، فليست براعة حبيب في أنه (غير مدافع عن مقام الأغراب الذي برز فيه على الإضراب) وليست فضيلة المتنبي في أنه (حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال) كما يقول ابن الأثير فيهما.
وللرضي هذا القول الموجز في شعر الثلاثة:(648/8)
(سئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقائد عسكر) وقد روي القول في (المثل السائر).
وللشيخ قول في حبيب في (رسالة الغفران) وهو (كان صاحب طريقة مبتدعة ومعان كاللؤلؤ متتبعة، يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار).
وقال القاضي الفاضل في المتنبي، وقد روى قوله ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم): (إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس).
ومن أغرب ما يذكر في هذا المقام ما سطره ابن خلدون في الجزء الأول من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر. . .) وهو المعروف بمقدمة ابن خلدون:
(كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية - يعني الشعر - يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شئ! لأنهما لم يجريا على أساليب العرب. . .).
وقد نعيت في مقالتي (المتنبي) على ابن خلدون وعلى شيوخه إفلاتهم هذا القول أو أفتلاتهم، ومما قلت:
كلام هؤلاء الشيوخ (شفاهم الله، وشفى ناقل قولهم معهم) ليس بشيء إلا شيئا لا يعبأ به، فأساليب العرب متنوعة مختلفة، وليس هناك أسلوب واحد، ولكل قبيل طريقة، وللبدوي بلاغة، وللحضري بلاغة، وللإقليم أو المكان وللخليقة والمزاج أثر وسلطان، ولكل قرن زي ولحن، و (أحسن الكلام ما شاكل الزمان).
والدنيا في تبدل مستمر (وأحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر)، ولكل نابغة نهج معلوم. فتنكب المتنبي عما تنكب عنه، وسلوكه السبيل الذي سلكه ما ضاراه بل ظاهراه في إبداعه ونبوغه، وكان ذلك على هذه اللغة من نعم الله.
وقد جاءنا في هذا الوقت العالم الفاضل (دكتور محمد كامل حسين أستاذ جراحة العظام بكلية الطب) بآراء في ابن الحسين وشعره في مقالة عنوانها (التعقيد في شعر المتنبي) في مجلة: (الكاتب المصري) الغراء.(648/9)
ونحن لا نجادله لكننا نسائله (إن على (عالمنا) أن نسأله)؟،
ألا يرى دكتور محمد - وقد عاود التفكير في بحثه - أن سبب التعقيد في شعر المتنبي - وكثير منه هو في قرزمته - لم يكن ما فسر
وأن من أسبابه كون الرجل مولدا (قد تعلم العربية تعلمنا أباها في هذا الزمن) لا جاهليا أو إسلاميا يلهم تأليف القول إلهاما وأنه ما كان يفكر في القافية ليبني عليها البيت كدأب حبيب، وأن كبرياءه كانت تأخذ ما يجي في بعض الأوقات فلا يعني بتقويمه، وأنه كان يستعجل في النظم، وقد أشار ابن جني في (الخصائص) ص 332 إلى هذه السرعة. ثم إن المعاني الجديدة ليست كالمعاني المتعاورة المعهودة سهلة التبيين، وانظر إلى ابن خلدون حين كتب وابن المقفع لما نقل. وإني لأتذكر أن العلامة الدكتور طه حسين بك شبه في أحد مباحثه كلام ابن المقفع بكلام العربانيين (الفرنج المستشرقين) لاضطرابه واختلال نظامه. وعذر عبد الله وعبد الرحمن عند المنصفين ظاهر مبين.
هل يرى دكتور محمد أن مئات من الأبيات المعقدة والمهلهلة في طائفة من قصائد المتنبي - لا بضعة الأبيات التي أوردها أمثلة - يذهبن حسنات المقصدات ذوات الألوف من الأبيات المحكمة المحققة؟
وإذا استبشع صورة هذا البيت في قصيدة، والأذواق تختلف:
قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان
فهل يستملح هذه الصورة في القصيدة عنها:
في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرون بالآذان
ألا يرى الدكتور محمد أن السيفيات والكافوريات والعضديات قد اشتملن على معان متنوعة، ومقاصد مختلفة، وتجلى فيهن خيال صالح، ووعين صورا رائعة للقارئين، وأنه لم تسلم من العيوب قصائد يقدرها لشاعر من الشعراء أكثر من سلامتها. لنأخذ تلك القصائد ولنترك ما نظم الرجل من قبلها وإن كان تاليه يجد فيه شيئا عظيما باهرا.
ماذا يعزو دكتور محمد بقوله: (فإعجابنا شعر المتنبي إعجاب عقلي محض أو بعبارة أخرى إعجاب بالصياغة) فان هاتين الجملتين متعادلتان لا تلتقيان. وإن قصد بالصياغة ما بعينه مغزى الكلمة في هذا لباب فإعجاب العرب بشاعرهم لم يجئ من صوب صياغته، ولو(648/10)
حاول أن يسير في تلك الطريق المتعبة لعاصاه مزاجه، ولن يضع منه عندنا أنه لم يكن ذا صياغة. وإذا أعجبنا بقول حبيب الصائغ:
ما ترى الأحساب بيضا وضحا ... إلا بحيث ترى المنايا سودا
أيما إعجاب. فقد تقبلنا قول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
خير تقبل، ومعنى البيت واحد. والصياغة البارعة المحيرة عند الغواص الصواغ في الأول، والطبيعية البليغة الفصيحة مع المحلق في سماء القول في الثاني.
يقول الدكتور محمد: (وهو من حيث الشعر العربي قد يكون عظيما ولكنه من حيث الشعر إطلاقا لا يمكن أن يكون ذا خطر).
فمن أصحاب هذا الشعر من العرب أو العجم في مذهبه؟
ما قوله في شكسبير شاعر الإنجليز؟
ما قوله في غوته شاعر الجرمان؟
ما فضيلة هذين الشاعرين عنده؟
هل لدكتور محمد أن يروي لنا نموذجا أو نتفة من خير ما قال غوته أو من خير ما قال شكسبير أو من خير ما قال شاعر من أرباب (الشعر إطلاقاً)؟
دكتور محمد كامل حسين قد ظاهر في الفضل بين الدرعين، وقد استبد بمنقبتين، فنحن نستهدي علمه وأدبه ونستفتي غير متمثلين بما قال الصاحب للقاضي الجرجاني صاحب (الوساطة بين المتنبي وخصومه):
إذا نحن سلمنا لك العلم كله ... فدع هذه الألفاظ تنظم شدورها
وأقول في ختام هذا الحديث المختصر:
لو لم يكن - يا شيوخ ابن خلدون - أحمد الأول وأحمد الثاني اللذان (ليسا من الشعر في شئ) كما لفتتم قولكم لخسر الأدب العربي أيما خسران. وإذا استغنى الإنكليز عن شكسبيرهم - وكارليل يقول (لا غنى لنا عن شكسبير) - واستغنى الجرمان عن غوته، وغوته - كما رووا - نبيهم في الأدب، كلامه قرآنهم، فالعربيون محتاجون كل المحتاجين إلى أبي الطيب وإلى أبي العلاء. ولن يزهدهم فيهما مزهدون، ولن يلفتهم عنهما لافتون،(648/11)
وكلما تقدم العربيون وعلموا، ازدادوا علما (قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (وقل: رب زدني علما) عرفوا من فضائل الأحمدين وسائر شعرائهم وأدبائهم وعلمائهم ما كانوا يجهلون، وإنهم - وكتابهم القرآن وقائدهم محمد (صلى الإله على محمد) - لماشون في هذا الوجود اليقدمية فلن يتقهقروا، ولا يقفون(648/12)
أين أنت يا مصطفى كامل؟!
رد عار 4 فبراير بمثل ما رددت عار دنشواي
للأستاذ سيد قطب
(إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعي لتأليف وزارة. فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث).
(لورد كيلرن 4 فبراير سنة 1942)
هذه المجلة ليست مجلة حزب من الأحزاب، إنما هي مجلة المثقفين من المصريين خاصة ومن العرب عامة؛ فهي بهذا ترتفع على الأحزاب، وتتوجه بجهودها إلى معنى أخلد وأسمى
وهذا القلم ليس لحزب من الأحزاب، فقد بات صاحبه لا يرى في الأحزاب إلا أقزاماً بعد ما خلا الميدان من كل جبار؛ فهو بهذا يتوجه إلى وجه مصر الخالد وهي أخلد وأسمى.
لقد أميط اللثام منذ أسبوعين عن أشنع مأساة لقيتها مصر في تاريخها القديم والحديث، المأساة التي داست كرامة كل فرد، ومست شرف كل مواطن، وأذلت كبرياء كل كريم، ومرغت في الوحل تاريخ المصريين. . .
المأساة التي كشفت الستار عن الضمير البريطاني فإذا هو ضمير لا يصح الارتكان إليه، ولا تجوز الثقة به ولا يؤمن التعاقد معه، لأن الأقوياء يستطيعون في لحظة واحدة أن ينقضوا كل ما أبرموا، وذلك الضمير هادئ مستريح!!
ولا أحب أن أسترسل في التنديد بهذه المأساة، فسرد حوادثها وحده يكفي، وهو أشنع وأدمى من كل تعليق
وهاهو ذا نقلا عن (أخبار اليوم)؟
(في يوم 4 فبراير سنة 1942 اعتدى الإنجليز على استقلال مصر أشنع اعتداء، فأحطت الدبابات الإنجليزية بقصر عابدين وصوبت إليه مدافعها، وحوصر قصر الملك فاروق بألوف الجنود البريطانيين وهم في ملابس الميدان. . وتقدمت دبابة إنجليزية فحطمت الباب الملكي ودخلت حرم القصر. . ودخلت وراءها سيارة تحمل اللورد كيلرن السفير البريطاني، والجنرال ستون قائد القوات البريطانية في مصر
(حدث كل هذا في الساعة التاسعة مساء في الظلام الدامس لأن الجرائم عادة لا ترتكب إلا(648/13)
في الظلام
(ووقفت سيارة السفير البريطاني أمام الباب الملكي، ونزل منها السفير وقائد القوات البريطانية يتقدمهما ثمانية ضباط يحملون المسدسات في أيديهم
(وتقدم رجل التشريفات يسألهم: إلى أين هم ذاهبون؟ فدفعه السفير البريطاني بيده وقال له:
- أنا أعرف طريقي!
(وفي هذا الوقت هجم الجنود البريطانيون على حراس قصر عابدين فجردوهم من السلاح، وحاصروا القشلاق الملكي، وأراد أحد الحراس أن يقاوم القوة بالقوة، فتكاثر حوله الجنود الإنجليز وأصيب بكسر في يده أثناء المقاومة
(وفي هذا الوقت نفسه كان الجنود الإنجليز قد حاصروا جميع ثكنات الجيش المصر، وصوبوا إليها المدافع، واستعدت الطائرات البريطانية لنسف جميع ثكنات الجيش المصري إذا هو قاوم!
(وحاصر الجنود الإنجليز كذلك مراكز البوليس. . . وقطعوا جميع الأسلاك التليفونية الموصلة إلى القصر الملكي!! وحاصروا أيضاً محطة الإذاعة!
(كل هذا لكي لا يعرف الشعب في ماذا يجري في قصر ملكة!)
هذا هو الوصف المادي المحسوس للمأساة. يفور له الدم في العروق، وتهتاج له الأعصاب في الأجسام، وينبض له كل قلب بالنقمة والغضب والحماس. . .
فكيف تلقته الصحافة الحزبية في مصر الممثلة للأحزاب المصرية في عصر الأقزام؟ راحت الصحف الوزارية تتهم النحاس باشا بالخيانة الوطنية، دون أن تمس السادة الإنجليز إلا في حذر ومن وراء ستار!
وراحت الصحف النحاسية تتهم الوزارتين بالتلفيق والتزوير، وتنتحل للسادة الإنجليز كل عذر في موقفهم هذا الغشوم. فهم قوم في حرب حياة أو موت، وهم يريدون الاطمئنان إلى أنهم لن يطعنوا في ظهورهم، وهم قوم محرجون، معذورون فيما صنعوا، مبرئون فيما يصنعون!
وا سوأتاه!
أين أنت يا مصطفى كامل؟!(648/14)
أين أنت لتعلم هؤلاء وهؤلاء كيف يردون العار الذي لطخ جبين الوطن في يوم 4 فبراير؛ كما رددت الظلم الذي حاق بمصر في يوم دنشواي؟!
لقد يكون مفهوماً بعض الشيء أن تقف الصحف النحاسية هذا الموقف من الحلفاء الذين أرسلوا للملك بهذا الإنذار. . . أما غير مفهوم، فهم موقف الصحافة الوزارية على العموم!
إنهم يحرصون فيما يقال على صفاء الجو بيننا وبين السادة الإنجليز ونحن على أبواب المفاوضات أو المحادثات!
أية مفاوضات وأية محادثات، ما دام هؤلاء السادة يملكون في كل يوم وفي كل وقت أن يرسل (سفيرهم) - لا معتمدهم ولا مندوبهم السامي - بإنذار إلى (الملك) يقول فيه: (إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن هيّان ابن بيان قد دعي لتأليف وزارة فإن الملك يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث) ثم يحضر بعد ساعات بدبابته فيحطم باب الملك كما حطمه في يوم 4 فبراير لتنفيذ هذا الإنذار. ثم يجد من (هيّان ابن بيان) كل قبول؟!
وبعد هذا كله، وبعد أن تنشر أخبار المأساة يبقى السفير البريطاني سفيراً في بلاط هذا الملك الذي حطم باب قصره بالدبابات؟!
إن المعتمد الإنجليزي لم يبق بعد حادثة دنشواي في مصر، وهي أهون ألف مرة من حادث 4 فبراير. وهذا هو الفرق الحاسم بين الأمس واليوم. والمعتمد الإنجليزي إذ ذاك هو لورد كرومر أحد بناة الإمبراطورية كما يصفه تاريخ الاستعمار الغشوم.
وا سوأتاه
أين أنت يا مصطفى كامل؟
أين أنت لتعلِّم زعماء اليوم كيف يردون العار الذي لطخ جبين الوطن في يوم 4 فبراير، كما رددت الظلم الذي حاق بمصر في يوم دنشواي؟
لقد كان مصطفى كامل طليق اليد واللسان لأن أبهة الحكم لم تكن تداعب خياله، ولأن الجمة الحكم لم تكن تلجم بيانه. ولأنه لم يكن يؤمن بضمير أحد ولا يثق إلا بمصر الخالدة على الأزمان.
أما اليوم فنحن نثق بالضمير البريطاني فنعاهده، ونؤمن بالشرف البريطاني فنركن إليه!
أيها المصريون. . . أيها العرب أجمعين. . .(648/15)
إن مأساة 4 فبراير هي مأساة الضمير البريطاني. ومأساة الثقة العمياء بهذا الضمير.
أيها المصريون. . . أيها العرب أجمعين. . . إن مأساة 4 فبراير يجب أن تنقش بحروف من نار لتبقى في قلوب الأبناء والأحفاد تذكرهم بمأساة الضمير البريطاني، ومأساة الثقة العمياء في هذا الضمير.
وهذا ما يجب أن تكتبه الصحف عامة ولو أغضبت جميع الأحزاب في عصر الأقزام!!!
سيد قطب(648/16)
تطور الاتجاه نحو وحدة عالمية
لصاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فلما نشبت الحرب العالمية الأولى واضطربت المواصلات بين الدول والشعوب شعر سكان العالم جميعاً بما أصابهم من الضيق والعوز في مأكلهم وملبسهم وسائر حاجياتهم وظهر لكل إنسان أن شعوب العالم مرتبطة وأنها تتبادل الحاجيات بحكم الترابط الاقتصادي الذي نشأ بسبب اختراع الآلات الصناعية وسهولة المواصلات، وفي هذا الوقت الذي كان فيه العالم يرسل كل ما عنده من الاحتياطي من الرجال والعتاد في أتون الحرب ثبت عند الرئيس ولسون تفكير جديد بضرورة التعاون بين الشعوب، فبعث في 8 يناير سنة 1918 برسالة إلى الكونجرس الأمريكي تتضمن شروط الصلح التي قضى فيها على كل فكرة في تقسيم الغنائم أو فرض الغرامات أو ضم المستعمرات أو غير ذلك مما كان معروفا قبل هذه الحرب، كما أشار إلى إلغاء الحواجز الجمركية وتقرير حرية التجارة وحرية البحار وحق الأمم في تقرير مصيرها ووضع نظام دولي في صورة عصبة الأمم لفض كل خلاف.
وإذا كان ناقدو الرئيس ولسون قالوا عنه إنه خيالي فإننا نعتقد أنه أول من جرؤ أن يعلن حقيقة التطور في العالم الذي أصبح وحدة اقتصادية عالمية والذي يجب أن يكون نظامه على أساس من التعاون المتبادل لا السيطرة والسيادة، وأن كل خطأ الرئيس ولسون إن كان هناك خطأ آت من أنه فهم حقيقة الواقع بينما كان غيره لا يزال معتصما بأهداف النظم القديمة والتي أصبحت لا تلائم تطور العالم في الوقت الحاضر.
وعلى أي حال فإذا كانت عصبة الأمم وهي وليدة الحرب الماضية قد قيدت بقيود جعلتها عديمة الجدوى فإنها كانت أشبه شئ ببذور ألقيت على أرض بكر لابد أن تثمر عاجلاً أو آجلاً. ففي عام 1919 انتهز بعض رجال العمل في أمريكا اتصالهم برجال الأعمال من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وغيرهم واتفقوا على إنشاء غرفة تجارية دولية. كذلك أدخل في معاهدة فرساي في الباب الثالث عشر نظام إنشاء مكتب العمل الدولي.
ولا ريب أن هاتين المنشأتين وهما تبحثان عن العلاقات التجارية بين الدول وعن نظام العمل وقوانين العمال في جميع البلاد مع ما فيها من نقص وعيوب إنما هما على أي حال(648/17)
دليل قاطع على التطور الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى نحو الوحدة الاقتصادية العالمية.
غير أن هذا الاتجاه نحو الوحدة العالمية قد ظهر بوضوح أثناء الحرب العالمية الأخيرة وبعدها، فلقد شاهدنا والحرب الأخيرة ناشبة أظفارها أن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والمستر تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يصدران ميثاق الأطلنطي في 14 أغسطس سنة 1941 ونقرأ في البند الرابع والخامس منه أنهما سيجتهدان في تمتع كافة الدول كبيرة كانت أو صغيرة غالبة أو مغلوبة في الحصول على التجارة والمواد الخام العالمية اللازمة لرخائها الاقتصادي، وأنهما يرغبان في تحقيق أتم التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية وذلك بغية ضمان الوصول إلى مستوى أفضل في العمل والتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي وأنهما يأملان في وضع سلم يمكن جميع الشعوب من الحياة في مأمن داخل حدودها ويبعث الطمأنينة لكافة الناس في العالم أجمع حتى يعيشون عيشة راضية بعيدة عن الخوف والعوز، ومن الميثاق الأطلنطي هذا يمكننا أن نستنتج أمرين جديرين بالعناية أولهما: أن مهمة الحكومات قد تخطت واجباتها المعروفة من قبل إلى واجبات جديدة وهي العمل على أن يعيش الناس بغير خوف ولا عوز، ومن هنا ظهرت الحريات الأربع. وثانيهما أن ميثاق الأطلنطي الذي انظم إليه بعد ذلك الأمم المتحدة الأخرى دليل آخر على تطور الاتجاه نحو الوحدة الاقتصادية العالمية. وأن الواجب أن يوضع للعالم نظام يحقق التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية.
وإننا نشاهد كذلك غير هذا الميثاق مؤتمرات دولية تجتمع بين آن وآخر وكلها ترمي إلى التعاون العالمي بين جميع الشعوب في نواح مختلفة من الحياة العامة. كمؤتمر التغذية وكمؤتمر النقد وغيرهما وكلها تدل على اتجاه الفكر دائما نحو الوحدة العالمية ومن الدلائل على هذا التطور أو التوجيه نحو اعتبار العالم وحدة لا انفصام لها مشروع التعمير للأمم المتحدة والذي أنشأ إدارة من تلك الأمم ترمي إلى تنظيم أعمال المساعدة والتعمير التي تسدى إلى البلاد التي تخربت بسبب الحرب الأخيرة، ويحسن بي في هذا المقام أن أشير إلى ما صرح به المغفور له الرئيس روزفلت في 17 ديسمبر سنة 1940 أمام الصحفيين حيث قال ما معناه: افرضوا أن النار أشعلت في منزل جاري وأنني أملك طلمبة ماء يمكن(648/18)
استخدامها في إطفاء هذا الحريق فإن واجبي الأول أن أعطي تلك الطلمبة في الحال دون أن أساوم هذا الجار فيما يدفعه لي من ثمن أو أجرة لأن تلك المساومة ليست هي أساس واجبي وإنما واجبي أن أتعاون مع جاري في إطفاء هذا الحريق.
ضرب المغفور له الرئيس روزفلت هذا المثل عند وضع قانون الإعارة والتأجير، وإذا كان الغرض من هذا القانون هو الوصول إلى النصر النهائي فإن المثل الذي ضرب من أجله يدل على رابطة المصالح وعلى ضرورة التعاون حتى لا تمتد النار من جار إلى جار، فإذا صح هذا بالنسبة لأفراد الجيران المقيمين في قرية واحدة أفلا يكون الأجدر بالدول والممالك أن يوجد بينهم هذا التعاون وقد ارتبطت مصالحهم الاقتصادية وأصبح كل منهم لا يستطيع الاستغناء عن غيره بسبب الترابط الاقتصادي الذي جاء تبعاً للتخصص في كل منها.
هذا التطور الذي حدث في الإنسانية منذ أكثر من قرن من الزمان بسبب تقدم العلم واختراع الآلات.
إن قادة الشعوب والأمم يدركون اليوم حقيقة التطور الذي وصل إليه العالم في عصرنا الحاضر وأنهم يعملون لإيجاد أداة دولية تستخدم في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية. للشعوب جميعها وإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب وأن تعيش جميع الأمم في سلام وحسن جوار. ولقد ساعد على توجيه هذا التفكير ما قاساه العالم من الويلات في الحرب الأخيرة وما قد يقاسيه في المستقبل من الأهوال بسبب ما اكتشفه العلم من آلات التخريب والدمار كالقنبلة الذرية وما سيكتشف في المستقبل من أشعة الموت وغيرها.
وهاهو ذا آخر تصريح جديد للرئيس ترومان يذيعه على الملأ بالراديو في 27 أكتوبر سنة 1945 من واشنجتون ويبين فيه تفصيل القواعد التي تقوم عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة فيقول إننا لن نوافق على تغييرات أو تعديلات إقليمية في أي مكان في العالم تربطنا به علاقات ودية إلا إذا كانت هذه التغيرات مطابقة لرغبات الشعوب التي يهمها الأمر، وأننا نعتقد أن من حق جميع الشعوب المستعدة للحكم الذاتي أن يسمح لها بأن تختار بحرية نظام الحكم فيها وهذا ينطبق على أوربا وآسيا وأفريقيا مثل ما ينطبق على نصف الكرة الغربي، وأننا نؤمن بأن من حق الأمم كافة التمتع بحرية البحار وأن جميع الأمم متساوية في الاتجار والحصول على ما في العالم من مواد أولية، وإننا نعتقد أن(648/19)
التعاون الاقتصادي الكامل بين جميع الأمم كبيرها وصغيرها ضروري للنهوض بأوضاع المعيشة في أرجاء العالم كافة ولتحقيق التحرر من الخوف والعوز والفاقة، وإننا نعزز حرية القول والرأي وحرية العبادة في كافة البلاد، وإننا مقتنعون بأن صيانة السلم بين الأمم تستلزم وجود هيئة للأمم المتحدة لها أن تستخدم القوة عند الاقتضاء لتستخلص السلم، ولا ريب أن أقوال الرئيس ترومان هي توجيه لتاريخ الإنسانية كما لا ريب عندنا أن الأحداث العالمية تدلنا على اتجاه الفكر الإنساني نحو توطيد العلاقات الطيبة نحو الوحدة العالمية، كما نعتقد أنه لا يعوق هذا التفكير والتوجيه غير ما تأصل في النفوس وتركز في العقول من النظم البالية المؤسسة على الأنانية والمزاحمة بين أمم العالم قبل أن تقوى الروابط بينها وقبل أن يتم تطور هذا الترابط الاقتصادي الحاضر.
لهذا نرى الإنسانية اليوم في مفترق الطريق بين النظم القديمة والتطور الحديث في حياة الأمم.
وكذلك نرى بعض العيوب في ميثاق الأمم المتحدة الذي تم وضعه في سان فرنسيسكو بتاريخ 26 يونية سنة 1945 ومحكمة العدل الدولية. غير أن هذه العيوب لا تحجب عنا إدراك الخطوات الواسعة في توجيه الدول المتعاقدة نحو الوحدة العالمية وضرورة تأمين الشعوب وسلامتها.
ويجمل بي قبل أن أترك هذا المنبر أن أشير إلى أنني لم أقصد بتوجيه الفكر نحو الوحدة الاقتصادية العالمية الرغبة في إيجاد إمبراطورية عالمية لأن تاريخ العالم يشهد بفشل كل محاولة نحو هذا الاتجاه فلم تنجح محاولة الإسكندر ولا الدولة الرومانية في إنشاء تلك الإمبراطورية العالمية فلكل شعب ثقافته ولغته وتاريخه، وإنما قصدنا بالترابط الاقتصادي أن نضع حدا بين السياسة والإقتصاد، فلكل شعب أي يختار شكل حكومته ولكنه يكون عضوا في النظام الدولي الذي يوضع على أساس أن العالم من تلك الناحية وحدة اقتصادية اجتماعية يجب أن توضع لها أداة تفض مشاكلها دون الالتجاء إلى القسر والقهر حتى يتم لسكان الأرض جميعاً السعادة والرفاهية في ظل التعاون بين الشعوب اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. كما يجب أن نوجه جهودنا الفردية والجماعية ومشروعاتها نحو غاية واحدة هي الحياة القومية - فلا نقصر هذا المجهود على نيل الحرية الخارجية بل نرمي إلى تحرير(648/20)
أفراد الأمة من القيود الداخلية وتوفير أكبر قسط من السعادة لها وإكمال حياة الأفراد في حدود العدل والنظام وأن يرتفع الناس بنفوسهم ويتغلبوا على شهواتهم لتزدهر الحضارة بسمو غاياتها والسلام.
محمد حافظ رمضان(648/21)
على هامش المناظرة بين خلاف وقطب
العقيدة بين العقل والعاطفة
للأستاذ علي الطنطاوي
ذهبت مرة أزور أستاذنا (الزيات) في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبّ شئ إليّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقرب الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمها كل يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها. . . أقول إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شاباً أسمر اللون لطيفاً هادئاً تبدو عليه سيما المسالة والموادعة والإيناس، فقال لي إني أعرفك بالأستاذ سيد قطب، وأحلف أني شدهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشاب أي إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أتخيل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقيناً بأن من الخطأ البين أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضل فأهدى إلى كتابه (التصوير الفني في القرآن).
لأني لم أتخيل سيد قطب إلا مقارعاً محارباً، ولم أعرفه إلا كاتباً مجادلا مناضلا، يهاجم مهاجماً ومدافعاً ومحايدا. . . وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحاً والله جديداً، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه، وشعرت عند قرأته بمثل ما شعرت به عند قراءة (دفاع عن البلاغة) للسيد الزيات، وجربت أن أكتب عنهما فما استطعت، إكباراً لهما وإعظاماً لشأنهما، وكذلك الأثر الأدبي إذا هبط إلى قرارة الفساد أو سما إلى ذروة الجودة، أعجز النقاد وابتلاهم في الكتابة عنه بأصعب التكاليف، فأنا أقر بالعجز عن نقد هذين الكتابين، وعن نقد (شعر. . .) بشر فارس أو أبحاث سلامة موسى، لأن من تحصيل الحاصل أن تقول للجيد لا شك فيه، هو جيد، وأن تقول للفاسد المتفق عليه هو فاسد، لأنك كالذي يقول للشمس أنت مضيئة، والليل أنت مظلم!
وكتب عنه أخي وصدي الأستاذ عبد المنعم خلاف صاحب الكتاب العبقري (أومن بالإنسان)، ورد الأستاذ وكانت هذه المناظرة التي رأيت أن أدخل نفسي فيها لأقول كلمة على (هامشها. . .)، وهذه هي المرة الثانية أتطفل فيها على مناظرات الأستاذ قطب، ولكن(648/22)
ليطمئن القراء فما هي كالأولى ولا هي منها في شيء، وأنا في هذه المرة مؤيد له وقد كنت في الأولى عليه، وهذه مناظرة هادئة باسمة، وقد كانت تلك معركة صاخبة مجلجلة كالحة الوجه عابسة، وأنا أعرف الآن الأستاذ قطب وكنت أتخيله تخيلا، والأستاذ خلاف أخي حقيقة، والأستاذ قطب رفيقي في دار العلوم سنة 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الفلسطيني الذي نشر ذلك في الرسالة إبان المعركة الأولى (معركة الرافعي والعقاد)، فأنا لست إذن غريباً عن المتناظرين.
لخص الأستاذ قطب الخلاف بينه وبين الأستاذ خلاف، في كلمات هي أنه (هل من الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة، وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود)؟ وأجاب عليها بالنفي.
وأنا أجيب كذلك بالنفي، ولكني أمهد لذلك بتحديد معنى الذهن أو العقل (كما أفهمه أنا)، ومعنى العاطفة، وهذه طريقة علمائنا في الجدل، إذ ربما اختلف اثنان، وما اختلافهما في الحقيقة إلا على معاني الألفاظ، فكل يريد بها شيئاً، وليس بينهما لفظ جامع يرجعان إليه، ويستقران من بعد عليه.
وأعترف بأن هذا التحديد لا يمكن أن يكون تاماً، ولا نستطيع أن نضع لكل من العقل والعاطفة التعريف الجامع المانع، أو (الحد) الذي يريده أهل المنطق، لأن مدلول كل لفظ يدخل في مدلول الآخر، فهما كدائرتين متقاطعتين، ففي كل قسم متميز مختص بها، ولكن فيها قسما لا يدري أهو منها أم هو من الأخرى، ثم إنه لا يصدق التشبيه ولا يكمل إلا إذا تصورت في الدائرتين حركة دائمة كحركة المد والجزر، فهما لا تسكنان أبداً.
على أن الأمم كلها قديماً وحديثا قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقر العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب، أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الألوان والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلا، فتراءى لي أن منشأه، وأن الإنسان الأول لما بدأ يصنع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عل يه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطراب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير(648/23)
أحس بألم من رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحب، والله أعلم!
ولما سمعت البشرية ووضع علم النفس، وأقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنية على المحاكمة، والحياة الفاعلة المتعمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيوات حدوداً تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا وليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقلا لا عاطفة معه إنما نسمي كلا بالغالب عليه والظاهر فيه، فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية - واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنهها لا تخلو من محاكمة - خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذني لأنه جميل، وهذا قد لذني، فهذا جميل.
وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار. وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة تعتمد على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، وأعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطراً في نفسها، وأثراً في حياة صاحبها، وليعرض كل قارئ أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيره، ووجد أنه قل أن يعمل عملا، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.
ولا بد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟ أما فأطل العقل وأريد به القضايا العقلية المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد العقل، ومن هنا نقول مثلا إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً أو صحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، والاختلاف الذهنيين في القضية الواحدة، مع ادعاء كل منها أن حكم العقل معه.
ولا بد أيضاً من التفريق بين خير العواطف وشريرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العدوان، والحب الموصل إلى الرذيلة(648/24)
عاطفة شر.
ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممددة مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث!
الإيمان محله القلب لأنه أكبر من أن تتسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن له حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام (إذ ذكر القضاء فأمسكوا) أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد علي الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوكا يجدها، قال، أوجدت ذلك؟ قال، نعم، قال، استعد بالله. ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها - وهاك الفيلسوف الأكبر كانت يؤلف كتاباً برأسه هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل علم ميتافيزيك) علم ما وراء الطبيعة، وجرى على ذلك إمام الفلاسفة الوضعيين أوغست كونت.
فالعقل إذن قاصر حكمه على ما يدرك بالحس، وليس عنده إلا مجموعة تجاربه الحسية، فإذا جاوزها كان كالعدم، وحسب العقل هواناً في المجردات، أنه ينكر أقدس شيئين في الوجود ولا يستطيع أن يفهمهما: الحب والإيمان.
سل العقل، ما الحب؟ ينبئك بأنه جنونّ وما الفرق عند العقل بين ليلى ولبنى وسلمى وأي امرأة أخرى، ما دامت الغاية عنده الحمل والولد وبقاء النسل؟ ومن يقدم في الحرب على الموت، هل كان يقدم لو نزعت الحماسة من نفسه وهي عاطفة وتركته لعقله ولما يحسن العقل من محاكمات جافة؟ هل يجود لولا هزة الأريحية جواد بنوال؟ هل يقبل إنسان على تضحية أو بذل لولا العاطفة؟ هل يعرف العقل إلا المنفعة؟ لقد أحسن التعبير عن العقل المتنبي حين قال:
الجود يفقر والإقدام قتال
سيقول قائل، إن أساس الإيمان، الاعتقاد بوجوده الله، فهل هو غريب عن العقل؟ لا، إن(648/25)
الاعتقاد بوجود الله من بديهيات العقل، فلا يعيش عقل بلا اعتقاد بإله كما يقول (دور كيم)، والإنسان بهذا المعنى حيوان ذو دين، ذلك لأن تجارب العقل ومحسسات الحواس التي يستند في حكمه أليها، توصل حتما إلى الاعتقاد بوجد إله، وسواء كان منشأ هذا الاعتقاد الخوف أو التطلع إلى المجهول، كما هو مبين في كتب الميتافيزيك، فلا شك في أنه بديهي، أما ما عداه من شعب الإيمان وأركانه، كمعرفة صفات الله، والإيمان بالمغيبات، والقضاء والقدر، فلا يستطيع العقل أن يقيم الدليل على نقضها ولكنه لا يستطيع أبداً فهمها، ولا أظنني بحاجة إلى بيان الفرق بين الاعتقاد بوجود شئ وبين فهمه ومعرفة حقيقية، هذا وليس من مصلحة الدين ولا المتدينين أن تخلي بين العقل وما يجب الإيمان به، بل المصلحة بالاطمئنان العاطفي والتصديق القلبي وما يعقبه من اللذة والاطمئنان.
وهؤلاء العلماء المتكلمون الذين كانوا من رأى الأستاذ خلاف والذين حاولوا أن يجعلوا الإيمان إيمان عقل، عادوا كلهم وأنابوا واعترفوا بأن الإيمان بالقلب، هذا (ابن رشد) وناهيك به، عاد فقال في تهافت التهافت (الذي يرد به على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة): لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات شيئاً يعتد به. وهذا (الآمدى) وقف في المسائل الكبار وحار، (الغزالي) انتهى إلى التصوف والتسليم، وهذا (الفخر الرازي) قال بعد تلك المؤلفات الطوال:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سمى العالمين ظلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن، أقرأ في الإثبات، والرحمن على العرش استوى، واقرأ في النفي ليس كمثله شئ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)
انتهى كلامه. . . وكلامي!
وعلى الأخوين الكريمين خلاف وقطب تحيتي وسلامي.
علي الطنطاوي(648/26)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 8 -
تتبعه بواعث العمل ونية العامل
لا يقتصر التشريع الإسلامي في أحكامه على أعمال الإنسان الظاهرة، وارتباطها بغيره، ولا يكتفي بأثر التشريع الدنيوي، ولا بالحكم المنصوص عليه في القانون الواجب التطبيق في الظاهر
كما هو الشأن في القوانين الوضعية عامة - بل يتتبع بواعث العمل ونية العامل، فيحكم عليه حكما أخروياً، يناسب النبات، والبواعث الباطنية من مثوبة، أو عقوبة أخروية، وهذا شأن التشريع الكامل الذي يقصد إلى الإصلاح الحقيقي المؤدي إلى إصلاح القلوب. وتهذيب النفوس، فتجري المعاملات بين الناس على أساس صالح من مراعاة العدل والحق.
إنه بذلك يجعل الإنسان - في كل ما يصدر منه - تحت رقابتين: الخشية من الله والضمير، ثم الخشية من أحكام القانون؛ ولتوضيح ذلك نذكر - على سبيل المثال - أن عقد الزواج له حكمان إذا وقع مستوفياً أركانه وشروطه:
أحدهما: أثره المترتب عليه، وهي تلك الحقوق والواجبات التي تثبت لكل من الزوجين على الآخر.
وثانيهما: وصفه الشرعي الذي يرجع إلى نية العاقد، والباعث له على الزواج، قد يكون هذا الزواج حراماً، يعاقب المتزوج عليه في الآخرة إذا تيقن ظلمه لزوجته، أو نوى بزواجه الإساءة إليها، أو قرباها، لأن الزواج إنما شرع لتحصين النفس وبقاء النسل، وتحصيل الثواب، وهو بالجور يرتكب المحرمات فتفوت المصلحة التي من أجلها شرع الزواج لرجحان المفاسد الناجمة من الجور عليها. وقد يكون فرضاً، يثاب فاعله، ويعاقب تاركه إذا كان الزوج مع قدرته على واجبات الزوجية يتيقن الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج، ويكون سنة مؤكدة حال الاعتدال، فيأثم بتركه، ويثاب إن نوى تحصيناً وولداً
أتساع باب التعزيز فيه(648/27)
من أبين الدلائل، وأقوى الحجج، وأسطع الآيات على أن الشريعة الإسلامية سمحة موطأة الأكتاف، خصبة، أقرت حرية الرأي والاجتهاد في التشريع، ما روعيت أصوله، وتحققت دعائمه وشروطه - اتساع باب العقوبات وتعدد وجوه التعزير فيها: فإن العقوبات إن كان مقدرة من الشارع على الجرائم المجترحة سميت حدوداً، وهي التي وردت في التشريع القرآني في حد الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق.
أما إذا كانت غير مقدرة فهي التي تسمى تعزيراً، فهو تأديب بعقوبة غير مقدرة من الشرع، ويجب بارتكاب معصية من المعاصي التي لا حد لها، كشهادة الزور، وإيذاء مسلم أو ذمي بقول أو فعل، ومنه سب المحصن بغير الزنا، والنظر إلى الأجنبية والخلوة بها، وسرقة ما لا قطع فيه.
وتقدير العقوبات على المعاصي والمحرمات. أو ترك الواجبات التي لم يرد في النصوص الشرعية عقوبة معينة لها - يرجع إلى اجتهاد الأئمة وأولي الأمر في كل زمان ومكان، وتختلف باختلاف أحوال الجرائم، وكبرها وصغرها، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك كان التعزيز من أوسع الأبواب في الشريعة الإسلامية، واختلف المجتهدون فيه، وفي تحديد عقوباته اختلافاً كثيراً.
والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وقد يكون بالقتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله على رأي مالك وبعض أصحاب أحمد، واختاره ابن عقيل، ومثل ذلك التعزير بالعقوبات المالية: فإنه مشروع في مواطن مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه بذلك من مواضع، منها أخذه شطر مال مانع الزكاة، ولإضعافه الغرم على سارق مالا قطع فيه، ومثل تحريق عليّ المكان الذي تباع فيه الخمر، وتحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية - قال ابن رشد في كتاب البيان: لصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبر أو عسل، أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك، فقد قال مالك في المدونة إن عمر بن الخطاب كان(648/28)
يطرح اللبن المغشوش في الأرض تأديباً لصاحبه، وقد روى عن مالك أن المستحسن عنده أن يتصدق به إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع الفقراء بإعطائهم إياه ولا يهراق.
ولأن التعزير راجع إلى اجتهاد الفقهاء - اختلفوا فيه على أقوال أربعة:
الأول: أنه لا يزاد فيه على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.
الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود: إما أربعين. وإما ثمانين، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد
الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها، فلا يبلغ بالتعزير على النظر والمباشرة حد الزنا، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف - حد القذف. وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي.
الرابع: أنه بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجهد فيه ولي الأمر، ويبدو لنا أنه أعدل الأقوال، وأولاها بالقبول
ومع سعة التشريع الإسلامي ومرونته، وتركه تقدير العقوبات على الجرائم للاجتهاد بحسب المصلحة، واختلاف الأزمنة والأحوال - فيما عدا الحدود - تجرأ بعض الولاة والحكام. وكثير من الحكومات الإسلامية في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على وضع القوانين مقتبسة ومأخوذة من القوانين الأوربية متوهمين أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس، ولا بسياسة الأمة، فتعدوا حدود الله وخالفوه في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ - لعمر الحق - عظيم، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط مع مراعاة ما بينه من كليات الشريعة، ومبادئها وأصولها، فحكمه دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، كما قال ابن قيم الجوزية، فليتدبر هذا أولو الأمر من الحكومات والعلماء. وليعلموا أن الشريعة الإسلامية تسع كل ما يقر العدالة، وينشر ظلالها على الناس، فوجب جعلها الدعامة الأولى، والأساس الأول في تشريع القوانين، مدنية كانت أو جنائية من غير أن نحظر في الأحكام الاجتهادية الاقتباس من القوانين الحديثة. مما يناسب أحوالنا وأخلاقنا، ولا يخالف أصول شريعتنا. والله الموفق للسداد، والهادي إلى سبيل الرشاد(648/29)
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب(648/30)
الحرب الخاطفة في الحروب النبوية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
يتردد في الحروب الحديثة أسم (الحرب الخاطفة). على أنها مما ابتكره قواد هذا العصر في أساليب الحرب. واخترعوه في نظام القتال، فهي منقبة من مناقبهم، ومفخرة لهم لم يسبقهم أحد إليها، وليس هذا من الحق في شيء، لأن نبينا الأعظم محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ابتدع هذا النظام في القتال، وكان عنده سنة متبعة في حروبه، وتقليداً يأخذ به في الهجوم على أعدائه، لأن هذا النوع من الحرب لا يكون إلا في الحروب الهجومية، فهي التي يمكن أن يؤخذ فيها العدو على غرة، وأن يقتحم عليه داره قبل أن يستعد للقتال، فيستولي عليه الدهش، ويأخذه الرعب والخوف، ولا يكلف الجيش المهاجم عناء في القتال، ولا تضحية في الجنود، ولا يشتري النصر فيه بالثمن الفادح، ولا ينال بالدماء الغزيرة، فتشابك الفرح فيه بالحزن، ويعكر صفوه الثمن الفادح الذي اشترى به.
والحرب تتبعها حروب، فإذا لم يقتصد القائد في دماء جنوده وإذا لم يختر الأسلوب الذي يشتري فيه النصر بأقل ثمن، وإذا جازف بدماء جنوده ولم يحسب للمستقبل، لا يلبث أن يأتي عليه يوم تنهك فيه قواه، ويخسر ما ربحه من النصر في حروبه.
ولهذا كله آثر النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الحروب، حرصاً على أصحابه أن تستأصلهم تلك الحروب المتوالية، وكانوا بين أعدائهم كقطرة في بحر، وكان لهم أباً رحيماً، وصاحباً رؤوفاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُمْ حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) ولم يكن بالقائد الذي يرى أن يأمر فيطاع، وينظر إلى جنده نظرة الرئيس إلى المرؤوس، ولا نظرة الأب الرحيم إلى أبنائه، والصاحب الرؤوف إلى أصحابه.
ولا غرو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبتدع هذا النوع من الحرب، لأنه كان يجمع العظمة كلها في شخصه الكريم، فكان الرسول الأعظم بين الرسل عليهم الصلاة والسلام، والقائد الأعظم بين قادة الجيوش، والبطل الأعظم بين أبطال الحروب، والمصلح الأعظم بين رجال الإصلاح، والمشرع الأعظم بين رجال التشريع، بلغ الغاية في كل نواحي العظمة ولم يصل إلى درجته فيها عظيم من العظماء.
وهذه كانت سنته في حروبه كما ذكرها أصحاب السير، ذكروا أنه كان إذا أراد غزوة وَرَّى(648/31)
بغيرها، فيقول مثلا إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك
وكان يقول: الحرب خدعة.
وكان له عيون وأرصاد بين أعدائه يأتون بأخبارهم أولا بأول، فإذا بدرت منهم بادرة حرب كان خبرها عنده قبل أن يتهيئوا لها، وإذا بجيشه قد أتاهم من حيث لا يشعرون، وأحاط بهم من كل ناحية، وكان يستحب القتال أول النهار وهم لا يزالون في غفلتهم فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، فيأوي السكان إلى منازلهم، ويأخذهم أيضاً في هدوئهم وغفلتهم.
وتلك هي الحرب الخاطفة بعينها، وذلك هو أسلوبها الآن في الحروب الحديثة، وأسلوب المفاجأة، ومداهمة بلاد العدو وهو في غفلة، وإخفاء مقصد الجيش الهاجم حتى يصل إليه قبل أن يعلمه أحد، والتهويل في قوته حتى يملأ الرعب منه كل نفس، ويأخذ الخوف منه قلوب الأعداء.
ومن أظهر الحرب الخاطفة في الحروب النبوية حرب الفتح الأعظم، وهو فتح مكة موطن المسجد الحرام، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها بحرب خاطفة يباغتها فيها مباغتة، ويدركها قبل أن تحشد له الجيوش، وتجمع له حلفاءها من القبائل، فيستو لي عليها من غير أن يقيم فيها حرباً، أو يسفك فيه دماً من أصحابه أو من أهلها، لأنها بلد مقدس لا يحل فيها سفك الدم إلا بقدر الضرورة، وفيها الكعبة، والمسجد الحرام، والحرب إذا اشتدت قد تصيبها بتخريب أو ضرر.
فتجهز النبي صلى الله عليه وسلم للسفر، ولم يخبر أحداً بقصده إلا أبا بكر رضي الله عنه، ووضع حراساً على رؤوس الطرق الموصلة إلى مكة، ي سألون من يسافر فيها عن مقصده وغايته مبالغة في الاحتياط، وقد كان لأهل مكة جواسيس وأنصار في المدينة من المنافقين، فوضع الحراس على تلك الطرق حتى لا يمكن أحداً منهم أن ينقل خبر الاستعداد لهم، فلم يكن يؤذن بالسفر فيها إلا لمن يوثق فيه من المؤمنين المخلصين، ومن لا يرى أنه جاسوس إذا سافر فيها واصل السفر إلى مكة، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم عمر عنه مراقباً على أولئك الحراس، يتعهدهم وقتا بعد وقت، حتى يقوموا بحراستهم على أكمل(648/32)
وجه، ولا يغفلوا عنها أو يتساهلوا فيها، وقد اختير عمر لذلك لما عرف عنه من شدة واليقظة، والإتيان بتلك الحراسة في غاية ما يكون من الدقة.
وقد قام الحراس بما عهد إليهم خير قيام، ولم يمكن أحداً من جواسيس قريش في المدينة أن يفلت منها إلى مكة، الهم إلا جاسوسة واحدة كانت جارية لحاطب بن أبي بلتعة؛ وكان من المؤمنين المخلصين، ولكنه كان له أهل ومال بمكة، فأراد أن يتقرب إلى أهلها ليحافظوا على ماله ووالده فكتب إليهم كتاباً يخبرهم فيه باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم للغزو، وأنه ربما يقصدهم به وقد أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأمر تلك الجاسوسة، فانتدب لها ثلاثة من كبار أصحابه اهتماماً بأمرها، ليدركوها قبل أن تصل إلى مكة، وهم: علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، والمقداد ابن الأسود، فانطلقوا مسرعين حتى أدركوها بروضة حاح، وقاموا بتفتيشها حتى عثروا على ذلك الكتاب في عفاصها، فرجعوا بها إلى المدينة، وقضوا على هذه المحاولة التي أفلتت من تلك الحراسة.
وتم تجهيز الجيش الذي أعده النبي صلى اله عليه وسلم لفتح مكة ولم يعلم أحد ماذا أعد له، وكان عدده عشرة آلاف، ثم سار به حتى وصل مر الظهران، فأمر بإيقاد عشرة آلاف نار، مبالغة في تهويل أمره، وإلقاء للرعب في قلب من يراه ليلاً، وكانت قريش قد بلغها أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلت أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون خبر ذلك الجيش، فلما وصلوا مر الظهران ورأوا تلك النيران قال أبو سفيان: ما هذا؟ لكأنها نيران عرفة: فقال بديل بن ورقاء: هي نيران بني عمرو. فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من ذلك.
ثم رآهم نفر من حراس المسلمين فأتوابهم النبي صلى الله ليه وسلم فاسلم أبو سفيان، وقد أوقفه عند خطم الجبل، وجعل الجيش يمر عليه كتيبة بعد كتيبة، ليرى عظمته وقوته وحسن نظامه، وينظر من اجتمع فيه من القبائل التي لا تحصى ولا تعد، ويجهز أهل مكة بما رأى من ذلك، فيملأ الرعب قلوبهم ولا يجدوا فائدة في مقاومة ذلك الجيش، ثم قسم الجيش إلى قسمين، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كدى، ودخل هو آمن من أعلاها من كداء، ولم يشعر أهل مكة إلا وجيش المسلمين يحيط بهم من كل جانب، وأصوات الأمان تتجاوب من هنا وهناك: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل(648/33)
المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ويسمع أهل مكة أصوات الأمان فتأخذ بهم إلى الاستسلام، ويدخلون دروهم فيغلقونها عليهم، ومن لا يدخل داره يدخل المسجد أو دار أبي سفيان، وتفتح مكة عاصمة الحجاز في لحظات، ولا يذهب في فتحها إلا ما لا يذكر من الدماء، وما كان أحد يظن بعد تلك الحروب الطويلة أن تفتح بهذه السهولة، ولكنها الحرب الخاطفة التي ابتدعها النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المتعال الصعيدي(648/34)
على ضوء الفلسفة
الأفعال الإنسانية
للأستاذ زكريا إبراهيم
من الحقائق المسلم بها أن الإنسان مضطرب إلى أن يعمل
وهو إذ يعمل، ينتشر فيما حوله بتأثير أفعاله. فنحن لا نستطيع أن نتحرك، أو أن نتنفس، أو أن نحيا، أو أن نفكر، دون أن نسجل طابعنا في الخارج. ومن المشاهد أن جو الفردية هو بطبيعته محدود ضيق النطاق. فكل فعل يصدر عن الإنسان لا يلبث أن يصبح هو نفسه كائناً حياً له طابعه الخاص الذي يدل على حياة شخصية معينة. ولهذا فإن ثمة إشعاعاً ذاتياً يسم بطابعه الخاص كل حركات الشخص وأقواله، فالفعل يعبر عن فردية صاحبه، أي عن ذاتيته الخاصة، لأنه عبارة عن نية الشخص وهي في سبيل التحقق
ومن مظاهر النشاط الإنساني تلك الرغبة الملحة التي يجدها الناس، في أن يؤثروا بأفعالهم في الآخرين، فتطبع كل منهم صورته في الآخرين، ويسمهم بطابعه الذاتي، وبذلك يحيا مع الآخرين بحيث يكونون له شهوداً وشركاء ومعاونين ومقلدين. وليس الفعل عبارة عن عمل خاص يتصل بصاحبه فحسب، وإنما هو عمل كلي يتصل بالآخرين جميعاً. وتتمثل هذه الصلة في التأثير الذي يحدثه العمل الواحد في نفوس الآخرين بعد أن يتحقق في الخارج؛ وهذا هو ما يعطي الأفعال الإنسانية كل قيمتها، لأن هذه الأفعال هي عبارة عن نيات متجسدة، وقيم أخلاقية متحققة، ومثل عليا متجسمة؛ وهي تقوم بدور المؤثر الفعال في المجتمع، لأن الأفراد يستطيعون أن يفهموا معنى تلك الأفعال، ومن المحتمل أن يقعوا تحت تأثيرها.
وللفعل الواحد قدرة غير محدودة على الانتشار، على الرغم من أن ثمة أفعالا قد تبدو لنا تافهة لا معنى لها. فلو ضربنا صفحاً عن تلك الأفعال التي لا تدخل ضمن ما يعمله الإنسان في سبيل تحقيق غايته، وأمكننا أن نقول: إنه لا يمكن أن يوجد فعل إنساني بمعنى الكلمة هو عديم القيمة بالنسبة إلينا.
وما عمله الإنسان بنفسه، أو بالاشتراك مع غيره، لا يمكن أن يكون خاصاً به وحده، أو بمن شاركه وحده؛ وإنما هو عمل خاص بالجميع، بل إنه - منذ لحظة تحققه - موجه(648/35)
للجميع، فنطاقه واسع، وهو للأفراد الآخرين، كما هو بالنسبة إلى صاحبه تماماً. ومعنى هذا أننا لا نعمل أبداً لنفوسنا فحسب، فضلا عن أننا لا يمكن أن نعمل بمفردنا فحسب. ونحن لا نستطيع، بل على الأحرى لا نريد، أن نحتبس حياتنا داخل ذواتنا، ولذلك فإننا نعمل، عملنا لا يتم إلا بمعانة الآخرين، كما أنه لا يتحقق إلا في الخارج، أعني في وسط يضم كثيراً من الأفراد الذين يستطيعون أن يتأثروا بذلك العمل.
والفعل الواحد يقدم للآخرين أفكارنا، فهو أداة للترابط الاجتماعي، وهو روح الحياة الجمعية. وليس في استطاعة الفرد أن يعتزل وينطوي على نفسه، بل هو مضطر إلى الاتصال بالآخرين، وأفعاله تكون الوسط الذي تنشأ فيه وتصدر عنه أفعال أخرى كثيرة. ففي تربة أفعالنا، تنبت نيات أخرى كثيرة، وتزهر أفعال جديدة متنوعة!
ومن الخطأ أن نتصور أن من الممكن أن يخطئ الفرد الواحد دون أن يسيء إلى الآخرين؛ فإن كل فعل من أفعالنا يمتد في دوائر لا نهاية لها، ولا بد أن تستتبعه نتيجة تلحق بالآخرين. بل أن الفعل الواحد كثيراً ما يكون نقطة تحول في التاريخ كله! فعلى الإنسان إذن أن يعمل، وكأنما هو يتحكم في العالم بأجمعه، ويوجهه التوجيه الخاص الذي يريده هو! وقد يتقبل الآخرين أدنى منحة تقدم لهم، أو أقل فكرة تعرضها عليهم، فالفعل الواحد - مهما بدا يسيراً - قد تترتب عليه نتائج لا تخطر لنا على بال.
وليس من الضروري أن يشعر الإنسان بكل النتائج التي يمكن أن تترتب على فعله، أو كل المعاني الكامنة في هذا الفعل، بل قد تترتب على الفعل الواحد نتائج عظيمة، دون أن تكون لدى الإنسان فكرة واضحة عن ذلك. ولهذا فإن من الواجب أن نتخذ الحيطة في كل عمل نعمله، أو كل قول نقوله، لأن أدنى خطأ نقع فيه، قد يؤثر تأثيرا سيئاً في حياة الآخرين. وليس أخطر من مهمة أولئك الذين يتصدون للتربية والتعليم، لأن مسئوليتهم خطيرة في كل ما يقولونه، وما كان يمكن أن يقولوه، وما لم يقولوه حين كان من الواجب أن يقولوه! وكل نقطة غامضة كثيراً ما تكون مثاراً لكثير من التأويلات الفاسدة والآراء الخاطئة، والتطبيقات الكاذبة.
وما دامت الأفكار تنفذ إلى الإنسان من الخارج، فلا بد أن تتعرض لخطر التشويه أو التحريف أو سوء الفهم. أما إذا أدخلت تلك الأفكار في تيار الحياة نفسها، أعني إذا جعلناها(648/36)
تنبع من الأعماق الباطنة التي تتكون فيها الحقائق الشخصية اليقينية، فإنها تصبح عندئذ أفكاراً حية حقيقية.
ومن الضروري أن يكون تأثير المدرس (مثلا) تأثيراً خفياً يسري في نفوس التلاميذ دون أن يشعروا بذلك. فالفعل الحقيقي هو الذي يتحقق دون أن يشعر به الآخرون شعوراً مباشراً. ولا بد من اتخاذ الحيطة في هذا الفعل، حتى إذ كنا على ثقة مما نقوله، وكل ما نعمله، لا بد من أن نحترس، حتى إذا اعتقدنا أننا على حق. وليس أشق من فن (التطعيم العقلي) على كل من يمارس مهنة الفعل والتأثير
والفعل الحقيقي هو الذي يتم في صمت، إن التربية لهي مدينة في تأثيرها وقوتها إلى ذلك الإيحاء الصامت الذي يمارسه المدرس، فيوجه به التلميذ التوجيه الذي يريده، في الوقت الذي يعتقد فيه التلميذ أن أفكاره إنما هي وليدة تفكيره الخاص، وأن أفعاله إنما هي نابعة من ذات نفسه! ولكن ما أعظم مسؤولية المدرس إذا أساء استعمال سلطته، فأدخل في عقل التلميذ أفكاراً غير ناضجة، أو أوحى إليه بأفعال غير مثمرة!
أما المثل الأعلى للمدرس، فهو أن يعرف كيف يجعل نفسه سلبيا خالصاً، فيختفي هو وراء الستار، لكي يكتشف الطفل بنفسه ما يتعلمه، وبذلك يكون المدرس تلميذاً لتلميذه!
زكريا إبراهيم
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية(648/37)
رأى جديدة في
حمادة الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
4 - رواية حماد
(أ) اشتهاره بكثرة الحفظ والرواية
اشتهر حماد بكثرة حفظه وروايته. حتى لقد سمى حمادا الراوية. ونحن لا نظن انه سُمَّى هكذا تمييزاً له من معاصريه: حماد عجرد وحماد بن االزبرقان، فقد كان يمكن أن يُسمَّى حماد ابن ميسرة. وفي الأغاني (ج5 ص 165) أن الهيثم بن عدى قال: ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد. وجاء في خزانة الأدب (ج4 ص 129) وفي غيرها من كتب الطبقات أنه كان من أعلم الناس بكلام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها.
وترد كثرة حفظه أخبار كثيرة. ففي الأغاني (مرة في ص 164 - 165، ومرة أخرى في ص174)، وفي معجم الأدباء (ج4 ص 137)، وفي وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس)، وفي خزانة الأدب (ص 129)، وفي تحفة المجالس ونزهة الجالس للسيوطي (ص)، أن الوليد بن يزيد قال لحماد: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك حماد الراوية؟ قال: لأني أروى لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا أنشد شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. قال: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية. قال سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استخلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه؛ فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر بمائة ألف درهم.
وفي الأغاني (ص 164) أن مروان بن أبي حفصة الشاعر قال: دخلت أنا وطُريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما انشد شاعراً وقف الوليد ابن يزيد على بيت(648/38)
من شعره وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر؛ فقلت: من هذا؟ فقالوا حماد الراوية.
ويقول أبو الفرج (ص 173): (قال حماد الراوية: أرسل إلى أمير الكوفة فقال لي: قد أتانا كتاب أمير المؤمنين الوليد ابن يزيد يأمرني بحملك. فحملت، فقدمت عليه وهو في الصيد، فلما رجع أذن لي، فدخلت عليه وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه. فقال لي: أنت حماد الراوية؟ فقلت له: إن الناس ليقولون ذلك. قال. فما بلغ من روايتك؟ قلت: أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها: بانت سعاد. فقال: إنها لرواية). وواضح أن هذه القصة وقعت قبل تلك القصة التي كانت لحماد مع الوليد أيضاً، والتي تقدم ذكرها. قد قدمنا تلك القصة على هذه لاشتهارها وورودها في معظم كتب الطبقات فقد كان حماد إذن مشهوراً بكثرة الحفظ والرواية. وهي شهرة هو جدير بها وحقيق. فليس عهدنا بالمعاصرين أن يتزيدوا على المرء بالفضل والسبق، وإنما عهدنا بهم أن يحطوا من قدره ويهونوا من أمره.
(ب) جمعه المعلقات السبع ورواية معظم شعر امرئ القيس
في نزهة الألباء للأنباري (ص 43) وفي معجم الأدباء (ص140)، وفي وفيات الأعيان (ص240) أن أبا جعفر أحمد ابن محمد النحاس ذكر أن السبع الطوال من جمع حماد الراوية؛ وفي نزهة الأباء ومعجم الأدباء وحدهما أنه لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة.
أما أن العرب الجاهليين لم يختاروا المعلقات ولم يفضلوها على غيرها من الشعر، فهذا ما لا نستطيع الأخذ به. ذلك لأننا لا نرى مانعاً من ذلك. فالعرب الجاهليون قوم شغلوا بالشعر، فقالوه، ورووه، وأقاموا الأسواق لإنشاده ونقده. وقوم هذا شغلهم بالشعر لا يصعب عليهم تفضيل بعضه على بعضه واختيار بعضه دون سائره.
فالمعلقات إذن قد تكون من اختيار العرب القدماء. وهو ما لا يراه ابن النحاس النحوي المصري. ويؤيدنا في رأينا هذا ما يقوله ابن النحاس نفسه من أن حماد الراوية. لما رأى قلة من يعنون بالشعر، جمع هذه القصائد السبعة. وحث الناس على درسها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. ولفظ المشهورات هنا هو بيت القصيد. فهو يدل على أن القصائد السبع(648/39)
كانت، قبل أن يجمعها حماد، مفضلة على غيرها، وهو فضل يرجع في أغلب الظن إلى اختيار العرب الجاهليين إياها.
وأما أن العرب الجاهليين لم يعلقوا القصائد السبع على الكعبة، فهو ما نوافق ابن النحاس عليه. فقد بيننا في الفصل السابق من هذا البحث كيف أن الكتابة العربية قبل الإسلام لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار. ونقول هنا (مستندين إلى ما يقوله المرحوم الأستاذ طه أحمد إبراهيم في كتابه تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 23) إن ابن عبد ربه، وهو أندلسي من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، أول من ذكر تلك القصة، قصة تعليق القصائد السبع على الكعبة؛ وإن إغفال المشارقة قبله هذه القصة كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ والمبرد، وكتبهم من أمهات كتب الأدب، تجريح لها وإغراء برفضها.
فخلاصة رأينا هي أن المعلقات السبع من اختيار العرب القدماء في أغلب الظن، وأن حماداً هو الذي جمعها بعضها إلى بعض وجعل منها جملة معروفة، وأن تسميتها بالمعلقات لا تعني أنها علقت على الكعبة أو في داخل الكعبة.
فإذا سئلنا عن معنى كلمة المعلقات، أجبنا أنها تدل على الجودة والنفاسة، وأنها هنا على المجاز لا على الحقيقة. ومثلها في هذا كلمة السموط التي تطلق أيضاً على السبع الطوال. وهذا الإطلاق المجازي في غير حاجة إلى الشرح. وقد تكون كلمتا المعلقات والسموط من إطلاق العرب القدماء كما قد تكونان من إطلاق حماد، كما يرى نولدكه في كتابه ? (ص22). ويرى هيار (ص9) وتشارلز ليال في كتابه: (المقدمة، ص45) أن كلمة المعلقات من إطلاق حماد. ثم إن للسبع الطوال اسماً آخر هو المذهبات، قد يكون من إطلاق القدماء، وقد يكون من إطلاق حماد. وواضح أن القصة لتي يذكرها ابن عبد ربه من أن العرب كتبوا السبع الطوال بماء الذهب في نسيج من صنع أقباط مصر وعلقوها بأستار الكعبة، واضح أن هذه القصة إنما نشأت من تسمية هذه السبع الطوال بالمعلقات أو المذهبات، ثم أخذ هذه التسمية على وجهها الحقيقي لا المجازي.
والآن، وقد بسطنا رأينا في المعلقات: اختيارها، وجمعها، وتسميتها، نعود فنناقش مقالة بعض المستشرقين في اختيارها، ونبين ما تنطوي عليه من زيف وخطأ.
يقول نولدكه في بحث له عن المعلقات (الموسوعة البريطانية، المجلد 15): (لم يكن من(648/40)
المتيسر للعرب القدماء إطلاقا أن يختاروا هذه القصائد السبع. وأكبر الظن أننا مدينون بهذا الاختيار لأحد العلماء المتأخرين. . . وقد كان حماد (الذي امتدت حياته في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن الثامن الميلادي) المتفرد في عصره بحفظ أغلب الشعر العربي. وكان عمله رواية الشعر. فاختيار الشعر مما يصح من رواية مثله من كل الوجوه. ثم إن هناك حقيقة أخرى يبدو أنها تؤيد جمع حماد المعلقات. فقد كان فارسي الأصل، ولكنه كان مولى لقبيلة بكر بن وائل العربية ونحن نظن أن هذا حدا بحماد إلى ألا يقتصر على ضم قصيدة لطرفة الشاعر المشهور، فضم قصيدة بكرى آخر، هو الحارث، الذي كان زعيما شهيرا، وإن لم يكن شاعرا مبرزا؛ وإنما ضم قصيدته لأنها تصلح لمعارضة قصيدة أخرى في المجموعة هي تلك الأبيات المشهورة التي قالها معاصره عمرو، زعيم قبيلة تغلب، منافسة أختها بكر. . .)
(يتبع)
السيد يعقوب بكر(648/41)
رحيل. . .
للأستاذ فريد عين شوكة
كرهتُ عجيجك يا (قاهرهْ) ... وضقت بعيشتك القاترةْ
وشاه بعيني فيك الزحام ... يزيد على الحشر في الآخرة
ملايين مائجةٌ بالنهار ... وفي الليل صاخبةٌ ساهرة
تضيق بها سبلك الواسعات ... وأبياتك الرحبة الزاخرة
صحبتك في الحرب حتى المدى ... فكنت بك الصفقة الخاسرة
وعانيت فيك الغلاء العضوض ... وذقت تباريحه القاسرة
وقاسيت فيك اضطراب المقام ... فما فيك من كوّةٍ شاغرة
أروح هناك وأغدو هنا ... كرحالة لم يُرح خاطرة
وألقي المتاعب في فُندُقٍ ... تضيق به نفسي الحائرة
فأمضي إلى الريف عند المساء ... وألقاك في الغدوة الباكرة
وكم ذقت فيك عذاب الطريق ... وما فيه من نُوَبٍ كاشرة
أسير أحاذر من مصرعي ... بصدمة سيارة سادرة
وأسعى كأني بها طائرٌ ... تطارده الأنسر الكاسرة
وإما ركبت. . فإني على ... شفا حفرة للردى فاغرة
فحيناً على جنبات الترام ... وحيناً على سلم القاطرة
وطوراً بسيارة يحشرون ... بها الناس كالسلع البائرة
إذا أحسنتْ عطّلتْ رَكْبها ... وإن جمحت فهو في الحافرة
هي الحرب يا منيتي شوهت ... محاسن أيامك الغابرة
أحالتك مثل لهيب اللظى ... وقد كنت كالسرحة الناضرة
صبرنا لعلك عند السلام ... تعودين فتانة ساحرة
فننعم في ظلك المشتهى ... ونستاف أنسامك العاطرة
ولكنه. . . أمل ضائع ... وأمنية نفرت ساخرة
فعذراً إذا ما رغبْتُ القرى ... أريح بها مهجتي الثائرة(648/42)
فلن تستقر لديك الحياة ... وأنت عل الحالة الحاضرة(648/43)
من صور الحياة
للدكتور عبد الجبار جومرد
ساءها أن بدا علي شحوب ... وكسا جانب الشباب مشيب
وغضون تقاطعت بين عيني ... كما لاح غامض مكتوب
عهدتني فتى طروباً وهل ... يبقى على حالة شجٍ أو طروب
طوحت بي شواسع فإذا ما ... جئت أهلي ظننت أني غريب
وبلوت الأيام حتى بدا من ... أسهم الدهر في فؤادي ندوب
ربما أنت في ربيع شباب ... شبت فيه وجرحتك الخطوب
مثلما تعبث الأعاصير بالزهر ... فيذوي والغصن غض رطيب
كلما كنت مرهف الحس نا ... بتك من البث والهموم ضروب
فالسعيد الذي يعيش بليداً ... والرقيق المعذب المسلوب
وحياة الأديب حرب وفيها ... قلما يربح الصراع الأديب
كم من الخالدين في صفحة ال ... مجد قضى وهو بائس محروب
فإذا كان للزمان ذنوب ... فمن الناس قد تجئ الذنوب
إنما الناس في الحياة وحوش ... ضاريات والفاتك المرهوب
فكثير من النفوس وضيع ... وقليل منها الرفيع النسيب
لا يغرنك مظهر من وجود ... إنما ظاهر الوجود كذوب
فلقد سحر العيون جبين ... تحته من شراسة الطبع ذيب
ولقد تبسم الشفاه وفي الصد ... ر من اللؤم في الضلوع دبيب
قلما يصنع الجميل فتى ما ... لم يكن في جميله مطلوب
لا تكن مسرعاً بحكمك في النا ... س فما كل نائح منكوب
كم غني يشكو من الشح عدماً ... وعديم فيه سماح وطيب
وكثيراً ما يعدم النوم مسرور ... ويغفو في حزنه مكروب
وتخال الشوهاء حيناً ملاكاً ... من جمال وحسنها مجذوب
منظر يضحك العيون ويبكيها ... أساً لو سرها المحجوب(648/44)
ينهب البعض لو أُتيح له البع ... ض وكل من غيره منهوب
ملئوا جانب الطريق شباكا ... حولها ألف مرصد منصوب
نصبوها وكلهم واقع فيها ... ولم ينج مائق أو أريب
وأضافوا على الحقيقة ألواناً ... فجاءت ووجها مقلوب
فالذي يحسن النفاق يسود ... القوم وهو المكرم المحبوب
والذي يعشق الصراحة في ... مسعاه يرتد خاسئاً ويخيب
أنت في الناس رابح إن ترفع ... ت وإلا فخاسر مغلوب(648/45)
البَريدُ الأدبيّ
الدين والوحي والإسلام
لمعالي مصطفى عبد الرزاق باشا
من المباحث الشائكة؛ الحساسة؛ التي تلقى في روع المتصدي للخوض في غمارها شيئاً كثيراً من التهيب والتوقير لما تنطوي عليه من دقة؛ وما يلابسها من الشعور بالقداسة نحوها؛ تلك التي تدور حول الدين والوحي والإسلام؛ وحسبك أنها الدعائم التي تنهض عليها الحياة الروحية للإنسانية؛ وقد وفق - الوزير الفيلسوف - في جلائها؛ والكشف عنها بهذا المنطق الرزين؛ الحصيف؛ وهذا الأسلوب المشرق الأخاذ؛ وهذا الإيجاز المركز؛ فهو يتناول الموضوع ويسلسله في كل الأطوار التي اجتازها؛ والمراحل التي قطعها؛ حتى يتسنى عرضه في مختلف الصور التي تبدي فيها؛ ثم يعقب بما يراه؛ فإذا أخذ في الكلام عن الدين عرض لك تحديد الدين وبيان أصله في نظر الفرنجة؛ ثم بداية الاهتمام بهذا المبحث؛ وصلة ذلك بتكون علم اللغات؛ ومعاني الكلمة الأوربية؛ ومذاهب علماء النفس والاجتماع في أصل الدين؛ ومناقشة التعاريف المختلفة للدين؛ ثم ينتقل إلى الدين في النظر الإسلامي؛ فيعرض لكلمة دين العربية؛ وأصل المادة؛ ومعانيها؛ ثم يعرض لها في لسان القرآن والشرع وعند الفلاسفة الإسلاميين؛ والفرق بين الدين والفلسفة؛ حتى إذا استوفى الكلام على الدين اتجه إلى الوحي: فبين معانيه في اللغة والقرآن والسنة؛ وعرض أهم النظريات في تفسير الوحي؛ فيعرض لمذاهب المتكلمين والفلاسفة والصوفية؛ ومذهب ابن خلدون؛ والوحي عند المسلمين في العصور الحديثة؛ ثم ينتهي بالإسلام؛ فيعرض للنظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي لكلمة إسلام؛ ثم يستخلص الرأي الراجح في هذا الموضوع؛ بهذا الأسلوب العلمي الدقيق درس هذه النواحي دراسة متقنة جيدة؛ وببيانه الرصين أحكم صوغها؛ مما جعل القارئ يقبل على هذه الأبحاث الجافة في شوق، ويستمرئها في عذوبة.
محمد عبد الحليم أبو زيد
على هامش مؤتمر التعليم بالقاهرة:(648/46)
في حديث الدكتور مشرفة دعوة حارة للسمو بالتعليم فوق الحزبية والأحزاب. وإذا تم هذا فسيكون حقاً من أهم العوامل التي تساعد على تحقيق الأهداف التعليمية.
لكن سمو التعليم فوق هذه التيارات السياسية أو الأحزاب السياسية معناه أن تسمو الجماعة التي تعني بهذه الشئون التعليمية.
وهذا يتصل بالناحية الاقتصادية اتصالا وثيقاً.
فالضغط الاقتصادي كثيراً ما يملي على الأفراد والجماعات نوعاً من السلوك والأخلاق.
ووضع البلاد السياسي الآن يتطلب إلى حد كبير مجهوداً غير عادي لتحسين الناحية الاقتصادية أو على الأصح لا يساعد على تحقيق الرغبة الصادقة في التحسين الاقتصادي المنشود. فالسمو بالتعليم فوق الحزبية أو التيارات السياسية مرتبط تماماً بالناحية الاقتصادية للبلاد.
فكلما اتسع نطاق الفقر عجزت الجماعة وخضعت تحت الضغط الاقتصادي لنوع من السلوك والأخلاق، واستطاعت الجماعات الحزبية أو السياسية أن تجد المقومين لهذه الأحزاب وهؤلاء هم المادة التي يرتقي عليها القادة السياسيون.
وإذاً فمن الناحية العملية أو الواقعية لا يبنى سمو التعليم إلا على سمو الاقتصاد في بلد ظروفها كظروف مصر الآن.
تقرير اللجنة:
وجاء في تقرير اللجنة أن هناك وسائل لتحقيق الأهداف التي منها خلق روح الاعتماد على النفس وما إلى ذلك.
ولكن إذا استطاعت المدارس أن تحقق هذا في محيطها مما يتصل بها مثل أوجه النشاط المدرسي المختلفة. فالطلبة أو التلاميذ يحيون في داخل دورهم العلمية مع أساتذتهم كمن يحيون في المدينة الفاضلة، ثم إذا ما خرجوا إلى المجتمع أو معترك الحياة، وجدوا مجتمعاً كبيراً لا يعرف هذه المدينة الفاضلة، بل ينكرها ويكفر بكل مبادئها.
فلم يكن بد من أن يسعى صاحبنا أو أصحابنا الطلاب لأن يلائموا بين أنفسهم وبين المجتمع الذي تفرض عليهم ضرورة الحياة الاتصال به.(648/47)
لذلك أرى من الوسائل التي تساعد إلى حد ما على تحقيق الأهداف وتساعد على التوفيق بين المثل العليا المنشودة وبين الحياة الواقعية ما يأتي:
1 - أن تتجه السياسة التعليمية إلى محاولة جعل التعليم أهلياً أكثر منه حكومياً مع قيام الالتزامات الحكومية التي لابد منها كما هو الشأن في بعض البلاد المتقدمة.
2 - ألا تكون قبلة الطلاب أو المتخرجين الحكومة، وهذا لا يتحقق مطلقاً إلا إذا كثرت المشروعات وقامت المؤسسات المركزة وخضعت المؤسسات الأجنبية لما تتطلبه مصلحة البلاد.
إذاً لا يقع اللوم حقيقة على هؤلاء الذين أهملوا دروس الاعتماد على النفس وما إليها.
فالمسؤولية الاجتماعية موزعة وكل هيئة أو جماعة لها واجبها. فجماعة المعلمين إذا اعدوا الطلاب من جانب، لابد أن تكون الصلاحية في الحياة من جانب آخر.
فالشبان لم ينجحوا في أوربا أو غيرها لأن المدرسة قد وفقت في خلق روح الاعتماد على النفس والقدرة على التصرف في الحياة فحسب، ولكنهم نجحوا لهذا، ولأنهم وجدوا الصلاحية في الحياة.
فالهيئات الأخرى قد قامت بواجبها، ولأن المجتمع لم ينكر مبادئ فضلا عن الكفر بها.
فالبيئات الاجتماعية متشابهة متعاونة لا يهدم عمل بعضها البعض الآخر.
3 - هذه الأندية السياسية البانية الهادمة، إذا رغب القادة من الساسة في أن يساهموا في بناء المجتمع من الناحية الخلقية، إلا تقبل هذه الأندية السياسية من الطلاب إلا هؤلاء الذين أكملوا دراستهم الثانوية واتصلوا بالمعاهد العالية، أو هؤلاء الذين عدلوا عن مواصلة الدراسة، فاتصلوا بالمجتمع اتصالا فعليا وكانا فيه من الأعضاء العاملين.
بيت السودان بالدقي
محمد أحمد باجي(648/48)
الكُتُب
المسئولية والجزاء
للدكتور علي عبد الواحد وافي
بقلم الأستاذ سعيد زايد
أستاذنا الدكتور علي عبد الواحد وافي عميد علم الاجتماع في مصر بلا منازع، فهو قد درس مسائله دراسة وافية دقيقة تبين للمتأمل في كتبه القيمة والمستمع لمحاضراته في كلية الآداب.
وعلم الإجماع الصحيح - وأقصد به التابع للمدرسة الاجتماعية الفرنسية - علم حديث في مصر لم يخلص بعد من التيارات المنازعة أو بمعنى أصح من المخالفين لمنهجه، وهم على وجه العموم يتبعون المدارس الإنجليزية والأمريكية، وتنحوا المدارس الأولى منحى بيولوجيا بينما تنحو الثانية منحى عمليا، وأغلب الظن أن معارضة المعارضين للمدرسة الفرنسية إنما ترجع إلى عدم الفهم الصحيح لأسس التي تضعها لعلم الاجتماع، ولسنا هنا في مقام سرد حججهم والرد عليها، ولكنا نحب أن نقول إنه من حسن الحظ أن قيض الله للمدرسة الفرنسية عالما فهم دقائق علمها وأخرجه لقراء العربية واضحا لا يحتاج إلى جهد كبير في الفهم، وسيأتي اليوم الذي يميز فيه الناس بين الخبيث والطيب، ويتحقق البقاء للإصلاح.
الكتاب الذي بين أيدينا أحد مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية، وموضوعه المسؤولية والجزاء، ويتكلم فيه الأستاذ عن الأسس التي تقوم عليها المسؤولية كلام عالم استوعب جميع الجزيئات فأتت أحكامه عامة شاملة لا يتطرق إليها النقص، وهو وإن أملى عليه تواضعه بأن يقول بأنه اعتمد كثيرا على مؤلف أستاذه فوكونية في المسؤولية إلا أن الأخير لم يدرس الناحية الإسلامية ولم يحاول بالتالي أن يتكلم عن مظاهر المسؤولية في المجتمعات الإسلامية، بينما ترى هذه الناحية لم تغب عن ذهن أستاذنا فأدخلها ضمن مؤلفه القيم، فموقفه يتلخص في أنه فهم منهج علم الاجتماع على يدي علماء المدرسة الفرنسية الاجتماعية فهما صحيحا. ثم استطاع أن يطبقه على دراسة أية ناحية من نواحي(648/49)
المجتمعات المختلفة، وحبذا لو فهم جميع علمائنا الآخذين من الثقافة الغربية مناهج علومهم صحيحا ثم حاولوا بعد ذلك أن يدرسوا نواحي جديدة وهم مسلمين بأسس الدراسة الصحيحة، إذن لظهرت ذاتيتهم ورأينا مؤلفات تقف بجانب مؤلفات الغربيين في ميدان التفاخر لا كما نرى الآن صورا مشوهة من مؤلفات الغربيين نقول إن أستاذا قد استوعب جميع النواحي حين أراد أن يكتب مؤلفه. وتسلح بالمنهج الصحيح لعلم الاجتماع وهو منهج ذو شعبتين: الشعبة الأولى تتناول الظاهرة الاجتماعية من الناحية الوصفية فتبين تاريخها وتطورها وخصائصها وأشكالها، والشعبة الثانية تتناولها من الناحية التحليلية فتحاول على ضوء الدراسة الوصفية تحليل ما بها من حقائق، وتوازن هذه الحقائق بعضها ببعض إلى أن تصل إلى بيان دعائمها العامة، وبالتالي إلى كشف القوانين التي تخضع لها. فكشف القوانين هو غاية العالم، لقد التزم أستاذنا الدقة في تطبيق هذا المنهج في مؤلفه الذي بين أيدينا، فتكلم في الفصل الأول عن أهلية الشخص للمسؤولية فبين أنه ليس فقط الإنسان الحي العاقل الرشيد الذي لا يكون شخصا معنويا كما تقول بذلك قوانينا الحديثة؛ بل إن هناك مسؤولية لغير، فالمجتمع لا ينظر في تقدير الجزاء وأهلية الكائن نفسه، بل إلى الجريمة ومدى قوتها ومبلغ اعتدائها على نظمه الأساسية وأثرها في حياته العامة. وفي الفصل الثاني يتكلم عن الحالات المولدة المسؤولية، فبين أن المسؤولية لا يشترط فيها كما تقول القوانين الحديثة أن يرتكب الكائن جرما ماديا وأن يكون هذا الجرم المادي قد حدث عن قصد وإرادة. بل إن هناك مسؤولية تنشأ عن عمل نفسي بحت وأخرى عن عمل مادي بحت وثالثة عن عمل لم يقصده الكائن ولم يصدر عنه بالملابسة بل بالانتقال، ويخلص من هذا الفصل بحقيقتين: إحداهما أن المسؤولية الفعلية وما يترتب عليها من جزاء يتولدان عن حدوث ما يرى المجتمع أنه لا يصح حدوثه بقطع النظر عن الصورة التي حدث بها الجرم. والثانية أن المسؤولية الفعلية وما يترتب عليها من جزاء لا تقعان إلا على كائن يمت إلى الجريمة بصلة ما سواء قصدها وأحدثها، أو قصدها فقط ولم يحدثها، أو أحدثها ولم يقصدها أو انتقلت إليه من كائن يمت إليه بصلة ما. . . وفي الفصل الثالث يتكلم عن نظريات المسؤولية والجزاء ويناقشها، ولا يتسع المقام هنا لإعطاء صورة هذا النقاش ولكنا نحب أن نذكر أن أستاذنا قد فند القول بالنظريات الفلسفية والنظريات التاريخية وخلص من(648/50)
ذلك إلى الدعائم الصحيحة للمسؤولية والجزاء وهي التي تكلم عنها في الفصل الرابع ويلخصها في أن سبب المسؤولية هو حدوث ما يرى المجتمع أنه لا يصح حدوثه، وأن العقوبة تتجه نحو الجريمة نفسها والمجتمع في إصابته للمجرم إنما يتجه نحو الجريمة نفسها وان الوظيفة الاجتماعية للمسؤولية والجزاء هو أن تصان حياة المجتمع وتظل حدوده بمأمن من الاعتداء، ولكل مجتمع منهجه الخاص في تحقيق هذه الوظيفة.
هذه خلاصة - لا أزعم أنها وافية - لفصول الكتاب، ولا أدعي أنها تغني عن قرأته، وضح لنا منها أن المسئول ليس الشخص الذي تعرفه قوانيننا الحديثة بأنه الحي العاقل. . . الخ بل إن بعض المجتمعات قد أوقع مسئولية على الجماد والحيوان الميت. . . الخ ولا غضاضة في ذلك فلسنا هنا بصدد أحكام قيمية ولكنا بصدد تسجيل ظواهر ارتضاها العقل الجمعي في وقت من الأوقات. فنظم المسؤولية والجزاء - كغيرها من النظم الاجتماعية - ليست من صنع الأفراد ولكنها (تنبعث من تلقاء نفسها من العقل الجمعي واتجاهاته وتخلقها طبيعة الاجتماع وظروف الحياة، وتتطور وفق نواميس عمرانية ثابتة لا تستطيع الأفراد سبيلاً إلى تغييرها أو تعديل ما تقضي به، وإن القادة والمشرعين ليسوا من هذه الناحية إلا مسجلين لاتجاهات مجتمعاتهم ومترجمين عن رغباتها وما هيئت له فإن انحرفوا في هذا السبيل كان نصيبهم الإخفاق المبين).
بقي سؤال وهو: هل القول بالعقل الجمعي يتضمن القول بالجبرية المطلقة وبذلك يتعذر الإصلاح؟ كلا إن (مجال الإصلاح في هذا النظام أوسع منه في أي نظام آخر) ولا شك أن إصلاحا يقوم على فهم لميول المجتمع ورغباته ويسير به سيرا حثيثا إلى الرقي لهو أنفع وأجدى من إصلاح جل همه التقليد ثم الارتجال بدون دراسة لعقليات المجتمع ويكون مصيره الفشل. فعلماء الاجتماع لا يقفون بعلمهم موقفا عقيما لا يقصدون به سوى الدراسة واستخلاص القوانين، بل إنهم في دراستهم هذه إنما يدعون عون القادة والمشرعين والمصلحين إلى التعمق في معرفة عقلية المجتمع وميوله ومقدار استعداده لتقبل الإصلاح وإلا ذهبت جهودهم أدراج الرياح
وبعد، فان كتاب المسؤولية والجزاء خليق بأن يقرأ وبأن يكون هدى وتبصره لمن يريدون الإصلاح المنتج.(648/51)
سعيد زايد
ليسانسية في الفلسفة والاجتماع(648/52)
خان الخليلي
للأستاذ نجيب محفوظ
بقلم السيدة وداد سكاكيني
من خصائص هوجو في قصصه أنه طويل النفس في إنشائها، مسترسل الوصف لشخوصها، أنه ليفيض في تصوير الشاعر كرنكوار أحد أبطال رواياته فلا تنتهي من وصفه بصفحات إذ يبدأ رسمه إلى أخمص قدميه، فذكرني بهذا الفن المسهب قصة جديدة للأديب الموهوب نجيب محفوظ، سماها (خان الخليلي) وقد عجبت لفن فتى اكتمل قبل الكهولة، إنه ليصف لنا أحمد عاكف بطل قصته، فيصوره من طرة طربوشه إلى كتابة العلية، وكان بقلمه تلاوين الرسامين. على أن القاص لا بد أن يوطد قلمه على مثل هذا الإمعان في التصوير والتحليل، لا سيما إذا كانت روايته تقع في نحو من خمسين فصلا، وكذلك كان هوجو في روايته البؤساء ونوتردام دوباري.
وقد كان من نهضة الفن القصصي في بلاد الغرب أن رأينا أدباء مبرزين في أثارهم التي كتبوها مستوحاة من آفاقنا وأساطيرنا، فأديب البؤساء الذي كتب (المشرقيات) له أنداد من قومه شغفوا بالقصص عن المشرق والشرقيين، فرومان دورجليس حين دار بلاد الشام أوحى إليه فنها العريق أن يكتب روايته المشهورة (قافلة بغير جمال) وقد غفل أدباؤنا عن هذا الفن الخصيب فبقيت أقلامهم مكفوفة عن ذخائرنا حتى يأتيها كاتب غربي فيثير كوامنها ويستخرج لآلئها، ولكن عزاني اليوم في زهادة أدباء العرب بفن بلادهم، أن رأيت مؤلف (خان الخليلي) وهو مصري صميم، تتكشف له مصر في عراقتها وشرقيتها عن مكامن فن أخاذ، فراح يغمس فيه قلمه، ويتطلع من خلاله إلى بلده فيصور أهل حي شعبي من أحياءها الخافقة بالناس، وكأن دروبه عروق تنبض بالإنسان في جسم القاهرة، فوصف القاص حياة موظف من هؤلاء الموظفين الذين لا يهنم هم إلا الغدو على عملهم الراتب، وتزجية الشهر استهدافاً للمرتب والدرجة، وفي تضاعيف القصة صور لنا حياة أسرة مصرية تركت سكنها القديم وجاءت خان الخليلي خشية الغارات الجوية التي أصابت القاهرة في هذه الحرب
كانت حياة بطل القصة وهو الموظف مثل بركة ماء بقيت هادئة إلى أن اضطربت من(648/53)
تأثير الغارات ثم سكنت بعد تغيير السكن، وما لبثت أن ثارت بها عاصفة من عواصف الحياة التي لا تترك غصناً حتى تهزه ولا ورقة عليه حتى تسقطها، تلك عاصفة الحب، ولقد كان هذا الموظف كهلا خاملا، فاستحيا من هذا الحب، وهاهنا تظهر براعة القصص في تصوير العواطف المكبوتة التي كانت نائمة مخدرة في نفس أحمد عاكف حتى أطلت بترددها وقلقها حين عدا عليه في حبه أخوه رشدي فانتزع منه بمرحه ومغامرته تلك النبتة التي عاهد النفس على تعهدها بالإرواء.
وغدا هذا الأخ الطياش مصدوراً، فهو على مشارف الردى وقد ضاع من صدر عاكف كل تذمر وخشية منه لمزاحمته على حبه، وتضاءل وجده على الفتاة المحبوبة بوجده على المريض الذاوي، فهم يفديه بالروح وبذل العناية حتى قضى نحبه، فجثم الأسى على بيت عاكف بعد أن عصف الحب بالأخوين حيناً من الدهر، حتى احترقا به معاً واستقر الحداد بعبئه على الأبوين، ولم يكن أشقى لهذه الأسرة المنكوب من أن تبارح (خان الخليلي) وتلجأ إلى ضاحية من ضواحي القاهرة.
حببت هذه القصة إلى نفسي أن أزور (خان الخليلي) وأنا في مصر لأملأ العين من حي سيدنا الحسين، فأرى بالنظر ما توهمته بالخيال في قصة الأستاذ نجيب محفوظ الذي وصف مقاهي الحي البلدي ونداوته الشعبية وأسواقه وسكانه العاكفين على خبرهم اليومي، فجاءت قصته ذات روح مصرية خالصة بشخوصها وحوادثها، فاذكرني إحسان محفوظ لفنه الشرقي الممحوض إساءة بعض الأدباء بسطوهم على آثار غربية نحلوها أدبهم وزوروها، فبدت فيها طوابع أقاليمهم زائفة شافة عن تمرد فنها وقلقة، ولا على كاتب (خان الخليلي) أن يكون تعبيره في قصته سهلاً ليناً، فإن شخوصها يتحاورون، ومن التحذلق أن يجري على ألسنتهم أساليب البلاغة الإلزامية.
وبعد فهذا الأثر الطريف للأستاذ نجيب محفوظ ثمرة طيبة في فن القصة المعاصرة ومن قطوف لجنة النشر للجامعيين
القاهرة
وداد سكاكيني(648/54)
العدد 649 - بتاريخ: 10 - 12 - 1945(/)
الفلسفة مأمونة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(أثمن الله على الخطر؟. . . إن الفلسفة خطر على أصحابها وخطر على عقول العامة، لأنها ما زالت منذ كانت تثير الظنون وتعرض المشتغلين بها للقيل والقال. . .)
قرأت هذا في كتاب غفل من الإمضاء، فكان في ذلك بعض الدليل على أن اتهام الفلسفة بالخطر في زماننا هذا هو الخطر الذي يستتر منه الناس
وأبادر فأقول لصاحب الخطاب ومن على رأيه إن الكتب الفلسفية التي أشرت إليها في مقالي السابق بالرسالة ليست من الكتب التي يختلف فيها قولان، لأنها تتناول المباحث التي يتفق على دراستها رجال الدين ورجال العلم ولا يتحرج من قراءتها أصحاب رأي من الآراء.
ونحن مع هذا في زمان غير الزمان الذي كان يخشى فيه على الفلاسفة والمتفلسفين.
وبودي أن أقول بعد هذا وذاك إن الفلسفة مظلومة في تلك الأزمنة التي كانت تتخذ فيها ذريعة للتنكيل بمن أصابهم التنكيل من جرائها أو من جراء الانتساب إليها.
فقد ظلموها والله حين أصابوا باسمها من أصابوه، فإنما كانوا يحسدون الفيلسوف على مكانة مرعية أو ينغصونه لعلة ظاهرة أو خفية، فيظلمونه ويظلمون الفلسفة معه، ويجهل الأمر من يجهله فيقول إن هؤلاء الظالمين منصفون لأنهم عاقبوا من يستحق العقاب ولم يأخذوه بغير جريرة ولم يختلقوا عليه الذنوب!
ولو كانت الفلسفة هي العلة الصادقة لأصابت النكبات كل فيلسوف يبحث فيما وراء الطبيعة وبتصدي للكلام في أصل الوجود أو أصول الموجودات.
ولكنهم لم ينكبوا من الفلاسفة في الواقع إلا من كان ذا منزلة محسودة ومقام ملحوظ، وإلا من دخل معهم في مشكلات السياسة ومطامع الرئاسة، أو كانت لهم عنده ترة يتمحلون الأسباب لمجازاته عليها، فيرجعون بها إلى هذه الفلسفة المسكينة، وهي غنية بالعلل والأسباب!
وإلا فما بالهم لم ينكبوا الكندي والفارابي ونكبوا ابن سينا الوزير وابن رشد قاضي القضاة؟
فالكندي كان رجل ميسور الحال موفور المال ولكنه اعتزل الناس ولم يشترك معهم في(649/1)
مطامع الرئاسة فتركوه يتفلسف كما يشاء، وكان قصارى ما أصابه من ألسنتهم أنهم تندروا ببخله وزيفوا الأحاديث عن عشقه وغرامه، وسلم له رأسه إلا مما سرى إليه - فما قيل - من وجع في الركبة قد استعصى على العلاج والفارابي نظر إلى محيط السماوات وأعرض عن الأرض ومن عليها وقال في رياضته الهندسية ورياضته الفلسفية:
وما نحن إلا خطوط وقع ... ن على نقطة وقع مستوفز
محيط السموات أولى بنا ... ففيم التزاحم في المركز!
فقال له: دونك وما تشتهي من محيط السموات، ودعنا وما نتزاحم عليه من هذه المراكز والنقاط!
أما ابن سينا فقد زج بنفسه بين المتنازعين من الأمراء والرؤساء فزجوه في السجن وألجئوه إلى النفي وضيقوا عليه المسالك وعلموه طلب السلامة في زوايا الإهمال.
قال تلميذه ومريده أبو عبيد الجوزجاني (ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره أخذوه إلى الحبس أغاروا على أسبابه وأخذوا ما كان يملكه وسألوا الأمير قتله فامتنع منه، وعدل إلى نفيه عن الدولة طلباً لمرضاتهم، فتوارى في دار الشيخ أبي سعد. . .) إلى أن عاد.
فالعلة في الأرض لا في السماء.
والمصيبة من (الطبيعة) لا مما وراء الطبيعة.
وآفة الرجل أنه أراد أن يكبح السلاح بالحكمة، ولو أستُطيع ذلك لاستطاعه أرسطو في سياسة الإسكندر. . وهيهات.
ثم مات الرجل في داره حينما زالت عنه رهبة السلطان ولم يمت في الحبس كما وهم بعضهم في قول بعض حاسديه:
رأيت ابن سينا يعادي الرجا ... ل وبالحبس مات أخس الممات
فلم يشف ما ناله بالشفا ... ولم ينج من موته بالنجاة
وإنما كان (الحبس) في اصطلاحهم بديلا من داء (الإمساك) في اصطلاح هذا الزمان!
وقد صدق هذا الحاسد الشامت حين رد البلية كلها إلى معاداة الرجال لا إلى معاداة الله أو معاداة رسل الله.(649/2)
وابن رشد جمع على نفسه بين حسد الوجاهة والنباهة وبين سخط العظماء ونكاية ذوي السلطان.
شرح كتاب الحيوان لأرسطو وهذبه وقال فيه عند ذكره الزرافة (رأيتها عند ملك البربر). . . وكان إذا حضر مجلس المنصور وتكلم معه أو بحث عنده في شئ من العلوم يخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي! ولا يخاطبه بألقاب الملوك والخلفاء.
فجزاه (ملك البربر) دقة بدقة ونكاية بنكاية، ورآه يستكثر عليه أن ينسب إلى العرب أو يسمى بخليفة المسلمين فقال له: بل أنت الدخيل على أمة العرب وملة الإسلام فيما صح لدينا من الأنساب التي لا تقبل الكلام!
وهكذا أصبحنا (خالصين)!. . .
وأصبح (محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد) يستر وراء هذه الأسماء سلسلة من أسماء بني إسرائيل، ونفوه إلى محلتهم في جوار قرطبة لأنه دسيسة على المسلمين من سلالة اليهود الذين يفتنون أتباع محمد بفلسفة اليونان!
ولولا تلك المقابلة في الإساءة والانتقام لجاز أن يلتصق هذا الظن بالرجل وإن لم يقم عليه دليل أو قام الدليل على نقيضه، لأن أعدى أعدائه الشامتين به في نكبته قد نفي هذه الدسيسة عن نسبه وشهد لجده بالتقوى والصلاح حيث قال:
لم تلزم الرشد يا ابن الرشد ... لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياءٍ ... ما هكذا كان فيه جدك!
ومَن قائل هذه الشهادة في جده؟ هو الحاج أبو الحسين بن جبير الذي جعل من أهاجي ابن رشد أغنية يرتلها ويعيد ترتيلها على اختلاف القوافي والأوزان. فقال في تلك الأهاجي الكثيرة!
ألان قد أيقن ابن رشد ... أن تواليفه توالف
وقال:
كأن ابن رشد في مدى غيه ... قد وضع الدين بأوضاعه
وقال يحرض على قتله:
وقد كان للسيف اشتياق إليهمُ ... ولكن مقام الخزي للنفس أقتل(649/3)
ولو رجعنا إلى سر هذه البلية كلها لوجدنا أن (علا في الزمان جدك) هي تفسير هذه الأبيات أو تفسير تلك النكبات، وإن الزرافة التي عند (ملك البربر) هي التي أدخلت نسب الرجل في سلاله بني إسرائيل.
فالخطر يا صاحبي على الفلاسفة من الدنيا لا من الدين، ومن الخاصة الحاسدين لا من العامة الغافلين
وما خطب العامة والفلسفة وهي لا تصل إليهم وهو لا يصلون إليها ولا تنعقد بينهم وبينها علاقة نظر ولا علاقة سماع؟
فإذا تحرك العامة فابحث عن (الصلة) بينهم وبين القضية فلن تجدها في أكثر الأحوال إلا نكاية حاسد أو وشاية جاحد أو حجة ظالم يستر ظلمه للفلسفة بدعوى الإنصاف للدين، وإن الدين منه لبراء.
واعلم يا صاحبي أن العامة في كل زمان وحش محبوس لا ينال فريسته إلا بعد تحريش وانطلاق، وإن الذين يحرشونه ويطلقونه هم أصحاب الدنيا وعروضها وليسوا بأصحاب العقائد وفروضها. إلا في النادر الذي يحسب من الاستثناء.
وما أصدق المعري حين قال متسائلا: ما للناس ولي وقد تركت لهم دنياهم!
فانه لمس الداء في أصوله حين حسب أن ترك الدنيا يتركه في أمان، وقد تركه فعلا في أمان إلا من القيل والقال، وهو أهون ما يمر بالرجال.
تفلسف يا صاحبي كما تشاء ودع الناس يتفلسفون كما يشاءون فما دامت فلسفتك لا تصيب أحداً في دنياه ولا تفيد أحداً في دعواه، فأنت ظافر برضوانهم وظافر عندهم برضوان.
أما إذا أصبت دنياهم ونقضت دعواهم فيا ويلك إذاً من الأرض والسماء، ويا سوء ما تلقاه من العلية والدهماء، ولو زكاك النبيون وشهد لك الأولياء، ولزمت الصلاة والدعاء في كل صباح ومساء.
ومالك تذكر الخطر على الفلاسفة ولا تذكر الخطر على حماة الدين من الأنبياء والمرسلين؟ فهم الذين علموا الناس الأديان وهم الذين يثار الناس باسمهم حين يثارون على الفلاسفة ومن يزعمونهم من أهل النكران والجحود، ولو وزنت حظوظهم من البلاء والاستهزاء ووزنت معها حظوظ الفلاسفة والمتفلسفين، لما حارت (شركات التأمين) بين أصحاب(649/4)
اليسار وأصحاب اليمين.
هي الدنيا يا صاحبي تظلم الدين كما تظلم الفلسفة بما تدعيه عليه وعليها، واحسبني قد باكرت هذا المعنى القديم حين قلت قبل نيف وثلاثين سنة:
لو كان ما وعدوا من الجنات في ... هذى الحياة لسرهم من يكفر
فدع دنياهم وتفلسف على بركة الله، وأننت في أمان من الله ومن عباد الله.
عباس محمود العقاد(649/5)
العرب
للدكتور جواد علي
للمؤرخين والرواة في تفسير كلمة (العرب) و (عرب) أقوال وروايات لا تخرج أكثرها عن دائرة التفسيرات اللغوية المألوفة في تفسير كل كلمة عويصة وكل أسم من الأسماء القديمة. وعلى أكثر هذه الأقوال طابع التكلف والوضع.
أنت إذا ما أردت نموذجاً من تلك التوضيحات والروايات فاقرأ ما دون عن هذه الكلمة في كتاب (التيجان في ملوك الحميرين) مثلا وهو رواية وهب بن منبه المتوفى بصنعاء حوالي سنة 728 للميلاد وهو إسرائيلي يماني يرجع في الأصل إلى نسب اليهود الفرس ثم أسلم. وإلى الروايات الأخرى المدونة في كتب التاريخ والأدب. ولا يهمنا نحن في هذا الباب البحث عن أسباب تلك التسمية ولا عن الدوافع التي دفعت القوم على وضع تلك القصص والحكايات، وكلها مدونة معروفة؛ وإنما الذي يهمنّا في هذا الفصل هو تاريخ هذه الكلمة والوقت الذي ظهرت فيه.
عرف المستشرقون في جملة ما عرفوه من النصوص القديمة نصاً آشورياً يعود عهده إلى الملك شملنصر الثالث 3.) تحدث فيه الملك عن معركة سميت باسم معركة (قرقر) وهي معركة هامة حدثت في حوالي سنة 853 قبل الميلاد بين الآشوريين وبين حلف من الإمارات والمشيخات التي كانت تكره الآشوريين. وقد ذكر النص في جملة ما ذكره من أسماء الذين انضمُّوا إلى هذا الحلف أسم إمارة عربية أسمها (عريبي) انضم أمير هذه الدويلة العربية إلى الحلفاء وأمدّهم بنحو ألف جمل وبعدد من رجاله الذين قاتلوا الجنود الآشوريين.
أما ذلك الأمير العربي الذي قاتل الآشوريين فكان (جندب) (جنديبو) ولا نعرف اسم أبيه إذ لم يتعرض النص لذلك. والظاهر أنه كان معروفاً عند الآشوريين فلم يجدوا ثمة حاجة تدعوهم إلى ذكر اسم أبيه. وهذا الملك هو أول ملك عربي ولا شك يذكر لأسمه في النصوص التاريخية المدونة في ملوك الشماليين.
وقد تغلب الآشوريين على ما يذكره النص الآشوري على رجال الحلف ونكلوا بهم تنكيلا شديداً ويظهر بصورة عامة من النصوص الآشورية أن العرب كانوا يعاكسون السياسة(649/6)
الآشورية. ويهددون طرق مواصلات هذه الإمبراطورية في مختلف الأوقات والعهود.
وفي عهد الإمبراطورية تغلا تبليسر الثالث اضطر الملك إلى إرسال عدة حملات تأديبية لإخضاع القبائل العربية. والظاهر أنها لم تتمكن من النجاح في مهمتها نجاحاً تاماً حتى اضطرت أخيراً إلى اتباع سياسة استرضاء رؤساء القبائل وشراء قلوبهم بالمال. فانتخبت أحد الأمراء العرب من المعروفين بميلهم إلى الآشوريين ومن المؤيدين لهم وعينته حاكما عاماً وأميراً عليهم.
ولكن القبائل العربية على ما يظهر لم تغير من جفائها بالنسبة إلى الآشوريين ولم تبدل سياستها العدائية نحو هذه الإمبراطورية بدليل ما قام به الملوك الذين جاءوا من بعد هذا الإمبراطور بإرسال حملات على العرب بصورة متوالية.
وقد وردت لفظة (عرب) في هذه النصوص الآشورية بهذه الصور و (عَربُو) و (عُربي) و (عريبي) ولا تزال هذه الكلمة الأخيرة مستعملة في بعض جهات العراق كاسم علم يطلق على الأشخاص. وتطلق كلمة (أعربي) و (عُربي) في العراق على البدوي الذي لم يزل على درجة من البداوة.
وذهب بعض المستشرقين إلى أن المقصود من (عربي) الأعراب أي سكان البادية. وأما البادية التي هي موطن العرب فيطلق الآشوريون عليها (عريبي) وهي الصحراء الواسعة التي تفصل العراق عن الشام والتي تمتد حتى تصل حدود نجد
وهنالك اصطلاح آخر ورد في النصوص الآشورية وهو (ماتو عربتي) ومعنى (ماتو) أرض فيكون معنى ذلك (أرض العرب) وقد وردت هذه التسمية في نص يرجع عهده إلى القرن الثامن قبل المسيح وقد استعمل البابليون هذه الكلمة أيضاً على نحو ما كان يستعملها الآشوريون ثم دخلت الكلمة إلى اللغة الفارسية فاليونانية.
ومن الشعوب القديمة التي كانت على اتصال دائم بالعرب (العبرانيون) فقد كانت بين العرب وبين العبرانيين حدود مشتركة وصلات تجارية قديمة كما كانت بينهم أيام سلم وأيام حروب. لذلك تعرضت النصوص العبرانية لذكر العرب مراراً وتحدثوا عنهم في مناسبات عديدة. تدل لفظة في جميع فروع اللغة السامية على مدلول واحد تقريباً وهو (البداوة) وسكنى الصحراء - (فكانت كلمة عَرَبْ مستعملة في اللغة العبرية القديمة لتدل على أهل(649/7)
العَرَبَةَ الصحراء أي لنوع خاص من قبائل الجزيرة العربية في حين كان لأهل المدن والعمران أسماء أخرى جاءت في كتب اليهود القديمة). وقد وردت هذه التسمية في عدة مواضع من العهد القديم جاءت تارة بمعنى (بداوة) وتارة أخرى بمعنى الفقر والجفاف والخراب والوحشة كالذي يفهم مثلا من الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الحادي والعشرين من أشعيا وهي تقبل كلمتي والإنكليزيتين
وجاءت في التوراة فقرة هي وهي من عهود التوراة المتأخرة على رأي هاستنك المختص بأبحاث التوراة وقد فسرت في اللغة اليونانية القديمة بمعنى (بلاد العرب) وأصبحت ترجمة الآية بكاملها باللغة العربية بهذا الصورة (وحي من جهة بلاد العرب وفي الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدادنيين) وقد خصصت هذه الكلمة في هذه الآية أما قبل ذلك فكانت تعني البداوة والإمعان في العيش في البادية).
وتدل لفظة (عرابة) التي وردت في العهد القديم بصورة التثنية على ما ذكرناه سابقا (عربة) غير أن (ها - عرابة) المسبوقة بأداة تعني الوادي العميق الممتد من جبل الشيخ إلى خليج العقبة وفيه الجولة وبحر الجليل وبحر الملح أو البحر الميت. وقد يختفي هذا الاسم بالغور بين البحر الميت والبحر الأحمر وقد يدل على الغور شمالي البحر الميت.
ولا يعرف على وجه التأكيد ما يقصد من كلمة الواردة في الآية 20 من الإصحاح الثالث من ارميا هل يراد من ذلك (أعرابي) أي أحد الأعراب من سكان البادية أو (عرب). وعلى كل فإنه إن قصد الأول اتجهت الفكرة رأساً إلى (بدوي) وإن قصد الثاني اتجه الفكر إلى عربي من أهل القرى والمدن والأراضي.
ومما يلاحظ أن صيغة هي صيغة آرامية أكثر من كونها صيغة عبرية وأما الجمع وهو ويرد في مواضع من التوراة؛ فأنه أقرب إلى العبرية منه إلى الآرامية. وأما الصورة التي وردت عليها هذه اللفظة في الآية الحادية عشرة من الإصحاح السابع عشر من أخبار الأيام الثاني فأنها غير أصلية على ما يظهر لأنها صيغة غير مألوفة (عربان)
إن أول من أستخدم كلمة (عراب) كاسم علم في العهد القديم على وجه التأكيد هو النبي ارميا وتقع نبوءته بين 626 - 586 قبل الميلاد إذ جاء ومعناها (وكل ملوك العرب) وأما العبارة - فأنها شرح صرف لما تقدم لأجل التوضيح ولا قيمة معنوية لها غير(649/8)
ذلك؛ فمعنى كلمة إذاً (العرب) ولا شك من أن قصد النبي راميا من تعبيره (وكل ملوك العرب) أمراء ومشائخ العرب الذين كانوا يسكنون في البلاد العربية الشمالية وفي صحراء بادية الشام.
ويشك هاستنك في أن مقصود النبي من (العرب) قبيلة معينة أو جماعة معلومة تختلف عن القبائل والجماعات الأخرى من العرب بعض الاختلاف. والظاهر أن النبي ارميا لم يكن يحيط علماً بالقبائل البدوية وهي كثيرة وبالفروع التي تشعبت منها. وكيف يحيط النبي علماً بها ولم تكن لدى الإسرائيليين معلومات صحيحة واضحة حتى ذلك العهد عن العرب. وكل ما كانوا يعرفونه عن العرب لم يكن إلا من قبيل المعلومات الابتدائية الغامضة المبهمة.
والحق أن العبرانيين لم يتصلوا بالعرب اتصالا تاماً ولم يكونوا لهم فكرة واضحة عن القبائل العربية إلا بعد تدهور القبائل الإسماعيلية (اشماغيل) وإلا بعد ضعف المدنيين والعماليق (العمالقة). حينئذ اتصل العرب بالإسرائيليين اتصالا مباشراً وعندئذ احتك الإسرائيليون بالعرب احتكاكا شديداً في خلال أيام السلم وفي أثناء أيام الحروب.
ومهما يكن من شئ فان هنالك صعوبات كبيرة تاريخية في تعيين مدلول كلمة (عريب) الواردة في العهد القديم هل تعني (البداوة) أو تعني البلاد العربية كلها أو جزاً معينا من الأجزاء التي سكن فيها هذا الشعب؟ ولما ذكر النبي ارميا الأسماء التي ذكرت مع هذه الكلمة لم يرتب الأسماء ترتيباً جغرافيا منتظماً فبعد أن ذكر (عريب) و (كل اللفيف) قال: (وكل ملوك أرض عوص، وكل ملوك أرض فلسطين، واشقلوة وغزة وعقرون وبقية أشدود وادوم وموآب وبني عمون وكل ملوك صور وكل ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر وردان ويتماء وبوز وكل مقصوصي الشعر مستديراً وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية).
ترى مما تقدم أن من الصعب تعيين المكان الذي سكنه العرب بالضبط. وقد ترجم مارتن لوثر (وكل ملوك العرب) بترجمة تختلف قليلاً في المعنى فقال (وكل ملوك الذين في البلاد العربية) فقصد البلاد العربية لا الشعب العربي كشعب (أعراب) ونجد هذا الالتباس في الترجمات الأوربية أو(649/9)
ومنذ القرن الثالث قبل المسيح أصبحت كلمة (عرب) نوعا ما عامة تطلق على مختلف القبائل التي انتشرت في شبه الجزيرة فأطلقت على العرب الذين كانوا يجاورون (الكوشين) وهم (الأحباش) على أكثر الاحتمالات وذكرت قبيلة جشم أو في مجموعة القبائل العربية أشار إلى ذلك (نحميا) في ذكرياته. وهذه القبيلة هي من القبائل الشمالية.
ومما يجب التنويه عنه هو أن لفظ (عرب) مهما قيل فيه فإنه لا يعني ما يعنيه في الوقت الحاضر من شعب واحد كان يسكن شبه الجزيرة برمتها بل كان يشمل نوعاً خاصاً من القبائل وهي القبائل التي كانت تتنقل في البادية من مكان إلى مكان طلباً للكلا والماء ومنابت الأعشاب).
(وأما ما يقال في المعاجم العربية من أن هناك فرقاً بين كلمتي عربي وأعرابي وتخصيص الأولى بسكان المدن والثانية بسكان البادية فلم يحدث إلا في عصور قريبة من ظهور الإسلام. أما قبل ذلك فلم يكن هناك فرق مطلقاً، بل كان كل من الكلمتين يدل على سكان البادية فحسب: أما سكان المدن والأمصار فكانوا ينسبون إلى قبائلهم أو يعرفون بمناطقهم).
ويقال بأن (بني قديم) ' الواردة في العهد القديم والتي تعني (أبناء الشرق) أو (الشرقيين) يقصد منها القبائل العربية التي كانت تسكن شرق فلسطين أو حوالي البحر الميت. ولعلها القبائل التي كان يطلق عليها أسم (القبائل الإسماعيلية) ويقول أحد المستشرقين وهو إيوالد بأنه (قدموني) ترادف (بني قديم) ' وهي تسمية عامة تطلق على جميع القبائل التي انحدرت من نسل (قطورة) زوجة إبراهيم على حد تعبير نسّابي اليهودي
وأما الأراضي التي أقام فيها العرب وحلوا بها فقد أطلق عليها الآشوريون والبابليون (ماتوا أربائي) ومعناها (أرض العرب) وقد انتقلت هذه التسمية من البابليين إلى الفرس ومن الفرس إلى الكتبة اليونانيين.
وعرف هؤلاء الكتبة شيئاً من أحوال العرب دونت في كتبهم؛ وذكر في مثلا أسم عربي اشترك مع من اشترك في معركة (سلاميس) وذكر هيرودوتس شيئاً لا بأس به عن العرب وعن البلاد العربية وعلى الأخص العرب الذين كانوا في المنطقة الواقعة بين سوريا ومصر أي في صحراء سينا وفي المناطق المتصلة بهذه الصحراء والتي كانت لها روابط وصلات بالعبرانيين.(649/10)
وأطلق اكسنوفان أسم على نفس المنطقة التي سمّاها داريوس ويعنون بها الصحراء التي تفصل أرض بابل عن منطقة وهي نفس المنطقة التي ظل الكتبة السريان المتأخرون يطلقون عليها أسم وقد استوطنت في هذه المنطقة قبائل عربية كثيرة.
وقسم كتبة اليونانيين البلاد العربية ومعناها (العربية) إلى أقسام مثل (العربية السعيدة) و (العربية الصخرية) و (العربية الصحراوية) وأقسام أخرى مثل
وعرف العرب بتسمية أخرى هي وهي تسمية شاعت بين الكتبة اليونانيين. ويستفاد مما كتبه بطليموس أن (السرسانيين) كانوا يقيمون في منطقة شبه جزيرة سيناء وأنهم كانوا من أتباع الإمبراطورية الرومانية وأنهم كانوا يتعرضون للقوافل التجارية ويأخذون المكوس الفاحشة من القوافل التي كانت تمر بأراضيهم.
وأطلق الآراميون على العرب أسم ونجد هذه اللفظة في المناظرة (الديالوك) التي كتبها أحد تلاميذ برديصان حوالي سنة 210 للميلاد. وقد شاعت هذه اللفظة وأصبحت تطلق على العرب عامة منذ هذا الوقت لدى السريانيين واليونانيين. ثم انتقلت إلى اليونانيين فبقية الشعوب الأوربية.
وأما لفظة فالظاهر أنها مأخوذة كلمة (طي) وهي أسم القبيلة المشهورة التي كانت تسكن شمال نجد ثم ارتحلت إلى البادية الشمالية وإلى مختلف أنحاء شبه الجزيرة. وقد اكتسبت هذه القبيلة شهرة واسعة وخافتها الشعوب المجاورة حتى أطلقوا على جميع القبائل العربية لفظة من باب إطلاق الجزء على الكل.
وهكذا شاعت هذه الكلمة وغطت ما دونها من كلمات. فأطلق الآراميون في العصور المسيحية لفظة على العرب ونقل الفرس هذه الكلمة بصورة محرفة تحريفاً يلائم لغتهم فقالوا (تاجك) أو وفي العهد الأخير
قد خافت الشعوب التي تاخمت قبيلة طي منها كثيراً والظاهر أنها كانت قوية شديدة المراس فقد أجمع الكتبة من يونان وسريان أنها كانت على جانب عظيم من الغلظة والخشونة وأنها كانت بدوية. ويقول يوحنا العمودي بأن أكثر قبيلة لا يعرفون الخبز.
أما النصوص القديمة التي عثر عليها في البلاد العربية الجنوبية فلم تذكر سوى كلمة (أعراب) ومعناها البدو والقبائل المتنقلة على نحو ما جاء في القرآن الكريم. وقد كان(649/11)
السبأيون والحميريون يميزون بين الحضر من أهل المدينة وبين سكنة البادية وهم (الأعراب).
فكانوا يسمون الحضر بأسماء الأماكن التي يسكنونها أو بأسماء أجدادهم وقبائلهم فيقولون (بنو فلان). وأما سكنة البادية فكانوا يطلقون عليهم بصورة عامة (أعراب) وينسبونهم إلى المحل الذي يقيمون فيه فيقولون (أعراب تهامة) و (أعراب مأرب) وما شابه ذلك.
وبالنظر إلى عدم العثور على نصوص غربية قديمة كثيرة نستطيع بواسطتها معرفة آراء العرب أنفسهم في هذه التسميات فإننا لا نستطيع إبداء رأي حاسم فيما ذكرناه من تسميات أطلقها الأجانب على العرب. وعلى كل فإن هذه التسميات على ما يظهر كانت خاصة بعرب الشمال الذين كانا بطبيعة الحال على اتصال مباشر بتلك الشعوب الغربية. فهي علامات فارقة كانت تميز تلك القبائل عن القبائل السامية الأخرى.
إن القبائل البدوية والقبائل التي هي على شئ من حياة البداوة لا تعرف عادة من معاني القومية والجنسية إلا معنى القومية القبلية. فالقبيلة في نظر البدوي هي الحكومة وهي القومية وهي الجنس وهي كل شئ. والأرض التي تقيم فيها القبيلة هي الوطن يرتبط به ما دامت القبيلة فيه فإذا انتقلت القبيلة إلى أرض أخرى كانت الأرض الجديدة هي الوطن الجديد الذي يدافع عنه ويجود بنفسه في سبيله. ورابطة القبيلة هي الجنسية الوحيدة فيما بين القبائل وهي التابعية. وعلى قدر منزلة القبيلة تكون منزلة التابعية وقوة نفوذها في عالم القبائل السياسي.
وعلى الرغم من اشتباك القبائل في وحدة الجنس ووحدة الأصل فإنها لم تكن تشعر في معاملاتها الخاصة هذا الشعور. فكانت تنظر الواحدة إلى الأخرى نظرتها إلى شعب غريب فتتحارب وتتقاتل فيما بينها وترتبط مع الأجانب وتحارب معهم ضد قبيلة أخرى من أبناء جنسها. ولكن ضرورة التنقل من مكان إلى مكان أجبرت القبائل العربية على تكوين حلف فيما بينها وعلى الارتباط برباط العصبية. فصار هنالك حلف القبائل
وهذا الشعور هو الذي ألف بين القبائل وجعلها كتلة قوية تصد عادية المعتدين. فظهر امرؤ القيس بن عمرو الذي ورد ذكره في حجر نمارة النفيس في الجنوب الشرقي من دمشق والمؤرخ في عام 238 للميلاد الموافق ليوم 7 بكسلول من سنة 223.(649/12)
إن نص النمارة هو أول نص عربي يشير إلى ملك (ملك العرب كلهم والذي حاز التاج وملك الأسدين ونزاراً وملوكهم وهزم مذحجاً وجاء إلى نزجي (أو بزجي) في جبح نجران مدينة شمر وملك معداً ونزل بنَّية الشعوب ووكله الفرس والروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
يظهر من كل ما تقدم أن كلمة عرب و (العرب) لم تطلق في العصور التي تقدمت المسيح على العرب عامة وإنما كانت كلمات تدل على قبيلة معينة هي قبيلة شمالية. وأما عرب الجنوب فكانوا يسمون (معونيم) مثلا أي معنين أو سبئين ثم حميرين وقبائل أخرى. واستعملت (عريب) عند العبرانيين للدلالة على البداوة: وكذلك استعملت عند عرب الجنوب.
والظاهر أن كلمة (العرب) كجنسية تشمل جميع سكان شبه الجزيرة العربية لم تظهر إلا قبل الإسلام بزمن يظهر أنه لم يكن طويلا يمكن أن يعود إلى القرن الثالث أو الرابع للمسيح. ولم تطلق هذه الكلمة على سكان بلاد العرب الجنوبية الذين كانوا يختلفون في أنسابهم عن عرب الشمال ولذلك فرق النسابون بين الجماعتين.
جواد علي(649/13)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 19 -
ج17 ص 30: ما أحسن قول العتابي وأحكمه!:
لوم يعيذك من سوء تقارفه ... أبقى لعرضك من قول يداجيكا
وقد رمى بك في تيهاء مُهِلكة ... من بات يكتمك العيب الذي فيكا
قلت: (مهلكة) بفتح الميم، ولامها مثلثة، وهي المفازة، والجمع مهالك. .
ج 13 ص 26: قد وهبناه منك وصفحنا عن ذنبك قلت: قد وهبناه لك. قال سيبويه ج 1 ص160: ولا تقول وهبتك لأنهم لم يعدوه ولكن وهبت لك.
في اللسان: حكى السيرافي عن أبي عمر وأنه سمع أعرابياً يقول لآخر: انطبق معي أهبك نبَلا.
وإن جاز قول الإعرابي فعنده نقف. والأعلى هو قول (الكتاب) المعجز: (رب، هب لي حكماً) (فوهب لي ربي حكماً).
والحكم: الحكمة، (وهو أعم منها - كما قال الراغب في مفرداته - فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة، فان الحكم أن يقضى بشيء فيقول: هو كذا أو ليس بكذا).
ج 6 ص 275: قال الأمير أبو الفضل الميكالي: كتب عامل رقعة إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل. فوقع الصاحب تحتها: من كتب لإشغالي لا يصلح لأشغالي
وجاء في الشرح: يريد أن كسر الهمزة خطأ، وكان يريد أن يقول شغلي، وفي القاموس يقول: إن أشغل لغة جيدة أو قليلة أو رديئة.
قلت: (من كتب إشغالي) كما روت اليتيمة ج 3 ص 38 ومزاد الصاحب أن المجرد من هذا الفعل هو الجيد، والمزيد رديء. في التاج (شغله كمنعه شغلا - بالفتح - ويضم وهذه عن سيبويه. وأشغله، واختلف فيها فقيل هي (لغة جيدة أو قليلة أو رديئة) قال ابن دريد: لا يقال: أشغلته، ومثله في شروح الفصيح وشرح الشفاء للشهاب والمفردات للراغب والأبنية لابن القطاع، ولا يعرف لأحد القول بجودتها عن إمام من الأئمة، وكتبة بعض عمال(649/14)
الصاحب له في رقعة فوقع عليها: من يكتب إشغالي لا يصلح لأشغالي. قال شيخنا: فإذاً لا معنى لتردد المصنف فيها. قلت: ولعله استأنس بقول ابن فارس حيث قال في (المجمل) لا يكادون يقولون أشغلت، وهو جائز فتأمل ذلك)
ج 2 ص252: جحظة:
أنا خلو من المماليك والأملاك (م) ... جلد على البلا وصبور
قلت: جلد على البلاء صبور
ج16 ص 320: وحق له التأسي على المفقود.
وجاء في الشرح: التأسي: الحزن
قلت: (وحق له الأسى على المفقود) والأسى هو الحزن، وأما التأسي فهو التعزي. في التاج: أساه بمصيبته تأسية فتأسي أي عزاه تعزية فتعزى، وذلك أن يقول له: مالك تحزن؟ وفلان أسوتك أي أصابه ما أصابك فصبر، فتأس به.
وفي ديوان الخنساء:
وما يبكين مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي
وقال البحتري في السينية العبقرية:
عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
ج4 ص 183: وكان محباً لإسداء العوارف والاصطناع، وجذب الباع.
قلت: (وجذب الأتباع) في الأساس: وهو له تبع وهم له تبع لأنه مصدر وهم أتباعه وتباعه
ج 19 ص 196:
وما لك غيرُ تقوى الله زاد ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
قلت (غيرَ) وهو إن لم يكن الأصح فهو المختار.
قال ابن يعيش في شرح المفصل ج 2 ص 79: وإنما لزم النصب في المستثنى إذا تقدم لأنه قبل تقدم المستثنى كان فيه وجهان البدل والنصب فالبدل هو الوجه المختار، والنصب جائز على أصل الباب فلما قدمته امتنع البدل فتعين النصب. وبيت المفصل:
ومالي إلا آل أحمد شيعة ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
وبيت (الكتاب) وهو لكعب بن مالك (رضى الله عنه) يخاطب (النبي صلى الله عليه(649/15)
وسلم):
الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوفَ وأطراف القنا وزر
ومثله قول الكميت الذي حرم الرواية الصحيحة في هذا الزمان وقد بينتها في الرسالة الغراء في هذه السنة:
وإن لم يكن إلا الأسنةَ مركبٌ ... فلا رأى للمحمول إلا ركوبها
وفي (الكتاب): (وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون مالي إلا أبوك أحد) ولم يذكر شاهداً. قال ابن عقيل وأعربوا الثاني بدلا من الأول على القلب. في (همع الهوامع) ج1 ص 225: قال ابن عصفور: (ولا يقاس على هذه اللغة) وقد قاسه الكوفيون والبغداديون وابن مالك، ومن الوارد منه:
فانهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع
قلت: (قال محمد هو ابن مالك):
وغير نصب سابق في النفي قد ... يأتي ولكن نصبه اختر إن ورد
ج16 ص 303
فان قلتمُ إناَ ظلمنا فلم نكن=بدأنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
قلت (فلم نكن ظلمنا ولكنا أساأنا التقاضيا) والبيت في مقطوعة للشميد الحارثي من شعراء الحماسة ومطلعها.
بني عمنا لا تذكروا والشعر بعدما ... دفنتّم بصحراء الفُحير القوافيا
ج19 ص 46: وتغير ذهنه بآخرهِ. وفي هذا الجزء ص 55: وانتقل بآخِر إلى غرناطة.
قلت: في الصحاح: جاء فلان بأخَرَة بفتح الخاء وما عرفته إلا بأخرة أي أخيراً. وفي النهاية: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم، يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس كذا وكذا أي في آخر جلوسه ويجوز أن يكون في آخر عمره، وهي بفتح الهمزة والخاء
وجا في اللسان والتاج. (وجاء بآخرةٍ بالمد) وشكلت الخاء بالفتح ولم يضبطها التاج.
ج7 ص 109: حدث المبرد عن المازني قال: كنت أبي عند عبيدة فسأله رجل فقال له: كيف تقول: عُنيت بالأمر؟ قال كما قلت: عُنيت بالأمر. قال: فكيف آمر منه؟ قال (المازني) فغلط وقال: أعن بالأمر. فأومأت إلى الرجل ليس كما قال. فرآني أبو عبيدة(649/16)
فأمهلني قليلا فقال: ما تصنع عندي؟ قلت: ما يصنع غيري. قال: لست كغيرك، لا تجلس إلي، قلت ولم؟ قال: لأني رأيتك مع إنسان خوزي سرق مني قطيفة. فانصرفت وتحملت عليه بإخوانه، فلما جئته قال لي: أدب نفسك أو لا ثم تعلم الأدب. قال المبرد: الأمر من هذا باللام، ولا يجوز غيره لأنك تأمر غير من بحضرتك كأنه ليفعل هذا.
قلت: (أعن بالأمر) بفتح النون لا ضمها. وما ذهب إليه أبو العباس هو الأكثر. في اللسان: قال البطليوسي: أجاز ابن الأعرابي عنيت بالشيء أعني به فأنا عان وأنشد:
عان بأخراها طويل الشغل ... له جفيران وأي نبل
وفي التاج: عن فلان بحاجته بالضم أي مبنياً للمفعول عناية بالكسر، وهذه اللغة هي المشهورة التي اقتصر عليها ثعلب في فصيحه ووافقه الجوهري وغيره، ويقال أيضاً: عني بحاجتة كرضى وهو قليل، حكاه جماعة منهم ابن دستورية وغيره من شراح الفصيح والهروي في غريبيه قاله شيخنا.
قلت: قال شيخنا في المقامات العلائية (الفصول والغايات) عبقريته النثرية ص 30:
أعْننيِ رب، وأعني واعن بي حتى تغنني عن أمي وأبي).
وقد اقتضى التلاؤم أو الموسيقية - كما يسمى ذلك العلامة الأستاذ أمير النثر - أن يؤثر نابغة الأدب العري القليل في الاستعمال في هذا المقام على الكثير، والموسيقية هي في الفظة وفي الجملة. وأبو العلاء أدرى الناس بصحة الألفاظ واعتلاها.
في القسم - 17 - رويت قول حسان: (تسقي الضجيج ببارد بسام) كما نقلوا، وعندي أنها (تشفي) لا تسقي.(649/17)
رأي جديد في:
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 5 -
يقول نولدكه إن حماد هو الذي اختار المعلقات، وهو في هذا يتابع ما قاله ابن النحاس في أوائل القرن الرابع الهجري، وليست بنا حاجة هنا إلى أن نعيد ما قلناه في صدد رأي ابن النحاس. وإنما نكتفي بنقد ما يستدل به نولدكه من أن حماداً أقحم قصيدة الحارث بن حلزة ممالأة منه لمواليه بني بكر، ودفعاً منه لقصيدة عمرو بن كلثوم في الافتخار بتغلب. فنولدكه يرى في هذا دليلاً على أن حماداً هو الذي اختار المعلقات. وهو دليل لعمري ضعيف. فقد كان يستطيع حماداً ألا يختار قصيدة عمرو، لو كان هو الذي اختار المعلقات. ولكنه لم يغفلها أو لم يسعه إغفالها، لأنه كان يجمع مشهورات القصائد، أي القصائد التي اختارتها العرب وفضلتها، وفيها قصيدة عمرو بن كل ثوم. وهكذا يكون دليل نولدكه دليلاً عليه لا له. وأما ما يقوله من أن الحارث بن حلزة لم يكن شاعراً مبرزاً، وأن حماداً أقحمه بين أصحاب المعلقات إقحاماً، فنحن نورد عليه اعتراضين: الأول أن ابن سلام الجمحي صاحب طبقات الشعراء يجعل عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة بن شداد في طبقة واحدة، هي الطبقة السادسة من طبقات الشعراء الجاهليين؛ والثاني أن الحارث بن حلزة كان زعيم قومه كما كان عمرو بن كلثوم زعيم قومه، وأن قصيدتيهما استفاضتا بين العرب له ذا السبب. وليس في الاعتراض الثاني مطعن في شعر الشاعرين، وإنما نريد به الدلالة على أن مكانة القائل تغني عن جودة القول في مجال الشهرة والذيوع.
فالحارث إذن من شعراء المعلقات أصلا. ويؤيد هذا ما يقو له نولدكه نفسه من أن ابن عبد ربه، وابن النحاس (فيما يقوله القدماء)، قد قبلا المعلقات السبع كما جاء بها حماد، ولم يبدلا فيها شيئا من شئ. ومعنى هذا أنهما لم يجدا مطعناً في جمع حمادٍ المعلقات، ولم يريا ما يراه نولدكه من أنه أقحم الحارث بن حلزة إقحاماً. وهما من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، كما سبق ذكره؛ فهما إذن قريبا عهد بعصر حماد (المتوفى سنة 155 أو 156(649/18)
هـ). وأما ما يذكره صاحب جمهرة أشعار العرب من أن المفضل قال: (القول عندما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم، وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات، وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمر بن كلثوم وطرفة بن العبد)، ومن أنه قال: (هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط، ومن زعم غير ذلك فقد خالف الجمهور) أما ما يذكره صاحب جمهرة أشعار العرب من قول المفضل هذا، فلا يمكن الاعتماد عليه، لأنه ظهر - كما يقول نولدكه نفسه - أن صاحب الجمهرة غير ثقة، وأنه إنما انتحل اسم أبي زيد القرشي ليخدع الناس عن نفسه. فالمفضل وأبو عبيدة، وهما معاصران لحماد، لم يخالفاه إذن في شعراء المعلقات ولم يجعلا النابغة والأعشى مكان عنترة والحارث بن حلزة؛ أو لم يثبت أنهما خالفاه.
فقد استبان إذن زيف رأي نولدكه؛ واستقام لنا ما قلناه من أن العرب القدماء هم الذين اختاروا المعلقات وفضلوها على غيرها، وأن حماداً هو الذي جمعها بعضها إلى بعض وجعل منها جملة معروفة متداولة. وما قلناه في رأي نولدكه يمكن أن نقوله في آراء من شايعه من المستشرقين، وأمثال أرندنك (الموسوعة الإسلامية، مادة حماد الراوية) وبروكلمان (كتابه المشهور، ج1 ص 18، وتكملة ج1 ص 34) وغيرهما.
جمع حماد المعلقات إذن. بل إنه جمعها كما سمعها، فلم يصح عنه فيها انتحال.
كذلك روى حماد معظم شعر امرئ القيس. ففي المزهر (ج2 ص 205) أن الأصمعي قال: كل شئ في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية، وإلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو ابن العلاء.
(ج) إشهاره بالانتحال
اشتهر حماد بالانتحال، وهو ما سنناقشه في الفصل الآتي من البحث. وإنما نكتفي هنا بحصر الأقوال والأخبار التي توردها كتب القدماء في صدد انتحاله، لتكون هذه الأقوال والأخبار موضع تمحيصنا فيما بعد.
أقوال العلماء فيه
1 - في الأغاني (ج5 ص 172) ومعجم الأدباء (ص 140) وخزانة الأدب (ص 131)(649/19)
أن المفضل الضبي قال: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسد فلا يصلح أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطي في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب؛ لا، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
2 - وفي الأغاني أيضا (ص 174) أن خلف الأحمر قال: كنت آخذ عن حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها.
3 - وفي الأغاني أيضاً (ص 164) ومعجم الأدباء (ص 140) أن الأصمعي قال: كان حماد أعلم الناس إذا نصح (يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار).
4 - ويقول ابن سلام في طبقات الشعراء (ص 23 - 24)، وينقل عنه السيوطي هذا في المزهر (ج1 ص 87)، أنه سمع يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر.
5 - وفي المزهر (ج2 ص 205) أن أبا حاتم قال: كان بالكوفة جماعة من رواة الشعر مثل حماد الراوية وغيره، وكانوا يصنعون الشعر ويقتنون المصنوع منه وينسبونه إلى غير أهله:
6 - ويقول ابن سلام (ص23)، وينقله عن السيوطي في المزهر (ج1 ص87): وكان أول من جمع العرب وساق أحاديثها حماد الراوية؛ وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار.
أخبار انتحاله
1 - يذكر أبو الفرج (ص 172 - 173)، وينقل عنه البغدادي (128 - 129)، أن أمير المؤمنين المهدي دعا المفضل الصبي وقال له إني رأيت زهير بن أبي سلمى أفتتح قصيدته بأن قال:
* دع ذا وعدِّ القولَ في هرم *
ولم يتقدم قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت في هذا شيئاً، إلا أني توهمته كان في قولٍ يقوله أو يروّي في أن يقول شعراً قال: عد إلى مدح(649/20)
هرم دع ذا، أو كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال: عد ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعدّ القول فيهرم؛ وأن المهدي دعا بعد ذلك حماداً وحده، فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل. فقال ليس هكذا قال زهير أمير المؤمنين، قال: كيف؟ فأنشده:
* لمن الديار بقنّة الحجر *
الأبيات الثلاثة.
* دع ذا وعدّ القول في هرم *
البيت؛ وأن المهدي أطرق ساعة، ثم أقبل على حماد، فاستحلفه على هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقرْ له حينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمرهما وكشفه.
2 - وفي الأغاني (ص174 - 175)، وخزانة الأدب (ص131 - 132) أيضاً أن الطرمّاح بن حكيم قال: أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة، وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي:
* بان الخليط يسحُرة فتبدّدوا *
وهي ستون بيتاً، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: هذه لك؟ قلت نعم، قال: ليس الأمر كذلك، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها فيها في وقته.
3 - وفي الأغاني كذلك (ص 173) أن حماداً قدم على بلال ابن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال جيدا وليس له: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله؛ فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له؛ إن لي إليك حاجة، قال: هي مقضية، قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري، قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.
4 - وفي طبقات الشعراء (ص23)، والأغاني (ج2 ص50 - 51، وج5 ص 172)، والمزهر نقلا عن ابن سلام (ج1 ص87)، أن يونس بن حبيب قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئاً؟ فعاد إليه، فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى، فقال: ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس.(649/21)
5 - وفي المزهر (ج1 ص 87) أن عمرو بن سعيد الثقفي قال: كان حماد الراوية لي صديقا ملطفا، فقلت له يوما: أمل على قصيدة لأخوالي بني سعد بن مالك، فأملى علي لطرفة. . . وهي لأعشى همدان.
6 - وفي المزهر أيضا (ج2 ص 205 - 206) أن سعيد ابن هُرَيمْ البرجمي قال: حدثني من أثق به أنه كان عند حماد حتى جاء أعرابي، فأنشده قصيدة لم تعرف ولم يُدرَْ لمن هي، قال حماد: اكتبوها. فلما كتبوها وقام الأعرابي قال: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة.
فهذه أقوال ستة وأخبار ستة توردها كتب القدماء في صدد انتحال حماد، وهي كل ما وجدناه فيها. ونحن نضيف إليها هنا ما يقوله صاحب العقد الفريد (ج4 ص402 - 403ط المطبعة الأزهرية): (وكذلك كان يفعل حماد الراوية، يحقق الشعر القديم ويقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتا فجازت عنه إلا الأعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. . . قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال
أنكرتني وما كان الذي نكرت ... منى الحوادث إلا الشيب والصلعا
(للبحث بقية أخيرة)
السيد يعقوب بكر(649/22)
عالم ما بعد القنبلة
للأستاذ نقولا الحداد
بعد ساعة أو بضع ساعات من سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما كان الجنس البشري كله مدهوشاً من هذا الحادث الهائل المفاجئ - أجل مفاجئ - من ألوف الطائرات ترمي ألوف الأطنان من المتفجرات فتدك أحياء المدن حياً حياً إلى طيارة واحدة ترمي قنبلة واحدة تزن رطلا واحداً، فتدك مدينة واحدة عظيمة في لحظة واحدة دكَّا فظيعاً - خبر لا يكاد يُصدَّق. ولكن العالم كله صدقه، لأن هوله لمع في جميع البلدان وأقام البرهان وحتَّم الإيمان وضعضع البهتان. والمرء يجزع من خوارق الحدثان التي تمثل في مخيلته قصص الجان.
بقيناً انتقل العالم من عناء مناوشة المتفجرات إلى تحت سلطان الذرة الحاسم؛ بكلمة واحدة من لسان الأورانيوم خرّت اليابان على ركبتيها ضارعة مستغيثة تلتمس الرحمة والرفق.
لو توقف مخترعو قنبلة الذرة منذ شرعوا في محاولة صنعها لخرت ألمانية ساجدة منذ سنة 1940 وحُقِنتَ دماء كثيرة.
أصبح البشر الآن خائفين على مدينتهم أن تبيد بتاتا، وعلى حسبهم أن ينقرض كما انقرض قبله الدينوسور وحيوانات أخرى.
صار الناس يحسبون حساب المستقبل الجديد - نعم سيكون المستقبل كله جديداً. وسيصبح حاضرنا كأنه ماضي ما قبل التاريخ كما كان العصري الحجري بالنسبة إلى عصرنا ما قبل التاريخ.
عصر مجد الكيمياء انقضى وجاء عصر سؤدد الذرة الكهربي. وأصبح اكتشاف الكهربائية درجة للصعود إلى عالم الذرة، كما صار عصر البخار كالحمار لدى عصر الطيار.
القنبلة الذرية لم تفتح فصلا جديداً في كتاب العلم بل فتحت دائرة معارف جديدة، وفتحت فصلا جديداً في الثقافة، سيضاف إلى مناهج الدراسة في الجامعة منهاج جديد للتخصص في (علم الذرة).
في عام أو بضعة أعوام سيرى طلبة الطبيعية والكيمياء لديهم كتاباً مطولا في علوم الذرة - بناؤها وتركيبها وتحليلها ووظائف أعضائها وقواها ومفاعيلها إلى غير ذلك. ولا بد من(649/23)
دراستها، لأنها ستصبح السبيل الوحيد لفهم الألفية الكيمية والتيار الكهربائي ولتبسيط الكيمياء والكهرباء. وسيلقب الناجح في علم الذرة بكالوريوس الذرة، أو أستاذ الذرة، أو دكتور الذرة، وأخيراً فيلسوف الذرة.
مسكين طالب العلم في العصر الجديد، سيمتد عمر دراسته عاماً أو عامين أو أكثر. . . لا تجزعنَّ يا بنيَّ، لأن الحقائق التي وضحت سهلت الدراسة
لا يصح أن نسمي هذا العصر الجديد عصر الأورانيوم، لأن تحطيم الذرة لاستخراج الطاقة منها لن يقتصر على الأورانيوم وحده، بل سيتناول العناصر الأخرى الواحد بعد الآخر. اليوم تحطم الأورانيوم وبعده الرصاص، ثم الحديد، ثم الكربون، وربما تحطم ذرات الهيدروجين أخيراً.
ستتحطم ذرات القلم الذي في يدي، وذرات الورق الذي بين يديك، وذرات الكرسي الذي تقعد عليه ستكون كل ذرة في الكون قابلة التحطيم، كما أن ذرات عناصر الشمس متحطمة تباعاً ومنتشرة حطامها في الفضاء فوتونات أي ضوئيات. ولولا حطام ذرات الشمس المتناثرة في الفضاء لما رأينا نوراً ولا دفئنا بحرارة. لسوف تذوب الشمس حطام ذرات في الفضاء، كما يذوب الشمع أمام النار. وكذلك سيكون مصير جميع الأجرام تتناثر كلها فوتونات في الفضاء اللامتناهي. هي من الأثير وإلى الأثير تعود. وربما تجدد تكون الكون بعدئذ في دورة أخرى، والله أعلم.
سيصبح تحويل معدن إلى معدن أسهل من تحويل اللبن إلى كوتشوك، والقطران إلى روائح وألوان. ثم تكون القوة أطوع ليد الإنسان من الكلب الأمين أو الحصان الودود. قد يمكن الإنسان أن يطير حول الكرة الأرضية تحت شمس الظهر، ويبقى تحت شمس الظهر حتى يجد نفسه قد عاد إلى مطاره ولا يخزن معه من القوت إلا قدر الحمصة في علبة سيجارة. وكذلك يستطيع بزورقه أن يمخر البحار الخمسة بقوة هذه الحمصة، ويطوف جميع بقاع الأرض في سيارته بقوة هذه الحمصة
وسيرى حمصات الأوررانيوم أو الراديوم أو غيرها تدير معامل الصناعات على اختلاف أنواعها. نعم سيرى الإنسان نفسه سيد الطبيعة بالفعل - يهيج البحار ويسكتها، ويجري الأنهر ويحبسها، ويستنزل الأمطار ويكفها - يتصرف بالطبيعة كما يشاء.(649/24)
ولكن وا أسفاه سيبقى هناك شئ لا يستطيعه الإنسان، يسيطر على الأورانيون ويتسلط على المعادن ويعتقل القوة العظمى. ولكن هناك شيئاً لا يستطيعه، لا يستطيع أن يملك عنان الطبع البشري! يستطيع أن يقهر قوات الطبيعة، ولكنه لا يستطيع أن يقهر شهوته. يستطيع أن يكبح جماح الحر والبرد الريح والبحر والعاصفة، ولكنه لا يستطيع أن يكبح جماح رذيلته وشروره.
يكون سيد المادة، ولكن شهوته تبقى سيدته!
يشمخ على عوامل الطبيعة، ولكن نزعاته تشمخ عليه!
يركب متن الطاقة الذرية، ولكن شيطان أهوائه يمتطيه!
يحطم الذرة، وأخيراً الذرة تحطمه!
أصبح الإنسان الحيواني عند مفرق طريقين: إما أن يعقل ويعتقل القوة الذرية فيستخدمها لمتعه. أو أنه ينتحر بها.
المدنية الآن في نشوة من خمر انتصارها على الطبيعة. فان استطاعت أن تصحوا من هذه النشوة قبل أن تهوي إلى هاوية الفناء، وأن تجعل النظم الاجتماعية والسياسية علما بقواعد وأصول لتسير عليها، كما جعلت السنن الطبيعية علوماً لها، نشطت مدينة جديدة في فردوس من السعادة لا يفرغ منها
نقولا الحداد(649/25)
جمعية المعارف المصرية
لجنة لإحياء الكتب العربية في القرن التاسع عشر يرعاها ولى عهد
الخديو (محمد توفيق باشا)
للأستاذ محمود الشرقاوي
كنت أبحث عند بعض الوراقين الذين لم يعد يقصدهم أحد سوى القليلين من عشاق القديم الذين أصبحوا ندرة غريبة في مصر فعثرت عند كتبي يجاور الأزهر على جزأين قديمين من كتاب (أسْد الغابة في معرفة الصحابة) للإمام علي بن الأثير فاشتريتهما.
وعند المطالعة استوقف نظري ما كتب في ختام الجزء الرابع وهو: (بعون الله وتوفيقه تم الجزء الرابع من أسد الغابة في عاشر رمضان سنة 1286 يتلوه الجزء الخامس وبه إن شاء الله تعالى يتم الكتاب وأوله حرف النون المطبوع على ذمة جمعية المعارف المصرية البالغ أهلها الآن تسعمائة وثمانين).
فما هي جمعية المعارف المصرية هذه؟
لم أستطيع بوسائلي المحدودة سوى معرفة شئ قليل عن هذه الجمعية التي أعتقد أنها كانت لجنة خاصة لإحياء ونشر الكتب العربية القديمة وأنها كانت موجودة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. وكان لهذه اللجنة نظام خاص يجعل للمشتركين فيها أو (لأهلها) على حد تعبير الفقرة المذيل بها الجزء الرابع من أسد الغابة حقا في شراء مطبوعاتها بقيمة التكاليف فقط، وأن أعضاء هذه الجمعية بلغوا تسعمائة وثمانين في سنة 1286 هجرية وهي تقابل سنة 1869 ميلادية.
وكانت جمعية المعارف المصرية هذه تطبع أمهات الكتب العربية القديمة وتبيح لأعضائها شراء نسخة واحدة منها (بأصل المصروف) كما تبيح لهم شراء ما يشاءون من النسخ بثمن يزيد عن أصل المصروف ولكنه ينقص عن الثمن الذي يشتري به من ليس عضواً في الجمعية. وهي إلى جانب ذلك تبيع مطبوعات غيرها وتبيعها لأعضائها بثمن أقل مما تبيعها به لغيرهم. ويستطيع القارئ أن يقدر ما في ذلك من التنظيم والروح التعاوني الترغيب في عضوية الجماعة إلى جانب ما فيه من روح التسامح والرغبة في نشر المطبوعات ولو لم تقم هي بطبعها، وما فيه أيضاً من الروح التجاري السليم. هذا كله فوق(649/26)
هدف الجمعية الأساسي وهو طبع أمهات الكتب العربية القديمة ونشرها. وقد نشرت الجمعية في ملحق خاص في الجزأين الرابع والخامس من أسد الغابة (بيان الكتب التي تم طبعها على ذمتها إلى الآن). ومنها ما هو خاص بعلوم اللغة والأدب مثل تاج العروس وألف باء، ووسائل بديع الزمان، وعنوان المرقص والمطرب. ومنها ما هو خاص بالتاريخ مثل الفتح الوهبي شرح تاريخ العتبي المشهور باليميني، وتتمة المختصر في أخبار البشر لابن الوردي. ومنها ما هو خاص بتراجم الصحابة مثل أسد الغابة. ومنها ما هو خاص بالشعر مثل التنوير شرح سقط الزند للمعري، وديوان ابن خفاجة الأندلسي وشرح خالد الأزهري على البردة. ومنها ما هو خاص بالفقه مثل حاشية أبو السعود علي منلا مسكين.
ومن مراجعة الملحق الذي نشرته الجمعية في ختام الجزء الخامس من أسد الغابة ومقارنة بعضه بالبعض الآخر يصل الباحث إلى حقائق جديرة بالذكر والتأمل. فهي تذكر أولا (أثمان الكتب التي تباع لمن يرغب من أهل الجمعية في أكثر من النسخة التي يأخذها بأصل المصروف) فتذكر أثمانها وتوقيتاً لهذا الأثمان يتصاعد معه الثمن كلما أبطأ المشتري في الشراء. فمثلاً رسائل بديع الزمان تباع لأهل الجمعية بخمسة عشر قرشاً لغاية ذي الحجة سنة 1286 ثم يزيد قرشين لمن يشترى في شهر محرم سنة 1287 وقرشين آخرين لم يشتري في شهر صفر الذي يليه ثم يزيد بعد ذلك إلى خمسة وعشرين قرشا لمن يتأخر في الشراء لغاية ربيع الأول. وهذا الكتاب نفسه يباع (لمن يرغب وهو خارج عن جمعية المعارف) بسبعة عشر قرشاً لغاية ذي الحجة المذكور ثم يزيد قرشين عن كل شهر من الشهرين التاليين له ثم يباع بثلاثين قرشاً لمن يتأخر بالشراء منهم لغاية ربيع الأول. وكتاب ألف باء يباع لأهل الجمعية في الشهر الأول بخمسين قرشاً ثم يزيد خمسة قروش عن كل شهر بعده لغاية صفر، ويباع للخارج عن جمعية المعارف بستين قرشاً في الشهر الأول ثم يزيد عشرة قروش من كل شهر بعده لغاية صفر وهكذا ثم يلي ذلك بيان (أثمان الكتب المطبوعة على ذمة أربابها وتباع لمن يرغب من أهل جمعية المعارف) وبيان آخر (بأثمان الكتب تعلق جمعية المعارف وتباع لمن يرغب وهو خارج عن جمعية المعارف) وبيان أخير (بأثمان الكتب المطبوعة على ذمة أربابها وتباع للخارج) وفي هذه البيانات كلها مراعاة أهل الجمعية والسابقين بالشراء. ونص على سعر خاص مخفض (لمن يكتب(649/27)
ورقة بأنه التزم بأخذ نسخة أو أكثر ويدفع الثمن عند استلامها).
هذا شئ عن مطبوعات الجمعية ونظامها في البيع لأعضائها وغيرهم وقد بلغ عددهم كما ذكر في ختام طبعتها للجزء الرابع من أُسْد الغابة تسعمائة وثمانين وهو عدد لا شك في ضخامته. وكان مقرها القاهرة. وذكر في ختام الجزء الخامس من الكتاب. وهو الأخير أنه (طبع في المطبعة الوهبية بتصريح الراجي فضل ربه الوهبي مصطفى وهبي في أواسط ذي الحجة سنة ألف ومائتين وثمانين) وهذا التاريخ ليس هو تاريخ إنشاء الجمعية بل من المقطوع به أن إنشائها سابق له. فقد كانت في هذه السنة (1286هـ 1869م) أتمت طبع طائفة من الكتب يبلغ عددها عشرة ظهرت في اثنين وعشرين جزءاً مما يحتاج إنجازه إلى زمن قد يمتد إلى سنين إذا راعينا أحوال ذلك الزمان والوقت الذي يحتاجه فيه للطبع والتصحيح والإخراج. ولا أدري هل كانت المطبعة الوهبية هذه مطبعة خاصة بالجمعية أم لا. . .؟. . .
أما قيمة جمعية المعارف المصرية فيمكن تقديره بذكر ضخامة الرقم الذي سبق ذكره من عدد أعضائها ويمكن تقديره أيضاً إذا ذكرنا هذا النص عن رياستها ووكالتها (. . . جمعية المعارف المتشرفة بحماية الشهم الهمام، والأمير الساطع لآلاء كمله في الأنام، نور حديقة الدهر والزمان، ونور حديقة العصر والأوان، صاحب المجد والسعد، المتحلي بحلية ولاية العهد، المؤيد بعنايات ذي القول والتنسيق، قطب فلك السعادة والدولة محمد باشا توفيق، أدام الله إجلاله، وزاد قبوله وإقباله. والمشكلة بهمة وكيل تلك الجمعية، الباذل جهده في نشر الفضائل السنية، ونفع الأنام بكل تحفة بهية، المتسم بسيما المعارف والعوارف، محمد باشا عارف) وهذا النص مكتوب في ختام الجزء الأخير من أسد الغابة. .
هذا شئ قليل عن جمعية المعارف المصرية التي ألفت في القرن التاسع عشر في مصر برعاية ولي عهدها محمد باشا توفيق (الخديو توفيق فيما بعد) وهذا بعض جهدها ونظامها لإحياء التراث العربي القديم ونشره.
وهذا بحث أعتقد أنه محتاج إلى كثير من التوسع والاستيفاء أرجو أن أوفق لهما في مقبل الأيام.
محمود الشرقاوي(649/28)
في الأدب الإنكليزي
ماثيو
بقلم الأستاذ خيري حماد
مقدمة:
لقد كان القرن التاسع عشر بثوراته المختلفة ونهضاته العديدة باعثاً عدداً من الرجال الذين اشتهروا في شتى مناحي الحياة من سياسة واقتصاد، وفلسفة وتشريع، وأدب وحرب. ولكل دولة من الدول الأوربية عدد من الرجال الذين تفاخر بهم غيرها من سائر أمم الأرض. فظهر في بريطانيا في هذا القرن طائفة من عظام الرجال فاقوا أقرانهم في مختلف الميادين وأخص بالذكر منه ميدان الأدب.
بزغ نجم كثير من الشعراء والروائيين والنقاد والفلاسفة الذين رفعوا أسم انكلترة عالياً في ميدان العلم والأدب فرأينا بيرون وشلي وكيتس وتنسون وبراوننج يسعون في رفع شأن الشعر وإعلاء شأوه. وشاهدنا أوستن واليوت وريشاردسون وستيفنسن وسكوت وهاردي ينهضون بالقصة نهضة لا مثيل لها في تاريخ الأدب الإنكليزي. وطالعنا المقالات النقدية العديدة التي كان يكتبها عدد من مشاهير النقاد أمثال هازلت وجفريز وكارليل وأرنولد. وأما الفلسفة فقد تناولها من كبار المفكرين الإنكليز أمثال كارليل ودارون وارنولد.
لم تكن قريحة ارنولد مقتصرة على الشعر بل تعدتها إلى المقالات والفلسفة والتربية والنقد. ولا غرو أن يحسبه الكثيرون خير ممثل في انكلترة في القرن التاسع عشر.
ولقد ظهرت هناك منذ وفاته كثير من الكتب التي درسته درساً مسهباً. أضف إلى ذلك المقالات الجمة التي تناولت كل ناحية من نواحيه المختلفة فبدأت شهرته بالازدياد وتفوقه يظهر على سائر أقرانه منذ أن ووري في التراب فأصبح الآن معروفاً لدى جميع الأدباء والكتاب من سائر أمم الأرض المتحضرة.
حياته
ولد ماثيو ارنولد في مدينة ليلهام من ولاية مدلسكس في اليوم الخامس والعشرين شهر ديسمبر سنة 1822، وكان والده الدكتور توماس ارنولد الذي اشتهر برآسته لمدة طويلة(649/30)
مدرسة ركبي وكان ماثيوا ارنولد البكر من تسعة أطفال أحبهم والدهم الحب الجم لاشتغاله في عالم التربية والتعليم مدة ليست بالقصيرة. وأما والدته ماري بنزور فقد عاشت ثلاثين سنة بعد وفاة زوجها. وكانت على جانب عظيم من الثقافة والعلم مما قربها إلى ولدها النابغة فظل على ولائه لها وحبه إياها طوال حياته الكثيرة المشاغل.
وفي سنة 1826 انتقلت العائلة إلى (ركبي) وظل ارنولد في ليلهام يتتلمذ على خاله القس المحترم جون بكلند ولم يكن الدكتور ارنولد ميالا إلى الضواحي التي تحيط بمدينة ركبي، ولذلك ابتاع منزلا في تكس هاو حيث كان يقضي أيام الآحاد والراحة بين زوجته وأولاده. وكان لقربهم من المدينة التي عاش فيها وليم ورد رورث أثر عظيم في حياة الطفل ماثيو.
وفي سنة 1836 أرسل ماثيو إلى مدينة ونيشستر حيث درس عل الدكتور موبرلي ولكن لم تنقض سنة واحدة على سكناه هذه المدينة حتى أرسل والده في طلبه وأدخله مدرسة ركبي حتى يكون تحت رعايته وإشرافه. وقد بقي في هذه المدرسة حتى أتم دروسه فيها؛ فأرسله والده إلى أكسفورد سنة 1846 ليتم تحصيل علومه العالية هناك.
وتوفي الدكتور ارنولد سنة 1842 بينما كان ولده الشاب يقضي أيام شبابه في جامعة أكسفورد بين أصدقائه وخلانه كلكوردج وشارب. وكان لهه ميل شديد نحو الطبيعة وجمالها فيقضي بين خمائلها الساعات الطوال حالما في أشياء كثيرة لا حد لها. وقد نال بين زملائه وأساتذته سمعة حسنة وذكراً طيباً وحسبه الجميع نابغة الجامعة وعلمها الفذ.
وفي سنة 1843 نال جائزة شعرية بقصيدة نظمها يتحدث فيها عن كرمويل، ولم تكن هذه القصيدة خير قصائده في هذا العصر بل ظهرت له أشعار أخرى كانت أكثر بلاغة وأوسع خيالا؛ ولو قارناها مع قصيدته (الريك في لغدت من سقط المتاع. وقد نظم هاتين القصيدتين على وزن واحد هو ما يسمونه في الإنكليزية الذي اشتهر أمره في العصر الكلاسيكي فنظم فيه (بوب وتلامذته من بعده، وفي كلتا هاتين القصيدتين نرى سلاسة وعذوبة يندر أن توجدا في شعر شاب لم يتجاوز العشرين من عمره.
ونعرف من مصادر عدة أن ارنولد كان عضوا في جمعية جدال ونقاش تدعى (جمعية ولم يكن في صفه من المبرزين على أقرانه بل عد من الطبقة المتوسطة من الطلبة. ولكنه ما كاد ينال شهادته حتى منحته الجامعة حق المجاورة في كلية اورل سنة 1845 التي كانت(649/31)
تعد من أعظم الجوائز التي تقدمها الجامعة إلى النابهين من طلبتها.
وبعد أن انتهى من دراسته في جامعة أكسفورد نراه ينتقل إلى مدرسة ركبي ليدرس فيها العلوم والآداب القديمة من إغريقية ولاتينية، ليصبح سكرتيرا للمركيز لانسدون الذي كان من أكبر رجال السياسة في عصره وله الفضل كله في إصلاح ذات البين بين صفوف حزب الأحرار. وفي تموز سنة 1849 ظهرت أولى أناشيد في مجلة (الاكزامنر حيث انتشرت انتشاراً عظيما. وقد أهدى هذه القصيدة الرائعة إلى الشعب المجري. ولم تمض سنة واحدة بعد ظهور هذه الأغنية حتى أخرج ديواناً شعرياً لم ينل من النجاح القسط الذي كان يتوخاه مؤلفه.
وفي الرابع عشر من شهر نيسان سنة 1851 نصب ارنولد كمفتش لمدارس المعارف، وكان هذا التعيين نتيجة للمساعي التي بذلها صديقة المركيز. ولم يكن ثمة رجل يستطيع أن يقوم بأعباء هذا المنصب كما قام به شاعرنا ازنولد فقد كان بغريزته ميالا إلى الأطفال، فهو لذلك جد قادر على التعامل معهم، ناهيك عن اطلاعه الواسع على قوانين علم التربية وأصوله. مما جعله يفكر في القيام بمشاريع عدة لترقية علم التربية في المدارس التي كان يقوم بالإشراف عليها. وسنتناول الإصلاحات العديدة التي قام بها في عالم التربية والتعليم عندما نبحث نظرياته فيهما.
وقد تزوج من فرانسيس وايثمان سنة 1851 بنت أحد القضاة الشهيرين في عالم القضاء. وكانت حياته الزوجية مثلا أعلى للحياة السعيدة الدائمة. فقد ظل وزوجه ترفرف عليهما أعلام السعادة والهناء حتى آخر أيامهما. وفي سنة 1857 انتخب أستاذاً للشعر في جامعة أكسفورد. وكان ينافسه في نيل هذا المنصب القس المحترم جون أرنست بود مؤلف كتاب: (مقطعات هيرودتس) وفي الحق أن نيله لهذا المنصب كان أعجوبة في حد ذاتها إذ أن جميع من تبوءوه من قبل كانوا من رجال الدين وحماة اللاهوت يلقون محاضراتهم باللغة اللاتينية.
ولم تكن الرواتب التي تدفعها الجامعة للأستاذ ذات قيمة كبيرة فما ازداد راتبه في السنة عن المائة جنيه، ولكن مشاغله في الجامعة لم تكن بنفس الوقت على جانب عظيم من الكثرة. فكان يلقي محاضراته في اللغة الإنجليزية بأسلوب كلاسيكي جذاب، وقد انحصر موضوعه(649/32)
في عوامل الأدب الحديث إذ جعل للأدب اليوناني في عصر بركليس صلة وثيقة بالأدب الإنجليزي في عصره وقد طبعت أولى محاضراته في سنة 1869.
ونراه في بدء سنة 1858 يبتاع منزلاً صغيراً في ساحة ستشتر حيث يسكن للمرة الأولى في منزل ثابت. ولكن الظروف لم تكن لتتيح له أن يهدأ ويستقر فكانت وظيفته كمفتش للمعارف تقتضي كثرة الترحال والسياحة، ومن أسفاره العديدة سفرته إلى برنجهام حيث سمع (جون برايت) يلقي إحدى محاضراته فكتب ارنولد إلى صديق من أصدقائه (إن برايت محاضر من الطبقة الأولى يمتاز بارتفاع صوته ورباطه جأشه ولكن السهولة لم تكن من صفاته المميزة. فهو لا يتوقف ولا يتلعثم، بل لا يندفع الاندفاع الذي أرغبه في الخطباء أمثاله. ومع ذلك كله فهو أخطب بكثير من غلادستون)
هجر أرنولد الشعر وأخذ يهتم بالنثر والكتابة فظهر أول مؤلفاته في شكل رسالة سياسية طبعها سنة 1859 وأسماها (انكلترة والمشكلة الإيطالية) وفي السنة نفسها انتدبته الحكومة لدراسة أنظمة التعليم في الممالك الأوربية حيث زار فرنسا وبلجيكا، وهولندا وسويسرا وبدمنت. وقد أعجب بفرنسا الإعجاب كله. وكانت مدينة باريس أحب إلى فؤاده من جميع المدن التي زارها حيث شعر بالراحة والدعة. وهناك اجتمع بلورد كوبي مدة لا تقل عن ثلاثة أرباع السنة بحث أثناءها كثيراً من الأمور ختمها بقوله: (لقد شاركني الورد في الاعتقاد بأن الفرنسيين يتفوقون على جيرانهم الألمان في كل أمر يتنافسون فيه).
ولما رجع إلى انكلترة انظم إلى زمرة متطوعي الملكة. ولكنه لم يكن قط ميالا إلى استخدام البريطانيين في الجيش والجندية. وكانت نظريته في الجندية غريبة كل الغرابة لا تنطبق على الحقيقة، إذ أنه كان لا يعتقد بوجوب المساواة في الجيش، فالطبقة الوسطى يجب أن تمنع من الاختلاط بسائر الطبقات الأخرى.
ونراه في سنة 1864 يجتمع بمستر دزرائيلي السياسي البريطاني المشهور في قصر البارون دي روتشيلد. وكان هذا الداهية البريطاني يميل كل الميل إلى الأدباء ويحترمهم احتراماً كلياً. ولذا عامل ارنولد بلطف زائد وخاطبه بقوله: (إن لك مستقبلاً باهراً تناله بجدارة واستحقاق).
وفي سنة 1867 استقال ارنولد من منصبه في جامعة أكسفورد حيث خلفه السير فرانسيس(649/33)
دويل الشاعر الإنكليزي المعروف. وكان ارنولد مشغوفاً جداً بهذا المنصب الذي تخلى عنه، ولذا نراه شديد الأسف لاضطراره للاستقالة من عمل أحبه كل الحب.
وفي سنة 1865 انتدبته الحكومة مرة أخرى للتفتيش على المدارس الأوربية المختلفة. وكان يقابل هذه المهام بفرح وسرور زائدين مما جعل زملاءه يختارونه لكتابة التقارير عن رحلاتهم وعما يشاهدونه في المدارس المختلفة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا. وكان لعدم إلمامه بفن الرسم والبناء أثر في تقاريره فنراه غير معجب بإيطاليا كما كان ينتظر منه. وفي مدينة فلورنسة ينتقد الإيطاليين لتقليدهم الفرنسيين تقليداً أعمى
وفي أكتوبر سنة 1865 نراه في مدينة زوريخ حيث سمع لأول مرة بوفاة لورد بلمرستون فكتب رسالة إلى والدته يطلعها على أفكاره السياسية وعلى تحيزه الشديد لحزب الأحرار، فيقول في رسالته هذه إن اللورد بلمرستون لا يصلح مطلقاً لقيادة الأمة التي تسلم قيادتها كبت أو لبول أوربيل، فوفاته لا تحسب خسارة وطنية كبرى للأمة والشعب.
وفي نفس السنة نراه يتقدم لطلب وظيفة (مندوب الإعانات) ولم يكن في بريطانيا كلها من هو أجدر منه بهذا المنصب، ولكن العادة جرت أن تسند هذه المهمة إلى أحد رجال القانون. وكان الرجل المكلف له بانتخاب أحد المتقدمين لهذا المنصب صديق من أصدقاء ارنولد ومحبيه؛ ولكن تدخل غلادستون في الأمر حرمه هذه الوظيفة لمخالفته إياه في آرائه السياسية. وقد لازمه سوء حظه في السنة التالية حين تقدم لوظيفة خازن المكتبة في مجلس العموم البريطاني يؤازره نفر غير قليل من كبار الساسة كدزرائيلي وغيره. ولكنه فشل للمرة الثانية لمعارضة دينسون رئيس المجلس ومقاومته.
وفي سنة 1883 نراه يغادر إنكلترا إلى أمريكا ليلقي بضع محاضرات طلب الأمريكيون إليه إلقاءها. وكانت شهرته في هذه السنوات قد ازدادت وعمّت العالم الأوربي كله. وقد أم الناس على اختلاف طبقاتهم هذه المحاضرات فجمع قدراً غير يسير من المال ساعده على ترفيه نفسه والاعتناء بحياته بشكل جدي. وحين كان في أمريكا ذهب الرئيس برانت رئيس الجمهورية الأمريكية للاستماع إلى إحدى محاضراته حيث لم يع شيئاً مما قاله الخطيب. وكان ارنولد في الحقيقة خفيف الصوت تعوزه المقدرة الخطابية ولذلك ذهب إلى جامعة بوستن ليدرس هناك فن الخطابة فلم يلق نجاحا يذكر.(649/34)
وفي خريف سنة 1885 انتدبته الحكومة مرة ثالثة لدراسة أنظمة التعليم الابتدائي في ألمانيا وفرنسا وسويسرا. وكان الغرض الأساسي من رحلته هذه الإطلاع على المصروفات التي يدفعها الآباء عن أبنائهم، وعن مقدار المساعدة التي تقدمها البلديات للحكومة للقيام بهذا الأمر الحيوي. فكتب تقريراً ضافياً بلغة أضعف من اللغة التي كتب بها تقاريره السابقة.
وفي هذه السنة نفسها استقال من منصبه الحكومي طلباً للراحة. فكافأته الحكومة البريطانية جزاء ألقابه الكثيرة براتب سنوي كبير. وكان في هذا الحين قوي البنية سليم التركيب مما جعله يكثر من الكتابة في المواضيع السياسية التي تشغل أهل عصره. وفي سنة 1888 نراه يرحل رحلته الأخيرة إلى ليفربول للقاء ابنته العائدة من أمريكا حيث قضى نحبه بينما كان يعدو للحاق إحدى عربات الترام.
وقد أسف الناس لفقده أسفاً شديداً نظراً لهذه الخاتمة المحزنة التي لم يكن يتوقعها الناس لقوة بنيته وسلامة تركيبه.
فنه:
إن من الصعب علينا أن نتناول في هذه المقالة فن هذا الكاتب العبقري دون أن نلم بالنواحي العديدة التي نبه اسمه فيها، فقد كان حقاً رجلاً جامعاً لجميع فنون الأدب ونواحيه. وللبحث فيه بحثاً مسهباً علينا أن نرسم شخصياته المتعددة ونحللها على ضوء النقد والأدب فنراه كناقد بارع، وكشاعر رقيق، وكناثر سلس، وكسياسي حاذق، وكفيلسوف ديني شديد الغموض. ولنبدأ في بحثه كناقد أدبي فنرى أثره العظيم في عالم النقد.
نقده:
كان نقده شديد الغموض والأشكال، وكانت مقالاته في النقد التي ظهرت سنة 1865 العامل الأول في ظهور أمره كناقد أدبي وكأديب لم يرتفع اسمه في عالمي الشعر والنثر كما ارتفع في عالمه الثالث. وفي هذا الكتاب نراه يبحث أبحاثاً طريفة أحبها جميع قرائه، فطالعوها بشغف وإمعان. ومن المسائل الكثيرة التي بحثها في كتابه هذا مشكلة المجمع العلمي وهل من الفائدة في شئ أن تشاد مثل هذه المؤسسة في إنكلترا كما شيدت في فرنسا من قبل. لم يبين وجهة نظره في المسألة بل أخذ النقيضين ودافع عن كل منهما دفاعاً شديداً أخطأه(649/35)
الناس فحسبوه يبحث فيهما بحثاً جدياً خالياً من الفكاهة والدعابة، وبدأوا ينظرون إليها نظرة الفاحص الخبير ليروا ما يمكن الحصول بواسطتها على نتائج باهرة وفوائد مجدية.
(يتبع)
خيري حماد(649/36)
من أدب الرومان:
مذهب الصداقة
عند شيشرون
للأستاذ منصور جاب الله
في أعقاب غزو قيصر لبريطانيا، ضرب الدهر رجلا من أنبل رجالات روما في ابنته الواحدة، فعقد الحزن سحابة في بيته، وجاشت أفكار الرجل محلقة في سماء تسمو على هذه الأرض المليئة بالرزايا المشحونة بكل ما هو موجع أليم.
ذلكم هو شيشرون خطيب روما الأعظم الذي مات في نهايات عام 43 قبل الميلاد، وكانت حياته حجة للعالمين على إدراك جمال الصداقة وما توحي به من السعادة الدنيوية، فلقد كتب شيشرون أجمل وأوقع وأبلغ ما كتب عن الصداقة على وجه الزمان، وإذ قضت ابنته كانت سنة تتّزّيد على الستين وكان قد شهد جميع المنافسات والمنازعات السياسية، وتذوق لذاذات الحياة جميعاً.
وكان يعرف قيمة المال والثراء والصيت الذائع ولكنه لم يجعل لها الكفة الراجحة في ميزانه، وكانت الفلسفة التي استمدها من تجاريب حياته إبان المحنة تحتبس في هذه العبارة: (ضع الصداقة فوق كل الاعتبارات الإنسانية).
وعلى هذه الفقرة تفرعت كل كتاباته، فوصف فضائل الصداقة ومنافعها وحاجة كل إنسان إليها، والأسباب المؤدية إلى فقدانها. ولقن ذلك الأديب الروماني (جايوس ليليوس).
ولكن ليس من ريب في أن الفلسفة النبيلة الأصلية عن الصداقة إنما من بنات أفكار شيشرون
يتساءل شيشرون عمن يمكن أن يكونوا صدقاناً وأخلاء. ثم يجيب بأن الصداقة تكون بين الطيبين الأبرار. فإذا أنت استطعت أن تقنع نفسك بأن لك صديقاً، فأنت قد تحسب نفسك رجلا طيباً أو امرأة طيبة، وليست الصداقة لهؤلاء الذين ليسوا (طيبين)
ولكن من هم الطيبون البررة؟
هنالك مقياس اجتماعي يقيس به شيشرون مقدار (الطيبة) إذ يقول (هؤلاء الذين يعملون(649/37)
ويعيشون ليعطوا برهان الإخلاص والاستقامة والصفاء والكرم، هم الذين يتحررون من كل الأهواء والمواجد والسفَّة، وإن لهم قوة خلقية عظيمة).
ثم كتب عن اصطناع الصاحب، والأمور التي يخُتبر بها الصديق، والجمال الذي يستحسن في الصداقة والأمور التي لا بد من عملها لاصطناع الأصدقاء، فذهب بادئ الرأي إلى أن الصديق هو الفرد الذي لا يحتجن الإنسان من دونه سراً من الأسرار، ويضع فيه أسباب الثقة، ويرى ألا يخشى الصديق من الإفضاء لصديقه ببعض الذي يطويه بين جوانحه من سر مكبوت قد يكون كتمانه مما يؤدي ويضر.
كيف يتسنى أن تكون حياة تلك التي يقول عنها (أنيوس) (الحياة تستحق العيش) إذا لم تعتمد على إرادة طيبة متبادلة مع صديق؟ ماذا يكون أحلى من أن يكون لديك امرؤ تجسر على مناجاته فيما ترور به نفسك، كما تناجي نفسك؟).
ثم يستطرد إلى القول بأن الصديق هو الشخص الذي لا تتملقه مطلقاً.
(في الصداقة، ما لم تظهر قلباً خالصاً لا تستطيع أن تكون مخلصاً ولا راضياً بالحب ولا بالمحبوب، والتملق الذي أتحدث عنه إنما هو كفاح، وقد لا يقوى على النيل من أحد سوى الذي يتقبله ويغتبط به. وعلى ذلك لا توجد صداقة فيها جانب لا يروم سماع الصدق، وجانب مستعد للكذب).
والصديق هو الإنسان الذي يتمثل فيه الإنسان الشفقة الرحمة ويتبادلهما وإياه، ويحنو القلب على القلب، وتمتزج النفس بالنفس، فتنطاد بالقداسة إلى علو السماك، فيرى شيشرون في هذا التبادل العاطفي حجر الزاوية في الصداقة وقاعدتها وركازها
(ولم يزل الحب أبعد قوة بالتعاطف وبالبرهان على عناية الآخرين بتا، وبالألف الشديد نتوثب للحب، وتتألق المعجزة).
والصديق هو الشخص الذي نحب سواء استطعنا الحصول عليه أو عجزنا دونه. يقول شيشرون (نحن نعتقد أن الصداقة مرغوبة لا لأننا متأثرون بالأمل في الريح؛ ولكن لأن ربحها الكامل في الحب ذاته. والحب ليس شيئا آخر سوى الاحترام العظيم وشعور الميل الذي ألهم هذه العاطفة، وليس ببحث عنها لأنها حاجة مادية أو بمقصد الكسب المادي.
وأكثر الناس لا يعترفون بشيء مهما يكن أثره في التجربة الإنسانية ما لم يؤد إلى بعض(649/38)
الكسب، وينظرون إلى أصدقائهم كما لو كانوا ينظرون إلى قطيعهم - أو إلى مصالحهم كما يبغي أن نقول - وهكذا يخفقون في الحصول على أجمل شئ: تلك الصداقة الذاتية المرغوبة في نفسها ولنفسها).
والصديق هو المرء الذي تسر لنجاحه سروراً حقيقياً.
(كيف يمكن أن يكون سرورك في أويقات النجاح عظيما إذا لم يكن لديك من يكون حبوره عَدْل حبورك؟ والرزية لا بد أن تكون صعبة الاحتمال، فبغير الصديق تنوء بالثقل. فالصداقة تضفي بها لماعاً على النجاح، وتختزل من وقع البلية بالمشاطرة فيها)
والصديق هو الشخص الذي تعامله معاملة الندَّ في كل الأحوال ولو كنت تختلف عنه في نظر الناس.
(وأكبر شئ في الصداقة أن الأعلى درجة والأحط درجة لا بد أن يقفا موقف المساواة. . . ولذا فإن الأخير لا يحزن إذ يفوقه الأول ويبرعه في الذكاء أو الثراء أو في المنصب، ولزام عليك أن تبذل إلى صديقك ما قدرت عليه من المعونة.
والصديق هو الشخص الذي لا نشعر من نحوه مطلقاً بشبهة، ولا نشعر من نحوه باستخفاف.
(التباين والاستخفاف هما تجربتا الصداقة، وهما ينتجان كثيراً من أسباب الشدة أو الإهانة التي يكون من بعد النظر في بعض الأحيان تجاهلها، وفي بعض الأحيان شرح أسبابها، ثم احتمالها في كثير من الأوقات
(هناك أناس يصَّيرون الصداقة كريهة بحسبانهم أنفسهم مستهترين، وندر ما يحدث هذا - فيما خلا حالة الناس الذين يستأهلون الاستخفاف حقيقة - بيد أنه ينبغي لهم أن يتخلصوا من هذه الأفكار ليس بالكلام وحسب وإنما بالعمل.
(من سجايا الإنسان الطيب الذي يجب أن أسميه أيضاً الإنسان العاقل، أن يتمسك بهاتين القاعدتين في الصداقة. الأولى: ألا يدع هناك ادعاء أو نفاقاً، والثانية: ألا ينبذ الوشايات التي يفضي بها شخص آخر فحسب، وإنما يجانب هو أيضاً الشبهة والاعتقاد بأن صديقه يجترح خطيئة ما.
(لذلك ينبغي أن تضفي بشاشة أكيدة من الكلام والأخلاق التي تعطي للصداقة نكهة(649/39)
مستساغة)
ولزام أن نعمل عملا شاقاً لخلق الأصدقاء والحفاظ عليهم كما يعمل عملا شاقاً في أشغالنا.
ولقد اعتاد (شبيبيو) أن ينهي شكواه بقوله إننا نألم لكل شئ إلا للصداقة. وإن كل واحد يستطيع الإخبار بما عنده من الغنم والمعز، ولكنه غير مستطيع الإخبار بعدد أصدقائه، وذلك لأن الناس يلاقون المشاق في الحصول على الأوليين، ولكنهم لا يبالون باختبار الآخرين)
غير أنه قبل أن تعاهد صديقك يجب أن تكون حريصاً عليه (تستطيع أن تحب صاحبك بعد ما تمدحه، ولكن لا تثن عليه بعد أن تبدأ في حبه)
ثم ماذا يقول عن أصدقاء المدرسة عهد الطلب والتلمذة؟
والقاعدة في الصداقة أنها تكون بعد استقرار القوة وثباتها في السن والعقل، حتى الرجال الذين كانوا يكرسون حياتهم للصيد واللعب لا يحتفظون بأخلائهم في ذلك الطور إلا لأنهم مغرمون باللعب معهم)
وهب أن الرجل الذي تصاحبه يبدو في طور لا تستطيع معه أن تعايشه طويلا.
(روابط مثل هذه الصداقة لا بد أن تحل بارتخاء تدريجي في التوادٌ - والانحلال أولى من التمزق. ولزام أن تتخذ الحيطة لئلا يظهر أن الصداقة لا تطرح جانباً فحسب، وإنما تنمو مكانها العداوة الصريحة، ذلك لأنه ليس شئ أشد خزياً من أن تكون في حرب مع الشخص الذي قضيت معه مرة أويقات ود وصفاء)
ومع كل أخطار الاختيار الأرعن كانت نصيحة شيشرون (داوم على اصطناع أصدقاء جدد) ويتساءل: (هل الأصدقاء الجدد الذين يستحقون الصداقة يكونون مفضلين في أي الأوقات على الصدقان القدامى؟) وهنا يشٌبه الصديق القديم بالخمر المعتقة التي تحسن مع الزمن، (والصداقة القديمة لا بد أن تكون أعظم إسعاداً، على أن الصداقة الحديثة لا تحتقر إذا هي أبدت الأمل في طلع نصيج، كالعساليج الخضر التي لا تخفق في إظهارنا على أوان الحصاد)
أما هؤلاء الذين يظنون أنهم يستطيعون العمل بغير صداقة أو مودة، أو يقدرون على المسير على طول الطريق اعتماداً على مجرد المعرفة فيقول لهم شيشرون: (إذا كان(649/40)
واضحاً في بعض أنواع الحيوان أنها تتوق للبحث عن حيوان آخر من فصائلها - وهذا الذي تفعله في حنين يحاكي إلى درجة ما الحب الإنساني - فكيف يكون مقدار ذلك من حب الإنسان الذي يحب نفسه ويستعمل أسبابه في البحث عن شخص آخر تتمازج روحه بروحه لتكون روحاً من روحين)
تلك هي فلسفة الصداقة عند شيشرون العظيم، ويالها من فلسفة قمينة بالاعتبار في هذا الزمان الذي هوت فيه الماديات بالمثل العليا حتى ما كادت تبقى على شئ.
في متحف اللوفر (لوحة الصداقة) وهي إحدى روائع الفن القديم، ترى فيها (روُث) تعتنق حماتها (ناعومي) وتأبى فراقها إذ قضت بذلك الأقدار، ثم تناجيها بصوت حنان خفيت، حلو النبرات رقيق: (تالله لا أفارقنك ولا أعودنٌ بعدك، فحيثما تذهبي أذهب، وحيثما تسكني أسكن، فأهلك سيكونون أهلي وإلهك سوف يكون إلهي. . .)
وتلك صورة مؤثرة تثير الشئون، وهي خير تعقيب على مذاهب الصداقة عند شيشرون العظيم.
(الرمل)
منصور جاب الله(649/41)
ربيع شاعر
للأستاذ مصطفى عبد الرحمن
يا ربيعي ما لأزهارك تذوي ... قبلما تشهدُ أنوار الحياة
وارى أوراقك الخضراء تهوى ... ثم لا تملك نفسي غير آه
أنا روَّيتُك من كاسات خمري
ووهبتُ الزهرَ أنفاسي وعِطري
يا لزهري. . . ما الذي صوَّح زهري
وَرَمَاهُ قاسياً حين رماه
وأنا ما زلت في فجر الحياة
هاهي الأطيار في الروض تغني ... غير طير ضلَّ عن سرب الطيور
يعرف الدمع الذي قرَّح جفني ... وأسى نفسي فيأسي للمصير
أنا أحيا في خريف من شقاءِ
أسرعت أوراقُه نحو الفناءِ
ولقد هبَّتْ أعاصيرُ الشتاءِ
ما بقائي أيها القلبُ الكسير
في حياةٍ كل ما فيها مرير
جفت الكأس فما في الكأس ريٌ ... يطفئُ الغُلة أو يشفي الصدور
وتولى الأملُ الحلوُ النديُّ ... وانطوت في النفس أعلام السرور
وتلاشى حولي عينيَّ الضياءُ
وتساوى الصبحُ عندي والمساءُ
ثُرْ كما شِئت وحطم يا فناءُ
لا يهاب الموت أو يخشى القبور
قلبي الزاهدُ في طول المسير
عندما يحملُ إعصار المنون ... ما تراه من بقايا بدني
ثمَّ تروي ذلك الشعر السنون ... وتغني بنشيد الفِتَن(649/42)
فترى الروعة والحسن البديعا
وجمالاً يملأ الدنيا جميعاً
سوف أحيا فيك يا شعري ربيعا
خالداً إيقاعه في كل أذنِ
رائعاً إشراقه في كل عينِ(649/43)
من وحي العيد
يقظة الشرق
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
إيه يا شرق أي نور جديد ... لاح في دهمة الليالي السود
لف شم الجبال والسهل والح ... زن وهام الربى ورمل البيد
وإذا أنت يفتح النور عيني ... ك فتصحو على الضياء الوليد
وتمطيت من طويل خمود ... ومسحت الجفون بعد هجود
وتطلعت في حماك، حمى الأمج ... اد، ربع العروبة الممدود
عجباً! أين أين ما وطدوه ... من صروح شم وملك عتيد
وتلمست يا أبا الصيد فيه ... أوجه الغر من بنيك الصيد
الميامين من بواقي (المثنى) ... و (المعنى) في فيلق (ابن الوليد)
تتساقى الحتوف دون حماها=وتهز السيوف تحت البنود
وإذا أنت لا ترى غير عان ... وطليح مجرح، وشهيد
البنون البنون صرعى الرزايا ... يا لقلب الأبوة المفؤود
يا لها الله صرخة منك دوّت ... في شعاب وأغور ونجود
يا لها صرخة أهابت فأحيت ... عزمات، وطوحت بقيود
نفخت في بنيك فانطلق العاني ... وهب الكابي وحيَّ المودي
وتداعوا من ههنا وهنا وانتظ ... موا تحت بندك المعقود
ما تراهم تسايلوا بين عيني ... ك خفافاً، من قاحم ونجيد
نفروا نفرة الأبي وقد ض ... يم، وهبوا بعزمه المشدود
يا بني الشرق، يمن الله يوماً ... قمتم فيه من هوان القعود
أنتم الطيبون صيّابة العُرب ... حماة الحمى، بقايا الجدود
هو ذا العيد أقبل اليوم محد ... وًّا بروح في بردتيه جديد
فيه شئ من اعتزاز قديم ... عرفته له خوالي العهود
يوم للعُرب مقعد في النجو ... م الزهر، يزهو بركنه الموطود(649/44)
في فؤاد القدس الجريح اهتزاز ... لكم، رغم جده المنكود
انثنى مرهفاً على الجرح يشدو ... ويحيي أفراحكم في العيد
قام يزجي لكم عذارى القوافي ... راقصات، موقعات النشيد
قدس الشعر، إنما الشعر ... أنات شقي أو أغنيات سعيد(649/45)
أي شئ أفتقد؟!
للأستاذ عبد القادر القط
أيُّ إحساس بصدري يتنزَّى
أي أخلاطٍ بنفسي تضطرب
ومعانٍ أوسعت روحيَ وخزَا
وأمانٍ كالأُتونِ الملتهْب
ثائراً يزفُرُ من تحت الدخان
لست أدري ما الذي يوقد نارَه
غير أني أكتويه كل آن
وأذَكى من دم القلب أواره
لست أدريه ولكني أحسهْ
في سياط من حنين قانيات
وبجنبي مستطار طال حَدْسُه:
أيُّ ماض يشتهيه؟! أيُّ آت!
أي شئٍ في حياتي قد فقدته
أي معنى من زماني أبتغيه
كلما خُيِّل لي أني وجدته
قَذَفَ التنور بالنيران فيه
كل شئ في حياتي كالضباب
لست أدري ما مداه إن قصدته
وطريقي ذو دروبٍ وشعاب
يقتضيني كل درب لِم سلكته
إن أدرت المجد طافت بي رؤاه
ألف رؤيا يغتلي فيهن ريبي
أو أردت الحب أولتني دماه(649/46)
حيرة تغتال ما ينزو بقلبي
ليس مجداً أو غراماً ما أريد
ليت شعري أي شئ أفتقد
أي شئ؟! كل شئ في الوجود
آه لو جمّع يوما فاتحد
ظمأ يشوي لهاتي حره
فإذا قاربت ينبوعاً خمد
ونداء من رغابي سحره
كلما ملت إليه لم أجد
ها هنا روح ولكني ملول
ها هنا راح ولكني قلق
كل قصر تحته سفع الطلول
كل صبح فيه أسداف الغسق
سأم ينفث في الكون السأم
ليس يرضى عن مكان أو زمن
ينشد الجدة حتى في الظلم
ليس يعنيه قبيح أو حسن. . .
أي شئ في حياتي قد فقدته
أي معنى من زماني أبتغيه
كلما خيل لي أني وجدته
قذف التنور بالنيران فيه.(649/47)
البَريدُ الأدبيّ
غرَّها فجرَّها
كتب الأستاذ الكبير محمود أبو ريه يقول إن أديب الجيل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كان يرى - رحمه الله - أن تكون الرواية - جرها شرك - في قول مجنون بني عامر:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة جرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
والواقع أن جرها يستقيم معها المعنى وتلائم قول الشاعر - فباتت تجاذبه كما تلائم صورة المشبه، والتحريف بعد هذا يتسع لأن تكون غرها وليدة جرَّها. ومع إجلالي لرأي أستاذنا الرافعي أرى أن غرها رواية صحيحة صريحة وأنها أبرع فيما يقصد إليه الشاعر من التشبيه كما أنها تتفق مع الواقع، لأن العادة جرت أن يوضع في الشرك ما يغر الطائر من حب وغيره فإذا دنا الطائر من الشرك علق به، وهذا العلوق يختلف باختلاف موقع الطائر من الشرك. والشاعر هنا يقول إن الذي علق هو الجناح وهنا تنتهي بنا غرها إلى جرها لأن المعنى والتصوير يقتضيان ذلك.
وغرها حينئذ أنسب لما فيها من المعنى الذي يتصل بنفس الشاعر أولاً وليكون - الجر - مما يلحظ بالذهن ثانياً. وفي هذا من الحسن ما لا يخفى.
أما عزها فيكفي في نقضها مما قاله أستاذنا الرافعي طيب الله ثراه.
محمد العزازي
مدرس بمعهد قنا
إلى الأستاذ حسن أحمد الخطيب
تحية وسلاما: وبعد فقد قرأت في العدد 645 المؤرخ في 12 نوفمبر 1945 من الرسالة الغراء كلمة للأستاذ حسن أحمد الخطيب (من محاسن التشريع الإسلامي) أورد فيها قضية وهي: (أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص. فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيع أنس بن النضر وكان من خاصة الصحابة فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله: كتاب الله القصاص:(649/48)
فلم يزل أنس يقول لرسول الله حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش فقضى رسول الله به).
هذه هي قضية الأستاذ الفاضل التي لم أكد أقرأها حتى استغربت ذكرها كقضية مسلم بها يحسبها الأستاذ حسنة من محاسن التشريع الإسلامي، إذ أنني أعتقد جازماً بأن هذه القضية مدسوسة في ثنايا قضايا التشريع وهي عنه جد بعيدة، وإذ ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع حقاً من حقوق الله، والقصاص كما هو معلوم من حقوق الله وليس من حقوق العبد حتى يضعه، وعليه فإن رضاء المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني.
وقد ذكرتني هذه القضية قضية أخرى مماثلة لها أوردت بحضرة النظام شيخ المعتزلة، وهي أن جارية سرقت فأراد الرسول قطعها، فوضع أهل المسروق حقهم عليها فوضع الرسول القصاص عنها، غير أن النظام كذبها بشدة ونفي صدور هذا الحكم عن الرسول إذ أن القطع كما قلت من حق الله - الحق العام - وليس من حق المسروق منه.
لذلك جئت بكلمتي هذه راجياً تنبيه الأستاذ الخطيب إلى أن استيفاء الأرش أو الدية ورضاء المجني عليه لا يسقط حق القصاص.
(بغداد)
حقوقي
عالم يعض كلباً!!
كان أنحى من أخذ عن الفارسي أبي علي، وأرواهم لشعر شاعر، حتى قال الفارسي يوماً: (ما بقي شئ تحتاج إليه، ولو سرت من الشرٌق إلى الغرب لم تجد أعرف منك بالنحو)
وكان أحسن ما كتب، وأجدره بالتقدير، شرح كتاب سيبويه، إلا أنه غسله، وذلك أن طالباً نازعه في مسألة، فقام مغضباً، وأخذ هذا الشرح، وجعله في إجَّانَةٍ، وصب عليه الماء، وجعل يلطم به الحيطان، ويقول - تعريضاً بالطالب - (لا - والله - لا أجعل أولاد البقالين نحاة.)
وكان مبتلى بقتل الكلاب، وكسر سوقها.(649/49)
وكان يحضر درسه من الأكابر وعلية القوم من يقدرون فضله، ويغضون عن سقطاته، فاستتم الدرس ذات يوم، وقال فجود، فلما هم القوم بالانصراف استأناهم، وسألهم أن يمضوا معه على خيولهم ففعلوا، وهو سائر على قدميه يأبى أن يركب، فلما بلغوا ما شاء وقف عند إحدى الخرائب، واطل من بعض الكوى، ونظر الجماعة فإذا أستاذهم يواثب كلبا، والكلب يواثبه تارة ويهرب منه أخرى حتى أعياه، فعاونوه، وأمسكوا الكلب. فجعل يعض الكلب عضاً شديدا، والكلب يعوي ويتململ، فما تركه حتى اشتفى
ثم نظر إلى الجماعة وقال: هذا عضني بالأمس، فأردت أن أخالف فيه قول الأول:
شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا؟
هأنذا أعض الكلب إن عض!
ذلك هو علي بن عيسى الربعي المتوفى سنة 420هـ
كامل السيد شاهين
حول نشر تراث المعري:
قابلت البيئات الأدبية والفلسفية مشروع - نشر تراث أبي العلاء - مفخرة الفكر العربي - بكل ما يستقبل به العمل الواجب المثمر من حفاوة وتشجيع؛ فلم يعرف التاريخ الإسلامي شخصية دق حسها وعمق تفكيرها واتسع نطاق ذهنها وغزرت معارفها وكثر محصولها من اللغة: فقهاً ونحواً وصرفاً وعروضاً كتلك العبقرية النادرة؛ ولكنه ويا للأسف قد لعبت أيدي الإهمال بهذا الكنز الثمين الحافل فاستتر عن الأعين بعضه ولم يسلم ما تبقى من عبث التشويه والتحريف مما جعل استثمار هذا الإنتاج عسيراً شاقاً؛ فما كاد يذاع نبأ جمع هذا التراث وتنظيمه وتنسيقه وتقديمه نقياً من الشوائب حتى استبشرت النفوس وأثلجت الصدور لبعث أبي العلاء - كما يجب أن يكون في تلك البيئات؛ وتسابقت الآمال للأخذ من مناهل - الشيخ - وقد طهرت مواردها، واشرأبت العيون إلى إنقاذ آثار زعماء الفكر العربي. حتى قال الأستاذ - أحمد أمين بك - يجب أن نعرج على - ابن خلدون - بعد تقديم - أبي العلاء - فانتظرنا طلوع فجر ذلك اليوم الذي نحظى فيه بأولى ثمرات هذا(649/50)
الجهد الخصب؛ واليد التي ستظل أبد الدهر وضاءة ناصعة؛ وبعد لأي أعلن البشير صدور التعريف بأبي العلاء فذهبنا نستبق فما وجدنا إليه سبيلا؛ فعللنا الأنفس بأن لا حاجة ملحة بنا الآن إلى التعريف به؛ فقد كفانا مؤنة ذلك المحدثون؛ ولم نلبث طويلا حتى عاد البشير يعلن قدوم - سقط الزند - ويطنب في جماله وأناقته وإتقانه؛ فلما حاولنا الحصول عليه امتنع علينا ما ابتغيناه؛ وحتى هذا الأستاذ الذي يقوم بتدريس الفلسفة في كلية الآداب يعوزه ما يعوز غيره من مريدي الثقافة العامة. وهذا آخر يدرس الأدب العربي في أحد معاهد الأدب العالية أضناه البحث، وقعد به القنوط؛ فيا ليت شعري إذا عز تراث فيلسوف العرب على أستاذ الفلسفة واستحال تراث هذا الأديب الحجة على أستاذ الأدب، فأي إنسان هان وسهل عليه ذلك الذي بات فوق متناول هؤلاء الأساتذة؟ أغلب الظن أنه هان وسهل؛ بل استذل وصغر على تلك المناضد التي يطرح في زاوية من زواياها غير مكترث به، ولا منظور إليه، ألا ليت الأستاذ - أحمد أمين بك - يعلم أن هذا التراث الذي تبذل في إخراجه الجهود وتنفق الأموال، قد بات فوق متناول الأساتذة المختصين فضلا عن القارئ العادي الذي يجب أن نمده بكل ما من شأنه أن يسمو بفكره ويغذي عواطفه ويقوي خلقه. ألا ليت الدكتور طه يعلم أن سبيل لمعاهد الأدب إلى - أبي العلاء - ألا ليت وزارة المعارف تعلم أن هذا الإنتاج قد غدا لا يعرفه الأساتذة إلا عن طريق التصور والسماع.
محمد عبد الحليم أبو زيد
جائزة ألف جنيه لتيسير الكتابة باللغة العربية
يعلن مجمع فؤاد الأول للغة العربية، أنه قد خصص جائزة مقدارها ألف جنيه تمنح لأحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية على ألا يكون لأعضاء المؤتمر الحق في دخول المسابقة، وقد تحدد آخر أكتوبر سنة 1946 موعداً لقبول المقترحات، وترسل باسم المجمع بعنوانه شارع قصر العيني رقم 110 بالقاهرة. وسيطبع المجمع كل ما قيل حول تيسير الكتابة في مؤتمره الذي انعقد سنة 1944، ويتخذ الوسائل لنشره.
مسابقة فاروق الأول للقصة المصرية
كانت حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي قد تبرعت بجائزتين(649/51)
للقصة المصرية؛ وقد فرغت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية من الحكم على ما لديها من القصص، فنالت قصة (لقيطة) للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله جائزة قدرها خمسة وثلاثون جنيها، ونالت قصة (في ربيع الحياة) للأستاذ محمد أحمد قمر جائزة قدرها خمسة وعشرون جنيهاً مصرياً
كتاب (أمريكا) لستيفن فنسنت بنيه
إن هذا الكتاب الذي وضعه بالإنجليزية المستر ستيفن فنسنت بنيه، ونقله إلى العربية الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد، إنما هو رحلة زمنية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، تسلسلت أحداثه منذ أن وطأت أقدام الأوربيين أرض الدنيا الجديدة، ثم ساير نهضة الوطن الأمريكي من بدء الهجرة العظيمة، إلى عهد الثورة والانفصال عن إنجلترا، وتحدث عن الدستور الأمريكي الأول وما دخله من تعديلات في عهود مختلفة، ثم وصف الجمهورية الناشئة وبناتها، ثم ساق الكلام عن إبراهام لنكولن أحد قادة الحرية في العصر الحديث، وأتى بوصف شائق للحرب الأهلية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية وما أعقبها من سياسة شاملة للإنشاء والتعمير، ويتصل السياق بالكاتب إلى عهد أمريكا التي يعرفها الناس جميعا، فيجلو صورة فنية رائعة لبلد الصناعة والمال، وأخيرا يتحدث عن ميثاق الأطلنطي والأمل المنشود في عالم ما بعد الحرب.
والكتاب نسيج وحده بين الكتب الموضوعة عن أمريكا، فليس هو كتاب دعاية عمياء تطلع القارئين على تزويقات بلاغية حتى إذا تحسسوها من ناحية الحقيقة لم يجدوها شيئا، وإنما هو سفر يلخص تاريخ أمة، ويصور حياة وطن، ويرسم طريق كفاح. فأمريكا (ليست فردوسا أرضيا، ولا جنة كجنة عدن، ولا هي قد بلغت نهاية الكمال، وقد أخطأت في الماضي في إدارة أمور الداخلية كما أخطأت في الأمور العالمية. ولكنها مع ذلك تتطلع دائما إلى المستقبل، مستقبل يعيش فيه الرجال والنساء أحراراً، يتوافر فيه الغذاء والعمل، وتتوفر فيه الطمأنينة والحرية لبني الإنسان
تلك هي الروح التي تسيطر على الكتاب، وهي وإن كانت لا تنقصها الصراحة الصادقة، إلا أنها مشربة بالاعتداد بالنفس والثقة بمستقبل الأمة والتفاؤل بمصير الإنسانية.
ولا يتناول الكاتب الحديث عن جورج وشنطن دون أن يتملكه - كأمريكي - فيض من(649/52)
الشعور بالزهو والخيلاء بهذا البطل الذي لم يعرفوا كيف يصغرون اسمه تحببا لأن معاني العظمة فيه لم تسمح بمثل هذا التدليل، فهو لم يقبل الرشوة، ولم يأخذ أجراً مقابل قيادته الجيش زهاء سبع سنين، ولم يهن حيال أعدائه وشاطر جنوده الضراء، وكابد معهم تباريح الجوع وأوصاب المرض ولفحات البرد القاسي.
وإذا جاء دور الدستور الأمريكي، عرضه الكاتب على القارئ عرضا لبقا، فإذا هو نصوص لا تحوطها القداسة، ولا يتناهى عنده حبل الأشتراع، وإنما هو مواصفات قانونية مرنة تتكيف حسب الأجيال، وتتبلور وفق أقضية الناس ومشكلاتهم.
وحين يعرض المؤلف مذهب مونرو لا نرى فيه تلك الوثيقة الجافة التي طالما قرأناها في كتب التاريخ والسياسة، وإنما نرى فيها صورة حية من صور الحرية الإنسانية، تلك الحرية التي حفزت ابراهام لنكولن على إلغاء الرقيق وإعلان الحرب على الولايات الجنوبية التي أبت إلا أن يبقى رقيق الأرض على حاله، وكان أن لقي الرئيس الأمريكي نفسه بعد ما تحقق له النصر أو كاد.
فإذا تركنا الجانب السياسي من الكتاب وتلفتنا إلى الجانب الاجتماعي فيه، وجدنا المؤلف يتحدث بصراحة محببة عن الأغنياء الأنانيين الذين لا هم لهم سوى أحتجان الأموال واكتنازها، بيد أنه لا يدع القارئ يمعن في تخيلاته، حتى يبدهه بأسماء أولئك الأثرياء الإنسانيين في بلاد العام سام من أمثال كاربنجي الذي أنفق معظم ثروته ليساعد على إنشاء دور الكتب العامة المجانية ليتيح للفقراء أن يثقفوا أنفسهم، وروكفلر صاحب المؤسسة العظيمة التي عادت أبحاثها في الطب والعلم على الناس جميعا بالخير العميم وغيرهما ممن يضيق دون ذكرهم المقام.
ويختم المؤلف كتابه بقوله إن العلم الأمريكي (يرمز للحرية ويرمز للرجاء، إنه يرمز لحسن الجوار لا للسيادة على الآخرين، إنه يرمز إلى أن يقرر الناس مصيرهم ويحكموا أنفسهم بأنفسهم، إنه يرمز إلى أُناس يحبون السلام، فإذا اعتدى على بلادهم هبوا يقاتلون المعتدين. إنه يرمز لأمة وشعب يؤمنون بالإنسان. ويؤمنون بمستقبل الإنسان، وبالعالم الحر الذي يستطيع الإنسان أن ينشئه)
وبعد، فان هذا العرض الموجز لبعض موضوعات هذا الكتيب الأنيق لا يغني كل الغناء(649/53)
دون قراءته واستيعاب ما فيه من كل شائق وطريف.
منصور جاب الله(649/54)
العدد 650 - بتاريخ: 17 - 12 - 1945(/)
مؤلف العباسة
بكرم صاحب الجلالة الفاروق
ربما صاحب (الأنات الحائرة) مثلاً فريداً في تاريخنا الأدبي كله: أبدر قمره وهو هلال يلوح، وأينع ثمره وهو زهر يفوح، واكتمل شعره وهو قصيد ينوح؛ فلم نكد نرى الشاعر وجدانياً يرجِّع الأنات على قبر (زين)، ويوقع الذكريات على ضريح (خديجة)، حتى رأيناه روائياً يحتجب وراء الأستار، ثم يقول قول الفلاسفة، ويفعل فعل الآلهة، فيبعث الأموات، ويخلق الأشخاص، ويعيد الأحداث، ويصور الأخلاق، ويمثل العواطف، ويفلسف الحياة، ويرسم البيئة، ويستخلص العبرة! وبين الشعر الوجداني والشعر الدرامي دهر طويل وشوط بعيد لابد منها ليستطيع الشاعر أن يخرج عن ذاته، وينقل عن حياة غيره لا عن حياته؛ ولكن شاعر المآسي نضج باكراً من حرارة الحزن، وفاض طاغياً من فوران الحس، وانفجر صارخاً من برحَاء الألم. فهو فريد في بزوغه، فريد في نبوغه، فريد في تطور شعره، فريد في استفاضة ذكره، فريد في كل ما يتصل بشاعريته حتى في الإرشاد بها والإثابة عليها؛ فقد تفضل صاحب الجلالة فاروق أعز الله نصره، وجمل بالآداب والفنون عصره، فأنعم على مؤلف العباسة بالباشوية، وما علمنا قبل عهد الفاروق ومجد عزيز أن رجلا أصبح باشا لأنه شاعر! والذي نعلمه أن الخطباء في عهود الحضارة العربية قد نالوا الإمارة، والكتاب قد بلغوا الوزارة، ولكن الشعراء كانوا كالمغنين والموسيقيين؛ شيئا من زينة الملك وترف الدولة بنادمون الخليفة ولا يدخلون في بطانته، ويطربون الشعب ولا يحسبون في قادته. فإذا أصبحنا ننظر إلى الشاعر العربي النابغ نظر الإنجليز إلى شاعر الملكية شكسبير، أو إلى شاعر الإمبراطورية كِبِلْنج، فإنما يرجع الفضل في هذا النظر الجديد الشديد إلى عطف ملكنا فاروق وفن شاعرنا عزيز!
ليت الشاعر أو الذين رصدوا كوكبه وسايروا هواه من لداته وثقاته
حللوا عوامل هذا النبوغ المفاجئ، وسجلوا أطوار هذا الشعر المحكم،
فإن رجال الأدب يستبعدون ان يولد شاعر بهذا الكمال، ويوجد شعر
بهذا الجمال، وفي صيف عام واحد والراصد البعيد يرى في الأمر أثراً(650/1)
من فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء لحكمة لا يدخل تعليلها في
منطق عباده
يرى الراصد البعيد تلك النفس اللطيفة التي أشبلت على مواهب هذا الشاعر وعواطفه شقيقةً وصديقةً وزوجةً، فيذكر أم المؤمنين التي حضنت الرسالة وواست الرسول وناصرت الدعوة. ثم يسمع هذا الشاعر المفجوع يهتف بشهر يونية وبما تفجر فيه على قلبه من ينابيع بعضها يسيل هادئاً باللذة، وبعضها يهدر صاخباً بالألم في ذكر شهر رمضان وما تجمع فيه للإسلام من الذكريات الملهمات من يوم بدر، إلى ليلة القدر. ثم يرى هذا الفيض الشعري الدافق ينبجس فجأة على لسان (المدير) بعد سن الأربعين، فيذكر الفضل الذي آتاه الله سيد البلغاء محمداً رسوله وهو في هذه السن فيفاجأ أمراء القول ببلاغة تشبه الإلهام لأنه لم يعانها ولم يتكلفها ولم يرتض لها ولم يشتهر بها قبل البعثة.
ذلك ما يراه الراصد البعيد وما يذكره. أما الناقد العليم بأسرار القلوب يرى أن زوج هذه النفس اللطيفة كان يقول الشعر منذ ثلاثين سنة. كان يقوله حين خالصها الإخاء وهي قريبة، وحين صافاها المحبة وهي خطيبة، وحين صادقها الوفاء وهي زوجة؛ ولكن شعره في هذا العهد الحبيب الخصيب كان صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم؛ لأن الشعور السعيد كالماء اللجي إذا عمق هدأ ثائر وسكن سطحه. والأليفان إذا لبس كل منهما صاحبه خيل إليهما أنهما الصورة، وكل ما على الأرض من شخص وشيء إطار؛ فالشاعر يشدو بهما، والمغني يغني لهما، والطبيعة الصادحة والباغمة كلها تعبر عن النظرة الساهمة في العين الحالمة، وتفسر اللفظة الهائمة على الشفة الباسمة؛ فما بهما إذن من حاجة إلى كلام يقاس بالتفاعيل ويحد بالقافية.
كان ذلك والعش الوثير الدافئ ناعم في ظلال الأمن، غارق في صفاء النعيم؛ فلما لحظته عيون الغير، وقوضته أيدي شعوب، ارفض صبر الشاعر وهي خلد الزوج فجأر بالشكوى وزفر بالأنين؛ وكان من تلك الزفرات الحارة وهذه الأنات الحائرة مجموعة من الشعر الباكي استوجفت القلوب واستوكفت العيون وإن هش بها الفن وصفق لها الأدب! وهكذا استطاع الحزن أن يحمل شاعرنا على أن ينوح، ولم يستطع السرور أن يحمله على أن يغرد.(650/2)
ثم ضاق وسُعه عن احتمال أساه، فطفق ينشد العزاء في مآسي الأزواج الذين تساقوا كؤوس الهوى صافية مترعة، ثم سعى بينهم الدهر، وصدع شملهم البين، فمزج دمعه الدامي بدموع قيس وجعفر، وبكى ربعه الموحش في ربوع لبنى والعباسة. فكان شعره الدرامي تعبيراً عن ذاته وتمثيلا لمأساته، وإن تغيرت لأسماء وتباينت الصور واختلفت النتائج.
شعر عزيز باشا الذي سمعناه أو قرأناه شعر عالي الطبقة؛ جرى فيه على سنن الفحول من صاغة القريض، فنضّد اللفظ وجود المغنى وراض القافية، وهي صفات لا تكتسب إلا بسعة الاطلاع وطول المعاناة وقوة المَلكة. وإن له في الديوان الأول قصائد ترفعه إلى المكانة العليا من شعراء العربية. ولكن هذا الشعر كله قد قطَر من فؤاده القريح كما يقطر الدمع من العين أو الدم من الجرح؛ فهو وليد الأسى وربيب الألم. فليت شعري أيعتريه الذُّوِىّ إذا ما التأم جرحه واندمل قلبه وجف ينبوعه، أم يَفْجُر الله له ينابيع أخرى تسقيه وتغذيه فيزكو ويتلون ويتنوع؟ إن الرجل فنان موهوب ما في ذلك شك. وإن فنه الحزين قد استطاع على قرب عهده بالحداد أن يحلق فوق السحائب الجون فيكشف آفاقاً بعيدة ويخلق معاني جديدة. ولعلك تجد في العباسة على الأخص مصداق ذلك، فإن فيها الغزل الرقيق، والفلسفة الراشدة، والسياسة الحكيمة، والنوازع النفسية، وكل ذلك حوار قوى، وتشويق جاذب، وتنسيق عجيب، ومواءمة بين المعنى واللفظ، وملاءمة بين الموضوع والوزن؛ ومثل ذلك لا يتسنى إلا لمن ملك ناصية الشعر وقبض على أزمة البلاغة
لهذا النبوغ الأصيل، وهذا الشعر الفخم الجميل، استحق شاعرنا التكريم. ومن تكريم الله إياه أن كرمه صاحب الجلالة الفاروق بأرفع الرتب في الدولة. ولهذا الإنعام السامي مغزى خطير وأثر كبير في نهضة الأدب وحياة أهله: مغزاه الخطير أنه توجيه ملكي كريم إلى ما ينبغي أن يكون عليه أمر الأدب قدر الأديب في هذا العهد. وهو تنويه بشأن البلاغة العالية في الوقت الذي طاولها فيه الأدب الخسيس فطغت السوقية على الصحافة والعامية على المسرح.
وأثره الكبير أنه تشجيع رفيع لعزيز باشا على أن يجرى إلى أبعد الغايات في شعره، تحقيقاً لرغبة المليك وقياماً بواجب شكره. وهو تشجيع لكل شاعر على أن يجدد ويجيد التماساً لرضا الفاروق حلمي ونصير الأدب.(650/3)
وفي هذه الإنعام السامي كذلك تكريم للأسرة الأباظية العظيمة على ما أشاعت في الأمة من خصال الفتوة. والفتوة العربية عناصرها أهمها الشجاعة والفصاحة والسماحة والمروءة، وهي الخصال الغالبة على زعماء هذه الأسرة من سلف منهم ومن خلف.
نضر الله بأمثالهم عهد الفاروق، وجدد بأعمالهم مجد مصر!
أحمد حسن الزيات(650/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 20 -
ج 16 ص 169:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيارِ
قلت: الوقارْ، وبالخيارْ
ج19 ص 67، 69:
فلما وقفتَ الخيل ناقعة الصدى ... على بردي من فوقها الورق النصر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من علق حمر
علا النهر لما كاثر الغَصَبُ القنا ... مكاثرة في كل نحر لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدى ... إلى أن جرى العاصي وصحضاحه عُمر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الفجر قد طلع الفجر
مليك سمت شم المنابر باسمه ... كما قد زَهت تيها به الأنجم الزهر
قلت: (فإما وقفت الخيل) وجواب الشرط في الثاني:
(فمن بعد) وقد رِبط بالفاء.
(لما كأثر القَصَبَ القنا).
(وضحضاحه غمر) في النهاية: مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر، الغمر بفتح الغين وسكون الميم: الكثير أي يغمر من دخله ويغطيه. والضحضاح - كما في التاج -: الماء اليسير يكون الغدير وغيره.
(فقولا لليل الإفك قد طلع الفجر).
(كما زُهِيت تيها به الأنجم الزهر).
الأبيات من قصيدة لمحمد بن نصر المعروف بابن القيسراني في البطل الخالد العظيم الملك العادل (نور الدين) حين أسر (جوسلين) (وكان أسره من أعظم الفتوح على المسلمين، فإنه كان شيطاناً عاتياً من شياطين الإفرنج، شديد العداوة للمسلمين، وكان هو يتقدم على الإفرنج(650/5)
في حروبهم لما يعلمون من شجاعته وجودة رأيه وشدة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أهلها وأصيبت النصرانية كافة بأسره، وعظمت المصيبة عليهم بفقده، وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها. وسهل أمرهم على المسلمين بعده. وكان كثير الغدر والمكر، لا يقف على يمين، ولا يفي بعهد. طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر، فلقيه غدره، وحاق به مكره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم. . . وكان نور الدين (رحمه الله) إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين خوفاً من نصرة تتجدد للفرنج، فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء).
وفي هذه الرائقة الرائية:
فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذي السني فقر
كأني بهذا العزم لا فل حده ... وأقصاه ب (الأقصى) وقد قضي الأمر
وقد أصبح (البيت المقدس) طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر
وصلت ب (معراج النبي) صوارم ... مساجدها شَفع وساجدها وتر
ج11 ص46: السيوف القلعية.
وجاء في الشرح: القلعية نسبة إلى القلعة وهي ببلاد الهند ينسب إليها الرصاص والسيوف.
قلت: في القاموس: والقلعة بلد ببلاد الهند، وقيل وإليه ينسب الرصاص والسيوف. وفيه: ومرج القلعة محركة موضع بالبادية إليه تنسب السيوف.
هذا ما ذكره المجد. وقد جاء في الأساس: وسيف قلعي بفتح اللام عتيق نسب إلى معدن بالقلع وهو جبل بالشام، قال أوس: (يعلون بالقلع البْصري هامهم) وهو جمع القلعى كاعرك والعركى والعرب العربي. وجاء في نهاية. سيوفنا قلعية منسوبة إلى القلعة بفتح القاف واللام وهي موضع بالبادية تنسب السيوف إليه. ونقل اللسان ما قالته النهاية. وجاء فيه: وسيف قَلعي. وذكر مرج القلعة ولم ينسب إليه شيئاً. وقال القلْعى الرصّاص الجيد، والقلْع اسم معدن الذي ينسب إلى الرصاص الجيد. ولم يذكر (اللسان) السيوف.
ج17 ص292: قلت: قصة حوَيْصَة ومُحيْصَة. . . قال: فيحلف لكم يهودٌ. قلت: هذه هي(650/6)
القصة كما رواها الإمام مسلم في جامعه وقد ضبطت فيها الأسماء:
. . . عن سهيل بن أَبي حَثْمَة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومُحَيِّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قُتل وطرح في عين أو فقير. فأتى يهودَ فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ثم أقبل هو وأخوه حُوَيِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن ابن سهل فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لمحيصة: كبّر كبِّر (يريد السن) فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إما أن بدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم في ذلك، فكتبوا أنا والله ما قتلناه. فقال رسول الله لحويصة ومحيصة: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا. قال: فتحلف لكم يهودُ. قالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه رسول الله من عنده، فبعث إليهم رسول الله مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار. . .).
وقال في يهود، وهو من أبيات (الكتاب).
أولئك أولى من يهودَ بمدحة ... إذا أنت يوماً قلتَها لم تُؤنبِ
ويهود مثل مجوس قال وهو من أبيات (الكتاب):
أحار، أريك برقا هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا
بل لمجوس ما ليس ليهود. قال الشنتمري في هذا البيت: الشاهد فيه ترك صرف مجوس حملا على معنى القبيلة وهو الغالب عليها في كلامهم، وصرفها على معنى الحي جائز وليس بالكثير. وقال في البيت الأول، الشاهد في جعل يهود اسما علماً، والقول فيه كالقول في مجوس إلا أن الزيادة في أوله تمنعه من الصرف أن جعل اسماً للحي.
ومن أبيات (اللسان):
فرت يهود وأسلمت جيرانها ... صَمّى لما فعلت يهود صمامِ
وفي بيتي (الشيخ) المشهورين: (ويهود حارت، والمجوس مضللة).
ج5 ص33: وله (لأحمد بن محمد السهيلي) أشعار، منها في شعاع القمر على الماء:
كأنما البدر فوق الماء مطلعاً ... ونحن بالشط في لهو وفي طرب(650/7)
مَلك رآنا فأهوى للعبور فلم ... يقدر فمد له جسر من الذهب
قلت: ملك بالتسكين للوزن. المخصص ج2 ص 133: (ملِك ومالك ومليك وملْك والجمع أملاك وملاك وملوك وملكاء، والأملوك جماعة الملوك كالأمعوز) وفي الصحاح: (وملك وملك مثل فخذ وفخذ كأن الملك مخفف من ملك، والملك مقصور على مالك).
ج16 ص264: حدثني من أثق به أن الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعاني الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب أُصعد إلى بغداد، فدخل يوماً إلى ديوان السلطان وهو منغص بذوي الفضل والبلاغة، محتفل بأهل الكفاية والبراعة. وقد بلغهم ورود ابن الحريري إلا أنهم لم يعرفوا فضله. ولا أشهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تعاني من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه، فأخذ بيده قلما وقال: كل ما يتعلق بهذا وأشار إلى القلم، فقيل له: هذه دعوى عظيمة. فقال: امتحنوا تخبروا. . .
وجاء في الشرح: وتعاني الكتابة: قاساها وعالجها وتناولها. وهو منغص الضمير للديوان أي ممتلئ بهد ضيق عليهم.
قلت: (وعانى الكتابة) (أي شيء تعاني منه صناعة الكتابة) و (معاناة الشيء ملابسته ومباشرته) كما قال اللسان. ولم أجد في كلام أو معجم نعرفه (تعاني يتعانى تعانيا) واليقين أن التعاني في قول أبي الطيب في طبعة (شرح العكبري)
ج2 ص 436:
ومراد النفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتعانى
هو تصحيف أو تطبيع. واللفظة هي (نتفانى) في (ديوان أبي الطيب) في النسخة الفائقة التي حققها العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام. وفي (ديوان المتنبي) الذي نشره الشيخ عبد الرحمن البرقوفي (رحمه الله) ورجع فيه إلى شروح كثيرة.
و (أشهر) يقول فيها المصباح: (وأما أشهرته بالألف بمعنى شهرته فغير منقول) والذي نقلوه هو شهره شهراً وشهره تشهيراً واشتهر وهذا لازم ومتعد.
و (منغص) هي (مغتص). في التاج: ومنزل غاص بالقوم أي ممتلئ يقال: الإنس في المجلس الغاص لا في المحفل الخاص واغتص المجلس بأهله كغص.
قلت: أوقن أن صاحب التاج لم يرو (الإنس الخ) بل روى: (الأنس في المجلس الخاص لا(650/8)
في المحفل الغاص) والوارد في الطبعة هو أنس الدهماء والغوغاء لا أنس صاحب التاج ولا أنس العلماء والعظماء والفضلاء.
ج16 ص 37:. . . فاعتمدت على القول مجملا لا مفصلا وضربة لا مبوباً فأقول. وجاء في شرح ضربة: يريد خلطا من ضرب الشيء بالشيء كضربه بالتشديد خلطه.
قلت: قوله ضربة لا مبوباً مثل قوله مجملاً لا مفصلاً. في المصباح: وأخذته ضربة واحدة أي دفعة. وفي التاج: والدفعة بالفتح المرة الواحدة. وفي الأساس. وأعطاه ألفا دفعة أي بمرة.
ج16 ص 79: ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك ورداءة داخلتك وسوء اختيارك.
قلت: في الأساس: وإنه لخبيث الدِّخلة وعفيف الدخلة وهي باطن أمره، وأنا عالم بدخلة أمرك.
ج17 ص113:. . فرأى الرسول لي علماناً روَقة وفرشاً جميلا.
قلت: في الأساس: هؤلاء شباب روقة جمع رائق كفأره وفُرهة، وفي اللسان والتاج: والروقة الجميل جداً من الناس وكذلك الاثنان والجميع والتأنيث وقد يجمع على ورق. وفي المقامات الحريرية: فلما انتهيت إلى ظل الخيمة رأيت غلمة روقة، وشارة مرموقة.
ج14 ص148: أبو علي بن مقلة: كنت أحقد ابن بسّام لهجائه إياي
قلت: في القاموس: حقد عليه كضرب، وفرح أمسك عداوته في قلبه وتربص لفرصتها. وفي الأساس: رئيس القوم محسود أو حاسد، ومحقود أو حاقد.
ج19 ص227: ابن قَلاقِس:
سدّدوها من القدود رماحاً: وانتضوها من الجفون صفاحاً
يا لها حلَّةٌ من السقم حالت ... واستحالت ولا كفاها كفاحا
صح إذ أذرت العيون دماء ... أنهم أثخنوا القلوب جراحا
وجاء في الشرح: في الديوان يا لها حالة من السلم.
قلت: حالة ومن السقم الرواية الصحيحة وربما كانت حالة حلية والحلية الخلقة والصورة. وحالة ابن قلاقس من الجهة النحوية مثل ليل المتنبي في قوله:
فيا لك ليلا على أعكُش ... أحمّ البلاد خفيّ الصوى(650/9)
قال ابن مالك: (وبعد كل ما اقتضى تعجباً ميّزْ) فخطة تمييز في الدالية المتنبية:
ويلُمهَّا خطْة ويْلُمّ قابلها!!!(650/10)
على هامش النقد
خان الخليلي
(قصة مصرية)
تأليف الأستاذ نجيب محفوظ
للأستاذ سيد قطب
هذه هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب، سبقتها قصة (رادويس) وقصة (كفاح طيبة) وكلتاهما قصتان معجبتان مستلهمتان من التاريخ المصري القديم.
ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحق أن تفرد لها صفحة خاصة في سجل الأدب المصري الحديث، فهي منتزعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر؛ وهي ترسم في صدق ودقة. وفي بساطة وعمق، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الأخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبأفكارها وملابساتها؛ ولا ينقص من دقة هذه الصورة وعمقها أنها جاءت في القصة إطاراً لحوادثها الرئيسية، وبيئة عاشت القصة فيها. ولكن هذا كله ليس هو الذي يقتضي الناقد أن يفرد لهذه القصة صفحة متميزة في كتاب الأدب المصري الحديث. . .
إنما تستحق هذه الصفحة، لأنها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات متميز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية - مع انتفاعه بها - نستطيع أن نقدمه - مع قوميته الخاصة - على المائدة العالمية، فلا يندغم فيها، ولا يفقد طابعه الإنساني العام، ويساير نظائر في الأدب الأخرى.
وهذه الظاهرة حديثة العهد في الأدب المصري المعاصر لم تبرز وتتضح إلا في أعمال قليلة من بين الكثرة الغالبة لأعمال الأدباء المصريين. وهي في هذه القصة أشد بروزاً واكثر وضوحاً فمن واجب النقد إذن أن يسجل هذه الخطوة ويزكيها.
وبعد، فقد كنت أود أن أضع أمام القارئ ملخصاً للقصة يعينه على تتبع السمات الفنية فيها، ويشركه معي في تحليل هذه السمات. ولكن القصة بالذات من الأعمال الفنية التي لا سبيل إلى تلخيصها، وحين تلخص تبدو هيكلا عظيماً خالياً من الملامح والقسمات التي تحدد(650/11)
الشخصية، وتبرز مواضع الجمال والقبح فيها. . . فلا مفر من إذن من الحديث العام عن القصة دون الدخول في التفصيلات إلا بمقدار.
ليس في القصة كلها صخب ولا بريق. . إنها خلو من الالتماعات الذهنية والأفكار الكبيرة. وليس فيها (لافتة) واحدة من اللافتات التي تستوقف النظر. ومحيطها ذاته محيط عادي. وأحداثها وحوادثها مما يقع كل يوم في أوساطنا المصرية العادية. اللهم إلا تلك الغارات الجوية التي روعت بعض المدن في زمن الحرب والتي روعت أسرة (أحمد أفندي عاكف) فأزعجتها عن حي السكاكيني الذي استوطنته زمناً طويلا، إلى الحي الحسيني وخان الخليلي، لتكون في منجاة من الغارات، في حمى ابن بنت رسول الله!
ولقد كان (أحمد عاكف) وهو يحمل عبء الأسرة بمرتبه الصغير، إذ هو موظف بالبكالوريوس في قلم المحفوظات بوزارة الأشغال، كان قد أغلق وطوى أحلامه. . . لم يفكر في الزواج ولم يعد يطمح إلى الحب، أو إلى الشهادة العالية. لقد وقفت أمامه العراقيل العائلية والمادية والعلمية، فانطوى على نفسه واستراح إلى اليأس بعد الفشل المكرور؛ وقد ترك هذا الفشل في نفسه مرارة لا تمحى، ولون شخصيته تلويناً معيناً، ودس فيها عيوباً شتى. ولكنه وقد عجز عن الطموح جعل العزوف عن المطامح سلوته، والترفع عن الوسط طابعه وآوى إلى مكتبته وكتبه، وهي مثله تمثل جيلا مضى، وتعرض مباحث قديمة لا صلة بالحاضر وما فيه، فزاده هذا بعداً عن الجيل، وإيغالاً في التاريخ!
وحينما انتهى من تعليم أخيه الصغير تعليما عالياً كان قد ناهز الأربعين. كان قد شاخ، فأحسن أن الأوان قد فات، وسار في طريقه يقطع الحياة كالأجير المسخر، والتخوف والمحذر من كل خطوة إيجابية، فهو يعيش في داخل نفسه عاجزاً عن تحقيق تصوراته وتجسيم خيالاته.
ولكن القدر الساخر لا يدع الناس يستريحون - ولو راحة اليأس المريرة - إنه يطلع على هذا الكهل - كما يسميه المؤلف - بوجه جميل يلوح له في النافذة المقابلة. إنه وجه فتاة صغيرة لا تزال طالبة بالمدرسة. وإنها تصلح أن تكون ابنته. . . ولكن هذا الوجه يبسم له، فيثير في نفسه كوامن المشاعر النائمة، على حين يدركه حذره وتردده، وخجله من فارق السن السحيق.(650/12)
وتمضي الأيام في شغل معقد مقيم بهذا الحادث الجديد الذي يهز كيانه الضعيف هزاً عنيفاً متواصلاً بين الإقدام والإحجام ويبدع المؤلف في تصوير شتى النوازع والاتجاهات في هذه النفس المعقد. وفي نفس الفتاة الصغير تلك الأنثى المهيأة لحياة البنت والزواج.
وفي اللحظة التي يكاد يقدم فيها على الخطوة الحاسمة في حياته وقد تندى قلبه الجاف، وترعرعت البذور المطمورة في أعماقه تحت أكداس اليأس والفشل والتردد. . . في هذه اللحظة الحاسمة يسخر القدر سخريته العابثة فيطلع له في الميدان منافساً قويا لا يملك منافسته، بل لا يملك حتى أن يشفي نفسه منه بالحقد عليه! إنه أخوه وربيبه (رشدي عاكف). لقد نقل في هذا الوقت من فرع بنك مصر في أسيوط إلى المركز الرئيسي بالقاهرة. وإنه لا يعلم من أمر أخيه الكبير شيئاً وإنه شاب جسور مغامر بل مستهتر، حاد العاطفة لا يعرف التردد ولا الحذر. . . وإنه الوجه المقابل لصورة أخيه.
وفي اليوم الأول يلمح الوجه الجميل فيستهويه. عندئذ يسلك إلى قلب الفتاة طريقه المباشر في غير ما حذر ولا تردد، ويقطع الطريق الطويل الذي أنفق ويصبح أخوه في قطعه أشهراً. . . في يوم أو يومين. فيتصل ويصبح حبيباً ومحبوباً، وفرداً من أسرة الفتاة. . .! وأخوه يتطلع إلى هذا الانقلاب في دهشة بالغة وفي ألم كسير وفي يأس مرير، وفي إعجاب كذلك بأخيه الجسور!!!!
ويقضي الشاب مع فتاته أويقات حلوة، يسكران فيها بكأس الحب الروية، ويقطفان معا أجمل زهرات الحب الجميلة. . . وذلك ريثما يضرب القدر ضربته الأخيرة، فيمرض الشاب المغامر بالسل نتيجة لإفراطه بالشراب والسهر والمقامرة مع رفاق حي السكاكيني. ولكنه يمضي في استهتاره ثقة بشبابه، وخشية أن يعلم الناس بمرضه، وأن تعلم من الناس خاصة هذه الفتاة!
وفي اللحظة التي يلمس الحب الحقيقي قلبه العابث، فيملؤه جدا، ويتوجه إلى اتخاذ خطوة عملية حاسمة تكون الأقدار، قد ضربت ضربتها الأخيرة فيستشري الداء في الصدر المسلول، ويذهب الشاب بعد ليلات مريرة من الضنى والعذاب، وبعد أن تبين أن فتاته الحبيبة تخشى منه العدوى فلا تراه!
ثم تغادر الأسرة الحي في النهاية. . . تغادره وقد فقدت الشاب الصبوح الفتى الجريء. وقد(650/13)
انطوى قلب عاكف على جرح جديد بل على جرحين في جرح. والأقدار تسخر سخريتها الدائبة. ودورة الفلك تمضي إلى مداها. كأن لم يكن قط جرح ولا جريح!!!
حياة هذه الأسرة وجروحها وإحداثها وأحاديثها هي محور القصة، وقد أدار المؤلف حول هذا المحور حياة أهل القاهرة في هذه الفترة من فترات الهول أيام الغارات، فعرض منها لوحات بسيطة صادقة تشبه في بساطتها وصدقها فطرة هذا الشعب الطيب الفكه المؤمن المستسلم للقدر، والمتأثر بشتى الخرافات والدعايات ومن بين الصور التي عرضها صورة مقاهي خان الخليلي وغزه) أيضاً. وقد حوت أشكالاً وشخصيات لم تكن لتجتمع إلا في مثل هذا الحي الغريب حقاً؛ كما رسم الصورة مقاهي السكاكيني و (شلل) الشبان فيه! وسجل أطوار المقامرين ومجالسهم رسماً قوياً في جو من الجد والدعاية!
ولقد كان هذا الإطار من مكملات الصورة الأصلية كما كانت الريشة في يد المؤلف هادئة وئيدة، فوفق في إبراز الملامح والقسمات الجزئية، وساير الحياة مسايرة طبيعية بسيطة عميقة، منتفعاً إلى جانب مهارته الفنية بمباحث التحليل النفسي، ودون أن يطغي تأثره بها على حاسته الفنية الأصلية. وعاشت في القصة عدة شخصيات من خلق المؤلف لا تقل أصالة عن نظائرها في الحياة!
ولكن ليست المهارة الفنية في التسلسل القصصي، والبراعة الصادقة في رسم الشخصيات، والدقة التامة في تتبع الانفعالات. . . ليست هذه السمات وحدها هي التي تعطي القصة كل قيمتها. . . إن هناك عنصراً آخر هو الذي يخرج بالقصة من محيطها الضيق، محيط شخصياتها المعدودة، وحوادثها المحدودة في فترة من فترات الزمان، إلى محيط الإنسانية الواسع، ويصلها هناك بدورة الفلك وحلبة الأبد. . .
إنك لتقرأ القصة ثم تطويها، لتفتح قصة الإنسانية الكبرى. . . قصة الإنسانية الضعيفة في قبضة القدر الجبار. قصة السخرية الدائبة التي تتناول الأقدار تلك الإنسانية المسكينة.
هذه أسرة تفر من هول الغارات وخطر الموت من حي إلى حي. فما تغادر هذا الحي الآمن! إلا وقد أصابها الموت في أنضر زهرة وأقوم عود!
وهذا رجل شاخ قلبه، وانطوى على نفسه، وآوى إلى يأس مرير ولكنه هادئ ساكن. فما يلبث القدر أن يثير في قلبه إعصاراً على غير أوان، ويزيح الركام عن البذور المطمورة(650/14)
في قلبه الهرم، ليعود فجأة فيقصف الأعواد التي تنبت في بطئ وحذر يقصفها في قسوة عابثة، وبيد أحب الناس إليه: شقيقه وربيبه! ولو قد أمهله بضعة أيام لانتهى إلى الواحة الممرعة بعد طول الجدب في الصحراء. ولو قد تقدم به أياما لأعفاه من إضافة تجربة فاشلة إلى تجاربه المريرة!
وهذا شاب مستهتر عابث، ما يكاد الحب يقومه، ويعبث فيه الجد والمبالاة حتى يخطفه الموت، الذي لم يخطفه أيام العبث والاستهتار!
والأرض تدور، الزمن يمضي، والناس يقطعون الطريق المجهول كأن لم يكن شيء مما كان: رفاق الشاب في قوتهم يقامرون ويعربدون، وأصحاب الرجل في (غرزتهم) يدخنون أو في قهوتهم يتندرون. والقدر الساخر من وراء الجميع لا يبدو عليه حتى مظهر الجد في سخريته المريرة. والمؤلف نفسه لا يكاد يلتفت إلى الدائرة الوسيعة التي تنتهي إليها قصته لأنه يلقى انتباهه كله إلى إدارة الحوادث ورسم الشخصيات!!!
ولعل من الحق حين أتحدث عن قصة (خان الخليلي) أن أقول: إنها لم تنبت فجأة، فقد سبقتها قصة مماثلة، تصور حياة أسرة وتجعل حياة المجتمع في فترة حرب إطار للصورة. . . تلك هي قصة (عودة الروح) لتوفيق الحكيم.
ولكن من الحق أيضاً أن أقرر أن الملامح المصرية الخالصة في (خان الخليلي) أوضح وأقوى، ففي (عودة الروح) ظلال فرنسية شتى. وألمع ما في عودة الروح هو الإلتماعات الذهنية والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية؛ أما (خان الخليلي)؛ فأفضل ما فيها هو بساطة الحياة، وواقعية العرض، ودقة التحليل.
وقد نجت (خان الخليلي) من الاستطرادات الطويلة في: (عودة الروح). فكل نقط الدائرة فيها مشدودة برباط وثيق إلى محورها.
وكل رجائي ألا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب، فما يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه، واتخاذ أسلوب فني معين توسم به أعماله، وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته، وفلسفته حياة ذلك تؤثر في اتجاهه.
وبعض هذه الخصائص قد أخذ في البروز والوضوح في قصصه السابقة وفي هذه القصة؛ وهي الدقة والصبر في رسم الخوالج والمشاعر وتسجيل الانفعالات المتوالية، والبساطة(650/15)
والوضوح في رسم صورة لحياة أبطاله.
والبقية تأتي إن شاء الله!
سيد قطب(650/16)
العقل المؤمن! أو الدين من طريق الفكر
2 - المستقر العقلي لعقيدة التوحيد
(شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم. . .)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
شغلني شاغل الموت! موت أمي، تغمدها الله برحمته، عن الرد على مقال الصديق الأستاذ سيد قطب المنشور بالعدد 645 من (الرسالة)، وقد أعاد به الحديث في قضيتي (العقيدة والتصوير الفني في القرآن)، بعد أنقطع الجدل بيننا قرابة ثلاثة أشهر بسبب مرضه عافاه الله.
وكتب الأخ الأستاذ علي الطنطاوي في العدد 648 منتصراً لرأي الأستاذ سيد وأسند العقيدة للقلب لا للعقل، فلم يكن لي بد أن أعجل بالرد على الصديقين، برغم ضيق النفس والظروف بشواغل الموت والحزن، وأن أتحدث إليهما في هذا الشأن الخطير في عصر الظمأ الروحي والبحث عن ينابيع لشفاء النفوس من غليله.
وقبل البدء أود أن أنبهما - كما نبهت سابقاً - إلى أن حديثي في عقيدة (التوحيد) بوجه خاص، وليس في غيرها من شعب العقيدة الدينية. وقد رأيت أن القرآن جادل عنها وأثبتها بضروب الأدلة العقلية التي يكون الفكر فيها هو الأداة الأصلية وطالب مخالفيه بالبرهان. وأما الأستاذ سيد فيرى أن القرآن أثبتها عن طريق الوجدان بلا جدل ذهني، فيأخذ المؤمن ما أتى به في إجمال ويستريح بدون مناقشة بدون مناقشة على طريقة الذهن المعهود، ولم يفرق الأستاذ بين (التوحيد) وغيره من عقائد الإسلام في طرق دخولها إلى النفس، وقال إن العقيدة تثبت بأطرافها، وأنها أكبر من الذهن، ولا بد فيها من المجهول، وإلا استحالت رأياً.
وأنا لم أجاد له في العقيدة على إطلاقها في الإسلام ولا في الأديان الأخرى، وإنما جادلته ولا أزال في العقيدة (وحدانية الله)، وطريقة القرآن الذي يعتمد في إثباتها على المعلوم وحده وينأى عن (المجهول)، لأنها أساس الدين، فلا يصح أن يكون الأساس غير واضح وضوحاً يحمل العقل على الشهادة: (بأشد أن لا إله إلا الله).
والآن، أحاول مرة أخرى أن أبين أن القضية كما ورد بها القرآن ليست قضية تعتمد على(650/17)
(المجهول) والرهبة منه والتوهم فيه، وإنما تعتمد على (المعلوم) الثابت بالحس والبداهة والمحاكمة الفكرية بجميع قوى الفكر من الاستقراء والتذكر والتدبر والتمييز والضبط والحكم.
وليست كذلك تعتمد في مبدئها على (السماع) بطريق (الوحي) من عالم آخر، وإنما تعتمد على الإدراك بالقوى الفكرية الطبيعية في كل فرد صحيح التفكير، عالم بالكون، سليم الطبع، موزون القوى، وعلى التفاعل الفكري بينه وبين هذا الكون الكبير العظيم ذي الطلعة الأخاذة الجبارة، والقوى الموزونة الدقيقة المتناسقة المنسجمة، ثم ينزل الوحي الإلهي مما وراء الطبيعة فيؤيدها ويذكر بها، ويبين ما يلتبس على العامة فيها.
وليست كذلك تعتمد على الجانب (المائع) المتموج المتقلب في الطبع الإنساني، وهو جانب الانفعال الوجداني بالإثارات الفنية والأجواء الغامضة المسحورة، والشاطحات والخطافات، وجنون الأرواح بالأسرار، وانسلاخ القوى، وتجسيم الخيال، والاستغراق والهيام في أودية التهاويل والرموز، وغير أولئك مما تعتمد عليه الوثنيات التي لا ترى الكون ورب الكون بذلك لا الوضوح الذي يراهما به الفكر المسلم العالم، وإنما تراهما مبهمين مختلطين غير منفصلين، فلا يستقيم لها منطق إنساني ولا منطق إلهي، وإنما تلتبس عليها وجوه الكون وتختلط وتتداخل، فلا ترى الطريق القصير المستقيم إلى الله الواحد لتشهد به شهادة إثبات يقين جازم يقظ مستنير راسخ في إصرار لا يتزعزع ولا يرتد، وإنما يأخذها وجدانها إلى التقليد المبهم، حيث الإثارات الفنية والأضواء والإصدار ونداءات المجهول الهائل الغامض المخيف، فتن بض قلوبها ولو في بيوت الأوثان، وذلك النبض الذي يخلع على الأصنام الأوهام والتخييل، فترقص أشباحها في عيون عبديها، وتنطق أصواتها في قلوبهم، ويحبونها كحب الله إن كانوا يعترفون به معها، أو يخصونها بالعبادة دونه، ويحيطونها بفلسفات ومخرقات وكهانات، ويتحرك لها وجدانهم، ويشعرون نحوها بتبتل ورهبة، ويؤثرونها على الله، ويزعمون أنها الحق، والوحدانية فرية واختلاف وعجب من العجب. . . (أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب!)؛ (إن هذا إلا اختلاق)؛ (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)؛ (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)، (ويجعلون لله ما يكرهون)؛ (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل(650/18)
إلى شركائهم)، بل يصل بهم الحال أن يقاتلوا في سبيلها فيَقْتَلوا ويُقْتَلوا وهم يقولون لصنمهم الأكبر (أعْلُ هُبَل!).
فلو كان (الوجدان) هو مناط الإيمان وطريقة بدون محاكمة عقلية واعتماد على استقرار حقائق الكون في سبيل الاهتداء إلى التوحيد والإلهية، فما هو إذاً الفرق بين وجدان الوثني ووجدان الموحد، وبين إيمان هذا بالله، وإيمان ذاك بآلهته وأصنامه؟ إن الوثني مؤمن بآلهته بحرارة وجدانية، ويقاتل عنها بإخلاص، والموحد كذلك مؤمن بالله ويقاتل في سبيله. فأيهما على حق، وأيهما على باطل، وإذا كان الاتجاه في الإيمان إلى (المجهول) وإذا لم يكن التحاكم العقلي الاستقرائي إلى الكون هو الميزان والفيصل؟ وما هي أدوات ذلك التحاكم العقلي غير القوى التي يوجب القرآن وعلم النفس الحديث استعمالها كالاستقراء أو الاستعراض والاستنباط والتذكر والتدبر والتفكير والتمييز والحكم؟ تلك القوى الهادئة الفاصلة المضيئة التي تضئ للروح طريقها إلى الحق؟
وهل بأحد حاجة إلى أن أنبهه إلى أن كثيراً جداً من آيات القرآن تحض على التذكر والتدبر والتفكر والاستقراء والفهم التمييز واستعمال الحكم؟ وهل يحض القران على الهدى إلا وهي أسلحته وموازينه؟ وهل يسكن قلب امرئ ممن يعتد بهم ووجدانه عقيدة أساسية إلا بعد أن تمر على عقله ويقتنع ويقتنع بها؟ إن أصحاب محمد حينما تركوا عقائدهم وعقائد آبائهم الوثنية واتبعوا الوحدانية معه، وتحملوا من أجل الإيمان بالله وحده ألواناً قاسية من الاضطهاد والعذاب، ولم يكونوا أطفالاً، وإنما كانوا مفكرين ارتضوا الوحدانية على الوثنية بعد أن أيقظ قوى أفكارهم موقظهم العظيم، فوازنوا بين الدينين، وحكموا واختاروا وتحملوا التبعات.
ثم ما هي حجة الله في مؤاخذة المشرك حين قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ما دام ذلك المشرك يجد في قلبه وعواطفه وهواه ميلاً لعبادة الشركاء والأصنام تماماً، كما يجد الموحد هواه وعواطفه في عبادة الله؟
وكيف يهدد الله محمداً رسوله بإحباط عمله وتعذيبه لو فتن ومال في قوله: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت لَيحْبَطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين)؛ وفي قوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً. إذاً لأذقناكِ ضِعف الحياة وضِعف الممات، ثم لا(650/19)
تجد لك علينا وكيلاً)؛ أليس ذلك لأن الموقف الفكري هنا في عقيدة التوحيد موقف واضح حاد صارم! لا يحتمل الشبهة ولا الميل يسرة أو يمنة، لأنه إزاء قضية الكون كله وأعظم شئونه؟
فهو حقيق أن يقول القرآن فيه: (ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق!)
يا للإهدار والإهوان والتحقير والتضييع والتحطيم! الغضب الملك الحليم الجبار الرحيم على من لم ير تفرده بعرشه العظيم!
فهل كانت هذه الغضبة الإلهية إلا لأن المشرك ضيع الميزان الدقيق الهادئ الحر الذي وضعه الله بين قوى فكره، ولأنه سار وراء الانفعالات التي لا تستند إلى نقط ارتكاز واضحة؟
وقد قلت في مقال سابق: إن كان الأستاذ سيد يريد من الوجدان تلك القوة التي تعتمد على البداهة والحقائق الخالدة والإدراك الكلي ومدركات الحس، فهو بعينه القوة التي يطلق عليها القرآن العقل والفكر. والخلاف حينئذ يكون بيننا على الاسم، والأولى أن نستعمل ما استعمله القرآن، وأن نعدل في هذا المقام عن التفريق بين المنطقين، وعن استعمال (الوجدان) الذي قد خصصته الاستعمالات الحديثة بمنطقة الانفعالات للإثارات الفنية كالموسيقى والخطابيات والشعر والمشاهد الرائعة والأصداء والأضواء والنسمات الشذية وغيرها مما يثير عالم القلوب تلك الثورات المهمة الطليقة. وإن كان يريد به ما يسمى الآن (الضمير)، وهو تلك الاستجابة الطبيعية للجمال والخير بدون تعليل، والنفرة من الشر والقبح بدون تعليل كذلك إلا لأن الطبع هكذا، فذلك ليس حديثه هنا وإنما في مجال الأخلاق والسلوك. ونحن هنا إزاء قضية التوحيد تلك القضية الفكرية التي تأتي في مرتبة تالية بعد إثبات وجود الخالق المدبر بالبداهة والفطرة التي من طبيعتها أنها لا ترى حدوث كائن ما بدون سبب، ثم يتساءل الفكر: هل هذا الخالق المدبر متعدد أو متوحد؟ ثم يصل إلى (التوحيد) ويوقن به بعد الاستقراء والتتبع (لمعلومات) الكون وإدراك ما فيه من وحدة التصرف وتوازن القوى المادية العارمة المجنونة العمياء والالتئام والتناسق الدائم بينها (فارجع البصر هل ترى من فطور؟)؛ (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى).(650/20)
ويستلزم الأمر أيضاً أدوات من المعرفة بطبائع التعدد في الأيدي المتصرفة، وبالتجارب الأزلية النفسية والاجتماعية بين الأمثال والأشباه من الرؤساء، وباستعراض مقالات الأديان الوثنية والمعددة للآلهة وما حولها من الأساطير وأحاديث الصغارات والطفولات في الحلوم والتصرفات، والمعارك الدائمة بين آلهة الخير وآلهة الشر، وتفاوت القوى والمواهب بينهم جميعاً، وانتهاء آفاقهم جميعاً إلى أكبرهم يخضعون له ويستمدون منه ولا يستطيعون منه مهرباً، كما كان الحال مع آلهة اليونان والرومان، إذ ينتهون إلى (ذيوس) و (جوبتير)؛ وكما قال القرآن بتلك الحجة العقلية الدامغة: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)؛ (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض).
إن (الوجدان) بمعناه الاصطلاحي الذي شرحناه لا يفصل في هذا المعترك الزاخر، لأنه منطقة التبتل والخشوع والاستسلام للآله الواحد أو الآلهة المتعددة بعد انتهاء المعارك الفكرية حولها.
وهو يعمر قلوب جميع المتدينين موحدين ومعددين ووثنيين، فكلهم يبكون ويخشعون في معابدهم وفي حالات هيامهم الروحي. هؤلاء يتوجهون لمعبود اتهم المتعددة، وأولئك لمعبدهم الواحد. . . فما الذي يجعل القرآن يقول عن المؤمنين بالله: (أولئك حزب الله)، وعن الآخرين: (أولئك حزب الشيطان)، لولا أن منطقة العقل الوزان هي المحكمة وهي المسئولة؟
إنني قلت: إن جدل القرآن في مسألة التوحيد جدل عقلي إثباتي بالبراهين الاستقرائية والتطبيقية والعملية والتاريخية، فساق براهينه وطالب مخاليفه بمثلها: (قل هاتوا برهانكم)؛ (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)؛ (قل رأيتم ما تدعون من دون الله، أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات، أتوني بكتاب من قبل هذا، أو إثارة من علم).
وقد بينت ما تنطوي عليه آيات التوحيد في سورة الأنبياء من ضروب الأدلة العقلية جميعها بما لا يدع مجالا للشك في أن القرآن جادل عن التوحيد خاصة جدلا ذهنياً عقلياً، ولكن بأسلوبه الأدبي الفردي المتفرد الذي يحرك الوجدان أيضاً بجماله بجانب الحركة العقلية بحججه. ولكن الأستاذ سيد يقول: إنه لا يزال عند رأيه في أن هذه الآيات ساقها القرآن(650/21)
مجملة يأخذ منها المؤمن ما يأخذ بدون مناقشة، لأنها لا تحتمل المناقشة الذهنية على طريقة الذهن المعروفة.
ويكرر الأستاذ اعتراضه بقوله: ما بال كثرة المؤمنين من الجماهير تؤمن بدون حاجة إلى من يفلسف لها العقيدة لو كان الأمر في العقيدة يحتاج إلى التفكير الذهني. أو لا يعلم الأستاذ أن الجماهير تسير وراء تقاليد بيئتها بدون تفكير في أغلب الشئون؟ فإن كانت البيئة وثنية، فهي معها، وإن كانت موحدة، فهي معها، فلا يعتد القرآن بها، ولا يحتج بسلوكها وشهادتها، وإنما بشهادة أولي العلم: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم)؛ (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)؛ (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
وقد نبهت في مناسبات شتى إلى ما في القرآن من تفرد بأنه يقف العقل البشري عند حدوده، ولم يكلفه أن يسبح في غير عالمه، ولم يتحدث عن (الله) إلا للتعريف بصفاته وصنعه في الطبيعة التي هي مدرسة العقل ومدرجه وأداة تكوينه ومآخذ أحكامه. ولم يعبر عنه إلا بـ (الذي) خلق، (الذي) رفع السماوات (الذي) له ما في السماوات وما في الأرض. . . هكذا بالاسم الموصول المبهم بنفسه الموضَّح بصلته، وصلته دائماً من (معلومات) الفكر و (بداهاته) و (مدركاته) الحسية والمعنوية. . .
ولم يتحدث عن كنه الله إلا مرة واحدة على سبيل التمثيل، وهي (الله نور السموات والأرض)، ولكنه ليس تحديداً لكُنْه الذات العليا، ولكنه تقريب وتمثيل: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري)؛ فالنفس تأخذ من هذا التمثيل أن الله هدى وجمال ولطف وإشراق غير محدود.
ووصف القرآن وصف منتزع من الطبيعة: كتاب الله الصامت، فما أثبته كلام الله الناطق له هو بعينه ما أثبتته الطبيعة كتابه الصامت، فلو لم يكن القرآن كتاب دين موحى به، لكان كتاب مذهب عقلي يصف (الذي) خلق هذا الكون بعد أن استقرأ أعمال يده وعلمه وقدرته في كل كائن من كائناتها.
فهو (الخالق البارئ المصور): لأن أعمال الخلق والبَرْء والتصوير في الطبيعة تشهد بذلك؛ وهو (الرحمن الرحيم): لأن يده دائماً مع الضعف والعجز بين جبروت المواد والقوىْ العمياء، حامية حافظة لطيفة رقيقة؛ وهو (الملك): لأننا لم نجد لغيره شركاً في السموات(650/22)
والأرض، ولا قطميراً ولا نقيراً. . . وهو (القدوس): لأنه الكمال المطلق والوجود الكامل المنزه، الذي يجده العقل وراء ما يراه في الكون من نقص؛ وهو (السلام): لأنه لم يجعل العالم جحيما ودماراً والاماص وقلقلة واضطراباً وصداماً لا يسمح باستقرار الحياة، ولا باستقرار نظام الأجرام السماوية والأوضاع الأرضية، وهو أمان الخائف اللائذ الهارب من الشرور والقبح والآثام. وهو (المؤمن): لأنه مُصِرُ ثابت على اتجاهه بالكون إلى غايات واحدة أزلية هو أعلم بها، لم يجعل الشر خيراً، ولا الخير شراً، ولم يقلب موازينهما، فالحياة والجمال والخير والرحمة والعلم من حقائق الكون العليا الخالدة، وسننه التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا، فالله مؤمن بها؛ وهو (المنعم): لأن ما فاض منه على الكون من بدئه للآن من فيوض النعم المتوالية والجمال والخير شيء عظيم! وهو (شهيد حفيظ): لأنه مع كل صغيرة وكبيرة في الكون لا يضل ولا ينسى؛ وهو (جبار قهار): لأنه يسوق الكون الأعظم الهائل بعصاه، ويمسكه في قبضته؛ وهو (حليم ستار غفور): لأنه يتيح الفرص للخارجين على الحق والصلاح أن يرجعوا، ويمهل ويملي ويعفو عن كثير من نقائص الطبع البشري. . . إلى آخر الصفات الحسنى التي ينتزعها الفكر من الكون، ويترجمها بألفاظ تكون نتيجة لذلك التفاعل الخفي بين الطبع البشري مع جمال الكون العبقري وجلال طلعته الأخاذة! فهل ترى القرآن أتى بشيء عن الله خارج عن حدود الطبيعة لم يثبته العقل؟
إن الفكر البشري فرض (الأثير)، وحدده بآثاره وأثبته بخواصه، مع أنه لا يُرى ولا يحد وسلم له العلم بإثبات هذه الصفات، وكذلك يفعل الفكر في إثبات صفات بارئ الكون، كما تتجلى في الطبيعة، فينبغي أن يسلم له العلم بذلك، بدون حاجة إلى إدراك كنه ذات الله، ولا كيف تتعلق صفاته بها. .
ذلك أمر بمكان عظيم من الاعتبار، ينبغي أن يعلمه المسلمون غاية العلم، ويقوموا له بحقه من إذاعة به، حتى يعلم العقليون والعلماء - وهم قادة الإنسانية في الأمم الحية - أن القرآن كتابهم، وطريقته في الاهتداء إلى الله علمية في موضوعها وفي نتائجها وفي غايتها، فلا يسلكوه مع غيره، ولا يأخذوا عقائده مغمصين، لأنه هو ينهى عن ذلك: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا)؛ (والذين إذا ذكروا(650/23)
بآيات ربهم لم يَخِرُّوا عليها صُماً وعمياناً) أتراني أبت عما يملأ نفسي في هذه المسألة للصديقين؟
هذا، وإن في النفس لبقية حديث
عبد المنعم خلاف(650/24)
بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية:
تعميم الثقافة الإسلامية
للأستاذ علي الطنطاوي
أحسب أن هذا الفصل لن يجوز إلى مصر ويكون في أيدي القراء إلا بُعَيْد اليوم الذي يتخذه المسلمون عيداً، يذكرون فيه هجرة سيدهم وسيد العالم محمد صلى اللًه عليه وسلم ويذيعون فيه سيرته وشمائله، وتروج فيه سوق المباحث الإسلامية، وتجري بها أقلام الكتاب، وتمتلئ بها صحف المجلات، ولن أعود فيه إلى حديث كتاب الدين الإسلامي الذي طالما تكلمت فيه في الرسالة وأفضت، وبدأت وأعدت (انظر أعدادها 314، 332، 336) فكنت كنافخ في غير ضرم، وصارخ في وادٍ، وإن الصارخ في الوادي ليسمع رجع الصوت، ونافخ الرماد ينثر الغبار، ومقالاتي لم تحرك من هؤلاء (العلماء. . .) ساكناً، ولم ترجع لها الأيام صدى، مع أن المقبرة. . . تردّ الصدى على من يصرخ بين القبور!
ولكني متكلم اليوم في تعميم الثقافة الإسلامية، تعميما يعرف به الناس (أعني المسلمون) دينهم، ولا يكون مسلماً حقاً من لم يعرف دينه، ومن يكتفي من الصلة به بأن أبويه مسلمين، وأن اسمه محمد أو علي لا جورج ولا طنّوس. . . ولا يكونه أبدأً إلا إذا عرف حقيقة الإسلام وألم بعلومه، وعلم الحلال من الحرام، ولا يكون ذلك ألا في المدارس والمساجد، فالمدارس للناشئة والمساجد للعامة، وكلاهما اليوم في قصور عن هذه الغاية بيُن:
أما المساجد فليس تخلو من أثار علم، هي بقية من ذلك الفيض العظيم، كالذي يبقى في الوادي من ماء السيل، ليس فيه عوضُ منه ولكن فيه دليل عليه. ولقد غير دهر كانت فيه المساجد بمثابة جامعات اليوم تدرّس فيها كل معضلة، ويقرأ كل علم حتى الطب. لا أمثّل على ذلك بمساجد الكوفة والبصرة قديماً، وبغداد والفسطاط، فذلك شئ مستعان خبره متواتر مشهور، ولكن أمثل بما كان يرى من حلقات العلم، من قريب، في مسجد دمشق ومساجد القاهرة وبغداد وما يرى اليوم في النجف من حلق كثيرة يدرس فيها مذهب القوم، وتقرأ فيها العلوم على الطريقة التي يرتضيها لأنفسهم علماء تلك الديار ومتعلموها، فلم يبقى من ذلك (حاشا النجف والأزهر) إلا حلقات قليلة، ومجالس وعظ، كثيراً ما يتولاها غير(650/25)
أربابها، ويتصدّر فيها من لم يكن يطمع في الجلوس في حواشيها، يلقى فيها ما يجتمع على إنكاره الدين والعقل والذوق، من التحريف والتخريف والباطل الموضوع والسخيف الواهي، ولقد كان تدريس (القبة) في جامع دمشق لأكبر علمائها، وآخر من تولاه البدر الحسني رضى الله عنه، فصار اليوم لكل ذي عمامة مكورّة، ولحية مدورة، وصوت يصك الآذان!
وكذلك اختفت من المساجد حلق العلم الحق، وتوافرت فيها مجالس الوعظ الباطل والقصص الموضوع، ولدينا عدد عديد من العلماء الذين نصبتهم الحكومة مدرسين للعامة، فلبثوا في بيوتهم ما يراهم من أحد، اللهم إلا (أمين الصندوق) أول يوم من الشهر والحاكمون ذوو السلطان في كل عيد مهنئين، وكل سفر مودعين، وكل قدوم مُسلمين وعندما تشغر (وظيفة) ليقاتلوا عليها، ويحاربوا دونها. .
أما المدارس فحديثها أطول، والبلاء فيها أشد، وهي على ضروب:
فَضْرب منها لأناس ليسو منا، ولا لسانهم بلساننا، ولا دينهم من ديننا، قدموا علينا أرضنا، وأخذوا أبناءنا، ليخرجوهم أعداءنا، ويجعلوا منهم أداة من أدوات (التمدين) التي رأينا أشكالا منها مؤذية وألواناً. . . منها العازارية والفرنسسكان والفرير واللاييك والأمريكان، وواضح لا يحتاج إلى إيضاح أن هذه المدارس لا تدرس الفقه ولا الحديث ولا تعني بعلوم اللسان. وأنها أنشئت لغير هذا، وما كتمت منهجها ولا أخفته، ولا خدعت الناس عنه، ومع ذلك نجد تجاراً مسلمين، بل وعلماء يدعون أنهم الهادون المهديون، الصالحون المصلحون، قد أرسلوا إليها أبناءهم وبناتهم. . . وقد ظهر بعد أن أغلقت هذه المدارس - والحمد لله - أن أكثر تلاميذها، بل جمهورهم من المسلمين!
وضرب منها لأناس من عامة هذا الشعب ضاقت بهم سبل العيش فلم يجدوا طريقاً إلى الكسب، فاستأجروا بيوتاً أو وضعوا أيديَهم على غرف مظلمة في مساجد مهجرة، فسموها مدارس، وسَمَّروا أخشاباً بأخشاب فَدَعَوْها مقاعد، وأجلسوا عليها أَغْلِمَةً جعلوهم تلاميذ، وتمت الرواية لما صاروا هم المعلمين. . . وهذه المدارس (المسرحية) لا تصنع في نشر الثقافة الإسلامية شيئاً لأنها لا علم فيها أصلا وهي آخذة بالزوال. . .
وضرب منها مدارس أهلية كبيرة، كثيرة التلاميذ والمدرسين ضخمة البناء يديرها أفراد أو(650/26)
جمعيات، ومنها ما يقوم عليه نساء. . . منها الإسلامي وهو قليل محدث كالكلية الشرعية في دمشق وغير الإسلامي وهو كثير قديم، وما هو ضائع المنهج، ضالّ عن الطريق لم يتخذ بعدُ له وجهة يوليها، وما فيها جميعاً (إلا ذلك المحدث القليل) ما يصنع في نشر الثقافة الإسلامية شيئاً. . .
وضرب منها وهو أعظم ضروبها كثرة المدارس، وعمق أثر، قد أنشئ بأموال الأمة لتعليم أبنائها، وتخريجهم وإعدادهم إعداداً، يكونون معه أدلاء لها في طريق نهضتها، وقادة لها إلى ما تحاول من مجد وعز وكمال، ولا يتم ذلك إلا يوقفهم على تاريخهم وتعليمهم علوم دينهم ولسانهم، وإفهامهم أن هذه الأمة مقدور عليها أنه لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وما كان صلاح أولها إلا بالإيمان الصحيح والخُلُق المتين، فإذا أضعناهما أضعنا المعراج الذي نعرج عليه إلى ما نريد من ذرى المعالي. . . وسرنا في طريق الحياة بساقين جذماوين، نزحف زحف المُقْعَد الزَّمِن، ونتدحرج تدحرج الكرة، فنتمرغ في الوحل، ونحن نحسب أنا نرقى في سلاليم المجد والعلاء، وإذا أنت فتشت عن هذين الجوهرين الكريمين: العربية والإسلام، في المدارس الرسمية لم تَلْق منهما إلا ما تلقى من حبات الذهب في تل الرمل، ومن حرّ اللآلئ في أصداف البحر، ووجدت الدروس في هذه المدارس على نوعين: نوع واحد منهما له المحل الأعلى، والقدر الأكبر، وعليه مدار جهد المعلم والطالب، وفيه يكون الامتحان وما يعقب الامتحان من الارتقاء أو الرسوب، وقد يدخل في هذه الدروس الغناء واللعب (أي الرياضة البدنية) والتصوير ولكنه لا يدخل فيها الدين، ولا تجد في قطر من هذه الأقطار العربية المسلمة، امتحاناً من الامتحانات العامة (الابتدائية أو الكفائية أو الثانوية) يكون فيها لدرس الدين خَطَر، أو أثر في نجاح الطالب أو فشله. على أن تسمية العلوم بدرس الدين أول الوهن، وليس الدين علماً واحداً ولكنه علوم جمة، ومعارف شاملة، عاش عليها العقل البشري قروناً طوالا، منها الفقه فروعه وأصوله والتفسير والحديث والكلام وعلوم أخرى عدّ منها طاشكبري زاده في كتابه الجليل (مفتاح السعادة) ستة عشر وثلاثمائة علم. . . لكل علم منها أبواب وفصول، وفي كل كتب لا يلحقها الحصر، وفي كشف الظنون للحاج خليفة وصف لستة عشر ألف كتاب هي التي رآها المؤلف ووقف عليها بنفسه في عصر من عصور الانحطاط. . . ولقد سبق أن قلت،(650/27)
إنك إذا نظرت إلى ما ثبت من كتبنا على التحريق والتخريق والتغريق والتمزيق، وما خلص إلينا مما أصاب المكتبة الإسلامية من النكبات الكبار، والأحداث الجسام، وحسبك منها مصيبتنا هولاكو وفرديناند، لرأيت شيئاً يهولك ويعجزك عَدُّه كما أعجز المطابع إلى اليوم طبع بعضه، وهي لا تني في الشرق والغرب تعمل دائبة عليه، وما علمنا لأمة من الأمم الأرض كلها مثل هذا الذخر العلمي أو قريباً منه، ولا مثل نصفه ولا ربعه. . . أفليس من أعجب العجب أن هذا التراث لا يساوي في رأى القائمين على هذه المدارس علماً واحداً من علومها كالجبر مثلاً أو الفيزياء أو. . . الرياضة البدنية، ولا يجودون عليه بسبع ساعات في الأسبوع أو ثمان. . . ولا يجعلونه مدار خيبة في البكالوريا أو نجاح، وأعجب منه أن تاريخنا الذي يتصل أشد الاتصال بالتفسير والحديث والرواية وعلم الرجال يتولى تدريسه فيها من لا بَصَرَ له بهذه العلوم ولا علم له بمصادرها الأصلية ولا وقوف له عليها، ولا قدرة له على فهمها، ومن لم يحصل إلا على أيدي الخصوم الذين يكيدون له ويدسون عليه الدسائس، فهو يحملها في فكره كما يحمل البعوض جرثومة الملاريا ليلقيها في أدمغة الطلاب الأصحاء فيفسدهم بها، حتى رئينا جماعة من غير ملتنا وديننا درسوا (في عهد الفرنسيين!) تاريخنا، أفسمعت بأعجب من تدريس الخواجة ميشيل والخواجة توما، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟ وأبلغ منه في العجب أن الفرنسيين وصل بهم الأمر. . . أن بعثوا بأبنائنا يأخذون لغتنا، عن المسيو (مارسيه) في بارير، كأن بارير بادية البصرة وكأن ماريسه من فصحاء بني عقيل. . . أو كأنه الأصمعي أو الخليل!
لا رحم الله ذلك الزمان، ولا أعاد مثله علينا أبداً. . .
أما إن الحديث جد، وإنه ليس بين شبابنا وبين أتباع الإسلام إلا أن يعرفوه لأنه قوي أخاذ ما عرفه أحد على حقيقته وقدر إن كان منصفاً على مخالفته، ولكن المشكلة هنا: كيف السبيل إلى أن يعرف الشبان المسلمون ما هو الإسلام إذا كانوا لا يستطيعون النظر في كتبه ولا يعرفونها، وإذا كانوا يرون أكثر للتزيين بزي علمائه جامدة أفكارهم، يقولون بألسنتهم ما لا يحققونه بأفعالهم، يأمرون الناس بالعزة ويذلون لأهل الدنيا، ويزهدون فيها ويتسابقون إليها، ثم إنهم بعد ذلك منقطعون عن الشباب، لا يلقونهم، وأن لقوهم لم(650/28)
يستطيعوا أن يفهموهم، وكانت المساجد مقفرة من دروس العلم، وكانت المدارس معينة بكل شئ إلا الدين؟
السبيل هو هذا:
إنها قد نشأت فينا طبقة من العلماء، ممن حصل العلم في المدارس الحديثة ولكنه درس مع ذلك علوم الدين ووقف عليها، أو درس الدين وعلومه على الطريقة القديمة ولكنه ألمَ بالثقافة الحديثة ودرسها كما يدرسها أهلها، وأنا أعرف على هذه الصفة كثيرين في الشام ومصر. وعلى هذه الطبقة يقع الواجب الأكبر في الدعوة إلى الله، والعمل على تعميم الثقافة الإسلامية، بالإلحاح على مديري الأوقاف وعلى مقام الإفتاء بوضع منهج عملي للتدريس والوعظ في المساجد، وأخذ المدرسين بالشدة لينفذوه ويسيروا عليه؛ والإلحاح على وزارة المعارف بالعناية بالعلوم الإسلامية في المدارس، ومنحها الساعات الكافية لها، وإدخالها في مواد الامتحانات المدرسية والامتحانات العامة واختيار المدرسين الصالحين لتدريسها - ويعمل كل على ذلك بلسانه إن كان خطيباً، وبقلمه إن كان كاتبا، وبقوته كلها.
فإن لم يفعلوا فليعلموا أنه سيأتي يوم قريب لا يبقى فيه من يدري ما هو الإسلام، ويكون حالنا كحال ذلك الجندي التركي الذي لحق في المعركة بلغارياً، فلما تمكن منه ووضع سنان البندقية على عنقه، قال له: أنا في عرضك. فقال له: أسلم! فوجد البلغاري الفرج، وقال: إني أسلم فماذا أقول؟
فتحير التركي وقال: (بِلْمامْ والله)!
أي لست أدري!!
(دمشق)
على الطنطاوي(650/29)
في مصر فلسفة أصل الوجود
للأستاذ نقولا الحداد
في مقال بهذا العنوان للكاتب الكبير الأستاذ العقاد في العدد (647) من الرسالة بتاريخ 26 نوفمبر المنصرم تنويه باسمي الضعيف. هو تنويه بنعت الطيبة التي يتصف بها الأستاذ العقاد.
وكانت إشاراته لي في معرض الفلسفة الذي استفاض فلمه فيه وهو يتعجب من أن طلاب الحقيقة لا ينظرون إلى الفلسفة القديمة) باللغو الفارغ (كما فعلت أنا) حين جرى البحث في صفحات الرسالة عن وحدة الوجود. فضربت المثل على سخف المذاهب الفلسفية القديمة كقول فيثاغورس: أن العدد هو سر الوجود، وأن النسبة بين الأشياء هي نسبة بين الأعداد، (كيف هذا؟)
يقول الأستاذ: (قال فيثاغورس هذا قبل 25 قرناً. فكان فرضه أقرب إلى الصدق من فروض علمية كثيرة فتن بها الناس إلى سنوات.
(قال فيثاغورس حين رأى أن الأوصاف كلها تفارق الموجودات من لون أو لمس أو صلابة أو ليونة أو وزن أو ما شابه هذه الأعراض الكثيرة إلا العدد؛ فإنه ملازم بكل موجود فرداً كان أو أكثر من فرد، وكاملاً كان أو غير كامل، وأن الفروق بين الأشياء هي فروق بين تركيب وتركيب أو فروق بين نسب الأعداد. وأن الكون كله دور موسيقى هائل يدور على قياس منسجم كما يدير المعازف الماهر ألحان الغناء.
(وإذا قال فيثاغورس هذه المقالة قبل 25 قرناً، فليس من حقه أن توصف مقالته بالفراغ وهي أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود وفوارق الأجسام، وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء أن أصل المادة أثير).
انتهى بعض كلام الأستاذ، وقد أوردته هنا بنصه لكيلا يضطر القارئ أن يعود إلى عدد سبق من المجلة.
ظهر فيثاغورس فيلسوفا منذ 532 سنة قبل المسيح وله تعاليم صالحة وبعض نظريات قيمة وأهمها في الرياضيات. فهو أول من اكتشف أن مجموع مربعي ضلعي المثلث القائم الزاوية يساوي مربع وتر المثلث. وهي قضية رياضية عظيمة الشأن، وقد بنيت عليها(650/30)
نظريات وعمليات رياضية مختلفة وكانت منشأ حساب المثلثات.
ولكن نظريات فيثاغورس في أصل الوجود أو الهيولي أو المادة المحسوسة نظريات سخيفة جداً ذهب إليها بناء على ظاهرات سطحية لا نعلم جيداً كيف استنتجها منها.
أمعن فيثاغورس في الحساب الرياضي وبرع فيه في عصره حتى أن مدرسته كان قوام منهاجها الحسابات الرياضية. وقد تملكت له حتى اعتقد أن أصل الأشياء العدد. وصار يعلل كل ظاهرة في الوجود بالعدد. تسلط العدد على لبه. حتى صار العدد عنده مبدأ الموجودات.
وكان من مكتشفاته القيمة أنه كشف نسب الأنغام الموسيقية في الوتر المشدود، وأن هذه النسب تتوقف على طول الوتر ومقدار شده. وكانت هذه النظرية من جملة أسباب اعتقاده أن الأعداد أصل كل شيء، وأن عناصر الأعداد علة عناصر الأشياء. وأن السماء بما فيها من أجرام هي سلم موسيقي (عددي). ومن ثم تحول تلاميذه على عدد سبعة في تعليل ظاهرات الوجود لأن عدد 7 هو عدد أنغام السلم الموسيقي، وعدد الكواكب المتنقلة، وعدد السبع الطباق، السموات السبع، وعدد أيام الأسبوع الخ.
وجعل فيثاغورس وتلاميذه أهمية للعددين 3، 4 ومجمعهما 7 للاعتبارات التالية:
أولا: أن الخط مجموعة نقط متتابعة. والسطح مجموعة خطوط متحاذية ومنها المربع. والحجم مجموعة سطوح متقاطعة، ومنها المجسم والمكعب.
وثانيا: أن الوتر والشفع عنده هما المحدود واللامحدود، وهما يعنيان المكان؟؟؟ والاثنان هما الخط، والثلاثة هي السطح. والوتر والشفع. والمحدود واللامحدود هما الطاقمان الأولان من المتضادات العشرة الأساسية. والثمانية متضادات الباقية هي: واحد وكثير، ويمين وشمال، وذكر وأنثى، وسكون وحركة، ومستقيم ومنحن، ونور وظلمة، وخير وشر، ومربع ومستطيل.
ويظهر أنه غفل عن وراء وأمام، وفوق وتحت، وبرد وحر، وجبل وواد، ونوم وصحو، وضحك وبكاء إلى عشرات الألوف من المتضادات؛ لأن كل صورة من صور الموجود لها مقابل.
فالكون عند الفياغورسيين هو في تحقيق هذه المتضادات، والواحد هو العقل لأن الواحد لا(650/31)
يتغير، والاثنان الرأي لأنه غير محدود ولا مقرر. والأربعة هي العدالة لأنها أول عدد مربع هو حاصل متساويين. والخمسة هي الزواج. وإن كنت شاطراً فافهم هذه السخافات.
إذاً سألت فيثاغورس نفسه أن يفسر هذه التخريفات فماذا يقول؟ وإذا كان فيثاغورس يعتبر فيلسوفا لأجل هذه الفلسفة (العددية) فالفلسفة إذاً بله وهبل.
ألا يرى إنسان اليوم أن هذه النظرية في الطرف الأقصى من السخف لأنه لا يجد لها تفسيراً معقولاً؟ وأما تفسيرها بأن الأوصاف كلها قد تفارق الموجودات من لون وصلابة وليونة وثقل الخ إلا العدد فانه ملازم لكل موجود، فهذا التفسير إغراق في الغموض لا تفسير، لأنه يزيدنا حيرة في غير المعقول حين نحاول أن نجعله معقولا؛ ولا سيما لأن الثقل واللمس وغيرهما كثير من الأوصاف لا تفارق الموجودات.
إذا جردنا المادة من الأوصاف المذكورة وغيرها أي من اللون والصلابة والثقل فماذا منها؟ لا يبقى منها شيء لا مادة ولا عدد. نحن نعرف المادة بصفتها وأعراضها التي نحس بها فإذا زالت هذه زالت المادة وزال الوجود.
وأما العدد فليس خاصة من خواص المادة؛ بل هو خاصة من خواص عقلنا. فنحن نتصرف بالعدد من غير أن يكون لدينا المعدود. جميع الرياضيات الحسابية إنما هي فكاهة عقلية. ولا تعتبر ذات قيمة إلا حين نطبقها على الوجود المعدود. تكون حينئذ رياضيات تطبيقية.
نجل الأستاذ الكبير عن الجد في قوله: (إن الأجسام نسب بين أعداد، وأن الفارق بينها فارق في هذه النسب دون غيرها، وأن التناسق في هذه النسب أصدق من أجرام المادة الملموسة باليدين، وإن الأصح في تركيب الذرة أن يقال إنه (عددي) لا أنه (مادي) ملموس.
نعم نجل الأستاذ عن الجد في هذا القول لأنه غير مفهوم وإن فهم فغير معقول ولا هو منطقي.
ويعز على الأستاذ أن توصف مقالة فيثاغورس بالفراغ لأنها في رأيه (أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود) وأغرب من هذا قوله: (إنها وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء إن أصل المادة الأثير).
إذا ثبت، وهو معقول وراجح، أن الأثير هو أدق جزيئات المادة فيكون العلم قد أبلغنا إلى(650/32)
كنه الهيولي. وأما (العدد) إذا حسبناه أصل الوجود فيطرحنا في هاوية من الجهل لا قرار لها.
إن العلم الحالي قربنا جداً إلى حقيقة كنه الهيولي التي هي أصل المادة. فقد شرح الجزيء إلى ذرات، ثم حلل الذرة إلى كهارب وكهيربات) بروتونات وإلكترونات مكهربة). ثم فتت هذه إلى فوتونات غير مكهربة، ولكنها حاملة الطاقة. والفوتونات في رأي بعض العلماء الأساطين هي ذريرات أثير.
واختراع القنبلة الذرية حقق النظرية الكهربية (نسبة إلى كهرب) الإلكترونية وأكد صحتها. فلا يدع أن تكون الفوتونات هي ذريرات أثير. بنظرية الإلكترون هذه فسرنا الألفة الكيمية وكم الكفاءة الكيمية وسر النظائر الكيمية وغير ذلك من الظاهرات الطبيعية التي كان العلم حائراً في تعليلها. فلذلك لم يبق شك في صحة هذه النظرية الإلكترونية.
أبعد هذا يصح القول بأن الفلسفة العددية الفيثاغورية أدق من قول العلماء إن أصل المادة الأثير؟
أين فلسفة فيثاغورس من علم اليوم؟
كان فيثاغورس وسلفاءه وخلفاؤه فلاسفة عصرهم المتمادي في القدمية لأن ما أدركوه كان جل ما أذن لهم تفكيرهم أن يدركوه وأن يفسروه من ظاهرات الوجود وهم ضمن جدرانهم لا يختبرون ولا يمتحنون. ولكن فلسفتهم لدى علم اليوم كالأكمة المنخفضة في البطحاء لدى الجبل الأشم. نحتقر علم اليوم إذا قارناه بفلسفة الدهر المظلم.
الحقيقة تظهر عن يد العلم لا عن يد الفلسفة. الفلسفة تتلاشى رويداً أمام العلم، كما يتلاشى الليل أمام الفجر، والفجر أمام الشروق.
أجل: في مصر، والحمد الله، فلسفة. ولكن ليس فيها، بكل أسف، فيلسوف. وأستغرب أن يقبل أحد من علمائنا لقب الفيلسوف. إن الفيلسوف من كانت له نظرية فلسفية جديدة هو مبتكرها. فأين النظرية الفلسفية الجديدة عندنا؟
أرجو الأستاذ الكبير أن يفتقر ما لا يروق له من مقال مؤكداً له أني حسن النية. وجل من لا يشط ويغلط
نقولا الحداد(650/33)
في الأدب الإنكليزي
ماثيو أرنولد
بقلم الأستاذ خيري حماد
- 2 -
وقد كتب عنه برل قائلا:) لقد كان أر نولد ناقداً أميناً، نعم لقد أساء فهمه الكثيرون ولكن ما قيل عنه يجب ألا يعد لا في العير ولا في النفير فلم يخطئ الحقيقة بل أصاب مقاتلها في بعض الأحيان وأخطئها في البعض الآخر. ويندر أن نجد في أدبنا ناقداً يضاهية في الدعابة وحسن النكتة. وإن محاضراته عن ترجمة هوميروس لتؤلف كتاباً تلذ قراءته، وتفيد مطالعته، ويستحسن طبعه؛ فهو كتاب قيم يندر أن تجد له مثيلا في دقة محتوياته وحلاوة دعابته، فهو يجعل قراءة الأدب لذيذة؛ ومطالعة سير الحب سارة للرجال الذين بلغوا من العمر عتيا يتذكرون أيام طفولتهم ومغامرات حداتهم).
لن تتيح لنا الظروف أن نتناول كل ما كتبه أرنولد في النقد وأصوله وفنه، ويكفي هنا أن نسرد مثلين من أمثلة نقده لندل على الطريقة التي كان يتبعها في نقد الدب الأدباء. أما الأول هو يتناول آراء أر نولد في الشاعر الإنكليزي المعروف شلي، والثاني تنسون.
لم يكتب أرنولد طيلة حياته نقداً تاماً للشاعر شلي ولكنه في مواضع كثيرة من مؤلفاته يطلعنا على رأيه فيه؛ يصفه كثيراً بقوله: (هو ملاك جميل ولكنه عديم التأثير إذ يحلق في الفضاء مرفرفاً بأجنحته دون أن يحدث هنالك كبير أثر) وفي بعض المناحي الشعرية يجهد شلي نفسه للحصول على ما يستطيعه الغير بسهولة ودون أي تعب أو نصب. ولكن الأغاني التي اشتهر أمره فيها لم تكن أحسن ما كتبه الشاعر بل إن معظم أشعاره متحف من التوافه والمبتذل من الشعر.
وكان أر نولد يعتقد اعتقاداً حازماً في أن شلي لم يصل إلى الدرجة السحرية الفائقة التي كانت تنتظر منه، وأن شعره يخلو من المادة الصحيحة السليمة، ولكن دعنا نستعرض هذين الانتقادين لنرى مبلغ صحتهما وصوابهما. أما من حيث مادة شلي وأسلوبه فتكثر فيه الحسنات كما تكثر السيئات. وأما من حيث خياله ومقدرته السحرية فقد أخطأ أرنولد في(650/35)
نقده تمام الخطأ، فمن يقرأ لشلي قصيدته (إلى الطائر يجد فيها مقدرة خيالية عظيمة قل أن توجد في غيره من الشعراء. فقد صور فيها صوراً رائعة لا شك في تأثيرها على نفسية القراء.
ونتناول الآن نقده لتنسون، فقد كان دائم الكراهية لهذا الشاعر العظيم، وعندما ظهر كتاب (خرافات الملك) لتنسون كتب أرنولد عنه قائلاً: (إن من الأغلاط الكثيرة التي أجدها في تنسون في كتابه هذا هو افتقاره لسحر القرون الوسطى وقوة خيالهم، ومع مقدرته الفنية الفائقة فقد كانت تنقصه المقدرة العقلية).
وفي هذا النقد تحامل ظاهر لا يمكن أن يتجاوزه، فقد كان أرنولد دائم التفضيل لبيرون على تنسون، وقد وصفه الكثيرون من الأدباء بتحامله على جميع معاصريه مدفوعاً بروح المنافسة، وهذا خطأ بين لا يمكننا الإغضاء عنه، فقد كان من محبي سنت بوف مع أنه من معاصريه ومنافسيه. ناهيك عن تحامله الشديد وكيتس الذي امتد طيلة حياته.
من المثلين السابقين اللذين ذكرتهما نرى أرنولد مر النقد قوى الشكيمة، ولكن هذه الصفة لم تكن لتنطبق عليه دائماً فكان من محبي وردزورث وبيرون ومن أنصارهما. وقد وصف وردزورث بقوله إن الطبيعة قد أمسكت بقلمه فسجلت روائع رائدها قوة الطبيعة الخارقة على تفهم الحياة ومناحيها المختلفة. وقد كتب إلى أحد أصدقائه (إني لا أومن بقوة تنسون ومقدرته في أية ناحية من نواحي الأدب. فهو لا يضاهي جوته في تفكيره العصري، ولا وردزورث في خياله وقوة ابتكاره، ولا بيرون في عاطفته ورقته. ولكنه شاعر يعتبره الناس في عصرنا هذا، ولكني لا أحمل في نفسي أي اعتبار أو تقدير لفنه أو لشعره).
وعندما أتناول البحث في كتابه: (مقالات في النقد) يرى القارئ هنالك بحثا أكثر إسهابا عن شهرة أرنولد في عالم النقد. فهو خير كتاب يقرأه الطالب لتعلم فن النقد وأصوله. ولكن نقده لم يكن في الحقيقة مبنياً على الأساس العلمي في عصره. وهذا التحامل قاده للتسرع بأقوال خالية من الحكمة ينقصها التفكير الطويل، وتحكيم العقل والمنطق.
شعره:
تتلخص عبقرية أرنولد الشعرية في نجاحه في عرض أفكاره على جمهرة القراء. وفي أشعاره وخاصة قصيدته أمبدوكليس نرى الشاعر ينشدنا أغاني مطربة وقصائد تسيل رقة(650/36)
وعذوبة. فلنلق نظرة على هذه الأبيات القليلة من شعره ثم نبني حكمنا عليها بعد تدقيق وإمعان.
(ابولو - أيها الإله العظيم. إن هذه المساكن لا تصلح لسكنك قط. ولكن في ذلك المكان حيث يلتقي البحر فيه والجبل هناك حيث يرسل القمر أشعته الفضية فتتردد الأصوات في الفضاء متغزلة بجماله، هناك وادي الإلهة تزب يطيب لك العيش وتحلو لك السكنى).
لو قرأنا هذه الأبيات في صورتها الإنكليزية لوجدنا الشاعر يغنى معها شارحاً عواطفه ومشاعره. هنالك تسمو نفسه فيرتفع عن مصاف الشعراء العاديين. ولكن موسيقاه هي أنموذج من الأغاني المخيفة التي يهابها ويخافها لتأثيرها على وحدة النفس وكيانها.
لقد تدرع أر نولد بدرع من الذكاء والابتكار. وطيلة حياته نراه قنوعاً بالحياة التي يحياها وراضياً بالعالم الذي يعيش فيه، ولكنا نرى من خلال قصائده تطلعه نحو حياة مشرقة، حياة الصباح العاطر في أيام الربيع الجميلة عندما تتفتح الأزهار والرياحين ناشرة في العالم سعادة أزلية خالدة. وفي قصيدته الرقيقة (الغجري المتعلم) نرى الشاعر مسوقاً بتيار العواطف مقوداً لآلهة الشعر يضمن نظريته هذه في بضعة أبيات ملؤها الجمال والروعة متخذا من هذا الحلم البهيج وحيه وسر عبقريته، فهو يقول:
(فوق مياه المحيطات المتوسطة، حيث تكثر الرياح بين شاطئ إيطاليا وشاطئ صقلية الجميلة حيث تلتقي مياه الاطلانتيك بمياه البحر المتوسط من خلال المضائق الغربية - هناك تكثر السفن المشرعة حيث ترتفع الصخور إلى عنان السماء - وتهب الأمواج عليها فتخرج الزبد. هنالك يظهر الإسبانيون سمر الألوان ميالين للمغامرة والإبحار. فيعقدون أسواقهم التجارية على شواطئ البحار. . .)
وأروع قصائده خيالا وأوسعها حرية هي قصيدته (البحري المهجور) حيث يتطلع إلى العالم القديم بعين التواق الراغب مؤنباً سكان هذا العالم لهجرهم إياه وابتعادهم عنه - فكرة هي نفس حلمه الجميل معبرة بطريقة مخالفة عن رغبته في الشباب، في الحياة الجديدة السرمدية حيث يقول:
(تلك الكهوف الرملية العميقة الرطبة، حيث تهدأ الرياح وتسكن سكوناً أبديا، هناك تتسارق الأنوار النظر إلى هذه الأعماق، وهناك تكثر الأملاح فتذوب في الجداول).(650/37)
وإن مقدرة أولد الرومانتيكية أو الإبتداعية بالأحرى لتتجلى في جماله وطهارته. وعوامل نجاحه وانتصاره تتلخص في سرده للخرافات والأحلام. وموسيقاه تختلف عما عرف في عصره بكونها فائية شديدة الوقع لم تنل إعجاب المعاصرين. فشهرته كشاعر عبقري لم تبن بعد. ولما كانت البيئة التي وجد فيها تهتم كل الاهتمام للأخلاق ولا تأبه للجمال وأثره؛ ولما كان والده رجلا دمث الأخلاق ليناً وعظيما في نفس الوقت، لذلك نرى في شعر شاعرنا الميل الدائم إلى البساطة والرغبة الجلية في الطهارة والصفاء. وكنتيجة لهذه البيئة ولهذه الرغبة في الشاعر ظهرت هناك قصيدتان عدتا من روائع الأدب الإنكليزي بحثا في الأخلاق والدين بحثاً مسهباً مستفيضاً.
أحب أرنولد الطبيعة حباً جماً، فوصفها في قصائده وأغانيه وصفاً قرأه كثير من البؤساء والمتألمين فسروا به عن نفوسهم، وأزالوا ما لحقهم من بؤس وشقاء. وكان ينظم قصائده على النمط الذي جرى عليه أستاذه وردزورث من قبله فقلده تقليدا أعمى في أسلوبه وأفكاره. وكان بفطرته لا يميل إلى الاعتقاد بالخرافات والأباطيل القديمة مع أنه دونها كثيراً في شعره ومؤلفاته، فالصدق كان رائده في كثير مما نظمه. وفي قصيدته (حداثة الطبيعة) نرى شخصيته متمثلة أتم التمثيل وأكمله. ولم يكن أسلوبه ليقل عن أسلوب شلي أو أي شاعر عظيم آخر ناهيك بأن مادته وأفكاره كانتا لا تضاهيان.
وقصيدته (تريشدام وايسونت) تحوي عدداً من الأغاني الرائعة فهي تبدأ بهذه الأبيات الجميلة:
(أشعل الضوء يا غلام حتى أراها فلقد أتت الملكة المتعجرفة أخيراً. انتظرت طويلا وغالبت الحمى التي انتابتني تأخرت أيها العزيزة، وكان تأخرك نكراً وهجرانا).
ويجمع محبو أرنولد وتلامذته على أن قصيدة (رستم وسهراب) هي أحسن ما كتبه الشاعر وقد لقبه على أثرها لورد رسل بقوله: (هو شاعر العصر الأوحد). وهذه القصيدة مستمدة من قصة أسيوية قديمة تتلخص في سير مبارزة حدثت بين بطل من أبطال الترك ووالده. وكان كل منهما يجهل صاحبه حتى قتل الولد فعرفه الوالد وحزن عليه حزناً شديداً. وما أجمل وصفه للأموات حين يقول
(إن الصدق يلازم شفاه الأموات، والخداع كان بعيداً عني طيلة حياتي)(650/38)
وعندما يعلم الوالد أنه قتل فلدة كبده يشتد حزنه ويعزم على الانتحار غرقاً في النهر فيرجوه ولده المفارق للحياة أن يصبر وأن يجاهد في هذه الحياة حتى يحصل ما لم يستطع هو الحصول عليه.
ومن بدائع شعره قصيدته (الميت الشجاع) التي لا يستطيع فهمها إلا القليل من مثقفي القوم ومتأدبيهم. لكن من يفهمها يشعر باللذة التي تعاوده عند مطالعتها ويحس بنفس الوقت بخلوها من الخيال والإغراء اللذين يشعر بهما عند قراءته لقصيدة (رستم وسهراب). فهي تخرج من القلب خروج قصائد برنز الجميلة، وإن الفقرة الأخيرة مع كونها لا تخلو من بعض الأغلاط إلا أنها لا شك تحوي من العاطفة قدراً كبيراً
عندما نلتقي فتتطلع بنظراتك، متفرساً في وجهي وما أحدثته الأيام من الغضون فيه. ولكن بالله دعني أسألك: من هو ذلك الغريب الذي يتطلع إلي بعين المتأمل، ذو العينين الرماديتين والشعر الأسود).
فلسفته
لقد انتقد أر نولد المجتمع الإنكليزي في عدد غير قليل من مؤلفاته وكتبه. وكان يميل إلى تقسيمه إلى ثلاث طبقات متفاوتة: أولاها طبقة الأشراف، وثانيهما الطبقة المتوسطة وثالثهما الطبقة العامة ولكنه لم يسمها كما سماها غيره من قبل؛ بل أطلق الأولى اسم البرابرة وعلى الثانية لقب الفلستينيين وعلى الثالثة لقب العوام وكان يحترم طبقة الأشراف ويكثر من الثناء على أفرادها قائلا: (إن أعظم الفضائل وجود طبقة راقية من النبلاء يتخلقون بأحسن الأخلاق ويتحلون بأجمل الفضائل، لهم أفكارهم الشريفة، وأعمالهم النبيلة التي حبتهم بها الطبيعة. ويزداد جمال هذه الفضائل عندما تصدر عن أناس أقوياء يتحكمون بمصير الآمة ومستقبلها وينزهون أنفسهم عن التشاحن والتطاحن في المسائل التافهة. وقد يحدث أن أحد أفراد الطبقة نموره العبقرية وينقصه الذكاء ولكنه مع ذلك لا تصد عنه أمور لا تعد في حكم الشريفة منها). ولكن أرنولد يتطلع نحوهم فيرى نقصاً لا يمكن سده، وعوزاً ليس من المستطاع إهماله والاغصاء عنه. فهم بحاجة إلى الأفكار السامية وهذا ما سبب تأخرهم في العصور الحديثة. وفي البلاد الأخرى نجد طبقة الفقراء على درجة أعظم من المدنية الحضارة من هذه الطبقة؛ فالفقير يشعر بضعته، ويحس بفقره(650/39)
وضعفه فيحسن من شأنه ليظهر بمظهر الند للند والقرن للقرن
(يتبع)
خيري حماد(650/40)
الشعر يحتفل بأميره
في مساء يوم السبت الثامن من شهر ديسمبر، أشرفت دار الوزير الشاعر الكاتب السمح إبراهيم دسوقي أباظة باشا عميد الأسرة الأباظية بألمع الكواكب المصرية في الحكم والسياسة والأدب والعلم والفن والصحافة إجابة لدعوة معاليه، ليحتفلوا بمجد الشاعر العظيم عزيز أباظة باشا صاحب (أبيات حائرة)، ومؤلف المأساتين الشعريتين (قيس ولبنى) و (العباسة) ولم تشهد القاهرة المثقفة على كثرة ما شهدت داراً أحفل بالفضل وأحفى بالفضلاء، ولا حفلة أروع بالأدب وأجمع للأدباء، من هذه الدار وهذه الحفلة
كانت الدار دار الأباظية، والحفلة حفلة الأدب، فلا غرابة أن يجتمع فيهما ما لم يجتمع في غيرهما كم ملائكة البيان وشياطين الشعر
كان مطلع الإشراف الشعري في هذه الحفلة أبياتاً من أرق الشعر وأبلغه لمعالي صاحب الدعوة في شكر مولانا (الفاروق) ألقتهما طفلته الأديبة (كوثر) بصوتها العذب، ومنطقها الرائع، ولهجتها الفصيحة، منها:
أدام الله (فاروقاً) ... بفيض الخير من كفه
فقد فاض على الأسر ... ة ما ترجوه من عطفه
وعذراً إن بدا ضعفي ... وعجزي عن مدى وصفه
ثم تلاها أخوها الأديب الشاعر ثروت أباظة فألقى قصيدة من نظمه؛ وتتابع الشعراء والخطباء بعدهما على المنصة، فنوهوا بمجد الشاعر، وشادوا بفضل الداعي، وهتفوا (الفاروق)، كان أولهم لأستاذ العقاد، وأخرهم الأستاذ الكاشف، وفيما بينهما فيض من الشعر العاطفي الجميل، وتدفق على ألسنة النابهين من شعراء الشباب، ذكرونا بشعراء الحضرة في قصر الصاحب ببغداد، ثم نهض للشكر صاحب السعادة الشاعر المحتفل به فارتجل خطبة من النمط العالي في الأداء والإلقاء دلت على أن موهبته الخطابية تناقش موهبته الشعرية في استحقاق التكريم ثم كان مسك الختام قبلة أخوية قوية من معالي الزير إلى سعادة المدير أجملت كل ما قيل في هذه الحفلة الرائعة الجامعة من معاني الإعجاب والإكرام والحب. . . وفيما يلي ثلاث قصائد مما أنشد في هذا الحفل تعطيك نموذجاً من سائر ما قيل.(650/41)
قصيدة الشاعر الكبير عباس محمود العقاد
نابغ النظم والنظام ... ود لو جاور التمام
رام في حلبتهما ... فصباً كان لا يرام
حبذا محس الفعا ... ل إذا أحس الكلام
لك في كل دولة ... منهما أوفر السهام
أيها الأوحد الهمام ... جئت بالمعجز الجسام
كيف وحدت هكذا ... شيع الناس في وئام
فسمع الحمد لا تبا ... رع فيه، ولا انقسام
كل ما راق في الخوا ... طر ألقى لك الزمام
نسب رانه الححي ... أدب صانه الذمام
والعظامية التي ... فيك لم تخل من عصام
ورضى الله والمل ... ك يزَكي رضى الأنام
ولك الخلق والخلا ... ئق في حسها تؤام
حكم ابن الحسين قِم ... ماً فوفيت الاحتكام
قال ودٌّ على التصا ... في وود على الوسام
قالت لا بل كليهما. . ... ما على مُفضل ملام
أنت في عامك القري ... ب تحديت ألف عام
يا عزيزاً استعرّ ... دوو العره الكرام
(جاد) أنفدت حرفها ... في اشتقاق وفي ارتسام
بالمجيد المجد والجيد ... الماجد المقام
فذك! فاللفظ ضيق ... عن معانيك والسلام(650/42)
قصيدة الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
طلعت بأفق العبقرية صاعدا ... فأدركتَ مَجْديها طريقاً وتالدا
تُطوِّف مشبوب الخواطر هائماً ... نصوّر أوهام القلوب عقائدا
وتهتف بالنجوى وتهمس بالمنى ... ونستلهم الطيف الحبيب المعاودا
وتسبح في الأفق المنغم شادباً ... على قمة في الأفق، عزت مقاصدا
ومن حولك الأضواء، منهل شاعر ... يوافيك بالألحان نشوى شواردا
فترسم أفراح الحياة بريشة ... كأن من وحي جبريل رائدا
يُراوحهُا سارٍ من الشوق عارمٌ ... تحدٌرَ من قلب يفيض مواردا
تكنَّفه الكون الكبير فهاله ... بقلبك أكون تروع مشاهدا
أمان وآلام يجاذبنك الهوى ... فقد صادفت بجنبيك واجدا
تجاوبت الأيام فيه فصاغها ... ورددها لحناً على الدهر خالدا
وتسترجع الدنيا لديه شبابها ... فينظم أصداء الزمان قصائدا
شيعوا لها وجه الزمان قداسة ... وتبق على جِيد الزمان قلائدا
ألست الذي رد اللياليَ بيننا ... فكدنا نرى عصراً على مصر وافدا
شهدناه منضور الحواشي مهادنا ... وشمناه مغبر الجوانب راعدا
كأني بهارون الرشيد يسوسه ... ويختال في دَست الخلافة مائدا
ويسمر في القصر الأشم وحوله ... خرائد تشدو في هواه خرائدا
مباهج لم يحظ الزمان بمثلها ... تأنقن إبداعاً، وكن فرائدا
كأني به يصغي لجعفر قبلما ... تثور حواليه النفوس مكايدا
وقد نفرا للصيد، لم يدر جعفر ... بأن قد غدا صيداً، وهارون صائدا
كأني به والبرمكيون حوله ... تهاوو شموساً في الدجى وفراقدا
هو المجد إن تظفر به فاتق الورى ... فيا طول ما تلقى لجدك حاسدا
كأني به في حلة الملك رافلا ... يخب بدنيا ليس يدنو لها مدى
عوالم هذا العصر أنت وسعتها ... بفنك لم تعجز لساناً ولا يدا
تلقيتها وحياً من الله مسعداً ... فأسبغ فاروق عليك روافدا
وحسبك أن ألقى بساحة ملكه ... عليك لواء العبقرية عاقدا(650/43)
كرمكم في صاحب الدار هذه ... من لك بالفارق جاهاً ساعدا
أعز (دسوقي) أمس بالرتبة التي ... أتت رجلا في النبل الفَضل أحدا
صحائف من تاريخ مصر كريمة ... نطالعها في كل يوم محامدا
تفيض على قلبي ضياء خاطري ... فأنظمها بالمعجزات حواشدا
أباظة حيا الله دوركم التي ... غدت للفنون الباقيات معاهدا
عليها جلال الماجدين تخالها ... إذا ما تبدت للعيون مساجدا
رعاها مليك النيل واختص أهلها ... فبارك فيهم شاعراً، ومجاهدا
لقد ظفروا منه بمجد مؤثل ... وأكرم مجد ما يصادف ماجدا(650/44)
قصيدة الأستاذ العوضي الوكيل
نجم بأفق العبقرية لاحا ... يزجي عشية وصباحا
وهزار روض صاح فوق غصونه ... قوموا فحيوا ذلك الصداحا
مترنم بطرائف من فنه ... تسبي القلوب، وتسحر الأرواحا
السامعون له يسائل بعضهم ... بعضاً. . أشعراً ما شدا أم راحا؟
اهنأ عزيز برتبة علوية ... جادت بها منن المليك سماحا
كرم أفاء عليك من آلائه ... فأشاع في أحلامنا الأفراحا
وأتيح للشعراء ما حلموا به ... هل كان قلبك مثل ذلك متاحا
والغيث إن روى الهضاب بسيبه ... روى وهاداً بعدها وبطاحا!
لك منطق سهل البيان، وربما ... سهل البيان فأعجز الشراحا
في كل أغنية وكل قصيدة ... روض حوى ورداً وضم أقاحا
شعر تناغمه النفوس فتلتقي ... فيه. . . فيملأها شيء ومراحا
إني لأمسك بالفؤاد أصونه ... من أن يذوب أسى إذا هو ناحا
وتراه في أفراحه وفتونه ... يسلي الحزين الباكي الملتاحا
يا ابن الأعزة من ذؤابة طئ ... الصارمين عزائما وسلاحا
والمالكين المجد من أطرافه ... واللابسيه بردة ووشاحا
لي بينهم من إن هممت بذكره ... طرب القصيد لذكره وارتاحا
من كل مرموق المكانة، مشرق ... في أفق مصر كوكباً لماحا. . .
يا ابن الأعزة من ذؤابة طيئ ... الصارم ين عزائماً وسلاحا
المجد من بابيه أنت ولجته ... وحشدت ميراثاً له وكفاحا
أخرست ألسنة الرجال بقصة ... وتركت ألسنة الزمان فصاحا
صورت سلطان الرشيد وملكه ... صوراً من النغم الرقيق ملاحا
وجلوت أعظم دولة عربية ... نشرت على الأدب الرفيع جناحا
فاهنأ بجائزة المليك رفيعة ... واهزز نفوس الشاعرين طماحا
بيت الأباظيين مثل خميلة ... قد كرمت كروانها الضياحا
هو مربد الأدباء إلا أنه ... أهدى سني منه وأطهر ساحا(650/45)
لا زال مرفوع البناء موطدا ... مغدي لكل عظيمة ومراحا
لا زال أفقاً في الحمى يبدي له ... في كل يوم كوكباً وضاحا(650/46)
البريدَ الأدبي
1 - إتحاف الفاضل:
أصلح الأستاذ الكبير النشاشيبي بيت البحتري في الطبعة التي يتعقبها من معجم الأباء، ونقل عبارة الصحاح بأن للعرب أحرفاً لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول به وإن كانت بمعنى الفاعل مثل قولهم. زهى الرجل الخ. . .
قلت: ولابن علان الصديقي رسالة لطيفة جمع فيها طائفة صالحة من هذه الأحرف وسماها) إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل). وقد طبعها في دمشق من نحو عشرين سنة الأستاذ حسام الدين القدسي. صاحب (مكتبة القدسي) في القاهرة.
2 - تأنيث الرأس:
من أعجب الأشياء في مصر أن جمهرة الكتب فيها، وإلا العشرة الكبار من البلغاء، ويؤنثون (الرأس) ولا نفتأ نجدها كل يوم مؤنثاً في الصحف والمطبوعات، مع أن الذي نعرفه أن الرأس لا يكون إلا مذكراً، في اللغة و. . . في الحياة! فهل لإخواننا في تأنيث الرأس وترئيس (الأنثى) وجه لا نعرفه:
علي الطنطاوي
الصحافة في حضرموت:
طالعت في العدد 621 من الرسالة مقالة عنوانها) الأدب العربي) للدكتور ر. ب سارجنت تكلم فيها عن حضرموت ونشر بمستقبلها الحسن، وذكر بدء الحركة الأدبية بها، وانتعاشها وبعد أن عدد بعض الأسر من السادات قال في سياق خطابه: وقد قامت هذه الأسرة المجددة في خلال السنتين والثلاث الماضية بنشر مجلة الاعتصام. وهي صحيفة شهرية تصدر من مدينة (سيؤن) وتعالج الشئون الدينية الثقافية إلى أن قال: ولا بد أن هذه الصحيفة هي المجلة الوحيدة التي تصدر في البلاد العربية على هذا الشكل وأحب أن أعرف جمهور قراء مجلة (الرسالة الغراء) بأن حضر موت منذ عهد قديم بدأت تباشير النهضة الحديثة تدب في شبابها فأسسوا الجمعيات والنوادي وفتحوا المدارس التي تهي نشأتهم لخوض معترك الحياة وقاموا بنشر المجلات والصحف، فأول مجلة صدرت من سيؤن (التهذيب)(650/47)
في حدود سنة 1350 تقريبا. وتلتها مجلة (الإخاء) صدرت من (تريم) قامت بها) جمعية الأخوة والتعاون) في سنة 1356 فمجلة (الحلبة) في بلد) مسيلة الشيخ) يحررها الأستاذ علي ابن عقيل بن يحيى في سنة 1357 فمجلة (الاتحاد) في (عينات) قام بها (نادي اتحاد الشباب) سنة 1360، فمجلة (النهضة) فمجلة (زهرة الشباب) صدرتا من سيؤن سن 1360؛ فمجلة (الاعتصام) وهي الأخيرة صدرت منها.
وكل أولئك المجلات مخطوطة إلا (الإخاء والحلبة) فقد طبعتا بحروف مطبعية بعد أن بدتا بصورة خطية. على أنه يجب أن أذكر للقراء الكرام أن هذه المجلات جميعها تصدر في حجم صغير يتناسب مع حالة البلاد الأدبية والإجماعية.
ممباسا
(حضرمي)
1 - إلى الأستاذ أبي رية
قلت - أيها الأستاذ الكريم - في مقالك (الحديث المحمدي) بالعدد 633 من (الرسالة): (أما حديث من كذب على (متعمداً)، فقد عنيت بالبحث عن حقيقته عناية كبيرة حتى وصلت من بحثي إلى أن كلمة (متعمداً) لم تأت في روايات كبار الصحابة، ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين عمر وعلي وعثمان، وأن الزبير بن العوام - وهو حواري رسول الله وابن عمته - قد قال عنها والله ما قال (متعمداً) الخ - وأقول إني رأيت في صفحة 133 من (الارتسامات الألطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) للأمير شكيب أرسلان ما يفيد أن القائل (والله ما قال متعمداً) غير الزبير جاء في الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد رواية عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال (أي عبد الله ابن الزبير) قلت للزبير: مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال أما إني لم أفارقه منذ أسلمت ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعداً من النار) قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير؛ والله ما قال (متعمداً) وأنتم تقولون (متعمداً) الخ وعلق المرحوم رشيد رضا على هذه الرواية بقوله في صفحة 134 (الحديث متواتراً صحيحاً بهذه الزيادة وممن رواها عن الزبير نفسه الأمام أحمد(650/48)
والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجد في عبرة بإنكار وهب بن جرير لها عنه، فالقاعدة أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، ووهب هذا قد تكلم فيه بعض رجال الجرح والتعديل، فقال ابن حبان كان يخطئ وأنكر عبد الرحمن بم مهدي والإمام أحمد ما رواه عن شعبة - فما رأيك. وأيها الأستاذ الجليل - في هذا كتب الأستاذ أبو شهبة في هذا الموضوع بالعدد 642 من الرسالة
إلى الدكتور جواد علي
قلت في مقالك (أول صلاة في الإسلام) بالعدد 636 من (الرسالة) عن هرون بن عمران أنه (لم يكن نبياً من الأنبياء) والصواب أنه نبي قال تعالى (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) مريم آية 52 وفي سورة طه ما يشير إلى أنه رسول (فأتياه - الخطاب لموسى وهارون - فقولا أنا ربك) الخ آية 47
أسيوط
محمد عبود
1 - الأدب والجندية
طالعني أديب سكندري جليل الخطر بظاهرة عجيبة نسترعي الاهتمام، حين ذكر لن أن الذين تعاورا على رياسة جماعة نشر الثقافة في الثغر، إنما هم من ضباط البوليس خاصة، فالأمر إلى عبد المنصف محمود بك، والصاغ زكي غازي، والكبكباشي
أحمد الطاهر - الرئيس الحالي - كلهم ضباط من البوليس، ولم يتول الرياسة من (المدنيين) سوى الأستاذ خليل شيبوب، والأستاذ عبد اللطيف النشار.
وقال الصديق الأديب مداعباً: إن جماعة نشر الثقافة لم تعد على هذا الاعتبار جمعية أدبية، وإنما أمست (قره قولا) أي معسكراً للشرطة.
ونحن لا ندري وجهاً لاعتراض الأديب الفاضل، وإن كانت ملاحظته تبعث الاهتمام حقيقة، فلم يكن الأدب والجندية يوماً ضدين لا يجتمعان، والأدباء الضباط والشعراء في كل أمة يضيق الحصر دون ذكرهم، والجندي إذ يصدمه الواقع المرير لا عليه أن يلوذ بأطياف الأدب الجميل.(650/49)
ولكن الذي نأخذه على جماعة نشر الثقافة في عهدها (العسكري) أن نشاطها لا يكافئ ما كانت عليه في العصر (المدني). وهذا ما نحب أن نوسيه إليه أنظار القائمين عليها من الأدباء الأمجاد.
2 - هندسة الأدب
وليس الضباط وحدهم هم الذين ضربوا في الأدب بسهم، إنما شاركهم أيضاً المهندسون، ولقد كانت حفلتهم التي أقاموها منذ أسبوعين منتدى أدبياً، فهم أرادوا أن يبسطوا قضيتهم العادلة على جماعة من نواب الإسكندرية وأدبائها.
وكان جميلاً من هؤلاء المهندسين الأدباء أن أحداً منهم لم يحاول أن يعد خطابا مكتوبا يتلوه على الحاضرين، وإنما عمدوا إلى الارتجال في موضوعات هي من وحي الساعة، ولا يدفع في الذهن قط أنها هيئت من قبل. وكان جميلا منهم أن يحافظوا على سنن الفصحى فلا يلتوي بهم اللسان إلا في القليل من الألفاظ التي يخطئ فيها الفحول!
ولقد طالب المهندسون بتعديلات لفظية في القانون الجديد لنقابة المهند سين كأن تحذف عبارة (مساعد مهندس) ويتساوى المهندس والجامعي وغير الجامعي في المنزلة الاجتماعية والوظيفة الحكومية.
وإذا كانت الصحف اليومية قد لخصت قرارات مؤتمر المهندسين، فأننا لا يسعنا إلا أن نناشد ولاة الأمور على صفحات مجلة الأدب الرفيع أن تعمل على نصفة هذه الطائفة النافعة العاملة، فالمهندس خادم للفن، والفن قطعة من الأدب، وعالم ما بعد الحرب في حاجة إلى مهندسين يبنون ولا يهدمون، ليقيموا صرح الحضارة باذخا لا تقاذفه الأهواء.
(الرمل)
منصور جاب الله(650/50)
القصص
اليد المقطوعة
للكاتب الفرنسي جي دو موباسان
بقلم الأديب محمد عبد اللطيف حسن
التف الجمع حول المسيو برمتير مدير الأمن العام الذي أمكنه أن يحل بذكائه ونباهته رموز جريمة سان كلود التي حيرت أهل باريس مدة عام كامل، وأن يكشف الستار عنها بما عرف عنه من مهارة البحث، ودقة التحري والاستقصاء
وكان المسيو ميتر جالساً يدخن غليونه في هدوء بجوار المدفأة التي كانت تتأجج فيها النار، وقد استلقى بظهره العريض الممتلئ على مقعد كبير مريح
وغادر بعض السيدات الموجودات وسط هذا الجمع مقاعدهن واقتربن منه ليتمكن من الإصغاء إليه وكن هو يسرد عليهن حوادث هذه الجريمة الرهيبة، ويروي لهن الغوامض والأسرار التي اكتنفها في ذلك الوقت من كل ناحية.
فلما انتهى من سردها التفتت إ ليه إحدى السيدات وقالت:
- إن هذه الجريمة تعتبر في نظري، بل في نظر الكثيرين أيضاً، من الجرائم الشاذة الخارقة لنواميس الطبيعة. . .
فأجابها المسيو متير وهو ينفث من فمه دخان غليونه في الهواء:
- إنها ليست يا سيدتي من النوع الشاذ الخارق لنواميس الطبيعة كما تظنين، وكل ما يمكنني أن أقوله عنها إنها ارتكبت بمهارة فائقة، ونفذت بطريقة متناهية في البراعة والدقة. وكان الغموض يكتنف هذه الجريمة من كل جانب حتى إنني لم أتمكن من حلها إلا بعد كثير من المشقة وطول البحث والتفكير. . .
وبعد أن سكت هنيهة تابع حديثه فقال:
- وقد مرت بي منذ بضع سنوات قضية يمكنني أن أقول عنها إنها شاذة خارقة لسنن الطبيعة، عنها بحق إنها شاذة خارقة لسنن الطبيعة، وهذه القضية هي الوحيدة التي لم أتمكن إلى الآن من حلها، ولم أوفق في العثور على أثر يساعدني على إجلاء غوامضها.(650/51)
وقد اضطرت في النهاية إلى أن أنفض يدي منها بعد أن فشلت في الوصول إلى فك رموزها، وحل معمياتها الكثيرة
وكان لهذه البداية المشوقة التي استهل بها المسيو برمثير قصته أثرها في نفوس سامعيه، فلم يلبث أن طلب منه النساء والرجال الذين كانوا يصغون إليه بشغف زائد وانتباه عظيم أن يسرد عليهم تفاصيل هذه القضية العربية فارتسمت على شفتي المسيو برمتير ابتسامة خفيفة باهتة ثم اعتدل في جلسته وقال
كنت في الوقت الذي حدثت فيه وقائع هذه القضية الغامضة مفتشاً سرياً بمدينة أجاكسيو، وهي كما تعلمون مدينة صغيرة تقع على حافة خليج تحيط به الجبال العالية من كل جانب. . وكانت مهمتي الرئيسية هناك تدور حول كشف الجرائم التي يرتكبها أصحابها بدافع من الانتقام وحده. ففي ذات يوم علمت أن إنجليزياً غريباً عن تلك البلاد نزل في هذه المدينة واختار لسكناه دارة (فيلا) جميلة تقع في نهاية الطرف البعيد الممتد من هذا الخليج. وقد أحضرها الإنجليزي معه خادماً فرنسياً أثناء مروره بمدينة مرسيليا. وقد دارت الإشاعات الكثيرة حول هذا الإنجليزي الذي كان يعيش في هذه الدارة بمفرده، والذي لم يكن يغادرها إلا عندما يخرج للقنص والصيد فحسب! ولاحظ عليه سكان المدينة أنه لم يكن يخاطب أحداً من أهلها، ولا يسير في شارع من شوارعها إلا نادراً! وكان يتمرن ساعة أو ساعتين في صباح كل يوم على إطلاق النار من مسدسه الذي لم يكن يفارق جيبه الخلفي مطلقاً! وأشاع عنه بعض الناس أنه قدم إلى هذه المدينة بعد أن فر من بلاده لأسباب سياسية، والبعض الآخر أشاع عنه أنه ارتكب جريمة شنيعة فر بسببها إلى هذه البلاد هارباً من وجه العدالة! وكانت طبيعة عملي تحتم على إذ ذاك أن ألم بشيء من حياة هذا الرجل الغامض، الغريب الأطوار، بيد أني لم أنجح في ذلك في بداية الأمر. كان الاسم الذي عرف به هذا الإنجليزي بين أهل هذه المدينة هو السير جون رويل. وبالرغم من أنني كنت أقتفي أثره وألازمه ملازمة الظل في كل خطواته دون أن أشعره بمراقبتي له، فأنني لم ألحظ عليه ما يريبه أو يشين سمعته بشيء.
ومع كل ذلك فان هذه الإشاعات والأراجيف التي كان تقولها الناس عنه بالحق أو بالباطل لم تقف عند حد، بل لقد زادت في الواقع انتشاراً وذيوعا إلى درجة دفعتني إلى محاولة(650/52)
الاتصال بهذا الرجل مهما كلفتني ذلك من جهد أو كبدني من مشقة وعناء. وكانت أول خطوة خطوتها لتحقيق غرضي أنني بدأت أصطاد بانتظام، وفي مواعيده معينة، في بقعة كبيرة مكشوفة بالقرب من مسكنه. وفي ذات يوم اصطدت طائراً سقط لحسن حظي في حديقة دارته الواسعة المترامية الأطراف، فأسرع كلبي الذي كنت أصطحبه معي دائماً عند خروجي للقنص والصيد وأحضر الطائر المصاب بين أنيابه وهو يلهث من شدة التعب. وقد انتهزت حينئذ هذه الفرصة التي أتاحتها لي الظروف للتعرف بالسير جون رويل الذي كان جالساً وقتئذ في حديقة منزله، فاجتزت المسافة التي كانت تفصلني عنه بخطوات سريعة واسعة، ثم قدمت إليه هذا الطائر - وكان من الطيور الغريبة النادرة المثال - على سبيل الهدية وأنا أعتذر إليه في نفس الوقت من تهجمي على حرمة مسكنه. فشكرني السير جون رويل بحرارة وإخلاص لم أكن أتوقعهما منه وتقبل مني هديتي البسيطة وهو يتمتم بعبارات الشكر والامتنان.
وقبل مضي شهر على هذا الحادث كنت قد تبادلت الحديث معه نحو خمس مرات أو ست، ولكنه كان حديثاً عادياً مألوفاً لا يقدم ولا يؤخر. وفي ذات مساء كنت أمر بجوار منزله فشاهدته جالساً في الشرفة يدخن غليونه بهدوء وقد أمسك في يده صحيفة يومية كان يطالع فيها بشغف واهتمام. فلما وقع بصره علي حييته برفع قبعتي، فرد تحيتي باسماً ثم دعاني إلى الجلوس معه فقبلت دعوته عن طيب خاطر.
وقد انتهزت حينئذ هذه الفرصة التي كنت أترقبها بفروغ صبر فسألته حين استقر بنا المقام عن تاريخ حياته الذي لا أعرف عنه حتى تلك اللحظة شيئاً! فعلمت منه حينئذ أنه سافر إلى أمريكا وأفريقيا والهند وكثير من الأقطار الأخرى. وبعد أن مرت بيننا لحظة سكوت قصيرة قال لي وهو يبتسم: (لقد صادفت أثناء تجوالي في تلك البلدان كثيراً من المخاطر والأهوال التي كادت تودي بحياتي في كثير من الأوقات لولا لطف الله ورعايته. .) وهنا أطلعني على كثير من التفصيلات العجيبة الخاصة بصيد فرس البحر، والفهود، والفيلة، والغوريلا وغيرها. فقلت له وأنا أعجب بغزارة علمه، وسعة إطلاعه: (إن هذه الحيوانات وحشية ومخيفة للغاية).
فأجابني محدثي وهو يبتسم بهدوء: (نعم هذه الحيوانات وحشية ومخيفة كما تقول، ولكن(650/53)
هنالك بين البشر من هم أكثر وحشية وأشد شراسة وفتكا منها!) وتطرق الحديث بنا بعد ذلك إلى التكلم عن أنواع بنادق الصيد المختلفة. ثم دعاني بعد أن فرغنا من هذا الحديث إلى مشاهدة مجموعة البنادق والأسلحة التي كان يحتفظ بها في إحدى الغرف الخلفية للمنزل. واسترمي نظري في هذه الغرفة التي أدخلني فيها شئ غريب معلق على الحائط، وكان هذا الشيء موضوعاً داخل جراب من القطيفة السميكة الحمراء. فلما اقتربت من هذا الشيء لأتبينه عن قرب وجدته يداً بشرية كبيرة الحجم! وكانت هذه اليد المقطوعة جافة سوداء ذات أظافر طويلة مصفرة اللون، وعليها آثار دماء متجمدة سوداء قديمة العهد. وكان يلوح لي على هذه اليد أنها قطعت بمهارة فائقة عند اتصال أعلى الذراع بالكتف بآلة صلبة حادة.
ومما استرعى انتباهي أكثر من أي شئ آخر أنني رأيت جون معصم هذه اليد سلسلة حديدية متينة مشدودة إلى حلقة مثبتة في الحائط بدقة عجيبة، بحيث لا يقوى على انتزاعها من مكانها أقوى الرجال عضلا وأشدهم بأساً!
فلما راني السير جون رويل أحدق بدهشة وذهول في تلك اليد البشرية البشعة المنظر تلاشت الابتسامة التي كانت مرتسمة على شفتيه منذ لحظة وقال: (إن هذه اليد التي تراها معلقة على الحائط أمامك هي يد ألد عدو لي على ظهر البسيطة، وهو رجل زنجي من أهالي أمريكا الجنوبية، وقد قطعت يده هذه بفأس كبيرة حادة النصل بعد أن قتلته شر قتلة، ثم نزعت عنها جلدها الخارجي وجففتها في الشمس مدة أسبوع كامل واحتفظت بها بعد ذلك داخل هذا الجراب الذي تراها موضوعة فيه) وكانت أصابع هذه اليد اللعينة طويلة ملتصقا بعضها ببعض بقطعة كبيرة من القماش المتين. وقلت للسير جون رويل وأنا أشيح بوجهي عن هذه اليد التي كان يدل قطعها على منتهى الوحشية والقسوة: (أظن أن عدوك كان قوياً كبير الجسم؟) فأجاب الإنجليزي ببرود وجمود: (نعم لقد كان ضخماً قوياً في الواقع، ولكنني كنت في ذلك الوقت أقوى وأشد بأساً منه، وقد ربطت يده في تلك السلسلة الحديدية المتينة حتى لا تحاول الإفلات منها!) وظننت حينئذ أنه قال العبارة الأخيرة على سبيل الدعابة والتفكه فقلت: (ولكن هذه اليد لا يمكنها الإفلات بطبيعة الحال، ولا سيما بعد أن فصلت عن جسم صاحبها الذي قتلته شر قتلة كما قلت؟) فأجاب السير جون رويل وهو عابس الوجه،(650/54)
مقطب الجبين: (لقد أخطأت القول يا صاحبي، فقد حاولت هذه اليد الإفلات فعلا عدة مرات، ولهذا لم أجد بداً من ربطها في هذه السلسلة القوية!) فنظرت إليه نظرة غريبة متشككة وظننت أن به مساً من الجنون، ولكن جمود وجهه وصرامة هيئته كانا يدلان على أنه جاد في قوله، صادق في زعمه. ولما سألته عن سبب قتله لهذا الرجل انقلب سحنته واكفهر وجهه ثم هز رأسه متأسفاً وقال: (هذا يا صاحبي سري الخاص الذي أحتفظ به لنفسي ولا يمكنني أن أبوح به لأي مخلوق. . .) وتبين لي وقتئذ أن السير جون رويل كان لا يزال يعيش في رعب دائم، وهلع مستمر من هذه اليد البشرية المقطوعة الكئيبة المنظر.
وبعد أن فرغت من التفرج على معروضات الغرفة استأذنت منه في الانصراف فأذن لي بعد أن أخذ مني وعداً بزيارته كلما سمح لي وقتي بذلك. وقد بررت بوعدي إياه فترددت على منزله عدة مرات ثم انقطعت فجأة عن زيارته لأسباب هامة شغلتني عنه. ولاحظت في هذا الوقت أن الأراجيف التي كان يروجها الناس عن السير جون رويل بدأت تخف حدتها، وتقل وطأتها شيئاً فشيئاً حتى تلاشت نهائياً في آخر الأمر. وفي صباح ذات يوم أيقظني خادمي وأخبرني أن السير جون رويل وجد مقتولا في منزله حوالي الساعة السابعة صباحاً؛ وهي الساعة التي اعتاد خادمه الفرنسي أن يوقظه من نومه. ولم تمض نصف ساعة على أثر سماعي هذا النبأ السيئ حتى كنت في منزل القتيل ومعي اثنان من مفتشي البوليس. وهنالك وجدت خادم السير جون رويل واقفاً على باب المنزل في انتظاري. وكان يبكي بحرقة وحرارة على وجهه آثار الحزن العميق والألم الدفين. وجال بفكري أولا أنه مرتكب هذه الجريمة دون غيره. ولكني لم ألبث أن نفيت عني هذا الخاطر بعد أن اتضح لي فيما بعد براءته مما نسب إليه. ولما فحصت جثة السير جون رويل التي كانت ملقاة على ظهرها وسط غرفة نومه وجدت سترته ممزقة شر ممزق، وكان أحد أكمامها منزوعاً من مكانه بشدة، فاستنتجت من ذلك أنه قد حدثت مشادة عنيفة بينه وبين القاتل. واتضح لي أيضاً بعد أن كشف على جثته أنه مات مخنوقاً لأن لون بشرته كان يميل إلى الزرقة الداكنة الضاربة إلى السواد. وكان يلوح على وجهه الجامد الصارم التقاطع آثار رعب هائل وفزع شديد. وقد لاحظت أن أسنانه كانت مطبقة بشدة على شيء غريب لم أتبينه في بادئ الأمر. وكان في أسفل عنقه خمس ثقوب صغيرة بارزة بحجم أصابع اليد.(650/55)
وطبيعي أن هذه الثقوب قد نشأت من غرز أصابع يد قوية شديدة الصلابة. ولما وصل الطبيب الشرعي الذي قدم على أثرنا مباشرة، وفحص بصمات الأصابع الموجودة على عنق القتيل التفت نحوي وقال: (لقد نشأت هذه الثقوب التي تراها واضحة في أسفل العنق من تأثير ضغط يد بشرية قوية وهي في الغالب يد هيكل بشري أكثر منها يد إنسان حي!) فسرت في جسدي رعدة قوية عندما سمعت منه ذلك، وانتقل تفكيري بسرعة إلى تلك اليد المشئومة التي رأيتها في الغرفة الخلفية لمنزل السير جون رويل.
ولم تمض على ذلك برهة حتى كنت داخل هذه الغرفة، فلم أجد هذه اليد في مكانها من الحائطّ فدهشت لذلك دهشة عظيمة وتحيرت في تفسير هذا الأمر الغريب الذي لم يسبق أن صادفت مثله في حياتي الحافلة بالمهالك والمجازفات! ومما زاد في دهشتي وحيرتي أنني وجدت السلسلة التي كانت هذه اليد مشدودة إليها، مفككة الأجزاء، مقطعة الأوصال، وملقاة على الأرض بلا عناية!. . .
ولما عدت أدراجي إلى الغرفة الموجودة بها جثة السير جون رويل، انحنيت فوق جسمه الممدود على الأرض ثم فتحت فمه بأقصى قوتي وانتزعت الشيء الغريب الذي كان مطبقاً عليه بين أسنانه فوجدته لعظم دهشتي أحد أصابع اليد المقطوعة المختفية! ولم يؤد البحث الذي قمت به في ذلك الوقت في سبيل العثور على تلك اليد إلى نتيجة، ذهبت جهودي ومتاعبي أدراج الرياح! وعلمت من خادم القتيل عند استجوابي له، أن جميع أبواب ونوافذ المنزل كانت محكمة الإغلاق في الليلة التي ارتكبت فيها هذه الجريمة، ولم يسمع الخادم نباح الكلاب التي كان يطلقها السير جون رويل في حديقة المنزل كل ليلة مما يدل على أن أحداً غريباً لم يدخل المنزل من الخارج! كما أنه صرح لي ضمن أقواله التي أدلى بها إلى أن سيده كان يبدو قلقاً مشتت الفكر في الشهر السابق لوفاته، وأنه تسلم في أخريات أيامه رسائل كثيرة كان لا يلبث أن يلقي بها طعمة للنيران بمجرد قراءته لها! وقال أيضاً إنه كثيراً ما رآه ممسكاً في يده بهراوة ثقيلة؛ وقد تجلى في عينيه الرهيبتين بريق الشراسة والغضب، ثم يهوي بها بشدة وعنف على تلك اليد المقطوعة التي كانت معلقة على الحائط، والتي اختفت من مكانها فجأة في ليلة مصرعه! وزاد الخادم على ما تقدم فقال: (لقد آوى سيده إلى فراشه متأخراً في تلك الليلة المشئومة على غير عادته، وأوصد عليه باب غرفته(650/56)
من الداخل. وقد اعتاد أن يضع مسدسه الكبير وسادته بعد أن يحشوه بالرصاص، ولكنه نسي ما أن يضعه في تلك الليلة في مكانه المعهود. .)
وسكت الخادم هنيهة ليسترد أنفاسه اللاهثة ثم تابع حديثه لي فقال: (وكثيراً ما كنت أسمعه يخاطب نفسه أثناء نومه بصوت عال مسموع كما لو كأن يشاجر إنساناً موجوداً معه بالغرفة! ولكن لم أسمع له صوتاً في تلك الليل التي قتل فيها، ولم أكتشف مصرعه إلا عند دخولي غرفته في الصباح بعد أن دفعت الباب بكل قوتي حين لم أسمع من الداخل رداً على نداءاتي
المتكررة. ولا يمكنني أن أتهم أحداً، أو أشتبه في أحد، لأنني لا أعرف له أعداء على الإطلاق، فضلاً عن أنه كان قليل الاختلاط بالناس)
ولما فرغ الخادم من الإدلاء بأقواله غادرت منزل القتيل ثم ذهبت إلى حاكم المدينة وأطلعته على كل التفاصيل التي عرفتها عن هذه القضية الغامضة. وعلى الرغم من التحريات الدقيقة التي قام بها مفتشو البوليس في المدينة - وأنا معهم - فانهم لم يتمكنوا من الوصول إلى معرفة القاتل الذي لم يترك وراءه أثراً على الإطلاق ولم يعثروا طوال مدة بحثهم أي أثر - ولو بسيطا - يستدل به عليه! ومن غريب ما حدث بعد ذلك أن أحد رجال الشرطة السريين أحضر إلي في الشهر التالي لوقوع هذه الجريمة تلك اليد المقطوعة التي اختفت في ليلة مصرع السير جون رويل، وأخبرني أنه عثر عليها بطريقة المصادفة على مقربة من قبر القتيل نفسه؟ فلما اختبرت هذه اليد وفحصتها بعناية ودقة بالغتين، وجدت أحد أصابعها ناقصاً! فتذكرت على الفور ذلك الإصبع الذي كان السير جون رويل مطبقاً بين أسنانه. وبمطابقة هذا الإصبع الذي احتفظت به معي بعد وقوع الجريمة بباقي أصابع اليد، وجدته بطابقها تمام المطابقة!
وبعد أن سكت المسيو برميتر سكتة قصيرة حول وجهه نحو مستمعيه ليرى تأثير قصته في نفوسهم ثم استطرد في حديثه فقال:
- هذه هي تفاصيل القضية الغريبة، وهي مع الأسف الشديد كل ما أعرفه عنها حتى يومنا هذا.
وهنا سألته إحدى السيدات وهي تجفف بمنديلها قطرات العرق الذي أخذ يتجمع فوق جبينها(650/57)
فقالت:
- ولكن حل هذه الجريمة لم يزل غامضاً لنا يا سيدي إلى الآن؟ فابتسم المسيو برمثير ابتسامة مغتصبة وأجابها بقوله:
- إن الذي أمكنني أن استنتجه من خلال الحوادث والملابسات التي مرت بهذه القضية الغامضة، وهو أن صاحب هذه اليد المقطوعة لم يمت كما توهم السير جون رويل. والظاهر أنه تتبعه في كل رحلة من رحلاته، واقتفي أثره في كل مكان ذهب إليه، حتى استقر به المقام مدينة أجاكسيو. وهنالك أمكنه أن يقتله في منزله بيده الأخرى الصحيحة شر قتلة بعد أن نشبت بينهما تلك المعركة العنيفة التي أدت إلى مصرع السير جون رويل في النهاية. ويلوح لي أن المجرم انتزع اليد المقطوعة من مكانها بعد أن فرغ من ارتكاب جريمته، وغرز أصابعه في عنق القتيل تشفياً وانتقاماً منه ثم أخذها معه وفر هارباً. فلما دفن السير جون رويل ذهب هذا المجرم الجريء إلى مقبرته ووضع هذه اليد بجوارها، ليوهم الناس أنها هي التي قتلته من ناحية، وليضلل رجال البوليس من ناحية أخرى! فإذا كان استنتاجي هذا صحيحاً فلا شك أن القاتل قد نجح في تحقيق فكرته الشيطانية كل النجاح، ووفق في الانتقام من السير جون رويل كل التوفيق. وأما الطريقة التي دخل بها المجرم إلى منزل عدوه ثم خرج منه على الرغم من أن النوافذ والأبواب كانت موصدة كما ذكر الخادم في روايته، فهذا ما لم أجد له حلا ولم أتوصل إلى معرفته للآن!
محمد عبد اللطيف حسن(650/58)
العدد 651 - بتاريخ: 24 - 12 - 1945(/)
معرفة الطريق. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد يصل المرء إلى المعرفة الجوهرية عرضاً، وهي التي نسميها هنا معرفة الطريق
وقد احتاجت معرفة الطريق في عصرنا هذا إلى شئ من الإنصاف بعد أن جار عليها الناقدون كل الجور، وزعموا أن النظرة العرضية لا تؤدي إلى معرفة يعتد بها على الإطلاق
وفي اعتقادنا أن تاريخ المذاهب الفكرية كلها إنما هو تاريخ جور واعتدال، أو تاريخ إجحاف وإنصاف، أو تاريخ تجاوز للحد ورجوع إليه، وقد يكون الرجوع إلى ما دون الحد بكثير أو قليل، فيحتاج الفكر إلى رجعة أخرى ليستقر على الحد الصحيح
أفرط الناس في الإيمان بالمنطق، ثم أفرطوا في الإيمان بالسماع، ثم أفرطوا في الإيمان بالعلوم التجريبية، ثم جمعوا بين المنطق والسماع والعلوم التجريبية في تقديرات علم النفس الحديث، ثم لعلهم يعودون كرة أخرى إلى حدود المنطق السليم، ولكن لا وراء الحدود في هذه المرة ولا أمام الحدود، بل على سواء الحد الصحيح
ومن الأراجيح الفكرية التي تجاوزت الحد جيئة وذهوباً أرجوحة الكلام في مشاهدات السائحين، أو تعليقات الناظرين إلى الأمم من عرض الطريق؛ فقد أنكرناها وغلونا في إنكارها كأن النظرات العارضة لا تميز أمة من أمة ولا مدينة من مدينة، وكأنها لا تطلب لذاتها في بعض الأحيان للدلالة على حكم المفاجأة الأولى، وكثيراً ما تكون المفاجأة الأولى هي المميز الواضح بين الناظرين كما تكون هي المميز الواضح بين المنظورات
كان (فيليب جويدالا) الأديب الأسباني أصلا والإنجليزي نشأة يعبر بالقاهرة، فسألته: أتنوي أن تكتب شيئاً عن رحلتك؟ فقال ضاحكا: لا أظن أن أيامي القصيرة في هذه الرحلة تكفي لتأليف الكتب في موضوعها. ثم قال: لعلي أنا السائح الوحيد الذي قضى في روسيا نحو أسبوع، ولم يخرج منها بموضوع كتاب.
ومراد الأديب بما قال أن يسخر من عجلة المؤلفين في الحكم على الشعوب التي يعبرون بلادها ولا يطيلون المقام بين أهلها، وهو على حق في هذه السخرية إذا كان الموضوع الذي يتصدى له أولئك المؤلفون العابرون مما يحتاج إلى إطالة الدرس وكثرة المراجع(651/1)
والأسانيد، ولكن السخرية جائرة على أولئك المؤلفين إذا كان همهم الأكبر تسجيل ما شاهدوه وما أحسوه ووقع هذه المشاهدات في أذهانهم ومخيلاتهم للوهلة الأولى، فإننا نخسر كثيراً من حقائق المشاهدات إذا أهملنا منها الجانب الذي يفاجئنا بآثاره النفسية، ولو تغير حكمنا عليها بعد ذلك، لأن الآثار التي تتغير هي أيضاً صورة من صور الدلالة، ولون من ألوان الشعور والتفكير.
خطر لي هذا الخاطر وأنا أستمع اسماً من الأسماء تغلب فيه النسبة إلى بلد من البلاد المصرية.
فرجعت بي الذاكرة إلى العهد الذي كانت النسبة الإقليمية تغلب فيه على معظم الأسماء إن لم تغلب على جميع الأسماء.
فكنا نسمع مثلا أسماء: علي الجرجاوي، وحسن الأسيوطي، ومحمد الشرقاوي، وأحمد الفيومي، وحسين المنياوي، وموسى الشندويلي، ومحمود الدمنهوري، وكثيراً من أشباه هذه الأسماء المنسوبة إلى الأقاليم.
ثم عبرت فترة على الديار المصرية قلت فيها الأسماء المنسوبة، ثم أوشكت أن تزول.
ألا يدل مجرد الاستماع إلى أسماء هذين الجيلين على تاريخ الوطنية المصرية منذ خمسين أو ستين سنة؟ ألا يفهم منه أن المصريين قد شعروا بوطن عام تنطوي فيه الأقاليم بعد أن كانت أوطانهم في رأيهم هي تلك الأقاليم التي حجبت عنهم النظر إلى (الوطن العام).
وتسمع بين الأسماء اسم البحيري والشرقاوي ولا تسمع اسم الغرباوي أو الغربي منسوباً إلى إقليم الغربية، بل ينسب الناس أبناء هذا الإقليم إلى بلادهم: كالطنطاوي والدسوقي والمحلاوي والسنطاوي، وغيرها من المنسوبات إلى بلاد الغربية وقراها. فهل من العجلة أن يفهم من ذلك أن التقسيمات الإدارية لم تكن مما يحفل به المصريون في عهدهم الغابر، وإن أسماء الحكومة غير أسماء الشعب في لغة الجماهير؟ ألا يلاحظ من هذا أن الموقع هو المقصود من نسبة البحيري والشرقاوي وليس هو الاسم المصطلح عليه في دفاتر الحكومة عند تقسيم المديريات؟
ويحضرني لهذه المناسبة ما لاحظته على الأسماء العربية في بلاد السودان
ففي هذه البلاد يكثر اسم: أبو بكر وعمر وعثمان، ويوجد اسم مروان والزبير ومعاوية(651/2)
وشرحبيل، ويقل اسم علي وحسن وحسين وجعفر وزين العابدين، ويحدث ذلك الآن غير متعمد وغير ملحوظ، ولكنه في بداية أمره كان متعمداً ولا شك لكثرة المهاجرين إلى السودان من الأمويين بعد زوال الدولة الأموية، وكثرة المهاجرين إليه من العباسيين بعد ظهور الفاطميين. أما في مصر حيث أقام الفاطميون زمناً طويلا، فليس أشيع بين الأسماء العربية الإسلامية من اسم الحسن والحسين وعلي وسائر الأسماء العلوية، وقس على ذلك أسماء المسلمين في إيران وبعض الأقاليم العراقية والهندية؛ فإن أسماء الخلفاء فيها - ما عدا اسم علي - من أندر الأسماء.
وندع الأسماء ونستمع إلى نداء الباعة، أو ننظر إلى زفة الجهاز والشوار، أو نقرأ بعض العناوين على أبواب الدكاكين والأماكن العمومية.
فماذا نفهم من (العبد اللاوي شيلة جمل)، حين ترى أن المنادي بهذا النداء السخيف يحمل في يديه وحجره عشراً من هذا العبد اللاوي الذي ينوء الجمل بواحدة منه؟
وماذا تفهم من اللحاف الذي يحمل وحده على مركبة، أو الكراسي القليلة التي تحمل على مركبة أخرى حين تعلم أن البيت كله ينقل بعد ذلك على مركبة واحدة تتسع لحمولة عشر مركبات من هذا القبيل؟
ألا تفهم من هذا وذاك ولعاً بالمظاهر الكاذبة يبلغ حد الجنون؟ ألا يصدق وصف الجنون على هذا الولع، لأنه يطلب المظهر، ولو لم ينخدع به أحد من الناس؟
إن الولع بالمظهر الخادع فيه بعض العقل أو بعض الذكاء. أما الولع بالمظهر الذي لا يخدع أحداً ولا يخطر على بال الآدمي أنه قابل للخديعة والأنخداع، فأصدق ما يوصف به أنه ضرب من الجنون، وأنه يدل على نقص في إدراك الحقائق وتصورها، لا يستقيم عليه حال.
وليس في وسعنا أن نعيد هنا أسماء الأماكن العامة أو عناوين الدكاكين كما نقرأها ويقرأها من يشاء، لأننا نمس بها أناساً من الأحياء لا نعني ذواتهم بما نقول، فنكتفي من ذكرها بالإشارة إلى مرادفها، أو ما يدل على مثل معناها ومثل ما تشتمل عليه من المتناقضات والأعاجيب
فماذا تفهم إذا عبرت الطريق فرأيت مدرسة للبنات تدعى مدرسة الانشراح، وحانة تدعى(651/3)
حانة الحكمة؟ وماذا تفهم إذا قرأت (جزار الخيرات) وحانوت السلامة؟
أمثال هذه العناوين تدل على كثير، وهي على هذا لا تحتاج إلى أكثر من لفتة في الطريق.
وإذا نزلت بمدينة إسلامية في شهر رمضان فلم تر مسلماً واحداً يحمل سيجارة يدخنها، ورأيت في كل شارع مشهود خمس حانات، فماذا تفهم من حقيقة الإيمان وحقيقة الأخلاق ونصيبها من الصدق والصراحة في تلك المدينة؟ وماذا تفهم إذا مررت فيها بمائة مسجد ولم تجد فيها جميعاً ما يملأ عشرة مساجد؟
إنك لتفهم من هذه النظرات العرضية ما يستحق أن يفهم على الأقل وأن يلاحظ وأن يتجاوز الملاحظة إلى التسجيل.
فإذا كان هذا الفهم مما يتغير بعد النظرة الأولى، فذلك من دواعي الحرص عليه لا من دواعي إهماله وصرف النظر عنه، كما يحرص على كل ملاحظة إنسانية يخاف عليها من الزوال السريع.
لقد ظلمنا (معرفة الطريق)، وأفرطنا في الانحناء عليها، فوجب أن نعود بها إلى حد من القصد والإنصاف، لأننا محتاجون إلى سرعة الملاحظة، ومحتاجون إلى سرعة الاستدلال، ومحتاجون إلى تسجيل الأطوار المتعاقبة للحقيقة الواحدة في حالة المفاجأة وحالة الروية والمراجعة.
أما إذا قيل إن هذه المعرفة التي تسميها بمعرفة الطريق قد تسمعنا ما لا يستحق السماع وتسجل لنا ما لا يستحق التسجيل فالخطب هنا يسير وموضع الفصل فيه غير بعيد، لأننا خلقاء أن نذكر دائماً أن النظر الذي لا يرى من النظرة الأولى ما يستحق أن يقال: لن ينفعنا بشيء ذي بال بعد التمحيص الطويل والتنقيب الكثير.
عباس محمود العقاد(651/4)
من التاريخ الإسلامي:
عشية وضحاها
للأستاذ علي الطنطاوي
هبطت ليلة الثلاثاء (15 رجب 484هـ) على قصر الملك الشاعر، وهو لا يزال على العهد به مُذْ عشرين عاماً، سابحا في النور، رافلا في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يخفهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونذرها، إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد، وتعزف رياحها الهوج العاتيات. . . لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون من بعدها صباحا طلقاً، ضاحك الطلعة ساجع الطير مزهر الروض.
كذلك عودتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان عظيم الثقة بها والاعتماد بعد الله عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورثه الجدود، بطلا في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرّت عليه فجأة بعد ما طال أنسه بالدعة، وبعد ما نام عنه الدهر فطالت نومته، وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.
وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً، فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً. أو أنصدع قلبه وانخلع فؤاده فخضع واستسلم، ولكن المعتمد بن عباد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل أحتمل هذه الشدائد صابراً عليها، معداً العدة لدفعها.
لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث كانت كالحلقات في سلسلة أسره: أنقلب عليه حليفه القوي أمير المسلمين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الأسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز أمس بالخميس العرمرم لم يعده هذه المرة للأسبان، ولم يسقه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه، ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حمية جنده، بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة، وهذه الممالك المزورة:(651/5)
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت له بالإتاوة، وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة (الأندلس) إلا ولاية في دولة المسلمين. . .
بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواه وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمح العدو فيهم، (المعتمد) الذي كان بالأمس الداني صديقهم وحليفهم وكان مُضيفَهم، وكانوا يتغنون بما رأوا من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال.
ثم أن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الأسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين، وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لما بلغهم زحف أميرهم، وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل يؤثرونها على مواقعة الأسبان ومروا يطحنون في طريقهم الأرباط والقرى، ويأخذونها أخذ الفجاءة، ويدعسون مآثر العمران ويحطمون الجنان، وجابوا في هذه الكرة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، ورباً حالية بالزهر، وضياعاً عامره ممرغة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلوها بلاقع، فكأنما مرت عليها ريح سَموم محرقة لا تبقي ولا تذر!
وكانت ثالثة الأثافي، هذه الثورة التي قدح زنادها، ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد، اشبيلية دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضري، وحكمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده، وكرم طبعه، إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحباءهم حباء الجواد المحسن!
لم يحفل الملك وقطان قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجئ ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع. . .(651/6)
وأوى الملك إلى سريره بعد ما صرم أكثر ليله يعدّ قوته ويقيم مسالحه، وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق، وهزيم الطبول، وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي، إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو، على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فتحت له أبواب قرطبة، وفي (الزلاقة) يوم ساق (الأذفونش) فيالقه وجيوشه، ليمحو بزعمه الإسلام من الأندلس فمحى جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة. . .
وأغفى الملك وهو يداعب ذكرى ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشة الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الأسبان، ولم يسئ إلى البطولة بحربه الأخوان المسلمين. . . ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوى واستفاض حتى رجعت أصلاد أشبيلية صليله وعزيفه، وعظم إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاة، ففتح عينيه وأفاق مرتجفا، وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجان، فتخلوا عن ثغورهم حيال الأسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر. . . ألئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين ينام!
وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب، ولا فرسان ضراب؛ وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شئ. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:
إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع أيس ... لب الشرف الرفيع
ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لامته ويدرع:
وبرزت ليس سوى القميص ... عن الحشا شئ دفوع
وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة(651/7)
الهجوم، وتمكن البادرة:
قالوا الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع
فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع، أو دونه الكفر، ورأيت له ذكريات النصر ومواريث الجدود. . .
وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع
أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر إذا خرج للقائه في أهل ولا ولد:
ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً، كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء، فيلحقه فيفر منه ويتأبى عليه!. . . أما هذا الموت الذي يقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان، وفي سدفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه بل لقد أحنقه ذلك عليه، وملأ صدره غيظاً منه، وكراهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فرد هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه، على حين غفلة من أهله، كما يرد الهزبر الذئاب عن غابه.
وضوّأ النهار أشبيلية، وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر، وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتئون كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء، ويثبون إلى سيوفهم، يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير الذي كان بالأمس الحليف النصير فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين، وكانت الحصون حول البلد، وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها، شبلا ذلك الأسد، وفرعاً تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتدّ بالله، ولدا المعتمد ابن عباد. . .(651/8)
وكان عصر ذلك اليوم وأهل أشبيلية لا يزالون يتغنون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بُعد العدو. فاستراحوا قليلا بعد هذه الليلة الجاهدة؛ في تلك الساعة صرخ النذير كما ينفخ في الصور فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال واستراحت أشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!
وفي يوم الأحد 20 رجب سنة 484هـ ارتجت أشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غشمشم، ويقوده أبن أخيه كبش القوم وفارسهم سير بن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم من طول ما ألفوا الخيل قد ولدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد، وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتي الدفاع. . .
أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاءوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها، وناضل الملك البطل حتى لم يبق مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفذ آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلا بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل. . . ونفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها، فعادت أطلالا. . . وهوى الصرح الذي أقامه على النيل والحزم والكرم الغر البهاليل بنو عباد.
إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تعزه الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم جلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد فلم تذل نفسه ولم يضرع ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن. . . وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، وكانا في حصنين أمنع من النجم. تهاوت الحصون وهما ثابتان. . . ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك وماد العرش وساد المرابطون. . . فلما أطاعا ونزلا قتل الراضي على باب حصنه، واستصفى مال أخيه(651/9)
وترك على شر حال، ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قدر عليهم في صحراء المغرب.
كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها، وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلا له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي، وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة. أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر. خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء، وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم:
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جر الشياه إلى المسلخ، وقد:
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
أوجه تزرى بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض، وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام. ثم طلع الملك لا تاج على رأسه، ولا سيف في يده، ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء؛ بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار - تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم. . .
حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فادي
ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كاللآلى:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا ... سيقوا على نسق في حبل مقتاد
ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وأنتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح(651/10)
خيوط الشمس لحظة خلال السحاب في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر. فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً، وفك أسيراً، وأجاز شاعراً، وفعل بها المكرمات؛ أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق و. .
سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد ابن عباد. . . أفي عشية وضحاها، يطمس كتاب كله مجد وكرم ألف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا، فهرعوا (يثبتون) إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن، وأقام فيها النبل. فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارهم علماً يخفق، ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها وصوح زهرها، والدور قد هدمت جدرانها وهدت أركانها، وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة؛ قد محي نقشها وطمس زخرفها وعشش فيها البلى. . . هنالك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:
عرينة دخلتها النائبات على ... أسود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
فمن المعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفي على الدليل سبيل النصر؟
لقد ذهب من كان لهم. . . فيا مَنْ يقصد الملك الشاعر، إنه لم يبق هنا ملك، أنها قد خلت منه داره، وبعد مزاره:
يا ضيف، أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه ... خف القطين وجف الزرع في الوادي(651/11)
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت ... تختال في عدد منها وإعداد
ألقِِ السلاح وخلّ المشرفي فقد ... أصبحت في لهوات الضيغم العادي
ضلت سبيل الندى يا ابن السبيل فسر ... لغير قصد فما يهديك من هادي
كذلك ذهب الملك الشاعر البطل الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله، تمثالا للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، وكل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه.
الملك: الذي كان زمانه كله فجراً رخيٌّا ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً
الشاعر: الذي كان شعره لحن كل قلب مدلَّه بالجمال، مفتون بالفن
البطل: الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر. وكذلك ألقى الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل شاهد الهوى والشباب والبطولة والظفر والسماحة والكرم والشعر والطرب والغنى والترف، ورفع عن مأساة من أفجع المآسي التي (عرضت) على مسرح الكون
علي الطنطاوي(651/12)
وجوب التثبت في المباحث العلمية قبل النقد
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
اطلعت على كلمة في العدد 649 من الرسالة، لحضرة الأستاذ الحقوقي البغدادي الذي لم يشأ أن يعرب عن اسمه الكريم، ولكني - مع ذلك وقبل الرد عليها - أود لو يتقبل مني الأستاذ تحيتي وشكري وثنائي عليه، لتتبعه ما نشرته في الرسالة الغراء، ولأنه أتاح لي معاودة البحث مرة أخرى، فخرجت أشد إيماناً، وأرسخ يقيناً بصحة ما أنكره من بحثي السابق، كما قيض لي في كلمتي هذه ذكر بعض الكتب الفقهية، وكتب التفسير والحديث وتسجيل المراجع العلمية الصحيحة التي اعتمدت عليها.
اعترض الأستاذ في كلمته قضية، ذكرتها في محاسن التشريع الإسلامي، على أنها دليل على مراعاة الشريعة الإسلامية المساواة في تكاليفها وأحكامها، كما سقت قضايا وأدلة أخرى على تلك المزية.
والقضية التي اعترضها الحقوقي فأنكرها هي: أن الربيّع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيع أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيّع، فقال رسول الله: كتاب الله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الله، حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به).
وظاهر من سياقة هذه القصة (في مبحث المساواة في التكاليف والأحكام) أنها إنما سيقت هي ونظائرها للاستدلال على أن الأحكام الشرعية تطبق على جميع أفراد المسلمين بلا تمييز، فلا تسقطها صلة بعظيم، ولا تتبدل بشفاعة ولا وساطة من كبير أو ولي حميم، وإن كان أنس بن النضر الذي هو من خاصة الصحابة، وله قدم صدق في نصرة الإسلام، والجهاد في سبيل إعلاء كلمته، كما يؤخذ منها أن الحكم في مثل هذه القضية ليس متعيناً في القصاص إلا إذا استمسك به المجني عليه أو ولي الدم، أما في حالة العفو أو الرضا بالأرش أو الدية فإنه لا يحكم بالقصاص (وسيأتي إثبات ذلك).
بيد أن الأستاذ اعترض هذه القصة السابقة، وأنكر حصولها وهو في كل ما أتى به في كلمته لم يتعد وجهين اثنين لإثبات رأيه: الأول أن القضية المذكورة (قضية الربيّع)(651/13)
مدسوسة في ثنايا قضايا التشريع وهي عنه جد بعيد.
الثاني - أن القصاص من حقوق الله، وليس من حقوق العبد، ورتب على ذلك نتيجتين: الأولى أنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقط حقاً من حقوق الله. الثانية أن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني.
ردنا على الوجه الأول
يقول الأستاذ الحقوقي (إن القضية مدسوسة في ثنايا قضايا التشريع وهي عنه جد بعيدة)، ويكتفي بهذا النفي والإنكار، فلا يقيم دليلا عقلياً ولا نقلياً على ما يقول، ولا يذكر مرجعاً علمياً واحداً يوافقه على هذا الزعم، فهو في إنكاره هذا لا يجري على الأسلوب العلمي، ولا على مقتضى قوانين البحث والمناظرة، أما نحن فنسوق له هاهنا حديثاً صحيحاً مروياً في أكثر أمهات كتب الحديث، هو الذي اعتمدنا عليه في تلخيص القضية التي قال عنها إنها مدسوسة، والقصة التي جحد صحتها. جاء في الجزء السابع من كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني ص 20: باب القصاص في كسر السن، عن أنس أن الربيّع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر يا رسول الله: أتكسر ثنية الربيّع، لا والذي بعثك بالحق لا تُكْسَرُ ثنيتها، فقال رسول الله: يا أنس، كتاب الله القصاص. فرضي القوم فعفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي)، هذا الحديث الذي رواه البخاري، وذكر في كثير من كتب الحديث الصحيحة - هو الذي أستندنا إليه في ذكر قضية الربيع؛ فإذا أصرّ الأستاذ الحقوقي على أنها مدسوسة بعد هذا البيان فليتبع في نفيها الطريقة العلمية والتدليل المقبول - إن استطاع - بأن يوجه إلى الحديث الذي رواها نقداً داخلياً موجهاً إلى متنه، أو نقداً خارجياً موجهاً إلى رواته، أو يذكر لنا على الأقل رأياً، ولو لرجل واحد من أهل التعديل والتجريح يطعن في صحته.
ردنا على الوجه الثاني
هنا كان عجبنا أشد، فإن الذي يعرض لتقرير قاعدة شرعية ليرتب عليها أحكاماً - ينبغي(651/14)
أن يتثبت ويتحرى، ويرجع إلى كتب الفقه الإسلامي، وهي كثيرة في مختلف المذاهب.
يقول الأستاذ: إن القصاص - كما هو معلوم - من حقوق الله وليس من حقوق العبد، وحينئذ فليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضعه، كما أن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني.
شُدهت لهذه القاعدة، ولما ترتب عليها من النتيجتين، وغلب على ظني أن الأستاذ الحقوقي يقرر القاعدة التي بني عليها القانون الجنائي الفرنسي. وبعض القوانين الغربية. وأو أنه متأثر بها، فأراد أن يطبقها على ما قررته الشريعة الإسلامية، فنأى عن الحقيقة، وأخطأه التوفيق:
فإننا إذا رجعنا إلى كتب الفقه الإسلامي، وإلى القرآن الحكيم الذي هو الأصل الأول لتلك الشريعة، وإلى الأحاديث الصحيحة - أتضح لنا ثبوت هاتين الحقيقتين
الحقيقة الأولى - أن القصاص من الحقوق التي غلب فيها حق العبد - كما صرح بذلك علماء الحنفية، وليس كما قال الأستاذ الحقوقي إنه (ليس من حقوق العبد) - جاء في الجزء الرابع من حاشية العلامة ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار في فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ص 328 من كتاب القضاء (أن المحكوم به أربعة أقسام: حق الله المحض، كحد الزنى أو الخمر، وحق العبد المحض هو ظاهر، وما فيه الحقان وغلب فيه حق الله تعالى، كحد القذف أو السرقة، أو غلب فيه حق العبد كالقصاص، والتعزيز)، نقل ذلك ابن عابدين عن الرسالة المشهورة في فقه الحنفية المسماة الفواكه البدرية لبدر الدين محمد الشهير بابن الغرس
الحقيقة الثانية - أن حق العفو المسقط للقصاص - في الحالات التي يجب فيها القصاص. سواء أكان ذلك في النفس أم في الجراحات والأطراف - مقرر في الشريعة الإسلامية لمن له حق القصاص سواء أكان بلا مقابل، أم مقابل الدية أو الأرش، هذا الحق ثابت بالكتاب الكريم، وبالحديث الصحيح، كما أنه منصوص عليه صراحة في كتب فقهاء الإسلام:
(1) قال تعالى في سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة)، فحق العفو عن القصاص ثابت بقوله جل(651/15)
شأنه: (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف عند تفسير هذه الآية (هذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا، يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بالا يعنف به ولا يطاله إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان بالا يمطله ولا يبخسه، (ذلك) الحكم المذكور من العفو والدية (تخفيف من ربكم ورحمة) لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة حرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو، وخيرت هذه الأمة (يقصد الأمة الإسلامية) بين الثلاث: القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا) 1هـ، ومثل ذلك في سائر كتب التفسير
(ب) ورد في الجزء الثاني عشر من فتح الباري بشرح صحيح البخاري ص 175 عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر الآية، فمن عفى له من أخيه شئ، قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال فاتباع بالمعروف أن يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان. وورد الجزء السابع من نيل الأوطار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل له قتيل فهو بين النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل) رواه الجماعة، لكن لفظ الترمذي: إما يعفو وإما أن يقتل) 1هـ.
وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصيب بدم أن خبل، والخيل الجراح؛ فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فان أراد فخذوا على يديه) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(ج) أما النصوص الفقهية التي وردت في كتب الشريعة الإسلامية في هذا الشأن فإنها تجل عن الحصر، منها ما جاء في الدر المختار ورد المحتار في كتاب الجنايات، عند ذكر الفروق بين القصاص والحد: (يصح عفو القصاص لا الحد) وجاء في موضع آخر في مبحث الجنايات: (ويسقط القود بموت القاتل لفوات المحل، وبعفو الأولياء، وبصلحهم على مال ولو قليلا،. . . إلى آخره).
وجاء في بداية المجتهد لأبن رشد القرطبي في كتاب القصاص: قال مالك لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره:(651/16)
ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى).
أفبعد هذه النصوص الصريحة في أن القصاص يغلب فيه حق العبد، وأنه يسقط عن الجاني - العفو أو أخذ الدية - يصح أن يقال إن القصاص ليس من حقوق العبد، وأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بسقوطه إذا اختار أولياء الدم أو المجني عليه أخذ الدية أو العفو؟!! وهل يجوز أن يقال: إن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني بعد ما سقناه من نصوص الكتاب والأحاديث، وآراء علماء الفقه والتشريع الإسلامي؟!!
لقد كنا ننتظر حقا من الأستاذ الحقوقي - قبل أن يعترض - أن يبحث الموضوع في مصادره الإسلامية، ومراجعه الفقهية، وأن يعرف الفرق الذي لحظه فقهاء الإسلام بين القصاص والقطع في السرقة، فإن الأول يغلب فيه حق العبد؛ أما الثاني وهو وجوب قطع اليد في السرقة بعد ثبوتها، فإنه حق الله تعالى، ولذا لا يملك المسروق منه العفو بعد وجوب القطع ولا يورث عنه، كما أنه لا يملك الخصومة بدعوى الحد وإثباته مجرد عن طلب المال.
هذه كلمة توخيت فيها الاعتدال والنصفة في البحث، والأمانة في النقل، لا أبتغي بها سوى إحقاق الحق، والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسن أحمد الخطيب(651/17)
العزاوي
للدكتور جواد علي
سيبلغ صديقي الأستاذ المحامي عباس العزاوي في هذا العام من العمر الخامسة والخمسين، وإذا ذكر العزاوي في العراق ذكرت الكتب والمكتبات والمخطوطات. فالأستاذ هاو معروف من هواة الكتب القديمة ومن هواة الخطوط، وقد جمع في بيته مجموعة ثمينة من الخطوط القديمة وهو يحدثك عنها وعن صاحبها وبائعها وكيف وصلت إليه، وميزات الخط الفلاني وعلاقته بالخطوط الباقية حديثاً تدرك من خلال مبلغ حب هذا العالم لكنوز الأجداد الأقدمين.
وهو لا يريد من وراء ذلك مكسباً لأنه لا يتاجر بالكتب ولا بالخطوط ولا بالمخطوطات، وهو لا يبتغي من وراء ذلك أجراً لأنه ليس بحاجة إلى هذا الأجر. ولا هو في حاجة إلى أحد. ثم هو لا يتبجح بمجموعته الثمينة شأن أغلب أصحاب الكتب والمكتبات والنوادر. يعرضون ما يجمعونه على الناس ليقال عنهم إنهم من أصحاب التحف والنوادر والجاه العريق.
والعزاوي من أبعد الناس عن التبجح والظهور فهو لا يعاشر إلا بطانة معروفة من الأدباء هي حاشيته وخاصته وجماعته وهي تعد؛ ولا يرافق إلا ابنه (فاضل) من مكتبه إلى مقهى (بلقيس) على شارع أبي نؤاس حيث يجلس قرابة ساعة ثم يعود مع ابنه إلى البيت.
وقد كان يصاحبه أخوه المرحوم المحامي (علي غالب العزاوي) إلى أكثر الأماكن، وكان أصدقاؤهما يقولون (ما أحب الأخوة) فقد كانا مضرب الأمثال في الأخوة حقاً، ولكن الجناة أبوا إلا أن يفرقوا بين الأخ وأخيه فقتلوا (علياً) على قضية خسيسة من حطام الدنيا وفرقوا بين عباس وعلي.
وهو لا يعاشر الآن إلا صديقاً واحداً لازمه منذ عرف الحياة وهذا الصديق هو (الكتب والعلم) ونادراً ما تراه وهو بغير كتاب. والكتاب المحبوب إليه (كتاب التاريخ) وأحب كتب التاريخ إليه على ما أعتقد هي كتب التاريخ النادرة ولا سيما الكتب التي تبحث عن الفترة المظلمة السوداء (فترة العراق بين أحتلالين) وهي فترة مجهولة موحشة تبتدئ بسقوط بغداد على أيدي الغزاة المغول وتنتهي باحتلال الإنكليز لبغداد عام 1917 للميلاد.(651/18)
وإذا ما حدثك العزاوي عن هذه الفترة وتبسط معك في الموضوع وسرد لك حوادث الدويلات التركية وأسماء الأمراء الذين حكموا العراق في هذه المدة الطويلة من مغول وأتراك وإيرانيين فمماليك، فأنا على يقين من أنك ستخرج وتقول: ما هذه الطلاسم والتعاويذ، ولابد لك من الاستعانة بقاموس أو مفتاح يحل لك رموز هذه الشفرة المعقدة التي لا يعرفها إلا القليل من أصحاب هذا العلم.
ولد الأستاذ عباس العزاوي في سنة 1308 للهجرة (1891م) في البادية بين مضارب عشيرة العَزَّة، وقد قتل والده محمد الثامي وهو لا يزال بعد طفل صغير. والعزة قبيلة عربية شهيرة انتشرت في ألوية عديدة من ألوية العراق لاسيما في لواء ديالى. وترجع في الأصل إلى عشائر حمير من عرب الجنوب وتنتمي إلى قبيلة (زبيد الأصغر) المنتشرة في بلاد ما بين النهرين والتي تفرعت إلى عدة فروع، وتنتمي العزة إلى جدها الأعلى (عزيز) وبه تسمت فقيل لها (أعزة) جمع عزيز ثم (عزة) بالتخفيف.
جئ بالعزاوي سنة 1311 للهجرة (1894م) إلى بغداد فاستقر في هذه المدينة وبها نشأ وترعرع وتثقف. وأتم التحصيل الابتدائي والرشدي على عهد العثمانيين. ثم عكف على دراسة العلوم الشرعية واللسانية على الطريقة العلمية المعروفة في ذلك الوقت فدرس في جامع الخلفاء، وهو من بقايا جامع الخلفاء العباسيين على المرحوم عبد الرزاق الأعظمي ودرس في نفس الوقت في (مدرسة مرجان العلمية) وهي مدرسة أمين الدين مرجان صاحب الجامع الشهير المعروف (بجامع مرجان) والخان المعروف باسمه أيضاً، وقد أسست هذه المدرسة على مثال المدرسة النظامية المعروفة في عهد العباسيين ببغداد. وكان أستاذ المدرسة المرجانية هو المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي وهو من أسرة الألوسيين الأسرة العلمية المعروفة ببغداد. ودرس في مدرسة الحيدرخانة (المدرسة الداودية) على العالم الشهير المرحوم السيد محمود شكري الألوسي صاحب التصانيف الشهيرة في علوم الدين واللسان. وصاحب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) وهو الكتاب الذي نال عليه الجائزة من المستشرقين الإسكاندنافيين.
وعرفت الأسرة الألوسية بالميل إلى الطريقة السلفية وبالأخذ بمبادئ الدين على طريقة السلف. فتأثر العزاوي على ما حدثني به بهذه الطريقة فمال وما زال يميل إليها. وكان(651/19)
المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي هو مرشده ودليله إليها. وكان رحمه الله يشير عليه وعلى أمثاله بأن يكونوا أحراراً في اختيار المذهب الذي يريدونه وباتباع الطريقة التي يرون فيها صلاحهم على شرط أن يلجوا البيوت من أبوابها، ومعنى ذلك النظر في أقوال أصحاب المذاهب وما خلفوه رأساً، فإذا أرادوا مذهب الشافعي في الفقه نظروا في كتاب (الأم) المنسوب إليه. وهكذا. وعلى هذا فإذا أرادوا الدين الصحيح فعليهم بالقرآن ففيه الهدى والفرقان وهو المرجع والأصل. وقد وجد أن طريقة السلف هي أقرب الطرق إلى نفسه وأحبها إليه فاختارها طريقة له.
وقد أجازه المرحوم الحاج علي الآلوسي بالإجازة العلمية في 6 جمادي الأولى من سنة 1338 للهجرة (1920م) وتتصل إجازة الآلوسيين بإجازات علماء الشام، وعلى ذلك اتصلت إجازة المترجم بسلسلة إجازات علماء الشام. ودخل بعدئذ مدرسة الحقوق وتخرج منها في سنة 1339 للهجرة (1921م) ومارس المحاماة ومازال يمارسها حتى الآن.
فدراسة العزاوي إذاً دراسة علمية حقوقية وقد ساعده مسلكه العلمي على تفهم كثير من المشاكل التي تتعرض لها مهنة المحاماة. فكان يغرف من معين الفقه الإسلامي ليستفيد منه في الفقه العراقي الحديث. وبرز في الفقهين وامتاز على الأخص في النواحي التي يلتقي فيها الفقه بالقانون. وتتبع نقاط الخلاف فيما بين الفقهاء ودرس مذاهب قدماء الفقهاء وآرائهم في الجدل الفقهي مثل آراء ابن أبي ليلى الفقيه الشهير وابن شبرمة. واستفاد من هذه الدراسة الفقهية كثيراً.
واستفاد من حياة المحاماة كثيراً، فباعتباره محامياً يراجع المحاكم أينما كانت أضطر إلى زيارة أكثر الألوية العراقية وعلى التعرف إلى مختلف طبقات الناس، وعلى بحث مختلف المشاكل التي تتصل بالفقه والقانون فكان ينتهز هذه الفرصة ليرضي بها ميوله العلمية. وكان يغزو الأسواق ليشتري منها النسخ الخطية ويتجسس على أصحاب المكاتب ليتعرف المخطوطات النادرة التي لا يقدرها أصحابها فيبادر هو إليها لتكون في مكتبته الأمينة وفي بيت أمين يحافظ على هذه الودائع الثمينة.
وكانت مكتبة المرحوم السيد نعمان خير الدين الألوسي هي التي حببت إليه الفكرة إنشاء خزانة علمية تكون فردوساً للكتب فصار يقتني الكتب على نحو ما ذكرت. وصار يضيف(651/20)
إليها الصيد النادر من خارج بغداد. ثم لم يكتف بهذا بل دفعه هذا الهيام بالكتب على زيارة مكتبات الشام ثم مكتبات الآستانة، ثم لم يكتف بكل ذلك بل طلب المزيد وهو في العلم نهم فذهب إلى بروسية فالنمسا ليستنسخ أو ليأمر بأخذ صور فوتوغرافية لبعض النسخ الخطية النادرة المحتكرة في خزانات كتب تلك البلاد.
فتجمعت على مرور الأيام في بيت الأستاذ أوابد الكتب ومختلف المخطوطات، ثم أضاف إلى هذا القديم شيئاً من الحديث الغض الذي يخرجه المستشرقون في الغرب وأبناء العالم الإسلامي في بلاد العروبة وفي بلاد الإسلام فتكونت لديه مكتبة ثمينة حرص على حياتها كل الحرص وتعهدها وما يزال يتعهدها بالتغذية والنظافة والرعاية أكثر من رعايته لنفسه، وهي عنده بمثابة ولده (فاضل) لها نفس حقوق الولد وزيادة، يخدمها الأب والابن والأم. ولا أدري منزلة هذه الكتب من قلب (أم فاضل) فقديماً كانت الكتب والمكتبات أشد وقعاً على قلوب الزوجات من (الضرائر) ولعلها هي كذلك في نفوس السيدات المتزوجات على الرغم من ثقافة (ستّات) القرن العشرين.
وأخذ العزاوي العالم يفاجئ العراق بمؤلفاته وأكثرها في تاريخ العراق وهي مؤلفات تشهد لصاحبها بسعة العلم وطول الباع وقدرته على الصبر والأناة سلك فيها مسلك علماء الخلافة العباسية. ولست بمبالغ إذا قلت عنه إنه يمثل دور مؤرخي العباسيين في القرن العشرين. وكتابه (العراق بين احتلالين) وهو سجل جامع لحوادث العراق ويقع في أثني عشر مجلداً ويشمل حوادث المغول وتاريخ الجلائريين ثم التركمان ثم حوادث الدولة العثمانية وحروبها مع الإيرانيين فتاريخ المماليك المعروفين بالكولات ففترة ما بين علي رضا باشا ومدحت باشا فأيام مدحت باشا فالمشروطية وهو كتاب ضخم مرتب على السنين، وقد طبعت الأجزاء الثلاثة الأولى منه بين 1935 و1939 للميلاد، وهو خير ترجمان عن علم الأستاذ.
وللعزاوي كتب أخرى مثل كتابه تاريخ اليزيدية وقد طبع في سنة 1935 وسيطبعه مرة أخرى بعد أن أضاف إليه زيادات وتنقيحات جديدة. وقد نال التفات صاحب الجلالة المغفور له الملك غازي الأول. ويسكن اليزيدية في شمال العراق في لواء الموصل وهم جد حريصين على ألا تتسرب عقائدهم إلى الخارج، وعقائدهم على ما يظهر مزيج من(651/21)
مختلف العقائد والأديان. ومثل كتاب (عشائر العراق) وقد طبع الجزء الأول منه وكتاب تاريخ الخط العربي، وللأستاذ ولع خاص بهذا الموضوع وعنده مجموعة ثمينة من خطوط الخطاطين.
وللمترجم به مؤلفات أخرى مثل كتاب (تاريخ الموسيقى العربية) في عهد المغول والتركمان والعهود التالية لها. وكتاب (التعريف بالمؤرخين من تاريخ ظهور المغول إلى اليوم). وكتاب (الكاكائية في العراق) وهم نحلة من الغلاة وكتاب (تاريخ الفيليه) وهم من الأكراد، وكتاب (المعاهد الخيرية في العراق) ويبحث عن الجوامع والمدارس والتكايا، وكتاب (الأسر العلمية في العراق) ثم (كتاب الإجازات العلمية).
واتصل الأستاذ أثناء بحوثه هذه بمذاهب الأدب وبالأدباء وتعرف على أدبهم وطرقهم الخاصة في الكتابة والنظم، وقد دفعه ذلك إلى التأليف في الأدب فألف (تاريخ الأدب التركي في العراق) و (تاريخ الأدب الفارسي في العراق) و (التاريخ العلمي والأدبي) وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم والأدب عند العرب.
هذه هي أسماء الكتب التي ألفها العزاوي حتى الآن، وقد نشر بعض الكتب الخطية القديمة مثل كتاب (منتخب الدر المختار في علماء العراق) وهو ذيل لكتاب (تاريخ ابن النجار) انتخبه التقي الفاسيّ المكيّ وقد طبعه ببغداد سنة 1938، ورسالة ابن حسّول في تفضيل الأتراك على سائر الأجناد، وقد قدم العزاوي لها مقدمة وترجمها الأستاذ التركي محمد شرف الدين رئيس الشؤون الدينية في الجمهورية التركية ونشرها في مجلة (بلله تن) التركية بأنقرة ثم نشرها بصورة مفردة بالقسطنطية.
هذا عدا ما نشره في المجلات العراقية المختلفة ومازال ينشر في مختلف المجلات، وهو الآن عضو في (نادي القلم العراقي) وهو نادي أدبي ببغداد يضم نخبة من الكتاب العراقيين رئيسه معالي الأستاذ الكبير الشاعر العربي الفحل الشيخ رضا الشبيبي رئيس مجلس النواب سابقاً ووزير المعارف في عدة وزارات. وهو محفل يجتمع أعضاؤه بين الحين والحين في بيت عضو من الأعضاء بالتناوب فيتسامرون ويتباحثون ويأكلون ويجمعون بين العلم والأكل، ولذلك سماه بعضهم (نادي اللقم) على سبيل النكتة والمزاح.
وقد انتخبه أصحاب (إسلام ترك أنسكلوبيديسي) أي (دائرة المعارف الإسلامية التركية)(651/22)
عضواً مراسلا، وانتخبه (المجمع العلمي العربي) بدمشق عضواً مراسلا أيضاً.
وهو الآن عضو في (لجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية) الرسمية وهي لجنة عراقية حكومية رأسمالها حكومي وأعضاؤها من العراقيين المشهورين بالتتبع والبحث لغرض ترجمة الكتب الأوربية الممتازة وتشجيع التأليف وإحياء التراث العربي القديم.
وبعد، فالمحامي عباس العزاوي من أولئك النفر الذين لا يزالون على سنة العراقيين يؤلفون ويكتبون ويقرءون. فمن واجبي أن أكتب عنه.
(بغداد)
جواد علي(651/23)
الصهيوني الأول
(مهداة إلى الأقلام النبيلة المجندة لنصرة فلسطين)
للأستاذ سعيد الأفغاني
بات العرب في مشارق الأرض ومغاربها في هم مقيم مقعد من خطر الصهيونية بفلسطين، ومن كفر ساسة الإنجليز والأمريكان بالضمير والإنسانية. ولقد حق لهم ذلك فإن في أرث غريزتهم التاريخية - من حيث لا يشعرون - علم ما تكن الصهيونية من قوة على الشر، وعبقرية في تهديم مثل الخير والحق وما تستتبع من شرور آخذ بعضها بحجز بعض، وبعض هذا كاف في تبرير عمهم وفزعهم.
وجميع الباحثين في تاريخ هذا الجرثوم الخبيث يردون نشأته إلى القرن الثامن عشر، لا يرقون إلى ما قبل ذلك؛ فما قول القارئ الكريم إذا عرف أن العرب بلوا بفتك هذا الدار منذ أربعة عشر قرناً؟ وأن عبقريته الهدامة فعلت فيهم فعلها الخبيث وبقوا يعانون آثارها السرطانية في وحدتهم الدينية والقومية حتى يوم الناس هذا
وظاهر أني عينت أعظم مأساتين في تاريخ المسلمين: مقتل عثمان وحرب الجمل، وأكثر المؤرخين يوزعون التبعة بين بعض الزعماء غافلين عن روح الشر وبطل الفتنة، والقليل منهم ممن انتبه إلى عامل الحقيقي جعل له نصيبا ثانويا في تأريث الشر. أما إنا فقد خرجت من يجئ بيقين لا يعدله يقين إلى أنه كان في الفتنتين جميعا عامل أولى واحد هو هذا الصهيوني الأول، وإليك البيان منتزعا من كتاب أعده عن (عائشة والسياسة) بعد ذكر الحوادث المعروفة.
في مأساة عثمان
رأيت من الخير قبل أن أنتقل إلى مآتي السيدة عائشة بعد عثمان أن أنبه إلى سبب هام أعزم إليه تبعه هذه المأساة، مأساة عثمان التي ذهبت ضحيتها وحدة المسلمين فلم يجتمعوا بعدها قط. أودع أيام عثمان مقرراً: أن ما بذكر المؤرخون من التبعات على بعض الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعائشة. هو - بعد التمحيص - من التبعات الثانوية. أما أقوى الأسباب التي أرثت الشغب وهاجت الاضطراب وبذرت الشرور وأوقدت الفتنة؛ فهو(651/24)
مؤامرة واسعة منظمة محكمة، سهر عليها أبالسة خبيرون، وسددوا خطاها وتعهدها في جميع الأقطار حتى آتت ثمرها. ولم تلق هذه المؤامرة من عامة المؤرخين ما تستحق من التوضيح والاهتمام
وأنا أجزم أن الأسباب التي يذكرونها كلها، والتبعات التي يوزعونها بين من ذكرت ومن لم أذكر. . . لن تقوى مجتمعه على أن تسامي هذا السبب الهام الذي أشرت إليه؛ بل أجزم أنها جميعاً عناصر (ثانوية) لم تكن لتنتج شيئاً لولا هذا الجو الذي هيأه إبليس هذه المؤامرة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء. وأبعد من هذا، أني أومن أشد الإيمان بأنه لو لم يسكن شئ قط من هذه المساعي التي يذكرونها، لكان عمل ابن السوداء وحده كافياً في بلوغ النتيجة المشؤومة نفسها.
عبد الله بن سبأ يهودي من صنعاء أمه سوداء، تظاهر بالإسلام على عهد عثمان، ثم اندفع متنقلا في البلدان الإسلامية باذراً الضلالات والشرور في هذا المجتمع السليم. وهو رجل على غاية الذكاء وصدق الفراسة والنظر البعيد والحيلة الواسعة، والنفاذ إلى نفسية الجماهير، أقطع أنه أحد أبطال جمعية سرية مخيفة غايتها تقويض الدولة الإسلامية والقضاء على الإسلام وأكاد أظن أن هذه الجمعية تعمل (لحساب) دولة أجنبية. هي دولة الروم التي انتزع منها المسلمون لسنوات قريبة قطرين كبيرين واسعين غنيين: مصر والشام
والغريب الذي لم أقض منه عجباً نشاط هذا الرجل قد اتسع لتعهد ميادين مختلة هي الميدان الديني، والميدان السياسي، والميدان الحربي.
لقد أراد نسف العقيدة الإسلامية من أساسها حين اختلف للمسلمين عقيدتين غريبتين: الرجعة والوصاية. وقد حفظ لنا الطبري بعض نصوص تعاليمه، فمنها:
(العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، فقبل ذلك منه ووضع لهم الرجعة فذاعت في المجتمع. ثم قال لهم بعد ذلك: (إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. . ومحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء).
ثم أنتقل خطوة بعد هذا التمهيد؛ فجمع بين إفساد الميدان الديني والسياسي في إذاعة قوله:(651/25)
(فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول لله ووثب على وصي رسول الله وتناول أمر الأمة).
ثم قال بعد ذلك لأتباعه: (إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر). وهكذا دخلت تعاليم هذا المفسد الذكي قلوب الناس إذ تلطف لهم؛ فجاء من الجهة التي تحن لها قلوبهم، وتهواها أهواؤهم.
لقد طاف الأقطار العربية قطراً قطراً، بدأ بالحجاز باثاً ضلالته، ثم انعطف إلى الشام والشام يومئذ بصير بأمره معاوية بن أبي سفيان، الذي فطن إلى خطره فأبعده؛ إلا أنه على حذره أصابه رشاش من إفساده. والطبري يزعم أن ابن السوداء (لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر).
والصحيح أنه قدر، وزرع، وحرك على معاوية صحابياً جليلاً أذعن عامة الشاميين لأقواله حتى أضطر معاوية الداهية الحليم إلى أن يطلب من الخليفة عثمان إخراجه من الشام، ذلك هو أبو ذر الغفاري وحادثه معروف مشهور، وهذا الطبري نفسه يتولى قص الحادث:
(لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال (يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: (المال مال الله، ألا إن كل شئ لله!!) كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين؟ فأتى أبو ذر معاوية فقال له: (ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟) قال معاوية: (يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، المال مال الله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟؟) قال أبو ذر (فلا تقله). . . ثم كان ما كان من تأليب أبي ذر الأغنياء على الفقراء وخوف معاوية على الشام منه ومن دعوته ثم نفيه منها.
أني لشديد الإعجاب بذكاء ابن السوداء وصدق فراسته، وإحكام دراسته لنفسيات الناس، لقد عرف الخبيث من يختار من الشام فيخدعه بالله، ولقد وفق التوفيق كله بهذه المقالة التي فصلها على مزاج أبي ذر، فلم يكد يلقيها حتى طار بها أبو ذر فحط على معاوية. وهذا هو فن ابن السوداء الذي أنجح مساعيه؛ فهم جيد للناس وأمزجتهم ونفوسهم، و (استخبارات صادقة منظمة) انتفع بها أعظم الانتفاع في إحكام خطط الشر، واستغلال حسن لغفلة المسلمين عن نواياه، وخداع ماكر لهم عن دينهم وسلامة دولتهم.
لقد جنى الروم من دسائس ابن السوداء خيراً كبيراً: إذ شغل القوى الإسلامية بعضها(651/26)
ببعض فكسر شوكتها وشغلها عن الاندفاع في الفتوح، وما استتعبت بعد ذلك من شرور أخذ بعضها برقاب بعض أفظع وأشنع هولا ولو وقع ابن السوداء هذا لإنجلترا اليوم لاستغنت به في إفناء عدوها عن جيوش وأساطيل منظمات استخبارية تعج بالخبيرين الفنيين.
والظاهرة أن ابن السوداء سكر بهذا الظفر الذي لم يكن يتوقعه في الشام، فأتى أبا الدرداء، ففطن هذا لمكره فقال: (من أنت؟ أظنك والله يهوديا)، ثم انصرف عنه فأتى عبادة بن الصامت، فتعلق به عباده وسلمه إلى معاوية قائلا: (هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر).
(كان حكيم بن جبلة رجلا لصاً، إذا قفل الجيوش خلس عنهم، فيسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى عامله عبد الله بن عامر: (أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً). فحبسه فكاد لا يستطيع أن يخرج منها).
على هذا الرجل المفسد الموتور الجرئ الناقم على عثمان، نزل عبد الله بن سبأ لما أتى البصرة. صار يجتمع إليه الناس ويبث إليهم تعاليمه الهدامة ومقالاته الثورية المفرقة، بلباقة، لا يصرح فيها بما ينم عن نواياه، وفشا أمره وقبل الناس ما يقول وعظموه وبلغ خبره الوالي عبد الله بن عامر. فأرسل إليه فسأله (ما أنت)؟ فأخبره: (أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك). فقال عبد الله: (ما يبلغني ذلك، اخرج عني) فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتب جماعاته في الأمصار ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم).
هكذا صار ابن السوداء بماله من (استخبارات وفروع) يتسقط الناقمين واحداً واحداً: ممن ناله عقوبة أو تأديب من عامل أو خليفة، أو ممن له طموح إلى منفعة لم يصل إليها. . . فجعلهم حزبه وبطانته وألف بينهم حتى صار له في كل بلد جماعة. فلما نظم هذه الفروع استقر بمصر بؤرة الناقمين، وألقى إلى جماعاته في الأقطار دستور العمل وخطة الدعاية التي تسبق الثورة، وإليكها كما حفظها الطبري:
(أنهظوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر).
فبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم،(651/27)
واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه هؤلاء في أمصارهم هؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة (العاصمة) وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون ويسرون ما يبدون؛ فيقول أهل كل مصر: (إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء). . . إلا أهل المدينة فانهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: (إنا لفي عافية مما فيه الناس).
وأحكمت هذه الجماعة أمرها ومؤامرتها، وأرسلت إلى الأمصار كتباً مزورة بما شاءوا من شكوى واستنجاد بأهل الأمصار، وتحريض لهم على الثورة والخلع.
لقد ملأ ابن السوداء البلاد نقمة وثورة وفساداً، وأصبحت الأقطار كلها هشيما يابساً ينتظر شرارة واحدة كان إرسالها أهون شئ على جمعياته. فلما قدمها التهمت الأخضر واليابس وأراقت الدماء وسالت جموع الثائرين من أهل الأمصار المختلفة على مدينة الرسول وكان ما يعرف كل قارئ من قتل الخليفة الشهيد على حال تبكي الصخر الأصم.
وهكذا قضى هذا الصهيوني الأول على حكم (المدينة) وحكومة (الراشدين) إلى يوم الدين
(للحديث صلة)
سعيد الأفغاني(651/28)
القضايا الكبرى في الإسلام
قتل بني قريظة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من المهم في عصرنا أن ندرس واقعة قتل بني قريظة درساً قضائياً، ليعلم الناس أن ما ارتكبه بنو قريظة يدخل في باب الخيانة العظمى للوطن، ويندرج في أشد أنواعها جناية، وأعظمها جرماً، وأن ما قضى به الإسلام من القتل في ذلك هو ما تقضي به شرائع العالم كلها. لا فرق في ذلك بين الشرائع القديمة والحديثة، ولا بين الشرائع السماوية والوضعية، وأن هذا الحكم هو حكم الإسلام في كل من يرتكب هذه الجناية، لا فرق في ذلك بين مسلم ويهودي ونصراني.
كان أهل المدينة ينقسمون قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما من العرب اليمانية الذين هاجروا من اليمن بعد حادثة سيل العرم، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء، وثانيهما من اليهود، وكانوا ثلاثة بطون: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد لبث الأوس والخزرج مع اليهود حيناً من الدهر يحيون الأرض الموات أو يزرعونها وهم في عسر شديد، وكان اليهود أرباب الأموال، فحدث نزاع وشجار بينهم وبين الأوس والخزرج، وقد انتهى ذلك بتغلب الأوس والخزرج على اليهود. ثم حدثت حروب بين الأوس والخزرج حالف فيها بنو النضير وبنو قريظة الأوس، وحالف بنو قينقاع الخزرج، ولم يكن اليهود فيما بينهم بأقل ظلماً وبغياً من العرب، بل كان بنو النضير يتعززون على بني قريظة مع أنهم كانوا في حلف واحد، فلم يكن بنو قريظة يساوون بني النضير في الحكم، ومن ذلك أن دية القتيل من بني قريظة كانت نصف دية القتيل من بني النضير، فكانت الدية من وسوق التمر لبني النضير أربعين ومائة وسق، وكانت لبني قريظة سبعين وسقاً.
فلما دخل الإسلام المدينة قضى على تلك الحروب والفروق، وسوى في حكمه بين أبناء ذلك الوطن، ولم يجعل فرقاً في حكمه بين المسلمين واليهود، ولا بين بطون اليهود الثلاثة، وقد شكا بنو قريظة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بينهم وبين بني النضير من الدماء قبل الإسلام، فأنصفهم منهم، وحكم بأن دم القرظي وفاء من دم النضيري، فكان بنو(651/29)
قريظة أكثر انتفاعا بحكم المساواة الذي جاء به الإسلام، وكان جميل الإسلام عليهم أكثر من جميله على غيرهم.
وقد جمع الإسلام بين أبناء هذا الوطن من المسلمين واليهود بمعاهدة حفظت لكل فريق منهم حقه فيه، ولم تجعل لما بينهم من الخلاف في الدين أثراً في التفرقة بينهم، وقضت على كل فريق أن يقوم بالدفاع عن الفريق الآخر إذا قصده عدو، كما قضت عليهم جميعاً بحق الذب عن هذا الوطن إذا قصده فريق من الناس بأذى.
ولكن اليهود لم يلبثوا أن تنكروا لحق هذا الوطن عليهم، ولجميل الإسلام الذي بدلهم من الخوف أمناً، ومن الحرب والفوضى والاضطراب سلاماً ونظاماً واستقراراً، فأخذوا يكيدون للمسلمين، ويعملون على إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج، ليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام ممن الحرب والخصام. ولما ضاق النبي صلى الله عليه وسلم بدسائسهم أجلى بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، فذهبوا إلى أذرعات بالشام، ثم أجلى بني النضير في السنة الرابع من الهجرة، فنزل بعضهم بخبير، ونزل بعضهم بأذرعات.
ثم جاءت نوبة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة، فكان جرمها أشد، وكانت خيانتها لذلك الوطن أعظم، لأنها جاوزت تدبير الفتن الداخلية إلى ارتكاب الخيانة العظمى، وهي الانضمام إلى أعداء هذا الوطن وقت مهاجمتهم له، فلم يكتفوا بترك الواجب عليهم من الدفاع عنه مع المسلمين، بل انقلبوا عليهم مع أعدائهم من المشركين.
فإنه في السنة الخامسة من الهجرة ذهب جمع من بني النضير إلى مكة فقابلوا رؤساء قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، فقالوا لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي ذلك نزل قوله تعالى في الآية 51 من سورة النساء (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا). .
ثم جمعوا جيشاً عظيما من العرب واليهود يبلغ أكثر من عشرة آلاف، وقصدوا المدينة بهذا الجمع الذي لا طاقة لها به، فلم يجد المسلمون إلا أن يحفروا حولها خندقاً ليساعدهم على الدفاع عنها، وقد استعاروا من بني قريظة آلات كثيرة من المساحي وغيرها، فاستعانوا بها(651/30)
في حفره.
فلما بلغ جيش المشركين واليهود المدينة وجدوا حولها هذا الخندق، فضربوا حولها حصاراً شديدا، كان حي بني أخطب سيد بني النضير قد وعد قريشاً إذا أجابته أن يحمل بني قريظة على نقض عهد المسلمين، فطلب منه أبو سفيان بن حرب قائد جيش المشركين أن يقوم بوعده، فذهب إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة وقال له: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر، وببحرٍ طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنبِ نقمى إلى جانب أُحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.
فقال له كعب: جئني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شئ. ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه، فأني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
وهذه شهادة لها قيمتها من كعب سيد بني قريظة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محافظاً على عهده مع اليهود، ولم يحدث منه خروج عليه؛ ولكن حيي بن أخطب لم يزل بكعب حتى حمله على نقض ذلك العهد، بعد أن عاهده على أنه إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما يصيبه.
فانضم كعب بذلك إلى أعداء وطنه، ونسي هو وقومه جميل الإسلام عليهم، وأنهم كانوا أذلاء في هذا الوطن فرفعهم الإسلام وأعزهم. وقد وقع المسلمون بذلك في أكبر محنة، وزاد في محنتهم أن المنافقين من الأوس والخزرج رفعوا أيضاً رؤوسهم، وأخذوا يتفلتون من صفوف القتال إلى بيوتهم بأعذار واهية، ليُفتوا في عضد المسلمين، ويحملوهم على الفرار مثلهم، ولولا أن تدارك الله المسلمين بلطفه لقضت عليهم تلك الخيانة الآثمة، وتمكن أعداؤهم من استئصالهم، فقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصون من المسلمين تلك الصدمة بشجاعة فائقة، وهدى الله بعض زعماء المشركين إلى الإسلام، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم إسلامه عنهم، ويعمل على تفريق كلمتهم، فعمل على ذلك حتى أوقع الخلف بينهم. وما هي إلا ليلة مظلمة أرسل الله فيها ريحاً شديدة باردة، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح آنيتهم، فوقع في قلوبهم الرعب، وأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، ويتنبه لذلك المسلمون.(651/31)
وهنالك وقع بنو قريظة في شر ما فعلوا، وصاروا وحدهم أمام المسلمين الذين نقضوا عهدهم، فاجتمعوا بحصونهم وأغلقوها عليهم، وحاصرهم المسلمون فيها خمساً وعشرين ليلة، حتى ادركهم اليأس، وطلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم فلم يرض أيضاً، بل قال لرسلهم: لابد من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً. فلما رأوا أنه لابد لهم من النزول على حكمه فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِفُوا.
ثم جاء وقت النظر في قضيتهم، فقام بالدفاع عنهم رجال من حلفائهم من الأوس، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فلم يمكنهم أن ينكروا جنايتهم، ولكنهم طلبوا تخفيف الحكم عليهم، وقد فاتهم أن جناية بني قريظة ليست كجناية بني قينقاع، حتى يصح قياسهم، ويكون الحكم في الجنايتين واحداً.
لقد كانت جناية بني قينقاع محاولة الدس والتفريق بين المسلمين، فكان عقابهم أن ينفوا من بينهم اتقاء لشرهم، أما جناية بني قريظة فارتكاب الخيانة العظمى مع إخوانهم في الوطن، بالانضمام إلى الأعداء الذين يريدون استئصالهم والقضاء عليهم، فخانوا بذلك وطنهم أكبر خيانة، بل خانوا دينهم حينما آثروا أن ينضموا إلى المشركين على المسلمين، مع أن المسلمين أهل توحيد مثلهم، فهم بذلك ينصرون الشرك على التوحيد، ويساعدون الكفر على الإيمان، وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآيتين - 80، 81 - من سورة المائدة (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) أي موسى عليه السلام (ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون).
فلا يمكن بعد هذا كله أن تكون عقوبة بني قريظة كما طلب أولئك الذين تولوا الدفاع عنهم من رجال الأوس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من السياسة ألا يتولى هو الحكم عليهم، فقال لمن تولى الدفاع عنهم من حلفائهم: ألا يرضيكم أن يحكم عليهم رجل منكم. فقالوا: نعم. فأباح لهم أن يختاروا من يشاءون منهم للحكم عليهم، فاختاروا سيد الأوس سعد بن معاذ.
وكان سعد جريحاً من سهم أصيب به في غزوة الخندق، وقد أقام بخيمة في المسجد مُعَدَّة(651/32)
لمعالجة الجرحى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي به، فحملوه على حماره إلى مجلس الحكم، وقد التف به جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبيِّ في مواليه. يعنون ما فعله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين مع بني قينقاع، فقال لهم سعد: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. ولما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقاموا فأنزلوه وقالوا له: إن رسول الله قد ولاَّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم يا سعد.
فالتفت سعد إلى الجهة التي ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت. فقالوا: نعم.
ثم التفت إلى الجهة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وعلى من هنا كذلك. وهو غاضُّ طرفه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نعم. فقال سعد: فإني أحكم أن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد. ثم أمر بتنفيذ الحكم فيهم، فخرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ضرب أعناقهم فيها ثم طمرهها عليهم، وكانوا نحو ستمائة رجل.
وهذا الحكم هو ما تقضي به كل الشرائع القديمة والحديثة فيمن يخون وطنه ويحارب قومه مع أعدائه، وهذه الجريمة من الخطورة بمكان عظيم في كل تلك الشرائع، فلا تأخذها رأفة بمن يرتكبها، بل تأخذه بأقصى ما يكون من العقوبة، وهو عقوبة القتل. وقد كان بنو قريظة يريدون استئصال المسلمين بمساعدة أولئك المشركين، فليجازوا قتلا بقتل، واستئصالا باستئصال. وقد جازاهم الإسلام بذلك كما يجازي كل من يرتكب مثل ما ارتكبوا ولو لم يكن يهودياً، لأنه لا يعرف في حكمه فرقاً بين مسلم ويهودي ونصراني، ولا ينظر في تشريعه إلا إلى الجناية في ذاتها، فيعطيها حكمها بقطع النظر عمن يرتكبها.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى رجال بني قريظة في ذلك كأسرى حرب، لأنه لم يفعل مع الأسرى في حروبه ما فعله معهم، وإنما نظر إليهم كمجرمين خانوا وطنهم، وانضموا إلى أعدائه في محاربته، فأجرى عليهم حكم وطنهم في هذه الخيانة، وكان أمرهم عنده أشد من أمر أسرى الحرب، لأن المحاربين يساقون بعدواتهم إلى حرب أعدائهم، وأما الخائنون لأوطانهم وعهودهم فلا عذر لهم في خيانتهم، ولا يستحقون من الرأفة ما يستحقه(651/33)
أسرى الحرب ونحوهم.
وقد كان في إمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم ويجيبهم إلى طلب الجلاء كما فعل مع بني النضير، وكما عفا عن حاطب بن أبي بلتعة في تجسسه لقريش، ولكنه لو أجلاهم لعادوا إليه محاربين مع جموع العرب واليهود كما حصل في غزوة الخندق، وأوقعوا المسلمين في محنة أشد من محنتها، ولا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين
عبد المتعال الصعيدي(651/34)
رأي جديد في:
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 5 -
5 - رأينا في مدى انتحال حماد
لنسبق المقدمات إلى النتائج، ولنُدْلِ برأينا الذي انتهينا إليه بعد البحث الطويل، لنعود فنؤيده بما سنؤيده به من الأدلة والبراهين.
هذا الرأي هو أن حماداً لم يبلغ من الانتحال ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء. ليس من شك في أنه انتحل بعض الأشعار، وكان في هذا متأثراً بحال الرواية في عصره، ولكنه لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همّه وقصده.
فأما تدليلنا على صحة هذا الرأي، فإنما نجعله قسمين: قسما نأتي فيه بأدلة عقلية ونقلية، وقسما نمحص فيه ما ذكرنا من تلك الأقوال والأخبار التي أوردها القدماء في صدد انتحال حماد.
القسم الأول
(1) يقول القدماء إن حماداً كان شاعراً، وإنه كان شاعراً مجيداً؛ وإنه كان يصنع الأشعار، ويدسّها على الجاهليين، فتختلط بأشعارهم، ويصعب التمييز بين هذه وتلك. ونحن نرى أنه كان شاعراً، فقد قرأنا له طائفة من الأشعار؛ ولكننا لا نرى أنه كان شاعراً مجيداً، فإن أشعاره تميل إلى الغثاثة والركة؛ ولا نرى أنه يبلغ من جودة القول ما بلغه شعراء الجاهلية حتى تختلط أشعاره بأشعارهم.
يقول البغدادي (خزانة الأدب جـ4 ص 131): (وكتب حماد إلى بعض رؤساء الأشراف:
إنّ لي حاجةً فرأيُك فيها؟ ... لك نفسي فدًى من الأوصاب
وهي ليست مما يبلغها غير ... ي ولا يستطيعها في كتاب
غير أني أقولها حين ألق ... اك رويداً أُسرّها في حجاب
فكتب إليه الرجل: اكتب إلي بحاجتك، ولا تشهرني في شعرك. فكتب إليه حماد:(651/35)
إنني عاشق لجبتك الدكناء عش ... قاً قد حال دون الشراب
فأكسنيها فدتك نفسي وأهلي ... أتباهى بها على الأصحاب
ولك الله والأمانة أن أجعل ... ها عُمْرَها أمير ثيابي)
هذه صورة لشعر حماد يصفه القدماء بالجودة، ويرفعونه إلى طبقة الشعر الجاهلي. فهل ترى أن مثل هذا الشعر يتسامى إلى ما قاله قيس بن الحدادية في مديح أسد بن كُرْز، وزعم البعض أنه من صنع حماد؟
لا تعذليني سَلْمَ اليوَم وانتظري ... أن يجمع اللهُ شملا طالما افترقا
إن شتت الدهر شملا بين جيرتكم ... فطال في نعمة يا سلم ما اتفقا
وقد حللنا بقسرىّ أخي ثقة ... كالبدر يجلو دجى الظلماء والأفقا
لا يُجبرُ الناسُ شيئاً هاضه أسدٌ ... يوماً ولا يرتقون الدهر ما فتقا
كم من ثناءٍ عظيم قد تداركه ... وقد تفاقمَ فيه الأمرُ وانخرقا
(2) قدّمت في الفصل السابق أنه لم يصح عن حماد وضع في المعلقات، وهي أهم ما رواه. فإذا كانت المعلقات قد سلمت من وضعه وانتحاله، فلماذا لم يسلم سائر ما رواه؟ ولماذا لم ينتحل حماد المعلقات، وهو المشغوف بالانتحال العاكف عليه الجاعل له همّه وقصده؟
(3) يقول أبو عمرو الشيباني، فيما رواه أبو الفرج (جـ5 ص165): (ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدّمه على نفسه، ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدّمه على نفسه). فما رأيك في رجل هذا رأي أبن العلاء فيه؟ وابن العلاء راوية ثقة، وأجد القراء السبعة. مرّ الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف عليه، فقال: لا إله إلا الله، لقد كادت العلماء أنّ يكونوا أرباباً، كل عزّ لم يؤكَّد بعلم فإلى ذُلْ يؤول. ما رأيك في رجل يقدمه ابن العلاء على نفسه؟ وهل تظن أن أبا عمروَ بن العلاء ممن يرتضون تقديم رجل منتحل كاذب بالغ في الانتحال والكذب؟
القسم الثاني
1 - تمحيص أقوال القدماء في انتحال حماد:(651/36)
فأما قول المفضل، وقول يونس بنَ حبيب، فإننا نقف منهما موقف الحذر. فقد كان المفضل معاصراً لحماد، وكذلك كان يونس ابن حبيب. والمرء لا ينصف معاصره، في أغلب الأحيان؛ ولا سيما إذا كانا من صناعة واحدة. بل إننا حين نقرأ قول المفضل: قد سُلِّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، ثم نقرأ قول من سأله: وكيف ذلك؟ يخطر ببالنا هذا السؤال: إذا كان حماد معروفاً في عصره بكثرة الانتحال، فلماذا سأل السائلُ المفضل واستفسره؟
وأما قول خلف وقول الأصمعي، فإننا نقف منهما موقف الارتياب، فقد كان معاصراً لحماد، وكذلك كان الأصمعي. ثم إنهما كانا بصريين؛ وما كان لبصريّ أن ينصف كوفيا كحماد، إلا إذا كان في خلال أبي عمرو بن العلاء. وليس هنا مكان الحديث عما كان بين الكوفة والبصرة، في مجال العلم والأدب، من تنابذ وتخاصم وصراع. هذا إلى أن خلف الأحمر كان منتحلا، ذاع ذلك عنه، واعترف هو به؛ وذلك أنه نسك في أخريات أيامه وترك الشعر والكلام، فخرج إلى أهل الكوفة، وعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس.
وأما ما ذكره السيوطي من قول أبي حاتم، فإننا نقف منه موقف الشك. ذلك لأننا لم نقف عليه إلا لدى السيوطي، وهو متأخر. هذا إلى أن أبا حاتم بصري، لا يؤخذ بقوله في حماد إن صح منه هذا القول.
وأما ما يقوله ابن سلام في حماد من أنه كان غير موثوق به، فقد سمعه من غيره، ولم يبنه على تجربته. وذلك لأنه لم يشهد أيام حماد، ولم يتقدم به الزمن ليرى كذبة وانتحاله. فقد سمع هذا إذاً من غيره، ثم دونه في كتابه، وهو يعلم أنه يتهم عالماً كوفياً. وكان ابن سلام من علماء البصرة.
2 - تمحيص أخبار انتحاله
نبدأ بتمحيص قصة حماد مع الخليفة المهدي. فنعيد ما قلناه في صدد حياة حماد من أنه لم يدرك عصر المهدي في أغلب الظن، فقد توفي سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان، بينما أن المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. ونعيد ما قلناه من أن الرواية التي يشير إليها ابن خلكان إذ يقول (وقيل إنه توفي في خلافة(651/37)
المهدي) غير صريحة النسبة، ولا تذكر تاريخاً معيناً مما يحدو بنا إلى رفضها. نعيد ما قلناه من أن حماداً لم يدرك عصر المهدي، ومن أن رواية ابن خلكان ضعيفة، لنصل من هذا إلى أن قصة حماد مع الخليفة المهدي قصة باطلة كاذبة، وإلى أنها إنما اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. اخترعت ولفقت في سبيل النيل من حماد، ورفع قدر المفضل. وإلا فما رأيك في قصة تنتظم ثلاثة فصول؟ فصلا يحادث فيه المهدي المفضل وحده؛ وفصلا يحادث فيه المهدي حماداً وحده؛ ثم فصلا كأنه خاتمة يخرج فيه حماد والمفضل معاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ويرجع فيه الخادم معهما فيقول: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعراً جيدا محدثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فما رأيك في قصة قد فصلت تفصيلا، ونسقت تنسيقاً، وقسمت فصولا؟ وما رأيك في كلام الخادم؟ ألا ترى أنه شبيه بكلام من يروج بضاعة في سوق؟ ثم ألا ترى أنه يفاضل بين رواية حماد ورواية المفضل في تفصيل ودقة كأنه ناقد خبير، لا خادم أجير؟ أظنك ترى بعد هذا أن هذه قصة باطلة كاذبة، فقد اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. ثم إن الجاحظ في البيان والتبيين (ج 2 ص 202 - 203 ط السندوبي) يذكر رواية من شأنها تكذيب هذه القصة. يقول الجاحظ: (أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي، فخلى سبيله وأكرمه وقرب مجلسه، فقال له يوماً: أنشدني قصيدة زهير التي أولها (لمن الديار بقُنَّة الحَجْر) وهي التي على الراء:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوَيْنَ مذْ حِجَجٍ ومذْ دَهرِ
فأنشده، فقال المهدي: ذهب والله من يقول مثل هذا! قال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا! فغضب المهدي واستجهله ونحَّاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس). فأنت ترى من هذه الرواية أن المهدي يعلم مطلع القصيدة؛ وهو ما تقول القصة إن حماداً صنعه في حضرة المهدي، وأنه أقر بصنعه إياه بعد استحلافه.
السيد يعقوب بكر(651/38)
من وحي المرأة
الورد الأحمر
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
هو الورد، لا يجلو النواظرَ كالورد ... له حمرة القاني من الدم في الخدِ
أُطالع منه كلَّ حمراء غضة ... ترفٌ بما ضمت من الماء والوقد
فتضحك لي الدنيا ويُسفر نورها ... وينجاب عنها كل أدجن مُربدّ
ويسكر حسّي بالصبابة والصبا ... وأستاف حولي مثل رائحة الخلد
كذلك كان الورد، والورد لم يزل ... على عهده، ما حالَ وردٌ عن العهد
فيا تعسَ نفسي اليوم ما بالها انطوت ... على سلوةٍ عنه وباتت على زهد
تُجانبه عيني، فما امتدّ لحظها ... إلى باقةٍ إلا أشاحته عن قصد
أوسّع من حملاقها وهو مُغْرَق ... أٌغيّض فيه الدمعَ منفرط العقد
وأنجو كأن الورد ألسنة اللظى ... وبي مثل مس النار من شدة الوجد
هو الورد، إلا أنه اليومَ باقتي ... إلى حبيَ الغالي المغيَّب في اللحد
إلى زوجتي بالحس والروح والحجى ... وصنوىَ من دون النساء ومُعتدّي
أحجّ إليها أحمل الورد زاهياً ... كما كنت أغشى دارها خاطبَ الود
وسيان في الحالْين وردٌ وباقة ... ولكنّ هول الخطب في الخاطب المُهدي
فيا بُعْدَ بين الخاطبيْن: مؤمِّلٌ ... سعيد، ومشؤوم الهوى عاثر الجد
وإني لأسعى كل حين لقبرها ... على قدِمي رسْف المكبّل في القيد
أشُقّ على نفسي كما هان حسنها ... وبات رهين الترب والحجر الصلد
وأكرمها أن أطرق القبر راكباً ... وإن كنتُ مهدود القوى قاصر الجهد
وآبَى على الأهلين حمل تحيتي ... فأحمل طول الدرب باقتها وحدي
إذا استشرفتْ عيني المقابرَ ثار بي ... حنين، فَحَثْحَثْتُ الخُطى طائرَ الوخد
وأٌجهش كالمشتاق حان لقاؤه ... لمن ذاق في أحضانها كجَنَي الشهد
وأٌفضي إلى المثَوى أضمّ رخامه ... وأوسعه لثماً كمستقدح الزند
فيلقي رخامُ القبر ضمّيَ جافياً ... صليباً، ويجزي حرَّ لثمَي بالبَرْد(651/40)
وأنظر للورد الجنيَّ نثرتُه ... هنا كدم القربان في المعبد العِدّ
فأرجو لو أن الرمز كان حقيقة ... وأنى قربان الحبيبة لو يجدي
وألمس معنى الورد يُهدَى احمراره ... لمعروقة الأجلاد شاحبة الجلد
فأبكي لها منزوفةً جفْ عودها ... وما كان أجرَى الماء في عودها الملد
وأبكي لوردً كان في الخد واللَّمَى ... وقد كان أندى الورد طراً على كبدي
تمر بي الساعات ما إن أحسّها ... فهذا الحِمَى أَلغى الزمان على الحد
أُطيل مقامي عازبَ الرشد ذاهلا ... فإن غربت شمس الضحى ثاب لي رشدي
فأمضِي وشمس الغرب حمراءٌ وردةٌ ... وقد نَفَضَتْ فوق المقابر كالورد
عبد الرحمن صدقي(651/41)
إلى موعد 31 ديسمبر سنة 1944
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
ليت يا موعد الحبيبة ما كن ... تَ، ولا درتَ في حساب زماني!
أين من عطرتْ أُويقاتك الحل ... وة في عالمي. . . وفي وجداني؟
أين من خلدتْ ثوانيكَ بالح ... ب، وزانتْ إذا حللت مكاني؟
أين من كنت تُشهد القدر العم ... لاق أنَّي بها نسيت كياني؟
وكأني على يديها. . . فؤاد ... عارمِ النبض، دائب الخفقان!
أين يا موعد الحبيبة من كن ... تَ بها تزدهي على الأزمان؟
كنت ألقاك زاهياً. . . يتباهى ... كل آن أتي على كل آن!
كل وقت من الزمان تمنى ... لو تريثتَ فيه بعض ثوان
كنت ألقاك وهي فيك عروس ... صاغها الله من نسيج الحنان
تثمل الأرض من دبيب خطاها ... وتموج الحياة بالألحان. . .!!
كنت ألقاك وهي فيك ملاك ... بعثته السماء في إنسان!
يعبق الجو حولها بالمسرا ... ت، وتطويك حافلا بالمعاني
كم تعجلتُ أن تمر الليالي ... كي أُلاقي لديك من تهواني!
كيف لم تأت والحبيبة في حي ... ن كما في اللقاء عودتماني؟!
جئتَ تستمهل الدقائق سعياً ... خشية أن تحل نهب الأوان
قيَّد الحرص أن تراها ثواني ... ك، وأرخى لها عنان الثواني
فتحاملن. . كاسفات. . بطاء. . ... وائدات في سيرهن أماني!
جئتَ يا موعد الحبيبة مربداً ... كئيباً تفيض بالأحزان!
أنت إن كنتَ قد حللت، فماذا ... عاقها أن تصير في أحضاني؟!
آه لو يرجع الزمان بك الآ ... ن إلى ساعة وراء الزمان!!
ساعة أخدع انتظاري بها عن ... قذفه باللهيب في أركاني
عقرب الساعة الذي قد تخطا ... ك إلى ما تلاك في الدوران
كلما دق دقة في المسير ان ... داح في مهجتي دوي الهوان(651/42)
كيف يا موعد الحبيبة ولي ... تَ، وألقيتني إلى أشجاني؟
كم تمنيتُ لو مضيتَ بعمري ... ضمن أوقاتك الغوالي الحسان
وجمتْ حولي الأريكة في الرو ... ض، وغامتْ بما ترى العينان!
وكأني بذلك المقعد الملتف بالعش ... ب، أقاموه من لقى الأغصان
شاطر القلب في التياعي فأبكى ... غردات الطيورْ. . . ثم بكاني!
وكأني به يسائلني عن ... ها، ولكن سدى يجيب لساني
كيف يخلو من وجهها الأسمر العذ ... ب ومن نور مقلتيها مكاني؟
هذه كعبتي. . . فأين التي أج ... ثو أُصلي لحسنها الفتان
هذه جلستي. . . ولكن إلى من ... بعدها، غير ذاهبات الأماني؟
أيها النسيم! أيها الأفق المخ ... ضل بالسحب وهي دمع قان!
أيها الروض! أيها الطير فوقي! ... أيها المَقعد الخضير الحاني!
كم سكرتم هنا بنجوى فؤادي ... نا، فصرتم سكراً على الأكوان
كم وعيتم هنا. . . أغاريد روحي ... نا الغريبين عن بني الإنسان!
كم ذهلنا هنا. . . عن الأبدان! ... وعدمنا شعورنا بالزمان!
وامحتْ حولنا من النظر الشا ... مل حتى شيات هذا المكان!
والتقيْنا في نشوة الحب روحاً ... واحداً يستلذ شرع التفاني!
واحترقنا في قبلة. . . طهرتنا ... ثم طارت بنا وراء الرعان
قبلة تمنح الخلود لحسي. . .! ... وتريني ما لا ترى العينان!
كم طفونا روحين، ثم بلغنا ... في لظاها قرارة البركان
أنا وحدي هنا. . . أُداهن أشوا ... قيَ أن ترحم الفؤاد العاني
بي حنين إلى البكاء مرير ... آه يا مقلتيّ لو تكِفان!
أيهذي الدموع. . يا قطرات الن ... فس بالشوق والأسى والحنان!
أنقذيني! ترقرقي في جفوني! ... أنت يا راحتي ويا سلواني!
عبد الرحمن الخميسي(651/43)
الَبريدُ الأدبيّ
التموين في عام
معالي وزير التموين طه السباعي بك رجل عرفه الأدب قبل أن تعرفه الوزارة، ولقد كتب وترجم ما أهله لأن يكون في صفوة المختارة من أدبائنا وكتابنا، وإن الإنسان حين يتناول كتابه - أو بيانه كما يريد هو أن يسميه - الذي وضعه تحت عنوان (التموين في عام) ليعجب كيف تخضع هذه المعاني الرسمية الجافة لأسلوب الأدب الذي يحيل جفافها نضرة وجمالا.
وقد أهدى نسخة من بيانه ذاك إليّ، فكتبت إلى معاليه الأبيات الآتية:
يا وزير التموين، هذا كتاب ... يمتع الحس والنهي أسلوبا
أنت أرسلته بياناً علياً ... يشبه الزهر رونقاً وطيوبا
كل لفظ فيه أرق من الفج ... ر، وأندى من النسيم هبوبا
صغته قادراً على الصوغ فذاً ... ثم أرسلته بياناً عجيباً. .
العوضي الوكيل
إلى الدكتور إبراهيم ناجي
ذكرتم في كتابكم الأخير (كيف تفهم الناس)، وفي الفصل الخاص بدراسة نفسية الجماهير (أن الفرد ينحدر من أصول غطاها الطلاء الذي ندعوه المدنية وغشاها العشب الذي تدعوه الثقافة، ولكن هاته الأصول لم تمح آثارها ولن).
فهل من وجه للمقابلة بين الثقافة والعشب؟
فالعشب - كما نعلم جميعاً - لا يصلح لشيء فهل الثقافة كذلك؟ والعشب يطفو على سطح الماء، فهل تطفو الثقافة على سطح الحياة، أم تغوض في المرء وتتأصل؟
والعشب هش تذروه الريح، فهل الثقافة رخوة تزيلها العواصف؟ والعشب بقايا الحصاد، فهل الثقافة نفاية الحصاد الذهني؟ أترى حالف التوفيق الصديق في هذه المقابلة
وديع فلسطين
المعلقات(651/44)
يكتب الأستاذ السيد يعقوب بكر عن حماد الراوية وقد عرض للمعلقات فوافق ابن النحاس النحوي المصري على أنها لم تعلق في الكعبة ولكنه خالفه في اختيار العرب لها، ورأى أن العرب هم الذين اختاروا هذه القصائد وفضلوها على غيرها. قال في العدد (648): (فالمعلقات إذاً قد تكون من اختيار العرب القدماء) ثم جاء في العدد (649) فجعل هذا الذي قد يكون أمراً محققاً، وأكد فيه ما ردده في العدد السابق فقال (واستقام لنا أن العرب القدماء هم الذين اختاروا المعلقات وفضلوها على غيرها). وهذه دعوى لا تقل في نظر الباحث في التاريخ الأدبي عن دعوى التعليق، فان الناظر في الأدب الجاهلي يستطيع أن يعرف من هذا - لو صح - الذوق الأدبي عند عرب الجاهلية ويستطيع إلى أي مدى كانوا يحكمون على الشعر وما هو مدار الفحولة في الشعر عندهم؟ ومن دراسة هذه المعلقات يتبين له النوع الذي كان يؤثره جمهور العرب على غيره وهكذا، فإذاً هذه دعوى لا يمر بها الدارس مراً ولا يلقيها على رُسَيْلاتها، بل لابد له أن يدعمها بالدليل، ويؤيدها بالبرهان، ونحن نرى أن الكاتب اعتصم بأمرين أولهما ما ذكر في قوله (ويؤيدنا في رأينا هذا ما يقوله ابن النحاس نفسه من أن حماداً الراوي لما رأى قلة من يعنون بالشعر، جمع هذه القصائد السبع، وحث الناس على درسها وقال لهم: هذه هي المشهورات، ولفظ المشهورات هنا هو بيت القصيد) وهو كما نرى - دليل واه ضعيف - فما أهون على حماد أن يكون زعم هذه الكلمة، ويؤيد هذا أنه قدمها للناس حين رأى منهم الزهد في الشعر. فمن المرجح حينئذ أن يقول لهم إن هذه القصائد كان يؤثرها العرب على غيرها، وكانت عندهم مشهورة ليحثهم بذلك على حفظها ودراستها، وكل ما يمكن أن يؤخذ من هذا أن حماداً نفسه كان يستجيد هذه القصائد، وأما ماعدا ذلك فيحتاج إلى دليل، فمن أين لنا مثلا الدليل على صدق حماد في هذه الدعوى؟
أما الأمر الثاني فما ذكره في قوله (فالعرب الجاهليون قوم قد شغلوا بالشعر فقالوه ورددوه وأقاموا الأسواق لإنشاده ونقده، وقوم هذا شغلهم بالشعر لا يصعب عليهم تفضيل بعضه على بعض واختيار بعضه دون سائره).
ونقول له نحن: وهو كذلك. نعم لا يصعب على العرب أن يفضلوا بعض الشعر على بعض، ولكن من أين لنا أن هذه هي القصائد التي فضلها العرب واختاروها؟ وإن هذا(651/45)
الدليل لا ينتج لنا الدعوى. فهو دليل ناقص ومبتور. فاستقام لنا أن دعوى شهرة هذه القصائد وتفضيل العرب لها على غيرها دعوى لا دليل عليها.
ونحن ننتظر من هذا الباحث أو من غيره الحجة والبرهان على هذه النظرية أو على نقيضها حتى نرتب على ذلك نتائج صحيحة سليمة وهي نتائج على جانب كبير من الأهمية في قيمة النقد عند عرب الجاهلية.
بنباقادن الثانوية
علي جلال الدين شاهين
الكأس السابعة
أشرق علينا الأستاذ صلاح ذهني بمجموعة قصص جديدة يضمها اسم (الكأس السابعة). . . وقد كانت في الواقع كئوساً عذبة من الأدب القصصي أرشفنا إياها الأستاذ المؤلف. وقد قدم له بمقدمة خائفة تداهن الناقد وتقترب إلى القارئ في أسلوب متهكم بعض الأحيان جاد في الأحيان الأخرى، وكنت وأنا أقرأ هذه المقدمة أعتقد أن الأستاذ صلاح قدم إلينا شيئاً هو غير راض عنه. . . ولكن حين قرأت هذه المجموعة بدا لي أنه كان يتهكم في مقدمته جميعها. . . فهذه القصص التي أبرزها لا تحتاج إلى مداهنة أو زلفى فهي واضحة المغزى محكمة العقدة بارعة الحل، كل هذا في أسلوب طلي وعبارات مختارة.
وكم سرني أن الأستاذ صلاح قد سلسل حوادث قصصه في صميم مجتمعنا هذا، فجمع بهذا بين الفن الصافي والنقد البارع لما يدور حولنا، وهو بهذا يناقض القوم الذين اعتقدوا أن القصة فن رفيع لا يصح أن يسفل إلى المجتمع متناسين أن كاتب القصة نفسه من المجتمع يسفل إذا سفل ويعلو إذا يعلو. . . أثبت الأستاذ صلاح أن القصة لا تسمو على المجتمع وإنما هي من صميمه وواجبها فيه النقد والإصلاح لا التعالي والاستكبار.
ولكن لي على الأستاذ المؤلف نقيدة أرجو أن يوليها شيئا من التفاته، ذلك أنه كان ينهي القصة دائماً بالفاجعة ولا نستطيع أن نعيب عليه هذا في كثير من قصصه لأن حبكتها كانت تستدعي هذا. . . ولكن لِم لمْ يخلق لنا شخصية خيرة ممن لا يمكن أن ننكر وجودهم في المجتمع؟. . . فلو أوجد الأستاذ هذه الشخصية لاستطاعت أن تتلافى كثيراً من الفواجع(651/46)
ولجعلتنا أيضاً نرنو إلى مستقبل للمجتمع تمحي فيه مساوئه ويرفرف عليه الخير، أما اليوم بعد أن قرأنا هذه القصص فلا يسعنا إلا أن نبتر الأمل في الإصلاح.
ولكن هذا المأخذ لا ينقص من روعة المجموعة شيئاً بل ولا يجوز لي أن أسميه مأخذاً فما هو إلا رأي أسوقه ألتمس له عند المؤلف تحقيقاً
ثروت أباظة
جمعية المؤلفين والملحنين
اجتمع لفيف كبير من المؤلفين والملحنين في الساعة الحادية عشرة صباحاً بنادي السينما بالقاهرة، وبعد أن تلا عليهم الأستاذ فريد غصن بعض أغراض جمعية المؤلفين والملحنين بباريس، رأى المجتمعون أن هذه الأغراض هي نفس الأغراض التي يسعون إلى تحقيقها، فقرروا تأليف هيئة منهم وممن ينضم إليهم في المستقبل للعمل على تحقيق هذه الأغراض بالتعاون مع تلك الجمعية على أن يكون المجتمعون أعضاء مؤسسين.
كما قرروا اختيار الأساتذة: أحمد رامي، وأحمد فؤاد شومان، وبديع خيري، وبيرم التونسي، وفريد غصن، وعبد الرحمن سامي، ومحمد عبد المنعم (أبو بثينة)، ومحمد شوكت التوني، ومصطفى عبد الرحمن، لوضع القانون الأساسي للهيئة واللائحة الداخلية، وتكييف وضعها القانوني في مصر بما يضمن انتفاعها بجهود الجمعية المركزية للمؤلفين والملحنين بباريس، على أن يقدموا تقريرهم في اجتماع تعقده الهيئة في يوم الجمعة 21 ديسمبر 1945.(651/47)
القصص
من قصص الصين
الدمع. . .
للكاتب الصيني الكبير (به - شاو - كين)
ترجمة عبد الله ما - جي - كو
بحث رجل عن شئ أضاعه الناس في جميع بقاع الأرض التي تضيئها أنوار الشمس والقمر والنجوم، وجهد في البحث عنه تحت جذور الحشائش وفي الترع الناضبة وفي تراب الشوارع وفي كل جزء من الهواء الذي يأتيه، ولكن لم يجده في كل هذه، فتنفس تنفسا أبعد عمقا وأكثر حزنا من تنفس الغابة الكثيفة وقال، (أين الشيء الذي أريده؟ أين الشيء الذي أريده؟)
وجاء (الرجل المتفائل) وسأله قائلاً: (لماذا تبحث تحت جذور الحشائش، هل ضاع منك اللؤلؤ؟ ولماذا تبحث في الترع هل ضاع منك الزئبق؟ ولماذا تبحث في التراب، هل ضاع منك الدم؟ ولماذا تبحث في الهواء، هل ضاعت منك الرائحة الطيبة؟)
فهز الرجل رأسه وزفر قائلا: (كلا، لم تضع مني هذه الأشياء)
فرد عليه الرجل المتفائل: (أنت أحمق إذن، فان الإنسان لا يبحث هذا البحث المرهق ألا عن هذه الأشياء القيمة، وأرى أنه يجب عليك أن لا تتعب نفسك وتهلكها لأجل شئ لا قيمة له). قال المتفائل هذه الكلمات وقد ملأت الابتسامة وجهه وارتفع لحم خديه وتجعد الجلد الذي حول عينيه تجعدا عميقا، كما هي صفته التي تعودها كلما تكلم مع الناس.
وأجابه الرجل قائلا: (إن الشيء الذي أبحث عنه أهم من الأشياء التي ذكرتها، وإني قد بحثت عنه كل يوم وفي كل مكان فلم أجده! إني أبحث عن الدمع).
ولما سمع الرجل المتفائل كلامه فتح فمه - كأنه غار عميق - ورفع رأسه إلى السماء يقهقه بلا انقطاع، وقال بعد حين: (الدمع! وهل للدمع أتعبت نفسك وجهدت في البحث عنه؟ إني لا تدمع عيناي دمعة واحدة ولا أعرف أين منبع الدمع من جسم الإنسان، وإنما رأيت بعض الحمقى تنزل الدموع من عيونهم، وسأخبرك عن الأمكنة التي تنزل دموعهم(651/48)
فيها:
(أذهب إلى المحطات والمرافئ تجد هناك رجالا ونساء كأن قلوبهم قد ربط بعضها ببعض لا يضيعون لحظة من الزمن وإنما يتحادثون فيها ولو بتكلف، وإذا لم يتمكنوا من الكلام غابوا في أحلام هناك كأن البرهة تساوي زمنا طويلا لا نهاية له، وتر هناك أيضاً الأيدي في الأيدي، والأذرع بالأكتاف، والأفواه بالأفواه كأنها مشدودة ملتصقة لما تنفك بعد، فإذا اتفق أن تصفر الباخرة أو القاطرة، انقطعت المحادثات، واستيقظ الحالمون، وانفكت الأيدي والأذرع المشدودة وسالت الدموع من عيونهم سيلان الماء من الينبوع، وإني أرى هذه المناظر حقيرة مضحكة ولكن إذا ذهبت إلى هناك جدت الدمع بدون تعب ولا مشقة) وأجاب الرجل قائلا (لا أريد هذه الدموع، لأنها دموع الحب والغرام، وإنها كثيرة جداً يسهل على أن أجدها كنت أريدها لذهبت إلى المحطات والمرافئ منذ زمن).
وقال الرجل المتفائل: (إذ لم ترد هذه الدموع، فاذهب إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد تجد فيها أطفالا راقدين تعجبك وجوههم الحمراء الجميلة وشعورهم الصفراء الخفيفة وعيونهم السوداء المنيرة وتدعوك إلى رحمتهم والعطف عليهم، وتراهم يبكون فجأة بكاء شديدا ثم يقطعون البكاء بدون تكلف، ولا تكون دموعهم أكثر من دموع الرجال والنساء المذكورين، ولكنني أظن أنها تكفيك وتقنع أملك، فاذهب إلى هناك).
فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع أيضاً لآنها دموع الطفولة وهي موجودة في كل بيت يسهل على أن أجدها، ولو كنت أريدها لذهبت إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد باحثا فيها) قال الرجل المتفائل: (إذا أنت لم ترد هذه الدموع فاذهب إلى الملاهي ودور التمثيل تر على مسارحها رجالا ونساء يمثلون أحيانا روايات محزنة خيالية كأنها حقيقية ويقومون بأدوار مضحكة ومناظر محتقرة كموت زوج المرأة أو مصرع قائد الجيش، للدفاع عن بلاده أو حب الفتى والفتاة وتعذر اجتماعها أو غير ذلك وإذا مثلوا الرواية ووصلوا إلى أشد الأمور حزنا وأغمها بكوا بكاء شديدا ونز لت الدموع من عيونهم، ولا يهمنا أن تكون الرواية حقيقية أو كاذبة فع لى كل حال هم يبكون وستجد في عيونهم الدموع، فاذهب إلى الملاهي وابحث عن الدموع في مسارحها) فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع كذلك، لأنها دموع خيالية كاذبة ووجودهم لا اعتبار له في العالم، فلماذا أذهب إلى الملاهي؟) ولم(651/49)
يستطع الرجل المتفائل أن يزيد على تلك الدموع المذكورة فنظر إلى الرجل فاتحاً عينيه، وبعد برهة سأله قائلا: (إذن، أي دمع تريد؟ لاني أعتقد أنه لا توجد في الدنيا إلا الدموع التي ذكرتها، فهل تعلم غيرها؟)
فأجاب الرجل قائلا: (نعم، علمت أن الدنيا دمعاً غير تلك الدموع، وأنا لا أبحث إلا عنه، وأصرح لك بأنه دمع العطف والرحمة لا غير)
فعجب الرجل المتفائل من كلام الرجل، وحدق بعينيه في وجهه، وهز رأسه هزة خفيفة وقال: (لعل هذا الدمع ليس موجوداً في الدنيا؟ دمع العطف والرحمة! لم أكن أسمع هذا الإسم الغريب، ولم أعرف من الذي ينزل من عينيه هذا الدمع، ولأي سبب ينزل، فإذا علمتهه فهل لك ان تخبرني عنه بالتفاصيل؟) فقال الرجل: (نعم، سأخبرك عنه بكل سرور:
إن دمع العطف والرحمة لا يسيل لشخص أو لشخصين فحسب بل يسيل للناس الكثيرين، إن صاحب هذا الدمع يذرفه من عينيه إذا رأى المأساة وتأثر قلبه تأثراً تاماً، وليس هو كدموع الأطفال لأنها طبيعية بغير تأثر. وإن الدمع يسيل للاخلاص والصدق ولا يوجد فيه شئ من الخيال والكذب. وأما شخص يسيل منه الدمع فإني لا أعرفه، وقد بحثت عنه في كل مكان ودققت النظر في عيون الناس، فلم أجد قطرة من هذا الدمع، ومن يدري لعله لم يكن موجوداً! وربما سقط وضاع من عيون الناس في مكان، وكل شئ إذا ضاع يمكن أن يوجد بالبحث عنه. وسأبحث عنه لعلي أجده وأرده إلى أصحابه، وما عثرت على الذين ينسكب من عيونهم هذا الدمع، ولكن عسى أن أجدهم خلال بحثي عنه)
ولم يصدق الرجل المتفائل كلامه، وهز رأسه هزات ثم قال: (لا أفهم كلامك، ولكن إذا كان هناك من يسيل من عينيه هذا الدمع، فإنه يكون أكثر حمقاً وأشد سفهاً من الذين ذكرتهم لك، فإن الإنسان أذكى وأعز من كل شئ، ويستحيل أن يبلغ هذا المبلغ من الحمق والسفه، لذلك لا أستطيع أن أصدقك).
ونظر الرجل إلى الرجل المتفائل نظرة عطف وإشفاق، ثم تنهد وقال بصوت رقيق: (وأنت أيضاً من الذين أضاعوا هذا الدمع! فيجب عليك أن تبحث عنه معي، فإذا وجدته استرددت الشئ الذي أضعته، فهل لك أن ترافقني؟)
ولم يرض الرجل المتفائل عن كلامه بالطبع وقال: (كيف ضاع مني هذا الدمع، إن عيني(651/50)
لم تدمع دمعة واحدة، ولا أحب أن يسيل الدمع مني، ولا أرضى أن أعمل معك عملا لا فائدة فيه، لذلك سأذهب إلى حفلة الغناء والرقص أغني فيها غناء السرور وأرقص رقصة جميلة)
ولما رأى الرجل الباحث أن الرجل المتفائل لا يرضى أن يبحث معه عن الدمع فارقه واستمر في عمله، ووقف الرجل المتفائل يضحك من هذا الرجل ضحكاً عميقاً على حمقه وسفهه، ثم ذهب إلى مكان السرور، وشغل فيه باللهو والغناء
ولم يجد الرجل الدمع في تلك الأمكنة، فغير رأيه وذهب إلى مكان مزدحم بالناس بحثاً بينهم عن الدمع، فوقف بجانب شارع، وألفى السيارات تسير فيه أسرع من الريح، تأتيه فجأة وتروح لا يكاد يشعر بها، ورأى المارين في الشارع يضطربون اضطراباً شديداً، وينظرون تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف وهو خائفون من السيارت أن تمزق أبدانهم، ووجد البغال تجر العربات الكبية المحملة بالفحم هزيلة الأجسام كأن اللحم لا يوجد فيها، والعرق المتصبب منها بلل شعورها السوداء، وكلما خطت خطوة كادت تقع على الأرض فتجد قوتها في كل خطوة وتذهب بذهابها؛ وهكذا مشت إلى الأمام تغمض عيونها بعض إغماض، وأما سواقوها، فقد ملأ غبار الفحم وجوههم وجعلها سوداء فاحمة، وكأن عيونهم مغمضة، وأصبحت شفاههم حمراء مخيفة، ورأى الرجل من ناحية أخرى رجالا يجرون (العربات اليابانية) التي يركبها الناس يعدون كالخيل ويمسكون بأيديهم أذرع العربات، ويطوون أرجلهم في العدو حتى تكاد تصل إلى أعجازهم ويرفعون أعضادهم كما ترفع الطيور أجنحتها، وإذا اتفق أن هاجت الريح بالتراب وألقته في وجوههم فيدخل أنوفهم وأفواههم، يتنفسون بأصوات عالية خشنة كأنها البخار يخرج من أنابيبه ويتفصد العرق من وجوههم، ولا تسمح الظروف لهم أن يمسحوه عنهم، وإنما يسيل بنفسه إلى الأرض ويتلاشى في الرمل والتراب
فقال الرجل لنفسه: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكنه حين بحث عنه بحثاً دقيقاً لم يجد قطرة منه ونظر إلى سائقي السيارات والماشين والبغال وسائقي عربات الفحم وجارِّي العربات اليابانية والجالسين عليها فإذا عيونهم جامدة لا تبض بدمعة فغادر ذلك الشارع خائب الأمل.(651/51)
وذهب إلى دار الأحتفالات الكبرى فوجد فيها الناس مزدحمين منهمكين في إعداد حفلة فخمة لإستقبال رجل عظيم، وسمعهم يتكلمون عن تاريخ هذا الرجل: فيقولون (خاض هذا الرجل العظيم غمار الحرب مرات كثيرة وهزمت بخططه جيوش العدو التي لا تحصى ولا تعد، وكانت كل جثة تستلقى على ظهرها أو تحبو على بطنها فوق المروج الواسعة وفي الترع والأوحال العميقة مصابة برصاصه وقنابله، وخربت الحقول وهدمت الحدائق وسكتت أصوات التلاميذ في المدارس ووقفت حركات الآلات في المصانع بمدافعه وطائراته، وأصبحت الأيدي مقطوعة والأرجل مكسورة وفقدت النساء أزواجهن والأمهات أبناءهن بقضائه وقدره وهو يمر الآن بهذا البلد بعد انتصاره في الحروب)
فقال الرجل: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن حي اقبل الرجل رأى على وجوه الناس علائم الاحترام ودلائل الفرح فقفزوا ورقصوا كأنهم جماعة الضفادع، وظلت اصوات هتافاتهم كالامواج تصخب ورموا قلاننسهم في وجه السماء تتراقص في الهواء،، وفي هذه الضوضاء وذلك الجنون دخل الرجل العظيم وتبعه الناس وافتتح الاحتفال، وراى الرجل انه لا يوجد على وجوه الناس إلا الابتسامة والبشاشة كأن عيوننهم لم تسل منها الدموع قط ولن تسيل منها أبدأ! فغادر تلك الدار صفر اليدين. وذهب الرجل إلى مصنع كبير فوجد رجالا ونساء كثيرين يعملو فيه وقد أصمت أصوات الاّلات اّذانهم وزكمت روائحها أوفهم، وما أكبر العجلات التي لا يستطيع الإنسان ان يحركها إلا يقوة كبير ورأى الرجل علامات الموت تدب على وجوههم من شحوب وهزال، ويحني بعضهم ظهره بجانب الآلات ياكل الطعام الخشن الردئ، وتقف بعض النساء يفكرون في أطفالهن الذين تركنهم في البيوت فربما بكوا بكاء شديدا إذا لم يجدوا امهاتهم، ولكن لا يمكن لهؤلاء الرجال والساء أن يضيعوا وقتا كبيرا بل يجب أن يأكلوا بسرعة، وعلى النساء أن يستيقظن من أحلام التفكير ويواصلن العمل. ولما غابت الشمس خرج العمال من المصنع ومروا بالسوق الليلية التي يطوف بها الرجال والنساء يبحثون عن السعادة والفرح؛ فدخل العمال في موج هؤلاء السعداء المزدحمين واختلطوا بهم.
وتبع الرجل هؤلاء العمال مفكراً قائلا: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن هؤلاء الناس كماء النهر إذا دخله ماء آخر اختلطا وسار معاً بدون تأثر، وكذلك اختلط الناس في(651/52)
السوق بالعمال الذين دخلوا بينهم ولم يتأثر بعضهم ببعض فحدق الرجل نظره في عيونهم فوجدها كأنها قعور الآبار الجافة لم تسل منها الدموع ولن تسيل، فغادر تلك السوق منقطع الرجاء.
ورأى الرجل أنه لم يجد دمع العطف والرحمة في الناس أيضاً فحزن حزناً شديداً ومشى في الطريق حتى وصل إلى قرية بغير قصد، ورأى كوخاً أمامه ميدان واسع وحوله بضع أشجار من الصفصاف تجعل أشعة الشمس أوراقها الخضراء جميلة رشيقة، ويظهر أن عند صاحب الكوخ ضيوفاً يعد لهم وليمة، وبدأت امرأته تذبح الدجاج وبجانبها قفص فيها بضع عشرة دجاجة، فأخذت المرأة دجاجة واحدة وأمسكت بيدها اليسرى جناحيها وعرف رأسها ونزعت بيدها اليمنى شعر عنقها ثم أخذت سكيناً وذبحتها، فحركت الدجاجة رجليها كأنها تريد أن تدافع عن حياتها ولكن لم تقدر فسال الدم من عنقها في طاسة صغيرة، فوضعتها المرأة على الأرض بعد انقطاع الدم، وتحركت الدجاجة على الأرض حركة خفيفة ولم تلبث أن أصبحت كومة من الريش من غير روح، وذبحت المرأة الدجاجة الثانية والثالثة كما ذبحت الأولى.
ولما ذبحت المرأة الدجاجة الخامسة خرج من الكوخ ولد ذو وجه أحمر وعينان سوداوان يتطلع بهما وسعى إلى المرأة فرأى أكواماً من الريش ودجاجاً في القفص، ووجد واحدة منها في يد المرأة منظرها يؤلم القلوب، فأسرع ليمسك بيد المرأة اليمنى وخرج البكاء المحزن من فمه وتدفقت من عينيه كتدفق الينبوع
ولا رأى الرجل الدموع لم يصدق أن عينيه تريانها حقيقة وظن أنه في سنة من النوم فإنها جزاء تعبه الغالي أتاه من غير حسبان، ولكنه دقق النظر فيها فوجدها حقيقية تسيل من عيني الولد قطرة قطرة كأنها درر لامعة، ففرح فرحاً شديداً كأنه وجد اللؤلؤ وصاح قائلا: (لم أكن أظن أنني أجدها هنا!) وتقدم إلى الولد ووقف أمامه ماداً يديه تحت عينيه، وبعد برهة ملأت دموع الولد كفيه.
فقال الرجل: (لقد وجدت الآن هذه الدموع التي أضاعها الناس! وإن من واجبي الآن أن أردها إليهم). فراح قاصدا إلى (الرجل المتفائل) يردها إليه أولا لأنه لم يصدق أنه أضاع هذه الدموع وطلب منه أن يحفظها ولا يضيعها مرة ثانية، ثم ذهب إلى مكان يهدي إلى كل(651/53)
إنسان هذه الهدية القيمة التي لا مثيل لها عنده. فاستعدوا أيها القراء الكرام، لتأخذوا هديته؛ فربما جاءكم بها قريبا.
عبد الله ما - جي - كو(651/54)
العدد 652 - بتاريخ: 31 - 12 - 1945(/)
مقاطعة الصهيونية. . .
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قررت جامعة الدول العربية مقاطعة الصهيونية، أو إنتاجها على الأصح، وكان القرار بالإجماع، وليس للجامعة أداة تنفيذية، وإنما أداتها الحكومات الداخلة فيها، فكل حكومة تنفذ قرار الجامعة، بوسائلها الخاصة، التي تسمح بها قوانينها ونظمها وأحوالها، والوسائل ميسرة وعديدة، منها على سبيل المثال الحواجز الجمركية التي يمكن أن تقام في وجه الصادرات الصهيونية من فلسطين لمنعها من دخول البلاد العربية؛ ومنها كذلك منع إصدار المواد اللازمة للصناعات الصهيونية، إلى فلسطين، مثل الرمل من سورية، فإنه يدخل في صناعة الزجاج ولا غنى بها عنه؛ ولا خسارة على سورية من هذا المنع، لأنه يسعها أن تصدره إلى مصر، وفيها كما هو معلوم، صناعة عظيمة للزجاج، ومثل الأبقار العراقية التي يستوردها الصهيونيون، وينتفعون بلحمها وجلودها، فإن بمصر حاجة إليها، الخ الخ.
والأمر، كما قلنا مرة من قبل، في هذا الموضع من الرسالة، يحتاج إلى تنظيم - تنظيم أمر المقاطعة، وتنظيم التعاون بين الدول العربية لسد النقص وتعويض الخسارة، في البداية.
ونقول (في البداية) لأن الإنتاج الصهيوني كان قد غزا الأسواق العربية مغتنماً فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأوربية أو قلتها، وشراء مادة من السوق أيسر مطلباً من صنعها، ولكن الحرب وضعت أوزارها، وزالت الصعوبات التي كانت مقتضيات الحرب قد أقامتها في طريق التبادل التجاري بين البلاد العربية، ففي وسع كل بلد أن يستورد من البلاد الأخرى ما ينقصه ويحتاج إليه، للاستهلاك أو للصناعة، وأحر بهذا أن يساعد على قيام صناعات شتى كانت متعذرة في أيام الحرب، وفي هذا خير كثير للبلاد العربية، حتى بغض النظر عن الصهيونية ومكافحتها، وإنها لفرصة ينبغي أن تغتنم، فإن في كل بلد من بلادنا العربية موارد وخيرات عظيمة، وقد لا تكون كل دولة من دولنا قادرة بمفردها على استغلال هذه الموارد الطبيعية على خير وجه، ولكن الأمر يكون أيسر وأقرب منالا إذا تعاونت على ذلك فيما بينها، فتفوز بالحُسنيين: تكفي نفسها حاجاتها وتمنع أن تضطر إلى وَكْل هذا الاستغلال للأجانب الذين يخرجون بالخير كله، ولا يخرج أهل البلاد بأكثر من أجرة الأجير.(652/1)
وهذا الاستغلال يقتضي تأليف الشركات القوية مالياً وفنياً، وليس يعوز بلادنا العربية المال، ولكنه قد يعوزها الفن أو الخبرة إلى حد ما، ولا ضير من الاستعانة بخبراء من أوربة أو أمريكا حتى يوجد من العرب من يحل محلهم ويقوم مقامهم، أو يغني غناءهم. ومن السهل أن تحفظ كثرة الأسهم في كل شركة تؤلف لمثل هذا الغرض للبلد الذي يراد استثمار مورد من موارده، حتى لا يكون هناك غبن على أحد، وحتى لا يستأثر بلد دون آخر بالخير كله والربح أجمعه
وهذا أمر يطول، لأنه يستوجب درساً دقيقاً، وتدبيرا محكماً، ومن أجل هذا ينبغي الشروع فيه من الآن، ليتسنى أن تؤتي ثمرته بأسرع ما يمكن، قبل أن تعود الأحوال التجارية العالمية إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وحينئذ يخشى أن تغرق الواردات الأجنبية أسواقنا، وتهجم علينا رءوس الأموال الأجنبية، فتستولي على الميدان قبل أن نستطيع أن نضع فيه قدماً.
وقد زعم الصهيونيون أن المقاطعة لن تنجح، وتحدث بهذا أحد الأمريكيين من أنصارهم المخدوعين بالدعاية الصهيونية، ولعله لا يعرف أين موقع فلسطين من الأرض، وردنا على ذلك أن الصهيونية حديثة في الشرق العربي، وقد طرأت عليه بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لها ولا لصناعاتها قبل ذلك وجود، وكانت البلاد العربية قاطبة تعيش في رغد وخفض، ولم تكن تشعر أن بها حاجة إلى هذه الصناعات الصهيونية. والذي كان من قبل لا يتعذر أن يكون من بعد.
وإذا كانت الصهيونية تنتج بعض ما لا تنتجه بلادنا، أو ما يتيسر لها إنتاجه، فإنه ليس بمعدوم النظير في العالم، وقد انتهت الحرب ففي وسع البلاد استيراد ما هو خير من المصانع الغربية. وعلى أن ما استطاعه الصهيونيون لا يتعذر مثله في مصر والشام والعراق، وما نظن بأمريكا التي تسرف في تأييد الصهيونية، وبريطانيا التي لا يعدم فيها القوم أنصاراً لقضيتهم الظالمة، إلا أنهما يسرهما أن يقبل العرب على إنتاجهما ويزهدوا فيما يعرضه الصهيونيون. ونحسب أن هذا من البدائه التي لا تحتاج إلى بيان.
والمقاطعة كما قلنا مراراً، هي أمضى سلاح في مكافحة الصهيونية، وذلك لأسباب:
الأول: أنه لا فلاح لدولة يسبق قيامَها الخرابُ الاقتصادي، فإذا تبين الصهيونيون أن(652/2)
المقاطعة تنتهي بهم إلى الخراب، فلا شك في أنهم سينفضون أيديهم من أمر هذه الدولة المقضي عليها. ولقد كان شر ما حاق بهم في ألمانيا على عهد هتلر أنه اضطرهم أن يعيش بعضهم على بعض، وحرّم عليهم أن تكون لهم صلة ما بالشعب الألماني، فلم يطيقوا هذا. وراحوا يثيرون على هتلر ثائرة العالم كله. وإذا نجحت المقاطعة فسيؤول بهم الحال إلى مثل هذا. وما جاءوا إلى فلسطين ليعيش بعضهم على بعض، بل ليعيشوا على العرب جميعاً
الثاني: أن الصناعات التي أقاموها في فلسطين مقصود بها أن تغزو أسواق الشرق الأوسط الذي صرح زعماؤهم في المؤتمر الصهيوني بلندن أنه مجال حيوي لهم. فالمقاطعة مؤداها أن تبور هذه الصناعات.
الثالث: أن هذه الصناعات الصهيونية باهظة التكاليف، وخسارة القوم محققة لا شك فيها، ولكنهم احتملوا الخسارة، وراحوا يسدون العجز من التبرعات التي ترد عليهم في كل عام من أقطار الأرض جميعاً - حتى من مصر فأن لهم فيها وكالات أو هيئات تخدم الصهيونية سراً لا جهراً. وقد فضحها الله وكشف سترها يوم ذهب محام يهودي من مصر إلى تل أبيب وخطب هناك ودعا إلى محاربة قيام الجامعة العربية في لندن، ونشرت صحف الصهيونيين هذه الخطبة أو خلاصتها ونقلتها جريدة الدفاع وقرأتها، فنبهت إلى هذا واحتججت عليه فاضطر المحامي أن ينفي أنه قال هذا.
والصهيونيون يصبرون على هذه الخسارة وفي مرجوهم أن ينجح سعيهم فتقوم دولتهم وتفتح الأسواق في وجهها وحينئذ يتسنى أن تثبت الصناعات على قاعدة اقتصادية سليمة. ولا نحتاج أن نقول أن المقاطعة تحول دون ذلك.
غير أن المقاطعة لا ينبغي أن يقتصر الأمر فيها على ما تتخذه الحكومات من التدابير، فإن على الأمة العربية واجب المساعدة، والتعاون بين الحكومة والشعب هو الذي يحقق الغاية ويكفل النجاح. وقد نضطر من جراء ذلك إلى الصبر إلى حين على نقص بعض المواد، ولكنا تعودنا هذا الصبر ووطنا أنفسنا عليه في سنوات الحرب، وما زلنا صابرين، فلن يضيرنا أن نصبر ونتشدد سنة أخرى أو بعض سنة، وعلى أننا لن نُحرم شيئاً جوهرياً أو له قيمة كبيرة، فإن كل ما يصنعه الصهيونيون في فلسطين مما يسهل الاستغناء عنه.(652/3)
وقد استبشرت بنزول المرأة العربية في فلسطين وسورية إلى الميدان، فإن عليها المعول في نجاح المقاطعة الشعبية، فعسى أن تقتدي بها المرأة العربية في كل بلد آخر. والله الموفق.
إبراهيم عبد القادر المازني(652/4)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 21 -
ج 4 ص259: أحمد بن محمد الخطابي:
تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق ولم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
قلت: (وأبق ولم يستق قط كريم) كما روت اليتيمة والوفيات، وفي هذه (فسامح) وقد يكون قبله شيء.
ج 16 ص 143:
وأبدلتني بالشطاط ألحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
قلت: (وأبدلتني بالشطاط انحنا) أي انحناء فقصر ضرورة. وهو من قصيدة لعوف بن محلم الخزاعي رواها أبو علي في أماليه (ج 1ص50) وفيها البيت المشهور:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
قال أبو علي: (وكان سبب هذه القصيدة أن عوفا دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عليه عبد الله فلم يسمع، فأعلم بذلك، فزعموا أنه أرتجل هذه القصيدة ارتجالا فأنشده:
يا ابن الذي دان له المشرقان ... طر وقد دان له المغربان)
وقد جاء في (إرشاد الأريب): (فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة). . .
في اللغة هو ما قال اللسان: (حنا الشيء حنواً وحنيا وحناه: عطفه، والانحناء الفعل اللازم وكذلك التحني، وقال في رجل في ظهره انحناء: إن فيه لحناية يهودية وفيه حناية يهودية أي الحناء) وما قالته النهاية: (إياك والحنة والاقعاء يعني في الصلاة وهو أن يطأطئ رأسه ويقوس ظهره من حنيت الشيء إذا عطفته).
وفي اللغة (التحاني) وهذه لم تذكرها المعجمات التي نعرفها وقد وردت في بيت في مقطوعة في (الكامل):(652/5)
قصر الليالي خطوه فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحاني
وجاء في اللسان: الحنو كل شيء فيه اعوجاج أو شبه الاعوجاج كعظم الحجاج واللحى والضلع والقف والحقف ومنعرج الوادي والجمع أحناء وحُني وحِنى.
وقد نقل القاموس ما قال اللسان وزاد بعد قوله والضلع: (والحني) وأورد شارحه هذه اللفظة. فهل زادها ناسخون أو هي الحشي بالشين لا بالنون. . .؟ والحشا ما اضطمث عليه الضلوع كما في الصحاح. والحشي الخصر ومنه قولهم: لطيف الحشى، هضم الحشى كما في التاج. . .
ج 8 ص 78:
أدل فأكرم به من مدل ... ومن ظالم لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
وأسلمت خدي له خاضعا ... ولولا ملاحته لم أذل
قلت: أغلب الظن أن الشاعر قال: (مدْل ومستحلْ الخ) من الضرب المحذوف، وهو كما ضبط في الكتاب من الضرب الصحيح. والمحذوف هنا ألطف، والآذن شاهدة. . .
و (الجهد) قيلت في فتح جيمه وضمها أقوال كثيرة أورد التاج جلها، ثم قال: والكلام في هذا المحل طويل الذيل ولكن اقتصرنا على هذا القدر لئلا يمل منه. . . وفي النهاية:. . . فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير. . . ومن المضموم حديث الصدقة أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، أي قدر ما يحتمله حال القليل المال.
قلت: فَجهد البلاء، وجُهد المقل. والشعر للقاضي أبي حازم قاله في حداثته في امرأته، وكان أبو حازم - كما ذكر ياقوت - شديد التقشف والورع.
ج 16ص 245:. . . حدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إليّ الصوفي المعروف بالصواف يسألني عن بيت حسان ابن ثابت وهو:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعا فأجبته. . . فهذا يا سيدي جهد المقل، وغير مرجو قطع المدى من الكل، فليعذرني سيدي - قبل الله معاذيره - من المرفوع الثالث عشر فانه لعمري قد استكن واستتر حتى لا أعرف له عينا. . .(652/6)
قلت: (الكل) بفتح الكاف وهو مثل الكليل، وللكل في هذه اللغة معان كثيرة منها اليتيم قال:
أكون لمال الكل قبل شبابه ... إذا كان عظم الكل غير شديد
والثقيل الروح من الناس، والذي هو عيال وثقل (وهو كل على مولاه) كما في اللسان. وفي اللسان والتاج: ورأس الكل بالفتح رئيس اليهود، نقله ابن بري عن ابن خالويه.
ج 15ص 26: قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين من تصنيفه: طلع ابن عباد عليّ يوماً في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كأدنى به، فلما أبصرته قمت قائماً فصاح بحلق مشقوق: أقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا؛ فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر: أسكت فالرجل رقيع، فغلب عليّ الضحك واستحال الغيظ تعجباً من خفته وسخفه. . .!
وجاء بالشرح: كأده بالشيء: كلفه به.
قلت: كأدنى به، وكاد أراده بسوء والكيد المضرة كما في التاج، فأد فعل لازم ومضارع يكاد كادا، وتكاد الشيء تكلفه، وتكده الأمر وتكأده شق عليه. والدليل على أن أبا حيان قصد الكيد ما رواه ياقوت في أخباره من أقواله:
. . . وأما حديثي معه (مع ابن عباد) فأنني حين وصلت إليه قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان. فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان، فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟
قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف. فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسية سفها على ما قيل لي. ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب، فقلت: أنا سامع مطيع. ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم فان الوِراقة لم تكن ببغداد كاسدة. فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاد تنكراً
قلت: استقبل الصاحب من أبي حيان شيطاناً مريداً، وعالماً بحراً عبقرياً، وأديباً عجيباً جاحظا، ولئيما وخبيثاً، عيناه تقذفان بالشرر، وحرفوشاً فأبصر مشهداً مهولا روعه أيما ترويع. وإن أبا حيان لخليق جد خليق بأن يكون خير جليس للوزير العالم الأديب وخير معلم ومثقف وأنيس، ولكن (كيف الحياة مع الحيات في سفط) أني يُخالط أفعوان يتلظَّى من(652/7)
السم، وعقرب لا تني تلسع، ولُقَّاعة: حاضر الجواب مقرطس، ومكهرب. وقد أبى ابن عباد أن يدفع شراً خاله وخافه بالتي هي أحسن، والتي هي أكرم فلزَّ أبا حيان ليذله - وهو الأديب الأعظم - بواقيه، وكاده بالنسخ. وما كان التوحيدي المنشئ المبدع للنسخ أو الوراقة. وإني لأقول: إذا كان الشعراء في القديم ثلاثة أعني حبيباً والوليد وأحمد فالكاتبون في القديم ثلاثة: الجاحظ والريحاني وأبو حيان. وأبو العلا أحمد أمة وحده. . .
ج19 ص 287:
برّح بي أن علوم الورى ... اثنان ما إن لهما من مزيدِ
حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيدُ
وجاء في الشرح: في نفح الطيب: قسمان. يلاحظ أن في هذا البيت (الثاني) إقواء.
قلت: الروي ساكن (مزيدْ، لا يفيدْ) فلا إقواء.
والرواية في النفح: قسمان ما إن فيهما من مزيد. والشعر لابن الوقْشي القاضي الأديب والفيلسوف الأريب كما يقول (نفح الطيب).
ج3 ص 229:
ذريني إنما خطئي وصوبي ... علي وإنما أنفقت مالي
قلت: روى اللسان البيت راسماً ما منفصلة وقال: وان ما كذا منفصلة.
في كتاب (أدب الكتاب) للأمام الصولي وقد عنى بتصحيحه وتعليق حواشيه العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري:
يكتبون أحب (أن لا) تفعل كذا بألف ونون وتكون (لا) مقطوعة، وهو أجود. . . ومنهم من يكتب بألف ولام موصولة لأن النون تدغم في اللام إذا نطق بها. . . و (كلما) إذا أردت بها الجزاء كقولك: كلما فعلت فعلتُ كتبتها حرفاً واحداً لأنها أداة، وإذا أردت بها معنى الذي كقولك: كل ما فعلت فصواب فاقطع (كل) من (ما) وكذلك (إنما وكأنما ولكنها) إذا أردت بهن الأدوات فاجعلها حرفاً واحداً، وإذا أردت بمعنى (ما) الذي فاقطع. . . (ص258).
ج9 ص61: الحسن بن علي المصري الملقب بالقاضي المهذب:
ولما أبان البين سر صدورنا ... وأمكن فيها الأعين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت ... دروعا من الصبر الجميل نزعناها(652/8)
ولما وقفنا للوداع وترجمت ... لعيني عما في الظمائر عيناها
بدت صورة في هيكل فلو أننا ... ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طربا صغنا القريض وإنما ... جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
وليالي كانت في ظلام شبيبتي ... سراي وفي ليل الذوائب مسراها
وجاء في شرح البيت الثاني: أي لأن البكاء ينافي الصبر فهو يضعف من قوته ويوهنها، والإنسان مهما كان جلدا يصبر على كل نوائب الدهر ما عدا فرقة أحبائه.
نحن قوم تذؤبنا الحدق النجل (م) ... على أننا نذيب الحديد
وقال آخر:
جزعت للحب والحمى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي
هذا وفي رأيي أن الأصل في نزعناها اذرعناها. وجاء في شرح البيت الأخير: بياض بالأصل بعد وليلة، وقبل ظلام
قلت: (وأمكن منها الأعين النجل مرماها) في التاج: مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته منه فتمكن واستمكن إذا ظفر به والاسم من كل ذلك المكانة، ويقال: أمكنني الأمر ولا يقال: أنا أمكنه بمعنى أستطيعه، ويقال: لا يمكنك الصعود إلى هذا الجبل، ولا يقال: أنت تمكن الصعود إليه.
وليس (من الصبر الجميل) نعتا للدروع، والجار متعلق بالفعل (نزعناها) يعني أن هذه الدموع، هذه الدروع انتزعناها أخذناها من الصبر الجميل، وقد قيل في فضيلة الدمع:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
والشطر الأول في البيت الأخير هو عندي: (وليلة أسرى في ظلام شبيبتي) وهو معطوف على شيء قبله، وقد يكون الأصل (ليالي أسرى الخ).
ج12 ص23:
أن يعجل الموت يحمله على وضح ... لجب موارده ملوكه ذُلل
قلت: لحب - بالحاء - في القاموس: للحب الطريق الواضح كاللاحب. وذلل - بضم اللامين - في اللسان: طريق ذليل من طرق ذلل، وسبيل ذلول وسبل ذلل.
ج1 ص75: قال أبو تمام:(652/9)
إن يكُد مطَّرِف الإخاء فإننا ... نسري ونغدو في إخاء تالد
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
وجاء في الشرح: وتروى (من زلال بارد) وهي الأفق. قلت: (إن يكد مطرف الإخاء) بفتح الراء أي مستحدثة واطرف الشيء استحدثه، ورواية الديوان (أو يفترق نسب) و (نسب وأدب) متوائمان و (من غمام واحد) هي الرواية.
والأبيات من قصيدة يقولها حبيب في صديقه علي بن الجهم و (كان علي شاعراً فصيحاً مطبوعاً) كما قال أبو الفرج، ومن مشهور شعره لاميته في صلبة. . . وداليته في حبسه، وعند أبي الفرج أنها (أحسن شعره) وقد رواها في أغانيه (ج10 ص208، 213) ولعل الرائية المشهورة (عيون المها) في المتوكل ولم يذكر أبو الفرج منها شيئا ولم يشر إليها، وهي ثلاثة وعشرون بيتاً، جلها غزل، وفيها يقول:
فقالت: كوني بالقوافي سوائرا=يرُدن بنا مصر أو يصدرن عن مصر
فقلت: أسأت الظن بي لست شاعراً=وإن كان أحيانا يجيش به صدري
للشعر أتباع كثير ولم أكن ... له تابعاً في حال عسر ولا يسر
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
في القسم 19 - (الشميذ) وهي الشميذر و (الفحير) وهي الغمير و (فإذا) وهي (فإذن). وفي إحدى مقالاتي: (في العقد) في القسم 6 في الرسالة 405 أوردت قول صاحب (الاقتضاب) وهو يرى - كما يرى المبرد - أن تكتب بالنون على كل حال حتى لا يشبه (إذا) التي هي ظرف فيقع اللبس بينهما، ويقول إن نون (إذن) (إنما هي أصل من نفس الكلمة) فإذن لن تكتب (إذن) إلا بالنون. . .(652/10)
أمي. . .!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ترجع ذاكرتي الآن سبعا وثلاثين سنة وأنا في ساعة من ساعات الذكرى إلى الصورة الأولى من وجه باسم يطالعني مع الصبح كل يوم يوقظني من النوم، ويهدهدني في فراش الطفولة بكلمات مقصوصة مضغوطة في تنغيم قليل وتمطيط ومعابثة، فلا ألبث أن أستيقظ لذلك الوجه الراعي الواحد الذي ما كنت أعرف غيره بعد في دنياي يومئذ.
تلك هي الإلتماعة الأولى التي أدركت بها وجودي وابتدأت روحي على نورها الضئيل تدخل رحاب الدنيا وتستفيق من ذهول الطفولة.
وتلك هي الصورة الأولى للدنيا في نفسي: وجه صبيح باسم راحم يطالعني مع نور الصبح الندي الجميل، ويعابثني بيد رحيمة رفيقة. . .
وكذلك تدخل الدنيا إلى وعي الطفولة في إطار من الحب والرحمة والحنان والابتسام. . .
وكذلك كانت الأمومة السفير الأول من الله للنفس البشرية يرسله إلى الوافد المولود يرحب به على عتبات الوجود، ثم يدخل به في ترحاب داخل العتبات. . ألم يقل (أنا الرحمن وأنت الرحم).
ومازال هذا الوجه يرعاني بعينيه حتى أغمضتهما بيدي الإغماضة الأخيرة في مساء الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة الماضي، بعد أن انطفأ فيهما نور الحياة، فوضعت ذلك الوجه في ذلك القبر الذي ضرحنا له فيه.
ومنذ أن شببت عن الطوق ومضيت في طريقي إلى الاكتمال وبلوغ الأشد، ومضت هي في طريقها إلى الذبول والأفول تيقظت لهذا اليقظة الكبرى وأدركتها بالفكرة كما أدركتها قبل بالإلهام، وعرفت موضعها مني وموضعي منها كروح انبثقت من روحها وجسم كون من جسمها وصار حبي إياها ينمو ويشتعل بذلك اللهيب الأبيض الدافئ اللذيذ الذي ينضج القلب ويهيئه للحب الأكبر الذي تعمر أسراره جوانب الكون الجميل.
صار حُبيها أوسع محراب أقف فيه لأشهد منه الكون في أروع صورة من صوره ذات التهاويل والتعاجيب! وكنت أحس حركة قلبي حين يكون في جوارها فأستلمه بكفي من فرط الشعور به وشدة الحركة فيه. . . أقول حقاً أيها القارئ ولا ألعب بألفاظ!(652/11)
وقد أتيح لي من إدراك أمي بفكري الكامل ما لم يتح لي من إدراك أبي رحمه الله، فقد توفي منذ سبعة عشر عاماً، قبل أن يدخل على من إرهاف الحس وتوفز الشعور بالحياة وعجبها ما دخل! ولذلك اكتفيت من رثائه يومئذ بدموع يوحدها مع أنه كصورة من أحق صور العلماء بالتسجيل والبيان لعمق روحه وفكره - وحسبك من رجل كان يستحي من نفسه!
أما أمي فقد أنسأ الله لي في أجلها حتى أدركتها الإدراك الكامل، فكانت منبعاً فياضاً من ينابيع الشعر في نفسي. وقد كتبت عنها مرات خطراتي اليومية، وأدركت منها أن الأمومة هي منبع الخير والرحمة والحب والبر الذي في الدنيا وليس الخير كما يتوهم (نيتشه) فلسفة الضعف ووسيلة الضعفاء والعبيد إلى خديعة الأقوياء والسادة ليتوقوا به بطشهم ونكالهم، وإنما الخير والبر والرحمة هي فيض الأمومة على أبنائها في أسرتها الصغيرة ومن الأسرة الصغيرة انتقل ذلك الفيض إلى الأسرة البشرية الكبيرة في الأمة والأمم.
فلولا الأم لاستمر اقتتال الأخوة على الطعام والمقتنيات كما يقتتلون ويتنازعون أول دخولهم الحياة، ولكنها لا تزال توصي الأخ بأخيه وتحببه فيه وتربط ما بينهما حتى يشبا ويجدا طعم الدم الواحد في قلبيهما ويذكرا الجذع الواحد الذي تفرعا منه، ثم يتسع معنى الرحم بتفرع الأسرة حتى تصير قبيلة ثم أمة وهكذا.
فليس منبع الخير هو الضعف كما يفلسف (نيتشه) نبي النازية الكاذب الذي تأثرت الهتلرية وإضرابها بفلسفته وصدرت عنها في حرب البطن وخيلاء القوة، وإنما منبعها قوة الأمومة الصبور الحاملة أمانتها في جلد ورضا وغبطة ورحمة، وأعظم بها أمانة! لأنها أثقل تبعة وأعظم رسالة!
كتبت عن أمي في سجل خطراتي في 13 - 8 - 1939:
(هذه أمي! هذه أمي العجوز الجليلة، تكلمني وأنا لا أستمع لأحاديثها لأني مشغول بالتفكير فيها وعلاقتي بها، ونهايتها. . .
ما أبسطها قضية إذا نظرت إلى سطوح الأشياء بدون تفكر في الأسس والنسب التي قامت عليها! وهي أم ككل الأمهات الكثيرات، والدات الحيوان والأنسان، لا تستحق الشعر والفلسفة، ولا تستلزم أكثر من السعي عليها والطاعة لها والبر بها كما يحدث الدين. . . ولكنها عند الفكر محراب مسحور لا تستطيع أن تفلت من بين يديه إلا بخيال وخبال!(652/12)
أننا عْمُىُ الأفكار، نمر على أشياء الله بالنظرة الخاطفة والخطرة العابرة بدون أن نؤدي صلاة الفكر.
ووالله! إني حين أجرد أمي من معنى الأمومة الشائع وألبسها ثوب الطبيعة، أشعر لها بشعور هو أعظم وأجل من الحب المبذول للأمهات. . . ولقد أورثني البعد عنها ثلاث سنين، وأنا بالعراق، الفكر كمعنى مجرد من ملابسات المادة. . . وإذا نظرت إليها وتذكرت أن في صدرها وحدة أعظم مكان يحفظ لي الحب الفدائي الرحيم، وأنه المكان الوحيد الذي نجا من أن يكون فيه شر لي، أحسست الدموع تطفر إلى عيني حادرة في غفلة منها هي. . . بل أحسست أن رحمة الله تنظر إلى من عينيها، وأنه لا بد من سجود!
فإذا حدثتني عن شيء من تاريخها وتاريخ أبي معها وتاريخي في دمها ونفسها وآمالها وفصالي منها واعتمادي عليها. . . انهدم كل كياني الفكري حينذاك، وشعرت بدوار من الحيرة والدهشة لإخراج الله رب الحياة لهذه العجائب والحيوات، وأمسكت بيديها، وهي لا تدري السر، وقبلتهما؛ لأني لا أستطيع أن أصنع في أبراد غلتي وإحساسي بها غير ذلك!
كلا! لن تذهب هذه المعاني العلوية إلى التراب أيها المجانين الملحدون المنكرون لبعث!
لابد أن تحيا هذه المعاني ونحيا لها لندركها في دار الشرح والتفسير لكل ألغاز الحياة!
كلا! لن يضرب الله بين قلبي وقلبها وقلب أبي ويفضل بيننا إلى الأبد، فلا نرى ونحس تلك العجائب التي في عالم القلوب!
إنه تبذير أن تضيع هذه المعاني الكريمة بدون رجعة، وما كان الله من المبذرين!
لو علمت أنه لا لقاء بين الأحباء الذاهبين لظللت عاكفاً على قبريهما أخاطب سر قلبيهما كما يخاطب الوثني الأصنام.
إننا سائرون إلى الله نافخ روحه في أجسامنا ومشوقنا إلى أسراره. . .
وما أجمل أن أنهي حالتي الوجدانية هذه بالصلاة مع والدتي لله مصدر وجودنا، ومنه وإليه مصيرنا!
(إن حياتها تدبر، وحياتي تقبل. وإنني صرت أكبر منها حجما وأكثر علماً. إن بريق عينيها ينطفئ وأسنانها تتساقط وشعرها يشتعل شيباً وجلدها يتجعد، وهيكلها يضعف. . . والحيات تسترد آلاتها منها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إنها لا تدرك هذه المعاني التي أدركها.(652/13)
والحمد لله على الجهل في هذا الموضع! والويل لي حين أبلغ مبلغها من العمر بفكري وشعري!
إنها صورة الطبيعة وتلخيص أعمالها. وإن الطبيعة امرأة! تلد وتدور دورتها الأبدية ولكنها تتجدد! أما بنات حواء فذاهبات إلى غير رجعة في رحاب هذه الطبيعة التي نراها.
ولكن الإنسان المؤمن حينما يرفع بصره إلى الله الحي الدائم الحياة، القوى الدائم القوة ينسى فناءه وفناء أبويه، بل يرحب بذلك الفناء في سبيل الرجوع إلى مصدر الحياة والقرب منه والعيش معه حياة الدوام!
ما أروحك على القلوب أيتها الكلمة التي يتمثل فيها كل العجز الإنساني: إنا لله! وأنا إليه راجعون!
من وجهها عرفت الأزل، ومن وجهي عرفت هي الأبد! كانت صلتي الباقية بماضي في أصلاب آبائي، وظللت وفياً لعشها كبيضة عقيم أو كفرخ عاجز الجناحين).
هكذا كتبت عنها وكنت أستلمها وأستوحي وجودها. . . وهاهو ذا وجهها يطالعني بعد موتها مغمض العينين ينظر لي من فوق سرير الموت ومن أعماق ظلمات القبر، فأشعر لمفارقتها أن حياتي انشطرت أو أني كغصن غاب عنه جذعه الذي يربطه بالأرض ويمده من إمداد المجهول.
ما هو كفاء رحمة قلبك لي وقلبي لك من الألفاظ يا أماه! أي لفظ وأي فكر يترجم عن السر الذي بيني وبينك! إنه الأمومة والبنوة! إنه كل منابع الرحمة والبر والإخلاص. . . أإلى النسيان والفناء ذلك كله؟ كذبوا يا ذات الفداء والتضحية. . . لقد ورثتماني: أنت وأبي الحياة والإيمان فأديتما واجبكما كاملا غير منقوص:
وكنت مثالا للأمومة الفطرية المعقولة الملهمة التي لا تفسد ولا تدلل لعطف عكسي. . . ومثالا للعمل الدائب، والشركة الأمينة، والعشرة المنصفة والسهر الدائم على ما استخلفت عليه. . .
لا تأويل عندك يصرفك عن الواجب ويقعدك عنه مهما كانت المشقة فيه.
براءة فطرة وصدق وتصديق وإلهام نافذ لمواقف الخلق السليم. . .
ثقافة شعبية أمية من القرية والمدينة، فيها التجربة والحكمة والمثل، وتتوجها خلاصة من(652/14)
الروح الديني العميق الفطري وإقبال دائم على الله في جميع الظروف.
كان تأثيرها فيّ تأثير الروح في الروح بالسلوك والصراحة والصرامة في مواضع الجد، أما تأثير أبي فكان تأثير التوجيه الصامت والأدب الحي والقلم الجليل والوجه الوقور.
حين قرأت في أذنها بعد ما فاضت روحها ما حضرني من القرآن والدعاء. . . وحين ألصقت يدي بعد وفاتها بخديها الباردتين اللذين سرت فيهما برودة الموت في منتصف ليلة الوفاة كما كنت أفعل دائماً وهي في الحياة. . .
وحين نزلت قبرها وضرحتها فيه كما كانت الوصاة بجوار قبر أبي، وجلست بين القبرين. . .
وحين أمر بسريرها خالياً من جسدها الذي كان ملء نفسي وفكري. . .
وحين أرى ثيابها يعمرها شبحها، وأتذكرها تمر بالمنزل حجرة حجرة كطيف رحمة. . .
وحين أقرأ مدونة محفوظات أمثالها وحكمها الكثيرة العجيبة التي كانت تستشهد بها كأحسن منطق في منطق العامية المصرية نقلا عن عمتها الحاجة (شركس) الصالحة التي لم تنجب وكان همها العبادة والتوجيه لشابات العائلة.
وحين أرى البقية القليلة من لداوتها وصديقاتها اللائى من طراز كاد يفنى. . .
بل حين أرى عجوزاً مثلها في أي مكان. . .
حين هذا كله شعرت وأشعر أنها خلفت لقلبي ذخيرة قيمة من الحزن الثمين الذين يقتات منه في أزمات القحط الروحي.
عبد المنعم خلاف(652/15)
العلم والشعر في الوقت الحاضر
بقلم هـ. وادنجتون
كان المستر جيوفري جريجس رئيس تحرير جريدة ذات مكانة عظمى بين الجرائد التي تنشر الشعر الحديث، ومن أشهر من صنف منتخبات شعرية حاول أن يصور بها الحركة الرومنسية التي بلغت أوج ازدهارها في بدء القرن الماضي في زمن وردزورث وكولريدج. ومما يثير دهشة المطلع على هذا الكتاب أن يجد إلى جانب المقتبسات من الشعراء والرسامين بضعة مقتبسات من مؤلفات كبار رجال العلم في ذلك العصر، مثل السير همفري دافي؛ ولكن المطلع لا يلبث أن يدرك أن جريجسن محق في عمله هذا. ذلك أن الحركة الرومانسية في أوجها كان لها تأثير شامل تخلل كل شيء حتى إنه ليمكن لمح أثرها في رجال العلم أنفسهم، أو على الأقل حين يقل خضوعهم للنزعة العلمية المدققة المتشددة. وأنا أريد في مقالي هذا أن أقرر أن القضية قد انعكست في يومنا هذا: أن العلم هو الآن صاحب النفوذ الأعظم والسيطرة الغالبة على تفكيرنا وأنه يصبغ الشعر العصري بصبغة خاصة متميزة.
ولعله يجدر. بي أن أقرر من البداية بكل وضوح أنني لست أدعي أنه كلما ازدادت المسحة العلمية للشعر كان الشعر أجود. فان أهم واجب على الشاعر هو أن يكون شاعرا جيدا، أما كونه شديد الحساسية بالشعور الغالب في عصره فهذا أمر ثانوي وإن لم يعن ذلك أنه أمر غير ذي بال. فالواقع أنه من السهل على الأديب أن يكون (عصريا) إلى حد يجعل من المستبعد خلوده؛ فالشعر المبالغ في العلمية في يومنا هذا من الراجح أنه سينسى سريعا كما نسي الشعر المبالغ في الرومانسية من مائة عام خلت. فأما ما أدعيه فهو أن معظم الشعراء اليوم سواء منهم الرديئون والمجيدون يطلعوننا في شعرهم على وجهة نظر تخلف وجهة العصور السابقة، يحق للمرء أن يعتبرها شديدة التأثر بالعلم. وفي زمان عمت فيه الفوضى والانحلال مثل العشرين عاما الأخيرة لا شك أن المرء يتمنى أن يلمح أية علامة تنبئ باقتران الفن والعلم، تينك الحركتين العظيمتين من حركات النشاط الإنساني، وأنه يشجع مثل هذه العلامة حين يتوسمها.
من السهل بطبيعته الحال العثور على أمثلة للأخيلة العلمية يستعملها الشعراء المحدثون.(652/16)
وأحيانا - وإن لم يكن ذلك دائما - تكون المادة العلمية قد نسجت نسجا بارعا في فكرة القصيدة كلها، ومثل ذلك التشبيه المشهور لاليوت
(حين يتمدد المساء على صفحة السماء كمريض خدر ومدد على منضدة).
ولكن هذه التأثيرات للعلم تافهة نسبيا. فليس يهم كون لغة الشعر وخياله علميين أو غير علميين، بل أهم من هذا بكثير أن نتساءل ماذا يفكر الشعراء وماذا يحسون عن العالم. ولكن على المرء هنا أن يحذر ويحتاط: فالشعراء لا يدلون دائما بتقرير جلي عن موقفهم من العلم حين يُعَنْوَنُ علماً، بل هم يعبرون عن موقفهم من مختلف حركات النشاط في العالم اليوم، وقبل أن نقرر ما موقفهم من العلم، يلزمنا أن نقرر ما هو الشيء الذي نعتبره اليوم علما.
تلك مسألة خطيرة. فالواقع أن مفهوم العلم قد طرأ عليه تبدل سريع. كان يتصور أنه في المحل الأول دراسة عارضة تحليلية للعالم، ولكنه مع ذلك شيء ليس يحاول تفسير الأشياء فحسب، بل يحاول أيضاً تأويلها (أي تفسيرها بتفسير يلغيها). وهكذا قابل الشعراء بحماسة وترحيب الانتصارات الأولى للعلم التحليلي. فأليك بيتي بوب المشهورين:
(ظلت الطبيعة وقوانينها محجوبة في ظلام الليل، حتى قال الله: ليكن نيوتن، فانقلب الكل نورا!)
ولكن ما جاءت الحرب الماضية حتى كانت تلك الحماسة قد تبخرت. فوجدنا ييتس يصف موقف العقل وصفا صريحا جليا بأنه:
(عقل يدك كل شيء دكا، حقود ذو ضغن ومرارة، منطقي صارم، ما حدث قط أنه أطل من عيني قديس، ولا من عيني سكير).
وهذا الاحتجاج ضد غطرسة الذهن، ضد محاولة الاستعاضة عن الحياة وخضمها الغزير الغني بفروض وتصورات تجريدية، هو من أهم التقريرات الشعرية وأعمها في الوقت الحاضر. فالشعراء يكادون يجمعون على أن هذا الموقف المادي الآلي المغرور بنفسه هو المسئول عن انهيار حضارتنا انهيارا مدمرا يرونه جميعا رأي العين.
فحين بدأ أودن إحدى قصائده بهذا البيت:
(هرباً من المنفذين المخبولين المحلوقي الشعر).(652/17)
واضح أنه كان يعني أنه يفضل الشعراء المتهدلي الشعر على الخبراء المتحذلقين الوقورين المتأنقي الهندام. وهذا الاحتجاج - كما كان منتظرا - قد عبر عنه تعبيرا بالغ القسوة في بعض القصائد التي كتبت بعد أن كشفت هذه الحرب القناع عن فظائع العالم الحاضر بكامل بشاعتها. فأليك قصيدة داي لويس المسماة (تقرير):
(الآن في مواجهة التدمير، في مواجهة المرأة مزقت إربا فلم يعد يستبان لها هيئة، مزقها الزجاج المتطاير، والطائرة المقاتلة تدور كأنما أصابها الدوخة والدوار.
حول محور الطيار المسجون فيها والجماهير المحتشدة تصفق، والمجاعة تنشب مخالبها منذرة بالموت، وإعلانات الألم القتال تلطخ عناوين الصحف ولوحات الحيطان، في مواجهة الوليد مات حرقا وقارب السفينة المحطمة تتلاطمه الأمواج الشامخة.
بينما تتخبط المجاديف بضعف كالخنفساء المقلوبة على ظهرها، الآن، أكثر من أي زمان مضى، حين يبدو الإنسان وكأنه ولد ليؤذي وكأن العالم المتلوي ألما جميعه لا يتسع لرغبته الشريرة، الآن حان لنا أن نقرر أن الناس هم الحب، نقرر ذلك في وجههم).
حقا إنه لا يجرؤ أحد أن ينكر أن هذا الشيء الوحشي الذي يحتج ضده الشعراء له علاقة ما بالعلم. ولكن من المؤكد أنه ليس المعنى الحق لكلمة (العلم). بل هو نوع من العلم الكاذب. هو موقف عقلي قبل بضعة من الافتراضات العلمية الأولى وسلم بها كأنها مبادئ يمكن استنباط الوجود بأجمعه منها ولذلك كان يسارع برفض كل ما تراءى تطبيقه مستحيلا على معياره الجاهز. ولكن هذا العمل هو أشد شيء بعدا عن العلم. فالعلم ليس طاقما من العقائد. حقا إن للعلم في كل زمن عددا معينا من الافتراضات يستطيع بها تفسير ما يحدث في العلم. ولكن إذا شرع رجل العلم يظن أن نظرياته تستطيع تفسير كل شيء، كان لزاما عليه أن يعلن إفلاسه العلمي، إذا لم يعد يبقى له شيء يقوم به. أما إذا أراد أن يستمر في الميدان العالمي فإنه يجب عليه أن يكون على استعداد للتسليم بأن هناك ظواهر لم يبلغها بحثه بعد، ومشاكل ليس يستطيع حلها بعد. لم يكن رجل العلم، بل كان (المنفذ المخبول المحلوق الشعر) الذي وصفه أودن، هو الذي قرأ نتفا من العلم البدائي، ثم حسب أنه قد ظفر بجميع الإجابات على جميع الأسئلة. فهو قرأ عن استكشاف داروين لحقيقة تطور الحيوان بواسطة الانتخاب الطبيعي والكفاح على المعيشة، ثم اتخذ هذا عذرا يبرر به أشد المنافسات حدة في(652/18)
المجتمع البشري، وإن كان لم يسائل نفسه لم يحاول الإنسان أن يعيش كالحيوان.
أما العلم الحقيقي فهو بطبعه أعظم من هذا تواضعا وأكثر تقبلا، وإن كانت النهاية أكبر قوة. فالعقل ذو الموقف العلمي الصحيح يلزمه أن يكون على استعداد للاعتراف بوجود أي شيء يكتشف وهو لا يستطيع أن يرفض الأشياء لمجرد أنها لا تطبق على نظرياته المتحذلقة ولكن لا شك أن موقفه ليس موقفا سلبيا فحسب؛ فهو لا يقتصر على أن يدرك كل ما يمكن إدراكه في العالم بل يبذل أعظم جهده في أن يسيطر على الأشياء ويقبض على عنانها بتفهم الكيفية التي بها تعمل، وهذا مغزى إصراره على ضرورة التجربة والاختبار. ذلك أن المرء يستطيع أن يحصل على ما يبدو كأنه الفهم عن طريق التأمل الفكري المحض. ولكن هذا ليس فهما علميا، إذ أنه لا يؤدي إلى السيطرة على الأشياء التي تأمل فيها تأملا فكريا.
الموقف العلمي متقبل أيضا، ولكنه لا يقتصر على التقبل. هو يحاول ألا يهمل شيئاً، ولكنه إلى جانب ذلك يصر على أنه يجب ألا يقرأ في الشيء أكثر مما يحتويه ذلك الشيء، هو لا يرفض قبول الأشياء، ولكنه يحب أن يحصل عليها خالصة صافية، كما هي في حقيقة ذاتها، لا كرموز تحمل في طياتها خواطر مبهمة حالكة غير متميزة.
من السهل جدا أن يلحظ في كثير من شعراء اليوم تأثرهم بالنزعة العلمية التي تحاول أن تجرد الأشياء عن رموزها وأن تعتبرها كما هي في بساطتها وتنظر إليها بعين جديدة. ولقد وضح (أودن) هذه النقطة خير توضيح، وأودن هو أشد الشعراء المحدثين نزعة علمية واعية فهو يقول:
(الساعة الرملية تهمس إلى مخلب الأسد، وأبراج الساعة تنبئ الحدائق ليلا ونهارا، كم من أخطاء يصبر عليها الزمن، وما أشد خطأها إذ هي دائما مصيبة.
ولكن الزمن، مهما علت دقاته أو ضخمت: ومهما أسرع سيله المنحدر في الانصباب، فما حدث قط أنه ثنى الأسد عن وثبته ولا أنه زعزع ثقة الورد.
فهذه كما يبدو ليست تهتم إلا بالفوز: بينا نحن نتخير الكلمات لمجرد طنينها ونعتبر المسألة بحسب إشكالها وما ربح الزمن إلينا محببا. هل حدث قط أننا لم نفضل الطريق الملتوي على الطريق المستقيم الذي يقودنا مباشرة إلى حيث نحن؟(652/19)
ونفس هذه النزعة التي تحاول أن تتناول الأشياء كما هي، لا تهمل شيئا، ولا ترى ما ليس يوجد، يمكن أن يلحظ تأثيرها على أغلب الشعراء المحدثين.
لكن نفرا من أحدث الشعراء، ممن أحرزوا مكانة وقدرا في السنوات الأخيرة، لم يقتصروا على ذلك، بل مضوا قدما في سعيهم نحو العلم. فمثلا داي لويس قد نقد كتاباته الفوضى الحالية أشد نقد وأمره، وقام بدور نبي العالم الجديد. وهو قلما حدد بجلاء ما يعتقد أنه أساس العالم الجديد، ولكنه حين يقوم بذلك يصرح باعتقاده أن هذا الأساس سيكون نفس الشيء الذي سمحنا له بأن يصير مصدر اضطرابنا الحالي، يقول:
(كم يكون عجيبا أن يبرز من اضطراب ربوة النمل وتخبطها نظام ملائكي تقوم دعامته على الحب، يستطيع مواجهة الخير والشر كليهما.
كم يكون أعجب من العجب لو أن الشيطان الذي نبعثه لنثأر لحقدنا وحزننا وضعفنا، أخذ بأيدينا كأنه الأمير المنقذ ورفعنا وقال: أنا أصفح).
أليس هذا اعترافا بأن العلم، الذي كثيرا ما وصفه داي لويس بأنه جرثومة عللنا، قد يكون فيه جرثومة خلاصنا أيضا؟
أما أودن فقد عبر عن هذه الفكرة تعبيرا أشد صراحة وجلاء. هذا ولعل أودن هو أعظم شعراء العقد المنصرم شأنا من كل الوجوه. فهو يقرر بجلاء تام أن العالم لن ينجو إلا حين تسيطر المعرفة على الإرادة الجامحة وتخضعها، وحين يحدث ذلك ففي اعتقاده أن كل النواحي المختلفة من طبيعة الإنسان ستنسجم إحداها مع الأخر في إكمال انسجام، قال:
(لابد أن تبكي كل عين على انفراد حتى تخلع (أنا أريد) من عرشها، ولكن من المستطاع طرد (أنا أريد) إذ ليس لها من البصيرة ما يحميها من هجمات (أنا أعرف)؛ بلى من المستطاع طرد (أنا أريد).
حينئذ تلتقي كل أنواع (أنا) وتنمو (إنني أنا) حتى تصير: (أنا أحب) و (أنا محروم) تصير: (أنا محبوب)؛ إذ ذاك تتلاقى كل أنواع (أنا) وتنمو.
حتى تخلع (أنا أريد) من عرشها لا بد أن تبكي كل عين على انفراد).
ولكن أودن لا تقتصر نزعته العلمية الحق على هذا، بل هو أحد الشعراء القلائل الذين يعرفون كنه العلم الحديث، والذين يدركون أنه ليس يقتصر على تتبع الجوهر الفرد في(652/20)
رحلته العمياء بل يهتم أعظم اهتمام بالطبيعة السيكولوجية والاجتماعية لبني البشر. فأودن يدرك أن مشاكل العصر الأساسية هي مشاكل العلاقة بين الطبيعة البشرية وبي العالم المادي. هي مشاكل سيكولوجية واجتماعية من ناحية، وطبيعية وكيمياوية واصطلاحية من ناحية أخرى. هو في أحدث كتاب له، (رسالة العالم الجديد) يتناول بالبحث هذه المشاكل في قصيدة مذيلة بتعليقات كثيرة تحيل القارئ إلى كتابات كثير من رجال العلم بفروعه المتعددة. وتحليله النهائي للموقف مفرغ في قالب عبارات مستمدة من علم النفس الحديث مباشرة. وهو يقرر أن مشاكلنا راجعة في جوهرها إلى أن شخصيتنا (وهي القسم الذي يسميه علماء النفس الذات)، حين تبلغ المستوى الثقافي الأعلى، تشعر بعزلتها وتنسى الوشائج الاجتماعية التي تربطها بسائر الجنس البشري يقول:
(في الطبقات العليا من الذات، وفي قمم الخوف الشامخة تكون ذرات الخطأ العاصفة التي تهلك الراعي، ونكبتنا السياسية تهبط من شدة شعورها بذاتها).
ثم يسترسل فيقرر أن هذا الشعور بالوحدة لا مناص منه في الوقت الحاضر، فالانقلاب الاصطلاحي قد هدم قوالب المجتمع التقليدي التي كانت تجعل الناس يشعرون بأن لهم في المجموع الكلي مكانا وأنهم منه جزء قال:
(مهما صممنا على أن نتصرف فان تصميمنا لا بد أن يسلم بهذه الحقيقة: إن الآلة قد حطمت اليوم التقاليد المحلية التي كنا نستمتع بها، وإنها قد أحلت محل روابط الدم والملة رابطة الفرد بذاته، وأرغمت الجميع على أن يعترفوا بأن الوحدة هي طبيعة الإنسان الحق).
ولكنه يسترسل فيقرر أن هذا لا يجعل من المستحيل تكوين نظام اجتماعي جديد. بل هو يقول:
(كل اتحاد حق فهو إنما يبدأ بالشعور بالاختلاف، فللكل حاجات يريدون تقضيتها، ولدى كل فرد قوة يتطوع بها).
فهو يفسر هذه المفارقة: بأنه حين يدرك الإنسان أنه في وحدة بنفسه فحينذاك فقط يستطيع فهم الرابطة الحقة التي تربطه بسائر الناس، وهي أن كلا يشارك الآخرين في الشعور بالعزلة. وأما الوسيلة التي يقترحها للوصول إلى هذا الإدراك، أو للتقدم من الشعور بالعزلة(652/21)
إلى إدراك الاتحاد، فهي (الاعتراف المطلق بخطايانا). وهذا يشبه أشد الشبه الطريقة التي يستعملها رجال التحليل السيكولوجي للتغلب على العزلة العاطفية للذات وللتوفيق بينها وبين الأقسام الأخرى من الشخصية. والراجح أن أودن - كما يتضح من الحجج التي يقتبسها في تعليقاته على القصيدة - كان يدرك تمام الإدراك مقدار التشابه بين نصيحة والنصيحة التي يدلي بها العلم، بل هو حين يختتم علاجه للمسألة، ويبتهل إلى الروح التي يأمل منها خلاص الإنسان، يستعمل كلمة (العلم)، كوصف لها. فهو يخاطبها قائلا:
(أيتها المخلوقة الخرافية المختفية في أشجار الأرز، والتي لا توصلنا إليها أية رقية سحرية، الطفولة البيضاء تمضي كالآلهة المتنهدة في خلال الأجمات المخضرة لا تؤذيها براءتك اللعوب، لكي تستثير محبوبك الصادق لينسجم معها يا حمامة العلم والنور).
(عن مجلة وورلد ريفيو)
هـ. وادنجتون(652/22)
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 10 -
جعله العرف قاعدة وأساساً للتشريع
من مزايا الشريعة الإسلامية ومحاسنها أنها جعلت العرف أساساً من أسس التشريع إذا لم يخالف
نصاً صريحاً - على ما سنبين - حتى جعل الفقهاء الإسلاميون العرف والعادة قاعدة من قواعدهم، بنوا عليها كثيراً من أحكام الفروع الفقهية، وجرت على ألسنتهم في عبارات مختلفة لفظاً، متقاربة مآلا ومعنى، فقالوا: (العادة مُحَكَّمة، والمعروف كالمشروط، والمعروف عرفا كالمشروط شرطاً)، وفي المبسوط (الثابت بالمعروف كالثابت بالنص)، وفي الجزء الثاني من رد المختار للعلامة ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار ... لذا عليه الحكم قد يُدار
وفي الجزء الخامس منه في مبحث تحديد سن البلوغ للغلام والجارية: (العادة إحدى الحجج الشرعية فيما لا نص فيه)،
وإنما تعتبر العادة والعرف مرجعاً تبنى عليه الأحكام بشروط ثلاثة:
الأول - ألا يخالف العرف نصاً صريحاً.
الثاني - أن يكون العرف عاماً، فالحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، كتعارف أهل بلد واحد، أو تعارف خواص أهل جهة دون عامتها، فإن التعارف لا يثبت بهذا القدر، وقيل يثبت به، ولكن المعول عليه عدم اعتبار العرف الخاص، وإن أفتى بعضهم باعتباره.
الثالث - إذا اطردت العادة وغلبت.
ولكثرة الفروع والأحكام التي بنيت على تلك القاعدة - نجتزئ بذكر الأمثلة:
1 - ألفاظ الواقفين نبتني على عرفهم، وكذا لفظ الناذر والحالف.
2 - قال بعض الفقهاء في حد الماء الجاري: هو ما يعده العرف جاريا.
3 - وقالوا في الحيض والنفاس إذا زاد الدم على أكثر مدة الحيض أو النفاس - ترد المرأة(652/23)
إلى أيام عدتها.
4 - وأجازوا استئجار الظئر بطعامها وكسوتها على المستأجر وإن كان مجهولا للعرف.
5 - ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه أهل المدينة في الدعاوى، فقد جعلوها على ثلاث مراتب:
الأولى - دعوى يشهد لها العرف بأنها تشبه أن تكون حقاً، وهذه تسمع من مدعيها، وله إقامة البينة، أو استحلاف المدعى عليه:
الثانية - ما يشهد العرف بأنها لا تشبه ذلك، وإلا أنه لا يقتضي بكذبها - كما إذا ادعى شخص على رجل ولا معرفة بينهما البتة، وأنه أقرضه أو باعه شيئاً بثمن في ذمته إلى أجل - فهذه الدعوى تسمع، ولمدعيها أن يقيم البينة، ولكنهم قالوا إنه لا يملك استحلاف المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبين المدعى عليه.
الثالثة - دعوى يقضي العرف بكذبها، فلا تسمع، ولهذه أمثلة كثيرة، منها أن تأتي المرأة بعد سنين متطاولة، تدعي على زوجها أنه لم يكسها في شتاء ولا صيف، ولا أنفق عليها شيئاً فهذه الدعوى لا تسمع، لتكذيب العرف العادة بها، ولا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، وكان الزوج موسراً
6 - يقبل قول الوصي فيما ينفقه على اليتيم إذا ادعى ما يقتضيه العرف، فإذا ادعى أكثر من ذلك لم يقبل قوله.
7 - قال أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة يحكم ببلوغ الغلام والجارية إذا بلغا خمس عشرة سنة - عند عدم ظهور إمارات البلوغ - وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعللوا ذلك بأنه العادة الغالبة على أهل زمانهم.
والأصل في وضع هذا الأساس وتقرير تلك القاعدة قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)؛ قال العلائي لم أجده مرفوعاً، وإنما هو من قول عبد الله ابن مسعود، فقد روى عنه الإمام أحمد وغيره: (إن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد خير قلوب العباد، فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعده، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح)، وقال شهاب الدين القافي: إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقه بانتقالها، ومن جهل المفتي جموده على المنصوص في(652/24)
الكتب غير ملتفت إلى تغيير العرف.
هذا وإنك لتدهش حقاً حينما تطلع على كثرة المسائل الفقهية، والأحكام التشريعية التي بناها علماء التشريع الإسلامي على العرف والعادة، إذ اعتبروهما أساساً من أسس التشريع بالشروط التي أسلفناها، ولكن لا يلبث دهشك أن يزول إذا علمت أن القانون الصالح هو الذي تراعى فيه أحوال الأمة الاجتماعية والاقتصادية، وعاداتها العامة، على ألا يكون في ذلك إقرار مفسدة، أو تعطيل مصلحة، ومن جهة أخرى، فان النزع من العادة الظاهرة، وإقصاء الناس عن العرف العام - في غير حاجة ولا ضرورة - فيه حرج لهم، ولا شك أن أصلح الشرائع، وأجدرها بالبقاء ما روعي فيها اليسر، وانتفى منها الحرج والعسر، وذلك ما تحقق في شريعة الإسلام.
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب(652/25)
في الأدب الإنكليزي
ماثيو أرنولد
بقلم الأستاذ خيري حماد
- 3 -
وقد كتب عنه فتش قائلا (لقد نظر نحو المجتمع الإنكليزي فرأى الأغنياء يسعون في جمع المادة وكنزها فيقومون بمختلف الأعمال للحصول على هذه الأمنية ورأى الطبقة المتوسطة تتدانى فتصبح مبتذلة محتقرة، والطبقة العامة تنحط فتصبح بمستوى الوحوش والحيوانات).
وكانت الطبقة الوسطى موضع حملاته ومسقط إهانته وازدرائه وقد أطلق عليهم الفلسطينيين خفضاً من شأنهم وإنزالا من أمرهم. وقد وصفهم:
(هم محصورو التفكير، تطغي عليهم روح التحامل والتفرض فيهملون أمور الدين والعقائد ويتمسكون بأفكار تدل على صغر عقولهم وضآلة قوة التمييز فيهم. فلا يستهويهم الجمال بذلك الشعور القوي المندفع؛ بل يحسون احساسات خالية من المنطق وحسن التمييز. أخلاقهم منحطة وعواطفهم مبتذلة).
ولم تكن هذه الأفكار صادرة عن قلة اختبار أو عدم حنكة؛ كان مبعثها التجربة فلقد اختط أرنولد لنفسه خطة جعلته يختلط بهذه الطبقة ويمتزج بها امتزاجاً ساعده على تفهم عقليتها. فالفلسفتين في رأيه هو ذلك الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم الآداب ولا يستسيغها ذوقه فهو يتظاهر باطلاعه على معظم الأمور بينما هو في الحقيقة على جانب عظيم من الجهل لا يشغله إلا حضور حفلات الشاي وسمر الأصدقاء والخلان.
إن هذا التحليل الفلسفي الذي نراه في كتابات أرنولد لأخلاق شعبه لعلى جانب عظيم من الصحة والصدق، ولكن هذه الدراسة وهذا التحليل لم يكونا في يوم ما تامين؛ فهو لم يفهم حقيقة الطبقة الوسطى وأهميتها في المجتمع البشري، ناهيك عن جهله لديانتهم وعقائدهم، فقد نسي أو تناسى أنهم مصدر الحياة وينبوع في النشاط في كيان الأمة، فدولاب الأعمال في أيديهم وحركة التجارة والصناعة لا تخرج عن دائرتهم.(652/26)
كان أرنولد يمقت لقب البروفسور ولقب الفيلسوف ولكنه في الحقيقة كان فيلسوفاً بأتم ما يقدمه هذا الاسم من معان وصفات. وهذه الفلسفة التي نراها في مؤلفاته هي فلسفة ابتداعية ابتكرها من نفسه ولم ينقلها عن سابقيه كبار الفلاسفة أمثال ابيقور وسقراط وغيرهما؛ فقد أحب دراسة تاريخ الأديان، واطلع على أسس الديانة المسيحية وعقائد اليهودية الجديدة وحاول أن يمزج هذه العقائد ببعضها فيخرج لشعبه فلسفة دينية جديدة ويكون لهم فكراً حديثاً عن حقيقة الأديان وغاياتها.
وفي كتابه: (الثقافة والفوضى) نرى عقائده الفلسفية ظاهرة تمام الظهور ونظامه الفلسفي واضحاً أتم الوضوح؛ فالثقافة في رأيه هي التطور في سبيل الكمال، وتفهم كل ما يحيط بنا من حقائق وظواهر طبيعية وغير طبيعية مما يؤثر في كياننا الشخصي والعلمي. وما هي في الحقيقة إلا الإطلاع على أحسن ما فكر به العلماء والعقلاء من رجالات الأمم ونابهي أمرها. وفي هذا الكتاب نراها يسجل عقيدته المحبوبة التي أطلق عليها لقب (العذوبة والضوء)
وقد اقتبس أرنولد هذا التعبير من الكتاب الشهير جوناثان سوفت ولكنه اختلف عن سوفت بكونه عني به شيئاً يخالف تمام المخالفة ما عناه سوفت من قبل، فقد جعله اسماً لشيء أرقى وأسمى بكثير مما عناه سآلفه. فالثقافة تشمل نوعين يكمل أحدهما الآخر وهما المعرفة والطبع. وما النتيجة المتوخاة منهما إلا إنفاذ أمر الله وتحقيق إرادته مصحوبين بتحكيم العقل، وسعة الإدراك.
وكان للثقافة في رأيه أوجه عدة، فلم تكن لتختصر في الإحساس العلمي بل تتعداه إلى الميل الغريزي نحو العمل والمساعدة والسعي إلى ما فيه الخير العام. وكل هذه الأوجه مفيد ونافع من حيث أنه ينطوي على الرغبة في إزالة الهفوات البشرية وفي تنقية صفحة المجتمع بإزالة آثار التعاسة والبؤس منه. وما هي في الحقيقة إلا السعي في ترك العالم ومغادرته أكثر سعادة وأعظم شأناً من الحالة التي وجدناه فيها عند بداءة أمرنا.
ولم تكن الثقافة في نظره يوماً ما وليدة حب الاستطلاع والفضول بل حب الكمال وعدم النقصان. فما هي إلا دراسة الفرد لأحوال مجتمعه، ومحاولة سد كل نقص يجد، وفيه تندفع في طريقها تحفزها المعرفة ويقودها الشعور الأخلاقي الاجتماعي للسعي إلى ما فيه خير(652/27)
الناس والإنسانية.
ومعظم أفكاره الفلسفية تتلخص في الفقرة التالية التي كتبها (الثقافة تتطلع إلى مرمى أبعد مما يتطلع إليه الإنسان العادي. فهي تكره الحقد ويدفعها شعور عظيم واحد هو شعور الجمال والضياء. وهنالك دافع أشد من هذا وأقوى، هو تنفيذهما وإحداث أثر ظاهر في الكيان الإنساني. وهي لا تنفك دائبة على العمل حتى ننتهي من إصلاح أنفسنا وتكيفها بشكل تام كامل. وإن تطور بعض الناس الأخلاقي الناتج عن تأثير (العذوبة والضياء) لغير كاف ما لم يسد هذا الشعور جميع طبقات المجتمع فيحدث الأثر المتوخي والنتيجة المقصودة).
ونرى أرنولد دائم الحض للناس على العمل لإظهار الأفكار الحقيقية والجمال الطبيعي، والعذوبة الغريزية والضوء الفطري. وأن من الواجب على الأفراد المستنيرين تغذية عقول الشعب وتثقيفهم الثقافة الضرورية. وما عظام الرجال في رأيه إلا أولئك الذين يستطيعون توزيع المعرفة والأفكار السامية على عقول أبناء جلدتهم وبني وطنهم من شتى الطبقات ومختلف الرتب والمناصب والذين جربوا بكل قواهم أن يرهف والثقافة الخشنة الصعبة المراس فيجعلوا منها أداة سامية، أداة عاملة لرفع مستوى التفكير والمعرفة الإنسانيين، ولخلق (العذوبة والضوء) اللذين يتوخاهما العالم ويحتاج إليهما.
لقد حاولنا في الفقرات السالفة أن نجمع بعض الأفكار التي أدرجها أرنولد في مؤلفاته ونحللها تحليلا فلسفياً معقولاً. ولقد يتراءى لنا أن فلسفته كلها تنحصر في هذه العقائد التي ذكرتها مع أنها في الحقيقة تكون قسما أعظم وأكثر اتساعا. وقد فضلت أن أبحث في فلسفته الدينية بحثاً خاصاً، فأرجأت تحليلها إلى الصفحات التالية.
(يتبع)
خيري حماد(652/28)
رأي جديد في:
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 6 -
(تتمة)
وأما قصة حماد مع الطرماح بن حكيم، فقد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة. فنحن لا نملك تصديقها أو تكذيبها. ولكننا نضع بين يدي القارئ ما يقوله الجاحظ (البيان والتبيين، ج1 ص54) في الطرماح بن حكيم: (ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت عدنانياً عصبياً، وكان الطرماح قحطانياً عصبياً. . . وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح لأهل الشام. . .). ومعنى ما يقوله الجاحظ أن الطرماح كان يتعصب على أهل الكوفة وكان حماد كوفيّاً.
وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُردة وذي الرمّة فلا تنصّ على أن حماداً ادعى الشعر لنفسه، وهو الشعر الذي مدح به بلال بل إنها تذكر أن حماداً نسبه إلى بعض شعراء الجاهلية. وهو شعر لا يرويه غير حماد، وكان يستطيع نسبته إلى نفسه لو أراد. وليس بغريب أن يمدح حماد بلال بن أبي بردة بشعر لم يقله
وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُرْدة حين أنشده قصيدة الحطيئة، فقد لا تدل على انتحال حماد. ويؤيد هذا ما يقوله صاحب الأغاني معقباً على هذه القصة (ج 2 ص51): (وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشاً للغزو. . فوصله أبو موسى، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يلومه على ذلك، فكتب إليه: إني اشتريت عرضي منه بها، فكتب إليه عمر: إن كان هذا هكذا وإنما فديت عرضك من لسانه ولم تعطه للمدح والفخر، فقد أحسنت). ونجد كلاماً قريباً من هذا في الأغاني أيضاً (ج 11ص 29). هذا إلى أنه لا يصح من مثل بلال بن أبي بردة ما تنسبه إليه القصة من أنه قال: ولكن دعها تذهب في الناس؛ فهو حفيد أبي موسى الأشعري، وهو قاض وأمير. يقول الجاحظ في البيان والتبيين (ج1 ص238): (وولى منبر البصرة أربعة(652/29)
من القضاة، فكانوا قضاء أمراء: بلال. وسوار، وعبيد الله، وأحمد بن رباح. وكان بلال قاضياً بن قاض بن قاض، وقال رؤية:
فأنت يا ابن القاضيين قاض ... معتزم على الطريق ماض
وأخيراً نصل إلى الخبرين اللذين يوردهما السيوطي في المزهر. وأول هذين الخبرين ما يرويه أبو عمرو بن سعيد بن وهب الثقفي من أنه سأل حماد أن يملي علية قصيدة لأخواله بني سعد بن مالك، فأملى عليه حماد شعراً نسبه إلى طرفة وهو لأعشى همدان. والخبر الثاني ما يرويه سعيد بن هريم البرجمي عمن يثق به من أن أعرابياً أنشد حماداً قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي، فاختلفت الأقوال في قائلها، فقال حماد: اجعلوها لطرفة. وكلا الخبرين في المزهر وحده، لم نقف
عليه في كتاب آخر. هذا إلى أن السيوطي متأخر. وفي هذا كله تجريح لكلا الخبرين. وقد يبدو لنا الخبر الأول صحيحاً حين نعلم أن حماداً بكريّ الولاء، وأن طرفة شاعر بكريّ، وأن حماداً لهذا قد ينسب إليه ما لم يقله. ولكننا نعود فنسأل: ماذا حدا بأبي عمرو بن سعيد، وخؤولته في بني سعد ابن مالك المتحدرين من بكر بن وائل، إلى أن يفضح أمر حماد صديقه وشريكه في هوى بكر، وإلى ألا يسكت عليه حين ينسب شعراً إلى طرفة، وهو بكري، بل من بني سعد بن مالك؟ ثم إننا نعود فنسأل أيضاً: كيف ينسب حماد إلى طرفة شعراً يعرف أبو عمرو بن سعيد وغير أبي عمرو بن سعيد أنه لأعشى همدان؟ وهل هذه هي حال حماد، الذي كان يخفي انتحاله، فيما يقول المفضل الضبي إلا على العالم الناقد؟
وأما الخبر الثاني فقد يبدو صحيحا أيضاً؛ لأن حماداً، وهو بكري الهوى؛ نسب ما رواه الأعرابي إلى طرفة دون غيره وهو شاعر بكري. ولكننا نقول إن سعيد بن هريم البرجمي لم يصرح باسم من حدثه هذا الحديث، وفي هذا تجريح لروايته. ونقول أيضاً إن سياق القصة يوحي بأن القوم كانوا مختلفين فيمن يمكن أن يقول هذا الشعر من الشعراء الجاهليين، وأن حمادا حين جعل الشعر لطرفة كان يرى أن هذا الشعر يتفق ومذهب طرفة. فالقصة إذن، إذ صحت، لا تدل على انتحال حماد أصلا، ولكن تدل على نوع من التحقيق كان يقوم به حماد ومن معه، نوع من التحقيق يتناول مذاهب الشعراء الأقدمين وأساليبهم في صوغ الشعر لينتهي من ذلك إلى نسبة ما رواه الأعرابي إلى من قد يصح(652/30)
صدوره عنه.
3 - تمحيص رواية ابن عبد ربه
يذكر ابن عبد ربه أن حماداً كان يقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتاً فجازت عنه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وأقول: هذه رواية لم ترد إلا في كتاب ابن عبد ربه؛ وما كان أجدرها، إن كانت صحيحة، أن ترد في غيره من الكتب، ولا سيما كتب المشارق. ثم أقول: وهناك رواية أخرى تقول إن أبا عمرو بن العلاء هو الذي وضع ذلك البيت على الأعشى، وإن شهد على نفسه بذلك. فهنا إذن روايتان، تعارض كل منهما الأخرى.
فقد محصنا إذن تلك الأقوال والأخبار التي توردها كتب القدماء في صدد انتحال حماد، وانتهينا إلى أنها تقوم دليلا على أن حماداً كان بالغ الانتحال وكنا قدمنا لهذا التمحيص بأدلة عقلية ونقلية توحي بأن حماداً لم يكن بالغ الانتحال كذلك. وهكذا يكون قد استقام لنا التدليل على رأينا في انتحال حماد، من أنه لم يبلغ ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء؛ ومن أن ما صح منه كان صدى لحال الرواية في عصر حماد واستجابة لنوازعها، فإن حماداً لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همه وقصده.
6 - ما سر التحامل على حماد:
قدمنا في صدد الكلام عن حياة حماد أنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً. ونقول هنا إن هذا بعض ما دعا القدماء إلى الشك في روايته، وإلى اتهامه بالانتحال. يقول السيوطي في المزهر (ج 1ص19): (ويؤخذ من هذا أن العربي الذي يحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة، بخلاف راوي الأشعار واللغات). ومعنى هذا أن راوي الأشعار واللغات يجب أن يكون عدلاً، وإلا رفضت روايته. وحماد لم يكن عدلاً، لأنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً.
وأما تحامل المعاصرين له عليه، وطعنهم في روايته، فهما مظهر من مظاهر الحسد والغيرة. فقد كان كثير الرواية، بل كان أحفظ الجميع، وكان لا يسأل عن شيء إلا عرفه. فلم يجد معاصروه مطعنا في روايته من نقص وقصور، ولم يمكنهم اتهامه بقلة الرواية؛(652/31)
فزعموا أن روايته غير صحيحة. وأنا أحب أن أنبه إلى أن هذه حال المتعاصرين من العلماء في كل الأزمان والأقطار. والشواهد على هذا كثيرة في أيامنا هذه. فقد ينفس الناس على أديب عبقريته، فيرمونه بالكفر والمروق، وقد ينفسون على كاتب إنتاجه الكثير، فيزعمون أنه إنما ينقل عن الغربيين. هذا وذاك نسمعه في عصرنا هذا، وهو عصر مثل باقي العصور، حاله حالها وناسه ناسها. واستمعْ إلى السيوطي وهو يقول (ج 2ص204): (وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه (الكلام عن الأصمعي) كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيّد). فهذه حال أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي، وهي حال ككل الأحوال، لها نظائر في كل العصور.
7 - خاتمة
هذه هو حماد كما طالعنا به البحث الطويل، وهذا هو رأيي فيه وفي روايته. وهو دون ريب من اعظم رجال الرواية العربية، ولا سيما رواية الشعر. ولئن كان قد طال الطعن عليه وعلى روايته، فقد آن لنا أن نحييه ونحيّي روايته.
ولكني لا أترك القلم قبل أن أهدي هذا البحث إلى أستاذي الجليل الدكتور طه حسين بك، وقبل أن أسأله رأيه في مقدماته ونتائجه. وأنا أرجو أن يكون رأيه فيّ حسناً؟ إني إذاً لسعيدُ.
السيد يعقوب بكر(652/32)
5 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
الشعوبية والمجوسية - المجوسية وأطوارها بالإجمال -
زرادشت وماني ومزدك - انتشار المذاهب قبل الإسلام وبعده
إلى عهد المهدي.
بينا فيما تقدم بعض أسباب الشعوبية التي كانت تدفع الفرس إلى كره العرب والسعي إلى أطراح حكمهم ودينهم، وأشرنا إلى بعض مظاهر هذه الشعوبية ومنها كثرة انتفاضات الفرس على العرب طلباً للاستقلال ببلادهم ودينهم ونظمهم مما يدعونا إلى أن نسمي الحروب التي جرت بين الفريقين من جراء هذه الانتفاضات حروباً استقلالية، لأن الاستقلال هو الهدف الذي كان يرمي إليه الفرس من جراء هذه الانتفاضات، وأشرنا إلى بعض ما كان من سعي الفرس بطريق غير طريق القوة المباشر لكيد العرب وهدم سلطانهم السياسي والديني، ومن ذلك محافظتهم على كل ما هو فارسي يصلح للفخر على العرب به عند المفاخرة.
ولم يكن همنا في ذلك كله أن نفصل الكلام في الشعوبية وأسبابها ونتائجها جميعا بل الكشف عن العلاقة بين الشعوبية وبعض مظاهرها حتى لا تكن الزندقة التي نعتقد أنها أحد هذه المظاهر بدعة غريبة عن الشيوعية، ولم نقل ما قلناه آنفاً من الكلام في مظاهرها إلا لبيان أن الزندقة ليست المظهر الوحيد لها بل هي أحد مظاهرها، فكما حاول الفرس كيد العرب بكل الوسائل التي أشرنا إليها، والتي حال ضيق المقام عن الإشارة المفصلة إليها قبل - كذلك حافظوا على ديانتهم القديمة (المجوسية) ولهذه المحافظة أسباب: منها أنها أرض لنفوسهم من المحافظة على كثير من مفاخر فارس القديمة التي فاخروا بها العرب، وأرضى لعقولهم لأن ديانتهم أقرب إليها من الإسلام، فإن المجوسية قد نبتت في البيئة التي نبتوا فيها فهي منهم ولمهم، أما الإسلام فإنه بالرغم من أنه دين عام جاء للعرب والفرس وغيرهم - لم تستطيع عقولهم أن تألفه كما ألفت المجوسية. ومن هذه الأسباب أن(652/33)
المجوسية كانت صلة قوية من الصلات التي تقفهم كتلة واحدة أمام السيل العربي المتدفق على بلادهم والذي قضى على استقلالهم ومملكتهم ونظمهم، وجاء بدين يحاول هدم عقائدهم. ومنها أن المجوسية سلاح خفي فالمحافظة عليها محافظة على سلاح أفتك بالإسلام والعرب وسلطانهم من كثير من الأسلحة التي جربوها فنجحوا حيناً وفشلوا أحياناً، ولم يكن خافياً على دهاتهم ورؤسائهم أثر هذه الديانة من حيث هي صلة قوية بين الفرس ولا من حيث هي سلاح.
ولم يكن من الممكن أن تمحي هذه العقيدة من قلوب معتنقيها وعقولهم وهي منهم بمجرد إكراههم على تركها، بل لم يكن ذلك ممكناً حتى لمن دخلوا في الإسلام مخلصين له لآن النفس البشرية بحكم تكوينها تأبى أن يمحى منها عقيدة محواً تاماً لتحل محلها أخرى حلولا تاماً كما هي عليه في صورتها الأولى، بل المجرب والمشاهد والمستطاع أن تتقارب العقيدتان وتتداخلا على حساب كل منهما حتى تنسجما في النفس البشرية بعض الانسجام وهذا مع الإخلاص وعلى أفضل حل مستطاع. والأكثر ألا تتغير من العقيدة القديمة إلا العناوين فتبقى كما هي، ولا يدخل في النفس من العقيدة الجديدة شيء بالرغم من التمسك بعناوينها في الظاهر. وإذن فكيف بمن دخلوا في الإسلام خوفاً أو طمعاً بل كيف بمن استطاعوا أن يؤدوا الجزية للفاتحين مع البقاء على دينهم؟ ذلك لأن المجوس حين فتح فارس اعتبروا كأنهم أهل كتاب، وإن لم يكونوا من الكتابيين: اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل - وهؤلاء الكتابيون هم الذين نص القرآن على أخذ الجزية منهم إذا أرادوا البقاء على دينهم، ومع ذلك فقد سن القواد الذين فتحوا بلادهم سنة أهل الكتاب بهم حسب رأى الخليفة لأن كتابهم الذي سنذكره بعد قليل - وإن يكن غير منزل من السماء كما رأى المسلمون - يشبه الكتب السماوية، ومن أجل ذلك فرضت الجزية على من شاء البقاء على مجوسيته واستطاع دفعها أو أعفى منها لسبب من أسباب الإعفاء. فكانت هذه المعاملة من أسباب بقاء المجوسية يضاف إلى عوامل بقائها التي أشرنا إليها من قبل.
وقد بقيت مذاهب المجوسية التي سنتكلم فيها بعد قليل قائمة بعد الفتح الإسلامي لفارس زمناً طويلا، فكانت بيوت النيران التي يعظمها المجوس تتقد فيها النيران ولها خدمها وسدنتها في فارس تحت حكم العربي الإسلامي، وحسبنا مثلا خالد بن برمك وهو من أكبر(652/34)
دعاة الدولة العباسية وزعمائها والمشاركين في قيامها وقد استوزره الخليفة العباسي السفاح (132 - 136هـ) بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال أول وزير في الإسلام كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان خالد هذا كما قال الخضري بك (من مجوس بلغ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران فكان برمك وبنوه سدنة له) (محاضراته في الدولة العباسية ص 111).
وكان ذلك في أوائل القرن الثاني الهجري بل ظلت بيوت النيران قائمة في غير بلاد الفرس عند موت خالد بن برمك سنة 163هـ في خلافة المهدي الذي نتكلم في الزندقة على عهده، فقد كان على خليج القسطنطينية من بلاد الدولة الرومانية الشرقية يومئذ بيت نار كان قد بناه سابور الجنود بن أردشير حين نزل على الخليج وحاصر القسطنطينية في إحدى حروبه مع الروم، وقد اشترط عليهم بقاءه فبقى إلى خلافة المهدي (158 - 169هـ) الذي نتحدث بموضوع الزندقة في عهده. بل ما زالت عبادة النيران في الهند حتى القرن الثامن الهجري وكان عبادها يسمون (الإكنواطرية)، بل ما تزال في بمباي بالهند طائفة من المجوس يتمسكون بمجوسيتهم ونيرانهم حتى اليوم ويسمون (الفرسيين).
بل لقد تأدى بنا البحت إلى مكان لا مناص لنا فيه من السؤال عن المجوسية وعما إذا كان لها من أثر في تعاليم الزنادقة الذين ظهروا في عهد المهدي.
ليس من همنا هنا أن نتبسط في شرح المجوسية بل سنجعل القول فيها إجمالا، وسنقتصر في هذا الإجمال على التعاليم التي يمكن أن يكون لها بموضوعنا صلة. وأبادر فأنبه إلى أننا عاجزون عن فهم مدلول المجوسية بغير فهم أطوارها وفهم الرجال الذين تطورت على أيديهم، وإلا فإن معنى المجوسية يظل محوطا بكثير من الغموض والاضطراب، فالحق أن المجوسية إنما هي أطوارها، وهناك تعاليم مشتركة بين كل هذه الأطوار، ولكن هناك أيضاً تعاليم تختص بها بعض الأطوار دون بعض، فإذا أطلقنا المجوسية على التعاليم المشتركة دون غيرها أخرجنا عنها ما هو منها، وإذا أطلقناها على كل التعاليم عامة وخاصة أدخلنا فيها ما ليس منها أو وجدناها أمامنا مضطربة متناقضة في جملتها وتفصيلاتها.
كما أبادر فأنبه إلى أني غير مستريح إلى اعتبار المجوسية على اختلاف أطوارها ديانة من الديانات، لا لأنها غير سماوية ولا لأنها متناقضة، ولا لأني مسلم مضطر إلى عدم(652/35)
الاعتراف بها، فقد أعترف بها كدين الصحابة الأولون وعاملوا أهلها كما عومل أصحاب الدينيين السماوية اليهودية والمسيحية، ولكني لا أستريح إلى اعتبارها ديانة لأن الديانات تكون خصيصة سامية، فموسى والمسيح ومحمد - عليهم السلام - الذين أرسلهم الله بأعظم الديانات السماوية كانوا ساميين، وهناك سبب آخر هو أن المجوسية على اختلاف أطوارها لم تستوفي معنى الديانة الكامل كما نفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها. وأقرب إلى الصواب في نظري أن ندعوها فلسفة أو نزعة عقلية أو نزعة فنية، فهي لا تهتم كالديانات بحل المشاكل الغيبية، ولا تتطلع إلى ما وراء الطبيعة وفوق العقول بل إنها تحصر اهتمامها حصراً في العالم الذي أمامها وتحاول أن تتعرفه من طريق الحواس، كي تخلص من ذلك إلى الامتزاج به والانغماس فيه، وهذه هي النزعة التي تسلطت على العقل الآري في كل العصور.
من طريف ما أذكر هنا أني قرأت في كتاب (في أصول الأدب) للزيات أن فولتير في روايته (زيير) مثل عقد زواج بين رجل وامرأة على الطريقة الإسلامية فوصف أنه كان بأحد المساجد، وقد تسرب اليأس إلى ذهن المؤلف المسيحي من أن العادة في الزواج عند المسيحيين أن يعقد في الكنائس فقاس المساجد عليها في عقود الزواج بين المسلمين وشبيه بهذا المؤلف وما تصور من ذهب من العرب إلى اعتبار المجوسية ديانة كالإسلام واليهودية والنصرانية قبله، ومن ثم وقعت أخطاء كثيرة في فهمها.
تنتمي الأمة الفارسية إلى الجنس الآري، وقد سكنت إيران وما حولها قبل الإسلام بقرون كثيرة، وبالرغم من أنا لا نرى كل ما ارتآه الفيلسوف الفرنسي رينان فمن الفروق الكثيرة بين العقل السامي والعقل الآري - لا نستطيع أن ننكر أن ثمة فروقاً بينهما. يرى الفيلسوف الهندي رابندرانات تاجور في كتابه (السدهانا) عند كلامه في أصول الفلسفة البرهمية القديمة أن الآريين القدماء عندما نزلوا الهند وجدوها مكشوفة بغاباتها وأنهارها وغدرانها، فكان من ذلك أن وجدوا أنفسهم جزء مًنها فحاولوا الامتزاج بها والاندماج فيها، وكان لذلك أثره في فلسفتهم وعقولهم وخيالهم وحضارتهم، وكذلك يقال في الآريين الذي نزلوا في إيران والذين يسمون الفرس أو الإيرانيين، فقد أحبوا الطبيعة وعبدوا قواها وحاولوا أن يندسوا فيها بفهمها على اعتبار انهم جزء منها وأنهم مثلها، والاتصال بها من(652/36)
طريق الحواس؛ ومن ثم جاءت فلسفتهم حية لا تؤمن بغير الحواس، وتحرص على التثبت أكثر مما تحرص على الاعتقاد، وتحاول أن تقف منها على أنها جزء منها لا أنها شيء خارج عنها يجب أن تخضع له وتلقى قيادها إليه. ولأمر ما لم تنجح المذاهب المجوسية المختلفة في الانتشار بين العرب الساميين بالرغم مما كان للفرس من سلطان سياسي وأدبي ومالي عليهم، وبالرغم من الاختلاط بينهم قروناً عدة قبل الإسلام ولا سيما في العراق واليمن وبالرغم من أن العرب ظلوا يدينون بديانات وثنية أثناء هذا الاختلاط حتى جاء الإسلام.
إن كل ما ورد من مذاهب المجوسية ينبئ أول ما ينبئ عن أن الفرس الآريين عشقوا الطبيعة عشقاً قوياً، وأن هذا العشق القوي هو الذي دفعهم إلى تصورها على الهيئة التي عليها تصورها، والتعبير عنها على النمط الذي به عبروا عنها، وكان أعظم ما لفت أنظارهم الشمس، فقد رأوها أعظم الأشياء، ووجدوا لها من المنافع ما لم يجدوا لغيرها، فقدسوها وأسندوا إليها كثيراً من الصفات الإلهية، ومن أجلها عشقوا النور وعظموه وعبدوه وأسندوا أليه كل خير كما أسندوا إلى ضده الظلام كل شر، أوهم رمزوا بالنور إلى كل خير وبالظلام إلى كل شر، ونحن نعلم ان الرموز تنقلب بتطاول الزمن رسوماً وتقاليد جافة وتمحي منها صبغتها الفلسفية والفنية، وتقدس لذاتها ولم يفهم مدلولها، بل تقدس لذاتها ولو لم تحقق مدلولها المقصود في البدء، ويكون لها بعد جمودها الإجلاء وحدها دون المعاني المستترة وراءها، وهذا ما جرى ويجري في كل زمن على الفلسفيات والديانات والفنون ونحوها ولا سيما على أيدي عوامها، وكل إنسان يرى حتى في الحياة اليومية أمثلة لهذه الانتكاسات العقلية بين العامة بل الخاصة في كل صقع من الأرض.
ويظهر لي أن هذه العقائد والنزعات المجوسية أقدم عند الفرس من تاريخهم المعروف، فهناك فرقة من المجوس تسمى الكيو مرتية نسبة إلى كيو مرتْ ترى أن للعالم إلها قديماً خالقاً أضافوه إلى النور وسموه (يزدان) وهو يقارب الله عند غيرهم، وإلهاً مخلوقا - خلقه يزدان - أضافوه إلى الظلمة وسموه (أهرمن) وهو يقارب إبليس عند غيرهم، وقد نسبوا إلى الأول الحياة والحكمة وكل خير وبركة في العالم، كما نسبوا إلى الثاني الموت والفساد والجهل وكل شر وفتنة وضرر وإضرار.(652/37)
ولتقديس الفرس النور بنوا بيوت النيران وعبدوها حتى قبل ظهور زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم، وسنتحدث به وبمذاهبه إجمالا إن شاء الله فيما سيلي، ونحن حقيقون قبل الكلام في مذهبه إن نقف هنا لنعلق على العرض السابق لما كان قبل زرداتش بما يمكن أن نفهم منه، وينبغي ألا نقف عند هذه العناوين التي تبدو لنا في الآراء المجوسية قبله بل تنطق إلى ما رواءها، وإلا كنا كالعوام وأشباهم ممن يقفون عند الظواهر دون التعمق إلى البواطن.
ينبغي أن نفهم من عرض ما قدمنا أن الفرس منذ القدم وحين نزعوا هذا المنزع كانوا أولا عشاقاً للطبيعة، وكانوا يؤمنون بتضاد الأشياء وتعاقبها، ورمزو لذلك بأشد ضدين بروزاً وتعاقباً في كل ما رأوا وهما النور والظلمة، فهذان الضدان أبرز من كل ضدين في الكون، وتعاقبهما أوضح من تعاقب كل ضدين، فهم لم يحاولوا التهجم على عالم الغيب المستور الذي لا تنزع عقولهم - وهم عشاق الطبيعة ومظاهرها المحسوسة إلى الضرب في آفاقه الغامضة، والاهتداء إلى مضامينه المستورة، ومن أجل ذلك نفضل ألا نسمي آثار المجوسية ديانة بل فلسفة لأنها نزعة عقلية بل نزعة فنية شعرية تعبر عن عشق مفرط للطبيعة واستجابة لآثارها وإعجاب بها وطرب لها عن فهم حيناً وعن غير فهم أحياناً، وهذا هو الأليق بالعقلية الفارسية الآرية
محمد خليفة التونسي(652/38)
من أبلغ ما قيل في تكريم مؤلف العباسة:
ذكريات. . .
للأستاذ كامل كيلاني
كنا نسمر - أيها السادة - في حلوان - ذات ليلة - مع الصديق الكريم (جمال الدين أباظة بك) رضى الله عنه، في دار شاعرنا (عزيز باشا) أعز الله به دولة الأدب، قبيل نشوب هذه الحرب العالمية الطاحنة لا أعاد الله مثلها، على عالمنا الأرضي المنكوب.
ولم يكد يستقر بنا المقام حتى لمحنا أجزاء من كتاب الأغاني، على مكتب شاعرنا الموهوب.
فالتفت إلى صديقي جمال بك، وقلت له: أليس من العجيب أن الإنسان لا يكاد يفتح صفحة من صفحات هذه الكنوز الأدبية الخالدة، إلا وقعت عينه على درة من عيون البيان العالي تملأ نفسه روعة وسحراً!).
قلت هذا - أيها السادة - وأنا قليل الثقة بتوفقي إلى مفاجأته بجدية من روائع هذا الكتاب!
فما أكاد أعرف في كل من عرفت من أدبائنا المعاصرين أوسع منه إطلاعا على الأدب العربي: شعراً ونثراً، وقد كدت أقل: (والأدب الفرنسي) لولا فرط حرص على اصطناع الدقة وإسراف بالغ في توخي القصد والاعتدال حتى لا يقال: ولكن من أحب الشيء حابى
وهو - أعني جمال الدين - لقوة حافظته وسعة محفوظه، يكاد يستوعب الصفوة المختارة من طرائف الأدب العربي، لا سيما كتب الأغاني فهماً ودراية، وحفظاً ورواية.
وربما ذكرت له الطرفة المستملحة الغريبة فإذا به - لتثبته من حفظها وروايتها - أسبق من قارئها إلى تلاوتها.
ففتحت كتاب الأغاني - أيها السادة - لأقرأ - لصديقي جمال - أول ما تقع عليه عيناي.
فإذا بيتان من شعر قيس: شاعر الحب الخالد يتألقان في صفحة الكتب كما يتألق القمر في صفحة السماء، ليلة البدر أو ليلة السواء.
واليكم البيتين أو على الأصح إليكم الدرتين:
بكيت. نعم بكيت. وكل إلف ... إذا بانت أليفته بكاها
وما كان التباعد عن تقالً ... ولكنِ شقْوَةٌ بلغت مداها(652/39)
فترنح صاحبي جمال وترنحت، وانتشى برحيق الفن وانتشيت. ورحنا نردد البيتين مأخوذين بفنهما الصادق وأسلوبهما الفاتن الذي يفيض سحراً وإبداعاً، ويلتهب وجداً والتياعاً
وقلت له فيما قلت: (ألا ترى في قوله: (شقوة بلغت مداها) قصة الحياة كلها مجلوة على إيجازها في ثلاثة ألفاظ! ألا ترى في هذه الألفاظ القليلة وجازة صادقة لمأساته الفاجعة في لبني؟ ألا ترى كيف تألفت منها صورة كاملة يكاد القلب يذوب لها أسى، وتفنى النفس حسرة على قائلها المبدع العظيم؟ أليست مأساة قيس ولبنى - على الحقيقة - شقوة بلغت مداها؟
وهنا دخل شاعرنا المحتفل به وقد سمع آخر الحوار فقال:
ما أصدق ما تقولان! فان في هذا الشطر وحده قصة كاملة تلخص مأساة قيس ولبناه، وتكاد تلخص كل قصة من قصص الحياة!
ثم تلا البيتين في تأثر وإعجاب في صوت متهدج يكاد يجهش بالبكاء. وكأنما كان يقرأ في ألفاظها سطوراً من صحف الغيب:
(وللنفس حالات تريها كأنها ... تُشاهد فيها كل غيب سَتشهد)
ودارت الأيام وألمت بشاعرنا المحبوب من الأحداث والخطوب: شقوة بلغت مداها.
فكأنها صهرت النار المتأججة منجما ذهبياً حافلا بأروع الكنوز، فأخرجت منه ما فيه من النفائس الغالية سبائك من النضار خالصة من كل شائبة.
وكم ألهبت الحوادث من مناجم فحمية أخرى فأحالتها رماداً تقذى بذرته العيون، وتتقزز لمنظره النفوس.
أيها السادة: لقد أصاب المثل القائل: (كل ما لم يقتلك فهو ينفعك) وصدق الكتاب الكريم (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) لقد كانت شقوة بلغت مداها. فأحالها الفن العالي: نعمة بلغت مداها.
(والنحل يجني المر من نورْ الربَّى ... فيعود شُهدا في طريق رضابه)
كامل كيلاني(652/40)
ألحاني السكري
للمرحوم أبي القاسم الشابي
قد سكرنا بحبنا واكتفينا ... يا مدير الكؤوس فاصرف كؤوسك
واسكب الخمر للعصافير والنح ... ل وخل الثرى يضم عروسك
ما لنا والكؤوس نطلب منها ... نشوة والغرام سحر وسكر؟!
خلنا منك فالربيع لنا با ... ق وهذا الفضاء كأس وخمر!
نحن نحيا كالطير في الأفق الس ... اجي وكالنحل فوق غض الزهور
لا ترى غير فتنة العالم الحي ... وأحلام قلبها المسحور
نحن نلهو تحت الظلال كطفلي ... ن سعيدين في غرور الطفوله
وعلى الصخرة الجميلة في الوا ... دي وبين المخاوف المجهوله
نحن نغدو بين المروج ونعدو ... ونغني مع النسيم المغنى
ونناجي روح الطبيعة في الكو ... ن ونصغي لقلبها المتغنى
نحن مثل الربيع نمشي على أر ... ض من الزهر والرؤى والخيال
فوقها يرقص الغرام ويلهو ... ويغني في نشوة ودلال
نحن نحيا في جنة من جنان الس ... حر في عالم بعيد بعيد
نحن في عشنا المورد نتلو ... سور الحب للشباب السعيد
قد تركنا الوجود للناس فليق ... ضوا عليه الحياة كيف أرادوا
وذهبنا بلبه، وهو روح ... وتركنا القشور، وهي جماد
قد سكرنا بحبنا واكتفينا ... طفح الكأس فاذهبوا يا سقاةُ
نحن نحيا فلا نريد مزيدا ... حسبنا ما منحتنا يا حياةُ
حسبنا زهونا الذي يتثنى ... حسبنا كأسنا التي نترشف
إن في ثغرنا رحيقاً سماوي ... اً وفي قلبنا ربيعاً مفوف
أيها الدهر أيها الزمن الجا ... ري إلى غير وجهة وقرار
أيها الكون أيها الفلك الدو ... ار بالفجر، والدجى، والنهار
أيها الموت. أيها القدر الأع ... مى! قفوا حيث أنتم أو فسيروا(652/41)
ودعونا هنا تغني لنا الأح ... لام والحب والوجود الكبير
وإذا ما أبيتم فاحملونا ... ولهيب الغرام في شفتينا
وزهور الحياة تعبق بالعط ... ر وبالسحر والصبا في يدينا(652/42)
ألوان. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
من رسالة
أطفأتِ مصباحي وكنتُ أضأته ... لكِ من لهيب مودتي وغرامي
أطفأتِ مصباحي وكنتُ رفعته ... في معبدٍ للحب والأحلام
وهدمتِ محرابي وكنتُ أؤمه ... والشوق ينبض في دمي وعظامي
إن الذي أغراكِ بالفأس التي ... أعملْتِها. . . أغراكِ بالإعدام
إليها. . .
لمْ أقْوَ حتى على البكاءِ ... يا فتنة الأرض والسماءِ
قد أعوزْتني دموع عيني ... وثار بي ثائرُ العناءِ
واسوَدَّ في خاطري عزاءٌ ... كم كنتُ ألقاهُ كالضياءِ
فاستمطِري الله لي شفاءً ... مما تعالى على الشفاءِ
بُردَة السَّحر
نسجتْ يدُ السَحرِ الخفيةُ بردةً ... حول السماء رقيقة ملساَء
مثل النعومةِ تُستشفُّ ولا تُرى. . ... الفجر يزلِقُ فوقَها أضواَء
حاكَ السكونُ خيوطَها مطروحةً ... فوق المدينةِ تنثرُ الأنداَء
إن مسَّها صوتٌ طوتها قبضة ... في الغيب توقظ بعدها الأحياَء(652/43)
البَريدُ الأدَبيَ
الانتحال:
جاء في بحث (حماد الراوية) في الرسالة (649) في ترجمة فصل عنوانه أن حماداً اشتهر بالانتحال، وإنما الذي اشتهر به حماد هو النَحْل، وهو أن ينْحَل الرجل شعره غيره وينسبه إليه، وأما الانتحال فهو أن يدعي لنفسه شعر غيره، وقد فشا هذا الخطأ واستفاض من يوم خرج كتاب (في الشعر الجاهلي) الذي تبدل أسمه بعد فصار (في الأدب الجاهلي)، ولم يكد يتبدل مسماه، كما فشت من يومئذ أخطاء أخرى. . .
علي الطنطاوي
الأمير خالد الجزائري:
من حق التاريخ علينا - وقد مضى على وفاة الأمير خالد الجزائري عشرة أعوام كعوامل - أن نذكره، فتاريخه تاريخ للحركة الوطنية في الجزائر: كان أصول الأمير شيوخ العلم في الجزائر، وكان جده السيد عبد القادر أميرها وبطلها المشهور، وقد جرى السليل على أعراق سلفه من الحمية الدينية والغيرة الوطنية والبطولة وثبات العزم وحب العلم والعلماء
حذق الفنون الحربية في أرقى كلياتها حتى أحرز أعلى شهاداتها ونال أرفع درجاتها، وتوفر على إتقان اللغة الفرنسية، حتى إنك لتخاله إذا خطب بها ميرابو خطيب الثورة الفرنسية، فأعانه ذلك في توجيه نهضة الجزائر الأدبية
قامت النهضة الجزائرية وتنبهت البلاد على حقوقها الطبيعية؛ ما كانت معالجة الأمور بهينة، ولا استخلاص الحقوق بيسير، ولا توجيه العواطف الملتهبة في الوجهة الصالحة ليمكن إلا للرجل العالم بمسالك تلك الشؤون، فاستطاع أن يعالج ذلك ويرسم الطريق فلم تكن إلا سنوات بين شد وجذب حتى بلغت الجزائر نهضتها.
كانت الجزائر في اضطرار إلى علمه وبصره وشجاعته وحسن تصريفه، حتى إذا ما كادت تصل إلى مبتغيها ومنتهى أملها، خشيت فرنسة مغبة ذلك عليها فنفوه. ولكن غيرته لم تفتر، فقام بما يجب عليه للإسلام والجزائر في غضون إقامته بمصر والشام
رحم الله الأمير خالداً، لقد كان حتى في - شيخوخته - تنبض الحيوية في حركاته، ويفيض(652/44)
الشباب في كلماته، ويتأجج العزم في نظراته
والميزة التي كان يتفرد بها - برد الله مضجعه - قوة إيمانه وشجاعته، ومن مفاخره في ذلك أنه لما نشر أحد الإفرنج من ذوي الدخلة الخبيثة مقالة مس بها شأن النبي محمد عليه صلوات الله وسلامه، هب الأسد قائلا له: المبارزة! المبارزة! بالسلاح الذي تريده! غضبة بطل طار خبرها في الآفاق، وروتها الصحف والجماعات، فارتاع النذل وانهتك حجاب قلبه من الفزع، فأعلن اعتذاره واستغفاره، والأمير بهذا العمل يقف وحده في طليعة الغير على الإسلام.
وهو إلى ذلك متواضع قائم بواجباته الدينية، محافظ على لباسه الإسلامي العربي. عوض الله الإسلام منه خير عوض، واجزل له المثوبة.
محمد عارف الحسيني
إلى الأستاذ محمد عبود:
عرضت - أيها الأستاذ الفاضل - في كلمة لك نشرت بالعدد 650 من (الرسالة) إلى الحديث الذي نقله الأمير الجليل شكيب أرسلان في كتابه الارتسامات اللطاف من كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد عن الزبير، وهو (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، وإلى ما قاله وهب ابن جرير في حديثه عن الزبير (والله ما قال متعمداً)، وإن السيد رضا رحمه الله قد علق على هذه الرواية بأن الحديث متواتراً تواتراً صحيحاً بهذه الزيادة، وإن من رواها عن الزبير نفسه البخاري وغيره. وإن وهباً هذا قد تكلم فيه بعض رجال الجرح والتعديل، فقال فيه ابن حيان: إنه كان يخطئ، ثم طلبت مني - أيها الفاضل - أن أبين رأيي في هذا كله.
وإني بعد الذي كتبته رداً على الأستاذ أبي شهبة في هذا الموضوع مما قد ينفع بعضه في الإجابة عما تسألون، أذكر هنا كلمة صغيرة تكون تماماً على ما كتبنا.
إن رواية ابن سعد التي جاءت في الطبقات تتفق ورواية البخاري في نسخته المتداولة بين الناس في أن هذه الزيادة ليست فيهما. وإذا كان وهب بن جرير قد تكلم فيه بعض رجال الجرح والتعديل فانه قد ثبت في تاريخه أن أئمة كباراً قد أخذوا عنه، وأن ابن معين(652/45)
والعجلي والنسائي وغيرهم قد وثقوه. على أن ابن حبان نفسه قد تكلموا فيه!
والذي يستوفي البحث في كتب الصحاح والسنن يجد أن هذا الحديث قد جاء بروايات كثيرة مختلفة منها حديث عمر وهو (من كذب علي فهو في النار) وحديث علي (لا تكذبواَ عليّ فانه من كذب عليّ فليلج النار) وحديث عثمان وقد قاله على المنبر وهو (لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر فانه لم يمنعني أن أحدثِ عن رسول الله (ص) ألا أكون من أوعى أصحابه ألا أني سمعته (ص) يقول (من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار) وحديث أبي هريرة وهو (من كذب علي متعمداً فليتبوا مقعده من النار) وغير ذلك أحاديث كثيرة حمل بعضها هذه الزيادة وجاء بعضها بغيرها، والروايات التي جاءت عن عمر وعلي وعثمان والزبير وغيرهم من كبار الصحابة قد ظهرت كلها بغير هذه الزيادة.
وأن ممن روى عن الزبير إنكاره لهذه الزيادة الدارقطني الذي قال فيه الحافظ بن حجر إنه كان حافظ عصره وروايته (واللَّه ما قال متعمداً وانتم تقولون متعمداً) وابن قتيبة الذي قال فيه الذهبي أنه صدوق. وقال فيه الخطيب، وكان ثقة ديناً وروايته (إنهم يزيدون فيه متعمداً والله ما سمعته قال متعمداً).
وقال الحاكم في المدخل (. . أن موعد الكاذب عليه في النار وقد شدد (ص) في ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار؛ تعمد الكذب أم لم يتعمد في قوله فيما رواه ابن عمر (أن الذي يكذب على يبني له بيت في النار) وقد زاد تشدداً بقوله فيما رواه عثمان بن عفان (من قال عليَ ما لم أقل فإنه إذا فعله غير متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى. ومن روايات هذا الحديث
(من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) قالوا وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف.
أما - تواتر - هذا الحديث سواء أكان بهذه الزيادة أم بغيرها، فانهم (لم يجُمعوا عليه) قال الحافظ بن حجر (ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه (جماعة) أنه متوتر ونازع بعض مشايخنا في ذلك لأن شرط التواتر، استواء طرفية وما بينهما في الكثرة، وليست موجود في كل طريق منها بمفردها.(652/46)
ويتبين مما قاله ابن حجر من أطلق على هذا الحديث أنه متواتر إنما هم (جماعة) وليس ثم إجماع وأن هذه الجماعة لم تسلم من منازعة بعض شيوخه.
(المنصورة)
محمود أبو ريه
في قصيدة الغزالي
أتحفتنا الرسالة بقصائد ثلاث مما ألقاه شعراؤنا في حفل تكريم شاعر (العباسة) المبدع عزيز أباظة باشا. ومن بين هذه القصائد قصيدة الشاعر أحمد عبد المجيد الغزالي التي مطلعها:
طلعت بأفق العبقرية صاعداً ... فأدركت مجديها طريفاً وتالداً
وهي في الحق قصيدة جيدة لعلها من عبقريات شاعرنا الغزالي، بيد أنه وقع في خطأ يسميه العروضيون (سناد التأسيس) في بيتين من قصيدته الجميلة إذ يقول:
كأن به في حلة الملك رافلا ... يخب بدنيا ليس يدنو لها مدى
عوالم هذا العصر أنت وسعتها ... بفنك لم تعجز لساناً ولا يدا
فتراه قد أهمل في هذين البيتين ألف التأسيس التي تراها في كلمة الروي (تالدا) والتي كررت في كل أبيات القصيدة خلا هذين البيتين. . .
ومني على الشاعر تحية وسلام.
محمد محمود رضوان(652/47)
العدد 653 - بتاريخ: 07 - 01 - 1946(/)
أوربا والإسلام
شيّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم. وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمةً أعقبها عمى، وإلا ظلماً سيعقبه دمار! حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية وللعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض، والتعصب للجنس، والتطلع إلى السيادة إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل. ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه (الأطلسي)، واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهِمَ ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح يتنزلون في كلُّ ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطون ولندن وموسكو، ليدرءوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق؛ فأقامت مصر من حريتها وثروتها وسلامتها في (العلمين) سداً دون القناة، وحجزت تركية بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتاد إلى روسيا؛ ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقت أجراس النصر في كنائس أخرى!
ثم تمت المعجزة وصُرع الجبارون ووقف الأنبياء الثلاثة، على رؤوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود؛ وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنتهك؛ وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير؛ وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد: هو استعمار الشرق واستعباد أهله!
أذن برح الجفاء وانفضح الرياء وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام!
هذه إيران المسلمة، ضمن استقلالها الأقطاب الثلاثة، حتى إذا جد الجد تركوها تضطرب(653/1)
في حلق الدب ثم خلصوا نجيا إلى فريسة أخرى!
وهذه تركية المسلمة، واعدوها وعاهدوها يوم كانت النازية الغازية تحوّم على ضفاف الدردنيل؛ وهم اليوم يخلونها وجهاً لوجه أمام هذا الدب نفسه يطرق عليها الباب طرقاً عنيفاً مخيفاً ليعيد على سمعها قصة الذئب والحمل!
وهذه إندونيسيا المسلمة، آمنت بالإنجيل الأطلسي وقررت أن تعيش في ديارها سيدة حرة؛ ولكن أصحاب الإنجيل أنفسهم هم الذين يقولون لها اليوم بلسان النار: هولندا أوربية، وإندونيسيا آسيوية، ونظرية الأجناس، هي القانون النافذ على جميع الناس!
وهذه سورية ولبنان العربيتان، أقر باستقلالهما ديجول، وضمن هذا الإقرار تشرشل، ثم خرجت فرنسا من الهزيمة إلى الغنيمة، وأختلف الطامعان فخاس المضمون بعهده، وبرّ الضامن بوعده. ثم قيل أنهما اتفقا! واتفاقهما لن يكون على أي حال قائماً على ميثاق الحريات الأربع!
وهذه فلسطين العربية، يفرضون عليها أن تؤوي في رقعتها الضيقة، الشريد والطريد والفوضوي واللص، وفي أملاكهم سعة، وفي أقواتهم فضل؛ ولكنهم يضحون بوطن العرب، لعجل السامري الذهب، ويتخلصون من الجراثيم، بتصديرها إلى أورشليم!
وهذه أفريقية العربية، يسمعون أن ديجول أخا (جان دارك) قد جالف على أهلها الخوف والجوع، ثم انفرد هو بمطاردة الأحرار حتى ضاقت بهم السجون والمقابر، ولا يقولون له: حسبك! لأن السفاكين أوربيون يؤمنون بعيسى، والضحايا أفريقيون يؤمنون بعيسى ومحمد!
بل هذه هي الأرض كلها أمامك، تستطيع أن تنفضها قطعة قطعة، فهل تجد العيون تتشوف، والأفواه تتحلب، والأطماع تتصارع، إلا على ديار الإسلام وأقطار العروبة؟ فبأي وقع خُمس البشرية في هذه العبودية المهلكة، وهو الخُمس الذي أنبثق منه النور وعُرف به الله وكرُم فيه الإنسان؟ ليس للثلاثمائة مليون من العرب والمسلمين من ذنب يستوجبون به هذا الاستعمار المتسلط إلا الضعف. وما الضعف إلا جريدة الاستعمار نفسه. فلو كان المستعمر الأوربي صادق الحجة حين قال: إننا نتولى شؤون الشرق لنقوي الضعيف ونعلم الجاهل وندفع المتخلف، لوجد من العرب سنداً قوياً لحضارته، ومن الإسلام نوراً هادياً لعقله؛ ولكنه ورث الخوف من الإسلام عن القرون الوسطى، فهو يسايره من بعد، ويعامله(653/2)
على حذر. وإذا عذرنا قسوس العصور المظلمة فيما افتروا عن جهالة، فما عذر الذين كشفوا الطاقة الذرية إذا جمدوا على الضلال القديم وكتاب الله مقروء ودستور الإسلام قائم؟!
لقد فشلت مذاهبهم الاجتماعية كلها، فلم تستطع أن تخلص جوهر الإنسان من نزعات الجاهلية الأولى؛ فلم يبقِ إلا أن يجربوا المذهب الإسلامي ولو على سبيل الاقتباس أو القياس.
لا نريد أن نقول لهم: أسلموا لتحكموا، وتعلَّموا لتعلموا، فإن هذه الدعوة يعتاقها عن الغاية القريبة عوائق من العصبية والوارثة والتقاليد والعادة؛ ولكنا نقول لهم: تصوروا نظاماً واحداً يصلح لكل زمان ومكان، ويقطع أسباب النزاع بين الإنسان والإنسان: يوحد الله ولا يشرك به أحداً من خلقه؛ ويقدس جميع الشرائع التي أنزلها الله ولا يفرق بين أحد من رسله؛ ويؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن: ويسوي بين الأخوة أجمعين في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة عن طبقة ولا جنساً عن جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع، ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم بأمره طاغٍ، ولا يصر على غيّه مستبد؛ ويحرر العقل والنفس والروح فلا يقيّد النظر ولا يحصر الفكر ولا يقبل التقليد ولا يرضى العبودية؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعّال في السلوك. وجملة القول فيه أنه النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية فلا يعترف بالعصبية ولا بالجنسية ولا بالوطنية، وإنما يجعل الأخوّة في الإيمان، والتفاضل بالإحسان، والتعامل على البر والتقوى. فإذا تصورتم هذا النظام، فقد تصورتم الإسلام. وإذا أخذتم به فقد أطمئن العالم المضطرب وأستقر السلام المزعزع. ولا يعنينا بعد ذلك أن تطلقوا عليه لفظاً يونانياً أو لاتينياً ما دمتم تسلمون وجوهكم إلى الله، وتسلمون قيادكم لمحمد!
أحمد حسن الزيات(653/3)
الجامعة العربية حركة طبيعية
للأستاذ محمود العقاد
قيل في الغرب - وردد بعض الشرقيين هذا القول - إن الجامعة العربية حركة مصطنعة تديرها بعض الدول الأجنبية لأغراضها السياسية في الوقت الحاضر، وإنها تستطيع أن تبطلها كما استطاعت أن تختلقها متى فرغت من حاجتها إليها.
والذي نريد أن نقرره قبل بيان الحقيقة في هذه الأقاويل أن الحركات العالمية، أو الحركات القومية، لا يخلقها تدبير مصطنع على الإطلاق، وأنها توجد بأسبابها الكامنة فيها وتتجه إلى غاياتها الموافقة لتكوينها، فلا تستطيع قوة في الأرض أن تظهرها وهي خافية، أو تتجه بها إلى غاية لا توافقها ولا تلائم مصالح ذويها.
والحركة العربية قامت في نشأتها الحديثة على الرغم من السياسة الأوربية ولم تقم باختيارها وتدبيرها، وعادت إلى التجمع والوحدة بين الحربين العالمتين؛ لأنها لا بد أن تعود بعد تلك القومة الأولى.
فمنذ أوائل القرن التاسع عشر سُئِل إبراهيم باشا وهو يناضل الدولة العثمانية: إلى أين تنتهي فتوحاته؟ فقال: إلى حيث لا يوجد من يتكلم العربية. يريد بذلك أن ينشئ دولة عربية محضاً، ولا يريد أن يتجاوزها إلى بلاد أخرى.
وحوالي هذا الوقت كان محمد بن عبد الوهاب في نجد يعلن ثورة على الحكومة العثمانية، ويجمع القبائل في جزيرة العرب لتوحيد كلمتها، والاتجاه بها إلى وجهة الاستقلال، عن السيطرة الخارجية.
ولم تكن جزيرة العرب يومئذ تعترف بشيء من السلطان الأجنبي غير السيادة الإسمية والرقابة البعيدة التي لا تعترض لشؤونها الداخلية، فكان أمراء نجد والكويت والحجاز واليمن يأخذون وقلما يعطون في علاقتهم بالدولة العثمانية، وكانوا على استقلالهم الذي تعودوه منذ القدم في حواضر الصحراء وبواديها، ولا سيما البوادي التي تحجم عنها جنود الدولة ولا تنفذ إليها بغير إذن من أبنائها.
أما في سورية ولبنان فقد رحبت جمهرة الشعب بحركات الوحدة مع الأمم العربية الأخرى وكانت على اتصال دائم بوادي النيل والجزيرة، وكانت علاقة أمرائها بمحمد علي الكبير(653/4)
على ما يعلم المطلعون على تاريخ ذلك الحين.
وفي كلُّ هذا كانت السياسة الأوربية تقف من حركات العرب موقف المقاومة والتثبيط، لأنها عملت على بقاء الأمم العربية في حوزة الدولة العثمانية، محرومة جهد المستطاع من حقوق السيادة والاستقلال.
ولم تفلح هذه المقاومة إلا ريثما استجدت تلك الأمم نشاطها وتحفزت مرة أخرى للوثوب إلى غايتها.
فقامت في مصر حركة المطالبة بمصر للمصريين، وقامت في السودان حركة (التُرُك) كما كانوا يسمون الأجانب أجمعين، وقامت في بلاد العرب دعوة واحدة إلى الاستقلال، ولكنها كانت تمتحن من آونة إلى أخرى بمحنة المنافسة بين زعماء العشائر وأمراء الأقاليم، ودخل السوريون واللبنانيون والعراقيون في حزب تركيا الفتاة؛ لأنه الحزب الذي كان يمنيهم بالحكومة (اللامركزية) أي حكومة العرب في بلادهم، كما يشاءون، وبمن يشاءون.
وفي هذا الدور أيضاً في من أدوار القضية العربية كانت لسياسة الأوربية تخذل العرب أو تمنعهم أن يبلغوا من الاستقلال غاية ما يقدرون عليه.
ثم نشبت حرب الأمم قبل ثلاثين سنة فتحركت الجامعة العربية من جديد، تارة على هدى وتارة على ضلال، فتسابقت دول أوربا إلى كسب الأنصار من أمم العرب التي استقلت أو طمحت إلى الاستقلال، وانتهت الحرب والأمم العربية جمعاء متفقة على المطالبة على الحرية والمناداة باسم العروبة في جامعة تتوافر لأعضائها حقوق الاستقلال.
وعلى ما كان من موقف أوربا في المقاومة والتثبيط كانت لها فلتات هنا وفلتات هناك تبدر منها حيناً بعد حين؛ في سبيل التشجيع والإغراء.
فكان الإنجليز مثلاً يشجعون المناداة بمصر للمصريين لأنها تفصل مصر عن الدولة العثمانية، ولكنهم يثبطونها من جهة أخرى لأنها ثورة صريحة على الاحتلال البريطاني، وما عسى أن يتطور إليه من بسط الحماية البريطانية في صورة من صورها الكثيرة.
وكان الفرنسيون ينشئون المدارس في البلاد السورية، كما ينشئون بها المطابع والمجامع لنشر كتب العرب وثقافة العرب وإحياء التراث العربي القديم، سعياً إلى الفصل بين العرب والدولة العثمانية لا سعياً إلى استقلالهم عن جميع الطامعين، وفي طليعتهم الفرنسيون.(653/5)
وكان الألمان يقابلون هذا بالتقرب إلى (الجامعة الإسلامية) لأنها تشمل التقرب من الترك والعرب على السواء، ولكنهم كانوا يطمحون من وراء هذه الجامعة إلى بلاد العرب في طريقهم إلى الهند والأقطار الآسيوية، ويدفعون السلطان عبد الحميد إلى مد خطوط المواصلات في أنحاء سورية والجزيرة تحقيقاً لأحلامهم التي تتلخص في صيحتهم (من برلين إلى بغداد) ثم إلى الهند من هذه الطريق.
فالسياسة الأوربية قد وجدت حركة قائمة فاستفادت منها تارة بالمقاومة وتارة بالتشجيع.
أما أنها تخلقها خلقاً فذلك مخالف للواقع ومخالف لفحوى التاريخ، وهو على هذا وذلك مستحيل.
واليوم تدخل (الجامعة العربية) في طور جديد بفضل كيانها القديم لا بفضل السياسة المصطنعة أو التدبير الخارجي من جانب الإنجليز أو جانب الأمريكيين.
وقد تكون للإنجليز مصلحة في مصادقتها ورغبة في التفاهم بينهم وبينها، ولكنهم يجدون مثل هذه المصلحة في التفاؤل بينهم وبين الإغريق أو التفاهم بينهم وبين الإيطاليين، فلا يقول قائل أنهم خلقوا القومية الإغريقية أو خلقوا القومية الإيطالية، أو أنهم قادرون على تجاهل القوميتين وإحباط ما ترميان إليه إذا تحولت السياسة من خطة إلى خطة في المستقبل القريب، أو المستقبل البعيد.
وكل ما يعنينا أن التفاهم بين الجامعة العربية وكائن من كان من أصدقائها والراغبين في مصادقتها لا ينتهي إلى ضرر يحيق بالاستقلال أو يحيق بالمصالح الجوهرية، أو يتجه بها إلى غير الوجهة التي يرضاها أبناء الجامعة لأوطانهم، ولأوطان العروبة على الإجمال.
ومتى وثقنا من ذلك فنحن الغانمون باتفاق المصالح بيننا وبين الإنجليز وغير الإنجليز، بل نحن خلقاء أن نزيد من هذا الاتفاق في المصالح والسياسات لأننا لا نحب أن نصطدم بسياسة غيرنا تسنى لنا أن نعامله على وفاق.
إن الجامعة العربية حركة طبيعية من قديم الزمن وهي طبيعية في هذا الزمن على التخصيص، لأن العصر الحاضر ينادي باحترام حقوق الأوطان، وأبناء العروبة يذودون عن أوطانهم وينشدون لها نعمة الحرية الكاملة، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون في الجوار وأبناء العروبة متجاورون محتاجون إلى التعاون فيما بينهم على المرافق المشتركة(653/6)
وهي أكثر من أن تنحصر في مرافق الماضي أو مرافق الحاضر أو مرافق المستقبل على انفراد، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون الشامل في المسائل العالمية الكبرى، ونحن نستطيع أن نعين ولا نكره أن نعان ولا نستغني عن المعونة بحال.
وحسب الجامعة العربية أنها عمل ينفع أبناءه ولا يضر غيره - وقد ينفعهم في كثير من الأحوال - ليستحق البقاء ويستحق السهر عليه من ذويه ويستحق الصداقة ممن يعمل في العالم الجديد عمل البصراء والعارفين.
عباس محمود العقاد(653/7)
ضربات معول
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب
في العام الخامس من الهجرة تألّب الشرك على التوحيد، وائتمر الباطل بالحق، وكاد الشر للخير. تقاسم رؤوس الضلالة ليغزون المدينة وليقتلُنّ هذه الجماعة الناشئة، وليبطلُن تلك الدعوة الجديدة.
مشى يهود خيبر إلى قادة قريش، وحرضوا القبائل الضاربة غربيّ نجد وشرقيّ خيبر، قبائلَ غطفان. فاجتمعت كلمة هؤلاء وهؤلاء على غزو المدينة والبطش بالمسلمين.
ورأى المسلمون أنهم لا قِبل لهم بهذه الأحزاب، لا يستطيعون دفع قريش وغطفان وألفافهما، لا قِبل لهم بهذه الجموع الحاشدة من قيس عيلان وقريش ومن انحاز إليهم، هذه الجموع التي قال فيها حُييّ بن أخطب أحد زعماء اليهود الذين ألّبوا الناس على المسلمين، حين جاء إلى كعب بن أسد القرظي رئيس بني قريظة وهم بقية اليهود في المدينة فقال له يحرضه على نقض عهد المسلمين:
(ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وببحر طامٍ. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من روما، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنب نَقَمَي إلى جانب أُحُد؛ قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمد ومنْ معهُ).
أهمّ المسلمين هؤلاء الأعداء، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق يصد الجيوش عن المدينة. فخطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع المخافة من المدينة. وذلكم شماليها حيث يطمع العدو في دخولها. وأما الجوانب الأخرى فكانت ممتنعة على الغُزاة بجبالها ونخيلها. خط الرسول الخندق من أُجُم الشيخين إلى المذاد وقطّعه بين الصحابة أربعين ذراعاً لكل عشرة رجال. وجدّ المسلمون ليفرغوا من الخندق قبل أن يداهمهم العدو. والرسول يشرف عليهم ويشاركهم أحياناً في عملهم وارتجازهم.
- 2 -
وبينما عشرة من الصحب يحفرون قسمهم من الخندق لقّوا صخرة قاسية أثرت في معاولهم(653/8)
ولم تؤثر فيها المعاول. وكرهوا أن يعدلوا عنها فيحيدوا عن ما خطّه الرسول لهم. فقالوا لسلمان الفارسي أحد هؤلاء العشرة أصعد فأنظر ماذا يأمر رسول الله. فرقي سلمان فقال:
(يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا. خرجت صخرة بيضاء من الخندق مَروْة فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما نُحيك فيها قليلاً أو كثيراً. فمُرنا فيها بأمرك فأنا لا نحب أن نجاوز خطك).
قال راوي القصة عمرو بن عوف الُمزَنيّ:
فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق. ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق. فأخذ رسول الله المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى كأن مصباحاً في جوف ليل مظلم. فكبّر رسول الله تكبير فتح. وكبّر المسلمون. ثم ضربها رسول الله الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبّر رسول لله تكبير فتح وكبّر لمسلمون. ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم. فكبّر رسول الله وكبّر المسلمون. ثم أخذ بيده سلمان فرقى. فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط. فألتفت رسول الله إلى القوم، فقال هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله - بأبينا أنت وأمنا - قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبّر فنكبّر. ولا نرى شيئاً غير ذلك.
قال رسول الله: أما الأولى فقد أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى أسرى لثانية أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم؛ والثالثة أضاءت لي منها قصور صنعاء. وأبشروا يبلغهم النصر. وأبشروا يبلغهم النصر. وأبشروا يبلغهم النصر).
- 3 -
إن هذا الشيء عجاب: جماعة قليلة لم تستطع الدفع بأيديها وأسلحتها فاعتصمت بالخندق تتقى به عدوّاً أكثر عدداً وأعظم عُدّة؛ جماعة قليلة جاهدة يدهمها عدو حاقد محنق قد صمم على يستأصلها. وليس لهذه الجماعة ردء على الأرض ولا مدد. وهي تكدح لحفر الخندق وتكلّ أيديها فينزل قائدها يعينها ويواسيها، على حين أحاط بها الخوف (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الخناجر وتظنون بالله الظنونا).(653/9)
وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب! ما أعظمها دعوى، وما أعجبها أمنية!
كذلك قال الذين رأوا عدداً قليلاً من الناس يحفر أرضاً ليتقى عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معان كثيرة. قالوا:
(ألا تعجبون! يحدثكم ويُمنيّكم، ويعدكم الباطل. يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرُزوا).
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).
أجل من يرى هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها، عن التحدث بالفتح فتح المشرق والمغرب. إنها لإحدى الكُبَر.
- 4 -
لا لا. لم تكن في المدينة جماعة قليلة ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع لشر، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقابل الخورَ، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدّى الشك. كانت معان تقاتل معاني. وما ضّر المعنى الظافر في سنة الله قلةُ أنصاره على الأرض؛ ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرةُ سواده في الناس.
وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشاً وغطفان ويهود وحدهم بل كانوا يحادّون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها. لقد كان هذا الخندق فاصلاً بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقاً وليداً، وتاريخاً جديداً، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيروا في مواكب للجهالة والإثم والعدوان والظلم، ويحوطون أوثاناً من الحجر أو أصناماً من البشر.
وما كان العرب إلا العدوّ الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها فائتمر بها وعزم ليأخذنّ عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقنّ جمعها، ويبدّدن نظامها، ويبطلنّ دعوتها.(653/10)
وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب، حرباً على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها، وما كان المشركون في حرب المسلمين إلا طلائع جيش للباطل جنوده أهل الأرض قاطبة. كذلكم كان هذا الخندق المحفور بين المسلمين وأعدائهم حدّاً بين عصر وعصر، وفاصلاً بين تاريخ وتاريخ.
ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود، وهم طلائع جيوش الأرض كلها، ولم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معان، أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة. دع العدد القيل، والعدد الكثير، وأنظر هذه المعاني تتقاتل، تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك. فانظر لأي هؤلاء العاقبة!
وهل كان المعول في يدّ رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقيات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم، إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدفع ما يصده. كانت هذه الضربات رموزاً لما وراءها من جهاد وجلاد، وكان هذا الضوء بياناً لما يتصل به من هدى، وكانت يمين الرسول العزمُ المصمم، وكان كلُّ خير وحق وفضيلة في النفس التي تبطش بهذه اليد.
كانت هذه المعاني كالشرارة الصغيرة تؤجج ما شاء الله من نار ونور، والآحاد في الأعداد تستوعب كلُّ ما يدركه العدّ، وكالفكرة الأولى تفتح للعقل طريقاً مديداً ومذهباً جديداً. وكحروف الهجاء تنتظم لغات العالم، وكقرص الشمس يغمر العالمِين نوراً.
- 5 -
كذلك سخر الذين سمعوا قصة محمد ومعوله، وعرفوا حديث القائد المحصور يبشر بفتح العالم! ولكن كثيراً من هؤلاء الساخرين عاشوا حتى سمعوا صدى هذه الضربات في اليرموك والقادسية وما تلاهما شرقاً وغرباً، وأبصروا برقها يصعق يزدجرد وهرقل وجنودهما، وكل جند للباطل على ظهر الأرض.
ورأوا المعاني التي مثلتها هذه الضربات وقد ثارت بالباطل غير رفيقة، وزلزلت الظلم غير مشفقة، وانتشرت في المشرق والمغرب كالسحاب مجلجلاً مضيئاً صاعقاً ممطراً منبتاً.(653/11)
عاش الساخرون عشر سنين فرأوا جزيرة العرب تدين لصاحب المعول، ورأوا فارس والروم تخرّ لضرباته، والمشرق والمغرب يستضئ بهذه البرقيات. وعلموا يقيناً أن محمداً صدقهم حينما وعدهم فتح العالم وهو قائم في الخندق يحطم بمعوله الصخرة التي أعيت أصحابه.
عبد الوهاب عزام(653/12)
من وراء حجاب
للأستاذ محمود محمد شاكر
أخي الأستاذ الزيات:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فقد أكرمتني ودعوتني لكتابة مقالتي لعدد الهجرة من الرسالة، فجعلتُ أماطل الساعات كعادتي حتى تضطرّني إلى مأزق أجد عنده مفراً من حمل القلم، والانكباب على الورق، وترك الزمن يعدو عليَّ وأنا قارٌّ في مكان لا يتغير وزمان لا يتحول. فلما قارب الوقت وأزفت الساعة، فزعت إلى ذلك الكتاب القديم الذي طال عهد (الرسالة) به، وهو (مذكرات عمر بن أبي ربيعة)، حملت الكتاب حريصاً عليه، ووضعته على المكتب بين يدي، وترفقت بصفحاته وأنا أقلبه كما يقلب العاشق المهجور تاريخاً مضى من آلام قلبه. ووقعت على ورقة حائلة اللون قد تخرّمها البِلى، وإذا فيها هذه الأبيات الثلاثة، لم ينل منها شيء، لا تزال ظاهرة السواد بينة المقاطع:
(فصروف الدهر في أطْباقه ... خِلْفَةٌ فيها ارتفاع وانحدارُ
بينما الناس على عليائها ... إذ هوَوْا في هوَّة منها فغاروا
إنما نعمة قوم مُتْعة ... وحياة المرء ثوب مستعارُ).
لم أدرِ لِمَ نقل (عمر بن أبي ربيعة) هذه الأبيات في مذكراته، فإنها قائمة وحدها ليس قبلها ولا بعدها شيء يدل على ما أراد من ذكرها، فجعلت أدوار الأوراق لعلي أبلغ مبلغاً من توُّهم خبرها الذي سيقت من أجله، وجعل معناها يداور قلبي ويساوره حتى كفَّت يدي عن الحركة، وسكن بصري على مكانها، وأحسست كأن القدر قد نام في ظلالها كالمارد الثمل طرحه طغيان السكر حيث استقر، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمل هذه الحياة المتكررة المتطاولة الدائبة، منذ عهد أبينا الشيخ آدم رحمه الله إلى يوم الناس هذا. فآنست فترة تأخذني، ثم نعسة تنعشاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عَقَلتُ.
وإذا أنا أفضي من غمرتي إلى ميدان فسيح أخضر الجوانب متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسن ما رأيت من مسجد بناءً وبهاءً، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه. فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى(653/13)
رأيت جموعاً غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض كأنها غمائم تزجّيه الرياح. فوقفت وسألت أول من لقيت: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى. قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريب والله، إنه الشيخ أبو جعفر الطبري إمام أهل السُنّة، وشيخ المفسرين، وعمدة المحدثين، وثقة المؤرخين، ردّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيراً ورضى عنك وأرضاك، أتراني أدركه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقه.
ولم أزل أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذفني عن الباب حتى كدت أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهراً لم تنقطع هذه الأمواج المتدفقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيت إلى صحن المسجد وقد انفضّ جمع الناس، ولم يبقِ فيه غيري. وجعلت أسير وأتلفت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة، حتى رأيت بصيصاً من ضوء في مقصورة بعيدة، فلما وافيتها، وكانت الشمس قد آذنت بغروب، رأيت مسرجة معلقة وحجرة واسعة، وآلافاً مؤلفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيباً، فدخلت، وإذا في جانب منها شيخ ضافي اللحية أبيضها جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع كأنه سُنَّة مصقولة من ذهب، وبين يديه كتب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابر وأقلام.
سرقت الخطو حتى قمت بين يدي هذا الشيخ النائم، ثم جلست وجعلت أقدم ثم أحجم أريد أن أمسك شيئاً من ورقه لأقرأه، ثم عزمت فأخذت ما وقعت عليه يدي، فإذا هو تتمة تاريخ أبي جعفر الطبري الذي كان سماه (تاريخ الأمم والملوك)، وكان الجزء الذي فيه يبدأ من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة (سنة 1365 هجرية الموافق لسنة 1946م)، فانطلقت أقرأ تاريخ هذا الزمن وما بعده. وعسير أن أنقل لك كلُّ ما قرأت، فسأختار لك منها نتفاً تغنى، كما كتبها الإمام أبو جعفر، وبعضها منقولة بتمامه، وبعضهما اختصرت منه حتى لا أطيل عليك. قال أبو جعفر:
(ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح أبواب فلسطين لشذّاذ المهاجرين(653/14)
من اليهود. وكتب إليَّ السُّدى، وهو مقيم هناك في أمريكا، أن موقف الرئيس ترومان الذي كان ادَّعاهُ من إيثار العقل على الهوى في هذا الأمر، إنما كان حيلة مخبوءة أراد بها أن يغرر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته. وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتي للرياسة. ولما كان هواه هو الذي يُصرّفه، فقد علم أنه طامع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذي إذا خذلوه فقد ضاع. قال السدّي: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأي في أمريكا يستنكرون ما كان منه ومن قرار مجلسيه، ويرون أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر، ليبلغ بها القوي مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة التي يدندنون بها في الآذان. وقد أخبرني الثقة أن الرئيس ترومان قد أوحى إليه بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قومٌ أهل غفلة، وأن دينهم يأمرهم بالصبر ويلح فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم قوة على تغييره أو الانتفاض عليه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء ألفوه ولم ينكروه. فإذا دام دخول اليهود فلسطين، وبقى الأمر مسنداً إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفسح لحمقى اليهود مجال الدعوى والعمل والتبجح، وألح على العرب دائماً إجماع الدنيا كلها (أي الديمقراطية) بأن الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون وأن تتم كما أراد الله، فيومئذ يلقى العرب السَّلم، ولا يزالون مختلفين حتى ينشأ نشئهم على إلف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى همة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليه آباؤهم وأسلافهم - وهم عند العرب والمسلمين - أهلُ القدوة.
وفي هذه السنة كتب إليَّ السُّدّي أيضاً يقول أنه لقي أحد كبار الدعاة من اليهود، وكان لا يعرفه، فحدثه عن أمر اليهود في فلسطين، فقال له الداعي اليهودي: لا تُرَع، فنحن لا بدّ منتهون إلى ما أردنا، رضى العرب أم أبوْا. وما ظنُّك بقوم كالعرب خير الحياة عندهم النساء، وقد قال نبيهم: (حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلتْ قُرَّة عيني في الصلاة)، ولقد سلطنا عليهم بنات صهيون، وهن من تعلم جمالاً ورقة، وأبداناً تجري الحياة فيها كأنها نبع صافٍ يتفجر من صفاة شفافة كالبلَّور. وهن بنات صهيون دلال وفتنة، وعطر يساور القلوب فيسكرها ويذهلها ثم يغرقها في لذة يضن المرء بنفسه أن يصحو من(653/15)
خمارها أو نشوتها، منصرفاً عن أمر الدنيا كله لا عن الصلاة وحدها التي جعلت قرة لعين نبيهم. فهن في فلسطين، وهن في الشام، وهن في مصر والعراق وتونس والجزائر ومراكش، ولولا تلك البقعة العصية التي لا نزال نخشى بأسها على ضعفها وقلتها وفقرها - أعني الحجاز وما جاوره - لقلت لك: لقد قضينا على هذه العرب، وعلى هذا الدين الدخيل الذي سرق منا التوحيد وادّعاه لنفسه. . .
(ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من اجتماع ملوك العرب وأمرائهم ووزرائهم بعد الحج من السنة التي قبلها، اجتمعوا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرَّ قرارهم على أن يعلنوا للناس جميعاً وينذرهم بما رأوا وبما أجمعوا عليه:
الأول: أن ميثاق الأطلسي ومواثيق الدول الكبرى كلها تغرير بالضعفاء وتلاعب بعقولهم.
الثاني: أن فلسطين ستجاهد، ومن ورائها بلاد العرب والمسلمين جميعاً تظاهرها بالمال والولد.
الثالث: أن الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة لا بالغيلة والغدر.
الرابع: أن الأمم العربية والإسلامية تعلم أن ليس لديها اليوم من السلاح ما يكفي لقتال الأمم المعتدية التي تظاهر اليهود بالمال والسلاح، ولكنها ستقف كلها على بكرة أبيها صفاً واحداً تقاتل بما تصل إليه يدها من مقاطعة ومنابذة وكبرياء. وأنها تفعل ذلك ما استطاعت، ولكنها لن تظلم يهودياً ولا نصرانياً ولا أحداً من أهل الأديان، ولن تضطهد بريئاً ولا لاجئاً، وأنها لن تقنع بشيء بعد اليوم إلا بجلاء المعتدين والمستعمرين من بلادها، وجلاء اليهود عن أرض فلسطين، ومن شاء أن يبقى فيها من يهود، فله ما لنا وعليه ما علينا.
الخامس: أن الأمم العربية والإسلامية قد عزمت على أن تبدأ منذ هذا اليوم في انتخاب مجلس عام تمثّل فيه جميعاً، وهذا المجلس هو الذي سيضع الدستور العام للدول العربية والإسلامية، حتى إذا تمَّ وحّدت هذه الدول سياستها الداخلية والخارجية، وصارت يداً واحدة(653/16)
في العمل، لتقاوم بذلك اتحاد الأمم الديمقراطية الغربية، التي لم تزل تريد أن تجعل الشرق سوقاً وأهله عبيداً.
(ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
ففيها أراد اليهود في بعض البلاد العربية أن يظاهروا إخوانهم في فلسطين، فأجمعوا على جعل يوم السبت كله منذ الصباح يوم عطلة فأغلقوا دكاكينهم، ورفعوا عليها أعلام لدولة الصهيونية المجترئة، واجتمعوا في بِيَعهم وجمعوا مالاً كثيراً بلغ العشرين مليوناً من الجنيهات لمساعدة المصانع التي كادت تغلق أبوابها من جرَّاء المقاطعة التامة التي أحسنت الأمم العربية توجيهها وتدبيرها.
ومما كان من ذلك في هذه السنة اجتماع المؤتمر العام لنساء العرب في دمشق، وقد قرّرن أن تعود المرأة إلى بيتها عاملة على إنشاء جيل من البنين والبنات لم تفسده الشهوة التي استبدت بالناس في تقليد ذلك الفجور القبيح الذي عملت اليهود على نشره في بلادهنّ من زينةٍ وتبرجٍ ورقص وتحلُّل من أخلاق السلف، وذلك لكثرة ما وقع من حوادث هدمت بيوتاً عزيزة وأسراً كريمة، وأفضت إلى ضروب من المآسي لم يطق أحد عليها صبراً.
وفيها أيضاً أجمعت الصحف العربية والهندية والإسلامية والتركية والفارسية مقاطعة الإعلان اليهودي. وكل صحيفة تخالف هذا الإجماعُ يمحى أسمها وأسم رئيس تحريرها ومحرّريها من سجل نقابة الصحافة، ولا تفسح لأحد منهم فرصة حتى يعمل في صحيفة أخرى بعد هذه المخالفة.
(ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث
اشتعلت نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرمة ووحّدُوا قيادة الجيوش العربية، ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكة يطلبون وقف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهّلوا حتى يصدر تصريح مشترك من(653/17)
الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسة الروسية التي تتظاهر بمؤازرة العرب والمسلمين.
وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينص على أن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولوا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يريدونها، وأن بريطانيا وأمريكا، لن تتدخَّلا في الخلاف الناشب بين الفريقين، وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كلُّ مساعدة ترسل من بلادهما إلى فلسطين. من مال أو سلاح. . .
(ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
تمَّ استخدام الذَّرة وانفلاقها في كلُّ شيء، وحدث في زراعة البلاد انقلاب عظيم، إذ أصبح من اليسير استنبات نبات الصيف في الشتاء، ونبات الشتاء في الصيف. وقد بدأ ملوك العرب أعظم عمل في التاريخ، وهو استخدام أسلوب جديد يحوّل الرمال العاقرة إلى أرض خصب وافرة الزَّرع، وقد نفَّذ هذا في جزء كبير من صحراء جزيرة العرب. أما في مصر والسودان، فقد تمَّ توزيعُ ماء النيل وضبطه حتى لا يضيع من مائه إلا أقل قدر، وبذلك أتيح لمصر أن تُنشئ ثلاثة فروع جديدة شقَّتها في الصحراء الشرقية حتى أفضت إلى بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصار ما بينها أرضاً مريعة ذات خصب. وبذلك سيتاح لمصر أن يبلغ عدد سكانها أربعين مليوناً من الأنفس في أقل من عشرين سنة.
ومما كان من ذلك نهضة عامة في سياسة البلاد العربية، جعلت الرأي العام العالمي يناصر القضية العربية مناصرة تامة في أكثر بقاع الأرض. . .
(ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
كثرت حوادث الاغتيال والفتك في كثير من البلاد العربية والأجنبية، وقُتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير، واستفحل الشرّ استفحالاً عظيماً، حتى ثارت الصحف الإنجليزية والأمريكية وطالبت حكوماتها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام(653/18)
والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تُبذل النصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على ردَّ العدوان الصهيوني الذي صار طغياناً شديداً في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي على الدول جميعاً أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كلُّ الأمم ترسف في أغلالها. . .
(ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
كتب إلى السُّدي يقول: إن أمريكا قد قررت إجلاء اليهود من أرضها كلها، وأن تستصفى أموالهم، ولا يبقى فيها إلا علماء اليهود وحدهم إن شاءوا. ومن المنتظر أن تفعل بريطانيا وسواها من الدول مثل ما فعلت أمريكا.
وفيها ثار العمال اليهود في فلسطين على أصحاب المصانع اليهودية، وذلك من جرّاء بوار أكثر التجارة اليهودية التي نهكتها المقاطعة العامة في بلاد العرب والمسلمين، ولقلة الأجور، ولكن الحكومة اليهودية ضبطت الأمر وبذلت الأموال، وجنَّدت جيوشاً عظيمة العدد والعدد. وحدثت أحداث عظيمة في أكثر بقاع الأرض. حتى وقع التنابذ بين الدول الكبيرة التي لا يزال لليهود فيها سلطان عظيم.
وأخوف ما يُخاف أن تقع في هذه السنة حرب عالمية تستخدم فيها جميع الأسلحة الجديدة التي يخشى أن تكون على العالم دماراً وخراباً.
واستيقظ الشيخ من غفوته، ونظر إليَّ نظرة المتعجب، وقال من أنت؟ وما تفعل؟ فانتبهت فزعاً، وإذا أنا أقرأ في تفسير الشيخ أبي جعفر الطبري تفسير قوله تعالى: (وقالتِ اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ غُلَّتُ أيديهمْ ولُعنوُا بما قالوا، بلْ يداهُ مبسُوطتان يُنفقُ كيف يشاءُ، وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليكَ طُغياناً وكفراً، وألقيْنا بينهمُ العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامةِ كلما أوقُدوا ناراً للحربِ أطفأها اللهُ، ويسعون في الأرضِ فساداً واللهُ لا يُحبُّ المفْسِدِين).
محمود محمد شاكر(653/19)
التيارات الفكرية العالمية والأزهر
للأستاذ محمد فريد وجدي
كتب الله للجامعة الأزهرية أن تكون مثابة علمية للعالم الإسلامي كله، تشدّ إليها الرحال من جميع أقطار الأرض لتستمد الشعوب الإسلامية من ينبوعها النمير علماً وحكمة؛ وهي مكانة تجب المحافظة عليها مهما كلفتنا من الأموال والجهود. وأنت ترى أن الأمم تتنافس في سبيل نشر ثقافتها في بقاع الأرض منفقة في هذا السبيل مالاً جماً لا يعود عليها من ورائه في الظاهر شيء غير علاقات أدبية، ولكن هذه الأمم التي تعرف كيف تستفيد الثروة والمجد.
حرص المسلمون بدافع قوي من دينهم من لدن أن قامت لهم دولة، على أن يكون قوامها العلم والحكمة، فقرب ولاة أمورهم العلماء، ومكنوهم من تقوية بناء جماعتهم، وأمدوهم بكل الوسائل الممكنة لإقامة الجامعات، وتأسيس المكتبات، وترجمة المؤلفات؛ فكان طلاب العلم يجدون بين أيديهم من المدرسين والكتب ما لا يحتاجون معه إلى المزيد. وكان مما حرص عليه أولئك المدرسون ليحفظوا للإسلام سلطانه على العقول، أن يجمعوا كلُّ ما وجهه الملاحدة والمضللون إلى العقائد من تشكيكات وشبهات، وأن ينقدوها نقداً تحليلياً لا يدع في قلوب الطلاب حاجة للمزيد على قدر ما سمحت معارفهم به من تلك الأزمان.
ونحن اليوم في القرن العشرين، وقد تطورت فيه العقلية الإنسانية بتطور المعارف، وتعاقب الحوادث، تطوراً بعيد المدى بحيث ما كان يقنعها من العلم والحكمة قبل قرنين أو ثلاثة قرون لا ينقع لها غلة اليوم. فقد حدثت فيها أحداث اجتماعية، وتعارضت فيها مصالح طائفية، وتناقضت أساليب اقتصادية، وتصادمت عقائد دينية، وتفجرت بين كلُّ هذه المجريات المتعاكسة، ينابيع لنظريات جديدة لم يكن للعالم عهد بها، وقد تناولتها الفلسفة الأوربية شرحاً ونقداً، وتصويباً ودحضاً، ولا تزال الخصومات المذهبية قائمة إلى اليوم. وقد تسربت إلينا تيارات هذه المنازعات الفكرية، وأخذت في التأثير علينا كما أثرت على سوانا، ولكن مع هذا الفارق العظيم، وهو أنها تعتبر أهم مواضيع الحوار عندهم، ومسدول عليها حجب الكتمان عندنا، ولكنها مع هذا الكتمان الشديد تعمل عملها في الخفاء فتوجه النفوس وجهات شتى، ولا تجد النفوس الحيرى ما يستقر بها على قرار علمي مكين. أفلا(653/20)
تعذر إن خبطت في دياجيها خبط العشواء، وقمشت حشواً رثاً من النظريات من هنا وهناك، ولا يجعل لها مذهباً مقرراً تعمل عليه، ولا غاية معينة تسعى لتحقيقها؟
جاء الإسلام ليؤسس ديناً للبشرية يستوعب الأديان عامة، ومجتمعاً عالمياً يسع الناس كافة، ووضع لذلك أصولاً أولية، وقرر له مبادئ كلية، وانطلق الآخذون الأولون به يحققون أغراضه هذه، فجالوا في أكناف الأرض نحو ثمانين سنة نشروا لواءه فيها على نحو ربع الكرة الأرضية، وأبلغوا دعوتهم إلى من لم يصلوا إليهم، وثبتوا في مواقفهم ثبات الرواسي، مستعينين على ذلك باقتباس كلُّ ما صادفوه من خير لدى من احتكوا بهم من الشعوب. ونحن اليوم ننزع لا إلى مثل ما عملوا، فهذا ما لا سبيل إليه، ولكن إلى الاحتفاظ بما حصلوا، فكيف يكون ذلك بغير اتباع السنة التي جروا عليها؟
أنهم كما قلنا عملوا على حفظ العقيدة الإسلامية، والدفاع عن طريقتهم الاجتماعية، بكل ما أوتوه من نشاط في العقل، وسعة في الصدر، حتى إنهم لم يتورعوا عن نقل الكفر الصراح والرد عليه، وأباحوا في سبيل الوصول إلى لباب المعارف، أن يتعلم المسلمون كلُّ ما يمكن تعلمه حتى السحر مع تحريمهم العمل به؛ فهل نضن نحن بأنفسنا على ما لم يضنوا بنفوسهم عليه، فنظل على أسلوبنا في تجاهل المؤثرات التي تنصب علينا حتى تزداد تغلغلاً في قلوب نابتتنا، وتسوقهم إلى الخروج عن حظيرتنا، قانعين بأن ما ينشر من إبطال فعلها في الجرائد والمجلات يكفي لدرء شرها عن العقول؟
إن الأزهر الذي أرادت العناية الإلهية أن تجعله مثابة علمية للمسلمين لا يزال يعنى بالمؤلفات نفسها التي كان يعنى بها آباؤنا الأولون لحياطة الدين من شبهات المشككين، ومذاهب المضللين؛ ولكن أين ما كان عليه المتكلمون في ذلك العهد مما عليه خلفاؤهم اليوم؟ وماذا كنت قائلاً حين تعلم أن أكثر ما يعنى به الأزهر من دفع الشبهات والاستنكارات قد أنقرض أهله منذ قرون، وحلت محلها مذاهب ونظريات تحتاج للفهم الدقيق، ويحتاج دحضها أو تعديلها للنظر البعيد، والعلم الغزير؟
كان آباؤنا الأولون يعنون بعلم الكلام لمجرد دحض الشبهات عن الدين، ونحن نطالب بوجوب تقرير دراسة التيارات الفكرية العالمية في الأزهر لا لهذه الغاية فحسب، ولكن لمقصد لا يقل عنها قيمة، وهو لما لدراسة هذه التيارات الفكرية من الأثر العظيم في رفع(653/21)
مستوى النظر والتفكير، وتوسيع مجال الفهم للشؤون الإنسانية، وهو ما يجب أن يكون عليه رجال الدين الذي جعل العلم أساسه الركين.
إن مهمة الإسلام لم تنته بعد، وإن ما علينا وعلى الأجيال الآتية أن نعمله يحتاج لتفكير طويل، وجهد عظيم. فإذا كان آباؤنا قد قاموا بما استطاعوا أن يعملوه في سبيله في طفولة البشرية، فعلينا له واجب خطير في عهد العلم والفلسفة الطبيعية، ولا سبيل لنا إلى القيام بهذا الواجب ونحن في غفلة عما ينشأ في العالم من آراء، وما يعترك فيه من مبادئ وأصول، وما يسقط ويقوم من مذاهب ونظريات.
محمد فريد وجدي(653/22)
درس في التفسير على طريقة التصوير
للأستاذ سيد قطبّ
يتجه الباحثون في الأدب العربي إلى أن الشعر قد ضعف في أوائل العهد الإسلامي ضعفاً ظاهراً بالقياس إلى الشعر الجاهلي. ويعزون هذا الضعف الظاهر إلى أسباب كثيرة؛ أولها اشتغال المسلمين بالعقيدة الدينية الجديدة، ومحاربة الدين الجديد لكثير من ملابسات الحياة الجاهلية التي كانت تثير الشاعرية - وفي مقدمتها العصبيات القبلية والعائلية - ويضيف بعضهم إلى هذه الأسباب أن القرآن حارب الشعر (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترِ أنهم في كلُّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، وأنه كان لهذا أثره في نفوس الشعراء المسلمين.
وأنا أعتقد أن هناك مبالغة في قيمة هذه الأسباب وتأثيرها في الشعر العربي؛ كما أن هناك إغفالاً لسبب أساسي آخر كامن في نسج القرآن ذاته.
أعتقد أن الجمال الفني في القرآن كان من القوة والضخامة بحيث بده الحس العربي بمفاجأة عنيفة، وكان وحده كافياً لتغذية مشاعر العرب وإشباع الحاسة الفنية في نفوسهم بزاد أجمل من زاد الشعر الذي عرفوه وأقوى.
كان فيه من سمات الشعر الفنية ومن طلاقة النثر التعبيرية مزاج يجعله نسقاً خاصاً أعلى مما تبلغ إليه آفاقهم الشعرية، بل أعلى مما تتطلع إليه حاستهم الفنية، فامتلأت مشاعرهم به امتلاءها بالعقيدة ذاتها، وأحسوا له وقع السحر في نفوسهم، واستوى في ذلك السحر المؤمنون به والكافرون (كما فصلت ذلك على سعة في كتاب التصوير الفني).
وهذا الجمال الفني في تعبير القرآن كان عنصره الأول هو (التصوير) ومواجهة الحس البشري بما يروعه من الصور والمشاهد، وبما يستجيشه من الهيئات والظلالّ. وقد كان القرآن أغنى - بما لا يقاس - من الشعر العربي كله بهذه الصور والظلال، في مستوى رفيع من التناسق يبلغ حد الإعجاز.
وحينما وفقت إلى إخراج كتاب (التصوير الفني في القرآن) - وقد حوى عدد الهجرة الماضي من الرسالة فصلاً منه - لم أكن أريد بإخراجه مجرد عرض طائفة من الصور الفنية الجميلة من القرآن؛ إنما كانت نيتي الكبرى أن يتوجه البحث في جمال التعبير(653/23)
القرآني كله هذا الاتجاه، وأن ننظر إلى هذا الجمال الخالد من زاوية أخرى غير الزاوية البلاغية المعهودة، القائمة على أساس المعاني والألفاظ.
وحين ننظر إلى القرآن من هذه الزاوية الجديدة تبدو لنا بدائع من الجمال الفني لم تكن تخطر على البال. ويبدو لنا أن هذا الكتاب الخالد يخاطب الحس الإنساني غالباً من حيث تخاطبه الصورة الفنية، والمشهد المتحرك، والموسيقى التصويرية؛ وأنه يعتمد كثيراً على الظلال النفسية التي تلقيها الصور والمشاهد والإيقاعات في الحس الإنساني، فتحركه، وتفتحه، وتجعله أشد ما يكون استعداداً لتلقي العقيدة الدينية؛ وبخاصة الجانب الغيبي منها - وهو جانب أصيل في كلُّ عقيدة، وله في النفس الإنسانية مكانه الذي لا يملؤه سواه - وإذا كان في كلُّ عقيدة دينية قسط أصيل من الفن كما أعتقد، وكما يبدو من الدراسات المقارنة للأديان، فقد تكفل القرآن بتحقيق هذا القسط الفني، دون أن يخل بنصوع العقيدة وبساطتها، ذلك أنه حققه في طريقة التعبير، بينما كثير من الديانات الأخرى حققه في صلب العقيدة.
وإذا نحن تجاوزنا الديانات الوثنية لأنها خارجة من الحساب هنا، واقتصرنا على الديانة الموسوية والديانة المسيحية، فإننا نجد القسط الفني في العقيدةالموسوية كامناً في الأساطير التي تزحم العهد القديم وتتخذ لها طابعاً فنياً يكاد يكون طليقاً. أما في الديانة المسيحية فقد تكفل بهذا الجانب مأساة المسيح ذاتها - على حسب ما ترويه الأناجيل والرسائل في العهد الجديد - وحتى لو نظرنا إليها في صلب القرآن، فإننا نجد القسط الفني كاملاً في تضاعيفها منذ مولد عيسى إلى رفعه.
أما العقيدة الإسلامية فقد ظلت بسيطة واضحة، وتكفل التعبير القرآني وحده - عن طريق التصوير - بتحقيق الجانب الفني في هذه العقيدة بما يناسب وضوحها ونصاعتها.
قصدت - إذن - في كتاب (التصوير الفني) إلى أن يتجه البحث في الجمال القرآني، هذا الاتجاه. . . واليوم في عدد الهجرة من الرسالة أحب أن أعرض نموذجاً كاملاً لتفسير (سورة الحاقة) على هذا الأساس. والله المستعان. . .
سورة الحاقة من السور المكية، وهي في جملتها تتولى بسط قضيتين غيبيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، بينهما ارتباط وثيق.
أولاهما: قضية البعث والقيامة؛ والثانية قضية الوحي وأمانة التبليغ. فلننظر كيف عرضت(653/24)
هاتين القضيتين الكبيرتين، ومن أي منافذ النفس الإنسانية سلكت بهما إلى مستقر اليقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحاقّة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة؟ كذَّبتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة. فأمّا ثمودُ فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صَرْصرٍ عاتية، سخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍُ حُسُوماً، فترى القومَ فيها صَرْعى كأنهم أعجازُ نَخْلٍ خاوية - فهلْ ترى لهم من باقية؟ - وجاءَ فرعونُ ومَنْ قبله والمؤْتَفِكَاتُ بالخاطئة، فعصوا رسول ربِّهم فأخذهم أخذةً رابيةً. إنّا لما طغى الماءُ حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكِرةً وتعيها أُذنٌ واعية. فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نفخةٌ واحدة، وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دكَّةً واحدة، فيومئِذٍ وقعتِ الواقعةُ، وانشقَّتِ السماءُ فهي يومئذٍ واهية).
الحاقة: القيامة. وهو يختار هذا اللفظ من الناحية المعنوية لما يسبقه من ذكر التكذيب بها من عاد وثمود. . . فهي الحاقة التي تحق، والتي تقع لأحقيتها بالوقوع، إحقاقاً للعدل الإلهي، وتقريراً للجزاء مع الخير والشر كما سيجيء في السورة بعد قليل.
وهو يختار هذا اللفظ من الناحية التصويرية لأن له جرساً خاصاً، هو أشبه شئ برفع الثقل ثم استقراره استقراراً مكيناً رفعه في مدة الحاء بالألف، واستقراره في تشديد القاف بعدها والانتهاء بالتاء المربوطة التي يوقف عليها بالهاء الساكنة. والجرس في ألفاظ القرآن وعباراته يشترك في تصوير المعنى وإيقاعه في الحس.
وهنا ينتهي الحديث في لفظ (الحاقة) لننظر في محيط أوسع إلى السياق الكامل:
الجو كله في هذه الآيات جو تهويل وترويع، وتعظيم وتضخيم، يوقع في الحس الشعور بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني بالقياس إلى هذه القدرة من جهة أخرى. والألفاظ بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله، تشترك في خلق هذا الجو وتصويره: فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة لا خبر لها في الظاهر: (الحاقة) ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم (الحاقة)؟ ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل وإخراج المسألة عن حدود الإدراك: (وما أدراك ما الحاقة؟) ثم يدعك فلا يجيب على هذا السؤال. يدعك واقفاً أمام هذا الأمر المستعظم المستهول الذي لا تدريه ولا يمكن أن تدريه. يدعك لحظة مفعم الحس بالاستهوال(653/25)
والاستعظام، ليدور بك هنيهة حول الموضوع، ما دامت مواجهته غير مستطاعة!
(كذبت ثمود وعاد بالقارعة)!
إنك لا تدري ما الحاقة. . . فهي القارعة!. . .
أحسست وقعها في حسك، وقرعها في نفسك!. . . إن عاداً وثمود كذبوا بهذه القارعة! فماذا كان؟ (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. . .) والطاغية - على ما في أسمها من سورة الطغيان عليهم وغرمهم وتغطيتهم - وكذلك الريح الصرصر العاتية، كلتاهما أخف من القارعة، ولكن لعلهما تُقربان إلى حسك هذه القارعة، فهما من جنسها ونوعها. وهكذا قضى على عاد وثمود في هذه الدنيا، قضى عليهما بطرف من تلك الحاقة ومن هذه القارعة، فإذا عجز إدراكك وهو عاجز - عن تصور الحاقة، فإليك نموذجاً مصغراً منها في الصيحة الطاغية وفي الريح العاتية، فهما من مشاهدات هذه الحياة الدنيا، وإن نضح اسمهما ووصفهما هولاً! هولاً تنقله إلى حسّك هذه الصورة المروّعة: صورة العاصفة مزمجرة مدوية سبع ليال وثمانية أيام؛ وصورة القوم فيها (صرعى كأنهم إعجاز نخل خاوية) وإنك لتراهم الآن فالصورة حاضرة - (فترى القوم فيها صرعى. . .) - (فهل ترى لهم من باقية)؟ كلا لا باقية ولا أثر؛ فلتتعظ إذن وتعتبر، وليخشع حسك للهول، ولتتفتح نفسك للإيمان بالغيب المجهول.
ثم إليك مشهداً آخر لعله يقرب إلى حسك روعة الحاقة وهول القارعة. إن فرعون ومن قبله وقُرى قوم لوط المعروفة قد جاءوا بالفعلة الخاطئة. . . جاءوا بها فكأنما هي شيء محسوس أو كائن حي يُجاء به، فهي شاخصة محسوسة حين ارتكبوها. (فعصوا رسول ربهم)، وهم رسل متعددون ولكنهم بمثابة الرسول الواحد، فجميعهم يحمل رسالة واحدة من عند إله واحد - (فأخذهم أخذة رابيه) والأخذة هنا (رابية) ليتم التناسق بينها وبين (الطاغية) فكلاهما تربى وتطغى، وتغطى وتغمر. والتناسق في المناظر ملحوظ في اللوحة الكبرى.
وما دمنا بصدد استعراض المشاهد الهائلة، والروائع الغامرة، فمشهد الطوفان إذاً يتسق مع هذا الاستعراض كلُّ الاتساق؛ (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) لتكون هذه الحادثة عبرة تذكرونها وتعيها الآذان الواعية.(653/26)
والآن وقد استعد الحس البشري المحدود لتصور هول الحاقة غير المحدود. الآن وقد تهيأ الحس باستعراض هذه الصور المروعة الطاغية الرابية الغامرة. . . فقد آن الأوان لاستكمال العرض، وتهيأ الموقف للوثبة الكبرى: (فإذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدة، وحملت الأرض والجبالُ فدكتا دكه واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وننظر في اللوحة الكبرى التي تجمع هذه المشاهد جميعاً. فماذا نرى؟
نرى نوعاً من التناسق الفني العجيب بين الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية والدكّة الواحدة والواقعة. . . تناسق اللفظ والجرس، وتناسق الوقع في الحس، وتناسق الحجم والقوة، في ضخامة الحادثة وروعتها، وتناسق المناظر التي تخيَّل للحس أنها جميعاً ثائرة فائرة طاغية غامرة، تذرع الحس طولاً وعرضاً، وتملؤه هولاً وروعاً، وتهزه من أعماقه هزاً.
ولن يجد مصور بارع اتساقاً أعظم من اتساق الصيحة الباغية الطاغية، والريح الصرصر العاتية، والأخذة القوية الرابية، والطوفان الطاغي تخوض غماره الجارية، والنفخة الهائلة الواحدة، والدكة المحطمة الواحدة، وبين وقعةِ الواقعة، والسماء المنشقة الواهية. . . إنها كلها من لون واحد وحجم واحد ونغمة واحدة، وكلها تؤلف اللوحة الكبرى، وترسم الجو العام الذي أراده القرآن.
وكأنما العاصفة تهدأ، والسكون يخيم، لحظة ليبدأ استعراض جديد، فيه هول، ولكنه هول ساكن رابض، بعد ما سكن الهول الهائج المائج:
(والمَلَكُ على أرجائها؛ ويحمل عرشَ ربك فوقهم يومئذ ثمانية. يومئذ تُعرَضون لا تخْفَى منكم خافية: فأما من أُوتيَ كتابَه بيمينه، فيقول: هَاؤمُ اقرءُوا كتابِيَهْ، إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيهْ. فهو في عيشة راضية، في جنةٍ عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أُوتيَ كتابه بشماله، فيقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيهْ، ولم أدرِ ما حسابيهْ، يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليهْ، هلك عنِّي سلطانيهْ. . . خذوه فَغُلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، ثم في سلسلةٍ ذرعُها سبعون ذراعاً فاسْلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحُضُّ على طعام المسكين، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلا من غسْلِينٍ لا يأكله إلا الخاطئون).(653/27)
ها نحن أولاء نشهد العرض. نشهده مجسّما مخيَّلا في أشد المواضع التي يحرص الإسلام على التجريد فيها والتنزيه. ولكن طريقة التعبير بالتصوير تختار التجسيم في هذا الموضع أيضاً لمجرد إثارة الحس وإشراك الخيال والتأثر الوجداني الحار. . .
فهنا السماء قد انشقت فهي واهنة واهية، وهنا الملائكة موزعون على أرجائها، في هذا الاستعراض الإلهي العظيم، وهُنا العرش - عرش ربك - يظلل الجميع في وقار رهيب، يحمله حملته وهم ثمانية. . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم، فالجرس الموسيقي لثمانية يتسق مع جرس الفاصلة كلها، والمقصود ليس حقيقة العدد ولكن تنسيق المشهد وتكثير المعدود. . . هُنا مجلس قضاء تم فيه الحشد، فليبدأ الاستعراض؛ حيث لا تخفى خافية في الحس أو الضمير.
وتكملة للعرض المجسم ينقسم المعرضون ويكون هناك كتاب يؤتى باليمين وكتاب يؤتى بالشمال. (فأما من أوتي كتابه بيمينه) فما تسعه الساحة من الاطمئنان والمباهاة: (فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه) لقد ظننت لشدة خوفي من القارعة (أني ملاقٍ حسابيه) فإذا أنا ألقي الغفران والنعيم! ثم ليلقِ صاحبنا السعيد جزاءه الطيب على مشهد من النظارة جميعاً: (فهو في عيشة راضية. في جنةٍ عالية قطوفها دانية) وليلقِ التكريم المعنوي كما لقي التكريم الحسي، فها نحن أولاء نسمع من عليين: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) فذلك التكريم حق لكم بما أسلفتم من صالحات.
وننظر في الجانب الآخر من الساحة لنرى ذلك الذي أوتي كتابه بشماله: لقد أدركته الحسرة، وركبته الندامة، فلنسمعه يتوجع توجعاً طويلاً وقد ثبت المشهد كأنه لا يتحرك: (يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية. وما أغني عني مالية، هلك عني سلطانيه. . .) ولكن ما باله هكذا لا ينوي مغادرة الموقف، ولا ينوي كذلك السكوت عن التفجع؟ لقد طال استعراضه ليتحقق التأثر الوجداني بتأوه الندم وتفجع الحسرة. فإذا تم هذا العرض فهنا نسمع الأمر العلويّ الذي لا يرد، فلنكتم أنفاسنا ولنستمع! (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صَلُّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) هنا كلُّ شيء مفصل مطوّل، فمن الجمال الفني، ومن التأثير الوجداني، ومن الغرض الديني، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة. وهنا يشترك جرس الكلمات وإيقاع العبارات مع السلسلة(653/28)
التي (ذرعها سبعون ذراعاً) - وذراع واحدة تكفي! - يشترك هذا كله في إطالة الموقف أمام النظارة وفي حسهم أيضاً، ليتم التناسق بين المشهد المعروض والتأثر المطلوب.
ثم لا تقف المسألة عند الأمر العلوي الذي لا يرد بسحبه في عنف من موقفه، بعد أن أطال التفجع والندم؛ إنما هو يلقي التقريع والتشنيع، فيكشف جرمه على أعين النظارة جميعاً: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين) فماذا يكون الجزاء المرتقب بعد السحب والغل، إن كلُّ من في ساحة العرض سيعلمون: (فليس له اليوم ها هُنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون) فهو معذب الحس في طعامه، معذب الروح في نبذه (فليس له اليوم ها هُنا حميم) ليتم جحيم الجسم والروح!
وإذا يبلغ التأثر الوجداني هنا ذروته بعد هذا الاستعراض الحي للبشرية في يوم الهول العظيم، يوم الحاقة القارعة. . . في هذا الأوان الذي تتفتح فيه منافذ النفس جميعاً للإيمان، لا تكون هناك حاجة للتوكيد والقسم والإيمان.
(فلا أقسمُ بما تُبصرون وما لا تُبصرون. إنّه لقول رسولٍ كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرُون. تَنزيلٌ من رب العالمين).
لا أقسم. ثم التعميم والتهويل. بما تبصرون وهو كثير. وما لا تبصرون وإنه لأكثر، وإن علمكم كله لقاصر. . . لا أقسم. فالأمر حقيقة: (إنه لقول رسول كريم، هذا القرآن الذي تسمعون أرسل به من عند الله. فما هو بقول شاعر - وإنّ كنتم لا تؤمنون إلا قليلاً - وما هو بقول كاهن - وإن كنتم لا تريدون أن تفكروا في الأمر، وتتعظوا بالتذكر.
ثم يتابع التأكيد المؤثر في الحس والقلب، الموحي بصحة ما ينقل الرسول عن ربه من قرآن ودين، وذلك بتصوير محمد صورة المبلّغ الأمين، ولو أنه خان أمانته ما عصمه من الله عاصم، وللاقى أشد ما يلقاه المبلّغ الخائن، في حسم جازم، لا شفيع فيه ولا نصير.
(ولو تقوَّلَ علينا بعض الأقاويل، لأخذْنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين).
وبهذه الصورة الحسية، صورة الأخذ الشديد باليمين ثم قطع العِرْق الذي يودي قطعه بالحياة، حيث لا يحجزه أحد منهم من هذا المصير المخيف. . . بهذه الصورة الحسية يؤثر في وجدانهم تأثيراً عميقاً شديداً، وهذا الوجدان متفتح من قبل للتأثر. . . وهنا - وعلى(653/29)
ضوء هذه الصورة المؤثرة - يعاود التوكيد واليقين ثم التهديد الذي يتسق مع التهديد السابق لرسوله الأمين!
(وإنه لتذكِرةٌ للمتقين. وأنا لنعلمُ أن منكم مكذَّبين) ولكن هذا التكذيب لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً وسيكون وباله على أصحابه (وإنه لحسرةٌ على الكافرين، وإنه لحقُّ اليقين).
ثم يدع القوم سكارى من التأثر، غارقين في التصور والتذكر، ليلتفت إلى النبي الكريم مخاطباً له في أمر وتقرير: (فسبح باسم ربك العظيم).
وهكذا يبدأ بالتصوير الاستعراضي الفني، لينتهي منه إلى التأثير الوجداني القوي، فإلى الإيمان العميق القلبي. وتلك طريقة القرآن غالباً في مخاطبة الحس الإنساني، وهي أقوم طريق وأقرب طريق.
سيد قطب(653/30)
ذو الجناحين
للأستاذ محمود الخفيف
(إلى كلُّ مؤمن تهون عليه روحه في سبيل الله)
لذكرى شهادته أطرب ... وإني بها الساجع المطرب
ألوذُ بها في سواد الخطوب ... فيؤنس روحيَ ومض لها
كما يؤنس المدلجَ الكوكب
كمىٌّ أبُوَّته هاشم ... يشع الهدى وجهه الباسم
إذا الهول ضجت به حومة ... فكالسهم وثبته في الصفوف
وكالسيف عزم له صارم
أخوه عليٌّ إمام الهدى ... وخير السيوف غداة الفدا
شبيه به جعفر في حجاه ... ويشبهه إذ يهز الحسام
لضرب وإذ يتحدى الردى
أتى الروم آلافهم تزحف ... بمؤتة واد بهم يرجف
تضيق الأباطح عن سيلهم ... فلا العين أولَهم تستبين
ولا الوهم آخرهم يعرف
خضم ترامى بهم زاخر ... يغطى الضحى نَقْعُهُ الثائر
إذا أحصت العين آلافَهُم ... رأت حولها مائة أو تزيد
يَعِجُّ بهم مَوجُه الحادِرُ
دخان هناك ونقع هنا ... وبرْق لهم يبرق الأعْيُنا
وخيل تحمحم مهتاجة ... وَبِيضٌ يَظلَّلُ إيماضها
مُثارُ الغُبار وسُمرُ القنا
دَنَت من مُخيَّم جند العرب ... جياد من الروم رُعْنُ الخبب
جياد تلألأ ديباجها ... فوارسها يلبسون الحديد
على سُرُجٍ وُشِّيَتْ بالذِّهبْ
تداعوا إلى الضرب إذ أحدقوا ... بِجَمع يكاد بهم يُغرَقُ(653/31)
بجيش من البيد لم يدَّرع=بغير اليقين ولا رَاعَهُ
نُضَارٌ يَرَاهُ وإستِبْرقُ
قليل العديد ضئيل الخطر ... وما في الصحاري له من وزر
عجاف من الجوع خيل لهم ... مئات ثلاثون قد هدَّهم
على قلة الزاد طول السفر
قليل ولكنهم في اللقا ... كثير إذا اضطرم الملتقى
شداد وإن لم يجروا الحديد ... خفاف إلى الموت إن أقبلوا
ثقال إذا دخلوا مأزقا
تأمَّر زيد وأعلى اللَّواَء ... أميرْ من السيف أقوى مضاء
له البدء حتى إذا ما هوى ... فجعفر للجيش بعدُ الأمير
يعيد اللقاء ويحيى الرجاء
مشى بهم الفارس الأروع ... له الجيش من كَفِّهِ أطوع
هم المؤمنون الذين اشتروا ... بأرواحهم جنة مالهم
وراء الخلود بها مطمع
تداعى الرجال فسوَّى الصفوفا ... وشدَّ بهم ليخوضوا الحتوفا
فكاثره الروم إذا غاظهم ... من القلة البارزين لهم
حفاظ به يدفعون الألوفا
وراحت بهم ترجف الراجفة ... رُعُودُ المنَايا بها قاصفة
وخَفُّوا يبيعون أرواحهم ... فكم زلزلوا من صفوف العدو
وكم حَسروا لُجَّة جارفهْ
وسارَ ابنُ حارثةٍ مُعْجَلاَ ... فكان الشَّهيدَ بها الأوَّلا
ألحتْ عليهِ غلاظ السُّيوفِ ... وكم وثْبَةٍ هدَّها سيْفُهُ
وحيداً، وكمْ فَارسٍ جنْدَلا
وأقدمَ من بعده جعفرُ ... غَضُوباً كما وثبَ القَسْوَرُ
تلاطمَ موْجُ الرَّدى حوْلهُ ... وُجنَّ جنونُ الوغَى إذ جرَى(653/32)
على الأرضِ ذائِبُها الأحمرُ
وقلَّتْ بها القِلَّةُ الصابرة ... رَحى الموْتِ جدَّت بهم دائره
على الأرض من حولهم ظلمة ... غبار ورعد وبرق هنا
ومن ها هنا كرَّةٌ سافرة
وخاض الوغى الفارس المُعْلَمُ ... يسربله - نقعها والدم
بيمناهُ رايتها جعفرٌ ... يثور به عِرقُهُ الهاشميُّ
كما نَفِرَ القَسْوَرُ الضَّيْغَم
تحدَّى الحتوفَ وأهوالها ... وقد هاجت الحرب أبطالها
وما زُلزلَ القِلةُ المؤمنونَ ... وإن غصَّ بالأكثرين الفضاء
وزلزلتِ الأرضُ زلزَالها
تنقَّل في حرَّها جاهداً ... صبوراً لِلأَوائها صامدا
إلى أنْ تصَدَّى له فاتكٌ ... فأهوى على يده ضارباً
بِسيفٍ أطنَّ بهِ السَّاعِدا
تماسكَ للخطب لم يجزعِ ... وكرَّ الكمِيُّ ولم يرجعِ
بيسراه رايته، واليمين ... على الأرض ساعدها فِلْذَةٌ
تموت، من البطل الأرْوَعِ
وظلتْ بقيَّتها نازفةْ ... وقد صخبت حوله العاصفة
فلله وثبته إذ يفورُ ... دم قد سقى الأرض منه
ومن كَثبٍ كثرةٌ زاحفة
مضى مُنْهكاً يتلقى الرماحا ... وصمم ليس يخاف اجتياحا
تراه ورايته في الشمال ... كنسر يَجر الجناحَ المهيضَ
ويرفع كما يطير جناحا
وفتيان صدقٍ مضوا حوله ... وقد رقَّ كل فؤادٍ له
يذودون عن بطل نازفٍ ... يقل المثيل له في الرجال
وما فاقة فارس قبله(653/33)
جليدٌ مع النزف لا يستطارُ ... وفي وجهه للحمام اصفرارُ
تسلَّلَ حتى دنا دارعٌ ... فما زال يضرب حتى هَوت
من الليث بعد اليمين اليسار
فهلْ فزعَ الحرُّ واستسلما ... ولم تُبقِ منه السيوف دما؟
تقدم محتضناً ممسكاً ... بزنديه رايته في الصفوف
وظل الكميَّ بها المعلما
ترنح مما به الفارسُ ... وما وهنَ الأسدُ العابسُ
وظلَّ على صهواتِ الخطوب ... يلاقي الرَّدى فِلذةً فِلذةً
وما قلَّ عزمٌ له هاجسُ
وأسلم مهجته للظُّبا ... كؤوسَ المنيَّة مُستعذبا
فيا هول مصرعه والسيوف ... تهاوى على جسمه القَسوريِّ
وما يملك الليث أن يضربا
تكلم مُرتجزاً مُنشداً ... (لدين الهدى قلَّ منى الفدا
ألا خسئ الكفر والكافرون ... جزائي غداً جنة المتقين
وأعظم بجَنَّتِهم موردا)
تبسَّمَ للموت إذ أغمضا ... على وجهه لمحات الرضا
فتى بات للمجد أنشودة ... إذا ذَكَرَ المؤمنون الفداء
على الدهر ذكرٌ له أوْ مضا
تقشَّع من فوقه العِثْيَرُ ... وآماق أصحابه تُمْطِرُ
جراح ثمانون في جسمه ... ومن عَضُدَيه نجيعٌ يسيل
ومن عاتقيه دم يقطر
بقيَّة ليثٍ رَدَاه استبقْ ... وجسمٌ بتلك الفيافي مِزَقْ
تجاوز في البأس جهد الخيال ... وأبلى بَلاََء امرئ صادق
وأين له الند فيما صدق
نَعَاهُ النبيُّ وفي قلبه ... بكاءٌ عليه وبشر به(653/34)
وصلى عليه الرسول الكريم ... وقال وفي مقلتيه الدموع
لمن علم الرزء من صحبه:
(هنيئاً له نفسه الراضية ... بجنات عدن غدت ثاوية
سيبدلك الله بالساعدين ... جناحين يا ابن أبي طالب
فتسبح في الجنة العالية)
وزاد الرسول: (كأني أرى ... هناك الشهيد الفتى النيَّرا
ففي جنة الخلد رهط يطير ... ملائكة بينهم جعفر
يهز الجناحين مستبشرا)
شهيد فؤادي له يطرب ... وأني به الشاعر المطرب
أُجَدِّدُ ذكراه مُستوحياً ... فيملأ قلبي وحيٌ لها
يضيء كما بزغ الكوكب
الخفيف(653/35)
مُثل عُليا في سيرة الرسول (ص)
للأستاذ محمد محمد المدني
يحتفظ التاريخ لكثير من العباقرة والعظماء بسير مفصلة أو مجملة تطالع الناس منها مثلٌ تحتذي في العلم أو الشجاعة أو الصبر أو التضحية أو الإيثار أو التفاني أو نحو ذلك من خصال العظمة أو صفات الشرف. ولهذه المُثل تأثيرات في النفوس، وتوجيهات للقلوب، تتفاوت ويختلف مداها تبعاً لقيمها الخاصة، واختلاف مصادرها ومواردها، وتفاوت وجوه النظر إليها.
ولا يعرف التاريخ سيرة هي أزكى أصولاً، وأطيب فروعاً، وأدنى قطوفاً، وأحفل بالثمار، وأملأ بالمُثل العليا، وأكبر تأثيراً في النفوس، وأصبر على البحث والدرس، وأثبت على اختلاف النظر، وأبقى على وجه الزمان، من سيرة نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وسلم):
فصول متلاحقة، وصفحات مشرقة، وصور رائعة، ومعان كلما زدتها نظراً تجلّت لك منها نواح متجددة تزيدك إيماناً، وتزيدك نوراً، وتفتح أمام عينيك آفاقاً واسعة لا يكاد ينتهي مداها. ولم يكن ذلك لأن (محمداً) صلى الله عليه وسلم (عظيم) أو (عبقري) فما كانت العظمة ولا العبقرية من الصفات التي يحدّد بها فضل الله على نبي اصطفاه وصنعه على عينه، ورعاه وربّاه، وأدّبه فأحسن تأديبه، وأكرمه برسالته، وأمده بوحيه، وإنما كان ذلك لأن (محمداً) رسول الله فحسب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
من بين المثل الكثيرة التي تطالعنا من خلال السيرة المحمدية الطاهرة ثلاثة مثل يقف المرء أمامها معجباً بها مأخوذاً بعظمتها وجلالها كما يقف الناظر أمام صورة رائعة ذات معنى قد أحتفل بها رسامُها وأودعها فنه وذوقه وما وهبه الله من قدرة على الإبداع والإتقان، ثلاثة مُثُل يصوَّر كلُّ واحد منهما أسمى ما يتصوره البشر من الكمال، وأنبل ما يتطلع إليه الناس من النبل، ولا أذكر أني مررت بمثل منها إلا وقفت عنده وقفة تطول أو تقصر، ولكنها تهز قلبي هزاً، وتحلَّق بي في جو من الصفاء الروحي، والنعيم الفكري، لا أحسبني قادراً على وصفه.
وإليكم أيها القراء الكرام هذا المثل الثلاثة:(653/36)
1 - هذا يوم من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاه (بالطائف) تلك البقعة الخصبة الغنية بكرومها وبساتينها وفاكهتها الكثيرة: جاء إلى هذه البلدة، وقد احتوته مكة، وضاقت عليه بما رحبت، ولم يألُه المشركون فيها إيذاء واضطهاداً، وقد مات نصيراه: أبو طالب وخديجة، وتجرّأ عليه بعدهما من لم يكن يتجرّأ عليه في حياتهما. جاء إلى هذه البلدة وحيداً فريداً يلتمس النصرة من ثقيف لدينه ودعوته، ويستعين بهم على أهل مكة الذين أذاقوه وأصحابه الويل بضع سنين. يا لجلال الإيمان! ويا لحرارة الإخلاص! رجل واحد يقدم على بلدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يؤمن بدعوته أحد، وهو حلف ضنى، ونضو أذى، وموضع اضطهاد من قومه وإعنات، وقد سارت بذكرى مساءا تهم إليه الركبان، ولكنه مع ذلك يقدم على هذه البلدة مستهيناً بما في ذلك الإقدام من أخطار، لأنه قد فني في دعوته، وأخلص نفسه لربه، فلم يعد يثنيه خطر، ولا يرهبه غرر! فكيف استقبلته (الطائف)؟ كيف استقبلته هذه البلدة الطيبة ذات الجو الهادئ الصافي، الذي من شأنه أن يهذب النفوس، ويعطف القلوب، ويثير نوازع الكرم وبواعث النخوة والنجدة؟ كيف استقبلت هذا الداعي الكريم الذي تتفجر من لسانه الحكمة، وتبدو على قسمات وجهه علائم الصدق والإخلاص؟
لقد (عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها وأشرافها، وهم أخوة ثلاثة، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً؟ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم).
وتمثل، عليه السلام، قومه، وقد علموا برد ثقيف إياه، فكره ما يكون من شماتتهم به وانبعاثهم في إيذائه، فقال للذين ردوه: أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. ولكنهم (أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليهم الناس، فكان يمشي بين سماطين منهم، فكلما نقل قدماً رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، فإذا أذلقته، الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون. . . وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فكلما انصرف عنه من كان يتبعه من السفهاء(653/37)
اتجه ببصره إلى السماء ودعا ربه قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي! إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي! ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!).
شكا إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، لا تبرّماً بما لقي، ولا تهرّباً مما حمل ولكنه يريد للدعوة نجاحاً عاجلاً، ونصراً سريعاً، ويرى الناس وقد تنكروا لها في شخصه فامنعوا بها تنكيلًا وحرباً لا فرق في ذلك بين المشركين في شعاب مكة، والمشركين في سهول الطائف، فكأنما تواصى الجميع على وأد هذه الدعوة والحيلولة بينها وبين الحياة، ولذلك قال: إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ فإلقاء هذا المعنى في روع النبي صلى الله عليه وسلم، وإجراؤه على لسانه في دعائه لربه كان إيذاناً بأن أمر الدعوة سيتجه بعد اليوم وجهة أخرى، وسيهيئ الله له من القلوب المستعدة ما يكون كفيلاً بتقدمه ونجاحه، وهذه سنة الله في خلقه: أن يأتي الفرج بعد الشدة، والنور بعد الظلمة. وقد كان ذلك فعلاً فلم يطل الأمر بدعوة الإسلام حتى هيأ الله لها قلوب الأنصار في يثرب، واستبدل بالمعاندين المصرّين قوماً آخرين.
وما أعظم هذه الكلمة الطيبة التي يقولها (محمد) لربه في مناجاته إياه (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي!) تلك مرتبة الرضا والفناء في الحب، والاستهانة بكل ما سواه من أهوال الدنيا.
هذا مثل التضحية، والإخلاص للفكرة، والإقدام في سبيلها على الخطر، والفناء وإنكار الذات!
2 - ومثل آخر يضربه للمؤمنين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه، هو مثل السياسة الرشيدة الحكيمة، المستندة إلى المحبة، القائمة على الإخلاص:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم عطاياه السمحة وكان فيهم من قومه أبو سفيان وأبنه معاوية وغيرهما ممن أسلموا بعد فتح مكة، وجد الأنصار بعض(653/38)
الشيء من ذلك، وضاقت له صدورهم، وكأنهم نظروا إلى هؤلاء الذين كانوا بالأمس أعداءهم، والذين أذاقوا رسول الله وأذاقوهم ألوان العذاب وقد أصبحوا فيما يوم وليلة يتمتعون بهذا العطف النبوي الكريم حتى ليزيد حظهم عند القسم على حظوظ السابقين من المؤمنين، فلم تتضح عندهم الحكمة في هذا الصنيع، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتساءلون، وقال قائل منهم لصاحبه (لقد لقي رسول الله قومه!) يريد أن عاطفته لقومه وعشيرته قد غلبته حتى أنسته سابقة الأنصار، وفضل الأنصار.
كان من الممكن أن تستشري هذه الموجدة في نفوس الأنصار، وكان من الممكن أن تغذيها الطبيعة البشرية بغذائها حتى يستفحل داؤها، وكان من الممكن - على الزمن - أن تمرض هذه القلوب الصافية المؤمنة التي تلقت الإسلام غضاً فتعهدته حتى نما وترعرع وأظهره الله وأتم به النعمة. كان من الممكن أن يكون ذلك كله لو كان أحد ما مكان (محمد) ولو كانت بيئة ما غير بيئة الإيمان والحب والثقة. ولكن الله ألهم سعد بن عبادة الأنصاري أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قالة الأنصار، فلما سمعها بادر بجمعهم وقال لهم: يا معشر الأنصار. ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى. الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لُعَاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلكت الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!
فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمته تأثر بها الأنصار حتى بكوا وقالوا: رضينا برسول الله قِسما وحظاً؟
هذه هي السياسة الرشيدة التي تستل ما في النفوس من موجدة، وتتلافى بوادر الشر فتحسمه قبل أن يتفاقم. وإن هذا الكلام الذي ألقاه النبي في الأنصار ليحتاج إلى عالم قدير(653/39)
من علماء النفس ليبين لنا مدى انطباقه على الأسلوب العلمي الحديث لطب النفوس.
3 - والمثل الثالث - وياله من مثل - هو آية العدل والتسوية وعدم المحاباة، وإيثار الله على كلُّ ما سواه: ذلك أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وناصره ومجيره من أعدائه، على الخلاف بينهما في الدين، لما مات، كأن المسلمين ترقبوا أن يستغفر له الرسول وأن يؤذن لهم في أن يستغفروا له، إعظاماً لشأن أبي طالب، ووفاء لصنيعه مع النبي وتسلية لأبنائه وقرابته وفيهم عليّ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد هم بذلك أو فعله فنزل قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إنّ إبراهيم لأواه حليم).
بذلك وضع الأمر في نصابه، وتبين للمؤمنين أن لا محاباة ولا قرابة ولا صهر أمام الحق، وأن العلاقة الوحيدة التي تجب رعايتها والاعتداد بها هي علاقة الإيمان فحسب.
ولقد كان هذا الأمر كافياً لزلزلة النفوس في هذه البيئة العربية التي تعنى بالقرابات، وتهتم بالعصبيات، ولا سيما في شأن أبي طالب شيخ قريش، وأبى عليّ، وأخي العباس، وعم محمد، ولكن القوم قبل كلُّ شيء مؤمنون قد امتلأت نفوسهم بحب الله، فما على الرسول إلا البلاغ، وما عليهمإلا الرضا والامتثال!
من لنا بأن نجتلي هذه المُثل العليا وأمثالها في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون لنا نوراً وهدى في هذه الظلمات التي يتخبط فيها الناس.
اللهم إنا نسألك التوفيق.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(653/40)
شراء المعاني من أسواق الرحمات
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
في موسم الحج الماضي، ومع روح العربية الحديثة وقلبها المخلص وفكرها الملهم وأمنيها الأول عبد الرحمان عزام بك، رحت أبتاع لنفسي معاني من أرض محمد، صلى الله عليه وسلم، مع ذلك الركب الإنساني العظم الذي يقصد كلُّ عام أسواق الرحمات، يسافر لها من كلُّ صوب عبر البحر والصحارى والجبال، ويخرج لها بائعاً كلُّ شئ إلا قلبه، مودعاً كلُّ عزيز من أهله وماله ووطنه.
وكيف لا أخرج إلى تلك الأسواق وقد رأيت الكساد والبوار والخسار تضرب كلُّ تجارة في أسواق العالم غير هذه السوق التي عرف تجارتها وأرباحها قصادها وروادها فقصدوها على بعد الدار وقلة الزاد؟
لقد أقبلوا بأجسامهم من كل صوب نحو مركز الدائرة الذي يسافرون إليه بالروح كل يوم خمس مرات.
إنها أرباح من المعاني التي لا تنفد والطمأنينة والسلام النفسي يدفع لها هذا الركب ما يجمع أفراده من حطام الدنيا وما يدخرونه ينقلونه عن طيبة خاطر راضية نفوسهم بالمشقات والصعاب. . .
إنهم يشقون الجسد ويبذلون المادة لإراحة الروح ونشدان السلام وطلب الحسنى أمام ديان الخلائق. . .
ذهبوا يعرضون نفوسهم وقلوبهم في تجرد وحفاء وشعاثة في أسواق الرحمات لعل الله يشتريها منهم ويمسح عنها أوضار الإثم. يلوذون بالمطهر الأول الذي جعله الله أول بيت وضع للناس لتزكية النفس وتأهيلها للدنو منه والعلو إليه بعد الهبوط من جنة السماء. . . يطوفون حوله في ابتهال وتبتل وفناء وسط الإنسانية الشقية التي دمرتها الآلام. . . ويطيعونه طاعة مبصرة وعمياء في كلُّ ما فرضه عليهم في تلك الرحلة. . . ويتنقلون بين يديه في مجال الطبيعة، يصلّون له في هياكلها ملبين في الأسحار والإصباح والظهيرة والضحى والأصائل. . .
يصعدون الهضاب والجبال، ويهبطون الوديان والرحاب في استغراق وابتهاج وبكاء،(653/41)
يبتغون إليه الوسيلة ويطرحون أجسامهم في مطارح الطبيعة أمام نظره العالي لعله يرحم ضعفهم وإخلاصهم ويمسح بيده الكريمة على قلوبهم.
يتعرضون لنفحاته من ظهيرة يوم عرفه، ويبيتون له بمزدلفة وينحرون ويتزكون له في منى. ويعزمون على ترك الشر في (شارع الشياطين!) يرجمونهم في فكاهة وجد وابتهاج. . . ثم يقبلون بعد ذلك إلى حياة المدن في أم القرى ويشهدون منافع لهم من التعارف والائتمار والاتجار. . .
ثم يرمون بأبصارهم إلى الشمال نحو مرقد الجسد المطهر الذي مدَّ ظلال رحمة الله على هذه الأمة المحرومة المعزولة ثم مدها على العالم وأوسع له في آفاق الروح. . .
وعند قدمي محمد صلى الله عليه وسلم اتخذت مجلسي أول قدومي عليه، وقد أغمضت عيني وفتحت خيالي يستحضر الصور التي شهدها التاريخ ووعتها ذاكرتي من حياته الشريفة وتعاليمه الهادية ووحيه العالي. وأحسست حين جلست أن العالم كله يجلس معي تحت قدمي هذه القمة البشرية التي لم تطاولها سماء أخرى. . . وأنني تحت ظلال أنضج ثمرة أدركت أسرار النوع البشري وصفوة معانيه ونهاية استعداده وحدود قواه. . . أخرجها رب الإنسانية ومكرمها من الأمة الوسط التي يلتقي فيها الشرق والغرب، وتتصل بزنوج الجنوب وبيض الشمال وصفر الشرق وحمر الغرب وتأخذ منهم جميعاً أحسن ما فيهم جميعاً. . .
وهذا هو قانون الله في جميع الأشياء: يجمع أسرار كلُّ شيء في مركزه و (عقدة) ثمرته. . .
فلتفهم هذه العربية الحديثة في نهضتها الجديدة لأداء رسالتها الثانية. أنا مؤمن عن طريق عقلي أكثر من إيماني عن طريق قلبي. ومع ذلك حين وجدتني أقترب من قبر (محمد) القطب الذي تدور بدورته روحي وتهتدي بإشعاعه نفسي أحسست قلبي يهتز ويختلج اختلاج الباكي ووجداني يطغي على عقلي فأحبذ تقبيل المقصورة الشريفة واستلامها وأخفف من منع الحراس للناس وأفلسف لهم أن الحب يدفع إلى أكثر من ذلك. . . ثم يستقر الأمر فأعود إلى القبر في هدوء الإجلال وسكينة الإعظام لهذا المقام أن يدور عنده همس لغط، أو يدنو منه مقترب بالجرأة والاقتحام كما يفعل العوام وأشباه العوام الذين لا(653/42)
يملكون عقولاً وإنما يملكون قلوباً. . .
وشهدنا أول احتفال بالهجرة في دار الهجرة على الطريقة العصرية في التكية المصرية، وخطب فيه عزام (بك) خطبة من خطبه التي هي مزيج من الروح والسياسة والتجربة والعلم والتاريخ فكان صوته أول نغمة جديدة من بيان أهل هذا الزمان ترتفع في جو المدينة التي ولد فيها فجر المؤاخاة الكاملة بين الأوس والخزرج من الأنصار، وبين المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين وأهل الكتاب والمسالمين من الجاهليين، في تلك المعاهدة الأولى التي لا يمكن أن يبني سلم عالي دائم إلا على مثلها وروحها الذي يؤمن بالإنسانية الواحدة وبالحرية والمساواة والعدالة في الوطن الواحد وفي الأوطان المختلفة ويأبى إلا أن يكون الدين لله.
ولِيَاذُ الزنوج والأجناس الملونة واعتزازهم بهذه المشاهد المقدسة التي تتجلى فيها المساواة المطلقة شيء عظيم! وخاصة في هذا العصر الذي جار فيه (الرجل الأبيض) واغتر بلونه، وبني على الفروق السطحية فلسفة ظالمة، استعبدت الأحرار، وأذلّت الكرامة الإنسانية، وأهدرت لباب القلوب، واعتزت بالقشور والجلود، وعاثت بالفساد في ديار الناس ولم تحاول محاولات جدية أن ترفع مستوى الحياة في بلاد الملونين ليلحقوا بالقافلة الإنسانية السريعة المراكب، بل على العكس أثقلت أرجل غيرها بالقيود وعوائق الفساد ليتخلفوا عنها ويحتاجوا إليها دائماً ويكونوا معها (حيوانات بشرية) لحمل أثقالها وجلب مغانمها.
ولكن رب البشرية بالمرصاد، فقد خرب ديار الطغاة، وجوعهم وأهلك حرثهم وعمرانهم ونسلهم، ووقفهم على هاوية الدمار التام ليتردوا فيها عما قريب إذا لم يراعوا أمانة الاستخلاف في الأرض ورعاية حرمات الناس وحقوقهم الطبيعية.
إن الأجناس المتخلفة تدرك بفطرتها ما في طبيعة المسلمين من رحمة بها واعتراف بحقوقها وغيرة على حرماتها وحب لتقدمها، ولذلك تقبل على الإسلام، وعلى شعيرة الحج بنوع خاص، لتشعر لأول مرة في هذا العصر بقيمة ذاتها، واكتمال حقوقها واعتراف الدنيا بإنسانيتها.
ومن يرى الإنسانية في ثيابها البسيطة، وحفائها وابتهالها حول الكعبة وبكائها لربها واصطفافها جميعاً على قدم المساواة، يبيع نفسه لخدمتها وإنصافها ومكافحة الطواغيت(653/43)
والمظالم التي تهدر كرامتها، وتذل عزتها.
ولن أنسى ذلك الشيخ الأسود الذي وقف أمام باب الكعبة يبكي ويبلل لحيته ويجأر بالدعاء وينادي: اللهم أجمع قلوب المسلمين كما جمعت أجسامهم! ولا ذلك الهندي الساجد في نشيج ودموع بجوار مقام إبراهيم. . .
ولا تلك الزمرة من زنوج نيجريا في ثياب الإحرام البيضاء تتلو وراء المطوّف دعاءها في رطانة ولكنه ومع إتلاع الأعناق ومشية العزة والمسرة والشعور بالحضارة الروحية ولقاء قلوبهم مع قلوب غيرهم من الناس في ثقة ومحبة.
ولا تلك الأرتال السائرة على أقدامها على طريق مكة والمدينة أياماً وليالي تقصد زيارة المدينة، بعد أن جاءت من أعماق القارة السوداء (إفريقية)، والقارة العجوز (آسيا) يحدوها الحب، ويسوقها الإلهام إلى أرض التحرير والعتق من ظلمات الوثنيات والمثنويات والسحر الأسود والرهبة من القوي الجبارة المبهمة التي تطالعها من طلعات هاتين القارتين الغامضتين!
ويكفي أحدهم جوار الكعبة عاماً ليحصل علماً من جميع أجناس الأرض لم يكن ليجده عمره في دياره ولو عاش أبد الأبيد.
إن الحج نسك عجيب تفرد به الإسلام، وجعله مثاراً لعالم فني (سينمائي) ورمزي بجانب ماله من الآثار التعبدية والاجتماعية.
وكم ترك من آثار عميقة في حياة المسلمين وحياة الناس جميعاً وسير التاريخ العالمي إذ كان بمثابة الرياح التي تحمل البذور من مكان إلى مكان لتنتج خليطاً من الأنواع، فهو قد حمل الشخصية الإسلامية المتفرقة بافتراق البقاع على اللقاء في معهد واحد. وكما كان سبباً لاجتماع القبائل العربية في الجاهلية على معناها العام ووحدتها وعرض أمجادها في أسواق الدين والتجارة واللغة، كذلك يحمل العالم الإسلامي بأممه المختلفة على اللقاء الدائم في عصور التاريخ. فالعالم الإسلامي مدين له بجانب القرآن بوحدته الفريدة على مدى الأجيال.
وإنه لعمل عظيم في جذور الوحدة العربية والوحدة الإسلامية والوحدة العالمية.
عبد المنعم خلاف(653/44)
معجزة الدهر
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
مرت المعجزات وبقيت معجزة واحدة خالدة هي القرآن.
والمعجزات هي براهين الأديان أنها من عند الله وليست من عند الإنسان. والأديان لا تكون شيئاً إن لم تكن من عند الله ويقم البرهان الناصع الساطع على أنها من عنده. فصدورها من الله ضمان هدايتها الإنسانية في كلُّ الظروف ما أطاعتها الإنسانية. ووضوح البرهان على أنها من عند الله ضمان استيقان الإنسان إياها وطاعته لها. وسواء أكان الدين خاصاً بأمة أم عاماً للبشر فالبرهان عليه ينبغي أن يكون عاماً يخضع له كلُّ عقل، لا خاصاً تخضع له بعض العقول. وليس يفي بهذا الشرط في البرهان على الدين الحق انه من عند الله إلا المعجزات.
والإنسانية الآن في حاجة إلى دين تخرج به من ورطاتها بعد أن كادت أن تهلك حين نسيت الدين. ولو أرادت البحث بعقلية علمية عن دين الفطرة - كما لا بد لها يوماً أن تبحث - فليس أمامها إلا أن تنظر في الأديان كظاهرة كونية. وفي الحق أنها ظاهرة من أكبر الظواهر الواقعية وأعظمها مظهراً وأثراً في حياة الإنسان. والواقع هو موضوع الدراسات العلمية أو هو موضوع العلم الطبيعي بشرط ألا يكون لهوى الإنسان دخل فيه، لأن الهوى والحق قلما يجتمعان. لذلك لم يجعل العلم التاريخ مجالاً لبحثه لأن الأهواء من عوامل التاريخ.
لكن هناك ظاهرة تاريخية هي أهم ظواهر التاريخ وأشبهها بالظواهر الطبيعية التي ليس للإنسان عليها سلطان وإن جرَت على أفراد من الناس. هي تلك ظاهرة النبوة وظهور الأنبياء. وهي في تاريخ البشرية أشبه ببعض الظواهر الفلكية النادرة المتجددة؛ ولو ضربنا لها مثلاً ظاهرة المذنَّبات لم نبعد. يظهر النبي في أفق البشرية من عصر لعصر. كما يدخل المذنب أفق الأرض بين حقبة من الزمن وحقبة، فيشغل به الناس ما لبث في أفقهم، ثم يذهب المذنَّب غير تارك أثراً ويبقى للنبي عظيم الأثر في الناس.
وظاهرة الأنبياء فيها كل ما في الظواهر الطبيعية الفلكية من مميزات. فهي من ناحية ظاهرة واحدة متجددة، فالنبي أشبه بالنبي من النجم بالنجم:(653/46)
واحد من الناس يظهر فيهم على غير إعداد منهم، يتجرد من كلُّ ما يشغل الناس من إقبال على الدنيا واستمتاع بها، جاعلاً شغله الشاغل دعوة قومه إلى فاطر الفطرة وخالق الناس. ثم هو لا يدعوهم من عنده فيلتبس عليهم بالفلاسفة والحكماء الذين يكثرون في بعض العصور ولا يكاد يخلو منهم عصر، ولكن يدعوهم باسم الله الذي خلقهم، مؤكداً لهم أن مرسل إليهم من عند لله ربهم برسالة ليس له فيها إلا التبليغ. وسواء آمن به كثير أو آمن به قليل، فإنه هو يعمل في جميع الأحوال بما يدعو إليه من دين مهما شق العمل به على الناس. ويتحمل في سبيل تأدية الرسالة على وجهها ما يتحمل، لا يصرفه عن رسالته أذى أو إغراء. فهو يطلع على الناس طلوع نجم أو قمر أو شمس أو مذنَّب: يجري مجراه ولا يحيد قيد أنمله عن مسراه.
تلك ظاهرة تاريخية، ولكن فيها كلُّ ما في الظواهر الفلكية من صفات أساسية: فيها التجدد، وفيها رغم تجددها الاطراد؛ وفيها التجرد عن هوى البشرية ومشاغلها، وفيها التقيد بأوامر فاطر الفطرة سبحانه تقيد النجم في مشرقة ومغربه، وفيها الإشراق على الناس بهدى الله كما تشرق الشمس عليهم بالضياء.
وتصحب النبوة والرسالة عادةً ظاهرةٌ أخرى هي أشبه بما يشتغل به العلم من الظواهر نسميها معجزة ويسميها القرآن آية. وهي دليل دعوى النبي أو الرسول أنه نبي الله ورسوله؛ وهي حجة الله على من شهدها أو تواتر سماعه بها عمن شهدها. والمعجزات تشبه ظواهر الفطرة في أنها مما لا يقدر عليه الإنسان. كلها تشترك في هذا التفرد لتكون دليلاً عند من يعقل على أن الذي أجراها على يد الرسول هو الله فاطر الفطرة ومرسل الرسول.
والعلم أسرع إلى التسليم بمثل هذا الدليل أن ثبت إليه لديه وقوعه، لأن العلم أعرف وأبصر بعجز الإنسان عن خرق عادة الفطرة وسننها في الكون. فابتلاع العصا لِعصيّ السحرة وحبالهم، وإبراء الأكمة والأبرص في لحظة. وإحياء الموتى بكلمة - هذا وشبهه يعرف العلم ويعرف الناس أنه مما لا يقدر عليه البشر. فلو ثبت لدى العلم وقو عه في ظروفه لسلَّم العلم بدلالته.
لكن إذا قُدر أن يبحث العلم الأديان عن طريق بحث ظاهرة النبوة فسيجد أن العقبة في(653/47)
سبيله هي أن معجزاتها قد مرت وانقضت فهو لا يجد سبيلاً إلى بحث شيء منها. إلا معجزة واحدة لرسول واحد على دين واحد: إلا القرآن، معجزة الإسلام على يد محمد بن عبد الله. لقد ذهبت المعجزات كلها وبقى، وتغيرت الكتب وحرفت ولم يتغير هو ولم يحرّف. وعلى أي حال فهو هنا معنا ومع العلم والعلماء لمن شاء أن يبحث أو يفحص. فلو قدر للإنسانية أن تفحص الأديان بعقلية علمية لما وجدت غير الإسلام يثبت للفحص العلمي، إذ ليس غير الإسلام دين بقيت معجزته إلى اليوم وتبقى إلى ما شاء الله لتكون موضوع بحث وامتحان وفحص، وليهتدي البشر بفحصها إلى الله، وليعلموا عن طريقها أن الإسلام هو دين الله فاطر الفطرة وخالق الناس: جعل كتابه عين معجزته ومعجزته عين كتابه ليكون حفظ الدين وحفظ معجزته أمراً واحداً سواء، ولتدوم حجة الله على الناس.
ودلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله لا من عند بشر أم تنبهر منه العقول إذا نظرت فيه علمية صادقة. ففيه أولاً التحدي: تحدي العرب وتحدي البشر أن يأتوا بسورة من مثله. وهذا التحدي وحده دليل عجيب على أنه ليس من عند محمد. فلو علم محمد من نفسه أنه قائله ما اجترأ وهو ما هو من العقل، وهم ما هم من الفصاحة، أن يتحدى العرب بل البشر أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور من مثله، ثم بسورة، ثم يجعل أقصر سورة لا تزيد على عشر كلمات!
فهذا من غير شك دليل عجيب. وأعجب منه عجز العرب خصومه - وقد كانوا جميعاً خصومه في الأول - أن يقبلوا هذا التحدي ويهدموا محمداً ودعوته بالإتيان بسورة من مثل سور القرآن القصار.
وعجزهم ذلك جاء مصدقاً لنبوءة تنبؤها لهم حين تحداهم أنهم لن يفعلوا. ولم يفعله أحد من البشر إلى الآن. فأعجب من كلمتين اثنتين - ولن تفعلوا - قامتا بصدقهما المستمر معجزة باقية على الزمن.
وعجز العرب والبشر عن سورة قصيرة من القرآن أمر غريب عجيب يجعل من القرآن الكريم ألف معجزة في معجزة، لأن القرآن قدر أقصر سوره آلافاً من المرات.
وسر هذا العجز نفس سر العجز البشر عن خلق شيء مما حولهم في الفطرة. فالقرآن والفطرة كلاهما من عند فاطر الفطرة بل هو دين الفطرة وكتابها. وقد جهد الإنسان قديماً(653/48)
وحديثاً في الوقوف على سر إعجاز القرآن فلم يبلغوا من ذلك إلا قدر ما يغرف غارف من بحر وإن ظن ظان أنه قد بلغ. وليس إعجاز القرآن الناس هو كلُّ دلالة القرآن على أنه من عند الله.
ليت من يقوم بالقرآن وللقرآن يحفظه ويفحصه، ويجلو برهانه للناس من جديد. ليت المسلمين لم يشغلوا عن القرآن بكلام البشر، ولم يحاولوا أن يتأولوا حين يجدونه غير نازل على أهوائهم وعلى ما يظنونه المناسب للعصر الحديث. ليت في علماء الإسلام جماعات تلقوا صنوف العلم الطبيعي وتمكنوا من علوم القرآن ليجلوا للإنسانية القرآن على النمط العلمي الذي هو من نمط النظر القرآني وفيه للإنسانية في هذا العصر العلمي مقنع.
ليت المسلمين ينتبهون إلى هذا فيتداركوا ما فاتهم، ويعدوا للدعوة إلى الله والى القرآن عدتها. فالإنسانية في حاجة إلى دين الفطرة، وما المسلمون بأقل حاجة من الإنسانية إلى تبصير بالإسلام.
محمد أحمد الغمراوي
-(653/49)
هجرة مُحمّد
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . في هذه الأيام التي ذاق فيها الأغنياء عضَّةَ المجاعة، والأقوياء ذِلّة الضراعة، ومشى داء الهمجية إلى ديار المتمدنين، وشمل الظلام مدائن النور، وهان الحق والعلم والفن، وعزَّ السيف وغلى الرغيف. . .
في أيام الحرب السود، ولياليه العوابس، تجتمعون آمنين مطمئنين، غير جائعين ولا مروّعين، فاحمدوا الله على نعمة السلام فلولا خطرها ما كانت تحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
يا سادة:
في المشرق والمغرب، من شواطئ الأطلنطي إلى سواحل الهادي، وفي القرية الخاملة والمدينة الآهلة، يجتمع هذه الليلة إخوان لكم مثل اجتماعكم، قد تناسوا الحرب وأهوالها، والغلاء والبلاء، والموت آتياً من الأرض ومنصبّا من السماء، ليحتفلوا في أيام الحيرة والخوف، بذكرى الهدى والأمان، ويهتفوا باسم من أدرك العالم حينما دهمه ليل، فأطلع عليه من نور الحق فجراً ساطعا، ليهتفوا باسم سيد العالم: (محمد). . .
يا سادة:
إن لكل أمة مواسم تجتمع فيها، وذكريات تحيْيها، وعظماء يمجدهم خطباؤها، ومآثر يفخر بها شعراؤها، ولكن الذكرى التي اجتمعنا لأجلها، لا تقاس بها الذكريات. . . إنها أجل منها وأعظم: إن الحادث الذي جئنا لتمجيده لا يشبه الحوادث، إنه أعز على التأريخ منها واكرم، إنه أسمى من كلُّ مأثرة فخرت بها أمة، وأعتز بها جيل، فإذا أردتم أن تروا فيم كان جلالها وسموّها، فدعوا هذا الحاضر لحظة، وأوغلوا معي في مسارب الماضي مرّوا بين القرون وتخطوا أعناق السنين، حتى تقفوا على القرون السابع الميلادي، وقد أهلّ على دنيا رثت فيها حضارة الأولين، ونسي الدين، وأضحت العبادات عادت، والعلم ترديداً بلا فهم، والفن تقليداً بلا تجديد، وأخذ الملوك الطغاة بمخانق الشعوب، ونخرت الفوضى عروش الطغاة، وسكت العلماء وهربوا إلى الصوامع، وأيس المصلحون واختبئوا في الأغوار، وأوشكت الإنسانية أن تتردى في هوة ما لها من قرار!(653/50)
وهنالك وقد غلب اليأس، بعث الله الفرج على يد رجل، رجل واحد طلع من وسط الرمال المتسعرة الملتهبة التي يشوى عليها اللحم، لحم كل عاد يطأ ثراها، وعاتٍ يريد بالشر حماها، من القرية التي هجعت دهراً بين الحرّتين، لا يدري بها قيصر ولا يحفلها كسرى، من أرض الفطرة والحرية التي لم تبلغها أوضار المدينة، من حيث انبثقت الحياة البشرية أول مرة: من جزيرة العرب. . .
رجل واحد قام وحده لإصلاح الدنيا، قال لقريش سادة العرب: اتركي هذه السيادة، فالناس كلهم سواء، لا فضل إلا بالتقوى والأخلاق وبارع الخلال؛ وقال للعرب المشركين: حطموا هذه الأصنام، فأنها لا تضر ولا تنفع، واعبدوا الله الواحد الأحد؛ وصرخ بكسرى وقيصر: أن دعا هذا الجبروت الظالم، وهذه الربوبية الكاذبة، فما كان بعض البشر أرباب بعض، واتبعاني أجعل منكما عبدين لله صالحين!
فثارت به قريش، وقام علية العرب، وعاداه الملكان كسرى وقيصر، وأعلنت أقدس حرب وأعجبها: الحرب بين محمد وبين العالم كله، الحرب التي انتصر فيها (محمد) على الدنيا!
ولكن ما شأن الهجرة في ذلك؟ ليست الهجرة، يا سادة، انتقالاً من مكة إلى المدينة، وليست سفراً كالأسفار، ولكنها المرحلة الأولى من هذا الزحف المجيد للحملة التي جرّدها الله على الكفر والظلم والفحشاء والمنكر وجعل قائدها (محمداً)! إنها الخطوة الأولى من هذا الزحف الذي لم يقف ولم يتباطأ، حتى امتد من الهند إلى مراكش، ثم عبر البحر من هنا إلى الأندلس، ومن هناك إلى البلقان، ثم دخل في الزمان، واجتاز العصور، حتى انتظم أربعة عشر قرناً، وغمر نصف المعمور بالنور، ثمّ إنه سيمتد حتى يبلغ آخر الزمان، ويعم الأرض كلها. . . إن الهجرة هي الحلقة الأولى من سلسلة المعارك الظافرة الفاصلة التي خضناها دفاعاً عن الحق والعدل، والتي منها بدر والخندق والقادسية واليرموك، ونهاوند وجبل طارق، وعمورية والحدث، وحطين وعين جالوت والقسطنطينية، وطرابلس والغوطة، وجبل النار.
لقد مشى (محمد) ليزيح الظلام، ويحطم طواغيت الظلم حيثما قامت. . . وقريش الحمقاء تحسب أنه بعث لها وحدها، وأن مدى رسالته متسع هذا الوادي، وأنه هاجر خوفاً منها، لذلك بعثت رسلها ينفضون الأرض ليأتوا به ويرجعوه إليها. . .(653/51)
يا لجهالة قريش، وياللغرور السيئ ما يصنع بأهله!
مه يا قريش الحمقاء، إنك لا تعرفين من هو (محمد)، ولا تدرين ما رسالته! مه يا قريش، دعيه يمر، إن في يثرب أنصاراً له ينتظرونه، إن وراء الرمال، في بلاد الظل والماء، شعوباً ترقب مجيء النبي، قد علقت به آمالها، ونفد في ترقبه صبرها! إن وراء القرن السابع أمماً لا تزال في أحشاء الغيب تنتظر النبي، فهل حسبت قريش أن في الغار رجلين اثنين؟ إن فيه أمل الدنيا، فيه رحمة اللهللعالمين، فيا لجهالة قريش حين تريد أن تمنع رحمة الله عن العالمين!
أتعرفون ماذا صنع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وجد العرب قبائل وبطوناً: لكل قبيلة عالم، ولكل بطن دين، آلهتهم شتى، وأربابهم أصنام، همهم سيف يجرد، أو جمل ينحر، يأكل بعضهم بعضاً: فبكر تحارب تغلباً، وعبس وذبيان، واليمن ومضر، لهم ملوك في مشارف الشام وأطراف العراق، ولكن ملوكهم خول لكسرى وقيصر، يقتلون إخوانهم في العروبة في سبيل الأجنبي!
وجد في مكة، وهي حاضرة العرب، ودارة قريش، بضعة عشر يقرأون ويكتبون، وسائر أهلها أميين، ووجد علماء العرب هم الكهان والشعراء، أولئك يسجعون فيهرفون بما لا يعرفون، وهؤلاء يشبّبون ويمدحون ويذمون!
أفبهؤلاء يصلح العلم الفاسد؟ إنه لموقف يؤيس العظيم، ولكن (محمداً) لا يعرف اليأس أبداً، ولا يعرفه أتباع (محمد)!
إنه يريد أن ينشئ من الأمة المشركة المتفرقة الجاهلة، أمة واحدة مؤمنة عالمة، فليصنع كما يصنع البنّاء: يضع الحجر على الحجر، فيكون جداراً، وكذلك فعل (محمد): بنى أمة صغيرة من ثلاثة، من رجل وامرأة وصبي، من أبي بكر وخديجة وعلي، فكانت نواة هذه الأمة الضخمة التي ملأت بعدُ الأرض، وكان أسلوباً يخلق احتذاؤه بكل مصلح. ثم صار المسلمون عشرة، ثمتموا أربعين، فخرجوا يعلنون الإسلام بمظاهرة لم تكن عظيمة بعددها ولا بأعلامها وهتافها، ولكنها عظيمة بغايتها ومعناها، عظيمة بأثرها، عظيمة بمن مشى فيها: محمد وأبو بكر وعمر وعلي وحمزة، أربعون لولا محمد لعاشوا ولماتوا منكرين مجهولين، فلما لامسوه وأخذوا من نوره، وسرت فيهم روح من عظمته، صاروا من أعلام(653/52)
البشر، وصارت أسماؤهم مناراً للسالكين، فلما بلغوا ثلاثمائة، خاضوا المعركة الأولى في الدفاع عن الحق، معركة بدر، فلما بلغوا عشرة آلاف، فتحوا مكة، وطهروا الجزيرة العربية، فلما بلغوا مائة ألف فتحوا الأرض!
فتحوا الأرض، فلما انقادت لهم، فتحوا القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، فما عرفت هذه الدنيا أنبل منهم ولا أكرم، ولاأرأف ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم، ولا أجل ولا أعظم!
فإذا كان في العظماء من كشف مكروبات، فمحمد قد كشف أبطالاً، وأن يكن فيهم من داوى مريضاً، فمحمد قد داوى أمماً، وإن يكن فيهم من برع في الحرب وفي فن القتل، فمحمد كان فنه الأحياء والهدى، وإن يكن فيهم من ألّف قصصاً وروايات، فالذي صنعه محمد لو تخيله قاص أو أديب لكان أكبر الأدباء، فكيف بمن أقامه من الحس لا الوهم، والحقيقة لا الخيال؟ وإن يكن فيهم من أفضل على أمة، فمحمد قد أفضل على الناس كلهم، فما على الأرض أمة لم تستضيء بنور دعوته، ولم تقتطف من ثمار حضارته، ولم تنتفع في قضائها بشريعته، لولا (محمد) وقرأنه ما كانت حضارتنا، ولا علومنا، ولولا حضارتنا وعلومنا ما كانت حضارة الغرب، نحن حفظنا إرث فارس والروم واليونان، وصححناه وزدنا فيه وأفضنا عليه من نور القرآن. ثم علّمناه تلاميذنا من أهل أوربة، وأعطيناه في فلسطين لمن جاء يبغي لنا الموت، وحمل إلينا سيوفاً أحدّها التعصب وشحذها الجهل، فحملنا إليه الحضارة والعلم والحياة، وأريناه نُبل أتباع (محمد)!
أفبلغ بالناس أن ينسوا فضل (محمد) عليهم؟ إن ينس الناس فما نسى التاريخ، وإن تسكت الألسنة تروى الصحف ويتحدث الصخر: سلوا هذه القبة السامقة والسواعد التي أقامتها، سلوا هذه الأساطين والعلماء الذين استندوا إليها، سلوا هذا المنبر: كم صدع فوق أعواده بحق، وكم أعلن من مبدأ كريم، سلوا الظاهرية وما فيها من الكتب، سلوا النظامية والمستنصرية والأزهر، سلوا دجلة: كم ألقي فيه من نتاج أدمغتنا، سلوا الأندلس: كم أحرق فيها من ثمرات عقولنا، وما نقصت مكتبتنا بما أغرق وما أحرق، سلوا جامعات الغرب: ألم تعش على كتب ابن سينا وابن رشد والإدريسي والبيروني دهراً طويلاً؟ سلوا تلك البيض: هل جردت إلا دفاعاً عن الحق والفضيلة والمثل الأعلى؟ بل سلوا قلوبكم وما صنع فيها الإيمان، تروا أن هذا الإرث القليل الذي وصل إليها يثبت أن الإسلام هو أعظم شيء عرفه(653/53)
هذا الوجود. . . إننا برغم ما صنع الدهر بنا وما صنعنا بأنفسنا حين أهملنا شريعتنا لا نزال نحتفظ بعزة المؤمن الذي يعلم أن الأجل محتوم، فلا يخاف أن يعاجله الموت إن صدع بحق أو خاطر في واجب، وأنه لا إله إلا الله، لا يضر ولا ينفع سواه، فلا يخاف مع الله أحداً، قم حيثما شئت من ديار العربية التي قبست من نور (محمد)، ثم ادع باسم الدين، وباسم العرض، ترِ كيف تقتحم الأهوال، وتستسهل الصعاب، بل ادع بذلك في بوادي نجد، وفيافي اليمامة، تلّبك رمالها وتنقلب فرساناً، إن لم تجد من الناس ملبياً!
لا تعجبوا، يا سادة، فإن من معجزات (محمد) أن جعل أتباع دينه كلهم (على رغم أنوفهم) أبطالاً!
إننا اجتمعنا في محبة (محمد)، ولكن منا من لا يعرف على حقيقته (محمداً)!
ولم يكن (محمد) عبقرياً فحسب، وأن آتاه كلُّ صفات العبقريين، ولم يكن نبياً فقط، وإن جعله الله خاتم النبيين، بل كان بشراً عظيماً أوحى إليه بدين عظيم، فهو - بشراً - أعظم البشر على الإطلاق: في كبر عقله، ونبل نفسه، في سمو خلاله، في أحاديثه وأقواله، في آثاره وأعماله، إنه ليس في العظماء، أو قل فيهم من عرفت حياته بدقائقها وتفاصيلها كمحمد، فانظروا أي خلق عظيم لم يتخلق به، أي موهبة لم يعطها، أي مكرمة لم ينلها؟ وهو - نبيّاً - أعظم الأنبياء على الإطلاق، جاءت الشرائع الماضية بأحكام تصلح لزمان واحد، وكانت شريعته قواعد وأسساً تستخرج منها الأحكام التي تصلح لكل زمان، شريعة عقل لا تخاف العقل ولا تجزع من اعتراضاته، بل تواجهه وتتحداه، وتدعوه إلى المناقشة مهما كان مدعاة، لما قالوا المقالة الشنعاء قال لهم: (أإله مع الله قل هاتوا برهانكم): تعالوا ناظرونا، نقرع دليلكم بدليلنا، وما نغلبكم إلا بقوة البرهان، شريعة تدعو إلى العلم النافع، رياضياً كان أو طبيعياً أو اجتماعياً، وترغب فيه وتحضّ عليه، شريعة جمعت ديناً وعبادة، وتشريعاً وسياسة، وأخلاقاً واجتماعاً! إن الدنيا بغير شريعة (محمد) جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى!
فما بالنا نظلم الإسلام، ونظن به العصبية والجمود؟ ما بالنا نستحي به ونحسبه يعود بنا إلى الوراء، والإسلام مذ كان دين سماحة وعقل وتقدم؟ ألا لقد آن لنا أن نفهم الإسلام على وجهه، وأن نعرفه على حقيقته، ونأخذه من منابعه، لا من أفواه أشباه العلماء، ولا من أشباه(653/54)
الكتب، وأن نعتز بالانتساب إليه، وأن نرفع الرأس فخراً، وأن نجعله أمامنا في حياتنا. . .
يا سادة! إننا طالما احتفلنا بهذه الذكرى ونحن محزونون متألمون، أدنى إلى اليأس وأبعد عن الأمل، فلنحتفل بها اليوم - ونحن فرحون مستبشرون - فقد بدا لنا النور، ودنت الأماني، ولاحت أعلام الوحدة ودقت طبولها، وقد طالما هجعنا ومرت بنا ليال حوالك طوال، فترت فيها الهمم، وخبت العقول، ولكن وقت النوم انقضى، وأذن مؤذن النهضة: حيّ على الفلاح. . . فنفضنا عن أنفسنا غبار الأحلام. . . ونهضنا!
لقد كتب على المسلمين أن يذلوا، ولكنها مرة واحدة، وقد مرت ولن تعود!
لقد انبلج الفجر، وانتهى الليل، وبدا نور النهضة، نور الاستقلال والوحدة، فاقسموا في هذا البيت الأطهر، في هذا اليوم الأنور، إنكم لن تناموا ولن تنوا ولن تضعفوا، فما ينال المجد نائم ولا وان ولا ضعيف!
إن (محمداً) علمنا معنى العزة والكرامة، وعرفنا قيمة العقل والعلم، وشرح لنا شريعة الإيمان والعدل والإحسان، فلنعد إلى ما شرع الله على لسان (محمد): نفتح في التاريخ صفحة مجد وسمو ونبل كالتي كتبها أجدادنا، ألا إنها كلمة صدق، إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ألا إنما أعز الله العرب بالإسلام، فإن ابتغوا العزة بغيره ذلوا.
فيا أيها الرئيس! أرفع راية القرآن، ثم ادعنا للعمل شيوخاً لهم عزيمة الشباب، وشباباً لهم حكمة الشيوخ، تجبك من جنود الحق جحافل، وصلت يوم القادسية واليرموك بأيام الغوطة ونابلس التي فيها جبل النار، اعمل للوحدة الكبرى، فإنها حياتنا لا حياة لنا إلا بها، أقمها على صخرة الإسلام الراسية، لا تعبث بها الزعازع، ولا تزلزلها الأعاصير!
إنك القائد الحكيم، ولكنها ضجت في العروق الدماء، وتلوّت قي الأغماد الصفائح، فانشر اللواء، وسُقِ الخميس لتعلم الإنس والجن، إنه لا يزال في عروقنا ذلك الدم الذي نضخ الأرض من بواية إلى الصين، وفي قلوبنا ذلك النور الذي أضاء الدنيا من مشرقها إلى المغرب، وفي سواعدنا ذلك العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، وفي أفواهنا ذلك النشيد الذي علا في كل مكان، فكانت تخشع له الرواسي وتطأطأ الشامخات: لا إله إلا الله. . . والله أكبر!
علي الطنطاوي(653/55)
محمد والإنسانية
للأستاذ عمر الدسوقي
ظلت الإنسانية تتعثر في حلكة دامسة، منذ درجت على أديم هذه البسيطة، قروناً تتراجع بعيداً في أغوار الزمن السحيقة، لا ترى قبساً من نور يهديها الطريق في سدفة الظلام إلا غرائزها الفطرية التي نمت وفقاً للبيئة التي شب فيها الإنسان، والحياة التي أنتهجها لنفسه - حياة الأدغال والكهوف والصيد - وإلا لمحات من النور تلمع في الفينة بعد الفينة في أفق الإنسانية حينما يرسل الله نبياً من أنبيائه، لا يلبث بعده قومه أن يعودوا أدراجهم إلى أحضان الظلام.
أما العقل، ذلك النور الكامن في الإنسان، فكان يغط غطيطاً ثقيلاً، وإذا حاول اليقظة ردته غشاوة التقاليد، وكابوس الغرائز، وهبت عليه أعاصير الخرافات، فأطفأت الشعلة التي تجرأت أن تبرق في ذياك ألديجور المرعب.
نشأ الإنسان في هذا الظلام الروحي يقدّس كلُّ ما أعيته الحيلة في إدراك كنهه، وكل ما خشي سطوته وبأسه، يقدس الشمس مصدر الحرارة والضوء والحياة، والنهار، والرياح العاتية، والرعود القاصفة، والسيول الجارفة؛ ويقدم لها جميعاً القرابين حتى تهدأ ثائرتها، وترضى عنه فلا تعرقل سعيه في طلب القوت، وهو كلُّ مبتغاه، ولا تطرح بنسله، وهو كلُّ ما يحرص عليه.
نشأ الإنسان تستوعب قلبه الأثرة والمادة، والتعصب للجنس والقبيلة، التي يطمئن إلى حمايتها؛ ونشأ يمجد القوة والبطش.
وحاشاي أن أرجع إلى عهود الظلام فأسرد تاريخ الإنسانية الرهيب، تلك العهود التي نظن أنها مترامية في أعماق التاريخ أو ما قبل التاريخ، وما عهد الإنسان بها ببعيد؛ فعصور الحضارة منذ اكتشفت النار حتى اليوم تُعَدُّ شهوراً قليلة في عمر إنسان لا ينيف عن الخمسين؛ ولذلك كانتِ الحضارة في الإنسان غير أصيلة وهو دوماً نزاع إلى التحفظ والتمسك بأهداب التقاليد القديمة، سيان منها ما أستحسنه العقل الحر وما أستهجنه. ولذا أيضاً يخشى على الحضارة أن يعصف بها صراع هائل كالذي شهدنا في هذه السنوات الماضية فيرتد الإنسان ثانية إلى غياهب الظلمات.(653/57)
أذكر هذا، وأذكر رسالة محمد عليه السلام، وكيف كانت حال الإنسان لعهدها: فمصابيح الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية قد أوشكت أن تنطفئ، وأخذ الناس يرجعون القهقري إلى غرائزهم وطباعهم؛ يتنازع العالم المعروف إذ ذلك دولتان قد استعرت بينهما نار الحرب، وتكالب الناس على المادة، فلا ترى إلا عقولاً ذاوية وقلوبا خاوية، ولذلك كانت رسالة محمد دفعاً قوياً إلى وضح النهار، وطالما ذكر القرآن الكريم العالم بهذا:
(قد جاءَكم من اللهِِ نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدى به اللهُ من أتَّبَع رضوانهَ سُبَلَ السلام، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم).
جاء محمد عليه السلام، يحرر الإنسانية من أغلال الجهل والفساد، ينبغي لها حياة هادئة وادعة، يغمرها نور الأيمان والعلم، ويعيش فيها الناس على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، في السراء والضراء، فحارب بشدة تلك النَعرات الجاهلية الغاشمة، والعصبيات القبلية الدميمة، وأعلن أن الناس سواء، فلا يفضل إنسان ما غيره من البشر بالجنس أو الدم أو القوة، ونادى ذلك النداء الذي يشع النور من كلماته:
(الناس سواسية كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية).
(الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب).
(لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى) وجاء القرآن مصدقاً لهذا حيث يقول:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
رأى محمد عليه السلام النفوس تغص بالجشع، والقلوب تجيش بالطمع، والأثرة تسيطر على العقول، فأستبد القوي بالضعيف لا يفكر المرء إلا بنفسه، ولو تقطعت الأرحام، وذوت صلات القربى، وأصبح بذلك الظلم والبغي والمنكر قانوناً يطبقه الغني والقوي، ويرضخ له الذليل والفقير، وما هذا لعمري سوى قانون الأدغال والغابات، فنادى الله تعالى في كتابه:
(إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون).
نظم محمد عليه السلام العلاقات الاجتماعية على أساس التعاون الوثيق بين الأفراد،(653/58)
والمحبة والإخاء، فالسادة الذين يشمخون بأنوفهم كبراً، وتتنفج قلوبهم عنجهية، يجب أن يتطامنوا ويتواضعوا، وإلا فإنهم محرومون رضاء الله حيث آذوا عباده:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين). ويقول مرة أخرى:
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم).
أما هؤلاء الذين أدركوا معنى الإنسانية، وتجافوا عن الكبرياء، ورضى الله عنهم، فهم الذين قال فيهم القرآن:
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
ويجمع محمد عليه السلام قانون العلاقات الاجتماعية في حديثه الشريف (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه). ونرى القرآن يحد من غريزة العدوان، ودفع الشر بمثله فيقول:
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
ولم تُك هذه التعاليم مجرد آيات تتلى، وأحاديث تتردد، بل تشربتها قلوب العرب، أكلة الشيح والقيصوم، واتخذتها نبراساً تستضئ به؛ فملئوا الدنيا عدلاً وأمناً وحرية، فاستمع إلى أبي بكر يقول:
(إن القوي فيكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم عندي القوي حتى آخذ الحق له).
وأستمع لعمر بن الخطاب يقول:
(متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
ولا بدع فدين محمد عليه السلام ليس مجرد صلاة وعبادة؛ وإنما أساسه حسن المعاملة بين الناس، وشعور كل فرد بشخصيته وحريته في حدود القانون والمصلحة العامة، فيقول الله تعالى:
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا،(653/59)
والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
ولم تكن الصدقات تفضلاً من ذوي اليسار على ذوي المتربة يؤدونها تارة، وينكرونها أخرى، بل كانت فرضاً محتوماً يخرجونه من أموالهم عيناً كانت أو عروضاً، ثابتة أو منقولة. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وأبن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم).
وأصرح من هذا قوله تعالى:
(إن الإنسان خٌلِقَ هلوعاً، إذا مَسَّه الشرُ جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم).
ولما كان حب المادة متأصلاً في النفوس البشرية منذ كانت في عصور الظلام رأى محمد عليه السلام أن طالب المادة لا يشبع، وأن الروح لا بد لها من غذاء، ولقد كانت حياته هو نموذجاً لتغذيه الروح، وتجنب زخرف الحياة، ومع هذا فلم يحث القرآن الناس على ترك الدنيا؛ لأن الإسلام دينُ عملي يتمثل في الآية:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسِنُ كما أحَسنَ الله إليك)، ويتمثل في الأثر: (أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتكَ كأنك تموت غداً). وإنما كان القرآن يعقد تفاضلاً بين الحياة الدنيا والآخرة مخافة أن يطغي حب المادة على الروحانيات، ولهذا يقول تعالى:
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا) ويقول عز وجل: (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون).
ولما كان العقل قد طال ركوده نفخ محمد عليه السلام في تلك الجذور المطمورة حتى عادت شعلة ملتهبة، ولهذا كثر توجيهه الناس إلى التفكير فيما حولهم من بدائع المخلوقات حتى يحرك أذهانهم: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
ولما كان العرب في عهده أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب حثهم على التعلم، رافعاً من شأن العلم(653/60)
وأهله، وافتداؤه أسرى بدر بتعليم كلُّ منهم عشرة من أبناء المسلمين خير مثال عملي على ذلك، وقوله في الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) كان أكبر حافز على اهتمام المسلمين بالعلوم، وأستمع إلى القرآن الكريم كيف يعظم العلماء ويوجه الفكر توجيهاً صحيحاً:
(ألم ترّ أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيضُ وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور).
وهذا يفسر لنا تلك النهضة العربية الإسلامية التي ظهرت بعد بعثته، وشغف المسلمين بالفلسفة والعلوم العقلية التي أحيا المسلمون شعلتها وزادوا في سناها، وتلقفتها أوربا من أيديهم ساطعة منيرة.
ولم يك محمد عليه السلام متعصباً لدينه، ينكر الأديان قبله ويذمها، بل جعل شرط الإسلام الإيمان بما أتى به النبيون من قبل:
(قولوا آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ودين محمد لا يعرف التعصب بل يشمل الإنسانية كلها لا يفرق بين الأجناس ولا البلاد ولا الحدود: (وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
هذه لمحات سريعة من بعض تعاليم الإسلام التي أخرجت الإنسانية من الظلمات إلى النور، فهل لنا بنفحة من نفحات محمد عليه السلام ترف على العالم فتهديه سبل السلام وقد أوشكت مآسيه أن تلقف كل ما بنى النور وشيد؟!
عمر الدسوقي.(653/61)
موقفنا من الحضارة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير في الأوضاع والمرافق، فقد غزا جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، جسيمها وتافهها، ودخل في الطعام والشراب، في الترف والنعيم، في الحقل والبيت، في الحرب والسلم.
وأصبحنا لا نعيش إلا في أجواء من العلم، ولا نسير إلا على طريقة تحيط بنا الاكتشافات وتكتنفنا الاختراعات، فآثار العلم بادية في كل مكان وأصوله متغلغلة فيما جلّ من الشئون وما هان.
سرِّحْ الطرف وأنظر ما أخرجه العلم من مميزات ومعجزات في عالم الصناعة والآلات، تجد أن العلماء استغلوا الطبيعة والكيمياء والهندسة وما إليها فأتوا بالكهرباء وقالوا لها كوني نوراً فكانت، كوني ناراً، كوني حركة فكانت المحركات تسير في ركابها القاطرات والساريات والطائرات كما تدير الآلات، تعمل ما يعمله الإنسان بيديه وما لا يستطيع، ولكن بقوة وعزيمة ودقة قاربت حدود الكمال.
ثم أتى إلى الأمواج اللاسلكية وجعلها رهن إرادته، فإذا المستحيل ممكن واقع، وإذا الإنسان يملأ بها الأجواء تحمل له الأنباء والأخبار والصور. وأتجه العلماء إلى الإنسان وجسده فتمكن العلم من كشف بعض أسرار الحياة وقواعد الصحة وأسباب الأمراض ووسائل العلاج فتفنن في صنع الأدوية والأمصال واستخرج من العفن البنسلين والفينيسيلين فأتى بالعجب العجاب من فتك بالجراثيم والأمراض وإبادة آثارها وما تتحفه من آفات.
ولم يقف الغرب عند هذه الحدود، بل أقام الزراعة والفلاحة والاقتصاد والتجارة والتعليم والسياسة على أساس من العلم فدانت هذه لمآربه وغايته ونجم عن ذلك تقدم مادي لم يخطر على بال إنسان.
وجاء بعد ذلك إلى الشرق فدرسه وخبر أحواله، ورأى أن من حقه استعماره واستغلاله، كما يستغل الأرض ويستعمرها، وهكذا كان وهذا ما هو جارٍ الآن فإذا الشعوب كالحديد والنحاس تستغل لحساب الأمم ذات القوة والبأس، وتُسَخَّر لمصالحها وغاياتها، ذلك لأن الغرب سارٍ على مقتضى العلم يستخدمه في الحياة والعمران بينما الشرق بقي بعيداً فلم(653/62)
يَسِرْ في حياته وفق العلم ولم يدرك بعد أن العلم هو الذي يدفع الأمم دفعاً في مضمار التقدم، وأن لا حياة لأمة تعيش بعيدة عن العلم، ولا كيان لشعب لا يؤسس حياته على العلم، فهو مفتاح النهوض وهو أُسُّ الارتقاء في معارج المجد والخلود.
هذا هو طابع المدنية الحديثة - طابع العلم - الذي دخل في صميم الحياة وانبثَّتْ حقائقه في شؤونها العملية منها وغير العملية.
هذا هو الوجه الحسن في الحضارة الحالية والجانب اللامع منها. ولكن مهلاً. . . هناك ناحية ضعف أدت إلى ما نراه في المدنية من إفلاس، ومن عدم ملاءمتها للحياة الهادئة القائمة على قواعد الخلق والروح والفضائل.
لقد أستغل العلماء العلم بعيداً عن قوى الروح والقلب، فأعلوا من شأن العقل والعلم علواً كبيراً، وحكموا العقل في القلب كما حكموا العلم في الدين فنتج عن ذلك ما نراه من فوضى خلقية وحروب طاحنة رهيبة، فاستأسدت الغرائز وأسرفت المطامع فإذا آلة العلم تتجه نحو التدمير والتخريب والفتك والتقتيل حتى أصبحت القوة مقياس تقدم الأمة وعظمتها، ولو تدخل القلب واتجهت آلة العلم نحو البناء والإثمار والخير والكمال لسمت المدنية وأرتفع شأن الإنسانية ولسار العلم في خدمة الحياة وإعلاء مقامها.
ومن هنا يتبين أن الأمم لا تصلح بالعلم بقدر ما تصلح بالقلب والأخلاق، أن التقدم الذي وصل إليه الإنسان - وقد توافرت فيه أسباب الرفاهية والرخاء - لم ينج الإنسانية من المصائب المحيطة بها ولا من الأهوال التي تنصب عليها.
هل قضى هذا التقدم على المشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع؟
الواقع المشاهد أن المدنية الحديثة قد زادت المشاكل تعقيداً والتواءً كما سلبت العالم راحة البال وطمأنينة النفس، ذلك لأن حكمة الإنسان قد قصرت عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية غير حاسبة حساباً للخلق العالي ومعاني الحق والواجب والمثل العليا.
والذي يخشاه كبار الفلاسفة أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم في أغراض الروح والخلق استمرت هذه القوى في اتجاهها نحو التدمير وهددت بزوال ما بقي من معالم الحضارة آثار الفكر والعقل.
وعندئذ يسكن العلم المصنع، ويطغي العلم على القلب، والماديات على المعنويات فتبقى(653/63)
الحضارة على مشاكلها والناس في قلقهم والأفكار في اضطرابها وتتضاعف متاعب الإنسان وتزيد تعقيداً فلا يخرج من فوضى ألا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا راحة ولا أمان، ولا سلام ولا اطمئنان.
وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حد لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من الصعاب المحيطة به من كلُّ جانب يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلى من شأن المثل العليا والأخلاق الفاضلة كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين العلم والروح كما تلائم بين العقل والقلب. والحياة لا تكون آمنة يسودها رحمة وسلام إذا طغى العلم على الأرواح والأوضاع، بل إنها لا تكون نامية رائعة إذا لم تسر على وحي القلوب ولن يستطيع الإنسان أن يرد عن الحياة والآثام والشرور والمفاسد إذا حكَّم العلم وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال.
والعيش لا يصفو في جو مادي تفرغ فيه القلوب وتمتلأ به الجيوب، والأعصاب لا تهدأ وهي عرضة للنزعات التي تذكيها المادية! وهل لحياة قيمة بل هل يكون لها روعة إذا بعدت عن المعنويات وهزأت بالروحيات؟.
إن العلم قد وضع في أيدينا قوة عظيمة إذا لم نحطها بسياجمن الخلق والروح انقلب إلى قوة هدامة مدمرة وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظ هذه القوة ضمن هذا السياج لتجني منها الإنسانية قوى الخير والبناء والأثمار.
وعلى المفكرين والمعاهد أن يحاولوا المساهمة في هذا السبيل ويسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالاتهم بنفحات روحية وعلى أساس من الخلق متين.
يهمنا ألا يغتر النشء بهذه الحضارة وأن لا يسير وراءها دون روية وتمحيص، وأن لا يأخذوا بآراء القائلين بالسير مع المدنية والانغماس في ماديتها ونبذ التقاليد الشرقية والعربية وقطع كلُّصلة بالماضي.
يظن كثيرون من الشباب أن قطعة صغيرة من طائرة أو سيارة أفضل لنا من كلُّ ما ورثناه من خلق ومعنويات وتراث روحي خالد.
لقد شطَّ الفكر. انظروا إلى أوربا فعندها الاختراع وعندها الآلات، وعندما المصانع(653/64)
والأدوات. . . انظروا ماذا حل بها؟ وكيف حالها في هذه الأيام؟ نظروا إلى العلم لكنهم لم يعبئوا بالقلب أو الروح.
نظروا إلى النجوم، لكنهم لم ينفذوا بصيرتهم إلى الله وراءها.
ماذا كانت النتيجة؟ كروب أحاطت بهم وحيرة انتابتهمفإذا هم في جحيم يتلظى وفي دنيا من نار ودخان.
لا كانت مدنية، ولا كان علم يقود العالم إلى هذا الدمار وإلى هذه الفوضى في الخلق والأوضاع.
ليس العلم كل شيء في هذا الوجود.
إن الأخلاق والمعنويات شئ عظيم في هذا الوجود. والإنسان لا يكون الرجل الذي ينشده الدين والفضيلة إلا إذا صح إيمانه بالله وحكم القلب على العقل والمعنويات على الماديات.
والمدنية لا تكون سامية فاضلة إلا إذا سيرت العلم مع القلب والعقل مع الإيمان واليقين.
إذا أيقن الإنسان أنه عماد أمته، به يرتفع شأنها وبه تقوى وتزداد حيويتها، إذا أيقن أن من وثبات مجدها ومن خفقات قلبها وأن أغزر الناس حياة أعماقهم تفكيراً وأنبلهم شعوراً واصلحهم عملاً. . . عندئذ فهو الجدير بالحياة الكريمة وحمل أمانيها وتبعاتها.
إن الجماعة إنما تصلح بالخلق والضمير لا بالعلم.
وإن النفوس لا تقوى إلا بتذليل الصعاب ومجابهة المتاعب والعقبات والأخطار، وإن من يقف أمواله وأيامه وجهوده على إمتاع نفسه لا يعرف الحياة لأنه لا يعرف الوطن.
وأخيراً إن العلم وحده نقمة وشقاء وهدم وتدمير.
وإن العلم لا يزكو ولا يثمر ولا يصبح أداة خير وبناء وإصلاح إلا على أساس من الروح والخلق العالي، وإن الرجل العظيم هو الذي يرشد بالمعرفة والعطف لا من يستفز بالتحكم والبطش وإن أعظم الجماعات أقواها قلباً وأحياها ضميراً.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان.(653/65)
العدد 654 - بتاريخ: 14 - 01 - 1946(/)
عاهل الجزيرة العظيم!
من بوادي نجد منبت العَرار والخزامَي، ومهب الصبا ومسرى النعامى، فاحت عطور الإسلام والعروبة من جديد، وباحت الرمال الصامتة بسرها المكنون منذ بعيد؛ وهبّت نفحات الرسول على آل الشيخ وآل سعود فجددوا ما رثَ من حبل الدين، وجمعوا ما شتَ من شمل العرب؛ وتهيأت الفرصة مرة أخرى لشريعة الله لترى الناس كيف بسطت ظلال السلام والوئام والأمن على أشد بقاع الأرض ضلالة وجهالة وفتنة؛ وتجلت في طويل العمر عبد العزيز فضائل العرب الأصلية: فمثل شاعريتها في رهافة حسه، وأريحيتها في سماحة نفسه، وحميتها في صرامة بأسه؛ فهو في دينه النقي الخالص، وفي خلقه السري الصريح، دليل ناهض على أن الجزيرة العربية لم تعقم بعد أنصار الدعوة وأبطال الفتوح. ولا يضيرها أن تتباعد فترات الإنجاب مادامت تنجب في القرن الأول ابن الخطاب، وفي القرن الأخير ابن السعود!
والملك عبد العزيز كالخليفة عمر من القادة المصطفين الذين صنعهم الله على عينه، وأمدهم بسلط ووعونه، ليؤيدوا رسالة أو يجددوا دعوة أو يوحدوا أمة. وقد اصطفاه الله من آل سعود ليكشف على يديه ما ادخر في هذه الأرض المقدسة المجهولة من ثراء وقوة، وليعود العرب بنعمة الله عليهم وعليه أمة واحدة ذات عزة وسطوة. والعرب والمسلمون على اختلاف المذاهب، وتباين الأجناس، وتنائي الديار، يولون وجوههم كل يوم خمس مرات شطر المملكة السعودية، لأنها صلتهم بالسماء، ورابطتهم في الأرض، ومنارتهم في الحياة!
وابن السعود هو ملك الوطن المشترك، وإمام القبلة الجامعة؛ لذلك أوتي محابَّ القلوب وطواعية النفوس، فله في صدر كل عربي مكانة، وفي عنق كل مسلم ذمة!
ولقد كان استقباله في مصر يوم الخميس الماضي تعبيراً شعبياً قوياً عن هذه المعاني التي تجول في كل خاطر وتتمثل في كل ذهن: كان استقبالا رائعاً لم تشهد الكنانة مثله لزعيم أو فاتح؛ لأن العواطف التي حشدت هذه الألوف المؤلفة في طريق الموكب الملكي على أطورة الشوارع وطنوف العمائر، وفي أفواه الأزقة ونوافذ البيوت، كانت شيئاً آخر غير الفضول الذي يسوق الناس في مثل هذا اليوم ليشهدوا ضخامة الحشد وفخامة الجند وروعة السلطان: إنما كان استقبالا روحياً طبيعياً فيه الحب والإعجاب، وفيه التجلة والقداسة، وفيه معنى أسمى من كل أولئك وهو شعور كل مصري بأنه يستقبل فرعاً من أصله، وعزيزاً(654/1)
من أهله.
فعلى الرحب والسعة يا مجدد التوحيد والوحدة، ومقيم ملكه الأشم علي الحمية والنجدة! وعلى الرحب والسعة يا حامي الحرمين، وثمال القريتين، وباعث الجزيرة الهامدة إلى عصر جديد سعيد يقوم فيه أمر الله على سيف علي ومصحف عثمان ودرة عمر وعزيمة الصديق!
أحمد حسن الزيات(654/2)
فلسطين. . .!
للأستاذ عمر الدسوقي
وإن تعجب فعجب لأمريكا القوية العالمة كيف عمى عليها فلم تتبين الحق الأبلج الوضاء كأنه الصبح المشرق، من الباطل الخبيث المعتم كأنه قطع الليل البهيم:
حق فلسطين العربية المجاهدة، وفي يمينها سفر يسطع بالكفاح المجيد، والتاريخ العتيد، والتراث التليد، والحجج الدامغة؛ ومن ورائها جمهرة بنيها تلهج بلسان عربي مبين، وتتقد حماسة، وتشتعل وطنية في الدفاع عن الوطن الغالي، متحدية في شمم وكبرياء مال اليهود وجيش الإنجليز.
وباطل الصهيونية المدلسة الغاشمة، ولا تملك من برهان تقنع به بعض الأمم إلا المال تشتري به ضمائر الساسة، وتسخر به أقلام الكتاب، وتفتن به أرباب الصحف، وتسيطر به على الأسواق، وتزخرف به الدعايات المزورة.
من كان يظن أن أمريكا تناصر البهتان في ابشع صوره، وقد دوت صرختها في أرجاء المعمورة، يوم أن نزلت إلى ساح الوغى تملأ البر جيوشاً، والبحر أساطيل، والسماء أسراباً، وحشدت العلم والمال، وأرخصت العزيز، والتفتت إلى العالم تنبئه أنها ستصرع الباطل ودولته، والبغي وصولته، وأنها درء الضعيف المهضوم الحق، وكفيلة الحريات بشتى أنواعها، وأنها تنشد للعالم سعادة ورفاهية وحياة مديدة في رخاء وبلهنية.
أكان ذلك خداع المحتاج، ونفاق المضطر؟ أضحي بألوف الألوف من الشباب الغض، وروعت الأسر الآمنة، والمدن الوادعة، وضربت الأرض العامرة الممرعة، ودكت المصانع المزدهرة اليانعة، وقوضت أركان المدنية وبلبلت أفكار الإنسانية وزلزلت مبادئها من القواعد، في سبيل قضية ملفقة، ودفاعاً عن النهم، ونصرة للباطل في مسوح الحق؟!
يا للعار!!
إن هذا الحكم الجائر على فلسطين العربية الذي افتتح به نواب أمريكا وشيوخها عهد السلم، لأكبر وصمة للمدنية الغربية وأنصع دليل على الضمائر المعتلة، والموازين المختلة، والمواثيق الكاذبة، والأيمان الحانثة.
ومن عجب أنهم يصدرونه حفاظاً على ضمائرهم أن تلوث وعهودهم أن تدنس! فأي باطل(654/3)
وأي إفك!!
فيم التحكيم، وقد صدر الحكم؟ إنه أمر بُيت بليل، وقد وضحت سرائر القوم وما يضمرونه من سوء، ويدبرونه من مكيدة!
ليست فلسطين صنيعة لبعض أرباب الملايين في أمريكا حتى توهب لأفاقي الأرض ومن لفظتهم ديارهم من اليهود.
إن العرب وحدهم هم أولو الشأن في فلسطين، مهما ظاهر الباطل من قوي وأيده من جاه، وعاضده من ضغط سياسي وأدبي ومادي.
الكلمة في فلسطين للعرب، والحكم لهم دون سواهم، فإن شاءوا تحطمت قوى الباطل وعظموته على صفاة إيمانهم وشجاعتهم وصبرهم، وإن شاءوا استناموا للوعود المعسولة، والمماطلات الكاذبة، والأساليب الملتوية الدنيئة؛ فضاعوا وضاعت ديارهم كلها لا فرق بين فلسطين وغيرها.
إن الأمم التي تريد الحياة العزيزة الحرة لا يضيرها ما يبيته لها الأعداء، وما يحكمون به عليها، ما دام الإيمان يملأ جوانح قلوب أبنائها، وما دامت عزائمهم مبرمة، وأمورهم محكمة، وكلمتهم واحدة.
أمريكا تريد أن تتخلص من اليهود الذين ينافسون أبناءها ويسدون عليهم سبل العيش، ويسيطرون على تجارتها، وصحافتها ومسارحها، وخيالتها، وشركاتها، شأنهم في هذا شأن إخوانهم في كل بقاع الأرض؛ وتدعي أمريكا أنها حزينة تذوب من الأسى والحسرة لهؤلاء اليهود المشردين في خرائب أوربا؛ وأنها لن تهدأ حتى تجد لهم مأوى - لا في سهول أمريكا الخصبة الغنية، ومدنها العامرة الفتية، ولكن - في أرض فلسطين الجرداء وعلى ضفاف البحر الميت. فأي إفك وأي زور!!
لتقل أمريكا ما تشاء، فالكلمة الأخيرة للعرب، وهم يؤثرون الفناء بالقنابل الذرية أو بغيرها، عن أن يجعلوا من فلسطين أندلساً أخرى تغتصب من بين أيديهم وهم ينظرون. لو حدث هذا - لا قدر الله - فقل على الجنس العربي العفاء، ولن يكون ذلك ما دام في العرب أنفاس تتردد وقلوب تنبض.
أول سلاح للمقاومة هو المقاطعة التجارية، وقد وضع السلاح في أيدي الشعوب العربية،(654/4)
وهو سلاح فعال قتال؛ لأن اليهود من عباد المال، وقديما حينما أغواهم الشيطان، فضلوا عن عبادة الرحمن، اتخذوا لهم عجلا من ذهب يعبدونه من دون الله. ولا يزالون حتى اليوم يقدسونه ويؤلهونه.
ولكن الأمر يتطلب منا جداً، حكومات وشعوبأً، فالسلع الصهيونية قد غمرت الأسواق مدة الحرب، واليهود يسيطرون على التجارة: فهم الوسطاء، وهم كبار المستوردين، وهم أثرياء التجار، ولن ننجح في المقاطعة إلا إذا منعت الحكومات استيراد سلعهم، وتيقظت الشعوب، ورفضت في أنفة وحمية أن تعامل اليهود أو تشتري منهم. إني لا أخشى على أهل الشام إخفاقهم في المقاطعة فهم رجال ذوو دربة وجرأة في التجارة، وجلد على الأسفار، يستطيعون بما رزقوا من موهبة عملية أن يرحلوا إلى أوربا ويغشوا أسواقها ويجلبوا منها السلع المتباينة، ويقضوا على الوساطة اليهودية، والاستيراد اليهودي، فيربحوا ربحاً مزدوجاً في المال وفي الوطنية، ويضربوا اليهود ضربتين مادية ومعنوية.
ولكني أخشى على المصريين، فالوساطة اليهودية في كل السلع تسيطر على أسواقهم، ولم نر منهم من شمَر، وغامر وسافر وأتصل بالمصانع والمتاجر الكبرى في بلاد الغرب؛ فأكتسب تجربة ومالا، وقضى على عدو يمتص دمه ويعرق لحمه، ويلقي له بالفضلات والنفايات بعد أن يشبع ويبشم.
إن اليهود بعضهم لبعض ظهير، ونحن إن لم نقاطع السلع اليهودية والوساطة اليهودية نكون قد جرحنا العدو ولم نقتله. فهل نرى من شبابنا الناهض وتجارنا الذين أثروا مدة الحرب شجاعة وإقداماً؛ فيجددوا في طرق التجارة المصرية؟. وهل نجد عند الشعوب العربية حماسة ويقظة تجعلهم دائماً حريصين على استعمال سلاح المقاطعة الفتاك حتى تُدحر الصهيونية؟
يستطيع اليهود بأموالهم العظيمة، وبعطف إخوانهم الأثرياء عليهم في كل بقاع الأرض، أن يشيدوا المصانع في فيافي فلسطين إذا عجزوا عن زرعها، وأسسوا المدن التي تزخر ببني جنسهم إذا لم يستطيعوا تأسيس القرى والضياع، فإذا أردنا أن ندك تلك المصانع ونهدم تلك المدن، ونجعل فلسطين عليهم بلقًعاً جديباً يضيق بهم فيأكل بعضهم بعضاً أو يخلونه ويرحلون؛ فعلينا بالمقاطعة وتنظيمها حتى يحسوا بها قريباً، ويعلموا أنا أمم جادة لا هازلة،(654/5)
وأنا نريد الحياة ونتقن الكفاح، وأنا في غنى عنهم، وعما يتشدقون به من إصلاح لأرض فلسطين وزيادة في ثروتها.
أيها العرب! الكلمة لكم! والأمر خطير!
اذكروا ضحاياكم، وقراكم، وأرضكم، وتاريخكم!
اذكروا أنكم إن تقاعستم شرد إخوانكم، ونكبتم في أموالكم، واستولى عليكم اليهود، وصرتم لهم أجراء، وعبيداً أذلاء!!
اذكروا أن الجامعة العربية - تلك الأنشودة القوية، والأمنية الحلوة التي طالما ترنمنا بها هي التي تشهر سلاح المقاطعة وهي تخوض تلك المعركة، فإما نصر بعده مجد مؤثل، وإما إخفاق يتبدد به هذا الحلم الجميل - لا قدر الله.
عمر الدسوقي(654/6)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 22 -
ج 5 ص 245:
فمهلا فلي في الأرض عن منزل العلا ... مسار إذا أخرجتني ومسارب
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي ... وقسري فإن الرأي عنك لعازب
قلت: إذا أحرجتني:
ج 10ص208: ومن جيد شعره (شعر أبي زبيد الطائي):
إن نيل الحياة غير سعود ... وضلال تأميل نيل الخلود
علل المرء بالأماني ويضحي ... غرضاً للمنون نصباً لعود
كل يوم ترميه منها برشق ... فمصيب أوصال غير بعيد
كل ميت قد اغتفرت فلا واجع ... من والد ومن مولود
قلت: (علل المرء بالرجاء ويضحي ... غرضاً للمنون نصب العود)
(فمصيب أوصاف غير بعيد) في اللسان: صاف السهم عن الهدف يصيف صيفاً: عدل بمعنى ضاف.
(فلا أجزع من والد ولا مولود).
في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة: وعلى هذه القصيدة احتذى ابن مناذر في مرثية عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي.
في (الكامل): ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر فانه كان رجلا عالماً مقدماً شاعراً مفلقاً وخطيباً مصقعاً وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته. ولا يزال قد رمى في شعره بالمثل السائر والمعنى اللطيف واللفظ الفخم الجليل والقول المتسق النبيل. وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي منها ما اخترنا. قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة وكان من أجمل الفتيان وأدبهم وأظرفهم.
وروى أبو العباس من القصيدة تسعة وثلاثين بيتاً. منها:(654/7)
حين تمت آدابه وتردى ... برداء من الشباب جديد
وسقاه ماء الشبيبة فاهتز ... اهتزاز الغصن الندي الأملود
وسمت نحوه العيون وما كان ... عليه لزائد من مزيد
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود!
في (الأغاني): لما قال أبن مناذر:
ولئن كنت لم أمت من جوى الحزن ... عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمن مأتماً كنجوم الليل ... زهراً يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحري ... عليه وللفؤاد العميد!
قالت أم عبد المجيد: والله لأبرن قسمه، فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواريه مأتماً عليه، وقامت تصيح عليه: (واي ويه! واي ويه!) فيقال: إنها أول من فعل ذلك وقاله في الإسلام.
ج15ص185:
فاسلم على الدهر شديد القوى ... ذا مرة ما شد كف بنان
قلت: (ما شد كفاً بنان) في التاج: قال شيخنا هي (الكف) مؤنثة وتذكيرها غلط غير معروف وإن جوزه بعض تأويلا، وقال بعض: هي لغة قليلة. فالصواب أنه لا يعرف، وما ورد حملوه على التأويل، ولم يتعرض المصنف (صاحب القاموس) لذلك قصوراً أو بناء على شهرته أو على أن الأعضاء المزدوجة كلها مؤنثة. وفي اللسان: الكف: اليد أنثى، وفي التهذيب: والعرب تقول: هذه كف واحدة. وفيه: البنان الأصابع وقيل: أطرافها واحدتها بنانة. وفي الصحاح: ويقال: بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يوحد ويذكر.
ج10ص86: قال (أبو القاسم الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي):
لي كلما أبتسم النهار تعلة ... بمحدّث ما شاء قلبي شأنه
فإذا الدجى وافى وأقبل جنحه ... فهناك يدري الهم أين مكانه
وجاء في شرح (ما شاء قلبي شأنه): يريد أن حاله لا تتخطى ما أشاء.
قلت: (بمحدث ما شأن قلبي شأنه) بتخفيف شأنه ضرورة.
الوزير المغربي هذا هو الذي بعث إليه أبو العلاء برسالة (المنيح) وأولها (إن كان للآداب(654/8)
أطال الله بقاء سيدنا نسيم يتضوع، وللذكاء نار تشرق وتلمع، فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه، ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه) وبرسالة (الاغريض) (لما أنفذ إليه مختصر إصلاح المنطق الذي ألفه وفيها وصف المختصر) وأولها: (بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكِ أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية، أي هواء رقاكِ، وأي غيث سقاكِ).
قال العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام في مبحثه (لزوم ما لا يلزم متى نظم وكيف نظم ورتب):
(كان أبو القاسم المغربي الوزير ممن أقام بالمعرة، وكان يواد المعري ويراسله، وكان المعري يحفظ له ولأبيه من قبل أياديه، فلما توفى رثاه بأبيات مثبتة في اللزوميات، ولا أعرف رثاء لغيره أو مدحاً صريحاً) وروى العميد اللزومية وهي سبعة أبيات ثم قال: (وهذا الوزير توفى سنة 418. فهذه القطعة نظمت في هذه السنة).
قلت: ورد في ختامها هذا البيت:
إن يخط الذنب اليسير حفيظاك ... فكم من فضيلة محا يه
وإني أرى أن البيت يشير إلى شيء لم يذكر في (إرشاد الأريب) ولا في (وفيات الأعيان) ولم يشر إليه. وفي شرح النهج لأبن أبي الحديد حديث عن الوزير المغربي فيه ما ليس في ذينك الكتابين، ومنه تعرف تلك الإشارة. وأن يذكر (الشيخ) ذنب الرجل - وإن صغره وقال بعده ما قال - براعة منه وإنصاف بأعلامه أن هناك مأثماً. وقل: (إنه كان حوبا كبيرا).
قال ابن أبي الحديد: حدثني أبو جعفر يحي بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة قال: لما قدم أبو القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بوية وهو يومئذ سلطان الحضرة وأمير الأمراء بها والقادر خليفة. ففسدت الحال بينه وبين القادر، واتفق لأبي القاسم المغربي أعداء سود أوحشوا القادر منه، وأوهموه أنه مع شرف الدولة في القبض عليه وخلعه من الخلافة، فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح، وأوصل القول فيه والشكوى منه، ونسبه إلى الرفض وسب السلف وإلى كفران النعمة وأنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه إليه. قال النقيب أبو جعفر (رحمه الله تعالى) فأما الرفض فنعم، وأما إحسان الحاكم إليه فلا، كان الحاكم قتل أباه وعمه وأخاً من إخوته،(654/9)
وأفلت منه أبو القاسم بجريمة الذقن، ولو ظفر به لألحقه بهم. وكان أبو القاسم المغربي ينسب في الأزد ويتعصب لقحطان على عدنان وللأنصار على قريش، وكان غالياً في ذلك مع تشيعه. وكان أديباً فاضلاً شاعراً مترسلا وكثير الفنون عالماً. وانحدر مع شرف الدولة إلى واسط فاتفق أن حصل بيد القادر كتاب بخطه شبه مجموع. . . أتحفه به من كان يشنأ أبا القاسم ويريد كيده، فوجد القادر في ذلك المجموع قصيدة من شعره فيها تعصب شديد للأنصار على المهاجرين حتى خرج إلى نوع من الإلحاد والزندقة لإفراط غلوه، وفيها تصريح بالرفض مع ذلك، فوجدها القادر تمرة الغراب، وأبرزها إلى ديوان الخلافة فقرئ المجموع والقصيدة بمحضر من أعيان الناس من الأشراف والقضاة والمعدلين والفقهاء، ويشهد أكثرهم أنه خطه وأنهم يعرفونه كما يعرفون وجهه، وأمر بمكاتبة شرف الدولة بذلك، فإلى أن وصل الكتاب إلى شرف الدولة بما جرى اتصل الخبر بأبي القاسم فهرب ليلا. . . وكنت برهة أسأل النقيب أبا جعفر عن القصيدة وهو يدافعني بها حتى أملاها علي بعد حين، وقد أوردت هنا بعضها لأني لم أستجز ولم أستحل إيرادها على وجهها.
وروى أبن أبي الحديد من القصيدة سبعة وعشرين بيتاً. ثم قال: فهذه الأبيات هي نظيف القصيدة التقطناها وحذفنا الفاحش، وفي الملتقط المذكور أيضاً ما لا يجوز. . .
قلت: أجتزئ برواية هذا البيت من النظيف الملتقط. . .:
والفضل ليس بنافع أربابه ... إلا بمسعدة من الأقدار
ج16ص303:. . . فإن من سلك الجدد أمن العثار، وسلم من سالِم النقع المثار.
وجاء في الشرح: المثار: المهاج المتطاير في الهواء.
قلت: وسلم من سالم النقع المثار. وقد فسر المثار بالمهاج. والذي جاء في اللغة في هذا المعنى هو ما ذكره الأساس: (هاج الغبار، وهاجه وهيجه) فهو مهيج ومهيّج، وهاج يتعدى ولا يتعدى. و (أهاجه أيبسه) كما في القاموس، وفي اللسان: (أهاجت الريح النبت أيبسته) ومثل ذلك في التاج. وفي (الضياء) للشيخ اليازجي: (ويقولون: أهاجه الغضب، والصواب في ذلك التجريد).
ج10ص90: وكان سبب تقدمه ونواله الأمارة.
وجاء في الشرح: النوال العطاء واستعمله هنا بمعنى النيل.(654/10)
قلت: يقول العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته الضياء (س1ص385): ويقولون: هو يسعى لنوال بغيته، وإنما النوال بمعنى العطاء أي الشيء الذي يعطى وليس بمصدر لنال، والصواب لنيل بغيته.
ويقول العلامة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (شوقي أو صداقة أربعين سنة) ص56:. . . وكان - يعني الشيخ اليازجي - يمنع أن يقال (نوال) بمعنى (نيل) ولا يرضى لها تخريجاً. ولو قرأ - وأظنه من شعر الحماسة:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما ... ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
لعلم أنه لم يكن على صواب فيما ذهب إليه.
قلت: البيت في مقطوعة بديعة مما اختار حبيب، وبعده:
أرى الناس يخشون السنين وإنما ... سنيّ التي أخشى صر وف احتمالك
لئن ساء ني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورقراق عيني رهبة من زيالك
ج16ص202: (من قصيدة في وصف هرة):
ثم قلدتها لخوفي عليها ... ودعات ترد شر العُيون
وإذا ما وترتها كشفت لي ... عن جراب ليست متاع العيون
وجاء في الشرح يريد بالجراب ما تخرج منه براثينها حين المغاضبة.
قلت: (العيون) الأولى بفتح العين. في اللسان: رجل معيان وعيون شديد الاصابة بالعين والجمع عين (بضمتين) وعين (بكسر العين) وما أعنيه! وذكر الأساس الكلمتين وأضاف إليهما العيّان. و (الجراب) هو (الحراب) بالحاء
ج15ص220:
وخُرْق رحيب الباع لو نيط طوله ... بعروة عمر لم تكد تتصرم
وجاء في الشرح: الخرق الصحراء وصفها بالسعة والطول حتى أنها لو نيطت بعمر فإن العمر يتصرم وهي لا تكاد تتصرم.
قلت: الخرق - بفتح الخاء - القفر والأرض الواسعة كما في القاموس.
(بعروة عمر لم يكد يتصرم) أي لو نيط طول هذا القفر بعروة عمر لم يكد هذا العمر(654/11)
يتصرم
ج4ص180:. . . ولا يعرف فتيلا من وثير، ولا يؤلف بين كلمتين في تعبير.
وجاء في الشرح: الفتيل: السحاة التي بشق النواة، يقال ما أغنى عنه فتيلا أي شيئاً تافهاً مثل الفتيل. الوثير: الوطىء اللين من الفراش.
قلت (ما يعرف قبيلا من دبير) ذكره الميداني في (مجمع الأمثال) وأورد اللسان له أكثر من عشرة تفاسير. . . منها: لا يعرف الأمر مقبلاً ولا مدبرا. . . وقيل: ما يعرف نسب أمه من نسب أبيه. . . وقيل: القبيل القطن والدبير الكتان. . . وقال المفضل: القبيل فوز القدح في القمار والدبير خيبة القدح. . .
ج19ص528: البحتري:
وكأن اللقاء أولُ من أمس ... ووشك الفراق أول أمس
قلت: (أول من أمس) و (أولَ أمس) و (أول أمس) في الصحاح: تقول ما رايته منذ أمس فأن لم تره يوماً قبل أمس قلت ما رأيته مذ أول من أمس فإن لم تره مذ يومين قبل مذ يومين قبل أمس قلت ما رأيته مذ أول من أول من أمس ولم تجاوز ذلك. في التاج أمس جمعه آمس وأُموس وآماس، قال:
مرت بنا من أول أموس ... تميس فينا مشية العروس
والنسبة إلى أمس إمسي على غير القياس وهو الأفصح.
نسيت أن أروي من قبل بيتاً للبحتري في أمثاله وحكمه يحتاج إلى التمثيل به كثيراً، والبيت هو هذا:
ليس الذي يعطيك تالد ماله ... مثل الذي يعطيك مال الناس(654/12)
حكومة النساء لدى الخلفاء من بني العباس
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يقول (دوفيل) في كتابه عن الإمبراطورة (جوز فين)، إن من النساء من أوتين الميل إلى الحكم والرغبة فيه، رغم ما فيه من مشاق ومصاعب، لأنهن لا يرين في شيء من الأشياء مستحيلا. فتلك ظاهرة في طبعهن وغريزتهن. فهن يرغبن في الإحاطة بكل شيء علماً، وعرفان ما تحته وما فوقه، ليتممن النقص الذي فيهن. فهن يحكمن على عشاقهن؛ فإذا أخطأهن ما أملن، حكمن على أزواجهن وأولادهن ثم تعدين ذلك إلى حكم صواحبهن، فإذا وجدن المجال ذا سعة، وكن ممن يلوذ بالملوك والأمراء والوزراء، سولت لهن أنفسهن أن يحكمن الرعية ويدبرن أمورها.
أما حكمهن العشاق، فأمر لا ريب فيه، فهن في أغلب الأحايين، عابثات بالقلوب، لاعبات بالألباب. أما حكمهن الأزواج فأمر كثير الوقوع، وندر أن تجد امرأة لا تحكم زوجها. ولكن حكمهن العباد، وتصرفهن في الأمور، وتدبيرهن الملك قد تبدو مستحيلة لا تقع، بعيدة لا تنال. على أن لجاجة النساء لا توصف وإلحاحهن لا يدرك، ثم هن لا يعرفن المستحيل. وفي التاريخ الإسلامي ألوان من البرهانات، تدل على حكمهن. وسأسوق الأدلة من بدء العصر العباسي، إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
وقبل أن أبدأ، أذكر أن الجاحظ قد لاحظ بعض هذا، فقال: (إنه لم يزل للملوك إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس) فيذللن ما صعب وينلن ما بعد. على أن سلطانهن، كان على قدر مبلغ سحرهن ونفوذ أثرهن، وتملكهن قلوب الخلفاء. وواضح أن تحكمهن يكون على قدر ضعف الخليفة ورقة عقله، وانقياده. ولذلك تجد أن بعضهم تركوا لهن الأمر كله، وأن بعضهم سايروهن مرة، وغاضبوهن مرة، وآخرون لم يحفلوا بهن أبداً.
فالسفاح، ابتعد عن النساء، فلم يرغب فيهن لملذاته بله استشاراته. وحاول خالد بن صفوان أنه يثير شهواته مرة بذكر الجواري وأو صافهن ليغريه بشرائهن، فلم يفلح. وكان يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلا. فسئل: ما تأويل ذلك؟ قال: تترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة فلا يزال يسمع سخفاً ويروي نقصاً.(654/13)