ليست ملكاً له وحده، بل هناك من الآباء والأعمام والأخوال والأخوة من لهم الحق معه، وهناك قوى أخرى غير ظاهرة لها وزنها.
وليعلم أيضاً أن المسائل السياسية إذا حلت على حسب رغباته فإنها لا تكفي لإسعاد الأمة، بل إن العمل بعد تصفيتها أخصب في المطالبة بها: لأن قدرة هذه البلاد محدودة، وقوة الأفراد الإنشائية ومقدرتهم على التنظيم محدودة، فلا يمكن أن نبالغ فيما يمكن عمله، وما يمكن أن نصل إليه
أحمد رمزي(630/6)
طلائع المجد الطريف في أفريقيا الشمالية
ماذا فعلنا من أجلهم؟
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
دعك من حديث ماضينا المجيد الخالد، فإن التاريخ الأمين لن ينسى هذه القرون الطويلة التي حملنا فيها لواء الحضارة، ورفعنا راية الإنسانية السامية، وانتقل معي إلى حديث طريف، لا تذكره للتاريخ فحسب، ولكن ليسمع كل عربي يؤمن بقوميته وعروبته، وكل مسلم ثابت على عقيدته ورسالته، فينفض عن نفسه غبار الذلة، ويلحق بركب المجاهدين في سبيل دينهم وقوميتهم، قبل أن يسجل التاريخ علينا معرة التفريط والعجز.
هذه صورة مجيدة من صور الجهاد العربي، في شمال أفريقية، ثغر العروبة وحصنها الغربي؛ على سفوح جبال الجزائر الشماء، حركة دائبة، تجمع فيها أسود العروبة وأبطال الكفاح يرقبون مطلع نجم جديد، يسمونه نجم أفريقيا الشمالية، اتخذوه شارة لوحدتهم، وعلامة لاستقلالهم؛ وقد علموا إنه لا يشرق إلا مخضباً بالدماء، ولا يسبح إلا في مجرة من نور التضحية والاستشهاد. من حولهم مدن الجزائر المحبوبة لا يكدر صفوها إلا عبث هؤلاء المستعمرين مستكلبين على شهواتهم، مغرورين بسلطانهم، يحتفلون بما يسمونه يوم (النصر)، النصر الذي لم يستحقوه بجهادهم، ولم ينالوه بتضحياتهم، ثم أبوا إلا أن يحتفلوا به أسبوعاً كاملاً أرادت فرنسا أن تبيح لشعبها فيه ما شاءت من طعام وشراب لا تملك منه شيئا، فبعثت وكلاءها وأذنابها يغتصبون طعام العرب في شمال أفريقية مستعملين في ذلك أساليبهم الرجعية؛ كما انهم عادوا إلى سياستهم العتيقة لمحو القومية العربية ومحاربة عناصرها من دين ولغة وآداب وتقاليد ووحدة، حتى نفد صبر العرب المجاهدين. وهاهم أولاء يبدأون كفاحهم في يوم (النصر) حاملين سلاحهم العزيز، كما حمله أسلافهم من قبل أمثال عبد القادر وابن عبد الكريم. وهذا سبيلهم ينساب على مراكز المستعمرين ومراتع لهوهم وعبثهم، فألقوا عليهم درساً جديداً في بطولة العرب وإبائهم، وشجاعتهم وثباتهم، وذكروهم بأن حرية العربي أغلى من أن تختلس في غفلة، وأن دمه العزيز لا يهمل إلا في ميادين القتال فداء الوطن والدين. . .
ولا يزال صدى هذه المعارك يرهب الفرنسيين ويقض مضاجعهم، وقد جعلهم يفكرون(630/7)
مرتين قبل أن يقدموا على ما أرادوه من استئناف سياسة الاستعمار الوحشية البالية، وزاد غيظهم أنهم لم ينالوا من المجاهدين نيلاً يروي حقدهم، فسلطوا فلولهم - التي فرت من ميدان الكفاح الشريف أمام الألمان - على المدن الآمنة والسكان المسالمين فضربوهم بمدافعهم وطائراتهم وقتلوا آلاف المدنيين الذين لا ذنب لهم، وانجلت الثورة عن هالة حمراء من دماء العروبة الزكية أطل منها النجم المرتقب، نجم المجد العربي الطريف. نجم وحدة أفريقيا الشمالية واستقلالها يرقب من بعيد هلال الوحدة العربية في الشرق، لعله يستجيب فتجمعها جامعة العروبة وروح الإسلام في سماء العزة والسيادة.
ونحن في المشرق، ماذا فعلنا من أجل هذا النجم العزيز وهذا الأمل المشترك؟ هل مددنا أيدينا إلى هؤلاء العرب المجاهدين في المغرب لنربط جهادنا بجهادهم، ونشد أزرهم في كفاحهم؟ ستجيب (الجامعة العربية) عن ذلك؛ ولكني أسائل المصريين الكرماء الذين ساعدوا منكوبي الإنسانية من كل جنس ولون: من الحبشة إلى اليونان إلى اليوغسلاف والهولنديين والبلجيكيين بل والروسيين في ستالنجراد، ألم يعلموا أن هذه الثورة العظيمة في الجزائر قد أسفرت عن منكوبين لا يقلون عن خمسة آلاف وأسرهم، بين قتيل وجريح وسجين باعتراف الحكومة الفرنسية نفسها، وإن كانوا لا يقلون عن ثلاثين ألفاً في تقدير المصادر المحايدة؟ فأين ذهبت النجدة والكرم، وأين حكومتنا التي تدفع الملايين من الجنيهات لتعمير بلاد أوربا (المحررة) أليس من الأولى أن نفكر في تحرير أوطان العروبة المستعمرة، أو إنقاذ إخواننا المنكوبين في تلك البلاد الشقيقة؟
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق - بجامعة فؤاد(630/8)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 10 -
ج17 ص260: وله (للأبيوردي):
ما للجبان الآن الله ساحته ... ظن الشجاعة مرقاة إلى الأجل
وكم حياة جبتها النفس من تلف ... ورب أمن حواه القلب من وجل
فقتَ الثناء فلم أبلغ مداك به ... حتى توهمت أن العجز من قِبلي
والعي أن يصف الورقاء مادحها ... بالطوق أو يمدح الأدماء بالكْملي
وجاء في الشرح: الآن الله ساحته: أي سهل الله حياته (جبتها): جمعتها، وهي في الأصل (حبتها) تحريف
قلت: (ما للجبان الآن الله جانبه) ذلله. و (كم حياة جنتها النفس من تلف) جنى يجني. و (بالطوق أو يمدح الأدماء بالكحل).
ج14 ص199: ومن مستحسن شعره (يعني أبا الفتح ابن العميد علي بن محمد):
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لا تعمِدي لمقاتل المعمود
وصليه ما دامت أصائل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحم ... رجْل الذرا فينان كالعنقود
قتل الزمان فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بِرُبْد سود
قلت: في اليتيمة، ومنها نقل ياقوت:
قتل المشيب فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بسحْم سود
والخصومة اليوم بين الشاعر وبين المشيب، وهو إنما يدعو عليه. والمعروف قولهم: شعر أسحم - والأسحم الأسود - لا شعر أربد. والربدة هي نحو الرمدة وهي لون الرماد كما في الأساس. أو نحو الطحلة وهي بين الغبرة والبياض بسواد قليل، وهو طحل والأربد نحوه كما في القصص قال الحماسي (بكر بن النطاح):
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو وَحْف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم(630/9)
وقال أبو الطيب:
راعتك رائعة البياض بعارضي ... ولو إنها الأولى لراع الأسحم
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
وقال الأبيوردي:
لكِ من غليل صبابتي ما أضمر ... وأسر من ألم الغرام وأظهر
وتذكري زمن العذَيب يشفني ... والوجد ممنوّ به المتذكر
إذ لمتي سحماء مد على النقا ... أظلالها ورق الشباب الأخضر
وقد ذكرني بيت ابن العميد وقوله فيه: (بسحم سود) بنكتة مهمة لغوية في (المخصص) وهي هذه:
فأما قوله تعالى: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. . . فلا أعلم لأحد فيه مزيداً على أن سماه تأكيداً؛ والتأكيد ساذجاً غير مزيد عليه لا يقر عين الفهم بالنظر إليه، بل هو فرع داني الجناة، وشرط يدركه طالبه بالتؤدة والأناة، فنحن نلتمس له طبيعة تمده، ومعنى يجلو من صدته فيسجده، إلا أن تدفع داعية الضرورة، إلى أن يكون بخلاف هذه الصورة. فأما ونحن نجد عن ذلك منتدحاً عريضاً، ومنفسحاً أريضاً، فإنا لا نفرغه، من فائدة تمرئه وتسوغه. وهذا التأكيد الذي في هذه الآية مما يقبل التعليل، ويسع التأويل، فلا تقبلنه ساذجاً، ولا تستعملنه خارجاً، فأقول: إن في هذه الآية ثلاثة أنواع من اللون محمولة بالاشتقاق على موضوعاتها، وهو الأبيض والأحمر والأسود، ولهذه الأنواع الثلاثة في هذه اللسان العربية أسماء مستعملة قريبة، وأخر بالإضافة إليها وحشية غريبة، لا تدور في اللغة مدارها، ولا تستمر استمرارها، ألا ترى أن قولنا أبيض وأحمر وأسود من اللفظ المشهور، وقد تداولته ألسنة الجمهور، وقولنا في الأبيض ناصع، وفي الأحمر قمد، وفي الأسود غربيب. من الأفراد التي رفعت عن الابتذال، وأودعت صواناً في قلة الاستعمال، مع إنك لا تجدها في غالب الأمر إلا تابعة للألفاظ المشهورة، يقولون أبيض ناصع وأحمر قمد وأسود غربيب، وإن كان قد يستعمل مفرداً كقوله: (بالحق الذي هو ناصع) و (يعصر منها ملاحي وغربيب) و (يقمد كسائل الجريال) لكنني إنما قلت بالأغلب والأذهب. فلما ذكر تعالى هذين النوعين المشتقين بالاسمين المشهورين الأبيض والأحمر،(630/10)
وشفعهما باللفظ الغريب الذي لا تكاد تراه إلا تابعاً وهو الغربيب قرنه بالاسم المشهور الذي هو الأسود، وصار بمنزلة صفة.
قلت: وابن جرير الطبري في (جامع البيان) وهو تفسيره المشهور يقول: وجعل السواد ههنا صفة للغرابيب.
ج18 ص171: الله المستعان، أساء سمعاً فأساء إجابة.
وفي الحاشية: في الأصل فأساء جابة. قلت: الأصل صحيح. وهذا من أمثالهم. وقد رواه الصحاح والأساس واللسان والتاج، وقال الجوهري: هكذا يتكلم بهذا الحرف، وقال الزمخشري: أي إجابة كالطاعة والطاقة. وفي (مجمع الأمثال) في شرحه: يقال: أجب إجابة وجابة وجواباً وجبيبة، ومثل الجابة في موضع الإجابة - الطاعة والطاقة والغارة والعارة.
ج13 ص289: قال (علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ) لما وفدت على سيف الدولة وقع في أبو العباس النامي، وقال: هذا يكتب التعاويذ. فقلت لسيف الدولة: يتأمل الأمير فإن كان يصلح أن يكتب مثله على المساجد بالربج فالقول كما قال. وأنشدته قصيدة أولها (الدهر أيامه ماض ومرتقب) وقلت فيها:
فارحل إلى حلب فالخير منجلب ... من ليل كفك إن لاحت لنا حلب
فقال: يا أبا الحسين، بيت جيد لكنه كثير اللبن. . .
وجاء في الشرح: الربج في الأصل الديخ، والربج والروبج: الدرهم الصغير الخفيف.
قلت: (يكتب مثله على المساجد بالزاج) في التاج: والزاج ملح معروف، وقال الليث: يقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية وهو من أخلاط الحبر. وفي (الألفاظ الفارسية المعربة): الزاج تعريب زاك أي ملح يصبغ به.
ج3 ص251: والمنجم أبو الفتح أحد من سلك سبيل آبائه في طرق الآداب (واهتدى بهديهم في تلك إلى الفضائل من كل) روى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر، ووصفه بالفضل وما قصّر.
قلت: ربما كانت الجملة التي وضعتها بين قوسين بهذه الصورة: واهتدى بهديهم من تلك الفضائل إلى كل باب.
* ج17 ص161: أحسنت والله يا أبا الندى، وأحسنت. قلت: وقد وردت هاتان الجملتان(630/11)
أنفسهما في ص162 من هذا الجزء، ومعهما هذه الواو العاطفة، واليقين أنها من زيادة الناسخين، إذ بين الجملتين كمال الاتصال، وهو مانع من مثل هذا العطف.
ج17 ص161:
يا قبر نجدة لم أهجرك مُقلِيةً ... ولا جفوتك من صبري ولا جلدي
قلت: مقلية - بفتح الميم لا ضمها كما ضبطت في الكتاب - وليس في العربية اقلاه حتى تجيء مقلية. في اللسان: قليته قلي وقلاّ ومقلية: أبغضته. وفي الأساس: وهو بقليه وبقلاه، وفعل ذلك عن قلي ومقلية.
ج2 ص93: وله (للصابي):
وجع المفاصل وهو أيسر ... ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... والناسُ من حظي كذا
والعمر مثل الكأس يرسب ... في أواخرها القذى
وجاء في الشرح: من حظي متعلق بأستحسن، وكذا إشارة إلى وجع المفاصل، والناس ترفع عطفاً على فاعل استحسن وينصب مفعولا معه وهو أرجح:
قلت: واليأس بالنصب عطفاً على الذي، و (كذا) كتابة عن حالته هنا.
ج16 ص165: لا تتصدر إلى فائق أو مائق.
قلت: (لا تتصد لفائق أو مائق) لأن الأول يغلبك والثاني يتعبك.
ج15 ص69: ومن كتابه (كتاب سرعة الجواب ومداعبة الأحباب) أنشدنا الإمام أبو الحسن علي بن أبي تمام في المذاكرة وقد رقي إليه كلام قبيح عن بعض أصدقائه فقال مستشهداً:
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صَرماً ومل الصفاء أو قطعا
لا أحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
اهجره ثم ينقضي زمن الهجران ... عنا ولم أقل قاعا
أحذر وصال اللئيم، إن له ... عَضْها إذا حبل ذكره انقطعا
وجاء في الشرح: عضها أي تمزيقاً وتفريقاً.
قلت: الأبيات للمتوكل الليثي في (الحماسة) وفيها (غبر الهجران) مكان (زمن الهجران) و (حبل وصله انقطعا).(630/12)
ج7 ص158: ومن شعر (جعفر بن أحمد السرج البغدادي):
دع الدمع بالوكف يُنكي الخدودا ... فإن الأحبة أضحوا خمودا
وجاء في الشرح: من نكأ الرجل القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.
قلت: (تنكى) بفتح التاء، نكاه ينكيه لا أنكاه، ولم يكن قبل البكاء في الخدود قرحة حتى يدعو الدمع إلى نكئها. وإنما يدعوه اليوم إلى نكايتها: إلى جرحها وتعذيبها. . .
ج18 ص143: وقال إبن دريد في النرجس:
عيون ما يلم بها الرقاد ... ولا يمحو محاسنها السهاد
إذا ما الليل صافحها استهلت ... وتضحك حين ينحسر السواد
لها حدق من الذهب المصفى ... صياغةَ من يدين له العباد
وأجفان من الدر استفادت ... ضياء، مثله لا يستفاد
على قضب الزبرجد في ذراها ... لأعين من يلاحظها مُراد
قلت: (مراد) بفتح الميم هنا لا ضمها. أي مجال. في الأساس: وراد روداناً: جاء وذهب، وراد النعم في المرعى: تردد، وهي في مرادها. وفي التاج: مراد الريح: حيث تجيء وتذهب.
في الرسالة 625 في القسم - 6 - يروي البيت الآتي بهذه الصورة:
بل ثياب القين بزكم ... وثياب القين مشتهرة(630/13)
محالفة ثلاثية ضد العالم
للأستاذ نقولا الحداد
بعد أول اجتماع بين تشرشل وروزفلت ألقى تشرشل خطبة في مجلس العموم، قال فيها إنهما اتفقا على أن يكون في العالم هيئتان دوليتان كبريان تحلان محل جامعة الأمم المرحومة: الأولى غربية لجميع دول أوربا وأمريكا. والثانية شرقية على مثالها. والهيئة الأولى تؤلف من روسيا وإنجلترا والولايات المتحدة كدول أساسية، ثم تنضم إليها الدول الأخرى تابعة أو ثانوية لها. ولم يقل شيئا عن الشرقية.
ووافق ستالين على هذا.
ومن ثم نشأت عبارة (الأقطاب الثلاثة) فقلنا حينئذ إن هذا النظام هو تحالف ثلاثة ضد العالم كله لأنه فهم من نحو تلك الخطبة أن الكلمة النافذة في تلك الهيئة الغربية هي لهذه الدول الثلاث وأن للدول الصغرى رأياً استشارياً فقط. فما تقرره دول الأقطاب ينفذ.
ولما صدر ميثاق سان فرانسيسكو الأخير وفيه دستور (مجلس الأمن) ظهر أيضاً أن الرأي الأول الأعلى هو لهؤلاء الدول الثلاث. وأما سائر دول الاتحاد الدولي وعددها 48 دولة فتعتبر ثانوية ورأيها ثانويا. وقد أضيف إلى الدول الثلاث الرسمية فرنسا والصين. وبهذه الإضافة سقط مشروع (الهيئة الدولية الشرقية) التي نوه بها تشرشل في خطبته المشار إليها. وكان يظن أن الصين تكون رئيسة هذه الهيئة الشرقية.
وقد ألحقت الصين وفرنسا بهذا المجلس كدولتين دائمتين كدول الأقطاب الثلاثة لا لأنهما دولتان كبريان فلابد من أن يحسب حسابهما إذا اختلفت دولات الأقطاب فتعدلان الميزان - ليس لهذا السبب فقط، بل لأن فرنسا المخلفة التي قومتها إنجلترا على قدميها، وهي على أنف ألمانيا من جهة الغرب، لازمة لكل من الدولتين روسيا وإنجلترا اللتين تخشيان مناوءة ألمانيا لهما إذ استطاعت أن تعود إلى المناوءة. ولهذا تجاذبتها روسيا من ناحية وإنجلترا من ناحية أخرى كل منهما تخطب ودها. فغريب أن قوتين تتنافسان في الالتجاء إلى ضعيفة. فمن حسنات الخلاف القائم الآن بين الأقطاب أو من مساوئه أن الضعيفة استقوت وتدللت وعادت تشمخ بعد أن تمرغ أنفها في حمأة الذل والهوان.
وأما الصين فتجاذبتها دول الأقطار جميعاً لأنها المرعى الخصيب للاستعمار التجاري فلابد(630/14)
من التملق لها. على أن النفوذ الأول والأخر لدول الأقطاب الثلاثة أولاً وآخراً.
وكان من مناقضات الديمقراطية أو مفارقاتها في (مجلس الأمن الدولي) السانفرسيكي أن المجلس يرفض أية شكوى من أية دولة صغيرة أو ثانوية ضد دولة كبرى رئيسية إذا كانت واحدة من الدول القطبية ترفضها - هذا بحسب دستور المجلس المذكور.
وقيل إن سبب هذا الرفض المخالف للعدل والحق والديمقراطية أن الدولة الرافضة قد تطلب النزال إلى الميدان. فتحاشيا للجنوح إلى الحرب سنّ هذا القانون الغريب العجيب. وهو موافقة الدول الكبرى للدولة الرافضة على الرفض حتما.
إذاً لا ينظر مجلس الأمن في شكوى دولة صغيرة من دولة كبرى بل ينظر فقط في شكوى صغيرة من صغيرة. والدولة الكبرى فوق القانون أو في حصانة القانون.
إذن فمجلس الأمن هذا هو مجلس تحكم الأقوياء بالضعفاء. هو محالفة ثلاثية قوية ضد جماعة من الدول الصغرى. ولا يؤمن ظلم هذا المجلس إلا إذا وقع خلاف شديد بين الأقطاب الثلاثة أو الأقطاب الخمسة. فأين الأمن الذي ينتمي له هذا المجلس القطبي العظيم؟ وكيف يطمئن العالم إلى أمن دولي يترنح بخيطٍ واهٍ في الهواء؟
إذا كان لمجلس الأمن شأن في فض مشاكل الدول فما معنى أن يجتمع الأقطاب الثلاثة الآن لكي يفضوا مشاكل الأمم الشرقية: طنجة، والدردنيل، وأردهان، والبلقان، وسوريا، ولبنان، وفلسطين الخ فضلا عن مشاكل أوربا نفسها؟ إذن ما هي وظيفة (مجلس الأمن) الذي يحسبونه أعظم نتاج لمؤتمر سان فرانسيسكو إذا لم يكن من شأنه أن ينظر في هذه المشاكل؟
نرى أن مصالح العالم كله أصبحت رهن قرارات مؤتمر الأقطاب الثلاثة، ومن يدري أن هذا المؤتمر الثلاثي لا يعقد كل حين بعد آخر لتسوية مشاكل الأمم ما دام أعضاؤه متفقين. فيكون أمره الأمر.
لسنا والله على أمل ورجاء في الأمل والسلام إذا كان الأقطاب يضطرون أن يجتمعوا لكي يدبروا أمور الأمم حسبما يروق لهم وحسبما تقتضيه مصالحهم من غير اعتبار للعدل والحق. وقد صدر قانون مجلس الأمن باستهلال نذير بأنه ليس إلا ألعوبة سخرية أو مهزلة تمثيلية لأنه في ساعة ما كانت فرنسا توقع على ميثاق الأمن والسلام كانت تغدر بسوريا(630/15)
وتنكل وتفظع فيها بلا حياء ولا خجل وهي عزلاء. فإذا كانت فاتحة نظام الأمن هكذا فأي مهزلة أقبح من هذه المهزلة! وما قيمة هذا الميثاق إذا كان أحد أركانه وقطب من أقطابه يفتتح العمل به، بهذا التمثيل والتفظيع.
وإذا كان مجلس الأمن يؤلف من خمسة أعضاء دائمين وستة ينتخبون بالتناوب، وإذ كان فصل الخطاب للدائمين والطاعة العمياء للستة المتجددين، فأين الديمقراطية وأي قضاء هذا؟ وكيف يكون عادلا؟ هل قضاته ملائكة في السماء لا مطامع لهم على الأرض؟
وما معنى أن يقتصر مؤتمر الأقطاب على الثلاثة فقط ولا يشمل الأقطاب الخمسة جميعاً؟ هل العضوان الآخران (طرطوران)؟
لم نخطئ في قولنا أن مصالح العالم كله أصبحت في أيدي ثلاثة رجال فقط وهو أمر من أغرب أمور التاريخ الجديد.
ترانا أمام هيئات:
1 - الأقطاب الثلاثة
2 - الأقطاب الخمسة
3 - مجلس الأمن ذي الأقطاب الأحد عشر.
4 - جمعية الدول العمومية ذات الـ51 عضواً.
فبأي هذه الهيئات يتعلق مصير الأمم الصغرى يا ترى؟ وأيها أحق بفض مشاكل الأمم وأصلح لها؟
نرى أننا في فوضى من الأنظمة الدولية المتضاربة المتعاكسة المنذرة دائماً بالاضطراب العالمي. الأمن في يدها تحت خطر.
أضف إلى ذلك خوف العالم من عقبى اختلاف الأقطاب. وهو شر نذير بالخطر المخيف. فإذا اختلفوا يحتدم الخطر ويقع القضاء والقدر. اللهم أنقذنا من أقتداح الشرر، حسبنا ما كان وما غبر.
نقولا الحداد(630/16)
تطور بلاد العرب الشمالية
وتأثير ذلك في علاقاتهم الخارجية
للميجر ج. ب. كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
أريد أن أقسم موضوع مقدار الرقي والتغير في بلاد العرب الشمالية إلى قسمين: أولاً بحث الموضوع من الوجهة الجغرافية؛ ثانياً بحث قابلية سكان تلك الأقطار للرقي. وفي النهاية نستخرج خلاصة هذين القسمين في نتيجة لنكون لنا فكرة عن المستقبل.
العوامل الجغرافية الخارجية
يجدر بنا عند بحث الوجهة الجغرافية أن نقسمها إلى فصلين: عوامل خارجية وأخرى داخلية. إن أول ما يلفت نظر الإنسان في بحث أهمية الأقطار العربية في السياسة الدولية من وجهة جغرافية خارجية هو كونها ممراً بين أوربا وآسيا، وإذا ما رجعنا إلى الوراء نجد إنه منذ بدء التاريخ لم توجد طريق بين الهند والشرق الأقصى وبين أوربا - طريق يمكنها أن تحتل بالفعل مكانة الطريق التي تمر من الأقطار العربية. ويرجع ذلك لكون بلاد فارس والأناضول تحتل جانباً من جانبي هذه الطريق، والسودان والحبشة والصحراء الكبرى تحتل الجانب الآخر، ونظرة إلى الأناضول وبلاد فارس، وهما بلدان جبليان، وإلى الحبشة والسودان والصحراء وهي بلاد صحراوية، ترينا أنهما يشكلان حاجزين في طريق الشرق وبينهما مصر وسوريا الطريق الوحيد للشرق. لقد حفرت قناة بين النيل وبين البحر الأحمر لتحمل التجارة منذ زمن الفراعنة. وعند قيام البتراء كانت البضائع تحمل على الجمال على طول الشاطئ الحجازي لتوزع على الإمبراطورية الرومانية، كما نقلت التجارة على الفرات قاطعة بادية الشام إلى تدمر. وفي زمن النبي (صلعم) كانت لمكة أهميتها التجارية الخاصة إذ كانت البضائع تحمل على الجمال وتقطع الحجاز إلى الإمبراطورية الرومانية ليستفيد الرومان منها دون الاضطرار إلى مرورها بالمناطق الفارسية. وقد حاول البرتغاليون في القرون الوسطى تأسيس مراكز تجارية في الخليج الفارسي والبحر الأحمر ثم في عدن - كما أن البريطانيين اتخذوا الفرات لتأسيس مصلحة مراكب بخارية تنحدر(630/17)
من سوريا الشمالية عليه. وفي هذه الفترة حفرت قناة السويس فعادت طريق التجارة إلى مصر. ومن الحرب الكبرى نرى أن سيارات الصحراء والمواصلات الجوية حولت قسماً من التجارة إلى سورية وفلسطين والعراق. ولكن مهما تأرجحت طريق التجارة نجدها دائماً بين أيدٍ عربية - مصر من جانب، وبلاد الرافدين (الجزيرة) من جانب آخر.
إن أهمية البلاد العربية لا تنحصر في كونها ممراً بين أوربا والشرق فحسب، بل لأنها أيضاً الجسر البري الوحيد إلى أفريقيا. ولقد مر كثير من الجيوش المغيرة عن طريق سورية - فلسطين - سينا إلى أفريقيا. لقد حاول الفراعنة احتلال سورية عن هذه الطريق، ومنها انحدر الاسكندر لاحتلال مصر، والرومان يوليوس قيصر - أوغستين مرا من هذه الطريق. ومنها خرج العرب إلى أفريقيا بعد قطع سينا وسار الصليبيون إلى مصر، كما أن حملة أخرى منهم نزلت مصر للسير منها إلى فلسطين. وقد هاجم نابليون مصر لفتح آسيا. وفي الحرب العالمية السابقة نرى كيف سار الأتراك لمهاجمة مصر، وكيف دخل الإنكليز فلسطين عن طريق سينا. إن الأقطار التي نتحدث عنها حافظت على أهميتها الدولية السياسية أكثر من أي قطر آخر في العالم. لهذا يمكننا القول بأن أهمية هذه الأقطار ترجع لكونها الممر إلى الشرق الأقصى أولاً. ولأنها الجسر البري الوحيد لأفريقيا ثانياً.
العوامل الجغرافية الداخلية
إن جغرافية هذه الأقطار الداخلية لا تقل أهمية عن جغرافيتها الخارجية. وعندما أتكلم عن البلاد العربية الشمالية أعني (سورية وشرق الأردن وفلسطين والعراق. والنصف الشمالي من جزيرة العرب) فإذا ألقينا على خريطة هذه البلاد نظرة نجدها تشكل مثلثا رأسه حلب يخترق ضلع المثلث سورية وشرق الأردن وفلسطين وشمالي الحجاز، كما يخترق الضلع الآخر العراق حيث ينتهي برأس الخليج الفارسي، وتمتد قاعدته من البحرين حتى المدينة المنورة. أما قلبه فهو الصحراء. إن القسم الأهم من تاريخ هذه الأقطار يرتكز على هذا التكوين الجغرافي الخاص فضلا عن كون الصحراء فرقت هذه البلاد، فقد وضعت سورية والعراق على اتصال بالبلدان الخارجية (استعمل الآن كلمة سورية لأعني الأقطار المعروفة الآن بسورية وفلسطين وشرق الأردن)، وهذا ما جعل هذين القطرين عرضة للمؤثرات الخارجية، وبقيت حضارة نجد والحجاز - فقط - حضارة عربية محضة. وكانت نتيجة(630/18)
هذه الحضارات المتباعدة أن نرى الحجاز ونجداً عربيتين في حضارتهما، بينما نرى أن أوربا وبلاد فارس والأناضول ومصر قد أثرت على حضارتي جانبي المثلث الشماليين.
الهجرة من وسط الجزيرة العربية
بينما نجد بادية الشام التي تشكل قلب المثلث تكون حاجزاً في طرق المواصلات بين سوريا والعراق، نراها واسطة الاتصال والنقل لسكان نجد أو البلاد السعودية. وأن تلك البقعة الممتدة من الحجاز إلى الخليج الفارسي آهلة بقليل من السكان يعيشون على زراعة النخيل في واحات متفرقة، وهم على الأرجح ينتمون إلى شعوب ما قبل التاريخ. وبالرغم من معيشتهم في أراض زراعية نراهم يجوبون الصحراء ويقطعونها، وبالعكس نرى أن أهالي سوريا والعراق الذين يعيشون في مناطق مملوءة بالسكان لم تبق لهم حاجة لقطع الصحراء لاستقرارهم في البلدان التي يقطنونها. وهكذا نجد أن الصحراء التي تقف في طريق المواصلات بين سورية والعراق هي طريق المواصلة بين سكان قلب الجزيرة وبين الأقطار الشمالية، وهي بالنسبة لهم كالبحر بالنسبة إلى الشعوب البحرية.
توجد مقابلة شيقة بين بادية الشام وبين القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. توجد على شواطئ الجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط موانئ تحمل كلها طابعاً مدنياً واحداً. فإذا سرت من الإسكندرية إلى حيفا فبيروت فأزمير فالقسطنطينية تجد شبهاً كبيراً بين هذه المدن؛ مع أن هناك بونا شاسعاً بينها وبين المدن الداخلية. إن مصر وبلاد العرب وتركيا واليونان بلدان مختلفة ولكن ثغورها متشابهة. كما أن العرب قطعوا الصحراء وأنشئوا مدناً هي عمان ودمشق وحماه وحلب، وهي تحمل المدنية والطابع العربي. ولذلك فإن الإنسان يقدر أن ينظر إلى بادية الشام كبحر يقابل البحر الأبيض المتوسط الذي تحمل ثغوره مدنيته الخاصة، تقابلها مدنية عربية محضة على أطراف المثلث المحيط ببادية الشام أو الصحراء السورية.
الصحراء كحاجز حربي
إن هذه الصحراء التي رأيناها في بحثنا واسطة اتصال - نوعا ما - لسكان قلب الجزيرة العربية، نراها تقف حجر عثرة في سبيل الأعمال الحكومية أو العسكرية، فبينما نجد أن(630/19)
سوق جيش من الأناضول إلى سورية أو العراق سهل، نجد الصعوبة كلها في سوق جيش من قلب الجزيرة يقطع مئات الأميال من القفار. وإذا ما ألقينا نظرة إلى تاريخ سورية والعراق نجد أنهما من بدء الميلاد حتى سنة 650 للميلاد حكمها الرومان والفرس. ومع أن الهجرة الفردية من الجزيرة إلى هذين القطرين لم تنقطع فقد كانت تقوم صعوبات جمة في وجه أية حملة حربية يراد سوقها من الجزيرة إليهما. هذا فضلا عن سهولة الاحتفاظ بسوريا على الرومان من آسيا الوسطى، وبالعراق من إيران على الفرس.
لقد كان سكان تلك الأقطار عربا، وبالرغم من حكم الرومان والفرس فقد كانت ثقافتها عربية محضة؛ وقد قامت فيهما إمارات عربية صغيرة كإمارات الغساسنة في سوريا واللخميين على الفرات. إن ثقافة بلاد العرب كانت مستمدة من الجزيرة، وكانت القوة السياسية والحربية مستمدة من الأناضول وغيران. وهذا الموقف الذي لم يتغير أبداً يتلخص في أن العرب أقوياء بثقافتهم ضعاف بقوتهم الحربية، وهذا أمر يعزى أكثره إلى جغرافية الصحراء السورية
لقد غير الإسلام الوضعية، وذلك بتأثير الروح التي أثارها في العرب، فتمكنوا من التغلب على هذه الصعوبات وفتحوا سورية وإيران، ولكن لم تنقض فترة حتى ظهرت هذه الصعوبات مرة ثانية. لم يتمكن الخلفاء من البقاء طويلا في الحجاز واضطروا عند قيام الأمويين لنقل عاصمة ملكهم إلى دمشق، وعند قيام العباسيين الذين لم يرضوا ببقاء العاصمة في دمشق نقلت إلى بغداد وهكذا نجد أن العرب عندما كانوا حاكمين على المثلث بأجمعه، وعندما كان الإسلام في القمة عملوا على مقاومة هذه الصعوبات الجغرافية، أي الصحراء التي تلتف البلدان العربية الهامة حولها
رأس حلب
عند سقوط الإمبراطورية العربية وقيام الأتراك ظهرت حقيقة أخرى تتعلق بالمثلث، وهي ما يمكننا أن نسميه (رأس حلب) إن جانبي المثلث (جانبي العراق وسورية) يلتقيان في حلب، فإذا ما أراد أحد القطرين مساعدة الآخر وجب عليه قطع الممر الضيق المأهول بالسكان حول حلب، إذ لا طريق غيره - خلا طريق الصحراء - وبذلك نرى أن أي قوة حربية تنحدر من الأناضول إلى حلب يمكنها قطع خط المواصلة بين القطرين، أو أن أي(630/20)
قوة حربية يمكنها الدفاع عن حلب تقدر أن تقطع خط الرجعة على أي جيش يسير من سوريا إلى العراق وبالعكس. ومن المؤكد أن الهجوم على جانبي المثلث واحتلالهما من قبل قوة تعسكر شمالي حلب، اسهل بكثير من سوق قوة من العراق إلى سورية أو بالعكس للدفاع عن أحد هذين الجانبين
وإذا لاحظنا أن الأتراك حكموا البلاد مدة تزيد على 600 سنة نرى أن الأثر الذي أبقوه وراءهم بسيط جداً؛ إذ لم يتمكنوا من التأثير على الثقافة العربية - وبالرغم من مرابطة الفيالق في الأتراك في اكثر المراكز الهامة، ومن وجود موظف أو موظفين كبيرين من الأتراك فقد كان أكثر الموظفين الصغار عرباً وكانت أكثرية أهل البلاد يحكمهم الزعماء لا الحكومة؛ هذا عدا عن بقاء اللغة العربية اللغة المستعملة في البلاد. وهكذا نضطر أن نعود إلى معادلتنا الأولى وهي أن العرب ضعفاء بقوتهم الحربية أقوياء بثقافتهم.
أرجو إن سمحتم لي أن أعدد نتائج العوامل الجغرافية التي وصلنا إليها مرتبة كما يلي
العوامل الجغرافية الخارجية
1 - إن بلاد العرب ممر بين أوربا وآسيا يحيط به بلاد فارس والأناضول من جهة، والصحراء الكبرى والسودان من جهة أخرى.
2 - إن البلاد العربية هي الجسر البري الوحيد بين أفريقيا وبين بقية أقطار العالم الأخرى
3 - إن بلاد العرب نقطة الاتصال بين ثلاث قارات، وهي قلب العالم القديم
العوامل الجغرافية الداخلية
1 - إن بلاد العرب تكوّن مثلثاً تتوسطه بادية الشام
2 - إن بادية الشام فرقت بين الأقطار العربية، كما أن سورية والعراق اتصلتا بحكم مركزهما الجغرافي بالأناضول ومصر وإيران وأوربا، وهذا الاتصال جعل لهما ثقافة خاصة تختلف عن ثقافة قلب الجزيرة العربية
3 - إن بادية الشام هي طريق الاتصال لسكان قلب الجزيرة العربية الذين ما زالوا على اتصال بالأقطار الشمالية، والذين حافظوا على ثقافتهم العربية
4 - بينما تجد بادية الشام واسطة نقل وبث للثقافة العربية نراها تقف حجر عثرة في سبيل(630/21)
الأعمال الحربية، ولذا نرى أن العرب وجدوا من الصعب حينما تولوا الحكم أن يحكموا سورية والعراق وقلب الجزيرة العربية من عاصمة واحدة
5 - إن التقاء جانبي المثلث في رأس حلب يجعل أية قوة حربية في الأناضول قديرة على مهاجمة كل من سورية والعراق دون أن تتمكن إحداها من مساعدة الأخرى
قابلية العرب للرقي
إن بحثنا عن قابلية العرب للرقي أعمق واصعب من بحثنا عن الموقع الجغرافي الذي يمكن تحديده إذا ما نظر إلى الخريطة والذي يتلخص في سرد الحقائق. وتزداد الصعوبة على الأخص عندما نرى أنفسنا مضطرين أن نخمن درجة قابلية العرب للرقي بالوقت الحاضر، ودرجة استعدادهم وقابليتهم مستقبلا، لأن كلا منا متأثر بعقائده ودراساته الخاصة، وقد يكون متأثراً بدرجة قابليته بنفسه. وعلى كل حال فإذا لم أتمكن من إقناعكم بعقائدي فلعلي أتمكن من فتح باب للمناقشة بإعطائكم آراء جديدة. وقبل الدخول في بحث استعداد العرب للرقي علينا أن نعرف ونحدد الرقي. أظن أن الرجل الأوربي ينعت الرقي بالنجاح المادي، وقد ينعته بالنجاح الفكري إذا ما طلب إليه تعريفه ولكن النجاح الفكري يتوقف على النجاح المادي الذي نتمكن بواسطته من تأسيس جامعات ومختبرات تساعد على تهذيب الإنسان، ولذلك يمكننا في بادئ الأمر أن نعرّف الرقي بأنه القوة والثروة والاستقلال السياسي والمؤسسات الحكومية الأخرى كمصالح الصحة والمعارف والأشغال العامة الخ. ولهذا أرى أن أضع سؤالا في الصيغة التالية: (هل يمكن أن يصبح العرب القاطنون في البلاد العربية الشمالية، وهل يريدون أن يكونوا في عداد الأمم الأوربية الحديثة؟
الديانة
سنتناول في البحث عن هذه المسألة مظهراً أو مظهرين كلا على حده. أولهم: هل يؤمن المسلمون والمسيحيون حقاً بتعاليم أديانهم أم لا؟ كلنا يعلم بطبيعة الحال أن أدياننا أثرت في حياتنا الاجتماعية وطرق معيشتنا، ولذلك فإن العلاقات بين الإسلام والمسيحية تدخل في موضوع بحثنا. ولا أدري إن كنتم تعرفون أن الإسلام والمسيحية متقاربتان كل التقارب برغم ما قام بينهما من نزاع في الماضي. وهذه الحقيقة يؤكدها المسلمون أكثر من(630/22)
المسيحيين. ويعتبر المسلمون من زمن النبي (صلعم) إلى يومنا الحاضر أن المسيحيين أقرب إليهم أكثر من أتباع أي دين آخر. إن العقائد الروحية السامية المتشابهة بين الديانتين كثيرة، فكلتاهما أسستا على اليهودية، أو بالأحرى إن الإسلام أسس على اليهودية والمسيحية، وكلا الإسلام والمسيحية خرجا من بلد واحد ولهما نفس الأنبياء. وكلاهما يعترف بالعهد القديم (التوراة)، وقد حدثني قس مسيحي عمل في بلاد العرب سنين عديدة قائلا: إن الإسلام شكل من أشكال المسيحية باستثناء الاعتقاد بالعجائب. وقد اتضح لي أن هنالك مظهراً آخر للتشابه بين الديانتين، وهو إصرار كل من المسلمين والمسيحيين على ضرورة الإيمان بحوادث تاريخية معينة، كما وأن لكل من الديانتين شعائر وقواعد يجب إعادتها كل يوم، ونحن قد اعتدنا هذا المظهر من الإيمان في الدين، حتى إنه لم يعد يخطر لنا ملاحظة أهمية ذلك بالنسبة إلى الإسلام والمسيحية.
أنا لست ثقة في البوذية أو الكنفوشية أو الهندوكية، ولكني أرى وأتصور أنهم لا يتشددون في أهمية الإيمان، كما يتشدد المسلمون والمسيحيون، وأرى أن هذا المظهر الذي اتخذته الديانتان أوجد شبهاً كبيراً بين الأمتين
كثيراً ما نسع أن الإسلام عائق لرقي العرب، وبدون شك وجد كثير من المسلمين الذين اعتقدوا بأن الأرض منبسطة، وبأن الاختراعات العلمية من عمل الشيطان، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا بأن كثيراً من المسيحيين اعتقدوا نفس الشيء، وكانوا هم الذين أجبروا غاليلو على التراجع عندما قال إن الأرض تدور حول الشمس. ومن الإنصاف أن أقرر أن الإسلام دين عملي أكثر من المسيحية من جهات عديدة - فالمسيحية هي التي نطقت بعدم جمع الثروة وفرضت حياة الزهد والتقشف، ولذلك فإننا نجد قول المسيحيين بأن الإسلام دين غير عملي للإثراء غريباً - وإذا نظرنا إلى مبادئه الأولية يظهر لنا أنه دين عملي أكثر من المسيحية، لأن المسيح (عليه السلام) لم يتفق والدرهم أبداً
المناخ
كثيراً ما يكون هواء البلاد وحالتها الجوية مفتاحاً لمعرفة أخلاق السكان، وإذا نظرنا إلى مناخ بلاد العرب نتحقق إنه لا يمكن أن ينبت أمة خاملة. ولا مراء في أن مناخ الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط هو مناخ البحر الأبيض المتوسط، ولكن إذا ما تجاوزت(630/23)
الشواطئ إلى شرقي لبنان والأردن تجد الجو بارداً جداً، ويشاهد الثلج والصقيع بكثرة في أماكن عدة، كما أن الجو غير رطب في الصيف، فهو بالعكس يلتهب حرارة، ومثل هذا المناخ يحتاج لأمزجة متينة وأجسام قوية لمقاومته
(البقية في العدد القادم)
جميل قبعين(630/24)
الأدب العربي في الهند
للأستاذ محمد يوسف البنوري
ربما يظن أن تقدم الهند في صناعة الأدب العربي والشعر ليس كتقدمهم في علوم الحديث والفلسفة، والمنطق، والرياضة، والطب، وما إلى ذلك من الفنون العقلية
حقيقة أن تقدمهم في كثير من العلوم العقلية القديمة قد أصبح منذ عهد قديم، بحيث لا يبارى ولا يجارى، وأضحت عبقريتهم في علوم الحديث مثلا في العهد الحديث منذ أوائل القرن العاشر للهجرة حين سرى الوهن في المجتمعات العلمية الدينية في البلاد العربية، غير أن ميزتهم الأدبية وبراعتهم في الشعر العربي على رغم أن البلاد أعجمية قد خفيت على كثير من رجال الأدب في البلاد العربية، ومع أن مآثر نهضتهم الراقية المزدهرة في خدمة اللغة العربية وتاريخ اللغة العربية، والأدب العربي لا تنكر ومقامهم فيها مشهود.
ومن العجيب أننا مهما حدثنا أحداً منهم بشيء عن رقيهم الحاضر في اللغة العربية والأدب العربي، سمع ذلك وهو في حيرة مطبقة يكاد يسرع إلى الرد بالنفي لو لم تحل دونه رزانة العقل
وما من شك في أن العصبية القومية إذا حلت مكاناً رحلت عنه فكرة الوحدة الإسلامية، فإذا باتت آراء قوم مقصورة على مفاخر قومهم ولم تعد مطالعة مزاياهم الخاصة؛ وعرتهم غفلة أو غفوة من أن يقفوا على مزايا إخوانهم في البلاد، انقطعت صلة الأخوة العالمية، ورابطة الوحدة، وتفككت عرى المواساة.
ففكرة العروبة التي نشأت حديثاً في الأفكار، وتتجلى بين حين وآخر على صفحات المجلات، كما أنها تنتج فوائد خاصة، تمنع كذلك من ناحية أخرى فوائد هامة بلاد العروبة أحوج إليها منها إلى تلك الفوائد الضئيلة أمامها؛ فلا يستتب نظام عام بين الأمم الإسلامية المبثوثة في أنحاء البسيطة الذي جاء به سيدنا المرسل إلى كافة الناس عجمهم وعربهم صفرهم وبيضهم عليه أزكى صلوات وتحيات مباركة. فمن الحتم اللازم أن يكون هناك نظام آخر يلوذ إلى كنفه وأحضانه سائر أقوام الأمة الإسلامية على حد سواء، حتى تمنح بلاد العروبة فوائد عظيمة وتنتظم قوى الأمة في الأنحاء قاطبة، فتصبح الأمم كأمة واحدة، وتدعم أركانها بدعائم الأخوة الموطدة كبنيان مرصوص لا يتزعزع بالقواصف الهوجاء(630/25)
والعواطف النكباء
ويكاد يكون عدم وقوفهم على الأدب العربي في الهند أثرا من آثار هذه الفكرة أو مثلها. كنت أردت أن أكتب كلمة في الموضوع هذا منذ نزلنا القاهرة من نصف عام، بل أكثر، ولكن حالت دونه الأمور التي لأجلها امتطينا صهوة الرحيل إلى مصر، وكتبت شيئاً في بعض المجلات والجرائد عن الحركة الدينية والنهضة السياسية في الهند، فوددت أن تكون رسالتي هذه إلى إخواننا المصريين وطلبة الأدب موضوع مقالتي في مجلة (الرسالة) الزهراء، وقد أزفت ساعة تفويض خباء الإقامة، فتكون مقالتي هذه في الرسالة رسالة وداع، والأمر كما قال النابغة:
أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برجالنا وكأن قد
لست أريد في هذه النهزة ذكر الأدباء والشعراء في الهند، أو سرد تآليفهم في الأدب وتاريخ الأدب العربي وسمو مكانتهم في التفكير الأدبي، أو البحث عن شعر نوابغ الشعراء منهم، والموازنة بين أشعار هؤلاء وهؤلاء في هذا الصدد؛ فإن ذلك يستدعي نطاقاً أوسع مما عندي، غير أني أذكر شيئاً من شعر بعض علماء المعهد الديني القديم في الهند، وأم المعاهد الدينية فيها (أريد بها دار العلوم) بديوبند بالقرب من عاصمة الهند (دهلي).
إن هذه الجامعة العربية الدينية، كما أصبحت مثلا أعلى في نهضة الدين والعلوم الشرعية، كذلك أصبحت قدوة في الحركة الأدبية وثقافة اللغة العربية، فظلت بقعة ديوبند، تلك الأريضة الطيبة، مرتعاً خصباً لطلبة الأدب، ونبغت فيها نوابغ الأدب وجهابذة اللغة ورجال الشعر. وكثير من السياحين الناطقين بالضاد والزائرين لهذا المعهد من علماء البلاد العربية، لما نزلوا هناك شاهدوا للأدب فيه وجوهاً باسمة، وطلعات وسيمة، ورأوا فيه للشعر العربي ارتياحاً، ولاقوا في ترحيبهم نغمات ترق لها قلوب من قصائد عربية أنطقتهم بكلمات طيبة تبدي شعورهم وتأثر نفوسهم بتأثرات دقيقة نحو هذه النهضة
وأخيراً، هذه البعثة الأزهرية قوبلت هناك بحفاوة واحتفال هز أعطافهم، وقام خطيبهم رئيس البعثة، فأثنى جميل الثناء على ما شاهد من نهضتهم وأبدى إحساسه العميق نحوهم على الرغم مما أبداه في تقرير البعثة لمصالح سياسية أدركناها
هذا المعهد العظيم بلغ شعره ألوف الأبيات عالم من علمائه في شتى نواحي الشعر، وهو(630/26)
إمام العصر الأستاذ المحدث الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله. ومن الغريب أن هذه الناحية لم يتخذها كمالاً علمياً عكف عليه طول عمره، أو عرف به، لا بل مزيته هذه لا تعد مزية إلى ما خصه الله بجلائل النبل وآيات الفضل التي أصبح فيها نسيج وحده. ومع هذا له شعر بارع مطبوع عليه أبهة الشعر القديم بمتانة وفخامة مع انتقاء فصح الكلمات بانسجام رائق، مصوغ في قالب بديع، فترى له روعة وجمالا في حسن السبك، وصياغة الألفاظ، وأبعد به عن ركاكة في اللفظ، أو سماجة في التعبير، أو تفكيك في التركيب والنسق، أو اختلال في النظم والانسجام
نعم، إن شعره ترى فيه بريقاً يتألق من الشعر القديم، ولمعة من شعر المخضرمين، وربما تبدو فيه آثار من كلام المولدين مع فخامة في اللفظ وجزالة في المعنى
أجل، إنما الشعر لوعة فكر، ولمعة خيال؛ ولكل فكر منزع، ولكل خيال مذاق، وذلك أمر لا مندوحة عنه. ومن خصائص شعره أنه قلما تخلو قصيدة له عن عواطف حزينة تثير في القلوب رقة، كأن نفسه تذوب حسرات، ولا بدع، فكان عميق الشعور، دقيق القلب، ومن ثم نجد أكثر شعره وألطف شعره في الرثاء والبكاء، فكان كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
إذا تصفحت ديواني لتقرأني ... وجدت شعر المراثي نصف ديواني
لا يتسع النطاق لذكر سائر النواحي من شعره إلا أني أقدم هنا شيئاً من شعره في الرثاء وغيره لتنم نفحاته المسكية على حديقته الزهراء. قال رحمه الله في رثاء الإمام الأستاذ محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند.
قفا نبك من ذكرى مزار فند معَا ... مصيفاً ومشتىً ثم مرأى ومسمعاً
قد احتفّه الألطاف عَطْفاً وعِطْفة ... وبورك فيه مربعاً ثم مربعاً
إلى أن قال:
وكان حشا أُذنيَّ دَرّاً وحكمة ... فتخرج من عينيَّ دمعاً مرصعاً
وقال:
فوافيت دهراً ثم دهراً بمنيتي ... وألفيت عمراً ثم عمراً ممتَّعاً
وقال:
فلله دَرّ الحبّ حتى أقامني ... أقول وأحكي أن في المض مطمعاً(630/27)
وقال:
وأذكر أيام المزار وأنثني ... على غصص في القلب حتى تصدَّعا
وقال:
يضيق نطاق في المراثي لحقِّها ... وثمَّ مجال كيفما شئت فاصنعا
وقال في مطلع قصيدة عصماء له في مديح رسولنا العربي الهاشمي عليه صلوات الله وسلامه:
برق تألق مَوْهِنا بالوادي ... فاعتاد قلبي طائف الإنجاد
أسفاً على عهد الحمى وعهاده ... تُولى على الإبراق والإرعاد
رِهَمٌ تناوح تارة ديم لها ... حتى غدا الأيام كالأعياد
هبّ النسيم على الربى فتضاحكت ... بشرى العميد عرارها والجادي
سنح الظباء فكاد يهلك مغرم ... حور العيون وعطفة الأجياد
وأكاد أشرق بالدموع إذا بدا ... هجر فتبكي الورق بالأسعاد
أسقي التلول وأستحثّ ركائبي ... وجدا على التأويب والإسآد
ومن شعره:
إمن عهد ربع طالْما كان أبكما ... أجبت بدمع حين حيا وسلما
ووجد تراه زورة بعد زورة ... على غصص الأزمان نادى وأبرما
وقفت بها صحبي وجددت عهدهم ... عسى إن عهداً ناء أن يتوسما
تهلل وجه الصبح يفتر ضاحكاً ... عن الثغر حتى كاد أن يتكلما
تباشير صبح أو تباشير مبسم ... تنفس عن روح وبشر تبسما
وما ثم إلا من حديث قديمه ... وتحديث اشجان ووجد تكلما
ورجع قواءٍ كاد مما أبثه ... وأسقيه دمع العين أن يتبسَّما
فقدت به قلبي وصبري وحيلتي ... ولم ألق إلا ريب دهر تصرَّما
ومن عبرات العين ما لا أسيغه ... ومن غلبات الوجد ما كان همهما
ومن نفثات الصدر ما قد بثثته ... ومن فجعات الدهر ما قد تهجما
فأذكر أزمان الرفاق وأنثني ... على كبدي من خشية أن تحطما(630/28)
تكففت دمعي أو كففت عنانه ... وصار يجاري الدهر حتى تقدما
فهل ثم داع أو مجيب رجوته ... يجاملني شيئاً دعا أو ترحما
وأظن، أن في هذا القدر الآن كفاية للبصير. وقد عزم (المجلس العلمي) بالهند أن يجمع كلام إمام العصر المرحوم ويرتب ديوانه ويطبعه نرجو الله له التوفيق.
ومن فحول شعراء هذا المعهد العظيم الشيخ حبيب الرحمن المرحوم مدير المعهد وله شعر رقيق اللفظ منسجم رائق جزيل المعنى. ومن العجيب إنه كان شديد الاشتغال بشؤون المعهد الإدارية ولكن مع هذا له شعر غزير يربو على أربعة آلاف بيت في غاية من اللطافة وحسن السبك ودقة النسيج وحلاوة اللفظ يكاد يظن إنه طول عمره كان عاكفاً على الشعر العربي، ويمتاز شعره عن شعر إمام العصر المذكور بالرقة والانسجام، وشعر إمام العصر يمتاز بالجزالة وفخامة الأسلوب، وشعره أقرب إلى شعر المولدين، كما أن شعر إمام العصر يشبه كلام المخضرمين. وأرى نفسي موفقاً في الفرق بين شعرهما إن قلت إن الشيخ المدير كان بحتري عصره، وإمام العصر فرزدق وقته. وديوان شعره مطبوع وإن لم تحل أشغالي دون مرامي عسى أن أنتهز فرصة وأقدم شيئاً من شعره لأخوان القاهرة والله الموفق.
محمد يوسف البنوري
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالهند. وعضو (المجلس العلمي)
نزيل القاهرة(630/29)
محرم الحكيم الاجتماعي
بمناسبة مرور الأربعين على وفاته
للأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
هي سنة واحدة قضاها أحمد محرم في المدرسة، أو على الأدق في مدرستين: العقادين الابتدائية، فمدرسة الجيزة بالقاهرة، بعد أن تلقى مبادئ القراءة والكتابة في مكتب قرية الدلنجات من أعمال مديرية البحيرة وحفظ القرآن الكريم في الثانية عشرة من عمره.
وبعد هذه السنة جاءه أبوه التركي المرحوم حسن أفندي عبد الله بطائفة من علماء الأزهر يدرسون له النحو والعروض وسائر علوم العربية، وعكف من ثم على التراث الأدبي العربي في مختلف عصوره دارساً وحافظاً. هذه هي دراسة الشاعر الأولى، أو هذه هي مدرسته الأولى التي هيأته للشعر يقوله. . . ومنها انتقل إلى المدرسة الأخرى، مدرسة الحياة الكبرى التي كونته حكيماً اجتماعياً إلى أن انتقل إلى العالم الباقي. . .
وللحكمة في قيثارة الشاعر وتر واحد، عن هذا الوتر تصدر الحكمة والاجتماعيات في نغمة واحدة أو في أنغام مختلفة. . . سهمان ينطلقان إلى هدف واحد، هو تعمق الحكيم وشمول نظره، وما يكون المرء اجتماعياً إلا لأنه حكيم، وما يكون حكيماً إلا لأنه اجتماعي.
وفي المدرسة الكبرى، مدرسة الحياة راح الشاعر - من جديد - يدرس ويتعلم بالكثير من راحته، وسكون نفسه واطمئنان باله، وينفذ وراء بصره إلى أعمق ما تعرض الحياة من قضايا، وما تكن زوايا البشر من خبايا. . . كانت هذه الدراسة، وهي قطعة من حياته، أو هي حياته كلها - تأملاً، وشعوراً يستحيل عند فيضانه إلى تعبير جلي قوي تتمشى الحرارة في ثناياه، وتنبض الروح بين طواياه. . .
وكان جل ما تعرض عليه الحياة، تحت شجرة إلى جانب مقهاه الأثير في دمنهور أمام المحكمة الأهلية، حسبه منها، ومن الحياة، أن تفيء عليه ظلها ساعات في الصباح، ومثلها في المساء. لم يكن يحتمل جو المقهى إلا ريثما يأخذ الصحف والبريد بنظرة خاطفة، يهتز بعدها من الضيق فيحمل كرسيه ويطلب إلى الانتقال إلى (شجرة العرش) باسماً!
وننتقل إلى ظلال (شجرة العرش) لنراجع النفس فيما سمعنا ورأينا وعلمنا، ثم لنسكت، أنا في شأني، وهو في تأمله الهادئ العميق.(630/30)
وكثيراً ما كنت استحضر فكرة ما - في موضوع الساعة، لأحدثه بها، فأتعقب ما لا أرى ببصري في الأرض وفي السماء. فكان يهز رأسه ويقول: قيد ما يحضرك. فإنه يقرها ساكنة، حتى تطلبها فتجدها في مكانها (مقيدة)!
ورغم ذلك فقد كان رحمه الله على قوة في الإرادة، ونفاذ في البصر، ويقظة في الشعور، إلى درجة تريح نفسه من العمل بهذه النصيحة. فكان أبدا على ثقة من العثور على (الفكرة) أو قل من (اصطيادها) أسمن وأغنى مما كانت حين سنحت له وخلاها. . .
في ظل هذه (الشجرة) وهي كالمرصد للفلكي، والمعمل للكيميائي، جعل الشاعر (يصطاد) عناصر حكمته الاجتماعية، ويتأمل في هذا النبع الفياض، من نفسه ومن الحياة ويشعر به شعوراً قوياً جياشاً، ثم يسوق تأمله وشعوره في حكمة هي الشعر، وفي شعر هو الحكمة، فيتقدم على كثير من الشعراء - أمام الناس جميعاً، حكيماً اجتماعياً يضع إصبعه على أخطر الأدواء، ويصف بالساحر من بيانه أنجع الدواء. . .
وما أريد أن أعود بالقراء إلى يومه الأول لأعرض عليهم فنون حكمته فيه. فلذلك مكانه من الكتاب إن شاء الله. وإنما أريد أن أعرض عليهم أبياتاً من قصيدة حديثه، هي قصيدة العصر، أو هي آلامه وآماله. .
وسبب هذه القصيدة - ومعذرة إلى القراء - مناظرة على صفحات (البلاغ) الأغر في حياة صاحبها المغفور له عبد القادر حمزة باشا رحمات الله ورضوانه - بيني وبين صديقي الأستاذ محمد السوادي في (العبقري) في الثراء، والزواج، والحب) من هو العبقري، وما شأنه؟ قلت يوم ذاك إنه رجل طليق، في الثراء والزواج والحب والحياة كلها. . . أو إنه بشر فوق البشر. . .
ورمى الشاعر ببصره فماذا وجد؟ وجد الوسط الأدبي في مصر يزخر بطوائف من المخبولين والممرورين والحالمين. . . هذا يستنشق الأثير، وثان يكرع الخمر الرخيص، وثالث يتعاطى الأفيون، ورابع يدخن الحشيش، وخامس يتمرغ في أوحال الرذيلة، وسادس وسابع. باسم العبقرية، أو وراء (أشباح العبقرية) كما يسميها جورج دهامل يجري كل هؤلاء المرضى والضعفاء. ولم يقل أحد إن العبقرية صحة، وصحيح - كما يقول المدافع عن الأدب - أن هذه السموم تولد عند آلاف البؤساء شعوراً ذاتياً بالعبقرية، ولكنها لم تهب(630/31)
العالم البشري كتاباً واحداً ممتازاً.
العبقرية تصيح كل يوم: (رباه! رباه!. . لم تركتني وحيداً)!؟
هذا هو العبقري في رأي جورج دهامل الأديب الفرنسي، وهذا هو أسلوبه، فانظر إلى العبقري في رأي شاعرنا الحكيم المصري، وهذا هو بيانه:
يقول القوم هذا عبقري ... وذاك مثقف وأقول: واها!
عيوب العبقرية من قضاها ... وآثام الثقافة من جناها؟
وهذا النور كيف تراه عيني ... ظلاماً يسلب الدنيا سناها؟
بهذا البيان نفى حكيمنا الاجتماعي أحمد محرم، من العبقري والمثقف ما يحاول الجهل أو الخبل أن يلصقه بهما من عيوب وآثام. . .
ولم يقف عند هذا الحد، فنظر إلى الشعوب ماضياً وحاضراً ومستقبلا نظرة هذه ترجمتها في الحكمة شعراً:
أرى ملك الشعوب يقوم فيها ... على أخلاقها، وعلى نهاها
ولنمض مع الشاعر إلى ما مضى إليه. . . هي فكرة قرنها إلى فكرة، وحقيقة صارخة تصيدها فقيدها بحقائق أخرى. قال:
رأيت نساءكم غلبت عليكم ... فأمسى الخزي قد وسم الجباها
عجبتُ لذي الحليلة راودته ... عن الشرف الرفيع، فما عصاها
وللأب مال بابنته هواها ... عن السَّنن السويّ فما نهاها
إهابة جازع على أول وأهم ركن في المجتمع. . . وأي خير في الأسرة إذا كان هذا حالها، أو إذا انتهت إلى هذه الحال؛ ولماذا لا ينعى دولة الرجال فيقول مقرراً في أسف وألم لا يحس بهما غير الرجال:
وما عند الرجال قضاء أمر ... إذا قضت النساء على لحاها
وماذا بعد هذا مما يرضاه الحكيم الاجتماعي؟ لا شيء إلا أن يقول:
برئت إلى المروءة من بلاد ... تبلد شيخها، وغوى فتاها
ولكن هذا هو الداء، فما هو الدواء؟ هو أن:
أعيدوا الدين سيرته وشدَوا ... عرى الأخلاق إذ وهنت عراها(630/32)
وردوا بالزواجر كل غاد ... إذا وضحت له المثلى أباها
فبهذه الوسائل مع الدين، أو في الدين تعاد إلى الرجل دولته، وتحل المرأة في محلها، ويساق الأنباء إلى الجادة في أثرهما. . .
ولكن كيف ذلك وهو يقول ولا ينكر عليه أحد ما يقول:
لبئس القوم ما حفظوا كتاباً ... ولا عرفوا رسولا أو إلها
ولم يكن يقصد مصر وحدها، فالعروبة كلها قصده، وهذا العالم الإسلامي المترامي هو - قصيدته - مجال آلامه وآماله. . . لذلك يتساءل بعد هذا كله ولكل جوابه عليه:
وما تبغي العروبة من شعوب ... إذا ذكرت لشاعرها بكاها؟
هذا هو (محرم الحكيم الاجتماعي) في أبيات من الشعر، و (لشاعر العروبة) قصة أليمة، محيرة، في ديوانه (مجد الإسلام) نرجو أن نقدمها إلى الرأي العام في فرصة أخرى إن شاء الله.
(دمنهور)
إبراهيم عبد اللطيف نعيم(630/33)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
أعصابك ولماذا تثور؟
كيف تنشأ احساساتنا المختلفة من حب وحقد وغضب أو قلق واضطراب؟ كل هذه الاحساسات منشأها تكوين المخ، ففي وسطه فص صغير في حجم البندقة اسمها السلامي. وهي قديمة جداً في تركيب أجهزتنا العصبية ورثناها فيما ورثنا عن أجدادنا الأول الذين كانوا يعيشون بشريعة الغاب.
ويقابل السلامي في المخ ويحاول السيطرة على احساساتها قشرة رفيعة تغطي المخ وفصوص صغيرة موزعة خلف الجبهة، وهذان الجهازان حديثان في التركيب العصبي للإنسان. وبهما نفكر ونتنبأ ونتغلب على احساسات السلامي التي وهبتنا إياها الطبيعة في بدء الخليقة لتكون بمثابة جرس الإنذار ينبهنا إلى الخطر أو الجوع.
والسلامي دائمة الطلبات فهي تدعوك دائما إلى الإقبال على الخمر والميسر أو ما يطابق طبيعة الغاب الأولى من تخلص من القيود؛ فإذ طلبت السلامي كأس خمر تصدت لها قشرة المخ وفصوص الجبهة قائلة حذار فإنك تعرف أن الخمر منكر وأنك تفقد وعيك وترتكب أعمالا شائنة إن سكرت.
وإن أغلق الباب بعنف وأنت في ظلام الليل الرهيب صرخت السلامي (عفريت قادم لقتلك)، فتجيبها الأخريان: (كلا. . . إن هذا إلا ريح عاصف) وهكذا دواليك؛ فالسلامي تدفعك إلى عالم الخيال والخزعبلات، بينما قشرة المخ وفصوص الجبهة تعيدك إلى عالم الحقيقة والمنطق.
ويقول العلماء إن الموسيقى تخفف من حدة السلامي وتهدئ إحساساتها؛ ولهذا فإن الأنشودة العاطفية تثير فينا احساسات الحب والصداقة بينما الأنغام العسكرية القوية تثير فينا الشجاعة والتضحية. وهذه الاحساسات تظل مسيطرة إلى أن يعيدها إلى الواقع شيء من منطق القشرة وفصوص الجبهة.
دراسة تربة النيل(630/34)
تجري كلية العلوم بإشراف بعض إخصائييها دراسة تفصيلية لتربة قاع نهر النيل وشواطئه، واستلزم الحصول على عينات من النهر سفر الدكتور رشدي سعيد في باخرة خاصة مسافة عشرة آلاف ميل إلى أعالي النيل حصل منها على 400 عينة من مختلف أنحائه، واستغرقت الرحلة 45 يوماً
والطريقة التي اتبعها هي الحصول على عينة من قاع النهر بأدوات خاصة، ثم عينة أخرى من الشاطئ، وفي المناطق الهامة كان يأخذ عينة كل خمسة كيلو مترات، وبالأخص كلما تغير شكل التربة
والغرض الأساسي من هذا البحث معرفة الزمن الذي فيه اتصل نهر النيل بمنابعه في أعالي السودان، فإن علماء الجيولوجيا يقولون: إن منابع النيل في أوغندا والسودان كانت منفصلة عن النهر، ولعوامل جيولوجية خاصة التقى المجرى المقبل من الحبشة بزميله المقبل من السودان
وتفرع عن هذا البحث دراسة أخرى، فإن إحدى شركات الأراضي الكبيرة في الصعيد المصري تملك قطعة أرض مساحتها عشرون ألف فدان. لوحظ أن مستوى الماء في باطنها يرتفع ويفسد الزرع، وأجرت الشركة عدة مشروعات لتصريف المياه، فلم توفق، وظلت الأرض تفقد حيويتها حتى قدرت الخسارة في السنوات الأخيرة بمائة ألف جنيه
واستعادت الشركة بأحد الأخصائيين ولكنه امتنع عن إبداء رأيه حتى يحصل على دراسة تفصيلية لتكوين هذه الأرض الجيولوجي.
سيشمل إجراء هذه الدراسة والغرض منها معرفة خير الوسائل لتصريف الماء من باطن الأرض. وهل هذه المياه متسربة من النيل أو من مياه الأمطار أو الآبار؟
وستحلل عينات الأرض والنهر لمعرفة تركيبها الكيمياوي وصلة الواحدة منها بالأخرى. وينتظر أن يكون لهذه الدراسة بجوار أهميتها العلمية فائدة عملية لأنها تؤدي إلى تحسين الزراعة ووسائلها.
ديدان الأرض تضاعف منتجاتها
عرف داروين منذ قرن مضى أن ديدان الأرض تقويها على إنتاج المحاصيل الزراعية.(630/35)
وقد تيسر أخيراً استخدام هذه الديدان في تقليب التربة. وينتظر باحثو هذا الموضوع أن يتضاعف محصول الأرض من مرة إلى ثلاث مرات.
وقد وجدوا بالتجارب أن القدم المربع يحتاج تقليبه إلى عشرة ديدان أي أن الفدان يحتاج إلى مليون دودة تقلب من أرضه ما يقدر بمائتي طن من التربة الجافة التي تساعد على تهوية جذور النبات. وهي تضيف إلى فائدة التهوية فائدتين أخريين، لأن تأكل الجذور الميتة كما تبتلع البقايا النباتية والحيوانية المختلفة تعطي الأرض كمية طيبة من السماد العضوي بما تفرزه في الأرض من بقاياها مما يغذي النبات ويزيد نموه.
ويقول الدكتور توماس بارت إن الفلاح يستطيع الحصول على عدد وفير من هذه الديدان بتوليدها. وليبدأ أولاً ببعضها في صندوق صغير، فعندما تبيض الدودة يستمر بيضها من 14 يوماً إلى 21 ثم يفرخ وهذه الأفراخ بدورها تبيض في فترة تتراوح بين 60 و90 يوماً.
ويقول هذا الأخصائي في الديدان الأرضية أن تزويد الأرض بها يفيد صاحبها فوائد جزيلة. وقد اهتم بعض التجار في الريف بهذا الديدان وجعلوها من المواد التجارية التي تباع وتشترى مثل ديدان القز.
ذكاء طفلك وموعد حمله
أثبتت الاختبارات التي أجراها بعض العلماء أن النظرية القائلة أن الأطفال الذين يتم بهم الحمل أثناء فصول الشتاء أكثر ذكاء ممن تم بهم الحمل في فصول الصيف.
وفي مدينة باث اختار العلماء 3361 طفلا من طلبة المدارس وأجروا عليهم تجارب الذكاء وفحصوا أحوالهم فوجدوا أيضاً أن الأطفال الذين يتم بهم الحمل في الشتاء أقل أخوة أو أخوات من الذين يتم حملهم في فصل الصيف.
وكتب الدكتور فريزر روبرت مدير مصلحة الأبحاث الطبية في المجلة الطبية البريطانية فقال إن الأبحاث أثبتت أن الوالدين الأكثر ذكاء أكثر ميلا إلى الحمل أثناء فصول الشتاء، وأن الوالدين الأقل ذكاء أكثر ميلا إلى الحمل أثناء فصول الصيف.
أحدث أنباء العلوم والمخترعات(630/36)
قد لا ينتهي هذا العام، حتى تنتهي هذه الحرب، ويبدأ العالم ثورته الاجتماعية والاقتصادية، ويقفز بنا تقدم العلوم والمخترعات إلى بيئات جديدة، ويفتح لنا مجاهل لم تطرق من قبل
وهدف هذا الباب من (الرسالة) اطلاع القارئ العربي على آخر أنباء تقدم العلوم والمخترعات التي نجزم على ضوء ما عرفناه عنها أننا مقبلون - بعد الحرب - على عالم جديد مختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفناه
والعالم العربي بحكم مركزه الجغرافي يربط ثلاث قارات تعتبر من أهم مراكز النشاط في العالم كله، فجدير بالعالم العربي أن يدرك الانقلاب المقبل ويستعد له
سيارة بدون سائق
يستطيع سائقوا السيارات إذ انتشر الطراز الجديد من السيارات الأمريكية أن يتركوا سياراتهم تسير وهم نيام في الطرق القليلة الزحام. فإن أحد المخترعين تمكن من تجهيز السيارات بآلة كهربائية تسيطر على عجلة القيادة
وهذه الآلة عبارة عن عينين كهربائيتين تصحح وضع السيارة إذا انحرفت عن الخط الأبيض الذي يرسم عادة في منتصف الطريق، فإن أراد السائق التخلص من سيطرة هذا الجهاز في الطرق المزدحمة فإنه يضغط على زر صغير أمامه ليسير سيارته كما يريد
عصا تتعقب ملكة النحل
اخترع أحد مهندسي محطة الإذاعة البريطانية عصا سحرية. يسهل بها العثور على ملكة النحل، ولو كانت مختفية بين 50 ألف نحلة، كما اخترع أيضاً جهازاً يعرف به أن خلية نحل على وشك التمرد وهجر مسكنها، فيقودهم إلى خلية أخرى
وسر هذين الجهازين مادة خاصة كثيرة النشاط يصبغ بها ظهر الملكة فترسل إشعاعاً غير منظور، فإن أردت العثور على ملكة النحل وإخراجها من جموعه قربت العصا المجهزة بأدوات كهربائية خاصة من جموع النحل، حتى تسمع صوتاً قوياً يرشدك إلى مكانها، فإن أرادت الملكة هجر الخلية تحركت من مكانها، فتسمع أجراس الإنذار المعدة لذلك
فوزي الشتوي(630/37)
رسالة الفن
12 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
عن الأمس وعن اليوم
(تابع)
(وعلى ذلك ذهبت عنده وعملت منه عدة دراسات سريعة بالقلم الرصاص ليسهل علي عمل التمثال فيما بعد. ثم أحضرت منصتي وشيئاً من الصلصال. ولما كان من عادة الشاعر أن يجلس في البهو مع أصدقائه كان من الطبيعي ألا أجد مكاناً سوى الشرفة أضع فيه تلك الأدوات القذرة. وإنك لتستطيع أن تدرك صعوبة واجبي. كنت أدرس الشاعر العظيم في انتباه كبير وأحاول أن أطبع شخصه في ذاكرتي ثم أجري فجأة إلى الشرفة لأطبع في الطين ما لاحظته والتقطته ذاكرتي من هنيهة. ولكن كثيراً ما كانت تخبو ذاكرتي وأنا في طريقي إلى الشرفة. فإذا ما وقفت أمام المنصة لم أجد في نفسي القوة على لمس الطين. وكان يتحتم على أن أقفل راجعاً إلى مثالي مرة أخرى. (وعندما قاربت النهاية من عملي سألني دالو أن أقدمه إلى فكتور هوجو. فأجبته إلى ذلك في حينه. ولم يعش الرجل العظيم الهم بعد ذلك كثيراً. وما استطاع دالو أن يبلغ غايته إلا من صبيبة أخذت للشاعر بعد موته).
قادني رودان وهو يتكلم إلى ظرف من الزجاج بداخله قطعة واحدة من الحجر. إنه الحجر الأوسط من عقد، الحجر الذي يضعه المهندس وسط العقد ليدعم به منحناه. نحت على واجهته قناع مربع من ناحية الخدين والصدغين، متمشياً في ذلك مع شكل الحجر المربع. رأيت ثمت وجه فيكتور هوجو. وعند ذلك قال المثال الكبير: (كثيراً ما أتخيل مثل هذا الحجر يتوسط بناء يوهب للشعر)
وكان من السهل علي أن أتخيل ذلك. فإن جبين فكتور هوجو وهو يدعم في ذلك الوضع حنية تذكارية فكأنما يرمز بذلك إلى العبقرية التي ارتكزت عليها آراء وجهود عصر(630/38)
بأكمله. ثم عاود رودان حديثه قائلا:
إني لأعطي هذه الفكرة أي مهندس يستطيع أن يخرجها إلى حيز التنفيذ).
وقريبا منا قام التمثال النصفي لهنري روشفور، وهو معروف تمام المعرفة؛ فرأسه رأس ثائر تعلوه خصلة شعثاء من الشعر تموج كأنها شارة التسليم، وبجبينه عجر كثيرة كأنه جبين طفل مشاغب، دائم الشجار مع أترابه، له ثغر قلصته السخرية، ولحية نافرة صاخبة. إنه ثورة لا تهدأ، وروح النقد والكفاح بعينها. إنه قطعة فنية رائعة نستطيع أن نرى فيها ناحية من نواحي ذهنيتنا المعاصرة. وهنا قال رودان.
(وكانت معرفتي بهنري رشفور عن طريق بازير أيضاً، فقد كان رئيساً لتحرير الجريدة التي يعمل بها. ورضى هذا المناظر الشهير أن يجلس إلي. كان ذا روح مرحة حتى ليحس المرء منه السحر عندما يصغي إليه وهو يتكلم. ولكنه ما كان يستطيع الجلوس ساكنا لحظة واحدة. وكان يؤنبني في رفق لأني أنصرف بكليتي إلى مهنتي؛ حتى لقد قال لي مرة وهو يضحك إني قضيت جلسة بأكملها في إضافة قطعة من الطين إلى التمثال، وجلسة أخرى في رفعها عنه.
(وفيما بعد، عندما رأى أن تمثاله حظي بإطراء ذوي الذوق الرفيع وثنائهم جاراهم في ذلك الإطراء غير متحفظ، ولكنه ما كان يعتقد أن تمثاله ظل على حاله الأولى من ساعة أن حملته من منزله، وكان يكرر ويعيد علي هذه العبارة: (لقد أعملت يدك فيه كثيراً. هذبته تهذيباً. وحقيقة الواقع أني لم أمسسه حتى بظفري).
وعند ذلك أخفى رودان خصلة الشعر بإحدى كفيه واللحية بكفه الأخرى ثم سألني عما يمكن أن يشبهه إذ ذاك). فقلت:
(تستطيع أن تقول إنه قيصر من قياصرة الروم)
(هذا ما أردتك أن تقوله تماماً، إذ أني لم أستطع أن أجد الطراز اللاتيني القديم نقياً خالصاً كما وجدته في روشفور)
وإذا لم يدر عدو الإمبراطورية الألد للآن وجوه تشابه بين وجهه ووجه القياصرة، فإني أراهن أن مجرد علمه بذلك سيبعثه على الابتسام
وعندما تكلم رودان من لحظة عن دالو، صورت في مخيلتي تمثاله الذي صنعه لذلك المثال(630/39)
والمودع الآن بمتحف اللوكسمبورج إنه رأس متكبر عات يقوم على رقبة رفيعة معروقة كأنها رقبة طفل. له لحية كثة كأنها لحية صانع ماهر، وجبهة مغطنة متجهمة، وحاجبان أشعثان كأنهما حاجبا شيوعي قديم، وهيأة متكبرة محمومة ترى فيها الديمقراطي الذي لا يحول. أما العينان الكبيرتان والتقعر البسيط الذي بالصدغين، فتنم كلها عن الشغف العظيم بالجمال
سألته عن هذا التمثال فأجابني بأنه عمله عندما عاد دالو من إنجلترا بعد أن شمله العفو السياسي وقال:
(إنه لم يأخذه قط، لأن علاقتنا انصرمت من بعد أن قدمته لفيكتور هوجو بقليل.
كان دالو فناناً عظيماً، ولكثير من أعماله قيمة زخرفية رائعة تجعلها من أجمل مجموعات القرن السابع عشر. ولو لم تتملكه شهوة الحصول على وظيفة حكومية لكان كل ما أنتجه قطعاً خالدة؛ ولكنه جهد ليكون لوبران جمهوريتنا، وليكون زعيما لكل فنانينا المعاصرين. لقد مات قبل أن تتحقق أمنيته؟
(إنه ليستحيل على المرء أن يمتهن مهنتين في وقت واحد. فكل الجهد الذي بذله لكسب أنصار وأعوان يركن إليهم، وفي محاولته أن يكون ذا شأن وخطر - كان كل هذا خسارة للفن. ليس أصحاب الدسائس أغراراً مغفلين؛ فعندما يريد الفنان مناهضتهم أو ينهز معهم بدلوهم فإن عليه أن يكيد لهم بقدر ما يكيدون، وبذلك لا يبقى له وقت ينصرف فيه لعمله.
(ومن يدري فلو كان دالو لزم مرسمه دواماً ومضى في سبيل فنه هادئاً وادعاً لأنتج روائع يخطف جمالها الأبصار، ولربما أجلسه الإعجاب العام على عرش الفن وتوجه ملكا على الفنانين - وذلك هو الذي بذل في سبيله كل ما في وسعه لتحقيقه، ولكن في غير طائل.
ومع كل ذلك لم يذهب طموحه سدى؛ لأن نفوذه وحظوته في الأوتيل دي فيل كانا سبباً في إخراج قطعة خالدة من أعظم قطع عصرنا الحاضر. فهو الذي مكن بوفي دي سافان من أن ينال الإذن بزخرفة جانبي السلم بمدخل الأوتيل دي فيل، وذلك رغم مناهضة أعضاء اللجنة الإدارية مناهضة علنية وأنت تعرف بأي شعر سماوي أضاء المصور العظيم حوائط البلدية).
وقد استرعت هذه الكلمات انتباهي إلى تمثال بوفي دي شافان قال عنه رودان:(630/40)
(لقد رفع رأسه عالياً. أما جمجمته فصلبة مستديرة وكأنما خلقت لتلبس خوذة. وأما صدره المقوس فيظهر كأنه اعتاد لبس الدروع. ولقد يسهل على المرء أن يتصوره في بافيا يحارب ذياداً عن شرفه إلى جانب فرنسيس الأول).
ترى في التمثال أرستقراطية شعب قديم. فالجبهة والحاجبان المرتفعان تدل على الفيلسوف. وتشف النظرة الهادئة التي تشمل أفقاً كبيراً بعيداً عن ذلك المزخرف العظيم والمصور الطللي السامي. هذا ولا يوجد فنان معاصر يمكن له رودان من التقدير والإعجاب بقدر ما يكنه لمصور القديسة جنيفيف. ثم صاح رودان:
(أكان هذا الرجل يعيش بيننا ويخالطنا، أكان هذا العبقري الخليق بأزهى عصور الفن يتكلم معنا! وإنني شاهدته ووضعت يدي في يده! ليخيل إلي أني صافحت يد نيقولا بوسان!
(يتبع)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(630/41)
على الشاطئ. . .
للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن
أي سحر يفيض من ناظريك ... حبس الفكر والفؤاد عليك
روعة تسلب العقول هداها ... فتذيب القلوب في عينيك
ملأ الشط فتنة وحياة ... رائع اللمح من سنا وجنتيك
وأشاع الضياء والبشر نور ... من شعاع الخلود في شفتيك
عالم أنت من فتون وسحر ... لهفات القلوب جُنَّتْ لديك
قد حسدت الرمال تحنو عليك ... وحسدت النسيم يهفو إليك
وحسدت المياه والموج يسعى ... قِبل الشط لاثماً قدميك
عبد الحسن فيك قلبي وعيني ... أحرام أن ترحمي عابديك
آه لو تصدق الأماني يوما ... والأماني عصيها في يديك
مصطفى علي عبد الرحمن(630/42)
الظلام. . .
للأستاذ أحمد مخيمر
الظلام العظيم يهبط في بط ... ء، ويلقي عصاه فوق الروابي
زاحفاً للوهاد كاليم ما جف ... بدفق ولا انطوى بانسكاب
الذرى فيه مغرقات تبدي ... بعد حين في وحشة واكتئاب
كسهام إلى السموات تعلو ... وقفت في الهواء دون السحاب
ما لها كلما نظرت إليها ... أنذرتني برحلة واغتراب؟
أترى لست بالغريب. . . ونفسي ... شردتها خطوبها في اليباب
لم تجد في الأيام خلا فلاذت ... بقلال الربا، وشم الهضاب
يا لها من حمامة ذات حسن ... هجرت عشها لوكر العقاب!
وحياتي - يا للأسى! - في يد الأقدار ... كنز تسوقه للتراب
إنما الموت كان أجمل لولا ... ما طوى القلب من رفيع الرغاب
أنا يقظان كالنجوم، عميق ... كالظلام العميق، رحب الجناب
تتمشى بي السكينة. . . كالجد ... ول زحفاً بين الغصون الرطاب
وتغنى بكل قلبي أشوا ... قي بلحن مزمجر صخاب
جائشات جميعها بفؤادي ... جيشة الموج واصطخاب العباب
ليس إلا الظلام تسكن فيه ال ... روح مما تحس من أوصاب
فيه ترقى إلى معارج حب ... لم تنلها قبلي يد الأحباب
تكشف الحسن والحقيقة والغي ... ب وتسري وحيدة في الشعاب
وتلبي النداء تحمله الري ... ح، لناي الرعاة بين الغاب
جلسوا القرفصاء حول لهيب الن ... ار يشدون في حنين عجاب
ويبثون للظلام أقاصي ... ص، طوتها سريرة الأحقاب
وحفيف الظلام والريح والغا ... ب رهيب ينساب أي انسياب
يترك الجالسين في شبه حلم ... وحنين خاف إلى الغياب
ويطيل السكون فيهم إلى النا ... ر ورقص اللهيب رقص السراب(630/43)
يقلبون اللظى بعود، وفيهم ... تقلب الروح ذكريات الشباب
والقطيع الوديع يمضغ في النا ... ب ندياً من ناضر الأعشاب
مصغياً للرعاة، ذهلان، تبدو ... في محياه نشوة التطراب
ساهماً كالغريق في ذكر المر ... عى مطلا في هدأة واكتئاب
ناظراً في الظلام للأفق النا ... ئي وللكلب في طريق الذئاب
إيه يا ليل لو دعيت نجائي ... حين يسري ولو رثيت لما بي
أنا في هذه الحياة غريب ... ووحيد الأشواق بين الصحاب
غربة ما يزال دمعي منها ... في جفوني مرقرقاً لانسراب
وأماني في الضلوع صبيا ... ت إلى الورد عاريات الإهاب
خافقات وما خفقن بريب ... هاتفات وما هتفن بعاب
دائرات يُلبْن من طول ما ذق ... ن من الشوق لانسكاب الشراب
بذراعين خشنتين سأصعد للنب ... ع في الصخور الصلاب
إنما النبع في القلال فمن يب ... غ يجده وراء ألف حجاب
ثم يخطو إليه ألف سبيل ... حين يخطو محفوفة بالصعاب
إيه يا ليل كل سر سرى في ... ك مطل بعينه لاقترابي
قد حملت الأجيال يا ليل فاحمل ... هتفات الأجيال في محرابي
وافتح اليوم شاطئيك لقلبي ... إن كل الحياة بين ثيابي. . .!
أحمد مخيمر(630/44)
البريد الأدبي
من وحي المرأة
أخي صدقي. . .
. . . إنك لتعلم رأيي في دموعك هذه التي نظمتها قصائد. تعلمه من هذه الانفعالات التي كنت أحاول أن أخفيها عنك فتظهر، وأنت تسمعني هذه القصائد قبل نشرها فأسمع، وأنا أحس أنك تعيش في أثناء قراءتها وتتألم!
ولقد كنت أستزيدك منها كلمات هممت أن تطوي أوراقك الحبيبة في صدرك، وأنت تضمها إليك ضمة الحب والأسى، ريثما تزدرد عيناك دمعة ندّت، فلم تشأ أن تطلقها على سجيتها، لأننا لسنا وحيدين، بل حولنا الناس في المقهى أو في الطريق!
كنت أشفق عليك أن تقرأها، وكنت أستزيدك من قراءتها. . . لأنني أعلم - وقد جربت من قبل تجربة شبيهة بتجربتك في الأم الصديقة - أن هذا الألم النبيل الكريم الذي تحسه وأنت تستعيد هذه الصور العزيزة، هو ألم كذلك عزيز مريح!
والألم النبيل الكريم يا صديقي نادر في هذه الدنيا الحافلة بشتى الآلام! وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذا الألم بين الحين والحين، يظهرها وينقيها، ويرفعها من ثقلة الأرض، ويطلقها ترفرف في السماء
ولكن الذين يعرفون مثل هذا الألم ويقدرونه نادرون مثله في هذا الوجود. وأنت الذي تقول في صدق مفجع حزين:
كأنيَ بالأحزان غّيَرنَ طابعي ... وأن بوجهي ما تجن أضالعي
ظلال جحيم من دخان ولاعج ... وأشباح تعذيب دوامٍ دوامع
وإلا فما للناس يجتنبونني ... وقد كنت منشوداً بتلك المجامع؟
وإني لألقاهم كعهدي مرحباً ... وأبسط كفي في سلام مسارع!
أفرّج ما بين الشفاه تبسما! ... وأدعو أساريري وأجلو مطالعي!
وأضحك أحياناً وأظهرنا جدي! ... وآخذ في أسمار غِرّ وخالع!
فما لهم لا يطمئنون؟ ما لهم؟ ... وضحكي عالٍ مسمِع ذو قعاقع
ابِشْرِيَ غير البشر في عين ناظر! ... أضِحْكَي غير الضحك في سمع سامع؟(630/45)
أجل صدقوا، مذ مُتِّ يا سرَّ فرحتي ... طُبعتُ كتمثالٍ على الحزن فاجع
أجل يا صديقي، لأن الناس في هذا الزمان يريدون أن يضحكوا دائماً، ويا ليتهم يعرفون كيف يضحكون!
أما أنا فلست بناصح لك أيها الصديق - كما لم أنصح لك في فورة الألم - أن تتسلى، فما أرخص السلوى في الحياة، وما أعز الألم الصادق النبيل؟ وما أفدح الخسارة حين نمسي ونصبح، فإذا أيدينا خالية من هذا الألم الذي يربطنا بأعز أحبابنا، ويصلنا بذلك الماضي الذي لن يعود
وإنني لأقرأ ثم أقرأ في احترام بالغ قصيدتك (تساؤل):
أتغلبني هذي الحياة على حزني ... فاصبح مثلوج الحشى ضاحك السن؟
أيأتي زمان تخطرين بخاطري ... فلا يسبق الدمع الهتون إلى عيني؟
أيجري لساني باسمك الحلو صادحاً ... مبيناً فلا يومي إليه ولا يكنى؟
وقد كان في حلقي يجف ويلتوي ... ويهمس مبحوح الصدى مجهش اللحن!
أيحلو لطرفي أن يطالع صورة ... لحسنك من بعد الفجيعة في الحسن؟
وقد كنت أخفيها وكانت بناظري ... إذا عرضوا عفوا - كغاشية الدجن
أيخلو مكان من خيالك ماثلا ... بكل مكان - أينما سرت - أو ركن؟
ويطغى على نفسي شعور وفكرة ... ولم تشركيني في شعوري وفي ظني؟
ويشغلني شيء ولو بعض ساعة ... فلا أنت في قلبي ولا أنت في ذهني؟
نشدت زماناً يورث الناس سلوة ... ليكفينني برد السلو ويستأتي
بديلي منك الحزن لم يبق غيره ... فلا حبذا السلوان غبناً على غبن
وإني لأستحييك إن غب مدمعي ... وأحزن يوماً إن غبت على حزني
إنك لغني يا صديقي بهذا ال ... كنز من الألم الرفيع النبيل
فكن أمينا عليه، فمثله نادر في هذا الوجود!
سيد قطب
كلمة هادئة - إسكان أواخر الكلمات(630/46)
ألمع ابن خلدون في مقدمته الشاملة إلى اقتراح السكان أواخر الكلمات تخلصاً من حركات الإعراب فقال: (ولعلنا لو اعتلينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد - عهد ابن خلدون - واستقرينا أحكامه نعتاض من الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى). وقال أيضاً: (ولم يفقد منها - أي من لغة مصر مقارنة بلغة عهد ابن خلدون - إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن). ومن الملاحظ أنه لم يشرح شيئاً من (الأمور الأخرى) في قوله الأول ولا شيئاً من (القرائن) في قوله الثاني بحيث لا يمكننا أن نستنبط منهما وسيلة تنفيذية إلا التقديم والتأخير أي تقديم الفاعل وتأخير المفعول مثلا للتمييز بينهما وأظن أنها وسيلة غير كافية لأن اللغة ليست قاصرة على حالتي الفاعلية والمفعولية وليست قاصرة على حركتي الرفع والنصب وليس حتما أن تشتمل الجملة على اسمين اثنين لا غير
مع هذا لا يزال ينادي بهذا الاقتراح الظريف باحثون معاصرون يرون في اللغات الأوربية المسكنة الأواخر برهاناً تطبيقياً نافذاً.
والذي يخيل إلي أنهم لم يبحثوا الموضوع على الأقل من الناحية الشكلية التي يبدو فيها خلاف كبير بين اللغة العربية واللغات الأوربية يستعصي معه إتباع هذا الاقتراح.
فأولا: صب اللفظ العربي يحتاج إلى ضبط كامل لا يفيد معه إسكان الآخر لأنه يتكون من حروف ظاهرة في الكتابة وحروف أخرى تظهر في النطق. ولا زلت أذكر قصة لأحد الظرفاء إذ شاهد مع بعض ضيوفه من الريف حيواناً عجيباً في حديقة الحيوان فسألوه ما هذا؟ فحار في قراءة كلمة (الببر) على قفصه لا لجهله بحركة آخرها طبعاً بل لجهله بحركات سائر الحروف.
وثانياً: استقلال اللفظ، فنجد أن اللفظ في اللغة الأوربية منفصل قائم بذاته في كل معانيه بينما هو في العربية خاضع لغيره أو متصل به. فنحن نقول: كتابهما - كتابهم - كتابهن. . . فأين الحرف الذي يسكن؟ الأخير أصلا أم الأخير رسماً؟ اللفظ الأصيل! كتب وآخره الباء فحينما أسند إلى غيره تغير آخره بالاندماج فيه. بينما الإنجليز مثلا يقولون: لهذه الحالات الثلاث. ولسْت بصدد القول بأن أساليب التعبير عندنا أدق وأوفى وهذا ربح لا يهون بجانب تسهيل النطق عندهم.(630/47)
وثالثاً: حركة الآخر ليست خاضعة لاتصال اللفظ بغيره اتصالا مباشراً فحسب بل أيضاً تخضع للاتصال غير المباشر بالألفاظ المجاورة. فإسكان الأواخر يكثر من (التقاء الساكنين) أو تعذر النطق لتعاقب حركتين. . فإذا تعمدنا الوقوف عند كل كلمة قطعنا في المنطق تقطيعاً مضحكاً مرهقاً وإذا استرسلنا بغير ضوابط خرجنا على القاعدة خروجاً همجياً، وإذا اعتمدنا على التقديم والتأخير أخفقنا في الجمل المتشابهة الكلمات والجمل التي تتكرر فيها كلمات معينة.
ورابعاً: كثير من الألفاظ ساكن ما قبل الآخر. فإسكان الآخر أيضاً ثقيل جداً. وهو بالغ الثقل عندما نصل مثل هذه الألفاظ بألفاظ ساكنة الأول أو طيعة الأول على الأصح.
وخامساً: بعض الألفاظ مبني على حركة تدل دون غيرها على معنى خاص. مثل: أنتَ - أنتِ فإسكان (أنت) يحرمنا من فهم المعنى إلا بالسياق والإطناب حيث يغني الإيجاز.
إلى غير ذلك من الأحوال الخاصة بطبيعة لغتنا وحدها.
والعجيب أن اللغات التي تلائم طبيعتها قاعدة إسكان الآخر قد تجنح إلى أدوات شاذة لتعذر اطرادها. مثل إقحام حروف غريبة لا تمت إلى الأصول والأصلاب بصلة ما كالحرف في - أي: (هل هناك. . .؟) والجواب: بلا وجود للحرف الذي وجد لتحاشي التعقيد بالتخلص من تعاقب ولا أعرف لذلك ضريباً إلا في لغة بعض قبائل النوبيين فهم يقولون مثلا: (إتِّرْكِ اكِّرِى) (إتر: طعام - اكرى: هات - الكاف: زائدة لهذا الغرض. وللنوبيين عذرهم في لغة لا تكتب ولا تطرد لها قواعد مدونة.
وعلى العموم فإن إسكان الآخر عامل من عوامل إضعاف اللغات. حتى الأوربية بدليل الاختلاف بين سماعها وقراءتها إلى حد ما. فمعظم حروف الآخر فيها صامتة مثل: - ذلك مستقبلا إلى ضمورها كما أدى تمهيدياً إلى انقطاع الصلة بين المكتوب والمنطوق. لذلك يلتزم بعض الفقهاء في فن القراءات ضرورة الاتكاء على الحرف الأخير في حالة السكون بالقلقلة والغن والتنوين حتى لا يعتريه ضمور أو إبهام أو إضغام.
وهب أننا سنهتدي إلى قواعد للغة المقترحة فلابد من بذل مجهود ضخم في تعليم العامي أن كلمة (مستأبل) خطأ وأن صوابها (مستقبل) بإسكان الآخر وأنها تقدم في حالة الرفع وتؤخر في النصب. بمثل هذا المجهود تقريباً يمكن تعليمه أن الصواب (مستقبلٌ)، (مستقبلا).(630/48)
والفرق بين المجهودين بسيط لأن القواعد التي تسري على كلمة واحدة تسري على أشباهها جميعاً.
وليس الإعراب بهذه الوعورة التي تنتهي بنا إلى القنوط. والذين لا تحتمل عقولهم بعض القيود المادية كالإعراب لا يرجى أن تحتمل آراء وعلوماً وفنوناً.
عبد الفتاح البارودي(630/49)
القصص
ابن. . .
للأستاذ لبيب السعيد
كان ذلك في مطالع شبابي غب تخرجي في مدرسة التجارة، حين آثر أبي أن ينشئ لي متجراً، وكان هو وجدي وقتئذ يرعيان تجارتي الناشئة، ويقضيان معي الساعات، يوجهان العمال، ويشاركان في استقبال الحرفاء، وينيران لي في كل مناسبة طريقي الجديدة. وكنت يومئذ شديد الرغبة في النجاح، فكنت أستدفع الضجر، وأطامن من اعتزازي بآرائي، وأتقبل توجيهات أبي وجدي راجياً أن أتنور على هديهما مقصدي
وكان أبي لا ينفك يوصيني بألا أبيع بالنسيئة أبدا، ويقول لي: يا بني! خير لك أن تبقي بضاعتك أمام عينك من أن تعطيها الناس ثم تظل في انتظار ثمنها يدفع أو لا يدفع. وكنت أعرف ما جرته النسيئة على أبي من متاعب، فبدا لي أن أتخذ وصاته مبدأ أساسها لمتجري لا أنحرف عنه
ووقفت عصر يوم بجانب مكتبي النصف دائري، وأنا جذلان بنظام محلي ووفرة محتوياته وببشائر النجاح بادية في إقبال الحرفاء ورضاهم. . . وقفت أقبض أثمان المبيعات، وأوجه للعمال أمرا بعد أمر، وأنطلق بين لحظة وأخرى مع مرسلات الأماني. وفيما أنا كذلك، إذ أقبل عليَّ شيخ حطمه الشلل يتحامل على عصا غليظة، وعليه ملابس بلدية موشكة على البلى وإن تكن فاخرة الصنف، وفي صحبته طفل في نحو الخامسة يلبس جلباباً قصيراً خفيفاً، ويحمل وجهه سمات حزن لا يكون في أمثاله
وقال الشيخ في لهجة عزيزة ومنكسرة معاً: (أعطني يا بني عشر أقات دقيقاً)، فهتفت حالاً بالعامل القريب: (زِنْ لحضرته ما يطلب وخذ منه ثلاثين قرشاً)؛ وأجاب الرجل وهو يتكلف الابتسام: (بل يزن المطلوب ويكتب عليَّ ثمنه)، فما أسرع ما اندفعت قائلا في تصميم قاطع: (مستحيل هذا)؛ وابتسم الرجل ابتسامة واهنة، وقال وهو يتلفت كأنه يتحرى ألا يسمعه أحد: (بل ليس مستحيلا، ولا تمنع عمك أحمد الناجي ما يطلب، لا ضامتك الأيام)، ولكني نظرت إليه نظرة لا رفق فيها، وقلت كأني استعجله مغادرة المتجر: (مستحيل جداً يا عمي، وبالله دعنا في شغلنا)(630/50)
ونظر الشيخ إليَّ ثم إلى طفله نظرات المغضب المغلوب المتحسر فكدت لفرط ما تأثرت بهذه النظرات أستجيب لطلبته لولا أن ذكرت أن الأمر أمر مبدأ، وإني إن بذرت اليوم للنسيئة حبة فسأبذر غيرها غداً، وإذن فسأجني الثمرة المرة التي جناها أبي، والتي حذرني منها تحذيرا. واستدار الرجل في صعوبة وهو يتكئ ببدنه كله على عصاه، وجر رجليه جرا إلى الطريق ومعه طفله الذي كان يحكي هزاله وحقارة ملبسه حكاية البؤس مؤثرة وجيعة
ونزل جدي في هذا الوقت من عربته يصلح وضع مُطرَفه، ويلقي السلام على جيران المحل، وما بصر الشيخ حتى وقف يصافحه بحرارة مبادلا إياه تحيات أيدتهما لي كشقيقين على صفاء ومحبة، وأسرعت فقدمت لجدي كرسياً، ولكنه قدمه إلى الشيخ في اهتمام وهو يقول: (أيها الأخ! إني سائل عنك، قلبي معك) ونادى صبياً يعمل في المتجر أن يحضر قهوة للشيخ. وإذ رأيت عواطف جدي نحو الشيخ تولاني خجل شديد لما فعلت معه، ولكن تولاني أيضاً خوف من أن أورط في هذه العشر الأقات
وتحدث جدي مع الشيخ لحظات في صوت خفيض، فما لبث جدي إن صاح بي في لهجة ناهرة: (أهكذا يا محمد تفعل مع الشيخ؟! زِنْ له عشرين أقة) وصدعت بالأمر كارهاً!
أمر جدي أحد العمال بنقل الدقيق إلى بيت الشيخ الذي علا البشر صفحته، والذي قال وهو قائم يخطو إلى الشارع: (أكتب عندك ستين قرشا على أحمد الناجي)؛ وانطلق متحاملا على نفسه وأنا أتبعه بنظراتي غضبان أسفاً لكسر مبدئي التجاري، وأهمس لعامل قريب معرضاً بجدي: (شيوخ طيبون، يصدقون كل شيء، ويدخل الاحتيال عليهم)
وقعد جدي يردد أدعية بالستر الجميل له ولذريته، ثم قال مسمعاً إياي والأسف ظاهر في وجهه: (إنها الدنيا! الشيخ أحمد الناجي تعوزه أقات من الدقيق! الشيخ الناجي الذي كان يتصدق القمح أرادب! قضاء الله! ضاعت أمواله الضخمة، وأصابه الكبر والشلل، وتخطف الموت امرأته وهو أحوج ما يكون إليها، وله كما رأيت طفل ضعيف تُعوزه التربية!)
وجعل جدي يحرك قبضة عصاه في شبه حركة عصبية، وهو يبدأ ويعيد في الحديث عن صديقه الشيخ مظهراً غضبه مني إذ لم أسارع إلى تنفيس ضائقته، ولم أقدم إليه من الاحترام ما هو كفاء منزلته وعراقته(630/51)
وجاءني أبي مساء، فحدثته بالذي كان، وكأنما كنت أريد أن أقول له: أنظر ماذا فعل أبوك! فكان يضحك للهجتي، ولكن وجهه كان ينم عن تأثره لمأساة الشيخ الناجي، ومضى يحكيها لي مفصلة وهو يحوقل ويسترجع، على أنه ما لبث أن قالها بينة صريحة: (ومع ذلك فلا تعط أحداً بعدها شيئا بالنسيئة)
ومرت أيام، فجاء الشيخ الناجي بوجه فيه الأسى، وكعهدي به اتخذ من عصاه رجلا بعد رجل، وتكلف لي ابتسامة جاءت خجلى منكمشة وقال: لا تضق بي يا بني، إن لي إليك رجاء يسيراً. . . أتأذن بقرش حلاوة لهذا الصغير؟ (مشيرا إلى ولده)
وعض الحزن على قلبي للطفل الشاخص ببصره إلى الحلاوة، واستحيت لكرامة جدي، فأسرعت بنفسي وقدمت إلى الطفل قطعة من الحلاوة، ثم التفت إلى الشيخ أسأله مجاملا: ثم ماذا؟ فأجاب: (لا شيء، جعلك الله من السعداء)
وجلس على كرسي وإمارات التعب الساغب عليه، واحتضن ولده في حنان وأسف وهو يقول له بنبرة حزينة: يا بني المسكين! تأكل مما يقترض أبوك؟!
وسمعت عاملين يتهامسان بما ينقض عوز الشيخ، وبأنه يقول ما يقول ليسرق عطفي، ولينفي عني كل شك، فهمت نفسي بتصديقهما لولا أن ذكرت تفاصيل ما قصه علي أبي وجدي
ومضى الشيخ يجر جسمه وطفله. وانقضت أشهر وأنا لا أراه حتى كان يوم وردت فيه جنازة إلى المسجد القريب من المتجر ليصلى عليها. ووقف المشيعون ينتظرونها عن كثب من المحل؛ وقال قائل: يرحم الله الشيخ أحمد الناجي! وقال آخر: يا ما أحرز! فقال ثالث: ويا ما أضاع!
وسعى أمامي الركب الذي لا يعود صاحبه، وأنا أتمتم في غير اكتراث كبير: (الله يرحمه. . . ويعوض علي ما في ذمته!)
وغبرت سبع سنين ورد فيها جدي حياض المنون، ولم يفسح بعده لأبي في رحاب العمر، بل عاجله الأجل الصارم، وتحلبت على أموالنا أشداق الطامعين من الأقارب والأباعد، حتى ليخيل إلي أن لو كنا نؤكل ما عفوا ولا شبعوا.
وكنت رشيد أخوتي فألقيت على كتفي أثقال الأسرة. وكان أفدح هذه الأثقال أن أسترد ما(630/52)
لأبي وأقضي ما عليه. لقد كان أبي يكره أن يستدين أو يدين؛ ولكن التجارة أركبته برغمه هذا المركب واتصلت بالمدينين فهالني الأمر. هذا مُعِدمٌ يقول: كان بودي. . .؛ وهذا منكر يقول: أمامك المحاكم. . .؛ وهذا مخاتل كتب أملاكه لزوجه فراراً من العدل. فأما الموسر ذو التقوى فيريد أن يدفع المائة جنيه عشرين. فأما الدائنون، فقد حسروا لنا اللثام عن بطش وكيد فإنذاراتهم ما تنفد وعنتهم ما ينتهي.
ودخلت المحاكم فكم أموال أنا في حاجة إليها أخذتها مني، وكم قال لي المحامون: هات.
وادركني اليأس من طهارة الذمم، وروعني خراب الضمائر، وثقلت عليَ وطأة الحياة، وأصبحت لا أتبين في غمرات المظالم طريقاً
وقعدت يوماً في متجري أرسل فكري في ظلمات الأحداث المحدقة، وأنعى متوجعاً على المحيط الذي أنا فيه خلوه من رجل يستوحي الضمير ويقدر الشرف، وأدير عيني في مكان أبي وجدي فلا أراهما، وغشيني همَّ أذهلني عما حولي فترة، فما نبهني غير صوت غلام في نحو الثمانية عشرة يلبس جلباباً قذراً وطاقية رخيصة ويحمل علبة صفيح صدئة يقول لي وهو يمد يده إلي بالعلبة: يا عمي محمد! خذ حقك واحداً وستين قرشاً. قلت مستغرباً: أي حق يا بني؟ قال: حقك. . . ثمن الدقيق الذي اشتراه أبي أحمد الناجي، وثمن الحلاوة الطحينية التي أعطيتنيها.
وغمرتني الدهشة، فقد طوى النسيان مساحبه منذ سنين على أحمد الناجي. ولكني سرعان ما ذكرته. ذكرت لهجته، وذكرت فقره، وذكرت جدي وأبي وما قالا في شأنه وما فعلا، وذكرت الدقيق والحلاوة، وذكرت قوله لابنه وهو يحتضنه في حنان وأسف: يا بني المسكين. . . تأكل مما يقترض أبوك.
ذكرت هذا كله، وتفكرت فيما أرى من الغلام، فهزني هذا التصرف الكبير منه، وكأني أمام حادثة من خيال الشعراء، وقلت جاداً: خل هذا المبلغ لك يا بني؛ فأجاب في تمرد وقد اربد وجهه: أتريد أن يدخل أبي النار؟. . . لقد قال لي وهو في أشد التعب قبل أن تصرخ عمتي بأنه مات بوقت قصير، قال لي: يا علي! إذا أراد الله لك أن تشب وتجتاز السنين وتكسب شيئاً فلا تنس أن تسد ثمن الدقيق والحلاوة. وما دمت كبرت واشتغلت في مصنع السجاد بخمسة قروش في اليوم فلابد أن أقضي دين أبي ليدخل الجنة. . .(630/53)
وأشرق وجه الغلام وهو يضع النقود على مكتبي في عزم وإصرار، وابتسم ثغره ثم مضى في قوة شامخة.
لبيب السعيد(630/54)
الكتب
الترجمة وأثرها في النهضة الفكرية
(تصدير معالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا لكتاب
(المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية) ترجمة الأستاذ يوسف
موسى، وسيظهر هذا الأسبوع)
لقد كانت الترجمة - وما تزال - دعامة من دعائم النهضات الفكرية
والثقافية للشعوب، وبالترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصور الإسلام
الأولى؛ إذ أدرك الخلفاء المسلمون حاجة الأمم إلى استتمام غذائها
الفكري من كل سبيل، فتدفقت إلى النهر العربي وديان من مختلف
الثقافات العالمية، وظهر من بينها هذا اللون العربي الإسلامي على
خير ما يكون الاستواء.
وعندما نهضت أوربا من سباتها، ونفضت الكرى عن عيونها، رأت أن أقوم وسيلة لانتعاشها أن تنحو نحو الترجمة، فاندفع الناقلون يترجمون أمهات الكتب اللاتينية واليونانية، وتناولت أيديهم وأقلامهم كذلك أصول الكتب العربية التي عملت على ازدهار الثقافة الأوربية الحديثة.
وحين أسفر فجر هذه النهضة المصرية، وأدرك رجل مصر الحديثة رأس الأسرة المالكة محمد علي باشا، ما للترجمة من أثر فعال في إنعاش البلاد وإحيائها، هداه نظره الثاقب إلى إرسال البعوث العلمية إلى أوربا، لنقل معارف الأوربيين وثقافتهم إلى مصر باللغة العربية، فأرسل ثلاثة بعوث علمية في أزمنة مختلفة، كونت ثلاث طبقات من العلماء والأطباء والضباط والمهندسين، فنقلوا إلى العربية مئات من الكتب في العلوم والمعارف المختلفة. ولقد كان لذلك - بلا ريب - أثره الملموس في اللغة العربية والثقافة العربية.
ومما هو قمن بالذكر أن كل المدد الذي استمده محمد علي باشا لتلك البعوث لم يكن من(630/55)
الأزهر، تلك الجامعة التي نشرت النور والمعرفة في أرجاء العالم الشرقي. وكان من أظهر هؤلاء الأزهريين وأبعدهم صوتاً، المرحوم رفاعة بك الطهطاوي، الذي عهد إليه برياسة الطلبة المبعوثين إلى باريس، فقام بهذه المهمة خير قيام، واتصل في فرنسا برجلين عظيمين هما المسيو جومار والبارون دماسي، فأفاد من صحبتهما خيراً كثيراً، واستقدمه محمد علي إلى مصر في سنة 1246 هـ وعينه مترجماً في مدرسة طرة، ثم وكل إليه إدارة مدرسة الألسن ووضع نظام لها؛ وكان لتلك المدرسة فضل في نبوغ جماعة من فحول المترجمين.
وكان المرحوم رفاعة بك بطبعه ميالاً إلى الترجمة، فعرب مدة إقامته بباريس وبعد رجوعه منها كثيراً من الكتب والرسائل؛ منها تعريب قانون التجارة، وتعريب القانون المدني الفرنسي، ورسالة المعادن، والمنطق وهو ترجمة لكتاب دومرسيه، وهندسة سانسير، وغيرها، حتى ليقال إنه ترجم بنفسه وبإشرافه ما يربو على ستمائة كتاب.
على أن هذه النهضة التعريبية التي كان زعيمها رفاعة بك، سرعان ما سلط على دوحتها أعاصير من جو السياسة عبثت بأصولها، وأصابتها بما أوقف نموها وأطرادها، وهي بين الفينة والأخرى ما تزال بين النماء والذبول، إلى أن استقر أمرها في وقتنا الحاضر بما نرجو له دوام الاطراد والتقدم والتحرر، بفضل جهود العاملين على رفع مستوى الثقافة من رجال العلم ورجال الحكم.
لقد خطر لي أن أتحدث عن رفاعة بك هذا الحديث الذي أسجل به فضله وسبقه، عندما أردت أن أقدم هذا السفر النفيس الذي وضعه المستشرق الفرنسي الأستاذ جوتييه، وقام بترجمته الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى. لقد سرني أن يصل هذا الأستاذ الأزهري ما بين ماضي رجال الأزهر وحاضرهم في تعريب الثقافات الأوربية التي نحن في أشد الحاجة إليها وإلى من يحسن نقلها، وأعجبني أن ينهض الأستاذ بإكمال ما بدأ به رفاعة بك. وعسى أن يكون فيما أدرك من نجاح وتوفيق في تعريب هذا الكتاب حافز له ولأمثاله من نابهي رجال الأزهر، على إتمام تلك السلسلة التي صاغ حلقتها الأولى سلفهم الكريم.
إني إذ أهنئ الأستاذ بإخراج هذا الكتاب في ثوب عربي فائق، لأهنئه بحسن اختياره للموضوع؛ إذ أن كتاب الأستاذ جوتييه هذا يعد من الكتب ذوات الخطر في دراسة الفلسفة(630/56)
الإسلامية.
ولقد كان من حسن حظ هذا الكتاب أن يجد من أبناء العربية رجلا فاضلا مثل الأستاذ المعرب، له من الإلمام الواسع بالعلوم الفلسفية ما مكنه من أن يحسن عمله، فيستحق منا ومن قراء العربية شكراً موفوراً.(630/57)
من رسالة إلى صديق
ساعات بين الكتب
(للأستاذ العقاد)
للأستاذ حسين الغنام
عندما زرت أخي الأستاذ الأديب محمد محمد يوسف وهو مريض، لم يمنعه مرضه أن يسألني عن الكتب الجديدة ما ظهر منها وما قرأته، فلما آنست فيه قدرة على قراءة بعد مرضه أرسلت إليه كتاب العقاد مع رسالة جاء فيها عن هذا الكتاب الجديد ما يلي: -
تذكر يا أخي الدراسة المطولة التي كتبتها عن رسالة العقاد (مجمع الأحياء)، عندما قرأتها لك، وتذكر الجزء الذي نشرته منها في مجلة (الرسالة) وقلت فيه: (كان فرحي بظهور هذا الكتاب فرحاً عظيماً، لأن إعادة طبعه كانت رغبة، بل أمنية، اشتهيتها منذ بضعة عشر عاماً، وظهوره في طبعته الثالثة يسد نقصاً في المكتبة المصرية)
وهذه الأمنية وهذا الكلام ينطبقان على كتاب العقاد الجديد وهو الجزء الثاني من (ساعات بين الكتب)، حتى لقد هممت - كما تعلم - مرات عديدة أن أكتب إلى العقاد ليجمع تلك المقالات وينشرها في كتاب، في زمن كادت تنعدم المقالة فيه، إلا بعض مقالات للعقاد نفسه، وللزيات، ولطه حسين، وآخرين قليلين
والذي طالع الجزء الأول من كتاب العقاد (ساعات بين الكتب)، طالع فيه جديداً، ولاشك في الأدب العربي، حتى أن الكثيرين من الكتاب أخذوا يقلدونه، ولكنهم عادوا فانصرفوا عنه يائسين!
وهذه الدراسات التي جمعها العقاد مما نشر في البلاغ الأسبوعي والضياء، والدستور، وطبعها في كتاب، فصارت أشبه بالجامعة التي تفرقت كلياتها ثم اجتمعت في بقعة واحدة!.
وفي الحق أن مقالات العقاد، أو كتبه، هي مدارس أو كليات قائمة بذاتها، ففي كل مقالة منها، وفي كل رأي له، درس جديد. . .
وكتابة العقاد تمتاز بميزات كثيرة، أولها:
1 - الثقافات الواسعة المهضومة على تعددها، مع استقلال الرأي(630/58)
2 - التركيز والإلمام بالموضوع من أطرافه
3 - نفاذ البصيرة وإشاعات الذكاء العبقري
4 - قوة التركيب ومتانة الأسلوب وحلاوته
هذه هي الخصائص الأولى في كتابات العقاد، وهذا ما يطالع القارئ في هذا الكتاب، وهذا ما سوف يطالعك عند قراءته!
وإذا كان لي أمنية أخرى، فهي طبع المقالات العديدة المتفرقة للعقاد، في الرسالة وغيرها من المجلات، ثم تدريس هذه المقالات المستقلة لطلبة الجامعتين المصريتين، فإن فيها فناً أدبياً قائماً بذاته، ولا نظن أحداً يستطيع أن يجاري العقاد فيه. . .(630/59)
العدد 631 - بتاريخ: 06 - 08 - 1945(/)
دفاع بليغ
للأستاذ عباس محمود العقاد
عرف الأستاذ صاحب (الرسالة) ما يعنيه بالبلاغة تعريفا بليغا حين قال في كتابه الجديد الذي جمع مقالاته في الدفاع عن البلاغة: (إنها هي البلاغة التي لا تفصل بين لا عقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل، إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفسا لا يتمثل والجسم جمادا لا يحس)
وليس بهذا التعريف من ضير في معناه لأنه بليغ، وليس به من تقصير في الإفادة لأنه جميل، وليس به من نقص، لأنه زاد على الغرض منه إنه أدى هذا الغرض في نسق سائغ وبيان رائق. فما ذنب البلاغة إذن عند من ينكرونها، لأنه كما يزعمون يدينون بمنفعة الكلام، ولا يدينون بالزخرف المضاف إليه؟
إن جماعة (النفعيين) في مذاهب البلاغة العصرية يدعون أن العصر عصر سرعة، وأن الزمن الذي تمتطي فيه السيارة غير الزمن الذي تمتطي فيه الإبل والخيل، فمن أجل هذا ينبغي أن يكون له كلام غير كلام الأقدمين، وبلاغة لا تجري على أسلوب البلاغة قبل ألف عام
وهذا قول صحيح في كل شيء إلا في النتيجة التي يسحبونه إليها سحبا وهو كاره شديد التبرم والالتواء. فإن عصر السيارة الذي يعرفونه به لم يعلمنا شيئا إن لم نتعلم منه أن الفائدة لا تغني عن الجمال، لأنه لا يصنع السيارة للسرعة وكفى، ولا يصنعها للراحة دون غيرها، ولا يصنعها للمتانة ثم لا يبالي بما عداها، بل يصنعها أول ما يصنعها لجمال المنظر وأناقة الصورة والافتتان في النموذج ولطف الحركة والأداة. وما من معمل في الأرض يزاحم غيره في سوق السيارات إلا جعل الزينة مقدمة على الغرض المفيد كما يسمونه، وهو غرض السرعة في الانتقال أو الراحة التي يستمتع بها المنتقلون. ولا تنزل المصانع إلى التزام المنفعة دون غيرها إلا في أحط السيارات وأقربها إلى الابتذال، وهي السيارات التي يعدونها لنقل الحجارة والتراب، أو نقل البضاعة على أحسن احتمال، وإنها مع ذلك لتنتقل إلى الحوذي الأنيق فيزينها ببعض الأصباغ والتعليقات، ويدل بذلك على(631/1)
ذوق في الحياة أرفع من ذوق البلاغة العصرية والبلغاء العصريين
فالسيارة، أو عصر السيارة، يعلمنا أن الفائدة ليست هي كل ما يتوخاه من الكلام، وأنه إذا وجب على الإنسان وهو ينتقل من مكان إلى مكان في عصر السرعة أن يزيد شيئا على فائدة المركبة المقصودة، فأحرى به أن يصنع ذلك وهو يمثل ذوقه وفكره وشعوره وجملة قدرته على التعبير، لأنه قد ينتقل في سيارة شائهة المنظر، وهو مضطر إلى ركوبها كما قيل إن المضطر يركب الصعب من الأمور، ولكنه لا يضطر يوما من الأيام إلى إهمال مزاياه التي يتفاضل بها المعبرون في الإبانة والجلاء والتأثير
ولقد تحدث أولئك البلغاء العصريون عن بلاغتهم العصرية، فإذا بهم كالذي يتحدث عن السيارة فيعيب على الناس أن ينتقلوا في مركبة غير مركبة الحجر أو مركبة التراب، لأن الغرض المفيد من صنع المركبات هو الانتقال السريع، فما لهم إذن لا يجتزئون عن النماذج الفاخرة بهذه النماذج المبذولة، وهي أقل في الثمن وأيسر في التكاليف؟
لو كان هذا الكلام معقولا لكان تصرف الإنسان كله في تاريخه القديم وتاريخه الحديث غير معقول، لأنه لا يكتفي بالفائدة في مطلب من المطالب ولا في عمل من الأعمال، ولا يزال ينسى الفائدة في سبيل الجمال
وأغلب الظن أن تعريفات هؤلاء البلغاء العصريين للبلاغة لا تنتهي في حقيقتها إلا إلى تعريف واحد يصدق عليهم وعلى ما يلفقون من ذلك اللغط الرخيص، وهو أن البلاغة هي ما يستطيعونه ولا يعجزون عنه، فما استطاعوه من كلام، فهو بليغ مقبول، وما عجزوا عنه فهو من البلاغة السلفية ولو دارت ألفاظه وعباراته على أحدث الآراء
وستمضي العصور وراء العصور، وتنتقل الكتابة من أسلوب إلى أسلوب، ومن موضوع إلى موضوع، ولكن العصور كلها عصر واحد في هذه الحقائق التي لا تقبل الشك ولا تأذن بالتبديل
وهي (أولا) أن الكلام الجميل مطلوب كما يطلب الجمال في كل غرض من أغراض الإنسان
وهي (ثانيا) أن البشر لن يستغنوا في زمن من الأزمان عن لغتين إحداهما تحتاج إلى درس وتعليم، والأخرى تكتسب بالتلقين من الأفواه، وإحداهما تصلح للتعبير عن معاني العلوم(631/2)
ولطائف الذهن وبدائع الخيال، والأخرى لا تصلح لغير البيت والسوق
وهي (ثالثا) أن التراث الأدبي تراث باق يتجاوز عمر الجيل والجيلين والثلاثة أجيال، وما كان كذلك لا يكتب باللهجة التي تتبدل كل جيل وتختلف من بلد إلى بلد، وتستخدم بغير قاعدة ولا أصل تتفق عليه
ومتى كانت هذه الحقائق من وراء الشك والجدل، فالدنيا لن تخلو من لغة خاصة ولغة عامة، أو من لغة المفكرين وأصحاب القرائح والأذواق، ولغة الجهلاء الذين لا يخلقون الصور الذهنية ولا يحسنون فهمها إذا خلقها لهم الآخرون
وإنه لأرحم بالناس وأكرم لهم أن يتعلم العامة كيف يفهمون الخاصة من أن يحرم على الخاصة أن يكتبوا شيئا يعلو على مدارك العامة. إذ الواقع أننا لو استطعنا أن نكتب العلم والفلسفة بلغة السوق والبيت لم نرفع الصعوبة التي تحول بين الجهلاء وبين فهم تلك الموضوعات كائناً ما كان أسلوب الكتابة فيها
وأعجب العجب أن يقال أن الإنسان يتعلم ليحسن الطبخ واللبس والركوب، ولا يتعلم ليحسن فهم جلائل الأفكار ومحاسن القرائح وروائع الفنون، بل يخلق مستعداً لفهمها بما تلقاه من لهجات البيوت والأسواق
ويخطئ من يعتقد أن العامة من الأعراب كانت تفهم أقوال البلغاء ولا تتكلف دراسة لفهمها والنفاذ إلى معانيها؛ فإن الذين فهموا تلك الأقوال البليغة كانوا أناسا يتعلمون ويحفظون الأمثال ويروون السير والأخبار، ويعرفون الأنواء والنجوم، ولا فرق بينهم وبين متعلمي العصور الحديثة، إلا أن هؤلاء يتلقون دروسهم مكتوبة، وكان أولئك يتلقونها منطوقة لا تثبت في كتاب. أما الذين لم يتعلموا على هذا النمط، فقد كان يفوتهم فهم الشعر المسهل فضلا عن الشعر البليغ، ومن أمثلة ذلك تلك الأعرابية التي لامت زوجها على مدح الناس والترفع عن مدحها والتشبيب بها فقال:
تمت عبيدة إلا من محاسنها ... فالحسن منها بحيث الشمس والقمر
قل للذي عابها من عائب حنق ... أقصر فرأس الذي قد عبت والحجر
ففرحت بهذا الهجاء وحسبته من أجمل المدح والتشبيب، وهكذا يفهم مثلها من تسمعه أحيانا من الزجل السهل، وهو عني الفهم رديء المزاج، فإن العامية لا تنفعه في فهم ما ينظم بها(631/3)
من زجل، ولو كان قريبا إلى الأذهان
ولقد أصاب الأستاذ الزيات كل الإصابة حين أبطل قول المتحدثين عن البلاغة العصرية إنهم يدعون إلى مذهب جديد؛ فقال: (ربما يزعم زاعم أن هذه العامية الأدبية ترجع إلى مذهب من مذاهب الكتابة دعت إليه حال وبعث عليه تطور. فإذا جاز أن يكون هذا الزاعم، فالغالب في الظن إنه لا يعلم إذا كان يجد، أو لا يجد إذا كان يعلم. ذلك لأن المذهب الكتابي والشعري، إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه متبعوه. . .)
وليس في دعوة البلغاء العصريين إلى اللغة العامية أو إلى ما يسمونه بالأسلوب التلغرافي فكرة تسمى مذهبا أو تطورا لمذهب، بل ربما كان التطور الذي حدث في العصور الأخيرة من أسباب سقوط الدعوة والعدول عنها إن كانت قائمة قبل ذلك، لأن العامة يتعلمون في العصور الأخيرة بعد أن كان التعليم في العصور الغابرة وقفا على السراة وذوي الأموال، فلا حاجة إلى الإسفاف باللغة من أجل العامة كما يزعمون، لأنهم في طريق المعرفة إن لم تتم لهم المعرفة جميعا في هذه الآونة، وأيا كان الزمن الذي ينقضي قبل شيوع المعارف الأدبية بين سواد الناس، فما نعلم من أحد من أولئك القائمين القاعدين باسم أولئك السواد يمشي حافيا اليوم، لأن فقراء العامة يمشون حفاة، وينقضي زمن قبل أن يتوافر لهم جميعا لبس الحذاء!
فالتطور الذي أشار إليه الأستاذ الزيات يرتد على البلغاء العصريين، ولن يزال مرتداً عليهم فيما يلي من السنين، وكلما ازداد نصيب العامة من العلم والدراسة قلت اللغة العامية وقل البلغاء العصريون وازدادت البلاغة التي دافع عنها صديقنا صاحب الرسالة فأحسن الدفاع
لقد كان دفاعا جميلا، فلم يضره الجمال ولم يصبه من ناحية الإفادة والإقناع. وقد دافع أناس عن بلاغتهم العصرية، فإذا هو دفاع غير جميل وغير مفيد، وإذا بهم يتكلمون باسم العصر وهم لا يفهمونه ولا يفهمون عصرا من العصور التي سبقته، لأن العصر الحاضر لم تعجله السرعة عن طلب الجمال، بل هو يسرع ويغلو في سرعة ليدرك الجميل ولو تيسر له المفيد(631/4)
عباس محمود العقاد(631/5)
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - حواجز اللون
في برقية من لندرة خبر سار يتلخص في أن بعض الجمعيات وجهت نداء قويا يدعو لإزالة حواجز اللون في المستعمرات، وفي ذلك بشرى للأمم المهيضة الجانب، المغلوبة على أمرها
وإنا معاشر المصريين، كأمة عربية، مهما قيل في أنسابها وأحسابها - نفرح ونتهلل لهذا النبأ إن صدق ما يدعون - نفرح لأننا من أنصار الحرية، ومن عشاق المساواة بين الأجناس، ونتهلل لأننا من دعاة الحق، ومن العاملين على نصرة الأمم المضطهدة، ورفع الحيف والظلم عنها
فنحن نعضد هذه الحركة، ونعدها من بشائر الدنيا القادمة، ونرى في نجاحها دعامة من دعائم إنشاء العالم الجديد، وندعو لها بالنجاح، ونصادق كل من يقول بها، ويكافح من أجلها، ويدعو بقلمه ولسانه إليها
لقد قرأنا الكثير مما كتب عن الشعوب الملونة، وضرورة إخضاعها لسلطان الأمم المتمدينة، وخلصنا بنتيجة هي أن تقسيم العالم وشعوبه إلى أبيض واسود وأسمر، وإقامة الحواجز بينها، وحرمان الإنسانية من مجهود بعض الشعوب، إنما هو من عمل الإنسان وحده، ولا شأن للقوانين الطبيعية فيه
وإن النظريات التي تدعو إلى وضع فريق من البشر، في وضع لا يليق بالإنسان، مقضي عليها بالفشل، لأنها من بقايا عصور قد انتهت. . .
ولا محل لها في العالم الجديد، الذي قيل عنه لنا، إنه يسير نحو الديمقراطية والتفاهم والتعاون، وإن الإنسانية تتقدم فيه نحو التساوي في إعطاء الفرص، للفرد وللجماعة بل وللشعوب، بدون نظر إلى جنس أو لون أو دين - فلا فضل لمسيحي على مسلم، ولا مزية لأوروبي على أسود
فهل سيقدر النجاح لهذه الدعوة الصالحة؟
هذا ما ستظهره الأيام في المستقبل، وإن شك الكثيرون في ذلك، وجاهروا بأن ظروف(631/6)
العالم وما يحيط بنا من دلائل، تجعل الشك أقوى من الأمل، ولكن المؤمنين بالمساواة يقولون بأن الظروف السائدة ليست بدائمة ولا هي أبدية، بل كل ما عليها يتحرك ويتطور: حتى إذا سلمنا بضعف أنصار الفكرة وقلتهم، وإذا تطرق الشك إلى قلوبنا وقلنا إن الملأ قد يجاهرون ويتظاهرون بما ليس في قلوبهم؛ فإن الفكرة في حد ذاتها سامية، ولها من حيويتها ومنطقها وقوة تأثيرها ما يجعلها من ألزم ضرورات هذا العصر، بل تحمل وحدها ما يهيئ لها النجاح. . .
ولقد دعا الإسلام إليها، وكانت إحدى دعائم القوى التي قام عليها، حينما كانت المثل العليا للإسلام ظاهرة واضحة ملموسة، لا يطمسها جمود رجال الدين وتشاغلهم بأمور الدنيا.
ولقد عجبت كيف يمر هذا الخبر على المسلمين فلا يتحرك منهم عالم أو كاتب أو مجاهد، فيقول فيه قولا يتفق مع تقاليد السلف الصالح وحميتهم - ومصر التي ورثت الشافعي وحملت أرضها طائفة من علماء الدين، كانت عزائمهم تهز الدنيا؟ لم لا نتكلم بما أنزل الله؟
أما نحن، فواجبنا فرض كفاية علينا أن نعطي فكرة سهلة، تثير في النفس رغبة الاستزادة في المعرفة والسعي وراء الحقيقة، وغايتنا أن نضع المتناقضات ملموسة أمام نظر القارئ الواعي، ولذلك نتساءل:
هل صحيح أن بعض الحكومات تفرض على ذوي اللون قيودا لا يحتملها الأوربي، فتضع فريقا من بني آدم في موضع المنبوذين؟
أحق ما يقال من أن في القارة الأفريقية ملايين من الناس محرومون من حق الملكية الفردي والإجماعي في أراضي بلادهم، وبعد مضي قرن ونصف على إعلان حقوق الإنسان؟
أصحيح أن حريات السكان الوطنيين ومساكنهم ومعابدهم لا يحميها القانون العام في بعض المستعمرات، فيحرمهم الحماية التي يتمتع بها بقية السكان؟
إذا كان هذا من المبالغة في القول كما يدعون، فهل الحرية الشخصية وما يتبعها من حرية التملك والعبادة والتعليم والثقافة وتعاطي المهن وحق الانتقال، أمور معترف بها للجميع في القوانين المعمول بها للبيض والسود والسمر على السواء؟ أم هناك تفاوت في المعاملة؟
هذه أسئلة عارضة يزيد من أهميتها ما أذيع أخيرا من أن في القارة الأفريقية مساحات(631/7)
شاسعة من الأراضي، منها ما هو خاضع للدول الأنجلوسكسونية، وما هو مملوك لدول أخرى، وأن المعاملة السيئة التي يلقاها سكان المستعمرات الأفريقية، أو التي تحت الانتداب لدى هذه الدول الأخرى، أثارت اشمئزاز رجال الاستعمار الأنجلوسكسوني وسخطهم، فهل هذا صحيح؟
إننا نتساءل عن هذا، وبقدر ما تزداد رغبتنا في التأكد، بقدر ما تنكشف لنا بعض الحقائق الكونية، وإلا فما هي هذه الحواجز التي تتحدث عن إزالتها تلك الجمعيات المحبة للخير والإنسانية؟
أيتها الشعوب الغالية التي سكرت بخمر انتصاراتها: اعلمي أن السلم العالمي لن يتحقق لغير العدالة، ولا عدالة مع بقاء حواجز اللون، وإلا فقد ذهبت سدى أرواح ثلاثين مليونا من ضحايا الحرب العالمية الثانية، أو كجزية أولى للحرب العالمية الثالثة!
أحمد رمزي
المراجع
1 -
2 -
3 -(631/8)
الاستعمار الفرنسي في الجزائر
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
الأمة الفرنسية - منذ ثورتها الكبرى قبيل نهاية القرن الثامن عشر - تدعي أنها الحفيظة على الحرية البشرية، وواضعة الحقوق الإنسانية؛ بذلت في سبيلها أغلى المهج والأرواح وسطرتها بدماء أبنائها الأحرار، وأعلنتها دينا ومذهبا في فرنسا، وبشرت بها في سائر الأمم الغربية وغيرها، وزعمت أن غراس الحرية نبت في بلادها، ثم زكا وترعرع، حتى استوى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، فيقطف منها الناس جميعا داني الثمر وطيب الجني
ولقد غلت في حبها وأفرطت في تقديسها، حتى اتخذها مفكروها محوراً لتفكيرهم ومصدراً لوحيهم وإلهامهم، وتغنى الخطباء والكتاب والشعراء بالحرية والإخاء والمساواة شعار الثورة ودثارها، ودين فرنسا الجديد وإنجيلها!!
فهل كان ذلك حقا؟ هل كان ذلك ناجما عن خليقة مستعدة للخير وطلب الكمال، أو نخيزة تحفز لرعاية الفضائل، أو قلب مؤمن بأسمى المبادئ، أو عقيدة دفعت المصلحين إلى نقض بناء الظلم وتقويض دعائم الجور والثورة على القاسطين، وتطهير الأرض من الظالمين؟؟
نقول - والأسف يملأ جوانحنا - إن موقدي الثورة وحاملي بنودها والداعين إلى مبادئها، لم يكونوا مؤمنين بها، فلم تخالط بشاشتها قلوبهم، ولم تمتزج بها نفوسهم، إنما هي شقشقة هدرت ثم قرت، وصيحة دوت في الجو برهة ثم لم تنشب أن ذهبت أدراج الرياح، ولم يلبث كبراء فرنسا وحكامها أن عادوا إلى سابق عهدهم، وثابوا إلى ما كانوا عليه من استبداد ظالم، وغشمرية يختفي فيها الحق ويضيع فيها الضعفاء، ورجع الأقوياء فيها أشد صيالا، وأقوى طماحاً، وإلا فما بال الفرنسيين رضوا بنقض عهد الثورة وميثاقها في أنفسهم، وفي أبناء البلاد التي وقعت في حبائلهم، فأذاقوهم عذاب الهون، وصبوا عليهم صواعق غضبهم وهم ما اجترحوا سيئة، ولا ارتكبوا أمراً إداً
ومن هم أولئك الذين يسامون هذا الخسف ويعانون هذا الظلم من مصادرة للحرية، وإنكار للحقوق الشرعية، وهدم لاستقلال البلاد، وإضاعة لمعالم العدل والمساواة؟
هم عرب المغرب ومسلموها في الجزائر وغيرها. هم أنسال أولئك الأمجاد الذين وطنوا(631/9)
بهذه البلاد وبالأندلس منذ آماد طويلة، فنشروا فيها مبادئ العدل والحرية، والمساواة والتسامح، وحملوا لواء العلم والعرفان، وأرسخوا فيها دعائم المدنية وأركان الحضارة
هم سلالة أولئك الهداة والرائدين من عرب المغرب والأندلس الذين علموا أبناء فرنسا وغيرهم من أمم أوربا، وأيقظوهم من سباتهم العميق، وأخرجوهم من ظلمات الجهل والجور إلى نور العلم وضياء الحرية يوم أن كانوا يهيمون على وجوههم يتخبطون في دياجير الجهل، ويرزحون تحت آصار الجنف والاستبداد
لقد شهد المنصفون من علماء أوربا ومؤرخيها بعدل العرب وإحسانهم، ورحمتهم وتسامحهم، حتى قال جوستاف لوبون: (ما رأيت فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب)، كما اعترفوا بأن نهضة أوربة إنما نبعت من معين العرب، وشيدت بطلبة البعوث العلمية الذين ارتووا من مناهل علومهم ومعارفهم في طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة ومراكش وصقلية وغيرها. كذلك اقتبسوا من محاسن عاداتهم وقوانينهم، وانتفعوا بما شاهدوه من زراعتهم وصناعاتهم، وتنافسوا في ذلك تنافساً عجيباً، حتى انتشرت هذه المعارف والعلوم، وبزغت شمسها في أوربا، ولاسيما فرنسا وإيطاليا وجرمانيا وإنجلترا، وذلك في القرون الوسطى، فنقلوا عنهم الفلسفة والهيئة والطبيعيات والبصريات والرياضة والكيمياء والطب والصيدلة والزراعة، وتعلموا منهم الفروسية، وأخذوا عنهم عمل الورق والبارود، ونسج كثير من المنسوجات وكثيراً من الحبوب والأشجار
جاء في صحيفة مدرسة أدنبرة:
(إنا لمدينون للعرب كثيراً، فإنهم الحلقة التي وصلت مدنية أوربا قديماً بمدنيتها حديثاً، وبنجاحهم وسمو همتهم تحرك أهل أوربا إلى إحراز المعارف، واستفاقوا من نومهم العميق في الإعصار المظلمة، ونحن مدينون لهم بترقية العلوم الطبيعية والفنون النافعة وكثير من المصنوعات التي نفعت أوربا كثيراً علماً وتمديناً)
وقال المؤرخ الفرنسي لافاليه في وصف مدنية العرب والمسلمين:
(إنهم في جميع الفنون فاقوا المسيحيين، وبلغوا الدرجة القصوى في الحضارة، حينما كان أقرانهم من الأوربيين هائمين في أدوية الجهالة والوحشية، فكانوا فوقهم في العلم ومثلهم في البأس، وكانوا حكماء في المجالس أشداء في المآزق)(631/10)
فكيف يجوز لفرنسا أن تعامل في القرن العشرين أمة ماضيها المجيد حافل بالمكرمات والمآثر معاملة العبيد الأرقاء، وقد كان أسلافها بالأمس معلميها ومعلمي سائر الأمم، كما كانوا ناشري لواء الحرية والعلم في أوربا وسائر أنحاء الدنيا؟ وكيف سمح لها ضميرها الحي ووجدانها اليقظ أن تنكل بالجزائر في شهر مايو الماضي فتضرب أبناءها ومدنها وقراها بمدافع الطائرات، وتصب عليها من سفنها الحربية وابلا من النيران وحمما من سعير الجحيم، وتسوق الأحرار من بنيها إلى المحاكم فتحكم عليهم بالفناء والموت الزؤام!
ماذا صنع أولئك المساكين؟ وماذا نقم منهم الفرنسيون؟ لم ينقموا منهم إلا أنهم آمنوا بحقوقهم وشعروا بالظلم الفادح ينقض ظهورهم ويثقل كواهلهم، فرغبوا في حريتهم وفي حياة الكرامة والاستقلال، وأبوا حياة الضيم والهوان. . .
يا فرنسا: خفضي من غلوائك، واذكري ما كنت فيه بالأمس القريب يوم الاحتلال الألماني، واعلمي أن في بلاد المغرب بسلاء لا ينامون على ضيم، قد انحدروا من سلالة شرف ومجادة، وجرت في عروقهم دماء سلافهم الأولين الذين جاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق وتوفير العزة للمؤمنين
يستعذبون مناياهم كأنهمُ ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
لا جرم إنه من الخير لفرنسا أن تنظر في سياستها الاستعمارية القديمة فتتنكب سبيلها، وترد إلى تلك الشعوب حقوقها، فبذلك وحده تبقى السلم، ويعم العالم الأمن، وإلا فبواعث الحرب قائمة، ونذرها ماثلة، ولن تكف الشعوب المهتضمة عن المطالبة بحقوقها، ولن تني في الجهاد والاستشهاد في سبيل حريتها
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في شيء حقير ... كطعم الموت في شيء عظيم
حسن أحمد الخطيب
المفتش العام بوزارة المعارف(631/11)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 11 -
ج18 ص168:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب
قلت: (لو سعت بقعة لإعظام نعمى) والبيت لأبي تمام من قصيدة في محمد بن عبد الملك الزيات، وقبله:
ديمة سمحة القياد سكوب ... مسِتغيث بها الثرى المكروب
وبعد ذاك البيت:
لذَّ شؤبوبها وطاب فلو تَسْطيع ... قامت فعانقتها القلوب
ج19 ص208: قال المؤيد الالوسي في صفة القلم:
ومثقف يغني ويفنى دائماً ... في طورَى الميعاد والإيعاد
فلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيضَ ما سُلّت من الأغماد
وُهِبَتْ به الآجاْم حين نشابها ... كرم السيول وهيبة الآساد
قلت: (والبيضُ) وهذا ظاهر.
(وهبت له الآجام حين نشابها) وقد جاء (الالوسي) بفتح الهمزة في الكتاب، وهو بضمها كما ورد في (وفيات الأعيان). قال إبن خلكان: هذه النسبة إلى ألوس، وهي ناحية عند حديثة عانة على الفرات. وفي (معجم البلدان): (ومهفهف) مكان (ومثقف) وفيه وفي (الوفيات): (يغني ويقني) ويقنى مثل يغنى، وعندي أن الأصل (يقنى ويفنى) قال إبن خلكان: ولقد رأيت هذه الأبيات منسوبة إلى غيره (إلى غير المؤيد) ولم يقل في القلم أحسن من هذا المعنى
ولبعضهم في القلم أيضاً وهو من هذا المعنى:
وأرقش مرهوب الشباة مهفهف ... يشتت شمل الخطب وهو جميع
تدين له الآفاق شرقاً ومغرباً ... وتعنو له ملاكها وتطيع
حمى الملك مفطوماً كما كان تحتمى ... به الأسد في الآجام وهو رضيع(631/12)
قلت: (في حياة الحيوان الكبرى) للدميري: (مرهوف الشباة) وهي أصح، وكانت (ملاكها) في طبعة (الوفيات) (أفلاكها).
ج10 ص77:
عناءً مُعِنّ وهو عنديَ راحة ... وسم زعاف، طعمه في فمي حلو
قلت: (مُعنّ) وهو من (عنّي يعنّي) في القاموس في (عنى): وعناء عان ومعنٍ مبالغة. وفي اللسان: وعناء عان ومعن كما يقال: شعر شاعر وموت مائت، قال الأعشى:
لعمرك ما طول هذا الزمنْ ... على المرء إلا عناء مُعنْ
والبيت الواوي هو لصاحب اللامية التي يقول فيها:
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
ج4 ص54: وله (لأحمد بن علي الأسواني) تآليف ونظم ونثر التحق فيها بالأوائل. قتل ظلماً وعدواناً في محرمٍ سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وله تصانيف معروفة لغير أهل مصر، منها كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي: تشتمل على علوم كثيرة.
قلت: في الصحاح: والمحرم أول الشهور. وفي المصباح؛ أدخلوا عليه الألف واللام لمحاً للصفة في الأصل، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم وعند قوم يجوز على صفر وشوال. وفي شفاء الغليل: محرم بدون الألف واللام نصوا على إنه ممنوع لأنه علم بالغلبة فتلزمه اللام أو الإضافة واستعمله أبن الرومي مضافا في قوله (محرم الحول في تقدمه).
وكتاب الأسواني اسمه (أمنية الألمعي ومنية المدعي) وهو مقامة طويلة وصف فيها منشيها عشرين علما وشرحها. وقد (اختصر هذا الشرح من الأصل مع زيادات في بعض المواضع) العلامة الكبير المصلح الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري.
ج17 ص91: أنشدنا (المحسن بن الحسين العبسي الوراق) لنفسه فيه (في مبارك الكاتب):
مباركٌ بورك في الطول لك ... فأصبحت أطول من في الفلك
ولولا انحناؤك نلت السما - ءَ ولكن ربك ما عدّلك
قلت: مبارك - بضمة واحدة وهو منادى - وللوزن، والهمزة في أول العجز في البيت الثاني، مكانها في الصدر في السماء.(631/13)
ج18 ص131: كان أبن دريد قد أملى الجمهرة في فارس ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه. . . فلذلك قلما تتفق النسخ، وتراها كثيرة الزيادة والنقصان، ولما أمله بفارس غلامه تعلم من أول الكتاب، والنسخة التي عليها المعول هي الأخيرة.
قلت: ولما أمله بفارس علامة تعلم من أول الكتاب
ج16 ص184: وللفتح بن خاقان (وزير المتوكل العباسي):
أيها العاشق المعذب صبراً ... فخطايا أخي الهوى مغفورة
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحَجّة مبرورة
قلت: حجة بالكسر في الفصيح والصحاح واللسان والقاموس. وفي اللسان: روي عن الأثرم وغيره: ما سمعنا من العرب حج حجة. وروى عن الكسائي مثل ذلك. وفي النهاية: الحجة بالفتح المرة الواحدة على القياس. وقال الجوهري الحجة بالكسر وهو من الشواذ. وفي التاج: فتبين أن الفعلة تقال بالوجهين الكسر على الشذوذ. وقال القاضي عياض لا نظير له في كلامهم، والفتح على القياس.
قلت: الكسر خير. وقد قال الأثرم والكسائي ما قالاه. ثم استغفر الله من رواية البيتين.
ج4 ص231: تقدم رجلان إلى القاضي أبي أحمد بن أبي علان - رحمه الله - فادعى أحدهما على الآخر شيئا فقال المدعى عليه: ما له عندي حق. فقال القاضي من هذا؟ فقالوا: أبن هارون النحوي العسكري. فقال القاضي: فأعطه ما أقررت له به. . .
قلت: (ما له عندي حق) بضم اللام، وقد قالها عامية، فورط المسكين نفسه في بلية. وما كان له - وهو العالم اللغوي النحوي - أن ينطق بغير صحيح. وإني لأتيقن إنه راح يردد - وهو يحمل تسجيل القاضي - هذا المثل: (إن البلاء موكل بالمنطق) ويلعن لغة العامة ودعاها - إن كان لها في ذلك الزمان دعاة. . . - لعناً كبيراً.
ج4 ص68: ولم أزل منذ حرمت التشرف بخدمته أنطوي على مبايعته، وأتلظى شوقا إلى التسعد بخدمة حضرته التي هي مجمع الوفود، ومطلع الجود، وعصره المحمود.
وجاء في الشرح: (المحمود) في الأصل المنجود، فأصلحت إلى ما ذكر.
قلت: وعصرةُ المنجود. في اللسان: قال أبو زبيد:
صادياً يستغيث غيرَ مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود(631/14)
أي كان ملجأ المكروب. وفي الأساس: هو منجود: مكروب. وتقول: عنده نصرة المجهود، وعصرة المنجود.
و (التسعد) طلب مرعى السعدان. في اللسان: خرج القوم يتسعدون يطلبون مرعى السعدان، وهو نبت ذو شوك، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطباً. وفي المثل مرعى ولا كالسعدان.
فهل قاس الكاتب وهو (أحمد بن علي الصفار من فضلاء خوارزم) التسعد على التشرف أم كان الأصل (التيمن برؤية حضرته) أو الاستسعاد أو ما شابه ذلك.
ج17 ص251:
فأتيتُ مُحْتَضَر الجوى قلق الحشا ... وأظل أعذِر في هواكَ وأُعذر
وجاء في الشرح: محتضر أي كالمحتضر القريب من الموت، وأعذر: أي أقبل عذري في هواك، واعذر مجهول: يقبل مني العذر.
قلت:
فأبيت محتضِنَ الجوى قلق الحشا ... وأظل أُعذَل في هواك وأعذَر
ج5 ص114: قال أبو العباس: هذا خطأ البتة.
وجاء في الشرح: في الأصل بتة فجعلتها البتة.
قلت: بتة صحيحة. في الصحاح: لا أفعله بتة ولا أفعله البتة
لكل أمر لا رجعة فيه، وفي النهاية: يقال: بتة والبتة، وفي المقامة الرملية:
طيري متى نقّرت - عن نخلة ... وطليقها بتة بتلهْ
وفي إرشاد الأريب (ج14 ص220) ولئن استفتى الفقهاء لم يكن عندهم منه إلا التعجب. واقتصر المصباح على بتة. ونقل اللسان والتاج كلام الصحاح ولم يدفعاه، وذكروا قول سيبويه: (قعد البتة مصدر مؤكد، ولا يستعمل إلا بالألف واللام) ولم يؤيداه.
ج17 ص273: ومن شعر (محمد بن أحمد بن حمزة شرف الكتّاب)
أما والعيونُ النجل تُصمى نبالُها ... ولمعُ الثنايا كالبروق تخالها
ومنعطفُ الوادي تأرج نشره ... وقد زار في جُنح الظلام خيالها
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى ... ولكن شديد في الطباع انتقالها(631/15)
قلت: (أما والعيون النجل تصمي نبالها) (ولمع الثنايا كالبروق تخالها) (ومنعطف الوادي تأرج نشره) (لقد كان في الهجران ما يزع الهوى). فالواو واو القسم.
ج16 ص126: أبو القاسم (محمود بن عزيز العارضي) الخوارزمي الملقب شمس المشرق كان من أفضل الناس في عصره في علم اللغة والأدب لكنه تخطى إلى علم الفلسفة فصار مفتوناً بها ممقوتاً بين المسلمين. وكان سكوناً سكوتاً وقوراً يطالع الفقه ويناظر في مسائل الخلاف أحياناً. وكان الزمخشري يدعوه الجاحظ الثاني لكثرة حفظه وفصاحة لفظه. أقام مدة بخوارزم في خدمة خوارزم شاه مكرماً، ثم ارتحل إلى مرو فذبح بها نفسه بيده في أوائل سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ووجد بخطه رقعة فيها:
(هذا ما عملته أيدينا فلا يؤاخذ به غيرنا).
قلت: وكان ساكناً سكوتًا وقوراً، في الأساس: فلان ساكن وهادئ ووديع. و (سكون) لم أجدها في مكان. وليس هناك إلا (السكون) حي من العرب كما قال التاج.
ذكرتني قصة (شمس المشرق) بهذين الخبرين.
جاء في (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي:
شاهدنا في هذه الأيام شيخاً من أهل العلم ساءت حاله، وضاق رزقه. . . فلما توالى عليه هذا دخل يوماً منزله، ومد حبلا إلى سقف البيت واختنق به، وكانت نفسه في ذلك. فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه. . . فقال بعض الحاضرين: لله دره! لقد عمل الرجال. نعم ما أتاه واختاره. هذا يدل على عزازة النفس وكبر الهمة. لقد خلص نفسه من شقاء كان طال به. . . مع فاقة شديدة. . . ووجه كلما أمه أعرض عنه، وباب كلما قصده أغلق دونه، وصديق إذا سأله اعتل عليه. فقيل لهذا العاذر. أن كان قد تخلص من هذا الذي وصفت على إنه لم يوقع نفسه في شقاء آخر أعظم مما كان فيه وأهول. . . فلعمري نعم ما عمل! لله أبوه! ما أحسن ما اهتدي إليه، وقوى عليه. وينبغي لكل عاقل أن يدفع إلى ما دفع إليه. . . وان كان قد سمع بلسان الشريعة. . . النهى عن هذا وأشباهه فقد أتى بما عجل الله به العقوبة والعار. . . سبحان الله أما كان يسمع من كل عاقل. . . ومن كل من يرجع إلى مسكة. . . النهي عن مثله والزجر عن ركوب ما هو دونه بكثير. فكيف لم يتهم نفسه، ولم يتعقب رأيه، ولم يشاور نصيحاً له. . . لأنه أمر متى ركب بالظن والتوهم اللذين لم(631/16)
يؤيدا ببصيرة ما عمل فاته التلافي ولم يمكنه الاستدراك. . . وقد قضى العقل قضاء جزماً، وأوجب النظر إيجاباً حتما، أنه يجب ألا يفرق الإنسان بين هذه الأجزاء الملتحمة والأعضاء الملتئمة، وليس هو رابطها، ولا هو على الحقيقة مالكها، بل هو ساكن في هذا الهيكل لمن أسكنه فيه، وجعل عليه أجرة السكنى بعمارة المسكن وحفظه وتنقيته وإصلاحه وتصريفه على ما يعينه على طلب السعادة في العاجل والآجل. وكان سعيه مقصوراً على التزود إلى مبوأ صدق، ولابد له من المصير إليه والمقام فيه. . . على خير غامر وراحة متصلة وغبطة دائمة، حيث لا آفة ولا حاجة ولا أذى ولا حسرة. . . فأما إذا كانت الحال على خلاف هذا، فالشقاء الذي يتردد فيه. . . يكون في وزن ذلك ومقابله.
وجاء في (يتيمة الدهر) لأبي منصور الثعالبي:
لما عاود أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب بخارى من نيسابور. . . وقاسى من فقد رياسته وضيق معاشه قذاة عينه وغصة صدره استكثر من إنشاد بيتي منصور الفقيه:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
وقال في معناها:
من كان يرجو أن يعيش فإنني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وواظب على قراءة هذه الآية في آناء ليله ونهاره: (وإذ قال موسى لقومه: يا قوم، إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم). فقال بعض أصدقائه: إنا لله! قتل أبو أحمد نفسه. فكان الأمر على ما قال، فشرب السم فمات!!
قلت: مقالة (الإسلامية) في الانتحار والمنتحرين بليغة. روى محمد بن إسماعيل في جامعه:
(من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)
والقوم في الغرب في هذا الأمر مختلفون، فمنهم من يجبن المنتحر ويضعفه وينتقص خليقته ويعده مسيئاً إلى المجتمع وإلى نفسه، ومنهم من يراه مسيئاً إلى المجتمع أو الدولة لا(631/17)
إلى نفسه، ومنهم من يشجع على الانتحار، ويرى أن المرء إنما يكون عرضاً ولا يكون قصداً، فالأمر في نفسه له.
وروى أرثر شوبنهور في كتابه (في الدين) لأحد حكماء الإغريق ستوبي هذا القول:
على الأخيار أن يعتزلوا الحياة إذا اشتد شقاؤهم، وعلى الأشرار أن يفارقوها إذا عظمت سعادتهم. . .(631/18)
تطور بلاد العرب الشمالية وتأثير ذلك في علاقاتهم
الخارجية
للميجر ج. ب. كلوب
ترجمة الأستاذ جميل فيعين
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الوجهة التاريخية:
عندما انتقلنا من بحث النظريات المتعلقة بالوجهة الدينية ومناخ البلاد لبحث الوجهة التاريخية - يحسن بنا أن نبدأ بحثنا منذ حكم الرومان والفرس أي من السنة الأولى للميلاد حتى سنة 650 منه. وإن من الخطأ كله الظن بأن العرب قبل الإسلام كانوا قوما متوحشين. إن موقف العرب في ذلك الوقت كان صعباً جداً حيال أكبر إمبراطوريتين عرفهما ذلك العصر. وموقفهم هذا جد شبيه بموقف جرمانيا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر عندما كانت بين الإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية النمساوية. أن اضمحلال هاتين الإمبراطوريتين مكن جرمانيا من الاستقلال والوحدة كما أن نفس السبب أي اضمحلال الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية مكن العرب من تأسيس وحدتهم عند ظهور الإسلام وإنني لا أظن بأن أحدا يحلم بأن يقول إن الجرمان لم يتمكنوا من الاستقلال قبل ذلك الوقت لأنهم شعب منحط. ولذلك يجب أن نعترف بأن العوامل الجغرافية قديرة على تأجيل اتحاد واستقلال أمة ما مدة طويلة.
بظهور الإسلام في القرن السابع ابتدأ الفتح الإسلامي العربي الذي اجتاح أكثر البلدان المعروفة في ذلك الزمان بمدة تقل عن مئة سنة. كما أن العرب تمكنوا من فتح بلاد وجد فيها أوربيون مثل شمال أفريقيا حيث سكن الوندال، وأسبانيا حيث سكن القوط. أن هذه الفتوح التي تعتبر من أعظم الأعمال التي عرفها التاريخ أدت إلى تأسيس إمبراطورية دامت 300 سنة؛ وقد حافظت على كيانها بالرغم من انقسامها فيما بعد وبقيت قوية وعمرت أكثر من الإمبراطورية البريطانية الحالية.
عند قدوم العثمانيين بعد سنة 1350 للميلاد لم يبق للعرب تاريخ ولكن هنا نقطة واحدة(631/19)
يجدر بنا بحثها لتعلقها بسؤالنا حول قابلية العرب للرقي.
إن العرب لم يعيشوا في خلال السبعمائة سنة الماضية في جو مثبط للعزيمة أو في عصر مدنية راقية وقصروا عنها حتى يمكننا القول بأن طبيعتهم فسدت وفقدوا مزاياهم. إن الأتراك استولوا على الوظائف الرئيسية أبان حكمهم وقطعوا صلات العرب بالعالم الآخر ومع ذلك يصح أن أقول إن العرب الذين نراهم اليوم عاشوا مئات السنين الماضية نفس العيشة التي عاشها الأشخاص الفاتحون الذين قاموا بتأسيس تلك الإمبراطورية الكبرى - طبعا هم جهلة ومتأخرون لحد ما - ولكن لا يوجد شيء يجعلنا نعتقد بأنهم فقدوا صفات الشجاعة والذكاء التي مكنتهم من القيام بفتوحهم وتأسيس إمبراطوريتهم العظيمة.
حيوية العرب العصريين:
دعنا ننتقل برهة وجيزة لبحث حيوية العرب العصريين. وبما أن الوقت لا يتسع لبحث هذه القضية بحثاً واسعاً فسأقصر كلامي على وجهة أو وجهتين بالنسبة للوضع الحاضر.
إنني لم أصادف في تجاربي وأعمالي ما يحملني على الاعتقاد بأن العرب غير قادرين على تيسير الأمور من وجهة حكومية أو إدارية كالحكام الاعتياديين في أوربا أو الاضطرابات والقلاقل التي تقوم عادة عند استقلال أي بلد عربي أمر طبيعي كما حدث في سوريا أو العراق عند انتقال الإدارة من السلطات الأوربية إلى السلطات العربية. وهنا أحب أن أذكر نقطتين: الأولى أن انتقال الإدارة من يد إلى أخرى لابد أن يوجد فترة عدم لستقرار؛ فعندما تسلم البريطانيون والفرنسيون إدارة هذه البلاد من الأتراك حدثت اضطرابات أعظم من هذه ودامت سنين عديدة؛ ولكن الآن وبعد مضي هذه المدة الطويلة على حكمهم يمكنك أن تجد إدارة منظمة كالآلة وموظفين قديرين. الثانية، وربما كانت الأهم أن أهل البلاد التي تحت انتدابنا يعرفون أن من وراء كل بريطاني أو فرنسي قوة عسكرية عظيمة، ومهما حاولنا أن نخدع أنفسنا بقدرتنا فعلينا أن نعترف بأن كثيرا من أعمالنا لا يعزى إلى شخصياتنا بل إلى القوى البرية والجوية التي تزيد من هيبتنا. فإذا ما أخذ عربي مسؤولية الحكم عرف الجميع بأن لا قوة ولا أساطيل وراءه تحميه.
سأقدم إليكم مثلا من وجهة ثانية على قدرة العرب العصريين في تطبيق النظم الفنية والعلمية الحديثة والاستفادة منها. وبهذه المناسبة سأذكر عملا أشرفت عليه بنفسي: عندما(631/20)
أنشأت قوة البادية حاولت أن يكون أفرادها من البدو الرحل - وهذه الفئة من العرب أجهلها - بعد مضي أربع سنين أو خمس تمكن هؤلاء الجهلاء من القيام بقسم النقل الميكانيكي لتأمين مواصلات القوة كما تعلموا استعمال المدافع الرشاشة؛ وهم الآن يتدربون على إجراء المخابرات اللاسلكية. إن عددا من هؤلاء أرسل إلى مشغل فورد بالإسكندرية ودرسوا جنبا لجنب مع إيطاليين ويونان ومصريين وجنسيات أخرى وعادوا يحملون كغيرهم شهادات فنية في (الميكانيك). ولقد قرأت حديثا في كتاب أن البدوي يذبل ويموت - كالهنود الحمر - عند احتكاكه بالمدنية. فعدا عن خطل هذا الرأي أقرر بأن البدوي - إذا ما أعطي الفرصة - يمكنه أن يصبح متحضرا ومدنيا بكل ما في هاتين الكلمتين من معان.
انقسام الشعوب العربية:
إن الصعوبة التي يواجهها العرب الآن هي عدم التجانس. وقد سبق أن قلت إن سوريا والعراق معرضتان للمؤثرات الخارجية من جهة، وللتأثير العربي الخالص من جهة أخرى. وقد كانت تقوم في أواسط هذه الأقطار وعلى الأخص سوريا وفلسطين وشرق الأردن منافسة شديدة بين ثقافات متباينة. وقد ظهرت هذه المنافسة جلية واضحة بسبب تشدد الأمم الأوربية في مسألة القوميات.
لقد كان ظهور القومية في أوربا سببا في ظهور القومية العربية. ومثل هذه الفكرة كانت مفقودة في زمن الإمبراطورية العثمانية عندما كان العرب لا يعرفون قضية كهذه قبل 50 سنة. لقد كان الولاء زمن الإمبراطورية العثمانية ولاء دينيا لشخص الخليفة أو للإمبراطورية نفسها التي كانت خليطا من أجناس متعددة. وقد كان العرب لا يهتمون بالقضية القومية حتى احتكوا بالأقوام التي حافظت على قوميتها فقاموا ينادون بأنهم أمة واحدة ذات قومية خاصة. وقد كان عرب فلسطين وهم مختلفو الجنسية والدين ينادون بأنهم عرب واتحدوا. ومن ثم بعد أصبحوا يفهمون القومية شعروا باشمئزاز مما يتخيلونه أو يتحققونه من استخفاف الشعوب الأخرى بأمرهم - والخطوة التي تلت ذلك أن الشباب المتعلم قام يعمل ليتعرف إلى الأسباب التي مكنت الأوربيين من حكم بلادهم فوجدوها العلم والمال والقوة، أو بالأحرى ما هو عليه المجتمع الأوربي الحالي، فقام يقتبس كل ما هو أوربي ويعمل على السير وأوربا في مضمار واحد. إن أمام هذه الفئة طريقين مختلفين:(631/21)
الأول أن تجرب أن تعلم العامة فتسير الأمة وتنهض كلها دفعة واحدة. وتطبيق هذا عملياً جد صعب - والثاني أن يقتبس المتعلمون وحدهم كل ما هو أوربي - وهذا ما فعلوه - فيتركون بذلك طبقة العامة من الأمة - وهم الأكثرية - وراءهم وبذلك يفتحون ثغرة واسعة بين طبقات الأمة. وأرى أن هذا سبب ضعف كبير.
التطورات الحديثة
رأينا في بحثنا عن قابلية العرب للرقي أن الإسلام لا يقف حجر عثرة في سبيل رقيهم، وأن جو بلادهم لا يوجد أمة خاملة، بل على العكس رأينا أنهم شعب قوي حيوي شديد المراس، وأن تاريخ بلاد العرب الشمالية يرينا أنهم أهل عزم وقوة، وقد قاوموا جغرافية بلادهم الشاذة التي جعلت أقطارهم الهامة على الأطراف وأوجدت بادية الشام في الوسط فاصلة أقطارهم عن بعضها البعض - ورأينا كيف أنهم قديرون على الحكم والاستفادة من العلوم والفنون الحديثة كما وجدنا الروح القومية تساعدهم وتسيطر عليهم ولكنها لا تزال الآن محصورة في طبقة خاصة كما أن الأمة غير متجانسة.
عليّ أن أذكر تحت هذا العنوان نقطتين وهما الموارد المعدنية وتحسين طرق المواصلة الحديثة. لقد سبق أن قلت إن أمما كثيرة حاولت أن تحكم البلاد العربية الشمالية ولكن لم يكن القصد من ذلك استثمار موارد البلاد الطبيعية نفسها ولكن لأنها الممر إلى الشرق والجسر البري الوحيد لأفريقيا.
وقد بقيت أواسط الجزيرة العربية حرة في كل أدوار التاريخ إذ كان يظن أنها فقيرة لدرجة أنها لا تساوي كلفة فتحها. لقد اكتشف النفط - البترول وزيوته - في عدة مواضع من هذه الأقطار، ولكن لم تعرف مناطقه وكميته بوجه التحديد. وكذلك يظن وجود بعض المعادن الثمينة فيها، ولكن لا يمكن لأحد أن يتكهن الآن عما ستكون نتائج هذه الاكتشافات - فهي إما أن تدر الثروة - التي هي أساس القوة في العالم على البلاد وإما أن تنبه أطماع الأمم الأوربية.
بقيت هناك قضية طرق المواصلات الحديثة. لقد سبق أن تكلمت بهذه المناسبة عن صعوبة اتحاد الأقطار العربية ثقافيا أو إداريا أو عسكريا بسبب الصحارى التي تباعد بينها، وقد استغرقت رحلة قمت بها قبل 15 سنة على ظهور الجمال من العراق إلى شرق الأردن(631/22)
ثلاثة أسابيع، ولكن قطع هذه المسافة الآن لا يستغرق أكثر من 20 ساعة بالسيارة أو ساعتين ونصف ساعة بالطائرة. يجوز أن يكون للتحسين الذي طرأ على طرق المواصلات أثر بعيد في توحيد الثقافة بأقطار كالأقطار العربية التي تعد صعوبة المواصلات بينها من أكبر الموانع للقيام بأي عمل من الأعمال. ويجوز أن يقضي هذا التحسن على أهمية مركز حلب الحربي قضاء كليا - فقد سبق أن تعرضت بكلامي لهذا الموضوع وقلت إن من يتمركز في حلب يمكنه أن يعزل سوريا عن العراق عزلا تاما - ولكن إذا أمكن تعبيد طرق جيدة وكثيرة في وسط البادية فإن أهمية هذا المركز تزول.
وأخيرا أرى من الأهمية بمكان أن أذكر شيئا عن الإذاعة واللاسلكي - مع العلم بأن هذين الفنين متأخران في الأقطار العربية. لا ريب إنه سيكون للإذاعة واللاسلكي أثر بعيد في تقدم التهذيب السياسي بين الشعوب المتأخرة كما أن الإنسان يمكنه إهمال إرسال الجرائد لأناس أميين ويمكنه أيضاً الاستغناء عن البريد ولكن من السهل عليه أن يبث أية آراء سياسية بين سكان أقصى واحة من واحات الجزيرة مهما بلغ سكانها من الجهل وذلك بواسطة الإذاعة اللاسلكية.
هذه نهاية ما أردت أن أقوله وأحب إن سمحتم لي أن أقرأ عليكم قبل الختام النتائج التي وصلنا إليها في بحثنا.
1 - إن موقع بلاد العرب الشمالية وتكوينها الجغرافي، كممر إلى الشرق وجسر بري يؤدي إلى أفريقيا جعلها عظيمة الأهمية - وستبقى على الأغلب كذلك مستقبلا.
2 - إن تباعد الأقطار العربية الشمالية وتكوينها مثلثا تتوسطه الصحراء جعل الاتحاد السياسي والعسكري بينها صعبا جدا
3 - إن البلاد المجاورة للصحراء من سوريا والعراق وشرق الأردن كان يؤمها ويتوطنها العرب النجديون على مر العصور بينما نرى بلدان الساحل من سوريا وفلسطين - وحديثا - المدن العراقية خاضعة للتأثير التركي والأوربي وبذلك وجدت ثقافات متباينة في البلاد.
4 - إن روح القومية التي اكتسحت أوربا خلقت مثلها في الأقطار العربية وقد غذيت هذه الروح باتباع نفس الطرق التي اتبعتها أوربا للحصول على القوة ونتج عن ذلك أن الفئة الراقية من العرب التي أرادت أن تجاري أوربا بسرعة لم تتمكن من النهوض بسواد(631/23)
الشعب الجاهل مما سبب حدوث فروق ثقافية واسعة بين طبقات الشعب.
5 - بعد درس مناخ وتاريخ وديانة ونفسية سكان الأقطار العربية الشمالية يمكننا أن نقرر بأن ليس في الإمكان وضعهم في عداد الأمم غير القابلة للرقي؛ فقد ظهر لنا جليا أن العرب يملكون كل المؤهلات التي تمكنهم أن يكونوا شعبا عاملا كأي شعب أوربي.
6 - إن وجود النفط ومعادن أخرى في بلاد العرب أوجد احتمالات لا يمكن التكهن بنتائجها فقد تدر الثروة على العرب فيضحون قوة عالمية أو تكون مرتعا جديدا لأطماع الأمم القوية الأخرى.
7 - إن صعوبة المواصلات كانت تقف في وجه الوحدة العربية ولكن استمرار تحسين طرق المواصلات الحديثة قد يساعد في وصول البلاد العربية إلى اتحادها ونهائيا إلى وحدتها.
المستقبل:
يمكننا حصر منهج الرقي في البلاد العربية بما يلي:
1 - ستمضي برهة غير قصيرة حتى يتمكن سكان الأقطار العربية الشمالية من الحصول على تجانس سياسي وثقافي ويجوز أن تعجل طرق المواصلات الحديثة إنجاز هذا العمل.
2 - إن وسائل الدفاع عن الأقطار المذكورة صعبة ولكن تحسين طرق المواصلات في البادية قمين بتخفيف هذه الصعوبة.
3 - إن العرب يملكون المؤهلات الكافية لصيرورتهم. أمة عصرية هامة ولكنهم لا يقدرون على السير وحدهم الآن.
4 - يتوقف الاستقلال السياسي في كثير من الأحوال على العوامل الخارجية ولذلك لا يمكن التكهن من الآن عن الوقت الذي يمكن للعرب فيه أن يصلوا إلى وحدتهم وينالوا استقلالهم السياسي.
المترجم
جميل قيعين(631/24)
لا يا معالي الوزير. . .
لقد أخطئك التوفيق!
للأستاذ سيد قطب
في جلسة مجلس النواب التي نظرت فيها ميزانية وزارة الشئون الاجتماعية وقف النائب المحترم عبد الفتاح عزام ليقول:
(إننا في حاجة إلى حماية أخلاق أبنائنا وبناتنا مما تحمله إليهم الإذاعة في بيوتهم من عبارات جارحة من (يا حبيبي) و (يا روحي) ويجب أن نحذف اعتماد الإذاعة، ما لم تكف عن هذا الذي تذيعه ولا نستطيع حماية بيوتنا منه. . .)
ووقف معالي وزير الشئون الاجتماعية ليقول:
(إن في كلام حضرة النائب المحترم مبالغة، وإن هذا الذي يشكو منه له نظائره في بلاد العالم المتمدن. . .)
أما أنا فأكاد أجزم بأن معالي الوزير لا يستمع لكل ما تذيعه محطة الإذاعة، وإلا لكان رده على النائب المحترم غير هذا الرد. فما يستطيع إنسان سليم الفطرة أن يستمع لهذا الذي يذاع، ثم لا يدركه شعور الاشمئزاز، حتى ولو كان لا يقيم وزنا للأخلاق!
وأحب قبل كل شيء أن أقرر أن الأخلاق التي أعنيها ليست هي الأخلاق التقليدية التي يتحدث باسمها بعض الجامدين والتقليديين، والتي لا تتعدى ظواهر السلوك، وشكليات التقاليد. . . إنما أعني بالأخلاق ذلك الشعور الطبيعي السليم الذي ينفر من التخنث كما ينفر من الفحش، وهذا الشعور في أبسط صوره هو الذي يخدشه ما تذيعه محطة الإذاعة المصرية في أغلب الأحيان
والحب الإنساني الرفيع ليس عيباً، والتعبير عنه ليس عاراً. . ولكن الحب - كما يبدو في محطة الإذاعة - هو حب التخنث مرة، وحب التهتك مرة، وكلاهما ليس هو الحب الفطري السليم الذي يقوم بين الرجل والمرأة لتبنى عليه دعائم الحياة
ولعل أشنع بدعة تكثر منها المحطة في الأيام الأخيرة خاصة، هي الإذاعة من الصالات والإذاعة من الأشرطة السينمائية. وهو تصرف غير مفهوم، ما لم يكن القصد هو ملاحقة الناس في بيوتهم بما يقال في أوساط وأماكن يعف كل إنسان مهذب عن الذهاب إليها،(631/25)
ويعف بصفة خاصة أن يسمح لبناته وأهل بيته بمشاهدتها.
وكلنا نعرف رواد الصالات، ونعرف ما يجري داخل هذه الصالات. . . نعرف أن جماعة مهذبين يرتادون هذه الأماكن، وقد استعدوا للسهرة بالخمر كيما تنطلق في أجسادهم أقصى حيوانيتها، وكيما يستثير حيوانيتهم ما يشاهدونه من اللحم الرخيص في هذه الصالات. . . ثم هذا اللحم الرخيص يعرض في أضواء حمراء مهيجة على أوضاع لا يرضاها إلا (الرقيق الأبيض) الذي يقتات من هذه الموائد القذرة. . . ثم يهيج السعار الحيواني. . . يهيجه النور الأحمر، والرقص الخليع، والكلمات المكشوفة، والحركات الداعرة، والنبرات المتخلعة، ويهيجه السكر المسرف، والدم المتنزي في أجسام جائعة. . . فينطلق ذلك كله في جو معربد صاخب داعر تشمئز له الفطرة السليمة
. . . ثم تأتي محطة الإذاعة - الإذاعة الحكومية - فتنقل ذلك كله إلى البيوت الطاهرة. . . إلى الزوجات الفاضلات، وإلى العذارى، ونجب أن نقول للمحطة: (إنه لا يزال هناك عذارى ولو قليلات. . .!) وإلى الصبية والأطفال والمراهقين، وإلى جميع أولئك الذين عفوا عن مشاهدة هذا الفحش الداعر في مكانه، فانتقل إليهم في بيوتهم، وتسور الجدران عليهم، لا لذنب جنوه إلا انهم يقتنون جهازا للاستقبال، وأن محطة الإذاعة الحكومية تريد لهم هذا الفحش الذي يفرون منه، فيلاحقهم إلى البيوت!
فأما الأشرطة السينمائية، فلا نستطيع الحديث عنها، فأصحابها يملكون من السلطة في الدوائر الرسمية ما يسمح لهم بأن يخرجوا لنا ألسنتهم إذا نحن حاولنا مقاومة الفساد النفسي والخلقي الذي يبثونه فيها، من ذلك الغزل المخنث يتطرى به رجل رقيع في أغانيه، أو ذلك الفحش الواطئ تتخلع به امرأة هلوك في نبراتها. . . ثم يدعون ذلك حبا. . .!
وإنه لحب، ولكنه ليس حب الرجل السليم الفطرة للمرأة السليمة الطبع. . . هو حب المخنثين والسواقط من الرجال والنساء. ذلك الحب الذي تعرفه المواخير ولا تعرفه البيوت، بل لا تعرفه الشوارع ذات الهواء الطلق. فما يتم حب من هذا الذي تعرضه الأفلام في الهواء الطلق. . . إنما يتم في جو راكد حبيس يغشيه دخان النرجيلة، وسرحان الأفيون في ماخور. . .
ومع هذا كله، فنحن لا نطمع في أن تراقب هذه الأشرطة قبل إخراجها، ليحذف منها ما(631/26)
يخدش الطبع السليم، حتى لا نصور الحب - وهو عامل البناء والخلق في هذه الحياة - تلك الصورة المريضة المتخاذلة الرخوة الرقيعة. . .
لا نطمع في هذا لأننا نعرف مدى نفوذ أصحاب هذه الأشرطة في الدوائر الرسمية وغير الرسمية! ولكننا نطمع على الأقل في أن تصان أسماع البقية القليلة الباقية في البيوت من العذارى والسيدات عن أن تلوث وتخدش بالأغاني المائعة الهابطة الداعرة المخنثة، يتطرى بها رجل رقيع، أو تتخلع بها امرأة هلوك. . . وذلك أبسط مظاهر الحماية لمن يعفون عن مشاهدة هذه الأفلام واستماع هذه الأغاني، فإذا بها تتسور عليهم الجدران خليعة ماجنة مخنثة، في حين لا يملكون لأنفسهم منها حماية، لأنهم إن أغلقوا جهازهم الخاص حملتها إليهم أجهزة الجيران!!
وكل ما يحتج به مروجو هذا (الأفيون) الخطر الذي يقتل في الشعب كل شعور فطري سليم، ويحيله جماعة من مخنثي الشبان، ومبتذلات الفتيات، وداعرات النساء. . . كل ما يحتج به تجار هذه (المخدرات) أن الشعب يقبل عليها، فهي إذن تلبي رغباته الحقيقية
الشعب يقبل عليها. . . هذا صحيح، لأن الحيوان الهائج كامن في كل إنسان، فإذا نحن ظللنا دائما نهيج سعار هذا الحيوان، ولم نحاول مرة أن ترتفع به إلى مستوى الآدميين، فلابد أن يأتي اليوم الذي لا يبدو فيه إلا هذا السعار
والناس يقبلون على (الأفيون) وسائر المخدرات، ولكن السلطات تكافح الأفيون وسائر المخدرات. . . ذلك أن هناك رجلا إنسانا في حكمدارية القاهرة قد آمن بفكرة المكافحة وأصبحت جزءا من دمه - (وهو أجنبي، وأنا لا أستريح لبقاء الأجانب في وظائفنا الكبرى. . . ولكن الحق حق)!
فهل يتاح لمصر من أبنائها رجل يؤمن بخطر مثل هذه الأفلام والأغاني التي تأكل نفوس الشعب أكلا، وتفسد فطرته الإنسانية، بل تفسد فطرته الحيوانية، حين تصور له الحب في ذلك المظهر المترهل الذميم؟
هل يتاح لمصر ذلك الرجل الذي لا تخدعه كلمات (العالم المتمدن) عن الشعور الفطري السليم، والذي يرصد لمكافحة هذا (الأفيون) الخطر جهده وقواه؟
على أية حال هذه أمنية لا نخدع أنفسنا بتحقيقها، ولكننا نقنع فقط بأن نطلب لأنفسنا الحماية(631/27)
من محطة الإذاعة الحكومية على النحو الذي اقترحه النائب المحترم، أو على نحو سواه
وهذا الذي نطلبه هو أضعف الإيمان!
سيد قطب(631/28)
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كتب الأستاذ (إبراهيم هاشم فلالي) مقالا تحت هذا العنوان في عدد سابق من (الرسالة) عرض فيه صورا جميلة من الأدب الحجازي الحديث، فرأيت إتماما للفائدة أن أتبع مقاله بكلمات عن النهضة الحديثة لهذا الأدب حتى يدرك قراء الرسالة شيئا من أسباب هذه النهضة والاتجاهات الأدبية في هذه البلاد المقدسة.
ولست أريد في هذه الكلمات أن أتتبع النهضة من لدن وجودها في الحجاز على يد أحمد بن زيني دحلان المتوفى سنة 886 م ولكني سأكتفي بالنهضة السعودية القائمة فإذا ما انتهيت من عرضها بسطت الكلام في الشعر والنثر وبينت خصائصهما واتجاهاتهما.
النهضة السعودية
الحجاز الحديث قطر متوثب للرقي مؤمن بقديمه العريق وواثق بالنجاح؛ فهو يبذل الجهد ويواصل العمل لمسايرة الأمم العربية التي سبقته في النهضة. وقد بعث فيه هذا الروح القوي ملك عربي واسع الآمال يجيد العربية ويطرب للشعر البارع والنثر البليغ ويستحث الأدباء للإجادة ويدفعهم إلى العناية، فهو يكافئهم على إحسانهم ويحلهم من نفسه منزلة سامية، ويكفي أن يقرأ الزائر لهذه البلاد ثبتا بأسماء المستخدمين في الإدارات والمصالح، فيؤمن بعد ذلك أن الحكومة السعودية لم تخترهم عبثا وإنما كشفت فيهم البراعة في الأدب فأرادت أن تكافئهم عليها بهذه المناصب ليعيشوا راضين مطمئنين منصرفين إلى الإجادة والإنتاج: فالشيخ محمد سرور الصبان، والغزاوي، وعلي حافظ، وعبد القدوس الأنصاري. كل أولئك وغيرهم من الأدباء يتولون كثيرا من مناصب المملكة وينهضون بأعبائها وينالون فوق ذلك عطف جلالة الملك وإحسانه، ولهذا وغيره من الأسباب الثقافية والقومية، رأينا الأدب الحجازي في هذه الفترة الوجيزة من الزمان يثب وثبة توشك أن تكون طفرة.
ومن أسباب النهوض في العهد السعودي العناية بالقومية العربية بعد أن أغفل الناس شأنها ردحا طويلا من الزمان؛ فقد جاء العهد الجديد يحمل الطابع العربي الخالص من كل شائبة ودخيل، ويحمل القوم على التعصب لكل مظاهر العروبة حتى لا تفنى شخصيتهم وتتضاءل ذاتيتهم، عندئذ أدركوا أن في الحياة الجديدة مغزى ساميا لم يدركوا إلا أوائله في(631/29)
الثورة الحجازية، ولاشك أن ارتباط الأدب بهذه القومية ارتباط متين فهو يقوى بقوتها ويضعف بضعفها. ويكفي أن يشعر الناس أن مليكهم معنى بنهضة عربية تعيد إلى الحاضر سيرة عهود أجدادهم السابقين؛ حينئذ يعملون جاهدين ليسجوا على منوالهم ويتأثرون في كل شيء: في أخلاقهم ولغتهم ومظاهر حياتهم.
والقارئ للشعر الحجازي في النهضة السعودية يجد ظاهرة التعصب للقومية العربية واضحة جلية: فالشعراء كثيرا ما يذكرون ما كان للشرق والعرب من مجد سابق ويتحسرون على هذا المجد الذي ضاع واندثر وحل محله التأخر والجمود. وفي هذه المعاني يقول الشاعر الغزاوي شاعر الملك ابن السعود:
أجلْ. تقهقر هذا الشرقُ فانغمزَتْ ... قناته بعد أن صالت بها الأمم
واندكّ مجدُ بنيه منذ أن غفلوا ... عن الحياة وزلّتْ منهمُ القدمْ
وخالفوا فطرة الأخلاق واختلفوا ... فسامهم كلَّ خسف من رقي بهمْ
وهو يقول أيضاً في موضع آخر مبينا أن العرب قد عرفوا الحضارة وسبقوا إلى النهضة قبل الغربيين:
هل كان للغرب المصوّتِ نأمةٌ ... أيام كان الشرق لا يستسلمْ
أو كان للغرب المدل بعامه ... بَصرٌ بما أمسى به يتنعمْ
في هذه الأبيات وأمثالها نرى اعتدادا بالمجد التليد الذي تركه العرب باقيا على الزمان كما نرى اعتزازا به وحرصا على إعادته ففيه البطولة وفيه المجد والمعاني السامية. وقد قال أحدهم وهو عبد الوهاب آشي في هذا المعنى:
بلادٌ سمتْ بالآلي عرفوا ... طريقَ المعالي ومضمارَها
سعى المجدُ طوعا إلى بابهم ... وأولتهم الأرضُ أمصارها
إذا جَد جِدّ الوغى يمموا ... ميادينها وجلوا عارها
وما عن ونى يؤثرون السلام ... ولكن يربحون ثوارها
بهذا الإيمان الصادق بمجد الأسلاف يتدفق شعر الحجازيين المحدثين ويرون انهم لن ينجحوا في حاضرهم إذا لم يقتفوا آثار السابقين ويعملوا على غرارهم فإذا فعلوا ذلك كان المجد قريبا منهم لأنهم أهل له من قديم الزمان وفي ذلك يقول عبد الله بلخير:(631/30)
بوركتَ يا عزم الشباب وقدستْ ... روحُ الشجاعة فيك والإقدامُ
أملُ الجزيرة قد أنيط بعزمكم ... بغدادُ ترقب نورَه والشامُ
متطلعين إلى الحجاز فإنه ... في كل عصرٍ قائدٌ وإمامُ
ومن الخير في هذا المقام أن ننقل إلى القارئ ما كتبه معالي الدكتور هيكل باشا في نهضة الحجازيين عن طريق الالتفات إلى الماضي والاعتزاز بالقومية العربية فهو يقول: (وما دام شباب العرب قد بدءوا نشاطهم الفكري على هذه الصورة الواضحة في (أشعارهم) فمن حقهم وحق كل عربي أن ينفسح أمامهم ميدان الأمل في المستقبل، فالأدب نواة كل عمل وكل حياة بل هو رحيق الحياة وروحها، والروح ما قويت قديرة على كل شيء، ولقد أتيح لي أن أتعرف إلى كثيرين (منهم) فرأيت فيهم طموحا وأملا وحرصا على تحقيق هذا الأمل، أما وهذا شأنهم وهذه عزيمتهم الصادقة فلهم أن يصوروا مستقبل بلادهم كما يشاءون، فإذا جاء الوقت الذي تدوي في العالم صيحته كان هذا طليعة العظمة العربية المقبلة وكان المتقدم الذي يسير في أثر أمجاد يعيدون لبلادهم عظمتها ومجدها)
والحجازي خليق ببلوغ هذه الغاية التي يسعى إليها لأنه جلد صبور، قد أوحت إليه الحياة الخشنة في الصحراء كثيرا من أخلاق الصرامة والثبات والعمل المتلاحق الذي لا يدركه فتور ولا كلال.
ولاشك أن هذا الاتجاه العربي القومي قد أفاد اللغة والأدب أجل الفوائد، ولاشك كذلك أن هذه الآمال التي استمدوها من الماضي العريق قد دفعت الأدب دفعا قويا ظهرت ثمراته في عهد قليل، ولن يتوانى هذا الأدب عن تقدمه السريع وإمعانه في التجديد والرقي ما دامت القومية العربية طابعه وفسحة الآمال تستحثه وتنهض به. وتاريخ الآداب في الأمم المختلفة يوضح لنا هذا القول؛ فما قوى أدب أمة من الأمم إلا في ظلال قوميتها وعلى أساس من آمالها المتوثبة الجريئة، وما ضعف إلا في العهود التي تخاذل فيها الناس وتناسوا قوميتهم وفقدوا آمالهم؛ لأن الأدب يتمشى مع القومية والآمال ويستمد منهما معاني الحياة الباقية الخالدة
الثقافة
الثقافة عماد الأدب ومادته ولا ينهض أدب في أمة من الأمم ما لم يتهيأ لها من وسائل العلم(631/31)
ما يقدرها على إدراك الحق والجمال، وبهذه الثقافة يتسع أفق الأديب فإذا ما تناول موضوعا تناوله عن بصر به وعلم بدقائقه ونواحيه المختلفة.
وقد منيت الثقافة في الحجاز في العهد العثماني بما جعلها ضئيلة متأخرة ومحدودة تافهة لا تغني ولا تنفع في إعداد الأديب المثقف؛ فقد اقتصر التعليم في ذلك العهد على التعليم الابتدائي وهو كما نعلم لا يعد شاعرا ولا يخرج كاتبا، فإذا عرفنا مع هذا أن العناية باللغة التركية قد فاقت العناية باللغة العربية وأن المواد المختلفة في هذه المدارس كانت تدرس بالتركية؛ أمكننا أن ندرك إلى أي حد ضعفت العربية في هذه البلاد.
نعم كان في الحجاز الحرمان الشريفان يقوم فيهما العلماء بتدريس الدين واللغة العربية على الطريقة التي كانت تتبع في الأزهر الشريف وهي طريقة لم يظهر فضلها إلا في حفظ العلوم اللسانية والدينية من الضياع ولكنها لم تجد في تخريج الأدباء والشعراء.
لهذا كله أشفق المصلحون في الحجاز من ذوي المروءة على اللغة العربية ومصيرها فهبوا لإنشاء المدارس التي تنهض بالدين والأدب وكان أسبقهم إلى هذا العمل السيد محمد زنبيل فقد أنشأ مدارس الفلاح في جدة ومكة سنة 1326 للهجرة وجاهد في سبيل نهضتها وبقائها على الرغم مما أثير حولها من الشكوك والأوهام، وكان لهذه المدارس الحرة الفضل الأكبر في تخريج طائفة من الشبان هم الآن حملة لواء النهضة الأدبية والفكرية في البلاد الحجازية.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أبو بكر إبراهيم(631/32)
النظام الزراعي في بلاد السوفييت
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
اتساع الروسيا وأثره في الزراعة
ليس في العالم دولة باتساع الروسيا، فمساحتها 8 , 764000 ميل مربع ممتدة من أواسط أوربا غربا إلى المحيط الهادي شرقا، ومن المنطقة المنجمدة الشمالية شمالا إلى البحر الأسود وبحر الخزر والقوقاز وإيران والصين جنوبا. فبلاد مثل هذه تختلف أجواؤها من البرد القارس في الشمال إلى الحر اللافح في الجنوب، ومن غزارة الأمطار وما يتبعها من الرطوبة إلى الجو الصحراوي الجاف ذي الرياح الحارة. فتكاد تكون روسيا سلسلة من السهول المتسعة الأرجاء تفصلها سلاسل من الجبال وعدة من الأنهار، فالزراعة فيها إذن تمثل زراعة المناطق شبه الحارة، وكذلك الزراعة الصحراوية الجافة، وزراعة المناطق المعتدلة الرطبة والمناطق الباردة الثلجية. وكان يسكن هذه البلاد نحو 170 مليون نسمة منهم نحو 80 % من الفلاحين المسخرين لأسيادهم من أسرة القياصرة والنبلاء والأشراف الذين كانوا وحدهم يمتلكون الأرض
حالة الفلاح قبل عهد السوفييت
نعم كان هؤلاء الفلاحون عبيدا أرقاء ينتقلون من سيد إلى سيد، وكان الفلاح يسمى (موجيك)، وهي تصغير كلمة (موج) أي الإنسان بالروسية. ومعنى ذلك أن الفلاح الروسي كان في نظر مستعبديه في عهد القياصرة مخلوقا أدنى من الإنسان كالمنبوذين في الهند، فلا عجب أن وصموه بما يوصم به الفلاح المستعبد في أي بلد آخر بالوحشية والقسوة والكسل واللصوصية والنفاق والغش وغير ذلك من الصفات المنفرة، ونسوا ما وضعه الله فيه من المحاسن الخلقية التي برزت في أوضح شكل بعد نيله حريته. فالفلاح الروسي كغيره من أبناء الطبيعة ماهر في الاستفادة من كل ما حوله فتراه في الغابات الشمالية الروسية يصنع قوارير السوائل من قلف الأشجار، ويجدل الألياف الداخلية لهذا القلف ويصنع منها أحذيته. وتراه في بلاد أوكرانيا، حيث تنعدم الأشجار الخشبية يبني أكواخه من قصب الغاب والطين. وترى الفلاح الروسي يصنع سروج خيله بنفسه من الجلود التي يدبغها، فهو لا(631/33)
يترك من منتجات بيئته شيئا إلا استغله لمصلحته
حالة الفلاح في عهد السوفييت
فلما نشر السوفييت حكمهم في هذه الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، حرروا الفلاح من عبوديته، وعاملوا كافة الشعوب والجنسيات التي كانت تحت حكم القياصرة على قدم المساواة، فجعلوا الإمبراطورية الروسية القديمة التي تضم 180 جنسية في إحدى عشرة جمهورية وطنية و22 جمهورية مستقلة لكل منها دستورها الخاص مع تمتعها بكامل استقلالها وحريتها ومساواتها مع كافة جمهوريات الاتحاد السوفيتي الأخرى، ولكل من هذه الجمهوريات مطلق الحرية في الانفصال عن الاتحاد السوفييتي متى شاءت. فالاتحاد السوفيتي إذن عبارة عن مجموعة من الأمم المستقلة المرتبطة برباط الثقافة والمصلحة الاقتصادية، وهذه الجمهوريات هي جمهوريات الاتحاد الروسي في أوربا ثم أكرانيا وبيلوروسيا وكاريليا الفلندية ومولدافيا ولتوانيا ولاتفيا والجمهوريات الاستونية واذربيجان وجورجستان واريفان أي أرمينيا وترمكنيان والأزبك والتادجيك والقازاق والكرغز، وذلك عدا المقاطعات المستقلة داخل هذه الجمهوريات التي تمثل نحو أربعين جنسية تتمتع كل منها بكامل حقوقها في إدارة نفسها بنفسها
استصلاح الأراضي والتوسع في الزراعة
مساحة الأراضي المزروعة
كانت مساحة الأراضي المزروعة في الروسيا القيصرية (في سنة 1913) 252 مليون فدان. فلما تولى السوفييت الحكم رأوا أن السكان في الروسيا يزيدون سنة عن سنة حتى أن تعدادهم بلغ في يونيو (سنة 1941) 190 مليون نسمة فعملوا على استعمار الموات من الأراضي باستصلاحها ونشر الزراعة شمالا وشرقا في مساحات هائلة لم تمسها يد المزارع من قبل فبلغت مساحة الأراضي الزراعية بجهودهم (في سنة 1929) 783 مليون فدان وبلغت 317 مليون فدان في سنة 1935 أي بزيادة قدرها نحو 65 مليون فدان. وقد استصلح السوفييت في ثلاث سنوات من سنة 1933 إلى سنة 1935 خمسة ملايين فدان كانت من قبل مستنقعات، وأربعة ملايين فدان أخرى في سنة 1936. وقد استمروا في(631/34)
التوسع في الزراعة في المناطق الشمالية النائية، وفي الشرق في الأراضي شبه الجافة حتى بلغت مساحة الأراضي الزراعية في سنة 1937 (428 مليون فدان) أي أن مساحة الأراضي الزراعية زادت في حكمهم عما كانت عليه في سنة 1913 (179 مليون) فدان أي بزيادة نحو 70 % وقد ازدادت المحصولات بهذه النسبة وكانت الزيادة واضحة بصفة خاصة في المحصولات الصناعية كحاصلات الألياف مثل القطن والكتان والقنب والرامي وغيرها، وفي حاصلات الزيت كالسمسم والفول السوداني وعباد الشمس والسلجم والخروع وبذر الكتان والقرطم وغيرها وفي بنجر السكر. وقد اهتموا بصفة خاصة بالتوسع في الخضروات فزادوا مساحتها بنحو ضعفين ونصف، وبمحصولات العلف إذ ازدادت مساحتها بنحو أربعين أضعاف، وأدخلوا محصولات منها جديدة مثل حشيشة السودان وأنواع من الحندقوق والقصب (البرسيم الحجازي) والفصفصة والجلبان وحشيشة التيف وأنواع مختلفة من البرسيم والحشائش النجيلية.
إلغاء الزراعة القروية وإنشاء الزراعة التجمعية
وقد وضع السوفيت نظامهم الزراعي على أساس جعل موارد الإنتاج ملكا للدولة، وهم ينفذون إصلاحاتهم طبقا لمشروعات موضوعة لصالح الشعب عامة لا لمصلحة طبقة خاصة على حساب باقي الطبقات؛ وبرامجهم موضوعة بحسب الأصول العلمية الحديثة؛ ولكن مشروعاتهم تتبدل وتتغير طبقا لتبدل الظروف والأحوال. كما أنهم لا يتقيدون لإتمامها بميعاد خاص، فهم بذلك يتبعون تعاليم زعيمهم لينين الذي قال: (ليست تعاليمنا قانونا ثابتا فستعلمنا الحياة والتجربة لنهتدي إلى الطريق المستقيم، فخبرة الملايين من الناس وهم يسعون ويعملون تنير لنا الطريق).
وقد وضعوا نظامهم الزراعي على أساس إلغاء الزراعة الفردية لأنها لا تتفق مع التقدم الميكانيكي الحديث ولا تصلح لبلاد متسعة الأرجاء مترامية الأطراف مختلفة الأجواء كالروسيا وعلى إحلال نظام الزراعة الواسعة بالآلات الميكانيكية الحديثة محلها.
وقد دخل السوفييت في تجارب قاسية لبلوغ هذه الغاية كلفت البلاد الروسية عشرات الملايين من الضحايا وأموالا لا تحصى. فبنوا سياستهم الزراعية على إلغاء الملكية الفردية واستبدالها بإنتاج تجمعي لكيلا يضيعوا المجهود الآدمي من غير مبرر في الزراعات(631/35)
الفردية الصغيرة. فأنشئوا المزارع الحكومية الواسعة والمزارع التجمعية ومحطات للجرارات والآلات الزراعية لتقوم بجميع العمليات الزراعية.
المزارع الحكومية (مزارع السوفهوز)
رأى السوفييت أن ازدياد مساحة الأراضي وامتداد الزراعة في المناطق النائية لا يتأتى بإنشاء المزارع الحكومية الواسعة التي سموها باسم (سوفهوز)، وقد بدءوا إنشاءها من مبدأ حكمهم فبلغ عددها في سنة 1922 ألف مزرعة تقريبا. ومن سياستهم أن يعمل فيها العمال الزراعيون كموظفين بمرتب ثابت، وكونت حكومة السوفييت لجنة للحبوب غرضها تنمية مزارع الحبوب الحكومية للحصول على كميات من الحبوب تزيد قليلا في السنة عن مليون ونصف طن، فأنشئوا 150 مزرعة حكومية جديدة مساحة أراضيها 12 مليون فدان في جمهورية قراقستان، وفي الفولجا الأوسط والسفلى وفي ألأورال وشمال القوقاز وأوكرانيا وجمهورية البشكير وأنشأوا بعض المزارع الكبيرة في المناطق الجافة وشبه الجافة، وكانت أراضي هذه المزارع قبل الانقلاب الزراعي الميكانيكي في الروسيا لا يمكن الانتفاع بها في الزراعة
وتعتبر هذه المزارع محاولة من حكومة السوفييت لاستعمار هذه المناطق التي كانت فيما سبق مراعي طبيعية للخيل والأغنام، ولكي ينتفع بهذه المساحات الهائلة من الأراضي التي طردت منها الأغنام والخيل اعتمد السوفييت اعتمادا كليا على استعمال الآلات في الزراعة ليتجنبوا بذلك فعل الرياح الحارة الجافة المحرقة للمحصولات. ولا جدال في أن ري هذه الأراضي إذا أمكن يأتي بالفائدة المطلوبة، ولكن هناك صعوبات تجعل ريها باهظ التكاليف، لذلك اعتمد السوفييت في سقيها على ثلوج الشتاء، فهم يحرثونها بعد إزالة المحصول الصيفي، ثم يزرعونها في الربيع بعد ذوبان الثلج زراعات متعاقبة من القمح. وقد أنتجت هذه الأراضي البكر محصولا فاق كل متوسط في الأراضي الروسية الأخرى.
وقد بلغ عدد العمال الزراعيين في هذه المزارع الحكومية في موسم سنة 1934 ثلاثة ملايين نسمة فيما يزيد قليلا عن أربعين مليون فدان زرع ثلاثة أرباعها حبوبا. وبلغ عدد المزارع عشرة آلاف مزرعة مساحتها 28 مليون فدان منها مساحات كبيرة لم تزرع بل تركت للرعي(631/36)
وتتبع المزارع الحكومية أكثر من عشر من الإدارات الحكومية المختلفة؛ لذلك اختلفت طرق إدارتها والنتائج المتحصلة منها، فكانت مصلحة المزارع الحكومية تدير 173 مليون فدان لا يزرع غير تسعها فقط، وتدير قومسيرية الزراعة 531 مزرعة مساحتها 17 مليون فدان يستغل ثلثاها في تربية الخيل وكذلك لإكثار التقاوي ولزراعة القطن والكتان والقنب والحاصلات البقولية والأرز ونباتات المناطق شبه الاستوائية وتربية الحرير والماشية والأغنام والماعز، ويتبع قومسيريات مزرعة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المختلفة 600 مزرعة للخضروات والدجاج والفواكه وكروم العنب؛ ولقومسيرية صناعات الأغذية نحو هذا العدد من مزارع بنجر السكر والخضروات والبطاطس والدخان والدجاج والخنازير والزيوت العطرية عدا مساحات هائلة من الصوبات الزجاجية. وقد أعطى السوفييت عناية خاصة لصناعة الزيوت العطرية التي تستعمل في الروائح العطرية فخصص لزراعة محصولاتها 6000 فدان في سنة 1936 ولا يقوم بهذه الزراعة والصناعة إلا النساء.
وكان لقومسارية التجارة الخارجية 28 مزرعة مساحتها 7 , 000 , 000 مليون فدان خصصت لتربية الثعالب الفضية والأغنام الفارسية والأرانب وحيوانات الفراء المختلفة.
وكانت قومسارية الصناعات الثقيلة تزرع المحصولات التي يستخرج منها المطاط في مساحة 130 ألف فدان موزعة في مناطق واسعة وخاصة في مناطق قازاقستان وبحر أزوف والبحر الأسود.
وكان 13 مليون فدان تتبع ست قومسريات مختلفة لتمد هيئات مختلفة تعاونية وغير تعاونية مثل مطاعم المصانع والحوانيت ولتزويد المصالح الحكومية الأخرى المختلفة باحتياجاتها من المواد الخام، ولم تتعد مساحة الأرض المزروعة في المزرعة الواحدة ألفي فدان
وقد راعت حكومة السوفييت أن تجعل مساحة المزارع الحكومية (السوفهوز) كبيرة جدا لتخفض بذلك نفقات الإنتاج فكانت تتراوح مساحة المزرعة بين 80 - 160 ألف فدان ولكن منها ما كان أكبر من ذلك كثيرا مثال ذلك المزرعة المسماة أي الضخمة ومساحتها 600 , 000 فدان.(631/37)
ولكن نظام مزارع السوفهوز أخذ يظهر عيوبه ابتداء من سنة 1931 فقد اتضحت خطورة الاعتماد على نظام زراعة محصول واحد والتمسك به تمسكا شديدا ولذلك عدل باتباع دورة زراعية منظمة. وقد اتضح أيضاً أن مزارع الحبوب متسعة جدا لدرجة يصعب معها إدارتها إدارة ناجحة. لذلك خفضت مساحة المزرعة الواحدة منها في سنة 1932 بحيث لا تزيد عن 108 , 000 فدان على أن تقسم داخليا إلى عدة مزارع صغيرة يدير كل منها مساعد مدير. وقد نتج عن إنشاء مزارع تربية الحيوان العظيمة الاتساع أن الحيوانات كانت تتجمع في قطعان كبيرة مما ساعد على انتشار الأوبئة بينها، فقد كانت مساحة تربية الماشية 63 ألف ميل مربع ومزرعة تربية الأغنام تزيد عن 46 ألف ميل مربع فقسمت هذه المساحات الهائلة إلى مساحات أصغر منها لتسهل إدارتها. وكان من أكبر الأخطاء التي ارتكبت أن استولى عمال الحكومة على الماشية قبل أن تنشأ لها الحظائر اللازمة لإيوائها ويعين لها الكلافون اللازمون للعناية بها. وقد عاقبت حكومة السوفييت الموظفين المسؤولين عن هذه الأخطاء بإعدام ثلاثين منهم.
وقد اتضح في النهاية أن تجربة إقامة مزارع السوفهوز قد فشلت تماما فأعلن ستالين في سنة 1933 أنها لا تغطي نفقاتها فيما عدا بضع عشرات منها. وفي نهاية سنة 1935 أعلنت الحكومة السوفيتية حل عدد كبير منها وإضافة أراضيها إلى المزارع التجمعية، ولم يستبق من مزارع السوفهوز غير التي رأوا ضرورة إبقائها للاستغلال على أساس تجاري، وقد وضعت تحت إدارة ثلاث قومسيريات هي: قومسيرية المزارع الحكومية، وقومسيرية صناعة الأغذية وقومسيرية الزراعة.
(البقية في العدد القادم)
دكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية(631/38)
التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 7 -
يسر الباحث في مسائل تربية الجيل الجديد وتعليمه أن يرى آراءه التي يدلي بها بين آن وآن موضع عناية وتقدير من الجهات ذوات الشأن، فإن التصريحات التي قام بها معالي وزير المعارف عن مشاكل التعليم الأصيلة والمؤقتة، وعن الخطوط الأولى للسياسة التعليمية العامة، وعن ضرورة توحيد المرحلة الأولى في التعليم العام، وعن العمل لتحسين حال المعلمين ورفع الغبن عنهم. وأن ما قرأناه في الصحف عن التفكير في ضم طوائف المعلمين بعضها إلى بعض، وتوحيد صفوفها لتدل كلها دلالة واضحة على صحة الاتجاهات التي اتجهنا إليها في إثارة هذه المسائل وبحثها.
كما وأن ذلك لمما يشجعنا على المضي في بحوثنا عسى أن يساعد على إنارة الطريق أمام العاملين على النهوض بالتربية والتعليم عندنا وعند الأمم العربية الشقيقة التي قد زادت رابطتنا بها وبنهضتها وبثقافتها هذه الجامعة العربية الفتية. وعسى أن يمكن ذلك من إيجاد أسس قوية موحدة في بناء نهضة هذه الأمة، وتوحيد صفوفها، ورفع شأنها بين الأمم عن طريق العناية بناشئتها، وتسليحهم في مستقبل حياتهم بأسلحة العلم الحديث والتفكير السليم مع تقوية أسباب التناصر والتعاون بينهم آملين ألا يمضي وقت طويل حتى تجتمع لجنة الثقافة في الجامعة العربية لبحث هذه المسائل الهامة، كما اجتمعت لجنتا الزراعة والاقتصاد فإن توحيد الثقافة هو أساس التفاهم والتعاون كما إنه هو أساس التكوين والتدعيم.
إن اتجاهات الإصلاح التعليمي في مصر لم تتناول في مختلف أطوارها مع الأسف التفكير الجدي في تنشئة المعلم وتكوينه واختياره والعناية به إلا في حدود ضيقة جدا؛ فقد اعتدنا ألا نفكر إلا إذا اضطرتنا الحاجة الملحة إلى ذلك التفكير ولم توضع سياسة ما من قبل لإعداد المعلمين المتآخين المتحابين المتجانسين المتعاونين وتنشئتهم بل كان أمر إعدادهم يتبع ظروف إنشاء المدارس الجديدة أو فتح فصول في القديمة، فإذا وجدنا ضغطا في هذه الناحية قمنا على وجه السرعة بإيجاد معهد لتخريج عدد من المعلمين، ثم لا نلبث أن نستغني عنه، ونغلق أبوابه إذا ما خف الضغط وقل الطلب، ولذا نرى معاهد ومدارس(631/39)
لتخريج المعلمين كثيرة وجدت ثم أغلقت حسب الظروف. ومن هنا نشأت هذه التشكيلة المختلفة من المعلمين في التعليم العام التي لا نظير لها في تعدادها وتفاوتها وتنافرها وقلة انسجامها وعدم تعاونها في أي بلد آخر من بلاد الله مما كان له الأثر الملموس في جمود المدرسة وخمود روحها، وضعف أثرها في أبنائها، وانعدام روح التعاون بينهم مع ضعف الروح العلمية، وقلة الإقبال على الاستزادة من العلوم والفنون إلا ما كان خاصا بالامتحان وضعف روح الإقبال على العمل الحر المنتج إذا ما انتهوا من الدراسة وحصلوا على الإجازة التي تسلمهم إلى الوظيفة خصوصا بعد أن وضعت لها التسعيرة الجديدة المغرية.
فإذا كان معالي وزير المعارف قد ذكر في بياناته أن نجاح المشروعات الجديدة في التعليم يتوقف أساسيا على المدرس فإن هذا هو الحق لا ريب فيه. ولذا فقد ذكر معاليه إنه قد عني عناية شديدة بأمور المعلمين، ولديه مشروعات عديدة لترقية معاهد إعداد المعلمين، وتهيئة الوسائل لتكميل ثقافة الحاليين منهم، وأنه حفظه الله يعمل على إزالة الشعور بالغبن المستولي على نفوسهم. وإن في هذا كله ما يدل على الروح الطيبة المحبة للإصلاح والخير التي أملت على معاليه هذه العناية وهذا التقدير وهذا الاتجاه المستقيم. فما أقسى هذا الشعور بالغبن الذي يحز في نفوسهم. وما أشد أثره في أعمالهم ومسؤولياتهم! وما أعمق تأثيره في الرسالة الملقاة على المدرسة وواجباتها! وإذا كان معاليه قد سبق أن قسم مشاكل التعليم إلى أصيلة ومؤقتة؛ فإن مشاكل المعلمين وهي فرع هام من مشاكل التعليم فيها كذلك الأصيلة وفيها المؤقتة، فأما مشكلتهم الأولى الأصيلة في رأينا فقد سبق أن تناولناها بالبحث وهي تنحصر في تعدد طوائفهم، واختلاف ثقافاتهم، وتباين تفكيرهم، وتنوع نظراتهم إلى واجباتهم وأعمالهم وإلى الحياة العامة كلها، ولعل هذا هو السبب الأساسي فيما نلمسه من انعدام فكرة التعاون في المدرسة، ومن جمود في حركتها ومن انحطاط في روحها، ومن خمود في اتباع أساليب التربية الحديثة فيها. ومن تجاهل لرسالتها الحقيقية التي لا تتعدى النجاح في الامتحانات والعمل لها.
من أجل ذلك سرنا ذلك الاتجاه الجديد الذي أخذت الوزارة في بحثه وبدت بشائره على صفحات الجرائد من الميل إلى ضم طوائف المعلمين بعضها إلى بعض في اتحاد واحد ثم ظهر أثره فعلا في ضم ناديي دار العلوم وتوحيدهما في ناد واحد. ولعل هذه الخطوة الطيبة(631/40)
تتبعها خطوات أجرأ منها وأعظم في وضع أساس الوحدة المنشودة التي يجب أن تمتلئ بالإيمان بها قلوبنا وعقولنا. والتي بها نستطيع أن نرفع مستوى المدرسة رفعا يليق بكرامتنا ونهضتنا.
لهذا نرى أن من واجبنا الأول أن نضع في رأس سياستنا التعليمية الجديدة توحيد معاهد تخريج المعلمين لأنا نؤمن أن في هذا التوحيد الخير كل الخير لمعاهدنا العلمية. فإذا كنا قد آمنا بأن التوحيد ضروري وأنه لازم لمدارس المرحلة الأولى من التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي فإنه لاشك ألزم لمعاهد المعلمين المكلفين بالسهر على تكوين النشء وتثقيفهم حتى تتركز في تضافر المعلمين وتآزرهم وتعاونهم تلك المعاني السامية العظيمة التي ننشدها في مدارسنا ومعاهدنا وأبنائنا بل وفي وحدتنا العامة وجامعتنا العامة وأخوتنا العامة.
أما المشكلة الأصيلة الثانية في تكوين المعلم فتنحصر في العمل الجدي على تقوية روحه وشخصيته وخلقه وضميره والسمو بها جميعا إلى المكانة التي تشعرها حقا بجليل رسالتها وعظيم مسئوليتها أمام الله وأمام الوطن وأمام الأمة جمعاء. ولن نتمكن من السمو بالمعلم هذا السمو المنشود إلا بتمهيد السبيل الحق إلى انتقائه من بين الصفوة الممتازة بخلقها وبحبها الحقيقي للمهنة، ولن نستطيع أن نصل إلى هذه الأمنية مطلقا إلا إذا سوينا على الأقل بين المعلمين وبين زملائهم وإخوانهم من رجال القضاء والمهندسين والأطباء وغيرهم من أرباب المهن المحترمة الأخرى. صحيح أن هذا سيكلف الدولة بعض المال ولكنه في الوقت ذاته كفيل برفع مستوى المعلمين رفعا يؤثر في الجيل الناشئ تأثيرا كبيرا لأن هؤلاء المعلمين الذين يلجون المهنة حبا في المهنة والذين تختارهم من الصفوة سيدفعهم حبهم لعملهم دفعا إلى بذل الجهود الحقة في تنشئة الجيل الجديد على المبادئ السليمة التي تنشئ أبنائها عليها الأمم القوية العزيزة فيكون مكسبنا من وراء عملهم مكسبا لا يقدر بمال، فعلينا أن نبني سياستنا الجديدة على تكوين هؤلاء الرجال حتى نضمن لمصر وللأمة العربية كلها نهضة رائعة تعيد إليها سالف مجدها وغابر عزها.
هاتان هما المشكلتان الأساسيتان من مشاكل التعليم والمعلمين وحلهما كفيل برفع مستوى المعاهد الدراسية وبحل مشكلة تكوين الجيل الجديد. فإذا عملنا حقا على حلهما فقد ضمنا لهذه الأمة حياة مستقبلة سعيدة وقوة حافزة جديدة تضعها في مصاف الأمم المحترمة(631/41)
العزيزة، أما المشاكل المؤقتة في حياة المعلم فسنفرد لها مقالا آخر إن شاء الله.
عبد الحميد فهمي مطر(631/42)
عود على بدء
الفردوس المفقود
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
(أصدر الشاعر منذ شهر وبعض شهر ديوانه الذي أسماه (من وحي المرأة) لأنه - كما قال الأستاذ العقاد - لم يكن إلا وحيا فاض فيه حزنه على زوجته الفقيدة، فخرج في جملته منظوما كأنه لا يحتاج إلى نظم، وجاء فيه بقصائد ومقطوعات ستبقى في عداد الشعر الخالد، سواء منه ما نظم في هذا الموضوع أو غير هذا الموضوع. ويبلغ الديوان نحو ألف بيت. وقد جاءتنا من الشاعر القصيدة التالية - ولم يسبق نشرها - وهي في الموضوع نفسه، يذكر فيها كعهده شريكة حياته ورفيقة دراساته).
بحِّبيَ وحدي كان قلُبك يهتف ... ولي كان منكِ الناظرُ المتشوِّف
وبي دون أهل اْلأرض أُنسُك كلُّه ... كأن رحابَ الأرض دونيَ صفصف
فخورٌ على الدنيا بأنك زوجتي ... وما أنا قارونٌ ولا أنا يوسف
تصّباك مني ما يخِّيب ذا الهوى ... وَيزْوِي قلوبَ الغانيات ويصدف
تصّباك أني ذو حديث وأنه ... علومٌ وفنٌّ لا مجونٌ وزخِرف
وأنك قد طالعتِ أسفار مكتبي ... إذا ليَ فيها حيث وقَّفتِ موقفِ
نظرتِ إشاراتي هناك وهاهنا ... تحدّث عن أغوار نفسي وتكشف
لدى كلّ تعقيبٍ وكلّ إشارة ... تصافح روحانا فكان التعرف
وعهدي للأنثى مدارٌ، وللفتى ... مدارٌ، ولولا النسلُ ما كان مَألف
فلو فرحنا أن قد تعانق عالمي ... وعالمها، فالشمل نَظْمٌ مؤلف
ويا فرحتنا أُطلقتُ من سجن وحدتي ... فروحي مع الروح الأليف ترفرف
تحلق في الآفاق طوراً، وتارة ... نسِفُّ إلى روض الغرام فنقطف
تضاعفُ بالكتب الحياة، فحظنا ... من الحسّ والتفكير حظٌّ مضَّعف
وتَعرض للعقل الفنونَ فتنجلي ... وندرس بالقلب العلومَ فتلطف
نمارس هذا العيشَ، بالقلب والحجى ... معاً، مثلما طابت على المزج قرقف
حبيبان بين الكتب عشٌّ غرامنا ... نديمان في حضن الهوى تتفلسف(631/43)
تذوق كطعم الخلد أعيت صفاته ... بياني، وطعم الخلد هيهات يوصف
فوا حسرتا أن قد خلدنا هنيهةً ... هي الخلد لكن من سنا البرق أخطف
ويا حسرتا أني إلى سجن وَحدتي ... رجعت، وذكرى الخلد بالقلب تَعْنُف
فلا القلب عن ذكرى هواكِ يُمرْعو ... ولا الدمع عن سُقْيا ثراك مكفكَف(631/44)
نهاية المطاف. . .
للأستاذ سيد قطب
تنشد السلوان من حب عقيمْ ... وتروم البرء من داء قديمْ
هاهو السلوان فانظر: أترى ... شارةِ الموت على تلك الرسوم؟
شاء في خاطرك الكون ومات ... وتخلت عنك أحلى الذكريات
وبدا العمر حزيناً عاطلاً ... كامد السحنةَ مَجْفُوَّ السمات
قد مضى الحلم، فحقِّق في العيان ... هل ترى الإخُواء في الزمان؟
وتهاويل الرؤى. . . يا ويحها! ... غالها الصحو فماتت منذ كان!
نم قرير العين إن كنت تنام ... لفَّك الصمت وغشاك الظلام
يأمن الدنيا ويخلو للكرى ... مُعْدِمُ الكفين مفقود الحطام!
قد خلا الهيكل من وحي الصنم ... وغدا معبودك الأسنى حطم
أتطيق الآن تحيا مُلحدا ... أم تُرى تخلو لشيطان العدم؟
ضقت بالخوف ودنيا الاضطراب ... أترى الأمن هنا بين اليباب؟
أيها المنكوب في أحلى المنى ... الحياة الحب والحب العذاب!
ضقت بالقيد! فها أنت طليق! ... ما يباليك إذن حادي الرقيق!
فهو يخلى في الفيافي كل من ... لا يساوي ثمن القيد الوثيق!
عمرك الفارغ. كالثقل زهيد ... ليس فيه من طريف أو تليد
وهي الأيام تُقضي مثلما ... تنقضي أيام مأجور شريد
أين أحلامك بالعش الجميلِ؟ ... أين آمالك في الظل الظليل؟
قد مضى الحلم وولى موهنَا ... فاركن الآن إلى الصحو الطويل!
نم يا منكود ما كنت تروم ... ومشى السلوان في الحب القديم
نم قرير العين واهنأ بالكرى ... الكرى الميت في القلب العقيم!(631/45)
يا رمال الشط. . .
للأستاذ مصطفى عبد الرحمن
يا رمال الشط بالله أجيبي؟ ... أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
يا رمال الشط. . . . . . . . .
جئتُ والبسمةُ تعلو شفتيا ... لأرى بسمة آمالي عليك
لم أجد يا شط من يهفو إليا ... مثلما أقبلتُ لهفانً إليكْ
غير موج يتلوى لبكائي
كلما رددت في الشط ندائي
يا رمال الشط أجيبي ... أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
هاهنا يا رمل كان الموعد ... ما الذي أنساه صفو الوعد
إنني وحدي غريب مبعد ... هائم بالغائب المبتعد
جئت ألقاه. فلم ألق سوى
خافق يهتف من مر الجوى
يا رمال الشط بالله أجيبي ... أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
أُترانا نلتقي قبل الرحيلْ ... نستقي الفرحة فيما نستقي
ونرى الدنيا سنا صبح جميل ... ليت أنَّا يا ليالي نلتقي
طال شوقي وحنيني فأتيت
لم أجد أحباب قلبي فهتفت
يا رمال الشط بالله أجيبي ... أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
أيها الرمل إذا مرْ حبيبي ... كالندى في ومضة الفجر الرطيب
سله عن أمسي وأفراحي وكوبي ... وارو عن يومي وحدث عن نصيبي
كل من حولي يلهو ويغني
وأنا من ذا الذي يسأل عني
يا رمال الشط. . . . . . . . .(631/46)
البريد الأدبي
حول ترجمة كتاب:
نقل الأستاذ محمود محمود للعربية كتاب (وسائل وغايات) لألدوس هكسلي، وهو اختيار موفق وجهد مشكور، فالكتاب من أجل كتب الفكر والمؤلف في طليعة مفكري هذا العصر. ولكني لا أريد هنا أن أتكلم عن الكتاب نفسه ولا عن مؤلفه، وإنما يدعوني للكتابة أمر هام يتعلق بمبدأ من مبادئ الترجمة حقيق بالعناية والرعاية، خصوصا ونحن بصدد نهضة الترجمة آخذة بأسباب التعضيد والقوة والانتشار أعني بهذا المبدأ روح الأمانة التي ينبغي أن يأخذ المترجم بها نفسه متوخيا الدقة البالغة في نقل روح المؤلف وأفكاره كي يحسن التعريف بالمؤلف وكتابه ويعطي القارئ حقه من الثقافة والاحترام. هذا مبدأ هام لا يجوز أن يغيب لحظة واحدة عن انتباه المترجمين، فليس المترجم مطلق الحرية في التصرف فيما يترجم. حقا هو حر فيما يختار من المؤلفين والكتب كيفما تراءى له وجه الحق والفائدة، فإذا اختار فلا معدي له عن أداء الأمانة لأهلها وإلا صار عمله افتئاتا وتشويها وعبثا بالمؤلف والقارئ على السواء. خطر لي أن أقول هذا عندما قرأت ما كتبه الأستاذ محمود محمود في مقدمة كتابه إذ يقول: (. . . وقد عرضناه على القارئ العربي مسهبين حينا وموجزين أحيانا. وقد أوجزت بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق لأنه كان فيها هداما أكثر منه منشئا). فعلمت محزونا إنه أباح لنفسه أن يوجز وأن يسهب، وأن يوجز بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب لأن المؤلف - على حد قوله - كان فيها هداما. عجبت أيما عجب وساءلت نفسي مغيظا محنقا إذا كان المؤلف هداما فكيف يتحايل المترجم لتقديمه للقراء منشئا أو شيئا بين المنشئ والهدام؟ إذا أراد الرجل أن يعلن نفسه للعالم هداما فكيف تدارى أنت صفته وتقدمه في صورة أخرى؟ هذا كما قلت عبث، وفيه روح استعلاء توهم المترجم بأن له حق الوصاية على القراء، فمتى يحق لجمهور القراء - وقراء مثل هذا الكتاب من المثقفين عادة - أن يطلعوا على الحقائق كما هي! وختام يعاملون معاملة الأغرار؟!
ويزيدني أسفا أن مؤلف الكتاب يقول في نهاية الفصل الأول (. . . ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجا عمليا لأمراض المجتمع ببحث في(631/47)
المبادئ الأساسية والمعتقدات. فالفصول الثلاثة الأخيرة قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرا، بل إنها من ناحية عملية بحتة قد تكون أهم ما فيه). فترى من ذلك أن المترجم قد استباح التصرف في أخطر فصول الكتاب بحكم المؤلف نفسه، وأن ترجمته لم تعد بمغنية عن الأصل بحال، وأن تعبه يوشك أن يكون مجهودا قليل الثمر.
فماذا يقول بعد ذلك؟
كلمة واحدة. فأما ترجمة صادقة، أو لا ترجمة على الإطلاق. وليمحق عهد الوصاية إلى الأبد.
نجيب محفوظ
الترتيب التاريخي للزوميات المعري
كتب إلينا من بيروت الدكتور عمر فروخ رسالة مطولة حول هذا الموضوع يقول فيها:
طالعت المقالات التي كتبها الدكتور عبد الوهاب عزام عن لزوميات المعري وعن ترتيبها التاريخي في مجلة الرسالة الغراء، ولقد لفت نظري أمران.
أولهما - أن الدكتور عزام قال في آخر المقال الثالث: (هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكورا بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته) ومعنى ذلك إنه أول من فعل ذلك
وثاني الأمرين - أنني وجدت شبها عظيما بل تطابقا بين الأسس التي اتخذها الدكتور عبد الوهاب عزام لترتيب اللزوميات وبين الأسس التي كنت قد استخرجتها ثم جعلتها أساسا لكتابي (حكيم المعرة) الذي صدر في بيروت في فبراير من عام 1944 أي منذ عام ونصف عام، وذلك لمناسبة مرور ألف عام على ولادة أبي العلاء المعري (363 - 1363 هـ)
في هذا الكتاب عنيت عناية بالغة بوضع أسس لترتيب اللزوميات، إذ أنني كنت أحاول حل قضية معقدة، هي ما ينسيه بعض الكتبة المتأدبين الذين يتعرضون لمعالجة الموضوعات الثقافية من التناقض إلى حكيم المعرة. وبعد تدبر هذه القضية بدا لي أن ذلك راجع إلى ترتيب اللزوميات على حروف الروى ليس الترتيب التاريخي لها مما بسطته في(631/48)
موضعه، وليس هذا موضعه. ولقد كانت دراستي كلها مبنية على هذه الفكرة الأساسية.
ثم ذكر الدكتور فروخ طريقته في ترتيب اللزوميات ترتيبا تاريخيا. . .
وخرج من ذلك إلى أن الدكتور عزام قد اطلع على كتابه الذي نشره منذ عام ونصف واستفاد من طريقته ونتيجته، ثم لم يشر إلى ذلك في بحثه، والقارئ المنصف لا يرى في ذلك التشابه مظنة للاختلاس أو الاقتباس، إذ ليس من البعيد أن يقع كاتبان في موضوع واحد على نتائج متشابهة إذا كان البحث قائما على الاستنباط والاستنتاج من نصوص واحدة. وترتيب اللزوميات ترتيبا تاريخيا يقتضي النظر في تتبع حوادث التاريخ وتحقيق أقوال الناظم، فلابد أن تتقارب النتائج ما دام النظر سليما، والبحث قويما، والغاية واحدة
عمر فروخ
حول (أصداء بعيدة)
قرأت في (الرسالة) كلمة عنيفة وجهها إلي صديقي الكاتب الأديب الأستاذ ثروت أباظة لمناسبة صدور ديواني الجديد (أصداء بعيدة)؛ ولست أدري ما الذي دفع صاحبنا إلى كتابة ما كتب ولا أود أن أقول (من الذي)، فأنا أثق في نزاهته واستقامة فطرته الأدبية
وفي ديواني مقال طويل عن فني في الهجاء وبراعتي في ذلك الفن، واستقامة الفكرة والتعبير بين يدي، وسهولة النظم وعذوبة العبارة مما أوشك أن يذهب بشعري كله مذهب السهل الممتنع
أتدري - أيها القارئ الكريم - من الذي كتب ذلك التمجيد؟ إنه ثروت أباظة بعينه. . .
قال صاحبنا: إن في الديوان إسفافا وسقوطا. . . ثم أخذ القارئ ليضرب له مثلا، مثلا على الإسفاف والسقوط. . . فماذا صنع، وعلى أي شيء وقع؟ وقع على الأبيات الآتية، وهي من قصيدة في الهجرة المحمدية:
فتح القفر روحه للصديق ... ين فأمسى باديه كالبستان
أُّيما ذرة من الرمل غنت ... ولكادت تهم بالطيران
حدثت أختها وفيها دبيب ... وهي نشوى بمقدم نشوان
وأول ما ألاحظه عليه أنه روى البيت الأخير خطأ فقال (بمقدم النسوان)، ولعل له غرضا(631/49)
في إيراده على تلك الصورة!
وثانيا: رواها وصمت. . . فلم يبين لنا مواضع الإسفاف الذي ادعاه، وإني أشكره أن هيأ لي فرصة بيان معنى هذه الأبيات
أقول: إن القفر الجديب تلقى الصديقين المهاجرين تلقي الشوق، ففتح لهما روحه، ونسمت عليهما منه نسمات لا تهب إلا من أعطر الرياض وأندى البساتين، فهما إذن في بستان معطار وليسا في بطائح ولا قفار. . . والرمل. . . إنه ابتهج بهذا المقدم السعيد، حتى لكأن ذرات الرمال أمست تغني فرحا بالضيفين العظيمين، واستولى على تلك الذرات شعور الفرح والغبطة، فكادت تطير!!
وتحدث الرمل، معجبا، مزهوا، بأن يكون موطئ قدم ذلك النبي العبقري وصاحبه، وأخذته نشوة بذلك المقدم النشوان!
أفهمت يا صاحبي ثروت ما وراء هذه الأبيات من معنى ضخم وخيال واسع؟!
وينصحني أخيرا بالتروي ليبرر ما كتب، ولعله لا يعلم أنني معجب غاية الإعجاب بموهبتي في سرعة النظم، وقد نص معالي والده الشاعر دسوقي باشا على إعجابه بهذه الموهبة في المقدمة القيمة التي كتبها لهذا الديوان عني كما شاركه هذا الإعجاب معالي الدكتور هيكل باشا، الذي تفضل فسطر هذا الإعجاب في تقديم لفني وشاعريتي إلى جمهور القارئين بالعربية في مصر وفي غير مصر كما يقول معاليه
هذه كلمة هادئة أرجو أن تنال من ضميره النزيه قبولا
(مصيف أبي قبر)
العوضي الوكيل(631/50)
القصص
قصة مصرية
راهبة بلا دير
للأستاذ إدوار حنا سعد
كان ظهور حمدي فجأة في أفق حياة سنية إعصارا مدمرا قلب كل شيء وجعلها تضيق بحياتها وتسأل نفسها فيم إصرارها على العزوبة وفيم تحاشيها للرجال. وأخذت تستعرض صور حياتها التي تجردت من كل ما يبعث النفس البهجة، وأطياف ماض كان حافلا بالأسى والحزن.
إنها عندما ولدت ووطأت قدماها الصغيرتان شاطئ الحياة أقلعت سفينة الموت تحمل أمها بين الراحلين، والذين حضروا ساعة الميلاد ورأوا أضواء الحياة ترقص في عيني الطفلة البريئة وظلال الموت تجثم على وجنتي الأم الشهيدة، أحسوا في بكاء الطفلة رثاء لأمها وندبا لحظ وضع عليه اليتم ميسمه.
غير أن السماء لم تكن قد أرادت بسنية يتما كاملا، فقد أبقت لها أباها العطوف وجعلت من شقيقتها الكبرى (إنعام) ملاكا حارسا يملأ بنور الحنان لياليها ويجمل بزهر العطف أيامها وينسيها ما استطاع مرارة اليتم وشقوة الحرمان. وكانت إنعام تحس - وهي ترعى شقيقتها الطفلة - زهو الأمومة المبكرة وسعادة الوفاء بالجميل نحو أمهما التي كانت دنيا من الشباب والحسن والعطف فلم يبق منها إلا صورة معلقة على جدار، وقبر نائي المزار، وذكرى ما تزال تغدو في خيالها وتروح.
وتوالت مواكب الأيام ومرت على البيت الصغير وسنية سادرة في غي الطفولة وإنعام حالمة أحلام الشباب، وأبوهما منصرف إلى عمله الذي يستغرق سحابة أيامه وصدر لياليه.
وأخذت الطفلة تنمو وتترعرع وبدأت الغشاوة تنجاب عن عينيها وعرفت أن أنعام ليست أمها بل شقيقة وافرة الحنو. على أن ذلك لم يقلل من حبها البنوي لها، بل لعله زاد عنفا واتسع أفقا، وأصبح نوعا من العبادة الصامتة وعرفان بالجميل وأخذ يطغى عليها الشعور بالرغبة في خدمتها وتوفير الراحة لها.(631/51)
إن سنية الآن عذراء وافرة الأنوثة قد لمس الحب قلبها لأول مرة، وإنها لتستعرض حياتها الجرداء التي ولت هباء لم يورق فيها الحب من قبل، وتذكر أنها كانت في الثانية عشر من عمرها حين تقلدت الدار عقود الزهر ورفرفت عليها الأعلام وتوافد الناس وعزفت الموسيقى معلنة أن حياة إنعام قد ارتبطت بحياة رجل كان غريبا فأضحى أقرب إليها من كل قريب. ثم هي تذكر أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين اتشحت الدار بالسواد وتوافد الناس وتعالت الأصوات بالندب والبكاء معلنة أن الأب الحزين قد ألحق بالزوجة الراحلة.
ومنذ ذلك الحين أقامت سنية بصورة مستمرة في بيت إنعام وأخذت عيناها تتفتحان على أمور كثيرة غريبة. رأت سامي زوج أختها قد أشهر الحرب على زوجه وساقه إلى ذلك طعمه في الميراث الضخم الذي خلفه أبوها وأطمعه فيها ضعفها وقلة حيلتها وانفرادها، فما كان لها من الأقارب إلا عم يقيم في السودان. وكانت إنعام مضطرة إلى مداراته وإعطائه ما يطلب، وأسرف في شرب الخمر وساءت أخلاقه وزاد طلبه للمال، والمال كماء البحر كلما شرب منه الإنسان زاد عطشه وكانت الزوجة البائسة تسرف في البكاء والتفكير إسرافها في منحه المال، وكانت تشحب وتزداد نحولا بالرغم من تأكيد الطبيب بأن ضعفها يضر بالجنين الذي كان يتحرك في أحشائها.
وعلى صدر سنية كانت تنهدات إنعام تترامى في يأس مرير فتجد لها في ذلك الصدر الشفوق صدى وبلسما؛ ولطالما مرّ الليل أوائله وأواخره على الشقيقتين كبراهما تقول بشجوها وتبكي، والصغرى تحاول أن تمسح بيد العزاء أحزانا قاسية حتى إذا أجهدها ذلك فيئست أخذت تبكي فعانقتها أختها وتعانق الدمع فوق خدود لم تخلق للدموع.
وكانت إنعام تزداد نحولا، وسنية تزداد بغضا لسامي وللرجال على وجه العموم، وساعد على ذلك أنها لم تكن قد خبرت من الرجال إلا أباها، وكان على حنانه كثير الانصراف إلى عمله، وإلا هذا الرجل النذل الذي استغل ضعف امرأتين فأقبل يسرقهما كلما طاب له أن يسرق، وساء ظنها في الرجال، ولم تكن هي الملومة على أية حال.
وتتابعت أمواج الذكريات على خيال سنية وهي ساهدة تفكر وتذكرت كيف أبى القدر إلا أن يكرر في هذه الأسرة للمرة الثانية في تاريخها القصير، فعندما أنجبت إنعام ضيفا جديدا في(631/52)
ذلك المنزل، غادرته هي على الأعناق، وكان هذا المولود فتاة هي عدالات.
تولى الأستاذ عبد المجيد القليني المحامي الكهل الشهير، شؤون الوكالة عن سنية وإدارة أملاكها، وكان رجلا أمينا، وزاد من عطفه عليها عرفانه بحالتها وصداقته القديمة الوطيدة لوالدها. وتفرغت هي إلى تربية عدالات والقيام بذلك الواجب المقدس نحو أختها والوفاء بذلك الدين القديم.
إن التاريخ قد أعاد نفسه سريعا والحنان الذي شربته سنية من يدي إنعام قد عادت تسقيه إلى ابنة إنعام، وأضحت لها هذه الطفلة الجميلة بمثابة الكأس والخمر والحلم والنور الذي أفلت من يد الحزن وكف القدر لكي تعيش على ضوئه ذكريات تلك الشقيقة الراحلة.
وكأن الطفلة كانت قد سرقت من أمها وهي تموت كل جمالها: شعرها الكستنائي وعينيها المعسولتين، وذكاءها الوقاد وروحها الخفيفة ونظراتها الحالمة، وغدت سنية تشرب هذا الحسن في كأس القبل وتخال أنها تقبل الإبنة والأم معا.
والشقة التي كانت تسكنها في أحد البيوت التي تملكها، قد غدت صومعة أقامتها لتعيد فيها ذكريات إنعام ولتحرق لابنتها حياتها بخورا وتقضي العمر في هذه العبادة.
والبسمة البريئة على ثغر عدالات والنظرة الشاكرة في عينيها واللثغة الساحرة في شفتيها كانت العزاء الوحيد للحسناء الزاهدة في متع الحياة.
وكان الأستاذ عبد المجيد المحامي الذي يحضر ليعطيها نصيبها من إيراد الأملاك، وسامي زوج أختها الذي نسي زوجه وتزوج من أخرى والذي يحضر ليرى ابنته ولكي يقترض منها النقود أحيانا ولم يفكر في رد ما اقترض ولن يفكر في ذلك على التحقيق. هذا كانا الرجلين الوحيدين اللذين تطأ أقدامهما هذه الصومعة.
وظل نهر الأيام يجري وعلى صفحته تسبح سنية وعدالات، وكانت الأخيرة تتفتح كالزهرة وتنمو كالغصن النضير وسنية تظللها وتحنو عليها كالسرحة الزكية وتتعجل الأيام كي تراها عروسا ذات بعل وأما لأولاد.
وحين بلغت عدالات السادسة عشرة، وانقطعت عن الدراسة أضحت الثياب الأنيقة والعطور الغالية من نصيبها، ولطالما تمنت على خالتها أن تشاركها استعمال العطور أو أن تجاريها في أناقة الملبس فكانت تبتسم لها وتقول: (لقد كبرت يا بنيتي العزيزة) فتضحك(631/53)
عدالات وتقول: (حقا، لقد نسيت إنك هرمت وبلغت الثلاثين).
كان بين سكان (العمارة) التي تسكنها سنية مهندس أعزب يدعى حمدي، يقيم مع أمه العجوز وخادم، ولم تكن سنية قد رأته لأنها كانت قليلة الفضول قليلة الزيارة لجيرانها.
وذات مساء سمع رنين الجرس في مسكن سنية وفتحت الخادم الباب فوجدت حمدي أمامها يطلب مقابلة (الهانم) باعتبارها المالكة ليشكو إليها سوء أدب البواب في معاملة والدته المريضة، وترددت سنية هل تسمح له بالدخول أم لا؟ ووجدت من الأذوق أن تستقبله فإنه جارها وهو فيما تعلم رضي الخلق.
ووطأت قدما هذا الرجل الغريب بيت الأنثى الزاهدة ورأت سنية أمامها شابا طويل القامة قوي الجسم فتان الطلعة جريء النظرات يناهز الخامسة والثلاثين ويبدو عليه عدم الاكتراث بشيء ما. ومدت يدها تصافحه فضغطها في كفه الغليظة كأنما يصافح رجلا، وجلس قبل أن تسأله أن يجلس وخلع طربوشه ووضعه على مقعد بجانبه فتهدلت خصلة من شعره الفاحم السبط فوق جبينه الأسمر العريض، ووضع ساقا فوق أخرى وأشعل سيجارة ونفث دخانها عقدا في الهواء وبدأ يتكلم، وأخذت سنية تصغي لكلماته ثم تعلقت نظراتها بشفتيه الممتلئتين الحمراوين تلتقيان وتنفرجان وهو يتكلم ولم تعد تنصت إلى الألفاظ أو تتفهمها ولكنها غرقت في بحار من التيه عميقة وكانت ألفاظه تنساب كأصابع رقيقة تمزق عن ذاكرتها ستار الإهمال والكبت وتعرض عليها أحلام الشباب وتعيد إليها الشعور بتفاهة حياتها وحاجتها إلى الحياة الحافلة المليئة بحنان امرأة وعطف رجل.
وشعرت بالخجل وأحمر خداها وخشيت أن يكون قد اطلع على مجرى أفكارها ولكنه كان ما يزال يتكلم وينفث الدخان من أنفه الجميل وفمه الممتلئ بعد أن يكون قد ملأ به صدره العريض وأحست إنها رأته قبل ذلك، من سنين عديدة بل من أجيال عديدة إن صوته ليس غريبا عنها، وهذه الملامح طالما رسمتها يد المنى على لوح خيالها. وعادت تنظر إلى شفتيه تنفرجان وتلتقيان وخيل إليها أنهما في كل انفراجة والتقاء إنما تتهيآن لقبلة أو تفرغان من قبلة. وكبحت جراح نفسها وأنصتت إلى كلامه وسمعته يسألها هل يرضيها ما فعله البواب، ولم تكن قد فهمت شيئا مما قال، ولكنها وعدته بأنها ستنزل به العقاب؛ ونهض قائما وهو يعتذر من إزعاجه إياها، ولكنها أكدت له العكس ورجته أن يبلغ تحياتها(631/54)
وأسفها وتمنياتها إلى والدته. في تلك الليلة لم تنم، بل عادت بذاكرتها إلى حياتها كلها الفارغة من المتع وظلت تستعيد منظر الشفتين الممتلئتين والعينين اللامعتين الواثقتي النظرة. إن عينيه تلتقيان بذور الهناءة في حقل عمرها الأجرد، وشفتيه ترسمان بحركتهما السريعة خطوط حياة راقصة سعيدة تتمناها. لماذا ولدت ولماذا تعيش؟ لقد طالما حبرها هذا السؤال فكانت تجيب بأنها تعيش لعدالات. أما الآن فقد اهتدت إلى الجواب الصحيح. لقد قرأته في عينيه وسمعته في رنين ألفاظه، إنها خلقت له وإن حياتها وجدت لكي ترتبط بحياته.
واندفعت إلى خاطرها صور كثيرة، إن نظراته إليها كانت أكثر من مجرد نظرات، كان فيها توسل وأمر، وطاعة وعصيان، ومنى وأمل، وفيها دليل هوى ونجوى غرام. وسألت نفسها هل يتزوجها، وضغطت قلبها أصابع الفرح حين طاف به هذا السؤال وأجابتها نفسها: ولم لا؟ لعله لم يحضر إلا ليراك، وقد اتخذ من قصة البواب ذريعة لذلك. تذكري نظراته وابتسامته وضغطه يده على يدك وعادت تتساءل (وهل أرضى به) فأجابتها نفسها (نعم، أتظلين عانسا طول العمر؟ أم هل تظنين أن كل الرجال أدنياء كسامي زوج إنعام. أما تتوقين إلى رؤية أطفال لك يملئون بيتك بهجة. (ولكن أهذا هو الحب من أول نظرة) فوجمت نفسها قليلا وأجابت (نعم. بل كلا. هذا ليس حبا. إنه اللهفة التي تغمر الظمآن إذا أشرف على النبع الفرات، والنشوة التي تعمر القلب الضارب في الصحراء إذا اهتدى إلى الواحة، والراحة التي تفيض على الساهد إذا أوشك الكرى أن يغمض جفنيه. (وعدالات ما يكون شعورها إذا تزوجت؟) وللمرة الأولى تغيرت نظرتها إلى عدالات. لماذا تحطم هي حياتها لكي تسعد عدالات؟ إن إنعام لم تظل عانسا وهي تربيها، فلماذا تبقى هي عانسا من أجل ابنة إنعام؟ يكفي عدالات ما رأت من حنان، ويكفيها أنها ستظل لها كما كانت دائما ولكنها لن تحرم نفسها ليشبع الآخرون، ولن تكون الشمعة التي تحترق وعلى نورها تنصب العناكب شباكها وفي نارها تموت الفراشات الراقصة. وأغمضت عينيها ونامت ورأت نفسها في المنام تزف إلى حمدي.
وتكررت زيارات حمدي تصحبه والدته، فنجلس الجميع عدالات يسمرون ويتحدثون، وأخذت سنية تبالغ في التأنق وامتلأت ثقة بنفسها فتوردت وجنتها وزاد نشاطها والتماع(631/55)
عينيها الجميلتين وطفقت تلقي على حمدي نظراتها الحنون وتوسد نظراته إليها أجفانا ذابلة يقظة. وكانت تتلقى ضغطة يده على كتفها كأنها تأكيد لعهدهما وميثاق أبدي.
وفي ذات أصيل جاءت أم حمدي بمفردها وحيت وقالت: إن حمدي يسره أن يصاهر أسرتها الكريمة. فتوردت وجنتا سنية وخفق قلبها وكادت تثب من الفرحة الكبرى التي غمرت كيانها وواصلت أم حمدي الحديث قائلة (وهو لذلك يطلب يد عدالات).
ووجمت سنية وأصابها تبلد غريب، ولأول مرة أحست أن عدالات الطفلة الناردة قد أصبحت مزاحمة خطيرة. وعجبت من نفسها كيف قابلت النبأ بهدوء وكيف ودعت الضيفة في ثبات ووعدتها وعدا جميلا بعد أن تخاطب أبا عدالات في الأمر. وعادت إلى غرفتها وسبحت في يأس مرير. إنها تمنت أن تعيش بين يده فكيف فر منها إلى طفلتها الصغيرة؟ أتكون عدالات زوجة أفضل منها وهي الفتاة الطائشة الرعناء وكبحت جماح غيرتها العنيفة أن شقيقتها إنعام قد أطلت من وراء الغيب تسألها الرفق بابنتها وتنهدت سنية وملأ رأسها عزم جديد.
(لقد تمنيت أن أرى أولاده مني، وقد استجاب الله نصف الأمنية. إن أبناءه من عدالات سيكونون أبنائي، وسأشرف على تربيتهم كما أشرفت على تربية أمهم)
(ما الذي تغير في حياتي؟ سأعيش بقربه، وسأراه دائما، وسأحنو عليه حنوي على عدالات. إن الحجر الصغير الذي ألقى في نهر حياتي الهادئ قد انداحت له الدوائر، ولكن سطحه سرعان ما عاد إلى هدوئه وسيظل يجري في الصحراء التي قدر له أن يجري فيها حتى المصب). (لقد عشت شبابي زاهدة، وكثيرات غيري قد فررن من مثل هذا الألم إلى الدير، فلم لا أصبح راهبة بلا دير؟)
(إسكندرية)
إدوار حنا سعد(631/56)
العدد 632 - بتاريخ: 13 - 08 - 1945(/)
روسيا والشرق في السياسة الدولية
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
إن لآسية شأنا عظيما في حياة أوربة التي تنتفع بثروات هذه القارة وتعرف قيمتها؛ ولذا كثرت مسائل الشرق الأدنى والشرق الأوسط وتشابكت، وأصبح فهمها على حقائقها وإدراك أخطارها يوجبان النظر في أصلها القديم وفي ما يؤثر فيها من عوامل لمنافع الدول المستعمرة المختلفة ومصالحها ومطامعها وتنافسها، وفي تعارض مساعي هذه الدول أو توافقها في مواقف السياسة الدولية تبعاً للأحوال والضرورات
فما يقع في هذين الشرقين من الحوادث السياسية ليس يتبين على حقيقته كلها للنظر السطحي في صورته الظاهرة المزخرفة بألوان من الدعايات ومن وحي الأغراض أو الأهواء أو المحازبات أو المسايرات. ولابد لمعرفة الحقيقة المنشودة من تأمل هذه الحوادث في ضوء ينشره عليها البحث في الدوافع الطبيعية وفي تنافس المستعمرين ومصالحهم الأساسية
يزحف الأسيويون إلى الغرب والغربيون إلى الشرق من القدم. ولهذا التزاحف أسباب طبيعية وفطرية، ودواع من مصالح أساسية حيوية وراء العلل الظاهرة والحجج السياسية.
ومن هذه الأسباب والدواعي والعلل نشأ ما سموه مسألة الشرق. ويمكن رد نشأتها إلى العصر العهيد الذي وقعت فيه حرب طروادة، وقد اختلفت أوضاعها في مجرى التاريخ، وهي من أجل مسائل السياسة الدولية شأنا منذ فتح العثمانيون قسطنطينية عام 1453. وكان موضوع المسألة في ذلك العهد دفع العثمانيين عن أرض أوربة إلى آسية، فلما بدأ ضعف إمبراطوريتهم صار موضوع المسألة: لمن يكون إرث استنبول العظيم؟
أهمت مسألة الشرق في أول الأمر دول النمسا وروسيا والفاتكان، ثم أخذت من صدر القرن التاسع عشر تهم فرنسا وإنجلترا رأسا، فقد قوى موقف النمسا أمام العثمانيين في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، ونالت منهم روسيا في ذلك القرن منافع كبيرات، فصار موضوع المسألة: هل تحفظ أوربة كيان الدولة العثمانية أو تتركها للتهديم؟ لأن التهديم معناه الإنتهاب وطغيان المنتهب وسيادته، أو خطر الاختلاف في الاقتسام. وقد عظم شأن هذا الأساس من المسألة بالتضاد الدائم بين الترك والعناصر المسيحية البلقانية التي كانت(632/1)
خاضعة لحكمهم ثم حررت تباعاً، وبالنزعة الروسية إلى الاستيلاء على استنبول
فمن المأثور عند الروس ما يجعل لهم هذه النزعة المزمنة إلى الاستيلاء على استنبول، وأقدم حججهم في ذلك أن بوزنطة آلت إليهم بالإرث، وأن روسيا الأرثوذكسية هي حامية الأرثوذكس: لأن إفان الثالث غراندوق روسيا تزوج عام 1472 الأميرة سوفي بليلوج ابنة أخي قسطنطين آخر أباطرة قسطنطينية العاصمة الأرثوذكسية؛ ولما تزوج إفان هذه الأميرة أدعى للساعة إنه وارث هؤلاء الأباطرة، واتخذ النسر ذا الرأسين شعارا له، وأعلن إنه سينتقم من الترك للأرثوذكسية، وبهذه الصورة بدت مسألة الشرق المشهورة في صدر التاريخ الحديث. والحقيقة أن استنبول في موقعها الجميل وصلة كبيرة الشأن بين أوربة وآسية، وإن من أكبر مصالح روسيا الوصول إلى البحر المتوسط، لأن منافذها الشمالية إلى البحار تجمع ثمانية أشهر في العام. ولكن الدول الغربية، وخصوصا إنجلترا حالت دون وصول الروس إلى استنبول والبحر المتوسط. والسبب هو أن زحف دولة كروسيا في البلقان وامتلاكها مفتاح هذا البحر يردانها دولة بحرية ويزيدان شوكتها وسيادتها، وقد تتوغل بعد ذلك في الأنضول ووادي الفرات، وتصل إلى الخليج الفارسي، وفي هذا كله خطر على الهند وشرقي البحر المتوسط، وطرق الإمبراطورية البريطانية
وقد طرحت مسألة الشرق مراراً من أوائل القرن السابق، وخفف من خطرها تقرير الدول مبدأ حفظ كيان الإمبراطورية العثمانية وقيام دويلات البلقان حواجز بين النمسا وروسيا وتركيا. لكن المسألة لم يزل خطرها، بل ظل كامناً يبدو بين حين وحين
ولما هزمت الدولة العثمانية في الحرب الكبيرة الماضية، واحتلت إنجلترا مع حلفائها استنبول انعكس وضع المسألة: إذ لم يبق الغرض إخراج الترك من أوربة، بل عاد إبقاؤهم فيها لصيانة حرية المضايق تحت حكمهم - مع بعض الضمان منهم - ومنعا لدولة عظيمة أن تتسلط، مباشرة أو بوساطة، على العالم بأسره
من ذلك الماضي تسلسلت مسألتا تراقية وأرمينية، ومسائل سورية وغيرها من بلاد الشرقين الأدنى والأوسط
وحقيق بالذكر ههنا أن مسألة الشرق جاوزت حدود أوضاعها المتقدم بيانها، إذ (كانت منذ انتهاء القرن الثامن عشر كأنها مسألة اقتسام الدول الأوربية لآسية واستعمار هذه القارة؛(632/2)
فصارت بعد قهر اليابان لروسيا عام 1905 مسألة ثورة آسية على سادتها الأوربيين. فلم يكن الشأن هزم اليابانيين للروسيين، أو كسر دولة لدولة، بل كان شيئا عظيما غريبا هو انتصار عالم على عالم آخر، وثأرا بالإذلال الذي أريدت آسية أجيالا مديدة على احتماله، وأول أمل الشعوب الشرقية). وقد أفاضت الصحف اليابانية يومئذ كلامها في هذا المعنى حتى قالت إحداها: (كان المسلم به حتى الأمس القريب أن مسألة الشرق يجب ألا يحلها سوى الأوربيين أو الأمريكيين، ونحن نعرف من الآن فصاعدا أن اليابان تحلها والأوربيون والأمريكيون ملازمون المقام الثاني)
ذهبت الدول في الاستعمار إلى البلاد النائية. أما روسيا، فإن محلها الجغرافي جعلها تستعمر ما يجاورها متدرجة من بلاد جار إلى بلاد جارة، متجهة بحسب تقاليدها إلى الشرق الأسيوي وإلى الجنوب، ولم يعترض هذا التوسع عائق ذو شأن جدي حتى أوائل القرن التاسع عشر
كان الذي يهم إمبراطورية القياصرة، قبل كل شيء، هو الزحف التقليدي إلى قسطنطينية، وكان يبدو أن انتصاراتها على العثمانيين تضمن لها الفوز في نهاية الأمر بتركة الرجل المريض، فظنت روسيا بعيد منتصف القرن الماضي أن الفرصة سانحة وأثارت حرب القرم، لكن إنجلترا وفرنسا اعترضتا لها، فتقهقرت وانقطع عليها أحد سبيليها القديمين
ذلك سبب الجهود المتواصلة التي بذلتها روسيا في دعم سيادتها نهائيا على آسية الوسطى القريبة من الهند، لتحتفز وتتوثب على عدوتها إنجلترا، وفي توطيد سلطانها على القوقاز القريب من آسية التركية ليقصر طريق غزوها. ولما خابت الجامعة الصقلبية في البلقان اتجه الاستعمار الروسي إلى إيجاد جامعة أسيوية ليعتز بوحدة من القوميات، ثم ترددت روسيا بين أن تفتح نوافذها فتحا تاما على أوربة وأن تتوغل في آسية، وعالجت أن تقوم بالأمرين، فصادفت في زحفها إلى الشرق الأقصى خصما جديدا هو اليابان، على حين أخذت المنافسة الإنجليزية الروسية في الهدوء، حتى سكنت بعد انتصار اليابان على الروس، فجاءت معاهدة عام 1907 التي قسمت إيران ثلاث مناطق: واحدة شمالية للنفوذ الروسي، وأخرى جنوبية للنفوذ الإنجليزي، والثالثة حيادية فاصلة بينهما، والنقط في كل منهما، وكان ذلك تأمينا لحدود الهند واستعدادا لمواجهة الألمان قبل الحرب الكبيرة الماضية(632/3)
التي جاء بنذرها منطق الحوادث الدولية، ثم دخلت روسيا تلك الحرب إلى جانب الحلفاء لقمع الجرمان
وقد ورد في مذكرات السير بكنان سفير إنجلترا في روسيا يومئذ أن الملك جورج الخامس قال في 12 نوفمبر عام 1914 للكونت بركندورف السفير الروسي: (يجب أن تكون استنبول لكم) وإنه على وفاق مع وزرائه في ذلك
وهذه كلمة توافق حلم الروس الدائم، وتشجعهم وتقوي ثقتهم بحلفائهم، وكان الإنجليز قد عزموا على اقتسام الإمبراطورية العثمانية والحصول منها على نصيب الأسد بسبب انضمامها إلى الألمان في الحرب ونفوذ هؤلاء فيها ونيتهم في بلاد الرافدين التي تغنيهم إن هم استعمروها وتدنيهم من الخليج الفارسي والهند، فوافق الإنجليز على تحقيق أمنية الروس، وشرطوا لذلك إنشاء دولة عربية إسلامية كبيرة، أو جامعة دول عربية إسلامية يقيمونها في الشرق الأدنى صيانة بمعاونتهم للطرق إلى الهند وسدا، في زعمهم، أمام الترك على حين يعترض الروس باستنبول في طريق زحف الألمان إلى الشرق العربي، بل سدا أمام الروس أنفسهم في حقيقة الأمر، لأن ذلك الاقتسام يحصر الترك في منطقة على البحر الأسود تحدق بها أنصبة المقتسمين
لكن حدث في فبراير عام 1915 أن تردد في لندن وباريس كلام في صلح منفصل مع تركيا، وقيل في الدوائر الميالة للجرمان في بتروجراد بشأن مشروع حملة الدردنيل أن الغرض منها إنما هو التفادي من وقوع المضايق في قبضة روسيا، فرابها ذلك كله، وزاد ارتيابها أن فنزيلوس عرض على إنجلترا وفرنسا استعداد اليونان للمعاونة في الحملة، فأخبر سزانوف وزير خارجية روسيا السير بكنان بأنها تعارض في قبول العون اليوناني، وابلغ الملك قسطنطين أن روسيا لا تسمح في أية حال بدخوله استنبول على رأس جيشه، وعرفت ألمانيا هذه الأمور فعرضت على روسيا صلحا منفصلا مقابل إعطائها استنبول والمضايق - كأن هذه المنطقة الحيوية ليست ملك الدولة العثمانية المحاربة في جانب الألمان.
أصبح الحلف الثلاثي حينئذ في خطر حقيقي حتى أن الأمير تروبسكي قال لسزانوف:
(يجب أن نملك المضايق، فإذا أمكن أن نحصل عليها مع إنجلترا وفرنسا ضد ألمانيا، فهذا(632/4)
حسن، وإلا كان الأجدر أن نقبلها من ألمانيا ضدهما)؛ ولذا طلبت روسيا إتمام الاتفاق مع حليفتها على اقتسام الإمبراطورية العثمانية طبقا للأسس التي كانوا ارتضوها باتفاقات ومذكرات دبلوماسية متبادلة بينهم؛ وأكدت أن كل حل للمسائل المتعلقة بالاقتسام سيكون مزعزعا إن لم يدخل في نصيب روسيا: استنبول وضفة السفور الأوربية وبحر مرمرة والدردنيل وتراقيا الجنوبية إلى خط يمتد في شماليها بين إبنوس وميديا؛ وكذلك جزء من الضفة الأسيوية بين البسفور ونهر سقاريا وموقع يعين بعد خارج الدردنيل؛ ثم جزر بحر مرمرة وجزيرتا إمبروس وتندوس، إذ لا غناء لروسيا في زعمها عن هذا كله من الجهة الاستراتيجية
قبيل كل من إنجلترا وفرنسا إتمام الاتفاق ورفضتا العون اليوناني في حملة الدردنيل التي أخفقت في النهاية
ثم سلم كل من الدولتين، بعد المفاوضة، بسائر طلبات روسيا أمام خطر التطور في الرأي الروسي بسبب خيبة الأمل في بتروجراد لإخفاق جميع المحاولات الإنجليزية الفرنسية في الدردنيل. وقد أظهر الروس غيظهم من توقع الجلاء عن شبه جزيرة غاليبولي، وسمع في بعض البيئات الروسية تلميح إلى أن الجيوش المسكوفية سوف لا تجلى بعد الحرب عن الأراضي التي كانت تتأهب يومئذ لغزوها في أرمينية وجهة الموصل، وهي من بلاد البترول
ومما شرطته روسيا في اتفاقاتها مع حليفتيها أن تضم مناطق ارضروم وفان وبتليس، حتى أردو على شاطئ البحر الأسود غربي طربزون؛ وتضم قسما من أرمينية وقسما من كردستان.
هذا، وفي 8 مارس عام 1914 صرح نقولا الثاني وسزانوف لموريس بمبار سفير فرنسا بأن روسيا تترك لها حرية التصرف في سورية وقيلقية؛ ولكنها لا تترك أبدا لدولة غير أرثوذكسية أن تجعل تحت حمايتها القدس والجليل والأردن وبحيرة طبرية
وقد تم اقتسام الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء في ثلاثة أعوام هي 1915 و16 و17، ولم يتركوا لتركيا غير أرض شكلها شبه منحرف رؤوس زواياه أردو على البحر وسيواس وافيون قره حصار وبرصة، ومنها قوس تمتد حول ركن البسفور، ولولا الثورة الروسية،(632/5)
ثم الثورة الكمالية، لنفذت الاتفاقات التي تضمنت هذا الاقتسام. ولقد أسفت إنجلترا لتركها استنبول لروسيا ساعة الخطر، لكن حكومة الثورة الروسية أرضت إنجلترا إذ وعدتها بالعدول عن طلب استنبول
بعد الثورة الروسية أصبحت السلطة كلها في يد حزب واحد يتولاها لنفعه، وكانت من قبل بيد طبقة تباشرها في سبيل مصلحتها. أما الحرية، فلم تكسب شيئا ولم تخسر شيئا في روسيا بانتقالها من القيصرية إلى الشيوعية، وقد اتجهت سياسة التوسع لروسية إلى البحث عن الأربح للاتحاد السوفيتي من الأسواق في ذخار المواد الأولية وترويج مصنوعات بلاده
بحث الاتحاد عن هذه الأسواق في آسية وفي أوربة، فجره ذلك إلى إخفاء دعايته السياسية الشيوعية، وإلى الوقوف في العلاقات الدولية موقف دولة كالدول الأخر قادرة على تدبير شؤونها تدبيرا برجوازيا. ولقد أهمل الشيوعيون عددا من مثلهم العليا التي أحدثوا ثورتهم باسمها، ومن أعلى ما أهملوا المبدأ المسالم المضاد للنظم العسكرية والمبدأ المحبذ لاشتراكية دولية على حساب الوطنية. وروسيا اليوم أكثر اعتمادا في نظامها السياسي على الجيش. وحكامها الشيوعيون محتفظون بما كان للقياصرة من أقوى روح وطني في العالم
ومن أقوى أسباب التطور السوفيتي خيفة الحرب مع ألمانيا واليابان التي انتهزت فرصة ضعف روسيا العسكري بعد ثورتها وقبل استعدادها، فغزت مندشوريا شيئا فشيئا، وهذه داخلة كالوتد بين ثغر فلادفستوك وشرقي منطقة بابكال، ثم أعلنت اليابان استقلال مندشوكو وأرغمت موسكو على الاعتراف به، وهدد تقدم اليابان منغوليا التي يحميها السوفيت، حتى توترت العلاقات بين الدولتين عام 1934، وبدا أن نشوب الحرب بينهما كرة ثانية وشيك، لكن الاتحاد سلم مرة أخرى وترك اليابان تعمل ما تشاء في مندشوريا، على إنه أنشأ جيشا خاصا للشرق الأقصى وقاعدة جوية قوية في فلادفتسوك بقي بهما ولايته البحرية القصية من طمع اليابان
عاد الاتحاد السوفيتي في ميدانه الأسيوي إلى العمل بالمأثور عند الروس، فشابه حكومة روسيا القيصرية المقدسة في أمانيها وطمعها بإيجاد جامعة أسيوية تتحد فيها الشعوب الصقلبية والشرقية لتصبح مجموعا عظيما أوربيا آسيويا أوراسيا
وقد قال لنين في مؤتمر الشعوب الصقلبية والشرقية الذي عقده في باكو عام 1920: (إنكم(632/6)
بالشرق تبلغون الغرض من الغرض)
وجملة القول أن الاتحاد السوفيتي الوارث لمذهب آل رومانوف السلطي قد استأنف الزحف إلى الشرق والتصوب إلى الجنوب منتظرا أن تمكنه الأحوال من العودة إلى محاولة نشر الشيوعية في العالم
لقد وصل الاتحاد إلى برلين واحتل جزءا عظيما من أوربة، وإن أتيح له الاستيلاء على استنبول وما حولها، فقد يحاول الزحف إلى العراق ومصر والهند، لكنه كمن سبقه يحتك في الشرق والجنوب بمنافسين وخصوم لم تخمد حماستهم، والجامعة الأسيوية السوفيتية تتهيأ إذن للهجوم أو لصد هجمات عنيفة
فهل يواجه الاتحاد خصومه في آن معا، أو يساوم كل خصم في الاستعانة ببعضهم على بعض، أو يؤثر التسويات مؤقتا مسترسلا في سياسة فتح الأسواق وادخار المواد ريثما يستجمع له الأمر لقهر الغرب بالشرق والشرق بالغرب؟ وماذا تهيئ له الأقدار؟ أخيرا أم شرا؟
وتأمل أناس كثيرين أن يجمع الأقطاب في بتسدام على أساليب عملية ينفذون بها النظام الموضوع في سان فرنسيسكو، ولكن هذا الإجماع معلق بالطبع على التوفيق أولاً بين مصالح دولهم الحيوية، ومثل هذا التوفيق، إذا تيسر، إنما يكون اقتساما للبلاد يقال أن شعوبها سينعم عيشهم في ظله، وتسعدهم سياسة الجوار الحسن التي ابتدعتها أمريكا بديلا من الإمبراطورية، فتتعاقب أجيال الإنسانية سامية في بلهنية إلى ذروة مثلها الأعلى من السلام الأبدي إن شاء الله!
محمد توحيد السلحدار(632/7)
الفلسفة الإسلامية المتأخرة
للدكتور جواد علي
- 1 -
يختتم أكثر المستشرقين بحوثهم عن الفلسفة الإسلامية بفلسفة المؤرخ والفيلسوف العربي ابن خلدون، كما فعل المستشرق دي بور في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب سلس سهل بسيط لا يوجد مثله في البساطة والسهولة في اللغات الأوربية. وكما فعل أغلب من بحث في هذا الموضوع إذا ما استثنينا كتاب المستشرق ماكس هورتن عن (الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب لا يستعرض الفلسفة الإسلامية عرضا تاريخياً بل يتتبع الترتيب الفلسفي، ويعالج المواضيع معالجة خاصة لا تخلو من نواقص وهفوات.
على أن هنالك طائفة غير يسيرة من الفلاسفة ظهرت بعد ابن خلدون تركت تراثا فلسفياً مهماً وآثاراً خالدة في عالم الحكمة نبعت في أرض الشرق الأدنى، وفي القرن الحادي عشر الهجري وما بعد كونت جيلاً خاصاً عليه طابع فلسفي خاص.
وفي طليعة أسماء رجال هذا الجيل عربي سوري من جبل عامل هو الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجباعي العاملي المعروف (بالشيخ البهائي) (المتوفى عام 1030 للهجرة و1622 للميلاد) والمير باقي الداماد (المتوفى سنة 1041 للهجرة و1631 - 1632 للميلاد) والحكيم الشهير الملا صدرا (المتوفى سنة 1050 للهجرة و1640 - 1641 للميلاد) والملا محسن فيضي (المتوفى حوالي سنة 1091 للهجرة 1680 للميلاد) والملا عبد الرزاق اللاهيجي والحاج ملا هادي السبزوادي (المتوفى سنة 1295 للهجرة و1878 للميلاد).
وتغلب على فلسفة هذا الجيل الفلسفة الإشراقية الصوفية، ولذلك عدهم العلماء في عداد الفلاسفة الصوفيين الذين جمعوا بين الرياضة والمجاهدة وبين الحكمة الإشراقية التي ينسبها المسلمون عادة حين ينسبون هذه الفلسفة إلى أفلاطون
والإشراقيون هم أتباع المذهب القائل بحكمة الإشراق من تلاميذ المتصوف الإسلامي الشهير السهروردي المقتول عام 1191 للميلاد؛ غير أن الفلسفة الإشراقية تسبق عهد السهروردي بزمن طويل. وهذه الفلسفة (هي فلسفة روحانية لها في نظرية المعرفة مذهب(632/8)
صوفي وتعبر عن الله وعالم العقول بالنور. والمعرفة الإنسانية في هذا المذهب عبارة عن إلهام من العالم الأعلى يصلنا بواسطة عقول الأفلاك. وأكبر أصحاب هذا المذهب هم: هرمس وأجاثوديمن وانبدوقليس وفيثاغورس وغيرهم. ولأفلاطون صلة بهذا المذهب أكثر من صلة أرسطو به. وهؤلاء الفلاسفة يوصفون غالبا بأنهم أنبياء أو حكماء ملهمون. وقد تأثرت الفلسفة الإسلامية بهذا المذهب منذ نشأتها إلى وقتنا الحاضر تأثراً كبيراً. وأتباع مذهب المشائين في الإسلام متأثرون بالفلسفة الإشراقية بعض الشيء. وربما كان أقلهم تأثراً بها الفيلسوف ابن رشد).
نبغ رجال هذا الجيل في عهد الدولة الصفوية. والدولة الصفوية دولة قامت على أسس صوفية؛ ولذلك راج التصوف في هذا العهد رواجاً عظيما واكتسب صبغة رسمية! فلا عجب أن رأينا فلاسفة هذا العهد فلاسفة صوفيين يأخذون بطريقة الإشراقيين ويروجون الفلسفة الإشراقية التي هي أقرب فلسفة إلى مذاق وعقول المتصوفين.
أما أولئك الذين حملوا البذرة الأولى للحركة العلمية والفلسفية إلى هذه الدولة فقد كانوا من العلماء العرب من سوريا ومن العراق ومن البحرين لاقوا ترحابا والحكومة في حاجة إلى أنصار يؤيدون حركتها ووجدوا تشجيعا في كل مكان ومقام. وكان على رأس من هاجر من سوريا إلى إيران الشيخ الحسين بن عبد الصمد بن شمس الدين العاملي الحارثي من قبيلة بني همدان. هاجر على عهد الشاه طهماسب الصفوي فأسند إليه منصب (الشيخ الإسلام) والشيخ زين الدين علي العاملي المعروف بملشار وكان على رأس من جاء من البحرين الشيخ ماجد البحراني المشهور في علم الحديث والفقه.
درس على أيدي هؤلاء العلماء جماعة من المهاجرين العرب. ومن الوطنيين الفرس. وانتشرت بفضل هؤلاء الكتب العربية وتوسعت حركة التأليف بلغة القرآن. وظهرت طبقة فاقت مشائخها في العلم والشهرة على رأسها الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد العالم السوري المعروف المتوفى سنة 1031 للهجرة. ورث هذا العالم من أبيه الميل إلى التصوف والرياضة حتى عد في قائمة المتصوفين. ونبغ في العلوم الشرعية وفي الفروع الفلسفية على الأخص. وكتب في المعارف الإنسانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت فهو دائرة معارف عامة جمعت كل فن وموضوع.(632/9)
والبهائي صاحب الكشكول وإن كان حكيما ومتصوفا إلا أنه لم ينصرف إلى معالجة الفلسفة وقضايا التصوف انصرافاً كلياً بل عالج المسائل معالجة (الأنسكلوبيدي) الذي يهتم بكل شيء ويبحث عن كل شيء. لم يفعل ذلك في معالجة القضايا الفلسفية والمسائل الصوفية فقط، بل كان ذلك شأنه في كل المواضيع تقريباً (ولذلك كانت كل طائفة من طوائف المسلمين تنسبه إليها) (تراه يعظم كثيراً من الصوفية الأغوياء والملاحدة الأشقياء في جملة من مؤلفاته) مثل مدحه الحسين بن منصور الحلاج وجماعة من المتصوفة الذين تحوم حولهم الشبه. وهذا ما جعل بعض المتعصبين المحافظين أمثال المحدث الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني والعلامة المجلسي وفيض الله التفرشي وأمثالهم يضعفونه في كتبهم ولا يأخذون بروايته. ويغمزون في بعض ميوله ولاسيما في ميوله إلى المتصوفة والتصوف. على أن الرجل ثقة جليل القدر ولا يشك في وثوقه أكثر العلماء.
أما المير محمد باقي الاسترآبادي المعروف بالداماد وهو لقب ورثه من أبيه السيد محمد الذي تزوج من ابنة العالم العربي السوري الشيخ علي بن عبد العال الكركي فعرف به ومعناه (الصهر) فهو فيلسوف عميق التفكير قوي العقل تدل أبحاثه في كتابه (القبسات) على علم غزير في الحكمة والفلسفة ومواضيع علم الكلام.
أما فلسفته فهي فلسفة إشراقية وقد عرف لذلك (بالإشراقي) أو (الإشراق) وأما أشعاره فهي مشرقة الديباجة مسبوكة الأسلوب على طريقة الصوفيين الإشراقيين. وقد أثرت هذه الفلسفة على نفسية تلميذه الشهير المعروف بالملا صدرا وهو صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي أعظم الفلاسفة المتأخرين.
يقول صاحب كتاب روضات الجنات عن الملا صدرا (كان الملا صدرا فائقا على سائر من تقدمه من الحكماء إلى زمن الطوسي منفخاً أساس الإشراق ومفتحا أبواب الفصيحة على طريقة المشائين والرواقيين). ويقصد صاحب روضات الجنات بالمشائين الفلاسفة الأرسطو طاليسيين ويمثلهم كما يقول المستشرق الإنكليزي براون، ابن سينا خير تمثيل. وعلى هذا فتكون فلسفة الملا صدرا فلسفة معاكسة لفلسفة أرسطو وابن سينا كل المعاكسة. أما المستشرق الفرنسي كوبينوه فكان قد ذكر عنه إنه كان من الفلاسفة الذين استمدوا فلسفتهم من الفلسفة الأرسطوطاليسية ومن فلسفة ابن سينا الفيلسوف الذي كان بارعا في(632/10)
هذه الفلسفة دارساً لها وإن لم يكن مقلدا لها تمام التقليد.
والحقيقة أن رأي كوبينو الذي انتقده المستشرق براون هو المذهب الصحيح. فقد استمد الملا صدرا من المنبع الأرسطوطاليسي ومن فلسفة ابن سينا ما شاء أن يستمد؛ وقد سعى فيما بعد لبث فلسفة ابن سينا التي كانت قد اندثرت وماتت في نواحي إيران حتى وجه أنظار الطلاب والباحثين إليها. وقد كان أستاذه المير باقي الداماد من الحريصين على هذه الفلسفة فلا يستبعد أن يكون هذا الحب الذي نجده في كتب الملا صدرا من أثر ذلك التوجيه الذي رسمه أستاذه في كتبه ولاسيما في كتابه الفلسفي الشهير (القبسات). ويستمد الملا صدرا فلسفته في الواقع من منابع كثيرة أهمها أراء اليونانيين ولاسيما آراء أرسطو وتلميذه إبن سينا ومن أفكار المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي ومن تعاليم الدين الإسلامي. من القرآن والحديث والسنة النبوية وما جاء عن الأئمة من أقوال.
ولابن عربي المتصوف الشهير وصاحب الآراء المعروفة في عالم التصوف مثل رأيه في (وحدة الوجود) وأفكاره الأخرى التي تعارض ظاهرها الشريعة الإسلامية منزلة عظيمة في نظر الملا صدرا وفي نظر الفلاسفة الآخرين من أهل هذا الجيل. وقد تكون وحدة الرأي ووحدة المشارب والأفكار هي التي جمعت بين الاثنين بين محيي الدين بن العربي وبين الملا صدرا في المذهب الصوفي على تباعد الشخصين. وقد اتهم الملا صدرا نفسه بمثل ما اتهم به ابن العربي؛ ففي كتاب (الأسفار) وهو من أهم كتبه في الفلسفة (كلمات لا تلائم ظاهر الشريعة). وقد دافع عنه أتباعه وأنصاره بمثل ما دافع أتباع محيي الدين بن العربي وأنصاره عنه.
(يتبع)
جواد علي(632/11)
إعجاز القرآن والمقاييس البشرية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
طال الجدل بيني وبين الأستاذ سيد قطب في مسألتي التصوير الفني في القرآن، واستخدام المنطق الوجداني في إقرار عقيدة التوحيد
وأنا من زمن أعلنت أني أكره الجدل العلني في الصحف، ولا أرتاح إلى نتائجه على النفس والحق، لأنه كثيراُ ما يجر إلى مواقف لا يدفع إليها إلا التبرير الجدلي وحب انتصار الشخص لا انتصار الحق
وقد آثرت هذين الموضوعين في نقدي لكتاب الأستاذ سيد برفق وهوادة؛ فقلت بعد أن وفيته حقه من الثناء: (غير أنني أخشى أن تكون قد أفلتت لفظة أو اثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية في جو من المبالغة والتعميم). هكذا أثرت هذا النقد بهذا التعبير المتواضع الذي يكاد يكون استفهاما، حتى أجنب الموضوع مزالق الجفوة، ولا أجره إلى بعض النوازع النفسية التي لا تتصل به، إذ الجدل في المسائل العلمية خاصة يجب أن يكون خاليا كل الخلو من الملابسات الغريبة، وان يكون العقل في برودة وصرامته وحيدته هو المتكلم وحده
ولكن انظر أيها القارئ كيف انتهى جدل الأستاذ سيد معي في المقال الأخير حين يقول: (وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات (آيات سورة الأنبياء (أم اتخذوا آلهة من الأرض. . .) الخ). فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه، فهي في سياق القرآن شيء يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل). (إن القرآن يا سيدي لم يرد الأمر على النحو الذي تريد). (فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني)
ألا يشعر القارئ أن عنصرا دخيلا يتطرق إلى طريقة الجدل فيرفع حرارة المجادل ويفسد هدوء المناقشة؟
لا يا أستاذ سيد! أنا غير مستعد أن أسير في هذا الطريق. . . وقد سرني كثيرا أن أقرأ من(632/12)
قولك في مقدمة مقالك الأخير هذه العبارة: (وليست المسألة بيني وبين الأستاذ عبد المنعم قضية جدلية على طريقة المناظرات، وإنما هي حقيقة نود تجليتها، وإنه ليسرني من غير شلك أن ألتقي بالصديق في الطريق)
سرني هذا، ولكن ساءني ذاك، لأنه لا يعين على تجلية الحقيقة كما نود. . .
ولولا أن الموضوع يتصل بإعجاز القرآن من جهة، وبتجديد الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة لنفضت يدي من هذا الجدل في الصيف. ولآثرت أن أترك لك الكلمة الأخيرة تدافع بها عن رأيك بأي الأساليب تختاره، ولكن الموضوع موضوع قضية إعجاز الإسلام والعربية، وقضية أساس الفكر الإسلامي والديني الصحيح عامة، بل قضية الكون كله وأعظم شؤونه! قضية الوصول إلى عقيدة التوحيد. . . فلا عجب ولا ضير أن يطول الجدل بيني وبينك في هذا الشأن الخطير ما دمنا نحتفظ فيه بالهدوء وضبط الكلمات حتى لا تشذ كلمة جارحة. . .
- 2 -
أما القضية الأولى، وهي قضية (التصوير هو الأداة المفضلة في القرآن)، فقد وصل الحديث فيها بيننا إلى غايته بعد تكرار الأستاذ سيد اقتناعه برأيه فيها مرة ومرة، وبعد عجزي طبعا عن نقل كثير من الشواهد هنا للاستشهاد بها، كما فعلت بنقل النصوص التي وجهت نظره إليها، وأنا بالطبع ما أردت محاكمته إلى تلك النصوص وحدها، وإنما أحاكمه إليها والى أمثالها، وأمثالها هي الأكثر في القرآن
أما الربط بين (التصوير الفني)، سواء كان هو القاعدة العامة أم لم يكن، وبين سر الإعجاز في تعبير القرآن، فهو مكان الخطر في هذه القضية، لأنه يفسر إعجاز القرآن بأمور في مستوى الصنعة البشرية التي واتت وتواتي كثيرا من عباقرة البيان الذين يستخدمون التصوير الفني في مستوى رفيع فيه الوحدة والتناظر والتناسق وتقسيم الأجزاء وتوزيعها في الرقعة المعروضة، إلى آخر ما هنالك من سمات الطريقة، ولأن الربط بينه وبين سر الإعجاز يؤدي حتما إلى القول بأن المواضع الخالية من استخدام التصوير، سواء أكانت هي الكثيرة أم القليلة في القرآن ليس فيها إعجاز!
ذلك مفهوم كلام الأستاذ سيد، وهو مفهوم خطر!(632/13)
ولا يقولن ردا على هذا: (أحسب أن ليس هكذا تكون مقاييس الفنون!) كما قال إزاء الأمثلة التي ذكرته بها، لأننا لسنا أمام (كتاب فني) يقدر بمجموعه لا بأجزائه، بل أمام كتاب يتحدى بسورة واحدة منه (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله)
وليس بذي خطر في الموضوع أن يكون التصوير هو القاعدة العامة أو لا يكون، فانه إذا صح فلن يضير القرآن، وإذا لم يصح فلن يضير. ولكن الخطر الذي يضير، هو ذلك الربط بينه وبين سر الإعجاز، فواجب الأستاذ سيد كما أرى - وله رأيه - أن يراجع هذا الموضع، ويحذف كلمة (الإعجاز) من الجملة الأخيرة من صفحة 31، ويضع كلمة أخرى مناسبة
سيقول الأستاذ سيد في الرد على التعليل الأول لرفض الربط بين سر الإعجاز وبين التصوير ما قاله سابقاً (إن العبرة ليست باستخدام التصوير، ولكن بمستوى هذا التصوير من التناسق والحياة. . .)
وأرد عليه بما قاله الأستاذ الكبير العقاد في مناسبة شبيهة بهذه المناسبة، حينما كان ينقد كتاب المرحوم الرافعي (إعجاز القرآن) قال:
(وإنما الأساس فيها (المعجزة)، والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة وتشذ عن السنن المطرقة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيراً يطابق المعهود من سنن الطبيعة، لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها)
والأستاذ سيد يحاول أن يفسر سر الإعجاز في تعبير القرآن بهذا التصوير الفني فيطابق بهذا التفسير بين القرآن وبين المعهود من سنن الطبيعة في البلاغة البشرية العبقرية، يلحق القرآن بالآثار البلاغية الشائعة
وما أشبه ما حاوله في بيان الإيقاع الموسيقي في القرآن على إنه لون من ألوان التصوير الفني الذي يرتبط به إعجاز القرآن بما حاوله الرافعي في فصل (الكلمات وحروفها). وقد(632/14)
علق الأستاذ العقاد على هذا النحو الذي نحاه الرافعي في هذا الفصل بقوله: (هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه ترى إنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء هيهات أن يكون مقصوداً أو سارياً في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود (قيل يا نوح اهبط بسلام هنا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم)
(فإن كانت بلاغة الكتاب الكريم مرتهنة بذلك النسق الذي تصوره الأديب؛ فهل يناقض البلاغة في رأيه توالي الميمات الكثيرة والنون والتنوين في هذه الكلمات المتعاقبة؟ أو يظن الرافعي هذه الآية بدعا من الكتاب؟)
ما أردت بنقل هذين النصين وخصوصاُ النص الثاني من كلام الأستاذ العقاد الذي يجل آراءه الأستاذ سيد ونجلها جميعاُ، إلا أن أبين أن السر في إعجاز القرآن لا يمكن أن يخضع لمقاييس شائعة، ولا لقواعد بشرية يتناولها الجهد البشري بالتعديل والتغيير والتنقيح والنقد والرفض
فالحيرة القديمة التي كانت تمتلك عقول القدماء في فهم سر الإعجاز القرآني لا تزال تتجدد وتمتلك عقول المحدثين، ولن تزال كذلك ما دام القرآن معجزاً، وما دام الشرط في المعجزة أن تكون شاذة عن حوادث السكون الشائعة ولا يستطاع تفسيرها.
وحسن جداً من الأستاذ سيد، وتوفيق يهنأ عليه أن يكشف عن معالم للجمال الفني في القرآن يجليها وان يصف آثارها في النفس وعجبها منها وانفعالها لها، ولكن من غير الحسن فيما أرى أن يربط بينها وحدها وبين سر الإعجاز
وموعدنا المقال الآتي في الرد على اعتراضات الأستاذ سيد على ما أسماه (المحاولات الذهنية) التي حاولت بها أن أكشف ما في آيات الوحدانية بسورة الأنبياء من استخدام ضروب الأدلة الذهنية جميعها، وأشكر الأستاذ سيد أن أتاح لي فرصة الكشف عنها صدفة لأول مرة فيما أعلم، لتضاف إلى أسرار القرآن الكثيرة التي تكشف عنها الأيام فيما تحت (سطحه التعبيري)
عبد المنعم خلاف(632/15)
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ظل حال التعليم هكذا حتى تولى أمر الحجاز عاهل الجزيرة العربية الملك عبد العزيز فعمل جاهدا على نشر الثقافة في هذه البلاد لتساير النهضة القوية في البلاد العربية الشقيقة، وقد استطاع في هذه الفترة الوجيزة من الزمان أن يخلق في الحجاز جوا علميا حديثا يغبط عليه الحجاز الآن فهو يبشر بمستقبل قريب محقق.
والذي يدعو إلى الغبطة أن التعليم الأساسي (الأولى) والتعليم الابتدائي قد أديا رسالتهما في الحجاز في المدن على الوجه الأكمل حتى إنك لتجد الكثرة الغامرة من البنين والبنات في هذه المدن يجيدون القراءة والكتابة، فإذا نحن تجاوزنا هذا النوع من التعليم إلى ما هو أرقى منه وجدنا ابن السعود يجاهد في إحيائه ويعمل على نشره ليخرج من الحجازيين صفوة صالحة تبني الحضارة الجديدة على أسس صالحة قوية، قد عارض في هذه السياسة الحازمة الرشيدة في بادئ الأمر المعارضون من أهل نجد، ولعل جلالة الملك قد لقي في هذا الصدد ما لاقاه محمد علي باشا في بداية النهضة المصرية حينما كان يحمل الناس على التعليم حملا فيلاقي منهم انصرافا وإعراضا.
ومن ثم صار في الحجاز في العهد السعودي مدارس ثانوية متعددة تسير مناهجها على غرار المناهج المصرية وتعد الطلبة للحاق بالجامعتين المصريتين، ويقوم بتدريس بعض المواد فيها أساتذة مصريون ليوحدوا بين الثقافتين ويؤلفوا بين الاتجاهين حتى إذا ما وفد الطلبة الحجازيون إلى مصر وجدوا أنفسهم بين إخوان لهم قد اتحدت ثقافتهم وتقاربت مداركهم.
وفي الحرمين الشريفين الآن تدريس للعلوم الشرعية واللسانية ينهض به علماء مصريون وحجازيون ونجديون وعلماء من شنقيط ويسير التدريس فيهما على نظام الحلقات حيث يلتفت الطلبة حول أستاذهم يستمعون إليه وهو يلقي درسا في الحديث أو التفسير أو الفقه أو النحو والصرف. وهذا اللون من التعليم يكاد يكون عاما شاملا لأهل مكة والمدينة، وينتظم في الحلقة الواحدة الكثير منهم على اختلاف أسمائهم وتباين أعمالهم؛ فتجد تلميذ(632/16)
المدرسة بجانب التاجر أو العامل قد أصغى كل واحد في اهتمام إلى ما يلقيه الأستاذ في وقت الفراغ من العمل. والجميل في هذا النوع من التعليم أن الحجازي لا يحجم عن الانتظام في سلكه مهما تقدمت به السن، وهو كذلك يتعلم رغبة في العلم، وطلبا لإدراك أسراره ولا يريد من وراء ذلك عملا ولا شهادة.
والنقص الظاهر في علوم الحرمين خلوها من الآداب فليس من بينهم من يتصدى لتدريس النقد والسرقات أو تاريخ الأدب والنصوص حتى يأخذ بيد المتعلمين إلى فهم الأدب وتذوق أسراره ومعرفة مواطن الجمال فيه.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن التعليم على اختلاف أنواعه في الحجاز يخرج علماء حفظة، ولا يخرج أدباء قادرين.
فكيف إذا استطاع أدباء الحجاز أن ينهضوا هذه النهضة وأن يبلغوا هذه المنزلة في الشعر والنثر؟
إن الفضل الأكبر في ذلك راجع إلى الاطلاع الحر والمجهود الذي يبذله الأديب معتمدا على نفسه في قراءة الكتب التي تحلو له وتتفق وذوقه. وهذا المجهود ملحوظ ظاهر في ناشئة الحجاز إذ لا يكاد الطالب في المدارس الابتدائية وغيرها ينال قسطا من التعليم حتى تتوق نفسه إلى الاستزادة من الأدب العربي والثقافة العامة الواسعة، وغاية يأمل الشادي في الأدب منهم أن يستطيع بعد القراءة الدائمة أن يصل إلى نظم الشعر ليلقى في المحافل أو كتابة النثر في الجرائد فإذا ما وصل إلى هذه الغاية تجددت له آمال أخر فواصل القراءة ودأب على التحصيل حتى يصبح من الشعراء المعدودين في هذه البلاد.
هذا الروح وهو الاطلاع الحر ولده في الحجازيين إكبارهم لماضيهم وعنايتهم بمجدهم السابق وأملهم الواسع العريض في أن يعود ذلك المجد قوياً ثابتاً كما بدأ في هذه البلاد، فقد علموا أن أقرب طريق يوصلهم إلى بغيتهم إنما هو طريق الاعتماد على النفس في استيعاب الآداب القديمة والحديثة والمعارف المنقولة إلى لغاتهم.
ولعل الذي مهد لهم سبيل الاطلاع، فراغهم في كثير من الأوقات، وبخاصة في غير موسم الحج - عندئذ يجدون عندهم الوقت متسعا للاستزادة واستيعاب ما حوته الكتب. وثمة سبب ثالث هو خلو بلادهم مما يشغل الناس في الأقطار الأخرى من ضروب اللهو ومفاتن(632/17)
المدنية؛ فأعمال الحجازي مقسمة بين العمل والعبادة والتعلم.
والكتب التي يطلع عليها الحجازيون كثيرة متنوعة: فهم يقرءون الكتب العربية القديمة ليتأثروا صياغتها وأساليبها ويجدون هذه الكتب هناك في المكتبات العامة التي احتوت على كثير من الكتب وبعضها فريد نادر، وهم كذلك مولعون بشراء ما يطبع منها في بلادهم وفي الأقطار الأخرى.
غير أن عنايتهم بالكتب الحديثة تفوق عنايتهم بالكتب القديمة؛ فهم يقرءون كل ما يصدر منها في مصر والشام والعراق وأمريكا وإقبالهم على هذه الكتب بالغ حد الإعجاب؛ فلا تجد هناك شادياً في الكتابة ولا بادئاً في الشعر إلا وهو يعلم عن أدبائنا المصريين ما يجهله كثير من المصريين المتعلمين، ثم هو يحيط بإنتاجهم ومؤلفاتهم إحاطة وافية ويدرك منازعهم وطرائقهم: فليس منهم من يجهل مؤلفات الدكتور طه حسين بك، والدكتور هيكل باشا، والأستاذ العقاد، والأستاذ أحمد أمين بك، والأستاذ (الزيات)، والدكتور زكي مبارك وغيرهم، بل ليس منهم من يجهل أسلوب كل واحد من هؤلاء وخصائصه والموضوعات التي أجاد فيها وهو يحدثك عن كل أديب حديث الواثق الملم بما يقول. ولا تقف معرفتهم هذه عند حد الإعجاب بالأدب: فهم يختلفون إزاءه أحزاباً؛ هذا يفضل أسلوب الزيات لروائه ورونقه، وبراعة تصويره؛ وذلك يفضل أسلوب العقاد لدقة تعبيره، وتسلسل معارفه وقوة حجته، وآخر يتحيز لأسلوب الأستاذ أحمد أمين بك لعمق الفكرة والاستقصاء، والدقة في الأداء، وغيره يؤثر أسلوب الدكتور طه حسين بك معجبا بسهولته وتجليته للحقائق. وهكذا، وقد يتخذون من أدب هؤلاء وغيرهم مجالا للنقد والتحليل فتزخر صحفهم ومجلاتهم بنقدهم للأدب المصري. وما قلناه في تأثرهم بالأدب المصري نرى مثله في تأثرهم بالأدب الشامي والعراقي، وأدب المهجر بأمريكا.
ولكن أي هذه الآداب أشد تأثيرا في أدب الحجازيين؟ يقول الدكتور هيكل باشا: (إن عنايتهم بالأدب المصري تفوق عنايتهم بالآداب الأخرى).
وهذه العناية التي يذكرها هيكل باشا لم تكن إلا في السنين القليلة الأخيرة حينما فاقت مؤلفات المصريين مؤلفات غيرهم في بلاد الحجاز وحينما راجت صحفهم هناك، ولكن الأساس الذي بني عليه الحجازيون أدبهم والمعين الذي استمدوا منه مناهجهم إنما هو أدب(632/18)
المهجر؛ ولذلك نراهم إلى الآن متأثرين اشد التأثر بأساليب هذا الأدب وطرائقه وإن مالت طائفة منهم إلى اتباع طريقة المصريين وفي بيان هذه الحقيقة يقول الأستاذ أحمد العربي: (أما أدب اليوم فهو وإن كان أدبا فنيا ما يزال في الطور الأول من أطوار نموه ونضوجه، فهو ماض في طريقه إلى الأمام، سائر بخطوات ناجحة موفقة لا يسع المنصف تجاهلها أو الغض من شأنها. ويرجع الكثير من الفضل في ذلك إلى آثار أدباء العربية العصريين التي تجاوب صداها في الشرق العربي فكان لها أحسن الأثر في توجيه الأدب العربي وتلقيحه بلقاح الحياة والطرافة والتجديد، وقد كان أثر أدباء المهجر من السوريين أقوى وأظهر في أدبنا الحديث حتى عهد قريب. أما الآن فقد بدأ يتحرر قليلا من قيود التقليد وأخذ يسند ساعده وإن كنا نجد لنفثات أقلام الأدباء المصريين أثراً متميزاً في هذه السنوات الأخيرة) ومع أن ثقافة الحجازيين لا تعدو الثقافة العربية، لأنهم لم يختلطوا بالأوربيين كما اختلط غيرهم إلا أنهم في العهد الأخير قد استطاعوا أن يستوعبوا الكثير من ألوان هذه الثقافة استيعابا يغبطون عليه: فهم يقرءون الكتب المترجمة عن هذه اللغات، وهم يقرءون إنتاج المتأثرين بالثقافات الأجنبية من أدباء مصر والشام والعراق وأمريكا في شوق وعناية، وقد استطاعوا باطلاعهم الحر على هذه الثقافة أن يثبتوا وثبة فكرية موفقة بدت آثارها فيما يكتبون ويشعرون.
وإلى عهد قريب لم يكن لتعليم اللغات الأجنبية نصيب في مناهج التعليم الحجازي، فأحس الأدباء حاجتهم إلى معرفة هذه اللغات ليتصلوا بالنهضة المتوثبة في بلاد الغرب. ويعبر عواد عن هذه الحاجة قائلا: (كم هي شديدة حاجتنا في الحجاز إلى اللغة الإنجليزية خصيصاً وإن عليها لمعولا ضخما في استعمال العلاقات بيننا وبين هذا الشعب الإنجليزي الهائل، فيجب أن يفهم كيف يستفيد من تلك العلاقات على اختلافها وتنوعها وكيف نستخدمها في مصالحنا فردياً وأمميا.
إلى أن يقول: من العبث أن يستغني الحجاز عن رواج اللغات الأجنبية ولاسيما الفرنسية والإنجليزية في مدارسه ومجتمعاته ونواديه رواجا لا كرواج العربية لغة حياتنا الأولى، لغة سيرنا إلى الأمام وإنما أقول: لنتكلم اللغة العربية ولكن لنتعلم اللغة الأجنبية أيضاً لنستفيد منها حضارة وعلوماً وأفكاراً) وقد تعلم بعض الحجازيين في العهد الأخير بعض هذه اللغات(632/19)
ولكن هؤلاء لا يزالون أقلية، وقد اعتمد كثير منهم في تعلم اللغة الإنجليزية على السفر إلى الهند والإقامة هناك، كما أن أهل المغرب الذين استوطنوا الحجاز حديثا يعلمون اللغة الفرنسية إلى درجة يستطيعون بها الترجمة عن هذه اللغة.
وقد جعل جلالة الملك عبد العزيز تدريس اللغة الإنجليزية من منهجه الإصلاحي فاستقدم المدرسين المصريين لتدريس هذه اللغة بمدارس الحجاز، واستطاع الطلبة هناك أن يعلموا منها ما يعلمه الطلبة المصريون في المدارس الثانوية، ولكن هذا كله لا يعدو في حاضرة البذرة التي ستنمو وتثمر في مستقبل الأيام، ولم يظهر لتعلم هذه اللغة أثر يذكر فيما نحن بصدده وهو نقل الثقافات الأجنبية إلى اللغة العربية نقلا يتجلى فيه الإلمام والبراعة، ولذا نستطيع أن نقول: إن ثقافتهم الأجنبية لا يقعون عليها بأنفسهم ولكنها تصل إليهم في الكتب المصرية وغيرها. وسوف ينهض بهذا العمل الخطير في المستقبل أعضاء البعثات الحجازية بعد أن يعودوا إلى بلادهم، فيتحقق بذلك للبلاد المقدسة أملها البعيد ورجاؤها المحبوب
(الفيوم الثانوية)
أحمد أبو بكر إبراهيم(632/20)
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
حينما ندرس حالة العالم بعد هذه الحرب يتبين لنا بوضوح أن تاريخ الإنسانية لم يعرف عهداً مملوءاً بالانقلابات المتتابعة والتغييرات السريعة التي يتميز بخروجها عن كل قاعدة، ومخالفتها المألوف والمعهود مثل ما نراه أمام أعيننا اليوم
فهل بوسعنا أن نستخلص، بعض القواعد العامة، أو الاتجاهات؟ أو نضبط شيئاً من العلائق التي تربط بين الأسباب وبعضها، أو بين الأسباب والظواهر؟ أو نستبق الحوادث فنكتشف شيئا مما قد تأتي به الأيام المقبلة؟
يصعب ذلك علينا نظراً لتتابع الحوادث، ولكن الظروف التي مرت بالعالم بين حربين، والدروس التي ألقاها علينا تاريخ المائة سنة الماضية، قد تمهد لنا الطريق، وتسهل لنا السبل لتكوين فكرة تقرب من الصواب، بل يمكن أن تساعدنا على تحديد بعض النتائج التي حصلت عليها الإنسانية بعد خروجها من حربين عالميتين
كانت المائة سنة التي سبقت الحرب الماضية مملوءة بالحوادث الكبرى، فهذه الفترة التي تقع بين 1815 - 1914، أي بين مؤتمر فينا وإعلان الحرب العظمى الأولى، فترة فذة في تاريخ البشرية: لأنها بدأت بتأكيد مبدأ القوميات والمناداة بتحرير الشعوب واستقلالها، ثم خضعت لفكرة حفظ التوازن بين الدول الكبرى الأوربية، وكانت هذه المائة سنة فترة الثورات التي نقلت أوربا من عهد الإقطاع وبقايا القرون الوسطى، إلى عهد الصناعة الآلية وما يلازمها من تنازع الطبقات وتضخم المدن ونمو الرأسمالية وبروزها كعامل أساسي في حياة الشعوب الأوربية
كانت هذه الفترة كل هذا، ولكن ما هو أكبر مظهر لهذه المائة سنة؟
لا يتردد الآن أي مخلوق في أن يعترف أن هذه الفترة من الزمن كانت عصر التوسع الاستعماري الجارف
وما معنى هذا؟ الذي يبدو لنا في سنة 1914 ويمكن إبرازه ظاهراً ملموساً هو ما يأتي:(632/21)
إن الدول التي توسعت في أملاكها وازدادت علاقاتها بالأمم المحكومة، قد أخذت تتحول من دول أوربية إلى دول ذات صبغة عالمية!
كيف تم هذا التحول؟ وكيف دخلت الدول الكبرى ميدان الاستعمار فأصبحت غير قادرة على التراجع والانكماش بعد أن ذاقت طعم حلاوته؟ كل هذا يمكن درسه وبحثه إذا عرفنا شيئا عن أثر المائة سنة الماضية وتطوراتها
فمن المسلم به أن بعض الدول كانت تملك المستعمرات، وكانت تعرف طريقة الاستغلال - قبل المائة سنة التي أشرنا إليها - ولكن نشاطها كان محدودا، وفي دائرة ضيقة، ولم يكن اتصال هذه الدول بمستعمراتها أو اعتمادها عليها بالقدر الذي وصلت إليه في الفترة الأخيرة، بل حصل ما هو أكثر من ذلك، إن البشرية لم تعرف زمناً، في كل عصورها السالفة بلا استثناء. خضعت فيه شعوب العالم المختلفة بمدنياتها وتقاليدها، بل وبمعاشها لحكم الأوربيين مثل العهد الذي جاء بين ابتداء القرن التاسع عشر وابتداء القرن العشرين
ففي هذه اللفتة من الزمن، اشتد التنافس والتسابق والتزاحم بين دول أوربا الكبيرة والصغيرة، القديمة منها والناشئة، لدرجة أن وصل إلى المناطق المتجمدة والصحارى القاحلة، فأصبح الجليد والصخر والرمال ميداناً لكل هذا
فكل بحث أو دراسة لشئون العالم، وكل قاعدة نستخلصها يجب أن يسبقها تعرف هذا التوسع وأثره وأهميته، ولكي تعرف بالضبط العلاقة بين الشعوب المحكومة والحاكمة، ولكي يحدد مركزنا وموقف الأجيال القادمة من هذه السيطرة وعلاقتها بآمال الشعوب ومقدراتها ومستقبلها
فلنتساءل عن أول أثر لهذا التحول أو التطور العالمي الذي أوجد أمماً قوية سائدة وأمماً ضعيفة خاضعة؟
كان من أثر هذه السيطرة الأوربية أن فنيت بقايا المدنيات القديمة التي حملتها أراضي الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، بل اندثرت وتلاشت أمام مدنية الأوربيين وتفوقهم المادي والعسكري
هذا هو الأثر السلبي، أما الإيجابي، فقد كان من أثر هذه السيادة أن ازداد سكان المعمورة، لأن سكان المستعمرات قد تكاثروا وتناسلوا فكثر عددهم وأصبحت هذه الزيادة في السكان(632/22)
مظهرا من مظاهر هذا الاستعمار الأوربي، والذي يدعو للدهشة أن هذه الزيادة في السكان لم تعرفها الإنسانية من قبل في أي عصر من عصورها السالفة
ثم كان من نتيجة هذه السيطرة وما تبعها من تنافس وتصادم أن ارتبطت أنحاء العالم بطرق مواصلات سهلة تعذر القيام بالثورات، كما أثر على علاقات الشعوب المحكومة، لأن هذه الأمم التي جهلت نفسها، وجدت أمام سهولة الانتقال والتعارف في مركز يسمح لها أن تستعيد العلاقات والروابط التي كانت قائمة بينها ثم انقطعت
ولما استقرت سيادة الأوربيين وسيطرتهم على أنحاء الدنيا وأمنوا أن تقوم الشعوب ضدهم، وظهر التفوق العسكري، وعرفوا طريقة تجنيد المرتزقة وكتائب الجنود الملونة، فألقى عليها عبء القتال واستتباب الأمن، انتقل الاستعمار من ميدان الفتح واستعمال العنف إلى ميدان جديد: نعم اتجهت في النصف الثاني من القرن الماضي إرادة الدول المستعمرة إلى الاستعانة بالعلم والاقتصاد على تنظيم استغلال ثروات ومرافق هذا الكوكب الأرضي، واقترن ذلك باندفاع نحو السير بهذا التطور الجديد نحو أهداف عالمية، أي اتجهت هذه الحكومات وهيئاتها الاستعمارية إلى تحقيق فكرة سيطرة الإنسان على أفق الحياة وإخضاع الطبيعة لسلطانه وإرادته بكل ما في العلم من قوة ثائرة، وما في الاقتصاد من قوة منتجة
أما من الناحية السياسية، فقد اخرج القرن الماضي لدى الدول التي تقدم لديها الوعي الاستعماري نشاطا أشد خطراً وأعمق أثراً وهو الدراسات العلمية والنفسية وتطبيقها على إدارة المستعمرات وفي حكم الشعوب المغلوبة على أمرها
لقد أصبحت هذه الدراسات أقوى دعامات سيطرة الأوربيين ودليل تفوقهم، بل برهان تمكنهم من قيادة الشعوب التي يحكمونها، أو كإحدى مظاهر الطبيعة التي ألانوا قناتها وأخضعوها لمشيئتهم في عالم الجماد والحيوان
(للكلام بقية)
أحمد رمزي
-(632/23)
النظام الزراعي في بلاد السوفييت
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
بقية ما نشر في العدد الماضي
المزارع التجمعية
كان تسعة أعشار الروسيين إلى عهد قريب فلاحين، وفي سنة 1941 كان الثلثان من سكان الروسيا السوفيتية يعيشون في القرى، وكان أكثر من نصف السكان يعيشون على فلاحة الأرض، فالزراعة في روسيا كما في غيرها من البلاد سبيل للحياة لا وسيلة للعيش فقط كما يقول بذلك بافلوفسكي المؤرخ الزراعي الروسي، وقد استمرت الزراعة في الروسيا وسيلة لعيش ملايين من الخلق وسبيلا لحياتهم، أما الحياة الصناعية فإنها لا تزال وسيلة إضافية
وكان الفلاح الروسي قبل الثورة عبدا مسخرا لطبقة النبلاء والأشراف، فحرره السوفيت ووضعوه على قدم المساواة بسكان البنادر، ولا يزال الفلاح الروسي العمود الفقري للهيكل الاقتصادي السوفيتي، فهو الذي يدفع نحو ثلاثة أسباع مصروفات الدولة غير ما يدفعه من الضرائب غير المباشرة، وقد ضمنت له الحكومة مقابل ذلك حقوقه كاملة في نظام المزارع التجمعية التي هو عضة فيها، وفتحت له أبواب الفرص على مصراعيها لتثقيف نفسه وأولاده وأبعدت عنه مشاق العمل الجسماني المضني في الزراعة بإدخال الزراعة الآلية الحديثة ونظمت له الإدارة تنظيما جعله يستفيد من أوقات فراغه الكثيرة بالثقافة الريفية العامة والتعليم الزراعي. والفلاح في نظر السوفييت عامل كعامل المصنع لا يختلف عنه في شيء إلا في كونه يعمل في الهواء الطلق على نظام حساب القطعة فيختلف ما يتقاضاه من الأجر باختلاف مقدرته على الإنتاج.
وغرض السوفييت من إلغاء الزراعة الفردية التي كانت من خصائص النظام القديم القيصري وتحويلها إلى النظام الزراعي التجمعي هو أن تجول المزارع إلى مجموعة من مصانع زراعية يعمل فيها العمال تحت قبة السماء. وهذا النظام الجديد إنما هو وليد عبقرية مبتدعة لأنه نظام يجمع بين قوة الفردية ومزايا الاشتراكية، وهو نظام غير ثابت(632/24)
في تفاصيله لأنه يتكيف حسب نتيجة التجارب والتعلم من الأخطاء طبقا للعقيدة السوفيتية المشهورة المحببة إليهم. وقد استفاد السوفييت من المفعول السحري للألقاب على عقول الجمهور فاستبدلوا بألقاب الفلاحين التي كانت تشعرهم بالمهانة والتحقير أخرى ترفع نفسيتهم وتشعرهم بعزة النفس والأنفة؛ فسموا (كلاف الخنازير) باسم (خبير الخنازير) ولقبت زوجته (باللبانة) وسمحوا لها بالالتحاق بالمجموعة النسوية في المزرعة التجمعية. ويعتبر السوفييت المزارع التجمعية في حرفة الزراعة كاتحادات العمال في الصناعة؛ فهي عبارة عن هيئة تنظيم الفلاحين وتوحدهم لمصلحتهم؛ وهي فضلا عن كونها هيئة تعاونية للإنتاج فإنها تعمل في الوقت نفسه لمصلحة أعضائها من الفلاحين فتزودهم بإعانات أثناء مرضهم، وبمعاشات عند بلوغهم السن، وبالتعليم المجاني وتنظيم ساعات فراغهم من حيث الانتفاع بها في النوادي والرحلات والساحات، وتحصل لهم على خدمات خاصة من الحكومة كتعليم الأطفال والعناية بصحتهم وإنشاء مدارس الحضانة ورياض الأطفال وبيوت المسامحات وإعطائهم إجازات سنوية أسبوعين في السنة بأجر كامل والقيام بجميع التأمينات لهم مجانا. ولا يشتغل الفلاح في هذه المزارع التجمعية أكثر من ثماني ساعات في اليوم.
أشكال المزارع التجمعية
والمزارع التجمعية على ثلاثة أشكال، أبسطها ما كان عبارة عن شركة لزراعة الأرض أو رعي الماشية وتربيتها كما هو موجود فعلا في مناطق البدو في جمهورية قازقستان وفي بعض مناطق شمال القوقاز.
وأعقدها هي المزارع الشيوعية الكاملة التي تكون فيها الأرض والآلات والماشية وكافة المنشئات مندمجة في بعضها البعض ومشاعا بين أعضائها فيعيش الكل فيها معيشة شيوعية في مبان شيوعية ويأكلون من مطبخ واحد وفي غرفة طعام واحدة، وليس لأحد منهم شيء خاص يمتلكه لنفسه اللهم إلا حوائجه الشخصية. ولا يزيد عدد هذه المزارع الشيوعية المطلقة عن 1 % من المجموع الكلي للمزارع التجمعية. أما النوع الثالث وهو يكون الأغلبية الساحقة من المزارع التجمعية فهو المسمى (كلهوز) وفيها يحتفظ الأعضاء بمساكنهم الخاصة لكل عائلة بيتها وقطعة أرض ملحقة به لتزرعها العائلة لحسابها ولتربي(632/25)
فيها الدواجن والحيوانات الصغيرة لا يشاركهم فيها أحد؛ وبذلك تحافظ كل عائلة على استقلالها في معيشتها. أما ما يتبقى من أرض المزرعة وحيواناتها فتستغل على المشاع فيعطى كل فرد حقه من الإنتاج حسب مقدار عمله. وفي هذا النوع الأخير من المزارع التجمعية تظهر فردية المزارع وشخصيته ومقدرته على أوضحها. ويسمي السوفييت هذا النوع من المزارع التجمعية باسم (كلهوز) ومعناه بالروسية منشأة أو مزرعة اقتصادية تجمعية، ويدل هذا التعريف على أن المزارع التجمعية ملك للدولة ولكن لأعضائها حق الانتفاع الدائم بها في حدود قيامهم بالالتزامات التي يحتمها عليهم الدستور والقانون.
وقد بدأ عهد المزارع التجمعية في سنة 1929 ولم يمض عليه ثلاث سنوات إلا وأصبح 61 5 % من الأراضي الروسية مزارع تجمعية وفي سنة 1938 ارتفعت هذه النسبة إلى 3 99 % إذ بلغ عدد المزارع التجمعية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي 000 242 مزرعة. وقد أصبحت بلاد السوفييت في بدء هذه الحرب أكثر بلاد العالم مساحة في الأراضي الزراعية وأعظمها تقدما في وسائل الزراعة الآلية الحديثة وذلك بفضل نظام الزراعة التجمعية. كما ازدادت بفضله مساحة ما يخص العائلة من أرض الزراعة من نحو 17 فدانا في المتوسط في العهد القيصري (مع مراعاة أن نحو 50 % من فلاحي ذلك العهد لم يخص العائلة الواحدة منهم أكثر من 2 , 5 إلى 5 فدادين) إلى متوسط 48 فدانا في عهد المزارع التجمعية وإلى نحو 120 فدانا في بعض المناطق مثل سيبريا العربية.
وتختلف مساحة مزرعة الكلهوز كثيرا من منطقة لأخرى، فتبلغ مساحة الأرض المزروعة فيها أقل من 600 فدان في المناطق الشمالية وفي روسيا البيضاء والقوقاز وآسيا الوسطى الإسلامية. وتزيد عن 1300 فدان في أوكرانيا وتبلغ نحو ستة آلاف فدان أو أكثر في حوض الفولجا. وعلى العموم تبلغ مساحتها في المتوسط نحو 1600 فدان. ومتوسط عدد بيوتها أي عائلتها 95 بيتا ولكنها تكون أقل من خمسين بيتا في الشرق الأقصى والمناطق الشمالية النائية و133 في أوكرانيا و152 في شمال القوقاز
وقد زادت مساحة الأراضي المزروعة في بلاد الاتحاد السوفيتي بفضل هذا النظام بمقدار 11 مليون فدان في سنة 1940 عما كانت عليه في العهد القيصري في سنة 1913 وهذه الزيادة تشمل نحو 40 مليون فدان من الغلال ونحو 18 مليون فدان محصولات صناعية(632/26)
ونحو 15 مليون فدان بطاطس وأكثر من 38 مليون فدان من محصولات العلف.
ويتراوح عدد بيوت (أي عائلات) المزرعة التجمعية الواحدة بين 50 بيتا في الشرق الأقصى والمناطق الشمالية النائية و133 بيتا في أوكرانيا و152 بيتا في شمال القوقاز. ولكن متوسطها كان قبل هذه الحرب 78 بيتا وعدد أعضائها 342 شخصا منهم 149 من العمال الشغالين الذين لا يقل عمر الواحد منهم عن 16 سنة
ويعمل عمال المزارع التجمعية في نظام يشبه نظام عمال المصانع؛ فمواعيدهم محددة، ولكل فرقة رئيسها. ويعاقب المذنب بعقوبات تتناسب مع جرمه وذلك طبقا لأوامر الحكومة الصادرة في أبريل سنة 1938 التي تنص على أن أي عامل ذكرا كان أو أنثى يرتكب ما يخل بالنظام الداخلي للمزرعة يعاقب بالتوبيخ العلني أو بالتشهير بكتابة اسمه على السبورة السوداء. أو بتغريمه، أو بإنزاله إلى عمل أدنى من عمله، أو بتشغيله مدة معينة بدون أجر، أو بالطرد من المزرعة بعد موافقة جمعيتها العمومية بأغلبية ثلثي الأعضاء
وتقبل المزارع التجمعية النساء في عضويتها على قدم المساواة مع الرجال على أن يقمن بالعمل الذي يتفق مع طبيعتهن وأن يرتقين كما يرتقي الرجال وأن تقبض المرأة أجرها بنفسها، فترتب على إعطاء الحرية للمرأة الفلاحة الروسية عدم تقييدها بقيود المعيشة المنزلية فأنشئت من جراء ذلك المطاعم العامة الشيوعية والمغاسل العامة وبيوت الحضانة ومعاهد الأطفال للعناية بهم أثناء عمل أمهاتهم في النهار وأنشئت مدارس للأولاد الأكبر سناً.
وتدفع المزارع التجمعية ضريبة دخل للحكومة. ولكن الضريبة الحقيقية هي ما يعود على الخزانة من البيع الجبري لمحصولاتها ومنتجاتها. والواقع أن الفلاح الروسي يدفع الآن ضريبة مباشرة للحكومة بين 15 % و18 % من مجموع محصولاته عدا الضريبة غير المباشرة التي يدفعها بالنسبة لاستهلاكه. وتجبي الحكومة الضريبة المباشرة عينا فترتب على ذلك أن أنشأت الحكومة أهراء للغلال التي تجبيها ليس لها مثيل في العالم. ولا يمكن لأي دولة غير شيوعية أو اشتراكية أن تشيد مثلها. وأقامت الحكومة السوفيتية وسائل ومصانع للانتفاع بالمحصولات المختلفة الأخرى التي تجبيها عينا كالألبان مثلا؛ فأنشأت مصانع هائلة للألبان ومشتقاتها في مناطق تربية الماشية ومصانع السكر في مناطق زراعة(632/27)
البنجر وهلم جرا.
من هذا يتضح لنا أن نظام الزراعة التجمعية يتطلب دقة فائقة وعناية للانتفاع بمحصولات البلاد على أكمل وجه وتوزيعها توزيعا اقتصاديا يعود بالنفع على كل فرد من أفراد الأمة. كما إنه يمكن البلاد من الانتفاع بفضلات المحصولات انتفاعا علميا. والدليل على ذلك أن قومسارية الأغذية تنتفع بفضلات المحصولات إلى أقصى حد في صناعة الأغذية فتحسنت بسبب ذلك حالة الأغذية في المدن بعد سنة 1933.
ولا جدال في أن جباية الحكومة ضريبة عينية من اللبن عن كل بقرة قد أدى إلى اهتمام الفلاحين بتحسين البقر الحلوب وإيجاد عشرات منه أكثر إدرارا. كما أن ازدياد حاجة الزراعة إلى الأسمدة أدى إلى الإكثار من الماشية والى إنشاء مصانع الأسمدة الكيميائية على نطاق واسع.
وقد أدت طريقة دفع الأجور على حساب القطعة إلى تسابق الفلاحين في العمل ومباراتهم في ابتداع الوسائل الكفيلة بسرعة إنجازه وإتقانه فزادت غلة المحصولات في كثير من الحالات زيادة مدهشة
وقد أقام السوفييت في سنة 169 - 40 معرضا زراعيا عاما في موسكو استعرضوا فيه أوجه نشاط المزارع التجمعية وإنتاجها ودرجة تقدم الحياة الاجتماعية فيها فاتضح منه جليا أن المزرعة التجمعية وحدة زراعية نموذجية للإنتاج كاملة بعمالها وآلاتها الزراعية ومبانيها ومواشيها فهي تضم كل مستحدث في الفنون الزراعية مما يسهل العمل لعمالها ويجلب الراحة والهناء والسعادة والرخاء والصحة لهم. وقد بلغ عدد حظائر تربية الماشية التابعة للمزارع التجمعية عند بدء الغزو الألماني لبلاد السوفييت 618000 حظيرة تحوي نحو 18 مليون من حيوانات الفصيلة البقرية و7 ملايين خنزير و33 مليون من الغنم والماعز. وفي كل مزرعة مهندس زراعي وخبير للتقاوي وخبير لتربية الماشية وطبيب بيطري وخبير لفلاحة البساتين وميكانيكيين، وقد بلغ عدد المتخصصين تخصصا علميا في فروع الزراعة المختلفة في المزارع التجمعية ببلاد السوفييت 322000 من مهندسين زراعيين وخبراء في شتى شؤون الزراعة وبيطريين
وليس أدل على نجاح نظام المزارع التجمعية مما وصل إليه رخاء أعضائها. فقد وصل(632/28)
دخل الفلاح السنوي في بعض المزارع التجمعية إلى 2400 روبل علاوة على ثلاثة أرادب مصرية وثلث أردب من القمح و600 رطل من الخضروات و300 رطل من البطاطس و300 لتر من الخمر بخلاف ما يحصل عليه من مزرعته الخاصة الملحقة ببيته وما يكسبه من إيوائه في بيته للنزلاء الذين يفدون إلى الريف طلبا للنزهة والراحة.
ومما يدل على رخاء الفلاحين في المزارع التجمعية نوع البضائع التي تعرض في المخازن التعاونية في القرية مثل: الجوارب والأحذية وأحمر الشفاه، واسطوانات الجراموفون، وساعات الحائط، والدراجات، والراديوات وغير ذلك من الكماليات التي لم يسبق للفلاح الروسي أن تمتع بها من قبل.
ويرجع رخاء الفلاح السوفيتي إلى عدة عوامل أخرى نذكر منها زيادة مساحة الأراضي الزراعية بالنسبة لعدد السكان، وزراعة محصولات أخرى أكثر ربحا، وزيادة المنتجات الحيوانية، وتحسن التسويق، ونظام الأسواق، وازدياد الدخل من موارد غير زراعية، ونقص أثمان البضائع المصنوعة مقدرة على أساس أثمان المحصولات الزراعية، ونقص الضريبة المفروضة على الفلاح وتخلصه من أثقال الربا وإيجارات الأرض والوصول إلى طريقة تقلل الفقد في المحصولات في عمليات الضم والدراس والتخزين وغيرها فقد أمكنهم باستعمال آلة الضم والدراس المزدوجة أن يقللوا الفقد في محصول الحبوب بنسبة قد تصل إلى 33 % في القمح
وقد أثرى الفلاحون في المناطق الشمالية الوسطى من إنشاء مصانع الألبان، ومن زراعة الخضروات والبطاطس والمحصولات الصناعية. كما أنهم قد استفادوا من امتداد منطقة زراعة القمح شمالا في أراضي كانت تعتبر في الماضي غير صالحة لإنتاج المحصولات الغذائية
ويدل ما تخطه أقلام الكتاب السوفيتيين على أن الفلاح الروسي قد أصبح سيد نفسه له حق التمتع بما تنتجه عبقريته ويداه لا يشاركه في إنتاجه أحد. فقد كتب بوريسوف عن الفلاح وهو يخاطب القديس نقولا العجائبي: (لمن أيها القديس العزيز يجب أن تكون الأرض والحقول والقرى) فأجابه القديس نقولا: (إليكم يا اخوتي وإلى أبنائكم، نعم إليكم دون غيركم).(632/29)
ويقول الكتاب الروسي بلسان رجل المستقبل وهو يخاطب الشعب: (أنا لا أتكلم إليكم عن الجنة وعدكم بها المسيح بل أكلمكم عن جنة الدنيا التي هي للجميع ما عدا ضعفاء النفوس)
ويقول الكتاب بلسان الفلاحين الروسيين: (نحن الذين لم نكن شيئا فأصبحنا الآن كل شيء). ويقولون أيضاً: (الأرستقراطية الحديثة هي أرستقراطية العمال المهرة الفنيين، فهؤلاء هم الذين يجب أن يتمتعوا بحقهم من الراحة والرياضة والتعليم والعناية بهم وبأطفالهم).
محطات الجرارات والآلات
رأى السوفييت أن تقدم الزراعة ووصولها إلى الذروة العليا التي يرمون إليها لا يتم في بلادهم المتسعة الأرجاء الفسيحة السهول بغير استعمال الآلات الزراعية والميكانيكية الحديثة، ولذلك أنشأت الحكومة نظام محطات الجرارات والآلات الزراعية
وتتوقف طبيعة المحطة على نوع المحصول الأساسي لكل منطقة سواء كان من الغلال أو القطن أو بنجر السكر أو غير ذلك. ولما بدأت الحكومة السوفيتية التحول الجبري في سنة 1930 من الزراعة الفردية إلى النظام التجمعي كان في الروسيا 158 محطة من هذه المحطات ملكا للحكومة و479 محطة تعاونية وكان عدد الجرارات في الروسيا أربعين ألف جرارة صالحة للأعمال الزراعية منها عشرة آلاف جرارة تابعة محطات الآلات الزراعية الحكومية، وهي صالحة لفلاحة المزارع التجمعية التي أنشئت في البلاد حديثا.
ومن الدوافع الأساسية التي حدث بالسوفييت إلى تعميم نظام المزارع التجمعية هو جعل الزراعة بالآلات الميكانيكية الحديثة ممكنة واقتصادية، ولذلك أنفقوا ملايين الجنيهات في بناء مصانع إنتاج هذه الآلات التي خرجت من طور التجربة إلى الإنتاج في نهاية سنة 1933 إذ كان لديها مائة ألف جرارة. وجميع هذه المحطات حكومية تؤدي جميع ما يطلب منها من العمليات الزراعية في المزارع التجمعية التي أصبحت تعتمد عليها في ذلك فهي تقوم بالحرث والضم والحصاد والدراس وغير ذلك مقابل نسبة مئوية من محصول المزرعة تتراوح بين 10 - 20 % حسب قلة المحصول أو وفرته.
وقد كان نصف العمل الزراعي قبل الهجوم الألماني في الحرب الأخيرة يؤديه الخيل والنصف الآخر تؤديه الآلات. وقد بلغ عدد الخيول في المزارع التجمعية 5 8 مليون(632/30)
حصان بمتوسط 250 حصانا للمزرعة، ولكل حصان 29 فدانا، ولكل مائة فدان من الأرض الزراعية 12 عاملاً زراعياً عضواً في المزرعة التجمعية. وفي سنة 1935 أصبحت محطات الآلات الزراعية تخدم نحو ثلاث أرباع المساحة المزروعة في الاتحاد السوفيتي.
وقد بلغ عدد محطات الآلات الزراعية في بلاد السوفييت في سنة 1940 مقدار 6980 محطة تجمعت نحو 5 , 94 % من الأراضي المزروعة بالمزارع التجمعية، وقد وفرت بعملها عمل 11 مليون عامل. وقد بلغ عدد الجرارات في سنة 1940 في الزراعة السوفيتية 523000 جرارة وآلات الضم والدراس المزدوجة 128000. وقد تمكن السوفييت بفضل محطات الآلات أن يدربوا في المدة بين سنة 1933 - 1940 عدد 60208 ميكانيكي و106302 رؤساء فرق سواق الجرارات و117 و365 و2 سواق جرارات و562 و305 سواق لآلات الضم والدراس و268 و161 و2 مساعد سواق و196323 ميكانيكي لآلات الضم والدراس و207216 سواق أتوموبيل، وقد التحق كثير من هؤلاء بالفرق الميكانيكية في الجيش السوفيتي خلال هذه الحرب وكانوا من أقوى العوامل في النصر
والسبب في تركيز الآلات الميكانيكية الزراعية في محطات هو سبب اقتصادي، لأن إدارة هذه الآلات وصيانتها تتطلب خبرة ومهارة خاصة لا تتوفر إلا في أناس يتخصصون لها ويكونون خاضعين لسلطة واحدة مكلفة بهذا العمل ومسؤولة عنه في كل منطقة زراعية ويكون في متناولها كل وسائل إصلاح الآلات وصيانتها، وهذا من مستلزمات الاقتصاد في المال والوقت والمجهود. وإشراف الحكومة الأشراف الكلي الكامل على كافة الأعمال الزراعية في البلاد لأن هذه المحطات ملك للحكومة وهي التي تقوم بجميع العمليات الزراعية في كافة البلاد مقابل جزء معين من المحصول يذهب طبعا إلى الحكومة.
ونقطة الضعف الوحيدة في نظام محطات الآلات هي تأثر زراعة المنطقة تأثراً يتمشى مع سوء إدارة محطة الآلات في المنطقة.
وجميع سائقي الجرارات وميكانيكي الآلات المزدوجة للضم والدراس هم غالبا من الأعضاء العاملين في المزرعة التجميعية تدربهم محطة الآلات ليقوموا بالعمل في اشتداد(632/31)
الموسم، وبهذه الطريقة تمكنت حكومة السوفيت من غرس العقلية الميكانيكية في الفلاح الروسي الذي أخذ ينظر إلى جرارته نظرة صوفية لأن عليها رزقه كما ينظر الفلاح المصري إلى ماشيته. وقد علمت التجارب حكومة السوفيت أن من الأفضل لها اتباع سياسة المكافأة لكل عمل حسن يقوم به العامل بدلا من التهديد عن كل عمل رديء يقوم به ولكنها لا تغفل في الوقت نفسه عن معاقبة المهمل والمخطئ والمذنب في كل ما يعرض زراعة الدولة للخطر. ففي نهاية السنة يمنح مدير المحطة رؤساء العمل فيها مكافآت تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور ماهية إذا كانوا قد نفذوا مشروعهم وكان محصول المزرعة التي اشتغلوا بآلاتهم فيها قد وصل إلى معدله أو زاد عنه.
الدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم النباتات بوزارة الزراعة المصرية(632/32)
الشرق كما يراه الغرب
الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
كتاب الموالد الذي نلخصه لقراء الرسالة كتاب طريف وجليل يتناول ناحية طريفة وجليلة من حياتنا الشعبية. ومؤلف هذا الكتاب البمباشي ماكفرسون أمضى ما يزيد على ربع قرن في مصر تقلب خلالها في عدة مناصب إدارية، فاشتغل زمنا بوزارتي المعارف والزراعة، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية وشغل منصب (مأمور ضبط) برتبة بمباشي، وظل في هذا المنصب عدة سنين. فهو إذن بحكم السنين الطويلة التي أمضاها في مصر، وبحكم منصبه في البوليس على الخصوص من أفضل من يمكنهم الكتابة في موضوع الموالد
وينقسم الكتاب إلى قسمين: في القسم الأول تناول المؤلف الموالد على العموم، فتكلم في نشأتها ومصادرها ومظاهرها الدينية والدنيوية وما إلى ذلك. أما القسم الثاني، فقد تكلم فيه المؤلف عن بعض الخصائص التي يتميز بها كل مولد على حدة، وينفرد بها دون غيره من الموالد
ولكن الكتاب على قيمته لا يخلو من بعض العيوب، وأظهر هذه العيوب هو عدم تسلسل أفكار الكاتب تسلسلا منطقيا، فنجده ينتقل من فكرة لأخرى بدون سابق تمهيد، ثم ما يلبث أن يعود ثانية إلى الفكرة الأولى مما قد يوقع القارئ في شيء من الاضطراب. كذلك يكثر من الاستطراد والتكرار في ثنايا الكتاب، وقد يبلغ أحيانا إلى حد الإملال. ويأخذ عليه الأستاذ ايفانز برتشارد أستاذ علم الاجتماع السابق بجامعة فؤاد الأول - وهو الذي كتب مقدمة الكتاب - أن المؤلف لم يلتزم في كتابه أصول المنهج الاجتماعي الدقيق الذي يوجب على الباحث أن يكتفي بوصف ما يقع أمام ناظريه وصفا دقيقا دون أن يجعل شعوره الخاص يطغى على ما يكتب ويوجه كتابته ناحية معينة، وألا يسمح لنفسه بالحكم على الظواهر الاجتماعية التي يراها حكما أخلاقيا، فيصفها بالخير أو الشر، بالصحة أو الخطأ، كما حاول ماكفرسون أن يفعل وخاصة في الفصول الأولى، ولكن مهما يكن من شيء، فإن هذا الكتاب يسد فراغا هائلا في دراسة مظاهر الحياة الشعبية عند المصريين المحدثين
- 1 -(632/33)
يرى ماكفرسون أن الموالد ظاهرة اجتماعية عريقة في القدم، ترجع أصولها إلى احتفال المصريين القدماء بأعياد آلهتهم - مثل أوزيريس وعيد عروس النيل وغير ذلك من الأعياد السنوية التي يمكن اعتبارها موالد من باب التجوز. إنما ظهرت الموالد - بمعناها المتعارف عليه الآن - في مصر الإسلامية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ وقد كانت في أول أمرها احتفالات دينية شعبية محضة، ثم أخذت تكتسب الصفة الرسمية بعد ذلك شيئا فشيئا ابتداء من القرن التاسع الهجري حتى لم يعد يباح الآن الاحتفال بمولد أحد الأولياء إلا بعد الحصول على ترخيص خاص من وزارة الداخلية (وزارة الشؤون الاجتماعية الآن)؛ بل أخذت الهيئات الحاكمة ذاتها تشارك الشعب في هذه الاحتفالات - وخاصة بمولد النبي (صلعم) إذ يشترك فيه رجال الإدارة ويحضره الملك نفسه أو من ينوب عنه. ومن هنا يتضح أن الموالد مظهر شعبي عظيم يمثل ناحية هامة من الحياة الروحية عند الشعب المصري. ولكن مع أهمية هذا المظهر الذي يطبع مصر بطابع خاص فريد نجد أن هناك بعض حركات مضادة ترمي إلى القضاء على الموالد ومنع الاحتفال بها.
ولعل أكبر حركة ضد الموالد هي الحركة التي يقوم بها جمهرة المتعلمين في مصر ممن تشبعوا بروح الثقافات الأوربية المختلفة حتى أضلتهم وأعمتهم عن مظاهر الحياة الشرقية وما هي عليه من روعة وجلال؛ فشوهت نظرتهم إلى الموالد حتى اعتبروها مظهرا من مظاهر الحياة البدائية المتأخرة التي يجب أن تتخلص مصر منها سريعا أن أرادت لنفسها أن تساير ركب الحضارة الحديثة ولا تتخلف عنه. وينعى ماكفرسون على المتعلمين هذه النظرة الخاطئة المشوهة، فالموالد قبل كل شيء وعلى الرغم مما قد يشوبها من ضروب الرقص وأفانين الشعوذة البدائية تمثل ناحية لها خطرها من حياة الشعب وأفكاره وأعياده، تنفرد بها مصر دون غيرها من الأمم - حتى الأمم الإسلامية نفسها التي لا تتمثل فيها الموالد بمثل هذه الروعة التي تظهر بها في مصر. أضف إلى ذلك أن هذه الموالد ليست بدعة جديدة في مصر حتى نقضي عليها ونستريح منها، إنما هي - كما ذكرنا من قبل - أعياد قديمة تمت إلى تاريخ مصر القديم بصلة قوية، فهي بالتالي جزء جوهري من مقومات الروح المصرية، وعلى ذلك فلاشك أن مصر لابد أن تخسر خسرانا مبينا وتفقد(632/34)
جزءا هاما من ملامح حياتها الشعبية التي ينبغي أن تتمسك بها في عزة وفخر لو أنها تابعت تلك الحركة الهوجاء التي يقودها المتعلمون.
وهناك فريق آخر من المتزمتين الرجعيين، يتخذ من اسم الدين سلاحا لمحاربة الموالد؛ ويحتجون بأن الرسول (صلعم) لم يحتفل قط بمولد أحد من الصحابة ولم يأمر غيره بذلك، وكل ما لم يأمر به الرسول فهو بدعة وضلالة يجب محاربتها حتى تواد - ولكن ماكفرسون يرى أن هذه الحجة لا تكاد تقوى على الوقوف على قدميها حتى تتهافت، فالمسلمون اليوم يحيون حياة لم يحيها الرسول العظيم ولم يأمر الناس بأن يحيوها: والمسلمون اليوم يتخذون كثيرا من وسائل الحضارة الأوربية الحديثة لم يتخذها الرسول قط، ولم يأمر الناس بأن يتخذوها فماذا يكون من أمر المسلمين إذن لو أنهم نفضوا أيديهم من كل ما يباشرونه اليوم من أعمال، وما يتخذونه من وسائل للحياة لم تكن على أيام (الرسول)؟ لاشك أن طائفة لرجعيين الذين يهاجمون الموالد بهذه الحجة هم من أبعد الناس عن أن يفكروا في نبذ وسائل الحياة الحديثة التي لم يأمر الرسول بها ويعيشوا عيشة العرب على أيامه (صلعم). وإذا كان أنصار الرجعية هؤلاء يحتجون أيضاً بضرورة القضاء على الموالد نظرا لما تحويه من ضروب الإغراء والإغواء من رقص وموسيقى وغناء وما إليها، فإن ماكفرسون يرى أن هذه الجوانب لا تمثلها إلا ناحية واحدة من الموالد لا يقاس ضررها إلى ما يلحق مصر من ضرر لو أنها منعت الاحتفال بالموالد أصلا. ويضيف ماكفرسون إلى ذلك أن الرقص والموسيقى والغناء كانت دائما عناصر جوهرية من عناصر الدين في كل عصوره، فالنبي داود كان ينشد الأناشيد ويعزف على المزأمير؛ والمسيحية لا تزال تعتمد في كنائسها على أنغام الموسيقى لإثارة كوامن الشجن في قلوب الناس؛ ولا يزال هناك بعض الصبية يرقصون في دير سانت كاترينا في شبه جزيرة سينا؛ فالصلة بين الدين والموسيقى صلة وثقة في الواقع على عكس ما يظنه بعض الناس - ونحن هنا نجد أن ماكفرسون لم يفهم طبيعة الشريعة الإسلامية حق الفهم ويخلط بين تعاليم الدين الإسلامي وغيره من الأديان والملل، فتعاليم الإسلام تنهى صراحة عن الرقص والموسيقى والغناء إذا ترتب عليها مفسدة أو شغلت القلوب بغير ذكر الله.
وهناك أخيرا حركة ثالثة يقوم بها العلماء والفقهاء ضد الدراويش؛ واصل هذه الحركة هو(632/35)
اختلاف فهم العلماء عن فهم الدراويش للدين؛ فالعلماء يأخذون الدين على إنه مجموعة القوانين والشرائع التي جاء بها القرآن الكريم والسنة، وبذلك يعتبرون أعمال الدراويش أنها نوع من الدجل والشعوذة. والواقع غير ذلك؛ فإن للدين مظهرين: مظهرا خارجيا أو ظاهريا هو الذي يتمثل في الشرائع ومختلف الأعمال التي يقوم بها الإنسان باسم الدين، وهذا هو المظهر الصوري الذي يتخذه العلماء لأنفسهم؛ ومظهرا باطنيا داخليا يعتمد على حال القلب والوجدان في التقرب إلى الله. وهذا المظهر يتخذه الدراويش. والمظهران في الواقع متكاملان؛ فالدين حالة عاطفية في القلب، كما هو أوضاع ظاهرية تظهر في مختلف العبادات، وفي ذلك يقول بليس (إن الدراويش يبحثون عن الله في قلوبهم، أما العلماء فإنهم يبحثون عنه في نصوصهم). فأعمال الدراويش ليست إذن بعيدة تماما عن الدين كما يزعم الفقهاء، وإلا فبماذا تفسر سكوت الخلفاء وسكوت نقباء الأشراف - ومنهم نقيب الأشراف الحالي - طيلة القرون الماضية على أعمالهم لو لم تكن من الدين؟
وعلاوة على ذلك، فإن للموالد فائدة أخرى توجب على المصريين أن يحافظوا عليها ويتمسكوا بإقامتها دائما، وهي فائدة اجتماعية سياسية لها أهميتها القصوى في بلد مثل مصر بلغ فيه مستوى المعيشة حدا من الانحطاط لا يبشر بخير لو لم يكن هناك ما ينفس عن الشعب الفقير المحروم بعض ما يعاني من ألم الفاقة والحرمان ويدخل عليه شيئا من السعادة. إن الروح المصرية روح مرحة بطبيعتها تميل إلى الانطلاق واللهو والعبث. والموالد هي الفرصة الوحيدة التي يتاح فيها لعامة الشعب الفقراء أن يتناسوا همومهم وضيقهم من حياتهم الحالكة. فمنع الاحتفال بالموالد ليس من الحكمة في شيء إذن، لأنه سيحرم الشعب مصدر سروره وبذلك يزيد من ثقل وقع الفقر على نفوسهم ويشعرهم بوطأة الحرمان مما قد يدفع بهم إلى الثورة على حكامهم الذين جمعوا في أيديهم كل الثروة وتركوا لهم الفقر كله. وفي التاريخ شواهد كثيرة على أن الأعياد الشعبية كانت أبدا عاملا يلطف حدة وقع الظلم على نفوس الطبقات الدنيا، وأن منع الاحتفال بهذه الأعياد ساعد على انفجار مشاعر الحقد الدفينة؛ ومن أكبر الأمثلة على ذلك الثورة الفرنسية الكبرى.
وعلى العموم فإن ماكفرسون يرى أن الحكمة تقضي على المصريين بأن يحتفظوا بأعيادهم وبمظاهر حيلتهم الشعبية الأخرى ويعتزوا بها كل الاعتزاز ويضنوا بها عن أن تضيع(632/36)
وتتلاشى من موجة الحضارة الأوربية الجارفة؛ فإن هذه المظاهر تبين تماما خصائص الروح الشرقية، فلو أن المصريين سمحوا بضياعها وتلاشيها لكان نذيرا بضياع مصر وتلاشيها كدولة شرقية لها خصائصها ومميزاتها الذاتية التي تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من الدول.
- 2 -
للمسلمين والنصارى في مصر موالدهم الخاصة؛ إلا أن كلمة (مولد) تنطبق على أعياد المسلمين الدينية أكثر مما تنطبق على أعياد المسيحيين؛ لأن المسلمين يهتمون في الواقع أكبر الاهتمام باليوم الذي ولد فيه (الولي)، ويعتبرونه حادثا جليلا يستحق التمجيد والاحتفال بعكس المسيحيين الذين يهتمون بيوم الوفاة ويعتبرونه يوم الميلاد الأبدي.
ولم تظهر الموالد الإسلامية - كما قلنا من قبل - إلا في القرن السابع الهجري بعد موت السيد أحمد البدوي. وقد كان السيد البدوي وليا من أشهر أولياء مصر، عرف بكراماته الباهرة حتى اعترف له أولياء مصر لعهده بالزعامة عليهم. وقد كان للسيد البدوي شهرة مدوية ليس في مصر وحدها بل في سائر البلدان الإسلامية الأخرى، وخاصة البلدان التي زارها؛ فقد جاب السيد شمال أفريقية، ورحل إلى مكة وأمضى هناك عشرين عاما يعظ الحجاج ويهديهم سواء السبيل؛ ثم سافر إلى العراق فالتف الناس حوله وأحاطوه بمظاهر الإجلال والإكبار حتى كان بعضهم يعده في منزلة الأنبياء. ولما رجع السيد إلى مصر ومات بها شاع خبر موته في أرجاء العالم الإسلامي، فتوافد الناس على مصر من جميع الأنحاء. وفي طنطا احتفلوا بجنازته احتفالا رهيبا؛ وفي العام التالي، بدلا من أن يحتفلوا بذكرى وفاته احتفلوا بيوم مولده. ولقد كان لاحتفال أهالي طنطا بمولد السيد أثر عظيم في نفوس أهالي دسوق ودمنهور، فأثار فيهم شيئا من الغيرة مما دفعهم إلى الاحتفال بمولد وليهم (سيدي إبراهيم الدسوقي)، على غرار ما فعل أهل طنطا. وبهذه الطريقة انتشرت الموالد من مكان لآخر حتى عمت مصر كلها وخاصة القاهرة.
وتعتبر القاهرة أسعد مدن مصر، بل أسعد مدن العالم الإسلامي أجمع نظرا لكثرة ما تضمه من رفات الأشراف والأولياء من نسل النبي (صلعم) وغيرهم؛ فالقاهرة في ذلك لا يضارعها حتى مكة نفسها؛ ففيها يوجد رأس الحسين وراس ابنه زين العابدين ورفات(632/37)
فاطمة وسكينة ابنتي الحسين أيضاً، ورفات السيدة زينب شقيقته، وجثمان السيدة فاطمة النبوية وأختها عائشة بنتي الإمام السادس جعفر الصادق، ورفات السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن (وقد أمضت السيدة نفيسة ستة أعوام في القاهرة قبل أن تنتقل إلى الرفيق الأعلى)؛ كما يوجد بها أيضاً قبر سيدتنا رقية وسيدي هارون، والشيخ عبد الله الحجر من نسل الحسين، وغير هؤلاء كثيرون من نسل النبي (ص). ولقد كان للفاطميين (اللذين حكموا مصر من القرن السابع الهجري إلى القرن السادس) اليد الطولي في العناية بمقابر آل البيت ومخلفاتهم بعد أن أسسوا القاهرة وجعلوها عاصمة ملكهم، وبذلك صار للقاهرة مكانة ممتازة في العالم الإسلامي كله. ويحتفل المسلمون في مصر اليوم بأعياد كل هؤلاء الأشراف وغيرهم لتمجيد ذكراهم واكتساب رضوانهم وشفاعتهم في الآخرة.
فالدافع الأول إذن على الاحتفال بالموالد كان في الأصل دافعا دينيا بحتا الغرض منه تمجيد ذكرى أولياء الله الصالحين، ولكن لم تلبث أن داخلتها بعض المظاهر الدنيوية، وشابتها بعض عناصر اللهو والتسلية، وأخذت تتغلغل فيها شيئا فشيئا حتى أصبحت الموالد احتفالات شعبية أكثر منها دينية، وأخذ الشعب كله يشارك فيها على اختلاف طوائفه الدينية، فيشترك الآن بالاحتفال بالموالد الإسلامية كثير من غير المسلمين من أقباط مصر ويهودها بل ومن الأجانب أيضاً؛ كما أصبح المسلمون يشتركون مع المسيحيين في أعيادهم (وموالدهم) مثل عيد القديسة تيريزا في شبرا، وعيد الشهيد مارجرجس وغيرهما. ولاشك أن هذه الظاهرة الجميلة ترجع إلى ما عرف بين المصريين من روح التسامح وعدم التعصب الديني وروح الصداقة التي يحسونها نحو النصارى كما أمرهم القرآن الكريم.
- 3 -
من أصعب الأمور على المرء أن يحاول تحديد مواعيد الاحتفال بالموالد في مصر تحديدا دقيقا؛ وتزيد هذه الصعوبة بالنسبة للأجنبي عن البلاد الذي لا يعرف أصول التقويم القمري الذي يسير عليه المسلمون. فالسنة القمرية تقل عن السنة الشمسية بأحد عشر يوما، والموالد الإسلامية تتبع التقويم القمري، وذلك يستدعي وجود تغير كل عام في موعد الاحتفال بالنظر إلى التقويم الشمسي. واتباع التقويم القمري يحدث أحيانا شيئا غير قليل من الالتباس على الأجانب على الخصوص. ومن ألطف ما حدث في هذا الصدد أن(632/38)
الجرائد طلعت على الناس (في عام 1939) بأن مصالح الحكومة ودواوينها سوف تعطل يوم الثلاثاء 12 ربيع الأول الموافق 2 مايو بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي؛ وفي اليوم المذكور توجهت جماعات كبيرة من نزلاء مصر من الأجانب للاشتراك في الاحتفال ولمشاهدة (الزفة) ولكنهم لم يجدوا شيئا، لأن (الزفة) كانت قد تمت في مساء اليوم السابق (الاثنين 11 ربيع)؛ وأخيرا عرفوا أن المسلمين يعتبرون الليل - وليس النهار - هو بداية اليوم الجديد؛ فمساء يوم 11 ربيع يعني يوم 12 ربيع!
وتواريخ الموالد ذاتها تواريخ فضفاضة متذبذبة وعرضة للمد والجزر بشكل غريب بحيث يكاد يستحيل على الإنسان أن يضع تاريخيا صحيحا ثابتا لأحد الموالد؛ بل إن شيخ الجامع نفسه لا يستطيع أن يحدد التاريخ بالضبط. وهو أن ذلك يرجع - كما يظن ماكفرسون - إلى عدم التثبت من يوم ميلاد الولي مما يدعو الناس إلى اختيار أي يوم كان. بل إن ذلك اليوم الذي يختارونه اعتباطا يخضع هو أيضاً للتغيير إذا طرأ طارئ مثل موت أحد كبار المحسنين أو عدم جمع المال الكافي لإقامة الحفلات والزينات وغير ذلك من الأسباب التافهة. ويذكر ماكفرسون إنه في عام 1938 منعت الحكومة الاحتفال بمولد الشيخ مظلوم لأن يوم الاحتفال كان يوافق ذكرى المغفور له الملك فؤاد. ويقص الناس حكاية عن أن الشيخ مظلوم استاء من فعل الحكومة أبلغ الاستياء فتراءى في المنام لبعض ولاة الأمور وهددهم بالويل والمصائب إن لم يحتفلوا بمولده كما جرت العادة؛ وقد كان للشيخ ما أراد!
إلا أن بعض الموالد تتبع الآن التقويم الشمسي أو التقويم القبطي دون التقويم القمري؛ ومن هذه الموالد مولد السيد البدوي نفسه إذ يقام في شهر بابه دائما (أكتوبر) ومولد سيدي إبراهيم الدسوقي، وسيدي البيومي، وسيدي الامبابي وغيرهم؛ ومع ذلك فأن هذه التواريخ ذاتها تتعرض للتغير كل بضع سنوات، ذلك لأنه لما كان التقويم القمري يفترق عن التقويم الشمسي بأحد عشر يوما في كل عام، فإنه يحدث أن يأتي عام يصادف وقوع الاحتفال فيه بالمولد وجود شهر رمضان؛ وفي شهر رمضان لا يحتفل المسلمون بأي مولد من الموالد، وبذلك لا يكون ثمة مندوحة عن تغيير تاريخ المولد! - أما موالد المسيحيين في مصر فلعلها أكثر ثباتا من موالد المسلمين لأنها تنبع دائما التقويم القبطي؛ فمولد مارجرجس يحتفل به دائما في برمودة (أبريل) عند الكاثوليك، وفي بشنس (مايو) عند الأرثوذكس؛(632/39)
ومولد ستنا دميانة يحتفل به دائما في بشنس، ومولد ستنا مريم في مسرى (أغسطس) ومولد سيدي برسوم العريان يحتفل به في توت (سبتمبر) وهكذا.
ولكن الموالد الإسلامية مع تعرضها لتغير تاريخ الاحتفال بها، تنم دائما في يوم معين بذاته من أيام الأسبوع دون أن تحيد عنه قط. فمولد السيدة فاطمة النبوية مثلا يتم دائما في يوم الاثنين (وفي العادة يكون يوم الاثنين الأخير من ربيع الأول)، ومولدا السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق يقام دائما يوم الثلاثاء (أي يوم ثلاثاء من شعبان) وكذلك يحتفل بمولد سيدنا الحسين يوم الثلاثاء دائما (آخر يوم ثلاثاء من ربيع الآخر في العادة) ويقام مولد السيدة زينب في يوم الثلاثاء أيضاً (أقرب ثلاثاء من منتصف رجب) وهكذا. فليس هناك إذن أي تغير أو اختلاف في يوم المولد ذاته على الرغم من تغير التاريخ.
(يتبع)
أحمد أبو زيد(632/40)
رسالة الفن
13 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
يا لها من إشارة بارعة! أيمكن أن يكون ولاء أعظم وأوقع في النفس من أن يرجع بمعاصر إلى طيات الماضي حيث يقرنه إلى رجل من رجالاته الأفذاذ الذين لمع نجمهم وتألق تألقا فريدا ثم يبلغ منه التأثر لمجرد شعوره بالاتصال الحسي بهذا العبقري الشبيه بإنصاف الآلهة (بوسان). وعاود رودان حديثه قائلا:
لم يرض بوفي دي شافان عن التمثال الذي عملته، وكان ذلك من أمر ما غصني في حياتي الفنية. لقد ظن أني صنعت له تمثالا مسخا. ومع هذا فأني مؤمن أني أودعت في التمثال كل الحماس والإجلال الذي شعرت به نحوه).
ودفعني بوفي دي شافان إلى التفكير في تمثال جان بول لوران الذي يوجد باللكسمبورج أيضاً. إنه ذو رأس مستدير ووجه يهم بالحركة، ويفيض منه الحماس يكاد لا يتردد فيه نفس - إنه من مواطني الجنوب، عتيق غير مصقول تظهر عيناه كأنهما مأهولتان بأخيلة بعيدة - ذلك هو مصور العصور التي كانت أدنى إلى الهمجية حيث كان الرجال أقوياء زاخري العواطف. قال رودان:
(كان لوران من أقدم أصدقائي. وقفت له كمثال لواحد من الميروفيين الذين كانوا يعاونون ساعة موت القديسة جينيفياف، وذلك بلوحته الموجودة الآن بالبانتيون (كانت محبته لي خالصة على الدوام. وهو الذي تحصل لي على الأذن بعمل رهائن كاليه. ومع أن الصفقة لم تعد علي بنفع مادي إذ أني قدمت ستة من التماثيل المعدنية بالثمن الذي عرض لواحد منها فقط، فإني مدين له بالامتنان العظيم العميق لأنه حفزني لخلق عمل من أجل أعمالي.
(وكم كان سروري عظيما بأن أعمل له تمثالا. ولكنه عتب علي عتابا رقيقا لأنني أظهرته بفم مفتوح، فأجبته بأني رأيت من تصميم جمجمته إنه ربما انحدر من سلالة القوط الأسبان. وأن هذا الضرب من الناس يمتاز بكبر الفك الأسفل. وإنني لست على بينة مما(632/41)
إذا كان اقتنع بصحة ملاحظتي العلمية التي ترتكز على علم الأجناس).
وأبصرت في تلك اللحظة بتمثال لفا لجوبيرر إنه متوقد، ذو خلق ثائر، بوجهه كثير من التجاعيد والعجر كأنه أرض اجتاحتها العواصف. أما شاربه فشارب امرئ متذمر، وأما شعره فكث قصير. قال عنه رودان إنه كان ثورا صغيرا. لاحظت فيه غلظ الرقبة حيث تبدو أثناء الجلد وتضاعيفه كأنها غبب الماشية، وكذلك جبهته المربعة. أما رأسه فمائل عنيد، على وشك أن يشيح بحركة إلى الأمام. حقا إنه. ثور صغير! كثيرا ما كان رودان يتمثل بتشبيهات من المملكة الحيوانية. فمثلا إذا كان الإنسان ذا رقبة طويلة وحركات آلية فهو الطائر يتذبذب يمنة ويسرة، وإذا كان جد ظريف كثير الحركات الرشيقة فهو كلب الملك شارك وهكذا. ومن شأن هذه التشبيهات أن تسهل العمل لمن يبحث وفي تقسيم سحن الناس وسيمائهم أقساما عامة. ثم طفق رودان يشرح لي الظروف التي أدت به إلى فالجويير قال:
(كان ذلك عندما رفضت جمعية الآداب قبول تمثالي (بلزاك) أصر فالجوبير الذي تولى عمل تمثال آخر لبلزاك من بعدي على أن يبين لي بحافز من صداقته إنه لم يضلع بتاتا مع أولئك الذين أرادوا الغض من قدري وسمعتي. فدفعني حدبه إلى عمل تمثال له. وعند ما انتهيت منه ورآه قدره تقديرا وعده فوزا عظيما. وإني لأعلم إنه كان يدفع عنه نقد الناقدين في حضرته. وفي مقابل ذلك عمل لي تمثالا بدوره فجاء جد ظريف).
وعندما كنت أهم بالانصراف وقعت عيني على نسخة شبيهة لتمثال برتلو الذي عمله رودان قبل وفاة الكيميائي العظيم بسنة واحدة فقط
كان العلامة الكبير يبدو كأنه مطمئن إلى تأدية رسالته. إنه يتأمل. إنه منطو على نفسه، وحيدا يواجه العقائد البالية المتداعية، وحيدا قبالة الطبيعة التي نفذ إلى بعض أغوار أسرارها ولكنها ما زالت جد غامضة؛ وحيدا على حدود الأفق الغير محدودة. جبينه معذب، وعيناه المسبلتان مليئتان بالهموم وكأن هذا الرأس الجميل رمز للفكر العصري وقد ازدحم بالعلم والمعرفة وأضناه التفكير، ينتهي به الأمر إلى التساؤل (وما جدوى كل ذلك).
احتشدت برأسي الآن كل تلك التماثيل التي كنت أعجب بها والتي كان يتكلم عنها رودان، وقد بدت لي كأنها وثائق قيمة عن عصرنا الحاضر ثم قلت:(632/42)
(إذا كان رودان كتب مذكراته عن القرن الثامن عشر، فقد كتبت أنت مثلها عن أواخر القرن التاسع عشر. أما أسلوبك فأخف وأغلظ من أسلوب سلفك، وأما تعابيرك فأقل رشاقة، ولكنها طبيعية صادقة - إذا جاز لي أن أقول ذلك إن الشك والإلحاد الذي كان واضحا بينا في القرن الثامن عشر، والذي كان مليئا بالتهكم والسخرية أصبح فيك اليوم عنيفا حادا. كانت أشخاص أودون أميل إلى الاجتماع والتمازح والتنادر، أما أشخاصك، فأكثر انصرافا إلى أنفسهم. كانت أشخاص أودون تنتقد عورات أنظمة الحكم، أما أشخاصك فيظهرون كأنهم يتساءلون عن قيم الحياة الإنسانية نفسها ويشعرون بالآلام والرغائب التي لم تتحقق)
فأجابني رودان ردا على ذلك:
لقد بذلت كل ما في وسعي، لم أكذب ولم أغرر بمعاصري قط. لم ترق تماثيلي في أعين الناس، لأنها على جانب كبير من الإخلاص، ولكن مما لا ريب فيه أن بها حسنة واحدة هي الصدق، فليعوضهم هذا من الجمال)
(انتهى)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(632/43)
اللحن الحزين!
للأديب إبراهيم محمد نجا
(قبلت رثاء فقيد العروبة والإسلام الأستاذ أحمد محرم بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته).
نبأ ألمَّ فهاج كامن دائي ... إذ كنت أستشفي من الأدواء
متعزيا بمواجعي، متفرداً ... بمدامعي، متوحداً بعنائي
نبأ به تدمى النفوس، وإنما ... تدمى النفوس بفاجع الأنباء
قالوا لقد ذهب الردى بمحرم ... في غير ما ريث ولا إبطاء
عجِلا به إذ كان يحمل مهجة ... كالشمس قرب سنًي وبعد سناء
والأهل يبكون الفقيد، وإنما ... يبكون خير مشيَّع ببكاء
ما بال هذا النعش يسرع بالخطى ... في لهفة محفوفة برجاء؟
كمسافر نِضو السِّفار بدت له ... وقت الهجيرة واحة الصحراء
والناس أنضاء الحياة، وإنما ... تلك المقابر واحة الأنضاء
ما بال هذا الجمع يرجع مطرقا ... في وحشة وكآبة خرساء؟
أين الفقيد؟. . . لقد نأى متغربا ... وا رحمتاه للغريب النائي
تركوه في قلب الثرى متفردا ... إن التفرد شيعة الشعراء
يا شاعراً عرف الحياة مآسياً ... مصبوغة بمدامع ودماء
يا شاعراً عرف النفوس وما بها ... من جامح النزعات والأهواء
ورأى الزمان وكيف يخترم الورى ... بفواجع النكبات والأرزاء
ورأى الفناء حقيقة عُلْويَّةً ... ورأى البقاء ضلالة الأحياء
فأتى يصور في القصائد ما رأى ... ببراعة عزت على النظراء
في كل طارقة، وكل مُلِمَّةٍ ... غراءُ تخلب أنْفُس الفصحاء
معنى كنور الشمس. . . فيه من السبي ... روح الحياة، وجوهر الأشياء
يوحي إلى النفس العلاء، وإنما ... تعلو النفوس بقوة الإيحاء
وكريم لفظ صيغ من محض الشذى ... ومن السنا والظل والأنداء(632/44)
طوراً كرقراق النسيم، وتارة ... كالعاصفات يثرن في البيداء
وخيال منشور الجناح محلِّق ... كالنسر فوق القمة الشماء
شعر يخلَّد في الصدور، وغيره ... يفنى كما يفنى حَباب الماء
أبقى لنا الصوت القوي، وغيره ... لم يُبق إلا خافت الأصداء
وهدى إلى سبل السلام مباركا ... كمنارة في ليلة ظلماء
والشعر مثل النفس. . . منه مظلم ... يعمى القلوب، ومنه ذو أضواء
يا شاعراً مسَّ القلوب بشعره ... فإذا بها تصحو من الإغفاء
كالغيثُ باكر في الصباح سباسباً ... فتألقت برياضها الغناء
شعر كما تهوى النفوس، موكل ... بالنفس يكشفها لعين الرائي
أبصرت فيه سرائري فعشقته ... عشق النفوس لغادة حسناء
وجعلته سلوى حياتي كلها ... وملاذ أحلامي، وحصن رجائي
من أي شيء صغت شعرك، إنه ... طب الجراح وبلسم الأدواء؟
إني عرفتك في الحياة مجاهداً ... بعزيمة وقادة ومضاء
تمضي على الأحداث تدفع موجها ... عن منكبيك بهمة قعساء
ولقد أراك - وأنت لَهْبٌ للأسى - ... تخفي الهموم ببسمة غراء
كالسيف يبدو في غبار عجاجةٍ ... متألقا كالكوكب الوضَّاء
ما هنت يوماً في الحياة، وإن تكن ... قد عشت بين براثن اللأواء
يا للحياة، وما يكلِّف حبُّها ... من حمل مكروه، وبذل فداء
عجباً لنا نهوى الحياة، وإن تكن ... بالغدر مولعة وبالإيذاء
كالغادة الحسناء تذكي حبهَّا ... في القلب بالهجران والإقصاء
سيان في حب الحياة منعَّمٌ ... جمُّ الثراء، ومعدم البؤساء
سيان في شرع الحياة وذينها ... حزن الشقي، وفرحة السعداء
وإذا طلبت من الحياة عدالة ... فلقد طلبت قلائد الجوزاء
ما العدل من شيم الحياة، وإن تكن ... تخفي مظالمها على الفطناء
أيها فقيد الشعر في البلد الذي ... لم يرْعَ حق الشعر والشعراء!(632/45)
وأساء عيش ذوي البصائر والنهى ... حسداً، وأحسن عيشة الدهماء!
ويموت فيه الماجدون فيحتمي ... بالسيئين: الصمت والإغضاء!
ما أنصفوك من الزمان إذا همو ... جعلوا نصيبك منه حفل رثاء
هل ينصفونك في الممات، وإنهم ... ما أنصفوك وأنت في الأحياء؟
جهلوك إذ كانت حياتك بينهم ... والدر مجهول من الدأماء
لا تعتبن على الزمان وأهله ... ما دمت لا تحظى بطول بقاء
وكفاك أنك قد فرغت من الأسى ... وسلمت من حسد ومن بغضاء
وخلصت من قيد السنين، وإنه ... صنع الحياة، ومن قيود الداء
ولقيت ربك ذا الجلال، وعنده ... ما شئت من أجر وحسن جزاء
نم في رحاب الخلد، وأنعم بالرضى ... في ظل تلك الجنة الفيحاء
واذكر مريديك الذين تركتهم ... حتى يكون الموتَ يومَ لقاء
(دمنهور)
إبراهيم محمد نجا(632/46)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ العقاد
أستاذي الكبير:
قرأت كتابكم الأخير (في بيتي)، وأنا اقرأ كتبكم لأفيد منها علما بالحياة وبالنفس الإنسانية، ومتعة فنية عظيمة. وقد وجدت العلم والمتعة في كتابكم هذا كما وجدتهما في كتبكم الأخرى
ولكن ليسمح لي الأستاذ أن أخالف رأيه الذي جاء في الكتاب عن القصة، فقد جاء في ص27 ما يأتي:
(ثم راح (الصديق) يجول ببصره (في رفوف المكتبة) وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
(قلت: نعم. وأنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه، لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول)
ولاشك عندي في أن الشعر فن أرقى من القصة، لأنه تعبير جميل عن النفس الإنسانية في أصفى حالاتها، بل أنا أحب أن أزيد يقينا بذلك، لا إيمانا بالفن الرفيع فحسب، ولكن اعتزازا كذلك بما أكتبه من الشعر بين الحين والحين!
ولكني أخالف الأستاذ في قوله: إنه لو نقص ما نقرؤه من القصة لما أحسسنا بهذا النقص، فالقصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها قارئ (الحياة)
وقد قرأت (سارة)، وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكني لا أستطيع مع ذلك أن أقول إنني استغنيت به عن قراءة (سارة)، أو إن (سارة) ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة فوق إنها من خيرة ما أخرجه الأستاذ، ولكني أقول إن هذا طعم وذلك طعم آخر، وكلاهما جيد مفيد
ويقول الأستاذ - في تقليل شأن القصة - (فكلما قلت الأداة، وزاد المحصول، ارتفعت طبقة الفن والأدب؛ وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف
(وما أكثر الأداة واقل المحصول في القصص والروايات! إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:(632/47)
(وتلفتت عيني فمذ بعدت ... عني الطلول تلفت القلب)
ثم أورد الأستاذ أمثلة أخرى من الشعر
ولكني أحسب أن (التركيز) ليس في كل الحالات خير ما في الأدب، وأنه لا يغني في كل حالة عن التفصيل والتطويل، وليست التفاصيل الدقيقة التي تعرضها القصة لغواً باطلا يمكن الاستغناء عنه، أو إنها (كالخرنوب الذي فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة)! فهي تؤدي مهمة فنية كبيرة، هي إعطاء صورة حية مفصلة من الحياة الإنسانية
والعقل يشبه الجسم في تمثيله للغذاء واستفادته منه، والجسم حين يقدم له من الطعام ما يمضغه، ثم يبتلعه، ثم يهضمه، ثم يمثله، ثم ينفي ما فيه من فضلات غير نافعة، يكون أنشط وأكثر استفادة مما لو أخذ مادة هذا الطعام بعينها (مركزة) في قرص صغير
والأستاذ يشير إلى مثل هذا المعنى حين يقول:
ليست خلاصة كل شيء غنية ... عنه ولو كانت خلاصة ماهر
ثم أحسب أن الأستاذ يكاد يستدل على إسفاف القصة بأن قوماً كالشيوعيين قد استغلوها في دعوتهم إلى أقصى حدود الاستغلال، وقالوا إنها اشرف أبواب الأدب
ولكن الشيوعيين قد استغلوا كل أنواع الأدب ومن بينها الشعر، وهذا شاعرهم الكبير (بوشكين) شاهد على ذلك، فلا يقال إن الشعر أو القصة فن غير رفيع لأن الشيوعيين قد استغلوه، وإنما يقال بحق إن القصة في إنتاج ما بعد الثورة قد هبطت كثيراً عما كانت عليه أيام تولستوي ودستيوفسكي لأنها اتخذت مظهر الدعاية وحادت عن الأدب الرفيع
ولاشك في أن القصة تستطيع أن تسف أكثر مما يستطيع الشعر أو غيره من الفنون الرفيعة، ولكن ذلك لا يعني أن القصة الجيدة ليست فناً رفيعاً، أو إنها لا تحتل مكانة عالية بين الفنون الإنسانية الكبيرة
وليس دفاعي عن القصة ومكانتها اندفاعاً مع العصر الحديث، فإن هذا العصر قد بالغ في شأنها أكثر مما ينبغي، ولكن إذا كانت مهمة القراءة كما قال الأستاذ في كتابه هي (الاستزادة من الحياة)، فإن القصة الجيدة كالشعر الجيد والفنون الأخرى ضرورية لتلك الاستزادة لا يغني عنها وغيرها من الفنون
محمد قطب(632/48)
خادمك المليونير
(للأستاذ عثمان نوية)
هي قصة تجمع بين الجد والفكاهة في أسلوب رشيق، وعبارة أنيقة، وهي أيضاً تحليل لشخص غريب الأطوار، هو مادة الفكاهة في القصة، وهو في الواقع مورد للفكاهة لا ينضب
ولا تخلو القصة بعد هذا من ناحية الجد، إذ نجد إنها تتناول شخصية شاعر حساس، يصارع موجة من الحب العنيف العفيف ونشهد نحن هذا الصراع، متنقلين مع الشاعر في جولاته وخطراته إلى أن ينتهي هذا الصراع. . . ينتهي فلا يموت الشاعر، ولا تموت الحبيبة، ولأتفصم عراهما، بل ينتهي بكل ما تريده النفس الطيبة. . نعم، لم يركن الكاتب إلى الدرامة العنيفة، أو النهاية المؤلمة التي يقصد إليها الآخرون لوجه الإيلام فحسب، وإنما نجده يركن إلى الصفاء والسرور والمرح. . . وما أحوجنا في هذه الأيام إلى الصفاء والسرور والمرح! وحبذا لو جرى الجميع على هذا النهج. . . حبذا لو عرفوا أن السرور يهز الشاعر كما تهزها الفجيعة تماما. . . مع الفرق الشاسع بعد هذا بين السرور والفجيعة
وكاتب هذه القصة فنان مطبوع، يتحامل على نفسه، فيرى الحسن في كتابه سيئاً، ولا يرضى عنه إلا بعد أن يصير إلى أحسن
ولكن لي على الكاتب نقداً أرجو أن يتقبله هادئاً كما عهدته؛ ذلك إنه يختم الحلقة الثالثة من عمره، وروايته هذه هي أول مؤلفاته، ومعنى هذا إنه قضى هذه الحلقات الثلاث في إحدى اثنتين: إما إنه كان يحشد نفسه لهذه الرواية، وإما إنه كان يهمل الكتابة طول هذه المدة، وفي كلتا الحالتين يكون قد أساء إلى الأدب كثيراً، وفي كلتا الحالتين يكون أنانياً لا يحب إلا نفسه، فهو يقرأ ويقرأ ولا يكتب، فيسر هو وحده، دون أن يتيح للقراء أن يسروا بما ينفحهم به من ثمرات قلمه، التي عرفنا قيمتها في (خادمك المليونير)
لعل الأستاذ عثمان يصلح ما قد جنته أنانيته فيطالعنا دائماً بمثل هذه الرواية الممتعة
ثروت اباظة
إلى الأستاذ العوضي الوكيل(632/49)
يظهر أن الأستاذ العوضي الوكيل قد كتب مقاله هذا بنفس السرعة التي ينظم بها قصائده، أرجو أن يقرأ مقالي مرة أخرى.
ثروت
الترتيب التاريخي للزوميات
وُضع سهواً اسم الدكتور عمر فروخ في ذيل الكلمة التي نشرت تحت هذا العنوان في بريد العدد الماضي، لأن التلخيص والتعليق (للرسالة)(632/50)
القصص
الخطيب. . .
لأنطوان تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(كتب هذه القصة الممتعة أنطون تشيكوف أمير القصصيين في روسيا، منذ حوالي نصف قرن. . . ويسرنا أن نقدمها إلى قراء الرسالة مثالا للحياة الاجتماعية في ذلك العهد المظلم. . . ولعل تلك القصة من القلائل التي أجاد فيها قلم تشيكوف الفكاهي في أسلوب ممتع ومعنى ظريف، يتخللها نقد صريح للتقاليد والعادات التي كانت تغل الناس في ذلك الحين. . .)
مصطفى
. . . في صبيحة يوم مشرق كان (كيريل ايفانفتش بيلولوف) كاتب الجامعة على وشك أن يدفن، وهو رجل مات متأثراً بالآفتين الشائعتين في بلادنا: زوجة سيئة الخلف، وإدمان للخمر
وبينما كان موكب الجنازة يجتاز الطريق إلى المقبرة قفز أحد رفقاء المرحوم ويدعى (بيلافسكي) إلى عربة، وراح يركض بها منقبا عن (جرجوري بتروفتش زبوكين)، وهو رجل - مع حداثته - يتمتع بهيبة ومحبة من معارفه، ويحيط بقسط وافر من العلم - كمعظم قرائي - وقد خلع الله عليه موهبة نادرة في ارتجال الأحاديث التي ينطلق لسانه بها في الأعراس والأعياد والجنازات، وفي قدرته أن يتحدث كيفما وحيثما يشاء. . . في نومه، في خواء معدته، عندما ينتشي لكثرة ما نهل من الخمر، عندما تعتريه الحمى فتسيل الألفاظ من فمه في سلاسة ولطف كما تنساب المياه في الجداول، ويعج قاموسه الخطابي بكلمات لا تدانيها (صراصير) المطاعم في الغزارة والوفرة. أما أسلوبه ففصيح بليغ يفيض بالإطناب والإسهاب، ولذا يلجأ القوم - في بعض أعراس التجار - إلى الاستعانة بالشرطة لإيقاف ذلك السيل المتدفق. . .
وابتدره بيلافسكي حينما عثر عليه في داره قائلا: (لقد أتيت في طلبك - أيها العجوز - هيا(632/51)
ارتد قبعتك وسترتك على عجل واصحبني. . . فقد مات أحد رفقائنا ونحن على وشك أن نشيعه إلى الآخرة، ولذا وجب عليك أن تودعه بكلمة من كلماتك الرائعة فأنت أملنا الوحيد، ولولا أن ذلك الفقيد له مقام في المجتمع ويستحق ما يقال في تأبينه لما أتعبناك وأزعجناك، ولكنك تعلم إنه كاتب الجامعة وناموسها والدعامة الراسخة التي كانت تعتمد عليها الإدارة، فينبغي أن نشيعه ولو بحديث لائق. . .) فقال زبوكين بغير اكتراث: (هه. . . كاتب الجامعة! أتعني ذلك الرجل السكير؟!)
- (نعم. سيكون ثمة فطائر وغذاء. وستنال أجرة العربة. . . هيا، عجل يا عزيزي، يكفيك أن تلقى ببعض الألفاظ الحزينة عند القبر كما كان يفعل سيكرو العظيم. . . آه كم ستحوز من الشكر والثناء!)
فوافق (زبوكين على الفور وراح يعبث بغدائر شعره وجعل على سحنته مسحة كآبة وحزن، وانطلق في الطريق بصحبة (بيلافسكي)، وقال وهو يهم بركوب العربة: (إني أعلم من هو كاتبكم هذا. . . رجل شرير خبيث، وحش لم أصادف نظيره في حياتي. . . فليكن الله في عونه).
- (آه. . . (جريشيا) هيا معنا فليس من العدل أن نسيء إلى رجل ودع الحياة).
- (لا مجال للشك في ذلك: (فما يذكر للميت سوى حسناته) ولو كان شريراً. .).
وأدرك الرفاق الثلاثة موكب الجنازة، وراحوا يسيرون معه. أما النعش فكان يتقدم وئيداً وعلى مهل حتى أنهم استطاعوا - قبل وصولهم إلى المقبرة - أن ينسلوا ثلاث مرات إلى حانة خمر وينهلوا بعض الأقداح (نخب) حياة الراحل (الكريم).
وفي المقبرة راح الجميع يصلون إلى جانب اللحد. . . أما حماته وزوجته وأختها فأخذن يذرفن الدمع - مراعاة للتقاليد والعادات - وعندما واروا النعش في التراب صرحت الزوجة في لوعة وأسى (دعوني أرحل معه) ولكنها لم تصحب زوجها إلى القبر فقد تذكرت ما ستنال من معاش الفقيد. . .
ولبث (زيوكين) حتى خيم الصمت على الجميع. . . فخطأ إلى الأمام. . . وراح يقلب طرفه في الحاضرين. . . وبدأ يقول:
(أأصدق ما تراه مقلتاي، وما تسمعه أذناي؟. . لا. إن هذا إلا أضغاث حلم مزعج. . . هذا(632/52)
القبر، هذا الدمع الذي يتألق على الوجنات. . . هذه الإناث وهذه الزفرات. . . أهذا كله وهم؟ لا وا أسفاه ما هذا بحلم. . . إنما هي الحقيقة وأعيننا لا تخدعنا. . . لقد قضى نحبه من كان بيننا منذ لحظات، من كان أمام أعيننا كالنحلة الدؤوب. . . لا يقر قرارها حتى تخرج العسل شهياً لصالح الخلية الاجتماعية. . . لقد ارتد الآن إلى التراب. . . إلى التراب الخداع، لقد اختطفته يد المنون القاسية الجبارة في لحظة كان يفيض فيها - مع تقدمه في العمر - بالحياة والقوة والطموح. إنها لعمري خسارة لا تعوض. . . ترى من سيخلفه في منصبه، لاشك أن في حوزتنا من هو كفء لها، ولكن (بركوفي اسبتسن) معدوم النظير. . . لقد كان منصرفاً إلى تأدية واجبه بما وسع مقدوره. . . لم يضن بقوته بل كان يجهد نفسه في العمل إلى لحظات متأخرة من الليل. . . كان مثلا عالياً للقلب والطيب والضمير المنزه عن الرشوة، كم كان يحتقر أولئك الذين يأكلون مال الناس بالحق وبالباطل. . . لا يفتأون يحللون له الضلال ليحيدوا به عن السبيل السوي. . . نعم أمام أبصارنا (بروكوفي اسبتسن) الذي يجود براتبه لإخوانه التعساء. . . كم ستطرق آذاننا تلك الأنات التي تطلقها الأرامل واليتامى بعد أن قضى نحبه من كان يحسن إليهم، من كان منصرفا إلى أعمال البر وإلى تأدية واجبه. . . من كان عزوفا عن ملذات الحياة وبهجتها. . . من نبذ سعادة هذا المجتمع. . . بل نبذ الزواج وجانب النساء إلى آخر أيامه. . من ذلك الذي في قدرته أن يخلفه كرفيق جبلنا على حبه. . . وكأني أنظر إلى وجهه الحليق تعلوه الرحمة يلتفت إلينا وعلى ثغره ابتسامة مشرقة. . . وكأني أنصت إلى صوته الحنون الشفيق. أسأل الله أن يشملك برحمته يا بروكوفي أسبتسن فقد كنت شريفا أمينا مع ما في ذلك من عناء. . .).
وواصل زبوكين حديثه. . . بينما شاع الهمس بين المنصتين، لقد أرضى حديثه الجميع. بل وجعل بعض الدموع تنهمر من المآقي. . . ولكن بدت معظم الفقرات الخطابية غريبة؛ فأولا: لم يدركوا السبب الذي دعا الخطيب من أجله الفقيد باسم (بروكوفي اسبتسن) مع أن اسمه (كيريل ابفنفتسن). ثانيا: أن الجميع يعلم ما كان ينشب بين الراحل وزوجته من الشجار. فمن المؤكد إذن إنه لم يكن أعزب كما نعته (الخطيب). ثالثا: كان ذا لحية كثة حمراء وهذا يتنافى مع قول الخطيب من إنه كان (حليق الوجه). ولهذا أعجز الجميع فهم(632/53)
معظم أقوال الخطيب. . . وعلا وجوههم الوجوم، وبهتوا وأخذ يتلفت بعضهم إلى البعض، بينما راح فريق منهم يهز أكتافه في ملل وضجر.
واستمر الخطيب في خطبته - وقد اتخذ في رفقته هيئة الحزين. فقال: (بروكوفي اسبتسن. . . لقد كان وجهك وضاحا مع إنه قبيح. . . كنت عبوسا مقطب الجبين، ولكن كلنا يدرك أن تحت هذا المظهر الخارجي قلبا يغلب عليه الشرف والشفقة والحنان. . .). وفجأة لحظ المستمعون أن الخطيب نفسه بدأ يعتريه شيء من الاستغراب كان يتفرس في جهة معينة من الجمع الغفير. ولم يلبث أن كف عن الحديث وفغر فاه في دهشة. . . ثم مال على صديقه بيلافسكي وقال وهو يحملق في فزع (هه. لقد رأيته. . . إنه ما زال على قيد الحياة؟!).
- (من هو الذي لا زال على قيد الحياة؟!).
- (بروكوفي اسبتسن!! ها هو قائم عند حجارة القبر!!)
- (إنه لا زال على قيد الحياة. . . إنما الذي مات كيريل ايفانفتسن أما بروكوفي اسبتسن فقد كان كاتب الجامعة منذ حين وقد نقل إلى المنطقة الثانية رئيسا للمكتبة. . .).
- (يا للشيطان الذي أوحى ألي بذلك!).
- (لِمَ وقفت عن الحديث. . . انطلق عجبا!! إنك مضطرب). والتفت زبوكين إلى القبر، وفي فصاحته المعهودة تابع حديثه. أما بروكوفي اسبتسن كبير الكتبة الكهل ذو الوجه الحليق فقد كان قائما حقا قرب حجارة القبر. . . كان ينظر إلى الخطيب شزراً. . . وقد انتابته موجة من الغضب.
أخذ رفقاء زبوكين يتغامزون عليه في عودتهم (هه. . . هه. . . يا لك من غر! عجبا! أتود أن تدفن رجلا وهو يفيض بالحياة؟) ودنا منه بروكوفي اسبتسن وراح يقول في تذمر: هذا لا يليق أيها الشاب، إن حديثك هذا له قيمته إن كان في رجل قد ودع الحياة، أما إذا كان يمت إلى رجل حي فهو كلام فارغ وتهكم واستهزاء. . . كم تحدثت طويلا عن روحي وعن نفسي! أيها الأبله! ماذا كنت تقول؟! مثلا عالياً للقلب الطيب والضمير المنزه عن الرشوة. . إنها كلمات تقال للأحياء على سبيل التهكم، ومع ذلك من الذي دعاك إلى التحدث بإطناب عن وجهي؟! قبيح عبوس، ولنفرض إنه كذلك، ما الذي عاد عليك أيها الأبله من(632/54)
وصف محياي على ذلك الملأ. . . إنها والله إهانة لن أغفرها لك
مصطفى جميل مرسي(632/55)
العدد 633 - بتاريخ: 20 - 08 - 1945(/)
الحرية والقنبلة الذرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
ختمت الحرب بالقنبلة الذرية
فعسى أن يبدأ عهد سلم موفور الأمن، مكفول الحرية
ولست ضعيف الأمل في بلوغ الغاية من هذه الطريق المرهوبة، لأن الاستعمار والاستغلال هما آفة هذا العصر في علاقات الدول وعلاقات الأفراد. ولابد أن يتأثر الاستعمار والاستغلال معاً بعد انطلاق قوة المادة من خزائنها التي كانت محبوسة فيها. فنرجو أن يكون التغير المنظور للتحسين لا للتسوئة، فإن التسوئة لا تنفع أحداً من المستعمرين ولا المستغلين، وفيها ضير محقق عليهم أجمعين.
ينشأ الاستعمار من الحاجة إلى الخامات والوقود والأسواق، ومن أجل هذه المطالب تسيطر الدول الكبرى على سبل المواصلات وتحتل المسائح البعيدة وتجور على سيادة الأمم الضعيفة بما تشاء من المعاذير والتعلات
وينشأ الاستغلال من احتكار أصحاب الأموال الوافرة الموارد الصناعة والوقود، وقدرتهم على تسخير الأيدي العاملة في صنع أدوات المعيشة بأرخص الأجور
فإذا استغنت الدول عن النفط والفحم وسائر أنواع الوقود، أو خفت حاجتها إليها، وإذا أمكن تحويل العناصر بالطاقة الهائلة التي تنطلق من خزائن الذرات على اختلافها، وإذا تيسر استبدال بعض المزروعات ببعض المصنوعات، أو تيسر الحصول على المزروعات بجهد قليل ونفقة أهون من نفقتها اليوم، وإذا صحب هذا الانقلاب ما سيصحبه حتما من تغير العلاقات بين الأمم، فهل نغلو في الرجاء إذا قلنا أن الأقوياء يستغنون يومئذ عن التحكم في الضعفاء، وإن الاستعمار ينقضي شيئاً فشيئاً، لأنه عدوان لا تدعو إليه الضرورة ولا يساوي ما فيه من عنت وما يدور حوله من نزاع؟
كذلك نرجو أن يبطل الاستغلال إذا أمكنت إدارة المصانع بغير الحاجة إلى رؤوس الأموال الكبيرة، أو بغير الاعتماد على شركات الاحتكار والاغتصاب. فلا حاجة إذن إلى إرهاق العمال في استخراج الثمرات والمصنوعات، ولا حاجة بالعمال أنفسهم إلى العناء الشديد لاستحقاق الأجور الكافية لتحصيل أسباب المعيشة الرخية، فقد تتيسر الأشياء لطالبيها(633/1)
بأرخص الأثمان وأيسر الوسائل، لأن الطاقة الذرية كفيلة بتيسيرها من غير إرهاق في العمل ولا إغلاء للتكاليف
نعم، أن فلق الذرة لا يزال وديعة مكتومة بين أيدي فئة قليلة من رجال الدولتين الأمريكية والبريطانية، ولكنه سر الحكومات والعلماء وليس بسر المحتكرين وأصحاب الأموال، ولا مصلحة لحكومة من حكومات هذا العهد في تسليم هذا السر إلى شركات الاحتكار لاستخدامه في تسخير الملايين من الصناع والأجراء، وإذا تسرب السر إلى الصناعات السلمية، فلا موجب لانحصاره في أيدي أصحاب الأموال وأنصار الاستغلال، لأنه قد يتاح لأصحاب الأموال القليلة كما يتاح لأصحاب الأموال الكثيرة، وقد ينتفع به الأفراد كما ينتفع به كبار المساهمين في الشركات. ولا شك أن تكاليف العدد والأجهزة التي تستخدم في شق الذرة ستنقص مع الزمن وتدخل في متناول العدد الأكثر فالأكثر من المنتفعين بها، وبخاصة إذا تعدى الأمر معدن الأورانيوم إلى غيره من المعادن التي قد تجدي في توليد الطاقة وإن لم تبلغ في قوتها مبلغ هذا المعدن المنزور
ونود أن نتفاءل ولا نود أن نتشاءم، لأن التشاؤم هنا عبث ضائع على كل حال، فمتى وقعت الطامة الكبرى التي لا طامة مثلها ولا طامة بعدها، فإن غناء الباكيات قليل كما قال الشاعر القديم
وللقنبلة الذرية علاقة أخرى بقضية الحرية غير هذه العلاقة، وهي توكيد العقم الذي تصاب به العقول المنتجة في بلاد الاستبداد، أو في غير البلاد الديمقراطية على الإجمال
فليس أكثر من معامل التجربة في ألمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا الشيوعية، وبعض الحكومات التي تخضع للحكومة الإجماعية
وليس في العالم دولة تهتم باختراع الأسلحة الجائحة كما تهتم بها دول المحور ولا سيما الألمان واليابان
كل جهود هذه الدولة منصرفة إلى استكمال العدة بكل وسيلة من وسائل الغلبة وكل حيلة من حيل العلم والصناعة
والعلم الإنساني بين أيديها كما هو بين أيدي الأمم الديمقراطية في الولايات المتحدة أو في بلاد الإنكليز(633/2)
وربما استطاعوا أن يحيطوه بالأسرار ويهيئوا له جو البحث في أمان من عيون التجسس والاستطلاع، ولم يتيسر ذلك بمثل هذه السهولة في بلاد البحث الحر والصحافة المطلقة والمناقشات التي لا تنقطع في الأندية العامة والمجالس النيابية
وكان قلق الذرة عند الألمان واليابان مسألة حياة أو موت، لأنهم لا ينتصرون بغيره كما ظهر من وقائع الحرب التي يشهدوها قبل أن نشهدها، ولم يكن فلق الذرة مسألة حياة أو موت عند الديمقراطيين، لأنهم قد انتصروا بغيره أو انتصروا قبل القنبلة الذرية وتلقوا عروض الصلح من اليابان قبل استخدام القنبلة الأولى ببضعة أسابيع
ومع هذه الضرورة الملحة، وهذه العناية البالغة، وهذه اللهفة العاجلة، حضرت العقول في بلاد الاستبداد فلم تصنع شيئاً في هذا الباب ولا قريبا من شيء، وعمل الديمقراطيون للحرب بعدهم بسنوات، فإذا بهم يستعدون لها بهذا السلاح ويشهرونه على أعدائهم وهو عندهم فضول وعند أولئك الأعداء طريق النصر - بل طريق النجاة الوحيد.
لم خابت عقول المخترعين في بلاد الاستبداد وأقحلت في بلاد الحرية؟ الاختلاف في طبائع العقول؟ أهناك تفاوت في مواهب الأجناس؟
كلا، لأن العلماء الذين عملوا لفلق الذرة منهم ألمانيون وروسيون وإيطاليون ودنمركيون، ومنهم من بدأ البحث ومن تقدم به إلى ختامه الموفق ومن كان له فضل الاقتراح الناجح منذ سنوات.
فليس المرجع في هذا إلى اختلاف في طبائع العقول، أو تفاوت في مواهب الأجناس، ولكنما المرجع فيه إلى سبب واحد جامع شامل وهو جناية الاستبداد على العقل البشري بجوه الخانق وسيطرته الغاشمة وسوء التوفيق بينه وبين الكرامة الفكرية التي يشعر بها المخترع ولا غنى له عنها في معرض ن معارض التفكير.
ولم يكن هذا المخترع فلتة أو مصادفة بين المخترعات الأخرى حربية كانت أو سلمية، ولازمة كانت في موعدها المطلوب أو غير لازمة. . . لأن القاعدة مطردة بغير استثناء يذكر في مخترع واحد من مخترعات هذا الزمن الحديث. وحسبنا أن نلحظ الفارق بين الطائرات الألمانية أو الإيطالية وبين الطائرات الأمريكية والإنجليزية مع استغناء الإنجليز والأمريكيين بالأساطيل البحرية واعتماد الألمان على الطائرة والغواصة لمقاومة المدرعات(633/3)
والسفن الكبيرة. فإن الديمقراطيين دخلوا ميدان الاستعداد متأخرين فبلغوا بالطائرات على اختلافها أقصى حدود الإتقان في وقتنا هذا، وأصبحت قاذفاتهم ومقاتلاتهم وحارساتهم وناقلاتهم راجحة في مجال العمل على أمثالها عند المحوريين كل الرجحان.
وما من شيء سمعناه عن أخبار الأمم التي لا تدين بالديمقراطية يدل على كساد العقول في ظل الاستبداد كما تدل عليه تلك الأخبار التي ينشرونها عن ملايين الكتب والتصانيف التي تطبع بالملايين وتوزع كما يقولون بين الملايين. فإن تلك البلاد كانت تنجب النوابغ النابهين في العلوم والآداب ولم يكن يطبع فيها عشر معشار هذا المقدار. فإذا توافر الغذاء وساءت (الصحة العقلية) فالجو إذن هو المسؤول عن هذا الهزال، وعليه اللوم وحده وليس اللوم على القرائح والعقول.
على أن القنبلة الذرية ستخدم الحرية الديمقراطية من طريق غير هذه الطرق التي قدمناها. لأنها ستحطم مذهب (كارل ماركس) كما تحطم الحصون والمعاقل التي تنقض عليها، وهو أخطر المذاهب التي تناضل الديمقراطية في عهدها الأخير.
ولسنا نعني بذلك أن الديمقراطيين يحاربون الماركسيين، وإنما نعني به أن ظهور هذا العامل الجديد في أطوار الصناعة يقطع السلسلة التي صاغ كارل ماركس حلقاتها وجعل الحلقة الأخيرة منها اجتماع الثروة كلها في أيدي ملوك الصناعة واصطلاح الفاقة كلها على العمال.
قال: ومتى صار العمال إلى هذا المأزق الضنك فلا مناص لهم من الموت جوعا أو الثورة الدموية على ملوك الفحم والحديد وأشباه الفحم والحديد.
فأقل ما تصنعه القنبلة الذرية أنها تقطع هذه السلسلة قبل حلقاتها الأخيرة، لأنه توهن قبضة المحتكرين على عناصر الصناعة الكبرى وتخلق لهذه الصناعة عنصراً غير الفحم والحديد وغير العناصر التي يقوى على احتكارها أولئك المستغلون.
فما أضخمها من قنبلة تلك القنبلة التي نجمت من أصغر الأشياء في هذه الدنيا.
أنها قنبلة ناسفة عاصفة ولكنها في عالم الأفكار والآراء أفعل ما تكون؛ لأنها إذا فعلت فعلها في آراء الناس وأخلاقهم لم يقف لها عائق ولم يكن تعويقها من المفيد، ولكنها إذا أرادت أن تفعل فعلها في عالم الأجساد وقف الناس لها أجمعون أو وجب عليهم أن يقفوا لها هناك. .(633/4)
وإلا فهي القيامة لا مراء.
عباس محمود العقاد(633/5)
الفلسفة الإسلامية المتأخرة
للدكتور جواد علي
- 2 -
وكتاب الأسفار من الكتب الفلسفية المهمة، وقد أكسب مؤلفه شهرة عظيمة جعلته في عداد كبار فلاسفة الإسلام. فإنك إذا ما قرأت الكتاب شعرت بأهمية المؤلف وبالمسائل العويصة المدونة فيه. وبالأفكار والنظريات الفلسفية العويصة المسطرة في صحائف السفر العظيم. تذكرك بكتب ابن سينا أو محي الدين بن العربي أو الطوسي وبأمثالهم من فلاسفة المسلمين. وقد غلط المستشرق كوبينو في ترجمة عنوان الكتاب إذ توهم فظن أن المقصود من (الأسفار) السياحات ولذلك اختار كلمة والحال أن مقصود المؤلف من كلمة (أسفار) جمع (سفر) ومعناها الكتاب. ومقصود المؤلف من (الأسفار الأربعة) الكتب الأربعة لا السياحات الأربعة كما ظن ذلك هذا المستشرق المذكور.
راجت كتب الملا صدرا رواجاً عظيما وشرحت عدة شروح وظلت آراؤه فيما وراء الطبيعة تحتل مكاناً بارزاً في عالم الفكر الإسلامي حتى اليوم. ولا زالت كتبه تستعمل في الجادة القديمة لمن تقدم في موضوع الفلسفة كما تستعمل كتب ابن سينا أو ابن رشد. وقد أثرت آراؤه هذه على الأخص في الهند وإيران والأفغان فأوجدت بعض المذاهب الإسلامية التي لم تلبث أن أصبحت مذاهب دينية ذات مناهج مستقلة مثل مذهب (الشيخية) المنسوب إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي المتوفى سنة 1243 للهجرة ولسنة 1817 - 1828 للميلاد.
تأثر الشيخ أحمد الإحسائي بآراء الملأ صدرا كثيراً فشرح بعض كتبه مثل كتاب (الحكمة العرشية) وكتاب (المشاعر) وهو عيال على الملأ صدرا على الأخص في موضوع ما وراء الطبيعة. وبالنظر إلى ما كان يظهره من غلو في بعض الآراء نفر الناس منه والتمس الشيخ حاميا له ومعيناً، وكان ذلك الحامي هو الأمير محمد علي ابن فتخلعي شاه حاكم مدينة (كرمانشاه). ولما توفي هذا الحاكم اضطر إلى مغادرة إيران والالتجاء إلى (الحائر) المقدس في العراق حيث ألف كثيراً من كتبه وشرح ما راقه من كتب الملأ صدرا المهمة وبعض الكتب الأخرى. وقد عرف اتباع الشيخ أحمد باسم (الشيخية) وهم جماعة خاصة ظهرت(633/6)
في جماعات الشيعة في إيران. تزعمهم تلميذ الإحسائي ومنظم صفوف الشيخية (السيد كاظم الرشتي) ابرز تلاميذ الإحسائي على الإطلاق. (توفي سنة 1844م). وكان هذا السيد من أردبيل ملجأ الشيخ صفي الدين الأردبيلي المتصوف المشهور وجد الأسرة الصفوية والذي ينسبه الكتاب إلى الإمام موسى الكاظم الإمام السابع على ترتيب الشيعة الأثني عشرية من آل البيت.
يروى عن الشيخية أن الإمام تجلى للسيد كاظم الرشتى في ليلة من الليالي وكان عمره إذ ذاك اثني عشر عاما وأشار عليه بوجوب الذهاب إلى مدينة (يزد) إحدى مدن إيران والالتحاق بحاشية الشيخ أحمد الإحسائي الذي كان يعظ ويدرس في تلك المدينة. وقد اتبع السيد أمر الإمام وذهب إلى المدينة وأصبح من تلاميذ الشيخ وأصحابه ومن أقرب الناس إليه. ولما غادر الإحسائي إيران ثم ترك العتبات المقدسة في العراق لأداء فريضة الحج توفي في الحجاز ودفن بالمدينة في جوار قبور الأئمة بالبقيع سنة 1243 للهجرة. وأصبح السيد كاظم الرشتى خليفة الإحسائي والنائب منا به في الأمور. فنظم شؤون (الشيخية) وألف في الدفاع عن عقيدة أستاذه وفي توضيح قواعد المذهب الجديد إلى أن توفي بمرض أصابه ببغداد دون أن يتمكن من النص على تعيين شخص. يكون خليفته من بعده وزعيم الشيخية الديني المطاع بالنص والتعيين.
فانصرفت جماعة منهم إلى الميرزا علي محمد الشيرازي (ولد سنة 1820م - قتل سنة 1885م) الذي جاء بتعاليم جديدة تلتقي في الفكرة التي استقى منها الملأ صدرا تعاليمه والشيخ أحمد الإحسائي والبابية عيال على الشيخية في آرائها وفي أفكارها المغالية ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي وعلاقة الإمامة بالإنسان
ومن أقوال الإحسائي في الحشر والمعاد قوله (إن هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة يفنى ويزول ولا يعود والمحشور في القيامة هو البدن النومي الذي تراه في منامك. كما يقول إذا دخلت في النوم خلعت الجسد العنصري وبقيت في الجسد الهور قليائي وجميع أجسام الجنة والنار من قبيل الصور النومية وقد أنكر معراج النبي بالبدن العنصري البشري المحسوس (مستدلا بأن الصعود بهذا البدن يلزم منه الخرق والالتئام تبعا لفلاسفة) وفسر المعراج تفسيرا يختلف عن التفاسير المألوفة التي تحاول التوفيق بين العقل(633/7)
والنقل.
وينسب إليه الغلو في الأئمة حتى أنه أشركهم مع الله في الخلق وفي القدرة وفي مسائل أخرى هي من صفات الألوهية والربوبية؛ لذلك حكمت عليه طبقة العلماء بالكفر والخروج عن الدين وكتبت بذلك وثيقة وضعتها في كربلاء إحدى المدن المقدسة في العراق.
ولم يكتب الرواج للمذهب (الشيخي) على عكس (البابية) التي نشأت في أحضان (الشيخية) ونمت بتربتها. والظاهر أن للتنظيم وقدرة زعماء البابية على إحكام أساليب الدعاية وتوجيه أنظارهم نحو العالم الخارجي المتعطش لكل فكرة غريبة هي التي دعت إلى رواج هذا المذهب الغريب. أما المذهب (الشيخي) فلم يظهر في وسطه زعيم قوى بعد وفاة خليفة (الإحسائي) السيد كاظم الرشتي يستطيع الاستمرار عل دعامة ذلك المذهب على الرغم من الجهود التي بذلها بعض علمائهم من أمثال الحاج محمد كريم خان الكرماني والملا محمد الماقاني ? ? ومع ذلك فلا زالت هنا لك جماعة صغيرة مشتتة بين العراق وإيران وسواحل الخليج تنتمي إلى مذهب الإحسائي ولكنها لا تتظاهر بذلك ولا تجهر به.
وأكثر الكتب المؤلفة في عقائد (الشيخية) هي من تأليف الشيخ أحمد الإحسائي نفسه الذي كان مؤلفا وكاتباً نشطا في التأليف، ومن تأليف تلميذه وخليفته السيد كاظم الرشتى والكرماني والماقاني ومن ظهر من رجالهم. وقد طبع بعضها ولا سيما كتب الشيخ أحمد الإحسائي في إيران والهند. ولدى الأستاذ المؤرخ المحامي عباس العزاوي وهو عالم ومن الهواة في جمع الكتب مجموعة مهمة من كتب الشيخية منها ما هو بخط الإحسائي نفسه، ومنها ما هو بخط السيد كاظم الرشتى أو بخط الزعماء الشيخيين.
حاول الملا صدرا كما حاول جماعة إخوان الصفا وبقية الفلاسفة الإسلاميين وقبلهم الفلاسفة المسيحيون التوفيق بين الفلسفة والدين، وبين العقل والنقل، وبين فلسفة اليونان وبين دين الإسلام. والملا صدرا ميال إلى آراء اليونانيين بل هو يؤمن بها إيمانا كليا ولكنه مسلم من جهة أخرى، وفي محيط إسلامي كانت الصوفية في ذلك الوقت تتحكم فيه. هو صوفي في التفكير والحياة والميول. ويذهب مذهب محي الدين بن العربي في آرائه ولا سيما في فكرة (وحدة الوجود).
ولعل وحدة المزاجين مزاج ابن العربي ومزاج الملا صدرا هي التي جمعت بين الملا(633/8)
صدرا وبين المتصوف الشهير على تباعد الوقت واختلاف العقيدتين - وهي التي جمعت بين الملا صدرا وبين بقية المتصوفة عموما. والظاهر أن الملا صدرا كان يؤمن بعقائد ابن العربي وبآرائه إيمان المقلد المعجب تراه يقتبس كلمات ابن العربي وأمثاله وأفكاره ويبثها في كتبه كما لو كان يقتبس من كتاب من الكتب المقدسة السماوية. ويدل ذلك في الوقت نفسه على اطلاعه الواسع على كتب ابن العربي ومؤلفاته على غموض العبارة وصعوبة الأفكار والأسلوب. وابن العربي من مبدعي مذهب (وحدة الوجود) في الإسلام والملا صدرا ممن يعتنق هذا المذهب ويدين به. يروى عن ابن العربي أنه كان يقول (كفر النصارى ليس بقولهم أن المسيح هو الله بل كفرهم لقولهم أنه ابن الله). وقال صدر الدين في أول رسالته سريان الوجود (ثم اعلم أن ذلك الارتباط كما مر ليس بالحالية ولا بالمحلية بل هي نسبة خاصة وتعلق مخصوص شبه نسبة المعروض إلى العارض بوجه من الوجوه وليس هي بعينه كما توهم. والحق أن حقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تعرف). وقال (الأٌقرب في تقريب تلك النسبة أعنى إحاطته ومعيته بالموجودات ما قال بعضهم من أن من عرف معية الروح وإحاطتها بالبدن مع تجردها وتنزهها عن الدخول فيه والخروج عنه واتصالها به وانفصالها عنه عرف بوجه ما كيفية إحاطته على ومعيته بالموجودات من غير حلول واتحاد ولا دخول واتصال ولا خروج وانفصال وإن كان التفاوت في ذلك كثيراً بل لا يتناهى ولهذا قال من عرف نفسه فقد عرف ربه).
وما الناس في التمثال إلا كثلجة ... وأنت لها الماء الذي هو فيه
فالملا صدرا على جادة ابن عربي في (وحدة الوجود) ويشاركه في آرائه الصوفية الأخرى. ولكنه كان من جهة أخرى حذراً جدا في كلامه لبقا في أساليب التعبير. وكان إذا أراد البحث في قضية من القضايا الحساسة تعمد التعقيد والإبهام والإجمال خوفا من الاصطدام بطبقة (المجتهدين) الذين ناهضوا التصوف والفلسفة والمتفلسفين واستحوذوا على الشاه وعلى بطانة الشاه.
استحوذ رجال الدين و (أصحاب الاجتهاد) على الرأي العام وتدخلوا في شؤون الحكومة حتى أصبحت الحكومة لهم والحكم في القضايا المدنية إليهم. وتغلبوا شيئاً فشيئاً على أصحاب الذوق وعلى رجال التصوف الذين استأثروا بالحكم في بادئ الأمر حين تشكلت(633/9)
الدولة الصفوية، تلك الدولة التي نشأت على أسس صوفية وعلى دعوة منظمة سياسية تسترت باسم التصوف والدروشة وذكر الله العظيم. ولكنها كانت تبث الدعوة وتوجه الأنظار سراً إلى عمل سياسي منظم قام به أنجال صفي الدين الأردبيلي الصوفي والزاهد المشهور واحد السلاطين الصفويين.
ومما ساعد تفوق رجال الدين على طبقات المتصوفة الفوضى الأخلاقية التي انتشرت في نوادي المتصوفة وأوكارها من (تكايا) و (خانقاه) وفي صفوف (القلندرية) و (الدراويش) إذ تحول (الذكر) الديني إلى رقص إيقاعي خليع، وتحول (الغزل الإلهي) إلى غزل شهواني مبتذل حتى اضطر المتصوفة أنفسهم إلى مكافحة هذه الطرق فيها كما فعل الملا صدرا نفسه وهو في عداد المتصوفة في رسالته (كسر أصنام الجاهلية).
وصبغ متصوفة إيران ممن سبقوا الملا صدرا أو ممن جاءوا من بعده ابن العربي وإخوانه المتصوفة بصبغة شيعية فجعلوه من كبار المجاهدين في خدمة التشيع وآل البيت وأحاطوه مع أمثاله كما أحاطه متصوفة السنة بهالة من التبجيل والتقديس. وكان الأحرى بهؤلاء أن يعدوه مع إخوانه في قائمة خاصة لا هي سنية ولا هي شيعية؛ قائمة يسجل فيها مع أهل الباطن وأهل الآراء الخاصة
على أن أهل الفقه من رجال الدين ممن اشتركوا في محاربة التصوف ورجاله لم يرضوا عن ابن العربي ولا عن زملاء ابن العربي ولم يخفوا حنقهم عليه. وقد حار المترجمون فيما بعد واضطروا إلى نقل الرأيين المدح والذم على الجمع بين الضدين في مكان واحد.
(يتبع)
جواد علي(633/10)
القضاء في الإسلام
قطعة من محاضرة ألقيت في دمشق سنة 1942 ولم تنشر
للأستاذ علي الطنطاوي
(مهداة إلى الرجل الذي أرادنا في شخصه صفحة حية من
أمجاد قضاتنا الأولين، وفاخر به عصرنا العصور السالفات. .
. عارف الكندي)
يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشية مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الأذان إغراقاً وتهويلا، فإذا سمعتم مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال (أنا عربي)، أو قال (أنا مسلم). . . كانوا أعلام الهدى في طريق العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، وما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون!
أني والله أخذ تاريخهم فاختصره وألخصه واعرضه عليكم، وربما أشرت إشارة عابرة إلى القصة لو سمعتموها على اصلها ما دريتم لفرط ما يخالطكم من السمو والزهو وهزة الطرب وأخذة العجب! أفي أرض انتم أم في سماء. . . لا تعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء!
وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها. ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القوى من بني آدم الضعيف، وإن معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحوادث والحريات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء.
والقضاء - عند المسلمين - أقوى الفرائض بعد الإيمان، وهو عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السموات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال (فالله يحكم بينهم) و (أن ربك يقضي بينهم)، وأمر به نبيه فقال (وإن احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع(633/11)
أهواءهم)، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون)، وبه اثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له (يا داود، أنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى).
والقضاء أول ما تعقد عليه أمة خناصرها، إذا عددت أمجادها ومفاخرها. وإذا استدل بفرد على سلائق جيل، كان القاضي العالم العادل اظهر دليل على مكارم شعبه ونبل أمته. وإذا كان بين الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه، وعزته ومضائه، ففاخروه يا شبابنا بقضائكم بكن لكم الفخار، وتعقد على جباهكم تيجان (الغار)، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد، بل انهضوا فصلوه بمجد لكم جديد!
يا أيها السامعون! أني لا ألقي خطابيات، ولكن اسرد حقائق: هذا قضاؤنا، فمن عرف قضاء اشد منه استقلالا؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ما كان لقضائنا؟ لم يكن القاضي مقيدا بمذهب بعينه لابد له في مخالفته، ولا مربوطا بقانون بذاته لا يملك الخروج من رقبته، وليس الخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام، تبدلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيرون وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم، ولا يمسه خليفة حق ولا سلطان جائر. . . القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه أيمانه ويقينه. وسيأتي الكلام في صفات القاضي، وإن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلدين. ولقد رأيت في تراجم بعض القضاة أنهم كانوا يرجعون إلى الخلفاء يسألونهم ويستفتونهم، وإن من الخلفاء من كان يذيع من (البلاغات) ما ظاهره إلزام القاضي بقول أو مذهب. وتحرير الكلام في هذه المسألة أن من أعمال الخلفاء الاجتهاد والفتوى والقضاة وقيادة الجيوش وسد الثغور، ومن شرائطهم العلم، فإذا رجع القضاة إلى الخلفاء، فإنما يرجعون إليهم لعلمهم وفقههم لا لسلطانهم ومنصبهم، وأكثر ما رأيت من السؤال إنما هو لعمر بن عبد العزيز وأمثاله. ولقد كانوا يقولون: (العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة). . . ولم يكن القضاة ملزمين بالعمل بجواب الخليفة أو بلاغه. ولقد رد القاضي المصري بكار بن قتيبة بلاغ الموفق العباسي، لما ثبت عنده أنه مخالف للحكم، ومناهض للدليل واسقط العمل به(633/12)
ولعمر الحق ما فرط قضاتنا بهذه الأمانة ولا أضاعوها، بل كانوا أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيرا ولا صغيراً، يقيمونه على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوى العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوحت لهم بالموت منشورا، بل كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتا، وفي إنفاذه كالصواعق مضاء وانقضاضاً، وسيأتيكم محمد بن عمران قاضي مكة، الذي ادعي لديه جمال على أمير المؤمنين، العظيم المخيف، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة حلب)، فجاء به في خف وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمال. وشريك قاضي الكوفة حين ادعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكما غيابيا، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسل إليه بكاتبه، فحبس القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغب الأمير وبعث من أخرجهم. عند ذلك - أيها السادة - عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزة الإيمان فقال: (والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم). ثم ختم قمطره، وجمع سجلاته، واحتمل بأهله، فتوجه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: (لا والله حتى يرد أولئك إلى الحبس، فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت)؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلم عليه بالأمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا أمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له شريك: أيها الأمير، ذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من عظم أمر الله، أذل الله له عظماء خلقه!
هذا قضاؤنا، فهل سمعتم عن قضاء أنه بلغ في التسوية بين الخصوم مبلغه؟ لقد سووا بينهم في المجلس والخطاب والبشر، واللفتة العارضة، والبسمة البارقة، بله الحكم. وقد بلغ(633/13)
التدقيق في تحقيق هذه التسوية مبلغا لا غاية وراءه، فاقترن في هذه المسألة العلم بالعمل، وحقق القضاة ما دون الفقهاء، فافتحوا اقرب كتاب فقه إليكم تروا ماذا دونوا. . .
وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلم منه نفسه، فترادا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك يحيى بن أكثم، فدعا به المأمون فقال له: أقض بيننا؛ قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم؛ قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كنت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة)؛ قال المأمون: قد جعلت داري مجلسا للقضاء. قال: إذن فأني أبدأً بالعامة ليصح مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية)؛ قال المأمون: افعل؛ ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وإذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المحضر: (عبد الله المأمون)! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه، والقصة طويلة عجيبة، تتمتها أعجب من فاتحتها، فاقرؤوها في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي، الجزء الثاني الصفحة 151، وأنكم لتحارون بعد مم تعجبون: من جرأة الرجل، أو من صلابة القاضي، أو من أخلاق المأمون!
ومن قبله غضب علي - كما قيل - حين كانت له دعوى مع اليهودي، لأن القاضي ناداه: يا أبا الحسن، ودعا اليهودي باسمه، فرأى في ذلك تعظيما له وإخلالا بالمساواة بين الخصوم، والله اعلم بصحة ما قيل. ونزل ضيف يخبر بن نعيم قاضي مصر فأطعمه وأكرمه، ثم علم أن له خصومة لديه، فتركه في الدار، وذهب يفتش عن خصمه حتى جاء به فأجلسه معه على المائدة. وقد حدثني عمي القاضي النزيه صلاح الدين الخطيب عن عمه قاضي يافا في زمانه العالم الجريء المشهور صاحب النوادر الشيخ أبي النصر الخطيب بمثل هذه القصة. . . وما كان الخير لينقطع في أمة محمد إلى يوم القيامة!
هذا قضاؤنا، فهل أسمعتم أن قضاء أسرع في إحقاق الحق منه، وابعد عن التعقيد والالتواء(633/14)
والتسويف والتأجيل؟ أن الحق اليوم لا يكاد يصل إليه صاحبه حتى تتقطع دونه الأعمار، وما أجدى حق يأتي من دونه المدى الأطول؟ لقد كانت بيننا وبين آل الصلاحي في دمشق دعوى على أرض لبثت في المحاكم ثلاثا وثمانين وخمسة أشهر. . . أقامها على جدهم جدي الذي قدم من (طنطا)، وانقرض منا ومنهم بطنان والدعوة قائمة، وقد خسرناها أخيراً. وصدقوني إذا قلت لكم أني لم ادر إلى الآن مع من منا الحق، ولم أفهمها. وكيف ادرس ملفا فيه من الأوراق المكتوبة بالعربية والتركية والفرنسية أكثر مما في تاريخ بن جرير الطبري؟ أما قضاؤنا، فكان يبت في القضية مهما عظمت في جلسة أو جلستين، لا يعرف هذا التطويل وهذا التأجيل. ولقد حكم قاضي مصر محمد بن أبي الليث في دعوى بني عبد الحكم المشهورة بمبلغ مليون وأربعمائة وأربعة آلاف دينار ذهبي في جلسة واحدة يوم السبت 8 جمادى الأولى سنة 237هـ، ورضى بحكمه الفريقان. روى ذلك الكندي.
وهل مثل قضاتنا في التنزه عن كل ما يقدح بحشمة القاضي ووقاره، وفي التحرز من أدنى التهم، وأضعف الميل؟ وهل للقضاة في أمة اليوم مثل ما كان لقضاتنا من رفيع الشان وعظيم القدر؟
يا أيها السادة! اذهبوا إلى سوق الكتب فاطلبوا كتاب (الخراج) الذي ألفه القاضي الإمام أبو يوسف للرشيد واقرؤوا مقدمته، واذكروا عظمة الرشيد وكبر نفسه وجلال ملكه، ثم انبشوا تواريخ الأمم الماضية وأخبار الأمم الحاضرة، وانظروا. . . هل تجدون قاضيا، أو عالما، يقول لملك دون الرشيد بمائة مرة مثل هذا الكلام أو قريبا منه: (الله الله، أن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار، فلا تلق الله غدا وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذرك الله فأحذر، فانك لم تخلق عبثا، ولن تترك سدى، وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فأعدو يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت قد أثبت فهو عليك غدا يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد)
أيها السادة، هذا بعض ما خاطب به أبو يوسف القاضي هارون الرشيد أمير المؤمنين والحاكم المطلق في ست عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام!
علي الطنطاوي(633/15)
العلية الاجتماعية
التاريخ. . . ما هو؟
(إذا أراد العالم أن يكون مؤرخاً، فعليه أن يكون رجل
اجتماع. . .)
للأستاذ فؤاد عوض واصف
التاريخ. . . ما هو؟ عنوان سبقنا إليه العلامة الألماني لامبرشت؛ فلعله كان من بين الذين أثارهم ذلك التضارب المثير والاختلاف الكبير بين اتجاهات التاريخ المختلفة، حتى لقد احتار طلاب العلم ولم يدروا، أهو أنف كليوباترا الدقيق الذي غير مجرى التاريخ المصري القديم، أم هل عوامل طبيعية وجغرافية لم يكن لسحر كليوباترا وجمالها دخل فيه، أم هو الشعب أقام التاريخ المصري القديم كما أقام كليوباترا وأقعده كما أقعدها؟
التاريخ. . . ما هو؟ هل هو الإنسان بما ركب فيه من ميول ونزعات تنمو تارة فيزدهر التاريخ، وتضمحل أخرى فتضيع أصداؤه؟ أم هي الطبيعة بجبالها وأنهارها بغاباتها وأشجارها، ينمو التاريخ في أحضانها مزوداً بأعاصيرها ورياحها بثورتها وهدوئها، أم هو المجتمع يتمخض عنه التاريخ (كما يتمخض الناتج الكيميائي عن مزيج من العناصر)، دون أن يكون للفرد فيه أو للعوامل الطبيعية غير دور ثانوية؟. . .
التاريخ. . . ما هو؟
كان التاريخ في عهوده الأولى عبارة عن مقطوعات نثرية لا تقرر الواقع، وكانت أغلب القصص التي تروى في ذلك الحين مختلفة، وكانت المعابد مكانا تسجل فيه بعض الأحداث ومعجزات الآلهة. أما في روما، فكان أكثر ما يشغل الشعب الأخبار السياسية، ولذلك كانت تدون على جدران المعابد
وجاء المؤرخون الأول من بلاد أيونا، واشتهروا بأسفارهم ورحلاتهم العديدة التي كانت عمادهم في جمع الأخبار وتسجيلها. ومن هؤلاء هيرودوت أبو التاريخ الذي طاف بعدة بلاد، وزار مصر حيث تعرف إلى كهنتها، فكانوا له أكبر العون، وأمدوه بالقصص المختلفة وأخبار الآلهة ووقائع الحروب. وجاء بعد هيرودوت توكيديدس واكزنوفان وغيرهما،(633/17)
ومجموع ما خلفه لنا هؤلاء وإن يكن يحوي الكثير من الحقائق، فإن الطابع الأدبي والشعري غالب عليه
وفي القرون المسيحية الأولى كان التاريخ مقصورا على مجرد ذكر الوقائع والأخبار المسيحية المختلفة، وحتى القرن الثالث عشر الميلادي كان التاريخ في معظمه وقائع وأخبارا دينية، وكان غرض المدرسين أن يبينوا كيف أن الأحداث التاريخية تتابع في نظام إلهي؛ فالحياة الإنسانية سلسلة عجائب ومعجزات إلهية، هي تجليات لله في خيرها، وتجليات للشيطان في شرها.
والنهضة الأدبية التي ظهرت في القرن الثالث عشر قادت إلى الكشف عن كثير من النصوص المفقودة، وأمدت التاريخ بعناصر جديدة، فظهرت لأول مرة مؤلفات تاريخية منظمة مثل مؤلفات مكيافيلي
وفي القرن السادس عشر أصبح المؤرخ بعد حركة الاكتشافات الكبيرة، على علم ببلاد جديدة وشعوب جديدة؛ فاتسعت بذلك معلوماته واتجه إلى البحث في فروع جديدة من أفرع التاريخ كاللغة والديانات وغيرها. . .
وبعد الثورة الفرنسية ظهرت القوميات فكانت دافعا كبيرا للبحث عن منابع التاريخ القومي لرغبة الناس في التغني بماضي أوطانهم وتفوق عناصرهم، فظهرت الكتب التاريخية حافلة بالوقائع الحربية وتراجم مشاهير الرجال. ولا يزال التاريخ يتقدم حتى بلغ المرحلة التجريبية؛ وظهرت الخطوط الأولى لهذا التقدم الهائل في مؤلفات بارتسولدنييور الذي يعد واضع منهج التاريخ العلمي، ومن عهده أصبح التاريخ يستند إلى مناهج شبيهة بمناهج العلوم الطبيعية، وأصبح المؤرخ يتخذ من نفسه موقف الباحث العلمي الذي يبحث عن الوقائع مجرداً عن كل غاية، وانحصر عمل المؤرخين في هذا الدور على جمع الوقائع والأخبار وتحديدها تحديداً علمياً وتنسيقها في مجموعات منظمة؛ ولم يكن المؤرخ يرمي إلى تفسير الوقائع أو بيان الرابطة العلية التي ترتبط بها الأحداث التاريخية لرغبته في الابتعاد كل البعد عن النزعة الذاتية
ولكن هل من الممكن أن تكون هذه المجموعة الكبيرة من الوقائع المحددة تحديداً علمياً دقيقاً، هي كل عمل المؤرخ ينتهي عندها نشاطه؟ لابد للمؤرخ من أن يخطو خطوة أخرى(633/18)
حتى يجعل من الوقائع حقائق يقبلها العقل، ذلك لأن الواقعة التي تريد أن تؤكد نفسها من غير تفسير أو علة، لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة، لأنها وهي تقرر وجودها تنكر شرطاً أساسياً للوجود الحقيقي. أن الوقائع المنفصلة - كما يقول كروتشه - جافة وثقيلة، ولابد للفكر من أن يغمرها بقبسه حتى تكتسب الصفة العقلية: (أن الوثائق والآثار تعود إلينا برجالها، فنتمثلهم أحياء عاملين منفعلين، نتمثلهم بأصواتهم وهيئاتهم وعاداتهم، وكأنهم عابروا سبيل التقينا بهم منذ فترة قصيرة. . . ولكن تبقى خطوة ثانية، هي البحث عن الرجل الخفي وراء الرجل الظاهر، البحث عن المركز ومجموعة الأعضاء والعوامل الداخلية التي كانت علة حدوث الوقائع. . . تلك هي الدراما الداخلية، شيء يختلف عن جمع الأخبار). والقاعدة الأساسية لتي يعرفها المؤرخ الآن (اجمع الأخبار ثم اربطها علمياً وفسرها)
الخطوة الأولى إذا في العمل التاريخي هي جمع الأخبار وتحديدها تحديداً علمياً دقيقاً. والخطوة الثانية، وهي التاريخ بمعناه الحقيقي تتجه إلى تفسير الوقائع والكشف عن الروابط العلية التي ترتبط بها الأحداث التاريخية
ولما كانت عملية التفسير التاريخي عملية ذاتية تعددت النظريات واختلفت الاتجاهات، ومن هنا جاءت كتب التاريخ مصبوبة في قوالب مختلفة وفي كثير من الأحايين متناقضة
والذي نبغيه من هذا البحث العلمي هو تحديد هذه الاتجاهات المختلفة، وبيان أوجه النقد فيها، ثم نحاول أن نكشف عن هذا الاتجاه الجديد الذي يمكن رد الأبحاث التاريخية فتسلم من وجوه النقد. وسنرى أن هذا الاتجاه هو علم الاجتماع الحديث، فموضوع التاريخ وعلم الاجتماع واحد، وهو الإنسان في نشاطه الاجتماعي.
والاتجاهات المختلفة في التفسير التاريخي يمكن أن تنقسم إلى قسمين:
1 - نظريات ميتافيريقية أو ميتافيزيقية مقنعة بحجاب علمي
2 - نظريات علمية
أولاً: النظريات الميتافيزيقية
1 - النظرية الدينية: تتلخص في القول بوجود علة متعالية هي رائدة الأحداث التاريخية تحددها وتقودها نحو غاية يعلمها الله. وهذا التفسير لا يزال له أنصار معاصرون مثل(633/19)
لورنت البلجيكي وروخول الألماني وفتلت الإنكليزي؛ فعند هؤلاء علة الوقائع التاريخية هي إرادة الله، والتاريخ سلسلة من معجزات الله.
2 - النظرية العقلية: تتجه هذه النظرية في تفسيرها لعلل الوقائع التاريخية اتجاهاً يرمي إلى القول بأن هذه الوقائع تتم تبعاً لنظام عقلي مرسوم، وكل واقعة تاريخية لها غرض وجودي، ومن شأنها أن تحدث تقدماً في المجتمع
ولإثبات خطا هذه النظرية يكفي أن نقول أن الأبحاث التاريخية العديدة تثبت لنا أن الوقائع التاريخية تتم في أغلب الأحايين أن لم يكن في كلها بعكس ما تزعمه هذه النظرية. فليست الصفة العقلية بملازمة للوقائع التاريخية، فالمؤسسات وغيرها لا تقوم في الغالب إلا لإشباع رغبة منشئيها وأصحابها، وإن الحصر ليقصر عن تعداد الأحداث التاريخية التي كانت سبباً في تأخر المجتمع لا في تقدمه تبعا للصفة العقلية التي تزعمها هذه النظرية
3 - النظرية الهيجلية: وهي نظرية الأفكار التي تلاحظ من خلال الشعوب كرائدة وقائدة لها. وقد ظهرت هذه النظرية في ألمانيا بشكل (الرسالة) توكل إلى الشعوب والأفراد فيكون الزمام بأيديهم فتحقق الأحداث التاريخية تبعاً لمشيئتهم وتوجيههم
وهذه النظرية شبيهة بالنظرية السابقة، لأنها تفترض أن الأحداث التاريخية تتحقق بطريقة عقلية ومن شأنها تقدم المجتمع، فما قيل في نقد النظرية السابقة يمكن أن يقال في نقد هذه النظرية
4 - نظرية التقدم المستمر والضروري للإنسانية، وقد اعتنقت هذه النظرية من بعض الوضعيين وترد إلى العلامة سبنسر. فسبنسر في كتابه (مبادئ علم الاجتماع) يزعم أنه بدراسته للأحداث التاريخية قد استنبط قوانين عامة تتحكم فيها وتعمل باستمرار على تقدم الإنسانية ورقيها. وفي نظره أن الإنسانية تتقدم من البسيط إلى المركب، ومن المتجانس إلى اللامتجانس، وأنها تتطور أيضاً من الحالة الأنانية إلى الحالة الغيرية
ولكن البحوث الحديثة قد أثبتت خطا نظريات اسبنسر كلها، فالأنانية موجودة في عصرنا الحالي، وفي كثير من الأحايين لا تختلف عن أحط أنواع الأنانية الموجودة في الشعوب البدائية؛ وحسبنا ما هو مشاهد في استراليا من قيام بعض الجماعات الأوربية بصيد الزنوج في عطلة الآحاد كأنهم يتصيدون حيوانات لا حق لهم في الحياة. فالأنانية والغيرية موجود(633/20)
في الشعوب البدائية والحديثة بدرجة تكاد تتشابه في كثير من المواطن
5 - النظرية الحيوية: هذه النظرية استعارت تفسيرها من عالم الكائنات الحية، فقد أراد أصحابها أن يدرسوا فروع التاريخ المختلفة من لغة وقوانين وعادات. . . الخ. كما لو كانت كائنات عضوية حية تملك قوة وراثية كامنة فيها هي علة النشوء والتطور فيها. ونضرب مثلا لنظرية التطور الحيوي بأبحاث برونتيير في تاريخ الأدب، وهي أبحاث شهيرة استعارت تفسيراتها من عالم الكائنات الحية
وسينوموس يرد على هذه النظرية بالقاعدة الآتية: (إذا أردت أن تبحث عن علل حادث تاريخي فأبدا بتفسيرها تجريبياً، وإذا أردت أن تستعمل تجريدات بعد ذلك فابتعد عن كل مجاز يظهر هذه العلل في صورة موجودات حية. . .)
هذه هي أهم النظريات الميتافيزيقية والشبه ميتافيزيقية التي تناولت تفسير الأحداث التاريخية والكشف عن عللها بوجهات نظرها المختلفة. وقد بينا وجوه النقص في هذه النظريات المختلفة وقصورها الواضح في بيان التفسيرات الصحيحة للأحداث التاريخية. . .
ثانياً: النظريات العلمية
1 - النظرية الجغرافية والظروف الطبيعية المحيطة بالإنسان: ترتبط الوقائع التاريخية تبعا لهذه النظرية ارتباطا علميا يقوم على الظروف الإقليمية والاختلافات الجغرافية والطبيعية. فعند راتزك، الجبال والأنهار والبحار وغيرها من العوامل الجغرافية هي العلة المباشرة للوقائع التاريخية. فمثلا متشنيكوف يقول: (إذا تساءلنا عن العامل الذي كان سبباً لأن تصل المدنية إلى درجة النضوج فسيكون الجواب: أنه المكان الذي هيأ أكثر من غيره مجالا لتكاثف الناس)
والآنسة سميل تقول: (إن انتقال المخترعين الأول من الشرق إلى الغرب إنما كان للتخلص من كلاب جيرانهم ونباتحهم المزعج)
وهذه النظرية شائعة في الكتب التاريخية إلى حد كبير، وتحمس لها الكثيرون من أئمة التاريخ كمونتسكيو وابن خلدون. والواقع أنه إذا كان للظروف الجغرافية والطبيعية الأثر الذي لا ينكر، فإن الإنسان بما امتاز به من قوة فكرية يخضع في الطبيعة في أغلب(633/21)
الأحايين ويسيطر عليها، وهذا ما جعل كلود برنارد يقول عن الإنسان: (أنه السيد الآخر للطبيعة)
2 - النظرية المادية التاريخية: هذه النظرية تنظر إلى الحياة الاقتصادية كعلة للوقائع التاريخية. فالطاحونة التي كانت تدار بالهواء قد أوجدت مجتمعا (يتحكم فيه أمراء الإقطاع، وأما الطاحونة التي تدار بالبخار فقد أوجدت مجتمعا رأسماليا)؛ فالتحول الاجتماعي من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي يرجع إلى تحول الطاحونة التي تدار بالهواء إلى طاحونة تدار بالبخار. . .
وأهم من قال بهذه النظرية هو كارل ماكس. فكارل ماركس جعل الحياة الاقتصادية هي العامل المحرك للحياة الاجتماعية والأحداث التاريخية وموقف الإنسان ما زاد الحياة الاقتصادية موقفاً (سلبياً
وهذه النظرية برغم شهرتها حافلة بالأخطاء النظرية والعملية. فأتباع كارل ماركس أنفسهم في عصرنا الحالي في روسيا وإن اتفقوا مع أستاذهم في كون العامل الاقتصادي هو أهم العوامل الاجتماعية، فهم يخالفونه في نظرته إلى الإنسان باعتبار موقفه من الحياة الاقتصادية موقفا سلبيا؛ فالاشتراكية الحديثة تقرر أن الإنسان عامل إيجابي وإن الحياة الاقتصادية ترتد إليه، فهو الذي ينميها ويوجهها سواء السبيل.
وإن المقام ليضيق بنا إذا أردنا تعداد الأخطاء النظرية والعملية من النظرية المادية التاريخية التي سلبت الحياة والفكر من الإنسان الناطق وأعطته للمادة الصماء. . .
3 - النظريات النفسية: أهم هذه النظريات بالنظريات بالنسبة للتاريخ نظريتان:
(ا) نظرية التقليد.
(ب) نظرية الدوافع.
(ا) نظرية التقليد: أول من قال بهذه النظرية جبرائيل تارد وتتلخص في أن ظهور فرد قوي أو قائد شجاع يكون عاملا على انبثاق حضارة جديدة. فنظرية تارد تنسب كل الأحداث التاريخية إلى أفراد وهم الرجال العظماء فتراهم يقولون (نابليون فهل كذا وكذا. . .). والعلة التي جعلت إنجلترا في عهد الملكة (آنا) تختلف عن إنجلترا في عهد الملكة اليزابيث، والتي جعلت جامعة هارفرد اليوم تختلف عنها منذ عشرات السنين إنما(633/22)
ترجع إلى أفراد (أنه الفرد منبع الأفكار الجديدة، والاختراعات والقواعد القضائية وغيرها من عوامل الإصلاح. . .).
وظاهرة التقليد عند تارد تقوم على ثلاثة عناصر:
1 - التكرار.
2 - المعارضة.
3 - القبول.
وتكون هذه العناصر الثلاثة حلقة دائرية، تبدأ محدودة ثم تأخذ في الاتساع بسرعة وبدون توقف. وعنصرا التكرار والقبول هما العنصران البارزان في هذه العملية، وعنصر المعارضة يهيأ، في هذه الحركة الدائرية لظهور عباقرة مخترعين. ويمكن أن نفهم العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة عندما تعتبر أن عنصر التكرار المستمر يعمل بنفسه على مضاعفة القبول وازدياده، وفي حالة المعارضة يعمل على ظهور وسائط أخرى من شأنها أن تحدث اتجاهات جديدة وتضاعفها بدورها. . .
ولعل نظرية التقليد هي أكثر النظريات العلمية شيوعاً في مناهج البحث التاريخي، مع أن التقليد كما يقول العلامة در كيم (هو توليد أتوماتيكي ناتج عن فعل بدون أن يتدخل في هذا الفعل أية عملية عقلية واضحة أو غير واضحة) فانتشار عادة من العادات في مجتمع ما لا ترد إلى تقليد الأفراد الذين بدءوا بممارسة هذه العادة تقليداً إرادياً كما يزعم تارد، وإنما يرجع انتشار العادة إلى الشعور الجمعي المتولد والذي كان هؤلاء الأفراد أول من استجاب له) فالتقليد هنا بمعنى آخر تماما غير هذا الذي يعنيه تارد.
(ب) نظرية الدوافع: يقول مبرفي ونيوكب في كتابهما (علم النفس الاجتماعي التجريبي)، أنه إذا كانت ظاهرة التقليد قد حظيت بالأنصار العديدين في أواخر القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، فانه لم يعرف حتى الآن انتصار لنظرية كذلك الذي حظت به نظرية الدوافع التي كان أول من قال بها ماكدوجل الأمريكي. فماكدوجل يقول (أن مظاهر الأفراد بعضهم مع بعض في المجتمعات، ترجع بعد تحليلها إلى الدوافع الفطرية)، وهذه الدوافع عند ماكدوجل أربعة عشر أهمها الجوع والعطش والغريزة الجنسية وغريزة الأمومة.(633/23)
(البقية في العدد القادم)
فؤاد عوض واصف(633/24)
الحديث المحمدي
لمحة من تاريخه
للأستاذ محمود أبو رية
(عن لنا أن نبحث عن تاريخ الحديث، وبعد درس طويل تهيأ
لنا من هذا التاريخ كتاب سنقدمه للطبع وهذه كلمة صغيرة
عنه)
(أبو رية)
لما أنشأت أدرس ديني درس العقل والفكر بعد أن أخذته للقيناً من نواحي العاطفة والتقليد رأيت أن أرجع إلى مصادره الأصلية ومراجعه الأولى، ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث كنت أجد فيها بعض أحاديث لا تسكن نفسي إليها ولا يطمئن قلبي لصحتها، ذلك بأنها تحمل من المعاني ما لا يقبله عقل سليم أو يقربه علم ثابت أو يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر، وكنت أجد مثل ذلك في كثير من الأحاديث التي شحنت بها كتب التفسير والتاريخ وغيرها.
وكان أكثر ما يثير عجبي أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها وتعتريني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت بعض ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه الأريحية ولا ذلك الاهتزاز. وكنت أستبعد أن يصدر مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة عن نبي الذي كان أفصح من نطق بالضاد. وما كان عجبي هذا إلا لأني كنت أسمع من شيوخ الدين عفا الله عنهم: أن كل الأحاديث التي وردت في كتب السنة قد جاءت بألفاظها ومعانيها، وإن على المسلمين بكل ما حملت ولو كان فيها ما فيها.
ولما قرأت حديث (من كذب على معتمداً فليتبوأ مقعده من النار) غمرتني الدهشة لهذا القيد الذي يبعد أن يأتي من رسول جاء بالصدق وأمر به، على أن الكذب كما قال الحافظ بن حجر: (هو الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمداً أم خطأ).
ظللت على ذلك زمناً طويلا إلى أن حفزني حب عرفان الحق إلى أن أنقب عن تاريخ(633/25)
الحديث من مصادر الدين الصحيحة، والأسانيد التاريخية الوثيقة لعلي أقف على شيء يذهب بما في صدري من حرج ويصرف ما بنفسي من ضيق، وذلك لأن هذا الأمر الجليل لم يفرد من قبل بالتأليف المستقصى أو التدوين المستفيض.
ولبثت في البحث والتنقيب زمنا طويلا إلى أن انتهيت من أمر (الحديث المحمدي) إلى حقائق غريبة ونتائج خطيرة، ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ما سموه صحاحاً وما سموه سنناً حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، حتى لقد قال الإمام الشاطبي في الاعتصام: (أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر) ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم أن هو إلا معان مما فهمه الرواة من أقواله صلى الله عليه وسلم. وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة قد بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث ولكنك لا تجد ذلك إلا في الفلتة والندرة؛ ومن أجل ذلك جاءت أحاديث الرسول وليس فيها من نور منطقه، أو ضياء بلاغته إلا شعاع ضئيل.
كان أول ما انكشف لي من هذه الحقائق أن النبي (ص) لم يجعل لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به كما فعل ذلك بالقرآن، وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه من أذهان السامعين. ولم يدع الأمر على ذلك فحسب بل نهى عن كتابة غير القرآن أو تدوينه فقال: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن؛ فمن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه مسلم وغيره، ثم اتبع أصحابه طريقه وأطاعوا أمره فلم يكتبوا أقواله كما كتبوا القرآن. ولم يقف أمرهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها، وينتقد بعضهم بعضا فيما يأتي منها ويتشددون في قبول أخبارها حتى لقد كان عمر رضي الله عنه لا يقبل الخبر من أي صحابي إلا إذا جاء بشاهد يشهد أن النبي قاله.
رواية الحديث بالمعنى
ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا من أحاديث نبيهم ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بأصل الحديث كما سمعوه على لفظه، كما نطق النبي الكريم به، وإن الذاكرة لها حكم يجب الإذعان له والنزول عليه أباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى. ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم فيأخذ المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم ينقله إلى غيره بما بقي في ذهنه من هذا المعنى. وهذا أمر معلوم بينهم حتى لقد قال وكيع كلمته(633/26)
المشهورة: (إذا لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس) وهكذا ظلت المعاني تتوالد والألفاظ تختلف باختلاف الرواة، وفيهم الأعاجم وغير الأعاجم ممن ليسوا بعرب، ولا يخفى ما في ذلك من ضياع معالم المعنى الأصلي وزوال شيء كثير منه. ومن العجيب أن رواية الحديث بالمعنى قد سارت على هذا النهج قرونا إلى أن خرج الحديث في صورته الأخيرة التي حملتها كتب السنة وخرجت بها في القرن الثالث وما بعده. وقد قال البخاري المتوفى سنة 256هـ وكتابه كما يقولون أصح كتاب بعد كتاب الله: (رُبَّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، فقيل له بكماله؟ فسكت).
ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى ولا جرم ضرر كبير سواء أكان من الناحية الدينية أم من الناحية اللغوية والبلاغية، وبعد أن أباحوا الرواية بالمعنى أستجازوا لأنفسهم أن يأخذوا بالحديث إذا أصابه اللحن أو اعتراه الخطأ أو اختلف نظم عقده بالتقديم أو التأخير؛ وكذلك قبلوا أن يأخذوا ببعض الحديث ويتركوا بعضاً.
الموضوعات
وإن أشد ما منى به الحديث ولا جرم إنما كان منها (الموضوعات) التي اختلطت به وتدسست إليه فكانت مصدر بلاء كبير للمسلمين في كل العصور، وقد تولى كبر هذه الموضوعات فريقان:
أحدهما: أحباء الإسلام من مختلف الفرق والمذاهب وأصحاب الأهواء حتى الصالحين وأهل العبادة، أولئك الذين قال فيهم يحيى بن سعيد القطان: (ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث) ولقد كانوا يسوغون افتراءهم بقولهم: (إنا نكذب له لا عليه) ولكي يشدوا عملهم هذا بما يؤيده وضعوا أحاديث على النبي تجيز لهم هذا (الوضع) مثل ما رووا (إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس).
ثانيهما: أعداء الإسلام من الزنادقة وغيرهم من دعاة اليهود والنصارى الذين أظهروا الإسلام وأضمروا دينهم، فاغتر الصحابة وتابعوهم بإسلامهم، واخذوا من غير بحث عنهم. ولقد كان ما وضعوه، تلك الأحاديث التي جاءت في فضل الشام الذي كان في عهد بني أمية قاعدة الحكم ومصدر السلطان، وكذلك وضعوا أحاديث في أن (الإبدال) المعروفين عند الصوفية سيظهرون في الشام!(633/27)
ولئن كان قد كذب على النبي بعد وفاته فقد كذب عليه وهو حي، ولا غرو فإن الكذب عريق في الإنسانية لا يخلو منه زمان ولا مكان.
الإسرائيليات والمسيحيات
وقد عقدنا فصلا للإسرائيليات تحدثنا فيه عما صنعه كهان اليهود في حديث رسول الله وأثبتت في كتب السنة وفي التفاسير ومصادر التاريخ وغيرها أمثال: كعب الأخبار، ووهب ابن منبه وغيرهما. وبينا كيف استحوذ هؤلاء الكهان على عقول المسلمين حتى وثقوا بهم ورووا عنهم، وعرضنا لأمر مؤامرة قتل عمر التي اشترك فيها كعب الأحبار، وقصة الصخرة، وبينا كيدهم السياسي الذي قام به عبد الله بن سبأ وأردفنا هذا الفصل بفصل آخر عن المسيحيات وما صنعه مثل تميم الداري الذي كان مسيحياً وأسلم.
كثيرة الأحاديث المروية
ولما كان التدوين قد تأخر وما جاء عن الرسول من قول غير القرآن قد فاته الإحصاء والتقييد ولم يرتبط في زمن النبي وصحابته بالتدوين، فإن الرواية قد اتسعت واستفاضت، وكلما امتد الزمن زادت الرواية حتى صارت الأحاديث المنسوبة إلى النبي تعد بمئات الألوف. وقد نقلوا عن أحمد بن حنبل أنه قال: صح من الحديث 700 ألف حديث واكثر، وإن أبا ذرعة قد حفظ 700 ألف حديث.
ولما طلب إسحاق بن راهويه من تلاميذه وفيهم - البخاري - أن يجمعوا مختصراً لصحيح سنة رسول الله. ونهض البخاري لتحقيق رغبة أستاذه قال:
(إني أخرجت كتابي من زهاء ستمائة ألف حديث) ونقل عنه أنه قال: احفظ مائة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح! على أنك لو نظرت إلى عدد ما اختاره في كتابه لوجدت أنه لا يزيد عن 2513 كما حرر ذلك الحافظ ابن حجر فأين ترى قد ذهبت هذه الثروة الهائلة من الأحاديث!
أبو هريرة
ولما كان أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول الله في حين أنه لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين فحسب، وكذلك كان أكثر من نقل عن هؤلاء اليهود فقد أفردنا له ترجمة خاصة(633/28)
تحرينا فيها وجه الحق، وحق العلم، وأوردنا فيها ما له وما عليه بغير أن نخشى أحداً في إظهار الحق أو نتحرج من شيء في بيان العلم، وكيف يصدنا تحرج أو يمنعنا خوف وقد انتقده الصحابة أنفسهم وردوا كثيراً من رواياته، وكذبه عمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم، بل قد ضربه عمر بالدرة وحذره الرواية عن النبي أو ينفيه إلى بلاده حتى لقد كان بذلك أول رواية اتهم في الإسلام.
حديث من كذب علي
أما حديث من كذب علي (معتمداً) فقد عنيت بالبحث عن حقيقته عناية كبيرة حتى وصلت من بحثي إلى أن كلمة (معتمداً) هذه لم تأت في روايات كبار الصحابة ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين: عمر وعلي وعثمان، وإن الزبير بن العوام - وهو حواري رسول الله وابن عمته - قد قال عنها: (والله ما قال معتمداً) ولعلها قد تسللت إلى الحديث من سبيل الأدراج المعروف عند رجال الحديث ليتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الموهم، أو الغلط أو سوء الفهم حتى يدرءوا عن أنفسهم إثم الكذب ولا يكون عليهم حرج في الرواية لأن المخطئ غير مأثوم ومن أجل ذلك وضع الرواة قاعدتهم المشهورة: إنما الكذب على من تعمده؛ أو أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين يضعون الحديث خشبة عن غير عمد عملهم كما كان يفعل الصالحون من المؤمنين، ويقولون: نحن نكذب له لا عليه، ومن العجيب أنهم قد جعلوا هذا الحديث من المتواتر بلفظه ومعناه في حين أنه قد ورد بصيغ كثيرة كل صيغة منها تخالف الأخرى.
تدوين الحديث
ومما كشف عنه الحديث أن تدوين الحديث لم يقع إلا في القرن الثاني أي بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى بأكثر من مائة سنة. ولم يكن ذلك بدافع من الرواة، وإنما كان بوازع من الولاة! وبدا أول ما بدا غير كامل، ثم تقلب في أدوار أربعة، فكان في أول أمره مشوبا بأقوال فقهاء الصحابة في التفسير وغيرها من مسائل دينية أو طرف أدبية أو أبيات شعرية أو ما إلى ذلك مما كانوا يعنون بجمعه وتدوينه من غير ترتيب ولا نظام إلى أن جاءت طبقة ابن جريح والربيع بن صبيح وحماد بن سلمة وغيرهم في منتصف القرن الثامن وما(633/29)
بعده، فوضعوا كتباً في الحديث ولكنهم مزجوا أقوال الرسول بفتاوى الصحابة والتابعين كما تجد ذلك في موطأ مالك.
وبعد انقضاء مئتي سنة من الهجرة جرد العلماء ما كان ينسب في هذا العهد إلى النبي من أحاديث ودونوه في مسانيد بغير أن يخلطوا به شيئاً من فتاوى الصحابة والتابعين مثل مسند الإمام أحمد وغيره.
وفي منتصف القرن الثالث وأول القرن الرابع وما بعد ذلك ظهر التدوين في صورته الأخيرة، فاختار البخاري وغيره من الأحاديث التي كانت منتشرة في زمنهم وخرجوا منها كتبهم.
علماء الأمة أزاء الحديث
ولأن الحديث لم يبدأ تدوينه إلا في القرن الثاني وكتبه المعتمدة بلا خلاف بين المسلمين وهي: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي لم تظهر إلا في القرنين الثالث والرابع، وكانت روايته قد جاءت بالمعنى من طريق الآحاد التي لا تعطي إلا الظن - والظن لا يغني من الحق شيئاً، فإن علماء الأمة لم يتلقوه بمحض التسليم والإذعان كما تلقوا ما جاءهم من محكم القرآن ولا اعتبره من الأخبار المتواترة التي يجب الأخذ بها ولا يجوز لأحد أن يختلف في اتباعها وإنما اختلفوا طرائق قدماً فيه اختلافاً بينا لم يستطع أحد إلى اليوم تلافيه
المتكلمون وعملاء الأصول
أما المتكلمون وعلماء الأصول فانه لما كان (الخبر) عندهم ينقسم إلى - متواتر وآحاد؛ والمتواتر إنما يعطي العلم القيني، والآحاد لا يعطي إلا الظن، ولم يجدوا في كتب التاريخ خبراً متواتراً تكون دلالته يقينية بل أنه قد جاء من طريق الآحاد التي دلالته ظنية - والظن لا يغني من الحق شيئاً - فقد ردوا كل حديث لا يتفق مع ما يذهبون إليه من الأصول التي اتخذوها لهم. ومن القواعد التي اتفق عليها جميع النظار أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد.
الفقهاء(633/30)
وأما الفقهاء فقد كبلهم التقليد فلم يغنوا بكتب الحديث ولم يعطوها حقها من البحث والدرس كما أعطوا كتب شيوخهم، ولم يجعلوها بعد كتاب الله من مصادرهم التي يأخذون منها أحكام دينهم، - وإنهم عفا الله عنهم لم يتفقوا على الأخذ بالراجح من الأدلة فترى كل فريق قد ذهب في طريق الآخر - وإذا وجد من الأحاديث حتى الواهية ما يتفق ومذهبه أخذ به - وقد يأخذ ببعض الحديث ويدع بعضه، أما ما يخالف مذهبه ولو كان مما رواه الجماعة فإنه يرفضه ولا يرتضيه وبهذا الصنيع كثر اختلافهم وتعددت مذاهبهم، ومن أجل ذلك وقف سير الفقه وسكنت حركته، ولقد أعانهم على عملهم هذا أن أحكامهم مبنية على ما غلب على الظن صدقه ولكل أحد أن يأخذ من الأدلة بما يطمئن به قلبه، وإن أئمتهم قد ماتوا قبل ظهور كتب الحديث المشهورة وأن هؤلاء الأئمة أنفسهم قد كانوا مختلفين في الأخذ بما جاء عن الرسول من أحاديث فما يأخذ به هذا يدعه ذاك وهلم جرا.
ولو أنت رجعت إلى كتب العلماء المحققين وبخاصة كتاب أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية لوجدت فيها أحاديث، كثيرة جداً لم يأخذ علماء الفقه بها ولم يخالفوا مذاهبهم من أجلها، وبذلك أصبحت كتب الحديث في ناحية الإهمال منهم، وإذا ما رجعوا إليها فإنما يكون ذلك للتبرك بها أو لدفع النوازل بأسرارها، ومن عجيب أمرهم أنهم وقد جعلوا حديث الرسول وراء ظهورهم لا يزالون يقولون بأنه الأصل الثاني من أصول دينهم.
علماء النحو
وأما أئمة النحو فلم يجعلوا الحديث من النصوص التي يستشهدون على قواعدهم بها لأنهم قد استيقنوا أن رواية نصوص الحديث الصحيحة قد انتثر عقد تركيبها ولم تأت عن النبي بحقيقة لفظها ولا يعلم أحد على التحقيق ما هي الصورة الصحيحة التي نطق بها وقاعدتهم التي اتفقوا عليها أنهم لا يستشهدون إلا باللفظ المتواتر والنص الصحيح، وعلى أنهم قد تركوا الاستشهاد بالحديث الذي جاءهم عن نبيهم فانهم يأخذون بكلام الأعراب الذين يبولون على أعقابهم.
ولما انكشف لي ذلك وغيره مما لم أذكره هنا وبدت لي حياة (الحديث المحمدي) واضحة جلية أصبحت على بينة من أمر ما جاء عن الرسول من أحاديث فآخذ منها ما آخذ وقلبي(633/31)
مطمئن وأدع ما أدع ونفسي راضية. ولا على مما أدع شيء؛ وصرت متابعاً للأستاذ الإمام محمد عبده فيما يقول: (لا أومن بحديث تعرض لي شبهه في صحته) وللسيد رشيد رضا في قوله: لا أعتقد سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن وإن وثقوا رجاله؛ فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله وهو سيئ الباطن). ولا يتوهمن أحد أن هذا بدع في الدين فانهم قد جعلوا من قواعدهم المشهورة: أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.
ومن قواعدهم كذلك:
(ليس كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً ولا كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح)
(من بلغه حديث وثبت عنده وجب عليه العمل به ومن خالف بعض الأحاديث لعدم ثبوتها عنده أو لعدم العلم بها فهو معذور.
(وقال حجة الإسلام الغزالي: أن من يعمل بالمتفق عليه كان مسلما ناجياً).
(المنصورة)
محمود أبو رية(633/32)
معاهد عربية سودانية
بين والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقلدرون
ملك السودان في سنة 31 هجرية - 652 ميلادية
للأستاذ المبارك إبراهيم
ما كاد العرب يدخلون أرض مصر فاتحين بقيادة السياسي العربي الداهية عمرو بن العاص، وما كاد يتسبب لهم الأمر فيها ويبسطون سلطانهم الديني عليها، وما كاد يدين لهم المصريون بالطاعة عام 20 للهجرة على أكثر الروايات شيوعاً. . . ما كاد يتم كل هذا حتى اتجه نظر ابن العاص رئيس الحكومة العربية المصرية الجديدة في فسطاط مصر صوب القطر السوداني ابتغاء فتحه وضمه إلى خريطة الإمبراطورية العربية الناشئة. وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ففي عام 21 للهجرة أعد والي مصر عمر بن العاص جيشاً مؤلفاً من عشرين ألف مقاتل، وسيره لفتح السودان تحت إمرة القائد العربي المشهور عبد الله بن سعد بن أبي سرح
على أن هذا الجيش الغازي لم يستطع التوغل في الأراضي السودانية، وذلك لوعورة المسالك، وللمقاومة الشديدة التي صادفها من جيش حكومة السودان التي كان مقرها يومئذ (دنقلة العجوز) أي القديمة
ويؤخذ من رواية ابن الأثير أن هذه الغزوة العربية الأولى للقطر السوداني لم تكن موفقة كل التوفيق، إذ لم يتعد الفتح العربي فيها بلاد الشلال التي تقع على التخوم. ثم إن عبد الله بن أبي سرح، ما لبث أن انسحب بجيشه عائداً أدراجه إلى مصر بناء على أمر تلقاء من ابن العاص، وكان ابن أبي سرح قد هادن أهل البلاد المفتوحة على دفع الجزية فكانوا يدفعونها
وقد روى ابن الأثير أن عدداً لا يستهان به من المحاربين العرب قد عادوا إلى مصر وهم مثخنون بالجراح فاقدو الإحداق لكثرة ما نالهم في أبصارهم من نبال الجيش السوداني. ولذلك كان المحاربون العرب يسمون المحاربين السودانيين برماة الحدق
ثم دارت عجلة التاريخ دورتها، فعزل ابن العاص عن ولاية مصر في عهد خلافة عثمان(633/33)
رضي الله عنه، فآلت ولاية مصر إلى قائدنا عبد الله بن أبي سرح، وعبد الله هو من ذوي قرابة ابن عفان، بل ويعد أخاً له في الرضاعة
وفي عام 31 الهجري الموافق 652 للميلاد أعاد ابن أبي سرح الكرة وهو والي مصر، فسار في طليعة جيشه معتزماً فتح السودان مهما كلفه الأمر. وكان السودانيون حينذاك قد نقضوا عهد الهدنة، ورفضوا دفع الجزية وصاروا يشنون الغارة على سكان الحدود المصرية من العرب وأبناء الصعيد، ويوسعهم نهباً وتقتيلا منتهزين فرصة انشغال رجال الحكومة العربية في المسائل الداخلية التي تلت مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقصت ابن العاص عن مصر، وغير ذلك من المشاكل الخاصة
هذا، وبعد حروب طاحنة بين جنود ابن أبي سرح وجنود قلدرون ملك دنقلة، تمكن الفاتح العربي من احتلال دنقلة - وكانت عاصمة السودان يومذاك - بعد أن حاصرها ورماها بالمنجنيق، ولم يكن استعماله معروفاً عند الجيش السوداني
وقد قال أحد الشعراء العرب الذين اشتركوا في معركة دنقلة الفاصلة راجزاً:
لم تر عيني مثل يوم دنقله ... والخيل تعدو بالدروع مثقله!
أما المعاهدة العربية السودانية التي حررت دليلا على المهادنة والصلح بين الفريقين فأليك نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم النوبة (السودان) ولجميع أهل مملكته من حد أرض أسوان إلى حد أرض (علوة): وهي على بعد 15 ميلا من الخرطوم
إن عبد الله بن سعد جعل لهم أماناً وصدقة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاوروهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من أهل الذمة
إنكم معاشر النوبة (السودان) آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا نحاربكم ولا ننصب لكم حرباً ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم
على أن دخول بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل بلدكم أو يطرفه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم، وإن عليكم رد كل ابق خرج إليكم من عبيد المسلمين حتى ترده إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه ولا(633/34)
تمنعوا منه، ولا تتعرضوا لمسلم قصده وجاوره إلى أن ينصرف عنه
وعليكم حفظ المسجد الذي أبناء المسلمون بفناء مدينتكم (دنقلة)، ولا تمنعوا منه مصلياً، وعليكم كنسه وإسراجه وتكريمه
وعليكم في كل سنة ثلاثمائة رأس وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلدكم غير المعيب يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان
وليس على مسلم دفع عدو عرض لكم، ولا منعه عنكم من حد أرض علوة إلى أرض أسوان
فإن أنتم أويتم عبداً لمسلم، أو قتلتم مسلماً، أو معاهداً، أو تعرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الثلاثمائة رأس والستين رأساً، فقد (برئت) منكم هذه الهدنة والأمان، وعدنا نحن وانتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
بذلك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به، والله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك
هذا، وتحفظ لنا كتب التاريخ الشيء الكثير من الحوادث والأخبار عن العهد الذي عقب توقيع هذه المعاهدة العربية السودانية
(أم دزمان - سودان)
المبارك إبراهيم(633/35)
ذرة لا تميزها العين
(كادت تجارب الذرة أن تجعل الأرض كرة ملتهبة من
الغازات)
للأستاذ فوزي الشتوي
لدمار العالم أم لعمرانة؟
قبل أن تنشب الحرب بفترة وجيزة وقف لفيف من العلماء أمام مدفع تحطيم الذرة في جامعة كولومبيا يستعدون لأخطر تجربة. ومن يدري بما سيحدث لو انطلقت آلاته؟
استولى الرعب على كثير من العلماء فقالوا: أنه دمار العالم. فلن تمضي دقائق أو ثوان حتى تكون الأرض كلها كرة غازية ملتهبة لا أثر فيها لإنسان ولا لحيوان ولا نبات ولا جماد. ولكن العلماء لا يريدون إلا تحطيم ذرة واحدة من معدن الأورانيوم. ولكنهم يخشون القوة المنطلقة من هذه الذرة فتفجر ما حولها من ذرات وهذه تفجر ما يليها من أجسام وهكذا دواليك في سلسلة تكتنف الكرة الأرضية كلها وتبيد كونها.
وتمت التجربة وسلمت الأرض؛ فإن سلسلة الانفجارات الذرية لم يحدث. وربما تكون قد حدثت ولكنها لم تستمر أكثر من واحد على مليون من الثانية. أما السبب فكان عدم الدقة في إجراء التجربة. ولو كانت دقيقة لأبيد العالم كله ولتفجرت كل ذرات قطعة الأورانيوم فانسابت قوتها تفتك بالعالم.
الذرة
فما هي الذرة وعلى آية قوة تسيطر؟
فما الذرة فهي وحدة الجزيء. وهو بدوره أصغر وحدة في المادة، وهي شيء نظري لا وجود له في الواقع الملموس وأصغر مادة تراها بعينك تتألف من ملايين الذرات. وهي في جميع المواد التي تلمسها مجموعة من الكهارب بعضها موجب وبعضها سالب. ويسمى الكهرب الموجب بروتون ومنه تتألف نواة الذرة. وحول هذه النواة كهارب سالبة تسمى إلكترون.
ويترتب على عدد هذه الكهارب خواص المعدن أن كان حديداً أم نحاساً أم ذهباً. فالكهارب(633/36)
واحدة ولكن اختلاف عددها هو الذي يحدد نوع المعدن. ومن ثم نشأ الاعتقاد العلمي بإمكان تحويل الحديد أو القصدير إلى ذهب. وقد فشلت جميع التجارب في هذا السبيل لأن العلماء فشلوا حتى الآن في التغلغل في الذرة وزيادة كهاربها أو تقليلها.
والبروتونات أو الكهارب الموجبة التي تؤلف نواة الذرة أثقل من كهاربها السالبة وإن كانت أصغر منها في الحجم. ويساوى وزن بروتون واحد وزن 1845 إلكترون، وفي المنطقة الخارجية مجموعة من الكهارب السالبة الدائمة الحركة حول النواة. وإذا زاد عدد الكهارب السالبة أو الموجبة في الذرة فانه يسمى أيونا.
مائتا مليون فولت
وقدرت جامعة كولومبيا في أمريكا، وهي المعهد الذي تولى القيام بهذه التجربة، مقدار الطاقة الذرية التي نتجت عن تجربتها بمائتي مليون فولت أو ما يكفي لإضاءة مدينة كاملة جزء من الثانية، كما أن قطعة الأورانيوم وهو من أصلب المعادن المعروفة تفتتت إلى ثماني عشرة قطعة صغيرة.
والطريقة التي اتبعتها جامعة كولومبيا في تجربتها هي استخدام كهارب خاصة اسمها (النيوترون) تنطلق من مصادرها على مركز الذرة فتخترق تحصيناتها وتستقر في نواتها (الكهارب الموجبة) وعندئذ يبدأ الاضطراب في الذرة وتصيح مثل أنبوب من المطاط والينا ملئه بالهواء فوق طاقته فيجب أن يتخلص من بعض محتوياته أو ينفجر وهو ما يحدث في الذرة التي ترسل طاقتها.
وربما كانت سرعة الطاقة المنطلقة هي السبب الذي أنقذ الأرض من الدمار في هذه التجربة؛ فإن النيوترون الأصلي الذي يحطم الذرة يسير بسرعة أقل من السرعة التي ينطلق بها نيوترون الذرة المحطمة، ولهذا فإن الأخير يمر على الذرات الأخرى ولا يفجرها وهو في ذلك مثل حبة الحصى التي يريد الطفل أن يدخلها في الحفرة على الأرض. فإن قذفها بقوة مرت من فوق الحفرة حتى لو أجاد التصويب. ولكنه لو دحرجها بلطف فإنها تستقر فيها.
معادن جديدة؟(633/37)
وأثبتت التجارب أن النيترونات مهما كانت ضعيفة فإنها تستطيع فخر أقوى الذرات وأثقلها لأن كهاربها الموجبة والسالبة متعادلة.
وفحص العلماء بقايا الأورانيوم التي فجرت في كل أتجاء فوجدوا أن وزنها الذري تغير مما يدل على أن عنصراً جديداً طرأ على ذراتها وأنها أصبحت معادن أخرى؛ فبعد أن كان وزنها الذري 238 (وزن الأورانيوم) أصبح وزن بعضها الذري 137 و 220
ولسنا نستطيع التكهن بما اكتشفه العلماء بعد ذلك من خطوات حتى توصلوا إلى القنبلة الذرية؛ ولكن الثابت أن تجربة جامعة كولومبيا وما وليها فتحت آفاقاً واسعة أمام العلم ومهدت لاكتشاف القنبلة الذرية التي نرى من المعقول جداً إلا يتجاوز حجمها حجم البيضة لتدمر بضعة أميال من سطح الأرض.
وإن كبرت القنبلة عن لك في مظهرها الخارجي فإنه في الغالب حجم الغلاف الذي يجب أن تتوفر فيه أدوات خاصة لإجادة التصويب ولمقاومة طبقات الهواء وتياراته وأداة فجر القنبلة نفسها. ومجرد فجر مجموعة من الذرات يحدث درجة حرارة بالغة الارتفاع تحدث ضغطاً جوياً عظيماً يدمر كل ما حوله، فضلا عن إشعاله للنيران في المواد القابلة للالتهاب ولو كانت خشباً.
وربما كان اكتشاف القوة التدميرية للذرة هو أبسط أسرارها. والمهم أن يعرف العلماء كيف يسيطرون على هذه الطاقة ويستخدمونها في أعمال منتجة. وقد قال أحد العلماء: إن مصنعاً واحداً لإنتاج الطاقة الذرية يكفي لتغذية بريطانيا بكل ما تحتاج إليه من وقود وقوى محركة.
ولقد فتح هذا الكشف آفاقاً بالغة السعة أمام العلم، وسنسمع في كل سنة اكتشافات متعددة تؤسس كلها على الذرة وأسرارها؛ فأمام العلماء شعب لا حد لها وأولاها السيطرة على الطاقة الذرية وتوجيهها، وثانياً خواص الذرة نفسها مما سيؤدي إلى تحويل معدن إلى معدن آخر. ومن يدري، فقد تستغل الكهارب الجوية في صنع المادة؛ فالعالم كله مجموعة من الذرات.
فوزي الشتوي(633/38)
في ليلة من ليالي الربيع
للأستاذ سيد قطب
في الجو رائحةٌ توسوس في الحنايا والصدور
نشوانة خَدِرتْ يعاودها التوثب والفتور
فتهيم كالشوق المجنَّح في متاهات الضمير
وكأن رائحة الحياة تدب في عنق مثير
وأحس بالنغمات سارية ترَقرقُ في الدماء
كهتاف مشتاق تولَّه لا يكف عن الدعاء
الأرض تفتنه ويرنو في ابتهال للسماء!
والصمت يغمره وفي الأحياء وسوسة الغناء!
والحب والأشواق والظمأ تغلغل للحياه
وهواتف الدنيا إلى القبل المليحة في الشفاه
وترقرُقُ الحرقات في شغف يهيم إلى مداه
وتطلُّع الصوفيِّ في شوقٍ لي ذات الإله!
هو ذا الربيع وإنه لهو الهواتف والحنين
أبداً بهيج إلى عوالم تائهات لا تبين
ويهدهد الأحلام والذكريات شتى والفنون
فإذا الحياة هوًى يرف وفتنة وشجًى دفين(633/40)
عزلة. . .
للشاعر الإنكليزي بوب
سعيد من تكون أمنته وحرصه
قليلا من الأفدنة الموروثة عن الآباء، قانعاً بأن يستنشق هواء بلده على أرضه؛
يمده قطيعه باللبن ومزرعته بالخبز،
ويغزل من وبر أنعامه فيكتسي،
يتفيأ ظلال أشجاره في الصيف ويوقد منها مدفأته في الشتاء
ما أسعده. . . إنه يجد من غير عناء
أن الساعات والأيام والسنين تمر هادئة
وهو صحيح الجسم سليم العقل؛ يجد الهدوء بالنهار وينام ملء جفنيه بالليل. . . والتأمل
والهدوء
إذا ما اجتمعا ينتجان انتعاشاً حلو وبراءة. . . يسعدان دائماً بالتفكير العميق
ذلك. . . دعني أعش غير مرئي وغير معروف
ولأمت غير مأسوف علي. اختلس فرص الحياة وليس من حجر يحد أين أرقد؟!
سليمان بخيت(633/41)
في المصيف
للأديب محمد طاهر الجبلاوي
أنا هنا في حوار البحر ظمآن ... لا أرتوي ونسيم البحر ريان
أزاهرٌ من رياض الصيف يانعة ... تهفو لها قلب ووجدان
من كل مفتونة بالبحر فاتنة ... لها من الموج أكناف وأحضان
يضمها منه صدر جائش أبداً ... كأنه مغرم بالحسن ولهان
تخفى وتظهر فوج الموج لاعبة ... الموج يحبو إليها وهو جذلان
أعارها البحر من أخلاقه سمة ... فلا يزال بها لين وطغيان
وهز عطفاً روياً من محاسنه ... كأنه بنسيم البحر نشوان
يا فتنة في حمى نبتون أيقظها ... موكل بقلوب الخلق يقظان
أو في على فراشه العاتي فصيره ... ملاعباً بفنون الحب تزدان
والبحر خلق عظيم في تصوره ... فكيف يركبه باللهو غزلان؟
سجا وأسلس في رفق وفي دعة ... فليس يحفزه للشر عدوان
وافتر تحت جناح الشمس ناجذه ... كأنه والد لاقاه ولدان
يا رفقة الصيف عيشوا في مراتعه ... فإنكم لكريم البحر ضيفان
أبوكم البحر لا يألوكم مرحاً ... وروضة بفنون اللهو فينان
نعم البديل إذا عهد الربيع مضى ... عهد المصيف ودنيا الحسن ألوان(633/42)
البريد الأدبي
ملاحظة وتصحيح:
جاء في (العدد 632) من (الرسالة) بالصفحة 858، ضمن مقالة (روسيا والشرق) كلمتا مندشوريا ومندشوكو. والملاحظ أنهما اسمان لمسمى واحد يسميه الروس بالأول واليابانيون بالثاني.
وورد في هامش (الصفحة 856) اسم إسكندر الثاني، عن سهو، بدلا من اسم نقولا الأول قيصر روسيا.
ولا بأس في هذه النهزة بزيادة بيان. ذلك أن نقولا الأول احتج بالنزاع الطويل بين اللاتينيين الكاثوليك واليونانيين الأرثوذكس في شأن الأماكن المقدسة وهو يحاول تحقيق طمعه ببلاد الدولة العثمانية؛ ولكن السلطان عبد المجيد في عام 1852 امتيازات فرنسا الخاصة بحماية الكاثوليك، وبكنيسة قبر المسيح وغيرها؛ فعرض نقولا الأول على إنجلترا، بعد ذلك بعام، أن يقتسما الإمبراطورية العثمانية من غير إشراك فرنسا في الغنيمة، وقال يومئذ كلمته المشهورة: (على سواعدنا رجل مريض، مريض في خطر، وإذا لم يكن بد من أن يفلت منا قبل أن تؤخذ العدة الضرورية كان ذلك بؤساً عظيماً). ورفضت إنجلترا فزحف جيش نقولا إلى الأراضي العثمانية في مايو عام 1853، وشنت حرب القرم في العالم التالي. ثم مات القيصر عام 1855، فخلفه إسكندر الثاني وعقد الصلح عام 1856.
محمد توحيد السلحدار
إلى الأستاذ العقاد:
قرأت (في بيتي) لأستاذنا الكبير فرأيت هذه الأبيات في الصحيفة الثانية:
النور سر الحياة ... النور سر النجاة
ألمحه بالروح لا ... لمح العيون الخواة
ما تبصر العيون من ... معناه إلا أداة
وهذه الأبيات من البحر المجتث وقد أدركت بداءة أن صدري البيتين الثاني والثالث خارجان من البحر وأنهما لا يصحان على وجه من الوجوه ثم بحثت الأمر لأتأكد فظهر لي(633/43)
ما أدركته أولا.
ولما كان الروى هو التاء المكسورة وكان الوقف لا يصح عليها لأن (القصر) لا يدخل البحر المجتث ظهر لي أن في البيت الثالث إقواء فكلمة أداه في البيت لا يصح جرها بحال.
(والعيون الخواه) في البيت الثاني الرأي فيها أنها الخاوية أو الخاويات.
محمد العزاوي
مدرس بمعهد قنا
حول ترجمة كتاب
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ نجيب محفوظ في العدد 361 من مجلة الرسالة نقداً لترجمة كتاب (الوسائل والغايات) لمؤلفه أولدس هكسلي. وهو ليس نقداً لترجمة هذا الكتاب وحده، بل لكل الكتب التي تترجم على غراره، وعلى المبدأ الذي توخيناه ولم يرض عنه
يرى الناقد أن الترجمة إما أن تكون حرفية بنقل فيها المترجم الأصل عبارة عبارة وإلا باتت عديمة الفائدة؛ ولست أوافقه على هذا الرأي، فمن الكتب ما ينبغي أن تنقل حرفاً حرفاً، ومنها ما يغنى تلخيصها عن ترجمتها، وللناقل عند التلخيص حق التصرف في الإيجاز والإسهاب حسبما يرى، وليس بمخطئ في هذا ما دام لا يجد عن أصل الفكرة وروحها ولا يزعم أنه نقل الكتاب كلمة كلمة، والمفروض أن الناقد مشيع بروح الكتاب عالم بالمواطن المهلهلة التي يمكن اختصارها، وهو ناقل أمين ما دام يشير إلى خطته في الترجمة ولا يخفيها، وبخاصة إذا كان الاختصار مما تقتضيه الضرورة كتحديد الحيز الذي يصدر فيه الكتاب المترجم، أو عرض الفكرة على طائفة خاصة من القراء، وهذا ما فعلت عند ترجمة كتاب (الوسائل والغايات)، فقد كنت مضطراً لإخراجه فيما لا يزيد عن مائتي صفحة، فعرضت بعض فصول الكتاب عرضاً مسهباً، وأوجزت في بعضها الآخر، وأشرت إلى ذلك في مقدمة الكتاب
إننا إذا أخذنا برأي الأستاذ نجيب محفوظ ما أبحنا لأنفسنا أن نترجم فصلا من كتاب، أو جزءاً من مقال، فأما فصول الكتاب كلها ولمقال بأسره أولاً ترجمه على الإطلاق، ولست(633/44)
أحسب أنه هو نفسه يوافق على ذلك. والمترجمون الإنكليز كثيراً ما يتبعون طرقاً مختلفة في النقل، فقد قرأت عيون الأدب اليوناني كلها ملخصة في مجلد واحد وأفدت منها الكثير، وقرأت كتباً أخرى اجتزئ في ترجمتها ببعض فصول الكتاب دون البعض الآخر، ووجدت فيها متعة وفائدة، فالتلخيص جائز في الترجمة معروف في اللغات الأخرى، ومن حقنا أن نستعمله في العربية إذا اقتضتنا الضرورة ذلك
محمود محمود
بين القصة والشعر
قرأت كتاب (في بيتي) للكاتب الكبير الأستاذ (العقاد) ولعله من أعمق ما كتب، غير أنه لفت نظري فيه الموازنة بين القصة والشعر. فالقصة عنده دون الشعر في المرتبة، وهي أهون عليه من أن يضيع فيها وقتاً يمكن أن يقرأ فيه ديواناً من الشعر، وله في هذه المفاضلة مقياسان يحدثنا عنهما في كتابه فيقول: (غير أني اعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.
فكلما قلت الأداة وزاد لمحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف. وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ أن خمسين صفحة منن القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
أو هذا البيت:
كأن فؤادي في مخالب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد به قبصا
أو هذا البيت:
ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس
أو هذا البيت:
أعيا الهوى كل ذي عقل فلست ترى ... إلا صحيحاً له حالات مجنون(633/45)
أو هذا البيت:
وقد تعرضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا
لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قاله عنه التركي - فيما زعم الرواة - أنه قنطار خشب ودرهم حلاوة!
أما مقياس الطبقة التي يشيع بينها الفن فهو أقرب من هذا المقياس إلى أحكام الترتيب والتمييز. ولا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها لقصة دون غيرها من فنون الأدب، سواء نظرنا إلى منزلة الفكر أو منزلة الذوق أو منزلة السن أو منزلة الأخلاق. فليس أشيع من ذوق القصة ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة. وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين) وهذان المقياسان - كما يبدو - ليسا بالحكم الفصل في موضوع خطير كهذا.
فالمقياس الأول تحدث عنه علماء البلاغة والنقد، فكانوا يرون أن خير الكلام وأبلغه، ما جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وهذا المقياس، وإن صلح للمفاضلة بين عبارة وعبارة أو بين بيتين من الشعر، أو قطعتين من النثر، في موضوع واحد، فإنه لا يصلح للمفاضلة بين القصة والشعر، وذلك أن فائدة القصة ليست مقصورة على الغرض الأساسي الذي وضعت من أجله، ولم تكن خمسون صفحة في قصة ما ولو بلغت الطبقة الدنيا في القصص تمهيداً لفائدة تقال في سطر أو سطر، ولكن هناك التصوير الرائع والوصف الدقيق، لحركات الأحياء، ونوازع النفوس وهناك النقد اللاذع لأوضاع المجتمع، وهناك الحديث اللذ الرفيع عن المشاكل السياسية والاجتماعية في أسلوب قوى أخاذ، وحسبنا هو من كاتب عبقري، ففي كل سطر بل في كل عبارة لذة ومتعة ربما لا نجدهما في أبيات كثيرة من الشعر، وقيمة الأسلوب في الآثار الأدبية ليست بالقيمة الهينة التي لا يحسب لها حساب، وقد تكون متعة القارئ بالأسلوب وفائدته منه، ومن هذه الإشارات العارضة في ثنايا القصة أجل وأرفع من الفائدة الأساسية التي تهدف القصة للوصول إليها.
ولم أفهم قط المفاضلة بين بيت من الشعر وبين خمسين صفحة من قصة، فإنه إذا كان الأثران صادرين عن نابغتين، فلا شك أن خمسين صفحة من قصة تعطينا من الفوائد أبلغ(633/46)
وأكثر مما يعطينا بيت أو أبيات كثيرة، وإن كانت القصة ضعيفة ركيكة فلا يصح وزنها ببيت عبقري، ولا وجه للمفاضلة حينئذ، على أنه إذا كان المرجع إلى الفوائد معدودة محسوبة، فإن الخمسين الصفحة قد تعطينا أكثر من البيت الواحد مهما بلغت من الضعف
أما المقياس الثاني، فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص، كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائماً إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم، وهناك أمم يميل عامتها وخاصتها إلى القصص؛ فميل الطبقات الدنيا ليس حكما في المفاضلة بين نوع من الآداب ونوع آخر، وإنما الحكم الفصل في طبيعة الآداب أنفسها، ولعلنا نظفر من الكاتب الكبير إلى بيان شاف في هذا الموضوع الخطير
علي العماري
المدرس بالأزهر
ملك من شعاع
ظاهرة طيبة، ولا ريب، بدأنا نلحظها أخيراً، إذ شرع الكتاب يولون وجوههم شطر مضر القديمة، ويمدون أبصارهم إلى تاريخها الغابر، ينهلون منه أدباً جميلاً وقصصاً بارعة، وأخذوا يستغلون هذا المنجم الذهبي البكر، ويفرغون كنوزهم في قوالب تتيح لأهل البلاد وجيرانهم أن يشاركوا الفراعين الأمجاد فيما خلفوه من تراث أبقى على الدهر من تراث الذهب والمال.
فأصدرت سمو الأميرة شيوه كار قصة مصرية عنوانها (نفررس أس)، وكتب الأستاذ عبد المنعم محمد عمر أمين دار الكتب مسرحية عنوانها (إيزيس وأوزريس)، وكتب الأستاذ عادل كامل قصة (ملك من شعاع)، وأخرج الأستاذ علي أحمد باكثير مسرحية (الفرعون الموعود) فضلاً عن (أحمس) للأستاذ عبد الحميد جودة السحار وو. . .
وكتاب (ملك من شعاع) الذي نحن بصدده، وصمه الأستاذ عادل كامل المحامي واتخذ(633/47)
موضوعه سيرة حياة إخناتون، أسبق الناس إلى الاعتراف بوجود إله واحد ينبغي أن يعبده الجميع، وأول من بشر بأن الله الذي خلق الكون وأبعد صوغه لا تنظره العين البشرية المجردة، وإنما يدركه العقل ويؤمن به القلب. وكان إخناتون أول من جرؤ على هدم الأصنام والتماثيل وتحطيم معابدها، وجاهد ليحمل شعبه القصير النظر على اعتناق دينه والخروج من أفق الملموسات الضيق إلى عالم اللامرئيات الفسيح. كان إخناتون فرعون مصر عبقرياً يعيش في عصر لا يؤمن إلا بالحجر والشمس والنجوم، وكان عليه أن يكافح كفاح الأبطال ليقنع القوم بما يعسر على العقل القاصر إدراكه، ويعصي على العين رؤيته، فوفق في هذه المهمة أولا، ولكن الشعب سرعان ما تألب عليه بإيعاز من كهنة الأصنام وانقلب عليه يطلب دمه ويحكم عليه بالموت، وينعته بالخيانة وبيع الوطن، ولكن المنية عاجلت إخناتون فمات حتف أنفه مغضوباً عليه من شعبه الذي أحبه وأخلص في خدمته، مطعوناً في نزاهته من أصدقائه المقربين، وعلت شفتيه وهو مسجى في الفراش هامداً بسمة هادئة عذبة أن عبرت عن شيء فإنما تعبر عن راحة قلبية واطمئنان إلى عدالة القضية التي نافح لنصرتها.
وقد أجاد الأستاذ عادل تحليل التطور الفكري لإخناتون، وبين الخطوات التي استطاع أن يصل بها إلى الحقيقة التي غابت عن أذهان معاصريه والسالفين له. وساق القصة، وهي مزيج نادر من الفلسفة والأدب والمنطق في أسلوب جميل أخاذ فضلا عن أن المؤلف ضمنها دروساً في السياسة والاجتماع فقال عن الحرب: (إنها العمى والعرج والبتر والكساح. إنها الأرملة فقدت زوجها والأم ثكلت ولدها والأخت تبكي أخاها والفتاة تندب حبيبها. . . أنها المناحة العظمى تعم أرجاء الوطن، والشقاء والحزن يخيمان على كل منزل. . . أنها المجاعة والذلة والمرض، حين تخلو الحقول من حارثيها والبيوت من عائليها، وتنتشر المقاذر والخبائث في كل مكان. . . فليست الحرب هي الشرف، بل هي الغدر والاغتيال والخديعة. أما الوطن فإن من أحبه حقاً كره الحرب. فمن يحب وطنه يسئه أن يسلب وطن غيره، كما أن من يجب زوجته لا يرنو إلى زوجة جاره).
أنه كتاب جليل، ولا غرو، فقد فاز بالجائزة الممتازة في مسابقة وزارة المعارف، وقد أحست لجنة النشر للجامعيين بنشر هذا الكتاب لأنه سد فراغاً طالما استشعرناه.(633/48)
وديع فلسطين(633/49)
القصص
جريزيلدا
للقصص الإيطالي بوكاشيو
بقلم الأستاذ فخري شهاب السعيدي
كانت عداوة المركيز جواليتري الشاب أمير مقاطعة سالوزو للنساء سافرة، يجاهر بها هو، ويعرفنها هن، لأنه ما كان مؤمناً يوماً بوجود امرأة وفية برة تصدق العهد وترعى الذمة والميثاق!!
وكان ذلك سبب ابتعاده عنهن وانصرافه إلى ضروب من اللهو بين وحوش الفلا وأزاهير الربى في عيش رقيق الحواشي ندى الظل، وغبطة تنسري في جوانحه وتشيع في محياه
وإذا كان هذا رأيه هو، فلم يكن هذا رأي شعبه، لأن الشعب لم يكن مجمعاً على خيانة المرأة، ولان الشعب يريد من يتولى الأمر بعد حاكمه. . . هذا إذا جرى قضاء الله عليه فدرج فمات!
لذلك هب أبناء شعبه يطالبونه بالزواج في إلحاح عليه شديد!
وتقدم إليه فريق من وجوه القوم بأسماء الحسان من بنات الأشراف ليقول كلمته في إحداهن، وألحفوا عليه في ذلك، فكان جوابه:
- أنه وحده صاحب الحق فيمن يختارها زوجاً لنفسه، وأماً لولي عهده، وإذا كان للشعب أن يطالب حاكمه بولي من بعده، فليس له أن يتحكم في التي يختارها لهذا الخلف أماً!
. . . ثم اتفق معهم على أن يكون أعز اختيار زوجه له، لاحق لأحد أن يعارضه أو يناقشه فيه، وهكذا كان.
فإن المركيز لخارج من قصره إلى قرية منه يختال على جواده، إذ بصر بقروية من بنات الرعاة تحمل الماء من بئر قريبة إلى دارها في وداعة أخاذة استوقفته قليلا، ثم اقترب منها يسألها عن عساها تكون؟!
- اسمي جريزيلدا يا سيدي!
ووقف المركيز الشاب أمام جريزيلدا هذه دهشاً قد علق قلبه، وذهل لبه، واشتغل خاطره،(633/50)
وأراد أن يكاشفها بدخيلة أمره، وأنه يرغب في أن تكون زوجه، ولكنه ما استطاع ثم حمل نفسه على أن يصارحها برغبته فقال:
- أنني يا جريزيلدا أبحث عن زوج برة مخلصة لينة المقادة، قريبة الارتياد، خلقها دمث، وطاعتي عليها فرض تتقبله في سرور أفأجد فيك التي أنشد؟!
- يا سيدي، أرجو أن تكون قد وفقت إلى اختيار من تريد!
ثم تم الزواج - كما أراد المركيز أن يكون - في فخامة وبهاء، وجاءت الفتاة القروية إلى قصر الأمير لتبتدئ حياة أرستقراطية غريبة عنها وعن قريتها التي أسلمتها إلى هذا القصر المنيف. . .
كانت الفتاة وفية حقاً للمركيز: تتحرى رضاه فتعمل به، وتتوخى هواه فتقصد إليه، وتقضي حق النعمة عليها بشكر أياديه وفضله. . .
وكانت برة به كما أراد، مخلصة له كأفضل ما تمنى. . . تعمل على إسعاده، ولو كان في ذلك شقاؤها، وتتمنى له الخير، ولو كان فيه أذاها. . .!
وكانت قد وهبته قلبها: فهي أبداً حريصة على رضاه، حريصة على إسعاده، حريصة على أن يكون زوجها أسعد الناس حياة. . .!
وكان شعب (سالوزو) يبصر هذا من الفتاة الكريمة، فيعجب بما يرى، ويغتبط بما يجد أميره من إكرام وحب ووفاء من بنت القرية (جريزيلدا). . . وقد كان هذا الإعجاب الشديد سبب حب الفتاة في قلوب أهل (سالوزو) أجمعين!
وما لبثت جريزيلدا أن وضعت بنتاً. . .
فرقى الخبر إلى شعب سالوزو، وابتهج الشعب لهذا وفرح؛ وأعلن عما في نفسه من أسباب الفرح والحبور بالاحتفالات يقيمها، والمآدب يولمها، والتهاني يرفعها إلى أميره. . .
ولكن الأمير لم يثلج بالأمر صدره غبطة - كما توقع الشعب ذلك منه - بل كان في نفسه ما يحز فيها حزاً من سوء الظن الأثيم!. . . فإن الرجل قد خيل إليه أن من وراء هذا الذي تبديه له زوجه من الحب والوفاء - خيانة مستترة - لا يعلمها هو، ولكن وجدانه ينبئه. . . ولا يعرف عنها شيئاً، ولكن حسه يوقظه. . . وتتعاظم هذه الخواطر في نفسه فتطغى على كل شعور. . . وإذا ما كان في نفسه عن المرأة قد عاد إليه. . . وهل تكون (جريزيلدا)(633/51)
هذه إلا امرأة؟!
وإذاً فليتغلغل إلى دخيلة نفسها ليعرف الحق، وليمتحنها ليطلع على ما عند المرأة من خيانة وفجور. . .
. . . وأرسل إليها يطلب منها ابنتها معلناً أن شعبه لا يرضى أن تكون ولية العهد بنتاً من أم وضيعة الأصل، حقيرة البيت، من أهل القرى. . .
وفهمت هذا الذي كان يدور بخلده - وما كان ذلك ليخفى عليها - وأدركت أنها مفارقة ابنتها البريئة، ثمرة إخلاصها ووفائها وتفانيها في الحب لمولاها وزوجها المركيز - فراقاً لا تعلم مداه. . . بل قد لا يكون له مدى يقدر، أو نهاية تعرف!
. . . وألم بالمسكينة الجزع في شكل الثكل، وملكتها غموم الوالدة تفقد وحيدها، فاشتملت عليها، وتشعبتها آلام الفجيعة في شكل مريع. . . ولما رأت أن الأمر قد تعقد وأعضل، ودعت ابنتها في لوعة مريرة ويأس. . . ثم تقدمت بها إلى الرسول
ومضت بعد ذلك أعوام طوال كانت (جريزيلدا) مع زوجها على سيرتها الأولى: من طاعة وحب ووفاء. . . وصبر ما تلقاه منه من مكروه! ثم قدر الله فوضعت ولداً. . .
وكان لهذا الوضع أثره في نفسها المحزونة، فقد أملت منه خيراً يأتيها به أبوه. . . وقالت في نفسها: أن الشفاعة من ولي العهد ولا شك، وكيف تشك وها قد وضعت ذكراً ينوب في حكم الشعب مناب أبيه؟ وكيف تشك وهذه أمنية المركيز التي يطلب، ومراده الذي يبتغي - هو ومن ورائه شعب (سالوزو) الكريم؟!
ولم يدعها المركيز (جوالتيري) تحلم. . . وتبتعد في حلمها عن الواقع المقدر لها ولابنها هذا. . . فقد بعث يطلبه كما بعث من قبل يطلب أخته!
وتكرر فصل (المأساة) ولكن في مظهر أروع، وأعيد الحزن إلى قلب المسكينة ولكن في شكل أقسى؛ وقدمت المسكينة طفلها هذا كما قدمت أخته من قبل إلى الرسول!
وإذا كان جرو السبع لا ينفعه رضاع الشاة. . . وإذ كان النبت لا يقوم اعوجاجه حين يشتد عوده ويستأسد، فإن المركيز لم يكن ينفعه تفاني المرأة في إخلاصها وإظهار طاعتها له. . . والطباع إذا كان فيها عوج متأصل، لا تفيدها كل أنواع المقومات!
. . . وكذلك صبرت (جريزيلدا) على الخسف ستة عشر عاماً طوالا، كانت خلالها مثال(633/52)
العفة في الخدمة، والشرف في أداء حقوق الزوج، صابرة على ما تلقاه من هذا الذي يدعونه زوجها، وليس في قلبه من معاني الزوجية التي تعتمد على الشرف والإخلاص شيء!
وعلى أن الحزن الممض لا يقوى على احتماله بشر له قلب وشعور، فإن (جريزيلدا) كانت تحتمل ما تلقاه في جلد واحتمال عجيب، كأن ما تراه من عقوق، هو عين الحق الذي يجب أن تعامل به الوفيات أمثالها. . .
ولكن زوجها المركيز لم يرضه هذا. . . بل عمد إلى طردها من قصره إلى حيث كانت في كوخها الريفي الحقير. . .
وخرجت (جريزيلدا) في أطمار بالية من القصر كما دخلته من قبل؛ ورجعت إلى كوخها وليس معها من آثار النعمة التي كانت فيها غير. . . أسوأ الذكريات، وغير ما في قلبها المكلوم من حزوز. . .
ولكنها لا تكاد تستقر في ريفها حتى يأتيها رسول (المركيز) يأمرها بالرجوع إليه.
لتعد قصره الذي برحته لزواج جديد!! من حسناء من بنات الأشراف. . .
ونزل عليها الخبر كالمصيبة تنال بعد كثير من أمثالها؛ لا تكاد تستقر واحدة حتى تتلوها الأخرى اشد إيلاماً وأفجع!
. . . ورجعت إلى القصر وإن قلبها لجازع من هذا الذي يرى؛ ولكن ستاراً من الابتسامات العذاب كان ينسدل على ذلك القلب الكبير فيخفي ما به من أثار اللوعة والشقاء. . .
وتم إعداد القصر للزواج الجديد. . .
وتمت دعوة الأشراف والنبلاء إليه في ليلة الزفاف. . .
فكان القصر ليلتئذ بحسناواته ومظاهر المسرة فيه جذوة من اللهب تتقد في قلب (جريزيلدا) التي كانت تتغشى طمراً أبلاه الدهر وأخلقه. . . قابعة في زاوية من زوايا القصر، خانسة، فكأنها في ذلك القصر المائج بالغيد الفاتنات تمثال البؤس الذي يتحاشى المترفون النظر إليه. . . أن يشقيهم أو يكدر صفو حياتهم التي يحيون!!
ورفعت (جريزيلدا) عينيها إلى العروسين الداخلية فاحتارت مما رأت. . . لقد كانت، في يوم من الأيام، كهذه الحسناء التي تتيه بجمالها الفتان وتزهى. . . لقد كانت يوماً قبلة(633/53)
الأعين تستجلي جمال وجهها الباهر السني في إعجاب شديد!
. . . وجاء (المركيز) إلى زوجه القديمة البائسة يسألها رأيها - على ملأ من الحاضرين - في عروسه الحسناء؟ فأجابت:
أن في منظرها - يا سيدي - لحسناً. . . وأرجو أن يكون لها مثل ذلك في مخبرها عند الامتحان. . . ثم توسلت إليه أن يكون منصفاً لهذه الفتاة يعاملها في رفق وإحسان. . . وأردفت ذلك بجميل الدعاء والتوفيق لهما. . . ولعلها ساعتئذ كانت أصدق ما تكون. . .
قال المركيز:
- (ولكن اغتفري لي يا (جريزيلدا) هذا الذي رأيته مني من جور وكفران. . . لم أكن معك يا فتاتي من المنصفين. . . لقد كنت أتهم وفاءك، خائفاً أن تكون وراءه خيانة أو ريبة. . . ولكنك الآن أمامي مجلوة مثل كرائم الأحجار. . .
(دعيني - يا زوجي البرة - اقدم إليك هذه التي تحسبينها عروسي كما يحسبها غيرك من الحاضرين - على أنها. . . ابنتك التي انتزعتها منك منذ أمد بعيد. . . وهذا يا جريزيلدا المحبوبة ولدنا العزيز الذي أرسلت إليك في طلبه مما أرسلت من قبل على أخته. . . ضميهما إليك. . . إلى صدرك. . . لتقري بذلك عيناً ولتكوني من الفرحات الناعمات. . . لقد حرمتهما حيناً من الدهر طويلا. . . فانعمي بعد ذاك الحرمان الطويل. . . أقبلي عليهما التمسي العزاء عندهما عما مضى وكوني - كما عهدتك - تصفحين عن الإساءة وتتقلبين مني كل شيء بالصدر الرحب، والغفران)
(بغداد)
فخري شهاب السعيدي(633/54)
العدد 634 - بتاريخ: 27 - 08 - 1945(/)
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
كان النظام السائد في عالم الاقتصاد في المائة سنة الماضية التي أشرنا إليها في مقالنا السابق، هو نظام الباب المفتوح، وهو يتلخص في حرية التجارة والتكافؤ في المعاملة. فالبوارج الحربية التي فتحت موانئ الصين واليابان من مختلف الجنسيات، كانت تفرض نظام الباب المفتوح، واعتراف الدول بحماية فرنسا على مراكش المستقلة، كان يتضمن بقاء سياسة الباب المفتوح - وفي مصر كان تساهل الدبلوماسية الأوربية لبقاء الاحتلال البريطاني يلازمه اشتراط العمل بسياسة الباب المفتوح، ويأخذ الضمانات على الإنجليز (ألا يكون لهم مركز ممتاز)، أو أكثر رعاية من غيرهم. ولذلك بقيت حرية الحكومة المصرية في زيادة الضرائب الجمركية مقيدة كما كانت طول عهد الدولة العثمانية برغم وجود العامل الجديد، وهو الاحتلال البريطاني
وقد بقيت سياسة الباب المفتوح معمولا بها طوال القرن الماضي، لو كانت إحدى دعامات القوة البريطانية، ولكن حينما تقدمت الدول الأوربية في طرق استغلال أراضيها بالمستعمرات، تطورت علاقاتها مع ممتلكاتها إلى إيجاد نوع من الوحدة الاقتصادية بين الدولة الأوربية وما تملكه في القارات الأخرى. وأخذت كل وحدة تسير نحو الاستكفاء بما لديها - فالميزان التجاري الذي كان يعتمد على حرية التجارة، خضع لمقدرة كل دولة واستعدادها لتصريف الفائض من منتجاتها في المستعمرات التي تملكها - كما أن المواد الأولية التي كانت تحت تصرف الدول الأخرى، أخذت تنحصر رويداً رويداً بيد رجال الدولة الحاكمة، وتصبح مع مرور الزمن محتكرة وفوق متناول يد الدول الأخرى.
ولما كان كوكبنا الأرضي محدود المساحة، ولم تبق بقية من أنحاء العالم خالية، لا يرفرف عليها علم أحمر أو أزرق أو أخضر، ولم يبق شعب من الشعوب إلا وخضع لحكم الأوروبيين، كان من الطبيعي أن تتلاقى القوى على حدود مناطق لا تتعداها، وإلا تصادمت مع قوة لا تقل شأنا عنها.(634/1)
ولقد انتهى كل هذا إلى تنافس بين الدول الاستعمارية ظهرت بوادره بداية القرن الماضي، فمشكلة فاشودة بين فرنسا وبريطانيا واتفاق سنة 1904 بين الدولتين، وهو الذي جعل مراكش من حصة الأولى، وجعل مصر من نصيب الثانية، جاء ليحد من أثر التنافس، وليوجد حلا للمشاكل الاستعمارية بين الدولتين، كذلك كان اتفاق سنة 1907 بين بريطانيا والروسيا، جاء ليقسم إيران، وليسد الباب على هذا التلاحق أو الاحتكاك بين قوتين تخشيان التصادم
ولقد وصل هذا التنافس بين المستعمرين إلى مداه قبل قيام الحرب العالمية الأولى، أي في سنة 1914، وكثر التحدث عن احتلال المراكز التجارية والمواقع الاستراتيجيكية التي تسيطر على طرق الملاحة والمواصلات
ولما وقامت الحرب العظمى الأولى، كانت أوروبا في عنفوان قوتها ومجدها وسلطاتها. وقد ورثت الأرض ومن عليها، وكانت حرباً قاسية ضروسا تحملتها أوروبا واشتركت المستعمرات فيها بأموالها وبرجالها، وكان الدور الذي لعبته الهند وأفريقيا الشمالية وغيرها هاماً، فبقدر أهمية الخدمات التي أدتها المستعمرات، بقدر ما زاد واستوثق اتصال الدولة الحاكمة بالبلاد الخاضعة لسلطنها ونفوذها
نتساءل بعد ذلك عما كان من أثر الحرب العالمية الأولى ونتائجها؟
ظهر جليا بعد الحرب أن أوروبا تحطم فيها أكثر ما خلفته المائة سنة الماضية من أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية
فلو قدر لمترنخ الوزير النمساوي أو لغيره من أساطين ونماردة الرجعية الذين خيل إليهم أن الأقدار بيدهم يوماً ما
نعم، لو قدر لهم رؤية أوروبا عام 1920 لصعب عليهم أن يجدوا أثراً من الأنظمة التي فرضوها على الشعوب في مستهل هذا القرن الماضي
ولكن أوروبا التي تحررت من أثار القرن التاسع عشر، عرفت - لأول مرة - عهداً من الفقر المادي والمعنوي، ودخلت في طور جديد من المشاكل، إذ كانت العشرين سنة التي أعقبت الحرب العظمى، كشريط سينمائي للحوادث، استمر يعرض علينا مشاكل الحدود والأقليات والثورات المتتابعة، ومسائل التسليح ومقاعد عصبة الأمم - فكانت ما أثارته(634/2)
الحرب من المشاكل والشكوك والريب والأطماع أضعاف ما عرفته أوربا قبل قيامها، بل استمرت هذه المتاعب تعمل في أوربا وجراحها بعد لم تلتئم، فكان من الطبيعي أن يلجأ السياسيون لكل الوسائل التي اعتادت الدبلوماسية الصامتة من قبل بأساليبها الملتوية
ولقد كانت أكبر متاعب أوروبا مسببة من الشعوب الصغيرة التي أوجدتها معاهدات الصلح بدون أن تستند على أسس تاريخية راسخة - فهذه الدول المرتجلة، أمضت العشرين عاما، تتأرجح بين التيارات المختلفة، فلم تثبت على مبادئ واحدة، ولم تنهج خطة معينة، وكان تنازعها على مقاعد عصبة الأمم مضحكا، كما كان اجتماع مجلس التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا ورومانيا للتدخل في الشؤون الداخلية للمجر يدل على مهارة، ولكن تفكك هذا المجلس وانكماشه أمام المصاعب الكبرى مثل مهاجمة النمسا واحتلال تشيكوسلوفاكيا كان يدعو إلى السخرية والتهكم
فهذه الشعوب والدول الصغرى كانت تسبب الكثير من الضجيج، ولكنها لم تكن يوما ما مستقلة في سياستها، أو مخلصة للمواثيق والعهود التي قطعتها على نفسها، بل كانت أكثر الوقت ألعوبة في أيدي الدول الكبرى التي كانت تحركها
وفي وسط هذه الفوضى الأوربية كانت الدول الكبرى تسير بخطوات واسعة نحو تدعيم مستقبلها بالاعتماد على عوامل عالية أو كونية أكثر منها محلية أو أوربية - وكان التفوق الصناعي والمقدرة الرأسمالية والإنتاج الواسع كلها تمهد لهذا الاتصال أو الارتباط وتسير بالدول لاستعمارية وأراضيها ومناطق نفوذها نحو التركيز الاقتصادي، أو نحر أيجاد نوع جديد من الكتل الاقتصادية، أو الوحدات المكونة لمجموعة من الدول والأمم التي أن لم تكن مرتبطة سياسيا، فهي مرتبطة اقتصاديا وماديا، وهذه كانت أول خطوة نحو ظهور الكتل الكبرى التي نراها اليوم
ولم يكن هذا التوجيه في حلم أحد من الناس، بل هو النتيجة الطبيعية للعوامل التي سببها هذا التوسع الاستعماري الجارف وهذا التطور الذي صحب العالم - وبينما هذه الدول تسير بخطوات واسعة نحو تأكيد سيطرتها معتمدة على تفوقها - أي بينما هذا التحول في الحلقة الأولى من حياته - ظهرت المتناقضات والشروخ في هذه الأنظمة الاقتصادية
فالنظام الرأسمالي الذي بلغ اوجه، لم يكن يفكر في شئ من الانهيار والتفكك حينما دهمته(634/3)
أزمة سنة 1930 وما بعدها، ولم تكن هذه الأزمة أوربية حتى يمكن تلافيها، بل كانت عالمية، فهي أشبه الأشياء بالسنوات العجاف التي تحدثت عنها الكتب المقدسة.
كانت هذه الأزمة الواقعة بين حربين امتحانا قاسيا للأنظمة الاقتصادية ولقوة المقاومة بين الدول الكبرى، وكانت أكثر من ذلك، كانت الدافع الديناميكي الطبيعي الذي اقنع الكتلتين الكبيرتين الانجلوسكسو بأن مستقبل العالم يتطلب تفاهما وتعاونا وارتباطا بين أمريكا الانجلوسكسو وبريطانيا الانجلوسكسونية
ويحسن بنا قبل التكلم عن أثر هذه الأزمة أن نعطي فكرة أولى عن أحوال العالم الاقتصادية، أو نظرة لرجل على ربوة رصد يسجل حوادث تمر أمامه:
كان يبدو للناظر أن الدنيا يغمرها طوفان أو فيض هائل من خيرات الله، فلم يحدث في العالم أن وصلت مستخرجات المواد الأولية إلى الملايين من الأطنان من كافة الأصناف التي وصلت إليها في العشر سنوات الواقعة بين 1920 - 1930 وما يقال عن المواد الأولية، يقال عن المنتجات الزراعية والصناعية، ولكن يقابل هذا الفيض من الخيرات حالة أخرى بين سكان الأرض: فقد ذكرنا في البحث السابق كيف ازداد عدد سكان المستعمرات. وكيف أصبح ملايين من الناس يسكنون جهات لم تكن مسكونة ومأهولة. وهذا القسم من الإنسانية امتاز بشيء واحد اسمه (الحرمان)، أي أن الفقر والفاقة، وأحياناً المجاعات والأوبئة اختصت بأجزاء من الإنسانية قد تقرب من نصف المجموع الآخر أن لم تزد عليه
ففي الوقت الذي كانت فيه ثروات العالم وخاماته تنتقل بانتظام على البواخر بين القارات، وفي الوقت الذي وصل فيه استغلال الشعوب الآسيوية والأفريقية بل والأمريكية إلى درجة لم تعرف من قبل - كان سكان هذه المناطق أو غالبيتهم لا يصيبهم سوى النزر اليسير أن لم يكن أقل من اليسير من الفيض الذي تخرجه أراضى بلادهم، فهو يصدق فيهم أكثر من غيرهم قول الشاعر العربي:
كالعبس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
ولعل أكبر المتناقضات التي عرفتها البشرية منذ خلق الإنسان على الأرض، والتي لم يعرفها الحيوان في حياته قط هو ما يأتي:(634/4)
إذا كان سكان العالم يقدرون بـ 2000 مليون نسمة، وإذا أخذنا معدل المستوى في بلد آسيوي أو أفريقي، فلا أقل من نصف العدد من هم ونساؤهم وأطفالهم في حاجة للكساء، بل يمكن نصفهم عراة، ففي الوقت الذي فيه نصف، أو قل ربع الإنسانية عار، كانت ملايين الأطنان أو آلاف الأطنان من القطن الخام يحرق في مزارعه. لماذا يحرق؟ من أجل نصف ريال يرتفع به سعر القطن ليدخل في جيوب المنتجين!
هذه إحدى المتناقضات، فلننظر إلى مثل آخر:
لا تزال مشكلة الغذاء تشغل العالم، وهي مشكلة مخيفة إذا علمنا أن عدد سكان مصر في القرون الوسطى هبط إلى النصف وأحياناً إلى الثلث من أثر هذه المجاعات. أما قلة الغذاء ونقصه، فيعرفها أهل مصر أكثر من غيرهم، فإذا كانت مشكلة الغذاء نعرفها هنا، فما رأيك بملايين من بني آدم في بعض الجهات لا يلقون سوى وجبة واحدة وضئيلة في اليوم الواحد، أي مكونة من قليل من الأرز والماء، ففي عالم فيه الإنسان محتاج لشيء من العطف والرحمة، أو لقليل من الوعي الإنساني ولشيء من التنظيم والصبر. نعم في هذا القرن العشرين كانت ملايين من المواد الغذائية التي تصلح لتكون غذاء. أي نعم كانت تحرق في القاطرات أو البواخر. . . لماذا؟ لكي لا يخسر زارعوها ربع ريال فقط!
هذه صورة الدنيا وهي لعمر الحق سوداء، حينما قامت الدعوة لمؤتمر اقتصادي عالم يلتئم في مدينة لندرة، ولم يكن اجتماعهم إلا بعد أن توالت النكبات، وتفاقمت الأزمات، وشعر الرأسماليون بنقص في الأموال، وضعف في الأنفس، وإفلاس في بيوتاتهم، فقرروا أن يتجمعوا وإن يتداولوا وإن يتحادثوا، وإن يراجعوا الأرقام ويقارنوا الإحصائيات، وكان معهم الخبراء وغير الخبراء، وما التأم شملهم حتى أخذ كل فريق يكيل الاتهام لغيره ويحمل الأخطاء على كتف سواه!
وتعود بي الذاكرة لبعض ما وعته نفسي: فأنى برغم جهلي بالتفاصيل المملة وعدم أيماني بعبقرية الاقتصاديين والخبراء، وعيت ما ذكره بعض غلاة الرجعية في إذاعتهم: أن بقاء روسيا تحمل وحدها سبع المعمورة قد أخل بالتوازن الاقتصادي العالمي، فهي السبب الأول للازمة؛ وقال آخرون: أن علاج الأزمة هو رفع مستوى الجماعات البشرية وإعطاؤها الفرص لكي تبيع وتشتري، وكثرت المقترحات وتفرعت اللجان، ثم توزعت الأعمال،(634/5)
فكان المؤتمر كسوق قامت ثم انفضت، فقط لم يربح أحد فيها، وخسر فيها العالم كل شيء، إذ خرج وهو مريض وقد اشتد مرضه، وتسابقت الدول إلى التسليح، لأن مؤتمر لندرة لم يحل مشكلة المواد الأولية، فبقيت المواد الأولية وأصحاب المواد الأولية، أي سكان البلاد الأصليين، على الحالة التي وجدهم المؤتمر عليها، أي ينتظرون تنفيذ أحكام الأقدار فيهم!
أما الأقدار، فكانت في شغل عنهم، لأن الأقدار تحالف القوانين الطبيعية الملازمة لطبيعة الأشياء. نعم كانت في شغل عن تقارير المندوبين والخبراء، كان عملها بسيطا يتلخص في نتيجة منطقية: أن الفريق الغالب في عالم الاقتصاد هو الذي يملك من القوى الإنشائية والدعامات الاقتصادية أكثر من غيره، وهو الذي يزحزح الضعيف من طريقه وينتهي بأن يجذبه إليه، فإما أن يندمج فيه أو يزداد ضعفا على ضعف
وكان أن خطوات التكتل التي بدأت بعد الحرب قد أخذت تسير بسرعة عقب مؤتمر لندرة، فهولندة، والبرتغال أخذت كل منهما تتجه نحو المجموعة التي تلائمها، وجمهوريات أمريكا الجنوبية أخذت تلتئم في النظام الاقتصادي للولايات المتحدة. وفي وسط هذا التنازع السلمي أخذت تظهر على العالم قوات متكتلة تختلف قوة وضعفا وهي:
1 - بريطانيا العظمى وإمبراطوريتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
2 - الولايات المتحدة وممتلكاتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
3 - روسيا في أوروبا وآسيا
4 - فرنسا وإمبراطوريتها تحاول أن تستكفي
5 - اليابان والشرق الأقصى
6 - إيطاليا وإمبراطوريتها في المهد
أما بقية العالم، فاستمر حائرا ينظر إلى المستقبل بأساليب القرن الماضي. ألمانيا تحلم بمستعمراتها، وأسبانيا تؤمل في أيام الإرمادا، وإيطاليا تتحدث عن الإمبراطورية الرومانية، والتشك واليوجوسلاف يحاربون مشروع عودة النمسا والمجر، وكل بما لديهم فرحون، حتى دهمتهم الحرب العالمية الثانية، وسنرى ما كان من أمرها أن شاء الله.
(يتبع)
أحمد رمزي(634/6)
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(634/7)
معركة إنسانية خالدة
في أفريقيا الشمالية العربية
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
لا شك في أن جهاد العرب والمسلمين في سبيل حريتهم وسيادتهم ضد الاستعمار الأوربي في هذا العصر هو معركة من أروع معارك التاريخ وأبقاها أثرا، لا لأنها معركة عنيفة جبارة يصلى نارها ملايين من البشر، ويمتد ميدانها إلى جميع أنحاء الوطن العربي الإسلامي فحسب، ولكن لأنها معركة فذة في أسلحتها، خطيرة في نتائجها وأثارها. أما أسلحة المستعمرين فهي أسلحة فتاكة مادية، لا تقتصر على الجيوش وسلاحها الذي يقتل الأمنيين المسالمين قبل المجاهدين المحاربين، ولكنها تشمل (السياسة) بما تستخدمه من أحط الوسائل في محاربة أخلاق الأمة بالفساد والانحلال، ووحدتها بالتفريق والشقاق، وشجاعتها بالقتل والنفي والسجن والتجويع، وإنسانيتها بمصادرة الحريات وسلب الحقوق وانتهاك الحرمات. وأما هدفهم، فهو السلب المنظم والسرقة الصريحة باسم التعمير والاستقلال، والهدم والإفناء باسم (التمدين) و (الإنشاء).
أما الجانب المشرق في هذه المعركة الخالدة فهو جهاد لعرب والمسلمين وثباتهم في ميدان الشرف والكفاح في سبيل أسمى غاية، في سبيل الحرية الإنسانية وحقوقهم الطبيعية، وفي سبيل المبادئ الإنسانية السامية التي تكفل لهم حقوقهم وحرياتهم. وسلاحنا في ذلك الكفاح هو قوميتنا ومثلنا الروحية العليا التي عوضت عن أسلحتهم المادية أسلحة روحية سامية، هي الإيمان بالحق الذي نكافح من اجله، وحب الموت والتضحية في سبيله، واحتقار للحياة المادية الشهوانية التي تستسيغ الذلة والعبودية، أسلحة قوية سيكون لها النصر برغم طول الكفاح، وشدة البلاء، وكثرة التضحيات.
تأمل هذه الحقائق ناطقة في معركة أفريقيا الشمالية بين العرب والمستعمرين من الفرنسيين والأسبانيين والإيطاليين وأشباههم، وخاصة في الجزائر وشقيقاتها حيث يتكلم الفرنسيون عن (مشكلة) أفريقيا الشمالية، وكلمة (مشكلة) إنما تدل على أزمة حادة تصيب سياستهم الاستعمارية وفشل خطير يهددها، فما الذي أصابهم بهذا الفشل ورماهم بتلك الأزمة؟ لقد صرح أحد زعمائهم في الجمعية الاستشارية بالحقيقة مستورة ملفوفة حين قال (إن مجهود(634/8)
فرنسا الاستعماري تعترضه صعوبات (خطيرة) أهمها الوحدة العربية، والمجاعة! أما الوحدة العربية فتشير إلى القومية العربية بكل خصائصها وأسسها، وخاصة أساسها الروحي وهو الدين بمبادئه ومثله العليا التي يتسلح بها المسلمون في كفاحهم. فأي اعتراف بقوة هذه الأسلحة و (خطورتها) ابلغ من هذا؟ ليس ذلك فقط، ولكن بجانب هذا اعتراف آخر بفشل أسلحتهم الاستعمارية الوحشية التي عبر عنها بكلمة (المجاعة)، لأن المجاعة هي النتيجة الطبيعية للسياسة الاستعمارية الغاشمة، والاعتراف بها ابلغ رد على ما يسمونه السياسة الإنشائية والعمل التمديني الذي قامت به فرنسا والذي انتهى بعد قرن من الزمان بالمجاعة، لأن ليس في حقيقته إلا استغلالا همجيا حقيرا.
ونحن العرب والمسلمون نلمس من هذه الاعترافات بشائر نصرنا في هذه المعركة الإنسانية الخالدة التي ستكون نقطة التحول في الحضارة الإنسانية من المبادئ الأوروبية المادية الاستغلالية الاستعمارية الهمجية، إلى مبادئ قوميتنا وحضارتنا الإسلامية الروحية السامية التي عبر عنها ابلغ تعبير عالم الجزائر ورئيس جمعية علمائها المسلمين بقوله: (أن الأمة الجزائرية يجب عليها بحكم دينها أن تحيا من كل من يساكنها حياة الإحسان والخير والرحمة فتحسن وتطلب بالإحسان، وتبذل الخير والرحمة وتطالب غيرها بالخير والرحمة. وإذا قامت بواجب حيوي مشترك كان من الإنصاف لها أن تتمتع بالحقوق الحيوية المترتبة على ذلك الواجب. وإن تساوي غيرها في الحياة كما ساوته في الواجب، مع الاحتفاظ التام بمقوماتها الطبيعية التي هي: الإسلام والعروبة وشخصيتها كأمة مستقلة، وهذا هو ما تقتضيه قواعد الإنسانية وقوانين العدل والإنصاف، هذا هو أيماننا العميق بمبادئنا الإنسانية السمحاء، وهو الذي سيكفل لنا النصر القريب الحاسم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد(634/9)
الفلسفة الإسلامية المتأخرة
للدكتور جواد علي
- 3 -
ترك الملا صدرا طائفة من الطلاب والمتعلمين كان أبرزهم تلميذه الملا محسن فيض الكاشاني وهو محمد بن مرتضى المعروف بمحسن فيض (توفي سنة 1091هـ). درس على الشيخ ماجد بن علي بن مرتضى البحراني المتوفى سنة (1028 هـ) والشيخ ماجد عالم مشهور وشاعر معدود تخرجت عليه طائفة من علماء إيران والعراق اشتهر بالفقه والحديث والأصول. ودرس على الملا صدرا وعلى نفر من العلماء البارزين.
غلبت على الفيض نزعتان النزعة إلى الفلسفة العالية والنزعة إلى التصوف. فدرس كتب الفلاسفة واصبح فيلسوفا من كبار الفلاسفة ومارس التصوف حتى أصبح صوفيا من جماعة المتصوفين فاتهم لذلك بنفس التهمة التي اتهم بها أستاذه الملا صدرا من قبل. (فنسب إليه الشيخ علي الشهيدي العاملي في ذيل رسالته في تحريم الغناء وغيرها كثيراً من الأقاويل الفاسدة والآراء الباطلة العاطلة التي تفوح منها رائحة الكفر).
وقد ذهب مذهب أستاذه في تقديس ابن العربي والثناء عليه والثقل من كتبه. وهذا ما أهاج رجال الدين عليه. وهو صوفي بالطبع ومشربه يشبه مشرب أبي حامد الغزالي وقد توصل إلى نفس ما توصل إليه هذا العالم الأخلاقي الكبير ولكنه غالى في التصوف وفي الدفاع عن عقائد المتصوفة حتى تسمى (بالشيخ والدرويش) وحتى انتسب إليه (القلندرية) وقال (بوحدة الوجود). وكتب أكثر كتبه على طريقة المتصوفة والمتفلسفة حتى تلك الكتب التي ألفها في الفقه والأصول والتفسير يقول عنه صاحب روضات الجنات (ولاشتهار مذهب التصوف في ديار العجم وميلهم إليه بل غلوهم فيه صارت له المرتبة العليا في زمانه والغاية القصوى في أوانه رفاق عند الناس جملة أقرانه حتى جاء على أثره شيخنا المجلسي، فسعى غاية السعي في سد تلك الشقائق الفاغرة وإطفاء نائرة تلك البدع الباترة).
والمحسن فيض فيلسوف صوفي، فمن المعقول إذا أن يكون لسلطان العقل عنده المقام الأول بالنسبة إلى سلطان النقل. على أننا لا نلاحظ ذلك عنده لا في كتاباته ولا في تفكيره. نراه يقدم الأخبار على الرأي ويأخذ بالحديث بدلا من الاجتهاد. ويتهجم على (الأصولية)(634/10)
القائلين بمبدأ الاجتهاد في الفقه وأصوله. وقد كان (أخبار يا صلبا كثير الطعن على المجتهدين ولا سيما في رسالته سفينة النجاة حتى أنه يفهم منها نسبة جماعة من العلماء إلى الكفر فضلا عن الفسق).
والأخبارية على نقيض (الأصولية) تعتقد بالأخبار الواردة عن الرسول اللائمة الاثني عشر المعصومين على رأي الشيعة ألاثني عشرية وتقدم الخير مهما كانت درجته على الدليل العقلي وحجتهم في ذلك أن الاجتهاد رأي والرأي لا يجوز في الدين ولذلك لم يعترفوا إلا بالكتاب وبالأخبار المروية عن النبي والأئمة واختلفوا عن الأصولية في درجات الحديث، أما الأصولية فأخذت بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل. وقد رفضت القياس لأن القياس في نظرها رأي والرأي لا يجوز في العبادة والدين. ونسب إلى المحسن فيض القول (بوحدة الوجود) وقيل أنه ألف رسالة في هذا الموضوع. ولكنه من جهة أخرى يتحامل على الدراويش والصوفية تحاملا قاسيا وله (مقامات) على طريقة مقامات الحريري في وصف حالة زمانه وأوضاعه السياسية وقد تحامل فيها على المتصوفة وأصحاب الطرق تحاملا شديدا يكاد يجعله في عداد المقاومين للصوفية على أنه نفسه من المتصوفة. غير أن تصوفه من قبيل تصوف الملا صدرا بلا ذكر ولا ملابس وعلامات.
ومن الذين تأثروا بمدرسة الملا صدرا عالم آخر وفيلسوف صوفي هو الملا عبد الرزاق بن علي بن الحسين اللاهيجي المتكلم الشاعر وصاحب التصانيف في الحكمة والكلام. وكان كالمحسن فيض صهرا للملا صدرا وخليفة من خلفائه في الفلسفة الإشرافية وله في هذه الفلسفة كتاب (شرح الهياكل في حكمة الإشراق) وكتاب (الشوارق في الحكمة) تلك الفلسفة التي ارتبطت بالصوفي الشهير السهروردي على الأخص والتي أصبحت ذات لون إسلامي خاص - والظاهر أنه لم يصل إلى مرتبة الفلاسفة المتقدمين بدليل ما قاله البعض عنه (من أنه كان قلندراً قبل أن يكون فيلسوفا).
أما الحاج ملا هادي السبزوادي (ولد سنة 17971798م
وتوفي سنة 1295هـ) فقد كان آخر رجل من هذه الزمرة
وهو شاعر فيلسوف طبعت أكثر كتبه في إيران. مثل مدرسة(634/11)
الملا صدرا خير تمثيل.
رفض الملا هادي مبدأ (الاتحاد) أي اتحاد الله في المخلوقات وفرق بين الاتحاد والحلول. فسر فكرة الاتحاد تفسيرا جديداً. . . أن (عقلي كل) (العقل الكلي) معناه اتحاد (الموضوع بالمحمول) ويتمثل الله الذي هو (العقل الكلي) في (العقل) الذي يشع من نور (المبدأ) أو (العقل الكلي) فالعقل الكلي هو (العقل) أو (الكون) بنفس الوقت. ولكن ذلك لا يعني على رأيه بأن الكون ذاته هو (الله). ولا يمكن أن يكون الكون بجملته شيئاً يقابل (العقل الكلي).
أن الله بحد ذاته لم يتحد بهذا العالم اتحادا تاما ولم يجل فيه لأن الله مستقل بذاته والكون مستقل بذاته ولكنه لا شيء بالنسبة إلى ذات الله. أن الكون حجاب لا يمثل الحقيقة والحقيقة هي الله والله هو أساس المخلوقات. ولولاه لكان الكون لا شيء - ولكن الله يرسل نوره على هذا العالم فيشع عليه ويشرق الكون ولا يكون هنالك (إشراق) لولا (النور) الذي هو الله.
وقد مزج الملا هادي على ما يظهر بين فلسفة الإشرافيين وبين فكرة (المايا - البراهمية وتكون من هذا المزيج فلسفته الخاصة. فالكون على نظرية البراهميين خداع في حد ذاته يظهر لنا كأنه الستار المنقوش على المرسخ الذي يرى الناظر من بعيد كأنها أشياء واقعية، ويفضل (المايا) التي هي اسم آلهة من آلهة البراهميين التي تشرق بالمعارف على العالم تتم معارف الإنسان.
أن النفس الإنسانية واحدة وقديما قال البراهمة بوجود نفس عامة للعالم من إشعاع تكون نفوس الأفراد
وقد فسر ابن رشد نظرية أرسطو طاليس عن (النفس الكلية) نفس هذا التفسير. فمن النفس الكلية تتشعب النفوس الجزئية. وقد أيد السبزوادي هذا الرأي وصرح به أن المادة هي التي تتجزأ في الأفراد أما الروح أو النفس فيها (كلية) عامة وهي وحدها التي تتصف بهذه الصفة، صفة العموم.
(انتهى)
جواد علي(634/12)
المستقر العقلي لعقيدة التوحيد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أود قبل كل شئ أن انبه الأستاذ سيد قطب إلى أني قلت أن الذهن هو أوسع طريق لإثبات عقيدة التوحيد بوجه خاص. وعقيدة التوحيد واحدة من عقائد الإسلام والدين الصحيح عامة، ولم أقل أنه طريق الإيمان في الأديان الأخرى التي ليس لها أسس عقلية والتي تدين بها ملايين كثيرة من البشر.
وهذا التوضيح قد يفيدنا في تحديد نقطة الخلاف وينهي هذا الجدل الذي طال.
وأنا حين رأيت الأستاذ سيد يقول مقالته عن طريقة القرآن في إثبات عقيدة التوحيد بالمنطق الوجداني وحده خشيت أن يكون قد اتبع المقالة العامة التي شاعت في العالم غير الإسلامي - لأن عقائده لا يسعها الاستدلال العقلي - وانتقلت إلى العالم الإسلامي حديثا، وهي أن الدين أمور لا يمكن إثباتها من طريق الفكر والمنطق وإنما من طريق الوجدان والعواطف التي تستمد من خوف المجهول. وطبيعي أن يستتبع ذلك نفرة كثيرين من العلماء والمفكرين أن يسلكوا أنفسهم في هذا السبيل، وإن يرثوا بعقولهم أن تأخذ شيئاً من غير طريق الآيبات والحكم العقلي.
وما كان للقرآن وهو يعلم أنه سيجابه هؤلاء أن يغفل هذا الميزان الفكري ويتجاهله وقد جاء لعصور فيها رشد الإنسان ونضج قواه الفكرية جميعها.
وإذا كان الأستاذ سيد يفهم من الوجدان أنه يعتمد على (الحس والبداهة والحقائق الخالدة) فالخلاف حينئذ يكون بيننا على الاسم، ولا فرق حينئذ بين المنطق الوجداني، والمنطق الذهني الذي يعتمد هو أيضاً على الحس والبداهة والحقائق الخالدة، ويكون الاسمان لمسمى واحد. فلا داعي إلى أن نقول أن القرآن لم يعتمد على (الذهن) في إثبات عقيدة التوحيد.
ثم ننتقل إلى المثال الذي استشهد به الأستاذ سيد على إثبات القرآن لعقيدة التوحيد بلا جدل ذهني، والذي بينت ما فيه من ضروب الأدلة الذهنية التي أسماها الصديق (محاولات ذهنية) ووصفها بالتهافت. والمثال هو آيات التوحيد في سورة الأنبياء.
وقبل كل شئ أحب أن أسال: هل حين يقول القرآن أو أي قائل لمعارضيه: (قل هاتوا برهانكم) يكون جدله خاليا من الحركة الذهنية؟ ألا يكون المقام كما قلت سابقا بهذا(634/14)
الخصوص (مقام جدل كبير يتسع للرد وقرع الحجة بالحجة وتشقيق الدليل وراء الدليل، وليس مقام تسليم بوجدان عن طريق (تعريض الحس والقلب للأصداء والأضواء) والخطابيات والشعريات والنغمات؟
أظن أن هذا التحدي بطلب البرهان يكفي لإثبات أن الفكر هنا هو الأداة الأصيلة، وإن الحركة الذهنية حاضرة لاستعراض القضية وأداتها.
وقد اغفل الأستاذ سيد استشهادي بهذا المقطع من الآية حينما سرد كلامي تمهيدا للتعقيب عليه، وما كان له أن يغفله عامدا وهو يعلم ما فيه!
يقول الأستاذ: (إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الأدلة كما ساقها هو. . .)
أما أن القرآن أعرف مني بكل شيء فذلك ما لا جدال فيه. وما زعمت لنفسي غير هذا وما غيرت سياق القرآن، وإنما شرحت ما فهمته من أدلته شأني شأن أي مفسر آخر. بل شأني شأن الأستاذ سيد نفسه حين أباح لنفسه أن يفهم في هذا الآية كما شاء. ولما اعترضت على فهمه لم أسلك هذا السبيل الذي سلكه هو في بيان خطي. وإنما بينت رأيي وتركته له وللقراء، ولعلي مخطئ، وما زعمت لنفسي أني بهذا التفسير احدد معاني القرآن واحمله على ما أريد. فأنى اعلم من إعجاز القرآن أنه يرضي العقول والعصور جميعاً لأنه حجة الله عليها جميعاً. . .
ولنأخذ في سرد اعتراضات الأستاذ والرد عليها:
(1) يقول الأستاذ في الاعتراض على قولي: (فالإله (الواحد) هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض): (أفلا يعلم أن قضية البعث كانت من القضايا الكبرى التي تولى القرآن ثباتها لهؤلاء القوم، فكيف يجعل منها دليلا على وحدانية الله - ولو كان منطق الذهن الجدلي هو المحكم - بينما هي نفسها موضع جدل طويل، وليست لإحداهما سابقة على الأخرى، بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها أو تتهافت بطرفيها).
وفي هذا القول ثلاثة مواضع للرد:
1 - أنه زاد كلمة (الواحد) من عنده فقد قلت: (فالإله هو وحده هو الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق) ولم أقل فالإله الواحد. وفرق واضح بين المعاني مع هذه الكلمة ويدونها:(634/15)
ولا داعي لشرح هذا الفرق، ولست أدري لم يزيد الأستاذ سيد هذه الكلمة هنا، وينقص الجملة الأخرى عند (قل هاتوا برهانكم)؟
2 - أنه فهم من كلمة (يُنشرُون) أن الإشارة هو البعث فقط، وليس لإحياء والخلق بوجه عام بينما المادة تفيد الأحياء عموماً، ابتداء واستئنافا، وحينئذ لا يكون البعث - وهو قضية دينية أخرى تحتاج إلى إثبات - مسوقا لإثبات قضية التوحيد. وأنا قد وضحت (ينشرون) بهذا المعنى العام حين قلت: (فالإله وحده هو الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض. . .)
وما كان للقرآن أن يثبت (التوحيد) بالبعث مع أن الأخير لم يثبت بعد ولن يثبت في هذه الدنيا ولم يره المعارضون حتى يساق كدليل عليهم.
3 - قول الأستاذ: (وليست لإحداهما (قضيتي التوحيد والبعث) سابقة على الأخرى بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها أو تتهافت بطرفيها) قول غريب! فإن قضية التوحيد وقضية البعث كلتاهما مستقلة عن الأخرى. فبعض الأديان الوثنية الداعية إلى آلهة متعددة يدعو إلى الإيمان بالبعث ومصير آخر. . .
وبعض مقالات المؤمنين بالتوحيد لا يحتم البعث عل الله بل ترى أن ذلك محض رحمة منه تعالى ومساوقة لحكمته. (كتب ربكم على نفسه الرحمة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة. . .)
فعقيدة التوحيد هي القضية الأولى في الإسلام، يثبتها العقل الكامل مستقلة عما عداها ولا يقبل منها بديلا. وهي قضية لا يعتمد في إثباتها على شيء غير هذا الكون الموجود الآن الذي يثبت ما فيه من تناسق وانسجام أنه من صنعة يد واحدة هي التي خلقت العين في جوف الرحم باستعداد ترى معه نور الشمس في السماء حينما تولد، وليس (البعث) من أدوات إثباتها هنا، لأنه له كونا آخر تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.
وقضية البعث قضية تتصل بالمنطق الوجداني كما تتصل بالمنطق العقلي، لأنها من جهة قضية (سماعية) أتى بها الدين. واعظم أدواتها هو التعلق المشبوب بالحياة والقيمة السامية للإنسان، وانتظاره دائماً لمصير اكمل يتمتع فيه بالوجود الكامل الذي يرضي ما فيه من آمال السيطرة والكمال والخلود، وأنصاف الخير من الشر ومجازاة المحسن والمسيء، ومن جهة أخرى هي قضية عقلية تقتضيها حكمة الله وتنزيهه، والذي يرى أن الخير جزاؤه فيه(634/16)
والشر جزاؤه فيه في الدنيا قبل الآخرة لا يرى حتما على الله أن يبعث الناس في حياة أخرى ليجزيهم، بل يرى ذلك رحمة منه وتكرما. وحسب الله في استحقاقه للعبادة أنه حلقنا من العدم لهذا الوجود، وأرانا هذا العالم العجيب، وأدخلنا إلى هذه الدار لحظة سواء كتب لنا الحياة ثانية أم ردنا وزج بنا إلى الفناء المطلق من غير رجعة!
فها نحن نرى أن قضية البعث لون آخر غير لون قضية التوحيد الصارمة التي لا تحتمل هذا الجدل. لأنها تستمد مقدماتها من هذا الكون المحسوس الملموس ومن الطبيعة البشرية المستقيمة التي تستجيب في يقين واقتناع لهذا الكون الواحد.
فالقول بالتسوية بين القضيتين في الثبوت أو التهافت قول غريب حقا. . .
(ب) يقول الأستاذ سيد معترضا على قولي أن التصور البشري لا يملك أن يجرد الآلهة من صفات الناس في الخلاف بين الرياسات المتعددة (أفلا يعلم أن القرآن ذاته قد كلف التصور البشري أن يؤمن بالله (ليس كمثله شيء) فكيف كان يكلفه هذا لو لم يكن في طاقة الإنسان أن يتصوره بوسيلة من الوسائل). .
وهنا أمر واضح في الفرق بين المسألتين: إذ أننا حين نثبت (الإله الواحد) يجب أن نعتقد أنه ليس كمثله شيء، وحين نرى أنه لا مانع من تعدد الآلهة نكون بالطبع قد قبلنا جواز أن يكون له مثل وشبيه، لأن الآلهة المتعددة أمثال وأشباه.
وحين يكلفنا القرآن أن نعتقد أن الله ليس كمثله شيء، لا يكون قد كلف التصور البشري أن يتصور الله بوسيلة من الوسائل كما يقول الأستاذ: لأن هذا تكليف باعتقاد سلبي تجريدي مطموس الصور، والمؤمن العالم ليس في ذهنه مطلقا صورة عن الله وإلا دخل في دائرة التشبيه والتجسيم المؤدى حتما إلى الكفر والجهل. وإنما في ذهنه إثبات الصفات الحسنى لله. أستبطئها من هذا الكون البديع، وقال أن خالقه لابد متصف بها. أما كيف تتعلق هذه الصفات بذات الله فذلك ما ليس للعقل البشري سبيل إلى تصوره لأنه محدود رهين بقيود التجسيم والتشبيه، (وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك). .
وإذا رفض الأستاذ سيد تفسيري لدعوى القرآن بفساد العالم حينما تتعدد الآلهة فكيف يفسرها هو؟ أيفسرها معتمدا على تلك (الصلة الخفية البديهية التي يعتمد القرآن على إيقاظها في الحس كالومض السريع فيؤمن المؤمن ويستريح!) وإذا كنت أمام غير مؤمن،(634/17)
فكيف يرى هذا الومض أن لم تضاعفه له حتى يصير شعلا تضئ له السبيل؟ أو على الأقل تقيم عليه الحجة عريضة مستعلنة لا لبس فيها ولا خفاء؟
أن المؤمن الوثني المشرك أيضاً مستريح لومض آخر في وجدانه، فكيف تقيم عليه الحجة والتذكرة؟ أليس بالبرهان المحسوس المستمد من استعراض الكون كله بما فيه التجربة الأزلية بفساد الأمور حينما تتعدد الرياسات وتتلاقى الأشباه والأمثال من الآلهة الذين لهم الذكاء والمهارة والقدرة وحبهم لعلو بعضهم على بعض كما يقول القرآن: (ولعلا بعضهم على بعض)؟
(ح) يقول الأستاذ سيد: (أفلا يرى الأستاذ أن كلامه (في مسؤولية الآلهة) لا يثبت شيئاً ولا ينفيه؛ فمسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد لا تحفل بها الآلهة ولا تجيب سائليها وكثير من الناس يحاكم الله مثلها. . .)
كان الأستاذ سيد فرض جدلا أن هناك آلهة أخرى فوق تناول الإنسان لها بالمسؤولية، وفرض أنها في مستوى من القدرة والعقل لا يمكن الإنسان من محاكمتها، ولذلك رتب اعتراضه على ما قلته. . . ولكن الأمر غير هذا في الواقع: فالإلهة التي عبدها أكثر البشرية، وخصوصا العرب آلهة كانت في متناول أيدي الناس يخلقونها بأيديهم ويسألونها عن قرب ويحاكمونها وقد يأكلونها وقد يضربونها ويجعلونها جذاذا وقد يصلبونها إذا كانت من البشر الخ. فهي كما قلت تقع عليها التبعة والدينونة (أتعبدون ما تنحتون) (كانا يأكلان الطعام). أما الله تعالى فلا تقع عليه المسؤولية حتى لو وجهت إليه لأن هؤلاء الحسيين يرون الآلهة المجسمات المزعومة، فيحاكمونها ولا يستطيعون أن يحاكموه تعالى ويسألوه لأنهم لا يرونه ولا يدركونه ولا يحيطون به فهم يحسون أمامه أنهم فراغ مطلق لا يقبض عليه!
والجدل القرآني هنا يخاطب تلك اللحوم البشرية الصغيرة الطفلية التي لا تحيط فكرا بما تقدم عليه، ولا بد له أن يذكرها بصغاراتها وضالة تفكيرها في معاملتها لآلهتها.
(د) أما اعتراض الأستاذ على الدليل التاريخي في (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) بأن القوم لم يؤمنوا بذكر من معه وذكر من قبله حتى يحاسبوا به. فأقول ردا عليه: إن الدليل التاريخي قد لا يخضع للمنطق العقلي، وإيراده للاستدلال به يكون لاستيفاء ضروب الأدلة(634/18)
واستيفاء الحالات السلبية التي تستعرض لإثبات قضية إيجابية.
فالرسول يقول للمشركين: ما كنت بدعا من الرسل حينما أدعوكم إلى الوحدانية، ولستم أنت معتمدين على كتاب منير أو إثارة من علم في دعواكم تعدد الآلهة. ولو كان في رسالات هؤلاء الرسل الذين يدين لهم العالم المتمدن حولكم ما يفيد تعدد الآلهة، إذا لكان لكم عذركم في اعتناق التعدد. فانتم لا تتبعون إلا الهوى والظن والجهالة. فسواء أكانوا مؤمنين بذكر من معه وذكر من قبله، أم لم يكونوا مؤمنين فإن الدليل التاريخي قد قام على أنهم لا يعتمدون في التعدد على شيء محترم لدى موازين الآراء والمعتقدات التي كانت في العالم المتحضر حولهم. ولا يطعن في صحة الدليل أن المعارض لا يؤمن به ما دام عدم أيمانه بغير دليل
وقد كان يصح الاعتراض السابق من الأستاذ سيد على هذا الدليل لو لم يسبقه الدليل الاستقرائي والدليل التطبيقي اللذان هما جماع القياس الذهني في إثبات صلب هذه القضية بالحكم والتمييز والإدراك. ولكنه أتى بعدهما وبعد الدليل العملي، فكان إيراده للاستيفاء الذي يسد مسالك الجدل على المعارضين.
ولست أدري ما الذي يستطيع أن يقوله الأستاذ في تفسير هذه الآيات غير ما قلت؟ أيقول: (أنها شيء يتصل بالفطرة على استقامتها فتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم بدون أسباب وتعليل؟.
أم يكون القرآن قد ساقها هكذا اعتباطا فاستشهد بالبعث على قضية التوحيد وهو لا يعلم أن البعث نفسه محتاج إلى إثبات قبل الاستشهاد به؟! ويكون قد قال (لفسدنا) هكذا مع أنه يعلم أن الآلهة عقلاء هادئون متعاونون لا يختلفون فيفسدوا العالم بخلافهم!؟ ويقول: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) مع أنه يعلم أن مسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد لا تحفل بها الآلهة وكثير من الناس يحاكم الله مثلها! فهو أيضاً مسؤول وأنه ذكرها للتقرير (وللتأثير الوجداني) فقط! فهي دعوى بغير دليل، وتقرير لا يقره الواقع! وهو يقول: (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) فيحاكم المعددين إلى ما لم يؤمنوا به فيكون في هذا مغالطة أو غفلة؟!
الحق أنني لست أدري: أيعترض الأستاذ سيد على أقوالي أنا التي ما عدوت بها شرح ما(634/19)
يستفاد من هذه الآيات ولم أغير بها سياق القرآن، أم يعترض على القرآن ذاته!؟
وكأنه يريد أن يأخذ ما في هذه الآيات في سهولة ويسر واقتناع وتسليم بدون فكر ومناقشة لأنه يراها لا تنهض ولا تستقيم على الفكر والجدل والمناقشة!
ولست أدري ما هو (الوجه الواحد الصحيح) الذي تؤمن به النفس في هذه الآيات إيمان اقتناع وتسليم، وترفض بعده الأوجه المنطقية الزائفة؟
أيكون القرآن قد عجز عن إقامة دليل ذهني واحد على أكبر قضية من قضاياه، قضية التوحيد؟!
ولست أدري لم يسلك الأستاذ سيد الإسلام مع غيره من الأديان موحدة ووثنية ومعددة في تلك الطريق التي ليس فيها هدى من نور العقل، مع أن الفرض أنه يعلم أن القرآن له تفرد خاص وأنه لو لم يكن دينا موحى به لكان المذهب العقلي الطبيعي الوحيد الذي يثبت الموجود الواحد الكامل الأزلي الأبدي كما أثبته (كانت) ونوه به الأستاذ الكبير العقاد في كتابه (عبقرية محمد) وكما قرره في كتابه الأخير (في بيتي) الملخص لفلسفته وآرائه؟
وبعد فانه ليس وراء ما وضعنا القرآن عليه من أعماق الكون مستقر آخر يصح أن نتعمق إليه ونستقر عليه.
وليس مذهب هناك من مذاهب الفكر الخالص يستطيع أن يأخذنا إلى غير ما أخذنا به القرآن في الطبيعة وما بعد الطبيعة.
أنها أحال كل قضايا الإلهية وكمالاتها إلى قوة الحكم العقلي وحده. فكان لقاء بديع بين الدين والعقل، وهو لقاء تحتاجه البشرية مسيس الاحتياج.
عبد المنعم خلاف(634/20)
على هامش (حادث الشام)
دموع. . . دموع!
يا أيها العرب جميعاً!
خلدوا (يوم 24 تموز)، فانه كان لنا يوم البؤس، وأنه كان لنا يوم النعيم!
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت تلميذا في الصف الأدنى من الدراسة الثانوية، وكان لي رفاق لهم على حداثة أسنانهم قلوب فيها إيمان وفيها حماسة وفيها وطنية، وكنا نحس وقد ولى حكم الأتراك، وغاب عنا شبح الذعر والهول: جمال باشا. . . واختفت المشانق، وبطل الهمس، والتلفت كلما ذكر هذا الاسم المرعب، وجاء الشريف فيصل، وجاءت معه الأفراح، وقامت الأعراس، ودقت طبول البشائر. . . كنا نحس أننا نعيش في دنيا من الأحلام، في أيام كلها أعياد، وكنا إذ نجول كل خميس في المدينة ننشد (مرسلييز العرب):
أيها المولى العظيم ... فخر كل العرب
ملكك الملك الفخيم ... ملك جدك النبي
فيردده معنا التجار في دكاكينهم، والباعة من وراء دوابهم، والمارة في دروبهم، وتردده منازل دمشق ودورها، ومساجدها وقصورها، وقلعتها وسورها، وتردده الأرض والسماء. . . أو هكذا كان يخيل إلينا، فيشد هذا الخيال من عزائمنا، فننتفخ ونتطاول، ونمد أصواتنا، ونقويها لنشعر أنفسنا أننا صرنا رجالا، وصرنا جندا كالرجال الذين كنا نراهم يصرخون في المظاهرات ويلوحون بالسيوف والبنادق، ويطلقون النار من مسدساتهم كلما أخذت منهم الحماسة وهزهم الطرب، بعد أن مضت علينا أيام ما كنا نرى في دمشق رجلا إلا فارا من الجيش مختبئا يمشي مشية المذعور، يخاف أن يلمحه رسول الموت (أبو لبادة) فيقول له الكلمة التي حفظناها، ونحن صغار لا ندري معناها، ولكنا ندري أنها كانت تخيف وترعب، ويصفر منها الوجه، وترتجف الأضلاع، كلمة: (نرده وثيقة)؟
وأنا لسادرون في أفراحنا، ممعنون في مسيراتنا، مزهوون باستقلالنا، وإذا بنا نسمع الصريخ في الحمى، ونرى الخطباء يقومون في الأسواق ينذرون الناس خطبا داهما، وشرا مقبلا، ولم ندر نحن الفتية الصغار ماذا جرى؛ فسألنا: هل عاد جمال باشا؟ هل رجعت(634/21)
مشانقه؟ قالوا: لا، جاء ما هو شر منه وأمر، غورو، قلنا: وما غورو؟ قالوا: الأعور. . . فاعتقدنا أنه الأعور الدجال الذي يظهر في آخر الزمان!
ورأينا الدنيا تقوم وتقعد، ففي كل مكان حشد، وعلى كل منبر خطيب، وعجت الشوارع بالناس، ولم نكن نفهم ما يجري من حولنا، وإن كنا نسعى في أعقاب الناس متسائلين مشاركين ما استطعنا، ثم رأينا الجموع تمضي إلى النادي العربي. . .
النادي العربي الذي كان مثوى الوطنية، وكان لنا نحن لصغار المنار الهادي، من خطبه تعلمنا الخطب، ومن بيانه قبسنا البيان، ومن رجاله عرفنا الرجال، هذا النادي الذي خان أهله عهده، وهدروا مجده، وقعدوا به بعد العز، ونسوه بعد أن كان هو الذي يذكرهم أوطانهم، فغدا ويا خجلتاه حانة، أو شيئاً يشبه الحانة، يقال له شهرزاد!
مضت الجموع إلى النادي يموج بعضها في بعض، ومضينا نتبعهم، حتى إذا وقفوا اطل عليهم من شرفته اخطب خطيب عرفته، وأطلقه لسانا، وأشرفه بيانا، واشده على القلوب سلطانا شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي الشاعر الفقيه رحمة الله وسير في الناس طيبة ذكراه، اطل على بحر من البشر يزخر بأقوام برزوا للموت، يدفعون الغير عن الحمى، ويحمون الذمار، فامتلأ بهم ما بين المستشفى العسكري، ومحطة الحجاز، وميدان الشهداء، وحديقة الأمة، ولم يبق في تلك الرحاب كلها موطئ قدم، اطل فلما رأى الناس استعبر وبكى، وخطب خطبة إذا قلت زلزلت القلوب أكون قد أقللت، وإن قلت ألهبت النفوس أكون قد بلغت، خطبة لو كانت بلاغة بشر معجزة لكانت من معجزات البلاغة، خطبة ما سمعت مثلها، وقد سمعت ملوك القول، وفرسان المنابر، حملتني هذه الخطبة إلى آفاق المستقبل، فنسيت أني تلميذ صغير، ورأيتني رجلا، ثم صبت البطولة في أعصابي، فأحسست أني كفولغورو، وجيشه العادي أرده وحدي، وكبرت في نفسي حتى صغر الأعور الدجال، الذي خافوه وخوفونا منه، فلم يعد شيئا، وإني لا أزال احفظ منها قوله عليه رحمة الله، وقد سكت لحظة وهو يخطب، وسكت الناس حتى لو أنك ألقيت إبرة على بساط لسمعت لها صوتا، ثم ولى وجهه تلقاء المغرب، وصرخ من قلبه الكبير صرخة لا تزال إلى اليوم تدوي في مسمعي: (غورو! لن تدخلها إلا على هذه الأجساد)! وأعقبتها صرخة أخرى، تقلقل لها الفلك، ورجف الكون، تكبيرة واحدة انبعثت من أربعين ألف حنجرة(634/22)
مؤمنة!
ومضى الناس قدما إلى ميسلون!
أما نحن فمضينا إلى بيوتنا، فما كان فينا من بلغ سن القتال
ولم يكن إلا يوم وبعض يوم حتى رأينا الدنيا تتبدل غير الدنيا وأبصرنا كل شئ قد تغير، وإذا الناس في جمود كأنهم في مآتم، وإذا الخطباء الذين كانوا ملء الأسماع وإلا بصار قد اختفوا، وإذا الأعلام ذوات الألوان الأربعة قد طويت، وإذا فيصل الذي كنا نهتف باسمه ونعتز به، ويشعر كل واحد منا أنه يملك فيه ملكا إذ يكون له مكان، قد سافر وخلا منه قصره في (العفيف)، فاحتله عدوه، ونام فيه على فرشه، واستوى على عرشه، فخرنا وسألنا: ماذا جرى يا ويحكم حتى انهار الصرح في يوم واحد. وضاع البشر، وتبدلت الدنيا، قالوا: اذهبوا لا تسألوا، أننا خسرنا، ورجعنا من (ميسلون)، وقد خلفنا فيها استقلالنا الوليد، وقائدنا الشهيد، وصارت الغلبة لهذا العادي العاتي الذي اقتحم علينا بلد اقتحام الغاصب، وغورو! قلنا: الأعور الدجال؟ قالوا: اسكتوا، اسكتوا، لا يسمعكم أحد
وذهبنا نستطلع حقيقة الخبر، فقادتنا الخطأ إلى (الثكنة الحميدية)، فوجدنا عندها جندا غرباء عنا، سدواً برابرة، وسمراً مغاربة، وشقراً فرنسيين، وإذا هم يخفضون علمنا، ويلقونه، ويرفعون علما فيه ثلاثة ألوان. . . وتلفت فإذا رجال منا واقفون ورائي، ودموعهم تسيل على خدودهم في صمت وحرقة وألم خفي يأكل الأكباد، وكان ذلك يوم 24 تموز سنة 1920، وكانت تلك هي (الدموع) الأولى!
ومر ربع قرن، خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقص يوما ولا تزيد يوما، حملنا فيها ألوان الأذى، وذقنا فيها الموت من كل طبق، وعلى كل خوان، ورأينا النار تآكل دورنا، والقنابل تهدم على رؤوسنا منازلنا، فتهدمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق، وقضى فتية من اجمل واكمل وأنبل فتيتها، وأبصرنا أياما سودا، ومصائب شدادا، ولكنا ما جبنا ولا خفنا، وكنا عزلا قلة، وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول، فقارعنا فرنسا، ولقينا بصدورنا الرصاص، وهجمنا بالخناجر على الدبابات، وقابلنا بالحجارة الرشاشات، وصبرنا فانتصرنا
وكان يوم 24 تموز سنة 1945، ورأيت بعيني العلم ذا الألوان الأربعة يرتفع مرة ثانية(634/23)
على (الثكنة الحميدية) في دمشق، ورأيت رجالا يبكون، ولكنهم يبكون هذه المرة من الفرح، وكانت تلك هي (الدموع) الأخرى!
اللهم لك الحمد أن أحييتني حتى رأيت هذا المشهد، اللهم لك الحمد فما أبالي بعد اليوم أن أموت، لقد أبصرت وطني حرا مستقلا له راية ترفرف، وعلم يخفق، وجيش كان عليه فصار له، وجند كانوا يحاربونه فصاروا يحمونه، لقد غدت الآن أقدر أن أقول مباهيا مفاخرا: أن لي وطنا!
اللهم علم قوى كيف يحفظون استقلالهم، وسدد خطاهم نحو وحدتهم، التي لا حياة لهم إلا بها، ولا اعتماد بعد الله عليها!
اللهم وارحم أولئك الأبطال الذين سقوا بدمائهم هذه النبتة الكريمة حتى صارت دوحة، شهداء الاستقلال من لدن يوسف العظيمة شهيد ميسلون، إلى حسن الخراط شهيد الغوطة، إلى أخي ورفيق مدرستي شهيد الواجب، الطبيب مسلم البارودي، الذي اقبل أمس يسعف الجرحى من أبناء الوطن، فقتله أعداء الوطن. . . رحمة الله على الجميع
علي الطنطاوي(634/24)
في بيتي. . .
احدث كتب العقاد
للأستاذ عبده حسن الزيات
هذه سياحة في مكان واحد تحققت فيها وحدات (أرسطو) الثلاث فلم نتجاوز بيت أستاذنا العقاد، ولم نعد شطرا معينا من نهار، وانحصر نظرنا في مشهد واحد هو مشهد الحوار بين العقاد وصاحبه، فجاءت سياحة فريدة في بابها، وكأنما حسب المؤلف أن تحتاج إلى دفاع فقال: (إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة. ولكن المكث في المكان الواحد أيضاً له حجته التي تضارع حجة السياح ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئاً ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير).
ولكنها في الواقع لم تكن محتاجة إلى هذا الدفاع فهي سياحة حقيقية في معارض الآراء والفلسفات ومسارح الأذهان ومحافل الموسيقى، ومواقع المذاهب، ومعاني البطولة، ومجاني الشعر، ومغاني الصور. ولم يكن العقاد فيها سائحا بقدر ما كان ملاحا وأستاذا في جامعة من هذه الجامعات التي حدثونا أن السفينة جدرانها، والأفق العريض سبورتها، وأمواج البحور مدرجاتها؛ رحلة دسمة زاخرة بالمشاهد لا أدري كيف استطاع هذا النوتي الماهر أن يطويها في هذا الزمن القصير وهو 132 صفحة من ورق (أقرأ)، وذلك في طمأنينة مريحة لم تشعر السفر بدوار ولا تركتهم يحسون إحساس المعجل عن التقصي وملء النفس من روائع الجزر والمرافئ.
في هذه الرحلة أو في هذا الكتب تعرض على القارئ أمور كثيرة منها: النور والتملي فيه وسيلة وغاية، الروح والمادة والشان العملي لبحوث ما وراء الطبيعة، فلسفة النسك، مذاهب السخط والتشاؤم وبيان ما فيها من هدم وبناء، نقد المذاهب الشيوعية والنازية والفاشية، الموسيقى وتصوير المعاني والنسبة بين الموسيقى الشرقية والغربية، آداب الطرب، الموازنة بين عظماء الفنون وعظماء الدعوات العملية، الموازنة بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، فلسفة التغذية وعلاقة الأطعمة برقي الأمم، شرح بعض الصور(634/25)
العالمية مثل (شالومة) للفرنسي بروسيير و (الزهرة) للأسباني فلاسكيه، الفنان والعصبية القومية، وحدة الخلق وتلاحم سلسلة المخلوقات، البومة وشهرة الشؤم، ابن الرومي ونحسه، تقدير الموهبة التصويرية في شعره، الإلمام بصور بعض المصورين المصريين المحدثين، تقدير القصة وبيان مكانها بين سائر ألوان الأدب، السيكولوجية والقصة، الشيوعية والقصة، التماثيل والأخلاق الخ.
وقد كنت أحب أن اعرض رأي المؤلف في هذه الأمور جميعاً ولكنه عمل فوق طاقة نقد قصير معجل فحسبي أن أسجل بعض الخواطر التي قامت في نفسي أثر القراءتين الأولى والثانية لهذا الكتاب النافع الممتع.
تجلت ملكات العقاد الأصيلة أو تجلى كثير منها، في هذا الكتيب بصورة أخاذة رائعة؛ وإني أصارح القارئ أين سألت نفسي هل انطلق قلم العقاد على سجيته أو رسم له صاحبه رسما معينا واختط شرعة وبذل بعض الجهد لتحقيق هذه الغاية؟ تساءلت ولم اقطع بجواب لأني حين رأيت الشعر المنثور المترقرق يزكي الفرض الأول، رأيت الجدل العلمي الدقيق المستند إلى الحجج المنطقية والمادية يؤيد الفرض الثاني:
نعمت بهذا الشعر المؤثر في مطلع الكتاب:
(قلت لك يا صاحبي أنني أحب مدينة الشمس لأنني أحب النور احبه صافيا واحبه مزيجا، واحبه مجتمعا واحبه موزعا، واحبه مخزونا كما يخزن في الجوهر، واحبه مباحا كما يباح على ألازاهر، واحبه في العيون واحبه من العيون، واحبه إلى العيون!
ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني افتحها فلا أرى منها إلا النور. . . والفضاء.
والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.
وكيف يكون فضاء ما يملأ العينين ويملأ الروح ويصلى الأرض بالسماء؟
قلت لك يا صاحبي أنني أحببت النور فسكنت في مدينة النور!
فإنني لا احبه لأنه يريني الدنيا وما فيها أو لأنه هو واسطة الرؤية واداتها، ولكنني احبه لأراه ولو لم أر شيئاً من الأشياء.
وقديما كنت أقول أن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنما هي تسبح(634/26)
وتطفو عليه). ثم نعمت واغرورقت نفسي لقوله في ختام رحلته:
(إذا وجل القلب فهذا الكرسي يعلمني أن الخوف عبث وإن الذي أخافه قد يخطئني ويسبقه إلى الذي أرجوه، فكم من مرة جلست عليه أطيل النظر في أعقاب الأمور واقلب الظنون في كل وجه من الوجوه ثم جاء الوقت المحذور ولم يجئ معه ما حذرناه!
وإذا تقطعت النفس حسرات على نعمة من نعم العيش فهذه الشرفة تقول لي: بل انتظر طويلا أو قصيرا فسنرى كما رأينا وسنعلم كما علمنا أنك ستعيش بغير هذه النعمة التي كنت تقرنها بالحياة.
. . . وهذا المكن قد صعدت سلالمه ثلاثاً ثلاثاً ثم صعدتها اثنتين اثنتين ثم اصعده درجة درجة على غير عجلة ولا اكتراث، وهذا المسكن قد نزلت به والشعرات البيض يتوارين في السواد، وما زلت انزل به والشعرات السود يتوارين في البياض. . .)
ولكن هذا الشعر المنثور وما استدعاه المقام أحياناً من الاستشهاد بشعر منظوم بعضه من شعر المؤلف القديم، ليسا إلا (نثارة) وسط ذخائرنا من المناقشات الحادة والبحوث الجادة تنتظمها دفتا (السفينة) أو دفتا الكتاب:
انظر إلى هذه المناقشة لما قرره (أرثر بلفور) من نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح وأقرا هذه المحاجة الدقيقة الصلبة الناعمة: (إنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك إذ وضعوهما موضع النقيضين وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها. أنك حين تضرب الأرض بقدمك فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء إنما تصدم شيئاً غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار. فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى فتصدم الحواس. هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في اطوائها. . . وإن شئت مصداقا لذلك فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة فهل تقف عندها؟ كلا أنها لا تقف عندها بل تعبرها. كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء، أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية فادفع الماء بقوة من بعض العيون. . . أنك إذن لتضر به بالسيف القاطع فلا يمضي فيه. . . فليست الكثافة(634/27)
المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها بل لقوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة وفي كل مادة ملموسة أو محسوسة).
ثم نطوي نحو ثلث الكتاب لنقابل بحثا اعمق في الميتافيزيقا وسر الوجود: (أن الفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم، فالوجود موجود. بلا أول ولا آخر لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص، لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك. . . موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور. . . والوجود الكامل الأمثل هو الله)
(البقية في العدد القادم)
عبده حسن الزيات(634/28)
العلية الاجتماعية
التاريخ. . . ما هو؟
(إذا أراد العالم أن يكون مؤرخاً، فعليه أن يكون رجل
اجتماع. . .)
للأستاذ فؤاد عوض واصف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وقد ظهر تأثر التاريخ بهذه النظرية في عدة كتب لمشاهير المؤرخين، فعند كوجنوزوفسكي الروسي ارتفاع درجة الكثافة في سكان أمة ما يرجع إلى نشاط الغريزة الجنسية والعكس بالعكس. وهكذا ترد العلية في الأحداث التاريخية إلى هذه الغرائز والدوافع. وفي حين ترد نظرية التقليد الأحداث التاريخية إلى النفس الواعية تردها نظرية الدوافع إلى النفس غير الواعية
غير أن نظرية الدوافع هذه لا تلقى كبير تأييد من الأوساط. فقد انتهى علماء الأحياء وعلماء النفس إلى نظرية علمية جديدة تعارض نظرية الدوافع كل المعارضة ونعني بها (نظرية مرونة الإنسان - وتبعاً لهذه النظرية الجديدة، الحياة الروحية والعقلية هي المسيطرة على الغرائز والميول والنزعات وهي الموجهة لها. وقديما قال ابن باجة في رسالته (تدبير المتوحد) أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات بقوة فكرية من شانها أن تخضع النفس البهيمية لأوامرها فلا تعاندها (والواقع أن اتجاه العلم الحديث في أيامنا يرفض كل الرفض نظريات من شانها أن تجعل الإنسان عبدا لعامل فسيولوجي أو عامل طبيعي
4 - النظرية الفسيولوجية: تزعم هذه النظرية وجود اختلافات وراثية بين الأجناس المختلفة؛ فكل جنس يولد مزودا بصفات وراثية خاصة به تتحدد الأحداث التاريخية تبعا لها. واهم من قال من بهذه النظرية سنيوبوس من جامعة السوربون وجوستاف لوبون. سنيوبوس يقسم الأجناس البشرية إلى ثلاثة أقسام الأبيض والأسود والأصفر ويقول أن الجنس الأسود لم ينتج أي حضارة في حين أن الجنس الأبيض أبو الحضارة.(634/29)
والواقع أن النظرية الفسيولوجية ابعد ما تكون عن النظريات العلمية برغم ادعاء أصحابها وفي اغلب الأحايين تقوم على نزعات قومية تعصبية.
تلك هي أهم النظريات العلمية التي تناولت تفسير الوقائع التاريخية بوجهات نظرها المختلفة، وقد تبين لنا بوضوح وجلاء أنها ابعد ما تكون عن طبيعة التاريخ نفسه، ولذلك لم تسلم نظرية منها من وجوه النقد وأثبتت كل نظرية قصورها عن تفسير التاريخ ووقائعه وأحداثه. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت مدرسة جديدة زعم أنصارها أن دراسة العلية في التاريخ يمكن أن تخضع لمنهج علمي دقيق يجمع بين طائفة من النظريات السابقة وبمقتضاها يكون موقف المؤرخ من تفسير الوقائع التاريخية كموقف عالم الطبيعة من تفسير لوقائع الطبيعية ولقد عرفت هذه المدرسة بالمدرسة المنهجية الحديثة.
وقواعد المدرسة المنهجية حتى أيامنا هذه هي رائد المؤرخين في أبحاثهم عن علل الوقائع التاريخية، ومعظم الكتب التاريخية التي تدرس في المدارس والجامعات موضوعة حسب قواعد هذه المدرسة.
ولكن احدث الدراسات العلمية قد بنيت في قواعد المدرسة المنهجية أمرين:
1 - اعتبارها العلية التاريخية كالعلية العلمية.
2 - قصورها على إعطاء تفسيرات صحيحة للعلل التاريخية.
أولاً: العلية التاريخية تختلف تمام الاختلاف عن العلية العلمية فالتاريخ يتكون من وقائع حدثت مرة واحدة والى الأبد، في حين أن العلوم الطبيعية تتكون من وقائع تتكرر باستمرار. والقاعدة الأساسية في العلوم الطبيعية أن نفس العلة تنتج نفس المعلول:
2يد + 1 يعطينا دائماً 2يد1. أما في التاريخ فنفس العلة لا تتكرر أبداً. فالخلاف بين العلية التاريخية والعلية العلمية، خلاف ينشق عن طبيعة العلمين المختلفين.
ثانياً: إذا كانت المدرسة المنهجية تدعى أنها تعطي تفسيرات صحيحة للوقائع التاريخية لا تقبل النقد، فإن البحث الدقيق في كتب المنهجية يكشف عن أخطاء كبيرة وعديدة.
ففي كتاب (التاريخ السياسي لأوربا المعاصر) لسينوبوس أحد أعلام المدرسة المنهجية، من الأخطاء ما يجعل المؤرخ الحق يرفض قواعد هذه المدرسة في البحث التاريخي.(634/30)
ففي صفحة 158 من هذا الكتاب يقول سيوبوس: (إن جريمة الزنى التي ارتكبتها بارنيل مع السيدة أوشيعه كانت علة التخلخل الطائفة الأيرلندية وضعف مركزها في مجلس النواب). هذا التعليل خطأ، فجريمة الزنى في كثير من المجتمعات لا تحدث ذلك الأثر العظيم الذي أحدثته جريمة بارنبل مع السيدة أوشيعه، وإنما التعليل الصحيح يرتد إلى الاتجاه الجمعي ضد هذه الجريمة، هذا الاتجاه هو الذي يفسر الأثر الذي أحدثه بارنيل بجريمته.
وفي صفحة 33 من نفس هذا الكتاب يقول المؤلف: (الثورة الفرنسية بما أثارته من الخوف والفزع في الطبقات صاحبة الامتيازات، قد حالت بينها وبين القيام بأي إصلاح خلال ثلاثين عاما. . .) والعلامة سيميان يكشف لنا عن هذا الحكم التعسفي، فالدراسة الحقيقية للظروف المحيطة بالطبقات صاحبة الامتيازات تجعلنا نتحقق من علل أخرى لعل أقلها أهمية الخوف والفزع. وفي مكان آخر من نفس هذا الكتاب: (إن قيام الصناعات الكبيرة قد ضاعفت في عدد العمال، وكان نتيجة ذلك أن ازدادت الشقة بعدا بين طبقة الأغنياء والفقراء. . .) فهذا التعليل لا يرمز إلى الحقيقة بحال من الأحوال.
والأمثلة على أخطاء المنهجية عديدة وهي من ذلك النوع من الأحكام التعسفية البعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي. . .
رأينا إذا إخفاق المدرسة المنهجية في أبحاثها عن العلل التاريخية. وقد رأينا من قبل إخفاق النظريات الشائعة المختلفة في توجيه الأبحاث التاريخية. ذلك لأن هذه النظريات المختلفة قد بحثت في التاريخ قبل أن تبحث عن طبيعة التاريخ. . . بحثت في الوقائع قبل أن تبحث في طبيعة الوقائع، ومن هنا كان إخفاق المؤرخين وإخفاق أبحاثهم.
ولو أن المؤرخ عني بالبحث عن طبيعة التاريخ قبل البحث في وقائعه، لوجد أنه الإنسان: هذا الكائن الاجتماعي.
اجل، أن الحياة الاجتماعية هي وحدها القادرة على تفسير الأحداث التاريخية وهي علة هذه الأحداث، ويرجع تنبه المؤرخين إلى هذه الحقيقة إلى السنوات الأخيرة فقط، فقد نشر الأستاذ جيدبجر الأمريكي في سنة 1903 رسالة عنوانها: (نظرية في العلية الاجتماعية) رد فيها التاريخ كله إلى مجال علم الاجتماع. وقد قال في هذه الرسالة: (إنه إذا كانت(634/31)
الصفات الفردية والخاصة للوقائع التاريخية - وهي المحددة بزمان ومكان - لا تتكرر بل تحدث مرة واحدة والى الأبد، فإن هنالك اطرادا في بعض العناصر التاريخية العامة. ولما كان العلم يعين بالاطراد والتكرار لأنه لا يستطيع أن يدرس ظاهرة لا تتكرر، فكذلك التاريخ إذا أراد أن يكون علما بالمعنى الصحيح فلابد له من دراسة العناصر العامة المطرودة في الوقائع التاريخية وبعبارة أخرى: إذا أراد العالم أن يكون مؤرخا فعليه أن يكون رجل اجتماع).
ولئن كان بعض المؤرخين المنهجيين يدافعون عن نظريتهم التقليدية بقولهم: (أن التاريخ علم لا يستطيع أن يتجنب الاتجاه الزمني وإن الطابع المميز للمعرفة التاريخية هو اتصالها الأساسي بالزمن، وعلم الاجتماع كسائر العلوم الطبيعية يدرس الوقائع خارج الزمن فلا يمكن رد التاريخ إلى علم الاجتماع) فمن السهل أن نرد على زعم هؤلاء المنهجيين بقولنا: (إن هذه الحقائق الجزئية التي يعنون كل العناية بالكشف عنها تظل غامضة وتافهة إذا لم ترتبط بقانون معين يوضحها ويجلو قيمتها). ومن العجيب حقا أن أكثر ما يعني به المؤرخ حتى أيامنا هذه في أبحاثه عن بعض المؤسسات كالمعابد الدينية مثلا، هو وصف هذه المعابد بأصحابها وهيئاتها ووصف من أمر بإقامتها. . . الخ دون أن يعنى أقل عناية بالكشف عن القوانين التي يربط بها تطور المعابد الدينية والتي وحدها يمكن أن تفسر لنا علة قيام هذه المعابد أو تلك في هذا العصر أو ذاك. نحن لا ننكر أن البحث في الوقائع الجزئية في التاريخ على جانب عظيم من القيمة العلمية، ولكننا ننكر كل الإنكار أن هذا البحث وحده يمكن أن يقدم لنا تفسيرات هذه الوقائع الجزئية. فلابد من أن يلجا المؤرخ إلى الصفات العامة في الوقائع التاريخية ويستخلص منها القوانين التي بمكانها أن تفسر الوقائع التاريخية، والتي يمكننا على أساسها أن نجعل من التاريخ علما. فلابد أن يلجأ المؤرخ إلى القوانين الاجتماعية وهي العناصر العامة المطردة في الوقائع التاريخية؛ وبهذا يستطيع أن يقدم لنا حقائق علمية.
ولنفترض أن أمامنا مؤرخا يبحث عن تاريخ الأزمات الاقتصادية ويقف في بحثه عند أزمة فينا سنة 1873 والتي بلغت نهايتها العظمى سنة 1874، فيسترعي التفات المؤرخ في وصفه لهذه الأزمة ازدياد نسبة الانتحار وارتفاع عدد المنتحرين ارتفاعا كبيرا، ولنفترض(634/32)
أن هذا المؤرخ من المدرسة المنهجية فإن التعليل الوحيد الذي سيعلل به ازدياد نسبة الانتحار في أبان أزمة فينا هو الفقر والجوع. ولا يكون المؤرخ قد قدم لنا في هذه الحالة إلا أوصافا ابعد ما تكون عن الصحة وعن الطابع العلمي. ذلك لأن الواقع كما يقول العلامة دركيم في كتابه عن الانتحار هو أن الأزمات الاقتصادية كثيراً ما تنتج تأثيرا عكسيا في نسبة الانتحار كما هو مشاهد في ايرلندا مثلا، فعلى الرغم من هذه الأزمات الاقتصادية التي يعانيها الفلاح الايرلندي فانه قلما يقدم على الانتحار. ولو أن هذا المؤرخ الذي قرر أن الفقر الذي أحدثته أزمة فينا سنة 1873 هو علة ازدياد نسبة الانتحار، كان قد درس ظاهرة الانتحار وقوانينها الاجتماعية العامة، وابعد نفسه قليلا عن حادث فينا الخاص، لوجد تفسيرا آخر لازدياد نسبة الانتحار عامة وليس في حادث فينا الخاص فقط. وهذا التفسير نجده في قانون الانتحار الذي استخلصه العلامة دركيم من دراسته لهذه الظاهرة. وقد ربط به عدة قوانين أخرى. وخلاصة هذا أننا في حالة التاريخ لا يجدينا البحث عن الوقائع إلا بقدر ارتباطها بقوانين عامة.
وقد تقدم العلامة سيميان في سنة 1606 إلى الجمعية الفلسفية الفرنسية برسالته الشهيرة: (العلية في التاريخ) أوضح فيها اتجاه التاريخ الحديث نحو علم الاجتماع. وقد عدت رسالته ثورة في الأبحاث التاريخية وأشاد بها كثيرون من علماء فرنسا في ذلك الحين من أمثال: لاكمب وبلوخ ولالاند.
ولقد أراد العلامة سيميان برسالته أن يتقدم بمنهج نظري وعملي في الوقت نفسه. فوضع للأبحاث التاريخية عن العلل أربعة قواعد شكلية تكون بمثابة منهج تطبيقي للمؤرخ الحديث. وقد أراد بهذه القضايا الشكلية أن يجعل من التاريخ فرعا من فروع علم الاجتماع؛ فهو يرى أن العلمين يتفقان كل الاتفاق في موضوعهما وطبيعتهما. . . ولا بد لنا من أن نعرض لهذه القضايا لأنها المنهج الاجتماعي في الأبحاث التاريخية.
القضية الأولى: (يجب تفسير الواقعة التاريخية في حدود عامة). أعني أن نربط الواقعة الجزئية بقانون عام يفسرها؛ فمثلا في وصفنا لبناء معبد ديني، يجب أن نربط وصفنا هذا بقانون عام يفسر التطور الديني الذي انتهى إلى بناء هذا المعبد. . .
القضية الثانية: هي توكيد التفرقة بين العلل والوسائط وتصاغ هكذا: (من بين الأسباب(634/33)
المختلفة لظاهرة تاريخية، نعتبره علة ذلك السبب الذي يكون مرتبطا بالظاهرة التاريخية بواسطة الرابطة الأكثر عمومية). والواقع أن الخلط بين العلل والوسائط شائع في التاريخ إلى ابعد حد فلا يجب أن نعتبر فولتير وروسو ومونتسكيو عللا مباشرة للثورة الفرنسية بما أذاعوه من التعاليم والمبادئ، وإنما هؤلاء الرجال وسائط فحسب؛ بحيث أنه إذا لم يكن هؤلاء الرجال قد وجدوا فانه لمن المؤكد أن وسائط أخرى كانت ستتولد من خميرة الثورة الكامنة في الشعب الفرنسي. فيجب على المؤرخ أن يحترس من الخلط بين العلل والوسائط. والعلل تكون دائماً قوانين عامة.
نتيجة أولى: (يكون من الضروري دائماً تفسير السبب المباشر (العلة). أعنى أن القضيتين السابقتين ستفرضان على المؤرخ أن يحلل السبب المباشر للواقعة التاريخية تحليلا وقتيا حتى يكون تفسيره علميا صحيحاً.
نتيجة ثانية: (الوصول في أبحاثنا عن العلل التاريخية إلى قضايا تتكون الرابطة بينها صحيحة دائماً). وهذا ما ينتهي إليه البحث العلمي وهو اكتشاف القوانين الصادقة دائماً.
تلك هي قواعد سيميان الأربع الشكلية، وضع اثنتين منها على صورة قضايا واثنتين على صورة نتائج لتأخذ قواعده الطابع العلمي الرياضي.
وبهذه القواعد يكون للمؤرخ منهج عملي في أبحاثه؛ ويكون موقفه من التاريخ هو موقف العالم الاجتماعي.
التاريخ: ما هو؟
سؤال افتتحنا به هذا البحث؛ والآن نعلم أن التاريخ ليس شيئاً آخر غير الإنسان: هذا الكائن الاجتماعي. ولست ازعم أنني في بحثي هذا - رغم ما كلفني من مشقة - قد أحطت إحاطة تامة بكل تفاصيل هذا الموضوع، ولكن لعلها محاولة أرجو أن تتيح لي الأيام فرصة مواصلتها لتحقيق تلك الصلة الوثقى بين علم التاريخ وعلم الاجتماع.
فؤاد عوض واصف
ليسانس في الفلسفة(634/34)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
جراحة القلب ومعجزتها
هي معجزة جديدة في عالم الطب. فلم يعد الرصاص الذي يصيب القلب من العوامل التي لا علاج لها. وقد تمت المعجزة خلال الحرب، وصقلت تجاربها على قلوب الجنود الذين كانوا ينقلون بالعشرات إلى المستشفيات، وفي قلب كل منهم أو في رئتيه رصاصة أو شظية. كان الطبيب في الماضي يكتفي من مجرد رؤياها بأنه لا آمل في حياة المصاب.
أما الآن فتيسر للأطباء إنقاذ مئات الأرواح التي كان الطب القديم يفقد الأمل في حياتها. وهؤلاء الأفراد الذي استخرجت الأجسام الصلبة من قلوبهم أو من رئاتهم يعيشون في أتم صحة ويواصلون حياتهم كأن رصاصة لم تخترق قلوبهم أو تمزق أنسجة رئاتهم.
وليست معجزة اليوم جراحية في كل تفاصيلها فجزء كبير منها من عمل المريض نفسه، ومن المعونة التي يلقاها الطبيب من المصاب ذاته. فعندما تخترق إحدى الرئتين مادة غريبة تتوقف هذه الرئة عن العمل. ويعيش المريض فترة يتنفس برئة واحدة. وهي سنة طبيعية في الإنسان تمنع عنه الإحساس بالألم المبرح.
فإذا أزيل الجسم الغريب من الرئة فواجب المريض أن يتعلم كيف يتحرك ذلك الجزء الذي توقف عن أداء عمله. وهي مسألة لا يتيسر لي أو لك إنجازها، فهي تحتاج إلى بعض المران الذي عرفه الأطباء لتحريك تلك الرئة المضربة عن العمل، فإن هي إلا فترة حتى يتعلم المصاب كيف يعيدها إلى سابق واجبها.
وعمليات القلب الجراحية من العمليات الدقيقة الشاقة فيتحتم أن يحدد الطبيب مكان الجسم الغريب من القلب تماما حتى يصل إليه مشرطه ويقبض عليه ملقاطه من أصغر فتحة. ويستلزم هذا أن يجري للمصاب كشف بالأشعة في عدة أوضأ قد تصل إلى العشرة وعلى ضوء هذه الصور يحدد الجراح موقع الجسم الغريب وحجمه بالضبط.
ووصف أحد الكتاب إحدى العمليات التي شاهدها لاستخراج رصاصة من عيار 30 مليمترا من قلب أحد الجنود فأدهشه ما بدا عليه من هدوء وثقة برغم أنه كان يعرف ما سيحدث له فلما نقل إلى غرفة العمليات حقتنه الطبيبة المختصة بالمخدر فلم يلبث أن راح(634/35)
في سبات عميق. وعندئذ اعمل الجراح مبضعه لمدة ساعة ونصف ساعة استخرج خلالها الرصاصة وما صحبها من أنسجة القماش التي غاصت في القلب معها.
وأتم الجراح عملية التنظيف ثم طهر كل جرح بالبنسلين قبل تضميده وأعادته إلى اصله.
وتلقى أطباء آخرون المصاب يزودونه بما يحتاج إليه من دم جديد بدل الذي فقده ويعالجونه بالأكسوجين لكي يفيق وغير ذلك من الوسائل التي تحتفظ بجسمه في حالة جيدة، فمن العوامل الهامة أن يتمتع المصاب بحالة نفسية هادئة وقوة بنية تساعده على مغالبة إصابته. فلو توافر هذان العاملان فإن المصاب لا يلزم الفراش أكثر من يوم واحد يسمح له بعده بالمتنزه في الحديقة حتى يتم شفاؤه.
وعندما تنتهي العملية الجراحية تبدأ عملية التنفس، وقد درب الأطباء عددا كافيا من الجنود لكي يتولوا تدريب المصابين الجدد فيعلمونهم كيف يوقظون الأجزاء المصابة ويرسلون فيها الحركة والحياة
وتخصص في عمليات الصدر بكافة أنواعها عدد من الأطباء والطبيبات الأمريكيين تحول إليهم جميع إصاباته فتشغلهم طول وقتهم. وقد مضت عليهم عدة شهور فلم تفشل معهم حالة واحدة بل دخل المستشفى آلاف الجنود الفاقدي الأمل في الحياة فخرجوا منه ممتلئين بالصحة والعافية.
أما مبدأ أطباء ذلك المستشفى فكما قال الجراح هاركن (كان هدف جراحة الصدر في الحرب الماضية إنقاذ الأرواح فحسب أما هدفنا، فهو معرفة احسن السبل لكي يعود المصابون إلى الحياة وهم على احسن حال وفي اقصر وقت).
وعلى ضوء هذا المبدأ سار الأطباء في تجاربهم ونجحوا في تأدية واجباتهم دون أن يصبهم ملل أو كلل وكانت أول واجباتهم رفع الروح المعنوية في المصابين واستغلال حبهم في الحياة لكي يصلوا إلى الشفاء من إصاباتهم المميتة ودخلت الجراحة في مرحلة جديدة وهي جهد المريض نفسه.
تخرج معدتها لتأكل
من الحيوانات الغريبة نجمة البحر ولكن الأغرب هي الطريقة التي تتغذى بها لأنها لا تأكل بفمها بل تخرج معدتها للحصول على طعامها.(634/36)
وعندما تجوع نجمة البحر تزحف في قاع البحر إلى أن تجد حيوانا يسهل عليها التهامه. ومن هذه الحيوانات المحار بأصدافه القوية. ولكن نجمة البحر تلتف حول الصدفتين، وتثبت أقدامها بمصاصاتها على كل منها وتجذب الصدفتين لتفتحهما وتلتهم ما في الداخل. ويصر المحار طبعا على أن لا يأكل ولكن المقاومة ترهقه بعد حوالي 30 دقيقة وتنفتح الصدفتان.
ولنجمة البحر فم ولكنه صغير جدا بالنسبة للمحار فتخرج النجمة معدتها وتدخل فيها لحم المحارة وتتركها خارج فمها لحظة حتى يتيسر للإفرازات المعدية تفتيت لحم المحار وتحويله إلى سوائل يسهل تسربها إلى داخل جسم النجمة. وعندئذ تعود معدة النجمة إلى داخل جسمها لتبحث لها عن فريسة أخرى.
لمكافحة السل:
تيسر لأطباء السل سرعة الكشف على مرضاهم بفضل الجهود التي بذلها بعض المهندسين إذا أتاحوا لهم الحصول على ست صور مختلفة للصدر في الدقيقة الواحدة أي ضعف العدد الذي كان متاحا لهم بالأجهزة القديمة. وبذلك سهل على الوحدة الطبية الواحدة الكشف على ألف مريض كل يوم وفحصه فحصا جيدا.
ولا يعجب القارئ إذا عرف أن السل وانتشاره من الأمراض التي تهدد الدولة الغربية. فإن الحرب ونقص الأغذية عرضت أكثر من 70 % من أفراد الشعوب للإصابة بهذا المرض مما دعا المهتمين بالشؤون الصحية إلى اعتبار مكافحة السل من أول أهداف البلاد القومية.
وتتلخص هذه الطريقة في عكس صور الصدر على لوحة باستخدام عين كهربائية تضبط كمية الضوء المطلوب بطريقة آلية ويحدد التعديل أيضاً زمن عرض اللوحة الحساسة للضوء أيا كان حجم جسم المريض وأيا كانت الأجسام الغريبة أو المعتمة داخل صدره.
وتمتاز هذه الطريقة برخصها وكمال وضوحها برغم صغر الصور التي تنتج عنها.
تجارب على البنسلين:
توالى الهيئات الطبية في الخارج تجاربها لاستخدام البنسلين في علاج الأمراض أيا كان لونها. وقد أجرى معهد ميو الطبي تجربة جديدة على الأمراض الخطيرة التي تنتقل إلى(634/37)
الإنسان من الحيوان عن طريق الميكروب المعروف باسم انثراكس. وهو من الجراثيم القوية التي لم يفلح في القضاء عليها كثير من العقاقير المعروفة مثل السلفا وسم الميكروب نفسه.
ويحمل هذا الميكروب عادة في فراء الحيوانات ثم ينتقل منها إلى الإنسان فيصيبه بعدة أمراض خطيرة عجز الطب في كثير من الأحوال عن شفائها.
وقد جرب البنسلين على الفيران فوجد أنها تكتسب المناعة ضد الإصابة بأمراض الانثراكس القتالة. وأثبتت التجارب أن الفيران تحتفظ بصحتها نسبيا إذا حقنت بجرعات قتالة من الانثراكس ثم عولجت بالبنسلين ولو بعد أصابتها بست عشرة ساعة فإن تلقت العلاج سريعا بعد ساعة واحدة من الإصابة فإن نجاتها تكون أكيدة واستعادتها لصحتها كاملة.
وجرب استخدام البنسلين في علاج الضعف والالتهاب الرئوي فشفي بعض المصابين بعد عشرة أيام من بدء العلاج.
ولا يعطي البنسلين في هذه الحالة كما هو بل يطحن إلى ذرات متناهية الدقة على ألواح زجاجية. فإن الذرات الكبيرة يتعذر توغلها في أجسام المرضى فلا تصل إلى الميكروبات وتقتلها.
إرسال الخطابات بالكهرباء
اكتشفت إحدى شركات الكهرباء طريقة حديثة لإرسال الخطابات من مدينة إلى أخرى في اقصر وقت وبغير أن تقع عليها عين إنسان لأنها ترسل على الموجات الكهربائية. فعند ما يتناول مكتب البريد الراسل الرسالة يضعها داخل آلة ضاغطة من المطاط ترسل إلى المحطة المرسل إليها علامات بيضاء أو سوداء تعكس بالات خاصة تحل رموزها وتكون الرسالة الأصلية بالشكل الطبيعي.
وليس لهذه الرسائل غلاف منفرد بل غلافها وخطابها واحد على مثال الأشكال المعروفة الآن التي تطبق وتلصق فتكون الرسالة والخطاب.
وعندما تصل الرسالة إلى مكتب البريد المختص وتحل رموزها يتولى عامل البريد العادي إيصالها إلى أصحابها. وتمتاز هذه الطريقة عن البريد المصور بأنها لا تحتاج إلى أفلام(634/38)
تطبع وترسل. وهي ليست أيضاً بالراديو المصور لأن أدواتها أقل منه دقة وإن كانت تستعمل في الغالب أكثر نظرياته.
ويتوقع مديرو الشركة التي توصلت إلى هذا الاكتشاف صقلها وتيسير استعمالها في التجارة في أمد قريب حتى تكون عملية الإرسال بسيطة يستطيع الموظف العادي أداءها.
سر حياة النبات
يخطو العلم خطوة جديدة لكشف أسرار الحياة النباتية بدراسة ما يحدث من تطورات داخل البذرة، ويتولى هذا البحث أحد المعامل في جامعة كورنل بمعالجة سر الحياة النباتية بوسائل خاصة تكشف نموها وتغيرها.
وتوصل العلماء خلال دراساتهم من اكتشاف عامل يوقف نمو النبات ويجعله في شبه حالة نوم. وهذا العامل مقيم في الأنسجة التي تغذى الجسم الحي من النبات. وتمكنوا أيضاً من قتل هذا العامل فأدت أبحاثهم إلى نتائج ذات أهمية كبيرة. ففي بعض البذور تيسر لهم الإسراع بإنماء النبات بأن فصلوا العامل الذي يعمل على توقف الإنبات في بعض فترات السنة.
ويعمل هؤلاء العلماء على فحص هذا العامل في مختلف النباتات، ومدى تأثيره على نموها، وطرق القضاء عليه بغير أن تتأثر الأجزاء الحية من البذور. وتشمل التجارب الذي يؤديها العامل الآن على 500 بذرة.
فوزي الشتوي(634/39)
السراب الثاني
للدكتور إبراهيم ناجي
لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا ... ولا لِقلبك عن ليلاكَ أنباء
جفا الربيع ليالينا وغادرها ... وأقفر الروض لا ظل ولا ماء
يا شافيَ الداء قد أوْدى بيَ الداءُ ... أما لذا الظمأِ القتال إرواءُ
ولا لطائر قلب أن يقر ولا ... لمركب فزع في الشط إرساء!
عندي سماء شتاء غيرُ ممطرة ... سوداء في جنبات النفس جرداء
هوجاء آونةً خرساء آونةً ... وليس تخدع ظني وهي خرساء
فكم سجا الليل إلا هامس قلق ... كأنه نفسٌ في الليل مشّاء
أأنت ناديتِ أم صوتٌ يخيل لي؟ ... فلى إليكِ بأذْنِ الوهم إصغاء
لبيكِ لو عند روحي ما تطير به ... وكيف ينهض بالمجروح إعياء
لمنْ قِيامي وبعثي هذه صورٌ ... لا تصطبي وتماثيلٌ وأزياء
ومعرضٌ أجوف المعنى وأسماء ... مذ آذَنتْنا بهذا البين أسماء
يا ليل! كل نهار ميّت فإذا ... ناديتِ قام كما للبعث إحياء
وليس يبلى نهار في هواك مضى ... هيهات ينسيه إصباح وإمساء
طاب اللقاء به لاثنين فانفردا ... فتى به سقم بادٍ وحسناء
جمالها توبة الدنيا وغُرتها ... كفارة عن ذنوب الدهر بيضاء
وشعرها الفاحم انسابت جداوله ... تكاد تسطع حسناً وهي سوداء
نامت به خٌصلٌ واسترسلت خصل ... لها وللعاج خلف الليل إغراء
توهجتْ شمس ذاك اليوم واتقدت ... كأنها شعلة في الأفق حمراء
تفرق الناس حول الشط واجتمعوا ... لهم به صخبٌ عالٍ وضوضاء
وآخرون كسالى في أماكنهم ... كأنهم في رمال الشط أنضاء
تحَّللوا من قيود العيش وانطلقوا ... لاُ همْ أسارى ولا فيهم أرقّاء
تنزّل الدهر يوماً عن مشيئته ... وحكمه فلهم في الدهر ما شاءوا
هُمُ الورى قبل إفساد الزمان لهم ... وقبل أن تتحدى الحب بغضاء(634/40)
لم يُخلقوا وبهم من نفسهم عِلَلٌ=لكن حضارة هذا العالم الداء
ضاقت نفوس بأحقاد وقد سلمت ... لو أنها كسماء البحر روحاء
ما لي بهم أنتِ لي الدنيا بأجمعها ... وما وعتُ ولقلبي منكِ إغناء
لو كان لي أبدٌ ما زاد عن سنةٍ ... ومُدّة الحلم بالجفنين إغفاء
أرنو إليك وبي خوفٌ يساورني ... وأنثنى ولطرفي عنكِ إغضاء
إذا نطقتُ فما بالقول منَتفَع ... وإن سكت فإن الصمت إمشاء
أحبك القلب حباً ما هتكت له ... سرّا ولا مستطاعٌ فيه إخفاء
وأّيما خطرة فالريح ناقلةٌ ... والروض حاكٍ لها والأيك أصداء
يا ليل! مَنْ علْم الأطيار قصتنا ... وكيف تدري الصَّبا أنا أحباء
لما أفقْنا رأينا الشمس ماثلة ... إلى الوداع وما للبين إرجاء
شابت ذوائب وانحلت غدائرها ... شهباء في ساعة التوديع صفراء
مشى لها شفقٌ دام فخضبها ... كأنه في حواشي الشعر حناء
يا من تنفس حرّ الوجد في عنقي ... كما تَنّفسُ في الأقداح صهباء
ومن تنفستُ جر الوجد في فمه ... فما ارتويتُ وهذا الريّ إظماء
ما أنتَ عن خاطري بالبعد مبتعد ... ولن تُواريك عن عينيّ ظلماء
ناجي(634/41)
السعادة
للمرحوم أبي القاسم الشابي
ترجو السعادة يا قلبي! ولو وجدت ... في الكون لم يشتعل حزن ولا ألم
ولا استحالت حياة الناس أجمعها ... وزلزلت هاته الأكوان والنظم
فما السعادة في الدنيا سوى حلم ... ناء تضحى له أيامها الأمم
ناجت به الناس أفهام معربدة ... لما تغشتهم الأحلام والظلم
فهب كل يناديه وينشده ... كأنما الناس ما ناموا وما حلموا
خذ الحياة كما جاءتك مبتسما ... في كفها الغار أم في كفها العدم
وارقص على الورد والأشواك متئداً ... غنت لك الطير أو غنت لك الرحم
واعمل كما تأمر الدنيا بلا مضض ... والجم شعورك فيها! أنها صنم
فمن تألم لم ترحم مضاضته ... ومن تجلد لم تهزأ به القسم
هذي سعادة دنيانا! فكن رجلا ... أن شئتها - أبد الآباد يبتسم!
وإن أردت قضاء العيش في دعة ... شعرية لا يغشى صفوها ندم
فاترك إلى الناس دنياهم وضجتهم ... وما بنوا لنظام العيش أو رسموا
واجعل حياتك دوحاً مزهراً نضراً ... في عزلة الغاب ينمو ثم ينعدم
واجعل لياليك أحلاماً مغردة ... إن الحياة وما تدوى به حلم!
أبي القاسم الشابي(634/42)
على الشاطئ
حمام الشمس
للأستاذ إدوار حنا سعد
قف بشط الجمال واحسد رماله ... عانقت جسمها وضمت ظلاله
إنها كالربيع حساً ومعنى ... شابهتْ سره وحاكت جماله
غادرت ثوبها ولم تبق منه ... فوق بعض الأعطاف غير فضاله
وتعرت كالورد حان قطافاً ... أو جنى الروض إذ يوافي كماله
وتهادت بالشط تصلي العذارى ... غيرةً مُرةً وتصمى رجاله
سكر الموج من صبا وجمال ... فلوى قيده وفك عقاله
يتبارى للشط سبقاً إليها ... وهي تلهو لم تحسن استقباله
لاطمٌ بعضه من الشوق بعضاً ... ساكبُ في هديره إعواله
كلما شارفَ الحبيبَ وأوفى ... في حماهُ الرحيب يلقى رحاله
خانه صبره وخارت قواه ... فتولى مجرجراً أذياله
لست أدري أمن وبي وتوانٍ ... أم لفرط التقديس هاب وصاله
قد أطلت التحديق في حسنك العا ... ري كما حاط ناحتٌ تمثاله
وبكرهي أهواك هل في فؤادي ... فلذة تجهل الهوى ونصاله؟
فاعذريني فقد أضعت شبابي ... شاعراً يتبع المنى وخياله
همت والقلبَ بالجمال نغنى ... وعرفنا الغرام في كل حاله
فسئمنا صدوده ووصاله ... ومللنا وفاءه ومطاله
ويحَ قلبي إذا صبوت تجنى ... وإذا ما اعتزلت مل اعتزاله
حينما للمرة الصبا وجمالٌ ... عبقري لم نرتقب أمثاله
سكنت نفسه وقرت مناه ... وجفا نسكه وعاف احتماله
هاك صدري أحنى من الرمل صدري ... آه لو ذقتِ صفوَه وخلاله
إن فيه حرارةَ الشمس والرم ... ل وليلا مغرداً وهلاله
(الإسكندرية)(634/43)
أدوار حنا سعد(634/44)
القصص
قصة مصرية:
حزن وسرور. . .
للأستاذ نجيب محفوظ
كانت أسرة هانئة البال، يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين، وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون، وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى. لم تكن من الثروة في شيء، فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيها وهو كل مالها. ولا كانت غفل الزمان عنها، فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن في المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة، فلاقت متاعب شديدة من الحاجة والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان. أنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب، فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من اليسر لم تكن - على بساطتها - تحلم بمثلها، وصارت أسرة هانئة البال، ودام لها هذا الحال خمسة عشر عاما، حتى أذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة. ففتاها بلغ حدا من العزوبة لا يجوز أن يتعداه، وإحسان أوفت على العشرين، فبات زواجها ينتظر اليوم أو غدا، وبدت الأم في شيخوختها تحث الخطو في مفترق الطرق. حقا أن كل شئ ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين، وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر. وجاء الغد ولكن بما لم يكن في حسبان. فقدت هذه أسرة الشاخصة إلى الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد. . . ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال في عزة الشباب وعنفوانه. فما كان إلا أن وجد دملا في ساقه اليسرى، وأهمله أياما فبرز وغلظ ثم عالجه بإبرة محماة ففتحه، ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف، فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئاً فشيئا، وسرى الألم في الساق كلها، فمضى يتصبر على آمل أن تزول تلك الإعراض وحدها، حتى أقعده الألم عن الحركة، واستدعي عند ذلك الطبيب فأشار في الحال ببتر الساق. . . وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير السلامة، واسلم الروح ومضى بصحبته ورجولته ونفعه. وأوشكت الأم العجوز أن(634/45)
تجن. كانت تطمع أن يواريها في التراب بعد عمر طويل، فوارته في التراب هي بعد عمر قصير، وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيدا بأسرته الجديدة، فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط. أما إحسان، فكانت أشقى أخت وأشقي فتاة، فقدت - أو هكذا خالت - الأمل الحاضر والأمل المتخايل في غضون المستقبل. وترك الرجل معاشا جنيهين وربع جنيه، ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيها التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد. ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن اليم. إلا أن الله الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة. فقد كان لإحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها. وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال - إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب - وكانت إلى هذا حولاء، فاختفى حسنها وراء أهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم؛ وربما أدرك الناظر إليها أن شبابها غير عاطل من جمال، ولكنه جمال مختنق تأبى عليه أثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر، فجسمها لطيف التكوين، إلا أنه ذابل، ووجهها مستدير حسن القسمات، إلا أنه مصفر عليل، وعيناها صافيتان واسعتان، ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون. ثم جاء موت أخيها علة على علة فانهارت قواها وغلبها الحزن، فازدادت ضعفا على ضعف وشحوبا على شحوب، وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة. ذاك كانت حلها حين فتحت لها صدرها عمتها، ثم أخذ كل شئ يتغير من بعد ذلك، بدا هذا التغير في الأشهر الأولى التي أعقبت الوفاة، ثم صار طابع الحياة الجديدة وأملها المرموق، ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل، فاقبل إليها يدعون لها ويقولون لامها (ربنا يفرحك بإحسان)، وغمروها بالعطف والحب والدعاء، ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا. أما الذي فازت به حقا، وكان فوزها به عظيما، لأنه بعثها بعثا جديدا، فهو قلب عمتها، تلك المرأة الطيبة المحبة التي تتفجر نفسها رحمة وحنانا، أحبتها كما كانت تحبها، وأحبتها كما كانت تحب أخاها، وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التي حرمتها، فمن أي هذا الحب أن قبلتها يوما وقالت لها:
- لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى وقد المها ما تراه في وجهها من الشحوب والذبول(634/46)
- لا يرتاح لي بال إذا تركت هذا المرض يهتصر شبابك الغض. . .
ومضت بها إلى الطبيب، وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنا ونصحها بتبديل الهواء، فأحضرت المرأة الحقن، ثم شدوا الرحال جميعاً إلى بلبيس - بلدة العمة - وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل في الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى في أعصابها الشفاء، فانتهت النوبات التي كانت تعتريها، ونجت مما كان يشقي حياتها من القلق والمخاوف، وسرعان ما امتثل جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى في وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة. وسرت العمة بما رأت، وكأنها بستاني يجنى ما غرست يداه لأول مرة، وأطمعها هذا الظفر بالمزيد، فحدثت نفسها: (آه لو يذهب هذا الحول. . . فأي عينين تكونان!) ولكن ما الذي يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق. . . لقد سمعت أن من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالما. ولم يقعدها التردد فقفلت هي وآسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير من أطباء العيون فأملها خيرا وأجرى العملية فنجحت نجاحا باهرا فاق كل تقدير. واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف، وأخلى الحول مكانه لحور فاتن، ونظرة حلوة تقطر ملاحة، ونظرت إحسان في المرآة فرأت وجها جميلا لا عهد لها به، يحسد على ما حبته الطبيعة من الحسن والجمال، فانبهرت الفتاة، واستخفتا السرور، وتناست أحزان الماضي وهمومه، وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع، وابتاعت لها عمتها أبهى حلل وأليقها بجسمها اللدن، فتبدت في ثوبها الأسود النفيس في بهاء العاج ورونقه، وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبهاء الاستقبال في بيوت المعارف والجيران، وكانت تقول لها وهي ترمقها بعين الحب والإعجاب:
- لكم يشرح صدري ويسر قلبي إذا جاءنا العروس المدخر غدا. . .!
ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا، فجاء يطلب يدها البضة، ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم، ودارت دمعة ترقرقت في عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضاً
وباتت إحسان تلك الليلة في سرور عظيم بل كانت اسعد لياليها
وعندما رنق النوم بجفنيها في ساعة متأخرة، رأت فيما يرى النائم حلما مؤثرا، رأت أنها(634/47)
عادت إلى الشقة التي كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها، وأنها في حجرته بالذات وعلى فراشه، ورأت في وسط الحجرة نعشا ملفوفا في الحرير الأبيض، يجلس عل رأسه شيخ كبير في عباءة سوداء وعمامة بيضاء، وكانت تبكي وتكابد ضيقا يكاد أن ينشق به صدرها، وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا:
- لماذا تبكين؟
فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها:
- أخي. . . أني أبكي أخي. . .
فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء:
- أنه يرقد ها هنا
فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تختنقه العبرات:
- اعلم ذلك وا أسفاه
فسألها مبتسما:
- أتحبين أن يعود إليك؟
فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت:
- أتستطيع ذلك حقا؟
- نعم بغير شك
فقال بلهفة ورجاء:
- رد إليه الحياة. . . أعده إلينا
ولم تتمالك نفسها، فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل؛ فقال الشيخ بهدوئه الذي لا يفارقه:
- ليس الأمر باليسر الذي تتصورين، فلابد من ثمن يؤدي
- أي ثمن. . . وهل يغلو لقاء أن يعود أخي؟!
فهز الرجل رأسه المعمم وقال:
- إذا رد إلى الحياة، وهذا على هين، فستردين أنت إلى حالتك الأولى، يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول، ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك!
وعلاها وجوم، وشعرت بثقل الكابوس على صدرها، فرشح جبينها عرقا وزاغ بصرها.(634/48)
فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم:
- إيه. . هل أعيده إليك حقا؟
رباه. . . ماذا تقول؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب؟ وقالت وهي تزفر:
- نعم أعده
وتغير وجه الرجل، فلاح في محياه الجد والاهتمام، ووثب قائماً، ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز. . . ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله، ورأت نفسها تتغير في مثل لمح البصر فترد إلى حالتها الأولى، فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين، وغابت كل المسرات: فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج. . . وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها، فسقطت جاثية على ركبتيها، وعيناها لا تتحولان عن النعش. . . ثم غلبها البكاء، واستيقظت عند ذاك، فرفعت رأسها عن الوسادة، وتحسست يداها وجهها والفراش، لتتأكد من أنها يقظة، وإن ما كانت تكابده حلما من الأحلام، وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض، ثم أسلمت رأسها مرة أخرى إلى الوسادة وهي تتنهد تنهدا عميقاً، وما لبثت أن أجهشت في البكاء، لا لأنها مسخت فردت إلى حالتها الأولى، ولكن لأنها ذكرت أخاها الراجل، فثارت كوامن أشجانها. . .
نجيب محفوظ(634/49)
الكتب
أربعة كتب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الحياة الزوجية في الإسلام - الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
- نظرات في الحياة والمجتمع - الإنكليز كما عرفتهم. . .
1 - الحياة الروحية في الإسلام
(للدكتور محمد مصطفى حلمي)
في هذه الفترة المادية التي نعيش فيها على سمع التاريخ الحديث وبصره، وفي هذا الجو المختنق بأبخرة المادة الكثيفة التي تكاد تغشى القلوب. وفي وسط هذا الصراع الجبار بين الرغبات المادية الجامحة نقرأ هذا الكتاب الذي تجد فيه النفس اطمئنانها إلى حياة الروح في الإسلام.
ويظهر أن المؤلف نفسه - على غير معرفة لنا به - فيه نزعة من هذه الحياة الروحية النبيلة التي تعلوا عن المادة؛ ويتبين ذلك من سطور كتابه ومن المقدمة الواضحة التي قدم بها بين يدي الكتاب , فهو لا يرمي إلى كشف النقاب عن الحياة الروحية فحسب، ولكنه يرمي أن يكون وراء الكشف عنها (ما يعين على كبح جماح الشهوة، وكسر حدة المادة، وتمكين الخلف من الاستجابة لهذا الدعاء الروحي الصادق الذي ردده السلف).
وواضح من هذا الكلام أن للمؤلف غرضين: الغرض العلمي الذي كان موفقاً في إبرازه والنهج به على أقوم سبيل؛ والغرض الخلقي، وهو غرض نبيل صرح به في المقدمة فكشف لنا عن روح نبيل في تناول الموضوعات العلمية.
والحق أن العلم وحده لا ينفع ما لم يعن على إشاعة الخلق الجميل. ولا تكفي دراسة النظريات وتحديد المنهج والمعرفة بأصول البحث ما لم يكن هناك هدف سام من الأخلاق. وهنا تظهر القيمة العلمية لدراسة العلوم.
ويرد المؤلف بدء الحياة الروحية في الإسلام إلى تحنث محمد عليه السلام في غار حراء(634/50)
قبل أن ينزل عليه الوحي - أي قبيل الإسلام - وكأنه بذلك يريد أن يجعل بروز التصوف والروحانية الإسلامية نابتة في قلب الجزيرة العربية وفي صميم كفوفها وأغوارها. ولست أرى باسا أن تختلف مصادر الحياة الروحية في الإسلام ما دامت الأديان كلها تهدف إلى غرض واحد هو صفاء الروح.
وفي الكتاب فصول عن النساك والزهاد والعباد والتصوف ونشأته والنزاع بين الصوفية والفقهاء، والغزالي وطريق المعرفة عنده، وما إلى ذلك من الأبحاث التي تدل على أن المؤلف دارس الموضوع الروحية الإسلامية دراسة سعة وشمول.
وأسلوب الكتاب واضح ينساب في سهولة ويسر، وبذلك حقق
غرض الجمعية الفلسفية المصرية من تبسيط هذه الموضوعات
لجمهور القارئين، إلا أن فيه تكراراً في بعض المواطن
وخاصة في الفصل الثاني من الكتاب. وعندي أن التكرار لا
يملح من كل كاتب، فخير للمؤلف الفاضل لو أنه استقل
بأسلوب يكون هو صاحبه ولا يكون فيه من المقلدين. 2 -
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
(للدكتور أبو العلاء عفيفي)
وهذا كتاب آخر من كتب الجمعية الفلسفية المصرية التي يشرف على إصدارها الأستاذان الجليلان الدكتور علي عبد الواحد وافي والدكتور عثمان أمين؛ وهما من أكثر رجالنا نشاطا في التأليف وأشدهم انكبابا على العلم. والكتاب لأستاذنا الدكتور أبو العلاء عفيفي أستاذ الفلسفة بجامعة فاروق الأول. وهو من سبيل الكتاب الأول ومن بابه. فلحياة الروح فيه مجال كبير. وقد وفق المؤلف فيه إلى حد كبير فقد أزاح الستار عن طريق (الملامتية وأهل الفتوة) ورجع في ذلك إلى طائفة من كتب التصوف بعضها بالعربية وبعضها باللغات الأجنبية.(634/51)
والكتاب قسمان: قسم عن مذهب الملاميتة ونشأته في الإسلام والصلة بين تعاليم الملامتية وتعاليم الصوفية وأهل الفتوة. والقسم الثاني نص رسالة الملامتية التي ألفها أبو عبد الرحمن السلمي من العارفين بأسرارهم.
وفي القسم الأول تحقيق كثير لا يصدر إلا من رجل كالدكتور أبي العلاء عفيفي له في البحث العلمي مقام محمود. والحق أنه وفى الكلام عنه هذا المذهب التصوفي توفية منعه تواضعه من أن يعلى من قيمتها. فقد أشار في المقدمة إلى أن الصورة العامة التي صور بها هذا المذهب (قد يعوزها الكثير من التفاصيل)
وخير فصول الكتاب هو الفصل الخاص بالتحليل النقدي لأصول الملامتية. فقد تكلم عن فلسفتهم في النفس ومحاربتهم للرياء، واتهام النفس ولومها، والرياء في الأعمال والأحوال والعلم. وهو كلام يدل على فهم صحيح للمذهب وطول تتبع له ووصول إلى أعماقه.
وإذا كان المستشرق الأستاذ ريشارد فون هارتمان قد سبق الدكتور عفيفي إلى البحث في رسالة السلمي نفسها فإن أستاذنا المصري قد تناول في رسالته القيمة المذهب الملامتي نفسه والفرق بينه وبين تعاليم الصوفية، وتاريخ هذه الفرقة ونشأتها.
وهي أبحاث تدل على سعة في العلم وعلى صبر في البحث وعلى قراءة كثيرة لكتب التصوف والمذاهب التي خرج منها المؤلف بهذا المحصول العظيم.
- 3 - نظريات في الحياة والمجتمع
(للأستاذ علي أدهم)
مؤلف هذا الكتاب أديب يمتاز بمزايا كثيرة لابد منها لمن يريد أن يكون في عالم الأدب أصيلا لا متبعاً. فهو يقرأ كثيراً في الأدب العربي والغربي؛ وهو يهضم قراءاته ويحسن هضمهما لأن معدته الأدبية صحيحة موفورة العافية؛ وهو قادر على معالجة الأدب المقارن بحسن أدراك وصحة فهم وقوة أسلوب.
أما إدراكه فيظهر من رؤوس الموضوعات التي يتناولها والتي يحسن الكلام فيها فينتقل بك من فكر إلى فكر، ومن موضوع إلى موضوع حتى يأتي على البحث إلى آخره، ولا يدع في نفسك شهوة لاستزادة وأما أسلوبه ففيه من القوة ما يؤدي به الأغراض احسن أداء، فلا(634/52)
تحس ضعفا هنا ولا لينا هناك. ولكنك ترى الكلام مستويا مع الغرض علواً واتساقا.
وتقرأ الموضوع الواحد لعلي أدهم فتراه طائفا معك من أبي تمام إلى المتنبي إلى فرويد من غير أن تحس تكلفا في الانتقال؛ لأنه يصدر عن طبع وإحاطة.
ويغلب على كتابته ناحية الفكر والفلسفة. فهو أديب الفكرة لا أديب العبارة. وإن كانت عبارته في مكانها العلي من لغة العرب لأنه يقرأ كما قلت لك كثيراً ويفيد مما قرأ كثيراً
وفي موضوعات على أدهم لذة؛ لأنه يعرف كيف يختارها ويعرف كيف يعرضها؛ ويعرف في النهاية كيف يقنعك برأيه ويكسبك إلى صفه. وتحس وأنت تقرؤه أنك تقرأ أفكار الحكماء مجموعة في كتاب ومضمومة في أهاب، وهو مع ذلك متواضع، لا يدعي أنه من العلماء المختصين ولا من الحكماء الموهوبين (ولكني أحب أن أسير في أثار هؤلاء الهواة الذين راقهم أن يعرفوا أشياء عن الطبيعة الإنسانية، وشاقهم حب التطلع والاستبانة)
وهو في النهاية ليس خياليا ولا (يوتوبياً). ولكنه واقعي يصف الواقع ويعلل له.
4 - الإنكليز كما عرفتهم:
(للأستاذ أمين المميز من رجال السلك السياسي العراقي)
تفضل الأستاذ الكبير الزيات فأعارني هذا الكتاب لقراءته والحديث عنه. ثم تفضل المؤلف الفاضل نفسه فأهدى أليّ نسخة منه عن طريق صديقنا الأديب الوفي السيد محيي الدين رضا، فأتيحت لي بذلك فرصتان لقراءة هذا الكتاب الطريف المفيد الممتع
ولقد عشت في إنكلترا حقبة من الزمان، فما ازعم لنفسي أنني عرفت من أحوال القوم وأمورهم وألوان الحياة عندهم ما عرفته من هذا الكتاب.
وكان مصدر المؤلف في كتابه شيئين: التجربة والقراءة فقد عاش في إنكلترا مدة وخالط أوساطها الراقية بحكم منصبه، كما خالط أخلاطا من القوم دون ذلك بحكم نيته في التأليف. وقرأ كثيراً عن الإنكليز وبلادهم وتاريخهم وعاداتهم مما كتبه الإنكليز أنفسهم، أو مما كتبه عنه غيرهم
ومن هنا كانت مراجع الكتاب كثيرة تبلغ بضع عشرات من الكتب لبضع عشرات من الكتاب أمثال بابكر وبرادلي وهاملتون وروم لانداو ومورتون وغيرهم(634/53)
وفي الكتاب فصول عن الرجل الإنكليزي والمرأة الإنكليزية وحياة الإنكليز السياسية والاجتماعية، فإذا شئت أن تعرف شيئاً عن الدستور الإنكليزي والوزارة والميزانية ووزارة الخارجية ومجلس العموم ومجلس الأعيان والأحزاب الإنكليزية والإمبراطورية والدومنيون، فارجع إلى الفصل الثالث.
وإذا شئت أن تعرف شيئاً عن نظام الطبقات في إنكلترا والثروة والمهرجانات العامة وقصور العائلة المالكة والأعياد الدينية والوطنية والنادي وحياة الشوارع والملبس وآداب المعاشرة وغيرها فاقرأ الفصل الرابع
وليس الكتاب رحلة عابرة في بلاد الإنكليز، ولكنه دراسات علمية تاريخية بذل المؤلف فيها كثيراً من الجهد في المطالعة والقراءة والرجوع إلى المصادر، كما بذل كثيراً من الدقة في الملاحظة والمشاهدة والمعاشرة، حتى خرج الكتاب مرجعا من أوفى المراجع العربية عن حياة الإنكليز وتاريخهم
وإذا كان سبيل التقارب بين الشعوب هو حسن التفاهم بينها، فإن ذلك لا يكون إلا عن فهمها، فمتى صح الفهم صح التفاهم
ولا شك أن كتاب الأستاذ أمين المميز هو خطوة فسيحة موفقة في سبيل فهم الإنكليز، وبالتالي في سبيل التفاهم معهم
فأهنئه وأشكره على هديته، وأرجو له التوفيق في إخراج الجزء الثاني من كتابه الذي وعد به في هذا الجزء النفيس
محمد عبد الغني حسن(634/54)
مات الإمام المراغي
في ليلة الأربعاء الماضي استعز الله بالإمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، فكان نعيه المفاجئ حدثاً بارزاً في الأحداث العالمية هفت له القلوب جزعاً، والتاعت له النفوس حسرة. والأسى على فقد الأستاذ المراغي عدل ما يعرفه العالم الإسلامي عنه من رسوخ القدم في العلم، وعلو المكانة في الأدب، وثقوب الفكر في الإصلاح، ونفوذ الكلمة في الدولة. والحق أن المراغي كان عالم جيله إذا أردنا من العالم الديني أن يكون عليماً أحوال العصر، خبيراً بسير الزمن، بصيراً بطبائع الناس، يوفق بين الدين والعلم في قصد، ويجمع بين الشريعة والمدنية في حكمة. وقد هيأة لهذه المزايا بعد الاستعداد الطبيعي فيه عوامل اجتماعية أهمها اتصالها المباشر بالموظفين الإنجليز في السودان أيام كان صاحب القضاء فيه. والموظفون الإنجليز في مصر والسودان كانوا الصورة الحقيقة للمدنية الغربية في سمو الخلق وحسن النظام وحرية الفكر وسداد المنهج، كما كانوا في الإدارة والسياسة الكمال الذي يظهر لك النقص واضحاً في شتى النواحي الاجتماعية المصرية؛ فكان من الطبيعي أن يطمح إلى هذا الكمال من طريق الإصلاح الديني والاجتماعي بحكم منصبه. كما فعل الإمام محمد عبده حين اتصل بالفرنسيين في المنفى وبالإنجليز بعد الاحتلال
ولقد كان موقفه في الإصلاح الديني من شيخه الإمام محمد عبده، كموقف اسماعيل الإصلاح المدني من جده محمد علي: كان موقف المتبع من المبتدع، والمقلد من المجتهد، والحائر المتردد من الزميع المصمم.
وكان الظن بالفقيد الكريم وقد ورث أكثر خصائص الأستاذ الإمام أن يؤدي رسالة الإصلاح على الوجه الذي يرتضيه العلم، ويقتضيه العصر، ويرتجيه الناس؛ ولكن الأسباب المعوقة من مهاواة السياسة، ومصانعة المعارضة، ومماطلة الحزم، واضطراب السلام في الخارج، وانقطاع الوئام في الداخل، حالت بين الشيخ وبين ما يريد حتى أتاه اليقين وهو على شك من استعداد النفوس لفكرة الإصلاح.
تغمده الله برحمته، وجزاه أحسن الجزاء على حسن بيته، وأخلف بالخير على أسرته وأمته.(634/55)
العدد 635 - بتاريخ: 03 - 09 - 1945(/)
الشعر والقصة
للأستاذ عباس محمود العقاد
حين يقول القائل إن الذهب أنفس من الحديد يقرر شيئاً واحدا، وهو أن الحديد لا يدرك ثمن الذهب في سوق البيع والشراء، ولكنه لا يقرر إلغاء الحديد ولا استخدام الذهب في المصانع والبيوت بديلا منه، ولا يعني أن الذهب يغني عن الحديد أو عن غيره من المعادن في غرض من أغراضه
كل ما يقرره شيء واحد وهو أن سعر الذهب أغلى من سعر الحديد، ولا لوم عليه في ذلك، وإن قيل له إن الحديد أنفع وأشيع من معادن الزينة والتجميل
ونحن قد فضلنا الشعر على القصة في سياق الكلام عليهما من كتاب (في بيتي)، فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة، وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة
فلا يقال لنا جواباً على ذلك إن القصة لازمة، وإن الشعر لا يغني عن القصة، وإن التطويل والتمهيد ضرورتان من ضرورات الشرح الذي لا حيلة فيه للرواة والقصاصين
ويستطيع الأديب الأستاذ محمد قطب أن يقرر كما قرر في (الرسالة): (أن القصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها القارئ)
يستطيع الأديب هذا كما يستطيع أن يقول: (إن الحديد معدن نافع لا غنى عنه في تركيب الآلات وبناء البيوت، وليس الذهب أو الفضة أو الجوهر النفيس على اختلاف بمغن عنها، لأنه في ذاته أحد المعادن التي يحتاج إليها في الحرب والسلم وفي الصناعة والتجارة)
ولكنه بعد كل هذا يذهب إلى السوق ليشتري الحديد، فلا يبذل في ثمن الذهب والفضة، ولا ينكر على التاجر أن يزن له درهما من النقد برطل من الحديد المفيد
وقد قلنا في كتاب (في بيتي) إن القصاص قد يرجح الشاعر في الملكة الذهنية والقريحة الفنية، ولكننا لا نفضل القصة على الشعر من أجل ذلك كما لا نفضل الجميز على التفاح، لأن الأرض التي أثمرت الجميز كانت في حالة من الحالات أخصب وأجود من الأرض التي أثمرت التفاح(635/1)
وينفعنا مثل الجماد هنا كما ينفعنا مثل النبات، فإن تاجر الحديد قد يكون أغنى وأقدر من تاجر الذهب، وقد يكون المنجم الذهبي أقل ربحا ومحصولا من المنجم الحديدي في حالة من الحالات، ولكن تقويم المعدنين لا يتوقف على تقويم التاجرين أو المنجمين، لأنهما لا يرجعان إلى نوع واحد من التقدير والحساب
ويقول الأستاذ محمد قطب: (قرأت سارة وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكنني لا أستطيع مع ذلك أن أقول إنني استغنيت به عن قراءة سارة، أو إن سارة ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة. . .)
فالذي نقوله إن الأستاذ غير مطالب بأن يقول هذا في باب الموازنة بين الروايات والقصائد، لأن موافقته على رأينا في الشعر والقصة لا تقتضيه أن يمحو القصة وأن يثبت الشعر وحده، وإنما يبقيهما ويبقي معهما الترجيح بينهما، ويقدم الشعر على القصة في هذا الترجيح
ولا حاجة به إلى جهد طويل للتسليم بفضل الشعر على القصة وفي هذه الموازنة، لأنه ينتهي إلى هذه النتيجة إذا سأل نفسه: أيهما أوفر محصولا من الشعور والثروة النفسية؟ ألف صفحة من الشعر المنتقى، أو ألف صفحة من الرواية المنتقاة؟
أما أنا فجوابي على ذلك جزماً وتوكيداً أن صفحات الشعر أوفر وأغنى. وأن معدن الشعر من أجل ذلك أنفس وأغلى من معدن الرواية
فإذا كان هذا رأيه فقد اتفقنا
وإذا لم يكن رأيه ورأيي متفقين في ذلك، فهذا هو الجمل وهذا هو الجمال كما يقولون في أمثالنا الوطنية: هات ألف صفحة من رواية أو عدة روايات، وخذ ألف صفحة من الشعر الرفيع، وارجع إلى حكم القراء فيما شعروا به بعد قراءة القصائد وقراءة الحكايات، أو قدر ما يشعرون به على سبيل الظن والتخمين، واحتفظ برأيك بعد ذلك كما تشاء
إنني لم أكتب ما كتبته عن القصة لأبطلها وأحرم الكتابة فيها، أو لأنفي عنها عمل قيم يحسب للأديب إذا أجاد فيه
ولكنني كتبته لأقول (أولا) إنني أستزيد من دواوين الشعر، ولا أستزيد من القصص في الكتب التي أقتنيها. وأقول (ثانياً) إن القصة ليست بالعمل الوحيد الذي يحسب للأديب،(635/2)
وإنها ليست بأفضل الثمرات التي تثمرها القريحة الفنية، وإن اتخاذها معرضا للتحليل النفسي أو للإصلاح الاجتماعي لا يفرضها ضربة لازب على كل كاتب، ولا يكون قصارى القول فيه إلا كقصارى القول في الذهب والحديد: الحديد نافع في المصانع والبيوت، ولكنه لا يشتري بثمن الذهب في سوق من الأسواق
وكتب العالم الفاضل الأستاذ علي العماري المدرس بالأزهر يعقب على المقياسين اللذين ذكرتهما في الكتاب للمفاضلة بين الشعر والقصة، وهما (أولاً) أن القصة كثيرة الأدلة قليلة المحصول، و (ثانياً) أن الطبقة التي تروج بينها القصة لا ترتقي في الثقافة والذوق والتمييز مرتقى الطبقة التي تفهم الشعر وتشعر بمعانيه
وقد قال الأستاذ: (فالمقياس الأول تحدث عنه علماء البلاغة والنقد فكانوا يرون أن خير الكلام وأبلغه ما جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وهذا المقياس - وإن صلح للمفاضلة بين عبارة وعبارة، أو بين بيتين من الشعر، أو قطعتين من النثر في موضوع واحد، فإنه لا يصلح للمفاضلة بين القصة والشعر. وذلك أن فائدة القصة ليست مقصورة على الغرض الأساسي الذي وضعت من أجله، ولم تكن خمسون صفحة في قصة ما ولو بلغت الطبقة الدنيا في القصص تمهيدا لفائدة تقال في سطر أو أسطر، ولكن هناك التصوير الرائع والوصف الدقيق لحركات الأحياء ونوازع النفوس)
والذي نقوله للأستاذ الفاضل إن الموازنة بين الشعر والقصة لا تكون إلا بذلك الميزان الذي قال أنه لا يصلح للمفاضلة بينهما.
لأنك إذا قلت إن هذه القصيدة أبلغ من تلك لجمعها المعنى الكثير في اللفظ القليل، فإنك لا تفاضل بين فنين أحدهما قاصر بطبيعته عن مرتبة الفن الآخر، ولكنك تفاضل بين كلامين أحدهما فاضل في الفن نفسه والآخر مفضول فيه
أما إذا قلت إن الشعر أفضل من القصة، لأن الشعر من شأنه أن يجمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، فتلك هي المفاضلة بين طبيعة الشعر وطبيعة القصة، وإن بلغت في بابها غاية الإتقان
ونرجع إلى التمثيل بالذهب والحديد فنقول: إن ترجيح ذهب على ذهب بخفة الوزن يدل على أن الذهبين ذهب ناقص وأن الذهب الآخر ذهب كامل، ولا يفيدنا شيئاً في الموازنة(635/3)
بين هذا المعدن وغيره من المعادن
ولكننا إذا قلنا إن قليل الذهب أغلى من كثير الحديد، فلا يلزم من ذلك أن الحديد ناقص في صفاته المعدنية، لأنه قد يكون في بابه على غاية من الجودة والمتانة، وإنما يلزم منه أن معدن الذهب أغلى من معدن الحديد
وهذا بعينه الذي قصدنا إليه حين قلنا إن قليل الشعر يحتوي من الثروة الشعورية ما ليست تحتويه الصفحات المطولات من الروايات، فإن احتياج القصة إلى التطويل لبلوغ أثر الشعر الموجز هو وحده الذي يبين لنا أن قنطارا من القصة يساوي درهما من الشعر، وإن القصة في معدنها دون الشعر في معدنه، لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل ما يساويه الشيء الكثير
أيقول الأستاذ إن خمسين صفحة من القصة لازمة للتصوير والحوار الذي يتحقق به سياق القصة؟
حسن. فهذا اللزوم نفسه هو الذي ينزل بها دون منزلة الشعر في متعة الذهن والخيال، لأن الشعر بغير حوار وبغير تمهيد من أمثال تلك التمهيدات القصصية يعطينا في خمسين صفحة أضعاف ما نعطاه في تلك الصفحات، بل هي لا تعطينا في القصة شيئاً إلا إذا وصلت بعد التمهيد والحوار إلى مادة الشعر في لبابها: وهي التصوير والخيال
وقال الأستاذ عن المقياس الثاني: (أما المقياس الثاني فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائماً إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم. . .)
ونقول نحن إن ميل بعض العامة إلى الشعر صحيح، ولكن حين يكون الشعر قصة، وحين يكون الشعر من قبيل ملاحم الهلالي والزير سالم. أما حين يكون الشعر وصفا كوصف ابن الرومي أو البحتري، وحكمة كحكمة أبي الطيب وأبي العلاء، وفخرا كفخر الشريف وأبي فراس، فالعامة لا تفضله على القصص التي تفهمها، وإن أسفت غاية الإسفاف
ومما لاشك فيه أن عدد النسخ التي تصدر من ديوان المتنبي في الطبعة الواحدة أقل من(635/4)
عدد النسخ التي تصدر من ألف ليلة وليلة، أو من الروايات العصرية التي تتداولها الأيدي مرة في كل شهر أو مرة في كل أسبوع، وهذا مع إقبال القراء على ديوان المتنبي لغرض غير لذة المطالعة، وهو غرض الدرس أو المحاكاة، ومهما يكن من طبقة القراء الذين يقبلون على تلك الدواوين وتلك الروايات، فلا نزاع في أن الروايات إنما تروج لأن تحصيل لذتها أسهل وأقرب من تحصيل لذة الدواوين، وليس لارتفاعها عليها في طبقة الفن وملكة التأليف
وقد يأكل الفقير اللحوم ويأكل الغني البقول، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك إن البقول طعام الأغنياء، وإن اللحوم طعام الفقراء
وكذلك قد يوجد من العامة من يقرأ الشعر حتى الرفيع منه، كما يوجد من الخاصة من يقرأ القصة حتى الوضيع منها، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك أن الشعر هو قراءة الجهلاء، وإن القصة هي قراءة المثقفين
عباس محمود العقاد(635/5)
مراكش العربية تستصرخ
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
من كان يظن - في أثناء الحرب العالمية الثانية - أن هؤلاء الغربيين الذين ملئوا الدنيا صياحا، ورفعوا عقائرهم بالحرية والعدالة والمساواة، وبحقوق الأفراد والأمم؟ من كان يظن أنهم يجيئون في أعقاب حرب ضروس وهيجاء طاحنة، قد ضربت وشب ضرامها، وأتت على الملايين من البشر قتلا وأسراً وتشريداً، فلا يكون لهم منها عبرة ولا مزدجر، ولا تؤثر فيهم المثلاث، فيسلطون جبريتهم على الأمم الضعيفة التي منيت باستعمارهم وابتليت بدائهم، ويحكمونها بما استطاعوا من قوة الباطل وأساليب الظلم التي لا تعرف الرحمة الإنسانية، ولا الشفقة التي يجب أن تكون بين بني الإنسان!!
بالأمس رأينا كيف بطش الفرنسيون بأهل الجزائر في شهر مايو الماضي، فضربوا البلاد ببوارجهم الحربية وطياراتهم المدمرة ونكلوا بالأحرار من أبنائها
واليوم نقرأ في إحدى الصحف اليومية أن الحكومة الإسبانية تنهج نهج الفرنسيين وتسير على غرارهم في التنكيل بمراكش التي أصيبت بالاستعمار الإسباني، كأنها سياسة مرقومة وخطة مرسومة من المستعمرين لا محيد لهم عنها ولا محيص، وهو أن يسلطوا قوتهمالغاشمة على من يقع في حبائلهم من الأمم الضعيفة حتى تخبت وتخشع وتضرب عليها الذلة والمسكنة، فلا يرتفع لها صوت بحق، ولا تجأر بدفع ظلم، فأين مبادئ الحرية والعدالة التي أعلنها أقطاب الأمم المنتصرة؟ وأين الوصايا الإنجيلية التي نشروها في الخافقين؟ بل أين الأربع التي بشروا بها العالم الجديد وزعموا أنها تكفل تحقيق عهد يسوده السلام والأمن والحرية والعدل؟!
إن الحكومة الإسبانية قد فتحت باب الهجرة على مصراعيه للإسبانيين يتدفقون منه على مراكش العربية، ومنحتهم من وسائل التيسير والإغداق ما يمكن لهم في أرضها، ويجعلهم يتحكمون في رقاب أهلها، وما يصيرهم بعد قليل من الزمن أكثر عددا من أبناء البلاد، وأقوى عدة وأكثر مالا، وأعز نفرا، وبذا يتسنى لهم جعلها جزءاً متمما لإسبانيا، وإقليماً من أقاليمها، كما تحاول ذلك فرنسا في الجزائر، وليس أقوى دليل ولا أصدق شاهدا على ذلك من أن الإسبانيين قبل الحرب الأهلية لم تكن نسبتهم في مراكش تعدو 7 % من سكانها،(635/6)
فأصبحوا بعد سبع سنين قد ذرفوا على ثلث أهلها: سياسة ما أشبهها بسياسة الصهيونيين في فلسطين، يقصدون من ورائها التغلب على أبناء البلاد مما يكون لهم من كثرة العدد وقوة الحكم والاستعمار، ويقصدون إلى قهر العرب والمسلمين بحملهم على التجنس بالجنسية الإسبانية مكرهين، أو بطردهم من البلاد صاغرين!
ولكي ينفذ الأسبان تلك السياسة الباطشة، ويحققوا مآربهم الظالمة، ويسيروا في سبيل الإثم والعدوان بنجوة من الرقباء، ومنأى من الأحرار الذين يغضبون للحق، ويثورون على الظلم - أحاطوا بالمراكشيين، وأخذوهم بأساليب العنف والاستبداد، وسلطوا عليهم وسائل الإخافة، واسترهبوهم وجاءوا بأمر عظيم، فاعتقلوا الزعماء في بيوتهم، ونفوا الأحرار إلى بلاد غير بلادهم، ثم عمدوا إلى الصحف فعقلوا ألسنتها، وحطموا أقلامها، وقضوا على حريتها، ثم أمعنوا وعتوا عتواً كبيراً: فألغوا كثيراً من الوظائف الشرعية، ومنعوا الاجتماعات والمحافل العامة، حتى المحاضرات العلمية ذادوا الشعب عنها وحالوا بينه وبين الاستماع إليها
ظلم عبقري، وجور ليس له ضهى، لا يصدر إلا عن نفوس قد تجردت من نوازع الخير، وقلوب قد ران عليها ما اكتسبت من الإثم والعدوان. وحيل بينها وبين خلال البر والرحمة والإحسان
ألم يحدثكم التاريخ - معشر الأسبان - بأن أسلاف أولئك المراكشيين من العرب والمسلمين قد فتحوا بلادكم فأنقذوكم من ظلم الونداليين، وجور القوطيين، ثم أظلوكم بلواء العدل والرحمة ونشروا بينكم المبادئ السامية والعلوم النافعة، وكان شعارهم في حكمهم: (لأهل الذمة ما لنا وعليهم ما علينا)، فلم يستبيحوا لأنفسهم أن ينتهكوا حرماتكم أو يسلبوكم حقوقكم، أو ينتزعوا منكم دياركم وأموالكم، بل عشتم وإياهم إخوانا متساوين في الحقوق والواجبات، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى أو بعمل صالح.
لقد شيد العرب والمسلمون في الأندلس حضارة قامت على دعائم الحكم الصالح والعلم النافع، حتى صارت المنارة التي يشع منها نور المدنية والعرفان في أسبانيا وسائر أنحاء أوربة، فلم تنكرون عارفتهم، ولم تجحدون فضلهم وهم أساس نهضتكم وقوام حضارتكم؟
ألا فاتركوا للمراكشيين بلادهم، وارفعوا عنهم نير استعبادكم، واعلموا أنهم أباة أحرار لن(635/7)
يكفوا عن الجهاد، ولن يرتضوا باستقلال بلادهم وحريتها بديلا، ولسوف يبذلون كل مرتخص وغال، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم ويكتب لهم النصر المبين
وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يدق
وعلى الجامعة العربية أن ترفع الصوت عاليا بالدفاع عن العروبة والإسلام في تلك البلاد، فإن حقوق العرب والمسلمين لا تتجزأ، وهي واحدة في كل مكان، فمراكش والجزائر وغيرهما من البلاد المهيضة الجناح يجب أن تدخل في نطاق الجامعة لترعى حقوقها وتذود جور القاسطين عنها ليكون التعاون شاملا، وعمل الخير عاما يشمل العرب والمسلمين أجمعين
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
حسن أحمد الخطيب(635/8)
بعد عيد وفاء النيل
متى نتحكم في نهرنا؟
للأستاذ وديع فلسطين
قديماً قالوا (مصر هبة النيل)، وما كانوا بذلك يمزحون أو يلقون الكلام على عواهنه، وإنما قرروا حقيقة أثبتت الأيام صوابها، وهي أن ماء النيل أثمن شيء في مصر، أثمن من حديدها ومعادنها وذهبها وزيتها.
وما فتئنا نسمع من ربع قرن من الزمان أحاديث تستطيبها الأذن عن مشروعات النيل وضبط مائه والانتفاع بكل نقطة منه واستغلاله في زراعة الصحراوات وو. . . مما يروق لذوي الخيال الواسع أن ينساقوا وراءه. ولو أننا حولنا بصرنا إلى غيرنا من الدول الزراعية ودرسنا أساليبها في الزراعة وضبط الماء، وقلدناهم فيما نجحوا فيه لكان لنا اليوم أن نفخر بنهر أصبحنا أسياده بعد ما كان سيدنا، وتحكمنا فيه بعد ما ظل أربعة آلاف من السنين أو يزيد يشمخ بتحكمه فينا.
وقد احتفلت مصر في الأسبوع الماضي بعيد وفاء النيل. وجدير بنا في هذه المناسبة أن نعرض صفحة مما نهضت به دولة زراعية، فرفعت مستوى المعيشة فيها وأصلحت أراضيها وتزعمت الأمم الزراعية قاطبة.
هذه قصة نهر عظيم في الولايات المتحدة يدعى نهر تنيسي استطاع الأمريكيون أن يتحكموا فيه بعد ما كان يكتسح المحصولات والغابات ويخرب البيوت، فأمكن الانتفاع به إلى أقصى حد ممكن ودرء خطره الذي كان يهدد الدور والحقول على ضفتيه.
يمتد نهر تنيسي من الشرق إلى الغرب في المنطقة الوسطى من الولايات المتحدة، وهو لا يبلغ في طوله مبلغ نهر النيل لأن طول النهر الرئيسي 104 كيلو متراً بينما يزيد طول النيل على ستة آلاف من الكيلو مترات. غير أن الأراضي الصالحة للزراعة في وادي تنيسي تبلغ مساحتها 105 , 000 كيلو متر مربع في حين أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في مصر لا تزيد عن 13 , 600 ميل مربع. ونهر تنيسي، على النقيض من نهر النيل الذي يخلو مجراه في مسافة طولها1 , 600 كيلو متر من الأنهار الفرعية، غنى بمئات من الأنهار الصغيرة التي ترتفع في الجبال في هذه المنطقة من الولايات المتحدة.(635/9)
وحينما يهطل المطر الغزير في الربيع، تمتلئ هذه الفروع وتفيض على شطآنها. وكما أن نهر النيل يخلف وراءه مقادير وافرة من الغرين يغذي التربة ويعززها، فإن أنهر وادي التنيسي تخلف وراءها كذلك غريناً يهب الحياة للنباتات والغابات.
وكان موضوع ضبط نهر تنيسي والروافد التي تصب فيه أساسا لمشروع كبير يعرف اليوم باسم (إدارة وادي تنيسي) وقد بلغ في مايو الماضي العام الثاني عشر من حياته. وفي الواقع أن (الإدارة) مصلحة تابعة لحكومة الاتحاد. غير أنها تختلف عن سواها من المصالح الحكومية في الولايات المتحدة لأن سلطتها تمتد إلى منطقة معينة من البلاد، لا إلى البلاد بأسرها. والوادي الذي يشق نهر تنيسي طريقه فيه يقع في أجزاء لسبع ولايات في الجزء الأوسط من ولايات أمريكا المتحدة. وتلك الولايات هي: نورث كارولينا وفرجينيا وجورجيا وآلاباما ومسيسبي وكنطكي وتنيسي. وما مشروع وادي تنيسي إلا لاستثمار موارد منطقة كانت الأمطار الغزيرة تفسدها وكانت الفيضانات الكثيرة لأنهر كثيرة تصب في وادي تنيسي فتخر به وتزيل معالمه.
وفي مستهل المدة الأولى لرياسة الرئيس الراحل المستر فرنكلن روزفلت. أثنى الرئيس على مشروع إنشاء إدارة وادي تنيسي وقال في رسالته إلى الكونجرس في 10 إبريل 1933: (إذا وفقنا في هذا، استطعنا أن نسير خطوة خطوة في سبيل تحسين الموارد الطبيعية الأخرى الكبيرة داخل حدود بلادنا). وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، وضع المستر روزفلت ستة مشروعات مماثلة لمشروع وادي تنيسي.
وتقوم مشروعات روزفلت السبعة جميعا على مبدأ مشترك وإن اختلفت في كيفية تطبيق هذا المبدأ في المناطق المختلفة. ويتلخص المبدأ في أن يطبق على مجال واسع وتتولى إدارته هيئة عامة تهدف إلى استغلال الموارد البشرية والطبيعية دون أن تتأثر بالميول الحزبية.
ويجري نهر تنيسي وكمبرلند في منطقة مساحتها 105 , 000 كيلو متر مربع، وعند المنبع في جبال سموكي وبلورج يصب نهر تنيسي من ارتفاع 900 متر عن سطح البحر في نقطة تنخفض إلى 90 مترا في ولاية كنطكي حيث يتصل بنهر أوهايو. ويصب نهر أوهايو بدوره في نهر المسيسبي. ويقدر معدل هطول الأمطار في السنة في الوادي(635/10)
بنحو 132 سنتيمترا ويبلغ الهبوط السنوي في بعض الجهات 200 سنتيمتر.
وفي يوم 10 إبريل 1933 ألقى الرئيس روزفلت خطابا في الكونجرس - وقد أسلفنا الإشارة إليه - لخص فيه المزايا المنتظرة لمشروع وادي تنيسي فقال: (إن المشروع إذا نفذ بكليته سيؤدي حتما إلى فوائد جمة؛ فتروى الحقول التي تصل إليها مياه الفيضان، ويمنع تآكل التربة وتعاد زراعة الغابات، ويؤدي إلى عدم إهمال زراعة الأراضي المتطرفة كما يؤدي إلى انتشار الصناعة وتنوعها. وبالإجمال فإنه يؤدي إلى استغلال جميع مرافق الولايات المتحدة لمصلحة الملايين من الأهالي في جميع الولايات. كما إنه يبعث الحياة في جميع مظاهر الحياة وكل ما يهم الإنسان)
واقترح الرئيس لإنشاء إدارة وادي تنيسي إصدار تشريع لتأليف (هيئة لها سلطة كسلطة الحكومة وتتمتع بميزتي المرونة والتوثب شأنها في ذلك شأن الهيئات الأهلية). وقد وافق الكونجرس على مشروع قانون تأليف إدارة وادي تنيسي يوم 17 مايو 1933 وذيله الرئيس روزفلت بإمضائه.
ونص في ديباجة قانون إدارة وادي تنيسي على أهداف المشروع. ومن تلك الأهداف تحسين حالة الأراضي الزراعية والتحكم في فيضان نهر تنيسي وإعادة زراعة الغابات واستغلال الأراضي المتطرفة في الوادي وتحسين حالة الزراعة والصناعة فيه. وخولت لها سلطة نزع ملكية الأراضي لبناء السدود والخزانات ومحطات توليد القوى وغيرها من المنشآت. وخول لإدارة وادي تنيسي الحق في بيع ما يفيض من القوة الكهربائية إلى الشركات والأفراد والهيئات المختلفة فضلا عن الولايات والمقاطعات ومجالس البلديات. وتكون الألوية في الشراء للولايات والمقاطعات ومجالس المديريات.
ويستخدم في الوقت الحالي 21 سدا لضبط الماء في نهر تنيسي. وقد نجحت تلك السدود في جعل المنطقة مقراً لثاني محطة لإنتاج القوة في الولايات المتحدة. وتتمتع 85 , 000 مزرعة بمزايا الكهرباء، أي بنسبة مزرعة واحدة تضاء بالكهرباء في كل خمس مزارع، وأصبح سكان الوادي يعيشون عيشة جديدة نسبة لاستعانتهم بالكهرباء. فأصبحت المزارع تستخدم المضخات الكهربائية بدلا من رافعات الماء الفطرية: (كالساقية والشادوف. . .) وأصبح السكان يتمتعون بمزايا آلات تجفيف الطعام والثلاجات وتوفرت لهم آلات قطع(635/11)
الخشب وطحن البقول للماشية. وأصبح اللبن يوضع في ثلاجات حديثة. وأضحى أعداد اللحوم وطهي الطعام لا يستغرق وقتا طويلا. وأصبحت ربات المنازل يستطعن استخدام المدفآت الكهربائية وآلات كي الملابس الكهربائية وغيرها من الأدوات التي توفر الوقت والجهد والمال.
ولم تتجل آثار إدارة وادي تنيسي في أي ميدان من ميادين الحياة كما تجلت في ميدان الزراعة. فقد أمكن للإدارة - بالتحكم في مياه الفيضان والتغلب على تآكل التربة وتوفير مواد الفوسفات للتسميد - أن تجعل المزارع في حالة رخاء لم يسبق لسكان الوادي عهد بها، وأخذت المحصولات التي تسمى في الولايات المتحدة (محصولات الزراعة) كالطباق والقطن والذرة مثلا أخذت تفسح المجال للبرسيم وفول الصويا وهما من المحصولات التي تكسب التربة غنى في المواد العضوية. وأصبح من المألوف حرث الأراضي بالآلات التي تحرثها حرثا منتظما يعمل على توقي تآكل التربة. وأخذ الفلاحون يقومون أفرادا بفلاحة سفوح التلال وإصلاح الأراضي البور. واستطاعت إدارة وادي تنيسي بمعاونة الهيئات الأخرى المتصلة بها أن تقنع الفلاحين في الوادي بالإكثار من زراعة أنواع شتى من الخضروات لزيادة دخلهم وتمكينهم من شراء مزيد من الملابس وغيرها من ضرورات الحياة. واستطاع الفلاحون في منطقة وادي تنيسي أن يستخدموا الكهرباء في إدارة الآلات التي توفر العمال والوقت والمال. وشرعوا يتعلمون كيف يستطيعون توليد سلالات أفضل من الماشية وإنتاج أنواع ممتازة من الفاكهة والخضروات، وهي جهود تهدف إلى إنتاج مواد منوعة غنية بالفيتامينات تقوّم صحة الفلاحين وعائلاتهم، وتكسبهم مناعة وجلداً.
وانتشرت الصناعة في الوادي بفضل إدارة وادي تنيسي. وزاد إنتاج الألمنيوم والمطاط والدقيق والمواد الكيميائية اللازمة للحرب كنترات النوشادر وهي مادة هامة في صناعة المفجرات القوية، واستغل في أثناء الحرب الأخيرة 75 في المائة من قوى إدارة وادي تنيسي في إنتاج المواد الحربية.
وأنشئت إلى جانب هذا المشروع الضخم مشروعات أخرى تتصل بالحياة اليومية لسكان هذه المنطقة فضلا عن مشروعات توفر قوى كهربائية رخيصة وتحسن وسائل الزراعة والإنتاج الصناعي، وشيدت آلاف من المنازل الرخيصة وانتشرت المعاهد واتخذت وسائل(635/12)
مكافحة الملاريا. ونظمت الهيئات الجماعية للتسلية، وأسست هيئة كبيرة للعناية بصحة سكان الوادي عناية تامة.
وأصبحت إدارة وادي تنيسي نموذجا حيا للتنظيم الإقليمي ولفتت أنظار العالم كله. فزارها رجال من جميع بلدان العالم من مزارعين ومهندسين جاءوا ليتخصصوا في أعمال الإدارة. وسعى مهندسو إدارة وادي تنيسي إلى بلدان أخرى ليقيوا فيها مشروعات مماثلة أو ليعاونوا في حل مشكلات الزراعة وتوليد الكهرباء فيها.
وفي يوليو 1943 كتب المستر جوليان هكسلي العالم البريطاني والكاتب المعروف مقالا قال فيه: (إن فكرة إدارة وادي تنيسي على أساس إقليمي - كاستغلال نهر في واد مثلا - أصبحت فكرة يدين بها العالم أجمع. وإن آراء الإدارة ووسائلها تعمل على إرشاد هيئات جديدة مماثلة ونموها. . . وأجريت دراسات ليمكن تنفيذ مشروع مماثل على نطاق دولي بدلا من النطاق الوطني الضيق، ومن شأن هذا المشروع الدولي أن يحد من سلطة دول العالم شأنه في ذلك شأن إدارة وادي تنيسي التي تحد من سلطة الولايات وخاصة فيما يختص بالحقوق والحدود).
وجاء في ختام تقرير خاص يبحث في موضوع الإدارة: (إن بيت القصيد في مشروع وادي تنيسي، أنه يوفر للرجال وسائل جديدة واقعية لاستخدام الموارد الطبيعية. كما إنه يهيئ لنا طريقة جديدة لمعالجة المشكلات المرتبطة بعضها ببعض الخاصة باستغلال الموارد الطبيعية التي تهم الجميع).
وديع فلسطين(635/13)
1 - نظرات في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية
للأستاذ كوركيس عواد
تمهيد:
حينما يريد المؤرخ الأمين المنصف عرض أهم المصنفات المنقولة إلى العربية في عصرنا الحاضر، واستقصاء أنفس ما طبع منها، يجد في طليعتها (دائرة المعارف الإسلامية) التي اضطلع بترجمتها من أصولها الفرنجية لجنة عاملة، قوامها أربعة أساتذة وهبهم الله مزايا وخلالا حسنة كالصبر والمثابرة وبعد الهمة واستسهال الصعب
وإذا ما قيل (دائرة المعارف الإسلامية)، فذاك يعني مجموعة كبيرة من المباحث ادخرت كنوزا من العلم بشؤون البلدان العربية والإسلامية وبشعوبها وأديانها ولغاتها ورسومها ومشاهير رجالها وأهم أحداثها التاريخية وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. وبعبارة أخرى إن هذه الدائرة احتوت على كل ما يحسن الوقوف عليه في هذه المناحي الخطيرة الشأن، فهي وحدها خزانة شرقية حافلة تشيد لمؤلفيها - وهم أقطاب الاستشراق في هذا العصر - بالاطلاع الواسع على ما يتعلق بالشرق وبالبراعة في الجمع والتأليف والدقة في التبويب والتصنيف
ولا مراء أن الإقدام على ترجمة سفر كبير كهذا يكون محفوفا بصعاب لا يدرك مداها إلا من يعاني أمر الترجمة. وفي تذليل أغلب تلك العقبات ما يحملنا على الإقرار بفضل هؤلاء الأساتذة المترجمين والاعتراف بما أفرغوه من جهد محمود في إتقان عملهم والسير به إلى الأمام ما وسعهم ذلك
بيد إنه لترامي أطراف الموضوع وتشعب مناحيه لا مناص من أن يحصل هنا وهناك بعض الهفوات، أو تقع العين على ألفاظ مصحفة أو عبارات تفتقر إلى إيضاح أو تعقيب. وهذا كله لا يحط من قدر الترجمة ولا يغض من جهد المترجمين في شيء
وقد كنا وما زلنا نترقب صدور أجزاء هذه الدائرة الواحد تلو الآخر فنتلقفها ونطالعها بشوق. وكنا نعنى بوجه خاص بالمباحث العراقية المنشورة فيها، فنعلم على المواطن التي(635/14)
تحتاج إلى تأمل وإعادة نظر في ترجمتها. ولما اجتمع لدينا من هاتيك الملاحظات ما يؤلف مقالا رأينا أن نستأذن المترجمين الكرام في نشرها اليوم إظهارا للحقيقة التي هي رائد كل نفس كبيرة وإفادة لمن يملك نسخة من هذه الدائرة بترجمتها العربية
وقد صنفنا ملاحظاتنا هذه فجعلناها على أبواب خمسة وهي: أعلام الناس، الأمكنة والبقاع، الكتب والمراجع، الأعداد، الملاحظات المتفرقة. وسنسير في إيرادها وفقا لسياقة المجلدات والصحائف ومن الله التوفيق
أولا: أعلام الناس
ورد في 1: 81 ب15 معن بن صاعدة. وصوابه معن ابن زائدة
وفي 1: 827 البيروتي (بالتاء) وصوابه: البيروني (بالنون).
وهذا من أوهام الطبع
وقد تصحف اسم القس ميخائيل (الغزيري) اللبناني الماروني
(1710 - 1794م) غير مرة إلى (كازبري) (انظر مثلا 1:
1207؛ 1: 1526و 19؛ 1: 245 ب7) وذلك لأن اسمه
يكتب باللاتينية هكذا وللوقوف على ترجمة الغزيري نحيل
القارئ إلى مراجعة: الآداب العربية في القرن التاسع عشر
للأب لويس شيخو اليسوعي (1: 18)، وما كتبه الأب بولس
مسمد في مجلة المشرق (34 (1936) ص601 - 604).
وفي 1: 163ب25 أبرد يصان. والصواب: برديصان
وورد في السطرين الأخيرين من 1: 163 ب ما هذا نصه: (كان أبوه (أبو برديصان) يدعى نهامة وأمه تدعى نهشيران) والصواب: (كان أبوه يدعى نوحاما وأمه تدعى نحشيرام). ونوحاما لفظة إرمية معناها البعث والنشور(635/15)
وفي 1: 217 ب9 عطاء مالك الجويني. والصواب: عطاء ملك الجويني، على ما هو مشهور في المظان التاريخية
ومن الغريب أن اسم الإمام أبي منصور (الثعالبي) قد صحف
إلى (الثعلبي) في غير موطن (انظر مثلا 1: 223 ب19؛ 3:
4735؛ 3: 473 ب1)
وفي 1: 255 ب2 ذكر (سوش الرسى)، ولكن هذا الاسم ورد بصورة (سوسن الرسى) في معجم البلدان (1: 723 طبعة وستنفلد؛ مادة: بلغار).
ومن هذا القبيل تصحيف اسم صدر الدين محمد (الخجندي) إلى (الخوجندي) في 1: 291 ب24. والخجندي (بخاء معجمة مضمومة ثم جيم مفتوحة وسكون النون ودال مهملة) نسبة إلى خجندة، مدينة بما وراء النهر على شاطئ سيحون (راجع معجم البلدان وكتب الانساب).
وفي 1: 30722 ذكر (بني كشير). وصوابها (بني قشير)
راجع: أخبار النحويين البصريين للسيرافي (ص15 طبعة
كرنكو) ونزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري (ص7
من طبعة سنة 1294هـ).
وذكر في 1: 3111 عن أبي بكر بن سعد بن زلكي أتابك
فارس أنه من الأسرة (السلغورية). قلنا: الصواب أن تكتب
(السلغرية) (بحذف الواو) وهم على ما جاء في الكامل لابن
الأثير (10: 238 طبعة تورنبرج، حوادث سنة 495هـ)
قبيل من التركمان يقالى لهم سلغر.(635/16)
ومن الأعلام الشرقية التي أصابها التصحيف غير مرة (انظر
مثلا 1: 32419؛ 1: 324 ب2، 4: 573 و22 و27) هو
هرمزد (رسام) الموصلي، المتوفى سنة 1911، الذي نزح
إلى انكلترة وأحرز شهرة بعيدة بين علماء الآثار العراقية،
وألف تصانيف مختلفة بالإنكليزية (راجع ترجمته في تاريخ
الموصل لصائغ (2: 274 - 276). قلنا: هذا الرجل الذي
يكتب اسمه بالإنكليزية قد تصحف في الدائرة إلى (رسم)
وذلك في المواطن المشار إليها أعلاه.
وفي 1: 335 13 لابن حيان. وصوابه: لأبي حيان. وكأن
هذا من أغلاط الطبع.
وفي 1: 413 ب9؛ 1: 415 3 ديوان أبي نواس طبعة
آصف. والذي يرى على غلاف الطبعة المذكورة من الديوان:
آصاف
وقد وقع نظرنا في 1: 421 25 على اسم (مينوس). قلنا:
عرف اسم هذا العالم الرياضي اليوناني في المراجع العربية
القديمة بصورة (منالاؤس) أو (منالاوس) راجع: الفهرست
لابن النديم (ص267 طبع ليبسك أو ص374 طبع القاهرة)،(635/17)
وأخبار الحكماء للقفطي (ص321 طبع ليبسك) وتاريخ
مختصر الدول لابن العبري (ص64 طبعة صالحاني)، وكشف
الظنون عن أسامي الكتب والفنون للحاج خليفة) (1: 90 طبعة
ليبسك، أو 1: 134 طبعة استانبول الأولى، أو 1: 143 طبعة
استانبول الثانية).
وفي السطر الأخير من 1: 504 ب ورد اسم (البرازيلي) وصوابه: البرزالي. وغالب الظن إنه من أوهام الطبع.
وقد وجدنا طائفة من أسماء المؤلفين الفرنج قد أصابها التشويه
من ذلك (1: 530السطر الأخير) ريتر والصواب روتر.
وكذلك (1: 531 18) صوابه
ومن الأعلام الشرقية التي لم تسلم من التصحيف ما ذكر في
1: 548 5 باسم (جبرييل سيونيتا) وصوابه: جبرائيل
الصهيوني، وهو كاهن ماروني من قرية اهدن في لبنان. عاش
سنة 1577 - 1648م. وقد ترجمه الأب أغناطيوس طنوس،
في المشرق (38 (1940) ص253 - 304).
ونظيره في أبعاده عن اسمه الحقيقي (يوحنا الحصروني)
(نسبة إلى حصرون من قرى لبنان) المتوفى سنة 1632م، فقد
تصحف اسمه في الدائرة (1: 548 6) إلى (جون هسرونيتا).(635/18)
وفي 1: 571 16 - 18 وردت العبارة التالية: (كما إنه
حكمها (حكم مدينة إربل في العراق) ابان الساسانيين حكام
استطاعوا أن يستقلوا بحكمها في فترات متفاوتة، نذكر منهم
قردغ الذي اتخذ حصن ملقى القريب من إربل مقراً لهم).
قلنا: الصواب في (قردغ) أن يكتب (قرداغ) وهو أحد مشاهير شهداء المشرق في العهد الساساني، قتل سنة 359م. وللوقوف على ترجمته وأخباره يرجع إلى المؤلفات التالية: أعمال الشهداء والقديسين (بالإرمية 2: 442 - 506 طبعة بيجان في ليبسك)؛ وشهداء المشرق لأدى شير (1: 311 - 345)؛ وتاريخ كلدو واثور لأدى شير أيضاً (2: 87 - 88)؛ ويزداندوخت لصائغ (ص111 - 124، 193 - 202، 300 - 308) 138) و ' و 224 - 632 49)
وفي 1: 571 ب7 مظفر الدين قكبري. وهو تصحيف ظاهر. والمشهور في الكتب التاريخية: مظفر الدين كوكبوري فقد ضبطه إبن خلكان (وفيات الأعيان 1: 624 طبعة بولاق الأولى) بضم الكافين بينهما واو ساكنة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها راء، وقال إنه اسم تركي معناه بالعربي ذئب أزرق. ولم ينفرد إبن خلكان بهذا الضبط، بل تابعه فيه غير واحد من المؤرخين، راجع في ذلك: تاريخ أبي الفداء (4: 398 طبعة ريسكي، أو 3: 153 طبعة الحسينية بالقاهرة) والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردى (5: 378 و6: 282 طبعة دار الكتب المصرية)، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي (5: 138).
على أن هذا الاسم ورد في بعض المراجع الأخرى بحذف واوه الثانية، فقيل (كوكبري). راجع: فهارس الكامل لابن الأثير وتاريخ مختصر الدول لابن العبري (ص404) والحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة لابن الفوطي (ص44 طبعة الدكتور مصطفى جواد)، والبداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (13: 136) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (1: 247 طبعة الدكتور محمد مصطفى زيادة).(635/19)
وقد قرأنا في 1: 753 10 - 15 ما هذا نصه: (وهناك
مصنف يتعرض لأهمية إربل في تاريخ بلاد الشام (كذا)
الديني قبل الإسلام، صنفه كنسي من أسقفية إربل، ونشره
في ج1، ليبسك 1908 ودرسه ساخو في ص1915
رقم 6) انتهى.
قلنا: في هذه الأسطر المنقولة أمور تحتاج إلى تعديل أو إيضاح.
فلفظة (بلاد الشام) لا معنى لها ها هنا، وهي في الأصل الفرنسي وهي على ما يبدو لنا مصحفة عن ' أي بلاد آثور، فهو مطابق للمطلب.
أما هذا الرجل (الكنسي) الذي صنف الكتاب المشار إليه، فقد ذهب ناشره إلى إنه (مشيحا زخا) النسطوري، ولكن بعض الباحثين من المستشرقين شكوا في صحة أدلته فلم يوافقوه على رأيه.
وأما (منجانا) فمحرف أيضاً. واسمه الصحيح القس (ثم الدكتور) ألفونس (منكنا)، وهو امرؤ عراقي ولد في قرية شرانش من أعمال الموصل في شمالي العراق، وبعد أن أنهى دروسه في الموصل وعاش فيها مدة، نزح إلى انكلترة فلبث هنالك حتى توفى سنة 1937.
والمصنف التاريخي المشار إليه لم ينشر في ليبسك كما ورد في الدائرة، إنما نشر (بنصه الإرمي منقولا إلى الفرنسية) في مطبعة الدومنكان بالموصل وأمره مشهور. كما أن سخو لم يدرس هذا الكتاب فحسب؛ بل نقله أيضاً إلى الألمانية بعنوان أما الرقم 1915 المذكور في الفقرة المنقولة أعلاه، فلا يدل على الصفحة، إنما يدل على سنة طبع تلك الترجمة الألمانية.
(يتبع)
كوركيس عواد(635/20)
في بيتي. . .
أحدث كتب العقاد
للأستاذ عبده حسن الزيات المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فإذا سأله صاحبه وهو يحاوره - وأكبر ظني أن هذا الصاحب ليس إلا العقاد نفسه أو شخصية اختلقها من خلقه على غرار ذاته -: (وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟) انفلت من هذا المأزق بقوله: (هذا سؤال غير يسير، لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانباً واحداً من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم الصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟) فإذا حلق عليه مجادله بهذا السؤال المحير الخالد: (أليس عجزا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟ أليس عيباً أن نقصر عن الكمال وفي الوسع أن يبلغ الكمال؟) لاذ المؤلف بإجابة صوفية (كلامية) فقال: (وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول) ولكن صاحبه يضيق ذرعاً ويثور ثورة الإنسان في ضعف إنسانيته: (قل ما شئت، فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الرحمة وآيات الخلود الرحيم). فيطامن المؤلف من ثورته ويسكب عليها شآبيب الهدوء: (إن هذا لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات، وهي القياس كل القياس لما كان وما يكون. لكن إذا كانت حياة الفرد عرضا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد - فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام. . . يا صاحبي هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، فإذا لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تحزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه وما يبديه وما يخفيه. ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم إنه منكر لأنه مجهول لديك)(635/21)
وعلى هذا النحو الصعب الذي يثير ملكات التفكير والنقد يقطع السائح أكثر رحلته وراء (ريس) معتز بقدرته، واثق من نفسه، يأبى إلا أن يقتحم قلل الصخور اقتحاماً، ولو كانت عنها ندحه من طريق سواء وسط ريح رخاء. على هذا النحو يعرض لفلسفة النسك، ويعترض للماركسية ودعوتها العلمية، ويعرض للنازية والفاشية والشيوعية، ثم يضرب بسهم واحد هذه الفلسفة الماركسية وهذا المذهب الشيوعي حين يقول: (فإن كان للنبوءات الماركسية فضل بعد هذا في ثورة الروس، فذلك هو الفضل المعكوس، لأن المؤمنين بها حاولوا تطبيقها كما آمنوا بها، فضيعوا عشرين سنة في هذه التجارب المخيبة، وضاعت معها ملايين الأرواح التي فنيت بالسلاح أو فنيت بالقحط والوباء، ثم آل بهم الأمر إلى إقرار ما أنكروه وحاربوه وقتلوا الملايين من أجله، وهو اقتناء الملك وإيداع المال في المصارف وتوريث الأبناء وإباحة الفروق في المعاش وإعلان العصبية الوطنية)
ولا يلهيه هذا عن التنديد بالجشع الذي يمتلك بعض الرأسماليين وينتهي إلى التبشير بالتعاون ترياقاً وحيداً، وهو (التعاون بين الأمم كبارها وصغارها، والتعاون بين الطبقات غنيها وفقيرها، والتعاون بين السلطات والتعاون بين الأفراد). ومن قبل رأينا العميد (ديجي) يعتنق مذهب التضامن الاجتماعي ويتخذه أساساً لكل تشريع، ولا يرى للفرد إلا حقاً واحداً، هو أن يمكن من أداء واجبه في تحقيق هذا التضامن
وبمثل هذا الدرس والتقصي يعالج العقاد مذاهب التصوير، ويتناول الإحساسيين باللوم المرير، وهذا إن لم تخني الذاكرة رأي له قديم سبق أن أبداه منذ نحو خمس عشرة عاماً في بعض (ساعاته بين الكتب) أو (مطالعاته)
- 2 -
وثانية الملاحظات التي أحب أن أدونها أني شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب شعورا قويا بأن العقاد محام من الطراز الأول لمحامي المذكرات المتفوقين؛ وقوته في المحاجة، ومصارعة الخصم تظهر على أتمها في القضايا الصعبة حين يكون مركزه أضعف المركزين، أو حين تكون النقطة التي يدافع عنها دقيقة مفتقرة إلى مجهود جبار في التجلية والبيان. إنه لم يحتج إلى عناء كثير لكي ينتصر على الدعوة الماركسية والمذهب الشيوعي، ولا احتاج إلى عناء كبير لكي يبرهن على الفشل الختامي للطريقة التي اتبعتها النازية والفاشية لحل(635/22)
أزمة البطالة بإنشاء طوفان من صناعات الحرب، ولكنه كان محتاجا إلى قوته الجدلية (فوق العادية) في مواقف أخرى كموقفه من أسئلة صاحبه المحرجة عما وراء الطبيعة وسر الوجود، وموقفه في الدفاع عن البومة المسكينة التي ظفر لها لأول مرة في التاريخ بحكم البراءة من تهمة النحس اللاصقة بها على الأجيال، وموقفه إزاء اعتراض صاحبه حين استمع إلى المفاضلة بين جمال الدين ومحمد عبده: قال العقاد إن الأول أعظم أثرا وإن الثاني أعظم نفسا. فسأله صاحبه بم، فأجاب (بالإيثار) فقال دهشا: (ومحمد عبده الذي تسنم المناصب ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثاراً من جمال الدين؟) إن الاعتراض قد أصاب المحز وظن القارئ أن المحامي قد أسقط في يده، ولكن المحامي القدير مستعد بالجواب: (قلت: قد تكون العزوبة مزيداً من الاعتداد بالشخصية، وقد تكون الأبوة مزيدا من الإيثار)
- 3 -
وإذا كنت قد أحسست في بعض المواضع أني أمام محام قدير فإني قد أحسست في مواضع أخرى أني أمام قريحة فقهية متمكنة، فإن من خير مزايا الفقيه أن يميز بين المتشابهات، فلا تنبهم عليه الأمور حين تتشاكل. هذا الإحساس الدقيق بالفروق الناعمة ثم هذه القدرة الجبارة في تجلية الفروق و (تجنيب) كل مشتبه على حدة، هما أمران يطالعاننا في مواضع كثيرة من الكتاب وحسبي أن أسوق أمثلة وأشير إلى أخرى: اسمع إليه حين ينحى صاحبه باللائمة على الموسيقى الشرقية لأنها لا تصور المعاني ويندفع إلى حيث يقول: (إنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين). فيجيبه العقاد: (لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة. فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بتهوفن وأمثاله. ولعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى منهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة ولا نقسمها إلى إقليمين جغرافيين بين أناس في الشرق، وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال، وأناس في الجنوب).
ثم استمع إليه بين فضل عظماء الموسيقى إلى جوار عظماء السياسة والاجتماع: (لا(635/23)
تحسبنه حتما لزاماً أن يكون زعماء الاجتماع والسياسة أعظم من زعماء الفنون، لأن المعول على الكفاءة اللازمة للعبقرية لا على أثرها في مواطن الجاه والسلطان، وليست حاجة الناس إلى الشيء هي مقياس العظمة فيه لأن الناس يحتاجون إلى مقابل القمح ويستغنون عن اللؤلؤ والزمرد).
ثم تأمل حواره مع صاحبه في دلالة المطبخ على الأخلاق والتمييز بين (المطبخ الذي يستخدم للغذاء والذي يستخدم للذة الطعام) وتأمل تحديده لكنه التعصب الوطني المقبول من الفنان وتمييزه بين التشاؤم الباني والتشاؤم السلبي الهدام.
- 4 -
ومما يأخذ نظر القارئ لهذا الكتاب وفرة الصور المادية التركيبية التي يستغلها المؤلف للإيضاح والإقناع كقوله: (أليس الذين يتعجلون النعم، فيخيل إليهم أن ازدحامها خير من تفرقها وأجمع لمحاسنها يخطئون كما يخطئ الذين يتعجلون النغم فيحسبون أن مائة لحن في وقت واحد خير من اللحم الفرد وأوفى؟ شيء واحد في وقت واحد، وجميع الأشياء في جميع الأوقات، وهذا هو نظام العيش وقوام الجمال في كل نفع وكل سرور).
ومن هذا القبيل قوله في معرض الفصل بين عبقرية كاتب القصة أو (الرواية) على حد تعبيره المستحدث وبين مقدار محصوله في الرواية: (إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه).
ونشير إلى مثل ثالث دون أن نقتبسه وهو مثل القطار المندفع إلى هاوية يصلها بعد زمن محسوب. وقد مثل بهذه الصورة للنتيجة الحتمية التي زعمها المذهب الماركسي، ولكن في هذا المثل تهكما عقادياً لاذعاً وسخرية قاتلة تقابلها مرة أخرى في هذا الحوار الخيالي البديع الذي افترض الكاتب وقوعه بين خريستوف كولمبوس، وبين موظف المكتب الشيوعي حين يستأذنه في الخروج لرحلة الكشف.
- 5 -(635/24)
ولكني أتأمل فيما كتبت فلا أجد إلا مدحا وتقريظا. ولقد عرف قاسم أمين قضاة حكموا ظلما ليشتهروا بين الناس بالعدل فإن ركبت شيئا من الحيف فليس طلبا لسمعة العدل وإنما هروبا من تهمة المحاباة. فلتدقق إذن عين النقد لعلها أن تظفر ببعض اللقى:
أ - لقد عرض المؤلف لقدرة الأمم على العمل والقول وقرر بحق إنه (لا تناقض بين القدرتين) ثم أرسلها قضية عامة حاسمة فقال: (انه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول) فهل النسبة محفوظة دائما بين القوتين؟ ولقد ضرب الأستاذ مثلا من أمة الإنجليز فقال إنهم في العصور الحديثة أطبع الأمم على مراس الواقع والعناية بالفكر العملي والخلائق العملية) ومع ذلك (فليس هناك أمة من جيرانهم ومنافسيهم سبقتهم في مضمار الشعر، وأنجبت نصف من أنجبوه من عباقرة الشعراء).
ولا اعتراض لي على هذا المثل ولكن ما الرأي في أمة اليابان؟ أترى عندها من (منتجات القول) ما يتكافأ وما عندها من منتجات العمل؟ وإذا وازنا بينها وبين الصين والهند من هذه الناحية فهل نصل إلى حل يعزز الأمثلة التي أوردها الأستاذ؟
ب - وأمر آخر: لقد سبق إيراد المفاضلة بين الأفغاني ومحمد عبده، ولكن المؤلف لم يقم الحجة في كتابه على هذا الترجيح أي ترجيح الثاني من جهة العظمة النفسية، وحين سبق إلى المؤلف اعتراض صاحبه الوجيه تخلص منه مجرد تخلص بارع ولكنه لم يهدم قوة الاعتراض. وأنا أعلم أن الرحلة سريعة وان حيز الكتاب ضيق، وأن الأستاذ المؤلف يود أن يخرج كتابا مطولا عن محمد عبده، - ولكني أرى بالرغم من ذلك كله أن واجب الإنصاف لشخص جمال الدين كان يقتضي المؤلف الإدلاء بحجته ما دام قد عرض للأمر وأدلى فيه بحكم.
ولم يفضل المؤلف محمد عبده من هذه الناحية على الأفغاني فقط، ولكنه فضله كذلك على سعد زغلول. وإني لأحس في دخولي بين سعد والعقاد فضولا فحسب؛ والعقاد كتابه الخالد عن سعد، ولكني مع ذلك ظللت من الوجهة العلمية جاهلا بحيثيات الحكم فغير مسلم به. هل يكتب لهذا الاعتراض أن يكون استحثاثا للأستاذ الكبير أن يسرع في إخراج كتابه عن الأستاذ الإمام فنقرأ فيه بيان هذا التفضيل؟
ج - وعرض الأستاذ للتفسير السيكولوجي لمؤيدي الشيوعية فرد تأييدهم إلى الحسد والحقد(635/25)
وفسر بذلك أن (يكون فلان من الشيوعيين وهو سليل بيت قديم وصاحب مال موفور فإنه يحسد أمثاله وينقم على الدنيا لأنه لا يحسب فيهم حين يحسب ذوو الكلمة أو ذوو الرأي أو ذوو المنصب والجاه) - وهذه نظرة صائبة دقيقة ولكنها لا تفسر لنا شيوعية بعض الناجحين الذين طالوا من المجد والمال وبعد الصوت والنفوذ وما يحسدهم عليه أناس أجدر منهم، ثم لا يكون الحاسد شيوعيا، ويكون المحسودون شيوعيين. وأغلب الظن أن هؤلاء يتاجرون ليصبحوا أدنى إلى أفئدة الجماهير ومهوى قلوب وأصوات الجماعات فهي نزعة ديماجوجية يراد بها مزيد من الشهرة وفضل جديد من السلطان.
د - وقد سبق إيراد المثل الخاص بسنابل القمح واللؤلؤ ولكن نفاسة اللؤلؤ ليست نفاسة ذاتية وإنما هي نفاسة نسبية وعرضية مردها الندرة؛ فلو أصبح اللؤلؤ في كثرة السنابل فما أظنه يحتفظ بنفاسته الحالية، ولو أصبحت السنابل في ندرة اللؤلؤ لجاز أن تظفر بمثل نفاسته.
هـ - ونعى على القصص والروايات قلة محصولها مع كثرة أداتها، ومثل ببعض الصور الرائعة التي تضمنها بيت واحد من الشعر (وأن خمسين صفحة من القصة لا تعطينا مثل محصوله).
وليس لي ما ألاحظه في هذا الشأن إلا إنه غير منطبق على نوع خاص من الأقاصيص يضخم مغزاه ويكثر محصوله في حين أن أداته قصيرة قليلة كخرافات (إيزوب) و (لافونتين).
ووهذا الانتقاد الختامي لا أعرف إلى من أتوجه به، فإن الأخطاء المطبعية كثيرة وقد أصبحت كالبقعة وسط هذا الكتاب القيم النفيس ووسط هذا الورق الأنيق؛ لقد أحصيت بين صفحتي 90 و132 نحوا من اثنتي عشرة غلطة، وليس هذا نقصا كبيرا ولكنه نقص في حق القادرين على التمام.
عبده حسن الزيات المحامي(635/26)
القصة عند العقاد
للأستاذ نجيب محفوظ
الفن - أيا كان لونه وأيا كانت أداته - تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى، ففي عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقى سيد لا يدانى وهكذا، فالفنون جميعا تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة كل بحسب مجاله، وهي في مجموعتها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية، حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون، لا يكدر صفوهم مكدر، إلا أن يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة، فيرمي بحيرتها الساجية بحجر ثقيل يطين رائقها، ويبعث الثورة في أطرافها. فيقول: إن هذا اللون من الفن وذاك منحط، هذا عزيز وذاك مبتذل، يقول هذا وهو أعلم الناس بالفنون، وأحبهم لها. وأحقهم بأن يعرف لكل قدره ومنزلته. ولن يفيد الفن شيئا من تحقيره لبعض أنواعه. إلا أن يغضب قوما أبرياء يحبون الحق كما يحبه ويولعون بالجمال كما يولع به، ويبذلون في سبيل التعبير عنه كل ما في طاقتهم من قدرة وحب. وعسى أن يقول قائل: إن العقاد ما قصد التحقير، ولكنه مفكر وله الحق كل الحق أن يرتب الفنون عامة أو فنون الأدب خاصة كيفما يرى. وهذا حق في ذاته، ولكني في هذه القضية رأيت العقاد الخصوم يتغلب على العقاد الناقد. انظر إليه وقد لاحظ حواريه (في بيتي العقاد) صغر نصيب القصص من مكتبته فأجابه قائلا: (. . . لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول). فالرجل الذي لا يقرأ قصة حيث يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذي يقضي في قضية القصة. والرجل الذي يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغي أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه في حكم يتصل بها. بل إنه يفضل النقد - لا الشعر والنثر الفني وحسب - على القصة. والمعروف أن النقد ميزان لتقويم الفنون، فكيف يفضل على أحدهما؟! وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان كارها وعليها حاقدا؟! فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد وفلسفة. بيد أني أريد أن أتناسى ذلك، وأريد أن أنظر نقده بعين مجردة، لأن لكلام العقاد قيمة خاصة عندي، ولو كان مصدره المزاج والهوى(635/27)
قال العقاد لصاحبه وهو يحاوره: (. . إنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهي الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون. . . ما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ بعدت ... عني الطلول تلفت القلب
إلى أن قال: (أما مقياس الطبقة. . . فلا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من الفنون الخ)
هذان هما المقياسان اللذان قضى بينهما العقاد على القصة بالهوان وما هي القصة؟ هي سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية، هي الفن الذي جذب إليه أكبر عبقريات الأدب في جميع الدنيا المتحضرة المثقفة. فما حقيقة هذين المقياسين؟
أما عن الأداة والمحصول، فالحق أنهما شيء واحد في كل فن رفيع، ففي الشعر الجيد كما في القصة الجيدة تتحد الأداة والمحصول، وهذا يتفق ومعنى البلاغة الذي يقول فيه الزيات: (إنها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق ولا بين الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل). ذلك المعنى الذي أعجب به العقاد أيما إعجاب (الرسالة رقم 631). ففي الفن الجيد - قصة كان أو شعرا - ينمحي التنافر بين الأداة والمحصول، فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما قد يعتوران القصة، ولكنه ليس صفة ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب، فهذا المقياس نافع للتمييز بين الجيد والرديء من آيات الفن الواحد، لا للموازنة بين الفنون المختلفة، لأن كل فن في ذاته يشترط الانسجام الكلي بين أداته ومحصوله. إذا كيف يرى العقاد كثرة الأداة وقلة المحصول صفة ملازمة للقصة؟! لا أجد لذلك تفسيرا إلا إذا كان العقاد يعد التفاصيل في القصة زيادة في الأداة، وإلا إذا كان يعتبر القصة عملا أدبيا مطولا ذا مغزى يمكن تلخيصه في بيت واحد من الشعر. وهذا تفسير عجيب إن صح. فالقصة لا ترمي لمغزى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كل فصل منها يمثل جزءا من الصورة العامة، وكل عبارة تعين على رسم جزء من هذا الجزء، فكل كلمة وكل حركة(635/28)
تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية، وكل جملة - في القصة الجيدة - تقرأ وتستعاد قراءتها ولا يغني عنها شيء من شعر أو نثر. ولا تحسين التفاصيل في القصة مجرد ملء فراغ، ولكنها ميزة الرواية حقا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة. وهي لم توجد اعتباطا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمي العام، فالعلم هو الذي وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل، بعد أن ركزته الفلسفة طويلا في الكليات. اكتشف العلم لكل جزء من أجزاء المادة - حتى الذرة - حياة وأهمية، وبدت آثار هذه النزعة العلمية في عالم الآداب في عناية الرواية بالتفاصيل، لم يعد الأدب يكتفي بتحضير الأقراص المركزة، وأدرك أن التفاته أو فلتة لسانية أو حال إنسان وهو يتناول طعامه، كل أولئك أمور لها دلالتها النفسية وتعبيرها الصادق عن الحياة. ومن عجب حقا أن العقاد يعلم ذلك كله، وأنا أذكر أنه كتب مرة - لا أدري متى ولا أين - عن توماس مان، فاشار إلى تفاصيله الدقيقة في رواياته وبراعتها في الدلالة والتأثير، فكيف يساوي بيت من الشعر خمسين صفحة من قصة؟ بل هل نغالي إذا قلنا إن صفحة من قصة تحتاج لعشرات البيوت من الشعر لتحيط بدقائقها وجمالها؟! خذ مثلا هذا البيت من الشعر الذي استشهد به العقاد (وتلفتت عيني. . .) ولنفرض أننا نريد أن نستوحيه أقصوصة، فماذا نصنع؟ أما الشاعر فقد تصور المعنى وليس هو بالبعيد المنال وصبه في هذا القالب الجميل. أما القاص فينبغي أن يتصور إلى ذلك ذكرا وأنثى، ويتخيل لكل منهما نموذجا بشريا خاصا، وعليه أن يصور زمانا ومكانا، وموقف وداع، تارة محسوس تلتفت فيه الأعين، وتارة معنوي يتلفت فيه القلب. فليس هذا العرض هو نفس البيت ولا أكثر، ولكن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الشجرة النامية ذات الزهر والثمر والبذرة الضئيلة، لقد رمى بعض المتعصبين للأجناس العرب بضعف الخيال والعجز عن الإبداع والتحليل والتفصيل والاكتفاء بتصور المعاني وتركيزها، فهل يريد العقاد أن يؤيد هذه الأقوال الجائرة؟! والواقع أن الإبداع الفني لا يتمثل في عمل أدبي كما يتمثل في أدب القصة. ولذلك اتخذ أغلب السفر الخالد صورة من صور القصة كالملحمة والتمثيلية. هذا بعض ما يقال في المقياس الأول
وأما المقياس الثاني، فهو مقياس الطبقة، يريد العقاد أن يقول: إن القصة تنتشر في طبقة لا يتنازل إليها الشعر، وإذا فالشعر أرقى من القصة. وهذا قول وجيه من الظاهر! ولكنه لا(635/29)
ينطوي على شيء خطير، فمجرد انتشار فن في طبقة لا يدل على شيء ما لم يبحث أسباب انتشاره. فالموسيقى تنتشر في جميع الطبقات حتى بين الأميين، فهل يقال إن النحت مثلا أرقى منها لأنه لا يكاد يتذوقه إلا رواد المتاحف؟! ثم ما هي القصة المنتشرة حقا؟ أليست هي قصة الجريمة والمخاطرة والغرام المبتذل؟ وكل أولئك ليس من القصة الفنية في شيء. القصة الفنية - كما يعلم الدارسون لهذا الفن - حكاية تروى كالقصة المبتذلة، إلا إنه يشترط فيها أن تعرض في ثنايا روايتها قيمة إنسانية أو أكثر كتصوير الشخوص وتحليل النفس والشاعرية والفكاهة والمعاني الفلسفية والآراء الاجتماعية، بل من القاصين المحدثين من يستهين بالحكاية ويقنع بالقيم، فإذا خلت القصة من هذه القيم، فهي حكاية وليست قصة فنية، ولا يجوز لمنصف أن يحكم بها على هذا الفن وإلا جاز لنا أن نحكم على الشعر ببعض الأزجال الجنسية التي يحفظها العوام.
أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئة فيها أم لحسنة؟ إن الخاصة التي تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرا فطه والمازني والحكيم وايزنهاور يقرءونها بغير اضطرار. ولئن انتشرت القصة في طبقات أخرى فما ذلك لسيئة بها ولكن لحسنتين معروفتين: سهولة العرض والتشويق. فانتشار القصة الجيدة بين قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده إلى أن القصة في ظاهرها حكاية تروى يستطيع أن يستمتع بها القارئ العادي لسهولتها وتشويقها، وليس بالسهولة من عيب يجرح الذوق السليم، ولا بالتشويق من انحطاط يؤذي الفهم الرفيع وهي بعد ذلك تحوي قيما إنسانية كالشعر الرفيع يتذوق كل قارئ منها على قدر استعداده. وحسب القصة فخرا أنها يسرت الممتنع من عزيز الفن للإفهام جميعها، وأنها جذبت لسماء الجمال قوما لم يستطع الشعر على قدمه ورسوخ قدمه رفعهم إليها، فهل يكره العقاد ذلك أو إنه يحب كأجداده كهنة طيبة أن يبقى فنه سرا مغلقا إلا على أمثاله من العباقرة!!
ولعله توجد أسباب أخرى تفسر لنا انتشار القصة هذا الانتشار الذي جعل لها السيادة المطلقة على جميع الفنون الجميلة، ولعل أهم هذه الأسباب ما يعرف بروح العصر. لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث(635/30)
بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار فليس ذلك لأنه أرقى من الزمن ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة. وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره وهو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها. لذلك توجد قصة عاطفية، وقصة شعرية، وقصة تحليلية، وقصة فلسفية، وقصة علمية، وقصة سياسية، وقصة اجتماعية، ولعل الشمول في التعبير يكون مقياسا أصدق من المقياسين اللذين يقترحهما الأستاذ الكبير، ودلالته واضحة في أن القصة أبرع فنون الأدب التي خلقها خيال الإنسان المبدع في جميع العصور.
نجيب محفوظ(635/31)
الشرق كما يراه الغرب
2 - الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
قلنا إن المولد في أصله احتفال ديني بعيد أحد الأولياء. . . ولا تزال الموالد حتى الآن - على الرغم مما طرأ عليها من التغير وما داخلها من عناصر اللهو - تحتفظ بالكثير من الملامح الدينية التي تتمثل على الخصوص في شدة إقبال الناس على ضريح الولي صاحب الاحتفال للتبرك به والطواف حوله واتخاذ ذلك وسيلة للتزلف والتقرب إلى الله. . . ومن الناس من ينتبذ من المسجد جانبا يخلو فيه لنفسه، يرتل القرآن، أو يتوجه بالدعاء إلى الله؛ ومنهم من يشترك بحلقات الذكر التي تقام كل ليلة من ليالي المولد في المسجد؛ ومنهم من يتخذ الإحسان وسيلته إلى الله. والموالد سوق رائجة للإحسان يدلى فيها كل محسن محب للخير بدلوه حسب قدرته وطاقته؛ فأغنياء الحي الذي يقع فيه ضريح الولي ينحرون الذبائح ويولمون الولائم ويوزعون الطعام والملابس والصدقات على الفقراء والمعوزين - وما أكثرهم في مصر!. . ومن هم دون ذلك قدرة وثراء من أوساط الناس يسلكون سبلا غريبة للإحسان؛ فبعضهم يشتري قربة ماء ليسقي الناس، أو يشتري (دورقا) من التمر الهندي أو العرقسوس، أو (الدندرمة) يوزعها عليهم، وهم يبتغون من ذلك رضا الولي ومرضاة الله.
ومن الطرق الغريبة التي يلجأ إليها الناس في مصر للاحتفال بالموالد أن الحلاقين - مثلا - يتبرعون بإجراء عملية الختان لأطفال الحي الفقراء بالمجان أو بأجر زهيد جدا لا يتجاوز بضعة قروش. ويعلق كل (حلاق) من هؤلاء لوحة كبيرة على واجهة حانوته كتب عليها (الطهارة للفقراء مجانا)، والى جانبها يعلق صورة تمثله وهو يختن أحد الأطفال، ويزين الحلاقون لهذه المناسبة حوانيتهم بالمصابيح الكهربائية الملونة والأعلام الزاهية لكي يجذبوا إليهم أنظار الناس. ويذهب بعض الحلاقين إلى أبعد من ذلك، إذ يعدون لأنفسهم حوانيت متنقلة ينتقلون بها من مولد لآخر، بل ومن بلدة لأخرى، لكل من يتقدم من الفقراء.
ومن الظاهرات الشعبية ذات اللون الدينية الخطابة الدينية في الشوارع. فكثيرا ما يقوم بعض المشايخ من رجال الدين، أو حتى بعض المتحمسين من عامة الشعب فيخطبون الناس على قارعة الطريق، يحثونهم على الفضيلة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن(635/32)
المنكر. وهم في ذلك يصدرون عن قوة إيمانهم وشدة غيرتهم على الدين. ومن هنا كانت خطبهم تأتي في أغلب الأحيان قوية حارة عنيفة صادرة عن القلب وتجد طريقها إلى قلوب السامعين في غير مشقة ولا عسر. ويخص ما كفرسون بالذكر شيخا أعمى يدعى الحاج حسين له مقدرة خطابية فائقة وقدرة عظيمة على اجتذاب الناس إليه. ويذكر ماكفرسون إنه شاهده مرة في مولد السلطان الحنفي يخطب الناس والمطر ينصب من فوقهم أنصبابا، والشيخ مع ذلك ماض في خطابته لا يتريث ولا يتوقف، والناس منصتون إليه لا يفكرون في الانفضاض من حوله.
ومن هذه الظاهرات أيضاً إقبال الناس على اقتناء الأحجية والطلاسم والرقي ابتغاء التبرك ودفع الشر والأذى. والدراويش هم الذين يقومون بكتابة هذه الأحجية لمن يطلبها من أفراد الناس. ويشهد ماكفرسون بأن الدراويش يقومون بذلك العمل رغبة منهم في فعل الخير فحسب؛ فهم لا يتخذون من غفلة الناس وسذاجتهم وسيلة لجمع المال، إذ أن كثيرين منهم يرفضون أن يأخذوا أجرا على ما يكتبون، والبعض الآخر لا يتناولون إلا أجرا قليلا تافها؛ ومنهم من يقنع بكتابة عدد معين من الأحجية لا يتعداه بأي حال ومهما اشتد عليه الإقبال.
ولكن كل هذه الظاهرات، على جلال معناها الديني - ليست هي الظاهرة المميزة للموالد؛ إنما الظاهرة الأساسية التي تمتاز بها الموالد هي سلسلة الحفلات الدينية التي يقوم بها كل ليلة من ليالي المولد جماعة الصوفية والدراويش. وهذه الحفلات يشرف عليها أحد مشايخ الطرق؛ ويكون في الغالب من نسل الولي نفسه. وقد يكون أحد تلاميذه الروحيين؛ فإن تعذر ذلك عهدت الحكومة بهذه المهمة إلى أحد كبار العلماء.
ونظام الدراويش نظام قديم من نظم الصوفية كان موجودا في أيام أبي بكر صهر الرسول (ص)؛ فهو بعيد كل البعد عما يلحقه الناس إليه من ضروب الشعوذة وفنون الدجل. ونظام الدراويش نظام متماسك له تعاليم متوارثة؛ لأن الدرويش لا يصبح درويشا حتى يمر بمراحل معينة؛ فهو يكون في الأصل طالب ثم يرتقي إلى درجة أعلى فيصبح مريدا يتلقى العلم الروحي على يد مرشد يلقنه الأوراد والأذكار حتى يحصلها جميعا فيسلمه (سندا بسلسلة) والسند عند الصوفية بمثابة شهادة تشهد بأن السلسلة (وهي رمز التسلسل الروحي الذي يربطالدراويش بمؤسس الطريقة ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام) وحدة لا تنقطع -(635/33)
ولكن مع أن نظام الدراويش يرجع إلى أيام الإسلام الأولى، فإن تنظيمهم ذلك التنظيم الرائع الذي ظلت عليه طول هذه القرون، يرجع الفضل فيه إلى سيدي عبد القادر الكيلاني (من رجال القرن السادس الهجري). ومن هنا كانت الطريقة القادرية هي الطريقة الأصلية، وعنها تفرعت طريقتان رئيسيتان هما السعدية والرفاعية. ويشتهر رجال الطريقة الأخيرة بوسيلتهم الغريبة في التغلب على الآلام وقهرها، إذ يمشون على النار ويلتهمون الجمر ويأكلون الزجاج ويبتلعون الحيوانات السامة وما إلى ذلك دون أن يصيبهم أدنى ضرر أو أذى.
فهذه الطرق الصوفية وغيرها (وفي مصر حوالي مائة طريقة) هي التي تحتفل في الواقع بالموالد احتفالا دينيا له صبغته الخاصة، وهي التي تضفي على الموالد ثوبا رائعا مميزا. ففي كل ليلة من ليالي المولد تتوجه بعض هذه الطرق إلى المسجد فتعقد حلقات الذكر والإنشاد حتى ينقضي شطر كبير من الليل؛ ويستمر ذلك طيلة المدة المرخص بها للاحتفال - وهي أسبوع في العادة - حتى تأتي الليلة الأخيرة - أو ليلة الخاتمة - وهي الليلة التي يفترض أنها ليلة ميلاد الولي، فتتجمع الطرق الصوفية كلها في إحدى الساحات أو الميادين ثم تنتظم على شكل (زفة) يتقدمها رجال البوليس وفرق الموسيقى، وينتظم فيها (أولاد أبو الغيط) وهم يرقصون رقصاتهم الجميلة، والدراويش بملابسهم الملونة الزاهية (وطراطيرهم) الخضراء، كما يسير فيها أيضاً بعض الحواة والمشعوذين. . . وتتقدم كل طريقة البيارق (جمع بيرق) التي تدل عليها، وقد نقش عليها أسماء النبي (ص) والخلفاء الراشدين، أو اسم الطريقة واسم مؤسسها والطرق الصغيرة المتفرعة عنها، وتسير الزفة - وقد توسطها الخليفة - متجهة نحو ضريح الولي في ضجة كبيرة تختلط فيها أنغام الموسيقى بقرعات دفوف الصوفية وأصوات (الكاسات) و (النقارات) بنغمات الأرغول و (الزمارة) وغير ذلك من الآلات الموسيقية التي يستخدمها الصوفية والدراويش. ويتوقف موكب الزفة من أن لآخر في الطريق كي يتسنى للناس في المنازل التفرج والمشاهدة؛ وبعد لأي تصل (الزفة) إلى المسجد. . . وهكذا يختتم المولد وتنتهي لياليه، ويصبح الصباح فإذا الزينات ومعالم الأفراح قد زالت وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. آخر زيادة على على المدة المصرح بها رسميا؛ ويذكر ماكفرسون إنه كان يعجب أشد العجب ويتساءل(635/34)
عن الداعي لذلك، وهل هو شدة حب الناس وتعلقهم بأوليائهم، إلى أن جاءه الجواب أخيرا بعد انتهاء مولد السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق. . . يقول ماكفرسون (ولدهشتي البالغة سمعت شيخا يقف إلى جانب ضريحها (ضريح السيدة فاطمة) وهو يقول: إننا نحتفل بأسبوع الطفل بعد سبعة أيام من مولده، فلم لا نحتفل بأسبوع هذه السيدة الجليلة أيضاً؟ فلم أتمالك من أن أغمغم وراءه بصوت خفيض: نعم لم لا يكون ذلك).
(يتبع)
أحمد أبو زيد(635/35)
الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة الشعر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كان الشعر الحجازي قد أصابه الركود كما أصاب غيره في الأقطار الأخرى، وقنع شعراؤه بتقليد ضعاف الشعراء في عصور الاضمحلال الأدبي؛ فوقفت المحسنات البديعية في طريق تجويدهم وإبداعهم، وأضاعوا وقتهم واستنفذوا مجهودهم في التشطير والتخميس، وظل الشعر على هذه الحال حتى عزته ثورة التجديد فتخلص من هذه القيود التي كبلته الزمان الطويل، وقد وصف الأستاذ أحمد العربي حال الشعر الحجازي قبل نهضته فقال: (لم يكن الأدب الحجازي سوى بضع منظومات وكتابات سقيمة المعنى واهية السبك ملتوية الأسلوب يدور أكثرها في نطاق ضيق من المديح السخيف والغزل والتشطير والتخميس على نمط ليس له من مبرر سوى ذلك العقم الأدبي الذي منيت به الأفكار في تلك الحقبة المشؤومة، وإلا فأي إنتاج ينتجه أولئك الذين يتناولون بيتين أو أكثر من الشعر بالتشطير والتخميس، فيعمدون إلى تمطيط معناها وتفكيك أواصرها وحشوها بما يناسب وما لا يناسب من الألفاظ المترادفة والتراكيب المرصوفة. . . الخ)
وما كاد الحجازيون يتذوقون المناهج الحديثة في الشعر حتى حملوا على عشاق القديم جملة عنيفة ليردوهم عن التقليد ويوجهوهم إلى الغاية التي يرجونها للشعر، وقد جاء في مقال للأستاذ عواد ينتقد فيه المقلدين: (. . . نعم الشعر جميل، ولكن أين الشعر الذي تنظمونه أو تروونه؟
أأتلمسه في تخميس:
(تتيه علينا مذ رزقت ملاحةً) أم تشطير: (إذا كان لي أهلان أهلٌ ترحلوا) أم في مشجر: (على جيد هذا الظبي فلينظم الدرُّ) أم في تخميس آخر مطلعه:
(أنيري مكان البدر إن فقد البدر) أم في مدحه أنشدت للحسين في يوم عيد مطلعها:
(سلْ ما لسْلمى بسوق النحس تشريني) أواه! كل هذه أيها المتشاعرون صديد فكري وقيوء (باللغة التي تفهمونها) لو أنفق العمر بأجمعه في مثلها لما وصل الناظم إلى الشعر. الشعر جميل أما أمثال هذا فلا. . .)(635/36)
وبدهي أن ثورة التجديد في الشعر الحجازي لا يمكن أن توجه الشعراء جميعا إلى وجهة واحدة؛ إذ لابد له من زمن طويل يشتط فيه المجددون ويسرفون في التجديد، ويشعر القدامى بتأخرهم فيقتربون منهم شيئاً فشيئًا، ويعود المسرفون فيهدئون من ثورتهم ليلتقوا بإخوانهم القدامى الذين تخلفوا عنهم وحينئذ يجتمع في الشعر محاسن الطريقتين، ويستقر في طريق له معروفة مرسومة لا تكون عرضة لزعازع التغيير والتبديل الفجائيين.
حدث هذا الصراع في الحجاز منذ أن قام الشعراء بنهضتهم الحديثة؛ فقد جمل المجددون على الجمود والخمول وتناولوا عشاق القديم بالنقد اللاذع فأثر فيهم هذا النقد، ولم يعد الآن في الحجاز من يطرب للتشطير والتخميس أو يهتز لألوان البديع، واتجهوا جميعا إلى أغراض الحياة يبسطونها في أشعارهم ويجلونها في بيانهم وإن كانت ظاهرة الاختلاف لا تزال قائمة؛ فشعراء الحجاز الآن طائفتان: طائفة مجددة ولكنها متئدة متمهلة تعنى بالديباجة القوية وتبقي على كثير من الأغراض القديمة. وطائفة متوثبة مسرفة في التجديد قد استطاعت أن تقطع صلتها بالقديم إلا في الألفاظ والتراكيب.
ولعل الحجازيين عندما انفسح أمامهم طريق الرقي الأدبي وجدوا أنفسهم متأخرين؛ وجدوا مصر والشام ثم العراق قد قطعت في ميدان التقدم شوطا بعيد المدى فهالهم الأمر وأرادوا اللحاق بهم؛ فلم يكن هناك بد من أن يسرعوا الخطا ويغذوا السير في حركة الواثب المتحفز الذي لا يبقى ولا يذر. فماذا وجدوا أمامهم؟
رأوا دواوين الشعر القديم قد ملأت الأسواق ورأوا أدباء مصر والشام قد أنتجوا المعجب في الأدب. ورأوا غير هاتين الناحيتين أدبا آخر هو الأدب العربي في أمريكا، وهو أحدث هذه الآداب وأقربها إلى الأدب الأجنبي.
وجدوا كل هذا فمال الكثيرون إلى الآداب الحديثة وبخاصة أدب المهجر وتعشقوها وجاهدوا في تقليدها كأنهم رأوا فيها الخلاص من الجمود والتأخر؛ فاستطاعوا في زمن وجيز أن يباعدوا بين منهاجهم ومنهاج من سبقوهم؛ حتى ليخيل إليك عدم الارتباط والصلة بين الأدبيين.
وأما الآخرون - وهم أقلية - فقد آثروا الاعتدال والتمهل والتفتوا إلى الأدب القوي القديم يقرءونه ويحاكونه في بلاغته ورصانته، ومالوا إلى الأدبيين المصري والشامي يتهجون(635/37)
منهجيهما ويلائمون بينهما وبين حياتهم، ولم يتركوا من أدب المهجر ما راقهم من موضوعاته ومعانيه. وإنك لتلمس في الأبيات الآتية وهي (للغزاوي) تأثراً بالأدب العربي القديم في أساليبه ومعانيه وتجديدا في قليل من الأخيلة والمعاني:
حمائم إليك أبكاكِ ذو شجن ... أصفيتهِ الحبَّ إسراراً وإعلانا
وبتِّ فيه على ذكرى وموجدة ... تذرين دمعكِ أسجاعاً وألحانا
وظل دأبك في الأسحار أغنيةً ... يخالها السمع بالتوقيع عيدانا
فما بنفسي مما تشتكي حُرَقٌ ... ولا تعشقت آراماً وغزلانا
لكن سكبت دمي دمعاً على وطني ... قد كان في المجد والتاريخ ما كانا
على أن تأثر هذه الطائفة بالشعر القديم يبدو في طريقة الشعر نفسه فالغزاوي في قصيدة له عنوانها (منازه الطائف) يملؤها بذكر الأمكنة على طريقة الأقدمين في ذكر الديار والأطلال فهو يقول فيها:
وتهفو بنا النسمات حين هبوبها ... إلى فرصِ اللذاتِ تحت الكواكب
(بوجٍ) وفي وادي (العقيق) ودونه ... وفي (ليةٍ) أو بين (قرن) النجائب
وفي (الوَهطِ) المخضر أو في (وهيطه) ... وفوق (الشفا) أو في أديم السحائب
ويقول:
ولا أنس (بالمثنات) ليلات أنستنا ... وبين (الهدى) أو في جوار (الكباكب)
وهكذا يسير الشاعر في قصيدته معددا الأماكن التي ألفها وأقام بها. ولكن هذا التقليد للأقدمين لا يعدو الطريقة؛ فإن الشاعر متأثر بهذه الأماكن وله فيها ذكريات، ولا يعاب عليه أن يذكرها في شعره؛ لأنه ذكر العالم بها المتأثر بما فيها.
أما المدرسة المسرفة في التجديد فقد تعلقت بالثقافة المنقولة عن الغرب ومالت إلى أدب أدباء المهجر من أمثال جبران والريحاني وأبي ماضي وفرحات وغيرهم؛ وذلك لأن شعراء هذه المدرسة لمسوا في أدب المهجر ثورة على القديم وجرأة في التجديد وصراحة في الحق، فعكفوا على هذا الأدب لأنهم وجدوا فيه غذاء حركتهم الناشطة ومشعلا يضيء لهم جوانب الحياة التي يرجونها وهي التجديد السريع.
وجد شعراء هذه المدرسة جبران ينعى على التقليد ويحط من شأنه حين يقول: (. . . ليكن(635/38)
لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين؛ فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخا حقيرا من ذاتكم الوضيعة من أن تقيموا صرحا شاهقا من ذاتكم المقتبسة. ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم بخورا أمام الأصنام والأنصاب. ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعربوا أجل وأجمل ما كتبه الغربيون).
(البقية في العدد القادم)
احمد أبو بكر إبراهيم(635/39)
إلى شقيقي إبراهيم
أهكذا تمضي. . .؟
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوفان
تساءل البلبل عن صنوه ... في الروض، فاستبكى عيون الزهور
وغصَّ مما هاج في شجوه ... بزفرة بين التراقي تمور
من صَرَف الشاعر عن شدوه ... ولفه بالصمت صمت القبور
وما الذي كدر من صفوه ... حتى جفا الوكر وعاف الطيور
ألم يكن والروض خصب مريع ... منعما بالعيشة الراضية
بين سني يطفو وعطر يشيع ... وبهجة غامرة ضافية
يصبي الفراشات بشدو بديع ... تظل من أنغامه الشاجية
ترف كالزهر حياة الربيع ... أجنحة موشية حالية
وطاف بالروض حزيناً لهيف ... يبحث عن شاعره في الشجر
لعله في ظل دوح وريف ... يرتشف الطل ويرعى الزهر
يلف عطفيه وشاح شفيف ... تنسجه في الليل أيدي القمر
ويبعث اللحن رفيفاً رهيف ... محبب الوقع، مُرِن الوتر
وحين لم يلق أخاه الحبيب ... ولم تع الأذن أغاريده
حط على غصن أراكٍ رطيب ... ومد من عليائه جيده
وأرسل الشدو حنيناً مذيب ... يهز في الأيك أماليده
وودّع الروض بقلب كئيب ... إذ لم يجد في الروض غِرِّيده
أهكذا تمضي مضَّي الحلم ... طافت سراعاً وتلاشت رؤاه؟
أهكذا تطويك أيدي العدم ... في عمر الزهر وفجر الحياة
ألم تكن نجما سما واضطرم ... يشع في الأفق فيهدي سناه؟
ألم تكن شعراً على كل فم ... منسجم اللحن، حبيباً صداه
أي لحون رعن سمع الزمن ... بعثتها من خفقات الفؤاد
أودعتها الروح تناجي الوطن ... فيها فتهتز الربى والوهاد(635/40)
ثم تراميت صريع الوهن ... مخضب الجرح، سليب الضماد
وامتنع الشدو كأن لم يكن ... وجذوة القلب استحالت رماد
إذا سجا الليل فقرت عيون ... وأسعد الساريَ نجم بدا
تلفت القلب وفيه شجون ... مسائلا عنك، ولكن سدى
لأذرفن الدمع شعراً حزين ... مرجع الأنات، شاجي الصدى
من نور عينيَّ، وخفي الوتين ... حتى توافيني عوادي الردى!(635/41)
قرد وحمار
للأستاذ محمود عزت عرفة
كنت أشهد في بعض قرى الصعيد فتى ريفيا يقتاد حمارا أسود قميئاً قد علمه بعض الأضاحيك ولقبه (ظريفا). وكان يومئ إليه فيلتبط بالأرض في سكون، ثم يبدأ يعرض عليه العروض فيقول: تتزوج من جرجا؟ تتزوج من البلينا؟ تتزوج من سوهاج؟ تتزوج من النخيلة؟ تتزوج من أبو تيج؟ تتزوج من أسيوط؟. . . كل هذا والحمار يرفض في إباء، ويؤكد رفضه بهزات من رأسه حاسمة. فإذا عرض عليه الأمنية النفيسة وقال: تتزوج من مصر؟ - وثب من رقدته مرحا خفيفا وهو يهز رأسه علواً وسفلاً علامة القبول!
كنت أعجب بحركات هذا الحمار، لكن لا أعجب بفكرته - وهو صعيدي - من إيثاره بنات مصر على بنات موطنه الصعيد. . . ثم أقول: لا جرم إنه حمار. . .
وأخيرا تحقق لديّ صدق حكمي على عقلية هذا الحمار، إذ قرأت على قرد حاذق حديثه القاضي التنوخي في كتابه (نشوار المحاضرة) رواية عن ابن عباس الذي يحكى إنه (رأى في شارع الخلد قردا معلما يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومئ برأسه، فيقول: تشتهي أن تكون عطاراً؟ فيقول: نعم - برأسه - فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه، فيقول له في آخرها: تشتهي أن تكون وزيراً؟ فيومئ برأسه (لا)، ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس
كلا الرجلين يمزح في فعله، ويحاول أن يتفكه ويفكه معه الناس - استدرارا لعطاياهم - باتخاذ أمثال هذه الألاعيب. ولكن للفكاهة المستحبة مظهر من الجد، ومرمى غامض من العبرة والموعظة بدونهما تكون عبثا لا طائل تحته
ونظرية هذا القرد صائبة - أعني نظرية صاحبه - إذا نحن تأملنا منصب الوزير على عهدهما، وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء، فما وجه نظرية حمارنا - أو حمّارنا - في الزواج؟!
الحق أن هذا الفتى الريفي وحماره يعبثان بقدر ما كان الشاطر البغدادي وقرده يجدان؛ وفرق ما بين الأولين والأخيرين هو فرق ما بين المسلمين اليوم وأسلافهم في القرون الخوالي. . . هو فرق ما بيني أنا - عربي القرن الرابع عشر - والتنوحي ناقل القصة(635/42)
وعربي القرن الرابع. . هو فرق ما بين دولة نفضت يدها من المجد أو كادت، ودولة كانت تأخذ من المجد بأوثق أسبابه. فليذهب القراد والحمار جميعا إلى الجحيم، فما كان لهذه المقارنة العابرة بينهما أن ترينني في مستقبل الإسلام والعرب، ولكني مع ذلك رجل مؤمل ومشفق معا، أخاف مثلما أرجو، وأتشاءم لقاء ما أتفاءل. وأحب أن نكون - حتى في مزاحنا - جادين فلا تشغلنا القشور عن تعرف اللباب، أو يصرفنا الغلاف عن تصفح الكتاب. . .
ومن يدري بعد، فلعل قروينا معذور في فعله؟ بل لعله حكيم ثاقب الفكرة، أليس يقدم لنا مزحته الجوفاء، وما تنطوي عليه من فكرة حمقاء، على يدي حمار أسود قميء؟!(635/43)
البريد الأدبي
حول الترتيب التاريخي للزوميات المعري
قلنا في عدد مضى من الرسالة إن الدكتور عمر فروخ أرسل إلينا كتابا مطولا حول هذا الموضوع يتهم فيه الدكتور عبد الوهاب عزام بكيت وكيت، ثم لخصناه وعلقنا عليه بما رأينا إنه الحق. وفي يقيني أن الدكتور فروخا لو عرف الدكتور عزاما أكثر مما عرف لاستبعد عليه أن يسرق بحثا من بيروت ليقرأه في مهرجان المعري بدمشق. ولكن الدكتور لم يرضه تلخيصنا لكتابه ولا تعليقنا عليه، فبعث إلينا بكتاب آخر يرمينا في مقدمته بالتعصب للدكتور عزام والتستر على (جريمته) والخوف من (نفوذه)، ويوعد بأنه سيطلب حقه من الدكتور عزام ومني بما طلب به المتنبي حقه في بيته المعروف، فرأينا تكذيبا لظنه وتبديدا لوهمه أن ننشر كتابه بنصه. قال عافاه الله بعد (الديباجة):
(طالعت المقالات التي كتبها الدكتور عبد الوهاب عزام عن لزوميات المعري وعن ترتيبها التاريخي في الأجزاء 624 - 625 - 636 من الرسالة الغراء، ولقد لفت نظري أمران:
أولهما: أن الدكتور عزام قال في آخر المقال الثالث: (هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكورا بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته) ومعنى ذلك إنه أول من فعل ذلك
وثاني الأمرين: أنني وجدت شبهاً عظيماً، بل تطابقا بين الأسس التي أتخذها الدكتور عبد الوهاب عزام لترتيب اللزوميات وبين الأسس التي كنت قد استخرجتها ثم جعلتها أساسا لكتابي (حكيم المعرة) الذي صدر في بيروت في شباط (فبراير) من عام 1944
في هذا الكتاب عنيت بوضع أسس لترتيب اللزوميات، إذ أنني كنت أحاول حل قضية معقدة، هي ما ينسبه بعض المتأدبين، من التناقض إلى حكيم المعرة. وبعد تدبر هذه القضية بدا لي أن ذلك راجع إلى أن ترتيب اللزوميات على حروف الروي ليس الترتيب التاريخي لها مما بسطته في موضعه
واستطعت بعد الدراسة والمقارنة أن أضع أسس ترتيب اللزوميات على خمس قرائن (حكيم المعرة ص24 - 34):
أولا: إشارة المعري نفسه إشارة عامة إلى نظم اللزوميات وترتيبها (ص24 - 25 من(635/44)
حكيم المعرة)
ثانيا: الإشارات التاريخية وأشهرها قصة صالح بن مرداس (26 - 38)
ثالثا: إشارة المعري إلى سني عمره في أثناء نظم اللزوميات (ص28 - 29)
رابعا: الإشارة إلى تقدم سنه من غير أن يذكر السنوات صراحة كأن يتكلم على شبابه وشيبه وملله من الحياة وحبه لمفارقة الدنيا. . . الخ (29 - 30)
خامسا: تطور أسلوبه في نظم اللزوميات من حيث النضج والقوة (ص30 - 31)
وجاء الدكتور عبد الوهاب عزام فسلخ القرائن الأربع وذكرها على التوالي الذي اخترته، بما يعد أن حذف القرينة الخامسة، لأن البحث في الأساليب أصعب من البحث في غيرها. ويدهشك فوق ذلك كله أنني اعتبرت القرينة الأولى (أعني إشارة المعري نفسه إلى نظم اللزوميات وترتيبها) مقدمة لا غير، لأنه لا يجوز أن أنسب إلى نفسي استخراج أساس أشار صاحبه إليه إشارة واضحة. ولقد فعل الدكتور عزام ذلك مثلي تماما، ثم بدأ بالإشارات التاريخية الخ على الترتيب نفسه لم يغير منه شيئا
على أن هذا لا يمكن أن يكون توارد خواطر، لأن الخواطر قد تتوارد في بيت من الشعر أو في رأي أدبي عارض، أما في بحث علمي طويل ذي فصول وفروع وتقسيم واستنتاج وشواهد وأمثلة فأمر مستحيل وخصوصا إذا اتبع المتأخر المتقدم
ولقد كان توارد الخواطر ممكنا في زمن تقطع بين أرجائه الصحاري والمدى البعيد، أما اليوم في عصر السيارات والطيارات والبريد السريع، فأي عذر ينهض بالمتأخر إذ ادعى أن خاطره وخاطر المتقدم قد تواردا؟
بقي على الدكتور عزام أن يدعي إنه لم يطلع على كتابي، وهذا مردود من وجهين:
أول ذينك الوجهين أن كتابي صدر قبل عام ونصف عام من صدور بحثه، وأن الناشر في بيروت قد أرسل نسخ كتابي إلى العالم العربي، وأرسلت أنا إلى ناشر في لندن عددا كبيرا. ولقد نقدت كتابي المجلات، وبعضها أشار إلى هذا الترتيب التاريخي.
وثاني الوجهين أن العالم الحقيقي لا يهجم على عمل مثل هذا إلا بعد أن يتقصى المكاتب ويفتلي الكتب والمجلات، وخصوصا إذا خطر له موضوع ذو خطر وهناك أدلة أخرى على أن الدكتور عبد الوهاب عزام أخذ البحث عني ولم يبدأه بنفسه، منها أن نماذجه التي(635/45)
يدعي إنه استخرجها من اللزوميات لا تسند نظريته المدعاة، فليس كل بيت في ذكر للسن راجعا إلى سن المعري. وكذلك ذكر الدكتور عزام في الإشارات التاريخية أسماء (محمود ومسعود)، وقد ذكرت أنا ذلك ولكن في باب آخر (راجع ص94 من حكيم المعرة) للدلالة على أن عمر الخيام كان شديد التأثر بلزوميات المعري، فيما ذكرت من أدلة ذلك
عمر فروخ
وقد اطلع الدكتور عزام على ما نشرته مجلة (الأديب) وكتبته مجلة (الرسالة)، فأرسل إلينا الكتاب الآتي:
الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
السلام عليكم. وبعد، فقد اطلعت في العدد الأخير من مجلة الأديب التي تصدر في بيروت على كلمة عنوانها (إلى الدكتور عبد الوهاب عزام) وتوقيعها (قارئ). وخلاصتها أن هذا القارئ أدرك تشابها بين مقالاتي التي نشرتها في (الرسالة) عن لزوميات المعري وبين بحث في كتاب للدكتور عمر فروخ اسمه (حكيم المعرة). وظن القارئ، وبعض الظن إثم، أني أخذت (الفكرة والترتيب والأدلة والنماذج) من هذا الكتاب
وقد أرسلت إلى مجلة الأديب مبينا أني لم اطلع قط على بحث في هذا الموضوع للدكتور عمر فروخ ولا لغيره قبل كتابة مقالاتي ولا بعدها. ولم استطع أن أتكلم في هذا التشابه بين البحثين حتى أطلع على الكتاب
ثم اطلعت اليوم في الإسكندرية على العدد 631 من الرسالة - وقد فاتني قراءته حين صدوره - على كلمتكم التي نقلتم فيها نبذا من رسالة الدكتور عمر فروخ إليكم، وأبديتم رأيكم في الموضوع
وقد أخذت من هذه الكلمة أن بحث الدكتور عمر الذي وقع التشابه بينه وبين بحثي يرجع إلى ترتيب اللزوميات فحسب.
ومن قرأ بحثي في (الرسالة) يعلم أن موضوعه: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ فهو قسمان: الأول: تحديد الوقت الذي نظم فيه المعري لزومياته؛ والثاني: بيان أن ترتيب اللزوميات على الروي يوافق الترتيب الزماني أولاً. والبحث الأول هو الذي كلفني قراءة اللزوميات كلها واستخراج الحوادث التي ذكرت فيها، والرجال الذين ذكرهم الشاعر(635/46)
وتاريخ هذه الحوادث وهؤلاء الرجال واستقصاء الأبيات التي ذكر فيها المعري سنّه، والتي ذكر فيها سواد شعره ومشيبه. . . الخ، وقد انتهيت إلى أن الكتاب نظم بين سنتي 400 و420 من الهجرة
وأما البحث الثاني المتضمن أن ترتيب اللزوميات غير مساير للتاريخ، فالأمر فيه أمم، والفصل فيه يسبر بعد الفراغ من البحث الأول
فهل يدعي الدكتور عمر التشابه بين كلامي وكلامه في البحث الأول أو في البحث الثاني؟ الذي يؤخذ من الكلمة التي نشرتها الرسالة إنه يجادل فيما يتصل بالترتيب التاريخي وحده، وكل من قرأ بحثي يعلم يقينا أن كلامي في هذا لا يمكن أن يؤخذ إلا من بحثي في القسم الأول، فهو نتيجة محتومة لي، وهو ليس بذي بال بعد البحث الأول، ولا يقتضي الباحث عناء ولا تعمقا، فليس معقولا أن أنقله عن غيري بعد أن فرغت من البحث الأعمق والأشق الذي بينت فيه متى نظمت اللزوميات
ومهما يكن، فإني أعيد ما أرسلته إلى مجلة الأديب، أني إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة لم أطلع على بحث لأحد في هذا الموضوع، ولا رأيت كتاب الدكتور فروخ
ولو كان الفصل في ترتيب اللزوميات وتبين أنها ليست مرتبة على التاريخ يعد فتحا في الأدب ما أجزت لنفسي أن أنتحل فيه كلام غيري، وأن أسوم نفسي ما لم تعوده من الاتكال على أبحاث الناس، بله النقل أو السرقة
إن هذا البحث وما هو أعظم منه وأشق وأجدى، ليس عظيما من رجل مثلي يقرأ اللزوميات كلها قراءة فاهم ناقد
وكان خيراً للدكتور عمر ولمن كتب في مجلة الأديب أن يرسل إلي الكتاب ويسألني رأيي، فإن المسارعة إلى اتهام مثلي بنقل كلام الناس لا يليق بالأدباء، ولا يلائم تثبت العلماء
وأرجو أن تنشروا هذه الكلمة مشكورين. والسلام
(الإسكندرية 7 رمضان)
عبد الوهاب عزام
ملاحظة وتصحيح:(635/47)
اطلعت في البريد الأدبي بالرسالة تحت هذا العنوان على نقد للأبيات التي وردت في كتاب (في بيتي) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، وقد أشار فيه الكاتب إلى أن صدري البيتين الثاني والثالث خارجان عن البحر، وأنهما لا يصحان على وجه من الوجوه. قال: ثم بحثت الأمر لأتأكده فظهر لي ما أدركته أولاً، كذا!
ولما كان الروي هو التاء المكسورة، وكان الوقف لا يصح عليها، لأن (القصر) لا يدخل البحر المجتث، ظهر لي أن في البيت الثالث إقواء، فكلمة (أداه) في البيت لا يصح جرها بحال
وأحب أن أعفي الأستاذ العقاد من الرد على هذا النقد، فقد كان في استطاعة الكاتب أن يرجع إلى هذه الأبيات في ديوان (وحي الأربعين)، ليرى أن الشاعر قد وضع علامة السكون على القافية. . . وكان في حل من وضع هذه الإشارة، لأن القوافي ليست من حركة واحدة. . ويحسن بي أن أطلع القارئ على هذه الأبيات كاملة كما قرأتها في (وحي الأربعين) ليصدر حكمه عليها:
النور سر الحياة ... النور سر النجاة
النور شوق النهى ... النور وحي الصلاة
النور شوق الفتى ... النور شوق الفتاة
المحهْ بالروح لا ... لمح العيون الخواة
ما تبصر العين من ... معناه إلا أداة
هذا سبيل الهدى ... لا ما افتراه الهداة
ويتبين من هذه الأبيات أن وزنها:
مستفعلن فاعلن ... مستفعلن فاعلان
بسكون التاء في القافية، وإذ كانت الموسيقى هي رائد الشاعر في كل ما ينظم، فمن واجب الناقد أن يحلها المحل الأول حين يعرض لهذه الناحية من الكلام، فقد يعن للشاعر أن ينظم على وزن جديد، أو أن يأتي بنظام لم يسبق إليه، وهو بعد صحيح سليم تتقبله الأذن وتستطيبه النفس
فمن الحجر على الشعر والشعراء أن نقول لهم: قفوا عند حدكم، فإن الأقدمين قد وقفوا عند(635/48)
هذا الحد. هذا لغو وجمود لا أحب أن يبتلى به الشعراء في القرن العشرين
والمطلع على أبيات الأستاذ العقاد يجدها سليمة من ناحية الوزن قوية من ناحية الموسيقى فضلا عما بها من المعاني السامية، ولا يطالب الشاعر بأكثر من ذلك
محمد طاهر الجيلاوي(635/49)
القصص
تُوَان أو عندما تسيطر المرأة
(إلى الحزب النسائي مع تحياتي)
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
جرى على لسان كل من كان يعيش على مبعدة سبعة فراسخ من حانة (التورنفان) اسم صاحب الحانة (انتوان ماشبل). . . وقد تعددت الأسماء التي يدعوه بها رفقاؤه وخلانه، فتارة يطلقون عليه (باتوان) وطورا (فيف ستار توان) وحينا ينادونه (جود أولد يلسن). . .
وكان لتوان الفضل في الشهرة التي نالتها حانة (تورنفان). . . فقد ذاع صيتها مع إنها لا تزال مزرعة فقيرة تقع في كنف متطرف من الوادي الذي يشرف على البحر؛ وقد أحيطت ببعض الجواسق التي يتخذها نفر من أهالي (نورمنديا) مقطناً لهم. . . فغرسوا ثمث الشجار السامقة، وأقاموا السدود، وقد جثمت تلك القرية على جدول تخالط ماءه الرقراق خضرة النبات الذي ترعرع على شفا الجدول. . . وهو ينحدر من الأكمة والتلال التي أوحت باسم (التورنفان).
ويخيل إلى الإنسان الذي ينظر إلى تلك الجواسق في كنف الوادي، أنها بعض الطيور وقد أوت إلى ثلم، عندما تعصف الرياح والأعاصير البارقة التي تكتسح ما على شاطئ (نورمنديا) من الدور الصغيرة. وقد زادت عنها السدود والأشجار، وهذه العواصف تأتي على كل شيء فتجعله قاعا صفصفاً. . أما المزرعة الفقيرة فكان يمتلكها (انتوان ماشبل) وأحيانا (جود أولد يلسن) وأحيانا أخرى (نيف ستار توان) أما اللقب الأخير فلعله صدى لتلك العبارة التي كان يفوه بها نادرا (إن خمر (فيف ستار) لهو أجود ما يجده المرء في فرنسا. . .) لقد ظل قرابة العشرين عاما ينقع غلة القرويين بسلافه العذب المعتق. . . وما من قادم يسأله: (ما الذي يستحسنه اليوم، يا توان؟) فيجيب في غير تلعثم أو تردد (قدح من راووقي المعتق يا بني. . . يبعث الدفء في جوفك، والسكينة إلى نفسك، وهو خير ما يرجى لصحتك) وينادي توان كل إنسان (يا بني) مع إنه لم يرزق ولدا لا في الحلال ولا(635/50)
في الحرام
عرف توان بأخلاقه الطيبة، وخلاله الفضلى. . . ولو إنه كان حذرا زهما، حتى إنه كان أكثر الريفيين شحما، هذا إن لم يكن قد فاق أهل لورمنديا قاطبة.
وكان كوخه - على النقيض من ذلك - صغيرا ضيقا. . . فمن بره وهو قائم على باب داره حيث يقضي طيلة يومه. . . يتوله العجب عندما يفكر كيف يتخطى ذلك الباب الضيق المنخفض إلى صحن الدار. . . يقف توان على قارعة الطريق يدعو كل من يتوسم فيه الأناقة والثراء إلى حالته حيث يقدم إليه بعض الخمر على سبيل التجربة والقياس. وقد علق على واجهة حانوته لوحة سطر عليها (حانة الصداقة). وكان هشاً بشاً لكل من جاوره وأمه. . .
وقد يفد عليه خلق كثير من إقليمي (فيكامب) و (مونت فليبر) وغايتهم أن يروا توان، ويتندروا بفكاهاته المستملحة ومزاحه العذب الذي يضحك الحجر الصلد. . . لقد أوتي القدرة على أن يشيع المرح حوله دون أن يضجر من يجالسه؛ والقدرة على أن يخبط ساقه في حركة تنتزع الضحك من فيك - شئت أو لم تشأ -، والقدرة على أن يجعل حاجبيه يعبران بما لا يستطيعه لسانه. . . إن منظره وهو ينهل الراح ليبعث وحده الضحك والسرور إلى العيون الساهمة الحزينة. . .
وقد يجرع توان كل ما يقدم إليه من أنواع الشراب كلها، فيلمع في عينيه بريق الخبث. . . وتتألق مقلتاه بالابتهاج الذي يجعلك تقدم إليه المزيد من الشراب. وطالما كان يسأله مواطنوه: (لم لا تلعق من ماء البحر ما يشبع شراهتك هذه؟) فلا يسعه إلا أن يجيب في هناف: (ثمت سببان. فأولا: ماء البحر أجاج تعافه النفس؛ وثانيا: ينقصني تلك المعدة التي يمكنها أن تسع ذلك الماء الطيسل).
عندما ينقلب توان إلى زوجته، تدور رحى الشجار بينهما فيبدأ فصل روائي لا يقل عن الفصول المسرحية روعة وبراعة. . . لقد انصرمت على زواجهما ثلاثون عاما، لم ينقض يوم واحد منها إلا والشجار حليفه. . . والذي باعد شقة الخلاف بينهما هو الفرق البين بين روحه المرحة الطروب، ونفسها الصاخبة الصلفة.
كانت امرأة ريفية فارعة الطول تسير في خطوات طوال كأنها البجعة، وقد منحها الله(635/51)
سحنة مقطبة عبوسة كالبومة، راحت تمضي وقتها بين دجاجها تعنى به وترعاه في قفصه خلف الحانة. . . وقد ذاعت مهارتها في تربية الدجاج بين جيرتها. وكانت تتطفل على الولائم دون دعوة أو خشية لائم. . . ولا تجدها إلا حانقة صاخبة ساخطة على العالم بأجمعه. . . أما في الفينة الأخيرة فكل سخطها تركز على بعلها. كانت تحقد عليه لبشاشته ومرحه، لشهرته وصيته، لصحته ورهله. . . وطالما نعتته (بالماجن المحظوظ) لأن المال يأتيه طواعية دون كد أو جد في طلبه. . . أو (لأنه يأكل قدر ما يتناوله اثنا عشر رجلا. . . وقلما ينقضي يوم دون إثارة انفعالها وحنقها. . .
ابتدرته يوما صائحة: (انظر أيها النهم الشره. . . انظر إلى نفسك وأنت تسير كالكتلة البشرية. . . سوف تلتهم الطعام التهاما حتى يحل ذلك اليوم الذي تنفجر فيه بطنك كالحزمة من القمح، وقد انقطع رباطها. . .) فانطلق توان بقهقهة وهو يربت على بطنه في رفق وهوادة، وما لبث أن قال وهو يلوح بذراعه: (آه. . . أيتها (العصا الرفيعة) لست أدري ما الذي يمنعك من أن تسمني نفسك كما تفعلين مع دجاجك. . . أني لأتوق وأنت تقومين بذلك أيتها المرأة) ورددت الجدران بعد ذلك صدى الضحك الذي انبعث من أفواه الحاضرين. . . وقد جلسوا إلى الموائد الخشبية، فيوفر ذلك صدر المرأة بالغيظ والحنق فتندفع قائلة: (تبا لكم أيها الكسالى. . . فما يرجى منكم نفع ولا ضر) ثم تغادر الحجرة شامخة بأنفها، مصعرة خدها، مشيعة بضحكات السخرية والاستهزاء. . .
يبدو أن كل من كان على شاكلة توان، وقد حباه الله جسداً حادراً وكان ضيق الصدر لا يلبث أن يداعبه الموت مداعبة القط للفأر، ولا يلبث بعد هذه الضخامة أن يبذل عوده، ويسري الهلاك رويدا في بدنه، ويتسرب الموت إلى نفسه كما يسير اللص في هدأة الدجى. . . فيطوح أولاً بذلك الشعر المجعد، وينثني إلى الأعضاء الزائدة. . . ثم لا يلبث أن يذهب بما بقي. . . هذا ما يجعلنا نفغر أفواهنا دهشا لنقول: (يا إلهي! أيطوح الموت مثل هذا الحجم!)
ولكن المنية غفلت عن توان. . . غفلت عن منظره الضخم المثير للضحك. . . بل حبته صحة وقوة. . . حبته طلعة مبهجة مؤنسة، فكان ذلك يثير حنق زوجته فتصيح: (رويدك أيها الرجل، فسوف يأتيك منجله من حيث لا تدري. . .)(635/52)
ألمت بتوان صدمة خلفته قعيد الفراش، مصابا بالفالج، ولزم المارد العجوز فراشه في غرفة صغيرة خلف الحانة. . . حيث كان في مقدوره أن يحس ويسمع ما يدور حوله، وأن يتبادل الحديث مع خلانه وراء الحائط. . . وعلى الرغم من أن جسده كان مقضيا عليه بعدم الحركة، فقد ظلت روحه الطروب على مرحها وسرورها. وكانوا جميعا يأملون في أن تسترد أعضاؤه القدرة على الحركة والتنقل ولكن آمالهم ذهبت أدراج الرياح. . . فحكم القدر على توان أن يمضي وقته في فراشه لا يغادره. . . ولم يحاول أن ينتقل من مضجعه إلا مرة واحدة، حيث استطاع بمساعدة اثنين من جيرته النهوض مستندا إليهم. . . لتبدل زوجته فراشه بآخر.
لم يكن يفارق مرحه وبشاشته إلا في حضور زوجته، فأنه كان يبدو وديعا رزينا كالطفل. . . كانت تقول له على الدوام (انظر إلى نفسك. . . انظر إلى تلك الكتلة العديمة النفع. آه! أنت تجلس في الفراش مستريحاً، وعلي أن آتيك بما تود. . .) فلا يسعه غير الصمت، وإغضاء طرفه، ويتحامل على نفسه لكي يجلس في فراشه. وكانت الحركة الفريدة التي يأتيها هو أن يتقلب ذات اليمين وذات اليسار. . . راح يستمتع بالإنصات إلى لغط القوم في غرفة الشراب، وإذا ما تعرف على صوت صاحب له صاح يناديه: (ألست (سلستن)؟! إني هنا يا بني) فيجيبه سلستن (أنا ذا يا توان. أما تستطيع أن تنهض وتأتي إلينا؟!) فيقول توان ثانية: (ليس في طوقي أن أنهض. . . ولكني في صحة جيدة. ولم أفقد عقلي بعد) وبعد هنيهة يدعو أصدقاءه المقرنين إلى غرفته. ويتمتع برفقتهم حينا، ولو أن منظرهم وهم يجرعون الخمر دونه يثير كوامن نفسه. . . وينغصه بعض الشيء. فيقول في تذمر: (أف لهذا الداء، فهو الذي يمنعني أن أتناول قطرة من راحي المعتق. يا لتعاستي).
وتظهر زوجته بغتة من النافذة فتصيح: (انظروا إليه. . . انظروا إلى (الماجن المحظوظ) لقد أخذت على عاتقي أن أطعمه وأصنع ثيابه. . . وأنظفه وهو جالس كالخنزير) وعندما يغيب وجه زوجته من النافذة، يقفز إلى حافتها بعض الدجاج حيث يعدوه في الصياح والتقاط فتات الخبز. ويغادره أصدقاؤه بعد أن يعدوه بالحضور في عصر كل يوم للتندر معه، ويستمعون إلى قعيد الفراش وهو يلقي عليهم فكاهاته التي تجعل الشيطان عينه ينطلق ضاحكا. . .(635/53)
وظل ثلاثة من أصدقائه يختلفون إليه على الدوام وهم: (سلستن مالويسل) وهو رجل معروق كساق شجرة التفاح. و (بروسبر هورسلافيل) وهو رجل دعوب ذو أنف محدب، خصه الله بخبث الثعلب ولسان لاذع متهكم، و (سيزار بومال) الذي لا ينبس ببنت شفة، ولكن يلذ له أن ينصت إلى توان. وكانوا يحضرون معهم لوحة خشبية يطرحونها على السرير ليمضوا الوقت في لعبة النرد. . . ابتداء من العصر حتى الساعة السادسة مساء. . . لم تكن زوجة توان تطيق أن ترى بعلها مبتهجا مستغرقا في اللعب. . . فكانت كثيرا ما تهبط عليهم فجأة فتقلب اللوحة، وتصيح إنها لا تطيق رؤية ذلك النفر من الخنازير لا يجدون شاغلا سوى الحضور إلى دارها للترفيه عن زوجها (خنزيرهم الأكبر) وكأنه الأمير لا يعفر قدميه في العمل الشاق الذي تقوم بإنجازه سحابة يومها. . . فيحني كل من: (سلستن مالويسل) و (سيزار بومان) هامته أمام العاصفة، أما (بروسبر هورسلافيل) فيأخذ في إثارتها، فكانت تصب عليه جام غضبها وحنقها. . .
قال لها (بروسبر) يوما وكانت في سورة سخطها: (رويدك يا سيدتي أتدرين ما الذي أصنعه لو كنت مكانك؟) فتوقفت برهة عن السب واللعن، وصوبت إليه نظرة حادة - كنظرة البومة - فواصل حديثه قائلا: (إن حرارة هذا الطفل العجوز كأنها الأتون المستعر. هذا ما أراه يا سيدتي؟ انتفعي من هذه الحرارة بجعله (يفرخ البيض)!) ففغرت المرأة فاها من العجب وراحت تفكر، ثم عاودت النظر إلى بروسبر - ذلك الثعلب الماكر - فعاد يقول: (نضع تحت ذراعه خمس بيضات. . . وخمسا تحت ذراعه الأخرى - كما تضعين البيض تحت الدجاج - وعندما يفرخ، نأخذ الفراريج وندعها لدجاجة ترعاها كما لو كانت فراريجها. ومن ثم يمكنك أن تحشدي قفصك بالدجاج. أما هذا بصحيح؟!) فقالت المرأة وقد عراها الذهول: (أو تظن أنها ستفلح يا بروسبر؟!) فأجابها على الفور: (دون شك، فكما يفرخ الدجاج في قفصه يستطيع زوجك أن يفرخ في سريره. . .)
كان لإيحاء بروسبر أثره الفعال. . . فبعد أسبوع حملت زوجة توان عشر بيضات في فضل ردائها إلى زوجها القعيد. . . وقالت: (لقد أرقدت الدجاجة الصفراء على عشر بيضات، وها هي عشر بيضات أخرى لك، فحاذر أن تحطمها. . .) فقال توان بعد أن أفاق من وقع هذه الصدمة: (يا لله! ما هذا؟! أأصاب عقلك لوثة من الشيطان؟!) فأجابته زوجته:(635/54)
(عليك بتفريخ هذه العشرة كما تفعل الدجاجة أيها البله) فراح يضحك، ولكن عندما أحس لهجة الإصرار في صوتها لم يلبث أن ثار غضبه لامتهان عزته وأخذ يلعنها، ويعارضها في أن تتخذ من ذراعه مصنعا للتفريخ. فجن جنون المرأة وصاحت في عزم وحزم: (إذن لن تعرف للطعام سبيلا ما دمت لن تفرخ البيض. . . ضعها ثم دعنا ننظر يا زوجي العزيز) فراح يهددها بتحطيم البيض إن هي أدنته منه، فنأت عنه. . . حتى دقت الساعة معلنة الثانية عشرة فصاح: (ويحك! عليّ بالغداء أيتها المرأة!).
- (ليس هناك غداء لك! أيها الخنزير العجوز) وخيل إليه أولاً إنها تمزح فمكث غير طويل. . . ثم ما لبث أن راح يصب لعناته عليها وعلى النساء اللائى يشطرن على أزواجهن فيجعلن منهن لعبة في أيديهن. . . وأخيرا راح يتوصل إليها وهو يتلوى ذات اليمين، وذات اليسار. بيد أنه لم يجد في النهاية بدا من أن تضع خمس بيضات في الفراش لصق ضلوعه اليسرى. وحينئذ أمكنه أن يتناول غداءه. . . وفي المساء حضر إليه الأصدقاء؛ فكان مسلكه غريبا حيالهم وكأن المرض يعتريه، ولم يجدوا منه إقبالا وبهجة للعب، فقد كان يضع يده في حذر إلى جانبه عندما تعن له الحركة. فسأله هورسلافيل: (ماذا دهاك؟! أذراعك يؤلمك يا توان!؟) فأجاب توان: (يخيل إلى ذلك كأنما أصاب أكتافي النقرس) وفجأة سمعوا لغط حاكم المدينة ووكيله يلجون الحانة، ويطلبون قدحين من الخمر، ثم راحا يتحدثان في شؤون البلدة.
وبينما هما يتحاوران في لهجة قانونية، مد توان أذنيه إلى الحائط ليتمكن من الإصغاء، وقد سها عن البيض. وتحرك إلى اليسار قليلا حركة جعلت البيض يصير (كالعجة). فتنهد توان في كآبة وكدر وهو يشم المنازلة. واندفعت زوجته إلى الغرفة ورفعت أغطية السرير. ووقفت تحدق هنيهة في ذهول نحو الخليط الصفر الذي أخذ يسيل من ضلوع زوجها، ثم انهالت في ثورة الجنون على الرقيد المفلوج لكما وضربا في حرارة ونشاط. . . أخذت يدها ترتفع وتنخفض، وتيسر وتيمن في ضربات قاسيات تهبط على بطن زوجها المنتفخ كأنها الأرنب يعمل يديه حفرا في الأرض. . . وعلا هذه الضجة جرس القهقهة التي أخذ يطلقها رفقاؤه، في رنة فرح وابتهاج، وحاول الزوج المنكود أن يتقي ذلك السيل من الخبط، وقد انهمر عليه في قسوة فحطم الخمس بيضات الأخرى مما زاد الطين بلة. . .(635/55)
عاش توان بعد ذلك يعمل للتفريخ فقط. . . فحرمت عليه زوجته اللعب مع رفقائه، لكي لا يأتي أي حركة طفيفة تحطم البيض فيتعرض لقسوتها فقد كانت تحرمه من وجبة الطعام إذا ما شرخ بيضة واحدة. فاضطجع في فراشه عاجزا عن الحركة، تحدق عيناه في سماء الحجرة. وقد ضم يديه إلى ضلوعه مرخماً ليجعل الدفء والحرارة تسري إلى البيض ذي الكر فيء الأبيض الهش، لا يرتفع صوته إلا بالهمس. . . قد كان يخشى الضجيج خشيته من الحركة. . .
وبعد فترة من الزمن أخذ يركز اهتمامه على الدجاجة الصفراء في محضنتها وطالما سأل زوجته في قلق (اتناولت طعامها اليوم)
وزعت المرأة العجوز وقتها بين زوجها وفرختها وأملها الذي يراودها أن ترى أفراخا تتنسم الحياة سواء أفرخ زوجها في الفراش أو دجاجتها في القفص. . وذاع الخبر في طول الريف وعرضه، وأخذ الناس يفدون على (حانة الصداقة) من كل فج عميق، وهم تواقون إلى رؤية توان (راقدا على البيض). كان يتجهون إلى غرفته بأطراف ساهمة - شاع فيها الجد - وكأنهم يدلفون إلى غرفة مريض:
- (كيف أصبحت اليوم يا سيد توان؟!) فيجيب: (على ما يرام لولا أنني أخشى الحركة فأحطم البيض الذي يلتصق بضلوعي).
هرولت الزوجة ذات يوم إلى توان وهي تصيح: (لقد أفرخت الدجاجة الصفراء سبعة فراريخ، وذرت الثلاثة الباقية) فتسارع الدق في قلب توان وهو يتبصر في العدد الذي سيفرخه هو! وقال في صوت شاع فيه قلق المرأة حين ولادتها (أحسب أن نوبتي قد حانت!) فرددت المرأة في اضطراب (أحسب ذلك)
وما كاد يذاع أن ساعة توان قد أزفت حتى توافد عليه الزوار من كل صوب وحدب ليشاركوه سعادة الفوز، وطفق الريفيون يتحدثون عن توان ويطرقون البواب ليعلنوا أحدث الأنباء. . . وعند الساعة الثالثة مساء غفى توان قليلا كعادته. . . وفجأة استيقظ على أصوات غريبة، وأخذ يحس نقرا تحت ذراعه الأيمن، فمد يده اليسرى، وأخرج مخلوقا دقيقا، كسي زغبا أصفر، وراح يتلوى بين أنامله، وكم كانت بهجة توان عندما صاح بأعلى صوته وأطلق الفروج على صدره، وسرعان ما اكتظت الغرفة بالقوم أحاطوا به إحاطة(635/56)
النظارة ببطل من البطال، وما كادت زوجته تقف إلى جانبه حتى أمسكت بالفروج الذي أوى إلى لحية توان العجوز. . . وتقاطر العرق على جنبيه من الحيرة والعجب، وهو يرتعد تحت تأثير شعور عميق، وفاجأهم ثانية وهو يدمدم: (هه! ها هو فروج آخر تحت ذراعي اليسرى!) فخفت يد المرأة تلتقطه من تحت الغطاء. . . وفي حذر ومهارة القابلة أخرجت يدها بالفروج الثاني. . . فتجمهرت الجيران حولها، وأخذوا ينقلونه من كف إلى كف، وهم يتطلعون إليه كأنه إحدى عجائب الطبيعة!
مضت عشرون دقيقة دون أن يحدث شيء، ثم أخذت أربعة فراريج تنقر كرفئ بيضها، وراحت صيحات العجب تتوالى من حين إلى آخر، وتوان يزهو بقدرته الفائقة بين نظرات الإعجاب، وراح يقول مداعبا: (لقد أفرخت ستة فراريج، فلي إذن كلمة (التعميد). . .). فانطلقت عاصفة الضحك من أفواه الحضور، وامتلأت الغرفة على آخرها بالرفيين، فظل معظمهم قائما عند الباب، وكل من يحضر يسأل في لهفة:
- كم أفرخ إلى الآن؟
- ستة فقط!
حملت زوجة توان (الأسرة الجديدة) إلى قفص الدجاجة الصفراء، حيث جعلت هذه تحبوها - مع أفراخها - بعطفها وتكلؤها بعنايتها، وتنظف ريشها، وتضمها تحت جناحها لتذود عنها غائلة المعتدي!
ثم لم يلبث توان أن صاح: (هه! هذا فروج آخر). ولم يكن هذا فروجا واحدا، بل ثلاثة فراريج مما جعل الحاضرين يسبغون على توان عبارات الإطراء والثناء، أما الفروج العاشر والأخير، فقد نقر بيضته في الساعة السابعة تماما، وبذلك قدر لتوان أن يجوز ذلك الامتحان القاسي بنجاح باهر فاق فيه الدجاج نفسه، فلم يسعه إلا أن يقبّل الفروج الأخير في رفق وحنان. . .
وبينا هو في نشوته يعجب من قدرته على إظهار هذه المخلوقات إلى حيز الكون، لم تمهله زوجته العجوز، بل قوضت عليه صرح هناءته (بمولوده السعيد). . . والتقطت منه الفروج لتضمه إلى (باقي الأسرة)
انحل عقد المتفرجين، وأخذوا يتفرقون إلى دورهم مبتهجين معجبين بتوان وقدرته. وكان(635/57)
آخر من غادر الغرفة (بروسبر هورسلافيل) فسال توان في خبث شاع شيء من التهكم: (هه! استدعوني عندما يسلق أول فروج ويقدم طعاما على المائدة!) فأجابه توان ضاحكا: (بلى. . . وعلى الرحب والسعة يا بني)
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(635/58)
العدد 636 - بتاريخ: 10 - 09 - 1945(/)
تنافس المستعمرين
في الشرقين الأدنى والأوسط
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
من توخى أن يعرف الحقيقة كلها في حوادث هذين الشرقين السياسية استدعى هذا الغرض النبيل أن يرجع صاحبه ولو قليلا إلى التاريخ: لأن الزمن سلسلة متصلة الحلقات يرتبط فيها الحاضر بالماضي ارتباط المسبب بالسبب، ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويستدعي هذا الغرض أيضاً كل الالتفات إلى عوامل المصالح الاستعمارية والسياسة الدولية في الشرق
ومهما يكن شأن التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية المختلفة، وشأن التوازن الجديد بين الدول العظمى التي تتوزع بأعيننا وأسماعنا أقطار هذه الكرة الأرضية وشعوبها؛ ومهما يكن لتقدم العلم والفن ولتطبيقاتهما العملية من أثر في النفوس والعقول، يبقى التاريخ بأنواعه الشتى مرآة الحياة البشرية، ونبراساً ينير البصائر لبقاء السنن الأساسية العاملة في البشر ما بقيت جبلتهم على ما هي منذ نشأة الإنسان الأول. وليس يوجد سبب غير وهمي، وإن صدق أفراد فضلاء في تمجيد المثل العليا، وفي اعتقادهم سمو الإنسانية نحوها، يثبت أن القوى سوف لا يستغل الضعيف ولا يحاول أن يبقيه مقيما على الضعف بالنسبة إليه ليحفظ قدرته ومصلحته بالقوة أو بالتمويه والرياء
فمن التاريخ أن الإسكندر الذي مزق إمبراطورية الفرس لم تدم فتوحاته، ولكن كان من نتائجها أن عرف العالم الغربي طرقاً إلى الغزو، وقد التفت إليها نابليون وهو يضع مشروعاته المختلفة لمحاربة الإنجليز في الهند. أما الرومان فقد أظهرت معاركهم في الشرق الأدنى قيمة دجلة والفرات من حيث هما طريق إلى غزو فارس والخليج الفارسي والهند. وأدركوا أن الثروات الأسيوية لم تكن في جزيرة العرب ولا في أثيوبيا، بل كانت تنقل من الهند فاتجهت جهودهم إلى التسلط على شواطئ هذه الجزيرة
قام اليونان والرومان وحدهم في أيامهم بالتوسع الأوربي في الشرق الأدنى. على أن أمم أوربة الغربية كانوا متصلين بآسية منذ عهد قديم بوساطة المسيحيين الكثيرين الذين ظلموا يحجون الأماكن المقدسة. ولما جاءت الحروب الصليبية نشأت إمارات مسيحية في سورية(636/1)
ومملكة في القدس. وكان لفرنسا شأن كبير في هذه الحروب، وهي تعد هذا الشأن أصل ما تدعيه سياستها من ذكرى وآثار تتعلق بآسية الصغرى وسورية وفلسطين ومصر، ودخلت تلك الدويلات المسيحية في معاملات تجارية، فأخذ تجار جنوة والبندقية وبيز ومرسيلية يتاجرون في الثغور السورية
ثم جاء استيلاء العثمانيين على قسطنطينية ضربة شديدة في تجارة جنوة. ولم تكن فرنسا ولا إنجلترا ولا هلانده ولا البرتغال قادرات يومئذ على منافسة البندقية في الشرق، فاحتكرت هذه الجمهورية التجارة في جميع البحر المتوسط احتكاراً عملياً. وقد أيد ثراء البندقية العظيم عجائب أذاعها رجال الدين والتجار الذين حملوا أنفسهم على أخطار التوغل في آسية من مفتتح الحروب الصليبية، ووصفوا الوفر من الثروات في بعض جهات القارة الأسيوية، فحاول شعوب أخر أن يستدركوا ما أصبح عليه البنادقة من احتكار التجارة الشرقية؛ ولذا عالجوا افتتاح طريق جديد إلى الهند من الشرق أو من الغرب. وأحدثت سياحة فسكوده جامه انقلاباً تاماً في علاقات أوربة بآسية، فقرر البرتغاليون أن يحتكروا كل تجارة فارس والهند وأرخبيل الملايو احتكاراً عملياً بتحويلها إلى لشبونة من طريق رأس الرجاء الصالح الجديد، ولما ضمت أسبانيا البرتغال انتقلت تجارة المحيط الهندي شيئاً فشيئاً إلى الهلانديين، ولم يلبث الإنجليز والفرنسيون أن نافسوهم في الخليج الفارسي، ثم تنافس الفرنسيون والإنجليز من ذلك العهد على طرق الشرق الأدنى التجارية
إن آسية وأفريقية أوسع ميادين الاستعمار، وهما أسواق ومستغلات، والهند أعزها لدى إنجلترا، وقد وضعت مشروعات فرنسية لغزوها على عهد بونابرت وقبله. فأصبحت الهند في القرن التاسع عشر العامل الموجه للسياسة البريطانية في الشرق الأدنى. كانت بريطانيا تخشى على الهند غزوات المستعمرين من طرق سورية وقزوين ونهر أكسوس، فلم تنتفع قبل الحرب الكبيرة الماضية إلا بالطريق البحري؛ وظلت مدة ضعف الدولة العثمانية وطيلة القرن التاسع عشر تحول دون الانتفاع بالطرق الأرضية: إذ اجتهدت في إبعاد فرنسا عن مصر وسورية وبلاد العرب، وفي منع روسيا من تثبيت قدمها على الخليج الفارسي، ومن الاستيلاء على إيران والأفغانستان وبلوخستان، ونحت بعزم كل دولة منافسة عن هذا الخليج. وكانت في آخر القرن الماضي قد أتمت احتلالها المواقع الحربية فيه:(636/2)
فجعلت خمسة عمال سياسيين من إنجليز الهند ساهرين منذ تلك الأيام على المصالح البريطانية في مسقط والكويت والبحرين وبندر عباس وبندر بوشير، وسلطة هؤلاء العمال تعتمد على أسطول صغير قوي وفرقة من الجنود الهندية معسكرة في جسق بمدخل الخليج الذي ردته بذلك بحيرة إنجليزية، فصار ميسوراً على الدوام أن تجتازها حملة إنجليزية تسرع من الهند صوب شط العرب لتنقض من خلف وجنب معاً على كل جيش يقصد الهند من طريق الفرات. وقد حصلت إنجلترا من تركيا بالمعاهدة السرية المعقودة في 4 يونيه عام 1878 على حق الحلول بقبرص، وهذه الجزيرة موقع حربي من الطراز الأول يسمح لها بمراقبة الفرات والإشراف على خليج الإسكندرونة وصد الروس عن طريق فلسطين، إذ كان الممثلون الروسيون يطلبون حماية الأرثوذكس فيها برغم معاهدة عام 1856 التي ختمت حرب القرم
طال عهد التنافس بين إنجلترا وفرنسا في الشرق الأدنى، ولم ينته في مصر إلا بالاتفاق الودي عام 1904، لكن هذا الاتفاق لم يحدد مصالح الدولتين في سورية. لذا ظل رجال الاستعمار البريطاني والموظفون الإنجليز في مصر يعدون أن سورية سوف تصير حلقة بمصر. وقد كانت سياحة السير ألدن غورست عام 1909 في سورية المطموع فيها سبب إشاعة اضطرت فرنسا إلى طلب بيان عنها من إنجلترا. واتفق الدولتان في ديسمبر عام 1912 على مصالحهما في ذلك القطر، وحصلت فرنسا بعد من تركيا على امتيازات أزعجت بعض الإنجليز، فقام السير مارك سايس في مجلس العموم يشكو من تأمين فرنسا باتفاق عام 1912، ومن الطريقة التي أولت بها هذا التأمين. فأجاب وزير الخارجية البريطانية بأن الحكومة باقية على سياسة حفظ كيان الإمبراطورية العثمانية، وإن ذلك التأمين إنما كان تهدئة لفرنسا، ولم يقصد به غير مصالحها الاقتصادية فيما يتعلق بالسكك الحديد، ولم يكن في الأمر تعيين مناطق نفوذ؛ وإن الحكومة لم تفعل ذلك إلا تكذيباً لشائعة أراد بها ناشروها أن يثبتوا أن سعي بعض الموظفين البريطانيين مآله ضم سورية إلى مصر
ويوم نهضت ألمانيا نهضتها لم تلبث أن نظرت بعين الاستعمار إلى الشرق، خصوصاً بعد مؤتمر برلين لعام 1878، حيث أيدتها إنجلترا، إذ كانت مشغولة بإبعاد روسيا عن استنبول(636/3)
قبل كل شيء. وسرعان ما وضعت ألمانيا برنامجها لتحقيق أطماعها على مبدأ (الزحف إلى الشرق) وهو برنامج بدأ يتضح منذ حصلت على امتياز السكة الجديد البغدادية. . لم تدرك ألمانيا اقتسام أفريقية، فاتجهت إلى آسية حيث أرادت أن تتخذ مناطق إمبراطورية، أو شبه هند ألمانية تجعل الأناضول وقيلقية وما بين النهرين جميعاً أرضاً جرمانية ومستعمرة عظيمة للإسكان يمكن أن تنتشر فيها الثقافة الألمانية. وأن تصير أيضاً أسواقاً كبيرة الشأن لمصنوعات ألمانيا. وقد كانت مصانعها راغبة في إنتاج أطنان من القضبان والمواد المختلفة لإنشاء سكة حديد عظيمة تخترق آسية الصغرى إلى الخليج الفارسي، وترسل فروعها إلى البحر المتوسط والقوقاز وإيران
رأت ألمانيا، في سبيل تنفيذ برنامجها، أن توحي إلى السلطان عبد الحميد أنها صديقته الوحيدة، وأن مستقبل دولته في البلاد العربية وفي ظل الخلافة، إذ كان يومئذ يشعر بانهيار نفوذه في أوربة، ويجد أن كل دولة غربية اقتطعت حصة من إمبراطوريته فسعت ألمانيا في أن تجعل نفسها الحامية المتعينة للإمبراطورية العثمانية، وأن تجتهد في توطيدها بتشجيع الجامعة الإسلامية، وإعادة تنظيم الجيش التركي وإسداء المشورة للسلطان في سياسة سكك حديد الغرض منها تسهيل التعبئة واحتشاد الجنود في مكان الحاجة
أما الأماني الروسية ومصالح إنجلترا وفرنسا المستديمة منذ أجيال في الشرق الأدنى، فلم تكن نية الألمان أن يصدموها رأساً، ولذا لم يذكروا الاستعمار ولم يكن في كلامهم الرسمي سوى إحياء الموات في أملاك عثمانية وتحويل ذلك القواء الفسيح، بعد خصب واكتظاظ بالسكان إلى أراض اقتصادية، فتستفيد حينئذ مصالح الجميع من عمل ألمانيا. ومتى يمتد الاستعمار الألماني من بعد إلى سهول ما بين النهرين الكلئة، وتصل السكة الحديد إلى الخليج الفارسي ينادي القيصر يومئذ بأنه سيد الحقيقي للإمبراطورية العثمانية ويعلن حقوقه في آسية الوسطى
غير أن إنجلترا لم يكن في استطاعتها أن تقبل مد السكة الحديد من بغداد إلى الخليج الفارسي، وهي تجتهد منذ قرن في أن تجعله بحيرة إنجليزية، ولم تكن في غناء من جهة أخرى عن الأشراف على مصب شط العرب لضرورة أن تمر به السكة الحديد التي كانت تحلم بمدها إلى الهند. من أجل ذلك حالفت الشيخ مبارك، شيخ الكويت، فنزل لها سراً عن(636/4)
خور عبد الله. ولما كانت ألمانيا تريد أن تبلغ البحر بأي ثمن، فقد أوعزت إلى تركيا أن توطد سيادتها الفعلية على الكويت بمساعدة ابن الرشيد. وبالغ السلطان عبد الحميد في تقدير التأييد الألماني له، فحاول عام 1900 أن يثبت سيادته عملا بتلك المشورة. لكن إنجلترا كانت ساهرة، فاضطرت الطوابير التركية إلى الانسحاب بأمر من قائد أسطول الخليج الفارسي، وبقيت الحال على ما كانت عليه، وعادت تركيا عام 1902، فاحتلت جانبا من الشاطئ شمالي الكويت، فقابلت إنجلترا ذلك عام 1903 بإعلان حمايتها لهذا الثغر. وعينت وجهة نظرها بالدقة تلقاء المطامع الألمانية، إذ قال اللورد لانسداون في 5 مايو عام 1903 بمجلس اللوردات: (إني أقول غير متردد إننا نعد قيام دولة أخرى بإنشاء قاعدة بحرية أو ثغر محصن في الخليج الفارسي تهديداً خطيراً للمصالح البريطانية، ونحول دونه حقاً بكل ما لدينا من وسائل)
ثم عقدت إنجلترا اتفاقاً مع تركيا في الربيع من عام 1914 عين البصرة مكاناً تنتهي فيه السكة الحديد البغدادية؛ وشرط الاتفاق أن يكون لإنجلترا في مجلس الإدارة بشركة هذا الخط عضوان يشرفان على كل ما يتعلق بإدارة مرحلته بين بغداد والبصرة؛ واعترفت إنجلترا في الاتفاق بسيادة تركيا على ثغر الكويت بشرط أن يحترم السلطان ما يتمتع به شيخه من الاستقلال الذاتي، ويحترم أيضاً ما بين الشيخ وحكومة لندن من الاتفاقات؛ ونزلت تركيا عن حقوقها على جزر البحرين وشبه جزيرة قطر، وأراضي عمان حتى مسقط؛ وشرط الاتفاق أيضاً لإنجلترا حرية الملاحة على دجلة إلى بغداد، وحق الإنارة ووضع علامات المخاطر، وحق القيام بأعمال البوليس أي حفظ النظام والأمن، وذلك كله في النهر وفي الخليج جميعه
ولما أوضحت الاتفاقات الدولية الموقف إيضاحاً كافياً رأت الحكومة الإنجليزية أنها أصبحت بعد ذلك على استعداد لمباحثة الحكومة الألمانية رأساً، ورغبت في عقد اتفاق مع ألمانيا، فكلفت هذه البرنس لخنوفسكي سفيرها في لندن أن يفاوض السيرجراي، وتقارب وجهتا النظر قبيل الحرب الكبيرة الماضية تقارباً يفتح باباً للأمل في عقد اتفاق شرقي ومعاهدة استعمارية بين ألمانيا وإنجلترا، وقد عقدت هذه المعاهدة في 15 يونية عام 1914 وأشار إليها السيرجراي في مجلس العموم في 29 من الشهر عينه، وسميت معاهدة بغداد.(636/5)
وقد اعترفت فيها إنجلترا لألمانيا بامتيازات عظيمة، إذ أصبح لها حرية التصرف في السكة الحديد الأناضولية وسكة بغداد، مع احتفاظ إنجلترا بجميع حقوقها السابقة في هاتين المنطقتين. لكنها نجحت في إبعاد منافستها إبعاداً مؤقتاً على الأقل عن شواطئ الخليج الفارسي. فكان من الممكن إذن أن تنجح يوماً في تحقيق مشروعاتها المتعلق بإنشاء سكة حديد إمبراطورية إنجليزية تصل بور سعيد بالكويت، ثم تمتد على الشواطئ الإيرانية إلى الهند. ويقول البرنس لخنوفسكي في مذكراته: (كان الغرض من هذه المعاهدة في الواقع تقسيم آسية الصغرى (مناطق نفوذ)، غير أنه كان واجباً أن نتفادى من استعمال هذه العبارة بأعظم عناية مراعاة لحقوق السلطان)
ولاشيء أدل من اعتراف البرنس لخنوفسكي هذا على ما يجب أن يعرف الشرقيون من معنى صداقة الدول المستعمرة ومعنى التصريحات السياسية المتعلقة بحفظ كيان الإمبراطورية العثمانية كتصريح وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم بشأن تأمين فرنسا في اتفاق عام 1912 المتعلق بسورية؛ وليس أوضح من ذلك الاعتراف في بيان ما يجب أن يفهم الشرق من معاني الاستقلال وما شاكل هذه الكلمة على ألسنة السياسات الاستعمارية
ولاشك في أن الاتفاق الثلاثي بين فرنسا وروسيا وإنجلترا جعل غليون الثاني على يقين من أنه لا يستطيع تحقيق أطماعه في الشرق بغير التجاء إلى القوة، لكنه مع عزمه على الحرب كان راغباً في تأجيل موعدها إلى اليوم الذي تصبح فيه قوة الأسطول الألماني مساوية قوة الأسطول الإنجليزي. أما الاتفاقات الشرقية التي قبل أن يعقدها، فكان غرضه منها تأخير أجل الحرب على أمل أن يفك عرى ذلك الاتفاق الثلاثي بسياسته. بيد أن الحرب البلقانية الثانية انتهت بمعاهدة بخارست المعقودة في 10 من أغسطس عام 1913، وقد وزعت معظم الأراضي العثمانية في أوربة على أكبر دول البلقان شأناً، خصوصاً سربيا واليونان، فسببت بذلك اندفاع ألمانيا في سبيل الحرب وانجرار إمبراطورية النمسا والمجر معها: فقد كان الإمبراطوران يتوقعان أن يسحق الترك سربيا واليونان، فإذا بهاتين الدولتين تصبحان سداً أمام ألمانيا في طريق الشرق وأمام إمبراطورية النمسا والمجر في طريق سلانيك وازدياد قدرة سربيا بمنع تنفيذ برنامج التوسع الجرماني بالحيلولة دون كل(636/6)
وصلة تجتاز البلقان بين أوربة الوسطى والإمبراطورية العثمانية. من أجل ذلك لم يكن في وسع الإمبراطوريتين الجرمانيتين أن تعدا معاهدة بخارست نهائية، فلم يبق بد من الحرب في أجل قريب. ولذا اتخذتا حادث سرجيفو حجة لإشعالها، لأنهما كانتا متأهبتين لها. ويقول السفير مرجنتو في مذكراته عام 1919: (الآن يعرف العالم إن لم يعرف عام 1914 أن ألمانيا تعجلت الحرب لتهدم سربيا وتتولى الإشراف على الأمم البلقانية وتحول تركيا إلى دولة تابعة لها، وبذا تتبنى إمبراطورية شرقية واسعة، لو بنيت لكانت أس سيادة عالمية لا حد لها)
محمد توحيد السلحدار(636/7)
أول صلاة في الإسلام
صلاة الركعتين
للدكتور جواد على
جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يخلو وحده بغار حراء شهراً في السنة وكانت هذه الخلوة أحب شيء إلى نفسه. (يتعبد فيها الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق). ونزل عليه الوحي. وهى عادة على ما يظهر كانت معروفة عند المتدينين من عرب الجاهلية.
ولم تعين كتب السير والأخبار نوع تلك العبادة ولا كيفيتها ولم ترسم صورة واضحة لتلك العبادة التي كان يقوم بها الرسول في ذلك الغار. (ولم يجيء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام) والظاهر أنها خلوة ينقطع فيها النبي عن الناس ويقل اختلاطه في أثنائها بأهله وكانت هذه أحب شيء إلى نفسه لينصرف بدون إزعاج مزعج إلى التفكير في خلق السموات والأرض وحل لغز هذا الوجود).
ونزل عليه الوحي وهو بهذا الغار وفرضت عليه الصلاة مع نزول الوحي عليه مباشرة على رواية أو بعد ذلك بأيام أو بمدة على رواية أخرى. قال ابن أسحق (إن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه السلام ثم صلى بها رسول الله عليه السلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته).
وهذه الرواية هي رواية ابن أسحق - ولا يفهم منها بأن الصلاة فرضت بنزول الوحي على الرسول مباشرة أي في اليوم الأول من نزول الوحي كما يفهم ذلك من رواية أخرى، وقد أجملت ذكر الصلاة فلم تفصل كما فصل ذلك نافع بن جبير. وقد ذكرت الوضوء وهذا يخالف ما ذهب إليه العلماء من أن الوضوء لم يفرض مع الصلاة مباشرة كما إنه لا يتفق(636/8)
مع وقت نزول الآية التي شرعت الوضوء وهي آية (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) وهذه الآية مدنية، ومعنى ذلك أن الأمر بالوضوء إنما وقع ذلك في المدينة أي بعد الهجرة. وهذا ما لا يتفق ورواية ابن أسحق كما سترى ذلك في بحث الوضوء والطهور.
وترى الرواية الثانية أن الصلاة إنما فرضت بنزول الوحي مباشرة أي في اليوم الأول من أيام الوحي. (جاء في سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له (باقرأ باسم ربك) حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الاثنين. ويوافقه ظاهر ما جاء: أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة. فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها. . . . . . الخ).
وليس هنالك أي دليل قوي يقوي رواية من يقول بأن فرض الصلاة كان في اليوم الأول من نزول الوحي والحديث المشهور عن كيفية نزول الوحي على الرسول ثم ذهابه إلى خديجة وانطلاق خديجة به إلى ورقة بن نوفل لا يؤيد هذه الرواية ولو كان فرض الصلاة في هذا اليوم لوجب نزول الوحي بذلك؛ وكل الآيات القرآنية التي تشير إلى الصلاة هي متأخرة بالنسبة إلى نزول الوحي. وفي سورة اقرأ (العلق) وهي أقدم سورة من سور القرآن ولاشك ذكر للصلاة حيث ورد (أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى) ولكن الذي نزل في غار حراء من هذه السورة هو إلى (علم الإنسان ما لم يعلم) أي إلى الآية الخامسة، وأما ما بعد ذلك فلقد نزل متأخراً فتكون الآية السابقة متأخرة إذاً، ومعنى هذا أن الأمر بالصلاة لم ينزل في غار حراء أي يوم نزول الوحي على الرسول
إذاً فنحن لا نعرف أول يوم نزل فيه الوحي بالصلاة على وجه التأكيد. ثم إننا لا نعرف كيف بدأت الصلاة. نعم هنالك روايات ولكنها متناقضة وتحتاج إلى بحث عميق. ويجب الرجوع قبل كل شيء ولاشك إلى القرآن الكريم. وإلى ما كتب حوله من تفاسير ومعرفة(636/9)
أسباب النزول وترتيب النزول والناسخ والمنسوخ وتمييز الآيات المكية من الآيات المدنية، ووضع تواريخ ثابتة لأوقات نزول السور والآيات.
أما القرآن الكريم فكتاب سماوي مثل سائر الكتب السماوية جاء بأحكام أساسية عامة وشرعاً للناس. أحكامه أساسية عامة شرحها النبي لأصحابه وسأل الصحابة الرسول عن الآيات ومفردات الكلمات. وقد رتبه وجمعه نفر من الصحابة. لذلك كان على المسلمين معرفة ترتيب النزول. ولم يتعرض القرآن في أي مكان منه إلى تفصيل كيفية الصلاة وعددها في اليوم، وقد أجهد المفسرون أنفسهم لشرح ذلك وتفسيره تفسيراً يظهر منه عدد الصلاة في اليوم وكيفيتها، ولكننا لا نستطيع في هذا اليوم أن نقول بأنهم نجحوا في ذلك، لأن القرآن الكريم يترك أمر الشرح والتفسير إلى الرسول. وعقول الصحابة مختلفة في الوعي والفهم والقرب من الرسول لذلك كانت شروحهم مختلفة وتفاسيرهم متباينة في بعض المواقف وهذا مما يزيد في موقف المؤرخ في هذا اليوم صعوبة وحرجا.
جاء عن نافع بن جبير بن مطعم وكان نافع كثير الرواية عن ابن عباس أنه قال: (لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصباح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله، ثم صلى العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفراً غير مشرق)
والذي يفهم من رواية نافع هذه أن الصلاة حينما فرضت فرضت خمس مرات في اليوم رأساً وأن جبريل عين للرسول أوقاتها، أولها ومنتهاها، كما عين ذلك الفقهاء فيما بعد ولم تعين الرواية الوقت الذي فرضت فيه هذه الصلوات الخمس وهي رواية تخالف رواية حديث الإسراء. تلك الرواية التي تكاد الأخبار الإسلامية تجمع عليها؛ فلو حملنا رواية نافع هذه على محمل خبر الإسراء وافقت هذه تلك الرواية وإن كانت تخالفها أيضاً في المعنى، ففي رواية الإسراء أن الرسول حين انتهى إلى السماء السابعة فرض الله عليه خمسين صلاة كل يوم، ثم إن الرسول سأل ربه أن يخفف عن أمته فخفف عنه وعن أمته حتى(636/10)
أصبحت خمس صلوات في اليوم.
فليس لجبريل في حديث الإسراء بالنسبة إلى الصلاة مقام وليس في هذه الرواية تحديد وقت ولا ذكر للوضوء الذي جاء متأخراً بالنسبة إلى الصلاة. وتظهر رواية نافع ضعيفة تجاه الشروح والتفاسير والأخبار التي تناولت هذه القضية.
إن أول إشارة إلى الصلوات الخمس هي تلك الإشارة التي وردت في حديث الإسراء. جاء في هذا الحديث أن الرسول لما انتهى إلى السماء السابعة (فرض الله عليه خمسين صلاة كل يوم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت راجعاً فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة كل يوم، فقال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك، فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً، ثم رجعت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألته فوضع عني عشراً، فمررت على موسى ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال فارجع فاسأل حتى انتهيت إلى وضع ذلك عني إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ثم رجعت إلى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل؛ فمن أداهن منكم إيماناً بهن واحتساباً لهن كان له أجر خمسين صلاة). وهذه الرواية هي رواية عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبو حبة الأنصاري.
وتختلف هذه الرواية في تعيين منازل الأنبياء وأماكنهم وأماكنهم في السموات السبع حين مر النبي عليهم عن الترتيب المألوف في سلسلة الأنبياء. يلاحظ أن الترتيب في هذه الرواية على اختلاف الروايات لم يراع فيه ترتيب النبوة وسلسلة أوقات الأنبياء، إذ جعلت مكان آدم في السماء الأولى ثم انتقلت رأساً إلى عيسى مع أنه آخر الأنبياء قبل محمد فجعلته في السماء الثانية وكان الأولى أن يكون في السماء السابعة أو السماء الأولى إن روعي في ذلك آخر السلسلة، وجعلت مكان يوسف بن يعقوب في السماء الثالثة وإدريس في السماء الرابعة ثم هرون بن عمران في السماء الخامسة مع إنه لم يكن نبياً من الأنبياء، وجعلت في السماء السادسة موسى بن عمران وفي السماء السابعة إبراهيم.(636/11)
ويلاحظ أيضاً أن الرسول حينما هبط من السماء السابعة بعد أن كلف بخمسين صلاة في اليوم لم يتكلم مع إبراهيم وهو أول نبي يمر عليه الرسول بضرورة الترتيب بل كان كلامه مع موسى وهو في السماء السادسة كما رأيت وهو الذي أشار على الرسول بالرجوع ليسأل الرب عن التخفيف. والظاهر أن سبب جعل إبراهيم في السماء السابعة هو لكونه صاحب الديانة الحنيفية التي كان يدين بها من رفض عبادة الأصنام من العرب.
وقد كان الرسول يدين بدين إبراهيم (ملة أبيكم إبراهيم) وإبراهيم أبو المستعربة جاء في هذه الرواية حينما سأل النبي جبرائيل عن الشخص الذي رآه لأول مرة في السماء السابعة (هذا أبوك إبراهيم).
وأما تخصيص موسى بالكلام فالظاهر أن ذلك كان لما عرف عن بني إسرائيل من عقوق. ولما خالفوا به أوامر أنبيائهم كما هو معروف في التوراة ولكثرة الصلوات عند اليهود.
وأما رواية أنس بن مالك فتختلف عن رواية ابن مسعود بعض الاختلاف في قضية ترتيب الأنبياء ولكنها تتفق بعد ذلك في قضية إشارة موسى على الرسول بطلب التخفيف.
وفي هذا الحديث أول إشارة إلى الصلوات الخمس في الإسلام، وقد حدث الإسراء بثلاث سنين أو سنتين أو بسنة قبل الهجرة أو بست أو بضعف، إذاً فتكون الصلوات الخمس قد فرضت في هذا الوقت في الإسلام ويستند قولنا هذا على حديث الإسراء طبعاً أما في القرآن الكريم فلم يرد في الإسراء طبعاً شيء عن الصلاة. وأما الآية الكريمة التي ذكرت الإسراء فقد تناولت الإسراء بصورة عامة ولم تتعرض إلى كل ما ذكر في حديث الإسراء مما حدثه المحدثون، والحديث يحتمل التصديق ويحتمل التكذيب وليس بشيء تجاه القرآن.
يقول المستشرق ميتوخ (أما متى بدأ الرسول بأول صلاة من صلواته ثم متى أصبحت الصلاة واجبة في الإسلام فإن الإجابة على ذلك إجابة تاريخية صحيحة إن لم تكن مستحيلة فإنها صعبة حتى الآن. غير أن الرأي الإسلامي هو أن الصلوات الخمس إنما فرضت في ليلة الإسراء أي قبل سنة ونصف من الهجرة).
وقد بذل المفسرون جهوداً عظيمة لتفسير الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر للصلاة وللتوفيق بين هذه الأبيات وبين الحديث بدون أن يتوصلوا إلى نتائج مقبولة ليس للحمل ولا التأويل فيها مقام. وذلك لأن الصلوات اليومية الخمس لم تذكر في أي مكان ما من(636/12)
القرآن ذكراً صريحاً فصار المفسرون يجهدون أنفسهم لتأويل الآيات تأويلا يفهم منه بأن المقصود من الآيات التي نوه فيها بذكر أوقات الصلاة الصلوات اليومية الخمس.
على أننا إذا ما قرأنا الآيات القرآنية ودققنا في الحديث كحديث عائشة وهو: (فرض الله تعالى حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر). نتوصل إلى شيء آخر، نتوصل إلى أن الرسول كان يصلي قبل الإسراء حتما وأن صلاته كانت ركعتين فقط في كل صلاة. وأنه كان يصلي مرتين في اليوم، مرة في الغداة ومرة في العشى. كما يفهم ذلك من الآية: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
فجاء في هذه الآية اسم صلاتين هما صلاة الفجر وصلاة العشاء. وتؤيد هذه الآية الروايات التي وردت في الحديث والسير من أن الرسول كان يصلي مرتين في اليوم مرة عند بدء النهار ومرة في آخر النهار.
والظاهر أن الرسول كان يتعبد طويلا في الليل في أيام بعثه الأولى وأنه كان (يتهجد) في الليالي يدعو الله ويصلي إليه وكان يقرن ذلك بقراءة القرآن. وقد كانت قراءة القرآن وقت الفجر من القراءات المحببة إلى الرسول (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل. وقرآن الفجر أن قرآن الفجر كان مشهوداً).
أخذت عبادة الليل وقتا طويلا من أوقات النبي حتى أجهدته. جاء في الأخبار (لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد بقوله تعالى (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم). وهو الناسخ لما قبل ذلك من التحديد في أول السورة(636/13)
الحاصل بقوله (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا). وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء.
وجاء (أول ما فرض عليه الإنذار فالدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس). وبعد افتراض الصلوات الخمس اقتصر العباد والزهاد من الصحابة على التهجد وقيام الليل تقربا إلى الله وتطوعا منهم وقربة.
كان (التهجد) إذاً عبادة ليلية يقوم بها الرسول (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً). مقرونة بتلاوة ما تيسر من القرآن. وهو عبادة اختيارية طبعاً يقوم بها الإنسان تقربا إلى ربه لا يحاسب الإنسان فيما إذا أهملها لأنها غير مفروضة كما رأيت.
(البقية في العدد القادم)
جواد علي(636/14)
حديث المائدة
للأستاذ زكي نجيب محمود
رحم الله يوماً كانت فيه النفس ساذجة يافعة، تسير مطمئنة في طريق لا تلتوي وسبيل لا تجور، وتثب إلى الإيمان بما يروى أو يذاع وهي آمنة في حصن منيع من الرضى، لا تنفذ خلاله خلجة من الشك أو نزعة من الجحود والإنكار
ولعن الله يوما أزيل فيه ما ران فوق البصيرة من غشاء، فقد ودعت النفس عندئذ تلك الطمأنينة الراضية. واستقبلت شكا ملحاً مضنياً يمقت راحة التصديق، ويأبى هدوء الإيمان، ولا يطمئن إلى ما تواضع الناس عليه، لا يفرق في ذلك بين معقول ومنقول، فقد غدا كل شيء موضعاً للتفكير وخاضعاً للشك والرفض والإنكار
قال ذلك صاحبي وهو يتحدى أن يكون في العالم حقيقة واحدة تبلغ حداً من التعيين يستعصي على الشك ولا يلين للنقد والرفض، ويهزأ بتلك البدائه التي نزلت عند الناس منازل الإيمان. وكان يسائلني في شيء من السخرية: هل يمكن أن تكون للعقل كرامة موفورة في الاستسلام والرضى؟! فهو يستمرئ مرارة الشك، ولا يعدل بعبئه المضني جنات عرضها الأرض والسماء، ولو أنه كان يود أن لم يكن ذلك الشك، وأن تزل تلك السذاجة البريئة المطمئنة الراضية
قال محدثي: قد تظن أنك تعلم طائفة من المعارف لا يحدها حصر ولا عدد، تبلغ ألوف الألوف، بل ألوف الملايين، كلها ثابت لا تزعزع يقينه عواصف الشك مهما بلغت من قوة وبأس. انظر! هذا مقعد، وتلك مائدة تنتثر عليها طائفة من الكتب، وهذه نافذة تستطيع أن تشهد خلال زجاجها شمساً ساطعة وسماء زرقاء، وسحباً وكفاء تسير الهوينا مع الريح. . . نعم، وهاأنت ذا تصيح فتسمع صوتاً ينبعث هنا وجلبة تضطرب هنالك، هذه أبواق سيارات تصبح فيتبينها سمعي وسمعك على السواء، وذاك صراخ أطفال يلعبون ويمرحون. . . هذه أصابعك تنزلق فوق المائدة فتصادف جسما صقيلا ناعماً، ثم تمر على شعرات الفرجون فلا تشك في خشونتها. . . نعم! لقد يخيل إليك أنك تعلم هذا كله، وتعلم آلافاً من أشباهه علم اليقين، بل وتعلم فوق هذا كله طائفة من الحقائق المركبة المعقدة، أفلا تعلم أن الشمس تكبر الأرض، وأنها تشرق كل صباح وتغرب كل مساء لدورة الأرض(636/15)
حول محورها مرة في كل يوم، وأنها ستمضي في الشروق والغروب ما بقيت الأرض أرضاً والسماء سماء؟ إنك لا تشك في صحة هذه الحقائق، ولعله لا يرضيك أن تراها يوماً موضعاً للشك، ولكنك يا صاح لا تكاد تصوب نحو أي منها أشعة التفكير، حتى يتبدد ذلك اليقين هباء، ويندك من أساسه حيث يسلم بناءه لمعول الشك يعمل فيه، فلا يرتفع عنه إلا وهو أنقاض لا تغني ولا تفيد.
وضرب صاحبي بقبضة يده فوق المائدة وقال: خذ هذه المائدة مثلاً! أفتشك في أنها مصنوعة من خشب قد طلبت باللون الأصفر، وأنها مستطيلة الشكل ناعمة الملمس؟ فناظراك ينقلان إليك لونها وشكلها، وأناملك تحس نعومة صقلها، وأذناك لا يخطئان رنين الخشب إذا ما نقرت ظهرها بإصبعك، ومن تلك الحقائق الجزئية التي سلكت إلى ذهنك هذه الطريق أو تلك تكونت في نفسك صورة للمائدة قوية واضحة، تستطيع أن تستعيدها على صفحة الذاكرة كاملة، إذا ما حال بينك وبينها حائل
ولكن من أدراك يا صاح أن هذه المائدة موجودة فعلا؟ أفلا يجوز أن تكون الحواس خادعة تبدع لك وجوداً من عدم؟ هل يبعد أن يكون اللون من خلق البصر، بل وأظنه كذلك عند العلم والعلماء الذين يستمع إلى قولهم إذا قالوا، فهم لا يعترفون بأكثر من موجات، تطول حيناً وتقصر حيناً، فتتلقاها العين ثم تأخذ في ردها إلى هذا اللون أو ذاك، وإذن فالعلم - وهو جهينة هذا الجيل - ينكر أن يكون للون وجود في الواقع. . . وقل مثل ذلك في صوت هذه النقرة التي بلغت أذنيك فأنبأتك بأنها للوح من الخشب، فهي الأخرى موجات صامتة في الواقع، صائتة في أذنك أنت!. . . وهكذا تستطيع أن ترد ما تنقله إليك الحواس جميعاً عن حقيقة المائدة، وإذن فهي وهم تآمرت على نسجه الحواس، ليس له وجود حقيقي في العالم الخارجي
وهبها حقيقة موجودة لاشك في وجودها، فهل تراك تعلم من أمرها شيئاً؟ أنعم النظر في لونها الذي خيل إليك للنظرة الأولى إنه أصفر، ألا ترى أشعة من الضوء تنعكس على سطحها الصقيل، فانقلب في بعض المواضع أبيض أو قريباً من الأبيض؟ در حول المائدة ينتقل موضع الضوء، وإذن فلون المائدة يختلف باختلاف موقفك، فلو جلس حول المائدة عشرون شخصاً، وأمسك كل واحد لوحة ينقل فوقها المائدة بلونها كما يراها، لاجتمع لديك(636/16)
عشرون رسماً لا يشبه بعضها بعضاً، فأين الحقيقة بين هذه العشرين؟ إني لأرى شفتيك تفتران عن ابتسامة ساخرة من هذا الهراء، أو ما تحسبه أنت هراء، ولكنه حق لاشك فيه، فلو رضت عينك على النظر إلى الأشياء بحيث ترى ما يقع عليها من مختلف الألوان، إذن لرأيت لكل شيء عشرات وعشرات من الألوان المتباينة، لا يأبه لها النظر السريع، ويدركها الرسام في جلاء ووضوح. . . لقد شاهدت مرة في معرض أقامه مصور فنان، لوحة تصور منظراً للنيل عند أنس الوجود، فوجدته قد خلع على الماء مجموعة من ألوان لا تراها العين، أو على الأصح يخيل إلى العين أنها لا تراها - فسألته: أين رأيت هذه الألوان التي صبغت بها لوحتك، فأجاب: رأيتها على صفحة الماء، وهو صادق فيما يقول
فليس لون المائدة أصفر وإن لك أنه كذلك، لأنه يختلف مع الضوء وحدة البصر، كما ينعدم في حلكة الليل، وإذن فليس هو صفة لازمة للمائدة في كل وقت وعند كل عين، إنما يتوقف على موقف الرائي والضوء الساقط، كما يتوقف على المائدة نفسها
دع اللون وابحث في نعومة السطح، فعينك المجردة العارية قد تراه صقيلا لامعاً، لا غضون فيه ولا التواء، فإذا ما نظرت إليه خلال المجهر، رأيت سهولا وحزوناً وهضاباً ونجاداً، وكلما ازداد المجهر حدة ازداد السطح تغضناً وخشونة، فأين حقيقة السطح إذن؟ أهو وعر كثير المسالك كما يبدو خلال المنظار؟ أم مستو صقيل كما تراه العين المجردة؟ لا أحسبك تستطيع أن تقطع في هذا بقول صحيح!
ثم انتقل إلى شكل المائدة وحدثني ما هو. . . وإن زعمت إنه مستطيل فمن ذا أنبأك بهذا؟ انك لا ترى استطالة السطح إلا في موقف واحد، وهو أن تنظر إليه من أعلى نظراً عموديا لا يميل، وقل أن يحدث هذا. . . خذ قلما وقرطاساً وحاول أن ترسم سطح المائدة وسترى عجباً، فلن يبدو لك السطح مستطيلا كما تظن بل ستراه يضيق من ناحية أخرى، وكلما نزل مستوى بصرك أو صعد تغير الشكل المنظور، وكلما تحركت قيد شبر واحد تغير شكل المائدة. . . فلو وقف في الحجرة ألف شخص ورسم كل واحد منهم المائدة كما يراها، كان لديك ألف شكل لا يشبه واحد منها الآخر، فهل لشكل المائدة حقيقة واحدة أم ألف من الحقائق؟!
ثم تعال معي نخبرها من حيث الصلابة والليونة. . . اضغطها بين إصبعيك فماذا أنت(636/17)
واجد؟ لا أحسبك شاكا في صلابتها، فهذا ما تحسه يدك، كما يحسه كل إنسان آخر، ولكن هب أن الله قد أمدك بقوة تساوي ألف مثل من قوتك، فهل ترى صلابة المائدة تطل بين إصبعيك كما هي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل؟ كلا! فكلما ازدادت قوة الضغط، قلت نسبة الإحساس بالصلابة، فهي أصلب في ملمس الطفل منها في ملمس الرجل، وهي أصلب في ملمس الرجل منها في مخلب الأسد! فهل ترى من حق الإنسان أن يكون حكما يقضي لهذه بالصلابة ولتلك بالرخاوة، وهو لا يعبر إلا عن شعوره الخاص؟. . . اقرع المائدة بإصبعك تسمع لها صوتا تعهده للخشب، فتظن أن للخشب صوتا يلازمه في كل ظروفه، وأنه لازمة من لوازمه، ولكنك ترفض هذا حين تعلم أن له رنينا آخر إذا نقرته بمفتاح مثلا، وثالثاً إذا ضربته بممحاة وهلم جرا. . .
إذن ليس لون المائدة أصفر على وجه اليقين، وليس السطح مصقولا على وجه اليقين، وليس الشكل مستطيلا على وجه اليقين وليس الخشب صلباً على وجه اليقين، وليس له صوت بعينه. . . وإذن فما نقلته إليك عيناك مشكوك في أمره، وما نقلته إليك أذناك مطعون في صحته، وما نقلته إليك أصابعك موضع للأخذ والرد، فماذا بقي لك من مائدتك التي عهدتها وما شككت يوما في يقينها؟ أفلا ترى الآن أن صورة المائدة في ذهنك قد تنقص عن الواقع، وقد تزيد على الواقع، وقد لا يكون لها واقع على الإطلاق؟!
أخشى أن ينتقل بنا الحديث من المائدة إلى مشكلات فلسفية عميقة، فهي توشك أن تفتح أمامنا أبواب بحث جديد، جدير بالتفكير. هل هناك مادة في الوجود كما يبدو أم هي بدعة أنشأها الفكر البشري إنشاء وخلقها من العدم خلقا؟!. . . هل تعدل مظاهر الأشياء على حقائقها وتنطبق عليها انطباق المثال على المثال أم تختلف عنها اختلافا بعيداً أو قريباً؟!. . .
ثم وضع صاحبي كفه القوية فوق كتفي، وقال في عطف ونصح: فكر في كل شيء، وستشك في كل شيء!!
زكي نجيب محمود(636/18)
الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة الشعر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
سمع هؤلاء الشعراء هذه الصيحة التي صاح بها أدباء المهجر في وجه التقليد فاستجابوا لها لأنهم وجدوا دعوة إلى الصراحة والتعبير عن النفس في وضوح وجلاء؛ والعربي أقرب الناس إلى هذه الصراحة، كما وجدوا فيها خروجاً على التقليد الذي قعد بهم عن الرقي الزمن الطويل، ولهذا صاح كثير منهم في الحجاز في وجه التقليد ودعوا إلى مثل هذه الدعوة التي دعا إليها جبران فقال أحدهم: (بعض من شبابنا الأدباء وبعض من قراء (الكتب القديمة الجامدة) يقرض القطع الشعرية البديعة الناصعة، ناصعة والحق يقال. ولكن ماذا يضمنها من الأفكار؟
ينظمها في الخمريات وفي الغزل وفي المديح وفي الحماسة وفي الحكمة، وكل هذه من الأفكار الميتة التي دفنت مع عصور. . . فلا تصلح لنا. . .
وقال: (أمامنا الوطن، أمامنا العادات والأخلاق، أمامنا الحرية بأنواعها، أمامنا الشرق الكسول، أمامنا التغني بأمجاد الشرق، أمامنا العرب بحالتهم السياسية، أمامنا الغرب باختراعاته)
هذا هو الروح الجديد المتوثب الذي سرى في شباب المدرسة الحديثة في الحجاز، ولعل القارئ يدرك التشابه بين هذا الروح واتجاه أوباء المهجر، بل لعله مدرك التشابه في الأسلوبين وطريقتهما.
ولما كان أدباء المهجر أحراراً في كل شيء، متمردين على القيود القديمة والأغلال المتوارثة، فقد بدأ هذا التحرر في القافية وطريقة الوزن الشعري والموضوعات والمعاني والأخيلة، ومن ثم تابعهم شعراء الحجاز المجددون في كل هذا: فالكثرة الغامرة من قصائدهم لا تتبع قافية واحدة، والمربعات والمخمسات والدويبت والموشحات تفوق عندهم القصائد وتربى عليها. ونحن نسوق هنا مثلا من الطرق التي يتبعونها في قافيتهم. فمما جاء(636/19)
من ذلك مناجاة (لحسن فقي) يناجي فيها القمر ومنها:
حسبي من الدنيا الحقيرة أن أراك لدى المساء
تلقى بنورك في القلوب كبلسم يزجي الشفاء
فأعود بالذكرى إلى عهد اللذاذة والهناء
وأبث ما يجد الجنان
حسبي من الدنيا بقاؤك ساطعاً فوق الهضاب
مترنحاً من نشوة الحسن المسيطر والشهاب
متطلعاً من عرشك العالي إلى أسرى العذاب
ترنو إليهم في حنان
بل إن الشاعر هنا لا يريد أن يعترف بشطري البيت فساقه جملة كما يفعل شعراء المهجر أيضاً.
ومن الطرائق التي يتبعونها في القافية أن يغير الشاعر القافية في كل بيت، ولكنه يذيله بكلمة متحدة القافية مع الكلمات الأخرى وفي هذا النوع يقول الشاعر (عمر عرب) في قطعة عنوانها (عصر الشباب).
حدثيني عن الصبا والشباب ... عن زمان الهناء بين الصحاب
حدثيني
حدثيني عن الهوى يا مهاتي ... إن هذا الحديث يحيي رفاتي
حدثيني
ويقول:
لست أسلو هواك يا هند يوما ... لا ولم أخش في عذابك لوما
صدقيني
ذكريني بذلك العهد هند ... كيف نلنا الآمال والعيش رغد
ذكريني
وهكذا يحاول شعراء المدرسة الحديثة أن يتخلصوا من قيود القافية؛ حتى ليسوق إليك بعضهم كلاما يخيل إليك بادئ الأمر أنه نثر، فإذا أطلت النظر فيه وجدته شعرا ونثرا؛ وقد(636/20)
التزم في بعضه الوزن وأطلق الآخر حراً دون قيد، ومن ذلك كلمة للأديب (عزيز ضياء) عنوانها (عيد) يقول فيها بعد كلام طويل وصف فيه مغيب الشمس قبلة ليلة العيد. . .
ثم لما ابتلعها لحدها وغيبها دهرها
صاح في الروض طير
لقد ماتت ذكاء
فكان يوم قديم قد مر وكان شهر قديم قد انقضى
وجن جنون السحاب الحزين
فناح نواحا يثير الحنين
وراح يناجي الربى والحزون
يمزق فوق الربى وجهه
ويهرق فوق الثرى دمعه
ولم يرث قلب لتلك الدموع
ففاض المحب بأنفاسه
وراء الجبال وراء الحبيب. . . الخ
فلعلك مدرك بعد هذا أن الأديب هنا قد جمع بين الشعر المنظوم والشعر المنثور وأن الفقرة التي أولها (وجن جنون السحاب الحزين) شعر موزون من بحر المتقارب ولكن الأديب لم يلتزم فيه قافية متكررة. على أنك واجد في بقية القطعة تحرراً من الوزن والقافية معاً.
ويجب أن يستقر في أذهاننا أن تقليد الحجازيين المتئدين منهم والمتوثبين تقليد قوي لا تغني فيه شخصياتهم وإنما يقلدون غيرهم في الطرائق والمناهج ويصورون بعد ذلك عواطفهم وبيئتهم، فهم متأثرون بهذه البيئة أشد التأثر: متأثرون بطبيعة أرضها وعادات أهلها وآمالها وعقائدها.
والشاعر إذا شعر تجد في ثنايا شعره كل هذه الاتجاهات واضحة جلية:
يقول معالي الدكتور هيكل باشا: (ثم إن الأديب يتأثر دائما بالبيئة التي تحيط به كما يتأثر بأحداث الزمان، وإذا كانت هذه الأحداث قد بعثته في الحجاز، حتى جعلت أهله يتطلعون إلى غيرهم من الأمم المجاورة لهم، فإن البيئة العربية الصحيحة التي لم تتغير، قد بقي لها(636/21)
أثرها في هذا الأدب، شأن كل بيئة في أية أمة من الأمم، ولعل أثر البيئة الطبيعية أكثر وضوحا في شعر أدباء الحجاز منه في نثرهم. .)
ونحن إذا أردنا أن نلتمس الدليل على ذلك وجدناه واضحاً جلياً، فهم مع اطلاعهم على الآداب الأخرى لم ينسوا أن يصفوا جبالهم وهضابهم وما ينبت في أرضهم من أثل وأراك، فعبد الوهاب آشي يقول:
بلاد حبتها الطبيعة ما ... يحبب للقلب أدوارها
جبال تناطح جون السحاب ... وتوحي إلى النفس أفكارها
تنائف تمرح فيها الوحوش ... تساجل في الدوح أطيارها
ومشتبك الأثل في غابها ... كما جارة عانقت جارها
إذا الليل أرخى ستائره ... أرتك الكواكب أنوارها
وفي الأبيات الآتية ما يصور للقارئ ناحية من نواحي الحياة بالجزيرة حيث يقدم استعراض عام للجيوش، فتبدو الخيل صاهلة والإبل ترغو والأعلام خافقة، وقد قيلت في الاستعراض الذي أقيم احتفالا بنجاة جلالة الملك ابن السعود من حادث المطاف 1353 هجرية:
في موكب (العرضة الكبرى) وقد لعبت ... فيها الرماح وقامت ترقص القضب
والخيل تصهل والأعلام خافقة ... والأسد تزأر والآفاق تصطخب
والإبل ترغى وأصوات البنادق ... كالرعد المدمدم تروي رجعها السحب
ولما كان اتصالهم بالثقافة الحديثة اتصال الدائب المجد، اتصال الذي لا يترك كتابا ظهر في عالم التأليف حتى يأتي عليه، لما كان هذا فقد رأيناهم يعالجون الموضوعات النفسية ويأتون ببعض من المعاني الفلسفية التي تتصل بالروح والحياة والغرائز البشرية، فأحمد قنديل يناجي الحياة في قصيدة طويلة جاء فيها:
أنا بين ماضي المنير وحاضري الد ... اجي وتحت غمامة المستقبل
متفائل متشائم في فكري الد ... امي عراك هائل لا ينجلي
أبداً أظل برحلتي كالهائم الد ... اعي إليك بحيرة وتأمل
لا تصطفين سوى محب حام حو ... لك هائم متعزز لا يستكين(636/22)
ولثمت فاك فكان خمري اللمى حلو الرحيق
لكن نشدت الطهر فيك فما وجدت له عبوق
إلى أن يقول:
من أنت؟ بل قولي بحقك: من أنا؟ فأنا الصديق
المكره الصادي الفؤاد، أنا الأسير أو الرفيق
أنا من ولدت مزوداً بهواك يجري في العروق
سأظل حولك ساخراً دهشا بذياك البريق
متصابياً أسقي الرضا حيناً وأشوي بالحريق
حتى إذا انكشفت ستارتك الصفيقة في الضيق
سأكون ويلك مع ضحاياك الرقود بذي الشقوق
وأعود في كنف الخلود أو السما روحا طليق
وقد اتفقت كلمة شعراء الحجاز من المدرستين على أن يطرقوا من موضوعات الشعر ما يلامس الحياة الواقعة، ويتصل بآمالهم ومآربهم، فهم يتناولون الموضوعات القومية والاجتماعية التي يحتاجون إليها في مجتمعهم؛ فالشيخ محمد سرور الصبان يقول في الوطن:
أنا لا أزال شقي حب ... ك هائماً في كل واد
زعم العواذل أنني ... أسلو واجنح للرقاد
كذبوا وحقك لست أ ... قدر أن أعيش بلا فؤاد
ولسوف أصبر للمصا ... ئب والكوارث والبعاد
حتى أراك ممتعاً ... بالعز ما بين البلاد
ويقول الأستاذ أحمد العربي في قصيدة له عنوانها (أيها العيد)
أيها الموسرون رفقا وعطفاً ... وحناناً بالبائس المحزون
ربما بات جاركم طاويا جو ... عا بتم تشكون بشم البطون
ربما ظل طيلة العيد يستخفي - من الصحب قابعاً كالسجين
يتوارى من سوء منظره الم ... زري ومن حاله الكريه المهين(636/23)
أي فضل للعيد يستأثر الم ... ثرون فيه بالطالع الميمون؟!
والفقير الكئيب يرجع منه ... بنصيب المرزأ المغبون؟!
وشعراء الحجاز منذ أن تفتحت أمامهم نواحي النهضة الحديثة يعالجون بشعرهم الموضوعات السياسية ويرون أن النهضة لن تكون إلا إذا تعاون العرب جميعاً في أقطار الأرض. وفيما يلي أبيات للأستاذ الغزاوي يخاطب فيها مصر:
يا مصر أنت وقد دأبت منارة ... للمهتدين وسعيك المترسم
يا مصر ما أولى بنيك بقومهم ... فعلام يوغرك الخلاف المبهم
يا مصر قد أغضبت عمن ليلهم ... فيك السهاد وفي جمالك تيموا
يا مصر يا أم الحضارة والنهى ... مهلا فحبك في الجوانح مدعم
يا مطمح الأمل العتيد وعزة الماضي ... ضنى المجيد وما أظل ويقدم
يا ربة الأهرام والمجد الذي ... ما زال في أمم البسيطة يكرم
إلى أن يقول:
ردي على تحيتي فلا متى ... قلب عليك مع العتاب مقسم
ويقول الأستاذ عواد من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ميادين القتال:
يستشير المجد في عمل ... هائل المغزى يعظمه
حيث موسيقا الخلود إذا ... طوحت بالجبن تحطمه
والصدى كالصوت صاعقة ... والصفوف السود تزحمه
يسأل الأقدار هل يده ... تغسل العدوان أو دمه؟
فإذا بالكون ليل أسى ... تتهاوى فيه أنجمه
وإذ الأصداء قائلة: ... قول صدق لا تجمجمه
أيها التاريخ ذا بطل ... فعله للخلد مسلمه
ومن الأغراض التي نالت حظا من الرقي (الغزل) فقد اتجه الشعراء فيه إلى ذكر الهوى والشوق وتوجع الصبابة وفي الأبيات الآتية وهي (لمحمد حسن فقي) ما يدل على صدق العاطفة وتدفق الشعور:
لا أنت يا قلب بالسالي فتهجره ... ولا الوصال بميسور ولا داني(636/24)
عش هكذا خافقا يا قلب مكتئبا ... فليس حزنك بعد اليوم بالفاني
أواه! إن جحيم الحب يصهرني ... فما الذي بجحيم الحب أصلاني؟!
لا آخذ الله من أصمي بمقلته ... قلبي وغادرني نهبا لأشجاني
إليه ابعث أتاني مؤججة ... ومنه أقبس أشعاري وألحاني
وفيه ألتذ بالبلوى وأحمدها ... إن كان يرضيه تعذبني وهجراني
وليس عجيبا أن يجيد العربي ذكر الهوى والغرام؛ فهو عفيف لم تلوثه المدنية بآثامها، ولم يسلس قياد المرأة له حتى تنطفئ جذوة غرامة وتحبو حدة حبه. فلا تكاد فتاة المدن في الحجاز تتجاوز عهد الطفولة حتى تحتجب عن الأنظار ويضرب الحجاب بينها وبين الشمال، ويصبح من المحال أن يلتقي شاب بفتاة أو أن يختلس منها نظرة عابرة.
وفي الشباب الحجازي عاطفة متقدة، أملتها عليه طبيعة هذه البلاد المتقشفة. فهو إذا تحدث عن الهوى كان حديثه حديث من حدث شهواته، فخرجت أبياته زفرات وآهات ملتهبة. قال الأستاذ حمزة شحاته:
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق ... عز حتى السلام عند التلاقي
يا معافى من داء قلبي وحزني ... وسليما من حرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأس في وجهي ... وهول الشقاء في إطراقي
أي سهم به اخترقت فؤادي ... حين سددتها إلى أعماقي
إذ تهاديت مبدلا نظرة العطف ... بأخرى قليلة الإشراق
مسرعا في المسير تنتهب الخطو ... فهل كنت مشفقا من لحاقي
وتهيأت للسلام ولم تفع ... ل فأغريت بي فضول الرفاق الخ
أما سوق المدح في الشعر الحجازي فهي نافقة رائجة، ولهذا الغرض شعراء من المدرسة المتئدة قد أجادوا فيه وأكثروا، ولعل الذي جعلهم يجيدون ويطيلون ما وجدوه في جلالة ابن السعود من معان تستأهل المدح وتستحق الإطراء والثناء؛ فهو الذي أمن البلاد بعد خوفها، وهو الذي بعث الحياة في نواحيها فشاد دور العلم واستحث الهمم للنهوض، وهو الكريم الذي يولي الهبات وهو الشجاع الذي أسس الملك على أساس من القوة.
ولا يقتصر المادحون على مدح الملك وإنما يمدحون أبناءه الأمجاد فيجدون عندهم من(636/25)
الحفاوة والتكريم ما يرضي نفوسهم ويحملهم على المزيد. قال الغزاوي يمدح جلالة الملك بعد الحلف الذي أبرم بين الحجاز واليمن:
وأنت الذي أعلى بك الله صرحها ... وأرشدها للعرف بعد التناكر
فأما بنوك الصيد فالدهر شاهدي ... لديك بما قد قلدوا من مفاخر
أصاب ولي العهد أبعد غاية ... تسامت فأعيت بالثناكل شاكر
وقال أيضاً في قصيدة طويلة يهنئ بها سمو الأمير فيصل بعودته من رحلة له في أوربة سنة 1351 هجرية:
بدر تم يتجلى أم فلق ... أم شعور فاض فاستهوى الحدق
أم هو الفيصل ألقى ضوءه ... يغمر الشعب ويستبقي الرمق
أيها القادم من أقصى الورى ... قد ملأت اليوم بالبشر الفلق
قد شهدت الشيخ في حبوته ... والفتى الناشئ بالحب فهق
إلى أن يقول:
فإذا ما قلت شعبي مخلص ... لمليكي قالت الدنيا صدق
أي أمن نرتجيه ومنى ... ونعيم فوق ما فينا بسق
ولا ضير علينا بعد الذي فصلناه في باب الشعر أن نقرر أن الشعر الحجازي قد تقدم في هذه الفترة القصيرة: في أغراضه ومعانيه واستطاع أن ينأى عن التلاعب بالألفاظ وألوان الزينة. ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول، إن الحجاز مهد الأدب شعره ونثره لا زال يتطلب من شعرائه المزيد وبخاصة فيما يتصل بقوة الأساليب ورصانتها؛ فإن الكثير منهم مع إجادته لا يهتم أحيانا بجزالة الأسلوب ورصفه شأنه في ذلك شأن شعراء المهجر أولئك الذين يقول في أدبهم الأستاذ العقاد: (وبين محتويات هذه المجموعة (مجموعة من أدبهم) ما يسمو معناه إلى درجة رفيعة في البلاغة والذكاء وفيها من الابتداع ما يقل مثله بين آيات أدباء الغرب العصريين ولا يؤخذ عليها إلا ما يؤخذ عادة على كتاب العربية في أمريكا: تساهل في قواعد اللغة، وضعف في أساليب التعبير بها، وما عدا ذلك فطرفة تستحق الثناء)
أحمد أبو بكر إبراهيم(636/26)
البلاغة العربية
للأستاذ نقولا الحداد
البلاغة في اللغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. والفصاحة هي سلامة الكلام من التنافر والتعقيد ومن الألفاظ المهجورة والوحشية. واللغة العربية لا تختص بهذا التعريف وحدها، بل هو تعريف البلاغة في كل لغة، لأن البلاغة عمل عقلي أكثر مما هي أداة كلامية. وهي منطق أكثر مما هي فن تعبير. بل هي فلسفة أكثر مما هي قاعدة بيان
إذن فأركانها صحة العقل وصفاء الفكرة وجمال الذوق واتساع المعرفة وطاعة الكلم للسان والقلم. فإذا اجتمعت هذه في القائل أو الكاتب في أية لغة كان كلامه بليغاً
أما صحة العقل فأساس المنطق لتطبيق القول على المعنى المراد بغية إقناع السامع أو القارئ بصواب القول وارتياح النفس إليه
وأما صفاء الفكرة فأساس البيان لأنه لا يمكن أن تقيم بناء بيان على فكرة مضطربة مقلقلة، ولا يمكن أن يفهم السامع أو القارئ ماذا يعني القائل بكلامه المضعضع. ولا يمكن أن يتم الاتصال بينهما على وثيقة
وجمال الذوق لابد منه لتبليغ الكلام البليغ إلى ذهن القارئ أو السامع أو إغرائه بمعناه وتغذية العقل بمعرفته. فإذا خلا البيان من الذوق الجميل كان منفراً. وإذا غنى به كان جذاباً ساحراً. وإن من البيان لسحراً
والمعرفة مادة الكلام. هي الجواهر التي يصاغ منها الكلام البليغ. فالكاتب الذي يكتب في موضوع بضاعته فيه قليلة أو ضئيلة أو سقيمة لا يصوغ إلا فقاقيع زبد لا تلبث أن تذهب أمام استكناه معناها ذهاب الرغاوة مع الريح. يجب أن يلم الكاتب إلماما كبيراً بما يكتب لكي يستطيب القارئ بلاغته وإلا مله لأول فقرة ونبذه
بقي أنه لابد للكاتب أو المتكلم أن يكون قائماً على كتب اللغة وان تكون الكلم الفصاح في متناول يده يختار منها أليقها لمكانها في الكلام وأوقعها في المسامع وأدمثها للأذهان، ويجب أن يعلم الكاتب أن لكل مقام مقالا وأن لكل قوم كلاما موموقا وأن لكل زمان ألفاظا مأنوسة. فما أقبح أن يخاطب المتكلم أو الكاتب أناساً بألفاظ غريبة عنهم أو ناشزة في مسامعهم أو بعبارات معقدة تستكد أذهانهم(636/27)
هذه بعض أوليات البلاغة. وقد تبسط فيها الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة في كتابه (دفاع عن البلاغة)، ومباحثه في هذا الكتاب طريفة؛ فهو يعطي للبلاغة صفة الفلسفة ويكتب فيها كفيلسوف مركبا في فصل آلة البلاغة، ومحللا في فصل الذوق، ومركباً ومحللا معاً في فصل الأسلوب. وهو الفصل الذي أفاض فيه بتبيان صناعة القلم من جميع وجوهها. ولا بدع أن تكون البلاغة ضرباً من الفلسفة، لأن المعنى واللفظ متلازمان ملتحمان، الثاني صورة للأول، والأول نتاج العقل، فبراعة الكاتب تظهر في استطاعته أن يلائم المادة بالعقل وأن يلبس المعنى الثوب اللفظي الأنيق اللائق على قدره لا أضيق ولا أوسع
ولأن البلاغة ضرب من الفلسفة فهي في رأي الأستاذ الزيات كسائر الفنون طبيعية موهوبة لا صناعة مكسوبة. ولعله تطرف في هذه العقيدة أو غالى في قصرها على الفن؛ لأن هناك ضرباً من الكلام مكان الفن فيه قليل أو عديم. إذا كتبنا عن سر القنبلة الذرية لا نجد موضعاً للفن إلا إذا كتبنا عن تأثيرها في الحرب أو الاجتماع. يكفي أن نحسن كشف السر وبسطه من الناحية العلمية لكي نجلوه للقارئ جيداً. فالبلاغة في هذا المجال صناعة مكسوبة أكثر مما هي فن موهوب. وفي كلتا الحالتين لا غنى عن القواعد للإيضاح والاجترار من اللبس
إن تطبيق اللفظ على المعنى هو غاية البلاغة القصوى سواء كانت فنا أو صناعة. والأستاذ الزيات قد أجاد كل الإجادة في فلسفة البلاغة وضرب بكل سهم في مذاهبها. فهو إذن نبراس الهدى لأهل البراعة.
في حين أن ظهر كتاب (دفاع عن البلاغة) ظهر كتاب (البلاغة العصرية واللغة العربية) للأستاذ سلامة موسى. وهو كتاب طريف المباحث أيضاً. لا أظن أحداً خاض فيهما قبله أو سبقه إليها. هو فلسفة الكلام أو الكلمات. أو لك أن تقول هو فلسفة تطبيق اللفظ على المعنى بمقتضى حاجة العصر. العصر يتغير والمعاني تستجد. فبالأحرى أن تتغير الألفاظ وان تستجد. وبالأحرى أن تلاحق الأقلام هذا التجدد والتجدد ضربة لازب للتطور. ولا يحدث تطور إلا إذا لم يعزل القديم إلى (الانتكخانة) المتحف ويؤتي بالجديد. فقطار العمران اليوم غير قطار البادية منذ قرون. وطائرة هذا القرن غير الأطيار التي كنا نحسدها على ملكية(636/28)
الجو. فلكل زمن تفكيره وتعبيره. ولا مناص من تغيير التعبير إذا تطور التفكير.
نحن اليوم في جيش لجب من الأدوات والآلات. ولا غنى لنا عن أسماء لها انظر كم أداة في الأوتومبيل وفي المطبعة ولا سيما مطبعة الروتاتيف وفي الباخرة والبارجة والقاطرة الخ. لكل هذه الأدوات أسماء وضعها لها مخترعو الأدوات. ولم يكن عند أسلافنا لا أوتوموبيل ولا مطبعة ولا بارجة ولا قاطرة. إذاً فليس في لغتنا أسماء لهذه الأدوات. فإذا بحثنا في لغتنا عن لفظة تليق للاوتوموبيل كسيارة مثلا فنكون قد غيرنا معنى السيارة القديمة كما أننا غيرنا معنى القطار القديم. فالتغيير لا بد منه للتطور ولذلك بعد الجديد عن القديم وصار لكن زمار لغته.
إذا كنا كلما استجد معنى استعرنا له لفظاً في القديم التبس جديدنا بقديمنا ولاسيما إذا كان المعنى القديم نفسه قد وضع على الرف.
اللولب في السدم اللولبية أو الحلزونية الشكل يستعمل بدل البرغي، هذا جديد وذاك قديم ولكن هذا درج على الألسن وذاك أهمل. وللبرغي حامولة. فإذا سألنا اللغوي أن يأتينا بلفظ عربي للحامولة فماذا يختار.
أجل لغتنا غنية بالكلم. غنية جداً. ولكنها كانت لغة العرب منذ عرشين أو أربعين قرناً فلم تعد تسعنا الآن. لغتنا غنية بالكلمات الصالحة للأدب والشعر ولكنها فقيرة جداً بالكلمات الصالحة للعلوم الحديثة كالكيمياء والبيولوجيا وما تفرغ منها والصالحة للفنون الآلية. فإذا أصررنا على اختيار لفظ لكل ما جد في هذه وهو لا يحصى بالألوف بل بمئات كنا نفصل أثواب المعاني القديمة القليلة ألوفا من الملابس للمعاني الجديدة. وهو مستحيل لأننا نرى حينئذ القديم والجديد كليهما عاريين.
إذاً فلابد من أن نقتبس الكلمات الأجنبية الجديدة للأشياء التي اقتبسناها. ويكفي أن نطوعها للصياغة العربية ما أمكن. فنقتبس كلمة الأسبيرين كما أخذنا الأسبيرين من الغرب. ونقبل كلمة ياقة التي درجت على ألسنتنا لأن كلمة طوق لا تقوم مقامها لأنها تلتبس بالقلادة.
أعني لابد من توسيع صدر اللغة لقبول بعض الكلمات الأجنبية التي جدت لأشياء جديدة لكي تجاري روح العصر. وإذا أخذنا البحث في لغتنا عن كل كلمة قديمة لكل معنى أو شيء جديد كنا لا نزال نلتفت إلى الوراء ونتمسك بأهداب القديم ونصر على البقاء حيث(636/29)
كان السلفاء. إذاً فلا نلوم الغربيين إذا استغلوا تأخرنا هذا.
هذا شيء من وحي كتاب الأستاذ سلامة موسى ولا يمكن استيفاء جميع مباحثه إلا إذا نقلنا الكتاب برمته إلى هذه العجالة فخير للقارئ الذي تطيب له هذه الأبحاث أن يطالع الكتاب نفسه
أوافق الأستاذ سلامة على مشروع تبسيط قواعد اللغة العربية لكي نقتصد بالوقت والجهد في دراستها ونأمن الخطأ في استعمالها لأنها كثيرة متشعبة ويستغرق وقتاً طويلا في حفظها. ولا يمكن أن يدرس معها الكثير من علوم العصر وفنونه. يمكن تبسيطها واختصارها جداً من غير أن يتلثم التعبير بها. وإلا نفر العدد الأكبر من طلابها منها كما هو حادث اليوم.
ولكني لا أوافق الأستاذ على تنقيح الحروف العربية ولا إبدال الحروف اللاتينية بها. فحروفنا أفضل من كل حرف أجنبي يبدل به لها. لأنها في القرون التي مرت انصقلت وصارت كأنها الخط المختزل. نعم إن لكل حرف صورتين أو ثلاثة. ولكن هذه الصور لا تجعل الحروف أزيد من 150 حرفاً. ومن يتعلم 28 حرفاً يستطيع أن يتعلم 150 كما تعلمناها وما عانينا وتعلمها الأجانب وما تذمروا.
بقيت مسألة الحركات التي يتخذها دعاة الحرف اللاتيني سبباً لا بدال الحروف. فهذه يمكن الاستغناء عنها في كثير من مواقفها. ففي الأفعال الثلاثية لا لزوم لها إلا على عين الفعل ماضياً ومضارعاً. ويستغني عنها في جميع مشتقات الأفعال الرباعية والخماسية والسداسية ومصادرها، ولا حاجة لها إلا في اسم المفعول منها لأنها كلها معلومة النطق عند من تعلمها. وهناك كثير من الصيغ القياسية يستغني فيها عن الحركات.
وأما أن نستعمل الأحرف الصوتية اللاتينية بدلها في استعمال الحرف اللاتيني فنزيد الكتابة تطويلا وتعقيداً لأننا نحتاج إلى ثلاثة أحرف صوتية بدل الحركات علاوة على أحرفها. فلأجل فعل ضرب نضطر أن نستعمل ستة أحرف. ولا محل هنا للتوسع في هذا الموضوع وإنما لدى البحث الدقيق نجد أن استعمال الحرف اللاتيني لا يحل لنا مشكلة بل يزيد المشكلة تعقيداً.
نقولا الحداد(636/30)
2 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية
للأستاذ كوركيس عواد
ونضيف إلى ما تقدم بيانه، أن (تاريخ إربل) هذا، نقل أغلبه إلى العربية، ونشر هذا المنقول في مجلة (النجم) الموصلية في أعداد سنواتها الثلاث الأوليات (1929 - 1931).
كما أن المستشرق زورل اليسوعي، نقله إلى اللاتينية بعنوان , 1927).
وفي 1: 574 أ6 قرأنا اسماً شرقياً بأحرف غربية هكذا قلنا: الجاثليق النسطوري (بابالاها الثالث) المتوفى سنة 717 هـ (1318 م) واسمه إرمي بمعنى (هبة الله) أو (عطاء الله). وترجمته واردة في كتاب (أخبار فطاركة كرسي المشرق) من كتاب المجدل لعمرو بن متى (ص 122 - 125 طبعة جسمندي في رومية)، وذخيرة الأذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة السريان لنصري (2: 12 - 22)، وسيرة مار يابالاها (النص الإرمي، نشره بيجان في باريس سنة 1888 ثم سنة 1895). وقد ترجمها المستشرق شابو إلى الفرنسية بعنوان:
' 1 , 1893 50 - 01 , 11 , 1804 73 - 443 , 235 - 01
ثم نقلها منتوكومري إلى الإنكليزية بعنوان , , 1027 ,)
وفي 1: 680 ب 3 تصحف اسم شرقي مشهور، فقيل فيه (أسماني) وصوابه (السمعاني) وهو يوسف سمعان السمعاني الماروني، رئيس أساقفة صور، المتوفى سنة 768م، صاحب التآليف الشهيرة، وبالأخص تأليفه العظيم الذائع الصيت الموسوم بـ (المكتبة الشرقية) (4 , , 1719 - 1728)
وفي 1: 680 ب 9 ورد ذكر البطريق سيمون الكلداني وصوابه: البطريرك شمعون الكلداني.
وفي 1: 680 ب 23 و 28 الرهبان اللازاريون وكان الأحسن أن يقال الرهبان العازريون، نسبة إلى (العازر) المذكور في إنجيل يوحنا (11 و 62: 1 - 11).(636/32)
وفي 2: 98 ب 6 و 8 ثابت بن قره. والصواب: ثابت ابن قره (بضم القاف وتشديد الراء وفتحها وفي الآخر هاء منقوطة).
وفي 2: 223 ا 7 شور بن العطاف. قلنا: الذي في تاريخ الطبري (1: 441 طبعة دي غويه): شمر بن العطاف.
وفي 2: 223 ا 15 و 18 ورد ذكر دنهه. وصحة هذا الاسم (دنحا) وهو الجاثليق النسطوري المتوفى سنة 1281م. وترجمته في كتاب المجدول لعمرو بن متى (ص121 - 122). وقد فسر أبو الريحان البيروني لفظة (دنحا) بقوله إنه (عبد الدنح نفسه ويوم المعمودية بنهر الأردن عند بلوغ ثلثين سنة من عمره) (انظر: الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص293 س 3 - 4 طبعة سخو). وتفسير البيروني لهذا الاسم يتفق وما ورد عنه في المعاجم الإرمية المختلفة.
وفي 3: 11 ا 12 و 23؛ 3: 14 ب 18 ورد اسم (سيمون) مصحفاً من (شمعون) وقد مر بنا مثل ذلك آنفاً.
وفي 3: 14 ا 18 جاءت هذه العبارة: (وكذلك تفسير الإنجيل لداذيشوع (ورد هذا الاسم انظر. .) انتهى
قلنا: لا معنى للرقم 13 المحصور بين قوسين، وفي الأصل الفرنجي وضع بين القويسين إشارة الاستفهام هكذا (؟).
ثم إن (يشوعداد) و (داديشوع) هما بالحقيقة اسم إرمي واحد، بتقديم أحد شطريه على الآخر. فمعنى يشوع: يسوع، أي يسوع المسيح، ومعنى داد: حبيب أو صديق. كما أن صوابه وهو المستشرق الفرنسي الشهير روبنس دوفال، المتوغل في الآداب السريانية.
وفي 3: 248 ا 4 ستحاريب. صوابه: سنحاريب.
وكذلك في 3: 249 ب 25 ابن الفداء، والصواب: أبو الفداء. ولعل هذا الوهم والذي قبله الشيء عن الطبع.
وفي 3: 264 ب 8 خسرو أنو شروان. والمشهور في المراجع العربية القديمة: كسرى أنو شروان.
ومن الأوهام التي تسترعي الأنظار، ما ورد في 3: 344 ا 1 حيث ذكر هناك اسم(636/33)
يوسفوس وكتب بأزائه بالفرنجية قلنا: الصواب في إنه (أوسابيوس) وهو رجل نصراني كان أسقفا على قيسارية من بلاد الروم، صنف تاريخاً كنسياً نفيساً عرف بـ (تاريخ أوسابيوس القيرسي) أو القيسراني. وقد عاش سنة 267 - 340م.
أما يوسفوس الذي يكتب اسمه بالفرنجية أو فمؤرخ يهودي، دون تاريخ اليهود، عاش سنة 37 - 95م. فأين هذا من ذاك؟
ومن التصحيفات الظاهرة للعيان، ما ورد في 3: 359 ب 9 و 11 فقد كتب هناك (مردويج بن زياد). والصواب إنه (مرداويج بن زيار) (الديلمي) على ما هو مسطور في كثير من المراجع التاريخية. انظر مثلا: صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي (ص 154 طبعة دي غوية)، وتجارب الأمم لمسكويه (5: 161، 162، 163، 228، 310 - 315 طبعة امدروز) وغيرهما.
وفي 3: 429 ا 11 نبوشادنزر. والمشهور أن أسمه نبوخذ نصر. فقد ورد ذكر هذا الملك البابلي في مواطن عديدة من التوراة (راجع مثلا: سفر الملوك والأيام، وعزرا، ونحميا، واستير وإرميا ولاسيما في دانيال. كما أن العرف عرفوه باسم بختنصر. قال الطبري (1: 671): فأقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل، وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب).
وفي 3: 473 ا 24 الهمزاني. وصوابه الهمداني (بالدال المهملة)
ومن الأعلام التي استوقفتنا أثناء المطالعة ما جاء في 3: 683 ا 21 - 12 حيث قال: (ووصفها نيرش. .) والذي يبدو لنا أن اللفظة الفرنجية مختصرة من نرخس أحد قادة جيش الإسكندر المقدوني في حملته على بلاد الهند، فانه قاد الأسطول اليوناني سنة 325 ق م من نهر السند إلى البحر الهندي ميمماً شطر السواحل الفارسية حتى بلغ مصب دجلة في الخليج الفارسي. ثم إنه طاف حول البلدان العربية حتى بلغ برزخ السويس. وقد أودع حديث بعثته البحرية هذه في كتاب وقفنا على ترجمته الإنكليزية التي نقلها من المصادر الإغريقية، بعنوان: , 1797).
وقرأنا في 3: 690 ا 1 هذه الكلمة (وفهارس وكأن هذه التسمية خفيت على اللجنة، فأبقت على أصلها الفرنجي. والحال إنه يقصد به (حبيب شيحا) وهو رجل سوري الأصل، أقام(636/34)
ببغداد مدة، ووضع لها تاريخاً بالفرنسية وأخبار أسرة شيحا في مجلة الآثار الشرقية (4 (1929) ص 418 و470).
وفي 3: 692 ا 7 وصوابه
وفي 4: 15 ا 24 بكر صبيحي. والصواب: بكر سوباشي راجع تفسير لفظة (سوباشي) في مقال للأستاذ المحقق يعقوب سركيس (مجلة غرفة تجارة بغداد 5 (1942) ص 169 - 170).
وفي السطر الأخير من 4: 16 اوكذا في بعض حواشي هذا البحث، تصحف اسم عبد الرازق الحسني إلى الحسيني.
وفي 4: 40 ا 21 زين الدين علي كوجوك بن بكتكين. والذي في الكامل لابن الأثير (راجع الفهارس): زين الدين علي كوجك بن بكتكين.
ومن الأوهام التي جاءت من الأصل الفرنجي اسم سلمنصر الثاني (4: 57 ا 4 و21) وصوابه: شلمنصر الثالث. راجع بهذا الشأن.
60 - 825 1915 , ,
(يتبع)
كوركيس عواد(636/35)
جزر الهند الشرقية
للأستاذ سوكارنو الصغير
نحاول في هذه الأسطر أن نصور الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية ليطلع القارئ على حياة أمة شرقية يبلغ عددها سبعين مليونا، تجمع شملهم وحدة الآمال والمقاصد نحو حياة حرة!. . .
يطلق التاريخ الحديث على مجموع الجزر المنتشرة بين آسيا واستراليا - إندونيسيا - وهي كلمتان ركبتا تركيباً مزجياً. الكلمة الأولى وهي بمعنى الهند، والكلمة الثانية بمعنى الجزائر. وفي الاصطلاح السياسي، تطلق على المستعمرات الهولندية سابقاً. وأشهر الجزائر الأنودنيسية: جاوا وسومطرة، وبوزنيو، وسليبيس، وبالي، وسمباوا، وغينيا الجديدة، وجزائر الملوك. وهناك جزر تعد بعشرات المئات، ويبلغ سكان إندونيسيا سبعين مليونا.
سكن الشعب الإندونيسي هذه الجزر قبل ميلاد المسيح بخمسة آلاف سنة. شيدوا فيها حكومات ذات حضارة ومدنية؛ وكانت البوذية التي جاءته من جنوب الهند. ويرجح المؤرخون أن سكان إندونيسيا أتوا من الهند. إذ أن الجزر الجزر الإندونيسية الدانية من البر الأسيوي كانت متصلة به. وبقوة الأمواج المتلاطمة على السواحل الأسيوية انفصلت قطع منها وتكونت عدة جزر. واللغة الجامعة للتفاهم هي اللغة السنسكريتية. وتوجد للآن في جزيرة جاوا آثار قديمة من العهد الهندوكي، أشهرها (بوروبودور) وهياكل المعابد البوذية، وتماثيل بوذا. وقد نقبت البعثات الغربية في جزيرة جاوا فوجدت فيها آثار أقدم إنسان نشرتها الصحف بوقتها. ومن أعظم الحكومات التي أسسها الشعب الإندونيسي، إمبراطورية مجافائيد وإمبراطورية سريويجابا وتعدان بالنسبة للظرف الحاضر من كبريات الدول ذوات الاستعمار! ولما بدأ الانحلال الشرقي وأفل نجمه الساطع بعد قرون زاهرة بالعلوم والآداب والحضارة والمدنية أصيبت إندونيسيا بالانحلال والضعف أيضاً. وبدأ دور الغرب في إحياء العلوم وإنشاء حضارة مؤسسة على المادة! فرحل إليها الأوربيون للتجارة عن طريق رأس الرجاء.
وينقسم التاريخ الأوربي في إندونيسيا إلى قسمين:(636/36)
1 - العصر البرتغالي والأسباني من 1500 - 1600م.
2 - العصر الهولندي - من عهد الشركة الشرقية الهندي 1600 - 1800 ثم عصر الاستعمار من 1800 - 1941 م.
ثم توحدت الشركات الهولندية في شركة واحدة بأمر من السلطات العليا في هولندا لأسباب أهمها: -
1 - إفساح المجال للشركة في إنماء تجارتها والقضاء على التنافس الفردي.
2 - التضييق على الشركات البرتغالية والإنكليزية.
3 - مقدمة لاستعمار إندونيسيا.
4 - القضاء على الشركات الوطنية.
تكونت الشركة كما ذكرنا باسم (شركة الهند الشرقية) وهي الدعامة الأولى في هيكل الاستعمار الهولندي، والعامل الأساسي في اتساع نفوذه في الشرق الأقصى!. . .
وفي القرن التاسع عشر فرضت السلطة الهولندية نفوذها السياسي باستعمار البلاد سياسياً، وأصبحت مستعمرة هولندية. وسارت إندونيسيا في طريق محدودة رسمتها السياسة الهولندية وسنت نظما وقوانين تحد من سلطة الشعب، وتضيق ميدان حياته فأمسى الشعب عاجزا عن الدفاع عن سلامة وطنه، وبرغم التضييق الشديد حدثت عدة ثورات لتحرير البلاد من النفوذ الهولندي؛ ففي عام 1821 قام الزعيم المسلم أمام بونجول في جزيرة سومطرة بثورة رهيبة لإزالة الحكم الأجنبي عن إندونيسيا. وذهب ضحيتها عشرات الألوف من الإندونيسيين، كما خسرت السلطة الحاكمة ما يضاهي خسارة الوطنيين. ودامت الثورة حتى عام 1837 لوقوع مشعل نار الثورة في يد الحكومة، ثم نفته إلى جزيرة تيمور وتوفى بها. أما نتائج الثورة فهي أشعار الهيئة الحاكمة أن الشعب الإندونيسي المغلول الأبدي، يستطيع أن يتحرك ليجاهد دفاعاً عن كرامته وشرفه ووطنه.
وفي عام 1825 اشتعلت نار ثورة أخرى بقيادة زعيم آخر، هو الأمير ديفاينغورو، وكان الشعب الإندونيسي يعتقد إنه منقذ إندونيسيا من السيطرة الأجنبية، وقد عصفت هذه الثورة بهيكل النفوذ الهولندي وكادت تقلعه من جذوره لولا سرعة تموين الحكومة الهولندية لجيوشها المنتشرة بالذخائر، واستولى الإدارة الوطنية للثوار. وفي نهاية عام 1830 قذفت(636/37)
السلطة الهولندية بجيوشها إلى ميادين القتال وزودتها بذخائرها الكافية، فدارت معارك حامية كان الثوار يحاربون بالسلاح الأبيض أو بما غنموه. . . ونجحت الحكومة في إخماد الثورة وبلغت خسائرها خمسة عشر ألف جندي وعشرين مليون ربية. وأما ضحايا الثوار فبلغت ضعفي خسائر الحكومة.
وفي عام 1873 حدثت ثورة رهيبة في جزيرة سومطرة بمقاطعة آجيه. وهذه المقاطعة معقل الإسلام في إندونيسيا، وسكانها قوم عاشوا على الحروب والقتال كالأمة العربية. ولما حدثت الثورة امتشق الحسام كل فرد منهم ذوداً عن كرامة الدين الإسلامي وحفظاً لشرف البلاد. والزعيم الذي قاد هذه الثورة هو (تونكو عمر). ولم تستطع السلطة الهولندية منذ استعمرت إندونيسيا أن تخضع هذه المقاطعة لشدة شوكتها؛ وكان يحكمها أمير وطني له السيادة التامة عليها. وفي عام 1904 استطاع الهولنديون التغلب عليها بالقضاء على الثورة وإخمادها بعد أن ضحوا تضحيات هائلة. كما ضحى الوطنيون أضعاف ما ضحاه الهولنديون. ثم أديرت المقاطعة من قبل أمرائها تحت مراقبة السلطة الهولندية في الأمور التي لها مساس بمصالحها.
الحركة الحديثة
في 20 مايو 1908 تأسس أول حزب سياسي هود بودي أوتومو أي النزعة الفاضلة برئاسة الدكتور وحيدين. ويعاونه في إدارته ونشر مبادئه وتحقيق غايته طلبة الطب بمدينة بتافيا. وانضمت إلى عضوية الحزب الطبقة المثقفة والأسر الراقية. وقام بالدعاية له في غرب جزيرة جاوا الدكتور رادين ستومو، وفي شرقها الحاج شكرو أمينوتو وكلاهما من رجالات إندونيسيا البارزين.
ولتحقيق غاية الحزب أنشأ هيئات أولية للإشراف على تنفيذ برامجه الإصلاحية وأهم برامجه:
1 - إصلاح حالة الأمة الثقافية؛ فنشر المدارس والمكاتب وبعث لجانا صغيرة تجوب المدن والقرى لمساعدة المعلمين الصغار، وإرشادهم إلى الطرق التي يلزم أن يسلكوها في أداء رسالتهم الثقافية.
2 - إصلاح الحالة الاقتصادية، فأنشأ بنوكا ومحلات تجارية لمساعدة التجار والزراع(636/38)
الوطنيين وإرشادهم إلى أقوم السبل إلى استثمار أموالهم وزراعة أراضيهم
3 - إصلاح الحالة السياسية، فأنشأ النوادي والصحف. وأقام المحاضرات في المحلات العامة لإرشاد الشعب إلى سير الحالة الخارجية وتطور السياسة العالمية وعلاقة البلاد بالحكومة الهولندية
ولما كانت الأداة الحكومية في يد الموظفين الهولنديين سعى الحزب إلى اشتراك الأمة في إدارة شئونها، فتعين كثير من الرجال المثقفين والشبان في عضوية المجالس البلدية والمحلية وفي المحاكم وفي إدارة الشؤون المالية والثقافية والصحية والمواصلات والتعدين. وطالب الحزب بإنشاء مجلس نيابي، ولكن السلطة الهولندية رفضت طلبه بدعوى أن الجو مكفهر في ابتداء الحرب العالمية الأولى، ومضطرب لاشتداد الأزمة السياسية العالمية. وبعد مضي الحزب في عمله أصبح الشعب كالبركان الثائر يطالب بحريته التامة!
نمت الروح القومية وانتشرت انتشارا رائعاً، وكان أقوى عامل لنموها هو شعور الإندونيسي بالحب العميق لإندونيسيا الحديثة؛ إندونيسيا الكلمة الساحرة التي جذبت سبعين مليونا من النفوس نحو حبها! فسعوا بجد نحو إعادة ماضيها على أساس الحياة الحديثة. وتفرق الشعب في طرق متعددة للوصول إلى الهدف القومي. وهناك في ميادين الثقافة والاقتصاد والتجارة والملاحة والزراعة فرق ترشد الجماهير إلى أحسن الطرق لإصلاح حالتها العامة، وقد أنشأتها الحكومة الهولندية مدارس عالية ومتوسطة وابتدائية، ولكنها لا تكفي لارواء ظمأ شعب يلح في طلب الحرية المؤسسة على العلم والعرفان. وفي إندونيسيا كليات أسستها الحكومة الهولندية، وهي كلية الطب، وكلية الحقوق، وكلية الهندسة، وكلية التجارة، وأكاديمية حربية، وإزاءها مدارس عالية أهلية أسستها الجمعيات والأحزاب. وأشهر المؤسسات القومية التي قامت بالإصلاح الديني والاجتماعي والثقافي مؤسسة المحمدية والعائشية وأساسها ديني قومي، ثم مؤسسة (تامن سيسوا) وأساسها قومي، ومؤسسها البروفيسوركي هاجر ديوانتارا، ونال لقب الأستاذية من أكبر معهد للتربية في الولايات المتحدة في عام 1938 ويبلغ عدد المدارس التابعة للمحمدية والعائشية ثلاثة آلاف مدرسة ما بين عالية وثانوية وابتدائية ورياض للأطفال. ولها أيضاً مكاتب عامة ومساجد ومستشفيات وفرق كشافة تدعى باسم (حزب الوطن) ثم أبدل في السنوات الأخيرة باسم(636/39)
(شباب المحمدية). وللجمعية المحمدية والعائشية فروع كثيرة منتشرة في كل مدينة وقرية في إندونيسيا. وفي عام 1938 طلبت المحمدية من السلطات الهولندية السماح لها بشراء باخرتين لنقل الحجاج الإندونيسيين إلى الحجاز، ولكن السلطات المحلية رفضت طلبها! وتأسست هذه الجمعية في عام 1912 بمجهود الحاج أحمد دحلان. وللجمعية أيضاً جريدة ومجلة لسان حالها. وهما (عادل) و (صوت المحمدية) وتعقد الجمعية مؤتمراً سنوياً في كل مدينة في إندونيسيا، يحضره مندوبون من جميع فروعها. ويستمر في الانعقاد أسبوعا كاملا تستعرض الجمعية خلاله أعمالها الماضية ثم درس الاقتراحات والقوانين المقدمة من فروعها. وعقد المؤتمرات السنوية سنة تبعتها الأحزاب السياسية والجمعيات المختلفة المقاصد. وأما مدارس تامن سيسوا فيبلغ عددها الألف. وكانت أكبر خطر على السياسة الاستعمارية كما صرح بذلك البروفيسور جب الهولندي في كتابه (وجهة الإسلام) إذ أن هذه المدارس مؤسسة على القومية. والتعليم فيها على أحدث المناهج الغربية. وتبعث تامن سيسوا بعض متخرجيها إلى الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا والفلبيين والهند لإتمام دراساتهم العمالية في جامعتها. وتصدر مجلة شهرية تعبر عن آرائها باسم (العائلة)
وأشهر الأحزاب السياسية التي ظهرت بعد حزب (بودي أوتومو) حزب الشركة الإسلامية في عام 1912 بزعامة الحاج سكرو أمبوتو. وانتشرت فروعه في المدن والقرى. وفي أثناء سير الحزب رفضت السلطة المحلية الاعتراف بفروعه، لتستطيع إيجاد الخلاف بين الحزب وفروعه. ومنعت السلطة أيضاً قبوله أعضاء جددا، وتجاه هذه السياسية المحلية أضافت إدارة الحزب كلمة واحدة إلى اسم الحزب وهي (سنترال) وأصبح الحزب يدعى باسم (سنترال الشركة الإسلامية) وبذلك اعترفت السلطة بفروع الحزب
وأما برامج الحزب فهي:
1 - الدفاع عن كرامة الدين الإسلامي واشتراك الشعب الإندونيسي في تخفيف الآلام والمحن النازلة بالأمم الإسلامية.
2 - نشر الثقافة الإسلامية والعمل بأحكام القرآن مع الاقتباس من القانون الدولي لمسايرة التطور العالمي.
3 - إيجاد حياة اقتصادية ليستطيع الشعب أن يعيش بها في مركز متوسط يستغل موارد(636/40)
البلاد.
4 - تربية الشعب تربية سياسية حتى يستطيع أن يدير أموره بنفسه. وكون هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية من أعضاء الحزب البارزين. وتعتبر هذا الحزب أكبر حزب سياسي إسلامي في جزر الهند الشرقية، وبلغ عدد أعضائه بعد الحرب العالمية الأولى مليوني عضو.
ولما سمحت السلطة الهولندية بعقد الاجتماعات والاشتغال بالسياسة تحت شروطها المعينة، ظهرت على المسرح السياسي الهولندي الإندونيسي أحزاب كثيرة كلها ترمي إلى تحرير البلاد. وفيما يلي نضع للقارئ أهم الأحزاب التي ظهرت وتواريخ ظهورها بصورة مختصرة:
1 - الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الدكتور دوبزديكر في عام 1912.
2 - حزب فاسوندان في عام 1914.
3 - الحزب الشيوعي الإندونيسي بزعامة الدكتور سمعون في عام 1920.
4 - هيئة ائتلاف الأحزاب السياسية الوطنية برئاسة المستر تمرين في عام 1927.
5 - الحزب الوطني الإندونيسي برئاسة المهندس سوكارنو في عام 1927.
6 - حزب الشعب الإندونيسي بزعامة المستر محمد طبراني في عام 1930.
7 - اتحاد الشعب الإندونيسي بزعامة الدكتور رادين ستومو في عام 1930.
8 - الحزب الإندونيسي برئاسة المستر سرتونو في عام 1931.
9 - حزب التربية الإندونيسي بزعامة الدكتور محمد حتى في عام 1931.
10 - حزب إندونيسيا الكبرى بزعامة الدكتور رادين ستومو، وهو مكون من حزب بودي أوتومو وحزب اتحاد الشعب الإندونيسي في عام 1905.
11 - حزب النهضة الإندونيسية برئاسة المستر أمير شرف الدين في عام 1936.
12 - الحزب الإسلامي الإندونيسي برئاسة المستر ويووهو النائب بمجلس النواب في عام 1936.
13 - رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية في عام 1939.
والأحزاب التي استطاعت أن تصمد أمام التيار، وتقف كالصخرة الصماء لا تزحزحها(636/41)
العواصف ولا الرياح هي:
1 - حزب الشركة الإسلامية الإندونيسية.
2 - حزب إندونيسيا الكبرى.
3 - حزب النهضة الإندونيسية.
4 - الحزب الإسلامي الإندونيسي.
5 - رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية.
الحكومة الذاتية والبرلمان
منذ ابتدأت النهضة الإندونيسية بنمو الروح القومية في عام 1908 طالبت الأحزاب السياسية الحكومة الهولندية بإنشاء حكومة ذاتية ومجلس نيابي. وكانت أهداف الحركات القومية الوصول إلى تحرير البلاد مبدئياً عن سبيل إنشاء حكومة ذاتية بمجلس نيابي، ففي أوائل الحرب العالمية الأولى طالبت الأحزاب السلطة المحلية بإنشاء مجلس نيابي إندونيسي، ثم أجل الطلب إلى ما بعد الحرب. ولما وضعت الحرب أوزارها أنشأت الحكومة الهولندية مجلساً نيابياً مختلطاً من الوطنيين والهولنديين والأجانب واستاء الشعب من هذه السياسة. وأعلنت الأحزاب الوطنية السياسية اللاتعاونية، وكان تأسيس المجلس النيابي المختلط في عام 1918.
وفي عام 1937 قدم النائب المستر سو ترجو العضو بالمجلس النيابي مذكرة إليه بإعطاء إندونيسيا استقلالا كاستقلال الحكومات الدومنيوتية في الإمبراطورية البريطانية، وقام بصدده مباحثات طويلة بين رجال الأمة والحكومة الهولندية، وأخيراً رفض الطلب بدعوى أن الشعب لم ينضج سياسياً!
وفي شهر مايو 1939 تكونت رابطة الأحزاب السياسية، وكان أول ما قامت به هو الدعاية بين طبقات الأمة وفي دوائر السلطات الهولندية بإنشاء برلمان وطني بمعناه الصحيح، كما قامت واللجنة الإندونيسية الوطنية، بالمجلس النيابي الدعاية للبرلمان بين أعضاء المجلس. . . وفي 27 سبتمبر سنة 1939 أذاعت (رابطة الأحزاب السياسية) بياناً إلى الأمة تدعوها إلى بذل جهودها وإعطاء ثقتها للرابطة لإنشاء برلمان وطني، وفيما يلي خلاصة البيان:(636/42)
(منذ تطورت الأزمة العالمية، والرابطة الوطنية تخطو خطوات موفقة نحو رفع مستوى البلاد السياسي وإشعار العالم الخارجي أن الشعب الإندونيسي يرنو إلى حياة حرة تحت ظل حكومة وطنية متمتعة باستقلالها التام. وإن الرابطة تسعى سعياً قوياً لتحقيق مطالب الشعب الرئيسية. وهي تنظر إلى الحركات الأوربية بعين اليقظة والحذر. وأن الظرف الحاضر الدقيق حيث يضطرب حبل السياسة العالمية يدعو الرابطة أن تضحي بمجهودات عظيمة في سبيل تحقيق البرلمان وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمامه
إن الرابطة تدعو كافة الجمعيات والأحزاب والمؤسسات القومية وطبقات الشعب إلى تعضيدها في مطالبها في إنشاء برلمان للشعب الإندونيسي المجيد، للوطن الإندونيسي الواحد!)
وفي 23 ديسمبر 1939 أقامت الرابطة مؤتمراً شعبياً باسم المؤتمر القومي الإندونيسي بمدينة بتافيا عاصمة إندونيسيا، للبحث عن الأسس الأولية لإنشاء البرلمان ورفع مذكرة إلى الحكومة الهولندية بتأسيس البرلمان حسب رغبات الشعب. وقد حضر المؤتمر مندوبون من كافة الأحزاب والجمعيات الوطنية. ورجال السياسة والصحافة والأدب والأعمال. ودام المؤتمر لنهاية يوم 25 ديسمبر سنة 1939. ثم رفعت الرابطة مذكرتها إلى السلطات الهولندية بإندونيسيا ومنها أرسلت إلى الهيئات العليا بهولندا لدراستها. وبعد دراسات دقيقة أشعرت الحكومة الهولندية رابطة الأحزاب بتأجيل الطلب لأن الشعب لم ينضج سياسياً أيضاً. فضلا عن أن الحرب العالمية الثانية دائرة رحاها.
ولعلنا في هذه الكلمات الموجزة استطعنا أن نعطي القارئ صورة مصغرة مختصرة عن الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية أو إندونيسيا، وهي حياة أمة شرقية تعدادها سبعون مليوناً. لا نستطيع أن نغضي الطرف عنها وهي همزة وصل بين استراليا وأمريكا وبين آسيا وأفريقا وأوربا، ووجودها ضروري لتحفظ توازن القوى في الشرق الأقصى!
سوكارتو الصغير(636/43)
الشرق كما يراه الغرب
3 - الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
تضم الموالد - علاوة على الناحية الدينية - بعض عناصر اللهو وضروب التسلية التي اشتهر بها المصريون. بل إن جميع الاحتفالات الدينية في مصر وفي غير مصر، وفي الأزمان الحديثة والقديمة على السواء - لم تكن احتفالات دينية بحتة، بل كان يداخلها دائما شيء من اللهو والعبث. فهوميروس مثلا يذكر لنا الشيء الكثير عن الألعاب الشعبية، وأنها كانت تؤلف قسما هاماً من أعياد اليونان الدينية. والمصريون معروفون بروحهم المرحة التي تحب الانطلاق، فهم لا يتركون فرصة تمر أمامهم حتى يغتنموها ويطلقوا أنفسهم العابثة على سجيتها، ويملئوا الدنيا لهواً وعبثاً، ويثيروا حولهم أكبر ضجة مستطاعة، كما هي عادتهم في المناسبات وفي غير المناسبات
وجو الموالد جو صاخب، كله ضجيج وترتفع فيه الأصوات المتنافرة من كل جانب، ولكنها على تنافرها يقوم بينها نوع من الائتلاف والانسجام يجعل لها وقعاً غريباً في النفس، ففي ناحية نجد مشارب (البوظة) تنبعث منها أصوات الغناء السوداني: أيوه أيوه من السودان:
سرجوا الصندوق يا محمد ... لكن مفتاحه معايا. . . الخ
يصحبه توقيع جميل منتظم على الصناجات، ولكنه يضيع ويتلاشى أمام دوي موسيقى غريبة صاخبة منبعثة عن (شخشاخة) كبيرة، ويصحب ذلك الرقصة السودانية المعروفة باسم الرانجا أو الرانجو؛ ومن ناحية أخرى ترتفع أصوات باعة الليمونادة والتمر هندي والعرقسوس والشربات وباعة السجاير ومن ورائهم (جامعو الأعقاب)؛ ومن هنا وهناك ترتفع أصوات باعة (عرائس المولد) يتغنون بمزايا عرائسهم ويعددون صفاتها وجمالها، وقد زينوها بأجمل زينة، ووضعوا إلى جانبها خليطاً كبيراً من الأرانب والكلاب والدجاج والبط (وكل ذلك مصنوع من الحلوى بلا ريب). . ويتفنن باعة العرائس في عرض عرائسهم، وهم في الغالب لا يكتفون بعرض العرائس وحدها، بل يأتون لكل عروسة منها (بعريس) ويسكنان الاثنين معا في حجرة صغيرة بها مخدع ومرايا وما إلى ذلك. . . وكثيراً ما يستوحي باعة العرائس القصص الشعبية مثل عزيزة ويونس أو قصة أبي زيد(636/44)
الهلالي أو قصة (أبو علي سرق المعزة) في عمل بعض النماذج الطريفة. . . وفي هذا الجو الصاخب الرائع تنتشر روائح قوية نفاذة مستطابة وخاصة عند الأجانب. . . تلك هي روائح الطعمية والفول المدمس والكفتة والشواء والأرز وغيرها من الأطعمة الوطنية الطيبة النكهة.
وتنتشر المسارح و (التيارات) بكثرة في الموالد؛ وبعض هذه المسارح تطلق عليها اسم (مسرح) من باب التجوز فقط لصغر حجمها، كتلك (المسارح) الخاصة بالأراجوز وخيال الظل التي لا يزيد أجر الدخول فيها على ملليمين، ويجلس المتفرجون في (الصالة) على مقاعد خشبية ليشاهدوا (العرض) ويستمعوا إلى الموسيقى. بيد أن هناك مسارح أكبر من هذه يعرض فيها شيء لا بأس به من التمثيل والرقص. وفي خارج هذه المسارح توجد منصتان على جانبي باب الدخول، تحتل إحداهما فرقة موسيقى نحاسية (تشنف) آذان الجمهور والمارة بنغماتها المدوية؛ أما المنصة الأخرى فيخرج إليها من أن لآخر - خلال فترة الاستراحة - بعض الممثلين والراقصات ليعرضوا على الجمهور في الخارج شيئا من بضاعتهم الفنية عسى أن يثيروا فيهم الرغبة والشوق للدخول. ويعمل في هذه المسارح - علاوة على الممثلين والراقصات - نفر من الرجال قد تخصصوا في (تحريك العضلات)، كما نجد فيها أيضاً بعض الراقصين من الرجال يأبون أن يرقصوا إلا في ملابس النساء وفي زينتهن. ومن أشهر هؤلاء الراقصين راقص اسمه حسين فؤاد، يوزع على المتفرجين - بعد العرض - بطاقة عليها صورته في زي امرأة وقد كتب تحتها: - الراقص المصري الشهير حسين فؤاد.
وللمصريين ولع شديد بمشاهدة ألعاب القوى، ولذا لا يخلو أي مولد من وجود بعض خيام صغيرة تعرض فيها هذه الألعاب من مصارعة ربع، ومن أشهر الذين يعرضون هذه الألعاب عملاق ضخم الجثة يسمي نفسه (الأستاذ شوال) ولهذا الأستاذ شوال (جوقة) تضم بين أفرادها قزما صغير الجسم كريه المنظر ولكنه مع ذلك يتمتع بقوة جسدية هائلة بحيث إنه يستطيع أن يرفع بسهولة رجلا يكبره بثلاثة أضعاف حجمه.
ومن الألعاب الطريفة المستحبة عند المصريين في الموالد لعبة (أبو فيران). والأدوات المستخدمة في هذه اللعبة منضدة صغيرة مستديرة مثبت على حافتها منازل صغيرة لكل(636/45)
منها فتحة (أو باب) تكفي لمرور الفأر، ولكل بيت رقم خاص. ويتراهن المتراهنون على أي البيوت سوف يدخلها الفأر، ويضع كل منهم نقوده على البيت الذي يختاره. ثم يخرج (أبو فيران) فأره الأبيض الصغير من جيبه ويطلقه يرتع ويجري على المنضدة كيف شاء؛ فالبيت الذي يدخله الفأر يربح صاحبه الرهان، وقد شاهد ماكفرسون صبيا صغيراً بارعا بكسب الرهان دائماً دون أن يفقد نقوده قط، فراقبه خلسة حتى عرف السر في ذلك؛ إذ كان الصبي الصغير يغافل من حوله ويضع قطعة من الجبن في البيت الذي يختاره وكانت رائحة الجبن كفيلة بجذب الفأر إليها.
ولكن، مهما كثرت الألعاب الشعبية في مصر، ومهما تعددت مظاهر اللهو والمرح - فإنها واحدة لا تتغير في جميع الموالد؛ فما نراه في موالد الوجه البحري نجده في موالد الوجه القبلي دون أدنى تغيير. والأعجب من ذلك أن نفس الوجوه تظهر في كل الموالد وخاصة وجوه الممثلين والراجوزات والحلاقين الذين يختنون الفقراء مجاناً. والواقع أن هناك فريقاً كبيراً من هؤلاء يقفون حياتهم على التنقل بين البلدان للتكسب من الموالد.
ونحب في النهاية أن نكرر ما سبق أن قلناه من أن كتاب ماكفرسون سد فراغا كبيراً وأسدى خدمة جليلة لدراسة الحياة الشعبية في مصر الحديثة، فالواقع أن هذه الناحية لم تحظ بكثير ولا قليل من الدراسة والعناية الجديرة بهما، وعسى أن يقوم بعض علمائنا ممن يعتنون بدراسة (الفولكلور) بمتابعة الخطوات التي خطاها ماكفرسون وغيره من أمثال إيفانز بريتشارد والأستاذ هوكارت وبذلك يقدمون أجل الخدمات للعلم ويؤدون بعض ما يجب عليهم نحو وطنهم.
(انتهى)
أحمد أبو زيد(636/46)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
ملابسك من الفول السوداني
ولا تعجب. فيستطيع علم الكيمياء الآن أن يحول كل ما يقع تحت حسك من مواد إلى مواد جديدة لا تتصور نشوءها منها. وقد لا يطول الزمن أيضاً حينما يتحقق حجر الفلاسفة فيحول الكيمياويون الرصاص أو القصدير وربما التراب إلى ذهب. فلم يعد علم الكيمياء الآن ينظر إلى مظاهر المواد بل إلى خواصها وجواهرها.
والحرير والصوف اللذان تشاهدهما كل يوم ليسا إلا أنسجة زلالية أي أن أساسها مثل زلال البيض الذي لا ترى بينه وبين الصوف أية صلة. وقد ظهرت في السواق التجارية منسوجات صناعية. ولا تمر شهور حتى تكون بعض ملابسك من هذه المواد وأحدها النسيج الحديث المعروف باسم (الأرديل) الذي يصنع من زلاليات الفول السوداني.
وأول نسيج صناعي ظهر في المجال التجاري من أصل زلالي هو القماش المعروف باسم (لانيتال) وهو يشبه الصوف في كثير من خواصه وساعد على رواجه وصقل صناعته حرب إيطاليا والحبشة وتوقيع العقوبات الاقتصادية على الأولى وحرمانها من الخامات والمواد الأولية وقد استخرج هذا النسيج من اللبن بعد عدة عمليات كيماوية تعرف باسم عملية فيرتيتي.
واشتدت الحاجة بإيطاليا إلى المنسوجات لتزويد جنودها بالملابس فسعى علماؤها إلى صنعها من (شرش) اللبن، ولاسيما أن حرمانها من تصدير الجبن وفر لديها مواد اللبن مما شجع على صقل صناعة اللانيتال.
ولفتت هذه المغامرة الإيطالية أنظار علماء العالم فرض كورتولد في عام 1938 في أحد معارض مانشستر أنسجة صناعية. وظهرت في أمريكا أنسجة عرفت باسم (أرلاك).
أما نسيج الأرديل فيرجع أول عهد التفكير العلمي فيه إلى عام 1930 حين قال الدكتور أوستبوري من جامعة ليدز بأنه من الميسور تحويل زلاليات الفول السوداني إلى أنسجة؛ وقد أيده في قوله البروفسور سيبتال من جامعة كمبردج وكان مشهوراً بسعة معارفه عن خواص زلاليات النباتات.(636/47)
وبدأت سلسلة من التجارب لإذابة زلاليات البذور واستخلاص الألياف منها حتى تكللت التجارب بالنجاح وحصلوا على ألياف تشبه الصوف في كثير من خواصها.
وانتقلت عدوى البحث إلى معهد الصناعات الكيماوية الإمبراطوري وبدأ تجاربه بطرق مثالية يختبر صلاحية البذور المختلفة ليدرس كمية الزلاليات التي تصلح في كل منها لإنتاج الألياف المرموقة.
واستمرت التجارب فترة تيسر فيها فصل مواد الفول السوداني وأتيح منها الحصول على الألياف المطلوبة وعلى استخراج نوع من زيت الأراشيس الذي يصلح في عمل المسلي الصناعي. ووجد أنه يحتوي على 28 % من وزنه من الزلال ومن 48 إلى 50 % من زيت الأراشيس وعلى 11 % من مواد نشوية وسكرية.
ومعنى هذا إنه يمكن استغلال كل مادة الفول السوداني لأن المواد النشوية والسكرية غذاء جيد لكافة الحيوانات كما أن الطن من الفول يصلح لإنتاج 500 رطل من ألياف الأرديل في لون (كريم).
واختيرت خواص الألياف الناتجة فوجد أنها تمتص الرطوبة مثل الصوف ولها قدرته على التدفئة وغيرها من الخواص التي تميز الصوف عن غيره من الألياف.
وانتقلت التجارب إلى مرحلة صنع القماش من الألياف الجديدة فأثبتت أن أفضل طريقة لاستخدامها هي خلطها بمقدار مساو لها من الصوف وعلى هذا الأساس يتعذر على أي إنسان أن يفرق القماش الجديد من قماش الصوف الصافي وإن كان في الواقع يفضله لأنه أرخص منه في أسعار الإنتاج.
واتجهت تجارب الأمريكيين إلى ناحية أخرى فأقبلوا على دراسة زلاليات الذرة التي تعد قليلة القيمة من الناحية الغذائية، ومن ثم تفرعت الأبحاث في كل اتجاه وهدفها استغلال المواد القليلة الاستغلال وخاصة المواد التي تعتبر عديمة المنفعة مثل التالف من الصوف والحرير والجلود وجلود الحيوانات وريش الطيور وكل ما يحتوي على مواد زلالية.
والمعروف أن العلماء توجهوا من زمن بعيد إلى البحث عن ألياف تصلح للنسج من المعادن وهو ما يعرف (بالنيلون) وهو يختلف عن البحث الذي نحن قبله بأن بحثنا نباتي محض.(636/48)
واتجه البحث في ألمانيا قبل نشوب الحرب إلى ناحية أخرى إذ جرب العلماء استخراج ألياف مشابهة للصوف من السمك. وكانت خلاصة أبحاثهم الحصول على خليط من الزلال والسيلولوز.
ومن الطبيعي أن جميع المواد الغذائية التي نتناولها تصلح مادة جيدة لهذه التجارب وخاصة اللحوم؛ كما حاول بعض العلماء في النمسا. ولكن بعيدي النظر يفضلون الاقتصار في تجاربهم على المواد القليلة الغذائية أو البقايا التي يتخلص منها الإنسان.
على أنه من الثابت أن المنسوجات الصناعية التي تستخرج من هذه المواد التالفة ستكون بالغة الأثر في الميدانين الاقتصادي والتجاري نظراً لرخص أسعارها، وفي كثير من الأحوال لجمال مظهرها وقابليتها لإظهار مودات جديدة.
زرع بدون تربة
لم تعد رمال الصحراء عديمة الفائدة من الناحية الزراعية. فبفضل الأبحاث الكيمائية الزراعية الأخيرة التي أجرتها بعض المعاهد الأمريكية تيسر الاستغناء عن التربة وزرع المنتجات الزراعية في الصخر على أن تغذي البذور بالمواد الكيماوية الضرورية لحياتها.
وظهرت هذه الحاصلات بكثرة ساعدت كثيراً على توفير المواد الغذائية للقوات المحاربة. وطريقة الزراعة الكيميائية هي نثر البذور في طبقة من الحصى والرمال والأحجار سمكها عشرة سنتيمترات تمهد مائلة وتنتهي مساحات أرضها بمجموعة من الحفر تزود بالطلمبات التي تمتص محلولها المحمل بالمواد الكيماوية اللازمة ثم ترسلها في أنابيب تفرغها في أعلى المنحدر الزراعي فتأخذ منه البذور كفايتها ثم يعود الباقي إلى الحفر ليعاد امتصاصه وتفريغه على البذور عدة مرات كل يوم.
لا حرث ولا عزق
ومن فوائد هذه الطريقة الاستغناء عن حرث الأرض وعزقها كما أنها تعرض جذور النبات للهواء فيحصل على مقدار وافر منه وتقل في حقول النباتات الكيميائية الحشرات الضارة.
وأنتج الفدان الواحد من الأرض بهذه الطريقة 250 طناً من الطماطم و500 بوشل من البطاطس ووفرت عشرة في المائة من النفقات الزراعية التي تتكفلها الأرض العادية.(636/49)
وأجريت التجارب التحليلية لمعرفة المحتويات الغذائية للحاصلات المزروعة بالطريقة الكيميائية فظهر أن كمية الفيتامينات الموجودة في السبانخ والطماطم توازي ثلاثة أضعاف الكمية الموجودة في مثيلاتها من مزروعات التربة.
وبتحليل مائة رطل من التين وجد أنها تحتوي على 12 رطلا من البروتينات و40 من الكربونات و20 من السيلولوز و10 من الفورفورال و 8 من اللجنين و10 من الهومس وثمن هذه المواد يوازي أربعة أضعاف ثمن التين كله.
ويسرت هذه الطريقة على رجال الصناعة في أمريكا سبيل الحصول على كثير من المواد الصناعية كالبترول والمطاط وغيرهما من المواد الضرورية التي ما زال أمر الحديث فيها من الأمور العسكرية. على أن طريقة الزراعات الكيميائية ستحدث انقلابا كبيراً في عالم الزراعة والصناعة بعد الحرب كما ستخفض ثمن المواد الغذائية تخفيضاً كبيراً.
فوزي الشتوي(636/50)
القصص
لؤلؤة الحب
للكاتب الإنكليزي هـ. جـ. ويلز
بقلم الأستاذ عيسى حليم
من رأي الباحثين في علم الأخلاق أن اللؤلؤة هي أقرب الحجارة الكريمة المتبلورة إلى النفس، لأنها أثر من آثار الألم لكائن حي، وليس في طاقتي التعليق على هذا القول، لأن سحر الجواهر لا يحرك أي وتر من أوتار روحي، وبريقها الرجراج لا يؤثر في على الإطلاق، كما إنه ليس بوسعي أن أقطع برأي حول ذلك الجمال المتطاول: هل لؤلؤة الحب أشجى القصص، أم هي خرافة شائقة عن خلود الجمال؟
إن دارسي النثر الفارسي في العصور الوسطى قد ألفوا هذه القصة والجدال الدائر حولها. والقصة قصيرة، إلا أن تفسيرها يشغل حيزاً كبيراً في أدب تلك الحقبة. فلقد عدت قطعة شعرية كما يجوز اعتبارها كناية تشير إلى هذا أو إلى ذاك. وساهم رجال الدين نصيب وافر في تأويلها، وعنوا بها بوجه خاص كقصة تلقى ضوءاً على بعث الأجسام بعد الموت، ويضرب بها المثل أولئك المشتغلون بالفن والجمال، وكثيرون يعتبرونها مجرد تعبير جريء عن حقيقة بسيطة
جرت حوادث القصة في شمال الهند، وهي أصلح تربة للحب السامي في جميع بقاع العالم، فهي بلاد الشمس الوهاجة والبحيرات والأدغال الكثيفة والتلال والأودية الخصبة، وهناك توشك الجبال الشاهقة أن تنطح قبة السماء، أجل هناك القمم والأخاديد حيث الثلج الدائم الصعب المنال، في هاتيك الربوع كان يعيش أمي في مقتبل العمر يطيعه الجميع. وفي يوم ما التقى بفتاة طلقة المحيا، جمالها قيد النواظر بحيث يعجز عنه الوصف، فجعلها ملكته واضعاً قلبه عند قدميها. كان الحب الموثق متبادلا بينهما، مليئاً بالمسرات وبالسعادة لدرجة لم يحلم بها أحد من قبل. ومكثا يتفيآن ظل الهناءة، موفوري السعادة لمدة سنة وبضعة شهور، ثم. . . فجأة ماتت بلدغة سامة، بينما كانت تطوف في أرجاء إحدى الخمائل. . .!
أجل، ماتت. . . ولبث الأمير حيناً مسجى في حالة هامدة صامتة من جراء الحزن البالغ(636/51)
واللوعة الحرى، حتى أن البعض خشي عليه أن ينتحر، مع العلم بأنه معدوم النسل والأخوة ليخلفوه. واستمر يومين منقطعاً عن الأكل مكباً على وجهه عند أرجل السرير الذي أضطجع عليه جسدها الفاتن، ثم نهض وأصاب شيئاً من الطعام، وانطلق في سكون انطلاق من آلي على نفسه أن يعمل عملا عظيما، وأمر أن يوضع جسدها في نعش من الرصاص الممزوج بالفضة، وأن يوضع هذا بدوره في نعش آخر من أغلى الأخشاب التي تعبق بالعبير، وأن يكسى بالذهب، وأن يكون حول ذلك كله نعش من الرخام المعرق المرصع بالزبرجد. وبينما كان العمل جارياً، دأب على قضاء معظم أوقاته بجوار الغدران، وفي المنازل ذات الرياض، وفي الخيم والغابات، وفي غرف القصر تلك التي شاهدت مراتع فتونهما، متأملا في حسن تلك التي فقدها، ثم إنه لم يمزق ثيابه ولم يحث الرماد على نفسه، ولم يتشح بالحداد كما كانت العادة، لأن حبه كان أسمى من أن يتسع لهذا الشطط، وأخيراً عاد إلى مستشاريه والى شعبه، وأدلى إليهم بما كان مزمعاً أن يفعله
قال إنه لم يعد بمقدوره أن يقرب امرأة، بل إنه لا يحتمل حتى التفكير في النساء، ولذلك سيحاول إيجاد فتى لائق ليتبناه وليدربه كي يكون خلفاً له، وإنه سيواصل القيام بأعباء الإمارة كما يليق به، على إنه سيركز قواه بقدر استطاعته، وسيخصص جميع ثروته وكل ما يمكنه حشده، ليشيد ضريحاً لمالكة فؤاده الغالية التي لا مثيل لها، وستكون بناية ذات حسن مكتمل وجمال بالغ، بحيث تفوق أية بناية أخرى شيدت في الماضي أو ستشاد في المستقبل، ولتكون أعجوبة إلى الأبد، وليحتفظ بها البشر كنزاً ثميناً، حتى تتناولها الألسن بالإطراء، وتشتد الرغبة في مشاهدتها، ولتكون نجمة الرواد من جميع أطراف الأرض، فيظل اسم معبودته وذكراها حيين ماثلين للعيان، وأضاف أن هذه البناية سيطلق عليها اسم (لؤلؤة الحب)
وقد رضى مستشاروه وشعبه بأن يفعل هذا وقد فعله!
وتتابعت السنون وهو قاصر نفسه على تشييد (لؤلؤة الحب) فحفر لها أساس شق بين صخور في مكان تلوح للناظر منه الثلوج المخيفة التي تكلل الجبال. . . وعلى مقربة كانت تظهر بعض القرى والتلال ونهر كثير التعاريج، وبعيداً قامت ثلاث مدن عظيمة. وضع النعش الرخامي المعرق في بناية شيدت بمهارة وأحيطت بعمد من حجارة جميلة غريبة(636/52)
المنظر، وبجدران تجلى فيها النقش، لكنها لم تلق قبولا لدى خيال الأمير الآخذ بالاتساع، فأمر بهدمها
فالأمير لم يعد باليافع الرشيق الحركة الذي أحب ملكته الصبية، فقد أضحى الآن رجلا عبوسا لا يستوطئ راحة، منكبا على بناء (لؤلؤة الحب). وأخذت السنوات المليئة بالعناء تكسبه خبرة في فن البناء. . . ورهف ذوقه للألوان، وغدا قليل الاهتمام للتزويق والتزيين وكنت تسمعه يردد: (هذه أشياء كانت بديعة). وشاهد الناس (لؤلؤة الحب) تعلو من طور الإنشاء إلى علو شاهق في عظمة وأبهة وجلال، فهم لم يكونوا يعرفون ماذا يتوقعون، لكنهم على كل حال لم يتوقعوا أن يشاهدوا مثل هذا السمو، وكانوا يقولون هامسين: (غريبة تلك العجائب التي يبدعها الحب)! وأحبت جميع نساء العالم الأمير لولائه العميق ولوجده الدفين
ولم يأل الأمير جهداً في التبديل والتجميل، وإنما كان هناك شيء من النشوز في التابوت، إنه لم يكبر منذ الأيام الأولى للكارثة، فبان أشبه بمستطيل صغير يجثم دون تناسب وسط (لؤلؤة الحب). وفي ذلك التابوت كانت علبة الرصاص والفضة الكبيرة الحاوية لجسد من أوحت بهذا الفن
وقف الأمير طويلا يتأمل وينعم النظر، ولكن أحداً ما كان ليدرك ماذا يجول بفكره، وماذا يستقر في خياله؟!
وأخيراً. . . تكلم مشيراً إلى (لؤلؤة الحب) وقال: اهدموها!
(بيت لحم - فلسطين)
عيسى سليم(636/53)
العدد 637 - بتاريخ: 17 - 09 - 1945(/)
درسان من دروس الحياة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغيري، وإني لم أعطها وحدي، ولا أعطيها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متكافئون في الحقوق، وعلينا من أجل ذلك واجبات متماثلة. وما دمنا شركاء إلى حين، وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل، فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة بالعنت، أو أن تؤثر التي هي أخشن على التي هي أحسن في سيرتنا، وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي، وما زالت بي بقية غير هينة من الجماقة، فما انفكت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته، وتشيلني وتحطني، وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأرحت واسترحت
أي نعم، تتسع الدنيا لي ولغيري، وتستغني عنا جميعاً! وليس أضل رأياً من يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس. وما أحكم قول الإنكليز في أمثالهم: (عش، ودع غيرك يعش)! وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يبابا؟ لا شئ! لن يكف الفلك المسير عن الدوران، ولن يعوق الشمس شئ عن الطلوع والأفول، ولن تعدم الحياة على الأرض مظهراً آخر تتبدى فيه كما تبدت فينا نحن بني آدم! وهل نحن إلا صورة من صور الحياة؟ وهل أعظم غروراً أو أقل عقلا ممن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله عن الأرض؟
ولا يتوهم أحد أن هذا كلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية، ونشداناً للعيش الرغيد، وطلباً لأطايب الدنيا، وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي لا يستوجب أن يحرم الناس غيري ما يطلبون، أو أن يخيبوا ويخفقوا. وأي دنيا تكون هذه إذا كان نجاح فرد فيها وتوفيقه في إدراك آرابه لا يتسنى إلا بخيبة الباقين؟ ثم أني لا أحس أن الناس بنافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الأرض رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما رأيتني عجزت قط عن اختراع طريق بكر، أو الاهتداء إلى ميدان جديد، إذا شعرت(637/1)
بالحاجة إلى ذلك
وصحيح أن الحياة جهاد - جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان - ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا لا ينبغي أن يكون بالأنياب والمخالب، بل بالعقول. ونضال العقول متعة، وليس يعي به أو يستثقله أو يضجر منه إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين المستضعفين الذين يساقون ويسخرون، بل إلى أصحاب العقول. حتى حين تقوم الثورات لا تكون الثورة في حقيقة الأمر من الجمهور الأكبر والسواد الأعظم الذي يسفك الدماء ويعبث بالخراب والدماء، بل ممن يدفعونهم إلى ذلك ويغرونهم به ويحضونهم عليه صراحة وتلميحاً، وعفواً أو عن عمد، أي من أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس أو تعقل ألسنتهم. وخير وأرشد - لك وللناس - أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وتصور دنيا ليس فيها من يفكر بعقله وينظر بعينه غير واحد ليس إلا! أي مزية يستفيدها هذا الفرد؟ وأي متعة أو نعيم له في حياته مع أشباه البهائم؟
إنما المتعة والنعيم في هذا النضال الذي تتصفح فيه عقول منافسيك وتضيفها إلى عقلك، وأنت بذلك تكسب أبداً ولا تخسر، وتضم كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتيت من ذلك، وتمنع عقلك أن يصدأ، لأنك لا تنفك بفضل النضال الذي لا مهرب لك منه، تجلوه وتشحذه وترهفه
ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري. وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم، ولا مدد من المعرفة. وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناءً
وعلمتني الحياة الابتسام! وأنه لعجيب أن يحتاج المرء أن يتعلمه! ألم يقل بعضهم في تعريف الإنسان أنه حيوان يبتسم؟ وأدعى إلى العجب من ذلك أن تكون المحن والشدائد هي التي علمتنيه وعودتنيه! أي والله! فقد كان صدري يضيق ومرارتي تكاد تنشق، من الغيظ، وكنت أجزع إذا حاق بي ما أنكره، وأقنط من قدرتي على اجتياز المحنة، حتى تلفت أعصابي واسودت الدنيا في عيني، بل كاد نور عيني يخبو وينطفئ لفرط ما كنت أعانيه من الاضطراب والألم والكمد، ثم لطف بي الله فتمردت على نفسي، وصرت إذا عراني ما كان يعروني من الجزع أو الخوف أو الاضطراب أقول لنفسي: قد جربت مثل هذا من(637/2)
قبل، وعرفت بالتجربة أنه كله يمضي ولا يخلف أثراً ولا يورثني إلا الأسف على ما أنهكت من أعصابي في احتماله، وقد لدغت آلاف المرات. فلا يجوز أن الدغ بعد ذلك أبداً، وخليق بي أن أتلقى كل ما يجيء - لا بالصبر والتشدد، فقد كان ذلك ما أفعل ولم يكن يكفي - بل بالسخرية والتهكم - سخرية العارف وتهكم المدرك للقيم الحقيقية للأشياء - وبالابتسام الذي يهون كل صعب ويحيل كل جسيم ضئيلا.
وإذا بالابتسام له فعل السحر بل أقوى. تفتح حنكك ربع قيراط، وتكلف عينك أن تومض قليلا فتتغير الدنيا كلها! تجف الدموع إذا كنت تبكي، وينضب معينها، وينشرح صدرك إذا كان منقبضاً، وتشعر بخفة في بدنك بعد أن كان على كاهلك وقر ترزح تحته، ويزايلك ما كنت تحاذر كأنما كان ضلا ارتمى عليه لورفنسخه، ويتجدد الأمل الذي كان قد استحال إلى يأس، وتنشط للعمل والسعي والجهاد وأنت مفعم بالرجاء، بعد أن كانت رجلاك كأنما شدتا إلى قنطارين من الحديد، ولا تعود تبالي أنك في ضيق، أو أنك عاطل، أو مريض، أو أنك فقدت عزيزاً، أو أن تجارتك بارت وخسرت ألف ألف جنيه! كل ذلك الكرب الممض يصبح غير ذي قيمة لا لشيء سوى أنك استطعت أن تتبسم! ولست أتمنى للقراء إلا الخير محضاً، ولكنه ما من حياة تخلو من دواعي الانقباض أو الألم أو الحزن، فليجربوا الابتسام إذا مر بهم - لا قدر الله - شئ من ذلك، وليتأملوا فعل سحره، فقد وجدته في كل حال وصفة نافعة.
وليس الابتسام سهلا في مثل هذه الحالات، فانه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلب جهداً عظيماً، ولكن التمرة تستحق العناء، والمثوبة على قدر المشقة. وأول ما يكون على المرء أن يتغلب عليه، هو الاستحياء من أن يبتسم في موقف حزن أو كرب شديد مخافة أن يقول الناس أنه يسرف في التكلف. وما من شك في أنه لا يتأتى في أول الأمر إلا بتكلف شديد، ولكنه لا يلبث بعد أن ينجح في تكلفه أن يصبح طبيعياً، لأن مجرد الابتسام يفجر ينابيع البشر في النفس فتفيض
ولان يتكلف المرء الابتسام خير - وأسهل أيضاً - من أن يحتمل ما هو فيه من الآلام، وما يساوره من المخاوف والوساوس والأوهام
ومتى ابتسم المرء في الشدائد والمحن، فإن الميزان يعتدل من تلقاء نفسه، فيفطن المرء إلى(637/3)
القيمة الحقيقية - لا المتوهمة - لما هو فيه أو لما يخشى أن يكون. فتراه يقول لنفسه إذا كان قد فقد عزيزاً: (لقد مات، وكان لابد أن يموت يوماً ما، وسنموت جميعاً متى وافانا الأجل، فلا حيلة في هذا. وصحيح أنه مات في وقت أنا أحوج ما أكون فيه إليه والى عونه، ولكن إطالة عمره لم تكن في يدي، واستغراق الحزن لي ليس من شأنه أن يجعلني أقدر على النهوض بالعبء الذي انتقل إلى كاهلي)
وكان قبل أن يبتسم يقول: (يا ويلتاه! وا مصيبتاه! ماذا أصنع الآن! لقد فقدت المعين، فأنا ضائع لا محالة! وكيف تطيب الحياة لي بعد؟ الخ الخ). نعم، هو سحر، ولكنه سحر في وسعنا جميعاً أن نعالجه ونوفق فيه. وكل شئ في مبتداه عسير، ثم يهون بالدربة والمرانة ويصبح عادة وأشبه بالطباع، ويكسب المرء مناعة وحصانة، فلا تعود صروف الأيام قادرة على تقويض كيانها ونقض بنيانها. فجربوا هذا كما جربته، واشكروني
المازني(637/4)
أول صلاة في الإسلام
صلاة الركعتين
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
والتهجد عبادة اختيارية في الأديان الأخرى وكذلك عرف عند اليهود والمسيحيين. كان نساك اليهود يتعبدون ليلا، يقيمون الصلاة تضرعاً إلى الله وخيفة، ويقرءون شيئاً من التوراة وكانت لهذه القراءة منزلة خاصة في قلوب اليهود لما لها من ثواب عظيم. جاء في المزامير: (في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك). وجاء عن النبي داود أنه كان ينام إلى منتصف الليل ثم توقظه جرادة كانت تأتي فراشه بتأثير هبوب الرياح الشمالية فيستيقظ ويفيق ويقضي النصف الثاني في القراءة وترتيل أناشيد الرب وذكر اسم الله العظيم
وعرف عن رهبان النصارى مثل ذلك، كانوا يتهجدون ليلا ويقضون جزءاً من الليل في العبادة، وفي تاريخ الأديان كفاية لمن أراد المزيد.
والآن فما دامت الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء فكيف كان يصلي الرسول؟ وهل كانت للرسول ولأصحابه صلاة خاصة؟ اختلف الفقهاء في الجواب، وذهب أكثرهم إلى أنه كان يصلي وإن (أول ما افترضت الصلاة على النبي ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين).
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد (وفي كلام ابن حجر لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من صلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ كله بالصلوات الخمس، ثم لم تكثر الفرائض ولم تتابع إلا بالمدينة. ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب كان كلما زاد ظهوراً وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت).
وبعد فهذه آراء في الصلاة قبل الإسراء متباينة. أما ما بعد الإسراء فالإجماع حاصل على أنها خمس لا شك في ذلك. ولم يتمكن المفسرون على الرغم من الجهود التي بذلوها من(637/5)
تعيين آية صريحة في القرآن الكريم تشير بصراحة إلى الصلوات اليومية الخمس وتذكرها عداً دون تفسير ولا تأويل
ويظهر من أقدم الآيات والسور القرآنية أن النبي وأصحابه كانوا يصلون بين البعث والإسراء، ففي سورة العلق وهي من السور المكية ومن أول ما نزل من القرآن: (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) مما يدل على أن المسلمين كانوا يصلون. وفي الأخبار أن الرسول بعد أن صلى الصلاة الأولى أتى خديجة بنت خويلد فتوضأ وتوضأت وصلى وصلت كما صلى الرسول؛ ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل مما يدل على أن الصلاة كانت معروفة قبل الإسراء بزمن؛ فالمعروف أن وفاة خديجة كانت قبل الهجرة بثلاث سنين أي في السنة العاشرة من البعثة وهي أول من آمن به من النساء كما هو معلوم، ومن المعروف في كتب السير أيضاً أن (الرسول كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الدين لذي أراك تدين به؟ قال: أي عم! هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم. وكانت وفاة أبي طالب قبل الإسراء في العام الذي توفيت به خديجة فلو أخذنا بهذا الخبر وجب علينا إذاً أن نعترف بأن الصلاة كانت مفروضة منذ أيام الوحي الأولى.
إذاً كيف بدأت الصلاة وهل كانت على الطراز الذي نقوم به في الوقت الحاضر؟ لا. كانت تختلف بعض الاختلاف عن الصلوات الخمس، كانت ركعتين ركعتين أي أن كل صلاة هي ركعتان فقط كما هو في صلاة الصبح في الوقت الحاضر أو في صلاة المسافر. وقد اختلفوا في أول صلاة صلاها الرسول: يقول أحمد بن واضح اليعقوبي: (وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله) وقد ذهب هذا المذهب نفر من الرواة أيضاً
والذي أراه أن الرواية ضعيفة لما ذهب إليه بعض المفسرين من أن صلاة الظهر هي (الصلاة الوسطى) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم (حافظوا على الصلوات والصلاة(637/6)
الوسطى وقوموا لله قانتين). فإذا كانت صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى فيجب أن تكون وسطا بين صلاتين، وهذا مما يتعارض وكونها أول صلاة صلاها الرسول؛ لأن كونها صلاة وسطى يستوجب وجود صلاة أولى وصلاة أخرى. ثم إن العقل لا يؤيد أن أول صلاة هي صلاة الظهر؛ لأن الصلاة في أكثر الأديان هي في الصباح والمساء نظراً لسهولة معرفة الوقت؛ فلا يعقل أن تكون صلاة الظهر هي الصلاة الأولى) ثم الآيات القرآنية السابقة لا تؤيد الرواية المذكورة أبداً، وكذلك الآيات القرآنية التي نزلت بمكة كما سنرى.
والرواية التي تقول بأن أول صلاة صلاها الرسول هي صلاة الظهر هي رواية نافع، ورواية نافع هذه تحتمل الرفض وتحتمل القبول، ونافع كثير السقطات في الأخبار. على كل فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من الصلاة الوسطى صلاة الفجر وذهب بعضهم إلى أنها صلاة العصر. وحتى إذا ذهبنا هذا المذهب لا نستطيع الجزم بأن صلاة الظهر هي أول صلاة صلاها الرسول.
ولكن الذي يستنتج من مختلف كتب السير والأخبار أن الصلاة قبل الإسراء كانت في وقتين فقط وبركعتين: صلاة بالعشي وصلاة بالغداة وهذا ما يؤيد كون الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر. ويؤيد هذه النظرية ما ورد في القرآن الكريم (يا أيها الذين آمنوا ليستأذننكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: (فرض الله الصلاة في أول الإسلام ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشي أي قبل غروب الشمس).
وهذا هو الرأي المعقول؛ لأن وقت الغروب ووقت الشروق علامتان يمكن إدراكهما بسهولة بدون حاجة إلى تعيين وقت ولا حساب. وأكثر الصلوات في هذين الوقتين، حتى الوثنيين والأقوام البدائية تتخذ هذين الوقتين للاحتفالات الدينية ولإقامة الصلوات والطقوس.
ومما يؤيد هذا الرأي قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) وقوله: (وسبح بالعشي والأبكار) وذهب نفر إلى أن صلاة العشي كانت قبل صلاة الغداة،(637/7)
ثم حدثت بعد ذلك صلاة الغداة). . وكان الرسول يخرج إلى الكعبة في أول النهار فيصلي صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان هو وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى فيصلون صلاة العشي) ويظهر من هذه الرواية الأخيرة أن صلاة الضحى كانت وقت الضحى لا قبل الشروق).
من الممكن إذاً تعيين صلاتين قبل فرض الصلوات الخمس: صلاة الغداة وإن شئت فسمها (صلاة الصبح وهي صلاة كان يؤديها النبي حين قيامه من الفراش وقبل شروق الشمس، وصلاة العشي وإن شئت فسمها صلاة الغروب وهي قبيل غروب الشمس. وإذا ما وافقنا أكثر المفسرين على رأيهم من أن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى وهي وسط بين صلاتين فتكون بذلك قد عينا ثلاث صلوات هي الصلوات الأولى في الإسلام. ولا شك في أن الصلاة الوسطى وهي صلاة الظهر متأخرة نوعاً ما بالنسبة إلى الصلاتين.
قلنا إن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) ولكن سورة البقرة وهي السورة التي ذكرت فيها هذه الآية مدنية لا آية 281 فإنها نزلت بمنى وهذا مما لا يتفق وما ذهبنا إليه، لأن ذلك يدل على أن فرض (الصلاة الوسطى) كان بالمدينة أي بعد الإسراء؛ فإما أن تكون الآية مكية ولكنها حسبت مدنية وتكون الصلاة الوسطى حينئذ قد فرضت بمكة فلا تحتاج المسألة عندئذ إلى تفكير، وأما أن تكون مدنية فتحمل الآية حينئذ محمل الأمر والتذكير بشيء سابق لا نستطيع تعينه بالضبط.
ذكر المفسرون بأن المقصود من الآية (حافظوا على الصلوات) الصلوات الخمس، وهذا طبعا هو تفسير المفسرين لأن الآية صريحة كل الصراحة لم تعين العدد. وإنما ذكروا العدد ليوفقوا بين حديث الإسراء وبين هذه الآية، ولكن ما الذي يمنع إذا ذهبنا مذهباً آخر جديداً هو أن الصلوات الخمس لم تتم بهذا الشكل المألوف إلا في المدينة وإلا بعد الهجرة، ولان كثيراً من الأحكام لم تأخذ شكلها النهائي إلا في المدينة؛ وبذلك يتيسر لنا شرح الآية بدون حاجة إلى تأويلات بعيدة لا طائل تحتها كما حاول ذلك المفسرون الذين حاروا في تعليل العطف الذي جاء بعد (حافظوا على الصلوات) فبعد أن قالوا أن المقصود من الصلوات، الصلوات الخمس اعترضهم اعتراض هام هو أن الصلاة الوسطى هي صلاة مهما قيل في(637/8)
المقصود منها فإنها واحدة من الصلوات الخمس، إذاً فما معنى العطف في وقوله تعالى: (والصلاة الوسطى) بعد أن ذكر الصلوات كلها؟ عللوا ذلك بقولهم أنه تعالى: (أفردها بالذكر لفضلها).
ثم ذهبوا مذهباً بعيداً للتفتيش عن ذلك الفصل. ولو ذهبنا نحن إلى أن الصلوات لم تكن كاملة إلى أن هاجر الرسول إلى المدينة ثم كمل ذلك فيما بعد لما احتجنا إلى كل هذه الاحتمالات. وخبر الإسراء خبر وما جاء فيه لم يذكر في القرآن.
ولليهود في القديم صلاتان: صلاة عند الصباح وصلاة عند المساء وتعرف عندهم باسم (شماع) أو (سماع) ' تقرأ في الصلاتين وصية إسرائيل (اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك) وتقرأ عند المساء والصباح من كل يوم (وقصها على أولادك وتكلم بها حين تحبس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم).
وفي الديانة الفارسية القديمة صلاتان: صلاة في الصباح عند النهوض، وصلاة في المساء قبيل الذهاب إلى الفراش وهي تشبه صلاة (الشماع) عند اليهود. والغرض من الصلاتين التوسل إلى (مزدا) لطرد الأرواح الخبيثة والأنفس الشريرة. وفي وسع المؤمن طرد الشيطان بالصلاة عند الصبح، فبعد النهوض من الفراش يتجه الإنسان إلى فيصلى له الصلوات الثلاث ثم يذكر اسم مرتين واسم ثلاث مرات واسم أربع مرات ثم يصلي إلى - فتهرب الأرواح الخبيثة من الإنسان ولا تمسه بعدئذ بسوء وقد نشأت من ذلك تعاويذ خاصة يقرؤها الإنسان لطرد الخبائث والشياطين عنه
وقد انتقلت مثل هذه الأفكار البدائية إلى اليهود أيضاً. فكان يوشع بن لاوي يشفي الأمراض بقراءة بعض الآيات من المزمور الحادي والتسعين، ولكن كان من المحرم قراءة شئ من التوراة على المرضى.
وذكر عن (هونا) عن (يوسف) أن الإنسان يصلي صلاة (الشماع) لطرد الأرواح الخبيثة ولأبعادها عن المصلى). وقد استخدمت المسيحية قراءة الكتاب المقدس لغرض إشفاء المرضى وكذلك الصلاة(637/9)
أما صلاتا الصبح والعشاء والصلوات الأخرى في الإسلام فإنها لم تتخذ لهذا الغرض بل جعلت واجباً دينياً على المسلم كسائر الواجبات.
جواد علي(637/10)
القبطان الأرضيان والإسكيمو
للأديب محمد وحيد الدين المعري
الإنسان وفطرة الاكتشاف
خلق الإنسان بفطرته وغريزته محباً للاطلاع والتنقيب، وهذه الفطرة والغريزة تنشآن لديه منذ ولادته، فإذا رأى الطفل شيئاً نراه يسعى لمعرفة كنهه ومحتوياته؛ فإن كان مثلا ألعوبة آلية يسعى ليطلع على أسرارها، وكثيراً ما يكسرها ليرى السبب الذي جعلها تقوم ببعض الحركات أو تحدث بعض الأصوات. . . وهذه الغريزة ضرورية للإنسان إذ لولاها لعاش عمره ينظر إلى الطبيعة نظرة في الحيوانات لا يفكر في أمرها بل ولا فيما يختص بذاته، ولو بقي على هذا الوضع لعاش حياته عيشة بهيمية يندفع للقيام ببعض الحركات أو الأعمال الضرورية كالطعام والشراب والنوم والخوف والدفاع عن النفس وغير ذلك بدافع خارجي لا علاقة لتفكيره فيه كالجوع والعطش والنعاس والألم وغيره، إذاً فالإنسان عاقل، وعقله دفعه للتفكير، وتفكيره دعاه للاطلاع والتنقيب والاكتشاف والاختراع، لذلك فكر بادئ ذي بدء في نفسه ثم فيما جاوره من الأشياء وفيما رآه قريبا منه وكذلك فقد تأمل في هذه الأرض التي يعيش عليها وباقي المخلوقات كالكواكب والنجوم وغيرها.
العرب وكروية الأرض:
فكر الإنسان في هذه الأرض التي يعيش عليها وينتقل فيها ثم طاف بها إلى مسافات بعيدة عله يصل إلى آخرها ولكن عبثاً ما حاول، فأينما سار وجد الطريق أمامه مفتوحة إن كان براً أو كان بحراً فاعتقد بلا نهائيتها وبأنها مسطحة لا أول لها ولا آخر، وبقيت أمامه هذه العقبة الكأداء زمناً طويلا طلسما مجهولاً ولغزاً صعباً لا يستطيع حلهما. وجاء الإسلام بكتابه المجيد فنقض كثيراً من النظريات البالية التي استصعب حلها زمناً طويلا فقال: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب). ثم ازدهر مجد العرب وأسسوا مدينتهم الزاهرة وقام فيهم العلماء المتعددون، ودرسوا ما وضع السالفون من النظريات الفلسفية ووافقوا على ما ساير العقل ونقضوا كثيراً من النظريات الأخرى التي تخالفه، وساير دينهم العلم والعقل جنباً إلى جنب، فأسسوا مدينة خاصة بهم تختلف عن باقي(637/11)
المدنيات وطبعوها بطابعهم الخاص واستطاعوا أن يثبتوا في العصر العباسي فساد الكثير من النظريات كنظرية انبساط الأرض ولا نهائيتها، وقالوا إن الأرض كرة مستديرة تسبح في الهواء شان باقي الكواكب والنجوم المنثورة في الفضاء. وأمر الخليفة المأمون ببناء مرصد فلكي فوق جبل قاسيون في دمشق، وبقيت آثاره حتى دخول الخلفاء إلى سوريا عام 1941، إذ خربته القنابل أثناء ضرب المراكز العسكرية فوق هذا الجبل، كما أمر بعض الرياضيين بحساب طول محيط الأرض، وقاس هذا المسافة الواقعة بين عاصمة الملك ببغداد ومصيف الخلفاء - الرقة - واستنتج منها طول المحيط. وأنكر أقوام وعلماء آخرون صحة هذه النظرية، فقال بعضهم ببطلانها وانبساط الأرض التي تنتهي شمالا بجبال (قاف)، تلكم الجبال التي كثر حديثهم عنها، ولعلهم يقصدون بها جبال (قاقفاسيا)، لأنها وقفت أمامهم كالحصن المنيع تحول دون أطماعهم في الفتوحات الشمالية لارتفاعها أو لكثرة الهوام والحيوانات المتوحشة فيها
وفتح العرب الأندلس وأسسوا فيها مدينتهم الزاهرة التي ضاهت مدينتهم في الشرق، وأخذ عنهم الغرب العلوم والفنون، فاستنارت أفكارهم بعدما كانت في ظلمة دامسة، وقام منهم الفلاسفة الكثيرون بعضهم يدعي كرويتها والآخر ينكره، وقاسوا في سبيل ذلك مر العذاب، لأن ذلك كان ينافي التعاليم الكنسية التي تؤمن ببسطها، وحبطت الفكرة زمناً طويلا، وحكم على الكثيرين بالموت جزاء لمروقهم من الدين، ولكن بعض الشباب آمنوا بما آمن به أساتذتهم العرب بكرويتها وقاموا بالدعاية الواسعة لها، وكان على رأسهم كريستوف كولومبس الذي استطاع أن يقنع الملك فرديناند وزوجته الملكة إيزابيلا بما مناهما من الفتوحات العظيمة التي ترفع شان مملكتهما الفتية وبالسيطرة على طريق الهند التي يسيطر عليها أعداؤهما المسلمون فيما إذا لاقى مشروعه النجاح. فأقدم هذان الملكان على تجهيزه بما يلزمه من السفن وتزويده بالمؤن والرجال من المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد طمعاً في إعلاء اسمها في الوقت الذي كان فيه الاعتقاد السائد بأن هذه الطريق البحرية الذاهبة إلى الغرب ستؤدي حتما إلى جهنم حيث تنام الشمس في مهدها. وبعد جهد وعناء وصل كريستوف الهند المزعومة وسماها (جزائر الهند الشرقية)، وعاد منها موقراً بالهدايا الغريبة والنفائس النادرة من حلي وذهب وديكه هندية وإنسان أحمر وغيرها مما لاشى(637/12)
العقائد الفاسدة البالية، ثم وشى الوشاة عند الملكين بكريسوتف، فزج في السجن حيث قضى نحبه. وذهب رحالة إلى هذه الهند يدعى أمريكو حيث قام بالتجول في ربوعها وأثبت أن هذه البلاد ليست سوى عالم جديد لم يكن معروفاً من قبل فسميت بأسمه أمريكا، وقام ماجلان برحلته الاستكشافية الشهيرة فطاف حول العالم ذاهباً من الغرب آيباً من الشرق، عندها تلاشت نظرية انبساط الأرض وذهبت إلى الأبد
قامت الدول تتسابق في الاكتشاف والاستيلاء على البلاد والجزر المجهولة، حتى كادوا يأتون عليها كلها، فعمدوا إلى اكتشاف القطبين الأرضيين الشمالي والجنوبي، ولاقوا في سبيلهما الأهوال لشدة الصقيع وهبوط درجة الحرارة إلى ما لا يحتمله الجسم البشري حتى وفقوا إلى ذلك في أواخر العصر المنصرم.
اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي
لما كان القطب الشمالي قريباً من البلاد المتمدنة كان غاية المستكشفين وهدف الدول الكبرى التي أحبت أن تستأثر بالفخر دون غيرها، فهبت تتسابق إليه ولاقت في سبيله من المشاق والمتاعب ما لا يوصف. ابتدأت الرحلات منذ نهاية القرن السادس عشر، وبعد جهد وعناء كبيرين وعلى يد الأميرال الإنكليزي (روبرجان له ميزوريه (المعروف بـ - ماك - المولود سنة 1007 - 1873) تم اكتشاف الطريق الأول الشمالي الغربي (بين خليج هدسن , ومضيق بيرنغ بين سنة 1850 و 1854م. وعلى يد الرائد الرحالة الطبيعي السويدي نلس آدولف إريك (المعروف بـ - نورد انشولد ? المولود في هيلسينغفورس 1832 - 1901) تم اكتشاف الطريق الثاني الشمالي الشرقي بين سنة 1878 و 1879م. وفي هذا القرن بدأ العلماء بتشكيل بعثات علمية غايتها اكتشاف القطبين توسيعاً لعلم تقويم البلدان (الجغرافيا) فأرسلت إنكلترا بعثات اكتشفت بعض الجزر القطبية شمال كندا، ثم كثرت الهيئات التي تقصد القطبين إلى أن خرج الدكتور (فريد جوف نانسن الرحالة الطبيعي (المولود في ستورفرون - 1861 - 1930) مع اثني عشر رجلا في سفينة سماها (فرام صنعت خصيصاً لهذه الغاية، فسار أولاً في الطريق الشمالي الشرقي واشترى من سواحل سيبيريا عدداً من كلاب الجليد وسار نحو الشمالي حتى بلغ 84 , 4ْ حيث اضطر إلى قضاء فصل الشتاء؛ ثم ترك سفينته وواصل السير مع أحد رفاقه مشياً(637/13)
على الأقدام تصحبها الزحافات والكلاب وبعض الآلات الفنية حتى بلغا عرض 86 , 13ْ ثم رجعا حتى وصلا أرض (فرانسوا جوزيف) حيث قضيا فصل الشتاء؛ وهناك التقيا بسائح إنكليزي اسمه (جاكسون) فتعرفا إليه وركبا معه في سفينته حتى وصلا بلاد النرويج، أما سفينة فرام فقد عادت بعد أن تخلصت من الجليد الذي كان محيطاً بها. وفي سنة 1899 سافر الدوق (ده زابرزو الإيطالي فدخل أرض فرنسوا جوزيف وسار فيها بالزحافات حتى وصل عرض 86. 33ْ متقدما نانسي بعشرين دقيقة أي ما يعادل 37. 037 كيلو مترا. وفي سنة 1905 سافر الضابط الأمريكي (بياري (المولود في كريسون سبرينغ سنة 1856 - 1920) نحو القطب مارا ببحر بافن إلى أن وصل إلى شمالي غروتلنده فنظم هناك بعثة مؤلفة من أمريكيين وأقزام سار بهم ومعهم الكلاب والزحافات مدة شهر كامل، ثم تقدمهم بخمسة من أشجع رجاله حتى وصل القطب في مايو 1909 ورفع العلم الأمريكي. وفحص تلك الجهات فوجدها بحراً تكسوه الثلوج عمقه 3000 متر. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي جزر فرنسيوا جوزيف، وزامبل الجديدة، وسيبتزيوغ في شمالي أوربا، وجزر سيبريا الجديدة ورانحل في شمالي آسيا، وأراضي غروئنلنده وبافن غرانت والبرنس دوكال والملك غليوم وفيكتوريا وآلبيروبانكس وملفيل وباري في شمال أمريكا.
أما القطب الجنوبي فكان الكابتن (كوك الإنكليزي أول من اجتاز مدار القطب الجنوبي أثناء بحثه عن قارة جنوبية فوصل سنة 1774 إلى عرض 71. 10ْ حيث منعه الجليد عن التقدم. ثم أرسلت روسيا بعثة برئاسة (بلنغهاوزن في أوائل القرن التاسع عشر فاجتازت مدار القطب الجنوبي واكتشفت أرض الاسكندر الأول (باسم القيصر) وفي سنة 1838 اكتشف (دومون دروفيل ' الفرنسي أرض لويس فيليب (باسم ملك فرنسا) وبعد سنتين اكتشف أرض آدي وفي سنة 1840 اكتشف (جمس روس الإنكليزي أرض فيكتوريا ذات البراكين المتعددة ووصل بعد سنتين إلى عرض 78. 10ْ. وفي سنة 1910 سافر من إنكلترا (سكوت وشاكلتون واكتشفا أرض إدوار السنابع وواصلا السير بالزحافات إلى عرض 82. 17ْ حيث مكثا يستكشفان ثلاث سنوات. وفي سنة 1910 سافر (آمولدسن (المولود في بورج - في النرويج سنة 1872 - 1928) في سفينة(637/14)
اسمها (نانسن) نحو الجنوب مخترقاً بحر روس؛ وقد اضطر إلى أن يقيم في كوخ خشبي فوق أرض جليدية مدة الشتاء؛ ثم أخذ أربع زحافات وكلابا ومؤنا تكفيه أربعة أشهر واتجه نحو القطب إلى أن وصله في ديسمبر سنة 1911. وفحص تلك الجهات فوجدها أراضي جبلية بركانية ارتفاعها 3000 متر وهي اشد برد من المنطقة الشمالية تهب عليها الرياح الغربية القارصة وينزل فيها الثلج أكثر أيام السنة حتى لوحظ أنه نزل فيها أكثر من 200 يوماً في السنة. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي أراضي الاسكندر الأول وغراهام ولويس فيليب وجزر جوانفيل وآنفرس وشتلاند الجنوبية وأوركارد الجنوبية - جنوب أمريكا، وأراضي آندربي جنوب أفريقيا، وأراضي آديلي وفيكتوريا وإدوار السابع جنوب أستراليا
الأقزام الإسكيمو يطلق هذا الاسم على الأقوام التي تقطن منطقتي القطبين الشمالي والجنوبي. ومعنى كلمة (اسكيمو) في اللغات الغربية (آكل اللحم النيء) ويسمون أنفسهم بالرجال وتسميهم بالأقزام لقصر أجسامهم التي لا تتجاوز الستين سنتيمترا، وهم ابدن ذوو عضلات قوية وسواعد مفتولة وأرجل غليظة معوجة، لونهم أسمر ورؤوسهم كبيرة مستديرة مغطاة بشعر أسود غليظ وأنوفهم عريضة وعيونهم سوداء صغيرة وأفواههم واسعة وشفاههم غليظة في داخلها أسنان بيضاء لامعة وجلودهم ناعمة الملمس، ولباس الرجل شبيه بلباس المرأة؛ لذا كان التمييز بينهما صعباً. والفرق بينهما أن النساء يمشطن شعورهن. ثم يعقدهن تيجانا والرجال يدعونها على طبيعتها ولكنهم يقصون الغرة كي لا تحجب العيون.
بيوت الإسكيمو: في بعض البلاد مثل شمالي سيبيريا وجنوب غربي غروئنلدنه تبني قبائل الإسكيمو بيوتا من الحجر والطين، أما في الأصقاع القطبية فلتعذر وجود هاتين المادتين فانهم يسكنون بيوتا من الثلج تتسع لثلاثة أو أربعة أشخاص تقام جدرانها على جانب حفرة من الأرض ذات باب صغير يضطر الداخل إليها أن يحبو على أربعة، وهي معتمة تتصبب بللا من حرارة ذبالات المصابيح التي يشع منها قبس ضئيل من النور توقد بزيت الحيتان وشحوم الدببة، ولذا كانت كريهة الرائحة لا يستطيع الإنسان البقاء فيها لقذارتها ولكثرة الأكوام اللحمية المتجمدة المكدسة فيها، ولكونهم يبولون فيها ويضعون الجلود وما(637/15)
يصطادونه بها. وبفضل التضافر والتعاون بين عائلات هؤلاء الأقوام فإن أكبر قصر يمكن أن يشاد بسويعات قليلة، فترى قوما ينشرون الجليد وآخرون يجمعون شتات النشارة وقطع الثلوج الصغيرة، والبناء يتناول الحجارة ويضعها في المكان المخصص لها ويثبتها بهذه النشارة بدلا من الطين ولا تلبث بعد أن تتعرض للصقيع قليلا أن تصبح قطعة واحدة. وهذه البيوت عندما تكون جديدة تبقى جميلة ومغرية بلونها الرخامي الفاخر ثم لا تلبث بعد قليل من سكناها حتى تصبح أنتن من أختها.
والأقزام لا يعرفون الزراعة ولا الصناعة اللهم إلا فيما ينحصر فيما يصطادونه من الحيوانات البرية والبحرية، يأكلون لحما طريا من الحيتان المتنوعة وعجول البحر والفوك والمورس وأنواع مختلفة من الأسماك، فتراهم جثاة على ركبهم وجذوعهم مائلة إلى الأمام لا يبدون حراكا إلا من أيديهم النهمة وأمامهم طست هائل ملؤه قطع كبيرة من اللحم يقبض كل منهم بيديه وأسنانه القاطعة قطعاً كبيرة من اللحم يعالجها حتى يقطعها ولا يكاد يلتهمها حتى تسرع يداه إلى قطعة غيرها. ومما يؤثر عن طعامهم هذا أنه لا يعتبر صالحا للأكل إلا بعد أن يكدس بعضه على بعض مدة طويلة من الزمن ريثما يتفسخ وتظهر رائحته المنتنة الشهية وفي هذه الحال ينشر الحرارة الكافية في الجسم أكثر مما لو كان طريا.
والصيد هو عملهم الأول الذي يتوقف عليه مدار معيشتهم واكتساؤهم بالألبسة الفرائية المتنوعة؛ ولهم فيه فنون وحيل لا يضارعهم فيها إنسان آخر. وكيفيته أن يأتي الصياد (وكثيراً ما يكون طفلا صغيراً لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من العمر) ويحفر بحريته الطويلة المسنبة المربوطة من أسفلها بحبل طويل الجليد الساتر تحت سطح البحر ولا يجهد نفسه كثيراً حتى يبلغ الماء فيبدأ بتوسيع الحفرة ويقف بجانبها وقفة الهر على أبواب حجر الفأر حتى إذا ما سمع صوت سباحة الطريدة انتصب قائما ورفع بيده إلى الأعلى وسدد السهم نحوها حتى إذا ما مرت قذفها قذفة قوية تخترق أضلاعها، وهناك تقع الواقعة الكبرى فالحيوان يجذب الصياد تارة والصياد يجذبه أخرى، وكثيراً ما يتغلب الحيوان عليه فيجذبه نحو الحفرة، وعندها يأخذ في الصياح الذي يدوي في الآفاق فيتراكض القوم رجالا ونساء لنجدته، ولا يكادون يخرجون الفريسة خارج الحفرة حتى يستل كل منهم مديته ويغرسها في جلد الفريسة وهي حية دلالة على مشاركته إياهم في صيدها. وهذه العملية(637/16)
تخوله حق المشاركة في لحمها فيقطع قطعة كبيرة منها ويقذفها في فيه وبعد مضغ طويل يبتلعها ثم يربطونها بحبالهم ويسحبونها حتى يصلوا إلى بيوتهم فيقتسموها. وإذا جاء الشتاء وجمد الماء صادفوا عجول البحر وقد أحدثت في الجليد ثغراً وطلعت تستنشق الهواء فيصوبون إليها حرابهم ويرمونها وقد يترقبون ظهورها من هذه الثغرات حتى إذا ما خرجت اقتنصوها. وكذلك يصطادون الطيور المائية المختلفة ويقتلون ذوات الفراء من الثعالب والدببة القطبية البيضاء إلا أن هذه تقطع قلوبهم من الرعب لشراستها.
التجارة عند الأقزام محدودة تقتصر على بيع جلود الحيوانات والفراء والعظام وعاج المورس؛ ويبيعون هذه المحاصيل إلى البلاد المجاورة كسواحل أمريكا الشمالية وروسيا وسيبيريا وهي تدر عليهم أرباحا طائلة يشترون بها ما يلزمهم من المواد الأولية كالحبوب والمقددات والسكر والشاي والقهوة والكاكاو وغير ذلك من المواد التي لا تتأثر بطول العهد، والألبسة الصوفية والقطنية الجاهزة وبعض الآلات الحديثة كالحاكي والألاعيب الصبيانية وغيرها. ويندر تعاطيهم التجارة فيما بينهم لعدم وجود ضرورة للمبادلة. وينقلون هذه المتاجر من والى البلاد المتعددة بواسطة الزاحفات في الأصقاع المتجمدة والزوارق في البحار المائعة. ويعودون أولادهم منذ نعومة أظفارهم على الأسفار والأعمال الشاقة فهم يضعون القوارب الصغيرة من جلد المورس وعظام الحيوانات في أيام الصيف ويسابقون بها الريح في جريها حتى إذا ما وصلوا البر سحبوها معهم وتركوا عندها نفراً منهم يحرسها، وكذلك الزحافات التي تجرها الكلاب فوق الأراضي المتجمدة.
انقطاع الأقزام في بلادهم النائية عن العالم المتمدن، وانزواؤهم في الأصقاع الجامدة وتعذر الانتقال بين بعضها وبعض إلى مسافات بعيدة بالسرعة التي تقتضيها الحياة العصرية، وعدم سلوكهم في الارتزاق مسلك الأمم الباقية بتبادل المحصولات الزراعية والحيوانية والمعدنية وغيرها مما قد يوجد في قسم من البلاد ويندر في غيرها لعدم حاجتهم إلى ذلك ولتساوي أراضيهم في منتجاتها التي تنحصر في صيد الحيوانات البحرية والبرية والاكتساء بجلودها والتقوت بلحومها، جعلهم يقنعون بما رزقهم الله ولا يطمعون في الحصول على ما في أيدي الغير من بلاد ومتاجر أو سلع وغيرها، وجعل منهم الأمة العاملة المجدة التي تسعى للحصول على قوتها الضروري بهمة لا تعرف الكلل دون(637/17)
الاعتماد على سواعد الآخرين، لذلك لا يعرفون رابطة قومية أو دينية ولا تجمعهم عصبية أو جنسية، هذا التفكك القومي نراه ظاهراً حتى بين أفراد الأسرة الواحدة فإذا بلغ أحد أفرادها سن الكبر أو أصيب بمرض أو عاهة تمنعه من القيام ببعض الأعمال الضرورية بحيث يصبح عالة على غيره حق للأولاد والأفراد الآخرين أن يأخذوا هذا المسكين إلى مكان بعيد مرتفع ثم يجردونه من لباسه ويتركونه عرضة للرياح القارسة إلى أن يموت. وليس هناك قيود عائلية أو زوجية قوية كما بين باقي الأمم، بل هي شكلية من حيث المأوى والاشتراك في الأعمال المنزلية وتربية الصغار وأعمال الصيد وغيرها. والغريزة الجنسية يمكن أن تقضي بين أي فرد من أفراد العائلة أو غيرها، بين الجار وجارته وبين الأخ وزوجة أخيه والأخ وأخته حتى بين الأب وابنته والولد وأمه. ويمكن أن يجري هذا العمل بحضور الزوج الأصيل وعلى مرأى منه دون أن يبدي أي اهتمام (بشرط أن يأذن بذلك) إلا أن هذه الأعمال البهيمية آخذة في الزوال بعد اختلاطهم بالأقوام المتمدنة وخاصة بعدما توافدت عليهم البعثات الدينية التبشيرية. وبعد أن صاروا يسافرون لبيع متاجرهم إلى غروتنلندة وشمال أمريكا وآسيا وهم آخذون في الرقي والتمدن تدريجا.
أما لغتهم فإنها ضيقة محدودة بحدود المناطق التي يتجولون فيها فهي قليلة الكلمات كثيرة المعاني، تفيد الكلمة الواحدة منها معنى عشر كلمات أو أكثر من اللغات الأخرى. لذا وضعت في جملة اللغات الجامدة التي يحق أن تكون مثلها الأعلى في الجمود، وهم أميون ولا كتابة للغتهم
طبائعهم وعاداتهم: إن القزم بعضلاته القوية وساعديه المفتولين وساقيه الأعوجين يستطيع بكل سهولة أن يصعد أشهق الجبال دون أي جهد أو كثير عناء، فيقذف بحبله على صخرة عالية حتى إذا ما علق بها جربه مراراً، فشده بقوة وتعلق به، فإذا تأكد من ثباته لف طرفه على ساقه وصعد عليه بسرعة، فلا تكاد تراه في أسفل الوادي حتى تراه يتراكض فوق قمة الجبل، ثم ينزل ويضرب حبله حتى يسقط فيأخذه وينصرف. وهم ذوو شجاعة وصبر ورأي سديد ونفوس أبية وقلوب رحيمة شفيقة يكرمون الضيف ويؤثرونه على أنفسهم. وهم فطريون يميلون إلى النكتة واللهو الضحك والفكاهة، فيخزون بعضهم ويثرثرون ويسحبون الزحافات إلى الخلف أثناء مسيرها ويقهقهون، أما الكذب والمكر والخداع والبغض(637/18)
والضغينة، فلا أثر لها لديهم ألبته، وهم يحبون استماع الحاكي التي يعيدونها كلما انتهت مراراً، ويجلسون في بيوتهم الجليدية المعتمة إلى جانب بعضهم وبين أيديهم الجلود والعظام والشحوم، فهنا امرأة تلين نعل زوجها المتقلص من شدة البرد بدهنه بالشحم والشمع وبشده بأسنانها وتساعده بلبسه وشده على ساقه؛ وهنا أخرى تعهدت المصباح تنظفه وتمده بالشحوم، وثالثة تنظف ولدها وتمشطه بمشط مؤلف من عظم الفوك وشعر الدب ثم تبيد القمل الناتج عنه بأسنانها ثم تلحس جسمه وتدهنه بالشحوم، وأخرى تنظف وتلين الفراء وتصنع الحراب العظيمة للصيد والدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. وهناك زوجة تمد زوجها بالطعام كلما نفد من فيه وهو مستلق على ظهره. ومما يؤثر عنهم أنهم يحيون بعضهم بحك أنوفهم ببعضها ويقال أن هذه العادة المضحكة أصبحت لا تشاهد إلا عند الأقوام النائية.
(حلب)
محمد وحيد الدين المعري(637/19)
رسالة لبنان خلال العصور
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا جدال في أن موقع لبنان الجغرافي يجعل منه بلداً متعدد الرسالات. فهو قائم في جبهة الشرق الأدنى على مفرق الطرق بين الشرق والغرب. تمتد سواحله المستطيلة على شاطئ هذا البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات والمدنيات العريقة التي تعاقبت على الجنس البشري منذ فجر التاريخ.
وهذا يعد بالحق من أجمل بقاع الأرض، خلعت عليه الطبيعة أبهى الحلل، وكست ربوعه بمختلف المحاسن والمغريات، فأضفت على جباله الشامخة روعة الجمال والجلال، تكلل نواصيها لآلئ البرد وبريق الثلج، وتجلل آكامها نواتي الصخور وبواسق الشجر، وتتفجر في جنباتها انهار وجداول تتدفق باللجين المصفى وتنساب بين الصخور والمروج في أودية رهيبة أخاذة كثيرة التعاريج فتانة الصور تبهر العين وتسحر اللب، وتأخذ بمجامع القلب.
ولبنان فوق ذلك، بلد معتدل المناخ طيب الهواء والماء، يتسربل بأروع المشاهد في مختلف فصوله: صيفه روح للب وراح للقلب، وخريفه بهجة للنفس وغبطة لها، وشتاؤه شلال زاخر وثلج مندوف باهر، وربيعه رمل مخضوض ورجاء عابق بالشذا، ومدنه وقراه جنان متنوعة الأشكال، بعضها قائم على الشواطئ يهدهدها البحر ويداعبها بكره وفره. وبعضها منتشر بين السفوح والتلال انتشار النجوم في الفضاء تحيطها هالة من الرياض الغناء المثقلة بأزكى الأثمار وأندى الأزهار.
كأن العناية الربانية أبدعته درة يتيمة في جبين المشرق وجعلته قبلة للمصطافين ومحطاً لرحال الرواد والمتزلجين.
أما آثاره القديمة فترجع إلى أقدم العهود، وكلها تدل على الدور العظيم الذي لعبه لبنان في مجرى التاريخ البشري، وتعبر بأجلى بيان عن الرسالة الإنسانية البارزة التي يحملها بين جوانحه وينشرها على توالي الأجيال في أصقاع المعمور.
وقد كانت أولى رسالاته في عصر الظلام المطبق رسالة الدعوة إلى قدح زناد الفكر وتشغيل الذهن لأجل تمييز الإنسان عن الحيوان وتبديل حياته الوحشية بحياة أقل همجية وأكثر ائتلافاً. فأبدع أبناؤه في العصر الحجري في اختراع أداتهم الصوانية وفي صنع(637/20)
كهوفهم وستر عريهم وجمع شتات شملهم.
وكانوا السباقين أيضاً في عهدهم الفينيقي إلى وضع أول حجر في بنيان الحضارة الراهنة. فهم أول من اخترع حروف الهجاء ونشروا رسالتها بين الأمم، وحملوا مشعلها الساطع في متون البحار ومجاهل البوادي والقفار، فخلقوا بها العلم خلقاً، وأسسوا بها للمدنية أساساً مكيناً.
وهم أيضاً أول من أنشئوا السفن ومخروا عباب اليم، فربطوا العالم القديم برباط تقايض السلع والمتاجر وتبادل الأفكار والآراء، وتقارب الشعوب بعضها إلى بعض بالصلات السياسية والاجتماعية وغيرها.
وكانت مدن لبنان من أمهات مدن العالم في العهد القديم، تصدر أرجوانها وأصباغها ونتاج صناعها الحاذقين كما تصدر آدابها ومعارفها إلى مختلف أنحاء الأرض.
فتاريخ صيدا وصور وجبيل حافل بالعظائم. وقد أنشأ لبنان أيضاً في عهده الفينيقي عدة مستعمرات في أفريقيا وجنوبي أوربا، غير أنه كان يرمي من إنشائها إلى توطيد أسس التجارة وتعزيز تبادل المنافع بين الأمم، لا إلى الفتح والاستئثار بحرية الآخرين كما تفعل أمم اليوم. فلبنان لم يكن في عهد من العهود دولة محتاجة قائمة على السيف والمدفع والقوة الغاشمة بل كان ولم يزل بلداً مسالماً حاملا رسالة العلم والأدب ناشراً لواء الصناعة والتجارة في كل صقع وناد.
وفي العهد الروماني لبث لبنان محافظاً على رسالته الأدبية فكانت بيروت عاصمته اليوم تلقب بمدينة الشرائع والنواقيس يؤمها الطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الفسيحة الأرجاء. وفي العصر البيزنطي ثار لبنان على الجور والظلم وسجل أبناؤه الأشاوس في تاريخ الحرية الإنسانية صفحة مجيدة حتى أنهم لقبوا بالمردة لشدة تمردهم وقوة شكيمتهم وانتقامهم.
وفي أوائل العهد العربي دخل لبنان أفخاذ من بعض القبائل العربية ومعظمهم يدينون بالنصرانية ونشروا بين ظهرانية لغة الضاد، فاعتنقها أهل لبنان عامة لأنها شقيقة لغتهم الآرامية السريانية تقرب منها حروفاً وصوراً، ولأنهم أيضاً يمتون بأنسابهم السامية إلى تلك القبائل التي أنزلوها بينهم على الرحب والسعة. فاستعرب لبنان سهلا وجبلا مندفعاً لا(637/21)
مرغماً. وأصبحت العربية لغته الوحيدة. أما السريانية فانكمشت ضمن جدران الكنائس والمعابد، تستعمل في بعض الطقوس الدينية كما تستعمل اللاتينية في الغرب.
وكان لبنان في خلال الحكم العربي ملتقى الشرق والغرب، وصلة وصل بين أممهما في عهد البيزنطيين والصليبيين. فاجتمعت فيه الحضارتان وتعانق الدينان دين الإنجيل ودين القرآن.
ولما انقرضت دولة العرب وخلفهم العثمانيون في الحكم دانت لهم البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها إلا لبنان فظل وحده محتفظاً باستقلاله الداخلي يحكمه أمراؤه ومقدموه. وبقيت اللغة العربية الشريفة زاهية زاهرة ضمن جدران أدياره ومعابده وفي ظلال خلواته ومساجده، لم تتسرب إليها العجمة والرطانة كما تسربت إليها بين اقحاح العرب أنفسهم، حتى الحجاز واليمن وهما منبع العروبة ومعقلها لم تسلم لغتهما من حوشي التركية وغريب ألفاظها.
وقد بلغ لبنان في عهد الأمير الكبير فخر الدين المعنى مكانة رفيعة، فهابه السلطاني القمائي وخطب وده بعض ملوك الفرنجة وأكبروا شأنه وشأن وطنه الصغير فتبادل معهم الرسل والهدايا وحالفهم محالفة الند للند، وزار إيطاليا فقوبل مقابلة أصحاب التيجان. واختلط بسكانها واستوعب حضارتهم. ثم آب إلى وطنه يعمل على تمكن الصلات الروحية والمادية بين الشرق والغرب، فأوغر صدر الترك عليه وأصلوه حرباً ضروساً أقضت مضجعه وأبادت أحلامه وأمانيه. فاستسلم مرغماً إليهم وقضى نحبه شهيداً في عاصمتهم.
وحذا خلفاؤه المعنيون والشهابيون حذوه في العناية بلغة الضاد، لغة الوحي والنبوة. فلم تصب بالتشويه ولم تفقد نقاء أسلوبها وصفاء بيانها، لأن اللغة التركية لم يسعدها الحظ طوال الحكم العثماني في بلاد العرب بأن تخطو خطوة في لبنان أو تعبر قدما. بل ظلت خارج حدوده عاجزة عن اجتياحه. وظل لبنان مضطلعاً أيضاً برسالته الإنسانية المجيدة رسالة تتبادل المنافع بين الشرق والغرب وتمازج حضارتيهما.
وقد شعر العالم اليوم بعد طول المحن والتجارب أن رقي البشر وسلامهم لا يأتيان بدون تزاوج الحضارتين وتواؤم الثقافتين.
وعاد لبنان إلى سابق عزه وازدهاره في عهد الأمير بشير الكبير حليف عاهل مصر الأكبر(637/22)
محمد علي باشا رأس الأسرة العلوية الملكية سعيداً في وادي النيل.
فوقف الأمير بجانب إبراهيم باشا في حملته المشهورة على ربوع الشام، وأمده بالرجال والمؤن، فازدادت العلاقات الودية بين الكنانة ولبنان وتمكنت الصلات الأدبية والمادية بين شعبيهما تمكناً وثيقاً. والصلات بين القطرين الشقيقين قديمة العهد ترجع بجذورها البعيدة إلى الفراعنة والفينيقيين، غير أنها بعثت بعثاً جديداً في زمن هذين العاهلين الكبيرين.
وقد استقدم محمد علي باشا الكبير بعض الأسر اللبنانية إلى مصر لإنشاء صناعة الحرير وغيرها. ثم شرع أحرار اللبنانيين من ذلك العهد يهبطون مصر زرافات ووحدانا فيلقون من أسرتها المالكة كل عون وتشجيع وفي شعبها المضياف كل عطف وترحاب. فاشتغلوا في حقل الصحافة والأدب ونشر لواء العلم، وكانوا المجلين في هذا المضمار يشهد لهم كبار رجالات هذا القطر الشقيق وصفوة علمائه وأدبائه البارزين. وبلغوا في حقل الزراعة والتجارة والصناعة مبلغاً مرموقاً وفي ميادين المهن الحرة والوظائف الحكومية منزلة سامية. فخدموا مصر خدمة صادقة منزهة عن الهوى.
ولما انطوى حكم الأمراء في لبنان بعد الحوادث المشؤومة عام 1860 صغر حجمه وانكمش في جباله من جراء النظام الجديد الذي أعده له الداهية العثماني فؤاد باشا بالاتفاق مع أقطاب الدول الأوربية الكبرى. فضاق على سكانه في عهد المتصرفين فكثرت هجرتهم إلى مصر لقربها من وطنهم وقديم صلاتهم بها. فأصبحوا فيها جالية وافرة العدد تنعم بالثروتين، ثروة الأدب وثروة النسب.
ثم شرع اللبنانيون يهاجرون إلى العالم الجديد وذلك منذ سبعين عاما على وجه التقريب، فنزلوا في شتى أقطاره مجاهدين في سبيل الحياة، ورأس ما لهم شباب وثاب، وذهن وقاد، وعزم قدَْ من جلاميد جبالهم وشوامخ ارزهم، فلم يلبثوا طويلا حتى كثر عدد جالياتهم في مختلف الجمهوريات الأمريكية، وبلغوا فيها شأواً لا يستهان به في عالمي الصناعة والتجارة، ونبغوا في المهن الحرة وفي حقل السياسة والعلم والاجتماع، وفي إجادة لغات الأمم التي نزلوا بين ظهرانيها. وانشأوا الصحف والمجلات في لغتهم العربية وكانوا وما برحوا في طليعة الحاملين لواء التجديد بين أدبائها والناشرين كنوزها في أقطار المعمور.
وهبطوا أفريقيا وامتدوا في أصقاعها النائية امتداد النيل في أرجاء الكنانة. وجابوا أوروبا(637/23)
وأرجاء الشرق وسروا في أقاصي الأرض مجاهدين سريان الدم في الشرايين. فأصبحوا خارج بلادهم أوفر عدداً وثروة، وأعز نفوذاً وجاهاً، وأرقى أدباً وعلماً منهم في بلادهم.
فانشطر لبنان شطرين، لبنان المغترب المنتشر تحت كل سماء، ولبنان المقيم الرابض في بطون أوديته ومشارف جباله.
ولا أغالي إذا قلت إن لبنان المغترب فد سجل صفحة مجيدة في التاريخ الحديث، فأظهر أبناؤه المشتتون في بقاع الأرض أنهم أعلام في كل علم، أكفاء في كل فن، أقطاب في كل صناعة، وانهم متى فسح لهم المجال يجارون أرقى الأمم في جليل المآثر وغرر الأعمال.
وقد برهنوا في هذه الحرب أيضاً أنهم شعب مقدام حي جدير بالتقدير والإعجاب لم يتلكئوا عن القيام بواجبهم نحو الحرية التي يقدسونها والديموقراطية التي يتعشقونها. فتجندوا بالألوف في صفوف الحلفاء، وابدوا في ساحات الحرب شجاعة وبأساً وفي مصانع الأسلحة والمختبرات ذكاء وعلماً، فهم في هذه الحرب قد حاربوا في كل الجبهات متطوعين في جحافل الأمم المتحدة بين الإنكليز والفرنسيين والكنديين والأمريكيين والأستراليين والنيوزلنديين والهنود والأفريقيين وغيرهم. لقد صح فيهم المثل العربي القائل: في كل وأد البنات أثر من ثعلبة. أجل في كل جيش من جيوش الحلفاء مغرزة من لبنان تساهم في احقاق الحق وإزهاق الباطل، كما أن في كل قطر من أقطار المعمور تقع العين على جالية لبنانية عزيزة الجانب جليلة المفاخر.
ولم ينس المهاجرون وطنهم لبنان، فهم يساهمون على الدوام في مساعدة أهله وتدبير عمرانه. فلهم في كل بقعة من بقاعه آثار مخلدة ومكرمات لا تحصى. لقد أقالوا عثرته وانتشلوا أبناءه من وعثاء الفاقة والجهل، وشيدوا في مختلف مدنه وقراه اجمل المنازل وأفخم القصور، فأصبح لبنان بفضلهم بلداً ديمقراطياً عامراً، لا أمية في أهله ولا أرستقراطية مستأثرة في ربوعه.
أما لبنان المقيم فهو على الرغم من رقيه الأدبي والعلمي وتقدمه الصناعي والتجاري لا يزال دون لبنان المغترب تقدماً وطموحاً، لضيق نطاقه، وضآلة حجمه، وعدم اتساعه لاستثمار شتى القوى والمؤهلات الكافية في صدور أبنائه، ولارتمائه أيضاً في أحضان الطائفية واشتغاله بالسياسة.(637/24)
فدستور لبنان المعمول به حتى اليوم ما برح مؤسساً على الطائفية البغيضة. فالمقاعد النيابية والوزارات والوظائف الحكومية كلها موزعة على الطوائف حسب تعدادها كأن لبنان شركة استثمارية يتقاسم ريعها المساهمون لا وطناً موحداً مجموع الكلمة، يعمل بنوه لإعلاء شأنه وإنماء موارده ويحكمه منهم من يستحق الحكم وينوب عنهم من يستأهل النيابة دون نظر إلى المذهب الذي يدين به والطائفة التي ينتمي إليها.
أما السياسة فهي داء العالم أجمع لا علة لبنان وحده، غير أنها أمست اليوم متفشية بين سكانه تفشياً ينذر بأوخم العواقب؛ ولبنان بلد صغير لا يتسع لميدانها ولا يتحمل مشاكلها وآفاتها. والسياسة بؤرة فساد ما دخلت أمة إلا هتكت حجابها، وما ملكت شعباً إلا فرقته شيعاً تتنافر وأحزاباً تتقاذف وتتباغض.
إن رسالة لبنان الموروثة هي غير رسالة السياسة أو رسالة التمسك بأهداف الطائفية. هي رسالة عالمية صرفة، تشمل العلم والعمران، وتستهدف الحضارة المتصلة بالمادة والروح المشعة في جوانح الشرق والغرب، المنبعثة في الوجدان الحي في الإنسان، لا من الشيطان المتحفز في غريزته.
فليس للبنان المقيم أي مستقبل مجيد بدون نبذ السياسة والطائفية معاً وبدون اهتدائه إلى حكومة رشيدة تعمل في حقل العلم والعمران دون سواهما.
فلبنان في الشرق كسويسرا في الغرب بلد اصطياف واستشفاء. ووطن علم وثقافة، يحتاج إلى تحريج جباله، وتجميل مدنه وقراه، وتعبيد طرقه، وتوفير الري في بقاعه، وتصميم الفنادق الحديثة الطراز في مصايفه، ونشر العلم في ربوعه.
وهو بلد عربي الوجه واللسان، غربي الفكر والثقافة يرتبط بالشرق بروحانيته وعروبته ويتصل بالغرب بعلومه وفنونه.
وما أجمل هذا الاتصال والارتباط حيال الوحدة العالمية التي ينشدها الإنسانيون ويحلمون بتحقيقها!
توفيق حسن الشرتوني(637/25)
3 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية للأستاذ كوركيس عواد
ومن الأعلام التي تصحفت، وقد ينشأ عن ذلك التباس، ما ورد
في 4: 28014 باسم (بابويه) وكان الأحسن أن يقال فيه
(بابوي) (281م) وهو الاسم الذي اشتهر به في كثير من
المظان التاريخية، انظر مثلا: المجدل لماري بن سليمان
(ص41 - 43 طبعة جسمندي في رومية)، والمجدل لعمرو
بن متي (ص26 - 34) والتاريخ السعودي (2: 7 - 10
طبعة آدي شير في باريس ضمن الباترولوجية الشرقية)،
وأعمال الشهداء والقدسيين (بالإرمية 2: 631 - 634 طبعة
بيجان في ليسك) وشهداء المشرق (380: 2 - 384) وتاريخ
كلدو واثور (2: 214 - 146)، ولابور (ص129 - 120،
142 - 143).
وفي 354: 4 ب6 بهرام كور. والمشهور في التصانيف العربية الموثوق بصحتها: بهرام جور. راجع مثلا: الأخبار الطوال للدينوري (ص57 - 61 طبعة جارجاس) وتاريخ اليعقوبي (183: 1 طبعة هوتسما) والمسالك والممالك لابن خرداذبه (ص118) وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للبشاري القدسي (ص338) وتاريخ الطبري (851: 1) ومروج الذهب للمسعودي (2: 57 طبعة باريس) وتاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني (ص22) والكامل لابن الأثير (287: 1 - 292) إلى غيرهما مما لا يمكن(637/26)
حصره.
وفي 4: 37826 بهنود بن سهوان. والذي يقرأ في مختلف
طبعات كليلة ودمنة: بهنود بن سحوان.
وفي السطر الأخير من 378: 4علي بن الشاة الفارسي.
صوابه: علي بن الشاه الفارسي (راجع طبعات كليلة ودمنة.)
وفي 391: 5 ب13 يوشع الأسطواني وكان الأحسن أن يقال: يشوع العمودي وقد عرف بهذه النسبة أيضاً مار سمعان العمودي
وفي 4: 40023 ظاهر الدين البيهقي، صوابه ظهير الدين
البهقي، وهو الإمام ظهير الدين أبو الحسن علي بن أبي القاسم
زيد البيهقي، المتوفى سنة 565هـ، صاحب التصانيف
المختلفة، كتتمة صوان الحكمة (المطبوع في لاهور)، وتاريخ
بيهق، ووشاح دمية القصر الخ. . .
وفي 4: 149410 (كتاب) الإكليل للحمداني. والصواب
للمهذاني، نسبة إلى همدان من بلدان اليمن.
وفي 4: 50423 ابن العادم. صوابه: ابن العديم. وهو
المؤرخ الحلبي الشهير المتوفى سنة 660هـ مؤلف كتاب
بغية الطلب في تاريخ حلب، وغيره.
وفي 4: 1 56 سيد إعجاز حسين القنتوري. والذي يقرأ على
غلاف كتابه (كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب(637/27)
والأسفار) المطبوع في كلكته سنة 1330هـ: الكنتوري
(بالكاف)
وقد جاء (13: 5 ب19) اسم بليني العالم الطبيعي الروماني مصحفا إلى
ثانياً: الأمكنة والبقاع
قرأنا في 1: 171 أن ابن جزلة الطبيب (كان يعيش في محلة الكرخ ببغداد). والصواب في محلة الكرخ (بالكاف).
وجاء في 161: 1 ب19 (قتل ابن الدمينة في السوق بمدينة الأبلاء) والصواب (العبلاء) (راجع الأغاني 147: 15 من طبعة الساسي)
وفي 1: 255ب22 وجدنا مكتوباً بالحروف الفرنجية لفظة وكان يجدر ذكر اسم هذا النهر العظيم بالعربية، فهو معروف في كتب البلدان القديمة باسم (إتل) (وزان إبل) أما اليوم فيسمى نهر الفلجا
وفي 255: 1 ب22 باشغرد (بالغين. وبعضهم يقول: باش جرد (بالجيم) أو باش قرد (بالقاف) راجع معجم البلدان (468: 1؛ مادة باشرد).
وفي 271: 2 ب2 جند يشاهبور. والأشهر في المراجع العربية: جند يسابور (راجع هذه المادة في معجم البلدان).
وفي 1: 38216 الفانيكان. صوابه: الفاتيكان. وعندنا أن هذه
من أغلاط الطبع.
وقال في 294: 1 ب25 (دور بني أوقر، وهي محلة على بعد خمسة فراسخ من بغداد). ولو أنه قال (وهي قرية) بدلا من (محلة) لأصاب المرمى. فقد ذكرها ياقوت (معجم البلدان: 615 - 616) بقوله: (وفي عمل الدجيل قرية تعرف بدور بني أوقر، وهي المعروفة بدور الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، وفيها جامع ومنبر. وبنو أوقر كانوا مشايخها وأرباب ثروتها. وبني الوزير بها جامعاً ومنارة، وآثار الوزير حسنة. وبينها وبين بغداد خمسة فراسخ. . .) أهـ(637/28)
وفي 333: 1 ب15 نيشابور (بالشين المعجمة). والمشهور في التصانيف العربية. نيسابور (بالسين المهملة). راجع هذه المادة في معجم البلدان.
وفي 454: 1 ب12 ورد اسم أشرسنة. والمعروف في المراجع القديمة أشر وسنة. (بواو بعد الراء) راجع مثلا فهارس تاريخ الطبري، وفهارس الكامل لابن الأثير، والأنساب للسمعاني (مادة: الأشروسني) ومعجم البلدان (في هذه المادة).
وفي 1: 53012 ورد اسم (شفاتيه). قلنا: هذا من تصفيحات
العوام، نظير قولهم شفاثة. والصواب في ذلك (شفاثا) وقد ورد
ذكرها في غير مرجع قديم، من ذلك معجم البلدان (759: 3
مادة: عين التمر) والكامل لابن الأثير (423: 9) ومراصد
الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق (294: 2
طبعة جوينبول في ليدن سنة 1853، مادة عين التمر). وقد
وقفنا على بحث للأستاذ كاظم الدجيلي في مجلة لغة العرب (3
(1913) ص25 - 36) بعنوان (رحلة إلى شفاثا وقصر
الأخيضر واحمد بن هاشم).
وفي 1: 564 ب2 ترجم اسم نهر (نهر أرس) في حين أنه معروف عند كتبة العرب باسم (الرس). راجع: أحسن التقاسيم للبشاري المقدسي (ص379) والأعلاق النفسية لابن رسته (ص89) والبلدان لليعقوبي (ص364 طبعة دي غويه) والتنبيه والإشراف للمسعودي (ص62 طبعة دي غويه) ومعجم البلدان (2: 779) وتقويم البلدان لأبي الفداء (ص59 - 60).
وفي 570: 1 ب1412: 575 ب16؛ 576: 119
ألتن كوبرو. والمعروف عندنا في العراق أنها (ألتون(637/29)
كوبري) أي جسر الذهب. وفي مجلة لغة الغرب (8
(1930) ص727 - 730) مقالة رائعة بعنوان
(التون كوبري في التاريخ) للأستاذ يعقوب سركيس.
ومن أعلام المواقع التي تصحفت غير مرة (1: 571
10و11؛ ا 572 ب26؛ 1: 5732) اسم حدياب).
فقد كتب تارة أديابين وطوراً حديب (عند أهل
الشام). وحدياب هي المنطقة الممتدة في شرقي دجلة
بين الزاب الأعلى والزاب الأسفل (أنظر كتابنا: أثر
قديم في العراق. ص70 حاشية 2).
ووردت العبارة التالية في 1: 571 ب22 (الجزء الأسفل من إربل الواقع في سفح الجبل الذي يقوم عليه الحصن) والحقيقة هي أنه ليس هنالك من جبل، إنما هو تل ترابي.
وفي 574: 1 15 - 19 ورد اسم (اينكاوو)
والصواب في اسم هذه القرية العراقية: (عين كاوا)
أو (عينكاوا). وأهلها ليسوا نساطرة على حد ما ورد
في الدائرة، إنما هم كلدان.(637/30)
أما (امكاباذ) فمصحفة من (عمكاباذ) على ما جاء في التاريخ المدني السرياني لابن العبري (ص557 طبعة بيجان) أو من (عمكاوا) على ما جاء في سيرة يابالاها الثالث (ص173 و176 طبعة بيجان).
وفي 1: 575 ب22 - 23 تصحف اسم كوي سنجق أو كويسنجق تصحيفاً ظاهراً إلى سنجق خوى.
وفي 1: 576 21 شمملك. صوابها: شمامك، على
ما هو مشهور بين العراقيين في تلك الأنحاء.
وفي 680: 1 ب10 خسروه. صوابها: خسراوه. وهي من أعمال سلماس في بلاد إيران.
وفي 2: 79 ب14؛ 80: 2 ب18 حصن كيفي. والمشهور في المراجع العربية الموثوق بها: حصن كيفا.(637/31)
الزندقة في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
لم تكن حرية الرأي في أوائل الدولة العباسية مكفولة في كل النواحي الفكرية كما كانت الحال في الدولة الأموية؛ فلم يكن الأمويون يعاقبون، إلا فيما ندر، رجلا بالقتل أو غيره لأنه يرى رأيا يخالف آراءهم في الحكومة أو السياسة أو الدين أو الاجتماع ما دام لا يحاول الانتقاض على الحكومة أو يخل إخلالا عمليا بنظام من نظم الدولة. لم يكن الأمويون يفعلون ذلك إلا نادرا، وإلا فإن عصرهم بل عصر الإمام علي لم يخل من مؤاخذة بعض المخالفين في الرأي واضطهادهم وعقابهم بالقتل أحياناً.
لكن موقف الأمويين من المخالفين وإن شابه إلى حد بعيد موقف العباسيين من مخالفيهم، لا يشابهه إلا في الظاهر، ولكنه يختلف عنه في الحقيقة كل الاختلاف من حيث المبدأ والتنفيذ كما سنبين ذلك في مكانه من هذا البحث.
ولقد حاول العباسيون منذ قامت دولتهم وفي أول قيامها خاصة أن يضعوا للفكر حدودا في بعض النواحي التي يتناولها، ومنعوه من أن يتعداها، وإلا عرض صاحبه للعقاب، كما حاولوا بالترغيب والترهيب أن يصبغوا العلوم على اختلاف أنواعها صبغة خاصة، فنجحوا في بعض محاولاتهم وخابوا في بعض، ونصروا بعض المذاهب الفكرية وحاربوا البعض الآخر مما يوقع الباحث في هذا العصر في كثير من الحيرة والاضطراب.
ورأى مؤسسو الدولة العباسية أنفسهم مكرهين على التزام هذا التدخل بين المذاهب، والحجر على الناس في كثير مما يقولون ويعملون مما لم يكن له نظير قبلهم، ومرجع ذلك إلى أن الدولة الأموية التي قامت دولتهم على أنقاضها ظلت قرابة قرن من الزمان (40 - 132هـ) مسيطرة على العالم الإسلامي فتغلغل سلطانها في جوانبه وألف الناس منها قواعد ونظما خاصة في الحكومة والسياسة والاجتماع وغير ذلك فحاولوا أن يستأصلوا من العالم الإسلامي الذي اعتصبوه كل ما بذر فيه الأمويون من قواعد ونظم، ويستبدلوا بها قواعد ونظما خاصة بدولتهم تحفظ عليها هذا الملك المترامي الأطراف الذي استحوذت عليه بالقوة حينا والدهاء حينا، وكان خلفاؤها - والأولون منهم خاصة - يعرفون أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إلا بعد أن خاضوا إليه أنهارا من الدماء، وعبروا له على جسور من(637/32)
الجماجم والأشلاء، بل كانوا يعرفون حق المعرفة أنه لن يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم إلا بالسير على الطريقة التي ساروا عليها حتى صاروا خلائف في الأرض.
كان الأمويون في ملكهم يعتمدون على العرب ويسيئون الظن بالفرس، ويلقونهم بكثير من ألوان المهانة والاضطهاد ما احفظ الفرس عليهم بل على العرب جميعاً لأن هؤلاء العرب فتحوا بلادهم وثلوا عرشهم واتخذوهم موالي يمتهنونهم ويرون أنفسهم اكرم منهم عنصراً وارفع مقاماً. ولقد ظهر حقد الفرس على العرب منذ فتحوا بلادهم في عهد عمر بن الخطاب فالتاريخ يحدثنا أن الهرمزان حين وقع أسيراً في يد أبي موسى الأشعري عند فتح تستر أرسله إلى الخليفة عمر ليحكم فيه حكمه فكان ما كان من إبقاء عمر عليه وإسلامه وحياته في المدينة كما تحيا العامة، وأنه كان، حين تأتيه في المدينة، أخبار فتوح العرب لفارس وهزائم الفرس، يتميز من الغيظ، وإن حقده قد زاد لما كان يراه من وفود أبناء جنسه أسارى إلى المدينة واتخاذ العرب إياهم موالي وخدماً، فلما كان وفود سبي جلولاء كان الهرمزان يمسح برؤوسهم ويقول: (أكل كبدي عمر) مما يدل على أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب بلاد فارس، وما كان قتل عمر إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب نفذها أبو لؤلؤة وظل الفرس ينقضون على الدولة الأموية كلما أمكنتهم الفرصة حتى كانت ثورتهم الكبرى باسم العباسيين تحت قيادة أبي مسلم الخراساني فدكتها دكا.
وإذا كان الخليفة عمر ومن بعده عثمان وعلي قد أحسنوا السيرة فيهم اتباعاً لأوامر الدين مما خفف عن الفرس ما كان يعتلج في قلوبهم من الحقد والضغينة - فإن الخلفاء الأمويين لم يساووهم بالعرب كما أمر الدين بل كانوا يحتقرونهم وينزلونهم منزلة العبيد بالرغم مما عرفوا لهم في أيام استقلالهم وفي أيام الأمويين أنفسهم من حضارة ورقي في جميع مرافق الحياة والفكر حتى في الدين الإسلامي واللغة العربية.
كان الأمويون برغم كل الاضطرابات التي تكبدوا مشقاتها يثقون بالعرب كل الثقة فبالعرب أقاموا دولتهم، وبهم حافظوا عليها من العرب والفرس جميعاً.
أما العباسيون فلم يظفروا باطمئنان كاطمئنان الأمويين وثقتهم بعنصر يعتمدون عليه إزاء ما يكر بهم من الخطوب في نضالهم عن دولتهم، بل في إقامتها قبل أن تكون.
كان العلويون والعباسيون وهم آل البيت النبوي قد قاسوا ومن الدولة الأموية ألوانا قاسية(637/33)
من الظلم والاضطهاد، وكان نصيب العلويين من ذلك أوفى نصيب، فكانوا يلعنون على المنابر طيلة العهد الأموي إلا نحو عام في عهد عمر بن عبد العزيز الأموي، وكانوا يراقبون في كل حركاتهم وسكناتهم، ويقابلون كلما رفعوا رؤوسهم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال، مع اعتقادهم أنهم أولى من الأمويين بخلافة النبي عليه السلام، وكان العرب يشهدون هذه الشنع دون أن ينصروهم على هؤلاء المغتصبين بل كانوا يعينون المغتصبين على ظلمهم وقتلهم والتمثيل بهم، وتشريدهم في الآفاق جزاء ما كان الأمويون يبذولنه لهم من العطايا السخية.
ولقد كان كل أولئك مما أحفظ آل البيت على العرب، وأيأسهم منهم، فلما آلت إلى العباسيين قيادة الدعوة السرية لدك الدولة الأموية كانوا يحملون في قلوبهم للعرب كل حقد وضغينة، وليس أدل على يأس العباسيين من العرب مما أوصى به محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم: (أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتورعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فأني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق).
وهذا كلام رجل أقل ما يقال فيه أنه يتكلم عن فهم عميق واستقراء شامل، فهو يائس من نصرة كل الأقطار التي سكانها أو معظمهم من العرب، ولا أمل له إلا في خراسان الفارسية.
وليس أدل على بغض العباسيين للعرب وحقدهم عليهم من أن إبراهيم بن محمد بن علي السابق ذكره - لما آلت إليه القيادة بعد وفاة أبيه محمد بن علي - قال لأبي مسلم(637/34)
الخراساني حين أمره على خراسان: (يا عبد الرحمن، أنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فانهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله).
وقامت الدولة العباسية ولكن لا بقوة العرب بل برغم أنوف العرب، فزاد ذلك العباسيين حقداً وضغينة عليهم، وأحسوا بما يحسه كل مظلوم نحو من ظلموه بعد أن انتصر عليهم، أحسوا نحو الأميين خاصة والعرب وهم معاونوهم في ظلمهم عامة أنهم أعداؤهم الذين لا يجوز لهم أن يراقبوا في الثأر منهم إلا ولا ذمة، ولا ينبغي أن يرعوا لهم حرمة فأسرفوا في سوء الظن وأسرفوا في القتل وانتهاك الحرمات وإهدار الحقوق، وأحلوا بينهم وبينهم الجفوة محل المودة، والقطيعة محل التواصل.
ولقد يروق لبعض المؤرخين أن ينسبوا إلى العباسيين أنهم إنما اعتمدوا على الفرس بعد نجاحهم ثقة بهم أو مثوبة لهم على معونتهم، وليس هذا من الصدق في شئ فما كان اعتماد العباسيين على الفرس قبل قيام دولتهم إلا تجنبا للعرب بعد أن يئسوا منهم كما يظهر من كلام محمد بن علي الذي نقلناه آنفا، وإلا خوفا منهم وريبة فيهم كما يظهر من وصية ابنه إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني، وما اعتمد العباسيون على الفرس بعد نجاح الدعوة ثقة منهم بهم أو مثوبة لهم بل خوفا من العرب وريبة فيهم أيضاً، وهذا ما أدى إلى ضياع العرب في الدولة الجديدة، وما وثق العباسيون بالفرس ولا أرادوا مثوبتهم حين قربوهم في دولتهم بل كانوا يحذرونهم كما يحذرون العرب ويرقبون الشرور منهم كما يرقبونها من العرب، وإن كانوا لا يطيقون إبعاد الفرس كما أطاقوا تنحية العرب. واعتقد أن هذا لم يكن يخفى بحال على مؤسس الدولة العباسية فما كان أبو مسلم الخراساني - كما يظهر من حوادثه - بالرجل الزاهد في السلطان، وإعادة دولة الفرس متى أتيح له ذلك، وما تكبد للعباسيين ما تكبد حبا فيهم ولا إيمانا بوجوب نصرتهم، ولا ابتغاء وجه الله ورضا محمد عليه السلام، فلم يكن العباسيون كما لم يكن الأمويون عند أبي مسلم بأحق بالخلافة من العلويين ما دام الأمر أمر قرابة من النبي، وإنما نصر العباسيين دون العلويين لأن هدم(637/35)
أولئك أيسر من هدم هؤلاء. والحجة التي أمكنه أن يتذرع بها لخلب الباب الجيوش حتى هدم الدولة الأموية حجة لا تزال ناهضة تجاه العباسيين ومن اليسير أن يتذرع بها لهدمهم. تلك الحجة هي أن العلويين أمس رحما بالنبي من العباسيين، فالعباسيون والأمويون جميعهم غاصبون.
وأعمال أبي مسلم تدل على انه كان تواقا إلى الملك، فالتاريخ يروي أنه خطب أمينة بنت علي عمة السفاح والمنصور فردعها وأنه كان في رسائله يقدم اسمه على اسم الخليفة على غير ما جرت به العادة في التراسل بين الخلفاء وغيرهم، وأنه لما أراد القدوم من مرو إلى السفاح كتب إليه يستأذنه في الحج أميرا على الناس سنة 136هـ فاعتذر إليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميرا على الناس سنة 136 هـ فأعتذر أليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميراً على الحجيج، وأمر السفاح أبا جعفر بأن يطلب ذلك فطلبه فوافقه عليه مما أثار اشمئزاز أبي مسلم حتى رووا أنه قال لبعض خاصته: (أنا وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟). ودلت سيرته في ذهابه وإيابه من الحج على كثير من مطامعه من وراء ابتغاء كسب القلوب في إظهار القوة والكرم بالأموال، والتقدم في الطريق على أبي جعفر.
ولقد أدى ذلك وغيره إلى حسد أبي جعفر لأبي مسلم وتوجس من مطامعه حتى طلب من السفاح أخيه أن يغتاله وألح في الطلب حتى كاد السفاح ينفذه لولا أنه خاف من جيوش خراسان التي تأتمر بأمر أبي مسلم وتتعصب له فاضطر مرغما إلى الأناة والمهادنة.
وما إن صار المنصور خليفة وفرغ من عمه عبد الله بن علي حين خرج عليه حتى قتل أبا مسلم، وأرسل إلى قواده جوائز فاخرة، وأعطى الجند حتى أمنهم من أن يثوروا للأخذ بثأره.
قامت الدولة العباسية على القوة والدهاء، وكان ديدن رجالها المؤسسين الحذر المفرط من العرب والفرس جميعاً. وضرب هؤلاء بهؤلاء للتمكن من السيطرة على الفريقين، وهذا ما جعل المنصور حين رأى رجاحة الخراسانيين على العرب يصطنع كثيراً من رجال العرب لقيادة الجيوش وولاية الأقطار، ومن هؤلاء عيسى بن موسى ومعن بن زائدة وعمر بن العلاء والهيثم بم معاوية ويزيد بن حاتم ومحمد بن سليمان بن علي وغيرهم.(637/36)
وكان شعارهم كلمة إبراهيم الإمام لأبي مسلم (أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله) فكانوا عاملين على توطيد ملكهم بكل الوسائل المحللة والمحرمة.
من أجل ذلك كله حاول العباسيون أن يعظموا الخلافة في قلوب الناس وعيونهم، وقتلوا بالشبهة كل من ظنوا أنه خروجاً على الدولة، أو توهموا أن في وجوده خطراً عليها، فأمر السفاح أبا مسلم بقتل أول وزرائه أبي حفص سلم الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقتل أبو جعفر قائده ومؤسس ملكه أبا مسلم الخراساني، ولما قتل أبو حفص سلمة الخلال استوزر السفاح خالد بن برمك، فكان يكره أن يسمى وزيرا تطيرا من قتل أبي حفص، ثم أعفاه المنصور في خلافته وولى أبا أيوب سليمان ابن مخلد المورياني فكان إذا دعاه المنصور خشيه حتى يشحب لونه وترتعد فرائصه، ثم قتله، وفي رثائه يقول أحد شعراء ذلك العهد:
قد وجدنا الملوك تحسد من اع ... طته طوعا أزمة التدبير
فإذا ما رأوا له النهي والأم ... ر أتوه من بأسهم بنكير
شرب الكأس بعد حفص سليما ... ن ودارت عليه كف المدير
ونجا خالد بن برمكَ منها ... إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم ... من تسمى بكاتب أو وزير
ولما قتله المنصور بعد تعذيبه وأستصفاء أمواله حبس أخاه وبني أخيه سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً، فكانت وزارته نكبة ماحقة عليه وعلى أهله. ولما جاء المهدي استوزر يعقوب بن داود 161هـ، ثم نكبه وحبسه سنة 166هـ، فظل في السجن حتى أخرجه الرشيد.
وقد ادعت الدولة العباسية لنفسها حقاً لم تدعه الدولة الأموية إذ أقامت الخلافة على أصل من الدين - كما زعم كثير من الملوك لملكيتهم ذلك في العصور الوسطى الأوربية، فالخليفة مصدر السلطات وأرادته في الأرض ظل إرادة الله في السماء، فهو حامي حمى الدين وله بذلك أن يقضي فيما يشاء ومن يشاء كما يشاء. فحرموا على الناس أن يتناولوا أعمالهم بالنقد أو التجريح كما حرم المنصور الطعن في الخلافة، وطلب من الناس، إذا رأوه يضيق عليهم في الرزق، أن يدعوا الله أن يوسع المنصور عليهم لأنه هو مفتاح أرزاقهم.(637/37)
ومن الحق أن المنصور برغم تشدده في سياسة الدولة وتضييقه على أفكار الناس فيما يتعلق بأمور الحكومة ونظمها حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ويعاجل بالقتل كل خارج عليه بل كل من كان وجوده خطراً عليه ولو لم يكن يستحق القتل، وكان فضله على الدولة عظيماً - بالرغم من كل ذلك كان جشعا للمعرفة إلى حد كبير فكان يحتضن الأطباء والمنجمين ويرعى ما ينقلون من الكتب العلمية والحكمية، ومن أجل ذلك كان مؤسس حركة الترجمة عن اللغات السريانية والفارسية واليونانية، كما كان يرعى إلى حد ما بعض العلوم الأخرى. كان توطيد الدولة همه فلم يكن يبلى في هذا السبيل بل في بعض شؤونه الخاصة عهداً قطعه ولا يبال أمور الدين وما جرت عليه العرب قبله في أخلاقها وتقاليدها.
فلما جاء ابنه المهدي سنة 158هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة. لكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة. إذا كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها أن صدقاً وإن كذباً، جاداً في البحث عن اتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستندا للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً حليماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي(637/38)
في الصحراء
للأستاذ سيد قطب
(في ليلة من ليالي الخريف المقمرة، الراكدة الهواء؛ المحتبسة الأنفاس، وفي صحراء جبل المقطم الموحشة، وبين هذا الفقر الصامت الأبيد - كانت تتراءى نخلات ساكنات في وجوم كثيب ومن بينهما نخلتان؛ إحداهما طويلة سامقة، والأخرى قصيرة قميئة.
بين هاتين النخلتين دار حديث. وكانت بينهما همسات ومناجاة!).
الصغيرة:
ما لنا في ذلك القفر هنا ... ما برحنا منُذ حينٍ شاخصات؟
كل شئ صامت من حولنا ... وأرانا نحن أيضاً صامتات!؟
تطلع الشمس علينا وتغيبْ
ويظل الليل كالشيخ الكثيبْ
والنجوم الزُّهرُ تغدو وتئوبْ
وهجيرٌ وأصيلْ وطلوع وأفول ثم نبقى في ذهول
ساهمات!
أفلا تدرين يا أختي الكبيرة ... ما الذي أطلعنا بين اليبابْ
أيّما إثمٍ جنيْنا أو جريرة ... سلكَتْنا في تجاويف العذاب
قد سئمتُ الِلبث في هذا المكان
لبثة المصلوبِ في صلب الزمان
أفما آن لتبديل. . . . أوان؟
حدثيني كم سنشقى؟ حدثيني كم سنلقى؟ حدثيني كم سنبقى؟
واقفات؟
الكبيرة:
أنا يا أختاه لا أدري الجواب ... ودفينٌ السرِّ لم يُكشفْ لنا
منذ ما أُطلعتُ في هذا الخراب ... وأنا أسأل: ما شأني هنا؟(637/39)
فيجيب الصمتُ حولي بالسكون!
وأنا أخبط في وادي الظنون
لست أدري حكمة الدهر الضنين
غير أنا حائرات والليالي السادرات تتجنى ساخرات
لاهيات!
ربما كنا أسيراتِ القَدَرْ ... تسخر الأيامُ منا والليالي!
تضرب الأمثال فينا والعِبَرْ ... وإذا نشكو أذاها لا تبالي!
ربما كنا مساحيرَ الزمنْ!
قد مُسِخنا هكذا بين القُنَن
في ارتقاب الساحر المحيي الفطن!
فإذا كان يعودْ فكَّ هاتيك القيود فرجعْنا للوجود
ظافرات!
أو ترانا نسلَ أربابٍ قدامى ... قد جفاها وتولَّى العابدونْ!
جفت الكأس لديها، والندامى ... غادروا لدْوَتها تَنعى القرونْ
أو ترانا مَسخَ شيطان رجيم!
صاغنا في ذلك القَفر الغشوم!
وتولَّى هارباً خوف الرّجوم!
فبقينا في العراءِ يحتوينا كل راءِ وسنبقى في جفاءِ
شاردات!
لست أدري: كل شئ قد يكون ... فَتَلَقِّى كلَّ شئ في سكون
وإذا ما غالنا غولُ المَنونْ ... فهنا يغمُرنا فيضُ اليقينْ!
ثم ساد الصمتُ كالطيف الحزين
وتسمَّعْتُ لأقدام السنين
وهي تخطو خُطوة الشيخ الرزين
هامساتٍ في الرمال منشدات في جلال كلُّ شئٍ للزَّوال(637/40)
والشتات!
(حلوان)
سيد قطب(637/41)
من الإلياذة الإسلامية
قصة أم المؤمنين السيدة عائشة
للمرحوم الأستاذ أحمد محرم
(سيّد الرسل) و (أمّ المؤمنين) ... بشر الأبطال بالنصر المبين
خرجت في الجيش ترجو ربّها ... عصمةَ الراجي، وعونَ المستعين
ينصر الحق، ويقضي أمره ... إن رماه كل أفَّاكٍ مَهين
اصبري إن جلّ أمر إنها ... يا (ابنة الصديق) دنيا الصالحين
أرأيت الأرض لمّا رجفت ... أذ هوى عقدك؟ بل لا تشعرين
اقشعرّت، وتمنّت لو هوى ... كل عال من رواسيها مكين
أنتِ في شأنكِ إذ تبغينه ... وهي في همٍّ وغمٍٍّ وأنين
سوف يُبدى الخطب عن روعته ... بعد حينِ، فاصبري حتى يحين
رفعوا الهودج، والظُّن بها ... أنها فيهِ، وساروا مُدلجين
وانجلى الليل عن الخطب الذي ... غادر الأصباح مُسْوَدَّ الجبين
أين غابت؟ أيَّ أرضٍ نزلتِ ... كيف غم الأمر، هل من مستبين؟
يا (رسول الله) صبراً إنها ... في ذمامِ اللهِ ربِّ العالمين
يا (أبا بكرٍ) رويداً إننا ... لنراها في حمى (الروح الأمين)
رجعت والليل في بردته ... دائم الإطراق كالشيخ الرزين
ذهب الجيش، وأمست وحدها ... غير أصداء من الوادي الحزين
خطرت في الجوِّ من أنفاسها ... خطرات للأسى، ما ينقضين
ماج كالبحر طغت أثباجه ... وارتمت أهواله حول السَّفين
نام عنها الهمُّ لما رقدت ... فهو في الأحشاء مكتوم دفين
وأتى (صفوان) ما يبدو له ... غيرُ شئ ماثل للناظرين
يرسل الطرف، ويمشي نحوها ... مِشيةَ المرتاب في رفق ولين
عرف الخطب، فما أصدقَهُ ... حين يدعو دعوة المسترجعين
دعوةُ رنّت، فلو قيل: اسمعوا ... لسمعنا اليوم ترداد الرنين(637/42)
أيقظت (عائشةً) من نومها ... مثلما يوقظها صوتُ الأذين
جفلت منه، فغطت وجهها ... وهيَ في سترين من عقل ودين
يصرف اللحظ كليلاً دونها ... خاشع القلب، كدأب المتقين
قَرَّبَ الناقة منها، ودعا ... اركبي أُمّاهُ، مُنِّيتِ البنين
أخذ المقودَ يُمناً، ومضى ... يتبع الماضينَ من أهل اليمين
ينتمي (يثرب) بالنور الذي ... يملأ الدنيا، ويعي المطفئين
نشروا الإفك فساداً وأذى ... وعلى الله جزاءُ المفسدين
لا ينال الحقَّ في سلطانهِ ... كذب الحقى، وإفِك المرجفين
يا لها من عصبةٍ فاسقةٍ ... هاجها للشر (شيخ الفاسقين)
وجدت فيهِ زعيماً حاذقاً ... وإماماً بارعاً للمفترين
هكذا يا (ابنَ أُبيٍّ) هكذا ... لا يكن شأنك شأن المسلمين
انفثِ السُّمَّ، وخُضّها فتنة ... تتلظى نارها للخائضين
يا (ابنة الصديق) صبراً، ليته ... ألمُ المرضَى، وهم المُّوجعين
يا لها من علةٍ لو تعلمين ... أنها أبرح مما تشتكين
أعقبَ البشرَ عُبوسٌ وبدا ... من (رسول الله) ما لا ترتضين
كيف تيكم؟ ليس من عاداته ... كيف تيكم؟ يا لهم من مجرمين
غَيّرُوهُ، فَلَوى من عِطفهِ ... وطوَى من لطفهِ ما تعهدين
وهو يخفى لكِ ما لا ينقضي ... من هوى صاف، وشوق وحنين
سجن السرَّ، وكم من روعةٍ ... لك يا أُمَّاه في السرِّ السجين
أنصتي، فالليل مُصغ، أنصتي ... وقْع الخطبُ، فما تصنعين
جاشت النفسُ، ولجت رعدة ... لم تدع في القلب من ركن ركين
(مسطح) لا قَرَّ عيناً (مسطح) ... شبها نارا تهول المصطلين
فضحته عثرةٌ من أُمّهِ ... فانظري كيد ذويك الأقربين
لا تلوميها إذا ما غضبت ... أنها تعلم ما لا تعلمين
أرسلتها دعوةً واحدةً ... ليتها زادت على حَدِّ المئين(637/43)
تَعسٍ (الثعلبُ) ما أخبثه ... فدعى (بدرا) و (آسادَ) العرين
رجعت في غمرةٍ من هَمِّها ... لم تبت منها بليل الراقدين
لوعةٌ مشوبةٌ في سَقَم ... في شآبيب من الدمع السخين
يا (رسول الله) هل تأذن لي؟ ... إن بيتي بمصابي لقمين
مُرْ ودع همي لأمي وأبي ... إنما استأذنتُ خير الآمرين
بأن حسن الصبر، والعزم انطوى ... وأرى السُّقمَ مقيماً ما يبين
قال: ما شئت. هلمي فافعلي ... لك يا صاحبتي ما تؤثرين
ذهبت، يحزنها إن لم تكن ... طوّح الدهر بها في الذاهبين
ثم قالت وهي تبكي: عجباً ... لك يا أماه، ماذا تكتمين؟
أفلا نبأتني ما زعموا؟ ... ويحهم: ما حيلتي في الزاعمين؟
ظلموني، ما رعوا لي حرمةً ... رب كن لي ما أقلّ المنصفين
جزع (الصديق) مما نابه ... إنه خطب يهول الأكرمين
قال: أفٍ لكِ من داهيةِ ... ما رمينا بك في ماضي السنين
أفلما زاننا دين الهدى ... ساءنا منكِ حديث لا يزين؟
(كيف تيكم؟) يا لها صاعقة ... أرسلت من فم (خير المرسلين)
كيف تيكم؟ كيف تيكم؟ كلما ... جاء، إن الله مولى الصابرين
اصبري يا (ربة العقد) الذي ... زين من عينيك بالدرِّ الثمين
سلط الضرب على مولاتها ... أي سر عندها للضاربين؟
أقسمت صادقةً ما علمت ... غير ما يدفع دعوى الواهمين
التُّقَى والبرُّ في تاجيهما ... هل رأى التاجين أعلى المالكين؟
مرحباً بالحق، يحمي جُندُه ... ما استباحت ترهات المبطلين
مرحباً بالوحي، يجلو ما طوت ... ظلمات الشك من نور اليقين
مرحباً (بالروح) يلقى من عل ... رحمة الله، تغيث المؤمنين
فتنة جلت، فلما انكشفت ... أزلفوا الشكر، وراحوا راشدين
وتجلت غمرة (الهادي) فلا ... ريبة تغشى، ولا ظنٌ يرين(637/44)
يا (ابنة الصديق) طيبي وانعمي ... ذاك حكمُ اللهِ خير الحاكمين
ضرب القوم بماضٍ مِخذم ... من مواضيه، فولوا مدبرين
سقطوا صرعى، عليهم غبرة ... من قتام البِغي تخزي الظالمين
أمسك (الصديق) من معروفه ... ينكر الغدر، وينهي الغادرين
وطوى عن (مسطح) نعمته ... ليرى حق الكرام المنعمين
عاله دهراً، فلما خانه ... راح يجزيه جِزاَء الخائنين
سُنَّة العدل، قضاها من قضيٍ ... سنة الرحمة بين الراحمين
نزل (الذكر) بها قدسيّةً ... فعفا الناقم، وارتاح الضنين
أجعل الخير قريناً إن أبى ... كلّ غاوٍ، إنه نعم القرين
جلّ ربي وعلا، كل امرئ ... بالذي يكسب من أمر رهين
أحمد محرم(637/45)
العلماء يتعلمون من المشعوذين
للأستاذ فوزي الشتوي
القتل بغير تسمم
منذ قرون بعيدة وكهان الطب ومشعوذوه في غابات المناطق الاستوائية في أمريكا الجنوبية يعمدون إلى بعض الأعشاب يطبخونها بطريقة خاصة وفي وسط مراسيم دينية. حتى إذا تمت الطقوس عمدوا إلى عيدان رفيعة غمسوا أطرافها في المادة المطبوخة. واحتفظوا بها حتى إذا خرجوا إلى الصيد أطلقوها بدفع الهواء بأفواههم على الفرائس ولا يكاد العود يخترق الجلد ويسري السم في دم البقرة أو الوعل حتى تتوقف عضلات المعدة والقلب والتنفس عن الحركة فيخر الحيوان ميتا.
وليس من الضروري أن يصاب الحيوان في مقتل، فالمهم أن يصل السم إلى الدم في أي جزء من الجسم ليشل أعضاء الحيوان الداخلية والخارجية عن الحركة. . ولا يفسد لحم الحيوان بل يحتفظ بجودته فيقبل عليه صيادوه يلتهمون لحمه النقي الذي لا يبدو فيه أي أثر للتسمم.
هذا السم الغريب هو مدار البحث والتجربة الآن عند فريق من الأطباء والجراحين الأمريكيين. لأنهم يعالجون به كثيراً من الأمراض المخيفة المستعصية. ويعجلون به شفاء عدد من الأمراض العقلية المحيرة.
من أحاديث الخرافات
أما كيف حدث اكتشاف هذه المادة فأمر يوشك أن يكون من أحاديث الخرافات والقصص الخيالية ولكن الأطباء يوردون آلاف الحوادث والحالات التي شفت هذه المادة أصحابها والتي يطلقون عليها اسم كورا راي. وهو ذات اللقب الذي يسميه به سكان القبائل البدائية في مناطق أمريكا الجنوبية الاستوائية.
وليس عهد العلماء حديثاً بهذه المادة الغريبة، فمنذ أربعة قرون أحضر السروالتراري الرحالة الإنكليزي عينات منها استغلها العلماء في القرن السادس عشر في علاج بعض الحالات. ولكن الكمية كانت محدودة فلم تتح لهم مواصلة تجاربهم وأوشك اسم الكوراراي(637/46)
أن يزول من رؤوس الباحثين.
وأريد لهذه المادة الحياة مرة أخرى على يدي مستكشف ناشئ مارس حياة الغابات منذ 1930 واسمه ريتشارد جيل. وفي خلال الأعوام التي عاشها في غابات أمريكا الجنوبية تعرف إلى مشعوذيها واكتسب صداقتهم وإعجابهم فأطلعوه على طقوس الكوراراي وطريقة تحضيره والأعشاب التي يستمد منها فأقام في الغاب سنوات طويلة وهو يقتنص صيده بواسطته ويأكل لحمه. ولكنه لم يدرك أهمية المادة للعالم المتمدن.
المرض المحير
وجمح به حصانه مرة فسقط على الأرض وأصيب بالشلل. ونقل إلى مستشفيات أمريكا ففحصه الأطباء من قمة الرأس إلى أخمص القدم فلا يجدون به علة ولا يعثرون في أعضائه على عطب. ولكنه كان لا يقوى على الحركة. بل أن شعوره كان مبهماً غامضاً لا يحس حتى بالألم فأفتى أطباؤه بأنه ربما كان فريسة الشلل التشنجي.
والمصابون بهذا المرض تتولاهم هزات عضلية قاسية تنشأ من تيبس العضلات. وأخطره الطبيب بأن علاج حالته غير معروف. ولم يعرف الطب إلا مادة واحدة لا سبيل إلى الوصول إليها لأنه من مواد الغابات الاستوائية وهي الكوراراي.
وسمع جيل الاسم المألوف لديه فسرى في جسده كتيار كهربائي ساحر. فتلك المادة التي توفرت لديه في الماضي مطلوبة الآن ليجرب بها الطبيب طريقة لعلاج علته، وتناوشته الأفكار والآراء وعصفت به نفسه، وهو يرى بصيص الأمل ويعرف طريقه ولكنه لا يقوى على السعي إليه.
أنه يعرف هنود تلك المناطق ومشعوذيها. ويعرف كيف يستحضر مادة حياته. ولكنه سجين بين جدران أعضائه النائمة. أنه يعرف الطريق لإنقاذ آلاف الناس وإبراء ملايين العلل ولكنه لا يقوى على الحركة.
كفاح اليأس
وكانت الإرادة، وكان الصبر، وكان الكفاح، فأمضى الساعات الطوال وهو يدرب عضلاته على الحركة بمختلف الوسائل وبما أثير في نفسه من دوافع العزم على الحياة. فلم تمض(637/47)
شهور بارز فيها مع أطبائه ومستشاريه العلة حتى تغلب عليها وغادر مستشفاه.
ومضت أعوام أربعة حتى استطاع زيارة مناطق خط الاستواء على رأس بعثة خشي أن تفشل. إذ توهم أن سحرة الهنود قد ينكرونه أو ينسون أمره. ولكنه ما كاد يقابلهم حتى استقبلوه بترحاب وتقدير.
ومن هناك سارت عشرات القوارب ومئات الحيوانات في الأنهار وفي الأدغال لتنقل إلى الطب تلك المادة الثمينة النادرة. وعاد جيل وقد حرص هذه المرة على التقاط أشرطة سينمائية تبين جميع مراحل تحضير الكوراراي.
ولم يكن الطب مؤمناً كل الإيمان بفعله فسخر منه ولكن أحد أطباء كلية نبراسكا احتضن البحث وأقبل على تجربته واحتضنته إحدى الشركات أيضاً فحضرته مركزاً ونقياً ووزعت عيناته مجاناً على الباحثين ليجروا عليه تجاربهم ولم تمض فترة حتى ظهر في الأسواق التجارية. واقتنع الأطباء بأنهم يستطيعون التعلم ولو من متوحشي الغابات ومشعوذيها.
سلامة الجسم أم العقل:
وواجه الأطباء في تلك الفترة معضلة خطيرة، فقد وفق بعضهم إلى علاج بعض الأمراض العقلية بأحدث صدمات عصبية في المرضى تؤدي في الغالب إلى الشفاء. ولكنها تؤدي أيضاً إلى تشنجات عضلية جادة تضر أعضاء المصابين الداخلية، وتحطم عظامهم في بعض الأحيان. فهل لمثل هذا العلاج أن يستمر؟ وهل يجوز أن يكون شفاء العقل على حساب تحطيم الجسم؟
وحل الكوراراي الأشكال وأجاب على السؤالين حينما عرف العلماء كيف يستخدمونه لأنه أتاح للطبيب إحداث الصدمة الطبية بغير أن يتعرض المريض إلى خطر تحطيم عظام جسمه، وكان الطبيب بنت من جامعة نبراسكا أول من سلك الطريق فأجرى تجاربه على الأطفال المصابين بالشلل التشنجي.
يريح العضلات:
ودلت الأبحاث على الحيوانات أن الكوراراي يريح العضلات إذ يصيب وصلات الأعصاب المحركة لها بالشلل، أو يعزلها فيمتنع تهيجها. كما ثبت أنه من الميسور استخدام(637/48)
الكوراراي في معالجة الإنسان. وتدل التجارب الأولى على نجاحه لأن المخدر كان يمتص الصدمة العضلية فيستلقي المريض مسترخياً أثناءها بدل أن تتقلص عضلاته ويتحرك في موجات بالغة العنف.
ومع أن الكوراراي لا يفقد المريض شعوره بالألم فقد وجد فيه علماء التخدير مادة ثمينة لأنه خفف مهمة الجراحين إذ جعل المرضى يسترخون في راحة مما يزيل كثيراً من المضاعفات التي تنتج من حركة المريض، مما ينبئ لهذا المخدر الجديد بمستقبل جيد في عالم الطب.
ويرى الأطباء في هذا المخدر أنه خير علاج لمرض خطير يصيب الشبان فيشل أعصابهم وشفاؤه بالراحة التامة والاستجمام وهو ما يفعله الكوراراي في المريض ويسميه الدكتور بنت بأنه (أقوى واكمل مخدر عرف لاراحة العضلات وانبساطها) وكلما زدنا علماً بخواصه زدنا استخداماً له في علاج علل الإنسان.
فوزي الشتوني(637/49)
القصص
الحذاء
لأنطون تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
قال (مركين) - ضابط البيان - وهو رجل ذو وجه حليق شاهب ساهم، وأنف ملوث بالسعوط، وأذنين محشوتين بالقطن. . . صاح في صوت أصحل وهو يغادر غرفته بالخان، ويطأ أرض البهو:
- (سميون. . . أيها الساقي). ولو أن إنساناً لمح وجهه الممتقع في تلك اللحظة لظن أن نظره وقع على شبح يتراقص في غرفته. وما كاد يبصر الخادم يخف مقبلا عليه حتى قال في هيعة وفزع:
- (سميون. . . بالله ماذا تعني بذلك؟ إني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد جعلتني أسير حافي القدمين. . . أين حذائي؟ ولم لم تأت به؟!)
فولج سميون غرفة مركين، وراح يحملق في المكان الذي اعتاد أن يترك فيه الحذاء بعد تنظيفه. . . ثم جعل أنامله تعبث بشعر رأسه: فقد اختفى الحذاء! وأخذ يردد في صوت خافت:
- (كيف تأتي لتلك الأشياء اللعينة أن تختفي؟! يخيل إلي أني نظفتها في المساء، ووضعتها هنا. . . هه! إني لأصرح أني نهلت بعض الخمر البارحة، فلعلني تركت الحذاء في غرفة أخرى، وربما كان في غرفة (أفاناسي بجورتش). لقد كان أمامي كومة من الأحذية. . . تباً للشيطان الذي يزين للإنسان الشرب، ثم يجعله بعد ذلك يفعل ما ليس يدري. . . سيدي، لابد أن حذاءك في غرفة السيدة التي تليك. . . الممثلة)
(والآن تدفعني (سيادتك) إلى إقلاق سيده من أجلك. . . أأوقظ سيدة فاضلة لغباوتك وحماقتك؟). ودنى مركين من باب الغرفة التالية وهو يتنهد ويسعل. . . ثم طرق الباب في حذر. . . وبعد هنيهة سمع صوت امرأة تقول (من. . . هناك؟) فراح مركين يقول في توسل، وقد أتخذ في وقفته هيئة الفارس الذي يخاطب سيده أرقى منه طبقة (معذرة لإقلاقك(637/50)
يا سيدتي. . . ولكني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي. . . هذا إلا أنه علي أن أذهب في الحال لضبط بيان قرينة الجنرال (شفليتسين) ولا يمكنني الذهاب حافي القدمين).
- (ولكن ماذا تبغي؟ أي بيان؟!).
- (ليس بيان يا سيدتي. . . إنما أشير إلى حذائي. فإن سميون - ذلك الخادم الغبي - نظفه وتركه خطأ في غرفتك. فأشفقي على ضعفي وناوليني حذائي) ثم تلا ذلك صوت خفيف، ثم نهوض من الفراش ووطئ نعال، وبعد ذلك انفرج الباب قليلا، وألقت يد نسائية مكتظة زوجاً من الأحذية إلى مركين. فشكرها (ضابط البيان) وانطلق إلى غرفته. ولكنه ما لبث أن دمدم وهو يدخل قدميه في الحذاء: (عجباً. . . يخيل ألي أن هذا ليس بحذائي. . . ومع ذلك فكلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال. . . سميون ما هذا بحذائي. . . فحذائي ذو لسان أحمر. . . وليس به ثقوب. . . أما هذا فخال من الألسنة الحمراء كما أنه ملآن بالثقوب!) فالتقط سميون الحذاء، وأخذ يقلبه في كفيه أمام عينيه. . . ثم لم يلبث أن قطب ما بين حاجبيه وقال في تذمر هذا حذاء (بافل ألكسندرتش)
- (أي بافل الكسندريسن؟!).
- (الممثل. . . إنه يحضر هنا كل ثلاثاء. . . لابد أنه تحذى حذاءك بدلا من حذائه. . . وأحسب أني وضعت حذاء كل منكما في غرفة الآخر).
- (وعلي بعد ذلك أن أغيره!. أليس هذا ما ترمي إليه. . . أيها الأبله؟). فقال سميون في سخط (أصبت. . . أمضي واسترد حذاءك إذاً. . . ترى أين يكون الآن؟ لقد خرج منذ حوالي ساعة. . . ومن العبث أن نبحث عن. . .). فقال مركين (ألا تدري أين يسكن؟!).
- (ومن الذي يمكنه أن يدلك على ذلك؟ أنه يأتي إلى هنا كل ثلاثاء. ولست أدري أين يقطن. . . أنه يمكث هنا ليلة واحدة. . . فما من مندوحة سوى أن تنتظر حتى الثلاثاء القادم). فتحوب مركين قائلا (هنا أتقول هذا أيها الوحش؟!!. ما عساي أصنع الآن وقد أزف الموعد الذي يجب أن أكون فيه بحضرة قرينة الجنرال (شفليتسين)؟. أفقهت أيها الحقير؟. آه تكاد قدماي أن تتجمدا. . .).
- (يمكنك أن تستعيد حذاءك قبل ذلك. . . احتذي هذا الزوج. وامض به حتى المساء، ثم(637/51)
اذهب إلى المسرح. . . وأسأل عن الممثل (بليستوف) وإذا لم تسارع بالمضي إلى المسرح فعليك باللبث حتى الثلاثاء القادم أنه لا يحضر إلا كل ثلاثاء. . .) فالتقط مركين الحذاء وأخذ يتساءل وهو ينظر إليه باشمئزاز ونفور (ولكن كيف تعلل أن كلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال). فقال سميون وقد نفذ صبره:
(أي قدر قذف بذلك الممثل؟ أنه لأفقر خلق الله قاطبة. . . وقد قال لي (أين الممثل الذي يمكنه أن يبتاع حذاء) فقلت له (ولكن من العار يا بافل الكسندرتش أن تحتذي ما لغيرك) فراح يصيح (أمسك لسانك ولا تجعلن أبطش بك. . . ألا تدري أني أقوم بتمثيل الأمراء والعظماء). ثم انصرف في حذائك. . . إنها لعمري شرذمة من الطغام. . . أولئك الممثلين. . . آه لو أني الحاكم بأمره أو أي شخص ذو سلطة (لجمعت هؤلاء الممثلين. . . وزججت بهم في أعماق السجون. . .).
وبين الزفير والأنين. . . التقط مركين الحذاءين الشماليين ولبسهما. . . ونهض وهو مقطب الجبين، كاسف البال يعرج في خطوته إلى دار الجنرال (شفليتسين). . . وأمضى يومه جله في المدينة ينتقل في أنحائها لضبط بيان كل من يود. وكان يتوهم أن الجميع يتطلعون إلى حذائه الذي عفا عليه الزمان. بلى كعبه، وذهب لونه. . . وقد أصيبت قدماه بالورم من جراء ما كان يعانيه من آلام شتى قاسية. . .
وما كاد المساء يشعل الكون، حتى أسرع مركين إلى المسرح حيث كانت تمثل رواية (الطائر الأزرق). وكان التمثيل يشرف على النهاية. . . فاتصل مركين بعازف الناي في الجوقة الموسيقية - وكانت بينهما صداقة - ليعينه على التسلل إلى ما خلف المناظر المسرحية. ثم لم يلبث أن دلف إلى (غرفة ثياب الممثلين) حيث وجد بعضهم بغير أرديته، والبعض يدهن وجهه، والباقي ينفث دخان لفائفه. . .
ووقف الطائر (الأزرق) يعرض على (الملك بوبش) غدارة في يده ويقول:
- (يجمل بك أن تشتريها، فقد ابتعتها من (كيرسك) كرهينة بثمانية (روبلات)، ولكني سوف أدعها لك نظير ست فقط. . . إنها رائعة بلا شك).
- (حذار. . . فهي محشوة بالبارود كما تعلم) اقترب مركين في تؤدة وقال:
- (هل لي أن أتشرف بمحادثة السيد بليستنوف؟!) فالتفت إليه (الطائر الأزرق) وقال:(637/52)
- (أنا ذا! ماذا تبغي؟!)
فأخذ ضابط البيان يقول في صوت شاع فيه التوسل:
- (معذرة لإزعاجك يا سيدي، ولكن صدقني، فأنا رجل منهوك مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي)
- (ولكن أين ما تريد!).
فقال مركين يخاطب (الطائر الأزرق):
- (ألست تذكر!. . . أنك أمضيت الليلة البارحة في خان (بهتياف) في الغرفة رقم 64). . . فانفجر (الملك بويش) صائحاً في غضب كالح: (هه! ماذا تقول؟) إن زوجتي في الغرفة 64 فابتسم مركين: (زوجتك يا سيدي، هذا يسرني، إن زوجتك طيبة قد أشفقت على ضعفي، وناولتني حذاء ذلك الرجل الدمث، وبعد أن مضي ذلك الرجل). وأشار مركين إلى بليتنوف: (تفقدت حذائي، ولم أعثر عليه، فاستدعيت الساقي وسألته عن الحذاء، فأجابني أنه تركه في الغرفة المجاورة خطا على أثر ما جرعه من الخمر. تركه في غرفتك 64 يا سيدي). ثم التفت مركين موجهاً حديثه إلى بليستنوف: (وعندما خلفت زوجة هذا ذلك الرجل الطيب لبست حذائي). فصاح بليستنوف وقد اجتاحه الغضب: (عم تتحدث؟ أأتيت هنا لكي تخيل علي وتتهمني بافتراء باطل لا ظل عليه من الحقيقة؟)
- (لا. . . لا. . . يا سيدي! حاش الله، لقد أسأت فهمي، لست أتحدث عن شئ سوى الأحذية. . . ألم تمض ليلتك في الغرفة 64؟ خبرني ألم تفعل ذلك؟)
- (متى؟). فقال مركين: (ليلة أمس)
- (ما الذي جعل ذلك يدور بخلدك؟ أأبصرتني هناك؟) فجلس مركين وأخذ ينزع الحذاء من قدمه، ثم قال في اضطراب وتعلثم:
- (لا يا سيدي. . . لم أرك هناك، ولكن زوجة هذا السيد الفاضل ألقت إلي بحذائك بدلا من حذائي)
- (ما الذي يثبت زعمك هذا وافتراءك؟ لن أقول شيئاً عن نفسي، ولكنك تمس عفاف سيدة شريفة بالقذف والتجريح وفي حضرة زوجها أيضاً)
وارتفع من خلف المناظر المسرحية عجيج وضجيج. . . لقد أهوى (الملك بويش) الزوج(637/53)
الجريح في شرفه، وقد علا سحنته اللون القرمزي، بقبضته على المنضدة في وقذ بلغ من شدته أن ممثلتين في (غرفة ثياب الممثلات) سقطتا في غيبوبة. . . صاح الطائر الأزرق:
- (أو صدقته؟ أو صدقت ذلك الصعلوك الحقير؟! أتود أن البسط به الأرض؟ أترغب في أن أصرعه أمامك كالكلب؟ آه. . . سأجعل جسده كشرائح اللحم. . . سأهشم رأسه!)
راح كل من كان يسير في منتزه المدينة ذلك المساء بالقرب من (المسرح الصيفي) يذكر كيف أنه قبيل الفصل الرابع شاهد رجلا حافي القدمين، شاحب لون الوجه، تختلج عيناه بالرعب والهلع، وهو يهرول خارجاً من المسرح منطلقاً، يركض في الطريق الرئيسي، وكان في أثره شخص آخر مرتدياً ملابس الطائر الأزرق يحمل في يده غدار. . . ولم ير أحد ما حدث بعد ذلك
ولكن شاع بعد فترة من الزمن أن مركين (ضابط البيان) التزم فراشه لا يغادره مدة أسبوعين بعد أن قابل بلستنوف في المسرح الصيفي. . . وكذلك أضاف إلى عبارته المعهودة: (أنا رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن). جملة جديدة: (كما أني جريح منخوب الفؤاد). . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(637/54)
العدد 638 - بتاريخ: 24 - 09 - 1945(/)
أهدافنا القومية
والقضايا العربية
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
أمة تكافح في سبيل حريتها ومجدها، لا يكفي لكي تحقق هذه الأهداف إيمانها بحقوقها فحسب، بل لابد لها من الإيمان برسالة إنسانية عالمية تؤديها، وبقدرتها على انتزاع حقوقها وأداء رسالتها، ذلك الإيمان الذي تبعثه العزة ويغذيه الطموح.
ذلك شأن شعب مصر المجيد الذي علم التاريخ في جميع العصور أن مجده لا يعرف الحدود، وأن رسالته عالمية لا تحدها الأقطار متى نهض للسيادة واستيقظ للكفاح؛ فكيف يقنع في هذا القرن العشرين بأمل لا يتجاوز القنال، ومجد يقتصر على ما يسمونه (الاستقلال)؟ وقد علمته تجارب العصر أن عهد الأمم الصغيرة قد زال وانقضى عصر الدول، وأصبحنا في عصر (الاتحادات) و (الكتل)، ولم تعد دولة واحدة تستطيع أن تقف على قدميها وحدها، إلا إذا احتمت بمجموعة من الدول تشاركها في المصلحة والغاية إن لم تشترك معها في الوطن أو العنصر.
هذه حقائق لا تمر بخاطر طائفة من القاعدين المثبطين، دأبوا على نقد كل عامل والسخرية بكل داع؛ قالوا: كيف تشغلون هذا الشعب بقضايا العروبة في فلسطين والشام والمغرب، وكيف تطالبونه بالجهاد في سبيل هذه الشعوب، وفي سبيل العروبة والإسلام في كل مكان، وهو لا يكاد يطيق الجهاد في سبيل استقلاله المحدود؟ إنكم بذلك تشغلونه عن (أهدافه القومية) بأحلام بعيدة المنال!
تلك والله آفة العاجزين المتخاذلين - يعجزون عن العمل ويجبنون عن الجهاد، فلا يرضيهم أن يعمل المؤملون أو يتقدم القادرون. ويأبون مواجهة الناس في صورة الجبناء الضعفاء، فيلبسون لهم مسوح الناصحين، ويحدثونهم بلهجة الواعظين، ويرمون سواهم بدائهم، يزعمون أننا خياليون، وهم هم الواهمون المتخيلون إذا كانوا يظنون أنه يتحقق لهم (استقلال) في القاهرة إذا بقي الاحتلال في القدس أو الخرطوم أو بنغازي.
كلا والله، أنها أمة واحدة، جمعها التاريخ المجيد والعنصر الكريم والقومية العربية، وجمعتها رسالتها العالمية الروحية. وأنه لوطن واحد مهما تعددت أقطاره من عراق أو شام أو حجاز(638/1)
أو مغرب أو سودان أو سواها. وأنها لقضية واحدة، قضية الحرية الإنسانية ومبادئ الأخوة والسلام والعدل التي تمثلها حضارتنا المشتركة. فليسترح دعاة التفريق والتمزيق، وليكفوا عن مواعظهم، فإنما هي رقي الاستعمار ودعوة الاستعباد
ونحن المؤمنين بحقوق هذا الشعب، المؤمنين أيضاً بقوته وحيويته ومجده ورسالته لا نفتأ نذكره بمجده العظيم الذي يعشقه ويصوب إليه، ولذكره بقضايا الوطن العربي الواسع الذي يزيد اتساعه قوة وأملا، وندعوه المرة بعد المرة لإنقاذ إخواننا المجاهدين في كل قطر، واثقين من قدرته على استعادة مجده وأداء رسالته بفضل حيويته وتضامنه مع الشعوب العربية الأخرى، موقنين أننا إنما نعبر عن روحه الوثابة التي أنشأت إمبراطورية عربية عظيمة في بضعة أعوام في عهد عاهله العظيم (محمد علي)، عالمين أن (الاستقلال) هو أول الأهداف لا نهايتها، وبدء الجهاد لا غايته التي تتسع لكل ما يصبو إليه العرب والمسلمون من عزة وسيادة ووحدة، وما ينتظره العالم منهم من رسالة إنسانية سامية خالدة
تلك هي (أهدافنا القومية)، فمن كان يقنع بما دونها فليس من سلالة الفراعنة، ولا من روح العرب، وليس له إلا أن يفسح الطريق لركب المجاهدين الطامحين العاملين لعزة العروبة ورسالتها.
توفيق محمد الشاوي
مدرس كلية الحقوق - بجامعة فؤاد(638/2)
على هامش (الحادث)
كلمة إلى الجنرال ديجول!
للحقيقة وللتاريخ لا للتشفي والهجاء. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
رأيت في سينما ديانا بالقاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا، فترى المهاجرين من النساء والعجائز هائمين مشردين؛ ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمت فرنسا، ويعقب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب: (إن في الكون عدلا!) وترى المدائن المخربة، والذعر البادي، والدمار الشامل، ثم تعرض مثل ذلك مما كان في فرنسا ويعقب المذيع فيقول: (إن في الكون عدلا)!
نعم، يا جنرال، إن في الكون عدلا! ولكن قومكم ما استوفوا بعد قسطهم من عدل الله، وآية ذلك أنكم أصبتم فبكى لكم أعداؤكم، ورحمكم خصومكم، وكنتم عند الناس ضحية القوة العاتية، وشهداء العدوان المجرم، وكنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك، وقومك هم أعلنوا الحرب، وهم تقدموا إليها، وهم (زعموا) بنوها، قد غذوا بلبانها، وربوا في ميدانها؛ فلما نبت ريشك، ورد عنك عدوك، وأغضى عنك الدهر إغضاءة، نسيت كل ما كنت فيه، وما كنت تقوله وتخطب به، وأقبلت تجرب سلاحك فينا، فأخذتنا على ساعة غرة بحرب ما آذتنا بها، ولا أعلنتها لنا، فسخرت لقتالنا مدافعك وطياراتك، ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر، ولكنه سلاح أغطيته عارية لتحارب به عدو صاحبه وعدوك، فحاربت به قوماً آمنين! حاربت يا أيها البطل النساء في الخدور، والأطفال في المدارس، والمرضى في المستشفيات. . . وما هابك النساء ولا الأطفال ولا المرضى، ولا رفعوا مثل العلم الأبيض، الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح، وكان لهم خط ماجينو، لأن لهم من إيمانهم حصناً لا تهدمه قنابلك، ولا تحرقه نارك!
وهذا الجيش (يا جنرال) الذي عقدت له اللواء، ورفعت فوقه العلم، وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها، قد أهوى باللواء، وطوح بالعلم، وعبث بالأمانة، حين سطا على المخازن، فكسر أقفالها، وفتح أبوابها، وأخذ ما فيها، وذلك فعل اللصوص لا الجنود!(638/3)
ثم عاد فأوقد فيها النار، فأحالها إلى جهنم الحمراء، ليخفى باللهب سرقته، وذلك صنع المجرمين لا المقاتلين!
ثم وقف يتربص، فكلما أقبل من يطفئ النار وينقذ الأطفال رماه فأصماه، وذلك عمل القتلة السفاكين، لا الأبطال المحاربين!
جيشك هاجم المستشفى الوطني، وسلط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى ست ساعات متواصلات متتاليات، ولم يقدر بعد ذلك إلا على أربع ممرضات شواب أخذهن (سبايا)!
جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل من أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم البرلمان وفعل به الأفاعيل، ومثل بشرطته فبقز يطوياً، وسمل عيوناً، وقطع أطرافاً، وهاهو ذا البرلمان تركناه ليشهد عليكم أبداً. فتعال تر الدماء على جدرانه المصدعة، وأبوابه المخلعة ولقد وجدوا صندوق البرلمان وفيه المال. . . وجدوه بعد ذلك في دار القيادة الفرنسية، وهم طبعاً لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه!
جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون، حيث لا يملك من فيها فراراً، فجعل السجن لمن فيه قبراً!
المستشفى العسكري يا جنرال جعله جيشك قلعة فيها مدافع الهاون، ومنه أحرق سوق صاروجا هذا الحريق الذي أكل ثلاثاً وتسعين داراً. . . ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشاشات، تطلقها بأيديها الطاهرات، الراهبات المتبتلات، ذوات الرحمة المسالمات!
نسخة التوراة التي سرقت من سنوات، وهي أقدم نسخة في العالم، وجرت لها تلك المحاكمة المشهورة. وقضى على طائفة من الأطناء بأشد العقاب، وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كبست بعد الحادث داره، ويقدر ثمنها بنصف مليون فرنك!
القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة، لأن قضاتنا في دعواكم لا يطمأن إلى علمهم ونزاهتهم، المسيو سيرو، وجد في داره رشاش كان يقتل به الناس في تلك الأيام السود، وهو الذي جيء به ليقضي على القتلة والمجرمين!
إن بطريرك موسكو وكل الروسيا، كان في فندق الشرق (أوريان بالاس) يوم الحادث، يوم عصفت هذه العاصفة في رأس قائدك أوليفاروجه، فنسي كل ما يعتز به البشر من فضائلهم(638/4)
- فلبث في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة، قال لما انقضت: (لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان، فما رأيت أكثر مما رأيت الليلة)!
ولما قدمت دمشق زوجة رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج، ورأت آثار العدوان، قالت: لقد قتل ابني الوحيد في فرنسا، فكان يصبر النفس عنه أنه مات في سبيل الحق والإنسانية، أما الآن، فواطول حزني وكمدي، لقد أيقنت أن ابن مات في سبيل (لا شيء)!
يا جنرال! لما ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت، إذ تفوح من آلاف الجثث، جثث الأبرياء التي كانت بالأمس رجالا كراماً، كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطاً، وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم، فصاروا. . . أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف!
لم ينج من شر جيشك الأحياء ولا الأموات. ولقد أبصرت في (الدحداح) قبوراً قد نبشتها القنابل، وقذفت رممها، أفإن عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء، جثث تحارب موتانا؟
لقد كان ذلك كله، وكان أكثر منه، أفهذا من العدل الذي تهتف به؟ لا يا جنرال؟ إن كلمة (العدل) أكرم من أن تمر على لسان مر منه ذلك الأمر الهمجي بضرب دمشق أقدم مدينة عامرة على ظهر الأرض بلا استثناء، وأكاد أقول أجملها. إن الشفاه التي تعرف كلمة (العدوان)، لا يمكن أن تألفها كلمة (الحق والعدل)!
ولكن (في الكون عدلا)! نحن نقولها الآن! وإن من عدل الله أن جعل صبرنا نعمة علينا، وعدوانكم وبالا عليكم!
لقد انتهت الرواية، وأسدل الستار، فتعال ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟ لقد خسرنا منازل من أحسن منازلنا، ورجالا من أكرم رجالنا، وملايين من حر أموالنا، ولكنا ربحنا الخلاص منكم، والاستقلال عنكم، وسنبني الدور، ونلد الرجال، ونعوض المال، فماذا ربحتم انتم؟ ماذا؟ يا من كشفت للناس عن حقيقتك، وانك ما خلقت لتسوس الأمم، ولا لتحكم الشعوب، ربحت بغضاء لا تمحى. لقد أسأت إلى التاريخ الفرنسي والثورة الفرنسية والأدب الفرنسي، ولطخت بالوحل أسماء كانت فينا لامعة نظيفة، وكان لها في النفوس مكان، وسيتوارث العرب كلهم والمسلمون هذه البغضاء بطناً بعد بطن، وستزيد وتعظم، وتغدو(638/5)
تراثاً مقدساً، لا يشذ عنه إلا هؤلاء النفر من الأدباء الذين باعوا دينهم وإخوانهم بذكريات غرام لهم هناك. . . وهؤلاء ليسوا منا!
لقد أثمرت هذه البغضاء باكورتها، فلم يبقى في سوريا كلها لوحة عليها حرف فرنسي يقرأ في طريق، ولا كتاب فرنسي يدرس في مدرسة، ولقد كان مهرجاناً قومياً يوم أحرقت فيه الكتب الفرنسية في مدن الشام!
وبعد يا جنرال، إن في الوجود شيئاً أعظم من الدبابات والطيارات والقنابل الذرية، هو حب الموت!
فالذي لا يخاف الموت لا تخفيه آلاته مهما جلت وعظمت، فمن يطلب الموت فهو أكبر من الموت، لأنه أكبر من الحياة، ونحن قوم علمنا نبينا محمد ألا نخاف الموت في سبيل الحق، فلن يخيفنا شيء في الدنيا!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي(638/6)
قبل الكارثة:
اليابان الغامضة
(صورة لحياة هؤلاء الذين أقاموا أحد شعبين من أعظم شعوب
العالم تعصباً)
للأستاذ ويلارد بريس
لعل أهم ما يميز اليابان عنا معرفتها إيانا وجهلنا بها، فإن من أهم مبادئ الحرب هي (أن تعرف عدوك) كما أنه من ضروريات العالم في زمن السلم هي (أن تعرف جارك). فاليابان هو القطر الذي لا تستطيع أبصارنا أن تنفذ إليه، وكلما مددنا البصر نحوه لم نر غير صورة مصغرة منا، ولعل هذه الحال قد جاءت من خلل في المرآة التي تعكس صورتها لنا، أو لعلها من خداع أبصارنا. فقد تتلمذ اليابانيون علينا واستمدوا منا وسائلنا وأخذوا عنا طرقنا ويخيل إلينا أنهم قد أخذوا عنا كل ما يعرفونه.
إن سر اليابان يحجبه عنا تلك المرآة التي خاتلتنا وعبثت بنا، فقد بذل اليابانيون جهداً حثيثاً في سبيل منعنا من التسلل إلى شعاب حياتهم ومعرفة شيء عن دنياهم الغريبة. فاليابانيون لا يسمحون إطلاقا للأجانب بأن يتسللوا إلى بيوتهم أو يتعرفوا حياتهم الخاصة، وهما تكن العلاقة طيبة فإن الزائر يشعر دائماً بأن هناك حداً لا يستطيع أن يتعداه. وقد تزوج بعض الأجانب بامرأة يابانية وعاش حياة يابانية في منزل ياباني وكتب كتباً شائقة عن اليابان، ولكنه مع ذلك يعترف في النهاية بجهله باليابانيين، فقد جاء في آخر كتبه عن اليابان ما نصه: (منذ زمن بعيد قال لي أطيب وأعز أصدقائي من اليابانيين قبيل وفاته. . . عندما تشعر في خلال السنوات القادمة أنك لم تستطع أن تفهم اليابانيين إطلاقاً، حينئذ تكون قد ابتدأت تفهم شيئاً عنهم).
واللغة اليابانية تجعل التفاهم عسيراً، فقد استطعنا خلال خمس سنوات قضيتها في اليابان مع زوجتي أن نتكلم اللغة اليابانية بقدر ولكن لم نستطع قط أن نقرأها أو نكتبها؛ هذه الحقيقة تتمثل عند معظم الأجانب. وقد طلب بعض الأجانب من عميد أمريكي لإحدى جامعات طوكيو - وقد كان في اليابان منذ ثلاثين عاماً - أن يكتب مذكرة له باللغة(638/7)
اليابانية، فنظر إليه بدهشة ثم قال: كمن ساءه توجيه مثل هذا السؤال (إني لا أكتب اليابانية. . . نحن نتكلمها ولكننا لا نكتبها) ثم تركه واتجه نحو حجرة الدراسة ليحاضر طلبة يابانيين باللغة اليابانية.
ومن بين الصعاب التي تواجهنا أن نجد رجالا من بني جنسنا قد تملكوا ناصية اللسان الياباني حقاً ولا يتسرب الشك في إخلاصهم، وقد زار أحد الأخصائيين في كاليفورنيا اليابان في فترة مضت فسألته عن عدد الأمريكيين الذين صادفهم ممن استطاع أن يستوعب اللغة اليابانية. . . وبعد أن أعمل فكره قال أنه يعرف ثلاثة منهم. ومن الطبيعي أن يكون هناك في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أفراد يتقنون اللغة اليابانية، ولكن يبدو أن هذا العدد لا حساب له إذا ما قورن بعدد اليابانيين الذين يتقنون اللغة الإنجليزية.
وقد تساءل أحد الطلبة اليابانيين في عجب إذا لم تكن اللغة اليابانية تدرس في المدارس الأمريكية، وقد بدت هذه الفكرة مضحكة للوهلة الأولى، فكرة تدريس اللغة اليابانية في المدارس الأمريكية، ولكن بعد تدقيق النظر يبدو أنها لم تكن كذلك.
ويظهر أن للمعلومات الإنجليزية شأناً كبيراً في الحياة اليابانية، فهم يعتصرون من حضارتنا كل ما من شأنه أن يفيدهم. وقد رأينا كثيراً من الكتب الإنجليزية مكدسة في نواحي غرف الدراسة في إحدى جامعات الإمبراطورية أمثال (الذوق الأدبي لأرنولد بنيت) و (بيجماليون لبرناردشو) و (دكتورجيكل والمستر هايد لستيفنسون) وقد يستطيع أصغر التلاميذ سناً في المدارس الابتدائية اليابانية أن يكتب عن حياة وشنجتون أو أديسون أو فورد، وإنك لترى الكثير من حيطان غرف الدراسة خالية إلا من صورة للرئيس لنكولن.
لم تعد اليابان بعد في عزلة عن العلم فهي الآن تنظر إلى العالم كله وتحتاج اليه، ولم يكن لمحاكاة اليابانيين لنا في البداية أي ضرر، فقد مدحنا وكان لنا فيما وقع لبعض صغار اليابانيين من سهو تفكهة وتسرية لنا، فعندما سارت القطر الحديدية فيها للمرة الأولى وأخذوا يدفعون إلى ركوبها كانوا يتركون أحذيتهم على رصيف القطار لأنهم تعودوا ألا يدخلوا بيتاً قط وأحذيتهم في أقدامهم. وقد حطموا زجاج النوافذ عندما أخذوا يطلون برؤوسهم منها غير منتبهين إلى طبيعة الزجاج الشفافة، فكان لزاماً إذن أن يخط عمود ابيض على لوح الزجاج حتى يشعروا بوجود شيء صلب، كما علقت لوحات كبيرة على(638/8)
وجهات المحلات كتب عليها (هذا زجاج). وكانوا يراقبون أسلاك التلغراف محاولين رؤية الرسالة وهي تسير خلال السلك، وقد قال بعضهم أن السلك لابد أن يكون مجوفا، وقال البعض الآخر أنه لابد أن يكون متحركا، أما أهل القرى فقد قالوا أنه من عمل الشيطان. وعندما أدخلت المسرات لأول مرة قيل عنها أنها السبب في انتشار مرض الكوليرا الذي ينتقل من المتكلم إلى السامع. وقد ارتكب اليابانيون أخطاء كثيرة عندما حاولوا أن يقلدوا آلاتنا. وقد ساد الشعور بأن اليابانيين قد أصبحوا صورة لنا ولكنها صورة شاحبة جداً، ومع ذلك فقليل من يدرك أن هذه الصورة الفطرية الأولى قد تغيرن إذا نظرنا إلى ما طرأ على الحياة اليابانية الصناعية من تطور.
وقد علم صناع القطن في منشستر اليابانيين كيف يغزلون القطن ثم يبيعونه، وسرعان ما استطاع اليابانيون أن يصنعوا منه أقمشة قطنية ويرسلوها حول نصف العالم ثم يبيعوها ثمن أقل مما تباع به تلك التي صنعت في منشستر ذاتها. . . ولكن ليس هذا أسوا ما في الأمر، فقد اخترع اليابانيون نولا أوفر إنتاجا بمجهود أقل، فبينا نرى في مصانع لانكشير فتاة واحدة تباشر ثماني آلات نجد في مصانع اليابان أن فتاة واحدة تباشر ستين آلة. وقد أبت لانكشير أن تصدق ذلك إلا بعد أن غمرت المنسوجات القطنية اليابانية أسواق العالم جميعه بأثمان تتراوح بين الثلث والعشر من أثمان المنسوجات القطنية المصنوعة في لانكشير. . . ومن ثم تحول قطب الصناعة القطنية في العالم إلى اليابان حتى أن رجال الصناعة في لانكشير قد انتقلوا إليها ليدرسوا الصناعة القطنية فيها. وفي هذه المرة دفعوا مليون ين في سبيل الحصول على حق استخدام الأنوال اليابانية في مصانع لانكشير.
وفي نفس الوقت الذي بدا فيه الإنجليز يستخدمون الأنوال الجديدة أخذ المهندسون اليابانيون يبذلون جهدهم في سبيل تحسين أنوالهم وتصميمها بحيث يجعلونها أعظم كفاية، ويتمثل مبلغ نجاحهم في الحقيقة العجيبة الآتية، فقبل أن توقف الحرب الحالية حركة التجارة كانت تشتري اليابان قطنها الخام من الهند ثم تدفع مصروفات شحنه إلى اليابان ثم تصنعه وترسله مصنوعاً إلى الهند وتدفع تكاليف شحنه إليها كما تدفع ضريبة الجمرك، ومع ذلك كله فقد كانت تبيع إنتاجها منه في الهند بأقل من أثمان تلك المنسوجات القطنية التي كانت تصنع في الهند ذاتها. وفي منافسة اليابان للانكشير حيث مستوى أجور العمال ومعيشتهم(638/9)
عالٍ شيء، ومنافستها للهند حيث مستوى المعيشة والأجور منخفض حتى عنه في اليابان شيء اخر، فإن هذا يهدد الصناعة القطنية في جميع أنحاء العالم.
وقد احتلت اليابان منذ زمن بعيد الصدر في صناعة الحرير إذ كانت تنتج أكثر من 70 % من إنتاج العالم في الحرير، وليس هذا لملاءمة جو اليابان لصناعته فحسب، بل لأن اليابانيين أحدثوا من الوسائل وأدخلوا من الآلات الحديثة ما مهد لهم سبيل السبق في هذا المضمار. وقد بحث الغربيون عن وسيلة يستطيعون بها أن ينالوا من اليابان شيئاً في هذا السبيل فأنشئوا صناعة (الحرير الصناعي)، ومن ثم رأت اليابان أن صناعتها الحريرية قد أصبحت مهددة، ولكن سرعان ما استطاعت أن تنافسهم وإن تصدر من الحرير الصناعي أكثر مما يصدره أي قطر في العالم، أما تطور صناعة الجوت في اليابان فهو يصور ناحية مدهشة لمدى البحث العلمي فيها.
وأنه لتبدو لك فكرة واضحة عن صناعات اليابان إذا ما حلقت بين طوكيو وكوبى فوق العمود الفقري للصناعات اليابانية، وقد أطلقوا عليها (حلم قاذفي القنابل)، فليست هناك صناعات حربية لأمة من الأمم أوضح هدفاً وأسهل منالا للغارات الجوية مما هي في اليابان، ففي خلال ثلاث ساعات قد تستطيع قاذفة قنابل سريعة أن تصيب أهم أهدافها، ولكن من الخطأ أن تعتقد أن سقوط بعض القذائف فوق طوكيو قد تلحق بها أضراراً بعيدة المدى، فانك إذا نظرت إليها من عل وأنت في طائرتك علمت لماذا كان الأمر غير ذلك، فسترى شيئاً أشبه برقعة الشطرنج فيما عدا أن كل مربع يفصله عن المربعات التي تجاوره طرق فسيحة أو قنوات، فإذا سقطت القذيفة فوق إحدى هذه المربعات امتد فيها اللهب جميعاً ولكن تظل المربعات الأخرى المجاورة في مأمن منها. وقد لجأت اليابان إلى هذه الخطة على أثر زلزال عظيم لكي تحد من ضرر الحرائق وتحصرها في نطاق ضيق. وعلى كلٍ فإن طوكيو ليست أفضل أهداف قاذف القنابل، ففيها حقاً مصانع كثيرة ولكنها متفرقة، ولكن هذه الحال تختلف في ناجويا وأوزاكا وكوبى حيث تتجمع وتتكتل الذخائر والمؤن الغذائية والطواحين ومصانع الحديد وأحواض السفن مما لا يترك مجالا للشك في أن تصيب القذيفة هدفاً حيوياً، وحيث يبدو للملاحظ الجوي أن كل هذه المنشآت الصناعية اليابانية الحديثة هي بنات أفكار الغرب قد انتقلت إلى اليابان واستحالت إلى صورتها الراهنة في أقل من(638/10)
ثمانين عاماً.
ويشتهر عن اليابانيين أنهم يقلدون كل شيء ولكنهم لا يبتكرون شيئاً، هذه الصفة الشائعة هي نصف الحقيقة فقط، فهم يخترعون بالقدر الذي يقلدون به، ففي المكتب الإمبراطوري لمنح رخص الامتياز يشتغل نحو من 800 خبير يتسلمون كل عام نحوا من مائة ألف طلب لمنح رخص الامتياز، وفي كل عام يمنح نحوا من عشرين ألف رخصة امتياز، وإن مصانع أوربا وأمريكا لترقب باهتمام الاختراعات اليابانية وتقتبس كثيراً منها.
وأنه ليخيل إلينا أن آلاتنا الكاتبة تلك التي تحول ستة وعشرين حرفاً إلى كلمات معجزة من معجزاتنا، فما ظنك إذن بالآلة الكاتبة اليابانية التي تتجمع فيها مجموعة من الرموز لآلاف الحروف؟
وكان من بين ما عرض في أحد معارض الاختراع هذه المخترعات: آلة للصور المتحركة للاستعمال المنزلي، لجهاز التلفزيون يستخدم في البيت، سيارة تستطيع أن تنحرف بسرعة في شتى الاتجاهات، آلة تختبر بها البيضة إذا ما كانت طازجة دون أن تفتحها، مادة للبناء مصنوعة من قشر الأرز المهمل، آلة متحركة للتصوير تستطيع أن تلتقط 60. 000 صورة في الثانية وهي سريعة بحيث تصور حركة الموجات الصوتية.
وهناك جامعة غريبة ليس غرضها تعليم الفنون وإنما غرضها الرئيسي الابتكار والاختراع. وقد أخذتني الدهشة عندما دخلت بعض الدور حيث كانت تجرب وتختبر بعض الاختراعات الحديثة؛ فهنا أحد الباحثين الذين يبحثون في تركيب المطاط، وباحث آخر يجرب دهاناً للتلوين لا تكون له قشرة، وثالث يختبر مادة من الأسمنت لا تتشقق، ورابع يجرب عضواً آلياً يتحرك بنفسه دون أن يمسه أحد، فقط إذا ما مرره أحد يده خلال الهواء. وقد دخلنا مخزناً يشبه الثلاجة كانت درجة حرارته 40ْ فرنهيت تحت الصفر فتساءلت عن الفكرة في ذلك فعرفت أن الغرض من ذلك هو إيجاد جو يشبه شتاء منشوريا تجرب فيه مدى تحمل بعض المواد في مثل هذا الجو، وقد دخلنا غرفة أخرى كانت حرارتها عالية تبلغ 110ْ ودرجة رطوبتها 85 % وهي تمثل المناخ المداري داخل أربعة جدران، وانك ترى أن اليابان قد امتدت إلى المنطقة المدارية. ومن يدري لعلها تمتد في أحد الأيام إلى المنطقة الحارة. وعلى كلٍ فيجب علينا أن نستعد علميا لذلك اليوم إذا ما جاء، ولذلك فقد(638/11)
أنتجنا مواد للبناء وأطعمة وملابس وأدوية تلائم مثل هذه الجواء، ثم ذهبنا إلى أحد أقسام الهندسة حيث كانت تمارس بعض التجارب لبناء منازل من الحجر والصلب تتحمل هزات الزلازل وضربات القنابل، فإننا نعلم أن اليابان معرضة للغزو من الجو ولكن سيذهل العدو حينما يحس بالمقاومة العجيبة لمنازلنا الحديثة وهو فوق كبرى مدننا.
ويبدو لنا أن كل ياباني ينظر بإحدى عينيه الآلة التي في يده وبعينه الأخرى إلى السياسة الدولية، فقد قال الدكتور (كيفوشيتا) نحن نحب اليابان أولاً ثم العلم ثانياً. هذه هي أعظم نواحي اليابان العلمية خطراً ذلك أن يقتصر العلم على نفع اليابان دون العالم، فالعالم الحقيقي هو الذي يصادف انتشار المعرفة الإنسانية هوى في نفسه ولذة دون أن يحسب حسابا للحدود السياسية، ولكن لشد ما يدهشك من العالم الياباني أنك تراه يعتقد بهذه الأسطورة الخيالية التي تشير بأن الإمبراطور هو من سلالة آلهة الشمس، ولذلك فهو يستمد حقه الإلهي في حكم الأرض.
وقد أرهقت الحرب قوة الاختراع في اليابان، فقد تفادوا النقص في الحديد بصنع الراديو والمفصلات وقبضات أيدي الأبواب بالورق لمضغوط، واستعاضوا عن اللبد بمادة مصنوعة من عشب البحر والأصداف، وأنتجوا من قشرة السمك جلوداً يستعيضون بها عن النقص في الجلود، ولنقص الصوف صنعوا شيئاً يماثله من مادة السوباتين، ولحاجتهم لإبر الفونوغراف استعاضوا عن الصلب في صنعها بمادة البامبو، وصنعوا الدراجات من الورق المقوى بدلا من الحديد؛ وقد أنشئوا سيارات تسير بفحم الحطب بدلا من الجازولين.
والبحث عن اللآلئ هو أعظم أعمال اليابانيين مهارة، وفي العادة قد توجد في كل بضعة مئات من ألوف الصدف صدفة واحدة تحوى لؤلؤة، وأنه لأيسر أن نبحث عن إبرة في كومة من القش عنه في بحثنا عن لؤلؤة في داخل صدفة. وأنها لحيرة مسلية أن تزور إحدى مناطق اللآلئ، حيث ترى الفتيات يغصن لمسافات عشرين قدما في قاع البحر ليجلبن الأصداف التي توضع في قصعة ثم تؤخذ إلى المعمل لفحصها.
وقد كان منزلنا المصنوع من الورق على شاطئ البحر في هياما منزلا جميلا ولكنه لم يكن مريحاً، وكان علينا أن نعيش فيه عاما على أقل تقدير تلك الحياة التي يعيشها اليابانيون لنستطيع أن نفهمهم حق الفهم، ولكننا أحضرنا في نهاية ذلك العام بعض وسائل الراحة(638/12)
كالأسرة والمناضد والكراسي والمدافئ. ولتتخيل معي ليلة من ليالي الشتاء الرطبة في بيت بابه من الورق خال من المواقد اللهم إلا من موقد مملوء بالرماد الذي يعلوه بعض حطم الفحم الملتهب. ولا يمكننا أن نشعر بالدفء إلا إذا اقتربنا من اللهب؛ فصفير الهواء لا ينقطع من خلال شقوق المنافذ، وفي هذه الحال يمكنك أن تغلق النافذة الخشبية الخارجية، ولكن سرعان ما يسود الغرفة بذلك ظلام حالك. ومع ذلك يظل الهواء البارد نافذاً إلى الغرفة من خلال أرضيتها. ولكي تدفأ فعليك أما أن تنام أو تظل في حركة مستمرة؛ ولكن الإنسان لا يستطيع أن يظل في فراشه طويلا، وعلى ذلك يصبح الرد الطبيعي هو العمل. وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي يعزى إليها نشاط اليابانيين الدائم، فخير للياباني أن يحرث ويزرع في الحقول الملائ بالطين من أن يستكن في منزله، ولكن لسوء الحظ ليس لديهم حقول يزرعونها. وإن النتيجة الطبيعية لهذه الحياة الصعبة أن العسكري الياباني أصبح لا يحس في الميدان ذلك الإرهاق والضيق اللذين يحسهما الجنود الذين تعودوا حياة أرقى في مستواها.
وفضلا عن ذلك فإن اليابان يعوزها تقدير الحياة البشرية؛ فنحن نؤمن بأن نعيش لوطننا ولكن اليابانيين يؤمنون بالموت في سبيل وطنهم، فهم يتعلمون منذ نعومة أظفارهم بأن الفرد لا قيمة له. ولا يؤمنون بمذهب الفردية بل بمذهب الجماعة، فاليابانيون يميلون إلى العمل الجمعي وقد برعوا فيه. ولا يحكم اليابان دكتاتور بل يحكمها جماعة من الأفراد، وإمبراطورها يمثل رمزاً مقدساً. وإذا ما علا صيت أحد أفراد الحكومة أو علت منزلته فانه كثيراً ما يغتال. ويستذكر الطلبة دروسهم جماعة. وهناك مثل ياباني يقول: (إن يابانياً واحداً غبي واثنين غبيان)، وتتكتل جيوش اليابانيين جماعات، وهذه أحد الأسباب التي يعزى إليها بطولتهم في الحروب. وتبدو مهارة الطيار الياباني عندما يعمل مع سربه ولكنه حينما ينفرد يفقد ميزته كطيار ولكنه قلما ينفرد في حرب الجو أو في البحر والبر لأنها جميعاً تتطلب العمل الجمعي.
والانتحار شائع بينهم بكثرة، لأن الفرد يعتقد أنه لا يستحق وجوده أو يستأهل حياته إذا لم يحتفظ بنفسه كريمة بين أقرانه. وإن من المبالغة أن نذكر أن الجندي الياباني يرغب في الموت، بل أنه يفضل أن يعيش، ولكنه قد أشرب دمه فلسفة الموت تماماً. ولم يعلم حكمة(638/13)
البقاء التي تتيح له أن يحارب مرة أخرى في يوم آخر، فالجيوش اليابانية لم تدرب على خطط الانسحاب، لأنه لا يدور بخلدهم أن ينسحبوا. وقد صدرت التعليمات إلى الجنود بأن خيراً لهم أن يموتوا من أن يقعوا أسرى حتى لا تلحق برعاياهم الحطة والمذلة إذا ما أسروا، ولكن أي فخر قد يصيبهم عندما تعود أشلاءهم إلى الوطن، حيث تأله في معبد (باسوكوني) المقدس الذي يتوجه إليه الإمبراطور بنفسه، لينحني أمامه على روح هؤلاء الجنود الشهداء الذين ضحوا في سبيله.
عمر رشدي(638/14)
نظرية كونفوشيوس الدينية
للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني
1 - هل كونفوشيوس نبي؟
أعتقد الشعب الصيني في ذات كونفوشيوس منذ قدم الزمن اعتقاداً جازماً ما اعتقده اليهود في موسى والمسلمون في نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وعظموه تعظيما لا يقل عن تعظيم النصارى لذات المسيح والبوذيين لذات بوذا، فأقاموا له الهياكل والمعابد يتقربون إليه في أعياد ميلاده ووفاته، ونصبوا له التماثيل والنصب والأخشاب التي كتب عليها اسمه يقدسونه ويعبدونه، وخصوصاً في الأيام الملوكية. قبل ثلاثين سنة كان الأطفال والتلاميذ الشباب يذهبون إلى المدرسة القديمة الطراز ويركعون له ركعات ويطلبون منه التوفيق والإلهام، كما فعله المتدينون لإلههم المقدس بديع السموات والأرض وما بينهما. ولكن الواقع لم يكن كونفوشيوس نبياً مرسلا بمعنى أنه يوحي إليه بالحق ليبلغه الناس، ولم يدع ذلك بل أنكر أن يكون نبياً وذا مروءة. قال في الفصل السابع من كتاب الحوار:
(أما الأنبياء الحكماء وذوو المروءة، فكيف أجترئ على إدعاء رتبتهم؟ وغاية ما يجوز أن يقال في هي أنني رجل يعمل جهده من غير ملل، ويعلم غيره من غير تعب. فقال كونغ اسى هوا (أحد تلاميذه): وهذا هو الذي لا يمكن أن نتعلمه)
غير أن المسلمين ما داموا اعتقدوا أن هناك أنبياء لم يقصص الله علينا اخبارهم، كما نص القرآن الحكيم، وما داموا اعتقدوا أن لكل أمة نبياً أو أنبياء يرشدونها إلى سواء السبيل، وما داموا اعتقدوا أن الأنبياء يزيدون على مائتين وعشرين ألفاً، فإن كونفوشيوس قد يكون منهم، لأنه يعرف الإله مدبر الكون، وإن لم يتصد لتعليمه الناس، ولأنه يقيم نفسه للحق ينشره بين الناس ليرجعوا إليه في كل معاملاتهم، ولأنه يبين لهم الآداب الفاضلة ليتخلقوا بها، والأعمال الفاسدة الرذيلة ليتجنبوها، فهو مصلح للأمة متدرج من الأفراد والأسر إلى المجتمعات، وليس كالسياسي، يعالج أمراض الأمة الظاهرة من الخارج لا من الأساس، فهو ني من الأنبياء، قد عمل أعمالهم وأدى واجبه كما أدوا، بقطع النظر عن تعظيم الشعب الصيني له وإجلالهم إياه فوق ما يجب
2 - هل الكونفوشيوسية دين؟(638/15)
اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال فريق: إن التعاليم الكونفوشيوسية هي دين كسائر الأديان في العالم، لأنها لا تخلو عن الإرشادات القيمة التي تحض الإنسان على عمل الخير، وترك الشر، والتي تدعوه إلى الحياة السعيدة الهنيئة بالتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وهي تأمر الناس بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وهي النصيحة عينها. وهذه الأشياء من خصائص الدين وغايته، فهي دين بلا شك، وهذا الفريق هو الذي يريد أن يجعل الكونفوشيوسية ديناً رسمياً للحكومة الصينية والشعب الصيني
يقول الفريق الآخر: إن التعاليم الكونفوشيوسية إنما هي فلسفة عالية وحكم غالية كسائر الفلسفات في الأخلاق والسياسة وليست ديناً، لأنها لم تبحث عن الإلهيات كوجود الإله وصفاته وأفعاله، ولا المغيبات كالجنة والنار والثواب والعقاب، ولا الصلة بين الله والإنسان ولا بينه وبين الموجودات. يقول تس كونغ أحد تلاميذه النوابغ:
(يمكن أن تسمع أحاديث الأستاذ في الفضائل والآداب، ولا يمكن أن تسمع أحاديثه في النفس الإنسانية والسنة السماوية). الفصل الخامس من كتاب الحوار: (كان الأستاذ قلما يتحدث عن المنفعة والقضاء والقدر والمروءة). التاسع من الكتاب.
(كان الأستاذ لا يتحدث عن العجائب والقوى والاضطرابات والآلهة). السابع منه
فما دام كونفوشيوس لم يتحدث عن هذه الأشياء التي هي من مهمات الدين وميزاته، أو قلما يتحدث عنها، فكانت تعاليمه ليست بدين، بل هي فلسفة بلا شك، وهو فيلسوف كأفلاطون وكانت وغيرهما.
وعلى كل حال، فإن التعاليم الكونفوشيوسية مزيج من الاثنين لا هي بالمبادئ الدينية المحضة، ولا الآراء الفلسفية البحتة، وشأنها شأن الفلسفات القديمة التي تبتدئ بالخرافات والأساطير، ثم تمتزج بالحكم الدينية
3 - دين الصين القديم
إذا كانت التعاليم الكونفوشيوسية مزيجاً من الدين والفلسفة فلابد أن نعرف حقيقة الدين الصيني القديم الذي قبل كونفوشيوس حتى نتبين هل نظريته الدينية كلها نظريات قديمة أو عقائد قديمة أم للفيلسوف كونفوشيوس رأي خاص أو نظرية خاصة غير العقائد التي(638/16)
اعتنقها السواد الأعظم من الشعب الصيني في تلك الأزمان الغابرة؟
يعتقد قدماء الصينيين أن السماء جوهر حي عليم قادر مدبر الكون نافذ الإرادة في النفوس وسائر الكائنات، واعتقدوا القضاء والقدر وقالوا إن العاصفة والطوفان والقحط والزلزال والمجاعة كلها آيات السماء تنذر بها الملوك إذا جاروا على الرعية أو قصروا في حقوقهم وعبادة السماء خاصة للملوك ولا تتعدى غيرهم.
يعتقد قدماء الصينيين أن للكائنات السماوية والأرضية آلهة أو ملائكة أو أرواحا تدبرها وتصرفها كيفما تشاء، فالشمس والقمر والسحاب والمطر والجبال والأنهار وما شاكلها من الكائنات يكون لكل واحد منها إله أو ملك أو روح يعبده الناس، ولكن عبادة آلهة الأرض والجبال والأنهار مخصوصة للأمراء وحدهم.
وكذلك يعتقدون أن في المنزل آلهة للغرف وأرواحاً للأموات، ويزعمون أن روح الإنسان تبقى في الدنيا بعد موته، وتشتاق إلى العودة إلى أسرته والعيش مع أفرادها في الغيب، فهم يعبدونها ويقدسونها ويقدمون إليها القرابين، وهي عبارة عن أنواع الأكل والشرب المشتهيين على مائدة منسقة، وهذه العبادة يشترك فيها الشعب والملك والأمراء لا فرق بينهم إلا بالكثرة والقلة.
والصينيون القدماء لا يعتقدون الجنة والنار، وإنما يعتقدون الجزاء في الدنيا إن خيراً فخيرا وإن شراً فشر. وقد يتعدى جزاء شخص إلى أبنائه أو أحفاده والكل يرجع إلى السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا
4 - نظرية كونفوشيوس في الآلهة والأرواح:
قبل أن نتكلم عن نظريته في الآلهة والأرواح يجب أن نبين للقارئ أن المصدر والمرجع فيما يقول منحصر في كتاب الحوار الذي ألفه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، لأن الكتب التي صححها الفيلسوف كونفوشيوس، ولخصها ورتبها بنفسه، وإن كانت في نظريات فلسفية قيمة في مبدأ الكون ومصيره والإله وأفعاله، كتب قديمة لا يعتمد عليها فيما إذا بحث عن آرائه الخاصة وأفكاره الشخصية، وأما كتاب الحوار، فانه مشتمل على أقواله وأفعاله واعتقاداته، فإذا بحث عن نظرياته الخاصة يجب الاعتماد عليه
يعترف كونفوشيوس ببقاء الأرواح بعد خروجها من الأجساد ووجوب تقديم القرابين إليها،(638/17)
فلذلك كان (إذا دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء) الفصل لعاشر من كتاب الحوار
(كلما دخل الأستاذ الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. قيل: من ذا الذي يزعم أن ولد الرجل المنسوب إلى بلدة تساو يعلم الآداب؟ كلما دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. فلما سمع الأستاذ هذا التهكم قال: هذا من الآداب أيضاً). الثالث من الكتاب.
(كان الأستاذ يقدم القرابين إلى أرواح آبائه وأجداده كأنهم حاضرون، ويقدم القرابين إلى الآلهة كذلك كأنهم حاضرون. قال الأستاذ: إذا قدم القربان أحد غيري نائباً عني فكأنه لم يقدم قط). الثالث من الكتاب
وكان يصوم قبل تقديم القربان
(وكان إذا صام لبس ثياباً من الكتان نظيفة بهية وغير طعامه ومجلسه في الغرفة). العاشر منه
(وكان مما يحتاط فيه الأستاذ الصيام والحرب والمرض). السابع منه.
(البقية في العدد القادم)
أبو بكر هوغانجين الصيني(638/18)
الشعلة المنقذة
لمكسيم جوركي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(إلى الأبطال الذين يضحون بأنفسهم في الوقت المناسب
ليصونوا قومهم من الانهيار: أهدي هذه القصة آية تقدير
وإعجاب)
(م. خ. ا)
منذ عهد سحيق كانت إحدى القبائل الرحالة تضرب خيامها في بقعة مجهولة تحدق بها غابات ألفاف، لكنها تنحسر عن هذه البقعة في جهة من جهاتها، فتمتد أمامها في تلك الثغرة سهول فسيحة.
كان أفراد تلك القبيلة يمتازون بالقوة والبسالة، كما يمتازون إلى جانب ذلك بالقناعة، فأقاموا ما أقاموا في تلك البقعة وهم ينعمون ببسطة العيش ورغده. وذات يوم هاجمتهم قبائل آخر أقوى منهم بطشاً وأشد عتياً، فأجلتهم عن منازلهم إلى غابة هي أكثف الغابات، وآسها ماء، وأحلكها ظلاماً. فقد كانت فروع الأشجار في تلك الغابة التي نزحوا إليها قد مرت عليها العصور تلو العصور وهي تمتد وتتشابك حتى حجبت ما بين الأرض والسماء، حتى أن الشمس كانت إذا طلعت عليها لم تنفذ منها إليها إلا أشعة ضئيلة، وكانت هذه الأشعة إذا هبطت على المستنقعات نفثت أبخرة قاتمة كأنها السموم.
تتابعت النكبات على القبيلة، فكان أفرادها يتساقطون تحت أثقالها هالكا إثر هالك، ودب الملل إلى نفوس النساء والولدان، وران الألم على قلوبهم فضجوا بالشكوى والبكاء مما هم فيه، وتنادوا إلى الآباء والأزواج أن يخرجوهم من هذه الغابة المنكودة التي تورطوا فيها مؤثرين الموت خارج الغابة على الموت انتظاراً فيها
كانت عزائم الرجال منحلة، وقلوبهم قد أشربت اليأس بما تتابع عليها من الأرزاء، ففقدوا كل أمل في النجاة من مصيرهم المشؤوم. ولقد فكروا ثم لم يقعوا على وسيلة للنجاة، وكانت(638/19)
نهاية الإغراق في التفكير أن وجدوا أمامهم منفذين عقباهما الفناء المحتوم، فإما أن يعودوا إلى منازلهم الأولى التي أجلاهم عنها أعداؤهم فيكروا عليهم ويقاتلوهم ليخرجوهم منها كما أخرجوهم، ولكنهم رأوا أنهم لا قبل لهم بأعدائهم، فلا جدوى من العودة، وأما أن يخرجوا من الغابة إلى مكان آخر، ولكنهم رأوها متشابكة حصينة لا سبيل إلى النفاذ منها، فلا جدوى من محاولة الخروج
لم يجدوا بدأ من البقاء حيث هم، فأقاموا في شر حال، وكانوا يتهاوون تحت الآلام كما تتهاوى الأصنام في جمود أخرس كئيب، وكانوا إذا جن الليل أوقدوا النيران لتدخل إلى قلوبهم شيئاً من الأنس والسكينة، فلا تزيدهم إلا وحشة واكتئاباً، فتنقل عليهم الذكريات القديمة يوم كانوا ينعمون بالطلاقة والعيش الرغيد في جنبات السهول الفسيحة المترامية الآفاق، وفي ظلمات الليل كانت الأعاصير تعصف بأصواتها الرهيبة المنكرة، فتملأ جوانحهم هولا ورعباً.
أنهم لم يفروا أمام أعدائهم لنقص في شجاعتهم ولا لجهل منهم بأساليب القتال، بل أنهم آثروا الانسحاب حتى لا يستأصلهم الأعداء استئصالا، فيفنى بفنائهم تراث أسلافهم لو أنهم استمروا على الحرب. لقد سحقتهم النكبات سحقاً، غير أنهم لم يستطيعوا أن يسلوا ما نعموا به من رغد وحرية، فأرقتهم الهموم الثقال، وكانوا يقطعون الليالي بطيئة وهم ساهرون يفكرون فيما آل إليه حالهم من تعاسة وعذاب، وكانت الغابات من حولهم تتجاوب بالعزيف والعويل، وأشباحهم تتراقص حول النيران، وتتصاعد مع الأدخنة الملتفة كأنها أرواح شريرة، فتنخب في عزائمهم وتوهن من شجاعتهم، فتنطلق ألسنتهم بالسب والتجديف دون حساب. وفي نوبة من النوبات التي يطيق فيها اليأس على القلوب فيأخذ بمجامعها تشاور أفراد القبيلة، ثم قرروا أن يرجعوا إلى أعدائهم الذين أجلوهم عن منازلهم، ليستسلموا إليهم متنازلين عن حظهم من الحرية والكرامة، مفضلين الموت بأيدي أولئك الأعداء القساة عن حياة الأسر في الغابة.
وإذ ذاك برز من بين الصفوف شاب باسل وسيم كان القدر قد هيأه لهذه الساعة الحرجة كي ينقذ القبيلة من مصيرها التعس! كان اسم ذلك الشاب (دنكان)، وكانت تلوح على وجهه علائم البسالة والعزة والصرامة! نهد ذلك الشاب واقفاً أمامهم وخطب فيهم قائلا.(638/20)
(أيها الرفاق! إن مشكلتنا لعسيرة، ولن يحلها التفكير العقيم، ولن تفتح لنا الثرثرة سبيل النجاة، ولن تجدي الشكوى والدموع شيئاً لرفع ما نحن فيه من البلاء. حذار أن تسرفوا في التفكير الأجوف، والثرثرة الفارغة، فتذهب قوتكم، ويضيع وقتكم سدى. لنستجمع شجاعتنا وقوتنا، ولنتهيأ للضرب في غياهب هذه الغابة حتى نجتازها إلى نهايتها. أنها لابد منتهية، لأن لكل شيء في الكون نهاية. أيها الرفاق الأمجاد! عليكم بالصبر والإخلاص والشجاعة، ولا سيما في المراحل الأولى! ولتكن عزائمكم راسخة، وخطاكم ثابتة جبارة!
كان أفراد الغابة مقبلين بفتور عندما وقف (دنكان) ليلقي فيهم خطابه القوي. ثم رأوا في وجهه وفي نبرات صوته آيات الثبات والإخلاص والبسالة، فسرى فيهم الإخلاص والحماسة، فآمنوا أنه أفضلهم وأقدرهم على قيادة القبيلة في طريق الخلاص، حتى أنها لم يكد يفرغ من خطابه حتى صاحوا: امض بنا راشداً فنحن على آثارك مقتدون!
حينئذ سار (دنكان) مؤمناً بالفلاح والظفر والخلاص، واتخذ أفراد القبيلة طريقهم من خلفه وفي قلوبهم من الإيمان مثل ما في قلبه. لم تكن الطريق بالممهدة ولا المأمونة، بل كانت عقباتها كثيرة، وأوحالها عميقة، يمكن أن تبتلع في كل خطوة بضعة أشخاص، وكانت تعترضها الأشجار الكثيفة التي تسبح فوقها الحيات صاعدة هابطة، وهي ترسل عليهم من فوق رؤوسهم فحيحها الرهيب.
وكانت جلودهم تنضح بالعرق، وجروحهم تسيل بالدماء، وأعصابهم وعضلاتهم تفيض بالكلل والإعياء، ومع ذلك استطاعوا أن يقطعوا مسافة طويلة دون ضجر ولا استياء
ولكن الأيام تتابعت فازداد بتتابعها وقع المتاعب على النفوس والأجسام، وأحس أفراد القبيلة بخور في عزائمهم وتهافت في قواهم، فتناسوا ما عاهدوا (دنكان) عليه، وأقبلوا إليه يزفون وقد ملئت صدورهم ضغينة وحقداً، وصاحوا في وجهه: (أيها الشاب الطائش! لقد انتهى بنا حمقك إلى الخراب، فليتنا ما سمعناك وما أطعناك!)
لكن (دنكان) رغم سخطهم عليه ولومهم إياه وضيقهم به لم يهن ولم يفتر، بل بقي كما كان، عامر القلب بالأمل والإيمان، وسار يقود الصفوف الثائرة بعزيمة وطيدة وخطاً راسخة.
ثم أقبلت أمسية! كانت الغابة في تلك الأمسية رهيبة قاسية، فقد تعالى في جنباتها هزيم الرعد، وأطبقت عليها الظلمات الحالكة، وقد تراكم بعضها فوق بعض كأنما احتشدت فيها(638/21)
الليالي جميعاً بظلامها منذ كان العالم. كان القوم التعساء في تلك الأمسية يسيرون في سكون كئيب، فيتعثرون حيناً، ويتصادمون حيناً، وقلما كانوا يستقيمون، وكان الخوف قد أزاغ قلوبهم، وجمد الدماء في عروقهم، وخيل إليهم أن فروع الأشجار المعترضة في طريقهم إنما هي أيد عارية تمتد إليهم في الظلام لتختطفهم عن أيمانهم وعن شمائلهم.
وضاقوا أخيراً بما حاق بهم من كلال ولغوب، فأقبلوا على (دنكان) يوسعونه سباً وشتما حتى لا يعترفوا بالضعف على أنفسهم وقالوا له: (أيها الشاب الأحمق! لقد خدعت نفسك وخدعتنا، وأنا لنراك فينا ضعيفاً، وما أنت بالزعيم الذي يصلح لقيادتنا والإمرة علينا).
ثم وقفوا حيث انتهوا وقد طفحت قلوبهم بالحقد والموجدة على (دنكان)، وكانت الظلال تتراقص في الغابة حول القوم، والأشجار تردد أناشيد الفوز والشماتة، بينما انصرف القوم لمحاكمة (دنكان) على ما غرر بهم، وكبدهم من مشقات، ثم أفضوا إليه بحكمهم قائلين: (أنك لغادر أثيم! وقد ثبت لنا أنك امرأ سوء بما أوردتنا من موار التهلكة، فجزاؤك أن تموت!)
وأمنت أصداء الغابة وقصف الرعد وحفيف الأشجار على حكم القوم قائلة: (جزاؤك أن تموت!) في تلك الآونة الرهيبة الحرجة وقف (دنكان) أمام القوم في شجاعة واطمئنان، وكشف عن صدره، وصاح فيهم قائلا: (يا رفقائي: لقد طلبتم إلي أن أكون دليلكم فكنته، وإن لدي من القوة والجرأة ما يهيئني لقيادتكم، ولقد أردتم مني أن أسير أمامكم فسرت، وكنت لكم مرشداً وعليكم حفيظاً، ثم سرتم ورائي كما تسير قطعان الغنم وراء دليلها دون أن تكون لديكم مسكة من صبر وجلد. . .)
ولم يتركوه ليكمل حديثه إليهم، بل صاحوا في وجهه حانقين: (لابد أن تموت! لابد أن تموت!)
كان (دنكان) ينتظر من قبيلته أن يوفوا بعهدهم الذي عاهدوه، وأن يعرفوا له فضله ونبل مقصده، وما كان له أن ينتظر منهم هذا الجزاء السيئ الذي يدل على منتهى الكفر والكنود. لقد محضهم حبه ونصيحته، ومن أجلهم غامر بحياته، وضحى براحته وقوته، ثم هاهو ذا يرى نفسه فيهم وحيداً مخذولا مذموماً وهم به محدقون يطالبون بدمه دون أن أمل في عدل، ولا طمع في رحمة. وهاج (دنكان) ولكنه سرعان ما سكن وأناب، إذ كان ما يزال حفيظاً(638/22)
على حبهم حريصاً على سعادتهم، رغم أنهم يهمون بقتله، فتحرك حبه وإيمانه، وبرقت عيناه بالجرأة والثبات حتى لقد ظنوا بريق عينيه آية جنونه، فأقبلوا عليه في قسوة وضراوة ليشدوا وثاقه، ولاح واضحاً (لدنكان) ما يكنون له من ضغينة وبغض رغم ما يذخر به قلبه من الحب والإخلاص لهم فتهيأت له فكرة أزمع على إنفاذها
في تلك الآونة طففت جنبات الغابة المترامية الحالكة تردد أناشيد الموت، وأخذت العواصف تزأر والرعود تجلجل والأمطار تنهمر في أصوات هائلة منكرة، غير أن (دنكان) صاح صيحة مروعة غطت على جميع الأصوات في الغابة قائلا لقومه: (لقد عرفت الآن واجبي نحوكم، وسأعمل حالا على إنفاذ رغباتكم، فكونوا راضين)!
وأقبل بكلتا يديه على صدره فمزقه تمزيقاً، ثم انتزع قلبه، وحمله بيده فوق رأسه، ودهش قومه حين رأوا الدماء المتفجرة من قلبه قد حالت أنواراً متوجهة كأنها الشمس، فبهرت كل ما تضم الغابة، حتى لقد أصيب كل ما فيها بالصمت والسكينة. وخر الرجال جثياً كما تخر الصخور، فصاح (دنكان) فيهم صيحة أخرى قائلا: (أيها الرفاق! سأمضي أمامكم، فانطلقوا من خلفي صابرين، وأشفقوا علي كما كنت عليكم شفيقاً!)
وانطلق (دنكان) أمام القوم، فساروا وراءه في صمت وذهول، وكان ما يزال قابضاً على قلبه الذي اندلعت منه الأنوار فهتكت حجب الظلام وأنارت الطريق للسارين من خلفه. كانت الغابة ما تزال يتردد فيها زئير العواصف وهزيم الرعود وخرير الأمطار، لكن وقه أقدام السارين كان يغطي على كل أصوات الغابة. لقد كان القوم منطلقين إلى الأمام، وقد سحرتهم الأنوار الساطعة من ذلك القلب المشتعل. وكانوا يتساقطون موتى كما تتساقط الأوراق الجافة دون تذمر ولا عويل.
وما زال (دنكان) منطلقاً أمام القوم والأنوار تتفجر من قلبه الذي صار شعلة حتى بلغوا نهاية الغابة!
وهناك. . . هناك انفتح أمامهم منفذ فسيح، فنفذ إليهم النور الباهر والهواء الطلق، بعد أن لبثوا ما لبثوا غرقى في المطر المنهمر والظلام الكثيف. وأداروا عيونهم عندئذ إلى الوراء، فرأوا الغابة يطبق عليها الظلام، ويجلجل فيها الرعد ويلمع البرق، ثم التفتوا أمامهم حيث انتهوا، فرأوا أمامهم الشمس تسكب أشعتها على سهول فسيحة معبدة قد وطئت لهم، تتخللها(638/23)
الأنهار التي تترقرق فيها أمواهها الفضية الصافية.
كانت الشمس عندئذ توشك أن تغيب، وعندما انحدرت أرسلت أشعتها الصفر على المياه المترقرقة، فلاحت كأنها الدماء الدافقة من الجرح المنفتح في صدر (دنكان) الجسور. وعندئذ رفع (دنكان) رأسه في إباء، وأجال نظره في السهول الممتدة أمامه، وقد تملكته نشوة غبطة ورضا وخيلاء. وخر في تلك اللحظة صريعاً على الأرض، وقبل أن يطلق نفسه الأخير هتف قائلا: (ما أشهى الموت فيك يا أرض الحرية والكرامة!)
وكأنما روحه القوية حلت في الغابة، فارتجفت حينئذ أشجارها وسمع لها أنين وعويل
وانتشى القوم غبطة بالخلاص في نهاية الرحلة، حتى لقد نسوا (دنكان) وفضله عليهم، فلم يسؤهم موته، ولم يأبهوا حتى بقلبه الذي كان في تلك اللحظة يشرق عليهم ويباركهم وهو مطروح بجانب جثته الساكنة الخرساء، لولا أن واحداً منهم دلف إليه في خوف وحذر، وأرسل يمينه نحو ذلك القلب المشتعل، وما قارب يمسه بإصبعه حتى انفجرت تلك الشعلة، ثم تلاشت أنوارها في الفضاء. . .
لقد أدت الشعلة واجبها، ثم صعدت لتستريح في السماء!
محمد خليفة التونسي(638/24)
4 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية
للأستاذ كوركيس عواد
وجاء في 528: 3 اقوله: (الخترانية نسبة إلى الطسوج الذي كان موجوداً بين برس وبابل وحلة). قلنا: لا يعرف طسوج بهذا الاسم. وإنما ذكرت (الخطرنية) وقد قال فيها ياقوت (معجم البلدان: 453) أنها ناحية من نواحي بابل العراق.
وفي 3: 555 ا 15 كرنيكا. وكان يحسن أن يقال فيها: (القيروان) فهو الاسم العربي لتلك البقعة.
وفي 3: 683 ا 8 ورد قوله: (وقد وجد في قيونلك نقش بارز). قلنا: الصواب (قوينجق) وهو تل عظيم مرتفع في شرقي مدينة الموصل، في بقعة نينوى. بدأ علماء الآثار ينقبون فيه منذ عهد بعيد، أي منذ مائة سنة (1842م) وظلوا يعملون فيه سنين عديدة كانت خاتمتها سنة 1931.
ومما قرأناه في 3: 683ب 17 قوله: (ومن الواضح أن هذا الخور هو عين أغما ربتا. وهي كلمة آرامية معناها البطيحة الكبرى). ولو قال: (الأجمة الكبرى) لطابقت الترجمة اللفظة الإرمية التي ذكرها.
وورد في 3: 86 ا2 - 3 قوله: (واسط وموقعها الآن كوت الحي؟) هكذا بوضع إشارة الاستفهام. وكان يحسن التعليق على هذه العبارة البعيدة عن الصحة.
وفي 3: 686ا 25 غفج. صوابها: عفج (بالعين المهملة).
وفي 3: 686ا 26؛ 3: 686 ب 1و2؛ 3: 89 ا 5و12و22 ورد اسم (ناحية لملون) و (بطائح لملون). والصواب في كليهما، على ما أفادني الأستاذ المحقق يعقوب سركيس (لملوم) بميم في الآخر. وهذا التصحيف من كاتب المقال الأصلي لا من المترجم.
وفي 3: 688ب 11و23 عمارة. والأحسن أن تكتب العمارة (بزيادة أل التعريف). وهي مدينة عرقية مشهورة في وقتنا.(638/25)
وكذلك جاء في 3: 691 ا 10 كوت العمرة، وصوابها: كوت العمارة.
ونعلق على ما ورد في الحاشية 2 من 4: 3 اأنه لم يتحقق أن لفظة بغداد إرمية الأصل، فالمسألة ما زالت موضوع بحث بين العلماء.
وفي 4: 4ب 6 الحر. صوابها: الخر (بالخاء المعجمة).
وفي 4: 6ا 18 محلة المخرم. قلنا: ضبطتها ياقوت الحموي (معجم البلدان 4: 441) بكسر الراء وتشديدها، أي المخرم.
ووردت العبارة التالية في 4: 20ب1 (ويخترقها (يخترق بغداد) دجلة، كما كانت في السابق، فيشطرها شطرين، يسمى الأيمن منها بالرصافة ويدعى الثاني بالكرخ). قلنا: الصواب بعكس ذلك، فإن الأيمن (الجانب الغربي) هو الكرخ والأيسر (الشرقي) هو الرصافة.
وفي 4: 21 ا 10 قوله: (وبعض غرف من قصر المأمون (ببغداد) في القلعة المدفعية). قلنا: كان يحسن القول أن نسبة الغرف إلى قصر المأمون من أوهام العامة، وإلا فانه لم يثبت حتى الآن في التاريخ، صحة نسبة تلك البناية إلى مشيد معلوم.
وفي 4: 250 ا 25 وادي الزرم. صوابه: وادي الرزم (بتقديم الراء على الزاي).
وفي 4: 253 ا 1. . . 2 جرذاقيل وزوزانه. صوابهما: جرذقيل والزوزان.
وفي 4: 280 ا 5 و276 يبث وأزيك. صوابها: يبث وازيق (بالقاف) وهو ما يطابق النسبة الإرمية لهذا الموقع.
وفي 4: 280 ا 11 طهران. صوابها: الطيرهان. وشتان ما بين الموطنين. فأولهما مدينة في إيران، والثاني بلدة كانت على دجلة بالعراق قرب تكريت، وهي اليوم مندرسة.
ثالثاً: الكتب والمراجع
كان ابتداء المستشرقين بتأليف دائرة المعارف الإسلامية سنة 1913، وابتداء اللجنة بترجمتها إلى العربية سنة 1933، أي بعد ذلك بعشرين سنة، ومعنى هذا أن طائفة حسنة من المصنفات القديمة قد تم نشرها أو أعيد طبعها خلال تلك المدة. فكان حرياً باللجنة أن تشير في تعليقاتها إلى ما طبع منها عند التعرض لها في المتن، ليكون القارئ على علم وثيق بما ظهر منها، وليكون عمل المترجم جزءا متمما لعمل المؤلف، وهو غاية ما يبتغي(638/26)
في هذا الميدان.
وسنذكر فيما يلي بعض ما وفقنا عليه عرضاً، مما قد يكون في إضافته أو تعليقه فائدة، فنقول:
في 1: 17 ا 10 يضاف إلى المراجع المذكورة بعد ترجمة أبان بن عبد الحميد: كتاب الأوراق للصولي 1: 1 - 52
كما أن بعض مؤلفات ابن أبي الدينا، المذكورة في 1: 72 - 73 قد نشرت، نذكرها منها: كتاب مكان عاش بعد الموت (القاهرة 1352هـ) وكتاب الشكر (القاهرة 1349هـ)
وفي ترجمة ابن طيفور 1: 81 ب، تضاف المراجع التالية:
1 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1: 211 - 212).
2 - معجم الأدباء لياقوت الحموي (1: 152 - 157 مرجليوث).
وفي 1: 195 ا 6 كتاب روضة الجنات، صوابه: روضات.
وفي 1: 119 ا 21 - 26 ليت المترجم قال أن كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري طبع في دمشق سنة 1345هـ.
وفي 1: 119ب14 كتاب منجد المقربين ومرشد الطالبين وصوابه. منجد المقرئين الخ. وكان مفيداً أن يذكر بأنه طبع في القاهرة سنة 1350هـ.
ومما كان يجدر ذكره في 1: 120 ا 10 أن كتاب ابن جزلة الطبيب، الموسوم بـ (تقويم الأبدان في تدبير الإنسان) قد طبع في دمشق سنة 1333هـ، بعد أن أضحت طبعته القديمة في ستراسبورج سنة 1532م وأعز من بيض الأنوق.
وفي 1: 121 ا 12 ذكر لابن جزلة كتاب (منهج البيان فيما يستعمله الإنسان). والمعروف أنه (منهاج البيان الخ) وهو لم يطبع. ونسخه الخطية كثيرة في خزائن الشرق والغرب، وكلها مجمعة على العنوان الذي ذكرناه.
وفي 1: 113 ا 1 - 2 كان من المفيد أن يذكر ما طبع من مؤلفات ابن جني: كالخصائص (القاهرة 1914) والتصريف الملوكي (بون 1885 والقاهرة 1331هـ) والبهيج في تفسير أسماء شعراء ديوان الحماسة (دمشق 1348هـ) والمقتضب (ليبسك 1904).
وورد في 1: 132ب 3 - 4 اسم كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر(638/27)
العسقلاني. وكان ضرورياً للغاية أن يقال في الحاشية أنه طبع في أربعة مجلدات (حيدر آباد 1348 - 1350هـ).
ومثل ذلك ورود اسم كتاب (اللمحة البدرية في الدولة المصرية) اللسان الدين ابن الخطيب، في السطرين الأخيرين من 1: 151ب، فقد كان مفيداً أن يقال أنه طبع في القاهرة سنة 1347هـ.
وفي 1: 159ب16 كان من الواجب النص على أن كتاب (الجمهرة) لابن دريد قد طبع في أربعة مجلدات كبيرة (حيدر آباد 1344 - 1351هـ).
وفي 1: 164ب6 يضاف إلى المراجع عن (ابن ديصان):
1 - تاريخ كلدو وآثور لأدي شير (2: 20 - 22).
2 - برديصان والبرديصانية ليوسف غنيمة (المشرق 18 (1920) ص677 - 697).
وفي 1: 228 ا 20 وردت العبارة التالية: (ولهذا الكتاب (كتاب القصص المضحكة) ترجمة عربية لم تصل إلينا عنوانها كتاب دفع الهم). قلنا: هذه القصص وصلت إلينا، وقد نشرها الأب لويس شيخو اليسوعي بعنوان (الأحاديث المطربة لابن العبري) في مجلة المشرق (20 (1922) ص 709 - 717، 676 - 779)، ثم على حدة ضمن مجموعة أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان ولابن العبري) (بيروت 1920 - 1923؛ ص39 - 60).
ومما ورد في 1: 261ب3 - 4 قوله: (وهو (كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة) في عشرة أجزاء، نشر الأجزاء الأربعة الأولى منه بروكلمان). وكان جديراً باللجنة أن تعلق في الحاشية أن هذا الكتاب الجليل قد عنيت دار الكتب المصرية بنشره كاملا سنة 1935 - 1930 في أربعة مجلدات.
وفي 1: 211ب8 - 1 ذكر (كتاب الشراب) لابن قتيبة والأصح أن يكتب عنوانه (كتاب الأشربة) على ما هو مشهور معروف (راجع: العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 330 طبعة الأزهرية، وكشف الظنون 5: 43 لندن أو 2: 262 استانبول) وكان يحسن القول في الحاشية، إن هذا الكتاب لم يظهر جميعه في المجلد الثاني من المقتبس، لأننا قابلنا ما نشر منه على نسخة خطية عندنا، فوجدناه يبلغ نحواً من ثلثي الكتاب. وقد لاحظنا أن المنشور(638/28)
في المقتبس ظهر في أربعة أقسام ذكرت الدائرة الأول والثاني والرابع منها وأغفلت ثالثها المنشور في ص430 - 436 من المجلد المذكور.
وفي السطرين الأخيرين من 1: 260ب يضاف في الحاشية أن كتاب (المسائل والأجوبة) لابن قتيبة نشرته مكتبة القيسي بالقاهرة سنة 1349هـ.
وفي 1: 271ب يبدو لنا أنه سقط سطر بين السطرين 17 و18 قوامه ما يلي: (سميون الأنباء 1: 175 - 183 (3) القفطي).
وفي 1: 277ب19 - 22 وجدنا العبارة التالية: (وألف (مسكويه) كتاباً في التاريخ عنوانه تجارب الأمم، نشرة كيتاني بتمامه في مجموعة جب التذكارية. ج7). قلنا: لنا على هذه العبارة ملاحظتان. الأولى: أنه كان يحسن القول في الحاشية، إن ما نشره كتاني لم يكن سوى قسم من هذا التاريخ، أي أنه نشر (بالفتغراف). الجزء الأول والخامس والسادس أما سائر الأجزاء فلم يتعرض لها. والملاحظة الثانية، هي أنه كان مفيداً جداً أن ينوه بأن المستشرق آمدروز قد نشر منه في القاهرة الجزءين الخامس والسادس مع (الذيل) على تجارب الأمم للوزير أبي شجاع. وأن مرجليوث نقل هذه الأقسام إلى الإنجليزية، فصار قوام المتن والترجمة والفهارس سبعة مجلدات (القاهرة - اكسفورد سنة 1914 - 1921).
وفي 1: 280 ا 11 نقول إن كتاب (فصول التماثيل في تباشير السرور) لابن المعتز طبع في القاهرة سنة 1925.
وفي 1: 298 ا 2 من المهم ذكره في الحاشية أن كتاب (التيجان في ملوك حمير) لابن هشام، طبع في حيدر آياد سنة 1347هـ.
وفي 1: 311ب1 ورد ذكر كتاب جلستان. والصواب كلستان (راجع كشف الظنون 5: 230 طبعة لندن أو 2: 327 استانبول).
وفي 1: 324 ب 22 ذكر المترجمون (سفر إسحاق) من أسفار التوراة. وقد استغربنا صدور هذا القول من اللجنة، فليس في التوراة كلها سفر بهذا العنوان. والصحيح أنه (سفر اشعيا) وسبب وقوع هذا الغلط، أن الأصل الفرنجي من دائرة المعارف الإسلامية يتخذ رموزاً مختصرة عند ذكر أسفار التوراة، وذاك أمر شائع بين المستشرقين والباحثين، متعارف بينهم منذ عهد بعيد. فهم يرمزون لسفر اشعيا بهذا الاختصار فظن المترجمون أنه(638/29)
اختصار بينما هي اختصار وليت شعري ألم تكن نظرة سريعة في فهرست أسفار التوراة كافية للتخلص من مثل هذا الغلط؟
وفي 1: 323 ب من المفيد أن يقال في الحاشية، أن كتاب (الأضداد) للسجستاني نشره هفنر في بيروت سنة 1912 ضمن (ثلاثة كتب في الأضداد) (ص71 - 162).
ونظير ذلك ما كان يستحسن تعليقه على 1: 334ب13 من كتاب (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي، قد نشره حسن السندوبي (القاهرة 1929).
وفي 1: 386 ا 9 تضاف المراجع التالية بعد ترجمة أبي العيناء
1 - طبقات الشعراء لابن المعتز (ص196 - 197).
2 - معجم الشعراء للمرزباني (ص384).
3 - مروج الذهب للمسعودي (8: 20 - 125 طبعة باريس).
4 - كتاب الديارات للشابشتي (مخطوط. وقد حققناه وأعددناه للنشر).
5 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (3: 170 - 179).
6 - المنتظم لابن الجوزي (5: 156 - 160).
7 - معجم الأدباء لياقوت (7: 61 - 73 مرجليوث).
8 - نكت الهميان في نكت العميان للصفدي (ص265 - 270).
(البقية في العدد القادم)
كوركيس عواد(638/30)
رسالة الفن
من الحياة والفن
قصة صورة
للأستاذ نصري عطا الله سوس
يشارك العمل الفني الخالد الحياة في خلودها وعمقها وتجددها، وتعدد الآراء فيها واختلاف وجهات النظر إليها، غير أن العمل الفني يمتاز على الحياة باشتماله على عناصر لا تستمد من الطبيعة الخالقة الموجبة، بل من شخصية الفنان وعبقريته. فالعاطفة الزاخرة التي تحتضن الأكوان، والخيال المتوفز المتقد الذي يبدع من صور الجمال ما لا وجود له في الطبيعة، والعقل النفاذ الذي يعاون العاطفة والخيال. . . كل هذه عناصر إنسانية يشتمل عليها العمل الفني الممتاز ولا وجود لها في الطبيعة - وسر خلوده هو أنه خلاصة فترة من حياة رجل عظيم استطاع أن يسبر من أغوار الحياة ما لم يستطعه الناس، رجل يتيح لهم - بفنه - مشاركته عواطفه وخيالاته وأحلامه. ونحن حين نتأمل عملا فنياً كبيراً نحس أننا في صحبة إنسان كبير يقود خطانا نحو أقاليم شاسعة لم نرها، ويفتح عيوننا على صور من الحق والخير والجمال لم نعرفها من قبل. فالعمل الفني الكبير يفضل الحياة لأنه منبع السرور الإنساني النبيل في كل حين، والحياة تسر حيناً وتحزن أحياناً.
. . . ذلك هو الخاطر الذي جال بنفسي عندما أردت أن اكتب عن (الجيوكانده) أو (موناليزا) أقيم أعمال الفنان الخالد (ليوناردو دافنشي) وأكثرها دلالة على شخصيته ونهجه في الإنتاج.
ولقد كان ليوناردو (1452 - 1519) نجماً لامعاً من نجوم النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر، ونستطيع أن ننحي التاريخ جانباً ونقول أنه أحد الأفذاذ القلائل والعبقريات الضخمة في تاريخ البشرية كله، لم يجد معاصره (فاسارس) وصفاً يصفه به إلا قوله أنه قدس وأنه فوق مستوى البشر، وقال عنه نيتشه (إن فيه شيئاً صامتاً أعلى من مستوى الروح الأوربية، وهذه خاصية رجل تكشفت له الحياة عن محيط واسع جداً من الخير والشر) وقال هافلوك إليس: (عندما يلعب خيالنا بفكرة السوبرمان يرد لوناردو على خاطرنا(638/31)
كمثل من أمثلته المتقدمة)
عبر لوناردو مراحل المعرفة البشرية وقد وسعها عقله الكبير المتقد شغفاً بالحياة وكلفا بأسرارها، ووقف عند تخوم المجهول يحدق في ظلامه وخوافيه ويرسل عليه من نور عقله والهام قلبه محاولا ارتياد بعض أراضيه البكر التي لم يحلق فوقها فكر أو يشرئب نحوها فؤاد. . . وكان تلميذ الحياة، الحياة كلها: خافيها وظاهرها، نظر إلى المعرفة البشرية في شتى فروعها وصورها نظرته إلى بعض من كل، لا يجوز الوقوف عنده والاكتفاء به، فكار مصوراً وموسيقياً وعالماً ومهندساً وشاعراً وفيلسوفاً وفي كل حالة كان رائداً مستكشفاً. ودأب الفنان أو المفكر العبقري أن يجعل من عقله وقلبه (حقلا للتجارب). إن الكون العظيم أمامه فلم يعمد إلى معرفته عن طريق أفكار الناس وعواطفهم مهما عظم شأنهم؛ إن به حاجة للحياة فلم لا يعيش ويجرب ويتأمل ويدرك الحقائق عن طريق احساساته ومشاعره وفكره؟ وهكذا كان لوناردو. . .
ولقد كان يؤمن كما آمن سيبنوزا بعده أن الحقيقة والكمال شيء واحد. وقال مرة (إن العبقرية الإنسانية لن تستطيع أن تستنبط شيئاً أكثر بساطة وأكثر وفاء بالغرض من الطبيعة)
وأحرى بمن ينظر إلى الحياة هذه النظرة، أن ينظر إلى الإنسان نفسه نظرة عميقة فاحصة، وجدير بمن يتأمل ذاته ويدرك ما تنطوي عليه النفس من أسرار وما يحتويه القلب من آماد لا يرتادها إلا العباقرة الأفذاذ، إلا يقنع عندما يعمد إلى رسم صورة إنسان بتسجيل الملامح والسمات وما قد يرتسم على صفحة الوجه من انفعالات سطحية عابرة. . . إن الإنسان يولد في الكون الرحب الفسيح وفي فؤاده كون آخر قد يكون أرحب آمادا وأبعد أغواراً من الكون المنظور، ولكنه يعيش في الظلام صادفا عن الكون الذي حوله والكون الذي في نفسه، سادرا في التفاهات معنياً بنوافل الأمور، ولكن هو الذي يستطيع أن يسبر الأغوار لم لا ينتشل من الأعماق بعض المعاني والأسرار التي تحفل بها النفس وتبقى دائماً كالنبع المطمور الذي تمر به الأجيال غير عابئة ولا ترسل له من ينقب عنه ويرفع الأستار. ولقد قال (إن فن التصوير نوع من الإبداع أتخذه وسيلة لتطبيق الأفكار والتأملات الفلسفية على خاصيات الأشكال طبيعية أو بشرية، فرسم صورة لم يكن لديه إلا رحلة استكشاف في(638/32)
مجاهل وخبايا الطبيعة الإنسانية، وفي مثل صوره نطالع القوى والقيم الإنسانية التي قلما نحسها أو نحفل بها لأن حياتنا السطحية الرخيصة لا تستجيشها أو تهزها من رقادها.
ولقد وهب لوناردو حياته كلها لشيئين: الحق يلتمسه من كل طريق ويضني نفسه باحثاً عنه، والجمال ينشده ويرجوه ويتبعه، وهام أشد الهيام بشيئيين هما حركة الحياة الجارية، وبسمات الغيد. وكأنه رأى فيهما معاني تفكيره وتأملاته وأحلامه، أو استبان فيهما رمزا للحياة وما تجيش به من معلوم ومجهول. والمياه الجارية، كالأنهار والبحار، حين ترفرف عليها روح الفنان وتناجيها تقول كثيراً وتفضي بأحاديث طويلة قد يفهمها القلب ولا يفهمها العقل، ذلك لأنها لا تتكلم إلا بلغة الأبد، أنها تلغز وترمز ولا تفصح أبداً.
. . . أنها ساكنة مرة وفي سكونها وداعة، ساهمة مرة، وفي سهومها وجوم وإطراق مثقل بالمعاني، مترنمة في بشاشة وحبور أحياناً، مرغية مزبدة في ثورة وعنف أحياناً أخر - وهي سافرة في الفجر، يتكئ النور الوليد على صدرها مغمغما في شوق وحنان، متلألئة في الضحى تتقبل قبلات الشمس في حبور، باكية في المساء مع الشفق، وقد تتدثر في الليل قناعاً كثيفاً من الظلام، وتتلو صلواتها في رهبة ووجل مما يخبئه الظلام، وقد ترتدي غلالة شفافة من ضوء القمر وتغني جزلة طروبة - وفي كل حال لها حديث، وفي كل مرة لها مناجاة. . . وما أحلى حديثها الحافل بالأحاجي والأسرار!
وبسمات الغيد. . .؟
بسمات العذارى والفتيات فيها خلاصة الحياة كلها عندما تصفو الحياة من الأكدار وتترفع عن التفاهة والدنايا والصغار، لأنه رمز للمرأة في حالة الإقبال والصفاء، وإذا أقبلت المرأة، أقبلت الحياة، وسخت بكل غال نفيس!
ففي الشفاء والوجنات بهجة الربيع ونضرته، وتفتح وروده وأزاهيره، وحرارته الحلوة التي تبعث الحياة من جديد وتشعل الحيوية الراكدة
في العيون تحتشد الأسرار العميقة المتلاطمة التي لا يسبر لها غور. . .
وفيها السحر الذي يستبيننا، ونرى فيه لمحة مما وراء الوجود من خفايا وأسرار، وفيها الحلاوة العذبة التي ترقينا، وفيها القوة الآسرة التي تستبد بنا
ومن معاني الابتسامة الحنان. . .(638/33)
والحنان آصرة تآلف وامتزاج
وأسمى لحظات العمر عند الفنان - وعند الإنسان عامة - هي تلك التي يخرج فيها عن حدود ذاته ليمتزج بقوة أخرى ويصبح بعضا منها، ويمتلئ خاطره ووجدانه بالمعاني المستمدة من معانيها.
ومن معاني الابتسامة الفرح، والفرح معدن الحياة الأصيل، وهو الإحساس الذي يتوج أعمالنا وأفكارنا عندما يسيران وفق قانون الحياة، وهي دليل السعادة، والسعادة قبلة الحياة!
وفي الابتسامة شعاع من نور من لدن العلي القدير فاطر الحسن وبارئ آياته يشعر الإنسان أنه على مقربة من السماء مصدر الصفاء والضياء إن ابتسامة المرأة - أحياناً - أكبر من المرأة ومن الحياة!
وكان لوناردو لا يرسم صور الأشخاص إلا في الضوء الباهت الخافت عندما تكون السماء غائمة، أو قبيل الغروب حين يمتلئ الجو بالإيحاءات المبهمة والغمغمات الصامتة التي تغلف عواطفنا بسحابة رقيقة من الصوفية الغامضة المشوقة إلى المجهول وتكتسي الوجوه بذلك السر الذي يكسبها سحراً وحلاوة. وكان لا يتعجل ولا يعمد إلى الرسم في كل حين، بل كان ينتظر صابرا تلك اللحظات التي تتفتح فيها بصائرنا ونعيش في عالم أكبر وأحفل بالاحساسات من العالم الذي نعيش فيه عادة، كان ينتظر تلك اللحظات، لحظات الـ وعندئذ لا يبخل بالمجهود ولا يضن بالمشقة حتى إذا كان بعيداً عن مكان عمله. وكثيراً ما كان يقطع المسافات الطويلة ليصل إلى ذلك المكان وليعمل دقائق قليلة فقط! وفي هذه الدقائق كان الفنان يضيف إلى عمله جديدا يعتد به.
ترى لم اختار لوناردو (موناليزا) ليجعل من صورتها رمزاً لذلك اللغز الخالد الذي نسميه المرأة؟
هذا ما لا ندريه.
كانت (ليزا جيرالدين) إحدى بنات الطبقة الممتازة في فلورنسا وقد تزوجها (فرنسسكو دل جيوكندو) عام 1495، ولم تكن على درجة رائعة من الجمال أو على شيء من الامتياز في بيئتها.
وعندما شرع لوناردو في رسم صورتها كانت في ربيعها الرابع والعشرين ولم ينته منها إلا(638/34)
عندما قاربت الثلاثين!
ولعله لم يعتن بعمل من أعماله الفنية مثلما اعتنى بهذه الصور.
وواظبت ليزا على الحضور إلى مرسم الفنان كل هذه السنوات لتجلس أمامه جلستها الخالدة؛ وكان هو يجلب إلى مرسمه الموسيقيين والشعراء ليسمعوها أطرف ألوان الموسيقى وأبدع قصائد الشعراء حتى ينضج وجهها بذلك التعبير العبقري الذي حفظته لنا هذه الصورة الفريدة.
والصورة تمثل ليزا جالسة أمام شرفة رخامية وقد تجردت من كل الحلي والزينة، مرتدي ثوباً بسيطا وعلى رأسها غطاء خفيف شفاف. وقد وضعت يدها اليمنى - وهي أجمل يد رسمت في تاريخ فن التصوير كله - فوق يدها اليسرى ومما يلاحظ خلو عينيها من الأهداب والجفون.
ونرى خلفها منظراً من مناظر الطبيعة في جبال الألب قوامه الصخور والينابيع الجارية - وهذا المنظر في حد ذاته لا يقل حيوية وحرارة عن الصورة نفسها وكأن لوناردو قد أراد أن يجمع كل شيء هامت به روحه في صورة واحدة. وقد وفق، فالصورة فيها تلك البسمة الخالدة. وما توحيه من معان، وفيها المياه الجارية وما تثيره في النفس من احساسات.
وكان لوناردو مشغولا بأعمال أخرى كثيرة إلى جانب صورة (ليزا) ولكن هذه الصورة وحدها كانت تستبد باهتمامه وكان يعود إليها كما يعود التعب المجهد إلى ملاذه الذي يجد فيه الراحة بعد العناء، والسعادة بعد الشقاء، والعزاء بعد الخيبة واليأس.
ولم يفرغ منها إلا بعد خمس سنوات. وقد اعترف أنه لم يفرغ منها تماماً.
ومنذ ذلك الحين (الجيوكانده) نبع وحي وإلهام لا يغيض، فكم تحدث عنها واستوحاها الشعراء والفنانون والكتاب، وكم سجل عنها الأدب والشعر من روائع باقية، وما زالت (ليزا) توحي المعاني والأخيلة إلى عشاقها وعشاق الفن والجمال. . . ولعلها - إذا أبقي عليها الزمن - ستظل مصدراً من أخصب مصادر الوحي والخيال.
ذلك لأن صورة (ليزا) خلاصة عناصر كثيرة: كان لوناردو عندما يجلسها أمامه يستنهض كل احساساتها ويستجيش أنبل عواطفها ومشاعرها وأفكارها عن طريق ما كان يسمعها من موسيقى وشعر.(638/35)
وأغلب الظن أنه لم يتقيد بالطبيعة تقيداً مطلقاً بل أضاف إلى ملامحها وتقاطيعها شيئاً من عنده ضنت به الطبيعة على (ليزا). والآلهة تحنو دائماً على كل عمل فني كبير فتنفح الفنان بعضا من روحها وتهبه من سرها.
وصورة (ليزا) جمعت هذه العناصر على خير مثال.
أنها ليست صورة امرأة تعيش بعقلها وعواطفها وغرائزها في دنيا الناس الحافلة بالصغائر - أنها امرأة ولكنها ليست كالنساء يستغرق العيش في صورة المادية الخامدة الخاملة كل قوى الحياة في نفسها. أنها صورة امرأة تحررت وخرجت من الوجود الضيق لتعيش في الكون الكبير فاستيقظ كل ما في نفسها من عناصر وملكات، وغدت نفسها مرآة للكون الكبير.
أترى لوناردو أراد أن يجعل منها رمزا لخلاصة ما يعتمل في نفسه من معان، وبدلا من أن يكتب كتابا يضمنه فلسفته رأى أن يرسم صورة ولم يجد خيرا من ملامح (ليزا) وتقاطيعها لإبراز ما تجيش به نفسه الكبيرة من معان وأحاسيس؟ قد يكون. .! فقد كان لوناردو كما قلنا ملاحاً متقحما يجوب بحار الحياة التي لم ترها من قبله عين، وكان يعيش دائماً في المنطقة الدقيقة التي تفصل بين المعلوم والمجهول يفعم قلبه الشوق وحب الاستطلاع ويبهر عقله وعينه ما يتكشف له من عظمة وجلال وجمال.
ولقد أفلح لوناردو في أن يحيط (ليزا) بمثل هذا الجو ويثير في نفسها كل عوامله عن طريق ما كان يسمعها من شعر وموسيقى والنتيجة هي أن ارتسم على وجهها كل معانيه: فالتعبير الذي ينطق به وجهها فيه كثير من اليقظة والحيوية ولكن فيه أيضاً شيء من الدهشة كأنها تحيا حياة غريبة لا تستطيع فهمها ولكنها حياة فاتنة فيها نوع من السحر الخفي. وفي عينيها شيء من الفتور كأنها متعبة، ولكن فيها أيضاً شيء من العزم والمضاء كأنها - رغم التعب - لم تمل، وكم تحتوي هاتان العينان من أفكار غريبة وأحلام آبدة واحساسات رقيقة غامضة.
وكم فيهما من سخرية وترفع، وكم فيهما من الانطواء على النفس ورباطة الجأش كأن صاحبتهما تعيش (فوق المعركة). . .
ذلك بعض ما توحيه الجيوكانده، وهو نفسه ما توحيه حياة لوناردو. ولكم سخر (تيوفيل(638/36)
جوتييه) من المرأة وشخصيتها وجمالها في قصته (مدموازيل دي مويان) ولكنه وقف أمام الجيوكانده وقفة العابد المتأمل وقال: (من أي كوكب وفد ذلك الكائن الغريب ذو النظرة التي تعد باللذات المجهولة وذو التعبير القدسي السخرية؟ إن لوناردو يضفي على أشخاصه طابع سمو يجعلنا نحس بالارتباك في حضرتهم. إن الضوء الخافت في عينيها العميقتين يخفي أسراراً محرمة على الغافلين ولغة شفتيها الساخرتين تلائم الآلهة الذين يعرفون كل شيء ويحتقرون في رفق غلظة البشر.
(أي إصرار مقلق وأية سخرية مترفعة في هاتين العينين الداكنتين وهاتين الشفتين المتموجتين كقوس الحب بعد إطلاق سهمه).
(إن جبينها يشع ذلك الصفو الذي تحسه امرأة موقنة أنها أبدية الجمال، وأنها أبعد شأوا من كل مثل الشعراء والفنانين).
وقال عنها الناقد الإنجليزي ولتر باتر ما معناه (إن في وجهها خلاصة أفكار وتجارب الدنيا: فيه حيوانية اليونان، وشهوانية الرومان، وصوفية العصور الوسطى وما فيها من طموح روحي وعشق خيالي، وفيه ردة الوثنية وخطايا آل بورجيا. أنها أوغل في القدم من الصخور التي تجلس بينها. وكأنها قد ماتت وبعثت عدة مرات وعرفت أسرار القبر وغاصت في البحار العميقة، واحتفظت لنفسها بسرها، وساحت مع تجار الشرق سعياٍ وراء المنسوجات الغريبة. ولقد كانت - مثل ليدا - أما لهيلين الطروادية، ومثل القديسة آن أما لمريم. ولم يكن كل هذا لديها إلا نغمات القيثار والناي وما فعلته بقسماتها وأجفانها ويديها)
تلك هي قصة الجيوكاندة. فيالها من درس احفل بالمعاني من أضخم الكتب! أنها تجعلنا نؤمن بعظمة الإنسان ومجده إذا خلص من الدنايا وشغل نفسه بالمعاني السامية التي تحفل بها الدنيا. . . أنها تعلمنا إلى أي آماد تستطيع أن ترقى المرأة. . . من منا يعيش مع (موناليزا) أياماً أو ساعات ولا يتبدل مثله الأعلى في المرأة والجمال: أنها تسمو بأفكارنا وعواطفنا وتدخل على قلوبنا الفرح وتهز من قوى الحياة في نفوسنا ما يجعلنا نستمر في طعم العيش ونمجد قوى الحياة، وما يلبث أن يهتف في نفوسنا هاتف يقول: لم لا نلتمس في الحياة نفسها ما عثرنا عليه في الفن؟ وهكذا يوجه الفن أبصارنا إلى أعلى ويعلمنا الإحساس بالجمال والتماسه فلا نقنع بما تقنع به النفوس الخاملة المستغلقة.(638/37)
ولقد آلت هذه الصورة إلى الملك فرنسوا الأول واحتفظ بها في فنتنبلو. ثم نقلت إلى قاعة لويس الرابع عشر في قصر فرساي ثم استقر بها المطاف في متحف اللوفر. وهناك سرقت مرة ثم أعيدت.
وآخر أخبار (الجيوكاندة) أن الهر هتلر قد نقلها إلى قصره الريفي في برختسجادن وأنه - برغم متاعب الحرب والسياسة - يجلس أمامها كل يوم ساعات متأملا مستوحياً ولعلها تلهمه بعض العزاء.
نصري عطا الله سوس(638/38)
أشواق إلى الحرية. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميس
هَتفتُ: يا حُريتي ضُمِّيني!
هُمْ في ظلامِ العيشِ قَيَّدوني
لكنهم لن يُطفِئوا يقيني ... فَرقرِقي سَناكِ في عُيوني!
إني وراء هذه القضبانِ
أرنو إلى رحابةِ الأكوانِ
أَسألها عنكِ وعن هواني! ... والقيدُ يا حرَّيتي يُدمِيني
أنا لكِ العصفورُ يا سمائي
أعْتَصِر الأشواقَ من دمائي
أغرودةً وَقعَها شقائي ... على رَبابي الثاكلِ الحزين
قد طالَ يا حُريةُ اشتياقي
إلى عُبوري مسبح الآفاق
يَملأني الحبورُ في انطلاقي ... حتى إلى مجاهلِ المنونِ!
أضأتِ يا حريتي تفكيري
فأيقظي بما أرى شعوري
هاتي جناحي! أفسحي مطيري! ... لَبيك يا عَقيدَتي وديني!
هذا أنا أُحطمُ الأغلال
مُعتنِقاً حريتي، مختالا
مبتهجاً أقتحم الأهوالا ... مُغرِّداً للحق واليقينِ
أبتِ التي أوسَعتِ لي حياتي
أشْعرتِني بأنني لِذَاتي!
أقْسمتُ ليسَ تنحني قناتي ... لِغير خالقي الذي يُغْنيني
أَيتُها الحريةُ الحسناءُ
ترخصُ في سبيلكِ الدماءُ(638/39)
وتلتقي الحياةُ والفناءُ ... عندكِ يا أنشودةَ السنينِ
يا قوةَ التحريكِ والتحريرِ
لو كنتِ قد نبضتِ في الصخورِ
انْتَفضتْ كالحيِّ بالشعورِ ... حتى. . . لِوقعِ النورِ والدجونِ!
لولاكِ لم ينطلقِ الهواء
ولم يَطفْ حول الدنى ضياءُ
ولم يَكُ الوجودُ والأحياءُ ... سوى طلول عالم سجين
يا فَرحةً موصولةَ الخلودِ!
بروحكِ المقدَّسِ السعيدِ،
يهُبُّ طيرٌ مُلهمُ النشيدِ ... إلى سماءٍ طَلقةِ الجبينِ
يا ثورةً تطاردُ الهوانا
وتهلكُ الطغاةَ والطغيانا
وتمنحُ استقلالهُ الإنسانا ... وتبسطُ العدلَ مدى القرون
أيَّانَ قامَ شرعُك الحبيبُ
تساوتُ الأفراد والشعوبُ
تخفقَ في صدورها القلوبُ ... بريئةً من سُحبِ الشجونِ
يا هِبة الإلهِ للمخلوقِ
بِسِركٍ المهَيمنٍ الطليق
تقطعُ بي هناءتي طريقي ... إلى خفايا السحر والفتونِ
حريتي أمستْ أعزَّ مالي
بها أُحسُّ فتنةَ الجمالِ
ولا أَرَى بدونها كمالي ... نشأها الرحمن في تكويني!(638/40)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)
كتبت الكلمة التي نشرت في العدد الأخير من الرسالة حين اطلعت على تلخيصكم كتاب الدكتور عمر فروخ. ثم اطلعت في هذا العدد على كتابه بنصه فعرفت أن الكاتب يدعي، والله يشهد أنها دعوى غير صادقة، أني سلخت من كتابه أربع قرائن: إشارة المعري إلى نظم اللزوميات، والإشارات التاريخية وأشهرها قصة صالح بن مرداس، وإشارة المعري إلى سنه، وإشارته إلى شيخوخته دون ذكر السن.
فأما الأولى فهي في كلام المعري نفسه في مقدمة كتابه ولا يحتاج قارئ اللزوميات أن ينقلها عن أحد. وأما قصة صالح فيعرفها كل من قرأ تاريخ المعري. وقد ذكرها الدكتور طه حسين في كتابه ذكرى أبي العلاء قبل ثلاثين عاماً، وفصل القول فيها عبد العزيز اليمني في كتابه عن أبي العلاء، وذكرت في كتب أخرى. وأما ذكر المعري سنه وشيخوخته فكل من قرأ اللزوميات وفهمها يستطيع أن يتتبع الأبيات التي تحدث فيها المعري عن عمره؛ فإن كان الكاتب يجادل في أني قرأت اللزوميات فمن شاء الجدال جادل، وإن كان يصدق أني قرأت اللزوميات فهل يصدق أني أمر بهذه الأشياء فلا أدركها وإنما أقرأ اللزوميات قاصداً تاريخها؟ ليعلم الدكتور عمر أني كتبت عن أبي العلاء رسالة قبل خمس وعشرين سنة وأني أكاد احفظ اللزوميات حفظا.
ثم قد فطنت في بحثي إلى ما هو أدق وأخفى من هذه القرائن التي يدعي الدكتور عمر أني سلختها من كتابه؛ فطنت إلى ما خفي عليه ودق على فهمه، فعرفت إشارة المعري إلى وفاة الحاكم الخليفة الفاطمي، وإشارته إلى وفاة الوزير المغربي، وبينت من محمود ومسعود اللذان ذكرهما ومن آلك المذكور في قوله:
(سيموت محمود ويفني آلك). وفطنت إلى ترتيب الأوزان في اللزوميات، وهذه هي الدقائق التي تحتاج إلى علم بالتاريخ والأدب واستنباط.
فهل يدعي أني أخذتها عنه كذلك؟ أو هل يظن أن الذي استخرج هذه الخفايا دون سلخ من كتابه يعجز عن إدراك القرائن الواضحة التي ذكرها؟
وقد تكلم عن توارد الخواطر. وليس الأمر من باب توارد الخواطر؛ بل هي معان ماثلة(638/41)
وعبارات واضحة في شعر المعري يدركها كل أديب. وليس فيها خواطر أو هواجس.
وقد قلت أني لم اطلع على كتاب فروخ قط، وقال هو إن كتابه أرسل إلى العالم العربي والى لندن، وأن (العالم الحقيقي لا يهجم على عمل مثل هذا إلا بعد أن يتقصى الكاتب ويفتلي الكتب والمجلات).
فإما إرسال كتابه إلى لندن أو إلى الصين فلا ينفي ما قلته صادقاً، أني لم اطلع حتى هذه الساعة على كتابه. وأما أن العالم ينبغي أن يتقصى المكاتب فقد أردت أن أستخرج من اللزوميات أبي العلاء تاريخها فلم يكن لي مصدر سواها. وإن كان جهلي كتاب عمر فروخ عيباً فأنا لا أخفي عيبي وأقول خجلا: إني والله أجهل عمر فروخ أيضاً. وأقر بهذا الذنب، فليغفر لي ولا غضاضة عليه في هذا فقد جهلني هو فلم يعرف أخلاقي وسيرتي.
وبعد فقد كان حسب الدكتور عمر أن يقول رجل مثلي أنه لم يطلع على كتابه. كان هذا حسبه لو كانت أخلاقنا تستعظم أن يكذب باحث ديدنه طلب الحق مخلصاً. لو كان لنا نصيب من أخلاق العلماء لكان قولي فيصلا في القضية.
وأختم كلامي في هذا الموضوع بأن أقول: إني أرى من هواني على نفسي وضياع وقتي، أن أشغل نفسي بجدل ابتدأه صاحبه بهذا العدوان وهذا الافتراء وهذا التسرع. فلن أكتب من بعد في هذا الموضوع حرفاً. فمن شاء أن يجادل بالباطل ليعرف بنفسه فلا حيلة لي فيه.
عبد الوهاب عزام
المعري وعين سلوان:
أبو العلاء المعري (نابغة الأدب العربي) أعجوبة من أعاجيب الزمان، فقد كان وهو منقمع قابع في حجرته يطل على الدنيا فيعلم مجهولا، ويرى خفياً.
هذه عين سلوان، قل من يعرف من أهل القدس خاصتهم وعامتهم - وسلوان قرية تجاورهم - أن ماء تلك العين يقارب في ملوحته ماء زمزم.
إن أبا العلاء قد عرف ذلك، وذكر الماء وعينها في شعره فقال في لزومية:
وبعين سلوان التي في قدسها ... طعم يوهم أنه من زمزم
وقال في لزومية أخرى:(638/42)
سيحان للروم عذب، ليس مورده ... ملحا كزمزم أو عين بسلوان
هذا المعري الضرير، في قلبه ألف عين.
(الوحدة)
(السهمي)
رسالة إلى (الرسالة):
عاد من رحلته إلى فلسطين صديقنا الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد؛ وقد كان في هذه الرحلة القصيرة موضع التعظيم والتكريم والأستاذية: يدعى فيجيب، ويستفاد فيفيد، ويستفهم فيفهم. وفي العدد القادم سننشر أولى مقالاته بعد عودته وعنوانها: (رسالة إلى (الرسالة)).
عتاب
قرأت بحثاً قيماً للأستاذ فؤاد عوض واصف في العددين 633و634 من مجلة الرسالة تحت عنوان (التاريخ ما هو) استعرض فيه علم التاريخ وما دار حوله من نظريات منذ العصور الأولى حتى العصر الحاضر وحاولت عبثاً أن أجد ولو كلمة عابرة عن جهود العرب وخدماتهم في كتابة التاريخ وتطوره فلم أظفر بطائل، ولعل ذلك راجع إلى أن الأستاذ اعتمد في كتابة بحثه على مؤلفات أجنبية تغفل في أكثر الأحيان فضل العرب والمسلمين. وإذا أجمع علماء العرب مع الأسف على أمر خطأ لا يعني ذلك أنه صار صواباً، وإذا كانت أوربا العصور الوسطى مظلمة تمزقها منازعات الملوك والأمراء وتفتك بها حروب دينية شعواء لا يعني ذلك أن أوربا هي العالم وإن تاريخها تاريخ العالم، لأن العالم الإسلامي في ذلك الوقت كان يغمره النور ويسوده الأمن والسلام، وإذا تعامى الغرب عن هذا النور فما أجدرنا أن ننبه أنفسنا وأولادنا والدنيا إليه.
جاء في المقال الأول (وحتى القرن الثالث عشر الميلادي كان التاريخ في معظمه وقائع وأخباراً دينية) وهو قول ينطبق على مؤرخي أوربا المسيحية ولا ينطبق على مؤرخي العرب أمثال ابن جرير والمسعودي وابن الأثير وغيرهم كثير لأن مؤلفاتهم ليست في معظمها أخباراً دينية، إنما كانت تسرد أخبار الدولة وأسباب قيامها وسقوطها ووصف البلاد(638/43)
مع ضجة الأخبار ودقة الوصف ولا سيما ما اختص بالدول التي نشأت بعد الإسلام. كما أنه لم يشر إلى ابن خلدون شيخ مؤرخي العرب الذي قال عنه بحق الأستاذ (فلنت) الإنجليزي أنه (واضع علم التاريخ) مع أنه ذكر مكيافلي (واضع علم الغدر السياسي) الذي ذاق منه العالم ولا يزال الشيء الكثير. أشكر الأستاذ على بحثه القيم الشامل وآمل إلا ينسى أجداده العرب حينما يمرون به في أبحاثه المقبلة لأنهم أهله وعشيرته وموضع فخره وعزته.
(غزة - فلسطين)
حلمي أمان
تحية الشعر:
(مهداة إلى الطبيب الأديب الكبير مصطفى الديواني مؤلف
(صديق العائلة))
سألتك يا مصطفى فلتجبني ... كتابك من أي سحر وفنّ؟
كتابك علمٌ وشدو معاً ... فهل كنت تكتبه أم تُغني؟
كتابك في الضاد حلم الزمان ... تحقق للناس بعد التمنّي
بلغت به منزلاً في الخلود ... يزيد على كلّ وهم وظنّ
وأُقسم من يهتدي بهداه ... فقد لاذ من كل سقم بحصن
ومن عجب أن يصوغ الطبيب ... كتاباً أراه عن الطبّ يُغني!
(المنصورة)
علي متولي صلاح
وطرابلس الغرب أيضاً:
قرأت ما سجلته مجلتكم الغراء في عددها 135 للأستاذ حسن أحمد الخطيب بعنوان (مراكش العربية تستصرخ) فله خالص الشكر على هذه الروح العربية التي نتمنى أن(638/44)
نلمسها في كل كاتب.
وأحب أن أقول: إن بلادنا طرابلس الغرب التي تتاخم مصر من الغرب لها نفس هذه الاستغاثة وهي تطلب من جميع رجالات العروبة ومن جميع من يهمهم شأن البلاد العربية المقسمة بين الدول العظمى أن يلتفتوا إلى هذا الجزء من البلاد العربية التي تعتبر وحدة لا تنفصم، وأن يعيروه بالغ اهتمامهم وأن يرقبوا بعين ساهرة متيقظة ما يجري في هذه الأيام حول بلدنا المسكين من مساومة وجذب إلى اليمين والى اليسار، وأن يعلموا أنه قطر مستقل استقلالا تاماً بمقتضى المعاهدة التركية الإيطالية سنة 1912، غير أن إيطاليا أضاعت ذلك الاستقلال وأبعدت ذلك القطر من المحيط العربي، ويطلبوا - والحق يؤيدهم - إرجاع ذلك القطر العربي إلى ما كان عليه من الاستقلال.
وإن جميع الطرابلسيين لينظرون بتلهف إلى مجهود هؤلاء الرجال الذين نستطيع بمساعدتهم وحسن مسعاهم أن نشق طريقنا ظافرين منتصرين وهذا هو وقت العمل فإلى الأمام جميعاً.
(رواق المغاربة - الأزهر)
علي محمد المسلاني
أول وزير
كتب الأستاذ محمود عزت عرفة في عدد (الرسالة 635) كلمة تحت عنوان (قرد وحمار)، ونقل فيها حكاية تروي عن ابن عباس من كتاب (نشوار المحاضرة) للقاضي التنوخي، وفيها كلام عن الوزارة والوزير (وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء)
وقد تكون هذه القصة صحيحة، ولكن روايتها عن ابن عباس بعيدة كل البعد، ذلك أن ابن عباس رضي الله عنه توفي في النصف الثاني من القرن الأول، وأذكر الآن أنه توفي في حدود الثمانين، وقد حضر مقتل عبد الله بن الزبير في سنة 73 من الهجرة وكان قد كف بصره في ذلك الحين، وإن أول من لقب بالوزارة أبو سلمة الحلال وزير عبد الله السفاح في سنة 132 من الهجرة، على أن ما كان ينال الوزراء من حبس وقتل واستصفاء لم يشع(638/45)
إلا في القرن الثالث والرابع، وإن كانت قد وقعت حوادث قبل ذلك لم تبلغ حد تبغيض الوزارة إلى الناس، كما حدث مع أبي سلمة هذا، ومع أبي مسلم الخراساني ومع البرامكة.
ومثل هذه الحكايات، والأضاحيك التي تروج بين العامة إنما تتناول أمراً مشهوراً واضحاً بارزاً.
فلعل الأستاذ اخطأ فنسب الرواية إلى ابن عباس، أو لعله غفل عن خطأ صاحب (نشوار المحاضرة)
(بنباقادن)
علي جلال الدين شاهين
من هو ابن الحنفية؟
قرأت كتاب (على ضفاف دجلة والفرات) للأستاذ طاهر الطناحي، غير أنه لفت نظري قول الأستاذ في صفحتي 15و101 أن محمد بن علي بن الحسين هو المعروف بابن الحنفية، ولم أفهم حتى الآن أن محمد بن علي بن الحسين عرف بهذا اللقب، غير أنني أعرف أن ابن الحنفية هو (محمد بن علي بن أبي طالب)
(الكويت)
فاضل خلف
الشيخ ثابت فرج الجرجاوي
في ضحوة يوم الأحد الثاني من سبتمبر الجاري، توفي المغفور له الشيخ (ثابت فرج الجرجاوي) وقد جاء في نعيه الموجز أنه. . . عالم جليل وخطيب مفوه ووطني صادق. . . ولكن قليلا من القراء من حملت إليهم هذه النعوت معنى خاصاً عن حياة الفقيد، أو سجلت في خواطرهم صورة واضحة من حاضره وماضيه.
عكف الفقيد منذ فجر حياته على الدراسة بالأزهر الشريف، حتى أحرز فيه العالمية الأهلية؛ ولكن حماسته الفطرية، وتحفزه ونشاطه اللذين لازماه إلى آخر أيام حياته، ثم موهبته الخطابية الممتازة، ونعرته الوطنية الصادقة، الجارفة. . . كل هذه الخلال دفعت به(638/46)
إلى الانغمار في تيار السياسة، انغمارا نبه من ذكره ورفع من شأنه، وكشف للناس عن ينبوع ثر من عبقريته ومواهبه. وقد اعتقل الفقيد بين من اعتقلوا في حوادث عام 1916. ثم نفى إلى مالطة في ركاب الزعيم الخالد سعد زغلول، وكان هذا الحادث أنصع نقطة في صفحة حياته، كما كان يقول - غير مرة - عن صدق ويقين، ولما استقرت الأمور في نصابها وعاد إلى وطنه، كان أحد أولئك الذين لم يلتمسوا من وراء جهادهم الثروة أو الجاه، وإنما اندمج في سلك التعليم يؤدي رسالته ساكناً متواضعاً، حتى انتهى به المطاف بعد سنين إلى نظارة مدرسة أولية في بلدته جرجا.
وهنا تبدأ صفحة أخرى من حياته كان فيها رجلا (اجتماعياً) من الطراز الأول؛ فما تأسس ببلده مشروع، ولا دعي إلى مصلحة عامة، إلا كان أول ملب وأسبق مؤيد ومؤازر. خطب في مئات الحفلات، ورثى وكرم، وودع ووعظ، وصنع على يده وعينه جيلا من الشباب كلهم يسلك نهجه ويأتم بهداه.
وكان شعر الشيخ ثابت متوسطاً في الجودة، ولكنه كان يضفي عليه الجمال كله يحسن إلقائه وتدفق بيانه. وكان إذا اعتلى المنبر شاعراً أو ناثراً، يهدر هدير الفنيق، ويزأر زئير الأسد، فترجف حوله القلوب، وتشد إليه المسامع والأبصار. كان رجلا فحلا في قوله وعمله وأخلاقه. . . بل وفي منظره، فهو ابن الثورة ورييبها ومذكي ضرامها حقاً. وكان - على هذا - رقيق العاطفة حلو الدعابة بارع النكتة، سمحاً نقي السريرة لا يكن لمخلوق عداوة؛ ولقد شهدته غير مرة ينشج بالبكاء في مواقف الرثاء، بل وفي بعض مواقف التوديع!
ومن شعره الذي يدور على الألسنة منذ عهد الثورة قصيدته التي يقول في مطلعها:
وطني عزيز لا أروم سواه ... مهما تسوَّرت العدى مبناه
ولا تتسع هذه العجالة لإيراد شيء من كلامه، وإنما نختمها بالإشارة إلى مبلغ نشاطه حتى في آخر لحظات حياته؛ فقد كان رحمه الله - على أصابته بالفالج الجزئي منذ سنوات - يشغل منصب النظارة في مدرسة أولية كما ذكرنا، وكان وكيلا ومدرساً بالمعهد الديني المنشأ حديثاً في جرجا، ومدرساً بجمعية المحافظة على القرآن الكريم، ورئيساً لرابطة التعليم الأولى والإلزامي، ورئيساً لجمعيتي نهضة القرى ومنع المسكرات بجرجا، والريب أن جميع هذه المنشآت يكاد يرجع إليه وحده فضل إنشائها!(638/47)
تلك نبذة موجزة عن حياة الشيخ ثابت فرج تؤدي بها حق الوطن والتاريخ. والله يرحمه ويحسن جزاءه. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة(638/48)
القصص
من الفن القصصي الحديث
حينما كان طيباً!. . .
للكاتب الفرنسي هنري لفران
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
قالت مدام (دي برسي) وهي تحاور زوجها: (إذا كنت تبغي أن تلم بهذا الشأن، فألزم أذنك الإصغاء. . . فسرده يعوزه الهدوء ريثما آتي عليه. . .)
فنبس زوجها في لهجة فيها شيء من الجفاء: (كمشيئتك. . . أني إذن صاغ إلى حديثك!)
فعاد صوتها يرن، وقد شابه الارتجاف كأنما ينم عن نفس مضطربة، قالت: (حسن!. . . إن الحياة معك لا يمكن أن تدوم، وسأتجلد حتى الصباح. . . إنك رجل شريف، لا شك في ذلك، ولا يمكنني أن ألصق بك عيباً، فأنت لم تعمل يوماً على المخاتلة والخداع. . . أما أنا فلا أقل عنك إخلاصاً ووفاء مذ ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام النفس يعقد لنا. . . ولكنا أحسسنا بعد ذلك أن مشاربنا متباينة، وإني لأعلم أن ثمة أناس لا يقلون عنا تبايناً واختلافاً. . . بيد أن حالتنا لا تطاق، فكل إيماءة مني تكدر صفاءك، وإني لموقنة أن هذا الشعور متبادل بيننا: عندما أتحدث يزعجك ذلك، وإذا ما ضحكت أنت تثير حنقي، وكذلك صمتنا يموج بالحقد والبغض. . .
هذا أمر لا يحق إغفاله، فأنت تورد ما لا أستطيعه، وإني لا أجد فيك بغيتي ومرامي، لأنك بهلق، لا تثبت لحديثي ولا تستلمح إشارتي، بل تعتقد أنني أنغص عليك عيشك في كل عمل آتيه، حتى وقع أقدامي وارتداء ثيابي! أليس هذا هو عين الحق؟ أني لألمح فيك - وأنا أتحدث الآن - نزعة إلى أن تهم بإلقائي من النافذة).
فقال زوجها في غمغمة: (حسن! ماذا أيضاً؟!)
- لقد انتهى بي الفكر إلى أنه يجب علينا أن يعيش كل منا على حدة. . . ليس هذا بخطئي ولا بخطئك. . . أنه خطؤنا معاً. . . وعلى كل حال فهذه هي الحقيقة العارية عن كل لبس وريب، فكلانا لم يخلق لصاحبه، وربما كانت السعادة إذا ما انفصلنا. . . ليس هناك ما(638/49)
يمنع من انفصالنا كأصدقاء. . . فما رزقنا الله طفلا نتنازع عليه، وكل منا له دخل يغنيه عن صاحبه
- لن أنحى باللائمة عليك، فهذا هو السبيل الذي سلكه كل فرد من أفراد أهلك (آل برسي) من الأب إلى الابن، وكان والداك - كما أنبأتني - على غير وفاق، لم يفلحا في العيش معاً أكثر من أسبوعين، وهذه هي العلة في أنك الابن الوحيد لهما. . . وأخيراً يجب علينا أن نقلب أوجه الرأي في الطريق اللائق إلى الانفصال!
وكان (مسيو دي برسي) يتلقى ذلك السيل الجارف بهدوء وسكينة، ويهز كتفيه من حين إلى حين، أو يقلب شفتيه في زفرات تنم عن نفس مضطربة أو قلب مكلوم. . . راح يقطع الغرفة في خطوات واسعة، ويداه معقودتان خلفه، كما كان يفعل (نابليون بونابرت) عندما تسير الأمور بما لا يشتهي. . . وإذا ما كفت زوجته عن الحديث واجهها، وأخذ يصعد فيها طرفه في اضطراب من جرحت كبرياؤه ومست كرامته قائلا: أأفرغت جعبتك؟)
- بلى، لقد أتيت على كل ما كان يجيش في نفسي
- إذاً، كما تودين يا عزيزتي. . . أنت ترغبين في الانفصال. وسأجيبك إلى طلبتك، وسيعيش كل منا في عزلة عن الآخر - أنت حري بأن تفعل ما تراه!
- شكراً. . . ولكني أمنعك من الاتصال بغيري
- إن هذا لا يدور بخلدي. . . إذا ما انفصلنا فسأعيش لنفسي، ولن أجد في طلبة غيرك. . . لقد كنت مخلصة لك في زواجي، وسأظل على إخلاصي في عزلتي. . . أليس هذا ما ترمي إليه؟!
- لا، ليس هذا كل ما أود، فينبغي أن يعرف كلانا مصير صاحبه!
- مصير صاحبه! أننا نعلمه جيداً، راحة وهدوء، ثم طعن في العمر، وأخيراً المقبرة حيث المثوى الأخير.
- ليس هذا! دعيني أتحدث! كل منا حر في اختياره مصيره، ولكن هناك أمر يجب ألا نغفله، فيحسن بنا أن نجعل هذا الانفصال بيننا فقط، ويخيل إلي أنك تحبذين ذلك!
- حسن، ولكن هذا السر لا يلبث أن يذاع في النهاية!
- ليس طفرة واحدة، فيخف وقعه ووطأته، ولهذا يجمل بي أن أقول: أنه ينبغي أن ندر(638/50)
الرماد في أعين الأصدقاء، لكي لا ندع لهم مجالا للظنة والريب، فقالت الزوجة وقد اعتصمت رأسها بين يديها: (وكيف السبيل إلى ذلك؟!)
- ما دمت قد صممت على الرحيل في الغد، فلا يحسن بك أن تذهبي إلى أصحابك وأقرانك في الريف أو في الخارج، ارحلي إلى بريطانيا، هه. . ارحلي إلى (مينو) فامكثي هناك فترة لا يحد الضجر بها إلى نفسك سبيلا. . . إلبثني شهرين إذا أمكنك ذلك. . . و (مدام بنارد) - مدبرة قصرنا الريفي الذي نشأت فيه أن خلفني والداي - ستقوم على خدمتك والعناية بأمرك ما وسعها ذلك. . . أرجو أن تخبريها بحضوري على الدوام
- هذا لا تفكر في أن تأتيه؟. . .
- بلى، ولكن يجب أن تخبريها، وهذا المكان يشيع فيه الجمال والإبداع في التنسيق على مبعدة فرسخين من (جوراند) وعاصمة (باتر). . . وأعتقد أن قدميك لم تطأ هذه البقاع. . . مراتها مدرج طفولتي ومهد صباي. . . أنها تفوق بريطانيا حسناً وروعة. . . فلا تجعلي هذه الفرصة تمضي دون انتهازها!
- لقد حدثتني في لباقة وهدوء، وإني لا أود أن أغادر بيتك هذا على سوء. . . أبرق إلى (مدام بنارد)، فسأرحل إلى (مينو) وسأمكث شهرين!
- شكراً. . . سعدت مساء!
- لا، بل قل وداعاً. . . أنه فراق بيني وبينك!
ولم يرتعد صوتهما في هذا الوداع الأخير. . . ولكن قلبيهما. . . قلبيهما المعذبين. . . كانا يخفقان ويرددان: (أهذا حق؟! هل قطعت كل رابطة بيننا؟ أيفارق كل منا صاحبه؟ سنرى أيتها الفتاة. . . سنرى أيها الفتى!
أقبل شهر مايو، وهبت نسمات الربيع على الكون رخاء سجسجاً واتخذت (مدام دي برسي) أهبتها للرحيل إلى (مينو) في عدوة يوم أضحيان. . . والشمس تدلف في خمول، ولم نبلغ حرارتها أوجها بعد. . . بدا الساحل في فتنة وروعة لا تدانيها روعة. . . كأنه يبسم للشعاع والصبح الوليد. . . والأمواج تداعب بيانه في رقة وهي تتسابق إليه كالطفل يهرع متعثراً إلى ذراعي أمه. . . وتناثرت الحضرة في كل مكان. . . والرمال تبرق صفحتها كالدر المنثور. أنه لجو صحو يحلو لمن يبغي الهدوء والجمال. . .(638/51)
قضت (مدام دي برسي) أيامها الأول في تعرف محيطها الجديد. كانت سكناها في حجرة ذات جدر مكسوة بستائر صفراء مزركشة. . . وتطل هذه الحجرة على مناظر رائعة. . . فإلى اليمين السهل الفسيح وقد تناثرت فيه الصخور والنواتئ. . . والشجيرات ذات العطر والبهاء، والى اليسار يبصر المرء دغلا من الأشجار (الصنوبرية) السامقة تصفر بين جذوعها الريح فكأنها عزيف الجن والأرض العراء. . .
أرسلت (مدام دي برسي) طرفاً شارداً إلى أمتعتها المبعثرة والى تلك الحجرة المنسقة. . . فراحت تفكر جاهدة في تدبير غرفتها على نسق يلذ لها أن تراه. . .
إن الطبيعة لتقدم إلى أولئك اللائى يجتزن - مثل (مدام دي برسي) الأزمات الزوجية أجل المنافع. . . فالهدوء والسكينة والطمأنينة تعيد إلى نفوسهن شيئاً من المحبة والشوق إلى أزواجهن بعد انفصالهن، وتسكن في قلوبهن ذلك الخاطر الحزين الذي طالما يطوف بهن. . .
جلست (مدام دي برسي) تطوف الخواطر بخيالها. . . وتعد الذكريات إلى نفسها. . . فراحت تذكر أيام الطفولة البريئة الطاهرة ولعبها العديدة، ثم عندما بدأت عيناها تنظر إلى الحياة. . . وأول ثوب طويل لها. . . وأول رقصة رقصتها. . . ثم عندما كانت عذراء قبل زواجها؛ وأخيراً تلك الحياة الزوجية. . . كانت حياتها تنساب في غير تعثر، فما كانت تحفل بالقصص والفجاءات، ولا الحزن والمرح. . . وإنما كانت تسير سيراً عادياً تحدده عناية الله.
ومذ تسع سنوات كانت تأوي إلى مضجعها والأمل يداعب نفسها للغد القريب. . . وغابت التسع سنوات سراعاً، وهاهي ذي تعاني المرارة والألم. . . كانت تبغض زوجها وكذلك هو. وكثيراً ما كانت تبدي هذا البغض في أعمالها. . . أما هو فكان يبدي استياءه عند سيرها. . . أو ينفر من حديثها. . . بل يتبرم به. . . كانت أخلاقهما متباينة متنافرة. . .
ما كان زوجها بالرجل المرح الذي تصبو إليه النساء. . . بل كان جامداً عزوفاً عن المجتمع. . . ولكن فيه فطنة وحدة ذكاء مع سمو في الخلق وجلال في الخلال. . . ذو قلب مخلص حنون هادئ. . . بيد أنها تأبى أن تعاشره لاعتزاله المجتمع ونفوره منه، بينما كان في ريعان الحياة. . . وكانت تحس أن السعادة ستواتيها رويداً في عزلتها هذه. . .(638/52)
رضيت (مدام دي برسي) بصحبة (مدام بنارد) المدبرة الكهلة التي أقامت في القصر منذ بنائه. . . وكانت موضع تبجيل الجميع. . . فلم تكن بالخادمة. . . لقد ربت (مسيو دي برسي) وعنيت بنشأته. . . وما لبثت أن توثقت عروة المودة بين (مدام دي برسي) وبينها. . . لأن هذه العجوز كانت مع شعرها الأبيض وثوبها البسيط الأسود ذات روح طيبة مرحة ونفس مجربة مدبرة. . .
نهضت (مدام دي برسي) مع السيدة العجوز لتتجول في أنحاء القصر فقادتها إلى غرفة بالطابق الثالث. . . وقالت وهي تدفع بابها: (إني أرجو أن أطلعك على كل ما كان يمت إلى زوجك العزيز (مسيو دي برسي) في صباه؛ فهذه هي غرفة لعبه ونومه) وجذبت باباً لصوان عتيق مكتظ باللعب المختلفة وقالت: (هذه كانت لعبه عندما كان لا يزال دارجاً صغيراً).
ثم راحت تستعيد أغوار الماضي السحيق وتقول في صوت خفيض: (انظري، يا سيدتي. . . لقد كانت له عروس صغيرة يعبث بها ويقبلها ويقول: سيأتي اليوم الذي أتزوجك فيه يا عروستي. لقد كان على خطأ بلا شك، فعنده اليوم زوجة ما كان يخطر له أن يقترن بها) فلم تنبس (مدام دي برسي) ببنت شفة!. . وعادت (مدام بنارد) تقول (إن هذا يثير كوامن نفسك بلا شك!) - (نعم. . . يا مدام بنارد!) فتمادت السيدة العجوز في عرض كل ما كان يخص (مسيو دي برسي) في غرفة نومه. . . وكانت كثيراً ما يتشعب بها الفكر فتذكر اسمه القديم (لويس) فتعجبت (مدام دي برسي) من جهلها بهذا الاسم مع زواجها بصاحبه. . ثم شاهدت غرفة دراسته وكتبه وكراساته، وتناولت (مدام دي برسي) إحداها من المرأة العجوز التي كانت تقول في شوق وشغف (انظري!. . كم كان خطه جميلا عندما كان صبياً. . .) وقرأت (مدام دي برسي) في إحدى الصفحات عبارة بخط كبير (أين هو الحب؟!) ثم قالت (أود أن أخرج لأتنسم الهواء، فإني اشعر بدوار. . .)
مضتا في صمت إلى الحديقة. . . وكان نسيم البحر يلطف من جوها ويصفر في أنحاء الغابة الصنوبرية. وراحت السحب تمضي على مهل في صفحة السماء. . .
بلغت المرأتان شفير بحيرة تسبح في مائها الأزرق السابي بجعتان ناصعتا البياض تسميان: (جوبتر) و (جالو). . . فغمغمت مدام بنارد قائلة: (هذه هي البحيرة التي كان يقطعها سابحاً(638/53)
بزورقه. . . عندما كان صبياً. . . وقد كادت أن تطويه يوماً في مائها. . . أني لأذكر هذا اليوم طيلة حياتي). . .
وأدركتا نهاية المزرعة حيث كان ثمة مقعد قديم دارس نمت عليه الحشائش وكسته الأزهار. . . قالت مدام بنارد: (هذا مقعده حيث كان يجلس للقراءة. . .)
وفي جولتهما مرتا بفسيح من الأرض الخضراء، فارتفع صوت (مدام بنارد) قائلة: هذه هي الحديقة التي كان يفضلها ويقوم فيها برياضته. . .).
وعندما مرتا باصطبل للخيل. . . علقت فيه السروج والمواتر والسموط قالت مادم بنارد: (كان يقطن هنا بونيفاك!)
- (ومن بنويفاك هذا!؟.)
- (فرسه الصغير. . .)
وتنقلا من مكان إلى آخر حتى أتمتا سياحتهما وشاهدتا صحن الدار والحدائق والأدغال والريف المحيط بالقصر والطريق وفروعه وكل ما كان يخص (لويس) من أماكن كان يرتع فيها لاعباً أو لاهياً، ويجلس فيها قارئاً أو كاتباً. . .
كانت آثاره في كل مكان، فما تقدمت (مدام دي برسي) خطوة حتى بصرت بأثر جديد ينم عن زوجها إبان صباه. . . وقد لوحته الشمس ودرسه صرف الدهر. . .
فلما انقضت الجولة وآواتهما الدار من جديد. . . قصدا البهو حيث جلستا في فرجة شرفة تطل على البحر بأمواجه الراقصة. . .
وراحت مدام بنارد تسرد قصة (مسيو دي برسي) في طفولته وصباه في لهجة صادقة مخلصة: (لعلك تدرين أن والديه كانا على قسط وافر من الغرابة. . . ولكنني أدرى منك بذلك. . . قلما اتفقا على شيء. . . ولم يكن أحدهما غريباً عن الآخر، ولكن أخلاقهما كانت غريبة حتى أنهما عاشا منفردين طيلة زواجهما الذي لم يجتمعا فيه إلا أياماً معدودة. . . فإذا حضر الوالد إلى هنا، كان على المرأة أن تغادر القصر على الفور. . كان كل منهما مشغوفاً بسيدي (مسيو لويس) فهو ابنهما الوحيد. . . فضلا أن يدعاه هنا في كنف. . . فقمت أرعاه وأحدب عليه ما وسعني. . . فكان لي كل شيء في هذه الدنيا. . . وقضى والداه نحبهما وما زال في المهد صبياً. . . فحزن عليهما هذا التعس الشقي وكأنه يعرفهما(638/54)
حق المعرفة، ولو أني قضيت لما بكي على بكاءه عليهما مع أني ربيته ورعيته
أني أحيطك علماً بذلك يا سيدتي لكي تكوني على بينة من الأمر إذا لم يكن قد أفضى إليك به. . . وينبغي عليك أن تشفقي عليه فهو شقي تعس، وأحياناً تضطرب أعصابه فيثور ويهيج ويخرج عن طوره وهدوئه؛ وما هذا بذنبه. . . ولكن يرجع إلى والديه، وإسراع المنية إليهما وهو لا يزال المهد. . . فلو أنه عاش في طفولة غير هذه الطفولة. . . لكان رجلا آخر. . .).
طفقت هذه الذكريات تنساب من ثغر مدام بنارد في إسهاب وإطناب. . . حتى أقبل المساء إلى الكون، واخذ الشفق ينشر في الأفق رداءه الأرجواني الرائع. . . وحينئذ سألت (مدام دي برسي) عن مصباح يمزق تلك العتمة التي بدأت تثقل وتقتم. . . أما (مدام بنارد) فلم تلمح تلك الدمعات التي تألقت على وجنتي مدام دي برسي فجففتهما في سكون. . .
وأخيرا وجهت (مدام دي برسي) الحديث إلى المرأة العجوز وهي تنهض قائلة (يسرني ويبهجني ما تحدثت به عن زوجي العزيز يا مدام بنارد. . .) وضغطت على يدها في تأثر. . . فعجبت مدام بنارد لهذا التأثر، ولم يكن هذا آخر عجبا إذ أن (مدام دي برسي) بعثت معها ببرقية لترسلها من مكتب (جوراند) إلى باريس. . .
ولم تكن تدري ما احتوته هذه البرقية. . . ولكن علمت أنها وصلت باريس هذا المساء وحضر (مسيو دي برسي) في اليوم التالي
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(638/55)
العدد 639 - بتاريخ: 01 - 10 - 1945(/)
رسالة إلى (الرسالة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
في رحلتي إلى السودان، سمعت حديث (الرسالة) في أول مكان طرقته من السودان، وسمعته في الساعة الأولى بعد الفراغ من مراسيم الجوازات وتسجيلات الوصول
ثم لبثت أسمعه في أندية البلاد كلما دار الكلام على الأدب والأدباء، ولا سيما الأدب العربي وأدبائه المعاصرين
ولم تتغير العادة في فلسطين
فقد سمعت حديث (الرسالة) في كل ناد من أندية الأدب، وحملت إليها رسالة علنية في أحفل جلسة من الجلسات الأدبية شهدتها في مدينة يافا، وهي مركز الحركة الصحفية والكتابية في شواطئ أرض الميعاد
كانت الدعوة باسم اتحاد الأندية في المدينة، وهي تتسع منها لسبعة على ما أعلم، تختلف أغراضها بين الثقافة والرياضة البدنية ومطالب الإصلاح والاجتماع
وكانت الدعوة إلى سهرة في الهواء الطلق بفناء النادي الأرثوذكسي، وهو على ما سمعت أوسع فناء للأندية هناك
واتفقنا على أن تدور السهرة على المساجلة بالأسئلة والأجوبة في الموضوعات التي يعنى بها الأعضاء، وكلهم من الشبان المتعلمين أو الشابات المتعلمات.
ويظهر أن الأديب الموكل بأمانة الاتحاد قد بسط على الأسئلة شيئاً من الرقابة الفكرية التي تخليها من كل شائك أو محرج من موضوعات الجدل والخلاف. فمرت الأسئلة الأولى بين سؤال لي عن أحب كتبي أليّ، أو سؤال عن الفرق بين فلسطين كما رأيتها في زيارتي الأولى، كما أراها في زيارتي الآن، أو أسئلة متعددة من هذا القبيل
ثم انتهت الأسئلة المكتوبة وبدأنا في الأسئلة المرتجلة، فما شككت في أنني سأسمع على الأقل سؤالا عن الحب وسؤالا عن المنافسات الأدبية في الأقطار العربية، لأن الشبان كانوا أصحاب الكثرة الغالبة على الاجتماع
فأما السؤال عن الحب، فقد كان محرجاً بعض الإحراج، لأنه كان يتناول (الحب العذري) ورأيي فيه، وكان في الجمع سيدات وآنسات، وكان فيه شيوخ من رجال الدين، لهم وقارهم(639/1)
المرعي في كل مكان
قال السائل: يعتقد صديقك المازني أن الحب العذري غير موجود وغير معقول، فما اعتقادك أنت في هذا الموضوع؟
فأردت التخلص وأحلت السائل إلى واجب الصداقة الذي يأبى عليّ أن أعرض لرأي أخينا المازني بتفنيد أو تجريح! وقلت له في عجلة ولهوجة: إن الحب الجنسي ينتهي إلى غاية جنسية، وأما ما عدا ذلك من ضروب الحب فليس لها غاية غير الصداقة والولاء
ثم جاء دور المنافسات الأدبية في البلاد العربية، فكان لها نصيب في أكثر من سؤال واحد، وكان أهم الأسئلة فيها رسالة إلى (الرسالة)، أو عتباً على المجلات المصرية - وفي مقدمتها (الرسالة) - لأنها تضن بالنشر والتنويه على القصائد والفصول التي تأتيها من أدباء فلسطين
وكان صاحب السؤال خطابياً في لهجته، عنترياً في حماسته، مؤمناً بصوابه في عتبه، ولعله كان ينطق بألسنة غيره ممن يعتبون مثل عتبه، ويؤمنون مثل إيمانه
فأردت أن أصحح هذا الوهم الذي يغلو فيه بعض الدعاة إلى التفرقة من أذناب الدول الأجنبية في الأقطار العربية، وقلت ما أعتقد في هذا الصدد، وهو أن الديار المصرية - بقرائها وأدبائها ومجلاتها - أبعد الناس عن الأثرة العنصرية في مسائل الثقافة، أو مسائل المفاضلة بين الأدباء والمؤلفين، وذكرت للسامعين شاهداً من الشواهد التي يلمسونها في فلسطين، وهو تفضيل (مفكرات دجاجة) للأديب الفلسطيني الدكتور إسحاق الحسيني على سائر الأجزاء التي ظهرت من سلسلة (اقرأ) لكثير من الكتاب المصريين، وهي لم تنل هذا التفضيل بأصوات القراء من أهل فلسطين نفسها، ولا بأصوات القراء من أبناء البلدان العربية الأخرى، وهي تربي في عدتها على كل ماعداها من الأصوات
ثم قلت: إن الديار المصرية هي الميدان الذي اشتهرت فيه مؤلفات اليازجي وصروف وزيدان والشدياق والحداد وأديب إسحاق والمعلوف وغيرهم من فضلاء سوريا ولبنان والعراق، وأنها هي الميدان الذي طبعت فيه - أو راجت فيه - مؤلفات الريحاني ونعيمة وجبران، وسائر كتاب العربية في المهاجر الأمريكية. فليس أسرع من المصريين إلى تقدير الأدب العربي الذي يصل إلى أيديهم وأسماعهم، وليس عليهم من عتب إذا قامت(639/2)
العوائق دون وصول هذا الأدب إليهم، فقد يكون المرجع في ذلك إلى نظام النشر والتوزيع
ثم أردت القضاء على مظنة الأثرة العنصرية فقلت: وبعد هذا ينبغي أن نذكر أن نصيب الأدباء المصريين والأدباء السوريين من تنويه الصحافة العربية في مصر سواء، وإن كثيراً من الصحف العربية في مصر يديرها أناس من السلالة السورية، فلا يتهمون في هذا الصدد بالإجحاف والمحاباة
ولاح لي أن السامعين عارفون بمكان الصدق والصواب من هذا الجواب على ذلك السؤال، ولكن صاحبنا السائل الخطابي لم يقلع عن عتبه، ولم يزل مصراً على حقه هو في نشر كل ما يبعث به إلى (الرسالة) و (الثقافة) من المنظوم والمنثور، فعاد يقول: أننا هنا لا نحفل بصحف الأخبار ولا بآراء الدهماء، ولكننا لننظر من أمثال الأستاذ الزيات والأستاذ أحمد أمين غير ما ننتظره من أصحاب تلك النشرات
وختمت الجواب واعداً بالتبليغ، مزكياً موقف (الرسالة) و (الثقافة) فيما تنشران، معتذراً من توجيه إليهما فيما لم تنشراه، لأنني لم أقراه ولم أعرف مدى حقه من النشر والإهمال. فلعلل اللوم على المرسل لا على المرسل إليه!. . . ولعل الصحيفتين المنصفتين قد أخلصتا للقراء فاستهدفتا لهذا العتب من بعض الكتاب!
وانتهت السهرة بحادثة طريفة لا تخلو من دلالتها الأدبية. فإننا خرجنا من النادي بعد ختام الأسئلة والأجوبة، فإذا بسيارة من السيارات التي وقفت على بابه ضائعة، وإذا بها سيارة الكاتب المعروف الأستاذ عيسى العيسى صاحب جريدة فلسطين وشيخ الصحافة الفلسطينية
قال الأستاذ: سأعود عليك بطلب التعويض، لأنك أنت المسؤول عن ضياع السيارة، فقد ترك السواقون سياراتهم ودخلوا النادي ليسمعوك، وكانت سيارتي مطلقة الدواليب، فوقع عليها اختيار اللصوص دون غيرها من السيارات
قلت: بل أنت المسؤول عن محبة اللصوص إياك، واختصاصك أنت بالسرقة دون سواك، فلعلهم طمعوا في مالك إكراما لأدبك، ولعلهم كافئوك بما استطاعوه على تعصبك للأدب، حتى في اختيار السواق!
ولطف الله بعض اللطف في مشكلة التعويض، كائناً من كان المطالب بالعوض، لأن الشرطة عثرت على السيارة في اليوم التالي مزوية في بعض الطريق. . . ولكن بغير(639/3)
إطارات
ومما يذكر لفلسطين بالحمد والرجاء أن السياسة لا تشغلها كل الشغل عن مطالب الأدب والثقافة في وقت من الأوقات
فهي اليوم لا تني تتحفز وتتطلع ولا تكف عن التدبر في مصيرها المنظور بعد الحرب العالمية: بين الصهيونية والانتداب والاستقلال والوحدة العربية، وقلما تغشى مجلساً من المجالس لا يدور فيه النقاش على مسألة من هذه المسائل، ولكنهم لا يستغرقون وقتهم في مسألة منها إلا وجدوا بين فجواتها متسعاً لحديث اللغة العربية والأدب العربي والأدباء العرب في مختلف الأقطار، وما أخالهم يبعدون الشقة بين موضوعات اللغة وموضوعات السياسة، فإنما مستقبل فلسطين مستقبل العربية على أية حال
كنا نتحدث عن تقرير المصير وحرية الاختيار في السياسة الوطنية، فقلت: إن الله الذي حباكم بحرية الاختيار في الجو والمناخ كفيل بأن يحبوكم بحرية الاختيار في الحكم وشئون السياسة:
إننا في مصر ننتظر الربيع أشهرا، حتى نصل إليه، ولكنكم هنا لا تنتظرونه غير ساعة واحدة تنقلكم حين تشاءون من قيظ الصيف إلى نفحات الربيع
عندكم (أريحا) التي تذكر الناس بالمظلات في صبارة الشتاء، وعندكم رام الله التي تذكركم في لياليها بالمعاطف، ولو كانوا في أيام المصيف
وكنا في طريق (رام الله) هذه حين استطرد بنا حديث المصير إلى حديث المصيف، فسألنا: أي معنى يا ترى لهذا التركيب الذي لا نعرف معناه بالعربية؟ أهي كلمة عبرية أو آرامية؟
ورجح الأستاذ السكاكيني أنها مخففة من (رام اللات)
وقال الأستاذ عادل جبر: أنهم جمعوا رامة على رام وأضافوها إلى الله، وكأنها بذلك عربية أو آرامية تشبه العربية
والرامة في اللغة العربية معروفة للمكان الذي يجتمع فيه الماء، ولا سيما الروابي والهضاب، وعندهم اليوم في طريق بيت المقدس مواقع على هذه الصفة تعرف بالرامة على ألسنة السواد
بقي أنهم يعرفون الجمع في الآرامية كما يعرف العرب جمع ساحة على ساح وراحة على(639/4)
راح وساعة على ساع وحانة على حان.
أما الدكتور موسى الحسيني، فيرجح - على ما أذكر - أن أصل الكلمة (رام ايل)، ثم تداولتها الألسنة العربية حتى صارت في اللفظ الشائع (رام الله)
وهو رأي راجح، لأن المواقع التي تنسب إلى (إيل) هناك غير قليلة، ومنها (بيت إيل) الذي ينطقه العرب اليوم بيتين.
وكان القول الفصل أننا نستطيع أن نرجئ البت في هذا الخلاف دون أن يفوتنا شئ ما من متاع الهواء الطلق والأصيل الجميل في رام الله!!
فأرجأنا البت في الخلاف على ثقة من ذاك، وتركناه حتى يفصل فيه أصحاب اللغات السامية، إن راقهم أن يفظوه ولا يعلقوه مع غيره من أوجه الخلاف المعلقة في أرض الميعاد
عباس محمود العقاد(639/5)
الفيلسوف أمين الريحاني
قولان له في البلاغة
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
أبعث إلى الفيلسوف الأستاذ أمين الريحاني بكتابي (كلمة في اللغة العربية)، وهو الخطبة التي خطبتها في (دار الرابطة الشرقية) في القاهرة في اليوم الأول من ذي القعدة سنة 1343، فتجيبني منه رسالة في يناير سنة 1926 (29 جمادي الآخرة سنة 1344) يقول فيها:
(سيدي الأستاذ إسعاف النشاشيبي (دام فضله)
وصلني كتابك (كلمة في اللغة العربية)، قرأت (الكلمة) كلها متنها وشرحها فخيل إلى وأنا في رياضها وأدغالها، وأغوارها وأنجادها، ودهنائها ومفاليها (اللفظة بدوية وأظنها صحيحة) أني أعيد السياحة في البلاد العربية. وما وجه الشبه؟ إن الجمال اللغوي جمالك لمثل الجمال البدوي، وإن الفخامة في ألفاظك لمثل الفخامة في صوت ابن البادية، وإن الروح في مقاصدك لمثل العظمة في خطواته. وكلها يا سيدي في الكتاب وفي البادية مثل الوجوه (حال يحول). نعم، إن هذا الأسلوب في الأدب مثل ذاك البدوي في الحياة، هو مظهر عجيب يسترعي الأنظار، فيدهش، ويطرب، ويحزن معاً. ولماذا؟ لأنه زائل. أحببت البدوي (والله)، وكنت معجباً به، ولكني لا أستطيع ولا أحب أن أكون مثله. وأحببت (كلمتك)، وكنت وأنا أطالعها معجباً بها. ولكني لا أستطيع، ولو أحببت، أن اكتب مثلها. لو كان لي أن أسوح في البلاد العربية بعد خمسين سنة لما عرفت، على ما أظن، صديقي البدوي وقد تحضر أو تمصر. ولا أظن أن هذا الأسلوب أسلوبك يكون مألوفاً أو معروفاً بعد خمسين سنة. والحكم للمستقبل، فقد يحكم علي وعليك معاً. ولكننا في غير الأسلوب متفقان. أني مكبر أدبك، محترم علمك، محبذ دعوتك للمحافظة على روح اللغة والصيغة العربية فيها. وأظن أني من المحافظين، رغم تجددي المخيف، إذا اتخذت من ابن الأثير، وهو اختيارك، مثالا أنسج عليه. ولكنك غاليت في حب القديم، غاليت يا رجل. . .
إذا كان المثل الأعلى الذي تنشده يقطع الحبل بيننا ف (هنريك ابسن ونيتشه) يصلانه ويوثقان العروة فيه.(639/6)
والسلام عليك من (القابع) في داره، البعيد عن (شجرة البغي)
المخلص
أمين الريحاني
ثم نتجادل بعد رسالته هذه في شهر رمضان سنة 1344 في جريدة (الميزان)، وهي صحيفة أدبية كان الأديب النابغ الناقد الأستاذ أحمد شاكر الكرمي - رحمة الله عليه - بنشرها في دمشق:
(زين لشباب أبو فراس م لم يمتع بالشباب)
ولقد فقد الأدب بغيبة أحمد شاكر الكرمي خيراً كثيراً كان يرتجيه من ذاك النبوغ
أخبرني مدير مدرسة في مدينة الناصرة أنه سأل الأستاذ الريحاني حين مر بها عن سبب (المناظرة بينه وبين النشاشيبي)؟ فقال: (أردنا أن نعلم الناس كيف يتناظرون). ولهذا الجواب قصة أدع ذكرها اليوم، وفي الطبعة الأخيرة للريحانيات إرشادة إلى شئ منها. وهذه نتف مما قلته في الجدال:
(دع ذا، وجئ الآن إلى قول الأستاذ: إن الإنشاء فن، والإفراط في الكلف بالفن خسران. وإن اللغة ذريعة واتخاذ الذريعة المقصد المنشود - ضلال. وقل له بعد تحية ثانية:
الحق أن اللغة لم تلك إلا ذريعة، وما هي إلا ابنة لغة الذي هو اليوم أدنى من الإنسان (وإن لم يراد سن الإنسان أعلى منه) ولكن المرء قد تفنن في هذه الذريعة (كما تفنن في ذرائع الشر. . .) فجاء منها الفن: جاء الشعر، وجاء النثر، وجاءت تلك الصفحات العبقرية. وراح ذاك الفن يتهادى مع سائر اخوته من الفنون الفتانة. والرقص من هذى الفنون. وإن الرقص لفتنة، إن الرقص لفتنة، وقد أضاف الدين كاتب إفرنجي ملعون إلى تلك الفنون. .
فإن قلنا: إن من اللغة فناً وجب أن نحتفظ بذاك الفن، وأن نعنى به عنايتنا بغيره من الفنون، وأنه لأحق بالترحيب والاهتمام به من غيره. وإن كان فن الموسيقى أو المصور مما يهذب نشء الأمة فالنثر القرآني أعنى النثر العبقري والشعر العلوي أثرهما في تهذيبهم أكبر
وإن عددنا الفن (كما عده كاتب إفرنجي يوم هاجت سرقة تلك الصورة قومه) سخافة أو(639/7)
هذراً، ورحنا نقول مع الزمخشري: (الفنون جنون والجنون فنون). جازلنا أن نعد كل شئ في الوجود سخيفاً، وألا نجد لهذا الكون معنى، ولزمنا أن نبادر إلى الانتحار، وندع الدار تنعى من بناها. . . لا، لا. . . إن هذا الحسبان خسران، والرأي الحكيم الرصين أن نرى الجيد جيداً والجميل جميلا وأن نبتهج بمشاهد الكائنات مع المبتهجين معرضين عن مقالات شوبنهور وسائر المتشائمين منشدين في كل حين:
(تمتع من الدنيا فاك فانِ)
(تمتع من شمم عرار نجد)
و (الدنيا - كما قال جار الله - عمري ولا خلود إلا في الأخرى).
فن اللغة فن، في الإنشاء فن، فلا تسألن الفصيح البليغ في المقال أن يذر فصاحته وبلاغته وذا الفن أن يهجر فنه، وينزل من عليائه إلى فنائه، ويزايل عزلته، ويماشي جماعته، ويتبذل أسلوبه وهو يستطيع صيانته، ودعه يفتن الإنشاء كيف شاء.
إن المتفنن في الناس قليل، وقد مات بالأمس (أنا طول فرنس) ولا خليفة في قومه له. وهذه حالة لا يصل إليها كل ساع فلا تخف من أن يكثر المتفننون. . . وهؤلاء الرهط في الأمم هم سلوى المكروبين، ومهذبو الطالبين، هداة المتأدبين، وموقظو الهاجدين، وقائدو الثائرين، وبكلامهم تصقل الكتاب قرائحها).
(كانت اللغة فجاء منها فن، وهو لا يكون في كل ضرب مما تخطه الأقلام ولن يكون. وأهله اثنان: الشاعر والأديب ولا ثالث لهما، فدعهما يحدوان مع الحاد، ويهيمان في كل واد. وفضيلة كلام (الشاعر والأديب) أو هذين المتفننين أو الفنانين هو هذا الجمال الذي تلاقيه فيه، ومع الجمال الوضوح كل الوضوح، بل ليس الحسن إلا الوضوح. فمرغبي ومرغب كل من يتراءى برأيي أن نصون هذا الرونق أو هذه الديباجة كما يصون الكريم ديباجتيه فلا يبذلهما. . . وقد أعلن الأستاذ الريحاني في مقاله أنه يهوى الديباجة، ولا ريب في ميله هذا، فكل شئ تنوقت الطبيعة في تجويده يستهوي العاقل. ولن ننشد إن شاء الله في يوم بيت المتنبي الذي أومأ الأستاذ إليه في كتابه:
زودينا من حسن وجهك ما دام (م) فحسن الوجوه حال تحول فلن يحول جمال العربية، ولن تزول ديباجتها، وإذا استطاع القوم في الغرب أن يجملوا بالكهربا الشنيعات، فلن نعجز في(639/8)
الشرق عن الاحتفاظ ببهجة المليحات. . .)
(يجعل مقتبس علم غربي يترجم مبحثاً أو يلفق قولا وهو لم يتخرج على أستاذ قادر، ولم يقرأ كتاباً واحداً، ولم يعرف أسلوب علمه اللغوي، ولم يقف على ألفاظه ولا على بعض ألفاظه، وتلقيه يزجر وهو يكتب زحيراً، ويلعن العربية التي جهلها لعناً كبيراً، ثم يطرح بجهيض يعمى الناظرين، فإذا عيبت جهيضه لا حاك، وتهدم على اللغة بالتنقيص)
(الأستاذ الريحاني فاضل نابغة تنكب عن طريق التقليد، وأنكرت نفسه الرقي العقلي فكدحت في تحريرها، فلما حررها لم يستبد بخيره، وأراد أن يشركه في الخير غيره، فدعا قومه إلى حريته، وانتحال عقيدته. ثم أبصر الأستاذ الغرب يطير ارتقاء وقومه العرب قد ألفوا الحضيض (آلف للحضيض فهو حضيض) كما قال أبو تمام، فشق عليه أن يشهد ذل جهلهم وقد اعتز بالعلم خصمهم وآكلتهم، وتحقق أن الذي أقعد في العلياء الغرب هو علم الغرب فنادى إلى إيثار ذلك العلم، وأشفق أن يعوقهم الاهتمام بالمهم أو غير مهم عن طلب الأهم فقال لهم: اجتزئوا من المونة اللغوية بزاد سافر، فلن يعذل وهذا قصده. والحق الذي يدريه الأستاذ الريحاني، ولكن حرصه على الذي رآه أحق بالتقديم قد حمله على أن يتناساه هو أن الانتباه الأدبي في الأمم يسبق الانتباه العلمي، فهذا بناء وذاك أساس، وإن الأمم العربية اليوم هي في وقت الترجمة. وعند الغرب علوم كثيرة ومباحث فيها دقيقة. وفرض عين أن تنقلها العربية وأن يفقهها نشؤها، ولن تفهم ولن تفيد حتى تصح ترجمتها، ولن يستطيع احتواء تلك العلوم ومعانيها إلا اللغة القرآنية العلمية، إلا اللغة الصحيح تركيبها الكثير لفظها التي ظل العلم القديم يلينها ويوسعها ويصقلها أحقاباً. وإذا لم توصل لغة علم اليوم بلغة علم الأمس ويستظهر بهذه فلا علم في هذا الزمان عند العرب. ومن ظن أن اللغة العامية وهذه التي هي فوق العامية تقدران أن تعيا علوم الغرب وتضم عباراتهما تلك المعاني الحديثة أو الجديدة فظنه (والله) عجيب!)
ثم أبعث إلى الفيلسوف بكتابي (البطل الخالد صلاح الدين والشاعر الخالد أحمد شوقي) وقد طبع سنة 1351، فتجيبني منه رسالة في 26 شباط سنة 1933، وقد ظهرت في (الرسالة الغراء) 269 في 3 رجب سنة 1357في الصفحة 1411 من السنة السادسة
ومن قرأ رسالة الأستاذ الريحاني الثانية رأى أنه (قد استطاع أن يكتب عربياً عبقرياً(639/9)
ويجاري البلغاء)، وأنه قد آمن بـ (الكلمة) وصدق بالبلاغة وفضيلتها وجمال القول وجودته وبكلام الإمام الرازي: (رب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها)، فنسخ المذهب الجديد لفيلسوف مذهباً قديماً ولو لم تفجع به العربية - وأعظم بفجيعتها بـ (بالأمين) - وعاش حتى اطلع على (دفاع عن البلاغة) لازداد إيمانه ويقينه، وأيد (صاحب الرسالة) تأييد أنصاره.
(الزيات) إذا نثر، مثل (شوقي) إذا شعر. ولقد أعطى الله مصر في هذا العصر إمارة الشعر وإمارة النثر. ولو بعثت (فلوبير) القائل: (أهون على المرء أن يقنطر، وأن يسكن في قصر بندقي (فنيسيي) منجد من أن ينشئ صفحة واحدة عبقرية) وحذق العربية، لأضاف إلى قوله هذا هذه الكلمات: (مثل الصفحات، التي ينشئها الزيات).
محمد إسعاف النشاشيبي(639/10)
من أحاديث المحبين
الموسيقي العاشق
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي أمس صديقي حسني: أني لأعلم شغفك بالموسيقى، وحبك الفن القديم، فهل لك في سماع رجل هو أحد أعمدة هذا الفن في دمشق ومن أساطينه، وهو هامة اليوم أو غد، فإذا انهار أو شك ألا يقوم مثله أبداً؟
قلت: ما أحوجني إلى ذلك، فمن هو هذا الموسيقي الذي لا أعرفه إلى اليوم على ما ذكرت من إمامته وتقدمته، وعلى معرفتي بأرباب هذا الفن؟
قال: هو (ش) بك رجل تركي، كان من موسيقي القسطنطينية أيام السلطان عبد الحميد، وانتهت إليه رياسة (العود) فيها، وله اسطوانات هي عند الموسيقيين، كرسائل الجاحظ عند جماعة الأدباء، واسمع فعندي واحدة منها
وقام إلى (الحاكي) فأداره، ووضع اسطوانة عتيقة، فسمعت شيئاً ما حسبت مثله يكون، وبدا لي كل ما سمعت إلى اليوم من ضرب الموسيقيين كأنه إلى جانبه لعب أطفال. وخربشة مبتدئين
قلت: ويحك قم بنا إليه الآن
فقمنا وأخذنا منها شيخ الموشحات في دمشق الشيخ صبحي واثنين من محودي المغنين، وذهبنا إليه
ضربنا في الجبل حتى جاوزنا الدور الفخمة والقصور العامرة، ووصلنا إلى طائفة من المساكن هي أشبه بأكواخ، وقد بنيت من الطين وقامت دوين الصخر، فوقفنا عند واحد منها، وقرع الباب دليلنا حسني كنعان، ففتح لنا رجل طوال، عريض الألواح، حليق الوجه محمره، ولكن الكبر ظاهر عليه، قد جعد وجهه وإن لم يحن ظهره، ولم يهصر عوه، ورحب بنا على الطريقة التركية، يخفض يده، ويلوح بها على أسلوب معروف ثم يمس بها طرف ذقنه ويرفعها إلى جبهته، كأنه يقول: أني آخذ ذيل أحدكم فأقبله وأضعه على رأسي، وبالغ في الترحيب بنا ودعانا إلى الدخول فدخلنا، فإذا رحبته نظيفة ولكنها خالية من الأثاث، ما فيها إلا أشباه كراسي، وسدة من الخشب مفروشة ببساط هي السرير وهي(639/11)
المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقاً ونظافة. . . فقعدنا، وحلفنا عليه ألا يصنع لنا شيئاً، فما نريد إكرامنا منه إلا بأسماعنا ضربه. . .
أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شئ من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة. . .
فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فأبى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه. . .
قال حسني: كيف وأنت سيد من جس عود، وأنت إمام الضاربين!
قال: إنني لا أستطيع!
فلما ألحفنا وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئاً، ولن أجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب. . .!
وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:
قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطاً مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا، أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حياً في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قط إلا بذكراه. لقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن. . . أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة. . . لحظة. . . إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. . . إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقة. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطى على الحقائق، هذه هي ذكرياتي. . .
كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعلم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوربا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في(639/12)
الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني: (إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة). . . وأحسب أني كنت كذلك، ولكني - ولست أكذبكم - ما عرفت طريق الحرام، ولا الحلال استطعت سلوك طريقه!
قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يشمق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وأنه لأشد بياضاً وليناً من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه في النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، أنه ليس كذلك، هو شئ ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكباراً لا ميلا، وتقديساً لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفراً، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها. . .
وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها، ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها. . . عينين زرقاوين واسعتين، فيهما شئ لا يوصف أبداً، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا. . . أنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شئ بعدهما. . . العفو يا سادة! أنا لست أدبياً، ولا أحسن وصف الكلم، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ أنه لعلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك. . . أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ أعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئاً، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شئ لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة!
ولما تكلمت سمعت صوتها كأنما هو. . . مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس؛ وصوتاً خليعاً وآخر(639/13)
صيناً. إن الصوت لينطق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء! وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهي عنه! وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.
لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت اشد منها حياءً وخجلا. ولم يكن أبناء زماننا أولى وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال - وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شئ قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهداً، ورأيت ضوء الشمس أشد نوراً، وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت انظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصبحتهم شيئاً ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي فلم أطق فيها قراراً، ولا اشتهيت طعاماً ولا شراباً، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فأهيم حولها أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها. صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها أو يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شئ قلبي فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى إذا أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت أليّ نظرة شكت (وحرمة الحب) كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحاً، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت!
وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة(639/14)
البكاء صوته:
أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وإني لا أزال شاباً ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم - فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني إن هذه الذكرى قد خالطت شعاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات!
قلت: فاخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟
قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ أنها تحرقني، تنتزع روحي. . .
كان يا سادة: أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شئ لي، إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي.
لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعها من لحمي ودمي، فدعوها لي، أنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويتلهى بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم. . .
وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم!
وسكتنا - فقال بعد هنية:
وقد ذهبت أودعها - فأخذت يدها بيدي، وكانت تلك أول مرة وآخرها، كأني أنازع الموت(639/15)
إياها - وأسحبها منه:
- أنك غداً، تحب غيري وتضرب لها على عودك.
قلت. لك علي عهد الحب، لا نظرت بعدك إلى امرأة، ولا أجريت يدي على عود.
ومسكت، ونظر إلى العود كأنه يريد أن يعتنقه لينطقه بالمعجزات، ونترجم به عن لواعجه، ثم غلبه البكاء مرة ثانية فقام، وانسللنا نحن واحداً بعد واحد، وأغلقنا الباب ونحن نسمع نشجيه!
(دمشق)
علي الطنطاوي(639/16)
من وحي جويو
الحياة. . .!
للأستاذ زكريا إبراهيم
هؤلاء الفلاسفة الذين طالما عنينا أنفسنا بدراسة آثارهم وتتبع أفكارهم، ما بالهم قد حدثونا عن كل شئ إلا الحياة؟ لقد ملأوا أسماعنا بأحاديثهم عن الفكر والوجود والعلة والقوة واللذة والغريزة ولكن أحداً منهم لم يحدثنا عن الحياة حديثاً شاملا مفصلا. أتراهم قد توهموا أن الحياة ليست شيئاً أكثر من الغريزة أو من حساب اللذات (على طريقة بنتام)، أو من الأنانية وتقديس الذات (على طريقة نيتشه)؟. . . ولكن، لا؛ إن الحياة شئ أكثر من هذا كله، لأنها في جوهرها فيض وتوسع وامتداد. فإذا كان أبيقور يقول: (إن الكائن يمضي حيث تدعوه لذته) فإن في استطاعتنا أن نرد عليه بأن نقول: (كلا، بل أن الكائن ليمضي مدفوعا من تلقاء نفسه، ثم يجد اللذة في الطريق. فاللذة ليست هي الشيء الأول، وإنما الشيء الأول والأخير هو الحياة). والحياة تسير دون حاجة إلى قوة أعلى منها، لأنها بذاتها حركة وقوة واندفاع. فليست الحياة حساباً للذات، كما زعم بتنام، بل هي فعل ونشاط وفيض مستمر.
أجل، إن الحياة لتنطوي في صميمها على مبدأ الامتداد والتوسع والخصب والانتشار. فالوجود الحقيقي إنما هو ذلك الذي يتمثل في تلك الحياة الخصبة الممتلئة، التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، وتبذل من نفسها للآخرين، وتشرك نفسها مع الآخرين. والكائن الحي، إذا بلغ درجة كبيرة من الرقي، فانه يكون أشد نزوعا إلى حياة الجماعة، لأن في هذه الحياة فيضاً وتوسعاً وامتداداً
والحياة لا يمكن أن تكون أنانية خالصة، حتى إذا أراد المرء ذلك؛ فإن ثمة ضرباً من السخاء يلازم الوجود دائماً، وبدونه يموت الكائن الحي أو تذبل نفسه. فإذا أردنا أن نستبقي حياتنا كان علينا دائماً أن نزهر؛ وما زهرة الحياة الإنسانية إلا الإيثار والتضحية وبذل الذات
إن الذات التي يزعمون أنها مغلقة، هي في الحقيقة مفتوحة، وهي على اتفاق بالفطرة مع الذوات الأخرى؛ بل أنها لتنفتح شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر. وإذن فالامتداد نحو الآخرين ليس(639/17)
معارضاً لطبيعة الحياة - كما توهم بعض الفلاسفة - وإنما هو على العكس من ذلك موافق للطبيعة، بل شرط ضروري للحياة المليئة الخصبة - والواقع أن محبة الآخرين لا تفترق أبداً عن الحياة الحافلة الفائضة، لأن مثل هذه الحياة مثل الأمومة الواسعة التي لا تستطيع أن تقف عند حدود الأسرة. (إن ثدي الأم (كما يقول جويو) في حاجة إلى الشفاه النهمة التي تلتهمه وترتشف رحيقه الثر؛ كذلك قلب الكائن الإنساني حقاً، هو في حاجة أيضاً إلى أن يرتمي الآخرون في أحضانه، لكي يجدوا فيه الغوث والنجدة. بل إن في قلب المحسن نزوعا باطناً، وميلا دفيناً، نحو أولئك الذين يتجرعون مرارة الألم).
أليست الحياة إذن إيثاراً وتضحية وبذلا للذات؟ أليس جويو على حق حين يقول: (لي يدان: واحدة أصافح بها من أسير معه في طريق الحياة، والأخرى انهض بها من يعثر. وفي استطاعتي أيضاً أن أمد كلتا يدي لهؤلاء.)؟ أليست الحياة العليا إنما هي تلك التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، كما سبق لنا القول؟
إن اللذات الدنيا هي وحدها التي تتسم بطابع الأنانية. فحينما لا تكون هناك غير قطعة واحدة من الحلوى، نجد أن الطفل يريد أن يستأثر بها. أما اللذات العليا فإنها بطبيعتها لذات ليس فيها من الأنانية شيء.
قد يشهر الإنسان بلذة فنية، فهنا نراه لا يريد أن يستمتع بها بمفرده، بل تريد أن يشعر الآخرين أنه يستمتع ويتذوق فعند اللذة الفنية يريد المرء دائماً أن يعرف الآخرون أنه حي، وأنه يشعر، أو أنه يقاسي أو أنه يحب. أنه يريد أن يمزق نقاب الفردية.
والفنان الحقيقي لا يريد أن يكون بمفرده عند مشاهدته لشيء جميل أو عند اكتشافه لشيء عليه مسحة الصدق، أو عند شعوره بعاطفة نبيلة.
أليس الفن للحياة وبالحياة فكيف لا يظهر فيه طابع الحياة مع أنه هو المعني الباطن للحياة؟ ألم يقل جويو أنني حينما أبصر الجمال، فهناك أود أن أكون اثنين (لا واحداً)؟ إذن فكيف لا يكون الفن في جوهرة مشاركة وتوافقاً؟
إن الحياة الخصبة الحافلة هي أولا وبالذات حياة اجتماعية؛ فأينما فتشت عن الحياة، وجدت الإيثار والتضحية وبذل الذات والأنانية هي سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب وامتلاء؛ لذلك كانت الحياة الفائضة الطافحة، هي تلك التي تمثل الوجود الحقيقي.(639/18)
وبعد هذا كله ليس في وسعنا إلا أن يقول كل منا مع جويو: (أنا لست مالكا لنفسي، فإن كل موجود بدون الكل لا شيء!) والإنسان لا يمكن أن يحيا أو يفكر أو يعمل، إلا إذا كان ذلك للآخرين وبالآخرين، ومع الآخرين!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم(639/19)
من الأدب القومي:
يوم. . . ويوم. . .!
للأستاذ شكري فيصل
(إلى الذين يتساءلون: أين أنا؟. . . إلى الذين عشت معهم، في
غفلة الدنيا، على مقاعد الجامعة ورحابها. . .)
- 1 -
شهدتك، أيها الخفاق، تتعالى فوق الثكنات الكبرى التي تحتاط دمشق. . . واكتحلت عيناني بالأمل المزدهر على نسمات الريح وخفقات القلوب. . . واستمعت إلى حفيفك الناعم يقص حديث السنين الخوالي. . . ولم تتمالك عيناي، أيها الخفاق، أن تفترا عن الدمعات المندية التي لمحت من وراء غشائها الرقيق مراحل قصتك الدامية. . . لقد ذكرت فيصلا والملك، والفرنسيين والهلك، والصفحات الحلك السوداء التي جللت ثرى الوطن فاستعبرت. . . والعبرات، يا علمي، العبرات التي كانت تنفر كالعزم الحديد في عيون الآلاف المتحلقة من حواليك كل ما ملك الناس في أصيل الرابع والعشرين من تموز
- 2 -
وأين يوم من يوم، أيها الخفاق، منذ خمسة وعشرين عاماً آب الناس إلى بيوتهم تقطعهم الحسرات: الشهادات على أفواههم، والجراحات في أجسادهم، والدماء من خلفهم ومن بين أيديهم، وملك فيصل النضير يجتاحه الغزاة العتاة كما تجتاح الزوبعة الروض الممرع. . . واليوم، بعد هذه السنين الطوال العجاف، لا تظل البيوتات رجلا أو امرأة، شاباً أو فتاة. . . لقد خرج الناس تهزج لهم المنى، وتغني لهم الأحلام: الزغردات على أفواههم، والعزمات ملء برودهم، ومجد أمية من وراء العصور يتلألأ في أذهانهم. . . ومضوا يملئون الطرقات إلى الثكنة العسكرية الكبرى، إلى ثكنة (الحميدية)، وانتشروا يتدفقون على عرض الدروب، ويتدافعون على حفافي الشوارع، ويتزاحمون على أطراف الأرصفة!
إنه يومك، يا علمي، كانت انتزعتك اليد الغاصبة لتحيل ألوانك، وتخفت لمعانك، وتمزق(639/20)
عروتك الوثقى. . . ولكن من دمائنا بعض ألوانك، يا علمي، ففديناك. . . ومن بريق أعيننا لمعانك فحفظناك. . . وعلى عراك هذه الوثقى تآلفت قلوبنا والتقت أفئدتنا. . . فكنت خفقتها التي لا تني، ونهضتها التي لا تفتر، وعزمتها التي لا تكل!
- 3 -
وحين وقفت هذه الجموع المؤلفة، يا علمي، كنا نحن. . . هؤلاء الشباب المتفتحين على عبوس الأيام، والمتقلبين في كالحات الليالي. . . نرمق ساريتك القائمة كالساعد المفتول. . . أنها وحدها هي التي كانت قيد نواظرنا فلم نتحول عنها. . . لم تأسرنا روعة المكان، ولم تأخذنا ضخامة البنيان، ولم تلهنا الآلاف المتدفقة، فلقد استحال كل شيء في نفوسنا بسمة تحييك، وخفقة تناجيك، وذكريات تواكبك. . . وركزت أبصارنا في شرفتك العريضة في نظرات من الرجاء العريض، والرغبات المستوفزة، والأمل الوثاب. . . ولم نعد نحن. . . نحن الذين تعاورتهم السنون بالجدب، وتعاهدتهم الحياة بالمصاعب، وإنما رحبت بنا مطارح الأحلام، وسمت بنا واسعات الأماني، وبدلنا دنيانا بدنيا أخرى. . . فشهدنا في نشوة لذة الأطلال الخرائب جنة ممرعة، والأسى الغالب فرحة محققة، والأحزان المقيمة بهجة مونقة. . . لقد تفتح لنا المستقبل عن وطن مهاب، تملك، أنت وحدك يا علمي، أرفع ذراه، وتتوسد أعلى رباه، وتقف في شم صخوره وشوامخه، وتمر بك نسماته تضمخها بالمجد وتعطرها بالإباء، وتبعث بها إلى هؤلاء الذين يفتدونك طاهرة لم تلوثها خفقات غاصب ولا نفثات دخيل!
- 4 -
وحين دخلنا، يا علمي، باب الثكنة الكبرى، كانت محاجرنا تفيض بالدموع، ومن خلال ألقها الصافي كانت تنسحب الذكريات الحلوة المريرة: أولئك الذين استشهدوا على حفافي الوادي في ميسلون، وفي ثرى الغوطة في دمشق، وأرباض الجبل في أرض بني معروف، ومعاقل الشمال في حلب. . . وهؤلاء الذين ذهب بهم الغدر في الطرقات، واستبد بهم اللؤم في الشوارع، وانتزعهم السلاح المعربد من فرشهم. . . وجماعات وأفراد كانت السجون قبورهم، والكهوف لحودهم، والمنافي آخر عهدهم بالحياة. . . وأمهات سبق إليهن الثكل،(639/21)
وأطفال عدا عليهم اليتم، وأسر باكرها الخراب، وبيوت سطا عليها العذاب. . . أولئك جميعاً كانوا كأنما تتمثل لنا مصارعهم في سبيلك، يا علمي، فلا يبكينا الأسى، ولا تنال منا الأحزان، وأنا يبكينا أن تلفهم الأكفان الحمر قبل أن يشهدوا سناك الزاهي، وجبهتك الناصعة، ورفرفتك التي تحدث حديث المجد، وتقص سيرة الكرامة، وتروي نبأ الأبطال والبطولات!
- 5 -
وفي الساحة الكبرى، وقفنا نشهد - أيها الخفاق - ظفر الحق، وانتصار العقيدة. . . لطالما وقف في هذه الساحة طغاة يرطنون ويعجمون، ويصيحون ويصرخون. . . لطالما جلدوا الأبرياء، وأهانوا الأحرار، وثكلوا بالمستضعفين. . . لا النبل يهزهم، فقد ذاب في صدأ نفوسهم جوهر النبل. . . ولا الشرف يردعهم، فقد ذهبت يد الظلم بحلية الشرف. . . ولا المشاعر الإنسانية تختلج في أفئدتهم، فلم يبق فيهم أفئدة تختلج فيها مشاعر، وإنما هي مغاور تنفث السم، وتتلظى بالكيد، وتتوسل بالانتقام. . .
واليوم، اليوم يا علمي، تشهد الساحة الكبرى خلقاً آخر وحفلا جديداً. . . أنها لا تحس وطء الأقدام، ولا ثقل النفوس، ولا حلكة الظلم. . . أنها لا تجد زمجرة الانتقام ولا استطالة البغي، وليس عليها الساعة أوداج تنتفخ بالغيظ، وعروق تتغزر بالحقد. . . أنها تذكر ماضيها، وتدركانها تعود للشعب الخير، والجماعة النبيلة. . . أن رمالها تتراقص، وأنها لتتناغى فرحة طروباً كأنما تغني معها الريح أروع الأناشيد: أنشودة الأرض حين تظفر بأبنائها الطيبين. . .!
- 6 -
. . . لن أنسى، يا علمي، هذه اللحظات الخاطفة، حين امتد الزمان، فغطى دمشق: ربيبته التي علمته الخلود، بالصمت الملذ الناعم، ونشر عليها رداء من السكون الهادئ العميق. . . ثم بعث فيها صوتاً واحداً، فيه الحياة عريضة كريمة، وفيه الأمل ريان مخضلا، وفيه الفرحة قوية عميقة. . . وأثار ذراها خفقة عنيفة نشيطة، خفقت معها قلوب، وعاشت معها نفوس، وازدهرت بها أماني، ما كان أقربها إلى الذبول. . . فإما الصوت فصوت البوق(639/22)
البشير، وأما الخفقة فتجاوبك مع الريح، يا علمي الحبيب!
والآن. . . حين أمضي أيها الخفاق، في هذا الشارع النضر المتسع الرحاب، في طريق (كيوان) و (الربوة) تنسق بي الخطى مع طائفة من رجالنا المخضرمين. . . أنهم شهدوا في مثل هذا اليوم وهذه الساعة وهذا الطريق، الجيوش المعتدية الظافرة تدخل دمشق دخول الجبارين، فأغمضوا أعينهم على القذى، وشدوا قلوبهم على الألم، وانطووا في نفوسهم على حرقة لاذعة!
واليوم. . . اليوم تكتحل أعينهم بالموقف الخالد، فيشهدون الفرق الوطنية الظافرة تحفظ على دمشق جبروتها وكرامتها وعزتها. أنهم ليستعبرون عبرة الفرح، وتتفتح قلوبهم على شذى (الغبطة) وتعود إليهم نفوسهم راضية جذلة. . .
يا ما أمتع حديثهم، يا علمي، أنه حديث الصبر المظفر، والعقيدة المنتصرة!
لعينيك، يا علمي، لألوانك الزاهية، ونجومك الزاهرة، وبريقك الحلو. . . هذه العزمات المتدفقة كهذا النهر، النقية كهذه السماء، الرائعة كهذا المساء!
أنك بضعة قلوبنا، يا علمي، فاخفق في ذرى الوطن حارساً وأميناً. . . ولتتحدث نسائمك إلى شهداء ميسلون تحمل لهم الحياة والفرحة. . .!
(دمشق)
شكري فيصل(639/23)
العلاقة اللغوية
إن السؤال الذي غالباً ما يعنى الباحث الجنسي هو: هل لهذه اللغة علاقة بتلك أم لا؟ ونقصد بالعلاقة هنا وحدة الأصل مثلما يجيء شقيقان من أب واحد، فإذا ما اتضح أن هناك لغات واحدة المصدر كانت الشعوب التي تتخاطب بها - في وقت ما - تكون شعباً واحداً. ومن ناحية أخرى إذا ما كانت لغات شعبين جد مختلفة يتحدان من الناحيتين: الجنسية والثقافية، كما هي الحال في المجر وجيرانهم، فإنه يبدو أن عنصر من هجرة متقطعة له علاقة بذلك، فقد يضطر جزء من مجموعة جنسية أصلية إلى إدخال بعض التعديلات في لغته تحت تأثير المعرفة أو الحاجة أو الهجرة أو أي حادث تاريخ آخر مما يدعو إلى استبدال هذه اللغة بأخرى. وربما يكون العكس صحيحاً أيضاً، إذ تكون المجموعتان متميزتين في الأصل كل التميز ولكن تختلط ثقافتهما وتمتزج على أثر تجاورهما وتزاوجهما حتى يصبح الجنسان الطبيعيان جنساً واحداً بينما تظل اللغات منفصلة متباينة. والإصلاح الذي يدل على أن لغتين أو أو أكثر لهما أصل واحد وليس لهما علاقة ما بلغة أخرى من اللغات هو (العائلة اللغوية كما أن كلمة (الكتلة اللغوية تستخدم مرادفة لها.
هذا هو الأساس الجوهري في تقسيم اللغات، واللغات التي قد يكون فيها تشابه ما في الأسلوب أو في البناء كالتصريف مثلا يجب أن توضع في عائلة واحدة. والذي يعنينا هنا هو أن يستعمل اصطلاح (العائلة اللغوية) أو مرادفة (الكتلة اللغوية) للدلالة على أن مجموعة من اللغات موحدة الأصل، أما المجموعات الأخرى فيشار إليها بعبارات أخرى.
لكي نتعرف العلاقة بين اللغات نلجأ إلى طريقة المقارنة، فإذا تشابهت أساليب أو قواعد أو كلمات لغتين إلى الحد الذي لا يظن فيه أنه حدث لمجرد المصادفة، فليس من شك في أن هذه الكلمات المتشابهة ترجع إلى أصل واحد. وإذا لم يظهر بالمقارنة علاقة فيجب أن تصنف اللغات في عائلات متميزة. وليس من الضروري أن يدل عدم وجود العلاقة والتشابه بين لغتين على أنهما ليستا من أصل واحد، لأن توالي الأزمنة كفيل بتغييرهما تغييراً بمحو أي تشابه بينهما؛ وللخبير وحده أن يتبين العلاقة بينهما. وقد يبدو لنا أن بعض اللغات لا تتشابه مع أننا لو عدنا بالماضي القهقري اتضح لنا وحدة أصلها، وقد يرجع هذا إلى عدم معرفتنا تاريخ هذه اللغات أو كيف نحللها ونكتشف العلاقة بينها. وكثيرا ما يظهر(639/24)
- بعد الدراسة الدقيقة - أن مجموعة من اللغات ليس بينها تشابه ترجع إلى أصل واحد، ففي مثل هذه الحال ما كان يعتبر عائلات لغوية متعددة هو في الواقع عائلة لغوية واحدة.
ولكي نقدر التشابه بين اللغات فإن الكلمات التي تتخذها برهاناً يجب أن يتوافر فيها شرطان: أولاً التشابه في اللفظ، وثانياً التشابه في المعنى، فالكلمة الإنكليزية والكلمة الفرنسية يتشابهان في اللفظ ولكنهما يختلفان في المعنى، بحيث لا يمكن أن نرجعهما إلى أصل واحد، فكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية بينما كلمة تمت بصلة إلى الكلمة الألمانية وهاتان الكلمتان وتختلفان في اللفظ والمعنى فلا يمكن إرجاعهما إلى أصل واحد. وإذا فرض أن ضاع الأصل اللاتيني والألماني ولم يكن يعرف شئ عن تاريخ اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ولم يكن معنى جزيرة بل سمك أو ثعبان الماء. . . حينئذ يمكن أن نقول بوجود علاقة بينهما.
وهذه الحالات المشكوك فيها ناتجة عن أن تلك اللغات لم تدون عند بعض الشعوب، ففي لغة أهل كاليفورنيا القدماء الذين يطلق عليهم اسم (يوكي) نجد كلمة بمعنى وبمعنى ولكن البحث اثبت أنه لا توجد علاقة البتة بين اللغة الإنجليزية ولغة كاليفورنيا، فلا يدل وجود التشابه بين بعض الكلمات قطعاً على وجود علاقة بين اللغتين، فكثيرا ما يصادف أن تشابه بعض الكلمات كلمات لغة أخرى في اللفظ والمعنى، وقد يرجع هذا إلى أن بعض اللغات تستعير كلمات لغة أخرى كما هي الحال في اللغة الإنجليزية إذ نجد بها بعض كلمات فرنسية ولاتينية.
إن عدد العائلات اللغوية - من الناحية النظرية - ليس أمراً مهماً فإن هذا العدد لا يمكن أن يحدد، وكلما تقدمت بنا المعرفة والعلم بدت لنا قوانين جديدة تعمل على توحيد تلك الكتل التي تبدو لنا الآن منفصلة. وفي كل من آسيا وأوربا اللتين تعتبران - من هذه الناحية - وحدة واحدة، لا يتعدى فيهما عدد العائلات اللغوية أربعا وعشرين، وأهم تلك اللغات باعتبار عدد الذين يتكلمونها هي (الإندو الأوربية) أو الإندو الألمانية أو الآرية وهذه تنتشر في جنب غربي آسيا، ومعظم - إن لم يكن - كل أوربا. وأعم فروع اللهجات الآرية هي لهندية والسلافية والألمانية واللاتينية. واللغات الأخرى هي: الإيرانية والأرمنية واليونانية والإغريقية، والألبانية، والبلطية والكلتية.(639/25)
وقد انتشرت في هذه العصور الحديثة من أوربا العائلة الآرية كاللغة الإنكليزية والأسبانية والفرنسية والروسية إلى أقاليم أخرى مثل استراليا وأمريكا حيث يقطن معظم أراضيها شعوب تتكلم هذه اللغات. ويمتد توزيع اللغات الآرية على شكل حزام من غرب أوربا إلى شمال شرق الهند، ولا يعترضها في الطريق سوى آسيا الصغرى التي حلت اللغة التركية فيها محل اللغات الآرية. كذلك احتلت اللغات التركية المنطقة التي في شمال بحر بلطق. ومما يضاهي اللغة الآرية من حيث عدد الذين يتكلمونها اللغات الصينية التي تنتشر في الصين الأصلية، واللغات الألتية التي تتمثل في اللغات التركية والمغولية والمنشورية وهذه تنتشر في شمال ووسط آسيا وبعض جهات أوربا.
أما شرق أوربا وشمال غرب آسيا فهو موطن اللغات الأورالية ولغات الفينو والهنغارية المجرية ويوحد معظم العلماء هذه الفروع الأورالية الثلاثة مع الفينو والسامويد ويضعونها في عائلة أورالية ألتية واسعة.
ومن العائلة السامية اللغة العربية، وهي من أعظم اللغات السامية حياة وتمثيلا، وتشبهها - كصنف شقيقة لها - اللغة الأمهربة في الحبشة. وكثير من الشعوب القديمة كانت تتكلم اللغات السامية مثل البابليين والأشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين والعبرانيين.
ومن اللغات الهامة لغة الدرافيدا في جنوب الهند ويبلغ عدد الذين يتخاطبون بها نحو من خمسين مليوناً، وكذلك من اللغات الهامة لغة اليابان ولغة كوريا، وقد تكون لغة أنام مستمدة من اللغة الصينية ولكنها تعتبر إلى حد ما مستقلة عنها.
(مترجم متصرف)
عمر رشدي
ليسانس في العلوم الجغرافية
من جامعة فؤاد الأول(639/26)
على هامش الشعر السياسي
للأستاذ عبد القادر القط
لهذا الكتاب الذي أخرجه الأستاذ أحمد الشايب قيمة خاصة، فمؤلفه أستاذ بكلية الآداب - ومؤلفات الأساتذة في جامعاتنا تأخذ في أذهان الطلبة صفة المقررات، يحتذون منهجها فيما يكتبون من أبحاث، وينظرون إلى حقائقها نظرة فيها كثير من الإيمان بصدقها وسلامتها. وهذا ما حفزني للكتابة عنه قبل أن يبدأ العام الجامعي الجديد.
والشعر السياسي كغيره من ضروب الشعر فن من فنون القول، له طابعه الخاص ومقوماته البيانية التي تميزه وتكسبه صفات ليست لسواه من فنون الشعر الأخرى. فإذا ألف مؤرخ أدب كتابا عن الشعر السياسي فإن من الطبيعي أن يتحدث عن هذا الفن وكيف أثرت السياسة فيه وقادته إلى صور من التعبير ينفرد بها، وجعلت أصحابه ذوي طابع فني واضح يعرفون به دون سائر الشعراء أو يعرف به شعرهم السياسي دون بقية شرهم. ولكن الأستاذ عكس الآية - كما يقولون - فتحدث عن السياسة والخلفاء والولاة والأيام والأحداث وأفض في ذلك كله حتى خرج كتابه تاريخاً لا يمت إلى الأدب بسبب سوى أن رجال هذا التاريخ كانوا يقولون الشعر.
وقد تفاءلت خيراً حين قرأت له في المقدمة (أما المنهج العام لهذه الفصول فقد قام على أصلين أحدهما سياسي والثاني فني) ثم عدت فتوجست شراً حين رأيته يسهب في هذه المقدمة عن الأصل الأول ويقتضب الكلام اقتضابا عن الأصل الثاني، وما لبث هذا الشر أن طالعني في كل صفحة من صفحات الكتب
وحسب القارئ أن يعلم أن المؤلف قد كتب فصلا طويلا عن الشعر السياسي في الجاهلية شغل به خمساً وستين صفحة ثم لم يكتب عن جانبه الفني إلا هذه العبارة (والوصف العام لهذا الشعر أنه شعر العاطفة الصادقة والمعاني القريبة والخيال البسيط الجميل والعبارة السهلة الخالية من التعقيد، مع حسن اختيار البحور العروضية). أما كيف كانت هذه العاطفة الصادقة والمعاني القريبة، وأما مظهر هذا الخيال البسيط الجميل وهذا الاختيار الحسن للبحور العروضية فشيء لا يعني المؤلف في كثير ولا قليل!
وحسب القارئ أن يعلم مرة أخرى أن فصلا ملأ سبعين صفحة من الكتاب قد ختمه المؤلف(639/27)
في حديثه عن الصفات الفنية للشعر السياسي في صدر الإسلام بقوله: (أما عبارات الشعر وصياغته الفنية فقد اضطربت بين القوة والضعف لأن الشعراء الذين شغلوا هذه الفترة مخضرمون أو مغمورون - والأولون تغير عليهم الجو فلم يستطيعوا مجاراته دائماً، ومنهم من انصرف عن الشعر إلى القرآن، والآخرون قالوه قطعاً في مناسبات شتى، على أن تأثير القرآن تأخر إلى الجيل الجديد). أما كيف كان ذلك فلا يجيب الأستاذ عنه بزعم ولا يقين.
وأستميح القارئ أن يعلم الثالثة والأخيرة ختام فصل طويل عن شعر الخوارج: (. . . وكان جديداً في أساليبه الرقيقة السلسة الجزلة التي تعتمد على القرآن الحكيم كما رأينا قبلا لعمران ابن حطان حين قال:
فنحن بنو الإسلام والله ربنا ... وأولى عباد الله بالله من شكر
مضمناً قوله تعلى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقول عيسى ابن فاتك الحبطي:
هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
فهذا معنى قوله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)
وإذا كان هذان البيتان - في ذوق المؤلف - جديدين في أسلوبهما (الرقيق السلس الجزل)، فقد فهمنا لماذا يتنكب الحديث عن الجانب الفني ويقتضبه في عبارات مرقمة؟! وما أيسر أن يقول المرء: هذا جديد، وهذا قديم؟ وما أيسر أن يأخذ من هذه الأحكام الشائعة فيقرر أن الأدب الجاهلي أدب الفطرة السليمة وأن أدب الشيعة أدب حزين، وأدب الخوارج أدب رصين. ذلك كله شئ ميسور، ولكن مناقشة هذه الآراء وبسط هذه الأحكام ومعالجتها بالذوق المرهف والإحساس اليقظ فشيء لا يتيسر لكثير من المؤلفين. واقرأ له قوله في (تلخيص) مذهب ابن قيس الرقيات تجد مصداق ما نقوله: (2) وبجانب ذلك تسود شعره السياسي عاطفة حزينة تشبه عاطفة الشيعة ولكنها لا تماثلها، إذ كان حزنه على قومه وعصبته العامة، وكان حزنهم على أنفسهم وعصبتهم الخاصة). فقد حكم المنطق حين كان يجب أن يحكم الذوق، فأسلمته مقدماته الخاطئة إلى نتيجة خاطئة؛ ولو قد قارن بين شعر ابن قيس وشعر الشيعة مقارنة فنية صحيحة لأدرك أن فن ابن قيس يفيض بالحزن الصادق واللوعة المريرة في رثائه صرعى وقعة الحرة، وفي بكائه أمر قريش وقد تفرق، ولأدرك أنه في(639/28)
ذلك يفوق بكثير شعراء الشيعة. ولكنه المنطق، والمنطق الجاف!
فليس الشعر إحساساً نفسياً فحسب، ولكنه تعبير فني عن هذا الإحساس، وقد لا يكون الشاعر أرهف الناس شعوراً ولا أعمقهم حساً، ولكنه بموهبته يستطيع أن يحمل الألفاظ من الإيحاء ما لا يمكن أن يحملها إياه من هم دونه في الملكة والبراعة وإن كانت قلوبهم تتفتت من الحزن! فلبيك الشيعة أنفسهم، وليبك ابن قيس قومه، فذلك لا ينقص ولا يرجح في ميزان الفن، وإنما يكون الترجيح بمقدار ما وفق الشاعر إليه من الإبانة عن فكره وعاطفته، وما بثه في فنه من صور بيانية وعبارات موحية. وليس السبيل إلى هذا الميزان الصادق أن يقول المؤلف في الحكم على فن ابن قيس: (يمتاز أسلوبه بالجزالة فلم يكن رذلا ولا سفسافاً على الرغم من إقامته بتكريت ومن طعن اللغويين على شعره ورفضهم الاحتجاج به). فذلك أشبه بهذه العبارات التي سئمنا سماعها من قولهم: (كثير الماء، مشرق الديباجة، حسن السبك).
لقد رفض اللغويون الاحتجاج بشعر الشاعر، فقد كان في شعره إذن خروج على ما ألفه اللغويون من الأساليب، ورفضت أنت حكم هؤلاء اللغويين؛ أفما كان لنا أن نسمع في إسهاب رأيك ورأى هؤلاء؟! وما الذي أخذوه عليه، وما الذي أعجبك منه؟ ولكن الأستاذ يكتب عن الفن في عبارات مرقمة!
ولما كان المؤلف أستاذاً في الجامعة كما بدأنا القول، فذلك يمضي بنا إلى الحديث عن دراسة الأدب العربي في كلية الآداب، فالكتاب تنقيح لما ألقى المؤلف من محاضرات في هذا الموضوع
والأدب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب يدرس على أنه وثائق تاريخية تصور ما كان في المجتمع العربي من أحداث. لذلك يختار الأساتذة أحفل الموضوعات بهذه النواحي التاريخية من أمثال الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق، ويغفلون موضوعات لا تقل عنها شأناً وخطراً، ولعلها تفوقها بياناً وفناً، وتفتح للحديث عن مشاكل الشعر الفنية آفاقاً أرحب وأوسع. غاية الجهد أن يقسم الأستاذ النقيضة إلى أغراض: نسيب وفخر وهجاء. ثم يتحدث عما في هذه الأغراض من معان ويقارن بينها وبين ما ورد في القصيدة المناقضة، كل ذلك في منطق جاف، ونظرة عقلية محضة، وعبارات مرقمة، لا يعرض لصور بيانية(639/29)
ولا لفظ جميل أو قبيح، ولا يصف إحساساً صادقاً أو زائفاً، ولا يوضح تقليداً ولا تجديداً
والطلبة يستمعون إلى هذه الدروس الجامدة في ضيق وملل، وينظرون فإذا إخوانهم في الأقسام الآخر يتلقون دراسة حية للأدب تعني أكبر العناية بالفن ومظاهره، وتقارن مقارنة دقيقة بين الشعراء، وتطلع على ما تصدره المطبعة كل يوم من كتب جديدة. ينظر الطلبة إلى هذه الدراسة الحية في الأقسام الأخرى، ثم ينظرون فإذا الأدب في قسمهم وثائق تاريخية، وإذا دراسة النقد الأدبي تقصر على طلبة الامتياز ابتداء من السنة الثالثة ليتلقوا نظرات جزئية في تاريخ النقد عند العرب تبدأ أولاها بأن النقد مشتق من نقد الدينار، أي اختبره ليتبين أزائف هو أم صحيح؟
ويشتد ضيق الطلبة بهذا الجمود، فيؤلفون من بينهم جماعات تدرس الأدب المصري الحديث وتراقب المطبعة العربية فيما تخرج من كتب، يلقى أحدهم بحثاً ويناقشه إخوانه فيه، ثم لا يجدون من أساتذتهم عناية ولا رعاية، ولا يكلف الأساتذة أنفسهم مشقة الاستماع إلى مثل هذه المحاضرات من تلاميذهم، بل أنهم ليوجسون خفية من هذه المحاضرات، ويعتقدون أنها تصرف الطلبة عما ينبغي لهم من جد وما يجب عليهم من إخلاص نحو دراسة الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق! راجت بينهم خرافة أن كلية الآداب تخرج علماء لا أدباء، وفاتهم أن عالم الأدب لابد أن يكون في قرارة نفسه أديبا، ولابد أن يتابع الآداب في نموها وتطورها، ويربط قديمها بحديثها، حتى يستطيع الحكم ببصيرة نافذة وإحساس صادق على ما يقرأ. راجت بينهم هذه الخرافة، فهم لا يطمئنون كل الاطمئنان إلى الطلبة الذين يبدون ميلا إلى دراسة الأدب الحديث أو المشاركة فيه بالإنشاء؛ تمام كما كان ينظر علماء الأزهر القدماء إلى الشيخ المرصفي وتلاميذه على بعد بين ما كان يدرسه تلاميذ المرصفي وما يدرسه الآن طلبة كلية الآداب. ولن يطمع طالب أن يستطلع رأي أستاذ في قصيدة نظمها أو قصة كتبها أو نقد لكتاب مما يقرأه الناس. لن يطمع طالب في ذلك ولئن فعل فلن يجد اهتماما، ولئن وجد اهتماما فلن يجد غناء!
إن أمثال هذه الدراسات الجافة المربكة التي يمثلها كتاب (تاريخ الشعر السياسي) لتصرف الناس عن قراءة الأدب العربي القديم وتزهدهم فيه، وخير لأساتذة الجامعة أن يروضوا أنفسهم على إرضاء النزعات الحديثة في نفوس طلابهم، فذلك ينفض عن الأدب العربي(639/30)
القديم ما أورثته هذه الدراسات من جمود
عبد القادر القط(639/31)
5 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمة)
ونذكر تعليقاً على ما ورد في 1: 412 ا 19 - 23 أن كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصفهاني، طبع في عشرة مجلدات (القاهرة 1932 - 1938). وكذلك كتاب (صفة الصفوة) لابن الجوزي طبع في أربعة مجلدات (حيدر آباد 1355 - 1357هـ).
وفي 1: 572 ا 17 كان مفيداً أن يشار إلى كتاب (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي. ففيه تفصيل واف عن مجيء المغول إلى إربل.
وفي 2: 80 ا 19 يضاف في الحاشية أن الدكتور فيليب حتى نشر كتاب (الاعتبار) لأسامة بن منقذ (برنستن 1930) وهي طبعة تفوق طبعة درنبرج التي تقدمتها.
وتعليقاً على ما ورد في الأسطر الأربعة الأخيرة من 2: 80ب نقول أن الأستاذ أحمد محمد شاكر نشر كتاب (الباب الآداب) لأسامة بن منقذ (القاهرة 1935).
وفي 2: 98 ب 13 يضاف في الحاشية أن كتاب (العبارة) (باري أرمينياس لأرسطو طاليس ترجمة إسحق بن حنين) نشره بولاك في ليبسك سنة 1913.
ونقول تعليقاً على ما ورد في 2: 264 ا 2 أن النصف الأول من (كتاب الزهرة) لأبي بكر محمد بن داود الأصفهاني، نشره نيكل وإبراهيم عبد الفتاح طوقان في بيروت سنة 1932 بنفقة جامعة شيكاغو.
أما رحلة أبي الثناء الآلوسي (المتوفي سنة 1270هـ) المذكورة في 2: 602 ا 13 - 19، المسماة (نشوة المدام في العودة إلى مدينة السلام) فقد طبعت في مجلد واحد مع رحلته الأولى المسماة (نشوة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول) (مطبعة الولاية ببغداد سنة 1291 و 1293هـ).
ونعلق على ما ورد في السطرين الأخيرين من 2: 602 ب أن الكتاب الذي نال فيه السيد محمود شكري الآلوسي جائزة ملك السويد هو (بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب). وقد(639/32)
طبع مرتين، الأولى في بغداد (1314هـ)، والثانية في (القاهرة 1924 - 1925) كل منهما في 3 مجلدات.
وفي 2: 619 ا 19 كان مفيداً أن يقال إن كتاب (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء) للآمدي، نشره كرنكو مع كتاب (معجم الشعراء) للمرزباني (القاهرة 1354هـ).
وفي 2: 659 ب 6 - 8 ورد قوله: (ومما صنفه (أمين ابن حسن حلواني المدني، المتوفي سنة 1316هـ) مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود، وهو كتاب في تاريخ داود باشا). قلنا: إنه لم يصنفه بل اختصره. فالأصل لعثمان بن سند البصري المتوفي سنة 1246 وهو لما يطبع، إنما طبع مختصره لأمين حلواني المدني في يومي سنة 1304هـ.
وفي 3: 5 ا 19 قرأنا قوله: (ورسالة (من تآليف أبي البركات الأنباري) تسمى الزهور، ذكرها عبد القادر البغدادي في كتابه خزانة الأدب، بلاق 1299ج 2 ص352 س14) انتهى.
قلنا: ولما راجعنا خزانة الأدب في الموطن المشار إليه، وجدناه يسميها (الزاهر) وهو ما يشاهد أيضاً في كشف الظنون (3: 519 لندن، أو 2: 3 استانبول).
ونزيد على الأسطر الثلاثة الأخيرة من 3: 41 اما يأتي: وتلاه ليفي بروفنسال - فوضع قائمة أخرى بهذا العنوان أيضاً، وصف فيها طائفة من مخطوطات الاسكوريال).
ومما قاله في 3: 324 ب 19 - 20 ولم يؤخذ صور فوتوغرافية لهذه النقوش (يقصد نقوش بافيان في شمالي العراق، وقد مر بنا ذكرها في بعض ملاحظاتنا) بعد). قلنا: كان يمكن أن نذكر في الحاشية ما يلي: بل أنها صورت بإتقان. وللاطلاع على تلك التصاوير راجع:
, , 1927 , 1 - 22 ; , 1 - 17).
' 1935 , 44 - 49 ; , 13 , 31 - 35).
وفي 3: 430 ا 1 نقول أن قصة إشتر هي - على ما في التوراة - قصة أو سفر استير.
وفي 3: 498 ا 8 كتاب التنبه (للمسعودي) صوابه: التنبيه.
وفي 4: 399 ا 2 كتاب الجواهر في معرفة الجواهر. والصواب كتاب الجماهر في معرفة الجواهر (وقد طبع في حيدر آباد سنة 1355هـ).(639/33)
وفي 4: 492 ا 17 كتاب مغارة الكنز. صوابه: مغارة الكنوز.
وذكر في 4: 504 ب 7 أنه (قد حال كبر حجم مؤلف الصفدي (كتاب الوافي بالوفيات) دون طبعه إلى الآن). قلنا: نشر المستشرق ريتر الجزء الأول منه في استانبول سنة 1931.
وفي 4: 588 ب 10 كان يحسن أن يقال في الحاشية إن كتاب (الإشارة إلى محاسن التجارة) لجعفر بن علي الدمشقي قد طبع في القاهرة سنة 1318هـ.
وفي 5: 13 ب 20 ورد ذكر كتاب وصوابه , وهو كتاب التاريخ الطبيعي الشهير تأليف بليني.
رابعا: الأعداد
ورد في 1: 106 ب 8 (وتوفي (سبط ابن الجوزي) عام 644هـ). والصواب 654هـ راجع: البداية والنهاية لابن كثير (13: 194) والسلوك للمقريزي (1: 401) والنجوم الزاهرة (7: 39) وشذرات الذهب (5: 266).
وفي 1: 150 ا 14 قال: جـ1 وصوابه: جـ6.
وفي السطر الأخير من 1: 324 اذكر عام 1854 والصواب: أنه عام 1891.
وفي 1: 389 ا 19 قال: جـ 1 وصوابه: جـ 50 وقد نشأ هذا الوهم من أن الرقم كتب في الأصل رومانياً هكذا فظن المترجمون أنه
ومما لفت نظرنا بوجه خاص قوله في 1: 570 ا 19 - 20 (وهي (يقصد مدينة في العراق) قرية صغيرة يبلغ عدد سكانها 3757 نسمة). قلنا: هذا الرقم بعيد عن الحقيقة، ولعل كاتب المقال نقل ذلك عن كتاب كوينه المطبوع سنة 1892 بعنوان ' ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن نفوس إربل يبلغون 19000 نسمة (راجع جغرافية العراق الثانوية لطه باشا الهاشمي. الطبعة الثانوية، بيروت 1939، ص121). أما دائرة المعارف البريطانية (الطبعة الرابعة عشرة، سنة 1937، مادة اربل) فتقول أن نفوس هذه البلدة 25000 نسمة.
وفي 2: 79 ب 18 ذكر سنة 454هـ. وصوابها: 584هـ.
ومثله قوله في 3: 629 ا 3 سنة 1896م وصوابها 1876م.(639/34)
ومما دونه في 3: 671 ب 25 - 27 هذه العبارة: (ويتراوح عدد سكان هذه المدينة (مدينة البصرة) وفقاً للتقديرات المختلفة بين 18 ألف و6 ألف نسمة، والراجح أن التقدير الأقل هو الأصح). قلنا: كان ينبغي التعليق على هذا القول الذي لا يحصل منه حقيقة يركن إليها. وعندنا أن سكان هذه المدينة يبلغون الآن زهاء 85000 نسمة وهم في تزايد مستمر.
وفي 4: 3 ا 23 قرأنا باستغراب قول القائل (أما العراق، فقطر مساحته 143000 كيلو متر). وهذا وهم. والصواب: أن مساحته 43250 ميلا مربعاً، أي نحو 375000 كيلو متراً مربعاً (راجع: مفصل جغرافية العراق لطه باشا الهاشمي. بغداد 1930، ص552).
وفي 4: 57 ب 21 ذكر ص 296. وصوابها: ص206
وفي 4: 493 ا 5 قوله: الطبري المتوفي سنة 210هـ. والصواب: سنة 310هـ.
وكذلك ذكر في 4: 499 ب 18 أن وفاة الشابشتي سنة 338هـ. والصواب: أنها سنة 388هـ إذا أخذنا برواية ابن خلكان (وفيات الأعيان 1: 481 بولاق الأولى)
خامسا: الملاحظات المتفرقة
قال في 1: 147 ا 15 - 17 (فرغب الخليفة المقتدر في العالم التالي في إقصائه وإحلال ابن أبي البغل حاكم الفارسية مكانه). ويلاحظ أن لفظة (الفارسية) في هذه العبارة تقابل لفظة في الأصل الفرنجي. قلنا: الذي في تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لهلال بن المحسن الصابئ (ص340) أن محمد بن أحمد بن أبي البغل. . . كان يتقلد فارس).
وكثيراً ما استعملت اللجنة (انظر مثلا 1: 227 ا 5 و 9؛ 1: 227 ب 23؛ 1؛ 281 ب 4؛ 1: 282 ا 6 و 7 و 8) لفظة (البطريك) في محل (البطريرك) أو إحدى اللغات الواردة فيها كالبطريق أو البطرك أو البترك أو الفطرك أو الفطريك أو الفطريرك. فلو اتخذت أحد الألفاظ لأصابت كبد الحقيقة في تعريبها لفظة الدالة على الرئيس الديني الأعلى عند النصارى. بخلاف البطريق التي تدل على رتبة شرف عسكرية عند الرومان.
وقد وقفنا في هذه اللحظة على نبذة ثمينة كتبها العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي في مجلة الثقافة (العدد 193 ص 991 - 992) أوضح فيها الفرق بين البطريرك والبطريق.
وفي 1: 377 ب 25 ورد قوله: (وقد حاول أبو العتاهية أن يجد حلاً لمعضلة الأثنينية). وهذه الكلمة الأخيرة تعريب اللفظة الواردة في الأصل. قلنا: عرف الأقدمون من كتبة(639/35)
العرب هذه اللفظة، فقالوا فيها (الثنوية). راجع: الآثار الباقية للبيروني (ص 207) والملل والنحل للشهرستاني (1: 188 طبعة كيورتن في لندن سنة 1842) واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (طبعة علي سامي النشار ص 88 - 89).
وقال في 2: 264 ب 14 (وجعله (هارون الرشيد جعل الأصمعي) مؤدباً للأمير). قلنا: الذي في الأصل الإفرنجي (وجعله مؤدباً لابنه الأمين).
وقد وجدنا المعلومات الواردة في 1: 574 ب 14 - 16 قديمة لا يمكن أن يؤخذ بها، وكان يحسن التعليق عليها بما يقربها من الحقائق المعرفة في وقتنا.
وفي 3: 112 ا 5 الحفيض. صوابها: الحضيض وهو من أوهام الطبع.
وقد لاحظنا في 3: 200 - 201 نقصاً ظاهراً بين هاتين الصفحتين في سياقة المتن الوارد، فلعله سقط شيء من العبارات.
وفي 3: 307 ا 11 الثقاة. صوابها: الثقات. ولعل هذا من غلط الطبع.
وفي 3: 310 اقرأنا موضوعاً بعنوان (بالية). والذي في الملل والنحل للشهرستاني (2: 440 كيورتن): (البلية).
وفي 3: 450 ا 3 وردت لفظة بدري. والمشهور أنها بادري.
وفي 3: 688 ا 23 المنديان. والصواب: أن يقال فيها المندائية.
وفي 3: 688 ا 24 ورد اسم (الصُباء). وكان يليق القول إن هذه التسمية من تصحيفات العوام في العراق؛ أما في المراجع القديمة فقد عرفوا باسم (الصابئة).
وفي 4: 390 ب 20 ضبطت لفظة كلك بتشديد اللام. والصواب بالتخفيف وزان حلب.
وقال في مادة (التجارة) 4: 581 ا 5: (انظر اللفظتين السريانيتين تكرار و) وقدسها عن ذكر اللفظة الثانية، وهي على ما في الأصل: تاكراً.
الختام
هذا أهم ما تراءى لنا مصحفاً أو مفتقراً إلى تعليق وإيضاح. وهنالك عدد لا يحصى من أغلاط الطبع، تسربت إلى الألفاظ العربية والفرنجية، ضربنا عن ذكرها صفحاً لضيق المقام ولعدم خفائها على أكثر القراء.
وإظهاراً للحق نقول أن ما أوردناه ليس إلا هنات هينات بالقياس إلى الأتعاب الكثيرة التي(639/36)
بذلها المترجمون الأفاضل والعناية الفائقة التي صرفوها في إبراز هذه الترجمة بثوبها القشيب، ذلك على كثرة ما يعترضهم في هذا السبيل من العقبات وثقل التكاليف. ونحن نسأل الله أن توفق اللجنة لمواصلة هذا العمل الجليل فنراه يوماً ما - وهو ليس ببعيد - قد أوفى على التمام والكمال، وأضحى مرجعاً ثميناً ومنهلا عذباً لطلاب البحوث الشرقية.
(بغداد)
كوركيس عواد(639/37)
نظرية كونفوشيوس الدينية
للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وكان يعيب على من قدم القرابين إلى أرواح غير آبائه. يقول في الفصل الثاني من كتاب الحوار:
(من قدم القرابين إلى الأرواح التي لا تستحقها فهو متملق، ومن رأى الصالحات ولم يعملها فهو جبان). وكان يقدم الآلهة والأرواح على نفسه ويفاخر بمن عمل بهذا المبدأ. يقول في الفصل الثامن من الكتاب:
(ما عرفت في الملك يو مثلبة فإنه كان يتناول من لمطعم والمشرب الشيء البسيط ويقدم إلى الأرواح والآلهة ما هو في غاية اللذة، وكانت بذلته ثياباً أخلاقاً وكانت ملابسه الخاصة بالشعائر والطقوس في غاية الجمال، وكان يسكن في بيت حقير ويبذل قصارى جهده في حفر الترع والخنادق. ما عرفت فيه مثلبة.
لكن كونفوشيوس لا يحب أن يتملق الإنسان أرواح الأموات والآلهة بكثرة القرابين وشدة التقرب إليها بل يجب الابتعاد عنها:
(سأل فان جيه أحد تلاميذه عن الحكمة فقال له الأستاذ: الحكمة هي القيام بالواجبات للمجتمع الإنساني والاحترام لأرواح الموتى والآلهة مع الابتعاد عنها). السادس من الكتاب.
وكان يرى تقديس الآلهة بالإخلاص والامتثال لأوامرها بالتحلي بالفضائل والاجتناب عن نواهيها بالتخلي عن الرذائل:
(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو (أحد تلاميذه) أن يسترحم له الآلهة فقال الأستاذ هل في ذلك أصل؟ فأجابه: نعم، لقد ذكر في كتاب التكهن القديم: (أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد) أي بالفضائل والآداب التي يتخلق بها (السابع من الكتاب).
وكان يرى احترام الموتى كاحترام الأحياء بل احترام الأحياء أوجب وألزم من احترام الأموات:
(سأل جي لو (أحد تلاميذه) عن خدمة أرواح الموتى فقال له الأستاذ: لم نقدر على خدمة(639/38)
الأحياء فكيف نقدر على خدمة الأموال؟ وقال جي لو: أسال حضرتك مجترئاً عن الممات. قال الأستاذ: لم نعلم الحياة فكيف نعلم الممات؟) الحادي عشر من الكتاب.
5 - نظرية كونفوشيوس في الآله الأعلى: السماء:
يحكي كونفوشيوس عن نفسه أنه يعرف قضاء الله وقدره وهو ابن خمسين (الفصل الثاني من كتاب الحوار) فكانت أعماله حينئذ لا تخرج عن أوامر الله وحدوده أبداً، وكان يقدسه أعظم تقديس ويتقيه أشد تقوى، وكان يتخلق بأخلاقه ويمثل صفاته في حركاته وسكناته، وكان الله مثلا أعلى في أعماله في حياته، وكان كل تعاليمه مبنية على معرفته في السماء معرفة تامة واعتقاده فيها اعتقاداً جازماً ما كان يتصدى لتعليم الناس ونشر الحق في العالم، فالله مصدر علمه وغايته الأسمى:
(قال الأستاذ: أريد ألا أتكلم، قال تس كونغ. إن لم تكلم حضرتك فإذا نروى عنك نحن معشر التلاميذ؟ قال: هل تتكلم السماء، إنما تعاقب الفصول الأربعة وتنشأ الأشياء متوالية ماذا تقول السماء؟) السابع عشر من الكتاب.
(قال الأستاذ: والهفاه! لا يعرفني أحد. فقال تس كونغ: ماذا تعني حضرتك بعدم معرفة أحد لك؟ قال الأستاذ: لا أتذمر من السماء ولا أتفجر بالناس وإنما أدرس الأمور السلفية لأصل بها إلى الأمور العلوية لعل الذي يعرفني هو السماء!) الرابع عشر منه.
يسعى الفيلسوف كونفوشيوس لتعليم الناس وهو يعلم أنه لا يعرفه إلا الله فلا يجزع ولا يغضب إذا قامت العراقيل في نشر الحق ولا يتأخر في ذلك ما دام الله معه.
تأسف كونفوشيوس كثيرا جداً حينما توفى بين يون نابغة تلاميذه يقول: وا أسفاه لقد توفتني السماء! لقد توفتني السماء! وإنما قال ذلك لأن الحق قد فقد أحد ناصريه وأشد دعاته وأقوى ناشريه وأصدق عامليه لكنه يستسلم لقضاء الله وقدره لا يجزع ولا يفزع يقول في الفصل العشرين من كتاب الحوار:
(من لم يعلم القضاء والقدر يمكن أن يصبح رجلا كامل الخلق).
(يقول تسي هسيا: إنني قد سمعت أن الحياة والممات كلها بالقضاء والقدر، والمال والجاه كلها في يد السماء). الثاني عشر من الكتاب.
يعتقد كونفوشيوس بوجود الله القادر المريد الذي قدر الأشياء في الدنيا لا بغيرها إلا هو:(639/39)
(قال الأستاذ: إن انتشرت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر وإن ضاعت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر، فماذا يستطيع كونغ بي ليو أن يعمله مع القضاء والقدر؟) الرابع عشر منه.
ويعتقد الأستاذ أن الإنسان الصالح يجب أن يتقي قضاء الله وقدره، ومعنى ذلك أنه لا يعصى أوامره ولأجل أن أقوال الأنبياء، والكبار مبينة لأوامر الله كانت الأقوال يجب أن يعمل بها أيضاً:
(قال كونفوشيوس: للرجل الكامل الخلق مخافات ثلاث: مخافة القضاء والقدر، ومخافة كبار الدولة، ومخافة أقوال الأنبياء. وأما الرجل الناقص الخلق فلا يعرف القضاء والقدر ولا يخافه ويزدري بكبار الدولة ويستهزئ بأقوال الأنبياء) السادس عشر منه.
6 - صفات الله في نظر كونفوشيوس
إذا دققنا البحث فيما اعتقده كونفوشيوس في الإله الأعلى - السماء - فيما يحتويه كتاب الحوار وجدناه يصف الله بالصفات الآتية:
(1) يعتقد أن الله قادر مدبر جبار عزيز لا يغير إرادته أحد ولا يقدر أحد على مخالفة القدر والقضاء:
(قال الأستاذ: قد خلقت السماء في نفسي هذه الفضائل فأي شر يمكن أن يريده بي هوان طي؟) السابع من الكتاب.
(لما وقع الأستاذ في الخوف من أهل كوانغ قال:
ألم تكن الثقافات والآداب عندي هنا بعد أن توفي الملك وين؟ إن كانت السماء تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب ما كان لي نصيب منها وإن لم تكن تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب فماذا يمكن أهل كوانغ أن يعملوا بي؟).
تبين مما سقناه أن كونفوشيوس كان مضطهداً لأعدائه أعداء الحق لكنه يعرف أن الله معه وأن الحق لابد أن يظهر وإن كره الكافرون المنكرون، وإن ما أراده الله وقدره لا يمكن أن يتغير ويتبدل، وإن قوة الإنسان وإن بلغت أشدها لا يمكن أن تحول إرادة الله وقدره أبداً، وهذه العقائد راسخة في نفس كونفوشيوس دافعة إلى العمل من دون جزع ولا خوف وهي عقائد دينية متينة.(639/40)
(2) يعتقد أن الله علم بكل شئ لا ينخدع ولا يغتر:
(لما اشتد مرض الأستاذ جعل تس لو يمثل تلاميذه خدماً له رسميين. ولما تناقص مرضه قال: طالما يخدع تس لو. ليس لي خادم رسمي فإن تظاهرت بأن لي خدماً رسميين فمن ذا الذي أخدعه؟ هل أخدع السماء؟) التاسع من الكتاب.
(3) يعتقد أن الله يجزي الأعمال أن خيراً فخير وإن شراً فشر. وإن كانت الأعمال موافقة لأوامر الله وإرادته كانت خيرا وإلا كانت شراً فيجزي الأولى بالسعادة والنعيم في الدنيا والثانية بالعذاب والشقاوة فيها:
(لما زار الأستاذ الأميرة نان تس (المشهورة بفسادها) مخط تس لو فحلف الأستاذ قائلا: لو ارتكبت ما لا يليق غضبت علي السماء! غضبت علي السماء!) السادس من الكتاب.
هذا كلام إنما يدل على أن الأمور المنكرة يجزيها الله بالعذاب والشقاوة وبقطع دابر فاعلها.
(سأل وانغ سون قائلا: ما معنى هذا المثل: التملق لإله التنور أفضل من التملق لإله الزوية الغربية الجنوبية من البيت؟ قال الأستاذ: كلا! من أجزم نحو السماء فلا محل له بالدعاء). الثالث من الكتاب.
يدل هذا القول على أن السماء لها الحق في الجزاء بالخير والشر، وأنها تجزي الأعمال السيئة التي تخالف أوامر السماء وإرادتها بالشر والعذاب وأنه لا يستخيرها من يخالف أوامرها لا يستغفرها ولا يطلب منها رحمة ولا نعمة.
(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو أن يسترحم له الآلهة. فقال الأستاذ: هل في ذلك أصل فأجابه نعم! لقد ذكر في كتاب التكهن القديم: أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد). السابع من الكتاب.
يدل هذا الكلام على أن الأمراض عذاب الله الذي يجزي به الأعمال الفاسدة، كما انتشرت هذه الفكرة عند قدماء الصينيين، وكذلك استرحام آلهة السماء والأرض عند المصائب عادة من عاداتهم لقديمة لكن كونفوشيوس يعرف أنه على حق في كل أعماله لم يخرج عن حدود الله ولم يخالف أوامره أبداً فلذلك أجاب تلميذه بقوله: لقد استرحمت منذ زمن بعيد. لأنه ينكر فائدة الاسترحام للعاصي والشرير الذي لا يمتثل بأوامر الله ولا يجتنب عن نواهيه وهو معتقد اعتقاداً جازماً أن الاسترحام إنما بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة لا بالعبادة(639/41)
ولا بالقرابين. يقول جوان تس أحد العلماء المعاصرين لكونفوشيوس: (مرض كونفوشيوس فأراد تس كونغ أن يتكهن له فقال له كونفوشيوس: على رسلك! أنني لا أجترئ ولا أتقدم في مجلس وكان اعتكافي وحياتي كما إذا كانت في أيام الصوم وكان طعامي وشرابي كما إذا كانا للقربان فقد تكهنت منذ زمن بعيد). هذا الكلام قريب مما في كتاب الحوار أتينا به ليوضح المعنى الذي نحن بصدده.
7 - الخاتمة
هذه هي خلاصة مذهب الكونفوشيوسية في الآلهة والملائكة والأرواح والإله الأعلى وهو السماء، وهذا المذهب ليس بجديد بالنسبة إلى عقائد القدماء الصينيين بل هو عينها ولم يكن كونفوشيوس بمجدد للدين القديم لأهل تلك الأزمان الغابرة بل هو قاص لما يحتويه وحاكيه على ضوء من العلم الذي يعرفه في ذلك الوقت وقد قال بنفسه:
(إني راوية غير منشئ ومصدق للسلف ولذا أشبه نفسي مجترئاً بصالحنا القديم بانغ). السابع منه.
فهو في هذه الناحية من المحافظين على التقاليد القديمة والمقلدين لما عليه الآباء.
والمذهب الكونفوشيوسي منتشر في أنحاء الصين كلها معمول به إلى الآن؛ وهو الذي يسمى بالديانة الكونفوشيوسية وهو في الحقيقة الدين الصيني القديم كما بينا.
والآن قبل أن نختم هذه المقالة يجب أن يدرك القارئ العزيز ثلاثة أمور متصلة بالموضوع وهي:
(1) أن مل لخصنا من المذهب الكونفوشيوسي في الإله والآلهة كله من كتاب الحوار الذي دونه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه. وأما الكتب القديمة التي لخصها الأستاذ الفيلسوف كونفوشيوس فقد ذكرت فيها هذه النظريات وزيادات كثيرة تبين صفات السماء وغيرها من الآلهة أكثر وأوضح، فإذا سنحت لي الفرص فقد اكتب عنها مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
(2) نظرية ألوهية السماء موجودة في الأمم القديمة، وكذلك نظرية وجود إله أعلى خالق الكون ومدبره موجودة في الأديان المنتشرة، ليست الصين هي التي تتكلم عنها وحدها ولا كونفوشيوس ينشرها وحده. لقد وجدت أيام كونفوشيوس فلاسفة كبار في الصين وغيرها يبحثون عن هذه المسألة فإذا أتيحت لي الفرصة فسأكتب عن فلسفة لوز في نظرية الإله(639/42)
الظاهر بنفسه المتبين بأفعاله وهو الطبيعة نفسها ونظرية ميز في الإله الكامل الصفات الفاعل الأفعال العليم القدير الذي يشبه ما جاء في الإسلام كثيراً جداً وآراء الفلاسفة الصينيين الآخرين إن شاء الله تعالى.
(3) النقطة الأخيرة التي أريد أن أبينها هي أن عبادة الكونفوشيوسيين وصيامهم ليستا كما جاء في الدين الإسلامي فهم يعبدون الآلهة والأرواح بثلاث سجدات مع ركعة واحدة أو تسع سجدات مع ركعات ثلاث وهم يصومون عن أكل اللحوم والأفعال الفاحشة والأقوال الكاذبة لا بسين لباساً وقراً بعد غسل جديد معتكفين في المنزل وقتاً من الزمن ثم يعبدون في المنزل أو المعبد بعد صيام ساعات أو أيام ويقدمون القرابين وهم في ذلك كله كالبوذيين الذين يعبدون الأصنام مع فرق أن الأولين ليست لهم التماثيل وقد ينصبون النصب الخشبية التي كتبت عليها أسماء الذين يعبدونهم أو نقشت عليها كلمة (عرش السماء والأرض والملك والآباء والأساتذة) ويعبدونهم كأنهم حاضرون.
أبو بكر هوغانجين الصيني(639/43)
لا تحزنن. . .!
(مهداة إلى صديق متشائم. . .)
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه أبيات لحافظ الشيرازي الشاعر الفارسي ترجمتها نظما. وحافظت فيها على وزن الأصل وقافيته لأجعلهما مثلا لما في الشعر الفارسي من أوزان وقواف:
فأما الوزن فهو الرمل المثمن أي ذو التفصيلات الثمان. والمعروف في العربية أن الرمل لا يزيد على ست تفعيلات. وأما القافية فهي المردوفة: والرديف في العروض الفارسي كلمة، وكلمات تكرر في أواخر الأبيات فيلتزم قبلها روي يعتمد عليه النظم:
يوسف المغفور في أوطانه، لا تحزنن ... عائد يوماً إلى كنعانه، لا تحزنن
بيتُ الأحزان تراه عن قريب روضة ... يضحك الورد على بيانه، لا تحزنن
رأسك الأشعث يوماً سوف يلقى ذنبه ... ويُفِيق القلب من أحزانه، لا تحزنن
هذه الأفلاك إن دامت على غير المُنَى ... لا يدوم الدهر في حدثانه، لا تحزنن
أيها البلبل يأتيك ربيع ناضر ... تستظل الورد في أغصانه، لا تحزنن
لست تدري الغيب في أسراره لا تيأسَن ... كم وراء السِر من ألوانه، لا تحزنن
وإذا جُزت إلى الكعبة يوماً مهمها ... فدهاك الشوك من سَعدانه، لا تحزنن
ومُحيل الحال يدري حالنا بين العدى ... والهوى والحبّ في هجرانه، لا تحزنن
يا فؤادي إن يسِل بالكون طوفان الفنا ... فُلك نوح لك في طوفانه، لا تحزنن
منزلٌ جِدّ مخوف ومراد شاحط ... لم يدُم فجّ على ركبانه، لا تحزنن
حافظٌ! ما دمت في الفقر وليل حالك ... في دعا الله أو قرآنه، لا تحزنن(639/44)
السراب الأخير. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
يا سجين الحياة أين الفرار ... أوصدَ الليل بابه والنهار
فَلِمَن لفتةٌ وفيم ارتقاب ... ليس بعد الذي انتظرت انتظار
والتَّعِلاتُ من هوى وشباب ... قصةٌ مُسدلٌ عليها الستار
وَهَب السجن بابه صار حراً ... لك، لا حائلٌ ولا أسوار
وعفا القيد عنك كفاً وساقاً ... فإذا الأرض كلها لك دار. . .
أينَ أين الرحيل والتسيار ... بَعُدتْ شقةٌ وشط المزار
والخُطى المثْقَلات باليأس أغلا ... لٌ لساقيك والمشيب عثار
دون ما تبتغي دماءٌ وشوكٌ ... والسراب الذي ترى والقفار
ما الذي يصنع العليل المسجَّى ... قد تولى العوّاد والسَّمار
طال ليل الغريب، وامتنع الغم ... ضّ وفي المضجع الغضَي والنار
ما انتفاع الفتى إذا عَفَت الجنَ ... ة واجتاح دوحَها الإعصار!
عشت حتى أرى خمائل حبي ... تتهاوى كشامخٍ ينهار
تحت عيني! ويذبل الحسن فيها ... ويموت الربيع والأنوار. . .
ما انتفاعُ الفتى بموحش عيش ... بقيت كأسه وطاح العقار
وبقاءُ البساط بعد الندامى ... كأس سُمْ بها يطوف البوار
كل ما سرّ مرَّ مختصراً ... كالظل أوقاته قلال قصار
واستمرَّ المرير دون اختصار ... كيف يرجى لما يسوء اختصار
ما انتفاعي وتلك قافلةُ العـ ... يش وفي ركبها الظما والدمار
الدمار الرهيب والعَدَم الشا ... مل واللفح واللظى والأُوار
يا ديار الحبيب هل كان حُلماً ... ملتقى دون موعدٍ يا ديار!
يا عزيز الجنى عليك سلام ... كيف جادت بمثلك الأقدار
بوركَ الكَرْم والقطوف وأوقا ... تٌ كأن العناق فيها اعتصار
كلما أَطْلَقَتْك كفِّى استَردتْك ... كما يحفزُ الغريمَ الثارُ(639/45)
في العربة. . .
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
ركبتها فقمت أسعى إليها ... وتهادت ونحن في جانبيها
ومضت تنهب الطريق وتختا ... ل عليه مثل اختيالي عليها
لم لا أزدهي وعن جانبي شمـ ... س كأن الشموس ملك يديها
أشرقت بالجمال في وجنتيها ... وبسحر الدلال في مقلتيها
وتجلت كربية الحسن ما أحْـ ... لَى فتوناً يطل من ناظريها!
ومضينا وللعيون حواليْ ... نا نطاق كأننا ما مضينا!
في طريق تسابق الدوح صفَّيْـ ... ين إلينا بالظل يحنو علينا
ونسيم يسيل كالعطر حيَّا ... نابه النهر وهو يجري الهويني
وأصيل كوجهها خجل يفْـ ... ترُّ بالحسن عسجداً أو لُجَيْنا
فتذكرت ما مضى من غرامي ... أين يا قلب ما مضى أين أينا؟
قلت مرحى يا أجمل الغادات ... ألف بشرى بأجمل الساعات!
ما تزالين يا ملاكي خيالا ... نابضا في دمي بغير أناة
أشتهى أن أراك يوماً بعيني ... وفؤادي يراك ملَء الحياة
والتقينا وتلك أعجب لُقْيَا ... جمعتْنا في أعجب العَرَبات
خطرت كالنسيم حيناً وكالإعْـ ... صار طوراً وكالرُّؤى الباسمات
والجواد الهزيل ذاك الذي شا ... رَفَ عمرا قاسى بع ألف عمْرِ
خفَّ يجري كالسهم تلمحه العيْـ ... نُ سريعا ولم يكن قط يجري!
استخفّتْه نشوة فتصابى ... مثلما راعني الجمال المغري
فتمنَّيْتُ لو أعانقها شوْ ... قا إليها وإن تكن ملء صدري
أَمَرتنِي بحسنها، ونهتني ... بعفاف، فضاع نهيي وأمري!!
يا فتاتي! أتذكرين صبيًّا ... أنت عَلَّمْتِه غرام الغواني؟
كان يلقاك في حياءٍ غرير ... حالم بالجمال هشِّ الأماني
يعشق الورد في الغصون ويغضى ... خجلا منه في خدود الحسان(639/47)
ثم أصبحت من شبابي وأشجا ... ني كأني أعيش في بركان!
الصيا كالندى - سلام عليه! ... والشبابُ العنيفُ كالطُّوفان
سألتني: ألسْتَ أنتَ فتانا ... بعدما كان من هواك وكانا؟!
أو لست الذي تغنى بنجوا ... نا وصاغَ البيان فينا جمانا؟
قلت: لولاك ما نظمت أغاريـ ... دي وزقزقت هذه الألحانا
أين أيامنا وأين لياليـ ... نا وأين المنى وأين هوانا؟
وصِبانا والدَّهر وقفٌ علينا ... ونعيم الحياة خلف خطانا؟
وغدا الدهر شارداً معجل الأو ... قات يجري مثل الجواد الجموح
وقفةً يا جوادُ إن لهيب الشـ ... وق يغلي به دمي وجروحي
وقفة وقفةً أُهَدْهِدُ أَحشا ... ئي بريَّا هذا الجمال الصَّبوح
لم لا ترتوي به كَبِدٌ حَرَّ ... ي وقلب كالطائر المجروح؟
ثم عانقتها وقبَّلْتها عشْـ ... راً كأني قد انتقمت لروحي!!
وانتشينا وقلت للنفس غنِّي ... وافترقنا فقلت للنفس نوحي(639/48)
البريد الأدبي
حنين الزوج - من قصص جحا
(للأستاذ كامل كيلاني)
صفحة مختارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه
قال: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب (بجحا):
(لم يلبث الظلام أن خيم على المدينة وساكنيها، وأطفأت الأنوار، وسكنت الجلبة والضوضاء، وساد الصمت، وتلألأت النجوم في السماء، ورددت الكلاب نباحها كلما طرق آذانها صوت، أو أحست نأمة أو شعرت بقادم
أما بيت (أبي الغصن جحا)، فقد أوحش (أي: خلا من ساكنه)، فجلست (ربابة) زوجه، أمام مغزلها - بعد أن نام ولداها وجارتها - تفكر في ذلك الغائب الذي كان يملأ بيتها بهجة وسعادة. وظلت تغزل وهي تسلي نفسها بالأنشودة القديمة التالية:
يا طير، يا أشجار، يا روضة ... فيها من الفردوس أزهارُ
يا خيط، يا إبرة، يا مِغزَلي، ... يا نجم، يا كوكب، يا دار
يا نحل: طني واملئي مِسمعي، ... وحدثي قلبي (متى ساروا؟)
سافر ربُّ الدار عن داره، ... وقد خلت من أُنسه الدار
عناية الله، وتوفيقه ... ولطفه، صحب وسمار
والشمس والبدر ونجم السما ... تحوطه منهن أنوار
يا نحل طني واملئي مسمعي ... وحدثي قلبي: متى ساروا؟
سافَر رب الدار عن داره ... وأوحشت من بعده الدار
يا ورد، يا ريحان، يا نرجساً ... يحفه نور وأنوار
يا ملء داري وفؤادي معاً ... قد فرقتنا عنك أقدار
يا نحل طني واملئي مسمعي ... وحدثي قلبي متى ساروا؟
سافر رب الدار عن داره ... وأظلمت من بعده الدار
عاد فراغا كل شئ هنأ ... منذ ترامت بك أسفار(639/49)
متى يرى الدار وسكانها؟ ... متى تراه هذه الدار؟
يا نحل طني واملئي مسمعي ... وحدثي قلبي متى ساروا؟
سافر رب الدار عن داره ... فهل تسلى عنه ديَّار؟
كامل كيلاني
خطأ شائع:
جاء في (الرسالة 637) في مقالة (القطبان الأرضيان والإسكيمو) ما نصه:
(وأمر الخليفة المأمون ببناء مرصد فلكي فوق جبل قاسيون في دمشق، وبقيت آثاره حتى دخول الحلفاء إلى سوريا سنة 941)
وهذا خطأ شائع تلقيناه قديماً عن معلمينا، واشتهر على ألسنة عامة أهل الشام وخاصتهم، وقد فتشت عن سند له من رواية ثابتة أو نقل يعتمد عليه فلم أجد؛ والصواب ما ذكره ابن طولون مؤرخ الشام في كتابه (تاريخ الصالحية)، وهو من أجل مخطوطات المكتبة الظاهرية في دمشق قال عند الكلام على هذه القبة:
(وهي من بناء نائب الشام برقوق الذي دخل دمشق في 7 جمادي الأولى سنة 875 دخولا عظيما، ثم خرج لقتال سواربك فأخذه غدراً وعاد إلى دمشق 13 صفر 877 وبنى هذه القبة وسماها (قبة النصر). (أقول: وبقي ذلك اسمها إلى أن هدمت من ثلاث سنين). وكان برقوق هذا سفاكا فتاكا مات في 12 شوال سنة 877هـ وصبر وحمل إلى مصر فدفن في القاهرة قرب الرميلة كما وصى) أهـ
وهذه القبة كانت على ظهر جبل قاسيون سحط البحر بنحو ألف ومئتي متر، وكانت علم دمشق يراها القادم على البلد من مشارف حوران
وفي العدد (380 من الرسالة) سؤال عن هذه القبة، والقبة الأخرى القائمة على الجبل المطل على وادي الربوة في دمشق، ولم يجب عليه أحد، وهذا الجواب
أما القبة الثانية المسماة (قبة السيار)، فهي من بناء الأمير سيار الشجاعي
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(639/50)
ابن عباش لا ابن عباس:
الاستدراك الذي أخذه علينا الأديب الفاضل علي جلال الدين شاهين صحيح ومقبول؛ ولكن منشأ اللبس يعود إلى تصحيف وقع في كلمتنا ولم نتكلف تصحيحه. والقصة التي سجلها صاحب نشوار المحاضرة، عن قراد شارع الخلد ببغداد، إنما تنسب إلى (ابن عياش) لا ابن عباس. وإلا فأين يقع زمن هذا الأخير أو مكانه، من بغداد وشارع الخلد على عهد العباسيين؟
وأين عياش كان من رجال الدولتين: ولد في أيام سليمان بن عبد الملك (عام 97 هجرية) وتوفي قبل وفاة الرشيد بشهر (عام 193هـ). وهو المحدث الثقة أبو بكر بن عياش الكوفي. اختلف في اسمه، وأشهر ما قيل في ذلك (شعبة) ثم (مطرف) وكان من أصحاب عاصم والكلبي، ومن رواة شعر الفرزدق وذي الرمة، روي عنهما شعرهما سماعاً
وامتداد الحياة بابن عياش إلى آخر عهد الرشيد لا يوجد شكا في أنه شهد بعينيه ما كان يجري على الوزراء في ذلك العهد من نكبات الزمان، مع الإقرار بأن هذه الحوادث كانت لا تزال آخذة بسبيل التزيد والانتشار، حتى لم تبلغ ذروتها، وتستكمل صورتها البشعة إلا فيما تلا ذلك من عصور
فقصة القراد البغدادي غير مستعبدة على هذا الوجه، ولا سيما إذا ذكرنا أن ابن عياش كان من ثقاة المحدثين، الذين لا يفترون ولا يفترون عليهم، وقد وثقه أحمد بن حنبل. كما كان من أهل الوقار والهيبة حتى لقالوا: إن الاختلاف في اسمه يرجع إلى كف الناس عن سؤاله تهيباً له.
هذا، ودقة العبرة ولطف المغزى في القصة يجعلنا لا نستبعد نسبتها إلى ابن عياش، إذ كان الرجل من أهم الفكرة العميقة، الذين يتلمسون من صغائر الحوادث جلائل العبر. وكان لا يستنكف أن يستقصي أنه الأمور، ويتبع أضيق المسالك في سبيل الوصول إلى حقيقة صغيرة يضيفها إلى ما تستوعبه نفسه من مباهج العلم ومفاتن المعرفة. حدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر بن عياش مهموماً، فقلت له: مالي أراك مهموماً؟ قال: سيف كسرى لا أدري إلى من صار!!(639/51)
محمود عزت عرفة
المدرس بقوص الأميرية
من الشعر الضائع لحافظ إبراهيم
عثرت في بعض أوراقي القديمة على هذه الأبيات نقلا عن بعض الصحف القديمة لتشابه الفكرة بينها وبين ما قاله برناردشو عن الهرم وأبي الهول. وقد راجعت الديوان فلم أجدها، لذلك أثبتها هنا في مجلة (الرسالة) التي تحفظ الأوابد:
سخر العلم ليبنى آية ... فوق شط النيل تبدو كالعلم
هي ذكر خالد لكنه ... عابس الوجه إذا الذكر ابتسم
كل ما فيها على إعجازها ... أنها قبرٌ لجبار حُطَمْ
ليته سخر ما في عهده ... من قوًى في غير تقديس الرمم
من فنون أعجزت أطواقنا ... وعلوم عندها الفهم وجم
وبنان مبدعات صورت ... أوجه العذر لعباد الصنم
أبدعت ما أبدعت ثم انطوت ... وعلى أسرارها الدهر ختم
عبد القادر محمود(639/52)
القصص
دوامة الحياة
للكاتب الأمريكي الكبير ا. هنري
بقلم الأستاذ وديع فلسطين
عند باب مكتبه جلس (بناجا ويدب)، القاضي، يدخن غليونه الضخم ويرسل نظراته إلى جبال كمبرلند التي كساها ظلام الأصيل لونا أغبر يميل إلى الزرقة، ومن الطريق العام المنحدر بالمقاطعة، جاءت دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحا أحمق.
وانبعث من أعلى الطريق صوت صريف عجلات، وامتلأ الجو بغبار حجب ما وراءه من مشاهد الطبيعة ومجاليها، ثم بدت مركبة يجرها بغل تحمل (رانسي بلبرو) وزوجته. وقفت المركبة بدار القاضي، فترجل عنها الرجل وزوجه. وكان رانسي أهيف القد، شاحب البشرة داكنها، ذهبي الشعر، يبلغ طول قامته ستة أقدام، تجلله مهابة سكان الجبال فتضفي عليه كساء شبيهاً بحلة من حلل الحرب المدرعة. وكانت المرأة ساذجة ضجرة، تخامرها رغبات غامضة لا تنفك تضايقها ولا تفتأ تقض مضجها. وبدا من خلال تصرفاتها نوع من الاحتجاج الطفيف على الشباب الزائف الذي تفطن إلى فقدانه وبسرعة دس القاضي قدميه في نعليه ليزداد وقاراً؛ ثم تحرك ليفسح لهما الطريق. وقالت المرأة بصوت كصوت الريح حينما تداعب فروع الأشجار: (نريد الطلاق). ثم رمقت رانسي بنظرة فاحصة لتتبين هل لاحظ في تصريحها هذا عيباً أو غموضاً أو مراوغة أو تحيزاً أو مشايعة لنفسها فأومأ رانسي برأسه مؤكداً وردد: (طلاق. . . لم نعد نستطيع أن نعيش معاً، الحياة في الجبال مقفرة وتقتضي أن يعني كل من الرجال والمرأة بشؤونهما. ولكن متى شرعت المرأة تموء كالقط الوحشي، وتنعق كالبومة النمس في كوخ زوجها، فلن يجد الرجل سبباً يحمله على معاشرتها).
وقالت المرأة دون اكتراث: (حين لا يعبأ الرجل بنفسه ويقضي وقته في شرب الخمور واحتساء الويسكي ومعاشرة مقطريها، ويعني فضلا عن ذلك بعدد من كلاب الصيد. . .). فقال رانسي: (حين أن تدأب المرأة على أن تبعثر أغطية الطعام، وعلى صب الماء على(639/53)
أحسن كلب في كمبرلند، وعلى إعادة طهي مأكولات زوجها، وحمله على السهر ليلا متهمة إياه بتهم شتى. . . . .!). (حين يدأب على تبديد دخله والتمتع بسمعة رديئة في الجبال والسهر ليلا. . .)، فانصرف القاضي إلى مهامه. وقدم مقعده الوحيد وكرسي مطبخ إلى زائريه. ثم فتح كتاب الأحوال الشخصية على المنضدة وألقى نظرة على محتوياته ومسح منظاره وأزاح المحبرة. ثم قال: (القوانين والأحوال الشخصية لا تقول شيئاً في شأن موضوع الطلاق. هذا فيما يتعلق باختصاصات هذه المحكمة. ولكن العدالة والدستور والقانون الذهبي تنطوي جميعها على مساومة من ناحية واحدة فقط. فبدهي أن القاضي الذي يستطيع أن يزوج رجلا وامرأة يستطيع أن يطلقهما، وهذا المكتب هنا سيصدر شهادة الطلاق تقرها المحكمة العليا). وأخرج رانسي بلبرو من جيب سرواله علبة طباق صغيرة ونثر منها ورقة من فئة الخمسين دولارات على المنضدة وقال: (لقد بعت جلد حيوان وفراء ثعلبين بهذا الثمن، وهو كل ما أملك).
فقال القاضي: (إن الرسوم العادية للطلاق في هذه المحكمة هي خمسة دولارات). وتناول الورقة المالية ودسها في جيب الصديري المنسوج في المنزل، وتصنع عدم المبالاة. وكتب شهادة الطلاق على نصف ورقة فولسكاب ثم أعاد كتابتها على النصف الآخر، وبلغ في هذا جهد جسمياً كبيراً وتفكيراً ذهنياً مبرحاً. وأنصت كل من رانسي بلبرو وزوجته إلى تلاوته للوثيقة التي سوف تمنحها الحرية: قال: (ليعلم الناس جميعاً بمقتضى هذه الشهادة أن رانسي بلبرو وزوجته أريلا بلبرو حضرا اليوم أليّ شخصياً وتعهدا ابتداء من اليوم بأنهما لن يحيا أو يحترما أو يطيع أحدهما الآخر سواء أكان ذلك للخير أم للشر. وأقر بأنهما يتمتعان بجسم وعقل سليمين وانهما قبلا شروط الطلاق حسب نظام الولاية ووقارها. فلا تعثرا وليعينكما الرب. . . الإمضاء. . . بناجا ويدب القاضي لمقاطعة بيد مونت بولاية تنيسي ومن أهلها)
وهم القاضي بتسليم إحدى الوثيقتين إلى رانسي حينما ارتفع صوت أريلا. فنظر كل من الرجلين إليها وفوجئا بما لم يكونا يتوقعان منها. فقد قالت: (مهلا يا سيدي القاضي، لا تسلمه هذه الورقة. لم نسو كل شئ بعد. ينبغي أن أنال حقوقي أولا. يجب أن أحصل على نفقتي أولا، ليس هذه هي طريقة طلاق رجل من امرأته دون أن يترك لها ما لا تعيش به.(639/54)
إنني سأذهب إلى أخي (إند) في جبل هوجباك، وأريد أن أشتري زوج حذاء وبعض الأشياء الأخرى، وإذا كان رانسي يقدر على طلاقي، فدعه يقضي لي نفقتي). فصعق رانسي بلبرو وتملكته الحيرة ولم يتكلم. فلم يشر من قبل إلى موضوع النفقة. ومن عادة النساء أن يثرن مسائل عجيبة غير مدروسة. وأحس القاضي بناجا ويدب أن المسألة تحتاج إلى قرار قضائي. والتزم الطرفان الصمت في موضوع لنفقة، غير أن قدمي المرأة كانتا حافيتين والطريق في جبل هوجباك صخر وعر. فسأل القاضي في أسلوب رسمي: (يا أريلا بلرو - كم يعوزك من النفقة في القضية المنظورة أمام المحكمة؟).
فأجابت: (أريد أن أبتاع حذاء، فيلزمني نحو خمسة دولارات ليست هذه نفقة كبيرة، ولكني أعتقد أنها تكفي لأتوجه إلى منزل أخي (إيد). . .). فقال القاضي: (المبلغ معقول يا رانسي بليرو، المحكمة تأمرك أن تؤدي إلى المدعية خمسة دولارات قبل أن يصدر قرار الطلاق). فتنفس رانسي بصعوبة وقال: (ليس لدي مال. . . وقد أديت إليك ما كان معي). فحدق القاضي من وراء منظاره، وقال بعنف: (وإلا فأنت تزدري بالمحكمة).
واستأنف الزوج قائلا: (أعتقد أنه يمكنك أن تقرضني المبلغ وسأرده إليك غداً بأي كيفية. . . فإني لم أتوقع قط أني سأطالب بنفقة). فقال القاضي بناجا ويدب: (أجلت القضية إلى الغد حينما تأتيان أليّ معاً وتمتثلان لأوامر المحكمة. وعقب ذلك سنصدر الطلاق). ثم جلس إلى جانب الباب وأخذ يحل رباط حذائه. . .
فقال رانسي: (يمكننا أن نذهب إلى منزل (العم ريا) لنقضي الليل فيه) ثم ركب المركبة من ناحية وركبتها أريلا من الناحية الأخرى. وشد اللجام فتحرك البغل البني اللون ببطء ثم أخذت العربة تنهب الأرض حتى اختفت وسط الغبار المتصاعد.
وأشعل القاضي بناجا ويدب غليونه العتيق. واشترى جريدته الأسبوعية، فقد أوشك النهار أن ينقضي، وشرع يقرؤها حتى طمس الظلام سطورها. ثم أشعل قنديله على المنضدة، واخذ يقرأ حتى طلع القمر مؤذناً بحلول موعد العشاء. وكان يسكن كوخه الخشبي في المنحدر على مقربة من الغابة. وفي طريقه إلى منزله اجتاز منطقة تظللها أشجار الغار المتشابكة. وإذ ذاك برز من بين الأشجار شبح ملثم وسدد إلى صدره غداره، وهو يقول، (أريد أموالك، لا أريد كلاماً. أني عصبي وإصبعي على زناد الغدارة. . .).(639/55)
فقال القاضي متلعثما: (ليس معي سوى خمسة دولارات). ثم أخرجهما من جيب الصديري. وصدر الأمر إليه: (إطوها وضعها في فوهة الغدارة). وكانت الورقة المالية جديدة رقيقة. غير أن الأصابع المرتخية المرتعشة وجدت بعض العناء في طيها ووضعها في فوهة الغدارة). فلما تم هذا مال اللص: (الآن تستطيع أن تمضي). فسار القاضي مهرولا، لا يلوي على شيء.
وفي اليوم التالي جاء البغل البني الصغير يجر المركبة ووقف بباب المكتب وكان القاضي بناجا ويدب منتعلا حذاءه، إذ كان يتوقع زيارة. وترحل رانسي بلبرو وزوجه، وقدم إليها في حضرة القاضي ورقة مالية من فئة الخمسة دولارات. فحدقت عينا القاضي في الورقة، وكانت مطوية كما لو كانت منتزعة من فوهة غدارة. غير أن القاضي التزم الصمت لأنه ليس ثمة ما يمنع من أن تطوى أي ورقة مالية. وسلم كلا منهما نسخة من شهادة الطلاق. ووقف كل منهما صامتاً يطوي قسيمة الحرية على مهل. وحدجت المرأة رانسي بنظرة خجولة مفعمة بالعواطف، وقالت له: (أعتقد أنك ستعود إلى الكوخ بالمركبة. ستجد الخبر في العلبة الصفيح الموضوعة على الرف. ووضعت الدهن في إناء الغلي حتى لا تصل إليه الكلاب. لا تنس أن تملأ ساعة الحائط الليلة).
وأستفهمها رانسي في شئ من الإهمال: (وأنت، هل تذهبين! إلى منزل أخيك (إيد)؟).
- كنت أنوي أن اذهب إليه قبل حلول المساء. لن أقول، لأني سأزعج أهل أخي، وأحملهم على الترحيب بمقدمي، ولست أعرف مكاناً آخر أقصده. على كل حال من واجبه أن يرحب بي أني ماضية. هل أقرئك السلام يا رانسي هذا إذا لم تمانع؟).
فأجاب رانسي بلهجة الرجل الذي ذهب ضحية: (ولم لا أقرئك السلام، إلا إذا كنت تواقة إلى الفرار مني دون انتظار تحية ما). فالتزمت أريلا الصمت. وطوت الورقة المالية من فئة الخمسة دولارات وقسيمة الطلاق ووضعتها في صدر ردائها. وراقب بناجا ويدب الورقة المالية وهي تختفي بعينين حزينتين تطلان من وراء زجاج منظاره. وهنا قالت أريلا: (ستكون وحيداً الليلة في الكوخ يا رانسي). وحدق رانسي بلبرو بعينيه في الأفق إلى جبال كمبرلند، فرآها وقد كساها ضوء الشمس لوناً أزرق فاتحاً؛ ولم ينظر إلى أريلا وقال: (لا ريب في أني سأكون وحيداً، ولكن ما العمل وقد ركب الجنون عقل البعير وطلب(639/56)
الطلاق؟ لا سبيل إلى حمل البعير على البقاء). فقالت أريلا وعيناها إلى كرسي المطبخ: (إنما طلب الطلاق غيري. وليس هناك من لا يرغب في البقاء) - (لم يقل ذلك أحد قط).
- (أعتقد أنه يحسن أن أتأهب لزيارة أخي إيد).
- (ولكن أحداً لا يستطيع أن يملأ ساعة الحائط؟).
- (هل تريدني أن أعود معك في المركبة لأملأ الساعة يا رانسي؟). وكانت ملامح رجل الجبال برهاناً ضد عاطفته. غير أنه مد يداً ضخمة إلى أريلا وقبض بها على يدها الرقيقة الداكنة. فانفرجت أسارير وجهها العبوس مرة ثانية.
وقال رانسي: (لن تعود الكلاب إلى إزعاجك. فقد أدركت أني كنت سافلا دنيئاً. ستملئين تلك الساعة يا أريلا).
فهمست له: (إن قلبي يدق في هذا الكوخ يا رانسي. هيا معك. لن أعود إلى جنوني ثانية. دعنا نرحل يا رانسي حتى نبلغ البيت قبل مغيب الشمس). وتدخل بناجا ويدب القاضي لما رآهما يتأهبان للرحيل وقد نسيا وجوده فقال: (باسم ولاية تنيسي أمنعكما جميعاً من العبث بقوانينها ونظمها. إن هذه المحكمة على استعداد كبير، بل ويسرها أن ترى سحابات الخصام وسوء التفاهم وقد انقشعت من قلبين شابين يتبادلان الحب، ولكن من واجب المحكمة أن تحرص على الأخلاق وعلى الاستقامة في الولاية. وتذكركما المحكمة أنكما لم تعودا رجلا وزوجته، وإنما أنتما مطلقين بقسيمة رسمية، فلستما إذن أهلا للتمتع بمزايا الشركة الزوجية). ومضى القاضي فقال: (غير أن المحكمة على استعداد لأن تلغي القيود التي فرضتها قسيمة الطلاق. فالمحكمة على استعداد أن تعترف بمراسيم الزواج الشريفة السامية التي يبغيانها. ورسوم مراسيم الزواج قدرها في هذه الحالة خمسة دولارات.
وتبينت أريلا في حديثه وميضاً من الأمل. فأسرعت بوضع يدها في صدر ثوبها وألقت بالورقة المالية على منضدة القاضي. وتلون خداها الشاحبان وقد وضعت يدها في يد رانسي بنصتان لحديث اللقيا. ثم ساعدها رانسي على ارتقاء المركبة، وركب جوارها، ودار البغل البني الصغير مرة أخرى، واتخذ وجهته شطر الجبال وقد التقت كفاهما وتعانقتا. وعاد القاضي بناجا ويدب إلى الجلوس عند باب مكتبه، وخلع نعليه. ثم تناول الورقة المالية مرة أخرى ودسها في جيب الصديري. ودخن غليونه العتيد مرة أخرى.(639/57)
وللمرة الثانية جاءت من الطريق العام المنحدر (بالمقاطعة) دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحاً أحمق.
وديع فلسطين(639/58)
العدد 640 - بتاريخ: 08 - 10 - 1945(/)
مشقة التحصيل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ ربع قرن تقريباً، زارني شاب في جريدة الأخبار وشكا إلى المرحوم شوقي الشاعر وقال: إنه ذهب إليه يستشيره فيما يحسن به أن يقرأ من الكتب العربية، فأشار شوقي عليه يدرس كتابين وجدهما الشاب من كتب النحو وفقه اللغة، فاعتقد أنه أضاع ماله، وأن شوقي أخطئه التوفيق. فقلت له: إن شوقي لم يخطئ، فإن النحو والصرف وما يجري هذا المجرى لابد منه، ولا غنى عنه، ولكل لغة قواعدها وأصولها وأحكامها وفقهها، والإحاطة بهذا كله واجبة إذا كنت تريد أن تتخذ هذه اللغة أداة للكتابة، وإلا فكيف تكتبها وأنت لا تعرف قواعدها؟ وصحيح أن الكتب العربية القديمة تحتاج إلى تيسير مطلبها، ولكن التيسير ليس معناه الإلغاء، فاعرف لغتك أولا، وادرس أدبها، ثم عالج بعد ذلك ما شئت من فنون الكتابة، واعلم أنه لا مطمع لأحد في بلوغ مرتبة ملحوظة من مراتب الأدب إلا بالاطلاع الوافي، ولما كانت لغتنا العربية، فهي أداتنا التي لا أداة لنا سواها، ولا سبيل لنا إلى البيان إلا بها، فلا مهرب لنا إذن من تحصيل هذه اللغة والتوفر على درسها
وقد حدثت شوقي - رحمه الله - بهذا، فقد كنا نلتقي في (الأخبار)، ونتذاكر على الرغم من رأي المعروف في شعره، فقال لي: يا أخي لقد كنت في بداية عهدي بالشعر، بعد أن عدت من أوربة، ألحن وأخطئ فيسلقني الناقدون بألسنة جديدة، فالآن أنصح للشبان المبتدئين أن يعرفوا لغتهم فيشكونني ويعيبونني بذلك!
وقد قلت أيضاً لذلك الشاب المتذمر: إني لا أرى الاقتصار على درس اللغة العربية وآدابها، فإنه لا يكفي طالب الأدب، بل لابد من التوفير على درس الآداب الأخرى، ولا سيما الغربية منها. وحسب طالب الأدب لغة واحدة كالإنجليزية مثلاً، فإن براعات الآداب الأخرى مترجمة إليها، وقد كان العرب حصيفين حين عنوا بنقل الفلسفة الإغريقية فاتسعت آفاقهم. ولسنا نستطيع في عصرنا هذا أن ننقل خارجيات الغرب في الأدب والفلسفة، فإنها شيء لا آخر له، ولكن في وسعنا أن نطلع عليها ونلم بها إلماماً كافياً بإحدى اللغات الغربية، ونحن نلقح الشجر ليثمر، ونطعمه ليؤتينا ما هو أطيب، ويجنينا ما هو أشهى، فلنلقح عقولنا ولنطعمها بما عند الغرب، ليعود أوفر إنتاجاً وأحلى جني. ونحن آدميون،(640/1)
والشجر نبات، ولكن سنة الحياة واحدة، وقانونها لا يختلف، وهو واحد في كل مظاهر الحياة على السواء، وما يصير به أقوى وأزكى، يصير بمثله الحيوان - ونحن منه - أقدر على معاناة الحياة وأصلح لها وأنجب. وليس مما يصح في الإفهام أن نكون في القرن العشرين، ونقنع بأن نعيش بعقول القرون الخالية. وأخلق بهذا الكسل أن يحيلنا خلقاً - متخلفاً من الأزمنة البائدة، وأن يجعلنا غير صالحين للزمان الذي خرجنا فيه
وأنا أعرف أن هذا مشقة عظيمة، ولكن الثواب على قدرها، والحياة نفسها لا متعة ولا نزهة، بل كد ونضال وكفاح وما يبلغ المرء في دنياه غاية أو يدرك شيئاً إلا بالكفاح وعرق الجبين المتفصد، فلماذا نستثني الأدب ونراه أهون شأناً وأيسر مطلباً من أن يحتاج إلى عناء؟
وليعذرني القراء الأفاضل إذا رأوني ألح على شبابنا أن يعكفوا على التحصيل ويجدوا فيه ويشقوا أيضاً، فقد رأيت شباناً كثرين في مصر أكبر ظني أن لهم أنداداً في غيرها يستثقلون الطلب ويستطيلون مدته ويستكثرون الجهد الذي يقتضيه ويستخفون بالأمر كله ويحاولون أن يرقوا بغير سلم، وأن يبلغوا الغاية بدون أداة أو وسيلة، فلا يأتون إلا بأغث الغثاثة وأسخف السخف، ثم يروحون يتذمرون ويجأرون بالشكوى ويزعمون أنهم مغبونون مغموطو الأقدار، وأن الشيوخ يأخذون عليهم متوجههم ويعترضون سبيلهم حسداً، إلى آخر هذا الهراء. وتقول لهم: إن كل علم وفن مثل الطب والهندسة والتصوير والموسيقى، إلى آخر ذلك يحتاج إلى درس طويل وتحصيل واف، فأن الملكة وحدها لا تكفي، والاستعداد بمجرده لا غناء له، ما تؤازره المعرفة الصحيحة، فلماذا يعدون الأدب بدعاً يرونه مما يمكن الاستغناء فيه عن الآلة والأداة؟ فلا يقتنعون، أو على الأصح، لا يستطيعون أن يرضوا أنفسهم ويوطنوها على احتمال المشقة
وأوثر أن أكون صريحاً فأقول: إن هذا تطر لا يعجبني، وكسل لا أراه بشيراً بخير، فيحسن أن أورد طائفة من الأمثلة تبين أي مشقة احتملنا، وأي عناء صبرنا عليه، وأي جهد تكلفناه في حداثتنا وصدر حياتنا قبل أن نتطلع إلى منازل الأدباء. وقبل ذلك أقول: إن مما نفعني وأغراني برياضة نفسي على التشدد والتجلد كلمة قرأتها ومنظر رأيته، فأما الكلمة، فقول كوييت في كتابة (نصيحة إلى الشبان) إن على الشباب إذا أراد أن يكون(640/2)
رجلا كاملا لا نصف أن يحلق ذقنه كل صباح بالماء البارد في الشتاء، وجو إنجلترا من أقسى الأجواء. فقلت لنفسي: إن مصر جوها معتدل، فأنا أولى بهذه النصيحة وأقدر على العمل بها. وتوخيت بعد ذلك أن لا أستعمل الماء البارد في كل حال فنفعني هذا وقواني على احتمال المؤثرات الجوية وإن كان بدني خرعاً، وأما المنظر، فكان شاباً من العمال راقداً على الحجارة في وقدة الظهر وشمس الصيف تضربه، وكنت يومئذ في السابعة عشر من عمري، فقلت لنفسي: أنا أتململ لأن وسادتي ليست محشوة بريش النعام، وسجادتي ليست من صنعة العجم، وهذا الغلام ينام على الحجارة ولا يتأفف ولا يشكو ولا تمنعه خشونة المضجع أن ينام ملء جفنيه. . . أما والله لا اتخذت بعد اليوم شيئاً وثيراً! وما زلت إلى اليوم أوثر الخشن على الرقيق، وليس في بيتي كرسي مريح أو فراش لين، لأني أخجل أن أكون مترفاً.
ورضت نفسي على الجلد، فاتفق في أول عهدي بدرس الأدب أن وقعت في يدي نسخة من ديوان (الشريف الرضي) مطبوعة في الهند، ليس فيها بيت واحد يسلم من التحريف، فما استطعت أن أفهم شيئاً، وكدت أيأس، ولكني تشددت وأقبلت عليه أعالج تصحيحه، وقضيت في ذلك قرابة عامين وأنا أوفق قليلا وأخفق كثيراً، حتى هداني الله إلى ديوانه المطبوع في بيروت، وهو أصح وأسلم من الخطأ، وإن كان لا يخلو منه، فتشهدت واسترحت.
وحبب ابن الرومي إلى ما قرأته له مبعثراً في كتب شتى، فطلبت ديوانه، فلم أجد إلا مخطوطاً - أعوذ بالله منه - في دار الكتب المصرية، وكان فيها مخطوطان آخران، ولكني لم أعط إلا أسوأ الثلاثة وشرها، فاستنسخته وعكفت عليه سنوات طويلات المدد أحاول التصحيح والضبط، فلم أبلغ من ذلك ما أريد، ولكني بذلت غاية ما يدخل في الوسع
وكان من أول ما اقتنيت، الأغاني طبع الساسي، وهي نسخة محشوة بالغلط، ففككت الأجزاء (ملازم)، وجعلت أحمل الملازم معي واحدة واحدة إلى دار الكتب في أوقات فراغي، وأراجع النصوص نصاً نصاً، وبيتاً بيتاً، وأدون التصحيح، أو التكملات على ورق أبيض أعددته لذلك، وصرت ألصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، حتى إذا انتهيت من جزء جلدته وانتقلت إلى ما يليه. وهكذا حتى أتممت الكتاب كله، فصار ضعفي حجمه الأصلي. وحدث لسوء حظي في أيام الحرب الماضية أن رقت حالي فجأة، واحتجت(640/3)
إلى المال، وأنا امرؤ ربتني أمي - رحمها الله - على الاعتماد على النفس والاستغناء عن الناس، وبغضت إلى الاستدانة وكل ضروب الاستعانة بالغير فلم أجد لي حيلة إلا أن أسع ما اقتنيت من كتب، ورأى بعضهم عندي نسخة الأغاني هذه، فألحف في طلبها، فأبيت أن أبيعها، فلم يزل يزيد في الثمن ويرتفع به، حتى أغراني، وما كاد يخرج بها، حتى طار عقلي، وندمت أشد الندم، فإنها ثمرة تعبي سبع سنوات، ولكن أمي فاءت بي إلى السكينة وقالت لي: (الست قد قرأتها؟ انتهينا إذن ولا داعي للأسف)! فجعلت بعد ذلك أعزي نفسي بقولي: إن فائدة القراءة كفائدة الطعام، والمرء يأكل ليصح بدنه، ولو أني نسيت اليوم ما أكلت في أمسي، لما منع ذلك أن الفائدة قد حصلت، وأن جسمي انتفع بما طعمت وكذلك العقل: يقرأ المرء ليستفيد علماً ويقوي مداركه وينمي ملكاته، ولا يمنع حصول الفائدة أنه نسي ما قرأ أو أن الكتاب غير موجود.
وحسبي هذه الأمثلة القلية، والحقيقة أننا أعطينا الحياة لنحياها، لا لننعم بها أو نسعد، ومعنى أن نحيا أن نعمل، ومؤدي العمل أن نكدح ونتعب، والأدب مطلب كسائر المطالب له وسائله، فلا معدي عن العناء في سبيله.
إبراهيم عبد القادر المازني(640/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 12 -
* ج 16 ص 198:
وإذا بلوتُ طباعه ... فالماء يشرب وهو عَذْب
وقصارى وصفي أنه ... فيما أحب كما أحبْ
قلت: (فالماء يشرب وهو عذب) ليكون الضرب مرفلاً، لأن الضرب في البيت الثاني لا يجئ بالسكون - إن فرض أن (أحب وأحب) ماضيان - إلا من الصحيح، فيختلف الضربان. والفعلان إنما هما هنا مضارعان: (فيما أحب كم أحب) فالشاعر يصف حال صاحبه كما يراها هو، ولا يقصد ما يشاكل معنى القائل (كأنك قد خلقت كما تشاء).
و (قصارى) في البيت هي (قصار) لأجل الوزن، واللفظتان بمعنى واحد، ومثلهما (قصرك وقصيراك). وقد جاءت (قصار) في كلام مأثور مشهور مظلم النسبة.
قال الزمخشري في شرح مقاماته: ومن توقيعات عبد الله بن ظاهر فيما سمعته من أبي: (غرك عزك، فصار قصار ذلك ذلك، فأخش فاحش فعلك، فلعلك بهذا تهدأ).
وقال ابن خلكان في الوفيات: كتب إلى عضد الدولة أبو منصور أفتكين التركي متولي دمشق كتاباً مضمونه أن الشام قد صفا وصار في يدي، وزال عنه حكم صاحب مصر، وأن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم. فكتب عضد الدولة جوابه هذه الكلمات وهي متشابه في الخط لا تقرأ إلا بعد الشكل والنقط والضبط وهي (غرك الخ) ولقد أبدع فيها كل الإبداع.
وفي (التاج): وروي عن علي (رضي الله عنه) أنه كتب إلى معاوية: (غرك الخ) وهي رسالة تصحيفية غريبة في بابها.
* ج 1 ص 46: وأطوف على مصنف فيهم يشفي العليل، ويداوي لوعة الغليل.
قلت: عندي أن الأصل: (يشفي العليل، ويروي الغليل) أو يروي غلة الغليل.
والغليل العطشان، والغليل حرارة العطش مثل الغلة. في اللسان: الغل والغلة والغلل والغليل كله شدة العطش قل أو كثر. رجل مغلول وغليل ومغتل بين الغلة.(640/5)
* ج 1 ص 48:. . . والإخباريين.
قلت: والإخباريين في التاج: والأخباري المؤرخ نسب اللفظ الأخبار كالأنصاري والأنماطي وشبههما.
* ج 12 ص 77:
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما المرء ضمَّنَهُ اللحدَ الخناشير
(الواحد خنشير والجمع الخناشير، ويقال الخناشرة وهم اللذين يتبعون الجنازة.
قلت: الخناسير بالسين. في التاج في (خسر وخنسر): الحناسير ضعاف الناس وصغارها، قال شيخنا: ووقع في شعر حريث بن جبلة العذري: (وذاك آخر عهد البيت) قال أبو حاتم: الخناسير الذين يشيعون الجنازة، ونقله البغدادي في شرح شواهد المغنى.
وفي اللسان: خناسر الناس صغارهم والخنسر اللئيم. ولم يذكر في (خشر) إلا الخاشرة والخشار: السفلة من الناس.
وبيت (الخناسير) هو في أبيات رواها ياقوت في (الإرشاد) وروى الحريري ستة منها في (الدرة) وذكرا قصة لها:
قال عبيد بن شرية: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا صار في الرمسن تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر؟ قلت: لا.
قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، ولست تعرفه. وهذا الذي سار عن قبره هو أمس الناس رحماً به وأسرهم بموته. . .
* ج 1 ص 48: وكنت مع ذلك أقول للنفس مماطلاً وللهمة مناضلاً: رب غيث غب البارقة، ومغيث تحت الخافقة.
وجاء في الشرح: الخافقة واحد الخوافق، وخوافق السماء: مهب الرياح الأربع.
قلت: الخافقة هنا هي الرايات أو الأعلام. في الأساس: وخفق العلم، وأعلامه تخفق وتختفق. وفي اللسان: وتسمى الأعلام الخوافق والخافقات. والمغيث هنا هو المغيث وقت(640/6)
القتال.
والبارقة السحابة ذات برق، والبارقة السيوف على التشبيه بها لبياضها. وفي حديث عمار (رضي الله عنه) الجنة تحت البارقة أي تحت السيوف.
* ج 1 ص 192: قال (جرير بن أحمد بن أبي دؤاد):
كان إبراهيم (بن العباس الصولي) أصدق الناس لأبي فعتب عليّ أبنه أبي الوليد في شيء، فقال فيه أحسن قول: ذمه فمدح أباه. وما أحسن هذا من جهة جرير!:
عفت مساو تبدت منك واضحةً ... على محاسن نقاها أبوك لكا
لئن تقدمت أبناء الكرام به ... فقد تقدم آباء الكرام بكا
قلت (ذمه ومدح آباه) أي جمع بين الأمرين.
و (عفت مساوئ تبدت منك، واضحة) برفع واضحة وإن جاز نصبها. وقد خفف مساوئ وقدر.
و (نقاها) هي (آبقاها) وعجز البيت الثاني هو (لقد تقدم آباء اللئام بكا) وهنا النكتة، وهنا الذم البليغ.
والقاضي أحمد بن آبي دؤاد هو الذي يقول حبيب فيه:
لقد أنست مساوئ كل دهر ... محاسن أحمد بن آبي دؤاد
ولما ذكر الصفدي في كتابه (الغيث الذي أنسجم في شرح لامية العجم) (الذين رزقوا السعادة في أشياء لم يأتي بعدهم من نالها) قال في أحمد: (القاضي أحمد بن أبي دؤاد في المروءة وحسن التقاضي).
وقال ابن خلكان في سيرته في كتابه: (كان معروف بالمروءة والعصبية) يعني العصبية العربية.
* ج 14 ص 217:. . . فألب الأولياء على أبن عباد حتى كثر الشغب، وعظم الخطب. . .
قلت: (الشغب) بالتسكين لأجل الخطب. والمجانسة بين القرائن في السجع مطلوبة. والفتح لغة وليس بخطأ كما قال الحريري في (الدرة) وليس هو من كلام العامة كما ذكر أبن الأثير في النهاية.(640/7)
* ج 3 ص 131:. . . فقال (أبو العلاء) لي (للتبريزي) قم وكلمه، فقلت: حتى أتمم السياق فقال: قم وأنتظر لك.
وجاء في الشرح: السياق في الأصل: السيق:
قلت: في (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي): (حتى أتمم السبق وأنا أنتظرك) وضبط اللفظة - كما جاءت في الصبح - الفضلاء الذين جمعوا وحققوا كتاب (تعريف القدماء بأبي العلاء) وقالوا في الشرح: السبق بالتحريك يراد به الدرس وهذه الكلمة لم ترد في المعاجم بهذا المعنى، وشاعت في الفارسية بمعنى الدرس نقلاً عن العربية
* ج 13 ص 285: كان (علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ) شيخاً طويلاً جسماً، عظيم الحلقة، عريض الألواح، موفر القوة، جهوري الصوت، عمر نيفا وتسعين سنة لم تضطرم أسنانه، ولا قلع سناً منها ولا من أضراسه. وكان يعمل الصفر ويخرمه، وله فيه صنعة. ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريش مربع غاية في حسنه.
وجاء في الشرح: (لم تضطرم) في الأصل تضطرب.
قلت: (الاضطرام) الاشتعال، و (الاضطراب) التحريك والاختلال، وهذا أقرب إلى المراد. وربما كان الأصل (لم تنفض أسنانه) ونفضت الثنية أو السن: تحركت واضطرت.
كان الناشئ ذا هزل ومجون في المناظرات وغيرها ومن مجونه - كما روى ياقوت - (حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال (الأشعري) ما هذا يا أبا الحسنين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: ما فعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة. فقال: ناقضت. إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض. فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرة).
(قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له: صدقت. تلك من فعل الله بي، وهذه من فعل الله بك فتصير النادرة عليه لا له).
-(640/8)
الطهارة والوضوء
للدكتور جواد على
الطهارة ركن من أركان الصلاة عند جميع الأديان. وتشمل طهارة الجسم، وطهارة الثياب، وطهارة الأرض. فاشترطت الديانة الرومانية على المصلي لبس الملابس النظيفة (فيلبس المستغيث ألبسة نظيفة لما وقر في الأذهان من أن الأرباب يرغبون في النظافة). واشترطت مثل هذه الشروط سائر الأديان القديمة مثل الديانة البابلية والمصرية والهندية. ويلعب الغسل دوراً هاماً في طهارة الجسد وفي بعض الطقوس ولا سيما في الديانات التي نشأت على مقربة من الماء.
وجعل الغسل العام أو الغسل الموضعي كواجب من الواجبات الشرعية حتمت الديانة (البارسية) الفارسية القديمة على الفارسي عند نهوضه من نومه صباحاً وجوب غسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثلاث مرات. ونستعمل لذلك وهي مادة طاهرة مقدسة تستخرج من عصير الأثمار وتستعمل بعد الغسل بالماء. ويجوز استخدام الحشائش الجافة لمسح أجزاء الجسم. أما الحشائش المبتلة فلا يجوز استخدامها لأن الماء طاهر ومقدس لا يجوز تنجيسه
وإذا ما ابتدأ الإنسان بغسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثم أعوزه الماء وجب عليه (التيمم) بالرمل فيمسح بالرمل تلك الأجزاء لأن الرمل مادة طاهرة مطهرة ما لم تدنس. وقد ورد مثل ذلك في الشريعة الإسرائيلية، فعلى اليهودي إذا ما استيقظ في الصباح أن يغسل وجهه وعينيه ويديه، وإذا ما أعوزه الماء جاز له التيمم أيضاً.
ويبتدي المرء بالغسل عند (الفرس) باليد اليمنى وبالنصف الأيمن من الجسم دائما. وإذا أراد لبس حذائه بدأ بالرجل اليمنى ونجد مثل هذه التعليم عند اليهود أيضا.
وتتناول الطهارة طهارة الجسم من الأدران وطهارة الملابس وطهارة الأرض أو الموضع الذي يصلي عليه المؤمن. ويجب أن يتم ذلك قبل الشروع في الصلاة وإلا عدت الصلاة شرعاً باطلة. وتختلف قواعد الطهارة طبعاً باختلاف الأديان وباختلاف وجهات نظر الشعوب. إلا أنها تتفق عموماً في أساس الفكرة وهي فساد أية صلاة إذا كان المصلي على نجاسة. ولذلك وجب على المصلي إزالة كل أثر من آثار النجاسات.
ونجد مثل ذلك في الشريعة الإسلامية، فالطهارة في الإسلام شرط مبدئي من شروط صحة(640/9)
الصلاة. وعلى المسلم إزالة كل أثر من آثار النجاسة عليه الغسل إن كان ذلك واجباً عليه. وعادة الغسل من الجنابة عادة كانت معروفة في الجاهلية وقد أقرها الإسلام. وعليه فضلا عن ذلك أن يتوضأ قبل البدء بالصلاة - والوضوء ضرب من ضروب الطهارة - وإلا لن تصح له صلاة.
وقد نص القرآن الكريم على كيفية الوضوء والتيمم. وفصلت كتب الفقه ذلك تفصيلا. وبحثت وبحثاً مستفيضاً في الماء والغسل والنجاسات. وقد توسعت الكتب في هذا الباب وتفننت كلما تقدم المسلمون في الحضارة وأمعنوا في المدنية. وتكاد تتقارب أفكار اليهود بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة مع أفكار المسلمين تمام التقارب. على أن اليهود وإن تساهلوا فيما بعد في الشروط التي تجب في المصلى بالنسبة إلى الطهارة، وفي كثير من القيود الثقيلة التي كانت عندهم في عهودهم الأولى. غير أن كتبهم الدينية كانت قد امتلأت بهذه القيود. وفي (المشنا) وهو الكتاب الجامع لأحكام اليهود ومعظم فقههم والمفسر لكثير من قواعد التوراة وتعاليم المعلمين والذي بدأ به (هيليل - اليهودي البابلي فصول طويلة عن شرائط الطهارة في الصلاة أهملت فيما بعد وسقطت عملياً من الاستعمال سقطت هذه قبل ظهور الرسول بزمن طويل. وأغلب الظن أنها تركت بعد سقوط الهيكل بأيدي الرومان إذا تسامح اليهود منذ ذلك الحين في كثير من أحكام دينهم الصعبة. وإن كان المستشرق اليهودي المرحوم (ميتوخ) يؤكد أن يهود جزيرة العرب ويهود الحبشة ظلوا مخلصين لهذه التعاليم مطيعين لها حتى زمن ظهور الرسول وغرضه من ذلك على ما يظهر هو البرهنة على أن النبي كان قد اقتبس من تعاليم هؤلاء اليهود. وقد عرفنا رأي هذا المستشرق في الموضوع.
ويقول هذا المستشرق أيضاً (وأما الشروط التي نصت على أن الصلاة يجب ألا تقام في محل نجس، أو في محل قذر، وأن الملابس يجب أن تكون وفقاً للأحكام التي حددتها والمقاييس التي وضعتها بحيث لا يجوز جزء من الجسم الذي يعتبر في حدود العورة فإن المسلمين في هذا الباب هم كاليهود تماماً)
أمر القرآن بالوضوء وقد ورد ذلك الأمر في سورة المائدة وسورة المائدة من السور المدنية إلا الآية الثالثة فإنها نزلت بعرفات في حجة الوداع. ومعنى هذا أن الأمر بالوضوء إنما(640/10)
كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة. أي أن الوضوء لم يكن مفروضاً بمكة؛ وهذا ما يتعارض مع الأحاديث المعروفة والأخبار الكثيرة التي تنص على أن الوضوء قد فرض مع الصلاة.
ففي كتب السير (أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم أنصرف جبريل. . .) وهو خبر مشهود.
ويفهم من هذا الخبر أن الأمر بالوضوء إنما كان بمكة مع الصلاة. في حين أن النص القرآني وهو نص مدني يأمر بالصلاة في المدينة بعد هجرة الرسول. وهذا يعني أن الأمر بالوضوء لم يكن قد نزل إلا بعد نزول الأمر بالصلاة بزمان. ويترتب على ذلك أن صلاة الرسول من حين أمر بالصلاة إلى حين نزول الآية كانت بغير وضوء.
وجاء في السيرة الحلبية (ومشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وأن ذلك كان يوم نزول جبريل باقرأ، وهو مخالف لقول أبن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة. ومما يرد ما قاله أبن حزم نقل أبن عبد البراتفاق أهل السير على أنه لم يصل قط إلا بوضوء)
والذي يفهم من قول صاحب السيرة أن العالم أبن حزم كان يعتقد بأن فرض الوضوء كان بالمدينة لما يعرف من أن الآية مدنية. وقد انتبه العلماء إلى ذلك. ويخيل إلى أن ذلك كان متأخراً. فحاول أكثرهم التمسك بالخبر والتوفيق بينه وبين الآية وتحايلوا في التأويل والفرضيات ليبرهنوا على أن صلاة الرسول الأولى لم تكن بغير وضوء. فقالوا (إنه لم يشرع وجوباً إلا في المدينة وإنه كان قبل ذلك مندوباً وهو قول بعض المالكية. أي أنه مكي بالفرض مدني بالتلاوة واعتمدوا في تأويلاتهم هذه على بعض الأخبار الغامضة وهي في حد ذاتها أخبار لا قيمة لها بالنظر إلى نص القرآن.
قالوا بأن (مشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك(640/11)
كان يوم جبريل باقرأ) ثم تراهم يقولون (بأن الغسل كان واجباً عليه لكل صلاة فسخ بالحدث الأصغر تخفيفاً فصار الوضوء ثم نسخ الوضوء لكل صلاة).
وهذا ما يتعارض مع قولهم السابق بالطبع إذ يعني هذا أن النبي كان يغتسل أولا للوضوء ولما شق عليه ذلك خفف عنه بالوضوء بالنسبة للحديث الأصغر. وظل الغسل مشروعاً بالنسبة للحدث الأكبر فقط وعلى المسلمين حتى اليوم.
ومعنى هذا أيضاً أن الوضوء لم يكن مفروضاً مع الصلاة مباشرة، بل كان النبي يغتسل أولا لكل صلاة، ثم خفف ذلك عنه بالوضوء. وقد كان هذا الغسل بمثابة طهارة عامة للجسم قبل الشروع في الصلاة. وكان عرب الجاهلية يفعلون ذلك قبل الطواف بالبيت. ثم نسخ الغسل بالوضوء. والظاهر أن هذا النسخ كان بالمدينة، فأصبح النبي والمسلمون يتوضأون من حين نزول الآية بدل الغسل.
وعندما نزلت الآية كان النبي وأصحابه يتوضأون لكل صلاة وقد شق عليهم ذلك فيما بعد، فلما كان يوم الفتح صلى الرسول الصلوات الخمس بوضوء واحد (فقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال عمداً فعلته يا عمر للإشارة إلى جواز الاقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس). ثم خفف الوضوء بالتيمم عند فقدان الماء. وقد نص على ذلك القرآن الكريم. فنرى من ذلك إذاً أن الأحكام الإسلامية كانت تسير من عسر إلى يسر، ومن صعب إلى سهل، حسب مقتضيات الظروف والأحوال.
وتشبه قضية الوضوء قضية قراءة سورة الفاتحة في الصلاة. إذ الفاتحة في الصلاة ركن من أركان الصلاة على أكثر الأقوال لحديث عبادة بن الصامت (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ولحديث أبي هريرة (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج. . .) وما دامت الفاتحة ركناً من أركان الصلاة فقد وجب أن يكون نزول الفاتحة مع نزول الأمر بالصلاة في يوم واحد. والحال إن نزول السورة كان بعد ذلك بمدة.
فسورة الفاتحة مكية وقيل مدنية وقيل مكية مدنية، وعل كل فهي سورة متأخرة عن الصلاة. ولا يعقل أبداً أن تكون ركنا من أركان الصلاة قبل عهد النزول، إذا فالفاتحة ركن منذ عهد النزول. وكذلك كان الوضوء فأهمل الفقهاء ذلك والمحدثون، وتصور الناس أن ذلك كان منذ أقدم عهود الصلاة. وهنالك إشارة وردت في الإتقان هي (أن جبريل حين حولت القبلة(640/12)
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة).
ونجن نعرف أن تحويل القبلة كان بالمدينة بعد الهجرة بستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً. فإذا صح قول صاحب الإتقان وجب أن يكون ذلك في المدينة وبعد الهجرة كما رأيت. ولذلك فلا عبرة لكلام من قال (لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير فاتحة). ترى من ذلك أن كثيراً ممن الأحكام المعروفة لم يفحص حتى الآن فحصاً تاريخياً. والحق (إن الإسلام كان كلما ازداد ظهوراً وتمكن في القلوب ازدادت الفرائض وتتابعت إلى أن تمت بآخر آية من آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فوق كل مرجع آخر في الإسلام.
جواد علي(640/13)
القضاء في الإسلام
قطعة ثالثة من محاضرة ألقيت في دمشق ولم تنشر
للأستاذ علي الطنطاوي
ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولى القضاء سناً معينة لابد من إكمالها وامتحاناً مسلكيا. والشرع لم يشترط إلا البلوغ. ولما قلد المأمون يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنه، فكتب إليه المأمون: كم سن القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سن عتاب بن أسيد لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه
والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. ورده إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جربه النبي صلى الله عليه وسلم واختبره عمليا، معروف معلوم
والقاضي الشرعي اليوم لا يجرب ولا يدرب، كما يدرب (حاكم الصلح) إذ يعين عضواً ملازما ثم يبعث حاكما. بل إنه يستقل بالحكم من أول يوم. وهذا مما ينبغي النظر فيه. وليس يجوز أن ينفرد القاضي بالحكم حتى يتمرس به ويتمرن عليه مدة في محكمة من المحاكم، فإذا استأنس المفتي رشده ولمس مقدرته على القضاء، ورآه أهلا له، قيل له، أعل قوس المحكمة، وتوكل على الله، وكذلك في مصر يصنعون، على أن القضاء الشرعي فيها (إلا الجزئي منه) قضاء جماعة، فكيف وهو عندنا قضاء فرد، وان وظائف القاضي من قضاتنا في أنأى محاكم الجزيرة أو حوران وسلطانه كسلطان قاضي دمشق أو حلب ينظر نظره في كل دعوى، ويحكم حكمه في كل خلاف. والقضاء في مصر على درجتين يؤمن معهما الغلط، وهو عندنا على درجة واحدة، ما فوق القاضي إلا محكمة التمييز (النقض والإبرام) وهي تعني بالشكل لا بالأصل وتنقض حكم القاضي ولكنها لا تحكم في الدعوى.
هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلد أحدا شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روى عن الني صلى الله عليه وسلم أن قال: (من قلد رجلا عملا وفى رعيته من هو أولى(640/14)
به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين).
وكان الخليفة هو الذي يقلد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولاه الخليفة وصرح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حق الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون مكن بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيي بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له أبن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولي علينا من غيرنا. قال المنصور فسمّ رجلا. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكن به صمم، ولا يصلح الأصم للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فأين لهيعة.
انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيته على بعد العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال أبن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حق المجاملة وإني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت انظروا إلى حب أهل مصر بلدهم وقديم عصبيتهم له!
ونص الحنفية على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر إذا كان يمكنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشر ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلد من أهل البغي كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!
وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا(640/15)
ينساه، وكان أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولاها الجاهلون. . .
وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.
وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقع ويقنع بالزيت، وكان علىّ تجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمائة درهم في الشهر، وكان مرتب أبن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب أبن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجرى مثل ذلك على القاضي المفضل به فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مائة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: مالي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطي بالرديء!
وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال. فأعطوا إلى خزان بيت المال. فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتبات.
نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعف نفوسهم عن حرامه اكتفاء بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضائنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره.
ولقد كانوا على المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولى تقشف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على(640/16)
القاضي أبن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبق خوص وكعك وماء. فقال: ابلل وكل، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!
وأي حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم. حقوق المسلمين. ابلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك:
واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً.
هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز!
ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسب أخذ بيد رفيقه فادعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين إضافة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم) فقال لبعض أصدقائه: قدني إلى القاضي فلعله يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقر. فقال: أعطيه حقه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدعي: إن رأيت أن تنظره. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلاه فأخرج دراهم فعد منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل.
قال صاحب القصة: وآليت ألا أعود لمثلها!
وكان بمصر أخوان توأمان تكهلا ولا يفرق بينهما من رآهما من قوة الشبه بينهما فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائرا له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فأحضرهما وقال: أيكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟
على أن القضاة من كان يقضي بالمجان. قال أبن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكار بن قتيبة لما هم(640/17)
ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكارا، فطلب أن يلعنوا الموفق فأمتنع بكار فألح عليه فأصر على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.
على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته.
وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصديقين، قد بوبت في ذلك الأبواب، وصنفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن علي رضي الله عنه قاضياً فقال له: بم صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حق لك أن تقضي. ونصوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضبان.
وهذه يا أيها السادة مزلة أقدام القضاة، ولا سيما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعدم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخل من أعداء يشون به إلى أولى أمره، ويسودون ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضي عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولا تضح ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركبه الله له. ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه والحامل، والكبير(640/18)
والصغير.
وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبير من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جربت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام.
وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق - ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويرد رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك: هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.
أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرق وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلف من الناس لذوي الإمارة، وهددوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفل بعزيمته حد سيفه. وبقى على موقفه منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. . يا أيها السادة. إن منا قضاة كانوا يبيعون الملوك!
(دمشق)
علي الطنطاوي(640/19)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
تمهيد
ما نحسب أن أحداً من المتقدمين أو المحدثين، نبحث في السجون على التفصيل. فهذا مبحث بكر طريف؛ سنحاول فيه أن نقدم إليك صورة واضحة تبين لك سبب السجن، وتريك أنواع السجون وضروب السجنى، ثم تطوف عليهم، فنرى ما يأكلون وما يلبسون؛ وكيف يفرون ومتى يخرجون. فإذا فرغنا عقدنا فصلاً خاصاً بأدب السجون، فأسمعناك طرفاً من الشعر المشرق الذي قيل في السجن المظلم. ثم استدركنا ما فاتنا من الحوادث والأخبار المتعلق بهذا الموضوع.
أسباب السجن
يتساءل الإنسان عند البحث في هذا الموضوع، عن الأسباب التي كان الناس يساقون بها إلى السجن. أفكانوا ينهجون نهجاً أو يتبعون شريعة إذا خرج عنها واحد، عوقب بالسجن؟ الحق أنه لم يكن شيء من هذا فقد كان يكفي أن يقول الخليفة أو الأمير أو صاحب الشرطة (الحبس) حتى يودعوا من لفظت بسببه المطبق. فقد كان الحبس سلاحا في يد الخلفاء والوزراء، وقوة يكيدون بها للمتمردين والعاصين والأعداء، ويهددون مخالفيهم فيما يشتهون ويحبون.
على أننا إذا استقرينا النصوص والأخبار، نجد أسباب السجن تتلخص فيما يلي:
(ا) الوزارة سبيل السجن
ومن العجب أن نرى أن الوزارة كانت سبيلا يوصل إلى السجن في غالب الأحيان. وندر من نجا من الوزراء، ولم يسجن. وربما قتل ولم يحبس، وربما صابه الأمران معاً. فقد سجن يعقوب بن داوود وزير المهدي، وجعفر بن يحي وزير الرشيد، ويحي بن خالد وابنه(640/20)
الفضل وسجن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق بعد أن صودرت أمواله، ونهبت دوره، وضمت إلى القواد ضياعه. وسجن أبن الخصيب وزير المستعين ونكب. كما حبس أبو الصقر وزير المعتمد، وقتل. ولم ينج محمد بن عبيد الله من السجن، فقد عزله المقتدر من الوزارة وحبسه مع ابنه.
وسبب ذلك أن الخليفة كان يستمع إلى أقوال المنافسين، ويصغي إلى مقالة الحاسدين، فيأمر بعزل وزيره وسجنه. فإذا لم يسجن، جاء خلفه فسجنه انتقاما منه، وخشية أن يشغب فيبعده عن السلطان.
(ب) مناوئو الخلافة
أما مناوئو الخلافة، والشاغبون عليها، فكان مثواهم السجن. فقد سجن عبد الملك بن صالح وقد سعي به عند الرشيد بطلب الخلافة؛ وسجن العباس بن المأمون عند ما دعا إلى نفسه، فمات في الحبس. وحبس الإفشين لما شق عصا الطاعة على الخلافة، ولم يجدوا بداً من اتهامه بالزندقة ليقتلوه.
(ج) الديون والمصادرات
وكانت الديون والمصادرات تودي بصاحبها إلى السجن. وكثار من صودرت أموالهم وأودعوا السجون، ثم أتى بهم فنوقشوا الحساب، وطلب منهم رد الأموال. حدث سليمان ابن وهب قال: (كنت أنا والعباس بن الخصيب، مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد عبد الملك في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرات فقبض عليّ وأودعت الحبس. فسمعت ليلة صوت الأقفال تفتح فلم أشك في أنه القتل وفتحت الأبواب. . . وحملني الفراشون لثقل حديدي وحملت إلى اسحق بن إبراهيم، وكان صاحب الشرطة، فإذا فيه صاحب ديوان الخوارج، وصاحب ديوان الضياع، وصاحب الزمام، وبعض الكتاب. فطرحت في آخر المجلس. فشتمني اسحق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: (يا فاعل ويا صانع تعرضني الاستبطاء أمير المؤمنين؟ أين الأموال التي جمعتها وحبست بسببها؟ فاحتججت بنكبة أبن الزيات. فقال لي صاحب ديوان الضياع: أخذت من الناس أضعاف ما أديت، وعادت يدك إلى كتبه إيتاخ فأخذت ضياع السلطان وأقطعتها لنفسك وحزتها سرقة إليك،(640/21)
وأنت تستغلها ألفي ألف درهم، وتتزيا بزي الوزراء).
وقد ذكر التنوخي كثيراً من أحاديث هؤلاء المسجونين الديون ومصادرات فليرجع إليه.
(د) الزندقة، الشعوبية، القرامطة، الملاحدة، الرافضة:
وكان الزنادقة يقتلون طوراً ويسجنون طوراً. وربما اتخذوا الزندقة سبيلا للقتل أو السجن. وكان الزنادقة يودعون سجناً خاصاً في المطبق. ذكر أبو نواس قال: كنت أتوهم جماد عجرد إنما يرمي بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حبست في حبس الزنادقة فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرئون به في صلاتهم.
وقد سجن أبو نواس متهماً بالزندقة؛ وكان قد عرض بالأمين (صاحب التاج) وأعتقد أن تعريضه هو سبب سجنه، وأنهم جعلوا الزندقة سبباً. فقد قال:
وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمى عن جميع الناس حسبي من فخر
فلا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب بالقصر
فقال له الأمين وقد أتى به (أبلغ بك الأمر إلى أن تعرض فيّ في شعرك يا أبن الخنساء. . .؟) ثم اتخذوا عليه حجة أنه زنديق؛ فقد شرب ماء المطر مع الخمر، وقال: هاأنذا أشرب الملائكة، فان مع كل قطرة ملكا. . .).
ومن الطريف أن نتابع القصة: فقد ذكروا أن خال الفضل أبن الربيع كان يتعهد المحبوسين ويسأل عنهم. وكانت فيه غفلة. فدخل على أبي نواس فقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة؟ أزنديق أنت؟ فقال: معاذ الله! قال أتعبد الكبش؟ قال: ولكني آكله بصوفه! قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله، بل آكله. . . ولقد ذبحت ألف ديك لأن ديكا نقرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكا إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. فقال: وأنا أيضاً أفعل ذلك. فخرج خال الفضل إلى الفضل وقال له: ما تحسنون جوار الله! تحبسون من لا ذنب له؟ سألت رجلا في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بما جرى بينهما، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته.
وكان الشعوبيون يسجنون لتهجمهم على العرب، وقد سجن الرشيد أبا نواس لقصيدة وهجا(640/22)
العرب بها.
وحبس فيما بعد، محمد بن هارون الوراق الملحد، ومات في السجن، وطلب ابن الراوندي الملحد لسجنه ففر.
وسجن المقتدر رجالا كثار من الدعاة إلى القرامطة والذاهبين مذهبهم، وسجن جماعة من الرافضة، كانوا يجتمعون في مسجد لسب الصحابة والخروج عن الطاعة.
(هـ) مخالفة رأي الخليفة، ادعاء النبوة
وكان مخالف رأي الخليفة أو الوزير معرضاً للسجن. وقد سجن ألوف وقتل ألوف في محنة خلق القرآن. وكان أحمد بن حنبل، الذي لم يقل بخلق القرآن، أحد من سجنوا.
وكان المتنبئون يسجنون إن لم يقتلوا. وقد كثر التنبؤ في عصر بني العباس وكان لأصحابه مع الخلفاء نوادر وأحاديث.
(و) المجوق، الفسق، الشراب
وكان المستهترون والفساق يسجنون حتى ينالهم العفو. وذكر أبن المعتز أن اسحق بن إبراهيم لما بلغه ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة أمر بحبسه. فكتب إليه أبو العبر رقعة يذكر أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه رقية العقرب فأحضره وقال: هات علمنا. فقال: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك. . .
فضحك وقال والله إنه لا يفلح أبداً.
وأمر المهدي إبراهيم الموصلي ألا يشرب ولا يتبذل ولا يغني، فغنى إبراهيم عند إخوانه وتبذل وشرب، فضربه ثلاثمائة سوط، وقيده وحبسه.
ووجد العسس أبا دلامة زيد بن جون سكران في بعض الليالي فقبضوا عليه، وأخذوه فحرقوا ثيابه وساجه وحبسوه. فلما أفاق قال أبياتاً وأرسلها إلى المنصور منها:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها ضوء السراج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النُّطف النضاج(640/23)
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج
(يتبع)
صلاح الدين المنجد(640/24)
الفسطاط
كيف اختير مكانها؟ ولم سميت بهذا الاسم؟
للأستاذ جمال الدين الشيال
يستطيع القارئ لأخبار الفتح العربي لمصر أن يلمح في يسر ووضوح أن الحرب لم تكن قائمة إلا بين العرب والروم، وأن القبط قد وقفوا من الجيشين موقف المحايد، وإن كانوا في سرائرهم يتمنون النصر للعرب لما سمعوه عنهم من حسن السياسة وطيب المعاملة، ولهذا استمر الروم يدافعون عن مصر وراء حصن بابليون سبعة أشهر طوالا، والعرب يستمدون من الحماسة الدينية والإيمان قوة لا تأبه للعقبات، وصبراً لا يعرف الملل.
ولما سقط هذا الحصن في أيدي العرب زالت من طريقهم أكبر عقبة من عقبات الفتح، وتراجع الروم إلى الإسكندرية فتبعهم المسلمون وحاربوهم حتى استولوا عليها؛ وبسقوط العاصمة الرومانية في أكتوبر سنة 641م. تم فتح العرب لمصر فانتشروا في ربوعها حتى وصلوا إلى الشلال الأول، وبذلك أصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية.
عمرو يريد أن يتخذ لمصر عاصمة
روى أبن الحكم عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو ابن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغاً منها، هم أن يسكنها وقال: (مساكن قد كفيناها). فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: (هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟) قال: (نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل)، فكتب عمر إلى عمرو: (إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزل لا يحول الماء بيني وبينهم فيه شتاء ولا صيفا)
قد تبعث هذه الرواية على التساؤل: لم كان عمر يخشى الماء؟ يقول بعض المؤرخين: إن العرب لم تكن أمة بحرية، وبذلك أبى بعد النظر على عمر أن يلقي بجنود المسلمين في مكان يفصل بينه وبين المدينة ماء، حتى لا يكون هذا الماء إذا حزبهم الأمر حائلا بينهم وبين الوصول إلى مركز قوتهم، وإذا أراد الخليفة أن يبعث إلى جنده بمصر مدداً لم يكن هناك ماء يعترض سبيل هذا المدد ويمنع وصولهم.
وقد ذكر السيوطي في حسن المحاضرة أن ابن عبد الحكم قد أخرج عن يزيد بن حبيب(640/25)
أيضاً أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد أبي وقاص وهو نازل بمدائن كسرى والى عامله بالبصرة والى عمرو بن العاص وهو نازل بالإسكندرية: (أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت). فتحول سعد من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحول صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة وتحول عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط)
من هذا نرى أن رغبة عمر في أن لا يحول بين المسلمين وبينه ماء لم تكن قاصرة على مصر، بل كان يريدها أن تتوافر في كل الأمصار التي فتحها العرب؛ ويقول فريق آخر من المؤرخين، ومنهم المستشرق الإنجليزي في كتابه إن عمر لم يكن قد رسم لنفسه بعد خطة ثابتة لتكوين إمبراطورية إسلامية واسعة، ولذلك كان يريد أن يكون على اتصال دائم بجيوشه التي خرجت للفتح، وإذ كان الطريق بين بلاد العرب والإسكندرية قابلا للانقطاع في زمن الفيضان فينقطع بذلك سبيل الاتصال بينها وبين المدينة عاصمة الخلافة فقد كتب عمر إلى عمرو يأمره أن يتخذ له حاضرة أخرى غير الإسكندرية.
ويبدو عند مقارنة هذين الرأيين - أحدهما بالآخر - أنه ليس للرأي الثاني من القوة والصحة قدر ما للرأي الأول، وذلك لأن النشاط الذي أبداه عمر منذ ولي الخلافة وإرسال الجيوش تلو الجيوش إلى الشام وفارس ومصر، كل هذا يثبت بالبرهان القاطع أن المستشرق الإنجليزي لين بول إنما قال ما قال من باب التعليل والاستنتاج العقلي فحسب.
لهذا أعرض عمرو عن الإسكندرية وولي وجهه شطر الفسطاط؛ ولنا أن نتساءل مرة أخرى: لم اختار عمرو هذا المكان دون غيره لبناء مدينة الفسطاط؟ وهنا تتشعب الآراء وتتعدد، ولكنها برغم تشعبها وتعددها لا تصل بنا إلى رأي حاسم معقول، فغالبية المصريين كابن عبد الحكم وابن دقماق والمقريزي وأبي المحاسن والسيوطي وغيرهم يروون حادث اليمامة على أنه السبب الأساسي لاختيار عمرو لهذا المكان ونزوله وجيشه بين ربوعه؛ وغالبية المؤرخين الفرنجة: كبتلر، ولين بول، وكازانوفا وغيرهم؛ لا يهتمون بمناقشة الأسباب التي دعت عمراً لاختيار هذا المكان دون غيره قدر ما يهتمون بمناقشة الآراء المختلفة في سبب تسمية هذه الحاضرة بالفسطاط.
وبرغم أتهم يستطرفون قصة اليمامة فأنهم يرجعون هذا الاسم إلى الكلمة الإغريقية (أي(640/26)
المدينة) ويقولون بأن العرب نقلوها عن الروم الشرقيين عند اتصالهم بهم في حروب الشام.
غير أننا نحب أن نعني بالأمرين جميعا لما لكل من الأهمية، ولذلك سنحاول:
أولا - مناقشة الأسباب التي دعت لاختيار هذا المكان ليكون حاضرة المصريين بعد إتمام الفتح العربي.
ثانيا - مناقشة الأسباب التي دعت لتسمية هذا المكان بالفسطاط.
1 - أسباب اختيار المكان:
أما عن الأمر الأول فيقول المقريزي في خططه: (اعلم أن موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما بين النيل والجبل الشرقي الذي يعرف بجبل المقطم ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه بقصر الشمع وبالمعلقة ينزل به شحنة المتولي على مصر من قبل القياصرة ملوك الروم عند مسيره من مدينة الإسكندرية يقيم فيه ما يشاء ثم يعود إلى دار الإمارة)
من هذا يبدو أن العرب قد أنشأو مدينتهم (الفسطاط) في الفضاء المجاور لحصن بابليون - مقر الدفاع الروماني -؛ وهنا نجد اختلافا آخر بين المؤرخين بشأن كلمة (بابليون) فالبعض يطلقها على الحصن فحسب والبعض الآخر يقول بوجود مدينة حول الحصن كانت تسمى بهذا الاسم، وزعيم الفريق الثاني هو الدكتور بتلر، وقد لخص رأيه في هذه الفقرات.
1 - كانت تقوم في زمن الفراعنة مكان مصر القديمة (الفسطاط) مدينة ذات شأن يدل عليها وجود بعض التماثيل المصرية مثل (سرية أبي الهول) وأن بعضاً من هذه التماثيل بقي حتى زمن الخليفة الحاكم الفاطمي.
2 - وفي القرن السادس قبل الميلاد اتخذ البابليون لهم في هذا المكان معسكراً حربياً وأنشئوا هناك حصنا على المرتفعات الصخرية التي سماها العرب فيما بعد (الرصد).
3 - ومن هذا المعسكر انتشر اسم (بابليون) حتى شمل الإقليم المجاور وأصبح الاسم المميز لمدينة عظيمة تمتد بعيداً شمال الرصد حتى تتصل بأطراف المدينة القديمة العظيمة المنحلة وقتذاك (هليوبوليس أو عين شمس).
4 - وعندما أراد تراجان أن يعزز قوته عند رأس الدلتا واعتزم أن يبني حصناً قوياً كقلعة(640/27)
لبابليون، ترك حصن الفرس القائم على الرصد وأنشأ قلعته علا الشاطئ النيل وذلك ليضمن وجود الماء بالقرب من حاميته وليستطيع تلك الحامية الاتصال - بواسطة النيل - بسائر وجهات القطر المصري وسمي هذا الحصن بحصن بابليون (أي حصن مدينة بابليون) أو قلعة مصر ? وقد حرف العرب هذا الاسم فيما بعد فسموه قصر الشمع.
5 - وبذلك هجر حصن الرصد الفارسي واستولت عليه عوامل الانحلال والنسيان، حتى إذا كان الفتح العربي بعد ذلك بخمسة قرون ونصف قرن كانت الأخبار عن وجوده عامة لا تكاد تذكر.
6 - أن اسم بابليون الذي وجده العرب عند قدومهم يطلق على مدينة مصر قد تلاشى بمرور الزمن وحل مكانه الاسم العربي الجديد (الفسطاط) حتى إذا ابتدأ مؤرخو العرب يدونون كتبهم كان اسم (بابليون) قد أصبح يطلق على قصر الشمع فحسب بعد أن انتزع من المدينة التي أصبحت بعد اتساعها ونموها تسمى بالفسطاط.
7 - ولكن هذا الاستعمال المحدود للاسم ابتدأ كذلك يتلاشى في مصر في الأزمنة الحديثة وغادر الاسم لأنقاض الباقية من قصر الشمع؛ وتضاءل حتى غدا يطلق على دير قبطي صغير يقع عند البوابة الجنوبية من الحصن ويسمى (دير بابليون) وعند ذلك الدير الصغير استقر ذلك الاسم التاريخي القديم بعد أن خلفه في تسمية المدينة (لفظ الفسطاط) وبعد أن خلفه في تسمية الحصن لفظ (قصر الشمع).
ونحن لا يهمنا من هذا التحليل كله لتطور استعمال كلمة بابليون إلا أن نعرف أن المكان الذي أنشئت عليه الفسطاط كانت تشغله منذ أيام الفراعنة مدينة كبيرة ذات شأن؛ اتخذها البابليون مكاناً لاستقرارهم ثم اتخذها الرومان مقراً لدفاعهم يصلون به الوجهين البحري والقبلي ويدفعون منه كل مغير على مصر.
وهذا ما يؤيد الرأي الذي نريد أن نذهب إليه من أنه كان في مصر وقت الفتح مدينتان هامتان: إحداهما الإسكندرية وتعتبر العاصمة الأولى وذلك لقربها من الدولة الرومانية الشرقية صاحبة السيادة وقتذاك، ولإشرافها على البحر الأبيض المتوسط، وبابليون أو (مصر) وتعتبر العاصمة الثانية وذلك لموضعها من رأس الدلتا بحيث تشرف على الوجهين القبلي والبحري، ولوقوعها على الشاطئ النيل بحيث تكون سهلة الاتصال - بواسطة هذا(640/28)
النهر - بكل أطراف القطر المصري، ولتوسطها بين النيل غربا (وهو مورد من الماء لا ينفذ) وبين جبل المقطم شرقا - وهو حد طبيعي لحمايتها -؛ ولهذا نلاحظ أن المصريين منذ القدم كانوا يختارون هذا المكان مقراً لحكمهم للأسباب المتقدم ذكرها فاتخذوا منف عاصمة لهم مدة ليست بالقليلة، وكانت هليوبوليس (عين الشمس) كذلك حاضرة لمصر مدة طويلة، وبابليون كما ترى تقع بين المدينتين
ويؤيد هذا الرأي القائل بوجود هذه المدينة أيضاً قول المقريزي:
(وكان بجوار هذا الحصن (بابليون) من بحرية وهي الجهة الشمالية أشجار وكروم وصار موضعها الجامع العتيق، وفيما بين الحصن والجبل عدة كنائس وديارات للنصارى في الموضع الذي يعرف اليوم براشدة، وبجانب الحصن فيما بين الكروم التي بجانبه وبين الجرف الذي يعرف اليوم بجبل يشكر حيث جامع أبن طولون والكبش عدة كنائس وديارات للنصارى في الموضع الذي كان يعرف في أوائل الإسلام بالحمراء)؛ وقول ابن سعيد في كتبه المغرب: (وأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني عين شمس، وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن) لأننا نعرف أن المعابد عامة - من هياكل وبيع وكنائس وأديرة ومساجد - منذ أقدم العصور إلى اليوم لا تبنى إلا في المدن أو الأماكن الآهلة بالسكان؛ فوجود هذه الكنائس والديارات في الأماكن التي يذكرها المقريزي يثبت إثباتا قاطعا وجود مساكن آهلة ومبان عامرة في هذه المدينة القديمة وقت الفتح؛ وقول ابن سعيد لا يحتاج إلى هذا الاستنتاج إذ يقول في عبارة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام (وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن).
من هذا كله نرى أن اختيار عمرو لهذا المكان لم يقع اعتباطاً، بل كان اختياراً طبيعياً؛ كان عمرو يريد أن يتخذ له حاضرة يستقر فيها غير أنه ما كان يريد أن يبذل جهداً جديداً في إنشاء هذه الحاضرة بدليل رغبته في اتخاذ الإسكندرية حاضرة، وبدليل تعبيره عن هذه الرغبة بقوله: (مساكن قد كفيناها)؛ ولكن عمر قد أمره أن يتحول عن الإسكندرية، فكان لزاماً على عمرو أن يحول وجهه شطر العاصمة الثانية وقتذاك وهي (بابليون) أو (مصر) فذهب إليها واتخذ الفضاء المجاور لها مقراً له ولجنوده.
هذه هي الأسباب الطبيعية التي دعت عمراً لاختيار هذا المكان غفل عن ذكراها مؤرخو(640/29)
العرب، ولم يعرها اهتماماً مؤرخو الفرنج.
1 - لم سميت المدينة بهذا الاسم
أما عن الأمر الثاني وهو الأسباب التي دعت لتسمية هذا المكان بالفسطاط فان الآراء فيها وإن اختلفت وتشعبت فإنها كذلك لا تصل بنا إلى حد حاسم معقول.
آما مؤرخو العرب فيعتمدون جميعاً على قصة اليمامة، وأما مؤرخو الفرنجة فتقول غالبيتهم بأن كلمة الفسطاط قد أخذت عن الكلمة الإغريقية أي المدينة وإن العرب نقولها عن اليونان عند اتصالهم بهم في حروب الشام. غير أنا نرى أن قصة اليمامة مع طرافتها قد تبتعد عن الصحة وذلك لأنهم يقولون أن عمراً قد أوصى أحد المصريين في رواية، أو صاحب القصر في رواية أخرى بالمحافظة على الخيمة (الفسطاط) حتى تفرخ اليمامة وتطير صغارها، وأنه عند رجوعه وجد الفسطاط في مكانه فنزل هو وجنده بجواره؛ ونحن نشك في صحة هذا الخبر لان عمرا ولو أنه كان قد استولى على حصن بابليون فإن مصر لم تكن قد خضعت كلها لأمره، ولذلك لا يعقل أن ذلك الرجل المكلف بالمحافظة على الفسطاط يبقى على عهده ويحافظ على وعده مع رجل فاتح لم يثق بعد انه أصبح الحاكم على مصر حتى يخشاه على حراسة فسطاطه من أجل يمامة طول ذلك الوقت التي أستنفذه عمرو في فتح الإسكندرية وما بين بابليون والإسكندرية من مدن
ويدفعنا أيضاً إلى الشك في صحة هذه القصة ما هو معروف مشهود عن الطيور المختلفة وخاصة الحمام واليمام من أنها تتخير لأعشاشها وبيضها وفراخها الأماكن المنعزلة المهجورة البعيدة على أن يطرقها أو تنالها الأيدي صوناً للأعشاش وحفظاً للبيض وإبقاء على الصغار.
فهل من المعقول إذن أن تترك هذه اليمامة العمرية تلك الأماكن الآمنة لتضع بيضها في معسكر دائم النشاط دائب الحركة وفي خيمة القائد وهي أنشط أماكن المعسكر بالحركة وأعمرها بالوافدين؟
وإذا كانت هذه القصة صحيحة ففي أي مكان من الخيمة تبني اليمامة عشها؟ والخيمة كما نعرفها جميعاً مصنوعة من قماش أملس وهي منحدرة الجوانب إذا نصبت.
كل هذا يؤيد شكنا في صحة هذه القصة وكونها أصلا للتسمية أما الرأي الثاني فيبدو كذلك(640/30)
بعيداً عن الصحة وذلك لأن ابن قتيبة يروى في كتابه غريب الحديث حديثاً للرسول نصه: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة)؛ ونحن إزاء هذا نجد أنفسنا أمام احتمالين: إما أن يكون الحديث صحيحاً فيبطل الرأي القائل بأن العرب أخذوا كلمة الفسطاط عن الروم عند اتصالهم بهم في حروب الشام لان حروب الشام واتصال العرب بالروم كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي بعد ذكره لهذا الحديث؛ وأما أن يكون الحديث غير صحيح وبذلك يحتمل أن يكون رأي مؤرخي الفرنجة صحيح.
غير أنا نحب أن ندلي برأي يخالف هذين الرأيين وقد يكون أقرب منهما إلى الحقيقة: وذلك إن كلمة الفسطاط كلمة عربية معناها المدينة، فأننا إذا رجعنا إلى قاموس المحيط وجدنا أن (الفسطاط) بالضم (مجتمع أهل الكورة) ووجدنا أن الكورة هي (الصقع أو المدينة) وبذلك تكون الفسطاط هي مجتمع أهل المدينة.
ويقول ابن قتيبة تعقيبا على الحديث السالف الذكر (والفسطاط المدينة). وينقل عنه المقريزي أيضاً في الخطط ما يلي: (قال ابن قتيبة كل مدينة فسطاط)، ويقول المقريزي بعد هذا: (وأخبرني أبو حاتم الأصمعي أنه قال حدثني رجل من بني تميم، قال قرأت في كتاب رجل من قريش: هذا ما أشترى فلان بن فلان من عجلان مولى زياد اشترى من خمسمائة جريب حيال الفسطاط يريد البصرة) ويشبه هذا الرواية الأخيرة ويؤيدها قول ابن الفقيه: (وإنما سميت البصرة فسطاطا على التشبيه بفسطاط مصر)، وقريب من هذا المعنى قول المقدسي: الفسطاط هو مصر في كل قول)
فالراجح عقلا بعد ذكر هذه الآراء جميعاً أن كلمة (فسطاط) كلمة عربية خالصة معناها (المدينة).
وخلاصة القول الذي نريد أن نذهب إليه أن العرب اختاروا هذا المكان اختياراً للأسباب السابق ذكرها وأنهم سموه (الفسطاط) أي (المدينة) أو (مجتمع أهل المدينة) يقصدون بذلك المكان الذي يجتمعون حول جامعهم وحول منزل قائدهم.
جمال الدين الشيال
-(640/31)
عرب السودان
والصحراء الشرقية
للأستاذ حسن أحمد حسين خليفة
كتب جماعة من المستشرقين وبعض الكتاب كتابة خاطئة عن أنساب بعض عربا السودان والصحراء الشرقية، فجاء في محاضرة دخول العرب للسودان التي ألقيت في الجمعية الجغرافية الأسيوية منذ سنوات قليلة ما ملخصه: (إن معظم سكان الجزء الشمالي من السودان على ضفاف النيل يدعون أن نسبهم يتصل ببني العباس، غير أن هذا ملخص ادعاء لم تثبت حقيقته بعد)
وزعم نعوم بك شقير صاحب كتاب (تاريخ السودان): (إن انتساب عرب السودان للأصول التي ينتمون إليها، لا ثبت له عندهم إلا ما حفظوه أو لفقوه من القصص الخرافية).
ونسب المستشرق شوينفرث في كتابه (طرق مصر المهجورة) العبابدة والشكرية وغيرهم من قبائل الصحراء الشرقية للبجة؛ وقال: (إن العبابدة تعربت كثيراً والشكرية تعربت)
ونسب البستاني صاحب دائرة المعارف، والمستشرق بروس العبابدة للبجة، وزاد نعوم بك شقير على ذلك بقوله: إن في تقاليد العبابدة انهم قوم الزبير بن العوام، ولعل قوم الزبير بن اختلطوا بهم فكانوا رؤوسهم. وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من مزاعمهم ونرد عليها: بأن من الثابت في التاريخ أن فريقاً من بني العباس هاجروا من الديار المصرية إلى السودان في القرن الثامن الميلادي
وإذا كان من صفات عرب شمال وشرق السودان والصحراء الشرقية تلفيق الانساب، فأن فيهم الجباب من نسل أبي لهب واليزيديين من نسل اليزيد، فكان أحرى بهؤلاء أن يلفقوا لهم نسباً غير نسبهم.
أما تلك القبائل التي نسبوها للبجة، فهي قبائل عربية صميمة فالعبابدة في الأصل فرع من الكواهلة بني محمد الكاهل بن عبد الله المكنى بأبي بكر بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي. ويحدثنا الرحالة ابن بطوطة في كتابه (تحفة النظار وعجائب الأمصار) أنه رأى في نحو سنة 757 هـ حياً من العرب بصحراء عيذاب (عتباي) على بعد يومين من رأس دواير يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجاة عارفين بلسانهم اهـ(640/32)
وإن كاهلا الذي أشار إليه إن بطوطة هو محمد الملقب بكاهل الذي يرجع إليه العبابدة وقبائل أخرى في نسبهم.
وجاء في كتاب (صبح الأعشى) للقلشندي، و (البيان والإعراب) للمقريزي من مؤرخي القرن التاسع الهجري ما ملخصه: (إن السيدة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب التي أمها السيدة أم كلثوم بنت السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب هي أم يحيى وأبي بكر بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام وأم إبراهيم بن طلحة الجود، وإن السيدة زينب ولدت لعبد الله جعفر أولاداً عرفوا بالزبانية هم جعافرة الصعيد، ومن هذه الاخوة كانت بنو طلحة وبنو الزبير والجعافرة يداً واحدة في صعيد مصر). وهاأنت ترى اليوم في القرن الرابع عشر الهجري العبابدة بني عبد الله المكنى بأبي بكر الزبيري يقيم أكثرهم مع الجعافرة في صعيد مصر بمديريتي أسوان وقنا، ومختلطين معهم جميع سبل الحياة كما كانوا في القرن التاسع الهجري
أما ذلك الحي من أولاد كاهل الذي رآه ابن بطوطة في رحلته بالصحراء الشرقية، فيلوح لنا أنه رحل من صعيد مصر إلى تلك الصحراء عند تفرق العرب عقب حوادث سنة 651 هـ التي حصلت بين حصن الدولة الجعفري زعيم العرب بالقطر المصري، والملك المعز ايبك أول ملوك دولة المماليك البحرية كما تراه مفصلا في كتاب السلوك للمقريزي
ورب قائل يقول: إن بعض مؤرخي القرن التاسع الهجري بينوا في مؤلفاتهم أسماء القبائل العربية وأماكنها بالديار المصرية في عصرهم ولم يذكروا العبابدة. فجوابنا على ذلك هو أنهم لم يشتهروا باسمهم الحالي إذ ذاك؛ وقد اشتهروا به في القرون الأخيرة كما اشتهر في القطر المصري والسودان وغيرهما من الأقطار عدة قبائل عربية بأسماء غير التي كانت تعرف بها أصولها في القرن التاسع الهجري وما قبله من القرون، ومن المعلوم أنه كلما مر الزمن كثرت القبائل وتعددت أسماؤها
والشكرية عرب من خيار العرب، وهم من آل شكر بن إدريس، ويتصل نسبهم بالسيد عبد الله الجواد، كما جاء في نسبة خطية منسوبة للإمام السمرقندي
ومن المعلوم أن كثيراً من العرب الذي ينتمون إلى تلك الأصول التي ينتمي إليها عرب السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة أتوا إلى القطر المصري عند الفتح الإسلامي(640/33)
وفيما بعده من العصور، وإن الكثير من هاجر إلى الصحراء الشرقية وبلاد النوبة والسودان، وخصوصاً في زمن حكم المماليك الذين أذلوا العرب واضطهدوهم في الديار المصرية
وإن عرب السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة يحفظون أنسابهم التي توارثوها عن أسلافهم. وقد جاء في القول المأثور: (إن الناس مصدقون في أنسابهم). وهذا ثبت كاف لهم، وعلاوة على ذلك فإنهم يتكلمون باللغة العربية إلا بعض قبائل في الصحراء الشرقية، وبلاد النوبة تعد على أصابع اليد، اتخذت البجاوية أو النوبية لغة لها بحكم البيئة التي وجدت فيها
ومما نأسف له أن بعض كتاب مصر النابهين ممن ظهروا أخيراً وهم أحق بعرفة السودان وساكنيه من أولئك المستشرقين وغيرهم كتبوا عن أنساب قبائل السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة متأثرين بأقوال المستشرقين والسوريين الخاطئة، لا كتابة من يعرف سكان تلك الجهات معرفة درس وتمحيص أعمق وأصح من الأساطير والمعلومات المتناثرة التي وضعها المستشرقون وكتاب سوريا، وهي أقوال لا تستند إلى أي ثبت وإقامة تلك القبائل في إقليم كان يسكنه في القرون السحيقة أقوام ليسوا من العرب، وإليك نبذاً من أقوال بعض كتاب مصر في هذا الموضوع:
قال علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية: (يظن أن عرب العبابدة من البجة). وقال الأستاذ البتنوني في كتاب (الرحلة الحجازية ما ملخصه: (يقال إن البهجة من عرب البربر ومنهم العشابات، وهم فخذ من العبابدة، ويقيم أناس من العشاباب في اللقيطة بين قفط والقصير). وقال الدكتور مأمون عبد السلام في مقالة نشرتها له جريدة الأهرام في سنة 1939م ما ملخصه: (إن جغرافيي العرب وصفوا الصحراء الشرقية وتكلموا عن سكانها من البجاة، وهم البشاريون وأقرباؤهم العبابدة، فذكرهم المسعودي وابن الأثير والمقريزي) اهـ
وأقوالهم هذه لا صحة لها، فالظن ليس حجة، وإن عبابدة عرب البربر هم فخذ من قبيلة هواره، وقد ذكرهم القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى)، ويقيمون في الوجه البحري بالديار المصرية، ولا تربطهم أي صلة نسب بالعبابدة بني الزبير ممن يقيمون بصعيد مصر(640/34)
والصحراء الشرقية والسودان. وإن جغرافيي العرب الذين أشار إليهم الدكتور مأمون عبد السلام لم يذكروا البشاريين والعبابدة بين قبائل البجة التي وضحوها في مؤلفاتهم التي اطلعنا عليها
ومما لا شك فيه أن هناك من تعرب من سكان السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة القدماء، واندمج اندماجاً كلياً في العرب، وأنه تجرى في عرب هذه الجهات حفنة من دم غير عربي، لأنه من عادة العرب أن يتزوجوا من أهل البلاد التي يحلون فيها ويتسرون، وهذا لا يؤثر في عروبتهم، لأنه من عاداتهم أيضاً أن لا يزوجوا بناتهم لغير بني جلدتهم، مع أن سكان الأقطار الأخرى لا يتمسكون بهذه العادة، وليس عرب السودان وحدهم الذين تجري في عروقهم حفنة من دم أجنبي، فإن عرب الأقطار الأخرى هم بالمثل تجرى في عروقهم دماء غير عربية، وقل أن يوجد الآن على وجه الأرض أمة لم تختلط أصولها، إذ لا جدال في أن شعوباً غير عربية وجدت أو مرت بسوريا وفلسطين والعراق واليمن ووادي النيل في القرون الخالية، ولكن بمرور الزمن صهرت بقاياهم في بوتقة العروبة، وذابت في الأمة العربية الحديثة، وهذا لا يضيرهم في عروبتهم، فإن كل من كان لسانه عربياً فهو عربي وقد منح الإسلام الجنسية العربية لكل من تكلم بالعربية، فقد روى الحافظ ابن عساكر قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي فقال: الأوس والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل (يعني أنهم نصروا النبي لأنهم قومه) فما بال هذا وهذا؟. . . فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بمقالته، فقام مغضباً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي الصلاة جامعة (فاجتمع الناس). وقال محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، إن الرب واحد، والدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية، فهو عربي)
أما قبائل البجة التي ذكرها جغرافيو العرب كالمسعودي والمقريزي وغيرهم فهي:
البازة والباريه والخاسه والحدارب والزنافج.
وإن منطقتهم كانت تمتد قديماً في شرق أفريقيا من صحراء قوص بالقطر المصري إلى بلاد الحبشة، وعاصمتهم كانت مدينة هجر، وفي وقتنا الحاضر يقيمون في القسم الجنوبي من تلك المنطقة(640/35)
ومما جمعناه من المعلومات الصحيحة في مدة إقامتنا عدة سنوات بالسودان الشرقي وجبال بني عامر، إنه لما كثر العرب من بني الزبير بن العوام بصحراء مصر الشرقية في القرون المتأخرة وقويت شوكتهم وكثرت أنعامهم، ضايقوا البجة في أماكنهم بتلك الصحراء بسبب شح الأمطار وقلة المراعي التي لا تكفي هناك لسائمتهم جميعاً، فاضطرت البجة تحت ضغطهم للرحيل إلى الجنوب شيئاً فشيئاً، وأقامت في الجبال التي حول سواكن، وبعد ذلك حاربها الهدندوة وقتل رئيسها أحمد باركوين: شكتيل ملك البجة، وهو من قبيلة بلى العربية، إذ كانت رئاسة البجة لبلى وتمسيهم البجة بلويب، ويقال لهم حدارب، وإن وجود بلى في الصحراء الشرقية يرجع إلى زمن بعيد، فإن التاريخ يحدثنا أن قبيلة بلى كانت تقيم في شمال منطقة البجة على عهد ظهور النصرانية بالقطر المصري، حيث يقيم الآن بعض عرب العبابدة، وتدل القرائن التاريخية أن بلى هي أول قبيلة عربية خالطت البجة، لأنك إذا سألت البجاوي: هل تعرف العربية أجابك (بلويه كاكا) أي لا أعرف لغة بلى، وكان الحدارب يتولون التجارة بين السودان الشرقي والحجاز واليمن، فزاحمتهم قبيلة الارتيقة في التجارة ورئاسة القوافل، وانتزعتهما منهم في الخمسة قرون الأخيرة، وأصبح اسم حربي خاصاً بالارتيقة.
ولما قتل شكتيل ملك البجة المار ذكره دفن في شمالي مدينة سنكات بالجبل المسمى باسمه، وعلى أثر ذلك رحلت البجة من الجبال التي حول سواكن، وأقامت مع بقية البجة في المنطقة من عند مدينة طوكر شرقاً، حتى قرية الشيخ الإمام بديار الحبشة غرباً. وجبل هجر ونهر عنصبا (عين سباً) بارتريا جنوباً. وشمالا بخور بركه الذي يروي أراضي طوكر
وإن قبائل البجة التي تقيم الآن في السودان المصري الإنجليزي هي:
اللبت والكربكناب والسنكاتكنات، وفريق من الخاسه ويتبعون في وقتنا الحاضر لنظارة بني عامر. ويوجد من بقايا البجة أقليات في قبائل عرب البشاريين والأمرار والهدندوة والحباب، وهم معروفون لتلك القبائل.
ويتكلم عرب البشاريين والأمرآر والهدندوة والحلنقة بلغة البجة بتأثير البيئة، لأنه لم نزل في إقليم البجة العرب الذين تكونت منهم تلك القبائل، اضطرت بحكم الجوار والإقامة بين(640/36)
البجة لمخالطتها في جميع سبل الحياة، وزد على ذلك أنهم كانوا يتزوجون من البجة فينشأ أولادهم وبناتهم على لغة أمهاتهم، فتغلبت البجاوية مع مرور الزمن على العربية كما تغلبت اللغة النوبية على العرب والترك الذين أقاموا بجهات دنقلة وشمالها. وتتكلم قبيلتي بني عامر والحباب بلغة يسمونها الخاساوية، وهي خليط من لغة التفري الحبشية واللغة العربية. ولم يبق لهذه القبائل العربية الأصل ما تختلف فيه عن قبائل البجة إلا العادات، ولذلك يحسبهم بعض المستشرقين والكتاب بجاة لتكلمهم بلغة البجة وإقامتهم في إقليمهم. وهذا خطا لا ينتبه إليه إلا من يتصل بهم ويجتمع بمن له معرفة منهم بحوادث قبيلته التاريخية ولا تخلو قبيلة من هؤلاء
ولا يفوتنا أننا لم ندل بمعلوماتنا هذه إلا إظهاراً للحقيقة، فالناس كلهم سواء، وإن التفضيل بينهم بالفضل والتقديم بالفعل:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
(بربر بالسودان)
حسين أحمد حسين خليفة العبادي(640/37)
هذا العالم المتغير
كثرة الأكل قد تسبب السرطان
للأستاذ فوزي الشتوي
منذ 3000 عام
يفتك مرض السرطان بستين في المائة من ضحاياه في أرقى الأمم التي بعلاجه ودراسته. أما في مصر فلا يعرف عدد المصابين إلا الله. فإن لم يكن الطبيب على شيء من البراعة فربما اعتبره نوعاً من الأورام. تستطيع أن تتعقب المرض إلى 3000 سنة، ومع ذلك فما يقال عنه من الفروض والتخمينات، برغم ما يبذل من المال لدراسته، وبرغم الإخصائيين الذين وقفوا حياتهم وخبرتهم لكشف سره
فإن أردت أن تعرف مدى سبر غور العلم لطلاسمه، فلست أجد أوفق مما كتب الدكتور هارولد رش مدير معهد أبحاث السرطان في إحدى كليات الطب بأمريكا حين قال: (ليس لدينا علاج محقق للسرطان. وليس في جعبتنا واحد يفكر في تنفيذه وإن كنا نتوق إلى ما يضئ لنا الطريق، وكل عملنا يتجه إلى دراسة المظاهر الأساسية والعوامل التي يحتمل أن تغير مجراه)
(ومع هذا فقد ظفر بتقدم واسع شامل، فعرفنا عدة وسائل لإحداث السرطان في المعمل في أي وقت نشاء، وعرفنا أيضاً بعض التحولات التي تطرأ على أنسجة الجسم العادية حين تصاب بالسرطان)
يبدأ كرأس الدبوس
وليس معنى هذا أن الطب يقف أمامه مكتوف اليدين، فأربعين في المائة من مرضاه تعالج بالعمليات الجراحية وبأشعة إكس وبالراديوم وبغير هذه العلاجات يقضي بالموت على كل المصابين به، فهو ذلك المرض الغريب الذي يبدأ بورم صغير كرأس الدبوس، ثم ينمو ويتشعب وينتشر حتى يفسد الجسم كله؛ ويتفق الأطباء والجراحون على أنه كلما بكر المريض بعلاجه كان النجاح أكثر ضماناً
أما سر التبكير فيرجع غالباً إلى طبيعة المرض الذي يتكون من خلايا حية تختلف عن(640/38)
الخلايا العادية في أنها حرة طليقة لا يحد من نموها أي ضغط. وعندما توجد خلية سرطان في جسم الإنسان أو الحيوان فإنها تنقسم وتتوالد في سرعة فائقة لا تحدها أية عقبة. فإن كثر عدد الخلايا وكبر حجمها انقسمت وسبحت شظاياها في جسم العائل لتكون كل منها مستعمرتها الخاصة، وعندئذ يتعذر على الطبيب إجراء العلاج
فما هي الخلية السرطانية؟
سؤال يعز على العلم الجواب عنه، وكل ما يقول إنها أصغر من أن يراها المجهر. ويواصل العلم جهوده ليعرف هذه النكبة التي لا يراها المجهر، وليدرك كيف تتكون في الجسم
وتنقسم دراسة السرطان في إحدى الهيئات التي وقفت جهودها ومالها على إزاحة الغطاء عنه إلى ثلاث شعب:
أولا: تأثير الغذاء على السرطان في نموه أو عرقلته
وثانيا: تأثير التهيج المزمن على تكوين السرطان
ثالثا: خواص الخلية السرطانية
وفي عام 1940 بدأ العلماء يدرسون الصلة بين التغذية وتكوين الخلايا السرطانية على الفيران، فلاحظوا ظهور أورامها في حالات كثيرة في الفيران التي يحتوي غذاؤها على نسبة كبيرة من الدهن
ولكي يحددوا بالضبط تأثير التغذية على قابلية الفيران للإصابة بالمرض أحضر العلماء بضع مئات من الفيران وقسموها إلى فريقين فيعطي الفريق الأول غذاء يولد نسبة مرتفعة من الوحدات الحرارية (يتحول كل غذاء يتناوله الكائن الحي إلى وحدات حرارية هي في الواقع الوقود الذي يسير أجهزته تختلف القيمة الحرارية باختلاف ألوان الطعام)
حذار التهم:
ويعطي الفريق الثاني وجبات غذائية مماثلة لوجبات النوع الأول، ولكن كميتها الحرارية تبلغ ثلثي وجبات الفريق الأول. وكان الفريقان يعرضان للأشعة فوق البنفسجية للإسراع في تكوين الخلايا السرطانية وتحديد مؤثراتها(640/39)
وبعد تسعة شهور من التجارب أجري الكشف الطبي على الفيران، فوجدت الأورام السرطانية منتشرة في الفريق الأول بنسبة 86 % ووجدت في الفريق الثاني بنسبة 7 % فقط
ويقول الدكتور روش إن هذه النتيجة تتفق مع أبحاث الهيئات الأخرى، إذ ظهرت الإصابات السرطانية في صدر الفيران التي تتغذى بكميات مطلقة بنسبة 67 %، ولكنها لم تظهر بتاتاً في الفيران المحدودة الوحدات الحرارية في الغذاء.
ويعلل هذه النتيجة بقوله: (عندما يحتفظ الجسم بمستوى مرتفع من الغذاء، فإنه يتيح الفرصة للخلايا السرطانية الكامنة لكي تظهر وتنمو، بخلاف حالات قلة الغذاء التي تعد غير مناسبة لبدء حالة التورم السرطاني ولا تعطيها الفرصة لكي تبدأ عملها، وبمجرد ظهور الخلايا السرطانية وبدئها عملها، فإن قلة الغذاء أو كثرته عديمة القيمة ولا تحد من نشاطها وتكاثرها). ولا يدل نجاح هذه التجارب على الفيران أنها ستؤدي إلى ذات النتيجة في الإنسان، ولكن الدكتور روش يرى ما يؤيد هذه النظرية في ارتفاع نسبة إصابة الإنسان بالسرطان في المناطق الوافرة التغذية وبين الأشخاص الثقيلي الوزن والأكولين
تأثير الفيتامينات
وتجري الآن التجارب لمعرفة تأثير الفيتامينات من حيث القلة والكثرة على الخلايا السرطانية. كما يجرون تجارب التهيج المزمن، ويفحصون تأثيره على ظهور عوارض هذا المرض. والمعروف أنه توجد علاقة بين تكوين الخلايا السرطانية وبين التهيج
ودلت التجارب الأخيرة على أن التهيج لا يؤدي إلى إحداث السرطان إلا إذا حدث في المناطق التي تحتوي على خلايا سرطانية كامنة
ويفهم من التجارب التي أجريت على السرطان أن عدة عوامل متباينة تلعب دورها في نشوئه، فالتهم وحده لا يسببه، ولكن هناك أفراد لديهم استعداد للإصابة به. وهو كامن فيهم سواء بالوراثة أو بعوامل أخرى لا تزال مجهولة، والإكثار من الأكل عند أولئك الناس يعطي المرض فرصة الظهور
تثبيت المرض(640/40)
والخلاصة التي وصل إليها الباحثون في لكشف عن أسرار هذا المرض الخبيث أنه يحتاج إلى عدة عوامل متباينة متآزرة، تعمل كلها في وقت واحد، فالنهم يجب أن يصحبه الاستعداد للمرض. والتهيج يجب أن يحدث في أجزاء بها خلايا كامنة، وبغير هذا التعقيد فإن هذا المرض كان جديراً بأن يبيد العالم كله منذ زمن بعيد.
ونجح العلماء أيضاً في الوصول إلى علاج لسرطان الجلد، إذ وفق الدكتور موهز إلى ربط العلاج الكيميائي بالجراحة، فأمكنه أن يثبت المرض في بقعته فلا يزوغ من بين الجراح عندما يحاول إزالته بمشرطه كما هي العادة، فالسرطان من الأمراض التي يعز على الأطباء حصرها لكثرة حركته
وخير نصيحة يوجهها الدكتور روش إلى الناس ليتقوا هذا المرض الخبيث المجهول الأصل والنشأة: (أن نكون سليمي البنية، نقتصر على طعامنا الضروري، مبتعدين عن التهيج، على لأن لا ننسى فحص أجسامنا فحصاً تاماً في كل فترة
فوزي الشتوي(640/41)
حلم قديم. . .
للأستاذ سيد قطب
طاف بي مستطلعاً حلمي القديم
فتطلعت إليه في وجوم
قلت: من أنت؛ فأغضي خجلا
قال لي: حلمك في العهد الوسيم!
قلت: يا حلمُ. متى عهديَ ذاك؟
منذُ كَم يا حلمُ قد طافت رؤاك
قال: لم يبعُدْ بأطيافي المدى
قلت: ما أبعد ما مرَّت خطاك
شَدَّ يا حلميَ ما قد حالَ حسّي؟
شد يا حلميَ ما أنكرت نفسي!
أترَى ذاك الذي تعرفه؟
قال: ما تبصر عيني غير رمس!
ومضى عني في يأسٍ عقيم
سادرَ الخطوة في الأرض يهيم
قلت: يا حلميَ تمضي مفرداً
ليس الرَّمِس سوى قلب رميم!(640/42)
أطياف. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(لا تفتأ هذه الأطياف تخادع أوهام الشاعر فترده إلى الماضي
البعيد يحلم؛ ويأمل؟. . ولكن هيهات؟؟)
حالمٌ بالمنى؛ تُراهُ يُفيقُ ... وَيحه لَفَّهُ سُباتٌ عميق؟!
غفوةُ الحلم، يقظة الأمس وليَّ ... موعداً يُرتجى، وذكرى تشوق
طالَ في ظلمة من الشكِّ نومي ... فمتى يمسحُ الظلامَ الشروق
أشرقي تُشرق الحياة، وتصفو ... من دُجاها ويستبينُ الطريق
أنا أشتاق ومض عينيك تسرى ... في دمي صَيْحةٌ لهُ وخُفُوق
أين همسُ الجفون وهي غوافٍ ... طالَمَا هزَّني بهنَّ بَريق؟
أين مِني الحديثُ نجوى شفاهٍ ... تَتَلظَّى كما تلظَّي الحريق؟
أين مني التِفَاتةٌ، من معاني العُجْ ... ب فيها، معنى كريم عريق!
أين مني أنثناءةٌ تبهر الع ... ين؛ وفي الغُصْن سرُّها مرموق
أين أيامُكِ التي قد تولَّتْ ... بِمعَانٍ من الحَياةِ تروق؟
لا تظُنِّي الأيامَ تمضي بعهدي ... ستطولُ الأيامُ، وهو وثيق
كلما مرَّت اللَّيالي عليه ... كانَ كالخمر زانها التعتيق
أشرقي تُشرق الحياةُ، وتصفو ... من دُجاها؛ ويستبين الطريق
فَرَغَتْ كأسِي التي ملأتها ... فرحة الأمس هل لديك رحيق؟!
بين عيْنيْكِ خمرتي؛ فأطِّلي ... أين مني صبوحُها والغُبوق
ذبلتْ جنتي، وأضحَتْ صحاري ... غاضَ نَبْعِي بها وجفَّ الوريق
فاخْطُري بينها ترفُّ زُهوراً ... في رُباهُنَّ جَدولٌ مدفوقُ
صمتَ الطائرُ المغرِّد بالأمس (م) ... فأين الغناءُ والتَّحليق
أطلقيه في الروض بين الأقاحي ... هو بالرَّوض والزُّهور خليق
لا تنحِّيه عن زهورك هذى ... مَسهُ للزُّهور مَسٌّ رفيق(640/43)
وإذا شِئتِ فاسمعيهِ يُغَنِّي ... إنه ذلك المغني المشوق(640/44)
البريد الأدبي
جواب (الرسالة) عن الرسالة
في عددنا الماضي نشرنا (الرسالة) التي تفضل بتبليغها صديقنا الأستاذ العقاد عن بعض إخواننا الأدباء في فلسطين؛ وهم - كما علمت - يعتبون على (الرسالة) أنها تضن على قصائدهم وفصولهم بالنشر والتنويه. ومثل هذا العتب طالما تردد على بعض الأفواه في سائر البلاد العربية، وفي مصر نفسها؛ فالرسالة هناك متهمة بإيثار مصر، وهي هنا متهمة بالإيثار على مصر. وفي التهمتين - علم الله - مباينة لوجه الحق، ومماراة في حقيقة الواقع.
ولعل الذين يتولون كبرهما من الأدباء هم الذين لم تسعد (الرسالة) بتسجيل آثارهم لأسباب ليس منها الصلة الشخصية ولا الأثرة الإقليمية على أي حال
ٍولقد كان بحسب (الرسالة) في الاحتجاج لنفسها أن ترجو المتهمين أن يفتحوا عيونهم على مجلداتها العشرين ليروا أسماء كتاب العرب في جميع بلاد العرب مسجلة بالحق فهارسها الحافلة؛ ولكن عاتب فلسطين الفاضل لا يريد أن يرى إلا اسمه؛ فإذا رأى أسماء: النشاشيبي وطوقان وحمدان ورشدان ومخلص، حسبها من أسماء الدلتا أو الصعيد، وأكرم بها لو كانت!
إن (الرسالة) بشهادة الواقع مجلة الأدب العربي في جميع أقطاره. لا تؤثر قائلا على قائل إلا لإجادته، ولا تنشر مقالا دون مقال إلا لجودته. لها مستوى لا تنزل عنه، ومقياس لا تتسامح فيه. هي لذلك لا تؤمن بتشجيع الضعيف، ولا تقول بمجاملة القوي. في سبيل هذا المبدأ السليم القويم تعرضت لمكاره الحق، من جفاء الكريم وسفه اللئيم وصلف المغتر. و (الرسالة) بعد ذلك تشهد الله وتقسم به أنها في مدى حياتها الصحفية لم تغفل أدباً يستأهل النشر، ولا أديباً يستحق التنويه.
من قصص جحا للأطفال
2 - نشيد النوم
للأستاذ كامل كيلاني(640/45)
(صفحة محتارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه:
(. . . اعتذر (دجين بن ثابت) لضيفه (أبي شعشع) عن حقارة البيت الذي ضيفه فيه، ولكن (أبا شعشع) قال له: (إن القليل الذي يبذله الفقير خير من الكثير الذي يبذله الغني. لأن الأول يجود بما يحتاج إليه ولا يستغني عنه، على حين يجود الآخر بما لا يحس فقدانه، ولا يبالي ضياعه).
وما زال (دجين) وصاحبه يسمران حتى قضيا من الليل أكثره، ثم بسط النوم على المدينة جناحيه الكبيرين، فاستسلما للرقاد هانئين، وقد أنستهما لذة الكرى ما مر بهما من أحداث الزمن ومصائبه، ومدهشات الدهر وعجائبه.
وأعدت (ربابة) حزماً من قش الذرة لينام عليها صاحب الدار وضيفه الذي أشتعل رأسه شيباً فأكسبه ذلك مهابة وجلالا. ثم أقامت لولديها (جحوان) و (جحية) أرجوحة جيء بها من بلاد الهند، كانا يستعملانها في أسفارهما ورحلاتهما، فأسرع الطفلان إليهما ليناما فيها.
ولو رأيتهما لخيل إليك لوفرة نشاطهما وصغر جسميهما، أنك ترى قردين صغيرين وقد اشتبكت أذرعهما ليندمجا في الأرجوحة الصغيرة حتى تتسع لنومهما.
واستأذنت (زبيدة) جارتها في الذهاب إلى بيتها. ثم جلست (ربابة) على خشبة صغيرة أمام الأرجوحة وظلت تهزها في رفق وانتظام، وتغني طفليها بصوت يفيض حناناً وحباً:
ناما - حبيبيَّ - ناما ... واستقبلا الأحلاما
نورا وحُسنْا ورَوْضا ... مُعَطَّراً بساماً
تخايَلَ الوردُ عُجْباً ... وفتَّح الأكماما
والطير أنشد لحناً ... فأبدع الأنْغاما
ناما هنيئاً، وقوما ... معي إذا الطير قاما
عيشا بأسعد عيش ... رَغادَةً وسلاما
سنين عشراً، وزيدا ... عاما، وتسعين عاماً
ونصف عام، وشهراً ... ونصف شهر تماما
وبعده أُسبوع ... نزيده أياماً(640/46)
وساعة من نهار ... تَسرُّ قوماً كراماً
تَتْلُو دقائق عشرا ... هناءةً وابتساما
زادت ثوانِيَ خمساً ... فاغتنماها اغتناما
وأَتْبِعاها ثلاثا ... ثوالثاً، ثم ناما
وعلى هذه الأغنية الجميلة نام الطفلان، ثم نامت (ربابة) على أثرهما، ونام كل من في الدار.
عبد الله جحا
(وفق الأصل)
كامل كيلاني
رابطة الأدباء:
اجتمع أعضاء رابطة الأدباء وتم انتخاب الدكتور إبراهيم ناجي رئيساً، والأساتذة: وديع فلسطين وكيلا، وخليل جرجس خليل سكرتيراً عاماً، ومصطفى محمد مصطفى أميناً للصندوق، والدكتور محمد يسري أحمد، وسليمان ندا عضوين في مجلس الإدارة.
أما حضرات الأدباء الذين اتصلوا بالرئيس من قبل فينبغي أن يتوجهوا بطلبات الانضمام من جديد إلى سكرتير الرابطة، ص: ب 463 القاهرة.
مجلة الكاتب المصري
صدر العدد الشهري الأول من مجلة (الكاتب المصري) التي تصدر عن (دار الكاتب المصري بالقاهرة)، ويرأس تحريرها الدكتور طه حسين بك. والعدد متقن التحرير، مونق الطبع، متوسط الحجم، يقع في مائة وثمان وعشرين صفحة اشتملت على أربع عشر مقالة لصفوة من أعيان الأدب نذكر منها: (الأدب العربي بين أمسه وغده) لصاحب العزة رئيس التحرير، و (تكافؤ الفرصة) لصاحب السعادة نجيب الهلالي باشا، و (الخلق في الفن) للأستاذ توفيق الحكيم، و (القنبلة الذرية وانعدام الذرة) للدكتور محمد محمود غالي. . . فنرحب بالزميلة الكريمة، ونرجو لها حسن التوفيق واطراد التقدم(640/47)
مجلد السوادي:
رخصت وزارة الداخلية لزميلنا الكاتب المعروف الأستاذ محمد السوادي مدير شركة الصحافة المستقلة وناقد البلاغ البرلماني بإصدار مجلة سياسية أسبوعية مصورة باسم (مجلة السوادي)
وقد قررت الشركة أن تبدأ بإصدار أول عدد من هذه المجلة في صباح الاثنين 15 أكتوبر إن شاء الله وإصدار أختها (مجلة الخبر) بعد صدور الأولى بوقت قصير.
في قصة (لؤلؤة الحب)
قرأت في (الرسالة) قصة (لؤلؤة الحب) للكاتب الإنكليزي هـ. ج ويلز ترجمة الأستاذ عيسى حليم؛ فلفت نظري أن في ترجمة الجملة الأخيرة خطأ غير سياق القصة. فقد جاء فيها:
(وأخيراً. . تكلم مشيراً إلى (لؤلؤة الحب) وقال: اهدموها!. . .)
ويفهم من ذلك أن الأمير الهندي عجز عن بناء شيء يليق بعظمة التابوت المحتوي على رفاة زوجته. بينما الأصل وترجمته كما يلي:
(وأخيراً. . . قال مشيراً إلى التابوت: أزيلوا هذا الشيء!) ومعنى ذلك أن الأمير بعد أن مارس فن البناء وألم بجميع فروعه من هندسة وزخرف طوال السنوات العديدة التي تم فيها بناء (لؤلؤة الحب). . . طغى حبه للؤلؤة الحب على حبه لزوجته ورفاتها البالية، ورأى أن بقاء التابوت وسط هذا البناء الفخم نشوز لا يقبله الذوق السليم. . . وشتان ما بين النهايتين.
(الموصل)
الدكتور عبد الهادي القاعاتي
تصويب
وقع في الفقرة الأخيرة من مقال العلامة النشاشيبي المنشور في العدد الماضي خطآن مطبعيان نصححهما فيما يأتي:(640/48)
الخطأالصواب
ولو بعثت (فلويير) ولو بعث
وحذق العربية لأضافولو حذق العربية لأضاف(640/49)
القصص
من الأدب القصصي الروسي
في الظلام. . .
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
الكون غارق في السكون. . . والفضاء العريض يموج في رهبة، وقد هجع كل حي إلى مضجعه يتقلب في جنوبه. . . والطير قابعة في أوكارها تحتضن صغارها. . . حتى من وكل إليه الأمن قد سرت سنة من النوم إلى جفونه فراح يغط في خفقة وسبات.
ولف ظلام السحر كل شيء سوى غلس الصبح الوليد في الشرق وهو يتجلبب بصفرة شاحبة. . . وعلى حين فجأة ولجت ذبابة أنف (جاجن) مساعد المحصل. . . لعل حب الاستطلاع أو لزق الطيش هو الذي دفعها إلى ذلك العمل، أو لعلها الصدفة المحضة. . .
بيد أن خياشيم الأنف ساءها ذلك الدخيل فانفكت تعطس وتعطس. . . فأفاق (جاجن) إبان هذه الموجة الحادة من العطس وقد بلغ من حدتها أنه كانت ترج الفراش رجاً عنيفاً. . .
أما زوجة (جاجن) وتدعى (ماريا ميلوفا) - وهي امرأة مفاضة فارغة حسناء الوجه - فهبت في هيعة وفزع، وقلبت طرفها يضرب في حلكة الظلام الدامسة، وحملقت فينة ثم انطرحت على جانبها الآخر. ولم تلبث بعد فترة وجيزة أن عادت إلى ما كانت عليه، وأرخت أهدابها عسى النوم يدب في عينيها ثانية. . . ولكن هيهات فقد سرى السهاد إليهما فلم يغمض لها جفن. . .
نهضت من فراشها، واحتذت نعليها وقامت إلى النافذة حيث تجول بصرها في أكناف ذلك الليل البهيم. . . وقد بدت فيه سامقات الشجر كأنها عمالقة من الشياطين. . . وندت عن (ماريا) صيحة فيها عجب وفيها فزع قطعت الصمت الذي شاع في ثنايا الظلام. كانت تحملق أمامها وقد ثبت بصرها على شبح يتسلل في رفق وحذر إلى صحن الدار. . . فدار بخلدها أنه ربما كان جواداً نافراً، ولكن مقلتيها ما لبث أن وضح لهما ذاك الشبح فإذا به رجل يتشح بالظلام. وأومض بعقلها أنه لص في سبيل السرقة. فاكتسى وجهها شحوباً(640/50)
أضفاه عليه الذعر وصفرة الغلس. . .
وفي لحظات نشط ذهنها يصور بيراع الخيال أوهاماً وأوهاماً. قوامها سيدة تعيش في الريف، ثم سارق يتلصص خفية إلى حجرة المطبخ. . . ومن المطبخ إلى حجرة الطعام. . . وثمت الأشياء الفضية من ملاعق وقواطع. . . وبعدئذ إلى مخدع النوم وفي يده فأس حيث يعثر على الحلي والنقود. . . ولم تلبث أن هوت ركبتاها، وسرت رعدة من أم رأسها إلى أخمص قدميها. . .
راحت تهز زوجها وتهتف في هلع (فاسيا. . . باسيل. . . انهض. . . آه يا إلهي لكأنه فارق الحياة. . . استيقظ أيها الرجل باسيل أتوسل إليك. . . انهض. . .) فقبع مساعد المحصل في فراشه، وقال في صوت شابه اضطراب في قرارة نفسه (حسناً!).
- (بالله أفق. . . هناك سارق تسلل إلى المطبخ، لقد كنت قائمة عند النافذة، عند ما لمحته يختفي في نافذة المطبخ. . . إنه بلا ريب سيجتازه إلى غرفة الطعام حيث الملاعق والصوان. . باسيل! لا تدري أنهم هاجموا (مافرا يجروفنا) في العام الماضي؟!)
- (هه. . . ما الذي حدث؟!).
- (آه!. . يا للسماء. إنه لم يدرك بعد ما أنطق به. . . أنصت أيها الأبله، هناك لص ولج نافذة المطبخ، وسوف ينخلع فؤاد (بلاجا) فزعاً وفرقاً. . . هذا مع أن الأشياء الفضية في الصوان بغرفة الطعام. . .).
- (هذا حديث لغب؟. .).
- (باسيل. . . لا أطيق ذلك. . . أخبرك بالخطر الجاثم، وأنت تفحفح في نومك غير ذي بال؟! ما الذي ترجو من وراء ذلك؟! أتشاء أن نجرد من أموالنا وحاجياتنا؟).
فثاب مساعد المحصل إلى نفسه وقام من فراشه يملأ صدره بنسيم السحر المنعش. ثم تثاءب في تؤدة ومهل. . . وراح يتمتم:
- (ليس ثمت من يقف على سريرة تلك المخلوقات الضعيفة العجيبة. . . النساء.
سوى الله!. أما بمقدورك أن تتركي الإنسان يغمض جفنيه جنحاً من الليل لا تزالين تهزينه حتى يستيقظ، فتطرقي سمعه بهذا اللغو!).
- (ولكن أقسم يا باسيل أني لمحته وهو يداف إلى حجرة المطبخ!).(640/51)
- (وما الذي يثير عجبك من ذلك؟! إنه بلا شك الجندي الذي يعشق (بلاجا) وتعشقه. . . ويسرى إليها على الدوام في هزيع الليل. . .).
- (هه!. . ما الذي تفوه به؟!.).
- (. . . إنه الجندي الذي يعشق (بلاجا). . .) فصاحت (ماريا ميلوفنا) في زحير.
(علة أقبح من العذر. . . إن التلصص أخف وطأة منها. . . لست أرضى عن هذا الفاسق بداري. . .).
- (عجباً. . . إننا طهيرا الثوب عفيناه. . . فما الذي يضيرنا من وجود هذين الفاسقين؟! وما نفيد من تدويم هذه الكلمات الجوفاء؟ يا فتاتي إنها الحياة. . . وهكذا جبل الخلق منذ فطر العالم وما هذا الجندي بملاك يعف عما درج عليه غيره. . .).
- (كلا يا باسيل. . . فهذا ما لا يتفق وهواي. . . إني لا أكاد أتصور أن مثل هذا!. هذا!. يحدث في عقر داري. . . ينبغي عليك أن تهم إلى المطبخ، وتطرد هذا الفاسق شر طردة وفي الغداة سأنهي إلى (بلاجا) أنها ستفقد عملها إن هي عادت فسلكت هذا السبيل الشائن، وحين أغادرك إلى ظلمة القبر وأودع الحياة. . . فافعل ما يحلو لك. . . ولكن إياك أن تأتي ذلك، وأنا على قيد الحياة. . . باسيل! أتوسل إليك أن تقوم إليهما. . .)
فقال (جاجن) في نهيم وتذمر:
(عليك لعنة الله. . . بالله تدبري بمنظارك النسائي الضعيف: ما الذي أفعله لهما؟!).
- (باسيل!. إني لأحس أن الإغماء يغشيني. . .). فعجل (جاجن) بوضع قدميه في نعليه. . . وراح يهمر لعناته في سبيله إلى المطبخ. . .
وكان الظلام يطوي كل شيء تحت مطارفه السود. . . فراح مساعد المحصل يتلمس طريقه في حذر. . . واتخذ وجهته نحو غرفة الأطفال، وأيقظ الحاضنة قائلا في نحيط:
(لقد أخذت معطفي لتنظيفه مما علق به!. فأين هو؟! يا (فاسيليا)!).
(لقد ناولته (لبلاجا) لتنظفه. . . يا سيدي!).
- (يا للعبث. . . أنت تأخذينه ثم تردينه!. . ماذا اطرح على جسدي الآن؟!).
وما كاد يصل إلى المطبخ حتى اتخذ سبيله إلى ركن قام فيه صندوق من الخشب رقدت عليه الطباخة (بلاجا). . . فقال وهو يتحسس كتفيها، ويهزهما في عنف (. . . بلاجا!. .(640/52)
بلاجا!. . لا تدعي النوم أيها الخبيثة الماكرة. . . من الذي ولج غرفتك منذ برهة وجيزة؟!).
- (سي!. سي!. سيدي! عم صباحاً: من الذي يجرؤ على ولوج غرفتي؟!).
- (آه. . . دعينا من هذا النفاق والإنكار فليس هناك مجال لتصديقهما. أنهضي. . . لقد أسرى ذلك الشرير إلى غرفتك، وأنت راضية عن ذلك!. ألا تسمعين؟ وليس هناك ما يدعوه إلى الحضور سوى أنت!).
- (هه!. سيدي. . . أمستك لوثة من الشيطان، فتقذفني بهذا الهذيان؟!
رحماك يا رب. . . أظننتني بلهاء ساذجة؟. أشقي هنا سحابة يومي ولا أركن للراحة ولو لحظة. . . وتأتي في هزيع الليل فتحدثني هكذا!. ولا أتقاضى عن كدي وإخلاصي في خدمتك سوى أربع روبلات في الشهر. . . إني لأرغب العيش عند تاجر من التجار على أن أقابل بمثل هذا الجحود والإهانة!).
- (انهضي!. . انهضي. . لا سبيل إلى التنصل بالشكوى والتذمر. . . آه. . . لابد أن يغادر عشيقك هذه الغرفة فوراً. .! أوعيت ما أقول؟!.).
فقالت (بلاجا) وقد هدجت من صوتها بوادر الدمع: (لابد أن هذا يخجلك يا سيدي!. أهكذا تفعلون معشر المتعلمين؟ أتسمح لكم أنفسكم أن تتهمونا وتقسوا علينا بدلا من أن ترفهوا عنا، وتفرجوا عن أنفسنا؟! نعم من السهل عليكم أن تهينونا. . فليس هناك من ينبري لنصرتنا ويقف إلى جانبنا). وانفجرت الدموع من عينيها فراحت تنوح وتنهنه. . .
- (هيا. . انهضي. . . فما يجوز على هذا الخداع. . . لقد أرسلتني سيدتك لأخبرك أنها رأت شريراً يدلف إلى غرفتك!) ولكن (بلاجا) راحت تديم نواحها ونشيجها. . . فلم يجد (جاجن) بدا من أن يعترف من قرارة نفسه أنها مظلومة طاهرة وقد ألصق بها هذه التهمة الشنعاء إفكا وبهتاناً. . .
وهم بالعودة إلى زوجته وهو يقول: (بلاجا. . . لقد أخبرتني (فاسيليا) أنها ناولتك معطفي لتنظيفه مما علق به فأين وضعتيه؟!)
- (آه. . . معذرة يا سيدي. . . لقد غفلت عن وضعه على مقعدك. . . إنه معلق على المشجب القريب من الموقد!).(640/53)
فطرحه (جاجن) على منكبيه، ومضى في هدوء إلى غرفة زوجه. . .
أما (ماريا ميلوفنا)، فلبثت تنظر بعلها في قلق وهي تهس وتهجس:
- لقد مضى منذ حين ولم يؤب! لعل ذلك الجندي الشرير لبط به الأرض. . . لعل. . . لعل. . .
وعادت تصور بيراع الخيال صورة لزوجها، وهو يمضي في ظلام المطبخ. . . ضربة أم رأسه من فأس. . . موت بلا نبس، ودم يتدفق من جروح مثخنة. . . وانقضت إثر ذلك خمس دقائق في إثرها خمس. . . ثم نصف ساعة. . . وأخيراً هاهي ذي الساعة قد بلغت السادسة ودقاتها ترن في جوف الليل البهيم فتزيده رهبة وجلالا. . . فتبلبل جبينها بعرق بارد وهي غارقة في فراشها، وصاحت على غرة: (باسيل. . . باسيل. . .) فأجابها صوت زوجها على مقربة: (ماذا دهاك؟! لم تصرخين هكذا؟ هاأنذا. . .)
- أأصابك سوء؟!
- سوء؟ كلا. . .
ومضى إلى حافة الفراش وهو يقول:
- (ليس هناك أحد على الإطلاق! إنها أوهامك وقسوتك على هاته المخلوقات. . إن بلاجا لا تقل عنك عفافاً وصوباً. . . كم أنت حمقاء! كم أنت. . .)
وراح ذلك السيل من السباب واللعن يتدفق من فم (جاجن) لقد داعب الأرق جفونه فعبثاً يحاول النوم ثانية. . . فقال وهو يضحك:
إنك لواهمة، مجهدة الأعصاب. . . ويعوز نفسك المضطربة فترة من الراحة. . . يجمل بك أن تذهبي في الغداة إلى الطبيب فتخبريه بهذه الأوهام والخيالات. . . فيتبصر في حالتك ويصف لك ما يريح أعصابك المكدودة). . .
فقاطعته زوجه قائلة:
- (ما هذا!! رائحة. . . قطران!! أو شيء آخر كالثوم أو البصل إن يتخلل أنفي في حدة. . .).
- (نعم! ثمة رائحة غريبة. . . لست بنائم. . . سأشعل الشمعة، أين أعود الكبريت. . . آه تذكرت، سأعرض عليك صورة لمحصل قصر (جستيل) العظيم. . . فقد أعطى كل من(640/54)
كان في المكتب نسخة من صورته عندما ودعنا البارحة. . .).
أشعل (جاجن) الشمعة وقبل أن يخطو خطوة لإحضار الصورة رنت في أذنه صرخة ندت عن زوجته. . . فلما التفت إليها رآها تحملق فيه وقد اتسعت مقلتها واستقرت عليه. . . يطل منها الفزع والهلع والعجب والسخط في آن واحد. . .
صاحت زوجته وقد علا وجهها الشحوب: (أتناولت معطفك من المطبخ؟!).
- (لم؟!).
- (انظر إلى نفسك!).
وما كاد يبصر (جاجن) ما على جسده حتى راح يحدق في عجب وذهول. . . لم يكن مطروحاً على كتفه معطفه بل معطف الجندي الشرير. . . ماذا أتى به إلى هنا!! وبينما كان يوجه إلى نفسه هذا السؤال. . . قالت زوجته في غمغمة نمت عن سخرية وسخط (أتقول؟ إن (بلاجا لا تقل عني عفافاً وصوناً). . . أيها الخنزير الأبله)
ثم غرقت في شعاب الفكر وعاد يراع الخيال يرسم صورة مخفية:
ظلام. . . هدوء. . . همس!. . و!. .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي
استدراك:
حدث خطأ مطبعي في عنوان قصتنا التي نشرت في العدد (638) وهو (حينما كان طبيباً) والأصل (حينما كان صبياً) فبذلك يستقيم معنى العنوان مع سياق القصة.(640/55)
العدد 641 - بتاريخ: 15 - 10 - 1945(/)
بول فاليري
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان كاتب الخاصة، لأنه لم يكن كاتب العامة وأشباه العامة وهو لم يكن كاتب العامة وأشباههم، لأن هؤلاء يطلبون السهولة في التعبير والتفكير، وليس هو بسهل في تعبيره وتفكيره، بل كان لا يخلو من الغموض والتعقيد، ولا يهبط في أسلوبه عن مرتبة الجزالة والإتقان.
والعامة وأشباههم ينساقون لشيء من الرعونة والهوج في بدعة من البدع أو دعوه من الدعوات، وليس هو بصاحب رعونة أو هوج ولا بصاحب بدعة تصدع الأسماع أو دعوة تخلب العقول وتهيج الخواطر، بل كان أكثر ما يكون موفور الجد والرصانة، مكبوح العنان.
والعامة وأشباههم ينقسمون بين المعتركات والميادين، وليس هو من رواد المعتركات والميادين، بل كان كريماً على نفسه وعلى صحبه مؤثراً لعزلة الفكر وعزلة المقام.
ولا أحسب أن نصيراً من غلاة أنصاره يدعى له مزية الخصب والإشراق في نتاجه، ولكني كذلك لا أحسب أن مخالفاً من مخالفيه ينكر عليه مزية المتانة والسداد في جملة آثاره من الشعر ونثر ومن قصة ومقال. فهو متين شديد رصين، وإن لم يكن باللامع ولا بالمخصب أو المرتفع في الآفاق.
ذلك بول فاليري فقيد الأدب الفرنسي في أواخر هذا العام، بعد أن فقد في أوائله رصيفه رومان رولان.
والخاصة التي أعنيها هنا هي الخاصة الاجتماعية، وليست بالخاصة الفكرية أو الفنية.
وشأن هذه الخاصة الاجتماعية في فرنسا ليس بالقليل، فهي حتى اليوم صاحبة الكلمة التي لا تجهل في نصيب القادة العسكريين والقادة الفكريين، وفي الترشيح لرئاسة الجمهورية وللمجامع العلمية والأدبية، وهي بقية من بقايا النبلاء على عهد الإمبراطورية قد تنزوي عن الأنظار، وقد تغض الصوت حيناً بين جلبة السواد وصيحة المفرقين في التجديد، ولكنها رابضة أبداً في مكمنها للوثوب إذا حانت لها فرصة الوثوب، ولعل وثبة بيتان باسم المحافظة على القديم لم تكن إلا رجعة من رجعات هؤلاء الخاصة الاجتماعيين في عاصمة(641/1)
الفرنسيين.
هؤلاء الخاصة الاجتماعيون (سلبيون) في أكثر الأذواق والآراء، ولم تبقى لهم قدرة قوية على الإيجاب والإنجاب.
فهم مثلا لا يعجبهم ما يعجب الدهماء والأوساط من الخفة والاندفاع، وهم لا يشاركون الجماهير في أذواق البدع وبهارج الحداثة، وهم لا ينطلقون في الضحك ولا في الحزن ولا في الغضب ولا في الهياج إلا بمقدار ما يسمح لهم أدب الصالون وشعائر النبل والوقار.
أما إنهم يرتفعون إلى الأفق الأعلى في التفكير والتقدير فليس ذلك عندهم بمضمون، وقد يضحون بالجمال الحي الرفيع أحياناً في سبيل الجمال الذي توحي به التقاليد.
وهذه كلها خصال ترشح (بول فاليري) عند هذه الطبقة للقبول والظهور، ويزيده قبولاً عندها أن تعلو في سماء الأدب الفرنسي نجوم باهرة لا تلتزم ذلك السمت الصحيح أو السمت المصنوع.
لم يقصد بول فاليري أن يكون على شرط هذه الطبقة في الأساليب، ولا أن يكتب وفاقاً لمزاجها الذي تروضه على السمت أو تصطنع فيه الوقار. ولكنه لو قصد هذا لما كان أقرب إلى مزاج تلك الطبقة مما كان، لأنه طبع على الرصانة وجاءه التعليم برفد منها يتمم ما جادت به الطبيعة عليه. فقد تعلم الرياضة ونشأ على نظام رجال البحر وقرأ الحكمة وشغف بأسلوب الأقدمين، فجنحت به السليقة والنشأة إلى ذلك أو أباه، واستفاد عند غير هذه الطبقة كرامة ومحبة لا كلفة فيها، لأنه لم يكن يخاصم أحداً على سمعة أو شهرة، ولم يكن يبالي الخصومة إذا عرضت له معتدية عليه!
إلا أنه كان يشعر بصفاته هذه ولا ينساها حين يقيم الموازين للشعر المأثور والأدب النفيس، فلم يكن يغفل عن شرط (الكبح) والاحتجاز في تعريفاته الفنية، ولم يكن يأبى الغض من مزية التدفق والإفاضة، لأنها تلتبس أحياناً بالتفيهق والثرثرة في غير جدوى فإذا عرف الشعر قال: (إنه ينبغي أن يكون عيداً للذهن، ولا ينبغي أن يكون شيئاً غير ذلك).
ولكنه يعود فيقول: (عيد أي فرح. ولكنه رصين، ولكنه مرتب، ولكنة ذو مغزى. أو هو صورة لغير هذه المطروقات الشائعة، أو صورة للحالات والمساعي التي تقبل الانتظام والاتزان. . .).(641/2)
ولا يستثنى من ذلك الشعر الغنائي الذي هو أدنى أبواب الشعر إلى الطلاقة والجموح، فهو عنده (هتفة)، ولكنها متطور أو (مشغولة) بصناعة الفنان
ويقول في التفرقة بين الملكات الكامنة والملكات المكشوفة: (في طبع كل منا حماقة الخطأ بين المفارقة والاكتشاف، وبين الصورة المجازية والبرهان، وبين سيل دافق من العبارات وينبوع يفيض بالحقائق الكبرى، وبين ما نحسه نحن وما ينطق به لسان الغيب. . .).
وقد كان مزاجه من طبيعة العزلة والانطواء فيه، فكان لانطوائه على نفسه ينتزع من أحوالها القواعد والأحكام، ويعطيك الشواهد على سرائره الشخصية من معظم ما كتب بعد الروية والتفكير؛ فلا أعرف في المحدثين كاتباً تظهر أسبابه الشخصية في أسبابه الفكرية كما تظهر في هذا الكاتب على التفكير.
رجعت إلى بعض آثاره التي عندي بعد السماع بنعيه فقرأت منها مقالة القيم عن الإنسان الأوربي وهو من تحفة المعدودة التي يقل فيها التعقيد والغموض، وقد بدأه بكلمة عن (الإنسان) عامة قال فيها: إنه هو المخلوق الذي ينفرد بين سائر المخلوقات، ويعلو على سائر المخلوقات بالأحلام، وإنه أبداً مصروف عما هو كائن بما لم يكن بعد، أو بما يرجو أن يكون، وإن الخلائق الأخرى تطيع التغيير الذي يطرأ عليها من خارجها، وهو وحده يطوع تلك العوامل المتغيرة بما توحيه إليه بواطنه وخفاياه.
ثم استطرد من هذه المقدمة إلى حصر الإنسان الذي ينشئ الأحلام في الزمن الحديث بين سكان قارة واحدة هي القارة الاوربية، والى حصر المشخصات التي خلقت قوام ذلك الإنسان في ثلاثة مراجع، وهي أو نظم الدولة الرومانية، والمسيحية التي ورثت كل شيء من رومة لا من بيت المقدس، ونموذج العلم النظري الذي يتمثل في الهندسة الإغريقية. . .).
ولا يعنينا هنا نناقش هذه الفلسفة من جانب النقد أو جانب الوقائع التاريخية، وإنما يعنينا أن نعقد الصلة بينها وبين مزاج الانطواء والعزلة (والتفكير الذاتي) الذي انطبع عليه بول فاليري.
فهناك بول فاليري الذي يتغنى بالأوربية كما تتغنى بها جميع أقوام القارة التي ضاعت عليها فرصة التغني بمجدها القومي منذ زمن بعيد أو قريب. فهم يذكرون دائماً انهم(641/3)
أوربيون حين يذكر الأمان انهم آريون، أو يذكر الإنكليز انهم من سلالة الانجلوسكسون، أو انهم بريطان (غير قاريين).
وهناك بول فاليري الذي يرجع بكل شيء في أوربا وفي المسيحية إلى رومة لأنة جاء من أب فرنسي وأم إيطالية، وكلاهما من عنصر اللاتين.
وهناك بول فاليري الذي يجعل الهندسة الإغريقية نموذج العلم الإنساني لأنه هو درس الهندسة واستوعب الكثير من آثار حكماء اليونان.
وهذه هي بعض دلائل المزاج التي تنطوي بين السطور، فضلا عن دلائله التي تبدهك منه بغير تنقيب طويل.
لست أنسى خيبة الأمل التي فجاني بها بول فاليري في أول عهدي بالمطالعة الفرنسية؛ فإنني تعلمت الفرنسية في السجن فاستطعت بعد أربعة أشهر أن أقرأ أناتول فرانس وبير لوتي واندريه موروا بغير مشقة أو رجوع كثير إلى المعجمات الميسورة؛ فحيل إلى أنني قد استغنيت عن المترجمات في قراءة الأدباء الفرنسيين من محدثين وأقدمين. ثم جربت هذه المعرفة بعد خروجي من السجن في اندريه جيد ويول فاليري فإذا بي أرجع إلى المترجمات الإنكليزية ولا أزال أرجع إليها حتى اليوم.
وأحب أن أقول إنني أرى في أدب (بول فاليري) رأيا لا يمتزج بمرارة تلك الخيبة لأنه لم يذهلني عن محاسنه ولم يحملني على المبالغة في عيوبه.
فالرجل لا شك مثل معدود من أمثلة الثقافة الفرنسية في القرن العشرين، وله ولا شك رأي رجيح وقول رصين وتفكير قويم، ولكنني لا أذكر أنني أطلعت في كلامه الذي قرأته - وهو غير كثير - على فكرة رائعة أو غوصة عميقة أو نفخة تتجاوز طاقة الأوساط من الكتاب، فهو متين راسخ على وجه الغبراء، ولكنه لا يحسب بين أصحاب الأوج ولا بين أصحاب الأعماق.
وله نظرات في نقد الأدب والأدباء يقرأها القارئ فيقول صحيح صحيح! أو جميل جميل!. . . ولكنه لا يراع بها ولا يفاجأ بها ولا يخرج بها عن الجادة المطروقة إلى معرج غير مطروق.
ومن الأمثلة الصادقة لأسلوبه في النقد وصفه لاناتول فرانس - وقد خلفه في المجمع(641/4)
الفرنسي - فقال عن كسله الحالم (إنه كسل نجم من القراءة الواسعة التي يصعب التفريق بينها وبين الدرس والاستقصاء. أو هو كسل كراحة السائل الموقر بخيراته وبركاته يليح لك في سكوته ببلورات على أحكم ما تكون من كمال التركيب. . .).
وأنت تقرأ هذا وتقرأ أمثاله في كلامه على الأدب والأدباء فتقول صحيح صحيح! جميل جميل!. . . ولكنك لا تقف في طريقك مرة لتقول مرة. . آه. ويح الكاتب الساحر. . من أين له هذا الكلام؟
عباس محمود العقاد(641/5)
ليذكر الأسبان
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
لعل الشعب الأسباني هو آخر شعب يحتاج إلى من يثبت له عظمة العنصر العربي وسمو الحضارة الإسلامية، لان وجوده ونهضته التي سبق بها جميع الشعوب الأوربية، وكانت رائد النهضة الأوربية الحالية هي ربيبة تلك الحضارة الإسلامية العربية التي نعمت بها الأندلس زمناً طويل، وعاشت في ظلها عصراً ذهبياً سجل التاريخ مفاخره برغم تداول الأيام وانتقال السلطان.
لكن أسبانيا قد انساقت في هذا العصر في تيار الاستعمار الأوربي، وسيطرت على قادتها المادية الاستغلالية، وآثرت أن تنسى التاريخ، وأن تدفن الماضي، وأن تشترك في الغارة الأوربية على أجزاء الوطن العربي، فسلم لها شركاؤها الاستعماريون جزءاً هاماً من وطننا الأفريقي في المغرب، سارت فيه على خطة جارتها فرنسا، فحاولت أن تحطم القومية العربية بكل الوسائل الاستعمارية الوحشية، غير عابئة بمبادئ الإنسانية والمدنية. علمت أن العربي لا يقيم على الذل ولا يصبر على الضيم، فسول لها شياطين الاستعمار. أن أسهل الطرق هو إفناء هذا الشعب الأبي العنيد، وليقل التاريخ ما شاء بعد ذلك.
ثم جاءت النتيجة المحتومة للتكالب النفعي الاوربي، أن انقلب الماديون على أنفسهم، وأغرى الجشع بعضاً ببعض، فتفرقت الطبقات، وتقابلت العصابات، واشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية، فاستعان الجنرال فرانكو بعرب المغرب، وبذل لهم وعوداً خلابة، ومناهم بالاستقلال الذي جاهدوا له. ولم يقصر دعايته على المغرب، فأرسل إلى رئيس المؤتمر الإسلامي الذي عقد بالقاهرة في ذلك الحين، الدكتور عبد الحميد سعيد، خطاباً تاريخياً مؤيداً لوعوده وتصريحاته
(بأنه عندما تثمر شجرة السلام فسيقدم للمغرب العربي منها أطيب الثمار). . . وظن العرب أن الواعد عربي يعرف معنى الشرف، ويحترم قدسية العهود، ونسوا أنه رجل أوربي ينسى كل شيء في سبيل مطامعه وأهوائه. جاءه النصر بفضل مساعدة العرب وانتظر العرب والمسلمون طويلاً تحقيق الوعود والعهود، فإذا سياسة الاضطهاد تستأنف وتزيد، وخطة الإفناء الوحشية تبدأ من جديد، وإذا الشرف يتواري وتحل محله (المصلحة)،(641/6)
تتذبذب السياسة بين الشدة واللين بحسب ما توحيه ظروف السياسة ومصلحة الاستعمار. وآخر ما سمعناه أن أسبانيا لم تعد تطيق كلمة (العروبة) فهي تحاربها في كل ناحية تتوهم أنها تذكيها، حتى أن أعضاء البعثة المغربية في جامعات مصر قد عادوا إلى بلادهم هناك، فوجدوا أبواب السجون مفتحة لهم، وسبل العمل موصدة في وجوههم، وكل ذنبهم أنهم عرب تعلموا في مصر، وأن مصر تحمل لواء العروبة وأن العروبة شجي في حلق الاستعمار.
أيها الأسبان! تستطيعون أن تتناسوا عهودكم ومواثيقكم التي بذلها زعيمكم وارتبطتم بها، وتستطيعون أن تنسوا مبادئ المدنية التي تحمي حقوق الأمم وحريات الشعوب، وأن تنسوا التاريخ وما سيكتبه عن استعماركم الوحشي الغاشم، وأن تنسوا أيضاً ما للعرب عليكم وعلى أوربا من فضل بما علموكم وبما هذبوا من نظمكم وآدابكم. . . تستطيعون أن تنسوا كل هذا، ونستطيع نحن أن نصدق أنكم نسيتموه ما دمتم تتوهمون مصلحتكم في هذا النسيان، ولكن شيئاً واحداً لا نظنكم تستطيعون أن تنسوه، هو قوة هذا الشعب العربي الأبي وبطولته، واستبساله في الدفاع عن كرامته وحريته. تذكروا أن ضربات ابن عبد الكريم لازالت جراحها في كل بيت من بيوتكم وكل أسرة في بلادكم، وتذكروا أن ابن عبد الكريم لا يزال حياً، وإذا مات فان الشعب الذي أنجبه لا يزال حياً قوياً قادراً على استئناف جهاده وتضحياته.
أيها الأسبان! تذكروا مرارة قتال العرب وما يكلفكم من ثمن، وأن فرنسا التي أنقذتكم من ابن عبد الكريم قد تعجز عن إنقاذكم مرة أخرى، وأن للعالم اليوم أذنا تسمع وعيناً تبصر، فلن تسكت على وحشية الاستعمار التي تسلحتم بها لستر ضعفكم وجبنكم. تذكروا كل ذلك لا لوجه الإنسانية والمدينة، ولا خشية التاريخ وحكمه، ولا حرصاً على العهد وتمسكاً بالشرف، فهذه لغة قد لا تفهمونها ألان. . . ولكن اذكروه لمصلحتكم أنتم، فإن نسيانه سيكلفكم من الضحايا عدداً لا تستطيعون تقديره، وسيكون النصر أخيراً للحق والمدافعين عن حقوقهم وحرياتهم.
أيها الأسبان! تذكروا أن الجشع الاستعماري الذي يسيطر عليكم ليس إلا عرضاً من أعراض الكلب المادي الذي أصيبت به أوربا، وأنكم إن لم تقضوا عليه فسيقضي عليكم،(641/7)
وقد بدرت بوادر الشقاق والجنون النفعي الذي سيحطم أركان حضارتكم إن لم تنقذوا أنفسكم منه. تذكروا أن القدر قد يلقي عليكم درساً عاجلاً في احترام الحقوق والحريات، وأن هذا الدرس قد يكون على أيدي العرب، أساتذتكم وأساتذة أوربا منذ عرفتم النور.
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق - جامعة فؤاد(641/8)
على هامش (الحادث):
دفاع عن الأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
لقد كانت معركة (عين جالوت) مثلا، أجل خطراً، وأعظم أثراً، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر المارد الجبار الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبداً، أمة بعد أمة، وجيل عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحاً ولا فتح سيف الدولة في بلاد الروم، وبنى لها في البلاغة صرحاً ولا ما بناه الحمداني (فأعلى والقنا يقرع القنا، وموج المنايا حوله متلاطم)، بنى هذا البيت وإنه لقلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازا) أن خلدت هذه الموقعة، وحلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود.
ولقد كان فتح عمورية عظيماً في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بهم جهله ولا نكرانه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الرواء. وربما جاء زمان نسى الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا النهر البشري الذي يجري أبداً من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد ولا يذكرهم إنسان - ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر.
هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوي السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته والاستفادة منه، والأحداث تدعوهم إلى ذلك ولكنهم لا يجيبون. وهاهو ذا حادث الشام القريب، أحبوا أن يدونوا تاريخه، ويعرفوا صوره، ويعرفوا به البعيد النائي، ويذكروا به القريب الرائي، فأجمعوا أمرهم على إخراج (الكتاب الأسود) في وصف هذا الحادث، وسموا له رجالا،(641/9)
طيبين ممتازين، غير أنهم ليسوا من ذوي الاقلام، ولا من الأدباء، وإن في دمشق (لو كانوا يعلمون) أقلاما حداداً، إذا أنتضتها الحكومة قطت بها وقدت وفرت، فإلام تدخر هذه الأقلام، إن لم تستل في هذا اليوم الأسود؟ ومن يعرض على الدنيا كلها حديث (الحادث) إذا أهملت هذه الأقلام، ونسيت وتركت تصدأ في أغمادها؟ أيعرضه صحفي بمقالة تعيش ما عاش (العدد) الذي تنشر فيه، أم موظف بتقرير أسلوبه لعنة للبلاغة في عليائها؟
ثم استلمنا الجيش وعرضه رئيسنا فكان يوماً أغر محجلاً في عمر الشام، فمن يمسك هذا اليوم إلا يهوى في وادي النسيان؟ من يحفظ له جلاله وجماله وعظمته غير الأدباء؟ فما لأولي الأمر دعوا له كل قاص ودان إلا أهل الأدب الحق؟ أهل البلاغة، ما دعوهم ولا سألوا عن مكانهم ولا ذكروهم، ولو دعوا أديباً لصنع لهم بمقالة واحدة شيئاً يبقى إذا ذهب كل هذا الذي أعدوه.
وفي كل يوم تنبت أقلام غضه فلا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية فتجف وتموت. وتحطم عواصف الأيام وأرزاؤها أقلاما متينة كأشجار السنديان طالما أظلت وبسقت فلا يبكي عليها أحد. وتزهر أقلام ثم تؤتي أكلها ثمراً ناضجاً حلواً نافعاً فلا يستبشر بها أحد، ويقولون بعد ذلك لماذا لا ينتج الأدباء؟ لماذا لأي خلدون أيام الوطن. يا ويحكم! إننا والله لا نعرف أيام الوطن إلا على السماع، والفضل لنا إذا استطعنا أن نكتب عنها سطراً واحداً.
قال لي أديب أعرفه بليغاً مبيناً له قلم ماضي السنان:
(لقد أردت أن أدخل القلعة غداة يوم الحادث، وأن أجول خلال الحرائق، وألج البرلمان، فمنعني جنود لا يعرفونني ولا يفهمون عني بلساني، ولو تركت ألج ورأيت بعيني ما أصفه الآن على السماع لكتبت لكم شيئاً يبكي المحب ليلة الوصال، والعروس ليلة الزفاف، ويرقق قلب الموتور ساعة الانتقام. ولو أشهدت هذا العرض لكتبت لكم قصيدة مجد تكون للأعصاب ناراً تشعلها حماسة، وللقلوب خمراً تميلها طرباً، ولهذا الجيش جيشاً آخر. ولو أحضرت حفلة رفع العلم على الثكنة الحميدية لكتبت غير ما كان نشر في الرسالة، لان الذي يتخيل ويكتب بارد الدم هادئ الأعصاب، غير الذي تمشي الكهرباء في أعصابه فتهزها هزاً، فيمسك قلمه ويدع روحه تملي عليه.
ولست - علم الله - أريد مالا من أولي الأمر أو عطاء، ولا أبتغي من بمجالستهم شرفاً،(641/10)
فعندي من المال ما يسد حاجتي، ومن الشرف ما يكفيني، وإنما آسف على قوة في، وفي أمثالي من حملة الأقلام، تذهب هدراً، وتضمحل، والوطن يحتاج إليها، وهي تستطيع أن تكسبه مجداً لا ينال بغيرها). . . انتهى كلامه.
فيا أيها الحاكمون! اذكروا أنكم تحتاجون إلى الأدباء ليكسبوكم الخلود، وليفيضوا على أمجادكم الحياة، أما هم فلا يحتاجون إليكم، لأنهم يستطيعون أن يخلقوا بأدبهم ملوكا وأبطالا، وينشئوا عالماً، ويقيموا لأنفسهم وللناس دنيا، إن تكن من الوهم، فرب وهم فعل في نفس صاحبه من الحقيقة، وأثبت من الواقع. ورب شخص (روائي) خرج من خيال أديب، أحيا حياة، وأظهر وجوداً من أشخاص اللحم والدم، أسمعتم بعطيل ودون جوان وآرباجون؟
وبعد فهذا دفاع عن الأدب، لا عن الأدباء، فاقبلوه أو لا تقبلوه، إنما علينا أن نقول، وقد قلنا.
علي الطنطاوي(641/11)
اللغة العربية
للأستاذ وليم مارسيه
رئيس المعهد العالي للدراسات التونسية
كان لجزيرة العرب في شعرها الجاهلي أدب من هذا النوع الذي نسميه كلاسيكياً، وذلك منذ القرن السادس المسيحي، في عصر لم تكن كبريات لغاتنا العصرية قد تجلت فيه بعد خصائصها. وإنما أعني بالأدب الكلاسيكي مجموعة من الآثار الأدبية تبدو لك معبرة عن قصد سام بعينه، وعن موقف خاص من مشكلة الحياة ومصير الإنسان، وعن ضرب من الشعور والفهم في لغة أحاطت بها كل العناية لوضع صناعة دقيقة راقية تامة الشروط. وكان أصحاب تلك القصائد القديمة ينطقون أحياناً بالحكم؛ لكنهم قليلاً ما كانوا يفكرون التفكير المنطقي أو يستنتجون. بل تميل نفوسهم إلى الفوران مع شرارات متتابعة من الصور الخيالية والأمثال، ومن صيحات الحب أو الغضب التي أمتزج فيها اللطف بالقساوة وأقترن العطف بالعنف، وإنما يجري تنسيق الألفاظ فيها طبق نظرية خاصة للجمال الفني يعتبر الإيجاز من أهم قواعدها. وأسمى غايات الشاعر أن يكون لكل بيت من أبياته من التفوق في أيجاز العبارة ومتانتها ما يجعل قوله تسير به الركبان فيصبح كالمثل عند قومه والناطقين بلغته، ومع ذلك فلم تكن تلك القصائد الشبيهة في قوة طابعها بضرب النقود خالية من بعض الغموض؛ إذ لكل لغة سرها الخاص بها. بفضله لا يخلو شعرها من هذه الميزة والطابع الخاص. . .
أما في العربية، فللعبارة من المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع إليها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها. ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه.
فالعبارة العربية إذن كالمزهر، إذا نقرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلتحق بها، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وإذا نحن نظرنا إلى العربية من حيث الصناعة أدركنا في غير عناء أن سبك اللغة العربية(641/12)
فيه للشعر ومادته كنوز زاخرة لا تحصى وموارد، فلقد كان نشوء هذه اللغة وتطورها مبنياً في أعظم قسط من مفرداتها على التداول بين المقاطيع المقصورة والمقاطيع الممدودة.
وإذن يجوز لنا القول بأن اللغة العربية ذات تقاطيع شعرية في ذاتها، فلا غرابة إذن أن يكون واضع علم النحو هو الذي ضبط تلك المقاطيع. أما الأوزان والتفاعيل الشعرية، فإنها مؤلفة من مجموعة متأثرة بالصيغ الصرفية. وإن لهذا الاستعداد الشعري العظيم آثاره القوية في توجيه الآداب العربية، فالرأي الغالب عند جميع الناطقين بالضاد في سائر العصور أن الأدب شعر قبل كل شيء. لذلك كان مؤرخو الآداب العربية ونقادها يقتصرون من آثارها على فن الشعر أو يكادون، فلئن كان قدامه قد أطلق على أحد كتبه أسم (نقد النثر)، فهو على ذلك لم يعالج في ثلاثة أرباعه غير الشعر. وهل الجاحظ قد روى معظم كلامه الذي أستشهد به في كتاب (البيان والتبيين) إلا عن الشعراء أو عن إخوانهم الخطباء؟ وإذا كان بديع الزمان قد تردد في الإذعان لما للجاحظ من فضل في الميدان الأدبي، فما ذلك كما قال، إلا لان الجاحظ وإن كان ناثراً بارعاً لم يكن إلا شويعراً، وإذن فمن الواضح أن الذي لم تكن له الأسبقية في صناعة الشعر ليس على حسب نظرية بديع الزمان لرجل الأدب حقاً. وعلى ذلك فقد أحرز النثر في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام مكانه اللائق به، ووافق ظهوره - مثل ما هو الشأن عند سائر الأمم - ما حصل من تقدم في التفكير وطرائق البحث في المواضيع العلمية.
وفي الواقع كان أهل صناعة التفكير المنطقي الإستنتاجي والفقهاء والمشرعون على اختلاف مذاهبهم، هم الذين سبقوا غيرهم من الكتاب بتطور النثر على أيديهم. ويحكى أن (بلزاك) كان يحمل نفسه على مطالعة كتاب (القانون المدني)، فيراه على أسلوب لا يجاري في الوضوح والاقتصاد والدقة. ولا أضنني مخطئاً إن قلت: إن عدداً لا يستهان به من رجال الشرع الإسلامي وأئمة الدين كانوا في عدد كبار الكتاب. ألا نجد مثالا من ذلك عند الجاحظ، وهو أكبر كتاب القرن الثالث الهجري بلا منازع؟
فليس من شك أن الجاحظ كان قبل كل شيء من رجالات الفقه الإسلامي، فلقد أنصرف فيما لا يقل عن نصف تآليفه إلى البحوث الدينية. وهل ينكر أحد أن كتاب (الحيوان)، وهو أكبر تصانيف الجاحظ، خاضع في جملته لشئون توحيدية، إذ كان مصنفه يريد أن(641/13)
يستخلص من درس الطبيعة وبالخصوص من النظر في شؤون الحيوان ما يقوم حجة ناهضة لتأييد مذهب الاعتزال.
ومهما يكن من الأمر، فلا مندوحة من الاعتراف بأنه قد تكون في الثالث للهجرة نثر عربي يتصف بغزارة المادة وتنوع الأسلوب، صالح للرواية وللجدال النظري معاً، قادر على تتبع الفكرة والالتصاق بها في كل منعرجاتها، وعلى أداء جميع دقائق المعنى. ولم تمض مائة سنة حتى زال هذا اللون من النثر العربي المتصف بانتقاء اللفظ واختياره وبانسجام عدد النغمات، وقام مقامه النثر السجع.
وفي الحقيقة لم يكن هذا النوع من النثر المسجوع زائراً جديداً في اللغة العربية، بل كان عندها أسلوباً قديماً مألوفاً يرجع عهدها به إلى العصر الذي كان النثر فيه خطابياً أو شفاهياً على أقل تقدير إذ كان موجهاً في الحقيقة إلى السمع لا إلى النظر.
ويظهر أن هذا اللون من النثر المسجع قد قطع ثلاثة القرون الأولى من الإسلام يحيا حياة فاترة محدودة النطاق، فلم يكن يستعمله ألا نفر قليل من الدعاة، ولا تجد له من وراء ذلك أثراً الا السجعة أو السجعتين يضيفها مشاهير الكتاب إلى جملهم المرسلة.
فإذا ما حل القرن الرابع للهجرة أصبح هذا اللون من النثر هو الغالب وطغى على غيره وعم. وإذا به مستعمل في مواضيع من الأدب وأبواب لم يكن قد طرقها من قبل، بل هو يمتد إلى ما وراء المواضيع ويقتحم إلى ما أبعد من الأبواب فيصبح متصرفاً في كامل الآداب النثرية أياً كان لونها ومهما كان غرضها سواء أكانت من آداب الخيال والقريحة، أم من آداب التراسل، أو من كتب الأخلاق، أو من آداب الدواوين، أو في المواضيع التاريخية. . .
ولعل السبب في هذا التغلب القاهر راجع إلى ما كان مشهوراً في سائر الأوساط الأدبية من تفوق الشعر على النثر. وكان نثر ابن قتيبة، وقد ظهر منبسطاً منسجم المفردات مرسلا ينظر إليه عند المولعين بفن الشعر كما ينظر إلى فتاة الأسطورة الفرنسية (سالدريون)، فقد كانت تفوق أخواتها وأترابها جمالا وذكاء نفس؛ إلا أن بساطة أخلاقها وتواضعها كانا يظهرانها في مظهر الفقر والخصاصة فكانت لذلك منبوذة. وقد بدا للمغرمين بالشعر أن هذا النثر المنبسط المرسل في حاجة إلى زينة وحلي، وهكذا جعلوه نثراً مسجعاً(641/14)
ومع ذلك، فأنه يجمل بنا ألا نشدد الحكم على النثر المسجوع فهو الذي أمد العربية بعدد من جواهرها الأدبية، وهو الذي أكسبها آثاراً فيها من جودة الصناعة ودقة النقش ما يجعلها مثالا تطبيقياً لقاعدة الفن المطلق الخالص، أو ما يعرف عندهم بالفن للفن. . . ولا يمكن مع ذلك نكران العراقيل الخطيرة التي انجرت من هذا النثر للعبارة الصحيحة الكاملة الموفية بحق المعنى بالقياس للنثر وجوهره. ولا يمكن أن نغفل عما كان لهذا النثر من سيئ الأثر على الأسلوب، فقد جر له الفقر وحمل الكتاب على الاقتصار من أساليب الكتابة على الجمل القصيرة من شتات السجع، فأفضى بعدد منهم إلى التضحية بالمعاني واللب في سبيل العناية بالشكل والأسلوب.
ولكن هذا النوع من النثر قد انقضى اليوم عصره وزال سلطانه. فلقد عادت الحرية المطلقة إلى النثر بفضل نهضة الآداب العربية التي بدأت منذ ثلاثة أرباع قرن تقريباً
وفي هذا الباب ذكر بعضهم مراراً عديدة ما للتأثيرات الأجنبية من فضل على هذه النهضة سواء من حيث الأسلوب وفن التعبير، أو من حيث تجديد اللون الأدبي في ذاته، واختيار المواضيع، وهي عوامل لا يمكن نكرانها، ولكنها لم تكن لتؤثر لو لم تصادف رغبة دفينة في الانبعاث، وشوقاً إلى إحياء تراث عظيم قد وقف سيره: تراث القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ذلك أن البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل في باب العبقرية إلا ما كان ملائماً للخلاصة الخالصة من عقليتهم مسايراً لما لها من حركة وتوثب. وباختصار لا يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها إلا ما كان حياً في قرارة أنفسهم متوثباً للوجود.
وهاهو ذا اليوم النثر العربي قد تهذبت حواشيه واتضحت آياته وتم تجديده على أيدي الجبلين الأخيرين من الكتب، وبفضل ما بذله هؤلاء من جهود متواصلة، وما صبروا عليه من جد وعمل، فأصبح هذا النثر أهلا لأن يكون أداة تعبير لحضارة عصرية. وبلغ هذا المستوى من الرقي الذي به يتم تأليف الآثار الفنية الخالدة. وإنما نعني بالآثار الفنية الخالدة آثاراً لها من قوة السبك ومن الامتلاء بالحقائق البشرية ما لا تنال منه الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو تذهب به؛ (فدون كيشوت) لمؤلفه (سرفانتاس) وكتاب (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) وكتاب (كيم) لـ (رويارد كبلنغ) كلها كتب قد حافظت في نصوصها الفرنسية(641/15)
على أوفر قسط من جمالها وروعتها
وإني أؤمل بكل قوة أن يأتي اليوم الذي يوجد فيه تصنيف لمؤلف عربي من المعاصرين ينقل إلى اللغات الأوربية فيقيم لأبناء الغرب الدليل على أن أبناء عدنان وقحطان قادرون مرة أخرى على تنمية كنز الفكر البشري
(عن نشرة الدراسات العربية بالجزائر ترجمة الثريا)
وليم مارسيه(641/16)
2 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
(أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهم فاقتله)
(من وصية إبراهيم الإمام العباسي لأبي مسلم الخراساني)
للأستاذ محمد خليفه التونسي
عرضنا في المقال الماضي (الرسالة: العدد 637) عرضا موجزاً يسيراً ما كان من موقف الأمويين إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وعارضناه بموقف مؤسسي الدولة العباسية إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وبينا وجوه الخلاف بين الموقفين، كما أوضحنا موقف هؤلاء وأولئك من العرب والفرس وما كان من اطمئنان الأمويين إلى العرب وحذر الآخرين من العرب والفرس معا وضرب كلا العنصريين بالآخر لسوء ظنهم بهما معا، وأوضحنا أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب فارس في عهد عمر الذي لم يكن قتله إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب، وما كان من خوف تسلط الفرس على مؤسسي الدولة العباسية فدفعهم إلى الإفراط في الاتهام والقتل لمجرد الشبهة، وما كان من طموح الفرس إلى الاستقلال وتطلع أبي مسلم إلى السلطان حتى قتله المنصور، وسوء ظن العباسيين حتى بوزرائهم وقتل كثير منهم مما أدى بخالد بن برمك إلى كراهة أن يسمى وزيرا تطيرا من القتل كما قتل قبله أبو سلمة الخلال، وما كان من إسراف العباسيين في الحجر على الحرية الفكرية خوفاً على دولتهم من الانهيار، وأن المنصور كان يحجر على حرية الرأي في كل ما يمس الحكومة ونظمها ليس غير حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم ويعاجل بالقتل كل خارج عليه، بل كان من كان وجوده خطرا عليهم ولو لم يكن يستحق القتل وما كان من عدم مراعاته في ذلك حدود الدين ولا قواعد العرف العربي ولا العهود التي قطعها على نفسه. وقلنا في ختام المقال: (فلما جاء أبنه المهدي سنة 158 هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة ولكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة؛ إذ كانت الزندقة(641/17)
طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها إن صدقا وإن كذبا، جادا في البحث عن أتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه، ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستنداً للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً كريماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله).
ولتفصيل ذلك لابد من بيان الحوادث التي حملت المهدي على تشدده في عقاب الزنادقة، وبيان صفاته النفسية والفكرية التي جعلته يتخذ أسلوباً خاصاً في النظر إلى هذه الزندقة وهؤلاء الزنادقة. ولابد من عرض بعض المحاكمات التي جرت بينه وبين كبار الزنادقة والتهم التي وجهت إليهم أثناءها حتى قضى فيها بالقتل أو بغيره. ولابد لنا مع هذا كله من أن ننظر نظرة ربط إلى أمرين مترابطين بوجودهما هما الزندقة والشعوبية أو الوطنية الفارسية إذ لا حيلة لنا في فهم الزندقة فهما صحيحا ما لم ننظر إليها مرتبطة بهذه الشعوبية الفارسية التي كانت السبب الأهم فيما قام في فارس من ثورات على الخلفاء من العرب أو حروب استقلالية، فلم تكن تلك الفورات المتتابعة إلا لطلب استقلال الفرس الذي انتزعه العرب منهم، ومحاولة التخلص من السيطرة العربية ولا سيما بعد أن زاد الاضطهاد ورأى الفرس بأعينهم أنهم قادرون على هزيمة العرب بما جرى بين الفريقين من وقائع انتصر فيها الفرس على العرب ومنها المعارك التي كانت الجيوش الخراسانية وجيوش الأمويين وانتصار الأولين وهم فرس على الآخرين وهم عرب، ولقد كان ما كان من ضياع أمل الفرس في العباسيين بعد أن مكنوا لهم دولتهم، وجحودهم الذي ظهر في قتل المنصور أبا مسلم، وإخماده ثورة تلميذه سنباذ الذي ثار للمطالبة بثأره حين ثار عليه في سنة 137 هـ وهي سنة مقتله، وما كان من قمع المنصور الراوندية حين خرجوا عليه لقتله في الهاشمية سنة 141 هـ وقد كانوا على رأي أبي مسلم في زعمه تناسخ الأرواح، وادعوا أن ربهم الذي يطعمه ويسقيهم هو المنصور، وأن الهيثم بن معاوية أحد ولاته هو جبريل. ولابد لنا من النظر بعد ذلك في عقائد فارس المانوية والمزدكية لفهم الآراء التي كانت تتوج هذه الفتن ولا سيما فتنتي الزنادقة المحمرة والمبيضة في عهد المهدي، وتحديد معنى الزندقة كما تآراها المهدي والمعاني الآخر التي ذائعة في ذلك العصر لكلمة الزندقة وكانت تطلق على(641/18)
كثير ومع ذلك ظلوا بعيدين عن العقاب بل ظلوا في كنف الدولة ينالون خيراتها ويحتمون بها بل يلون ولاياتها من الخلفاء ويقودون جيوشها مع الثقة والتقدير، ولابد من الإشارة إلى دسائس البلاط ومكايد السياسة والتنافس بين رجال البلاط وما كان لكل ذلك من الخطر في إشاعة التهمة بالزندقة والعقاب عليها على ما ستفصله إن شاء الله.
ونكتفي في القول في توارث الزنادقة بعرض موجز لأخطر ثورتين ظهرتا في عهد المهدي: إحداهما ثورة الزنادقة المبيضة في خراسان وقد ظلت نحو عامين وثانيتهما ثورة الزنادقة المحمرة بعدها وقد تم إخمادها بسرعة ويسر، فقد كانت هاتان الثورتان هما اللتين وجهتا نظر المهدي إلى الزندقة وجهة خاصة وصبغتا عهده بها صبغة خاصة مما لم يكن له قبله مثيل. وهانحن أولا نلخص أخبارهما مما كتب كل من الطبري وابن الأثير في تاريخه: ظل المنصور يدبر ملكه قرابة اثنتين وعشرين سنة (136 - 158هـ) وقد توفى في يوم السبت سادس ذي الحجة سنة 158هـ ببئر ميمون محرما وهو يقوم بشعائر الحج وقد تولى الخلافة بعده ابنه المهدي ولم تمض بضعة أشهر من سنة 159هـ أو من خلافة المهدي حتى فوجئ بثورة عوان في خراسان هي ثورة الزنادقة المبيضة فاضطرب لها ملكه وزلزل زلزالاً شديداً. ذلك أنه خرج في خراسان في هذه السنة (159هـ) رجل من الفرس يسمى هاشم بن حكيم وهو المعروف في التاريخ بالمقنع الخراساني لأنه كان يضع على وجهه قناعا من الذهب ليخفي به دمامة وجهه ولو لم تكن ثورته كثورة غيره انتفاضا على الدولة لاستبدال خلافة بخلافة أو الثأر لقبيلة من قبيلة أو نصر جيل على جيل بالقوة جيل بالقوة فحسب، بل كانت إلى جانب محاولة التخلص من الحكم العربي لفارس ثورة ذات آراء خاصة في الدين والكون: كانت نزعة عنصرية فارسية بدليل أنها قامت في خراسان، والقائمين بها من الفرس، وكانت ترمي لأخذ الثأر من الخليفة والعرب جميعاً: فقد كان المقنع يقول بتناسخ الأرواح وأن روح الله ظهرت في آدم ثم انتقلت إلى نوح وهكذا إلى أبي مسلم ثم المقنع نفسه، فهو إذن يدعى الربوبية لنفسه، وهذا ما لم يزعمه ثائر قبله لنفسه، ومن أجل ذلك كانت ثورته ذات طابع خاص يميزها من الثورات التي تقدمتها وإن اتفقت معها في كثير من الغايات. ومن أجل ذلك أيضاً كان من الحزم والفطنة أن ينظر إليها الخليفة المهدي نظرة خاصة تمتاز عن نظراته إلى الخارجين عليه من الطلاب الملك(641/19)
والمغانم وغيرهم.
نهض المقنع يدعو من حوله إلى الإيمان بربوبيته والأخذ بتعاليمه في خراسان وما وراء النهر فاستوفى بشراً كثيرا من الصغد وبخاري وسمرقند وأتراك بحر قزوين، وامتد نفوذه في تلك البقاع النائية ونبه أمره، وكان أتباعه يسجدون له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولون في الحرب: (ياهاشم أعنا) وتحصنوا في قلعة بسيام وسنجرده وهي من رساتيق كش فيما وراء النهر، وأعانه كفار الأتراك فأغاروا على المسلمين، ومان يعتقد أن أبا مسلم لأفضل من النبي عليه السلام، ويدعى أنه يقتل قاتليه؛ واجتمع مع من والوه بكش وغلبوه على بعض قصورها وعلى قلعة نواكث وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر من ولاة المهدي في إقليم خراسان وما وراء النهر مرة بعد مرة فلم ينالوا منهم شيئاً، وقتلوا حسان بن تميم ومحمد بن نصر وغيرهما من الولاة. وعندئذ لاح الخطر على الدولة للمهدي فعبأ جيوشه ووجه بها إلى المقنع يقودها أبرع قواده فعجزوا عن إخضاعه: ومن هؤلاء معاذ بن مسلم واليه على خراسان ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وأخوه يزيد وليث بن نصر بن سيار مولى المهدي. ولقد أشتغل هؤلاء بقتال المقنع وزنادقته المبيضة الذين كانوا ببخارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت ونقبوها عليهم وقتلوا منهم سبعمائة، ولكن منهزميهم لحقوا بالمقنع فكانوا له قوة، ولقد تبعهم جبرئيل بن يحيى بعد أربعة أشهر في القتال بلا جدوى. وكان ممن سيرهم المهدي إلى المقنع قائده أبو عون فلم يبالغ في قتاله. واستمرت الحرب بين جيوش المهدي وجيوش المقنع نحو سنتين حتى عيل صبر المهدي ولقي المسلمون منه بلاء عظيما، وكان المهدي أثنائهما يبعث بقواده على جيوشه مجتمعين، وفي نهاية الأمر أرسل معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم وجاعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم من فاجتمع به بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع، وأتى معاذ بن سعيد فحاربهم، ولكن كل أولئك لم ينزل الهزيمة الساحقة بالمقنع وجيوشه. وجرت في نهاية الأمر جفوة بين القائدين سعيد الحرشي وعاذ بن مسلم فكتب سعيد إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له أن يكفيه المقنع أن افرده بالقيادة فأجابه المهدي إلى ما طلب، فبدأ يطارد المقنع ويضيق عليه ويحاصره وإذ ذاك شعر المقنع بالخطر فبدأ يجمع الأقوات(641/20)
والأسلحة عدة للحصار، ولكن سعيداً ضيق عليه الحصار حتى أيأسه من النصر والحياة والمقنع محصور في قلعة كش، فلما أحس بالهلكة شرب سما وسقاه نساءه وأهله فمات وماتوا جميعاً، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي وهو بحلب.
ولقد عرف المقنع الخراساني هاشم بن حكم وأتباعه بالزنادقة المبيضة لأنهم اتخذوا اللباس الأبيض شعاراً لهم
هذه هي الصدمة الأولى من صدمات الزنادقة التي أصابت الدولة العباسية في عهد المهدي فاضطربت له دولته جميعاً وتتابعت لها الزحوف إثر الزحوف نحو سنتين حتى أخمدتها بعد لأي شديد وإسراف كثير في الأرواح والأموال، ولم يكن المهدي قبل ذلك إلا عالماً أقوى العلم خطر إقليم المشرق فمنه انبعثت الجيوش الخراسانية التي دكت المملكة الأموية دكا، وأسلمت الخلافة للعباسيين، وما كان المهدي ليجهل خطر الفرس وما أنزل بهم العرب من بلاء طوال مدة بقائهم في الأقاليم الفارسية، ولا حقد الفرس على العرب وتربصهم بهم الدوائر، وما كان من قتل أبي مسلم ومطامعه وثورة تلميذه وتابعه سنباذ ثم ثورة الراوندية، وما كان ليجهل الدوافع القريبة والبعيدة التي أثارت هذه الفتن؛ ولم يكن ينقصه سوء الظن والدهاء وكان الأمران من أهم الأركان في سيساة الدولة العباسية من عهد السفاح بل قبله إلى عهده هو (المهدي)
أما الثورة الثانية فقد جاءت إثر الثورة الأولى بعام واحد تقريباً وإن لم تبلغ من القوة ما بلغت الأولى ولم تكلف المهدي من الأموال والأرواح والمتاعب ما كلفته تلك: قامت هذه الثورة في المشرق أيضاً (وهكذا المشرق دائماً) في ولاية جرجان شرقي بحر قزوين، وكان القائمون بها يعرفون بالزنادقة المحمرة لأنهم اللباس الأحمر شعارهم، ولا خلاف بين الطبري وابن الأثير في أن هذه الثورة كانت سنة 162 هـ، بل تكاد كلماتهما تتحد في الرواية. قال ابن الأثير في أخبار سنة 621 (وفيها خرجت المحمرة بجرجان عليهم رجل اسمه عبد القهار فغلب عليها وقتل بشراً كثيرا فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان فقتله عمر وأصحابه)
وقد انتشرت تعاليم طوائف الزنادقة بين الناس فيمار وراء النهر وخراسان والولايات الفارسية الغربية والشمالية، وتسربت أيضاً إلى العراق، وكانت تعاليمها مزيجاً من فلسفة(641/21)
ماني واشتراكية مزدك كما سنفصله إن شاء الله، فهب علماء المسلمين ممن اشتغلوا بعلم الكلام يردون على هذه التعاليم. ولقد كان لتعاليم الزندقة بعدئذ وقبلئذ أثر عظيم في نظريات علم الكلام واتجاهاته بل اتجاه الفكر الإسلامي كله حينذاك وفي أقوال الشعراء الفرس، حتى لا نستطيع أن نفهم بعض مذاهب المتكلمين وأقوال بعض الشعراء وبعض اتجاهات الفكر الإسلامي بل كله في ذلك العصر إلا إذا درسنا حركة الزندقة. ولا حيلة لنا كما قدمنا في فهم معنى الزندقة بل معانيها المختلفة ما لم ندرس حركة الشعوبية التي ظهرت كما قدمنا منذ وطئت أقدام العرب أرض فارس في عهد عمر بن الخطاب ولم تظهر في غيرها من البلاد التي فتحها المسلمون كمصر واليمن والشام وبلاد المغرب وموعدنا بذلك المقال التالي إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
تصويب
في مقالنا الأول (الزندقة في عهد المهدي العباسي) المنشور بعدد الرسالة 637 وقع خطأ في أسم أبي سلمة حفص الخلال فكتب في صفحة 1013 أبو حفص سلمة الخلال، وفي صفحة 1014 أبو سلمة وصوابه - كما قلنا - أبو سلمة حفص الخلال كما يفهم من الأبيات التي نقلناها هناك، ومنها:
شرب الكأس بعد حفص سليما ... ن ودارت عليه كف المدير(641/22)
الشباب الخالد
توطئة دراسات في الأدب والنثر
للأستاذ جورج سلستي
ليس الشباب العمر ما أعني، وعمر الشباب كعمر الورود سرعان ما تبلوه الحياة بالأعاصير فيذوي!
ولا الربيع - شباب الطبيعة - وهو ما إن يرود برونقه النضر حتى تصّوحه لافجات السمائم!
ولا شباب الدول ذوات الحول والطول وهو مهما يطل لا بد له أن يدول! فالخريف كامن في أعقاب هذه جميعاً وإنما ثمة شباب لا يدركه الخريف: شباب لا يعروه الهرم ولا يدب إليه وهن الكبير.
شباب غيساني، أبدي السني والرواء، دائم الوضاءة والحسن، يعدو الزمن العصيب فما يطاوله بحدثانه، ويدور الدهر الحريب فما يديل من ريعانه!
شباب يزدري بسطوة العفاء، ويهزأ بعاديات الفناء، لأنه ينبض أبداً بمضاء القوة وعزة الحياة وزهو الخلود!
شباب شاخت الدول وباد منها ما باد ولم تدل دولته. واندرست جلائل المعالم كما عفت روائع الآثار وهو أبداً ريق الصبا يطاول بعزته السماء ويتحدى بخلوده الأزل!
ذلكم الشباب المؤبد هو شباب الفن الرفيع، شباب الأدب: يهرم الكون وهو غض وتبلى جدة الدهر، وهو زاه نضير، وليس كالأدب ما يتخطى هامات الأجيال بأبهةٍ وجلال، محتفظاً بسحره الأخاذ وروعته القدسية. وإن العلم ليتبدل من حال إلى حال، بل إن من نظرياته ما أنقلب رأسا على عقب بتقدم العصر وارتقاء الفكر، وإن ما كان يحسب فيه حقيقة ثابتة لا مراء فيها في جيل، نقضه الجيل الذي تلاه. وقد ينقض العلم غدا ما يبرمه العلماء اليوم، في حين أن نفثات هوراس وهوميروس وفرجيل ودانتي وملتون والمعري وشكسبير وأترابهم من الشعراء والأدباء الأفذاذ لتجد فيها النفوس في اليوم الحاضر ما وجدته من قبل نفوس الأمس البعيد الغار من متعة ولذة وأنس، ولسوف تتناقلها الأفواه في مؤتنف الأيام كما كانت تتناقلها الألسن في سالفات الأعوام، ولسوف يظل يتلوا الناس آيات الشعر(641/23)
والأدب ما دام فيهم من تستهويه لفتات الخاطر المشبوب، وومضات الذهن المتوقد، وعذوبة المنطق المعسول، وستنشد أهازيج الهوى التي تغنى بها سليمان الحكيم كما تتلى غزليات ابن المعتز ووجدانيات ابن زيدون؛ وإن العالم ليستمتع بها - على قدم العهد - كما يستمتع بروائع دي موسه، وبدائع لامرتين، وطوائف الأخطل الصغير، وستبقى أبدا نزهة الأرواح ومتعة النفوس ما دام للناس قلوب تخفق، وأكباد تحن، ومهج تتشوق.
وتقدير الأدب ليس بالبدعة المستحدثة في التاريخ، فقد عرف الأقدمون له جلال القدر ورفعة المنزلة فبوءوه حرمات التقديس. ومن البدائه المأثورة أن العرب في الجاهلية كتبت على القباطي بماء الذهب مختاراتها من روائع الشعر الحي وعلقتها بالكعبة تقديرا لها وتعظيما.
وإن الإغريق قد كتبوا بالذهب على جدران معبد أثينا في لمنوس القصيدة العصماء التي قالها بندار زعيم الشعر الغنائي في مدح دياجوراس
وهل كان الملوك والأمراء يبذلون المال والهبات على الشعراء الأفذاذ بمثل ذيالك السخاء العظيم لولا طمعهم في خلود الذكر في القصائد الرنانة التي كانت على ألسنة الناس كالمثل الشرود؟!
وإنها والله لصفقة خاسرة للشعر أن تشتري روائعه الخالدات بمتاع منفوق.
يروي التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال لبعض أولاد سنان ممدوح زهير بن أبي سلمى:
(أنشدني بعض مدائح زهير في أبيك) فأنشده. فقال عمر: (إنه كان ليحسن فيكم القول) فقال ابن سنان: (ونحن كنا نجزل له العطاء). فقال عمر قوله المأثور الخالد: (قد ذهب ما أعطيتموه وبقى ما أعطاكم!).
ألا طيب الله ثراك يا أمير المؤمنين وكرم مثواك. فقد زكيت الفن الرفيع بشهادتك الخالصة التي أديتها لوجه الحق مختارا فشتان بين ما يذهب كالزبد جفاء وما يمكث في الأرض ويبقى ماكرَّ الجديدان.
وبعد. فسر خلود الأدب قائم في كونه رسائل الأرواح في جلاء الحق والحب والخير والجمال، ومرآة تتجلى فيها سرائر النفوس ونزعات الأهواء، فهو لذلك من خصائص كل(641/24)
أمة في كل جيل رهفت في بنيها الأحاسيس وذكت الخواطر، وسمت الأرواح. وإن نفس كل امرئ لتظل تهفو إلى الأدب المائع والفن الرائع ما دامت طليقة من إسار المادة وجشع الأثرة وعبودية الروح. وما ركود الأدب في عهد من عهود التاريخ إلا دليل على فقدان القيم الروحية لدى أبناء ذلك العهد المشؤوم. وما ازدهار الأدب في حقبة من الحقب إلا دليل الشعور بالكرامة، وصقل النفس، ورهف الحس، وسمو الروح والتقرب من بلوغ الكمال. فإن أعوز المصلح أن يعترف إلى مقدار التهذيب عند شعب من الشعوب، وأين هو من كرم الخلق فليسبر مدى تذوق بنيه للأدب الرفيع، فقد كان الأدب الرفيع وسيبقى أبد الدهر مقياس الرقي عند الأفراد والأمم على السواء.
ولئن كانت النفوس تنزع بطبيعتها للشرور وتميل للغرور فإن الفنون - على أنواعها - كفيلة بالتلطيف من حدة النزوات وقمينة بتنمية الفضائل، وإن الأدب من الفنون بنوع خاص يصقل النفوس، ويرهف منها الأحاسيس ويحبب إليها الشهامة والإباء والعزة والنبل.
ولقد كان الخلفاء في الإسلام كما كان الملوك والأمراء في الجاهلية يوصون الآباء بتثقيف البنين الشعر والأدب لتسمو أخلاقهم وتدمث طباعهم. وقد بلغ من إعجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (بلامية العرب) للشنفري الشاعر العداء المشهور أن قال:
(علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلم مكارم الأخلاق)
وقال أيضاً رضي الله عنه:
(تعلموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى).
ولله در من قال:
وما هو إلا القول يسرى فتغتدي ... له غُرَرٌ في أوجه ومواسمُ
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناةُ المعالي كيف تُبنى المكارمُ
وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(الأدب حلى في الغنى، كنز عند الحاجة، عون على المروءة، مؤنس في الوحدة، تعمر به القلوب الواهية وتنفذ به الأبصار الكليلة ويدرك به الطالبون ما يحاولون)
وقال معاوية بن أبي سفيان:
(اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر دأبكم فما حملتني على الإقامة ليلة الهدير بصفين وأنا أريد(641/25)
الهرب لشدة البلوى إلا أبيات عمرو بن الأطنابة التي يقول فيها:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عرض صحيح
وهل الأمجاد لولا الأدب الحي إلا أطلال؟
فقد مرت بتاريخ البشرية عصور يذكر فيها الفاتح واللعنة في أثر اسمه على الأفواه، والحاكم الداهية وبسمة الامتعاض والاشمئزاز تعلو الثغور، والسياسي الأريب وإمارات النفور تبدو على الأسارير، وذلك لأن أمجاد هؤلاء جميعاً لم تقم إلا على الدم المطلول أو الوعد الممطول أو العرض المبذول، ولقد دالت هاتيك الأمجاد ولم يبق إلا مجد الأدب. ألا رحم الله ابن الرومي القائل:
(أرى الشعر يحيي الناس والمجد بالذي=تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات)
تلكم هي منزلة الأدب في النفوس ومكانته في القلوب، وذلكم أثره البعيد في الناس.
فلا غرو إذن أن يخلد على الدهر ولا بدع أن يسلم على الزمن! وكيف لا يظل غض الإهاب بيان يستروح فيه الناس أعراف الجنة وأنسام الخلد، ويرون فيه ربيعاً سرمدياً منضر الجنبات، منور الحواشي؛ بيان سمح ينفس عن القلب المكروب، ويروح عن الفكر المجهود، ويمتع النفس اللاغبة، ويسمو بالروح من حضيض الغبراء إلى ذرى الجوزاء ويحلق بها في دنيا غير الدنيا وعالم غير هذا العالم. دنيا زاخرة بأطياف الأماني الغرر والأحلام الوضاء. وعالم رحب الأجواء، نير الرؤى، رخي النفحات، عباق النسمات بالأرج المحيى والشذى المعطار.
وهل الدنيا إلا صحراء لاهبة واحتها المخضلة هبات الفن السامي ونتاج العبقرية الخلاقة؟!
وهل العيش لولا تلكم النفثات العذارى التي يطرف العالم بها أرباب الفن وعباقرة الأدب إلا الشقاء الحرور، والغناء الفادح والوصب الممض؟!
كان الحسن البصري يقول ما مؤداه:(641/26)
الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس الأدباء ومساجلات العلماء ومطارحات الشعراء.
ألا قدَّس الله سرك يا حسن، يا مجتلي النور في البيان السمح والمنطق المعسول.
(اسمعوا أيها الناس وعوا) على حد تعبير خطيب العرب وحكيمها وحكمها قس بن ساعدة الأيادي.
إنما الأدب عصارة القرائح وفيه تتجلى خلاصة الثقافات، وإنه لمستودع الحكمة والحكمة يا كرام الناس كرسالات الأنبياء من وحي السماء وما توحيه السماء لا يموت. وهل تعوزكم الأدلة والبينات وبين أيديكم الكتب المنزلة تهتفون بآياتها الساحرة آناء الليل وأطراف النهار؟
تلك الآيات التي تخشع عند تلاوتها النفوس خشعة الإكبار والإجلال والتقدير لهيمنتها على المشاعر واستحواذها على العقول والألباب حتى لكأنها السحر، بل أنها لكذلك وإن من البيان لسحراً.
سبحان رب العرش وتعالت كلمتك. ما كان قولك الحق ليحتاج إلى الأيمان البالغة تؤيده لولا أن في الناس أدعياء مارقين كالوليد بن المغيرة ينكرون نعمتك ويكذبون آياتك ويقولون عنها ضلة وزيفاً (إنها أساطير الأولين) فأقسمت - ويا لرهبة القسم العظيم (ن، والقلم وما يسطرون). تثبيتاً لبيانك الخالد وتنويهاً بالقلم وبأربابه رافعي علم حكمتك السامية بين الناس. وحكمتك هي الحق اليقين التي بها يهتدون.
أشهد اللهم أنك أنت الشاعر الأعظم، وأن أنبيائك المرسلين الأطهار أئمة الشعراء والأدباء أجمعين.
وأشهد أن للفن شباباً غضيراً يتحير في قسماته النورانية ماء الخلود.
(بيروت)
جورج سلستي(641/27)
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين منجد
- 2 -
(ز) العيارون، اللصوص، المجرمون
وكان العيارون واللصوص وقطاع الطريق يودعون السجن وقد سجن المأمون نفراً منهم كبيراً. وقتل آخرين، وذكر ابن المعتز أن اسحق بن خلف، وكان أحد الشطار الذين يحملون السكاكين قتل غلاماً فحبس بذلك؛ فما فارق الحبس حتى مات.
وذكر ابن الجوزي أن المعتمد حبس ثلاثة من الجند لأنهم سرقوا. وأنه وجدت في خلافة المطيع امرأة قد سرقت صبياً، فشوته في تنور وهو حي، وأكلت بعضه، وأقرت بذلك، وذكرت أن شدة الجوع حملتها على ذلك. فحبست مدة، ثم ضربت عنقها.
وكان الأطباء الذين يغلطون فيودون بحياة الناس. فقد حبس الطبيب النصراني خصيب لأنه سقى محمد بن أبي العباس السفاح شربة دواء فمرض منها ومات وبقى في حبسه حتى مات.
(ط) الشعر، الضحك، الغناء
وقد يسجن الإنسان لأسباب حقيرة لا شأن لها، فتحدثنا كتب الأدب أن أبا العتاهية سجن مرة لأنه قال:
ألا إن ظبياً للخليفة صادني ... ومالي عن ظبي الخليفة من عذر
وسجن مرة ثانية لأن الرشيد أمره أن يتغزل وهو معه في الرقة، فأبى وكان معه إبراهيم الموصلي؛ وكان قد أمره أن يغني، وقد مات الهادي فأبى أيضاً، فحبسه وقال: لا يخرجان حتى يغنني هذا ويشعر ذاك.
ويذكر الشابشتي صاحب كتاب الديارات خبراً يدعو إلى العجب والإعجاب في آن معاً، قال: خرج إسحاق بن إبراهيم من عند المأمون، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني وقف، ووقف القواد والناس لوقوفه. ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟ وكان على ذلك الوقت(641/28)
صاحب أمر الدار والمرسوم بالحجبة. فأتى خليفته فضربه مائة مقرعة. ثم قال: الحبس، ثم قال: هاتوا خليفته صاحب البريد، فأتى به، فضرب مائة مقرعة. ثم قال الحبس، ثم دعا بعلي بن صالح، وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلدان خلافتكما في دار الخلافة من يضيع الأمور ويهملها. . . كنتما بهذا الأدب أحق من هذين! فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته أيها الأمير؟ قال: صاحب بريد، يقعد في دار الخلافة فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر. . .!)
وفي جميع هذه الأسباب ذكرت كتب الأدب أخباراً أخرى أخذنا منها ما يقوم به الدليل على ما ذهبنا اليه، ولم نعمد إلى التطويل.
أنواع السجون
نستدل مما أطلعنا عليه من النصوص أنه كان في بغداد أنواع منوعة من السجون. فهناك المطبق وهو حبس مظلم كبير، كان المنصور قد بناه بين طريق البصرة وطريق باب الكوفة. وباسمه سمى الشارع الذي يقع هذا السجن فيه. وكان متين البناء قوي الأساس. وبقى أهم سجون بغداد حتى عهد المتوكل). وكان فيها سجن آخر عند باب الشام، إذا ذكروه قالوا: السجن عند باب الشام وكان يهاجم دائماً. وكان عليه عثمان بن نهيك، وقتل في فتنة الراوندية فلما كان زمن المعتصم أمر أن يبني حبس في بستان موسى، كان القيم به مسروراً مولى الرشيد. يقول التنوخي (وكان هذا البناء يرى من دجلة إذا ركبها المرء وكان كالبئر العظيمة، قد حفرت إلى الماء أو قريب منه، وفيها بناء على هيئة المنارة مجوف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت، يجلس فيه رجل واحد، كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه، وليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله).
ثم بنوا سجناً آخر سموه السجن الجديد. وكان موضعه إقطاعاً لعبد الله بن مالك وبقى حتى جاء معز الدولة فهدم سوره سنة 350، ونقل آجره إلى داره وبنى به، وفي سنة 355 كتب إلى طاهر بن موسى أن يبني موضع الحبس المعروف بالجديد مارستاناً.
ولا نستطيع وصف ما فيها على التفصيل؛ وإنما نعلم أنها كانت ذات أقسام، فحبس للزنادقة، وحبس للعوام، وحبس للنساء، و. . .(641/29)
وكان في المطبق الغرف الواسعات والضيقة. وكان فيه الآبار يسجن فيها. حدث يعقوب بن داود وزير المهدي قال حبسني المهدي، وذلك في المطبق. فدليت بحبل في بئر مظلمة لا أرى فيها الضوء قد بنيت عليها قبة، فكنت فيها خمس عشرة سنة.
وربما سجنوا في أماكن ومحال أخرى. فقد سجن سليمان ابن وهب في كنيف قال: فأخذني اسحق (بن إبراهيم، صاحب الشرطة) وحبسني في كنيف، وأغلق علي خمسة أبواب. فكنت لا أعرف الليل من النهار، وسجن المحسن بن أبي الحسن بن الفرات في كنيف داخل الحجرة، ودلوا في بئره رأسه بعد أن قيد وألبس جبة صوف غمست بالنفط. وربما سجنوا في الحجر الضيقة المظلمة، حدث أبو الحسن بن أبي الطاهر قال: قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب في وزارته للقاهر بالله، على أبي وعليّ معاً فحبسنا في حجرة ضيقة، وأجلسنا على التراب.
وكان الحبس الذي سجن فيه المهدي إبراهيم الموصلي مكاناً شبيهاً بالقبر مملوءاً بالأفاعي والبق. ولما سير المنصور جماعة من أبناء علي إلى الكوفة وحبسوا في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار أو سواد الليل.
وربما سجنوا في دار منفردة، كما فعلوا بأبي العتاهية لما طلب إليه الرشيد أن يتغزل فأبى ومنعوا دخول من يريد إليه.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر بنى المطامير ليحبس الجند فيها
وأناس آخرون كانوا لا يسجنون في هذه المحال. فقد كانوا يحبسون من يخافون عليه عند الوزراء. كما سجن عبد الملك بن صالح عند الفضل بن الربيع لما غضب الرشيد عليه، وكما سجن إبراهيم بن المهدي بعد القبض عليه وقبل العفو عنه، عند أحمد ابن أبي خالد. وربما أودعوا عند من يثق الخليفة به، كما فعل الرشيد عندما سجن موسى بن جعفر بدار السندي بن شاهك.
وكانوا يتخذون قصور الخلفاء سجوناً في بعض الأحايين. فقد حبس المستعين بن المعتصم، المعتز والمؤيد ابني المتوكل في حجرة من حجرات الجوسق الكبير. ويقول لسترانج إن الخلفاء (اتخذوا دار الشجرة التي شيدها المقتدر، حبساً رسمياً، وضعوا فيه أقرب أقربائهم احتياطاً من أعمالهم. وجعلوا في خدمتهم عدداً من الغلمان والخدم، وجهزوه تجهيزاً تاماً(641/30)
بوسائل الرفاهية والنعيم، ومنعوهم من تخطي أسواره.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر حبس في دار السلطان مدة إحدى عشرة سنة، من (321 - 333)، ثم أخرج إلى دار ابن طاهر، فكان يحبس تارة ويخلى تارة.
ومنذ القرن الرابع أخذوا يسجنون عند القهرمانات. فقد سجن ابن الفرات عند زيدان القهرمانة، وسلم إليها أيضاً الأمير الحسين بن حمدان، والوزير علي بن عيسى.
في السجن
لا نعلم الكثير من أحوال السجناء في بدء العصر العباسي؛ على أننا نورد لك ما كتبه أبو يوسف للرشيد عن المساجين لنصور لك ما كانوا عليه. فقد طلب أبو يوسف للرشيد عن المساجين لنصور لك ما كانوا عليه. فقد طلب أبو يوسف أن يؤمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم؛ وأن يُصير ذلك دراهم تجرى عليهم، وتدفع في كل شهر إليهم (فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة. وول ذلك رجلا من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء من في السجن ممن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر. يقعد ويدعو باسم رجل رجل، ويكون الإجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد، وليس كل من في السجن يحتاج أن يجري عليه). ثم طلب أن تكون كسوتهم في الشتاء قميصاً وكساء، وفي الصيف قميصاً وإزاراً، وأن يجري على النساء مثل ذلك، وهذا يدلنا على سجن النساء، وكسوتهن في الشتاء قميص ومقنعة وكساء، وفي الصيف قميص وإزار ومقنعة.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد(641/31)
العالم الجديد
للأستاذ زكريا إبراهيم
عصرنا الحاضر عصر مضطرب ثائر، لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ الغابر، فنحن نواجه اليوم حالة لم تعرفها الأجيال الماضية لأننا نحيا ففي عالم جديد يعج بالمشاكل المعقدة والمسائل الصعبة. وهذه الحالة التي تفرضها علينا مقتضيات هذا العصر، هي وليدة التطور الذي لحق الحضارة الإنسانية الحديثة. فليس من شك في أن علينا أن نكيف أنفسنا مع العالم المتغير الذي نحيا فيه، على ضوء المعارف التي نحصلها من الحركة العلمية المستمرة. والمعرفة هي - وحدها - التي استطاعت أن تغير معالم الكون، فلا بد لنا إذن أن نعتمد على المعرفة، حتى نستطيع أن نحقق التوافق بيننا وبين البيئة الجديدة التي نعيش فيها.
غير أن الخوف قد يقف حائلاً دون مواجهة الموقف الحاضر في صراحة وقوة؛ فإننا نخشى أن تقتادنا النظرة الجديدة للكون إلى الخروج عن معتقداتنا المألوفة وأفكارنا السابقة، ولكن هذا الخوف نفسه دليل قوي على أننا نشك في صحة تلك الأفكار والمعتقدات، ومن ثم فإننا نخشى أن نفحصها على ضوء الحقائق الجديدة والمعارف الحديثة. وإذن فالخوف ليس إلا مظهراً للشك والجهالة، وبالتالي فإن من واجبنا أن نطرحه جانباً إذا أردنا أن نكون مخلصين لروح العصر.
لقد أصبحت الشجاعة أول ضرورة من ضرورات هذا العصر فإن قيام العالم الجديد رهن بما أوتينا من شجاعة وقوة وإقدام. وليس من واجب الفكر أن يرتد فزعاً أمام تلك التيارات الرجعية التي قد تثور في وجهه، بل أن عليه يجهز بكلتا يديه على تلك الجيف الحية، لكي يقذف بها في زوايا التاريخ!
وإنها لمسئولية خطيرة تلك التي تقع على عاتقنا اليوم؛ فقد مضى على ذلك العصر الذي كنا فيه نعتمد على القوى المجهولة والمصادر الخفية في استقاء معارفنا ومعلوماتنا. وليس علينا الآن إلا أن نعتمد على نفوسنا ونفكر لذواتنا، في كل المسائل التي تواجهنا؛ وما أكثر هذه المسائل!
إن أسلافنا كانوا يتوهمون أنهم قد عرفوا كل شيء منذ الولادة حتى ما بعد الموت؛ أما نحن(641/32)
فقد أصبحنا لا ندري ماذا يحدث بعد الغد! ومما لا ريب فيه أن للحرية الفكرية تكاليفها؛ فإنها ترفع تلك اليد التي تقود زمامنا، لكي تسلمنا إلى أنفسنا، وهنا يكون علينا أن نبحث كل شيء من جديد؛ ولكن لا كما يبحث الأعمى الذي يمسك بيده آخر، بل كما يبحث المبصر الذي يتحقق من كل شيء بنفسه.
ولن يكون في وسعنا أن نحل المسائل كما كان يحلها أسلافنا لأننا لن نطمئن إلى تلك الحلول السريعة التي تئب إلى المطلوب دون بحث واستقصاء. بل أن حلاً ما، مهما كان من صحته ودقته لن يكون حلا نهائياً حاسماً، مادامت معارفنا في تزايد مستمر وتقدم دائم. . .
أما النزعة اليقينية التوكيدية، فإنها لن تجد موضعاً في العالم الجديد. . . وكيف يمكن أن توجد مثل هذه النزعة في عالم يرى أناسه الحقائق كما هي، لا كما يقول بها مذهب معين أو رأي خاص؟
إن العالم الجديد هو عالم الفكر الحر، والبحث النزيه، والخير العام. فلن يشهد فجر الغد حجراً على التفكير، أو ميلاً إلى الطعن والتشهير، أو سعياً إلى الخراب والتدمير - وما دامت تلك الأصنام التي طالما تنابذ الناس من أجلها، لابد أن تندك يوماً، كما اندكت عروش أصحابها، فلابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يشرق فيه فجر الحضارة الإنسانية الصحيحة
ومن واجبنا الآن أن نعمل على هدم تلك الأصنام التي تعوق مجيء ذلك اليوم. حقاً إن الإنسانية طالما حرقت البخور لها، وعفرت الجباه أمامها، ولكنها قد أخذت تدرك اليوم أن من واجبها أن تهوى بمعولها على تلك الأصنام جميعاً، فتأتي عليها عن آخرها - وما هذه الأصنام إلا الجهل، والتعصب الذميم، والنعرات القومية الفاسدة!
ولن يقوم في العالم سلام، إلا إذا كان ذلك في أرجاء الأرض قاطبة، ولن يكون ثمة رخاء، إن لم يكن ذلك رخاء عاماً، ولن يشرق فجر العالم الجديد، إذا لم يعم نوره الشرق والغرب والشمال والجنوب!
فليعلم إذن أولئك الذين يرجون قيام عالم جديد تسود فيه الحرية والطمأنينة والرخاء، أن عليهم أولا أن يقوضوا تلك الأصنام القديمة، حتى يقيموا على أنقاضها بنيان العالم الجديد المنشود!(641/33)
زكريا إبراهيم(641/34)
من قصص جحا
3 - الغريق الناجي
للأستاذ كامل الكيلاني
(صفحة مختارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين ابن ثلبت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه).
(. . . منذ مائتين وألف من السنين كان (عبد الله دجين ابن ثابت) يسير خارج المدينة وقد ساد الظلام الكون، فكاد يحجب الطريق عن العيون، لولا بصيص ضئيل من ضياء النجوم، كانت ترسله السماء إلى الأرض، كما يرسل الرجاء نوره إلى ظلمات النفس، فيكشف من يأسها الحالك، ويفتح لها طريقاً نيراً تسله في ظلمات الحياة.
وساد الصمت وخيم السكون لولا نقيق الضفادع المرحة، منبعثاً من ضفة النهر، وجلس (عبد الله دجين) هادئ النفس مطمئناً، برغم ما لقيه في ذلك اليوم من الكوارث والأحداث. ولولا أن بعض ما حل به من المصائب قد أصاب غيره لما وجد العزاء إلى نفسه سبيلاً، ولضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ودارت به الأرض قائماً.
تسألني ماذا لقي (دجين) من النكبات. فاعلم - حفظك الله ورعاك وسلمك من كل سوء - أن بعض الأشرار قد أحرق بيته. وأن الزمن تنكر له فاستهدفت أسرته للجوع والمرض. ولم يكد أصحابه يرون ما حل به من الملمات حتى هجروه وابتعدوا عنه بعد أن كانوا يتوددون إليه ويلتمسون معونته. وانقبضت أيديهم عنه بعد انبساطها، فلم تمتد إليه بالمساعدة يد واحد من أصدقائه وأصفيائه الذين كان يدخرهم للنوائب ويستبقيهم للشدائد ولم يكن ينقصه شيء ليكون أتعس خلق الله إنسانا.
ولولا عطف جارته (زبيدة) المحسنة على زوجه وولديه لهلكوا جوعا، ولكن الله لطف بهم فسخرها لهم لتتعهدهم في أيام النحس والشقاء.
وقد لقي (دجين) تلك الخطوب والنكبات باسم الثغر وضاح الجبين، مملوء القلب بنور اليقين. ولعلك تدهش إذا قلت لك إنه كان يشعر في تلك الليلة بطمأنينة وثقة لا حد لهما.
وكانت الضفادع قد سكتت حين رأته قادماً عليها، فلما أستقر به الجلوس على ضفة النهر، عاودتها الشجاعة، فأنست به واطمأنت إليه، وأقبلت عليه وقد استولت عليه البهجة فراحت(641/35)
تقفز في الفضاء وترفع أصواتها بما تملكه من قبيح الغناء.
وأحس (أبو الغصن) صوت جسم يسقط في الماء، وسمع استغاثة خافتة ضعيفة تنبعث في أثر الصوت طالبة النجدة والغوث.
فخف (دجين) إلى النهر، واندفع إلى مكان الغريق حتى إذا داناه، أسرع أليه، فألقى بنفسه إلى الماء في غير تردد ولا وجل، وما زال يسبح جاهداً حتى عثرت يداه بطرف ثوب فأمسك به وجذبه اليه، وما زال به حتى أنقذ صاحبه من الغرق وحمله إلى الشاطئ.
وما كاد يتأمل وجه ذلك التاعس المشرف على الغرق، بعد أن كتب الله سلامته على يديه، حتى أبصر شيخاً زري الهيئة مغمى عليه. وما لبث الشيخ أن أفاق من غشيته فشخص إلى (دجين) بعينين صغيرتين يظللهما حاجبان كثيفان، ثم قال له بصوت متهدج يكاد يختنق من البكاء.
(شكراً لك يا أخي، على ما أسديته إلي من صنيع، لقد خاطرت بحياتك لتنقذ حياتي ولولا ذلك لكان الهلاك نصيبي.
على أنني لا أدري - على التحقيق - اجميلا صنعت معي أم قبيحاً؟ ولا أعلم اليقين من أمري: أخيراً صنعت بي أم شراً)
فقال (دجين): (أكنت تقصد عامداً إلى إغراق نفسك هذه الليلة؟)
فقال الشيخ: (أستغفر الله! ذلك ما لا يدور ببال عاقل كريم! لقد زلت قدمي وأنا أمشي على الجسر فهويت إلى النهر، وحملني التيار في ظلام الليل الحالك، فكنت لولاك من المغرقين)
فقال (دجين): فما بالك تندم على نجاتك، ولا تحمد الله على سلامتك؟)
فقال الشيخ في أسلوب حزين يفيض مرارة واكتئابا: الحمد لله على كل حال! فإن كل ما ينالنا من خير أو شر مقدر علينا لا حيلة لنا في دفعه، ولا سلطان لنا عليه قال (دجين) (فما يحزنك من الدنيا؟)
قال الشيخ: (مثل لنفسك شيخاً مثلي ماتت أسرته جميعاً: زوجه وأولاده وبناته واخوته وعشيرته، وأقاربه الأدنون والأبعدون، فاصبح في شيخوخته يعيش بلا أسرة، ولا يجد في العالم كله قلباً يهفو إليه أو يعطف عليه، ولا يظفر بمورد يعيش منه، وقد حمل من أعباء السنين سبعين. كيف يكون شعور مثل هذا الرجل الفاني إذا هيأت له المصادفة أن يغرق،(641/36)
ثم كتبت له السلامة مرة أخرى؟ أتراه يسعد بذلك أم يشقى؟ وهل يبتهج باسترداد حياته؟ أم يأسف لخلاصه ونجاته؟ إن للفتى والشاب - من أمثالك - آمالا كباراً يسعيان إلى تحقيقها والظفر بها فإذا بلغا ما بلغت من السنين وذرف (أي: زاد) على السبعين فأي أمل يبقى لهما في الحياة، وأي مطلب يسعيان له ويتمنيانه؟
فقال (دجين) يناجي نفسه في صوت خافت: (ما بال هذا الشيخ يستنكر البقاء ويلعن الحياة!)
وكان سمع الشيخ مرهفاً، فلم تفلت منه تلك الهمسة، فقال لدجين قولة الواثق المتثبت مما يقول:
(كلا - يا صاحبي - لا تسيء ظنك بي فما أنا بمبغض للبقاء ولا كاره للحياة! كلا لا أستنكرها كما ظننت، ولا ألعنها كما توهمت! بل أنا أحتقر من يفعل ذلك أشد الاحتقار. وقد عشت طول حياتي مؤمناً بالله مستسلما لقضائه وقدره، مفوضاً أمري له. يقبض روحي متى اقتضت إرادته ذلك. ولم يمنعني ذلك عن السعي في مناكب الأرض في طلب الرزق. ولكنها تأوه محزون، وكلمة حمقاء سبقت إلى لساني فنطق بها في ساعة يأس، دون أن يتدبر عقلي مغزاها، أو يثبت فكري من معناها!
ثم أطرق الشيخ، وكأنه خجل مما فاه به لسانه من كلمات الخور والضعف فطأطأ رأسه برهة. ولكن (دجينا) قطع صمته عليه حين سأله:
(من الرجل؟) فقال: (أنا لعلع بن دعدع) وكنيتي (أبو شعشع). فخبرني أنت ما بالك منفرداً في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الصحراء الموحشة؟ وما بالك تؤثر العزلة والانفراد في ظلام الليل، كأنما تفر من أبناء جنسك! ولئن صحت فراستي فما أنت بسعيد في حياتك قط) فقال (دجين): (كلا يا صاحبي - فإن السعادة لم تفارق نفسي قط، وما أذكر أنني شعرت بالتعاسة يوما واحداً طول عمري، على كثرة ما أصابني من المحن والمصائب والآلام؛ فإن الحزن والسرور - فيما أرى - يتعاقبان على الإنسان كما يتعاقب عليه الليل والنهار.
ولو أردنا أن نستديم السرور أو الحزن لعجزنا عن ذلك كما يعجز من يحاول أن يستديم الليل أو النهار. ألا ترى كيف تتعاقب علينا الفصول الأربعة في أثناء السنة: فتمر بنا صيفاً يتلوه خريف، وشتاء يتلوه ربيع؟(641/37)
كذلك يتعاقب علينا الحزن والفرح، والانقباض والانبساط، واليأس والرجاء، والشدة والرخاء، والعسر واليسر، والفقر والغنى، والظلمة والنور، والمرض والصحة.
فقال الشيخ: (ما سمعت في كلامي أحسن من حديثك، ولا أحكم من رأيك. ولئن صح ظني ليكونن لك شأن عظيم في حياتك وبعد مماتك. فمن تكون أيها السيد الكريم؟).
فقال: (أنا عبد الله دجين بن ثابت)، وكنيتي: أبو الغصن، ولقبي: جحا).
فقال لعلع: (وما صناعتك؟)
فقال دجين: (كنت بالأمس، تاجراً كبيراً يشار إليه بالبنان، ولكن حريقاً شب في بيتي ومخزني - منذ أيام - أتى على كل أملك من أثاث وبضائع، فلم يبق لي - مما ملكت - كثيراً ولا قليلا، ولقد تداركنا الله بلطفه ورحمته، فسلم كل من في الدار: سلمت زوجي وولدي وابنتي. فشكراً لله على لطفه بنا. ولقد كدنا نهلك جوعا لولا جارتنا الكريمة التي مدت إلينا يد المعونة، وتكفلت بإطعام زوجي وولدي.
أما الجاني الذي أوقد النار في بيتي ومخزني فقد فر، ولم يقف له أحد على أثر:
فقال الشيخ لعلع: (لقد أنستني مصائبك - يا أبا الغصن - كل ما لقيت في حياتي من أحداث والآم. ثم ارتعش جسم الشيخ، فقال وهو يصرف نابه: (كيف تكون الدنيا إذا خلت من أهل المساعدة والعون من كرام المحسنين).
فظن (دجين) أن الشيخ يرتجف مثله ألماً، لالتصاق ثيابهما المبللة بأعضاء جسميهما. وحسبه يستجديه المعونة فقال: (دعنا من حديث الأحزان، فليس منه فائدة، وسينقضي وقت الشدة - إذا صبرنا لها - ثم يعقبها وقت الرخاء، فتنسينا بهجته جميع ما كابدناه من مصائب وآلام، ومتى صبر الإنسان لجهد نازلة أصابته، ووطن نفسه على احتمالها وابتسم للكوارث والنكبات غير هياب ولا وجل، لم تلبث أن تنجلي عنه وينساها كما نسى غيرها من المصائب والآلام. والعاقل هو من يرضى بأحكام القضاء، فلا يستسلم للضعف، واثقا أن لكل شدة مدة ثم ينقضي معها، فإذا صمد لها غلبها وانتصر عليها، ثم صمت قليلا، واستأنف حديثه قائلا: هلم يا أبا شعشع فاتبعني إلى داري فإنك واجد فيها - على ضيقها - مكانا تأوي اليه، وسنحضر لك بعض الحشائش والأعشاب توقدها لتجفف ثيابك المبتلة. فأطرق (لعلع) لحظة، ثم قال لدجين (قبلت ضيافتك، يا أبا الغصن، ولعل الله - سبحانه -(641/38)
يوفقني ذات يوم إلى أداء هذا الدين الجميل إليك).
فقال (دجين): (إن في صنع المعروف لذة يتضاءل أمامها كل جزاء مهما عظم، وتصغر بالقياس إليها كل مكافأة مهما جلت. وحسبي سرورا أن يمكنني الله من القيام بواجب الضيافة، دون نظر إلى جزاء أو شكر.
إن خير ما يكافأ به المحسن - يا سيدي - هو شعوره بأنه أدى واجبه، وفرحه بقدرته على فعل الجميل، وحسب الطيب مكافأة له أنه طيب. هلم فاعتمد ذراعي واتكئ عليها لتساعدك على السير).
فقال (لعلع): (ما أبعد نظرك، وأحكم رأيك، وأصدق نيتك، وأسلم طوبتك! إني لأتنبأ لك بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وسيتولى الله - سبحانه - حمايتك، ويخلد على مر الزمان اسمك وسمعتك، ويسخر لك الإنس والجن لمعاونتك وخدمتك، ويجعلهم طوع مشيئتك، ورهن إشارتك)
ثم مشى كلاهما في ضوء النجوم المتألقة في السماء، يلفهما ظلام الليل، ويؤنسهما نقيق الضفادع، ويحوطهما الله برعايته، ويكلؤهما بعنايته.
كامل كيلاني(641/39)
الحكاية الازلية
للأستاذ ايليا أبو ماضي
(أخرج الأستاذ نجدة فتحي صفوة مدرس اللغة العربية بكلية بغداد، الحلقة الأولى من سلسلة الشعر. المعاصرين التي اعتزم صياغتها، وهي كتاب لطيف الحجم في (ايليا أبو ماضي والحركة الأدبية في المهجر) آلم فيه المامة بليغة، حسنة بأدب إخواننا العرب المهاجرين إلى أمريكا، ونوه بمزاياه وخصائصه، ثم دل على مكانة أبي ماضي منه، وذكر طرفاً من حياة الشاعر وطرفاً من أدبه في أسلوب بليغ وعرض مشوق. وقد ختمه بهذه القصيدة الجديدة لأبي ماضي، كما افتتحه بمقدمة نفيسة للأستاذ رفائيل بطي عميد الصحافة العراقية في وجوب العناية بتراجم المعاصرين وتجيل أخبارهم وآثارهم. والكتاب والمقدمة من خير النماذج لأدب العراق الحديث.
توطئة
كان زمان، لم يزل كائنا ... وحالة، ما برحت باقيه
مل بنو الإنسان أطوارهم ... وبرموا بالسقم والعافيه
فاستصرخوا خالقهم واشتهوا ... لو أنه كونهم ثانيه
وبلغت أصواتهم عرشه ... في ليلة مقمرة صافيه
فقال: أني فاعل ما اشتهوا ... لعل فيه حكمة خافيه
وشاهدوه هابطاً من علٍ ... فاحتشدوا في السهل والرابيه
من القوى الكئيبة العارية ... والمدن الضاحكة الزاهية
تألبوا من كل صوب كما ... تجتمع الأمطار في الساقيه
يسابق الصعلوك رب الغني ... والأبله الباقعة الداهيه
ويدفع الشيخ التوى عوده ... وصار مثل الرمة الباليه
فتى مضى الفجر ولما تزل ... روعته في وجهه باقيه
وتزحم الحسناء ممكورة ... خلابة كالروضة الحاليه
دميمة تشبه في قبحها ... مدينة مهجورة عافيه
فقال رب العرش: ما خطبكم، ... ما بالكم صرخاتكم عاليه؟(641/40)
هل أصبحت أرضكم عاقرا ... أم غارت الأنجم في هاويه؟
أم اقلع الماء فلا جدول ... وماتت الطير فلا شاديه؟
أم فقدت أعينكم نورها ... أم غشيت أرواحكم غاشيه؟
أين الهوى، أن لم يكن قد قضى ... فكل جرح واجد آسيه
الفتى
قال الفتى: يا رب إن الصبا ... مصدر أحزاني وآلامي
البستنيه مونقاً بعدما ... أبلاه أخوالي وأعمامي
وصار في مذهبهم عصره ... فترة زلات وآثام
فاختلفت حالي وحالاتهم ... كأنني في غير أقوامي
وصرت كالجدول في فدفد ... أو شاعر ما بين أصنام
والأخضر المورق في يابس ... أو مثل صاح بين نوام
دنياهم دنياي. . . لكنما ... أعلامهم ليس كأعلامي
عندهم الروضة أشجارها ... والروض عندي الزاهر النامي
والطير لحم ودم عندهم ... وليس عندي غير أنغام
سكري بها أو بالندى والشذي ... وسكرهم بالخمر في الجام
يسخر قلبي بلياليهم ... ويسخر الدهر بأيامي
كأنني جئت لتبكيتهم ... كأنما جاءوا لإيلامي
عبء على نفسي هذا الصبا ... الجائض المستوفز الطامي
يزرع حولي زهرات المنى ... وشوكها في قلبي الدامي
فان. . . له في كل فان هوى ... فان. . . ولا ينجو من الذام
خذه. . . وخذ قلبي وأحلامه ... فإنني أشقى بأحلامي
ومر يمر الدهر في لحظة ... كالطيف. . . أو كالبرق قدامي
وأزرع نجوم الشيب في لمتي ... فينجلي حندس أوهامي
وأبصر الحكمة في ضوئها ... إني إليها جائع ظامي
الشيخ(641/41)
وجاء شيخ حائر واجف ... مشتعل اللمة بالي الإهاب
كأنما زلزلة تحته ... لما به من رعشة واضطراب
فصاح: يا رباه خذ حكمتي ... واردد على عبدك عصر الشباب
إن أماني الروح أزهارها ... وإن روحي اليوم قفر يباب
لا جدول لا بلبل منشد ... بلى بها الوحشة والاكتئاب
تلك الأمانيُّ. . . على كذبها ... لم تكن اللذة فيها كذاب
زالت وما زلت. . . وإن الشقا ... أن تطمس الآي ويبقى الكتاب
وتسلب السرحة أوراقها ... ولم تزل أعراقها في التراب
قيل لها في البحر كل المنى ... فلم تجد في البحر إلا الضباب
كنت غنياً في زمان الصبا ... وكنت صفر الكف صفر الوطاب
صحوت من جهلي فأبصرتني ... كأنني سفينة في العباب
نأت عن الشط ولم تقترب ... شبراً من السر الذي في الحجاب
ولو ترجى أوبة لا شتفت ... لكنما عز عليها الإياب
مرتقف الأيام عن سيرها ... فإنها تركض مثل السحاب
وضع أمامي لا ورائي المنى ... وطول الدرب وزد في الصعاب
ما لذتي بالماء أروي به ... بل لذتي في العد وخلف السراب
الحسناء
وقالت الحسناء: يا خالقي ... وهبتني الحسن فأشقيتني
وجهي سني مشرق إنما ... مرعى عيون الخلق وجهي السنى
حظي منه حظ ورد الربى ... من عطره الفواح والسوسن
ومثل حظ السرو من فيئه ... والطير من تغريدها المتقن
ومثل حظ النجم من نوره ... في الحندس المعتكر الأدجن
للقائل للفيء. . . وللسامع ... التغريد. . . والزهرة للمجتني
والنور لمدلج والمجتلي ... والدر للغائص والمجتني(641/42)
كم ريبة دبت إلى مضجعي ... مع الجمال الرائع الممكن
إن عشقت لنفسي فويل لها ... والويل لي إن رجل حبني
السم والشوك وجمر الغضا ... أهون من كاشحة الألسن
كم تقنفيني نظرات الحنا ... ويلي من خائنة الأعين
لم يبق في روحي من موضع ... يأرب لم يخدش ولم يطعن
إن الغنى في الوجه لي آفة ... فليت أني دمية ليتني
الجارية
وسكتت. . . فصاحت الجارية ... باكية من بؤسها شاكيه:
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي ... فهل أنا المجرمة الجانية؟
إن أخطأ الخزاف في جبله الـ ... طين، فأي الذنب للآنيه؟
أليس من يسخر بي يزدري ... بالقوة الموجدة الباريه؟
لو كنت حسناء بلغت العلى ... فللجمال الرتبة العاليه
وبات من أسجد قدامه ... صاغرة يسجد قداميه
فإنني في ملأ ظالم ... أحكامه جائرة قاسيه
ليس لذات القبح من غافر ... وفيه من يغفر للزانيه. . .
نفسي جزء منك يا خالقي ... وإنها عاقلة راقية
أليس ظلما وهي بنت العلى ... أن تك بالقبح إذن كاسيه؟
فليكن الحسن رداء لها ... ترفل به أو فلتكن عارية
الصعلوك
وأقبل الصعلوك مسترحما ... في مقلتيه شبح اليأس
يصرخ يا رباه حتى متى ... تحكم الموسن في نفسي
وتضع التاج على رأسه ... وتضع الشوك على رأسي
ويشرب اللذات من كأسه ... وأجرع الغصات - من كأسي
وتنجلي النجوم في ليله ... ضاحكة كالغيد في عرس(641/43)
ويتواري في نهاري السنا ... أو يتبدى خالق الشمس
يا رب لا تنقله عن أنسه ... ولكن انقلني إلى الأنس
فإن تشأ ألا يذوق الهنا ... قلبي فجردني من الحس
لو لم يكن غيري في غبطة ... ما شعرت روحي بالبؤس
الغني
وقال ذو الثروة: ما أشتهي ... لا أشتهي أني ذو ثروة
أنفقت أيامي على جمعها ... وخلتني أدركت أمنيتي
فاستعبدتني في زمان الصبا ... وأوقرت بالهم شيخوختي
قد ملكتني قبلما حزتها ... وملكتني وهي في حوزتي
كنحلة أمسكها شهدها ... من الجناحين فلم تفلت
حسبتها تكسبني قوة ... فافترست قوتها قوتي
جنت على نفسي وأحلامها ... جناية الشوك على الوردة
ينمو فتذوي فهي عليقة ... يحذرها الطائف بالروضة
من قائل عني لمن خالني ... امرح من دنياي في جنة
لا تنظر الأضواء في حجرتي ... وانظر إلى الظلماء في مهجتي
ولا يغرنك قصري فما ... قصري سوى سجن لحريتي
إني في الصرح الرفيع الذرى ... كطائر - في قفص - ميت
كم في عباب البحر من سابح ... قد مات ظمآن إلى قطرة
موت الطوى شر ولكنما ... أفظع منه الموت بالتخمة
إن سهر العاشق من لوعة ... أو سهر المحزون من كربة
فالشوق كالحزن له آخر ... وينقضي في آخر المدة
أما أنا فقلقي دائم ... ما دمت في مالي وفي فضتي
والخوف من كارثة لم تقع ... أمض من كارثة حلت
كم من فقير مر بي ضاحكا ... كأنما يسخر من غصتي
رأيته بالأمس من كوتي ... فخلتني أنظر من هوة(641/44)
وكنت كالحوت رأى موجة ... ضاحكة ترقص كالطفلة
أو حية تدب في منجم ... ترنو إلى فراشة حرة
قد اختفت ذاتي في بردتي ... فما يرى الخلق سوى بردتي
فهم إذا ما سلموا سلموا ... على خيوط البرد والجبة
رباه أطلق من عقال الغني ... روحي فإني منه في محنتي
وانزع مع الدينار من قبضتي ... صلابة الدينار من سحنتي
وحول المال إلى راحة ... وحول القصر إلى خيمة
الأبله
وصرخ الأبله مستفسراً ... ما القصد من خلقي كذا والمراد؟
ألم يكن يكمل هذا الورى ... إلا إذا أوجدتني في فساد؟
لي صورة الناس وحاجاتهم ... من مطعم أو مشرب أو رقاد
لكن لبي غير ألبابهم ... فإنه مكتنف بالسواد
يعجزني إدراك ما أدركوا ... كأن عقلي فحمة أو رماد
إن كنت إنسانا فلم يا ترى ... لست بإدراكي كباقي العباد؟
أو لم أكن منهم فمرني أكن ... جرادة أو أرنبا أو جواد،
فالند لا يعدم من نده ... ذريعة للسلم أو للجهاد
لا تسخر النملة من نملة ... وليس يزري بالقراد القراد
أم أنت كالعقل على رغمه ... ينمو مع الحنطة فيه القتاد
الباقعة
وجاء بعد الأبله المستريب ... الألمعي العبقري اللبيب
فقال: إني تائه حائر ... أنا غريب في مكان غريب
أبحث عن نفسي فلا أهتدي ... وليس يهديني إليها أريب
أنا عليم حيث لا عالم ... أنا لبيب عند غير اللبيب
لو أنني كنت بلا فطنة ... سرت ولم تكثر أمامي الدروب(641/45)
وكان عقلي كعقول الورى ... وكان قلبي مثل باقي القلوب
وصار عندي كالنجوم الورى ... فلا عدو فيهم أو حبيب
ولم أجد في ضحكهم والبكا ... شيئاً سوى الضحك وغير النحيب
اسائل كوكباً طالعاً ... لماذا تبدو، ولماذا تغيب؟
ولم أقف في الروض عند الضحى ... يذهلني لون وشكل وطيب
ولم أقل ما كنت من قبلما ... كنت، ولا ما في سجل الغيوب،
ما العقل يا رب سوى محنة ... لولاه لم تكتب علي الذنوب
الخاتمة
لما وعى الله شكايا الورى ... قال لهم: كونوا كما تشتهون
فاستبشر الشيخ وسر الفتى ... والكاعب الحسناء والحيزبون
لكنهم لما اضمحل الدجى ... لم يجدوا غير الذي كانا
هم حددوا القبح فكان الجمال ... وعرفوا الخير فكانا الطلاح
وليس من نقص ولا من كمال ... فالشوك في التحقيق مثل الأقاح
وذرة الرمل ككل الجبال ... وكالذي عز الذي هانا
إيليا أبو ماضي(641/46)
البريد الأدبي
رأي عظيم في (دفاع عن البلاغة):
(أرسل إلينا حجة الفقهاء وعمدة القضاة الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا رأيه في (دفاع عن البلاغة) نسجله شاكرين في (الرسالة) إجلالا لتنويهه واعتزازاً بتوجيهه):
تفضلت فأهديت إلي كتابك القيم (دفاع عن البلاغة) فقرات نصفه في مجلس واحد، ثم قرأت نصفه الآخر في صباح اليوم التالي، وخرجت من قراءة هذا الكتاب الممتع بأن دراسته لا تصلح للمبتدئين ولا لأنصاف المتعلمين، لأنه مقارنة قوية لبلاغة العربية ببلاغات اليونانية وللاتينية والفرنسية وغيرها؛ ودراسة هذه المقارنة إنما تصلح للمتخصصين في علوم العربية، ويسرني أن أسمع يوما أن إدارتي جامعتينا قد قررتا تدريس هذا الكتاب لطلاب التخصص في اللغة العربية؛ فإنهم بالمقارنة بين ما قاله علماؤنا وبين ما قاله العلماء الأجانب قديما وحديثا يستطيعون أن يحددوا مركز علمائنا السامي بين رجال البلاغة في كل بلد، وأنت سيد العارفين بأن هذه المقارنة تفتق الأذهان وتوسع الآفاق؛ وهي خطوة لابد منها لشرقنا حتى يستطيع الناقص أن يتم، والتام أن يكمل، والكامل أن يكون على بينة من كماله.
وكتابك هذا باكورة خير ظهر معها كتاب آخر أطلعني بعضهم عليه وهو كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد فطب الذي ينم عن تحرر في العقل لم يتفق أن سمعنا بمثله من قبل. وكتابك وكتابه كوكبان يضيئان الأفق لمن يتلهف مثلي على الرؤية في وضح النهار.
عبد العزيز فهمي
التاريخ القومي في المدرسة الابتدائية
وزعت وزارة المعارف جدول الدراسة في المدارس الابتدائية هذا العام على أساس ست وثلاثين حصة بدلاً من تسع وثلاثين.
ولا يعنينا أمر هذا العدد في ذاته، ولكن الذي يعنينا أمره كثيراً هو أن الوزارة قد حذفت - فيما حذفت - حصة التاريخ الوحيدة التي كان يتلقاها تلاميذ السنة الثانية في كل أسبوع.(641/47)
وقد كان موضوع هذه الحصة قصصاً عن حياة قدماء المصريين وبعض الفراعنة المشهورين مثل بناة الأهرام وامنحعت وحتشبسوت. . . الخ.
وكانت هذه القصص على ضآلتها وتفككها هي الخيط الوحيد الذي يربط التلاميذ بتاريخهم القومي العظيم، والصورة الوحيدة التي تعرض عليهم من عصر كان أزهى العصور في تاريخ العالم كله يوماً من الأيام.
فاليوم تريد وزارة المعارف أن تقطع هذا الخيط الضئيل وتطمس تلك الصورة الباهتة: وكان واجبها يقتضي أن تقوي كل ما يربط التلميذ بقوميته وأن تؤكده توكيداً وتلح على التلاميذ في استيعابه بأن تخلق له الفرص خلقاً في كل درس وفي كل مناسبة؛ لا أن تلغي الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة للتلاميذ.
وقد كان للوزارة مندوحة عن إلغاء هذه الحصة فلديها وفر من حصص اللغة الإنجليزية التي ألغتها مشكورة لتوفر على التلاميذ الجهد وتتيح لهم الفرصة ليتعرفوا على لغتهم القومية وكيانهم القومي!
أجل! ما كان أجدر رجال التعليم أن يستغلوا بعض هذه الحصص الزائدة في تقوية الروابط التي تربط التلاميذ بوطنهم وقوميتهم وتنمية البذرة التي تنشئ في المستقبل جيلا معتزا بوطنه حريصا على وجوده.
وبدل أن تحول اثنتان من هذه الحصص الزائدة إلى (قصص) عام لا هدف له، كان الأولى أن تكون هاتان الحصتان أو إحداهما على الأقل قصصاً قومياً يهدف إلى غاية وطنية نبيلة. وخاصة حين نعلم أن الوزارة تنوي - في النظام الجديد - أن تجعل السنة الثانية الابتدائية نهاية لمرحلة تعليمية. فلا يجوز أن تنهي تلك المرحلة دون أن يعرف التلميذ فيها شيئا عن أحد المقومات الضرورية لشخصيته.
ولا أحسب أن حذف هذه الحصة أمر مقصود لذاته وإنما هي ضربة من ضربات (المقص) جاءت على غير هدى!
ولكني أرجو وزارة المعارف أن توازن جداولها على حساب أي شيء إلا الكيان القومي للتلاميذ.
محمد القطب(641/48)
بين الأستاذين قطب وخلاف:
نشرت مجلة (الرسالة) الغراء في أعدادها السابقة مناقشات علمية طيبة في موضوع على جانب كبير من الخطورة والإجلال، هو موضوع إعجاز القرآن بين الأستاذين الفاضلين خلاف وقطب
- وكنت متتبعاً باهتمام بالغ ما كتب الأستاذان، غير أني لحظت أموراً فيما كتبا. ذلك أن كلا منها قرر حقاً لا مراء فيه سوف أنبه إليه والعجب أن كليهما أخذ على صاحبه ذلك الحق ومارى فيه، دون مبرر لذلك إلا شدة الحرص على الرأي الفردي من غير نظر أو اعتبار لرأي الآخر؛ وهذا إسراف منهما.
1 - الأستاذ سيد قطب يقرر في كتابه أن (التصوير الفني) جانب كبير اعتمد عليه القرآن الكريم فيما ساق من وجوه الاستدلال في بيان أن ديكتاتورية الأولين من الشعوب الغابرة - لم يكن نصيبها إلا الانهيار، فهذا القصص البارع في معرض العظة والاعتبار بمن غبر من الأمم، وهذا الحوار التمثيلي الذي دار بين الحضر وموسى في سورة الكهف، والذي ساقه الله بين موسى وفرعون في سورة الشعراء؛ كل أولئك تصوير فني بارع معجز لأمراء البيان في جميع العصور الغابرة (ماضية أو آتية)؛ وإذن فهذا وجه آخر من وجوه إعجاز القرآن دون ريب، يضاف هذا الوجه الذي زاده الأستاذ سيد إلى وجوه الإعجاز الأخرى التي دونها العلماء - وهذا سداد في الرأي وتوفيق نهنئه عليه.
أنكر الأستاذ خلاف أن يكون التصوير الفني وجهاً غالباً من وجوه الإعجاز - واحتج لذلك بقوله لأنه (أي الربط بين التصوير وسر الإعجاز) يفسر إعجاز القرآن بأمور في مستوى الصنعة البشرية). فالتصوير الفني في نظر الأستاذ خلاف سبيل مألوفة للأدباء من البشر، وأسلوب من أساليبهم من الممكن أن يسلكوه وهنا كما يقول الأستاذ الخطر كل الخطر، ثم راح الأستاذ خلاف يؤيد إنكاره بكلمة للأستاذ العقاد رداً على الأديب الفذ المرحوم الرافعي قال (وإنما الأساس فيها المعجزة، والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة)
والأستاذ خلاف في هذا الإنكار مسرف، مجانب للحق والصواب - فليس ثمت خطورة كما يقول بل الأمر الذي أدرك منه خطورة، وهو كون التصوير الفني طريقاً مألوفة للبشر -(641/49)
والفصحاء العرب وأبنائهم أن يستخدموه في مستوى رفيع فيه الوحدة والتناظر) أقول هذا الأمر الذي خشيه هو الشرط الأساسي في الإعجاز - وذلك أن القرآن نفسه جاء من جنس كلام العرب. ومن لغتهم وعلى طرق من القول صرفها لهم، وطائفة من الأمثال ضربها فيهم، ومن المقطوع به البتة أنهم كانوا يعلمون هذه الطرائق التي سار فيها القرآن لغة ومعنى وأسلوباً وخيالا ولو من طريق الإجمال - أو قل على حد تعبير المناطقة إنهم كانوا يعلمون هذا بالقوة، ولكنهم لا يعلمون، هذا بالفعل، ولعل هذا ما جعل النظام يرى أن العرب أو الناس صرفوا عن الإتيان بمثله ومن هذا يبين ويضح أن القرآن في إعجازه البشر وتحديه سلك طرائق مألوفة معهودة لهم. وهذا ضروري حتى يكون التحدي، وحتى يكون الإعجاز، إذ لا معنى في أن أتحداك أو أعجزك في لغة أو شيء ما لا تعرفه، بل يجب أن يكون موضوع التحدي والإعجاز مألوفاً معروفاً لك حتى يتم معنى الإعجاز والتحدي؛ وإذن فلا ضير ولا خطر أن يكون التصوير الفني في مستوى الصنعة البشرية ثم هو بعد وجه من وجوه الإعجاز على هذا النحو المبتدع الذي نحاة القرآن - بل هو غاية في الإعجاز وحماداه.
أقول وإذا كان التحدي من طريق ممكنة معهودة للمخاطبين كان أدخل، وأمعن، وأبلغ في باب الإعجاز.
وإذا كانت المعجزة يجب أن تخرق النواميس الطبيعية، وأن تشذ عن السنن المطردة في حوادث الكون كما يذكر الأستاذ العقاد - فهذا المعنى موجود ملحوظ في الأمور التي يتحدى للأعجاز كهذا الذي نحن بسبيله - فالشذوذ هنا والخرق لناموس الطبيعة أنهم عجزوا من حيث لا ينبغي أن يعجزوا.
2 - يرى القارئ الفاضل مما تقدم أنني انتصرت للأستاذ قطب - وأعود الآن فأنتصر للأستاذ خلاف في البيان الذي سلكه في الآيات الكريمة: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون. . . الخ آيات سورة الأنبياء التي جاءت في هذا المعرض فإن الأستاذ الفاضل نهج في تحليلها نهجاً لم يسبقه إليه أحد من المفسرين. ذلك أنه حلل الآيات إلى مقاطع وجمل محدودة - كل مقطع فيه استدلال خاص - قد استوفت فيه الآيات أنواع الاستدلالات المنطقية والوجدانية - ولم تترك مؤثراً يؤثر في الفعل والعاطفة إلا تناولته، لو كان هؤلاء(641/50)
يعقلون. ومن الإسراف والشطط ألا يقر الأستاذ قطب هذا التفسير العلمي الحديث، فما لا ريب فيه أن القرآن سلك في طرائق الاستدلال صوراً من المنطق فطرية سهلة تتناسب والعقلية العربية يومئذ.
(الإسكندرية)
أحمد الامبابي
مدرس بالليسيه فرانسيه
اليهود والعرب:
تطالعنا الصحف كل يوم بما يقوم به اليهود من أعمال العنف لجعل فلسطين وطناً قومياً لهم، وقد وصلوا في ذلك إلى حد لا يقره تاريخهم الذليل، ولعل من أعجب ما قرأت في هذا الشأن ما نشرته بعض الصحف من أن عدداً كبيراً من اليهود اجتمعوا في جنوب إيطاليا، وهم مصممون على دخول فلسطين
وقد لفتت هذه الجملة الأخيرة نظري، ورجعت بفكري إلى عهد بعيد يوم ضاعت جهود النبي الكريم موسى بن عراد سدى في حمل بني إسرائيل على دخول الأرض المقدسة
ذكرت ما قصه علينا القرآن الكريم في هذا الشأن، وما سجله عليهم من الخزي والضعف والجبن، وكيف أنهم خافوا من سكانها الجبابرة وقطعوا على أنفسهم عهداً مؤكداً أنهم لن يدخلوها ما داموا فيها: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا: يا موسى، إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها، فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين؛ قالوا: يا موسى، إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون). وكتب الله عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله
ثم ذكرت مواقف البطولة التي وقفها أجدادنا العرب مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فآزروه ونصروه وما وهنوا في موقف من المواقف وما ضعفوا وما استكانوا، وكيف أنهم(641/51)
وهبوا لدعوته أنفسهم فكانوا يقولون له: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولا نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون. ولكننا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، إننا معكما مقاتلون!
ذكرت هذا وذكرت ذاك، فأيقنت أن الفوز للعرب، وأن اليهود سيجبنون كما جبن آباؤهم من قبل، فإن دماء الآباء لا تزال تجري في عروق الأبناء. . .!
علي محمد حسن
مدرس بالمعهد الأزهري
حول شعر حافظ الضائع
قرأت بالعدد الماضي كلمة للأديب عبد القادر محمود عن شعر حافظ الضائع، التي أثبتها في الرسالة صوناً لها من الضياع، ولكن هذه الأبيات السبعة، نشرها الأستاذ حسين المهدي الغنام ضمن مقالات له عن حافظ إبراهيم، في جريدة كوكب الشرق، وهذه الأبيات بالذات نشرت في أحد أعداد شهر يونيو سنة 1933، مع قصيدة أخرى طويلة من نفس البحر والروى.
والقصيدة الثانية، والأبيات السبعة التي ذكرها الأديب عبد القادر، موجودتان كذلك في كتاب الأستاذ الغنام عن حافظ إبراهيم في الصفحات 55 - 57. وهذا الكتاب صدر بالإسكندرية سنة 1935.
فهذه الأبيات وإن لم تجمع في ديوان حافظ، لم تضع. وقد نشر الأستاذ حسين غنام في كتابه كثيراً من شعر حافظ لا تجده في جزئي ديوانه.
عوض الله فوزي اسكندر
من السيدة وداد سكاكيني إلى الأستاذ وديع فلسطين:
حضرة الأديب الفاضل:
بعد التحية. تلقيت (مسرحيتك) القيمة بسرور وإعجاب، وقرأتها متملية بدقة تعبيرك وبراعة ترجمتك، وقلت: هذا أول قطرك فكيف بغيثك؟(641/52)
أرجو أن يكون لك في دنيا الأدب منزلة تليق بنبوغك، فإن فتى بيني أدبه كما تبني خليق بالمجد والإكبار.
وتقبل تهنئتي الخالصة بباكورة آثارك مقرونة بتحيتي وشكري وإعجابي.
المخلصة
وداد سكاكيني
تصويب:
إني برغم جزعي من (التطبيع). ورجائي كلما بعثت بمقالة مقابلتها على الأصل، حتى كاد ذلك الرجاء يكون روسماً (كليشيه) دائما، فقد وقع في مقالتي (الموسيقي العاشق) في العدد (639) من الرسالة، هنات، هذا تصويبها، وإن تكن هينات:
ص ع س خطأ صواب
57 1 2 2 رحبته رحبة
58 1 1 5 تعلم تعليم
1 19 أهدابها - لونها أهدابهما - لونهما
59 1 1 12 لا أحب الذكرى لا أحب أن أهيج الذكرى
2 1 غبتّ غبتُ
أما الذين ذهبوا يسألون عن (ش) بك هذا، ويفتشون عن داره. . . هل حسبوني أكتب تاريخاً؟ إنما هي قصة. . .
علي الطنطاوي(641/53)
الكتب
1 - خان الخليلي
للأستاذ نجيب محفوظ
2 - سعد بن أبي وقاص
(للأستاذ عبد الحميد جودة السحار)
للأستاذ وديع فلسطين
- 1 -
الأستاذ نجيب محفوظ - كما يعرفه قراء (الرسالة) الزاهرة - شاب أوتى خيالاً خصباً، وعيناً نافذة، وقلماً طيعاً، ومداداً وفيراً، فسخر هذه جميعاً في كتابة القصة وتصوير الحياة الواقعية بما تنطوي عليه من نزعات متضاربات.
ومن أحدث ما جاد به قلم الفتى كتاب (خان الخليلي) الذي أصابه فيه توفيق كبير. وقد نهج في كتابة قصته الضافية الذيول النهج الذي ألتزمه الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (إبراهيم الكاتب). فالكتاب مقسم إلى خمسين فصلا، كل منها صورة أحسن رسمها، فلم تغب في إحداها خفقة قلب أو طرفة عين أو حركة لسان أو بسمة شفتين أو زفرة نفس، لأن الأستاذ محفوظ سكب نفسه في كتابة كل منها سكباً، وعاش في روايته فعرف شخوصها معرفة قرب، وزامل أفرادها ففهم كلا منهم على حقيقته وأدرك ما انطوت عليه نفسه وما أسفر تعنه مظاهره. وربط بين فصولها بإحكام حتى لا ينفلت أحدها من القلادة المتعددة الحلقات التي وصلت بينها وأخرجت من مجموعها صور نابضة بالحياة تنطق صريحة سافرة بأحوال حي من أحياء القاهرة القديمة يتردد عليه الأجانب للمتعة والمصريون للتبرك (بالحسين).
إنها قصة عائلة مصرية متوسطة، فزعت من الغارات الجوية فانتقلت إلى حي خان الخليلي وأمضت فيه دورة كاملة من دورات الأرض حول الشمس، شهد أفرداها فيها عجباً. فالابن الكبير - أحمد عاكف - الذي كان يركن إلى مكتبته يقلب كتبها ويدرب نفسه عبثاً(641/54)
على درسها وهضمها؛ طابت له عشرة أهل الحي والسهر معهم في قهوة الزهرة، وخفق قلبه للحب وهو بعد كهل في الأربعين، ولكن المقادير شاءت ألا ينعم بالفتاة التي يهوى والأليف الذي أستحوذ على عواطفه وملك جنانه. ورشدي - الابن الأصغر - شاب حديث العهد بالتخرج في الجامعة ينقاد وراء دوافع بدنه فيغترف من اللذاذات غير عابئ بصحته التي ناءت بهذا الحمل وأخذت تتهالك تحت الضغط الشديد الذي يفرضه عليها. ولم يكتف بالحب الآثم، بل سولت له نفسه الفتية أن يسطو على الفتاة التي كادت أن تصبح من نصيب أخيه أحمد، ولكنه ظل سادراً في غيه، سائراً في طرق ضلاله، فأصيب بداء الدرن الرئوي وقضى نحبه - وهو الشاب المرح المفعم بالنشاط الدائب الحركة - ولم يستطع أبواه أو أخوه، ولم يفلح الطب أن يحفظ زهرة حياته التي ما شرعت تتفتح حتى قطفت من كمها وطمرت بين أطباق الثرى.
والقصة التي دبجها الأستاذ نجيب محفوظ تمتاز بميزتين عدا مزية الرواية نفسها. ففيها وصف رائع لليالي رمضان في حي خان الخليلي، وفيها وصف للغارات الجوية التي تعرضت لها قاهرة المعز من ثلاثة أعوام، وهي حقبة من الزمن لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الغابر، وعسى أن لا تكرر في ما يجئ من السنين. والمؤلف قدير على جلو المعاني، خبير بخوالج النفس، استطاع أن يجعل من كتابه تزاوجاً بين السخرية والتهكم من ناحية، والجد من ناحية أخرى. وجمع بين اللهو والمزاج والعبرة والدروس. وهو في هذا وذاك لا يخلو من فكاهة مستملحة ودعابة طريفة.
إنها الحياة في (خان الخليلي) كما هي بلا (رتوش).
- 2 -
أصدر الأستاذ عبد الحميد جودة السحار كتاباً مترع الفصول عن (سعد بن أبي وقاص وأبطال القادسية) تتبع فيه سعداً منذ ما كان حدثاً يبرى النبل حتى انطلقت روحه إلى بارئها وقد أشرفت على الثمانين أو نحوها.
سيرة رجل كفاح ورجل حرب، قاد جيوش المسلمين في معارك طاحنة فدمر الأعداء، ودخل إيوان كسرى دخول المظفر المنتصر بعدما هزم مملكة الفرس وأنزل بها أقسى الدمار. واستطاع سعد أن يتصدى لجيوش قوية بعضها معزز بعدد من الفيلة الضخمة،(641/55)
وبعضها تتقدمه الأسود الضاريات، غير أنه ما تهيب ولا جزع، بل هجم عليها وبددها، فسرت روح الهزيمة والهلع بين جنود العدو وردوا على أعقابهم مخذولين.
وسعد علاوة على ذلك ابن بار بوالدته مخلص لدينه الجديد. وعلى الرغم من أمه لم ترض له الخروج على دين آبائه وأجداده وهددته بالصوم عن الطعام إذا أوغل في (غيّه) وتبع الدين الجديد، إلا أنه استطاع بلباقة وحصافة أن ينتزع من بين حنايا أمه غضبها، ويوفق بين شئون الدين والدنيا.
ثم هو صديق صدوق، لطيف المعشر، يوثق به ويعتمد عليه. شجاع لا يهاب القوة، ولا يخشى الضيم، سبّاق إلى المكرمات، عدّاء في ميادين البطولة، لا تلين له قناة ولا يفتر له عزم أو يصد عن قرار اتخذه. وفيّ لخلانه وصحبه حتى إنه نهر معاوية لأنه شرع يسب علياً، وأقسم يميناً مغلظة ألا يدخل داره مدى الحياة.
هذه الشخصية الفذة التي شهدت مولد الإسلام وعاصرت فتوته وأرست دعائمه وساهمت في نشر رسالته في بلدان شتى، وهذا البطل المقدام الذي رضى طوعاً بالجهاد والنضال والصراع والتشريد والتجريح والتعرض للأخطار، وهذا المؤمن الذي لم يدخر وسعاً في البدن أو المال أو الوقت إلا أوقفه على خدمة دينه، جدير ولا ريب بأن تسرد سيرته مفصلة، وتنشر في أسلوب عربي بليغ وإحكام روائي صادق، وتبويب زمني مرتب، على أحفاد العرب الأولين.
وقد بلغ الأستاذ عبد الحميد السحار القمة في تبيان مناحي شخصيته الفريدة ووصف ميادين الوغى وأساليب القتال ومصارع الرجال. وفي ختام كتابه أورد السحار خلاصة وافية لحياة سعد ابن أبي وقاص عرضت في ذهن الشيخ سعد كما يعرض الشريط السينمي على الشاشة البيضاء، فأغمض عينيه وقد اكتحلتا بنشوة الماضي وذكريات الشباب وأحداث الصبي وجد الظفر
(وانبهرت أنفاسه وخرج نفس ما عاد غيره، فقضى سعد نحبه في قصره بالعقيق على مسيرة عشرة أميال من المدينة. ولما بلغ أهل المدينة خبر موته، انطلق الرجال إلى داره وجهزوه. . . وتوجهوا إلى البقيع ليقبروا آخر أهل الشورى ودمعهم جار وحزنهم عميق).
وديع فلسطين(641/56)
العدد 642 - بتاريخ: 22 - 10 - 1945(/)
بركة (الإمام). . .!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومئذ مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام - للبكالوريا والكفاءة - وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقباً أو ملاحظاً في إحداها، وكان أخي طالباً، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان.
واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريبٍ لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير. . .
وألفيت في بيت قريبنا هذا نفراً من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي - بلبل زمانه - ونحن نأبى كل الإباء أن نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.
وجاء - قبل الطعام - رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطاناً وطربوشاً مثل طرابيشنا نحن (الأفندية)، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكانت له معرفة ببعض الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة - قهوة البن - فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله: (معك خلطة؟)
ولم أكن أعرف ما (الخلطة) يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك. . . ولا أدري ماذا أيضاً، قطرات منها تطيب بها القهوة؛ فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره. . .
وكنا جلوساً على الحشايا والوسائد فوق السجادة على الخضرة، فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتاً ثقيلا - أو هكذا خيل إلي -(642/1)
فأرقت ما بقي من الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي:
(ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟)
ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضاً، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائماً، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك، على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبقى عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه (الخلطة)، ليس إلا نوعاً من المخدرات (كالمنزول)، فآليت لأخنقه قبل أن أموت! وهممت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن - لا أدري - فما أخذته عيني بعد ذلك!
وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه (الخلطة) فلم أنتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكني كنت لا أرى شيئاً واضحاً، وكان (قوس) الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني. فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو أشر منى حالا، سوى أنهم أقوى أجساماً أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه (الخلطة) فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت!
ودعوت أحدهم - وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ - أن يذهب بي إلى داره، وأن يبعث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقى حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، وتبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئني (بخلطة) أخرى: سكر وخل. . . فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج، فقد اضطربت نفسي ورميت ما فيها يتبع بعضه بعضاً،(642/2)
حتى خفت أن لا ينقطع.
ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر، قمت إلى بيت صهري لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، ولأضمن أن لا يتخلف أخي عن امتحانه، وخلعت ثيابي لأستريح قليلا.
وإذا بي أرى أخي كالمجنون يصيح بكلام غير مفهوم، وكان رأسي لا يزال ثقيلا مما مر بي في ليلتي، فسألته عن الخبر، فإذا هو معذور، ذلك أن خادماً في بيت صهري سرق سترته وحذاءه، وسرق بنطلوني وطربوشي، فصار من المستحيل علينا أن نخرج من البيت، فما لنا فيه ثياب أخرى، ولا جئنا إلا بما على أبداننا فما العمل؟ لقد ذهب اللص بثيابنا، وكأنما تعمد أن يسرق منها ما يكفي لمنعنا من الخروج. وكيف بالله يخرج أخي بغير سترة وحذاء؟ وكيف أخرج بغير بنطلون وطربوش؟
وأضحكني هذا، فإنه أشبه بالنكتة، أو بما يسميه العامة (المقلب).
ولم يبق إلا أن نحاول أن نستعير من بعض الجيران ثياباً نعود فيها إلى بيتنا، وهناك نستطيع أن نرتدي غيرها، ويذهب كل منا في سبيله.
وفعلنا بعد عناء، فقد كان الناس نياما بعد طول السهر، فأزعجناهم وكلفناهم شططاً، ولكن المضطر يركب الصعب.
وقد نسيت أن أقول إن بيت صهري كان على (تخوم العالمين) وعلى مقربة من مسجد الإمام الليث بن سعد، فارتدينا الثياب المستعارة، وتوكلنا على الله، ومررنا بالمسجد، ووقف أخي يقرأ الفاتحة، لعلها تنفعه في (الامتحان) ببركتها، وكنت أنا مغيظاً محنقاً، فلم يخطر لي أن أقرأ لا الفاتحة ولا سواها، وإني لأتلفت وإذا بالخادم قاعد على باب المسجد. ولم أعرفه في أول الأمر، لأنه كان في ثياب غير معهودة نكرته في عيني - ثيابنا المسروقة. فلما استثبت جذبته من ذراعه فنهض، وعدنا به إلى البيت، ونزعنا ما عليه من أشيائنا، ثم سألناه: فاعترف أنه سرق - وهل كان ينقصنا أن يعترف؟ - وقال: إنه لما بلغ المسجد أحس أنه مقيد، وألفى نفسه يجلس على الباب، ولم يستطع بعد ذلك أن يبرح مكانه!
فقال كل من سمع هذه القصة إنها بركة الإمام؛ وقلت أنا في سري: لعل هذا هكذا، فما أدري، ولكني أحسب أن إيمان هذا الخادم بما لأولياء الله الصالحين من البركة والسر، قد فعل فعله، وكان له أثره حين مر بالمسجد، فاضطرب وارتبك، ولزم مجلسه حائراً، وكبر(642/3)