على مهجتي، ماضٍ عدتْني ظلالُه ... وضار حصيداً بين فأسٍ وحاطب
حنينٌ كدَفْق الموج يسري بخاطري ... فمن نازعٍ منه عنيفٍ، وسارب!
وأصبحتُ كالطير الغريب مفزَّعاً ... على فننٍ باكي العشيَّات، ناحبِ
فيا منهلاً عذباً وردتُ على الصبا ... أنيقاً كوجهِ الرَّوض تحت السحائب!
سلامٌ على عهدي بواديكَ إنه ... هو الزَّاد، في عهد النوى. . . والنوائب
ويا غربتي نوحي عليَّ وطرِّبيِ ... كرجفةِ غابٍ في السَّوافي الحواصب
وهبِّي على عمري، وسوقي زمانهُ ... وذَرّيهِ في أفق، على السفح غارب
فلا خير في عُمْريْن، ذكرهما أسىً فمن بين مجهول، وآخرَ ذاهبِ
وحسبُك أن تأسى على ما عَرَفْتَهُ ... وتجْزَعَ من مُستحدث في العواقب(617/47)
البريد الأدبي
إلى خلفاء جلفر والسندباد!
تلقينا من بريد بيروت هذا الكتاب العجيب ونصه:
حضرة الفاضل مدير مجلة الرسالة الغراء:
في العالم اليوم موجة جارفة نحو المادة التي يتهالك في سبيلها البشر، وتتكالب عليها الجماعات والأفراد في مشارق الأرض ومغاربها.
ومنذ سنوات ونحن نراقب ما جرته الحروب من ويلات وخطوب، فآلمتنا هذه المطامع الدنيوية والرغبات الأرضية التي مازالت تزدحم في صدر الإنسان منذ كان الإنسان حتى الآن، على رغم ما توالى على البشرية من شرائع وأديان.
فنحن أتباع الدكتور داهش بعد أن درسنا هذه الشؤون من جميع نواحيها، ورأينا على أي خبث ولؤم تنطوي روح الإنسان، وبعد أن عقدنا النية على الاتجاه نحو المثل العليا والسير بموجب التعاليم السماوية المنزلة، ولاحظنا صعوبة تطبيقها في المجتمع الموبوء الذي يحيط بنا، وبعد أن شاهدنا من الناس اضطهاداً رهيباً لمنعنا من نشر أفكارنا الحقة واعتناق مذهبنا بحرية، فقد وطدنا النية على مغادرة لبنان في أول فرصة مواتية، والهجرة إلى جزيرة نائية، نعيش فيها أحراراً ونتمتع فيها بالحق المقدس المعطى لكل إنسان أن يفكر ويدين كما يشاء.
فهل لكم أن ترشدونا على صفحات مجلتكم إلى جزيرة متوسطة الموقع، جيدة المناخ، ذات مياه غزيرة وهواء نقي؟ ولا ريب أن الصحيفة التي ستهدينا قبل سواها إلى مثل هذه الجزيرة نعاهدها منذ الآن بأننا نبقى على اتصال معها، فنوافيها بأهم الأنباء التي تتعلق بكيفية عيشنا هناك وباختباراتنا وبأطرف ما تجود به قرائحنا في تلك الوحدة الوادعة، خصوصاً وبيننا نحن الداهشين أطباء ومحامون وفئة تميل إلى الأدب والشعر والرسم وسائر الفنون الجميلة
فنرجو التلطف بالإجابة على كلمتنا كما أننا نرجو نشرها في مجلتكم الغراء لعل البعض من قرائكم يحبذون فكرتنا ويقررون الانضمام إلينا في السفر، وهذا مما يقلل العقبات التي تعترض تنفيذ هذا التصميم، والسلام عليكم(617/48)
عن الداهشين
بيروت 14 نيسان 1945
شاهين صليبي
طبيب العيون
نشرنا هذا الكتاب بنصه وفصه كما أراد طبيب العيون الدكتور شاهين صليبي، ثم نسأله: من هذا النبي الجديد؟ وإلى أي إله ينتمي؟ وبأي تنزيل جاء؟ وإلى أي الأمم أرسل؟ لقد سمعنا عن هذا الداهش أنه منوم ماهر فكيف أيقظ هذه الفتنة؟ إن العالم العربي يعاني اليوم مشكلة الوطن اليهودي في البر، فهل تريدون يا دكتور أن تخلقوا للعالم الغربي مشكلة أخرى للوطن الداهشي في البحر؟ إنا على كل حال نود مخلصين أن نستودعكم (نبتون) إلى آخر الدهر! فعسى أن نجد في خلفاء جلفر والسندباد من يدلكم على هذه الجزيرة النائية فتعششوا وتبيضوا وتفرحوا وتصفروا وتنقروا ما شاء لكم هذا الدين الجديد. . . أما مكافأة الرسالة إن وجدتم هذه المملكة عن طريقها فأن يخصها نبيكم (داهش) بما يوحي إليه من ربته الصغير، وأن يطرفها شاعركم (دموس) بما يصدر من شعره عن هذه الجزيرة!
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
قرأت قصتك الممتعة (الأفعوان) في مجلة المنتدى التي تصدر في بيت المقدس (عدد نيسان 1945) فأسفت أشد الأسف على ما ورد فيها من الغمز الجارح للدكتور بشر فارس، كقولك فيها: (نسمع محاضرة صديقك الدكتور نشر فهارس في مذهب الشعر الرمزي والعقل الرمزي) وقولك: (إن صاحبك الدكتور فهارس السربوني سيتكلم عن الرمزية. وستضحك منه مع من سيصفرون له من المستمعين كما ضحكنا وسخرنا من شعره المهلهل وقصصه الرمزية الملتوية) وقولك أيضاً: (كما يقال مثلاً دكتور بيطري. ودكتور في الشعر الرمزي. ودكتور نشر فهارس) الخ
إن قصة الأفعوان لا يتصل بحثها بما بينك وبين الدكتور. بشر فارس من الخصومة الأدبية في كثير ولا قليل، وقد أقحمت أسمه فيها إقحاماً لا يرضى به الأدب رسالة الفن السامي،(617/49)
فلا يصح أن يكون وسيلة تعين على تنشيط الغرائز غير المهذبة في الإنسان؛ فعمل الناقد في الأدب كعمل الطبيب الجراح، يعمل مبضعه في الجسم العليل بمقدار، غير مدفوع إلى ذلك بعوامل الانتقام من المريض، بل بدوافع الرحمة وتخفيف الآلام.
وفي الأدب الحديث نزعة خطيرة تلزم القائمين على توجيه المجلات الأدبية في العالم العربي، بمحاربة تلك النزعة، ذلك أن القراء يريدون أن يقف الناقد الفني إلى جانب الأديب المنتج في حلبة صراع لا رحمة فيه ولا هوادة، وهم يقهقهون ويغمزون ويلمزون.
وثمة نزعة أخرى لا تقل في خطرها على الأولى؛ ذلك أن الناقد الفني ينسى أو يتناسى أن عمله الأدبي لا يقل خطورة عن الأثر الأدبي الذي يتحدث عنه إلى قرائه، فلا ينبغي له أن يسمح لفنه أن يهبط إلى مستوى المهاترات الكلامية والتراشق بالألفاظ غير المهذبة.
إننا من المعجبين بأدبك أيها الأستاذ فنرجو أن ينصرف عملك كله إلى الفن الخالص. عفا الله عنك. وسدد في المستقبل خطاك. والسلام عليك ورحمة الله.
(فلسطين)
شريف القبج
دكتور في الفلسفة
إلى مؤلف كتاب (التصوير الفني في القرآن)
كتابك جوهرة في الكتب ... كشفتَ عن الذكر فيه الحجبْ
وثبتَ به وثبةً للعلا ... سواك إلى مثلها لم يثب
بلغتَ به منزل الخالدين ... في ذكريات لسان العرب
حللتَ به عقدةً حيرت ... عقول القدامى طوال الحقب
لِسحر يحسونه في القلوب ... وما يعرفون له من سبب
أقاموا حيارى على بابه ... قنوعاً بنشوتهم والطرب
حيارى. . . ولكنهم مهتدون ... بفيض سنا منه لا يحتجب
إلى أن أتيت بمفتاحه ... فصاحوا على الفوز: هذا عجب!
أجِدَّك ننشد مفتاحه ... دهوراً؟ ومفتاحه عن كثب!(617/50)
تبارك منزل قرآنه ... على سيد البشر المنتخب
تلألأ معجزة في الدهور ... تدول - وما إن يدول - الشهب!
به نالت الفخر أم اللغا ... ت عزت وعز بنوها النُّجب!
لغات الورى من رديء النحاس ... إذا الضاد شبهتها بالذهب
(المنصورة)
علي أحمد باكثير
في جامعة فاروق
أقام نادي فاروق لطلبة الجامعة يوم الأربعاء الماضي 18 أبريل مهرجاناً للشعر اشترك فيه أبناء الجامعة الشعراء، وقد خصصت جوائز أدبية لأحسن القصائد، وكان المحكمون الأساتذة: الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وصديق شيبوب، وأحمد عبد الهادي
وقد اشترك في هذا المهرجان من كلية الآداب الأستاذ حسن ظاظا المدرس بالكلية، والطلبة والطالبات الشعراء والشواعر: فاطمة علي حسن، وكمال نشأت، وحميد عبد الجليل، ونفوسة زكريا، ومحمد العشماوي؛ ومن كلية الحقوق: سالم حقي، وحسين البشبيشي، وعبد العزيز خاطر.
وبعد أن ألقى المتسابقون قصائدهم أنشد الأساتذة: خليل شيبوب، وحسن ظاظا، وأحمد أبو شادي، بعضاً من أشعارهم
وأنا لنرجو أن يكون هذا المهرجان الشعري فاتحة عهد زاهر للشعر في الثغر، ولا سيما بعد وجود جامعة فاروق التي نرجو أن تكون باعثة على إحياء نهضة ثقافية كبيرة في الإسكندرية
إنصاف فهمي
كلية الآداب بالإسكندرية(617/51)
القصص
المارسلييز
للقصصي الروسي ليوفيداندرييف
ترجمة الأستاذ شكري محمد عياد
كان نكرة؛ له روح أرنب واستسلام دابة. وعندما رماه القدر بسخريته اللئيمة بين صفوفنا السود، ضحكنا كالمجانين حين فكرنا أن مثل هذه الأخطاء الشنيعة الفاحشة ترتكب حقاً. أما هو فقد بكى. وما رأيت قط رجلاً تهمي من عينيه الدموع بهذا اليسر والوفرة. كانت تسيل من عينيه وأنفه وفمه، كان أشبه بإسفنجة غمست في الماء ثم اعتصرت. ولقد رأيت في صفوفنا رجالاً يبكون، ولكن دموعهم كانت ناراً تجفل منها الوحوش الضارية. كانت تلك الدموع الجبارة تسرع بالوجوه إلى الهرم ولكنها ترد العيون شابة من جديد. كانت أشبه باللابة المنطقة من أحشاء الأرض الملتهبة، تترك على سطح الأرض آثار الحريق، وتدفن تحتها مدناً بأسرها من الخدع الحقيرة والهموم التافهة. أما هذا الفتى حين يبكي لا يحمر أنفه ويبتل منديله؛ ولعله كان يعلق مناديله صفاً لتجف؛ فقد كنت أسائل نفسي أبي له كل تلك المناديل؟
كان طيلة عهد النفي يلجأ إلى ذوي السلطان الحقيقي أو الموهوم، ينحني ويبكي ويحلف أنه برئ، ويتوسل إليهم أن يرحموا شبابه، ويعاهدهم ألا يفتح فاه طوال عمره إلا ضارعاً أو شاكراً. ولكنهم كانوا يضحكون منه كما كنا نفعل، ويسمونه (الخنزير الصغير الحقير)، وينادونه: تعال يا خنزير! فيهرع إليهم خاضعاً، راجياً في كل مرة أن يسمع نبأ عودته إلى وطنه ولكنهم كانوا يهزلون. كانوا يعلمون مثلنا أنه برئ، غير أنهم يظنون إذ يعذبونه أنهم يرهبون غيره من الخنازير الصغيرة، كأن هذه الخنازير الصغيرة في حاجة إلى مزيد من الخور. ولقد يأتي إلينا يدفعه فزع حيواني من الوحدة، ولكن وجوهنا كانت صلبة لا تلين، وكانت مغلقة من دونه، وعبثاً كان يبحث عن المفتاح؛ فإذا حار في أمره دعانا رفاقه وأصدقاءه، ولكنا نهز رؤوسنا ونقول:
- حذار! قد يسمعك أحد!(617/52)
فلا يخجل الخنزير الصغير أن يلتفت إلى الباب!
أكنا نستطيع عندئذ أن نمنع أنفسنا من الضحك؟ كلا، لقد كنا نضحك بأفواه ألفت الضحك منذ عهد بعيد. ثم يشجع ويهدأ، ويقرب مجلسه منا، ويحدثنا، ويبكي كتبه العزيزة التي خلفها على المنضدة، وأمه واخوته الصغار، الذين لا يدري أأحياء هم أم أهلكهم الروع والأسى.
أبينا قرب النهاية أن نتصل به. ولما بدأ الإضراب عن الطعام أصابه الفزع، فزع مضحك لا سبيل إلى وصفه. وكان من الجلي أن الخنزير الصغير المسكين نهم تلقامة، وكان شديد الخوف من رفاقه ومن السلطات أيضاً. فجعل يهيم بيننا جزعاً، يمسح بمنديله جبينه الذي نضج عليه شيء لا أدري أهو الدمع أم العرق ثم سألني متردداً:
- هل ستضربون طويلاً عن الطعام؟
فأجبته بغلظة:
- سنضرب طويلاً.
- أو لا تأكلون أي شيء خفية؟
فأجبته بجد وكأني أوافقه:
- سترسل إلينا أمهاتنا الفطائر.
فنظر إلي مرتاباً، وأومأ برأسه وذهب وهو يتبهد.
وفي اليوم التالي أجاب وقد أخضر لونه من الجوع فصار كلون الببغاء:
- أيها الرفاق الأعزاء! إني سأصوم معكم.
- فأجبناه بصوت واحد: صم وحدك!
ولقد صام! لم نصدق ذلك كما أنك لن تصدقه. فظننا أنه يأكل بعض الأشياء خفية، وكذلك ظن حراسنا. فلما أصابه تيفوس المجاعة في أخريات الإضراب عززنا أكتافنا وقلنا:
- يا للخنزير الصغير المسكين!
ولكن واحداً منا - ذلك الذي لم يضحك قط - قال واجماً:
- إنه رفيقنا. فلنذهب إليه.
كان يهذي وكان هذيانه المضطرب يثير الإشفاق كما كانت حياته كلها. كان يتكلم عن كتبه(617/53)
العزيزة، وعن أمه واخوته، كان يطلب حلوى، حلوى باردة كالثلج، حلوى لذيذة. وأقسم أنه برئ، وسأل العفو، ونادى فرنسا وطنه العزيز. ويا لضعف القلب الإنساني! لقد مزق قلوبنا بصيحته: يا عزيزتي فرنسا!
كنا جميعاً في الحجرة وهو راقد يموت. وأسترد وعيه قبل الموت، ورقد صامتاً ضعيفاً، ووقفنا نحن رفاقه صامتين. وسمعناه نحن جميعاً يقول:
- غنوا على المارسلييز حين أموت.
فصحنا وقد انتهبنا مزيج من الفرح والغضب المثار.
- ماذا تقول؟
فردد. غنوا على المارسلييز حين أموت.
ولقد كانت عيناه جافتين للمرة الأولى، ولكننا بكينا، بكينا جميعاً. وكانت دموعنا ملتهبة كالنار التي تجفل منها ضاربات الوحوش.
مات. وغنينا عليه المارسلييز. كنا نغني هذه الأغنية العظيمة - أغنية الحرية - بأصوات ظامئة شابة، والمحيط يرددها متوعداً، وأواذى الموج تحمل إلى وطنه العزيز فرنسا فزعاً شاحباً وأملاً فانياً.
أصبح إلى الأبد شعارنا ذلك النكرة، بجسمه الذي يشبه أرنباً أو دابة، وبروحه الإنساني العظيم! ركوعاً أيها الرفاق والأصدقاء!
كنا نغني! وكانت البنادق مصوبة إلينا، وأقفالها ترن منذرة، وأسنة الحراب موجهة إلى صدورنا تهدد، ولكن الأغنية المتوعدة ظلت تدوي عالياً عالياً، والتابوت الأسود يتأرجح في أكف عماليق.
كنا نغني المارسلييز!
شكري محمد عياد(617/54)
المسرح والسينما
فلم (قبلة في لبنان)
تأليف الأستاذين: سليمان نجيب بك ويوسف جوهر
إخراج الأستاذ احمد بدر خان - إنتاج شركة اتحاد الفنيين
الموضوع
زوجة شابة من سيدات الطبقة الراقية تسافر وحيدة إلى لبنان، وهناك تلتقي بشاب مصري ويتعارفان ويتفاهمان ويساعد الجو الشاعري على أن تصحو العاطفة في قلبيهما، وتنتهي هذه اليقظة الفاجئة إلى قبلة خاطفة تنبه الزوجة إلى الخطر المحدق بها فتختفي عن عين الفتى وتعجل بالعودة إلى القاهرة من غير أن تحيط أسرتها علماً بهذه العودة، وتفاجئ زوجها يقبل فتاة في بيتها فتثور (طبعاً) ويعلم والد زوجها بما حدث فيسخر هذا الوالد العصري من ابنه الذي لو كان مثل أبيه لما استطاعت زوجته أن تضبطه متلبساً بفعلته. . . ثم يعلم هذا الوالد بما كان بين زوجة ابنه وبين من تعرفت به في لبنان - بعد أن حاول عبثاً حملها على أن تغفر لزوجها خطيئته - فيستغل ما استكشفه من سر العلاقة التي ربطت بين الزوجة الشابة والفتى في لبنان. والصورة التي كانت قد التقطت لهما. فيتهددها بهذا السر فتنزل على إرادته وتعفو عن زوجها من غير أن يعرف الزوج عن خطيئتها شيئاً، ويتلقى الفتى المحب هذا الدرس القاسي فيذهب إلى غير رجعة. . .
هذا ملخص لقصة الفيلم، وقد سبق للفرقة المصرية أن قدمت هذه القصة بالذات وأسمتها (كلنا كده) ودار حولها نقاش وكان مما قيل فيها: أنها تسئ إلى الأخلاق والكرامة بالصورة التي أرادها المؤلف للطبقة الراقية في مصر. ولست أدري لماذا وقع اختيار اتحاد الفنيين على هذه القصة لتكون باكورة إنتاجهم. وإن كنت أدري أن مثل هذه القصة ليست صالحة لتكون فيلماً نظيف الصورة رفيع الفكرة. . .
التمثيل
قام سليمان نجيب بك بدور (محسن باشا) وقد أراد له المؤلف أن يكون والد من الصنف(617/55)
الذي يفهم (المصرية) على أنها سخرية بالأوضاع واستهانة بالتقاليد فكان له ما أراد، ولهذا لم تنسني لسليمان بك فرصة فنية تقضيه بذل جهد ممتاز. وقام أنور وجدي بدور (سامي بك) وهذا دوره الذي يجيده، وقامت مديحة يسري بدور (فتحية هانم) فأبدعت حقاً وعرفت كيف تجيد التعبير عن احساسات مختلفة في براعة فائقة، وقام محمد فوزي بدور (منير) ويمكن أن نعتبر هذا الدور بداية طيبة إذا اعتبرنا صاحبه وجهاً جديداً، وقد وقفت زينب صدقي وفردوس محمد وهاجر حمدي، وكذلك نجحت النجمة الجديدة ليلى عبدة ودلت على استعداد يؤهلها لأن تكون نجمة لامعة، ووفق أيضاً فؤاد شفيق ومحمد كامل.
الأغاني:
ألف أكثرها أحمد بدر خان فدل على طول باعه في التأليف، ولحنها وغناها محمد فوزي فدل على أنه يمشي في طريق النجاح. وكلها تشهد ببراعته في التلحين والموسيقى التصويرية.
الصوت والإضاءة والديكور:
كان الصوت سيئاً جداً في كثير من المشاهد، وكانت الإضاءة خير ما في الفيلم وكذلك الديكور.
الإخراج:
اضطلع به الأستاذ أحمد بدر خان وهو مخرج شاب له موهبته وثقافته ومقدرته، وقد بذل جهداً كبيراً في الإخراج ولكن تفاهة القصة جعلته كجندي يحارب في غير ميدان.
وبعد:
فإن من الشائع عندنا أن الذين يؤلفون للسينما يسيرون وراء المؤلف الغربي ويأخذون عنه ويقتبسون منه ويحاكونه. ناسين أو متناسين أن لكل بلد جوه ومزاجه وتقاليده. وقد تجلت هذه الظاهرة واضحة في قصة هذا الفيلم. وقد تستساغ مثل هذه القصة في البلاد الغربية لأنها لا تتنافى مع ما ألفوه من عادات وتقاليد، ولكنها في مصر لا يمكن أن تستساغ ولا أن تهضم. . .
. . . كم أتمنى أن تقوم عندنا نهضة فنية صحيحة!! نعم كم أتمنى!!(617/56)
عبد الفتاح متولي عبن
25(617/57)
العدد 618 - بتاريخ: 07 - 05 - 1945(/)
نهاية دكتاتورين!
عمرك الله، أهي نهاية دكتاتورين، أم نهاية دولتين، وعبودية أمتين، وعبرة الدهر لمن يسول له الحمق الآدمي أن يطاول الله في سمائه، ويصرف الأقدار في أرضه؟!
سبحانك ربنا ما أبلغ حكمتك وأعدل حكمك! كأنما يقضي عدلك المطلق بين آدم وإبليس في صراع الخير والشر أن ترسل من الجحيم رسلاً للفساد، كنيرون وجنكيز وهتلر، كما أرسلت من الجنة رسلا للصلاح، كموسى وعيسى ومحمد! وإلا فكيف يتصور عقلنا المحدود أن رجلا كسائر الرجال، فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسية بسمرك، ولا أدب جوته، ولا فلسفة نيتشة، يستطيع أن يسيطر على ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم اثني عشر عاماً في ابتكار افظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار، فابتكروا من المهلكات المعجزات ما لو وجهوه إلى الخير لعمرت الأرض، وأنفقوا من الأموال والثمرات ما لو سلطوه على الفقر لسعدت الدنيا. ولو أن هذا الشقي وأحلافه فعلوا ذلك فساعدوا الخير بمبتكرات العلم، وأشاعوا الغنى ببراعات الإنتاج، لكانت رسالتهم أكرم وسيادتهم أعم ومجدهم أخلد؛ ولكنهم لم يهيئوا بطبائعهم لهذا الأمر لحكمه يريدها الله من هذا الكون العجيب الذي يحيا بالموت، ويصلح بالفساد، ويتجدد بالبلى، ويقتات بعضه ببعضه، ويتربص كله بكله!
نعم هلك الطاغيتان موسوليني وهتلر في أسبوع واحد بعد أن ظلا ستة أعوام ينشران الفزع والجوع والموت والخراب والحداد في كل أمة وفي كل آسرة وفي كل نفس، دون أن يعصم الناس من كل أولئك عاصم من دفاع أو ملجأ أو بعاد أو حيدة. ومن سخر الأقدار أن الفوهرر الذي كان يدعو إلى النازية في مشرب من مشارب البيرة في ميونخ، يقتل وهو يدافع في برلين فيهوي على قاعدة مدفع؛ وأن ألدتشي الذي كان يخطب للفاشية على ظهر مدفع في البندقية، يصرع وهو يفر إلى الحدود فيخر على صدر مومس!! والحق أن هاتين الميتتين: ميتة الأسد لزعيم الألمان، وميتة الكلب لزعيم الطليان، هما الخاتمان اللذان صاغتهما الحوادث للزعيمين من معدن الأمتين ليطبعهما التاريخ على وثيقة هذه المجزرة البشرية فيرمز بهما الى نفس كل زعيم وطبيعة كل أمة! وفي المجرمين تفاوت في الطباع يدعو بعضها إلى الإكبار وبعضها إلى الإصغار؛ ولكن اللص الإيطالي الذي يغتالك خفية(618/1)
بالموسى، لا يختلف في رأي القانون عن اللص الأمريكي الذي يقتلك جهرة بالمسدس؛ وليس في الأجرام تفاضل ولا في الشر خيار.
انبعث هذان المسيخان من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث، فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في جواء برلين وروما انتشار الظلام المضل والغاز الخانق، فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه. ثم هتكت النازية أستار الدول بالجواسيس، وبلبلت عقائد الناس بالدعاية، واشترت ضمائر الساسة بالمنى، وبثت في دخيلة كل أمة دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحمية في كل رأس، حتى تركت القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم رمت جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، فأصبحت أوروبا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء، وانبسط الطغيان المحوري على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً للأحياء وقبوراً للموتى. ثم وقفت الديمقراطية من الدكتاتورية موقف الفريسة المرتاعة تنظر إلى الناب البارز، أو الشهيد الصابر ينتظر هوي الحسام المصلت؛ ولكننا قلنا يومئذ والأمل في النصر كبصيص المنارة الخافت على محيط من اليأس يموج بالظلام والهول: إن الفوز مكفول للديمقراطية، لأنها هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ إما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول. وقد صدق الله هذا القول، فانهارت النازية على نفسها وأهلها انهيار الطود الأشم فلم تدع خنزوانة في رأس طاغية ولا أملاً في صدر طامع.
والدكتاتورية نظام من أنظمة الحكم الشاذ يقتضيه حال ويستوجبه جيل ويستسيغه زمن؛ ولكنه كالعلاج بالسم إذا زاد مقداره قتل. وعيب الدكتاتور الصالح أنه يعرف كيف يبتدئ ولا يعرف كيف ينتهي. إنه عجلة من غير فرملة، يحمل عليها أمته المتلكئة المتخلفة، ثم ينطلق بها انطلاق الطائرة المطاردة لا يلوى على شيء، حتى إذا غلا في السرعة وأوغل في المسير أعياه الوقوف فيضل في مفازة سحيقة، أو يتردى في هاوية عميقة.(618/2)
والطاغية إذا ركب رأسه تنكر للنصح وتمرد على المشورة. فهو يسكت أقطاب الرأي ليتكلم، ويؤخر أبطال القيادة ليتقدم. والغالب أنه يجيد القول ولكنه يزور، ويحسن العمل ولكنه يطيش. وما زلنا قريب عهد بشقشقة هتلر وثرثرة موسوليني، فقد كانا يقولان القول ولا يصدقان فيه، ويعدان الوعد ولا يبران به؛ لأن الاستبداد بالرأي ينفى التبعة، والاعتداد بالنفس يلغى الرقابة؛ والتبعة والرقابة مزيتا الديمقراطية. ومن ذلك كانت خطب تشرشل وروزفلت وثائق يستشهد بها السياسي ويعتمد عليها المؤرخ. والديمقراطية تنظر إلى الشي من جهاته الست، وتسلك إلى الغاية طرقها المختلفة؛ ولكن الطغيان لا ينظر إلى الشي إلا من الجهة التي تجذبه، ولا يسلك إلى الغاية إلا الطريق التي تعجبه. ثم يحمل الشعب على رأيه ونهجه بالإرهاب المستمر، والتعليم المسموم، والتربية الآلية، والدعاية المغشوشة، فلا يجوز لصوت أن يرتفع بتعريف أو إنكار، ولا ينبغي لأحد أن يقول للقاطرة الرعناء إلى أين تذهبين بالقطار!
الآن، وقد تحطمت النازية بعد أن تحدث بجبروتها سنة الله وقوة الطبيعة، وارتفعت أيدي الأبالسة عن منشأ هذه الرجفة العامة من الأرض، وأخذت غواشي الليل الطويل تتكشف عن فجر السلام المشرق، وأوشكت الإنسانية المكروبة أن تجد نفساً من الرجاء وروحاً من الطمأنينة، وآن لقادة الحديد والنار أن يتركوا الميدان لساسة الرأي والهوى، الآن يجمل بالأقطاب الثلاثة أو الأربعة الذين يقرون اليوم مصا ير الأمم والشعوب أن يتخذوا لهم من أهوال ست سنين موعظة وعبرة. يجمل بهم أن يذكروا وهم حول الموائد الخضر تلك الميادين الحمر فتتمثل لعيونهم تلك القذائف الجهنمية تذرو أجساد الشباب كما تذرو العاصفة غشاء الهشيم! يجمل بهم أن يذكروا وهم ينعمون بالحفلات الساهرة بعد المناقشات الثائرة، تلك الدور الحزينة التي خلت من عائلها الكادح، وفتاها الشابل، وأنسها الأنيس، وعيشها الآمن، فترد على خواطرهم تلك المآسي الدامية التي مثلتها الحرب في كل مكان! نعم يجمل بهؤلاء الأقطاب أن يذ كروا أنهم أنقذوا المدينة هذه المرة أيضاً بأعجوبة. وليست الأعاجيب والمعجزات مما يكشف أو يخترع؛ إنما هي الفرص والمصادفات تسنح أو تبرح كما يشاء القدر. إنهم إذا ذكروا كل أولئك كانوا حريين ألا يقبلوا في مؤتمر الصلح مندوبين عن أصحاب الجلالة: الاستئثار والاستعمار وبسط النفوذ! وإذن يتمتع العالم بسلم طويلة يضمد(618/3)
فيها جروحه يستأنف بها سيرة.
احمد حسن الزيات(618/4)
دار الترجمة ونهضة مصر الثقافية
للأستاذ سيد قطب
قرأت مقال الأستاذ صاحب الرسالة عن (دار الترجمة) في العدد الأسبق من الرسالة، ذلك الذي يقول فيه:
(والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية. فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله، ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه، ونشرهما على حسابه!)
(فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتداء من أقوى العوامل أثراً في الأدب) قرأته فإذا هو (يشخص) موقف المكتبة العربية الراهن من الثقافة العالمية تشخيصاً صادقاً صحيحاً. ولا يكتفي بهذا (التشخيص) بل يصف طريق العلاج، ثم يتجاوزه إلى وصف الدواء فيقول:
(لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين، فأنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر، أو قل: إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدها بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشرها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية. (هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحه مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه، وقد تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية).(618/5)
لقد استطردت في الاقتباس من كلمة الأستاذ، لأنها واضحة دقيقة وافية، تحيل ذلك الحلم الضخم عيانا منظوراً، وتحول هذا المشروع الكبير حقيقة مستطاعة. استطردت في الاقتباس لهذا، ولسبب آخر يعنيني!
فالواقع أنني استرحت لهذا التفاؤل الذي يشيع في كلمة الأستاذ بعد أن بلا من مصر ما بلا في هذه السنين الطوال. وبعض هذا البلاء كاد يردني أنا الشاب إلى اليأس من كل رجاء!. . . إلى اليأس من تنفيذ أي اقتراح إنشائي يكلف المسئولين تغيير (الروتين) اليومي، والأقدام على المشروعات الضخمة التي لا تسير على مثال سابق، ولا تطرد على وتيرة معروفة. إن (السوابق) هي التي تحدد طريقة العمل واتجاهه في الديوان!
وكثيراً ما ابتلع هذا (الروتين) البغيض شخصيات حية مجددة تملا الدنيا ابتكاراً وتجديداً وهي خارج (القفص الذهبي) حتى إذا آوت إليه لفها الدولاب، وابتلعها الجو العام، وعادت (موظفين). أي آلات تسير سيرة الآلات!
فإذا ظل الرجاء يداعب رجلاً مجربا كالأستاذ الزيات، فذلك شعاع مضى يعشوا إليه أمثالنا من الشبان. وعجيب أن ينبع الأمل من نفوس الشيوخ وأن يتسرب منها إلى نفوس الشبان، في هذا الزمان!
في وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف مشروع مهيأ لترجمة (شكسبير) وكان مقرراً أن يسند إلى أديب كبير يوثق بحسن قيامه على هذا العمل الضخم. ثم ماذا؟ ثم تغيرت الظروف السياسية، فطوى المشروع، لأن الرجل الذي اختبر له لا (ينسجم) مع القائمين بالحكم في ذلك الأوان!
وفي وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف أديب كبير جم النشاط متعدد الجوانب، وكان للترجمة مشروع يقرب من مشروع الأستاذ الزيات، تقدم به كاتب السطور، وقيل له: إن المشروع موضع النظر والتفكير، ثم صب على الرجل سيل من أعمال (الروتين) فغرق وقته كله، حتى تغيرت الأحوال.
وفي وقت من الأوقات كان على رأس وزارة المعارف وزير يشتغل بالتأليف وبالترجمة أيضاً. وكان المنظور أن يصنع شيئاً في هذا المجال. ولكن عجلة (الروتين) (وتوزيع(618/6)
الدرجات) قد استغرقت وقته مع المقابلات والوساطات والرجاءات. . .!
وفي كل وقت مثل، وفي كل عهد نموذج. وأسباب التسويف كثيرة، و (القفص الذهبي) لا يسمح بالتحليق والطيران!
لا أريد أن أثبط عزيمة أحد، ولا أن اطفي الآمال في صدر أحد؛ ولكني أحب أن أصارح الأستاذ المتفائل: إنني قليل الرجاء في الدواوين. وإذا أسعدنا القدر في وقت من الأوقات بوزير يقدم على عمل إنشائي كهذا العمل الجليل، فالتقلبات السياسية بالمرصاد. ولا بد للوزير الجديد أن يجدد، وأن يبدل؛ ولا بد أن يجد من كبار المسئولين موافقة إجماعية على التجديد والتبديل، كالتي لقيها سلفه سواء بسواء! أجل لا بد أن ندور في هذه الحلقة المفرغة مادام (الروتين) هو الروتين؛ ما دامت (السوابق) هي التي تحدد الاتجاه؛ ما دامت روح الابتكار محصورة في هذه الحلقة المفرغة على توالي الأجيال. لقد قضينا الآن أكثر من عشرين عاماً منذ حصلنا على نوع من الاستقلال، نغير ونبدل في مناهج التعليم، فلم يتعد التبديل والتغير طوال مدة الدراسة وقصرها وتوزيع المواد المقرة على السنوات الدراسية، وتوزيع الموظفين على المناطق أو حشدهم في الديوان، وتوزيع الدرجات على أساس أقدمية التخرج أو أقدمية التعيين أو أقدمية الدرجة. . . إلى آخر هذه الدورات التي لا تنتهي في الحلقة المفرغة المضروبة! لم نفكر في تغيير النظام المدرسي كله، ولا تجديد عقلية التعليم أو على الأقل تغيير طرق الدراسة. لم نفكر في (النموذج الإنساني) الذي نريد أن نصل إليه بالتلميذ، لنستطيع رسم الوسائل والأدوات. بل لم نؤلف (مكتبة التلميذ). فهل تريد يا سيدي أن نؤلف (مكتبة الأجيال)؟. ألا ما أحلى الآمال!
أما لئن استطاع وزير المعارف الحالي أن يقهر الماضي كله وأن يقتحم العقبات جميعاً، وأن ينفذ اقتراح الأستاذ الزيات فليكونن أكبر ميدان في العاصمة أصغر من أن يتسع لتمثاله الخالد. إنه يكون واضع أسس النهضة وضامن بقائها أجيالا طويلة. إن النهضة الثقافية في مصر مودعة بضعة رءوس كبيرة، ولكنها فانية - مع الأسف - فلئن أودعت بطون الكتب، ليكونن هذا طريقها للخلود، ولتضمن لصاحبها كذلك الخلود. وعندئذ نستطيع أن نحرر برامجنا المدرسية من ثير اللغات الأجنبية في سن مبكرة، ومن مزاحمة هذه اللغات للغة القومية في عهد التكوين. وهي مشكلة تواجه واضعي البرامج عندنا، وتصطدم(618/7)
بقواعد علم النفس والتربية المقررة. وعندئذ يصبح تعلم اللغات ضرورة لمن تستدعي الضرورات العملية في الحياة أن يتعلموها، وتصبح المكتبة العربية مصدر ثقافة عالمية ككل المكتبات العالية هذا أمل، وأمل كبير. وما علينا أن نرجو في تحقق الآمال؟
سيد قطب(618/8)
إلى حامي الإسلام. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(جاء في برقيات أمس أن موسوليني قد أسر، ولو كان موسوليني البطل النبيل الذي حارب حتى سقط، لنسينا عداوته وحيينا بطولته، وللبطولة حقها لا يجحده كريم، ولكن موسوليني دعى ظالم، وخصم لئيم، فلذلك وجهنا أليه هذا المقال)
يا من يفتش في الكتب عن العبر! يا من يبحث في خرائب التاريخ، تعالوا: فإن هاهنا عبرة ما في التاريخ أجل منها، وما في الكتب مثلها. تعالوا فشاهدوا واعجبوا واعتبروا. . .
هذا الذي تكبر وانتفخ حتى ما تسعه ثيابه، وما يحتويه جلده. . . هذا الذي تطاول وتعالى حتى ما يجد محلا يرتقى إليه. ولا علا فوق علوه. . . هذا الذي طغى وبغى حتى استلب فراش هيلاسلاسي من تحته، وطرده من بيته. . . هذا الذي تجبر وتتمرد حتى ألقى الشيخ المجاهد الصالح عمر المختار من الطيارة فتلقته الأرض، أرضه وأرض قومه، أشلاء ومزقاً. . . هذا الذي جن من الكبر، وحم حتى صار يهذي في حماه، ويثرثر في جنونه، يقول: أنا حامي الإسلام!
تعالوا انظروا إليه أسيراً ذليلاً، يقاد إلى الموت، بأيدي قومه، قد طار هواء الكبر من جوفه، فأنحني واستخذى وهبط من بعد علاه إلى الحضيض، ونزل من يفاعه إلى القاع، فمن كان يظن أن موسوليني سيكون أسيراً في بلاده يساق إلى المشنقة؟
ألا لا يأمنن بعد اليوم ظالم، ولو مد الله له ومنحه قوة وأعطاه مالا. ولا ييأسن مظلوم ولو ابتلاه الله فقدر عليه الضعف وكتب عليه الفقر. ولا يفتحن فمه ملحد فاجر، فإن لهذا الكون إلها منتقماً جباراً عادلاً، يمهل ولا يهمل، ويمد للظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
يا موسوليني، يا حامي الإسلام هلم احم رأسك غداً من سيف الجلاد. احم اسمك من لعنات التاريخ. احم (عظمتك. . .) من سخرية الأجيال، وهزء القرون الآتيات، فإن للإسلام رباً يحميه، وإن للإسلام يا أيها ألدوتشي. . . ولا دوتشي اليوم! جنداً إن لم يكن لهم (الآن) مثل رصاص جندك الذي لا يقتل، ومدافعهم التي لا تؤذي، وأسطولهم الذي لا يحارب، فإن لهم قلوباً فيها إيمان وسواعد فيها عزم، ونفوساً لا تهاب الموت. ومن يجمع الإيمان والعزم وحب الموت لا يغلبه شيء. وسل إن كنت ناسياً. . . سل عنهم بطاح طرابلس، وبقاع(618/9)
الريف، وجنات الغوطة، وجبل النار. سل جنود إيطاليا الذين كنت تخطب فيهم خطبك المسرحية. . . تظن أنك صرت بها قيصر ثانياً. . . لقد أجاب عليها شاعرنا حافظ إبراهيم، فقالها كلمة حق وصدق، كلمة قوة ونبل، فاسمعها إن لم تكن سمعتها:
قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما
نعم لقد امتلأت الدنيا أمس يا دوتشي بالكلام عنك، والهتاف باسمك، باسم موسوليني الأسير الجاني. . . فهنيئاً لك هذه الشهرة وهذا المجد!
يا موسوليني، لقد قوض المسرح، ومزق الستار، وبدا المكنون للعيون، فإذا أنت وجندك كما قال الرافعي فيهم:
يا أمة النحت والتصوير ويحكم ... حتى جنودكم الأنصاب والصور
ولقد هدمت الأنصاب، ومزقت الصور. . . وثقبت هذه الكرة المنفوخة بإبرة، فعادت قطعة من جلد ميت. . .
يا من يفتش عن العبر، هذه عبرة فخذوها، وأذيعوها، واصرخوا بها في أذن كل ظالم، عله يسمع ويصيخ، ويتعظ ويعتبر، قبل أن يقضي الله فيه قضاء فيكون عبرة للمعتبرين.
قولوا لهم إن الظلم مرتعه وخيم، وإن دعوات المظلوم سهام مسمومة، إن الدهر دوار، والأيام دولاب، وربما عز غداً الذليل وذل العزيز، وجاءت ساعة الانتقام، وويل يومئذ للظالمين.
ويا أيها المظلومون، فرادى وجماعات، في كل قطر وتحت كل كوكب، اصبروا ولا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من روحه وكونوا معه، فإن الظالم مهما كبر، فالله أكبر، ومهما طالت يده وعلت، فإن يد الله فوق يده، ومهما ملك من أمر يومه، فإن غده وراء باب مغلق، ومفتاحه عند الله، وما يدري أحد بماذا يطلع عليه غده.
لقد قال هوجو شاعر فرنسا الأكبر لنابليون بطلها الأكبر الذي تجرأ لما ولد له (ملك روما) فقال المستقبل لي: (يا أيها الملك، إنك تستطيع أن تظفر في أوسترلتز، وأن تفتح فيينا، وأن تملك العالم، ولكنك لا تستطيع أن تقول المستقبل لي، لأن المستقبل يا أيها الملك، لله وحده!)
وأنت يا فاتح الحبشة، وغازي طرابلس، أخل الآن بنفسك وابك على خطيئتك، واستعد تلك(618/10)
الخطب، وفكر في هاتيك الأيام التي كنت تطل فيها من شرفة قصرك، على أولئك الآلاف المؤلفة من الشخوص السود، أبطال الفاشست، فتصرخ فيهم حتى تتمزق حنجرتك، وتتفجر رئتاك، وهم يجيبون بدوي يهتز له ذلك القصر. . . أين هؤلاء الذين أعددتهم ليكونوا عدتك في بنيك على طرابلس؟ أين ذلك الحماس وذلك الدوي؟ مجد بنيته في الهواء فضربته الرياح! يا غازي طرابلس، لقد كانت فرقة المغازية من الطرابلسيين وإخوانهم المسلمين أول فرقة وطئت أرضك، وغزت بلادك، وطاردتك حتى سقطت في الفخ، كما تسقط الضبع الخبيثة التي لا تأكل إلا لحوم الموتى لأنها لا تجرؤ على الأحياء! لا لست الأسد الجريح، ولا النسر المهيض!
فكر في ذلك الشيخ الشهيد الذي ملأ مصرعه كل قلب بغضاً لك، وكل عين دمعاً عليه، لقد انتقم الله له، ولكننا لا نريد أن يفعل بك ما فعلت به لأنا أكرم منك أصلاً وفرعاً، وأنبل خلقاً وطبعاً، ولأن نبينا نهانا عن المثلة، وأمرنا بالرفق حتى بالحيوان فلا نذبحه إلا بشفرة حادة، فاطمئن فقد أحدت لك الشفرة!
يا موسوليني، وما إياك نخاطب. لقد صرت أقل أذل من أن تخاطب؛ ولكن ليعتبر قوم لم يقلوا بعد قلتك، ولم يذلوا ذلتك. يا موسوليني أنا لا نشمت، وما الشماتة سجية فينا، ولكنا تدل على مكان العبرة فيك، حين نلت جزاءك. . . لقد أوكت يداك، ونفخ فوك، فغرقت، فالحمد لله الذي أنقذ الأرض منك أقر بك عيون من ظلمت، وأرانا فيك هذا اليوم الأسود. اللهم أنعمت فزد، فإنها لا تزال الأرض تعج بالظالمين!
القاهرة
علي الطنطاوي(618/11)
صلوات فكر في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أزل وأبد!
لما تعب الناس من الوقوف على عتبة المهد، يقولون لكل قادم: من أين أتيت؟ والوقوف على عتبة اللحد، يقولون لكل ذاهب: إلى أين عزمت؟ ولم يعلموا من الأزل والأبد علماً، انصرفوا حين ذهب عنهم ذهول الطفولة إلى القنطرة والجسر الذي وجدوا أنفسهم فوقه، يتراكضون عليه ويبنون ويتزاحمون ويختصمون، واتخذوا لهم فلسفة هي وعي الحياة المادية فوق هذه القنطرة وحدها، واقتناء التجارب فيها، ومدوا علمهم في تراب الأرض ورحابها، وصار من طبيعة تفكير أكثرهم أنهم لا يسألون عن النبأ العظيم الذي ينبث في السماء والأرض، ويوجه الأفكار المخلصة للسؤال عنه
وأنهم ليمرقون من الدين الموروث لأنهم لم يحسوا حقيقة في الأزل والأبد بأنفسهم، ولم يدر بخواطرهم التفكير في هذا الوجود الغريب الذي ليس من طبيعته أن يكونوا هم منه.
إنهم لا يلتفتون للأزل إلا حين يطرق بابهم مولود قادم فيفرحون ويضحكون له، ولا يتيقظون للأبد إلا حين يودعهم مودع ميت فيبكون عليه.
هم يضحكون للأول لأنه يظهر لهم وينمو ويتفتح (فيقتنونه) ويملكونه كمتاع. . . وهم يبكون على الذاهب لأنه ينتزع منهم ويختفي، ويذكرهم باختفائهم وذهابهم إلى المصير المجهول فيخافون. . . هم لا يتيقظون إلا حين ظهور شيء أو اختفائه. أما استمراره وحركة حياته فلا يسترعيان انتباههم.
مهما فلسف الحسيون الماديون الذين لا يؤمنون بالغيب فيما قبل حياتهم وما بعدها، فإن العقل والطبع لا يقبلان أن يصدر هذا الكائن العظيم من غير مصدر أزلي عظيم، ولا أن يذهب إلى غير مصير أبدي عظيم، لأنه يوقن أن في ضمير الكون كله نسباً عريقاً خالداً!
همسات
هنا همس من عوامل الحياة ودورات الأحداث ودوافع الأرحام وهناك همس من عوامل الموت وسكون الأجداث وعقم الرجام والإنسان بينهما لا يسمع. . . لأنه لا يسمع إلا(618/12)
بأذنين. . . وهما لا يسمعان إلا ضجيج الطبل ورنين الدينار والكأس أما الهمس النافذ الدائم حاسة أخرى تكاد تكون مفقودة عند الأكثرين. . . الإنسان بين المهد واللحد، بين السرير والنعش، بين القصر والقبر؛ ولا يسأل ما هاته العجائب المتضادة التي ما جاء للحياة إلا ليدركها أو يحار فيها. . .
أحاول بهذه الكلمات أن أضخم هذه الهمسات حتى يسمعها الذين لا يسمعون إلا بالأذان، وأن أشق لها طريقها بين ضجيج الحياة. . . فلقد امتلأت الآذان بالصخب والزئاط والعياط حتى تصدعت الرءوس، وشاقها أن تسمع بعض الألحان الخافتة التي تفتحت عليها آذانها، وهي في مهد الحياة كما يشوق الرجال أن يستعيدوا الألحان والأهازيج التي سكبتها الأمومة في آذانهم. . .
وقد رأيت الآداب والفنون توشك أن تنساها وتجهل أقدارها وتغفلها إغفالا، وشغلت بضجيج الطبول وأشكال الفقاقيع الفانية وأحاديث الأسمار والمخاصمات والمتاجرات في الحطام والشهوات. . .
جامع أزهار
أنا جامع أزهار من حديقة الله. وكثيرون مشغولون بجمع احطابها وأشواكها.
فلا عجب أن أكون متفائلا مبتهجاً نتيجة ما توحيه بهجة الأزهار. . .
ولا عجب أن آخذ منها وجهها الرفيق الباسم الملون بألوان جميلة. والذين أخذوا أنفسهم بجمع احطابها وقشورها وأشواكها لا شك قد ورثوا من ذلك قسوة وعبوساً وعنفاً وتشاؤماً وغفلة عن العناية بنواحي الجمال والفن فيها.
فاللهم اجعل حظي دائماً جمع أسرارها من أزهارها وثمارها وجنبني أشواكها وعبوسها. . .!
قلوب مفتحة وقلوب مغلقة
من الذي له عظمة الله ورحمته ولطفه وجبروته وكبرياؤه، وهو مع ذلك يحتفى بكل مخلوق من رعيته، ويضع عينه عليه ويمنحه ويرشده؟!
إنه يزور ضمير كل إنسان قي جميع الأحيان. . . فالمخلصون له المترقبون لجلاله،(618/13)
الدائمو الفكر فيه، يفتحون له أبواب ضمائرهم كلما أحسوا نسائم رحمته أو عواصف نقمته! وحينئذ يدخلها سره، ويلقي فيها ما يشاء، ثم يتركهم فترات ليفكروا ويقدروا. . .
والمعرضون عنه الغافلون عن جلاله وعلمه، لا يفتحون له قلوبهم إلا كما يفتح البخيل باب داره. . فلا يحسون قربه ونفاذه إلى ضمائرهم. .
اللياذ والاحتماء
هل نملك ونحن عجزة ضعفاء، غير أن نتعلق بيد الله رب العزة والجبروت قهار السموات والأرض، وصاحب هذه الدار التي أدخلنا إليها وجعل لنا فيها مثل ما لغيرنا، فاعتدى علينا الظلمة أمام ساحة عدله، وهو ينظر القاتل والمقتول؟
هل نملك غير أن نتعلق بهذه اليد القاهرة، نسألها أن تبطش بالذين غيروا ما وضعته، وأفسدوا ما أصلحته، وشوشوا ما سوته، وحرموا الضعاف من برها وعطفها المباح؟!
لقد عجزنا وذهبت حيلتنا! وطمست علينا وجوه السبل لننقذ أنفسنا وننقذ ما فرحنا به من صور المثل العليا ومباهج الحياة! ولم يبق لنا إلا التعلق بيده، نسألها حيلتها ومكرها ليحيق بمكرها ليحيق بمكر أهل السوء!
لا وجوه:
لا وجه يطالعني مما أرى في الطبيعة ولا مما وراءها. . . لا وجه واضح المعالم محدث اللسان مضيء العينين! إنما هي أجسام غير محدودة ولا مشكلة إلا في النبات والحيوان. . . وما عداهما فأهراء من التراب والسحاب والحجارة. . . وأنصاب من الجبال، وأغوار من المياه. . . ثم صمت يكتنف الجميع. . . . . .
أمد نظري إلى عالم التراب فيقف مصدودا لدى عتبات الباب. . وأمده إلى السحاب فيضيع في الضباب. . . وأمده إلى النجوم فيرتد حسيراً، وأمده إلى أغوار الماء فلا يرى إلا خياله. . .
لا وجه إلا وجه الإنسان؛ وهذا قريب حاضر، ولكنه مثلي قاصر. . . ووجه الله، وهذا بعيد جليل لا يستطاع التحديق إليه. . .!
طالما وقفت وقوف العاجز المسجون أطلب أن أرى وجهاً آخر غير وجه الإنسان ليحدثني(618/14)
عن أسرار الحياة!
عبد المنعم خلاف(618/15)
أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
للدكتور جواد علي
علق معالي الأستاذ مصطفى باشا عبد الرزاق في كتابه القيم (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) على اسم أبي سعيد أبي الخير، وفي أثناء عرضه لرأي المستشرق (تنمان) , بهذا التعليق: (لم أجد ذكراً فيما بين يدي من مراجع البحث لأبي سعيد أبي الخير، لكن يوجد أبو سعيد احمد بن عيسى الخراز نسبه إلى خرز الجلود من القرب ونحوها من أهل بغداد، وقد ذكره صاحب كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف) وقال السيد مصطفى العروسي في حاشيته على شرح لرسالة القشيرية (هو شيخ الطائفة غير أنه توفي على الأرجح سنة 280 هـ (899م) وذلك يمنع أن يكون المراد بواضع علم التصوف قبل القرون الثاني أو في ثناياه).
ثم استمر معاليه قائلاً: (على أن الأستاذ ما سنيون ذكر في كتابه (مجموعة نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام) ص87 أبا سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440هـ (1048م) وذكر أنه خراساني وأشار إلى أنه كان يتحلل من القيود الدينية وكان ذا صلة بالفيلسوف ابن سينا، وليس أبو سعيد ابن أبي الخير هذا هو المقصود بالضرورة)
ثم ذكر معاليه بعد هذه الفقرة نصوصاً فيمن يصح أن ينسب إليهم التصوف وفيهم اسم أبي سعيد الخراز البغدادي. وحين تحدث المستشرق أبي سعيد تحدث عن تطور التصوف في الإسلام وعن الأفكار الحديثة التي حلت بناديه كفكرة وحدة الوجود ثم ذكر تأثير بعض المتصوفة في التصوف كأبي سعيد أبي الخير في فارس والهند.
وتأثير أبي سعيد في متصوفة فارس تأثير مشهور معروف ولا سيما عند المستشرقين، وسبب ذلك على ما أرى هو أن هذا المتصوف كان في إيران، وكان يكتب في عصره أخذ الفرس فيه يدونون أفكارهم بلغتهم الوطنية، وفي عصر ظهرت فيه حكومات إيرانية أخذت تشجع اللغة الفارسية، فصار صاحبنا يكتب بهذه اللغة بأسلوب سلس جذاب وينظم بها نظماً جديداً على طراز مبتكر فريد، وفضلاً عن ذلك فإنه لم يغادر وطنه على ما هو معروف عنه. ومع ذلك فإن الكتب العربية تحدث عنه كمتصوف عظيم ونعتته (بشيخ الوقت ومقدم شيوخ الصوفية وأهل المعرفة في وقته)(618/16)
وأما قول معاليه حكاية عن رأي تنمان: (ثم جاء التصوف فعرض لهذا العلم المؤلف من اصطلاحات خاوية وانضم إليه خصوصاً عند فرقة القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف الذي وضعه قبل القرن الثاني أو في ثناياه أبو سعيد أبو الخير، ولا تزال تلك الفرقة منتشرة في فارس والهند) ففيه التباس على ما أعتقد نتج إما عن خطا في الأصل وقع فيه المستشرق - وهو حكم لا أستطيع أن أجزم به لعدم وجود كتاب المستشرق لدى في الوقت الحاضر - وإما عن صعوبة في العبارة ووهم في الترجمة أو الاختصار إذ لا يوجد شخص آخر في تاريخ التصوف بهذا الاسم وبهذه الصفات ظهر أثره في فارس واتهم بالتحليل من قيود الدين بالقول بوحدة الوجود غير هذا الشخص الذي نتحدث عنه الآن والذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس للهجرة، لا قبل القرن الثاني أو في ثناياه كما جاء في الكتاب.
والمستشرقون من ذوي التخصص في موضوع التصوف حين يتحدثون عن المتصوفة يتحدثون عن أبي سعيد كمثل بارز من أمثلة المتحررين والقائلين بوحدة الوجود. وكتب التصوف الفارسية تعتبره أمة بنفسه في عالم التصوف، صاحب مدرسة ورأي. ومن البديهي أن يكون الشخص الذي بحث عنه تنمان هو هذا الشخص الذي ذكره سائر المستشرقين وكتاب العرب والفرس
وأبو سعيد بن أبي الخير الذي تحدث عنه المستشرق، والذي نتحدث عنه الآن، هو شخصية مشهورة جداً وقد بحث عنه المستشرق المعروف إتى في رسالته التي وضعها في عام 1878 للميلاد، والمستشرق إلروسي زوكوفسكي ناشر كتاب (أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد) ثم المستشرق الثقة في موضوع التصوف الإسلامي الإنكليزي (نيكلسون)، والمستشرق (إدوارد براون) في كتابه القيم (تاريخ الأدب الفارسي). وهو أبو سعيد فضل الله بن أبي الخير ولد في غرة المحرم من عام 357 للهجرة (7 ديسمبر 967م) في ميهنه وهي مدينة من إقليم خابران بخراسان وتوفي في 4 شعبان من عام 440 للهجرة (12 يناير من عام 1049 للميلاد)، وكان أبوه عطاراً، ولكنه كان فناناً موهوباً محبوباً من السلطان محمود الغزنوي ملك غزنة.
يقول فريد الدين عطار: رسم أبو الخير والد أبي سعيد على جدران بيته صورة بديعة(618/17)
للسلطان محمود الغزنوي وهو في وسط معركة حامية الوطيس تحف به فيلته وجنوده على طريقة الهنود في المعارك، فلما أبصر ابنه أبو سعيد هذه الصورة وهو طفل يافع نقش على جدران البيت أسماء الله الحسنى فلم يترك مكاناً إلا كتب عليه اسم الله العظيم. فلما رأى ذلك والده امتعض كثيراً ووبخه على عمله الذي سبب تسويد الجدران وتشويه منظرها. فما كان من الطفل إلا أن أجاب: (نقشت يا والدي على الجدار اسم سلطانك، ونقشت أنا اسم سلطاني)
فخجل الوالد من هذا الجواب وأمر بإزالة معالم ما رسمه هو على الجدار.
درس أبو سعيد، على طريقته ذلك الوقت، النحو والفقه والتفسير والحديث والشعر وعلم الطريقة، وحفظ من شعر العرب وحده ثلاثين ألف بيت ناهيك بشعر العجم. ولما توسم أبوه فيه الخير أخذه إلى أكبر شيخ في بلده وهو الشيخ أبو القاسم الكركاني من كبار المتصوفة وأصحاب الطرق ليتبرك به ولينال على يديه العلم والفوز والسعادة.
كانت الأحوال السياسية والاجتماعية في هذا العصر سيئة جداً: أمراء يتذابحون على جيف الدنيا، وسلاطين يتقاتلون على ملك زائل لن يدوم، ومشايخ يتحاسدون على نعمة لا تساوي شيئاً،
وانحطاط في الخلق إلى أقصى حد، ونقص في المثل الإسلامية العليا، وشذوذ في الطبع غريب، وتكالب غلى المادة. فرأى الناس أن المخرج الوحيد للخروج من هذا المأزق هو محاربة المادة عن طريق التصوف، ومجاهدة الدنيا عن طريق الزهد. فنفقت سوق المتصوفة وراجت بضاعتها. ويجب ألا ننسى بأننا في بلد فيه استعداد لهذا المبدأ قديم، والهند وهي عش من أعشاش التصوف تجاوره وقد أمدته وغذته بهذه المادة منذ العصور التي سبقت الإسلام.
وكانت العادة أن ينتقل طالب العلم في ذلك الوقت من مكان إلى مكان طلباً للعلم وبحثاً عن شيخ شهير. وفي ذات يوم وبينما كان الغلام يغادر المدرسة إلى البيت إذا بأحد الفضوليين من المارة يسأله عما درس وعن الكتاب الذي درس فيه، وأخيراً عن (ماهية الحقيقة) ولما لم يكن أبو سعيد يعرف شيئاً عن ماهية الحقيقة تشوش واضطرب، فأجيب: (حقيقة العلم ما كشف عن السرائر) فأثار هذا الجواب في نفسه شوقاً عظيماً إلى معرفة الحقيقة ولم يزل(618/18)
يبحث عنها حتى وجدها في أروقة الزهاد والمتصوفين. اتصل وهو يمرو بالفقيه الشافعي أبي عبد الله الحصري، ثم تحول إلى أبي القفال، والظاهر أن دراسة الفقه لم تجد في نفسه هوى ومكانة فانتقل إلى (سرخس) وهناك اتصل بصوفي مجذوب هو لقمان السرخسي، وقد أرشده هذا الصوفي إلى صوفي آخر هو (أبو الفضل حسن) تلميذ أبي نصر السراج على طريقة الجنيد البغدادي المتوفى عام 297 للهجرة وعام 909 للميلاد.
أتقن أبو سعيد مبادئ التصوف واجتاز الامتحانات النفسية الشاقة ونال (الخرقة من أبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري (المتوفى عام 412 للهجرة) وأصبح درويشاً من الدراويش من أهل المسلك والذوق وقطباً من أقطاب التصوف في منطقة خراسان.
والتصوف في نظر أبي سعيد أبي الخير هو (طرح النفس في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والنظر إلى الله بالكلية)
وبعد سياحة في البراري والقفار على طريقة الفقراء دامت سبع سنوات لم يبال خلالها بحر أو ببرد عاد أبو سعيد إلى مخالطة الناس ومجالستهم، ونال خرقة ثانية من أبي العباس القصاب بمدينة (آمل) إلى أن حل أخيراً بنيسابور.
بلغ أبو سعيد منزلة عالية جداً في التصوف، والتف حوله جم غفير من المريدين رأوا في سيرته سيرة الرجل الزاهد الصالح الذي وصل إلى مرتبة الجد والفناء. فكانوا يتبركون به ويتهالكون عليه. والسعيد منهم من حصل على قطرة ماء من ماء وضوئه ليتبرك بها. حكى أنه سقطت منه قطعة من قشر البطيخ (الرقي) فهالك أصحابه عليها واشتراها أحدهم بعشرين ديناراً. وأبو سعيد كسائر كبار المتصوفة من أصحاب الحس المرهف والخيال , فنان موهوب بطبعه، حلو الحديث، سلس العبارة، كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا الذهب في هذه العقيدة. وقد سما خياله في هذا الباب حتى على خيال بايزيد البسطامي (المتوفى عام 261 للهجرة) والحلاج. وقد تحلل في كثير من أقواله عن القيود المألوفة، لم يجسد في ذلك حرجاً ولا غضاضة. والأنبياء وعددهم (124) ألف نبي كلهم في الدرجة سواء جاءوا لتحقيق شيء واحد هو (معرفة الله) ولكن متى تمت هذه المعرفة عرف الإنسان كل شيء وسقط عنه كل شيء وتساوي لديه كل شيء.(618/19)
والشريعة هي ظاهر المعرفة، لذلك فهي لا توصل إلى المعرفة لأنها ظاهر الحق جاءت لمن لا يعرف الحق ولم يؤت العلم الصحيح. والسبيل الوحيد الذي يسلك بنا إلى المعرفة هو مسلك (الطريقة) وذلك لا يتم طبعاً إلا بعد جهد جهيد يصل الإنسان في نهايته إلى إدراك (الحقيقة) ثم إلى (النهاية) التي هي فوق (الحقيقة) وهي (المعرفة) التي لا يمكن إدراكها إلا بعد إدراك (علم اليقين).
ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ (عين اليقين). ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً (بالمعرفة) التي تشع بنورها على القلوب وتتجلى عندئذ أسرار النبوات وحقائق الكتب المنزلة قلا حاجة إلى نبوة أو وسيط (لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل) وحيث أن القليل من الناس من يصل إلى هذه المرتبة احتاج الناس إلى الأنبياء والوسطاء ليكونوا سفراء بين الحق والناس.
البقية في العدد القادم
الدكتور جواد علي(618/20)
من تاريخ الأدب الفرنسي
بوفون وحديثه عن الأسلوب
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(بقية ما نشر في العد الماضي)
ولاشيء كذلك أيضاً يضاد الفصاحة الحقة إلا استخدام هذه الخواطر الضعيفة والبحث عن الأفكار السطحية المنحلة التي لا صلابة فيها، والتي تشبه أوراقاً معدنية مطروقة لا تنال اللمعان إلا بفقدان الصلابة، وكلما أفرغنا من هذه الروح الضعيفة اللامعة في مؤلف قل نصيبه من القوة والوضوح والحرارة والأسلوب، إلا إذا كانت هذه الروح هي الغرض من الموضوع، ولم يكن للكاتب هدف إلا الفكاهة. إن فن الحديث عن الأشياء الصغيرة ربما كان أصعب من الحديث عن الأمور العظيمة.
لاشيء أكثر مضادة للطبيعة السليمة إلا التعب الذي يتكلف للتعبير عن أشياء عادية أو شائعة بطريقة شاذة أو مبهرجة، ولا شيء ينزل الكاتب عن درجته أكثر من ذلك؛ ففضلاً عن عدم الإعجاب به يلام لأنه قضى وقتاً طويلاً في تركيب مقاطع جديدة لأجل ألا يقول إلا ما يقوله كل الناس. هذا عيب النفوس المتعلمة العقيم، فلديها كلمات كثيرة، ولا أفكار عندها. مجال عملها إذا الكلمات، وتتخيل أنها كونت فكراً ما دامت قد رصت جملاً. وأنها قد نقت اللغة في حين أنها قد أتلفتها بتغير معناها هؤلاء الكتاب ليس لهم أسلوب، أو - إن شئت أن تقول - ليس لهم منه سوى الظل. إن الأسلوب يجب أن ينقش بالأفكار، وهم لا يعرفون إلا أن يرسموا ألفاظاً.
للكتابة الجيدة إذاً يجب امتلاك ناصية الموضوع امتلاكاً تاماً، والتفكير فيه تفكيراً كافياً حتى يرى الكاتب بوضوح نظام عناصره، ويكونها متتابعة، ويجعل منها سلسلة متصلة فيها كل نقطة تمثل فكرة، وعندما يأخذ القلم يجب أن يعالج الموضوع يالتوالي مبتدئاً بالنقطة الأولى من غير أن يسمح له بتركها، أو أن يعنى بالعناصر عناية غير متساوية، أو أن يضع عنصراً في مكان غير مكانه المحدد له والذي يجب أن يشغله. بهذا تبدو صراحة الأسلوب، وذلك أيضاً هو الذي يجعل منه وحدة، وينظم سرعته، وهو فقط ما يكفي لأن يجعل(618/21)
الأسلوب دقيقا بسيطا متساوياً، واضحاً، حياً، متتابعاً.
إذا ضم إلى هذه القاعدة الأولى التي يكفل تحقيقها الموهبة - الرقة، والذوق، والدقة في اختيار التعبيرات، والعناية بألا تسمى الأشياء إلا بأكثر الأسماء عمومية حاز الأسلوب نبلاً، وإذا ضم إلى ذلك أيضاً الاحتراس من أول انفعال والاحتقار لكل ما ليس فيه سوى البريق والنفور الدائم من الإبهام والسخرية، نال الأسلوب رصانة وجلالاً أيضاً. وأخيراً إذا كتب الإنسان كما يفكر، وإذا كان مقتنعاً بما يريد أن يقنع به سواه، أنتج هذا الاقتناع الذي يرتاح إليه الغير، وصدق الأسلوب - كل آثارهما على شريطه ألا يعبر عن هذا الاقتناع الداخلي بعبارات حماسية قوية، وأن يكون دائماً، التحرز أكثر من الثقة، والتعقل أكثر من التحمس.
هكذا، أيها السادة، يبدو لي وأنا أقرؤكم أنكم حدثتموني وعلمتموني: وإن روحي التي تلقت بشراهة إلهامات الحكمة هذه رغبت في القفز والارتقاء إليكم؛ وما أضيعها من جهود. إن القواعد، كما قلتم أيضاً، لن تحل محل الموهبة، فهي إذا فقدت أصبحت القواعد غير مجدية. فالكتابة الجيدة هي التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً، هي أن يجتمع للمرء ذكاء وإحساس وذوق. وإن الأسلوب يتطلب اجتماع القوى العقلية وتمرينها. والأفكار وحدها تكون روح الأسلوب، وتناسق الكلمات ليس إلا تابعاً، ولا يتعلق إلا بحساسية الأعضاء. ويكفي أن تكون لك أذن دقيقة نوعا ما لتتجنب تنافر الكلم، ويكفي أن تمرنها وتكملها بقراءة الشعراء والخطباء، لتندفع بدون وعي إلى تقليد التناسق الشعري والأسلوب الخطابي، لكن التقليد لم يخلق شيئاً، وتلاؤم الكلمات أيضاً ليس أساس الأسلوب، ولا قوته، وكثيراً ما يوجد في مؤلفات خالية من الأفكار.
متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، ولا يصح أن تنال قسراً، بل يتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه، وترتبط غالباً باستخدام العبارات العامة التي تجذب إليها الأفكار. وإذا كان من المستطاع الارتفاع إلى أعظم الأفكار عمومية، وإذا كان الموضوع في نفسه عظيماً، ارتفعت النغمة إلى المستوى نفسه. وإذا قدمت الموهبة ما يكفي لأن يوضح كل غرض وضوحاً تاماً مع احتفاظ النغمة بهذا المستوى؛ وإذا أمكن أن نضيف جمال التلوين إلى قوة الصورة، وفي كلمة واحدة، إذا كان من المستطاع أن نبرز كل فكرة في صورة حية محددة تحديداً تاماً، وأن نكون من سلسلة الأفكار لوحة متسقة، حية - لم(618/22)
تكن قوة الأسلوب رفيعة فحسب، بل غاية السمو.
هنا، أيها السادة، يكون التطبيق أفضل من القاعدة، والأمثلة تفيد أكثر من النظريات، ولكن بما أنه لا يسمح لي أن أذكر القطع السامية التي كثيراً ما أثرت في لدى قراءة مؤلفاتكم أجد نفسي مضطراً إلى الوقوف عند حد التأملات. إن المؤلفات الجيدة الكتابة هي وحدها فقط التي تنتقل إلى الخلف، وإن كمية المعارف، وطرافة الأعمال بل وجدة المكشوفات ليست ضمانات كافية للخلود. وإذا كانت الكتب التي تحويها لا تتحدث إلا عن أغراض تافهة، أو إذا كانت مكتوبة بلا ذوق ولا سمو ولا موهبة، فسوف تبيد؛ لأن المعارف والموضوعات والمكشوفات تسرق بسهولة وتنتقل، بل وتكتب أيضاً بأيد أكثر مهارة. إن هذه الأشياء خارجة عن الرجل، أما الأسلوب فالرجل نفسه وإذا فالأسلوب لا يستطاع سرقته ولا نقله ولا تحريفه، فإذا كان رفيعاً نبيلاً ساميا صار المؤلف أيضاً موضعاً للإعجاب في كل زمان لأنه لا شيء يبقى ويخلد سوى الحقيقة، وإذا فالأسلوب الجميل لم يكن كذلك إلا بما يبرزه من عدد لا يفنى للحقائق، وكل المحاسن العقلية التي به، وكل التفصيلات التي يتكون منها حقائق بمقدار نفعها، وقد تكون أغلى عند النفس الإنسانية من هذه الحقائق التي تستطيع أن تكون أساس الموضوع
إن السمو لا يستطيع أن يوجد إلا في الموضوعات العظيمة. والشعر والتاريخ، الفلسفة، لها كلها موضوع واحد عظيم هو الإنسان والطبيعة؛ فالفلسفة تصف وتصور الطبيعة؛ والشعر يصورها ويزخرفها، ويصور الناس أيضاً ويمجدهم ويبالغ في أوصافهم، ويخلق الأبطال والآلهة. والتاريخ لا يصور إلا الناس ويصورهم كما هم؛ وهكذا نغمة المؤلف لا تصير سامية إلا عندما يضع صور أعاظم الرجال، وعندما يعرض أعظم الأعمال وأعظم الحركات، وأعظم الثورات. وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون جافاً عابساً، ونغمة الفيلسوف تسمو في كل حين يتحدث فيه عن قوانين الطبيعة، والمخلوقات بوجه عام، وعن المكان، والمادة، والحركة، والزمن، والروح والنفس الإنسانية والعواطف والانفعالات؛ وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون فخما عاليا. ولكن نغمة الخطيب والشاعر، متى كان الموضوع عظيماً، يجب أن تكون سامية دائماً؛ لأنهم السادة الذين يجمعون إلى سمو موضوعهم سمو التصوير والحركة والتخييل الذي يسرهم، ولأن من الواجب عليهم أن(618/23)
يصوروا الموضوعات ويفخموها - يجب أيضاً في كل حين أن يستخدموا كل قواهم وأن ينشروا ما تستطيعه عبقريتهم.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(618/24)
القضايا الكبرى في الإسلام
14 - قتل سعيد ابن جبير
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
إذا أردنا أن نصل إلى ما يرضي العدل والإنصاف في هذه القضية الكبيرة، وجب أن يسير البحث فيها بقطع النظر عن شخصية المقتول وشخصية القاتل، لأنا إذا نظرنا إلى شخصية المقتول فسنجد أنه كما قال فيه خصيف: من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، بالحلال والحرام طاووس، بالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبير، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير. وسنجد أيضاً أنه كان كما قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.
وإذا نظرنا إلى شخصية القاتل وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، فسنجد الناس يكادون يجمعون على أنه كان ظالماً جباراً، وقد قال ابن خلكان: كان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال إن زياداً أراد يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسيات، إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر
وقد نظر الناس إلى هذه القضية متأثرين بشخصية سعيد وشخصية الحجاج فلم يوفقوا كل التوفيق فيها من الناحية القضائية، ولم يصلوا إلى حكم يرضى القضاء كل الرضا، ولا يتأثر بعاطفة الحب والكره، وإذا خالفناهم في ذلك فسنصل إلى حكم في هذه القضية يرضي كل منصف من الناس، لأنه يراعي فيه كل وقائع القضية من ناحية الحجاج وسعيد، ويبين تبعة كل منهما في هذه الوقائع.
اضطرب أمر المسلمين بعد قتل عثمان رضي الله عنه اضطراباً كبيراً، فوقعوا في فتن شديدة كادت تقضي على الإسلام في مهده لولا أن الله كان يهيئ لهم فترة من الاجتماع بعد التفرق، فيمضي الإسلام ظافراً في فترة الاجتماع وينظر العقلاء إلى ظفره فيرضيهم ويجعلهم يغمضون أعينهم على ما في حكمهم من قذى حذراً من التفرق وما يجلبهم على الإسلام من أكبر الضرر، وقد جاء الإسلام بجواز ارتكاب أخف الضررين، وكانوا مع هذا يرضون الله بالنصح الرفيق، والبعد عن الاشتراك في ذلك الحكم، وكان من هذا الفريق(618/25)
الحسن البصري رضى الله عنه، وهو سيد التابعين وأكبر علماء عصره قدراً، فكان يبتعد عن وظائف الحكم منكراً له في الصمت، ولا يقصر في توجيه النصح الرفيق للحكام، وقد شكا إليه الحجاج ما يجده في مرض موته فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين فلججت. فقال له الحجاج: يا حسن، لا أسلك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي. فبكى الحسن بكاء شديداً!
أما سعيد بن جبير فأنه لم يبتعد عن وظائف هذا الحكم، فكان في أول أمره كاتباً لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وقد ولاه الحجاج القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي. وكان سعيد مولى لبني والبة بن الحارث، وهم بطن من بني أسد بن خزيمة، فاستقضى الحجاج أبا بردة بن موسى الأشعري، وأمره ألا يقطع أمراً دون سعيد بن جبير، ثم جعله في سماره وكلهم من رؤوس العرب، وكان الحجاج يعرفه من عهد ولايته على الحجاز، وقد أعطاه في أول ما رآه مائة ألف درهم يفرقها في أهل الحاجة، ولم يسأله عن شيء منها.
وفي سنة ثمانين من الهجرة جهز الحجاج جيشاً لغزو رتبيل ملك الترك، وولى عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجعل سعيد بن جبير على عطاء الجند، وكان الحجاج يبغض عبد الرحمن ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وقد سمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم، فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. وكان عبد الرحمن ينتمي إلى ملوك كنده، فيعتز بنفسه ولا يخضع للحجاج كغيره، وكان يبطن التشيع لعلي (ع) كغيره من أهل الكوفة، فأراد الحجاج أن يرسله في تلك الغزوة النائية ليتخلص منه ويشغله بالجهاد وكان قد غزا رتبيل قبله عبيد الله أبي بكرة في جيش كثيف فهلك في تلك البلاد فسار عبد الرحمن حتى وصل إلى بلاد رتبيل فأوغل فيها، وفتح كثيراً من حصونها، فلما حاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يده من الغنائم، حبس الناس عن الوغول في تلك الأرض وقال لهم: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجييها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، في أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.(618/26)
ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، بهذا الرأي الذي رآه لهم، فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: كتابك كتاب أمريء يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فأن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس، فحله وما وليته. فكبر ذلك على عبد الرحمن، ثم جمع الناس إليه ودعاهم إلى الخروج على الحجاج فأسرعوا إلى إجابته، وكان أكثرهم من أهل العراق الذين يضمرون البغض لبني مروان، ولم يقتصروا على خلع الحجاج، بل خلعوا بعده عبد الملك بن مروان، ونادوا بعبد الرحمن أميراً عليهم وانقلبوا في يوم وليلة يذكرون ظلم الحجاج، وظلم عبد الملك بن مروان، وكانت بيعتهم لعبد الرحمن: تبايعون على كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم، وجهاد المحلين، فإذا قالوا نعم بايع. ثم صالح رتبيل على أنه إن ظهر على الحجاج فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراده الجأه عنده، وكان سعيد بن جبير فيمن خرج مع عبد الرحمن وبايعه.
ولاشك من ينظر إلى هذه الوقائع يجد أن عبد الرحمن لم يخرج على الحجاج غضباً لله تعالى، وإنما خرج غاضباً لنفسه حين كتب إليه الحجاج يرميه بالعجز والضعف، ويولي مكانه أخاه إسحاق ابن محمد، وقد دفعه الغرور بنفسه إلى هذا الخروج وهو ليس بأهل لما نصب نفسه له من الإمارة على المسلمين، وقد كان يوجد من الصحابة والتابعين في عصره من لا يذكر بجانبهم، ومع ذلك آثروا السكون للمصلحة، ورأوا أن الإسلام في حاجة إلى فترة من الهدوء بعد تلك الفتن، ولقد أساء عبد الرحمن إلى الإسلام حين صالح رتبيل ذلك الصلح الشائن، وعمد إلى السيف الذي كان يجب أن يصوبه إليه فصوبه إلى رقاب المسلمين، وأعادها فتنة عمياء كتلك الفتن التي لا يزال الإسلام يجني آثارها إلى اليوم، ولكن الغلطة غلطة الحجاج حين يولي عبد الرحمن هذه الإمارة وهو لا يثق به، ويعرف أنه لا يخلص لأهل دولته، وقد نصحه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعه، فوالله ما وصل جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً، وأني أخاف خلافه. فقال الحجاج: ليس هناك، هولي أهيب، وفيَّ أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي.
وكان على سعيد بن جبير أن يعرف كل هذا، وان يذكر كل ما كان بينه وبين الحجاج، وألا(618/27)
يجر نفسه وراء أطماع عبد الرحمن في الإمارة والملك، وهو رجل عالم صالح لا أطماع له في مثل ما يطمع فيه، ولا يليق به أن يستخدمه مثله في أغراضه، وما كان أجدره أن يبعد عن الحجاج كما بعد عنه إخوانه من العلماء، وأن يترفع عن وظائفه وأمواله كما ترفعوا عنها، حتى لا يكون له حجة عليه في يوم من الأيام، ولا يؤاخذه بها إذا لم يقم بواجب الإخلاص له عليها وقد جرت حروب شديدة بين الحجاج وعبد الرحمن، ذهبت فيها دماء غزيرة من المسلمين، ولو أنها وجهت إلى رتبيل لاستفاد منها الإسلام، وانتفع منها المسلمون، ثم انتهت هذه الحروب بانتصار الحجاج؛ ففر عبد الرحمن إلى رتبيل يطلب أمانه على ما كان بينهما من الصلح، وهرب سعيد يتنقل في البلاد إلى أن قصد مكة، فكان هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحد أسمائهم، فلما ولى خالد بن عبد الله القسري مكة قبض عليهم وأرسلهم إلى الحجاج، وكان لا يعفو عمن خرج مع عبد الرحمن إلا إذا قال له: أتشهد أن قد كفرت؟ فإذا قال نعم عفا عنه وإلا قتله، وهو يرى في ذلك أن من يخرج على الإمام يكون كافرا، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن من مات ولا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، وقد أخطأ الحجاج فهم ذلك الحديث، لأن معناه أنه يموت على مثل ما كان الناس عليه في جاهليتهم، إذ لم يكن لهم إمام يجمع كلمتهم وليس معناه أنه يكون كافراً مثلهم. وكانت مواقف حرجة قتل فيها كثير من العلماء الذين كبر عليهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكان لبعضهم لباقة أنقذته من ذلك الموقف الحرج، كما فعل الشعبي وقد أشار عليه إخوانه ونصحاؤه أن يعتذر أمام الحجاج ما استطاع من عذر فلما دخل عليه رأى غير ما ذكروا له، فسلم عليه بالإمرة وقال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف.
ولم يكن لسعيد بن جبير مثل لباقة الشعبي، بل اضطرب أمره حين وقف أمام الحجاج، ولم يلتزم طريقاً واحدا ينفعه في هذا الموقف الحرج، مع أن الحجاج قد لوح له بأنه يجب أن(618/28)
يعفو عنه، فإنه حين رآه قال: لعن الله ابن النصرانية - يعني خالداً - أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو في بمكة. ثم أقبل عليه فقال له: يا سعيد، ألم أشركك في إمارتي؟ ألم افعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا بشر يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شئ فقال له: إنما كانت بيعة في عنقي. فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال بلى. قال: ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانياً؟ قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك بن الحائك، والله لأقتلنك. قال: إني إذن لسعيد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت عنقه وإياه عني جرير بقوله:
يا رُبَّ ناكثِ بيعتين تَركتَه ... وخضابُ لحيته دَمُ الأوداج
وقد كان على سعيد وقد اعترف على نفسه بالخطأ في خروجه على الحجاج أن يمضي في ذلك حتى يحقن دمه، وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وما كان له بعد هذا. أن يعتذر ببيعته لعبد الرحمن، لأنه قد اعترف بخطئه فيها، ولا معنى بعد هذا للاعتذار بها.
وإذا كان سعيد قد أخطأ تلك الأخطاء في هذه القضية، فإن خطأه في أنه لم يتورع عن ذلك الحكم الجائر كما تورع غيره من العلماء، وفي أنه أخطأ الطريق في إنكاره فغلا فيه ووضع يده في يد من لم يكن مخلصاً في إنكاره، ولعله أراد بذلك أن يكفر عن عدم تورعه عنه في أول أمره، ولكن تلك الأخطاء بالغة ما بلغت لا تبلغ خطأ الظلم نفسه، فكان على الحجاج أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب سعيداً، وان يعرف أن ظلمه هو الذي أوقع سعيداً وغيره فيما وقعوا فيه، ولو أنه فعل ذلك لأراح نفسه وأراح الناس جميعاً
عبد المتعال الصعيدي(618/29)
الأسرة والمجتمع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد من سعة الاطلاع، ورجاحة الفكر، والتمكن من ناصية البيان، ما يتيح له علاج أي موضوع من موضوعات الآداب والعلوم علاج الإحصائي الأريب، ويسمو ببحوثه في نباهة الشأن، والمعية التحقيق إلى منزلة منقطعة النظير. وقد تجلت خصائصه هذه جميعاً في مقاله القيم بعدد الرسالة السابق عن كتابي (الأسرة والمجتمع) الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية).
غير أنني - إذ أبدي كبير إعجابي بكلمته الممتعة عن هذا الكتاب، وأقدم إليه جزيل الشكر لما وجهه إلى الكتاب وصاحبه من عبارات الإطراء والمديح، وبذله في دراسة مسائله من عناية مشكورة، ولما أبداه بصدد من ملاحظات قيمة تنم على دقة التأمل وعمق التفكير - أرى من الخير أن ألقي نظرة على بعض ما ورد في ملاحظاته من أمور تحتاج إلى مزيد من التوضيح.
فمن ذلك ما ذكره الأستاذ بصدد تماسك أجزاء الكتاب، وذلك إذ يقول: (ويظهر أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة. أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، فتكررت فيه العبارات بمعنى واحد، وورد بعض الأسماء بألقاب مختلفة.
ولكنه على هذا مطرد السياق، متتابع الفصول، يتمم اللاحق منه ما سبقه من الأجزاء، وينتقل فيه القارئ من تمهيد، إلى مقدمة إلى نتيجة بغير انقطاع).
ولا أدري كيف تتوافر هذه الصفات الأخيرة في كتاب، ثم يُظن مع ذلك أن بعض فصوله قد كتبت بمعزل عن بعضها الآخر، أو أنه قد ألف في أوقات متفرقة؟! أما تكرار بعض العبارات في مواطن مختلفة من هذا الكتاب، فقد تعمدته تعمداً، ورأيت أن تماسك أجزاء المؤلف لا يستقيم بدونه. وذلك أنني قد عمدت إلى هذا التكرار في موضعين يظهر كليهما القصد وشدة المحافظة على ربط الأقسام بعضها ببعض.
أحدهما أنني قد ذكرت في المقدمة الحقائق الأساسية، أو (الفكرة التي سأعني باستخلاصها من بحثي لظواهر الأسرة. ثم كررت في الخاتمة هذه الحقائق نفسها، أو هذه(618/30)
(الفكرة)، بعباراتها المذكورة في المقدمة بعد أن كشفت لي دراستي للموضوع عن صحتها، ومهدت لي سبيل استخلاصها. وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحافظة على اطراد السياق وربط أجزاء الموضوع بعضها ببعض، ويصل إليه الحرص على اتفاق نتيجة الدليل مع نفس القضية التي جعلت موضوعاً للاستدلال. وقد كان لي في منهج علماء الرياضة أسوة حسنة في هذا السبيل. فقد جرت عادة الرياضيين في علاجهم لنظرياتهم أن يعرضوا أولاً نص النظرية التي يريدون دراستها، ثم يأخذون في الاستدلال على صحتها، حتى يصلوا إلى نتيجة تتفق في عباراتها اتفاقاً تاماً مع نفس هذا النص.
والموضوع الثاني الذي تعمدت فيه التكرار لشدة المحافظة على ربط أجزاء الكتاب بعضها ببعض يلاحقه القارئ في عرض طائفة من النظريات التي قال بها علماء الاجتماع. وذلك أن بعض هذه النظريات تشتمل على حقيقتين أو على حقائق كثيرة يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، ولكنها تتصل بموضوعات عرضت لها في عدة فصول من الكتاب؛ فاضطررت حيال كل نظرية من هذا النوع إلى تكرارها كاملة في فصلين أو أكثر مع عنايتي في كل فصل بالناحية التي تهم موضوعه منها وذلك كنظرية (ماك لينان) التي يذهب فيها إلى أن نظام قتل الأولاد في الأمم البدائية قد أدى إلى تحريم التزاوج بين الأقرباء وإلى اصطناع طريقة السبي في الزواج. فلما كان موضوع المحارم قد عرضت له في القسم الأول من الفصل الثاني وموضوع السبي قد عرضت له في القسم الثالث من هذا الفصل، وكانت نظرية (ماك لينان) تتصل بكلا القسمين، وتتوقف عناصرها بعضها على بعض اضطررت إلى تكرارها فيهما، مع اقتصاري في كل قسم على مناقشتها من الناحية التي تهم موضوعه.
وأما ورود بعض الأسماء في كتابي بألقاب مختلفة، فلا أرى في ذلك موضعاً للمؤاخذة متى كانت هذه الألقاب صحيحة، كما لا أرى فيه دليلاً على ما ظهر للأستاذ العقاد. فقد ذكرت (فريزر) مرة بلقب العلامة، ومرة بلقب العلامة الإنكليزي، ومرة بلقب الأستاذ، وجميع هذه الألقاب صحيحة لأن فريزر أستاذ علامة إنجليزي. وفعلت مثل ذلك بصدد مرجان ووستر مارك وباخوفين ودور كليم وماك لينان. . . وغيرهم ممن ورد ذكرهم في عدة مواطن من الكتاب. وقد يكون بعض الألقاب مقصوداً استعماله بالذات في مواطن ما لغرض يدل عليه(618/31)
سياق الحديث، وقد يكون غير مقصود. ولكن أمراً عاديا كهذا لا يدل على أي حال، على أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد. وان الواحد منا ليكتب خطاباً إلى صديق فيتحدث فيه عن شخص ثالث مرة بلقب الصديق، وأخرى بلقب الأخ، وثالثه بلقب الأستاذ، ورابعة بلقب الدكتور. . .، بدون أن يكون في ذلك دليل على أن الخطاب قد كتبت بعض أجزائه بمعزل عن البعض الآخر. وأكبر الظن ان الأستاذ العقاد نفسه لو كان قد ذكر اسمي في مقاله أكثر من مرة لتعددت ألقابي لديه عن قصد وعن غير قصد.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره الأستاذ بصدد خلاصة الكتاب إذ يقول: (وخلاصة الكتاب كله أن الأسرة نظام اجتماعي لا طبيعي، كما جاء ففي الفصل الثالث. . .)
وحقيقة الأمر أن خلاصة الكتاب، كما بينت ذلك بصراحة في مقدمته وفي فصله الأخير، تشتمل على ثلاث حقائق: إحداها الحقيقة التي أشار إليها الأستاذ العقاد؛ وثانيهما (أن نظم الأسرة ليست من صنع الأفراد، ولا هي خاضعة في تطورها لما يريده لها القادة والمشرعون. وإنما تنبعث من لقاء نفسها عن العقل الجمعي واتجاهاته، وتخلقها طبيعة الاجتماع وظروف الحياة، وتتطور وفق نواميس عمرانية ثابتة، وأن القادة والمشرعين ليسوا في هذه الناحية وغيرها إلا مسجلين لاتجاهات مجتمعاتهم ومترجمين عن رغباتها وما هيئت له. فإن انحرفوا في تشريعهم عن هذا السبيل كان نصيبهم الإخفاق المبين)؛ - وثالثه هذه الحقائق (أن نظام السرة في أمة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات هذه الأمة وتقاليدها وتاريخها وعرفها الخلقي وما تسير عليه من نظم في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والقضاء، وما تمتاز به شخصيتها الجمعية، ويكتنفها من ظروف في شتى فروع الحياة، وأنه في طريق تطوره يسير منسجماً مع هذه الأمور. فشأنه معها شأن جهاز مع بقية أجهزة الجسم الحي. يسير في أداء وظائفه ومناهج تطوره على طريق ينسجم مع طريق الأجهزة الأخرى؛ ولا يستقيم أمره وأمر الجسم الذي يحل فيه إلا إذا سار على هذا السبيل. فإن لم يراع القادة والمشرعون هذه الحقيقة في علاج النظام العائلي جاء إصلاحهم عنصراً غربياً في حياة الأمة، تتجرعه الجماعة تجرعاً ولا تكاد تسيغه، وتتظافر نظمها الأخرى على مطاردته ودفعه، ولا تنفك تطارده وتدفعه حتى تجهز عليه، فيصبح أثراً بعد(618/32)
عين، كجرثومة ضعيفة تنفذ إلى جسم منيع).
ولا تقل الحقيقتان الأخيرتان أهمية في نظري عن الحقيقة الأولى، بل إنهما لتزيدان عنها أهمية من الناحيتين العلمية والإصلاحية كما أنني لم أعن بواحدة منها أكثر من عنايتي بما عداها. ولا يظهر في الكتاب أي أثر لترجيح بعضها على بعض.
ومن ذلك أيضاً أنني ذكرت في الفصل الأخير من الكتاب لتأييد الحقيقة الأولى المشار إليها فيما سبق، أثني عشر دليلاً متماسكاً مترابطة يشد بعضها بعضاً، وتقضي في مجموعها على كل منفذ يتسرب منه الشك إلى هذه الحقيقة. وقد استخلصت هذه الأدلة استخلاصاً من دراستي لموضوع الأسرة، وذكرتها تحت أرقام مسلسلة، ولكن الأستاذ العقاد قد اقتصر على نقل فقرة واحدة من الدليل الأول وحده، وذكر هذه الفقرة في صورة يتبادر منها إلى ذهن القارئ أن هذا هو كل ما اعتمدت عليه. ثم ناقشها ورأى إنها لا تنهض حجة على تأييد النظرية التي أزيد تأييدها، وبني على معظم ما ذكره في مقاله.
وغني عن البيان أن بنياناً يقوم على اثنتي عشرة دعامة يأخذ بعضها بحُجَز بعض، ويشد بعضها بعضاً، يبدو ضعيفاً واهياً إذا لم يبق من دعائمه هذه إلا جزء من دعامة واحدة، ولا يحتاج هدمه في هذه الحالة إلى كبير عناء؛ وإن حكما بناء القاضي على اثني عشر سبباً تدل عند ضمها بعضها إلى بعض على صحة ما جاء به، ليبدو حكماً فطيراً ضعيفاً إذا لم ينشر من أسبابه هذه إلا فقرة من سبب واحد.
فلو أن الأستاذ العقاد قد ذكر جميع الأدلة التي أوردتها أو لخصتها لاتضح وجه الحق فيما أذهب إليه. بل لو أنه ذكر الدليل الأول وحده كاملاً لظهرت النظرية في شيء من قوتها.
أما النظرية التي ذهب إليها الأستاذ العقاد بصدد الدعائم التي يقوم عليها نظام الأسرة، وهي النظرية التي عارض بها نظريتي والأدلة التي أعتمد عليها لتأييد هذه النظرية فتحتاج مناقشة هذا كله إلى مقال طويل نرجئه إلى عدد قادم إن شاء الله، مع تكرار شكرنا للأستاذ الجليل لما قدمه إلينا من فضل، وما أتاحه لنا من فرصة للتحدث في هذا الموضوع الهام على صفحات الرسالة الغراء.
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة باريس(618/33)
فلاسفة المجتمع
ذوات الطنين. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجِاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
ولم أكد انتهى من إنشاد صاحبي شعر العبسي، حتى تقلص وانفرد، وقد ارتعشت شفتاه، وانفسحت بينهما مسافة مخيفة، انطلقت منها هذه الكلمات تتخلج ولا تتحرج: يأخي، جنبني شر شعرك هذا! فما عدت أومن بما للشعر من قيم وأقدار؛ قلت: أو يؤمن الشعر بمن لا يعرف أواصره وأنسابه؟
قال: أتريد أن تبرأ من هذا الشعر وفيه جودة التصوير والصدق. . . وصاحبي هذا نسيت أن أقدمه لقارئيه، حتى يطمئنوا إلى ما يجري على لسانه من حديث وجدل. . . فهو قد انبعث إلى أوربا بضاعة مزجاة، ثم ردت بضاعتنا إلينا مهوشة مضطربة ككل بضاعة وافدة من هناك، تنكر الفصحى وتتهم ثقافتها، وتعيش بمعزل عن كل ما يقرأ أو يكتب من الميمنة إلى الميسرة، والمعجب والطريف من أمره أن يده اليمنى معطلة، فهو مع شماله دائماً، قارئاً وكاتباً. . . فصاحبي رجل - أعور العقل واليد - ورحم الله الرافعي. . . قلت له: لن أبرأ من هذا الشعر وان كان للعبسي. . . فقد حدثتك نفسك، وهي ذكية، لولا ما يكتنفها من (كثافتك). حدثتك أن جواً خاصاً أعيش فيه يتنفس بهذا الشعر. . . والزمن مهما تراخى، لا بد واصل بوشائج وصلات، بين مظاهر الحياة ومفاتن المجتمع. . . كان ثمت للعبسي روضة وذباب. . . أفتتن بهما، وأفتن في تصويرهما. . . وقد أحتفظ نقدة الأدب ومؤرخوه بهذه الروعة المائلة في هذين البيتين، وظلت تتحدر من قمة الزمن، حتى ترسبت في سفح هذا الجيل، نابضة بالصدق، مزدانة بالتصوير. . .
روضة واحدة كان يغشاها العبسي غردة بذبابها، مخضلة بنداها. أما أنا وأنت يا صاحبي، فأينما اتجهنا، فرياض نواحة بذبابها (الأصيل) مخصوبة بلعابه السام. . . وذباب واحد كان يستهوي العبسي بنشيده الموقع المحبوب، في ضحوة الصبح وصفرة الأصيل. . .
وتسمع للذباب إذا تغنى ... كتغريد الحمام على الغصون(618/35)
ذباب يترشف ألحانه من كؤوس الزهر البليلة المشرقة في مطالع الربيع ومجالي الطبيعة، كما يحدث أبو النجم عن روضته الأنف التي تعل ذبابها من أكاليل الزهر وريحانه
أُنفٌ ترى ذبابها تعللهْ ... من زهر الروض الذي يكللهْ
أما أنا وأنت يا صاحبي، فقذى أعيننا مواكب الذباب الأصيل يستثيرنا بطنينه الملح الموصول في غدونا ورواحنا. . . ذباب يصوغ أصواته من دم الأخلاق الهزيلة الضالة، ولا ينشط إلا في عتمة الليل ومتاهات الظلام حيث ترهف الآذان، وتنحط معاني الحيوان. . . ولا تثقل عليك فلسفتي هذه يا صاحبي، فقد ذكر الجاحظ:
(إن للذباب وقتاً يهيج لأكل الناس وعضهم وشرب دمائهم، وإنما يعرض هذا الذباب في البيوت عند قرب أيامها، فإن هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً)
قال صاحبي: بقى جانب غامض في موقفك من هذه المخلوقات المتواضعة الصغيرة أرجو أن تجلوه لي: لم ترصد أجواء هذه الحشرات عدا عليها أنفاسها؟ أتنطوي عوالمها على أسرار ومعجزات؟ قلت: ولست بمحص لك أسرارها، فهي وحدها بمزاجها ودقة تكوينها سر هذه الأسرار، ثم في تأملها اعترف بقدرة خالقها، ورياضة للنفوس الزارية بها، ولعل الجاحظ أيضاً يريحك فيمنحك ثقة بها تباعد بينها وبين احتقارك لها. . .
أوصيك أيها المستمع المصيخ، ألا تحقر شيئاً أبداً لصغر جثته. وإياك أن تسئ الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين. . .
. . . ولعلك يا صاحبي تصدق أن الذباب لم يكن في أيام العبسي إلا ذباب الربيع الباكر البهيج، لا تكتحل العين به إلا في موسم وميعاد
وأما في أيامك، فهو كل ما تلقاه حيث أنت، عاكفاً بالليل، أو سارباً بالنهار.
كان في الزمن الأول يقتات نوافح الزهر، حيث لا يضطرب المجتمع بغير نوازع الحب والكبرياء الدافعة إلى خوض المضاجع والدماء، أسمعت العبسي ينشد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هذا. . . كان مشغلة لفن الشعراء، في قمة الزمن الأول. . . كبرياء الحب الصحيح مجلبه لاشتباك الأسنة والسيوف، عمل النفوس في النفوس صفاء، ووفاء، ودماء(618/36)
أما في (مستنقع) زمنك الأخير يا صاحبي، فمشغلة الكاتبين لجاجة الذباب. . كما سماها أستاذك الجاحظ فقد أصابه منها شر متطاير وثاب، ستأتيك قصته في خاتمة الحديث
استقرت لجاجة هذا الذباب الذي أصبحت تعرفه معي، على أوضاع تواثم دواعي الأيام، حيث يصطرع مجتمعه بأعاصير التعاطف الرخيص العاصف بالنفوس الذليلة، والضمائر العليلة، فأطعمه المجتمع شرائح الأعراض، فأمتصها غرداً كفعل الشارب المترنم ثم نفثها، طاقة ومجهوداً؛ فاستشرت الأدواء في الأصحاء. . . قتل وتجريح وإيذاء!!. .
قال صاحبي: الهذا آثرت الغافية. . ونجوت؟ قلت: ولمساخر أخرى يحجزني عن التصريح بها أنك رجل وقذك الورع، وأسقمتك التقوى، وتلك التي لم تستطع أوربا أن تبتزها منك!! وحسبك أن شيئاً وأشياء - تزيد على ما أصاب أستاذك الجاحظ - نالني من شر هذه المخلوقات، فألفيتني أعدوا وأجد؛ وقد سلبني (الذباب) راحة البال واطمئنان الخاطر، وقد يئست من استنقاذهما منه، ضعف الطالب والمطلوب! وظلت أعدو حتى انتهى الشوط
أأجد يا صاحبي ظلا وأمنا في هذا المكان؟ حيث لا للشر على الخير سلطان. . .
قال قل لي ما كان من أمر الجاحظ حين خرج يريد دير الربيع، فتلقاه الأندلسي قائلاً: مالك يا أبا عثمان؟ هل من حادثة؟
قلت يا صاحبي: هذه قصة تطول. . . فافرغ لي من شغل غدك، اكمل لك ما كان شأن أبي عثمان. . قال: وحينذاك أفتيك عن مصيرك في هذا المكان. .
أحمد عبد المجيد الغزالي(618/37)
المصطلحات العلمية والمجمع اللغوي
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
كنت مع الأستاذ العقاد فاختلفنا على لفظ (الوعي الباطن) أو (اللاشعور) والاصطلاح في اللغة الإنجليزي وفي الفرنسية قلت له ماذا تعني بالوعي؟ قال الوعي من الوعاء فتكون النفس أشبه بالوعاء الذي يحتوي الأحوال النفسية قلت له هذا رأي من الآراء في تعريف الشعور أو الوعي، وهناك رأي آخر لا يجعل الشعور كالوعاء الذي يحتوي الأحوال النفسية، ظاهرة كانت أم باطنة، بل يجعل الشعور كالمرآة التي تنعكس عليها الأحوال النفسية؛ فإذا كان الأمر كذلك فاستعمال لفظ اللاشعور أصح من استعمال الوعي الباطن.
واتفقنا على أن اصطلاح (العقل الباطن) الذي شاع استعماله في مصر وقتاً طويلاً، ليس اصطلاحاً ملائماً. فنحن إذن أمام ثلاثة مصطلحات: الوعي الباطن، واللاشعور، والعقل الباطن؛ فأيها نأخذ؟ وأيها صحيح؟ ومن يستطيع الحكم على صحة هذه المصطلحات وملاءمتها لمقتضى العلم، ومطابقتها لروح اللغة؟
مهما يكن من شيء فنحن في حاجة إلى اتفاق على المصطلحات العلمية في شتى أنواع العلوم التي تقدمت تقدماً عظيماً، ونريد أن ننقلها إلى اللغة العربية. فنحن في عصر النقل أو الترجمة. وأهمية الاتفاق على المصطلحات واضحة، إذ يمتنع اللبس وتقل البلبلة والاضطراب، ويستقيم الفهم عند المطلعين، ويسهل عليهم معرفة المقضود إذا كانوا على علم بالغات الأجنبية التي نأخذ عنها.
هذا الخلاف يزيد أمره وتتسع شقته بما يجري عليه علماء الأقطار الشقيقة من ترجمة تختلف عما يجري عليه العلماء في مصر ولو أن كل قطر من الأقطار العربية استقل بوضع المصطلحات العلمية، لا تنشر في اللغة العربية بعد زمن وجيز عدة ألفاظ للمعنى الواحد، فنبتعد بذلك عن روح الوحدة العربية أو الجامعة العربية التي نعمل على تحقيقها.
ونضرب لذلك مثلاً بما جاء في كتاب (المنطق) للأستاذ جميل صليبا، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو كتاب كبير فيه أبحاث جليلة، ولا يقلل من قيمة الكتاب ما نأخذه عليه من نقد. وصاحب الكتاب يذكر الاصطلاح العربي وإلى جانبه ومعناه بالإفرنجية. وهذا مما(618/38)
يسهل للقارئ خصوصاً المطلع على اللغات الأجنبية معرفة المعنى المقصود.
في ص10 علم قاعدي وقد درجنا في مصر على تسمية هذه العلوم بالعلوم المعيارية، كالمنطق والأخلاق وعلم الجمال، وهي تسمية مأخوذة عن العرب، وللغزالي كتاب أسمه (معيار العلم) يقصد به المنطق.
في ص 11 ميتودولوجيا أو علم الأصول وفي ص 55جعل عنوان الكتاب الثاني (المنطق التطبيقي أو علم الأصول). والميتودولوجيا نسبة إلى (الميتود) أي المنهج، ولهذا كانت التسمية التي اصطلحنا عليها وهي (مناهج البحث) أليق من (علم الأصول) خصوصاً وأن المسلمين يطلقون علم الأصول على أصول الدين أو أصول الفقه، وعندهم أن فلاناً عالم بالأصلين، يريدون الفقه والدين
وفي ص 15، (المعاني أو المفاهيم هي أبسط أجزاء التفكير المنطقي، لأنها العناصر الأولى التي تتركب منها الأحكام والأقيسة) وهذه القضية عليها خلاف، لأن الرأي الحديث بعد كانت الفيلسوف يجعل الأحكام هي ابسط أجزاء التفكير، وفي ذلك يقول جملته المشهورة (التفكير هو الحكم ' وليس مجالنا الآن تحقيق هذه المسألة.
وواضح أن المؤلف يجعل (المعنى) مرادفاً (للمفهوم) ولكل منهما دلالة معينة في المنطق. فالمفهوم في اصطلاح المناطقة مجموع الصفات التي يدل عليها اللفظ ولكن الأستاذ جميل صليبا يضع اصطلاحين جديدين للمفهوم والماصدق هما التضمن - والشمول، وكلاهما لا يصلحان للتعبير عن المفهوم والماصدق، كما أننا في غير حاجة إلى ابتكار مصطلحات جديدة إذا كان العرب قد وضعوها واستقرت في الاستعمال.
وكذلك ما يسميه (معاني الحرمان ص19 وفيها يقول (وهي تدل على الإيجاب والسلب معاً، مثل معنى الأعمى فهو لا يقال إلا على الموجودات القادرة على الرؤية) والعرب يسمون هذه الألفاظ (العدم والملكة) فهي ألفاظ عدمية، أي أن صاحبها كان يملك الصفة ثم عدمها، مثل العمى فهو عدم البصر، والصلع عدم الشعر.
ولا نريد أن نتعقب جميع ما ورد في الكتاب من مصطلحات مناقشتها، لأن غرضنا التنبيه على الخلاف الشديد الذي يذهب إليه المؤلفون في تعريب الألفاظ الأجنبية، وهذه فوضى عجيبة لا تبشر بالخير في عالم الثقافة العربية.(618/39)
وعلاج هذه الحالة ما رآه بعض المفكرين من إنشاء (المجمع اللغوي) الذي يضم قادة الفكر من علماء الأقطار العربية، وبعض المستشرقين، ومن أغراضه وضع المصطلحات العربية للألفاظ الأجنبية المستحدثة التي لم يضع لها العرب ألفاظاً.
وقد مضى على إنشاء المجمع زمن ليس بالقليل، ومع ذلك لا يزال سلطانه ضئيلاً، وآية ذلك أن العلماء يمضون في سبيلهم يضعون ما يعجبهم من اصطلاحات ولا يعترفون بما يفعله المجمع، فما السبب في ذلك؟
يرى الدكتور علي مصطفى مشرفه بك في كتابه (نحن والعلم) أنه ينبغي البدء بالنقل وتشجيع التأليف العلمي لإيجاد المصطلحات قال: (والتأليف العلمي هو الوسيلة الطبيعية لإيجاد هذه المصطلحات في لغتنا. فكل لغة حية إنما تنمو عن طريق التأليف والكتابة. واللغة العلمية وليدة التفكير العلمي، والمصطلحات العلمية في اللغات الأوربية إنما نشأت بهذه الطريقة، ونتجت عن نمو العلم والتأليف. ومن العبث أن يقوم مجمع بفرض المصطلحات على المؤلفين فرضاً، وإنما تأتي مهمة المجامع بعد مهمة المؤلفين لا قبلها، فالمجمع اللغوي يجمع ما ورد في الكتب العلمية من مصطلحات ويدونها ويفسرها.) ص15، 24
فما رأى أعضاء المجمع في هذه الدعوى التي يريد بها صاحبها أن يغلق أبواب المجمع اللغوي؟
ونحن نرى أن المجمع اللغوي بحالته الراهنة لا يستطيع أن يخدم اللغة العربية من جهة المصطلحات العلمية الحديثة، لأنه في واد، والمؤلفين والمترجمين في واد آخر. والواجب أن يتقرب المجمع من الجمهور ومن المشتغلين بشتى فروع العلم، وأن يتصل المؤلفون والمترجمون بالمجمع. وسبيل ذلك ما يأتي:
1 - إصدار مجلة المجمع بصفة جدية، على أن يكون إصدارها أسبوعياً في صفحات قليلة وتخصص للمصطلحات العلمية فقط؛ وأن تتخذ الصفة التجارية، من حيث الحجم والطباعة والإخراج والثمن والتوزيع، ولا بأس أن يدفع أجر لكل من يراسلها من المؤلفين والمترجمين، كما تفعل جميع المجلات. أما الاعتذار بصعوبة الحصول على الورق فأمر غير مفهوم.(618/40)
2 - تصنيف العلوم المختلفة، وهذا رأي يسير بطبيعة الحال، ثم تسجيل جميع المؤلفات العربية في كل علم أو فن، وتسجيل أسماء المؤلفين أو المترجمين مع بيان عنوانهم لسهولة الاتصال بهم.
3 - أن يخاطب المجمع العلماء والمؤلفين، ويطلب منهم رأيهم دون أن ينتظر منهم أن يخاطبوه هم. فالمجمع في حاجة إلى العلماء قبل أن يكون العلماء في حاجة إلى المجمع. وبذلك يكون المجمع همزة الوصل بين العلماء في شتى الجهات والأقطار، وسبيلاً من سبل التقريب
دكتور
أحمد فؤاد الأهوالي(618/41)
من وراء المنظار
متحمسان. . .!
كنا ذات صباح نحو عشرين رجلاً قد وقفنا واحدا خلف واحد ننتظر في قلق حتى تفتح نافذة تذاكر السفر؟ وأخذ يتزايد عددنا دقيقة بعد أخرى، وكان كل قادم يأخذ مكانه في ذيل هذا الخط الطويل الذي ذكرني بما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نقلد القطار. . .
وكنا جمعياً لا نفتأ ننظر في ساعاتنا وصفير القطر وصوت رحيلها على الأفاريز القريبة يملأ أسماعنا، وحركة المسافرين والحمالين وهم يسرعون في موجب وفي غير موجب تزيدنا قلقاً على قلق، ونشاط، صارفي التذاكر في النوافذ المفتوحة على جانبي نافذتنا الموصدة يلقي في نفوسنا الشك في وجود من يفتحها أو يميل بنا إلى الظن أنه ربما ربكة في حجرته عمل آخر. وكان أكثرنا نظراً في ساعاتهم من كانوا أكثر بعداً عن النافذة؛ على أن القلق قد اشتد بنا جمعياً. حتى أوشك أن يتحول إلى ضجر. . . وأخيراً فتحت النافذة.
أقبل بائع التذاكر على عمله في هدوء تؤدة، بعد أن ألقى نظرة على المنتظرين، وكان مبعث اطمئنانه أنه كفيل ببيع التذاكر جميعاً قبل تحرك القطار بوقت كاف فهو خبير بعمله وقلما داخله ما يداخل المسافرين من قلق.
وأخذ كل منا يخطو خطوة كلما خلا من مقدمة الصف رجل، وبينما نحن على هذا النظام الذي نفعله مقلدين نزلاءنا منذ كثر عددهم بيننا هذه الحرب، إذ أخذت عيناي لا بل أخذ منظاري شاباً مقبلاً بادي الأناقة، متكلف العظمة، يلتمع شعر رأسه الحاسر التماعاً لا يضاهيه إلا التماع رباط عنقه الأحمر، وإنه ليخطو في خيلاء تشبه الصلف، يضرب الأرض بقدميه ضرباً قوياً حتى ليحدث حذاءه صوتاً واضحاً قي ضوضاء الفناء، وما أسرع ما فطنت إلى أني منه تلقاء متحمس، وأني لشديد المحبة للمتحمسين عظيم الشغف برؤيتهم
ومشى هذا المتحمس إلى النافذة فوضع نفسه في رأس الصف وهيهات أن يرضى متحمس أن يكون في المؤخرة، ولكنه ما كاد يمد يده بالنقود حتى سرت في الصف كله موجة احتجاج كانت أكثر شدة في آخره؛ وارتفع صوت من الوسط ينبه هذا المخالف:
- أرجو أن تأخذ دورك وإلا فما معنى أن كلا منا قد ارتضي دوره؟(618/42)
- هذا ليس من شأنك. . . أأنت مفتش؟. . . أأنت مراقب؟
- يا سيدي هذا لا يليق. . . ارجع إلى موضعك من فضلك
- موش شغلك يا أفندي. . . اشكني إلى مدير المصلحة
وتحير هذا الذي يحتج ماذا يقول، ولكنه ما لبث أن صاح قائلاً في غضب: (يظهر أنه مازال بيننا (جليطة) كثير) ونظرت فإذا بي منه تلقاء متحمس ثان في نهاية سن الكهولة، وأنا كما ذكرت لك أحب المتحمسين وأطرب أشد الطرب لرؤية تحمسهم
وجاء أجنبي في تلك اللحظة فقصد إلى النافذة كما فعل المتحمس الأول؛ ولعله قد رأى مزاحمته فظن الأمر فوضى، وما كاد ينبهه أحدنا حتى عاد إلى موضعه في ذيل الصف معتذراً عن خطئه وفي وجهه حمرة شديدة من فرط الخجل.
وإذ ذاك نظر المتحمس الثاني إلى المتحمس الأول قائلا وهو يشير إلى ذلك الأجنبي: (ألا ترى؟ هذا لأنه بني آدم)
ولكن صاحبنا لم يتزحزح عن موضعه وكأنه يتمسك بمبدأ الثبات حتى الموت، وإلا فماله لا يبالي بضجر المتضجرين في الصف كله - إلا أنا بالضرورة - ولا يبالي بنظرات الازدراء تصوب نحوه في شدة كادت تجعل من في الصف ما عداي متحمسين؟ لم يعبا على الرغم من ذلك وظل متمسكاً بمبدئه القويم ومد يده بالنقود إلى بائع التذاكر فما أشد ما أخذه من حيرة إذ سمع ذلك البائع يقول له في هدوء: (من فضلك اذهب إلى موضعك)
وثارت ثائرة هذا المتحمس، فقال في صوت أشبه بالصراخ وهو يضرب النافذة بقبضته (أتمتنع عن بيع التذكرة؟) وتطلعت في فرح احسبني أظفر برؤية متحمس ثالث، ولكن البائع ظل هادئاً ونظر إليه مبتسماً وهو يقول: (اشكني إلى مدير المصلحة)
وتناول البائع النقود من كل مسافر حسب دورة في الصف وظل صاحبنا في موضعه قرب النافذة متمسكاً بمبدأ الثبات حتى الموت يرشقه كلمن أخذ تذكرته بنظرة ازدراء، حتى جاء دور المتحمس الثاني وقد امتلأت نفسه إعجاباً ببائع التذاكر وعدالته، فنظر نظرة نصفها إليه ونصفها إلى ذلك الذي لم تجده حماسته وقال متهللا: (والله ما يصح أن يكون مدير المصلحة غيرك)؛ ثم صوب نحو زميله الذي ماتت حماسته من الخزي نظرة شامتة وهرول إلى حيث يقف القطار(618/43)
الخفيف(618/44)
ريح الشمال. . .
(مهداة إلى الوزير دسوقي بك أباظة)
للأستاذ أحمد مخيمر
تنسمتُ أرواح الشمال هنيهةً ... فهاج بيَ الشوق الدفين هبوبها
بسمعي كمعسول الحديث حفيفها ... رخيٌّ، وفي قلبي شجيُّ دبيبها
فتحتُ لها صدري فأمَّتْ خميلة ... من الحب فيه صادحٌ عَنْدليبها
نأتْ راحةُ السّاقي فصوّح دوحها ... وما غاص في ظل الغصون قليبها
وكانت كروْقِ الشمس في ميعة الضحى ... يرفُّ رفيفاً زهرها وقضيبها
ويبرقُ من فرط النّضارة عشبها ... ويهتزّ من فرط الحياة رطيبها
قفي لحظةً ريحَ الشمال، فطالما ... تمنّتْكِ نفس شرّدتها خطبها
لعل شذّى منها لديكِ أشمُّه ... وهاتفةً مما تبثُّ أجيبها
وبين فؤادينا صحارى رحيبة ... تُضِلُّ الخطى وديانها ولهوبها
يعوم عليها الآل حتى كأنه ... ظنون بأرض النفس ناء قريبها
بعثت عليها من أمانيَّ طائراً ... فآب مهيضاً ألهثته دروبها
وإن كثيراً أن أظل ببلدة ... غريباً ولا يدنو لنفس حبيبها
إذا الليل واراني شعرت بلوعة ... يُشَبُّ بأحناء الضلوع لهيبها
وجاء إليّ الحزن من كل جانب ... وهمهمت الأشواق جمَّاً سروبها
وبان لعبنيّ الظلام كأنه ... حفيرة موتى فاجأتها شعوبها
ورفّتْ بقلبي ذكريات من الهوى ... تفوح كأزهار الرياض طيوبها
أرود بها لذات عهد قد انقضى ... وأيام حب غاب عنها رقيها
فما هو إلا أن طبتني ظلالها ... فسرحتُ عيني فاستهلّت غروبها
وكنت كذي غلٍّ رأى الماء قلبه ... ظنون، وهل يُرَوى بهن طلوبها!
لكِ الله يا ريح الشمال، وأنها ... لساعة بّثٍ ثم يدنو مغيبها
تهجين أشواقي! وقد كنت قبلها ... مزاميرَ غيبٍ، في الضلوع طروبها
وكنت إذا أعولتِ في ظلمة الدجى ... تَوزَّعُني أسرارها وغيوبها(618/45)
أظلُّ كأنّي قد فتحتِ لناظري ... سبيلاً إلى الآباد رحتُ أجوبها
فبالله يا ريحَ الشمال أشيَّعتْ ... إلينا تحيات لديك نصيبها
ألا مستِ خديها، أجاذبتِ شعرها ... ضفائر صفراً ينفح العرف طيبها
كمثل خيوط الشمس، والفرق وسطه ... شعاعةُ قمراء بهيُّ سروبها
عجيب كصحراء الخيال مموّهٌ ... بذوب نضارٍ قاعها وكثيبها
جميل كألوان على السحب ثَرَّةٍ ... وقد حان من شمس النهار غروبها
شفت كبّدي ريح الشمال وقد سرت ... فيا ليت شعري هل شفتها جنوبها
نأت دارنا عنها، وشطَّتْ بدارها ... نوى قذَفٌ قد أبعد الساو نيبها
وإنِّي أمرؤٌ أقصى مناه وهمه ... بقيعان أدفوا أوبةٌ فيئوبها
أحمد مخيمر(618/46)
البريد الأدبي
حول المدرسة الرمزية
سيدي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد:
لست أريد من هذه الكلمة القصيرة التي شرفها أنها موجهة إليكم، إلا
أن أذكر لسيدي الأستاذ أن الجملة الأخيرة التي أنهى بها مقاله عن
(المدرسة الرمزية) في عدد سابق، هي نفسها ما ظللت أشعر به منذ
سنين، آن ملت إلى الرمزية أنصفها وأنقذها من أيدي من كفانا الأستاذ
الكريم عناء وصفهم ولله الشكر. . . فلقد لمست بيدي ضرورة الإيمان
بأن (ميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار
فيها). . . وأن يكون الإيحاء (لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى
القريب). . . أي وربي. . . ولا أخفي على الأستاذ أني ما شعرت
بهذا إلا من كثرة ما أغوص في نفسي الحزينة المتألمة، حيث أقف
على كل عاطفة، دقيقة وغير دقيقة، وكل معنى، واضح أو مبهم، فأذهل
في هذه المرحلة التي أسميها مرحلة العواطف، وأشعر أني في جو
جديد، أنصت للهمسات المتشردة، وأرنو إلى ألوان متتابعة. . . حتى
يأتيني هيجان النظم، فلا أقنع بما دون الحالات كلها وأجرب وصفها
وتصورها. . . فأضطر إلى أن أغالي. . . فأغالي. . . وما العمل؟
وأصبح لا أريد من الرمزية إلا الوقوف على هذه الحالات الدقيقة،
مردداً في كل مناسبة هذه الجملة التي كادت تكون تسبيحي: (إذا
الرمزية لم تأخذ على عاتقها إجلاء غوامض النفس فحري بها أن لا
تكون. . .)(618/47)
غايتي إذاً في الرمزية هو التعبير عن هذه الدقائق النفسية التي لا ريب قد شعر بها القارئ كل أو بعض الشعور، والتي يمكن على كل حال إحياؤها فيه. . . ووسيلتي - وهي أيضاً غاية بعض الرمزيين المنصفين - ليست الغموض وحده ولا الوضوح وحده ولكن تعانق هذين اللونين اللذين نجدها - كما يقول صديقنا الأستاذ بديع حقي - في كل شيء ضمته هذه الحياة، هذه الحياة التي هي نفسها تعانق وضوح وغموض. . . نعم صديقنا بديع - وهو أكثر ما أراه ميالا إلى الغزل وإلى وصف الطبيعة في شعره الرمزي - يريد أن تكون الرمزية صورة هذه الحياة. . . وله الحق. . . ولكن أنا. . . لا أريد من الرمزية إلا التعبير عن هذه العواطف الدقيقة وتلك المعاني المهمة بأسلوب يقتضيه الحال، فنكون بذلك قد خدمنا الأدب الرمزي خاصة والأدب العربي عامة. . . وأنا أقول هنا الأدب العربي لأن الأدب العربي لم يجهل قط في عصر من عصوره الإسلامية هذا النوع من النظم!! واليوم، يجب أن لا ننظر إلى الرمزية بعين الازدراء أو التعصب فنعدها خروجاً عن الأدب أو مفسدة للذوق الفطري الأدبي أو غير ذلك: ولكن يجب التعقل فيها!. نعم، نحن ورثنا عن القدامى رمزيات عديدة كتلك التي رمز إليها أستاذنا آنفا أو. تلك التي أسعدني الحظ ففصلتها في بحث يطول الآن اختصاره، قدمته لمباراة أبي العلاء التي أقامتها مجلة (الأديب) الغراء في السنة المنصرمة. . . فكان والحمد لله من الفائزين: وقد تبين لنا فيه أن المعري رمزي صوفي، لم يدفعه إلى الرمزية إلا تصوفه. . . وغير ذلك. . . ولكن يا حضرة الأستاذ ألا ترانا بحاجة إلى تجديد هذه المفاهيم الصوفية الرمزية العربية؟ إننا اليوم نرمز ونحن بعيدون عن التصوف بعد الأرض عن السماء، أفلسنا بحاجة إذاً إلى رفع لواء الرمزية الحقيقية حيث يكون (الرمز فيها ضرورة)
سيدي الأستاذ، أنا قد آمنت بهذه الرسالة التي يجب أن أحمل مشعلها في الأدب الحديث، باثاً هذه المفاهيم الشاقة الشيقة التي وجدت أيضاً (جذورها) عند منصفي الرمزية الفرنسية: عند (مالرمه) - وخاصة مالرمة هذا - و (فرلين) وقليلاً عند (رمبو). . وأنا اليوم أنظم على منوال مفاهيمي هذه التي رمزت إليها فوق، والتي أحب، بعد هذه الكلمات، أن أسمع أستاذي بعض ألحانها. . . فهل يتكرم الأستاذ فيبدي فيها رأيه، بعد ما أتيحت لي هذه المناسبة السعيدة التي تجعلني أومن كل الإيمان بأن (الرسالة) هي تاريخ هذا العصر الأدبي(618/48)
المضطرب. . . وبعدما طمعت - والشباب كله طمع وأمل - في جودكم المعهود الذي يجعلكم لا تضنون برأي على قريب ولا بعيد. . .
فالقصيدة، وعنوانها (بقايا حلم) جربت فيها تصوير هذه الفترة الدقيقة التي تمر على كل إنسان في ساعات أحلامه: فيندفع وراء الأوهام باسماً فرحاً، بوعي وبغير وعي. . . فتحمله. . . وأواه. . . لا تحمله إلا إلى خيبة، إلى حزن، إلى قبور جامدة فيقف قائلا لنفسه:(618/49)
بقيا حلم
// لحشرجة الوهم، يا نفس، هل تبسمينْ؟. . .
تموت الرؤى في الضلوع. . . ولا تشعرينْ!!.
وتهفو، يُشَيِّعُها الفلُّ والياسَمينْ:
لتسْكُبَ حّزْني على زَغْردات الأنينْ!؟!.
وتَبقينَ حَيْرَى، وراءَ الهضاب الحزينْ!!.
فأَسالُ عنكِ الخيالَ. . . الخيالَ الأمينْ:
إذا بالتهاوِيل تومئُ: (صَهْ. . . بعضَ حينْ)!.
فاهمسُ للموت. . . والبيدُ ليست تبينْ:
قبورٌ على أَبُحرِ الوهم تَبكي السنينْ. . .
وترنو إلى الذكريات بعين الحنينْ!. .
قبورٌ. . . ولحن احتضار. . . ودنيا. . . ودينْ. . .
وأَلقاكِ، أَنتِ، تقولين للنادبين:
(بنفسي أُشيع نفسي!. . . فهل من معين؟!). . .
لحشرجة الوهمِ، يا نفس، هل تبسمينْ. . .
فهذه قصيدة قد تغني عن كل ما لخصناه فوق والسلام عليكم وإلى اللقاء. . .
دمشق
عدنان الذهب
غيرة فيلسوف
ليت الغيرة التي دفعت الدكتور شريف القبج إلى نقد طريقة إقحامي النقد الأدبي في فن القصة كانت غيرة على الأدب وحده دون سواه، وبذلك كنت أحمد له غيرته، وأقدر تجرده عن الغرض البادي من تضاعيف سطوره وتعابيره غير المحمودة.
إني أتغاضى عما قال - سامحه الله - حباً بالنقد وحرصاً على الحرية - لأقول له إن ما يبنى وبين زميل له من خصومة أدبية هي التي حفزتني إلى إقحام النقد الأدبي في فن(618/50)
القصة. فهل هذا الإقحام جائز أو غير جائز، مقبول أم مكروه، أو هو بدعة للتشفي كما توهم؟
أعرف أن ميدان القصة رحب يسع ما في الحياة بأكملها من صور وألوان، وأعرف أن إقحام النقد الأدبي لا يكون إقحاماً على القصة بمعناه الصحيح إلا إذا عجز القاص عن لحاقه بسياق الحديث، وبمجراه الطبيعي، وبجوه المناسب، ولم أند عن هذا السمت فيما أوردته في قصتي (الأفعوان) المنشورة في مجلة (المنتدى).
أما زعمه أني فعلت ذلك للتشفي من زميل له فهذا زعم باطل لأني خاصمت بشر فارس الشاعر القاص وحاربته في شعره وفي قصصه، ولن أنفك عن منازلته في كل ميدان، ومحاربته بكل سلاح، حتى أقتل التواءات في نفسه يقرني عليها كل الأدباء ولن أعامله كما رغب إليّ حضرة الدكتور - سامحة الله مرة ثانية - (كما يعمل الطبيب الجراح مبضعه في الجسم العليل) لأني أعتقد أن في وسع هذا الزميل الانعتاق من هذه الرمزيات الشعرية والقصصية متى أنجابت السحب الدكناء عن ذهنه غير المظلم، وعندها يكون صحيحاً كأحسن الأصحاء. أفعل ذلك، لا حباً به ولا كراهة، ولكن غيرة مني على ناشئة قد يسممها هذا الضرب السمج من الرمزية الجوفاء، الحامل لواءها المنكس الدكتور بشر فارس.
حبيب الزحلاوي
حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية
أقام المعهد الملكي للموسيقى العربية يوم الاثنين الماضي حفلته السنوية لتوزيع الشهادات على الخريجين تحت رعاية الوزير الحصيف الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك الذي أناب عنه الأستاذ محمد بك فهيم، وقد بحثت بإمعان عن مجهود الطلبة في هذا المعهد فلم أجد له أثراً ينسينا أخطاءه الماضية وجموده الدائم بالرغم من وجود الدكتور شرف الدين سليمان والأستاذ عبد الحليم علي في المعهد وفي الوزارة وهما علمان بارزان في سماء الفن ولولا هما لسقطت الحفلة سقوطاً مريعاً. وأعتقد مع الأسف الشديد أن النظم العتيقة في هذا المعهد هي التي ظلمت جهود هذين البطلين وحالت بينهما وبين تنفيذ برامجهما الفنية في عالم الأوبرا التي قدم منها الدكتور شرف أول محاولة بالنسبة إلى فهم المعهد. وقد أجمع(618/51)
المثقفون على صلاحيته لمثل هذا العمل لولا النظم البالية التي حالت بينه وبين تنفيذ برامجه في عالم الموسيقى المسرحية التي لم يسمع بها المعهد بعد! ونحب أن ننبه القائمين بالأمر على صفحات هذه المجلة التي تخدم الفن والأدب بإخلاص إلى ضرورة الالتفات إلى وضع الموسيقى المسرحية والأوبرا في برامج المعهد في العام القادم حتى نتخلص من هذه الأوضاع الجامدة التي تركض بنا إلى الوراء ركضاً سريعاً، وحتى نرى في السنين القادمة أثراً واضحاً ينير الطريق للسالكين بعد هذا الليل الطويل
عبد القادر محمود(618/52)
الكتب
الشوق العائد
ديوان جديد للشاعر الأستاذ علي محمود طه
آية الفنان الموهوب أنك في دنياه لا تكاد ترجع ما يعرضه أمام ناظرك، ويجريه في حسك، إلا إلى منابع روحه، وفيوض مواهبه، وحسب هذه المجموعة التي يقدمها الشاعر - علي محمود طه - في ديوانه الجديد الشوق العائد أنها تحمل هذا الطابع الفني الرائع في معناها ومبناها، فهي تتقدم في مبنى غاية في الأناقة، ومعنى من دنيا الشاعر الذي يهيم في أجواء الحب، ولا يكاد يثنيه عن الولع بهذا الجانب الإنساني العاطفي ما يغلى به مرجل العالم من أحداث وأهوال. ولكن متى كان في استطاعة الإنسانية أن تتخلص من أسر العواطف؟ والشوق العائد وحي الوجدان الصادق، فليس فيه عاطفة مصطنعة، ولا صورة غريبة، ولا شعور متكلف، ولا إحساس دخيل، بل يغمرك بوقدة روحه، ويشع عليك وهج قلبه في صدق وأمانة، ويرسم لك عواطفه وخوالجه بهذا الوضوح والهدوء، فلا يحلق بك وراء السحاب، ولا يقذفها هوجاء عاصفة، ولا معقدة غامضة، ولا أدري ما إذا كان هذا من حسنات - محمود طه - في نظر بعض الناقدين أم من مآخذه. ومن بين عرائس هذا الديوان قصيدة (الشوق العائد) التي يقول فيها:
أهدئي يا نوازع الشوق في قلْ ... بي فلن تملكي لماض رجوعاً
آه هيهات أن يعود ولو أفن ... يت عمري تحرقاً وولوعاً
ثم يعقب على هذا الزائر المعاودة فيقول:
أيها الزائر المعاود ما ألْ ... قاك أحسنت بالمزار صنيعا
ما أرى في سمات وجهك إلا ... شبحاً رائعاً وحلماً وجيعاً
يتوقاه ناظري كأني ... فيه ألقي آلام عمري جميعاً
ثم ينتهي إلى هذه النغمة الحزينة:
عدت يا شوق! فيم عدت؟ ربيع! ال ... عمر ولى! فهل تعيد الربيعا؟!
ولقد استطاعت المرأة أن تبسط سلطانها على أكثر ما في هذا الديوان، وأن تطلق فيه أشباحها، وأن تستأثر منه بصفحات خالدات من أمثال: طاقة زهر - وامرأة وشيطان -(618/53)
وهي وهو - وثلج ونار - ونار ونار - والغرام الذبيح - وامرأة.
وهو يضم أيضاً عدة قصائد من بينها: الأيام - وإلى الطبيعة المصرية - وفاروس الثاني - وموكب الوداع. وكلها نماذج لهذا الشعر العاطفي الراقص، والديوان من الشعر الحي الذي تعتز به دولة الشعر الحديث.
محمد عبد الحليم أبو زيد(618/54)
البلاغة العصرية واللغة العربية
للأستاذ سلامة موسى
كتاب للأستاذ سلامه موسى يحمل طابعه المعروف، إهداء إلى الأستاذ أحمد أمين لأنه هو الذي أوحى إليه بموضوعه من حيث لا يدري (أحمد أمين بك يوم أن نشر مقالاً في الثقافة) يشير إلى أن الكلمات تتغير معانيها بتغير الزمن والبيئة. . .
والأستاذ سلامة يرى أننا نفكر بالكلمات وكثيراً ما ننخدع فنظن أننا نعالج الأشياء قي حين أننا نعالج الأسماء ونرى أن الكلمات تكسينا اتجاهاً أخلاقياً وتكون لنا مزاجاً فنياً وأحياناً تحمل إلينا رواسب ثقافية قديمة كثيراً ما تضرنا في مجتمعنا، وهو من أجل هذا عالج في كتابه البيئة واللغة، واللغة والتطور البشري، واللغة والمجتمع، والأحافير اللغوية. وتعرض إلى ضرر اللغة (هكذا في الكتاب)
وقارن بين الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية وتحدث عن المجتمع العربي القديم.
وعقد فصلاً حول (الكلاسية داء الأدب العربي). . . الخ وليس في الكتاب بحث يتصل بالبلاغة بمعناها الاصطلاحي إلا كلمة (فن البلاغة)
والكتاب بحوث حول اللغة كأداة للتعبير وحول تبسيطها وإخضاعها للحياة المعاصرة.
ومع أن الكتاب في جملته بحوث تثير التأمل إلا أن الكتاب لم يأت بجديد يحل مشكلة اللغة من ناحية البلاغة؛ لأن نهاية إجهاد قلمه كانت تتلخص في (أن تكون البلاغة بلاغة المنطق والمعرفة بدلاً من بلاغة الانفعال والعقيدة، كما يجب أن نتوقى المرادفات والكلمات الملتبسة وأن نميز بين الكلمة الذاتية والكلمة الموضوعية.
ثم يدعو الأستاذ إلى أن يتأنق (التلميذ) في تعبيره ولكن تأنق الذكاء وليس تأنق البهرجة البديعية. . . وهذه الأماني تحققها كتب البلاغة حتى الكتب القديمة.
والأستاذ يعرف أن بلاغة العقيدة هي أشد أنواع (البلاغات) وأن المترادفات متى استدعتها دواعي البلاغة كانت الزم في تظليل المعنى وإيضاح الفكرة، والفن العاري المجرد لا يهز النفس ولا يمتع الروح، والأستاذ (سلامة) في حاجة إلى أن يراجع آراءه القاسية التي تريد للغة أن يكون من وحي (التلغراف)
وعليه أن يعرف أن فن البلاغة خضع للتطور، وأن أدباء العرب لم يقدموا شيئاً كما ظن(618/55)
فقد بهر جوا الزائف بدقة أذواقهم وقوانينهم التي أجدت على النقد وأسعفت الفن الرفيع.
وأما تعرض الأستاذ سلامة لمنهج العقاد وسلوكه في تأليفه على نهج سلفي وإضافة كثرة الأدباء إلى هذا فندع ذلك وبيان إيضاحه للقراء، ندع أمره والدفاع عنه للأستاذ العقاد. ونحن نعتز بالفصحى ونعتز بمن يعتز بها، ولست أدري. . . لم يضيق الأستاذ سلامة موسى بأحافير اللغة ما دمنا نستطيع الانتفاع بها وما دامت فيها روح الإعجاز والخلود.
واللغات جميعها تنتفع بماضيها وتحي من نفائسها ما يربط مستقبلها وحاضرها بالتليد النافع
وإذا فاتك التفات إلى الما ... ضي فقد غاب عنك وجه التأسي
كامل محمد عجلان
الأطياف الأربعة
للأساتذة أمينة وحميدة ومحمد وسيد قطب
أخرجت لجنة النشر للجامعيين أخيراً كتاب (الأطياف الأربعة) للأخوة الأربعة الأساتذة حميدة وأمينة ومحمد وسيد قطب.
(كتاب كتبه أخوة في الدم، أخوة في الشعور، كلهم أصدقاء، يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف، هم أنفسهم كل ما يملكون في الكون العريض. إنهم أبداً يحلمون وقد يتفزعون في الحلم ولكنهم إليه يعودون. أودعوا خطراتهم صفحات هذا الكتاب، فاحتوى عصارة من نفوسهم وظلالاً من حياتهم) يصف الأدباء الأربعة صوراً خبروها في حياتهم، وحوادث مرت بهم، بعضها يبعث على الأسى، وبعضها يكتنفه الأمل وبعضها يستدر العطف. لوحات فنية رسمها كل منهم بريشته الخاصة وتفكيره الخاص فأخرجوا منها مجموعة يصح أن تزين معرضاً. لقد كشف ذلك الكتاب عن أسرة تعيش في دنيا الأدب، يرتفع أفرادها مرة إلى أفق الخيال البعيد، ثم يهبطون إلى دنيا الحقائق الملموسة، وما يلبثون حتى يحلقوا قي عالم الأطياف والرؤى
أهدى المؤلفون كتابهم إلى (أماه) التي عاشوا وهي معهم غرباء في القاهرة، فلما مضت عنهم تفرقوا في الكون العريض كتابات ضالة ليس لها جذور، وأطياف هائمة ليس لها قرار. ولقد اتصف الصديق الكريم الأستاذ سيد قطب بالوفاء وتسربل بالإخلاص. وتلك(618/56)
الصفة وذلك اللباس يتجليان رائعين فيما كتب من فصول عن (أماه تلك الملهمة التي لا يفتأ الأستاذ قطب يردد ذكراها ويحس بالوحشة إليها. وما أجمل اللوحة التي أبدعها قلمه حين قال مخاطباً إياها (قفي. . . قفي نصمد لعجلة الزمن العاتية كي لا تدور فتسحق كل عزيز وتدفن الماضي الذي نعيش على هداه. ظللي يا أماه حياتنا بجناحيك الرفيقين، ولا تحسري هذا الظل عن مواقعه التي تفيأناها. عيشي معنا يا أماه في هواجسنا وأفكارنا، ولا تبالي أن يلذعنا ألم الذكرى كل لحظة، فهو ألم رفيع عزيز، يغذي من نفوسنا ما كان يغذيه عطفك، ويملأ من وجداننا ما كانت تملؤه رعايتك. جنبينا الفراغ القاتل، والسلوى الرخيصة. . . يا أماه).
والحق أن كتاب (الأطياف الأربعة) ممتع يلتذ القارئ بقراءته حتى ليكاد يستعيد بعض فصوله مرات ومرات؛ فإن الصور الخاطفة التي ساقها مؤلفوه، والمشاعر السامية التي أودعوها صفحاته، والتحليلات النفسية البارعة التي عرضوها فيه، دلت على قدرة مشاعة بين أخوة أربعة، وفطنه مشتركة بينهم، ولباقة أدبية يتميزون بها ويتحلون.
غير أنني أريد أن أهمس في آذان الكتاب الأفاضل، ولا اظنني متحاملاً عليهم، إن مصنفهم اتشح بالسواد واكتنفته مسحة قاتمة من الحزن تكاد تبلغ مرتبة التشاؤم. حتى الغلاف لم يسلم من ذلك الخمار الأسود القائم يجلل صدره. أما كان يجدر بهم أن يضيفوا إلى (الأطياف الأربعة) طيفاً خامساً مرحاً أو باسماً؟ أما كان من الأفضل أن يكون الكتاب معرضاً لصنوف المشاعر، بين فرح وحزن، وابتسام وعبوس، وجمال ودمامة؟
والكتاب فيما عدا ذلك قطعة أدبية فنية رائعة، تحس حين تقرأه اتساقاً وانسجاماً بين فصوله المختلفة تفصح عن مكنونات قلوب كاتبيه السمحة، وميولهم الأدبية الرفيعة.
وديع فلسطين
بكالوريوس صحافة(618/57)
العدد 619 - بتاريخ: 14 - 05 - 1945(/)
التربية السياسية
للأستاذ عباس محمود العقاد
أحسنتم في كلمتكم التي شيعتم بها عهد الدكتاتورين هتلر وموسليني، وأشرتم إلى موضع العجب العاجب من أمر الأمة الألمانية التي يستطيع رجل كسائر الرجال. . . (فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسة بسمارك، ولا أدب جوتة، ولا فلسفة نيتشة، أن يسيطر ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم أثنى عشر عاماً في ابتكار أفظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار)
والحق أن أعجوبة الأعاجيب في هذه الأمة الألمانية أنها على وفرة نوابغها وشيوع التعليم بين طبقاتها وازدهار المعارف والصناعات فيها، لا تزال تستسلم لطاغية بعد طاغية سواء من عواهلها أو من المغامرين بالحكم فيها، ثم تمضي معهم في مخاطرة بعد مخاطرة من أيسر شرورها هزيمتهم وامتلاء الأرض كلها بالوحل والبلاء بضع سنوات
ولكنها عبرة من عبر التاريخ الكبرى تساق إلينا نحن الشرقيين خاصة لنعلم هوان المعارف والصناعات ووفرة النوابغ وكثرة المتعلمين إلى جانب التربية السياسية الني تتوارثها الأمة جيلاً بعد جيل في ظل الحرية والمعاونة البصيرة بين الرعاة والرعية
فالأمة الألمانية قد استوفت كل مزية من مزايا العلم والصناعة والنبوغ إلا هذه المزية التي لا غنى عنها، وهي مزية التربية السياسية
وأولى خصائص هذه المزية هي الاستقلال بالرأي في محاسبة الحكام، أو هي اشتراك الجميع في الحكم ببداهة المعاونة التي تنشأ من طول المرانة وكثرة المراس
فالأمة الإنجليزية مثلاً قد نشأت في جزيرة يحوطها البحر، فاستغنى ملوكها عن الجيوش القائمة الكبيرة التي يدفع بها الملك خطر العدوان من جيرانه، وأمن رؤساء العشائر أن يسومهم الملك طاعة لا مراجعة فيها ولا مشاورة، لأنهم كانوا جميعاً في عشائرهم بمثابة الملوك الصغار، وكان لهم من الجند والأتباع ما يستعينون به على مكافحة العسف والطغيان كلما تجاوزا حدود المصلحة الكبرى التي يرتضونها أجمعين
وكان الإنجليز أمة تجار وبحارة ينفردون بأنفسهم في لجج البحار. فتعلموا من التجارة مساومة الآخرين، وأن الأمر لا يؤخذ في الدنيا بالغصب والإكراه، وتعلموا من البحر كيف(619/1)
ينفردون بمكافحة الأخطار، وكيف يستقلون بآرائهم في مداورة الصعوبات
وجيل بعد جيل بعد ثالث بعد رابع على هذه الوتيرة كفيلة بتربية الاستقلال والخبرة بمداولة الشؤون وإقامة الحدود المعقولة بين الحاكم والمحكوم
لكن الألمان على نقيض ذلك، قد شاء لهم سوء الحظ أن يقيموا في الرقعة الوسطى من القارة الأوربية، وكانوا في حاجة دائمة إلى الطاعة العسكرية، لأنهم يغيرون على جيرانهم ويغير جيرانهم عليهم في كل حين، ولم يزالوا على ذلك عرضة لسطوات الأقوياء كلما ظهروا من حولهم في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال فمن ظهر في الشرق أخذهم في طريقه غرباً إلى حيث يريد الفتح أو القتال، ومن ظهر في الغرب أخذهم في طريقه شرقاً كما يشاء وحين يشاء، وكذلك كان يصنع بهم من يمتد بسلطانه من الجنوب إلى الشمال، أو يمتد به من الشمال إلى الجنوب
وكانوا من قديم عصورهم قبائل متفرقات تعمل في الرعي والقنص والزراعة، فعاشوا عيشة القبائل الأولى وهي عيشة طاعة وتسليم، وجاءتهم النظم العسكرية التي لا فكاك منها، فزادتهم طاعة على طاعة وتسليماً على تسليم خاص
وقد تعددت ولاياتهم حتى زادت على ثلاثمائة في نهاية القرون الوسطى، ولم تنقص هذه الولايات عن مائة وسبعين في أيام الثورة الفرنسية، ثم تجمعت بعض التجمع في زعامة ولاية من أكبرها في العدة العسكرية، ولكنها من أقلها نصيباً في الثقافة والأخلاق الاجتماعية، وهي بروسيا التي عرفت في تاريخها بأنها آخر القبائل الجرمانية حضارة وأقلها دماثة وأدباً، فطبعتهم من جديد بطابع الإذعان الذي لا يعرف المراجعة ولا يؤمن بتعدد الآراء
وقد ثار الإلمان على الكنيسة أو على البابوية، ولكنهم لم يثورا قط على طغيان الحكومات وعسف القادة، وإنما ثاروا على البابوية لأنهم كانوا في طاعة القادة والحكومات
قلنا في كتاب تذكار جيتي الذي ظهر منذ بضع عشرة سنة:
(. . . يجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها: كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية.(619/2)
فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين. . . على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب الثلاثين المشهورة، فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميراً، وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين، ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحرفي الأمم الأوربية الكبرى)
من هذه العوامل التي فصلنا بعضها في (تذكار جيتي) وبعضها في كتاب (هتلر في الميزان) أصيبت الأمة الألمانية بتلك الآفة الجائحة وهي نقص (التربية السياسية) وكان بعضها من صنع يديها وبعضها من صنع الحوادث والملابسات.
لا جرم يطيع الألمان حكامهم تلك الطاعة العمياء ويعتقدون فيهم كما يعتقد الأطفال في آبائهم (إن أبانا لعلى كل شيء قدير)
وقد خدعهم في هتلر - فوق خداع التربية السياسية الناقصة - أنه نجح في ضم السار والرين والنمسا وبلاد السوديت بغير قتال، فخيل إليهم أنه يلعب بأوربا وبالعالم وأنه يملك من قوة الدهاء وقوة السيف ما يخضع له أوربا إذا خالفته ويخضع له العالم كله إذا وقف في طريقه.
وذلك هو الظلال الأكبر في القياس والتفكير.
لأن مصطفى كمالاً - كما قلنا في كتاب هتلر في الميزان - (لم ينفق جزءاً من ألف ربوات الملايين التي أنفقها هتلر على التسليح، واستطاع مع ذلك أن يفتح الآستانة فتحاً ثانياً وفيها جيوش الحلفاء، وأن يعيد إليها الحصون التي منعت إقامتها بعد هزيمة الحرب العظمى، وأن يلغي الامتيازات الأجنبية والمعاهدات التي سبقت ألمانيا الحديثة ونشأت من أيام سليمان الكبير). . .
ولم ينجح مصطفى كمال ولا هتلر فيما صنعاه لأنهما أقوى من الدول التي كانت تأبى ما صنعاه، وإنما سر المسألة كله صعوبة الإقدام على حرب عالمية سواء كان المقدم عليها من الحكام الدستوريين أو من الحكام المستبدين، فالذي صنعه هتلر إذن هو أنه غير هذه الحالة بسياسة الخرقاء وجعل الصعب سهلاً على الدول في مدى ثلاث سنوات، وما ثلاث سنوات(619/3)
في تواريخ الأمم وحوادث الدنيا؟. . .)
نعم هذا هو الضلال الذي طير صواب هتلر فطار معه صواب الألمانيين، لأنهم لا ينظرون إلا كما ينظر القادة والزعماء في أصغر الهنات وأخطر الأمور.
لقد عصفت التربية السياسة الناقصة بكل فضيلة من فضائل هذه الأمة الألمانية، وحرمتها ملكة الابتداع حتى في العلم والصناعة. فاشتهر الألمان بأنهم محسنون مكملون لما يخترعه الآخرون ولم يشتهروا بأنهم مخترعون مبدعون. وتبين ذلك في الطيارات والدبابات التي هي عدتهم في مقومة الأساطيل البحرية، فإنهم كانوا يشتغلون بالمناطيد يوم كان العالم كله يشتغل بالطيارات على اختلافها، ولما التفتت الأمم إلى الطيارات واستخدامها في الحرب كرة أخرى كانت طيارات الألمان دون غيرها في الصناعة والقيادة والتأثير.
ولقد شاع بين الشرقيين كما شاع بين غيرهم أن هؤلاء الألمان يحسنون ما لم يحسنه الأوربيين، لأنهم يصنعون الأدوية والمواد الكيمية التي تنقطع عن العالم بانقطاع مواصلاتهم فلا تعوضها الأدوية من سائر البلدان
وهو وهم فارغ كان يسهل علينا نحن المصريين أن ندرك حقيقة إذا التفتنا إلى ما يجري في بلادنا ونصنعه بأيدينا، فنحن نستورد القمح والدقيق وبلادنا تستورد القمح ونطحن الدقيق، وإنما نفعل ذلك من لأن زراعة القطن أنفع لنا - أو كانت أنقع لنا - من زراعة الحبوب. . . فليس في الأمر عجز ولا قصور.
وكذلك الألمان والصناعات الكيمية في القرنين الماضيين، فإن علم الكيمياء الحديث قد راج في أوربا يوم كانت البلاد الإنجليزية والبلاد الفرنسية ذوات منشآت تدار على نسيج الصوف والقطن وعلى مصنوعات المعادن والأخشاب، فلم يكن معقولاً أن تلغى هذه المصانع والمنشآت وأن تحل الشركات التي تديرها لتعود إلى إدارتها على الأدوية والكيميات، وإنما كان المعقول أن تترك هذه الصناعة لألمانيا كما تركت صناعة الألبان للدنمارك مع وفرة الألبان في المراعي الإنجليزية والفرنسية. وما اضطرت أمم أوربا وأمريكا قط إلى استخراج مادة كيمية إلا أتقنتها كما أتقنها الألمان أو فوق إتقان الألمان
فالنقص في التربية السياسية هو علة النقص في استقلال الرأي حيث كان، ولو تجاوز مجال الحكم والشورى إلى مجال الرأي والابتداع.(619/4)
والنقص في التربية السياسية هو الذي ضيع على هتلر وأتباعه كل ما استكملوه من العدة الحربية، فليكن لنا في ذلك عبرة نحن أبناء الشرق المترددين بين المذاهب والآراء. فلا تعدل بالحرية بديلاً من الخيرات التي يقال إنها تنوب في عهود الطغيان عن الحرية والاستقلال.
عباس محمود العقاد(619/5)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
كان العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب قد نبه على أشياء في الجزء الأول والجزء الثاني من هذا الكتاب، ثم شغله الذي هو أهم. وفي أثناء مراجعة أجزائه لمحت العين ما أنا أذكر قسماً منه اليوم. والكتاب - كما يلوح - فيه ما فيه، وإن بالغ في تحقيقه العلماء الفضلاء من مصححيه. ومثل هذا المرجع جدير بالضبط المحكم، والإصلاح الأكمل.
* في جزء 10 ص25 وفي قصيدة ابن الشبل البغدادي:
تُبادِي ثم تخنِس راجعات ... وتكنس مثلما كنس الصُّوار
وأيام تَعَرَّفْنا مَداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار
وكم من بعد ما كانت نفوس ... إلى أجسامها طارت وطاروا
ولا أرض عصته ولا سماء ... ففيما يغول أنجمها انكدار
قلت: (تبادي) في البيت الأول هي (تباري) أي تتبارى حذفت الأولى جوازاً.
و (تعرفنا مداها) في الثاني هي (تَعَرَّقُنا مَداها) والمدى مع جموع المدية وهي الشفرة، و (تعرفنا) أي تتعرفنا حذفت التاء الأولى جوازاً. وفي اللسان: (عرفت العظم وتعرفته إذا أخذت اللحم عنه بأسنانك نهشاً) وعجز البيت يثبت المعنى الحق.
والبيت الثالث هذه روايته الصحيحة:
وكم من بعد ما ألفت نفوسٌ ... جسوماً عن مجاثمها تطار
وليست (نفوس) تمييزاً لكم كما جاء في الحاشية.
والبيت الرابع عجزه: ففيم يغول أنجمها انكدار؟
* في ج10 ص35 وقال (يعني ابن الشبل):
وكأنما الإنسانُ منا غيرَه ... متكوِّن والحس منه معار
متصرّف وله القضاء مصرف ... ومسيّر وكأنه مختار
وجاء في حاشية البيت الأول (كانت في الأصل (والحسن فيه) ولكن لا يستقيم المعنى إلا(619/6)
بما غيرت إليه. وجاء في حاشية البيت الثاني: (كانت في الأصل (ومخير) ولكنها لا تقيم معنى البيت
قلت: البيتان في مقطوعة أرويها تامة؛ فإنها من الشعر البارع الحكيم، وفيها الرواية الصحيحة للبيتين، وإن قوله (الحسن فيه مغار) يجاوب قوله (وكأنما الإنسان فيه غيره) وأما الحسن في الإنسان وفي غير الإنسان. . فلن يكون في كل حال إلا حقيقة لا استعارة ولا مجازاً. . .
وكأنما الإنسانُ، فيه غيرُه ... متكوناً، والحسن فيه معار
متصرِّفاً وله القضاء مصرِّف ... ومكلَّفاً وكأنه مختار
طوراً تصوبه الحظوظ وتارة ... خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمي بصيرته، ويبصر بعدما ... لا يسترد الفائتَ استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويُرد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه ... ندماً إذا لعبت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده ... حتى يبينه له الإصدار
وقد ذكرني هذا الشعر بأبيات لبشار حكيمات:
طُبعت على ما فيَّ غيرَ مخيّر ... هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أُعطى، وأُعطى ولم أرد ... وقصر علمي على أن أنال المغيبا
فأُصرف عن قصدي وعلمي مقصر ... وأُمسي وما أُعقبت إلا التعجبا
. * وفي ج12 ص226 ومنه (أي من شعر علي بن أحمد بن سلك الفالي بالفاء):
تصدّر للتدريس كل مهوِّس ... بليد يسمى بالفقيه المدرس
فَحَقٌّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كُلاها وحتى سامها كل مفلس
قلت: في رواية (تَسمى) مكان (يُسمى) وجاء في الحاشية:
(وربما كانت (مهوش) بالشين) والصحيح هو مهوس) كما روي في كثير من كتب الأدب.
والقول في البيت الثاني (فَحَقٌ لأهل العلم) هو (فَحُقّ لأهل العلم) وهذا ما قاله قارض الشعر وأراده. وهذا أسلوب العربية في القديم في هذا المعنى. وفي التاج عن الأساس (وأما(619/7)
حُقّ لك أن تفعل فمن حق الله الأمر أي جعله حقاً لك أن تفعل واثبت لك ذلك وهو تحقيق نفيس) وفي اللسان: (قال الفراك حُق لم أن تفعل ذلك وحَق، وإني لمحقوق أن أفعل كذا فإذا قلت حُق قلت لك، وإذا قلت حَق قلت عليك) فإن قيل: ألا يحق لنا أن نقول اليوم: حَقٌ للعلماء أن يتمثلوا الخ. . قيل لنا أن تقول وليس لنا أن نُقوَّل. . .
* في ج15 ص210
وله (لأبي علي المنطقي) من قصيدة في عضد الدولة يذكر الصدق:
ما زلت تنصف في قضاياك العلا ... قل لي: فما بال الضحى يتظلم؟
أهديت رونقه إلى جنح الدجى ... فاعتنّ أشهبَ وهو طِرف أدهم
حتى كأن الليل صبح مشرق ... وكأن ضوء الصبح مظلم
هي ليلة لبست رضاك فأشرقت ... من بعد ما كانت بسخطك تظلم
ما كان في ظن امرئ من قبلها ... أن الملوك على الليالي تحكم
قلت: ضبطت (الصدق) بتشديد الصاد وكسرها وسكون الدال وفتح القاف. . . والشعر لا يدل على شيء من الصدق، وإنما يصف (السَّذَق) وهو ليلة الوقود عند الفرس، واللفظة معربة فارسيتها (سذة) والسدق بالدال لغة فيه، وبعضهم يراد محرفاً، وأنا لا أرى ذلك. والصدق بالصاد لحن عند صاحب القاموس. . وقد ذكره معجم عصري بالصاد كأنه لغة في السذق
والسذق ميراث المجوسية. ولبديع الزمان الهمداني رسالة عبقرية (كتبها إلى الرئيس أبي عامر) في الإشادة بذكر العرب والتنديد بذلك العيد وناره المجوسية. ومما جاء فيها:
نحن (أطال الله بقاء الشيخ) إذا تكلمنا في فضل العرب على العجم، وعلى سائر الأمم، أردنا بالفضل ما أحاطت به الجلود، ولم ننكر أن نكون أمة أحسن من العرب ملابس وأنعم منها مطاعم وأكثر ذخائر، وأبسط ممالك وأعمر مساكن. ولكنا نقول: العرب أوفى وأوفر، وأوفى وأوقر، وأنكى وأنكر، وأعلى وأعلم، وأحلى وأحلم، وأقوى وأقوم، وأبلى وأبلغ، وأشجى وأشجع، وأسمى وأسمح، وأعطى وأعطف، وأحصى وأحصف، وأنقى وآنق. ولا ينكر ذلك إلا وقح، ولا يجحده إلا نغل. . . إن عيد الوقود لعيد أفك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالسدق سلطاناً، ولا شرف نيروزا ولا مهرجانا. . . وإنما جعل الله(619/8)
النار تذكرة ومتاعا، ولم يجعلها وداً ولا سواعا، ولم يضرب الله تعالى لها عيداً، ولم يجعلنا لها عبيداً، الله والنبي، والعيد العربي، والتكبير الجهير، وتلك الجماهير، والملائكة بعد ذلك ظهير، والرحمة صوباً وصبا، والبركات فيضاً وفضا، والجنة وصراطها، والنجاة وأشراطها، والموسم الطاهر من لغو الحديث. ذلك، لا ما شرع الشيطان لأوليائه، نار لديهم تشب، ولعنة عليهم تصب، وخمرة متاعها قليل، وفي الآخرة خمارها طويل. هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد. . .
* وفي ج16 ص92 فأنا بين حشا خافقة، ودمعة مهراقة قلت: هذا في رسالة للجاحظ إلى إبراهيم بن المدبر. واليقين أن القول هو (فأنا بين حشا خفاق ودمع مهراق) والحشا مذكر لا مؤنث، والدمع في هذا المقام خير من الدمعة. وإن قال أبو عثمان: دمعة مهراقة فلن يقول حشا خافقة ولا خفاقة.
* في ج16 ص149 قال الأصمعي وحدثني عيسى بن عمر قال: لقد كنت أكتب بالليل حتى ينقطع سَوْئي أي وسطي
قلت: ضبطت (سوئي) بفتح السين وسكون الواو؛ وإنما هي (سَوَائي) وسواء الشيء وسطه لاستواء المسافة إليه من الأطراف كما في النهاية. وفيها من صفته (صلى الله عليه وسلم) سواء البطن والصدر، أي هما متساويتان لا ينبو أحدهما عن الآخر.
وفي الفائق: بطنه غير مستفيض فهو مساو لصدره. وفي النهاية: ومنه حديث أبي بكر والنسابة: أمكنت من سواء الثغرة أي وسط ثغرة النمر.
* في ج15 ص72 وكأنها عنده رواية عضدها القياس وكان شيخنا موهوب ينعى ذلك عليه
قلت: ضبطت (عضدها) بتشديد الضاد؛ وإنما في اللغة عضده وعاضده. وعضد المشدد فعل لازم وهو لا يعني المعاونة
في التاج؛ (ورمى فأعضد ذهب يميناً وشمالاً كعضد تعضيداً، وهذا ما استدرك به على اللسان) وذهب يميناً وشمالاً يعني السهم
وضبطت (ينعى) بكسر العين وهي بالفتح من حد سعى.(619/9)
حول اقتراح
الترجمة واللغة العربية
للدكتور عبد العزيز برهام
طلعت علينا (الرسالة) الغراء باقتراح جليل لرئيس تحريرها
الفاضل الأستاذ (الزيات)؛ اقتراح لو أخذ به لسد نقصاً يشعر
به كل من عالج تعلم اللغات الأجنبية في عصرنا الحديث. وقد
وفى الأستاذ الموضوع حقه؛ فأبان حاجتنا الماسة للترجمة في
الأدب وفي العلم. وأني لأستميحه أن أضيف إلى آرائه القيمة
بعض أفكار تواردت على ذهني حين قرأت اقتراحه:
إن حاجتنا إلى النقل من اللغات الأجنبية ليست وليدة اليوم، وإنما شعرنا بها من يوم أن دب في بلاد الشرق دبيب الحياة وأخذت بعد سباتها العميق تستيقظ وتتصل بالغرب. عندئذ أدرك الآخذون بأسباب من العلم والمعرفة أن نهضتنا لن تقوم وتنجح إلا إذا قبسنا من نور الغرب، فأخذت ترجمة الكتب ولا سيما الأدبية تترى. وسار كل غيور عللا رفعة وطنه في هذا التيار حتى رأينا كثيراً من الكتب النافعة نقلها من اللغات الأجنبية جلة العلماء في عصر المغفور له (محمد علي باشا)، ولكن لم تكن هذه الكتب القليلة العدد شيئاً يذكر إن ووزنت بما كنا في حاجة إليه إذ ذاك. ثم خطت الترجمة بعد ذلك خطوات واسعة غير أن أغراضها تنوعت، وصار للعنصر التجاري فيها شأن أي شأن. فكم من قصة ترجمت لم يقصد بها العلم وإنما قصد بها الربح! وساير ترجمة الكتب انتشار الصحف والمجلات لا تزال تعول على الجرائد الأعجمية في كثير من موضوعاتها
نجم عن ذلك كله أن اتسعت دائرة الترجمة إلى اللغة العربية اتساعاً يبعث كثيراً من الأمل في نفوس ذوي الغيرة الوطنية. بيد أن أكثر القائمين بأمر هذه الترجمات لم يكن بصيراً باللغة العربية التي ينقل عنها. فكانت تستعصي عليه لذلك ترجمة كثير من الأساليب التي(619/10)
لا يجد - لضعفه في العربية - مثيلاً لها في لغة الضاد. فالتوت لغة الترجمة وكثر ما غمد الناقد إلى الأسلوب أو التعبير الأجنبي فنقله بنصه دون مراعاة لروح اللغة التي ينقل إليها فغمضت على القارئ. وكثر ما دخل في اللغة العربية من كلمات أعجمية لم يستطع المترجمون أن يجدوا لها مدلولاً في لغتهم فطغت على لغة الكتابة والخطابة، واستعملها الناس في حديثهم دون شعور بأعجميتها. وزاد الطين بلة تلك الحرية الواسعة التي يتمتع بها المترجمون. وإنه ليسهل عليك أن تجد تعبيراً واحداً في لغة أعجمية نقل إلى العربية بأساليب متعددة حتى يعجزك رد هذا التعبير إلى أصله. ولقد تدهش أحياناً من أن كلمات عربية دخلت منذ حين في لغات أعجمية فإذا ما أعيدت إلى لغتها الأصلية أعيدت مشوهة. وما كلمة (الحمراء) التي نقلت إلى الأسبانية والفرنسية ثم عادت إلى اللغة العربية (الهمبرة) ببعيدة عن الأذهان، وإن الجرائد المصرية ليحلو لها دائماً حين تكتب عن (قناة السويس) وناهيك بما يعترض سبيلك وأنت تقرأ مجلة أسبوعية أو برقيات جريدة يومية من كلمات أعجمية لم يعمل المترجم فيها إلا أن كتبها بحروف عربية، وليته أعجمها حتى يستطيع الجاهل باللغة التي نقلت عنها قراءتها صحيحة، بل ترك للقارئ حرية الحدس والتخمين، وتركك تسمع في نطقها العجب العجاب. أو ليست كلمات رجيم ستراتيجية ومنوكل سامباتيك بوستة وابور شيري. . الخ. . . الخ. . . من الكلمات التي نقرؤها ولم نعد نهتم بها كأنما صارت من صميم الكلمات العربية؟
ولما كان لكل لغة قواعدها النحوية والصرفية واللغوية الخاصة بها فمن العسير أن تنقل من لغة إلى أخرى إلا إذا كنت ملماً بقواعد كلتا اللغتين وإلا تعرضت للزلل. ألا يستعمل العامة والخاصة فعل (أعطى) متعدياً لمفعول واحد فيقال: أعطيت الكتاب لفلان، كما يقول الفرنسيون ' في اللغة العربية متعد لمفعولين فيقال: أعطيت فلاناً الكتاب؟ أو لم تجر أقلام الكتاب باستعمال (لا) قبل (يجب أو ينبغي) إذا أريد نفي ما بعدها فيقولون: لا ينبغي أو (لا يجب) أن نفعل كذا والعرب تقول ينبغي ألا نفعل كذا وكيت وعليك ألا تفعل كذا وكيت؟
لقد نقل الخطأ الشائع وأضرابه بادئ ذي بدء من لم يكن متمكناً من اللغة العربية التي ترجم إليها ثم استعمله سواه من بعده ولم يلبث أن انتقل إلى أقلام الخاصة.(619/11)
وما نشأ هذا الخلط وعمت هذه الفوضى في الأساليب والتعبيرات وطغت الروح اللغوية الأعجمية على روح اللغة العربية إلا لأن الترجمة نفسها لا تخضع لنظام. حتى أن كل من أتقن لغة أعجمية أو اعتقد أنه أتقنها استباح لنفسه الترجمة منها دون مراعاة لمبلغ قدرته في اللغة المنقول إليها. وإنه ليسهل عليك أحياناً أن تفهم بعض التعبيرات في لغتها الأصلية عن أن تفهمها في اللغة العربية؛ وذلك لأن المترجم إما أن يكون ضعيفاً في اللغة العربية فلا يحضره من الألفاظ ما يسد به حاجة الترجمة، أو يكون ضعيفاً في اللغة الأعجمية فينقل إليك التعبير دون تصرف فيه فتكون ترجمة حرفية سقيمة المعنى أو خلواً منه - وإني لأذكر - وأنا لا زلت طالباً بمصر - أن كنا ندرس في كتاب مترجم في (النظريات السياسية). ولقد كان أكره الدروس إلى نفوسنا درس هذه المادة لمحببة النافعة. كان ذاك لتعقد في أسلوب الكتاب كثيراً ما دعانا إلى أن نقف عند كل سطر وأن نكون أحياناً حلقات ندرس فيها ما يراد وما لا يراد من هذه العبارة أو تلك. وما أكثر ما ترانا على أستاذ المادة - وكان أحد المترجمين - حتى لكنا نلجئه إلى قراءة الكتاب في (الفصل) لنفهم عباراته. وإن انتشار هذه التراكيب الركيكة في اللغة السائدة في الكتب والصحف ليتسرب إلى لغة كثير من فضلاء العلماء والأدباء دون أن يشعروا بأنهم ينزلون بلغتهم درجات. خذ مثلاً كتاباً من كتب القانون أو اقرأ الدروس التي يلقيها على طلبته بعض الشبان من رجال القانون الحديثي العهد بالتدريس باللغة العربية وستتبين من غير عسر روح الترجمة فيها. وإني لأنقل إليك عبارة واحدة على سبيل المثال تجدها في مذكرات للقانون الجنائي لعالم فاضل وأترك لك الحكم عليها.
(إذن فطبقاً للرأي الذي ساد المراد بالاختلاس أن الجاني يأتي بحركة مادية يخرج بها الشيء من حوزة غيره ويستولي عليه. وليس بذي شأن أن ينقل الجاني الشيء بيده كحالة اللص الذي ينشل محفظة من جيب المجني عليه أو بواسطة كمن يحرض كلبه. . . كذلك يكفي أن يهيئ الجاني أسباب الانتقال وبعد ذلك يتم انتقال الشيء من تلقاء نفسه. . . الخ؟
وأمثال هذه التعبيرات كثير: أنا شخصياً لا أقبل هذا , ' (قابل صاحب الدولة رئيس الوزراء بوصفه وزيراً للخارجية. .) (هذا الأمر بالقياس إلى هذا. . .) (من وقت لآخر) وهكذا وهكذا.(619/12)
ثم إذا نحن جاوزنا لغة الأدب إلى لغة العلم لما تغير الأمر كثيراً ولا قليلاً. واللغة العلمية والمصطلحات العلمية أحوج ما تكون موحدة. ولن نصل إلى هذا التوحيد إلا إذا قضينا على الحرية المطلقة الفردية في الترجمة وأخذنا المترجمين جميعاً على استعمال تعابير بعينها.
هذا، وإن بعض المواد لا يزال يدرس في (مصر) حتى اليوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية: إما لأن اللغة العربية لا تتسع - كما يقولون - لما وسعه من غيرها من اللغات (وهي التي وسعت فلسفة الإغريق، وحضارة الفرس)؛ وإما لأننا لا نزال ندرج على سنة درج عليها آباؤنا من قبلنا وإن انقطعت اليوم الأسباب التي دفعت بهم إلى فعل ما فعلوا. وليس من سبيل لسد هذا النقص القومي وتمصير الطب مثلاً إلا طوفان من المترجمات يجرف جميع الكتب القيمة التي وضعت في هذه المواد جرفاً ليلقي بها على ساحل اللغة العربية.
وبعد فإن ترك الترجمة فوضى شأنه اليوم يعرض سلامة اللغة لخطر مستمر، وينقل إلينا سيلاً من الكلمات والتعابير الأعجمية التي تنخر في عظام الأساليب العربية الرصينة. وحسبك أن تقرأ كتاباً (كالبؤساء) الذي ترجمه حافظ إبراهيم أو غيره مما ترجم الأستاذ (الزيات) أو (المنفلوطي) وهذه الكتب نفسها إن أشرف على ترجمتها ذوو الترجمات العاجلة الخاطفة لتلمس الفرق بين الترجمتين، ولتدرك أيهما كتب باللغة العربية الفصيحة: من بلاغة في الأسلوب، وصفاء في الديباجة، وسمو في البيان، وتنوع في الصياغة، ودقة في التعبير حتى لكأنك تقرأ القصة في لغتها وبأسلوب كاتبها.
وإنك لتعجب حين تقرأ كتاباً ما ترجم إلى لغات عدة من أن أثر الترجمة لا يحس إلا في اللغة العربية إن نقله إليها من لم يلم إلماماً تاماً بها. ولو علم كثير من كبار الكتاب الأعاجم مقدار ما يصيب آثارهم الفذة من مسخ وتشويه إن أسيء نقلها لحرموا الترجمة ولآثروا أن يظلوا غفلاً في البقاع التي تسودها هذه اللغات المنقول إليها من أن يساء إلى بنات أفكارهم. أو لم تؤلف اللجان لترجمة القرآن حتى يحتفظ له ما أمكن في اللغة التي ينقل إليها بأسلوبه المعجز، وسحر بيانه، وجماله الفني، وتصويره الرائع؟ فليس أمامنا إذا إلا سبيل واحدة لنسلكها حتى نحيط اللغة بسياج متين من تسرب للدخيل إليها وتحفظ عليها(619/13)
بنيتها وروحها وأساليبها - تلك هي الترجمة الدقيقة المنظمة. ولا سبيل إلى مثل هذه الترجمة إلا إذا قام بها من هو ذو بصر باللغة العربية وباللغة التي ينقل عنها. وإن إنشاء دار للترجمة وتزويدها بأعلام الأدب والعلم والفن ممن يحذقون لغات أعجمية لهو الطريقة المثلى لتحقيق هذه الأمنية.
وإننا - كما يقول الأستاذ الفاضل صاحب الاقتراح - (إذا نقلنا إلى العربية نتائج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنجليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان - أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتن به ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس) - ولجددنا في اللغة مع محافظتنا عليها، ودعمنا النهضة، ويسرنا القراءة ودعونا إليها، ولهيأنا للعلوم التي تدرس بلغة أعجمية في معاهدنا العلمية سبيل تدريسها باللغة العربية، ولأمددنا كتاب الصحف والمجلات بأساليب ترفع من ترجمتهم العاجلة، وتسعفهم إن ضاق بهم الوقت؛ ولاستطعنا كذلك أن نضع معاجم عربية - أعجمية يقل فيها الخطأ ويكثر فيها الدقة.
إن مصر ليجهل جمهرة أهلها اللغات الأعجمية. والذين يحذقون أكثر من لغة قليل ما هم. وفي هذا التباين ما فيه من خطر قومي يدفع إليه تباين الثقافات، فمن ثقافة عربية إلى ثقافة أعجمية، ومن ثقافة فرنسية إلى ثقافة إنجليزية أو ألمانية. وفي تنوع هذه الثقافات ما يخلق تبايناً في التفكير بين أفراد الأمة حتى ليتهم بعضهم بعضاً بالقصور عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة أو يدل بعضهم على بعض. ولقد ألفت آذاننا سماع تفضيل ثقافة على ثقافة، وألفنا الحديث عن مدارس الثقافة الفرنسية وعن مدارس الثقافة الإنجليزية وهكذا، فاتسعت الهوة بين المنتمين إلى هذه والمنتمين إلى تلك، فإذا نحن نقلنا هؤلاء جميعاً المؤلفات القيمة من مختلف الثقافات جعلناهم يتغذون بلبن واحد فاتحدت طريقة تفكيرهم ومادتها التي لن تكون إلا عصارات هذه الثقافات ممتزجة، وزالت الفوارق بين طبقات المتعلمين، واقتربت وجهة النظر بينهم، وصاروا جميعاً أبناء أمة واحدة يرتوون من منهل واحد هو الثقافة المصرية
ثم ما ظنك بفريق من أدعياء العلم والأدب اللذين بنوا لهم مجداً شامخاً في الشرق على ما(619/14)
انتحلوه من آراء الأعاجم دون أن يشيروا إليها أو يدلوا عليها؟ داء عسير دواؤه أصيبت به الطبيعة الشرقية لضعف في النفوس وجهل بها، وعجز من الابتكار والاختراع، واستهانة بالقراء، وغرام بالشهرة ولو كاذبة. وشجع على استفحاله أن الشرقي ولا سيما المصري لم يعد إعداداً يحبب إليه القراءة والاطلاع، والتعمق في العلم، فهو يكتفي بما يقع تحت بصره دون تطلع إلى ما وراء ذلك؛ وكان جهله باللغات الأعجمية أو بأكثرها من العوامل التي جعلته يقف في قراءته عندما كتب بالعربية.
إن هذا الفريق من الأدعياء سينكشف أمره، وسيرى مجده يتداعى يوم أن ينقل إلى اللسان العربي جميع ما ألف في سواه أو جمهرته، ويطلع الناس على مصدر الآراء التي ارتفع بها أقوام لا يستحقون الرفعة فينزلونهم من حالق. وسيوصد الباب أمام هذه الفئة الطفيلية فتتخلص من شرورها وغطرستها.
وحبذا لو فكر القائمون بالأمر في وزارة المعارف في إرسال البعوث من ذوي الكفاية في اللغة العربية لدراسة اللغة الأعجمية في مهدها، ولا سيما قد انفتح الطريق الآن بيننا وبين بعض هذه البقاع. ولو أن السنة التي خطها صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا حين كان وزيراً للمعارف في عام 1933 اتبعت منذئذ لتجمع لدينا الآن عدداً لا يستهان به من الشبان الأكفاء الذين يسند إليهم هذا العمل الجليل؛ فلقد أرسل معاليه بعثة للترجمة والتحرير إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا كانت الأولى والأخيرة. وشاء تغير الوزراء من بعده؛ وعدم استقرار سياسة التعليم، ونقض كل وزير ما أبرم سلفه أن يغفل هذا الأمر!
ولعل وزارة المعارف إن وصلت إليها هذه النصيحة وكتب لها أن تستأنف إرسال بعوث الترجمة أن تسند إليهم متى عادوا - بعد عمر طويل - أعمال الترجمة نفسها لا أن تكل إليهم أمر تعلية خزان أسوان أو كهربة خط حلوان، أو أن تكافئهم على جدهم بتكليفهم العمل في حقول التجارب وفلاحة البساتين.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
عبد العزيز برهام
دكتوراه الدولة في الآداب(619/15)
ليسانسية في القانون من باريس(619/16)
أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ساقت هذه الفلسفة الجديدة: فلسفة المعرفة، جماعة المتصوفين إلى تقرير نظرية جديدة هي نظرية (الحق واحد وأن تعددت مظاهره) ومادام الإنسان يتوصل إلى الحق فلا حاجة للأصفياء بالرسل والأنبياء. يقول أحدهم وهو السيد قاسمي الأنوار: (قبل أن تبنى الخانقاه، وقبل أن تنشأ أديرة السومنية التي هي أقدم أديرة الكون، كنت معي في أطوار الكائنات. فدرجة الأنبياء قد ارتفعت من بيننا؛ إذا ما دمنا مجتمعين دائماً فما هي الفائدة من الرسل إذاً.
ومتى توصل الإنسان إلى معرفة (حق اليقين) الذي هو الفناء المطلق تساوت الدرجات وأصبح المعلوم واحداً وتجلت الغاية من الأديان عموماً. فالأديان على اختلاف درجاتها تقصد غاية واحدة وهدف معيناً، هو التوصل إلى معرفة الله، تستوي في ذلك الصابئة واليهودية والنصرانية والإسلامية كما جاء:
عبادتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير
وإلى هذا المعنى ذهب (شمس تبريز) حيث قال: (لست بمسيحي ولا يهودي ولا مسلم). وهذه النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة الإسلام هي نفس النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة أوربا في القرون الوسطى. ثم المذهب الإنساني الفلسفي الذي تمثل فيما بعد على لسان الفيلسوف (هيردر) وعلى لسان الفلسفة الإنكليزية ثم الأوربية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد.
وهكذا تساوت الأديان فلا فرق إذا بين أن يكون الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً. وما دامت غاية الإنسان الاتصال بالله عن طريق المعرفة فالتصوف وحده هو الكفيل بذلك. فعن طريق التأمل بذات الله تتم المعرفة وتنال السعادة الأبدية، أما الأديان والشرائع على رأي نفر من المتطرفين بآرائهم فإنها تحول بين الإنسان وبين معرفة الذات، وتفرق بين اتصال العبد بالرب فهي عامل فتنة وخراب.
وصنف جلال الدين الرومي البشر من حيث معرفة الخالق إلى صنفين: صنف تعلق(619/17)
بالطقوس والشرائع، وصنف امتلأ قلبه وفاض بحب الله. ولابن العربي كلمات تشبه هذه الكلمات. وقد نسب ابن تيمية إلى أحد المتصوفة وهو التلمساني من تلامذة ابن عربي هذا القول: (القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا) على أن ابن تيمية من أعداء الفلسفة والتصوف ويجب أن ننظر إلى كلامه بشيء من التروي على ما اعتقد والحذر.
ونسبت إلى نفر من المتصوفة بعض الأقوال التي لا تلتئم مع ما هو مألوف. مثل قول حافظ: (اتركوا الاثنين والسبعين فرقة لأنها لا ترينا الحقيقة، ولأنها تستمد وحيها من وحي الشياطين.
ونسب إلى أبي سعيد أبي الخير قول يشبه هذا القول فقد قيل أنه قال: (ما دانت المساجد والمدارس باقية لا تتطرق إليها أيدي البلى فإن عمل الدراويش لا يتم. ومادام هناك مؤمن وكافر فإنه لا يمكن أن يظهر على سطح الأرض مسلم حقيقي أبداً)
وفي أقوال أبي سعيد وأشعاره مواضع أخرى تشير إلى هذا النوع من التفكير الحر. وهذه الأقوال ولاشك هي التي أثارت غضب بعض العلماء عليه أمثال ابن حزم الظاهري والمؤرخ الشهير الحافظ الذهبي ولهذا السبب عينه قال عنه المستشرق نيكلسون في كتابه (التصوف الإسلامي) وفي الفصل الذي عقده عنه في (دائرة المعارف الإسلامية) بأنه يمثل الآراء الحلولية المتطرفة التي جاء بها بايزيد البسطامي المتوفي عام 261 للهجرة (874م) تلك الآراء التي يمتاز بها متصوفة الفرس بوجه عام. ولسنا بحاجة إلى أن نزيد أن أبا سعيد كان ينظر إلى الإسلام وغيره من الأديان المنزلة نظرة احتقار) وهو قول ردد صداه المستشرق الفرنسي لويس ماسليون والمستشرق الإنجليزي إدوارد براون وأغلب المستشرقين المشتغلين بموضوع التصوف. على أن من باب الحق والمنطق أن نقول بأن جماعة كبيرة من العلماء كانوا يثنون عليه ويذكرونه ذكراً جميلاً. أمثال: السبكي صاحب كتاب طبقات الشافعية الكبرى والسمعاني في كتابه الأنساب وفريد الدين العطار في كتابه تذكرة الأولياء وأمثالهم؛ وقول هؤلاء طبعاً قول مقبول محترم لا يمكن أن يرد بأي حال من الأحوال.
أما أنصار التصوف وأصحاب مبدأ (حسن الظن من الإيمان) فإنهم يعتذرون عن هذه الأقوال ويفسرونها تفسيراً فيه حسن ظن ورجاء، ويجاوزن عنها ويرجئون أمرها إلى الله،(619/18)
ويوؤلونها تأويلاً، ويحسبونها شطحة من شطحات اللسان. والشطحة عندهم (عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهو من زلات المحققين فإنها دعوى بحق يفضح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة) وهم يؤولون كلام هؤلاء كما قلنا فيقولون: نعم، في ظاهر هذه الكلمات خروج عن المألوف والذوق، ولكنهم لا يقصدون ظاهر هذه الألفاظ بل بواطنها وذلك لا يدركه إلا من سما في العلم الإلهي وفي درجات المعرفة.
ثم قالوا: (وإن للقوم عبادات تفردوا بها واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها غيرهم تخبر ببعض ما يخفى وتكشف معانيها بقول وجيز، وإنما نقصد في ذلك معنى العبادة دون ما تتضمنه العبادة فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلاً عن الكشف) وإن القوم في حالة سكر في الذات العلمية وفي غيبوبة تامة.
قالوا ومن هذا القبيل قول سهل بن عبد الله التستري إذ يقول: (أعرف تلامذتي من يوم ألست بربكم، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا) وقوله: (أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثماني سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة).
وامتازت فلسفة هؤلاء المتصوفة أصحاب الذوق بأسلوب جديد مبتكر أخاذ هو الشعر الغزلي التصوفي الذي أطلقوا عليه اسم (الغزل الصوفي) كما نعتوا الحب البريء (بالحب الأفلاطوني) أو (الحب العذري) وفيه الرمزية والخيال البعيد. ولنا في باب (الغزل الصوفي) طائفة من كبيرة من الشعراء. والتصوف في حد ذاته نوع من أنواع الشعر أو الفن، ففيه عاطفة جامحة؛ لذلك كان أكثر المتصوفة ينظمون نظماً دقيقاً فيه عاطفة دقيقة وإن كانوا قد خرجوا فيه كما خرجوا في نثرهم عن القيود الدينية المألوفة والأساليب المتعارفة كما نجد ذلك في شعر الحلاج وفي شعر محي الدين ابن عربي وفي شعر السهروردي وأمثالهم. ويكفينا في هذا الباب ما نظمه الشيخ المتصوف سيدي إبراهيم(619/19)
الدسوقي المتوفي عام 676 للهجرة: ففي هذا النظم أشياء كثيرة لا توافق ما هو مألوف لما في هذا القول من اتحاد الذات في الإنسان وفي الأشياء. والقصيدة مرآة صافية لفكرة وحدة الوجود التي شاعت في أوربا أيضاً واعتنقها من الفلاسفة والمفكرين ولا سيما أولئك الذين درسوا الآداب الشرقية واطلعوا على تراجم الأشعار الفارسية على الأخص كالشاعر غوته الذي دان بمذهب وحدة الوجود يقول هذا المتصوف الزاهد الذي يرجع بنسبه إلى الإمام عليّ ين أبي طالب والذي تأثر بآراء من سبقه كم كبار المتصوفة كالحلاج والسريّ والسقطى والجنيد البغدادي والشيخ عبد القادر الجيلي على الأخص في جملة ما قاله هذه الأبيات:
تجلَّى لي المحبوب في كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني منيّ بكشف سرائري ... فقال أتدري من أنا قلت منيتي
فأنت منائي بل أنا أنت دائماً ... إذا كنت أنت اليوم عين حقيقي
فقال كذلك الأمر لكنه إذا ... تعينت الأشياء كنت كنسختي
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاته ... بغير حلول بل بتحقيق نسبتي
فصرت فناء في بقاء مؤبد ... لذات بديمومية سرمدية
وغيبني عني فأصبحت سائلاً ... لذاتي عن ذاتي لشغلي بغيبتي
وأنظر في مرآة ذاتي مشاهداً ... لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي
فأغدو وأمري بين أمرين واقف ... علوميَ تمحوني ووهميَ مثبتي
ومنها:
أنا ذلك القطب المبارك أمره ... فإن مدار الكل من حول ذروتي
ومنها:
وبي قامت الأنباء في كل أمة ... بمختلف الآراء والكل أمتي
ولا جامع إلا ولي فيه منبر ... وفي حضرة المختار فزن ببغيتي
ومنها:
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة ... أجدد فيها حلة بعد حلة
ومنها:(619/20)
نعم نشأتي في الحب من قبل آدم ... وسرّى في الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت في العليا مع نور أحمد ... على الدرة البيضاء في خلويتي
ثم يستمر على هذا النسق فيذكر أنه كان مع جميع الأنبياء ويختم قصيدته باسمه وبأنه القطب شيخ الوقت إبراهيم.
وأبو سعيد أبو الخير من المبرزين في الشعر الصوفي، ويمتاز عن غيره من شعراء الفرس بابتداعه الشعر الصوفي عندهم وبنهجه منهجاً جديداً في النظم حذا حذوه أكثر شعراء الفرس كفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وعمر الخيام.
وإذا صحت نسبة الرباعيات الفارسية إليه فيكون بذلك أول مؤسس لرباعيات المتصوفة وأول مبتكر لطريقة جديدة هي الطريقة الرمزية في الشعر. ولكن هناك من يشك في صحة نسبة الرباعيات إلى صاحبنا استناداً على رواية تقول بأن الناظم الأصلي لهذه الرباعيات هو أستاذ أبي سعيد أبو القاسم بشريس وهو متصوف أيضاً وأديب مشهور
على أن شيئاً واحداً لا يمكن أن يتطرف إليه الشك هو أن أبا سعيد كان ينظم الشعر وكان يحفظ شيئاً كثيراً من شعر الفرس والعرب، وأنه كان ضليعاً في اللغة العربية وكان يجلس لتفسير القرآن. وبهذه المناسبة نقول إن تفسير القرآن على طريقة الصوفية هو تفسير خاص. ومن أشهر هذه التفاسير تفسير عبد الرحمن السلمي النيسابوري (412هـ) أحد الأساتذة الذين درس عليهم أبو سعيد ونال الخرقة منه، وأشتهر هذا الشيخ برواية الأحاديث ولا سيما أحاديث الصوفية وقد أتهم لذلك بأنه كان يضع الأحاديث على لسان الرسول لتقوية مذهب التصوف (سنن الصوفية).
وتفسير محي الدين بن عربي الشهير وتفسير نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري (في أوائل القرن الثامن للهجرة وتفسير عبد الرزاق الكاشي (الكاشاني).
وكما أن أصحاب الباطن (الباطنية) من المسلمين والحروفية فسروا القرآن تفسيراً يوافق آراءهم باعتبار أن للقرآن ظاهراً وباطنا وقالوا بأن الظاهر هو المفهوم لدى العامة وأن الباطن هو المقصود من القرآن ولدى الخاصة وحدهم (علم الباطن) أولئك الذين يعرفون (ما ظهر منه وما بطن) فكذلك المتصوفة فسروا القرآن تفسيراً خاصاً حيث كانوا يعمدون إلى التأويل دائماً تأويلاً يتفق مع آرائهم ومشاربهم.(619/21)
واتصل أبو سعيد علي ما يروى بالمتصوف الشهير أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري (المتوفي عام 465 للهجرة) (وقد تلقى القشري أول الأمر هذا الزائر الجديد بشيء من الحذر والنفور، ولكنه ائتلف به وأصبح صديقه الحميم فيما بعد، وتلك خاتمة يلوح لنا أنها بعيدة الاحتمال).
حاول القشيري وهو من رجال التصرف في رسالته الشهرة (الرسالة القشيرية) (كتبها سنة 437 للجرة) جمع خلاصة آراء وأفكار المتصرفة للتوفيق بين آراء المتصوفة وبين آراء جماع المسلمين والرهنة على أن التصوف أصل الإسلام. وذكر طائفة من كبار المتصوفة بما فيهم الخلفاء الراشدون والأئمة العلويون وأكثر الصحابة، وقد فاته أن التصرف الذي كان عليه في وقته لم يكن معروفاً بهذا الشكل في صدر الإسلام، وأن الصحابة كانوا يؤاخذون الناس عليه كما فعل الخليفة عثمان بعامر بن عبد الله ابن قيس الذي ترهب وتزهد في البصرة وامتنع عن أكل اللحوم والزبد والجبن وكل منتوج للحيوان، وأعرض عن الزواج وعُرف (براهب الأمة)
والتقى أبو سعيد بالفيلسوف ابن سينا على ما ذكره فريد الدين العطار في كتابه. والظاهر أن هذا اللقاء بنيسابور حيث أقام بها أبو سعيد محترماً مقرباً من عالمها الكبير إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني. وابن سينا الذي اشتهر بنظم الشعر باللغة العربية اشتهر بنظم الرباعيات بالفارسية فهو زميل منافس لصاحبنا المتصوف. ولعل هذه المنافسة هي التي أدّت إلى نفرة أبي سعيد من ابن سينا، ثم إلى ردة على ابن سينا برباعية من رباعياته المشهورة.
تمتع أبو سعيد بشهرة عظيمة في بلاد فارس حيث كان محط الرحال إلى أن جاءه الأجل المحتوم في سنة 440 للهجرة فدفن في مسقط رأسه (ميهنة) وبذلك تم دخوله في عالم الفناء.
مات أبو سعيد فكتب حياة هذا المتصوف حفيده محمد بن أبي المنوّر، وعلى هذه الترجمة اعتمد فريد الدين العطار في كتابه (نفحات الأنس).
بغداد
الدكتور جواد علي(619/22)
الأسرة والمجتمع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علة الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
من بين الحقائق التي عنيت بإبرازها وتوكيدها في كتابي (الأسرة والمجتمع)، الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية)، وأن الأسرة تقوم على مصطلحات يرتضيها العقل الجمعي، وقواعد تختارها المجتمعات، وأنها لا تكاد تدين بشيء لدوافع الغريزة، بل إن معظمها ليرمي إلى محاربة الغرائز أو توجيهها إلى طريق غير طريقها الطبيعي.
وقد ناقش الأستاذ العقاد الفقرة الأولى من الدليل الأول الذي أوردته لتأييد هذه النظرية، وهو - كما أشرت في مقالي السابق - واحد من أثنى عشر دليلاً ذكرتها مسلسلة في هذا الكتاب. فظهر له أن ما تشير إليه هذه الفقرة لا ينهض حجة على صحة ما ذهب إليه. ثم أدلى برأية في هذا الموضوع، فذكر أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في جميع شئون الأسرة أو في أهمها على الأقل، وأستدل على ذلك بعدة أمور.
ولست محاولا في هذا المقال أن أسرد ما أغفله الأستاذ العقاد من الأدلة التي أوردتها في كتابي لتأييد نظريتي، والتي لا تدع مجالاً للشك في صحتها؛ لأن محاولة كهذه لا يتسع لها المقام من جهة، ولأنها من جهة أخرى ستكون مجرد تلخيص مخل لمسائل استغرق بحثها نحو مائة وخمسين صفحة في الكتاب. ولذلك سأقتصر على مناقشة الأستاذ في النظرية التي أوردها، وهي أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في أهم شئون الأسرة
ذكر الأستاذ لتأييد نظريته هذه أموراً كثيرة يمكن وجعها إلى دليلين رئيسيين. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذين الدليلين إذ يقول: (إن أمرين أثنين تختلف النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل. وهما حضانة الطفل والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء. وكلا هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وجميع العصور). وأتخذ من هذين الأمرين حجة على أن النظم الأساسية المشتركة في العائلات الإنسانية قائمة على الغريزة
ونحن نشكر للأستاذ كثيراً أن قدم لنا دليلين من أقوى الأدلة على صحة ما نذهب إليه؛(619/24)
فكفانا بذلك مئونة الجهد في تأييد ما قررناه في كتابنا، وفي الرد على نظريته.
1 - حقا إن حضانة الأولاد أمر غرزي عند معظم الحيوانات على اختلاف يسير فيما بينهما: فأحياناً تتوافر هذه الغريزة عند الأم وحدها؛ وأحياناً عند الأب وحده؛ ولكنها في معظم الحيوانات الزوجية (وهي التي تعيش زوجين زوجين، والتي منها الإنسان) تتوافر لدى الأب والأم معاً. ولكن هل تسير الحضانة في الأسرة الإنسانية وفق ما تميله هذه الغريزة؟ الحقيقية أن النظم الاجتماعية وحدها هي التي تتحكم في الحضانة تحكماً مطلقاً لا تقيم فيه وزناً للغريزة ولا لمقتضياتها، وأن الأسرة الإنسانية تخضع في ذلك لما يسنه لها المجتمع سواء أكانت شرعته متفقة مع منهج الغريزة، أم كانت معدلة له، أم مختلفة معه كل الاختلاف. بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب أن اصبح واجباً على الآباء أن يقتلوا أولادهم أو بعضهم أو جنساً معيناً منهم عقب ولادتهم أو في سن الطفولة أو يلقوا بهم في مكان قفر أو يقدموهم قرباناً للآلهة، وأبت هذه المجتمعات إلا أن يتم لها ما أرادت ولو كرهت الغرائز، وسارت العائلات وفق ما أملته عليها نظم مجتمعاتها لا وفق ما فطر عليه أفرادها من غريزة. فمن ذلك مثلاً أن النظم الإسبرطية كانت توجب على الأدباء إعدام أولادهم الضعاف أو المشوهين أو المرضى عقب ولادتهم أو تركهم في القفار طعاماً للوحوش والطيور. وكانت الأم نفسها تلجأ إلى مختلف الوسائل لتحقيق هذه الغاية؛ مع أن غريزة الحضانة والحدب على الصغار عند أنثى الإنسان ومعظم الحيوانات الثديية تتجلى في أوضح مظاهرها حيال الضعاف من الأولاد (ولعل الأستاذ العقاد يذكر بيت المهلهل:
كأن كواكب الجوزاء عوذ ... معطّفة على رُبَع كسير
فللتأكد من صلاحية ولدها للحياة في نظر مجتمعه، كانت ستغمسه عقب ولادته في دن من النبيذ، وتركه مغموساً وقتاً ما: فإن عاش بعد ذلك هذا على قوة بنيته واستحقاقه للتربية؛ وإن مات أدت الأم واجبها نحو المجتمع بأن خلصته من كائن ضعيف لا يستحق الحياة في نظره. وهذا النظام نفسه أو ما يقرب منه كان سائداً في أثينا وفي روما وقد أقره فلاسفة اليونان أنفسهم وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. ومن ذلك أيضاً أن التقاليد الاجتماعية كانت توجب على الآباء في كثير من الشعوب البدائية وغيرها قتل أولادهم جميعاً أو بعضهم في جميع الحالات أو في حالات خاصة لاعتبارات دينية أو اقتصادية. ومن هؤلاء(619/25)
بعض عشائر من عرب الجاهلية كانت تقتل أولادها ذكورهم وإناثهم في بعض الحالات؛ وعشائر أخرى كانت تصطفي الذكور وتئد البنات وفي كثير من الشعوب كانت النظم الاجتماعية توجب على الآباء تقديم أولادهم أو بعضهم في حالات خاصة قرباناً للآلهة. ومن هؤلاء قدماء المصريين والعبريين والعرب في الجاهلية. بل إن أقدم صورة للأضحية في المجتمعات قد تمثلت في الأضحية الإنسانية التي يقدمها الآباء من أولادهم. وفي معظم المجتمعات الإنسانية، إن لم يكن في جميعها، لا يقوم الأب بحضانة ولده من السفاح؛ مع أن الغريزة لا تفرق بين ولد شرعي وولد غير شرعي، وإنما جاءت هذه التفرقة من النظم الاجتماعية وحدها. بل إن الأم نفسها كثيراً ما تتخلى في هذه الحالة عن الحضانة فتقتل ولدها أو تلقيه في الطريق، متصامّة عن نداء الغريزة، خشية ما تجره عليها نظم مجتمعها وعرفه الخلقي.
وإذا كان الآباء في معظم مجتمعاتنا المتمدينة الحاضرة يسيرون في حضانة أولادهم في حالة الزواج الشرعي وفق المنهج الغريزي إلى حد ما، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن النظم الاجتماعية قد أوجبت عليهم حضانة أولادهم وتربيتهم على هذا الوضع، وأتاحت لهم بذلك إرضاء غرائزهم، ولو أنها سارت بهم في طريق آخر، كما كان الشأن في شعوب أخرى كثيرة، ما استطاعوا إلى مقاومتها سبيلاً، وما وجدت غرائزهم منفذاً إلى الظهور. على أن هذه الحضانة، إذ يقرها المجتمع ويوجها على الآباء، لا يتركها للغريزة تتجه بها كما يشاء، بل يتدخل في تنظيمها ويضع لها قيوداً وأحكاماً تبعد بها كبيراً عن طريقها الفطري. وإن نظرة يسيرة في أحكام الحضانة في القانون الروماني القديم والقانون الفرنسي الحديث وفي الشريعة الإسلامية، وفيما تقرره هذه الشرائع من أحكام وقيود بهذا الصدد في حالة بقاء عقد الزواج، وفي حالة فسخه، وفي حالة موت أحد الزوجين، وفي حالة زواج أحد الأبوين بزوجة أخرى أو زوج آخر. . . إن نظرة يسيرة إلى هذه الأمور وما إليها لكافية في الدلالة على أن النظم الاجتماعية، حتى في حالة إقرارها مبدئياً لحضانة الأبوين لأولادهما لا تترك هذه الحضانة للغريزة توجهها كما تشاء، بل تتدخل في تفاصيلها وعناصرها ومدتها، وتضع لها من القيود ما يبعد بها كثراً عن سنن الغريزة
أفبعد هذا دليل على أننا بصدد نظام يقوم على مصطلحات اجتماعية لا على أمور تقررها(619/26)
الغرائز؟!
2 - وأما (الألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء) التي ظن الأستاذ أنها أمر غريزي وأنها دعامة لجميع النظم العائلية، فحقيقة الأمر أنها ليست من الغريزة في شيء، وأن النظم الاجتماعية هي التي تخلقها خلقاً، وتحدد مجراها ونطاقها، وتسر بها في السبيل الذي يرتضيه العقل الجمعي، ويتفق مع ما تصطلح عليه الجماعة من أوضاع؛ فإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأمي) تألف أقرباء الفرد من أمه وأقارب أمه فحسب، على حين يصبح أبوه وأقارب أبيه أجانب عنه، لا تربطه بهم أية رابطة من روابط القرابة، ولا يشعر نحوهم كما لا يشعرون نحوه بأية عاطفة عائلية، ولا بأية ألفة حميمة أو غير حميمة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأبوي)، تنعكس الآية فتتجه العاطفة والألفة إلى الأب وأسرته، وتصبح الأم وأسرتها أجانب عن الولد لا تربطه بهم أية قرابة، ولا يشعر نحوهم بأية عاطفة أو ألفة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على النظام المشترك (وهو النظام الذي يعترف بقرابة الولد لكل من أبيه وأمه) مع ترجيح ناحية الأب أو ترجيح ناحية الأم اتجهت الألفة والعاطفة إلى الناحية التي يرجحها المجتمع أكثر من اتجاههما إلى الناحية الأخرى؛ وإذا كان محور القرابة في الأمة يعتمد على ناحية أخرى غير الأب والأم (وكثيراً ما تحقق ذلك في المجتمعات الإنسانية) انقطعت صلة الولد بأبيه وأمه معاً، واتجهت عاطفته وألفته نحو الجماعة التي يلحقه بها مجتمعه.
فلسنا إذن بصدد أمور تحددها صلات الدم أو تقررها الغرائز، بل بصدد نظم تصطلح عليها المجتمعات اصطلاحاً. والألفة التي يتحدث عنها الأستاذ العقاد، حتى في صورتها العاطفية الخالصة: لا تقوم على أساس من الغريزة؛ وإنما تخلقها النظم الاجتماعية خلقاً، وتتجه بها في الطريق الذي تريد. على أن هذه الألفة لا تتمثل في أمور عاطفية فحسب؛ وإنما يتمثل أهم عناصرها في طائفة من الحقوق والواجبات التي تربط الأقرباء بعضهم ببعض. وغنى عن البيان أن هذه الحقوق والواجبات لا تدين بشي إلى الغريزة؛ وإنما مردّها إلى المجتمع وقوانينه؛ بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب الإنسانية أن انعدمت الألفة بمعناها العاطفي بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأقوياء؛ لأن الأوضاع الاجتماعية كانت تحول دون نشأة الألفة بينهم بهذا المعنى؛ ولم تبق إلا الألفة بمعناها(619/27)
القانوني والاجتماعي متمثلة في الحقوق والواجبات التي تربط أفراد الأسرة وتربط الأقرباء بعضهم ببعض. وإليك مثلاً العشائر البدائية باستراليا التي كان معظمها يسير على (النظام الأمي) (وهو الذي تعتمد القرابة فيه على الأم وحدها). ففي هذه العشائر كانت الأم تقيم عادة مع الأب في منازل عشيرته، مع أنها كانت تنتمي دائماً إلى عشيرة أخرى (فقد كان يحرم تزاوج أفرد العشيرة الواحدة بعضهم من بعض). وكان نساء العشيرة الواحدة يتزوجن من رجال ينتمون إلى عشائر متعددة ويسكنون مناطق مختلفة. وكان أولادهن بمقتضى النظام المتبع (وهو النظام الأمي) ينتمون إلى توتم أمهاتهم وعشيرتهن، ويؤلفون معهن أسرة واحدة. وقد ترتب على ذلك أن كل أسرة من الأسرات التي تتبع هذا النظام كانت مبعثرة الأفراد، لا يضم أعضائها مكان واحد، ولا يمكن أن تتكون بينهم ألفة عاطفية: يجمعهم ذلك الرباط الاجتماعي الديني، وتربطهم بعضهم ببعض طائفة من الحقوق والواجبات؛ بدون أن تنتظمهم وحدة جغرافية أو تؤلف بينهم رابطة إقليمية، أو تتوافر الظروف التي تنشئ في نفوسهم ألفة بمعناها الوجداني الطبيعي.
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة السربون(619/28)
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد مطر
- 4 -
إن الروح العالمية التي أملت على وزارة المعارف التنازل عن سلطانها إلى فروعها في المناطق التعليمية الإقليمية وفي إدارات مدارسها بمشروع اللامركزية الذي وضعته ونفذته أخيراً - تلك الروح تستحق كل ثناء وإعجاب لأنها تدل على أن الوزارة جادة في تلمس أسباب الإصلاح. وإذا كانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيله فإنه لا بد أن يتلوها خطوات؛ لأن الإصلاح يتطلب بجانب لتنظيم إدارات التعليم تنظيماً لمعاهد التعليم على أسس جديدة تغير من روحها ومن جوهر الحالة القائمة فيها لتنتج الخطوة الأولى نتيجتها. وبث الروح الجديدة في المعاهد يتطلب مجهوداً جباراً ويتطلب تعاوناً صادقاً من الرجال ذوي التجارب الذين مارسوا المهنة طويلاً، والذين يشرفون على معاهد التعليم، والذين يطلب منهم أن يقوموا بإخلاص بتنفيذ الأسس الجديدة. فلا بد لهؤلاء وهؤلاء أن يقتنعوا بما في المدرسة القائمة من عيوب وأن يقتنعوا بما يجب نحوها من تغير وتبديل بحث وتمحيص. ومشكلة التعليم يجب ألا تحصر في تغيير أسماء بأسماء أخرى، أو في نقل موظفين من هنا إلى هناك، أو في خلق وظائف قد لا يكون لها مبرر. إنما مشكلة التعليم الأساسية هي في المدرسة: في نظمها القائمة، وفي مدرسيها، وفي الروح السائدة فيها، وفي روح طلبتها.
فإذا كنا قد شكونا قديماً من أن روح المدرسة كانت محصورة منذ زمن بعيد في تلقين التلميذ كثيراً من المعلومات ليصبها صباً في ورقة الامتحان ثم ينساها بمجرد الانتهاء منه، فإن هذه الروح لا زالت قائمة إلى اليوم وهي التي تملي على المدرسة ومدرسيها أعمالهم، وتملي على الطلبة طرق السير في حياتهم وفي تفكيرهم، وفي غدواتهم وروحاتهم.
وإذا كنا شكونا حتى بحث الأصوات في كثير من الأوقات بأن المدرسة تباعد بين المتعلم وبين الأعمال والمشاريع الحرة، وإن كل متعلم متى حصل على شهادة فهو لا يفكر في عمل يعمله غير الوظيفة، وأن المتعلمين زاد عددهم قبل الحرب زاد عددهم قبل الحرب زيادة كبيرة، ونعتقد أن سيتضاعف عددهم بعد الحرب، فأن السياسة التي رسمت أخيراً(619/29)
للوظائف بتسعير الشهادات وأعمال الإنصاف قد زادت أبناء الأمة تشبثاً بالوظائف واندفاعاً في سبيلها وتعلقاً بأهدافها فزادت بذلك مسافة الخلف بينهم وبين العمل الحر، وارتفعت نسبة عباد الوظيفة من المتعلمين حتى أصبحت المدرسة بحق هي المصنع الدائم لصناعة الموظفين!
وإذا كنا شكونا قديماً وقلنا بأن المدرسة لا تعني عناية مباشرة بتكوين النواحي الخلقية الضرورية في أبنائها أو بغرس الأخلاق القويمة التي تتطلبها حياة الأفراد والجماعات اليوم من صبر على المكاره ومثابرة على العمل وجهاد وتعاون على الخير الخ. فإن المدرسة لا زالت إلى اليوم تهمل كل هذه النواحي الهامة التي لا ينجح في الحياة فرد ولا مجتمع إلا بها. وإذا كنا شكونا قديماً من أن المدرسة تعني العناية كلها بالأمور المظهرية والصورية دون الأمور الجوهرية في اتصالاتها وأعمالها وحفلاتها فإن الحالة لا زالت تجري اليوم كما كانت قديماً. وإذا كنا شكونا من أن الاتصال الروحي الذي كان قائماً بين التلميذ وأستاذه والذي كنا نحسه قديماً في تلميذتنا يسري في دمائنا ويدفعنا دفعاً إلى تمجيد أساتذتنا واحترامهم مما كان يبعث في قلوبنا للمدرسة الهيبة والتقديس قد أخذ في التضاؤل حتى أصبح شيئاً تافهاً، فإنا نحس اليوم أن ذلك الاتصال الروحي قد انقلب مع الأسف إلى ضده حتى أصبحنا نرى تلاميذ المدارس ينتهزون الفرص أحياناً للنيل من أساتذتهم ونظارهم ومعاهدهم التي تؤويهم. ثم أن روح الاستهتار لم تقتصر على التلاميذ وحدهم بل تعدتهم في الأيام الأخيرة إلى بعض المدرسين الحديثين الذين اصبحوا لا يقدمون حق التقدير وأجبهم وما يلقيه عليهم من مسئوليات، فإذا عبثوا أو أهملوا وسئلوا في ذلك هزوا أكتافهم أو هربوا من المسئولية وألقوها على غيرهم ولفوا وداروا في الظلام بحثاً وراء من يحمي ظهورهم ويشجع استهتارهم بالعمل على ترقيتهم وسبق زملائهم. لذلك نجد أن الروح الجدية أخذت مع الأسف تتلاشى تدريجياً بين مدرسي مدارسنا كما تلاشت بين تلاميذنا. فما بالك إذن بروح التعاون التي تتطلبها المدرسة والجماعة والأمة في سبيل نهضتها ووحدتها!؟
ولقد زاد الطين بلة ما كان من ثورة على مناهج التعليم كأن المناهج لا المعلمين وكأن الخطط لا النظم هي التي تكون الناشئين! فلطالما اهتزت أركان الوزارة في ربع القرن الماضي بتغيير الخطط وتغيير المناهج وإطالة مدة مرحلة من مراحل التعليم وإنقاص(619/30)
أخرى من تلك التغييرات الظاهرية، والتبديلات الجوفاء التي أضافت إلى جمود الروح المدرسي عبئاً آخر من فوضى التغيير الظاهري والعبث بالاستقرار الحقيقي حتى ضج من ذلك المعلم والمتعلم. وكم نادينا على غير جدوى بأن المشكلة الحقيقة ليست في المناهج والخطط ولكنها في نظم الدراسة وروحها ومعلميها. ثم زاد الحالة سوءاً بعد ذلك ما كان من تشجيع الطلاب على الاندماج في الحزبية الجامحة بالكثيرين منهم إلى الخروج على أبسط قواعد الأدب وتقاليد المجتمع!
كل ذلك يلمسه ويحسه القائمون على أمور المدارس والمتصلون بها من رجال التعليم والمشرفون عليها. وكل ذلك نادينا بضرورة إصلاحه من زمن بعيد فلم نجد مع الأسف من القائمين بالأمر إلا ارتجال مشروعات لا تمت بصلة صحيحة إلى إصلاح روح المدرسة ونظمها. وأعتقد أن رجال التعليم جميعاً يتحدثون بذلك ويدركونه ويتلمسون له الحلول فلا يجدونها! وهاهي ذي الأمة تقاسي اليوم من جراء ذلك ما تقاسي من فوضى الخلاق، وسوء معاملة الناس متعلمين وجاهلين بعضهم لبعض وعدم ثقتهم بعضهم ببعض، وأنانيتهم وجشعهم وقلة اكتراثهم بعمل الخير، وقلة إقدام متعلمينا وشبابنا على المشروعات العامة ببسب فقدان التناصر والتعاون حتى بين أفراد الأسرة الواحدة وخروج الابن على أبيه، وعدم رعاية حقوق الأخوة والجوار، الرحمة ممن تحب عليهم الرحمة للضعفاء والمعوزين، إلى غير ذلك مما يفت في عضد الأمة ويضعف من قوتها، ويوهن روح بنهضتها ويضعضع وحدتها. ولقد أحس بذلك الصغير والكبير ورجل الشارع التعليم. فما السبيل يا ترى لإصلاح هذه الحال؟
فإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة وتكاتف عناصرها بضرورة توحيد الثقافة في المرحلة الأولى من مراحل التعليم بإحلال المدرسة الموحدة محل المدرسة الموحدة محل المدرسة المشتقة من التعليم الإلزامي والأولي والريفي والابتدائي؛ وإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة بضرورة توحيد معاهد المهنة الواحدة، وعلى الخصوص معاهد المعلمين كدار العلوم ومعهد التربية وكلية اللغة العربية وإدماجها في معهد واحد لتخرج مدرسين متعاونين متضامنين عارفين بواجباتهم مقدرين لمسئولياتهم، فإنا ننادي كذلك بضرورة إصلاح المدرسة القائمة بصفة عامة إصلاحاً يتناول روحها ونظمها ويحدد أهدافها، ولن يتم لنا كل(619/31)
ذلك إلا بالتعاون الفني والتعاون القومي. لا يتم لنا كل ذلك إلا إذا تعاون رجال التعليم عامة في لجان دراسة فاحصة تبحث عيوب النظام الحالي كلها وتناقشها في محاضرات ومؤتمرات عامة، وتضع الحلول المختلفة للخلاص منها. ثم تدرسها بعد ذلك لجنة فنية عليا لغربلتها وتصفيتها. ومما يساعد على ذلك الآن وجود عدد كبير من المفتشين العامين في مختلف إدارات التعليم بالوزارة. ثم يعرض الأمر أخيراً على مجلس المعارف الأعلى الذي سمعنا بقرب تشكيله. وإنه ليفرح الأمة أن يتكون هذا المجلس تكويناً قومياً بحيث يكون جامعاً لخلاصة المفكرين ورجال الأعمال من كافة الأحزاب، ويا ليته يضم عدداً من رجالات البلاد العربية الشقيقة حتى يكون عمله قومياً بحتاً معترفاً به من جميع الحكومات على اختلاف مذاهبها. وبذلك تسير مصر كلها ومعها بلاد الجامعة العربية في طريق واحد نحو هدف ثقافي واحد.
هذه هي الطريقة المثلى في حل مشاكلنا التعليمية، وهي طريقة وإن كانت بطيئة إلا أنها مضمونة الفائدة محققة النفع ذات هدف سام يرحب به الجميع، وأقل ما توصف به من خير أن الحلول التي تضعها لمشاكل التعليم لا تكون بنت يومها أو بنت الطفرة، ولا تكون حلولاً مرتجلة نتيجة تفكير فرد أو أفراد محدودين، بل هي نتيجة بحث وفحص وتمحيص يشترك فيها الجميع وتمليها المصلحة القومية العامة، مصلحة الأمة التي تطلب الوحدة وتنادي بها وتعمل لها.
عبد الحميد فهمي مطر(619/32)
الأفغاني والوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
- 4 -
وأخيراً، أين بلغ الأفغاني من التأثير في المسلمين بدعوته؟ وأين وصل من الطريق إلى هدفه وغايته؟ وماذا أجدى في تحقيق تلك الفكرة التي نهض لها ملء يقينه وجهد طاقته؟
إننا نستمع إليه في آخر حياته يرسل هذه الصيحة الأليمة اليائسة إذ يقول: (إن المسلمين قد سقطت همهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم، وهو شهواتهم!)
ففي هذه الصرخة التي تفيض بالألم نرى الرجل مغيظاً محنقاً، لأنه لم يجد في المسلمين العزيمة التي كان يتمثلها، والوثبة التي كان يتوقعها، وكأنه يقول: لقد ناديت لو أسمعت حياً، والواقع أن الرجل لم يكن يستطيع أن يبلغ أكثر مما بلغ، فإنه كان ينادي على قوم يأخذون طريقهم إلى النهاية، وسنن الوجود الاجتماعي لها في هذا حكمهما الذي لا يرد، وقد كان التيار المتدفق من الخارج قوياً عنيفاً، ودينا النضال والنزال في عهد جديد تسيطر عليه الآلة، وهو عالم لا يعرف عنه المسلمون إلا كما يعرفون عن عالم السحر ودنيا الجان
فحسب الرجل نجاحاً أنه فتح العيون على الخطر الماثل، ونبه الأذهان إلى غاية الشر المتنمر، وأنه استطاع بصادق غيرته وقوة يقينه أن يجعل من دعوته نقطة تحول في حياة الشرق العربي، وأن يقيمها عقيدة اجتماعية لها تيارها واتجاهها في تلوين الأفكار وتوجيه العقول والإفهام، على أننا لا ننسى أن الأفغاني في هذا كله كان لا يملك كثيراً من الوسائل المساعدة، فهو رجل فقير مضطهد، والملوك وأهل السلطان يخذلون جهده، ودول الاستعمار وأهل المآرب يناهضون فكرته، فنراه كل يوم على سفر يضرب في فجاج الأرض، كل ما في قدرته أن يلقي بأفكاره إلى إفهام الطبقة الطبقة المثقفة، وكانت يوم ذاك قلة، وليست في يد الوسيلة التي يصل بها إلى الرأي العام، ونحن نعلم من شواهد التاريخ أن الرأي العام هو القوة الفعالة في تحقيق الفعالة في تحقيق الدعوات، وأن الجماهير هي الوقود الذي ينضج الثورات
ولعل أهم ما أجدى السيد الأفغاني في توطيد دعوته والامتداد بأثرها في إيقاظ الشرق وتنويره، هم أولئك التلاميذ، أو على الأصح أولئك المريدون الذين بطابعه، وصقلهم على(619/33)
غراره وخلع عليهم كل ما خصه الله به من عبقرية الدرس وعبقرية النفس، فكانوا لسان صدق للدعوة، وكانوا دعاة مخلصين واجهوا بها الأحداث في إباء وشجاعة، ولاقوا من أجلها الأهوال في قوة وصرامة، وقد كان أبرز هؤلاء الدعاة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضوان الله عليه، والسيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله
أما الشيخ محمد عبده، فقد كان صوتاً متفقاً مع الأفغاني، شاركه الرأي والجهاد في ميدان واحد، وأما الكواكبي فكانت حياته أشبه ما تكون بحياة أستاذه في الرحلة والتنقل من قطر إلى قطر، وكانت تعاليمه ودعوته إلى الوحدة صورة مطابقة لما كان ينادي به الأفغاني. كان الأفغاني كما مر بك يرى أن تقوم الدعاية للوحدة بعقد مؤتمر عام كل سنة في مكة يجمع أصحاب الكلمة والرأي من العلماء لحسم كل نزاع، وتدبير كل ما من شأنه النهوض بالمسلمين، فتطوع الكواكبي لعقد هذا المؤتمر في عالم الخيال أو في عالم الأمل، وندب له أعضاء من جميع الأقطار الإسلامية، ووضع أمامهم حال المسلمين للبحث وتمحيص الرأي، وقد جعل هذا موضوع كتابه المعروف (بأم القرى)، وهو أسم أخذه أيضاً من أسم الجمعية التي كان أنشأها أستاذه بمكة من قبل
ولكن هؤلاء الدعاة، وهم ما هم في صدقهم وإخلاصهم لم يستطيعوا أن يتمسكوا إلى آخر الشوط بدعوة الأفغاني في نصها وحرفيتها كما يقولون، لأن الحوادث كانت تتطور تطوراً سريعاً يحيط بهم، ويكبر على جهدهم، فكان عليهم أن يلائموا بين خطتهم وبين طبيعة الحوادث، وقد تبصر المعتدلون من هؤلاء المريدين والأتباع، فرأوا أن وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية وتجمعها في صعيد واحد لا يمكن أن تقوم لا في الوضع السياسي ولا الاجتماعي ولا العمران، وأن الفكرة في ذلك فكرة فضفاضة متموجة لا تحدها معالم ثابتة ولا تسندها مقومات متينة، فضلاً عما تثيره من الاتهامات والشبهات وما تلاقيه من المناهضة والمقاومة فعدلوا عن الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية، واختزلوا رغبة الأفغاني في قيام وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية إلى وحدة عربية تجمع الأقطار المتجاورة المتشابهة التي وحدت حوادث التاريخ الماضي بينها في اللغة والتفكير والمظهر الاجتماعي، والتي تؤلف بينها الأغراض المشتركة والآمال المتفقة في الفوز بحياة الحرية والعزة، ولم يكن قصدهم (العربية) المحصورة في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل كانوا(619/34)
يقصدون أيضاً ما يتفرع عنها من الجنس السامي في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، وما يتصل بها من الجنس الحامي في مصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وكانوا يعتقدون أن رابطة تشمل هذه الأقطار مما يدخل في دائرة الإمكان، بل إنها قائمة روحياً ومعنوياً، لا ينقصها نحو التنفيذ والإنجاز!
وإذا كان دعاة (الإسلامية) قد وقفوا في تأييد دعوتهم عند أساليب الحث والوعظ والتذكير والإهابة بضرب الأمثال وأناشيد المجد السالف، فإن دعاة (العربية) قد أخذوا في دعم فكرتهم بأساليب الفلسفة السياسية والاجتماعية، وخلعوا عليها لباساً علمياً من النظريات العلمية التي كانت شائعة بين العلماء في ذلك الوقت. كانت الجامعة السياسية في رأي علماء الألمان تقوم على وحدة اللغة ووحدة الجنس، وعند علماء الطليان ترتكز على وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب الفرنسيين تعتمد على وحدة الطموح السياسي ونفوذ السلطان، وفي جماع هذه الآراء والاتجاهات وجد دعاة العربية برهاناً لدعوتهم، من وحدة اللغة، ووحدة الجنس، ووحدة التاريخ، ووحدة التقاليد، ووحدة الطموح السياسي، وبهذه الصبغة صبغوا دعوتهم ونادوا بفكرتهم وانتصروا لها بكل ما يملكون من أساليب البيان واللسان
وأذكى تيار هذه ما كان من غطرسة الحكم التركي في الاستخفاف بحقوق العرب والنظر إليهم بعين الإغضاء والاستهانة، وقد اضطرت تركيا تحت هذا الضغط إلى إصدار كثير من (الفرمانات) تعلن فيها المساواة بين الأجناس والأديان في السلطنة العثمانية، ثم أعلنت دستور سنة 1909، فغمرت العرب موجة من السرور والارتياح، وشاموا في هذا بداية عهد جديد يؤدي إلى جمع القلوب، ولكن سرعان ما تكشفت الأمور فإذا هي هباء وألاعيب، وإذا الاتحاديون الذين أعلنوا الدستور وجاهدوا من أجله اشد الغلاة في هضم حقوق العرب والاستهانة بحريتهم وكرامتهم، وظهر لأبناء العروبة أن (الفرمانات) التي حررت، والدستور الذي أعلن لم يكن إلا حبراً على ورق، فانقلبت آمالهم إلى خيبة مريرة، وحسرة قاسية، واشتدت عصبيتهم لجنسيتهم، ووقفوا والعثمانيون وجهاً لوجه.
كانت هذه الحركة أقوى ما تكون في سوريا والعراق لوقوعهما مباشرة تحت سلطة تركيا، ولكن مصر كانت أوسع ميدان لها وأفسح مجال للعاملين على امتدادها، إذ كانت مصر في(619/35)
هذه الفترة موئلاً للمتمردين على الحكم العثماني من أبناء الأقطار العربية، كما كانت مجال فكرية تملك من الوسائل والأسباب ما لا يملك غيرها من أقطار العالم العربي، وامتد تيار هذه الحركة على أوسع ما يكون، وتألفت أحزاب وجمعيات ومنتديات كثيرة في مصر وبيروت وفي الأستانة نفسها، وكل منها يعمل في طريق للنهوض بأبناء العربية، ووقف الشعوبيون من أنصار الرابطة (الطورانية) يناهضون هذا الاتجاه ويناضلون العرب فيما يدعون إليه، ووجد أنصار الأغراض الاستعمارية لأنفسهم من هذا منفذاً لبث آرائهم ودعاياتهم، فكان أن أصبح الرأي فوضى لأقوام له، وأصبح الدعاة للوحدة والنهوض يخضعون لتيارات مختلفة ويعملون لأغراض متباينة، ففي مصر مثلاً كان الرأي القوي الذائع هو أن تنال مصر استقلالها وأن تتحد مع جاراتها العربية، على أن يكون ذلك في ظل الولاء للخلافة العثمانية، ولكنك كنت تجد في الجهة المقابلة رأياً يدعو إلى الاستقلال عن كل سلطة خارجية وصلة أجنبية ورعاية مصالح مصر قبل أي اعتبار آخر، وفي سوريا والعراق كان جماعة ينتصرون للعربية من عسف الأتراك، ويدعون إلى الوحدة على أن تظل على الإخلاص لبني عثمان، ولكن الرأي السائد عداوة للأتراك، وعصبية للجنس، وتشنيعاً على الاستعمار العثماني في جميع أطواره، وكان أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن العرب إذا انسلخوا عن الوحدة العثمانية في مقدورهم (أن يقيموا لأنفسهم استقلال سياسي)، ولا بأس عليهم من الاستعمار الأوربي، وكان أكثر أهل هذا الرأي من (محترفي السياسة وتجارها) كما يقول بعض الكتاب، ولسنا في مقام توزيع التبعات وتحقيق الاتهامات وتفنيد الآراء، ولكنها إلمامة عارضة أوردناها على قدر ما يقتضيه الموضوع الذي نحن بصدد في بيان الأثر الذي امتدت به دعوة الأفغاني.
هذه الفوضى التي اضطربت بالإفهام وبلبلت الأفكار، وهذه الأغراض التي دخلت على الدعاة إلى الوحدة العربية واردة من (أوروبا)، جعلت على العقلاء ينظرون إلى المسألة بعين التبصر مرة أخرى، ويحكمون فيها عقولهم قبل أن يندفعوا إليها بعواطفهم، فظهر لهم أن هنالك خطراً ماثلاً يتهدد كل وحدة في الشرق مهما كان لونها أو اتجاهها، وأن أوربا تريد أن تضع يدها على تركة المسلمين تحت سمعهم وبصرهم، وأن (القوة العثمانية التي تمثل الاستقلال السياسي للمسلمين والتي هي مظهر السيادة الإسلامية قد أصبحت معرض(619/36)
لأشد الأخطار)، ظهر كل هذا للعقلاء المتبصرين، فأشفقوا من الخلاف القائم، وانبروا يدعون إلى الاتحاد تحت راية الخلافة، ويحضون على وحدة شاملة لمدافعة الخطر، وكانت مصر أفسح ميدان لهذه الدعوة وأعلى صوت في الدعاية لها والحض عليها، لأن ما كانت تعانيه من عسف (كرومر) قد بصرها بالأمر، ولأنها كانت في النهضة الوطنية والفكرية أسبق وأنضج، ولأن صلة (بيتها الحاكم) ببني عثمان كانت تقوم على المودة والقرابة.
وبين عشية وضحايا وضح الأمر وتكشف الحقيقة فيما توقعه أولئك العقلاء، إذ تألبت ممالك البلقان على الدولة العثمانية، ودهمت إيطاليا طرابلس وبرقة وضرب أسطولها بيروت في غير شفقة ولا رحمة، فهز هذا من أريحية المصريين، واستثار عواطفهم وشجونهم، وارتفعت الأصوات بالإشفاق على مجد الإسلام ومعالمه الباقية، وعادت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لتكون قوة في وجه الاستعمار الذي كشف عن ناجذيه في غير مواربة، وقد بذلت مصر بذل المخلص الشريف في نصرة العالم الإسلامي، وأمدت تركيا بهبات سخية من المال والعتاد، وأعانت المنكوبين إعانات فياضة، مما دلّ على الإخلاص في النية، والصدق في العزيمة، والغوث في الملمات.
واطردت الأمور متقلبة متحولة، ومضت الأحوال تجري بين جزر ومد، ولم تلبث الحرب الماضية أن نشبت على أوسع رقعة، ودخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، فطوى كل رأي في صدور أصحابه، ووقف كل دعوة عند حدودها، وأصبح الأمر للدعايات الحربية والسياسات الحزبية والاتجاهات الملتبسة التي لا يرتبط فيها اللسان بالقلب، ولا يتصل فيها القول بالعمل، وفي هذا الجو ظهرت دعوة إلى (العربية) في شكل جديد وعلى وضع جديد، وكان الغرض فيها يدور حول الحركة التي قام بها السلطان (حسين بن علي) في الحجاز، وامتدت دعاياتها إلى سائر الأقطار العربية، وكان هذا الغرض هو ما تكشفت عنه الحوادث في أعقاب الحرب الماضية، وكان أثر هذه الدعوة الجديدة هو ما انتهت إليه بعد.
الخلاصة:
فأنت ترى فيما أوردناه عليك، أن الدعوة إلى الوحدة إنما نشأت (إسلامية) قوامها القرآن في لسان الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأضرابهم، ثم اختزلت إلى (العربية) في تقدير(619/37)
المعتدلين ممن جاءوا على أثرهم وترسموا طريقهم، ثم تشعبت هذه (العربية) فيما بعد إلى شعب لها مراميها وأغراضها، ولها أساليبها وسبلها، ولا شك أن المؤرخ السياسي والاجتماعي لحياة الشرق العربي في العصر الحديث لا بد له من تحليل هذه التيارات كعوامل وعناصر كان لها في توجيه الرأي السياسي والاجتماعي الذي سيطر على الحركات الأخيرة، وكيف النهضات الحديثة، وأدى إلى ما بلغته الأقطار العربية اليوم، بل وما ستبلغه في الغد، والفضل في هذا كله للأفغاني العظيم، الذي وهب نفسه للوحدة، وظل طول حياته يجاهد في سبيل هذه الدعوة.
(تم البحث)
محمد فهمي عبد اللطيف(619/38)
هرموبوليس مدينة الحج
للأستاذ فوزي الشتوي
انقرضا من مصر
في أساطير قدماء المصريين أن مجاعة اجتاحت بلاد النوبة ففتكت بأهلها وزرعها، إلى أن خف إليها الإله توت على شكل قرد أنقذها وأعاد إليها الأمن ورغد العيش. والإله نوت من اقدم معبودات قدماء المصريين. وله رمزان يمثله أحدهما على صورة طير أبي منجل. ويمثله الثاني صورة وجه القرد.
وقد تبين من حفريات جامعة فؤاد الأول برياسة الدكتور سامي جبرة في منطقة تونة الجبل قرب ملوى أن أرض مصر في عهد الفراعنة كانت تضم مجموعة كبيرة من الحيوانات التي انقرضت أو هاجرت إلى بقاع أخرى ومنها طير أبي منجل والقرد. والأول من فصيلة أبي قردان وله طباعة في الفتك بالحشرات الضارة بالإنسان وزرعه:
رمزان للإله
قال عنه هيرودوتس المؤرخ اليوناني إنه كان يسكن بين جبال سينا فيأكل الثعابين والحيات قبل دخولها أرض مصر. ويقول الدكتور سامي جبرة إن المصريين شهدوا اتزان مشيته ووقاره، فأعجبوا بصفاته العالية، واتخذوه رمزاً لإله المعروفة، ولئن كانت قوانيننا الحالية تحرم صيد أبي قردان، وتفرض الغرامة والسجن على مقتنصه فإن قوانين القدماء كانت تقضي بإعدام من يقتل أبا منجل
والقرد من الحيوانات النادرة التي تهلل جماعاتها إذا أشرقت الشمس وتنوح وتندب إن آذنت بالغروب. والمصريون القدماء معرفون بدقة الملاحظة. رأوا في تهليله ونواحه علامة على معرفته لأسرار الشمس والعالم الآخر.
والإله توت إله المعرفة، يعرف ما خفي وما استتر، ويحق الحق ويزهق الباطل. وهل لإله المعرفة من رمز أشهى من الاتزان كما تمثل في أبي منجل؟ وهل من إدراك بالغيب وسر إقبال الشمس واختفائها أعمق من إدراك القرد؟ رأى المصريون في الحيواني صفات شديدة الصلة بالإله توت فاتخذوهما له رمزين حيين، ورفعوهما إلى مركز التقديس.(619/39)
وزال أبو منجل من مصر، ولكنه لا يزال يقطن السودان وشواطئ إيطاليا الجنوبية، كما يعيش القرد في عدة أماكن منها السودان. وعرف رمز الإله في عهد الفراعنة باسم توت، فلما أقبل اليونان والرومان رأوا فيهما تشابهاً مع إله المعرفة عندهم فسموه هرمس.
وأطلقوا على بلدة أشمون الغربية أسم هرموبوليس. ولتوت فيها مقابر من السراديب الصخرية قال عنها هيرودوتس إن مساحتها 40 فدانا ضمت جثث آلاف القردة وأبي منجل.
ولعل القارئ سمع عن بلدة الأشمونين أو بلدي أشمون. والغربية منهما تكون من قبور الإله توت ومعابده ومكان الحجاج والشرقية هي مركز الحياة المدنية والإدارية. وقد كشفت حفريات الدكتور سامي جبرة عن المدينة المقدسة فأعطانا معلومات هامة عن فترة من أشد فترات التاريخ المصري القديم غموضاً وهي ما يسميه الدكتور بعصر الانتقال. إذ يربط بين المدينة المصرية وبين المدينة اليونانية الرومانية. وهناك قطع أٌثرية جمعت بين الفنين. وقد امتدت إلى ما قبل العصر المسيحي بقليل.
مجهول يتكشف
ويقول الدكتور إن أبحاث الجامعة هناك تشمل فترة تبدأ من القرن السادس قبل الميلاد. وتمتد إلى القرن الثالث بعد الميلاد، أي أنها تضم تسعة قرون من الزمن. ولا تخلو آثارها من مفاجآت، ففي أحد السراديب وجد ناووس للإله توت يخص الملك رمسيس الثاني من عهد الأسرة التاسعة عسرة.
ويرى مؤرخنا أن أهمية منطقة الأشمونين ترجع إلى موقعها الجغرافي والتاريخي. فهي في مفترق الطرق بين مدينة طيبة قرب الأقصر وبين مدينة ممفيس في الدلتا. وهي منطقة واسعة الثروة يتسع فيها وادي النيل فيغطي رقعة واسعة من الأرض هي في الواقع أوسع منها في أي بقعة أخرى.
وتفرع من هذه المنطقة أيضاً طرق قوافل تخترق البقاع إلى السودان وإلى البحر الأحمر. كما يخترقها نهر النيل وبحر يوسف فتجود أرضها بالوفير من الغلات والحاصلات.
وقد بدأت الحفريات في سنة 1931 في ظروف قاسية فلم يكن بالمنطقة ماء ولا سكان، بل كانت تلال من الرمال يتراوح ارتفاعها بين 12 متراً و15 متراً فلم يكن هناك مفر من(619/40)
المبيت في خيام أو أكواخ صغيرة، فتحمل الجميع شظف العيش هناك. وعلى مر السنين أقيمت المباني وتيسر الحصول على الماء والغذاء وأصبحت من أجمل البقاع.
مدينة الحجاج
ومدينة الحجاج تتكون من ثلاث سراديب طويلة متفرعة اتخذت مدافن للإله توت. شيد إلى جوارها بناء كبير يتكون من عدة غرف لتنظيم دفن جثث الطيور أو القردة. مات واحد منها نقله صاحبه إلى الكهنة ودفع قدراً من المال يقرر تبعاً له مدى إتقان التحنيط ومكان الدفن. فإن كان كبيراً حنط رمز الإله تحنيط الدرجة الأولى ودفن في فتحات خاصة حفرت في الصخر على جانبي السراديب. فعرف مكانه وتيسر له زيارته كل عام في عيد الإله توت في أول الشهر المعروف باسمه في التقويم القبطي، ويوافق 16 يوليو في بدء الفيضان.
وإن كان صاحب الرمز فقيراً ودفع قدراً قليلا من المال حنطت الجثة من الدرجة الثالثة، ووضعت في إناء من الفخار، ثم دفنت في حجرات واسعة منتشرة على جانبي السراديب صفاً صفا. فإن اكتمل نظام صف وضعت فوقه طبقة من الرمال لتبدأ طبقة أخرى من الجثث إلى أن تملأ الحجرة فيبدأ الدفن في غيرها.
ودفن الأثرياء مع رموز آلهتهم تماثيل وتمائم تمثلهم لتحل على أشخاصهم بركة الآلهة. وكانوا يضعونها في صناديق من خشب الحميز الذي اثبت أنه لا يبلى بمر السنين، وأنه أقوى أنواع الخشب متانة واحتمالا بخلاف ما يقول المثل البلدي (تخن على الحميز) وكتب بعضهم على هذه الصناديق أدعية.
معدات تحنيط كاملة
وقرب مدخل السراديب وجدت غرفة تحنيط كاملة المعدات وتبين جميع مراحله، في أحد أركانها إناء كبير يحتوي على مادة التحنيط نفسها، ولكن تحليلها لم يكشف عن سر تركيبها، فإن انتهت هذه العملية حمل الكهنة المومياء في موكب ديني وهم يرتلون أدعيتهم ونزلوا سلم بظهورهم إلى أن يضعوها في مقرها الأخير
وأحد هذه السراديب خاص بالعظماء، نقش سقفه بالألوان وزين بالرسوم، وتغطية الآن(619/41)
طبقة خفيفة من (الهبات) لا يعرف مصدرها وإن كان يظن أنها أثر حريق شب في السراديب أو لأن المسيحيين كانوا يلجئون إليه هرباً من اضطهاد الرومان فيتصاعد دخان مسارجهم ويغطي السقف بلونه القاتم
واحتفظ معبد الأرواح المقدسة في أحد السراديب بنقوشه وآثاره. شيده أحد البطالسة تقرباً من المصريين وهو يمثل الإله توت على شكل قرد يستقبل أشعة الشمس. ويلاحظ أن جميع غزاة مصر حاولوا التقرب من المصريين وحكمهم عن طريق الاندماج في ديانتهم، فقد وجد ناووس قرد للملك داريوس الفارسي. وتحاط مدينة الحج بسور متدرج في الارتفاع تكون كل ثمانية أعمدة درجة. والثمانية هو درج، والثمانية هو رمز تلك المنطقة وتعبير عن عدد آلهتها الثمانية المعترف بهم في ذلك الوقت. فلا تجد هناك يتكون من ست أو سبع بل ثمانية ومضاعفتها وحتى مدخل السراديب أضيء بثماني مسارج.
فوزي الشتوي(619/42)
عيد الجلوس والربيع والسلام
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لواءُ مُلك يا مولاي منشورُ ... وعيدك السَّمَح ضاحي الوجه مشهور
له على الأرض ضجَّات وجلجلةٌ ... وفي السموات تهليلٌ وتكبير
يومٌ من الُخلد قد خُطَّت صحائفُه ... كأنه في سجل الُخلد مسطور
مع الربيع قد انهلَّت بشائرُه ... وللربيع إذا وافى تباشير
كأنه مُؤْذِنٌ بالخطبِ في بلد ... ثَراؤه في كتاب الله مذكور. . .
مولاي تلك الأسارير التي انبسطت ... ما أشرقت مثَلها فينا أساريرُ
مولاي تلك الأزاهير التي ابتسمت ... ما شابهتها على الروض الأزاهير
تبسَّم الزمن المنكودُ واعتدلت ... أموره وتحامتنا الأعاصير
ومرَّ من سيئات الدهر ما غُفِرَتْ ... وكلُّ سوء على الأيام مغفور
وأصبحت مصرُ والأيام مقبلةٌ ... والحظُّ في أمرها جَذْلانُ مسرور
لما جلست أقال الله عثرتها ... وصافحتها على الخير المقادير
مولاي عيدُك هذا العام تغمرُه ... بشرى السلام وَيَسْرى فَوقَه النورُ
كأنه من هُتاف الحقُّ أغنية ... أو أنه من نشيد السلم مَزْمور
كانَ الطُّغاة لهم تدبيرُ منتقم ... فينا، ولله يا مولاي تدير. . .
رَمَوا والله في أغراضهم هَدَفٌ ... وقدَّروا، ولحكم الله تقدير. . .
شَنُّوا على الأرض حرباً غير عاقلة ... الجوُّ منها لظى والبحر تَنُّورُ
ظنوا الليالي عنيهم غيرَ دائرة ... مَن اطمأنَّ إلى الأيام مغرور
الأرضُ ضاقت عليهم وهْي مُفْزعةٌ ... والجوُّ سُدَّ عليهم وَهْوَ مذعور. . .
كم آمرٍ بات منهم وهو مُؤْيمِرٌ ... وآسرٍ بات فيهم وهو مأسور. . .
مولاي: في الشرق نورٌ كم أضاء به ... على الدجنَّات في التاريخ دَيجور
وللعروبة يا مولاي ألوية ... يُنبيك عنها من الرومان (نقفور)
لواؤُها في دروب البرَّ منتصر ... وجيشها في خِضَمَّ منصور
إذا غزت فهي نيران مسعرة ... وإن رمت فهي تخريب وتدمير(619/43)
ماض من العيش قد ولت بشاشته ... وما جرت فيه بالسعد المقادير
قد غَيَّر الدهرُ يا مولاي سيرته ... والدهر في صرفه حوْلٌ وتغيير
إنا لنرجوك لمال تجرها ... فكل كسر على كفيك مجبور
عسى الليالي التي ضاعت نضارتها ... تعود منها الفيافي وهي يخضور
ما دام فيه قلوبٌ مثلُ قلبكمو ... فكل معسوره لا شك ميسور
فكن إلى المجد ركناً في بنايته ... فإنما الملك إصلاح وتعمير
يا قائد الجيش إن السيف ما برحت ... له على الأرض آراءٌ وتدبيرُ
كفى الوقوفُ بمجد ليس يحفظه ... إلا الفوارسُ والأُسّدْ المغاوير
من فاته السيف في الدنيا فليس له ... من ذنبه في حِفاظ الحقَّ تكفيرُ
لا يحفظ الحقَّ إلا السيفُ منصلتاً ... دعوى السلام بتلك الأرض تغرير. . .(619/44)
ذلك الصوت!
للأستاذ إبراهيم العريض
يا ابنة الحسن! قد عشقتُك صوتاً ... يتهادى على جناح الأثير
أنا أصغي إليك في كِلّة اللي ... ل كأني في عالم مسحور
ليت شعري! أيضحك البدر لي أم ... أنا في وسط حفلة للطيور؟
لم أكن قبل ذلك الصوت أدري ... أن في الأرض كل هذا السرور
ما وعتْ من لحونك الأذن لحناً ... إنما غبتُ. . غبت بين الزهور
يا طريد الجنان! عرّج على الخل ... د، فما ذاك غير صوت البشير
هو كالروح. . . في ضلوعي منه ... حفقةٌ، بللت أرق شعوري
هو كالورد. . . ما نشقت بأنفي ... ريحه، بل لمستُه في ضميري
هو كالصيف. . . ليله مر بالأنج ... م يزهو، في قلبي المحرور
هو كالنجم. . . ما تصورَّت إلا ... أنه في السماء بات سميري
كنت في ظلمة، أعيش لذكرى ال ... حسن، حتى حظيت منه بنور
هو دنيا من الشعور لقلبي ... يا لدنيا - في وحدتي - من شعور(619/45)
البريد الأدبي
في مدرج كلية الحقوق بجامعة فؤاد
دفعني حب الاستطلاع إلى مشاهدة مناقشة رسالة الأستاذ (أنور مصطفى الأهواني) في يوم السبت الماضي عن (رئيس الدولة في النظام الديمقراطي) التي تقدم بها إلى (كلية الحقوق) بالجيزة. ولطالما تاقت نفسي - بعد أن طوفت ما طوفت في جامعات لأوربا وشهدتُ مناقشة رسائل عدة بها - إلى أن أحضر نقاشاً في جامعة مصرية يكون فيها المحتكمِ والمحتكَم إليه من المصريين. ولقد تركت أحسن الثر في نفسي تلك الساعات القليلة التي قضيتها في مدرج كلية الحقوق أستمع إلى الحوار الذي دار بين أعضاء لجنة التحكيم وبين مقدم الرسالة. وراعني حقاً حرص المحكَّمين جميعاً على الفصل بين العلم والسياسة، وإيثارهم التفرقة بينة لغة الكتب ولغة الصحف، وأن يكون النقاش كله بالعربية الفصحى وإن رأت لائحة الكلية غير ذلك
وكان يسود الجلسة روح من المرح والإفادة، وكان يغشاها جلال العلم ورهبته لولا ما تخللها من تصفيق استحسان أو قهقهة استملاح. وحبذا لو عمل رؤساء لجان التحكيم على أن يظل للعلم حرمته ولقاعة المباحث ما لا يذهب بقدسيتها ويصيرها سرادقاً يضم خطباء ومعجبين.
ولقد أظهرت مناقشة المحكمين للرسالة دراستهم إياها دراسة مستفيضة وإلمامهم بموضوعهم إلماماً تاماً، ودلت على غزارة مادتهم واطلاعهم على ما كتب الأعاجم، ولا غرو فمن بحرهم نهلوا أو عليهم تتلمذوا. وعندي أن لو هيئ لهذا الشباب الناهض من الأساتذة، مجال العمل وإيقاف النفس على العلم وحده دون تطلع إلى مناصب القضاء أو الإدارة لأتي بأطيب الثمرات، ولأنجبت مصر مئات من عبد الحميد بدوي وأحمد ماهر
وكان غريباً أن يطلب إلى المرشح أن يذكر ملخصاً لأطروحة باللغة الفرنسية، ولا أكتمك أنني أحسست عند ذاك يخدش في عزتي القومية، وتساءلت كيف نكون في جامعة مصرية، وبين أساتذة وطلبة مصريين تُنَاقَشُ رسالة مصرية بلغة أعجمية؟ ولم يذهب بدهشتي إلا قول جار لي إن لائحة الكلية تجيز ما كان. إلا أنه إذا صح لِلاَّئحة أن تجيز ذلك أيام أن كنا فقراء في العلماء وكان الأساتذة الأعاجم يشتركون في مناقشة الرسائل، أو لا يجدر بنا أن(619/46)
نغفل هذا الأمر اليوم بعد أن توفر بيننا العدد الكافي من المحكمين المصريين؟
ثم أعود فأقول إن من صواب الرأي أن يؤذن للطالب بالحديث والرد وهو جالس لا أن يترك أكثر من ساعة واقفاً كالخطيب يستند على إحدى قدميه تارة وعلى الثانية أخرى. إن المرشح يكون في حال نفسية تتطلب أن توفر له أسباب الراحة، ولن يكون هذا بتركه يلقي ملخص رسالته وهو واقف والكرسي بجانبه. ولعل إدارة الكلية تفكر في أن تضع ثلاثة مصابيح ثابتة على منصة المحكمين أمام كل عضو مصباح حتى لا يتكرر ما تكرر في الجلسة التي نكتب عنها مما ذهب ببعض جلالها
وبعد، فلقد كان الدكتور سيد صبري بارعاً في محاجته للطالب وإن ظهرت عليه روح التحامل الخطابة أحياناً. وكان بارعاً كذلك في دفاعه عن نفسه وتنصله من أنه (يميل إلى الحلول الوسطى) أو (أن بعض العبارات في كتبه غامضة) وكانت روح الدعابة التي مزج بها نقده تخفف على الممتحَن بعض ما لقي منه.
أما الدكتور وحيد رأفت فكان حواره حوار العالم الذي لا يرمي من وراء مناقشته إلا إلى الوصول إلى الحقيقة وإرشاد المخطئ إلى مواضع خطئه. وكان التزام سبيل المنطق في الإقناع أكبر عون له في بلوغ غايته؛ وألبست نبرات صوته المتزنة الهادئة الجلسة جلالا فوف جلالها؛ فكان الكل آذاناً صاغية له.
وكان صديق الدكتور عثمان مثلاً للشباب الحي. ولقد برهنت مسايرته الطالب في المناقشة متتبعاً الرسالة صفحة صفحة على أنه (قتلها بحثاً) ولو كنت ذا إمْرَة لأذنت لعضو اليسار بأن يكون البادئ في المناقشة؛ فهو عادة أحدث المحكمين سناً، وأنَّ سّبْقه بغيره يفوت عليه كثيراً من نقده.
ولو أن الدكتور عثمان التزم اللغة العربية الفصحى في مناقشة لكان لحواره شأن آخر. وليت شعري لماذا كانت تبدو عليه إمارات الغضب والتألم وهو يعد المآخذ على الرسالة؟ إن كان المصنف قد أسرف في الاقتباس إسرافاً حوّل الرسالة إلى (ملخص) مدرسي، فكيف أذنت له الكلية في طبعها؟ كيف أذنت في أن يحمل أسمها كتاب ليس لواضعه فيه إلا الجمع والتوقيع؟
عبد العزيز برهام(619/47)
إلى الدكتور جواد علي
قلت في السطر الرابع من العمود الثاني من مقالك القيم (أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة) في عدد الرسالة السابق 618 ص473: (وأبو سعيد. . . . . . كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا المذهب في هذه العقيدة).
وأقول إن ثمة فرقاً كبيراً بين مذهب الحلول ووحدة الوجود حتى إنه لا يحق لنا أن نجمع بينهما ونقول إن أبا سعيد كان من أتباعهما معاً. إن المذهب الأول اثنيني يقول بطبيعتين مختلفتين: إلهية وبشرية، يمكن للأولى أن تحل في الثانية إن تحققت شروط معينة، ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند الحلاج الذي قد تأثر ولا شك بفكرة المسيحيين عن اللاهوت والناسوت.
أما المذهب الثاني فمذهب وإحدى يقول بحقيقة واحدة كلية لها تعينات هي الحقائق على اختلافها. الكل هو التعينات والتعينات هي الكل وهذه وتلك هي الله. ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند ابن عربي.
هذا الخلط بين مذهب الحلول وحدة الوجود قد وقع فيه من قبل زكي مبارك مع أنه قد ميز بينهما في هامش كتابه التصوف الإسلامي.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أسأل الدكتور أن يجيبنا: من اتباع أي المذهبين كان أبو سعيد) ولكم الشكر.
حسن علي الحلوة
إلى الأستاذ محمد يوسف موسى
قدم الأستاذ محمد يوسف موسى كتابه (ابن رشد الفيلسوف)
إلى الأستاذ أحمد عاصم بك المدير العام لدار الكتب المصرية
فأرسل إليه هذا الكتاب.(619/48)
شكرتك من قبل على هديتك العلمية القيّمة، كتابك عن (ابن رشد الفيلسوف)، والآن وقد قرأته أكثر من مرة، أرى من حق هذا السفر المتع أن ابعث إليك بكلمة تعبر عن مدى تأثيره في نفسي.
لقد كنت إلى عهد غير بعيد اشعر بشيء من الضجر كلما وقع في يدي كتاب في الفلسفة أو عن الفلاسفة، وكنت ألمس مثل ذلك الشعور في إخواني لا أشك في مقدرتهم العلمية، وكان هذا الملل يتطور أحياناً إلى درجة (النفور) من الفلسفة، حتى حملني ذلك على تلمس السبب في هذا الشعور المشترك بيني وبين من أعرفهم من صفوة المثقفين المفكرين، فلم أجد لذلك سبباً إلا ما يتوخاه بعض من يكتبون في الفلسفة من طرق معقدة كثيرة الغموض والدوران، توحي أحياناً بأن المؤلف نفسه لا يملك ناصية مادته، ولا يستطيع صوغها في القالب السهل الواضح الذي يجنَّب القارئ الحيرة، ويشبع أطماعه ويحبب إليه ما يقرأ.
ولكني قد لمست الآن والله الحمد تطوراً عظيماً في أسلوب الكتابة في الفلسفة، يبشر بعصر مزدهر في حياة هذه المادة، فهي لا يعوزها غير إقبال القراء عليها، والمؤلفون وحدهم هم الذين يملكون هذا التيسير. فإن قلت لك إن كتابك حملني على قراءته عدة مرات، علمت بعد هذه التوطئة التي سُقتها مبلغ تأثيره في نفسي، ومدى إعجابي به وبأسلوبه.
وإني لأرجو مخلصاً أن ينسج الكتَّاب على منواله، كما أنني شديد التفاؤل ما دامت قد قامت الآن فلسفية يحمل علمها جلَّة من العلماء المعاصرين، وفي زمرتهم الأستاذ صاحب (ابن رشد الفيلسوف). ولا شك في أن للأزهر وأبنائه فضلهم العظيم في أحياء هذه النهضة التي ترمي إلى تيسير فهم الفلسفة على غير الفلاسفة، وإثبات أن الدين والعقل متلازمان لا تنافر بينهما، فينصف بذلك أمثال ابن رشد والفاربي وابن سينا وغيرهم على يد الأزهر وفلاسفة الأزهر. لهذا غمرتني موجة من الغبطة حينما رأيتك وقد وفيت موضوعك حقه، وأعطيت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويسعدني ما اشعر به من أن السواد العظم من الناس ستطمئن نفوسهم إلى الفلسفة وهم يرون الأزهر يحمل شعلتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المخلص(619/49)
أحمد عاصم
20 - 5 - 1945
نقل مبتور عن ابن تيمية
نشر الدكتور جواد على تعليقاً على ما كتبه معالي مصطفى عبد الرزاق باشا عن الفيلسوف أبي سعيد أبي الخير، وقد عرض الدكتور في نهاية كلامه ابن تيمية، إذ نقل كلاماً مبتوراً من رسالته الأولى، ونسبَه على هذا البتر إلى ذلك الشيخ الجليل فكانت فيه وقفة للقارئ. وإليك ما كتب الدكتور، واستشهد عليه بالنقل المبتور:
(ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي، بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ - عين اليقين - ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً بالمعرفة. . . فلا حاجة إلى نبوة أو وسيط، لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل)
وقد نسب الدكتور هذا التعليل المحجوز بين حاجزين إلى الإمام ابن تيمية، دون أن يبين لنا: أهو يحكي هذه الفقرات عن غيره، أم هو يقرر فكرة يراها ويستشهد لها؟ والقارئ لما نقل عن ابن تيمية على هذا الوجه يفهم فهماً أولياً أن ابن تيمية ممن يرون الاستغناء عن النبوة لمن يسمون أنفسهم (متصلين) مع أن هذا الإمام رجل يقظ لم يتخبط في دينه على هذا النحو، وقد ذكر هذه الفقرة في كلام طويل ينكر فيه تلك الفكرة، ويشنع على القائلين بها، ويجرح فهمهم وتعليلهم الذي استشهد به الدكتور على صحتها. وينزه ابن تيمية في كلامه الطويل أصحاب الرسول (ص) واتباعه عن القول بمثل هذا التحريف، فإيراد هذه الجملة مبتورة عما يتصل بها ليس من أمانة النقل، ولا من الإنصاف في عرض المسائل الخلافية، فضلاً عما فيه من إثارة الحفيظة الدينية نحو ابن تيمية، وتصويره للناس في صورة جماعة هو من خصومهم. وليرجع من شاء إلى صفحة 20 من الرسالة الأولى لابن تيمية، ليعلم الفرق بين الأصل والنقل وكفى
عبد اللطيف السبكي(619/50)
المدرس في كلية الشريعة(619/51)
الكتب
مجمع الأحياء
كتاب للعقاد تفيد قراءته الآن
كان فرحي بظهور هذا الكتاب فرحاً عظيماً، لأن إعادة طبعه كانت رغبة، بل أمنية، اشتهيتها منذ بضعة عشر عاماً. وظهوره في طبعته الثالثة يسد نقصاً في المكتبة المصرية، لأن طبعته الأوليين نفذتا ولم نستطيع الحصول عليه لندرة وجوده، فلما ظهرت هذه الطبعة تلقيتها فرحاً فما هو هذا الكتاب؟
إن مقدمات العقاد لكتبه هي غالباً مفاتيح لشخصيته العظيمة المتعددة النواحي في تلك الكتب العديدة، وهي شروح للظروف التي أوحت بها، وللمؤثرات التي أحاطت به فكتبها، فلنرجع إلى تصدير الطبعة الثالثة حيث يقول: (هذه الرسالة وليدة الحرب العالمية الماضية. . . شغلني موضوعها يومئذ، لأنه موضوع الصراع في الحياة الإنسانية، بل في الحياة عامة، وأحببت أن اعرف لهذا الصراع معنى يطمئن غليه الضمير، فانتهيت بالرسالة إلى معنى فيه بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، وهو أن الحق والنواميس الطبيعية يتلاقيان)
ويقول فيها أيضاً: (وهاهي ذي الطبعة الثالثة لمجمع الأحياء تصدر والدنيا مشغولة بحرب عالمية أخرى هي اشد هولا وأوسع مدى وأٌقوى اختلافاً على المبادئ والآراء من الحرب التي نشبت قبل ثلاثين سنة، فإذا كان هناك خاطر يرد على الذهن في تصدير هذه الطبعة - خلال هذه الحرب القائمة - فذلك الخاطر مما يزكي موضوع الرسالة ويؤيد نتيجتها، أو يسير بنا في وجهتها، وهي أن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضاً إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، لأنها تناقض القوة العمياء: قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة: قوة العدل والحرية).
والعقاد يبسط في مقدمة الطبعة الثانية آراء عميقة: منها أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، ولكن الحق الذي نعرفه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون، والسعادة المطلقة لفرد واحد معناها إبادة مطلقة للنوع، وكثيرون من الخلق يشكون من تفاوت الأعمار والخطوط، فإذا تساوى الناس في كل شيء، فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ ولو أن هؤلاء الشاكين صار(619/52)
إليهم أمر الكون لحاروا في تسيره فهدموه، لأنهم لا يعرفون كيف يوفّقون ين أجزائه المتفاوتة المختلفة، لأنهم ناقصون، ويحسبون أن الكون فوضى لأن جميع أجزائه غير كاملة. . . فإذا أردنا حياة سعيدة أقرب إلى الكمال فلنفهمها بلغتها، ولا نحاول التعبير عنها بلغتنا، فقد صورت حقائقها مرة واحدة في كتاب نحن حروفه وكلماته وأرقامه، فنحن إذن النتيجة لا المسألة. . . والحروب دائماً تزلزل العقائد وتطفر بالناس والأخلاق، ومقاييسها طفرات أخرى غير المألوفة، فتشك قوماً وتجذب إلى الدين آخرين. . . ولكنه يعتقد أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا أريدت حياة سعيدة، فليسمع الناس صوت الطبيعة على سجيته قبل أن يضطروا إلى سماعه زمجرة ووعيداً، وليسمعه كل إنسان على شاكلته: الشرير فيتمادى في شره، والأمة فتقضي على هذا الشرير. . . وتسمعه الإنسانية فتنحى على الأمة التي تفرط في حقوق الحياة، أو تمسخ عناصرها الباقية في الأمم إيثاراً لمنافعها المحدودة (وما دام هذا الصوت مسموع النداء، فالعالم الإنساني ممدود البقاء)
وقد شرح العقاد هذا الآراء شرحاً جميلاً في رسالته، على ألسنة الحيوان والإنسان، فهو يتخيل الغاب، وقد وجد إنسان نفسه في هذا الغاب، ورأى هناك امرأة جميلة جليلة ولكنها ضريرة. هي الحياة أم المخلوقات. وقد دعتهم إليها لتلقي إليهم بنبأ خطير، فأسرعوا من كل حدب وصوب يستمعون إليه، وكل يراها في الهيئة التي يصورها له وهمه وخياله.
وألقت عليهم كلامها فإذا هي تعاتب المخلوقات كلها على ما شجر بينها من خلاف وبغضاء وفتنة. . . يطغى الأبيض على الأسود والصفر على الأبيض وهذا على ذاك. وهي تدعوهم إلى الوئام فيما بينهم على اختلاف المذاهب والألوان، ثم تشير على اليمامة - رمز السلام - لتحدثهم عن علم الإنسان وتواريخه وأديانه، ليكون لهم منها عظة وعبرة وزاجر. فيؤمنون جميعاً على كلامها، وكلهم ظاهر الرضى والاقتناع!
ووقف اليمامة تتكلم، فذكرت حقائق من التاريخ الملموس المتكرر كل يوم، بدأتها بالآية الكريمة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض). وشرحتها بالشواهد الملموسة، وطالبت بالعدل والرحمة وبالإخاء بين القوي والضعيف!(619/53)
وحينئذ وقف الثعلب قائلاً: وعظتكم اليمامة وأوصتكم بالضعفاء وقالت لكم إن الله بارك في مخلوقاته الضعيفة ليحرم عليكم قتلها. . . ثم يعارض الثعلب اليمامة في كل ما قالت ويتملق القوة والأقوياء فيفوز أثناء كلامه (بتصفيق من جانب الأسد!) - أقوى الحيوان - وهو يتكلم كلاماً منطقياً عن العرف والقوانين، فالسارق إذا سطا على بيت فضحوه، والقاتل إذا سلب أمة أو عمل فيها قتلاً عظموه!
وينتهي الثعلب، ويضج الآخرون بين معارض ومؤيد، ثم يقوم القرد - وهو ممثل الطموح أو الطماع. . . ولكنه المتدين ذو الضمير الحي المتمسك بالعدل والحقوق والقوانين الوحدة. فإن في تماسك الضعفاء قوة ضد الظالم الجبار. والديمقراطية الصحيحة السليمة جديرة بخلق شعوب نابغة صحيحة. أما الأرستقراطية المتعالية فمآلها ومآل حثالة شعبها جميعاً إلى الخسارة والفناء أو المصير الذي هو أسوأ من الفناء. هو حياة كحياة السائمة المتهالكة!
وبالها من مفارقة عجيبة! يدافع القرد عن الديمقراطية الصحية والإخاء والضمير، ويحمل على مبدأ القوة الغاشمة.
فيغضب النمر فيكاد يضربه فيتعلق القرد بأطراف الشجرة، ثم يقف الأسد فيهابه النمر فيخرس فالقرد الفيلسوف لم يستطع دفاعا عن نفسه، والأسد الشرس الأعم أرهب النمر، ولا فصاحة ولا بلاغة ولا فلسفة!
فأخلاق الأسد هي أخلاق بني الإنسان الجهلة الأقوياء. القوة الظالمة الغاشمة ولا شيء غيرها!
ثم تكلمت المرأة. وكان كلامها طبيعياً، تلك الثرثرة الأبدية الخالدة عن حقوقها التي اغتصبها منها الرجل، وعن نبوغها في أشياء وتقصيرها في الأخرى، ولكن الذنب ذنب الرجل، وكأنها إن أصابت فمن وحي عبقريتها. وإن أخطأت فمن الرجل وتجنيه عليها!
وهاهو الرجل يعقب عليها إنه يحذر كل الحذر من يوم تصل المرأة فيه إلى نصيب ولو قليل من الحرية لأنها شديدة الطيش والغرور، ولا تنال القليل حتى تطمع في الكثير، ولو أنها حرمت كل شيء لما طمعت في شيء ما، وهي تخلط كل شيء بسفسافها وألاعيبها.
ثم ينكر عليها الحرية المطلقة التي تطلبها، وهي تطلبها لأنها نوع جديد من الزينة، وهي لا تفهم لها مرمى. . .(619/54)
وهذا كلام حق!
فالرأي الذي ينادي به العقاد هنا - منذ ثلاثين عاماً - يرجع العالم إليه فيندد بتلك الحرية التي منحها للمرأة فأساءتها. وقد خرجت كتب كثيرة هذه الأيام في المناداة بهذا الرأي. . .
ثم يقول الرجل: (أي مساوة للرجل تدعيها المرأة وهي إلى اليوم لا تجاريه في صناعة الطهي لو شاركها فيه؟)
فالمرأة لا تجيده وهي التي قضت الدهور والأجيال في تعلمه، لأنه صناعتها الأولى! فهل ملته؟ وإذا كانت ملت هذه الوظيفة الطبيعية التي خلقت لها والتي أهلتها الطبيعة - كما أهلتها لوظائف الأمومة التي سلحتها لها بكل سلاح من تركيب الجسم ومن درجة الجمال - فما بالك بوظائف الرجل تزاحمه فيها؟
حسين غنام(619/55)
العدد 620 - بتاريخ: 21 - 05 - 1945(/)
وزراؤنا والأدب
من القضايا التي صدقت في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، أن الأدب والفن لا يزدهران ولا ينتشران إلا في ظلال ملك أو وزير أو أمير.
وصدق هذه القضية جاءها من أن الأدب العالي والفن الرفيع لم يكونا من مطالب العامة في أي عهد؛ إنما يطلبهما عشاق المجد والحمد ممن بلغوا الغاية القصوى من بسطة الحياة وسطوة الملك فتشوقت نفوسهم وامتدت عيونهم إلى أبعد من ذلك.
يطلبهما الملوك وأشباههم من أولى الصدارة والإمارة لأنهما العطر الباقي في يد ابن آدم من الجنة؛ فمن لم يطلبهما لمتعة النفس وسعادة الروح، طلبهما لزينة الملك وجمال الأحدوثة، فالأدب والفن بمعناهما الأعلى أرستقراطيان لا يرفعهما إلا الرفيع، ولا يقدرهما إلا القادر. فإذا نزلا إلى الشعب ابتذلا فلا ينفعانه ولا يرفعانه. إنما الأدب والفن معنيان من معاني السماء يحملك النزوع إليهما على أن تطمح ببصرك إلى الفوق؛ ويدفعك الطمع فيهما إلى أن تطوح بنفسك إلى الأمام. ومن هنا كان الرجل إذا سمعت ملكاته بالعلم أو بالملك، ورقت مشاعره بالتربية أو بالمدنية، وجد نفسه في أفق الفن محفوظاً برجاله، مغموراً بجماله. فإذا كان صاحب السلطان من ذوي القرائح الفنانة كان جدواه على الأدب من جهتين: جهة الاقتداء به في الإقبال عليه، وجهة المكافأة منه على الإحسان فيه. والناس منذ كانوا على دين الملوك وهوى القادة. قال أسامة بن معقل: (كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده فنلتها. وكان المنصور بعده معنياً بالأسمار والأخبار وأيام العرب يدني أهلها ويجزيهم عليها، فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلا حفظته طلباً للقربة منه فظفرت بها. وكان موسى مغرماً بالشعر يستخلص أهله، فما تركت بيتاً نادراً، ولا شعراً فاخراً، ولا نسيباً سائراً، إلا حفظته؛ وأعانني على ذلك طلب الهمة في علو الحال. ولم أر شيئاً أدعى إلى تعلم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون في هذه الأربعة فأنسيتها حتى كأني لم أحفظ منها شيئاً).
وكل أديب أو فنان أو عالم هو في ذلك أسامة بن معقل. وما النهضات الأدبية والعلمية في الأمم إلا وثبات للمجد الروحي في نفوس بعض الملوك. وفي تاريخنا الأدبي نستطيع أن نؤرخ النهضات فيه بتاريخ معاوية وعبد الملك في دمشق، والرشيد وابنه المأمون في(620/1)
بغداد، وعبد الرحمن الناصر وابنه الحكم في قرطبة، والعزيز بالله وابنه الحاكم في القاهرة. وإن في قصور بني نويه في الرصافة، وبني حمدان في حلب، وبني عباد في إشبيلية، لمنازل للوحي تنبأ بالقريض فيها من تنبأ، وبعث برسالة العلم منها من أرسل. وإنك لتذكر الوزراء والأدباء من أمثال ابن العميد، والصاحب بن عباد، ويعقوب بن كلس، ولسان الدين بن الخطيب، والقاضي الفاضل، فتذكر مجالي بالأدب ناظرة، ومغاني بالعلم عامرة، ومجالس كانوا فيها شموساً تدور من حولها توابعها تستمد الحرارة وتمد، وتقتبس النور وتقتبس.
وكان للمجالس الأدبية والعلمية في عصرنا الذهبي نفحات من الإلهام أيقظت رواقد العبقرية في ألوف من الأذهان الخصبة والقرائح الموهوبة فازداد بهم الأدب والعلم ازدهاراً وابتكاراً وكثرة.
كان للرشيد مجلس للأدب بلغ لألاؤه أطراف الإمبراطورية الإسلامية فعشا على ضوئه صاغه القريض ورواته حتى ضاقت عليهم بغداد بما رحبت، فاضطر يحيى بن خالد إلى امتحانهم في الشعر وترتيبهم في الجوائز، ليخفف من زحمة الأدباء عن عاصمة الدنيا في ذلك الحين، وقد عهد بذلك الامتحان إلى شاعره أبان اللاحقي فقام به
وكان للمأمون مجلس للعلم يعقد في دار الخلافة أيام الثلاثاوات من كل شهر؛ فإذا أقبل الحكماء والفقهاء مدت الموائد وقيل لهم: (أصيبوا من الطعام والشراب ثم جددوا الوضوء. ومن كان خفه ضيقاً فلينزعه، ومن كانت قلنسوته ثقيلة فليضعها. فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فتبخروا، ثم خرجوا فدخلوا على المأمون فيدنيهم منهم خير إدناء، ويناظرهم أحسن مناظرة، حتى تزول الشمس فتصب الموائد ثانية فيطعمون وينصرفون.
وكان للصاحب بن عباد مجلس للشعر لا يغشاه إلا من حفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، ومع ذلك الشرط القاسي كان يجتمع على سماطه كل يوم ألف من رجالات الأدب والعلم والكلام. وبنى داراً فاجتمع له من قصائد التهنئة عليها ديوان شعر ضخم.
ونفق برذون لأديب من أدباء مجلسه فرثاه شعراء الحضرة بخمسين قصيدة. وقد ذكرت بذلك (مكسويني) حصان الدكتور محجوب ثابت، فإنه حين نفق من الهزال لم يظفر من شعراء مصر على كثرة ما ركبوه بالمزاح والهزل إلا بقصيدة واحدة لشوقي.(620/2)
وكان للمعتضد عباد دار خاصة للشعراء ينزلونها على الرحب والسعة؛ فإذا جاء يوم الشعر وهو يوم الاثنين من كل أسبوع دخلوا عليه فلا يقابل غيرهم ولا يسمع إلا شعرهم. ولقد بلغ من عنايته بهم ورعايته لأدبهم أن جعل لهم رئيساً يرجعون إليه، ونظاماً يرتبون عليه، وسجلاً يحصون فيه.
ولو ذهبت أستقصي مجالس الأدب والعلم في عواصم العراق والشام ومصر والأندلس لاسترخى في يدي عنان القلم، وتشتت في ذهني سياق الموضوع.
تواردت على خاطري هذه المآثر العربية التاريخية وأنا أنعم لأول مرة بالحديث إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات؛ وكنت قبل هذا اللقاء قد عرفته بالسماع، والسماع بسري خلقه وسمو أدبه مستفيض، فلم يجرد ذكره على لسان أديب إلا روى عن مجالسه، ونوه بمواهبه، وحدث عن أياديه. وكنت أعلم أنه استن لنفسه سنة وزراء بني بويه، فاتخذ له بطانة من صفوة الشعراء الشباب يأنس إليهم في داره، ويشبل عليهم بجاهه، ويستعين بهم في عمله، ويجزل لهم من فضله. وهم يعلمون أن الأدب وحده هو الذي أحظاهم عنده، فلا يفتئون يتنافسون في تحصيله ويتفاضلون في تجويده. فلولا أن لهذا الوزير الشاعر طبعاً أصيلاً في الأدب استفادة من مناشئ فطرته وتقاليد أسرته، لما انبثق في حيلته العاملة ذلك النور السماوي الذي استحال أدباً في نفسه يتخلقه ويعمل به، وأدباً على لسانه يقول ويفتن فيه، وأدباً على سمعه يعيه ويشجع عليه
وللقطب إبراهيم الدسوقي باشا نظراء في الوزراء لم يجد الدهر بأمثالهم على دولة من دول العرب في وقت واحد منذ دالت الهاشمية في العراق، والأموية في الأندلس؛ نذكر منهم الباشوات أصحاب المعالي: لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرزاق، ونجيب الهلالي، ومكرم عبيد، وطه السباعي، وحفني محمود. ولكل وزير من هؤلاء الوزراء والأدباء طفاوة من ناشئة الأدب ومنشئيه، تتسع أو تضيق على حسب ما يبذل لها من نفسه، ويفيض عليها من نشاطه. وهم عسيون إذا هم استجابوا لملكة الأدب فيهم، وواجب العربية والعروبة عليهم، أن ينفخوا من رُوحهم ورَوْحهم في جذوة هذه النهضة الأدبية حتى تستمر وتنتشر فتصهر بقوتها الجامد، وتنعش بحرارتها الخامد، وتنير بأشعتها الطريق.(620/3)
أحمد حسن الزيات(620/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 2 -
في جزء 5 ص23 أما إني لا أرضى من كرمة العد، أن تجر أولياؤه على شوك الرد
قلت: القول من رسالة لأحمد محمد الصخري. وقد ضبطت (العد) بفتح العين والدال، وإنما هي (العد) بكسر العين وبكسر الدال صفة لكرمه. والعد في الأصل (الماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين)، كما في التاج. والعد الكثرة في الشيء، والعد القديم من الركايا. وفي الأساس: ومن المستعار: حسب عد، قال الحطيئة:
أنت آل شماس بن لأْي وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العد
في ج12 ص226
تصدر للتدريس كل مهوس
قلت: رويت (مهوس) بكسر الواو وإنما هي بفتحها.
في التاج: وهو مهوس كمعظم، وقد يطلق على الذي به الماليخوليا والوساوس وعلى من يشتغل بعلم الكيمياء، والعامة تستعمل الهوس بمعنى الأمل وهو من ذلك
في ج8 ص53 وهو القائل: (يعني الحسن بن إسحاق ابن أبي عباد اليمني النحوي):
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا من خطأ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنا ... م فخاطبت كلاً بما يحسن
قلت: ميم الأنام مع جماعتها في الصدر، وإقامتها في العجز تخل بوزنه. وفي المتقارب تجتمع العروض الصحيحة والمقبوضة والمحذوفة
في ج6 ص123 وقال (أسعد بن المهذب) فيه (في الثلج في حلب):
لما رأيت الثلج قد ... غطى الوهاد والقنن
سألت: يا أهل حلبْ ... هل تمطر السما اللبن؟
قلت: اليقين أن الأصل (سألت أهل حلبٍ)
في ج6 ص175 ويقول الشعر (يعني الصاحب بن عباد) وليس بزالٍ
وجاء في الشرح: أي ليس منحرفاً عن الصواب(620/5)
قلت: وليس بمبتذل والشعر الضعيف إنما يوصف بالابتذال لا بالزلل
وفي ج5 ص56 حدتني المولى القاضي المفضل جمال الدين قال: دخلت إلى الصاحب أبي بشر وهو في مجلسه، فجلست إلى جانبه، فأنشدني متمثلاً:
إنك لا تشكو إلى مُصْمِتِ ... فاصبر على الحمل الثقيل أو متِ
إشارة إلى أنه لم يشكه. قال أبو زياد الكلابي: ومثل من أمثال العرب: إنك لا تشكو إلى مصمت. والتصميت أن تقول المرأة إذا بكى صبيها الرضيع وهي مشغولة عنه لبعض صبيانها أو لزوجها: صَمِّتْ هذا الصبي. فيأتيه فيحضنه بيده حتى يسكت. . .
قلت: ضبطت (مصمت) في البيت وفي المثل بسكون الصاد وكسر الميم غير مشددة. وإنما هي بفتح الصاد وكسر الميم مع التشديد. وبيت الراجز يكسر بذلك الضبط، وفي اللسان والتاج: (صمت الرجل شكا إليه فنزع له من شكايته، قال: (إنك لا تشكو، البيت) ومن أمثالهم (إنك لا تشكو إلى مصمت) أي لا تشكو إلى من يعبأ بشكواك)
وما ذكره ياقوت في تفسيره طريف وإن لم يرد. . .
في ج6 ص18
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى ... بخيلاً له حتى الممات خليل
قلت: ضبطت (خلان) بكسر الخاء هنا وفي مواضع كثيرة في الكتاب، وهي بضمها. والبيت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في مقطوعة أنشدها الرشيد، وختمها بقوله:
وكيف أخاف الفقر أو أُحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل؟!
فقال الرشيد: لا تخف، إن شاء الله. ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها!
وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله (يا أمير المؤمنين) لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة؟ فضحك الرشيد، وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ إن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني
وقول الرشيد (لا تخف) هو رواية الأغاني. وما جاء في (إرشاد الأريب) هو (لأكفيك)
وقد جاء في الحاشية: هذه طريقة الكوفيين إذا أكدوا الفعل إذ يكتفون باللام بدون نون التوكيد، أما البصريون فيوجبون الجمع بين اللام والنون فيقولون: (لأكفينك)(620/6)
قلت: رواية الأغاني أصح و (لا تخف) تجاوب (كيف أخاف؟)
في ج6 ص44 كان ابن الأعرابي يقول: إسحاق (والله) أحق بقول أبي تمام:
يرمي بأشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
ممن قد قيل فيه
قلت: ترمي بالتاء، وقبله:
لست من العيس أو أكفلها ... وخداً يداوي المريض من وصبه
وفي هذه القصيدة:
والحظ يعطاه غير طالبه ... ويخرز الدر غير مجتلبه
وهل يبالي إقضاض مضجعه ... من راحة المكرمات في تعبه
في ج6 ص33 وقال (يعني الواثق لإسحاق الموصلي) ما هو الأفضل؟ أدب علم مدحه الأوائل، واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم، وكثر في حرم الله عز وجل ومهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم
قلت: ما هو إلا فضل أدب وعلم
في ج6 ص290 ونص على يوم الوصول نجعله عيداً مشرفاً، ونتخذه موسماً ومعرفاً
وجاء في الشرح: المعرف والمعرف واحد المعارف وهي الوجه بما اشتمل عليه، يقال: امرأة حسنة المعارف، وفلان من المعارف أي من المعروفين، ومعارف الرجل أصحابه وأهل مودته كما هو شائع
قلت: نجعله عيداً مشرفاً، ونتخذه موسماً ومعرفاً
وعرف القوم - كما في اللسان - وقفوا بعرفة، وهو المعرف للموقف بعرفات. وفي النهاية: وفي حديث ابن عباس: ثم محلها إلى البيت العتيق، وذلك بعد المعرف يريد به الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضاً
في ج6 ص231 فهذا الضرب من الكلام يجب أن يفتخر بمثله ويترقق به؟
وفي الحاشية: يريد الافتخار، والترفق السخرية
قلت: لم أر الترقق بمعنى السخرية في مكان، وربما أراد القائل بالترفق التظرف والتزيين
في ج6 ص200 فليفرج روعك(620/7)
قلت: ضبطت (فليفرج) بلفظ ما لم يسم فاعله وبالجيم.
وكلامهم في هذا المعنى (ليفرخ روعك، أي ليخرج عنك فزعك كما يخرج الفرخ عن البيضة)، كما في اللسان، وروى مثله التاج. وفرخ الروع وأفرخ ذهب الذهب
ومن أمثالهم (أفرخ روعك) قال الميداني: أفرخت البيضة إذا انفلقت عن الفرخ فخرج منها. يضرب لمن يدعى له أن يسكن روعه
في ج6 ص195
دببت الضر إلينا ومشيت الجمر علينا
قلت: دببت غير مضعفة وكذلك مشيت. والضر إنما هو (الضراء) في الصحاح: الضراء بالفتح الشجر الملتف في الوادي، وفلان يمشي الضراء إذا مشى مستخفياً فيما يوارى من الشجر، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه هو يمشي له الضراء ويدب له الخمر
والخمر إنما هو (الخمر) في اللسان: الخمر كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر
في ج6 ص290
سقى الله دارات مررتَ بأرضها ... فأدنتك نحوي يا زيادُ بن عامر
وفي ج7 ص144
أثابتُ بنُ سنان، دعوةٌ شهدت ... لربها أنه ذو غلة أسِفُ
قلت: ضبطت (بن) بالضم في البيتين وإنما هي بالفتح، ولا يجوز الضم بوجه من الوجوه. و (زياد) و (ثابت) جائز في مثلهما الضم، والمختار الفتح، وفي شرح الكافية ج1 ص141: وقد ذهب بعضهم إلى وجوبه)
وفي شرح المفصل لابن يعيش: حق الصفة أن تتبع الموصوف الصفة. . . شبه سيبويه حركة الدال من زيد بحركة الراء من امرئ، وحركة النون من ابنم، فكما أن الراء من امرئ تابعة للهمزة، والنون من أبنم تابعة للميم، كذلك أتبعوا الدال من (يا زيد بن عمرو) النون من ابن، لأن الصفة والموصوف كالصلة والموصول، وانضاف إلى ذلك كثرة الاستعمال فقوي الاتحاد.(620/8)
من سخافات الوضاعين
سورة النورين وكتاب دبستان مذاهب
للدكتور جواد علي
في كتاب فارسي طبع عدة طبعات في الهند وإيران سورة دعيت سورة النورين، زعم مؤلف الكتاب أنها من السور القرآنية التي لم يقبل الخليفة عثمان بن عفان درجها في القرآن الكريم. وقد نقل هذه السورة المستشرقون عن هذا الكتاب ومن أشهر هؤلاء المستشرق نولدكة في كتابه (تاريخ القرآن)
والكتاب خير مرجع لمن أراد البحث عن تاريخ الملل والنجل والمذاهب والأديان في الهند وإيران، وخاصة في القرن الثاني عشر للهجرة، أي في العصر الذي عاش فيه مؤلف هذا السفر. على أننا لا نعرف عن مؤلف الكتاب شيئاً؛ وكل ما نعرفه أنه عاش في مدينة (أكرا) الهندية وأنه ألف الكتاب بين سنتي 1064 و1067 للهجرة.
يستهل صاحب الكتاب كتابه بالبحث في عقائد الفرس عبدة النيران فيفصل فيه تفصيلاً وافياً ويجيد فيه إجادة تامة. ويتناول حياة (زردشت) على الأخص بالتفصيل ويدعوه (النبي زردشت) وبعد هذا البحث ينتقل إلى آراء أهل الهند ثم أهل التيبت، فيجيد في بحث الهند أيضاً، ويتناول بالبحث بعض الفرق الهندية التي لا يعرف عن آرائها إلا النزر اليسير. وهو في بحثه هذا أشبه الناس بالبيزوني أبي ريحان محمد ابن احمد (973 - 1048) الفيلسوف الرياضي الشهير وصاحب (تحقيق ملل الهند) من حيث الطريقة في البحث والحرية في عرض الحقائق والحياد في معالجة القضايا الدينية ومناهج البحث.
المؤلف على ما يظهر رواية لما يسمع، محدث لما يرى، جالس علماء الطوائف المختلفة وتكلم إلى رؤساء الشيع والمذاهب، فنقل ما سمعه نقلاً لا ندري مبلغ درجته من الصحة لجهلنا بمنزلة المؤلف ودرجته من الحق. أخذ معلوماته عن السنة من كتاب واحد هو (كتاب الملل والنحل) للعلامة الشهير أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ولعله استمد معلوماته عن بقية المذاهب الإسلامية من هذا الكتاب أيضاً؛ غير أنه لم يذهب مذهبه في التقسيم ولم يتوسع توسعه في المعرفة بل اقتصر على معلومات عامة وخاصة تناسب الهند والحالة السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الزمان.(620/9)
واستمد معلوماته الشفهية عن أهل السنة والجماعة ممن اتصل بهم من العلماء أمثال (الملا عادل الكشغري التي التقى به في مدينة لاهور عام 1048 للهجرة، والملا محمد معصوم الكاشغري، والملا يعقوب الترفاني وأمثالهم. ويجعل المؤلف ديباجته عن أهل السنة والشيعة هذه العبارة (سمعت من ثقات أهل السنة رحمهم الله وقرأت في كتبهم وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل. تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة كلهن في النار إلا ملة واحدة. قالوا: (يا رسول الله من الملة الواحدة) قال: (ما أنا عليه وأصحابي)
ويقسم المؤلف أهل السنة والجماعة إلى أصناف ثلاثة: معتزلة وأشعرية ومجسمة. ويتفرغ لبحث المجسمة على الأخص. فيذكر بعض حججهم واستدلالاتهم مثل قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) و (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ومثل ما روى في الحديث (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) و (خلق الله آدم على صورته). وقد أسهب في هذا الباب إسهاباً يلفت النظر، فالمعروف أن المشبهة أو المجسمة لم تكن إلا فئة قليلة بالنسبة إلى الأشعرية وهم غالبية السنة فلم كل هذا الإسهاب؟
وعد اليزيدية أو الأموية في عداد أهل السنة ومعلوماته عنهم لا تجلب إلى القارئ شيئاً جديداً، ولعل بعد مساكن اليزيدية عنه حال بينه وبين الكتابة كما يجب أن يكون.
أما الطائفة الثانية من الطوائف الإسلامية فهي الشيعة، ويستهل بحثه عن الشيعة بهذه العبارة: (سمعت من علماء الشيعة بأن الشيعة هم حزب علي بن أبي طالب القائلين بإمامته). ولم يذكر من طوائف الشيعة غير الإثني عشرية والإسماعيلية. ومرجعه عن الإثني عشرية رواية نفر من علماء الشيعة ممن كانوا يقيمون في مدينة لاهور. والظاهر أن الحديث معهم كان في عام 1053 للهجرة. وهؤلاء العلماء الذين تحدث إليهم مؤلف الكتاب ونقل عنهم هم (ملا معصوم ومحمد مؤمن توني وملا إبراهيم، ذكر أثناء حديثه عن الإثني عشرية بعض العلماء أمثال العلامة الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والشريف الرضي والمحدث الكليني صاحب (الكافي) وهو أشهر كتاب في الحديث لدى الشيعة الإثني عشري، والعلامة الحلي.(620/10)
ويتكلم في موضوع انقسام الشيعة الإثني عشرية من حيث الفقه وأصوله إلى أصولية وهم غالبية الشيعة وجمهرتهم، وأخبارية وهم القائلون بالأخبار وبقوة الحديث تجاه الرأي وبترك الأخذ بالرأي والاجتهاد. ويستند في بحثه عن الأخبارية على كتاب (الفوائد المدنية للملا محمد أمين الإسترابادي أشهر علماء الإخبارية ولسان هذا المذهب ومنظمه).
وينتقل المؤلف إلى الغلاة من الشيعة وهم العلي اللهية الذين يؤلهون علياً. ومن رأى المؤلف أن رجال هذه الفرقة يضيفون إلى القرآن كل ما يجدونه من كلام الإمام علي، على أنه من كلام الله، فما دام القرآن هو كلام الله، وما دام الإمام علي هو الله بعينه فلم لا يجمع كلامه كله في صعيد واحد هو القرآن؟
وينفرد المؤلف بذكر فرقة إسلامية لم تعرف في كتاب آخر سماها (الصادقية) أو (المسيلمية) أتباع مسيلمة الذي يلقبه المسلون بلقب (مسيلمة الكذاب) ويدعي بأنه رأى هذه الفرقة في مشهد من أعمال خراسان عام 1053 للهجرة، وأنه شاهد عالم هذه النحلة (محمد قلي)؛ وقد أخبره هذا العالم على ما يدعيه مؤلف الكتاب بأن مسيلمة الذي يلقبه المسلمون زوراً بلقب الكذاب إن هو إلا نبي مرسل وشريك محمد رسول الله في الرسالة.
ولمسيلمة هذا كتاب سماوي يضاهي القرآن ويحاكيه على حد تعبير إمام هذا النحلة اسمه (الفاروق) لأنه يفرق بين الحق والباطل، وهو (الفاروق الثاني)؛ أما الفاروق الأول فهو (الفرقان) أو (القرآن). وقد جاءت في (فاروق) مسيلمة آخر أحكام الله ونواهيه، لذلك فهو خاتم الكتب السماوية، كما أن مسيلمة هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ويزعم مؤلف الكتاب أن زعماء الصادقية يعرفون كتاب (الفاروق) ويحفظونه، وأن رئيسهم كان يحفظ هذا الكتاب المقدس، وأنه أخذه عن أجداه فأجداد أجداده إلى مسيلمة. وهو يفتخر بانتسابه إلى سلالة تشرفت بخدمة مسيلمة وقامت بواجب التعظيم لنبي مرسل ولكنه لم يذكر ولا آية واحدة من آيات هذا الفاروق على خلاف عادته في ميله إلى ذكر الغريب.
وتأخذ طرق (الصوفية) و (الإشراقية) و (الحكماء) حقلاً طويلاً من كتابه، فهو يبحث في فرقها حتى ينتهي الكتاب. ومن الطرق الغريبة طريقة (الواحدية) الذين يقولون بوحدة الجسد والروح. فهم في هذا على مثال القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح. ومؤسس هذه الطريقة هو (محمود) من قرية (مسجوان) إحدى قرى كيلان، وقد ظهرت دعوته عام 600(620/11)
للهجرة.
ومحمود هذا على زعم (الواحدية) هو المقصود بقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) وقد مزج أصحابه بين الفلسفة اليونانية وبين الصوفية الهندية الإيرانية، وبين علم النجوم وأحكام الدين حتى تولدت من هذا المزيج الغريب (غنوسطية) لا هي مسيحية ولا هي إسلامية ولا هي شرقية بحتة، بل هي وسط بين هذا وذاك أكملها علماؤهم على مر السنين، وتباينت كلما قدم العهد عليها، أمثال (درويش إسماعيل) و (ميرزا تقي) و (شيخ لطف الله) و (شيخ شهاب).
وللواحدية كتاب اسمه (الميزان) يتألف من رسائل فيها علوم الأولين والآخرين منذ يوم الخليقة إلى يوم يبعثون، فيها من المغيبات والنبوات وكل ما يحتاج إليه الإنسان. وأهم ما في هذا الكتاب هو أن دين العرب سيدوم ثمانية آلاف سنة لأن برجه (الثريا)، ثم ينطوي ذلك الدور ويأتي بعده دور العجم حيث يدوم نفس هذا المقدار.
وكانت للواحدية عصبة اتخذت لها مدينة (أصفهان) في إيران مقراً وكانت لها جماعة وأنصار، وقد زارها مؤلف الكتاب ووجد لها دعاة في تلك المدينة، ولكن الشاه عباس الصفوي أبن الشاخدابندة قضى على هذه الجماعة ونكل بها حتى لم تبق لها بقية على ما يراه مؤلف الكتاب.
لم يعرف عن مؤلف الكتاب شيء، وقد اجهد المستشرقون أنفسهم للتعرف على هذا المؤلف ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة حاسمة حتى الآن. وكان أول من عرف هذا الكتاب إلى الأوربيين هو المستشرق الفرنسي (ده تاسي) ثم ترجم إلى اللغة الإنكليزية، ترجمه المستشرق الإنكليزي (كلادوين) بعنوان ولم تكن ترجمته ترجمة صحيحة مضبوطة فأكملها (داود شي) ' ثم (أنطوان ترير)
وذهب المستشرقون إلى أن مؤلف الكتاب هو رجل يدعى (محسن فاني) لما جاء في مقدمة بعض الطبعات: (يقول محسن فاني) ولعله الشيخ محسن فاني الكشميري المتوفى عام 1082 للهجرة أو 1082. ولهذا الشيخ مؤلف اسمه (مصدر الآثار مثنوى) وهو شعر على طريقة المتصوفة كتبه سنة 1067 للهجرة. وتوجد نسخة منه في مكتبة إدارة الهند.
ولعل أهم ما لفت أنظار المستشرقين إلى هذا الكتاب هو وجود سورة سماها المؤلف (سورة(620/12)
النورين) نزلت في الإمام علي وذريته من بعده. زعم أن الشيعة يعتقدون بأنها من السور القرآنية التي حذفها الخليفة عثمان بن عفان. وقد نشرت في المجلة الأسيوية ثم نشرت في كتاب (تاريخ القرآن).
ولا يذكر المؤلف اسم المصدر الذي استسقى منه هذه السورة، ولا الكتاب الذي اعتمد عليه. ولا الشخص الذي روي عنه سورة النورين. ولم أعثر حتى الآن على مصدر شيعي قديم أو حديث يعرف هذه السورة أو أشار إليها ولو إشارة بسيطة. ولو كانت هذه السورة موجودة حقاً لما تورع المؤلفون عن ذكرها والاستشهاد بها كما فعلوا في الاستشهاد بمواضع من آي الذكر الحكيم، وبالأحاديث المروية عن الرسول في تأييد وجهة نظرهم في إمامة الإمام. أما السورة المزعومة فهي هذه:
سورة النورين
بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين، أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم،. نوران بعضهما من بعض وأنا لسميع عليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات نعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا لوصى الرسول أولئك من يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين. أولئك من خَلْقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برُسلهم فأخذتهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عاداً وثمود بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين ليكون لكم آية وإن أكثرهم فاسقون، إن الله يجمعهم يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون. إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون. مَثَلُ الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم، وإن علياً لمن المتقين. وإنا لنوفيه حقه يوم الدين، وما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين. وإنه وذريته لصابرون. وإن عدوهم إمام المجرمين. قل للذين كفروا بعد ما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود بعد(620/13)
توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون. يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفه مؤمناً ومن يتوله من بعدك يظهرون. فاعرض عنهم إنهم معرضون. إنا لهم محضرون في يوم لا يغني عنهم شيئاً ولا هم يرحمون. إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون. فسبح باسم ربك وكن من الساجدين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا عليهم فصبر جميل فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون. فاصبر فسوف يُبلون. ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين. وجعلنا لك منهم وصياً لعلهم يرجعون. ومن يتول عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين. إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه، قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون. إنا بشرناك بذرية الصالحين. وإنهم لأمرنا لا يخلفون. فعليهم من صلاة ورحمة أحياء وأمواتاً ويوم يبعثون. وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين. وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون. والحمد لله رب العالمين آمين.
جواد علي(620/14)
على هامش النقد:
مباحث عن التصوير الفني في القرآن
للأستاذ سيد قطب
كانت خطتي التي اعتزمتها أن أدع كتاب (التصوير الفني في القرآن) وشأنه مع القراء والنقاد، يصنعون كيف يشاؤون، بعد أن فرغ بيني وبينه كل حساب!
ولكن بعض الذين تفضلوا بالكتابة عنه قد أثاروا أسئلة ومباحث حول الموضوع ذاته، فلم تعد المسألة مسألة كتاب التصوير الفني ولكنها مسألة القرآن، وهي بهذا الوضع تصلح لحديث متصل، ولا يعد حديثي عنها عودة إلى كتاب بذاته. وهذا ما يبيح لي أن أخالف خطتي في هذه النقطة وحدها. وسأدع للقراء والنقاد كل ما يعن لهم خاصاً بتقدير كتابي دون اعتراض عليه، ولن أناقشهم إلا فيما يتناول الموضوع ذاته، وهو ملك لي كما هو ملك لهم بطبيعة الحال!
وجه إلي الأستاذ نجيب محفوظ سؤالاً، ولاحظ على فصل من فصول الكتاب ملاحظة قال:
(فأما السؤال فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر. أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟)
وأنا احسبني قد أجبت على مثل هذا السؤال حينما قلت في صفحة 83 من الكتاب وما بعدها من الفقرات.
(جاء في القرآن الكريم: (وما عَّلمناه الشِّعرَ - وما ينبغي له - إنْ هو إلا ذكْرٌ وقرآنٌ مُبين).
(وجاء فيه حكاية عن كفار العرب: (بل افتراهُ. بل هو شاعر).
(وصدق القرآن الكريم، فليس هذا النسق شعراً. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين يوم قالوا عن هذا النسق العالي: إنه شعر!
(لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاع جميل. وتلك خصائص الشعر الأساسية، إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل.(620/15)
(على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً. فقد اعفي التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل؛ والتقفية المتقاربة التي تغنى عن القوافي؛ وضم ذلك كله إلى الخصائص التي ذكرنا، فشأى النثر والنظم جميعاً).
هو إذن ليس شعراً وإن أخذ من الشعر خصائصه الفنية فهو نثر. ولكن النثر الذي يرتقي فيه التناسق الفني آفاقاً وراء آفاق على النحو الذي أوضحته في فصل (التناسق الفني) وقلت إن به تقويم هذا الكتاب وهي آفاق لم تبلغ في القديم والحديث بلا ارتياب.
ثم قال:
(وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به من آيات ما يعبر عن طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وقد يحوي الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوي غيرها. والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها. فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج).
وأحسب كذلك أن اختيار كلمة (نماذج) أقرب إلى ما يفهم من طبيعة التعبير القرآني حين يقول مثلاً: (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) أو حين يقول: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخِصام وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل). . . فقوله: (ومن الناس) يعني: وفريق من الناس. أو وصنف من الناس. أو ونموذج من الناس. . . على السواء.
على أن كل إنسان تغلب عليه (طبيعة إنسانية) معينة، حتى تصبح سمة له يعرف بها وتدل عليه، إنما يصبح (نموذجاً) إذا كان عنواناً لطائفة من هؤلاء الذين غلبت عليهم هذه الطبيعة بعينها (فالمكابرة) طبيعة والمكابر (نموذج) مثل (المقامر) و (البخيل) و (العبيط) وأمثالها من الصور الإنسانية التي أبدعتها أقلام الفنانين، وعرفت في عالم الأدب باسم (النماذج)(620/16)
وعلى هذا المدلول. ومنها معظم (النماذج الإنسانية) التي يرسمها التعبير القرآني في بعض كلمات أو فقرات.
وكتب الأستاذ عبد المنعم خلاف كلمة مطولة ضمنها ملاحظتين أساسيتين على مباحث الكتاب:
فأما أولاهما فخاصة بالتصوير في القرآن وفيها يقول:
(غير أنني أخشى أن يكون قد أفلتت لفظة أو أثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية التي عنونه بها في جو من المبالغة والتعميم. ذلك أن يقرر في الفصل الذي أنشئ من أجله الكتاب أن (التصوير هو الأداة (المفضلة) في أسلوب القرآن) وأن إدراكه وسيلة إلى (إدراكنا (سر الإعجاز) في تعبير القرآن))
(فإننا لا نستطيع أن نتجاوز عن إطلاق كلمة (المفضلة) ولا عن إطلاق (سر الإعجاز) لأن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة في التعبير يقتضي الاعتماد على (الإحصاء) وظهور نتيجة بكثرة عددية. فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره يحظى بالكثرة العددية؟)
وجوابي للأستاذ عبد المنعم هو (نعم) وقد كانت مهمتي هي هذا (الإحصاء) وكان حكمي قائماً على هذا (الإحصاء) وقد عبرت عم ذلك في فصل (لقد وجدت القرآن) حين قلت:
(لقد بدأت البحث ومرجعي الأول فيه هو المصحف، لأجمع الصور الفنية في القرآن، وأستعرضها، وأبين طريقة التصوير فيها، والتناسق الفني في إخراجها إذ كان همي كله موجهاً إلى الجانب الفني الخالص، دون التعرض للمباحث الدينية أو سواها من مباحث القرآن المطروقة.
(ولكن ماذا أرى؟
(أن حقيقة جديدة تبرز لي. إن الصورة في القرآن ليست جزءاً منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل. القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض - فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال - فليست البحث إذن عن صور تجمع وترتب. ولكن من قاعدة تكشف وتبرز.
(ذلك توفيق. لم أكن أتطلع إليه حتى التقيت به)(620/17)
ولقد كنت أعني ما أقول، وأرتكن فيه إلى الدليل.
والأستاذ عبد المنعم يخشى (إدراك سر الإعجاز) لأننا نستطيع في اليوم الذي تصل فيه إلى إدراك سر الإعجاز في تعبير القرآن أن نستخدمه في صنع كلام معجز، وحينئذ لا يكون معجزاً ما دام مفتاحه بأيدينا وفي طوق صنعتنا)
ولست أرى داعياً لهده الخشية لأن المسافة بين إدراك سر الإعجاز في العمل الفني خاصة، وبين صنع الكلام المعجز ذاته مسافة متطاولة. وليست هذه على كل حال بمانعة للباحثين من محاولة إدراك هذا السر قدر ما يستطيعون، وترك ما لا يدركونه للغيب المجهول.
على أنني أحب أن أصحح شيئاً في الموضوع، فإن قولي (أدركنا سر الإعجاز في تصوير القرآن) جاء في معرض آخر يجعل له اتجاهاً آخر. إنه جاء هكذا بعد بيان ما في تصوير القرآن من إيداع يرتفع فوق ما تستطيعه الريشة المصورة والعدسة الشخصية:
(فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر. أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن)
وما من شك أن قيام الألفاظ وحدها بوظيفة أرقى من وظيفة الريشة والعدسة في مجاله الخاص نوع من الإعجاز، وحين ندركه مطرداً إنما ندرك (سر الإعجاز) بمقدار ما يستطيع إدراكنا الإنساني وهو المعنى في هذه الحال.
وأما الملاحظة الثانية فعن (المنطق الوجداني في القرآن) وقد أدار عليها الأستاذ عبد المنعم معظم المقال. ومما جاء عنها هذه الفقرات:
(فليس الموطن الأول لهذه العقيدة هو الوجدان - منطقة الانفعال والاستلام أو الثورة - بل موطنها ذلك (البرق) الذهبي أو العقلي الذي ينتج (حكما) يرسله إلى الوجدان، فينفعل له ويتقبله و (يعقده) في طويته ويستلم له ويسير حياته على مقتضاه.
(هذا البرق الذي ينتج (الحكم) يستمد حيثيات أحكامه من انطباعات الصور الثابتة للكون في النفس ومن الانفعالات الداخلية بهذه الصور)
ثم يقول:
(فالقول بأن منطقة الدين هي الوجدان وحده قول غير إسلامي أخذه المسلمون المحدثون(620/18)
عن المفكرين غير المسلمين الذين لم يعرفوا الأساس الأول للإسلام والدين عامة)
فماذا قلت أنا في كتابي مما بني عليه الأستاذ عبد المنعم هذه الأحكام؟
لقد قلت:
(كانت وظيفة القرآن إذن إن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة (عقيدة التوحيد). وموطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان - موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس هو على أية حال أوسع ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً)
إلى أن قلت:
(فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية، ولكن يدعوا إليه اتساع الآفاق النفسية وتنفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن و (المحسوس) في تجارب العلم، ليساهما كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة من كوي النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحلم في هذه الشئون الكبار).
ثم قلت:
(لقد عمد القرآن دائماً إلى لمس البداهة وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أو المشاهد الشخصية، والمصائر المصورة. كما كانت مادته هي (الحقائق) البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة).
فأين فيما قلت: (إن منطقة الدين هي الوجدان وحده) في الوقت الذي أقول فيه: (وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة). . . كل ما يفهم من مجموعة ما قلت أنني لا أريد أن أكل هذه المهمة الضخمة لهذا الذهن الإنساني المحدود (وحده)، وفيها ما يتصل بالغيب المجهول.
ثم أعتقد أنني كنت دقيقاً في التعبير وأنا أذكر (الحقائق البديهية الخالدة) بل وأنا أذكر(620/19)
(المنطق الوجداني) والمنطق لا بد له من مقدمات ونتائج وليس هو مجرد (الانفعال) كما فهمه الأستاذ. وكل ما في الأمر أنها مقدمات ونتائج من نوع خاص يعتمد على الصور المحسوسة والمشاهد المنظورة كما يعتمد على الحقائق البديهية الكونية، ولم يكن بد من تسميته كذلك وضعاً له في مقابل (المنطق الذهني) الذي اتبعه (علماء الكلام) وهو غير المنطق القرآني بلا جدال.
وكتب كاتب - أو كاتبة - في جريدة الأهرام (أن هذا الكتاب (محاولة) للبحث في جمال القرآن سبقتها اتجاهات في الجامعة)
وللكتابة على هذا النحو أسباب خاصة ليس من شأني الحديث عنها كما أن وصف هذا العمل بأنه (محاولة) مسألة داخلة في دائرة (التقدير) المتروكة للقراء.
إنما يعنيني هنا الحقيقة التاريخية. . . إنني بدأت هذا البحث ونشرت فصولا منه بعنوان (التصوير الفني في القرآن) في المقتطف عام 1938 ثم أخرجته كتاباً في هذا العام فأين هي البحوث الجامعية في هذا الاتجاه.
إن كان الغرض هو البحث في جمال القرآن فهذا بحث قديم قديم؛ وإن كان الغرض هو البحث على نحو خاص غير مسبوق، فالواقع ينطق بأن ما كتب في الأهرام لا يطابق الحقيقة. والسلام.
سيد قطب(620/20)
صفحة من تاريخ الاستكشاف:
فيتوس بيرنج
للأستاذ محمود عزت عرفه
بطرس الأكبر بين حربين
شهدت أخريات القرن الخامس عشر خرستوف كولمبس يضرب في أرجاء المحيط الأطلنطي غرباً، على آمل أن يبلغ الهند من طرفها الشرقي فيثبت صحة النظرية التي آمن بها من استدارة الأرض. وكان بسبيل أن يحقق نظريته هذه لولا أن اعترضته أمريكا بهيكلها العظيم، فبقيت نظريته معلقة - بل وقابلة للجدل! - حتى قدَّر لماجلان أن يثبتها عملياً برحلته المشهورة فيما بين عامي 1519 و1522م.
ومن ثم تابعت الرحلات في كل متجه، وعرف الناس عن أمريكا الشيء الكثير، حتى وافت أيام بطرس الأكبر - عاهل روسيا وسليل أسرة رومانوف - فحاكت بصدره مشكلة آلي على نفسه أن يضع لها حلا. . . مشكلة عاضلة يتعلق بها مستقبل بلاده، ويتوقف عليها مجدها وعظمتها واستقرار شعبها هادئاً - مدى أجيال - في حدود إمبراطوريته التي تباعدت أطرافها. . .
وكان بطرس قد شنَّ على السويد حرباً ضروساً انتهت بعقد معاهدة نيستاد في أغسطس من عام 1721؛ وبها ضم إلى بلاده دويلات من البلطيق أمَّن بها حدودها وعزز ركنها في اتجاه الغرب فراح بعد ذلك يتلفت إلى الشرق. . . إلى أطراف سيبريا المطلة على محيط مجهول يتكنفه الظلام والضباب.
ورأى بثاقب فكرة أن لا بد من النفوذ إلى أعماق هذه المواضع قبل أن تسد السبيل عليه فيها دولة مستعمرة، فيقف منها أمام (سويد) أخرى تقتضيه حرباً لا يعلم إلا الله نتيجتها.
. . . ألا ماذا في نهاية الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؟. .
. . . أهي ممتدة شمالاً إلى مدى غير معلوم،. . . أم ثمة انفصال تبدأ عنده أمريكا من حيث ينتهي العالم القديم؟(620/21)
سؤال تقدم به بطرس إلى الطبيعة نفسها لا إلى عدو أو صديق من البشر، ومعضلة ينبغي أن يحلها رحالة مستكشف لا قائد محارب. وللطبيعة سر لا تسلمه إلا لمن ينتصر عليها؛ والانتصار على الطبيعة غير المحدودة ولا المتناهية. . . الطبيعة ذات الأسرار الرهيبة والمفاجآت المربكة والقوى المحتشدة الكامنة التي تعصف بقوى الإنسان قبل أن يشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن ينهض إلى خصومتها - الانتصار على هذه الطبيعة - وتلك صفاتها - غير الانتصار على كتيبة من جند السويد، أو نشر شباك مكيدة حول تركيا، أو انتهاز فرصة اضطراب داخلي في بولندا. . .
وكان بطرس ممن يحسنون تخير الرجال. فليس يزكي التاريخ (فيتوس بيرنج) بأكثر من أن يسجل أن بطرس قد انتقاه لمهمة خطيرة كانت شغله الشاغل وهو يجود بآخر أنفاس من حياته. . . مهمة مات بطرس - كنحوينا المعروف - وفي نفسه منها شيء!
وكان بيرنج من أبناء دنمركة. ولد في هورستنز عام 1680، وتقلب في أحضان البحر منذ صباه فنشأ بحاراً بالسليقة إن صحت العبارة. . .
وقد زار المحيطين الأطلسي والهادي قبل أن يلتحق - وهو في الثالثة والعشرين من عمره - بالأسطول الروسي الحديث الذي أقام دعائمه بطرس الأكبر. واشترك بيرنج في الحرب البحرية ضد السويد فأبلى البلاء الحسن، وكان من اثر ذلك أن قرر القيصر إيفاده على رأس البعث الذي أعده لكشف مجاهل شرقي آسيا وما يكتنفه من مياه. ولم يحل دون ذلك ما كان من مرض بطرس (الذي انتهى بموته)، ولا ما حدث من اضطراب في الأحوال الاقتصادية على آخر عهده.
ولقد كانت تلك في الواقع أعجب رحلة كشفية يشهدها العالم، منذ أن قام الفينيقيون في عهد فرعون مصر (نخاو) بطوافهم المشهور حول القارة الأفريقية.
عبر مجاهل سيبريا
كانت أرض روسيا خلواً من المسالك والطرق؛ وسيبريا التي تشغل شطرها الشرقي حتى المحيط لا تعدو أن تكون سهوبا مقفرة شديدة الإيحاش يسيطر عليها شتاء قاس رهيب لا تتبلج في دهمته إلا غزر أيام من الصيف ضئيلات قصار.
وكان على بيرنج أن يقود بعثته مدى ألف ميل خلال هذه الأصقاع الموحشة حتى يبلغ(620/22)
المحيط فيبدأ أعماله الاستكشافية؛ وكان عليه أيضاً - إذا قُدر له أن يبلغ المحيط ناجياً - مهمةُ ابتناء السفن اللازمة لهذه الرحلة الخطرة. وإن من نكد الدنيا حقا أن ينوء هذا الرحالة الجريء بعبء ستة عشر عاماً من الجهاد المضني، قبل أن يتاح له تقديم جواب صحيح عن ذلك السؤال المعجز لبطرس الأكبر. ثم هو لا يفرغ من ذلك إلا ليفارق حياته مبتئساً عليلاً فوق جزيرة نائية، بعد معاناة خطوب فوادح وأهوال جسام. . .
غادر بيرنج مدينة بطرسبرج في فبراير عام 1725م على رأس خمسمائة من الرجال ما بين بحار وقين وكاتب ونجار وصانع شراع، وكان معهم ثمانمائة دابة حمولة تقل ما يحتاجون إليه من الميرة والذخيرة؛ وقد ارتفقوا بسائر ما يلزمهم عدا نفسها، إذ كانت مادتها الخشبية وقتذاك لا تزال جذوعاً ضخمة تغتذي وتنمو على الشاطئ الشمالي الشرقي من آسيا، في انتظار أن يأتي القوم فيقتطعوها ويصوغوا منها مطاياهم إلى البحر.
وكان على الركب الحاشد أن يقطع جبالاً شوامخ، وأن يصنع لدى كل معبر نهرٍ زوارق وأطوافاً يجتاز عليها من شاطئ إلى شاطئ، ثم يخلفها وراءه تنعى من شادها. وقد قضى البعث شتاءه الأول في أيْلمسْك الواقعة على مدى ثلاثمائة ميل تقريباً شمالي إركُستك وما كاد يتبلج وجه الربيع حتى تابعوا مسيرهم خلال مستنقعات وغابات ومجار من الماء عميقة وجبال وعرة المسالك أدت بهم إلى بلوغ ياكتسك على نهر لينا؛ وهناك ألجأتهم ضرورة النقل ومشقاته إلى أن ينقسموا أقساماً: فمضى فريق على رأسه سبانجبرج في أسطول صغير من الأطواف عبر المسالك المائية المنحدرة شرقاً، وتقدم بيرنج بطريق البر ومعه الجياد ومائتان من الرجال. . في حين تبعهما الفريق الثالث عن كثب.
وبعد رحيل شاق مضنِ استغرق سبعة أسابيع وصل بيرنج إلى أوخُتْسك حيث اقتطع رجاله ما يلزمهم من الخشب لإنشاء السفن وتشييد أرباض الشتاء. .
أما سبانجبرج فقد قطع عليه البرد طريقة، ونفقت ركائبه بفعل الجليد وانخفاض درجة الحرارة إلى السبعين تحت الصفر. ولم يتصل بيرنج إلا بعد انقضاء عامين فقد خلالهما ثمانية عشر من رجاله.
وكان بيرنج قد أنجز في هذه الفترة تشييد أولى سفائنه (ذي فرشونا) وانتقل فيها مع رجاله وذخائره ومعداته إلى بُولْثِرِ تْسْك: في شبه جزيرة كامتشاتكا. وهناك أنشأ سفينته الثانية(620/23)
(جبرائيل)، فأستنفذ بذلك ثلاث سنوات وخمسة شهور في عمل مضنِ وكفاح متواصل قبل أن يتهيأ له القيام بمهمته الرئيسية. . . وهي التقصَّي عن خبر آسيا ومبتدأ أمريكا. .
هذه آسيا. . . فأين أمريكا؟
في العاشر من يوليو سنة 1728 أبحر بيرنج من كامتشاتكا ميمماً صوب الشمال؛ والتقى في إحدى الجزائر المأهولة بمن أفضى إليه من سكانها بحقائق نفعته. فقد علم أن الساحل الأسيوي بعد امتداده نحو الشمال قليلاً ينحرف إلى الغرب. وبذلك تمثلت لديه أول فكرة عن انقطاع آسيا في هذا الموضع واحتمال قيام أمريكا بإزائها. ومر بيرنج أثناء ذلك بجزيرة كبيرة أسماها سنت لورنس، احتفاء بذكرى القديس الذي اكتشفها يوم عيده. وفي السادس والعشرين من أغسطس طاف حول رأس (إيست كيب) الواقع في أقصى الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؛ وتحقق لديه يومئذ أن اليابسة تنحرف نحو الشمال الغربي، فتتبع ساحل آسيا الشمالي إلى مدى ستمائة ميل غرباً حتى بلغ خليج تشْوان: وعرف أن آسيا تنتهي حقيقة في هذا الموضع، لكنه لم يعثر بعد على القارة المزعومة التي قيل إنها تواجه آسيا عبر المحيط، والتي يحتمل أن تكون أمريكا نفسها. ولا ذبيرنج بسواحل كامتشاتكا طوال أشهر الشتاء، ثم انطلق يبحث عن أمريكا في ربيع عام 1729 متجهاً صوب الشرق. ولما أعجزه الوقوع على طلبته كر أدراجه عائداً إلى بطرسبرج؛ وهناك قص حديث مغامرته العجيب فأثار ضده عاصفة قوية من السخرية والتكذيب. . . عاصفة أنسته بشدتها ما قاس من عواصف سيبريا، وهونت لديه ما لقي من قواصف المحيط. .
وكانت القصيرة كترينها التي خلفت بطرس الأكبر على عرش روسيا لا تقل عن سلفها طموحاً في الغاية ولا جرأة في العمل؛ وقد اثر في نفسها ما لقيته مساعي بيرنج من إنكار وجمود وأعجبها من الرجل شهامته ونبل سلوكه، فأبت أن تقطع الألسنة الحداد اللائى سلقنه إلا بمزيد من تكريمه وتوكيد الثقة به؛ وعهدت إليه برياسة بعث آخر أخطر من سابقه شاناً. . .
(البقية في العدد المقبل)
محمود عزت عرفه(620/24)
الأدب العصري
في الجنوب الغربي لشبه جزيرة العرب
للدكتور ر. ب سار جنت
تمهيد
ليس في أنحاء العالم العربي جزء يعرف عنه الناطقون بالضاد أقل مما يعرفون عن الزاوية التي في الجنوب الغربي لجزيرة العرب إذا استثنينا منها عمان. وفضلاً عن ذلك ليس في تلك المنطقة ما هو أقل معرفة لجيرانه من بلاد اليمن، على الرغم من وقوعها في الطريق العام للعالم، وعلى الرغم من تاريخها الطويل في ميدان الحضارة. يقول ابن خلدون: (وتبقى الصنائع طويلاً في البلاد المتحضرة. فهي هناك تتجدد دائماً، وخصوصاً ما تمتاز به اليمن (كنسيج الوشي، والعصب، ونسيج الثياب والملابس الحريرية إلى غير ذلك مما وصل إلى درجة الإتقان).
وليس من الصعب أن نشرح السبب الذي من اجله كنا على جهل بهذه البلاد؛ فقد ظلت بلاد اليمن وحضرموت قرناً ونصف قرن وهما في اضطراب وفوضى لم يقض عليهما إلا منذ نيف وعشرة أعوام مضت. وكانت الحكومات القائمة في ذلك العهد لا ترضى أن تأخذ على عاتقها مسئولية السماح للأجانب بالسفر في البلاد أو بالكشف عن أسرارها. وكان يؤيد ذلك الخطر مناعة البلاد بجبالها الشاهقة التي في (اليمن الخضراء)؛ لهذه الأسباب لم يتسن للرحالة، أو التجار، أن يتعمقوا في جنوبي بلاد العرب، منذ البعثة الدنمركية لنيبوهر، ومنذ الأيام التي كان فيها للبريطانيين والفرنسيين مصانع في مخا تشغيل في تجارة البن.
على أن الأحوال قد تغيرت في السنوات الأخيرة، فاستطاع كل من العرب والأوربيين أن يزوروا اليمن، ومحمية عدن، وحضرموت. وبين كتاب العرب في تلك البلاد عبد المحسن الذي ظهرت كتاباته قبل الحرب الماضية، ومنذ ذلك التاريخ ظهر الريحاني، ونزيه المؤيد العظم، ثم أحدثهم جميعاً الدكتور حزين. وكان من ثمرة الاتصال السياسي بين اليمن من جهة، ومصر والعراق من جهة أخرى أن اليمن استجلبت منهما خبراء، في العلوم الهندسية في الغالب، كما أن اليمن أوفدت عدداً من طلابها إلى القاهرة وإلى بغداد. كذلك التحق(620/26)
بخدمة إمام اليمن عدد من السوريين والأتراك، وعند عودتهم إلى بلادهم أفضوا بتصريحات إلى رجال الصحافة الذين كانوا يتطلعون لأخبار اليمن. ورغبة في ري ظمأ العالم المفكر عن أخبار اليمن، استخرج من بين طيات المخطوطات الأب أنستاس ماري الكرملي كتاب (بلوغ المرام) للعرشي ونشره (طبعة مصر سنة 1939) وهو يصل بتاريخ اليمن إلى سنة 1900. على أن القسم الخلاب في ذلك الكتاب هو الفصل الممتع الذي كتبه نيافة الأب بقلمه عن الدولة الحديثة، معتمداً فيه على الكتابات والجرائد المعاصرة. ومع ذلك فإن القارئ يسترعيه لأول وهلة رجوع الأب أنستاس، في كثير من المواضع، إلى مؤلفات الجغرافية في القرون الوسطى؛ فالمعلومات التي جمعها ابن حوقل، أو المقدسي، أو ياقوت ما زالت تقتبس سداً للنقص الذي في المعلومات الحديثة عن اليمن، على حين أن الحمداني - وهو دائرة معارف عن جنوبي بلاد العرب - ذو نفع لنا لا يقدر. وقد أخرج نيافة الأب أنستاس الجزء الثامن من كتابه (الأكليل) مطبوعاً شافياً. ولم يفتأ رجال الأدب يعلنون حزبهم على فقد الأجزاء الضائعة من ذلك السفر، غير أنه ينبغي لنا ألا نفترض ضياعها لمن سيأتون بعدنا، فإن الريحاني يقرر أن الإمام عنده نسخة كاملة للكتاب في مكتبته بصنعاء، وهي مكتبة يقال إنها إحدى كبريات المعاهد التي من هذا القبيل في الجزيرة العربية، ولو أن هناك كذلك مجموعات فاخرة من الكتب في حوزة أمراء حضر موت. والحق أنه يجدر بنا أن نؤمل أملاً غير ضائع في أن كثيراً من الكتب المأثورة، التي لم يصل إلينا علمها إلا من كتاب (الفهرست) أو كتاب (كشف الظنون)، ربما كشف عنها البحث في جنوبي الجزيرة العربية. ويشغل بجمع هذه المخطوطات في اليمن سيف الإسلام عبد الله المشهور بولعه بشئون التربية. وقد سمعت من يخبرني بأن مصاحف بالخط الكوفي القديم كانت لا تزال تستعمل في القرى النائية حتى عهد غير بعيد. وربما أحل انتشار المطبوعات مصاحف مطبوعة محل تلك المخطوطات، فاليمن اليوم تتطور تطوراً ربما كان أعظم من أي تطور شاهدته من خلال عدة قرون مضت.
أنواع الأدب القديم السائدة في الجنوب الغربي لجزيرة العرب
يجنح الأدب في الجنوب الغربي العرب، بصفة عامة، إلى أنواع ملموسة ما تزال واضحة في كتابات العصر الحاضر، وخاصة فيما يتعلق بأغراض الأدب أو موضوعات الكتابة.(620/27)
وأقدم الكتب التي خلفها كتاب هذه البلاد في الماضي هي في الغالب دواوين شعر هو في كثير من الأحيان شعر ديني ذو نزعة صوفية. وقد قام لويس شيخو بدراسة فيها شيء من التفصيل للشعراء النصارى القدامى في تلك المنطقة. وأشهر المنظومات غير الدينية، وأصلحها تمثيلاً لغيرها، هي (القصيدة الحميرية) لنشوان بن سعيد، وفيها يتحدث الشاعر عن افتخاره بالتراث الموروث في العلم والعزة والسلطان. ومن ذلك قوله:
وملوك حمير، ألف ملك، اصبحوا ... في الترب رهن صفائح وضراح
آثارهم في الأرض تخبرنا بهم، ... والكتب من سير تقص صحاح
أنسابهم فيها تبين، وذكرهم ... في الطيب مثل العنبر الفياح
ملكوا المشارق والمغارب، واحتووا ... ما بين أنقرة ونجد الجاح
ملت ثمود وعادا الأولى معاً ... منهم ملوك لم تكن بشجاح
وكان للمؤلفات التاريخية دائماً ازدهار وخاصة في العصر الرسولي حينما كانت زبيد مركزاً لحركة أدبية منتعشة. ونكاد نكون في غنى عن التنويه بأمثال هؤلاء المؤلفين أو هذه الكتب: عمار الخزرجي، والجندي ثم تواريخ صنعاء والغز. وكان من الطبيعي، في بلاد تقوم فيها الحياة على نظم القبائل، أن يشغل علم الأنساب بال المؤلفين، وقد كتب فيه السلطان الملك الأفضل، كما أن هناك مجلداً ضخماً عن تاريخ الأولياء وطبقات الفقهاء في بلاد اليمن، إلى جانب سير الصحابة والمدائح النبوية.
ذلك إلى أننا نجد كثيراً من الكتب الزيدية بأقلام أتباع المذهب الخامس كما يسمى الزيدية مذهبهم، كما نجد كمية عظيمة من الكتب الفقهية الشافعية، وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين: اليمن الأعلى واليمن الأسفل، ويتبع الانقسام المذهبي ذلك الانقسام الجغرافي على وجه التقريب. ويمكن أن تسمي صنعاء الحاضرة الثقافية للزيدية، على حين أن زبيد، وتريم وغيرهما من المدن الجنوبية ذات المعاهد العلمية التي أنشأها أو أحياها الأمراء الرسوليون، ما زالت مراكز لفته المذهب الشافعي.
ومن أنصع الأدلة على أهمية البلاد من حيث هي مركز ثقافي في العصور الوسطى أن السلطان الملك الأشرف دعا العالم اللغوي الشهير الفيروز ابادي للإقامة هناك في نهاية القرن الثامن الهجري، ثم عينه بعد ذلك قاضياً للقضاة. ومعظم الكتب التي ألفت في(620/28)
العصور الوسطى، من طراز كتاب (شمس العلوم) لنشوان الحميري، هي نتاج لدراسة سنية صحيحة وإن كانت خالية من الابتكار. وعلى ذكر هذا الكتاب نقول: إن إمام اليمن كان يأمل أن ينشره بجميع أجزائه، بل إنه رغب في الأمر المرحوم الملك فؤاد، وقد عين وقت للنشر، بل إنه صدر إعلان عن ذلك النشر، ولكن وا حسرتاه، لم يظهر الكتاب حتى الآن. ويمكننا أن نقول بصفة عامة إنه يبدو إن اليمن في العصور الوسطى، على الرغم من الطابع الخاص الذي امتازت به مؤلفاتها، لم تتمخض عن حركات أدبية مبتكرة أو ذات نباهة عظيمة. ولعل خير ما يوضح لنا اتجاه الناس نحو العلم، من حيث هو إجلال واحتفاظ للمعلومات، هو البيت الآتي الذي قاله شاعر مغمور وأنشدنيه أحد أصدقائي:
العلم يعلى بيوتاً لا أساس لها ... والجهل يدني بيوت العز والشرف
وبما أن اليمن اليوم بلاد ما زالت إلى حد كبير في العصور الوسطى، تتحرك الهوينى نحو الحياة العصرية السائدة في سائر العالم، لم يكن هناك بد من أننا نجد ما ينشر فيها اليوم من الكتب يشبه كثيراً في طابعة تلك الكتب التي أخرجتها في العصور الوسطى.
الطباعة والمطبوعات في اليمن
في صنعاء اليوم مطبعتان، إحداهما في القصر الملكي المسمى (مقام الإمام) أو (المقام الشريف). وهي هناك منذ العهد التركي، وكانت تستعمل في طبع الجريدة (صنعاء) التي سنتحدث عنها فيما بعد. ومع أن هذه المطبعة كانت على ما يظهر تطبع بعض الكتب الصغيرة في الحين بعد الحين، ليس لدينا بيان عن مبلغ ما أخرجته من المطبوعات. والمطبعة الأخرى ملك لإدارة المعارف. وفي خلال العشرين سنة الماضية طبعت هاتان المطبعتان عدداً محدوداً من الكتب، ربما لا يتجاوز الثلاثين عداً؛ ومن المرجح أن قليلاً من تلك الكتب خرج خارج البلاد نفسها. وتدل موضوعات تلك الكتب على مبلغ اشتغال الناس بالشئون الدينية، مما تمتاز به المنطقة الجنوبية لجزيرة العرب، وتشجعه حكومة إمام اليمن. وتشتمل الكتب المطبوعة هناك على بحوث قرآنية، ورسائل في مذهب الزيدية، والفقه، والحديث وما إلى ذلك، وهي في الغالب طبعات لكتب قديمة من كتب المؤلفين السابقين.
وفي العلوم المدنية شغلت إدارة المعارف نفسها بجمع مواد لإخراج كتاب في تاريخ اليمن يمكن استخدامه في المدارس كتاباً مدرسياً. وقبل إعلان هذه الحرب كان تحت الطبع كتاب(620/29)
في تاريخ الإمام يحيى. وقد بلغ من ارتباط الأسرة الزيدية المالكة ببلاد اليمن وما جرى لها، سواء في طول المدة أو وثاقة الصلة، ما جعل هذين الكتابين على شاكلتهما ضرباً من الدعاية للأسرة الحاكمة. ومن المرجح أن ذلك سيساعد على خلق روح القومية في البلاد. ومما يشغل بال حكام اليمن اليوم التربية والكتب المدرسية، وهي مشكلة من المحتمل أن تزداد إلحاحاً على مرور الأيام. فأطفال المدارس الأولية مثلاً قلما يستعملون كتباً مطبوعة، وإن كانت مدارس صنعاء تستعمل إلى حد ما كتاب (القاعدة البغدادية) لعيسى البابي الحلبي، كما أن لدى إدارة المعارف مجموعة صغيرة من المطبوعات المدرسية. وفي (المدرسة العلمية) يكاد الطلاب لا يستعملون سوى المخطوطات التي ينسخونها بأنفسهم. وطبع كتاب في قواعد اللغة أو علم النحو، وكذلك كتاب مؤلف في القرن العاشر اسمه (كتاب العلماء والمتعلمين) وهو يبحث في آداب المعلمين والطلاب، ويبحث هذا الكتاب كذلك في طريقة الخط ونسخ المخطوطات. وحسبنا في أنه رؤى أن هذا الكتاب يستأهل الطبع دليلاً على نوع التربية التي ما زالت سائدة هناك، فإن البلاد التي أخذت بنصيب أوفر في التقدم لا ترى في مثل هذا الكتاب ما يزيد كثيراً على قيمته التاريخية من حيث هو أثر من الآثار. وبانقطاع علماء اليمن عن الاتصال المباشر بسائر البلاد العربية، بعوامل البيئة الجغرافية والاعتبارات المذهبية، أصبحوا على غير شاكلة العلماء في البلاد الأخرى.
على أن مطبعتي صنعاء أخرجتا عدة كتب فيها روح جديدة، فهناك كتابان في الفنون الحربية، وكتاب في الزراعة. وقد ظهر الكتابان الحربيان في سنتي 1341 و1351هـ. وأسم أولهما (كتاب التربية العسكرية)، ومؤلفه هو حسن تحسين باشا، وهو رجل سوري كان في وقت من الأوقات قائداً للجيش الهاشمي. وبين سنتي 1931 و1933م كان هذا الضابط في اليمن يعيد تنظيم جيش الإمام، والقواعد التي وضعها في هذا الكتاب تدل على درجة أعلى في تنظيم الجيش مما هو قائم الآن، ولكنها تؤمل مجيء وقت تتحسن فيه الإدارة الحربية.
أما كتاب (رسالة في فن زراعة الأشجار المثمرة) فكان من تأليف أحمد واصف بك، المستشار الزراعي في الحقبة التي في سنتي 1935 و1936م. ويعالج الكتاب، كما يدل(620/30)
عليه عنوانه، موضوع زراعة الفواكه واستخدام الوسائل الزراعية. وكان الأتراك في مدة احتلالهم لليمن قد قاموا بتجارب متقطعة في إدخال محاصيل جديدة في البلاد، وقد احتذى البيت المالك حذوهم في القيام بتجارب أخرى من جانبه، وعلى الأخص في زراعة القطن. ولا شك أننا سنرى في المستقبل الكثير من هذه المطبوعات الفنية والعلمية.
ومن المعلوم أن كثيراً من المؤلفات القيمة بأقلام بعض اليمنيين قد ظهرت في القاهرة حيث تقطن جالية يمنية. ومن بين هذه المطبوعات الكتب الثلاثة التي ألفها عبد الواسع، والتي تناول فيها التاريخ والجغرافية والشئون العامة التي تشوق القارئ. ونحن نؤمل أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه هؤلاء المؤلفون اليمنيون أن ينشروا مؤلفاتهم في وطنهم. وسنرى أن معظم المؤلفات التي تنشر اليوم عن الجنوب الغربي لجزيرة العرب إنما تنشر في مصر، أو الهند، أو جزائر الهند الشرقية.
عدن وطلائع الحركة الحديثة
تختلف عدن اختلافاً عظيماً عن اليمن وعزلتها الجذابة التي خلفتها في القرون الوسطى، بما فيها من الجو العلمي الذي يستمد من مائة سنة كانت فيها عدن على اتصال مباشر بالبلاد الأوربية، وبمصر، والهند؛ وبمدارسها الثانوية للبنين والبنات؛ ويعلم في مدارس البنين معلمون من البلاد العربية الأخرى كسورية، وأحياناً من الهند؛ وبالعدد المتزايد الذي ترسله من أبنائها إلى جامعات القاهرة وبغداد. ويطالع الأهالي الجرائد المصرية الشهيرة، بل إنني كثيراً ما رأيت كذلك روايات مصرية في أيدي المتعلمين في المدارس الثانوية من آهل عدن. ومما لا شك فيه أن الجالية السورية المؤلفة من مستوردي المنسوجات والتجار تستورد كذلك الجرائد السورية، وما نعهده في السوريين وميلهم للاشتغال بالصحافة يدعو إلى الظن بأنه في يوم من الأيام قد يقوم أحد السوريين بنشر جريدة في عدن. وليس هناك مفر من أن الصحافة تنتعش في مثل ذلك الجو، وتصدر جريدة (فتاة الجزيرة) منذ أواخر سنة 1939. وكان في عدن قبل سنة 1914 ثلاث مطابع، وكانت إحداهما في السجن وربما كانت تقتصر على طبع المطبوعات الحكومية. وليس من المعروف مدى ما نشرته المطبعتان الأخريان من الكتب العربية، ولم أستطع أن اعثر على أي مطبوع عربي صادر عنهما. على أنه قبل الحرب الحاضرة أخرجت مطبعة الهلال في بازار بهرة - وهي تطبع(620/31)
بكل من اللغتين العربية والإنكليزية - مجموعة شعرية وصلت إلى يدي، وهي ديوان لأغاني لحج على أوزان بحور الشعر القديمة والبحور المولدة، من نظم لأمير فضل بن علي. وقد أعيد طبع هذا الديوان في مطبعة فتاة الجزيرة؛ وقد طبعت هذه المطبعة أيضاً رسالة في إباحة العود والرباب لنفس المؤلف المذكور. ولعل القراء يذكرون أن الموسيقى محظورة في اليمن إذا استثنينا جوقات الموسيقى الحربية، وهذا الكتيب ينادي بنظرة تسامحيه في شأن الموسيقى.
وقد نشر محرر فتاة الجزيرة عدة كتيبات أخرى شائقة، على أن عدداً منها - كما هو الشأن في مطبوعات مطبعة صنعاء - يتناول التاريخ، والبحوث الدينية، وسير الصالحين، ككتاب (سلالة قحطان)، تأليف محمد سعيد الأصبحي. وأهم ما نشر من الوجهة الصحافية هو سلسلة مقالات كتبها أعضاء النادي المعروف باسم (أقلام المخيم)، وهي مقالات تتناول موضوعات شتى، مثل الكشافة، والمذياع (فإن عدن لها محطتها الإذاعية الخاصة (صوت الجزيرة) وهي كذلك تنشر صفحة عن إذاعتها)، وحياة صيادي السمك على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب؛ وكل هذه المباحثات كتبت بأسلوب نقدي علمي. وقد أخبرني محرر فتاة الجزيرة، في رسالة بعث إلي بها حديثاً، أن هناك كثيراً من اليمنيين في عدن يرغبون في نشر كتب ألفوها، وفي هذا دليل على مبلغ العناية التي ينالها الأدب في هذه المنطقة من العالم العربي. ولا يسعنا إلا أن ننوه بعناية الجالية الهندية المسلمة في عدن بالأدب العربي، ولا سيما عبد الله يعقوب خان الذي هو حجة في تاريخ ثغر عدن، والذي نشر كتباً عن جغرافيته وأمثاله. وقد ورد ذكر الهنود بالثغر قبل زمن أبي مخرمة الذي يشير في كتابه (تاريخ ثغر عدن) عدة مرات إلى نشاطهم التجاري.
وخليق بالقراء الذين أخذوا من الحضارة بنصيب أوفى، من أهل مصر وسورية اللتين مضى على قيام النهضة العربية فيهما عهد طويل - خليق بهؤلاء القراء ألا ينقدوا هذه المطبوعات نقداً حديثاً على وفق المقاييس العالمية للإنتاج الأدبي السائد في بلادهم؛ بل عليهم أن يعدوها نواة الإنتاج الأدبي الذي تقدمه بلاد الجنوب. الغربي لجزيرة العرب إلى الثقافة العربية. ولنتذكر أن جمعيات المناظرة التي من طراز (نادي المخيم) كانت ذات أثر فعال في القرن الماضي في قيام النهضة الثقافية العربية في سورية؛ ونحن نرى اليوم في(620/32)
عدن عوامل التقدم هذه تخلف آثارها.
(البقية في العدد القادم)
عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية(620/33)
حول مقال للأستاذ الطنطاوي
الموسيقى والأغاني الحديثة
للأديب سهيل إدريس
. . . وأخيراً. . . عاد الأستاذ الطنطاوي إلى روض الأدب، بعد أن انقطع عن ارتياده حيناً من الزمن طويلاً، حسبنا معه أنه هجرة إلى غير عودة، وذهب بنا الظن (أن الحرفة قد طغت عليه) فصرفته عن الأدب. . . أما وقد رجع، فنرجو أن يواصل المسير، وأن يتبع الركب، فلا ريب أنه قد تخلَّف عنه، ولعله لا يفوَّته بَعْدُ!. . .
أقول هذا بعد أن قرأت مقال أستاذنا الطنطاوي (الذي حبَّب إلينا هذا البلاء الذي نعتز به والذي يدعونه الأدب فبتنا من طلابه. . .) عن الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة، وعمَّا تبعثه الأولى في نفسه من سحر وفتنة، والثانية من اشمئزاز وبغضاء لها ولرجالها. ثم يقول (فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم؛ إنكم لن تطربوا ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفاً، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. . .) ويتابع الأستاذ مخاطباً الموسيقى في بلادنا (ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرق الأصيل. . . ما لنا وللجندول وأهل الجندول، ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقتا؟)
أما أن يدعي الأستاذ أن العلم وحده عالمي، وليس الفن كذلك فهذا بِدْعٌ من القول، بل الحقيقة أن الفن أكثر عالمية من العلم لأنه أقرب إلى نفوس الجميع، وأدنى إلى التذوق والفهم، وابلغ تأثيراً في الإحساس، من العلم. وللقطعة الفنية الرائعة جمال ورونق في كل عين، واثر إعجاب في كل نفس وإن روائع الفن الغربي، لقطعاً قد يكون إعجاب الشرقي بها متعدَّياً إعجاب الغربي، سواء كان ذلك في الموسيقى أو الرسم أو النحت أو غير ذلك من الفنون؛ وكذلك القول في الفن الشرقي بالنسبة إلى الغربيين وأعفى نفسه من التمثيل لذلك. فإن هذا الأمر من البداهة بحيث لا يفتقر إلى إيماء، بَلْهَ تشريح وتمثيل! وإنما نعجب بفن الغربيين، ويعجبون هم ببعض فننا لأن الفن عالمي، هذا مالا شك فيه.
ثم كيف يزعم الأستاذ الطنطاوي أننا لا نطرب لغناء الإفرنج، وأننا (لن) نطربهم بغنائنا؟ هل تجد اليوم شاباً في جميع بلدان الشرق الأوسط لا يحفظ من الأغاني الغربية هذه(620/34)
الأغاني ' , من الذي لا يهوي سماع السمفونيات والتانجوات وغيرها؟ ومن منا لا يطرب اليوم للموسيقى الغربية؟ ومن منا لا يحب بتهوفن وباخ؟ وهل للقطع الموسيقية التي يحفظها الشرقيون من الغرب عد أو حصر؟ ليست القضية قضية موسيقى غربية أو شرقية، وإنما قضية موسيقى تؤثر في النفس وتلمس أوتار القلوب؛ وفي الشرق والغرب من هذه الموسيقى الشيء الكثير! أما أنا لن نطرب الإفرنج بغنائنا، فليس ذلك عائداً إلى أن غناءنا - ولا سيما الحديث منه - ليس بالغناء الجميل، وإنما لتقصير وسائل بث هذا الغناء وتنشره والدعاية له في أوربا، كما يفعل الغربيون بفنونهم. ولكن الأمر الذي يظلُّ موضع النظر، هو الأغاني (المحلية) البحت، التي لا يستسيغها عادة إلا أقوام وعشائر معينة لا يمثلون أمة بكاملها أو شعباً بكامله. والواقع يدل اليوم على أن هذه الأغاني ليس لها من الشيوع مثل ما للأغاني غير المحلية. وقليلون هم الذين يؤثرون الأولى على الأخرى. وهذا راجع - في اعتقادنا - إلى أن الأغاني المحلية تتصف بالرتابة والترديد الباعث على الملل، وإلى أن لها (جوها) الخاص، وأن ليس لها نفس الحلاوة والجمال في جو غيره. وقد يكون من الصحيح أن الأغاني المحلية ستندثر يوماً ما بداعي التطور.
وظاهر من مقال الأستاذ الطنطاوي أته يؤثر هذا اللون من الغناء على غيره. فهي إذن هواية خاصة لا تبرر له أن يُعرَّى ألوان الغناء الأخرى من القيمة أو من الجمال. وما دام الأستاذ قد ذكر الجندول في معرض الإنكار أو الكراهية، فلا بأس هنا من أن نساجله القول؛ فليس من ريب في أن فن الأستاذ عبد الوهاب قد سجل تحولا جديداً في الموسيقى العربية الحديثة يوم غنى الجندول من تلحينه، ولا اذكر أن أحداً من رجال الفن أو الأدب أو السياسة أو حتى الفلسفة. . . وقف من هذه الأغنية الموقف الذي يقفه الأستاذ الطنطاوي اليوم! ولو أنه استشهد بغيرها من أغاني المطرب المعروف لكان الخطب أيسر! ذلك أن هذه الأغنية أروع ما انشد عبد الوهاب، ولن تتماسك أمامه أية أغنية من أغانيه أو أغاني غيره في معرض المقارنة. ذلك أنه بلغ غاية التوفيق في تلحينها: في اقتباس بعض مادتها من موسيقى الإفرنج وإضفاء الروح الشرقية الحالمة على ألفاظها ومعانيها. ولو أنه اجتزأ بأحد هذين العنصرين فحسب، لعرّيت الجندول من قسط كبير من روعتها.
وقصارى ما أود قوله في هذا المضمار - ولو أني أعتمد فقط على تذوقي للموسيقى دون(620/35)
أن أكون من رجالها - أن تلقيح الأنغام العربية بالموسيقى الأوربية يرفع من شأن موسيقانا الحديثة إلى حد بعيد. فحسبنا من تلك الأدوار القديمة التي بليت، وكفانا ذلك الترديد والرتيب الممل للكلمات بل للأحرف، وقد شبعنا كلُّ الشبع من أدوار صالح عبد الحي وعزيز عثمان وعبد الله الخولي وإضرابهم!. . .
ويظهر أن الموسيقيين المصريين قد أدركوا في المدة الأخيرة أن التقيُّد بالقديم من الألحان مؤخر النهضة الفنية، وصارفٌ الجيل الجديد عن القديم، فإذا هم يعمدون إلى ألحان يستحدثونها أو يقبسونها من الأنغام الأوربية، فيسيرون في هذا المضار شوطاً بعيداً. ولا سبيل اليوم لأحد أن ينكر أن الهواة وغير الهواة من المستمتعين يؤثرون ألحان عبد الوهاب على غيره من الموسيقيين القدماء. ونحن في الحق نعتمد - في نهضتنا الموسيقية الحاضرة - على عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي ومن بعدهم على فريد غصن، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وغيرهم كثير.
وإن الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ الطنطاوي لدعوة مضرة بالموسيقى والغناء الحديث إن هي اتبعت، ونخالها لن تتبع. هذا وإن الغناء الحديث قد أرتقي - في اعتقادنا - ارتقاء كبيراً بالنسبة للغناء القديم، إذ أنه خلا من الترديد والتمطيط، فليس اليوم من مغن يسلخ خمس دقائق في أداء (آه. . .) تتبعه الجوقة فينقلب الغناء إلى جو من النعيب! كما أن الغناء الحديث أصبح أرشق أداء وارق لفظاً وأحياء روحاً من الغناء القديم، وإني أرى فيما اتهم به الأستاذ الطنطاوي المطربين المحدثين - جميعاً!. . . - شيئاً من التعسف. وإليه على كل حال تحيتي الصادقة والسلام.
(بيروت)
سهيل إدريس(620/36)
نشيد الزورق
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(ربان هذا الزورق شاعر عاش في دنياه طويلاً، بين الماء
والسماء، ويوشك أن يعيش في دنيا الناس بعد أن رسا زورقه
وركدت من تحته الأمواج).
رسّا زوْرقي وطويتُ الشراعا ... وكفَّنْت فيه الندَّى والشُّعاعا
وعدتُ إلى شاطئ ساخراً ... أردُّ اللَّياليَ مَرَّتْ سِراعا
هنا كان لي سامرٌ. . . أين وَّلي؛ ... هُنا كان لي أملٌ. . . أين ضاعا
ذوَي أمَلي في رَبيع المنى ... وما خِلتُ يا (أملي) أنْ تراعا
فقدتُكَ يا (أملي) جَدْولاً ... تدفَّقَ لحناً بسمْعي مُشَاعا
ترفُّ على جانبيْكَ المنى ... فَتَاءً يفيضُ هوىً واندفاعاً
عرفْتُ المنى شاعراً ملهما ... وخلفْنَنِي لا أجيدُ السمَّاعا
أكادُ اشوَّه هذا النشيدَ ... وأنكرُ في أصَبعيَّ اليرَاعا
رسَاَ زورقي فوق صخرٍ رهيبِ ... يطالعُ سرَّ الزمَانِ العجيبِ
نَعتْ فجرَهُ نَسماتُ الضُّحى ... ولفُّ الصباحَ شعاعُ الغروب
سَرى فوق أمواجِه العاتياتِ ... بهَدْىِ النبيِّ وخطْوِ المريب
تُولْوِلُ في جانبيْهِ الرَّياحُ ... مُقذَّفَةً مِنْ وراءِ الغُيُوب
مضَى الزَّمن الحلو فوق العبُابِ ... ولاذَ الغريبُ بشطٍ غريبِ
فلاَ طائرِي غردِ بالنّشيدِ ... ولاَ زورقي آهلٌ بالحبيب
فيا ليلةً جمعتْنَا هُنَا ... على زورقي، هل لنا أن تؤوبي؟
ويا زورقي آن أنْ نستريحَ ... فلا الخمرُ خمرِي، ولا الكوب كوبي
رسَاَ زورقي وصحَا الحالمُ ... وثابَ إلى رُشْدِه الآثُم
وغادَرَ حانته مثْلمَا ... يغادِرُ مخدعَه النائم
وودع قيثارة مثْلما ... يودّعُ ريشتَه الرَّاسم(620/37)
وألقى بها قبل عزفِ النشيدِ ... فنامَ بها الوترُ الناغم
وسَلْسَل فيها نشيدَ السماء ... سَنًى خاطفٌ وندىً ساجم
فيا شاعراً عافَ قيثاره ... فزورقُه موحِش سَاهم
لقد كان يُلهمُ أوتارَها ... وينطقها روحه الهائم
أيلْهُو بزورقهِ بعدها ... أَما شاقه عهدها الناعم؟
رسا زورقي، هلْ رَسَا واطمأنَّا؟ ... وقد هَدأَ الليلُ طيراً وغصناً
وداعبَه الموجُ في الضَّفتْينِ ... وسَبَّح في الشطَّ ناياً ولحناً
أيَحْيا هُنا خشباً جامداً ... وقد عاش بالأمس روحاً وفناً!
لقدْ هادنتْهُ رياحُ العَشىَّ ... فهل ستظلُّ سلاماً وأمنا؟
أقامَ هُنا كالطَّريد السليم ... وضَمَّ إليه الطريدَ المعنَّى
طريدانِ سَارا النهارَ الطويل ... إلى أن مَضَى نورُه واستنكنا
فخافا ضلالَ الطريق البعيدِ ... وناما بليلهما حينَ جنا. . .
فمنْ لَكَ يا زورقي ها هنا؟ ... وقد سكن الكون حسَّا ومعنى؛
رسا زورقي غارقاً في الظَّلامِ ... وقد شَردَ النجمُ فوقَ الغمام
ونامتْ على الشطَّ أمواجُه ... فأقفرَ من رُوحِها المستهام
أتغْفُو وقد شاقَهُ صحوُها ... أمَا سئمتْ طولَ هذا المقام؟
أما شاقَها زورقي سابحاً ... فتجرْي به سبحةً للأمام؟
لقدْ أوشَكَ الليلُ أن ينجلي ... وتهتفَ أطيارُه بالنَّيام
دعِ اللْيلَ يا زورقي ... وجدِّف على موجةٍ من هيامي
بدا النَّورُ في الأفق فاسبح له ... فإني سئمت حياة الظلام
ظمْئتُ إلى الفجِر يا زورقي ... أما آن لي أن أندَّى أُوامي؟
رسا زورقي عند فجرٍ سَنىَّ ... فصافحه بالشُّعاعِ النَّدىِّ
وأَطْلقَ صدَّاحَهُ هاتفاً ... يُرحِّبُ بالزورق العبقريِّ
فحوَّمَ مُستلْهماً سرَّة ... ورفْرفَ فوق الجبين الوَضِيّ
هُنَا شاعرٌ سابحٌ في رؤًى ... مجنّحة في خيالٍ سرىّ(620/38)
تَوسّدَ زورقَه مضجعاً ... وأغْفَى على صدْره كالصَّبيّ
فأيقظَهُ الطيرُ من حُلْمِهِ ... وغَنَّاهُ لَحنْ النشيد الشجيّ
وأجْفَلَ من نايهِ عاطلاً ... كما يُجْفِلُ النور عند العَشِيّ
غدا زورقي هاهنا معبداً ... يَضُمَّ حُطامَ، الشهَّيد الوفيّ
رسا زورقي بعد عصف الرياح ... وهبَّت عليه سَمُومُ الصباح
وعادَ إلى عُشَّةِ طائري ... صريع الأماني، ذليل الجناح
شَدَا في الغصون فأنكرْنَه ... وقد كانَ ملْء الجواء الفساح
جَفَا الروضُ شادية العبقريَّ ... وماتَتْ أغانيه بين الأقاحي
حَنانَيْك يا طائري لا ترَعْ ... جراحُك يا طائري من جراحي
لئِنْ بَرمتْ بك تلك الغصونُ ... فعش بين تلك الربُّا والبطاح
فَلمْ يعد الزهرُ ملكَ الطيور ... ولا وارفُ الظلِّ بالمستباح
سَراحك؛ حسبُك أن يطلقوه ... متى يطلقون الغداة سراحي؟!
رسا زورقي في الصَّباح الحزين ... فألقيْتُ مِجْدافه من يميني
وغبتُ عن الكون في رحلةٍ ... ترامي بها الوهمُ فوْق السنين
فمن عالم من بناء الزمانِ ... إلى عالم من بناء الظنون
سئمتُ خِداع التُّراب المهين ... فخلقْتُ فوق سَماء اليقين
عوالمها أطلقْتني سجيناً ... فواعجبَا للطليق السجين!!!
على قمة الدهر باتتْ قُيودي ... ممزقةً كالهشيم الدفين
وما راعني غيرُ تهويمةٍ ... تطِلُّ مع الصبح خلف الدُّجون
تَلفَّتُ أبحثُ عَنْ زورقي ... فألْفيتُ مِجْدافَه في يميني
رسا زورقي في انبثاق الضُّحى ... وأوْمأ للظَّل أنْ يَسرحا
وللشَّمس في الأفق أن تَعتلي ... وللطير في الروضِ أن يصدحا
وللغصنِ أن يرتوي بالنَّدى ... وللعُشِّ في الغصن أن ينزحا
وللروض أن يستفزَّ الطيورَ ... وللجدول الثرِّ أن يمرحا
وللزّهر أن ينفح الحالينَ ... وللطَّيف في الحُلْمِ أن يسنحا(620/39)
بدا الكونُ يا زورقي فاتناً ... كما شئتَ، هل آن أن تفرحا؟
أطلتَ الوقوف هناُ مستكيناً ... وقد كان دأْبُك أن تجْمجا
جرى الموجُ يركضُ في شطِّه ... فيا زورقي آن أن تسبحا
أحمد عبد المجيد الغزالي(620/40)
لقاء. . .
للأستاذ إدوار حنا سعد
ترفق فقد هزت كياني وخاطري ... عواطف من فرح بلقياك غامر
أأنت أم الأطياف في موكب المنى ... لقد كدت من سحر أكذب ناظري
تعايت دموعي في نواك على الأسى ... فكيف استجابت للسرور المباكر
نعيم سماويّ الَجنى لم تطف به ... خوافق أْحلامي وطير خواطري
ولو كنت في الأحلام شاهدت صفوه ... لما جن في صدري هتاف البشائر
فقد تنقص الأحلام من فرحه اللقاء ... إذا هي أبدتها بشتى المظاهر
طلعت كواحات الأماني ليائس ... وكالأمن في واد عصوف المقادر
وكالضفة الخضراء لاحت لطائر ... لهيف الظما دامي الجناح مسافر
وكالمجد ألقي للطموح عناية ... سنىّ المجاني لؤلؤي الأزاهر
وكالبرء للعاني الثرى. . وكالنوم للذي ... يؤرقه ركب الطيوف العوابر
وكالعيد للطفل الثرى. . وكالسنا ... لسارٍ. . وكالطفل الجنين لعاقر
فأوشك أن يطغى سروري وأن أرى ... هتوفاً بأفراحي العذارى الزواهر
لكي يعلم الحساد أية نعمة ... تشوفها أمسى وضاءت بحاضري
توالي خفوق القلب يلقاك ثائراً ... كطبل زنوج الغاب في عيد ساحر
تراقب عيني فيك أحور فاتناً ... وتسمع أذني منك ترتيل شاعر
وألثم في مغناك شتى فواكه ... وأنشق من رياك عطر مجامر
لقد حسدت بعض الجوارح بعضها ... على رغم ودٍ تالد وأواصر
قسمتُ حظوظاً بينها فأثرتها ... شواجر أطماع بدت لشواجر
الإسكندرية
إدوار حنا سعد(620/41)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
قرأت في عدد الرسالة 617 كلمة موجهة إليك بتوقيع شريف القبج الدكتور في الفلسفة، وأنا حاملَ هذا الاسم وذلك اللقب أبرأ إلى الله مما جاء في هذه الكلمة الرقيقة، ولست آسف كثيراً على هذا المجهول الذي نزع كلمة من هنا وكلمة من هناك ووقف على منبر في الخفاء ليعطي الإرشادات الفنية بشكل رسالة للفن السامي، ويخاف من نشاط الغرائز غير المهذبة في الإنسان، ويخشى أن يستعمل الأديب في النقد مبضعه بلا رحمة ولا هوادة.
ويتوقع أن يقف الأديب والناقد في حلبة صراع يجلب غمز القراء ولمزهم وقهقهتهم. وكأنه يندب حظ الأديب إذا تلطخ بالمهاترات الكلامية والتراشق بالألفاظ غير المهذبة.
ونحن القراء في هذا البلد (فلسطين) لا نزال ننعم ونتمتع بما تجود به الأقلام المصرية علينا لنغذي نفوسنا كما كانت مصر الخصيبة تملأ غرائزنا في المجاعات العالمية التاريخية.
لقد دل هذا الكتاب المقنع من تزييف توقيعي على أن إرشاداته للأدب والأديب كاذبة، وأنا معذورة إذا لم تتولد في روحي الحرارة الكافية للرد عليه، لا لأنه أساء إلى الناقد الأديب السيد حبيب زحلاوي، ولا لأنه أساء إلى القراء بقصة بهلوانية، ولا أساء إلى بلاده بعملية التزوير، بل لأنه كأولاد الشوارع الذين يرشقون السيارات بالحجارة ولا يسع صاحب السيارة إلا أن يشتم أهل البلد الذي وقع فيه الحادث، ولكن المذهب في الحادث فرد مجهول.
قيل لي إن الذي مثل هذه الرواية شاب خليع ليس بالكاتب ولا بالأديب ولكنه يقول الشعر الجارح لا من قريحته بل من جمعه للقوافي المختلفة وقياسها بخيط طول معلوم عنده، فإذا جاءت قياساتها متناسقة وقوافيها على نغم واحد
أخرجها قصيدة شتامة لرفاقه. ولقد كسدت بضاعته أو ربما أضاع الخيط الذي يقيس به فانتقل إلى صناعة النثر وبدأ باستعارة الأسماء، وواجبي تجاه هذه المجلة العظيمة أن أعتذر للسيد حبيب زحلاوي عن هذا الواعظ المجهول، واعتذر لصاحب الرسالة عن ذلك الصبي الذي يرشق سيارات الناس فيسئ إلى سمعة بلده، وأعترف أنني لا أملك المقدرة لمعالجة(620/42)
هذه الثلمة الأخلاقية بدرس ألقيه في الرسالة فأترك ذلك إليكم
والسلام عليكم ورحمة الله.
(طول كرم - فلسطين)
شريف القبج
كتاب (التصوير الفني في القرآن)
كتاب طيب جديد في بابه، يشق لنفسه طريقاً إلى نفسك، ويحل عندك محله اللائق به من إعجاب به، وتقدير لما بذل صاحبه في وضعه من جهد، وما صادف من توفيق، حتى جاء شاهداً لصاحبه بأنه كما قال الأديب عبد المنعم خلاف في الرسالة (شاعر ناثر ناقد، زاول الشعر والنثر والنقد، ونجح في ذلك كله كثيراً من النجاح) وحتى جاء شاهداً لنفسه - كما قال ذلك الأستاذ الأديب - (بأن له الموضع اللائق به من مكتبة القرآن، ومكتبة بحوث البلاغة، ومكتبة الفن، ومكتبة البحث) وليس يسع القارئ لهذا الكتاب إلا أن يحمد لصاحبه عمله، ويغبطه على نجاحه، وذلك موقفي من الكتاب وصاحبه.
وإن تكن لنا ملاحظات بعد فهي ملاحظات هينة يسيرة، لا تغض من قيمة الكتاب، ولا تبخس فضل صاحبه؛ وإنما هي ملاحظات - إن روعيت - تزيد الكتاب حسناً على حسنه، وكمالا إلى كماله: وإليك هي: -
أ - عنى المؤلف بتحليل الآيات عناية مشكورة؛ ولكنه لم يعن بتحريرها على وجه الصحة، فتطرق إلى كثير منها الخرم، كما تسرب إلى بعضها التصحيف، أو التحريف، ولو أن ذلك قليل لهان الاعتذار عنه، وإن شاء تبيان ذلك فليضع المصحف بين يديه ثم ليراجع من كتابه صفحات 113، 114، 118، 120، 122، 123، 130، 141، 176، 198.
ب - أتجه المؤلف في بحثه إلى الناحية البلاغية فحسب، ونبه في غير موضع من كتابه إلى أن الجانب الديني ليس موضع نظره - وهذا حسن، ولكنه (على غير قصد منه فيما أرجح) لمس الجانب الديني لمساً جارحاً حين عرض للآيات في قصة يوسف عليه السلام - صفحة 115 - إذ وصف النبي يوسف - أولا - بأنه الواعي الحصيف، وبأنه كان في(620/43)
موقفه من زليخا يحذر مواضع الحرج جميعاً، وهذا لا شيء فيه؛ غير أنه جعل يوسف أمام المرأة وفي هذا الموقف الإجرامي أشبه بشخص عادي (كاد يضعف) لولا أنه كان واعياً حصيفاً يخشى أن تأخذه عين الرقيب مثلاً، أو يفجأه الزوج، وقد صدقت فراسة يوسف: إذ فجأة الزوج حين محاولته الإفلات لدى الباب. وهذا تصوير غير فني لإنسان هيأه ربه للنبوة، وكتب له العصمة من قبل ومن بعد. وأظن الأستاذ منساقا في هذا وراء ما يقال: من أن يوسف إنسان لم تفارقه نوازع البشرية، فهو كما يميل أي إنسان، ويكاد يضعف كما يضعف أي إنسان. وأظنه كذلك بحسب الآية في ظاهرها هذا إذ قررت أن المرأة همت به، وأن يوسف هم بها. وليسمح لي الأستاذ أن أنبهه إلى أن هذا فهم سطحي غير سديد، درج عليه غير الدارسين لقواعد اللغة، والمتساهلون ممن فسروا هذه الآيات.
ولو أنه لم يتابع هؤلاء فهمهم، ونظر نظرة استقلالية إلى التعبير لرأى بادي الرأي - وهو القوي الإدراك لأسرار القرآن - أن هذا توجيه لا يرضيه، وأن المقام أسمى من ذلك، وأن نوازع البشرية في يوسف كانت مكفوفة بالزهاد الدينية على الأقل (فضلا عن العصمة) على نحو ما ترى وتقرأ عن الأتقياء فضلا عن الأنبياء، ولو أن يوسف كاد يضعف وأنه تحرج للحصافة والوعي والحذر لكان الموقف منه أمام الله موقف عتاب، لا موقف تبرئة وتزكية بقوله سبحانه وتعالى (إنه كان من عبادنا المخلصين).
وفي سياق الآيات وألفاظها المفردة ما يتسع للنظر والوصول إلى ما أبديت. ولولا أن صفحات الرسالة لا تتسع للتطويل لأوضحت: وصاحب الكتاب في غير حاجة مني لأكثر من هذه اللفتة؛ وحسبه أن يراعي الوضع الترتيبي لكلمة - لولا أن رأى برهان ربه - فأن موقعها بين كلمتي همت وهم - وأن يتذكر ما تدل عليه كلمة لولا، وسيجد نفسه أمام نفي قاطع لوجود الميل والهم من يوسف. وكفى.
ج - مضى ذلك الردح الطويل من تاريخ الإسلام وقضية إعجاز القرآن ناهضة تضاءلت بجانبها جهود الباحثين، كما تحطمت على صخرتها جهود العابثين، ولم نر ممن كتبوا وعنوا أنفسهم واحداً يَمنّ على الناس بما قدم لهم، أو يغض من شأن سابقيه، وكنت أحب للأستاذ قطب أن يدع للناس تقديره وأن يلحظ ما لحظه الأولون من انه فوق كل ذي علم عليم، وأن الأيام ستطلع علينا وعلى الناس بالجديد في كل شيء فلا يغمز الأوائل بالتجهيل(620/44)
أو القصور ونحن لا نبني إلا من الحصيات نجمعها من ساحاتهم الواسعة.
د - كان حرياً بالأستاذ سيد قطب مدرك لبلاغة القرآن ومفتون بسحره أن يشاكل بين مؤلفه وبين الكتاب العزيز فيبدأه بالتسمية ليرتفع به عن نمط الروايات وكتب التسلية التي تقرأ وتلقي لا تقرأ وتقتني في الموضع الكريم بين الكتب الكريمة.
هـ - وكان جميلاً في النهاية أن يضع للكتاب دليلاً يرشد الناظر فيه إلى موضع كل آية ببيان صفحتها حتى يسهل على من أحب الرجوع إلى آية بعينها أن يتعرف مكانها، دون أن يخالف النظام الشائع ويصب الكتاب صباً تحت عناوين الفصول فحسب. وبعد - فليتقبل الأستاذ ثنائي خالصاً، وشكري مضاعفاً، ولا عدمنا مثل هذه الجهود الطيبة النافعة.
عبد اللطيف السبكي
المدرس بكلية الشريعة
الفن والتاريخ فلم سلامة
أعرف أن من حق الفن أن يدخل على التاريخ ليبعث في وقائعه الحياة، وليلبس حوادثه ثوباً من الأناقة والطرافة يحبها إلى النفوس والقلوب. وليس للفنان القصص في القصد إلى. تاريخ إلا أن يجمع بين الحقيقة التاريخية تحمل أسانيد الواقع وصدق الرواية، والحقيقة الفنية بين الحوادث بالانسجام والروعة والجمال.
ولكني لا أعرف أن يكون من حق الفن أن يمسخ، وأن يجري بوقائعه على الهوى، فيغير الزمان والمكان، ويزورَّ الأشخاص والمشاهد، وينكر البيئة وما تقضي به، ويجهل الحوادث وما تؤدي إليه، فإنه حينئذ لا يكون فناً ولا تاريخاً، ولكنه يكون المسخ والتشويه والخلط والتضليل والشعوذة التي لا تصح في ذوق، ولا تليق بأي صفة من صفات الفن.
ولقد قدر لي أن أشهد فلم (سلاَّمة) الذي مثلته المطربة المشهورة أم كلثوم، وأخرجه السينمائي المعروف توجو مزراحي. وقصة سلاّمة في الأدب العربي القديم من أروع القصص، وهي بواقعيتها جميلة عنيفة تعالج كثيراً من الجوانب النفسية والخلجات العاطفية إلى جانب ما تحمل من طريف الرواية وحلاوة الغناء وروعة الجمال، وقد استهوت بعض الأدباء المعاصرين فعرضوا وقائعها في معرض الفن القصصي والرواية الطريفة وفيها ما(620/45)
فيها من روعة التحليل، فكتبها المرحوم الأستاذ محمود مصطفى في (مجلتي)، وجلاَّها المغفور له الأستاذ الرافعي في (الرسالة) آية من آياته الخالدة، ثم حبكها صديقنا الأستاذ أحمد باكثير حبكة قصصية نال بها الجائزة لإحدى المسابقات. فلما قيل إن أم كلثوم مثلتها، قلت: طاب الأصل والمثال، والتقى سحر القديم بروعة الحديث، وإنها لمتعة فنية من الواجب أن أدركها وأن أفوز بها على أي حال.
وقصدت إلى مشاهدة الرواية وسماع أغانيها، فليتني ما قصدت! لقد دخلت إليها ونفسي مفعمة بما أتمثل من سحر وجمال وروعة فن، ثم خرجتُ مكروب النفس آسفاً أن يبلغ عبث التجارة بالفن إلى هذا الحد السخيف، وأن تصبح مشاهد التاريخ ووقائعه ملكاً لهؤلاء المشعوذين يسخرون منها ومن الناس على هواهم، وعلى ما تدعو إليه بواعث الكسب التجاري، ومع هذا يأخذون الثمن الباهظ.
أول جريمة من جرائم التزوير في الرواية أنْ نَقَلّ (حضرة المخرج الأديب) مكانها من المدينة ومكة بالحجاز إلى الكوفة والبصرة في العراق، وفي هذا كذب على التاريخ، وفيه أيضاً جهل فاضح، لأن قصة سلامه ما كانت تطلع إلا في أفق الحجاز، وما كانت حياة الترف والدعة والسماع إلا ديدنهم في ذلك الوقت، على حين كان أهل العراق في فتن عاصفة وحروب طاحنة وحياة شديدة قاسية، وهذه حقيقة أحسب أن (المخرج) لا يدركها، ولكن ماذا تكون قيمة هذا (المخرج) في العلم بصناعته إذا ما نقل مشاهد المدينة العامرة إلى ربوع الصحراء الخالية، ومثل مظاهر أهل الحضر، في مواقع الوبر؟!
أما الجريمة الثانية فتتصل بشخصيات القصة، فقد كانت سلاَّمة على ما يحدث الرواة جارية مولدة، شاعرة متفقهة، تقول الشعر وتجالس العلماء، فأبى صاحبنا سامحه الله إلا أن يمثلها جارية من جلب رخيص، مبتذلة العاطفة والفن، تغني بلهجة مغربية غثة في إلحان تافهة كأنها ألحان (زفة العروسة)، وتعابير نازلة تعلو عليها تعابير أولاد القرية وهم في مزارع القطن ينشدون أناشيد (مقاومة الدودة)، فأنت تسمع فيها (الحب حلو وإلا حرّاق) و (سلام الله على الأغنام) و (غنى لي شوىْ شوىْ) وكثيراً من أمثال هذه السخافات. وأين هذا من تلك المقطوعات الشعرية العاطفية المنسجمة التي كانت تغنيها سلاّمة، والتي لو غنتها أم كلثوم لكانت لها مجداً خالداً في الفن، يضاف إلى ما بلغته من مجد.(620/46)
وجاء (المخرج) - ولا أدري لماذا - بالشاعر عمر بن أبي ربيعه بين أشخاص القصة، وهو تزوير آخر على التاريخ، إذ لم يعرف أن سلاَّمة التقت به، وإن كانت هناك رواية تقول إنها التقت في المدينة بصاحبه ابن أبي عتيق.
وفي صلة سلاَّمة بحبابة وبجميلة، وفي كل شخص، وفي كل مشهد، تزوير على التاريخ، وكذب على البيئة، وخروج على روح الفن، وشعوذة رخيصة لا تساغ إلا في منعطفات الطرق كمشاهد (جلا جلا) وحلقات الحواة.
لماذا لا يريح الناس أنفسهم ويريحونا معهم، بعدم ذكر الفن والتعلق بهذا الحرم المقدس الذي وضع العلماء له القواعد والأصول، والذي يحتاج في مزاولته إلى علم ودراية وفهم وذوق. . .
أنا والله لا ألوم هذا (المخرج) في عبثه، لأنني أعلم تماماً أنه رجل لا يخدم الفن ولكنه يخدم جيبه، ولا يرضى الذوق وإنما يرضى خزائنه، فهو يقيس النجاح بمقدار الدخل واستغفال العامة وأشباههم، ولكن كيف تجيز له رقابة الروايات هذا البعث وهذا التلفيق يفسد به على التاريخ ويجني به على الذوق ويضحك به على الشعب المسكين؟!
ثم ماذا؟
قال صاحبي: إنها لا شك مؤامرة على أم كلثوم، قلت: ومن الأسف أنها أفلحت. .
محمد فهمي عبد اللطيف(620/47)
القصص
أقصوصة من لانقيا القديمة
الرسالة
للكونتيسة هر ميانازر موهلن
ترجمة الأستاذ فيصل عبد الله المحامي
لشد ما راعني من مارتا حين لقيتها أول مرة دمامة وجهها الذي خلعت عليه أربعون عاما شر ما كان لديها.
لقد لاح وجهها آنذاك كما لو أن مثالا مجنونا نحته بأزميل مثلم الحد. وكانت تنوء في دنياها بأنفها الغليظ وجيدها المترهل، ووجهها المعروق الذي برزت فيه عظام خديها وبفمها الواسع العريض. . . على أن عينيها كانت على نحو آخر. فلم يكن ثمة غلو في القول بأنهما على شيء من الحسن - لولا - ما تعبران عنه وتنطقان به من جوع ونهم
وبرغم ذلك كان من العجيب أن لم تتزوج مارتا، فإن فتاة من الفلاحين يتيمه من الصغر تملك حقلا ممرعا وثماني بقرات سمان وزوجي خيل من الفصائل، وكنِّ دجاج واسع يندر أن تبقى بكراً في ريف لا تفيا القديمة، حيث لا يكون الزواج فيها عقداً بين فتى وفتاة وإنما يكون بين حقل وحقل؛ ولكن مارتا لم تتزوج، ولا يبدو أنها معنية بأن تتزوج. على أن عجائز القرية كان لهن - بالطبع - ما يلغطن به. فلقد كن يهمسن بحديث حب كان قبل عشرين عاماً عن فتى وسيم الطلعة من الروس جاء هذا البلد كغيره يسعى لرزقه من جني البطاطس.
ولقد روت لي عجوز درداء منهن ذات يوم حديث مارتا والروسي ذاك، فقالت وقد دلت لهجتها تخفيه لمارتا. . . (. . . لقد شغفها حباً، ثم كان ذلك أن أعلنا خطبتهما. وكان مقدراً أن تزف إليه في عيد القديس ميخائيل لولا أن أصر (بوريس) على أن يرحل إلى أمريكا أولاً؛ فلقد كان يقول إن له أقرباء سراة هناك لا يضنون عليه بالمال إن سمعوا برغبته في زواج صالح، وهذا كما كان يقول سيعينه هو ومارتا على أن يبتاعا الحقول الثلاثة التي تحيط بحقلها والطاحونة التي شاخ راعيها وشح رزقه.(620/48)
وبرغم أن مارتا لم تكن لتأبه بأن تملك الحقول أو الطاحونة فإن (بوريس) قد أصر على دعواه تلك ولج فيها فلم تستطيع مارتا بالطبع لرغبته رفضاً. . .)
ثم سعلت العجوز وبصقت على الأرض بذوراً كانت تمضغها واسترسلت في حديثها وقد سرها أن تجد من لم يسمع بعد بما ترويه ويسعدها أن ترويه.
ثم قال بوريس: إنه ليستحي أن يفد على أقربائه معدما حقير الهيئة رث الثياب، فكان أن باعت مارتان حقلين مما تملك وخمس بقرات وسواراً ذهبياً وحليا أخرى مما كانت لأمها وقدمت ثمن ذلك كله لبوريس الذي راح بعد ذلك ينفق منه على أقرانه في إلحان وهو يحدثهم ساخراً هازئاً بحديث مارتا الدميمة الخلق الدنيئة الُخلق التي صدقته في كل ما ادعاه. . . ثم لبث بعد جني البطاطس حيناً على نهجه ذاك حتى أقبل الشتاء فعاش كالسادة على ما تدره الأرض. ولما أقبل الربيع ذهب. . . ولم يعد
ومنذ ذلك الحين قل أن تتحدث مارتا إلى أحد. . . فلم يعد لها في دنياها من شيء غير العمل والأمل، تعمل في حقلها وترعى ما لديها وتنتظر بوريس أن يعود. . . وترتقب ذلك اليوم الذي فيه سيعود
ولقد يكون محتملا أن تحس مارتا بغتة برغبة في أن تتحدث إلى أحد، وقد يكون محتملا أيضاً أنها قد أدركت أن من السهل أن تروى قصتها لغريب من أهل قريتها فيصدق كل ما ترويه ويأنس به وبها، وقد يكون غير ذلك، فلست أدري ما الذي أوحي إلى مارتا أن تستوقفني ذات يوم وقد مررت بحقلها على فرسي فطلبت إلي أن أترجل وأدخل مثواها لشرب قدحاً من اللبن؛ ثم راحت بعد ذلك تحدق في بعينيها الزرقاوين، وقد لاح عليها أن لديها ما تريد أن تقوله وما لا تريد أو ما لا تقوى على أن تقوله، فلقد لاح عليها تردد بينّ ثم تنهدت وهي تقول:
- ربما بلغك عني ما يلغط به القوم هنا. . . إن ذلك كله هراء محض، وقمين بك ألا تصدقيه. كلا. . . إنه لم يهجرني وسيعود. . . أجل سيعود.
ثم نهضت متثاقلة كأنما تحس على كاهلها عبء سنيها وانحنت على صندوق مزركش وأخرجت منه ورقة مطوية. كانت تلك الورقة رسالة تحمل تاريخا قديماً واسم مدينة (بروكلين) ثم قالت وهي ممسكة بها: لقد كتب إلي هذه الرسالة. كتبها بلغة الحب الصادق.(620/49)
لقد أذاب قلبه في رسالته هذه يناجيني فيها بأعذب الألفاظ. ثم عادت تحدق فيَّ كأنما استقر خاطرها على رأي فجأة وقالت: إنني أعرف بالطبع أنها رسالة غرام. ولطالما تمنيت أن أطلع على ما فيها فأعرف كل كلمة حبيبة كتبها إلىَّ.
وإنك لتعلمين أنني أمية لا أقرأ.
وليس في القرية من أثق به فأطلب منه أن يقرأها لي؛ والنساء يحدقن علىَّ لأن زين الشباب أضحى أسير حبي؛ والرجال يمقتونني لأنني لم أرض بأحد منهم زوجاً؛ إذ كل ما يبغونه من زواجي لو تم ذلك لا يعدو الحقل. ذلك احتفظت برسالتي فلم يطلع عليها أحد. على أنني غالباً ما أخرجها من الصندوق ثم أعدو بالفكر في مجالي الخيال أحاول أن أتصور ما يعبر عنه من العواطف ويزدان به من المعاني، وأنه ليسعدني أن تقرئيها أنت عليَّ إذا سمحت بذلك.
فأخذت الرسالة، وقد كان واضحاً أن كاتبها ليس على شيء من العلم، ثم أخذت أقرأها لنفسي قبل أن أتلوها عليها. ولقد جلست إلى جانبي، كأنما تلوذ بي مما تحسه وتفيض به من تلك العاطفة الجموح. كانت عيناها الظامئتان المترقبتان لا تتحولان عني.
ولقد قرأت رسالتها مرة ثانية وثالثة، وقد أفزعني أن أجدني أرتعش، وأخذني دوار حاد، إذ لا بد أن يكون الرجل ثملا حين أنشأ هذه الرسالة؛ فلا يمكن لمخلوق بغير الخمر أن يثور في نفسه كل هذا الحقد وكل هذه القسوة مما لا يمكن تصوره في حنايا إنسان. كان ما في الرسالة سخرية من هذه البلهاء الدميمة التي صدقته في تظاهره بالحب، ولم تعجز منشئها دقة الوصف وسعة العلم بما يزري بمارتا ويحزنها، ولم يفته مظهر من دمامتها يتهكم به ويسخر منه. كان يسخر من أهداب عينيها كأنما هي شعرات خنزير، ومن جسدها كأنما هو كتلة واحدة من العظم، ومن فمها الواسع كأنه فم ضفدعة أو أوسع وابشع. وحين ينتهي من وصفه اللاذع لمارتا وتهكمه بها يتحدث مزهواً عن فتاته الأميركية الحسناء التي تجلس إلى جانبه وهو يكتب رسالته. هذه الفتاة التي يقول عنها إنها مشرقة كالزهر، منيرة كالبدر، تبتسم فتبدو كزهرة الربيع.
ثم يروي لمارتا أنه حدّث فتاته بحديها، حدثها عن امرأة بلهاء جُنَّت به ووهبته كل مالها لكيما يبلغ هذا البلد السعيد الذي يعج بالنساء الفاتنات.(620/50)
ولقد ألحت عليّ مارتا بعد ذلك، تسألني في لهفة وتحرق، ماذا يقول؟ لماذا لا تقرئين؟ ماذا تنتظرين؟
لقد كذبت عليها، وماذا كان في طوقي أن افعل؟ رحت أحدثها ويدي ترتجف وقلبي من الغيظ يتلوى، أن بوريس يذكرها أبداً ولا يملَّ ذكراها، وإنه ليذكر طول عمره ذلك الزمن الذي قضياه معاً. ثم رحت أصف لها شدة شوقه إليها وانه سيعود ذات يوم حينما يفرغ صبرها وتيأس من رحمة الله، ليفوز بها ولن يتركها بعد ذلك العمر كله.
لقد كنت أجد الكذب شاقاً على نفسي مجهداً لها، فلقد أمضى الرثاء الذي أحس به لهذه البلهاء حقاً، والاشمئزاز الذي أفيض به لذلك الذي عبث بها وتنعم بمالها ثم راح يسئ إليها قدر ما أحسنت إليه. على أنني وجدتني بعد بضع جمل أتقن الكذب وأجيده. فرحت أجهد خيالي وأعنت ذاكرتي لتسعفني بما تعي من شهيرات رسائل الحب التي قرأت.
ثم ألقيت بالرسالة بعد ذلك على المنضدة، فأمسكت بها مارتا وهي على حال شديدة الاضطراب. كانت كهيكل من الخشب بعثت فيه الحياة فجأة، فلم يعد يبدو عليها ذلك العبوس، وتلك البشاعة. كل ذلك أنقلب الآن في وجهها إلى عذوبة وإشراق وحياة.
ثم راحت تتحدث إلى بخفوت حتى لكأنها تحدث نفسها. كتب ألي كل ذلك؟ كل ذلك؟ كل هذه الألفاظ الحلوة العذبة!! كل هذا الحب. . . لي أنا!؟ ثم تنهدت وقالت: على أنني لسوء الحظ لا أستطيع أن اقرأ كل هذا بنفسي. لماذا لا أتعلم القراءة؟. . . أرني بالله أي سطر منها يؤكد شدة حبه وإياي وشوقه إلى، وأين كتب يقول أنه سيعود حينما يعييني الصبر.
ولقد أريتها بعض السطور في أول الرسالة وأخرى في آخرها. . فهزت مارتا رأسها وقالت: لو كان لي علم ذلك. حينما كربني الهم وأمضني اليأس وأضناني الانفراد. لو أنني كنت أستطيع أن أقرأ على نفسي هذه الرسالة الحبيبة كل يوم. . . ثم راحت تحدق في كطفل يستجدي حلوى وتقول: يا صديقتاه أخبريني. هل يستطيع من في سني أن يتعلم القراءة؟. . .
ولقد راعني قولها هذا حقاً. على أنني قلت لها: إن هذا لغاية في الصعوبة. ولكن ما الذي يدفعك إلى هذا وأنت تعلمين الآن ما كتب إليك؟ فقالت: هذا صحيح. ومع ذلك فإنني أحس رغبة ملحة في أن أقرأ الرسالة بنفسي لكي أتملى بكل حرف منها. . . على أي حال لا بد(620/51)
أن أكلم معلم القرية في ذلك.
ثم غلبها الصمت فراحت تحلم. وقد فاضت عيناها بالدمع غبطة. واستسلمت لأمانيها وأحلامها، فلم تفطن إليَّ وأنا أنسل من جانبها فزعة كأنما ارتكب إثما.
منذ ذلك اليوم حرصت على ألا أمر بحقل مارتا كلما امتطيت جوادي خيفة أن تبصر بي فتطلب إلى أن أقرأ الرسالة مرة أخرى فأتلوها على غير ما تلوتها أول مرة، فيبعث هذا في نفسها الشك.
على أنني عرفت مما تثرثر به عجائز القرية أن مارتا تقصد المدرسة مساء كل يوم فتمكث فيها ساعة أو تزيد، تتلقى على مدرسيها دروساً في القراءة. ولشدة ما كان نساء القرية يضحكن وهن يلغطن بحديث مارتا ويقلن إنها تتعلم القراءة. . . تتعلم القراءة في سنها هذه! ترى أكان هذا لأنها ستصبح عما قريب سيدة؟ لقد ابتاعت كتاباً للأطفال وإنها لتجلس على مقعد أما بيتها كل يوم ممسكة به وهي تردد حروفاً منه: ألف - باء - جيم - قاف - طاء - هاء - قطه. . . وإن الناس لا يقوون على كظم ضحكهم مما يرون، ثم يسترسلن في ضحكهن ساخرات. أما أنا فقد وجدت في الأمر غير ما وجدنه. لقد كان فيه ما يبعث على البكاء رثا لها وفزعا مما ينتظرها.
ولقد خرجت أتنزه ذات يوم فضللت سبيلي. ثم ألفيتني بعد حين في غاب خلف حقل مارتا. وكان الوقت خريفاً والهواء البارد يهب من البحر قارساً، فلذت بالأشجار محتمية بها، ثم رحت أزحف بين أفنانها، فبلغ أذني بغتة صوت أجش قوي النبرات يردد ألفاظاً بجد وقوة: بيت - حقل - كلب - بقرة. . . وما شاكل هذه الكلمات البسيطة الرقيقة التي كانت برغم ذلك تمهد السبيل الذي سيقود مارتا يوم من النعيم إلى الجحيم.
وكان الصوت لا يزال يردد. . . حقل. . . الله. . .
الله! أجل. . . إنه هو وحدة القادر على أن يبعث إلى مارتا بكسف من السماء يودي بها قبل أن تجد نفسها قادرة على أن تقرأ الرسالة. . . الرسالة التي تفيض بالحقد والمقت والسخرية. . . الرسالة القاتلة. . . إنه القادر على أن يرحمها فيعمى عينيها الظامئتين المترقبتين قبل أن تستطيعا قراءة حرف.
وكانت ليلة. . . أرخت فيها يد الخريف سدول الوحشة والكآبة على الكون ودوّت فيها(620/52)
العواصف القاصفة بالسهول. . . وهدير البحر يتعالى مضطرباً صاخباً، والأشجار العارية تمد أيديها كأنها تسأل النجدة أن تستغيث مما ترى وتسمع. . . وأوراق الشجر تتناثر على الأرض فتلوح مما علاها كبساط مزركش زاه. . . ثم أرسلت السماء بعد ذلك ثلجاً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل شيء رداءً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل رداء أبيض يشف عن طهر وروعة، مبدلاً بؤس الخريف وعبوسه دنيا بيضاء. . . ناصعة البياض، وكان هذا قبل عيد الميلاد بيومين. . . حين تلجأ الساهرات إلى مثواهن يخشين الأشباح التي تطوف في الكون كلما حان هذا الحين. . . وعلى حين فجأة تبدى الكون الأبيض في وشاح قرمزي اللون يضطرب ويلتهب، فلقد اندلعت نيران، نيران هائلة، أضاءت من تلظيها الغابة التي كانت تجاورها. ولقد أهرع رجال القرية وعمال المقاطعات الأخرى ليطفئوا النار. . . ينير لهم السبل وهجها الأحمر. ولما بلغ القوم بيت مارتا ألفوا حقلها يشتعل، والريح الشمالية تقذف بالسنة ناره إلى كل جهة. وكانت الأبقار تخور فزعاً فيملأ خوارها الأرجاء؛ والخيول مسَّها خبل فأخذت تقمص حتى وجدت مخرجاً فاندفعت منه إلى السهل الأبيض كأنها أشباح تطوف.
وأمام البيت الملتهب تقف امرأة. . . كان شعرها الأغبر الأشعث المنفوش يحيط بوجه كالح وعينين متحجرتين. . . وكانت تقهقه ضاحكة. . . فتعلوا قهقهتها على خوار البقر وفرقعة الخشب المحترق، ولقد لبثت حيناً بعد ذلك وهي تشهد ما حولها وتقهقه.
لقد قرأت مارتا الرسالة أخيراً. . .
القدس
فيصل عبد الله المحامي(620/53)
العدد 621 - بتاريخ: 28 - 05 - 1945(/)
الأسرة والمجتمع
للأستاذ عباس محمود العقاد
كل ما يفصله الأستاذ علي عبد الواحد في كتابه عن (الأسرة والمجتمع)، أو في مقالاته بالرسالة يصلح لتقرير حقيقة واحدة وهي أن للمجتمع وآدابه شأناً في نظام الأسرة على اختلاف الأزمان والبيئات
وهي حقيقة لا حاجة لنا بها إلى كثرة الأدلة والأسانيد، لأن المجتمع قائم وقوانينه وعاداته قائمة كذلك، وليس في وسع أحد أن ينكرها أو ينكر أثرها في معيشة الأسرة ولا في معيشة الفرد حيث كان
إن الأسرة تتأثر بالمجتمع وعاداته وقوانينه، وهذا أمر بين بالبداهة كما هو بين بالمشاهدة العلمية، فلا ينكره أحد ولا يحتاج القول به إلى إسهاب في الأدلة والأسانيد، إلا إذا كان إثبات الأدلة والأسانيد من قبيل الإحصاء والتقرير
لكن الحقيقة التي نقررها نحن هي شيء آخر غير هذه الحقيقة، وهي أن الغريزة لها شأن في تكوين الأسرة، وأن المجتمع لا ينزع الغرائز نزعاً حين يتولى تنظيمها وتوجيهها إلى وجهاتها الكثيرة، وليس إثبات الآداب الاجتماعية بمنكر للغريزة ولا بمبطل لعملها في نشأة الأسرة ولا في نشأة الاجتماع نفسه وما يتفرع عليه من الآداب والقوانين
وقد يخالف المجتمع الغريزة في وجهته وغرضه، فلا يكون ذلك دليلاً على أن المجتمع وحده هو الموجود وأن وجهته وحدها هي المحسوبة، وإنما يكون دليلاً على وجود شيئين مختلفين، وأنهما على اختلافهما أو اتفاقهما لا يعملان منفردين
فإذا ناقشنا الأستاذ علي عبد الواحد في أمر الأسرة والغريزة فليس سبيله في مناقشتنا أن يثبت لنا وجود المجتمع وآدابه، فإن هذه الحقيقة في غنى عن الإثبات، ولا حاجة بأحد من علماء الاجتماع إلى إثبات وجود الاجتماع، وإنما سبيله أن يورد لنا الأدلة التي تمنع وجود الغريزة أو ظهور أثرها في نشأة الأسرة، وليس لعلماء الاجتماع دليل على ذلك فيما أوردوه أو استخلصوه من المشاهدة والإحصاء
فلا ريب أن حاجة الطفل الإنساني إلى الحضانة الطويلة لم يكن عملاً من أعمال الاجتماع، ولكنه عمل من أعمال الغريزة التي لا تختلف هنا أو هناك باختلاف قوانين الاجتماع(621/1)
ولا ريب أن العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة تتوقف على الغريزة ولا تتوقف على آداب الاجتماع؛ فإن عطف الأب والأم على ولدهما أشد في كل مجتمع من عطف الولد على أبيه وأمه، ولو لم تكن غريزة حفظ النوع هي الغريزة الغالبة في إنشاء هذه العلاقات لكان حب البنين للآباء كحب الآباء للبنين، بل لو جب أن يختلف الأمر اطراداً إذا كان مرجع الأمر كله إلى آداب الاجتماع، لأن حاجة الأبناء إلى الآباء من الوجهة الاجتماعية أكبر من حاجة الآباء إلى أبناء
ولا يقال في هذا الصدد إن بعض الآباء قساة وبعض الأبناء رحماء، فإن الغريزة الحيوانية أو الإنسانية لا تستلزم المساواة بين جميع الأفراد ولا تمنع الشذوذ في بعض الأحوال
وقد وجدت الصلة بين الأم وذريتها، حيث لا يوجد شيء قط غير قوة الغريزة في أحوال الفرد أو في أحوال الجماعة، فوجدت هذه الصلة في الحشرات والهوام وتتابع الارتقاء فيها على حسب الارتقاء في نمو الغريزة لا حسب الارتقاء في آداب الاجتماع
وجاء في كتاب الحشرات الاجتماعية للأستاذ وليام هويلر أستاذ علم الحشرات بجامعة هارفارد: (أنه قد حدث على التحقيق تطور طويل الأمد في أدوار عدة تزداد بها الصلة بين الأم وذريتها منذ الدور الأول الذي يخلو من كل اكتراث بالذرية إلى الدور الذي يتم فيه التعاون المتبادل بين الفريقين، ونستطيع أن نرتب سلسلة هذه الأطوار على ما يأتي دون أن نتوقف لإيراد الشواهد التي سيمر بك الكثير منها، فهي على الترتيب:
أولاً: تبذر الأم بويضاتها في البيئة التي يعيش فيها أبناء نوعها، وقد تبذر البويضات في بعض الأحوال إلى جانب المادة الغذائية التي تأكل منها بعد فقسها
ثانياً: تضع الأم بويضاتها على جزء من البيئة كأوراق الشجر التي تصبح غذاء للديدان المفقوسة
ثالثاً: تزود بويضاتها بغطاء واق، وربما اقترنت هذه الحيطة بالدورين الأول والثاني اللذين تقدما
رابعاً: تبقى الأمم مع بويضاتها والديدان المفقوسة منها وتحميها
خامساً: تضع بويضاتها في حرز مصون أو مكان مهيأ لها - كالعش وما إليه - مع مؤنه من الغذاء ميسرة للديدان بعد فقسها(621/2)
سادساً: تقيم مع البويضات والصغار وتتعهدها بالوقاية والتغذية
سابعاً: أما الدور السابع فلا يقتصر الأمر فيه على حماية الأم لصغارها وتغذيتها، بل تنمو الصغار وتتعاون معها على تربية نسل آخر وتستمر الأمهات والأبناء في معيشة سنوية أو معيشة دائمة. . .)
فالغريزة قد أنشأت الأسرة المتعاونة بين الحشرات حيث لا عمل للاجتماع قط بمعزل عن الغرائز الحيوانية، وقد أصبح للآداب الاجتماعية في النوع الإنساني عمل غير عمل الغرائز وما شابهها، فجاز أن يقال في بعض العادات والمشار إن هذا من وحي الاجتماع. ولكننا إذا رجعنا بالاجتماع إلى أصوله لم نكد نعزله عن الدوافع الغريزية أو الدوافع الحيوانية البيولوجية، لأن الاجتماع على التحقيق لم يكن من اختراع الأفراد وإنما كان من إيحاء النوع بأسره حيثما كان، وكل ما كان (إيحاء نوعياً)، فهو إيحاء غريزة فطرية على وجه من الوجوه
إننا نحب أن نؤكد هذه الحقيقة، لأن إثبات الحقائق واجب لغير علة، ولأننا في زمن خلقت فيه العلل الكثيرة لتعزيز مكان الأسرة من الطبيعة الإنسانية والفضائل الخلقية، سواء رضي عنها دعاة المذاهب أو أغضبتهم عليها عوارض الدعاية ومراميها
والعلماء الاجتماعيون الذين درسوا نظام الأسرة وقرروا ما قرروه عن ارتباطها بالآداب الاجتماعية براء من غرض الدعاية ومن كل غرض غير تقرير الحقيقة العلمية كما يرونها، ولكن الحقائق العلمية قد ابتليت اليوم بمن يسخرونها عامدين أو غير عامدين في خدمة مذاهبهم الهدامة وفي طليعتها الدعوة الماركسية، ولم يفتح الله على دماغ كارل ماركس بشيء يفهمه ويرد إليه بواعث الاجتماع، وكل باعث من بواعث الحياة غير الاستغلال وابتزاز الأموال، فما هو إلا أن رأى في زمانه أناساً يستخدمون أبناءهم فيما ينفعهم ويستعينون بهم على مصالحهم أو يرهقونهم في جمع ثروتهم حتى جزم بفساد نظام الأسرة وقيامها جميعاً على أساس الاستغلال، والتسخير، وإن المسألة كلها (حسبة اقتصادية) ومضاربة مالية تتبدل من زمان إلى زمان كما تتبدل صفقات الإنتاج وأسعار الأسواق
وكارل ماركس قد رأى أناساً يرهقون أنفسهم في طلب الرزق ويعملون فوق طاقتهم لادخار القوت أو الثراء، ولعل هؤلاء أكبر عدداً ممن يرهقون الأبناء والبنات في طلب المعاش(621/3)
وهم مكرهون أو مختارون، فلماذا أبطل عواطف الأسرة وأواصر الأبوة والأمومة، لأن بعض الآباء والأبناء ينتفعون بجهود أبنائهم ويسرفون في الانتفاع، ولم يبطل عواطف (الأنانية) وحب الذات أو حب البقاء، لأن أناساً من الخلق يجورون على أبدانهم وأذهانهم وهم يعملون لجمع الحطام؟ لماذا تكون الأسرة (غير طبيعية)، لأنها تسخر للمنفعة ولا تكون (الأنانية) غير طبيعية كذلك لأنها تسخر للمنفعة على هذا المنوال؟
إن حاجة النفس الإنسانية إلى وشائج الأسرة لم تبطل قط في مجتمع من المجتمعات، وإن آداب الاجتماع قد تفيد في إصلاح الأسرة أو وقايتها من عيوب الأفراد سواء كانوا من الآباء أو الأبناء. ولكن المجتمع لا يملك دليلاً واحداً يحوله إلغاء الأسرة - إن أراده - حتى لو صح أن المرجع إليه وحده في نشأة السرة وتتابع أطوارها، لأنه يقيس على غير شيء حين يقيس المستقبل على الماضي في هذه القضية، ويعتسف طريقاً جديداً لا مسوغ لاعتسافه من الطبيعة ولا من الاجتماع
ولست أعني بما تقدم أن كتاب الأستاذ عبد الواحد ينحو هذا النحو أو يفضي إلى هذه النتيجة، لأنه في الواقع لم يعد تقرير الحقائق الاجتماعية التي يحصلها أساطين هذا العلم ممن لا يدينون بالماركسية، ولعلهم ينكرونها إذا عرضوا لها بالبحث والمناقشة، ولكنني عنيت أن الكلام عن الأسرة في زماننا هذا خليق أن يقترن بالحذر والحيطة لئلا يؤخذ على غير مأخذه أو يعين على غير قصده. ولهذا رجعنا بنظام الأسرة إلى مرجعه من غرائز الحياة في أبسط الأحياء، ولم نشأ أن نقصر الحكم فيه على الاجتماع أو من يصطنعون الدعاية الاجتماعية، لأن الأمر أعظم وأبقى مما تتناوله المذاهب والدعوات
عباس محمود العقاد(621/4)
الحياة صادقة!
بين الصوفية البلهاء والمادية الصماء!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الاعتراف بما أخرجته الحياة - السبيل إلى تعديل المادية الصماء - المجال الخصيب للجهد البشري - قضية لا شك فيها - الفكر والعمل - موازنة - عوامل الحياة أمينة - كفاح الحياة لحفظ الأحياء - إشارات إلى المستقبل
كل ما تجده في الحياة يجب الاعتراف به وعدم إسقاطه من حسابنا. . . فإذا ثبت أنه ينمي عوامل الحياة، وأنه من وسائل تقدمها المادي والمعنوي، فهو إذا من عالم الخير والصلاح، ويجب الوقوف في صفه والدفاع عنه والإكثار منه. . . وإذا ثبت أنه من عوامل الإفناء والفساد، أو من معوقات تقدم الحياة، وسبب الوقوف في وجهه ومكافحته وإفناؤه.
وعلى هذا ينبغي ألا نثور على أي عامل من عوامل نمو الحياة وصلاحها، مهما بدا فيه تكليفاً مجهداً، كما ينبغي ألا نبقى على أي عامل من عوامل فساد الحياة، مهما بدا أن فيه لذة عاجلة.
ومصلحة الاجتماع البشري كله هي محور هذا؛ لأن حياة الاجتماع هي طريق الترقي والقدرة على تسخير عوامل الطبيعة. فلسنا نستطيع السير وراء النظريات التي تنظر إلى الأفراد كوحدات مستقلة عندما نتحدث عن الإنسانية العامة، بل لا نستطيع السير في هذا المقام وراء النظريات التي تنظر إلى الشعوب والأمم كوحدات مستقلة، وإنما نسير وراء النظرية التي ترى إنسانية واحدة أما طبيعة واحدة!
تلك أولى المقدمات في السبيل إلى إدراك صدق الحياة، وتصور ما بها تصوراً صحيحاً، وتصحيح عقائد الناس فيها، وحملهم على الكفاح لإسعاد أنفسهم في رحلتهم إلى الأرض أولاً، وإلى الملكوت الذي ينتظرهم بعدها ثانياً.
ولكن مع الأسف يحاول كثير من الأدباء والفلاسفة والصوفية أن يفروا من وجه الحياة وينطلقوا مما يسمونه سجونها وأقفاصها، ويقللوا من قيمة الجانب المادي فيها ويقللوا تبعاً لذلك من قيمة الجهد الصناعي الإنساني، ولا يعترفوا بالأجسام والشخوص والشكول الواضحة التي تملأ الحواس، وتشغل الوعي الذي وراءها، وتثير كفاية العمل إلى تقليدها(621/5)
ومحاكاة نماذجها. . . كأنهم لا يرضيهم إلا أن تكون الدنيا رموزاً مبهمة وأفكاراً طليقة غير محدودة ولا مبلورة. . .
إن المادة التي بها يضيقون ذرعاً، ويحاولون أن ينفلتوا من سجونها وأقفاصها خلق عجيب لا يليق بنا أن نزعم تفاهة اتصال النفس به وإعمال الفكر به. وإن أساطين العلم في حيرة من أمر نشوئها وتعدد عناصرها. وقد خلقنا فيها وصورنا منها، لندركها ونتعرف إليها ونتعجب. . .
إننا ندرك الله تعالى وقدرته وعلمه من عمله البديع في دولة الأجسام والأشكال. . . ولم يأخذنا جميعاً إليه بأي ليل إلا من الأدلة المبثوثة فيها أو المرتبطة بها. . .
إنها من نوعية أسراره، ومجلي أنواره التي يرسلها إلى عقولنا وقلوبنا حتى نهتدي إليه ونؤمن به من غير أن نراه.
فلماذا تلك الحملة عليها والإزراء بها والتهوين من شأنها؛ كأننا صرنا خالقين مبدعين قد أبدعنا شيئاً غيرها أو ظفرنا جميعاً بأمر عجيب خارج عن نطاقها!
قد يكون من المعقول أن نتطلع إلى القدرة التي أبدعت الطبيعة متلهفين إليها أن تطلعنا على عجائب ما لا نراه مثل ما أرتنا من هذا العجب الذي نراه؛ فإن هذا دليل على شدة الحساسية ويقظة الأشواق وحسن الإدراك والتقدير لتلك القدرة. . . ولكن ليس من المعقول أن نحقر ما نراه ونزري به ونزعم أنه تافه؛ فتنبو عنه حواسنا وعقولنا، ونبحث عما عداه من المخبوء، ونتطلع إلى ما وراءه مع أننا لم نفرغ من استيعابه وإدراك جميع أسراره.
ويحاول آخرون أن يفضلوا حياة الأقدمين الحالمين العجزة الجهلة على المحدثين القادرين، ما دامت الحياة الحاضرة قد جرت هذه المتاعب وهذه الضجة الآلية التي ملأت اليابس والماء والهواء فأقلقتهم. فمذهب هؤلاء وأولئك بالطبع غير ملائم لنمو الحياة وأطراد تقدمها، فيجب إهداره وعدم الالتفات إليه؛ لأنه مذهب فيه ارتداد وانتكاس وتشاؤم ومقاومة لدورة الفلك التي اعتقد أنها تجري بالناس إلى غاية صالحة لابد من الوصول إليها، لأن الله لم يخلق هذا العالم الإنساني لكي يضيعه أو يعوقه أو يفوت على نفسه الغاية من خلقه.
هو مذهب يحول بين معتنقيه وبين حياة القوة والسيادة على مرافق الطبيعة، وهي سيادة لا يظفر بها من اتصل بها اتصالاً وثيقاً وتعرف إلى الأسرار المكنونة فيها ولم يقف عند حد(621/6)
ما دامت الطبيعة تفتح له أبوابها وترفع أستارها. . .
ومع أن مذاهب الإزراء والتحقير للمادة وشئونها والتشاؤم والنظر إلى الوراء دائماً والانتقاض على الحاضر، لم تظفر في مرحلة من مراحل تاريخ الإنسانية، ومع أن الإنسانية لم تلتفت لقائليها أي التفات يبرز مضغ قضاياها وترديد دعواتها. . . نجد كثيرين من الدعاة الدينين والفلاسفة والشعراء يصرون على إحياء الدعوة إليها وتحكيمها في الحياة وإفهام الناس أن في الأخذ بها عقلاً وحكمة وإصابة لأهداف الحياة. . . واعتقادي أن أكثر الإخفاق في تعديل العقلية المادية الصماء وتقليل جشعها وتوسيع ضيقها راجع إلى هذه المغالاة من هؤلاء السادة في إهدار القيم المادية للحياة، وإلى مبالغتهم في تجريد الحياة الإنسانية من ملابسات المادة، وإلى افتراء أكثرهم في إلصاق مذهبهم هذا بالمسألة الدينية التعبدية التي هي لباب القلب البشري ومصباح العقل الإنساني. حتى لقد اعرض وأجفل كثير جداً من الناس من الإقبال على الله والاعتقاد به، وحاول كثير منهم أن يخفتوا صوته المجلجل في ضمائرهم ويتجنبوا التفكير فيه، حتى لا يحرمهم ذلك تذوق الحياة في دنياهم والعمل المادي فيها والإحساس بها والتمتع بطيباتها التي رأوا هؤلاء المتشائمين المحرومين يقبحونها وينفرون عنها، ويزعمون أنها عبث ومأساة وخديعة ومجلبة لسخط الله وخذلانه. . .
لقد ثبت أن المادة هي مجال عمل إنساني خصب ثابت دائم النفع للإنسانية جميعها، وأنها هي الشيء الوحيد الذي تلتقي فيه الإنسانية بأفكارها وأيديها، وترتفق منه مرافق نفعها جميعاً.
أما المذاهب والفلسفات النظرية فلم تلتق فيها للآن، فلا غرو إذا كان الإكثار منها والإسراف فيها مما يزيد الإنسانية افتراقاً وبلبلة وتقطع أمر.
وقد يجد أنصار الشك سبيلاً إلى كل قضية فكرية، ويستطيعون أن يلبسوا فيها حقاً بباطل، ويقيناً بشك، إلا قضية فكرية واحدة، هي قضية (تفوق) الإنسان واطراد تقدمه المادي المبني على أساس إدراكه أسراراً من الطبيعة. وهذا يجعلنا نتيجة إلى إعطاء هذا الجانب من حياته أعظم اهتمام، حتى نخترق به حجاباً وراء حجاب مما يدنينا من الراحة والسعادة والعلم بالأسرار؛ بل يجب أن نتخذ هذا الجانب العظيم في الإنسان أساساً للإيمان به(621/7)
وبصدق الحياة كما هي ثابتة في فكره العام. وإن هذا يعطي المثبتين لحقائق الأشياء حججاً دامغة، ويقضي على مذاهب السفسطة والتشكيك. بل متى اتخذ هذا الجانب العظيم أساساً للوحدة الإنسانية الشاملة التي طالما دعا إليها النظريون فلم يستمع إليهم إلا الأقلون؛ لأنهم اعتمدوا على نظريات تختلف باختلاف الأجناس والبقاع، وليست عامة يراها سكان الأرض جميعاً رؤية واحدة ويخضعون لنتائجها خضوعاً واحداً كما هو الحال في رؤيتهم وخضوعهم لنتائج الأبحاث الطبيعة ذات الآثار الواحدة في جميع الأمكنة والأزمان.
ولقد أثبتت سيادة الغرب على الشرق أن عالم القوة المادية هو أساس حياة الحق وعمادها، وأن الحق المجرد لا يعدو أن يكون فكرة فاكر، أو حلم حالم، ما لم تبرزه القوة المادية وتجسمه في أشخاص وآلات.
وبعد أن رأينا مردة الجو والبحر والبر يقذفون القنابل مصارع لراهبات الكنائس، وأطفال المدارس، وعجائز المنازل، وغير هؤلاء من عباد السلام والحق والرحمة: كيف يصح لنا أن نقول إن هناك حقاً يدافع وحده عن نفسه أمام باطل مدرع ببأسه؟!
وبعد أن رأينا أمماً كأمم الهند وشمال أفريقية تعبد الله بالأقوال والأشعار، وتسبح بحمد الحق ليل نهار منذ مئات السنين، يحمها ذلك أمام سيادة القوة وجبروتها؟!
إننا لم نجد غير الأقوياء بالقوة المادية مضطلعين بأعباء الحياة الاجتماعية، فهم أسرع الذين يؤثرون في الأخلاق وفي سير الحياة، ومن عداهم فلا تأثير لهم في مجرى الحياة إلا بمقدار ما تسمح القوة المادية بدراسة آرائهم ومذاهبهم. فلو أن ذوي الأفكار العليا والأخلاق الكاملة التمسوا القوة المادية كالتماسهم الحق، وأثروا بها في مجرى حياة الجماهير، إذا ما وجدنا هذا التخلف الفظيع بين حياة الفكر والخلق وحياة الواقع.
مهما صفا الفكر وامتلأ بالخواطر الراجحة الكريمة فلن يجدي المجتمع جدوى واسعة متعدية، إلا إذا عاونته اليد بوسائل تنفيذ ما يمتلئ به.
ومها امتلأت المعابد فلن يجدي امتلاؤها الحياة شيئاً، إلا إذا امتلأت الشوارع والمعامل والأسواق والحقول والجيوش بمن ينفذ روح العبادة في هذه المجالات.
كل فكرة معرضة للفناء السريع، أو للركود والدفن في الصحف، إذا لم يسعفها التجسيم والتشكيل والتطبيق.(621/8)
والفكرة إذا جسمت في قالب دخلت باب الوجود الحسي، وصارت محلاً للتحسين والنمو والتجميل ممن يأتي بعد صاحبها الأول. أما إذا تركت حيث انبثقت فهي كائن موقوت من عالم الأطياف!
فيا رجال التصوف والشعر من كل جنس! لا تحاولوا أن تصرفوا الناس عن حياتهم المادية، فقد صارت جميلة معقدة منوعة مغرية ذات قيمة كبيرة وسلطان على النفوس؛ وحاولوا أن تفهموا أنتم وأن تفهموا الناس أن الدين جزء من الحياة، وليس منفصلاً عنها إلا في جزاءاته الموعودة في المصير الآجل المحتوم.
ومن السهل إفهام الناس ذلك في هذا العصر الذي اتسعت فيه أدوات الإقناع والتأثير.
اجعلوه امتدادا لأحلام الناس في السعادة والجمال الذي يفتهم من دنياهم، ولا تجعلوه حرماناً وخواطر وضعف تشاؤم وبكاء.
اجعلوا الأخرى صورة كاملة مضخمة دائمة من هذه الدار الناقصة الفانية
ومن السهل أن تجدوا من منطق العقل ومنطق الوجدان ومنطق القدرة العملية للإنسان حججاً للإقناع. . .
أيهما أوقع في النفس وأشد إثارة لابتهاجها بالحياة؛ وأدعى إلى الفرح بالإنسانية: أن نظهر الوحدات الإنسانية في حشود استعراضاتها النظمية والرياضية، ومواكبها الفنية التي تظهر جمال أجسامها وإشراق ديباجة الحياة بها. . . أم أن نظهرها في أفراد منثورة وزمر مبعثرة من الفقراء الضعاف العجزة الجهلاء المهزولين المكتئبين المتشائمين، الذين يقتلهم الصمت والعزلة والوحشة، قد طمست نظرة الحياة في وجوههم، وانطفأ نورها من عيونهم، وخمدت شعلتها في قلوبهم، وتعطلت أيهم من العمل، وأذهانهم من العلم فليس لهم مهارة في مهنة، أو أثاره من علوم الدنيا؟
لاشك أن رؤية استعراض عسكري أو نظامي أو رياضي كاف أن يقذف في قلوب المتشائمين شعلاً وشحناً كهربائية تردهم إلى الفرح بالحياة والحماس لها، وللمعيشة بالأجسام عيشة رحبة، إن كانوا ذوي طبع سليم يستجيب لعوامل الحياة.
أننا نستطيع أن نقول: أن أجسام الإنسانية ما هي إلا نبات، كماله وظهور أسراره والابتهاج به يكون عن طريق تصحيح أعواده وتقويتها وتجميلها إلى آخر حدود الصحة والجمال.(621/9)
وإذا تفتحت أجسامنا في صحة وقوة وجمال كما تتفتح الأزهار وتنضج الثمار، حملنا ذلك على أن نحب الحياة وتحبنا، مادمنا قد جعلنا عقولنا وقلوبنا كمناطق النمو التي في النبات، محفوظة من الآفات وعوامل الفساد. وإن كل تنظيم جسمي ومادي مما يكون في ذات الإنسان أو في مرافق حياته يزيد في ثقة الإنسانية بنفسها، ويوضح أسرارها، ويجلو امتيازها على غيرها.
وقد تدخلت يد الإنسان في نبات الحقول، ووزعت البذور بحيث ينال كل منها حظه وحقه من الماء والهواء والضوء، وتنبت أعواده متباعداً بعضها عن بعض بدون احتكاك وطغيان، وسهرت عينه عليها فحرستها من الآفات والجراثيم الضارة، فخرجت أعواده وأوراقه وثماره مخضلة وارفة راقصة، تعطي الأرض الجمال والنماء وسداد الاحتياجات.
وكذلك فعلت مع الحيوان، فأحسنت نسله وتخيرته ومنعت طغيان بعضه على بعضه؛ وروضته واستأنسته حتى صار منظره في المراعي والحظائر كذلك يعطي الأرض جمالاً ورواء ومنافع.
فما بال يد الإنسان لا تتدخل في مناطق نمو النفوس والأجسام الإنسانية بالتعليم والتهذيب والترتيب والتجميل، بل تركتها تنمو نمواً (شيطانياً) متطاغياً؟
ولقد أرى الوجه المشوه الأكمه المجدور القبيح المركب على جسم مهزول، والحامل للسان قذر وعقل ممسوخ، فأقول: هل يجوز أن تخرج ثمرة بطبيعتها إلى الحياة هذا الخروج؟! أم أن هناك اعتداء على عوامل التكوين والتجميل التي تولت إخراج هذه الثمرة منع عنها الصحة والجمال؟!
إنه اعتداء مسلسل في الأنسال المنحدرة في أجيال الجهالة والضلال. . .
فاسألوا الأمراض الخبيثة الوراثية، وسلوا الأغذية السامة، وسلوا الإهمال الشائن للأبوة والأمومة؛ ولا تتهموا عوامل التكوين الأمينة الدقيقة.
إن كفاح الحيلة الإنسانية في سبيل حفظ ذاتها كفاح هائل! فبرغم عوامل الفناء والدمار قد كثر عدد الإنسانية كثرة غصت بها أكثر بقاع الأرض خصوبة، وضوعف عدد كل أمة أضعافاً مضاعفة، وصارت مجموعات الناس وتشكيلاتهم أمراً لا يقاس به ما كان لهم في القديم. وهذا مما يدل على أن شجرة الحياة الإنسانية وفصائلها خلقت للنمو والصحة والقوة(621/10)
والإنتاج، وملء المسرح الأرضي الذي قدر عليها أن تمثل دوراً فيه.
فنمو العدد، ونمو صحة الأجسام، ونمو العلوم، ونمو الاختبارات والتجارب. . . كل أولئك إشارات بليغة من حياة صادقة إلى مستقبل سعيد لهذا النوع الذي لما يعرف أسراره بعد!. . .
عبد المنعم خلاف(621/11)
البحث العلمي أصوله وآدابه
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
غريزة البحث
غرض كل حي المحافظة على نوعه ونشره في الأرض. فيستعين الحيوان على اختلاف أنواعه لبلوغ هذه الغاية بغريزة البحث وحب الاستطلاع. فالحيوان ومعه الإنسان يولد جاهلاً بما حوله من البيئة لا يعرف عنها شيئاً، فيأخذ من وقت ولادته العلم عن كبرائه ويستمر طول حياته في التحصيل مدوناً في مخه مشاهداته واختباراته مستنتجاً من نتائج تأثيرها عليه ما يساعده في منع الضرر عن نفسه وما يعود عليه بالنفع.
ولما كان الإنسان يمتاز بعقله عن غيره من أنواع الحيوان فإنه يدأب في تعرف أسرار ما يصادفه في حياته بقدر طاقة عقله البشري. ويلقن خبرته وما كشفه من أسرار الطبيعة لسلالته لتتوفر لهم وسائل الحياة ولترتقي معيشتهم.
فالبحث إذن هو القوة الدافعة للإنسان على اختلاف أجناسه لكشف أسرار ما حوله فيضع مشاهداته موضع التجربة لكي يصل إلى نتيجة عملية نافعة. ولولا البحث لما قهر الإنسان الطبيعة وسخرها لخدمته ولما وصل إلى ما هو عليه من الرقي. ومن الخطأ أن يعتبر البحث حرفة أو صناعة يختص بها أفراد دون آخرين.
فهو مشاع لكل مخلوق يريد الحياة، فكل إنسان بحاث في حرفته، ولكل حرفة بحوثها، فما تقدمت الحرف والصناعات إلا بسلسلة متواصلة من التجارب تناقل نتائجها الخلف عن السلف فنشأت العلوم وتنوعت أبوابها بتراكم خبرة بني الإنسان.
توزيع العمل والتخصص
كلما تقدم الحيوان في مراتب الحياة الاجتماعية ينزع بغريزته إلى توزيع الأعمال وتخصيص الأفراد كل في عمل خاص إتقاناً له وتسهيلاً لحياة المجموع. فالتخصص إذن ظاهرة طبيعية تشاهد في شتى أنواع الحيوان. فنراها واضحة جلية في الحشرات الاجتماعية كالزنابير والنحل والنمل والأرضة. ونراها في أكمل صورها في الإنسان؛ لأنه بطبيعته مدفوع إلى التخصص لما اتضح له بالتجربة من امتياز بعض الأفراد دون غيرهم(621/12)
بإتقان نوع خاص من العمل يميلون بطبعهم إليه. فإذا وزع كل عمل على من يتقنه أدى ذلك إلى سرعة إنجاز الأعمال وإتقانها والاقتصاد في نفقاتها.
والتخصص في الأعمال موجود حتى في أحط الشعوب دركة في المدينة. فنرى في الجماعات التي تعيش على الفطرة أفراداً يبرعون في اقتفاء أثر الفريسة فيسترشد بهم قومهم في الصيد، كما أن منهم من يتخصص في الريافة وهو علم استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده فيعرفون دون سواهم بعد الماء وقربه من لون التربة وشكل سطحها ورائحة ترابها وبما ينمو فيها من النباتات الخاصة وبحركة الحيوانات التي تعيش في باطنها. كما أن منهم من يتخصص في معرفة فوائد الأعشاب فيبرعون في استعمالها لمعالجة قومهم، وهكذا يتدرج الإنسان في التخصص ويبرع فيه كلما ارتفعت مرتبته في المدينة. فنشأ عن تراكم الخبرة أن وضعت أسس العلوم ونظمت فروعها إلى أن أصبحت كما نراها اليوم.
بدأت العلوم نظرية، وذلك أن ذوي العقول الممتازة من بني الإنسان فكروا فيما حولهم من دقائق الكون مدفوعين بقوة عقلهم وصفاء روحهم وعمق تفكيرهم، فاجتهدوا في حل أسرارها عن طريق المشاهدة والاستنتاج المنطقي المؤيد في كثير من الحالات بتجارب عملية تؤيد صدقها. وبهذه الوسيلة وضع علماء الأمم السالفة من مصريين وبابليين وهنود وصينيين وإغريق ورومان وعرب وغيرهم الحجر الذي أسست عليه العلوم الحديثة.
فالعلوم السماوية والفلسفية هي أول ما شغل عقول البشر.
أما العلوم المادية الحديثة فلم تصل إلى حالتها من التقدم إلا بعد مشاهدات ودراسات وتجارب بنيت على أسس علمية وقواعد منظمة قام بها عدد عظيم من الباحثين المدربين على أسس البحث السليمة في جو يضمن لهم مطلق الحرية في إدارة بحوثهم من غير أن يتأثروا بالمؤثرات الخارجية التي تعطل سير تفكيرهم وقيامهم بحل ما يطلب منهم من المسائل مستعينين برؤساء متيني الخلق مجردين عن الأهواء والأغراض المفسدة للنفوس. لا هم لهم سوى الوصول إلى الحقيقة المجردة لخير بني وطنهم خاصة والإنسانية عامة
والواقع أن المدنية الغربية الحديثة لم تصل إلى ذروتها المعروفة إلا بفضل من كونهم من جيوش البحاثين في العلوم الطبيعية والكيميائية والطبية والبيولوجية والهندسية وغيرها.(621/13)
وقد أخذت فرق هذه الجيوش تزداد بتشعب العلوم وتقدمها إلى أن عمت كل مرافق الحياة الحديثة، فأصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة معاهد للبحث خاصة بها ومؤتمرات دولية يعقدها أفرادها لمناقشة دراساتهم ونتائج بحوثهم، فأصبح كل مصنع من المصانع الحديثة مزوداً بمعهد للأبحاث كامل العدة يقوم فيه اختصاصيون يجرون البحوث للتوصل إلى رقي هذه الصناعة وتقدمها تقدماً يضمن للمصنع خاصة وللبلاد عامة التفوق في جودة منتجاته وسرعة إنتاجها مع رخص ثمنها وذلك لكسب معركة التنافس. وهم ينشرون نتيجة بحوثهم في نشرات ومجلات علمية تتناول في جميع أصقاع الأرض. ومن أمثلة ذلك معاهد البحوث الخاصة بصناعة البيرة والشوكولاته والخبز والصناعات الزراعية على اختلافها كحفظ الخضر والفاكهة واللحوم والألبان ومشتقاتها بالوسائل المختلفة التي من أحدثها التجفيف. ناهيك عن معاهد البحوث في كافة صناعات التعدين والآلات وغيرها وبناء المساكن الحديثة والطائرات والسيارات وكل ما يؤدي إلى رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته.
ونتج عن التخصص في البحوث أن أصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة اختصاصيون ترجع إليهم الحكومات والهيئات في حل مشاكل الحياة الحديثة وتعتمد عليهم في تسيير دولاب أعمالها.
الشروط الواجب توفرها في الباحثين
يجب لكي تنجح البحوث وتأتي بثمارها المطلوبة أن يقوم بها أناس يتوفر فيهم: حسن الخلق، وغزارة المادة العلمية، وقوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج، والقدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص نتائجها، والقدرة على ترتيب النتائج وإعدادها للنشر، وحسن علاقة رؤساء البحوث بمرؤوسيهم.
أما حسن الخلق فأن كتب العرب تفيض ببحار من آداب البحث وشروطه، والواجب علينا أن نعمل بها ونسير على منهاجها؛ لأن البحث أمانة في عنق الباحث هو مسئول عنها أمام ربه وضميره. لذلك يجب عليه أن يكون متفرغاً بقلبه لبحثه غير ملتفت إلى سواه، وأن يكون محباً للعلم صدوقاً منصفاً بالطبع متصفاً أكثر من غيره بالفضيلة والصدق والأمانة في أقواله وأعماله، لأن فضيحة البحاث إن هوى عظيمة وسقطته إن كبا مميتة، فالحق لابد(621/14)
أن يظهر ولو بعد حين.
ويجب ألا يكون الباحث فضاً سيئ الخلق بل يكون كريم النفس سمحاً يرحم من دونه في المرتبة ويحترم كباره وأساتذته وذوي النصح له لأن قدره من قدرهم.
ويجب ألا يهاب تجشم المشاق في أبحاثه وألا يستهين بآراء غيره ومعلوماتهم مهما انخفضت مرتبتهم عنه فلكل فرد نصيبه من خبرة الحياة. وقد يستفيد أعلم العلماء من أقل الناس علماً.
ومن الأمانة ألا يغمط حق من سلفه في البحث وأن يعترف بفضلهم مهما قل أو ضؤل. وليتخذ التواضع في أقواله ومناقشاته ومناظراته ديدنا له فيحترم رأي مناظريه ولو كانوا بعيدين عن الصواب. وليعمل بقول الفيلسوف المصري القديم (بتاح حتب): - لا تكن فخوراً بعلمك، وأعط الجاهل والعالم قسطاً متساوياً من الاحترام.
والواجب على البحاث أن يكون صريحاً في كل أقواله وكتاباته غير هياب في الحق فلا يخشى المجاهرة برأيه ولو كانت نتائجه غير متفقة مع نتائج زملائه الذين يشتغلون في نفس موضوعه؛ فإن الحقيقة لا يحجبها مثل الجبن في الدفاع عنها ونشرها بين الناس وهي بنت البحث لا وصول إليها إلا بالمناقشة والمناظرة.
وينبغي ألا يخالف قوله فعله فلو كذب مقاله حاله ينفر الناس منه ولا يسترشدون به، لأن المقلد ينظر دائماً إلى حال المرشد وينبغي على الباحث أن يكظم غيظه ولا يخلط جده بهزله ولا ييأس إذا لم يقبل قوله وأن يكون مثالاً حسناً لزملائه ومرؤوسيه في الخشية والشفقة والإحتمال والحلم والصبر والتواضع وعفة اللسان واليد والاشتغال بمصالح عمله وإفادة الغير بعلمه وخبرته دون انتظار شكر أو جزاء.
وليعلم الباحث أن من وضاعة الخلق وضعف النفس أن ينشر بحثاً يبنيه على آراء ونتائج أسرها إليه أحد زملائه أو حصل بطريقة غير شريفة كاستراق سمعه لمناقشة، أو أن ينقل إليه ناقل تفاصيل تجربة رآها، فإن نشر وجب عليه أن يعنعن أي يذكر من أخذ عنه. وليجعل الباحث لنفسه في نظر نفسه قيمة قبل أن يكون لعمله قيمة، فاحترام المرء نفسه يوجب احترام الناس له. وليربط لسانه عن التفوه بنتائج بحوثه لمن يشتغل في نفس موضوعه قبل نشرها لأن ذلك يحفظ له حق الأولوية ويقلل من سوء التفاهم الناشئ عن(621/15)
التنافس الطبيعي بين أفراد المهنة الواحدة، وليس ذلك معناه ألا يساعد زملاءه فيما يطلبونه منه، كلا بل الواجب عليه أن يكون كريماً. فإن كشف في بحثه نقطة تخص أحدهم فليبادر باطلاعه عليها لأن التعاون من روح البحث. وإن عثر على كتب أو نشرات تفيد أحدهم وجب إرسالها إليه لأن ذلك يبعث على توثق العلاقة ومحو التنافر وغرس المحبة والوئام بين أفراد يجب أن يكونوا أدعى الناس إلى التضامن في خدمة العلم والإنسانية.
وواجب البحاث لا يضايق إخوانه ولا يزعجهم بكثرة الأسئلة، لا يلح عليهم في الإطلاع على نتائج بحوثهم قبل نشرها، ولا يخشى الاعتراف بالخطأ فأن ذلك يقربه من الحقيقة، ولا بالضعف لأن ذلك يزيده قوة.
وعليه أن يجعل الأمانة والصدق وسيلة لبلوغ أغراضه فإن الغش والتدليس وطبخ النتائج والتهريج العلمي كلها عوامل تؤدي إن آجلا أو عاجلاً إلى موت أدبي محقق. فما التهريج إلا آلة الجهلاء وصناعة الضعفاء وهو آفة من الآفات التي تنخر في عظام الأمم التي لم تضرب بسهم وافر في المدينة الحديثة. فتراها متفشية في شتى المهن والحرف والصناعات دون زاجر نفسي أو قانوني وواجب الحكومات أن تعمد بشتى الوسائل لمحاربة هؤلاء الأدعياء الذين كثيراً ما يحتمون بمؤهلاتهم وألقابهم الضخمة فيسيئون إلى العلم والعلماء.
ولعل أحسن نصيحة للباحثين هي التي ألقاها البروفسور الروسي إيفان بافلوف مخاطباً الشباب الجامعي السوفيتي إذ قال:
(يجب عليكم أن تنموا ملكة النظام في عملكم لأن النظام في عملكم من أهم العوامل في الأبحاث العلمية؛ لذلك ينبغي عليكم أن تعودوا أنفسكم من مبدأ دراساتكم على جمع معلوماتكم بطريقة متتابعة منظمة. والواجب عليكم أن تتعلموا أبجدية العلوم قبل أن تتسلقوا جبالها فلا تقصدوا فعل شيء إلا بعد أن تمهروا في أداء ما يسبقه من الأعمال. والواجب ألا تخفوا نقص معلوماتكم بالتخمين والظنون والنظريات الجريئة، ويجب أن تدربوا أنفسكم على رباطة الجأش وحكم النفس والصبر والقيام بالأعمال العلمية الشاقة المضنية، فادرسوا وقارنوا وأجمعوا الحقائق؛ فالحقائق هي الهواء الذي بدونه لا يعيش العلم ولا يتسنى الوصول إلى حل المشكلات العلمية.
فبدون الحقائق تصبح نظرياتكم مجهوداً ضائعاً. ولكن ينبغي عليكم ألا تقنعوا بالحقائق(621/16)
وحدها في دراساتكم وتجاربكم ومشاهداتكم، بل يتحتم عليكم التعمق للوصول إلى أصول هذه الحقائق ومعرفة النواميس التي تسيطر عليها وتتحكم فيها.
والواجب أن تكونوا متواضعين لا يأخذكم الغرور فتظنون أنكم تعرفون كل شيء. فيجب عليكم أن تقولوا دائماً (نحن جهلاء) مهما ازداد مدح الناس لكم. فلا تكونوا عبيداً أذلاء للغرور. والصلف يجعلكم عنيدين بدلاً من أن تكونوا مرنين. ويجعلكم ترفضون النصح الصادق وتفقدون الهداية إلى الطريق المستقيم والغرض المنشود. والواجب أن يكون المشتغلون بالبحوث العلمية كخلايا الجسم تعمل منسجمة متعاونة مع بعضها البعض كل يؤدي وظيفته وعمله الخاص بمعاونة الآخرين للوصول إلى النتيجة المنشودة فالأنانية هي ألد أعداء العلم والعلماء.
والواجب عليكم أن تعلموا أن العلم يتطلب من طالبه أن يقصر عليه حياته ويتفانى في حبه. فالعلم شره لا يقنع بغير المجهود الجبار فكونوا متوقدين في حبكم له.
والواجب أن تكون العلوم مغروسة في دم أبناء الأمة لأنها هي سلاحها التي نحافظ بها على كيانها)
(لها بقية)
الدكتور مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية(621/17)
صفحة من تاريخ الاستكشاف:
فيتوس بيرنج
للأستاذ محمود عزت عرفة
بقية المنشور في العدد الماضي
الرحلة الثانية والأخيرة:
أمدت كترينا بيرنج بستمائة من الرجال بينهم لفيف من العلماء الأكفاء ذوي التخصص، وبمحمول تسع مركبات ضخمة من الأجهزة العلمية الهامة، بينها بعض المناظير المكبرة التي يبلغ طول واحدها خمس عشرة قدماً. وصحت نية بيرنج على ابتيناء ثلاث سفن إحداها لكشف اليابان، والأخريان للبحث عن أمريكا. وقد تكررت في الرحلة الثانية متاعب السفر الأول ومشقاته، وإن كان بيرنج قد حاول تخفيف ذلك بإنشاء مصهر للحديد في ياكتسك يستعين به على تجهيز سفنه وتيسير إعدادها.
وانطوت ثلاثة أعوام قبل أن تبحر السفينتان الأوليان، وكانت مخازن الذخيرة ومراكز التموين قد أنشئت على امتداد الطريق البرية. وفي عام 1736 م تناهي الأنباء بأن الجليد قد حصر إحدى الفرق المتقدمة، وأن أفرادها يهلكون جوعاً وبرداً. وبادر بيرنج بإرسال النجدات الممكنة، ولكن لم له أن ينقذ من أفراد الفرقة البالغ عددهم ستين رجلاً أكثر من ثمانية. .
وبالرغم من هذه العوائق الموبقة تمكن سبانجنرج - وكان قد عهد إليه أمر البحث عن اليابان - من استكشاف جزائر كوريل وتصوير سواحلها. وكان بهذا قد بلغ اليابان حقيقة، ولكنه لم يجد - ويا للأسف - من يصدق منه هذه الدعوى!
وشحت الأقوات لدى البعث حتى لم يجد بيرنج بداً من استجلاب المزيد منها من بطرسبرج على مسافة ألف ميل عبر اليابسة ذهاباً ومثلها إياباً، يضاف إلى ذلك عبور بحر كامتشاتكا إلى حيث تقوم السفن بعملياتها الاستكشافية.
وأنشأ بيرنج سفينتان أخريين ليقودهما بنفسه بحثاً عن أمريكا ثم انطلق بهما عبر المحيط يناضل نضاله الأخير. وكان ذلك في شهر يونية من عام 1741، أي بعد انطواء أكثر من(621/18)
سبعة أعوام على خروجه الثاني من بطرسبرج.
وقد خلد بيرنج ذكر سفينتيه سنت بيتر وسنت بول حين صاغ من اسميهما علماً للمدينة الجديدة التي أنشأها في كامتشاتكا ودعاها بتروبافلوفسك.
وكانت بسنت بيتر تقل سبعين رجلاً على رأسهم بيرنج، وفيهم العلامة الطبيعي المشهور جورج وليم ستللار وحملت السفينة الثانية ست وسبعين رجلاً. ثم انطلقت السفينتان صوب الشمال فيما يعرف اليوم باسم بحر بيرنج، وكان من شاطئ آسيا الشرقي إلى ميسرة القوم وإن لم يكن منهم بمرأى، وانقضت ثمانية أيام استدار بعدها بيرنج نحو الشرق، وسرعان ما هبت قواصف المحيط في عنف ففرقت ما بين السفينتين. ومضت سنت بول في تيه فسيح من البحر الخضم؛ فاضطر بيرنج كي لا يفقدها أن يتحرك في دائرة منداحة طيلة شهر كامل. ولكن لم يقدر مع ذلك أن يلتقي بها مرة أخرى. . . لقد فقدها إلى الأبد.
على أن بيرنج رأى عرضاً هدفه المقصود - أمريكا - حين كان يجد في البحث عن سنت بول، وكان ذلك في التاسع عشر من يولية سنة 1741؛ وبهذا تحقق الحلم الذي كان يتراءى له ويضنيه تحقيقه مدة ستة عشر عاماً.
وكان أول ما بدا له من أرض القارة الجديدة جبل شامخ البناء رفيع السمك أسماه (سنت إيليا). . . إذ كان بيرنج رجلاً تقياً متديناً كأكثر أولئك المغامرين البواسل من أبطال التاريخ.
حقائق جغرافية:
لزم بيرنج ساحل القارة الجديدة ستة أسابيع على أمل أن يلتقي بالسفينة المفقودة؛ وكان بجولته هذه قد عبر المضيق المعروف باسمه ورأى رأى العين كيف تنتهي آسيا وتبدأ أمريكا.
ويبلغ عرض هذا المضيق في أضيق أجزائه ستة وثلاثين ميلاً وهو مرصع الصفحة بعدد من الجزائر يقوم سكانها منذ كانوا بمهمة الربط بين القارتين عن طريق التجارة وتبادل السلع.
والحق أن بيرنج كان قد بلغ موضعاً من الأرض ينطق بأروع ما تتكشف عنه غرائب الطبيعة. . . فثمة تبدو مظاهر الانخساف الهائل في اليابسة بكيفية نشأ عنها انهيار تلك(621/19)
القنطرة التي كانت تصل في يوم ما بين العالمين القديم والجديد؛ وثمة كان يمتد الطريق التاريخ الذي اجتازته طوائف البشر والحيوان قديماً منتقلة من آسيا إلى أمريكا، وهو الطريق الذي يعلل وجودُه نشوءَ الأمريكيين كسليلين لجديهما المهاجرين من العالم القديم، والذي مكُّن كذلك للجمل الأسيوي القديم من أن ينشئ حفدته على سفوح جبال أمريكا باسم. . .
ويقول العارفون من علماء الجغرافيا إن جو هذه المناطق كان استوائياً شديد الحرارة في الزمن القديم؛ وهم قد وجدوا تأييداً لدعواهم - في أكثر الجزائر التي أرسى عليها بيرنج - عظاماً نخرة وبقايا هياكل مطمورة لحيوان الماموث والكركدن والخرتيت والنمر والوعل وغيرها من تلك الأحياء التي لا تألف اليوم إلا أشد الأقاليم حرارة. . .
وكان من غريب ما جرى لبيرنج أن انقطعت أخبار الرواد الأوائل العشرة الذين أرسلهم ليستطلعوا طِلع العالم الجديد، وكذلك كان مصير الأربعة الآخرين الذي تعقبوهم باحثين عنهم!
خاتمة بيرنج:
زحف الشتاء بخيله ورجله فلم يجد بيرنج بدأ من أن يهُرع إلى الجنوب الغربي ناجياً بنفسه من ويلاته. وهبت قواصف المحيط من شدة وعنف ولجَّت في العبث بالسفينة حتى أضلتها الطريق سبعة عشر يوماً. وقد دهم هذا الزمهرير القوم ودهم بين سماء وماء يتلمسون عبثاً طريقهم إلى ساحل كامتشاتكا؛ وكانت أبدانهم قد نحلت وضوت من سوء التغذية ففشا بينهم داء (الأسكربوط). وأنفقوا أياماً طويلة في أحضان المحيط وهم يتخبطون بين منهال الجليد ومنهل المطر، في حين كان الثلج المتساقط من أمراس السفينة يرض أجسامهم ويكاد يفضخ منهم الرءوس. وازدادت الأطعمة شحاً في مقدارها وقلة في غنائها حتى نهكت القومَ الأدواء، وعلَّ الموت فيهم ونهِل.
وقد شلت ساقا النوتي على سكان السفينة، وبدأ أكثر البحارة يعجزون عن الاضطلاع بأعباء عملهم يوماً بعد يوم. وكان من سخرية القدر أن يعجز الرجل الذي استكشف قارة بأكملها عن أن يجد ذراعاً من الأرض يريح فوقها أجساد رجاله المتهالكين. . .
وكان بيرنج شديد المنة قوى الاحتمال، ولكن مسَّا من داء (الأسكربوط) أطاف به كصخبه(621/20)
فتركه عليلاً لا يقدر على شيء. وثارت بالسفينة عواصف هوج كادت تحطمها على نواتىء بعض الصخور، حطما، ثم دفعت بها نحو مجموعة من الرضام حتى استقرت دون كبير أذى في أحضان بحيرة ضحلة من الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة بيرنج. وكان مجرد بروز القوم من غرفهم الخانقة الهواء كافياً لإزهاق أرواحهم على ظهر السفينة بتأثير البرودة القاسية. وقد اشتدت وطأة العلة على بيرنج فأضجعوه في فرائه، ثم احتملوه إلى قرموص أعدوه له على الشاطئ وهيئوا له منه شبه بيت مسقوف. ولاذ سائر البحارة بمواضع أخرى من الرمال احتفروها لأنفسهم. وهكذا نجا أكثرهم من الهلاك ثم عادوا بعد عام إلى أوطانهم على ظهر سفينة جديدة اصطنعوها من أنقاض (سنت بير) - أما بيرنج فقد كان يحتث الخطى نحو مصيره المحتوم. . . كان يموت! ولم يقد له، فوق هذا، أن يودَع حياته في جو من الهدوء والسلام إذ كانت قطعان من الثعالب القطبية تغير على المعسكر، وتنغص على القوم عيشهم بما تسلبهم من رمام موتاهم وطعام أحيائهم.
ورقد بيرنج مطموراً نصف جسده في الرمال؛ وكان يزعم أن هذا مما يخفف وطأة البرد عنه. والحق أن رجاله قاموا بأكثر مما في طوقهم لإنقاذ وتخفيف ألمه؛ وكان الطعام الطازج موفوراً لديهم بما يصطادونه من حيتان البحر وبقرة وكلابه وسائر أصناف سمكه، ولكن الرجل كان خالفاً لا يتشهى الطعام، ثم أصيب من الوهن بما عجز معه عن ازدراد لقيمة تقيم أوده! وكان لا ينفك يهيل على بدنه كثباناً من الرمل ويزداد غوصاً يف أعماق حفرته كل يوم، كأنما هو يقبر نفسه حياً. وفي صبيحة يوم مقرور ألفاه صحبة غائصاً في الرمل إلى ذقنه وقد اسلم الأنفاس. وهكذا مات بيرنج الرحالة المجاهد. . . ولكن بعد أن أنجز مهمته الخطيرة وشهد انتصاره بعيني رأسه.
بيرنج بعد موته:
كانت حوادث هذه الرحلة من الغرابة بحيث استحال على الكثيرين تصديقها. . . حتى جاء الرحالة الإنجليزي المشهور (كابتن جيمس كوك) فأزال قناع الريبة فيها عن وجه اليقين. وقد جاس في رحلته خلال مضيق بيرنج، وفحص الخرائط التي تركها الرحالة الذاهب، فتبين له مبلغ دقتها، وأمانته في تخطيطها. وهكذا اتضح للعالم أجمع المهمة التي اضطلع بها هذا المستكشف الدنمركي الجريء الذي لم يقابَل بغير السخرية والتكذيب من رجال(621/21)
عصره الجاثمين خلف جدران بيوتهم لا يعلمون ولا يدعون لغيرهم أن يعمل. وقد أقيم لبيرنج نصب تذكاري رائع في مدينة (بتروبافلوفسك) التي يرجع إليهفضل إنشائها، على أن ذكراه الحقة إنما تخلدت في الجزيرة والمضيق والبحر اللائى سُمَّين باسمه جميعاً.
ولم يكد ينقضي جيل على وفاة بيرنج حتى نهضت أعظم تجارة للفراء عبر المياه التي ذلل للعام سبيلها ومهد مسالكها. واكتسى ملوك أوربا وملكاتها وسائر أهل النبالة والثراء فيها من هذا الفراء الغوالي التي ترد عن طريق بحارٍ موخشة مقرورة جاد فيتوس بيرنج بحياته، غير ضنين، في سبيل أن يقرب قواصيها ويملك الناس نواصيها. .
(قوص)
محمود عزت عرفه(621/22)
الأدب العصري في الجنوب الغربي لشبه جزيرة
العرب
للدكتور ر. ب. سارجنت
بقية المنشور في العدد الماضي
حضرموت:
لقد تأثرت الحياة السياسية والثقافية لحضرموت، في خلال عدة قرون على أقل تقدير، تأثيراً عميقاً بما طبعتها به عدة أسرات شهيرة من السادة نذكر من بينها الأسماء القليلة الآتية: السقاف، وعيدروس، وبا فقيه، وبا علوي. وفي القرن الحادي عشر الهجري أخرجت أسرة السقاف التي كان مقرها في ذلك العهد غالباً في تريم وابلا من الأدب الصوفي، وطبعاً أخرجت الأسرات الأخرى كذلك مجموعة غير صغيرة من المؤلفات الصوفية. وقد طبع من مؤلفات السقافين عدد ما في خلال القرن الماضي. ولم يقتصر نفوذ السقافين على كليتهم أو مدرستهم التي كانت في تريم بل كانت لهم كذلك صلة بضريح عينات المشهور، الذي تظهر صورته على طوابع البريد الحضرمية، وكان نفوذهم وعلاقاتهم تمتد في ذلك الحين - كما تمتد اليوم - إلى أفريقية الشرقية وإلى الهند ولا سيما أحمد آباد؛ بل ربما كانت لهم علاقات بالجاليات العربية في جزر الهند الشرقية. ومن المعلوم لنا أن الأسرة كانت مزدهرة منذ عهد يرجع على أقل تقدير إلى القرن التاسع، ومن عجيب ما يروى أنه هناك شخص سمي حسين بن أبي بكر السقاف أنكر على تدخين التبغ الذي كان يباع في جزيرة العرب في سنة 1012 هجرية، وقد نجح في الحصول على حظر بيعه العلني في الأسواق! وأشتهر السقافون بأنهم صوفيون غيورون، وارتحلوا في بقاع الأرض برسالتهم الصوفية، وتقبلوا العباءة الصوفية من أعضاء الجمعيات الصوفية الأخرى.
ومن ثم لم يكن غريباً أن يكون اليوم للحضرميين حي يقطنون به في القاهرة، بناحية الجمالية، على مقربة من مسجد سيدنا الحسين، وقد نشر عدد من الكتب الحضرمية أحدهما تأليف كاتب سقافي. ويحتوي هذا الكتيب على ست قصائد في مدح الإمام يحيى، نظمت في(621/23)
سنة 1912 حين كانت بلاد اليمن تحت الحكم التركي، ونشرت في سنة 1926، وبه أيضاً ردان شعريان من الإمام نفسه، إذ أن الإمام شاعر معترف بشاعريته. وقد قامت هذه الأسرة المجددة، في خلال السنتين أو الثلاث الماضية بنشر مجلة الاعتصام، وهي صحيفة شهرية تصدر في مدينة سيون وتعالج الشئون الدينية والثقافية والأدبية؛ ومن حسن حظي أنني أمتلك نسخة من هذه المجلة، وهي العدد الثامن الصادر في صفر سنة 1362هـ، وهي السنة الأولى في حياة الصحيفة. ومما يذكر عن هذه المجلة أنها مكتوبة بخط اليد إذ يظهر أنه ليس في ذلك الجزء من الوادي مطبعة، ولا بد أن تكون هذه الصحيفة هي المجلة الوحدة التي تصدر في البلاد العربية على هذا الشكل.
وصدر في القاهرة كذلك منذ بضع سنين كتبا آخر هام عن حضرموت اسمه (تاريخ حضرموت السياسي)، وهو يشتمل على قدر كبير من المعلومات القيمة، ليس فيما يتعلق بالشعراء العصريين، والأدب العصري، والتاريخ الحديث فقط، بل كذلك فيما يتعلق بالعلوم التي نهضت في الغرب كعلم طبقات الأرض وعلم وصف البلدان، مما له فائدة جليلة على الرغم مما قام به الطيران في السنوات الأخيرة من رحلات الكشف والاستطلاع
وحضرموت تواجه الشرق كما تواجه الغرب، ولقد كانت العلاقات بين جنوبي جزيرة العرب والهند قائمة على أساس وطيد قبل الإسلام بزمن طويل. ويقوم اليافعيون اليوم بالخدمة المتوارثة في الحرس السلطاني الخاص لنظام حيدر آباد، كما كان اليافعيون والمهريون يخدمون في الحرس الخاص في أحمد آباد في عهد مضى عليه أكثر من أربعة قرون. ولدينا من الرجحان ما يقرب من اليقين إذ نعزو سبب طبع كتب مثل كتاب فتوح اليمن، في عبادي وغيرها من البلاد الهندية إلى أنه كان في الهند جاليات حضرمية؛ كذلك طبعت كتب أخرى تختص بشئون جنوبي جزيرة العرب، في المدينتين الهنديتين الكبيرتين، كلكتا وكانبور، غير أنه طبع في بغداد، في عهد أحدث من هذا، كتاب مشهور هو (النور السافر، عن أخبار القرن العاشر) وهو من تأليف أحد أفراد أسرة العيدروس، ويتناول أخبار الصوفيين في جنوبي الجزيرة العربية وكجرات.
وللحضارمة جاليات تقطن منذ عهد بعيد في جزائر الهند الشرقية الهولندية، ومستعمرات الملايو البريطانية، وإن كان من المرجح أن نشأة تلك الجاليات لا ترجع في تاريخها إلى(621/24)
مثل ما ترجع إليه جاليات الحضارمة في الهند. وللحضارمة مطبوعات نشرت في بتافيا، عاصمة الهند الشرقية الهولندية منذ سنة 1875 وتتناول هذه المطبوعات في معظمها العلوم الدينية، والفقه، وعلم التوحيد، وبعضها طبع حجر وبعضها طبع حروف؛ وبعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام طبعت خريطة هامة لشبه الجزيرة العربية، وكذلك الأطلس العربي، للسيد عثمان، على مطبعة الحجر.
ومعلوماتنا عن الجهود الأدبية للحضارمة خارج وطنهم، معلومات متناثرة في جملتها، وبما أنهم أقليات في تلك البلاد التي اتخذوها وطناً لهم - مهما تكن تلك الأقليات مهمة - فقد جر النسيان ذيله على جهودهم الأولى. وليس فيما أعلم في مكلا نفسها مطبعة، وإلى أن تنشأ هناك آلة للطباعة لن يكون مفر من أن ينتشر الأدب عن طريق المخطوطات التي تنسخها الأيدي أو عن طريق المطبوعات التي تستورد من البلاد العربية الأخرى. وهذا أدعى إلى الأسف، إذ أن للبلاد تاريخاً ثقافياً عريقاً تمكن المحافظة عليه وتغذيته بما يعيد إليه الحياة مرة أخرى، بإدخال فن الطباعة.
الصحافة والمطابع في الجنوب الغربي لجزيرة العرب
أصبحت الجرائد اليوم مصدراً من المصادر التي يعتمد عليها التاريخ، وإن كان من غير الممكن أن نقول عنها في الغالب دقيقة، أو نزيهة عن المحاباة، أو إنها دائماً حسنة الأسلوب، بل لا نستطيع أن ندعي لها أنها تضع أمامنا صورة صادقة عما هو حادث في البلاد فعلا. والحق أن المؤرخ اليقظ لا يترقب أن يجد في الجرائد تلك الصفات، وهو إذ يرجع إليها إنما يرجع إليها مع شعوره بتشيعها، ليوضح طريقة للحوادث في ضوء ميولها الحزبية، فستنتج من الجرائد المختلفة آراء الأحزاب المختلفة عن شأن من الشئون، ثم يعتمد على مصادر أخرى أقل تشيعاً ليستقي منها التأويل الحقيقي للحوادث. على أن المؤرخ الأدبي أسعد حظاً من زميله المؤرخ العام، إذ أن الجرائد هي إلى حد كبير مرآة تنعكس عليها الحركات الأدبية للعصر الذي تصدر فيه، بل إنها في بلاد مثل بلاد الجنوب الغربي للجزيرة الغربية تكاد تكون الوسيلة الوحدة لنشر الآداب. وقد شاهدنا جميعاً الدور الهام الذي قامت به الجرائد في نهضة الأدب العربي في مصر وسورية، فمن المهم إذن أن نتدبر أثر الجرائد في المجهودات الأدبية في ذلك الركن من شبه الجزيرة العربية.(621/25)
وفي منتصف القرن التاسع عشر نشر عالم هولندي اسمه فان دن بيرغ ثبتا بالجرائد العربية التي كانت متداولة بين الجاليات العربية في الهند الشرقية، ولنا أن نفترض أن كل تلك الجرائد كانت متداولة في المدن التي كان يمكن الوصول إليها في الجنوب الغربي للجزيرة العربية، وكانت هناك جريدة (الجوائب) التي أسست في إستنبول سنة 1860 وكانت تطبع فيها، وقد عطل الباب العالي هذه الجريدة، ولكنها عادت للصدور مرة أخرى سنة 1885 باسم جريدة (القاهرة). كذلك كانت جريدتا (الاعتدال) و (الإنسان) تصدران في إستنبول وتتداولان في الهند الشرقية. ومما كان منتشراً في الهند الشرقية أيضاً الجرائد البيروتية الآتية: (الجنة) و (لسان الحال) و (ثمرات الفنون)؛ ومن القاهرة جريدة (الوطن)؛ ومن الإسكندرية جريدتا (الأهرام) و (روضة الإسكندرية)؛ ولعل أهم ما كان متداولاً من الجرائد هناك، من الوجهة السياسية، هو صحيفة (العروق الوثقى) وهي مجلة دعاة الوطنية من العرب وكانت تصدر في باريس.
وليس من الميسور الحصول على معلومات فيما يتعلق بإنشاء المطابع وتأسيس دور الطباعة في الجنوب الغربي للجزيرة العربية. ذلك إلى أنه يظهر أن معظم المطبوعات الأولى التي أخرجتها تلك المطابع كان ذا صبغة وقتية فاختفى غير مخلف له أثراً يهتدي به على نوعه أو قدره. وما كتب له البقاء من الوسائل أو الجرائد التي طبعت في تلك المطابع في عهدها الأول، يرجع أنه اليوم مبعثر بين المكتبات الخاصة والعامة في تركيا، والهند، وصنعاء، وعدن، وبريطانيا العظمى، ولكن القارئ العادي لا يعرف شيئاً عن وجودها. على أن لدينا شيئاً من المعلومات عن تأسيس الجريدة اليمنية (صنعاء) التي كانت تطبع بالعربية والتركية. ففي سنة 1867 قررت الحكومة التركية العثمانية أن يكون في عاصمة كل ولاية من ولايات الدولة العثمانية مطبعة، وأن يقوم كبار الموظفين في الولاية بنشر تقويم أو كتاب سنوي (سالنامه) يشتمل على أهم الأخبار في الولاية، وأن تنشر كذلك جريدة في كل عاصمة. وبناء على هذا القرار أقيمت مطبعة في القصر الحالي للإمام المعروف باسم (مقام الإمام) وطبعت فيها جريدة (صنعاء). ونسخ هذه الجريدة نادرة الوجود جداً في الوقت الحاضر، ومن المرجح أن هذه الجريدة لم تكن منتشرة، حتى في ذلك العهد، إلا في المدن الكبرى، إذ أن سلطة الأتراك خارج تلك المدن كانت واهية جداً. ويظهر أن عدداً من(621/26)
الرسائل طبع كذلك في تلك المطبعة، ومن المرجح أن معظمه كان متصلا بالشئون الحربية والإدارية، ولكن واحدة من هذه الرسائل قد وقعت في يدي وهي تبحث في الفرائض الدينية. والكتاب الأتراك عن اليمن هم الذين يمكنهم أن يكشفوا عن نشأة هذه المطبعة، وعلى الخصوص حامد وهبي الذي نشر كتابه السنوي عن اليمن (سالنامه سي) في سنة 1289هـ.، وكذلك غيره من المؤلفين الذين كانوا على الأرجح موظفين في الحكومة وكان لهم اهتمام بالبلاد دعاهم إلى كتابه تاريخها. ولقد كان الأتراك طبعا حكاماً لجزء من اليمن في حقبة قصيرة في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومما يذكر على سبيل التنذر أنه ما زال باقياً حتى اليوم في القسطنطينية صور للفتح التركي لليمن من صنع فنانين أتراك من أهل ذلك العهد.
وفي أثناء العهد المضطرب الذي تلا الحرب العظمى الأولى لم يكن في اليمن على ما يظهر نشاط أدبي كبير، غير انه في سنة 1345هـ. و (1926م.) ظهرت الأعداد الأولى للجريدة اليمنية الجديدة في صنعاء، مطبوعة في المطبعة التركية القديمة ومسماة باسم (الإيمان). وتشمل هذه الجريدة الرسمية على نصوص المعاهدات المعقودة مع الدول الأجنبية. وعلى المراسيم، والأحكام القضائية، والقصائد المنظومة في مدح الإمام وأمراء البيت المالك، كما تحتوي على مقالات أدبية ودينية. وبفعل هذه الجريدة يمكن تتبع الموقف السياسي الداخلي للبلاد، إلى درجة ما، كما يمكن الوقوف على الجهود الحميدة التي تبذلها الحكومة المركزية في النهضة بالتعليم، وتربية روح وطنية عامة - لا روح قبلية محلية - في جميع أنحاء البلاد. وعلى أنه من غير الممكن أن نقدر مبلغ ما لهذه الجريدة من الانتشار في داخل بلاد اليمن، يمكننا أن نسلم بأنها تصل إلى جميع دور الحكومة في كل قضاء، وبأنها تتداول بأيدي قراء يزيدون في عددهم زيادة كبرى على ما كان للجريدة التي كانت تصدر في العهد التركي، وتؤدي ذلك خدمة أهم من تلك التي كانت تؤديها تلك الجريدة. ومن المميزات الشائقة في جريدة (الإيمان) ما تنشره لمراسليها في سورية وغيرها من البلاد العربية الأخرى.
أما أهل عدن فأنهم يستوردون منذ عهد طويل الصحف المصرية التي يكاد يكون الحصول عليها في عدن في مثل سهولة الحصول عليها في القاهرة، ولا يقتصر قراؤها هنا على(621/27)
العرب فقط، بل يقرؤها كذلك المتعلمون من الصوماليين. وتنتشر الجرائد كذلك في لحج عاصمة السلطنة العبدلية، ولكنها قليلة الانتشار في الجهات الأخرى من المحمية. ولدينا من المراجع المسطورة ما يدل على أنه في سنة 1870 كان في عدن مطبعتان: إحداهما في السجن، ومن المرجح أنها تطبع بجانب المطبوعات الحكومية إلا القليل، والأخرى خارج السجن، وليس لدينا ما يدل على أنها كانت تطبع كتباً عربية أو على مقدار ما طبعته منها إن كانت قد طبعت منها شيئاً. وشاهدت سنة 1914 قيام مطبعة ثالثة، فأصبح هناك ثلاث مطابع تقوم على خدمة عدد من السكان يتراوح بين أربعين ألفاً وخمسين ألفاً؛ واليوم أستطيع أن أسمى ثلاث مطابع تطبع بالعربية، منها مطبعة (فتاة الجزيرة)، ومطبعة (الهلال) في بازار بهرة، وربما كان هناك مطابع أخرى ولست أدري أكان بين مطبوعات المطابع الأولى ما يزيد على حجم الرسائل أو الإعلانات أم لا، ولكن من غير المحتمل أن تكون تلك المطبوعات قد اشتملت على كتب. ومنذ نشوب الحرب الحاضرة تولي تحرير جريدة (فتاة الجزيرة) صحفي عدني اسمه محمد لقمان، وتنشر هذه الجريدة الأخبار المحلية، وقصائد شعرية، ومواد في التربية والتعليم، ومقالات عامة، والأوامر الحكومية. وإذا قارنا هذه الجريدة بجريدة (الإيمان) التي تجنح إلى الأسلوب القديم، ألفيناها ذات أسلوب حديث في عرض موضوعاتها، وتستخدم لغة الصحافة الحديثة العربية. وهي منتشرة في عدن ولحج وإن كنت رأيت بعض نسخ منها في الأجزاء الأخرى من المحمية، وربما وجدت أيضاً في حضرموت حيث مستوى التعليم أعلى نوعا ما.
وقد سبق أن ذكرنا جريدة (الاعتصام) الحضرمية، ولكنه إذ لا مفر من طبع جميع الكتب الحضرمية في الخارج، كذلك الجرائد المطبوعة تأتي من الخارج. فمن ذلك أن الجرائد تستورد من جزائر الهند الشرقية الهولندية، ومن المرجح أن يكون من بينها جريدة (حضرموت) التي تطبع في سورابايا، في الهند الشرقية الهولندية، منذ نحو سنة 1923. وكانت تطبع في سنغافورة جرائد عربية قبل الحرب الماضية، وعلى أنني لم أر واحدة منها، أرجح كل الترجيح أنها كانت من تحرير الحضارمة، وأنه ظلت الجرائد العربية تظهر هناك حتى عهد قريب. ومن الصحف المتداولة في المدن الساحلية للمحيط الهندي مجلة (العرب) التي تصف نفسها بأنها (جريدة إسلامية، أخبارية، أسبوعية، تصدر من(621/28)
الهند)؛ وقد بدأت هذه الصحيفة في الظهور في سنة 1940 - 1941، وهي تحتوي على أخبار ومعلومات عامة عن عدن، واليمن، وحضرموت. وهي تطبع في مبادئ، وتدعي أنها (حلقة الاتصال بين الهند والعالم العربي) ويرد إلى حضرموت مجموعة متنوعة من الصحف بالإضافة إلى الصحف المصرية والعراقية، غير أن توزيعها مقتصر على المدن ولا سيما المدن التي هي أقرب إلى الساحل.
اللغة العربية في جنوبي الجزيرة العربية
ونختتم بحثنا هذا بكلمة قصيرة عن الأساليب العربية التي تستعمل في جنوبي الجزيرة العربية. والأب أنستاس ماري يقول عن جدارة، معبراً عن وجهة نظر الأمم الآخذة من التقدم بنصيب أوفى، فيما يتعلق بالأسلوب العربي الذي يستعمله اليمن: (وأما لغة الإنشاء فصحيحة، لكن أسلوبها أسلوب العصور الوسطى، وليس فيها تلك السلاسة والرطوبة واللدونة التي ترى في أساليب العصريين من أهل مصر، وسورية، ولبنان، والعراق؛ وكل ما يرمي إليه كتبه اليمانيين السجع الممل.)
ولكنه يحتاط فيقترح الحل الآتي: (على أننا لا نريد بذلك ذم كلام أبناء اليمن، بل نود أن يطالعوا التصانيف الحديثة التي تصدر كل يوم في الديار العربية اللسان.)
وفيما يتعلق بلغة التخاطب والمحادثة، يستخدم أهل المدن لهجة شائعة يفهمها الغريب بسهولة، أما في القرى فللناس لهجات كثيراً ما يصعب فهمها على المسافرين الوافدين من جهات أخرى. وبين يدي الآن وثيقة قانون قبلي أو شرع قبيلة كما تسمى في جنوبي جزيرة العرب، وهي وثيقة لا يستطيع فهمها مصري أو سوري، بل لا يستطيع فهمها حضرمي مثلاً. ومع ذلك فهي مكتوبة باللهجة التي تتكلمها هذه القبيلة دائماً، بل يتكلمها سلطانها. وفي بعض المناطق ما زالت لغة التخاطب قوية الشبه بلغة بني حمير، ولن يدهش علماء النحو أن يعلموا أن (أم) ما زالت تستعمل أداة للتعريف بصفة عامة جداً، كما أخبرنا بذلك منذ قديم كل من الزمخشري وسيبويه. إن في الجنوب الغربي لجزيرة العرب مناطق كثيرة لم تكد الحروف المطبوعة تخترق أصقاعها، وهذه المناطق تكاد لا تزيد على أن تفهم لغة الجرائد العصرية. على أن ارتجال الشعر في تلك الجهات ما زال عنصراً من عناصر الحياة الاجتماعية للناس. وليس ثمة شك في أنه في خلال نصف قرن يأتي ستتطور منطقة(621/29)
الجنوب الغربي بانتشار التربية وتعلم القراءة والكتابة، وما سيصحبها من نشر المعلومات العصرية في الفنون الهندسية والأساليب الأدبية، وسيكون من الشائق جداً أن يلاحظ الباحث تطور هؤلاء القوم تحت تأثير هذه العوامل الحديثة. لقد كان للبلاد ماض مجيد في تاريخ المدينة، وجدير بها أن يكون لها مستقبل مجيد، وهي بذلك أجدر بسبب ما تحتويه من الثروة الطبيعية التي ساعدت في الحجاز على تقدم الشعب العربي.
الدكتور ر. ب. سارجنت(621/30)
هرموبوليس مدينة الحج
- 2 -
للأستاذ فوزي الشتوي
(انتهينا في المرة الماضية عند وصف سراديب التحنيط ونختم في هذا المقال بوصف بعض الآثار الأخرى)
حياتنا لم تتغير
وإلى جوار السور معبد حاكم المنطقة الديني بوتوزوريس. وهو معبد فخم تبدو ونقوشه بالألوان الطبيعية والصور المنحوتة في الأحجار فترى في تقاطيع أصحابها سمات المصريين، وسمات السوريين والصينيين. ترى فيها تعابير الحزن كما ترى فيها علامات الفرح. وتدرك من نظرات أصحابها ما تنم عليه من إعجاب أو ازدراء، فعلى حوائط هذا المعبد سجلت صور الحياة المصرية في مراحلها المختلفة.
فهنا لوحة أو لوحات تمثل الفلاح يزرع أرضه من حرث وسقي وإنبات ثم حصد وتدرية، وفي لوحة ثانية ترى الصانع يحتضن أدواته ويحركها في خزفه أو نحاسه ليخرج منها تلك الأواني التي تشاهدها في دار الآثار، أو أن أردتها حية مجسمة تجدها في خان الخليلي، فصناعه وأدواتهم وطرقهم يتبعون طرق أسلافهم ونادراً ما تجد أداة تغيرت ولكن ما تغير هو مرور تلك الحقبة من الزمن
ونظرت دقيقة إلى تلك اللوحات وما شملت، ثم نظرة أخرى إلى تلك البقعة وما بين توضح لك أننا لا نزال نعيش على حساب تلك العقول، فهناك نرى صحاف النحاس تنقش ثبتت على قواعد من القار فترى منها نسخة أخرى في خان الخليلي.
وما قيل عن صناع الصحاف النحاسية ينطبق على النجارين والخراطين وصناع الفخار. تراهم كلهم منهمكين في عملهم في تلك الأوضاع المختلفة التي لم يترك منها الفنان تعبيراً إلا نجح في آدائه وإجادته طبقاً للحقيقة الحية.
كاهن ورع
وهكذا خصص من كل حوائط المعبد واحدة أفردت الأولى للزراعة وبينت الثانية نواحي(621/31)
الصناعة وعرضت الثالثة لحياة الكاهن وموته. وعلى هذا الحائط تظهر عظمة صاحب المعبد. فهو لم يكن كاهنا عادياً، رجلاً تقياً ورعاً يحج إليه الناس من كل مكان فيأتيه اليونانيون والرومانيون ليحصلوا على بركته وليعبروا له عن إعجابهم بسجاياه، يمتدحون جليل أعماله، ويطنبون في حسن معاملته لأعوانه.
ومن الظواهر الجديرة بالتسجيل على ذلك الحائط منظر أولاده الأربعة وبناته السبع وقد احتلوا أماكنهم في صف واحد مرتين تبعاً لأعمارهم فلا يسبق الغلام الفتاة ولا الفتاة الغلام. ففي المقدمة الابن الأكبر وفي النهاية الابن الأصغر وإنك لتلحظ فيهم اختلاف التقاطيع وتشابهها كما تلحظه في أبناء أية أسرة. وإنك لترى في تلوين البشرة سمارها في الذكور وبياضها في الفتيات، كما تلمس أماراة الرجولة في الشبان وعلامات النعومة في الفتيات وإن امتياز الجميع بقاماتهم الفارغة الممشوقة.
ومات الكاهن الورع، فقدمت الوفود من كل مكان. وسار الكهنة في موكب جنازته يسحبون العربة التي تحمل جثته وترفرف فوق رؤوسهم أعلام بلادهم، فهم لم يأتوا كأفراد فحسب، بل قدموا كممثلين لبلادهم وليعبروا عن مكانة الرجل في ديارهم.
يوم الحساب
والموت في عرف المصريين القدماء مواصلة الحياة ولكن في الدنيا الآخرة أو عالم الخلود. وليس الوصول إليه من الأمور الهينة ففي طريقه حساب عسير لا يكتفي فيه بالمظاهر بل يوزن فيه الإنسان ومبعث خيره وشره.
فإذا انتقلنا إلى الحائط الأخير وجدنا روح الميت بين أيدي الآلهة تقدم حسابها فتذكر أربعين سيئة لم يعملها الميت في حياته ثم يترافع أمام مجمعهم مبيناً حقه في الحياة الأبدية. إلا أن الآلهة لا تؤخذ بالأقوال فيزنون ما في قلبه من شر. فان وازن ريشة (معان) إلهة العدل أدخل الجنة. وإن زاد عنها ألقي إلى حيوان ضخم يلتهمه ثم يندفع به في حياة الظلمة.
ويربط هذا المعبد بين الفن المصري والفن اليوناني. فهو مصري في جميع نقوشه وتفاصيله إذا استثنينا طريقة الدفن. فالمتبع في المقابر المصرية أن يكون مرقد الميت إلى اليمين. فكان في هذا المعبد في بئر عميقة في وسطه طبقاً لطقوس ذلك العصر. وفي سقف المعبد فوق البئر فتحة صغيرة لوحظ أن الشمس تسقط منها إلى اسفل البئر فتضيء المكان(621/32)
وتبارك صاحبه في وقت الظهر من شهر بؤونة.
فن التصوير القصصي
وتمثل الحفريات الأخرى كثيراً من الفنون اليونانية. ونجد فيها أول مراحل فن التصوير القصصي. ففي أحد المنازل، ويظهر أن صاحبه كان من رجال العلم، صور الفنان قصتي أوديب الملك والكترا. ففي الأول يبين الرسم ذلك الحيوان الضخم وهو يسأل أوديب عن الشيء الذي يسير على أربع في الصباح، وعلى أثنين في الظهر وعلى ثلاث في المساء.
ويجيبه أوديب بأنه الإنسان عندما يحبو طفلاً، وعندما يمشي رجلاً، وعندما يتوكأ على عصاه شيخاً. ولأهمية هذه الصورة نقلت إلى متحف الآثار واستبدلت في مكانها نسخة حديثة الصنع.
وعلى حائط آخر مثل الفنان أخلاق الرجل والمرأة فرسم، الأول على شكل ديك هادئ وديع، وصور المرأة على شكل هرة ثائرة متحفزة للشر.
ومدينة الحج بعيدة عن موارد الماء. ولهذا احتاج إمدادها به إلى بناء ساقية تدل على رقي فن الهندسة. يبلغ عمقها 34 متراً حتى يصل عمقها إلى مستوى ماء بحر يوسف. وهي مبنية على درجتين: عمق الأولى 20 متراً، وعمق الثانية 14 متراً يرفع منها الماء بالطرق المعروفة عندنا ليخزن على سطح الأرض فيأخذ منه السكان حاجتهم ويستقي منها الطير. ثم يتسرب ما يفيض ليروي أشجار الدوم التي كانت مزروعة حولها.
والمنطقة عامرة بكثير من الآثار التي تربط بين مختلف العصور المصرية، ففيها معبد وجدت في بعض أنحائه أدوات يظن بعض المشتغلين بالآثار أنها من العهد المسيحي ويرى أنها من أدوات عماد الأطفال في الكنائس.
والمنتظر عندما يتم كشف هذه المنطقة ويدرس علماء الآثار محتوياتها أن تكشف لنا عن كثير من غوامض التاريخ فقد كانت المنطقة كما قلنا على جانب كبير من الأهمية الجغرافية، وكانت في أكثر أحوالها مقصد الناس، ونعتقد أن فائدتها لا تكمل إلا بإتمام كشف المنطقة الأخرى المعروفة الآن بالإدارة فقد وجدت هناك مباني ضخمة تدل على عظمة وفن وروعة؟
فوزي الشتوي(621/33)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي
661 - رب قليل أبلغ من الكثير
دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتقت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق، فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة. فقال: هاتهما، فرب قليل أبلغ من الكثير، فقال سعيد:
مدح الفضل نفسه بالفعال ... فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا ... كبر الفضل عن مديح الرجال
فطرب الفضل، وقال له: أحسنت (والله) وأجدت! ولئن قل القول ونزر، لقد اتسع المعنى وكثر. ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحاً يومئذ، وقال: لا خير فيما يجئ بعد بيتك، وقام من المجلس وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.
662 - وشريكي في الصنعة
قيل لشبيب بن شبة بن عقال:
ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك؟
قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصنعة.
663 - شر من إبليس
قال الراغب الأصبهاني: توصل رجل إلى إبليس فقال له: لي إليك حاجة؛ إن لي ابن عم ذا ثروة، وله إحسان كثير إلي ولي بماله نفع بين، ولكن أريد أن تزيل نعمته وإن افتقرت بفقره. فقال إبليس لأصحابه: من أراد أن يرى من هو شر مني فلينظر إليه.
664 - لا والله بل أنا
قال رجل لأبي عمرو بن العلاء: وعدتني بأمر فلم تنجزه.
فقال أبو عمرو: من أولى منا بالتعب أنا وإلا أنت؟(621/35)
قال: أنا
قال: لا (والله) بل أنا
قال: وكيف؟
قال: لأني وعدتك وعداً فأنت تفرح بالوعد، فبت جذلان مسروراً، وبت أنا بهم الإنجاز، فبت ليلتي مفكراً مغموماً بما عاق الدهر من بلوغ الإرادة فيه. فلقيتني مدلا، ولقيتك مستحيياً
665 - وبالشباب شفيعاً أيها الرجل
في (الأغاني): الرياشي: سمعت الأصمعي يقول: قال هذا الباهلي محمد بن حازم في وصف الشيب شيئاً حسناً، فقال له أبو محمد الباهلي تعني قوله:
كفاك بالشيب ذنباً عند غانية ... وبالشباب شفيعاً أيها الرجل
فقال: إياه عنيت. فقال أبو محمد الباهلي: ما سمعت لأحد من المحدثين أحسن منه.
666 - جحود الذنب ذنبان
أنكر الصابي على صديق له شيئاً فكتب إليه: إما أن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجة علينا في العفو عنك، وإلا فطب نفساً بالانتصاف منك، فإن الشاعر يقول:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان
667 - أوميروس وأنابو الماجن
(إخبار العلماء بأخبار الحكماء): جاء أنابو الماجن إلى أوميروس الشاعر اليوناني فقال: اهجني لأفتخر بهجائك إذ لم أكن أهلاً لمديحك. فقال له: لست فاعلاً ذلك أبداً، قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونانيين فأشعرهم بنكولك. قال أوميروس مرتجلاً: بلغنا أن كلباً حاول قتال أسد بجزيرة قبرص فامتنع عليه أنفة منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأشعر السباع بضعفك. قال له الأسد: لأن تعيرني السباع بالنكول عن مبارزتك أحبُّ إلي من أن ألوّث شاربي بدمك.
668 - شدة الاحتياط في الدين. . .!
في (الحيوان) للجاحظ: قال أبو بكر الهذلي: كنا عند الحسن البصري إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دم البراغيث يصيب الثوب أيصلي فيه؟ فقال:(621/36)
يا عجبا ممن يلغ في دماء المسلمين كأنه كلب ثم يسأل عن دم البراغيث. . .! فقام وكيع يتخلج في مشيه كتخلج المجنون. فقال الحسن: إن الله في كل عضو منه نعمةً فيستعين بها على المعصية. اللهم، لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك.
669 - فلم لا يكذب الوراقوق عليك؟
حضر أبو العيناء يوماً مجلس بعض الوزارء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم، فقال الوزير لأبي العيناء (وكان قد بالغ في وصفهم): قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين.
فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فسكت الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.
670 - والغصن بمرح في غلائد
في (نفح الطيب): كانت نزهون القلاعية الأدبية الأندلسية تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي:
لو كنت تبصر من تجالسه
فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئاً، فقالت نزهون:
لغدوتَ أخرس من خلاخله
البذر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلائله
671 - يطول وقوفك إذن
أبن الجوزي: مر رجل من الفطناء برجل قائم في طريق، فقال: ما وقوفك؟
قال: أنتظر إنساناً.
قال: يطول وقوفك إذن. . .
672 - أيها الأمير، ليس هذا من عملك. . .
في (نثار الأزهار في الليل والنهار) لابن منظور صاحب (لسان العرب): دخل عبد الله بن عمر قاضي أفريقية على أميرها يزيد بن حاتم فقال: أهللنا هلال رمضان فتشايرناه بالأيدي، فقال يزيد: لحنت يا ابن غانم، إنما هو تشاورناه. قال: بيني وبينك أيها الأمير(621/37)
قتيبة النحوي - وكان إذ ذاك قدم على يزيد، وهو إمام الكوفة - فبعث إليه، وكان في قتيبة غفلة؛ فقال له يزيد: إذا رأيت الهلال وأشرت إليه وأشار غيرك إليه كيف تقول؟ قال: أقول: ربي وربك الله! فقال يزيد: ليس هذا أردنا، فقال ابن غانم: دعني أفهمه من طريق النحو فقال: إذا أشرت وأشار غيرك وقلت: تفاعلنا في الإشارة إليه كيف تقول؟
قال: تشايرنا وأنشد لكثر عزة:
وقلت وفي الأحشاء داء مخامر ... ألا حبذا (يا عز) ذاك التشاير
قال يزيد: فأين أنت يا قتيبة من التشاور؟ قال: هيهات أيها الأمير، ليس هذا من عملك، هذا من عملك، هذا من الإشارة وذاك من الشورى. فضحك يزيد، وعرف جفاء قتيبة فأعرض عنه، واستحيا من ابن غانم.(621/38)
أغنية:
أحلام الجزيرة
للشاعر عبد الرحمن الخميس
خفقَ الروحُ بين تلك الروابي
ذكرياتي هنا. . . ورَجْعُ شبابي
آهِ لو تعلم (الجزيرةُ) ما بي، ... منْ حنينٍ ولهفةٍ لحبيبي
كلما أقبلَ المساءُ عليها
جَنَحَ العاشقُ اللهيفُ إليها
وجثا للحبيب بينَ يَديَها ... أنا وحدي هنا. . . فأين حبيبي؟!
كم صحبتُ الظلامَ بين رباها
ودعوتُ الصباحَ يغْشَي سماها
ومع الطير. . . كم ملأتُ ضُحاها ... بأغاريدَ صغتُها لحبيبي!!
ضَمَّها النيلُ جَنَّةً للغرامِ
ورواها بقلبه المُسْتهامِ
لَيْلُها. . . كانَ معبدَ الأحلامِ ... كم سَجَدْنا به. . . أنا وحبيبي
عذبةٌ حيرتي، ولوعة روحي
وأنا أستعيدُ ذكري جُروحي
وانطلاقي مع الهوى وُجموحي. . . ... قَدَحي. . . فاضَ بالأسى يا حبيبي
سألتْني الظلالُ حين رأتْني،
واجماً في سكونها لا أغَنَّي:
كيفَ غابَ الأليفُ عنكَ وعني ... فتهاويت باكياً يا حبيبي!!
كم خَطَرْنا مع الدجى والنهارِ
بين تلك المروجِ والأشجارِ
أسْأَلُوها تذيعُ من أسراري ... أنا قَبَّلْتُ في حماها حبيبي. . .
من نسيج الفؤاد صُغْتُ ابْتِهَالي(621/39)
للعصافير. . . والربى. . . والظلالِ،
أنْ تبثَّ الوجودَ لوعةَ حالي ... وتُغَنَّي بما جَنَاهُ حبيبي. . .
خفقَ الروحُ بين تلك الروابي
ذكرياتي هنا. . . ورَجْعُ شبابي
آهِ لو تعلم (الجزيرةُ) ما بي، ... منْ حنينٍ ولهفةٍ لحبيبي!!
عبد الرحمن الخميس(621/40)
ضجة الربيع
للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي
(دقت نواقيس المساء حزينة تنعى النهار)
فجرى الأصيل مُروّع الخطوات مجنون القرار
وتركت والأفق الحزين يَلُفُّه طفَل الغبار
والوحدة الخرساء تسلمني لآلام ضوار
ونسيج أحلام تمزقه أعاصير أدِّ كار
وتراكضت قطع السحاب كسرب أوهام بديده
دكناء يطردها الظلام كبعض آمالي الشريده
وسمعت ريح الليل تحمل صوت أرجاء بعيده
لكأنما همساتها أصداء أيامي السعيدة
أمْ أن ريح الليل تحمل لي صبابات جديدة؟!
ولمحت صاحبي الحزينة كالنهار الغارب
وقفت مُرَنَّحة الخيال على الضياء الذاهب
عجفاء كالشجر المصوّح. . . كالمساء الشاحب
دَبّ المشيب بها. . . فلاذت بالشباب الهارب
كتألُّقِ الأفق الحزين بنور فجر كاذب
تجري. . . فيقعدها السعال. . . فتستريح إلى الدموع
وإذا انثنت طربا كسالف عهدها. . . لا تستطيع
الشهوة الحمقاء تشعلها. . . فيطفْئها الصقيع
لم تبق غير أواخر الخفقات في جَهَدِ الشموع
والشعرة البيضاء تنعب في بقيات الربيع!
وفجاءة ضج الفضاء وصاح في الدنيا نذير
واصطكت الريح الرخاء وثار في الحقل الغدير
وكأن في كبد السماء لواعجاً حرّى الزفير(621/41)
عوت الذئاب كأنما جُنّت. . ودَمْدَمَتْ النسور
عجباً له ليل عميق الفكر. . . ملتهب الشعور!
وإذا الشجيرات الذوابل ينتفضن مزمجراتِ
وإذا بروح تمرد تجتاح صمت الكائنات
لكأنما اندفعت عصارات الحياة إلى الموات
ويحي. . هل انبعثت من الصمت المقدس ذكرياتي؟!
كالمنبع المهجور منبثق المياه على فلاة
كالمزهر المحطوم تُرسل فيه أنغام خفيه
كالرغبة الحمراء في أعراق راهبة فتيه
كطهارة العذراء في خطرات غانية شقيه
كمدينة ذهبية الجدران في أحلام قرية
كالقوت تبسطه لعيني جائع كف عصيه
يا ذكريات الأمس. . . قرّى في غيابات السكون
قد عاود الليل الخشوع. . . وغَيّم الصمت الحزين
لا صوت إلا أنَّهُ الفلاح من ظلم السنين
وتناوح الطير المشرد بعد تمزيق الغصون
الزعزع النكباء قد بعدت عن البلد الأمين
عبد الرحمن الشرقاوي
المحامي(621/42)
البريد الأدبي
التصوير الفني في القرآن
يجب أن أشكر للأستاذ الفاضل عبد اللطيف السبكي المدرس بكلية الشريعة عنايته بنقد كتابي (التصوير الفني في القرآن). ولكن ليس هذا هو الذي يشفع لي في أن اشغل حيزاً من الرسالة!. إنما هو أثار مسألة أساسية في القرآن وفي الطبيعة البشرية. أثار مسألة يوسف في: (ولقد هّمت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه) وهي مسألة تستحق المناقشة:
وقبل أن أتناول هذه المسألة الأساسية أستأذن القراء في سطور للحديث العابر عن المسائل الأخرى التي أثارها الأستاذ
1 - لقد لا حظ أن هناك بضعة نصوص أصابها الخرم عيّن مواضعها. وأنا اشكر له التنبيه، وآسف لوقوعها في الكتاب. وما دام هو قد لاحظها فأنا أرجوه أن يتفضل بإرسال بيان عنها إليّ، لملاحظتها في الطبعة التالية، موفراً علي جهد البحث عنها
2 - ولاحظ أني لم أبدأ عملي بالتسمية (ليرتفع عن نمط الروايات وكتب التسلية)! وأحسب أن هذه إن كانت ضرورية في كل عمل فليست ضرورية في كتابي هذا! إذ ماذا تعني التسمية إلا إثبات التوجه إلى الله بالعمل. فهل كتاب عن القرآن على نمط كتابي في تمجيده من الوجهة الفنية، في حاجة إلى هذا الإثبات الشكلي؟ إنه كله توجه، وطبيعته كلها تسمية، من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة!
3 - ولا حظ أن ليس بالكتاب دليل في نهايته. وله كل الحق في ملاحظته. ولكن من يعلمه: كم جاهدت لوضع هذا الدليل. وكم وقفت أزمة الورق وضرورات الطباعة بي عما أريد؟
4 - ولاحظ - ولا أدري كيف - أنني أمنّ على الناس بما قدمت، وهو ما عدت إلى الكتاب أبحث عنه فلم أجده. أم لعله يقصد ما ذكرته من أن الاتجاه إلى إدراك الجمال الفني في القرآن على النحو الذي اتجهته لم يكن من نصيب الباحثين في بلاغة القرآن - قدامي ومحدثين - فتلك حقيقة تاريخية لا بد من إثباتها ولا ضير فيها ولا منّ. . . وبقي قوله: (فلا يغمز الأوائل بالتجهيل أو القصور ونحن لا نبني إلا من الحصيات نجمعها من ساحاتهم الواسعة).(621/43)
فتلك قضية أخالفه فيها فيما يختص بالجمال الفتى في القرآن. لقد أثنيت ما استطعت على رجلين اثنين: عبد القاهر والزمخشري. وعرضت نماذج من حسن فهمهم - المحدود بحدود الزمان - لبعض الجمال الفني في القرآن وهذا كل ما يطلب مني. . . وأحب أن أقول بعد هذا: إنني - فيما يختص بالجمال الفني - لم أبن من حصيات أحد. . . وهذه حقيقة تاريخية كذلك لا أرى أن تقديرنا للقدامى يكفي لإنكارها. ومن الأمانة للبحث العلمي ألا نبخس الناس أشياءهم. . . ولكن من الأمانة كذلك ألا نعطيهم فوق ما يستحقون.
ثم أخلص إلى القضية الأساسية. قضية يوسف:
يتحدث الأستاذ عن تصويري ليوسف بالأستاذ إلى ما ورد عنه في القرآن بأنه الرجل الواعي الحصيف، واستشهادي بإبائه على مراودة امرأة العزيز، وقولي (ومع ذلك لقد كاد يضعف) فيقول:
(وهذا تصوير غير فني لإنسان هيأه ربه للنبوة، وكتب له العصمة من قبل ومن بعد. وأظن الأستاذ منساقاً في هذا وراء ما يقال: من أن يوسف إنسان لم تفارقه نوازع البشرية، فهو يميل كما يميل أي إنسان ويكاد يضعف أي إنسان وأظنه كذلك يحسب الآية في ظاهرها هذا إذ قررت أن المرأة همت به وأن يوسف هم بها، وليسمح لي الأستاذ أن أنبهه إلى أن هذا فهم سطحي غير سديد). . .
وأنا بدوري أحب أن أقول للأستاذ: إنني أخالفه فيما أتجه إليه. وأن هذه قضية مدروسة جيداً عندي - وإن لم أتعرض لها بتوسع في كتابي - لأنها من مباحث كتابي آخر أعده الآن عن (القصة بين التوارة والقرآن). والمجال لا يتسع هنا للتفصيل إلا أن يشاء الأستاذ وقراء الرسالة أن أعرضها كاملة.
ولكن هذا لا يمنع من بضع كلمات:
لقد كنت حريصاً في تعبيري فقلت: (كاد يضعف) ولم أقل إنه ضعف فعلاً. وليس في هذا ما يخالف العصمة في اعتقادي. فالعصمة لا تقتل النوازع البشرية، ولكنها تقيم حولها الحواجز، وتجعل الروادع في النفس أكبر من الدوافع. . . وهذا يكفي
ولقد عصم الله يوسف، فجعله يكافح النوازع البشرية وينتصر عليها في اللجنة التي لا ينتصر فيها إلا أولو العزم. وإن هذا ليكفي ليقال عنه في القرآن: (إنه كان من عبادنا(621/44)
المخلصين).
وغير يوسف أنبياء مخلصون: منهم موسى ويذكر القرآن أنه قتل رجلاً ثم تاب فتاب عليه الله. وداود وسليمان ويذكر القرآن أنهما قد فتنا ثم استغفر وأنابا. . .
فالعصمة النبوية مسألة تحتاج إلى أفق أوسع في النظر إليها. ولست ممن يميلون إلى أنها التجرد من جميع النوازع البشرية وإن كنت أومن بأنها الانتصار على جميع النوازع البشرية.
ونفي الهمّ عن يوسف - بالمعنى الذي يريده الأستاذ - يحتاج إلى تأويل النص الصريح، وأنا أنفر من التأويلات التي لا يدعو إليها إلا الغلو في التخرج. وإن دراستي لطريقة التعبير في القرآن لتبيح لي أن أقول: إن للنص القرآني معنى واحدا في كل حالة. وإن الاحتمالات المختلفة التي يرويها المفسرون للنص الواحد، إنما تتوارى مع شيء من التدقيق ليبرز منها احتمال واحد هو الذي يتفق مع طبيعة التعبير القرآني. وهذه مسألة لا يكفي الفراغ المتاح لشرحها اليوم. فقد أقوم ببيانها بتوسعه إذا وفقت.
على أن هناك عدة احتمالات في موقف يوسف:
1 - فهل العصمة النبوية قبل الرسالة وبعدها؟ أم بعد الرسالة فحسب؟ هذا مبحث طويل.
2 - وهل حادثة يوسف كانت قبل رسالته أم بعدها؟ لا يذكر القرآن عن ذلك شيئاً. ولنا الحق في أن نفهم أنها كانت قبلها. ولا سيما أن التوراة تحدد سنة في هذا الوقت بأنها كانت دون الثلاثين.
3 - ثم ألا يكون سجن يوسف تكفير عن النزعة التي قهرها وعصمه الله منها؟ ليكون بعد ذلك (من عبادنا المخلصين)؟
كل هذا يجوز ولكني لا احب الارتكان إليه، لأن تفسير العصمة على النحو الذي أسلفت يغنينا عن كل هذه الاحتمالات.
للأستاذ الفاضل شكري على ما أتاح من هذا البيان.
سيد قطب
النبي ودائرة المعارف البريطانية(621/45)
لاحظت في الجزء الخامس عشر من دائرة المعارف البريطانية طبعة 1932 اعتباراً من الصفحة 647 في البحث عن حياة منقذ البشرية الأعظم محمد بن عبد الله هذه الجملة في مفتتح الحديث وبالخط البارز ولا يخفى ما يعنيه هذا الوصف الذي لا يليق أن يوصف به ذلك النبي الأمين الذي أضاء بحكمته دياجير الظلمات الحالكة، ورفع لواء العدل على الإنسانية فخلصها من نير العبودية، وفكها من عقال الجهل، وبسط السلام الحق، وآخى بين الناس، وأقر مبدأ المساواة في الحقوق بين الأفراد، وأزال الفوارق بين الطبقات، وبصورة أعم فقد جاء بالحرية للإنسان؛ وهذا أمر اعترف به رجال التاريخ المنصفون من غير المسلمين؛ فما بال دائرة المعارف المذكورة تتجاهل كل ذلك وتصفه بهذا الوصف الذي لم نرها تصف به من يستحقونه أمثال الإسكندر - ونابليون وأضرابهما من الأحكام والمستبدين؟
إن محمداً لم يكن يوماً طاغية ولا مستبداً ولا حاكماً مطلقاً كما يشهد التاريخ بذلك، بل هو الذي علم الناس التسامح وجاء بالحكم الشورى الذي تدرج حتى صار يدعي اليوم بالحكم النيابي أو الديمقراطي.
هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فقد وجدت الدائرة المذكورة تمعن في هذا التجاهل فلا تستند إلى كتب التاريخ المهمة بل تستند إلى تاريخ الواقدي الذي تقول عنه إنها لم تجد غيره، ثم هي في الوقت نفسه تطعن في هذا التاريخ وتقارنه ببعض الكتب الغربية الخرافية في أوربا. والواقدي كما يعلم المتتبعون لحوادث التاريخ غير حجة ولا ثقة بالنسبة لغيره من المؤرخين الثقات، هذا بالإضافة إلى أن البحث برغم استناده إلى ذلك التاريخ غير مستوف.
وظاهرة أخرى لاحظتها في هذه الدائرة، وهي أنها عند تعرضها لذكر كبار رجال الإسلام كالخلفاء الأربعة ومشاهير بني أمية والعباسيين وغيرهم تأتي بنبذ مقتضبة عنهم لا تتجاوز بضعة اسطر في حين أنها تكتب الصفحات الطوال عن نابليون وأمثاله وحتى عن رؤساء ووزراء وغيرهم.
هذا عرض موجز لما لاحظته، وقد فكرت طويلاً ثم كتبت منذ أشهر بذلك إلى معالي السيد عبد الرزاق السنهوري بصفته وزيراً لمعارف أكبر أمة إسلامية عرفت واشتهرت بمواقفها(621/46)
المشرفة في الدفاع عن الإسلام وشعوبه، كما فيها أكبر إسلامي يرنو إليه مسلمو الأرض بعين الثقة والأمل ألا وهو الأزهر، وأهبت بمعاليه أن يتفضل ويدرس الموضوع في مرجعه والقيام بالتوسط لدى ناشري الدائرة لحذف ما يتنافى وكرامة من يدين بدينه أكثر من أربعمائة مليون مسلم ثم تزويدهم ببحث واف مستفيض عن حياة الرسول الأعظم وكذلك عن مشاهير رجال الإسلام ليكون جاهزاً ينشر في الطبعة المستقبلة.
وأنا الآن استنهض هم الهيئات المختصة من دينية ومدنية لا في مصر وحدها بل في جميع الأقطار الإسلامية للقيام بواجبهم نحو دينهم ورجال دينهم الذين لولاهم لما كنا اليوم نستنشق عبير الهواء ونطمح إلى حياة موفورة الكرامة ومنزلة رفيعة مرموقة تحت الشمس. ولعلهم إن شاء الله فاعلون.
(البصرة)
أحمد حمد آل صالح
التواءات نفس
من نكد الدنيا على الأدب أن يوجد أديب واحد من أبناء هذا العصر ينزل منزلة المزورين في الأدب يلفق كلاماً يلصقه بغير قائله. ومن سوء طالع هذا الجيل أن يكون فيه كاتب واحد جبان لا يجرؤ على القول الحق والمجاهرة به.
لقد سمعنا بمقالات كان يكتبها أديب يدافع فيها عن الشعر الرمزي مذيلة بإمضاء غيره؛ ولكننا لم نسمع عن حادث في الأدب كحادث التزوير الذي ذكره الدكتور شريف القبج في العدد السابق من الرسالة في الدفاع عن الشاعر شريف القبج في العدد السابق من الرسالة في الدفاع عن شاعر الرمزي بشر فارس.
وعلى الرغم من شناعة هذه الفرية الشائنة التي ألصقها مخلوق مريض النفس بأدبنا العصري ونهضتنا الزاهرة، أحذر الأدباء هذا الانحطاط الخلقي وأهيب بهم مجافاة هؤلاء المرضى بالالتواءات النفسية؛ لأن حكمهم ليس كحكم أصحاب العاهات من عميان ومجذوبين ومبتوري السوق تقزز النفس لمرآهم، بل كحكم مرضى يوبئون المجتمع بجراثيمهم الخلقية وعللهم النفسية، وسنعمل على تطهير المجتمع الأدبي منهم.(621/47)
حبيب الزحلاوي(621/48)
القصص
آل بونتبي. . .
للكاتب الأمريكي ستيفن فنسنت بنيت
تتكون عائلة بونتبي من تسعة أفراد: أم، وأب، وستة أولاد، ثم خادم متقدمة السن. وهم يعيشون في مجاهل الغابة حيث يقتطعون الأخشاب ويتجرون فيها، وبذلك اعتزلوا البلدة وأهلها فسرت تلك الإشاعات الهامسة التي كان يتناقلها أهل البلدة عنهم وذلك الشعور المبهم الذي كان يساورهم كلما رأوهم قادمين بين كل فترة طويلة وأخرى لتبادل المحاصيل بالمواد الغذائية اللازمة، أو حين يتوجهون إلى الكنيسة في أيام الآحاد، حتى لقد قيل عنهم إنهم يضربون في مجاهل تلك الغابات المخيفة حتى ائتلفوا مع حيواناتها المفترسة وأصبحت تربطهم بها صلة صداقة وثيقة.
شاء القدر أن يتوفى عميد العائلة، ثم تلحق به زوجه، وسرعان ما توفيت الخادم العجوز كذلك، وتركوا الأبناء وحدهم وقد شعروا بنتائج تلك الوفيات المتلاحقة، فها هي ذي الأتربة بدأت تتراكم على النوافذ والجدران، وها هم أولاء يطهون طعامهم بأيديهم، طعامهم الذي فقد نكهته الأولى التي تعودوها في حياة والدتهم.
ولما تشاوروا فيما لم يجدوا مخرجاً من ذلك المأزق الحرج وبديلاً لتلك الحياة الشاقة سوى أن يتزوج أحدهم حتى ترعى امرأته المنزل بما لها من حنكة النساء ودرايتهن بتدبيره. ولما اختاروا أكبرهم ويدعى هاري لقيام بتلك المهمة التي سبق أن أجمعوا على صعوبتها، حاول أن يتهرب منها وأن يلقي بالعبء على أخيه الذي يليه؛ ولكن هذا حاول أن يسند الأمر إلى من يصغره. . . وهكذا. . . حتى وجد هوب الأصغر أنه هو المكلف بالأمر فمانع واعتذر
واقترح أن يقترعوا فيما بينهم وكانت نتيجة الاقتراع أن اختير هاري الأكبر.
وفي اليوم التالي ألبسوه أنظف لباس ثم أرسلوه إلى المدينة ليبحث عن زوجة له.
سار مشتت الفكر مبلبل الخاطر وقد قرر أن يفاتح أول فتاة تقابله في أمر الزواج به. ولكن كانت أول من قابلته امرأة متزوجة، ثم التقى بطفلة صغيرة، وأخيراً ابنة الحاكم التي ما أن رأته حتى فرت هاربة.(621/49)
فغمره اليأس ودخل حانة صغيرة وجلس بقرب النافذة ليشرب كوباً من الخمر. وبينما هو يرسل نظرة تائهة نحو الخارج رآها، وكانت في ملابس الخادمات، ريانة العود، عذبة الملامح. ولم يشعر بنفسه إلا وهو يسرع إليها ويبتدرها قائلاً:
- ما أبهج الصباح، وما أسعدني بلقائك، يا له من يوم جميل يصلح لأن يكون يوم زواج.
فنظرت إليه طويلاً ثم ابتسمت قائلة: هو كذلك.
فتشجع وقال في حماسة: أتتزوجنني. . . أنا أدعى هاري بونتبي وأسكن الغابة واصلح لأن أكون زوجاً طيباً.
فتمنعت قليلاً في بادئ الأمر ولكنها سرعان ما وافقت. فأخذها من يدها مسرعاً إلى الحاكم ليعقد عليها ثم أشترى لها ملابس جديدة وعاد بها إلى منزله عودة الظافر المنتصر.
ولما رأت اخوته الخمسة قالت - لماذا لم تخبرني بذلك يا هاري من قبل؟
فقال: لعل سعادة لحظة الزواج أنستني كل شيء عداها.
ثم دخلت ذلك المنزل الكبير واستعرضت ما فيه فهالت الأتربة المتراكمة والكميات الوافرة من الطعام التي تكفي لإشباع بطون كثيرة، وأكوام الملابس القذرة التي في أشد الحاجة إلى أيد تغسلها وتتعهدها. فشمرت عن ساعديها وأقدمت على العمل مجتهدة وتناول الفتيان ليلتئذ أول عشاء جيد لم يسبق أن تذوقوه منذ شهور.
كرت الشهور تتلوها الأيام واحتلت ميلي في نفوسهم جميعاً مكانة عظمى فأصبحوا رهن إشارتها يضحون بكل ما تطلبه منهم كما تغيرت وجهة نظرها الأولى التي كانت تحفظها عنهم وهي في البلدة إذ وجدت فيهم أناساً يتحلون بأنبل السجايا وعجيب كيف يختلف أهل القرية تلك الإشاعات المفتراة عنهم.
ويوما، لاحظ عليها زوجها أنها تكد وتجتهد وتكافح في سبيلهم حتى هزل جسدها ونال الضعف من قوتها فقال لها - يجب أن تنالي راحتك ولو قليلاً يا عزيزتي.
فنظرت إليه في ابتسامة وقالت - وبخاصة وأنا أشعر بذلك الجنين الذي بدأ يتحرك في أحشائي.
فاجتمعت العائلة وقررت أن يتزوج هلبرت الأخ التالي حتى تمد زوجته يد المساعدة إلى ميلي في إدارة المنزل.(621/50)
وفي صباح اليوم التالي توجه هلبرت إلى البلدة وانتظره أخوته ولكنه عاد فاشلاً، فما من فتاة قبلت الزواج منه. وهن يتعجبن كيف تسنى لميلي أن تحتمل أعباء المعيشة معهم. فأرسلوا هوسيا الذي يصغره في اليوم التالي ليجرب حظه. . . ثم الأصغر. . . ثم الأصغر. . . إلا أنهم أخفقوا جميعاً في مساعيهم. وأخيراً لم تجد ميلي مفراً من أن تقف فيهم قائلة:
(يا اخوتي الأعزاء، يجب أن تسلكوا طرقاً أخرى تمكنكم من نيل مآربكم، فلقد رفضت هؤلاء الفتيات الزواج منكم بعد أن سألتموهن، فلنجرب طريقة أخرى. لم لا تتزوجهن أولا ثم تسألوهن الموافقة بعدئذ!.)
فهتفوا في صوت واحد - وكيف ذلك؟
فقالت - لقد قرأت يوماً في كتاب التاريخ أن جماعة من الرومان تقدموا للزواج من فتيات بلدة من البلدان ولكن لسوء حظهم رفضت الفتيات أن يرتبطن معهن بتلك الرابطة، فما كان منهم إلا أن أغاروا على البلدة ليلاً وعادوا بنسائهم اللاتي اختاروهن عنوة معهم. فإذا لم تفعلوا أنتم مثلهم فلن أكون لكم أختاً بعدئذ، ولن تتقدم يدي إلى طعامكم أو ملابسكم، بل عليكم أنت أن تفعلوا كل شيء بأيديكم كسابق عهدكم.
فساد الصمت بينهم ولكن عاد صوتها يقول - أرجو ألا ينفذ اليأس إلى قلوبكم، فأن ما يجعلهن يحجمن عن الزواج بكم إنما هي تلك الإشاعات الكاذبة التي يفترونها القوم عليكم هناك، ولكني أؤكد أنه إذا ما قبلت إحداهن الزواج فسرعان ما تتقاطر الأخريات عليكم.
وبقيت صامتة فترة إلى أن خطر لها أن تسأل.
- هل هناك من يحرر عقوداً سوى الحاكم؟
فأجابوها - هناك قسيس فقير في الغابة.
- حسناً لقد انتهى الأمر.
كان اليوم أحد أيام الأعياد الوطنية، وقد اعتاد الأهالي، أن يتركوا أسلحتهم في منازلهم في مثل تلك الأعياد. وفي المساء وأهل البلدة في هرجهم ومرجهم إذ بهم يفاجئون بالأخوة بونتبي وقد أشهروا أسلحتهم مهددين. . . وسرعان ما انطلقوا هاربين بعد أن حملوا صفوة الفتيات التي اختاروهن ولم ينسوا أن يغلقوا أبواب البلدة خلفهم جيداً حتى وصلوا إلى(621/51)
منزلهم في الغابة سالمين.
عالج أهل البلدة فتح الأبواب فلم يتمكنوا من ذلك إلا في الفجر، وكانت الثلوج تتساقط في غزارة حتى عجزوا عن تمييز أي شيء. وبقيت الحال على ذلك عدة أيام طويلة بعدئذ حتى دب اليأس إلى قلوبهم خوفاً من الذهاب إلى منزل آل بونتبي مخترقين تلك الطريق المظلمة الخطرة ولم يجدوا بداً من الانتظار حتى الربيع.
أمسكت الفتيات في بادئ الأمر عن تناول الطعام وتمسكن بأهداب الفكرة التي كانت تحوم برؤوسهن دائماً عن العودة إلى أهلهن. ولما لاحظت ميلي ذلك الامتناع البغيض، جعلت تدبر الأمر في سياسة، فأول ما فعلت أن جهزت لهن الشاي وجعلت تقنعهن حتى تناولته. ولما سرى الدفء في أجسادهن بدأت تقول. (أنه لمن دواعي أسفي حقاً يا آنساتي أن أجدكن على تلك الحال التعسة بعد أن اختطفكن هؤلاء الوحوش. ولو أني عملت أن تلك هي نواياهم لنصحتهم بالعدول عنها. بودي لو تعدْن جميعاً إلى بلدتكن، ولكن ما حيلتي الآن. . . والثلوج متراكمة في الطريق. . . علينا إذن أن ننتظر حتى الربيع. ولكني أؤكد لكن أني سأحرص دائماً على بقائكن في أمان ودعة).
ثم أخرجت مجموعة كبيرة من المفاتيح وعادت تقول (سنبقي نحن هنا، ونغلق علينا أبواب المنزل جيداً، وأما هؤلاء الحمقى فليتناولوا طعامهم في حظيرة البهائم حتى تخزهم ضمائرهم ويندموا على هذه الفعلة الشنعاء).
فأشرقت وجوه الفتيات لذلك، وقادتهم ميلي إلى حجراتهن وهن يشعرن بصداقتها الحقة.
ظلت الحال على ذلك أسبوعاً كاملاً، فالفتيات داخل المنزل المغلقة أبوابه وقد تحققت أحلامهن القديمة عن حياة خالصة من شوائب الرجال. يا للسعادة حينئذ. . . جعلت ميلي تحبذ تلك الفكرة فتقول: (أترين يا صديقاتي أن الحياة بدون رجال جنة من جنات النعيم والخلد) وكن يوافقنها في حماسة في بادئ الأمر.
إلا أن الملل بدا يتسرب إلى نفوسهن على مر الأيام وبدأن يسأمن ذلك الحديث، ولاحظت ميلي أنهن يحاولن بقدر المستطاع رؤية أحد الفتيان من النوافذ أو من خلف الستائر كما بدأت تقوم بينهن المنازعات. . . وحينئذ. . . قررت ميلي أن تخطو خطوتها الثانية
جمعتهن يوماً في حجرة واسعة بطرف المنزل فاستعرض الفتيات ما فيها من أثاث وإذا(621/52)
بابنة الحاكم تتح صندوقاً وقعت عليه عينها فوجدت فيه ثوب عرس فأفلتت منها صيحة إعجاب جعلت الباقيات يتجمعن حولها ويتحسسن الثوب في رغبة خفية.
فقالت ميلي في حزم - دعن الثوب. . . لقد صنعته لما حاول أحدهم الزواج بإحداكن. . . دعنه. . . ولكنهن تجاهلن كلماتها وأسرعت ابنة الحاكم ترتديه وهي تقول:
- أن هوب الصغير له شعر مجعد، كم هو مغرٍ
فقالت ابنة المحامي - ليس لهوب ما لهلبرت من جمال
فقالت الثالثة - أرأيت عيني هارفي، إنهما فاتنتان بنظراتهما الهادئة الوديعة.
وقالت الرابعة: ما اجمل اسم هوارد وما ألطف وقعه على الأذن!
فقالت ميلي وهي تتظاهر بالخوف - ما هذا يا فتياتي. . أأصابكن الجنون؟
فرمقنها بنظرات التحدي والثورة حتى اضطرت إلى أن تخبرهن بأن هناك أربعة أثواب أخرى غير هذا الثوب.
ولما بدأن يهرعن لرؤيتها أوقفتهن وهي تقول - إن أردتن الزواج من آل بونتبي، فليس هناك أي مانع، ولكن أعلمني أني لا أزال مسئولة عنكن أمام آبائكن، فبمجرد زواجكن يجب أن يعود كل إلى مكانه، أنتن إلى هنا، وهم إلى حظيرتهم، ولا يمكنني أن أجمع بينكن وبينهم إلا بعد الحصول على موافقة آبائكن.
قام القسيس الفقير بصوغ العقود الخمسة، وعاد الرجال إلى حظيرتهم، كما أغلقت أبواب المنزل على الفتيات.
ولكن حدث في ذلك المساء أن هبت ابنة الحاكم صارخة:
- أنا لا أفهم كيف تقوي فتاة متزوجة لها شرعية الوجود مع زوجها دائماً على أن لا تراه إلا من النوافذ خلسة!
وحينئذ ارتضت ميلي أن تسن لهن قانوناً خاصاً، فسمحت للرجال بزيارة زوجاتهم ثلاث مرات في الأسبوع، على أن يتناولوا العشاء معهن تحت مراقبتها.
كان النفور هو الشعور السائد بين الفتيان والفتيات في أول الأمر، ولكنه سرعان ما اختفى، فهاهي ذي أبنة الحاكم وقد سمحت لهوب أن يضغط يدها في غفلة عن ميلي، كما خاطت ابنة المحامي زراء في ثوب هلبرت وهكذا بدأت الأحوال في التحسن والانتعاش ولو أن(621/53)
ميلي كانت تتظاهر دائماً بالحذر في رقابتها.
وفي صباح يوم من أيام يناير استيقظت ميلي ونظرت من النافذة فابتسمت ابتسامة عريضة. لقد ضربن برقابتها عرض الحائط. فها هن يمرحن مع أزواجهن، تلك تحدث زوجها والأخرى تقبله، والثالثة تعدو أمامه. فشعرت بالسرور يملأ قلبها وخطر لها خاطر لم يزعجها، إذ هي تذكرت أهلهن ولكنها وهي المدبرة قد احتاطت للأمر من مبدئه إذ أوصت الفتيان أن يتركوا خطاباً بإمضاءاتهم هم الخمسة ويذكروا فيه حسن نواياهم ونبلها ويطمئنوا الرجال على فتياتهم.
وفي ذات يوم بعد أن وضعت ميلي طفلها بستة أسابيع، جاءها هوب وهو يلهث ويقول:
- لقد جاء يا ميلي كل رجال المدينة مدججين بالسلاح، تبدو على وجوههم معاني التحدي والشراسة. ماذا نفعل؟
قامت ميلي فجمعت الفتيات وأصدرت إليهن أوامرها كما أخفت الفتيان في مكان أمين، ونظرت أمامها فوجدت تلك الكتل البشرية القادمة صوب المنزل تحت قيادة الحاكم فلم تعرهم التفاتها.
ولما وصل القوم إلى المنزل عجبوا وتولتهم الدهشة، إذ وجدوا أبوابه مفتوحة على مصراعيها، فما كان من الحاكم إلا أن قرع الباب مرتين فظهرت ميلي تحمل طفلها فبادرته قائلة
- لقد جئت في الوقت المناسب يا جناب الحاكم فأنا أود أن أعمّد طفلي. . . هل جئت بذلك السلاح لتعمده به؟
فخجل الرجال وألقى سلاحه ثم قال في حدة - ليس لي شأن بولدك. . . أين ابنتي؟
فقالت في هدوء - أصغ جيداً. .
أرهف الكل سمعهم فطرقت آذانهم صوت آلة غزل تدور وصوت آخر يجاريها وهو يتعالى بنشيد في مرح وسرور. وقالت ميلي: ها هي ذي ابنتك يا جناب الحاكم. . أتراها سعيدة أم شقية؟ فتمهل الحاكم ثم قال - إنها سعيدة. .
وسرعان ما تعالت أصوات الباقين يتساءلون عن فتياتهم، ولما أصاخوا السمع كانت هناك إحداهن تنشد أغنية عذبة، وأخرى تغسل في حبور، وثالثة تطهي الطعام.(621/54)
وخاطبتهم ميلي أخيراً (هاهن بناتكم، ألسن سعيدات، نحن جميعاً ندعوكم لتناول الغذاء معنا) وأخيراً ظهرت الفتيات فهرع آباؤهن إليهن، وتم التعارف بين الأزواج والأصهار
حسن فتحي خليل(621/55)
العدد 622 - بتاريخ: 04 - 06 - 1945(/)
دار الترجمة أيضاً
عفواً يا معالي الوزير!
هذا الطريق لا يؤدي
في عدد مضى من الرسالة اقترحنا على صاحب المعالي وزير المعارف أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة يُختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث ينقلون المعارف الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً فلا يدَعون عَلماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة والاجتماع إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ فإذا فرغوا من ترجمة الموجود فرغوا لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. وكان هذا الاقتراح مبين الأسباب، مفصل النتائج، موضح الآثار، يقرأه القارئ فيحسبه الطول ما تردد في نفسه، وتجدد في أمانيه، صادراً عن رأيه أو منقولاً عن شعوره. لذلك دوى صداه في الأقطار العربية فتجاوبته ألسنٌ مبِينة، وتناولته أقلام بليغة؛ ولو ذهبنا نذكر كل ما قيل، وننشر كل ما كُتب، لما اتسعت الرسالة لموضوع غير هذا الموضوع.
على أننا ننشر اليوم قولين رسميين دارا على هذا الاقتراح في مجلس الشيوخ، أحدهما سؤال لشيخ محترم فيه رأي الأمة، والآخر جواب عنه لوزير المعارف لخص فيه رأي الحكومة، ثم نعقب عليهما بما نعتقد أنه الحق والأحق
صاغ الأستاذ أحمد رمزي بك أحد أعضاء مجلس الشيوخ من هذا الاقتراح سؤالاً وجهه إلى معالي عبد الرزاق السنهوري بك فأجابه عنه بقوله: (توجد فعلاً بوزارة المعارف إدارة لأداء الأغراض النافعة التي أشار إليها حضرة العضو المحترم في الجزء الأول من سؤاله، وهي ترجمة المؤلفات الأجنبية ونقل المعلومات العلمية والاجتماعية والأدبية وثمرات الثقافة الأجنبية إلى اللغة العربية؛ وعندما توليت وزارة المعارف أعدت تنظيم إدارة الثقافة العامة التي تتبعها إدارة الترجمة بما يكفل لها أداء مهمتها على الوجه الأكمل، وراعيت في هذا التنظيم الجديد أنه يمكن الوزارة من أن تستعين بمن يمكن الاستعانة بهم من الكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين فتعهد إليهم بأعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرفها لهم. وشكلت لجنة من كبار رجال الوزارة والجامعة لاختيار الكتب(622/1)
التي تترجم، ووضع المناهج للترجمة وتعيين من يقومون بها. أما عن النفقات التي يحتاجها هذا العمل فإن الوزارة فضلاً عما يوجد في أبواب ميزانيتها من اعتمادات مرصودة لهذا الغرض لن تتأخر عن التقدم إلى البرلمان بطلب ما يحتاجه هذا العمل الواسع النطاق من اعتمادات جديدة)
أما سؤال الشيخ فاتجاه إلى الطريق الأقوم في تربية الشعب وترقية عقله ولغته وأدبه وعلمه وعمله؛ وأما جواب الوزير فاحتفاظ بالنمط المألوف من مسايرة (الروتين)، ومشاورة اللجان، ومطالعة التقارير، ومماطلة الحوافز، حتى يتراخى الزمن ويفتر العزم ويتغير الحال وينتقل الحكم وينتهي كل شئ إلى لا شئ! وكان الظن بصاحب المعالي وزير المعارف وهو من هو في منطقه وتعمقه وجده أن يعالج نقل المعارف الأجنبية على أنه تصحيح نهضة وتثقيف أمة وبدء تاريخ، فيجعله الهدف الأول لسياسة الوزارة في عهده، والمنار الهادي لمن يسلك هذا الطريق من بعده
إذن بقينا في نقل الثقافة الغربية على ما كنا عليه لم نتقدم خطوة: إدارة الترجمة في مراقبة الثقافة العامة تشرف على خمسة مترجمين أو ستة ينقلون سفراً ضخماً في التاريخ العام لا ندري في أي مدة ينتهي، أو كتاباً في تاريخ إنجلترةلماكولي لا ندري أي أمة يفيد؛ ثم الاستعانة بالكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين (في أعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرف لهم)، وهذه هي الخطوة الجديدة في الإدارة القديمة ولكنها إلى الوراء، لأن اختيار الكتب وتوزيعها على أحرار المترجمين تجربة تحققت في بعض العهود ثم أخفقت. وإخفاقها إنما أتاها من نزعتها الفردية في اقتراح الفكرة وانتخاب الكتاب واختيار المترجم. وبقاء الأعمال الفردية رهن ببقاء الفرد. والقاعدة عندنا أن يهدم الخالف ما بنى السالف حتى لا يكون لغيره بناء يقوم ولا عمل يتم. أما إذا أسس العمل على قانون أو مرسوم عز على الرياح أن تنال منه وإن سفَت عليه التراب وزمجرت حوله باللغط.
وبعد، فهل نستطيع أن نعرف ولو بالحدس بعض الأسباب التي سوغت للوزارة أن تفضل إدارة للترجمة على دار للترجمة؟ يقولون إن من هذه الأسباب صعوبة الحصول على مائتي مترجم يصلحون لهذا العمل. واعتراف الوزارة بهذه لصعوبة اعتراف منها بالعجز عن أداء ما خلقت له؛ فإن من العار الذي لا يرحضه ندم ولا لوم ألا نجد في جيلين نشأتهما الوزارة(622/2)
المعارف في مصر وفي أوربا، مائتين يحسنون اللغة العربية ولغة أخرى أوربية، وتعليمهما كما نظن يبتدئ مع الدراسة الابتدائية، وينتهي مع الدراسة الجامعية! فإذا سلمنا لهم أن ذلك هو الواقع فإن في الإمكان أن يسدوا هذا العوز بطائفة من إخواننا العرب، إذ الغرض العلمي واحد، والتعاون الثقافي قائم. فإذا أعيانا الوصول إلى هذا، كما أعيانا الحصول إلى ذاك، بدأنا العمل بمائة أو بخمسين ثم بعثنا إلى أوربا في كل سنة عشرة من خريجي الأزهر ودار العلوم والجامعة يخصون في درس هذه اللغات حتى يبلغ النصاب عدده. ولو أن (البعثة الفهمية) - ولها في ذمة الوزارة ستمائة فدان من أخصب الأرض - سارت على النهج الذي رسمه لها صاحب المعالي حلمي عيسى باشا لما شكونا هذا النقص وأحسسنا هذا القصور
كذلك يقولون إن هؤلاء المترجمين إذا تيسر الحصول عليهم سيصيبهم داء الموظفين فيعملون عُشر ما يستطيعون؛ وإذن يكون عشرون يرأسهم ضميرهم، خيراً من مائتين يرأسهم كبيرهم. ودواء ذلك إذا جاز أن يكون عين كلوء تراقب، ويد حازمة تصرّف، وتحديد يومي لإنتاج المترجم يطلب منه ويناقش فيه ويحاسب عليه
أما غير هذين الاعتراضين على تهافتهما فمرده إلى الهوى لا إلى العقل. والحق أن الغار الذي ضفره عطارد لهذا العمل العظيم الخالد لا يزال مرفوعاً بين يديه ينتظر الرؤوس التي تستحقه. وما زالت قوى الأمل في أن يكون من نصيب الصديقين العزيزين عبد الرزاق السنهوري وأحمد أمين. فليت شعري أهو الحذر الذي يخطئ، أم هو القدر الذي يصيب؟
يا معالي الوزير! إنا أمة جاهلة فينا أفراد يعلمون. وإن من الخزي أن نظل كذلك وآباؤنا هم الذين علموا الشعوب ومدنوا العالم! إن الجهل باللغات الأجنبية عندنا مذمة وهو عند غيرنا محمدة، وعلة ذلك أن لغتنا لا تزال لغة العلم القديم؛ فمن اكتفى بها أتهم بخفة الوزن وقلة العلم. وهيهات أن ندرأ عنها وعنا هذه المعرفة إذا لم تنقل إليها المعارف الحديثة على الوجه الذي أقترح! بهذا وحده يا معالي الوزير تعود لغتنا إلى الحال التي قال فيها كاهن قرطبة أيام كنا سادة الأندلس: (إنا نحب أن نقرأ الشعر والقصص، وندرس الدين والفلسفة في اللغة العربية، لأنها لغة عذبة الألفاظ بليغة الأداء. ولا نكاد نجد فينا من يقرأ الكتب المقدسة باللغة اللاتينية، وشبابنا الأذكياء كافة لا يعرفون غير لغة العرب وآدابهم. وكلما(622/3)
قرأوا كتبها ودرسوا أدبها أعجبوا بها. فإذا حدثتهم عن كتاب من الكتب اللاتينية سخروا منه وقالوا: إن الفائدة منه لا تساوي التعب في قراءته. . .).
ذلك ما قالوه في لغتنا بالأمس؛ وهو نفسه ما نقوله في لغاتهم اليوم! فهل في ذلك لقوم بلاغ؟
أحمد حسن الزيات(622/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 3 -
في ج (10) ص263.
ويلومون فيك يا أبنة عبد الله (م) والقلب عندكم موهوق
وجاء في الحاشية: موهوق يروى مكانها موثوق.
قلت: لم يرو موثوق مكان موهوق في كتاب، ولم يجئ ذلك عن رواية. ولن يعد تصحيف ناسخ أو تطبيع طابع رواية من الروايات. . . وكان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي وجد هذه اللفظة (موثوق) في طبعة كتاب فسارع إلى تخطئة الشاعر، قال في مجلته (الضياء) س1 ص515:
(أغرب منه ورود مثل ذلك في كلام أناس من أهل الجاهلية كقول عدي بم زيد العبادي: ويلومون، البيت. . . يريد موثوق)
والشاعر لم يقل (موثوق) وإنما قالته المطبعة، والبيت من شواهد اللسان والتاج في (و. هـ. ق).
وورد في ج 10 ص264 في قصيدة عدى هذا البيت:
مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
و (مرة) هنا هي (مزة) بالزاي. والمزة - كما في اللسان - الخمرة التي فيها مزازة، وهي طعم بين الحلاوة والحموضة، وحكي أبو زيد عن الكلابيين: شرابكم مز.
وجاءت (مرة) في طبعة الأغاني. والبيت من شواهد اللسان والتاج في (م ز ز) والبيتان من قصيدة مشهورة، مطلعها:
بكر العاذلون في وضح الصبح (م) يقولون لي: ألا تستفيق وفيها هذا البيت المشهور:
فدعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... فينة، في يمينها إبريق
ولم يورد أبو الفرج هذه القصيدة في كتابه (الأغاني) في أخبار قائلها المنسوبة إليه، وأوردها في أخبار حماد الراوية، فهل صاغها حماد. . .؟
في ج 10 ص 37 وقال (يعني ابن الشبل البغدادي):(622/5)
أحفظ لسانك، لا تبح بثلاثة ... سر ومال - ما استطعت - ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلي بثلاثة ... بمعكر، وبحاسد، ومكذب
قلت: بمكفر. وجاءت في (طبقات الأطباء) بمفكر. والمفكر - يا أخا العرب - لا يكفر. . .
في ج 6 ص 237: فكان إذا سمع منه كلاماً يسجع فيه، وخبراً ينمقه ويرويه - يَبْلُقُ عينيه، وينشر منخريه.
وجاء في الشرح: بلق عينه كنصر وابلق فتحها وأقفلها.
قلت: جاء في اللسان: بلقه يبلقه بلقا وأبلقه فتحه كله، وقيل فتحة فتحاً شديداً، وأغلقه، ضد.
وعندي أن الأصل (يُبرّق عينيه) قال التاج: برق عينيه تبريقاً إذا وسعهما وأحد النظر، قال أعرابي في المعاتبة بينه وبين أهله:
فعِلقت بكفها تصفيقا
وطفقت بعينها تبريقا
نحو الأمير تبتغي تطليقا
وفي الأساس: ومن المجاز: وبرق عينيه: فتحهما جداً ولمعهما.
وأغلب الظن أن (ينشر منخريه) هي (يُنشز منخريه) أي يرفعهما.
والقول لأبي حيان التوحيدي في الصاحب بن عباد وأبي طالب العلوي أحد أصحابه، أي فكان أبو طالب إذا سمع كلاماً منه أي من الصاحب الخ. . . وأبو حيان هو صاحب كتاب (مثالب الوزيرين) والوزيران هما ابن العميد والصحاب. . .
في ج 7 ص 182.
وصاحب أصبح من برده ... كالماء في كانونَ أو في شَباط
بدمانه من ضيق أخلاقه ... كأنهم في مثل سم الخياط
نادمته يوماً فألفيته ... متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه ... بعض التماثيل التي في البساط
قلت: جاءت (شباط) بفتح الشين وهي بضمها. في التاج: شباط وسباط كغراب اسم شهر من الشهور بالرومية. قال أبو عمرو: يصرف ولا يصرف. (وهو) قبل آذار يكون بين الشتاء والربيع. قال الأزهري: وهو من فصول الشتاء، وفيه يكون تمام اليوم الذي تدور(622/6)
كسوره في السنين، فإذا تم ذلك اليوم في ذلك الشهر سّمى أهل الشام تلك السنة عام الكبيس، وهو الذي يتيمن به إذا ولد مولود في تلك السنة أو قدم قادم من بلد.
في ج 8 ص 182 ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم.
قلت: أغلب الظن أن الأصل هو (الإبقاء على أهل العلم) في الصحاح: أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه ورحمته. وفي الأساس: وأبقي عليك بقيا وبقية، وأرعى عليه: أبقي، وهو حسن الدَّعوى والدَّعيا كالبَقوي والبُقيا.
ومن أمثالهم: لا أبقي الله عليك إن أبقيت علىّ. قال الميداني: أبقيت على الشيء إذا تركته عطفاً ورحمة له. يقال هذا للمتوعد
في ج 6 ص 185 ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء في اللفظ والكنى ... كثيراً ولكن لا تلاقَي الخلائقُ
فقال له: أجلس يا أبا القاسم.
قلت: رواية البيت هي:
فقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ... كثيراً ولكن لا تلاقِي الخلائقِ
جاء في (خزانة البغدادي). قال يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل، وذلك كما قال صديق مولانا القريب وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة، فحسبه ابن مخارق الهلالي فإذا هو آخر، وذم قراه وجواره فقال:
سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت ... أبا قطن ليس الذي لمخارق
وقد تلتقي البيت. وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج (ولكن ميزوا في الخلائق) والذي في الخزانة هو أضبط.
و (دخل إلى الصاحب) ربما كانت (على الصاحب) وإن جازت (إلي).
في ج 11 ص 155
كنت في عينها كمرود كحل ... صرت في عينها كشوك السِّبال
وجاء في الشرح: السبال سنابل الحنطة وغيرها جمع سبلة.(622/7)
قلت: هو السَّيال، في اللسان: السيال بالفتح شجر له شوك ابيض وهو من العضاه. وروي اللسان والتاج للأعشى (والبيت من معلقته):
با كرتها الأغراب في سنة النوم (م) فتجري خلال شوك السيال
قلت: الأغراب الأقداح والمفرد غَرْب. وقد جاءت الأغراب هنا في المعجمين بالعين وإنما هي بالغين.
في ج 8 ص 210 ومنها (أي من وجوه الواو ومواقعها) أن يكون بمعنى حرف الجر كقولك: استوى الماء والخشبةُ أي مع الخشبة.
قلت: جاءت الخشبة مرفوعة وهي منصوبة. والقول للإمام أبي سعيد السيرافي في المناظرة بينه وبين متى بن يونس القنائي. والإمام يعني بالفعل (استوى) ارتفع لا تساوي حتى يجوز العطف، ويقصد واو المفعول معه لا العاطفة إذ قد ذكر هذه في أول بحثه فقال: منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً و (استوى الماء والخشبة) من أمثلة المفعول معه في همع الهوامع وحاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك. . .
في ج 8 ص81
رأيت قلنسوة تستغيث (م) من فوق رأس تنادي خذوني وقد قُلِعَت وهي طوراً تميل (م) من عن يسار ومن عن يمين
قلت: وقد قَلِقت فهي الخ. ولو قلعت ما كانت تميل من عن يسار ومن عن يمين. . .
في ج 9 ص 12 وقلت كما قال رؤية لما استزاره أبو مسلم صاحب الدعوة:
لبيك إذ دعوتني لبيكا ... أحمد ربي سابقاً إليكا
قلت: رواية البيت هي:
أحمد رباً ساقني إليكا
وبعده:
الحمد والنعمة في يديكا
وقبل الأول:
قلت ونسجي مستجد حوكا
وعندي أن (صاحب الدعوة) هي صاحب الدولة وإن جاءت الدعوة في كتب كثيرة.(622/8)
في ج 7 ص 250 فأما أخونا أبو الحسين قريبه - أعزه الله - فقد ألزمني بإخراجه إلى أعظم منة.
قلت: ضبطت (أعظم) بالكسر كأنها مجرورة بإلى، وجوزت كسره عند ضابطه الإضافة. والقول هو: ألزمني بإخراجه إليّ أعظم منه. يقال ألزمته الشيء فألتزمه كما في الصحاح وغيره، وألزمه به كما في التاج، ولم يرد ألزمه إلى الشيء.
والجملة من رسالة للصاحب بن عباد إلى أبي علي الفارسي وقد جاء فيها:
(والشيخ - أدام الله عزه - يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط، دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط كما يخاطِب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه)
وكلام الصاحب هذا مطرب مثمل. وأبو علي هو (أوحد زمانه في علم العربية، كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد) كما روى ياقوت في كتابه. وما القول في أمام، ابن جني تلميذه؟(622/9)
على قارعة الطريق
صور من الجيل الجديد
للأستاذ سيد قطب
1 - تلميذة
لقيتها منذ عام واحد صبية أقرب إلى أن تكون طفلة. كانت في السنة الرابعة الابتدائية، تلميذة لأحد الزملاء. . . وكان معي حينما تقدمت هي إليه لتحييه تحية التلميذة للأستاذ في الطريق، وسلمت عليّ معه في براءة.
واليوم لمحتها. لا في الطريق، ولكن في محل عام من محال (السندوتش) وغير السندوتش أيضاً! لم تكن وحيدة. كان معها رفيق تلمع على كتفيه نجمة. . . قلت لعله أخوها أو قريبها فما تجرؤ طفلة على الجلوس هكذا في ركن منعزل خفي عن الأنظار، مع غير قريب!
ولم ألق بالا إلى الأمر بعد النظرة الأولى. ولكن ماذا؟ هاأنذا أسمع أصواتاً فيها شيء. شيء غير حديث الأخوة أو الأقرباء أو ممكن هذا؟ أو يكون؟
نعم يكون فنحن في الجيل الجديد!
لم تكن قد رأتني بعد كما رأيتها، لقد كانت مستغرقة فيما هي فيه. ولكن هاهي ذي تراني. . . وأقول الحق كي لا أظلمها. . . لقد خجلت وتوردت وجنتاها! أم لعلها قد توردتا لسبب آخر؟
على أية حال لقد همست له، وهمس لها. ثم إذا هما ينسحبان. . . أأَكون قد عكرت عليهما الجلسة (البريئة). . .؟ ربما أكون!
2 - عذراء
كان يقف في محطة الترام، وقد غاب. كان يقطع الطوار جيئة وذهوباً من ملل الانتظار. وفجأة يرفع عينيه إلى شرفة المنزل الفخم المقابل فتقع عينه على فتاة.
لم يكن يريد شيئاً حينما رفع يده يمر بها على موضع شاربه! كانت حركة آلية شبه غريزية في هذه المفاجأة. ولكنه وجد يدها ترتفع بالتحية، ولما كان الموقف كله هزلا في نظره، فقد تحرك حركة غريزية أخرى، حرك إصبعه للاستدعاء!(622/10)
واختفت من الشرفة، لتمضي دقائق قليلة، ثم يجدها بعد ذلك على الطوار!
لقد ارتبك قليلاً. ولكنه تماسك ليرى! فما كان يخطر على باله أن يتم الأمر كله بهذه السهولة. ومن يدري لعلها لم تلحظ إشارته ولم تحس بوجوده وإنما هي تمضي لشأن خاص.
وقال كلمة عابرة، مما يقوله الشبان للفتيات. وما كان اشد دهشته حين أشارت إليه أن يصمت هنا وأن يمضيا هناك.
إنها لتلحظه هنا كل صباح. وإنها لتعرف أنه مدرس في المدرسة الثانوية بالحي، وأنه خاطب ليتزوج. فأين هي (دبلة) الخطوبة؟
واستمر في عبثه فقال: لقد عدلت نهائياً عن الزواج. فما راعه إلا أن تقره فتاة على هذا العزم. لأن الطلاقة هكذا هي أليق الأوضاع!
والتقيا مرتين قبل أن ترافقه إلى داره!. . .
وفي الصباح سأل في سخرية: ألا تتزوجينني؟ قالت: لا. أن أبي مستشار، ولن يرضى بالمدرسين!
وسألته عن شاب آخر يدرس معه في المدرسة نفسها: ما اسمه وأية مادة يدرس؟
وواعدته مرة ثم أخلفت الميعاد!
وبعد يومين شاهدها مصادفة. . . برفقة ذلك الشاب!
إنها من الجيل الجديد. . .
3 - خطيبة
جلسا قبالتي في ترام رقم 15، وكنا ثلاثة في الحجرة، كان يبدو عليه شغف وفتنة، وكان يبدو عليها دلال وإغراء. . . إنهما خطيبان. لقد لمحت في إصبعيهما (دبلتين) في اليد اليمن. . .
وسمعتها تقول: الحمد لله إذ كنت موجوداً لئلا تظن شيئاً!
وقال - في لهجة يخالطها العتاب -: ماذا تقولين؟ أظن شيئاً؟ ماذا أظن؟ وافرضي أنني لم أكن موجوداً. . . اسمعي: إنه لا يمكن أن يجول في نفسي أي شيء عنك. إن على الإنسان أن يبحث عن الأسرة أولا وعن الأم ثانياً. . . ثم يثق، فلا يفتش بعد ذلك أبدا.!(622/11)
وتبادلا النظرات في إغراء. . .
ونزل في محطة وتابع الترام سيره. . .
ثم يصعد في المحطة التالية مباشرة رجل آخر يأخذ مكان الرجل الأول. فتتصافح الأيدي والعيون والأجسام أيضاً. . ويسأل: أين نزل؟ فتجيبه وهي تغمز: في المحطة السابقة. فيعقب هذا ضحكة مشتركة ساخرة. . . ثم يأخذ وجهها طابع الجد، وهي تقول:
أنت عارف (ياسوسو) أنني قبلته من أجل خاطرك أنت! فيجيب وهو يربت على يدها بين يديه:
(معلهش) يا ميمي. . . (برفان كويس)!
4 - زوجة
كنت أعرفها سيدة فاضلة. وكانت تزور أسرة أخرى أعرفها بنظام واطراد. . . ثم انقطعت عنها فلم أعد أراها هناك.
قلت لها: لم لا تزورين بيت فلان؟
فترددت هنيهة، ثم انطلق لسانها. . . لسان حواء!
قالت: لأنني أخجل أن أقابل فلانا هذا، بعد ما اتخذتني زوجته ستاراً لأشياء، وهو يثق بي فلا يفكر في هذه الأشياء. وانطلقت تحكي:
لقد كانت يوماً ما هناك، ثم استأذنت مبكرة لأنها تنوي الذهاب إلى الخياطة. . . وما كان أسرع الزوجة لأن ترجوها في الانتظار هنيهة حتى تتهيأ للخروج معها إذ أنها قد غاضبت خياطتها وتود أن تعرف خياطة جديدة.
ولم يمانع الزوج بطبيعة الحال، فخرجتا بعد قليل.
ولم تكن صديقتها لتشك في أنها تعنى ما تقول. فلهذا دهشت حينما فاجأتها الصديقة بعد خطوات بالاستئذان منها بعد أن قامت بمهمتها. . . وأنها تقصد إلى جهة أخرى. . إلى موعد (برئ)!
وقالت الصديقة المدهوشة: ولكن يا فلانة ما الذي تنقمين من زوجك، وهو رجل مهذب، ومركزه الاجتماعي كبير، وسيرته معك طيبة؟
وقالت لها الزوجة: حذار أن تفهمي أنني أنقم من زوجي شيئاً. إنه ما تقولين وأكثر. وإنه(622/12)
لوالد أطفالي، ورب بيتي. . . ولكن يا فلانة. . . لا بد من التغبير بين الحين والحين!!!
وفغرت الصديقة فاها عجبا. . . فما راعها إلا الزوجة تقول: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي! نحن من جيل جديد!!
5 - أم
قلت له: لماذا فصمت الخطبة، وقد كنت معجباً بالفتاة؟
قال: أمُّها!
قلت: ومالك أنت وأمها إذا أعجبتك ذاتها؟
قال: فإذا شاءت هذه الأم أن تغلب أبنتها؟
قلت: ويحك! أهي ألغاز؟
قال: كلا! هو ما أقوله لك.
قلت: أتق الله! ولا يبلغ بك العبث هذا المبلغ في الحديث عن العائلات!
وأقسم: إنه لصادق. وإنها لامرأة نصف، ولم تشبع بعد من الدنيا. وإنها لا ترى الحياة إلا ضراعا. . . ولو مع أبنتها!
ولما كنت اعرف صدق صاحبي - كما عهدته - فقد رحت أحوقل وأستعيذ، وأخبط كفا على كف. . . ثم أقول: دعنا من الأخلاق. فأين الأمومة يا أخي؟ عاطفة الأمومة؟
قال: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي. يا مولانا نحن في جيل جديد!
إنها هكذا تقول!!
6 - أب
نزل من عربته الفخمة، وجلس على (البار) الصغير تحت عمارة (الإيموبليا) أمام مفرق الطريق. . . جلس ينفض الممرات من بعيد، ويحملق في السيقان العارية، ويتبعها بنظره إلى بعيد!
ثم لمح على مقربة رجلا وفتاة ينتظران أن انفتاح الطريق للمرور. ورأيت الرجل يشير للفتاة في حذر وتهيب على هذا الجالس، ثم يندفع للتسليم عليه في انحناء، ويدعو الفتاة لتسلم على عمها فلان بك.(622/13)
واتسعت حدقتا البك، واختل توازن عضلات وجهه وهو يبتسم ويحملق ويهز يد الفتاة آن.
وقال: لماذا لم تمر عليَّ لتذكرني بمسألتك؟
قال الرجل في تلعثم: البركة فيك يا سعادة البك.
قال: غدا - إن شاء الله - لا بد أن تمر عليَّ (ونظر لفتاة)! -. . . والآن تجلسان لتناول شيء ما.
وقال الرجل: متشكرين يا سعادة البك، وهزت الفتاة رأسها شكراً.
قال سعادة البك: آه. طيب. هنا لا يناسب الجلوس. ولكن ستأخذان معي الشاي في (جروبي) غداً إن شاء الله! وفي الصباح تمر عليَّ في المكتب من أجل مسألتك!
وسلما وانصرفا شاكرين. . . والرجل تبرق مع الفرح عيناه ونظرت فإذا البك يتقصى تقاطيع جسد الفتاة - ابنه الرجل - وشفتاه تتلمظان وعيناه!!
منذا الذي دفع بالجيل إلى الهاوية؟ منذا الذي جعل هذه الصور الشائهة تتوالى أمام عينيه دون استنكار؟
بضعة مواخير. . . بعضها يسمى مجلات. وبعضها يسمى أفلاما. وبعضها يسمي أغاني تتسور جدران البيوت عن طريق المذياع. . . وبضعة (هلافيت) لا يهمهم أن يكون في البلد فراش نظيف. يسمون أنفسهم من حملة الأقلام!
سيد قطب(622/14)
مناقشات في الصيف. . .
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
- 1 -
(التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. . . فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة. . .)
(فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية و. . . إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر، أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن)
والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرنا. . .)
فليس هو (أي التصوير الفني) حلية أسلوب ولا فلتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر وخطة موحدة وخصيصة شاملة)
بهذا التعميم يبسط الأستاذ سيد قطب رأيه الذي يربط به إدراك (سر الإعجاز في تعبير القرآن)
وقد قلت في مقالي السابق عن كتابه (إن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة مفضلة في التعبير يقتضي الاعتماد على الإحصاء وظهور نتيجته بكثرة عددية، فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره المؤلف يحظى بالكثرة العددية؟ إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن، فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن، وليست هي الغالبة ولا الكثيرة، فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ، الذي يستخدم الألفاظ الوضيعة وحدها، وتارة يستعير لفظة واحدة من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك بها الخيال ويلمس الحس لمساً رفيعاً، وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية، وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة، وتارة تكون هي الكل، ومع ذلك يحتفظ القرآن في كل أولئك بأسلوبه المتفرد وسر إعجازه. فليس التصوير الفني وحده (هو سر الإعجاز في تعبيره).
ولكن الأستاذ سيد يقول في الرد علىّ (نعم (أي أن نتيجة الإحصاء تؤكد رأيه) وقد كانت(622/15)
مهمتي هي هذا الإحصاء وكان حكمي قائماً على هذا الإحصاء)
وقد وصلنا بهذا الرد إلى مكان تغني فيه الأمثلة والشواهد مالا يغني الجدل. ولست أستطيع أن أسرد (القرآن كله) في مجلة الرسالة للاستشهاد كما لم يستطيع صاحب (جحا) أن يعد النجوم حينما سأل (جحا) كم عدد نجوم السماء؟ فقال له: كذا. . . فلما تشكك ذلك الصاحب قال له حجا: إن لن تصدقني فعدها أنت. . .)
وهأنذا أفتح المصحف حيثما اتفق، فاقرأ معي من سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرا. واتخذوا من دونه آلهة لاَ يَخلُقون شيئاً وهمُ يخلَقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا، وقال الذين كفروا: إن هذا إفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون؛ فقد جاءوا ظلما وزورا. وقالوا أساطيرُ الأولين اكْتَتَبَها فهي تَمْلَي عليه بكرة وأصيلا. قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض. إنه كان غفورا رحيما). ولفتح القرآن مرة أخرى حيثما اتفق ولنقرأ من سورة الأنعام:
(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلماتِ والنور، ثم الذين كفروا بربهم يَعْدِلون. هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً. وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون. وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءكم، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).
ولنقرأ سورة الأعلى:
(سبَّح اسمَ ربَّك الأعلى. الذي خلق فسوَّى. والذي قدّر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غُثاء أحْوَى. سسُنْقرِئُك فلا تنسى. إلا ما شاء الله. إنه يعلم الجهر وما يخفى. ونيسرك لليسرى. فذكر إن نفعت الذكر. . .)
ولنقرأ من النساء (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم وكان الله سميعاً عليما. إن تُبْدُو خيراً أو تخفوه أو تَعفُوا عن سوء فإن الله كان عفوَّا قديراً. إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرَّقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون(622/16)
أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرين حقا، واعتدنا للكافرين عذاباً مُهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم، وكان الله غفوراً رحيما).
واقرأ من سورة الأعراف: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أوَعَجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذَّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عَمِين) وهكذا سأتعب واتعب القارئ من عد آيات القرآن للاستشهاد بها في هذا المعرض كما يتعب من يعد نجوم السماء. . .
فأين في هذه الآيات وأمثالها الكثيرة (التصوير الفني) الذي لفت نظر الأستاذ سيد وأثار خياله، حتى وهو طفل، بحبكته في اللوحات ذات الوحدة والتناظر والتمثيل الجامع ذي الظلال والأجواء الشاملة كما يتجلى في (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ، فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلبْ على وجههً. . .) وفي: (مَثَل الذين كفروا بربهم، أعماُلهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) وفي (له دعوة الحق. والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفَّيْه إلى الماء ليَبْلُغ فاهُ، وما هو ببالغه. . .) وفي (ومن يشرك بالله، فكأنما خَرَّ من السماء فتخْطَفُه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق. . .)
فهل نستطيع أن نقول إن أمثال هذه الآيات التي ذكرناها من سور الفرقان والأنعام والأعلى والنساء والأعراف لا تعبر عن (معان مجردة أو حالات نفسية أو صفات معنوية أو نماذج إنسانية. . . الخ) وهل نستطيع أيضاً أن نقول إن (نوع) التعبير في هذه الألوان واحد من الجهة الفنية؛ وهل لا نلمس في هذه الآيات نفس الإعجاز الذي نراه في غيرها من أدوات التعبير القرآني، حتى نربط ما بين الإعجاز وبين التصوير الفني؟
لا. إني لا أقر الأستاذ قطب على هذا التعميم، وكنت أحسبه فلتة قلم إليها حماسة للموضوع ولكن رده علىّ بعد ذلك يؤكد أنه (يعني مرتكنا فيه إلى الدليل). فلم يكن لي بد أن أسرد له(622/17)
وللقراء تلك الشواهد التي سلفت، محيلا إياهم على استعراض القرآن. ليتبينوا أن (التصوير الفني) أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة، وأن القرآن يحتفظ بروحه الفذ وجميع خصائصه الإعجازية في كل هذه الأدوات. . .
- 2 -
أنا ما خشيت على القرآن من إدراك (سر الإعجاز في تعبيره) كما ظن الأستاذ سيد، وإنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور. . . الخ) ومع ذلك لا نجد في بيانهم هذا اللون المتفرد ولا نجد في نفوسنا هذه الاستجابة المسحورة لتخييلهم وتصويرهم كما نجدها حينما نتلو القرآن.
فأكرر للمرة الثانية أن المعجز من أمور الحياة ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه، وكل أدوات التعبير التي أشرنا إليها قد استخدمها البلغاء. ولكن شتان بين الروح الخلفي الذي يترقرق في بيان القرآن ويشع من (هياكله) البيانية في السطور وما بينها وبين الهياكل البيانية البشرية الجميلة. . . شتان بين ما يمكن إدراكه بالمقاييس والمسافات، وبين أسرار ذلك العالم الأعلى الطليق الذي تنزل منه في القرآن روح متفرد لا يستطاع بحدود وأربطة. فلا يصح أن نربط بين سر الإعجاز وبين أي أداة من تلك الأدوات. إن الكون صنع الله والقرآن كلام الله، وأسرار الإعجاز في كلامه كأسرار الإعجاز في صنعه، نستطيع أن نصف آثارها في نفوسنا وعجبنا منها. ونستطيع أن نهتدي فيها إلى معالم للجمال تقاس، وعجائب للبلاغة تجلّي ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنها موضع سر الإعجاز في تعبيره.
- 3 -
كل ما في القرآن من (منطق) الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخَّاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ(622/18)
ضيقة. وأي كلام اعتمد على (الحقائق البديهية الخالدة) وعلى مقدمات ونتائج صحيحة سواء أكانت محسوسة ومنظورة أم غير محسوسة ومنظورة فهو منطق ذهني. فإذا جمع إلى صحة المقدمات والنتائج جمال التعبير وروعة الأسلوب وإشراق الطلعة فهو منطق (وجداني) كذلك. منطق الوجدان - وإطلاق (المنطق) هنا تجوز في التعبير - هو الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة و (نقط الارتكاز) الواضحة في عالم البداهة و (الحكم العقلي). والتأثر بهذا (المنطق) تأثر وقتي لا يترك رواسب في الذهن ومقاييس تملأ اليد، يستطيع الفكر أن يتحاكم إليها، ولأنها ألوان وظلال ونغمات وأعراض غير ملازمة تنفعل لها النفس انفعال الانقباض أو الانبساط وقتاً ثم يزول تسلطها عليها.
وليست هذه الأعراض هي طريق إقرار (العقائد) ودعائم الفكر والحياة عند الراصدين المتيقظين الواعين، وخصوصاً الدعامة الأولى والقضية الكبرى قضية (التوحيد) التي هي قضية الكون كله وأعظم شئونه! إن الوجدانيات من الخطابيات والشعر والموسيقى وسائل إقناع وقتي للبسطاء، وليست وسائل يقين ثابت للذين يبحثون لعقولهم عن عواصم تستند إليها من طوفان الأهواء والنوازع والوجدانيات المتقلبة. . . وما كان للقرآن وهو يتصدى لإثبات القضية الكبرى أن يعتمد على (المنطق) الوجداني وإني أرى الذهن في إثبات العقائد وخصوصاً (التوحيد) هو أوسع المنافذ وأصدقها وأدقها، كما بينت في المقال السابق بهذا الخصوص.
والذي يدعوني إلى أن أفهم أن الأستاذ سيد يذهب إلى أن مواطن العقيدة - بما فيها التوحيد - هو الوجدان قوله (موطن العقيدة الخالد هو الضمير والجدان) (وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً) (فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة فهي في برجها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة ويهتدي بهدي البصيرة ويفتح حسه وقلبه لتلقى الأصداء والأضواء).
فهذه كلمات صريحة (فيها الحصر بأما والنفي والاستثناء) في إقصاء الذهن عن منطقة العقيدة، وفي التفريق بين عمل الذهن وعمل الوجدان في الحياة والعقيدة، اضطررت إلى(622/19)
مناقشتها في مقالي السابق كظاهرة لمذهب كلامي فشا الحديث به في هذا العصر الذي اتصل فيه المسلمون بغيرهم من الذين وجدوا أصول دينهم لا تستقيم مع الفكر والحكم العقلي فالتمسوا العقيدة عن سبيل الوجدان وحده
ومع أن هذا النص من كلام المؤلف يكفي لأن يسلكه مع القائلين بأن منطقة العقيدة هي الوجدان وحده، فإنني لم أغفل النظر إلى ما قاله قبيل هذا النص مما يستفاد منه أنه لا يخرج الذهن إخراجا كلياً من منطقة العقيدة.
ولذلك لم أناقش كلامه مناقشة حرفية ولكني ناقشت الفكرة التي تشيع في جو الفصل كله. ولْنُنْه هذا الجدل بالمثال فإنه ابلغ في الحجة وأروح للنفس. قلنا إن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه فلنقرأها معاً:
(أم اتّخَذُوا آلهة من الأرض هم يُنْشِروُن. لا ((يَنْشُروُن) كما ضبطها المؤلف. فليضمها إلى ما نبهه إليه فضيلة الشيخ السبكي). لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون! لا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعلُ وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم! هذا ذِكْرُ مَنْ مَعي وذِكْرُ من قَبْلي، بل أكثرُهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنْشِرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي ويُنْشِرُ الخلائق من الأرض. فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حيٍّ مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وإنه لَلدَّليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بني عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. . وإنه لَلدَّليل المفضل عند المربين وعلماء النفس.
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . وإنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين ولا يمنع خلافهم وتنافسهم وتحاسدهم أنهم آلهة في طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس(622/20)
لأنه لا يملك غير منطقة هو، فهو معذور!
(فسبحان الله رب العرش عما يصفون) ذلك موقف وجداني فيه انفعال وتقزز من تلك الدعوى وتنزيه لله عما وراءها من أزمات ومحرجات. وهو موقف معترض للإسراع بالتنزيه تعود الآيات بعدد إلى الاستدلال (لاُ يسأل عما يَفْعل وهم يسألون) وهذا مقطع آخر فيه ضرب عظيم من ضروب الاستدلال هو الدليل العلمي الواقعي، وهو كذلك أحد ضروب الأدلة الكبرى وله في الفلسفة العصرية المقام الأول إذ به تسير الحياة العملية وهو محور الاجتماع. . .
فما دام الواقع أن جميع الآلهة المزعومة مَلَّك الناسُ أن يواجهوها بالمسئولية والمحاكمة فلا يصح أن يكون آلهة ما دامت تقع عليها الدينونه. . . ولكن الذي خلق السموات والأرض لا يملك عابد له أن يرفع عينه إليه بمسئولية، بل ليس له إلا التسليم والإذعان ما دام عاجزاً عن الهرب من أقطار السموات والأرض. . . (ومن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فلْيمدُدْ بسبب إلى السماء، ثم لْيقطع فلْينظر هل يُذهِبَنّ كيدُه ما يغيظ!)
وهل فيما زعمته الوثنيات والاشتراكيات شخصية إلهية لم تسأل؟ إن آلهة اليونان والهندوس وغيرهما كما وردت في أساطيرهم ذات صفات عاجزة فيها العبث والغلط والمنازعات التي كان وراءها مسئوليات.
(أم اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم!) إذا نحن في مقام جدل كبير يتسع للرد وقوع الحجة بالحجة وتشقيق الدليل وراء الدليل، ولسنا في مقام تسليم بوجدان عن طريق تعريض (الحس للأصداء والأضواء) والخطابيات والشعريات والنغمات.
(هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا مقطع عظيم أيضاً من مقاطع الاستدلال هو ما يسمونه (الدليل التاريخي) إذ أن التاريخ لم يثبت حياة رسول جاء قومه بغير الوحدانية. . . إذا فقد سد القرآن مجالات القول والاستدلال أمام المشركين حتى أثبت أنهم لا يستندون في دعواهم إلى أي حق، إنما إلى التكبر والجهل والإعراض. وكان هذا الختام (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) نتيجة منطقية ذهنية واضحة لمقدمات واضحة أخذت بضروب الأدلة جميعاً ولم تترك مفراً لجدل مجادل. . .
فكيف بعد هذا كله يضرب الأستاذ قطب هذه الآية مثلا في أن القرآن تناول مشكلة التوحيد(622/21)
بلا جدل ذهني؟! إن المنطق هنا منطق ذهني دقيق أخذ من موارد الكون والنفس جميعاً، غير أنه ورد بتعبير القرآن الفني الجميل المعجز الذي يُدني البعيد القصيّ. . .
ألم يقل: (فإنما يسّرنا بلسانك لتٌُبشِّر به المتقين وتنذر به قوماً لُدَّا) وما أدراك ما لدَدُ العرب وجدالهم! (بل هم قوم خَصِمُون)
ولكن (إن كنت ريحاً فقد لا قيت إعصاراً) وقد أتاهم من القرآن إعصار من البين كَبَّهم على مَنَاخِرهم وأذقانهم!
عبد المنعم محمد خلاف(622/22)
البحث العلمي أصوله وآدابه
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
2 - قوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج
من الصفات اللازمة لنجاح البحاث في عمله أن يرى بعينه وبصيرته مالا يراه معظم الناس. فالشخص العادي إن أعطيته زهرة نبات لا يلاحظ فيها سوى لونها وحجمها ورائحتها. أما المدقق القوي الملاحظة فإنه يرى فيها ما يشغل فكره ويحير لبه. فإن ما رآه داروين وباستير وغيرهم من فطاحل العلماء قد مر بلا شك على نظر الملايين من الخلق قبلهم من غير أن يلاحظوه.
ولما كانت روح التنقيب والاستقصاء وحب الاستطلاع غريزية وقوية جداً في الأطفال وجب تشجيعها فيهم وذلك بأن يترك لهم المجال للاعتماد على أنفسهم في حل ما يعترضهم من المسائل فلا يتعدى ما يقدمه إليهم كبارهم الإرشاد في كيفية استخدام عقولهم وتدريبها في العمل على كشف أسرار ما يصادفونه من المعميات والصعاب.
على هذه النظرية بنى التعليم الحديث. فالأمم الحديثة الراقية تدرب صغارها لتصبح عقولهم مرنة غير جامدة، وعيونهم يقظة قوية الملاحظة، وأذهانهم وقادة سريعة الاستنتاج فيستخلصون النتائج بدقة وإمعان، فإذا التحق بعد أحدهم بعد إتمام دراسته بعمل ما أو بمعهد من معاهد البحث كان مدرباً من يوم نشأته على الاعتماد على نفسه في معرفة ما يستلزمه عمله أو بحثه من الشروط غير مستعين برئيسه إلا للاستفادة برأيه والاسترشاد بخبرته في حل المعضلات العويصة
فالتعليم التلقيني وهو الذي يلقن فيه الطالب العلم من أفواه المدرسين وصفحات الكتب دون التدرب على الاعتماد على النفس وقوة الملاحظة والاستنتاج وما يتبعهما من تشغيل الذهن؛ هذا التعليم نتيجته تخريج شبان ضيقي العقل جامدي الفكر قليلي الاعتماد على أنفسهم في حل ما يصادفهم من العقبات، فتراهم في عملهم حيارى لا يعرفون أين يتجهون فيكثرون من إلقاء الأسئلة على رؤسائهم لمناسبة ولغير مناسبة، وتجدهم ضعيفي الملاحظة والمشاهدة(622/23)
سريعي الاستنتاج الذي كثيراً ما يكون خطأ. وليس هذا لضعف طبيعي، بل هو نتيجة لازمة للتعليم التلقيني وصف عقولهم عن طريق التأمل والتفكير إلى طريق الحفظ. مثل هذا التعليم لا يلائم روح العصر الحاضر ولا يمكن بوساطته إخراج رجال يمكن البلاد الاعتماد عليهم في أعمالها ولا يكون لهم رأي محترم في دوائر البحث العلمية العالمية.
وقوة الملاحظة أو الفراسة صفة وراثية يصعب غرسها فيمن جرد منها. أما من اتصف بها فهو أوفق الأشخاص لأعمال البحث، إذ يمكنه بتهذيب هذه الصفة في نفسه وتنميتها أن يتمكن من كشف غوامض الأشياء وحل رموزهم بأبسط الطرق وأقربها منالا. وهذا ليس بسهل لأن السواد الأعظم من الناس يحاول حل المشكلات بأصعب الطرق وأكثرها تعرجا فيخيبون. ولا يفوز بسرعة الحل إلا الذي يتبع الطريق السهل الذي لبساطته وسهولته لا يخطر إلا ببال النوابغ.
3 - غزارة المادة العلمية
من أوجب الواجبات أن يكون البحاث واسع الاطلاع دائب المذاكرة في الكتب والمراجع لا يفوته علم قديم أو حديث، وعليه أن يلم بشتى العلوم التي لها صلة بعمله ليستعين بها في حل معضلات أبحاثه وتعليل نتائجها. ولنضرب لذلك مثلاً المشتغل في البحوث البيولوجية، فواجبه إن أراد أن يكون من أعلامها أن يلم بأصول اللغات اللاتينية والإغريقية نظراً لاستعمال أصولهما في وضع الأسماء العلمية. وعليه أن يجيد علاوة على لغته لغتين أو ثلاثاً من اللغات الحية للاستعانة بمراجعها في بحوثه كما يجب أن يلم بالعلوم الرياضية وأن يعرف الفيزيقا العلمية والنواميس المتصلة بكافة ظواهر الحياة كالجذب السطحي والميوعة وما إليها. ويلم بالكيمياء وعلى الأخص كيمياء الأحياء. وأن تعذر عليه ذلك فليستعن بكيميائي وهذا ضعف.
والواجب على المشتغلين ببحوث أمراض النبات أن يلموا إلماماً تاماً بكيمياء المواد العضوية التي يتركب منها قسم النبات العائل وجسم الطفيل المسبب للمرض والذي يفرزها كلاهما. مثل كيمياء النشويات، والسكريات، والخلووزات، والبكتوزات، والتنبنات والأحماض والالدهيدات وأحماض الأمينو والجلوكوسيدات والأنزيمات والزيوت الطيارة والاسترات وهلم جرا. ومن رأى أكابر العلماء الحديثين في دراسة علم أمراض النباتات أن(622/24)
بحوث هذا العلم تتوقف في نجاحها على فهم كيمياء العائل والطفيلي وما يطرأ في كليهما من التغيرات أثناء ارتباط حياة بعضهما ببعض. لذلك كان أغلب المتخصصين في البكتريولوجيا حاصلين على درجات في علم الكيمياء. وواجب الباحث في أمراض النباتات أن يكون متمكنا من علم الكيمياء غير العضوية لتساعده على البحث في المبيدات الفطرية ويتحتم عليه أن يحيط بأصول علم الأرصاد الجوية (المتريولوجيا) وعلم الجيولوجيا وفيزيقا التربة لما لهذا العلوم من العلاقة التامة بحدوث الأمراض وانتشارها. كما يتحتم عليه الإلمام بعلوم الزولوجيا (علم الحيوان) والحشرات لأن كثيراً من الحيوانات والحشرات تنقل الأمراض النباتية وتسببها كأن تحدث أوراما في جسم النبات تشبه الأورام الباثولوجية، فمعرفته بالآفات الحشرية تساعده على أن تكون استنتاجاته صحيحة مجدية. وليس لعمل المشتغل ببحوث أمراض النباتات أية قيمة مطلقاً إن كان قاصر المعرفة بعلم النبات؛ إذ كيف يمكنه دراسة المرض وتأثيره بدون أن يعرف تركيب النبات وتشريحه وتركيب أنسجته في حالة الصحة وما يطرأ عليها من التغير بسبب المرض وعلى وظائف النبات من الخلل بسبب البيئة؟ لذلك كان لعلم الفسيولوجيا النباتية المنزلة الأولى في بحوث أمراض النباتات إذ لا يمكن للباحث أن يعرف أحوال النبات المريض إلا إذا كان ملماً بالكيفية التي يؤدي بها النبات السليم وظائفه. ومن أوجب الواجبات على الباحثين في أمراض النبات أن يتبحروا في العلوم الزراعية على اختلافها، وفي فلاحة البساتين بصفة خاصة.
ونظراً للتشابه الكبير بين الباثولوجيا النباتية والحيوانية كان من المستحسن أن يتصل المشتغلون بالبحث في هذين العلمين ببعضهم البعض زيادة في الاستفادة.
وما يقال عن الباحثين في العلوم البيولوجية يقال عن غيرهم. من الذين يشتغلون بالبحث في مختلف العلوم.
4 - القدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص النتائج
لا بد للباحث عند وضع نظريته أن يثبتها بسلسة من التجارب يكررها عدة سنوات ليتأكد من ثبات نتائجها وصحتها، لذلك يبدأ الباحث في بناء بحثه بكثرة المشاهدة وجمع البيانات على أساس إحصائي لتتكون عنده فكرة عامة عن موضوع بحثه وتتجمع له المعلومات التي(622/25)
يستعين بها في وضع منهج تجاربه. وعند تنفيذ تجاربه تظهر له مشاهدات أخرى جديدة قد تدفعه إلى تعديل منهج تجاربه الأول. وهكذا كلما تكونت عنده فكرة جديدة وصادفته مشاهدات جديدة استعان على دحضها أو إثباتها بالتجارب حتى يصل في النهاية إلى الحقيقة الثابتة الناصعة المبنية على أساس علمي.
فالذي لا يأنس في نفسه القدرة على إتباع هذا الطريق في أبحاثه لا يصح أن يقوم بأي عمل من أعمال البحث. وأنه لمما يؤسف له أن العالم ملئ بالكثير من أصحاب النظريات غير المؤيدة بتجارب عملية صحيحة. وتراهم يفرضون آراءهم على الناس وعلى من ولي أمورهم للأخذ بها فيجدون من يغتر بأقوالهم فيستمع إليهم ويعمل بإرشادهم فلا يظهر دجلهم إلا بعد أن تتكبد البلاد نفقات باهظة؛ ناهيك بضياع الوقت وإفلات الفرص. وبلادنا تعج بأمثلة كثيرة من هؤلاء في كل مهنة وفن. والواجب على حديثي العهد بالبحوث العلمية أن يدأبوا على القيام بتجارب متنوعة كثيرة متواصلة واضعين نظرياتهم ونظريات وغيرهم موضع الاختيار والدراسة ليستفيدوا ويزدادوا خبرة وعلما.
ومن أهم أركان البحث قدرة الباحث على تفسير مشاهداته واستخلاص نتائج تجاربه. وهذا يستلزم القدرة على ربط النتائج بعضها ببعض للاستنتاج النهائي. وهذا يتطلب الدقة في الحكم وعدم التسرع فيه لأن الباحث إذا أراد أن تكون بحوثه مصدقة محترمة وجب عليه أن يثبت من صحة نتائجه وصدق تعبيرها.
والواجب ألا يكتفي من يقوم بأعمال البحث بما حصل عليه غيره من النتائج بل عليه أن يعيد تجارب غيره حتى يحصل بنفسه على نتائج تؤيدها أو تنفيها. كما يجب عليه ألا يكتفي بنتائج تجارب قام بها أحد كبار الباحثين اعتماداً على شهرته. فكل عالم عرضة للخطأ والزلل كأي إنسان آخر. وكم من رجل وصل إلى الشهرة بالإعلان والدجل ودق الطبول ونفخ الأبواق وحرق البخور.
وواجب البحاث أن يصدق كل شيء ليبني على هذا الشيء تجاربه؛ وألا يصدق أي شيء حتى يحصل على نتائج تجاربه؛ وألا يمنعه أي اعتبار مهما كان مقدساً عن البحث في طبيعة الأشياء.
5 - القدرة على تدوين النتائج وإعدادها للنشر(622/26)
لما كانت الكتابة واسطة للتعبير وجب على الباحث إجادتها ليؤدي المعنى بأبسط عبارة. ولذلك ينبغي عليه أن يعرف آداب اللغة التي يكتب بها وقواعدها وأساليبها مع التضلع في مفرداتها ليسهل عليه التعبير عن نتائجه بطريقة سليمة بسيطة سهلة لا يملها القارئ. فلا يستعمل كلمات لا معنى لها في موضوعه. إذ من أصول الكتابة العلمية أن تؤدي كل كلمة معناها الخاص بها اللازم للتعبير عن غرض الباحث. لذلك يجب عدم تكرار الألفاظ لغرض التنميق والتجميل لأن الغرض من الكتابة العلمية ذكر الحقائق من غير حشو وبأسلوب بعيد عن التجميل المستطاب في كتب الأدب.
والواجب على الباحث عند نشر بحوثه باللغة العربية أن يراعي قواعدها والكتابة بأساليبها لتبلغ جملة غايتها من غير شطط، وان يرجع إلى لغة العرب لانتقاء ما يصلح من ألفاظها للمصطلحات العلمية الحديثة؛ فإن عجز فلا غبار عليه من تعريب هذه المصطلحات بما يقبله الذوق أو من وضعها بحالتها وله قدوة في ذلك بمن سبقنا من علماء العرب الذين نقلوا كتب الأعاجم إلى العربية
والخلاصة هي أن الباحث يجب أن يراعي في نشر بحوثه القواعد الآتية: -
1 - أن تكون كتابته واضحة سهلة تؤدي لمن يقرؤها المعنى المقصود.
2 - أن يكون لكل كلمة وجملة يكتبها معنى يتصل اتصالاً وثيقاً ببحثه.
3 - أن تكون جملة صغيرة تحمل معنى كبيراً
4 - أن تكون جملة منطقية الترتيب من يقرؤها مقتنعاً بصحة نتائج بحثه.
ولا حرج على الباحث من نشر ما ينتهي منه من فروع بحثه أولاً بأول ولا يمنعه ذلك من الاستمرار في بحثه حتى تتم أدواره.
6 - حسن علاقة رؤساء البحوث بمرءوسيهم
يجب أن يكون المشرفون على البحوث بالنسبة لمرءوسيهم كالقلب بالنسبة للجسم ينظم حركة عمله. فإذا كان القلب سليماً انتظمت أعمال الجسم ولذلك يجب أن تتوفر في رئيس البحوث شروط خاصة كنكران الذات والتضحية والتفاني في الهبة وحسن الخلق والعلم الغزير مع التواضع وحسن توزيع العمل. وأن يعمل على إيجاد الجو الصالح لإدارة(622/27)
البحوث من غير أن يتأثر الباحثون بمؤثرات خارجية تشغل بالهم وتقلق راحتهم فينصرفون عن بحوثهم بمتاعب أنفسهم. لذلك يجب عليه أن يعمل لتأمين مرءوسيه على مستقبلهم فيضمن لهم العدالة في الترقية ومكافأة المجد على قدر ما يعود من الفائدة من نتائج بحوثه.
ويجب عليه إشراك مرءوسيه في مسئولية العمل ليشعروا بقيمتهم في الهيئة الاجتماعية والعلمية، وبأنهم يؤدون عملاهم أصحاب الفضل في إنجازه، وألا يجعلهم يشعرون بأنهم آلات تعمل لمصلحته ورفعته فإن فعل ذلك فإنه يدل على ضعة في النفس لا يكسب منها سوى حقد مرءوسيه عليه واحتقارهم له وإهمالهم في العمل، بل وإلى الغش الذي يسئ إلى سمعة المعهد خاصة والبلاد عامة. لذلك يجب على رئيس البحوث أن يكون لمرءوسيه بمثابة الأستاذ للطلبة، له فضل تدريبهم وتعليمهم وإرشادهم، ولهم نتيجة دراساتهم وبحوثهم ثمارها. فإنه ليس أدعى إلى بذر بذور الحقد والكراهية في مكامن النفوس بين الرئيس ومرءوسيه من شعورهم بمحاولته غمط حقوقهم المكتسبة بكدهم وحسن عملهم.
ومن دواعي فخر الرئيس العاقل أن يرى مساعديه ينشئون بين يديه صغاراً كالأطفال ثم ينمون ويترعرعون بفضل تعهده لهم وعنايته بهم إلى أن يصبحوا رجالاً مسئولين ذوي آراء محترمة وعمل نافع.
وعلى المرؤوسين واجبات مقدسة نحو رئيسهم، فعليهم أن يعتبروه كالأب يسرون إليه بأخطائهم فيجدونه واسع الصدر صادق الحكم والراي، حليماً في إرشادهم إلى الصواب، ويجب عليهم أن لا ينسوا أنه صاحب الفضل في تمرينهم وتدريبهم إلى أن وصلوا إلى الحالة التي مكنتهم من الاستقلال بعملهم.
هذا هو دستور البحث وأصوله وقواعده إذا توفر في أمة ضمنت نجاحها وتأهلت مكاناً لائقا ًبين الأمم الراقية. فهل نحن عاملون به في مصر. هذا موضوع سنتكلم عنه في فرصة قادمة إن شاء الله.
دكتور محمد مأمون عبد السلام(622/28)
من أساليب التفكير
التبرير الجدلي
للأستاذ زكريا إبراهيم
(للكاتب الأمريكي جيمز هارفي روبنسون رسالة قيمة عرض فيها لأساليب التفكير المختلفة، مبيناً الدور الذي يؤديه كل في تكوين الحضارة الإنسانية. ونحن نعرض في هذا المقال لواحد من تلك الأساليب محاولين أن نكشف عن الأصل فيه، على ضوء علم النفس الحديث)
من أساليب التفكير المتنوعة أسلوب يطلق عليه علماء النفس المحدثون اسم (التبريد العقلي) أو الجدَلي. والأصل في هذا الضرب من التفكير أن يعرض أحد لمناقشة عقائدنا وآرائنا؛ فإننا عندئذ نعمد إلى تبريد هذه الآراء والمعتقدات بأدلة عقلية نصطنعها من أجل مواصلة الاعتقاد بتلك الآراء. وقد يحدث أحياناً أن نغير آراءنا وأفكارنا دون أن يكون ثمة مؤثر خارجي، ولكن إذا حاول أحد أن يثبت لنا خطأنا، فإننا نزداد تمسكاً بهذه الآراء التي ننادي بها ونمعن في التعصب لها والتعلق بها. ونحن في العادة متسرعون في تكوين آرائنا ومعتقداتنا، ولكننا نجد أنفسنا حريصين على هذه الآراء والمعتقدات، حينما يحاول أحد أن ينتقص من قيمتها، أو أن يشككنا في صحتها. ومن الواضح أن الأفكار نفسها ليست هي الشيء العزيز علينا، وإنما هو تقديرنا لذواتنا وحرصنا على كرامتنا الشخصية. فإذا كنا نميل بطبيعتنا إلى أن نتعصب لشخصنا وأسرتنا ومجتمعنا ومعتقدنا، فما ذلك إلا لأن في هذا ذَوْداً عن كرامتنا الشخصية. وقد تشتد الهجمات الموجهة إلى عقائدنا وأفكارنا، فنضطر إلى التسليم، ولكن يندر أن نعترف بالهزيمة (فالسلم - في العالم العقلي على الأقل - يجئ دائماً بغير نصر حاسم)
وقلما يكلف الناس أنفسهم عناء البحث عن الأصل في معتقداتهم التي يحرصون عليها ويتمسكون بها، فإن الحقيقة أننا ننفر بطبيعتنا من القيام بهذا العمل. . إننا نحب أن نثبت على العقيدة التي اعتدنا أن نسلم بأنها هي الحق؛ فإذا ما أثير حولها الشك، رحنا نبحث هنا وهناك عن حجج معقولة تبرر مواصلتنا التمسك بها، ولهذا فإن الجانب الأكبر مما نطلق عليه أسم (الاستدلال) أو التفكير المنطقي، ينحصر في البحث عن حجج وأدلة تبرر ثباتنا(622/29)
على المبادئ التي اعتدنا أن نسلم بصحتها
أما الأسباب (الحقيقية) لمعتقداتنا وآرائنا، فهي في الحقيقة خافية عنا، كما خافية عن غيرنا، والذي يحدث في واقع الأمر هو أننا نشب على الآراء التي وجدنا مجتمعنا يأخذ بها. ونحن نتشرب هذه الآراء من البيئة التي نعيش فيها عن طريق لا شعوري؛ فالجماعة التي نحيا بين ظهرانَيْها هي التي تهمس في آذاننا دائماً أبداً بهذه الآراء والمعتقدات. ولما كانت هذه الآراء أو الأحكام وليدة الإيحاء (لا التفكير المنطقي)، فإنها تبدو واضحة تمام الوضوح، حتى أن أي ظل من الشك يلقي حولها، يثير في الناس الدهشة والاستغراب. والواقع أننا إذا حاولنا أن نناقش رأياً من الآراء فوجدنا أنفسنا بازاء فكرة تبدو واضحة بينه حتى أن مجرد التعرض لمناقشتها يعتبر في نظر الناس عملاً غير مرغوب فيه، فإن هذا الرأي لا بد أن يكون عبارة عن فكرة تتنافى مع العقل، وبالتالي لا تستند إلى حقيقة ثابتة بينة.
أما الآراء التي هي وليدة الخبرة والتجربة، أو التفكير الصائب النزيه، فهي - على العكس من ذلك - لا تتصف بهذا (اليقين الأوَّلي) وفي هذا الصدد يروى روبنسون أنه حينما كان حدثا صغير السن، سمع جماعة من الناس يتناقشون في مسألة خلود النفس، فاستثاره الشك الذي أظهره بعضهم حول هذه الحقيقة. وهو يردف ذلك بقوله إنه حينما يعود اليوم ببصره إلى الوراء، فإنه يرى بوضوح أنه لم يكن معنياً بذلك الموضوع في ذلك الحين، بل أنه يقيناً لم يكن دليلاً واحداً صحيحاً يثبت به هذا المعتقد الذي يتعصب له. ولكن على الرغم من أنه لم يكن معنياً بالموضوع من قبل، وعلى الرغم من أنه لم يكن له عهد بالبحث في هذه المسائل، فانه مع ذلك لم يتردد في أن يظهر غضبه واستياءه حينما وجد آراءه ومعتقداته توضع موضع البحث والمناقشة.
وهذا التأييد التلقائي لآرائنا السابقة وأفكارنا المبتسرة؛ أو بعبارة أخرى هذا البحث عن الأدلة (المعقولة) التي تبر معتقداتنا المألوفة وآراءنا التقليدية، هو ما يُعرف عند علماء النفس المحدثين باسم (التبرير الجدلي) وهو بلا ريب ليس سوى أسم جديد لشيء قديم جداً. وهذه الأدلة (المعقولة) هي بطبيعة الحال وليدة التفضيل الشخصي والأحكام السابقة، فهي إذن لا تمت بصلة إلى الرغبة الصادقة في البحث عن معرفة جديدة أو في التسليم بحقائق جديدة(622/30)
وإذا نظرنا الآن إلى أحلام يقظتنا وجدنا أننا كثيراً ما نشغل أنفسنا فيها بتبرير ذواتنا. ومن الواضح أن السبب في ذلك هو أننا لا نستطيع أن نحتمل الشعور بأننا مخطئون على الرغم من أن الأدلة كلها قائمة على ضعفنا وكثرة أخطائنا. وتبعاً لذلك فإننا نضيع وقتاً كبيراً في البحث عن ظروف خارجية نرجع إليها أخطاءنا مثل سوء الحظ وانعدام التوفيق وعدم مواتاة الظروف لنا، ونجتهد في أن نُسْقط على الآخرين (وكثيراً ما يكون ذلك بمهارة فائقة) أسباب سقوطنا وخيبتنا. فالتبرير الجدلي إذن هو عبارة عن تبرئة النفس حينما يتهمنا الناس (أو يتهمون جماعتنا) بالخطأ أو سوء الفهم.
وليس من شك في أن حبنا لذواتنا، إنما هو العامل الخفي الذي يكمن من وراء كل تبرير جدلي. فهذا الضمير الذي نعبر عنه بحرف الياء (ي) هو في الحقيقة جوهر الحياة الإنسانية؛ هو حرف صغير لا يضيره أن تلحقه بأي لفظ كائناً ما كان، لأنه لا يفقد قيمته على أي حال، يستوي في ذلك أن تقول بيتي، عقيدتي، بلادي، إلهي. . . الخ. فنحن لا نغضب فقط حينما يخبرنا أحد ساعتنا غير مضبوطة، أو سيارتنا ليست جيدة، وإنما نغضب أيضاً إذا قال لنا أحد نطقنا لاسم (ابكتاتوس) غير صحيح، أو أن رأينا عن تاريخ سارجون الأول بعيد عن الصواب.
وهذا الشعور نفسه كثيراً ما نجده عند الفلاسفة والعلماء أنفسهم إذا كانوا بصدد مسألة يدخل مسألة يدخل فيها حبهم لذواتهم فإن كثيراً من المؤلفات الجدلية، ولم تكتب إلا لمواجهة خصومه أدبية - وعلى الرغم من أن بعض هذه المؤلفات قد ينطوي على استدلالات تبدو سليمة لا غبار عليها، فإنه من المحتمل أن تكون هذه الاستدلالات مجرد تبريرات جدلية ترجع في نهاية الأمر إلى بواعث نفسية. وإذن فإن من الممكن أن يُكتب تاريخ الفلسفة واللاهوت في عبارات الكبرياء المجروحة، والخصومات المذهبية، وضروب العداء المستحكمة بين الطوائف ويكون على هذه الصورة اصدق تعبيراً مما لو كتُبِ على الطريقة المألوفة. وإننا لنعرف أن ملتون قد كتب مبحثه عن الطلاق نتيجة للمتاعب الكثيرة التي لاقاها بعد زواجه من تلك الفتاة التي كانت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً. وكذلك نعرف أيضاً أنه لم يكتب كتابه المشهور المعروف: إلا حينما أتهم بأنه رائد مذهب جديد هو مذهب المُطلَّقين؛ فكتب كتابه هذا لكي يثبت أن من حقه أن يقول ما يعتقد أنه الصواب؛(622/31)
وبالتالي لكي يثبت حرية الصحافة والتأليف في إعلان الحق.
واليوم، تتردد لدى بعض الكتاب والمفكرين فكرة مؤداها أنه من المحتمل أن تكون كل معارفنا التي حصلناها، في علم الاجتماع، أو في الاقتصاد السياسي، أو في الأخلاق، إبان الأجيال الماضية، مجرد تبريرات عقلية قد يطرحها الجيل المقبل. وقد وصل المفكر الأمريكي جون ديوي بالفعل إلى هذه النتيجة فيما يتعلق بالفلسفة؛ واستطاع فلبن وغيره من المؤلفين أن يكشفوا عما في الاقتصاد السياسي التقليدي من آراء مبتسرة وافتراضات غير مدركة. واليوم يأتي عالم اجتماعي إيطالي يدعي (فلفريدو باريتو) في كتاب ضخم له عن الاجتماع العام، فيكرس مئات الصفحات، لكي يثبت هذه القضية العامة فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية جميعاً. وهذه النتيجة التي توصل إليها، قد تعتبر في نظر الأجيال المقبلة إحدى المكتشفات العظمى لعصرنا الحديث. وليس بدعاً أن يكون ذلك كذلك، فإن الحقيقة أنه كما كانت علوم الطبيعة المختلفة قبل بداية القرن السابع عشر مجرد ضروب مختلفة من التبريرات العقلية التي تتفق مع المعتقدات الدينية السائدة، فكذلك العلوم الاجتماعية أيضاً قد بقيت - حتى إلى يومنا هذا - مجرد تبريرات عقلية تتفق مع العوائد والعقائد المتقبلة بغير نقد أو تمحيص.
من هذا كله يظهر لنا أنه إذا كنا بصدد فكرة قديمة يسلم بها الناس أجمعون، فإن هذا لا يمكن أن ينهض دليلاً على صحة هذه الفكرة، بل هو - على العكس من ذلك - أدنى إلى أن يكون دليلاً على أنه من الواجب أن نفحص هذه الفكرة بعناية، على أنها مثال محتمل للتبرير الجدلي.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية(622/32)
التعليم ووحدة الأمة
- 5 -
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يسرنا أن نشهد في هذه الأيام شيئاً من الاهتمام بمسائل التعليم وإصلاحه فقد رأينا نقاشاً يتردد بين بعض رجال التعليم في الجرائد والصحف الأسبوعية ما يدل على هذا الاهتمام وعلى أن وزارة المعارف ترحب بالآراء الجديدة التي تتناول المشاكل التعليمية وتعمل لإنماء روح البحث والاجتهاد في هذا الموضوع الجليل الشأن. غير أني أرجو أنم يتحول البحث إلى المسائل التي في الصميم والتي تتغلغل في روح المدرسة وروح النهضة التعليمية التي تنشدها البلاد.
فالبحث الذي دار فيه النقاش والجدل أخيراً كان خاصاً بزيادة مرحلة وسطى بين مرحلتي التعليم العام. والتعليم العام سواء اشتمل على مرحلتين أو ثلاث مراحل هو في حاجة ماسة إلى إصلاح أهم وأعم لا يتناول مراحله فحسب، بل يتناول نظمه ويتناول روحه حتى نحصل منه على الثمار المرجوة. ولقد تناول صديقنا الأستاذ فريد أبو حددي إحدى مسائله الهامة في العدد 333 من الثقافة. تناول مسألة المعالم فطالب وزارة المعارف إذا شاءت أن تعد البلاد للمستقبل الذي تنشده أمم العالم جميعاً أن تتجه اتجاهاً جدياً إلى المعلم، وطالب الدولة كلها بأن تعين وزارة المعارف على ذلك وأن تحلها من كل قيد وأن تبذل لها من عنايتها ما يمكنها من أن تجعل المعلم روحاً يبعث الحركة في ناشئة البلاد. وهذا مطلب لا نشك في أهميته ولا في عدالته ولا في ضرورته للنهضة التعليمية. ولقد سبق أن طالبنا الأمة به في مواقف كثيرة، وسبق أن أوضحنا ما للمعلم من اثر فعال في تكوين أبنائه وفي بناء نهضة هذه البلاد، وأنه هو العامل الحي الذي يبث في النشء ويبصرهم بأمور الدنيا ويفتح عيونهم على ما يجري حولهم في الحياة. وهو القدوة الحية أمامهم يحاكونه في أعمالهم ويتخذونه مثلا أعلى لهم ويقلدونه في حركاتهم وسكناتهم ويلجأون إليه في معضلاتهم. وإذا كنا نشكو اليوم ما في المدرسة من جمود وخمود وما في تلاميذها من استهتار وقلة تبصر وعدم اهتمام بمسائل الحياة وعدم إقدام خريجيها على العمل الحر المنتج فإنما يرجع الكثير من ذلك إلى خمود العلم وجموده، وإلى سيره في حياته التعليمية(622/33)
على طريقة أوتوماتيكية خالية من البحث والتفكير والابتكار. وله العذر في ذلك لأن الحالة القائمة بين جدران المدارس وفي تقدير كفايات المدرسين وأعمالهم لا تشجع مع الأسف على شيء من ذلك. فمعلم اليوم مكبل بقيود ونظم وتقاليد لا تسمح له بالتفكير في مستقبل تلاميذه إلا في دائرة محدودة جداً هي دائرة المنهج المقرر وعدم الخروج عنه لأي سبب من الأسباب، والعمل على إنهاء دراسته في المدة المحدودة له حتى يستطيع طلابه اجتياز الامتحان. وهذا هو كل ما هو مسئول عنه. فهو بذلك معذور حقاً إذا لم يحاول أي عمل أكثر من إلقائه الدرس المليء بالمعلومات التي لا تمت إلى الحياة بصلة في الغالب مكررا على أسماع تلاميذه برغم أنوفهم تلك المعلومات التي لا تثير ميولهم ولا غرائزهم ولا تثير فيه ميلا إلى البحث والتفكير؛ لأن ما ذكره في الأعلام الماضية يجئ فيكرره في عامه الحاضر دون تنويع أو تحوير ما دامت الطريقة التي اتبعها من قبل قد أرضت المفتش والناظر وأدت إلى نجاح معظم تلاميذه في الامتحان. هو معذور إذا لم يعمل عملا ما لتحسين حال تلاميذه من الوجهتين الصحية والخلقية لأن المدرسة لا يعنيها ذلك. وهو معذور إذا لم يحاول أن يعرف تلاميذه شيئاً عن الحياة وما يحيط بهم منها وما يتعلق بها داخل المدرسة وخارجها، لأنه إن فعل ذلك أجهد نفسه فيما لا يقدره أحد ولا يشجعه أحد؛ ويجد نفسه قد أضاع جزءا من الوقت الثمين المخصص لإنهاء المنهج الذي لا يقدر رؤساؤه غيره، فلا بد له من ملء الأدمغة وحشوها بكل ما جاء فيه مهما كان نوعه ومهما كانت قيمته بالنسبة إلى ميول التلاميذ. وما عليه من بأس ما دام قد خلق المنهج في أدمغة التلاميذ سواء اعرفوا شيئاً عن الحياة بعد ذلك أم لم يعرفوا. ثم هو معذور إذا لم يعرف شيئاً عما يجري في مختلف البلاد المتحضرة من آراء حديثة وأفكار جديدة في التربية والتعليم لأنه لا يتابع قراءة شيء عن ذلك. ولعل أكثر من تسعين في المائة من المعلمين لم يقرءوا شيئاً من مقالاتي هذه لما يستشعرون من رؤسائهم من عدم اهتمام أو عدم تقدير لكل تفكير جديد. ثم نحن محاطون بكثير من المدارس الأجنبية المنتشرة في البلاد التي تتبع طرقاً في التعليم غير طريقتنا. فمن يا ترى من رجالنا فكر في الاتصال بها ومعرفة شيء مما يجري بين جدارنها! فالمعلم المسكين لا يفتح عينيه إلا على تلاميذه ومنهجه ودرسه! ثم هو معذور إذا لم يتعاون مع زملائه التعاون الضروري لرفع مستوى التعليم في معهده(622/34)
وتكوين الجماعات التعاونية بين طلابه؛ لأنه مشغول بنفسه وبالدفاع عن قضية عيشه في أوساط تكلفه أكثر مما يطيق وتغمط حقه في الحياة ولا تقدر مسئولياته فيها؛ ولأنه مشغول بالكر والفر بين زملاء يتنافر الكثيرون منهم معه في الثقافة والتكوين ولا يتفقون معه في الآراء ولا ينسجمون معه في العاطفة والروح بطبيعة اختلاف ثقافاتهم باختلاف المعاهد التي نشأوا فيها.
لذلك نكلف المعلم شططا إذا نحن طالبناه بالخروج عن جموده إلى العمل الجدي والنهوض بتلاميذه وبمدرسته، لأنه مقيد بقيود تقف حجر عثرة في سبيله بعضها يرجع إلى البيئة المحيطة به وبعضها يرجع إلى التصرفات التي تجري في محيطه التعليمي. فهو غالباً لم يدخل مهنة التعليم لحبه لها وشغفه بها كما يدخل غيره في باق المهن. معنى ذلك أنه مسوق إلى العمل في مهنته برغم ميوله وإرادته. ولقد اثبت هذا الرأي من زمن بعيد الخبير الفني المسيو كلاباريد في تقريره عن حالة التعليم في مصر تحت عنوان (النزعة البيداجوجية) إذ لاحظ أنه من بين الـ 69 طالباً بمدرسة المعلمين العليا الذين وجهت إليهم أسئلة عن سبب اختيارهم لمهنة التعليم لم يختر منهم هذه المهنة بدافع الميل غير 31 طالباً أي أقل من النصف؛ وأن كثيرين منهم التحقوا بهذا المعهد لأن معاهد أخرى رفضت قبولهم. ومعنى ذلك أن عدداً ليس بالقليل من المشتغلين فعلا بالمهنة البيداجوجية لا تتوفر فيهم النزعة الغريزية إليها. فإذا كانت هذه الحالة في مدرسة المعلمين العليا سنة 1929 قبل إلغائها فإن الحالة لا زالت هي هي في معهد التربية الذي أنشئ على أنقاضها وفي دار العلوم وفي معاهد المعلمين والمعلمات التي امتلأت بالفتيان والفتيات لا رغبة في مهنة التعليم وحبا فيها في كسب العيش عن طريقها. ولذلك فإنا لا نجد في خريجي هذه المعاهد من القائمين بأمر التعليم الآن إلا أناساً مسوقين بحكم وظائفهم مجبرين على العمل الذين يقومون به لا محبين فيه. ويزيد نفورهم من المهنة ما يقاسون فيها من عناء وكد وإجحاف بالحقوق بالنسبة لأقرانهم وزملائهم في المهن الأخرى. وما يقاسون فيها من تنافس وتنافر غير مشروع بينهم يظهر من آن لآن بسبب النزعات والثقافات المختلفة. ولذلك فإنا مقتنعون بأن الحجر الأساس في بناء نهضة التعليم في مصر ينحصر في تشويق الشباب إلى المهنة وتحبيهم فيها بما يجب أن يوجد فيها من مغريات ومشجعات لا أثر لها فيها اليوم، كما ينحصر في(622/35)
العمل الجدي على توحيد ثقافات المعلمين بضم معاهدهم المتنافرة المتناحرة بعضها إلى بعض في معهد واحد ليكون الجميع يداً واحدة متناصرين متعاونين متجهين جميعاً الاتجاه الصحيح في تفكيرهم وبحوثهم وعملهم في سبيل وحدة الأمة المنشودة. وإنه لن يتم للبلاد ما ينادي به الزعيم الوطني الكبير علي ماهر باشا في أن يتحد أبناؤها اتحاداً شاملاً حرا وأن يكون هذا الاتحاد اتحاد في القرية واتحاد في الإقليم واتحاداً في عاصمة البلاد كما ذكر رفعته في حديثه لمراسِل جديدة الأهرام بتاريخ 11 مايو سنة 1945؛ أقول لن تتم تلك الوحدة العزيزة المنشودة إلا إذا وضعنا أساسها بين معاهد تخريج المعلمين من اليوم ليكون المعلمون على مر الزمان دعاة تلك الوحدة وأنصارها والقابضين على زمامها في القرية والمدينة والعاصمة. ولتكون المدرسة نواة الإصلاح الحق في بناء تلك الوحدة وتدعيمها كما هو الحال عند غيرنا من الأمم التي سبقتنا في مضمار الحياة الحرة الكريمة. وإنا لنغتبط كل الاغتباط بما جاء في سياق حديث رفعته الممتع من حماس للوحدة القومية إذ قال: (وما دام الحق واحدا لا يتعدد فالوحدة القومية التي فيها إنقاذ شرف الأمة يجب أن تكتسح كل من يقف في سبيلها).
لهذا نأمل أن يعمل العاملون في بناء هذه الوحدة فوراً على وضع أساسها وتدعيم جدرانها بتوحيد معاهد المعلمين وتوحيد ثقافاتهم حتى يبني البناء الشامخ على أساس وطيد سليم لا تزعزعه العواطف بل لا تزيده إلا تماسكاً وقوة وعزة ورفعة.
عبد الحميد فهمي مطر(622/36)
رسالة الفن
5 - الفن
الكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الحركة في الفن
يوجد بمتحف اللوفر تمثالان لرودان يتنازعانني ويؤثران فيّ بوجع خاص، هما: (العصر الحديدي) (ويوحنا المعمدان). ويخيل إلى أنهما أكثر حياة من غيرهما - إذا صح هذا التعبير. حقيقة أن كل تماثيل (رودان) الأخرى تنبض بالحياة، وتتنفس ويحس منها ما يحس من اللحم الحقيقي إلا أن هذين التمثالين يتحركان!
كاشفت رودان بولعي الخاص بهذين التمثالين ذات يوم وأنا جالس بمرسمه بميدون فما كان منه إلا أن أجابني:
أنهما حقاً من تلك التماثيل التي أبرزت فيهما الفن التقليدي إلى ابعد حدوده، مع أني صنعت غيرهما كثيراً مما لا يقل عنهما حركة وحياة، أذكر منها على سبيل المثال (رهائن كاليه) (وبلزاك) (والرجل يمشي). وحتى في أشغالي التي لا يظهر عليها النشاط حرصت دائماً على أن أطبعها بطابع الحركة. ولم أصنع قطعاً وادعه ساكنة إلا فيما ندر. ولقد حاولت دائماً أن أعبر عن الأحاسيس الداخلية بحركات العضلات. وهذا صحيح حتى في تماثيلي النصفية التي أجعلها تميل أو تنحرف انحرافاً خاصاً أو تأخذ وضعاً معيناً يجعلها تنم عن خلجة من خلجات النفس.
لا يمكن الفن أن يعيش بغير حياة. فإذا ما أراد مثال أن يعبر عن السرور أو الحزن مثلاً أو عن أية عاطفة كانت فإنه لا يستطيع تحريك مشاعرنا من غير أن يعلم بادئ ذي بدء كيف يبث الحياة فيما يسوي من الجسام. وإلا فكيف يؤثر فينا السرور أو الحزن المرتسم على شيء جامد كقطعة من الصخر الأصم مثلاً؟
ويمكننا الحصول على مخايل الحياة في أعمالنا عن طريق التمثيل الجيد والحركة. هاتان الصفتان هما بمثابة الدم والروح لكل عمل جيد). وهنا قلت له:(622/37)
أيها المعلم! لقد حدثتني عن التمثيل فأصبحت قادراً على تذوق روائع الفن أكثر من ذي قبل، فاسمح لي الآن أن أوجه إليك بعض أسئلة عن الحركة التي أراها لا تقل أهمية عنه. عندما أحدق في تمثالك المسمى (العصر الحديدي) الذي ينهض ويملأ رئتيه هواء ويرفع ذراعيه عالياً، أو في تمثال (يوحنا المعمدان) الذي يخيل إلى الرأي أنه يهم بمغادرة قاعدته التي يقف عليها ويضرب في أنحاء الأرض مبشراً برسالته بكلمات من الهدى، يعروني مزيج من الإعجاب والدهش. ويخيل إلىّ أن هناك سحراً في ذلك الفن الذي يهب مادة الشَّبَه حركة. ولقد درست روائع أخرى لأسلافك العظماء أذكر منها تمثال المارشال (ناي) والمارسليز، وكلاهما من عمل (رود) ثم الرقص من عمل (كاربو) وكذلك حيوانات (باري) الوحشية الكاسرة، ولا يسعني إلا الاعتراف بأني ما وجدت إلى اليوم تفسيراً مقنعاً للتأثير العميق التي تحدثه تلك التماثيل في نفسي. وما زلت أسائلها كيف يمكن أن تؤثر فينا كتل صماء من الحجارة أو الحديد؟ وكيف تبدو بعض التماثيل كأنها تعمل، بل وكأنها في حركة عنيفة بينما هي في الواقع ساكنة لا حراك بها؟)
فأجابني رودان: (أما وقد جعلتني في عداد السحرة فسأحاول جهدي أن احمي سمعتي، وذلك بأن أقوم بواجب هو أصعب بكثير من نفخ الحياة في الشبه أو الحجر، ألا وهو أن أشرح لك كيف يتسنى ذلك
لا حظ أولا أن الحركة هي الانتقال من وضع معين إلى وضع آخر. والحق يقال إن هذا التعريف الذي يكتنفه الصدق هو مفتاح السر. ولا ريب أنك قرأت في أوفيد كيف استحالت (دافني) إلى شجرة الغار،، و (بروني) إلى عصفور السنونو. يرينا هذا الأديب الساخر أن الأولى اتخذت من قشور الأعواد ومن الأوراق غطاء بينما أدثرت الأخرى بالريش حتى لنستطيع أن نرى في كل منهما المرأة التي استحالت والشجرة أو الطير التي سوف تنقلب إليهما. وأظنك تذكر أيضاً أن دانتي يصور لنا في جحيمه حية تلتف حول جسد أحد الملاعين فتنقلب رجلا، وينقلب الرجل بدوره حية تسعى. يصف لنا الشاعر العظيم هذا المنظر بجلاء تام وعبقرية فذة بحيث يستطيع المرء أن يتابع في كل من هذين المخلوقين الصراع الدائم بين طبقتين تصطرعان لتسود إحداهما الأخرى.
وقصارى القول يمكن المصور أو المثال بمثل هذا الضرب من التطور والتبدل يهب(622/38)
المخلوقات التي يبتكرها الحركة والحياة بأن يمثل التحول من وضع إلى آخر، ويظهر يتصل الأول بالثاني ويمحي فيه بشكل غير محسوس. . . ويجب أن نرى في عمله بعضاً مما وقع أو مما كان، ونستبين طرفاً مما سيكون. ولأضرب مثلا يوضح لك الأمر أكثر من ذلك:
(لقد ذكرت منذ هنيهة تمثال المارشال ناي الذي صنعه رود فهل نستوعبه بوضوح؟) فأجبته:
(نعم) إن البطل يشهر سيفه ويصيح في جنوده بأعلى صوته: إلى الأمام).
(تمام! حسن! عندما تمر بهذا التمثال مرة أخرى تأمله بدقة أوفى فتلاحظ إذ ذاك أن رجلي التمثال واليد اليسرى التي تقبض على عمد الحسام ثبتت على الحالة التي كانت عليها عندما استُل السيف من قرابة. أما الرجل اليسرى فقد انسحب قليلاً إلى الوراء لكي يسهل إمساك السيف باليد اليمنى التي استلته منذ هنيهة. وأما اليد اليسرى فثابتة في الهواء ممسكة بالغمد كأنها ما زالت تقدم الغمد.
ولندرس الجسم الآن؛ كان يجب أن يكون مائلاً قليلاً إلى اليسار في اللحظة التي أتى فيها بالحركة التي وصفت آنفاً. ولكنه هنا منتصب، والصدر بارز إلى الأمام، والرأس يدور نحو الجنود وقد دوى منه الأمر بالهجوم. وأخيراً ترى الذراع اليمنى مرتفعة وقد شرعت الحسام. فها أنت ترى في كل ذلك إثباتاً لما قلته لك آنفا. ً فما الحركة في هذا التمثال إلا تغيير من وضع أولى - هو الذي كان عليه المارشال عندما استل سيفه - إلى وضع ثانوي هو عندما رفع ذراعه وشرع في الاندفاع صوب العدو. . . وفي هذا كل السر في الحركة كما يفسرها الفن. فعلى المثال إذا أن يلزم المشاهد بتتبع تطورات حركة ما في فرد معين. ونرى في المثل الذي استشهدنا به أن العينين تلتزمان التنقل من الأطراف السفلى إلى العليا حتى الذراع المرفوعة، فتريان أثناء ذلك التنقل أجزاء الجسم ممثلة في فترات متتابعة رتتوهمان بأن الحركة تمت).
وقد اتفق وجود صبيبتين لتمثالي (العصر الحديدي) (ويوحنا المعمدان) في البهو الكبير حيث كنا، فسألني رودان أن أنظر إليهما ففعلت، وأدركت صدق قوله للتو واللحظة. لاحظت في التمثال الأول أن الحركة تصاعدية كما في تمثال ناي. فالشباب غير كامل(622/39)
النهضة، فساقاه متخاذلتان، تميدان من تحته، فإذا ما صعدت عيناك فيه قليلاً وجدت أصلب، والأضالع بارزة من تحت الجلد، والصدر يتمدد وينهد، والوجه يواجه السماء، والذراعين ممدودتين كمن يحاول أن ينضي عنه خموله. أما موضوع هذا التمثال فيلخص في التخلص من حالة الركود والخمود إلى حالة النشاط في الإنسان الذي يتحفز للعمل.
وفضلا عن ذلك فإن تلك الحركة البطيئة التي تدل على الاستيقاظ والنهوض لتظهر أروع مما هي عليه عندما يدرك المرء مغزاها. فهي تمثل - كما يدل على ذلك أسم القطعة - أول خفقة من الإدراك والتمييز في إنسانية لا زالت في مدارجها الأولى وأول انتصار للعقل على وحشية العصور السابقة للتاريخ.
ثم درست بعد ذلك تمثال يوحنا المعمدان على الوتيرة السابقة، فرأيت أن انسجام هذا الجسم أدى إلى تطور من حالة إلى حالة أخرى كما قال رودان. فأولا يتكئ الجسم بكل ثقله على القدم اليسرى التي تضغط على الأرض بكل قوتها. ويبدو كأنه يتذبذب في ذلك الوضع هنيهة بينما تنظر العينان صوب اليمن. وبعد ذلك ترى الجسم كله يتجه في هذا الاتجاه ثم تخطو الرجل اليمنى وترتكز قدمها على الأرض. وفي تلك اللحظة يظهر الكتف الأيسر المرتفع كما لو كان يلقي بثقل الجسم إلى هذا الوضع الجديد كيما يعين القدم اليسرى الخلفية على الخطو إلى الأمام. والآن، لم يخرج علم الفنان عن أنه يضع تلك الحقائق نصب عين الرأي على النحو الذي ذكرته حتى يكون من تعاقبها وتتابعها ما يشعر بالحركة.
وفضلا عن هذا أيضاً فإن لحركة (يوحنا المعمدان) دلالة روحية، كتلك التي لتمثال (العصر الحديدي). فالفني يتحرك حركة آلية كلها جلال ووقار حتى لتتوهم أنك تسمع وقع أقدامه مثلما تتوهم ذلك عندما تشاهد تمثال (القائد) تحس منه كأن قوة خفية كامنة تهيمن عليه وتسيره. وعلى هذا نرى أنه بينما تبدو لنا حركة المشي عادية صرفه نراها هنا جليلة لأنها في سبيل رسالة مقدمة. وهنا سألني رودان فجأة:
- (هل سبق لك أن عاينت بإمعان صوراً فوتوغرافية لأشخاص تمشي؟). ولما أجبته بالإيجاب قال (حسن. ماذا لاحظت عليها).
- (لاحظت أنها ثابتة في أماكنها لا تتقدم. وتبدو على العموم كأنها ترتكز على ساق واحدة، في غير ما حراك، أو أنها تحجل على قدم واحدة).(622/40)
- تمام! ولأضرب لك الآن مثلاً تمثالي (يوحنا المعمدان)، الذي ترى قدميه مرتكزتين على الأرض. فإذا ما أخذت صورة فوتوغرافية لمثال حي يمشي مشيته فلربما ظهرت قدمه الخلفية مرتفعة تلاحق القدم الأخرى؛ أو على النقيض من ذلك قد لا تكون القدم الأمامية على الأرض إذا ما شغلت الرجل الخلفية في الصورة الفوتوغرافية نفس الوضع الذي تشغله من التمثال.
ولهذا السبب عينه قد يبدو مظهر هذا المثال الفوتوغرافي غريباً كما لو كان رجلاً فاجأه الفالج وتحجر في موضعه، كما وقع في القصة الخرافية البديعة لخدام (الجمال النائم) الذين مُسِخُوا وسمروا في مكانهم على حالهم التي كانوا عليها. وهذا أيضاً يدعم ما شرحته لك من هنيهة بخصوص الحركة في الفن. وفي الواقع أنه إذا ظهرت الأشخاص في الصور الفوتوغرافية كأنها مثبتة في الهواء مع أنها أخذت وهي في حالة الحركة فما ذلك ألا لأن جميع أجزائها صورت في فترة زمنية واحدة هي جزء من عشرين أو أربعين من الثانية فلا يوجد في هذه الحال تدرج في الحركة كما هو الحال في الفن).
فقلت:
- (أني أفهمك تمام الفهم يا أستاذ: ولكن أرجو أن تسمح لي بأن أقرر أنك تناقض نفسك).
- (وكيف ذلك؟).
- (ألم تصرح لي أكثر من مرة بأنه يجب على الفنان أن ينسخ الطبيعة بكل إخلاص؟)
- (لا ريب في ذلك. ولا أزال أتمسك به.)
- (حسن! إذن إنه عندما يفسر الحركة فيناقض بتفسيره الآلة الفوتوغرافية تمام المناقضة - والفوتوغرافية دليل آلي دامغ لا يرقى إليه الشك - فإنه بذلك يغير من الحقائق.)
- (كلا. أن الفنان هو الصادق، والآلة الفوتوغرافية هي الكاذبة؛ لأن الزمن لا يقف كما هو ثابت مقرر. وإذا نجح الفنان في إظهار تعبير حركة تستغرق عدة لحظات حتى تتم فان عمله يكون بلا ريب أقل تكلفا من الطيف العلمي (الفوتوغرافية) حيث أقتضب فيه الوقت اقتضاباً مفاجئاً.
(له بقية)
دكتور محمد بهجت(622/41)
فرنسا الجريحة
(لمناسبة الحوادث الأخيرة في القطر الشقيقين سوريا ولبنان).
للأستاذ أدوار حنا سعد
فرنسا الجريحة لا تجرحي ... فإن شقاَءك لم يبرحِ
وإن كان فيك ذَكاءٌ ضعيفٌ ... فسوسي خرابَك أو أصلحي
عجيب لعمريَ بطشٌ الجريح ... ببيتِ الموالين والنُصَّح
فنبكي ونضحك من حمقه ... ونرثى له ساحة المذبح!
جناحك في الغرب ملقىً به ... ونابك في الشرق. . . في قلبه
فررت إليه من الفاتحين ... فهل كان غوثك من ذنبه؟
فيا للطريدة قد ضمها ... كريمٌ فخفَّت إلى حربه
لئن كنتِ أخطأتِ في بُغضنا ... لقد أخطأ الشرق في حبه
أهذي بواكيرُ عهد السلامْ ... جيوش تساق وشعب يضامْ
فيا سوءةً للعهودِ العِذابِ ... ويا ضِلةَ للأماني الضخام
وهل حُمِّلَ العالمُ المستثارُ ... سنين اللظى والدما والظلام. .
. . . لمستهترين بحق الشعوب ... ومؤتمرٍ غارق في الكلام؟
وأين التساوي وأين الإخاءْ؟ ... رياءٌ. . . تنصل منه الرياءُ
تراث الجدود فهل صنته ... وقد خطه دمعهم والدماءْ
ولو تنطق اليوم أشلاؤهم ... لثارت على مشبهي الأقوياء
هويتِ بمجدٍ ولوثته ... ومنبعه من كروم السماء(622/43)
ثرى الحرب
للأستاذ محمد برهام
أراه فأذكر الخط السعيدا ... وأطرق إذ أرى حظي بليدا
لقد فهم الحياة فجد حتى ... أقام لنفسه ملكاً وطيدا
إذا عبست له الأقدار (بيضا) ... فقد ضحكت له الأقدار (سودا)
ثرىَّ الحرب إن الناس حرب ... عليك لجمعك المال العديدا
وأوليك المديح ولا أبالي ... إذا ما صرت في مدحي فريدا
وجود ظالم لا خير فيه ... فما أحراك أن تنسى الوجودا
أليس المرء في دنياه مالا ... يقاس به هبوطاً أو صعودا
تحدث بالثراء ولو كذابا ... تجدك غدوت إنساناً مجيدا
وقالوا جاهل قلنا سيغدو ... على الأيام ابلغنا قصيدا
وقالوا مجده مجد طريف ... فقلت المجد لم يخلق تليدا
صفات سوف تنساها الليالي ... وثروته تخلده خلودا
لعمرك كم نمجد أثرياء ... فنطريهم ونلبسهم عقودا
وكانوا لا تسلني كيف كانوا ... وخلى المال صيتهم بعيدا
إذا فنشت عن أسباب مجد ... فلا تنسَ الدراهم والنقودا
لماذا لا أكون ثرىَّ حرب ... فألبس خاتماً وأزين جيداً
وقل ما شئت في ذمي فعندي ... سواء أن تذم وأن تشيدا
أينبل شاعر قد وظفوه ... فلاقى في وظيفته الجحودا
بلا حول، فإن طلب الترقي ... أقاموا دونه (كَدْراً) جديدا
منيع، تتبع النظرات فيه ... فتلقى كل أحرفه قيودا
نظل سنين نحسب - كي نعلَّي ... (جنيهاً) وا تفاهة ما أريدا
علاوات كدود البطن تردى ... فسموها (الوحيدة) والوحيدا
إلهي طال للعدل انتظاري ... ولا أمل لدي أرى الفقيدا
فمن ذا يشتري علمي وشعري ... ويبدلني بهم جهلا مفيدا(622/44)
هنيئاً يا ثرى الحرب مال ... ضمنت بجمعه العيش الرغيدا
فعش من نور جهلك في رخاء ... ودع لي الفقر والخلق الحميدا(622/45)
أشواق. . .
للشاعر مصطفى عبد الرحمن
أيها الناعم في ملك الكرى ... بين أحلام الأماني الباسمات
من على بالك يهفو يا ترى ... عندما تذكر ما مر وفات
لا رأت عيناك يوماً ما أرى ... وأقاسي من لهيب الذكرياتْ
حينما يعرضها الماضي لعيني
صوراً تجلو الذي أفلت مني ... من ليال بهوانا راقصات
حمل الصبح إلى الكون نشيدي ... رائع اللحن شجي النغمات
كالمنى تخفق كالحلم السعيد ... كرضانا كابتسام الزهرات
بيد أني لا أبالي بالوجود ... ذاع لحني فيه أم ضاع ومات
إن يكن قلبك لا يسمع لحني
فلمن يا فتنة الروح أغني ... للهوى لحن الليالي الخالدات
آه لو تسمعني أشكو الجوى ... يا حبيبي. . . آه لو تسمعني
وترى القلب ونيران الهوى ... ولظاها بات يرعى بدني
لترفقت وحطمت النوى ... وانطوى سهدي وولى حَزَني
أين أحلام شبابي، أين مني
أمسيات من فتون وتمنى ... وعيون الدهر عنا غافلات
يا حبيبي أيقظ الماضي شجوني ... حينما طافت رؤاه في خيالي
وتلفت بعيني ليقيني ... فإذا الحاضر كالليل حيالي
وإذا بي قد خلت منك يميني ... وانطوى ما كان من صفو الليالي
طال بي شوقي لأيام التغني
وليال هن بعض غاب عني ... هاتها يا حبيب الروح هات(622/46)
البريد الأدبي
تقدير قيم لكتاب قيم
أرسل إلينا الأستاذ نزار الحلي كتاباً يقول فيه: (أهدى السيد محمد حسن آل ضياء الدين سادن الروضة العباسية بكربلاء هدية نفسية إلى الأستاذ عباس محمود العقاد تتألف من مصحف أثري، وسجادة فاخرة، وقطعة من الذهب المقطب تمثل ضريح الحسين عليه السلام، وذلك بمناسبة تأليفه كتابه (أبو الشهداء) واعترافاً بإجادته في هذا الموضوع. وتقدير هذه الهدية بألف جنيه علاوة على قيمتها الأثرية.
ولقد أرسل الأستاذ المهدي إليه رسالة رقيقة إلى السيد المهدِي نرسل إليكم صورتها لتنشروها غفي مجلتكم الغراء، وهذا نصها بعد الديباجة:
(تحيات الإجلال إلى مقام السيد الكريم، وقد تلقيت هديته الفاخرة فتلقيت كنزاً ثميناً بكل معنى من معانيها، وكل إشارة من إشاراتها، وهي كثيرة المعاني والإشارات
وحسبي منها أنها عنوان الرضوان من أمثالكم ذوي الفضل والعلم، ورضوانهم مفخرة لكل من يحمل القلم في خدمة الحق والمعرفة، وأنها قداسة تقترن بوحي الله وتزدان باسمه جل وعلا وأسماء نبيه الكريم وصفوة آله الأبرار وأنها مع هذا وذاك آية رائعة من آيات الصنع المونق المعجب والفن المحكم الجميل، ولست أوفيها الشكر عن بعض هذه المعاني فكيف الشكر عليهن مجتمعات؟
غاية رجائي أنني استحققتها من كرمكم بكتابي عن (أبي الشهداء) فعسى أن أوفيها شكرها بالمضي في هذا النهج القويم والمثابرة على خدمة الفضيلة والإيمان. ولعلي أسعد بفرصة يشكركم فيها اللسان مع هذا الشكر القاصر من اليراع.
ولكم مني أسنى التحية والسلام والإجلال)
المخلص
عباس محمود العقاد
من مستشار أريب إلى مؤلف أديب
عزيزي الأستاذ الكبير كامل كيلاني بك(622/47)
إني - منذ تفضلت فأهديت إليّ تحفتك الأخيرتين - أتفيأ ظلال حديقة أبي العلاء، أنعم بوارف هذا الظل وأمتع ناظري بجمال تنسيقها ووشى أزهارها وأجتني ثمارها وأتذوق عذب نميرها، وأهنأ برسالة الهناء وما حوت من طريف اللغة ودقيق المعاني وما كشفت من نواحي الحياة الوضاءة حيناً والمظلمة أحياناً، وأعجب من هذه القدرة التي حباك الله بها فيسرت العسير، وذللت الصعب الممتنع، وسقت لنا فلسفة أبي العلاء وأدب أبي العلاء وخيال أبي العلاء الشعري الرائع في أسلوب جزل حلو جذاب وثاب ينفذ إلى القلوب فيهز مشاعر النفس وجوانب الحس. وقد عقدت الموازنة الطريفة بين حديقة أبي العلاء كما نسقها بنانك ورواها بيانك، وبين غابة أبي العلاء بوحشيتها المحببة وروعتها الموطأة.
فلك منى الشكر على كريم هديتك، والتهنئة على عظيم توفيقك. ولا عجب فماضيك في الأدب يحمل أكبر الدلالة على حاضر موفق ومستقبل أكثر توفيقاً بإذن الله. فالله يكافئك على ما قدمته للعربية من روائع أدب تضيف إلى كنوزها كنوزاً وتحمل رسالة السلف إلى الخلف في يسر وجمال وإغراء.
والله يجزيك جزاء العاملين الصالحين.
المخلص
محمد العشماوي
المستشار الملكي
إدارة للأدب في فرنسا
أنشئت في العهد الأخير في وزارة المعارف العمومية الفرنسية إدارة للأدب عهد بالإشراف على كل ما يختص بالدفاع عن الأدب الفرنسي والكتاب الفرنسي الماضين والحاضرين والذين يظهرون في المستقبل وإبرازهما.
وستقدم هذه الإدارة المساعدات المالية لطبع المؤلفات العلمية التي يضعها كبار الكتاب العصريين، أو تقديم أداة العمل كالمعجم. وستعني أيضاً بإصدار الكتب الفرنسية إلى الخارج. وقد شرعت في وضع مرشد فرنسا الأدبي ليستعين به الأجانب.
وستحقق هذه الإدارة أمنية جورج دوهاميل بإنشاء (صندوق وطني للأدب) بحيث يمكن(622/48)
توزيع المساعدات اللازمة للعمل فتذهب عن كل من يمنحونها المشاغل المادية مدة عام أو عامين. وستكون هذه المساعدات شبيهة بجائزة روما للرسامين والموسيقيين والحفارين، ويمكن أن تمنح للشبان من الشعراء والروائيين والفلاسفة والمؤرخين وغيرهم.
وستتولى إدارة الأدب صيانة عقيدة الكتاب، وحماية منازل الكتاب المتوفين من الإهمال أو التدمير.
وستعني بتنفيذ بعض المشروعات مثل متحف الأدب الذي يمثل منظراً واسع النطاق لنشاط الإنسيان، أو لحركة عهد من العهود، أو تطوير حركة من حركات الأدب، فيمثل للجمهور مثلاً أدب النهضة أو أدب بارناس أو الأدب الروائي أو أدب بلزاك أو فيكتور هوجو.
وبالأجمال ستكون مهمة هذه الإدارة اختيار ما أخرجه الأدب الفرنسي مهما يكن مصدره واتجاهه وصيانته من العبث.
هيكل باشا مع المؤرخين
قرأت ما كنت في (الرسالة) حول أسم كتاب الدكتور هيكل باشا (الفاروق عمر) فأرسلت بهذه الكلمة استداركاً على ذلك!
قال المؤرخ الصفدي في (الوافي بالوَفَيات): قد عرفت العلم والكنية واللقب، فسردها يكون على الترتيب: يقدم اللقب على الكنية، والكنية على العلم، ثم بالنسبة إلى البلد، ثم إلى الأصل، ثم إلى المذهب في الفروع، ثم إلى المذهب في الاعتقاد، ثم إلى العلم والصناعة. والخلافة والسلطنة والوزارة والقضاء والإمرة والمشيخة والحج والحرفة كلها تقدم على الجميع، فيقال في الخليفة: أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري البغدادي الهاشمي القرشي العباسي الشافعي الأشعري. ويقال في أشياخ العلامة أو الحافظ أو المسند - فيمن عمر واكثر الرواية - أو الإمام أو الشيخ أو الفقيه، ويورد الباقي إلى أن يختم الجميع بالأصولي، والمنطقي أو النحوي. انتهى. هذا مصطلح المؤرخين. وهيكل باشا منهم.
دمشق
أحمد بسام القدسي(622/49)
تصحيح آية
جاء في مقال الأستاذ السبكي أثناء نقده لكتاب التصوير الفني في القرآن أن الله سبحانه وتعالى قال في وصف سيدنا يوسف إنه كان من عبادنا المخلصين. ومع أن الأستاذ الناقد أخذ على المؤلف إهمال تحرير الآيات فإنه وقع في نفس المؤاخذة بأن زاد كلمة (كان) على كلام الله تعالى. فنرجو تصحيح ذلك.
عبد السلام النجار(622/50)
الكتب
التعليم في رأي القابسي
للأستاذ محمد يوسف موسى
رسالة دكتوراه للأستاذ أحمد فؤاد الأهواني، نشر مكتبة
الخانجي بالقاهرة، 326 صفحة القطع الكبير.
ظن كثير من الناس أن نشر رسالة في التربية لعالم من علماء الإسلام لا يقتضي من المجهود ما يستحق به صاحبه درجة دكتور في الآداب، حتى نشر الأستاذ الأهواني هذه الرسالة وقرأها هؤلاء الذين كان رأيهم هذا الرأي، فتبين لهم أنهم كانوا على أنفسهم مسرفين
ومن الحق أن قارئ هذه الرسالة القيمة يتبين له بوضوح مقدار ما عانى صاحبها الفاضل وما بذل من جهد، وما كان له من آراء خاضعة ونقد قوى لما يستحق النقد من آراء القابسي وغيره من المستشرقين وبعض الكتاب المعاصرين.
جعل الأستاذ رسالته من قسمين: التعليم في رأي القابسي وهو من علماء القرن الرابع، ونص رسالته القابسي التي بين فيها أحوال المعلمين والمتعلمين.
بدأ أولا بعرض حياة القابسي وبيان منهجه في رسالته، وأن هذا المنهج كان منهج رجال الحديث الذين يعتدون بالآثار ويكرهون الابتداع، كما كان واقعياً فيما عرض من آراء في التعليم والتربية، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يكون مؤرخاً أيضاً؛ فيعني فيما يبحث من مسائل - إذا اقتضى الأمر - بردّها إلى أصولها التاريخية وتتبع تطورها إلى أن تبلغ زمانه (49).
ولم يفت الأستاذ أن يلحظ أن القابسي وإن كان واقعياً في آرائه يعني بتقرير الواقع ووصفه، إلا أنه كان مثاليا فيما رأى من وجوب أن يكون تعليم الصبيان جميعاً إلزامياً (50، 83)، وبهذا سبق بقرون عديدة ما رأته الأمم من هذه الأيام.
ثم عرض بعد هذا إلى الكلام عن الكتاتيب في الإسلام، وإلى البواعث التي جعلت أصحاب الحديث هم المشرفين على التعليم، وإلى الغرض من التعليم في رأى القابسي ومناقشته.(622/51)
وهنا نراه يقوم لذلك بعرض تاريخي عن التعليم في فارس والشام ومصر قبل الإسلام أخذ منه الفصل الرابع كله والفصل الخامس أيضاً.
ويطول بنا الحديث إذا أردنا تحليل الرسالة وبيان ما وعت من مسائل عديدة عولجت بمقدرة وشجاعة وعمق جدير بالإعجاب، ولكنه يجب علينا مع هذا أن نشير إلى أن الأستاذ الفاضل كان موفقاً وقوياً في نقده للقابسي في منهجه وفي بعض آرائه التي قررها وفي نقده لبعض الذين كتبوا في التربية عند المسلمين من المستشرقين وغيرهم من المسلمين المعاصرين، لقد كان موفقاً في ذلك كله إلى أبعد حدود التوفيق.
1 - نقد القابسي في منهجه الذي يقوم على تلمس الآثار وآراء السابقين، بأن هذا لا يصلح في التربية لما يدعو إليه من جمود وحجر على الرأي، وبخاصة والأمر أمر يتصل أوثق اتصال بشئون الدنيا (ص33).
2 - نقده أيضاً في أنه أهمل في الآراء التي أنهى إليها نفسية الطفل ورعاية مراحل نموه، كما أهمل العلوم الطبيعية والرياضة البدنية فلم يجعلها من العلوم الواجب أن يؤخذ بها الناشئة، على أن الأستاذ كان منصفاً حين لا حظ أن هذه الآراء كانت أثر البيئة الاجتماعية في عصر القابسي، وأن العيب الأول كان عيب العصر كله في الشرق والغرب (ص 175).
3 - وكذلك نقد بعض المستشرقين ومن أخذ أخذهم؛ إذا لم يفرقوا فيما ذهبوا إليه من أغراض التربية عند المسلمين وآرائهم فيها بين المؤلفين والواقعين كالقابسي والمثاليين كابن عبد البر والغزالي وإخوان الصفاء، ومن ثم كان خطأ أولئك الكاتبين - ومنهم الدكتور خليل طوطح في كتاب التربية عند العرب - في اعتبارهم آراء المؤلفين آراء المسلمين جميعاً. ص 201 وما بعدها.
4 - والأستاذ (كارادي فو) المستشرق الفرنسي المعروف ناله شواظ من نقد الأستاذ الأهواني. بحق؛ فقد زعم في كتابه (مذهب الإسلام) إن الشرق الإسلامي ليس فيه الذوق الفطري للتعليم، وأن الإسلام لم يهتم بأمر الطفل. . . فأكد لنا الأستاذ الأهواني أن هذا المستشرق لو عرف رسالة القابسي لغير هذا الرأي الخاطئ، فكيف بها وبغيرها من المؤلفات التي عنيت بالتربية والتعليم! (ص 225 - 226). هذه الرسالة التي - كما جاء(622/52)
ي آخر القسم الأول من البحث - وضع بها القابسي مؤلفها أسس التربية بحيث تلائم المجتمع وحاجة العصر، والتي فكر في التعليم الإلزامي وتعليم البنات.
وبعد فقد كنا نود الوقوف عند هذا، ولكن نرجو أن يسمح لنا الدكتور الفاضل بأن نشير إلى أمرين:
(أ) استعمل في مواضع (أهل السنة) للدلالة على (أصحاب الحديث) (ص 75، 78، 232، 233). والمعروف أن أهل السنة في المقام الذي جاء ذكرهم فيه، هم الأشاعرة والماترتدية الذين يقابلون المعتزلة، لا أصحاب الحديث، كما يتبين من ابن خلدون وطاش كبرى زاده وغيرهما من الذين عرضوا للكلام والمتكلمين
(ب) ذكر الأستاذ الفاضل (ص 77) رأى الغزالي عن المعتزلة من أنهم رأوا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم فهو كافر. . . ومع أن هذا، كما ذكر الأستاذ، ورد في فيصل التفرقة للغزالي، إلا أنه كان الواجب في رأيي أن يأتي الأستاذ بنص في ذلك من كتب المعتزلة أنفسهم، لا من خصم لهم، ولكنا نعرف قول الخصوم بعضهم على بعض. وبخاصة والمعروف المشهور أن هذا التضييق على الناس في وجوب معرفة الله من أدلة خاصة لها مقدمات خاصة هو رأي القاضي أبي بكر الباقلاني الذي ذهب إلى أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول؛ حتى جاء إمام الحرمين الجُوَيْني وأعرض عن هذا الرأي، وقرر أن بطلان الدليل لا يؤدي إلا بطلال المدلول بحال.
هذا، وليس هذا المأخذ أو ذاك مما يغض من قيمة هذه الرسالة القيمة التي عالج فيها صاحبها العالم الجليل مسائل التربية والتعليم - على تنوعها وتعددها - في القديم والحديث بمقدرة يستحق التهنئة عليها وأسلوب واضح مبين ومنهاج مستقيم لا عوج فيه. وهذا كله وأكثر منه ننتظره من الدكتور الأهواني الذي تخصص في هذا الموضوع زمنا طويلاً.
محمد يوسف موسى(622/53)
مرايا الناس
للأستاذ حبيب الزحلاوي
السيدة وداد سكاكيني، أديبة سورية، وكاتبة من الطراز الأول بين جميع بنات جنسها، وأقدر من عرفت من كاتبات العربية على الجمع بين حسن الديباجة، وطلاوة الأسلوب، وسلامة البيان، واختيار الألفاظ، وبراعة السبك ودقة التصوير خصوصاً في الأمور الواقعية.
ما قرأت لهذه السيدة بحثاً من البحوث إلا أحسست بالجهد الذي أنفقته والعناية التي بذلتها في صقل جملها لتكون على أجمل وأكمل ما يتراءى لها، وعلى أحسن ما يمكن أن يكون وقعها في نفس قارئها، وهذه صفات قلما وجدنا لها نظيراً بعد المرحومة الآنسة (ميْ) بين كاتبات العربية في هذا العصر. بل هي ميزة تمتاز بها على قريناتها خصوصاً في معرفة مداخل الموضوعات والخلوص منها.
جمعت هذه السيدة الفاضلة ما كتبت في مستهل حياتها من قصص في كتاب أسمته (مرايا الناس)؛ وأول ما يبدو لخاطر قارئ هذه المجموعة أن مؤلفتها كانت حبيسة دار الزوجية لا تسمع فيها - إن سمعت - سوى أحاديث الكتاب والأدب، والكتَّاب والأدباء، ولا تخرج من دارها إلا لتذهب إلى المدرسة تعلم بعد أن تعلمت وأخذت منها كل ما يمكن أن تعطيه لفتاة مجتهدة مثلها، وإذا جنحت عن المدرسة أو البيت - وقل ما نلاحظه في هذه المجموعة أنها جنحت عنهما - فتكون لزيارة صديقه قريبه أو زميلة. وقد ألمس الحقيقة إذا قلت إن حوادثها الخاصة وصورها الذاتية المرسومة في كتاب (مرايا الناس) مستمدة من محيط ضيق كل الضيق لم يتخط بيت طفولتها، ودور المدارس، ومنزل الزوجية. والمؤلفة برغم هذه العقاب وأسميها عقبات كأداء لسيدة متوثبة الذهن، متحفزة لاقتحام ميدان الحياة واجتلاء أسرارها، ألفت هذه المجموعة من القصص فجاءت ضيقة الحدود، متعرجة الخطوط، ناصلة الألوان، غير واضحة المعالم، وقد بدا شأنها فيها كشأن مقتحم الصحراء وهو غير مزود حتى بالبوصلة. وأزعم أن مجموعة قصصها الجديدة، وقد كتبت ما كتبت منها تحت سماء مصر، هذا القطر السعيد، الجياشة صدور أدبائه بالطموح إلى الخروج عن الطوق، وإثبات الشخصية، والساذرة أقلام نقاده في جنان من المديح والثناء المأجور، أقول إنها(622/54)
ستعني كثيراً بعرض موضوعها القصصي ومعالجته وتحليل شخصيات القصة، وتسلسل الحوادث، وبالعقدة والخاتمة، وبالمحافظة على عنصري الصدق والتشويق، وإلى خصائص مقررة لا محيد ألبته عن التزامها في بناء القصة. أما مجموعتها هذه فهي غنية بالصور الوصفية، وقد تكون قصة (شقيقة نفسي) من أغناها، لأن بناءها قائم على رسم تطور حياة فتاة، هي حياة المؤلفة الخاصة قالت:
(وقد مرت الأيام على (وئام) فألقت بها في لجة الحياة، وكأنها كانت تقول لها: حاولي النجاة. . . فلاحت لها الدنيا بوجهيها، ورأت فيها الحمامة الوديعة الرقطاء. ثم فتحت كتاب الناس فراعها أن لم تجد فيه صفحة مما تعلمته في المدرسة، وندمت على شباب نسجته بالمثل العليا، فأخذت تتمرس بآفات المجتمع غير منطوية على يأس، ولا متقنعة بمصانعة)
ثم تقول (وأسدل الستار على فصل من رواية عمرها، فإذا هي في فصل جديد، وإذا بها ككل أنثى تنضو عنها فتوة جاهدة، وتروز تبعات جديدة، فتشيع قافلة من السنين تجاوز العشرين، وينبثق حجاب الزمان عن سر الغد القريب، فإذا بها تجتلي في طلعة دنياها التي خلقت من أجلها كل أنثى).
أحيي السيدة وداد تحية الولاء والصداقة؛ وأرجو أن تحملني مجموعة قصصها التالية على الوقوف عند كل قصة وقفة النهم من موائد مترعة الكؤوس بخمرة الحياة.(622/55)
شخصيات ومذاهب فلسفية
من مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
من طبيعة الأدب شعره ونثره أنه سهل الدخول إلى النفس في يسرولين لا عنف ولا مشقة. وأن النفس تقبل عليه بدافع منها، راضية عنه مقبلة عليه مستأنسة إليه.
أما الفلسفة فلا يقبل عليها من الناس إلا من رزُق الصبر عليها والأنس بها. وقلما كانت الفلسفة أنيسة إلى النفوس لأنها كالسباع من الحيوان لا يقدم عليها إلا من رزق القدرة على ترويضها وتأليفها.
والفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة مسئولون عن هذا النفور الذي يعانيه الجمهور من القراء. ولا أدري ماذا كانت حجتهم في الأبهام وعذرهم في التعمية. وهل فعلوا ذلك عن قصد حتى تبقى للفلسفة رهبة الغموض وهيبة الخفاء؛ وحتى يكون لهم مفتاح الأسرار والاستئثار بالأستار، أم جاءهم ذلك الغموض من طبيعة الفلسفة نفسها لأنها تبحث وراء (المجهول) (وما بعد الطبيعة) وما إليهما مما أبديء الكلام فيه وأعيد ولا يزال المجهول مجهولا؟
والحق أن كثيراً من موضوعات الفلسفة - وخاصة عند المسلمين لا يفيد القارئ أكثر مما يتعب ذهنه ويحير عقله - كالكلام في النفس ووحدتها وبقائها؛ وكالكلام في الكون وهل هو حادث أم قديم، وكالكلام في معرفة الله للجزئيات أو الكليات، وكالكلام في البعث وهل هو لأجسام الدنيا بأعيانها أم بأمثالها.
وقد ظل الفلاسفة يبحثون في هذا وأشباهه فما أراحونا ولا أراحوا أنفسهم، ولا أزاحوا الستار عما تتحرق نفوسنا إلى معرفته وتتطلع إلى كشفه. حتى لقد مات الرازي وهو لا يدري إلى أين. . . وعبر عن ذلك بقوله في بيتين يعبران عن سؤال كل نفس من عهد آدم إلى أن يشاء الله، وهما:
لعمري ما ادري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجها ... من الهيكل المنحل والجسد البالي
ولقد أراح - والله - خطيب أياد وحكيمها (ابن ساعدة) نفسه حينما قال قبل الإسلام:
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر(622/56)
ورأيت قومي نحوها ... يَمْض الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر. . .
ولقد ألهم الله الجمعية الفلسفية المصرية صوابا في القول حين قالت في تصدير أول كتاب من كتبها (وإذا أراد الله بالفلسفة خيراً ألهم أهلها أن يسلكوا سبيلاً أخرى، فيعنوا بالشئون الإنسانية، وبالأمور التي يتجه إليها التفكير في كل زمان ومكان، ويعالجوا بحوثهم في أسلوب سائغ جذاب يفتح باب الفلسفة على مصراعيه لجمهور المثقفين).
أما العناية بالشئون الإنسانية فنجد أن الدكتور علي عبد الواحد وافي قد هدف إليها في رسالته الجليلة (الأسرة والمجتمع) التي تعد بحق تحفة في المكتبة العربية. ونجد أن أساتذة آخرين سيكتبون في سلسلة هذه الجمعية عن الحياة الأخلاقية، والتشريع والإصلاح الاجتماعي. وأمثال هذه الموضوعات التي تتناول الواقع والحياة، ولا تطير وراء الغيبيات والمجهولات. . .
ولكن الدكتور عثمان أمين - وهون شريك الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه تصدير هذه السلسة - ترك العناية بالشئون الإنسانية من أخلاق وسياسة واجتماع وراح إلى الفلسفة يلتمس عندها سدَّ النقص في القوة الإصلاحية والروحية. لأنه يرى أن (كل إصلاح تم في الماضي أو سيتم في المستقبل إنما هو أثر من آثار الفلاسفة وأحرار المفكرين).
وما كان الأنبياء يا صديقي فلاسفة ولا أحرار تفكير ولكنك لا تنكر الإصلاح الذي تم على أيديهم:
على أن اكتفاءك بالكلام في الشخصيات الفلسفية وترك التأليف في الشئون الإنسانية - كما صنع الدكتور علي عبد الواحد - يُعدُّ ركونا إلى أهون الحملين وأخف العبأين. . .
إلا أنني لا أكتمك أنني وجدت في كتابك لوناً من المتعة واللذة عرفتُه من قبل في كتابك عن (محمد عبده). ووجدت في أسلوبك الواضح السائغ أخذا بما عاهدت أنت ورئيس الجمعية في تصديركما لأول كتاب.
وما أنا بقائل هنا لك جديداً؛ فقد كنت أقرأك في مجلة (المقتطف) من سنوات فأجذ فيك من الوضوح ما صارحتك به من حين إلى حين. وهأنذا اليوم أقرأك فأجدك سائغ الأسلوب في سقراط، وفي الثلاثة الفلاسفة المسلمين الذين شئت أن تكتب عنهم، وفي ديكارت وهيوم من(622/57)
الغربيين.
ولا أدري يا أخي السر في اختيارك هؤلاء الثلاثة من المسلمين بأعيانهم مع كثرة ما كتب عنهم ونشر فيهم. فهلاَّ كتبت عن أبن زهر والرازي وابن بطلان أو غيرهم مما لا يعرف الناس عنهم إلا قليلا. ولم تختار طريقاً معبَّداً وأنا ما عرفتك إلا مجتاز الصخور والوعور؟؟
وهل بين الذين كتبت عنهم غرض يؤلف بينهم، أو غرض أتفق لك في الكتابة عنهم؛ أم هي أشتات من الشخصيات لا يؤلف بينها غرض ولا يجمع بينها إلا كلمة الفلسفة؟؟
ولا يزال (ميزانك) يا أخي في تقديم الكتاب وحفظ النَّسب بين فصوله فيه كثير من السخاء في موضع، والشح في موضع. فإن الفصل الذي كتبتَه عن آثار الفلسفة الإسلامية في الفلسفية المسيحية واليهودية لا يشفي غليلاً. فقد أوجزتَ فيه إلى حد لا تغفره لك عربيتك وإسلامك، ولا يغفره لك الإنصاف العلمي التاريخي، على الرغم من إعلانات أنك لا تنتحل الأسباب للإشارة بفضل المسلمين على غير حق. فقد كتبته في صفحتين ونصف صفحة على حين خصصتَ (ديكارت) بأربعين صفحة من الكتاب.
وما كنتَ يا أخي منصفاً للعرب حين قلتَ في هذا الفصل (ولعل أسبينوزا عرف شيئاً من نظريات العرب عن طريق موسى ابن ميمون). وإيراد الخبر على هذا الأسلوب يورده موارد الشك على حين أن يورده مورد اليقين في كتابه:
ولقد ذكرت يا أخي أن (هيوم) نشر كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية) سنة 1740. وليس الحق كله معك في هذا. . . فإن (الطبيعة البشرية) ظهرت في يناير سنة 1739. في مجلدين؛ أما الذي نشر سنة 1740 فهو المجلد الثالث وموضوعه مبادئ الأخلاق.
وذكرت أن (هيوم) بعد رحلته في فرنسا عاد إلى أدنبره فقضي فيها آخر سني حياته. وهنا طفرة في التاريخ لا أظنها خفيت على علمك. فقد عاد من فرنسا إلى أدنبره - كما تقول - ولكنه تركها إلى لندن موظفاً كبيراً في وزارة الخارجية فقضي فيها سنتين ثم أستقر آخر الأمر في أدنبره سنة 1769
أما السياسة عند ابن سينا وكتابه فيها فلم تتعرض لها ولا له!! وأنا أعرفك يا أخي بعيداً عن السياسة المصرية بطبيعة وظيفتك وطبيعة نفسك التي ترسل الابتسامة المرة لما تقع(622/58)
علية من أمورنا. . . ولكن سياسة ابن سينا يا أخي تستحق الإعجاب ولا تستحق مرير الابتسامات. وقد كتب عنها الأب بولس مسعد فصلا لطيفاً في كتابه الصغير عن (ابن سينا الفيلسوف)
وبالرغم مما ذكرته لك فأن كتابك قد ترك في نفسي الأثر الطيب الذي تتركه عندي آثارك. وقد نزل مني مكتبتي المنزلة التي أنت أعرف الناس بها. فأهنئك على كتابك وأهنئك على جهدك في الجمعية الفلسفية التي وقعت أعمالها من نفوسنا مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.(622/59)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/63)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/64)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/65)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/66)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/67)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/68)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(622/69)
العدد 623 - بتاريخ: 11 - 06 - 1945(/)
قصة النمل الأبيض. . .
قالت نملة حمقاء لجماعة من النمل الأبيض أنقذها الفرار من أخفاف الفيلة: لم لا نعمل كما عمل (تيتو) وقد صنع الحلفاء بنا ما صنعوه به، فجعلوا على جوانبنا أجنحة، ووضعوا في أفواهنا أسلحة؟
قالت لها الجماعة: وماذا تريدين أن نعمل يا ذات الأجنحة الأمريكية والأسلحة الإنجليزية؟
قالت: نهجم على هذه الجماعة البشرية وهي في نشوة من وعود النصر، وغفوة من عهود السلام، فنخرجها من دار أمية، أو ندفنها في أنقاضها وهي حية؟
وكان في الجماعة نملة متصوفة من أتباع (مسنيون) يكفر بخطب الحجاج، وتؤمن بطواسين الحلاج، فنهضت تقول وفي عينها رقراق من الدمع: ولم هذا البغي يا أختاه! أنسيت والعهد قريب، بطشة الجبارين بأرضنا العزيزة وأهلها يومئذ يتقلبون في النعمة ويتبسطون على الأنس؟ أنسيت والهول لا يزال يعصف بالقلوب، تلك الجبال التي كانت تسير فتنفجر منها الحمم، والقلاع التي كانت تطير فتنهمر منها الصواعق، ونحن نلوذ بأجواف الأرضين فلا يمنعنا ذلك دون أن نسحق أو نحرق؟ ولولا أن جاءنا النصر بطريق القرض، لبقينا كاليهود مشردين في الأرض؟ فهل يزكو بمن قاسى معرة الظلم أن يظلم، وبمن كابد مذلة الحرمان أن يحرم؟ ثم أسمعك تذكرين الأجنحة المستعارة، كأنك لا تذكرين الحكمة التي تقول: لا يزال النمل بخير ما لم تنبت له أجنحة؛ فإذا نبتت أجنحته وأخذ يطير، صادته العصافير. وهل في أمة النمل أحد ينسى قول أبي العتاهية شاعر الأنس:
وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبهْ
فما كان جواب النملة الحمقاء إلا أن قالت في ضحكة ساخرة ولهجة ماكرة: إنك لا تزالين يا صديقتي متأخرة، ومن العجيب أنك تنسبين إلى أمة متحضرة ودولة مستعمرة! على أننا لا نجادلك بوصايا سان فرنسسكو، ولا بنصائح وشنطون ولندرة وموسكو إنما، نجادلك ببرهان العمل وسلطان الواقع. وما هي إلا دمدمة كعزيف الجن حتى غامت السماء بالنمل، وسالت الأرض بالحشرات، وأخذت هذه الطير الأبابيل، ترمي الناس بحجارة من سجيل. ولم يغن عن العزل الأبرياء دعس النعال، في دفع هذه النمال؛ فاستحر القتل، وأثخنت الجراح، وانتشر النهب، وفشا الخراب، وكاد النصر المؤقت يتم لهذه الحشرة الباغية لولا أن صاح من الجانب الغربي صائح يقول وفي يده بوقه وعلى رأسه بنوده: (يا أيها النمل(623/1)
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده)! فلم تبق نملة سمعت هذا الصوت من ذلك البوق، إلا دخلت مذعورة في شق من الشقوق! وهيهات ألا يبعث الله من في القبور؛ إلا يوم ينفخ إسرافيل في الصور!
وحينئذ قالت النملة المتصوفة الحكيمة وهي تنفض رأسها استهزاء بالضعيف المغتر والذليل المعتز: أليس من خيبة الحكمة ألا ينفض مشكل، إلا بجن سليمان أو أسطول تشرشل؟!
ابن عبد الملك(623/2)
عصرنا العجيب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعجب العصور في تاريخ الإنسان كله هو عصرنا الذي نحن فيه، ولا سيما هذا النصف الأول من القرن العشرين.
لك أن تلغي التاريخ كله مكتفياً بهذه السنين الأربعين أو الخمسين، لأنك واجد على اليقين مائة عبرة مكان كل عبرة تلغيها من تلك التواريخ الغابرة، ولأنك على يقين وأجدها أضعافاً مضاعفة، في القوة والكثرة والدلالة والوضوح.
لقد كانت السنون ينقضي في تواريخ الماضين عشراً بعد عشر، ومائة بعد مائة، بل ألفاً بعد ألف في بعض الأحايين، قبل أن يظهر للعالم رجل خطير يضطلع بأعباء حادث خطير، أو قبل أن تقام دولة وتسقط دولة، وقبل أن تنجلي للأبصار والبصائر بواعث القيام ودواعي السقوط.
أما اليوم فقيام الدول وسقوطها من أنباء الصباح والمساء، واختلاف العبر وتقلبات المقادير من ذكريات العمر الواحد الذي لم يتجاوز الثلاثين، ومسرح القدر كريم بالمآسي والملهيات يعرضها خمساً خمساً أو عشراً عشراً في وقت واحد، فلا يفوتك فصل هنا إلا عوضته بفصول هناك، ولا تذكر خيال يوربيبد وأرستفان وسفوكليس واسكايلاس وشسكبير إلا تلقيت حولك من نسج الواقع روايات مشهودة تفوق كل خيال.
موسوليني من بيت الحداد، إلى أزقة جنيف، إلى مظاهرات ميلان، إلى دست الحكم في روما القياصرة، إلى الصولة على العالم كله وهو في شرفات قصر البندقية يقعقع بالسلاح فيرتجف الأقوياء والضعفاء، ويحمدون الله على السلامة إذا انقضى ذلك الدعاء بغير النيران والدماء.
وموسوليني أيضاً من محب السلام يلقى بنفسه أمام القطار ليعوق حركة الجنود التي تغزو طرابلس، إلى مسعر للحرب لا يقوم ولا يقعد في حكمه إلا بثمانية ملايين من الحراب! وألوف الألوف من صرعى البلاد والخراب!
ثم موسوليني هو هو بعينه هارباً يتسلل على أبواب التخوم لا يزال يطمع في الحياة بما بقي له من سبائك الذهب وسلوى الغرام، ثم يفوته هذا المطمع الذليل فإذا هو معلق من(623/3)
قدميه لأنظار السابلة الشامتين، لا تسلم جثته بعد الموت من رصاصة انتقام وبصفة ازدراء
وهتلر سيد الألمان وصاحب الأمر المطاع في القارة التي تطلب الطاعة من جميع القارات. . .
من طفل مدلل، إلى جندي مخذول، إلى شريد على أبواب الصدقة في العاصمة النمسوية، إلى حلس قهوات في ميونخ عاصمة البافاريين، إلى وارث العرش العريق في برلين، وسيد الأمة المختارة كما قال بين أمم العالمين. كلمة فإذا العالم يتساءل ماذا يريد؟ وهمسة فإذا هي أجهر في الآذان من البروق والرعود، وحركة فإذا الأكف على الصدور، وغضبة فإذا المغرب والمشرق يتحدثان بالشرور وعظائم الأمور.
عاش ليفتح الأرض بما رحبت، ومات لتضن عليه الأرض بقبر من ألوف القبور.
وفي روسيا، أين دولة القياصرة ومن كان منهم يدعى بالأب الصغير إذا دعي الله بالأب الكبير؟
وفي القسطنطينية أين دولة الخواقين ومن كان منهم يدعى بظل الله وخليفة رسول الله؟
وفي أمة الفرس أين عرش الأكاسرة؟ وفي أمم الصين أين عرش أبناء السماء؟
لا تسل عن هؤلاء وسل عن لينين وكمال ورضا وشيان، وكلهم بين طالب منفي وجندي ناشئ وثائر مغضوب عليه.
ودع السياسة والحرب وانظر إلى النسك والزهادة تر في الهند ناسكاً حاسر الرأس حافي القدم ينازل الدولة التي صمدت للنزال، في ميادين السياسة وميادين القتال.
ودع النسك والزهادة وانظر إلى عواطف القلوب وخلجات النفوس تر العاهل العظيم الذي يتخلى عن ملكه ولا يتخلى عن زوجه وشريكة فؤاده وروحه.
ودع كل هذا وانظر إلى الصناعة والاختراع تر الإبداع الذي ينسيك كل إبداع: هاتف في أقصى المغرب تسمعه في لمحة عين وأنت على عشرات الألوف من الأميال، وطيارة تسابق الشمس فتذرع الشرق والغرب فيما بين ليلة ونهار.
ما من شيء في مصارع الدول ومقادير الشعوب، وما من شيء في مظاهر القوة بين مظهر خادع ومظهر صحيح. وما من شيء في أفانين الدعوة التي تقال ولا تقال، وما من شيء في أساليب الغلب بالسياسة أو بالسلاح، وما من شيء في موازيين التقدير ومقاييس النجاح(623/4)
والإخفاق، وما من عبرة في حياة الأمم أو الأفراد خلت منها هذه السنون الخمسون، أو نقص نصيبها منها عن نصيب الدهور متجمعات متلاحقات.
أفنحن سعداء بهذه الآونة العجيبة أم أشقياء؟
إن كانت السعادة وفرة الحياة وثروة التجربة فنحن سعداء، وإن كانت السعادة خلو البال من العبر والأحداث فنحن لا نغبط السعيد الخالي، لأن الخلو لم يكن قط بالنعيم الذي يعمر النفس ويحمده الأحياء.
فالعمر في هذا العصر الحافل لاشك أعمار، والحياة بين هذه العوالم لاشك حيوات، وما تخال أحداً يستبدل بأيامه في هذا العصر أياماً في العصور الأخريات ولديه سبب مفهوم.
قال قائل وقد كنت أذكر عجائب عصرنا: نعم ويخيل إلى أناس مع هذا أن العصر عصر باهت لا عجب فيه، وأن العجائب حق العجائب قد ذهبت مع ذاهب العصور، لأنهم يعجبون على البعد ولا يعجبون على القرب، ولا يعلمون أنهم يتعجبون إلا إذا قرءوا أنهم متعجبون!
وسأل سائل: لكن أليس بعجيب من هذا العصر أنه لم يبدع ملحمة من الشعر كملاحم الأقدمين، وما كانت طروادة وميادينها وأبطالها إلا حادثة من حوادث الأقسام في جوانب الحوادث التي مرت بأهل الزمان؟
قلت حذار يا أخانا أن تخطيء هذه الخطأة التي ينزلق إليها نقاد الظواهر مغمضين!. . . لو أن أدباء الملاحم الغابرة عاشوا في عصرنا هذا لما كان شأنهم غير شأن الأدباء الذين يعيشون فيه. لأن الاختلاف إنما يكون في النظر إلى الوقائع لا في ضخامة الوقائع ونصيبها من السعة والضجيج. وحذار يا صاح من كل رأي يسول لك أن تجرد الخلائق الآدمية في بعض الأجيال من سليقتهم التي طبعوا عليها في غير ذلك الجيل؛ فإن السليقة لا تتبدل إلا كما يتبدل الناس بين عصر اليقظة وعصر الغفلة والجمود، فإذا لم يكن العصر عصر غفلة أو جمود فسليقة النفس الآدمية واحدة من أقدم العصور إلى أحدث العصور، ولا سيما في مسائل الحسن والتعبير.
أما أن الأقدمين نظموا الملاحم فيما هو أهون من أعاجيب اليوم فإنما نظموها لأنهم كانوا يتلقون الحوادث بدهشة الخيال، ولا يستعظمونها مع هذا حتى يضفي عليها القدم ثوباً من(623/5)
الغموض والتهويل.
ولا كذلك يصنع المحدثون حين يتلقون الحوادث الكبر في عهدهم المشهود أو فيما غاب عنهم من العهود، لأن الحادثة الكبيرة تقع بينهم فإذا هي حيز في الصفيحة، وحديث في المذياع، وصورة على اللوحة البيضاء، وموضع للتحليل في كتاب، وباب للترجمة وسرد السير في سجل من سجلات التاريخ، ودرس من دروس الصناعة في المعامل أو معاهد التدريب. فقد شبع منها الحس واستنفدها اللسان، والحس إذا شبع من شيء لم يرجع به إلى دهشة الخيال؛ واللسان إذا استنفد القول تحليلاً وتعليلاً لم يبق منه بقية للغموض والتهويل.
ترى لو كان (هوميروس) قد شهد حصان طروادة صورة متحركة، وقرأ أبطال الإغريق كتباً مفصلة، وسمع المساجلات بينهم حديثاً مذاعاً أو أصداء على اللوحة البيضاء، وعلم أنه لا أرباب هناك ولا أنصاف أرباب، وأنه لا نبتون في البحر ولا زيوش على متن السحاب - أكان ينظم الإلياذة كما نظمها أو كان الناس يسمعونها منه كما سمعوها؟
إن الخيال يعمل حين يلجئه الخفاء إلى العمل، وإن المرء ليضفي حلل الخيال على الغانية في البرج المحجوب، ولكنه حين يراها إلى جانبه في الترام، وينظر إليها وهي تأكل الطعام، ويستمع إليها وهي تتكلم فتحسن الكلام أو لا تحسن الكلام، يفكر فيها كل تفكير يخطر على البال إلا أن يلحقها بأجواء الخيال.
ولسنا نعني بهذا أن الحوادث في عصرنا لم تبق بقية لخيال الشاعر وبديهة الفنان، ولكننا نعني أن النظريتين تختلفان وأن التخيل في عصرنا أصعب من التخيل في تلك العصور، فما كان يسيراً على هوميروس في أمام طروادة لن يتيسر له هذا اليسر في عصر دنكرك وستالنجراد.
نحن نشبع من تلك الحوادث حساً وفهماً فلا تعجب لها كما كانوا يعجبون وهم يتلقونها بالدهشة والخيال، وعلى هذا قد يمضي السنون الطوال قبل أن نحس ما نحن فيه كما ينبغي أن نحسه، وقبل أن نفهمه كما ينبغي أن نفهمه بمعزل عن الأهواء.
عباس محمود العقاد(623/6)
عرب فرنسا
للأستاذ عمر الدسوقي
عطبت سيارتنا، ونحن نصعد في الجبل صوب قرية من قرى لبنان، وكان عطبها إزاء كوخ مشرف على الطريق، أطلت منه عجوز نالت منها السنون حتى تركتها أثراً متهدماً لإنسان: درداء، شمطاء، عجفاء، معروقة اليدين، مخددة الوجه، محدودبة الظهر. وكأنما راعها أن تقف سيارة فخمة بباب كوخها المتهدم المتواضع الذي يحاكيها قدماً، ويجانسها ضعفاً، ويماثلها قماءة، فأخذت تجيل فينا بصراً لا يزال حديداً، لم يبل كما بلى جسمها، ولم يرث كما رثت منتها، يتطلع إلينا في لهفة وعجب، كأننا من عالم آخر لم يره من قبل.
فقال صاحبي يداعبها: صبحت بالخير يا خالة. من أي العرب أنت؟، فأجابت بلهجة جبلية قحة، وبصوت خشن، استعار غلظته من هذه الصخور الجاسية التي تحيط بها: (إني من عرب فرنسا). فقال صاحبي دهشاً: (وي! وهل لفرنسا عرب؟) فتلعثمت العجوز، وحارت ثم أجابت: (إننا لا نعرف غيرها حاكماً على هذه الديار. قد بسطت ألويتها على السهول والحزون، وتغلغلت لغتها في القرى والدساكر، والبيوت والمتاجر، ينطق بها الصغير والكبير، ويزهى بالتشدق بها الحقير والأمير؛ قد طبعت بلادنا بطابعها، وتدخلت في الهين والجليل وملكت أزمة المال والرجال. وإني في وكري هذا لأحس بأسها وسطوتها فهل حدت عن الحادة إذا قلت: إني من عرب فرنسا؟
ولم يطل صاحبي معها الحديث لنستشف خبيئة نفسها، ونعرف أمتهكمة هي أم جادة، وفرحة بهذا الوضع أم ترحة؟ فقد جأرت السيارة مستأنفة فهرولنا إليها مشيرين إلى العجوز مودعين. وما أن استقر بنا المقام في السيارة حتى التفت إلي صاحبي وقال: (ما رأيك بما سمعت؟) فقلت: (نكراً والله، إن كانت هذه العجوز جادة تقرر حقيقة قد سلمت بها، واعتقدتها من قبلها فذلك برهان لا مرية فيه على أن فرنسا نجحت في هذه الديار نجاحاً نفذ إلى ألباب العجائز في الجبال. أما أن كانت متهكمة فهذا دليل اليقظة الروحية، والإيمان الكامن في هذه القرى النائية عن العمران، وحجة على أن هذا الجبل الأشم أشد بأساً وأقوى مراساً من أن يلين لزبرج الحضارة المموهة، وأساليب الاستعمار الخادعة.
فقال: لعلها تقرر الحقيقة من وجهة نظر فرنسا، فإنها تعمل جادة على أن تسلخ هذه(623/7)
الشعوب من مقومات شخصيتها، وتجردها من كل ما يذكرها بمجد تليد، أو يحفزها لعمل مجيد؛ وتلهيها عن مثلها العليا بخلق أسباب التناحر بين أفرادها، وتطفئ جذوة الإيمان بالحرية المستقر بالفطرة في كل نفس بشرية بما تقدم من نفايات حضارتها ومادية مدنيتها.
ألا ترى كيف فرضت لغتها على المدارس بشتى درجاتها يلقنها الطفل قبل أن يلقن لغة بلاده، ويتعلم بها كيف يعبر ويفكر ويحسب!؟ أليس من الخزي أن يعلم تاريخ هذه البلاد العربية وجغرافيتها باللغة الفرنسية؟! إن اللغة رمز القومية، وعنوان الشخصية، فإذا لهج إنسان بلغة غير لغته في حديثه المعتاد ومع أهل بيته وجنسه، فهل ثمة ما يفصح عن قوميته ويدل على شخصيته؟ إن الوجوه تتشابه، والعقول تتكافأ، ولكن اللغة وحدها هي التي تفرق بين أمة وأمة. ولأمر ما يعتز الإنجليزي بلغته، حتى وهو غريب، ويفرضها على الناس فرضاً في الفنادق والمتاجر في أوربا نفسها، ولا يفكر في تعلم لغة البلاد التي يستوطنها
إن لغة أي بلد تحمل في طياتها تاريخها، وحضارتها، وعصارة أفكار أجيالها السالفة وآدابها، وأمثالها؛ وتذكر دائماً بماضي تلك الأمة، وهي رمز الشعور المشترك بين أفرادها؛ فإذا عاقها أبناؤها وأنفوا من التكلم بها، وفرض عليهم الدخيل لغته، فقد اقتطعتم من كل ما يذكرهم بكيانهم الخاص وبدد ما بينهم من شعور بالقومية. وهذا ما عملته فرنسا في الجزائر، وشمال أفريقية ولبنان وسوريا.
أولا ترى كيف أضرمت فرنسا في هذا البلد نار الطائفية الدينية، بل فرقت بين أبناء الدين الواحد، وجعلتهم مذاهب وشيعاً، وزادت هوة الخلاف ينهم، وجذبت إليها بعض رؤسائهم وأغدقت عليهم النعم، ومدت لهم في أسباب المودة، وأضفت عليهم الألقاب حتى يمنعوا في خلافهم، وخلقت لهم المناصب، ووزعتها طبقاً للطائفية؟ فكيف يرضي هؤلاء وقد نعموا بالرياسة أن يخضع بعضهم لبعض؟ أو لم تسمع بالرب (سليمان)؟
قلت: كلا!، قال: إنه شخص يدعى الألوهية بجبال العلويين؛ ويزعم أن روح الله حلت به، وقد اعترفت فرنسا بألوهيته، وحين ينزل بيروت تضيفه الحكومة الفرنسية في أرقى الفنادق، وتحيطه بحرسها وجندها، وتقله في أفخم سياراتها، وتوهمه أنه إله حقيقي لا مرية فيه.(623/8)
ألا تتصور الرب (سليمان) هذا يعود إلى موطنه في جبال العلويين، يشيد بفرنسا وعظمتها ويسبح بحمدها وقد يشم من الشبع على موائد الغاصبين، وانتفخ عظمه كاذبة من ثناء الخادعين، واكتظت حقيبته بالمال والهدايا ثمناً لضميره الذي بيع للمستعمرين؟
إن فرنسا تتدخل في الصغيرة والكبيرة من أمور هذه البلاد، فلا تدع لأبنائها مجالاً للتفكير والتدبير، والموازنة والتقدير، تريد عقولهم مشلولة أو مخبولة، أو قل إنها تريد أن تفنيهم معنوياً، وتجعلهم بعد جيل أو جيلين لا يحسون ولا يدركون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، يدبر أمرهم وهم في غفلة ساهون
وُيقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ... ولاُ يستأذنون وهم شهود
وهكذا شأن الجزائر اليوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
فهل بعد هذا تعجب حين تقول هذه العجوز: (إنها من عرب فرنسا)، إنها من عرب ملك لفرنسا تفعل بهم ما تشاء أو أنهم على وشك أن يكونوا كذلك، تسومهم الخسف وسوء العذاب، وتسلبهم حرياتهم، وتفرقهم أباديد، وتقتل فيهم الحياء والإباء، والمروءة والوفاء.
فقلت: وكيف يرضى أهل هذه الديار بهذا؛ وعهدي بأهل الشام أولي نجدة وحمية، وغيرة متقدة وحماسة ملتهبة، ووطنية متأججة. لهم تاريخ حافل بصفحات المجد والفخار، وفيهم حيوية متدفقة وذكاء فطري عظيم.، وحرارة إيمان شديدة. ثم هم أحفاد الغسانيين، والعرب الفاتحين. وأهل جبال فيهم مراس وبأس، وصبر واحتمال، ونزوع إلى المخاطرة والمغامرة، لا يبالون بالشدائد والأهوال في سبيل أهدافهم، فكيف رضوا بغير الاستعمار؟
فقال صاحبي: إن الاستعمار دنس، يلوث النفوس الطاهرة، ويوهن العزم القوي، ويفتن القلب الأبي، ويضل العقل الذكي. إنه امتهان للإنسان وكرامته، وانحطاط إلى مرتبة الرق، وأوربا قد حاربت الرق الفردي، ولكنها استباحت الرق الجمعي. فخرجت سوريا من الحرب الماضية منهوكة القوى من الجوع والجهل والضعف، وطمعت فيها فرنسا، فأبى فيصل واتباعه على ما بهم من وهن أن يكونوا طعمة هينة، ثم كانت موقعة (ميسلون) وبسطت نفوذها على الشام، وقطعتها إرباً إربا، فشرق الأردن، وفلسطين، ولبنان، وجبال العلويين، وجبال الدروز، والإسكندرونة، وإنطاكية. وجعل لكل جزء رئيس، وصار لكل رئيس أذناب وأتباع، يطمعون في المناصب والجاه الكاذب. وبذلك ذهبت قوة بلاد الشام في(623/9)
هذه التفرقة، ومكن لفرنسا أن تعمل ما تشاء هي وإنجلترا. فلو كان الشمل جميعاً، والقلوب متحدة، والقوى متضافرة، والموارد متجمعة، لكان الشأن غير ما ترى اليوم، ولكن قاتل الله الرق والاستعمار!
كان هذا الحديث قبل أن تنهار فرنسا، وتبتلي بالمحن الشداد، وتسقى كأس الذل حتى الثمالة، وتنتهك حرماتها.
وقلنا لعله درس يعلمها كيف يتألم سليب الحرية، وكيف يتململ تململ الذبيح تحت مدية الجزار، وكيف يتأوه المظلوم والمحروم، ويصعد الزفرات والحسرات، وقد سدت دونه السبل، وأشرعت فوق رأسه حرب الغاصبين.
وشاء الله أن تعتنق على يد الحلفاء، ولم تكد تتنسم نسمة واحدة الحرية حتى أخذت تتطلع إلى أن تسرق غيرها، وتبسط سلطانها على سواها من الأمم التي وفت لها وهي مثخنة الجراح فلم يطعنها من الخلف؛ مع أن فرنسا لا تزال بعد دامية الجراح، مفككة الأوصال، تهددها المجاعة بالموت. كنا نظن، وقد ذاقت فرنسا مرارة الذل والاستعباد، أنها ستقدر نزعات الحرية عند غيرها من الشعوب، وكنا نظن، وقد اعترفت الدول الكبرى باستقلال سوريا ولبنان أن لم يعد ثمة مجال للمساومة في الرق بأي صورة كانت: انتداباً، أو استغلالاً، أو امتيازاً.
وكنا نظن، وأوربا بأسرها كانت تقاتل حتى أمس القريب في سبيل الحرية، والمبادئ الديمقراطية، أننا مقبلون على عهد جديد، يكرم فيه الإنسان أينما كان، وتمحى فيه السيادات، ويعيش الناس سواسية متحابين بعد هذه المحنة القاسية، والحرب الشنعاء. وإلا ففيم كانت هذه الدماء المراقة، والدعاوى العريضة، والبلاد المخربة، والإنسانية المنكوبة؟!
يا عجباً! تلجأ فرنسا التي كانت تئن بالأمس تحت سياط الجلاد، إلى تلك السياط التي تسلطها على شعوب تأنف في شمم وكبرياء أن تدين بعد اليوم لأمة بالطاعة والعبودية. أتضرب دمشق بالمدافع والطائرات الفرنسية، لأن أهلها يرفضون وصاية وانتداباً فرض عليهم قسراً، ولأنهم يرون أنفسهم ومن ورائهم ماضيهم وبين أيديهم حاضرهم، أكثر رشداً، وأقوم خلقاً، وأوفى عهداً، وأشد جلداً من هذه الأمم التي تفرض نفسها على غيرها، وتسم غيرها بالقصور، وهي في أمس الحاجة إلى مرشد حكيم يجنبها مواطن الزلل، ويعرفها أن(623/10)
طرق الاستعمار القديمة البالية لا تستسيغها الأمم بعد اليوم؟!
كل البلاد العربية في موقف مشابه لسوريا ولبنان، وهما تعبران اليوم عما يجيش في كل نفس عربية، وتضربان بجهادهما الرائع وضحاياها الخالدة البرهان الناصع على حيوية هذه الشعوب العربية، وما تستطيع أن تفعله كل منها حين تقف للجهاد، وتزأر زئير الحرية. وتضافر الأمم العربية معهما وشدها أزرهما المحك الذي تبلى به جامعة الأمم العربية، فإما عزة وسؤدد يبقيان للأبد، وإما خزي وعار وذل واستعباد لكل هذه الشعوب لا قدر الله. فهل آن لنا أن نعيش أحراراً من نير أوربا؟!
عمر الدسوقي(623/11)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 4 -
في ج 8 ص 181 وهذا شيء (يعني تفسير كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافي) ما تم للمبرد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم وقبض بنانهم.
وجاء في الشرح: وقبض بنانهم هو من قبض على الشيء بيده أمسكه وضم عليه أصابعه وهو إشارة إلى تمكنهم.
قلت: أغلب الظن أنه (فيض بيانهم) والمبرد بفتح الراء كما ضبط ابن خلكان في (وفيات الأعيان) وبين ابن عبد ربه في (العقد) ودل عليه خبران في (تاريخ بغداد) وللخطيب و (شرح المقامات) للشريشي. وكنت قد ذكرت كل ذلك في (الرسالة الغراء). ولما اطلع العلامة إبراهيم مصطفى الأستاذ في جامعة فاروق الأول على النصوص التي أوردتها نشر كلمة في الرسالة (205) وذكر فيها أن الشيخين اللغويين الشنقيطي والمرصفي كانا يذهبان إلى كسر الراء ثم قال:
(ولعمري لو أنهما شهدا وهدى إليهما ما قدم في الرسالة من النصوص لما رأيا إلا الفتح. . . فما كان لهؤلاء من العلماء من التشدد في الحق إلا ريثما تنكشف لهم الحجة في غير ما بأيديهم، فهم أتباع الحق أبداً. . .)
وهذه طرائف جديدة تنصر الفتح:
روي ابن حجة في (خزانة الأدب) لشيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري الحموي:
ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدد
يا (كامل) الحسن ليس يطفي ... ناري سوى ريقك (المبرد)
وجاء في الأساس: فلان يفصل كلامه تفصيل الفريد، وهو الدر الذي يفصل بين الذهب في القلادة المفصلة، فالدر فيها فريد والذهب مفرد، والواحدة فريدة، وقيل: الفريد الشذر، ويقال لبائعه: الفراد. وتقول: كم في تفاصيل المبرد، من تفصيل فريد ومفرد.
ومن عرف أسلوب الزمخشري في سجعات الأساس أيقن أنه لم يقصد إلا الفتح. ومثل تلك السجعة هذه المقطوعة لسلمان ابن عبد الله الحلواني النهرواني:(623/12)
تقول بُنيَّتي: أبتي، تقنع ... ولا تطمع إلى الأطماع تعتدُ
ورض باليأس نفسك فهي أحرى ... وأزين في الورى، وعليك أعود
فلو كنت الخليل وسيبويه ... أو الفرّاء أو كنت المبرد
لما ساويت في حي رغيفاً ... ولا تُبتاع بالماء المبرد
وقال شاعر لا أتذكر الآن اسمه:
ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على (بديع الزمان)
برضاب عن (المبرد) يروي ... ونهود تروي عن (الرماني)
وقال الثعالبي في (خاص الخاص):
(أبو العباس المبرد قال: اجتزت يوماً بسذاب الوراق وهو قاعد على باب داره، فقام ألي، ولاطفني، وعرض علي القرى. فقلت: ما عندك؟ قال: عندي أنت، وعليه أنا. يعني أن عنده لحم السكباج المبرد، وعليه السذاب المقطع. فاستظرفت هذه النادرة ونزلت عنده)
وما كان أمثال الجاحظ والأعمش والمبرد والأخفش يكرهون ألقاباً شهروا بها.
روى ياقوت في أخبار علي بن سليمان (الأخفش الصغير): حدث أبو عبيد الله: حضرت يوماً أبا الحسن الأخفش ودفع كتاباً إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه، فقال له أبو الحسن: خَفّشْ، خفش. يريد أكتب الأخفش. ثم قال أنشدنا أبو العباس المبرد:
لا تكرهن لقباً شهرت به ... فلرب محظوظ من اللقب
وبعد فالفضل في تحقيق ذلك الاسم وضبطه إنما هو لرسالة العرب والعلم والفضل والأدب، وللعلامة الأستاذ إبراهيم مصطفى، وللأديب البارع الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف.
في ج10 ص212
إن هشاماً جده هشام ... مقابِل مدابِر هضام
قلت: كسرت الباء في مقابل ومدابر وهي فيهما بالفتح. ورجل مقابل مدابر كريم الطرفين من قبل أبيه وأمه كما في اللسان والتاج وهو من المجاز كما ذكر الأساس. والبيتان من أرجوزة لحفص الأموي في الخليفة هشام بن عبد الملك.
في ج11 ص76
وقبلك داوي الطبيب المريضْ ... فعاش المريض ومات الطبيبْ(623/13)
فكن مستعداً لدار الفناء ... فإن الذي هو آت قريب
قلت: سكنت ضاد المريض وفتحها واجب، والقبض هنا كثير، وليس البيت مصرعاً ولا مقفى حتى يجوز التسكين. وعندي أن القائل وهو الخليل بن أحمد لم يستعمل إلا الضرب الصحيح وإن جاء قصره وجاز.
وقوله (فكن مستعداً لدار الفناء) هو (فكن مستعداً لدار الفناء) أي للموت كما روي الأنباري في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) ومعلوم أن تلك الدار التي يستعد لها المؤمنون هي دار البقاء لا دار الفناء. . .
في ج9 ص179
يلذ له طعم الكماة كأنما ... جرى الشنب المعسول فوق العواسل
قلت: يلذ له طعن الكماة لا طعمهم. . . والبيت للحسن بن محمد العسقلاني في صارم الدولة بن معروف.
في ج11 ص204 وتهم قُرونتي أن أرفع عقيريتي. . .
قلت: جاءت قرونتي بضم القاف وهي بالفتح كما ضبط القاموس المحيط. . . وضبط في المخصص، وقد جاء فيه: سامحت قرونه وقرونته وهي النفس، وهي القرينة وهي القرين، وحكى ابن الأعرابي: أسمحت قرونه أي لانت وانقادت.
في ج14 ص16 وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني (صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة) قد قرأ عليه (يعني على ابن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه) واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به، وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.
قلت: وردت (بخبخ) ولم تجيء (تبخبخ) واليقين أنها تبجح به. في التاج: تبجح به. فخر، قال اللحياني. فلان يتبجح ويتمجح أي يفتخر ويباهي بشيء ما، وقيل يتعاظم.
في ج2 ص81 وله (للصابي) إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كف رسولها
قبلتها لتمسها ... يمناك عند وصولها
حتى ترى وجهك ال ... ميمون غاية سؤلها(623/14)
قلت: سولها بالتخفيف ضرورة هنا.
في ج7 ص106
سُرج لقوم يهتدون بها ... وفصائل تنمي ولا تجري
قلت: (تنمي) بكسر الميم، و (تجري) هي تحري بالحاء، وهي كرمى يرمي. في النهاية: في حديث وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فما زال جسمه يحرى أي ينقص، يقال: حري الشيء يحرى إذا نقص، ومنه حديث الصديق: فما زال جسمه يحرى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى لحق به.
في ج8 ص135
ومثالث العيدان يُس ... عد جَسها بِم وزير
قلت: بم بالفتح وأبم الغليظ من أوتار العود، والزير الدقيق منها
في ج8 ص141 وكانوا يفدون على محمد بن يحيى بن أبان فيضربون خيامهم في باغ سلم بن عود.
وجاء في الشرح: باغ اسم مكان فيه دار ابن عود
قلت: الباغ البستان بالفارسية، وهو في شعر أبي الفتح علي ابن موسى ألبستي، رواه الثعالبي في مقدمة (كتابه فقه اللغة):
لا تنكرن إذا أهديت نحوك من ... علومك الغر أو من آدابك - النتفا
ففيم الباغ قد يهدي لمالكه ... برسم خدمته من باغه التحفا
في ج10 ص139
أتطلب الفصاحة من الغنم، والصباحة من المغتم؟
قلت: من الأغم. والغمم كما جاء في الصحاح أن يسيل الشعر حتى تضيق الجبهة أو القفا، ورجل أغم، وجبهة غماء، قال هدية بن الخشرم:
فلا تنكحي أن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
والأنزع الذي ينحسر شعر مقدم رأسه مما فوق الجبين كما في النهاية. وفي اللسان: وامرأة نزعاء، وقيل: لا يقال نزعاء، ولكن يقال زعراء، وفي صفة علي (رضي الله عنه) البطين الأنزع. والعرب تحب النزع وتتيمن بالأنزع، وتذم الغمم، وتتشاءم بالأغم، وتزعم أن الأغم(623/15)
القفا والجبين لا يكون إلا لئيما، ومنه قول هدية: البيت. وفي (الكامل): الغمم كثرة شعر الوجه والقفا، وأورد البيت، ثم قال: والعرب تكره الغمم.(623/16)
حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
حينما انهارت فرنسا أحدث انهيارها المفاجئ هزة أرضية عالمية، دهش لها من دهش، وابتهج بها من ابتهج، وبكى بها من بكى. وكان الظن بكتاب العرب يومئذ وهم الذين اكتووا طويلاً بنار الاستعمار الفرنسي أن يتنفسوا الصعداء بزوال هذا الكابوس، ولكنهم انقادوا للنوازع الإنسانية والأدبية فيهم فكتبوا يرثون فرنسا ويرثون لها ويعطفون عليها، إلا هذا الكاتب المفكر الكبير فأنه عارض هذه النزعة وعالج الموضوع على ضوء الحقائق المجردة والوقائع الثابتة. ولم تتهيأ لنا الفرصة يومئذ لنشر هذه الآراء القيمة، فنشرها اليوم بمناسبة المأساة السورية فإنها جمرة متقدة من تلك النار، وأثر سيئ من آثار ذلك الانهيار.
. . . أخذ عدد غير قليل من الكتاب العرب يتبارون في نشر المقالات ونظم الأشعار، حول هذا الانهيار، وكان معظم ما كتب في هذا الموضوع (عاطفياً) بكل معنى الكلمة. كان أكثرها مراثي تندب حظ فرنسا، وتظهر أسفاً شديداً، وحزناً عميقاً على الكارثة التي حلت بها؛ وكان بعضها يغالي في الرثاء، إلى أن يبلغ به درجة البكاء. . .
غير أن هذه المراثي قوبلت بمعارضة شديدة، فقد حمل عليها بعض الكتاب حملات عنيفة وقالوا: كيف يجوز لكاتب عربي أن يبكي على فرنسا وينسى ما فعلته بالقسم الأعظم من البلاد العربية؟ كيف يجوز لمفكر عربي أن يرثي النكبة التي حلت بفرنسا وهو يعلم أنها كانت من أهم العوامل التي أنزلت أكبر النكبات بالأمة العربية وبخاصة بعد الحرب العالمية؟
احتدم الجدال بين الفريقين؛ وحاول كل فريق أن يبرر حسن عواطفه بمقالات حارة، أودع فيها كل ما أوتي من قوة البلاغة والبيان. . .
أنا من الذين يعتقدون أن الكتابات العاطفية تعبر عن نفسية كتابها الشخصية وخوالجهم الذاتية، فلا تتحمل المناقشة مناقشة علمية. . . غير أن أصحاب المراثي لم يكتفوا بإظهار عواطفهم وتثبيتها، بل أخذوا يدافعون عنها ويدعون إليها، وحاولوا أن يدعموها ببعض الآراء والنظريات السياسية والاجتماعية. .
فإذا جاز لنا أن نسكت تجاه (العواطف الشخصية)، فلا يجوز لنا أن نلزم مثل هذا السكوت(623/17)
تجاه الآراء والنظريات التي صارت تنشر لتبرير تلك العواطف. . .
لقد قال البعض (يجب أن نميز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية المستعمرة)، كما قال آخرون: (يجب علينا أن نفرق بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، فلا يجوز أن نعتبر الشعب الفرنسي مسؤولاً عن أعمال حكامه. .
فلننعم النظر في الآراء التي تتضمنها مثل هذه الأقوال. . ولنفكر جيداً: هل يمكن التمييز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا المستعمرة تمييزاً حقيقياً؟
أنا لا أقول بذلك أبداً. . . لأن الأدب الفرنسي نفسه لم يلتزم الحياد تجاه السياسة الفرنسية بوجه عام وحيال السياسة الاستعمارية بوجه خاص. بل يعكس ذلك انبرى لخدمة تلك السياسة بكل الوسائل الممكنة. وقد كتب الأدباء عدداً لا يحصى من المقالات والخطب والأشعار والقصص والروايات التي تمجد الاستعمار وتزينه في النفوس، وتحث على الاستعمار وتحببه إلى القلوب. . .
إن دلائل ذلك تظهر للعيان من خلال جلسات الأكاديمية الفرنسية أيضاً. لأن هذه الندوة الأدبية العليا قد حرصت على كل الحرص على أن تختار بعض أعضائها من بين رجال السياسة والجيش، كما اختارتهم أحياناً من بين صناديد الاستعمار. وهؤلاء لم يتجردوا من نزعاتهم السياسية والاستعمارية عند دخولهم قاعة اجتماع تلك الندوة حتى أنهم لم يترددوا أحياناً في اتخاذ تلك القاعة منبر لإسماع آرائهم الاستعمارية في خطب أدبية رائعة.
ولعل أقرب وأوضح الأدلة على ذلك انتخاب الماريشال (ليوتي) عضواً في الأكاديمية المذكورة. ومن المعلوم أن هذا الماريشال يعتبر من أكبر رجال الاستعمار، فقد لقبه الفرنسيون بلقب (الأفريقي) - تقليداً لما فعله الرومان في القرون الأولى، عندما خلعوا مثل هذا اللقب على (اسجسيون) بعد تمكنه من تدمير قرطاجنة. إن الأكاديمية الفرنسية انتخبت الماريشال ليوتي عضواً بها، أفتدرون ماذا كان موضوع (خطبة القبول) التي افتتحت حياته الأكاديمية وفقاً لتقاليد الندوة الأدبية المذكورة؟. . . كان موضوع الخطبة (الاستعمار). . .
اقرءوا الخطبة المذكورة تجدوها قطعة أدبية رائعة في مدح الاستعمار وتمجيده. . . إنها تشرح فوائد الاستعمار المادية والمعنوية بأسلوب حار بليغ، وتدعوا إلى (الإيمان) بضرورته لحياة فرنسا!(623/18)
(لأن الاستعمار - مصدر هام للقوة والثروة، ومنبع لا ينبض للجيش، وساحة تدريب وتكوين للقواد. . . ولأن الأمم المحرومة من المستعمرات تكون جانحة إلى الركود والجمود الروحي. . .)
أعتقد أن هذه الخطبة من أبرز الأمثلة والأدلة على تداخل وتشابك الأدب والاستعمار؛ فلا يجوز لنا إذن أن نقول بوجوب التمييز بين (فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية الاستعمارية) بوجه من الوجوه.
وأما إذا قيل: (أن القصد من التمييز المبحوث عنه، هو (تقدير الأدب الفرنسي) في حد ذاته، بقطع النظام عن السياسة الفرنسية والاستعمار الفرنسي)، فأنا أسلم بصحة هذا الرأي، غير أنني أقول بلا تردد: إذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى داع ولا مبرر للرثاء. . . لأن (الأدب الفرنسي) ظل خارجاً عن حدود النكبات؛ فإن النكبة التي نحن بصددها حلت بالدولة الفرنسية والجيش الفرنسي لا بالأدب الفرنسي. . .
لأن انهيار الجيش لا يستوجب انهيار الأدب، والاندحار في ميادين الحرب والسياسة لا يستلزم الاندحار في ميادين الأدب والثقافة. .
إنني أستطيع أن أخطو خطوة أخرى في هذا السبيل فأقول:
(إن مثل هذه النكبات قد لا تخلوا من الفائدة إلى الأدب، لأنها قد تكون منبتاً خصباً للإنتاج الأدبي. فإن الآلام والأتراح تكون - بوجه عام - أفعل من الأفراح في إثارة العواطف، وتوليد الأدب الرائع. . .
وعلى كل حال فإن نظرية التمييز بين فرنسا الأدبية وفرنسا الاستعمارية لا تستند على أساس قويم من هذه الوجهة أيضاً.
وأما القول في وجوب التفريق بين الشعب والحكام وعدم اعتبار الشعب مسؤولاً عن أعمال الحكام. . . فهو غريب جداً، ولا سيما بالنسبة إلى فرنسا التي تفخر وتباهي بالديمقراطية والجمهورية والإدارة الشعبية. . .
أنا لا أنكر أن الحكام قد يستطيعون في بعض الأحوال أن يجروا شعبهم إلى الاتجاه الذي يريدونه؛ غير أنني أعتقد أن ذلك الاتجاه لا يمكن أن يستمر طويلاً إذا لم يأت موافقاً لنزعات الشعب ويجد هوى في أمياله النفسية. . .(623/19)
ومن المعلوم أن (الاستعمار) لم يكن من الحوادث العارضة في تاريخ فرنسا. . . بل أن تاريخ الاستعمار هناك طويل وطويل جداً؛ حتى أن بدء الاستعمار الفرنسي للبلاد العربية نفسها يعود إلى أكثر من قرن. فإن فرنسا بدأت حملتها على الجزائر سنة 1830 وقد مضى على ذلك التاريخ قرن كامل مع عقد من السنين. . . غيرت فرنسا (نظام حكمها) - خلال هذه المدة أربعة مرات بل خمساً، انتقلت من الملكية إلى الجمهورية، فالإمبراطورية، ثم عادت إلى الجمهورية. والآن أخذت تجرب شكلاً جديداً من نظام الحكم. . . مع هذا لم تنحرف عن سلوكها الاستعماري طوال هذه المدة وخلال هذه النظم المختلفة. فإنها أتمت استعمارها للجزائر بين شتى الانقلابات السياسية، واستولت على تونس سنة 882، وبسطت حمايتها على مراكش سنة 1911، واستولت على سورية، وأتمت استعمارها للمغرب الأقصى بعد الحرب العالمية. . . وقد توالى خلال هذه المدة الطويلة عدة أجيال، ونشأ وتنازع في غضونها عشرات الأحزاب، وتولى الأمر فيها عشرات وعشرات من الحكومات المتضارية النزعات. . . ومع كل هذا، لقد ظل (العمل الاستعماري) هو هو، دون أن يتوقف أو يتغير من جراء تبدل نظم الحكم، أو تعاقب الحكومات وتوالي الأجيال. . . فلا يجوز لنا أن نسلم بأن (الاستعمار الفرنسي) من أعمال حكام فرنسا، فلا يعتبر الشعب مسؤولاً عنه. . .)
هذا، ومما يسترعي النظر، أن معظم ما كتب في رثاء فرنسا وفي الدفاع عن ذلك الرثاء - في اللغة العربية - يظُهر آثار افتتان غريب بها ومغالاة شديدة في اعتبارها أرقى شعوب الأرض على الإطلاق. . .
فقد قال أحد الكتاب (إن المساواة في العدل الاجتماعي لم تكد تتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلاَّ في فرنسا). . . كما قال كاتب آخر: (لم يثر ثائر على الاستعمار في مشرق أو مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب).
وقال أحدهم (لا أعرف فرداً قد ربى فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربى في الرجل الفرنسي).
وقد صاح أحد الكتاب قائلاً: (إن قوة الألمان فيض من قوتك يا باريس) كما خلع كاتب آخر(623/20)
على فرنسا سلسلة نعوت خارقة مثل (مبعث النور والحرية ومهد الاختراعات)
إن معظم هذه المدعيات تخالف الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما أن ما تبقي منها ينطوي على مغالاة صارخة. . .
فإن التاريخ يذكر لنا عشرات الثورات التي قامت قبل ثورة باريس المعلومة. الفرنسيون أنفسهم يعترفون بأنهم تأخروا كثيراً في تحقيق المساواة في العدل الاجتماعي. كما أن معظم مفكريهم يشكون بمرارة ضعف الوازع الشخصي في نفوس مواطنيهم، ويحسدون بصراحة بعض الأمم من جراء الوازع الشخصي المبحوث عنه. . .
وأما نعت فرنسا (ببعث النور ومهد الاختراعات) واعتبار الفرنسيين أرقى شعوب الأرض على الإطلاق، فإن كان ذلك من الدعاوى التي كان يمكن الدفاع عنها في دور من أدوار التاريخ، فقد اصبح من القضايا التي لا يمكن التسليم بها في الدور الذي نعيش فيه الآن. . .
لقد فنّد الفيلسوف الإنكليزي الشهير (هربرت سبنسر) الأسطورة القائلة (بتفرق الفرنسيين) على جميع شعوب الأرض في (المدخل) الذي كتبه لعلم الاجتماع، قبل نحو سبعة عقود من السنين، وانتقد انتقاداً لاذعاً المبالغات المفرطة التي كانت تلقب فرنسا بلقب (محررة الأمم)، والتي كانت تدعي بأن أندراس باريس يعني انطفاء مشعل المدنية.
أنا لا اشك في أن مثل هذه المبالغات التي استشارت انتقادات هذا الفيلسوف عندئذ، قد أصبحت أشد بعداً عن الحقيقة الآن، وأجدر بالانتقاد الشديد في هذا الزمان.
لا أنكر أن فرنسا كانت أرقى بلاد العالم في دور من أدوار التاريخ؛ هذا الدور هو العهد الذي يمتد بين أواسط القرن السابع عشر وأواخر الثامن عشر، وأعزف أن البعض من المفكرين الذين استعرضوا تاريخ أوربا استعراضاً فلسفياً، ولاحظوا تتابع دور الإقطاع ودور الانبعاث (قد سموا الدور الذين نحن بصدده باسم (الدور الفرنسي)؛ غير أنني أعرف أيضاً أن ذلك الدور قد مضى وانطمس في أغوار التاريخ منذ مدة طويلة؛ لأن حالة أوربا وحالة العالم تبدلت تبدلاً هائلاً خلال القرن التاسع عشر، فلم تستطع فرنسا أن تحتفظ بمنزلتها السابقة بين هذه التبدلات والتقلبات العالمية الهائلة. أنا لا أود أن أقول: أن فرنسا تأخرت منذ ذلك الحين؛ غير إنني أقول أن أمماً ودولاً أخرى قامت ونهضت بسرعة هائلة(623/21)
منذ ذلك العهد فأخذت تتسابق مع فرنسا تسابقاً عنيفاً في جميع ميادين التقدم والرقي. . . وقد لحقتها في معظم الميادين، بل سبقتها في بعض الميادين. فقد خرجت الحضارة العصرية من سيادة فرنسا المعنوية منذ مدة غير قصيرة، ففقدت فرنسا بذلك مكانتها السابقة بصورة قطعية.
مع هذا لا تزال تتمسك بالشهرة التي كانت اكتسبتها سابقاً، بالرغم من حرمانها من التفوق الذي كانت أحرزته قبلا في هذا المضمار.
إنني أشبه منزلة فرنسا وشهرتها المزعومة بمكانة (الوجوه والأعيان) الذين يتمتعون في بعض المجتمعات بشهرة المكانة التي كانوا امتازوا بها قبلا، دون أن يعترفوا بسمو المكانة التي قد أحرزوها غيرهم بكل جدارة واستحقاق.
وكما أن بعض الناس يتأثرون - عادة - بالشهرة السابقة دون أن يلتفتوا إلى (الحالة اللاحقة) فإن بعض كتابنا ظلوا تحت تأثير شهرة فرنسا السابقة، دون أن يعرضوا هذه الشهرة إلى حكم الأحوال الحالية ويزنوها بالموازين الجديدة.
(البقية في العدد القادم)(623/22)
القضايا الكبرى في الإسلام
15 - قتل الوليد بن يزيد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
في سنة ست وعشرين ومائة ثار يزيد بن الوليد المُلَقَّبُ بالناقص على الوليد بن يزيد فقتله، وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء، وكان يزيد بن الوليد يظهر النُّسُكَ ويتواضع، وهو الذي يقال فيه وفي عمر بن عبد العزيز: الناقص والأشج أعْدَلاَ بني مروان. أي عادِ لاُهمْ، ولا يجرون أفعل التفضيل على بابه، لأنها تقتضي نسبة العدل إلى غيرهما من بني مروان، ولم يكن في بني مروان عادل سواهما. وهكذا يقرن التاريخ ذلك الناقص بعمر بن عبد العزيز في العدل، مع أن عمر بن عبد العزيز لو عاش إلى زمانه ما فعل فعله في قتل أبن عمه من غير تحقيق في أمر ما نسب إليه، ولم يقم حول الوليد من الأخبار التي لا تمحيص فيها ما يسوغ الإقدام على قتله، وما يُشَكّكُ الناس في دينه من غير روية ولا تثبت، والقضاء أدق من التاريخ نظراً، وأقوى منه تثبتاً، لأنه لا يحكم إلا بالنية العادلة، والأصل عنده البراءة ما لم تقم أدلة قاطعة على الإدانة، فيجب أن يدرس ما نسب إلى الوليد درساً قضائياً، وأن يرجع إلى تحقيق ما نسب إليه من تهم، ليتبين أمر الوليد في ذلك بياناً عادلاً، ولا ينزل به إلى ذلك الحضيض الذي نزل به التاريخ إليه، وليتبين أمر ذلك الناقص الذي يشبهه الناس بعمر بن عبد العزيز، ولم يكن من ذلك الملك العادل في شيء، وإنما كان الذي يشبهه في زمنه أخ له لم يطمع في الملك طمعه، وسيكون قوله في هذه القضية هو القول الفصل.
كان يزيد بن عبد الملك قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام ابن عبد الملك، ثم جعل الأمر من بعد هشام لابنه الوليد، وكان سن الوليد في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة، وقد عاش أبوه يزيد ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، فكان يقول له: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. وكأنه كان يعرف ما سيلقاه ابنه من أخيه هشام، فإنه لم يكد يتولى الملك بعد أخيه يزيد حتى أراد الوليد على خلع نفسه من ولاية العهد، ليجعل الأمر من بعده لابنه مَسْلَمةَ فأبى الوليد ذلك كل الإباء، فتنكر له هشام وأضرَّ به، وجعل يشيع حوله أخبار السوء لتسقط منزلته عند الناس، وكان يزيد يقول الشعر في الخمر والغزل، وله في ذلك(623/23)
أشعار جياد كان أبو نواس يأخذ منها، ويحذو حذوه فيها، وهذا إلى شغفه بسماع الغناء، وانصرافه عن الناس إلى مجالسه بين أرباب ذلك الفن، فوجد هشام في ذلك مرتعاً خصيبا للتزيُّد على الوليد، وتنقيصه عند الناس بما يشيعه حوله، حتى جعل كثيراً منهم ينظرون إليه نظرة سوء، ويتهمونه في دينه وعرضه، ولكنه على اجتهاده في ذلك لم يقدر أن يثبت عليه شيئاً يمكنه من خلعه من ولاية العهد، مع أن ملكه استمر من سنة خمس ومائة إلى سنة خمس وعشرين ومائة.
فلما ملك بعده الوليد بن يزيد لم ينس ما فعله معه عمه هشام، فأساء إلى أولاده، وأخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمَّان من أرض الشام، وكذلك أساء إلى أولاد عمه الوليد بن عبد الملك، ففرق بين روح بن الوليد وامرأته، وحبس عدة من إخوته، فأخذوا يرمونه بالكفر، ويشيعون بين الناس أنه يغشى أمهات أولاد أبيه، إلى غير ذلك من التهم إلى ستأتي بعد، وكان أشدهم في ذلك يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، فإذا أردنا تحقيق ذلك على الأجمال وجب أن نرجع فيه إلى رجل من بني أمية كان له خطره بينهم في ذلك الوقت، وهو العباس ابن الوليد أخو يزيد بن الوليد، وكان أمر أصدق، ولم يكن في بني أمية مثله، لأنه كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز فرأيه في ذلك يرجع كل رأى، لتلك الصفات التي تحمله على قول الحق، ولأنه أخو يزيد بن الوليد فلا يتهم في شهادته عليه.
وقد مشى إليه أخوه يزيد فشكا إليه ما يجري على الناس من الوليد بن يزيد، فقال له: يا أخي إن الناس قد مَلوُّا بني مروان، وإن مشى بعضكم في إثر بعض أكِلتم، ولله أجل لا بد أن يبلغه، فانتظره.
ثم مشى إليه مرة أخرى هو وأخوه بِشر بن الوليد، فكلمه بشر في أن يخلع الوليد بن يزيد، فنهاه عن ذلك ثم قال له: يا بني مروان، أظن أن الله قد أذن في هلاككم، ثم قال:
إني أعيذكمُ بالله من فِتنٍ ... مثل الجبال تَسَامى ثم تَندفعُ
إن البرية قد مَلَّتْ سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تُلْحِمُّن ذئابَ الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تُبْقِرُنَّ بأيديكم بطونكم ... فَثَمَّ لا حسرة تُغْني ولا جَزَع(623/24)
ثم عاوده يزيد مرة أخرى وكان قد أجمع أمره، وعزم على الدعوة لنفسه، فشاور يزيد بن عمر الْحَكميَّ فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك، فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته بينهم، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزجره وقال له: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملنك إلى أمير المؤمنين فخرج من عنده فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
ولما قامت الحرب بين الوليد ويزيد كتب العباس إلى الوليد إني آتيك، فلما علم بذلك جيش أخيه أرسل من وقف له في الطريق، فأخذوه قهراً إلى جيشهم. وأكرهوه على البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا له راية وقالوا هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: إنا لله، خدعة من خدع الشيطان، هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد حين رأوا راية العباس وتم الأمر ليزيد بهذه الخدعة الماكرة.
فلما رأى الوليد ذلك ظاهر بين درعين، وركب فرسه السناي، وقاتلهم قتالا شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قِتلة قوم لوط. ارجموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، فأحاطوا به من كل باب، وضيقوا عليه، فدنا من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ فقال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. فقال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطيانكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم. فقال يزيد بن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. فقال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت.
ثم رجع إلى داخل القصر وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه، وقال: يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط ونزلوا إليه فاحتزوا رأسه، وكان آخر كلامه: الله يرتق فتقكم، ولا يَلُمُّ شعثكم، ولا يجمع كلمتكم. ثم ساروا برأسه إلى يزيد بن الوليد فأمر بنصبه، فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مُرَّةَ: إنما تنصب رؤوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن رتِقَّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه، ونصب الرأس على(623/25)
رمح فطافوا به دمشق.
وقد أكبر الناس قتل الوليد بن يزيد بهذا الشكل، وثار لقتله أهمل حمص وأهل فلسطين وغيرهم، واضطرب أمر بني مروان اضطراباً كبيراً، وعجل بأيام يزيد بن الوليد، فلم يدم له ملك إلا خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً، ولم يدم أمر بني مروان بعده إلا سنين تعد على الأصابع.
فإذا أخذنا في قصة الوليد بن يزيد بهذا السياق، وهو قائم على وقائع تنطق بنفسها، وجدنا أنه لم يزد أمره عن غيره من بني مران، وأنه كان سائراً على سنتهم في الملك، آخذا بطريقتهم في سياسة الناس، ووجدنا أن يزيد بن الوليد لم يخرج عليه لأخذه بسنة آبائه، لأن الناس كانوا قد ألفوها على ما فيها من إرهاقهم، فلم يكن في أخذ الوليد بها ما يثيرهم عليه، وقد سار عليها يزيد بعد قتل الوليد، فتَشَفَّى من رأسه ذلك التشفي، وعسف بأولاده وأنصاره كما كان يعسف الوليد وغيره من بني مروان، ولو أنه خرج عليه لأنه يريد تغيير تلك السياسة كما غيرها عمر بن عبد العزيز، لكان له في ذلك بعض العذر، ولكان له فيه غرض شريف، ولكنه كان يريد الملك لا أكثر ولا أقل، فسلك إليه ذلك الطريق الشائك، ولم يجد إلا أن يغالي في أمر الوليد، ويلصق به من أشنع التهم ما يلصق، ليثير العامة عليه، ويصل بذلك إلى غرضه في الملك. ولقد كان عمه هشام اشرف منه خصومة، وأقل منه حرصاً على ذلك المنصب الزائل، فلم يستبح لنفسه أن يخلع الوليد من ولاية العهد على غير إرادته، وخشي من ذلك ما لم يخشه يزيد، وقد نصحه أقرب الناس إليه فلم ينتصح، وحذر مما يقدم عليه فمضى فيه ولم يلتفت إلى نصح ناصح.
فهل بعد هذا نصدق شيئاً من تلك التهم الشنيعة التي ألصقها أشياعه بالوليد ليصلوا بها إلى مآربهم، وليرضوا الناس بعد أن غضبوا لقتلهم إياه؟ وهل نصدق ما يرونه من أنه فتح المصحف يوماً فخرج فيه (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فألقاه ورما بالسهام وقال:
تُهَدَّدُ كل جبار عِنيدٍ ... فهأنذاك جبارٌ عَنِيدُ
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ... فقل ياربِّ مزَّقني الوليدُ
وهل بعد هذا نصدق ما رواه العلاء بن البندار من أنه كان زنديقا، وأن رجلا من كلب كان يقول بمقالة الثَّنَوِيَّة، فدخل عليه العلاء وعنده ذلك الكلبي، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه(623/26)
عنه، فإذا ما يَبْدُو له منه حرير أخضر، فقال الوليد: ادن يا علاء. فدنا فرفع الحرير فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه، فهو يطوف كأنه يتحرك، فقال له الوليد: هذا ماني، لم يبتعث الله نبياً قبله، ولا يبتعث نبياً بعده. فقال له: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك. فقال الكلبي: يا أمير المؤمنين، ألم أقل لك أن العلاء لا يحتمل هذا الحديث.
وهناك تهم أقبح من هذه التهم تلصق بالوليد، يحجم القلم حياء عن ذكرها، ولا يرى أن يلوث بها صفحات مجلة الرسالة الغراء، وكلها تهم إذا فتح لها التاريخ بعض صحائفه، لأنه يروي كسمين وغث، فإن القضاء لا يمكن أن يؤاخذ الوليد بها، لأنه لا يؤاخذ الشخص في دينه بما يقوله غيره عنه، وإنما يؤاخذه بما يقربه على نفسه، وقد تبرأ الوليد من هذه التهم الشنيعة التي تلصق به، فلا يمكن القضاء أن يؤاخذه بها، لأنه يتحرج مما لا يتحرج منه التاريخ، وقد وضعت في يده رقاب الناس، فلا يمكنه أن يجازف فيها، ولا يستبيح أن يحكم فيها إلا بما يراه يقيناً. ولو أن هذه التهم التي تلصق بالوليد قدمت إليه لعاقب أصحابها عليها، لأنه ليس عندهم ما يثبتها، فيعدها من القذف الذي يعاقب عليه، حفظاً لأغراض الناس، وصونا لأصحاب المروءة والشرف.
ويكفي في براءة الوليد من تلك التهم الشنيعة وقوف العباس أبن الوليد ذلك الموقف منه، وهو ذلك الرجل التقي الصادق، وقد كان أشبه بني أمية بعمر بن عبد العزيز لا أخوه يزيد الناقص، وهو الذي كان يجب أن يقرن إليه في ذلك القول المشهور - الناقص والأشج اعدلا بني مروان - لأن الناقص لم يكن أمره في شيء من أمر عمر بن عبد العزيز.
وقد أنكر قوم ما قيل في حق الوليد من ذلك، وقالوا إنه قيل عنه وألصق به وليس بصحيح. قال المدائني: دخل ابن للغمر ابن يزيد أخ الوليد على الرشيد، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فأمسك، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مرواني. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال الرشيد: رحم الله عمك ولعن يزيد الناقص وقتلة عمك جميعاً، فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه، أرفع إلي حوائجك. فرفعها إليه فقضاها.
وقال شبيب بن شبه: كنا جلوساً عند المهدي فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام أبو عُلاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة(623/27)
وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشر به عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح ثياباً كانت عليه من مطيَّبة ومصبَّغة، ثم يتوضأ فيحس الوضوء، ويؤتي بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه، أهذه أفعال من لا يؤمن بالله؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة.
عبد المتعال الصعيدي(623/28)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
البلاجرا قد تؤدي إلى الجنون
تصور قرية عدد سكانها 5000 نسمة، منهم 500 مصابون بالبلاجرا فلا يستطيعون الحركة، فضلا عن حالة الاضطراب العصبي التي ترهقهم. فكم تخسر القرية 10 % من أيديها العاملة فقداناً كاملا؟ وكم تخسر هذه القرية أيضاً من وقت يبذله الآخرون في العناية بهؤلاء المرضى؟
يود الدكتور علي حسن أستاذ الكيمياء الحيوية بكلية الطب لو يتاح له الوقت فيقدر هذه الخسائر بالأرقام، ويبين للأمة كم تخسر من الأموال كل سنة بانتشار هذا المرض الخبيث الذي يصيب سكان بعض القرى بنسبة تتراوح بين 6و10 % من سكانها
تبدأ عوارض هذا المرض بآلام في السلسة الفقرية واضطراب في الهضم، وضعف عام ينتاب الجسم كله. فان استمر سوء التغذية أحمر الجلد وجف.
والمسئول الأول عن هذا المرض هو الطفيليات وإن لم تكن هي سببه المباشر؛ فلإضافة بالبلاجرا نتيجة لسوء التغذية أو بالتعبير الطبي نقص في كميات الفيتامين في الجسم وهو الفيتامين المعروف باسم حامض النيكوتين.
وسوء التغذية كما يقول رجال قسم الكيمياء الحيوية بكلية الطب بمصر يرجع إلى عاملين يؤدي أحدهما إلى الإصابة بالمرض وأولهما خارجي بأن لا يجد المرض حاجته من المواد الغذائية، والثاني داخلي وهو أن يصاب الإنسان بطفيليات تحرمه من المقدار اللازم لغذاء جسمه بأن تتغذى الطفيليات بطعامه. وفي مصر أكثر المصابين بالبلاجرا مصابون أيضاً بالطفيليات.
(ومما يؤسف له أن تنتشر الطفيليات في بعض قرانا بنسبة مزعجة تصل إلى 90 % من عدد السكان. فان أراد الطبيب علاج البلاجرا أو أي مرض آخر أضعف الطفيليات علاجه مما يستنفذ وقته وعقاقيره ومال الدولة أيضا).
ومن المتناقضات في ريفنا المصري أن زيادة الخير معناها انتشار المرض. ففي شمال الدلتا حيث الري الصيفي، والماء المتوفر، والزراعة المنتعشة وباء الطفيليات من بلهارسيا(623/29)
وانكلستوما وغيرهما من الأمراض الشديدة الفتك بالفلاح بخلاف ما يشاهد في البلاد القليلة الخير التي تروى بالحياض.
ولا يسبب مرض البلاجرا أمراض الجنون، ولكنه يظهرها عند المستعدين للإصابة بواحد منها؛ فهو يضعف الجسم ويجعل الإنسان في حالة عصبية سيئة تكشف عن علل جسمه الكامنة، فلا يلبث أن تظهر عليه أعراض الجنون فتخسر الأمة جهده، كما تخسر ثقتها بنفسها إذ يرفع نسبة المجانين فيها.
لفت هذا المرض نظر قسم الكيمياء الحيوية كما استرعى انتباهه علاجه المتبع في أمريكا. وعلى ضوء اختلاف البيئة والغذاء عندنا وعندهم خالفهم في العلاج أيضاً وأثبت أن علاج الأمراض يجب أن يتبع سياسة قومية لا سياسية تقليدية. ولئن اتفق المرض في جوهره فأنه يختلف في تفاصيله باختلاف البيئة من جو وتغذية.
ففي أمريكا تكون البلاجرا مصحوبة بنقص ثلاثة أنواع من الفيتامين المعروف باسم مركب (ب) أما في مصر فأغلب الحالات ينقصها فيتامين واحد من هذه المجموعة وهو حامض البيكوتيك
وفي سنة 1941 أجرى القسم التجارب لاختبار نظرية فعهد إلى أحد تلاميذه الدكتور شوقي متري بوزارة الصحة تطبيق النظرية طبياً فجربها في 48 حالة عالجها بفيتامين حامض النيكوتين فشفيت جميعاً في مدة لا تتجاوز أسبوعاً واحداً. وكان نجاحه مؤيداً لنظرية الدكتور علي حسن. وأتيح بواسطته توفير نفقات العلاج بالفيتامينات الأخرى.
وكانت خطوته الموفقة برهاناً ساطعاً على وجوب بحث أمراضنا بحثاً محلياً. فلا يجوز أن نقلد العلماء الأجانب فيما يوفقون إليه تقليداً أعمى؛ بل علينا أن نستفيد من تجاربهم بما يتفق وحاجة بلادنا. وأصلح أناس يؤدون هذا العمل هم إخصائيونا فهم أدى بحالة البلاد من سواهم، فمنذ بدأ هذا العلاج في سنة 1941 لم تشذ عنه إلا حالة واحدة.
إنتاج البنسلين بسرعة
حار الكيماويون في إيجاد طريقة سريعة يجففون بها البنسلين حتى يتيسر لهم إنتاجه بكميات كبيرة تكفي حاجة العالم إلى هذا العقار الهام في مكافحة الأمراض. وكان تعرضه للطرق العادية السريعة لتبخير مائة يقتل العقار ويجعله عديم القيمة.(623/30)
وقد توصل أحد المصانع إلى استنباط طريقة كهربائية يجفف بها البنسلين في نصف ساعة، وهي عملية كانت تحتاج إلى يوم كامل. واستعانوا لتحقيق أغراضهم بالذبذبات اللاسلكية.
وتتلخص هذه الطريقة في وعاء مفرغ من الهواء تثبت فيه دورات تلف بسرعة 3000 لفة في الدقيقة وتعمل الأحزمة المعدنية بين الدوارات كصفائح كهربائية. وبهذا تيسر إغلاء العقار في درجة 50 فهرنهيت بغير أن يصيبه أي تلف.
ومن تجار بتجفيفه السابقة استخدام الجليد في أوان مفرغة من الهواء.
معالجة الأسنان بمياه الشرب
يتجه بعض العلماء الآن إلى علاج أمراض الأسنان بالجملة وذلك بإضافة مادة الفلورين إلى مياه الشرب. فقد اجتمع أخيراً في معهد نيويورك لفيف من الأخصائيين في أمراض الأسنان والصحة العامة ودرسوا النتائج التي توصل إليها بعضهم. وأخيراً قرر خمسة منهم أن استعمال الفلورين في مياه الشرب كمادة مانعة لتلف الأسنان ووقاية الصحة يحتاج إلى تجارب قد تمتد إلى عشر سنوات أخرى
ومن النتائج التي توصل إليها الطب الحديث ما قاله الدكتور فرندلي دين عن تجربة أجريت عن 7 , 257 تلميذاً تتراوح أعمارهم بين 12 و 14 سنة عاشوا طول حياتهم يشربون من المياه المكررة العادية في المدن ثم أضيف إلى المياه التي يشربونها نسبة ضئيلة من الفلورين قيمتها واحد إلى مليون فقلت نسبة إصابتهم بأمراض الأسنان إلى ثلث نسبة الإصابات في جماعة تماثلهم في العدد وتشرب الماء المكرر العادي.
وقال الدكتور والاس أومسترونج إن الفحص الطبيعي للأسنان دل على أن السليمة منها تحتوي على كمية أكبر من الفلورين عن الأسنان التالفة. وأيده الدكتور بازيل ببلى فقال إنه أجرى ست دراسات على تغطية الأسنان بأحد مركبات الفلورين فقلت نسبة التلف في الأسنان من 26 إلى 50 % بعد استعمال الفلورين من مرتين إلى 15 مرة.
وقال الدكتور فردريك ماكاي إن إضافة الفلورين إلى مياه الشرب يقلل تلف الأسنان في الأمة إلى نصفها.
وتجري الآن في كنجستون ونيوبوروف في ولاية نيويورك تجربة واسعة النطاق ينتظر أن(623/31)
تمتد إلى عشر سنوات وهدفها اختيار قدرة الفلورين في مياه الشرب على منع فساد الأسنان.
وتحتوي مياه نيوبوروف في مياهها العادية على فلورين نسبته واحد من المليون. ويضاف إليها مقادير أخرى منه حتى تصل نسبه إلى واحد في المليون. أما مياه كنجستون فلا تحتوي على فلورين على الإطلاق؛ وعلى أساس إصابات الأسنان بالأمراض في البقعتين ودراستها دراسة طبية يستطيع العلماء تقدير فائدة الفلورين في الماء أو ضرره. على أن الإحصائية التي يريد العلماء الأخذ بها هي نتيجة السنة الثامنة عندما تكون الأمراض القديمة قد أزيلت والأسنان أخذت من مناعة الفلورين.
أبناء العظماء ومستقبلهم
قلما يصل الأبناء إلى أوج الشهرة التي وصل إليها آباؤهم. وذلك تبعاً لتقرير كتبه البروفيسور جوزيف شنيدر في مجلة الأبحاث الاجتماعية الأميركية فقال فيه أن أبناء الوزارة نادراً ما يصبحون وزراء معروفين وكذلك أبناء الأطباء ورجال الدين.
وقد قارن الباحث بين ميول الشعبين الإنجليزي والأميركي معتمداً على إحصائيات استقاها من عام 1600 إلى الآن فوجد أن المشهورين من الأميركيين كانوا يخرجون غالباً من الطبقة المغمورة ويصلحون إلى أوج رفعتهم عن طريق الأعمال أو الفلاحة أو السياسة أو الصحافة أو الأعمال الفنية.
ووصل أكثر مشاهير الإنجليز إلى مراكزهم عن طريق الدين وكتابة سير الأفراد أو الرسائل الأدبية، وقال أن 45 في المائة من مشاهير الرجال في الولايات المتحدة زاولوا أعمالاً ما كان يظن أنها ترفع من شأنهم. أما أبناء الطبقة المنتخبة في الولايات المتحدة فقد اكتسبوا الشهرة عن طريق السياسة أو الحرب بينما وصل أربعة أخماس أبناء الفنانين إلى مراكزهم الرفيعة عن طريق الفن وكتابة الرسائل.
فوزي الشتوي(623/32)
رسالة الفن
6 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
إن ما يعيب بعض المصورين المعاصرين عندما يريدون تصوير خيول تعدو أنهم يمثلونها في أوضاع أخذت في لمح البصر.
انتُقِد جريكول لأنه صور بلوحته الموجودة باللوفر وهي (سباق إبسوم) خيوله تعدو وقد تمطَّطتْ جسومها حتى لتكاد تلامس بطونها الأرض، رامية بقوائمها الأمامية إلى قدام وبالخلفية إلى وراء في نفس اللحظة. ويقال إن لوح الفوتغرافية الحساس لا يعطي مثل هذه النتيجة. وحقيقة ما نرى في التصوير الفوتغرافي هي أنه عندما تكون قوائم الحصان الأمامية إلى قدام يكون للقوائم الخلفية التي دفعت الجسم إلى الأمام بطبيعة وضعها وقت للتجمع تحت الجسم لإعادة الكرة، فتكون بذلك القوائم الأربع متجمعة مع بعضها في الهواء في وقت معين، ويبدو الحيوان كأنه يقفز من على الأرض وكأنه بغير حَرَاك وهو في ذلك الوضع.
(وأعتقد الآن أن جريكوك هو المصيب وأن العدسة هي المخطئة لأن خيوله تظهر كأنها تعدو. ويتبين ذلك عندما يتتبع الناظر اللوحة من اليمين إلى الشمال، فيرى أول ما يرى القوائم الخلفية تنجز ذلك الجهد الذي تنشأ عنه القوة الدافعة العامة، ثم يرى بقية الجسم ينبسط ويتمطط، وأخيراً يرى القائمتين الأماميتين ممدودتين وهما تهويان إلى الأرض. وهذا خطأ في الواقع، لأن هذه الحركات لا يمكن أن تحدث في وقد واحد، ولكنه صواب إذا ما لوحظت الأجزاء على التتابع، وهذا الصدق وحده هو الذي يعنينا لأنه هو الذي نراه ونتأثر به.
لاحظ إلى ذلك أن المصورين والمثالين الذين عندما يؤلفون بين الأوجه المختلفة لحركة ما في صورة أو تمثال معين لا ينزلون في ذلك على حكم العقل أو المهارة الفنية ولكنهم يعبرون بكل بساطة عما يشعرون به فترى عقولهم وأيديهم كأنما تنساق في اتجاه الحركة(623/33)
فيعبرون عن تطورها بالغريزة.
ونرى هنا - كما هو الحال في كل ميادين الفن - أن الإخلاص وحده هو القاعدة الوحيدة)
صمتُّ برهة طويلة أفكر فيما قاله لي إلى أن قطع صمتي بسؤاله: (ألم أٌقنعك؟)
نعم، بالطبع. ولكني عندما أتأمل تلك المعجزة، معجزة التصوير أو النحت التي يمكنها أن تجمع في جسم واحد حركة تدوم عدة لحظات، أقول عندما أتأمل ذلك أسائل نفسي إلى أي حد يتسنى للتصوير والنحت أن ينافسا الأدب - والمسرح بوجه خاص - في تسجيل الحركة. ولا يسعني إلا أن أقول في صراحة إنني أميل إلى الاعتقاد أن مثل هذا التنافس لا يمكن أن يجري لشوط بعيد، وأن رجال الريشة والإزميل لأشد قصوراً في هذا الميدان من رجال القلم، فقال رودان:
ليس قصورنا كبيراً كما تظن. وإذا كان باستطاعة التصوير والنحت أن يهبا الأجسام الحركة ففي مقدورهما أن يأتيا بأكثر من ذلك؛ بل ويستطيعان في بعض الأحوال أن يجاريا الفن الدراما طيقي في إظهار عدة مناظر متتابعة في نفس اللوحة أو مجموعة التماثيل) فأجبته:
(نعم. ولكنهم يدلسون بعض الشيء. لأنني أظنك تتكلم عن تلك الصورة القديمة التي تعرض تاريخا شاملاً لشخص معين فتظهره عدة مرات في أوضاع مختلفة على نفس اللوحة. فمثلاً توجد بمتحف اللوفر لوحة زيتية إيطاليا صغيرة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر تقص علينا تاريخ أوربا على هذه الوتيرة. فترى فيها أول ما ترى الأميرة الصغيرة تلعب في حقل نضير مع أترابها للواتي يعاونها على امتطاء صهوة الثور (جوبيتر)، ثم نراها بعد ذلك مروعة وقد اختطفها الإله وغاص بها في لجج اليم). فأجاب رودان:
(هذه طريقة بدائية على الرغم من أن بعض الفحول من الفنانين مارسوها. فمثلا عالج فيرونيز قصة أوروبا هذه بنفس الطريقة كما يتضح من لوحته الموجودة بقصر الدوقية بمدينة البندقية. ولكن على الرغم من هذا النقص فلوحة كالياري معجبة. وأنا لن اشر بشيء إلى مثل تلك الطرق الصبيانية لأني لا أوافق عليها كما يمكنك أن تدرك ذلك. ولكي أجعل نفسي أكثر جلاء ووضوحا يتحتم علي أن أسألك أولاً عما إذا كنت تذكر لوحة واتو(623/34)
المسماة
(ركوب السفينة إلى جزيرة سايتيرا) فقلت:
(إني لأذكرها تمتمت كما لو كانت نصب عيني الآن).
(إذا فسوف لا أجد صعوبة في الإفصاح عن نفسي. فإذا تذكرت رأيت أن الحركة في تلك اللوحة الفذة تبدأ في الأمام إلى اليمين وتنتهي في الخلف إلى اليسار. وتلاحظ أول ما تلاحظ في مقدم اللوحة شخصين هما سيدة فاتنة وعشيقها المتيم جالسين تحت الظلال الوارفة قريبين من تمثال نصفي لساببريس منمق بأضافير الورد وإكليله، يشتمل الرجل بعباء مطرزة عليها قلب نفذ فيه سهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى ما سوف يتجشمه في هذه المرحلة الغرامية. تراه راكعاً بجانبها يستميلها ويستعطفها في حرارة ولكنها تقابل ضراعاته بفتور ربما كان مصطنعاً، وتتظاهر كما لو كانت متشاغلة عنه بمعاينة التهاويل التي على مروحتها. ويجلس بالقرب كيوبيد صغير فوق كنانته وقد تعرى أكثره. يرى أن المرأة قد أمعنت في التدلل والتمنع فيجاذبها قميصها ليستلين فؤادها وإلى هنا لا تزال المرحلة الغرامية في مبتداها. هذا هو المشهد الأول. وهاك الثاني: ترى إلى اليسار من ذلك زوجاً آخر. أما السيدة هنا فتقبل يد حبيبها الذي يعاونها على النهوض، وقد أدارت ظهرها إلينا وتدلت من رأسها ذؤابة من تلك الذوائب الشقراء الذهبية التي يصورها واتو برشاقة ساحرة. أما المشهد الثالث فيقع إلى ابعد من ذلك بقليل. ففيه يضع المحب ذراعه حول خصر مالكة لبه ليجذبها إليه ويسير بها فتتلفت إلى قرنائها اللذين يحيرها تخلفهم، ولكنها لا تلبث أن تنقاد في غير ما تأب.
والآن ينزل المحبون إلى الشاطئ ويندفع الجميع إلى السفينة ضاحكين ولم يعد الرجال بحاجة إلى التوسل والتضرع، وقد تشبثت السيدات بأذرعهم.
وأخيراً يعاون المحبون فاتناتهم على الاستواء على ظهر السفينة الصغيرة التي تتأرجح على صفحة الماء كأنها الحلم الذهبي وقد زينت بالأزهار وشارات خافقات من الحرير الأحمر. أما الملاحون فمكبون على مجاديفهم وهم على وشك التجديف وثمة آلهة الحب الصغيرة تتقدمهم محمولات على أجنحة النسيم كأنما تقود المحبين إلى الجزيرة اللازوردية التي تلوح في الأفق).(623/35)
(ألاحظ يا أستاذ أنك تحب هذه اللوحة لأنك تذكر كل دقائقها).
(أنها لمتعة لا يستطيع المرء أن ينساها. ولكن هل لاحظت تطورات هذا التمثيل الصامت؟ خبرني بربك الآن: أيها أصدق في تسجيل الحركات أهو المسرح أم التصوير؟ حقاً إنه ليصعب على المرء أن يقطع بقول في هذا الأمر. فها أنت ترى أن الفنان لا يستطيع - إذا ما أراد - أن يصور الحركات العارضة فقط بل ويمثل فصلاً طويلاً على حد تعبير الفن الدراماطيقي.
وليس عليه لإدراك سوى أن يضع أشخاصه بحيث يرى الناظر أول ما يرى منها أولئك الذين يبدءون العمل، ثم الذين يمضون به ويستمرون فيه. وأخيراً يرى أولئك الذين ينهون ذلك العمل. أتريد مثلاً في النحت؟) وعند ذلك فتح كتاباً أخذ بحث فيه هنيهة ثم سحب منه صورة فوتوغرافية وقال:
(هاك المارسليز الذي نحته رود ليوضع في جانب من نصب (قوس النصر)، ترى (الحرية وقد لبست درعاً نحاسية تشق الهواء بأجنحة منتشرة وترعد في صوت هائل: (إلى السلاح أيها المواطنون). ترفع يدها اليسرى عالية تستحث بها الأبطال من حولها، وتمسك بالأخرى سيفاً تصوبه نحو الأعداء. إنها بلا ريب أول ما تشاهد إذ أنها تسود المجموعة كلها. أما ساقاها المنفرجتان اللتان تجعلانها تبدو كأنها تجري فتخالهما نغمة أضيفت إلى هذه الأنشودة الحربية السامية. وكأني بصوتها القوي المنبعث من فمها الحجري يشق صماخ الأذن، فما لك من سماع صوتها من بد، ولم تكد ترسل دعوتها إلى الحرب حتى تدافعت الأبطال إلى الأمام. فهذا غوطي كأن شعره لبدة الأسد يلوح بخوذته عالياً كأنه يحي الآلهة وقد وقف ابنه الفتى الصغير إلى جانبه ممسكاً بقبضة سيفه يستعطفه ليرافقه إلى ساحة الوغى وقد بدا عليه كأنه يقول: (أنا قوى كما يا أبتاه، إنني رجل، أريد أن أذهب معك، فيقول له أبوه وقد حدجه بنظرة عطف وخيلاء: (تعال).
أما المشهد الثالث فيتكون من محارب قديم يترنح تحت أعباء عتاده ويجهد للحاق بهم، إذ يتحتم على كل من يشعر من نفسه القوة أن يذهب إلى ميدان القتال. ثم هذا رجل همُّ قوست السنون ظهره يتبع الجند بأدعيته وصلواته، وتدل إشارة يده على أنه يعيد عليهم نصائحه التي استخلصها لهم من تجاريبه الخاصة.(623/36)
ويتكون المشهد الرابع من قواس يثنى ظهره المتعضل ليشد عليه سلاحه، ومن بوق يرسل نداءه المثير إلى الجحافل ومن بنود تخفق ورماح مشرعة إلى الأمام. لقد صدر الأمر وابتدأ الكفاح فعلا.
ونرى هنا أيضاً رواية مثلت أمام أعيننا؛ ولكن بينما لوحة (ركوب السفينة إلى سايتيريا) تذكر المرء بهزليات ماريفو فإن المارسلييز يذكره بمآسي كورنيل وإني لا أدري أي الاثنتين أفضل، إذ أرى في إحداهما من الروعة والعبقرية بقدر ما أراه في الأخرى) ثم قال بعد أن حدجني بنظرة تحد ما كرة:
(أعتقد أنك سوف لا تقول بعد الآن بأن لا قبل للتصوير والنحت بمنافسة المسرح) فقلت له: (طبعاً كلا).
وفي تلك اللحظة لمحت في الكتاب الذي أعاد صورة المارسلييز صورة شمسية أخرى لتمثاله البديع المسمى (رهائن كاليه) ثم قلت:
(ولكيما أبرهن لك على أني أفدت من تعاليمك دعني أطبقها على عمل من أجل أعمالك؛ لأني أرى أنك أنت نفسك تطبق تلك القواعد التي كشف لي عنها. فهنا في تمثالك رهائن كاليه، أستطيع أن أرى منظراً متتابعاً كالذي ذكرت من أعمال واتو وروود. فالشخص الذي في الوسط هو أول ما يسترعي النظر. وما من إنسان يشك في أنه (يوستاك سنت بيير). إنه يحني رأسه الجليل يكلله شعر أشيب طويل. ليس متردداً ولا خائفاً، يتقدم بخطى ثابتة وقد أسبلت عيناه في صلاة صامتة. وإن كان يترنح قليلاً فإنما ذلك من جراء الشدائد التي عاناها أثناء الحصار الطويل. إنه هو الذي يلهم الآخرين. إنه أول من تقدم من الرهائن الستة الذين يتوقف على إعدامهم إنقاذ أبناء بلدتهم من المذبحة المنتظرة، وذلك حسبما شرط الغزاة. أما المواطن الذي إلى جانبه فليس أقل منه شجاعة. ومع أنه لا يجزع لمصيره الخاص إلا أن شروط تسليم المدينة يسبب له ألماً ممضاً. وفي حين يقبض بيده المفتاح الذي يتحتم عليه تسليمه للإنجليز نراه يصلب كل جسمه كيما يجد من نفسه القوة على احتمال هذا الذل المحتوم. وإلى جانب هذين. وفي مستواهما، تجد رجلا أقل شجاعة منهما لأنه يسرع في مشيته فتقول عنه: أما وقد وطن نفسه على التضحية فإنه يتوق إلى تقصير الوقت الذي بقي على استشهاده.(623/37)
ومن وراء هؤلاء يأتي رهينة آخر ممسكا رأسه بيديه ومسلماً نفسه ليأس عنيف، ربما كان يفكر في زوجه وأولاده في أحبائه أو فيمن سيشقي برزئه من مماته.
وثم رهينة خامس يحرك يده أمام عينية كأنما يحاول بذلك أن يبدد كابوساً مرعباً أناخ على روحه. . . إنه يتعثر، ولا غرو فقد روَّعه الموت.
وأخيراً نرى الرهينة السادس وهو أصغرهم جميعاً. تراه كأنه متردد غير مستقر، يقبض أسارير وجهه همٌ ناصب. أهو طيف حبيبته الذي يستحوذ على أفكاره؟ ولكن رفقاءه يتقدمون وها هو ذا يتبعهم ماذا عنقه كما لو يسلمه إلى سيف القدر.
ومع أن هؤلاء الثلاثة أقل شجاعة من الثلاثة الأول فإن نصيبهم من التقدير والإعجاب لا يقل بحال من الأحوال عنهم، لأن إخلاصهم أدعى إلى التقدير والثناء. ويكلفهم أكثر مما يكلف الآخرين.
وهكذا يتسنى للمرء ان يتابع بدقه تمثيلياً في رهائن كاليه، ذلك التمثيل الذي هو نتاج شعور وتأثر كل فرد منهم بنفوذ يوستاك دي سنت بيير ومقدار إقتدائه به والنسخ على منواله فيراهم المرء وقد اسلموا قيادهم إليه رويدا قرر الواحد تلو الآخر أن يتقدم معه إلى الموت ليدفع ثمن مدينتهم.
ولا ريب أن فيما ذكرت أعظم إثبات وتعضيد لرأيك عن قيمة الحركة والمناظر في الفن) فأجاب رودان:
لو لم يكن فيما تراه في عملي شيء من المغالاة لجزمت بأنك أدركت ما هدفت إليه تمام الإدراك. لقد قدرت (رهائني) كل التقدير ورتبتهم بحق تبعاً لمقدار بطولتها. ولكيما أظهر هذه الحال بأجلى مظهر أبديت رغبتي التي ربما تعلمها بأن تثبت تماثيلي الواحد وراء الآخر على بلاط الميدان قبالة سراي بلدية كاليه لتكون أشبه بحلقة حية من الآلام والتضحية. لو أنها وضعت كذلك لبدت كأنها تخطو من دار البلدية إلى معسكر أدوار الثالث، ويشعر سكان كاليه اليوم عندما يخالطونها في غدوهم ورواحهم شعوراً عميقاً بالتضامن أو الاتحاد التقليدي الذي يربطهم بأولئك الأبطال، ولكان أثر ذلك بالغا فيما أعتقد. ولكنهم رفضوا مقترحي وأصروا على وضع التماثيل على قاعدة قبيحة بقدر ما هي غير لازمة. إنهم كانوا مخطئين، وأنا متأكد مما أقول). فقلت (وا أسفاه. كأنما قدر على الفنان(623/38)
دواما أن يجاري الأفكار السائدة. وما أسعده لو استطاع أن يحقق طرفاً من أحلامه الجميلة).
دكتور محمد بهجت(623/39)
من وحي إنجلترة
البانوراما
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(البانوراما هي هضبة عالية بمدينة إكستر تشرف على السهول والأودية الممتدة حول هذه المدينة التي تعد عروس المدن في جنوب غربي إنجلترة. وقف الشاعر عليها وأرسل الطرف بعيداً بعيداً ثم نظم هذه الأبيات).
هذا الفضاءُ أَمام عينكِ فانظري ... تجديه ملَء السَّمع ملَء المنظر
إني أذُوقُ به لذاذاتِ الهوى ... وأشمٌ نفحَ عبيرِهِ المتعطِّرِ
حيثُ الربيعُ هناك في ريْعانه ... يختالُ في الُبرد النضير الأخضر
حلَّنت بشاشُته بكل ثنيَّة ... وبدتْ نضارته لكل مصورِّ
صُورٌ جَلاها الحسنُ فهي مُشاعة ... تهبٌ لعبَّادِ الجمالِ الأطهر
قد عفتُ ثرثرةَ المدينة فاسمعي ... همس النسيم يمرُّ غير مُثرثر!!
وسئمتُ أكدارَ الحياةِ وهاهُنا ... ماءُ الحياةِ الصفو لم يتكدَّرِ
وبَرِمْتُ بالأنفاس وهي حبيسةٌ ... في قلبيَ المتأجج المتسِّعرِ
ووجدتُ أعباَء الحياةِ ثقيلةً ... فأردتُ أطرحها بهذا المشعَرِ!
وهناك في النَّشَوات غبتُ كأنني ... سكرانُ من خَمرٍ ولو لم أسْكَرِ
وافقتُ والدنيا أمامي جَنَّةً ... حُفتْ بكل محببٍ ومُخَيَّرِ
والجدولُ الوسنان يخطر تحتنا ... ينسلُّ مثلَ العاشِقِ المتحذَّرِ
وعلى امتداد الطَّرف قريةً ... قد لفَّها وَرَقُ الربيع بمئزر
ظَهَرتْ على الأفق البعيد وخلفها ... دنيا مغيَّبة الصُّوى لم تَظْهَر
عجباً يلوحُ لنا القريبُ كواقع ... ووراءه غيبٌ كسرٍ مُضْمَرِ
مَن لي (بزرقاء اليمامة) علَّنى ... أَشْتَامُ ما خلف الستار الأكبر؟؟(623/40)
تمثلوا كلهم في ذلك الرجل
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(كانت الحفلة التكريمية التي أقامها الدستوريون من أبناء دار العلوم في دار الأوبرا الملكية بمناسبة الأنعام الملكي على صاحب المعالي الوزير الأديب إبراهيم دسوقي أباظه باشا مظهراً من مظاهر الأدب الرائع تجلى فيما ألقى الخطباء وأنشد الشعراء من أفانين البلاغة العالية التي استمدت صورها من فن المادحين، وفكرها من أخلاق الممدوح. وإنا ننشر هذه القصيدة تمثيلاً لما قيل في هذا الحفل الكريم، ومشاركة من الرسالة في تكريم هذا الخلق العظيم)
مجدٌ أهل على أمجادك الأَولِ ... ممن نفدَّيه بالأرواح والمقل
(فاروق) أكرم من يجزي على عمل ... للساهرين على الإخلاص في العمل
الصامتين وأيديهم محدَّتةٌ ... والعازفين عن التهريج والدجَل
السائرين على الأشواك لن يهنوا ... حتى يسير الحمى في اليانع الخضِل
الذاهبين مثالا في الفناء له ... حتى غدوا في التفاني مضرب المثل
الخائضين الوغى ناراً مؤججة ... فما استكانوا وما ذلوا على وجل
القاذفين بها أرواحهم شعلاً ... أذكت لظاها، فكانت أصدق الشعل
الثائرين على العدوان مجترئاً ... والصامدين له في الحادث الجلل
الصارخين وقد دوّى الحديد ضُحى ... والشُوبَكِيُّونَ اشلاءٌ على السبل
الغاضبين أسوداً في عرينهمُ ... وقد عوى الذئب محموماً على الحمل
أولئك الصفوةُ الأخبار أجمعهم ... تمثّلوا كلهم في (ذلك الرجل)
هو الدسوقي وفي يمناه صفحته ... بيضاءُ: تقرأ فيها سيرة البطل
يا سيدي: رتبةُ الفاروق مفخرةٌ ... فانعم بها في هوى (الفاروق) واحتفل
تهيبتك فلمْ تهمم مبكرة ... وأين همتها من قمة الجبل؟
سعت إليك فجال الشعر في خلدي ... والشعر لولاك لم يخطر ولم يجل
يا سيدي في يدي قيثارة عجب ... شدت بمجدك في حب وفي غزل
تهز أوتارها نشوي فمن ثمل ... يميل من فرط نشواه على ثمل(623/41)
سكبتُ ألحانها من (خافقي) قُبلاً ... على يديك فكانت أعمق القبل
ألحانها من كريم الشدو ينفحه ... عهدٌ إذا حالت الأيامٌ لم يحل
يا طالما صدحت في بيتكم وشدت ... وطالما كنت ترعاها فتسمع لي
أغلو بشعريَ مزهواً فتوسع لي ... صدراً لمصرَ بِه دنيا من الأمل
خلعتُ من حلل الأشعار أوسمة ... عليه أخلد ما يعلوه من حُلل
واليوم ذاك مجالي من يزاحمني ... ومن يقول إذا (حسانُ) لم يقل
لي في (غزالة) ناديك الذي انفسخت ... أرجاؤه لكريم الشعر والجدل
يظلله منك مجدٌ دون روعته ... مجد الرشيد ومجد الأعصر الأول
فعشتَ للفن ترعاه وتكلاه. . . ... يا مجديَ الضخم في حلي ومرتحلي
وعشتَ للحق ترعى الحق واطرادت ... خُطاك للنيل في منجًي من الزلل
لما تحايلت الأيام تخدعه ... ألقيتَ درساً عليها بارع الحيل
سعيتَ للهدف العالي ففزت به ... ومال غيرك للدنيا فلم تمل(623/42)
الأبد الصغير
للمرحوم أبي القاسم الشابي
يا قلب! كم فيك من دنيا محجبة ... كأنها حين يبدو فجرها (إرَم)
يا قلب! كم فيك من كون قد اتقدت ... فيه الشموس وعاشت فوقه الأمم
يا قلب! كم فيك من أفق تنمقه ... كواكب تتجلى ثم تنعدم
يا قلب! كم فيك من قبر قد انطفأت ... فيه الحياة وضجت تحته الرمم
يا قلب! كم فيك من غاب ومن جبل ... تدوي به الريح أو تسمو به القمم
يا قلب! كم فيك من كهف قد انبجست ... من الجدول تجري مالها لجم
تمشي. . . فتحمل غصناً مزهراً نضراً ... أو وردة لم تشوه حسنها قَدم
أو نحلة جرها التيار مندفعاً ... إلى البحار تغني فوقها الديم
أو طائراً ساحراً ميتاً قد انفجرت ... في مقلتيه جراح جمة ودم
يا قلب! إنك كون مدهش عجب ... إن تسأل الناس عن آفاته يجِموا
كأنك الأبد المجهول قد عجزت ... عنك النهي واكفهرت حولك الظلم
يا قلب! كم من مسرات وأخيلة ... ولذة يتحامى ظلها الألم
عنت لفجرك صوتاً حالما فرحاً ... نشوان ثم توارت وانقضى النغم
وكم رأى ليلك الأشباح هائمة ... مذعورة تتهاوى حولها الرجم
ورفرف الألم الدامي بأجنحة ... من اللهيب وأنَّ الحزن والندم
وكم مشت فوقك الدنيا بأجمعها ... حتى توارت وسار الموت والعدم
وشيدت حولك الأيام أبنية ... من الأناشيد تبني ثم تنهدم
تمضي الحياة بماضيها وحاضرها ... وتذهب الشمس والشطآن والقمم
وأنت أنت الخضم الرحب: لا فرح ... يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم
يا قلب! كم ذا تمليت الحياة وكم ... راقصتها مرحاً ما مسك السأم
وكم توشحت من ليل ومن شفق ... ومن صباح توشى ذيله السُّدم
وكم نسجت من الأحلام أردية ... قد مزقها الليالي وهي تبتسم
وكم ضفرت أكاليلاً موردة ... طارت بها زعزع تدوي وتحتدم(623/43)
وكم رسمت رسوماً لا تشابهها ... هذى العوالم والأحلام والنظم
كأنها ظلل الفردوس حافلة ... بالحور تلاشت واختفى الحلم
تبلو الحياة فتليها وتخلعها ... وتستجد حياة ما لها قدم
وأنت أنت: شباب خالد نضر ... مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم(623/44)
البريد الأدبي
الماضي الخالد
سيدي الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد
أطلعت أخيراً على أحد المنشورات البريطانية عن تاريخ اهتمام الإنكليز بالعرب واللغة العربية، وقد جاء في ذلك المنشور ما يأتي:
(من بين أولئك الذين تأثراً عميقاً بالعلوم العربية الفيلسوف العظيم (بيكون). ومما يستحق الذكر أن أول كتاب طبع غب إنكلترا، وهو كتاب كلمات الفلاسفة وحكمهم كان مؤلفاً على نسق كتاب عربي أسمه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) الذي ألفه عام ألف وثلاثمائة وخمسين بعد الهجرة (الأمير المصري مبشر بن فاتك)، ولم النص العربي لهذا الكتاب، ولكن له نسخة مخطوطة في هولاندا، وقد ترجم هذا الكتاب إلى معظم اللغات الأوربية، وقد كان في وقت من الأوقات صاحب شهرة عظيمة في الشرق).
فهل قرأت يا سيدي العزيز هذا الكتاب في الإنجليزية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما رسالته؟ وكيف انتقلت النسخة المخطوطة إلى هولاندا؟ وفي أي عصر كان هذا الانتقال؟ وإذا كان (بيكون) قد تأثر بهذا الكتاب فما مبلغ تأثره وما نتيجة ذلك؟ وإذا كان هذا الكتاب قد ترجم إلى معظم اللغات الأوربية فأين النص العربي الآن؟
ومتى نعرف أن (سير وليم جونس) ترجم المعلقات السبع، وأن (هندلي) ترجم المتنبي، وأن (جورج سيل) ترجم القرآن الكريم، وأن (بوكوك) ترجم لامية الطغرائي ومختصر الدول، وأن (أوكلي) ترجم رسالة حي بن يقظان لابن طفيل؟! وإلى متى نظل في مهاتراتنا حول قضية القديم والحديث، وهذا عالم إنجليزي لا يحضرني أسمه لابن أخيه: (إنني وقائدي ودليلي العقل قد تعلمت شيئاً من أساتذتي العرب، ولكنك يا بني قد تعلمت شيئاً مختلفاً عنه، فلقد بهرتك مظاهر السلطة فوضعت في رأسك لجاماً تقاد به، وكما أن الحيوانات تقاد من مقودها حيث يشاء الإنسان دون أن يدري لِمَ تُقاد وإلى أين. . كذلك كثير منكم يوسف في أغلال البساطة ولا يدري أين يُذهب به) وأقول إن أولئك الذين يعرفون ما كتبه العرب يدركون لأول وهلة مصادر الدرس الذي تعلمه هذا الفيلسوف، وأن أولئك الذين تعلموا علوم العرب ودرسوا لغتهم ليدركون كل الإدراك معنى هذا الدرس.(623/45)
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مراًّ به الماء الزلالا
وإن في هذا لبلاغاً لقوم يعقلون.
عبد القادر محمود
هل الموسيقى لغة؟
حاول الأديب سهيل إدريس تفنيد بعض آراء الأستاذ على الطنطاوي عن الموسيقى فأعوزه التوفيق في إيضاح ما تعرض له إيضاحاً علمياً. وأمامي الآن كتاب صغير عن تأريخ الموسيقى وضعه الأستاذ و. ج. تيرنر في سنة 1930 وفرغت أنا والفنان شكيب من نقله إلى العربية في خلال السنة الماضية. ففي الفصل الأول من هذا الكتاب تعرض المؤلف للبرهنة على أن الموسيقى لغة، وأود أن أجمل فيما يلي بعض ما ذكره، وهي كفيلة بوضع الأمور في نصابها.
ما هي الموسيقى؟ قال البعض: إنها الفن الذي يؤلف بين أصوات مطربة. وظاهر أن هذا التعريف لا يشمل أصول الموسيقى الروحية أو الذهنية، إلى غير ذلك من مختلف التعاريف التي ينقصها الشمول والتحديد والتي لا ترتفع لمستوى ذلك التعريف الذي وضعه بتهوفن معرفاً به الموسيقى، إذ قال: (إن الموسيقى هي الحلقة التي تربط حياة الحس بحياة الروح) - أي الحياة الباطنة بالحياة الظاهرة. والواقع أن الموسيقى لغة يمكن أن تعبر عما يخالج النفس الإنسانية من شعور - سواء أكان حسياً بسيطاً أم روحياً مركباً.
ومثل الموسيقى مثل بقية الفنون في قدرتها على التقليد والمحاكاة - فكما أن الشاعر قادر على محاكاة الأشياء كالكر والفر في ميدان المعركة بترتيبه للألفاظ ترتيباً فنياً خالصاً، كذلك الموسيقى فإنه قادر على الوصف قدره لا حد لها - إما بالمحاكاة المباشرة أو عن طريق التداعي، وذلك بالنغم.
والنغم هو أداة الموسيقى كما أن اللفظ هو أداة الأديب واللون أداة الرسم. ويرتبط اللون واللفظ بأشياء خارجية تسبب تداعي مختلف المعاني، ويرجع هذا لأثر البيئة. فإذا كتب كاتب: (شجرة) فإن القارئ قد يتصور نخلة تمر أو شجرة بلوط أو ما شاكل ذلك، وإذا حاول رسام أن يخرج للحياة فكرة وشعوره الباطني عن طريق اللون فإن الرسم قد يخرج(623/46)
مختلف الصور الذهنية عند مختلف الأفراد. هذه هي المعضلة الأساسية التي تقابل المترجم والرسم: عليه أن يتخير اللفظ واللون ليخرج صورة حية قمينة بالخلود، ولا يتأتى هذا إلا للعبقري.
أما الموسيقي فهي خلو من هذه الصعوبات؛ لأن النغم واحد عند الجميع، إذ هو مستمد من الروح الإنسانية، أو بعبارة أخرى، لأنه غير مرتبط بعوامل خارجية. والموسيقى قبل هذا كله لا ترتبط بالعالم الظاهر فيما عدا تقليدها المباشر لعدد قليل من الأصوات الطبيعية التي تخلقها الطبيعة، مع ملاحظة أن الأصوات جد نادرة في الطبيعة وأن عالمنا الذي نعيش فيه عالم صامت إلى أبعد الحدود، ويمكن التدليل على صحة هذا بأن يتخيل القارئ أنه يعيش وحيداً في الريف أو في الصحراء بعيداً عن الناس وعن ضوضاء المدينة، حيث السكون شامل مطلق.
يتساوى هذا السكون في نظر الأفراد في مختلف بقاع الأرض لأنه غير مرتبط بماديات الحياة. هذا السكون هو الذي وهب الموسيقى ذاتيتها الفريدة، فتعبير الموسيقى عن فكرة وشعوره عن طريق النغم مستمد من صميم العالم الباطن للروح الإنسانية، وهي بهذا وطدت عالميتها وإنسانيتها.
والموسيقى كلغة لا تقدر على ربط معاملات الناس التجارية ولكنها قادرة على التعبير عما يختلج في قلوبنا من عواطف وما يمر في عقولنا من خيالات - كل هذا بأدق وصف، وسهولة أداء وقدرة على التعبير، لأنها أنقى لغة تترجم عن النفس الإنسانية ولأنها تبحث في دنيا الباطن، وليس لها شيء في عالم الظاهر. هي لغة لأنها تنقل للآخرين صورة حية لما بتفاعل في نفس الموسيقىّ من شعور وآمال باطنة هذه الصور هي المظهر الخارجي الذي يفهمه الآخرون بحواسهم. فتعبيرات الموسيقى النفسية هي ألحان موضوعة في نغم موسيقى، والنفس الإنسانية واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر، وعلى هذا فالتعبيرات الموسيقية واحدة تنبع كلها من نبع واحد هو النفس الإنسانية وإن اختلفت في الشكل الخارجي.
هذا مجمل لرأي الأستاذ تيرنر في هذا الموضوع.
محمد التوني(623/47)
المدرس بالمعهد البريطاني للعلوم التجارية
مؤتمر إصلاح الأسرة
قررت الجمعية العمومية لرابطة إصلاح الأسرة في اجتماعها السنوي برياسة سعادة محمد علي علوية باشا الدعوة إلى عقد مؤتمر عام لبحث شئون الأسرة يدعي إليه رجال الدين والاجتماع والتربية والمشتغلون بالأبحاث الاجتماعية في مصر والأقطار الشقيقة، وقد شكلت لجنة لتنظيم المؤتمر من حضرات أصحاب العزة:
محمد فتحي بك، عبد الحميد بك عبد الحق، جلال حسين بك، حسن بك فريد، صالح جودي بك، أحمد محمد بك، الدكتور محمد صالح حلمي بك، الدكتور فاطمة فهمي، الأستاذة زينب لبيب المحامية
وتطلب البيانات بهذا المؤتمر من سكرتارية الرابطة 6 شارع محمد صدقي باشا بميدان الفلكي بمصر.
إسماعيل توفيق(623/48)
القصص
ناظرة المدرسة
لأنطوان تشيكوف
بقلم الأستاذ محمد قطب
في منتصف الساعة التاسعة خرجت العربية من المدينة. وكان الطريق الجبلي جافاً وشمس أبريل الضاحية المشرقة تنشر الدفء والبهجة وإن كان الجليد ما زال باقياً في الحفر وفي ثنايا الغابات، فقد انتهى الشتاء المظلم الطويل ولما يكد، وطلع الربيع فجأة على غير انتظار. ولكن الدفء الجميل ومنظر الغابات الشفافة التي أنعشتها نسمات الربيع الدافئة، والطيور المحلقة في جماعات كبيرة فوق المستنقعات العظيمة التي تبدو كالبحيرات، والسماء الصافية الرائقة التي تبعث الرغبة في الانطلاق، وتخيل لإنسان أن يرتقي إليها صعدا فيوغل أرجائها الفسيحة. . . كل أولئك لم يكن ليبعث معنىً واحداً جديداً في نفس (ماريا فاسيلفينا) التي كانت تجلس في العربة. فهي ناظرة مدرسة منذ ثلاث عشر سنة، ولا يستطيع أحد أن يحصي عدد المرات التي ذهبت فيها إلى المدينة لتقبض راتبها. وسواء كان الوقت ربيعاً كما هو الحال اليوم، أو كان يوم خريف ممطر أو شتاء مظلم، فلا فرق لديها أبداً. وهو إحساس واحد يختلج في نفسها كل مرة: هو التطلع إلى إنهاء هذه الرحلة بأسرع ما يكون.
وخيل إليها أنها تعيش في هذا المكان منذ أجيال طويلة وآماد بعيدة، وخيل إليها أنها تعرف كل صخرة وكل شجرة في الطريق من المدينة إلى المدرسة، لقد كان هنا ماضيها وحاضرها. ولا تستطيع أن تتخيل لها مستقبلاً آخر غير المدرسة والطريق إلى المدينة والعودة إلى المدرسة وهكذا. . . إلى ما شاء الله.
وقد أقلعت عن التفكير في ماضي حياتها قبل أن تصبح ناظرة مدرسة بل كادت تنساه. . . لقد كان لها - ذات يوم - والد ووالدة وكانا يسكنان في موسكو في منزل فخم. ولكن لم يبق في ذاكرتها من هذا كله إلا أشياء غامضة باهتة كطائف الأحلام فقد مات أبوها وهي في العاشرة من عمرها وماتت أمها على أثره. وكان لها أخ ضابط في الجيش وكانا يتراسلان(623/49)
بين الحين والحين، ولكن أخاها قطع عنها مراسلاته ولم تعد تعلم عنه شيئاً. ولم يبق لها ما يربطها بالماضي البعيد إلا صورة لأمها. . . وحتى هذه قد بهجت معالمها من أثر الرطوبة في المدرسة ولم يبق منها إلا شعر الرأس والحاجبان.
كانت ماريا - في أثناء الطريق - تفكر في مدرستها وفي الامتحان الذي سيقع في القريب وفي البنت والأولاد الأربعة الذين سترسلهم إليه. وبينما هي مسترسلة في أفكار الامتحان أدركها أحد الجيران من كبار الملاك - رجل يدعي هانوف - في عربة تجرها أربعة جياد وكان بعينه الرجل الذي امتحن تلاميذها في العالم الفائت. فلما رآها عرفها وانحنى لها محيياً وهو يقول: (صباح الخير. أنت عائد إلى المدرسة فيما أظن)
كان هانوف هذا في الأربعين من عمره؛ رجلا بارد العاطفة يبدو في وجهه اثر الإجهاد وكان الهرم قد بدأ يدب غليه ولكنه مع ذلك وسيم محبوب من النساء.
وكان يعيش في منزله الكبير بمفرده - ولم يكن موظفاً - وكان الناس يقولون عنه إنه لا يصنع شيئاً في المنزل إلا أن يروح ويجئ في الغرفة وهو يصفر بفمه أو يلعب الشطرنج مع سائق عربته ويقولون كذلك إنه مدمن للشراب، وهذا حق، فقد كانت الأوراق التي أحضرها معه في الامتحان تفوح برائحة الخمور. . . وقد كان في ذلك مرتدياً ملابسه الجديدة وبدا في عيني ماريا وجيهاً جذاباً، وكانت طوال جلستها إلى جانبه في غمرة من الانفعالات والأحاسيس. لقد تعودت أن ترى ممتحنين غلاظاً حفاة، وآخرين معقولين معتدلين، ولكن هذا كان نموذجاً فريداً فلم يكن يدري في أي موضوع يسأل! ولم يكن يعطي التلاميذ أقل من الدرجة النهائية!
قال موجهاً كلامه إلى ماريا فاسيلفينا: (إنني ذاهب لزيارة باكفست ولكني أخبرت أنه ليس في المنزل)
ثم انحرفوا عن الطريق الصاعد في الجبل إلى طريق جانبي يؤدي إلى القرية، وكان هانوف في المقدمة يليه سيميون. وكانت الجياد الأربعة تتحول بسرعة ضئيلة وهي تجر وراءها العربة الثقيلة وسط الأوحال، أما سيميون فقد كان يتأرجح من جانب إلى جانب في الطريق وكثيراً ما كان ينزل من العربة ليساعد حصانه الهزيل
كانت ماريا فاسيلفينا ما تزال تفكر في المدرسة وفيما إذا كانت أسئلة الحساب ستأتي مناسبة(623/50)
لمستوى التلاميذ أو صعبة على أفهامهم.
وأحست في هذه اللحظة بالغضب والاستياء من رجال المنطقة الذين لم تجد أحداً منهم في اليوم الفائت. ما أبعدهم عن الشعور بمسئولية العمل! لقد مر عامان وهي تطلب تغيير البواب الذي لا يقوم بأداء عمل ما يعاملها معاملة خشنة ويضرب التلاميذ؛ ولكن أحدا لم يعرها التفاتاً. وكان من المتعذر عليها أن تجد حضرة المراقب في مكتبه، فإذا وجدته بعد لأي أجابها والدموع في عينيه إنه لا يجد لحظة فراغ واحدة يبحث فيها الطلب!
أما المفتش فهو يزور المدرسة مرة كل ثلاثة أعوام! ولم يكن يعرف عن طبيعة عمله شيئاً. فقد كان موظفاً في مصلحة الضرائب وحصل على وظيفة التفتيش بطريق الوساطة والاستثناء!
وكان راعي المدرسة مزارعاً يكاد يكون أمياً، وكانت به جلافة وضيق عقل، وكان صديقاً حميماً للبواب يحميه من كل سوء.
فلمن تتقدم بشكواها وقد أوصدت أمامها الأبواب؟
قالت لنفسه وهي تنظر إلى هانوف (إنه حقيقة وسيم)
وزاد الطريق سوءاً. وكانت العجلات تغرق في الماء وتثير رشاشاً حاداً يضربهم في وجوههم. فقال هانوف وهو يضحك: (يا له من طريق!).
وتأملته الناظرة حيناً فلم يستطع أن تدرك لماذا يعيش هذا الرجل العجيب هنا. وكيف يتناسب جاهه ووسامته وابهة منظره مع هذا المكان المظلم القاتم الغارق في الطين؟ ليست له أية مصلحة. في الحياة هنا، وها هو ذا يقود جياده في ذلك الطريق المتعب كما يفعل سيميون ويلاقي ما يلاقيه هذا النصبوعنت. . . لماذا يبقى الإنسان هنا ما دام يستطيع أن يعيش في بطرسبورج أو في مدن القارة الكبرى؟
لقد كان من الواضح أن هانوف لم يكن يحس وطأة هذه الحياة أو يرغب في احسن منها. لقد كان عطوفاً، لينا، ساذخاً، لا يدرك غلطة هذه الحياة؛ كما كان - أثناء الامتحان - لا يعرف موضوعات الامتحان.
وأيقظها سيميون من تفكيرها حين صاح بها (أمسكي بالعربة جيداً) فقد قفزت العربة فجأة وكادت تنقلب وأحست ماريا بشيء ثقيل يقع على قدميها فإذا هو حقيبتها وبداخلها ما(623/51)
ابتاعته من المدينة في الصباح. كان الطريق يصعد راسياً في الجبل والأوحال تغطيه من كل جانب وكانت الخيل المجهدة تلهث من التعب فنزل هانوف وسار بجانب العربة يمسح عرقه قائلاً (ياله من طريق!) وضحك مرة أخرى وهو يقول. (إنه كفيل بأن يحطم العربة).
فرد سيميون بلهجة أدبي إلى التوقح (إلا أحد يضطرك إلى الركوب في يوم كهذا. كان الأجدر بك أن تبقى في المنزل)
فقال (إنني أضيق بالمنزل يا جدي ولا أحب البقاء فيه)
وكان يبدو بجانب سيميون العجوز رشيقاً متوفزاً ومع ذلك فقد كان في مشيته شيء خفي يكشف عن بيان بدأ يدب فيه الضعف والانحلال. وأحست ماريا بشعور يملؤها بالخوف والعطف على هذا الرجل الذي يسير في طريقه إلى الانحلال لغير ما سبب مفهوم. وخيل إليها أن لو كانت هي زوجته أو أخته لجعلت حياتها كلها وقفاً على إنقاذه مما هو فيه. زوجته! لقد شاءت الظروف أن تجعله يعيش في بيته الفسيح منفردا وتعيش هي هذه القرية اللعينة بمفردها ومع ذلك فإن مجرد التفكير في أن يكون كلاهما بجوار الآخر مساوياً له يبدو أمراً مستحيل الوقوع.
في الحق إن ظروف الحياة وملابسات بني الإنسان قد ركبت تركيباً عجيباً يقف الإنسان أمامه حائراً عاجزاً عن تفهمه فإذا لم يجد له حيلة عاد مثقل الفؤاد.
قالت لنفسها وهي تفكر في ذلك (إنه لمن أخفى الأمور وأصعبها فهما أن يعطي الله هذا الجمال وهذه الرشاقة وتلك العيون الحزينة الجميلة لقوم ضعفاء تعست حظوظهم فلا يصلحون لشيء لماذا. . . لماذا يجعل الله فيهم كل تلك الفتنة الجذابة؟)
قال لها هانوف وهو يستقل العربة (هنا يجب أن أنحفر إلى الشرق. وداعا! أرجو لك كل شيء حسن!)
وعادت تفكر في التلاميذ وفي الامتحان وفي البواب وحين نقلت الريح إلى سمعها صوت العجلات المبتعدة اختلطت أفكارها تلك بأفكار أخرى. وأحست بالشوق إلى التفكير في العين الجميلتين، وفي الحب، وفي السعادة التي لن تكون. . . زوجته؟
لقد كانت تحيا حياة قاسية. الجو بارد في الصباح، ولا أحد يوقد الموقد، وقد اختفى البواب، والتلاميذ يتوافدون بمجرد ظهور الضوء يحملون قطعاً من الثلج والطين ويتصايحون في(623/52)
ضجة عظيمة. كل شيء متعب مقلق للأعصاب. وكان مسكنها يتكون من غرفة واحدة صغيرة يتبعها المطبخ. وكانت تشعر بالصداع بعد انتهاء العمل ويصيبها الالتهاب بعد كل أكلة. وكان عليها أن تجمع النقود من الأطفال للخشب وللبواب وأن تعطيها لراعي المدرسة ثم ترجوه - وهو ذلك الفلاح الفظ الغليظ - أن يرسل إليها الخشب. وفي الليل كانت تحلم بالامتحان والفلاحين والعواطف الثلجية. . . ما أقسى هذه الحياة التي تسرع بها إلى الهرم وتجعلها تبدو قبيحة محدودبة ثقيلة كأنما خلقت من رصاص.
لقد كانت أبدا خائفة قلقة. وكانت تنتفض واقفة ولا تجسر على الجلوس في حضرة أحد موظفي المراقبة أو راعي المدرسة. وتستعمل العبارات الرسمية والتحيات المبجلة في حديثها معهم.
ولم يكن أحد يظنها جذابة. وكانت حياتها تمر جافة مزعجة بغير عاطفة حية ولا إحساس صداقة ولا معارف يشاركونها بعض هموم الحياة.
ما أعجب حياتها لو وقعت في الحب وهي في حالتها تلك!
(أمسكي جيداً يا ماريا!)
مصعد آخر في الجبل.
لقد أصبحت ماريا ناظرة تحت ضغط الضرورة. ولم تكن تشعر بأي ميل لهذه المهنة. ولم تتجه قط إلى مهنة بعينها ولا كانت تفكر في خدمة ذلك الغرض النبيل: غرض التعليم والتثقيف. وكان يخيل إليها دائماً أن المهم في الأمر كله ليس هو التلاميذ ولا التعليم وإنما هو الامتحان.
ومن أين لها الوقت لتفكير في شرف المهنة وفي خدمة الثقافة؟
إن المدرسين والأطباء ضئال الأجور، بما يرزحون تحته من أعباء مرهقة عنيفة، لا يجدون ما يخفف عنهم، ولا حتى الاعتقاد بأنهم يخدمون فكرة عليا أو يخدمون الناس، ما دامت رؤوسهم دائماً مشغولة بالتفكير في أمر القوت اليومي وفي المرض وفي سوء حالة الموصلات. . .
إنها حياة شاقة مملة، لا يستطيع احتمالها طويلاً إلا (حمير الشغل) من أمثال ماريا فاسيلفينا. أما أولئك المتوفزون الذين تتدفق الحياة في جنوبهم والذين يتحدثون عن شرف(623/53)
المهنة وعن خدمة الأغراض النبيلة فسرعان ما يدركهم الملل من التدريس فينفضون أيديهم منه.
كان سيميون يجعل باله دائماً إلى اختيار أقصر الطرق وأكثرها استقامة ولكنه كان يجد العراقيل دائماً في الطريق، فهنا أحد الفلاحين لا يسمح له بالمرور، وهناك أرض القسيس لا يخترقها أحد، وفي جهة ثالثة قد اشترى بعضهم قطعة أرض وحفر حولها حفرة فلا سبيل إلى عبورها، وهكذا كان يضطر بين الحين والحين إلى تغيير طريقه ووجهته.
ومروا في أثناء الطريق على قرية (نيز هناي جورود ينشى) فقال سيمون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا فقال سيميون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا عملاً سيئاً جداً!).
فقالت ماريا باستغراب (لماذا؟)
(يقولون إن المراقب أخذ ألف جنيه في جيبه وأخذ راعي المدرسة ألفاً أخرى وأخذ المدرس خمسمائة)
(لقد تكلف المدرسة كلها ألف جنيه. فمن الخطأ يا جدي أن تفتري على الناس مثل هذه الأكاذيب)
لا أدري. . . وإنما أخبرتك بما سمعت من الناس)
ولكن كان من الواضح أن سيميون لم يصدق الناظرة. ولم يكن الفلاحون يصدقونها كذلك. فقد كانوا يعتقدون أنها تأخذ راتباً ضخماً: عشرين روبل (وكان يكفيها خمسة) وأنها كانت تأخذ لنفسها معظم المال الذي تجمعه من التلاميذ باسم الخشب وباسم البواب، وكان راعي المدرسة يعتقد ذلك أيضاً، وكان هو يدوره يجعل لنفسه ربحاً من المال المجموع للخشب، وكان يأخذ هبات من الفلاحين بصفة كونه راعي المدرسة بدون علم السلطات المختصة. .
وأخيراً خرجوا من الغابة إلى الطريق المستوي الذي يؤدي إلى فيازوفيا، وكان عليهم أن يعبروا النهر ثم خط السكة الحديد فيصبحوا على مرأى البصر من فيازوفيا.
قالت ماريا (إلى أين أنت ذاهب يا سيميمون؟ خذ الطريق الأيمن إلى الجسر؟
(نستطيع أن نذهب من هذا الطريق أيضاً. وليس النهر عميقاً هنا)، (وأحذر أن تغرق الحصان)(623/54)
(ماذا؟) فقالت: ماريا وقد رأت الجياد الأربعة عند بعد: (أنظر إن هانوف في طريقه إلى الجسر إنه هو، أليس كذلك؟) (نعم: فهو إذن لم يجد باكفست في منزله. ألا ما أغباه! لأي شيء قاد عربته إلى هناك وكان يستطيع أن يجئ من هنا فيوفر على نفسه ميلين كاملين)
ثم وصلوا إلى النهر. وهذا النهر يصبح في الصيف جدولا صغيراً يسهل عبوره ويجف عادة في شهر أغسطس، أما الآن بعد ذوبان الثلوج فإن عرضه يصل إلى أربعين قدماً وهو سريع الجريان كثير الوحل بارد المياه
صاح سيميون في حصانه وهو يجذب اللجام بحدة وعنف (هلم! أسرع!) فنزل الحصان في الماء حتى بطنه ثم وقف؛ ولكنه ما لبث أن تحرك بجهد عظيم، وأحست ماريا بالصقيع في قدميها فصاحت هي الأخرى (أسرع! أسرع!).
وحين وصلوا إلى الضفة الأخرى كان حذاؤها قد امتلأ بالماء وابتل اسفل ردائها وأخذ أكمامها يقطر ماء. واختلط الماء بالسكر وبالدقيق اللذين اشترتهما من المدينة، وكان هذا فوق ما تطيقه ماريا ولكنها لم تجد لها حيلة إلا أن تشبك أصابع يديها في يأس وتصحيح (إنك متعب، متعب يا سيميون. كم أنت متعب!)
وكان الحاجز الذي يغلق الممر قد انزل قبل أن يجئ القطار من المحطة فوقف ماريا تنتظر مروره وجسمها كله يرتعد من البرد. وكان أمامها على مدى النظر قرية فيازوفيا والمدرسة بسقفها الأخضر والكنيسة بصلبانها اللامعة في ضوء الشمس الغاربة وكانت نوافذ المحطة تلمع كذلك في الضوء والدخان الأسود يرتفع من مدخنة القاطرة. . . وخيل إليها أن كل شيء يرتعد من البرد!
وأخيراً جاء القطار. وكانت نوافذه تعكس النور في عينيها فتعشهما. وبينما هي تحدق في العربات السائرة أمامها على مهل أبصرت بين عربتين من عربات الدرجة الأولى سيدة واقفة فتأملتها وهي تمر بها. يا لعجب! أمها! ما أشبهها بها! لقد كان لأمها مثل هذا الشعر الفخم ومثل هذين الحاجبين وكانت ثنيات وجهها تشبه هذا الوجه إلى حد كبير.
ولأول مرة منذ ثلاثة عشر عاماً برزت أمام مخيلتها بوضوح عجيب ودقة تامة صورة أمها، وأبيها وأختها، ومنزلهم في موسكو وكل شيء من الماضي بتفاصيله الدقيقة. وسمعت من أعماق ذلك الماضي نغمات البيانو تنبعث في الفضاء وصوت أبيها يناديها وأحست -(623/55)
كما كانت تحس إذ ذاك - أنها شابة جميلة، رشيقة، وخيل إليها أنها جالسة في غرفتها الدافئة على كرسي وثير وحولها أقاربها وغمرها شعور مفاجئ بالبشر والسعادة فغمرت خديها بيدها في نشوة عارمة ونادت هامشه في ضراعة (أماه!)
وطفقت تبكي. لا تدري لم؟ وفي تلك اللحظة ذاتها وصل هانوف بعربته وجياده الأربعة. وما أن رأته حتى أحست بالسعادة كما لم تحس من قبل أبداً. وابتسمت وهزت رأسها محيية له باعتباره صديقاً ونداً لها. وخيل إليها أن سعادتها بل انتصارها يملأ الفضاء من كل جانب ويلمع في النوافذ وفي الأشجار وعلى أوراق الزهور! وأن أباها وأمها لم يموتا أبداً وأنها لم تكن قط ناظرة مدرسة. وأن هذا كله كان حلماً مزعجاً طويلاً أفاقت منه هذه اللحظة.
(أركبي يا ماريا!)
وفجأة انتهى كل شيء. . . ورفع الحاجز ببطء وصعدت ماريا إلى العربة وعي ترتعش من الصقيع. وعبرت العربة ذات الجياد الربعة خط السكة الحديد وتلاها سيميون. ورفع عامل الإشارة قبعته محيياً). (ها هي فيازوفيا. وها نحن أولاء).
قطب(623/56)
العدد 624 - بتاريخ: 18 - 06 - 1945(/)
خليفة نابليون!
لا تقل أن خليفة نابليون بيتان؛ فإن المرشال جثا ضارعاً أمام النازية
وجيشه يفعم الميادين والمدائن، وذهبه يتخم الصناديق والخزائن،
وعلمه يخفق على مستعمرات مسخرات بأمره، وحليفته الغنية القوية
تسأله جاهدة أن تصل عمرها بعمره!
ولا تقل أنه ديجول؛ فإن الجنرال لم يشتهر بأية ملحمة، ولم يعرف بتدبير خطة محكمة. وجملة أمره أنه تشبث يوم الهزيمة بطائرة فهرب، ثم لجأ إلى لندن وطلب فأعطته لندن ما طلب! ولكن قل معي: إن خليفة نابليون ووارث بطولته وعبقريته هو الجنرال أوليفا روجية دكتاتور فرنسا في سورية!!
وجه كوجة البومة عليه المومياء، ورأس كرأس النعامة فيه رعونة الكبرياء، وشخص كتمثال الموت في يده منجل الفناء، وصوت كنعيب الغراب يردده في أجواز الفضاء:
(أخفق نابليون في استعمار مصر فأنا أستعمر سوريا، وعجز نابليون عن تدمير عكا فأنا أدمر دمشق!! وكان في يد هذا المغرور بقية من عتاد الحلفاء فيها القاذفات والدبابات والرشاشات والبنادق؛ وكان من حول هذا الممرور طغمة من عبيد السنغال غلاظ المشافر سود الأكباد حمر العيون يعملون كالآلة من غير وعي. وكان إخواننا السوريون قد نظروا في أمرهم وأمر هؤلاء فلم يجدوا لهم مزية عليهم؛ فلا هم قدوة في حسن الخلق، ولا حجة في صحيح العلم، ولا قوة في نظام العالم؛ وإنما هم أمة أمرضتها رواسب اللاتينية فاستكانت لعوامل البلى، حتى إذا ابتليت بهذه الحرب انخرعت فلا تقم، وانماعت فلم تتماسك. فلو كان بينهم وبينها أسباب من فتح أو عهد لأعادوا النظر فيها بعد انهيارها المخزي؛ فكيف والسبب الذي انقطع كان أوهن من خيوط الباطل؟ ولكن مسيخ نابليون يصمم على البقاء وإن أبدعت الحجة، ويصر على المعاهدة وإن فقدت الثقة! فهو يجلب المدد ليعزز العدد، وينصب المدافع ليحصن المواقع، ويتحدى حمية العرب الذين كان آباؤهم يحملون السيوف ليقودوا الأمم، أيام كان آباء هؤلاء من (الغال) يحملون العصي ليقودوا الغنم! فلم يكن بد من قبول التحدي، ووقف الكماة الأباة العزل يثقلون برءوسهم قنابل النار، وبصدورهم قذائف الرصاص دون أن يفروا كما فر في (سدان) خلفاء نابليون(624/1)
الثالث وهم مدججون بالسلاح محصنون بالمدافع. فاستشهد منهم على أرض سوريا الكريمة العظيمة مليوناً من العرب يؤججون بأجسادهم هذه النار ليصلي بها من يشاء الله أن يصلى، لولا أن رفع الصوت من يملك الرفع والخفض، فانخلعت قلوب القادة وانخرعت متون الجنود!
ولا والله ما ذهب باطلاً ذلك الدم الذي طهر سورية من الدخيل، وجمع كلمة العرب وقوتها من شرق دجلة إلى غرب النيل!
ابن عبد الملك(624/2)
هذه هي فرنسا. . .
للأستاذ سيد قطب
كلما سمعت أو قرأت - بمناسبة حوادث سوريا الأخيرة - أن هذه الحوادث مخالفة لتقاليد فرنسا، ثار في نفسي شعور السخرية المريرة من هؤلاء المتحدثين أو الكاتبين. . .
تقاليد فرنسا!
ومتى كانت تقاليد فرنسا إلا هذه البربرية المتوحشة؟ ومتى كان الفرنسيون إلا عشاق في المجازر البشرية، المولعين بالدماء في كل زمان ومكان؟ حتى في ثورتهم الكبرى التي يعيشون باسمها حتى الآن.
تقاليد فرنسا!
تقاليدها في سورية، أو في مراكش، أم في تونس، أم في الجزائر، أم في أية بقعة من بقاع الأرض على مدى الأزمان والأجيال؟
إنني لأستعرض أمامي تاريخ فرنسا في الشرق، فلا أجد إلا صفحات من البربرية المتوحشة، وإلا بركاً من الدماء حيثما وضعت أقدامها في مكان، وإلا وسيلة من وسائل التدمير والتخريب.
في أيام نابليون سلطت المدافع من قلعة الجبل على المصريين، ودخلت الجنود الفرنسية المتبربرة بخيولها الأزهر، وجرت الدماء في شوارع القاهرة، وديست كرامة الدين، وانتهكت الحرمات العامة. . . باسم تقاليد فرنسا!
وفي سنة 1905 ضربت دمشق بالقنابل، وأريقت الدماء في الشوارع، واعتدت الجنود الفرنسية المتبربرة على الآمنين. وضج الشرق العربي بالمأساة، بينما كانت الصحافة الفرنسية تمجد أعمال الوحشية في سورية. . . باسم تقاليد فرنسا!
وفي سنة 1921 وما بعدها وما قبلها أيضاً سالت الدماء في مراكش العربية لإرغام الناس هناك على الدخول في المسيحية وترك ديانتهم الإسلامية، باسم (الظهير البربري) المعروف جيداً في كل صقع إسلامي، والذي يشهد بأن دماء الصليبين لا تزال تجري في عروق الفرنسيين. ومنذ لك الحين بل قبله والزعماء المراكشيون منفيون في المستنقعات الحارة، وبلغ من الوحشية المتبربرة أن تشغل هؤلاء الزعماء السياسيين في رصف الأرض وقطع(624/3)
الأحجار في تلك الجهات الحارة النائية في أواسط إفريقية حتى يصاب بعضهم بالسل، وبعضهم بالحمى الصفراء. . . وذلك باسم تقاليد فرنسا!
وفي تونس، وفي الجزائر، البلدين العربيين اللذين تدعي فرنسا أن ثانيهما (أرض فرنسية) تعمل جاهدة على رد أهله عن دينهم بكل وسائل العنف والقسوة. . . باسم تقاليد فرنسا!
هذه هي فرنسا.
هذه هي حقيقتها من وراء الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. بل هذه هي حتى من خلال الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. فما هذه الأضواء التي تخدع المخدوعين، وتطلق ألسنة الدعاة؟ إنها الدعارة الفاجرة، والتحلل الذميم، والبوهيمية المطلقة. . . إنها هي بعينها النكسة إلى حياة الحيوانية، وفوضى البربرية!
ولكن هنا رءوساً وأقلاماً لا تزال تمجد فرنسا، ولا تزال تتشدق باسم فرنسا!
أولئك بضعة نفر عاشوا في فرنسا فترة من العمر، فسمحت لهم فرنسا الداعرة بإشباع أقصى لذائذهم الحيوانية، وتروية أظمأ شهواتهم الحسية. . . ثم عادوا فإذا في الشرق بقية من تقاليد وبضعة من حواجز، فلم يرق لهم ما في هذا الشرق من (رجعية)! وظلوا يحنون إلى عهد فرنسا الداعر وإلى لذائذها الممنوعة، وإلى شهواتها المحرمة!
وقليل منهم وجد في فرنسا علماً وفناً - وإن لم يجد لفرنسا قلباً - ففتنه العلم والفن عن أقدس المقدسات القومية والإنسانية فتنة عن كرامة الوطن، وعن حرمة الأهل وعن شرف العرض. . . فإذا أحدهم يجادلني في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه فيقول: (إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي، فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم)!
هؤلاء نفر منحلون. . . وعلامة الانحلال في فرد أو أمة
أن يهون عليه شرف العرض وحرمة الأهل وكرامة الوطن. كما هانت على هذا الذي كان يجادلني في أمر فرنسا.
ويقولون لنا حين نجادلهم: إنكم لم تعيشوا في فرنسا. أجل نحن لم نعش في فرنسا، ولكن فرنسا عاشت عندنا فلم نطلع منها في يوم من الأيام على صفحة بيضاء. . . فهلا أخطأت فرنسا مرة فأطلعتنا على حقيقة عناصرها الطيبة؟!(624/4)
ويعتذرون لفرنسا اليوم في تصرفاتها البربرية بأنها تحس (مركب النقص) بعد الهزيمة، فتزيد التعويض بمظاهرات القوة، وأن سياسة وخز الإبر التي تتبعها معها إنجلترا في الشرق هي التي تثير أعصابها تلك الثورة الوحشية.
ولكننا نستعرض تاريخ فرنسا في الشرق، فلا نجد اختلافاً بين مركب النقص ومركب الكمال!، ولا نلمح فرقاً بين فرنسا الظافرة بعد الحرب العظمى وفرنسا المهزومة في هذه الحرب.
أنها هي هي. . . فرنسا المتوحشة في كل حال. فرنسا التي تدك القاهرة بالقنابل وتعتدي على حرمة الأزهر وكرامة الدين في عهد نابليون، هي فرنسا التي تدك عاصمة الأمويين بالقنابل في عام 1925 ثم في عام 1945
فإما أن (مركب النقص) هذا طبيعة فرنسية دائمة، وإما أننا نختلق لفرنسا المعاذير لأننا منحلون. لا نثور لعرض، ولا نغضب لأهل، ولا تعنينا كرامة، بعد أن تهيئ لنا فرنسا لذائذ الحس، وشهوات البدن، أو حتى لذائذ الفكر وشهوات الوجدان!
يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على القاهرة وداست بخيلها مسجدنا الأعظم في عهد نابليون
يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي مهدت الطريق للاحتلال الإنجليزي بانسحاب أسطولها من المياه المصرية سنة 1882، وترك الأسطول الإنجليزي يهاجمنا بعد الخدعة اللئيمة التي خدعها دي لسبس لعرابي بحماية قناة السويس وعدم السماح للأسطول الإنجليزي بمهاجمة مصر من ناحيتها، ثم النكث بالعهد، لأن فرنسا كانت تبصبص بذنبها كالكلب ينتظر فتات المائدة في (الاتفاق الودي) بعد ذلك بأعوام!
يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على دمشق عاصمة الأمويين مرتين في خلال عشرين عاماً، بلا مبرر، وبعد تدبير شنيع
يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي دبرت مؤامرة وحشية دنيئة لم تتم لقتل أعضاء الوزارة السورية وأعضاء البرلمان السوري، وكان عدم إتمامها راجعاً إلى وقوع وثيقة في يد الحكومة السورية
يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أصدرت أمراً يومياً لقواتها في سورية بالاستعداد(624/5)
(لمذبحة كبرى)! وأن قائدها هناك هو الذي صرح بحبه لمظاهر القتل والدماء!
يجب أن نذكر أن الجزائر وتونس ومراكش تلقى من البربرية الفرنسية ما لا يلقاه أحد من العالمين من القتل والنفي والتشريد، واستخدام الوسائل الخسيسة في تعذيب الزعماء السياسيين
يجب أن نذكر هذا كله، لنحتقر الثقافة الفرنسية مهما تكن، لأن الثقافة تظل أبداً جوفاء إن لم يكن من آثارها تهذيب الطبع، وإنارة القلب، وبث الشعور الآدمي بين المثقفين!
ويجب أن نذكر هذا كله لنحتقر دعاة فرنسا في كل مكان في الشرق العربي، وننظر إليهم كما ننظر إلى الأمساخ المشوهة، والمخلوقات المريضة، فما يرتفع تمجيدهم لفرنسا على تمجيد الشهوة. ولو كان تمجيد الثقافة التي لا تخرج بالإنسان عن طبيعة الحيوان!
ويجب أن ننتهز الفرصة السانحة لخنق الثقافة الفرنسية في الشرق كله، كما صنعت سوريا الباسلة، فتختنق فرنسا في الشرق بلا قتال!
يجب أن يكون لنا شرف المساهمة في أن تعود فرنسا دولة صغيرة - كما تستحق - فقد برهنت على أنها لا تستحق غير هذا يوم جثت على ركبتيها عند الضربة الأولى!
يجب. . . وإلا فدعونا من الثورات المؤقتة، ومن الجعجعة الفارغة، ومن الألفاظ الجوفاء!
سيد قطب(624/6)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 5 -
في ج 15 ص 128: وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية عمرها الله تعالى بدوام العز: وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلاً:
طربتُ لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهنا ما لهن ومالي
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رمى بي الدهر منذ ليالي
فهل فيك من ماء المعرة نغبة ... تغيث بها ظمآن ليس بسالي
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بماء النضار الكاتب ابن هلال
قلت: (طربن لضوء البارق المتعالي) (فهل فيك من ماء المعرة قطرة) (يجاري النضار الكاتب ابن هلال) (كما في سقط الزند) ويؤيد ذلك قول الشارح في البيت الأول: (الضمير في طربن للإبل) والمعنى خفت الإبل شوقاً لما رأت البارق. . . يعني بارقاً نشأ من نحو أوطانها بالشام وهي بالعراق. . .) وقوله في البيت الثاني: (فهل حملت أيها البرق قطرة من ماء بلدتي) وقوله في البيت الثالث: (شبه هلال رجب بنون خط ابن البواب (الجويني) بالنضار الجاري أي بماء الذهب)
في ج 7 ص 129 كان بندار بن عبد الحميد الكرخي الأصبهاني يحفظ سبعمائة قصيدة، أول كل قصيدة (بانت سعاد). قال المؤلف: وبلغني عن الشيخ الإمام أبي محمد الخشاب أنه قال:
أمعنت التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستين قصيدة.
وجاء في شرح (أمعنت) أي أبعدت في الاستقصاء وبالغت فيه، وكانت في الأصل (معنت) وأصلحت.
قلت: ربما كان الأصل (أنعمت التفتيش) أو (أمعنت في التفتيش).
وفي النهاية: وفي حديث صلاة الظهر: فأبرد بالظهر وأنعم، أي أطال الإبراد وأخر الصلاة. ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء أي أطال التفكير فيه.(624/7)
وفي المخصص ج 3 ص 29: قالت الأوائل: إن اليقين هو العلم الثاني أي أنه لا يعلم ولا يدرك عن بديهة ولكنه بعد بذل الوسع في التعقب وإنعام النظر والتصفح. وفيه ص 52 والرأي الدبري الذي لم ينعم النظر فيه.
وقول الحريري في المقامة الثانية الحلوانية: (أمعنت النظر في توسمه) محرف، والصواب ما جاء في مقدمة المقامات:
(ومن نقد الأشياء بعين المعقول وأنعم النظر في مباني الأصول نظم هذه المقامات في سلك الإفادات) وما جاء في المقامة السادسة المراغية. وفي الخامسة عشرة الفرضية وفي التاسعة والأربعين الساسانية.
وأمعن في الأمر: أبعد فيه كما في الأساس، وفي النهاية: وأمعنوا في بلد العدو وفي الطلب أي جدوا وأبعدوا، ومثل ذلك في كتب اللغة. وفي المقامة الخامسة عشرة الفرضية، وفيها (أنعم وأمعن): (قال: لأني أنعمت النظر في التقامك ما حضر، حتى لم تبق ولم تذر. فرأيتك لا تنظر في مصلحتك، ولا تراعي حفظ صحتك. ومن أمعن فيما أمعنت وتبطن ما تبطنت، لم يكد يخلص من كظة مدنفة. . .).
وأمعن فعل لازم وأنعم فعل متعد.
في ج 14 ص 196 كان أبو الفتح بن العميد قد أغرم قبل القبض عليه بإنشاد هذين البيتين، لا يجف لسانه عن ترديدهما:
ملك الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلوها لنا
ونزلنا كما قد نزلوا ... ونخليها لقوم غيرنا
قلت: في اليتيمة: (ونخليها لقوم بعدنا) فغير النساخ
في ج 10 ص 154
والدهر إذ مات نماريده ... قد مد أيديه إلى بُلْهِةِ
وجاء في الحاشية: في الأصل (نماريره) فجعلت نماريده، وأحدها نمرود، وكان يطلق على ملك بابل، فلما تجبر وتكبر حين دعاه الخليل إلى التوحيد صار يستعمل في كل متكبر جبار، كفرعون اسم لكل من ملك مصر ثم استعمل في الشخص المتصف في الجبروت:
قلت: نحاريره. في التاج: (النحرير - بالكسر - الحاذق الماهر العاقل المجرب، وقيل:(624/8)
الرجل الطبن المتقن الفطن البصير بكل شيء مأخوذ من قولهم: نحر الأمور علماً.) والجملة الأخيرة في الأساس في مجازه. والبيت ختام مقطوعة للحسين بن محمد الدباس المعروف بالبارع، ومقطوعته:
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجههِ
أُنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني مت ولم أُنهه
فلم ينلني أبداً رفده ... ولم أكد أسلم من جَبْههٍ
في ج 13 ص 222 وخضت في المناظرة والمجادلة سنة جردة رضيت عن نفسي فيه، ورضى عني أستاذي.
وجاء في الشرح: يقال: سنة جردة: خالية من النبات فكأنه يقول: لم أشتغل بغير الجدل والمناظرة.
قلت: قالوا: أرض جردة، وقالوا: سنة جارود: مقحطة بشدة المحل. (وجردة) في الجملة هي (جرداء) قال الأساس: مضى عليهم عام أجرد وجريد وسنة جرداء أي كاملة منجردة من النقصان. ونقل التاج هذا القول. وفي اللسان: عام أجرد: تام. و (فيه) في الجملة (فيها) والقائل الإمام البيهقي، وأستاذه الذي عناه هو تاج القضاة يحيى بن عبد الملك. قال: وكان ملكاً في صورة إنسان!
في ج 7 ص 217
أقول لما جاءني نَعِيُّهُ ... بعداً وسحقاً لك من هالك
يا شر ميت خرجت نفسه ... وشر مدفوع إلى مالك
قلت: جاءت (نعيه) بكسر العين وتشديد الياء؛ وإنما هي (نعيه) بسكون العين وتخفيف الياء، وإن صح هذان المصدران، وصح صدر البيت وحده.
والبيتان قالهما حبيش بن عبد الرحمن أبو قلابة في الأصمعي لما بلغته وفاته شامتاً به
قلت: من أمثال العرب: الشماتة لؤم.
في ج 12 ص 105. . . أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: (ولا الليل سابق النهار) فقلت له: ما أردت؟ قال أردت (سابق النهار) فقلت: فهلا قلته: فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوم وأفصح.(624/9)
قلت: عمارة هذا بضم العين، وسابق الأولى المضمومة المنونة هي بضمة واحدة، وقي قراءة عمارة بن عقيل، و (سابق النهار) هما (سابقٌ النهار) بضم سابق وتنوينه وفتح الراء في النهار.
وقد قري (قل هو الله أحد الله الصمد) بغير تنوين في أحد، والحيد هو التنوين كما قال (الكشاف)
في 12 ص 159 وله (لعثمان بن عيسى البلطي أبيات يحسن في قوافيها الرفع والنصب والخفض (مطلعها):
أني أمرؤ لا يصطبيني ... الشادن الحسن القوام (ما)
رفع القوام بالحسن لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل والتقدير الحسن قوامه كما تقول: مررت بالرجل الحسن وجهه، ونصبه على الشبه بالمفعول به، وخفضه بالإضافة.
وجاء في شرح (يصطبيني): كانت في الأصل يطيب لي، والبيت بها ينكسر، يقول: إن الشادن الذي هذه صفته ليس في مكنته أن يحملني على الصبوة إليه، والفعل مزيد بتاء الافتعال أبدلت طاء.
قلت: لا يطبيني. في الأساس: طباه واطباه: دعاة واستماله. ومثل ذلك في الصحاح واللسان والتاج. وفي أمالي القالي والنهاية: (إن مصعباً (مصعب بن الزبير) أطبى القلوب) وفي المقصورة الدريدية:
لا يطبيني طمع مدنس ... إذا استمال طمع أو أطبى
وفي طبعة (الجوائب): يطبئني. فاختل بالهمز الوزن، واستحال الفعل. . .
في ج 14 ص 227 واستدعي ابن عباد من أصفهان وولي الوزارة ودبرها برأي وثيق، وجد رتيق.
وجاء في شرح رتيق: من رتق الشيء جعله يلتئم بعضه مع بعض.
قلت لا رتيق في العربية. واللفظة المحرفة هي (زنيق) والزنيق المحكم الرصين يقال: رأي زنيق وأمر أي وثيق، وكذا تدبير زنيق كما في التاج. وفي الأساس: ومن المجاز: ورأي زنيق: محكم، وتقول: هذا تدبير أنيق، ورأي زنيق.(624/10)
2 - حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
ولنترك مسائل المدح والإطراء والرثاء جانباً، ولنعد إلى أصل القضية ونتساءل ما إذا كانت أسباب انهيار فرنسا، هذا الانهيار السريع الذي يكاد يكون فجائياً؟. . .
فمن أبسط وأسهل الأجوبة التي تخطر على البال رداً على هذا السؤال هي أن فرنسا لم تكن مستعدة للحرب.
وفي الواقع أن هذا التعليل قد سيطر على الأذهان والأقلام، سيطرة غريبة. فإن معظم الذين كتبوا وعالجوا هذا الموضوع عللوا الانهيار بعدم الاستعداد والبعض منهم جعلوا من (عدم الاستعداد) هذا دليلاً على حسن الطوية ونبل الغاية.
فقد قرأت بين ما قرأته من المقالات حول هذا الانهيار في المجلات المصرية، هذا الحكم البتار:
(ما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا بالسلم ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الديكتاتورية التي يعادونها لا تفكر ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب)
أنا لا أستطيع أن أسلم بصحة هذا الرأي، بالرغم من احترامي الشخصي لصاحبه؛ فلنستعرض الأعمال العسكرية والسياسية التي قامت بها فرنسا منذ انتصارها في الحرب العالمية المنصرمة: إنها استولت على مراكش من جهة، وعلى الشام من جهة أخرى، وجردت الحملات العسكرية على مختلف النواحي في أوربة وآسية، وأفريقية: حاربت الأتراك، حاربت العرب، حاربت الروس بعد الهدنة، اشتركت في احتلال قسم من البلاد الألمانية، وأقدمت بمفردها على الاستيلاء على قسم آخر منها؛ ساعدت دولة بولندة وتشيكوسلوفاكيا في تسليحاتها وتنظيماتها العسكرية، وقتلت أحابيل الحلف الكبير والحلف الصغير، وأخذت تدير دفة السياسة الأوربية بصوت مسموع ومكانة مرموقة. وأنفقت مبالغ طائلة في سبيل تشييد (خط ماجيينو) على طول الحدود الألمانية، ورصعت البلاد السورية والمراكشية بعدد كبير من المواقع العسكرية. . . فكيف يجوز والحالة هذه أن نقول إن فرنسا لم تفكر إلا في السلم، ولم تتسلح إلا بالعهود والمواثيق؟(624/11)
العهود والمواثيق؟ هل احترمتها فرنسا - مثلاً - في سياستها السورية؟ ألم تكن أعمالها هناك - من أولها إلى آخرها - سلسلة حركات تتلخص في القسوة والعنف دون أن تتقيد المواثيق والمواعيد؟. . .
فالعامل الأصلي في الانهيار لم يكن عدم الاستعداد للحرب. وعلى من يخامره أدنى شك في هذا الباب أن يرجع بذاكرته إلى أوائل الحرب الحالية، ويتذكر ما كان يسمعه وما كان يقرأه من الآراء والأخبار حول قوة فرنسا العسكرية: فكلنا كنا نسمع كل يوم مقارنات طويلة عريضة، بين خط ماجينو وخط سيجفريد، مقارنات تنتهي بوجه عام بالمدح والإطراء على الأول وبالقدح والازدراء بالثاني. كل يوم كنا نسمع ونقرأ أخبار شتى كلها تؤكد تفوق المدفعية الفرنسية على المدفعية الألمانية وتبرهن على تفوق الطيران الفرنسي على الطيران الألماني. . .
ولا حاجة للبيان أن مصادر هذه الأخبار والدعايات كلها كانت فرنسية. . .
وكل شيء يدل على أن فرنسا كانت (تعتقد) أنها مستعدة للحرب أتم الاستعداد، وأنها ستنتصر بدون ريب. وإلا لما أقدمت على إعلان الحرب، ولأوعزت إلى بولندة بوجوب التساهل مع ألمانيا في قضية دانزيج والممر، ولانكبت بعد ذلك على إتمام استعداداتها؛ غير أنها لم تفعل ذلك، بل بالعكس شجعت بولندة على المقاومة، وانضمت إلى بريطانيا العظمى في توزيع (الضمانات) إلى اليمين واليسار، وعلى القريب والبعيد، ممن يطلبها أو لا يطلبها من الدول. . . فلا مجال للشك في أن فرنسا كانت مغرورة بقوتها ومخدوعة في قوة عدوتها.
من المعلوم أن القوة من الأمور النسبية؛ فالقوي بالنسبة إلى شيء، قد يكون ضعيفاً إلى شيء آخر، والغلط في التقدير في مثل هذه الأحوال قد ينتج من غلط في تقدير القوة نفسها، أو في غلط في تقدير القوة المقابلة لها، أو من غلط في كلا الأمرين. . . إن سير الوقائع يدل دلالة قطعية على أن فرنسا أخطأت خطأ فاحشاً في تقدير قوة ألمانيا. . .
فيجدر بنا أن نتساءل: لماذا أخطأت فرنسا كل هذا الخطأ الفاحش في تقدير قوة عدوتها؟
إننا أعزو سبب ذلك إلى انخداع فرنسا بأقوال اللاجئين الموتورين الذين هربوا من ألمانيا أو طردوا منها. . . وقد فتحت فرنسا أبوابها لهؤلاء، وأرادت أن تستفيد منهم ومن شكاواهم(624/12)
ودعاياتهم في إثارة الرأي العام العالمي ضد ألمانيا واستمالته نحو فرنسا. في حين أن القسم الأعظم من هؤلاء اللاجئين كانوا من الطفيليين الموتورين الذين لا يرتبطون بأي وطن من الأوطان العتيدة ارتباطاً قلبياً، ولذلك أخذوا يصورون ألمانيا على حقيقتها؛ صوروا النظام الجديد الذي قام في ألمانيا بصورة مجموعة من التعسف البربري تقوم بها جماعة من الطغاة فيكرهها جميع الناس. قالوا إن كل الناس ينفرون من النازية نفوراً شديداً ويستعدون للثورة عليها استعداداً كبيراً. كلنا سمعنا انعكاسات هذه الأقوال والمدعيات. ألمانيا على أبواب ثورة داخلية ستندلع نيرانها قريباً فتجرف الهتلرية جرفاً عنيفاً. . . كل شيء رديء هناك، حتى المعادن التي تصنع منها الأسلحة، حتى الأسمنت الذي يستعمل في بناء الحصون لم يكن من الأنواع الجيدة. . .
لقد فتح الفرنسيون أبواب بلادهم لمئات الألوف من هؤلاء الموتورين على مصراعيها، كما فتحوا آذانهم لسماع دعاويهم ودعاياتهم، وصاروا يصدقون كل ما يقولونه، ولا سيما أن ما يقوله هؤلاء كان موافقاً لما يتمناه الفرنسون كل التمني. . .
وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى انخداع فرنسا في تقدير قوة عدوتها، وأدت بها إلى الانكسار الفظيع. . .
فقد أفاضت الجرائد كثيراً في ذكر أعمال الذين سموا باسم (الطابور الخامس) وبحثت كثيراً عن الدور الذي لعبته الجمعيات التي كانت تقوم بدعايات متسترة - على حساب ألمانيا - ويهيئون بذلك الجو النفسي الملائم لعمل الجيوش الجرارة
غير أنني أقول: إن عمل أرتال اللاجئين في فرنسا لم يكن أقل تأثيراً من عمل الطوابير الخامسة في النتيجة النهائية. فإن أرتال اللاجئين الموتورين أضروا فرنسا من حيث كانوا يريدون خدمتها؛ وخدموا ألمانيا من حيث كانوا يعتقدون إضرارها. . لأن دعاياتهم خدعت الفرنسيين خدعة قوية في قوة ألمانيا، وجرتهم إلى الحرب والاصطدام مع قوى تفوق قواهم تفوقاً عظيماً. . . وأدت بذلك إلى انخذالهم ذلك الإنخذال المريع.
والآن، بعد أن حدث ما حدث فظهرت الحقائق للعيان، تبين بصورة لا تترك مجالاً للشك أن الجيش الألماني الذي هاجم الجيش الفرنسي، كان يفوقه تفوقاً عظيماً من جميع الوجوه المادية والمعنوية كان يفوقه تفوقاً بارزاً من حيث العدد والتجهيزات والانضباط والقيادة. .(624/13)
وبتعبير أقصر، من حيث الكمية والكيفية. . .
من المعلوم أن ألمانيا كانت جردت من السلاح، وحرمت من حق التسلح بعد الحرب العالمية، فظلت محرومة من الأسلحة ومن مصانعها مدة تزيد على عشر سنوات، فعندما بدأت تتسلح مؤخراً - سراً في بادئ الأمر، وعلناً في نهاية الأمر - لم تتقيد بشيء من القديم - بطبيعة الحال. . . فاستحضرت أنواعاً جديدة من الأسلحة الحربية، وابتكرت أنواعاً جديدة من أساليب الحرب. ويظهر أنها كانت تمكنت من ابتكار أنواع عديدة، فاستفادت من كل نوع منها في إحدى صفحات حروبها المتوالية في بولندة، وفي النرويج، وفي هولندا، وعندما جاء دور هجومها على فرنسا استطاعت مفاجأتها بوسائط وأساليب حربية أخرى، أفسدت على الجيش الفرنسي جميع الخطط التي كان قد وضعها. . .
وزد على ذلك أن الجيش الألماني الذي أنقض على الجيش الفرنسي بمثل هذه الوسائط الحربية الجديدة، كان متفوقاً عليه تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. وإذا بحثنا أسباب هذا التفوق العددي نستطيع أن نذكر أموراً كثيرة منها مساعدة الموقع الجغرافي، وسير صفحات الحرب، وكثرة وسائط النقل، ونظام خطط التعبئة. . وما أشبه ذلك من العوامل والأسباب، غير أننا - مع كل ذلك - نضطر إلى التسليم بأن السبب الأصلي يعود إلى كثرة العدد؛ إذ من المعلوم أن عدد نفوس ألمانيا يناهز ضعف عدد نفوس فرنسا، فلا غرابة، والحالة هذه أن يتفوق جيشها على جيش فرنسا تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. . .
ومما يجدر بالانتباه أن قضية عدد السكان كانت من القضايا التي أخذت تشغل بال الفرنسيين وتثير مخاوفهم منذ مدة غير يسيرة، فإن الإحصاءات الموجودة تدل على أن نفوس فرنسا كانت مساوية لنفوس ألمانيا سنة 1865 غير أنها لم تزد بعد ذلك خلال سبعين سنة - أي حتى سنة 1935 - ألا ثلاثة ملايين، في حين أن نفوس ألمانيا - زادت خلال المدة نفسها - أكثر من ثلاثين مليوناً. . .
لاشك في أن قضية النفوس وحدها لا تكون من القضايا الحاسمة في سير التاريخ؛ فإن التاريخ يرينا أمثلة كثيرة من تغلب الأمم الصغيرة على بعض الأمم الكبيرة، بالرغم من قلة عدد نفوسها، غير أن مثل هذه الحوادث لا تحدث عادة إلا عندما يكون هناك فرق عظيم بين الأمتين، من حيث مستوى الحضارة والثقافة، وشدة الروابط الاجتماعية وقوة الإيمان(624/14)
القومي. . . وأما إذا كانت الأمتان متقاربتين من هذه الوجوه الثقافية والاجتماعية - كما هي الحالة في فرنسا وألمانيا الآن - فمن الطبيعي أن تكتسب قضية النفوس خطورة خاصة، وتؤثر في سير التاريخ تأثيراً كبيراً.
فقد انتبه عدد غير قليل من الكتاب والمفكرين في فرنسا إلى الخطر الذي اخذ يحدق ببلادهم من جراء نقص عددها؛ حتى أنه ظهر بينهم من قال: يجب أن نعلم بأننا في كل سنة من السنين التي تمر علينا على هذا المنوال نخسر معركة ونفقد جيشاً دون أن نقدم على حرب ودون أن نشعر بهذه الخسارة، في حين أن ألمانيا - بعكسنا - تربح في كل سنة معركة وتحصل في كل سنة على جيش جديد، دون أن تقدم على حرب ودون أن تضحي شيئاً في سبيل ذلك. . .
إلا أن الأمور ظلت على حالتها هذه بل زادت خطورة من جراء التدابير المتخذة في ألمانيا في هذا السبيل - لقد وضعت ألمانيا عدة قوانين واتخذت عدة تدابير لضمان تكاثر النفوس - زيادة على سير المعتاد - في حين أن فرنسا لم تخرج عن ساحة النقد والبحث في هذه المضمار، ولم تقدم على وضع قانون يعالج هذه القضية الحيوية بعض العلاج إلا قبل اندلاع نيران الحرب الحالية
كان يأمل رجال السياسة في فرنسا التغلب على المشاكل والمخاطر التي تنجم عن مسألة النفوس بوسيلتين غير مباشرتين.
الأولى - التجنيد من المستعمرات، وتقوية الجيش الوطني بجيش المستعمرات.
الثانية - تكون اتفاقات سياسية وعسكرية تربط فرنسا بكتل كبيرة قوية، تكفي لملافاة نقص النفوس الأصلي، بل تضمن التفوق على أعدائها من جهة النفوس أيضاً
غير أنه مما لا مجال للشك فيه أن الجيوش التي تجمع من أهالي المستعمرات - وتساق إلى ساحات الحروب سوقاً وتحمل على خوض غمار الحرب - دون أن تشعر بدافع باطني يحب إليها الاستقلال، أن مثل هذه الجيوش لا يمكن أن تتكافأ والجيوش الوطنية التي تعمل وتحارب بشعور وطني وإيمان قومي. . .
وأما الاتفاقات السياسية - فقلما تستقر على حال؛ فلا تستطيع أن تضمن المستقبل في جميع الأحوال، لأن منافع الدول والأمم معضلة إعضالاً شديداً، ومتشابكة تشابكاً كبيراً. فإذا(624/15)
رأت دولة ما أن من مصلحتها أن تتفق مع دولة أخرى في بعض الظروف، فقد ترى من مصلحتها أن تلتزم الحياد، أو تتفق مع غيرها عند تبدل الظروف. إن نظرة بسيطة إلى تقلب الاتفاقات السياسية وتطور التكتلات الدولية تكفي لإظهار ذلك للعيان. . .
هذه إيطاليا، فقد انضمت إلى فرنسا وإنجلترا، ضد روسية في حرب القرم، ثم اتفقت مع ألمانيا ضد فرنسا بعد استيلاء الأخيرة على تونس؛ ومع هذا لقد انضمت إلى أعداء ألمانيا خلال الحرب العالمية، وفي الأخير عادت واتفقت مع ألمانيا ضد أعدائها في الحرب الحالية. . .
وهذه إنجلترة، فقد حاربت فرنسا في عهد نابليون، ثم اتفقت معها ضد روسيا في حرب القرم، ثم اتفقت مع اليابان فشجعتها على محاربة الروس بعكس ما عملته فرنسا عندئذ، ثم اتفقت مع فرنسا وروسيا ضد ألمانيا في الحرب العالمية، ثم حاربت روسيا بعد انتهاء الحرب المذكورة، وفي الأخير بذلت الجهود الجبارة بالاتفاق معها قبيل الحرب الحالية. وكذلك الأمر في علاقات إنجلترة مع تركيا فإنها كانت على الدوام يوماً لها ويوماً عليها. . .
ونحن نستطيع أن نذكر عشرات الأمثلة لذلك. . . مما يدل على أن مثل هذه الاتفاقات لا توجد موازنات مستقرة - بين تطور المنافع وتقلب الاتجاهات. . .
ولذلك كله سارت الأمور خلال الحرب الحالية سيراً غريباً - بالرغم من الاتفاقات والضمانات السابقة - وقد أدى هذا السير إلى بقاء الجيش الفرنسي - في آخر الأمر - وحيداً إزاء الجيش الألماني في ساحات الحرب. . . فازداد بذلك تأثير التفوق العددي زيادة هائلة. . .
(س)(624/16)
لزوم ما لا يلزم
متى نظم وكيف نظم ورتب؟
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول
عنيت بابي العلاء المعري ناشئاً، وكتبت في أخباره وأشعاره تلميذاً. وما زلت معنياً به حافظاً لأخباره وأشعاره. واللزوميات أعظم آثار الرجل، وهي سجل عقائده وآرائه، ولها النصيب الأوفر من أحاديث من يتحدثون عن المعري، وكتابة من يكتبون في فلسفته.
وكثيراً ما سألت الأدباء وسألت نفسي: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ أخط الشاعر خطتها ثم نظمها ولاء على ترتيب حروف الهجاء، فآراؤه غيها متوالية على هذا الترتيب؛ ما تتضمنه أبيات على رويّ الهمزة مقدم زماناً على ما يذكر في أبيات على رويّ الباء وهلم جراً؟ أم نظم الرجل ما نظم ثم رتبه على حروف الهجاء، فقدم متأخراً وآخر متقدماً، مسايرة للترتيب الهجائي؛ فما يعرف المتقدم والمتأخر من شعر الرجل إلا ما دلت عليه حوادث مذكورة فيه، ولا يستطاع تتبع أفكاره ورعاية تطورها على الزمان؟ وكنت أقول إنه لابد لمؤرخ أبي العلاء من أن يفصل في هذه القضية، فيجزم بأن اللزوميات مرتبة على الزمان أو غير مرتبة.
لذلك أعدت قراءة اللزوميات مستوعباً، متقصياً الأبيات التي تذكر فيها حوادث معروفة أو رجال معروفون، والتي تذكر فيها سن أبي العلاء أو حاله من الشباب والكهولة والشيخوخة. وراجعت ما أثره التاريخ من أخبار الرجل، وذكر كتبه، فانتهيت إلى القضايا التي أسجلها فيما يأتي:
- 1 -
متى نظمت اللزوميات
جمهرة شعر أبي العلاء في مجموعتين: الأولى تتضمن شعر الصبا والشباب وهي التي سماها سقط الزند، وقد جرى في هذا الشعر مجرى الشعراء الآخرين، فمدح وهجا وتغزل ورثى ووصف الخ.(624/17)
وقد قال أبو العلاء في مقدمة سقط الزند:
(وقد كنت في ربان الحداثة، وجن النشاط، مائلاً في صفو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب غرسه، والرأل تريكته؛ رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئه ينقص ويجدب).
وقال مستملي أبي العلاء الذي كتب ثبت كتبه كما رواه ياقوت في معجم الأدباء:
(ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وهو ثلاثة آلاف بيت)
وفي سقط الزند قصائد قالها في بغداد، وأخرى أرسلها إلى بغداد بعد رجوعه إلى المعرة سنة أربعمائة، وأبيات قيلت بعد سنين كثيرة من اعتكافه في المعرة كالبيتين اللذين مدح بهما القاضي ابن نصر المالكي. فإن هذا القاضي مر بالمعرة في طريقه من بغداد إلى القاهرة، ولم تطل إقامته بمصر، فتوفي بها سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فقد نظم المعري هذين البيتين حوالي سنة عشرين وأربعمائة. ومرثية جعفر بن علي بن المهذب التي مطلعها:
أحسن بالواجد من وجده ... صبر يُعيد النار في زنَده
والمجموعة الثانية هي التي سماها (لزوم ما لا يلزم)
- 2 -
هذه المجموعة الثانية من أشعار أبي العلاء قد نظمت بعد رجوعه من بغداد. وقد خط خطتها، وتكلف لها ما تكلف من لزوم ما لا يلزم. ومن استيعاب الحروف الهجائية على الحركات الثلاث والسكون. قال في مقدمتها:
(كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية على أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط. ولا أزعمها كالسمط المتخذ، وأرجو ألا تحسب من السميط. فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد. . . الخ).
وقال في المقدمة كذلك:
(وقد تكلفت في هذا الكتاب ثلاث كلف:
الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها(624/18)
والثانية: أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك
والثالثة: أنه لزوم عن كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف)
فهذا شعر حدد موضوعه واختير له نظام في القوافي، وترتيب على الحروف وحركاتها، وكأنه كتاب من كتب العلوم اتصل تأليفه حتى كمل، وهي خطة تسلى بها المعري في عزلته، فينبغي أن يكون تاريخه متصلاً ونظمه متوالياً
وأنا أدعي أن ما تضمن هذا الكتاب من الآراء هو فلسفة أبي العلاء في عزلته بعد سنة أربعمائة، وأن هذا الكتاب كله، إلا أن تشذ أبيات قليلة، نظم بعد هذه السنة.
يدل هذا على أن أبي العلاء قال في مقدمة السقط: إنه رفض الشعر. وقال في مقدمة اللزوميات: (وقد كنت قلت في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه، والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فإما الكائن عظة للسامع، وإيقاظاً للمتوسن، وأمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو أن شاء الله مما يلتمس به الثواب)
فهذا النظم الذي توخى فيه العظة والإيقاظ كان بعد النظم الذي جرى فيه مع الشعراء، ثم رفضه رفض السقب غرسه، والرأي تريكته كما تقدم
ودليل آخر أنه ذكر سنه في كثير من أبيات اللزوميات تصريحاً وتلويحاً، ولم يذكر ما دون الأربعين، وهو قد بلغ الأربعين سنة ثلاث وأربعمائة إلا بيتاً واحداً في هذه القطعة:
إذا هبَّت جنوب أو شَمال ... فأنت لكلِّ مُقتاد جنيب
رويدك إنْ ثلاثون استقلَّت ... ولم يُنب الفتى فمتى ينيب؟
والخطاب في هذا البيت إما أن يكون لغير شاعر، وإما أن يكون بعض اللزوميات قد نظم حين جاوز الثلاثين قبل سفره إلى بغداد، وإما أن تكون هذه القطعة نظمت كذلك بعد رجوعه من بغداد واعتزامه الاعتزال، وكانت سنه حينئذ سبعاً وثلاثين سنة، فقد مضت الثلاثون ولم يبلغ الأربعين؛ فليس بعيداً أن يذكر مرور الثلاثين. ومها يكن فجمهرة الكتاب نظمت بعد سنة أربعمائة كما أسلفت.
ودليل آخر على أن أبي العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد بقليل، أنه يذكر في اللزوميات - كما فعل في سقط الزند - رحلته إلى العراق آسفاً على الرحيل وعلى(624/19)
الأوبة. وهذا في غالب الظن، لا يقال بعد مضي سنين كثيرة على هذه الرحلة:
وما بَي طِرق للمسير ولا السُّرى ... لأني ضرير لا تضيء لي الطُرْق
أغِربانُك السُحم استقلَّت مع الضحى ... سوانحَ أم مرّت حمائمك الوُرق
رحلتُ فلا دنيا ولا دين نلته ... وما أوبتي إلا السفاهة والخرق
يا لهف نفسي على أني رجعت إلى ... هذي الديار ولم أهلك ببغداذا
إذا رأيت أموراً لا توافقني ... قلت الإياب إلى الأوطان أدَّى ذا
شُئِمتِ يا هَّمة عادت شآميَة ... من بعد ما أوطنت عصراً ببغداذى
وأزيد على هذه الأدلة أن أبا العلاء ذكر سن الأربعين مرات في اللزوميات، وقد بلغها بعد رجوعه بسنين ثلاث
- 3 -
إن كان المعري شرع ينظم لزوم ما لا يلزم حين رجع من بغداد أو بعد رجوعه بقليل، فكم استمر ينظمها، ومتى انتهى من نظمها وجمعها ورتبها وكتب لها المقدمة التي كتب؟
يمكن أن نجيب على هذا السؤال بوسيلتين: الأولى تتبع الحادثات التي ذكرها والرجال الذين أورد أسماءهم في شعره؛ والثانية استقراء الأبيات التي ذكر فيها سنه
(1) الحوادث والرجال:
1 - أولاً: بنو عامر وطئ
يذكر أبو العلاء فتناً وخطوباً أثارها بنو عامر وطئ في الشام وما حولها، ويسمى بعض رجالهم في مواضع كثيرة، منها:
إذا عامر تبعت صالحا ... وزجّت بنو قرّة الحردَبا
وأردَف حسانُ في مائج ... متى هبطوا مُخصباً أجدبا
وإن قرعوا جبلاً شِامخاً ... فليس يُعنّفُ أن يَحدَبا
رأيتَ نظير الدَبا كثرة ... قتيرُهمُ كعيون الدَبا
ومنها:
ألم تر طيئاً وبني كلاب ... سموا لبلاد غزّة والعريش(624/20)
ولو قدروا على الطير الغوادي ... لما نهضت إلى وكر بريش
ويذكر طيئاً وزعيمها حسان في قوله:
قد أشرعتِ سنبسٌ ذوابلها ... وأرهفت بُحتُر معابلها
لفتنة لا تزال باعثة ... رامحها في الوغى ونابلها
حسان في الملك لا يحَس لها ... تُزْجُي إلى موتها قنابلها
ويقول:
أرى حَلباً حازها صالح ... وجال سِنان على جلّقا
وحسّان في سَلفي طيء ... يصرف من عِزّه أبلقا
فلما رأت خيلهم بالغبار ... ثَغاماً على هامهم عُلِّقا
رمت جامع الرملة المستضام ... فأصبح بالدم قد خُلِّقا الخ
وقد رثي للرملة وحزن لما ناب أهلها؟ يقول:
والرملة البيضاء غودر أهلها ... بعد الرفاغِة يأكلون قفارها
عتروا الفوارس بالصوارم والقنا ... والمَلْك في مصر يعتَّر فارها
جعلوا الشفار هواديا لتنوفه ... مرهاء تكحل بالدُجى أشفارها
تكبو زناد القادحين وعامر ... بالشام تقدح مَرخها وعَفارها
ويقول:
أيا قَيلُ إن النار صال بحرّها ... مقيم صلاة والمهنّد وارس
وبالرملة الشعثاء شيبٌ وِولده ... أصابهم مما جنيت الدهارس
وقد ظهرت أملاك صر عليهم ... فهل مارست من ظلمها ما تمارس؟
وأحسنُ منكم في الرعية سيرة ... طَغج بنُ جف حين قاَم وبارس
وقد ذكر المعري هذه الحادثات في سقط الزند كذلك، إذ قال في القصيدة التائية التي بعث بها إلى علي التنوخي بعد رجوعه من العراق:
بيني وبينك من قيس وأخوتها ... فوارسٌ تذر المكثار سِكيّتا
ويقول في القصيدة الطائية التي أرسلها إلى خازن دار العلم ببغداد وهو محتجب بمعرة النعمان:(624/21)
وما أذهلتني عن ودادك روعة ... وكيف وفي أمثالها يجب الغبط
ولا فتنة طائية عامرية ... يحرَّق في نيرانها الجعد والسَبط
وقد طرحت حول الفرات جِرانَها ... إلى نيل مصر فالوَساع بها تقطو
فوارس طعانون ما زال للقنا ... مع الشيب يوماً في عواضهم وخط
وكل جواد شفّه الركض فيهم ... وَجٍ يتمنى أن فارسه سقط
ونيبالةٍ من بُحتُر لو تعمدوا ... بليلٍ أناسّي النواظر لمُ يخطوا
فما هذه الفتن التي ذكرها أبو العلاء ومتى كانت؟
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(624/22)
قصة كتاب:
يتيمة الدهر
للوزير السيد أبي الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
كنت أظن أن اسم (يتيمة الدهر) وقف على كتاب أبي منصور الثعالبي المعروف، حتى عثرت منذ سنوات في خزانة المرحوم أحمد تيمور باشا - على رسالة صغيرة الحجم مسماة يتيمة الدهر للوزير السيد أبي الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه.
وهذه الرسالة في 61 ورقة مكتوبة بخط نسخي جميل مشكول وكل صفحة في أحد عشر سطراً، وعلى الرغم من شدة عناية المرحوم تيمور باشا بمخطوطات خزانته، وحرصه الزائد على ذكر مؤلفيها وبيان عصورهم وطرف من تراجمهم - لم أجد في فهارس الخزانة ما يكشف الغطاء عن شخصية مؤلف هذه الرسالة، وأخذت أقلب الكتاب لعلي أجد في ثناياه ما ينم عن هوية مؤلفه فلم أجد إلا تلك العبارة المسطرة في رأس الصفحة الأولى منه وهي: (كتاب يتيمة الدهر. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الوزير السيد أبو الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه: الحمد لله العلي الكبير، القوي القدير، العليم الخبير، السميع البصير. . . إلى أن يقول: أما بعد، فإن أحق ما نطق به لسان، وأعرب عنه بيان، وانطوى عليه كتاب، وانتهى إليه خطاب، ما زاد في قوة البصيرة، وعاد بصحة السريرة، وطرق طرائق العدل، وبين حقائق الفضل، فصار تذكرة للأخيار، ومزجرة للأشرار، وقوة لأولي الألباب والأبصار، وإماماً للعمال، وقواماً للأعمال، يرجع إليه الساسة، وتبنى عليه السياسة، وتنظم به الأسباب، وتتجمع فيه الآداب
وإن الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة؛ فأدب الشريعة ما قضى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان، وصلاح الرعية، وكمال المزية، لأن من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم غيره). في مقدمة طويلة على هذا النسق من سجع قصير غير متكلف استغرق ثماني صفحات من الأصل إلى أن يقول في آخر المقدمة: (وقد جمعنا من إنشائنا في كتابنا(624/23)
هذا ألفاظاً وجيزة، وأجريناها مجرى الأمثال، وفصولا قصيرة قد جعلناها عمدة للولاء والعمال، وعدة للعقلاء وذوي الأعمال، وقصدنا فيما ألفناه من ذلك وجه الاختصار ليقل لفظه، ويسهل حفظه، وجعلناه ألف فصل ومثل في ثمانية أبواب
الباب الأول: في الاستعانة على حسن السياسة
الباب الثاني: في الاستعانة على فضيلة العلم والعمل
الباب الثالث: فيما يستعان به على الزهد والعبادة
الباب الرابع: فيما يستعان به على أدب اللسان
الباب الخامس: في الاستعانة على أدب النفس
الباب السادس: في الاستعانة على مكارم الأخلاق
الباب السابع في الاستعانة على حسن السيرة
الباب الثامن: في الاستعانة على حسن البلاغة
واستعنا فيما وضعناه من ذلك بالله الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل)
ثم قام أحد الناشرين بطبع هذا الكتاب، وكتب له أحد كبار القضاء الشرعي مقدمة نفيسة، وصرح كاتب المقدمة بأنه لم يعثر على ترجمة المؤلف، ولم يشر إلى أن هذه الرسالة طبعت قبل هذه المرة
والواقع أن هذه الرسالة قد طبعت في القاهرة من نحو خمسين سنة، وإذا أردنا التحديد قلنا: إنها طبعت سنة 1317هـ مسماة بغير أسمها، منسوبة إلى غير مؤلفها، فقد طبعت على هامش كتاب (نثر النظم وحل العقد) لأبي منصور الثعالبي أيضاً، وذلك بالطبعة الأدبية بسوق الخضار القديم بمصر سنة 1317هـ، ثم طبعت هذه الرسالة مرة أخرى بعنوان (كتاب الأمثال المسمى بالفرائد والقلائد، ويسمى أيضاً بالعقد النفيس ونزهة الجليس)، ونسب في هذه المرة أيضاً إلى أبي منصور الثعالبي. وهذه الطبعة مطبوعة في مطبعة التقدم التجارية بحارة العنبة رقم 10 بشارع محمد علي بمصر وليس عليها تاريخ الطبع
وهكذا فقد طبع هذا الكتاب مرتين - ولعله طبع مرات أخرى لا نعرفها - مسمى بغير اسمه الحقيقي - ونسب إلى غير مؤلفه في كلتا المرتين؛ حتى عثر على نسخة الخزانة التيمورية، فعرف أن اسمه الحقيقي هو (يتيمة الدهر)، وأن المؤلف هو الوزير السيد أبو(624/24)
الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه
بقي أن نعرف من هو السيد أبو الحسين صاحب كتاب (يتيمة الدهر)؛ وفي أي عصر عاش، وما هي مكانته الأدبية؟
لقد أطلت البحث عن ترجمة للسيد أبي الحسين، وبذلت كثيراً من الجهد والوقت، ولكن حياة هذا السيد الكريم ما زالت غامضة خفية. لم أستطع كشف القناع عنها، فإني مع كثرة ما بحثت وراجعت من المراجع لم أجد للسيد أبي الحسين ذكراً إلا ما ورد في رسائل بديع الزمان الهمذاني في سياق تلك المناظرة التاريخية التي وقعت بين البديع والخوارزمي في نيسابور سنة 383هـ، فقد كرر البديع الهمذاني اسم السيد أبي الحسين أكثر من مرة واحدة في أثناء حكايته لتفصيلات تلك المناظرة، وذكر أن السيد أبا الحسين كان أحد شهود المناظرة المحكمين، وأنه كان يناصر الخوارزمي، وأن الخوارزمي كان يلجأ إليه ويخصه بالحديث والالتفات في الجلسة الأولى للمناظرة، فلما كان المجلس الثاني احتال البديع على السيد أبي الحسين، واستماله إلى جانبه بقصيدة أنشده إياها في مدح أهل البيت والتشيع لهم، وأستمع إلى البديع حيث يقول: (. . . ثم حضر السيد أبو الحسين وهو ابن الرسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، والضارب في الأدب بعرقه، وفي المنطق بحذقه، وفي الإنصاف بحسن خلقه، فجشم إلى المجلس قد سيفه، وجعل يضرب عن هذا الفاضل - أبي بكر الخوازمي - بسيفين لأمر كان قدموه عليه، وحديث كان قد شبه لديه، وفطنت لذلك فقلت: أيها السيد! أنا إذا سار غيري في التشييع برجلين، طرت بجناحين، وإذا مت سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة توسلت بغرة لائحة، فإن كنت أبلغت غير الواجب فلا يحملنك على ترك الواجب، ثم إن لي في آل الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البر والبحر، وركبت الأفواه، ووردت المياه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تسر على ساق، ولكني لا أتسوق بها لديكم، ولا أتنفق بها عليكم. وللآخرة قلتها لا للحاضرة، وللدين ادخرتها لا للدنيا
فقال: أنشدني بعضها فقلت:
يا لمة ضرب الزما ... ن على معرسها خيامه
لله درك من خزا ... مى روضة عادت ثغامه(624/25)
لرزية قامت بها ... للدين أشراط القيامه
لمضرج بدم النبو ... ة ضارب بيد الأمامه
متقسم بظبا السيو ... ف مجرع منها حمامه
منع الورود وماؤه ... منه على طرف الثمامه
نصب ابن هند رأسه ... فوق الورى نصب العلامه
إلى آخرها، وهي قصيدة في نحو خمسة وعشرين بيتاً كلها على هذا الطراز
قال البديع: (فلما أنشدت ما أنشدت، وسردت ما سردت، وكشفت له الحال فيما اعتقدت، انحلت له العقدة، وصار سلماً، يوسعنا حلماً)
هذا كل ما وجدته عن السيد أبي الحسين، ومنه يظهر مكانه في العلم والأدب، كما يعلم أنه من معاصري البديع والخوارزمي ومقارعيهما، وأنه كان موجوداً في أواخر القرن الرابع الهجري
بقي أن نعرف: هل هذا السيد الذي قص البديع الهمذاني خبره - هو الوزير السيد أبو الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه صاحب كتاب يتيمة الدهر؟
ذلك ما لا سبيل إلى الجزم به الآن، ولعل في قراء (الرسالة) الغراء من يعرف عن كتاب (يتيمة الدهر) ومؤلفه السيد أبي الحسين أكثر مما نعرف. فإلى ذلك أوجه الرجاء أن يتفضلوا بنشر ما لديهم من المعلومات مشكورين.
برهان الدين الداغستاني(624/26)
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحرفي
موضوع الكتاب - اسم على غير مسمى - الأسلوب التلغرافي - اللغة العربية وحرية المرأة - البلاغة والمنطق - لغتنا حربية أستقراطية عقيدية - دار العلوم والمنطق - دار العلوم والإصلاح اللغوي - دار العلوم للمسلمين - أبو تمام والثقافة. . . . . . . . . . . . . .
- 1 -
لم يكد يفرغ الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات من دفاعه المنصف المجيد عن البلاغة حتى أخرج الأستاذ سلامة موسى هذا الكتيب. ولقد يتوسم قارئ اسمه أنه محاولة موفقة لتجديد البلاغة العربية، أو نقد ونقض لبعض أسسها القائمة، لكنه إذا ما أتمه دهش من انقطاع الصلة بين العنوان والمعنون، فليس فيه تجديد ولا نقض، اللهم إلا الدعوة إلى أن تجاري لغتنا عصرنا، وتماشي حياتنا، وهي دعوة قديمة قال بها عبد العزيز الجرجاني وعبد الكريم النهشلي وغيرهما، وإنما نثر المؤلف في بحثه سوانح عنت له في نشأة اللغة، وعلاقتها بالمجتمع، وضرر اللغة، والتفسير الاقتصادي للغة، والفصحى والعامية الخ، فمن المغالطة أن يسمى كتيبه بهذا الاسم، ومن المغالطة أن يعقد فصلا عنوانه (فن البلاغة) ولا شيء فيه من فن البلاغة، فهل من البلاغة العصرية ألا تدل الكلمات على مسمياتها المعهودة
كرر في بحثه الدعوة إلى الأسلوب التلغرافي (وكذلك نحن نتبع الأسلوب التلغرافي، ونتخير الكلمة التي تحمل المغزى فضلاً عن المعنى) ص 19
فماذا يريد به؟ أن يكون الأسلوب خالياً من الروعة والبراعة والجمال والموسيقى، فلا يمتاز من أسلوب الخطاب المعتاد المتداول في الشئون اليومية. يريد ألا تتفاوت الموضوعات والمناسبات وأقدار الأدباء والقراء، يريد (الاشتراكية) في اللغة كما قرر في مواضع أخر، ويتجافى ما تقرره البلاغة وعلم النفس من أن الأسلوب صدى لما في نفس منشئه، فالانفعال القوي لا يعبر عنه إلا أسلوب يلائمه قوة. والانفعال الهادي لا يوائمه إلا أسلوب(624/27)
يشاكله دقة، واللغات كلها تعيا أحياناً عن تصوير العواطف بكلماتها الوضعية، فلا مندوحة للأديب من اللجوء إلى الخيال وأفانين الجمال.
وإذا كان هذا رأيه الذي طالما دعا إليه، فلماذا لم يأخذ نفسه به؟ ما له لا يلتزم الأسلوب التلغرافي الذي يدين به؟ ثم ما له لجأ إلى تكرير المعاني في هذا الكتيب؟
على أنا إذا آثرنا الأسلوب التلغرافي فقد جحدنا ما خلفه أدباء العالم كله من تراث فني. ولخير إذاً للزيات والعقاد والجارم وبرناردشو وأندريه موروا وإضرابهم أن يحطموا أقلامهم، أو يغيروا أساليبهم، وهيهات هيهات!
وليس من الصواب الفصل بين الأسلوب والمعنى، فهما جزء واحد، وهما معاً قسيمان في إثارة القارئ ومجاوبته للأديب، أو شعوره بالمتعة الفنية، وهما معاً شريكان في التعبير عن خلجات الأديب وعواطفه، والأسلوب التلغرافي لا يحقق كل ذلك.
ولذا عرف بوفون الكتابة الجيدة بأنها (التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً) وفي رأي بوفون أيضاً أن (متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، وهي تتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه)، وهكذا كان بوفون فحماً عندما يكتب في التاريخ الطبيعي، وسهلاً يستخدم الألفاظ الشائعة في رسائله إلى أصدقائه المقربين
والأستاذ سلامة يناقض نفسه إذ يقول في ص 17 (ويمكننا أن ننظر إلى اللغة النظر الفني فننشد بالكلمات والجمل رفاهية ذهنية لا تؤديها الدقة العلمية) وفي هذا رد على دعوته إلى الأساليب التلغرافية، إذ الرفاهية الذهنية ليست إلا ثمرة للروعة في التعبير، والإبداع في التصوير، والفحولة في التفكير.
(ثم انظر إلى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاء يكاد يكون تاماً، أما نحن فقد (رددنا الاعتبار) للمرأة المصرية؛ ولكن ما زلنا نستعمل الكلمات القديمة فنقول (أم فلان) أو (حرم فلان) ولا نذكر الاسم، مع أن الاسم جزء من الشخصية وإهماله هو سنة للمرأة. . وإهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل إلينا عقيدة اجتماعية يجب أن نكافحها) ص 49
وليس في هذا شيء من الحق، فإن الإسلام قد رفع من شأن المرأة، واختصها القرآن الكريم(624/28)
في كثير من المواضع بالخطاب، ومنحتها الشريعة حقوقها كاملة، وبحسبنا أن الشريعة الإسلامية لم تحرمها التصرف في مالها الخاص أو الميراث إذا تزوجت، ولم تجعل لزوجها سلطاناً على مالها، مع أن القانون الفرنسي ما زال يعتبرها ناقصة الأهلية، فيتصرف زوجها في مالها كما يتصرف المولى أو الوصي في مال القاصر، وليس لها حق التقاضي إلا بإذن زوجها.
ثم أن الشريعة الإسلامية منحت المرأة حرية اختيار زوجها، وأجازت أن تكون العصمة بيدها. وقد ضرب الرسول عليه الصلاة والسلام أرقى المثل في إعزازها والحدب عليها ورد الاعتبار لها بأفعاله وأقواله، وطالما تغنى الشعراء بحبها والزلفى لها، وطالما أسهمت في الحركة الأدبية والعلمية والسياسية بنصيبها، وطالما سمى الرجال بأسماء أمهاتهم وبناتهم، فليس بصواب أن المجتمع الإسلامي - ودينه الإسلام - انتقص حقوق المرأة وحقر من شأنها كما ادعى الأستاذ
وهل تناسى الأستاذ أن أوربا بعد ذلك العصر كانت تسوم المرأة الذلة والهوان؟ وأن أوربا كانت تتجادل في حقيقة المرأة أإنسان هي أم شيطان؟
ولا تحقير للمرأة في أن نطلق عليها (أم فلان)، وإنما فيه تكريم لها ومسرة واعتراف بالفضل، إذ أنجبت، وأدت وظيفتها الأولى في الحياة. ولا تحقير لها في أن نكني عنها بحرم فلان؛ لأنها في عصمته ورعايته وحمايته، وهي تعلم أن الزواج شرفها وحليتها وأملها، وهل المجتمع الغربي المعاصر يحقر المرأة؟ وإلا فلماذا يطلق عليها مسز فلان وليدي فلان ومدام فلان؟ ومن لطائف برنادرشو في ذلك أن سيدة قالت له: إن الرجل قد سلب المرأة حقوقها، فقال لها: بل سلبته هي كل شيء حتى اسمه
- 4 -
(يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف) ص 56
وهذه فكرة عاسفة تهدم أساس الشعر والنثر والفنون الجميلة عامة؛ لأن الفنون وليدة العواطف، واستجابة لنوازع نفسية لا صلة للمنطق بها، ولو أنا أخضعنا كثيراً من النصوص الأدبية التي تروقنا للمنطق لوجدناها هباء.(624/29)
فكلنا نعجب بقول المنخل اليشكري:
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
ونطرب لقول جميل:
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد
ويروعنا قول المتنبي:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
وكان حالها في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
ويهزنا قول شوقي:
وجواهر التيجان ما لم تتخذ ... من معدن الدستور غير صحاح
وأي منطق في هذا؟
لو أنا اتخذنا المنطق وحده دعامة للأدب لانقلب إلى حقائق جافة لا خيال فيها ولا جمال ولا سحر، ولكان أحرى به أن يسمى علماً لا أدبا؛ لأن خصيصة الأدب في لغات العالم كلها أن معانيه خيالية، وليس معنى هذا أنها بمعزل عن منطق الحياة، أو فيها خلط واضطراب، وما زال العالم يكبر ما خلفه هوميروس واليونان من تراث، وأي منطق في أبطالهم وأعمالهم الخوارق وهم آلهة وأنصاف آلهة؟
- 5 -
(لغتنا لا تماشي المعارف العصرية؛ لأنها قضت شبابها تلابس مجتمعاً أرستقراطياً حربياً عقيدياً) ص 77 (يجب أن تكون لغتنا متمدنة تتسع للتعبير عن نحو مائة وعشرين علماً وفناً لم يكن يعرفها العرب الذين ورثنا عنهم لغتنا) ص 20
أما أن لغتنا متخلفة عن ركب الحياة العصرية فهذا حق، ولكن الوزر علينا؛ لأن اللغة لا تنمي نفسها، وإنما ينميها المتكلمون بها، وقد ركدت حياتنا أحقاباً طوالاً انزوينا فيها عن العالم المتجدد، فلما أفقنا وجدنا في لغتنا قصوراً عن مجاراة الحياة المتجددة، فعلينا أن ننميها بالاشتقاق أو التعريب
وأما اتهام اللغة بأنها وليدة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فلم تعد صالحة لحياتنا - فجرأة ودعوى باطلة، فلم تكن الأمة الإسلامية في العصر العباسي الذي يقصده المؤلف(624/30)
أرستقراطية حربية دينية فحسب، وإلا فبأية لغة ترجم المسلمون تراث اليونان والفرس والهنود والنبط؟ أتتسع اللغة العربية للتعبير عن فلسفة أفلاطون وأرسطو والتعليق عليها وشرحها ثم تتهم بأنها لغة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فحسب فليست صالحة لنا؛ وبأية لغة ألف المسلمون في الفلسفة والجغرافيا والفلك والرياضة والمنطق والأخلاق والكيمياء والبلاغة الخ. . . الخ
وبحسبي أن المؤلف قد ناقض نفسه بقوله: (إن اللغة خدمت المجتمع العباسي أجل خدمة، وقامت بشئون حياته) ص 75
ومن عجب أن يطالب بإلغاء كلمات الحرب من لغتنا؛ لأن مجتمعنا سلمي؛ ص 77 فأي سلام هذا الذي يحلم به؟ وأين اللغة التي تخلو من كلمات الحرب حتى نجرد لغتنا منها؟ أو ليس من الحق أن تتهم اللغة بعد قرن إذا ما جردناها من كلمات الحرب بأنها كانت لغة قوم أذلاء مستضعفين؟
- 6 -
(وإذا كان اللورد هوردر الطبيب الإنجليزي ينصح لكليات الطب في بريطانيا بتدريس كتاب جيفونز في المنطق في السنة الأولى من الدراسة الطبية فإننا أحوج إلى مثل هذه النصيحة في دراسة اللغة العربية في كلية الآداب أو في دار العلوم) ص 16
والعجب من مؤلف ينصب قلمه للإصلاح المزعوم أو الموهوم ثم يتجنى أو يغفل، كأنه لا يعلم أن المنطق القديم والحديث يدرس بدار العلوم دراسة تفوق الحد الذي يتطلبه الأستاذ.
- 7 -
(أبناء دار العلوم هم الذين تخصصوا في اللغة، وتخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة، فضاقت آفاقهم وتحجرت لغتهم. . . وهم يخشون التغيير لأسباب اقتصادية وطبقية) ص 14
أما أنهم هم الذين تخصصوا في اللغة وأدبها فهذا حق، وأما أن تخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة فهذا باطل، ذلك أنهم يدرسون مع اللغة التي تخصصوا وحدهم في دراستها كما يقول الأستاذ ثقافات أخرى منها علم النفس والتربية والتاريخ والشريعة(624/31)
والمنطق والأدب، والأدب المقارن والعبرية والسريانية والإنجليزية والاقتصاد والاجتماع. . . الخ الخ. . . وقد درسوا في تجهيزية دار العلوم برنامج المدارس الثانوية وزادوا عليه التفسير والحديث والفقه ولو اطلع الأستاذ على مناهجهم واستيعابهم لها وشغفهم بالبحث والدرس لغير رأيه، أو لوجد من الخير له ألا يهاجم به إن كان له في الإصرار على الانتقاص الظالم أرب.
وأما أن المتخرجين في دار العلوم يخشون التغيير والتجديد لأسباب اقتصادية وطبقية فهذا افتراء وضغن، فليسوا يعادون التجديد حرصاً على وظائفهم أن تزايلهم كما يزعم؛ لأنهم دائماً في طليعة المجددين، لكن على أن التجديد إصلاح وبناء ودعم، لا اعتساف وثرثرة وهدم، ثم هم قد درسوا الرياضة والتاريخ والجغرافيا في مدارس المعلمين والمدارس الحرة فبرعوا، واستحقوا تقدير الرؤساء، ونالوا إعجاب الطلاب، ولم يخطر لأيهم أن يقاوم تجديداً في اللغة لأنه يؤثر صالحه كما يتهجم عليهم الأستاذ، وإلا فما بالهم يجددون في منهج دار العلوم ويستقدمون أساتذة ليسوا من أبنائها؟ وما بالهم دعوا إلى إنشاء المجمع اللغوي منذ ثلاثين عاماً؟
- 8 -
ولم ينفد بعد تجنيه على دار العلوم، فيقول (ودار العلوم للمسلمين، وهذه نظرة تربط بين اللغة والدين. . . فاللغة عند زكي مبارك وابن عرب والحكومة المصرية ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتلفزيون بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب) ويخيل لي أن هذا مفتاح ضغنه على دار العلوم، فلماذا يختص بها المسلمون؟ أليس في هذا حرص على اللغة العربية لأنها لغة الدين؟ نعم دار العلوم للمسلمين، لأن المسلمين ما زالوا يرون حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف غذاء اللغة ومعينا للأدب، وما زالوا يحرصون على سلامة اللغة وبقائها ليبقى الدين ويبقى القرآن الكريم. وأي ضير في أن يكون للغة علاقة بالدين؟ أيريد الأستاذ أن يتهاون أبناء دار العلوم باللغة فلا إعراب ولا فصاحة ولا تحرز من أن تفشو الكلمات الأعجمية وإن استطعنا وضع معانيها من لغتنا العربية كما صرح بذلك في كتابه حتى يصبح القرآن غريباً في هذه اللغة وهو منها الروح الملهم والمدد الذي لا يغيض؟ أم يريد ألا يدرس أبناء دار العلوم دينهم ولا يعلموا فيما بعد تلاميذهم؟(624/32)
- 9 -
وقد كان نابليون يصف الأدباء بأنهم تجار الكلمات، ولأبي تمام شطرة من بيت كثيراً ما تذكر هي:
(السيف أصدق أنباء من الكتب)
والواقع أن أبا تمام لم يقل كلمة هي أبعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة لأن السيوف لا تتحرك إلا للكلام الذي سبقها. . .) ص 88
فهم أن أبا تمام يفضل الحرب والقسوة على الثقافة، كنابليون ولكن الحقيقة أن الشاعر يريد كتب المنجمين الذين أرادوا أن يعوقوا المعتصم عن فتح عمورية، والتنجيم خرافة، فلا تثريب على الشاعر ولا وجه للومه، والشاعر يقول في القصيدة نفسها:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... وفي الجديدين لا في السبعة الشهب
مشيراً إلى خرافة المنجمين.
(يتبع)
احمد محمد الحوقي المدرس بالسعدية الثانوية(624/33)
7 - رسالة الفن
للكاتب الفرنسي بول جزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الفصل الخامس - الرسم واللون
كان رودان يرسم كثيراً مستعيناً بقلم الحبر أحياناً وبقلم الرصاص أحياناً أخرى. وكان في أول الأمر يرسم الخط الخارجي بالحبر ثم يضع الظلال بريشة. وتظهر مثل تلك الرسوم المائية كأنها أخذت عن نماذج بارزة أو منحوتة. وما كانت تلك الرسوم في جملتها إلا رؤى المثال وأخيلته. أما في العهد الأخير فكان يستعمل القلم الرصاص ليرسم الجسم العريان ثم يضع ألوان اللحم بالريشة. وهذه الأخيرة أبسط من الرسوم السابقة، والأوضاع فيها أقل تحديداً، ولكنها أكثر حركة وأوفى نشاطاً. فترى في بعض الحالات الجرة أو الخط قوياً عنيفاً كأن به جنة. ترى جسماً بأكمله وقد نظمته جرة واحدة من القلم الرصاص - ونم تلك الرسوم عن ذلك الجزع المقدس الذي يعتري الفنان حينما يخشى أن يفوته أو يفلت منه تعبير طارئ. أما ألوان اللحم فتوضع بسرعة وقوة وتتم في ثلاثة أو أربع لمسات، وأما التمثيل فينشأ عن جفاف بقع الألوان حيث تتخلف عند كل لمسة نقط عديدة لا يتسنى للريشة العجلى جمعها والتقاطها. وهذه الرسوم الأولية تمسك وتثبت الإشارات والإيماءات الخاطفة، وتسجل الحركات المتتابعة التي قلما تلمحها العين لأكثر من نصف ثانية. وهي لا تطلعك على الخطوط والألوان فحسب، بل تريك الحركة وتشعرك الحياة أيضاً. إنها أخيلة المصور أكثر منها أخيلة المثال.
وأخيراً توقف رودان عن إجراء التمثيل بالريشة وذلك لمداومته على استعمال القلم الرصاص، فهو يقتصر على مسح الخط الخارجي بإصبعه فينشأ عن ذلك لون فضي يغشي الأجسام كأنه الغلالة الرقيقة، ويضفي عليها جمالاً رائعاً يجعلها تبدو كأنها غمست في الشعر والخيال.
وتلك الدراسات الحديثة أجمل دراساته على ما أعتقد. فهي مضيئة، تزخر بالحياة وتفيض بالسحر.(624/34)
وعندما كنت انظر مع رودان في بعض تلك التصاوير قلت له: (كم تختلف هذه عن تلك التصاوير الكاملة المنمقة التي تصادف هوى الجمهور؟) فقال:
(حقاً أنها التفاصيل والدقائق الميتة الخالية من التعبير، والحركة الزائفة المتكلفة هي التي تستهوي الجهال وتطربهم. فالعامة لا تستطيع أن تدرك كنه تعبير قوي لا يحفل بالدقائق والتفاصيل التي لا فائدة منها ويعنى بحقيقة المجموع كله. نعم لا تستطيع السوقة أن تدرك شيئاً من تلك الملاحظات الصادقة التي تنأى بنفسها عن الأوضاع المسرحية المفتعلة والتي تعنى بأحوال الحياة الحقيقية البسيطة ذات الأثر البالغ في النفس
إن من الصعب تصحيح الأغلاط الشائعة عن موضوع الرسم. فمن الخطأ البين أن يظن امرؤ أن الرسم جميل في حد ذاته. إنه ليس جميلاً إلا بما يعبر به عن الحقائق الصادقة وعن المشاعر العميقة. يعجب الجمهور بفنانين يملكون ناصية فنهم بلا مراء ولكنهم يزوقون وينمقون. خطوطاً إنشائية خالية من الدلالة، ويثبتون مرسوميهم في أوضاع متكلفة غير طبيعية، ولكنها تعد فنية لأنها تشبه أوضاع المثل الإيطالية الذين يعرضون أنفسهم على أبواب المراسم. وهذا ما يسمى غالباً بالرسم الجميل، وما هو في الحقيقة إلا (خفة يد) تعجب البلهاء الحمقى.
وفي الواقع يوجد رسم في الفن كما يوجد أسلوب في الأدب، أي أن الرسم في الفن هو بمثابة الأسلوب في الأدب. فالأسلوب المزوق الذي يترك أثراً في النفس أسلوب رديء. وأما الأسلوب الجيد الرصين فهو الذي يستخفي ويتوارى كيما يوجه القارئ كل اهتمامه إلى الموضوع الذي هو بصدده وإلى العاطفة المصورة.
فالفنان الذي يزوق رسومه والكاتب الذي يصبو لامتداح أسلوبه كلاهما كالجندي الذي يزين كسوته بالريش ولكنه يتهيب الذهاب إلى المعركة، أو كالفلاح الذي يشحذ ويجلو سكة المحراث بدلاً من أن يقوم ويفلح بها الأرض
قد لا يخطر ببالك أن تمتدح الرسم أو الأسلوب ذا الجمال الصادق لأنك تؤخذ بأهمية كل ما يعبران عنه، ومثل هذا يقال عن اللون أيضاً. وفي الواقع لا يوجد أسلوب جميل أو رسم جميل أو لون جميل، وإنما يوجد جمال واحد فقط هو جمال الحقيقة السافرة المتجلية. فعندما يتمخض عمل عظيم - أدبياً كان أو فنياً - عن حقيقة جلية، أو عن فكرة عميقة، أو عن(624/35)
شعور قوي فياض فمن البدهي أن يكون الأسلوب أو الرسم أو اللون بالغاً منتهى الإجادة والسمو ولا تكون تلك الصفات إلا نور الحقيقة منبعثاً من مصباحها.
يعجب الناس رسوم رفائيل بحق، ولكن يجمل بهم ألا يعجبوا بها لذاتها أو لا تزان خطوطها اتزاناً بارعاً، وإنما يعجبون بما تنطوي عليهم من المعاني. وأما محاسن هذه الرسوم وكل ما يدعو إلى الإعجاب بها فتنحصر في وداعة الروح وداعة حلوة رأتها عينا رفائيل وسفرت معبرة عن نفسها على يديه، وفي الحب الذي يغمر نواحي نفسه والذي يفيض من قلبه على الطبيعة بأسرها.
ولقد حاول الكثيرون ممن تنقصهم روحه أن يستعيروا موسيقية الخطوط والحالات التي صور عليها أشخاصه فلم ينتجوا إلا مقلدات غثة لأعمال نابغة أو زيينو العظيم
وفي رسوم ميشيل انجلو لا يعجبن المرء بالطريقة التي انتهجها أو بالنتوءات القوية أو بالتشريح البارع، ولكن بقوة هذا الفنان الزاخرة. أما مقلدوه الذين تعوزهم روحه والذين نسخوا في لوحاتهم أوضاعه القوية الوطيدة، وعضلاته المنتفخة، فقد باءوا بالفشل ووضعوا أنفسهم موضعاً كله شين وسخرية.
وإن ما يصح أن نعجب به من ألوان تيتيان هو ما تقدمه لنا من المعاني لا بانسجامها القليل أو الكثير. فليس لألوانه جمال حقيقي إلا بما تتضمنه من سيدوده جليلة شاملة. ويظهر الجمال الحقيقي لألوان فيرونيز في قدرتها على إبراز حفلات النبلاء الرشيقة الأنيقة بألوان فضية موسيقية ساحرة.
وأما ألوان روبنز فلا قيمة لها في حد ذاتها ويكاد يكون جمالها المتوهج هراء لولا انطباعها بطابع الحياة والبهجة والسرور والشعور القوي العميق
ولا أظن أنه يوجد عمل فني واحد يرجع جماله إلى اتزان خطوطه أو تهويل ألوانه فقط أو إلى أنه يسترعي العين وحدها. خذ مثلاً النوافذ ذات الزجاج الملون التي يرجع عهدها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر فهي إذا ما سحرتنا بألوانها الزرقاء المخملية، أو بحنان ألوانها البنفسجية، أو بحرارة ألوانها الحمراء، فما ذلك إلا لأن تفصح عن سرور خفي أمل صانعوه البررة الأتقياء أن يحظوا به في سماء أحلامهم. وإذا ما جاءت بعض قطع القاشاني الفارسي المزينة بأزهار فيروزية اللون آية من آيات الألوان الساحرة المحببة فما ذلك إلا(624/36)
لأن ألوانها البديعة تحمل النفس إلى ما لا أدري من أودية الأحلام والخيال. وعلى ذلك فكل رسم وكل ألوان منسجمة تؤدي معنى بحيث لا يصبح لها جمال بدونه. . . وهنا قاطعته قائلاً:
(ولكن ألا تخشى الحط من قيمة الصنعة في الفن؟)
ومن يقول لك باحتقارها أو بالإقلال من شأنها؟ ليست الصنعة إلا وسيلة. ولن يبلغ الفنان الذي يهملها غايته التي هي التعبير عن الشعور والأفكار. ويكون مثل هذا الفنان مثل السائس الذي نسي أن يعلف جواده الشعير
ومما لا مشاحة فيه أنه إذا كان الرسم ضعيفاً ركيكاً واللون مزيفاً مسيخاً، فلا يمكن والحالة هذه أن تجد أقوى العواطف سبيلاً إلى الظهور والإفصاح. قد يبعث التشريح الخاطئ على الضحك على حين يرغب الفنان أن يكون جد مؤثر. ويرتكب اليوم كثير من أحداث الفنانين هذا العيب الشائن، ويخونهم ضعفهم وقصورهم في كل مناسبة لأنهم لم يدرسوا الدرس الكافي. قد تكون مقاصدهم سليمة، ونياتهم حسنة، ولكن ذراعاً قصيرة قصراً ظاهراً، أو ساقاً غير مستقيمة، أو منظوراً مختلاً مشوهاً - كل ذلك من شأنه أن يجعل الرائي يصد عن رؤيتها ويشيح بوجهه عنها.
وقصارى القول لا يمكن أن يغني إلهام مفاجئ عن العمل الطويل الذي لا غنية عنه لإكساب العين القدرة على الإلمام التام بالشكل والنسبة، ولجعل اليد تنصاع لأوامر الشعور وتجري مجراه
وعندما أقول بأن الصنعة يجب أن تتناسى فلا أعني أو يدور بخلدي قط أن الفنان يستطيع أن يزاول عمله من غير إلمام بالعلم، وأرى على النقيض من ذلك أن لا غنى له عن طريقة شاملة يخفي تحتها ما يبطن ويعلم. ولا غرو فإن أبرع رجال العالم في نظر السوق الجاهل هم بعض المشعوذين الذين يرسمون بضعة خطوط شاذة، أو يأتون بألوان شبيهة بالألعاب النارية المدهشة، أو هم الذين يكتبون جملاً طويلة منمقة حشوها الغريب من الألفاظ. ولكن الصعوبة كل الصعوبة، وأساس الفن الصحيح هو أن ترسم أو تصور أو تكتب بسهولة وبساطة.
إنك لتشاهد صورة أو تقرأ صحيفة فلا يستوقفك الرسم أو اللون أو الأسلوب، ولكنك تشعر(624/37)
بالتأثير العميق في نفسك من غير أن تخشى الوقوع في غلطة، فالرسم واللون والأسلوب كلها كاملة من الناحية الفنية. . . فقلت له:
ألا يمكن مع هذا يا أستاذ أن تكون بعض الأعمال العظيمة الخالدة ناقصة من ناحية الصناعة الفنية؟ ألم يقولوا مثلاً إن ألوان رفائيل تغلب عليها الرداءة غالباً، وإن رسم رمبراند لم يسلم من الغمز واللمز؟ فقال:
صدقني إن هذا خطأ صراح. فإذا كانت قطع رفائيل تسر النفس فما ذلك إلا لأن كل شيء فيها - من لون ورسم - يمد هذا السرور بمعين. انظر إلى سان جورج الصغير باللوفر، وإلى بارناسس بالفاتيكان، وإلى رسوم الستائر في سوث كنسنجت انظر إلى كل هذه تر الانسجام فيها ساحراً. أخذا. نعم، تختلف ألوان سانزيو عن ألوان رمبراند ولكنها تلائم إلهامه كل الملائمة، إنها صافية نقية كصنعة القرط. إنها تبدي انسجامات مفرحة، طلية زاهرة. إن لها شباب روفائيل الخالد. إنها لا تبدو حقيقية، وذلك لأن الحقيقة التي كان يراها نابغة أوربينو ليست حقيقة مادية فحسب، بل كانت دنياه دنيا شعور حيث تستحيل الأجسام والألوان بنور الحب. ولا غرو إذا قال أحد غلاة الواقعيين بأن ألوانه غير صحيحة، أما الشاعر فيراها صادقة.
ولو قورنت ألوان رامبراند أو روبنز برسم رفائيل لبدت الأولى جافية بشعة، ما في ذلك من شك.
ومع أن رسم رامبراند يختلف عن رسم رفائيل فهو لا يقل عنه جودة. فخطوط رفائيل حلوة نقية، أما خطوط رامبراند فخشنة متعرجة. كانت مخيلة الفلمندي العظيم متأثرة بالثياب الخشنة، والوجوه الفظة الجعدة، وبأيدي الطبقة الفقيرة المجلة الدرنة. وما كان الجمال عنده إلا التباين بين حقارة الغلاف المادي الخارجي والإشعاع الروحي الداخلي. وإلا فكيف كان يتسنى له أن يعبر عن هذا الجمال المؤلف من بشاعة مادية ظاهرة ومن سمو نفساني رائع إذا ما حاول أن يجاري رفائيل في أناقته؟ ينبغي أن تدرك أن رسمه كامل متقن إلى أبعد حدود الكمال والإتقان لأنه يتفق تمام الاتفاق مع خلجات نفسه وأفكاره فقلت:
وعلى ذلك قد نفهم من قولك إنه من الخطأ الاعتقاد بأن الفنان لا يستطيع أن يكون بارعاً(624/38)
في فن الألوان ورساماً عظيماً في آن واحد
فقال: ما في ذلك من شك وأنا لا أدري والله كيف رسخت هذه الفكرة في الأذهان إلى هذا الحد. فإذا كان عظماء الفنانين فصحاء بلغاء، وإذا كان في مقدورهم أن يملكوا أعنة نفوسنا ويذهبوا بنا كل مذهب، فما ذلك إلا لأنهم يملكون كل وسائل التعبير التي تلزمهم. لقد برهنت لك على ذلك من لحظة بحالتي رفائيل ورامبراند. ويمكن تطبيق مثل هذه الأدلة على جميع عظماء الفنانين. فمثلاً أتهم البعض دلاكورا بجهله أصول الرسم؛ أما الحقيقة فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ فإن رسمه يتمشى تمشياً معجباً مع ألوانه. فهو مثلها وعر متقطع، محموم، سام، مترع بالحيوية والعواطف القوية. وهو مثلها يجنح إلى الغلو والجنون أحياناً وعند ذاك يبدو أجمل وأروع ما يكون. . . إن الرسم واللون شيء واحد ولا يمكن أن يعجب بالواحد دون الآخر.
ولقد يغرر أنصاف النقاد بأنفسهم حينما يفرضون وجود ضرب واحد من الرسم فقط هو رسم رفائيل أو حتى رسم من هم دونه من مقلديه أمثال دافيد وأنجر. وحقيقة الواقع أنه يوجد من ضروب الرسم والألوان بقدر ما يوجد من الفنانين
يقال عن ألوان البرخت دورر إنها صلبة جافة، وليست كذلك بتاتاً. إن دورر جرماني، فهو يعمم ولا يخصص، وترى تراكيبه الإنشائية محكمة مدعمة كالحقائق المنطقية، وأشخاصه جامدة كما ينبغي أن تكون. وهذا يفسر لنا دقة رسمه البالغة، وكيف جاءت ألوانه مكبوتة محدودة.
(وينتمي هولبين إلى نفس المدرسة، فليس لرسمه شيء من الرشاقة الفلورنتينية، ولا للونه الجمال البندقي.
ولكن لخطوطه وألوانه قوة ورسوخ ومعنى باطني، وهذه صفات قد لا تتوفر لأي مصور آخر.
ويمكن أن يقال إجمالاً عن فنانين حريصين مدققين كمن ذكرت؛ إن رسمهم غير مرن وإن ألوانهم باردة جافة جفاف الحقائق الرياضية؛ كما يمكن أن يقال على النقيض من ذلك عن البعض الآخر الذين هم شعراء الوجدان أمثال رفائيل وكوريجيو واندريا دل سارتو إن خطوطهم أكثر طراوة وليونة، وألوانهم أوفى رقة وجاذبية. أما في غير هؤلاء ممن نسميهم(624/39)
(الواقعيين) أي أولئك الذين هم أقل عمقاً في الشعور والحس أمثال روبنز وفلاسكويز ورمبراند فنرى أن لخطوطهم جمالاً حياً له قوة وروعة، وهدوء وسكون. أما ألوانهم فتقوى أحياناً حتى لكأنها أخذت من أشعة الشمس، أو تخبو أحياناً أخرى فتبدو كأنها الهيدب أو الستر الشفيف؟
وعلى ذلك قد تختلف طرائق التعبير عند نوابغ الفنانين باختلاف نفوسهم. ويكاد يكون مستحيلاً على المرء أن يقرر بأن رسم ولون فريق منهم أحسن أو أفضل من رسم ولون الفريق الآخر). فقلت:
- (إني أدرك ذلك يا أستاذ؛ ولكني أراك لا تفكر لحظة فيما تسببه من الإحراج لجماعة النقاد المساكين عندما ترفض مبدأ تقسيم الفنانين إلى رسامين وملونين. ولكن يسرني أن أفهم من قولك إن هناك طريقة جديدة لمن يرغب ذلك من مريدي التقسيم، فأنت تقول إن الرسم واللون ليسا سوى وسيلة، وإن روح الفنان هي العامل المهم الذي يعنينا. وعلى هذا يمكن أن نضع المصورين في جماعات تختلف باختلاف أمزجتهم. فالبرخت دورر مثلاً يقرن بهولبين، لأن كليهما منطقي. ويوضع رافائيل وكوريجيو وأندريا دل سارتو الذين ذكرتهم في قسم تغلب عليه العاطفة والحس، ويأتي هؤلاء في طليعة المحزونين الذين يشبهون بشعراء المراثي. وثم قسم آخر يشمل أولئك الفنانين الذين يعنون بالوجود وبالحياة اليومية يكون من أقطابه الثالوث المؤلف من روبنز وفيلاسكويز ورمبراند. وأخيرا يؤلف بعض الفنانين أمثال كلود لورين وتيرنر قسماً رابعاً ينظر إلى الطبيعة كأنها رؤى وضاءة آبقة).
فابتسم رودان وقال:
(أرى أن لا داعي لمثل هذا التقسيم الذي قد يكون أقرب إلى الصواب والعدل من ذلك الذي يقسم الفنانين إلى رسامين وملونين. وعلى كل حال فإن أي تقسيم من هذا النوع مصيره إلى الفشل، وذلك لتعقد ألفن أو بالأحرى لاختلاف النفوس الإنسانية التي تتخذه لغة للتخاطب والتفاهم. وعلى ذلك فغالباً ما يكون رامبراند شاعراً سامياً ورفائيل واقعياً صرفاً
دعنا نروض أنفسنا على فهم عظماء الفنانين. دعنا نحبهم، ولنقصدهم لنستلهمهم ونستوحيهم، ولكن فلنكف عن وضع بطاقات عليهم كتلك التي نضعها على العقاقير في(624/40)
مخازن الأدوية
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(624/41)
أغاني الرعاة. . .!
للمرحوم أبي القاسم الشابي
أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة
والربى تحلم في ظل الغصون المائسة
والصبا تُرقص أوراق الزهور اليابسة
وتهادى النور في تلك الفجاج الدامسة
أقبل الصبح جميلاً! يملأ الأفق بهاه
فتمطى الزهر والطير وأمواج المياه
قد أفاق العالم الحي. . . وغنى للحياة
فأفيقي يا خرافي! واهرعي لي يا شياه!
واتبعيني يا شياهي بين أسراب الطيور
واملئي الوادي ثغاء! ومراغاً وحبور
واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور
وانظري الوادي يغشيه الضباب المستنير
واقطفي من كلأ الأرض ومرعاها الجديد
واسمعي شبابتي تشدو بمعسول النشيد
نغم يصعد من قلبي كأنفاس الورود
ثم يسمو طائراً كالبلبل الشادي السعيد
وإذا جئنا إلى الغاب وغطانا الشجر
وقطفي ما شئت من عشب وزهر وثمر
أرضعته الشمس بالضوء وغذاه القمر
وارتوى من قطرات الطل في وقت السحر
وامرحي ما شئت في الوديان أو فوق القلال
واربضي في ظلها ما شئت إن خفت الكلال
وامضغي الأعشاب والأفكار في صمت الظلال(624/42)
واسمعي الريح تغني في شماريخ الجبال
إن في الغاب أزاهير وأعشاباً عِذاب
ينشد النحل حواليها أهازيجاً طراب
لم تدنس عطرها الطاهر أنفاس الذئاب
لا. . . ولا طاف بها الثعلب في بعض الصحاب
وشذا حلواً وسحراً وسلاماً وطلال
ونسيماً ساحر الخطوة! موفور الدلال
وغصوناً يرقص النور عليها والجمال
وأخضراراً أبدياً ليس تمحوه الليال
إن تملي يا خرافي! في حمى الغاب الظليل
فزمان الغاب طفل لاعب عذب جميل
وزمان الناس شيخ عابس الوجه ثقيل
يتمشى في ملال فوق هاتيك السهول
لك في الغابات مرعاي ومسعاي الجميل
ولي الإنشاد والعزف إلى وقت الأصيل
فإذا طالت ظلال الكلأ الغض الضئيل
فهلمي نرجع المسعى إلى الحي النبيل
في دار الإذاعة:
غريب. . .
للأستاذ إبراهيم العريض
يا ابنة الحسن! لا تقولي غريب ... غرَّبتني في الحب عينا مَهاةِ
لم تكن غير نظرٍة. . . تركتني ... ضامئاً - بعدها - إلى نظرات
أغمض العين كي أراها بسمعي ... حين تسترسلين في النغمات. . .
في فؤادي أحس وقع خطاها ... حيثما تنهدين بين اللدات(624/43)
ساءلتني: أأنت تشعر؟ هلا ... ساءلَتْ عني النجوم رواتي؟
آه لي من هواك! لو كنت عوداً ... جَّمرته يداك للنغمات
أنا من الجمال غرَّد حتى ... ردد النَيل لحنه للفُرات
قدْك يا هند! طاب عهدك لما ... حرتِ علَّ ابتسامة في حياتي
لم تكن غير بسمة عجلَتْ عي ... ناك في القلب سحرها بالتفات
ثم عدنا. . . تخفيك عني الليالي ... بين أحلامها. . . وبين ملاتي
أيها الليل! ضُمَّ ما شئت عني ... غير صوت يُلُّم بي في أناةِ
صوت تلك التي بشاطئ جَمنا ... تنجني. . . عرفت فيها مهاتي!
ألوان. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
ليل باك
استوى الليلْ على عرش السماء ... مُطفئاً فيها مصابيحَ الفضاء
كافراً تقطرُ من حلكته ... بالدجى حتى أعاصير الهواء
سلَّط البَرْدُ على أكتافه ... من سياط البرق تعذيب الشتاء
والرياحْ الهوجُ من أنفاسِه ... أطلقتْ من قلبه بعض العناء
يحملُ اللوعةَ في أغواره ... يجهش الرعد بها كيف يشاء
فتدوّي قصفةٌ من فمه ... كلما اشتدت عليه البُرَحاء
تسرد الأمطار عن شقوته ... قصة الحزن لعشاق البكاء
حيرة
تكسر مجدافي ومادتْ بزورقي ... أعاصير هوجُ كلهنَّ جنونُ
وأُفرِدْتُ وحدي في الخضمِّ ولفَّني ... ظلام من الإزراء ليس يهون
فلا الموج يطويني ولا النور مُسعفي ... ولا الشاطئ المجهولُ عنه يبين
شجن(624/44)
ثارت بنفسي حيرةُ السأمانِ ... ورمتْ فؤادي في اللظى أحزاني
وددتُ لو أحظى بلقيا عابر ... في الليل أفزعُ نحوه فيراني
ويرى الذي قد خطه من شقوتي ... ألمي على وجهي الهزيل العاني
وأبَّثه هتفات قلبٍ راسفٍ ... في الحب والتعذيب والحرمانِ
فلقد يُريحُ النفس أن تُفشى الذي ... في غورها من هاتف الأشجان
ولقد يُريحُ النفس أن يُصغي ... إلى صرخاتها قلبٌ وحيدٌ حاني
أوَّاهُ من شجني الذي أبكاني ... ومشى على قلبي وفي أركاني
يا قُدْيَسه من لاعجٍ نيراني ... لم يُبقِ إلا صورةَ الإنسانِ(624/45)
البريد الأدبي
حول منهج البحث عن تكون الشعب المصري الجديد
ليس من الحق أن ننكر ما بذله الأستاذ الشيال من الجهد في بحثه
(تكوين الشعب المصري الجديد بعد الفتح العربي) في مجلة الثقافة من
رجوع إلى المصادر العربية القديمة ومحاولة تنسيق النقول المختلفة
منها مع صحة الاستنباط وبراعة الاستنتاج، بيد أني مضطر إلى القول
بأن المنهج الذي ابتدعه يعوزه الترتيب وتنقصه المحاولة الدقيقة في
البحث عن أصول هذا التكوين وعوامله ومقدار التلوين الذي أدخلته
كلتا الشخصيتين العربية والمصرية على الأخرى.
وإذا ما عدنا إلى مناهج الغربيين الباحثين عن أصول تكوين الشعوب الأوربية وجدناها تختلف عن منهجه اختلافاً قوي الأثر بعيد الخطر. ولا يصح أن يقال إن ظروف التكون التي أحاطت بهذه الشعوب تختلف عن الظروف التي أحاطت بتكون الشعب المصري العربي بعد الفتح؛ فإن الأصول الأولى التي عرفت والتي كان لها أكبر الأثر في تكوين الشعوب ونمو شخصيتها الجديدة هي بعينها الأصول التي عرفت عند العرب. وإذا ما جاز لنا أن نحاول مثل هذه الدراسات في البحث عن أصول الشعوب العربية الجديدة وتأثرها بمقومات الشعوب التي استعمرتها في الثقافة والدين واللغة والجنس فإن هذا يحتاج إلى منهج من نوع آخر ليس يكفي فيه تنضيد النصوص العربية والوقوف عندها بالاستنتاج الحذر مما لا يلقي صورة واضحة ولا يدلي بأسباب قوية عن هذا التكون
ولقد حاول المؤرخون الإنجليز البحث عن أصول تكون الشعب الإنجليزي المختلفة المتعاونة على تقويم حياة الشعب فكانت لهم من ذلك محاولات يصح أن ينتفع بها الدارسون لمثل هذه المحاولات في الشعوب العربية وآدابها والأستاذ الشيال حين يبدأ أولى هذه المحاولات يقف عند المصادر العربية وقوفاً عجيباً فلا يحفل بالبحث عن مقاومات البيئة المصرية الأولى التي استعمرها العرب. ونحن نعلم مما وصل إلينا من البحوث المختلفة(624/46)
التي عولجت حول هذه البيئة من مؤرخي اليونان والرومان الذين رحلوا إلى الإسكندرية أو استقروا فيها شيئاً كثيراً يتصل بعضه بالأديان المختلفة التي كانت تصطرع في هذه المدينة وبعضه بالآثار الأدبية المختلفة من يونانية وقبطية وبعضه يتناول نواحي من التدين خاصة كالتصوف الذي تأثر به العرب فيما بعد والذي كان أصلاً من أصول الحياة الدينية المصرية القديمة.
وإن الأفلاطونية الحديثة التي نشأت في مدينة الإسكندرية كان لها أثر قوي في البحوث الدينية عند المسلمين فيما بعد ولعل هذا يلفتنا إلى وجوب البحث الدقيق عن مسالك تأثر المسلمين بالثقافات اليونانية إذ ربما حول ذلك مجرى البحث الذي استقر في مثل هذه الموضوعات عندهم.
وإذا كان المؤرخون الإنجليز حاولوا شيئاً من هذا في دراساتهم الأدبية والتاريخية فأولى بنا أن نرجع أولاً إلى مثل هذه المحاولات قبل البدء في دراسة هذه الموضوعات. وبين يدي الآن مرجع من هذا الطراز يبحث فيه صاحبه ما تردد في الإسكندرية من ألوان الثقافات مختلفة التي كان لها أكبر الأثر في تكوين الشعب المصري الجديد.
ولا يقف في سبيلنا ما لا يزال موضعاً للدراسة مما يروى من إحراق مكتبة الإسكندرية على يد عمرو بن العاص بأمر عمر فإن تأثر العرب بالثقافات القديمة في مصر لا يرتكز فقط على المتحف والمكتبة وإنما يعتمد على أشياء أخرى تظهر لمن خصص نفسه لمعالجة مثل هذه الدراسات رفق ولين وأناة. س
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد لجأت إلى الإسكندرية بعد ما لاقت من ألوان الاضطهاد والأذى في الغرب فوجدت فيها حياة آمنة وأفقاً ضيقاً يلائم الفلسفة والتفلسف فأجدر بنا ألا نقف عند هذه المحاولات بل ينبغي أن يمتد ذلك إلى تعرف آثارها في الحياة العربية الإسلامية المصرية فيما بعد.
وإذا كان المقريزي في خططه يصف سكان مصر فيقول:
(وهم أخلاط مختلفة من الفرس والروم والبربر) ولكل من هذه الأخلاط مقومات مميزة انصهرت انصهاراً عجيباً في البيئة المصرية فإن البحث عن أصول هذا الشعب ينبغي أن يتناول هذه الأخلاط المتباينة في الجنس والثقافة والدين.(624/47)
وسواء أكان العرب الذين استقروا في مصر قيسيين أم يمنيين فإنهم وافدون من جزيرة العرب ذات المقومات الخاصة في الدين واللغة والجنس، ونحن نعرف من تاريخهم أكثر مما نعرف من تاريخ القبط والروم والفرس والبربر؛ فالاتجاه إلى بحث الجنس العربي وحده اتجاه يسير الجدوى قليل الأثر.
وإني أرجو أن يتعاون الباحثون عن تكوين الشعب المصري الجديد تعاوناً يستند على أصول دقيقة من البحث العلمي حتى تقوم دراسة الأدب العربي المصري على أسس صحيحة من البحث المنتج السليم.
السيد خليل
طباعية لا طبعية ولا طبيعية
قال الإمام العالم الأديب أبو حيان التوحيدي في المقابسة الثانية والعشرين فيما بين المنطق والنحو من المناسبات ص 172
من كتاب المقابسات - وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية - فنسب إلى طِباع ولم ينسب إلى طبيعة، وتحرز بذلك المشكلة القائمة الآن في النسب إليها، وقد جاء في القاموس: الطبع والطبيعة والطباع ككتاب السجية جبل عليها الإنسان أو الطباع ككتاب ما ركب فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا، كالطامع كصاحب
فهل لنا أن نقلد ذلك الإمام الجليل في تلك النسبة، ونقول في هذا المعنى - طباعية وطباعي - ولا نقول طبِيعي ولا طَبَيعي لأن النسبة الأولى تخالف القياس في المنسوب إلى ما يكون إلى فَعِيلة
والنسبة الثانية تلتبس بالنسبة إلى طَبَع بفتح الطاء، والباء، وهو الصدأ والدنس، ولاشك أن مثل هذا الالتباس له حكمه في اللغة، وقد أوجب دفعه كثيراً من أحكام النحو.
عبد المتعال الصعيدي
أين شعراؤنا
رحم الله (شوقياً) و (حافظاً) إني كلما جد حادث في مصر أو في الشرق، تذكرت هذين الشاعرين فسكبت عليهما الدموع، ولعلهما لو عاشا إلى أيامنا هذه لقرأنا لهما القصائد الجياد(624/48)
في هذه الأحداث التي تمر بنا، ولكنهما ماتا، ولم يصدق الشاعر حين قال:
قالوا خلت مصر بعد الشاعرين ولم ... يعمر بمثلهما ميدانه الخالي
ولست وحدي في مصر بعدهما ... فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي
نعد وجد هذا الشاعر سعة في مجال الفخر ولكنه لم يجدها في مجال الشعر، وإلا فأين أشباهه وأمثاله؟ أين هؤلاء الذين ملئوا الصحف بالأمس يبكون (باريس) أين هم اليوم ليبكوا (دمشق) و (حلب) و (حماة)؟ ضلة لهؤلاء المفتونين بفرنسا وضلالات فرنسا، أتراهم سكنوا الآن لأنهم يحبون فرنسا أكثر مما يحبون (سوريا) و (لبنان) إنا لنرفعهم عن ذلك، ولكن ما بالهم لم تهز مشاعرهم هذه الحوادث الفظيعة التي ترتكبها فرنسا؟
أيها الشعراء، سجلوا مفاخر قومكم قبل أن تسجلوا مفاخر أعدائكم، وأبكوا على مصائبكم قبل أن تنوحوا على مصائب الناس واسمعونا أصواتكم.
علي محمد حسن
تصويب أخطاء في العدد الماضي
في الصفحة الأولى من العمود الثاني في السطر 17 هيهات ألا يبعث، والصواب لا يبعث
في الصفحة 620 العمود الأول السطر الرابع للواتي والصواب اللواتي
في الصفحة 620 العمود الثاني السطر 21 أبها والصواب أيهما
في الصفحة 622 العمود الأول السطر 13 من مماته والصواب بعد مماته
في الصفحة 625 العمود الأول السطر العاشر بعد الهجرة والصواب بعد الميلاد
جريدة الأنذار
أصدرت جريدة الأنذار التي يصدرها أسبوعياً بالمنيا الأستاذ صادق سلامه عدداً ممتازاً في 32 صفحة بمناسبة دخولها في سنتها السادسة عشرة وهو عدد حافل بالطرائف الأدبية والآراء القيمة لنخبة من رجال العلم والأدب والسياسة فنرجو للزميلة دوام التوفيق واطراد التقدم.(624/49)
القصص
الدميم. . .
للأستاذ حبيب زحلاوي
- 1 -
ما كنت أبتعد بضعة أمتار عن المنتهى حيث كنت جالساً مع طائفة من أصدقائي حتى شعرت بقبضة يد رقيقة تستلهمني. التفت فرأيت واحداً من أولئك الأصدقاء الجلاس، فلمحت في نظراته شبه استعطاف، فقال لي بلهجة لا تخلو نبراتها من قوة: أريد أن أسألك بشرط أن تجيبني بصراحة، ما هي عقدة القصة؟ وما هي الحبكة؟ ما هو العرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها فقلت إنها عناصر حيوية القصة؟ أنا يا صديقي أحسن كتابة القصة، أو بعبارة أخرى أحسن خلقها فوراً، وابتدع وقائعها وأشخاصها ابتداعاً، وأجذب المستمع إلى الانتباه إلي، ولا أتركه إلا من أشبعه وأمتعه بلذات من الخيال المذوق، والتلفيق الموشى بألوان من حسن الكلام. أليس هذا هو الفن؟! واستطرد قائلاً: ما دام الأمر كما ذكرت لك، وأزعم أني قد ذكرت الحقيقة الواضحة من البناء الفني، فما هي إذن العقدة، والحبكة، والعرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها، وأحسب أني فهمت من مجمل كلامك أن لا قيمة للقصة الخالية من هذه الخصائص؛ فهل هذا صحيح؟
أعجبتني رؤية مسحة الطفولة تكسو وجه هذا الشاب ورفقت به وبأمثاله ممن يتغالبون في الآداب والفنون ويستهينون بها كأنها سهلة التناول فقلت:
تعالى معي إلى النادي فهناك استمع إليك بانتباه وأجيبك إلى طلبك عن رضى.
قال: في الجلوس في المقهى متعة للنظر لا وجود لها في الأندية.
فقلت: ليس بي ميل إلى أشغال الذهن بمراقبة المارة، وليس بي ذلك الظمأ إلى المرأة الذي ينتابكم أنتم يا جلاس المقاهي
قال: نحن على غير مذهبك الفردي يا صاحبي، نحن جلاس الأفاريز، رواد المقاهي، نتضور جوعاً، نتلهف على لفتة من فتاة أو نظرة من امرأة، ألا تحس مثلنا بالمجاعة النفسية وقد طغت واستعصى أمرها على وزارة الشؤون الاجتماعية؟(624/50)
ابتسمت لكلام هذا الشاب المتحمس، فأخذته من يده فمشى معي. فلما دخلنا المصعد الذي سيرتفع بنا إلى الدور العاشر من البناء قال: أنت مصر على الجلوس في النادي وكر الكهول والشيوخ من أرباب المال؟ حسن، سأجلس معك في هذا النادي المرتفع عن الناس، ولأقص عليك قصة من صميم الواقع، وأنا قمين بأنك ستشهد لي ببراعة الارتجال، وبأن القصة هي القصة، أعني أن العقدة والحبكة، والفكرة والوحدة، إن هي إلا افتعالات، أما إذا كانت شيئاً غير ذلك فستدلني عليه.
ابتسمت أيضاً لهذا الإدعاء الجديد الذي يمثل ادعاءات الشبان وهم يتوهمون الأمور وفق أمزجتهم الرخوة لا وفق الواجب في معرفة الأصول، وقلت لصاحبي بعد أن انتحينا ناحية في النادي مردانة بأصص من الزرع دائمة النظارة الربيعية، يحسن أن تجلس هنا فتقص علي قصة شعرية يرتجلها خيالك الخصب وتنزعها من صميم الواقع كما قلت.
أرجو ألا تهزأ بي. استمع إلي:
(وضعت حقائبي في المكان المعد لها، وجلست على المقعد الذي احتجزته في عربة القطار، ثم التفت لأرى رفاق الطريق الذي سأقطعه بمرحلة واحدة من مرسيليا إلى باريس، فلقيت سيدة تتألق نضارة وشباباً، وضاحة المحيا بادية الفتنة وسمعتها تقول للرجل الجالس إلى جانبي: ألم أقل لك إنه غير فرنسي، إذ لو كان فرنسياً لكان حيانا بإشارة بسيطة ساعة دخوله، ولما كان ألهاه المودعون ولا المشاغل الذهنية عن أداء التحية الواجبة)
وسمعته يقول لها: لم لا تقيمين للتقاليد والعادات اعتباراً؟
لماذا تفرضين على غير الفرنسيين الأخذ بعاداتكم وتقاليدكم، وقد تكون هذه التقاليد التي ترينها حميدة عندكم مستهجنة عند بعض الأقوام، وربما كانت مستقبحة عند أقوام آخرين أمثال الإنجليز مثلاً الذين يحيون من لا يعرفون مهما كانت الظروف والمناسبات. فهمت من لهجة الرجل ومن قسمات وجهه ولون بشرته أنه أميركي يحسن التعبير عن خواطره باللغة الفرنسية وكان يلفظها صحيحة ولكن ببطء ممض أوجع نفس السيدة الفرنسية الجياشة،
وأدركت أن مدار الحديث يدور حولي لأني أخذت مكاني في عربة القطار ولم أحي من فيها ساعة دخولي!(624/51)
هل أدخل في القضية طرفاً ثالثاً على حد تعبير المحامين، وهي قضية خاصة بي برغم قيامها بين السيدة والشاب الأميركي، أو ألزم الصمت وأحترم سجية نفسي وعادات قومي وأسكت عن الكلام مع من لا معرفة لي به. أليس في ذلك تطفل أو تخط للعرف؟ أو ليس هو وسيلة مؤدية إلى التعرف بهذه السيدة الجميلة المغرية؟ أو ليس في ذلك فائدة للوصول إلى ناس يطيب لي أن أحدثهم عن قومي وبلادي وقد لا يعرفون عنهم شيئاً أو يعرفون ما تنقله لهم الدعاية المغرضة، والفكر الاستعماري وجهالة بعض الكتاب الطائشين؟
جالت هذه الخواطر في ذهني والسيدة والرجل ما زالا يتحاوران ويتناقشان. هي تصر على أن عادات قومها مرتكزة على قواعد آداب الاجتماع وهو ينكر أن للآداب الاجتماعية قواعد ثابتة، هي تقول إن قواعدها الفن والذوق، وهو يقرر أيضاً أن مباءات الفن هي معارض النحت والتصوير ودور التمثيل وبعض دواوين الشعراء وكتب الأدباء والروائيين، وأن الذوق مسألة فردية وإحساس ذاتي. هي تغضب من تعمده إهمال ذكر المرأة في أنها الفن كله باعتبار أنها الباعث الأول على استقرار ملكات الفن والإلهام الفني، وهو ينكر عليها بعض دعواها ويؤيد بعضها ويقول: إن المرأة موحية حافزة، وليست هي بشيء في صميم الفن! هي تصرخ قائلة: إنكم معاشر الأميركان لا تتذوقون الحياة إلا عن طريق الدولار؛ وإنكم. . . وإنهم عبدة الدولار فقط. أليس كذلك يا مسيو؟ والتفتت إلي تدخلني في هذا الجدال. كاد يرمج على حين فاجأتني بسؤالها وهو استنجاد بي أكثر منه سؤالاً، ولكني تمالكت نفسي وقلت:
إخال أني كنت السبب في هذا الحوار الذي بلغ بكما إلى هذه النتيجة، فهل تسمح لي سيدتي أولاً أن أحييها وقد آليت في نفسي مجاراة الفرنسيين وتقليدهم ما دمت في بلادهم ثم أدخل في الحوار، لا كفضولي متطفل قد تعرضنه صفاته إلى سماع ما يؤذي إباء النفس، بل كرفيق الطريق الذي يحرس على إبقاء أطيب أثر في نفوس رفاقه؟
هاك يدي. أما أنا فمدام (فرانس) وصديقي هذا مستر (أميركا) وأنت يا صديقنا على هذا القياس من تكون؟
رطبت شفتي بقبلة من يدها البضة وقلت متابعاً على المنوال نفسه: أنا يا سيدتي مستر (إيجبت)(624/52)
إيجبت. . . إيجبت! رددت كلمة إيجبت وهي تلفظها ممطوطة ممدودة بتؤدة كأنها تعود بذاكرتها آلاف السنين إلى الوراء تستعرض بلمحة واحدة آثار الماضي السحيق الباقية على الدهر وتقول: أنت إذن مصري؟!
نعم يا سيدتي أنا مصري من سكان القاهرة، وأنت فرنسية فقاطعتني قائلة: (فرنسية باريسية) وصديقنا أميركي من واشنطون أو نيويورك وليس قطعاً من هوليود. وها نحن الثلاثة نمثل ثلاثاً من قارات عالمنا، ونمثل أيضاً أعرق مدنية عرفها التاريخ القديم وهي تتوثب الآن للعودة إلى الحياة، وأعرق مدنية حديثة ستتغلب عليها مدنية أحدث منها، ومدنية جديدة في العالم الجديد قد يكون لها طابع خاص سوف يتحول بسرعة إلى طابع يعم العالم، وأردفت كأنها تتدارك فوات فرصة: نعم نعم سيكون الدولار طابع أميركا الخالص كما يحاول الروس أن يجعلوا الاقتصاد أساساً لنظام العالم الاجتماعي الجديد. قالت السيدة كلمتها عن الدولار وضحكت ضحكة عالية لها رنة الأوتار المتزنة والنغمات الرقيقة.
قلت: العالم يا سيدتي لا يقوى على السير في نظام اقتصادي محض بل يستحيل عليه المضي في طريق السعادة البشرية بغير دوافع الروح
هذا صحيح يا مستر إيجبت ولكني ألاحظ أن مدام فرانس تتحداني في كل ما أقول، فإذا كان ذلك يا سيدتي فلا أمانع أنا الأميركاني في تقرير الدولار طابعاً لبلادي وهو بالفعل الإله الذهبي الموحي إلى كل الناس كل الرغبات والشهوات.
المرأة يا مستر أميركا، أرجوك ألا تنسى المرأة، بل أحتم عليك عدم نسيانها لأنها الروح الذي تكلم عنه مستر إيجبت ولأنها وحدها الموحي لكل الناس كل الرغبات والشهوات - على حد تعريفك أنت - بل ي وحدها موحية الحياة والحب لوكل النساء كن مثلك يا سيدتي لما ترددت في الاعتراف بذلك ولكن. . .
دع يا مستر أميركا قرض المديح ونظم الثناء والإطراء لأنها من طبائعنا الأصيلة التي لم تقتبسوها عنا بعد، وإنها وإن كانت ترضي غرور المرأة وتدغدغ زهوها ولكنها لا تقوم مقام الحقيقة التي لا محيص عن الاعتراف والجهر بها وهي (أن المرأة هي الإله الوحيد الموحي إلى كل الناس معنى الحياة والحب، ولذة الوجود والفرح به على الأرض، ولذة الألم والحزن أيضاً)(624/53)
قال مستر أميركا موجهاً إلي السؤال: هل تعترفون بألوهية المرأة في مصر، وبأنها مصدر إلهام يوحي إلى الناس معاني الحياة كما قالت مداد فرانس؟
بلعت ريقي وتكلفت ابتسامة رضى وقلت: ليتك يا مستر أميركا تضع السؤال في الصيغة التالية: هل بلغت المرأة الأمريكية درجة من الرقي سمت بها إلى مقام جعل الرجل يتطلع إليها فيه كما نتطلع كلنا إلى المرأة الأوربية باعتبار أنها الملهم معاني الحياة والدافع إلى الشعور بالفرح بها؟
لقد نجحت في تحويل الدفة، كما يقال في تعبير أهل النوتية، وفي رفع الأثقال عن كتف المرأة المصرية، وفي إزاحة الألم عن نفسي من قول الحق، وقد أفلحت في ذلك، إذ ما كدت انتهي من تحريف السؤال وتوجيهه إلى مستر أميركا حتى انبرت مدام فرنس تقول: تخولني معلوماتي حق القول بأن المرأة الأمريكية أخذت تدرك قدر نفسها وستنجح في صيرورة ذاتها مصدر حياة أفعل في روح الرجل الأميركي من الدولار.
ما كادت تنتهي مدام فرانس من قولها حتى رأيتني مدفوعاً إلى الكلام فقلت معلقاً: سوف تصير المرأة المصرية ذاتها مصدراً فلهام الرجل وإذكاء روحه متى خلصت من شوائب الظفرة وبعد أن ترغمها الآلام على التفكير في ماضيها ومستقبلها بالقياس إلى حاضرها المضطرم بنيران الانتقال.
صحيح ما رمزت إليه بلباقة يا مستر إيجبت عن المرأة أنها في طور الانتقال الذي يعقب الانقلاب الاجتماعي، ويمكنني القول إن بواكير الانقلابات تكون من النساء وفي النساء كما تكون بوادر الثورات وطلائعها من شرارات يقدحها طلاب الجامعات بإيحاء غير مباشر من أرواح يقظة عاملة هادئة.
سكت محدثي الشاب وكاد يطول سكوته ولكنه رفع رأسه ونظر إلي نظرة استفهام واضحة، فقلت له ببرود: ثم ماذا؟
ماذا؟ نعم نعم، كنت أظن أني أنهيت القصة ولكن نسيت فصلها الثاني
دوى رنين الجرس يدعو الراغبين في الطعام من ركاب الدرجة الأولى إلى تناول العشاء. . . وكان الكلام حتماً لمدام فرانس التي أمرت أحد الندل (جارسون) بتهيئة مائدة لثلاثة أشخاص فكان طعام وكان شراب، بل كان شراب وطعام وكلام وشعر وتوريات ورموز(624/54)
ومقارنة بين المرأة المصرية وأختيها الفرنسية والأمريكية، وكادت تضطرم ثورة مدام فرانس لتوهمها أن أختها المصرية أوفر منها براعة في إرضاء الرجل. . . عدنا إلى مقاعدنا وقد أذبل الشراب أجفاننا، وأخمد قوة النضال الكلامي فينا، وأذكى بطبيعة الحال قوة النظر الطويل والإعجاب الذي لا حد له والافتتان بهذه المرأة المملوءة حيوية وجمالاً ونضارة وسحراً والممدة أمامنا على مقعد عربة سكة الحديد تحاول النوم على هدير القاطرة وصفيرها وقرقعة العربات
لقد أحييت الليل ورفيقي الأميركي نتحادث همساً حتى لا نزعج السيدة النائمة، وكان طبيعياً أن نختلف في الرأي وأن نتحاور ونتجادل ثم نعود إلى صفائنا الأول، وكان بديهياً، بحكم الرغبة الكامنة ألا نختلف أبداً وأن نتفق اتفاقاً تاماً على ألا نعيد الغطاء كلما سقط عن جسم هذه المرأة الفاتنة المتناومة، وكان عذباً على سماعنا قولها: يا لكما من شابين شقيين!
سكت محدثي مرة ثانية فلم أدعه يتمهل بل قلت له بنبرة جافة: ثم ماذا؟ صدمه سؤالي وكاد يتخاذل ولكنه تجلد وقال: طلع الفجر، ثم تفجرت أشعة الشمس، وانجلت عروس ربة فرنسا بثوبها الزبرجدي النضر. وبلغنا باريس فافترقت القارات الثلاث، وراح مستر أميركا ومستر إيجبت كل في طريق، وراحت مدام فرانس تنثر القبلات وتتقبل القبل من مستقبليها على إفريز المحطة
ربت كتف محدثي وقلت له ببشاشة أذهبت وقع الصدمة الأليمة التي صدمته بها عند سؤالي إياه تتمة القصة بقولي: (ثم ماذا) ليست قيمة القصة يا صاحبي في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدى بها وفي عرضها عرضاً خاصاً بمهارة فنية، وبالتشويق والترغيب، في صدق الرواية عن الحياة، مضافاً لها الخصائص الفنية التي ذكرتها في حديثي مع رفاق المقهى، أما قصتك المرتجلة هذه فإنها تماثل حكاية واقعية وقعت لي حين رحلت إلى جزيرة رودس التي انتزعها الطليان من الدولة العثمانية مع بقية جزر الدومنيكان
قال: أترتجل قصتك ارتجالاً؟ فابتسمت لسؤال هذا الشاب وقلت.
(يتبع)
حبيب الزحلاوي(624/55)
العدد 625 - بتاريخ: 25 - 06 - 1945(/)
من وحي المرأة
للأستاذ عباس محمود العقاد
من أعجب ما يلاحظ على آداب الأمم قلة ما نظمه الشعراء في رثا النساء، ولا سيما الزوجات
فعلى كثرة الغزل في المرأة نرجع إلى شعر الأقدمين والمحدثين وإلى شعر العرب وغيرهم من الأمم، فلا نرى في لغة من اللغات إلا قصائد معدودات في رثا النساء والزوجات منهن على الخصوص
فليس أكثر مما نظمه الشعراء في التغزل بالمرأة، ولا أقل مما نظموه في الحزن عليها
وقد رثى شعراء العربية الأمهات كرثاء المتنبي لجدته ورثاء الشريف لأمه، ونظموا العزاء في أخوات الأمراء وقريباتهم، كما نظم المتنبي تلك القصيدة اللامية في رثاء أخت سيف الدولة، ولم ينس أن يقول منها:
ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال
كأنه يعتذر من هذا الشذوذ في قواعد الرثا بحالة مستثناة لا يقاس عليها، وهي حالة هذه السيدة التي تفضل السادة الرجال!
بل وجد في صدر الإسلام من يرثى امرأته معتذراً حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولم يظهر المعنى الإنساني في رثاء المرأة - حليلة كانت أو غير حليلة - قبل عهد ابن الرومي الذي قال في بستان المغنية:
بستان وا حسرتا على زهر ... فيك من اللهو بل على ثمر
وقال من القصيدة بعينها يذكر وفاتها في ريعان الشباب:
يا غضة السن يا صغيرتها ... أصبحت إحدى المصائب الكبر
ورثني امرأته رثاء على هول الفجيعة فيها فقال:
عينيَّ سحا ولا تشحا ... جل مصابي عن العزاء
ونظم قصيدة أخرى في مثل هذا الرثاء
وليس بالعير تعليل هذه الظاهرة المتفقة في جميع الآداب العالمية، فإن الأمر مرتبط بمكانة(625/1)
الزوجة في العصور القديمة، ثم في هذه العصور الحديثة. ومما لا اختلاف فيه بين الأمم أن الزوجة كانت في اقدم كالقنية المملوكة التي لا فرق بينها وبين الجارية الرقيقة، ثم ارتفعت مكانتها فظهرت الزوجة ربة البيت، ولكنها لم تزل في عرف المجتمع شهوة من شهوات الضرورة التي يلجا إليها الرجل في ساعة ضعفه أو الساعة التي تغلبه فيها الطبيعة الحيوانية، ولم تظهر المرأة التي هي (شريكة حياة)، أو سكن للرجال كما جاء في القرآن الكريم إلا في العصور الأخيرة، وإن كانت لها رائدات سابقات بين بعض الأسر فيما تقدم من العصور فالشاعر كان يتغزل في المرأة ولا يخجل من ذلك لأن الغزل منسوب إلى الظرف واللباقة.
وكان يرثى أمه أو جدته لأن حب الأمهات والجدات محسوب من البر المشروع الذي لا ضعف فيه.
وكان يرثى أمهات الأمراء وقريباتهم، لأن عزاء الأمراء واجب من واجبات المفروضة عليه
ولكنه لم يكن يرثى الزوجة المتوفاة، لأنها شيء يخصه ولا يفهم معنى الفجيعة فيه عند أبناء عصره إلا على معنى الضعف الذي لا يجمل بالرجال، وكيف كان يجمل بهم أن ينفجعوا على الزوجة المفقودة، وقد كانت زيارة قبرها مما يحتاج إلى اعتذار؟
ولا شك أن آداب الأمم هي خير مسجل لأخلاقها الاجتماعية سواء تعمدها الشعراء أو لم يتعمدوها
فمن الظواهر الحديثة التي تسجل في الأدب العربي - أو الأدب المصري - أن الزوجة (شريكة الحياة) تمثلت في شعرنا العصري تمثلاً واضحاً بليغاً صادق المدلول، لأننا قرأنا في سنوات متقاربات ديوانين كاملين في رثاء الزوجة الفقيدة، وكلاهما لم يكن ظهوره بالمفهوم قبل هذا الجيل، لأن وجود شاعرين اثنين يفيان لذكرى فقيدتهما لا يكفي لإظهار ديوانين في هذا المعنى، ما لم يكن هذا المعنى ملحوظاً مقدراً عند الكثيرين من أبناء الجيل الذي ينشان فيه
قرأنا بالأمس ذلك الديوان الحزين الذي نظمه الشاعر المطبوع الأستاذ عزيز أباظة بك وسماه (الأنات الحائرة)، لأنه أقوى من أن يسمى بالدموع(625/2)
وقرأنا هذه الأيام ديواناً آخر في هذا المعنى للشاعر الألمعي الأستاذ عبد الرحمن صدقي سماه (من وحي المرأة)، لأنه لم يكن إلا وحياً فاض به حزنه على فقيدته العزيزة، فخرج في جملته منظوماً كأنه لا يحتاج إلى ناظم، وجاء فيه بقصائد ومقطوعات ستبقى في عداد الشعر الخالد، سواء منه ما نظم في هذا الموضوع أو غير هذا الموضوع
ويدل على أن ظاهرة الزوجة شريكة الحياة هي الباعث على نظم هذين الديوانين أنهما قد نظما في زوجتين لا تجمع بينهما صفة تعزها غير صفة المشاركة في الحياة، فلا يقال إن القرابة هي باعث الرثاء، لأن إحدى الزوجتين أجنبية عن البلد فضلاً عن الأسرة، ولا يقال في الذرية هي علة الإعزاز، لأن إحدى الزوجين لم تعقب ذرية بعدها، ولا يقال إن الحب العاطفي هو مصدر هذا الوحي، لأن الحب العاطفي قد يوجد ولا يوجد معه التفاهم في الأفكار ولا التعاون على أعباء الأسرة وشواغل النفوس، ولكنها المشاركة في الحياة وحدها هي التي يرجع إليها الإيحاء بهذين الديوانين، حين فهم العصر كله معنى الزوجية التي تقوم على هذه المشاركة بين حياة إنسانيين
والزوجة شريكة الحياة - حياة الأديب على التخصيص - هي التي يقول الأستاذ صدقي في وصفها:
وكنت الغني من مشكل بعد مشكل ... وعقدات نفس تستديم قلاقلي
مشاكل شتى: حاجة النفس للهوى ... وحاجة ذي حس، وحاجة عاقل
جمعت لي الدنيا فأغنيت مُعدمي ... وأمتعت محرومي وزينت عاطلي
أو يقول في ذكرياتها من قصيدة أخرى:
وخبر رفيق أنت في كل رحلة ... وخير سمير للحديث ينضد
ونجلس في حضن الطبيعة صمتنا ... مناجاتها - إن الطبيعة معبد
ونجلس للأشعار ندرسها. معاً ... كأنْ ليس غير الكتب في العيش مقصد
وقد تكون شريكة حياة ولا يكون قوام المشاركة بينها وبين قرينها طول الشغل بالدراسة والمطالعة، كما قال الأستاذ عزيز في قصيدته الدالية في يوم ميلاده:
أقول والقلب في أضلاعه شرق ... بالدمع: لا عدت لي يا يوم ميلادي
نزلت بي ودخيل الحزن يعصف بي ... وفادح البث ما ينفك معتادي(625/3)
وكنت تحمل لي والشمل مجتمع ... أنساً يفيض على زوجي وأولادي
فانظر تر الدار قد هيضت جوانبها ... وانظر تجد أهلها أشباح أجساد
فقدتها خلة للنفس كافية ... تكاد تغني غناء الماء والزاد
ومرئلا أحد الأمن الكريم ... إذا تعاورني بالبغي حسادي
تحنو علي وترعاني وتبسط لي ... في غمرة الرأي رأي الناصح الهادي
وهذه هي صفة الزوجية التي تشترك فيها حياتان بالرأي والعطف، وتكاد تغني غناء الماء والزاد، بل تكاد تجعل يوم الميلاد يوماً مشتركاً لا يستقل فيه الزوج بذكرى ولادة له لا ترتبط بذكرى الزواج
هذه الحياة أعجوبة الأعاجيب، وهي أعجب ما تكون في مألوفاتها الشائعة كل صباح ومساء، ومن تلك العجائب أنها لم تجود بخير لا شر فيه ولا تصيب بشر يخلو كل الخلو من الخير. وليس عزاء الإنسان على شطر نفسه وصنو حياته باليسير، ولكنه على كل حال من العزاء النبيل للشاعرين الفاضلين أن مصابهما قد أغنى الأدب العربي بهذه الذخيرة النفيسة، وسجل للمجتمع المصري هذه الظاهرة الكريمة التي تقترن أبداً بالتهذيب والاتقاء.
عباس محمود العقاد(625/4)
بقية حديث في فرنسا. . .
(إلى الأستاذ توفيق الحكيم)
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
قد يذكر القراء أني كتبت غداة انهيار فرنسا وسقوط باريس في قبضة الألمان سنة 1940 في عددي 12 - 8 - 1940 و 2 - 9 - 1940 من هذه المجلة مقالين أندد فيهما بذلك الموقف الشاذ الذي وقفه بعض كتاب مصر والشرق العربي يبكون فرنسا بدمع غزير وعاطفة حارة ناسين أن فرنسا أشد أمم الاستعمار تعصباً على العرب والمسلمين ونكاية بمن وقع منهم في يدها وتحت سلطانها، وأنها كانت أعظم عائق في طريق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وأنها كانت آخر دولة تنازلت عن دفع فوائد الدين المصري بالذهب في الأزمة التي وقعت بهذا الخصوص، وأنها كانت أشد الأمم احتياطاً وتشدداً في ضمان الحرية للمعاهد الأجنبية في مصر.
وقد يذكرون أيضاً أن هذين المقالين كانا سبباً في أن يمنع ممثل فرنسا في سوريا ولبنان في ذلك الوقت دخول (الرسالة) إلى هذين القطرين الشقيقين برغم أن الرسالة أفسحت صدرها لمن ردوا على رأيي منتصرين لفرنسا ومدافعين عن ميراثها الثقافي وروحها كما تراءى لهم. وكان منهم الدكتور زكي مبارك.
وقد بعثت إلى الرسالة بمقالين آخرين لم ينشروا حينذاك تمهيداً لعقد هدنة بين ممثل فرنسا ولبنان وبين الرسالة.
وقد ضاع المقالان ولم يبقى لدى مهما إلا مسودات سأحاول الآن جمع ما تفرق من المعاني فيهما لأن الظروف قد صدقت رأيي في فرنسا، وجلبت عليها عداوة كثير من أقلام عربية وغير عربية من جراء تخبط سياستها ورجالها، ومن جراء تلك الروح الوحشية البربرية الرجعية الحمقاء التي تزاول بها سياستها مع شعوب العالم العربي، ومن جراء ذلك التخلف الذهني يبلغ درجة الانحطاط عن مستوى الروح العالمي الإنساني الذي يغمر قلوب بعض الأوصياء على الحضارة، على الأقل في مظاهر الخداع والإرضاء ومحاولة الوصول إلى الأهداف من طرق ملتوية ولكنها سليمة.
وما أظن أحداً من أذناب فرنسا في مصر يستطيع أن يرفع رأسه ويحرك قلمه الآن للدفاع(625/5)
عن فرنسا إلا بجذر وتمويه ولذعات خفية وظهور بمظهر الغيرة على موقف مصر بموازية موقف إنجلترا منها بموقف فرنسا في سوريا ولبنان وشمال أفريقية، كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم في (الأهرام) بين آونة وأخرى مع أنه ظل ساكتاً لا يعلن سخطاً ولا نكيراً على سلوك فرنسا الأخير في سوريا، ومع أنه ربما يكون لاستنكار أمثاله من ربيبي فرنسا الأوفياء شيء ولو قليلاً من الاعتبار. حتى إذا ما تحركت إنجلترا بإيقاف تلك (المذبحة الكبرى) تحرك قلمه يغمز ويلمز في مظهر الغيرة على الوطنية المصرية. وهو موقف مكشوف ظاهره الوطنية وباطنه تبرير موقف فرنسا بمقارنتها صنيعها بصنيع إنجلترا في مصر. وما كان أولاه أن يتحرك قبل الآن ليثير الغبار والشرر والنار في وجه الفرنسيين المعتدين الغاشمين على أبناء قومه في المشرق والمغرب، إن كان يدين بالقومية العربية التي يعيش من الكتابة بلغتها. . . أو ليغمز الإنجليز كما يشاء
وأنا بعد أم لمست أخيراً حماسته لفرنسا حماسة نسي فيها أدب الحديث والمناقشة مع بعض الجالسين في إحدى جلسات ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ينبغي ألا أصانعه، بل ينبغي أن أكشفه وأكشف أمثاله للعالم العربي ليعرف في ساعة العسرة والأزمات هؤلاء الذين يعيشون معه بأجسامهم فقط. . .
وإني أدعو الأستاذ سيد قطب أن يكشف عن هذا الأثيم الذي جادله في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه، وقال تلك المقالة المنكرة (إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم!) فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نبقى على صداقات تنكر الصداقة الأولى التي يعرفها الحيوان قبل الإنسان وهي صداقة الوطن والجنس، فعليه أن يكشف هذا الدخيل الجاهل وهو معافى من قيود الأخلاق في مثل هذه الحال.
المقال الأول
مما لم ينشر في سنة 1940
إلى ممثل فرنسا في سوريا ولبنان
كتب الدكتور زكي مبارك إلى جنابكم كتاباً مفتوحاً نشر في العدد من (الرسالة) حاول فيه(625/6)
أن يبرئ الرسالة من جرائر المقالتين اللتين أنحيتُ فيهما باللائمة الشديدة والسخط البالغ على أساليب فرنسا الاستعمارية التي لا تفرق فيها بين الشخصية السياسية للمحكومين لها وبين شخصيتهم الإنسانية والأدبية التي تتطلب غذاء لأرواحهم وعقولهم في هذا العصر الذي تسمونه عصر العلم والنور وارتفاع قيمة المعاني الإنسانية، وقد أدى عدم التفريق هذا إلى تخلف العرب والبربر المحكومين بكم عن قافلة الحياة الإنسانية بمائة سنة على الأقل تقدير. وفي هذا جناية عظيمة على الحضارة بحرمانها من جهود أمة من أذكى أمم الأرض وأعرقها مدنية، وجناية على المبادئ السامية التي زعمتم أنكم أول من أعلنها في ثورتكم الكبرى.
وقد طلبتُ من الباكين على فرنسا في محنتها الحاضرة أن يذكروا محنة بني قومهم بكم قبل أن يذكروا محنتكم بالألمان؛ وأن يكفُّوا عن افتتانهم بحضارتكم فتنة العمى عن عيوبكم وجناياتكم على الإنسان بحرمانه من خبز الروح وخبز البدن. . . مما لم ير العالم له مثيلاً إلا في عصور البربرية والهمجية.
وطلب من هؤلاء الباكين أيضاً أنهم إذا ذكروا (باستور) وفضله على الإنسان كما ذكره الدكتور زكي فليذكروا أنكم الآن تحكمون البشر أقل من حكم البقر والغنم التي كانت في حظائر (باستور) ليجري عليها تجاربه وأبحاثه؛ فقد كان يسمنها ويربيها ويداويها ويبقى على حياتها ويفكر لإنقاذها من الأمراض ويعدها للغاية التي خلقت لها. وإذا أحيا (باستور) ملايين الأجسام فقد أمات قومه ملايين الأرواح والأجسام موتاً مادياً وأدبياً أخف منه الموت بالطاعون والأوجاع الثقيلة التي تقتضي على الإنسان مرة واحدة ولا تهدر دمه وترخص روحه.
وإذا ذكروا (شمبوليون) وفضله على مدينة أجداد المصريين كما ذكره الدكتور زكي فيذكروا أنه جاء مصر غازياً في حملة نابليون الذي نكل بالمصريين تنكيلاً فظيعاً، فإذا احتفل الأول بأحجار قدماء المصريين فقد أباح الثاني لجنوده أن يتخذوا من الأزهر - صاحب الفضل الأول على الدكتور زكي مبارك! - اصطبلاً لخيلهم، وأن يحرقوا أحفاد صانعي الأحجار التي فتن بها (شمبوليون) بالنفط ويضربوا نطاقاً من المواد الملتهبة حول القاهرة وحواضر الأقاليم. وكتب نابليون إلى أحد قواده يأمره بقطع خمسة رؤوس كل يوم(625/7)
من أعياد البلاد كما يقطع هو كل يوم عشرة رؤوس منهم!
وإذا ذكروا (السوربون) وفضله على الأدب والعلم فليذكروا الأزهر الذي اتخذته جنودكم اصطبلاً للخيول ولم يرعوا العلم والدين حرمة.
وإذا ذكروا انتفاعهم بعلومكم وفنونكم، فليذكروا أنكم كنتم أشد الأمم إصراراً على الاستمرار في إهدار الكرامة المصرية وكنتم الشوكة الوحيدة في حلوق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية، التي كانت تجعل من السنغالي التابع لكم شخصاً له امتياز على المصريين في ديارهم. وأنكم كنتم آخر دولة وقعت على محضر إلغاء صندوق الدين: رمز الذل الاقتصادي الذي أصاب مصر، فلم توقعوا إلا بعد هزيمتكم ونكبتكم، وأنكم كنتم الوحيدين الذين أصروا على دفع فوائد ديونهم في مصر ذهباً لا ورقاً، وأنكم وحدكم الذين عنيتم بفرض ضمانات شديدة لاحتلالنا بثقافتكم.
وإذا ذكروا التماثيل والأنصاب التي تجمل مدنكم، فليذكروا أن أشرف نُصُب فيها وهو ضريح الجندي المجهول في باريس يثير في نفوس العارفين ذكرى أكبر مخزاة ومظلمة ونكران للجميل! فقد ذكر سكرتير مسيو (كلمنصو) في مذكراته أن حكومتكم لما فرغت من إقامة بناء ذلك النصب التي تحته قبر الجندي المجهول في باريس أرادوا أن يضعوا فيه جثة جندي فرنسي، فذهبوا إلى ميدان موقعه (المارن) الشهيرة، وصاروا ينبشون لإخراج جثة. وشاء الله أن يسجل على فرنسا لعنة أبدية حيث أرادوا لها فخراً. فكانوا كلما نبشوا عن جثة وجدوها جثة قتيل من جنود شمال أفريقية فيردمون عليها، وهكذا يهتدوا لجثة جندي فرنسي (أبيض) إلا بعد عثورهم على ثلاثة عشر جثة للمغاربة! ومع هذا لم ينصفوا قوم هؤلاء القتلى الذين ذهب ملايين منهم ضحايا في سبيل فرنسا أي إنصاف، ولم يمكنوهم من اقل الحقوق الإنسانية وهي حق الحياة والعلم، وأبو أن يضعوا جثة أحدهم مكان جثة فرنسي قح. . .
وإذا ذكر الباكون أنهم عاشوا بباريس في رحاب الشراب والحب والغزل والأنس، فليذكروا أن بطلاً كريماً هو المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي بطل ثورة الريف في مراكش الذي تفخر به قوميتهم أعظم من فخرها بأي قلم تافه لأحدهم. . . قد مضى عليه خمسة عشر عاماً (الآن مضى عليه عشرون عاماً) وهو ملقى في أصفاده على صخور جزيرة مدغشقر،(625/8)
وأنه لم يسلم نفسه لفرنسا إلا بعد عهد قطعة على نفسها ثم نكثت به وخانت شرف اسمها، وأن هذه الأمة الفرنسية التي لا يزال قلبها يتنزى ألماً وحسرة على نهاية بطلها نابليون لا تشعر أي شعور إنساني نحو أمثاله من الذين نهضوا يذودون عن حرية قومهم ومجدهم.
فيا جناب ممثل فرنسا! أظن أنك رجل تغار على قوميتك وتدافع عنها! فدعنا نفعل ذلك دائماً
وأظنك ترى معي أن كل من يضفي على فرنسا حنان قلبه ويغسلها بدموع عينه من المصريين إنما هو أحد رجلين: رجل جاهل بجرائركم على أمته وكرامة قومه، قد استسلم للفتنة بما عندكم، وهذا لا يليق به أن يتصدى لقيادة الشباب بقلمه مهما كان له من الحسنات في مجال (الترف العقلي) ولا يجوز لكم أن تعتبروه معبراً عن هذه الأمة المصرية حين يرسل لمصرع أمتكم دموعاً تشهد عليه أنه غير سليم الموقف ولا صحيح الطبع، وإنما هو ذو مزاج مؤوف ورأي منكوس.
وإما رجل يعرف هذه الجرائر ولكنه يطويها عن الناس في نفسه ولا يذكرهم بها ليبين لشباب قومه المفتون جوهر نفوسكم وحقيقة حضارتكم، لأنه صريع الخيانة أو مأجور القلم. وهذا لا شك رجل تافه الصداقة تافه العداوة؛ فليس فيه نفع لكم لأنه لم ينفع قومه. وهو جدير أن ينقلب عليكم حين تفوته المنفعة، ولأنه لم يعشق روحكم التي يزعمها روح أحرار، فلو عشقها حقاً لكان أول من حاكمكم إليها حين رآكم تحيدون عنها وخصوصاً مع بني قومه
وإذا كان فيما مضى كتاب خادعون أو مخدوعون فتنوا بمظاهر حياتكم فتنة العمى عن حياة قومهم المعذبين بكم، وصالحوكم ولم يذيقوكم مرارة العداوة والثأر من سمعتكم، لإخوانهم، فإن الزمن الآتي لن يسمح لأمثالهم أن يسيطروا على عقول الشباب العربي، بعد أن نطقت حوادث الزمان أنكم قوم لا تصلحون لوصاية على أحد أنكم أنتم محتاجون في الواقع إلى أوصياء يهدونكم سبيل الرشد.
عبد المنعم محمد خلاف(625/9)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي.
- 6 -
* ج 13 ص47:
ولما نشرتُ أفاويقَها ... طوى الناس ديباجة البحتريِّ
وجاء في الحاشية:
لعل الأفاويق جمع فواق، من فاق بنفسه فواقاً: إذا كانت على الخروج أو مات وهذا يناسبها نشرت، وكنت على وشك أن أجعلها أقاويلها جمع أقوال وتكون نشرت بمعنى أبرزت غير أني أبقيتها ونبهت على ما كنت أريده ليكون للقارئ الخيار.
قلت: أفاويفها. . . في المخصص: الفَوف الثوب الرقيق، وفي اللسان والتاج: الأفواف ضَرْب من عَصْب البرود، وفي الأساس: شعر كأنه أفواف. وحلة أفواف وبرد مفوّف، أصله من الفوف وهو نقط بياض في أظفار. الأحداث الواحدة فوفة. وقال أبو القاسم في مقدمة مقاماته: ولم يأتل فيما يعود على مقتبسيها بجليل النفع وعظيم الجدوى في بابي العلم والتقوى من انتقاء ألفاظها وإحكام أسجاعها وتفويف نسجها وإبداع نظمها. وقال صاحبها الزمخشري في الشرح: التفويف التوشيه وبرد مفوف فيه خطوط بيض، قال ابن دريد: المفوف الموشى فيه رقة، ويقال للوشى أفوف قال:
قد كذبتم ما لباسكم ... جيد الأفواف والحبره
بل لباس القين بزكم ... ولباس القين مشهره
وروى يا قوت في كتابة لأبي حيان من (مثالب الوزيرين): ثم ما ذنبي إذا قال لي (يعني الصاحب (: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلىَّ في الوقت بعد الوقت؟ فقلت: وكيف لا يكون كما وصف مولانا وأنا أقطف ثمار رسائله. . . وارد ساحل بحره. . . فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك! ومن أين في كلامي الكدية. . . والتضرع والاسترحام؟ كلامي في السماء. . .
ولأبي هلال العسكري في مقطوعة:
وعلى الربا حلل وشاهن الحيا ... فمسهم ومزخرف ومفوف(625/10)
وروي أبن حجة في (خزانته) لابن قاضي ميلة:
بعيشي، ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظة برد الكلام المفوف؟
و (التفويف) من أنواع (البديع). . .
وبيت (الأفاويف) ختام قصيدة لعلي بن الحسن الباخَرزي صاحب (دمية القصر) في أبي القاسم على بن موسى نقيب الطالبيين بمرو، وقد جمع أفوافاً على أفاويف.
* ج 16 ص 196:
وقنّعني الزمات فلستُ آسٍ ... على فوت الثراء وأنت عندي
وجاء في الشرح: آس: حزين، وأصله آسيا لأنه خبر ليس، لكنه جره على توهم الباء لكثرة مجيئها في الخبر.
قلت: فلست آسى.
أسِىَ يأسَى أسىً فهو آس وأسيان وأسوان كما في اللسان. وفي حديث أبي بن كعب: والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا كما في النهاية.
* ج 15 ص 98:
ومن شعر أبي تراب (على بن نصر الكاتب):
حالي بحمد الله حال جيِّدَهْ ... لكنه منَ كل خبر عاطل
قلت: (حالي بحمد الله حال جيد) والحال يذكر وإن كان التأنيث أكثر.
* ج 8 ص 21: ورفع مناور العلم.
وجاء في الشرح: وجمعها (أي منارة) مناور لا تقلب الواو همزة لأنها أصيلة، والقلب إذا كانت زائدة، وكانت في الأصل (منائر).
قلت: الأصل صحيح. والقاعدة في هذا الجمع معلومة، وشذت منائر ومصائب. وقد ورد الجمعان في كلامهم ومعجماتهم. وكان ابن جني يقول: همزة مصائب من المصائب. . .
* ج 15 ص 91: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي:
يا باخلاً بكتابه ورسوله ... أأردت تجعل في الفراق فراقاً
إن العهود تموت إن لم تحيها ... والنأي يحدث لفتى إخلاقا
فكتب إليه على بن مهدي:(625/11)
لا والذي أنت أسنى من أمجّده ... عندي وأوفاهم عهداً وميثاقاً
ما حلت عن خير ما قد كنت تعهده ... ولا تبدلت بعد النأي أخلاقاً
قلت: (والنأي يحدث للفتى أخلاقاً) بفتح الهمزة جمع خلق، وهو ما أراده ابن المعتز.
* ج 16 ص262: وكان (الحريري) غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة وله تصانيف تشهد بفضله، وتقر بنبله، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبرّ بها على الأوائل، وأعجز الأواخر. وكان مع هذا الفضل قذراً في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصراً ذميماً بخيلاً مبتلى بنتف لحيته.
قلت: دميماً لا ذميماً.
في الأساس: دممت ودممت دمامه، وهو دميم الخلق ذميم الخلق، وقد أدّمت فلانه وأذَّمت جاءت به كذلك.
وفي التاج: قال أبن الأعرابي: الديم بالدال في قده وبالذال في أخلاقه، وانشد:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً: إنه لدميم
إنما يعني به القبيح، ورواه ثعلب بالذال فرُد ذلك عليه.
قال الأنباري في (نزاهة الألباء): كان الحريري دميم الخلق، فيُحكي أن رجلاً قصده ليقرأ عليه، فاستدل على مسجده الذي يقرأ فيه، فلما أراد الدخول رأى شخصاً دميم الخلق، فاحتقره، وقال: لعله ليس هو، فرجع ثم قال في نفسه لعله يكون هذا، ثم استبعد أن يكون هو، والشيخ يلحظه، فلما تكرر ذلك منه، تفرس الشيخ منه ذلك، فلما كان في المرة الأخيرة قال له: أرحلْ، فأنا من تطلب؛ أكبر من قرد محنّك. . .
والقصة التي فيها البيتان الرائيان - وقد رواها ابن خلكان - مشهورة.
* ج 10 ص 190:
فأنت أمرؤ لو رمت نقل متالع ... ورضوى ذرتها من سلُطاك نواسف
قلت: (متالع) بضم الميم كما ضبط القاموس وغيره، وهو جبل في البادية في بلاد طئ. والبيت لأبي العلاء صاعد البغدادي في أبي عامر المنصور.
* ج 11 ص 80: توفي القاضي السجزي (الخليل بن أحمد ابن محمد) بسمرقند وهو قاض بها سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقال أبو بكر الخوارزمي يرثيه:(625/12)
ولما رأينا الناس حيرى لهِدّة ... بدت بأساس الدين بعد تأطد
أفضنا دموعاً بالدماء مشوبة ... وقلنا: لقد مات الخليل بن احمد!
قلت: بعد توطد، وتوطد الشيء تثبت، ولم ترد (تأطد) في كلام، ولما اضطر الوزن أبا تمام إلى أن يقول في بيت له (تأطدت) وهي (اتطدت) ضجّ اللغويون، ونقد الناقدون. وأبو بكر عن الهمز والخطأ في بيته في مندوحة.
* ج 16 ص 99: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتاباً يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يَجِدُّ بك، ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه، وقد كان ألقى إلى من هذا عنوانه، فزدتك في نفسه زيادة كف بها عن تجشيمك؛ فاعرف لي هذه الحال. . .
قلت. يَجِدُ بك من وجد يجد لا من يجد. ووجد به:
أحبه واغتبط به كما في النهاية. ولأبي العباس الزراري:
لي صديق قد صيغ من سوء عهد ... ورماني الزمان فيه بصد
كان وجدي به فصار عليه ... وظريف زوال وجد بوجد
وجدي به: حبي إياه، ووجدي عليه غضبي عليه. ولهذا الفعل مصادر ومعان كثيرة تذكرها المعجمات.
* ج 16 ص 163: وهذا كعب بن مالك الأنصاري عتب على امرأته فضربها حتى حال بنوها بينهما فقال:
لولا بنوها حولها لخبطتها ... إلى أن تُداني الموت غير مذمم
ولكنهم حالوا بمعنى دونها ... فلا تعدميهم بين ناه ومقسم
فمالت وفيها حائش من عبيطها ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
وجاء في الشرح: الحائش: أصلا جماعة النخل، ولا واحد له.
(قلت): جائش - بالجيم - أي فائض، سائل.
و (قلت): أكرم من الشعر المتقدم شعر القائل:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين اضرب زينا(625/13)
بحث في الصلاة
للدكتور جواد علي
بين يديّ رسالة للمستشرق اليهودي المعروف المرحوم أويكين ميتوخ بحث فيها عن الصلاة عند المسلمين وقارن بينها وبين الصلاة عند اليهود. وقد أجهد المستشرق نفسه ليصل إلى نتيجة كان يقصدها ويريدها قبل الدخول في الموضوع، هي أن الرسول الكريم أخذ صلاته من صلاة اليهود كما أخذ سائر الطقوس والعبادات.
وبين يدي أيضاً بعض الأبحاث العلمية التي قام نفر من المستشرقين في نفس هذا الموضوع، أي تطور الصلاة ونشوء العبادات في الإسلام، كبحث المستشرق المجرى اليهودي كولد زهير وبحث المستشرق الهولندي جوينبول وأبحاث المستشرق المرحوم بيكر
وهي تسير على نفس الأسلوب ولكنها تختلف في النتائج. إذ من رأى هؤلاء أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ صلاته وعباداته عن النصارى لا اليهود.
وبالنظر إلى ما في أبحاث هؤلاء المستشرقين من أمور لا تقرها الحقيقة رأيت أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أقارن بين الصلاة في الإسلام وبين الصلاة في اليهودية خاصة، لكونها أساس الصلاة عند المسيحيين فأقول:
أجمعت المذاهب الإسلامية قاطبة على أن هنالك خمس صلوات مفروضة في اليوم، وأجمعت كذلك على عدد الركعات؛ فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث ركعات.
ولم تختلف المذاهب الإسلامية قديماً وحديثاً في الشكل الأساسي للصلاة ولا في هيكلها وكيفيتها، وإنما اختلفت، وإنما اختلف في مسائل فرعية طفيفة لا علاقة لها بالوضع العام للصلاة. فطريقة الركوع والسجود واحدة بين الجميع، وعدد الركعات ثابت كما قلنا، والاتجاه نحو القبلة واجب لا خلاف فيه. وأما فيما عدا ذلك مثل الجهر بالقراءة أو الإخفات، وإسبال اليدين في الصلاة أو (التكتيف) فوق السرة أو تحتها، وجواز القنوت أو عدم جوازه، ورفع السبابة في التشهد أو عدم رفعها وإدارة الرأس نحو اليمين واليسار حين السلام أو عدم ذلك، ثم الحد الأدنى للآيات التي يجب قراءتها في الصلاة، وأمثال ذلك، فإن(625/15)
كل هذه لا تؤثر على هيكل الصلاة وشكلها كما قلنا ويكاد يصعب على غير المسلم تمييز هذه النقاط
(والصلاة هي الدعاء وعبادة الله الرحمن الرحيم بأقوال وأفعال ونظام وترتيب جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واتبعه الصحابة وفسره أئمة الدين الذين تفرغ كل منهم لوصف ما وصل إليه وتمحيصه من صحيح العلم ودقيق العمل كما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وما فعل الصحابة الذين عاصروه وقاموا باتباع ما جاء به. . ولكم في رسول الله أسوة حسنة. . .).
والصلاة مظهر من مظاهر تعلق الفرد بخالقه وواجب من واجبات الإنسان الدينية والانفرادية والاجتماعية في كل الأيام وعند جميع الشعوب وهي التكلم مع الله وطلب ما يحتاج إليه الإنسان مع الشكر لأجل المراحم الإلهية. ففي الصلاة إذا عنصران: عنصر الشكر للإله ومدحه وتبجيله على عظمته وبديع صنعه؛ وعنصر الطلب من الله القوي القهار الذي يسأل فيجيب
وهي فرض في الإسلام واجب لأنها ركن من أركان الدين ولأنها (مفتاح من مفاتيح الجنة) والصلاة عماد الدين جاء في القرآن الكريم (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وجاء في القرآن الكريم أيضاً (ما سلككم في سقر؛ قالوا لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين) وجاء عن النبي (ص) أنه قال (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً)
وجاء أيضاً (من ترك الصلاة متعمداً أحبط الله عمله وبرئت منه ذمة الله يراجع الله توبته). فالصلاة إذا فرض واجب على كل مسلم؛ من تركها متعمداً فهو ليس بمسلم وعد كافراً وجاز قتله. وفي الكتب التي أرسلها الرسول إلى القبائل العربية ذكر للصلاة بعد الإيمان وفي الحديث (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)
والصلاة في الأصل الدعاء والرحمة والاستغفار والبركة ثم خصصت لنوع معين من أنواع العبادات فيها ركوع وسجود وحركات معينة وقواعد ثابتة لا تتأثر بإرادة المصلي ولا برغبته وميوله ولا بالوقت الذي يريده إذا كانت الصلاة مفروضة واجبة وللصلوات شكل(625/16)
معين معلوم وإن لم يعينه القرآن إلا أنه معين باتفاق الصحابة والمذاهب الإسلامية عليه.
ثم إن الصلوات اليومية الخمس تؤدي في أوقات معينة معلومة لا يمكن المصلي أن يتخطاها وإلا اعتبر وأصبحت صلاته باطلة. وأما الدعاء فإنه يكون في أي وقت وفي أي صورة يريدها المتضرع؛ فهو لا يتقيد بقيود ولا يتعين بشكل خاص ولا يكون في الصلاة إلا في مواضع معينة مخصوصة.
وكلمة (صلاة) آرامية في الأصل ثم استعملها اليهود فأصبحت لفظة آرامية عبرية دخلت اللغة العربية عن طريق اليهود أو المسيحيين. استخدام اليهود هذه الكلمة (صلوتة) في الأزمنة المتأخرة من عهد التوراة حتى أصبحت كلمة مألوفة ذات معنى ديني خاص. وفي القاموس (والصلوات كنائس اليهود وأصله بالعبرانية صلوتة) ومن جملة الصلاة (الدعاء) إلا أن (الدعاء) في الإسلام هو الابتهال إلى الله بالسؤال والرغبة فيما عنده من خير. ويقابل لذلك في العبرية كلمة (تحنونيم) ومعناها التضرعات والدعاء! وأما الصلاة التي هي ركوع وسجود فإنها تقابل لفظة (تفلوت) التي تعني صلوات قبل أن تخصص الصلاة عند اليهود بكلمة (صلوتة) الآرامية في عهود التوراة المتأخرة.
والذي لاحظه المتبعون أن الشعوب القديمة حتى البربرية منها كانت تقوم بفروض دينية يصح أن نطلق عليها لفظة (صلاة) ومن بين ما عثر عليه المنقبون بعض النصوص القديمة التي كان يقرؤها الآشوريون والبابليون في الصلاة. والصلاة عادة طقوس خاصة وشرائط لا بد منها؛ وبدون هذه الشروط تكون الصلاة باطلة غير مقبولة مثل ضرورة الغسل وشروط الملابس والبخور والوضع في المعبد وما يجب على المرء أن يقوم به أثناء الصلاة وهي تختلف باختلاف الأمم وعقليات الشعوب.
وقد لعبت الصلاة في العصور الوثنية دوراً هاماً. اعتقد الوثنيون أن المرء متى أحسن أداء الصلاة وقرأ النصوص التي لا بد منها كما هي مكتوبة وقام بجميع أركان الصلاة وناجي آلهته في صلاته بأسمائها الصحيحة فإن الآلهة تلبي طلب المصلي لا محالة وتجبر على إجابة رغباته حتماً.
وفي استطاعة المصلي أيضاً إذا ما كرر الكلمات المقدسة في صلاته طرد الأرواح الخبيثة والعوالم الشريرة عنه وفي المصلي استخدام الأرواح العليا لقضاء مصالحه وطلباته ولتنفيذ(625/17)
رغباته فيما إذا أحسن المصلي أداء الصلاة. جاء في ياسنا من دين زرا دشت (وبواسطة صلاتي هذه يا مزدا ? أرجو منك طرد الأرواح الشريرة والخبائث).
ومن الأمور التي تهتم بها الشعوب في صلاتها مسألة عدد الصلوات اللازمة على كل إنسان وتعيين أوقات الصلاة بالضبط ليتسنى لكل مؤمن أداء الفرائض في أوقاتها ومواقيتها. وقضية الوقت هي قضية مهمة جداً فإن لم تعين أوقات الصلاة وتضبط التبس الأمر على المؤمن وحار، لذلك ارتبط مواعيد الصلاة بالصلاة مذ صلى الإنسان الأول. وبالنظر إلى عدم معرفة الإنسان طريقة فنية لضبط الأوقات، وبالنظر إلى عقيدة تقديس الأجرام السماوية والانصراف إلى عبادتها ربط الإنسان أوقات صلاته بأوقات ظهور الأجرام السماوية؛ ولا سيما الكبيرة منها، وأعني بذلك الشمس والقمر؛ لأن عقلية الإنسان الابتدائي تمييز هذين الجرمين لكبرهما عن الأجرام الأخرى بسهولة، ولذلك كان الشروق والغروب ووقت الزوال أحياناً من أوقات الصلاة المفروضة لدى غالبية الأمم والقبائل والشعوب.
وحتمت الديانات الآرية القديمة والسامية منذ أقدم الأزمنة على الإنسان الصلاة في أوقاتها، فمن الواجبات الدينية على كل رجل من أتباع زردشت بلغ سن التكليف الديني أن يصلي ثلاث مرات في اليوم صباحاً وعصراً ووقت العشاء (المغرب) وعليه فضلا عن ذلك صلاة وهي الصلاة التي يجب على كل رجل أداؤها حين ذهابه إلى الفراش لأجل النوم، وبعد نهوضه من النوم مباشرة.
(البقية في العدد القادم)
جواد علي(625/18)
3 - حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
تتمة ما نشر في العددين السابقين
هذا، وفي آخر الأمر يجب علينا أن نشير - حينما نبحث عن أسباب انهيار فرنسا - إلى سبب آخر، سبب يجب أن يعطي الموقع الأول بين سلسلة الأسباب، بل يجب أن يعتبر السبب الأصلي، بل هو علة العلل. . .
هذا السبب هو علائم بلبلة الآراء وفوضى النزعات التي كانت تسود فرنسا إزاء مظاهر وحدة الكلمة وتراصّ الصفوف التي كانت تميز ألمانيا. . .
لقد دخلت ألمانيا الحرب، وهي متحدة الكلمة، تسير وراء زعيم واحد تثق به ثقة لا حد لها، وتتجه نحو هدف عام يعرفه الكل ويقدسه الجميع. . . في حين أن فرنسا كانت منقسمة على نفسها في معظم أمورها، وقد بلغت فيها الشهوات الحزبية درجة تكاد تتغلب على الفكرة الوطنية، وتعددت الأحزاب تعدداً لا مثيل له في التاريخ، فلم يبق حزب قوي يستطيع أن يضمن الأكثرية ويدعم الحكومة، حتى بالاتفاق مع حزب ثان، فأصبح من المحتم علي كل حكومة تسعى إلى تسيير دفة الأمور أن تتفنن في إجراء ترتيبات معقدة بين عدة أحزاب متخالفة. . .
وبما أن مثل هذه الترتيبات المعقدة تكون عرضة للتغيير السريع بتقلب الظروف، أصبح التوازن الحكومي شبيهاً بالأعمال البهلوانية التي يقوم بها اللاعبون على الحبال
ولا حاجة لبيان تعدد الأحزاب وتنازعها على هذا الوجه كان يفسح مجالاً واسعاً لدسائس النفعيين، ويزعزع ثقة الشعب بالحكومات ويسئ إلى سمعتها إلى حد كبير
وإذا كان تسيير دفة الشؤون بين هذه النزعات المتخالفة من الأمور الممكنة في الأحوال الاعتيادية فلا شك في أنه يصبح من رابع المستحيلات خلال الأزمات الحربية، لأن الحرب تحتاج إلى أعمال منسقة تنسقاً تاماً، ولا سيما في هذا العهد الذي أصبحت فيه الأعمال الحربية غير مقتصرة على الجيوش المحاربة وحدها وغير منحصرة في ساحات القتال وحدها، بل شاملة جميع أبناء الوطن وجميع أقسام البلاد. . . فالبلبلة في الآراء والفوضى في الأعمال من الأمور التي لا يمكن أن تلتئم مع ضرورات الحرب بوجه من(625/19)
الوجوه، فإذا أقدمت أمة ما على الحرب وهي مبلبلة الآراء، فلا بد من أن تتعرض إلى كوارث ونكبات
وهذا ما حدث فعلا في فرنسا، لأن البلبلة التي كانت تضطرب في نفوس أبنائها حين بدء الحرب، ازدادت يوماً فيوماً من جراء سير الوقائع من جهة وبتأثير إذاعات الألمان من جهة أخرى، ولا شك في أنها كانت علة العلل في أمر الانهيار
وهنا مسألة هامة تتطلب التفكير والاهتمام:
إن تعدد الأحزاب وبلبلة الآراء لم تكن من الأمور الشاذة في فرنسا، بل هي من الأمراض الاجتماعية المزمنة التي كانت تنخر عظم فرنسا منذ غير يسيرة، ومع هذا فأنها لم تؤد في الماضي إلى انكسار وانهيار، لأن الأحزاب كانت تنبذ عادة منازعاتها عندما تشعر بالخطر الخارجي، وتسرع إلى الاتحاد والتكتل عندما يدعوها إلى ذلك داعي الوطن، كما حدث فعلا في الحرب العالمية
فلماذا لم يحدث مثل ذلك في هذه المرة؟ لماذا لم تتحد الأحزاب أمام الخطر الهائل الذي أحدق بفرنسا منذ نشوء الحرب الحالية؟
لا شك في أن ذلك لا يمكن أن يعلل إلا بأن نقول: إن داء الحزبية كان قد أشتد إلى درجة أصبح معها لا يتأثر من ضرورات الحرب، وإن روح الفردية كانت قد قويت إلى درجة تحولت معها إلى أنانية مفرطة تتغلب على الروح الاجتماعية والروح الوطنية.
غير أن هذا التعليل لا يحل المسألة حلا مرضياً، فيجب علينا أن نتساءل بعد هذا التعليل أيضاً: لماذا اشتدت روح الحزبية إلى هذه الدرجة، ولماذا تقوت فكرة الفردية إلى هذا الحد؟
إنني أعتقد أن الدعايات الشديدة المستمرة التي قامت في طول فرنسا وعرضها منذ سنوات ضد النظام النازي والفاشي لم تخل من التأثير الشديد في هذا الباب. إن تلك الدعايات كانت تستهدف - في حقيقة الأمر - تبغيض ألمانيا وإيطاليا، غير أنها كانت تهاجم قبل كل شيء النظام الجديد الذي اختارته لنفسها كل واحدة من هاتين الدولتين مهاجمة عنيفة، وذلك من وجهة تأثيرها على الحرية الفردية في الدرجة الأولى، ولذلك أخذت الدعايات المذكورة تستمد قوتها من (فكرة الحرية) و (نزعة الفردانية) المنتشرة في البلاد، فصارت تزدري حتى ب ـ (روح التكاتف والتراص) و (دعوة التوحيد والتضحية) التي يتضمنها هذان(625/20)
النظامان، فإن الكتاب والخطباء كلما تزييف النازية ومهاجمتها لوحوا أمامها بعلم (الحرية المطلقة والفردية التامة) دون أن ينتبهوا إلى التأثيرات والأضرار التي قد يحدثها ذلك في داخلية البلاد ونفسية الناس. على هذا الوجه تقوىّ الداء وتأصل، وصار الناس يمجدون (الحرية) تمجيداً مطلقاً ولو أدت إلى الفوضى، وينفرون من (التوحد) ولو أصبح ضرورياً لحياة الأمة، ويسترسلون في (الفردية) ولو تحولت إلى أنانية فتاكة. . . وفي الواقع أن مخاطر هذه الأمور لم تبق خافية على أنظار جميع الفرنسيين بطبيعة الحال؛ فقد ظهر بين رجال الفكر والسياسة مَن شَعَر بالأخطار التي ستنجم عن استمرار هذه الأحوال، ومن أخذ يعارض الإفراط في فكرة الحرية فيدعو إلى جمع الصفوف وتوحيد الكلمة، حتى ظهر من يحمل بعض الحملات على روح الفردية والأنانية. . . غير أن الدعايات التي ذكرناها آنفاً، كانت أثرت في النفوس تأثيراً عميقاً حتى صار الناس ينظرون إلى كل محاولة من هذا القبيل كضرب من ضروب النازية أو الفاشية، كما أخذوا يتهمون معتنقي مثل هذه الآراء بخدمة الأعداء وخياطة الوطن
وعبثاً حاول بعض الكتاب والمفكرين أن يرشدوا الناس إلى سواء السبيل بقولهم: (يجب أن نكره النازية من حيث سياستها الخارجية وحدها، ولم يشمل كرهنا لها جميع أعمالها وجميع خصائصها. . . ومهما كرهنا النازية من وجهة سياستها الخارجية فيجب ألا ننكر بأنها قامت بأعمال هامة في سبيل الإصلاحات الداخلية والتنظيمات الشعبية، وإن بعض تلك الأعمال الداخلية جدير بالأعمال وحري بالاقتداء. . .) غير أن أصوات هؤلاء المفكرين ضاعت بين صرخات الصارخين الذين ظلوا يهاجمون النازية من جميع الوجوه باسم الحرية. . . ويستخفون بجميع مبادئها وأعمالها باسم الفردية. . .
ولذلك استمرت في فرنسا الأمراض والنزعات السياسية والأخلاقية النفسية التي شرحناها آنفاً، خلال الحرب أيضاً. . . ولا شك في أن هذا الاستمرار كان أهم الأسباب التي أدت إلى الانهيار.
ومن الغريب أن دعايات (الحرية والفردية) المفرطة التي كانت انتشرت في فرنسا فأدت بها إلى الانهيار كما أسلفنا أثرت تأثيراً عميقاً في آراء عدد غير قليل من كتاب العرب. فراح بعضهم يردد تلك الدعايات بحماس شديد، حتى بعد ظهور أضرارها الفادحة للعيان(625/21)
في الويلات والنكبات التي جرتها على فرنسا نفسها. . .
فقد نشر أحد الكتاب المشهورين، في إحدى المجلات المصرية الشهيرة، سلسلة مقالات حول فرنسا، بعد انهيارها، أبدى فيها من الآراء ما يستوقف النظر ويتطلب النقاش. . .
فقد وصف الكاتب المحترم، في مقالاته هذه (الحالة النفسية التي كانت وصلت إليها فرنسا قبل الحرب الحالية بكلمات صريحة) فكتب - في جملة ما كتبه في الأقسام المختلفة من مقالاته المذكورة - الكلمات التالية:
(كانت شهوة السياسة الحزبية في فرنسا أقوى من الفكرة الوطنية)
(امتلأ الفرنسي بنفسه، واصبح الفرد كل شيء، يؤثر نفسه بكل شيء، يؤثرها بأعظم حظ ممكن من اللذة، ويجبنها أعظم حظ ممكن من الألم. . .)
(استجاب الفرنسي لداعي العقل الفردي، أكثر مما استجاب لداعي العقل الاجتماعي).
(وقد رأى الفرنسي أن الحياة لم تمنح للناس ليذلوها في الجهود المضنية التي تنتهي إلى الفناء، إنما منحت للناس لتكون عليهم نعمة ليستمتعوا بلذاتها وليتجنبوا آلامها. . .)
(فرنسا آثرت نفسها بالعافية واللذة ونعيم الحياة. . .) أنا لا آخذ على نفسي مسؤولية هذه الكلمات القاطعة، ولا أشترك في إطلاقها وتعميمها على هذا المنوال. ومع هذا، أرى من الضروري أن ننعم النظر فيها قليلا. . .
إن هذه الصفات الأخلاقية، وهذه النزعات النفسية، هذه الفردية المفرطة التي لا تفكر في شيء غير نفسها. . . والتي تتجنب الجهود المضنية على اختلاف أنواعها، فتحاول أن تنال أعظم حظ ممكن من اللذة. . . والتي تؤثر نفسها على الدوام بالعافية واللذة ونعيم الحياة. . . كل من ينعم النظر في هذه الصفات، يضطر إلى التسليم معي بأنها تدل على شيء واحد، هو (التفسخ الأخلاقي) وتؤدي بطبيعة الحال إلى نتيجة واحدة، وهي (الانحلال الاجتماعي). . .
غير أن الكاتب المحترم، لا يقول بذلك، بل بالعكس يرى في كل هذه الصفات والحالات أثراً من آثار التحضر والتثقف، ونتيجة من نتائج الإمعان في الحضارة والثقافة. إنه يعلل كل واحدة منها بقوله: (إن الفرنسي قد تحضر وأمعن في الحضارة) و (ومضت فرنسا في الحضارة إلى أقصى غاياتها) ويكرر ذلك مرات عديدة، ويعتبر كل ذلك من نتائج(625/22)
(الحضارة والثقافة) الطبيعية، حتى إنه يقول بكل صراحة ما يأتي.
(إن أية أمة من الأمم تبلغ من الثقافة ما بلغته فرنسا وتسلك بالثقافة الطريق التي سلكتها فرنسا منتهية من غير شك إلى مثل ما انتهت إليه فرنسا. . .
ويزيد على ذلك قائلاً. (نحن بين طريقين) إما أن نستقبل الثقافة أحراراً (يريد مثل ما تفعل فرنسا) وإما أن نستقبلها مقيدين (يريد مثل ما تفعل ألمانيا) كما يقول أخيراً (أما أنا فاختار الطريق الأولى وأقبل أن أتعرض لما تتعرض له الأمم الحرة من ألوان الخير والشر ومن اختلاف الخطوب) ويعلل اختياره هذا بنزوعه إلى الحرية حيث يقول: (إن الحياة الحرة. . . خليقة بأن نشتريها بأغلى الأثمان). . .
أنا لا أستطيع أن أشارك الكاتب المحترم في آرائه هذه. . . ولا اسلم بأن الأحوال والصفات التي ذكرها (نتيجة طبيعية) للإمعان في الحضارة والثقافة، كما لا اسلم بصحة رأيه في انحصار الأمر بين طريقين لا ثالث لهما؛ غير أن حديثي قد طال
ولكن من الضروري ألا أنهي حديثي دون أن أناقش الكاتب المحترم قليلاً في كلمته الأخيرة.
(إن الحياة الحرة. . . خليقة أن تشتري بأغلى الأثمان. . .)؛ إن سياق الكلام - في المقالات المذكورة - يدل دلالة صريحة على أن التمني هنا هو (كيان الدولة) و (حياة المجتمع). . . فهل يجب علينا أن نسلم بهذا القول؟ هل يجوز لنا أن نقدم (الحياة الحرة) على كيان الدولة (وعلى مصالح المجتمع الحيوية)؟ وهل يمكننا أن نضحي (الحياة الحرة) بتضحية حياة الدولة وكيانها؟. . .
أنا لا أرى لزوماً إطالة الحديث في الإجابة على هذه الأسئلة، ومع هذا أرى من المفيد أن اذكر كلمة قالها قبل الحرب العالمية أحد عظماء السياسة في فرنسا، وكلمة أخرى كتبها أحد كبار الأدباء. . .
في عهد وزارة بريان أستعد الاشتراكيون لحمل الناس على إضراب عام يشمل عمال وموظفي السكك الحديدية، ليشلوا جميع الأعمال والحركات في طول البلاد وعرضها. فلما أطلعت الحكومة على أخبار هذه الاستعدادات اعتقدت بأن ذلك قد يؤدي إلى كارثة كبرى، نظراً لما كانت تعرفه عن استعداد ألمانيا نظراً لاحتمال إقدامها على انتهاز فرصة هذا(625/23)
الاضطراب العام للاستيلاء على البلاد استيلاء فجائياً. . . فقررت الحكومة الفرنسية أن تتخذ تدبيراً حاسماً في هذا المضمار، والتجأت إلى طريقة التجنيد. جندت عمال السكك الحديدية قبل يوم الإضراب، وأمرتهم بتسيير القطارات بصفتهم جنوداً وضباطا. ومن المعلوم أن العامل حر في العمل أو الإضراب غير أنه يفقد هذه الحرية - بطبيعة الحال - عندما يصبح جندياً. . . وبهذا التدبير استطاعت الحكومة أن تفسد على الاشتراكيين ترتيباتهم في هذا الباب وأن تحول دون تحقيق الإضراب العام الذي كانوا يستعدون له منذ مدة.
هذا التدبير سبب هياجا عظيما على الحكومة، فأخذ المعارضون يقولون هذا إخلال بأحكام الدستور، وإنه تعد على حق الحرية. . غير أن رئيس الحكومة رد على هذه الاعتراضات قائلاً: (إن العمل الذي قمت به لا يخالف الدستور ولا يكون تعدياً على حرية الأفراد ومع هذا أود أن أصرح من على هذا المنبر بأنني لو كنت أعلم بأنه مخالف للدستور ولحق الحرية. . لما أحجمت عن القيام به. . لأني أعتقد أن حياة فرنسا أغلى من الدستور، واثمن من حرية الأفراد. . .)
إن ساسة فرنسا الذين كانوا يحملون مثل هذا الاعتقاد قادوا بلادهم إلى النصر في الحرب العالمية المنصرمة. . وأما رجال فرنسا الجدد الذين فقدوا هذا الاعتقاد وصاروا يعتبرون هذه الأعمال ضرباً من ضروب النازية. . . فقد أوصلوا بلادهم إلى وادي الاندحار. . .
هذا وأذكر أنني حضرت رواية في باريس قبيل الحرب العالمية عنوانها (الغرب) يصور فيها مؤلفها ضابطاً من كبار ضباط البحرية الفرنسية يعيش مع راقصة مغربية تنحدر من عشيرة مراكشية، وللضابط أخر شاب مأخوذ بالآراء والنظريات المعارضة للخدمة العسكرية. يفر هذا الشاب من الجندية، غير أن أخاه الضابط يتمكن - بعد سلسلة وقائع - من إقناعه وإعادته إلى حظيرة الخدمة الوطنية. تقف المرأة المغربية دهشة أمام خضوع الشاب لكمات أخيه هذا الخضوع، فتتساءل: ألم يكن هذا الشاب حراً؟ فكيف يخضع لأوامر الضابط كأنه كلب مطوق بالأغلال أو عبد يمتثل أوامر سيده الذي اشتراه بماله الخاص؟؟
أما الضابط فيبتسم لأقوال خليلته المغربية، وعندما يختلي بها يقول لها ما مؤداه (إن الحرية في نظرنا نحن الغربيين، هي غير الحرية التي تفهمونها وتطلبونها أنتم الشرقيين. الحرية(625/24)
في نظركم هي أن يرتدي المرء برنسه ويعتلي صهوة جواده فينطلق في الصحراء حيث شاء. . . أما نحن فلا نطلب حرية مثل تلك الحرية، فإن كلاً منا يحمل في عنقه أغلالاً وأصفاداً. . . أغلالاً وأصفاداً مصنوعة من ذهب معنوي. . . من ذهب العنعنات والتاريخ والواجبات. . . نحن نحب تلك الأصفاد بكل جوانحنا، ونحمل تلك الأغلال بكل سرور. . . نحن نبجل تلك الأصفاد والأغلال، بل نقدسها كل التقديس. . .).
إن الجيل الذي يقول مثل هذه الأقوال قد قاد فرنسا إلى المجد والنصر، وإن الجيل الذي عدل عن تقديس الأغلال الاجتماعية فأخذ يتمسك بالحرية المطلقة. . . الجيل الذي ترك التساند الاجتماعي جانبا، فأخذ يقدس تلك الفردية. . . هذا الجيل. . . قد أوصل فرنسا إلى هذه النكبات. . .
إنني أعتقد أن هذه النتيجة يجب أن تكون درساً ثميناً لجميع شبان العرب. . .
فأنا أود أن يعرف الكل أن الحرية لم تكن غاية قائمة بنفسها، بل هي واسطة من وسائط الحياة العالية. . . والمصالح الوطنية التي تتطلب من المرء أحياناً تضحية الحرية أيضاً في بعض الظروف. . .
إن كل من لا يضحي بحريته الشخصية في سبيل حرية أمته - عندما تقتضيه الحال - قد يفقد حريته الشخصية مع حرية قومه ووطنه. . .
وكل من لا يرضى أن (يفني) نفسه في الأمة التي ينتسب إليها - في بعض الأحوال - قد يضطر إلى (الفناء) في أمة من ألمم الأجنبية التي قد تستولي على وطنه في يوم من الأيام. . .
ولذلك فأنني أقول بلا تردد وعلى الدوام. . .
الوطنية والقومية قبل كل شيء، وفوق كل شيء. . .
حتى فوق الحرية، وقبل الحرية. . .
(س)(625/25)
لزوم ما لا يلزم
متى نُظم وكيف نظُم ورُتب؟
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
كانت أمور الشام ولا سيما البلاد الشمالية في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مضطربة بين سلطان الفاطميين والأمراء المتغلبين من بني حمدان ومواليهم ومن رؤساء القبائل العربية. وقد استولى صالح بن مرداس الكلابي صاحب الرحْبة على جلب في هذا الاضطراب سنة 402. ثم وقعت خطوب رَدّت حلب إلى سلطان الفاطميين حيناً. فلما قتل نائب الفاطميين عزيز الدولة سنة 412، وتولى من قِبلهم ابن شعبان طمع صالح ابن مرداس في التغلب على نوّاب الفاطميين فحالف أثنين من رءوس العرب هما حسَّان الطائي وسنان بنُ عليّان الكلبي واتفقوا على أن يقتسموا الشام من حلب إلى حدود مصر. فصارت حلب وما يليها لصالح، ودمشق لسنان، والرملة وما يليها إلى مصر لحسَّان. وذلك عام 414. وقد تقدمت أبيات المعري التي تذكر هذا التقسيم.
هذه حوادث وقع بعضها في العقَد الأول من القرن الخامس ومعظمها في العَقد الثاني. فهذه الأبيات قد نظمت كذلك في هذين العقدين ولا سيما الثاني منهما.
ثانياً - يُذكر صالح بن مرداس في اللزوميات مرات أخر لحادث آخر كان له في نفس المعري اثر باق.
نقل ياقوت عن أبي غالب بن مهذب المعري في حوادث سنة 417 من تاريخه: (صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها. فنفر كل من في الجامع وهدموا الماخور واخذوا خشبه ونهبوه. وكان أسد الدولة (صالح) في نواحي صيدا فوصل الأمير أسد الدولة فاعتقل من أعيانها سبعين رجلا. وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ. وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة - قال ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بأمد ومياقارتبن على المنابر - وقطع تادرس عليهم ألف دينار. وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة وقال له: مولانا(625/26)
السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار المانع أشتد هجيره وطاب بَرداه، وكالسيف القاطع لأن صفحه وخشن حداّه. خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
فقال صالح قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ولم يعلم أبو العلاء أن المال قد قُطع عليهم وإلا كان قد سأل فيه).
ونقل ياقوت أيضاً عن القفطي أنه وجد على ظهر ديوان الأعشى في مدينة قفط سنة 585 ما يأتي: (حكي أن صالح ابن مرداس صاحب حلب نزل على معرة النعمان محاصراُ لها ونصب عليها المجانيق وأشتد في الحصار لأهلها فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء لعجزهم عن مقاومته لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه وتدبير الأمر برأيه أما بأموال يبذلونها أو طاعة يعطونها. فخرج ويده في يد قائده وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل. فقال صالح هو أبو العلاء فجيئوني به. فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: الأمير أطال الله بقاءه كالنهار المانع الخ.
وهذه الحادثة ذكرها المعريّ في موضعين من اللزوميات في حرف الدال المكسورة واللام المكسورة. يقول:
تغيّبت في منزلي بُرهة ... ستيرَ العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقلَّ ... وُحمّ. لروحي فراقُ الجسد
بُعثتُ شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأى فسد
فيسمعُ منّى سجع الحمام ... وأسمعُ منه زئير الأسد
فلا يعجبَنّي هذا النَفاق ... فكم نفّقت محنه ما كسد
ويقول:
آليت أرغب في قميصِ مموِّه. ... فأكون شارب حنظل من حنضل
نجىَّ المعاشر من براثن صالح ... ربُّ يفرجِّ كل أمر مُعضل
ما كان لي فيها جناحُ بعوضةٍ ... والله ألبسهم جناحَ تفضُّل
فهاتان القطعتان نظمتا في حادث وقع سنة سبع عشرة وأربعمائة. والظن أن نظمهما لم يتأخر عن هذا التاريخ كثيراً.(625/27)
ثالثاً - يذكر الشاعر (محموداً) في مواطن كثيرة يقول:
يسلك محمود وأمثاله ... طريق خاقان وكنداج
أسُّر إن كنتُ محموداً على خلُق ... ولا أُّسرُّ بأني المَلك محمود
ما يصنع الرأس بالتيجان يعقدها ... وإنما هو بعد الموت جلُمود
لا كانت الدنيا فليس يسرّني ... أني خليفتها ولا محمودها
سيموت محمود ويهلك آلك ... ويدوم وجه الواحد الخلاَّق
فمن مُبلغ عني المآلك معشراً ... علياً ومحموداً وخانا وآلكا
فما أتمنّى أنني كأجلّكم ... ولكن أضاهي المقترين الصعالكا
وكلمة آلك فيما أظن، يريد بها المعري ألِك خان وهو لقب لبعض ملوك تركستان الذين قامت لهم دولة بين سنة 320 وسنة 609، والظاهر أن أول من لقب منهم ألِك خان هو نصر بن علي فاتح ما وراء النهر المتوفى سنة 403. فهذا دليل على أن هذه الأبيات نظمت بعد هذا التاريخ. وأما علىّ المذكور في البيت فلم أعرف من هو إلا أن يكون علياً أسد الدولة أمراء بني مزيد تولى الملك من سنة 403 إلى سنة 408.
ومن محمود الذي كرر المعري ذكره وجعله مثلاً في الملوك وقال إنه يسرهّ أن يكون في منزلته، وإن الدهر سيبطش به كما بطش بالضعفاء؟
في تعليقات الطبعة المصرية أنه أمير إذ ذاك. ولا نعرف من تولى في تلك النواحي ذلك العصر إلا محموداً حفيد صالح ابن مرداس. ومحمود هذا تولى الإمارة سنة 452 وخلع في السنة التالية، ثم تأمر مرة أخرى سنة 454، فدامت له الإمارة حتى سنة 468. فقد تولى بعد وفاة المعري.
ولا أدري لماذا أثبت الشيخ الميمني البيت الأول: (يسلك محمود. . . الخ) أولَ فصل من كتابه عن المعريّ عنوانه: (هو ووزير محمود بن نصر بن صالح). نقل في هذا الفصل ما يقال عن تدبير محمود هذا لقتل المعري وخلاص المعري بالدعاء. وهي خرافة مَروّية نفاها الشيخ الميمني وقال إن محموداً تولى بعد وفاة المعري كما قلتُ. فهل الميمني مع نفيه هذه الخرافة، يظن أن محموداً الذي في البيت هو حفيد صالح ذكره المعري قبل توليه الملك؟ لا أدري لماذا أثبت هذا البيت في فاتحة هذا الفصل.(625/28)
والذي أراه أن محموداً الذي أكثر المعري ذكره هو سلطان ذاع صيته في ذلك العصر وضرب المثل بقدرته وغناه، هو يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين فاتح الهند. ولهذا قرنه المعري بالخليفة في البيت:
لا كانت الدنيا فليس يسرني ... أني خليفتها ولا محمودها
والسلطان محمود تولى من سنة 387 إلى سنة 421. فهذه الأبيات التي تضمنت أسمه قبل سنة 421 ولا ريب؛ لأن المعري يذكره ذكر الحياء، ويقول: سيموت محمود. . . الخ). ويؤكد ما رأيته في محمود هذا أن الشاعر يقول في اللزوميات أيضاً:
محمودنا الله والمسعود خائفة ... فعدّ عن ذكر محمود ومسعود
ملكان لو أنني خيّرت مُلكهما ... وعُود صَلب أشار العقل بالعود
ومسعود هو ابن السلطان محمود استقر له الملك سنة 421 بعد أن ظفر بأخيه محمد. وبقي له السلطان حتى سنة 432. وأما السلطان محمود السلجوقي وأخوه مسعود فقد ملكا في القرن السادس الهجري.
رابعاً - كان أبو القاسم المغربي الوزير ممن أقام بالمعرة، وكان يوادّ المعري ويراسله، وكان المعري يحفظ له ولأبيه من قبلُ أياديه. فلما توفي رثاه بأبيات مثبته في اللزوميات. ولا أعرف فيها رثاء لغيره أو مدحا صريحاً.
ليس يبقى الضرب الطويل على الده ... ر ولا ذو العبَبالة الدرِحايه
يا أبا القاسم الوزير ترَّحا ... ت وخلَّفتني ثقال رحايه
وتركت الكتب الثمينة للنا ... س وما رحت عنهمُ بسَحايه
ليتني كنت قبل أن تشرب المو ... ت أصيلاً شربتُه بضُحايه
إن نحتْك المنون قبلي فإني ... منتحاها وإنها منتحايه
أمُّ دَفْر تقول بعدك للذا ... ئق لا طعم لي فأين فحايه
إن يَخطّ الذنبَ اليسير حفيظا ... ك فكم من فضيلة محاَّيه
وهذا الوزير توفي سنة 418. فهذه القطعة نظمت في هذه السنة.
خامساً - يقول المعري:
ألم ترني وجميع الأنام ... في دولة الكذب الذائل(625/29)
مضى قَيلُ مصر إلى ربِّه ... وخلَّى السياسة للخائل
وقالوا يعود فقلنا يجوز ... بقدرة خالقنا الآئل
إذا هبَّ زيد إلى طيَّئ ... وقام كليب إلى وائل
أظن أن قَيل مصر المعنىّ في هذا البيت هو الحاكم بأمر الله الفاطميّ، فهو الذي انتظر بعض الناس عودته. والحاكم هلك سنة 411. فالظاهر أن هذه الأبيات نظمت قريباً من هذا التاريخ.
(ب) سن المصري في اللزوميات:
يذكر المعري سنه في اللزوميات تصريحاً وتلويحاً؛ تارة يقول بلغت كذا أو جاوزت كذا، وتارة يقول: إذا بلغ الإنسان كذا آن له أن يرعوي أو حان له أن يهلك. وقد عَبرت اللزوميات مستقصياً الأبيات الذي يذكر فيها سنّه؛ فإذا هو يذكر الأربعين مراراً ويذكر الخمسين كثيراً ولا يذكر ما دون الأربعين إلا مرة واحدة قدمت الكلام فيها، وذكر السبعين مرة سأثبتها من بَعد.
يقول في الهمزية التي افتتح بها اللزوميات:
إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني ... ولو نُصّ لي بين النجومِ خباء
أرابيك في الودّ الذي قد بذلتَه ... فأضعِفُ إن أجدىَ لديك رباء
وما بعد مرّ الخمس عشرة من صبا ... ولا بعد مرّ الأربعين صَباء
ويقول:
خَبر الحياة شرورها وسرورها ... من عاش مدة أول المتقارب
وأفى بذلك أربعين فما له ... عذر إذا أمسى قليل تجارب
ومتى سرى عن أربعين حليفها ... فالشخص يصغر والحوادث تكبر
ورميت أعوامي ورائي مثل ما ... رمت المطىُّ مهامه السُفَّار
وركبت منها أربعين مطيّة ... لم تخْلُ من عَنَتٍ وسوء نِفار
شربتُ سِني الأربعين تجرعا ... فيا مقراً ما شربهُ في ناجع
ويجوز أن تدل هذه القطعة أنه بلغ ثمانياً وأربعين:
عش يا ابن آدم عدة الوزن الذي ... يُدعي الطويلَ ولا تجاوزه ذلكا(625/30)
فإذا بلغت وأربعين ثمانياً ... فحياة مثلك أن يوسَّد هالكا
وأما ذكر الخمسين فأكثر وأصرح:
حياتي بعد الأربعين منيّة. ... ووجدان حِلف الأربعين فقود
فمالي وقد أدركت خمسة أعقُد. ... أبيني وبين الحادثات عقود؟
إذا كنتُ قد جاوزت خمسين حِجة ... ولم ألق خُسرا فالمنيّة لي سِتر
وما أتوقّي، والخطوب كثيرة، ... من الدهر إلا أن يَحلَّ بي الهِتر
إذا طلع الشيب الملمُّ فحيِّه ... ولا ترض للعين الشباب المزوَّرا
لقد غاب عن فوديك خمسين حجة ... فأهلاً به لما دنا وتسوَّرا
وما العيش إلا لُجّة باِطليَّة ... ومن بلغ الخمسين جاوز غَمرها
أخمسين قد أفنيتها ليس نافعي ... بتأخير يوم أن أعَضَّ على خمس
لا خير من بعد خمسين انقضت كَمَلا ... في أن تمارس أمراضاً وأرعاشا
خمسون قد عشتَها فلا تعشِ ... والنعش لفظ من قولك انتعش
عَلِقتُ بحبل العمر خمسين حجة ... فقدرتّ حتى كاد ينصرم الحبل
كأنك بعد خمسين استقلَّت ... لمولدك، البناءُ دنا ليهوِي
وقد ذكرت الخمسون في ثلاث قطع أخرى، في حرف الطاء والكاف والميم. ولم تذكر الستون في اللزوميات قط. وجاء ذكر السبعين في قوله:
من عاش سبعين فهو في نصب ... وليس في العيش بعدها خِيَره
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(625/31)
الجمال الفني والعقيدة الدينية في القرآن الكريم
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
منذ أسبوعين قرأ الناس في الرسالة (مناقشات) الأستاذ عبد المنعم خلاف حول (التصوير الفني في القرآن) وحول (المنطق الوجداني) كذلك.
وإذا أنا عدت اليوم إلى مناقشة هذه المناقشات، فإنما يدعوني أليها أنها طريقة مضمونة لتوجيه النظر إلى الجمال الفني في القرآن من زاوية لم تعرف قبل الآن. فأنا أزعم أن هذا الجمال قد بقي مجهولاً في الغالب، منذ أن حاول تجليته الإمام (عبد القاهر) فوصل إلى أقصى ما يتيحه له عصره. . . ثم لم يتابعه أحد في الطريق الصحيح، إلا فلتات تقع بين الحين والحين.
وأنا أزعم كذلك أن الأدب العربي لم ينتفع الانتفاع الواجب بكتاب الإسلام المقدس، كما انتفعت آداب الأمم المسيحية بكتابهم المقدس من الوجهة الفنية. . . فكل تجليه لطريقة القرآن الأدبية ولمواضع الجمال فيها على طريقة فنية شاملة إنما هي كسب للأدب العربي - ولو جاء متأخراً جد التأخير عن موعده - وتوسيع لآفاق النظرة الفنية للبلاغة، واتجاه بها إلى (النقد الفني) الذي كان يجب أن تصير أليه، لو لم تركد القواعد البلاغية الجافة التي يحاكمون إليها الجمال الفني في الأدب العربي عامة
لا يزال الأستاذ عبد المنعم يجادلني حول طريقة التعبير المفضلة في القرآن، وحول العقيدة بين المنطق والوجدان. فلنتحدث اليوم عن المسألة الأولى. فأنا أزعم أن الطريقة المفضلة هي (التصوير) ويرى هو هذا الزعم مبالغة دعا إليها مجرد الحماس.
وحين أحيله على المصحف لينظر صدق ما أتجه إليه يرى أنني أحيله إلى محال على طريقة (جحا) في عد نجوم السماء!
ولكنه يفتح المصحف هنا وهناك فيجد أمثلة لا تنطبق عليها القاعدة، ويرى مواضع للتعبير لا يبرز فيها التصوير. وعندئذ يحاكمني إلى هذه المواضع وإلى أمثالها. . . ما دام لا يستطيع أن يسرد (القرآن كله) في مجلة الرسالة للاستشهاد!
وأحسب: أن ليس هكذا تكون مقاييس الفنون!(625/32)
والذي أفهمه أنا حين أقول عن التصوير في القرآن: (فليس هو حلية أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما أتفق. وإنما هو مذهب مقرر وخطة موحدة، وخصيصة شاملة) أو حين أقول: (والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرنا. . .)
الذي أفهمه حين أقول هذا: أن السمة الواضحة التي تحدد (عنوان) الطريقة المتبعة في القرآن هي سمة (التصوير) وأن هذا لا يعني انتفاء نص أو عدة نصوص لا تتضح فيها هذه السمة. إنما الطابع العام الذي يعنيني، وهو الذي يعني كل ناقد ينظر في عمل فني، فيبحث عن السمات العامة فيه، ولن يجد من يقول له: إن هنا سطراً أو فقرة أو صفحة لا تتضح فيها هذه السمة. فذلك آخر ما يقال في الحكم على القانون.
فأما حين نكون في المعمل فنقول إن خصائص (الأوكسجين) هي كيت وكيت. فإن لكل باحث أن يقول: نعم أوكلا. إن هناك خصيصة ذكرت خطأ، أو هناك خصيصة نسيت. فالحكم غير صحيح!
وهذه هي نسخة المصحف التي كانت مرجعي في أثناء تحضير كتابي. تحمل صفحاتها (تأشيراتي) على مواضع التصوير في القرآن. وهأنذا لا أكاد أجد صفحة واحدة خلت من موضع يحمل إشارة إلا أن تكون تشريعاً. . . وهذا حسبي لتقرير هذه الحقيقة التي قررتها في كتابي بعد التشبع بطريقة القرآن، والحياة في جوه أكبر وقت مستطاع.
بل هأنذا أنظر في كلمة الأستاذ عبد المنعم الأولى التي يعدد فيها طرائق التعبير القرآني فيقول: (إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن؛ وليست هي الغالبة ولا الكثيرة (1) فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ الذي يستخدم الألفاظ الوضعية وحدها (2) وتارة يستعير لفظة واحدة من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك بها الخيال ويلمس الحس لمسا رقيقاً (3) وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية (4) وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة (5) وتارة تكون هي الكل. . .)
فهذه خمس طرائق للتعبير عددها الأستاذ عبد المنعم. . . أنظر فأرى أربعاً منها مما أعنيه حين أذكر طريقة التصوير. وواحدة فقط هي التي تسلك الطريقة الذهبية المجردة. وتكملة(625/33)
لهذا البيان أقرر أن هذه الطريقة تكثر في مواضع التشريع وفي بعض مواضع القرآن لأنها تكاد تطرد في سائر الأغراض.
أم لعل الأستاذ عبد المنعم لا يرى التصوير إلا في الطريقة الخامسة وحدها؟ فهمت منه حين يقول تعقيباً على النصوص التي أستشهد بها في مقاله الأخير!
(فأين في هذه الآيات وأمثالها الكثيرة (التصوير الفني) الذي لفت نظر الأستاذ سيد وأثار خياله حتى وهو طفل بحبكته في اللوحات ذات الوحدة والتناظر والتمثيل الجامع ذي الظلال والأجواء الشاملة كما يتجلى في (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة أنقلب على وجهه. . .)
وجوابي على هذا أن هذا اللون (الفاقع) من التصوير ليس من الضروري أن يتحقق دائماً لنطلق عليه عنوان (التصوير) وإذا كان هذا اللون هو الذي لفت خياله في الطفولة، فهذا شأن الطفولة التي لا تلفتها إلا الألوان الزاهيةٌ الصارخة. فأما حين تكتمل الحواس الفنية، فهي خليقة أن تدرك أدق الخطوط وأهدأ الألوان، وتنفعل بها أشد الانفعال. . . وهذا هو الذي كان!
ولكن أكنت أنا مقصراً في التنبيه إلى ما أعنيه بالتصوير في القرآن، وهل تركت مجالا في كتابي لمثل هذا اللبس!
فلنعد إلى بعض نصوص الكتاب:
جاء في صفحة 32 من الكتاب، في فصل (التصوير الفني) (ويجب أن نتوسع في معي (التصوير) حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخيل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيراً ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين وألأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. . .)
وجاء في صفحة 60 وما بعدها في فصل (التخيل الحسي والتجسيم) بعض التطبيق لهم القواعد:
(لون من ألوان (التخييل) يمكن أن نسميه (التشخيص) يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة قد ترتقى فتصبح حياة(625/34)
إنسانية تشمل المواد والظواهر والانفعالات، وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية وخلجات إنسانية تشارك بها الآدميين، وتأخذ منهم وتعطي، وتتبدى لهم في شتى الملابسات، وتجعلهم يحسون الحياة في كل شيء تقع عليه العين، أو يتلبس به الحس، فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه في توفز وحساسية وإرهاف.
(هذا هو الصبح يتنفس. (والصبح إذا تنفس) فيخيل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تنفرج عنها ثناياه، وهو يتنفس فتتنفس معه الحياة، ويدب النشاط في الأحياء، على وجه الأرض والسماء.
(وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار فلا يستطيع له دركا: (يُغشى الليل النهارَ يطلبه حثيثاً) ويدور الخيال مع هذه الدورة الدائبة التي لا نهاية لها ولا ابتداء.
(أو هذا الليل يسري: (والليل إذا يَسْرِ) فتحس سريانه في هذا الكون العريض، وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد.
(وهاتان هما الأرض والسماء عاقلتين يوجه إليهما الخطاب فتسرعان بالجواب: (ثم استوى إلى المساء وهو دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا أتينا طائعين) والخيال شاخص إلى الأرض والسماء، تدعيان وتجيبان الدعاء.
(وهذه هي الأرض (هامدة) مرة و (خاشعة) مرة ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. . .)
(ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس كوصف العذاب بأنه غليظ: (ومن ورائهم عذاب غليظ) واليوم بأنه ثقيل: (ويدعون وراءهم يوم ثقيلا) والرياح بأنها لواقح تشبيها لها بالحيوان لما تحمل من مطر (وأرسلنا الرياح لواقح).
(وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس كقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الإنساني لا يتسع لاتجاهين. ومثل (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها - من بعد قوة - أنكاثا) لبيان العبث في نقص العهد بعد المعاهدة. . .)
وجاء في ص 74 وما بعدها في فصل (التناسق الفني).
(هناك المواضع التي يتنافس فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها فيساعد على إكمال(625/35)
معالم الصورة الحسية أو المعنوية. وهذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير، والتعبير للتصوير. . . مثال ذلك: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). فإن كلمة (الدواب) تطلق عادة على الحيوان - وإن كانت تشمل الإنسان فيما تشمل لأنه يدب على الأرض - ولكن شمولها هذا للإنسان ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن، لأن للعادة حكمها في الاستعمال. فاختيار كلمة (الدواب) هنا ثم تجسيم الحالة التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم (الصم البكم) كلاهما يكمل صورة الغفلة والحيوانية التي يريد أن يرسمها لهؤلاء اللذين لا يؤمنون لأنهم (لا يعقلون)!
(وقد يستقل لفظ واحد - لا عبارة كاملة. . برسم صورة شاخصة - لا بمجرد المساعدة على إكمال معالم صورة
تسمع الأذن كلمة (اثاقلتم) في قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض؟) فيتصور الخيال ذلك الجسم المثّاقل، ليرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة (طنّا) على الأقل من الأثقال!
(وتقرأ: (وإن منكم لَمَنْ لَيُبَطِّئنَّ) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها - وفي جرس (ليبطئن) خاصة وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل إلى نهايتها)
(وتتلوا حكاية قول هود. (قال أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعُمِّيت عليكم أنُلْزُمكموها وأنتم لها كارهون؟) فتحس أن كلمة (أنلزمكموها) تصور جو الإكراه بإدماج هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويُشدون إليه وهم منه نافرون!)
وهكذا. . .
وفي هذا الفصل عند استعراض آفاق التناسق الفني في القرآن ضربت الأسئلة الموسيقية التصويرية التي تهيئ الجو العام في مثل:
(والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى. وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى. ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالا فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى. . .)
فهنا إيقاع موسيقي هادئ لطيف يصور الجو العام الذي نعيش فيه معاني السورة. وهو(625/36)
مخالف حتماً للإيقاع المنبعث من مثل قوله:
(كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملك صَفّا صَفّاً. . .)
والموسيقى التصويرية لون من ألوان التصوير الفني بلا جدال.
التصوير هو القاعدة العامة في تعبير القرآن. . . أكررها مرة ومرة، لا إصراراً على قول، ولكن اقتناعاً بعد درس. وكل ما اطلبه إلى الأستاذ عبد المنعم ألا يحاكمني في هذا الرأي إلى نص أو مثال. ولكن إلى سمة غالبة، وإلى شمول في معنى التصوير كما بينه في مواضع متعددة من كتابي. وإني لأطلب إليه وكتابي بين يديه أن تعود فيقرأه كله ثم يقرأ القرآن!
ويبقى تقويم هذا التصوير، والأستاذ يقول: (إنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير ألفني. . .)
ولست أدري كيف يقال هذا الكلام بعد ما رددت به على الأستاذ نجيب محفوظ في تقويم هذا التصوير في القران وفي الشعر عامة؟
أن العبرة ليست باستخدام التصوير، ولكن بمستوى هذا التصوير من التناسق والحياة. وقد كشفت في كتابي في مواضع كثيرة عن تفرد التصوير القرآني في خصائصهِ فلم يبق مجال لمثل هذا الاعتراض الذي ينطبق على جميع طرائق التعبير لا على طريقة التصوير وحدها. ولا حكم فيه على أي طريقة. لأن السمة شيء ومستواها شيء أخر والسلام.
سيد قطب(625/37)
نموذج من الشعر المرسل الحر!
للأستاذ على أحمد باكثير
عجباً كيف لم تعصفْ بالدُّنَى زلزلهْ؟
كيف لم تهو فوق الورى شُهُب مُرسلهْ؟
يا لها مهزلة!
يا لها سوَءةً مُخجلة!
مثلت دورها أمة تدعى ضلة أنها من كبار الدول
سلمت للمغيرين أوطانها لتوارى في سوريا وفي لبنان الخجل!
أمة ولت من وجه العدو فرارا
من ضرته الأولى انهارت ككثيب الرمل انهيارا!
خاست بمواثيق أحلافها الباسلين
الذين توافوا إلى أرضها منجدين
ثم خرت ساجدة تحت أقدام أعدائها المعتدين
نشرت صحف الدنيا يوماً هذا النبأ التالي:
احتلت جنود فرنسا البواسل (سردينيا)
قالت الدُنيا: يا بطولتها! يا شجاعتها!
رجعت لفرنسا حميها وتقاليدها العسكرية
فإذا صوت قد علا لا يسمعهُ إلا المنصفون:
يا أيتها الدنيا هل تدرين أنك مخدوعة؟
اسألي قبل أن تُجبي: من هم هؤلاء الجنود البواسل؟
أي شعب أنجبهم؟
إن لم تعلمي فاعلمي أنهم ليسو من فرنسا!
إنهم من أبناء (المغرب) الأكرمين
إنهم من نسل العُرب الميامين!
وروت صُحف الدنيا يوماً هذا النبأ التالي:(625/38)
أبلت في (بئر حكيم) جنود فرنسا بلاء كبيرا
صدت (النازي) فارتد كسيراً حسيرا
قالت الدُنيا: يا بطولتها! يا شجاعتهم!
عادت لفرنسا حميتها وتقاليدها العسكرية
فعلا صوت لا يسمعهُ إلا المنصفون:
يا أيتها الدُنيا هل تدرين أنك مخدوعة؟
اسألي قبل أن تُعجبي من هم هؤلاء الجنود البواسل؟
أي شعب أنجبهم؟
إن لم تعلمي فأعلمي أنهم ليسو من فرنسا!
إنهم من أبناء (الشام) الأكرمين
إنهم من نسل العُرْب الميامين!
يا فرنسا يا مهد الثورة الكبرى!
يا ناشرة الحرية في الدنيا!
يا من ركعت تحت أقدام المعتدين
وتخلت لأعدائها عن أحلافها الباسلين
وتخرج أبناؤها إشفاقاً على باريس عروس السين
فرأوا أن يرفوها غير ممسوسة لغزاتهم الفاتحين؟
ما نفع الكرامة في الدنيا إن زالت تلك الفنون الغرائب؟
إنهم ليسو بالغلاظ طباعاً كأبناء عاصمة الإنجليز
الذين استماتوا عنها دفاعاً فأضحت أطلالاً وخرائب!
يا فرنسا يا مهد الثورة الكبرى!
يا ناشرة الحرية في الدنيا!
أي حق على قومنا تدعين؟
وبأي جميل علينا تمنين؟
أبما راج في سوقنا من لسان به ترطنين؟(625/39)
وثقافة سؤ أذلتك في العالمين!
فأذهبي وتوليْ بها عنا!
قد تبرأنا منها فلتُعِلن براءتها منا!
إنا لا نقبل من أحد عدواناً ومَنَّا!
اذهبي عنا بثقافتك الخانعة!
إن في الدنيا غيرها لثقافات حُرة واسعة!
ويلها! أأرادت فرض ثقافتها بالسلاح؟
فلنحطم ثقافتها والسلاح معاً!
ويلها! أأرادت فرض مصالحها بالسلاح
فلنحطم مصالحها والسلاح معا!
يا لسخرية الأيام!
أتهددنا دولة في عهد السلام
بالسلاح الذي لم نقاتل به الأعداء
بل ألقت به في الثرى ساعة الهيجاء
لتصول به وتجول على من أحس لها بالرثاء
وأباح لها في محنتها من معونته ما تشاء؟!
فاشهدي يا أيتها الدنيا هذه الدولة الباغية!
ليت شعري أقاتلت الدنيا طاغية
ليقوم على إثره طاغية؟
اشهدوا يا من وقعوا ميثاق النور على بحر الظلمات
أننا قد وفينا بالميثاق
إذ قمنا نصون كرامتنا ونصون السلام
لسنا من ينقضون العهود!
أو من يؤثرون على حريتهم شيئاً في الوجود!
لن نسلم (باريسنا) للعدو لنحفظها من أذاه!(625/40)
بل ندمر (لندنننا) باسلين ليبقى لنا حقنا في الحياة!
فاسمعي أنت يا باريس!
واشهدي أنت يا لندن!(625/41)
السودان يعزي الشام
للشاعر السوداني الأستاذ احمد محمد صالح
صبراً دمشق فكل طرف باك ... لما استبيح مع الظلام حماك
جزعت عمان وروعت بغداد واه ... تزت ربى صنعاء يوم أساك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى ... وسمعت في الحرمين أنه شاكي
ضربوك لا متعففين سفاهة ... لم تأت إثماً يا دمشق يداك
ورماك جبار يتيه بحوله ... شلت يمين العلج حين رماك
قم يا ابن هند وامش فيهم غازياً ... في كل جبار العزيمة شاكي
جدد لنا يوم اللواد وعهده ... وأعد علينا ما حكاه الحاكي
أيام خيل الله أوغل جمعها ... في دار أهل الإفك والإدراك
يحملن كل أغر وضاح السنا ... عند الكريهة باسم ضحاك
داسوا فرنسا واستباحوا أرضها ... وغدو لحوزتها من الملاك
سبحانك اللهم أمرك نافذ ... لك حكمة جلت عن الإدراك
صبراً دمشق فكل هم زائل ... وغداً يلوح مع النجوم سناك
تتألقين كما عهدتك درة ... في تاج أروع من أمية زاكي
في الجاهلية كان عزك باذخاً ... وازدان بالإسلام عقد حلاك
يا جنة الدنيا وبهجة أهلها ... وحظيرة العباد والنساك
يا معقل الإسلام في عليائه ... لا تذعني للغاصب السفاك
قولي لديجول مقالة شامت ... أنسيت في باريس نوح الباكي
أنسيت كيف ترنحت سيدان من ... ضرب على هام الرجال دراك
مهلاً فرنسا فالحوادث جمة ... والدهر دوار مع الأفلاك
والله لولا الإنجليز وحلفهم ... لذهبت غير حميدة ذكراك
قل للعروبة قول باك مشفق ... لا تركني للغرب في مسعاك
فالوعد عندهم جهام خلب ... وعهودهم شرك من الأشراك(625/42)
البريد الأدبي
الأستاذ احمد محرم
فجع الشعر في علم من أعلامه الذين حفظوا وجوده وأقاموا عموده ومهدوا له السبيل إلى هذه النهضة: ذلك هو المغفور له الأستاذ احمد محرم. قُبض إلى رحمة الله في الأسبوع الماضي على الفراش الذي ينسجه القدر للأدباء الأحرار من الفاقة والمرض والوحشة، بعد أن ظل اسمه لامعاً في سماء الأدب العربي قرابة نصف قرن. والناظر في تاريخ الشعر الحديث يراه في الرعيل الأول من شعراء الإحياء الذين خلفوا البارودي على إرث الشعر فحددوا باليه وأنعشوا ذاويه، ثم تخطفتهم المنايا واحداً بعد واحد فلم يبق منهم غير مطران والكاشف!
كان احمد محرم من الشعراء المطبوعين على الديباجة المشرقة والقافية المحكمة؛ وكان يطيل في غير سقط، ويبالغ في غير شطط، ويتأنق في غير تكلف. وربما كان أقل معاصريه وقوعاً على المعنى الطريف والفكرة العميقة؛ ولكنه كان من أكثرهم احتفالاً بحسن الصياغة ولطف التخيل. وقد قام في أعقاب عمره بنظم (الإلياذة الإسلامية) وهو عمل يكفي وحده لتمجيده وتخليده.
هذه كلمة ينعى بها الفقيد الكريم ولا نزعم أننا نرثيه؛ فإن الرثاء يقتضي العلم بحياة المرثي وصفاته ومقوماته وملابساته، ومعرفتنا بالشاعر الراحل لم تتعد المعرفة الفنية لشعره. لذلك نتقدم إلى إخوانه الذين خالطوه ولابسوه - وفي مقدمتهم الأديب الوفي للأدب، والصديق المخلص للأصدقاء، الأستاذ كامل كيلاني - أن يكتبوا للتاريخ ترجمة حياته وتبث مؤلفاته؛ فإن ذلك غاية ما يطلبه الأديب من الحقوق، في دنيا لم ينل منها ومن بنيها غير العقوق!
أين شعراؤنا؟
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ علي محمد حسن كلمة أخذ فيها على الشعراء تقصيرهم إزاء شقيقتنا سوريا. والأستاذ مشكور على غيرته وحماسته وخاصة فيما يتعلق ببكاء شعرائنا المتفرنسين (باريس) بكاء الثكالى الوالهات! ولو قد سقطت الإسكندرية تحت سنابك حصان موسليني الأبيض كما كان يرجو ما ذرفوا عليها دمعة واحدة!
وأحب أن أذكر بهذه المناسبة أني قد قلت شيئاً في حوادث لبنان سنة 1942 عندما أمعن(625/43)
غربان السنغال في التنكيل بأهل بيروت! ولكن الرقابة حالت يومئذ دون نشره. ولما كانت حوادث سوريا هي حوادث لبنان، وسنغال الأمس هم سنغال اليوم، وعقلية فرنسا الاستعمارية لم تتغير ولن تتغير، أستميح الرسالة الغراء لنشر هذه القطعة ليعرف الكاتب الفاضل أن الشعراء لم يقصروا وإن لم يقوموا بكل ما يحب.
إلى الجنرال ديجول!!
ديجولُ، قلْ لي - هَداك الله - ديجولُ ... أأنتَ عما جرَى في (الأَرْزِ) مشغولُ؟
أعطيتَ (لبنانَ) عهداً ما وفَيْتَ به ... فكيف فاتك أنَ العهدَ مسئول
فيم المواثيق إنْ كنتم على ثقةٍ ... أنّ المواثيقَ تمويهٌ وتضليل
قولوا لنا: كيف يحلو الُّظلُم من فئةٍ ... أجلاهمو الّظلُم عن أوْطانهم، قولوا
أتنكرون على الأحرار حقَّهمو ... في عقر دارهمو! تلك الأباطيل
جَزاؤهُم منكمُ في ظلّ رايتهم ... - على المودّة - تشريدٌ وتقتيل
تركتموني - وقد أكْبرتُ ثورتكم - ... أقول: ثورتكم يا قوم تدجيل
أغمدْ سيوفَك إنّ البغيَ جردها ... على البريء! وَسَيفُ البغي مفلول
لا تحقِرنّ دماء راحَ يَسْفَحُها ... غِربانُ جُنْدِكَ! غالت جندك الغولُ
شننتَ حرباً على من لا سلاحَ له ... وفي بلادكمو تجري الأفاعيل
قد كان أولى بذات (الُهونُ) وحدهمو ... فشيخكُم في إسار (الهون) مغلول
عودوا إلى الحق، إن الحقَّ منتصرٌ ... مَنْ ذاد عنه، ومَنْ عاداه مخذول
إنّا غضبنا (لِلُبْنانٍ) وساِكنِه ... و (الأرْزُ) شاطرَه أحزانه (النِّيل)
كلا الشقيقين - صانَ اللهُ حوزَته - ... أبناؤه العرَبُ الغرُّ البهاليلُ
علي الجندي
كتاب الفاروق عمر لمعالي هيكل باشا
تبدو لنا في ابتسامات الضحى السير ... متى جلاها عزيز القول مقتدر
يا (هيكل) إن ما دبجت عن عمر ... قد كان يرقبه من (هيكل) عمر
خليفة ملأ الأسماع ذو خطر ... فما له غير جبار له خطر(625/44)
ومن سواك انتضى في كفه قلماً ... نور الهداية من فكيه منحدر؟
ساس الأمور فعاش الكل في دعة ... وإن تفرست عن أعمالهم بهروا
ما حاد في الله يوماً قيد أنملة ... في سِلم من آمنوا أو حرب من كفروا
وإن رأى شبهة جالت بخاطره ... من خشية الله لا ينفك يعتذر
ويقبل الحق مهما كان مصدره ... لم ينسه الحكم يوماً أنه بشر
الناس في عدله طراً سواسية ... كالمشط، ما فيهم سام ومحتقر
هذي صحائف غر راح يبسطها ... (محمد) بأياد كلها غرر
تبسري من الأدب العالي على فلك ... وهالة ما سرى في مثلها قمر
قدمت للشعر عقداً من مفاخرهم ... فما هنالك تثريب إذا افتخروا
حللت تاريخه من كل ناحية ... فكان أجمل تاريخ به صور
سفر يكمله سفر كما حبكت ... ببعضها الآى في التنزيل والسور
فالله يشكر ما قدمت من عمل ... لدينه، ولسان الله من شعروا
محمد برهام
مجمع العرب. . .
اجتمع العرب على مائدة جلالة الملك فاروق جمع كريم من رجالات البلاد العربية وزعمائها وفيهم سمو الأمير محمد بن عيسى آل خليفة عم حاكم البحرين، وهو شاعر عظيم وراوية كبير، فقدم إليه صديقه الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن هذه الأبيات:
شَرَّفتَ يا أبن الضاربين في الكَرمْ ... جوانبَ النيل وسَاحةَ الهرمْ
مصرُ التي كانت على طَول المدى ... منارةَ العلم ومصباحَ الُّظَلمْ
لملة الإسلام فيها دَولةٌ ... ولْغةُ الضاد لها فيها جُرمْ
اتحد الجمعُ على ربوعها ... واجتمع الشملُ عليها والتأمْ
قد صَدَقوا العزَم على نيَّاتهم ... والعربيُّ صادقٌ إذا عزمْ
ما العرب إلا أمةٌ واحدةٌ ... لها الجلالُ والجمالُ والِقدَمْ
قد فرقتهم كلُّ أرضٍ حرةٍ ... واتحدوا في ظل ذلك العلمْ(625/45)
أليس من طينتهم كلُّ فتىَ ... محتدِم البأس إذا البأس احتمْ
من كلِّ ممنوع على الضَّيم فلا ... يُرْجىَ، وأَبَّاء فليس يهتضمْ
الأمل المنشودُ آخى بينهم ... وألَّفتهمُ الجراحُ والألم
ألم يكونوا أمس آسادَ الحمى ... وسادةَ الدنيا وقادةَ الأمم؟
قد فتحوا الأرض على أقطارها ... وزلزلوا كلَّ بناء فانهدم
في كل خطوةٍ لهم غنيمةٌ ... وهمةٌ علياءُ في كلِّ قَدَمْ
مجد أضاعه بنوه فمضى ... وحائطٌ قد ثَلَموهُ فانثلم
واليوم قد هبَّت عليه نفحةٌ ... منكم وسار في خلاله الضَّرمْ
فيم التغني بتُراثٍ ضائع ... وفيم يا قوم النشيد والنغم؟!
لا يُدرَكُ المجدُ بمجد فائتٍ ... ولا يُنالُ بالفخارِ والكلمْ
والحقُّ لا يُحمىَ بقولٍ أَعزل ... الحقُّ يُحمى بالحديد والحممْ
يا أمة العُرْب وفيكم أنفسٌ ... تأبى على القيد وفيكم الهمم
كفاكم النومُ قروناً عدةً ... من طلب الأمر الجليلَ لم يَنم
قولوا لمن نام إلى رأْد الضحى ... قد غّطت الشمسُ الهضاب والأكم
المجدُ لا يُرجى بحُلم زائل ... من عاش في الأوهام يا قوم وهم
محمد عبد الغني حسن(625/46)
القصص
الدميم. . .
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 2 -
ألقت الباخرة (إيجبتو) مراسيها، وأخذ الركاب يتزاحمون ويلتفون حول الضابط المكلف بالتأشير على الجوازات، هذا يتوسل، وذاك يطلب، وذلك يتضرع، وهذه تتدلل، وتلك تغمز الضابط نستحثه التأشير على الجواز، أي السماح بالدخول إلى جزيرة (الورد) كما يسميها التليان.
لا بد من الانتظار الطويل ريثما ينتهي الضابط من أسئلة سخيفة كان يخص بها السيدات الجميلات.
اقتعدت مقعداً بعيداً عن الزحمة أنتظر دوري، وإذا برجل يقترب مني ويقول: إنه مصري مثلي جاء ليقضي فترة من إجازة الصيف في هذه الجزيرة التي قرأ وصفاً لها في الصحف فخال أنها قطعة من جنات عدن، وإنه ما جاء إلا منساقاً بفعل الدعاية التي أحدثتها الصحافة في نفسه، في حين أنه ألف الاصطياف في مدن (الكوت دازير) وأخذ يتكلم عن مصايف فرنسا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا بلهجة حارة ولفظ عذب وعبارات مختارة من صحيح اللغة، وكان يدعوني صديقه.
نظرت إلى وجه هذا الرجل الذي طرح عليّ صداقته فإذا به يمثل الدمامة بله البشاعة خير تمثيل: أعمش، أمرط الحاجبين، أصلع، في جبينه وعلى خديه ندوب الجدري، وفي عنقه أخدود من أثر جراحة؛ وهو فوق هذا أستاذ علم الزراعة في الجامعة يحمل شهادة دكتور. . . وقد أدهشني عندما قال لي بأنه في الرابعة والثلاثين من عمره وقد كنت أظن أنه أكثر من ذلك.
لقد سحرني هذا الدميم بعذب حديثه وطيب بيانه وحسن اطلاعه فانقدت إليه. فذهبنا بعد أن تركنا الباخرة إلى أول فندق رضينا به اعتباطاً وقد أشر الضابط السمج على جوازي سفرنا.(625/47)
ارتاحت نفسي إلى صداقة هذا الدميم لأن فيه من جمال الصفات الروحية والخلقية ما يستر تلك البشاعة الواضحة المنكرة؛ ولأن خفة ظله، وحضور ذهنه، وبراعته في التنكيت تلقي ستاراً على دمامته المنفرة.
اسمع يا صاحبي، أحسب أن المشوه كالأحدب والمخلع والأعرج وكل ذي عاهة يعتقد أنك ستسخر منه فيبادرك بسخرية مؤلمة. والظريف في أصحاب هذه العاهات أن البارع منهم يمزج سخريته بالابتسام والضحك وبذلك يبطن الانتقام بالمرح.
كنت ألقى صاحبي الدميم في الصباح على مائدة الطعام، ثم ننتحي ناحية في بستان أو حرج بعيدين عن الناس وضوضائهم لنقرأ؛ وكان رفيقي ولوعاً مثلي بقراءة الكتب، ثم نعود فنجتمع فنتحدث فيما قرأنا.
لم أسمع من صديقي هذا حديثاً يخرج عن دائرة الكتب أو أسماء مؤلفين. ومن غريب أطوار هذا الدكتور الجامعي أنه يقرأ الأدب ويتذوقه؛ وله في أدبائنا المعاصرين نظرات صائبات؛ وله آراء في كلية الآداب أسكت عن ذكرها، ولكنه يجهل الحياة بجهله المرأة. وقد قال لي: أنه لا يعرفها ويهرب منها لأنها هبة الشيطان، وعصا إبليس، وسم الحية، وأنه ما من رجل يطاوع هواه ويساير شهوته فيقترب من امرأة إلا وهو ضعيف العقل ملموس من خبال الغريزة!؟
ضحكت في سري من ضلال هذا الرأي وانتحلت لصديقي عذراً في إبدائه على هذا النمط المخالف لسنة الطبيعة وقدرت ظروفه الخاصة التي جعلته ينفر من المرأة ويتجنى في الحكم عليها، ولم يعد الحديث عنها يدور لنا على لسان.
أخذت الوحشة من الوحدة يدب دبيبها في نفسي، والسأم يرين عليها من هذه البلدة الصغيرة الخالية من وسائل التسلية، والتي لا أنيس لي فيها ولا سمير سوى الكتاب وصديقي الجامعي اللطيف.
كل ما في طبيعة (رودس) هاديء، البحر والأشجار، السماء والناس، والقلوب كلها هادئة أو شبه متحركة. وقلما رأيت حتى في الفتيات الروسيات المرحات عيوناً تتطلع إلى القلوب أو ترميها بنظرات. فإن فعلت فهي تتطلع إليها خلسة تشتهيهم شهوة هادئة ولا ترميها رمية صائبة.(625/48)
كيف آلف الهدوء وطبيعة رفيقي على النحو الذي وصفته لك؟ وكيف لا تتوق نفسي إلى صخب الحياة وقد اتخذت (بيرون) وكل مؤلفاته رفيقاً لي وسميراً ومعلماً في اعتكافي في هذه الجزيرة الهادئة؟ كيف أجمع بين حياة هادئة فاترة فرضتها علي طبيعة وجودي في هذه الجزيرة الساحرة مع هذا الصديق الدميم عدو المرأة البعيد عن الحياة، وحياة قلقة حيرى، صاخبة فياضة تضطرب في صدر رفيقي (بيرون) العظيم وقد سارت عدواها إلى صدري؟
صممت على الرحيل. . . ولكن إلى أين؟
قال لي رب الفندق: إن في أعالي الجزيرة فندق جميلاً قائماً على القمة بين إحراج الصنوبر تحسن الإقامة فيه فترة من الزمن؛ فقطعت الرأي على الذهاب إليه. ومن المدهش أني ما كدت أضع حقيبتي في السيارة حتى رأيت حقائب صديقي الدميم تلقى في السيارة ووجدت هذا الصديق نفسه ينحط في المقعد ويجذبني إليه جذباً
وقال: أتهرب مني إلى الجبال وتتركني وحدي في هذا البلد الميت؟
قلت قلبك هو الميت يا صديقي! إن الحياة هي الحياة التي نعرفها نحن الأصحاء، أما أنت المريض ميت القلب فلا تعرفها ولا تحس بوجودها.
لم يعر فوره نفسي التفاتاً. . . وأشار إلى سائق السيارة أن يسير. ولما كانت السيارة تدرج على شاطئ البحر وتنعرج وتتسلق جبالاً هي مجموعة من حدائق وبسلتين كان صاحبي ملتزماً الصمت، وما كنت أعرف أكان صمته ذاك وسيلة لتهدئة نفسي، أم لعلك ما رميت به قلبه بالموات ولوك هذه الفرية.
ما أكثر وجوه الشبه بين فندق (الأيل) ويسمونه باللغة الإيطالية (شيرفو) وبين الأديار في لبنان! سكان الأديرة قساوسة جرفتهم الأقدار إلى هذا المحيط الضيق فأخذوا يمنون أنفسهم بمحيط واسع تتحقق فيه الأماني وتظهر الغاية الإلهية من الوجود الإنساني عقب الخلاص من هذا العالم الفاني!
سكان فندق (شيرفو) أكثرهم مرضى ينتجعون العافية في هذه المصحة، وشيوخ يأملون في العودة إلى الحياة، حياة الشباب عن طريق الاستراحة وطيب التغذية، وفتية صغار يضيق بهن ماء الفندق فيسترخون في الخرج القريب ويمرحون. وكنت أنا وصديقي الدميم كمريضين أو قسيسين ننتجع العافية أو نمني النفس بسعادة لا نجدها إلا في قراءة الكتب(625/49)
وفي شيء آخر محبوب أكثر من الكتب.
قال لي صاحبي ذات مساء وقد عاد من رحلة في تسلق الصخور: (لقد وجدتها، لقد وجدتها).
كانت نبرات صوته تدل في هذه المرة على شعور لم أتبين مثله في كلامه معنى من قبل، فقلت: وجدت من؟ من هي التي وجدتها؟
ولما لم يجب على سؤالي ولو بكلمة واحدة لم أعر تاء التأنيث اهتماماً لأني عرفت فيه نفوراً من الأنثى وسمعت حكمه الصارم على كل من يقترب منها.
تغيب عني في تلك الليلة فلم أر له وجهاً في غرفة المائدة ولا في قاعة الجلوس. وفي صبيحة اليوم التالي لمحته يهرول صوب وادي (أبولون) يحمل هراوة ليلحق بطائفة من النسوة ولم أرها انحدرت فيه قبله
من أين أقبلت هذه الزمرة من النساء؟ ما علاقة صاحبي بهن؟ من هي التي وجدها؟ هل هي واحدة منهن؟ لا أدري!
الفندق الذي أقيم فيه محدود مساحة وارتفاعاً، أكاد أعرف نزلاءه بملامحهم ووجوههم واحداً واحداً، وواحدة وواحدة، من شيوخ وأطفال كأن عنصر الكهول والشباب لا وجود له ولا حساب، فمن أين أقبلت زمرة النساء التي لحق بها صاحبي واندمج فيها حتى صرت لا أرى له وجهاً لا في الصباح ولا في وقت تناول طعام الظهر أو العشاء؟!
نضوت ثوب البلادة، واطرحت الكتب جانباً، وقمت أسعى. هداني السعي إلى فندق ملحق بفندقنا قائم على مرتفع ليس ببعيد، تحجبه غياض الصنوبر عنا، وتعج فيه الحياة، ويصطخب مرح الشباب بأمواج من السرور، ورأيت صاحبي الدميم تحف به جماعة من فتيان وفتيات يقهقهون. تقدمت قليلاً وما كدت أدنو منهم حتى أحاطوا بي وأخذوا ينهالون علي بأقوال فيها ضحك ومزاح وعدم تورع في السخرية من شاب مثلي دأبه القعود والقراءة والنوم، وآفته الكبرى مصاحبة رجل تتمثل فيه الدمامة.
أدركت مبلغ تسامح صاحبي معهم في المزاح حتى تجرءوا علي أنا الذي لم أرهم قبل هذه اللحظة، وكالوا لي بذات الكيل الذي رضى هو به.
أنقذت موقفي بتصويب سخرية لاذعة إلى جمال أبرز فتاة، وإلى رجولة شاب مسكين في(625/50)
الزمرة، ولم أتعفف عن صد كل مازح أو مازحة بضحكة المستهزئ.
شعرت بأني كدت أعكر الجو، وأجلب حق النفوس علي، التفت إلى رئيس الموسيقى وطلبت إليه أن يعزف رقصة (الفالس)، واجتذبت فتاة ليست على شيء من الجمال، وأخذت أرأقصها برشاقة وبراعة. . . تقلبت خمس رقصات على ذراعي. ولم تكف الفرقة الموسيقية عن العزف لأني دغدغت كيف رئيسها فصار طوع إشارتي.
صفا الجو الذي عكرته بسلاطتي التي ما كان لي محيص عن التوسل بها لإنقاذ نفسي من المأزق الذي حشرني فيه صاحبي على غير قصد. ولما فرغنا من الرقص تكونت حولي الراقصات اللاتي أعجبن برقصي فأخذت أحدثهن حديثاً طريفاً في فن الرقص ثم في الأزياء والعواطف وما تركت القاعة وقد كاد الصبح يتنفس حتى أيقنت أن سلطاني مد رواقه على الفتيات والسيدات والشبان النازلين في ملحق الفندق
لم أنس أن آخذ صاحبي الدميم حين عودتي إلى الفندق، ولما انفردنا قال لي إنه أنتقل إلى ملحق الفندق، فعرف فيه فتاة جذابة أذكت بفتنتها الجذوة الكامنة في قلبه. وقد عقد عزمه على الاقتران بها وأنه سيتزوجها لا محالة.
قلت: أفي النساء عليلة نظر وحس وذوق ترضى بدمامتك وشناعتك؟
أخرسني الخبيث بإشارة فضحكت.
أعدت إلى مسمعه قوله في المرأة أنها هبة الشيطان وسم الأفعى، وعصا إبليس؛ وحكمه على الرجل الذي يدنو منها بأنه خفيف العقل، ممسوس بخيال الغريزة فأجاب.
كان حكمي ذاك قبل أن أصعق بفتنتها.
قلت اذهب إلى فراشك لأنك متعب وسنتحدث في النهار في أمر زواجك.
قال محتجاً: لا، لا أذهب إلى فراشي ولن أذهب إليه، لا أطيق النوم. وارتمى على كتفي كطفل وقال بصوت باك كبكاء الطفل (لقد أحببت سمسم. بكل جوارحي العطشى، ما عرفت الراحة منذ عرفت الآنسة سمسم) ولن يستقر بي قرار حتى أبني بها
قلت: أجاد أنت فيما تقول أم هازل؟
رفع رأسه عن كتفي ونظر إلي نظرة استفسار حادة فتابعت قولي: كيف تكون جاداً وقد اضطرني موقف أصحابك من فتيان وفتيات منك ومني، وإمعانهم في الضحك والاستهزاء(625/51)
بك إلى مخاشنتهم، وكانت الآنسة (سمسم) هذه إحدى الضاحكات، وهل يشاد بناء الزواج على غير قواعد مكينة من الرصانة والجد؟
قال: مصيبتي الكبرى في وجهي المشوه الذي يثير الضحك، ثم ما شأني فيمن يضحكون مني فأسخر بهم فأهملهم للحظة واحدة وأنكرهم كأن لا وجود لهم؟ أما الآنسة (سمسم) فما ضحكت قط مني ولا هزأت بي، كنت أراقبها وأستشف معاني ضحكها، كنت أحس نظراتها تهز مشاعري، وحنوها يظللني كغمامة موسى الكليم، وأن شفقتها علي قد تدفع بي إلى اقتحام الصعاب وتذليلها لأجل إسعادها، وسأسعدها إذا رضيت بي زوجاً لها، سترضى وسأتزوجها.
قلت: أتعرف حكاية الشاب الفلاح مع ابنة الملك التي أحبها؟ قال: لا أعرف الملك والحكايات، بل أعرف حكاية عرشي في قلبي تستوي عليه مليكتي (سمسم).
قلت: (سمسم) هذه هل سألت عنها، هل عرفت أهلها، هل كشفتها الحب، هل عرضت عليها الزواج، هل رضيت بك بعلاً؟
صرخ في وجهي صرخة شعرت بحرارتها تغلب دويها وقال: هذه أمور أترك لك تذليلها، أما أنا فلست براغب فقط بل أريد حتماً الزواج من (سمسم) وسأرغمها على الرضى بي.
عجباً، كيف ترغم فتاة على قبول زواج؟
قال: يا لك من أبله، لقد لمحت شفقتها بي ترتسم في نظراتها، والشفقة عنصر قوي من عناصر الرضى والحب.
قلت أوافقك جدلاً على استنتاجك، ولكن هب أنها ليست على دينك فكيف يكون الحل؟
قال: من منا لا يقدم الدين الإنساني على نواميس الأديان السماوية وكلها في الجوهر واحد؟
قلت: دستور الدولة والعرف.
قال: أستهين بالعرف وبالشرائع التي تحول دون اتحاد قلبين وأدار كتفه وانصرف.
(يتبع)
حبيب الزحلاوي(625/52)
العدد 626 - بتاريخ: 02 - 07 - 1945(/)
نهضة العرب مشكلة؟!
نعم، كذلك قال السياسي الخطير ديجول، وقوله من وجهة نظره سديد معقول؛ فإن الجنرال يرى على ما يظهر أن العرب دوابُّ سُخِّروا لنقل الأحمال وجر الأثقال، أو هم على رأيه الأفضل عبيدٌ خلقوا للخدمة والاستغلال؛ ومتى عرف لحيوان أو العبد حقه وواجبه، فقد حطَّم راكبه أو قتل صاحبه!
بهذا المنطق الفرنسي وحده تستطيع أن تعقل ما قال هذا الرجل، فإذا أكرهت منطق الناس، على تصحيح قوله بالقياس، فقد حمّلته ما لا يطاق، وكلفته ما لا يدرك! وأي عقل غير عقل الجنرال يُسيغ أن فرداً من نوع الإنسان يرى في نهضة أخيه الإنسان، مشكلاً تعقد لحله المؤتمرات، وخطراً تقام لصده المعسكرات، وسبباً يختصم لأجله العالم بأسره؟!
ولقد زعموا أن (الانتداب) رسالة الغرب إلى الشرق، فهُوَ يحيل صحاريه فراديس، ويجعل أناسيّه ملائكة؛ فما بالهم إذن يتسعّرون بالغيظ، ويتنمرون بالعداوة، لأن العرب قد أدركوا أنهم كسائر الناس، لهم وطن لا يشركون به، واستقلال لا يساومون عليه، وسلطان لا ينزلون عنه؟! أليس ذلك لأنهم يرمون بنشر مدنيتهم إلى استعباد الجسوم، وبتعميم ثقافتهم إلى استرقاق الحلوم، وبفرض انتدابهم إلى امتلاك الأرض؟. . .
أتدري من أسمج من ذلك العتلّ الغليظ الذي يلقى بجسمه اللحيم الشحيم على صدر الفتاة الرشيقة الرقيقة في ملأ من الناس، ثم يفغر فاه الأبخر، ويصيح بملء صوته الأصحل: أحبك، فلابد أن تحبيني، وأدعوك، فلا مناص أن تجيبينني؟ أسمج منه ذلك الطفيلي الرقيع الذي يقتحم عليك دارك ويقول لك: صادقني لأنني أحب طعامك، وضيفني لأنني أريد إكرامك، وعاهدني لأكون سيدك وإمامك، وأطعني لأقوم في كل أمر مقامك؛ فإن أبيت. أو تأبيت فالسيف، حتى تقول أنا المضيف وأنت الضيف!
يا لكثافة الظل! أيهذه الرقاعة الثقيلة والفضول البغيض يطمعون أن يحملوا الغرب في شمال أفريقية، وفي لبنان وسورية، على أن يأخذوا (الجنسية) ليعطوا الدين، ويمنحوا الثقافة ليسلبوا العقل، ويدخلوا في التحالف ليخرجوا من الوطن؟
يا لسخافة العقل! أبهذه النية المدخولة والكلام المزور يخادعون خمسين مليوناً من العرب تثور في دمائهم أربعة عشر قرناً من التاريخ المجيد الحافل بالنبوة الهادية، والخلافة العادلة، والفتوح المحرِّرة، والقيام على ملك الله بالعمارة والعدل، والمحافظة على تراث(626/1)
الفكر بالزيادة والنقل؟
إن العرب بعد اليوم لن يُخدعوا؛ وإن أبناء الفاتحين لغير الله لن يخضعوا؛ وإن (الجامعة العربية) لهي الظاهرة الأولى لفورة الدم وثورة التاريخ؛ فليتدبر ذلك القائمون على إقرار السلم، والموقعون على ميثاق السلامة!
ابن عبد الملك(626/2)
فرنسا على حقيقتها
للأستاذ علي الجندي
أعرف ـ كما يعرف غيري ـ أن فرنسا دولة لا دينية، ولكني أعرف كذلك أن فرنسا اللادينية هي التي تلقب ببنت الكنيسة البكر، وتزعم لنفسها حماية الكاثوليك في الشرق من غير أن يطلب منها أحد ذلك، وأعرف أنها تُضاهر بعثات التبشير في كل مكان بمالها ونفوذها العسكري والسياسي، وأنها تحرق المعابد وتهدم المساجد، وتقتل إخواننا المغاربة في ظل المحاريب، لأنهم هذه الدولة الغاشمة من ألوان العذاب! وأعرف أنها واقفة للإسلام بالمرصاد في مستعمراتها الشاسعة الواسعة، لتحولا دون نشره بقوة القانون وبقوة الإسلام! ويبلغ بها التعصب أن تمنع عشرة آلاف من سكان (مدغشقر) من اعتناقه بحجة أنهم لا يفرقون بين الإسلام وغيره من الأديان! بل يبلغ بها التنطع أن تقطع ما بين برابرة المغرب وبين الإسلام من أسباب؛ وتضرب بينهم وبين إخوانهم العرب بالأسداد، فتلغي المحاكم الشرعية، وتغلق المدارس الدينية، وتخرج القضاة والقراء ومشايخ الطرق وتمنع قراءة القرآن وتعليم اللغة العربية، وتلفِّق لهم الشريعة جديدة من قوانينهم العرفية، لتسلخهم من الإسلام دفعة واحدة بهذه الطرق الإبليسية!
نعم أعرف أن فرنسا دولة لادينية كما قلت، ولكني كنت أرى في الوقت نفسه هذه الأعمال التي تعيد لنا محاكم التفتيش في أبشع صورها! فأقف حائراً ذاهلاً بين هذه المفارقات المضحكة المبكية! حتى حل لي هذا الطلّسم المعقد حجة الإسلام المرحوم السيد رشيد رضا حين قال ذات يوم في عرض حديث عن فرنسا وأعمالها: إن الفرنسيين واللاتين عامة يتربون في حجور القساوسة قبل أن يتربوا في حجرات المدارس، ومن هذا كانت كراهتهم للإسلام وللمسلمين وللعرب خاصة! حتى ولو صاروا ملحدين.
وأعرف أيضاً تقليدياً أن شعار فرنسا: الحرية والإخاء والمساواة، وأنها تفتح صدرها لطرائد الاستبداد، وتُسبغ حمايتها على شذاذ الآفاق من كل جنس ولون، وأنها لا تبخل بمنح جنسيتها (الغالية) لكل من هب ودب - وإن قصدت من ذلك سد النقص المطرد في عدد سكانها ـ وأن عاصمتها مرتع خصيب لطلاب المعرفة وطلاب اللذة، وأنها عاصمة الفن وعاصمة اللهو، ومدينة النور ومدينة الظلام، وأن العدالة الاجتماعية بلغت فيها غاية لا(626/3)
مزيد بعدها لمستزيد، فرئيس جمهوريتها (مسيو) وماسح الأحذية (مسيو)، والعامل يتقاضى أجراً على الفراغ كما يتقاضاه على العمل! وأن حرية الأحزاب فيها وتمسكهم بآرائهم قضى ألا يزيد متوسط عمر لوزارات الفرنسية على ستة أشهر منذ قيام الجمهورية الثالثة إلى نشوب هذه الحرب
عرفت هذا جيداً وسمعت إلى جانبه هذه النعوت البراقة التي يخلعها إخواننا المتفرنسون على فرنسا من رقة ولين ودماثة وظرف حتى ليلذذ للأمريكيين أن يُلجئوا الفرنسيين إلى الإساءة ليستمتعوا بعد ذلك باعتذارهم الطيف بلغتهم الرشيقة! ولكني كنت أشاهد أن فرنسا سوط عذاب ونقمة على كل بلد يرفرف عليها علمها المثلث الألوان، فهي الدولة التي تخرج الأهليين قسراً من أرضهم الخصبة لتوزعها على المستعمرين من أبنائها، وتعمل جاهدة على فرنستهم في كل مرافق الحياة بقوة الحديد والنار، وتستنزف أموالهم بما تفرضه من ضرائب باهظة بلغت في سوريا من 70 % إلى 80 % على بعض المواد بعد أن كانت من 11 إلى 25 في العهد العثماني، وبما تنشئه من الوظائف ذوات المرتبات الضخمة للفرنسيين وصنائعهم وجواسيسهم، حتى ارتفعت ميزانية النفقات في سوريا من خمسة ملايين ليرة سورية في آخر العهد التركي إلى 31 مليون ليرة، وارتفع عدد الموظفين من ألف موظف منهم خمسون تركياً يتناولون مرتبات ضئيلة إلى 18223 موظفاً منهم 1500 من الفرنسيين بين مدني وعسكري يتناولون أضخم المرتبات عدا الامتيازات التي تفوق الحصر هذا إلى 475000 ليرة تدفع سنوياً للجيش الفرنسي! أي لغربان السنغال جزاء تنكيلهم بها!
وأشاهد أيضاً أن فنسا هي الدولة المتخصصة في تدمير القرى الآمنة ودك المدن الأثرية، وإحراق الزروع، وتسميم الماشية وموارد المياه، وانتهاك حرمات المنازل ونهب ما فيها، وتقتيل الشيوخ والنساء والأطفال، وإعدام الأحرار بالألوف، ونفي زعماء المجاهدين إلى جزيرة الشيطان، والإمعان في إذلال وطنية الشعوب وخنق روحها، حتى كان في تونس ناد ـ لعله لا يزال قائماً ـ كتب على واجهته (ممنوع دخول العرب والكلاب)!
كنت أرى وأسمع فأقف مضطرباً مشدوهاً بين هذه المتناقضات الفرنسية حتى كشف لي عن السر السيد الحسن بو عياد من أحرار مراكش ومجاهديها في أعمال زيارته لقاهرة منذ(626/4)
سنوات قال - وهو يقص علينا ظرفاً من أعمال فرنسا في مراكش - إن الفرنسيين في بلادنا، لقد قابلت مدير البريد في (مرسيليا) لبعض الشؤن، فبهرني برقته وسلاسة حاشيته، فلو أن الفرنسيين في مراكش كانوا من هذا الطراز المهذب الوديع لتشبثنا ببقائهم إذا أرادوا الخروج
من هذا الوقت عرفت أن الفرنسي ذو طبيعتين، فهو عذب دمث كيّس في فرنسا، وفظ عتل في كل بلد يُنكب بسيطرته عليه ولو كان في أوربا نفسها! فسياسة العسف التي سلكتها فرنسا إزاء الألمان عقب الحرب الماضية وتشددها في تقاضي التعويضات وتشجيعها زنوج السنغال على الاختلاط بالفتيات الألمانيات، وعجرفة النمر الفرنسي (كليمنصو) والنقطة المربعة (بوانكاريه) وخلفاؤهم من الغلاة أمثال (ترديو) و (برتو) القائلين: بأن المغلوب يظل مغلوباً أبداَ، وتمسكهم بمبدأ السلامة الإجماعية، وإصرارهم على نصوص معاهدات كان يصفها الساسة دائماً (بأنها عجة مصنوعة من بيض فاسد) ثم عدم مسايرتهم للسياسة الإنجليزية في تشجيع جمهورية (فيمار) الألمانية الناشئة، كل أولئك ممن أقوى الأسباب في إنبات هذا النبات الشيطاني المسمى (النازية) والتمهيد لقيام الطاغية (هتلر) وما استتبع ذلك من وقوع المأساة العالمية التي خرجت البلاد وأفنت العباد!
هذه هي فرنسا في صورتها الأصيلة: حرة مستبدة، لينة وقاسية، كيّسة ومتغطرسة، ومتمدينة ومتوحشة! ولكن حذار فهذه الجوانب الزاهية التي تلبس غلالة إنسانية في الظاهر، فاكهة محرمة على غير الفرنسيين! وهي بضاعة لم تصدر قط - وان تصدر - من (مرسيليا) و (بردو) و (الهافر) إلى الخارج!
فلا يعجبن الأستاذ سيد قطب من قول مجادله (إنك لم تعش في فرنسا) إلى آخر ما قال، فلهذا (البارزياني) بعض العذر، لأنه كان يتكلم وخياله عالق بضفاف السين وغابة بولونيا وعاملات الأزياء!
ولو أنه رنا ببصره إلى فاس والجزائر وتونس العانيات، والى دمشق وحمص وحماة الداميات، لتورع أن ينطق بهذا الهذر والهذيان!
علي الجندي(626/5)
طبعي لا طباعي ولا طبعي
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
لما بدأ العربيون منذ أكثر من ألف سنة يؤلفون وينقلون علوم الأمم واحتاجوا إلى النسبة إلى الطبيعية - قالوا: (الطبيعي) وقد شذ هذا النسب كما شذ النسب إلى السليقة. ولم يخطئ القوم في نسبتهم هذه أحد. وجاء (الطبيعي) في كلام الأديب واللغوي كما جاء في حديث المتكلم والفيلسوف: وإذا نسب أبوا حيان في (المقابسات) إلى (الطباع) كما ذكر العالم الباحث الأديب الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي - فما أكثر نسبته إلى الطبيعة ففي (مقابساته) في ص 333: (فإنه ليس من معلول طبيعي ولا صناعي تنقطع عنه علته إلا فسد وباد) وفي المناظرة بين السيرافي والقنائي التي دبجتها يراعته وبراعته: (فكيف يجوز أن يكون ها هنا شئ يرتفع به الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي) (وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي).
فالنسبة إلى الطبيعة هي النسبة المتقبلة المستجادة. وكافيك أن نابغة العرب واللغة والأدب أبو العلاء يقول في إحدى رسائله: (ولا يقل سيدي أدام الله عزه قد قصرت الشعراء قديمها ومولدها، وأولها السالف وآخرها، وفصيحها الطبيعي ومتكلفها، فإنه لو استعمل ضرورة غير تلك لقبلت حجته. . .) وأن اللغوي العظيم أبن سيده يقول في مقدمة مخصصه: (. . . وإن أرادوا تسمية جزء منه أشاروا إلى ذلك الجزء فقالوا: عين أنف فم ونحو ذلك من أجزائه التي تتحلل جملته إليها، وتتركب عنها. فمتى سمعت اللفظة من هذه كلها عُلم معناها وصارت له كالسمة المميزة للموسوم، والرسم المحتاز لما تحته من المرسوم، وكالحد المميز لما تحته من المحدود، وإن كانت تلك الإبانة طبيعية وهذه تواضعية غير طبيعية) (فإذ قد بيّنا ما اللغة أمتواطأ عليها أم موحى بها وملهم إليها فلنقل على حدها لأن الحد طبيعي. . .).
فهذان الإمامان الحجتان ينسبان إلى (الطبيعة) ويقولان (الطبيعي) فمن وجدناه اليوم قد نسب إلى (الطباع) لم نستنكر نسبته ولم نلمه غير أنا نردد هذا المثل: (امرأً وما اختار. . .) ومن آلم آذننا وعيوننا ب (الطبعي) و (البدَهي) عَوْذٌ بالله، عوذ بالله! - وقد استمرت العربية تقول: (الطبيعي والبديهي) ألف حول غلَّطناه ورأيناه كمن يقول (السلقى) في النسبة(626/6)
إلى (السليقة).
وما اختار الأئمة الذي اختاروه وآثروا شاذاً على مطرّد أو منقاس عن جهل أو غفلة، ولكن هو ذوقهم العالي الذائق، وحسهم الدقيق اليقظ، قاداهم إلى التي هي أحسن والتي هي أقوم. وفي (استحوذ - في الكتاب - واستحاذ) حجة الشاذ.
وبعد فلهذه (الطباع) التي هاجها بعد السكون وبعد طول الزمن العليّ بخلقه وبعلمه وبفضله الأستاذ عبد المتعال قصة طويلة. وإنها لحقيقة بالرواية في (الرسالة) وهذه قصتها مختصرة:
أبو على الفارسي يقول: الطبع مصدر ثم كثر فسمي به الطباع.
وأبو القاسم الزجاجي يقول: الطباع واحد مذكر كالنحاس والنجار.
وأبن الأثير صاحب النهاية يقول: هو أسم مؤنث على فعال نحو مهاد ومثال.
وابن سيدَهْ في (مخصصه) يقول: طباع الإنسان يذكر ويؤنث، والتأنيث فيه أكثر، وهو واحد مثل النجار إلا أن النجار مذكر.
وأبو حاتم - كما ذك المخصص - يقول: الطباع مذكر لا غير إلا أن تُتَوهم الطبيعة.
والأزهري صاحب التهذيب يقول - كما نقل اللسان والتاج - يجمع طبع الإنسان طباعاً.
والأزهري أو غيره يقول - كما نقل اللسان والتاج -: الطباع واحد طباع الإنسان على فعال.
قلت: فهو عنده كهجان وهجان ودلاص ودلاص.
وصاحب (شفاء الغليل) يقول مورداً نقد ابن قتيبة وتعقب البطليوسي: طباع واحد مذكر كالطبع ومن أنثه ذهب إلى معنى الطبيعة. وقد جوّز أن يكون جمع طبع ككلب وكلاب قال ابن السِّيْد في شرح أدب الكتاب فليس خطأ كما توهم
والمجد يقول في (قاموسه): الطبع والطبيعة والطباع ككتاب السجية جبل عليها الإنسان، أو الطباع ككتاب ما ركب فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا.
وأبو عبد الله محمد بن الطيب يقول في (شرحه القاموس) ناقداً المجد: ظاهر بل صريحه كالصحاح أن الطباع مفرد كالطبع والطبيعة وبه قال بعض من لا تحقيق عنده تقليداً لمثل المصنف، والمشهور الذي عليه الجمهور أن الطباع جمع طبع.(626/7)
والزبيدي صاحب التاج يقول ردًّا على شيخه: قول شيخنا ظاهرة الخ. . . يُتعجب من غرابته ومخالفته لنقول الأئمة. وليت شعري من المراد بالجمهور، هل هم إلا أئمة اللغة، فهؤلاء كلهم نقلوا في كتبهم أن الطباع مفرد، ولا يمنع هذا أن يكون جمعاً للطبع من وجه آخر كما يدل عليه نص الأزهري. وأرى شيخنا (رحمة الله تعالى) لم يراجع أمهات اللغة في هذا الموضع. سامحه الله تعالى وعفا عنا وعنه، وهذا أحد المزالق في شرحه فتأمل.
وشيخنا أبو العلاء حكمه في (الطباع) بيّن في هذين البيتين:
طباع الورى فيها النفاق فأقصم ... وحيداً ولا تصحب خليلاً تنافقه
هذي طباع الناس معروفة ... فخالطوا العالم أو فارقوا
ووجدت الطباع مجموعة - كما يظهر - في هذا الحديث العظيم في هذا (الدرس) في أدب النفس، وهو خير ما يختم به هذا البحث، وهو في (الطبقات الكبرى) لابن سعد:
قال مُعاذ بن سعيد: كنا عند عطاء بن أبي رباح فحدث رجل بحديث، فاعترضه رجل، فغضب عطاء؛ وقال: ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الطباع؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه، ولعسى أن يكون سمعه مني، فأنصت إليه، وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك.
هذه حكاية (الطباع) الذي أو التي أو اللواتي جاء الأستاذ عبد المتعال - أدام الله نفعنا بفضله - يهيجنا ويهيجنا من أجلها. . .(626/8)
لزوم ما لا يلزم
متى نُظم وكيف نُظم ورُتب؟
للدكتور عبد الوهاب عزام
رجحنا أن أبا العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد كما قلت آنفاً. وقد عرفنا أنه ذكر سن الأربعين والخمسين كثيراً ولم يذكر الستين قط على برمه بالحياة وتعجُّله بالموت - ولو بلغها وهو ينظم اللزوميات لأكثر ذكرها - فساغ أن نقول إن الرجل نظم اللزوميات من سن الأربعين إلى أن نيّف على الخمسين. وأما السبعون فأغلب الظن أنه لم يعن بها نفسه.
وإن قدرنا أنه المعنى بها فقطعة أو قطع قليلة نظمت بعدُ وألحقت بهذه المجموعة التي نُظِمت كلها أو جلها في السن التي قدرتُ.
ويؤيد هذا أن الحوادث التي ذكرها وقعت كما بينت في أوائل القرن الخامس ولم تتأخر عن سنة 420، وكذلك الرجال الذين ذكرهم أحياء كصالح بن مرداس ومحمود بن سبكتكين ماتوا قريباً من هذا التاريخ. وقد رثى الوزير المغربي توفي سنة 418. وأشار إلى وفاة الحاكم بأمر الله وقد توفي سنة 411. فكل حادثة مؤرخة نجدها في اللزوميات تقع في العشرين الأولى من القرن الخامس. وكل رجل ذكره الشاعر ذكر الأحياء هلك حول هذا التاريخ: صالح مات سنة 420، ومحمود مات سنة 421.
وأما مسعود بن محمود الذي تولى سنة 421 فقد ذكره مرة مع أبيه ولم يعد إلى ذكره. فهو لم ينظم في أيام مسعود بعد هلاك محمود، أو لم ينظم إلا نادراً.
وأعزّز بأمر يستأنس به مضموما إلى الأدلة السابقة، أن أبا العلاء ذكر في مواضع من الكتاب أنه لم يشِب، وزعم أنه كان جديراً بأن يشيب، وأنه لا يسره بقاء شعره أسود. يقول:
ويحمل الهم قلبي مُعفياً جسدي ... رأسي أحمُّ وظهري غيرُ مُنأطر
غرَّك سود الشَّعرات التي ... في الوجه مني وأنا الدالف
كلَّفتَني شيمةَ عصر مضى ... هيهات منك العُصُر السالف
أيا مَفرِقي هلا أبيضضت على المدى ... فما سرَّني أن بتَّ أسود حالكا(626/9)
قبيح بفَود الشيخ تشبيه لَونه ... بفَود الفتى والله يعلم ذلكا
تأخُّرَ الشيبِ عنّي مثلُ مَقدمه ... على سواي ووقت الشيب ما حضرا
ثم ذكر في مواضع كثيرة لا تقل عن عشرة، شيبَ رأسه وبياضَ شعره، مثل قوله:
نمنا على الشَّيب فهل زارنا ... طيف لأصل الشرخ منتابُ
كانت مفارق جُون ... كأنها ريش غِربه
ثم انجلت فعجبنا=للقار بُدِّل صَربه
أأذهِب فيكمُ أيام شيبي ... كما أذهبتُ أيام الشباب
قد شاب رأسي ومِن نَبت الثرى جسدي ... فالنبتُ آخر ما يعتو بِه الزهَر
أيها الشيب لا يريبُك من كفِّي ... مِقصٌّ ولا بُواريك خِطْر
إن نهيتَ النفس اللجوجَ عن الإث ... م وطابت فإنما أنت عِطر
فقد نظمت اللزوميات وشعره أسود، ثم استمر النظم حتى شاب. وهذا يلائم السن التي ذكرتها والتاريخ الذي حددته. ولو أنه نظمها كلها قبل الأربعين لما ذكر الشيب، ولما استبطأه.
ولو نظمها كلها بعد الخمسين لما ذكر بعد الخمسين لما ذكر المفرق الحالك والشعرات السود ولا يجوز أن يدعى أنه نظم قبل الشيب واستمر ينظم حتى مات، وسن الشيب متصلة بالموت. فقد دلت الأدلة الأخرى على أنه لم يستمر في النظم طول عمره.
ويمكن أن يقال: إن كان أبو العلاء فرغ من نظم اللزوميات أو كاد حين بلغ الخمسين فكيف ذكر الكبر متبرِّما، وطول الثواء متململا، وذكر دنو الأجل وقرب الرحيل، وسقوط الأسنان، في مثل قوله:
طال الثواء وقد أَنَى لمفاصلي ... أن تستبدَّ بضمِّها صحراؤها
وما زال البقاء يُرِثُ حبلى ... إلى أن حان للمَرَس انقطاع
أعلِّل مهجتي ويصيح دهري ... ألا تغدو فقد ذهب الرفاق
تخلفتَ بعد الظاعنين كأنهم ... رأوك أخا وهن فما حملوكا
أيتها النفس لا تُهالي ... شرخي قد مرَّ واكتهالي
لم يبق إلا شفاً يسيرٌ ... قُرِّب من مورِدي نِهالي(626/10)
فمي أخذت منه الليالي وإنني ... لأشرب منه في إناء مثَّلم
ربِّ متى أرحل عن هذه الد ... نيا فإني أطلت المقام
هذه الأبيات وأشباهها تصدر عن شيخ هِمَّ، بلغ أرذل العمر، وذهب جيله وبقى وحده. ولكن المعري له شأن آخر، فهو يَبرَم بالحياة في عنفوانها ويقول.
شربت سنيَّ الأربعين تجرُّعا ... فيا مقِراً ما شربُه فيَّ ناجع
ويرى أن الحياة بعد الأربعين موت، والوجدان فقد
حياتي بعد الأربعين منيّة ... ووجدان حلف الأربعين فقود
فشكوى أبي العلاء من الضعف، وهتافه بالموت، وبرمه بالحياة لا يدل كل حين على الشيخوخة أو الهرم.
وأما قوله:
فمى أخذت منه الليالي وإنني ... لأشرب منه في إناء مثلِّم
فسقوط الأسنان كثيراً ما يعرض في السن التي قدَّرت انه نظم فيها الكتاب.
وقد ذكر سقوط أسنانه في رسالته إلى أبي الحسن بن سنان وقد تقدم إليه باختصار كليلة ودمنة بأمر عزيز الدولة. وعزيز الدولة قتل سنة 412، ولما يبلغ أبو لعلاء الخمسين.
المبحث الثاني
ترتيب اللزوميات
- 1 -
وضع أبو العلاء خطة هذه المنظومة متكلفاً فيها ثلاث كُلَف كما قال في المقدمة: أن يلتزم في قوافيه حرفاً لا يلزم، وأن ينتظم حروف المعجم كلها، وأن يستوفي في كل حرف الحركات الثلاث والوقف.
وقد تبيّن من تاريخ الحوادث التي ذكرت في هذا النظم ومن تاريخ الرجال الذين ذكرهم ومن الأسنان المختلفة التي ذكرها أن الترتيب الهجائي لا يساير الترتيب الزمني. انظر إلى روىّ الأبيات التي أثبتّها فيما تقدم، وإلى تاريخ الحوادث التي تتضمنها والأسنان التي تذكر فيها تر هذا واضحاً. فلا يسوغ أن نظن أن قطعة على روى الباء مثلاً ينبغي أن يَتقدم(626/11)
تاريخها على قطعة في حرف الميم، وينبغي ألا ينظر إلى الترتيب الهجائي في تتبع آراء أبي العلاء في لزومياته.
- 2 -
ودليل آخر: أنّ كثيراً من القطع المتوالية تتفق في الموضوع أو تتفق في الوزن والقافية بل تتفق في كلمات القافية أحياناً. فلو أنه نظمها ولاء لم يكن للفصل بينها وجه، وكان يلزم أن تكون قطعة واحدة، ولو نظمها قِطَعاً متوالية لم يُجِز لنفسه أن يكرر فيها القوافي والمعاني. فليس الفصل بينها إذا إلا بأنها نظمت في أحيان مختلفة ثم جمعت.
أنظر إلى هاتين القطعتين، وهما متواليتان على الميم المضمومة:
العقل يخبر أنني في لجَّة ... من باطل وكذاك هذا العالم
مثلُ الحجارة في العظات قلوبنا ... أو كالحديد فليتها لا تألم
ويليها:
لم تَلقَ في الأيام إلا صاحباً=تأذى به طول الحياة وتألم
ويُعَدُّ كونُك في الزمان بليَّةً ... فاصبر لها فكذاك هذا العالم
ويقول من قطعة في حرف القاف:
مرازبُ كسرى ما وقت مهجة له ... وقيصر لم يمنع ردَاه البطارق
وفي قطعة تليها:
وهل أفلت الأيام كسرى وحوله ... مرازبه أو قيصر وبطارقه
فلو أن القطعتين نظمتا ولاء ما كرر هذا المعنى.
وأما القطع المتوالية المتفقة في الوزن والقافية، والروي وحركته أو سكونه فكثيرة لا تحوج إلى التمثيل هنا، والأمر كله أبين من أن يطال فيه الكلام.
- 3 -
وهنا نسأل: إن كان أبو العلاء لم ينظم على ترتيب الحروف والحركات فكيف ضمن الوفاء بما التزم من استيعاب الحروف وحركتها؟ إن كان قد نظم على الروي والحركة اللتين تعنَّان له دون أن ينتقل من حرف إلى ما يليه ومن حركة إلى ما بعدها فكيف استوعب(626/12)
الحروف والحركات؟
لنا أحد فرضين: إما أن الرجل كان يأمر كاتبه أن يثبت كل حرف في فصل على حدة، وكان يستعيد، قوافيَ هذا الفصل فيكمل نقصه حتى كملت الحروف والحركات؛ وإما أنه جعل الكتاب كله مجموعة واحدة على غير تفصيل، وكان يقصد إلى تغيير الحروف كل حين على غير ترتيب؛ فلما اجتمع له مقدار كبير من المنظوم رتبه وأكمل نقصه. وبهذا يُشعر قوله في المقدمة. هذا حين أبدأ وأكمل نقصه. وبهذا يُشعر قوله في المقدمة. وهذا حين أبدأ بترتيب النظم.
ونحن نجد في الكتاب قطعاً نظن أنها لم تنظم إلا لضرورة هذا الاستيعاب فالثاء المفتوحة، والذال الساكنة، والضاد المضمومة، والطاء الساكنة، والهاء الساكنة، لم يَنِظم في كل منها إلا بيتين اثنين وهما أقل ما ينظم لإنفاذ خطته. وقد قال هو هذا في آخر المقدمة
- 4 -
نظم أبو العلاء ملتزماً ما لا يلتزم، ومستوفياً الحروف وحركاتها، ورتب كتابه على الحروف وعلى حركات كل حرف، قال في آخر المقدمة:
(وهذا حين أبدأ بترتيب النظم وهو مائة وثلاثة عشر فصلا؛ لكل حرف أربعة فصول. وهي على حسب حالات الرويّ من ضمْ وفتح وكسر وسكون، وأما الألف وحدها فلها فصل واحد، لأنها لا تكون إلا ساكنة. وربما جئت في الفصل بالقطعة الواحدة أو بالقطعتين ليكون قضاء لحق التأليف. وبالله التوفيق).
وقد أدركت أنا بالتأمل في فصول اللزوميات، ترتيباً آخر لم ينبه إليه المعري، وهو ييسر على الباحث عن الأبيات في الكتاب، زيادة على التسيير بترتيب الحروف والحركات؛ ذلك أن الأوزان في كل فصل مرتبة على ترتيب الدوائر والأبحر عند العروضيِين.
فنجد البحر الطويل في الفصل مقدماً على غيره، والمتقارب مؤخراً عن غيره. والأبحر بينهما على ترتيبها. وليس معنى هذا أنه استوفى في كل فصل الأبحر الخمسة عشر، بل المعنى أن ما يوجد من الأوزان في فصل يلتزم فيه الترتيب.
فالذي يبحث عن قطعة أو بيت على الراء المفتوحة - مثل - لا يلزمه، إذا عرف الوزن، أن يبحث في أبيات الراء المفتوحة كلها، بل يطلب البحر الذي فيه وزن القطعة أو البيت(626/13)
في موضعه من الراء المفتوحة. وذلك يسير إذ عرف ترتيب الأبحر في العروض وهو أمر أمم.
هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكوراً بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته.
ووراء هذا بحث مجمل في أمهات الأفكار التي ضمنها أبو العلاء لزومياته.(626/14)
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 2 -
العقاد سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه - 99 في المائة من كتابنا كذلك - لكلاسيه داء مصر والشرق - كتابنا أعداء الكلمات الأعجمية
- 1 -
(وقد التفتُّ إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون على غير ما يحب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية وهي أن الاشتراكيين يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذه السبب أيضاً مستقبلون وليسوا سلفيين. . . في حين أنه سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيداً في هذه السلفية، لأني أعتقد أن 90 بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون) ص 11
(والكلاسية في مصر كما نراها في أيامنا ليست لغوية أدبية فقط بل هي اجتماعية مزاجية ذهنية، فدعاتها مثلاً يهتمون كثيراً جداً في التأليف عن الخوارج في أيام علي بن أبي طالب، ويهملون التأليف عن الخوارج على الديمقراطية في أيامنا، وهم يدرسون رجال الأمس والأمس هنا قبل 1000 سنة ميلادية ولا يدرسون رجال اليوم) ص 120
- 2 -
يرحم الله أبا جعفر المنصور، فقد قال: (إنه لم يُسرِ أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه) وقد استعلنت المنكرة التي يكتمها الأستاذ سلامة في غضون كلامه، وأطلت برأسه حين دعا إلى (الاشتراكية) في اللغة، وحين غاظه أن يثلب العقاد (الاشتراكية)؛ لأنها تدعو - فيما إليه تدعو - إلى التدلي في اللغة، والهُوِىّ بهذا الفن الجميل من سمائه العالية(626/15)
إلى منحدر الدهماء والطغام.
ثم تجرّم على العقاد فزعم أنه متحجر اللغة، عتيق الأسلوب، رجعي التفكير، محافظ في سلوكه، وكأنما لم يشف غله هذا التخصيص فتخرص على 99 في المائة من كتابنا بأنهم كذلك آسنون، وما دليله الذي يجول به ويصول؟ دليله أنهم يكتبون عن خالد والخوارج ولا يكتبون عن رجال اليوم.
يالها من دعوى خرقاء، ويالها من حجة جوفاء.
أيذم أسلوب العقاد وهو ما هو سلاسة وسلامة ونصاعة؟
أذنب العقاد في نظر الناقد أنه يأخذ قامه بقواعد اللغة وروحها فلا يلحن، ولا يخطئ، ولا يسف في تعبير، ولا يحتاج إلى من يصحح له ما يكتبه كما يحتاج غيره؟
لقد كتب العقاد في السياسة والأدب والتاريخ والقصة، وأسلوبه في هذه الفنون كلها فارع بارع ممتع.
ثم كيف يتهم العقاد بأنه آسن التفكير؟
لقد ألف عدة كتب، وكتب مئات المقالات في شتى الموضوعات فلازمته فحولة الفكر، وصاحبته سمة الاستقلال في الرأي، وما وجدناه مرة يتضاءل كما يتضاءل غيره أمام رأي قديم أو فكرة لعالم أوربي، وحتى العلامة (فرويد) الذي يتعبد بآرائه الأستاذ سلامة قد نقده العقاد، والعلامة (داروين) الذي يشايعه الأستاذ سلامة في كل نظرياته قد خالفه العقاد، وبهذا الروح القوي الحر كتب العقاد ما كتب في القديم والجديد وما معنى أن العقاد سلفي في سلوكه؟
أيعيبه لأنه ليس من أهل الخلاعة والمجانة واستباحة اللذات جهرة كما يفعل الممرورون من أدعياء الأدب والفن؛ لأن الشذوذ والانحراف الخلقي في نظرهم وثيقة بأنهم ناس ليسوا كالناس؟
أم يعيبه لأنه رجل يؤمن بالرجولة فلا يكتب مرة ليتملق المرأة ويزعم لها أنها جدير بالمساواة، خليفة بأعمال الرجال؟
أم يعيبه إذ لم يخرج على الأمة بصيحة تحقر أدبها، وتبلبل لغتها، وتزدري خصائصها وأخلاقها، وتمتهن مفاخرها وأبطالها؟ لست أدري.(626/16)
- 3 -
وليست هذه العيوب مقصورة على العقاد وحده، بل يشركه فيها 99 في المائة من كتاب مصر، فمن بقى إذن؟ لم يبق خاليا من العيوب إلا الأستاذ سلامة ومحرر بعض المجلات الشعبية، فهم أرباب الأساليب والأفكار المرتضاة عنده؛ لأنهم يسفون في تعابيرهم، ويتوخون العامية في كتاباتهم، ويختارون المجازات (البلدية) والكنايات (الشعبية) والموضوعات التافهة المبتذلة.
يا ويح الأدب العربي في هذا العصر إن كان قد حرم بيان (الزيات) الرفيع، وأسلوبه الفياض بالحياة، الفياح بعبير الجمال وعطر الفن.
وويل للأدب في هذا العصر وفي كل عصر إن استكان رُواده وشداته لدعوة الأستاذ فآثروا الفسولة في تعبيرهم، والاتضاع في تصويرهم والتدلي في لغتهم، إذن لبرئ الأدب منهم، وإذن لَعُمِّيت عليهم وجوه الجمال في تراثهم من أدب الأسلاف، وإذن لعَمُوا عن السر في بلاغة القرآن وإعجازه، وهذا كله بعض ما تقترفه هذه الدعوة العاسفة الهدامة.
- 4 -
وكتابنا كلهم متخلفون رجعيون في رأي المؤلف؛ لأنهم يُعَنُّون أنفسهم بالبحث في الماضي، وتنضح أقلامهم بدراسة تراثنا المجيد، ولا يكتبون عن الحاضر شيئاً.
فأي حق في هذا وأي صدق!
لقد كتب العقاد عن الماضي بروح العصر، وثقافة العصر، والطرق الحديثة في البحث والتحليل، وأسهم في بعث مفاخر هذه الأمة التي أرادت العالم أحقاباً طوالاً، وشارك في إحياء الأمثلة العليا من بطولتها؛ لأن الأمم لا تنهض بحاضرها وحده، بل لابد لها من ماض مجيد يلهمها وينفخ فيها من روحه قوة وحيوية، وهذا ما فعلته الدول الناهضة الغالبة اليوم، وليس أهدم للأمة المتوثبة للمجد من تنكرها لماضيها الحافل، وغفلتها أو تغافلها عما لها من عظائم وجلائل، واعجب عجباً لا ينقضي ممن دعا إلى الفرعونية مراراً وقد انقطع ما بيننا وبينها من نسب، ثم لما بارت دعوته أخذ يعيب الذين يدرسون العرب، ويكتبون عن أبطال العرب كأنه يرتبط بالفراعنة بنسب ثم لا يصله بالعرب سبب!!(626/17)
وربما دار بخلدي أنه يلحي العقاد وهيكل وطه والحكيم وغيرهم لأنهم كتبوا عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام كتباً تخضع لطرائق البحث الحديث ولكنهم جلوا نواحي من عظمته، وابرزوا طرفاً من سمو رسالته، ولم يجمح بأحدهم قلمه فيتقول أو يتهجم، ثم كتب العقاد وهيكل في أبي بكر وعمر وخالد، وكتب العقاد في علي والحسين وعائشة، فلا والله ما وجدوا إلا صحائف من ذهب تتبلج بالعظمة والبطولة والنبالة، وما قالوا إلا ما قرءوا في هذه الصحائف الخالدة، ولو كانا غير مسلمين ما تغير قولهما ولا حكمهما، فالبطولة سحر غلاب يجتذب الولي الحميم، والعدو الخصيم، وشمس سافر، تغمر بضيائها الباهر، القريب والبعيد، وتنفذ آرادها إلى واضع كفيه على عينيه.
وهل كتابنا اقتصروا على الماضي وحده كما يزعم؟
لنستعرض بعض مؤلفاتهم ثم نحكم.
هذا هو (الزيات) كتب في تاريخ الأدب العربي كتابه، فأرخ للأدب بأدب، وكان مثل يوفون إذ كتب في التاريخ الطبيعي ببيان خلاب، ومع ذلك فقد ترجم آلام فرتر لجيته، وروفائيل للامرتين ترجمة يقرر الحاذقون للألمانية والفرنسية أنها كالأصل بلاغة وسمواً ودقة، ويكتب منذ أكثر من عشر سنوات في مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية.
وهذا هو (العقاد) كتب العبقريات، ولكنه ألف (سعد زغلول)، و (شعراء مصر وبيئاتهم) و (الحكم المطلق في القرن العشرين) و (هتلر) وغيرها، وله مئات المقالات في شتيت الموضوعات والمناسبات.
وهذا (هيكل) ألف عن (محمد) و (أبي بكر) و (عمر) ولكنه ألف أيضاً عن (روسو) و (السياسة المصرية) الخ.
فأي منصف بعد ذلك يتجنى على كتاب مصر بأنهم يحيون وعيونهم مشدودة إلى الماضي وحده؟
ومن ذا الذي يجحد فضلهم في مسايرة الثقافة، ومواثبة الحياة المتجددة المتطورة؟
إنهم يواثبون الثقافة ولكن أكثر إنتاجهم - متأثراً بهذه الثقافة - شرقي الروح، عربي الأسلوب، إسلامي النزعة، وكل ميزة من هذه الميزات مرة في بعض الأفواه، فكيف بها(626/18)
مجتمعة
ثُم لماذا تضفَى نعوت العبقرية على (إميل لودفيج) لأنه كتب عن المسيح عليه السلام كتابة رائعة، ويوسم كتابنا بالرجعية إذا ما كتبوا عن النبي محمد وخلفائه؟
وإنه لعقوق أن يبهر ماضينا بعض المستشرقين فيجردون أقلامهم لتمجيده، والكشف عن لآلئه، كما فعل (استانلي لين بول) في (قصة العرب في إسبانيا) فتغنى بمجدهم؛ لأنهم كانوا شعلة النور في أوربا بعد أن خمدت مدينة الرومان، واندثرت حضارة اليونان، وكما فعل (سيديو) ومؤلفو (التراث الإسلام) و (دائرة المعارف الإسلامية) ثم نعمى - ونحن ورائهم - عن هذا المجد فلا ننوه به.
ولماذا لا يعاب كتاب الغرب وهم ما فتئوا يكتبون عن هوميروس وافلاطون وأرسطو والإسكندر؟
الحق أن الأستاذ سلامة كثير الدعاوى، غريب القضايا، مفتئت على المنطق الذي يريده أساساً للفكر والأدب.
بقيت إشارة عجلي إلى خلط آخر في كتابه كالخلط الذي بيناه في لومه أبا تمام في المقال السابق، تلك أنه نسب إلى العقاد التأليف عن (حسان) فليخبرنا متى كان ذلك؟ اللهم إلا إذا أراد بحسان كل مشايع للرسول منافح عن الإسلام.
- 5 -
(يكره كتابنا الكلمة الأجنبية، فيقولون سيارة بدلاً من أتومبيل) ص 30
ودعا في كتابه إلى إدخال الكلمات الأعجمية على حالها، واستدل بان العرب أدخلوا في لغاتهم في العصر العباسي كلمات أعجمية.
ولكنه نسى أن العرب استعاروا كلمات من الفرس واليونان والهند بعد أن صقلوها أولاً صقلاً عربياً لتلائم منطقهم، كلفظ آذريون من آذركون، وديباج من ديوفار ونيروز من نوروز الخ وقلما استعملوا الكلمة الأعجمية على حالها، وكان ذلك للتظرف والتملح فحسب مثل كلمة آب صرد بمعنى الماء البارد في قول العماني:
لما هوى بين غياض الأسد ... وصار في كف الهزبر الورد
آلى يذوق الدهر آب صرد(626/19)
على أنهم عربوا حيث افتقروا إلى كلمات تؤدي معاني خاصة ليس في لغتهم ما يؤديها. وإذا كان الأستاذ يستدل على جمودنا ومرونة الإنجليز بأن في لغتهم نحو ألف كلمة عربية فليدلنا على كلمة واحدة ينطقها الإنجليز كما ينطقها العرب.
على أن كتابنا محقون في أنهم لا يلجئون إلى الكلمة الأعجمية إذا كان في لغتنا ما يدل عليها، أو نستطيع أن نشتق من لغتنا ما يؤدي معناها، وما من شك في أن لفظ سيارة يؤدي المعنى، وهو أخف نطقاً وأحلى وقعاً من لفظ أوتوموبيل. وما من شك أيضاً في أننا إذا أبحنا لأنفسنا استعمال الكلمات الأعجمية على حالها وبغير ضرورة إلى استعمالها فقد حفرنا للغتنا ولقوميتنا قبراً بأيدينا؛ لأنه لن يمضي قرن واحد حتى تصير لغتنا خليطاً مشوهاً من عربية مهزومة، وعامية مختلفة باختلاف الأصقاع والبيئات، وأعجمية غارية متفشية، ثم بعد قرن آخر تندثر العربية والعامية ونتفرنس أو نتجلنز، ويصيبنا ما أصاب إخواننا العرب في تونس والجزائر ومراكش.
ومن الخير أن يقتصر التعريب على كلمات أعجمية لا مناص لنا من استعمالها في العلوم المختلفة، ولا ضرر على لغتنا ولا على قوميتنا من ذلك، ثم لنعرب الكلمات التي جدت في الصناعة وشئون الحياة إذا لم نجد في لغتنا أو مشتقاتها عديلاً لها، وأما غير هذا فاندحار وانتحار، وتخريب لبيوتنا بأيدينا، ومعاذ الله أن يحيق بنا ذلك.
(يتبع)
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية(626/20)
بحث في الصلاة
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
عينت الديانة الإسرائيلية عدد الصلوات وأوقاتها في اليوم، وفي المواسم والسنة، ويقسم المستشرق (ميتوخ) الصلاة اليومية إلى نوعين: شماع (شمع) وتقابل في العربية كلمة (سماع)، وتفيلة أما الشماع (السماع) فعبارة عن قراءة بعض أقسام معينة من التوراة وأما سبب تسميتها (بشماع) (سماع) فلأنها تبدأ بكلمة الشهادة وهي (شِمع يسرائيل) أو (اسمع يا إسرائيل) وهي شهادة بني إسرائيل. ويمكن أن نقول إنها تقابل الصلاة عند الفرس.
ويطلق على قراءة هذه الشهادة (قراءات شماع) وأحياناً مجرد (قريئات) ومعناها (شماع) (والنطق بالشهادة) وهي تبدأ (شماع) ثم تنتهي (ببعض البركات). (بركوت)
وقبل تلاوة (الشماع) تقرأ عادة (بركوت شماع) أو (بركات السماع) وهي تسابيح خاصة لذكر الله تقال قبل صلاة السماع وبعدها. وقبل تلاوة البركة الأولى من هذه البركات أو بعبارة أخرى قبل تلاوة التسبيحة الأولى من هذه التسابيح في صلاة الجماعة ينادي الإمام (الحزّان) (باركوا الله المبارك) وهذه الكلمة هي بمثابة إقامة الصلاة، فيجيبه المصلون بنغمة خاصة وبطريقة معينة (فليتبارك الله المبارك إلى أبد الآبدين).
وأما التفيلة أو (صلاة الثمانية عشرة) (تفيلة شل شمونة عشر) فقد سميت بهذا الاسم لأنها تتألف في الأصل من (ثماني عشرة بركة) أو بعبارة أخرى من ثماني عشرة تسبيحة ثم أضيف إليها (البركة أخرى) فأصبح عددها (تسع عشرة بركة) ولكنها احتفظت مع ذلك باسمها القديم حتى الآن ولذلك يطلق عليها باللغة العبرية إلى يومنا هذا (تفله شل شمونة عشرة) أو مجرد (شمونة عشرة) ويكتفي أحياناً بلفظة (تفيلة) فقط.
وأطلق اليهود الذين صاروا يتكلموا الآرامية بدلاً من العبرية على هذه الصلاة كلمة (صلوتة) وهي آرآمية كما قلنا وقد ورد ذكرها مرارا في الأقسام الآرامية من التلمود.
وتقام صلاة (السماع) عند اليهود في صباح كل يوم ومسائه. وتقام (التفيلة) في أوقات ثلاثة من اليوم: تقام في الصباح وبعد الظهر (العصر) وفي مساء كل يوم. وتسمى الصلوات الثلاث بالعبرانية بهذه الأسماء: (تفلات هشاحر) وأحيانا مجرد (شحريت) وهي صلاة(626/21)
(السحر) وتسمى (صلاة الصبح)
وأما الصلاة الثانية وهي صلاة العصر فيطلق عليها بالعبرية (تفلات هامنحة) أو (منحة) فقط. وأما الصلاة الثالثة وهي صلاة المغرب فيطلق عليها (تفلات هاعربيت) ويكتفي بلفظة عربيت أيضاً
ويرجع اليهود تاريخ صلاتهم إلى الأزمنة الأولى من تاريخ اليهود. جاء في سفر دانيال: (فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك) وجاء في المزامير: (أما أنا فإلى الله أصرخ والرب يخلصني مساءاً وصباحاً وظهراً أشكو وأنوح فيسمع صوتي) ويرجع اليهود الصلوات اليومية الثلاث إلى عهد أقدم من هذا العهد، إلى عهد الآباء أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ينسبون صلاة الصبح إلى إبراهيم وينسبون صلاة العصر إلى اسحق وينسبون صلاة المغرب إلى يعقوب.
وهنالك صلوات أخرى لا تعتبر من الفروض اليومية مثل صلوات أيام السبت وصلوات (دوشن حودتس) أو (صلوات رأس الشهر) وعرفت صلاة رأس الشهر عند الأمم الأخرى مثل (البارسس) الفرس وعرفت عندهم باسم أنتريماه والهنود وعرفت عندهم باسم أمافازيا بل وعند الشعوب الأوربية أيضاً.
ولليهود صلاة أخرى هي صلاة (العيد) وصلاة رابعة تسمى بالعبرية باسم أو فقد وفي هذه الصلوات وأيام الاحتفالات يقدم اليهود أضحية إضافية إلى المعابد علاوة على الأضحية التي تقدم للمعبد صباحاً ومساء.
ودخلت في الأيام الأخير صلاة خامسة تقام في نهاية أيام الصوم عصراً وهي خاتمة الصلوات وتعرف عند اليهود باسم
أما أوقات الصلوات اليومية الثلاث فإنها الساعة الثالثة والساعة السادسة والساعة التاسعة؛ وهذه هي صلاة التفيلة اليومية وأما صلاة الشماع فتكون عند بداءة الليل وعند نهايته وعند تناول الطعام.
وأما صلاة عند عرب الجاهلية فإننا لا نعرف حتى الآن عنها أي شئ، وعلى فرض وجودها فإنها لم تكن بالمعنى الذي نعرفه من الصلاة، بل يمكن أن يقال إنها كانت تقام في(626/22)
أوقات مختلفة وفي مواسم معينة. ويقول المستشرق ميتوخ: (من المؤكد أن عرب الجاهلية لم تكن لديهم فروض من فروض الصلوات اليومية على نحو الصلاة التي فرضها الإسلام على المسلمين).
وقد لاقى الرسول (ص) صعوبات كثيرة من الأعراب الذين كانوا يرون الركوع والسجود والصلاة ذاتها علامة من علامات المسكنة والذلة والإهانة لا تتفق وما جبلوا عليه من كبرياء وأنفة واعتداد بالنفس، حتى أن بعض القبائل العربية كقبيلة ثقيف بالطائف طلبت من الرسول الدخول بالإسلام على شرط إعفائها من الصلاة.
هذه مقدمة مختصرة عن الصلاة عامة؛ وسنبحث في الأعداد القادمة عن تطور الصلاة في الإسلام، فنبحث أولاً في صلاة الركعتين وهي أول صلاة على ما نعرفه في الاسم.
جواد علي(626/23)
الزمان النفسي
للأستاذ زكريا إبراهيم
نسيجُ الحياة النفسيَّة هو الزمان. والزمان - كما يقول برجسون - جِدَة مستمرة، وخلق جديد، وإبداعٌ لصور لم تكن موجودة من قبل، ولم يكن وجودها منتظراً. فليس الزمان الحقيقي عبارة عن لحظة تعقب لحظة أخرى، وإنما هو امتداد الماضي باستمرار. وهذا الطابع الذي يتصف به الزمان، يتمثل في الحياة النفسية بشكل واضح، فإن ماضينا يتعقَّبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا. وليس من شك في أننا لا نفكر إلا بجزء صغير من ماضينا، ولكننا إنما نرغب ونريد ونعمل بهذا الماضي كله. (فكل ما فكرنا فيه، وما شعرنا به، وما أردناه منذ طفولتنا المبكّرة، لا يزال عالقاً بنفوسنا، متجهاً نحو الحاضر الذي يوشك أن يتصل به، ضاغطاً بقوة على باب الشعور الذي يريد أن يدعه خارجاً).
هذا هو جوهر الحياة النفسية، كما تكشف لنا عنه النظرة العميقة إلى النفس الإنسانية. فكل فرد منا إذن هو عبارة عن تاريخ؛ وهو عبارة عن تاريخ قائم بذاته مختلف عن غيره؛ وثراء هذا التاريخ هو الذي يدل على ثراء حياة صاحبه الباطنة، لا عدد السنين التي عاشها. وقد يبدو لنا أننا نسير مدفوعين بحكم الزمان الآلي - زمان الساعات - ولكننا في الحقيقة نتحرك وفقاً لإيقاع الحالات الباطنة، والحركات الداخلية، مما يقوم عليه الزمان النفسي.
فنحن لسنا عبارة عن ذرات من الغبار تطفو على سطح نهر، بل نحن قطرات من الزيت تنتشر على سطح الماء سائرة بسرعتها الخاصة.
ومعنى هذا أن جوهر حياتنا هو الزمان النفسي - لا الزمان الآلي - لأن شعورنا إنما يسجل حركته الخاصة، أي السياق الخاص الذي تتوالى وفْقاً له حالاتُه الباطنة، (وإن كان هذا تحت تأثير المنبه الخارجي الذي يَعرض له). وبعبارة أخرى فإن الزمان الباطن هو جوهر نفوسنا. ومن المؤكد أن لحظات الزمان الآلي إنما تهوى إلى العدم؛ أما لحظات الزمان النفسي فإنها لا تهوى إلى العدم مطلقاً، بل تنطبع في الشعور، وتنضاف إلى سجل الوعي الإنساني. فنحن نحمل معنا الطابع النفسي لكل أحداث حياتنا، لأننا خلاصة للحالات النفسية التي مرت بنا.(626/24)
وكل تجربة جديدة تمر بنا، وكل فكرة تطوف بخاطرنا، وكل فعل نقوم بتحقيقه؛ بل كل حالة عضوية تعرض لنا، لا بد أن يكون لها تأثير لا يمحى في حياتنا النفسية. ومعنى هذا أننا لا ننفصل مطلقاً عن ماضينا، بل إن شخصيتنا تزداد ثراء وخصباً بكل تجربة جديدة تعرض لنا. وقد نشفى تماماً من مرض انتابنا، أو حالة نفسية عرضت لنا، ولكن لا بد أن يظل أثر هذا المرض أو هذه الحالة النفسية باقياً في طوايا شعورنا.
ومن جهة أخرى فإن من المستحيل على الشعور الإنساني أن يمر بحالة واحدة مرتين. قد تكون الظروف الخارجية واحدة، ولكنها لا يمكن أن تؤثر في الفرد نفسه تأثيراً واحداً، ما دامت تعرض له في لحظة جديدة من لحظات حياته. وعلى ذلك فإن التاريخ الإنساني (باعتبار أن كل إنسان هو عبارة عن تاريخ) لا يعيد نفسه مطلقاً. والشخصية الإنسانية تتكون في كل لحظة من التجارب المتجمعة، فهي تتغير دائماً أبداً، وهي إذ تتغير، تحول دون تكرر حالة واحدة بعينها. ومن هذا كله إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن الزمان النفسي غير قابل للإعادة، أعني أننا لا نستطيع أن نحيا (إن صح هذا التعبير) حالة واحدة بعينها مرتين، لأن هذا يقتضي أن نلغي وجود الذاكرة التي تحتفظ بالماضي.
وإذا عمدنا الآن إلى مقارنة الزمان الآلي بالزمان النفسي فإننا نجد أن الزمان الآلي يسير وفقاً لإيقاع مطّرد؛ أعني أنه مكون من فترات متساوية لا يتغير مساره خلالها. أما الزمان النفسي فهو على العكس من ذلك، لأنه يختلف في سرعته لدى الفرد الواحد، تبعاً للفترات المختلفة في حياته. فالسنة الواحدة - إبَّان الطفولة - تحتوي على أحداث فسيولوجية وتغيرات نفسية، أكثر مما تحتوي عليه السنة الواحدة إبان الشيخوخة - وعلى ذلك فإن السنة الواحدة أطول إبان الطفولة، وأقصر إبان الشيخوخة؛ لأن قيمتها بالنسبة إلى الطفل أكبر منها بالنسبة إلى والديه.
من هذا يتبين لنا أن الحياة الإنسانية لا تُحْسَب بالأيام والسنوات، بل بالقدر الذي (تحيا) به الأحداث والتجارب. ومعنى ذلك أنه من العبث أن تقاس أطوار الحياة الإنسانية بالزمان الآلي، لأن هذا يقتضي أن يكون في الحياة النفسية اطراد الزمان الآلي؛ ولكن هذا الاطراد - في الحقيقة - لا وجود له في الحياة فالحياة الإنسانية لا يمكن أن تقسم إلى أطوار زمنية تحسب بوحدات الزمان الآلي، بل يجب أن تقسم إلى أطوار نفسية تحسب بوحدات الزمان(626/25)
النفسي.
وإذا أقمنا اعتباراً للزمان النفسي، فإننا لابد أن نهتم اهتماماً كبيراً جداً بزمن الطفولة المبكرة، لأن هذا الزمن هو بطبيعة الحال، الزمن الثري الحافل. . . حقاً إن الزمان الآلي الذي تشغله هذه المرحلة من حياة الإنسان، لا يبلغ مدى مرحلة الاكتمال أو مرحلة الرجولة، ولكن الزمان النفسي الذي تنطوي عليه يفوق أية مرحلة أخرى. ولهذا فإن من الواجب أن تعطي مرحلة الطفولة المبكرة كل عناية ممكنة في التربية. ولسنا في حاجة إلى أن نؤكد ما لهذه المرحلة من قيمة سيكولوجية في الحياة النفسية كلها، فإن هذه حقيقة ثابتة لا شك فيها.
أما مرحلة النضج ومرحلة الشيخوخة فليس لهما إلا قيمة سيكولوجية ضئيلة بالقياس إلى مرحلة الطفولة، لأنهما مرحلتان خاليتان تقريباً من التغيرات النفسية والتطورات العقلية ومن أجل هذا، فإن من الواجب أن يملأ الفراغ الموجود فيهما بنشاط صناعي. وعلى ذلك فإنه إذا بلغ الفرد مرحلة الشيخوخة، لم يكن عليه أن يقلع عن العمل ويركن إلى الدعة والخمول، لأن الفراغ أخطر بالنسبة إلى الشيوخ منه بالنسبة إلى الشباب. . .؛ بل إن من الواجب على المجتمع أن يعهد إلى أولئك الذين وهت قواهم بعمل معتدل مناسب، لا براحة تدينهم من الموت، أو دعة تذيقهم طعم الموت الحي
وإذا أنعمنا النظر في هذه الفكرة - فكرة الزمان النفسي أمكننا أن نفهم كيف أننا منعزلون بعضنا عن بعض في دوائر منفصلة، أو عوالم متميزة. فمن المستحيل بالنسبة إلى الأبناء ن يفهموا آباءهم وبالأحرى أجدادهم. ولهذا فإننا إذا نظرنا إلى الأفراد في حقبة واحدة أمكننا أن نقسمهم إلى أربعة أجيال متعاقبة بينها من التنافر أقصى ما يمكن. . . وإن هذا الجد الطاعن السن وذلك الحفيد الصغير، لهما كائنان مختلفان كل الاختلاف، وكل منهما غريب عن الآخر تمام الغرابة. . . فإذا أريد أن يكون تأثير الجيل الواحد في الجيل الذي يليه تأثيراً أكبر، كان من الواجب أن تقل المسافة الزمنية بينهما. ولهذا فإن من الأفضل أن تصبح المرأة في دور شبابها الأول، حتى لا يكون المدى الذي يفصل بينهما وبين أولادها هو من السعة بحيث لا يمكن الحب نفسه أن يسد فراغه.
زكريا إبراهيم(626/26)
أحمد محرم!
للأستاذ عبد الحفيظ نصار
في يوم الأربعاء 14 يونيو 1945م بمدينة دمنهور توفي الشاعر الكبير الأستاذ أحمد محرم في بيته المتواضع، وهو الشيء الوحيد الذي كان يملكه في ذلك البلد الذي قضى فيه جلّ حياته فلم يهتم أحد لموته كما لم يهتم أحد لحياته. . . ومع ذلك كانت له ثروة شعرية تضعه في صف أعلام الأدب العربي الحديث.
ولد الشاعر في (إبيا الحمراء)، وهي إحدى قرى مركز الدلنجات ولم نهتد بعد إلى تأريخ دقيق لميلاده، وإن كنا نقطع بأنه مات وهو في العقد السادس من عمره. وانتقل به والداه وهما من أصل شركسي إلى الحوشة، وهي إحدى القرى الكبيرة بذلك المركز، حيث كان يشتغل والده مشرفاً على إدارة إحدى المزارع الواسعة لأحد كبار الملاك، ومن ثم استحضر له والده، وكان رجلا ديناً مستعرباً، معلمين يحفظانه القرآن والشعر ويعلمانه قواعد النحو واللغة، وهذا كل ما تلقى من تعليم عن طريق المعلمين. لم يذهب إلى المدرسة أو إلى الأزهر كما كان يذهب غيره من أبناء ذلك العصر. ولما كبر واتسع أفق تفكيره، استطاع أن يعب من المعارف والعلوم العربية والإسلامية قدر الإطاقة، ولقيت تلك المعارف تربة ذكية وجواً ملائماً. . . فهذه هي الصحراء التي تغنى بها شعراء العرب، وهذا لون من ألوان المعيشة شبيه إلى حد كبير بالمعيشة التي كان يعالجها سكان الجزيرة العربية.
وهذه القرية الجميلة القائمة وسط المزارع التي تترامى من ورائها الصحارى كالواحة يجد فيها المعتسف والساري القرى والغذاء والظل والماء تحت ذلك النخيل الباسق! ومع ذلك لم تقيده بيئته ومعارفه بالماضي العربي المجيد وحده فعاش فيه ومن أجله، بل عاش وفكر في آفاق أخرى وراء أفق بيئته ومعارفه - إذ كان يتردد على المدينة (دمنهور) فيقرأ فيها الصحف، ويشتري منها الكتب، ويسمع منها الأخبار التي لا تحملها إليه الصحف والكتب، أخبار الإنجليز في مصر والإنجليز في السودان، وأخبار ذلك الشاب المشتعل حماسة ووطنية مصطفى كامل وما تؤمل مصر من وراء حماسته ووطنيته وسعيه في فرنسا واستنبول. . . فكان لتلك الأحداث التي عمت العالم الإسلامي نتيجة لضعف (الرجل المريض) وطمع الأجانب في ممتلكاته أثرها العميق في نفسه، فإذا به يرسل الشعر العربي(626/28)
الصافي. وغداً أحمد محرم ما بين يوم وآخر شاعر الحركة يزاحم بمنكبيه أمراء البيان. . . وللشاعر في تلك الفترة قصائد تعتبر تاريخاً لها وتسجيلاً للتيارات الفكرية والسياسية في ذلك العصر. أذكر أن له قصيدة عظيمة طبعت كديوان مستقل أوحالها إليه سقوط الدولة العثمانية ومجيء الأنباء باضطهاد مصطفى كمال لرجال الدين واللغة. وقليلون هم الذين يعرفون أن له ديوانين من الشعر العربي القوي، ولندرة الموجود من نسخهما كاد أن ينمحيا من الوجود. وفي تلك الفترة وإلى المؤيد والجريدة وأنيس الجليس وغيرهما من الصحف والمجلات العربية بأشعاره، وخلق له جمهورا من القراء والمعجبين به، وصارت له صداقات أدبية بقادة النهضة الأدبية والسياسية في العالم العربي، إذ لم تكن وقتئذ حدود بينة بين قيادة الفكر والفن وقيادة المجتمع والسياسة؛ كل شئ مسخر لخدمة النهضة ومبادئها، فلم تكن وجدت بعد الأبراج العاجية التي يهرب إليها مترفو الفكر الآن، ولم يكن قد ورد إلى مصر من الخارج ذلك المخدر المسمى الفن للفن الذي يتعاطاه العجزة عن مواجهة الحياة. كان الشعراء والأدباء والعلماء في طليعة المجاهدين، وكان انتقال الشاعر إلى دمنهور بعد وفاة والده طالباً للعيش الهادئ فيها، وليس لديه رأس مال في ذلك البلد التجاري غير الشعر والتقوى. . . وما أخسره من رأسمال في بلد يستطيع أصحابه في إيمان وإخلاص عجيب أن يعبدوا الله والمال في وقت واحد. . .
هي مدينة جميلة ما في ذلك شك، لها تقاليدها الإسلامية العريقة، ومساجدها العامرة دائماً، ولكنها مع هذا لا تقدر غير أصحاب العقليات الزراعية من ملاك المزارع الواسعة وأصحاب المواهب التجارية في تجارة القطن التقليدية وأصحاب محالج الأقطان وإن كانوا أكياساً للغباوة والمال معاً، فتلك المداخن العالية الكثيرة للمحالج التي تزاحم مآذن المساجد بكثرتها واستطالتها، هي السمة الظاهرة لتلك المدينة وأهلها، وعلى الأخص في الفترة التي أعقبت الحرب والتي عظمت فيها تجارة القطن وعظم تجارها. أليس يكون غريباً مع هذا أن ينشد شاعرنا العيش الهادئ في ذلك البلد، وأن يحاول أن ينافس بتجارته هذه التجارة؟ أليس غريباً أن تجد بلبلاً غرداً بين ضجيج الآلات؟ وأن يلهم الشاعر في الجو الخانق من غبار القطن المتطاير أروع القصائد؟
لا أدري كيف استطاع أحمد محرم أن يعيش في الفترة الأولى له ولكني أعرفه بعد ذلك(626/29)
الفترة مثالاً لحظ الأديب النكد، لا في دمنهور وحدها، بل في مصر جميعها، ولكنه استطاع بمعجزة ما أن يبني له بيتاً صغيراً، وأن يدخل أبناءه التعليم العالي. وعرفته في تلك الفترة صحف أخرى ومجلات كالهلال والمقتطف والسياسة والسياسة الأسبوعية والبلاغ والأهرام وغيرها، واستطاع أن يجد له معاشاً ضئيلاً من التكسب بالنشر والكتابة والقيام ببعض أعمال صحفية صغيرة لبعض الصحف الكبيرة. وكان يحاول أن يستر ذلك الجانب من حياته إذ كان يعتبره ناحية معاشية بحتة، ومن ذلك الكتابة الدائمة لبعض الصحف الإقليمية، ولم يكن ينشر شيئاً من ذلك باسمه. وقدرته جماعة (أبوللو) التي كان يرأسها المرحوم شوقي وسكرتيرها الدكتور أبو شادي، فكان لا يخلو عدد من أعداد مجلتها من قصيدة له. وكانت تطلب منه الهيئات العربية والجمعيات الإسلامية قصائد لحفلاتها، فكان الإبداع يواتيه ولا ينزل به أبداً إلى تكلف المناسبات المعروفة، لأنه كان يعبر عن عقيدة وإيمان. وقد طُلب منه كثير قصائد لمناسبات شخصية أو سياسية تخالف مبادئه أو آراءه، فما رضى لقلمه أن يرتخص ولا لشعره أن يهون، برغم سخاء الطالبين وأمانيهم له وشدة حاجته.
رحمه الله! لقد عاش عفيف اليد واللسان، بعيداً عن مغانم السياسة، لا نعرف أن شعره جر عليه مغنما اللهم إلا إذا اعتبرنا تلك الجوائز التي ظفر بها شعره في مسابقات السيدة هدى هانم شعراوي ومسابقات الإذاعة البريطانية، ولا أعرف أثراً إيجابياً كتقدير له من إحدى الهيئات سواء أكانت حكومية أم أهلية أم من زملائه في النهضة الذين وصلوا إلى الحكم. وهنا أذكر بالثناء والتقدير تلك النفس الحساسة النبيلة للشاعر العاطفي عزيز بك أباظة إذ أحس بالواجب عليه كشاعر وحاكم عندما كان مديراً للبحيرة نحو زميل مهضوم الحق والجانب، فرعاه وألحقه مشرفاً على مكتبة بلدية دمنهور، وكان ذلك من عامين تقريباً.
وقد نظم أحمد محرم في حياته الأخيرة إلياذته الإسلامية التي عارض بها إلياذة هوميروس، وهي مجهود شعري ضخم يقع في عدة آلاف من أبيات الشعر العربي الرائع يعر فيه للتاريخ الإسلامي غزواته وحروبه، فهو ملحمة إسلامية لا نظير لها في الأدب العربي، وقد بعث بها لوزارة المعارف لتطبعها على نفقاتها، ولكنها - عافاها الله وعفى عن وزرائها الأدباء - الذين تعاقبوا عليا والإلياذة مهملة في أركانها لم يبت في أمرها حتى الآن، برغم مضى الأعوام، ومضى صاحبها، وقد نظم مجموعات إسلامية أخرى غير مقطوعات(626/30)
الإلياذة كانت تطلبها منه - كما ذكرت - بعض الهيئات والجمعيات في شتى المناسبات، فأذكرها أنه نظم في موضوع واحد، وهو غزوة بدر الكبرى، ثلاث قصائد طوال واحدة أثبتها في الجزء الأول من الإلياذة الإسلامية، والثانية نظمها إجابة لطلب جمعية إحياء مجد الإسلام، والثالثة نظمها إجابة لطلب المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، ولكل قصيدة أفقها وجوها الخاص برغم وحدة الموضوع. تقرأ القصائد الثلاث فلا تحس بتكرار لمعنى أو لفظ، ويصعب كثيراً أن تفضل واحدة على الأخرى، وسنرجئ التعرض لشعره بالتحليل أو الدرس إلى أجل قريب نرجو فيه أن تتوافر لدينا المواد لعرض دراسة شاملة عنه إن شاء الله.
بقى أن نشير إلى ناحية يجهلها الكثيرون من عارفيه، ذلك هو أحمد محرم الشاعر العاطفي الرقيق، فقد اشتهر كشاعر عربي إسلامي، فمن يعرف أن له قصائد تسيل غزلا وعذوبة وتسري فيها حرارة الحب قوية أخاذة لم تنشر منها إلا القليل، أذكر منها تلك القصيدة التي ألهمه إياها الربيع والتي مطلعها:
هتف الداعي فلبوا يا رفاق ... واجمعوا شمل الهوى بعد الفراق
ويقول فيها:
كان للهجر زمان فانطوى ... وخلت من شره دنيا الهوى
كم جريح فيه بالشوق اكتوى ... كم طريح فيه بالدمع ارتوى
كم مشوق بات مشدود الوثاق
يا شفاه الزهر ما أبهى الشفاه ... أضحكي بالله يا دنيا الحياه
وانظمي شعر الهوى إني أراه ... سلوة الصب المعنى في هواه
اسكبيه سلَسلا عذب المذاق
لك من شعري ربيع دائم ... كل بيت فيه عيد باسم
كل معنى فيه حب هائم ... كل حب فيه معنى حالم
كل حلم يملأ السبع الطباق
ويقول:
تلك خمري يا رفيقي خذ وهات ... ودع الهم لأهل الترهات(626/31)
نحن في المعبد نقضي الصلوات ... هات كأسي يا صريع النشوات
يالها يا صاح من كأس دهاق
نحن في عالمنا السامي الجليل ... ديننا الإيمان والحب النبيل
لا نبالي في كثير أو قليل ... كل من لام خليلاً في خليل
ما لكم والحب يا أهل النفاق
ويختمها بقوله:
يا نشيد الحب من ذا صنعك ... غنِّ يا قيس وقل ما أبدعك
كل طير يشتهي أن يسمعك ... هذه ليلاك يا قبس معك
كاذب من قال (ليلى) بالعراق
وله قصائد تفوق هذه جودة ورقة لم تنشر بعد سنعرض لها، والطريف أنه نظم أغلبها في أخريات حياته، فهل مس أخيراً الحب قلبه الكبير؟
وبعد، فيروع الدارس للشاعر أحمد محرم تعدد جوانب شاعريته واتساع آفاق تفكيره، ونرجو بدراسته أن نضع ذلك الشاعر في مكانه الصحيح، وأن يلتفت له بالعناية نقاد الأدب الحديث ووزارة المعارف، إذ قد ترك في مكتبته مجموعات كبيرة من الشعر تفوق في روعتها ما نشر له، قصرت يد الشاعر عن نشرة وإن كان ما نشر له كفيل بأن يضعه في عداد الخالدين.
رحمه الله! لقد عرفته ي حياته شاعراً عظيماً مغموراً بائساً في دنيا المهرجين، وشاهدت جنازته، فآلمني مظهرها أكثر من مظهر حياته، فقد صحبته جفوة الحياة ووحدتها، حتى إلى قبره فما أندر المقدرين والمخلصين؟. . .
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار(626/32)
رسالة الفن
9 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الفصل السادس - جمال النساء
كان ذلك المنزل القديم الجميل المعروف باسم (أوتيل دي بيرون) الواقع في شارع هادئ على ضفة اليسرى لنهر السين بباريس - كان إلى عهد قريب مقراً لدير (قلب المقدس) ولكن بعد أن ألغيت الرهبنة النسوية شغله بضعة مستأجرين من بينهم رودان.
وللفنان كما رأينا مراسم أخرى في ميدون، وفي مستودع الرخام بباريس؛ غير أن له ولعاً خاصاً بهذا المنزل الذي بنى بالبلدة في القرن الثامن عشر لأسرة سطوة وجاه. وهو مسكن جميل تشتهيه نفس كل فنان، فغرفه الكبيرة عالية، بحوائطها حشوات بيض يطيف بها حُلّي بارزة مموهة بالزخرف واللون الأبيض. أما الغرفة التي اختارها رودان ليعمل فيها فمستديرة تطل نوافذها الفرنسية العالية على حديقة غناء أهملت وطال عليها الإهمال. ومع ذلك فلا زال من المستطاع متابعة صفوف الأشجار التي تقوم على حوافي الطرقات والممرات المعشوشبة ورؤية بعض النباتات الخضراء المقامة على العرائش وقد ركبتها أنجم متسلقة عجيبة وفي كل ربيع تتفتح الأزهار الناضرة من بين الحشائش الكثة التي تملأ حاشية الحديقة. ولا يتسنى لشيء أن يبعث في النفس كآبة حلوة أكثر من هذا المنظر الذي يتلاشى فيه عمل الإنسان ويمحى رويداً رويداً بيد الطبيعة القاهرة.
يقضي رودان أكثر وقته في الرسم بذلك المنزل. ويحب أن يخلو إلى نفسه في هذا المنعزل الهادئ، وستودع الورق أشكالاً لا أعداد لها من الأوضاع الجميلة التي تتخذها المثل البشرية أمام عينيه.
وفي مساء أحد الأيام كنت أنظر معه في طائفة من تلك الرسوم، وكنت أبدي إعجابي بتلك الخطوط المؤتلفة المتزنة التي استطاع بها أم يبرز كل انسجام الجسم الإنساني على الورق. أما الخطوط التي عملت بجرة واحدة قوية من جرات القلم فتبدأ حدة حركات أو فتورها(626/33)
وسكونها. وأما جمال التمثيل فيظهر بقليل من الظل يحدثه بإبهامه. وكان يبدو عليه وهو يدرس الرسوم كأنه يرجع بذاكرته مرة أخرى إلى المثل الحية التي أخذ عنها تلك الرسوم وعند ذلك صاح:
(آه يا لجمال أكتاف هذه المرأة! بالها من متعة عظيمة وما أجمله من منحن كامل الحسن! إن رسمي أثقل مما يجب. لقد حاولت كثيراً ولكن!! أنظر. هاهي ذي محاولة أخرى لنفس المرأة. إنها أقرب شبهاً بها. ومع ذلك!
(ثم أنظر إلى نحر هذه، وإلى ملاحة هذا الخط الممتلئ المحبوب. إن له رشاقة لا تشوبها شائبة.
وهنا سألته:
(يا أستاذ أمن السهل العثور على مثل جميلة؟) فقال:
(نعم) فقلت: (إذا فالجمال ليس في فرنسا.) فقال:
(كلا. إني أقرر لك ذلك.) فقلت: (ولكن خبرني. ألا تظن أن الجمال القديم يفوق جمالني الحديث، وأن النساء العصريات يقصرن عن أن يداين أمثال أولئك اللاتي أخذ عنهن فيدياس) فأجاب: (كلا، البتة.) فقلت (ومع هذا فجمال وكمال تماثيل زهرات الإغريق. . .) فقال: (كان لفناني ذلك العصر أعين يرون بها. أما فنانونا المعاصرون فعمي لا يبصرون. وهذا كل ما هنالك من فارق. كانت النساء الإغريق جميلات، ولكن ترعرع جمالهن قبل كل شئ في أذهان المثالين الذين نحتوهن. توجد اليوم نساء مثلهن تماماً وعلى الأخص بجنوب أوربا. فمثلاً ينتمي الإيطاليون المحدثون إلى نفس النوع الذي انتمت إليه مُثُل فيدياس. وأخص ما يميز هذا النوع هو اتساع الأكتاف والأرداف اتساعاً متساوياً) فقلت: (ولكن ألم تؤثر غزوة البرابرة في مستوى الجمال القديم بما نجم عنها من اختلاط في الجنس؟) فقال: (كلا. حتى إذا افترضنا أن البرابرة كانوا أقل جمالاً وتناسباً من جنس البحر المتوسط - وهذا محتمل - أقول حتى إذا افترضنا هذا فإن الزمن قد محا محواً تاماً كل عيب نشأ عن امتزاج الدم، وأعاد الانسجام إلى أجسام النوع القديم مرة أخرى. وإذا ما امتزج الجميل بالقبيح فأغلب الظن أن الغلبة تكون للجميل في النهاية. إن الطبيعة لتتجه دائماً أبداً - بقانون سماوي - وجهة الأحسن والأصلح، وتنحو ناحية الكمال بلا توقف.(626/34)
ويوجد بجانب نوع البحر المتوسط نوع الشمال الذي تنتمي إليه بعض نساء فرنسا ونساء العنصر الجرماني والسلافي والذي نشاهد فيه الأرداف وافية التكوين والأكتاف ضيقة نوعاً. إنه من نوع ما نشاهد في حوريات جان جوجون وفي زهرة واتو التي بلوحته المسماة (حكم باريس)، وفي (ديانا) لهودون ونرى في هذا النوع أيضاً أن الصدر مرتفع بينهما نراه على نقيض ذلك مستوياً في النوع القديم ونوع البحر المتوسط. والحق أقول إن لكل نوع أو جنس من الأجناس جماله الخاص. والمسألة هي اكتشاف هذا الجمال. لقد رسمت بسرور شديد راقصات كمبوديا اللاتي حضرن مع مليكهن أخيراً إلى باريس؛ إذ أن للإشارات والحركات الصغيرة الرشيقة التي تصدر عن أعضائهن الجميلة جمالاً عجيباً مدهشاً.
ولقد عملت عدة دراسات عن الراقصة اليابانية هاناكو ذات العضلات القوية تبرز بروزاً واضحاً كما هو الحال في نوع الكلاب المسمى (فوكس تيريور). أما أربطة تلك العضلات فنامية لحد أن لمعاقدها ثخانة توازي ثخانة الأعضاء نفسها.
إنها لمن القوة بحيث تستطيع الوقوف على ساق واحدة لأي وقت تشاء، بينما تصنع بالأخرى زاوية مع جسمها فتبدو كأنها شجرة غرست في الأرض غرساً. ويختلف التشريح في جسم تلك الراقصة عما هو في أختها الغربية، ولكنه مع ذلك جميل كل الجمال في قوته الخاصة.)
وبعد هنيهة من الصمت عاد إلى الفكرة المحببة إليه قائلاً:
(قصارى القول يوجد الجمال في كل مكان. وليس هو الذي تفتقر إليه أعيننا، بل إن أعيننا هي التي تقصر عن إدراكه ورؤيته. فالجمال سجية وتعبير. هذا ولا يوجد شئ في الطبيعة له من السجية والتعبير أكثر مما للجسم الإنساني؛ فهو يبعث شتى الأخيلة المختلفة بقوته وجماله. فآناً نراه يشبهْ الزهرة بقوامه المائل الذي يكون بمثابة الساق منها، وبالثديين والرأس وجزالة الشعر وكلها بمثابة كأس الزهرة ونضارته. ونراه آناً آخر كالنبت المتسلق اللدن كالساق الفارعة المعتدلة يقول أو ليس لنوسيكا (كأني حينما أنظر إليك أرى نخلة باسقة بجزيرة ديلوس قريباً من مذبح أبوللو وقد نما فرعها الأوحد من الأرض إلى السماء). ثم إذا انحنى الجسم الإنساني قليلاً إلى الوراء كان كاللولب، أو كقوس جميلة يسدد عليها(626/35)
إيروس سهامه الخفية، وفي أحوال أخرى يبدو كالقارورة؛ ولطالما أمرت مِثالاً أن تجلس على الأرض بحيث تجعل ظهرها قبالتي، وذراعها وساقها متجمعة أمامها. ففي ذلك الوضع يبدو الظهر الذي يستدق قليلاُ نحو الوسط ثم يستعرض مرة أخرى عند الأرداف كأنه زهرية بديعة الشكل والتكوين.
وفوق كل هذا وذاك فالجسم الإنساني مرآة النفس، ومن النفس يستمد أعظم جماله. (يا لحم المرأة يا أعجوبة لعجائب، يا أعلى مراتب الطين وأسماها! يا أجلّ مستقر للروح من الحمأ المسنون! يا أيها الظرف المادي الذي تضيء فيه الروح كما لو كانت تضيء في أكفانها. أيها الصلصال الذي يرى المرء فيه انطباع أصابع الخالق المصور! أيها الطين الجليل الذي يستمطر القبلات ويستبي قلوب الرجال! بلغت من القدسية بحيث لا يُدرى إذا كانت الشهوات فيضاً الهيا، طالما كان الحب مسيطراً قاهراً والنفس منجذبة منقادة، بلغت من القدسية بحيث لا يسع المرء عندما تتأجج عواطفه وهو يحتضن الجمال إلا أن يتوهم أنه يعانق الإله)
(أي والله لقد أصاب فكتور هوجو كبد الحقيقة. إن أكثر ما نعشقه من الجسم الإنساني لا يقتصر على الظرف الخارجي الجميل، وإنما هو البس الداخلي الذي يخيل إلينا أنه يشتعل في جوفه ويضيئه.
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(626/36)
يا سامر الحي!
للأستاذ (بدوي الجبل)
يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا ... رقَّ الحديد وما رقوا لبلوانا
خلّ العتابَ دموعاً لا غناَء بها ... وعاتبِ القوم أشلاء ونيرانا
آمنت بالحقد يزكي من عزائمنا ... وأبعد الله إشفاقاً وتحنانا
ويل الشعوب التي لم تسق من دمها ... ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا
ترنح السوط في يمنى معذبها ... ريَّان من دمها المسفوح سكرانا
تغضي على الذل غفراناً لظالمها ... تأنق الذل حتى صار غفرانا
ثارات يعرب ظمأى في مراقدها ... تجاوزتها سقاة الحي نسيانا
ألا دم يتنزى من سلافتها ... أستغفر الثأر بل جفت حميّانا
لا (خالد) الفتح يغزو الروم منتصراً ... ولا (المثنى) على رايات شيبانا
أما الشام فلم تبق الخطوب به ... روحاً أحب من النعمى وريحانا
ألمَّ والليل قد أرخى ذوائبه ... طيف من الشام حيانا فأحيانا
حنا علينا ظماءً في مناهلنا ... فأترع الكأس بالذكرى وعاطانا
تنضر الوردَ والريحان أدمعُنا ... وتسكب العطر والصهباء نجوانا
السامر الحلو قد مر الزمان به ... فمزق الشمل سماراً ولدمانا
قد هان من عهدنا ما كنت أحسبه ... هوى الأحبة في بغداد لاهانا
فمن رأى بنت مروان حنت تعباً ... من السلاسل يرحمْ بنت مروانا
أحنو على جرحها الدامي وأمسحه ... عطراً تطيب به الدنيا وإيمانا
أزكى من الطيب ريحاناً وغالية ... ما سال من دم قتلانا وحرحانا
هل في الشام رعاك الله والدة ... لا تشتكي الثكل إعوالاً وإرناناً.
تلك القبور فلو أني ألم بها ... لم تعْد عيناي أحباباً وإخوانا
يعطى الشهيد فلا والله ما شهدت ... عيني كإحسانه في القوم إحسانا
وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه ... عند الكفاح ويلقي الله ظمآنا
والحق والسيف من طبع ومن نسب ... كلاهما يتلقى الخطب عريانا(626/37)
قل للألى استعبدوا الدنيا بِسيفهم ... من قسم الناس أحراراً وعبداناً
إني لأشمت بالجبار يصرعه ... باغ ويرهقه ظلماً وطغيانا
لعله تبعث الأحزان رحمته ... فيصبح الوحش في برديه إنسانا
والحزن في النفس نبع لا يمر به ... صادٍ من النفس إلا عاد ريانا
والخير في الكون لو عريت جوهرة ... رأيته أدمعاً حرى وأحزانا
سمعت باريس تشكو زهو فاتحتها ... هلا تذكرت يا باريس شكوانا
والخيل في المسجد المحزون جائلة ... على المصلين أشياخاَ وفتيانا
والآمنين أفاقوا والربوع لظى ... تهوى بها النار بنياناً فبنيانا
رمى بها الظالم الطاغي مجلجلة ... كالعارض الجون تهداراً وتهتانا
أفدي المخدرة الحسناء روَّعها ... من الكرى قدَر يشتد عجلانا
تدور بالقصر عدْواً وهي باكية ... وتسحب الطيب أذيالاً وأردانا
تجيل والنوم ظلُ في محاجرها ... طرفاً تهدهده الأحلام وسنانا
فلا ترى غير أنقاض مبعثرة ... حوين فناً وتاريخاً وأزمانا
. . . تلك الفضائح قد سميتها ... هلا تكافأ يوم الروع سيفانا
نجا به الظلم سكران
الظبي أشراً=ولا سلاح لنا إلا سجايانا
إذا انفجرت من العدوان باكية ... فطالما سمتنا بغياً وعدوانا
عشرين عاماً شربنا الكأس مترعة ... من الأذى! فتملي صِرفها الآ
ما للطواغيت في باريس قد مسخوا ... على الأرائك خداماً وأعوانا
الله أكبر هذا الكون أجمعه ... لله لا لك تدبيراً وسلطانا
ضغينة تتنزى في جوانحنا ... ما كان أغناكم عنها وأغنانا
تفدى الشموس بضاح من مشارقها ... هلال شعبان إذ حيا بشعبانا
دوت به الصرخة الزهراء فانتفضت ... رمال مكة أنجاداً وكثبانا
وسال أبطحها بالخلي آبية ... على الشكيم تريد الأفق ميدانا
وبالكتائب من فهر مقنعة ... نضاحك الشمس هندياً مُرَّانا(626/38)
تململ الفاتحون الصِّيد وازدلفوا ... إلى السيوف زرافات ووحدانا
السابقات وما أرخوا أعنتها ... والحاملات المنايا الحمر فرسانا
سفر من المجد راح الدهر يكتبه ... ولا يضيق به جهداً وإمعانا
قرأت فيه الملوك الصيد حاشية ... والهاشميين طِغراء وعنوانا
شد الحسين على الطغيان مقتحماً ... فزلزل الله للطغيان أركانا
نور النبوة في ميمون غرته ... تكاد تلثمه الأجفان فرقانا
لاث العمامة للجلي ولست أرى ... إلا العمائم في الإسلام تيجانا
يا صاحب النصر في الهيجاء كيف غدا ... نصر المعارك عند السلم خذلانا
أكرمت مجدك عن عتب هممت به ... لو شئت أوسعته جهراً وتبيانا
ما للسفينة لم ترفع مراسيها ... ألم تهيئ لها الأقدار ربانا
شقِّي العواصف والظلماء جارية ... باسم الجزيرة مجرانا ومرسانا
ضمى الأعاريب من بدو ومن حضر ... إني لألمِح خلف الغيم طوفانا
يا من يدل علينا في كتائبه ... نَظارِ، تطلع على الدنيا سرايانا(626/39)
يا عربي. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
صعدت السماء بلا سلم ... وسرت اختيالاً على الأنجم
بعزم يدكَ رواسي الجبال ... وإقدام ذي لُبَدٍ ضيغم
فكيف تبيتُ أسيرَ الهوانِ ... وأنت الذي - قط - لم يُرغم!
وأنت الذي دوّخ المشرقين ... وصارمُ عزمك لم يُثلمِ!
ملكت البلاد وسدت العبادَ ... وكنتَ الملاذَ لمن يحتمي
وكنت منار الهدى للأنامِ ... يؤمك في ليلهِ المظلم. . .
فقم واطَّرحْ عنك هذا الرقاد ... فقد خسرت قسمةُ النُّوَّم
وما فاز في العيش إلا الجسورُ ... وما خاب في السعي كالمحجمِ
ومن يركب الهول للمكرماتِ ... يَعُدْ والمعالي له تنتمي
فعش في حماك عزيزاً مهيباً ... وكن رجلاً باسِلاً تُكرمِ(626/40)
فرحة السلم
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
عادَنا فعُودي لأغاريدِك عُودي
وابعثي الأنغامَ في سمعِ الليالي من جديد
من نشيدٍ عَبْقريٍ خالدٍ إثر نشيد
يوقظ الفرحةَ والآمالَ في هذا الوجودِ
أشرقَ الصبحُ وولت ظلمة الليلِ الرهيبِ
وأفاق الكون مما طاف من هول الحروب
وانطوت صفحة إثم عابسِ الوجه مُريبِ
وليالٍ هزتْ الدنيا بنارٍ وحديدِ
هو ليلٌ طال ما أقساهُ بتناهُ حيارى
طال حتى لم نُعُد نحسَبُ لليل نهارا
كم تَدَاعى فيه للآمال صرحٌ وتُوازى
روَّع الدنيا بما يُزجيه من خطب شديدِ
هو ليل طال ما أقساه في عمر الزمانِ
مُغْرقٌ في الظلم لا يَعْرفُ معنىً لحنانِ
قد قضيناهُ على مُرٍ نُعاني ما نُعاني
من وعيدٍ منكرٍ يَصْدُق من بعدِ وعيدِ
ذكرياتٌ يالها ي خاطري من ذكرياتِ
كلما طافت بعينيَّ استباحت عَبراتي
وأشاعتْ في رحابِ النفس شَتَّى الحسراتِ
آه مما لقي الأحرار من ذُلِ القيودِ
ظالم لا يَعْرف الرحمةَ قد ضلَّ وتاها
أشعل الحربَ فباتَ الكونُ يشقى بلظاها
كم أسالت من دماء أينما دارتْ رحاها(626/41)
في سبيل الحقَّ ما أُزهِقَ من روحٍ شهيدِ
هللي للصبح يا أطيارُ فالصبحُ أتانا
رائعاً يملأ دنيانا أماناً وحنانا
رَّفْرَفَ السلم مُنى تُشرق في ليلِ أسانا
وتُشيعُ الأنسَ والفرحةَ فينا من جديدِ
أيها الشاعرُ هذا عيدُنا الأسى فغنِّ
هو عيد السلم والنصرِ معاً عيدُ التمني
جاء الدنيا بشيراً جامعاً من كل حُسْنِ
نادياً باليمنِ والإسعادِ والعيشِ الرغيد
ِ(626/42)
البريد الأدبي
حول انهيار فرنسا
سألنا كثيرون عمن هو الأستاذ العربي الكبير كاتب مقالات (حول انهيار فرنسا) التي نشرت بالرسالة. وجوابنا أنه الأستاذ ساطع الحصري بك وكان قد ألقاها في نادي المثنى ببغداد عقب انهيار فرنسا؛ فلما حانت الفرصة لنشرها نشرناها ولم نصرح باسمه قبل أن نستأذنه وقد أذن. وفي كتابه الذي أذن فيه يذكر أسمه حديث عن مأساة دمشق الأخيرة ننشر منه هذه الفقرة: (لقد قدر لي أن أشهد الفصل الأخير من المأساة التي بدأت عنا قبل ربع قرن. قد شاهدت انفجار أول قنبلة فرنسية في هذه الربوع وأنا أسير مع فيصل العظيم بجانب مستشفى (المزة) صباح يوم (ميسلون) في 24 تموز سنة 1920؛ ثم سمعت دوي آخر قنبلة فرنسية تلقى من المزة على المدينة مساء يوم 31 أيار سنة 1945. لبثت في فندق (أوريان بالاس) إحدى وعشرين ساعة أسمع فيها بدون انقطاع أصوات البنادق والرشاشات. ودوي القذائف والقنابل، ورأى الرصاص والشظايا تخترق الشبابيك والجدران، والقنابل تنفجر على السَطح وفي داخل القاعات. ثم استطعت أن أنتقل إلى بناية في أعلى المدينة لأطلع من هناك عل القذف الذي استمر أربعاً وعشرين ساعة أخرى. ثم تجولت ساعة في المدينة ورأيت من هول الفظائع والمناظر ما رأيت، ثم عدت إلى الفندق فرأيت في غرفتي آثار سبع عشرة رصاصة. . .!)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
حضرة سيدي المحترم رئيس تحرير الرسالة الغراء
أهدي إليكم سلاماً ذكياً عاطراً وتحيات مباركة طيبة. . . وبعد، فإني متتبع بعناية وإكبار تصحيح الأديب الفاضل الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي لكتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، وقد رأيت في العدد الأخير من الرسالة الغراء تصحيحه لبيت أبي تراب علي بن نصر الكاتب الوارد في ج 15ص 98 وهو:
حالي بحمد الله حال جيده ... لكنه من كل خير عاطل
ولم يرتض الضبط (جَيّده) ورأى حضرته أن الأصل (حالٌ جيد) بحذف التاء، وقال: (قلت: حالي بحمد الله حال جيد)، والحال يذكر وإن كان التأنيث أكثر اهـ.(626/43)
وأنا أرى أن البيت (حالي بحمد الله حالٍ جيدُه) على المجاز، وحال اسم فاعل من حلي ضد عطل، والجِيد العنق، ودليل ذلك مقابلة الحلي في صدر البيت بضده في عجزه وهو قوله (عاطل) فإن وافقكم رأيي هذا رجوت نشره في الرسالة الغراء مع شكوى لحضرتكم وحضرة الناقد الأديب الأستاذ النشاشيبي، وتقبلوا فائق التحية والسلام.
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية
إلى الأستاذ عبده الزيات من الدكتور عبد الفتاح السيد بك
تحية وسلاما، وبعد فقد تناولت بيد الشكر والامتنان يومياتك القيمة وأخذت في الاطلاع عليها واستيعاب ما فيها من ملاحظات ودروس في الحياة المحامي العملية. ولم أشأ أن أؤخر القيام بواجب شكرك على إهدائي هذه الرسالة النفيسة حتى أتم الاطلاع على صحفها جميعاً، بل رأيت من فرط ارتياحي لما قرأته منها أن أسطر لك كتابي هذا مقدمة لقيامي بواجب زيارتك لكي أكرر الثناء العاطر
إن ملاحظاتك تذل حقاً على خلق نبيل وإحساس رقيق وشعور سام.
وإن كان لي ملاحظة أبديها فهي حرماني من الاطلاع على هذه اليوميات قبل الآن وقت أن كنت مبتدئاً في المحاماة التي أريد أن تعتقد بقول زميل نابه لك من قبل إنها مهنة الكرامة والكفاح والمجد، لا مهنة العبودية والمذلة وغير ذلك مما ذكرت في يومية 15 مايو سنة 1940 لأنك بذلك أيها الزميل تحاول أن تثبط عن غير قصد همة شيخ مثلي أراد في آخر أيامه أن يكون له شرف الانتساب إليها لا للكسب - صدقني - ولكن لما يشعر به في قرارة نفسه من أنها سبيل الدفاع عن الحق ومعاونة القضاء فعلا على الاضطلاع بمهمة العدالة؛ ولا يضير المحامي أن يصادف في عمله تعباً ونصباً، فإن الحياة كلها كفاح. وحسبنا فيها أن تؤدي واجباتنا بضمير مرتاح ونفس مطمئنة.
أكرر لك شكري أيها الزميل وارجوا المزيد من هذه اليوميات وتقبل ممن يفخر بك تلميذاً وزميلاً أزكى السلام.
عبد الفتاح السيد(626/44)
تقرير المجمع اللغوي لكتابيين قيمين:
(ألف الدكتور على عبد الواحد وافي الأستاذ بكلية الآداب كتابين نفيسين في علم اللغة وفقهها لم يصنف في بابهما خير منهما في سداد المنهج وغزارة المادة وطرافة البحث لا في القديم ولا في الحديث. وقد بعث بنسختين من طبعتهما الثانية إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية فجاءه من معالي رئيس المجمع الخطاب التالي):
(حضرة الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي: (عرض على لجنة الأدب في المجمع كتابكم (علم اللغة)، وصنوه (فقه اللغة). وقد جمدت لكم اللجنة ما بذلتم من جهد في البحث والدرس والاستخلاص؛ فقد حوى هذان الكتابان من مختلف مسائل اللغة وعالجها من مشكلاتها ما تمس إليه حاجة الباحث المتطلع. وقد انتهجتم في التأليف طريقة علمية حقيقية بالتقدير، وبسطتم من المعلومات ما يدل على غزارة مادة وحسن إحاطة. وكان لما أيدتم أو فندتم من وجهات النظر المتباينة مظهر من استقلال الرأي
وإننا إذ نشكر لكم هذا المجهود في التأليف، نرجو لكم المزيد من التوفيق، وتقلبوا أطيب تحياتي)
رئيس المجمع
أحمد لطفي السيد
أهل السنة وأصحاب الحديث
أهل السنة محمد يوسف موسى في العدد 622 من الرسالة كلمة طيبة عن كتابي (التعليم في رأي القابسي) الذي صدر أخيراً مع رسالة القابسي المخطوطة (أحكام المعلمين والمتعلمين). وهي كلمة تدل على أن الأستاذ يوسف موسى قد عنى بقراءة الرسالة عناية عظيمة، مع تحقيق العلماء وبصر أصحاب الفكر، مما هو جدير بعلم الكلمة وفضله.
وقد أشار الأستاذ الفاضل إلى مسألتين: أولادهما ورود (أهل السنة) لدلالة على (أصحاب الحديث) في مواضع نص على صفحاتها من الكتاب.
ولا نزاع في أن هناك فرقاً بين أهل السنة وأصحاب الحدث، فأهل السنة يقابلون الفرق(626/45)
الإسلامية الأخرى، وعلى الأخص الشيعة والمعتزلة، ولا يلزم أن يكون أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية كما ذكر الأستاذ يوسف موسى، لأنه قبل الإمام أبي الحسن على ابن إسماعيل الأشعري المتوفى 324هـ، كان مذهب أهل السنة موجوداً في مقابل الفرق الإسلامية التي تخالفه. كما أن فرقة الأشاعرة بعد موت الأشعري تعمقت في علم الكلام للرد على المعتزلة وعلى غير المعتزلة، في الوقت الذي بقى فيه كثير من المسلمين متمسكين بالسنة من غير أن يكونوا معتزلة أو أشاعرة. أما أصحاب الحديث، فيذكرون عادة في مقابل أصحاب الرأي من الفقهاء، كما هو معروف.
ومع ذلك فالتفرقة الدقيقة بين أهل السنة وأصحاب الحديث لا يستمسك بها كثير من العلماء. فمنهم من يجعل أصحاب الحديث اصطلاحا مرادفا لأهل السنة، فيتكلم على أصحاب الحديث في مسائل كلامية لا فقهية. ونقصد هنا بالمسائل الكلامية، الاعتقادات لا العبادات. قال الإمام المحدث المفسر شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل الصابوني المتوفى 449هـ في رسالته عقيدة السلف وأصحاب الحديث (أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول (ص) بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله (ص) على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه. . .)
وقد كان القابسي من أهل السنة، كما كان من أصحاب الحديث. فإذا كنت قد وصفته في بعض الأحيان بإحدى الصفتين فلم أكن مجانباً في ذلك الصواب. وبخاصة إذا لم يكن المقام يقتضي المقابلة بين الفرق المختلفة. أما إذا كان المقام مقام تفرقة صريحة بينه وبين المتكلمين من المعتزلة، فقد عنيت بالنص على أنه من أهل السنة.
أما المسألة الثانية وهي الحكم على المعتزلة بما ذكره الغزالي، وقد كان يحسن أن ألتمس الحكم عليهم من كتبهم أنفسهم، فإنما ذكرته هو ما كنت أعنيه؛ لأني أردت بيان رأي خصوم المعتزلة في آرائهم، ولم يكن يهمني تحقيقها من كتبهم.
دكتور احمد فؤاد الأهواني
إلى شيوخنا الأدباء(626/46)
أقف الآن حائراً في شئون الفكر، ويمتد خيالي إلى الوراء فأطالع تراث الآداب المختلفة وملاحم الشعراء العظيمة، وأخرج بعد ذلك إلى الحياة العامة، وأشاهد مباذلها وقيمها المختلفة من خير وشر، ثم أعود بعد ذلك فأحبس نفسي في برج عاجي أو سجن فسيح، أجتر غابر ذكرياتي، وأطالع أدب شيوخنا الأدباء من صناديد المفكرين والكتاب الذين أتيح لهم بما لديهم من عبقريات فذة أن يعرفوا في هذه البلاد والأقطار العربية الشقيقة. ولكننا نراهم عاكفين على إنتاجهم ولا يفكرون في شئون الجيل الجديد والعمل لصالح مستقبل الأدب في مصر.
ولعل الذي أثار هذا المعنى الجليل في نفسي هو نداء الأستاذ الكبير الزيات إلى وجوب إنشاء دار للترجمة تترجم لنا كل ما في أدب الغرب من روائع وأعلام. ولاشك أنه نداء صادق أمين، فللأستاذ الكبير الثناء والشكر من وفود جيل يرقب أعمال الأدباء بجانب تراثهم الخالد في الأدب. وعلى هذا الضوء نتوجه إلى الأستاذ العقاد، والدكتور طه حسين، والأستاذ الزيات في شئ من اللوم والتقصير: من في أدباء الشباب سيخلف العقاد العظيم؟ وهل في العربية كاتب تقرب منزلته في أسلوبه مثل الزيات؟ الجواب: لا. . . ولكن هل فكر الزيات في أن يخلفه أديب أو جماعة من الأدباء يمثلون مدرسة خالدة في الأسلوب الرصين؟ وهل امتدت خدمة الدكتور طه حسين حينما كان مستشاراً فنياً لوزارة المعارف إلى عمل نافع لثقافة جيل جيد؟! كم كنا نود من الدكتور طه أن يشير إلى مثل ما أشار إليه الأستاذ الزيات من إنشاء دار للترجمة. . .؟! وهل اتفق أقطاب الأدب الحديث وهم العقاد وطه حسين والزيات على ذلك العمل الجليل فأسرع العقاد في مجلس الشيوخ يطالب بذلك. وأشياء وأشياء نودها من أشياخنا الأدباء لضرورة نهضة الجيل الجديد كإنشاء دار تعرف باسم الأدب الحديث للمحاضرات والمناظرة.
وإني لأخشى ألا يكون في امتداد أدباء الشباب من ينصف شيوخنا الأدباء في المستقبل إلا إذا تأثروا بأدبهم ونشاطهم ولن يكون ذلك إلا إذا قامت مدارس أدبية تمثل ألوان الأدب الحديث وأعلامه الأفذاذ.
وبعد فهذه ناحية لم يلح في تناولها أدباؤنا الشباب الذين أتيحت لهم الكتابة في الجرائد والمجلات، فهل تفسح لنا الرسالة الغراء في نشر هذه الكلمة؟ نرجو ذلك وللأستاذ الزيات(626/47)
الشكر والثناء على عمله المتواصل في خدمة الشباب والأدب والثقافة.
أحمد محمود دعبس
طالب بالمدرسة السعيدية
الجمال الفني في القرآن
وقعت أخطاء مطبعية في المقال المنشور بالعدد الماضي يمكن أن يدركها القارئ فنكتفي بتصحيح أثنين منها للضرورة:
وقع اضطراب في هذه الفقرة فنعيدها مصححة زيادة الكلمات الساقطة منها:
(وتكملة لهذا البيان أقرر أن هذه الطريقة تكثر في مواضع التشريع وفي بعض مواضع الجدل. أما طريقة التصوير فإنها تكاد تطرد في سائر الأغراض).
ووقع خطأ في هذه الآية:
(يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض).(626/48)
القصص
الدميم. . .
للأستاذ جبيب الزحلاوي
(بقية ما نشر في العددين السابقين)
- 3 -
لزمت غرفتي طوال النهار التالي ولم أذهب إلى ملحق الفندق إلا بعد ثلاث ليال.
لقيني خصوم الليلة الأولى بل أصدقاؤها بترحاب ملحوظ، جعلني أحس كأنهم ينتظرون قدومي، وغدوت أعاتب إذا تأخرت ليلة عن الحضور.
قيل لي مرة بعد مقدمات وأسئلة عن صاحبي (وقد أطلقوا عليه أسم (ليدرون) تحريفاً لكلمة بالفرنسية معناها (يشع)) بأنه خطب الآنسة (سمسم) من والدتها وهو يجهل طبعاً أنها حفيدة فلان العظيم، وقد ذكروا اسمه ولقبه ورتبه، وأن والدتها ردته بلطف فلم يأبه لردها وأصر على البقاء بقرب (سمسم) وأنه سيعود إلى مصر متى عادت إليها ليفاتح جدها وهو ولي أمرها (بالزواج). وقالت إحدى الآنسات: نحن منقسمون حيال هذه المسألة إلى قسمين: قسم الآنسات يتنبأ بتحقيق هذا الزواج وسيكون زواجاً سعيداً، وقسم الرجال يستبعد وقوعه، فأنت إلى أي جانب يكون انحيازك؟
قلت: ماذا كان ردّ الآنسة (سمسم) على خطبتها؟
قلن: قالت إنها ستقول كلمتها عندما تعرض المسألة على ولي أمرها.
لم أشأ الانحياز إلى جانب المتنبئات المتفائلات لأنهن أقدر من الرجال على استشعار الرجولة ومعرفة ميول المرأة، ولم أمل إلى المتشائمين الذين استبعدوا وقوع هذا الزواج بين شخصين يمثلان الشيء وضده، أي الجمال البادئ والدمامة الصارخة، وقد تحاشيت عمداً إبداء رأي في صاحبي الذي عرفته فقط يوم وصولي إلى جزيرة (رودس) وقد أعانتني على هذا التحاشي رؤية صاحبي مقبلاً مع فتاته (سمسم) وكأن قلبيهما يدفعان خطواتهما باتزان في حين كان فكراهما يسبحان في جو سماء واحدة.
كان من عادتي في تلك الجزيرة أن أستيقظ عند الفجر أستقبل شروق الشمس حين أكون(626/49)
عند قمة الجبل أمتع النظر بأبهج وأروع ما رأيت من مفاتن يقظة الشمس. وحدث في صبيحة أحد الأيام، أني ما كدت أتخطى عتبة حجرتي حتى تقدم أحد غلمان الفندق فألقى إلى كتاباً فيه دعوة من السيدة والدة الآنسة (سمسم) إلى مقابلتها عند ربوة (النبي إيليا) وهي ربوة ليست بعيدة عن الفندق تكتنفها أشجار الصنوبر وتحجب الجالسين فيها عن الأنظار.
سيدة مهيبة الطلعة يبرز وجهها الحافظ لنضارته ولونه كلون ضوء القمر من وسط هالتين من شعر أسود فاحم، وثوب أسود يستر أكثر أجزاء الجسم، هذه السيدة والدة (سمسم) هي التي دعتني للكلام معها في حادث صديقي.
شرحت لتلك السيدة المحترمة العاقلة مبلغ معرفتي بصاحبي الدكتور واعترفت لها بأن لا سلطان لي عليه إلا حق دعوته إلى الاصطبار والتريث ريثما ينقضي فصل الصيف ونعود إلى مصر.
قالت: أخشى أخباراً تتسرب إلى مصر تنقل محرفة فيتقول الأشرار عن العائلة ما لا ترضاه، ودعتني بإلحاح إلى معاونتها في إقصاء صاحبي عن ابنتها التي شهدت بطيبة قلبه وكريم شمائله كما ستعمل هي من جانبها على ردع ابنتها بالحسنى عن التمادي في صداقة رجل لم نعرفه بعد.
لم يكن في وسعي استجابة طلب السيدة وقد أدركت من كلامها أنها وإن كانت غير راضية عن صلة ابنتها بالرجل ولكنها غير غاضبة عليها، وقد صارحتها الرأي قائلاً بأني لا أطيق أن أباعد بين قلبين يتدانيان، ولا أعمل مطلقاً على نصب حواجز بينهما. وقد شعرت عند تركي إياها بأنها مقدرة موقفي وتصرفي.
مدت يدها لوداعي، فقبلت تلك اليد ووددت لو ألصق شفتي بظهر كفها طويلاً لإبلاغها مدى احترامي لها وإكباري إياها.
السيدة جميلة تستر جمالها بالحزن، حدثتني عن ابنتي الوحيدة بلسانين من العاطفة الحنون والعقل الراجح. إنما هي محزونة مفجوعة، لا بزهرة من زهرات الحب، بل بباذر وبذور الحب، بزوجها وهي الوفية لعهدة بعد الموت. هي أم ترضى لابنتها زوجاً له بعض مزايا المرحوم زوجها في الانكباب على قراءة الكتب.
لم يعد صاحبي في حاجة إليّ ولا إلى كتبه فقد تركها لي هدية المستغني، ولم يكن ظرفي(626/50)
الخاص يبيح لي الاندماج بنزلاء ملحق الفندق وجلهم أعزب دأبه التصبي والتغازل.
كم من العسير يا صاحبي على شاب ألجم بالزواج في سن مبكرة قبل أن يتفتق ذهنه للحياة! وكم تكون الحياة هزيلة في نظرة إذا داهمته بالبنين قبل أن يشتد ساعده للكفاح! وكم تكون قيود العرف وأغلال العادة ثقيلة على قلبه إذا ألزم نفسه التقيد بها والخضوع إليها؟ هكذا كان حالي بين نزلاء ذلك الفندق.
أصخت لنداء الواجب يهيب بي أن أعود إلى زوجتي وأولادي، فلبيت. جمعت حوائجي في حقائبي وركبت سيارة وأوصلتني إلى ميناء الجزيرة ومنه ركبت البحر إلى الإسكندرية.
صمتّ هنيهة ريثما أستريح وأشعلت لفافة تحرض الذهن على الصفاء والاستذكار وإذا بالمنصت إلى حكايتي يسألني بلسان الرجل الخبيث ولهجة المستحث (ثم ماذا)؟ ابتسمت لسؤاله ابتسامة غابت عليه معانيها وقت: انصرمت أعوام ثلاثة لم أر صاحبي الدميم في غضونها، ولم أسمع إلا خبراً واحداً نشرته الصحف وهو خبر استقالته من الجامعة وانصرافه إلى أعماله الزراعية. لقد أكبرت هذه التضحية من دكتور يدرّس في الجامعة في سبي الاستقلال والحرية، فان كثيراً من الناس يؤثرون عبودية الوظيفة وقيود النفس على الحرية.
حدث في مساء أحد الأيام، وأذكر جيداً أنه كان في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر، أني لقيت مصادفة رجلا يشبه صاحبي الدميم في متجر شيكوريل ولكنه لم يكن دميماً، ولا أمرط الحاجبين، وليس بأعمش أحمر الجفون، وإما كانت ندبات الجدري وأثر الجراح في عنقه باقية كما عرفتها.
زالت حيرتي بإقبال الرجل علىّ يحييني بمودة واشتياق، وقال مداعباً: لم يعد منظري يفزعك لأني أتقنت (التواليت) أليس كذلك؟
قلت: من هو ذاك الفنان البارع الذي جعل من (الفسيخ شربات)؟
قال: هي
هيَ من؟
تلك التي وجدتها في رودس.
أتعنَى (سمسم).(626/51)
هي بعينها.
هل عند (سمسم) صالون (مكياج)؟
ضحك صاحبي وقال: لا داعي الآن إلى إطالة الكلام، سنطلعك الليلة على كل شئ.
قلت: نون المتكلمين تعني من؟
قال: دع التشوف وحب الاستطلاع ففي هذه الليلة تعرف كل شئ تهمك معرفته ويسرك خبره، أما الآن فأنت أسيري ولن يطلق سراحك إلا بعد أن ينتصف الليل! أفهمت، أنت أسيري فلا داعي إلى السؤال ولا إلى الجدل أو الاحتجاج.
وقفت كالمبهوت ريثما ابتاع صاحبي حاجته من المتجر، وتزايدت دهشتي وقتما دعاني إلى ركوب سيارته ولقد لقيتها تشغل نصف شارع فؤاد الأول عرضاً، وقد درجت بنا إلى بيته وهو (فيلا) جميلة في الجزيرة تحف بها حديقة باسقة الأشجار، أما الدهشة الكبرى فهي تلك التي اعترتني حين مقابلتي (سمسم) وجهاً لوجه واندفاعها نحوي تحييني بلهفة ومحبة كما لو كنت أخاها.
لم تعد (سمسم) تلك الفتاة النحيفة الضامرة التي عرفتها في فندق (شيفرو) تقفز بين الأشجار الصنوبر كالغزال، بل اكتمل جسمها واعتدل قدها، وبرزت أنوثتها كأحلى ما تكون في المرأة
قالت وقد أخذت يدي بيدها تعال أرك منزلها وقد تعاونت وزوجي على تنسيق أثاثه وترتيبه، ثم أحدثك كيف تمّ زواجنا.
مشيت معها أتفرج على حجرات (الفيلا) المنسق فرشها ببراعة وذوق فني، ووقفنا طويلاً في غرفة المكتب وهي عامرة بآلاف الكتب فقالت.
هذه الخزائن (الدواليب) خاصة بكتب الزراعة فلا أقرب منها لأنه لا شأن لي بها، وهذه الرفوف للكتب التي أشترك مع زوجي في مطالعتها وكثيراً ما نجلس في حديقتنا، كما كنت أنت تجلس معه في رودس. . . تقرآن، كنت أنا والبنات أترابي نراقبكم من بعيد فنضحك من اجتماع. . . النقيضين.
قلت: أي نقيض بين زوجك وبيني؟
قالت: إهمال مطلق من ناحية زوجي في هندامه وبزّته، وإصلاح. . . رأسه ووجهه يقابله(626/52)
عناية تامة من ناحيتك في كامل مظاهرك.
فتح الباب في هذه اللحظة ودخل منه زوجها يحمل رأسه الأصلع وحاجبيه الأمرطين اللذين قلّ الشعر فيهما، يلبس سروالاً قصيراً وقد برزت ساقاه الشعراوان، ينتعل حذاء سميك النعل، وفي يده عصاً كأنها جذع شجرة وقال: (هكذا كنت).
قلت للسيدة (سمسم) وأنا كالفزع: كيف تخلصت من هذه الدمامة الصارخة؟
قالت وهي تبتسم: علمته صناعة (التواليت) ثم التفتت إلى زوجها الذي كان يقفز كالقرد ويأتي بإشارات مضحكة وحركات طفلية وقالت له.
أتقنت تمثيل دورك كما كنت في رودس فاذهب وغيّر هندامك استعداداً للعشاء.
قال محتجاً: لا عشاء قبل (الأبرتيف).
قالت: هو ذاك مقبلات شهية.
عدنا إلى صالة وكانت الدهشة ما زالت تغشاني، فلما جلسنا قالت لي السيدة (سمسم): لقد تم زواجنا على خير ما رمت.
اقتنعت والدتي برضاي عن الرجل الذي انفتحت له مغاليق قلبي فقبله شريكاً لحياتي، ثم أظهرت مثل هذا الرضى للمرحوم جدي الذي كان ولي أمري، ولم يعترض إلا على مسألة واحدة حل عقدتها زوجي العزيز بالانتساب إلى ديني؛ وأصارحك بأني ما كنت لآبه لمثل هذا الأمر أو أعيره التفاتي لولا أحكام الشريعة، أحكام الدين المنزل من عند الله، ولم نراع دين الحب الذي هو الله.
صمتت هنيهة ثم قالت: أحس في أعماقي أن الأديان كلها تستمد قوتها من روحانية الإنسانية، فلمَ لا نكون كلنا إنسانيين في الزواج وهو روحاني في الأصل ثم غريزي فاجتماعي؟!
ثم قالت: اتفقت وزوجي على أن ندع ولدنا على طبيعة يختار سبيلاً يوائم عقله ويتفق مع روحانيته وقد آلينا على أنفسنا رعايته كإنسان، وهكذا نكون قد نفضنا أيدينا من المشكلة التي سوف تحلّ عقدها الأجيال المستنيرة المقبلة بعد أن بذرنا بذورها!؟
أقبل الزوج لابساً بدلة (سموكنج) فقامت السيدة ولم يطل غيابها، وقد عادت بعد أن نضت ثياب البيت واستبدلت بها ثياب السهرة وقد برزت هي وزوجها كالإنجليز الاستقراطيين،(626/53)
وإذ كنا في طريقنا إلى غرفة المائدة قال لي الزوج مداعباً: انظر كيف تمثل أنت الدمامة بهندامك كما كنت أنا أمثلها بوجهي ورأسي وقتما تعارفنا في رودس!
كان حديثنا ونحن على مائدة الطعام يدور حول الدمامة والحسن وقد اختلفت كما تنوعت وجهات نظرنا في تعريفها، وقد كانت السيدة (سمسم) أقدر منا وأصدق في الحكم عليها من وجهة نظر المرأة فقالت:
الدمامة هي في الوجه الميت والحسن في الوجه الحي، فالوجه الذي تموت فيه التعابير وتنطفئ فيه معاني النفس هو وجه دميم برغم تناسب قسماته؛ أما الوجه المعبر الذي تبرز فيه كل المعاني النفسانية فهو الوجه الحسن برغم التنافر في قسماته.
أما الجمال، وإن كان تعريفه نسبياً، واختلاف النظر إليه واجب بوجوب تنوع الأذواق والميول، فهو في نظر المرأة رجولة في القسمات، رجولة في الصوت والحركة والإشارة رجولة في البيت في الأمور وفي تصريفها. ولا شأن لي في وجهة نظر الرجل في تعريف جمال المرأة، لأن أكثر الرجال لا يعرفون ما هو الجمال! والجمال في المرأة سر بل أسرار لا يعرفها معرفة حقيقة إلا الخبثاء من الأدباء والشعراء ورجال الفن.
ضحكت وصديقي ضحكة الرضا عن تفسيره هذه السيدة معاني الجمال على هذا الشكل البارع، وأخذنا نشرب ونأكل. وإذ كنت في طريقي إلى البيت كنت أحس بأني سكران أترنح من الفرح، وما برحت يا صحابي أزور هذه الأسرة السعيدة لأفرح بمشاركتها في عيدها في الليلة الثانية والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام.
نظرت إلى صاحبي نظرة طويلة ساهمة، ثم مد يده فصاحبني وانصرف دون أن يقول كلمة واحدة. وبعد ليلة جاءني هذا الشاب وكل قسماته تطلب الاستفهام والاستيضاح وقبل أن يسلم عليّ قال:
أستاذي المحترم، أين عقدة القصة وكيف حللتها؟ لقد أذهلتني عن العقدة فبربك أرشدني إليها.
قلت وقد تعلمت جفوة المتشرد، اذهب إلى الدميم، بل اذهب وسل (سمسم) إذا شئت.
حبيب الزحلاوي(626/54)
العدد 627 - بتاريخ: 09 - 07 - 1945(/)
السلفية والمستقبلية
للأستاذ عباس محمود العقاد
عني الأديب الفاضل الأستاذ الحوفي بالرد على اللغط الذي يلوكه باسم التجديد ذلك الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها ولا يتكلف لها كلفة في العمل أو في المال.
فهو يشتري الأرض، ويتجر بتربية الخنازير، ويسخر العمال ويتكلم عن الاشتراكية التي تحرم الملك وتحارب سلطان رأس المال
وهو يعيش من التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية.
وهو ينعى الحضارة الأسيوية وإنه لفي طواياه يذكرنا بخلائق البدو المغول في البراري السيبيرية.
ومن لغطه بالتجديد ذلك الغط الذي لا يفهمه، قوله الذي ردَّ للأستاذ الحوفي وهو: (التفت إلى عبارة قالها الأستاذ العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون على غير ما يجب إلى اللغة العامية؛ وقد حسب عليهم هذه الدعوة في فاتحة رذائلهم، لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى؛ ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الاجتماعية وهي أن الاشتراكيين شعبيون يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضاً مستقبليون وليسوا سلفيين. . . في حين أنه هو سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه. . .)
وهذا كلام عن السلفية والمستقبلية ببغاوي العبارة لا يعقل قائله ما يقول:
لأن الكتابة في الموضوعات التاريخية ليست هي مقياس السلفية أو المستقبلية وإلا كان المؤرخون كلهم سلفيين لأنهم ما كتبوا ولن يكتبوا في غير العصور السالفة وفي غير الماضي البعيد أو القريب، وإنما المقياس الصحيح هو طريقة الكتابة في الموضوعات التاريخية والأبطال التاريخيين، وبهذا المقياس يحسب الإنسان سلفيا رجعياً ولو كتب عن المستقبل الذي يأتي بعد مئات السنين، إذ هو قد يكتب عنه بروح الجهل القديم والعصبية الرجعية، وهي العصبية التي عششت في دماغ ذلك الكاتب الببغاوي فلا ينساها في(627/1)
موضوع قديم ولا حديث.
ومن أصدق المقاييس للمستقبلية الإيمان بالحرية الفردية والتبعة الشخصية.
فليس في التاريخ الإنساني كله مقياس أصدق ولا أوضح ولا أكثر اطراداً في جميع الأحوال من مقياس حرية الفرد بين أمة وأمة، وبين زمان وزمان، وبين خليقة وخليقة، وبين تفكير وتفكير.
فإذا قابلت بين عصرين اثنين فأرقاهما ولا ريب هو العصر الذي يعظم فيه نصيب الفرد من الحرية والتبعة الشخصية.
وإذا قابلت بين أمتين في عصر واحد ولا ريب هي التي تدين بالنظم القائمة على تقرير حرية الفرد وتحميله التبعة في الساسة والأخلاق.
وهذا الفارق الحاسم هو أيضاً مقياس الفارق بين العالم والجاهل والرفيع والوضيع والرجل والطفل والرئيس والمرؤوس وكل فاضل وكل مفضول.
ولهذا كنا نحن مستقبليين لأننا ندين بمذاهب الحرية الفردية ولا ندين بمذاهب الفاشية والشيوعية، ولا نرى في واحدة منها خيراً لبني الإنسان. وقد حاربنا الفاشية والنازية في الوقت الذي كان فيه الببغاوات من أمثال ذلك الكاتب يطبلون لها ويزمرون، ويسجدون لأبطالها ويركعون، وعشنا وعاش الناس حتى رأوا ورأينا مصداق ما أنذرنا به وأكدنا وقررناه. وسنرى عن قريب مصداق ما أنذرنا به وأكدناه وقررناه في أمر الشيوعية الماركسية على الخصوص، لأنها هي المذهب الذي نحن على يقين من سوء مصيره وسوء وقعه وسوء فهمه بين أدعيائه، ليس هو الاشتراكية في صورتها الحرة المهذبة كما يغالط ذلك الكاتب الببغاوي في التسمية وهو يتعمد أو لا يتعمد التغليظ والتخليط
وقد بدرت البوادر التي لا خفاء بها فعلم الشرقيون والغربيون أن سياسة بطرس الأكبر - لا سياسة المستقبل - هي التي يترنم بها الببغاوات في هذا البلد وفي غيره من البلدان، وسيرون المزيد والمزيد من دلائل الرجوع إلى القديم في كل مسألة من مسائل الخلاف بين السلفيين والمستقبليين.
وفي مقاييس المستقبل التي لا تخطئ ولا تكذب في الدلالة على الوجهة التاريخية العامة مقياس التعاون بين الدول، أو التعاون بين الطبقات، أو التعاون بين الأفراد، فإن هذا(627/2)
التعاون ملحوظ الخطوات في السياسة الدولية من الزمن القديم إلى الزمن الحديث، وهو كذلك ملحوظ الخطوات في المعاملات التي تشيع بين أبناء الوطن الواحد، وسيكون له الشأن الأكبر في علاج مشكلات الاجتماع والاقتصاد على توالي السنين
وبهذا المقياس - بعد مقياس الحرية الفردية - تعتبر الشيوعية من المذاهب الرجعية التي ترجع بنا إلى سيادة الطبقة الواحدة وإن كانت تزعم أنها طبقة وحيدة وأنها هي طبقة الصناع والأجراء. فسيادة الطبقة الواحدة أقدم الصور الاجتماعية التي عرفها الناس، والشيوعية لا تغير في الأمر غير عنوان الطبقة. . . إن صح ما تدعيه.
واسخف السخف قول ذلك الكاتب الببغاوي إن الشيوعيين (يفضلون اللغة العامية لنهم شعبيون مستقبليون).
ومصيبة الدنيا أن تحشو هذه الببغاوات أفواهها بما تسميه تفسير الظواهر الاجتماعية وهي لا تفسر تحت آفاتها ما تسمعه بالآذان وتبصر بالعيون
فاللغة العامية لغة الجهل والجهلاء وليست بلغة الشعبين ولا من يحبون الخير للشعوب.
لأن الغني الجاهل يتكلم اللغة العامية ولا يقرأ اللغة الفصحى ولا يمتاز بفهمها على الفقراء.
ولأن الفقير المتعلم يفهم الفصحى ويكتبها، كما يفهمها سائر المتعلمين من العلية أو السواد.
فأعداء الشعب حقاً هم أولئك الذين يفرضون عليه الجهل ضربة لازب ولا يحسبونه في يوم من الأيام صاعداً من حضيض الجهل إلى طبقة المعرفة والثقافة.
وأصدقاء الشعب حقاً هم الذين يفتحون له أبواب المزايا العالية ويسوون بينه وبين القادرين على التعلم والمتكلمين بلغة المتعلمين.
والمسألة هنا - أيتها الببغاوات التي تفسر الظواهر الاجتماعية - ليست مسألة شعبيين وطبقات وأجور رؤوس أموال كما يهذي كارل ماركمس وأتباعه المفتونون.
وإنما هي مسألة الفارق السرمدي بين المعيشة اليومية وبين الحياة الإنسانية الباقية على اختلاف الأمم وتعاقب العصور.
فكل ما هو من باب القيم الإنسانية الباقية فلا مناص له من تعبير غير تعبير السوق والبيت وكلمات التسلية والاستلقاء، ولو أجبرنا الناس جميعاً في هذه الساعة على الكلام بالعامية دون غيرها لما استطاعوا أن يتجنبوا اللغة الخاصة.(627/3)
والمصطلحات الخاصة والتراكيب الخاصة سنة واحدة حين يكتبون في الطب أو الرياضة العليا أو الكيمياء أو القانون، ولكان عسيراً عليهم أشد العسر أن يكتبوا بالعامية مذهباً كمذهب كانت أو مذهب لمبروزو أو قصيدة كقصائد المتنبي وبيرون وشكسبير.
فإذا كانت اللغة الخاصة لازمة للمتعلم على كل حال لاستيفاء علم الطب أو علوم الرياضة أو علوم القانون فلماذا تحرم عليه لاستيفاء علوم الأدب والقدرة على التعبير الذي لا يتجاوز حدود اليوم ويصاحب الأمم الإنسانية عدة أجيال؟ ومن قال إن الإنسان يستخدم لغة واحدة حين يساوم على بطيخة أو حين يغسل القدور ويخرط الملوخية، وحين يتكلم عن غبطة النفس بالربيع وسمو الأمل بالحب ونبل الفداء في سبيل العليا؟
ما هذا الولع بالتسفل وهذا الإنكار لكل ارتفاع؟ ما هذا التمرغ في كل وضيع وهذا وضيع وهذا الحرَد الذي لا يطاق على كل شريف رفيع؟
فاللغات الفصحى لم تحفظ حتى يوم لأن الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال يتكلمونها في البيت والسوق، ولم تحفظ حتى اليوم لأنها مزية طبقة من الطبقات الاجتماعية أو مزية الأغنياء القادرين على التعليم، فإن أغنى الأغنياء كثيراً ما كانوا من أضعف المعبرين، وأفصح الفصحاء كثيراً ما كانوا من الفقراء والمعدمين. وإنما اختلفتُ اللهجتان على مدى الزمن بضرورة الاختلاف بين حياة البيت والسوق وحياة المعرفة والتهذيب التي تتجاوز حاجة اليوم إلى حاجة الأجيال
وليس إلا الحقد على كل شريف رفيع يسول للببغاوات أن يحاربوا اللغة الفصحى باسم الشعبية والشعبية منهم براء.
والمرجع بعد إلى الذوق والشعور وخصب الخيال، وهي ملكات حرمتها الشيوعية وذووها من كارل ماركس إلى أذنابه الذين لا يفقهون ما يقول، ولو فقهوه لما عظم شأنهم بين شئون النفوس والعقول.
عباس محمود العقاد(627/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
لأستاذ محمد إسعاف النشاشي
- 7 -
ج 10 ص 237: وعن النضر بن شميل قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو فقال: أنشدني أقنع بيت للعرب فأنشده قول الحكم بن عبدل:
إني أمرؤ لم أزل وذاك من الله أدي ... باً أُعَلِّمُ الأُدبا
لا أحتوي خُلَّةَ الصديق لا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
وجاء في الشرح: (أديباً في الأغاني قديماً (لا أحتوي) من الاحتواء وهو كونها له وتحت أمره (خلة الخ) يريد زوجة صديقه
قلت: شميل جاءت بكسر الياء وتشديدها وهي - كما قال ابن خلكان -: بضم الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام. . .
(قديماً) كما روى الأغاني خير من (أديبا)
(أعِّلم الأُدبا) هي أُعِّلم الأَدبا)
وهو يعني أدب النفس، ومن هذا الأدب ومن القناعة ألاّ يقول: أعلِّم الأدباء.
(لا أحتوي) هي (لا أجتوي) أي لا أكره وأمل.
و (الخلة) هنا هي الصداقة لا زوجة صديقة. والخلة بالكسر: المصادقة والموادة والإخاء. والبيتان تليهما في الكتاب أبيات.
* ج 12 ص 277: وله (علي بن ثَوْران الكندي):
هتك ادمع بصوب الهتَنِ ... كلَّ ما أضمرت من سر خفيّ
يا إخلائي علي الخَيف، أما ... تتقون الله في حثّ المطيّ!
قلت: لا تشدد الياء في (خفي والمطي) حتى لا يختل الوزن:
و (بصوب الهتن) هما (بصوبٍ هتِنٍ) وهتن بكسر التاء. وهذه اللفظة (هتن) لم تجئ في شعر قديم وصل إلينا، ولم يذكرها معجم نعرفه. وقد استعملها المتنبئ في هذا البيت في إحدى قصائده:
العارض الهتن ابن العارض الهتن ابن ... العارض الهتن ابن العارض الهتن(627/5)
جاء في (ديوان أبي الطيب المتنبئ) النسخة التي صححها وجمع تعليقاتها (الدكتور عبد الوهاب عزام) وطبعتها (لجنة الترجمة والتأليف والنشر).
قال ابن القطاع: هذا البيت الذي أفسد المتنبئ فيه اللغة، وغلط فيه، وكرر غلطته أربع مرات؛ وذلك أن العلماء مجمعون على أن يقال: هتن المطر والدمع يهتن هتناً وهتوناً، واسم الفاعل منه هاتن، وكذلك يقال: هتل المطر والدمع يهتل هتلاً وهتولاً باللام، وأسم الفاعل هاتل. ولم يقل أحد من العلماء ولا جاء عن أحد من العرب: هتِنَ يهتَن على فعِل يفعَل فيكون اسم الفاعل منه هتِن على فعِل. ولم يذكره أحد من جميع الرواة ولا اهتدي إليه إلى هذه الغاية حتى نبهت عليه.
جاء في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) للأنباري:
لما أنشد (المتنبي) سيف الدولة قولة في مطلع بعض قصائده: (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه) كان هناك ابن خالويه فقال: يا أبا الطيب إنما يقال: شجاه - توهمه فعلاً ماضياً - فقال أبو الطيب: أسكت، فما وصل الأمر إليك قصد أبو الطيب أشجاه أكثره شجي لا الفعل الماضي. . .
قلت: فهل يقول أبو الطيب لأبن القطاع - وقد أسمعه ما أسمعه -: اسكت، فما وصل الأمر إليك، قد سمعتها من الأعراب، وجدتها في شعر الأعشى أو قلتها ولى - وقد (بلغت في علم اللغة المبالغ) - أن أقولها. وهل نتقبل نحن (الهتن) - هذه قصتها - في هذا الزمن بقبول حسن. . .؟
* ج 8 ص 129 - : قال العماد (الأصفهاني): أقام ملك النحاة (الحسن بن الصافي) في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التمييز بحكم ملك فيُقيل ولا يُستقال، وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي وحاشيتي، ولو عاش ابن جني لم يسعه إلا حمل غاشيتي.
وجاء في الشرح: وكانت (يستقال) في الأصل (ولا يستثقل) وفي البغية: يستقال.
غاشيتي: المراد بالغاشية أنه يكون من أتباعه وخدمه.
قلت: (فيقيل ولا يستقال) هما (فيَقتال ولا يُقتال) أي يحكم على غيره ولا يحكم غيره عليه. في اللسان والتاج: اقتالَ عليهم احتكم. قال أبو عبيد: سمعت الهيثم بن عدي يقول: سمعت(627/6)
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يقول في رقية النملة: العروس تحتفل، وتقتال وتكتحل، وكل شئ تفتعل، غير ألاَّ تعصي لرجل. قال: تقتال: تحتكم على زوجها.
و (الغاشية) هنا غاشية السرج وهي غطاؤه.
* ج 16 ص 11:
أبيت الليل مرتقباً كئيباً ... لهمّ في الضلوع، له أُوار
وجاء في الشرح: كانت هذه الكلمة (مرتقباً) في الأصل (مرتفقاً).
قلت: الأصل صحيح. في الأساس: وبت مرتفقاً متكئاً على مرفقي، وفي اللسان: وبات مرتفقاً أي متكئاُ على مرفق يده، وأنشد ابن بري لأعشى باهلة:
فبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي عليّ الليلَ مَحجور
وفي (الكامل) و (جمهرة أشعار العرب) لأعشى باهلة هذا في قصيدته التي يرثي بها المنتشر:
فبت مرتفقاً للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
وروى ياقوت لأبن بكير المحاربي:
فبت مرتفقاً أرعى النجوم إلى ... أن جاوب الديك فينا سحرة ديكا
* ج 17 ص 32: حبس عيسى بن سليمان الهاشمي كيسان. وكان أبو عبيدة يعبث به كثيراً، فشفع فيه أبو عبيدة إلى الأمير، فأمر بإخراجه. فقال للجلاوزة: من أخرجني؟ قالوا: تكلم فيك شيخ مخضوب. فقال: أُمه. . . إن برَّح من الحبس، إحْبيس ظلم، وطليق ذل، لا يكون هذا أبداً.
وجاء في الشرح: إحبيس بمعنى محبوس
قلت: (برح) غير مضعف، وليس هناك برح بالتشديد، وفي مستدرك التاج: تَبرّح كبرح وأبرحه هو، قال مليح الهذلي:
مَكَثْنَ علي حاجاتهن وقد مضى ... شباب الضحى والعيس ما تتبرح
و (إحبيس ظلم الخ) هي أُحبيس ظلم وطليق ذل؟! وليس في العربية إحبيس.
* ج 17 ص 217: وله (لمحمد بن أحمد بن سهل المعروف بابن بُشْران):
لا تغترر بهوى الملاح فربما ... ظهرت خلائقْ للملاح قباحُ(627/7)
وكذا السيوف يَرَوْنَ حسن صِقالها ... وبحدها تُتَخطَّف الأرواح
قلت: وكذا السيوف يروقُ حسنُ صقالها.
* ج 15 ص 267: وكان عَلْقمةُ والياً على حُوران.
قلت: وردت حوران بضم وهي بالفتح كما ضبط ياقوت في (معجم البلدان)
* ج 15 ص 101: قرأت بخط أبي سعد: سمعت علي بن نصر النيسابوري مذاكرة بمرو يقول: كنت ببغداد فرأيت أهلها تستحسن هذه الأبيات التي لأبي إسماعيل المنشئ:
ذكرتكم عند الزلال على الظما ... فلم أنتفع من بردهُ بِبَلالِ
فأنشدت قصيدة في نقيب النقباء أبي القاسم علي بن طرّاد الزينبي على هذا الروي أولها:
خليلي، زُمت للرحيل جمالي ... فقد ضاق في أرض العراق مجالي
وَقُوداً عتاقاً كالأهلة، إنما=ديار الندى والمكرمات حوالي
وما أوجبت بغداد حقي وغادرت ... بلابل بعد الظاعنين ببالي
وجاء في الشرح: قوداً جمع قوداء: النوق وفي البيت قصر، يقول فيه: إن ديار الندى والكرم حوالي بغداد لا فيها:
قلت (خليليّ، زُمّا للرحيل جمالي) و (قودا) أمر لصاحبيه: قاد، قد، قوداً. و (حوالي) هي (خوالي) بالخاء لا بالحاء.
* ج 17 ص 244: سئل الأديب الأبيوردي عن أحاديث الصفات، فقال: نُقرّ ونُمِرّ.
وجاء في الشرح: نقر ونمر أي نعترف به ونجيزه.
قلت: نقر ونَمُرَ: نسكت ولا نخوض في صفات الله (عز وجل) مع الخائضْين، لا نجئ معتزلين نافين ولا مشبهين مجسمين، نقر ونمر. . .(627/8)
2 - بقية حديث في فرنسا
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
المقال الثاني
مما لم ينشر في سنة 1940 مضافا إليه بعض ما يتصل به
حديثاً
يذكر الذين شهدوا معرض باريس العالمي الأخير سنة 1937 شبه أقفاص أنهم رأوا في أقسام المستعمرات الفرنسية تضم أفراداً من الإنسان الأفريقي والإنسان الأسيوي الذين قضى على أممهم سوء الطالع أن تقع في براثن الاستعمار الفرنسي. وقد عرضوا على أعين الناس أشباه عرايا كأنهم أنواع من (الغورلا) أو (الشمبانزي) أو الوحوش. . . وزيادة في الإزراء بهم وكلوا حراستهم لجماعة من النساء العجائز.
هكذا سمعنا ممن شهدوا هذا المعرض، ولعلني رأيت صوراً لذلك في بعض المجلات المصرية او في دور السينما فيما أظن.
هذه واحدة لفرنسا حامية حقوق الإنسان! التي أوقعت في روع البسطاء أنها اتخذت من ثالوث الحرية والإرخاء والمساواة إلهاً سياسياً بشرت به معها أذنابها في بقاع الأرض.
لقد يغفر الله لفرنسا آثامها في نفسها وفساد حياتها وانحلال روابط الأخلاق فيها وما إلى ذلك من موابقات ومدمرات العمران. . . أما أن يغفر لها امتهانها كرامات الإنسان على هذا النحو وعلى رؤوس الأشهاد بعرضه هكذا، فذلك ما لا أظن الله مقدس الروح الإنساني ولو كان في جسمِ مِسْخٍ، وخالق الناس ألواناً وأجناساً شتى، قد تجاوز عنه لفرنسا!
ما أسعد العجزة والبُله والممسوخين وناقصي الخلقة في الشرق الإسلامي وخاصة في مصر! إنهم يعاونُون وتفاض عليهم ألوان الكرامة من القادرين الكاملين إلى درجة الاعتقاد بأنهم أولياء الله يتبرك بهم ويسعى إليهم ويعطف عليهم؛ لأن وراء النظرة إليهم إدراكاً من الناظرين أن الذي خلقنا كاملين هو خلقهم ناقصين، فهم غير مسئولين.
خلقتُ على ما فيّ غيرَ مخيَّر ... هواي ولو خُيَّرتُ كنت المهذبا
ولأن الناس يعتقدون أن الذي خلقهم هكذا ضعفاء وسط معترك الحياة لاشك سيتولى الدفاع(627/9)
عنهم والحماية لهم وامتهان من يمتهنهم.
ولكن الفرنسيين ينظرون إليهم كأنهم حيوانات بشرية في أفق أسفل. ونحن لا نريد أن ننظر إلى هؤلاء الناقصين نظرة الازدراء والإهدار، ولا نظرة التقديس والإكبار، فإن في كلتا النظريتين خروجاً على الصواب، ولكننا نريد أن نوازن بين حظ الروح الإنساني من التقديس في الشرق والهوان في فرنسا التي تزعم ويزعم لها أذنابها أنها حامية حقوق الإنسان. . . ونريد أيضاً أن نقول للذين يدافعون عن روح فرنسا: إنهم لو قضى عليهم سوء الطالع فوقعوا تحت نير الاستعمار الفرنسي ما كان يستعبد أن تحشر فرنسا أقاربهم من الفلاحين المحرومين من العلم والتهذيب والمدنية في أقفاص لتُفَكِّه بهم رواد معارضها تفريجاً عن قلوبهم - إن كان في هذا فرجة قلب - وزيادة في جلب وسائل إحاطتهم بالمعلومات. . .
وإن في القرى المصرية من ناقصي الخلقة الملونين بتغير اللون الأبيض أمثال من في بلاد شمال أفريقية والهند الصينية وجزر مدغشقر الذين عرضت منهم فرنسا نماذج.
يكاد يكون الإعجاب بفرنسا عند جمهور المدافعين عنها المحزونين على سقوطها يدور على محاور ثلاثة:
1 - مبادئ ثورتها التي زعموا أنها أول ثورة أعلنت حقوق الإنسان واتخذت من ثالوث الحرية والإخاء والمساواة إلهاً سياسياً.
2 - دنياها الفكرية والأدبية التي ينمو فيها كل رأي بدون حرج ولو كان فيه حتف الدولة والدين. . .
3 - دنيا باريس (ذات المائة درجة والمائة دركة) بما فيها من حقائق وأباطيل، وضلال وهدى، ورشد وسَفَه.
أما الثورة الفرنسية فلم أر ثورة حبطت في أرضها وضاع أكثر ما بذل من الدماء هباء منثوراً مثل حبوطها وضياع جهودها. . . ومع ذلك فقد ظفرت في الشرق الإسلامي وخاصة مصر بدعاية فتنت الشباب فتنة العمى، وأنستهم أن في مواريثهم الفكرية ولسياسية مبادئ أكمل وأكرم من مبادئها قد رآها التاريخ وسجلتها صحائفه قبل أن تثور فرنسا بألف ومائتي سنة. فلا ينبغي لهم أن يذكروها إلا بترتيبها التاريخي كصدى بعيد جداً للثورة(627/10)
الإسلامية الكبرى. ولكنا نحن العرب لسنا أمة فيها طفولة تحب الإعلان والطنطنة الجوفاء. . .
وللشباب معاذير من قصور البرامج الدراسية للتاريخ الإسلامي قصوراً معيباً. ووزر ذلك على الذين مسخوه ولم يكلوا دراسته للمؤمنين به الواقفين على أسراره، ومعاذيره من الدعاية العريضة التي تنفق عليها فرنسا (العلمانية) والكاثوليكية وتحشد لها الذين أفئدتهم هواء وأعينهم وشهواتهم ثقيلة، فانطلقوا يحرقون البخور ويفرشون الأزهار ويعطرون الأجواء لفرنسا والثقافة اللاتينية، ويقيمون من فرنسا تمثالاً أمام أعين الشباب للحرية والقوة والعلم والجمال حتى جهل الشباب الإسلامي والعربي أنهم أعرق في الحرية والمساواة وأعرف بهما، ولكن أممهم لا تحسن الإعلان.
ولقد مهد هؤلاء الدعاة للثقافة الفرنسية في نفوس المصريين، وطبعوا النفس المصرية بالطابع الفرنسي في المدرسة والبيت والذوق العام. . . وكان من الأنسب لنا إذا كان لابد من شيوع روح أجنبية فينا أن تشيع فينا الروح العالمية التي في أمريكا أو الروح بنوعيها: الإنكليزية والجرمانية، فأنها روح قائمة على الخلق والعلم والعمل وفن الحياة بالجسم والروح. ولكننا على الرغم من وجود الحكم الإنجليزي السياسي بيننا نيفاً وستين سنة لم ننتفع بأساليب الحياة الإنجليزية ولم تتأثر بها كما تأثرنا بالروح الفرنسية، ولو كنا تأثرنا بتلك التربية لكان لرجالنا من السياسة الإنجليزية موقف آخر عملي غير موقفهم الهستيري الكلامي الحزبي الفردي الطليق من أكثر القيود الوطنية المقدسة. والذي يماثل موقف رجال فرنسا في ديارها أشبه من الغراب بالغراب!
ولو كانت الثقافة الفرنسية مرضياً عنها عند الاجتماعيين والمفكرين الفرنسيين أنفسهم لكان لنا وجه من العذر في اقتفائها ولكن هؤلاء الاجتماعيين كثيرو الانتقاد والسخط عليها دائمو الإهابة بأمتهم للأخذ بثقافة أمم الشمال لأنها ثقافة عملية منتجة معتدلة خاضعة لأصول الأخلاق، وهي التي غيرت وجه الأرض وسيطرت على العالم.
قد يعذر الأوربي إذا وجد في الثورة الفرنسية بعض دواعي الإعجاب بجهاد قادتها ومؤرثي نارها في سبيل تحرير الفرنسيين من استبداد الملوك وجمود الكنيسة وطغيان أمراء الإقطاع، لأنه قد يجد فيها أمراً جديداً عظيماً غيّر الحياة الأوربية فيما مضى. . ولكن لا(627/11)
عذر لعربي عرف أبسط مبادئ الإسلام في العدالة والحرية والأخوة والمساواة، وقرأ تاريخ الثورة الإسلامية الكبرى التي غيرت وجه التاريخ وأعلنت ووطدت حقوق الإنسان وجسدتها في أشخاص أقاموا دولا مستقرة عمرت عمراً طويلاً.
هذا إذا تغاضى الأوربي عن الوحشية التي طبقت بها هذه الثورة فكشف عن قسوة النفس الفرنسية وإسرافها في سفك الدماء، وإذا تغاضى عن تقلبات تلك الثورة وسيرها على غير هدى وعقمها عن إنتاج النتائج المستمرة التي أثيرت من أجلها كما سارت ثورات الأمم العاقلة المعتدلة وأنتجت واطردت خطوات الأمة بعدها ولم ترتد على عقبيها كارتداد فرنسا بعد تلك الثورة الكبرى.
(فليس الفرنسيون شعب التطور التاريخي البطيء ولكن شعب التغيرات الثورية الفجائية. شعب قوى الاندفاع بلا (فرامل). وخط تطوره كثير التعرج والالتواءات؛ ففي آخر القرن الثامن عشر قلبت الأمة الفرنسية الحكومة الملكية باسم الديموقراطية والحرية، ومع ذلك لم تمض سنوات حتى عادت فرنسا إمبراطورية مطلقة ثم ارتدت فصارت ملكية محافظة! ثم تحولت إلى ملكية محافظة! ثم تحولت إلى ملكية برجوازية حرة؛ ثم كانت ثورة أخرى ردت الجمهورية الثانية. ثم انقلاب حكومي أعاد للسلطة إمبراطورا. فلا توجد على هذا أمة كفرنسا في اندفاعها وتحولها وانقلابها.)
وفي العهد الأخير قبل الحرب الحالية وصلت فرنسا إلى عهد من الانحلال السياسي، والاجتماعي جعلها تتهالك لأول صدمة مع عدوها التقليدي، وتتخلى عن حلفائها وتنال من نفسها بأقلام قادتها وتدبير رجالها. وقد صدق هرست - وهو من أشهر رجال الصحافة الأمريكية - حين قال. في صحفه عقب سقوط فرنسا بتاريخ 24 - 7 - 1940 (لم تكن فرنسا ديموقراطية ولا حليفة كبيرة ولا أهلا للنهوض بأعباء الديموقراطية، ولم تكن لها سياسة مقررة خاصة، بل كانت متقلبة في إخلاصها وحليفة لا يمكن الاعتماد عليها لبريطانيا التي تحمل المبدأ الديموقراطي الحقيقي في قرارة نفسها، ولما أقبلت الأزمة قصرت فرنسا ثم سقطت).
أما المحوران الثاني والثالث يقوم عليهما أيضاً الإعجاب بفرنسا، فقد كفاني مهمة تناولهما بالنقد الأستاذ المفكر الجليل ساطع الحصري بك الذي نشرت له الرسالة ذلك التحليل القيم(627/12)
(حول انهيار فرنسا) في الأعداد الثلاثة الماضية. بل إن التصريحات الحديثة المتكررة لمفكري فرنسا كمسيو هريو وغيره، التي يعلنون فيها تألمهم من انحطاط معنويات الروح الفرنسية وانطلاقها وراء الشهوات والمنافع الشخصية وكراهيتها للقيود المقدسة وارتدادها عن مبادئ ثورتها، وعدم فهمها لوحي الساعة ومقتضيات الظروف العالمية الحاضرة، مما تطالعنا به الصحف منذ سقوط فرنسا للآن لأكبر شاهد على أن فرنسا لا تصلح أن يكون لنا فيها أسوة ولثقافتها فينا تقليد وتأثير.
وإني لأوقن أن السر في بلبلة أخلاقنا نحن المصريين واضطراب مزاجنا بين الروح الشرقية الكريمة التي كانت لنا ولا تزال باقية في الريف، وبين ذلك الانسلاخ الشائن والتحلل البالغ في المدن إنما هو أثر من جوارنا للثقافة اللاتينية وخصوصاً الفرنسية وتأثرها بها.
وعلى ذكر مسيو (هريو) أود أن أجلو جانباً من عداوته هو الآخر للعرب وسعيه لعدم إنصافهم، وقد علمت بذلك الجانب حين كنت عضواً في (الجمعية الإسلامية الأسبانية) التي تأسست في مصر سنة 1934 برياسة الأستاذ عبد الرحمن بك وكان من أعضائها ذلك الرجل العظيم المغفور له فؤاد باشا سليم الحجازي. ومسيو (بونسو) أحد الأسبان بمصر. وكانت أغراضها تنمية العلاقات العربية الأسبانية وتوطيد الصداقة بينها تمشياً مع تلك الحركة المشكورة التي بدأها الجنرال فرانكو لإنصاف مغاربة المنطقة التي تحت النفوذ الأسباني من مراكش والتي كان من نتائجها الشروع في تأسيس جامعة عربية في مدريد تسمى (البيت العربي) لخدمة التراث العربي في أسبانيا ويكون فيها كراسي أستاذية بأسماء ملوك العرب الذين يساهمون في معاونتها. ودعت لذلك فعلا العلامة المرحوم الشيخ الخالدي الفلسطيني والعلامة المجاهد الأمير شكيب أرسلان للبحث والمشاورة، ووعد الملك فيصل الأول ملك العراق الراحل رحمه الله بالإنفاق على كرسي فيها، وابتدأت الحركة تسير خطوات نحو النجاح. فما كان فرنسا إلا أن أوفدت مسيو (هريو) إلى حكومة أسبانيا ليحبط هذا المشروع الجليل والمسعى الكريم محذراً أسبانيا من عواقب سياسة التسامح مع المراكشيين ومبدياً مخاوف فرنسا من تسرب (عدوى) هذه الحركة إلى مراكش الفرنسية والجزائر وتونس. . . وكان لفرنسا ما أرادت ووقف المشروع.(627/13)
ويزور مسيو (هريو) مصر لتوطيد حياة المعاهد الفرنسية بها قبل الحرب فيبالغون في الاحتفال به ولا تلقي في أذنه كلمة عتاب. . . ويزورها أخيراً في طريقه من موسكو إلى فرنسا أثناء الاعتداء الفرنسي الأخير على الشقيقة سوريا فيحتفل به كذلك. . . ولا يقولون له ما كان يجب أن يقال في مثل هذا الظرف. كأن منادح البيان قد ضاقت عن أن تتسع للترحيب والعتاب في آن واحد!
عبد المنعم خلاف(627/14)
إلى الأحزاب المصرية
عدلوا برامجكم أو انسحبوا قبل فوات الأوان!
للأستاذ سيد قطب
أمهر اللاعبين هو الذي يعرف بالضبط متى يجب عليه أن ينسحب قبل فوات الأوان
ولكن يبدو أن أحزابنا المصرية لا تؤمن بهذه الحكمة، أولا تعرف كيف تطبقها في الوقت المناسب
قامت هذه الأحزاب جميعاً لغرض واحد، هو الجهاد السياسي لتحقيق الاستقلال. ويقتضينا الإنصاف أن نثبت لها جميعاً أنها قد نجحت - إلى حد ما - في مهمتها، وذلك على الرغم من الأخطاء التي عرضت لها في الطريق، ولكن هذه كلها هنات لا تذكر إلى جانب المهمة الضخمة التي نهضوا لها. . . مهمة الاستقلال
ولقد استغرقت تلك المهمة الضخمة كل نشاط الأحزاب الساسة - ومن حقها أن تستغرقه - فلم يتهيأ لها أن تمد ببصرها إلى أبعد من الغاية السياسية، حتى لقد أهملت في بعض الأحيان الالتفات إلى الجانب الاقتصادي في هذه المهمة السياسية، في وقت تصطرع فيه القوى الاقتصادية في العالم، وتؤثر تأثيراً حاسماً في كل اتجاه سياسي!
وفي خلال هذه الفترة الطويلة، وهي تتجاوز ربع قرن جدت في العالم أمور وأمور، وتغيرت النزعات والاتجاهات، لا بل ولد عالم جديد. . . ولكن أحزابنا المصرية - فيما يبدو لا تكاد تشعر بهذا كله. فهي في عام 1945 لا تزال تحصر نشاطها الحزبي كله في دائرة الخصومات الحزبية، بل الشخصية، ولا تزال تنظر إلى المجتمع المصري كأنه المجتمع المرغوب فيه، فإذا فكرت في الإصلاح فيه أجزاء وتفاريق على طريقة الترقيع والتجوير!
ومما لاشك فيه أن هذه العقلية ليست هي التي تستطيع مواجهة العالم الجديد
نحن في حاجة إلى:
1 - برامج جديدة
2 - وعقليات جديدة
3 - وأحزاب جديدة(627/15)
نحن في حاجة إلى برامج جديدة غير البرنامج السياسي الذي استغرق جميع جهودنا في ربع قرن من الزمان. برامج اجتماعية كاملة تؤثر في النشاط الاقتصادي والثقافي والتشريعي، وترسم له طريقاً واضحاً وهدفاً مقصوداً.
ولا يشك أحد في أن العدالة الاجتماعية مفقودة في مصر، وقد ترددت هذه الجملة كثيراً حتى أصبحت حقيقة بديهية، ومتى ثبت هذا فإن له مستلزمات: أولها أن توجد برامج حزبية معينة لتحقيق هذه العدالة، فإنه خير لمصر أن يقوم الصراع الاجتماعي فيها داخل البرلمان على يد الأحزاب - كما هو الحال في إنجلترا - بدلا من أن يقوم هذا الصراع في الشارع بلا ضابط ولا نظام!
والصراع داخل البرلمان قائم بالفعل - وإن لم يأخذ صبغة الصراع الحزبي - فالذي يراجع مضابط البرلمان في جميع العهود تبرز أمامه حقيقة معنية. فما من مرة عرض مشروع يمس رؤوس الأموال، أو ينصف بعض الطوائف الفقيرة، إلا وتغير التنظيم الحزبي السياسي أو انهار. ووقف ممثلو رؤوس الأموال من جميع الأحزاب جبهة واحدة ناسين خصوماتهم الحزبية، ووقف كذلك أنصار الطوائف الفقيرة جبهة واحدة.
فالنضال الاجتماعي موجود الآن ومنذ نشأة البرلمان المصري. فلماذا لا ننظمه في الصورة الحزبية المعروفة في برلمانات العالم الراقية، وهي الصورة المأمونة العواقب، التي تحيل هذا النضال أفكاراً وقوانين ومشروعات عملية، بدل أن يتحول حركات هدامة غير إنشائية؟
ونحن في حاجة إلى عقليات جديدة تدرك المسألة على هذا الوجه، تكون على استعداد لخلق برامج إنشائية كاملة وتنفيذها بالجرأة والحماسة الواجبتين في هذا الظرف الذي تولد به عوالم جديدة.
وأنا شديد الشك في صلاحية عقليات الأحزاب الحاضرة ورجالاتها لمواجهة مثل هذه البرامج الكاملة، فقصارى ما يفكر فيه هؤلاء الرجال هو مشروعات جزئية لا تناسق فيها ولا انسجام، ولا تربطها وحدة تفكيرية معينة.
وثمة عقبة أخرى تحول بين الهيئات الحزبية الحاضرة والاتجاه الجديد، فهذه الهيئات أجهزة قديمة صدئة لا تستطيع أن تتحرك حرة من أثقال الماضي. ومعظم رجالها في سن(627/16)
الكهولة والشيخوخة ومن العسير على الكهل أو الشيخ أن ينهج في تفكيره وفي حياته نهجاً جديداً، ويدع مألوفة في خمسين عاماً أو ستين. وقليل من أفذاذ الرجال هم الذين يحتفظون برصيد من قواهم لمواجهة التجديد الكامل. ومن هنا يخالجني الشك المطلق في صلاحية رجال الجيل الماضي لمواجهة مطالب الجيل الجديد.
خذ مثلا لذلك الديوان الحكومي - وهو أقل مؤنه من الاتجاه - فالكل مجمعون على أنه جهاز بطئ الحركة، قليل الإنتاج، فاسد النظام (باعتراف ديوان المحاسبة)، فهل بين رجال الجيل الماضي من يصلح للقضاء على النظام الديواني القائم كله، وإنشائه على أسس جديدة في دفعة واحدة؟
كلهم يشفقون من هذه الخطوة الجريئة، ويخشون أن يقف دولاب العمل، وكلهم يميلون إلى السياسة الترقيع بدل سياسة الإنشاء، لأن رصيدهم من القوى العصبية لا يكفي لهذا الابتكار الكامل، ولا يصلح لمواجهة نظام مبتكر لم يألفوه في الأربعين أو الثلاثين سنة التي عاشوها في ظل النظام الديواني العتيق!
وهناك أمثلة كثيرة. . . ولكننا لا نمضي في سردها لأنها ليست علة بذاتها، وإنما هي أعراض لعلة أصيلة؛ هي عدم وجود سياسة إنشائية مرسومة، قائمة على تحقيق العدالة الاجتماعية وتجديد المجتمع المصري تجديداً كاملا في شتى الاتجاهات
وهذا التجديد الكامل في حاجة إلى عقلية لا ماضي لها! في حاجة إلى عقلية إنشائية مبتكرة، تنفر من أنصاف الحلول، وتشمئز من منظر الترقيع في الثوب البالي القديم!!
ونحن - إذن - في حاجة إلى أحزاب جديدة ذات عقلية إنشائية إلى المجتمع المصري على أنه وحدة كاملة، وترسم لإنشائه وتجديده سياسة جريئة حازمة متناسقة، موحدة الروح في شتى الوزارات والدواوين والإدارات، وتتفاضل فيما بينها بالبرامج الاجتماعية الشاملة التي تعالج بها المجتمع المصري المريض
وإذا قلت البرامج الاجتماعية الشاملة، فإنما أعني الاقتصاد والثقافة والتشريع بوجه خاص.
فمن الناحية الاقتصادية نحن مجمعون على سوء توزيع الثروة العامة وعلى ضآلة الثروة القومية. أما الوسائل لمعالجة هذين النقصين فقابلة للاختلاف بين الأحزاب.
والبرنامج الاجتماعي الذي يعالج هذه الظاهرة لا بد أن يكون ذا أثر الاتجاهات الثقافية،(627/17)
فيحرص على إتاحة الفرص لكل فرد إتاحة حقيقية بريئة من التهريج الحزبي، ولن يتحقق هذا إلا بأن يجد كل راغب في التعليم الصالح له مكاناً في المدرسة المصرية لا يصده عنه عجزه عن النفقات التعليمية، ولا حاجة أهله إليه ليعمل في سبيل القوت قبل أن يتجاوز سن التعليم
ولا يكفي أن يتاح له التعليم على هذا الوجه، بل لابد أن يكون هذا التعليم موجهاً اجتماعياً معيناً يقرر مبدأ العدالة الاجتماعية في أذهان النشء، حتى يصبح إحدى العقائد التي تبثها المدرسة في نفوسهم بتعاليمها ونظمها وتوجيهاتها النظرية كذلك
وعندئذ يكون للتعليم المصري طابع ويكون للمدرسة هدف اجتماعي بجانب الهدف التعليمي الذي تسير إليه الآن على غير قصد ولا انتباه!
والتشريع هو أحد الأدوات لتحقيق البرامج الاجتماعية الشاملة، فيجب أن يكون للتشريع عقلية موحدة ترمي إلى أهداف موحدة، وتتفق مع البرامج الاجتماعية بوجه عام.
والكلمة الآن للأحزاب المصرية القائمة، ولكنها في الأغلب لمجموعات الشباب التي لم تتقيد بماض ثقيل يشلها عن الحركة الحرة في الاتجاه والتنفيذ على السواء
أما الأحزاب القائمة، فقد أدت دورها، ومن الواجب أن تنسحب من المسرح قبل فوات الأوان، ذلك إلا أن نستطيع التجدد والتحور لنواجه الحاضر والمستقبل، وهذا ما لا أحسبها تطيقه، وليس في تاريخها حتى اليوم ما يدل على أنها تراه.
سيد قطب(627/18)
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 3 -
دعوته إلى العامية - دعوته إلى الحروف اللاتينية - دعوته
إلى إلغاء الأعراب. . . . . . . . .
- 1 -
(يجب ألا يكون للمجتمع لغتان إحداهما كلامية أي عامية، والأخرى مكتوبة أي فصحى كما هي حالنا الآن في مصر وسائر الأقطار العربية؛ لأن نتيجة هذه الحال أن اللغة المكتوبة تنفصل من المجتمع فتصبح كأنها لغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد؛ وينقطع الاتصال الفسيولوجي بينها وبين المجتمع فلا تتطور، ولهذا يجب أن تكون غايتنا توحيد لغتي الكلام والكتابة، فنأخذ من العامية للكتابة أكثر ما نستطيع، ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر ما نستطيع حتى نصل إلى توحيدها) ص 47.
لم يقنع المؤلف بالدعوة إلى استعمال الكلمات الأعجمية، فعاد يحمل لهدم بنيان اللغة العربية الشامخ معولا قد حمله غيره من قبل فتثلم، وضاعت الدعوة السابقة سدى، وستذهب دعوته هذه أباديد لا رجع لها ولا صدى، وأية دعوة أخطر على اللغة من اطراح الكلمات العربية واتخاذ العامية لغة فنية للشعر والكتابة والخطابة؟ وما دامت العامية محرفة عن الفصحى فلم نفضل الدخيل على الأصيل؟
ولم لا تكون الفصحى أحق بالاستعمال ما دام القراء يفهمونها؟
ونحن نرى في عصرنا هذا أن كثيرين جداً من الأميين يسمعون الصحف ويفهمونها، ويصيخون إلى الخطب السياسية والدينية ويستوعبونها، وينصتون إلى الأغاني الفصيحة ويحفظونها، حتى أن الغلمان الذين لم يجلسوا إلى معلم يرددون في هذا العصر جملا مما حفظوا وهم لها فاهمون، وليست اللغة الفصحى ي نظري هي المحشوة بالغريب، ولا(627/19)
العويصة التراكيب، ولا الخفية المجلز، وإنما هي التعبير الصحيح الجاري على قواعد اللغة وإن كانت مفرداتها في متناول الجميع.
فلن تنفصل الفصحى إذن من المجتمع، ولن تصير كلغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد، فان الشعب كله يفهمها، ورقي الشعب بقربها إليه ويقربه منها.
ليس عندنا مبرر إذن لتطعيم لغتنا الفصحى بأكثر ما نستطيع من العامية، ولا أحد يزعم أن العامية كالفصحى ثراء وسعة ومرونة وموسيقية، فالعامية فقيرة، وليست بصالحة لتصوير المعاني الراقية أو خلجات النفوس، فمن أراد التنفيس عما يجيش بين جوانحه من عواطف استمد من معين الفصحى الثر الذي لا يغيض، وإذا اهتاج جرت على لسانه كلمات من الفصحى لم يزورها أو يتكلفها.
على أن العامية باختلاف الأصقاع والأقاليم، فعامية الصعيد تغاير بعض المغايرة عامية الشمال، وعامية مصر تخالف عامية الشام وهكذا، فإذا أضفنا إلى لغة الأدب أكثر ما نستطيع من العامية انفصم الرباط الوثيق الذي ينتظم الأمة العربية، ووأدنا الوحدة التي ننشدها وهي ما زالت في المهد.
وبم تسمى اللغة الجديدة؟ وما خصائصها المميزة لها وهي أخلاط وأمشاج من فصحى، وعامية منها، ومن تركية، ومن أوربية محرفة، ومن أوربية غير محرفة دعا الأستاذ إلى اصطناعها في المقال السابق؟ ولسنا وحدنا بدعا في أن لغة الكتابة عندنا تغاير لغة الخطاب، فهذه المغايرة عامة في اللغات كلها، بيد أن الفرق عندنا أوضح وأبرز؛ لطول العهد بالجهل، والاستبداد، ومحاربة اللغة القومية بالتركية آناً، وبالإنجليزية والفرنسية آناً، ولذا تقاربت اللغتان في ربع القرن الحاضر لما ذاعت الثقافة، وتنسمنا الحرية واعتززنا بالقومية.
ولنفرض جدلا أن الأستاذ على حق في رأيه، ولنتخذ لغة الأدب خليطاً من العربية والعامية، ثم نتقرب قرناً واحدا، فإذا عامية جديدة تشق من اللغة الجديدة؛ لأن الشأن في لغة الخطاب الميل التيسير والتسهيل وعدم التحرز من الأخطاء، فماذا نفعل آنئذ؟ أنؤمن بأن لغة الكتابة لا بد أن تتميز من لغة الحديث المعتاد؟ أم ننشئ لغة للكتابة ملفقة من تلك اللغة التي اعتسفناها من الفصحى والعامية ومن هذه اللغة العامية الناشئة؟(627/20)
وما مصير تراثنا العظيم من قرآن وحديث وشعر ونثر؟
سيصير أحاجي وألغازاً ولغة أثرية دراسة لا يفقهها إلا قلة ممن يشغفون بدراسة الآثار القديمة شأن اللغة اليونانية واللاتينية، فهما أصل اللغات الأوربية الحديثة ولكن لا يعرفها إلا الأقلون. ربما رأي المؤلف أن الأوربيين يترجمون روائع اليونان والرومان إلى لغاتهم الحديثة فلنصنع صنيعهم فنترجم حينئذ القرآن والحديث وروائع الشعر والنثر القديم إلى لغتنا الحديثة، وأعتقد أن هذه فكرة من الهوان بحيث لا يتجادل فيها قلمان.
- 2 -
(وعندي أن بعض المميزات لما يقترحه عبد العزيز فهمي باشا من اتخاذ بعض الحروف اللاتينية في كتابتنا يعود إلى أن هذه الحروف تضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة، وتكسبنا عقلية المتمدنين) ص 117.
(والواقع أن اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة إلى المستقبل، لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التي أغلق عليها هذا الخط أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها) ص 138
أما اصطناع الحروف اللاتينية في الخط العربي فإنه اقتراح صرعه النقد، فلا حاجة بي إلى ذكر مساوئ الموتى.
ولا أذكر أن في مصر مؤيداً آخر لهذا الاقتراح غير الأستاذ سلامة موسى. والجديد في تأييده أن اصطناعنا الحروف اللاتينية يضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة، ويكسبنا عقليتها، ويغلق علينا أبواب ما ضينا، ويفتح أبواب مستقبلنا كما حدث في تركيا.
ولو أن التمدن وكسب العقلية رهينان باستعمال خط الأمم الراقية لسهل التمدن على كل أمة متخلفة عن ركب المدنية، فما عليها إلا أن يستعير حروف أمة أرقى منها لتبلغ شأوها، وتفكر على غرارها، حتى وإن اتفقت الحروف واختلفت اللغة وتباين النطق والمعنى!
ومعنى هذا أن جميع من يلبسون الملابس الإفرنجية قد تمدنوا، وأنهم يفكرون كما يفكر الإفرنج. وما الغرابة في هذا القياس، والزي ألصق بالمرء وأعظم تأثيراً في شخصيته من الحروف التي يكتب بها بين الحين والحين؟
لقد تحضرت الأمة العربية ولم تصطنع حروف أمة أرقى منها، وانفلتت أوربا من عقالها(627/21)
مسترشدة بأعلام العرب وصواهم وإشعاعهم ومع ذلك لم تتخذ حروفهم، ووثبنا نحن منذ عصر إسماعيل وثبات بدون حاجة إلى حروف اللاتين لتحفزنا إلى الوثوب، أو تجذبنا نحو الهدف المنصوب. وها هي ذي اليابان أتت بالأعاجيب في نهضتها على حداثة نشأتها ولم تتسلف من أمة أرقى منها حروف كتابتها.
ولو أن الحروف تصنع العقلية لتساوت عقلية الأمم التي تكتب بالحروف اللاتينية، فليس المعول إذن على الحروف ولكن على الروح الذي يستعمل الحروف.
ولم تنهض تركيا لأنها استبدلت بحروفها العربية حروفاً لاتينية، فقد حدث هذا الاستبدال بعد النهوض والاستقرار، على أنها أبدلت مستعاراً بمستعار.
- 3 -
(وليس على التلميذ من حرج أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام يفهم ما يقرأ، أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو، ولا نبالي الإعراب الذي أثبت الاختبار أنه لا فائدة منه بتاتاً، والوقف في أواخر الكلمات أي إسكانها هو الخطة السديدة التي يجب أن تتبع)
(وقد قال هربرت سبنسر إنه لم يتعلم النحو قط، وإنه درس وألف في هذه اللغة دون أن يحتاج إلى دراسة النحو، ولا يمكن عربياً أن يقول مثل هذا القول عن لغته) ص 123.
(واقترح عبد العزيز فهمي باشا يحتاج أولا إلى العمل بإلغاء الإعراب) ص 138
وهذا تجديد آخر، أي هدم آخر لهذه اللغة التي قاومت الأعاصير أكثر من ألف عام، وهي كالصخرة يرتطم بها الموج فينحسر، وتنهال عليها معاول الهدم فتفل وتنكسر.
التجديد المخلص للغة العربية أن يلغي الإعراب منها فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام القارئ يفهم ما يقول! ثم تبلبل الأستاذ فقال إن إسكان أواخر الكلمات هو الخطة السديدة التي يحب أن تتبع، والإسكان شئ والفوضى في الشكل شئ آخر.
ونحن نسأل الأستاذ: كيف يفهم القارئ ما قرأ وقد نصب الفاعل ورفع المفعول؟ وروح اللغة التي يقرؤها لا تطاوعه على هذا الفهم، وذوق القارئ نفسه ما دام قد فهم معنى ما قرأ لا يطاوعه على هذا الخلط، بدليل أن العرب - قبل أن تستنبط القواعد من لغتهم - كانوا يرفعون الفاعل وينصبون المفعول بالسليقة، لأن هذه الحركات في أواخر الكلمات ذات(627/22)
دلالات معنوية على المواد؛ وهذه سليقة فيهم توارثوها وتناقلوها كما يأخذ أبناؤنا في هذا العهد عنا أوضاع لغتنا العامية.
ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني في الرد على منكري ضرورة النحو: (وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له، أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ذاك لأنهم لا يجدون بداً من أن يعترفوا بالحاجة إليه، إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه هو المعيار الذي لا يتبين نقصانه كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه).
ثم يقول مبيناً أن النحو نبراس لفهم المعنى بدقة: (وإذا نظرتم في الصفة مثلا فعرفتم أنها تتبع الموصوف، وأن مثالها قولك: جاءني رجل ظريف، ومررت بزيد الظريف، هل ظننتم أن وراء ذلك علماً؟ وأن ها هنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين؟ وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح، كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام؟ وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح، ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم (أمس الدابر)، وكقوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)، وصفة يراد بها المدح والثناء، كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جده؟ وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال؟ وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟)
فالنحو في رأي الجرجاني ليس لصحة الشكل فقط، بل وللتعبير الدقيق عن المعاني، وللفهم الدقيق لهذه المعاني، فهو إذن من صميم اللغة وجوهرها.
وأما الزعم بأنه لا يستطيع عربي أن يجيد لغته بدون تعلم النحو فيدحضه أن العرب - إلى أن خالطوا العجم في الإسلام - كانوا يجيدون لغتهم غير مفتقرين إلى تعلم النحو، وأن البارودي في هذا العصر أجاد اللغة فهما، وأجاد الشعر نظما، ولم يتعلم النحو، وذلك بكثرة القراءة والحفظ لأنهما أجدى على المتعلم من قواعد النحو التي لا يصحبها تطبيق متكرر.(627/23)
استمع إلى ما يقوله الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية عن البارودي وهو من أعرف الناس به: (محمود سامي البارودي لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلاً إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض من له دراسة وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ وهو بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية يقرأ ولا يكاد يلحن. . . ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها، ناقداً شريفها من خسيسها، ثم جاء من الصنعة الشعر اللائق بالأمراء).
وقد فطن ابن خلدون قبل ذلك إلى أن الطريقة المثلى في تعليم اللغة المرانة وكثرة الحفظ والقراءة، لينطبع لسان المتعلم وفكره على اللغة، وقرر أن سكان الأمصار أشد إغراقا في اللحن من سكان البوادي؛ لأنهم لقنوا أول الأمر لغة ملحونة فاعوجت ألسنتهم واختلطت لغتهم فالنحو وحده لا يكفي بل لابد من مخالطة الأعراب والتدرب على محادثتهم لأن اللغة ملكة والملكات لا تكتسب إلا بالتكرار والارتياض والمران، فقد كان العربي يحاكي أهله في نطقهم وتعبيرهم كما يحاكي الطفل أهله في النطق بالمفردات والتراكيب، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (وهذا هو معنى ما تقوله من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذونها عن غيرهم).
ولهذا راى (فترينو) زعيم التربية الأدبية في إيطاليا أن أنجع حيلة لتعليم اللغة اللاتينية للأطفال أن يجعلها لغة المحادثة منذ الصغر يتفاهمون بها، ويتحدثون مع أستاذهم، على أنه عنى بتجويد نطقهم، وجودة إلقائهم، وتمثيلهم للمعاني.
ولهذا أيضاً كانت عادة العرب ولاسيما الخلفاء أن يرسلوا أولادهم إلى البادية لتنشئتهم على الفصاحة فيما ينشئون عليه.
فليس بدعا إذن أن يتعلم سبنسر اللغة الإنجليزية بدون قواعد.
وليس مستحيلاً ولا عسيراً في كثير أو قليل أن يتعلم أحد اللغة العربية أيضاً بدون قواعد، فقد كان هذا يحدث فعلا، وقد دعا إلى انتهاجه بعض المربين كابن خلدون. ليس الصواب إذن في إلغاء النحو، إنما الصواب في تبسيطه وتيسيره، وأن نتوخى سلامة التعبير فيما يسمعه التلميذ ويقرؤه، وأن نكثر من تمرينه وتدريبه.(627/24)
وبعد فالمدارس المصرية تعلم من النحو نتفاً ضرورية لا غنى عنها في استقامة الأسلوب وفهم المعاني، وشتان بين عهد درس فيه الأستاذ بعض النحو دراسة نظرية جافة مملة وبين تدريس النحو في هذا العهد تدريساً نظرياً عملياً مشفوعاً بالتطبيقات.
ثم لماذا يحرص الفرنسيون مثلا على أن يعلموا الدارسين للغتهم من أبنائهم ومن غيرهم قواعد لغتهم، وهي أحياناً أكثر تشعباً من قواعد اللغة العربية مع رغبتهم في نشرها وسيادتها وتيسير تعلمها على الراغبين؟
وإذا كان الأعراب قد كاد يكون خصيصة للغة العربية وحدها بعد أن قل في الألمانية فإن الوسيلة الوحيدة لتيسيره ليست إلغاءه بالتسكين، ولا الفوضى في نطق الحركات كيفما جرى بها اللسان وإنما بكثرة القراءة والمران، والتدريب على القواعد الموضوعة لهذا اللسان.
(يتبع)
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية(627/25)
لغة السياسة
للدكتور عبد العزيز برهام
للسياسة لغة تختلف كل الاختلاف عما تواضع عليه الناس. إذ من المهارة السياسية أن تصل إلى أغراضك ولو من طريق ملتو. وقديماً قيل: الغاية تبرر الوسيلة. وأنه ما دام للمائدة آداب وللحفلات آداب، وللزيارات آداب. . . فلماذا لا يكون للسياسة آداب كذلك؟ ومن مظاهر السياسة أن تكون لغتها من الرقة والسمو بمكان، بحيث لا تشعر المتحدث إليه بالرغبة في السيطرة عليه أو استغلاله. فلغة (الأمر) قد تسمى بلغة (النصح). وبداهة أن النصيحة لا تقيد المنصوح له برأي الناصح ولا تلزمه الأخذ به؛ فله كامل الحرية إن شاء أخذ وإن شاء يذر؛ ولكن لها عند بعض الساسة معنى آخر. فإذا تفضل عليك ناصح بالا يطرح مشروع كذا ي مناقصة ورأيت أنت أن الخير لك ولوطنك في غير عتب عليك في عدم الأخذ بمشورته عتاباً قد يكون مراً، وقد يبلغ درجة اللوم والإحراج والتوعد، وإذا نصحك بكذا وكيت لهوى قد يكون في نفسه ولم تتابعه في رأيه تململ واستاء، لأن (النصح) على لسانه نصح من (نوع خاص).
ولقد يتطوع لزيارتك زائر كريم، ويتحدث إليك في أمور يكثر الجدل فيها، وتتناقلها الألسن، ثم يبدى لك في أدب جم بأن (من رأيه) أو (من رأي حكومته) أن تحل العقدة بكذا وكذا، ثم يتركك وقد فهم كل منكما ما انطوت عليه سريرة الآخر، وهو في سعيه مشكور شكر الناصح المخلص. وإذا المشروع يطوي، والجو يصفو، والنفوس تهدأ، ويعود الأمر كما بدأ، وتصفق الأيدي للحل السعيد.
وقد يكفي مجرد (إظهار الضجر وعدم الرضا) لإيقاف المتحرك وتحريك الساكن. فإذا لم يُظهر بعض الدوائر المالية ارتياحا إلى أن تكون اللغة العربية هي لغة وطنها؛ وإذا ارتأت دور الخيالة في استخدام هذه اللغة فيما تعرض من أشرطة حرجا عليها فمعناه بلغة السياسة: قنوعاً بما رضي الدخيل بمنحك إياه، وشكراً له على تفضله.
(والمركز الممتاز) في عرف الساسة الطالبين له هو صنيع يؤدي إلى من يطلب منه منحه: وكيف لا والدافع إليه شدة الحدب على المهيض الجناح، والحرص على المحافظة عليه؛ فالجيش الدخيل الذي يحتل أرضه ليس له من مأرب إلا رد المعتدين عنه، والثقافة التي(627/26)
تفرض عليه إنما يراد بها رفع مستواه العلمي والخلقي، ومدارس التبشير ليست إلا لهدايته سواء السبيل. . . ولكنه في الواقع والحقيقة انتقاص شائن من حرية من يسلم به، واعتداء على كرامته واستقلاله، واعتراف منه بأنه ليس لهذا الاستقلال أهلا.
ومن غرائب الصدف أن لغة السياسة من نصائح مسداة، وآراء مبذولة، وامتيازات مطلوبة، لا تتخذ هذا المعنى (الرفيع) الخاص إلا إذا جرت على لسان قوي وتحدث بها إلى ضعيف أو إلى من يظن فيه الضعف. فالدول الكبرى في مؤتمر (سان فرنسيسكو) تنصح عملياً للدول الصغرى بأن تقلل من شطحاتها وبأن تتعلم الطاعة وتستسلم صاغرة لما يراد بها، ولكن إذا ما جد خلاف بين بعضها هي وبين بعض كانت لغة التوفيق ذات معان أخر وذات أسلوب آخر.
والسياسي الماهر هو الذي يقف من خصمه موقف مفسر الأحلام الذي استدعاه أحد الملوك ليفسر له حلماً أفزعه. وعلم المفسر أن قد سبقه في هذا المضمار آخرون قربت المقصلة آخرتهم؛ لأنهم أخبروا الملك أن جميع أفراد أسرته سيموتون قبله وسيموت هو بعد ذلك. فلما أحضره الملك بين يديه وسأله عن تعبير رؤياه أجابه: ستكون أطول أفراد أسرتك عمراً.
و (الدبلوماسي) البارع هو الذي لا يضع السيف في موضع الندى، والذي يصل بمعسول ألفاظه إلى ما لم تصل إليه القنابل الطائرة.
لما أخفت الحملة الفرنسية على (مصر) وخشي (نابليون) أن يكون في رحيل جنوده عن (وادي النيل) ما يذهب بالأثر الثقافي والعلمي الذي تركته بحث عن رجل يمثل (فرنسا) في (مصر) وتكون رسالته (أن يحافظ على النفوذ الفرنسي رغم الهزيمة، وأن يؤسس بالطرق (الدبلوماسية) ما عجزت الأسلحة عن تشييده) فوقع اختياره على (متيو دليسبس) وكانت وصية (تلليران) له وهو يودعه: (أتخذ لنفسك صديقاً: رجلاً من بين خصومنا، وسيكون في صداقتك له ما يجعل منه واحداً منا) - وكلنا يذكر ما كان لصداقة هذا (الدبلوماسي) لمحمد علي بنيه من الأثر الكبير في نجاح مشروع فتح (قناة السويس).
ولقد أدخل القرن العشرين في معجم السياسة كثيرا ًمن الألفاظ التي غيرت من مدلولها، وأضاف مؤتمر (سان فرنسيسكو) إليه مصطلحات جديدة. فبعد أن كنا لا نسمع إلا ألفاظ(627/27)
الاستعمار والانتداب والحماية. . . أصبحنا نسمع كذلك ألفاظ الوصاية الفردية والوصاية الدولية. . . ومن يدري فربما أضيفت إليه في المستقبل صفحات.
والحق أن الغاية من كل هذا واحدة: إخضاع الضعيف لسلطان القوي، شأنه في ذلك شأن الذئب والحمل الذي قيل إنه كان يعكر عليه الماء. وسواء لدى القوى أطلب منه ضعف الوصاية عليه أم لم يطلبها، فهو من الحالين أهل لهذه الوصاية. ومن حق القوى أن يأخذ بيده حتى يصل به إلى درجة البلوغ الإنساني ليستحق بذلك أن يكون عضواً في جماعة الإنسانية.
ولو أنك سألت (عصبة الأمم) لماذا قررت (وضع سورية ولبنان) تحت الانتداب الفرنسي، لأجابتك في كثير من البساطة، لتساعدهما على النهوض والاستقلال بأنفسهما، ولتصل بهما إلى درجة من الرقي والحضارة تجعلهما أهلا لعضوية هذه العصبة. ولكنك لو سألت اليوم (فرنسا) لماذا لا تترك هذه البلاد بعد أن أدت فيها رسالتها (ما دامت الرسالة لم تكن الغاية منها إلا مصلحة الشعب المغلوب على أمره) أجابتك، وعلى شفتيها ابتسامة: والمنشئات الحربية والمواقع (الاستراتيجية) والمدارس والمستشفيات والكنائس التي أسسناها. . .؟ أتريدنا على أن نترك كل هذا دون عوض وأن ننصرف كما قدمنا؟ ولماذا إذن كانت كل هذه الجهود التي بذلنا قراب عشرين عاما؟ وكيف يجرؤ الشعب الذي امتصصنا دمه وأذقناه الذل والهوان، وحاولنا وضع بذور التفرقة بين وحداته على إنكار ما أسدينا إليه من صنيع؟
قلت ما أحكم قول شاعر المعرة:
وأرضٍ بِت أقرى الوحش زادي ... بها ليثوب لي منهن زادُ
فأطعمها؛ لأجعلها طعامي ... ورب قطيعة جلب الودادُ
عبد العزيز برهام(627/28)
تسوية المنازعات الدولية
للأستاذ نقولا الحداد
قرأنا بالأمس النص الرسمي لميثاق السلم والأمن فلم نر فيه الضمانة التامة للسلم والأمن، على الرغم من بذل كل مجهود في سان فرنسيسكو.
في هذا الميثاق هيئتان كبريان للحرص على الأمن الدولي: الأولى الجمعية العمومية المؤلفة من جميع الأمم المتحدة التي كانت ممثلة في مؤتمر سان فرنسيسكو. والأخرى مجلس الأمن وهو مؤلف من أحد عشر عضواً، خمسة منهم ذوو كراسي دائمة في المجلس وهم بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا والستة الباقون تنتخبهم الجمعية العمومية من سائر الأمم المتحدة الأخرى لمدة سنتين ثم ينتخب غيرهم.
على أن حبل الأمن والسلم في يد هذا المجلس وهو أهم ما قرره المؤتمر ونص عليه في هذا الميثاق. ولذلك نتساءل الآن هل يصون هذا المجلس سلام العالم؟
كان العيب الأكبر في جمعية الأمم السابقة التي تمخضت بها شروط الصلح بعد الحرب الماضية أنها لم تكن مسلحة لكي يمكنها أن تنفذ قراراتها. ولم يُبح من وسائِل التنفيذ سوى وسيلة واحدة وهي التوصية بمقاطعة الدول المعتدية. ومع ذلك كانت هذه الوسيلة أضعف من الضعف لأن العمدة فيها كانت مروءة الدول أعضاء الجمعية. وليس للدول كما نعلم مروءات ولا ضمائر توجب عليها تنفيذ العهود.
وقد امتُحنَت جمعية الأمم وضمائرُ الدول في بعض المواقف فخابت. وكان آخر امتحان لها في قضية اعتداء إيطاليا على الحبشة فحكمت الجمعية بمقاطعة إيطاليا. فما من دولة نفذت هذه المقاطعة اللَّهم إلاَّ إنجلترا لأنها كانت في الحقيقة هي لا جمعية الأمم، خصم إيطاليا، بل كانت هي وحدها جمعية وبقية الأمم الأخرى ذيولاً لها. وأما فرنسا فعكست حكم المقاطعة بأن أقرضت إيطاليا حينئذ عشرين مليون جنيه بدل أن تمتنع عن مساعدتها.
هذا كان أمر جمعية الأمم المرحومة، فما كانت إلا قصبة مرضوضة لا حول لها ولا طول، فما صانت سلاماً ولا حفظت أمناً ولا منعت حرباً. فهل مجلس الأمن الذي وُلِد بالأمس أكثر طاقةً وأفعل صولةً منها في حفظ السلام؟ كان عيب جمعية الأمم المغفور لها أنها كانت عزلاء من السلاح. فهل مجلس الأمن الجديد مولود مسلحاً؟(627/29)
يستفاد من الفصل السادس، فصل تسوية المنازعات، من مادة 36 إلى مادة 55 أن مجلس الأمن يبذل كل مجهود لفض النزاع بين الدولتين المختصمتين بالطرق السلمية. وما عهدنا نزاعاً أنفض الطرق السلمية إلا نادراً جداً بين دولتين متعادلتين قوة سلاحاً. وأما إذا كانت إحداهما أضعف من الأخرى فلا يجدي إظهار الحق ولا محكمة العدل جدوى في التسوية بينهما سلمياً. فإما أن تستسلم الضعيفة مغلوبة على أمرها مغبونة، أو أنها تدافع عن حقها مستنصرة بدولة أخرى ذات مصلحة.
فهل لمجلس الأمن قوة حربية توقف الدولة المعتدية عن حدودها وتردها عن عدوانها؟
المادة 46 تخول مجلس الأمن أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والبريدية والبرقية واللاسلكية الخ؛ وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول المعتدية.
وهب أن بعض الأمم المتحدة امتنعت عن أن تلبي هذا الطلب (كما حدث في مسالة الحبشة إذ لم تقاطع أي دولة إيطاليا) فما الذي يرغمهما على تلبية الطلب، أتوقيعها على الميثاق؟ فما كان توقيع المواثيق يوماً من الأيام مقدساً محترماً. ما كان إلا قصاصة ورق.
ولمجلس الأمن أن يقرر استخدام القوة وأن يطلب من الأمم المتحدة تقديم القوات المسلحة وفاءً بالالتزامات في مادتي 47 و48. فإذا نكصت بعض الدول عن تقديم المساعدة الحربية فمن يلزمها أن يقوم بتعهداتها؟ وهب أن الدول (أعضاء مجلس الأمن)
اختلفت فيما بينها بشأن تنفيذ خطة المجلس أو قراره ثم تحولت الخصومة الصغرى إلى خصومة كبرى بين جانبي الدول فمن يحسم هذا الخلاف؟
لنفرض مثلا أن رفعت الدولة السورية (وحينما نقول السورية نعني اللبنانية أيضاً) شكوى من فرنسا المعتدية، ورأى مجلس الأمن أن لابد من استعمال القوة ضد فرنسا لأنها لم تذعن. وهب أيضاً أن بعض الدول تحيزت لفرنسا وأصرَّت على هذا التحيز ولم يعد ممكناً صدور قرار من مجلس الأمن، أوانه صدر قرار يستوجب طلب قوات حربية من الدول لإكراه فرنسا على الإذعان ولم تلب بعض الدول الطلب، أفلا يمكن أن يتحول هذا الخلاف في المجلس إلى خلاف كبير بين الدول ويعرضها لحرب هائلة؟
قد تقول هذا فرض بعيد الحدوث لأن الدول تعهدت وهي الآن في ظروف وأحوال تدعها(627/30)
تستحي من نكث عهودها. ولكن بعد سنين أو عشرات السنين يسقط برقع الحياءِ ولا تعود تحترم عهودها. فإذن الفصل السادس من الميثاق لا يضمن السلام (على طول)، أولا يضمنه غداً.
لو كانت نية جميع الدول حسنة وقد خنت من المطامع والمخاوف لكان في إمكانها أن تجعل مجلس الأمن قوة حاسمة لكل خلاف بين الأمم صغيرة وكبيرة.
قد تقول: وكيف ذلك؟
لو قررت الدول المؤتمرة في سان فرنسيسكو أن تضع كل دولة كبيرة وصغيرة على الفور تحت يد مجلس العدل قوات حربية جوية وبرية وبحرية الخ بحيث يفوق مجموع هذه القوات قوة أعظم دولة - كل دولة تقدم بنسبة طاقتها -. ومجلس الأمن يجعل قواد هذه القوات وضباطها من غير جنسها تفادياً للتمرد، وأن يفرق هذه القوات مختلطة في مراكز رئيسية بحيث تكون مستعدة للعمل بسرعة عند الطلب - لو قرر المؤتمر تسليح مجلس الأمن على هذا النحو ونفذ قراره في الحال، إذ يكون أعضاء المؤتمر في حماستهم وإبان شوقهم إلى السلام، لكان مجلس الأمن هذا مجلساً دولياً مسلحاً حقيقة، وكان في إمكانه أن ينفذ قرارات الأكثرية بلا تردد ولا خوف من الشقاق.
ومتى تم للمجلس هذا التسليح العظيم أمكنه أن ينزع سلاح جميع الدول ولا يبقى لها إلا ما هو ضروري لحفظ الأمن الداخلي
على هذا النحو يكون المجلس الدولي مجلس أمن حقيقة، وبه يصان السلام. ولكن ظهر من الميثاق الرسمي للسلم والأمن أن الدول دخلت قاعة المؤتمر وليس في قلوبها صفاء، ولا في ضمائرها نيات طيبة إلى النهاية
لست أتشاءم من مجلس الأمن، هذا الذي تمخض به المؤتمر فهو خطوة أخرى أفضل جداً من جمعية الأمم المرحومة. وإن شبت حرب ثالثة عظمى لا سمح الله بعد عجز مجلس الأمن عن تداركها - وإن بقي يعدها مدنية - فسيكون مجلس الأمن القادم بعدها كما وصفته آنفاً.
وإلى الملتقى.
نقولا حداد(627/31)
التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 6 -
أخيرا استجابت والحمد لله وزارة المعارف لما سبق أن وجهناه إليها في أوقات مختلفة من نداءات متكررة هاتفة بضرورة توحيد المرحلة الأولى من التعليم العام في سبيل إيجاد أساس موحد للثقافة بين أبناء البلد الواحد وفي سبيل محو الفروق بينهم في هذه المرحلة البدائية الضرورية لكل ناشئ. فلقد جاء في الحديث المستفيض الذي أدلى به عن التعليم معالي وزير المعارف لمراسل الأهرام بتاريخ 5 يونيه سنة 1945 بعد الكلام عن المشاكل التعليمية الوقتية وبصدد الكلام عن المشاكل الأصيلة ما يأتي: أن في مقدمتها (أي المشاكل الأصيلة) مشكلة التعليم الإلزامي، ففي مصر ما يقرب من ثلاثة ملايين من الأطفال في سن التعليم الإلزامي لا يتلقى التعليم منهم الآن فعلاً إلا أقل من مليون طفل. وهذا فضلاً عن أن التعليم الذي يتلقونه في المدارس الإلزامية تعليم يجمع الرأي على أنه فاشل. لذلك كان واجبنا الأول العمل على تعميم المرحلة الأولى من التعليم بأسرع ما يمكن. وليس هناك أي مبرر لتعدد أنواع التعليم في تلك المرحلة من إلزامي وأول وابتدائي فهذا نظام عتيق مناف للديمقراطية عدلت عنه جميع الأمم الأخرى الراقية وانتهت إلى توحيد المرحلة الأولى لجميع الأطفال. وبعد كلام آخر عن المجانية في التعليم الابتدائي اختتم معاليه في هذا الموضوع بالذات بقوله: (لذلك تتجه سياستي إلى العمل على توحيد التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي في مدرسة واحدة مشتركة تأتي بعدها المراحل الدراسية الراقية لكل طفل يظهر استعداداً لها. ويلي ذلك مرحلة تدعى مرحلة التعليم الثانوي. وكل هذه المراحل لا تتجاوز ثلاث عشرة سنة).
وإنه لاتجاه جميل جداً بل اتجاه ديموقراطي مستقيم أن تتوحد المرحلة الأولى في التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي وتنضم جميعها في مدرسة واحدة لتتكون منها المرحلة الابتدائية في التعليم؛ غير أنا نرجو أن تتوحد هذه المرحلة توحيداً لا يمس ثقافة الناشئ ولا ينتقص منها شيئاً عن الطريق إقلال مدة التعليم فيها. إذ أن التنظيم الجديد يستدعي إيجاد مرحلة وسطى بين التعليميين الابتدائي والثانوي الحاليين ويستدعي جعل مدة التعليم في(627/33)
المرحلة الأولى الجديدة أربع سنوات فقط، مع أن مدة هذه المرحلة كانت عندنا سبع سنوات في رياض الأطفال مع التعليم الابتدائي الحالي وست سنوات في التعليم الإلزامي الحالي الذي نشكو قلة فائدته ونسيان التلاميذ لما يتعلمونه فيه بعد الانتهاء منه، أو بقول أعم نشكو فشله كما جاء في تصريح معالي الوزير آنفاً. لذا فأنا نرى أن الناشئ على النظام المقترح لا يمكن أن يستفيد فائدة معقولة من المرحلة الأولى الجديدة إلا إذا تابع دراسته في المرحلة الثانية كلها وليس عندنا ما يلزمه بذلك. وفي هذا ما فيه من فشل المرحلة الأولى إذا اقتصر الطفل عليها فقط. وكثير جداً أولئك الأطفال على ما نعتقد الذين ستضطر الظروف أهليهم إلى الاقتصار على هذه المرحلة فقط دون السير في المرحلة الوسطى.
إن هذا النظام المقترح لم ينفذ في إنجلترا إلا حديثاً بعد تطورات كثيرة في نظم التعليم وبعد أن محيت منها الأمية وبعد أن استعدت له البلاد بالمعلمين اللازمين وبالأبنية الضرورية للمدارس، وبعد نقاش وجدل واخذ ورد كثير في لجان مختلفة، من لجنة هادو إلى لجنة أسين إلى لجان أخرى. وكانت بعض المدارس قبل تنفيذ هذا النظام في إنجلترا تجمع بين الأطفال والمراهقين وتحتم على الطفل أم يتابع التعليم فيها من الطفولة إلى المراهقة. لذا فأن الكثيرين من رجال التعليم عندنا يرون أن الأخذ بهذا النظام اليوم يعد طفرة غير ملائمة، وربما كان ضرره بالتعليم أكثر من نفعه خصوصاً أنه يتطلب الآن زيادة كبيرة في أمكنة المدارس وفي عدد المعلمين اللازمين بنا لا يقل عن الثلث، لأن فيه زيادة مرحلة بين مرحلتين وهي زيادة ضخمة لا نطيقها الآن خصوصاً بعد التجربة التي قاستها البلاد على حساب الثقافة العامة في تنفيذ مجانية العام المنصرم، وقد لمس ذلك معالي الوزير بنفسه وصدر به تصريحاته عن المشاكل الوقتية في التعليم فقال حفظه الله: (إن معظمها ناشئ من الخطة التي سارت عليها الوزارة في السنوات الأخيرة من إرغام المدارس على قبول عدد من التلاميذ يزيد كثيراً على ما تتسع له ونستطيع تعليمه والإشراف عليه إشرافاً مثمراً من غير عناية بأعداد المباني والكتب والمعدات اللازمة لمواجهة الزيادة في التلاميذ وإعداد المعلمين الصالحين لها. .) ثم ذكر معاليه في سياق حديثه عن مجانية التعليم الابتدائي ما يأتي: (وقد شملت الفوضى امتحانات القبول بالمدارس الابتدائية وإنشاء الفصول إنشاء مرتجلا من غير إعداد المباني ولا الأدوات اللازمة. واكتظاظ المدارس والفصول اكتظاظاً(627/34)
لا يقل عنه بالمدارس الثانوية، ونقص المدرسين في المدارس عن العدد اللازم، واستمرار حركة التنقلات شهوراً بعد بدء الدراسة لمحاولة سد ذلك النقص.) ولذلك فأنا ندعو الله لمعالي الوزير الجليل بالتوفيق ونعيذه من أن ينال مشروعه من النقد منا غيره؛ لأن التنفيذ السريع لهذا المشروع الضخم الكبير ربما يجرنا إلى ورطة أكبر من ورطة مجانية التعليم الابتدائي. من أجل ذلك نرجو التريث في الأمر وعرضه على بساط البحث بين رجال التعليم على اختلاف طبقاتهم لتمحيصه والاقتناع به حتى يخلصوا في تنفيذه إذا جد الجد، كما نأمل أيضاً في معالي الوزير الديمقراطي أن يعرض الأمر على المجلس الأعلى للمعارف الذي نرجو أن يجتمع قريباً وأن يكون في تشكيله مجلساً قومياً ممثلاً لجميع الأحزاب حتى يتكون في صف المشروع رأي عام قوي لا تزعزعه العواصف ولا يفكر في إلغائه يوماً فيكون نظام التعليم عرضة لانقلابات تنزل به هزات وضربات قد تؤخره لا قدر الله وترجعه أعواماً إلى الوراء.
ثم إنا نرجو بعد إن اقتنع معالي الوزير بفكرة توحيد التعليم في مرحلته الأولى أن نضع تحت نظر معاليه مشروعاً آخر نرى أنه أكثر ملاءمة لحالتنا الراهنة إذ ليس فيه للأوضاع القائمة ونأمل أن يدرس بجانب المشروع الحالي:
ذلك أن يوحد التعليم في المدارس الأولية والإلزامية والابتدائية الحالية على أساس جعل مدة الدراسة فيها ست سنوات كاملة تنتهي في سن الثانية عشرة على أن يكون المنهج خالياً من اللغات الأجنبية التي تبدأ دراستها في مرحلة التعليم الثانوي لمن يستأنف دراسته فيها بعد ذلك، وأن يخصص نصف وقت الدراسة أو أكثر في جميع مدارس المرحلة الأولى للثقافة العامة المشتركة التي يجب أن تجوى مقداراً معيناً من أسس الثقافة كاللغة والدين والحساب الخ، ويترك باقي الوقت لدراسة المنطقة المحلية ليكون تحت تصرف الهيئة التعليمية المشرفة على المنطقة تتولى هي وضع المنهج المحلي اللازم له باتفاق المدرسيين والنظار والمفتشين. ثم يتفرغ التعليم بعد ذلك في المرحلة الثانية إلى فروعه المختلفة بين ثانوي وزراعي وصناعي وتجاري الخ؛ وأعتقد أن الشطر الأول من هذا المشروع كان قد تقدم باقتراحه أو باقتراح قريب منه على الوزارة بعد دراسته دراسة فنية معهد التربية في سنة 1934عند النظر في تنقيح خطط التعليم ومناهجه.(627/35)
وإني أسأل الله أن يوفق العاملين إلى ما فيه وحدة الأمة والنهوض بثقافتها ورفع مكانها بين الأمم الأرض جميعاً.
عبد الحميد فهمي مطر(627/36)
يا فرنسا. . .
(ادعت فرنسا أنها حامية سوريا ولبنان)
للأستاذ حسن أحمد با كثير
يا فرنسا! يا بلاداً حاربت حيناً فَتُلَّتْ للجبين
صمدت للغزو أسبوعين ثم استسلمت للمعتدين!
يا بلاداً حررتها قوة الأحلاف من رقٍ مهين؟
اسمعي ثم اسمعي سخرية الأقدار مما تصنعين
إنها تضحك نكراء الصدى والجرس جشاء الرنين
إنها تضحك ملء الكون والأزمان مما تدعين
أدعي أنك تبغين لنا خيراً بقتل الآمنين!
أدعي أنك تحمين حمانا ببنيك الظافرين!
أدعي ما شئت زوراً واذكري إذ سمت خسفاً منذ حين
واذكري إذ عجزت كفاك عن أن تدفعا عنك المنون
واذكري ما ذقت من عسف ومن خسف من ذل وهون
أتظنين شعوب الضاد كالسنغال قوماً صاغرين؟
تستبدّين بهم مثل ضحايا الرق في خالي القرون
من ستحمين من العدوان؟ هل تحمين آساد العرين؟
ثم مِمَّن؟ أمن الأحلاف؟ والأحلاف ليسوا ظالمين
أم من الأعداء؟ والأعداء قد نالوا جزاء المجرمين
نحن لا نبغي حماة فاذهبي واحمي بنيك الباسلين
يا فرنسا! يا بلاداً حاربت حيناً فُتلَّت للجبين!
يا بلاداً حررتها قوة الأحلاف من رقّ مهين!
أحذري أن تستفزّي أمة قد أقسمت ألاَّ تهون
أمة أمجادها تزداد إشراقاً على مرّ السنين
أمة مقدامة ترنو إلى مستقبل ضاحي الجبين(627/37)
أمة تحمي حماها بالدم القاني وبالعزم المكين
حسن أحمد باكثير(627/38)
عرائس محطة الأمل
للأستاذ ادوار حنا سعد
هل طافت أبكارُ الجنه ... بكؤوس السحر وبالفتنه
أو تلك عرائس أمواج ... من بحر قد سئمت سجنه؟
حسن الأملاك ووسوسة ال ... خناس وإغواء الجِنه
أضداد باتت تعجبني ... بالرمل وأعجب منهنه
قد خطرت بالشعر الداجي ... وجدائل صفر الأمواج
وغدائر فرع رفاف ... فضيٍّ كالماء الساجي
ومزاج منها مختلف ... درجات. . . أحبب بمزاج
قد عقصت تاجاً أو تركت ... تهفو بالعطف الرجراج
من كل طروب في خجل ... أو كل شرود في جذل
الشرق مع الغرب. . . التقيا ... في غالي الحسن ومبتذل
وجمال ساج من نَصَف ... وشباب زاكٍ مكتمل
تاه العشاق بمن صحبوا ... وبقيت بنسكي المفتعل
موسيقى الخطوة رقراقه ... أغرت بفؤادي أشواقه
وثياب الفتنة قد لمعت ... غيداء الذيل وخفاقه
ألوان الطيف وأعطار ... كالزهر تؤلفه باقه
الجسم بها كأسٍ عارٍ ... يُذْكرك التين وأوراقه
غامت عيناي من الطرب ... كفَراش يرقص للهب
مرت ناعمة ما التفتت ... ورنت فاتنة لم تجب
وأجابت عينا ساحرةٍ ... قد خف سواك إلى أربي
وهفت لندائي (غانية) ... فذممت سُراي ومنقلبي
الروح الحيرى ما هدأت ... والبيض الخردّ ما فتأتْ. . .
تغري الأحلام وقد سكنت ... وقلوب الشيب وقد صدأت
سبحانك ربي. . . كم أبدت ... عظة الأجساد وكم خبأت(627/39)
من طين صلصالٍ خلقت ... وإليك تعود كما بدأت
الأسكندرية
أدوار حنا سعد(627/40)
البريد الأدبي
من معالي مصطفى عبد الرزاق باشا إلى الدكتور عثمان أمين
صديقي الأستاذ الدكتور عثمان أمين
أول من ترجم للشيخ محمد عبده، وعني بنشر آثاره هو السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار). والسيد رشيد رضا هو أول من لقب الشيخ محمد عبده بالأستاذ الإمام. وهذا اللقب نفسه ينبئ بالصورة التي يرسمها السيد رشيد لشيخه فيما كتب عنه، وينبئ بالفكرة السائدة في وجهة نظر التلميذ إلى أستاذه.
الشيخ محمد عبده عند السيد رشيد رضا إمام من أئمة الإسلام، له في الدين مذهب يقوم أصحابه على روايته وتدوينه كما قام أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما على ما لأولئك الأئمة من مذاهب.
وإذا كان الشيخ عبده إماماً في الدين، فالسيد رشيد رضا لا شك صاحبه ومفسر مذهبه ومكمله. وقد بذل منشئ (المنار) - رحمه الله عليه - مجهوداً في هذه الناحية ضخماً حافلا بالمباحث الدينية والمناقشات الفقهية. وكان لهذا المجهود العظيم أثر غير ضئيل في طلاب العلوم الدينية ومن إليهم، وفي توجيه الدراسات الشرعية في الإسلام المختلفة.
ثم نهض بعض الكتاب والباحثين لدراسات تتصل بالشيخ محمد عبده وآثاره من غير الناحية التي كان السيد رشيد يقصر نظره عليها، وشارك في ذلك طائفة من المستشرقين، لكن هذه الدراسات لم تعدُ في جملتها أن تكون محاولات متفرقة وأن يكون حظ الأدب فيها أكبر من حظ التعمق في البحث، والاستقصاء في المراجع الآخذة في الازدياد.
ولقد رأيتك تتخذ من الأستاذ الإمام موضوع دراسة تحفز لها كل همتك، وتقبل عليها بكل قلبك، وشهدت بعض عنائك في تتبع المراجع وتمحيص النصوص، واستقراء الآثار، وحسن الانتفاع بذلك كله في الاستنتاج والحكم.
ثم قرأت رسالتك لما أتمتها، وكنت حاضر مناقشتها حين تقدمت بها لنيل الدكتوراه. فكنت من أشد الناس سروراً بك وإعجاباً بمصنفك الممتاز الذي يبرز صورة للشيخ عبده صادقة ناطقة، ويحيط بكل الجواب من نشاطه الإصلاحي المترامي الأطراف، ويعرض أنظاره الفلسفية في اتساق ووضوح وحسن طريقة. وإن كتابك ليسد ثغرة في الدراسات المتصلة(627/41)
بالشيخ عبده، وفي الدراسات المتصلة بتاريخ نهضتنا الفكرية والاجتماعية الحديثة من ناحية أثر الشيخ عبده فيها.
مضى أربعون عاماً إلا قليلاً على وفاة الأستاذ الإمام فكتابك الطيب تحية الجيل الجديد من العلماء لمعلم الجيل القديم.
وهي تحية كريمة تتأرج بالحب والوفاء. وأي شئ في الدنيا أكرم من الحب والوفاء.
شكر الله لك وحياك.
مصطفى عبد الرزاق
1 - رفقاً بنا أيها التجار
بعد انهيار الميدان الأوربي أخذ التجار يفتنون في الإعلان عن بضاعتهم ورخص أثمانها، ولكنا وجدنا أنفسنا معهم كما قيل عن (أبي معشر): (تقرأ فتفرح وتجرّب فتحزن):
قسا تُجّارُنا حتى حسبنا ... قُلوبهمو حديداً أو حجاره!
إذا قلنا لهم: عطفاً علينا ... فإنا إخوة، لعنوا التجارة!
وصاحوا: الحرب! ويح الحرب إنَّا ... جنينا دونكم منها الخسارة!
وما صدقوا، فإن الحرب فاءت ... عليهم بالنُّضّار وبالنَّضاره
عَذيري منهمو شبعوا وجعنا ... وبعض الُحلو يُدرك بالمرارة
إذا حل الوباء بأرض قوم ... فزف إلى الحنوطيِّ البشاره
سلوا الصابون كيف غدا لديهم ... يباع كأنه مسك العطارة؟!
عباد الله خافوا الله فينا ... أنشكوَ العرى أم نشكو القذارة
2 - المبرد
ساق العلامة المحقق (النشاشيبي) في العدد 623 من الرسالة الغراء البيتين الآتيين في ثنايا احتجاجه لفتح راء (المبرد).
ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على (بديع الزمان)
يرضاب عن (المبرد) يروي ... ونهود تروي عن (الرماني)
وقد قال: إنهما لشاعر لا يتذكر الآن اسمه.(627/42)
والبيتان (لأبن الوردي) كما جاء في كتاب تزيين الأسواق للشيخ داود الأنطاكي.
ومما ينتظم في سلك ما أتحفنا به الأستاذ الكبير من الطرائف عن هذا الاسم قول أبى الحسين الجزار:
حمتْ خدَّها والثغر عن هائم شج ... له أمل في مَورد، ومُورَّد
وكم هام قلبي لارتشاف رُضابها ... فأعرض عن تفصيل نحو المبرّد
وقال آخر:
ثغر، وخذ، فجلٌّ ربٌّ ... بمبدع الحسن قد تفرّدْ
فذا عن (الواقدي) يروي ... وذاك يروي عن (المبرد)
علي الجندي
1 - أهل السنة وأهل الحديث
تعليقاً على ما جاء في هذا الموضوع في عدد (الرسالة) 626 أنقل كلمة من كتاب (كشف الكربة لابن رجب): قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ). أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى منهم في البلد الواحد إلا رجل واحد. وكان الحسن يقول لأصحابه: يأهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس. وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء.
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة طريقة النبي صلى عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات. ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال. . .
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة. انتهى ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي.
2 - قبرس
ورد في عدد (الرسالة) 631 (قبرص) بالصاد، والصواب (قبرس) بالسين على ما في(627/43)
القاموس المحيط، ومعجم البلدان وغيرهما، وما كنت لأنبه عليها لو كانت في غير مقال العلامة النشاشيبي، ولعلها من خطأ الطبع.
محمد تحسين الحسيني
في مقالي عن أحمد محرم
وقع خطأ مطبعي وسهو في كلمتي عن المرحوم الشاعر أحمد محرم ونورد هنا صحتهما رجاء التنبه للخطأ المقابل لهما:
(في يوم الأربعاء 13 يونيو 1945م بمدينة دمنهور توفي الشاعر) وبعد ذلك بسبعة سطور:
(وانتقل به والداه وهما من أصل شركسي إلى حوش عيسى وهي إحدى القرى الكبيرة التابعة لمركز أبي المطأمير).
هذا وقد وردت إليَّ بعض الرسائل من أفاضل تفيض ألماً للفقيد وتسألني مزيداً من التفاصيل عن حياة الشاعر. وعن مدى البؤس والإهمال الذي لقيه في حياته. وإني أشكر لهم ذلك الإحساس النبيل، وارجوا أن أكون عند رغبة أصدقاء الشاعر قريباً بنشري دراسة كاملة عنه.
كما قد علمت أن بعض أصدقاء الشاعر في دمنهور - وما أقلهم في ذلك البلد - يفكرون في إقامة حفلة تأبين له وإني إذ أحيي فيهم ذلك الوفاء أرجو أن لا يقف الأمر عند الرثاء. . .
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار
حفلة تأبين
ستقام حفلة تأبين للمغفور له الأستاذ الشاعر أحمد محرم بدار سينما بلدية دمنهور من الساعة الرابعة إلى السادسة من مساء يوم الثلاثاء الموافق 24 يوليه سنة 1945.
فعلى حضرات الذين يودون إلقاء كلمات في هذه الحفلة الاتصال بمندوب اللجنة حضرة عبد الجواد أفندي غزال بمدرسة التعاون الإنساني بدمنهور.(627/44)
القصص
أقصوصتان لتشيكوف
1 - ابتهاج
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
ما كادت الساعة تشرف على الثانية عشر مساء، حتى دلف ميتيا كلدروف إلى داره، أشعث الشعر، منفعل الوجه، مضطرب النفس. فهرع إليه والداه وكانا على وشك النوم، وكذلك شقيقته وكانت قد أتت على الصفحة الأخيرة من إحدى القصص. أما اخوته التلاميذ فأغرقوا في النوم.
وصاح والداه في دهش:
- من أين أقبلت! ماذا دهاك؟!
- لا تسألاني. . . لم أكن أتوقعها. . . أنها المستحيل بغير شك. . .!
وعجزت ساقاه عن حمله - لما غمره من السعادة - فتهالك على أحد المقاعد ضاحكاً مردداً:
- أنها المستحيل!. . . انظروا، فأنتم لا تتصورون مبلغ ذلك! فخفت إليه أخته - وقد أحاطت نفسها بدثار - واستيقظ الأطفال على صدى هذه الضجة.
- ما الذي حدث؟ إنك تبدو في غير طبيعتك!
- ذلك لأني لا أكاد أتمالك نفسي من الابتهاج، ألا تعلمين أن روسيا بأجمعها تعرفني الآن؟ تعرف ذلك الكاتب المسجل دمتري كلدروف؟
وعاد ميتيا يهرول في غرف المنزل من جديد، ثم لم يلبث أن أدركه الكلل والعناء فتهالك على المقعد ثانية، وشك الجميع في أنه قد أصيب بلوثة في عقله، فصاح ميتيا في سخرية:
- أنتم تعيشون هنا كالوحوش، لا تدركون ما يدور حولكم لأنكم لا تعيرون اهتماماً ما ينشر في الصحف من الأخبار الهامة، إن الصحف تذيع ما يطرأ من الحوادث الخطيرة، فلا تبقى خافية على الناس. . . يا إلهي، كم أنا سعيد. . . ألا تدرون؟ لقد نشرت الصحف أسمي كما تنشر أسماء العظماء المشهورين!
فهرع الأخوة نحو أخيهم وقال الوالد وقد علا وجهه شئ من الشحوب:(627/46)
- ماذا تعني؟ أين ذلك؟
-ماذا أعني لقد نُشر أسمي في الصحف وعرفتني الآن روسيا بأجمعها. . . انظروا. . .
وجذب ميتيا من جيبه نسخة من إحدى الصحف وناولها والده وأومأ إلى فقرة علامة زرقاء واضحة
- هلا قرتها؟
فثبت الأب نظارته أمام عينيه، أما الأم ففغرت فمها وقد ارتسم عليه شئ من البله، وراحت تتمتم في صوت خفيض، وارتفع بعد هنيهة صوت الوالد وهو يتلو الفقرة:
(في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 ديسمبر، بينما كان كاتب مسجل يدعى ديمتري كلدروف. . .)
فقاطع ميتيا والده قائلاُ:
- أسمعتم؟ استمر
(. . بينما كان كاتب مسجل يدعى ديمتري كلدروف يغادر إحدى حانات الخمر في حي (كوزهين) بمقاطعة (بورونيا) وهو في حالة سكر).
- أنه أنا يا والدي، وكان معي سيمون بتروفلش، أنهم يصفون الحادث أروع وصف. . . أنصتوا. . . استمر
(في حالة سكر، تعثر وهوى تحت حصان عربة للثلج، يقودها رجل ريفي يدعى (إيفان دروتوف) من قرية (دريكينو) بإقليم (يونفسكي) فهاج الحصان ووطئ كلدروف، ومرت العربة فوقه وانقلبت بالقرب من تاجر موسكو يعرف (بستيبان لكوف)، فتحطم ما كان بها من الثلج على قارعة الطريق، واستطاع نفر من الناس أن يقبضوا على زمام الحصان الجامح، وحمل كلدروف في غيبوبته إلى مركز الشرطة حيث فحصه الطبيب وكانت الإصابة التي أصابته في مؤخرة رأسه. . .)
وعاد ميتيا يقاطع والده:
- لقد كانت من نوتأ في العربة. . . أتمم الباقي. . .
(. . . التي أصابته في مؤخرة رأسه لم تكن بالخطيرة، وقد كتب تقرير عن الحادث وأسعف الجريح بالمساعدة الطبية اللازمة)(627/47)
وأخبروني إنه يجب موضع الإصابة بالماء البارد. . . أصدقتم الآن؟ إن روسيا جلها تعرفني أنا ديمتري كلدروف ناولنيها يا أبتاه!
والتقط ميتيا الصحيفة من والده وطواها، ودسها في جيبه،
وراح يقول:
- سأنطلق الآن إلى أصحابي ومعارفي لأنبئهم بأن ديمتري كلدروف قد ذاع صيته في روسيا. . . نعم سأريهم الصحيفة. وداعاً
وارتدى ديمتري قبعته الحمراء. . . وهرول إلى الطريق وملء جوانحه الزهو والابتهاج. . .
مصطفى جميل مرسي(627/48)
2 - في المقبرة. . .
بقلم الأديب فيصل عبد الله
(الريح شرعت تهب، والكون قد غشيه الظلام، أفما آن أن نعود إلى بيوتنا؟)
لقد هبت الريح تعصف بأوراق الشجر الصفراء، وانثال علينا من السماء هاطل من البرد، فأنزلق قدم أحدنا وكاد أن يهوى على الأرض الموحلة لولا أن تدارك نفسه فأهوى بيده على صليب أغبر كبير كي يتقي به السقوط، ثم راح بعد ذلك يقرأ ما كتب عليه:
(إيغورغريازنوروكوف المشاور الخاص والفارس). . إنني لأعرف هذا الرجل، كأن كلفاً بزوجه ويتقلد وسام ستانسلاف ولا يزعج نفسه بقراءة شئ، أما ذوقه فكان جميلاً، إنها لحياة لا يأسى امرؤ على أنه حييها، ولطالما جال في خاطر الناس أن لم تكن بمثل هذا حاجة إلى أن يموت. ولكن للأسف، فإن حادثاً أليماً كان في انتظاره، فلقد خر المسكين صريع حبه للمعرفة، إذ بينا كان ذات يوم يختلس النظر من خصاص باب إذ صدم الباب رأسه بعنف فأفقده الوعي ثم. . . مات تحت هذا الصليب يرقد إنسان أبغض الشعر منذ المهد، وكأنهم يسخرون منه إذ ملأوا النصب كله بالشعر. . . ها قد أقبل بعض الناس!)
أقبل نحونا رجل بمعطف بال ووجه شاحب حليق، يتأبط قنينة من الفودكا، وقد برزت من جيبه رزمة من شرائح لحم مقدد، ثم سألنا بصوت أجش (أين موشكين الممثل؟!) فقدناه إليه، وكان موشكين هذا قد مات منذ عامين، ثم سألناه: (أأنت موظف حكومي؟) فأجابنا: (كلا إنما أنا ممثل، إن المرء لا يستطيع في هذه الأيام أن يميز ممثلاً من موظف حكومي، ولعلكم لاحظتم ذلك. إنه لشيء عجيب وإن لم يكن فيه ثمة حط من قدر الموظفين).
لقد كان عسيراً أن يجد المرء قبر موشكين، فلقد علته أعشاب فتبدي مما كسبه أبعد ما يكون عن المقابر. كان عليه صليب رخيص صغير ومائل، نمى عليه الطحلب وعلق به الثلج، فلاح قاتماً عتيقاً كتب عليه (الصديق المنسي موشكين)، ولقد أزال الزمن حرفين من النصب وأصلح ضجعة الرجل. ولقد تنهد المثل وجثا حتى مست ركبتاه الأرض الموحلة، ثم قال: (لقد أكتتب الممثلون والصحفيون بما لم ليقيموا به نصباً له، ثم شربوه، يالهم من صبية أبرار!)
- وماذا تقصد بقولك (شربوه)؟(627/49)
- ذلك جد بسيط، لقد جمعوا المال، وخطوا الورق القوائم، ثم شربوا المال، أنني لا أقول ذلك لألحوهم على ما فعلوا ولكنه الواقع نخب صحتكم يا سادتي، نخب صحتكم ونخب ذكراها الخالدة. ليس ثمة صحة تنال من الإفراط في الخمر، والذاكرة الحافظة الدائمة أمر مؤلم. . . ألا فلنرجو من الله ذاكرة لا تعيش فيها الأحداث والرؤى، أما الذاكرة الواعية. . .
- حسناً. . . إن هذا لهو الحق، لقد كان موشكين رجلاً يعرفه الكل، ولكنه الآن منسي، نسيه أولئك الذين أحبوه، ويذكره أولئك الذين مسهم منه الضر والأذى وبخسهم أقدارهم أما أنا فلن أنساه، كلا، لن أنساه، فلم يصبني منه غير الضر والخسران، ولست أحبه.
ثم زفر الممثل فسألناه: وأي أذى نالك منه؟ فبان على وجهه ما كان يكابد من جراح في قلبه وقال: (إنه لأذى بليغ، لقد كان خبيثاً وسارقاً، ألا فلتسكن روحه ولتهدأ. . . لقد صرت ممثلاً بالإصغاء إليه، صرت ممثلاً بالنظر إليه. لقد أغواني بفنه وأغراني بكبريائه فزين لي أن أهجر الأهل. لقد وعدني بكل شئ ولكنه لم يهبني غير الدموع والأشجان، غير مصير الممثل ونهايته لقد خسرت كل شئ. . . الشباب. . . الوقار. . . محبة الله. . . ولم أعد أملك فلساً واحداً أعز النفس به. لقد رث حذائي وبلى وتهرأت ثيابي وانتشرت عليها الرقع، وبدا وجهي كما أن كلاباً قد تولته نهشاً وتمزيقاً، وامتلأ رأسي بالبالي الرخيص من الفكر. . . لقد سلبني إيماني ذلك السارق! على أن ذلك كله ما كان ليبلغ مني مبلغاً هذا لو كان لدي شبه ذكاء أتعزى به، قد خسرت كل شئ، للاشيء. إن الجو لقارس أيها السادة أفتأذنون بقطرة فإن لدي ما يكفينا، فلنشرب، ولتهدأ روحه إنني لا أحبه، إنه الآن ميت، ولكنه برغم ذلك كان الوحيد الذي كان لي على وجه الأرض، لقد كان لي كأصابع اليد، وهذه آخر مرة أراه فيها، فلقد أخبرني الأطباء بأنني سأموت قريباً لأدماني الخمر، ولذلك جئته اليوم لأودعه، فان علينا أن نصفح عن أعدائنا!
ولقد تركناه يناجي موشكين، وسرنا خارجين من المقبرة ثم انهال علينا رذاذ بارد ناعم من السماء، وعلى منحني الطريق الرئيسي لقينا جنازة يحملها أربعة رجال عليهم أنطقة بيض من القطن، وقد اتسخت نعالهم وناءت بحمل من ورق الشجر علق بها، كانوا يحملون كفناً رمادياً، وكان الظلام قد هم بالكون يغشيه بسدول منه سوداء رهيبة، فكانوا يسرعون بعبئهم(627/50)
يتعثرون ويتأرجحون. . . لم تمض علينا غير ساعتين مذ شرعنا نجول هنا وهذه ثالث جنازة يأتون بها، ألا فلنعد إلى بيوتنا. . .
القدس
فيصل عبد الله(627/51)
الكتب
شعر الطبيعة في الأدب العربي
(كتاب للدكتور سيد نوفل)
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أظهرت مكتبة الحانجي بمصر كتاب شعر الطبيعة في الأدب العربي للدكتور الفاضل والعالم الأديب سيد نوفل، وهو الرسالة التي نال بها درجة الدكتوراه برتبة جيد جداً من جامعة فؤاد الأول سنة 1944م.
وقد كان الأدب العربي في حاجة إلى هذا الكتاب الذي عني بتاريخ شعر الطبيعة منذ ظهوره في شعر امرئ القيس كفن قائم بذاته من فنون الشعر، متأثراً بالبيئة التي ظهر فيها امرؤ القيس، معبراً في وصفه لها شعور صادق بأثرها في نفس الشاعر، وحب لها يصل إلى درجة التدله والفناء فيها، ويجعل ذلك النوع من الشعر هو الغرض الأهم من القصيد، وماعداه من الأغراض كالنسيب يؤخذ على انه وسيلة له، وكان مظهره في الوقوف على الأطلال ووصفها والبكاء عليها، ووصف مشاهد الصحراء العربية من نوق وأفراس وجبال ورياح وسحب ورعود وبروق وما إلى ذلك من مشاهدها، وهذا هو الدور الأول لشعر الطبيعة في الأدب العربي.
ويأتي بعده الدور الثاني، وهو دور التقليد في شعر المرقش ومن سلك طريقته، وفي شعر أوس بن حجر ومن سلك طريقته، وفي شعر طرفة ومن إليه من بعض الشعراء الذين تحرروا من قيود التقليد بعض التحرر، وفي هذا الدور حذا أولئك الشعراء في وصف الطبيعة في شعرهم حذو امرئ القيس، ولكنهم جعلوه وسيلة لغيره من الأغراض، لأن وصف الطبيعة لم يكن يعنيهم في الشعر كامرئ القيس، وإنما كان يعينهم غرض المدح وما إليه من الأغراض التي دعاهم إليها التكسب بالشعر.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الثالث، وهو دور الجمود في صدر الإسلام، وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد بني أمية، لأن شعراء هذه العهود جمدوا فيها التراث الجاهلي في وصف الأطلال وما إليها من المشاهد البدوية، ولم يؤثر ذلك الانقلاب العظيم الذي أحدثه الإسلام في(627/52)
تاريخهم، ونقلوا به من أمة بدوية إلى أمة حضرية، وشاهدوا فيه من آثار المماليك المفتوحة ما لم يشاهدوه في باديتهم، وقد وجههم الإسلام إلى النظر في الطبيعة فلم يتوجهوا، ولم يجددوا في الشعر ما يلائم ذلك التجديد الديني، وقد قامت في ذلك الدور حركة للأحياء في رجز العجاج وغيره من الرجاز، وفي قصيد الراعي وتلميذه الرمة.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الرابع، وهو دور الانتقال في شعر أبي نواس وأبي الرومي والبحتري وابن المعتز وقد امتاز هذا الدور بالمنازعات التي قامت فيه بين القديم والجديد، وثورة أبي نواس على الجمود في الشعر على وصف الطلول، والوقوف على الدمن، وما إلى ذلك مما لا يتأثر به الشاعر في حاضره، ولا يحيط به بيئته، وكان لذلك أثره فيما أخذ به هو وغيره من وصف مشاهد الحضارة العباسية، في قصورها ومجالس لهوها، وما إلى ذلك مما جد فيها، ولكن الشعراء كانوا يترددون في ذلك بين القديم والجديد، ولم يمكنهم أن يتخلصوا فيه كل التخلص من التأثر بالقدماء.
ويأتي بعد ذلك الدور الخامس، وهو دور النهضة، وقد انتهى القرن الثالث الهجري بغلبة الجديد، فنهض شعر الطبيعة إلى أقصى ما وصل إليه الأدب العربي، وصار له في كل إقليم طابع يمتاز به، وكان أرقى ما وصل إليه في بلاد الأندلس في شعر ابن خفاجة وغيره.
وقد آثرنا أن نلم التقسيم الذي يدل على مبلغ دقة المؤلف وتمكنه من موضوعه، لندل به على طريقة دراسته في كتاب تبلغ صفحاته سبع عشرة وثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، فهي دراسة دقيقة جامعة لهذا الشعر في عهوده المختلفة، وعرض حسن لنماذجه فيها، وتحليل وشرح يدل على قوة إدراك، وحسن فهم، وموازنات بين الشعراء في هذا الباب تدل على مبلغ تفاوتهم فيه، وتضع كل واحد منهم في درجته اللائقة به، ونقد بصير بمواضع النقد، وتوجيه حسن لمن يأخذ من الشعراء في هذا الباب.
ثم ماذا بعد هذا كله في ذلك الكتاب النفيس؟ هناك دراسة أيضاً لشعر الطبيعة عند الغربيين، وموازنات بينه وبين شعر الطبيعة في الأدب العربي وحسن توجيه أيضاً إلى ما وصل إليه شعراء الغربيين في هذا الباب، لأنهم لم يقتصروا فيه على وصف مظاهر الطبيعة كما اقتصر شعراؤنا، بل اتسع الأفق عندهم في نظرتهم إلى الطبيعة، واتخاذها(627/53)
موضوعاً فكرياً عالياً، ينتهي بهم إلى أفكار وتصورات سامية، وفلسفات روحية تدل على كمال تفانيهم فيها، ولذلك نماذج أيضاً تؤيده، فجاء الكتاب بكل هذا جامعاً في بابه، لا يستغني عنه أديب في مكتبته.
عبد المتعال الصعيدي(627/54)
ديوان الشوق العائد
(للأستاذ علي محمود طه)
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
في كتاب العمدة لابن رشيق: (قال بعض الحذاق: إنه ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه).
هذا قول كله صدق وكله حق، فنحن مهما اجتهدنا في تعريف غيرنا بنواحي الجودة في الشعر الجيد فلن نستطيع أن يأتي بصورة صادقة تامة لما نحسه في نفوسنا من جودة ذلك الشعر.
وهذه حالي مع شعر الشاعر علي محمود طه، فإنني لأقرأه فإذا هو يوافق نفسي، وإذا هو يقع منها موقعاً قلما يكون لغيره من شعر العصر. ولست أدري مبعث ذلك على وجه التحقيق، أهي روعة الشعر أم تجاوب الذوق أم كلاهما معاً.
وهاهو ديوانه الأخير (الشوق العائد) بين عينيّ فيا لها من عوالم حافلة بالتهاويل زاخرة بالصور الحية تبتدعها لطافة شعور الشاعر، وصفاء فكره، ورفيع ذوقه وبراعة فنه؛ ولله هذه الصفحات الرائعات من حياة ذلك القلب الذي لا يقر له قرار، فهو لا يكاد ينسى أمسه بآماله وآلامه حتى يعوده عيد من الشوق جديد: الله لقلوب الشعراء! وهل كانت يوماً إلا هكذا؟ وهل تملك إلا أن تلتفت إلى أمسها رضينا أم لم نرض؟. ولقد ترقرقت في عينيّ دمعة حين قرأت قوله:
فقالت: ما حياتك؟ قلت حلم ... من الأشواق أُثر أن أطيله
ما أروعها حياة! ولكن يا رحمة للنفس الشاعرة إذا هي لم تجد لطيوف أحلامها الأفقَ الرحيب لتنطلق فيه خفيفة الأجنحة، فما تكاد تلك الطيوف تصفق بأجنحتها وقد همت بالتحليق حتى تصدمها قيود وسدود تعترض الأفق من هنا وهما فإذا الأجنحة تتكسر؛ وإذا الطيوف تختنق من الضيق فتتهاوى صريعة مهيضة، وتستيقظ النفس الشاعرة الحالة لتواجه الحقيقة، الحقيقة التي ترمي فتصيب، وتصيب فتقتل. وما هي حياة الشعراء إذا حيل بينهم وبين أحلامهم وأطيافهم؟.
ونظرة في قصيدة (يوم الملتقى) وهي من غرره الاجتماعية تعيد إلى أذهاننا ما تنبأ به(627/55)
المرحوم (الزهاوي) لشاعرنا من أنه سيحمل بعد شوقي لواء الشعر العربي. حقاً ما كان أزكن الزهاوي رحمه الله؛ أولا فما هذا الشعر الرصين وما هذه الديباجة لمشرقة، وما هذه العصا السحرية التي تمس القلوب إذا خاطب الشرق في اجتماع زعمائه لتأليف الجامعة العربية:
فَقْدُ شراعك لا تسلم أزمته ... لغير كفك، إن الريح هوجاء
يا شرق مجدك إن لم ترس صخرته ... يداك أنت فقد أخلته أهواء
يا شرق حقك إن لم تحم حوزته ... صدور قومك لم تنقذه آراء
والكون ملحمة كبرى جوانبها ... دم ونار وإعصار وظلماء
بلى، ولئن لم ينزل الشرق هذه الملحمة، ملحمة الكون الكبرى مزوداً بعدته ليهلكن.
ويا لتلك الريشة التي تضرب على أشد أوتارنا حساسية حين تستصرخ العصبة بشأن فلسطين فتهزنا هزاً:
أحلها ذهب الشاري وحرمها ... عصر به حرر القوم الأذلاء
حربان أثخنتاها أدمعاً ودماً ... تنزو بها منهجة كلمي وأحشاء
تطلعت لكم ولهى، أليس لها ... على يديكم من العلات إبراء
الله فيك يا فلسطين الشهيدة.
ولست هنا بسبيل أن آتي على كل قصيدة في ديوان الشوق العائد، وليس ما ذكرت هو خير ما في الديوان، كلا، فإن قصائد الشاعر تمتاز كلها بالجمال روحاً وجسماً، فالمعنى الرائع في اللفظ المنتخب. وإن الملاح التائه ليصور لنا بحرارة وصدق ما تهتز له خوالجه، وإن شعره لينبض حياة بما فيه العناصر الإنسانية التي تشيع في كل ما ينتجه لنا من روائع، ومن هنا يتغافل شعره في نفوسنا ومن هنا يخبأ شعره في قلوبنا.
تحيتي إليك يأ أيها الشاعر الخالد وإعجابي الذي لا ينتهي.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(627/56)
أصداء بعيدة
(للأستاذ العوضي الوكيل)
للأستاذ ثروت أباظة
صدر في الأيام القريبة الماضية ديوان (أصداءٌ بعيدة) للشاعر العوضي الوكيل، وصاحب الديوان غني عن التعريف وليس غريباً عن قراء الرسالة، وديوانه هذا الأخير يغري بالقراءة فقد قرأته عدة مرات، كنت أفتح الديوان عفواً فما أزال أقرأ وأقرأ حتى أجدني قد انتهيت من الديوان، ولعل هذه القراءة الكثيرة جعلتني ألحظ على الديوان شيئاً كنت أتمنى ألا ألحظه. فالشاعر العوضي شاعر له قصائد كثيرة تعطيك الفكرة الصحيحة الصادقة عن فن الشاعر الصادق. وبجانب هذه القصائد نجد مقطوعات لا تقل كثرة عن تلك، كان بودي أن ننسب لغير الشاعر الذي عرفناه فأنت حين تقرأ قصائد الديوان كأنك تقرأ لشعراء كثيرين متباينين قوة وضعفاً. فقصيدة الربيع مثلا التي يستهلها الشاعر بقوله
عدت يا صاحب الربيع وعدنا ... فامض في الكون كيف شئت وأنا
وكذلك قصيدتا الريف الفائية والرائية من أحسن ما يمكن أن يكتب عن الربيع وعن الريف، ولكن تعال معي مثلا إلى قصيدة الهجرة. . . . . .
رحلة لليقين والإيمان ... ونجاة الهوى من الطغيان
فتح القفر روحه للصديقين ... فأمسى بادية كالبستان
أيما ذرة من الرمل غنت ... ولكادت تهم بالطيران
حدثت أختها وفيها دبيب ... وهي نشوى بمقدم النسوان
بون شاسع بين هذا الشعر وما قدمت من نماذجه الجياد، ومن طراز هذا الشعر الأخير قصيدته في صلاح الدين ومقطوعته التي بعنوان (ونشيده العسكري وغير ذلك مما لا أرضاه للشاعر. أنا لا أنكر أن كل شاعر يسف ويحلق ولكن ليس بهذه الكثرة في الإسفاف. ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ العوضي سريع في نظمه كل السرعة، وسرعته هذه لا تعطيه الفرصة الكافية لكي يعرض القصيدة على ذوقه الأدبي مجرداً من كل عاطفة، فهو ينظم القصيدة ثم ينظر إليها نظرة المعجب المزهو لا المنتقد المفند، والوضع الصحيح أن ينتقد هو ليعجب به غيره. لعله يستمع لهذا الكلام في هدوء وطمأنينة فيحاول أن يتدارك(627/57)
هذا المأخذ. . . إذا لأصبح العوضي في مكانه اللائق به.
ثروت أباظة
1 - زوبعة الدهور: تأليف مارون عبود
فصول عن (دار المكشوف) بقلم خفيف سريع الحكم يعتصر حكمه على المعري من عاطفته ويستدل بشعر المعري بتنزعه من قصائده ويمهد لخواطره عن الشاعر
يدور الكتاب حول حياة المعري أو المعضلة العلائية ويمضي الكاتب يصف عصر المعري بعصر الأسرار ويفيض عن مدرسة أبي العلاء وصلته بالحاكم ويستطيل به القلم حتى يصل به القول إلى أن العصر ظفر منه بشاعر العقل الفاطمي.
وعند الكاتب أن المعري لم يضرب عن الزواج لأنه لا يريد الجناية على أحد ولكنه أضرب لأنه يؤثر الصفة ويحدد النسل عند الإضرار ولا يسمح بتعدد الزوجات ويثور للعرض المهصور ثورته للدم المهدور.
وقد أسرف الأستاذ المؤلف وزاد وأطال كي يثبت أن المعري شيخ الفاطمية الأعظم. وإليك ما انتهى إليه (في مذهب أبي العلاء) (من طالع سيرة المعز والعزيز والحاكم الفاطميين رأى أبا العلاء لا يخرج في حدود تعاليمه عن تخوم آراء هؤلاء الثلاثة، ومن أسعده الحظ وقرأ رسالة النساء الكبيرة في كتب الدروز يرى أن النبع واحد كل يريد أن يقصي المرأة وينحيها خوفاً من الفتنة).
والمؤلف جرئ كثير التحامل والشطط من ذلك حكمه بأن أدب العميان جميعاً فيه رائحة عفنة لا تعجبه. وهو قد يكون على شئ، ولكن في أدب العميان مثل بشار سحر لا يشاب بعضه ولكنه يمزح بالسخر والصدق والصرامة؛ وفي نظرات المعري نفسه صدق ومضاء غاب عن المؤلف؛ والمرارة شئ والتعفن شئ آخر.
والكتاب جمعية من الخواطر الأدبية في ثوب باحث وأسلوب يشوق القارئ بحديثه لولا الإطالة والإطناب حول المعري والدعوة الفاطمية التي استولت على المؤلف وأضاعت عليه وقتاً كان في حاجة إليه في جوانب أخرى عن المعري. . .
7 - مرايا الناس: تأليف السيدة وداد سكاكيني(627/58)
رأيي في الأدب النسوي لا يسر المرأة ولا يروق ربات البنان المخضب، ولكني أعترف كما يعترف غيري أننا قرأنا من نتاج الأدبيات في مصر ما طربنا به شيئاً، وإن كنت أجد فيه إلى جوار نأمل المرأة أصابع الرجل تنقيه مرة وتشجعه مرة أخرى وقد تقومه أو توجهه. والذي يؤلم أن أدب الأنوثة كنار الهشيم تعلو سريعاً ثم تهبط وإلا فأين (صوت سهير القلماوي) وأين نفخات الأنوثة في (قلم ابنة الشاطئ) وأين طرائف المبدعات من (وداد صادق عنبر) وبيانها المنزل من موروث والدها. أين؟ وأين؟ أظن (البيت) هو الذي طغى على رسالة القلم عند هؤلُيَّائكنَّ. ولا حرج فالطبيعة تقضي.
غير أني اليوم أطالع مرايا الناس للسيدة وداد سكاكيني الكاتبة الشرقية فأعجب كف أن الطبيعة لم تغلبها، وحرفة الأمومة لم تنهنه من حماسها الأدبي ولم تبلبل تيارها العارم؛ أعجب ولا يدفعني هذا إلى أن أقول كما قال الناقد القديم. (تلك التي غلبت الفحول) لا أقول ذلك وإنما أدعو القارئ إلى أن يرد مراياها ويقف على شخصيتها ويتملى من أسلوبها ليعجب بقصصها الإنساني الذي أتخذ من صلاته بالمرأة درساً وتحليلاً ثم جاء تعبيراً سامياً في إطار يشوق وإخراج يروق. وحتى لا أحرم القارئ أو يرميني بمجاملة الضيفة الصديقة أضع أمامه قطعة من (شقيقة نفسي) تكتشف عن جمال في العبير وإبداع في التصوير ورفعة في الأسلوب الذي تحسد عليه المرأة وتغبط السيدة وداد.
(في صيداء مدينة الزهر والعطر، الحالمة بمجدها على شاطئ الأبيض الجاثم بوداعة وفطنة ليداعب بمده وجزره تلك الرمال النقية فإذا وليت وجهك شطر البيوت تركت البحر يواجه بأمواجه القلعة العتيقة السادرة في ذكرياتها، ثم أقبلت بالنظر على جنات ألفاف، وأفواف خلف أفواف، وحدائق وراء بساتين رفافة النسيم سمراء الأديم قد شاعت فيها أنفاس الفردوس، وليكن هذا في الربيع حين يعبق في هواء صيداء عطور النارنج والليمون).
وأخشى أن أطيل وأمضي بك في كثير من القطع الفنية التي صاغتها ريشة تغني بعواطف المرأة وتجارب الأنثى وتأملاتها في الحياة والمجتمع وصلات الناس.
نعم قد تمر على بعض القصص فلا تفجأ بالحادثة، وقد تمر بك الخطرات والنظرات وأنت تقرأ كأنها النسيم يمضي رخاء دون أن يلفحك أو يعصر قلبك لأن السيدة وداد رفيقة(627/59)
الأنفاس هادئة اليراعة تنظر بمرآة صافية لن تلعب بها الأعاصير ولم تتمايل بها الرياح إنما هي امرأة فنانة متمكنة من قياد القلم تحمل قلباً إنسانياً ونظرة نشف وتنم عن الرحمة واليقظة وهكذا جاءت مراياها من القصص المحلل المتأمل يشهد للمرأة ويحملنا على الاعتراف بأدبها.
وقصص (هاجر العانس) و (الضرتان) و (حظها المكتوب) و (العروس) لون من نتاج المرأة الذي يضع الكاتبة في مصاف القصاصين المبدعين.
ويكفي الأدبية أن تقبل إعجابنا بنتاجها الموفق وإلى أثر أدبي آخر يردنا إلى الإعجاب بفن الأنوثة الشرقية.
كامل محمد عجلان(627/60)
العدد 628 - بتاريخ: 16 - 07 - 1945(/)
الثغر يضحك!
نعم، يضحك ثغر الإسكندرية اليوم بملء شدقيه، وعلى مضاحكه الغر العذاب سمات، وفي ضحكاته المرجعة الموقعة دلائل! يضحك بعد أن قضت عليه الحرب بالعبوس المظلم ست سنين لم يسكن فيها روعه، ولم يرقأ دمعه؛ فهو يضحك ضحكة الشامت بخطوب طغت ثم زالت، ودول بغت ثم دالت، وقوم أرادوا أن يسخروا الأقدار فسخرت منهم، وطمعوا أن يصرفوا الخطوط فانصرفت عنهم، ومغتر أشار إلى بحر العرب وقال له بحرنا؛ فقال له القدر الراصد: بل قل إنه قبرنا!
والثغر يضحك من القاهرة كما يضحك أبيقور أو أبو نؤاس من الكلبيين أو المتزمتين الذين اتخذوا الحياة جداً من غير لهو، وعبوساً من غير طلاقة، وسعياً من غير جمام، وخصاماً من غير بقيا، وعراكاً من غير هدنة؛ ويقول وهو ينظر إلى البحر العاصمة التي تنظر إلى الصحراء: إن الحياة زبد ورمال. وموج وجبال؛ ففيها الصلابة والمرونة، وفيها الرصانة والرعونة، وفيها العبث الذي يفور ويذهب، والجد الذي يطمئن ويمكث؛ وفيها المرح الذي يكتسي جمال الحياة، والوقار الذي يرتدي جلال الموت. وهيهات أن تصلح الدنيا على المعالجة، إذا لم تساعدها الطبيعة بهذه المزاوجة!
والثغر يضحك للقاهرين الذين يتهالكون من الجهد على أحضانه، ويترامون من الكلال فوق شطآنه، ويقول لهم: تعالوا إلى الصفاء المحض، والسرور الخالص، والوداد المصفق، والشعاع الذي يعافى الجسد، والنسيم الذي يرد الروح؛ ودعوا القاهرة للساسة الذين أوقدوا فيها نار الخصومة فزادوا وهجها، وضاعفوا رهجها؛ وخلوا للزمان الحكم لهم أو عليهم، فإنه لم يبق منهم أحد إلا اتهم الآخر؛ فإن كان ما قالوه حقاً فليس فيهم صالح، وإن كان ما قالوه باطلاً فليس فيهم صادق!
والثغر يضحك عند استانلي باي! وخليج استانلي كخليج عمان؛ إلا أن اللآلئ هناك تغوص وهي هنا تعوم. ولآلئ عمان مصونة في الأصداف لا تنال إلا ببذل النفس؛ أما لآلئ استانلي فعارية مبذولة للنظر واللمس! ومن لآلئ عمان ما يباع بخزانة في مصرف أو مساحة في منجم، ولكن من لآلئ استانلي ما يباع بقدح في حانة أو عشاء في مطعم! وهذه أروع ما برأ الله في العالم الناطق، وتلك أبدع ما صاغت يده في العالم الصامت، ولكنه فضل الصون على الابتذال، وفرق ما بين الحرام والحلال!(628/1)
والثغر يضحك في وجوه المصطافين كما يضحك الشباب في الأجسام، أو الربيع في الخمائل! فترى الشيخ في مرح الشاب، والشاب في نزق الطفل، وكلهم يجتمعون في وحدة من الإخاء والرخاء والعافية والأمن تشعرهم بأنهم عبيد لإله واحد منعم، وأبناء لوطن واحد منيل!
(الإسكندرية)
أبن عبد الملك(628/2)
كيف تنام أعين العرب
عن إخوانهم في شمال أفريقية؟
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً توطن العرب والمسلمون بلاد المغرب برقة وتونس والجزائر ومراكش. لم يذهبوا إليها مدفوعين بحب الغلبة القاهرة، والسيطرة الغاشمة، والفتح الذي يقصد به استغلال المغلوبين، ولم ينتقلوا إليها ليجردوا أهل البلاد من خيراتهم، ولا لينتزعوا منهم ديارهم وأموالهم، ولا ليكرهوهم في الدين، ولا ليسلبوهم حريتهم، ولا ليقضوا على كيانهم كأمة من الأمم التي لها حق الحرية والوجود
إنما حركتهم للفتح عوامل إنسانية، وحفزتهم إلى الانتقال والترحل غايات نبيلة ومقاصد شريفة، هي رفع الظلم الذي كان يرسف فيه أبناء البلاد، وإزالة العسف الذي كانوا يلقونه من الحكام، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، إخراجهم من ظلمات الجهل والجور والفوضى والاسترقاق إلى نور العلم والعرفان والحرية والإخاء والعدل والإحسان، ثم اندمجوا فيهم فصاروا أمة واحدة تعيش في كنف من تعاليم الإسلام ونظمه، بحيث لم يعد هناك فارق بين الحاكمين والمحكومين. وكانت الشرائع والأحكام التي يرجع إليها الناس في مكة والمدينة واليمن والبصرة والكوفة ودمشق هي التي يدين لها بالطاعة والرعاية من في مصر وبرقة والقيروان وبجاية وتلمسان وسبته وطنجة وفاس ومراكش، كما ازدهرت في هذه البلاد حركة علمية عمادها ثقافة الإسلام وعلومه وقوامها اللغة العربية وآدابها وعلومها وبخاصة في مدينة القيروان
ثم تقلبت الأحداث والغير على تلك البلاد في مختلف الحقب والإعصار إلى أن منيت بالاستعمار الأوربي من الفرنسيين والأسبانيين والإيطاليين فساموا أهلها سوء العذاب، وأذاقوهم ألوان النكال، وهم أمة أبية لا تنام على ضيم، ولا تخلد إلى مسكنة أو مذلة، فثار المسلمون والعرب غير مرة على طاغوت المستعمرين وبغى الولاة الظالمين، لأنهم سلبوهم حريتهم المدنية والسياسية، وضيقوا عليهم الخناق في حريتهم الدينية، وسلطوا عليهم كل وسائل الاستعمار التي تنخر عظام الأمم وتحولها شيئاً فشيئاً إلى مصيرها المحتوم من التأخر والانحلال ثم الثبور والفناء(628/3)
هل أتاك نبأ ثورة الجزائر الأخيرة، إذ هضمت حقوقهم وسلبت حرياتهم، وحيل بينهم وبين كل مشروع من أمانيهم القومية، فقابلتهم فرنسا المستعمرة بالأسلحة الفاتكة والقوة الباطشة حتى أهريقت الدماء الزكية، وأزهقت النفوس الرضية، وشرد الأحرار، وألقى بالمجاهدين في غيابة السجون؟
فهل يجوز للعرب والمسلمين في أقطار الدنيا أن يسكتوا على هذه الحوادث الجسام، وان يسلموا إخواناً لهم في العروبة والإسلام لغول الاستعمار؟!!
كلا، فإن سمو نفوسهم، ويقظة وجدانهم، وما طبعوا عليه بحكم دينهم من الغضب للحق والتواصي به، ومن التعاون على البر والتقوى، ومن الشعور العميق بالوحدة والتكافل، بحيث إذا اشتكى عضو منهم تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى - كل أولئك يوجب عليهم حكومات وشعوباً أن يهبوا لنصرة الضعفاء من إخوانهم أبناء المغرب بالدفاع عن حقوقهم ورفع نير الظلم والاستعباد عنهم
وعلى الحكومات الإسلامية عامة والحكومات العربية خاصة أن يطالبوا رسمياً الدولتين الفرنسية والإسبانية بكف يد العدوان والظلم عن تونس والجزائر ومراكش، وعلى الجامعة العربية أن تطلب إجراء تحقيق محايد عن حوادث الجزائر الأخيرة، كما أن عليها أن تختار مندوبين عن طرابلس وتونس والجزائر ومراكش ليمثلوا أممهم في الجامعة، وبذلك يمكن رفع الصوت بالنيابة عنها والدفاع عن حقوقها والمطالبة بحريتها واستقلالها. كذلك ينبغي أن يكون من واجبات مكتبي الدعاية المزمع إنشاؤهما بلندن وواشنطون الدعوة إلى تلك البلاد بجانب الدعوة إلى فلسطين والدفاع عن حقوق العرب فيها، والله في عون الأفراد والأمم ما دامت الأمم بعضها في عون بعض. سدد الله خطى العاملين وهداهم إلى سواء السبيل (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
حسن أحمد الخطيب
المفتش العام بوزارة المعارف(628/4)
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 8 -
* ج11 ص207:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطُح
وحللتمُ قتل الأُساري وطالما ... غدونا على الأسرى نعف ونصفح
فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
قلت: جاءت (أبطح) بضم الطاء وهي بفتحها. والشعر لسعد بن محمد.
* ج17 ص210: قال الحاكم أبو سعد: وأنشدني (أبو الفتح بن الأشرس) أيضاً لنفسه:
كأنما الأغصان لما علا ... فروعها قطر الندى قَطَرا
ولاحت الشمس عليها ضحى ... زبرجد قد أثمر الدرا
نقد الحاكم على بيته فقال: قوله: (قد أثمر الدرا) لا يستقيم في النحو، لأنه لا يقال: أثمرت النخلة الثمر، وإنما يقال أثمرت ثمراً بغير الألف واللام.
وجاء في الشرح: قطر الندى: نقط المطر، وقطر فعل ماض أي سال وسقط، والجملة حالية.
قلت: (لما علا فروعها قطر الندى ثرا).
و (نقد الحاكم بيته) لا (على بيته) وأغلب الظن أن (على) من زيادة النساخ. يقال: نقده وانتقده، وجاء في الأساس: انتقد الشعر على قائله.
و (أثمر) هو فعل لازم كما قال أبو سعد، وقد عداه المحدثون، وكأنهم رأوا فيه استعداداً للتعدية. . . وهذا ما قاله في شأنه الخفاجي في (شفاء الغليل):
أثمر يكون لازماً وهو المشهور الوارد في الكتاب العزيز، ولم يتعرض أكثر أهل اللغة لغيره. وورد متعدياً كما في قول الأزهري في تهذيبه: يثمر ثمراً فيه حموضة. وكذا استعمله كثير من الفصحاء كقول ابن المعتز:
وغرس من الأحباب غيبت في الثرى ... فأسقته أجفاني بسح وقاطر
وأثمرهماًّ لا يبيد وحسرة ... لقلبي يجنيها بأيدي الخواطر(628/5)
وقول ابن نباتة السعدي:
وتثمر حاجة الآمال نجحاً ... إذا ما كان فيها ذا احتيال
وقول محمد بن الأشرس وهو من أئمة اللغة: (كأنما الأغصان. . .) وقول ابن الرومي: (سيثمر لي ما أثمر الطلع حائط) إلى غير ذلك مما لا يحصى. وهكذا استعمله الشيخ في دلائله والسكاكي في مفتاحه. ولما لم يره كذلك شراحه قال الشارح: استعمل الأثمار متعدياً بنفسه في مواطن من هذا الكتاب فلعله ضمنه معنى الإفادة أو جعله متعدياً بنفسه.
ونقل (التاج) جل هذا الكلام، وجاءت (ثرا) في الكتابين (نثراً) وهو تصحيف. وجاءت (ثراً ودراً) في بغية الوعاة (سحراً ودرراً) وهو تبديل. وورد (ابن الأشرس) في شفاء الغليل (ابن شرف) وفي التاج (ابن أشرف) وفي بغية الوعاة (ابن أشوس) وفي إرشاد الأريب (ابن أشرس) وفي دمية القصر (ابن الأشرس).
* ج6 ص154:
والطير فوق الغصون تحكي ... بحسن أصواتها الأغاني
وأرسل الورق عندليب ... كالزير واليم والمثاني
قلت: (وراسل الورق عندليب) والشعر للجوهري صاحب الصحاح.
في التاج: (راسله في كذا، وبينهما مراسلات. والرسالة المجلة المشتملة على مسائلي. وهو وسيلة في الغناء ونحوه، وراسله في الغناء. باراه في إرساله).
* ج2 ص119: وأنفذا أبا بكر بن رافع إلى إستراباذ ونواحيها لاستيفاء ما يستوفيه من المعاملين والتناء فيها. فقيل: جمع الوجوه وأرباب الأحوال. . .
وجاء في الشرح: وفي الأصل العاملين (مكان المعاملين) والثناء فيها هكذا في الأصل ولعلها والتناهي فيها أي التشدد وبلوغ النهاية في الاستصفاء وجمع المال.
قلت: (استراباذ) بفتح الهمزة والتاء كما ضبط ياقوت لا بكسرها كما جاء في الكتاب. و (العاملين) الأصل قد تكون صحيحة. و (التناء) مثل السكان جمع التانئ وهو الدهقان كما في القاموس. والذي هو المقيم ببلده والملازم كما في التاج. وفي الأساس: هو من تناء تلك الكورة إذا كان أصله منها. ويقال: أمن تنائها أنت أم من طرائها.
* ج6 ص277:(628/6)
رسمُ دار وقفتُ في طَلَلِهْ ... كدت أُقَضّي الغداة من جَلَلهِ
قلت: ضبط (رسم) بالضم، وهو بالكسر لأنه مجرور برب المحذوفة. والبيت وهو لجميل بن معمر - من شواهد الجماعة. قال ابن يعيش. . . والثاني ما يحذف ولا يوصل الفعل، فيكون الحرف المحذوف كالمثبت في اللفظ، فيجرون به الاسم كما يجرون به وهو مثبت ملفوظ به، وهو نظير حذف المضاف وتبقية عمله نحو ما كل سوداء ثمرة ولا بيضاء شحمة وكقوله:
أكلّ امرئ تحسبين امرءاً ... ونار توقد بالليل نارا
على إرادة كل، ومن ذلك قول الآخر: (رسم دار. . . البيت) أراد رب رسم دار ثم حذف لكثرة استعمالها.
و (أقضي) المشددة في الكتاب هي (أقضي) كما روتها رواة الشعر.
* ج1 ص121:. . . عن النبي إنه قال للنساء: إذا جعتن خجلتن، وإذا شبعتن دقِعتن.
قلت: إنكن (إذا شبعتن خجلتن وإذا جعتن دقعتن) والحديث مصوغ.
* ج15 ص39: أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صوب لا جدد دونه.
وجاء في الشرح: الجدد الغليظ من الأرض قلت: لا حدد دونه بالحاء. يقال: دون ما سألت عنه حدد أي منع، ولا حدد عنه أي لا منع ولا دفع كما في التاج. والقول في رسالة عبقرية لأبي حيان التوحيدي.
* ج18 ص220:
قرهت عيني من طول البكا ... وبكى بعضي على بعضي معي
وجاء في الشرح: في الأصل: قرهت بمعنى اسودت أو جمدت، وفي طبقات الأطباء: شقيت. ولو أن لي حق التصرف لجعلتها قرحت، وهي أقرب إلى قرهت.
قلت: مرهت. في القاموس: مرهت عينه كفرح خلت من الكحل أو فسدت أو ابيضت حماليقها والنعت أمره ومرهاء. وفي مستدرك التاج: وقوم مره العيون من البكاء وهو جمع أمره.
* ج10 ص177: وقال (الحسين بن مطير):
رأت رجلاً أودى بوافر لحمه ... طلاب المعالي واكتساب المكارم(628/7)
خفيف الحشا ضرْباً كأن ثيابه ... على قاطع من جوهر الهند صارم
فقلت لها: لا تعجِبنَّ فإنني=أرى سمن الفتيان إحدى المشائم
وجاء في الشرح: (ضرباً): من ضرب في الأرض ذهب بنفسه وخرج تاجراً أو غازياً أو إلى غير ذلك.
قلت: الضرب الرجل الخفيف اللحم كما في الصحاح وغيره. و (المشائم) هي (المشاتم) بالتاء.
* ج16 ص256: قال إسحاق بن راهويه: يحب الله الحق؛ أبو عبيد (القاسم بن سلام) أعلم مني ومن أحمد بن حنبل ومن محمد بن إدريس الشافعي. قال: ولم يكن عنده ذاك البيان إلا إنه إذا وضع وضع.
وجاء في الشرح: إذا وضع وضع كناية عن إنه كان كافياً في كل شيء.
قلت: إذا وضع وضح: إذا وضع أي ألف وصنف وضح وأبان وإن لم يكن للسانه ذاك البيان.
في (وفيات الأعيان) لما وضع كتاب الغريب (المصنف) عرضه علي عبد الله بن طاهر فاستحسنه وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش. وأجرى عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر. قال محمد بن وهب المشعري: سمعت أبا عبيد يقول: مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة.
قلت: من هذا الكتاب نسختان مخطوطتان في (دار الكتب المصرية) عمرها الله!
* ج9 ص87: ومن عبث الخاطر وهو ستة أبيات تشوفت فيها الحجاز. . .
وجاء في الشرح: في الأصل: تشرفت.
قلت: تشوقت بالقاف، يقال تشوفه وتشوق إليه، وتشوق مثل اشتقاق ومطاوع شوق. وتشوف إلى الشيء تطلع، ورأيت نساء يتشوفن من السطوح أي ينظرن ويتطاولن كما في اللسان
* ج15 ص116: قال الصاحب وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كارثني أولاد المنجم لفضل أبي الحسن علي بن هارون وغزارته واستكثاري من روايته. . . فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه (في شعر له) عن قائله فغضت. . . وقال: تقول لمن هذا،(628/8)
أما يدل على قائله. . . أما ترى أثر بني المنجم على صفحته، أما
يحميه لألاؤه أو لوذعيته ... من أن يدال بمن أو ممن هو الرجل
وجاء في شرح (كارثني) أي اشتد علي وعارضني وفي شرح (يدال) يدال: يقال أي يتداول الناس فيه القول والسؤال بمن وممن.
قلت: (كارث) غير معروفة. وفي اللسان كرثه الأمر ساءه واشتد عليه، وبلغ منه المشقة، وأكرثه كذلك. والمقام لا يقتضي مثل هذه اللفظة كما لا يقتضي (كاثره) أي غالبه أو فاخره بكثرة مال أو عدد. وأغلب الظن أن الأصل (قابلني) أو (قاربني) ومن معاني قاربه: ناغاه وحادثه بكلام مقارب حسن، والمقابلة هنا أليق من المقاربة.
و (يدال) هي (يذال) بالذال، أي يهان. والقول هو بيت لأبي تمام من قصيدة في المعتصم بالله، قال:
يحميه لألاؤه أو لوذعيته ... من أن يذال بمن أو ممن هو الرجل
وفي هذه القصيدة:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا!!!(628/9)
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 4 -
اللغة والسلوك والذكاء - اللغة والحب - تعابير لغوية -
تعابير منتقدة. . . . . . .
(1)
(نحن نفكر ونبعث بالكلمات، وسلوكنا في البيت والشارع والحقل والمصنع هو قبل كل شيء سلوك لغوي، لأن كلمات اللغة تقرر لنا الأفكار والانفعالات. وتعين لنا السلوك كما لو كانت أوامر، بل نستطيع أن نقول إن سيادة البريطانيين على الهنود، أو المتمدنين على المتوحشين هي إلى حد ما سيادة لغوية، أي مجموعة خصبة وافية من كلمات المعارف والأخلاق تحدث براعة في الفن وتوجيها في السلوك يؤديان إلى السيادة وأحياناً إلى العدوان) ص10.
(ومما لاشك فيه أن هناك بين المتوحشين والبدائيين أذكياء من الطراز الأول، ولكن ذكائهم يبقى عقيما، لأنهم حين يفكرون يجدون تفكيرهم محدوداً بالتراث اللغوي المحدود الذي ينطقون ويفكرون بكلماته، واللغة لهذا السبب هي أعظم المؤسسات الاجتماعية في أية أمة، لأنها الوسيلة لتحريك الذكاء في أبنائها، ولتوجيه أخلاقهم بكلماتها التي تعبر عن المعرفة أو العقيدة أو الحكمة) ص92.
هنا ينظر الأستاذ إلى اللغة بعين واحدة، لأنه رجع إليها وحدها التفكير والسلوك، وأغفل تأثير المجتمع فيها، فيبست اللغة وحدها هي التي تحفز وتدفع، وليس المجتمع سبيكة تصوغها اللغة وتشكلها، لأن اللغة تؤثر في المجتمع وتتأثر به، بل لعل تأثرها بالمجتمع أقوى من تأثيرها فيه؛ لأن المجتمع هو الذي وضعها وأنشأها ونماها ورعاها، فلاشك أن المجتمع وجد قبل أن توجد اللغة، ولاشك أن المجتمع هو الذي صاغ هذه اللغة في آماد(628/10)
متباعدة ليعبر بها عن حاجاته، فالحاجات أسبق من اللغة المعبرة عنها، والقول بأن اللغة وليدة المجتمع ومرآة لحياته أصدق من الزعم بأن المجتمع وليد اللغة وصورة منها.
فقد نهض المسلمون أولا، وبسطوا سلطانهم على الشرق والغرب، ثم تأثرت لغتهم بحياته الجديدة فاتسعت ومرنت وحدث فيها ثقافات لم تكن لهم من قبل.
ونهضت مصر والشرق العربي في هذا العصر، ثم اتسعت اللغة بما طرأ عليها من فنون، استجابة لهذه النهضة.
ومن ذلك أننا الآن نترجم ونؤلف ونضيف إلى اللغة مصطلحات جديدة في الطب والقانون والاجتماع والاقتصاد والكيمياء وغيرها، أفنحن استجبنا لروح النهوض ثم استخدمنا اللغة لتحقيق هذا النهوض، أم أنا كنا نعرف هذه المصطلحات وهي التي أوحت إلينا بهذا النهوض؟ لاشك أن اللغة هي التي خضعت لحاجتنا وتأثرت بنهضتنا.
ولو صدقنا الزعم بأن اللغة هي الخلاقة والفعالة لكانت النتيجة الطبيعية أن سكان الهند وجنوب إفريقية الذين يتكلمون بالإنجليزية، وسكان تونس والجزائر الذين يرتطنون بالفرنسية - في صف واحد مع الإنجليز والفرنسيين، لأن اللغة هي اللغة.
ثم ما للشرق تخلف عن ركب الحياة بعد أن كان الرائد والقائد، ولغته هي لغته إن لم تكن قد زادت ثروة من الكلمات والتعابير وسعة في الخيال؟
وما لنا نرى كثيرين جداً من المثقفين الدارسين لأكثر من لغة يتنكبون الفضيلة وهم على علم بما يقترفون؟ ويعدون صوالح أمتهم وأنفسهم وهم على بينة أنهم عادون؟ إن كانت اللغة هي الحافز والملهم فلماذا لم تحفزهم إلى الخير وتلهمهم نوازعه.
إن اللغة لا تحفز إن لم يكن خلقها رصيد من قوة الخلق، وسمو الروح، والطموح إلى مثل أعلى، أما اللغة وحدها فزجاجات مغلقة على معان لا ينتفع بها إلا من يتذوق مراميها، ويفقه معانيها ولو كان الشأن للغة وحدها لسما كل من حفظ كلمات: المجد، والشهامة، والمروءة، والنجدة، والعزة الخ.
(2)
(يجب أن نذكر أن كثيراً من توجسنا من الحب واختلاط الجنسين يرجع إلى أننا نستعمل كلمات الحشاشين سوء أكانت فصحى أم عامية في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلا من(628/11)
كلمات العلماء أو المثقفين، ولذلك كلما فكر بعضنا في الحب أو اختلاط الجنسين على الشواطئ أو العرى خطرت بذهنه كلمات توحي البذاء أو العهر فيصد ويصرخ في الدعوة إلى انفصال الجنسين) ص84.
ما شاء الله!
هل الغير على الخلق الكريم أن يتدهور، وعلى عفاف المرأة أن يخدش، وعلى سمعة الأسرة أن تلوث، وعلى العرض أن يهتك، إنما يصرخون بدعوتهم لأنهم يستعملون كلمات الحشاشين التي توحي إليهم بالبذاء والعهر والفجور؟
وهل الذين يتوجسون من الحب أن يغلب الهوى العقل، وأن يجر ويلات على الفتيان والفتيات، إنما يتوجسون لأن قاموسهم اللغوي منحط؟
ومن الظريف أن هذا الأستاذ الداعية إلى اختلاط الجنسين على الشاطئ في عرى وتهتك قد ضرب المثل على صحة دعواه بأن المثقف يرى المرأة العارية فيتذكر الرشاقة، والجاذبية، والصحة الخ
والرجل المتأخر أو (الحشاش) يراها فيتذكر اللذة، والأرداف، والقبلة الخ.
فأية صيحة منكرة هذه الصيحة؟
وماذا بقي من الدعوة الجريئة المكشوفة إلى العرى والاختلاط والإباحية؟
هي دعوة خاطئة خاطلة بنيت على أساس خاطئ واه نقدناه في تأثير اللغة. وأنا أسأل الأستاذ:
أكل من يقعون في المحرم ويسطون على الأعراض من غير المثقفين؟
أو كل مثقف يخالط على الشاطئ امرأة عريانة لا يفكر في المتعة الجسدية؟
أتستطيع أن تدعي أن الثقافة نميت الغريزة
أيتذكر مثقف الخفة والرشاقة والجاذبية ثم ينقطع به خياله عند هذا الحد؟ وماذا بعد الإعجاب والخفة والرشاقة والجاذبية؟
أيرى مثقف امرأة ذات خفة ورشاقة وجاذبية ويعجب بها ثم يسجد لله إقراراً بقدرته وتفرده في صنعته؟
وهل هذه المرأة دمية أو تمثال حتى يقنع منها بالنظر؟(628/12)
وإذا كان المثقف كثيراً ما تعجبه الوردة الناضرة فلا يقنع منها بالنظر، بل يقطفها ويشمها، وكثيراً ما تروقه القطة الأليفة الجميلة فلا يكفيه منها الرؤية، بل يلمسها ويداعبها، فلم يزعم زاعم أن المرأة الحسناء العارية أو غير العارية تروعه ثم يخالطها، ولكنه يتبتل ويترهب!
إن الداعين إلى هذا البلاء ليسوا إلا مغالطين مخدوعين يفترون على عواطفهم؛ ويكذبون في تحليل نفوسهم، أو فجاراً يبغون هدم ما بقى لهذه الأمة من حصن الأخلاق
- 3 -
(ومن الأحافير اللغوية كلمات (الدم) و (الثأر) و (العِرض) في بعض مديريات الصعيد، فإن هذه الكلمات تؤدي إلى قتل نحو ثلاثمائة امرأة ورجل كل عام) ص52
أكاد أشفق على هذا الكاتب الذي يخبط ويخلط فيما يكتب، ويتردى ثم لا ينهض إلا ليكبو، فإذا كانت دعوته إلى الاختلاط والعري مستورة بستار شفيف فإن دعوته هذه مكشوفة مفضوحة تطل بقرنيها من خلال كلماته
إنه يريدنا على أن نمحو من لغتنا كلمة (العرض) فلا نغار، وكلمة (الثأر) فنذل ولا ننتقم، وكلمة (الدم) فنهدر حياتنا وحياة أعزائنا فلا نثأر!!
إن الديك الذي لا يعرف كلمة (العرض) يغار على دجاجاته، ويصد عنهن الجنيب الغريب، والديك الذي لا يعرف كلمة (الدم أو الثأر) يصون عزته فيناضل من يعتدي عليه، وإن كان أشد منه مراساً وأقوى شكيمة.
أفننتكس نحن فنكون أقل من الديك غيرة وحمية؟
ولن يزعم إنسان أن لغة الشمال وبقية مديريات الجنوب خالية من كلمات الثأر والدم والعرض، فلماذا لا تكثر هناك جنايات القتل؟ أنتهمهم في رجولتهم وكرامتهم وشرفهم؟ لا، فليس مرد حوادث القتل إلى اللغة، ولكن إلى ظروف أخر لعل منها: الجو، والفقر، والضغائن الموروثة، والضرب إلى الأصل العربي بعرق، والاعتزاز بالشرف الذي تخدره موجات المدنية الداعرة. فلا جريرة للغة في هذا ولا دخل
وإذا سلمنا جدلا أن الثأر للكرامة، وأن صون العرض من جرائر اللغة فما أحبها جريرة. والخير إذن أن تبقى هذه الكلمات حية تعمل في النفوس عملها، لا أن تسمى (حفائر)
أيها الغُير على الأعراض في مصر! خففوا من غلوائكم، بل أميتوا غيرتكم، وألغوا(628/13)
رجولتكم، فإنكم همج في رأي الأستاذ سلامة موسى!!
أيها الطامحون إلى الاستقلال التام، الثائرون للكرامة والحرية المغصوبة! رويدكم فإنكم متأخرون في زعم كاتب من كتاب مصر!!
أيها الآباء! أيها المربون للجيل الجديد! أيها الواضعون للقاموس اللغوي الجديد! احذفوا من لغتكم كلمات العرض والثأر والدم وإضرابها لتنشئوا نعاجاً لا تثأر ولا تثور ولا تغار!
- 4 -
(وما زلنا نلتزم عبارات مقتبسة يعافها الذهن الذكي، ومرجع هذه العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي تعلمناها وغرست في نفوسنا قيمة مزيفة للاستعارة والمجاز، فما زالت صحفنا مثلا تقول:
عرض على بساط البحث، بدلا من عرض للبحث
وخاض غمار القتال، بدلا من قاتل
وحمى وطيس الحرب، بدلا من حمى القتال
ودارت رحى المعركة، بدلا من دارت المعركة
ووضعت الحرب أوزارها، بدلا من انتهت المعركة الخ
ونحن نستغني عن الاستعارة حين يمكن الاستغناء عنها أو حين تعكس مجتمعاً يخالف مجتمعنا) ص73
ولكن الاستعارة - ما دامت في موضعها، وصدى لشعور الأديب وانفعاله وخياله - جوهرية في النص لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا فقد التعبير عن النفس قيمته وقوته وجماله
ولا عيب في أن نشير بعض الاستعارات إلى حياة سابقة، لأن الكلمات التي نكتب بها ونشعر، لها تاريخ وأعمار وأطوار وأحوال مرت بها تخالف في كثير أو في قليل المعاني الجديدة التي نطلقها عليها الآن، وما زالت اللغات الحديثة حافلة باستعارات تعكس صوراً قديمة ليست قائمة، بل إن بعضها يشير إلى أساطير عتيقة.
وأنا أبين خطأ الأستاذ في عيبه هذه التعابير التي تتداولها الأقلام:
1 - (عرض على بساط البحث): يتوهم أن هنا زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكن المعنى إذا حذفت كلمة بساط ليس كالمعنى بها، فكلمة بساط أفادت أن البحث واسع، حر، واضح،(628/14)
متكشف للباحثين جميعاً كأنه شيء على بساط أمام الناظرين، والتركيب إذن تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه
2 - (خاض غمار القتال): والغمار من معانيها الشدة، والمزدحم، وشدة الظلام، والخوض في الأصل للماء، فالصورة الخيالية هنا أن الميدان غاص بالمحاربين، وعددهم كالبحر الزاخر، وهذا المحارب شجاع، لأنه خاض هذا الميدان المهيب الرهيب، وهذا معنى لا يؤديه كلمة (قاتل)، لأن المقاتلة تكون بين اثنين وأكثر، وتكون بحماسة وشجاعة كما تكون بجبن وفزع
3 - (حمى وطيس الحرب): وهي جملة ابتكرها النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين لما تجالد القوم
والوطيس في اللغة التنور، وحفيرة تحفر فتوقد فيها النار للاشتواء، والمراد حمست الحرب، وعظم الخطب، فهنا استعارة رائعة مبنية على تشبيه الحرب بالنار، لحرارة الضرب بالسيوف أو المدافع أو القنابل، وللحرارة التي يوقدها في جسوم المحاربين ما عليهم من سلاح، وما يقومون به من حركة، ثم لأن الحرب تأكل الرجال، وتفني الأبطال كما تأكل النار الحطب
ولذلك قالت العرب: (أوقدت نار الحرب)؛ وقال تعالى: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله).
وقال زهير:
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرُ إذا ضربتموها فتضرم
4 - (وضعت الحرب أوزارها): والأوزار عدد الحرب وآلاتها، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالا وخيلا ذكورا
فهذه كناية عن انتهاء الحرب، لكنها أبلغ من الحقيقية، لأنها أفادت الحقيقية، وأفادت معها دليلا محسوساً على صدقها، ثم أفادت أن الحرب كانت طاحنة، ثم في إسناد الوضع إلى الحرب مجاز عقلي أو استعارة أو حذف، وكل منها جميل، فليراجع الأستاذ ذلك كله في كتب البلاغة إن أراد التفصيل
ولماذا لم يستغن الأستاذ عن المجاز ما دامت الحقيقة قديرة على أداء المعنى؟(628/15)
قال في ص13: وهذا موضوع (تخصب) فيه الالتباسات)
وفي ص24: (بل كانت تبقى هذه المعاني (أجنة) تؤلمه (بالمخاض)، ولا تجد المخرج من ذهنه أو تخرج (جهيضة)).
وفي ص89: (لم تجد كلمات ولسن الجو الملائم لها (فذبلت) وماتت أمام (الأعشاب) التي زرعها كلمنسو ولويد جورج) الخ
وأخيراً، أسأل الأستاذ جاداً أن يكتب مقالا أدبياً واحداً باللغة الجديدة التي دعا إليها، بحيث يكون خليطاً من الفصحى والعامية والإفرنجية، وملغى فيه الإعراب، وبالحروف اللاتينية، وأساس البلاغة في المقال المنطق وحده، ومجرداً من كل استعارة أو تشبيه، أو مجازاً يمكن الاستغناء عنه، ثم لا أطالبه ولا أطالب القراء بتقدير قيمته الفنية، بل أطالبه وحده بفهمه، وإن كان قد حبره بقلمه
لأكاد أوقن أن دعواته لهدم اللغة، وتقويض الأخلاق، وازدراء الماضي المجيد، إن هي إلا دعوات استعمارية لتبديد شمل الأمة العربية، أو دعوات تبشيرية لقطع ما بين المسلمين ودينهم من صلة لغوية وخلقية، ولكن لن يكون لدعواتهم صدى ما دامت أقلام في أيدي أحرار.
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية(628/16)
الشعر المرسل والشعر الحر
للأستاذ حسين الغنام
قرأت قصيدة للأستاذ الفاضل علي أحمد باكثير المنشورة في عدد مضى من الرسالة، والتي أسماها شعرا مرسلا حراً. . .
وقد جمع الأستاذ الفاضل بهذه التسمية بين الشعر المرسل، والشعر الحر، وهما ضربان مختلفان في الشعر الأوربي، ويسمى الأول في الإنجليزية والثاني ولكن الترجمة الصحيحة لهما هي: نظم مرسل، ونظم حر. . . ومعنى هذا إنه يجب أن تتوفر الموسيقية في هذين الضربين من الشعر أو النظم!
ولا يعفى الأستاذ باكثير جمعه بين الضربين في قصيدة واحدة - كما سماها مجازاً - أن يهمل الموسيقية أو العروض، وإن لم يتقيد أو يلتزم بحرا واحدا. . .
فلقد أدهشني خلو ما سماها قصيدة من أي موسيقية، وحاولت قراءتها وتنغيمها على كل الوجود فلم أفلح.
فهذه إذن ليست قصيدة بالمعنى المفهوم لخلوها من الموسيقية، وهي ليست شعرا مرسلا، وليست شعرا حرا. والخطأ الثاني هو جمعه بين الضربين في قطعة واحدة.
أما أصدق وصف لكلمة الأستاذ باكثير فهو أن يسميها نثرا مشعّرا، أو شعراً منثوراً، كما يقولون. أما إنها نظم فهذا خطأ.
وإذا أراد نموذجا من الشعر فإني أرجو من أستاذنا الزيات أن يتفضل بنشر هذا النموذج لي، عن الشاعر الأمريكي الفحل لونجفلو، وهي السطور الأولى من ملحمته المسماة (أغنية هياواثا)، وقد نظمها صاحبها شعراً حراً، ولكني ترجمتها شعراً مرسلا منذ بضع سنوات.
وإنك لواجد في هذا النظم موسيقية، لأنها من أول الشروط فيه. وقد أخطأ الشعراء في عدم فهم هذا الضرب، فكان ما ينظمون منه - حتى مع التزامهم الموسيقا - متنافراً في البحور غير منسجمة مع بعضها. ومن أولى خصائص هذا الضرب موسيقيته أولا، ثم ائتلاف هذه الموسيقى في بحور متقاربة ليجعل منها تجانساً وتناسقاً فنياً
وإليك الأبيات الأولى من ملحمة لونجفلو، كما ترجمتها شعراً مرسلا من أوزان متقاربة لا تحس فيها بتنافر أو اصطدام، وهذه أولى خصائص ذلك النظم:(628/17)
(نواداها) المغني العظيم
- 1 -
لعلك سائلي من أين هاتيك الأقاصيص؟
ومن أي المصادر جئت بالأخبار ترويها
وإن لها لرائحة من الغابات منبعثه
وإن بها ندى الأعشاب في الموجات منبثه
ندى رطب إن التمعا
بضوء الشمس أو سطعا
وإن لها دخاناً جاءم الأكواخ مرتفعا
وإن لها خرير الماء في الأنهار مندفعا
- 2 -
فإما قلت لي من أين هاتيك الأقاصيص؟
فهناك جواب أنبائي من الملموس أحكيها:
من الغابات والروضات جئت بكل أخباري
وليس السامع المروي مثل الناظر الساري
فمن غاب ومن سهل
ومن نهر ومن تلٍ
ومن أرض يعيش بها قبائل أهل (أوجيبِ)
و (داكوتاة) في أرض حلت للشاة والذيب
ومن جبل ومستنقع
وأرض ثم لم تزرع
ومنبسط من الأرض
هنالك كل ما فيه - على بداوته - يُرضي
هنالك (مالك المحزون) يحيا عيشة الزها(628/18)
(شَشَهْتَجاهُ) كما يدعوه بعض قبائل الهند
يعيش هناك يقتات السَّمار الفجَّ والقصبا
فلا عنباً وفاكهة ولا نبتاً ولا حبا
ومن شفَتَيْ (نواداها)
أغان. . . كان غناها
وأعظم بالذي غنى
مغنيهم إذا افتنا
سأرويها كما غنى
فما زال الصدى المسحور حسناً يطَّبي سمعي
ويعذُب وقعُه فيه - وما أحلاه من وقع!
- 3 -
وإما عدتَ تسألني سؤالا عن (نواداها)
ومن أي الموارد جاء بالألحان فتانه
فألقاها وغناها
فرد الطير ولهانه
أغان من بداوات ولكن لحنها يصبي
فمن أطيار غابات تلوذ بصوتها العذب
على أعشاشها العلياء في أطراف أشجار
وحسبك لحن أطيار
ومن أكواخ (كلب الماء) تحت الماء مختفياً
ومن آثار ثيران أوابد - كان مقتفياً
وعش النسر فوق شواهق الجلمود ممتنعاً
وغير النسر لم يمسسه مهما طال وارتفعا
- 4 -(628/19)
وفي واد جميل ساكن رقت حواشيه
وفوق الجدول الساجي أقام على حوافيه
(نواداها) بقرب القرية الهندية الصغرى
(نواداها) الذي غنى
وعنها لقن الفنا
وفوق المرج مخضرَّا
وبين مزارع الحنطه
فتحسب ذلك البُرَّا
تلألأ - عسجداً حرَّا
وفوق الأرض منبسطه
وعن قرب من الغيطان قامت غابة كبرى
وأحراج الصنوبر وهي كالأطيار غريده
تراها ثَم ممدوده
وعند الصيف تبصرها إذا ما رُدت خضراء
وفي وقت الشتاء تحول من خضراء - بيضاء
وفي الحالين تبصرها
إذا ما رحت تخبرها
تنهد قلبها آناً وآناً بالهوى غنى
وما أحلاه إن غنى، وأوجعه إذا أنَّا
وهذا الجدول الرقراق في الوادي قد انسابا
وفي جنباته سالا
وراح يتيه سلسالا
وعاد جداولا كُثرا
تشق السهل والأعشاب والأحراج والغابا
تراها في الربيع تخر بالأمواج صفَّاقه(628/20)
وتبصرها إذا ما كنت يوماً تقتفي الأثرا
فتلفيها أوان الصيف إذ تنساب رقراقه
بأشجار من الحور الجميل مهفهفاً قاما
وإبان الخريف ترى الضباب هناك قد غاما
وإبان الشتاء يند خيط أسود داكن
يفرع منه - قاتمةً - خيوطاً غُبّراً دكنا
بجانب كل ذلك عاش (نواداها) - من غنى
بوادٍ أخضر ساكن
وغنى عن (هياواثا)
وغنى من (هياواثا)
أغاني عن ولادته العجيبة ثم تكوينه
وكيف صلاته قامت ... وكيف صيامه كانا؟
وكيف حياته كانت ... من الآلام ألوانا
وكم كدح الشقي لكي يكون لأهله قدوه
ورائدهم إلى النجح
فإن النجح في الكدح
- 6 -
ألا يا من تحبون الطبيعة وهي مزدانه
وشمس المرج ساطعة وظل الغاب ممدودا
وصوت الريح في الأغصان تخطر وهي نشوانه
وهمس الريح مردودا
إذا حفت على الشجر
ألا يا من تهيمون بشؤبوب من المطر
يسُحُّ كدافق النهر
وعاصفة من الثلج(628/21)
على الآكام والمرج
ودفع الماء في الأنهار ينفذ من حواجزها
وصوت الرعد في قنن الجبال وفي مفاوزها
إذا أصداؤهن عوت
تخال نسورها دوَّت
ألوفاً يا لها عدّ
وحسبك أنه رعد
تعالوا واسمعوا مني أحدثكم أحاديثا
وأغنية أغنيها كما غنى (هياويثا!)
حسين الغنام(628/22)
سيباي الكافلي
آخر نائب للمملكة المصرية بالشام
للأستاذ أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسورية ولبنان
كان ذلك في جولة من تلك الجولات في دمشق حين كان يحلو لي السير لمسافات بعيدة للتعرف على أحياء المدينة التي قلت عنها إنها (عاصمة وثغر ورباط). وذلك لما نقل عن أبي الدرداء من قوله: (إن أهل الشام مرابطون وأنهم جند الله)
وكان ذلك في ربيع سنة 1943 ويد الله تحرك العالم وشعوبه وسط حرب عالمية شعواء، والشرق العربي يتأرجح بين الصليب المعكوف ورمز النصر الديمقراطي، وكان معي صاحبي وقد انتهى بنا المطاف إلى بناء عليه مسحة القرون المصرية التي نعرفها قلت: (هذا البناء لنا) وصاحبي يعرف مقدار شغلي بكل ما يذكر بمصر العربية الخالدة من عهد الأبوية والبحرية والبرجية، ففتح فاه وقال: (نعم! ألا تدري أنك أمام جامع سيباي) قلت: (ومن هو سيباي هذا؟) قال: (هو نائب الشام تولى إمرة السلاح بمصر) ثم عين نائباً للسلطنة المصرية بدمشق في عهد سلطاننا الغوري طيب الله ثراه - قلت: (إذن هو آخر من حكم هذا البلد الأمين من أمراء مصر؟) قال: (نعم) سألته: (كم يفصلنا عنه من القرون؟) قال: (أربعمائة وأربعون عاماً) قلت: (لقد انتهت الفترة إذن وستبعث مصر بعثاً جديداً وستعود أيامها الخوالي وستلعب دورها التاريخي مرة أخرى) - ونظرت إليه محدقاً وقلت: (أو لم تؤمن بما أقول؟). فابتسم صاحبي ابتسامة عريضة لها معناها. وتوجه إلى المسجد وقال لي: (أتدري ماذا يقولون عن جامع سيباي؟ يطلقون عليه اسم جمع الجوامع) قلت: (أي نعم أذكر جيداً جمع الجوامع في أصول الفقه للسبكي المتوفي سنة 771هـ وأذكر الرواق العباسي بالأزهر وما ألقاه علينا أستاذنا الأكبر الشيخ الدجوي يوماً ما) قال: (لا؟ وإنما أردت أن أقول إن بعض الظرفاء وإن كان الكرد علي في الجزء السادس من خطط الشام صفحة 93 يسميهم العلماء يقولون إن صاحب هذا الجامع لم يدع بدمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً إلا أخذ منه من الأحجار والرخام والأعمدة ما أحبه؛(628/23)
ولذلك سمى مسجده جمع الجوامع) واستمر صاحبي في بحثه وشرحه ويقول: (استغفر الله! ناقل الكفر ليس بكافر. كانت هناك مدرسة اسمها الخاتونية بالصالحية درست، وأول من استفاد من أنقاضها سيباي هذا، وكانت هناك تربة باسم الأمير بلبان المحمودي أتابك العساكر المصرية بالديار الشامية أخذ سيباي حجارة واجهتها لبناء جامعه هذا ولم يترك لصاحبها غير الضريح) واستمر يشرح لي هذه النقطة الغامضة بإسهاب جعلني ألتفت إليه: (والله لو استعمل سيباي حجارة شارع جمال باشا بأكمله وأخذ رخام قلاع الكرك وحصن الأكراد ومصياف لما حال ذلك دون زيارتي لهذا الأثر المصري، فوفر عليك ما تقول وسر بنا نطوف به). ودخلنا المسجد وأنا أطيل النظر في الزخارف ومقرنصات الباب العليا وأترفق في لمس الجدران والحجارة وأتأملها بين أبيض وأسود وكأنها تحدثني وتحن إلي، وكنت قد صعدت الدرجات واتجهت إلى الصحن فوجدت على يميني جناحاً اتخذته جمعية الشبان المسلمين بالشام مقراً لها، فحف أعضاؤها لاستقبالنا والترحاب بنا، وكنت مبلبل الفكر سارحاً، فأخذت بذراع صاحبي على جنب وهمست في أذنه: (أبلغت القحة أن تطأ الأقدام ضريح أمير من أمراء مصر ويتخذ مدفنه مكتباً فلا ترعى لجسده أية حرمة!) فضحك صاحبي وقال: (لا بأس!) قلت: (وما معنى هذا؟) قال: (خفف عليك! إن سيباي قتل في معركة مرج دابق مع الغوري ولم يضم عظامه لحد ولا ضريح؛ والذي تراه أمامك ما هو إلا تربة فارغة).
انتصر صاحبي وعرف كيف يسكتني وكيف يقود الزيارة للصحن الداخلي ويلفت نظري إلى مزولة من رخام كتب عليها أنها من عمل الفقير محمد زريق الموقت سنة 662، ثم أخذني إلى المصلى واستمر يحدثني عما يعرفه عن المحراب والمنبر الجميل وما فيه من الزخارف والنقوش الهندسية.
كنت أسمع إليه وأنا في عالم آخر. ولما وجدتني مشتت الفكر سار بي إلى إحدى الغرف المخصصة لتلقين صبية الحي بعض آيات القرآن الكريم. ورحب بنا الشيخ وأخذ يدعو أولاده لتلاوة ما حفظه كل منهم من جزء عم فسرّى ذلك قليلاً عني.
أما نفسي فكانت حزينة لا تفكر في شيء غير يوم مرج دابق والسلطان الغوري وسيباي وغيره من أمراء مصر الذين قتلوا وكتبت لهم الشهادة في ذلك اليوم العصيب. ونزلت(628/24)
درجات السلم وأنا أتمتم بنشيد من شعر نيتشه لا أذكر منه سوى بعض المقاطع. وهو:
(إنني أحبكم من عميق القلب أيها الرفاق في المعارك فما أنا الآن إلا مقاتل مثلكم كما كنت بالأمس).
(للكلام بقية)
أحمد رمزي(628/25)
مشروع السنوات الخمس
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية
تراعي الحكومات الديمقراطية في وضع مشروع السنوات الخمس أن تكون أغراضه محددة لسياسة التعمير وموجهة لزيادة الثروة الأهلية ورفع مستوى الشعب عامة من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا أن تكون نتيجته استفادة فئة قليلة على حساب أغلبية الشعب؛ لذلك توضع برامجه على ما لدى الدولة من الموارد الطبيعية والأيدي العاملة وعلى احتياجات الشعب ليعم منفعه كافة أفراده من غير تمييز.
فيجب أن يتمشى المشروع مع ازدياد عدد السكان والتقدم في الآلات الحديثة ووسائل الإنتاج، وأن يستعان في وضع برامجه بما ينبغي أن يكون لدى الدولة من أرقام إحصائية حقيقية دقيقة عن موارد ثرواتها على اختلاف أشكالها وعن تعداد سكانها ومبلغ زيادتهم السنوية وعن حالتهم واحتياجاتهم أي معاملاتهم الداخلية والخارجية وعن الإنتاج المحلي ليعمل المشروع على زيادته لكفاية الشعب واستغنائه عن الاستيراد الخارجي واستقلال البلاد بنفسها لنفسها
والواجب أن تبنى أسس المشروع على تقدير مستوى المعيشة الواقعي لجمهور الشعب تقديراً صحيحاً لا اجتهاديا وعلى مدى ثقافة الشعب وحالته الصحية، وعلى كافة العيوب التي تؤثر في حياته كعيوب المدن والقرى والعرب والمساكن والطرق، وعيوب الإنتاج وبالاختصار على جميع أوجه النشاط الزراعي والصناعي والاجتماعي
فالواجب أن توضع برامج مشروع السنوات الخمس لمصر نتيجة لدراسات عميقة تشمل شتى نواحي الحياة فيها، وأن تتعاون في وضعه كافة الهيئات الحكومية والأهلية، وأن تنفذ برامجه طبقاً لدراسات صحيحة مبنية على أرقام حقيقية لكافة العيوب والأمراض التي لابد من استئصالها لتبني الأمة المصرية حياتها الجديدة على أساس موضوع لغرض قومي معين غير متأثر بأي مؤثر داخلي أو خارجي، فيجب أن تتمشى برامج الري والصرف مع إصلاح الأراضي وزراعة الوات وتوزيع الفائض من السكان فيها توزيعاً عادلا لاستعمارها. وينبغي أن يوضع برنامج الإصلاح الزراعي للبلاد على أساس تعديل الملكية(628/26)
لينتفع الشعب بالأرض انتفاعاً شعبياً يؤدي إلى رفع مستوى الإنتاج بمساعدة الوسائل الحديثة الميكانيكية والكيميائية والبيولوجية فيوزع الإنتاج توزيعاً يتفق مع مجهود الأيدي التي أنتجته.
والواجب أن يضم المشروع برنامجاً خاصاً للبحوث الزراعية بحيث يكون موحداً بين الأقسام الفنية المختلفة لوزارة الزراعة والهيئات الزراعية الأخرى كالجمعية الزراعية والكليات الزراعية ومعاهدها على أن يكون الغرض الأسمى من هذه البحوث كفاية الشعب من الطعام الصحي الرخيص ومن المواد اللازمة لراحته في الملبس والمسكن وذلك بإنتاج الحاصلات الوفيرة الريع التي تقاوم الآفات والأمراض، وأن يعطى الشعب كفايته من الخضر والفواكه واللحوم والبيض والألبان ومشتقاتها بأثمان رخيصة تتمشى مع نفقات الإنتاج لا مع جشع المنتجين والوسطاء أي التجار. وأن يكون من أغراض المشروع تخزين المحصولات بالطرق الحديثة التجمعية التي تضمن سرعة علاجها وسهولة توزيعها على مناطق الاستهلاك بأقل النفقات. وأن تنشأ مصانع للآلات الزراعية التي تحتاجها البلاد في تطورها الزراعي المرتقب. وأن ينتفع بجميع موارد الطاقة الموجودة عاطلة في البلاد لمصلحة الأمة عامة وذلك بتوليدها من مجاري المياه ومن الرياح وأشعة الشمس ومن آبار البترول وأن تستخدم في الزراعة وفي تنفيذ المشروع الصناعي بصفة شعبية وأن ينتفع بفوائض الحاصلات في التغذية وفي الصناعات كصناعة الورق والخشب الصناعي واستخراج الكحول والنشا وغاز الوقود والإضاءة فيمكن مثلا أن ينتفع ببقايا الذرة في مناطق زراعتها في توليد غاز الاستصباح والوقود واستخدامه في المدن والقرى والعزب.
والواجب أن يوضع برنامج الصناعات لأغراض وطنية ولمنفعة الشعب عامة على أساس مدروس فترفع مستوى معيشته وتغنيه عن المصنوعات الأجنبية فتؤسس الصناعات التي تتوفر خاماتها في البلاد كصناعات الزجاج والنسيج والورق وبعض الصناعات الكيميائية والطبية والصناعات المعدنية لوفرة خامات المعادن في صحارينا وصناعة الآلات الزراعية والأسمدة الصناعية والصناعات الزراعية المختلفة وغيرها.
ويجب أن يشمل مشروع الإصلاح الاجتماعي وقاية البلاد من شرور المدنية الغربية التي أخذت كيان الأسرة المصرية بشكل واضح فيوجه الشعب ذكوراً وإناثاً التوجيه السليم(628/27)
الصحيح الذي يتفق مع آدابه الموروثة التي حددتها له عاداته وعقائده. وأن يوجد الزي لما له من التأثير السيكولوجي في داخل البلاد وخارجها. وينبغي أن تؤمن الأيدي العاملة على حياتها في الصحة والمرض، وعلى مستقبلها ومستقبل أولادها، وأن يوضع البناء الاقتصادي للبلاد على قواعد تمنع البطالة وتضمن تشغيل كل يد عاملة فيما تجيده من العمل المنتج. وأن يجعل مساعدة المحتاجين على أساس ما لهم عند الدولة من حقوق لا على قاعدة الإحسان. فالواجب أن تلغى الأوقاف بحيث لا يكون لها أي أثر في البلاد وتنظم المساعدات على الأسس الشعبية الحديثة.
والواجب أن ينظم التعليم على أساس مطالب العمل والاستعداد الفطري للأفراد فيوجه الطلبة للمهن المختلفة بحسب ميلهم الغريزي وأن تعطى كل مهنة وحرفة كفايتها من المتخرجين بحسب احتياجاتها وبذلك تعطى البلاد كفايتها من الأطباء والمهندسين والميكانيكيين والكهربائيين والمعماريين والمتخصصين في الصناعات المختلفة وفروع المهن الزراعية والصناعية فلا تشكو البلاد قلة المتخصصين في مهنة على حساب كثرتهم في مهنة أخرى لا أثر لها في التقدم الحقيقي للبلاد. والواجب أن تغير برامج التدريس تغييراً انقلابيا يتفق مع الاتجاهات الحديثة في توجيه أفراد الأمة للإنتاج المفيد.
والواجب أن يكون من أسس المشروع حل مشكلة الأجانب المتوطنين في مصر وهم الذين انقطعوا عن بلادهم وذلك بتمصيرهم وإدماجهم في الحياة المصرية والانتفاع بهم كمصريين في تنفيذ المشروع. كما يجب الاستعانة بالخبراء الأجانب من الخارج المشهود لهم بالكفاية والأمانة والاستقامة.
ويجب لتنفيذ المشروع أن يستعان بالقروض الوطنية وبالاقتصاد في مصروفات الدولة حكومة وشعباً وبتحريم استيراد الكماليات وتنظيم توزيع العمل؛ وأن يلجأ إذا اقتضى الأمر إلى التجنيد المدني لتنفيذ المشروع وأن يشجع الشعب على ذلك بالمسابقات المالية والمكافآت للمجتهدين والمبتدعين.
والواجب أن يكون لكل وزارة وهيئة ومنشأة بل ولكل مديرية ومدينة مشروعها الخاص ضمن المشروع العام للدولة وأن يخصص لكل منها لجنة دائمة لوضع برامجه ومراقبة تنفيذها وأن يشرف على هذه اللجان هيئة عليا (كوزارة للمشروعات). وأن تخضع ميزانية(628/28)
الدولة وميزانيات الهيئات المختلفة لهذا المشروع باعتباره وسيلة لبلوغ البلاد أسمى أغراضها وهو رفاهية الشعب وسعادته وأمنه. (فوزارة المشروعات) تعتبر المسؤولة عن وضع مشروعات كافة الهيئات والمدن وغيرها وعن انسجام برامج هذه المشروعات وعن إدارة تنفيذها. وهي المسئولة عن موازنة كل ناحية من نواحي الإنتاج والتوزيع والتمويل موازنة تتفق مع برامج المشروعات، فلا تخطو أي خطوة كبيرة في مشروعات الزراعة أو الصناعة أو النقل أو التمويل أو تجديد بناء المدن والقرى والعزب أو غير ذلك إلا بعد موافقة اللجنة العليا للمشروعات التي يجب أن يعاونها مئات من المتخصصين في مختلف أبواب المشروع. ويجب أن يقسم مشروع السنوات الخمس إلى مشروعات سنوية ينجز كل منها في مدى سنة واحدة ليتم المشروع كله في المدة المقررة له.
وليعلم القائمون بالأمر بل وكل فرد من أفراد الأمة أن مشروع السنوات الخمس بالشكل الذي وصفته هو المحك الحقيقي لحيوية الأمة وهو الذي يظهر مدى استعداد أفرادها للأخذ بأسباب التقدم ومجاراة العصر.
الدكتور محمد مأمون عبد السلام(628/29)
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ إبراهيم هاشم فلالي
من المؤلم ألا يجد القارئ الحجازي في صحيفة (الرسالة) الغراء شيئاً عن أدب بلاده، بينما هو يجد في هذه المجلة الكريمة آداب الأمم العربية ممثلة فيها
فهل هذا القصور ناشئ عن الرسالة؟ أو هو ناشئ عن الأدباء الحجازيين الذين لا يتقدمون بإنتاجهم الأدبي إليها؟ إنك تجد من الأدباء الحجازيين من يقول لك أن الرسالة ضنت بنشر ما قدمناه لها. وقد تقول الرسالة إنها لا تضن بنشر كل ما يصل إليها من أي قطر إذا رأته صالحاً للنشر. والذي أراه أن الرسالة أصبحت لها من المكانة في قلوب أبناء البلاد العربية ما تغبط عليه، لأنها ما زالت تخدم فكرة العروبة ولغة العروبة، حتى ظن أبناء العروبة في شتى بلادهم إنها رسالتهم، فهي قمينة بأن يكتب لها الكاتبون وهم قمينون بأن تنشر لهم كل ما يكتبون، فكثرت لديها المواد، حتى أصبحت صفحاتها لا تسع كل ما يطلب منها نشره، وعلى الأخص بعد أن استحكمت أزمة الورق وتضاءل حجمها حتى أصبحت في الحجم الذي هي فيه الآن، ولم يبق لرئيسها إلا أن يتخير من المواد المتجمعة لديه ما هو أخلق بالشر من غيره. وله الحق في أن يختار ما يشاء ويهمل ما يشاء، وقد تضطره ظروف العمل إلى ذلك، فيرى الذين لم يقدر لإنتاجهم النشر أن لا باعث لهم على الكتابة للرسالة ما دام نصيبهم الإهمال - كما يخيل إليهم - وغالبية الأدباء، لهم مزاج لا يقوى على الاحتمال، ويتأثرون لأوهى الأسباب.
في الحجاز حركة أدبية طيبة، وقد كانت هذه الحركة تتمثل في جريدتي أم القرى وصوت الحجاز بمكة المكرمة، وفي جريدة المدينة ومجلة المنهل في المدينة المنورة. وانتشر الروح الأدبي بين الناس، فبرز بيننا أدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، ووجدت هذه الحركة عطفاً وتشجيعاً من حكومتنا السنية، فحشدت كثيراً من الأدباء والشعراء في دواوينها. وكان لا يزال نائب جلالة الملك المعظم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل يرعى الأدباء ويعطف عليهم ويأخذ بايديهم، فانتعشت الحركة الأدبية، وافتتح لها سعادة الشيخ محمد سرور الصبان مدير المالية العام وكبير الأدباء قاعة في إدارة الإسعاف للمحاضرات الأدبية ليجد فيها كل أديب جواً صالحاً للإنتاج الأدبي القيم، ثم أسس شركة للطبع والنشر لتقوم بنشر(628/30)
مؤلفات الأدباء على نفقتها، وزود مقر الشركة بمكتبة قيمة لتسهل على الأدباء والمؤلفين مراجعة ما هم في حاجة إلى مراجعته من الكتب وقتما يشاؤون
وحيال كل هذه المغريات نشطت عزائم الأدباء. فألقوا المحاضرات، وكتبوا المقالات، وألفوا الكتب، وشغف الناس بالقراءة، ولذاتهم البحوث الأدبية مما دعا إلى مضاعفة الإنتاج الأدبي وإتقانه. ومن ثم ألفت كتب جمة فاز بعضها بالنشر مثل كتاب (وحي الصحراء) لمؤلفيه الأستاذ المرحوم عبد المقصود والأستاذ عبد الله بلخير، وكتاب (محاضرات الإسعاف). وكتاب (المعرض) للأستاذ الكبير الشيخ محمد سرور الصبان، وكتاب (أدب الحجاز) له أيضاً، وكتاب (خواطر مصرحة) للأستاذ محمد حسن عواد، و (كتابي) للأستاذ أحمد عطار، وكتاب (محمد بن عبد الوهاب) للعطار أيضاً، وكتاب (الأدب الفني) للأستاذ حسن كتبي، وكتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري وهي: التوأمان، إصلاحات في اللغة، آثار المدينة المنورة؛ وكتب أخرى لم تحضرني أسماؤها الآن، كما طبع بجانب هذه الكتب الأدبية كتب أخرى مدرسية وأخذت حركة الإنتاج الأدبي تنمو وتزدهر. ونبغ لدينا كتاب وأدباء وشعراء سنأتي على نماذج من إنتاجهم ليتبين لقراء الرسالة الكرام إلى أي حد من النضج بلغ الشعر والنثر عندنا
أما المؤلفات الأخرى والتي تكاد تكون قيمتها الأدبية أكبر من قيمة المؤلفات التي طبعت، فإنها بقيت محفوظة في مكاتب مؤلفيها، لأن الحرب - خربها الله - قامت في هذه الأثناء وحلت ببلادنا أزمة الورق كما حلت في البلاد الأخرى، فتوقفت حيال ذلك الحركة الأدبية عن السير في طريق الذيوع والانتشار، ولكن الأدباء لم يقفوا عن الإنتاج، لأن الفورة الأدبية جياشة في صدورهم بقوة، فهم ما زالوا ينظمون وينثرون ويؤلفون، وهم محتفظون بذلك كله إلى أن يأتي يوم السلم المنظور وتنحل أزمة الورق، فإذا جاء ذلك اليوم وقد جاء، فسوف يرى الناس أدباً حجازياً له سمته وله خصائصه، وسيكون لبلادنا ذات التاريخ المجيد مشاركة أدبية فعالة في بناء صرح الحضارة الإنسانية، وستقوم بواجبها وتؤدي رسالتها بما يتناسب ومكانتها الدينية والأدبية في تاريخها الماضي المجيد
والآن، سأذكر النماذج الأدبية التي تكلمت عنها آنفاً، وسأبدأ بنماذج شعرية ليرى القارئ الكريم الشعر الحجازي في ثوبه الجديد، وللقارئ أن يحكم له أو عليه بما يستحقه، على ألا(628/31)
يغرب عن باله لم أتخير في سرد هذه النماذج الشعرية أحسن ما قيل ولا أروع ما نظم، بل ذكرت ما شاع على الألسن دون أن أتكلف عناء البحث والاختيار
قلت في معرض كلامي إنه نبغ عندنا شعراء وأدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، وفي مقدمة هؤلاء كبير الأدباء وحامل لوائهم الأستاذ محمد سرور الصبان، فمن شعره قوله يناجي الليل:
يا ليل صمتك راحة ... للموجعين أسى وكربا
خففت من آلامهم ... ووسعتهم رفقاً وحبا
أو ما ترى حدث الزما ... ن أمضهم عسفاً وغلبا؟
يا ليل إن بسم الخل ... ى وسادر لهواً ولعبا
فبجنبه يبكي الشج ... ى وربما لم يأت ذنبا
هذا ينعم باله ... وأخوه يصلي النار غصبا
يا ليل فارق محدثاً ... أخبارنا غبا فغبا
فلنا بذلك حاجة ... إن تقضها فرجت كربا
وابدأ حديثك بالآلي ... عانوا من الآلام وصبا
فعسى بهم تأسو وعلى ... لنا بذلك منه طبا
يا ليل ما. للبدر يم ... رح في السما شرقاً وغربا
يبدو فيضحك ساحراً ... منا وطوراً قد تخبا. . .
يعلو على متن السحا ... ب يسوقها سرباً فسربا
أتراه يعبث كالولي ... د فليس يخشى بعد عتبا
يا ليل ما شأن الغرا ... لة سيرها تيهاً وعجبا
سكرى ترنح عطفها ... دلا فلا يستطيع خبا
تخذت لها مهد السما ... ء كمرقص فتدب دبا
طردت إليك بناتها ... فضممتهن إليك ربا
تلك النجوم المشرقا ... ت وجوهها بشراً وحبا
وهكذا يمضي - حفظه الله - في القصيدة على هذا النمط المستعذب حتى يتمها.(628/32)
ومن الشعراء الذين يفتخر بهم ذلك الشاعر المتصوف الأستاذ حسين سرحان ومن شعره قوله:
أتمت والإثم من طباعي ... وأنت من طبعك الكرم
هبطت بي من ذرى ارتفاعي ... يا موجد الروح من عدم
أوقفتني عند حد نفسي ... وقد تجاوزت حدها. . .
والنفس مرهونة برمسي ... إذا اقتفى الجزر مدها. . .
فكان ما شئت من صراع ... وزاد ما ذقت من ألم. . .
ضحية أنت: لا تراعي ... يا نفسي: فاستقري الندم
الطين ما زال يحتويني ... يرد وثبي إلى الثرى
فشاهت الأرض من قرين ... وساءت الأرض عنصرا
ردت سموي إلى أتضاع ... وإن تعلقت بالقمم
ظلت على أمرها المطاع ... وماتني الخصم والحكم
وشهوة سمها زعاف ... تشب في الروح والبدن
مكشوفة ما لها غلاف ... وإن يكن ما لها ثمن. . .
قد استجابت لكل داع ... وأورث الجسم بالضرم
كأنها في القطيع راع ... فإن أبى أمرها انحطم
في اللحم والعظم والحنايا ... وفي عروق وفي عصب
تشف عن أخبث الدنايا ... فإن تعجبت لا عجب
فإنها غاية المساعي ... ومصدر الكون والأمم
لولاك يا رخوة القناع ... ما جالت الروح في نسم
إذا تخيلتني عظيماً ... أريتني أنني سقط
سبحان من ينضر الهشيما ... ويخرج الحق من غلط
يا خالط الوحل بالشعاع ... ونافث السم في الدسم
أقسمت في العالم المشاع ... بين الورى أصدق القسم
بأننا سذج حيارى ... وسعينا ذاهب هدر(628/33)
نريد أن نكشف الستارا ... كلا: فلن نبلغ الوطر
فإن تعاقب فباقتناع ... وإن تجاوزت لا جرم
ما أجدر الكون بالضياع ... لولا الذي يبعث الرمم
ومن شعرائنا المتفوقين الأستاذ الكبير محمد حسن عواد وإلى القارئ أقدم نموذجاً من شعره. قال من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ساحات القتال:
من بليغ ملهمه ... عزمه المنطيق لافمه
كاسب الإعجاب مغتصبا ... قلبه الماضي ومخذمه
بكتب التاريخ من دمه ... أسطراً والمجد معجمه
يخدم الأوطان ينقذها ... من أذاها وهي تخدمه
لكأن الدين دافعه ... نحو قربان يقدمه
دعوة القرآن تحفزه ... أو هدى الإنجيل يسلمه
فهو في اللقيا محمده ... وهو عيساه ومريمه
أعجبني يا حرب من مرح ... لاعب لولا تجهمه
ومنها:
يستشير المجد في عمل ... هائل المغزى يعظمه
حيث موسيقى الخلود إذا ... طوحت بالجبن تحطمه
والصدى كالصوت صاعقة ... والصفوف السود ترحمه
يسأل الأقدار هل يده ... تغسل العدوان أودمه
فإذا بالكون ليل أسى ... تهاوى فيه أنجمه
وإذا الأصداء قائلة ... قول صدق لا نجمجمه
أيها التاريخ ذا بطل ... فعله للخلد مسلمه
هكذا فن الحياة على ... مسرح الأيام تحكمه
عالم يبدو فيصرعه ... عالم بانيه يهدمه
وهذا الشاعر المحلق الأستاذ حمزة شحاتة صنو العواد ومزاحمه على المورد الذي يستقي منه يقول من قصيدة غزلية:(628/34)
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق ... عز حتى السلام عند التلاقي
يا معافىً من داء قلبي وحزني ... وسليما من حرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأس في وجه ... ي وهول الشقاء في إطراقي
أي سهم به اخترقت فؤادي ... حين سددتها إلى أعماقي؟؟
إذ تهاديت مبدلا نظرة العط ... ف بأخرى قليلة الإشراق
مسرعاً في المسير تنتهب الخط ... وفهل كنت مشفقاً من لحاقي؟
وتهيأت للسلام ولم تفعل ... فأغربت بي فضول الرفاق
هبك أهملت واجبي صلفا منـ ... ك فما ذنب واجب الأخلاق؟
كنت بالأمس مسعدي فتغير ... ت كثيراً فهل سئمت التلاقي
واعترى قلبك الملال فأعرضـ ... ت فهلا انتظرت يوم الفراق
لا أداجيك للكرامة معنى ... تتجلى في صحة الميثاق
سطوة الحسن حللت لك ما كان ... ن حراماً فافتنّ في إرهاقي
أنت حر والحسن لا يعرف الـ ... قيد فصادر حريتي وانطلاقي
لم يكن باليسير صبري على عسـ ... فك لو أنني طليق الوثاق
ومن شعرائنا المجيدين الأستاذ أحمد عطار، فمن قوله هذه القصيدة:
يا شقوة ما تكاد تطلقني ... من نيرها أو يخف محملها
ثقيلة ما أطيق وطأتها ... مجنونة باليدين معولها
تعبث في مهجتي عواصفها ... ترجعها رجة فتذهلها
وينتهي للجنون محتدها ... وفي مراعي السطا تنقلها
وفي فؤادي تشب معركة ... ما تنطفي والزمان يشعلها
الحس صال وفي النهى فكر ... رعن يذيق المنون أسهلها
لا الليل ليل وأنت نائية ... ولا الدراري يروق أجملها
ولا الأزاهير وهي باسمة ... تسبي وعين الجبيب تغفلها
أين الليالي التي نعمت بها؟ ... وأنت عند الصباح بلبلها
أستلهم الوحي منك يا أملي ... شعراً وآيات أرتلها(628/35)
وكفك البضة التي ذخرت ... بأنعم لا أني أقبلها
وألثم الخد منك مشرقة ... أزهاره والفنون يشملها
أين سويعاتك التي غبرت؟ ... ففي فؤادي الرحيب معقلها
أين الورود التي عبثت بها؟ ... وكنت بعد القطاف أكفلها
وأين دار الهوى تظللنا؟ ... وأين أفراحها تجللها
أين الأماني؟ وأين بارقها؟ ... وأين أضواؤها؟ ومنهلها؟
ليت الذي قد يروح يرجعه ... أمثل أيامنا ومقبلها
وليت تضنى وذكرها حرق ... لعاً لهذي المنى تخيلها
أين وما أين لي بنافعة ... إن ينأ عن مهجتي مؤملها
إبراهيم هاشم فلالي(628/36)
رسالة الفن
10 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الفصل السابع - عن الأمس وعن اليوم
منذ بضعة أيام صحبت أوجيست رودان إلى متحف اللوفر إذ كان ذاهبا لمعاينة تماثيل أودون النصفية مرة أخرى. ولم نلبث أن وقفنا أمام تمثال فولتير النصفي وعندئذ صاح رودان:
(يا له من أعجوبة! إنه الخبث والدهاء بعينه. انظر! إن نظراته الشزراء لتبدو كأنها ترقب خصماً. أما أنفه فأقنى مستدق كأنه أنف ثعلب ليخيل إليك إنه يتشمم المثالب والمعائب من كل ناحية. ولتستطيع أن تراه بدمع. . . والفم! يا له من فوز عظيم! لقد خد بخطين من القذع والهجاء، ويلوح كأنه يغمغم بالتهكم والسخرية. ولا يسعك وأنت تنظر إلى فولتير هذا الذي يفيض نشاطاً وحيوية، ويغص سقاماً، والذي يعوزه الكثير من سمات الرجال - لا يسعك إلا أن تقول عنه إنه محدث بارع عجوز). وبعد فترة من التأمل عاود حديثه قائلا:
والعينان! إني لأرجع دواماً لمشاهدتهما. إنهما شفافتان، مضيئتان.
(ولكنك تستطيع أن تقول مثل هذا عن كل تماثيل أودون لقد أدرك هذا المثال كيف يجعل حدق العيون أكثر شفافية من أي مصور. إنه يخرقها ويثقبها ويبرزها، ويجعل بها معالي ومواطي بحيث تحدث تأثيراً فذاً عندما يقع عليها الضوء أو ينحرف عنها، ويقلد تلك اللمعة الحية التي بإنسان العين. وما أعظم ما تختلف التعابير التي بعيون كل هذه الوجوه! إنها تدل على الخبث من فولتير، وعلى الصداقة الطيبة في فرانكلن، والرقة المبهجة في السيدة هودون، وعلى المكر في ابنته وفي طفلتي برونيار الجميلتين. ولقد تعدل اللمحة عند هذا المثال أكثر من نصف التعبير، فهو يقرأ الأرواح من الأعين التي لا تخفى عليه سراً. ولهذا فلا داعي للتساؤل عما إذا كانت تماثيله مشابهة لأصحابها مشتبهة تامة).
وهنا استوقفت رودان سائلاً:(628/37)
(إذا أنت ترى أن المشابهة صفة هامة لازمة؟).
(لا ريب في ذلك فلا غنية عنها).
ومع ذلك يزعم كثير من الفنانين أن بعض التماثيل والصور يمكن أن تبلغ حداً كبيراً من الجمال من غير أن يتوفر فيها شبه قوي. وأذكر بهذه المناسبة حادثاً نسب إلى المصر إينر الذي شكت إليه سيدة من أن صورتها لم تأت شبهها. فأجابها بلهجته الإلزاسية:
(هيه يا سيدتي! بعد ما تموتين سوف يحسب ورثتك أنفسهم سعداء لأنهم يقتنون لوحة طيبة من ريشة إينر، ولكنهم سوف لا يجهدون أنفسهم البتة ليتحققوا مما إذا كانت تشبهك).
فقال رودان:
من المحتمل أن يكون المصور قال ذلك. وأغلب الظن أن هذا تسرع منه لا يمثل حقيقة أفكاره لأني لا أعتقد أن له مثل هذه الآراء الخاطئة في فن أبدى فيه براعة عظيمة وألمعية نادرة.
ولكن دعنا نتفهم أولاً مدى التشابه المطلوب توفره في تمثال أو صورة ما.
(إذا قصر الفنان نفسه على إظهار القسمات السطحية كما هو الحال في الفوتغرافية، أو إذا نسج معالم الوجه تماماً كما هي من غير ما رجوع إلى الخلق أو اعتباره فهو لا يستحق أي ثناء أو إعجاب. أما الشبه الذي يتحتم عليه إظهاره فهو شبه الروح. وهذا وحده بيت القصيد. وهو ما يجب على المثّال أو المصور أن يبحث عنه تحت ستار القسمات. وقصارى القول يجب أن تكون كل القسمات حافلة بالتعبير أو بمعنى آخر تكون ذات فائدة في الإفصاح عن شعور باطن).
(ولكن ألا يحدث في بعض الأحوال أن يكون الوجه مناقضاً للروح؟).
(وهل نسيت نصيحة لافونتين التي تقول: (لا تحكموا على الناس من ظواهرهم؟).
إن هذه النصيحة موجهة لأولئك الذين لا يتعمقون الأشياء، إذ كثيراً ما تخدع الظواهر نظراتهم العجلى. ويكتب لنا لافونتين أيضاً عن الفأر الصغير الذي حسب الهرة أعظم الحيوان حدباً وعطفاً. ولكنه يتكلم عن فأر صغير أي عقل غر ضعيف تعوزه القدرة على التمييز. ولا يسع من يدرس الهرة بإمعان إلا أن يجد في ظاهرها ما يحذره من القسوة التي تستتر وراء تناومها وتكمن في وداعتها.(628/38)
وفي مقدور من يستطيع قراءة الوجه أن يميز بين من يصطنع الحنان وبين من طبع عليه، وانه لمن أخص واجبات الفنان أن يكشف عن الحقيقة ولو من المظاهر الخادعة.
ولتقرير الحقيقة أقول إنه لا يوجد عمل فني يحتاج إلى كثير من التعمق مثلما يحتاجه التمثال النصفي والصورة الإنسانية. وقد يقال أحياناً إن حرفة الفنان تتطلب مهارة يدوية أكثر مما تتطلب فطنة وذكاء. وما عليك إلا أن تدرس تمثالا نصفياً طيباً حتى تستطيع أن تدحض هذا القول وتصحح هذه الأغلوطة. إن عملا كهذا خليق بأن يترجم له. وأنت حين ترى تماثيل أودون مثلاً تخالك تقرأ فصولاً من مذكرات مدونة، فترى فيها العصر الذي عاشت فيه، والحرف التي احترفتها، والأجناس التي انتمت إليها وأخلاقها الشخصية، ترى كل ذلك فيها واضحاً جلياً.
وهاهو روسو قبالة فولتير. ترى في نظراته حذقاً وذكا وفطانة بالغة. وهذه ميزة عامة امتازت بها شخصيات القرن الثامن عشر. كانوا نقده. كانوا يناقشون ويجادلون في كل المبادئ والمعتقدات التي كان مسلماً بها من قبل من غير ما تحقيق وتمحيص. كانت لهم أعين فاحصة باحثة نفاذة.
أما عن نشأته من عامة السويسريين. كان سوقياً غير مثقف بقدر ما كان فولتير شريفاً نابهاً. وبينما ترى عظم وجنتيه البارز، وأنفه القصير، وذقنه المربعة تبين فيه ابن صانع الساعات والخادم الذي امتهن الخدمة من قبل.
وأما عن حرفته فهو الفيلسوف بجبهته المائلة المفكرة، ينتمي لطراز قديم يتجلى في العصابة التقليدية التي تدور حول رأسه. زري الهيئة بشكل ظاهر متعمد، أشعث أغبر مما يجعله قريب الشبه من ديوجنيس أو منيبس هو المبشر الذي يدعو للرجوع إلى الطبيعة وإلى الحياة البدائية الفطرية.
(وأما عن أخلاقه الشخصية فترى تجهما في وجهه ينم عن كراهية للنوع الإنساني، وحاجبيه المقطبين وجبهته المغضنة، ترى فيه الرجل الذي يشكو بحق ويتذمر من الظلم والاضطهاد).
(قل لي بربك. أليس هذا التعليق على الرجل بأحسن وأدق من اعترافاته؟
(ثم هاهو ميرايو إنه عصر بأكمله. يبدو بحالة تحد. شعره المستعار مشوش غير مصفف،(628/39)
بزته غير حسنة، وهيئته زرية، وكأن ريحاً من عاصفة ثائرة تمر على هذا الوحش الكاسر الذي يهم بالزئير أو يرعد بجواب على سؤال يلقى إليه.
(ولنتقص نشأته الآن: نتوسم في طلعته المهيبة، وحاجبيه الدقيقين المقوسين، وجبهته المرتفعة المتعجرفة شريفا كان في زمرة الأشراف، ولكن ديمقراطية خديه الثقيلين المجدورين ورقبته الغائرة بين كتفيه جعلت الكونت دي ريكتي - ميرابو - يجوز على تيير ويفوز بعطفه ومراحمه ومن ثم أخذ يدافع عنه.
(ولننتقل إلى حرفته: إنه القاضي، يبرز فمه إلى الأمام كأنه بوق على وشك أن ينفجر منه الصوت مجلجلا. يرفع رأسه عالياً لأنه قصير كما هو شأن جمهرة الخطباء. ونرى في مثل هذا الطراز من الرجال أن الطبيعة تزيد في قوة الصدر والأضالع على حساب الطول. أما العينان فلا تثبتان على شيء معين وإنما تدوران على جم غفير. يا لها من نظرة عظيمة غامضة! ناشدتك الله خبرني أليس من أجل الأعمال وتمام الفوز أن يمثل في هذا الرأس وحده جمعاً حاشداً بل أمة بأسرها تصغي وتستمع؟
ولنبحث بعد ذلك عن أخلاقه: لاحظ الشفتين الحساستين، والذقن المزدوجة، والمنخر المرتعد فترى الآثام والانغماس في الشهوات وطلب الملذات مرتسمة عليها جميعاً. نعم تراها كلها هناك. وإني لمخبرك بذلك.
وإنه لمن السهل الهين أن نقرأ في كل تماثيل أودون مختلف الأخلاق على هذا النمط.
وهنا أيضا تمثال فرانكلن: ترى فيه هيئة عظيمة، وخدين ثقيلين متدليين فتقول هذا هو الصانع السابق، ثم الشعر الرجل الطويل الذي يشبه شعر الرسل، وحب الخير والمعروف مرتسما فتقول هذا هو، ريتشارد المهذب الطيب القلب.
ثم إن جبهته العالية المائلة إلى الأمام تتسم بالعدد وتنم عن الثبات والصبر الذي أظهره فرانكلن في تحصيل علومه، وفي السمو بنفسه حتى أصبح معلماً نابهاً يشار إليه بالبنان. وأخيراً إلى تحرير وطنه. ذكاء جم تفيض به العينان ويكمن في زوايا الفم. على أن أودون لم ينخدع بجسامته فابان فيه مادية الرجل المالي الذي جمع مالا فأخلده، ودهاء السياسي الذي استظهر بواطن السياسة الإنجليزية. فها هنا نرى أحد أسلاف أمريكا الحديثة على قيد الحياة(628/40)
(عجباً! ألا ترى في تلك التماثيل البديعة أخباراً متقطعة عن نصف قرن؟ وأن أكثر ما يسر النفس من تلك المذكرات المتخذة من الصلصال والرخام والشبه كما هو الحال في أجمل القصص المكتوبة - هو جمال أسلوبها الناصع، ورشاقة اليد التي دونتها وفيض تلك الشخصية الساحرة - الفرنسية لحما ودما - التي خلقتها، إن أودون هو سنت سيمون لكن تنقصه نزعاته الأرستقراطية. هو في ذكاء سنت سيمون ولكنه أسمى منه عاطفة. آه يا له من فنان مقدس!).
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(628/41)
صدى الحوادث
مؤتمر سان فرانسيسكو
للأستاذ علي الجندي
تجمعتُم من كل جنس وأمة ... ولون لنشر السلم، هل نشر السلم؟!
وهل رفع الحق الذليل جبينه ... وهل نحن بتنا لا يروعنا الظلم؟!
وإلا فما بال (الشآم) دماؤه ... تسيل، وأنتم عن مناحته صم!
ويطلب (ديجول) تراث (أُمية) ... وليس له في الشام خال ولا عم!
سمعنا كلاماً لذّ في السمع وقعه ... ورب لذيذ شاب لذته السم
أمانيّ كالأحلام زخرفها الكرى ... وقلَّ - على الأيام - أن يصدق الحلم
وحبر على القرطاس ليس بعاصم ... ضعيفاً، إذا همت به الغِير الدهم
أرى الدول الكبرى لها الغُنْم وحدها ... وقد عادت الصغرى على رأسها الغُرم
يخيل لي أن (الوفود) تفرقت ... ولم يندِملْ من طيِّب الكلِم الكلْم
إذا ساءت النيات كانت عهودكم ... (قصاصات أوراق) وللغالب الحكم
مواثيق، معناها يكذب لفظها ... فظاهرها برٌ، وباطنها إثم
وتأويلها عند القوى، فمن لنا ... بأن نضمن الإنصاف، والحكم الخصم
ذا حل منها الأقوياء نفوسهم ... تقيدنا الأخلاق، والشيم الشم
وفاء بدنيا - لا وفاء لأهلها - ... به شقيت في (شرقها) العُرب والعجم
هي الحال ما زالت على ما عهدته ... فويل لأقوام يغرهم الوهم
متى عفت الذؤبان عن لحم صيدها ... وقد أمكنتها - من مقاتلها - البهم
ألا كل شعب ضائع حقه سدى ... إذا لم يؤيد حقه (المدفع) الضخم(628/42)
الحنين إلى الوطن
للأستاذ حسن أحمد باكثير
يا بلادي! يا بلادي! يا فراديس البحار!
أي ذكرى منك طافت بي وقد ولى نهاري؟
فاستثارت لوعة حرى بقلبي المستطار
وحنيناً في حنايا الصدر مشبوب الأوار
واشتياقاً جارفاً يصدع أركان اصطباري
واستطارت زفرات كاللظى جد حرار
من فؤاد يتلوى من جواه المستثار
واستدرت من جفوني أدمعاً جد غزار
يا بلادي! يا حنان الشرق! قد طال انتظاري
يا للأشواق للقياك! ويا نار أدكاري!
أي وجد يتلظى في فؤادي؟ أي نار؟
كلما زار خيال منك مُغرىً بازدياري
أو بدا لي في ثنايا الأفق طيف منك ساري
طيف أحباب وخلان وأهل وديار
ورباً تفتر عن أزهارها أبهى افترار
وجنان باسقات الدوح غضات الثمار
وحقول قد كساها النبت أفواف النضار
ورياض يتوشَّحْنَ بأضواء النهار
يا بلادي! يا جنان الشرق! قد طال انتظاري
يا لأشواقي للقياك! ويا نار ادكاري!
أين من عيني جنات وأنهار جواري
وجبال بين وديان سحيقات القرار
وعيون في أندفاق وزروع في اخضرار(628/43)
وطيور في انطلاق وزهور في ازدهار
وعذارى السَّرو يرقصن خليعات العذار
ونخيل الجوز يحملن رواقيد العقار
والقمارى يساوقن أغاريد الهزاز
أين هن الآن مني؟ يا فراديس البحار!
يا بلادي! يا جنان الشرق! قد طال انتظاري
يا للأشواق للقياك! ويا نار ادكاري!(628/44)
البريد الأدبي
معجم الأدباء وهل هو لياقوت
سماه ياقوت في مقدمته إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ولكن أبن خلكان يسميه إرشاد الألباب إلى معرفة الأدباء، ويقول بأنه يقع في أربعة مجلدات كبار.
بقي من هذا الكتاب نسخة من جزئيه الأول والثاني رديئة الخط يرجع تاريخ نسخها إلى القرن السابع عشر حصل عليها من الهند الأرشيديكون بارنس، كبير الشمامسة في بومباي، وبعد موته اشتراها من ورثته المستر و. هـ. جي الوراق وهذا باعها إلى مكتبة بوريل في إكسفورد سنة 1882 فوضعها تحت رقم 723 وخطوطات بوريل.
قام بنشر هذين الجزأين المستشرق (دافيد صامويل مرجليوث) بمساعدة إبراهيم اليازجي وقسطاكي الحمصي وجرجي زيدان، فتم طبع الجزء الأول سنة 1907، والجزء الثاني سنة 1909 على نفقة تذكار جيب بمطبعة هندية بالقاهرة وهذان الجزءان يشتملان على تراجم مشاهير الأدباء من القرن الرابع بعد الهجرة إلى أيام المؤلف أثبت سيرهم على سياق حروف المعجم من حرف الألف إلى حرف الجيم.
هذا ما صح عندي من تأليف ياقوت؛ وأما باقي أجزاء الكتاب من الثالث حتى السابع التي نشرها مرجليوث فهي دخيلة على ياقوت لم يعمل فيها فكره وهذا ظاهر بين وأول حجة أستطيع أن أتمسك بها هي أن كتاب ياقوت أربعة مجلدات كما ذكر ابن خلكان في وفياته فإذا بطبعة مرجليوث تبلغ سبعة مجلدات، ولقد حرص من تمم الكتاب ونسبه إلى ياقوت أن ينقل من الكتب التي نقلت عن ياقوت ككتاب الوافي بالوفيات وفوات الوفيات وبغية الوعاة وغيرها.
ويسوءني بل ويسوء الأدب أن ينشر الكتاب وينسب إلى ياقوت ثم يعاد طبعه في القاهرة سنة 1938 في عشرين جزءاً دون أن يشار إلى أن معظم الكتاب دخيل على ياقوت.
ويجدر بي أن أشير هنا إلى أن ما وجد من كتاب ياقوت ينتهي في الصفحة 214 من الجزء السابع من طبعة سنة 1938 وهي آخر حرف الجيم.
ومن البديهي أن الواضع الذي يرغب في أن ينسب قصيدة إلى شاعر أو مقالة إلى كاتب يعمد إلى فهم روح ذاك الشاعر أو ذاك الكاتب باطلاعه على قصائده وكتاباته، فكيف بمن(628/45)
أراد أن ينسب تأليفاً أو يدخل مصنفاً.
نظر صاحبنا نظرة مقلوبة، وهذه النظرة كانت جميلة عواقبها لتفضح أمره وترجع الحق إلى نصابه. عمد إلى كتب التراجم وشغله النسخ فأعماه عن فهم روح ياقوت أو تتبع أخباره، عمد إلى فوات الوفيات وبغية الوعاة واليتيمة ونسي كتابه معجم البلدان، أو قل أمله تصفح هذا الكتاب الضخم فرغب عنه لزهده فيه، فكان هذا الكتاب خير برهان أزاح الستار عن الخمسة أجزاء الدخيلة.
1 - أما البراهين فكثيرة، ذكر ياقوت في معجم البلدان كثيراً من الكتاب والمؤلفين فقال بأنه ذكر تراجمهم في معجم الأدباء ومن جملتهم عين القضاة عبد الله بن محمد، وأبو بكر الأدفوي، وأسعد بن علي النحوي، وابنه محمد النساد، ولكنا إذا رجعنا إلى معجم الأدباء نراه خلواً من تراجم هؤلاء.
2 - جاء في أول نسخة خطية قديمة لكتاب الألفاظ الكتابية ترجمة مختصرة لمؤلف الكتاب عبد الرحمن الهمذاني نقلاً عن معجم الأدباء ونرى أن لا أثر في معجم الأدباء لهذه الترجمة
3 - وأبلغ برهان ساطع ومضحك في الوقت ذاته هو أن ياقوت ذكر في معجم البلدان ج4 ص 125 قصيدة لأبي العيناء في ديربا شهرا من رواية الشابشتي ولكنه أردفها بقوله: إن صح - أي شعر أبي العيناء - فهو عندي غريب لأن أبا العيناء قليل الشعر جداً لم يصح عندي له شيء من الشعر البتة، وفي معجم الأدباء نرى للأبي العيناء تسع قطع من الشعر، ولا يخفى أن ياقوتاً ألف محجم الأدباء قبل تأليفه معجم البلدان، وهذا تناقض لا يمكن أن يصدر عن مثل ياقوت.
4 - قال ياقوت في مقدمة معجم الأدباء أنه جمع فيه من غلب عليه النثر والتأليف وأما من غلب عليه الشعر ولم يشتهر بكتابة الكتب وتأليفها فقد ذكره في معجم الشعراء، وإننا لنرى خمسة الأجزاء الأخيرة كثيراً من الشعراء والشاعرات الذين لم نعرف عنهم بضع قطع وليس لهم في عالم النثر والتأليف ذكر، وهذا تناقض في الكتاب نفسه.
والآن أستطيع أن أقول للكاتب السيد محمد فهمي عبد اللطيف الذي ركن إلى رأيه المؤرخ ياقوت في كيفية ضبط لفظ لقب (المبرد) في الصفحة 916 من السنة الخامسة من سني هذه المجلة، أستطيع أن أقول له الآن إنه أجهد نفسه في غير طائل لأن الضبط الذي وجده(628/46)
في كتاب ياقوت لم يجر ياقوت فيه قلمه وإنما نقل إلى الكتاب حديثاً في جملة ما نقل إليه من كتاب بغية الوعاة للسيوطي.
(حلب)
آملة
جاء الإشكال من الإشكال
أشكل شطر ذاك البيت في (إرشاد الأريب) بهذه الصورة:
حالي بحمدِ اللهِ حالٌ جيِّدهْ
فجاء الإشكال من الشكل أو من الإشكال، وما كان لي أن يشكل علي. والحق مع الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد يوسف نجاتي في الذي قاله في الرسالة الغراء 626 في هذا الوقت
محمد أسعاف النشاشيبي
تحية إلى (الرسالة) وكتابها
أثلج منا القلوب، وأبهج النفوس، أن نرى (الرسالة) المجيدة في أعدادها الأخيرة تفسح صدرها كله لأبحاث قيمة تمت إلى مأساة سوريا الشقيقة، ومأساة لبنان من قبلها، حتى أن الرسالة كانت أوسع الصحف والمجلات المصرية طراً للدفاع عن حقوقها واستنكار اعتداءات فرنسا الشنيعة بين الآونة والأخرى على استقلالنا، على الرغم من أن هذه المجلة أدبية قبل كل شيء، ونحن لا ندخر وسعاً في الثناء على موقف الصحافة المصرية بالإجمال، اليومية منها والأسبوعية، لما تلقاه بلادنا من عطف وحب ودفاع عنها، فأحر بنا أن نخص (الرسالة الأدبية) بثنائنا وشكرنا وتحيتنا الخالصة أن تهتم لنا هذا الاهتمام البالغ، وتعنى بأنبائنا هذه العناية، فلقد كنا - والحق يقال - نتهافت على أعدادها الأخيرة لنرضي - قبل كل شيء - عاطفتنا الوطنية الثائرة؛ ولكن لم يكن ليغرب عن أذهاننا أن هذه المجلة العزيزة تمي إلى تحقيق هدف سام يخيل إلينا أن الأدب العربي قصر حتى الآن في السير إليه وأقصد به (الأدب القومي العربي). فالرسالة تشعرنا اليوم أنها تقصد إلى إيقاظ هذه النزعة القومية العليا في الأدب العربي، فتزيد إلى صفاته لوناً جديداً يميزه كل الميزة(628/47)
ويبرز خصائصه إلى حد بعيد، وبذلك تحقق هدفين في آن واحد: تشاركنا عواطفنا ووطنيتنا، وتساعد على خلق الروح القومية في الأدب العربي الحديث الذي يفتقر - ولا شك - لمثل هذه الروح. فشكراً لك أيتها (الرسالة)، وتحيتنا لكتابك الأفاضل
(بيروت)
سهيل إدريس(628/48)
[القصص
من أروع القصص الإنكليزي
مغامرات ممثل جوال
للكاتب الشاعر الإنكليزي كوند سمث
بقلم الأستاذ يوسف روشا
ولد أوليفر جولد سمث في 1728 وتوفى في 1774 وكان أحد
أعضاء (النادي الأدبي) الذي كان يرأسه الأديب الإنكليزي
الكبير الدكتور جونسون.
ولأوليفر جولد سمث أسلوب في الملكية يسيل رقة وعذوبة، وأن مؤلفاته على قلتها من أروع الأدب الإنجليزي
أنا شديد الكلف باللهو أني وجدته، وإن النكتة البارعة وإن ألقيت في ثوب خلق، فهي أبداً حبيبة إلى نفسي. ذهبت منذ بضعة أيام إلى متنزه (سانت جيمس) في الوقت الذي يتركه زائروه لتناول العشاء. ولم يكن هناك سوى أناس قلائل ممن كانت تبدو على ملامحهم آثار الفقر والمسغبة، فخططت نفسي على أحد المقاعد، بينما جلس على الطرف الآخر من المعقد رجل في ثياب رثة جداً
ظللنا نهمهم ونغمغم ونسعل كما هي العادة في مثل هذه الحالة، وأخيراً اجترأت على الكلام مخاطباً إياه: (معذرة يا صاحبي، ولكن يخيل لي أن رأيتك من قبل. إن ملامح وجهك ليست غريبة عني). فأجابني قائلا: (أصبت يا أخي كبد الحقيقة. إن وجهي لا يكاد يجهله أحد، كما يزعم أصدقائي، وإن شهرتي في جميع أنحاء إنكلترا لا تقل عن شهرة الجمال والتماسيح. ولا يخفى عليك يا سيدي بأني كنت طيلة الست عشرة سنة الأخيرة، أقوم بدور البهلول في فرقة تمثيلية، ولقد نشب بيني وبين أستاذي خلاف افترقنا على أثره فراح هو ليبيع أشياءه في شارع (روزماري) وأنا جئت لأموت جوعاً في متنزه (سانت جيمس)
(يؤسفني جداً يا سيدي أنك تعاني كل هذا الضيق، وأنت على ما أنت عليه من نباهة الذكر(628/49)
وذيوع الصيت). فرد علي مواصلا الحديث: (نباهتي في خدمتك يا مولاي، ولكن على الرغم مما أنا عليه من إملاق، فإن ثمة قليلا من الناس هم أمرح مني نفساً، فلو قدر أن يكون لي عشرون ألفاً من الدنانير لكنت من أسعد الناس. وأنا الآن، والحمد للمقادير، لا أملك فلساً واحداً، ومع هذا، فإني لا أزال سعيداً، ذلك لأني لا أقيم وزناً للمال، فهو عندي وسيلة لا غاية، فإذا ما حرمته لا أجد غضاضة من قبول دعوة الكرماء إياي للطعام. والآن ما رأيك يا سيدي في لحم حنيذ مع قدح من الشراب؟ فإن أنت أطعمتني اليوم، فلسوف أطعمك يوماً من الأيام عندما أجدك في المتنزه وأنت أشد ما تكون رغبة في الطعام، وليس لديك من المال ما تدفع به ثمن العشاء)
ولما كنت لا أبخل أبداً بدريهمات أنفقها في سبيل رفيق طروب قصدنا تواً حانة مجاورة، ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى كان الطعام والشراب مصفوفين على المائدة أمامنا. وإنه لمن العسير جداً أن أصف مبلغ طربه وانشراحه لرؤية الطعام والشراب فقال: (أنا استمرئ يا سيدي هذا العشاء لأسباب ثلاثة: أولا: لأني أحب لحم البقر؛ وثانياً: لأني جوعان؛ وثالثاً: لأني أحصل عليه بلا ثمن؛ إذ ليس هناك أشهى من اللحم الذي لا ندفع ثمنه)
لم ينته من كلامه هذا حتى أقبل على الطعام والشراب بنهم فائق، فلما انتهى العشاء أشار إلى أن اللحم كان نيئاً، ثم استطرد وقال: (ومع هذا فقد وجدته لذيذاً سائغاً، ما أفسح حياة الفقير وما أعظم شهيته! نحن معشر الشحاذين لقطاء الطبيعة نهيم في كل سرح، ونأخذ الحياة على علاتها، فإن هي أقبلت علينا فرحنا بها واغتبطنا، وإن هي أدبرت عنا لم نشتك ولم نتذمر. أما الأغنياء، فالطبيعة تعاملهم كما تعامل الربة أولاد زوجها، فهم أبداً يرمون بها ساخطون عليها، أعطهم قطعة من غريض اللحم، فإذا هي عندهم صلبة عسيرة الهضم، أمزجها بالتوابل، حتى التوابل لا تستطيع أن تشحذ شهيتهم، على حين أن الطبيعة شديدة الحدب على الشحاذين ترعاهم بعنايتها وتكلؤهم برحمتها. إن الخمر المعتقة لأحلى مذاقاً من الشمبانيا. . . السرور. . . السرور. . . تلك هي فلسفتي في الحياة، وهي قطعة من لحمي ودمي، فإن فاض النهر وغرقت نصف أراضي (كورنول) ألفيتني مطمئن النفس مرتاح البال، إذ ليس لي أملاك هناك، وإن ساءت أحوال السوق وتدهورت الأسعار. . . نمت(628/50)
ملء جفوني، فما أنا ممن تهمهم هذه الأمور، إذ لست يهودياً). ولقد أغراني مرحه وخفة روحه، على الرغم من فقره المدقع، أن أعرف شيئاً من حياته؛ فقلت ملتمساً منه تلبية طلبي فأجاب: (بكل سرور يا مولاي، ولكن على شريطة أن نشرب قليلا لندفع عن أعيننا النعاس. لنشرب قدحا آخر قبل أن يهجم الكرى على أجفاننا. . . آه. . ما أجمل منظر القدح وهو ملآن!
(يجب أن تعلم إذن أني أنحدر من أرومة طيبة وأن أسلافي قد أحدثوا بعض الضجة في العالم، ذلك لأن أمي كانت تبيع (المحار) وأن أبي كان طبالاً. ولقد قيل لي إنه قد كان في عائلتي أيضاً بعض البواقين. فهل تراني بعد هذا مبالغاً إذا قلت إن قليلا من الأشراف يضاهونني في الحسب والنسب؟ ولما كنت الابن الوحيد لوالدي فقد أرادني، على أن أكون طبالاً مثله، وعلى الرغم مما كان يبذله معي الوقت والأناة، لتعليمي الأناشيد العسكرية، لم أتقدم خطوة واحدة، ذلك لأني لم أكن ميالا إلى الموسيقى، فانخرطت في الجيش وأنا في الخامسة عشرة من عمري. ولم ينقض يوم واحد حتى تبين لي أن كراهيتي لحمل البندقية لم تكن لتقل عن كراهيتي لدق الطبل، ذلك لأن الطبيعة قد أعدتني لأكون سيدا لا مسود. إن وجودي في الجيش يحتم علي إطاعة أوامر رئيسي التي يفرضها علي، وليست أوامره إلا ظلا لأهوائه ورغباته، وإنه لمن الأجدى على الشخص أن يطيع رغباته لا رغبات سواه.
(لذلك لم يمض وقت طويل حتى أصبحت ضيقاً بحياة الجندية شديد المقت لها فعولت على الاستقالة، ولكن الرئيس رفض استقالتي، لأني كنت طويل القامة مفتول العضل، فاسودت الدنيا في عيني ولم يبق أمامي إلا الاستنجاد بوالدي فبعثت إليه برسالة، كلها شكوى واستعطاف، طلبت فيها منه أن يجمع المبلغ الكافي لإخراجي من الجندية ولكن الرجل الطيب القلب كان شديد الولع بالخمر، كما كنت أنا حينئذ، (في خدمتك يا مولاي) وأن الذين شأنهم لا ينتظر منهم أن يدفعوا رسم التسريح من الجندية - وقصارى الحديث، لم يرد والدي على رسالتي البتة، ما العمل إذاً؟ قلت لنفسي: لما كنت لا أملك المال الكافي لشراء حريتي فما علي إلا أن ألتمس وسيلة أخرى وهي الهرب، وفعلا هربت.
وهكذا تخلصت من الجندية وبلائها فبعت ثيابي العسكرية واشتريت أسوأ منها وسلكت ما أمكن سبلا غير مطروقة. ففي أمسية يوم من الأيام، بينما كنت أدخل إحدى القرى، إذ(628/51)
أبصرت رجلا - علمت فيما بعد إنه قسيس القرية - قد وقع عن فرسه وغاص في الوحل. فتقدمت لمساعدته وانتشلته بمشقة فشكرني على صنيعي، إلا أني لحقته إلى داره إذ كنت أحب دائماً أن يشكرني الناس عند أبواب دورهم، فألقى على القسيس مائة سؤال وسؤال: أبن من أكون؟ ومن أين جئت؟ وهل أكون أميناً؟ فأجبته كما يحب مؤكداً له بأني لم أذق الخمر في حياتي قط (لي الشرف يا مولاي أن أشرب نخب صحتك)، وبأني من أتقى خلق الله نفساً وأرجحهم عقلا. وقصارى الكلام، لقد كان بحاجة إلى خادم فاستخدمني ولكني لم أعش معه إلا شهرين، ذلك لأنه لم يكن يحب أحدنا الآخر. فقد كنت أكولا وهو لم يكن يطعمني إلا ما يسد الرمق. وقد كنت مغرماً بالجواري الرعابيب على حين أن خادمته العجوز كانت شرسة الطباع قبيحة الصورة. ولقد تآمرا فيما بينهما على قتلي جوعا فعقدت العزم على أن أحول دون اقترافهما جريمة القتل. كنت أسرق البيض حال وضعه، وكنت أفرغ في جوفي ما يتبقى في قناني الشراب التي تقع في يدي، وكان كل ما أصادفه في طريقي من الأكل لابد أن يختفي في لمح البصر. وقصارى الحديث لقد رأيا أن لا فائدة من بقائي ففصلت صباح يوم من الخدمة ودفع لي ثلاثة شلنات وستة بنسات لقاء أجور شهرين كاملين.
(وبينما القس يعد الدراهم كنت أتهيأ للرحيل. كانت ثمة دجاجتان تبيضان فدخلت عليهما كالعادة وأخذت البيضتين. ولقد عز علي أن أفرق الأم وولدها فأخذت الدجاجتين أيضاً ووضعت الكل في حقيبتي وقفلت راجعاً لتسلم أجوري. فلما أزف الرحيل وقفت، والحقيبة على ظهري والعصا في يدي، أودع الشيخ والعبرات تنهمر من عيني. لم أبتعد عن الدار إلا خطوات حتى سمعت صوتاً من ورائي يصيح (اقبضوا على اللص) ولكن الصوت زاد في سرعتي فانطلقت كالسهم، وإن كنت أعلم علم اليقين أن الصوت لم يكن موجهاً ضدي. ولكن مهلا. . . يخيل لي أني قضيت ذينك الشهرين بلا شراب. هات يا صاح، فإن الأيام عصيبة وليكن هذا الذي أحتسيه سماً في جوفي إن أنا قضيت شهرين آخرين من حياتي في ورع مصطنع وزهد سخيف.
(لم أترك خدمة القس حتى أخذت في التطواف، وبعد أيام من تجوالي عثرت على جوقة من الممثلين المتجولين فما رأيتهم حتى هفا لهم قلبي، ذلك لأن حبي للتشرد والمتشردين(628/52)
طبيعي لا تكلف فيه. كانوا منهمكين في ترتيب حقائبهم التي انقلبت في طريق ضيق فأخذوني خادماً لهم. كانت الحياة مع هؤلاء جنة حقا فهم لا ينفكون يغنون ويأكلون ويقصفون ويطوفون في آن واحد. وحياة الأنبياء ما كنت أحسبني أعيش قبل ذاك، فقد أصبحت من أمرح الناس طراً؛ وكنت دائم الضحك لسبب أو لغير سبب. ولقد أحبوني كما أحببتهم وكان لي، كما ترى، شأن كبير ولكني على فقري، لم أكن معتدلا في حياتي.
(إن حياة التشرد كما أسلفت أحب إلي من كل شيء في العالم. فاليوم حر وغدا قر، واليوم عسر وغدا يسر. آكل متى وسعني الحصول على الطعام؛ واشرب (القدح فارغ) متى وجدت الخمر إزائي. لقد وصلنا (تنتردن) ذلك المساء فاستأجرنا غرفة واسعة حيث عزمنا على إخراج رواية (روميو وجولييت) فقام بدور (روميو) أحد الممثلين من مرسح (دروري لين) وقامت بدور (جوليت) سيدة لم يسبق لها الظهور على المرسح، بينما أخذت أنا على عاتقي إطفاء الشموع. كان التمثيل بالنسبة لنا، رائعاً على الرغم مما كان ينقصنا من وسائل، فإن الثوب الذي كان يرتديه (روميو) كنا نقلبه على بطانته الزرقاء فيصلح لباساً لصديقه (مركوتيو) وأن قطعة من (الكرب) كبيرة كانت تكفي في آن واحد فستاناً (لجوليت) وغطاء للنعش. ولم يكن لدينا ناقوس فاستعضنا عنه بهاون استعرناه من صيدلية مجاورة ثم جمعنا عائلة صاحب الدار فدثرناهم بملاءة بيضاء لإكمال الموكب. وقصارى القول، لم يكن ثمة سوى ثلاثة ممثلين نستطيع أن نقول بأنهم كانوا يرتدون ألبسة لا غبار عليها وهم الممرضة والصيدلي الجوعان وأنا. كان التمثيل، كما قلت، رائعاً؛ ولقد هتف لنا الجمهور طويلا، ولا عجب، فإن لسكان (تنتردن) ذوقا.
فإذا أراد الممثل الجوال لنفسه النجاح فما عليه - على حد تعبيرنا - إلا أن يبالغ في محاكاة الشخصية التي يقوم بتمثيلها. ذلك لأن مراعاة الدقة في الكلام والحركة ومحاولة إبراز الشخصية على صورتها الطبيعية لا يسمى تمثيلا ولا هو مما يأتي الناس لمشاهدته. أن الحوار الطبيعي الذي لا تكلف فيه هو كالسلاف الحلو المذاق ينحدر إلى الحلق بسهولة دون أن يترك وراءه طعماً، على حين أن الإمعان في المغالاة والمبالغة كالخل يثير الإحساس ويشحذ الذوق ولا يشعر به إلا شاربه. وعليه فإن رمت إرضاء الناس وجب عليك أن تصرخ وتتلوى وتتنطع بكلامك وتضرب جيوبك وتظهر أمام النظارة كأنك تعاني(628/53)
آلاماً مبرحة؛ فإن أنت عملت كل هذا فزت باستحسان الناس وأصبحت ممثلا يشار إليك بالبنان.
(ولما كان التوفيق حليفنا كان من الطبيعي أن أعزو قسما من النجاح لنفسي. لقد أطفأت الشموع؛ ودعني أقول لك إنه لولاي لفقدت القطعة نصف رونقها.
(ظللنا نمثل على هذه الصورة أسبوعين كاملين كانت الدار في أثنائها تكتظ بالنظارة. وقبل الرحيل بيوم واحد أعلنا على لملأ بأنا سنختم موسمنا بأعظم رواياتنا التي سنبذل في سبيل إخراجها كل ما لدينا من جهد ومال. ولقد كنا نعلق آمال جساماً فضاعفنا الأجرة. وبينا نحن في نشوة الأمل غارقون إذا بكبير ممثلينا يصاب بحمى صالب؛ فذعرنا وشق ذلك على جماعتنا الصغيرة فقررنا الذهاب إليه جميعنا لتوبيخه وزجره لمرضه في وقت غير مناسب كهذا، وخاصة لابتلائه بمرض قد يحتاج لمعالجته مالا وفراً. فانتهزت أنا هذه الفرصة وعرضت نفسي لأحل محله فقبلوني، فجلست تواً، والدور في يدي والكأس أمامي، (نخب صحتك مولاي) أدرس الشخصية التي سأؤدي الامتحان عنها غداً وأقوم بتمثيلها بعد ذلك بقليل.
(ولقد وجدت أن ذاكرتي تسعفني كثيراً وقت الشراب إذ تعلمت دوري بسرعة مدهشة فطلقت دور (إطفاء الشموع) منذ ذلك الحين لأن الطبيعة أعدتني لوظيفة أسمى من هذه وأشرف، ولقد قطعت على نفسي عهداً ألا أخيب ظنها بي.
(فلما كان الغد اجتمعنا لإجراء (البروفا) فأخبرت زملائي، وقد كانوا أساتذتي بالأمس، عن التغيير العجيب الذي طرأ علي وقلت: ليطمئن المريض في فراشه ولا يشقين نفسه في أمر الشفاء فإني سأقوم بدوره أحسن قيام، وسيدهش الناس من براعتي ونبوغي وليمت إن شاء فإني أعده بأنه سوف لن يفتقد.
(ابتدأنا بالبروفا، فرحت أتبختر أمامهم وألغط بكلام غير مفهوم فيعج المكان بالتصفيق والاستحسان وسمعت، أو يخيل لي أني سمعت صوتاً يقول: (ها قد بزغ نجم متألق في سماء التمثيل) فلم يعد الكون يسعني فقررت بيني وبين نفسي على أني لما كنت السبب في استدرار المال على الجمعية فيجب أن يكون لي في الربح نصيب، فأنشأت أخاطب الجماعة قائلا: (أيها السادة، إن الذي سأقوله لكم ليس أمرا أريد فرضه عليكم كلا. فلست(628/54)
والحمد لله ناكر للجميل إلى هذا الحد. ولكن لما كنتم قد تفضلتم علي بنشر اسمي في الإعلانات، وتلك منه لن أنساها ما حييت، فلا يسعكم والحالة هذه الاستغناء عني، ولذلك فإني أرجو أن تدفعوا لي جعلا أسوة بكم، وإلا عدت إلى دوري القديم وهو (إطفاء الشموع). لقد كان هذا الاقتراح شديد الوطأة عليهم، ولكن لابد مما ليس منه بد، فأذعنوا وأنوفهم في الرغام. فلما حان الوقت ولجت المرسح في ثياب الملك (بجازات) وحاجباي المقطبان قد شد طرفاهما بجورب دس في عمامتي ويداي المغلولتان تلوحان بالسلاسل. لكأن الطبيعة قد اختارتني لهذا الدور فقد كنت مديد القامة جهوري الصوت، وإن مجرد دخولي المرسح أثار عاصفة من الهتاف والتصفيق، فدرت بنظري على الجمهور مبتسما وانحنيت أمامهم انحناءة كاد فيها رأسي يلمس الأرض، فتلك عادة شائعة بيننا. ولما كان الدور عاطفياً للغاية، فقد أنعشت نفسي بثلاثة كؤوس ملآى (الكأس موشكة على النفاد) من الكونياك. لله ما أروع الدور الذي قمت به! إن (تامرلين) يكاد يبدو ضئيلا بجانبي، وهو وإن كان صوته يرتفع أيضاً في بعض الأحيان، إلا أن صوتي كان يعلو عليه، كان لي ثمة مواقف كثيرة مجيدة، منها أني كنت أطوي يدي هكذا فوق سرتي، وهي عادة مستحبة في (دروري لين) وإذ أنا رحت في تعداد مزاياي لنفذت الكأس قبل أن أنتهي من سردها. وقصارى الكلام، إن تمثيلي كان أعجوبة الأعاجيب مما جعل أعيان البلد من الرجال والنساء يتهافتون على بعد انتهاء التمثيل لتهنئتي على نجاحي الباهر، فمنهم من مدح صوتي، ومنهم من أثنى على قامتي، ولقد سمعت امرأة العمدة تقول: (أقسم لكم بشرفي إنه سيصبح من أقدر الممثلين في أوربا، أقول ذلك عن علم ودراية، وإن لي في هذا الفن لذوقاً).
(إن المديح الذي يغمرنا به الناس في أول عهدنا بالتمثيل شيء طبيعي ومقبول ولا يقصد منه سوى التشجيع، ونحن نتقبله شاكرين، ونعده فضلا منهم علينا، أما إذا استمر المديح وكثر فنحن والحالة هذه نعتبره ديناً لنا عليهم نتقاضاه منهم بمقدرتنا ونبوغنا، وعليه عوضاً عن أن أشكرهم كنت في داخلي أثني على نفسي. ولقد طلب إلينا الجمهور إعادة القطعة للمرة الثانية فأجبناه إلى طلبه، وكان نصيبي من الثناء أكثر من ذي قبل
وأخيراً تركنا المدينة لنحضر سباقاً للخيل، وسوف لا أذكر (تنتردن) إلا انهمرت من مآقي(628/55)
دموع الامتنان والاحترام، ذلك أن السيدات والسادة هناك كانوا على جانب عظيم من الدراية بالتمثيل والممثلين. هات لنشرب، نشدتك الله نخب صحتهم؛ قلت تركنا المدينة، ولقد كان ثمة فرق عظيم بين دخولي إليها وخروجي منها، دخلت المدينة ممثلا حقيرا وخرجت منها بطلا كبيرا، تلك هي الحياة، تقبل يوماً وتدبر يوماً، وإن شئت لتوسعت في الموضوع ولذكرت لك شيئاً كثيراً عن تصاريف الزمان وتقلبات الأيام، ولكن ما لنا ولهذا، فإن إثارته، إثارة لكامن شجونا.
(انتهى السباق قبل أن نصل المدينة الثانية التي خذلتنا جميعاً، ولكن ليس من السهل قهرنا، ذلك أننا عزمنا على أن نجرب حظنا عسى أن نظفر منها ببعض الذي ظفرنا به في المدينة الأولى. وقمت أنا بالأدوار الرئيسية وارتفعت فيها إلى الذروة كالعادة. وإني لا أزال أعتقد لو أن ملكاتي أعطيت ما تستحقه من العناية والرعاية لأصبحت اليوم من أبرز الممثلين في أوربا، إلا أن عاصفة هوجاء اقتلعتني من مهدي وردتني إلى مستوى الغوغاء، كنت أمثل دور السير (هاردي ولدير) فأدهشت السيدات ببراعتي وأطربتهن. فإن أنا أخرجت علبة النشق ضجت القاعة بالضحك، وإن أنا لوحت بهراوتي في السماء سرت في النظارة قشعريرة الخوف والفزع.
(وكان ثمة سيدة سبق لها أن تثقفت في لندن لمدة تسعة أشهر فأخذت تزعم لنفسها الإلمام بالمسائل الفنية مما جعلها قبلة الأنظار في أي محفل حلت. ولقد أخبروها عني وعن موهبتي ولكنها رفضت، أول الأمر، الذهاب لمشاهدة تمثيلي، زاعمة إنها لا تتوقع من ممثل جوال ضئيل الشأن مثلي أن يجيد التمثيل. ثم مالت بالحديث إلى الممثل الذائع الصيت (كاريك) فأطرته وعددت مزاياه وأدهشت السيدات بنبراتها العذبة وصوتها الرصين. ولقد أقنعوها آخر الأمر بمشاهدتي، وترامى إلي سراً أن جهبذة من أبرز جهابذة العصر في شئون المرسح ستحضر الحفلة المقبلة، ولكن ذلك لم يخفني فظهرت في ثياب السير (هاري) واضعاً يداً في جيب البنطلون والأخرى على صدري، كما هي العادة في (دروري لين). إلا أن النظارة، عوضاً عن أن ينظروا إلي، اتجهوا بأنظارهم إلى السيدة التي قضت تسعة أشهر في لندن، ليتلوا حكمها الذي إما سيرفعني إلى مصاف النابغين من الممثلين أو سيضعني إلى الحضيض. أخرجت علبتي، فأخذت منها نشقة، ولكن السيدة لم تحرك ساكناً(628/56)
وكذلك النظارة. فأخذت عندئذ هراوتي وأهويت بها على ظهر العمدة المهرب حتى تكسرت، فما تململ أحد، كأنما الوجوم قد نشر أطنابه على الحاضرين فدمدمت السيدة وغمغمت وهزت كتفيها استخفافاً، فحاولت بضحكي أن أفوز منهم ولو بابتسامة ولكن وجوههم الباسرة ازدادت إغراقاً في العبوس، فدارت بي الدنيا وأصبحت حركاتي مصطنعة وضحكاتي (هستيرية). ومهما تكلفت إذ ذاك من المرح وخفة الروح، فإن عيني كانتا تفيضان بما كان يجثم على صدري من الهم والغم. وقصارى الكلام. لقد حضرت السيدة وفي عزمها إيذائي وقد فعلت، سامحها الله، وهكذا التفت شهرتي ونفذ شرابي بينما أنا لا أزال، كما ترى، حياً أرزق.
يوسف روشا(628/57)
العدد 629 - بتاريخ: 23 - 07 - 1945(/)
الصوت والشخصية
للأستاذ عباس محمود العقاد
بحث أصحاب الموسيقى في الصوت الإنساني من نواحيه الفنية فقالوا فيه كل ما يعينهم أن يقولوه، ولكني لا أظنهم وفوه بحثاً من ناحية فيه جديرة بالدراسة الطويلة، لأنها تقضي بنا إلى استطلاع أسرار النفس وتركيب الشخصية الإنسانية، ونعني بها ناحية العلاقة بين الأصوات والشخصيات
تلقى إنساناً في الطريق فتتوقع أن تسمع له صوتاً معيناً يناسب ما رأيته من ملامحه الشخصية، ثم يتكلم فتسمع منه ذلك الصوت الذي توقعته، أو تسمع صوتاً لا يلفتك إلى غرابة في التوفيق بين ما رأيت وما سمعت
وتلقى إنساناً آخر فيتكلم، فإذا أنت قد فوجئت بصوت لا تنتظره، ولا يبدو لك أنه يناسب تلك الشخصية في جملة مظاهرها، ولا يرجع الأمر إلى القوة والضعف أو الارتفاع والهبوط، فقد يكون الصوت قوياً كما توقعته، ولكنه من معدن غير معدن الشخصية التي وزنتها بالعين والبديهة والخيال
برزت هذه المسألة عندي بروزاً واضحاً بعد انتشار الصور المتحركة الناطقة وظهور الساسة والعظماء فيها متحدثين أو خطباء أو منشدين، ولم يلفتني الأمر من جانب الممثلين والممثلات، لأن الذين يختارونهم يعتمدون اختيارهم وفاقاً لوقع الصوت والمنظر في نفوس المشاهدين، وإنما لفتني من جانب الوزراء والقواد والرؤساء، لأن أصواتهم بعيدة من توفيقات ذلك الاختيار المقصود
فمن الأصوات التي قرأت عن أصحابها ورأيت صوراً لهم، وعرفت أخباراً عنهم، ثم سمعتهم فلم أشعر بالغرابة فيها، سمعت صوت فرنكلن روزفلت رئيس الولايات المتحدة السابق وهو يخطب في البرلمان ويتحدث إلى الصحفيين، فلم يكن في حديثه ولا في خطابته يخالف ما توقعت من صفة الصوت ولا من نبرته وإيقاعه، بل خيل إلي أن صوت روزفلت لا يمكن أن يكون إلا على هذه الصفة وهذا الإيقاع
أما الأصوات التي استغربت أن تكون لأصحابها، فمنها صوت شرشل وصوت مصطفى كمال، وليس ذلك لضعف فيهما أو مناقضة لصفات الرجلين الرفيعة، ولكن لأنها من معدن(629/1)
لا يطابق ما يرتسم في نفسك من صورة الشخصية كما تتخيلها وأنت تسمعها. ويزيد دلالة هذه الملاحظة أن الصوت ليس هو الشيء الوحيد الذي تستغربه من شخصية بطل الترك أو بطل الإنجليز؛ فإن عزيمة شرشل الحديدية تتراءى لك كأنها في قناع وراء ملامحه الممزوجة بملامح الطفولة والوداعة، وتتراءى لك طبائع مصطفى كمال الغلابة وكأنها تتردد في اتخاذ تلك المعارف الوجهية التي تطل منها في بعض حالاته. فإذا أردنا أن نقول أن العلاقة بين الصوت والشخصية لا تختلف عرضاً واتفاقاً وجدنا الشواهد على ذلك ماثلة في أحوال الاتفاق وأحوال الاختلاف بين الأصوات والشخصيات
ومن المحقق أن قوة الصوت أو ضعفه لا ترتبطان بالحنجرة وحدها، أو بأجهزة الصوت المحلية في مجاري التنفس بين الحلق والرئتين. فإن هذه الأجهزة المحلية قد تكون على ضعف ظاهر من الوجهة الصحية، ولكنها تعطيك صوتاً قوياً يروع السامع وينقل عن (شخصية) صورة تنم على القوة والتأثير. ولا شك أن مئات بين النساء اصح حنجرة وصدراً من مئات بين الرجال. ولكنك تسمع هؤلاء الرجال وأولئك النساء، فلا تخطئ الفارق بين قوة الأصوات هنا وقوة الأصوات هناك. ولعلك لا تخطئ الاستدلال على القوة من صوت المرأة نفسه إذا كانت على نصيب من قوة الشخصية وصدق العزيمة. مما يوحي إلينا أن الرخامة لا تحرم الصوت مزية التعبير عن الصفات الشخصية، حيث تغلب الرخامة على أصوات النساء
وعندك أناس تنطمس فيهم معالم الشخصية، فلا تستغرب لهم صوتاً من الأصوات كائناً ما كان، ولكنك لا تحس أمامك شخصية واضحة المعالم إلا قرنتها بصوت تتوقعه واستغربت أن تسمع لها صوتاً آخر غير الصوت الذي فيما بدر إليك. ودع عنك دلالة الصوت على التهذيب والتربية، فإن هذا قد يرتبط بأداء المعاني وانتقاء الكلمات وصقل المخارج والعبارات، ولكنك إذا أغضبت النظر عن هذه العوارض التي تكسب بالتعليم بقيت للصوت صفة أصيلة تنم على العقل ولا يسهل أن تختلط فيها أصوات العارفين وأصوات الجهلاء، أو أصوات العقلاء وأصوات المجانين
والمسألة فيما أراه قابلة للتعميم في أوسع نطاق، فإن ارتباط الصوت بالخصائص البدنية والخلقية يعم سائر الأحياء ولا ينحصر في الإنسان وحده، بل ربما تجاوزنا الأحياء إلى كل(629/2)
كائن من الكائنات له صوت معروف ومعهود
ما قولك مثلا إذا سمعت زئير الأسد من لحصان؟ أو سمعت مواء الهرة من الخروف؟ أو سمعت عواء الذئب من الثعبان؟
ليس من اللازم أن يكون صوت الأسد مطابقاً للزئير الذي عرفناه وعهدناه، غير أننا إذا سمعنا الزئير من الحصان وسمعنا الصهيل من الأسد شعرنا بالغرابة ولا مراء، وشعرنا بين الصوتين والحيوانين باختلاف يحتاج إلى تصحيح، ويبدو لنا أننا نشعر بهذا الاستغراب وإن سمعنا الصوتين لأول مرة بمعزل عن أثر العادة وطول التمييز بين مصدر الزئير ومصدر الصهيل
ولماذا مثلا لم توهب ملكة التغريد إلا للمخلوقات التي تطير في الهواء؟ ولماذا كانت هذه الملكة في تلك المخلوقات وقفاً على الطيور الصغيرة الوديعة دون الطيور الكبيرة الكاسرة؟ ولماذا هذا الاختلاف بين النسور والبلابل، أو بين الصقور والقماري، أو بين العقبان والعصافير؟
إن الخلائق التي تمشي على الأرض تعبر عن خوالجها ببعض الأصوات المعهودة، ولكنها لا تحسب من قبيل التغريد والغناء، وكذلك النسور والصقور والعقبان تدلك بأصواتها على رضاها وغضبها وعلى مناجاتها وندائها، وتقصر عن تمثيل تلك الأصوات في أنغام كأنغام الطيور التي تحسن الصفير والهديل. فهناك ارتباط وثيق إذن بين تكوين الجسم كله وتكوين الخلق في صميمه، وبين طبيعة الصوت وقدرته على ترجمة (الشخصية) لمن يصغي إليه. وليس اتفاقاً ولا خلواً من المعنى أن يغني البلبل والعصفور، ولا يغني الأسد والثعلب، وإن يكون التغريد على العموم مرتبطاً بالقدرة على الطيران، فإن الصون هنا ترجمان صادق يلخص لنا كثيراً من الخصائص المتفرقة التي تتغلغل في طبيعة البيئة وطبيعة البنية وطبيعة الشخصية في أوسع حدودها، وتلهمنا المعاني التي يمكن أن نستخرجها من تحقيق العلاقة بين أصوات الناس ومعالم الشخصيات، فتفتح لنا فتحاً موفقاً في عالم النفس وأسرار الأخلاق، وتنشئ لنا فراسة جديدة تتم على السريرة بالسماع
ومن الأصول التي يعتمد عليها البحث في هذا الموضوع أننا كما قدمنا نربط بين الصوت والشخصية ونتوقع من كل شخصية معروفة صوتاً يناسبها ويعبر عنها، وإن اتفاق(629/3)
الصوتين بين الآدميين أندر من اتفاق الوجهين، وهو خلاف المشاهد بين الأحياء الدنيا التي تكاد تتشابه في أصواتها ولا يشذ منها واحد في العشرات أو المئات، ومعنى ذلك أن المسألة أقرب إلى العلاقة النفسية أو العلاقة المعنوية منها إلى العلاقة الجسدية، لأن الاختلاف الجسدي قوة وضعفا وصحة ومرضاً، موجود بين الأحياء الأخرى، فلو كان هو المرجع في اختلاف الصوت لكان التفاوت في الصهيل بين مئات الخيل كالتفاوت في نغمة الصوت وإيقاعه بين مئات الآدميين، وإنما يقع هذا التفاوت البعيد بين الشخصيات الآدمية من جانب الفوارق العقلية والنفسية وفوارق الملكات والأخلاق، فإذا استطاع باحث من علماء الصوت وعلماء النفس معاً أن يعقد الصلة بين مقومات الشخصية ومقومات الصوت الإنساني، فقد ترجم الإنسان للآذان، فضلا عن ترجمته أو تفسيره للبدائه والأذهان
وهذه دائرة من دوائر البحث الفني أو العلمي تتسع لمن يشاء من المعنيين بالأصوات أو بالحقائق النفسية، فليس منا إلا من يقابل أناساً يسمع أصواتهم ويستغرب بعضها أو يمر به بعضها الآخر مرور المألوفات التي لا غرابة فيها، فإذا شغل نفسه قليلا بتفسير أسباب الموافقة والمخالفة بين الشخصيات وأصواتها، فلا شك أنه مهتد إلى شئ يفيده في هذا الباب، وإذا تجمعت هذه الملاحظات وحسن التعقيب عليها والاستخلاص منها، فقد تتقرر بها بعض القواعد التي تقيم لنا علماً صحيحاً عن العلاقة بين الصوت الإنساني والشخصية الإنسانية، وييسر لنا البحث في هذا الصدد أننا نعيش في عصر المذياع والصور المتحركة، ونستطيع أن نمتحن الفراسة بسماع الصوت دون رؤية الشخصية أو بتغيير الأصوات والشخصيات بالحيل الفنية المعروفة، وليس في المباحث النفسي أو الموسيقية ما هو أحق بالعناية من هذا المبحث الطريف
عباس محمود العقاد(629/4)
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 9 -
* ج7ص8:
لازال شكري لهما مواصلا ... دهريّ أو يعتاقني صَرف الفنا
قلت: البيت من (المقصورة) المشهورة، وقد حرص ابن دريد على أن تشمل جميع المقصور. و (الفنا) هنا - وهو من الممدود (الفناء) لا من المقصور - إنما هو (المنى) أي القدر كما في الصحاح. وفي شرح المقصورة (طبعة الجوائب): (المنى بفتح الميم المقدر، قال:
ولا تقولن لشيء سوف أفعله ... حتى تَبَيْنَ ما يَمني لك الماني
أي حتى تعرف ما يقدر لك المقدر، وفي هذه الطبعة (ممدودة) منسوبة إلى ابن دريد مطلعها:
لا تركنن إلى الهوى ... وأحذر مفارقة الهواء
ومنها:
وأرى الغني يدعو الغني إلى الملاهي والغناء
* ج16 ص311:
في موقف يسلب الأرواح سالبها ... حيث المواضي قواض والقنا سَلَبُ
قلت: جاءت (سلبُ) بفتح السين واللام وهي (سُلب) بضم الأول والثاني جمع سلوب أي مستلبة للنفس كما في (المخصص) وبيت القطامي:
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قنا سلباً وأفراساً حسانا
يروي على وجهين: قال التبريزي في (شرح الحماسة): فالسلب بكسر السين الطويل صفة الواحد، وقد يوصف الجمع بصفة الواحد إذا كان على بنائه، وسُلُب جمع سلوب أي تسلب الأنفس.(629/5)
قلت: وهذا ما قصده (القاسم بن علي الواسطي) في بيته. والسلب بالتحريك ما يسلب أي الشيء الذي يسلبه الإنسان من الغنائم ويتولى عليه كما في التاج. قال أبو تمام في البائية العبقرية:
لم ينفق الذهب المربى بكثرته ... على الحصى وبه فقر إلى الذهب
إن الأسود أسود الغاب همها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
* ج 12ص85: وذكره (أي ابن جني) أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في (دمية القصر) فقال: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات ما له، فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب، ولا سيما في علم الإعراب، ومن تأمل مصنفاته، وقف على بعض صفاته.
قلت: هذا ما جاء في الدمية بعد (ما له): (ولا سيما في علم الأعراب فقد وقع عليها من ثمرة الغراب).
قلت: والصواب: (. . ما له ولا سيما في علم الإعراب فقد وقع منها على ثمرة الغراب). بالتاء لا بالثاء. والقول من المثل: (وجد تمرة الغراب) قال الميداني في (مجمع الأمثال): يضرب لمن وجد أفضل ما يريد، وذلك أن الغراب يطلب من التمر أجوده وأطيبه. وضمير منها يعود إلى المشكلات والمقفلات.
* ج 6ص16: وأنت ما لكَ والغناءِ، وما يدريك ما هو؟ قلت: جاءت (والغناء) مجرورة وحقها النصب، والقاعدة معروفة. ومن أبيات (الكتاب) والشعر لمسكين الدارمي:
فما لك والتلدد حول نجد ... وقد غَصتِ تهامة بالرجال
قال الشتمري: الشاهد فيه نصب التلدد بإضمار الملابسة إذا لم يمكن عطفه على المضمر المجرور.
* ج 3ص43: أني أخاف عليه لَفْعه العين.
قلت: لقعة العين، بالقاف لا بالفاء. في الأساس: لقعه بعينيه إذا عانه. وفي اللسان: في حديث سالم بن عبد الله (بن عمر) أنه دخل على هشام بن عبد الملك، فقال: أنك لذو كِدْنة، فلما خرج من عنده أخذته فقفقة أي رعدة، فقال: أظن الأحول لقعني بعينيه أي أصابني بعينه يعني هشاماً، وكان أحول.(629/6)
والكدنة كثرة الشحم واللحم، غلظ الجسم وكثرة اللحم كما في التاج. وفي الكامل: نظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة من نسج أضراسك.
* ج 2ص281: قال جحظة: دعوت فَضِيلا الأعرج، وكان عندنا جماعة فكتب إلينا:
أنا في منزلي وقد رزق الله ... نديماً ومُسمعاً وعُقارا
فاعذروني بأن تخلفت عنكم ... شغل الحليَ أهلُه أن يعارا
قلت: لا مسمّى بفضيل - كسميع - عندهم. هناك فضل وفضيل وفضالة - كسحابة ويضم - و (شغل الحليُ أهلَه أن يعار) برفع الحلي ونصب أهله، وهو من أمثالهم
* ج 17ص210:
يا عجباً لشيخنا الأهوازي ... يُزهي علينا وهو في هَوَانِ
وجاء في الشرح: الهوان: الذل
قلت: (يا عجبا) غير منون لأنه ينادي عجب نفسه، لا عجبا نكرة غير مقصودة، والأصل (يا عجبي) أبدلت أو قلبت ياء المتكلم ألفاً. وقد تكررت الكلمة بذلك الضبط في الكتاب و (هوان) هو (هواز) بالزاي. يُزهي علينا وهو جاهل، مبتدئ، في التهجي. والبيت لابن الأشرس في أبي الحسن الأهوازي.
* ج5 ص151:. . . ثم ضرب الدهر مَن ضَرَبَهُ فرأيت ابن ثَوَابة قد دخل إلى أبي الصقر بواسط فوقف بين يديه.
قلت: (ضرب الدهرِ مِن ضَربِه) في النهاية: فضرب الدهر من ضَربانِه ويروي من ضربه أي مر من مروره وذهب بعضه. وفي التاج: وضرب الدهر ضربانه: أحدث حوادثه. ومن سجعات الأساس: لحا الله تعالى زماناً ضرب ضربانه، حتى سلط علينا ظَربِاته. وقد منع (واسط) من الصرف هنا وفي مواضع كثيرة من الكتاب. وسيبويه يقول: وأما واسطٌ فالتذكير والصرف أكثر.
* ج19 ص189:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا ... للموت ألف فضيلة لا تُعرف
منها أمان بقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
وجاء في الشرح: كانت هذه الكلمة بقائه (لقائه). قلت: (الحياة فأسرفوا) (في الموت) (منها(629/7)
أمان لقائه بلقائه) كما روى الثعالبي في (الإيجاز والإعجاز) والتبيان لمنصور بن إسماعيل المصري الفقيه الضرير. ذكره ابن خلكان وسرد شيئاً من أخباره، منها أنه أصابته مسبغة في سنة شديدة القحط فرقى سطح داره، ونادى بأعلى صوته في الليل:
الغياث الغياث يا أحرار ... نحن خلجانكم وأنتم بحار
إنما تحسن المؤاساة في الشدة ... لا حين ترخص الأسعار
فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة حمل براً (قمحا) قلت: في الأساس: وأطعمنا ابن بُرّة وهو الخبز.
* ج 14 ص146: ولقي (علي بن محمد بن دينار) المتنبي فسمع منه ديوانه، ومدحه بقصيدة أولها:
ربَّ القريض إليك الحل والرَّحْلُ ... ضاقت على العلم إلا نحوك السُبلُ
تضاءل الشعراء اليوم عند فتى ... صعاب كل قريض عنده ذُلُلُ
قلت: الرَّحَلُ جمع رحلة.
* ج7 ص200: وله (لجعفر بن محمد الموصلي):
وما الموت قبل الموت غير أنني ... أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر
قلت: ربما كان الأصل بهذه الصورة:
وما الموت قبل الموت عنديَ غير أن=أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر
* ج16 ص44: وتصدر (ابن العديم) وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم، وأعجب الناس.
قلت: الظن أن (العالم) هي (العلماء) و (أبهر) إنما هي (بهر) وهذه تتعدى و (أبهر) فعل لازم. في اللسان والتاج: أبهر الرجل: جاء بالعجب، وأبهر إذا تلون في أخلاقه دمائه مرة وخبثاً أخرى. وأبهر إذا تزوج بَهيرة مَهيرة. . .
* ج2 ص13: وأنشدني أبو البركات لوالده:
أنا ابن سادات قريش وابن من ... لم يبق في قوس الفخار منزعا
وابن عليّ والحسين وهما ... ابر من حج ولبى وسعى
من كل بسام المحيا لم يكن ... عند المعالي والعوالي وَرِعا(629/8)
طابت أصول مجدنا في هاشم ... فطال فيها عودنا وفُرّعا
قلت: ضبطت (ورعا) بكسر الراء وإنما هي بفتحها هنا. والورع بالتحريك الجبان والورع بكسر الراء الرجل التقي كما في الصحاح. والفعل للتقي ورع يرع رِعة ووَرَعَا، والفعل للجبان ورُع يوْرُعُ ورْعا بالضم ساكنة الراء.
* ج16 ص14:
سقت عهودهمُ غداء واكفة ... تَهمى ولو أنها من أدمعي تكف
وجاء في الشرح: الغداء: الغادية وهي السحابة تنشأ غدوة. قلت: الغادية كما فُسرت. ولم أقف على الغداء في معجم أو كلام. وعندي أنها (عزَّاء). في اللسان: العز المطر الكثير، أرض معزوزة أصابها عز من المطر. والعزاء: المطر الشديد الوابل.
* ج16 ص116: وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفاً فقيراً، غريباً مُمَجَّجاً في البلاد: وجاء في الشرح: ممججاً أي مشرداً.
قلت: مُمِجًّا. في التاج: أمج الفرس جرى جرياً شديداً، وأمج زيد ذهب في البلاد، وأمج إلى بلد كذا انطلق. وهذا ما قاله (التاج) في مَجّج: (ومجج تمجيجاً إذا أرادك بالعيب) هكذا في سائر النسخ (نسخ القاموس) ولم أدر ما معناه، وقد تصفحت غالب أمهات اللغة وراجعت في مظانها فلم أجد لهذه العبارة ناقلاً ولا شاهداً، فلينظر.
* ج5 ص62:
لو كان ينطق قال من تحت الثرى ... فليحسن العمل الفتى ما استطاعا
قلت: (ما اسطاعا) للضرورة ولان ذلك جائز، حذفت التاء لمقاربتها الطاء في المخرج، فاستخف بحذفها كما استخف بحذف أحد اللامين في ظَلْت.(629/9)
على هامش (حادث الشام)
نحن المذنبون!. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
اهتزت الأرض لما كرث دمشق، وزلزلت الدنيا لما أصابها، وانبرت أقلام بواتر تناصرها في محنتها، وازدلفت إليها الوفود تمسح جراحها، وتلعن جراحها، ولم تبق في المشرق والمغرب صحيفة لم تتل أخبارها، وتصف حريقها ودمارها، وأنا في فراشي قد ملكتني الحمى فلم أشارك قومي في جهاد، ولم أبذل لهم (وطالما كنت باذلا) قلمي هذا الضعيف ولساني.
وكنت أطل من شباكي على دمشق (وداري كما يعلم من يعلم من القراء تعلو عن دمشق ضاربة في الجبل مائتي متر) فأرى مسقط القنابل. وأشاهد مواقع القذائف، وأبصر النار تأكل بلدي الحبيب. والرصاص يحصد حصداً قومي، فأحس في أعصابي فوق الحمى حميات، ولكني لا أقدر على شئ.
ولم أقرأ في هذه البرهة الطويلة مجلة ولا أبصرت (رسالة)، ولا رأيت ممن وفد على دمشق من (الإخوان) الكرام أحداً، ولا حضرت (وقد دعيت) لتكريمهم احتفالا. قد قيدني المرض بفراشي فلا أستطيع له براحا. . . وهذي أول ساعة أقدر فيها على القلم، وأتمكن من خطامه، رأيت فرضا عليّ فيها فرض الاعتراف والوفاء، أن أكتب للرسالة التي أحببتها محبة العاشق، لا أصبر على فراقها، ولا أطيق هجرها. وأحببت صاحبها وأجللته قبل أن أراه. فلما رأيته بعد اثني عشر عاماً تشرفت فيها بمراسلته، والكَتْب في رسالته، وحضرت مجلسه، ورتعت شهرين في جنة نبله وفضله، وأخذت من ماله ومن أدبه، ازددت له حباً وإجلالا. وما رأيت في مصر أديباً، هو أعرب عربية، وأنقى طوية، وأقل لمصر عصبية، وأخلص لبلاد العرب كلها نية، من الثلاثة الأخيار: الزيات وعزام وخلاف. وإن في مصر لكراماً كثيرين وأدباء عرباً مخلصين، وما شحت مصر بالرجال ولكنني أشهد بما رأيت.
جلست لأكتب في محنة دمشق، فرأيتها قد سارت بحديثها الركبان، وامتلأت بها الآذان، ومشت على كل لسان، فكدت أدع القلم، ثم قلت لنفسي، لئن تأخرت اليوم فلقد كنت يوماً(629/10)
سباقة، يوم هوت تحت السنابك (باريس)، وقام كتاب (منا. . .) يبكونها، وما يبكون إلا لذات لهم فيها محرمة فقدوها، ومفاسق خسروها، وكنا وكان سيف فرنسا العادية مسلولا علينا، فكتبت في الرسالة (368) في 22 يوليو 1940 كلمة قصيرة ولكنها كان الرمح لا يضره مع مضائه قصره، صغيرة ولكنها كالقنبلة إذا تفجرت دمرت، ولقد شرقت شظاياها وغربت فأصابت فيمن أصابت مستشار المعارف الفرنسي، حملها إليه بعض (الأذئاب. . .) ممن تبدل اليوم لأن الدهر تبدل ودار. فدعاني وكان بيني وبينه كلام لو أنا نشرته خفت ألا يصدقه من لا يعرف قائله، من القراء، لا أقول ذلك فخراً ولكن ليعلم الناس، أنا - بني الشام - ما ذللنا قط ولا خنعنا، ولا أخافتنا فرنسا يوم كانت فرنسا وكان لها في الأرض سلطان، وبين الأعزة الأقوياء مكان!
ولئن فاتني الكلام في (حادث الشام) فما فاتني أن اكتب (على هامشه). وإن لديّ صوراً، وإن في يدي عبراً، إذا وفق الله وواليت نشرها في الرسالة، اجتمع منها كتاب. ولست أعيد ما قاله الكتاب، ولا أحب أن أعرّف المعروف. ولقد فرغ الناس من الحكم على فرنسا ومدنيتها، وخرشت ألسن كانت تسبح بحمدها، وتمجد حضارتها، وما تحمد منها (وآباء القراء) إلا مطارح الهوى الفاجر، ومسارح الفن الداعر، وجفت أقلام كانت في أرضنا (جيشاً خامساً) وما حديث الجيش الخامس ببعيد. . . فلم يبق إلا أن نسوق صوراً لا يراها إلا القريب المشاهد، وعبراً لا ينتبه لها إلا الرقيب المفكر، وأن ننذر قومنا يوما أشد، وخطباً أعم، إذا لم يقطعوا أسبابه، ولم يغلقوا بابه. . .
وإن أول ما ينبغي أن نخرج به من هذا الذي كان أن نعلم إن الله عادل لا يصيب قوماً إذا بما قدمت أيديهم، وإن من بديع صنعه لهذه الأمة أن يبعث لها هذه الشدائد تبينها من غفلتها كلما غفلت، وتوقظها إذا نامت، وإن من أسرار هذه العربية أن الابتلاء هو الامتحان، وأن الله يمتحننا ليرى الفوز في الامتحان أم نكون من الخاسرين. . . فتعالوا يا إخواننا نحاسب أنفسنا وننظر من أين أتينا؟
أما أنا فلقد فكرت فرأيت أن الذنب ذنبنا ما هو بذنب الفرنسيين، وانك أن عانقت الحية فلدغتك فما تلام الحية بل تكون أنت الملوم، إن الفرنسيين قد جروا على سنتهم، واستجابوا لطبيعتهم، ففاض إناؤهم بالذي فيه، وما فيه إلا الطيش والحرق والغرور والتبجح وعشر(629/11)
أخر من هذه الصفات، ولقد بلوهم ربع قرن فما رأينا من حضارتهم إلا البارود والنار وآلات القتل والدمار، ولا أبصرنا من فنهم إلا الفسوق والعرى والاستهانة بالعرض وإضاعة الذمار، ولا شاهدنا من قوتهم إلا العدوان على الأطفال والنساء والعجائز الكبار، ولقد طالما تبدلت عليه الوجوه، ولكن السنَّة السنَّة، والطبع الطبع، كل في الحماقة سواء.
ولكنا مع ذلك واليناهم وقد نهانا الله عن موالاتهم، وقلدناهم وقد منعنا ديننا من تقليدهم، وتركنا بياننا لرطانتهم وفضائلنا لأزيائهم، وشريعتنا لقوانينهم، ومساجدنا لملاهيهم، والقادسية لأوسترلتز، ومكة لباريس؟
نحن أعطيناهم هذا السلاح الذي قاتلونا به: جاءونا بالخمور تهرئ أمعائنا، وتمزق أكبادنا، فشربناها ودفعنا الثمن. وجاءوا بالكتالوجات فيها الأزياء العارية التي تذهب فضيلتنا، وتفسد شبابنا وبناتنا، فعملنا بها وتركنا لها قرآننا ودفعنا الثمن. وجاؤو بالأرتستات يخربن بيوتنا، ويمرضن جسومنا، ويسممن أرواحنا، فهبطنا على أقدامهن ودفعنا الثمن، وجاءونا بكل بلية فيها الأذى وفيها الهلاك، فدفعنا الثمن، فأخذوه فجعلوا منه دبابات وطيارات ثم أتوا فقالوا هذا لجيشكم السوري. أليس جيشكم قلنا: بلى، وهل في ذلك شك. قالوا: هاتوا ثمنه فدفعناه مرة ثانية، فقاتلونا بسلاح شريناه نحن ودفعنا ثمنه مرتين!
نحن أعطيناهم الجنود الذين حاربونا بهم: أبناؤنا، قلنا لهم خذوهم وخذوا بناتنا فعلموهم في مدارسكم، ونشئوهم على مبادئكم، واستعمروا عقولهم كيف شئتم، فجعلوا من أبنائنا عدواً لنا، يا أيها القراء في مشارق الأرض ومغاربها اعلموا أن الذي ضرب الشام بالمدافع (بأذن أوليفا روجه وأمره) إنما هو رجل شامي ومسلم وابن شيخ واسمه (علاء الدين الإمام)!
فهل استيقظنا؟ إذا لم توقظنا هذه المدافع المدوية، إن لم ينبهنا لذع النار، فما والله يوقظنا شئ؟
هل علمتن يا آنساتي ويا سيداتي الآن. أن هذا (الكتالوج) إنما هو (ديناميت) أن احتفظتن به في دوركن دمر الدور وأهلها؟ وإنكن حين تكشفن عن شئ من مواطن الفتنة في أجسامكن إنما تكشفن للعدو قلعة من قلاع الوطن، لأن كشفها يفسد أخلاق الشباب فتذهب رجلوتهم ويفقدهم روح الكفاح ويشغلهم عن الحرب بالحب؟ وإن هذا الأحمر على خدودكن وشفاهكن إنما هو دم الشهداء، لولاه ولولا أشباهه ما تمكن لعدو منا. وما كان ليغلبنا لولا أن(629/12)
أضاع علينا أخلاق صحرائنا. وشغلنا عنها بكن، وشغلكن بهذا الأحمر عن كل واجب عليكن؟
هل علمتم أيها الآباء أن من يضع ابنه في مدرسة عدوه، إنما يخون وطنه ودينه وربه؟
وهل سمعتم أيها القراء اللعنة التي أطلقها في الشام. خطباء على المنابر، وأئمة في المحاريب، فتجاوزت بصداها الأودية والشعاب:
ملعون كل من ينسى ما صنع بنا الفرنسيون، ملعون كل من يحب فرنسياً أو يتزوج بعد اليوم فرنسية، أو يشتري بضاعة فرنسية، ملعون من يدخل ابنه أو بنته مدرسة فرنسية، ملعون كل شركسي أكل خبزنا وحاربنا، ملعون كل سوري أعان على بلده عدواً، ملعون علاء الدين الإمام، لعنة مجلجلة صارخة مستمرة متجددة، متنقلة في البطون، ماشية في الذراري، لعنة الأم التي فجعها الفرنسيون بوحيدها، واليتيم الذي أفقدوه أباه، والزوجة التي أيَّموها بعد زوجها، والأسرة التي قتلوا ربها وخربوا دارها، والتاجر الذي أحرقوا دكانه وسرقوا متاعه، لعنة مغموسة بالدم، مغسولة بالنار. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(629/13)
المنطق الوجداني والعقيدة
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
البداهة والبصيرة طريق الإيمان، والمنطق الوجداني أداته في القرآن، كما أقول أنا؟ أم الذهن المجرد طريقه، والمنطق الذهني أداته، كما يقول الأستاذ عبد المنعم خلاف؟
أحب قبل أن أمضي في البحث أن أقرر: أنه لا يجوز أن يجرفنا الجدل إلى تقسيمات جدلية حاسمة لطرق الإيمان وأدواته في النفس البشرية؛ فإننا لن نجد حالة نفسية واحدة تتم بهذه السذاجة في التقسيم. وأبسط الحالات النفسية الساذجة معقد كل التعقيد، ولابد فيه من شتى الاحتمالات
وليست المسألة بيني وبين الأستاذ عبد المنعم قضية جدلية على طريقة المناظرات؛ إنما هي حقيقة نود تجليتها. وأنها ليسرني من غير شك أن ألتقي بالصديق في الطريق
لذلك أحب - قبل كل تعليق - أن أستعرض ما قلته أنا في كتابي (التصوير الفني في القرآن) عن المنطق الوجداني؛ وما قاله الأستاذ عبد المنعم في مقاله الأخير عن (المنطق الذهني)، فمن يدري، فلعلنا متفقان في جوهر الموضوع ولبه، وإن اختلفنا في التعليل وتقرير المصطلحات، وإن يكن يبدو لي أن الخلاف في أساسه خلاف طبيعتين وطريقتين في الإحساس!
استغرق فصل (المنطق الوجداني) من كتابي عشر صفحات، ووردت فيه هذه الفقرات في مواضع متفرقة:
1 - (لقد جاء القرآن لينشئ عقيدة ضخمة - عقيدة التوحيد - بين قوم يشركون بالله آلهة أخرى، ويكون من العجب العاجب عندهم أن يقول لهم قائل: إن الله واحد: (أجعل الآلهة ألهاً واحداً؛ إن هذا لشيءٌ عُجاب! وانطلق الملأُ منهم: أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم، أنّ هذا لشيءٌ يُراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق!)
2 - (كانت وظيفة القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة. وموطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال(629/14)
إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة؛ وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.
(وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام، بعدما فتن الناس، آثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف، وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة فيؤمن بها، ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته على قواعد المنطق الذهني، أو التجريب العلمي!
(إن هؤلاء - في اعتقادي - يرفعون الذهن إلى آفاق غير آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه، لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعو إليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن، أو (المحسوس) في تجارب العلم، ليس هو كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة؛ ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشؤون الكبار.
(فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة، أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة، فهي في برجها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة، ويهتدي بهدي البصيرة، ويفتح حسه وقلبه لتلقي الأصداء والأضواء.
(ولقد آمن بالبداهة والبصيرة - وما زال يؤمن - العدد الأكبر من المؤمنين بكل دين وعقيدة في الوجود؛ ولقد ظل علماء الكلام في الإسلام قروناً كثيرة، يبدءون وبعيدون في الجدل الذهني حول مباحث التوحيد، فلم يبلغوا بذلك شيئاً مما بلغه المنطق القرآني في بضع سنين). . .
3 - (لقد عمد القرآن دائماً إلى لمس البداهة، وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة؛ أو المشاهد المشخَّصة والمصائر المصوَّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة)
4 - (كانت المشكلة الأولى التي واجهها الإسلام - كما قلنا - هي مشكلة التوحيد مع(629/15)
جماعة تنكر هذا التوحيد أشد الإنكار، وتعده إحدى الأعاجيب الكبار , فلننظر كيف حاجتهم في هذه القضية المعقدة:
(لقد تناولها ببساطة ويسر، وخاطب البداهة والبصيرة، بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشِرون؛ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فسبحان الله رب العرش عما يصِفُون؛ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون)
أو: (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه إله. إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض)
(هكذا في بساطة البداهة التي لا ترى في السماوات والأرض فسادا، إنما ترى نظاماً محكما، لا يكون إلا حين يكون المدبر واحداً قادراً عالماً حكيما.
(وهذه الصورة التي يخيلها - لو كان هناك آلهة - (إذن لذهب كل إله بما خلق) وأنها لصورة مضحكة: أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله. وإن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب. إلى أين؟ لا ندري! ولكننا نتخيل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة إذا كانت نتيجتها هي هذه النتيجة!)
وهكذا وهكذا إلى آخر ما ضربت من الأمثلة، على سائر ما واجه الإسلام من مشاكل العقيدة، وطريقته في مواجهتها. . .
أما الأستاذ عبد المنعم فيناقش المسألة على النحو التالي، الذي تثبته فقرات من مقاله ننقلها هنا:
1 - (كل ما في القرآن من (منطق، الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ ضيقة. وأي كلام اعتمد على (الحقائق البديهية الخالدة) وعلى مقدمات ونتائج صحيحة، سواء أكانت محسوسة ومنظورة أم غير محسوسة ومنظورة، فهو منطق ذهني. فإذا جمع إلى صحة المقدمات والنتائج جمال التعبير وروعة الأسلوب وإشراق الطلعة فهو منطق (وجداني) كذلك. منطق الوجدان - وإطلاق (المنطق) هنا تجوز في التعبير - هو(629/16)
الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة، (ونقط الارتكاز الواضحة في عالم البداهة و (الحكم العقلي). والتأثر بهذا المنطق تأثر وقتي لا يترك رواسب في الذهن، ومقاييس تملأ اليد، يستطيع الفكر أن يتحاكم إليها، ولأنها ألوان وظلال ونغمات وأعراض عير ملازمة تنفعل لها النفس انفعال الانقباض أو الانبساط وقتا، ثم يزول تسلطها عليها.
(وليست هذه الأعراض هي طريق إقرار (العقائد) ودعائم الفكر والحياة عند الراصدين المتيقظين الواعين. وخصوصاً الدعامة الأولى، والقضية الكبرى، قضية (التوحيد) التي هي قضية الكون كله وأعظم شئونه! إن الوجدانيات من الخطابيات والشعر والموسيقى وسائل إقناع وقتي للبسطاء، وليست وسائل يقين ثابت للذين يبحثون لعقولهم عن عواصم تستند إليها من طوفان الأهواء والنوازع والوجدانات المتقلبة. . وما كان للقرآن وهو يتصدى لإثبات القضية الكبرى أن يعتمد على (المنطق) الوجداني. وإني أرى الذهن في إثبات العقائد وخصوصاً (التوحيد)، هو أوسع المنافذ وأصدقها وأدقها)
2 - (قلنا أن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء، وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه، فلنقرأها معاً (وذكر نص الآيات المذكورة هنا في هذا المقال) ثم قال:
(فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض، فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حي مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وأنه للدليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بنى عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. وأنه للدليل المفضل عند المربين وعلماء النفس)
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . . وأنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه المتسعة، ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين، ولا يمنع خلافهم وتحاسدهم أنهم آلهة في(629/17)
طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقة فهو معذور!)
(فسبحان الله رب العرش عما يصفون)! ذلك موقف وجداني فيه انفعال وتقزز من تلك الدعوى، وتنزيه لله عما وراءها من أزمات ومحرجات. وهو موقف معترض للإسراع بالتنزيه تعود الآيات بعده إلى الاستدلال: (لا يسال عما يفعل وهم يسألون) وهذا مقطع آخر فيه ضرب عظيم من ضروب الاستدلال هو الدليل العملي الواقعي، وهو كذلك أحد ضروب الأدلة الكبرى، وله في الفلسفة العصرية المقام الأول، إذ به تسير الحياة العملية، وهو محور الاجتماع. . .
(فما دام الواقع أن جميع الآلهة المزعومة مَلَكَ الناسُ أن يواجهوها بالمسؤولية والمحاكمة، فلا يصح أن تكون آلهة ما دامت تقع عليها الدينونة. . . ولكن الذي خلق السماوات والأرض، لا يملك عابد له أن يرفع عينه إليه بمسؤولية، بل ليس له إلا التسليم والإذعان ما دام عاجزاً عن الهرب من أقطار السماوات والأرض)
(أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم!). . . (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا مقطع عظيم أيضاً من مقاطع الاستدلال هو ما يسمونه (الدليل التاريخي) إذ أن التاريخ لم يثبت حياة رسول جاء قومه بغير الوحدانية. . . إذا فقد سد القرآن مجالات القول والاستدلال أمام المشركين حتى اثبت أنهم لا يستندون في دعواهم إلى أي حق، وإنما إلى التكبر والجهل والإعراض. وكان هذا الختام (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) نتيجة منطقية ذهنية واضحة لمقدمات واضحة أخذت بضروب الأدلة جميعاً ولم تترك مفراً لجدل مجادل)
1 - وبعد: فلا بد أن يكون القارئ قد لاحظ اختلافاً في تعريف (المنطق الوجداني) حسبما بسطته وعنيته، والتعريف الذي يضعه له الأستاذ عبد المنعم ليبني عليه اعتراضاته. ولاشك أنني غير ملزم بتعريف الأستاذ، فأنا لم اترك الاصطلاح الذي وضعته بلا شرح معيِّن، وعلى هذا الأساس يجب ن تدور المناقشة.
فهو يعرفه بأنه (الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة ونقط الارتكاز الواضحة في عالم البداهة والحكم العقلي).(629/18)
بينما أنا قد أسلفت أنه يعتمد - فيما يعتمد عليه - على الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة وتدركها الفطرة المستقيمة. كما كررت أنه يلمس البداهة ويوقظ الحس، ليتصل منهما بالضمير وبالوجدان.
فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني على أساس صورة خاصة في تعريفه لهذا المنطق غير التي عنيتها بوضوح. ولست أنا المسؤول طبعاً عن ترتيب الأمور على هذا النحو الذي يبدو واضحاً عند الموازنة بين ما قلت هنا وما قال!
على أنني أحب أن أقول له هنا: إن الشعر والموسيقى والفنون ليست خواء كلها من الحقائق الخالدة - كما يصورها - ولو خلت من هذه الحقائق ما عاشت وما حسبت فناً صادقاً، فنحن في حاجة إلى أن نوسع آفاقنا عند النظر للفن الصادق، فنجده يلتقي في النفس بينابيع العقيدة على نحو من الأنحاء. وإلا كان فناً مزيفاً لا يعيش، وزخرفاً ظاهراً تزيفه الحياة
2 - وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات، فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه. فهي في سياق القرآن شئ يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل كما يأتي:
(أ) يقول الأستاذ عن مقطع الآية الأول: (فالإله الواحد هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض. الخ) أفلا يعلم أن قضية البعث كانت من القضايا الكبرى التي تولى القرآن إثباتها لهؤلاء القوم. فكيف يجعل منها دليلا على وحدانية الله هنا - ولو كان منطق الذهن الجدلي هو المحكم - بينما هي نفسها موضع جدل طويل، وليست لإحداهما سابقة على الأخرى بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها، أو تتهافت بطرفيها.
(ب) ويقول عن فساد الأرض لو تعدد الآلهة: (فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقه هو فهو معذور). . . أفلا يعلم أن القرآن ذاته قد كلف التصور البشري أن يؤمن بأن الله (ليس كمثله شئ)! فكيف كان يكلفه هذا لو(629/19)
لم يكن في طاقة الإنسان أن يتصوره بوسيلة من الوسائل، وأنه ليؤمن بهذا لا عن طريق المنطق الذهني، ولكن بالبداهة، وبالصلة الخفية بين الإنسان المحدود والإله غير المحدود. تلك الصلة التي يعتمد القرآن على إيقاظها في الحس كالومض السريع فيؤمن المؤمن ويستريح! ولو عهد بها إلى الذهن لما استطاع تصورها كما يعترف الأستاذ عبد المنعم.
(ج) وعن مسؤولية الآلهة. أفلا يرى الأستاذ أن كلامه لا يثبت شيئاً ولا ينفيه، فمسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد، لا تحفل بها الآلهة ولا تجيب سائليها. وكثير من الناس يحاكم الله مثلها - والله تعالى عنها - ولم يذكرها القرآن للجدل هنا. ولكن ذكرها للتقرير والتأثير الوجداني بهذا التقرير.
(د) ثم الدليل التاريخي كما يراه في (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) فلو سرنا في الاستدلال على طريقة الأستاذ عبد المنعم لقلنا: إن هؤلاء القوم لم يؤمنوا إلا بهذا الذكر ولا يذكر من قبله. فكيف يحاسبون بما لم يؤمنوا به، وهو نفسه موضع الجدل؟
إن القرآن يا سيدي لم يرد الأمر على النحو الذي تريد. . . وأنه لأفطن للنفس البشرية وأعرف بدروبها ومسالكها، وأنه ليأتي هذه النفس من منافذها الواسعة جميعاً، لا من كوة الذهن المحدود وحدها هذا، الذهنِ الذي يعجز عن تصور صفات الإله لو عهد بها إليه! وإن في كل نفس بشرية - ما لم تفسد فطرتها - لمنافذ ومسارب تصلها بالحقيقة الأزلية الكبرى، والأديان وحدها هي التي تلتفت لهذه المنافذ والمسارب جميعاً، فتصل الناس بالخالق في يسر جميل، معتمدة على البداهة والبصيرة والحس والوجدان وسائر القوى الإنسانية ومن بينها الذهن الذي هو إحدى هذه القوى وبعدها جميعاً فلا نكبر من قيمة هذا الذهن المحدود، ولا نتجاوز به الحدود. . . والسلام:
سيد قطب(629/20)
الأذان في الإسلام
للدكتور جواد علي
تتطلب بعض الأديان من المرء الحضور إلى المعبد لتأدية فريضة الصلاة مع إخوانه المؤمنين؛ والصلاة في هذه الحالة (صلاة جماعة). وإلا لن تتقبل له صلاة. ولم تشترط الديانة اليهودية هذا الشرط في أداء الصلاة (التفيلة). واليهودي مخير بين أداء هذه الصلاة في بيته أو في حديقته أو في العراء أو في أي مكان آخر، وبين أدائها جماعة في (الكنيس) مع إخوانه وأبناء دينه. على أن من المستحب في الديانة اليهودية حضور المؤمن صلاة الجماعة لما في ذلك من ثواب عظيم وأجر عند الله كبير
وقد حثت البركة الثامنة من البركات الثماني عشرة المؤمنين من الإسرائيليين على حضور صلاة الجماعة في الكنيس (توراة) جاء (من قرأ التوراة وقام بالأعمال الحسنة المحبوبة، ومن أدى الصلاة جماعة اعتبره الله في جملة عبيده وخدمه، وفي جملة أولئك الذين يساعدون أبناءه في الخلاص من أيدي أبناء الشعوب الأخرى) وجاء في الحديث المأثور (من أحجم عن زيارة كنيس مدينته عد جار سوء لهذا الكنيس).
أما في الإسلام فالمسلم مخير بين أداء صلاته جماعة وبين أدائها منفرداً في أي مكان شاء. وقد راعت من هذه الناحية الحكمة العملية التي تتطلب التساهل في هذا الباب. ولكنها حثت من جهة أخرى على صلاة الجماعة ورغبت المسلمين في ثوابها وفي التسابق إليها واعتبرها الفقهاء (فرض كفاية) و (فرض الكفاية) غير (فرض الوجوب أو العين) طبعاً
ولا تقام صلاة الجماعة عند اليهود إلا بشروط، ومن جملة هذه الشروط هو (العدد القانوني) أو (نصاب الجماعة)، ولا يتم (نصاب صلاة الجماعة) إلا بحضور عشرة رجال بالغين، وهذا هو الحد الأدنى، ومتى كمل هذا العدد جاز أداء الصلاة جماعة. ولم يشترط المسلمون في صلاة الجماعة أي شرط من هذا القبيل فما زاد على الواحد عد جماعة وجازت لذلك صلاة الجماعة إلا في صلاة الجمعة إذ جعل العدد أربعين فما فوق وهي صلاة الجماعة طبعاً.
ويحتاج المصلون في صلاة الجماعة إلى إمام يؤم المؤمنين في الصلاة. ويطلق المسلمون عليه كلمة (إمام) أو (إمام الجماعة) ويطلق اليهود عليه لفظة (شليح صبور) أو (حزان)(629/21)
ومعنى الكلمتين (المندوب عن الجماعة). وليست الإمامة في الصلاة عند اليهود وظيفة دينية رسمية في الأصل؛ إذ يستطيع أي مصل من المصلين إمامة إخوانه في الصلاة إذا كانت له المؤهلات الكافية والصفات التي يجب أن تتوفر في الزهاد والمؤمنين. ثم خصصت الإمامة (شليح صبور) (حزان) في أشخاص معينين يمارسون هذه المهمة ويقومون بتنفيذ طقوس الصلاة. وهذا التخصيص هو من قبيل العرف والعادة فقط إذ لا يتيسر في الغالب لجميع المؤمنين معرفة قواعد الديانة ولا سيما بعد القضاء على المملكة اليهودية وبعد تشتت شمل اليهود وتكلمهم بلغات جديدة هي لغات البلاد التي رحلوا إليها وإغفالهم أمر اللغة العبرية حتى غدت لغة غريبة بالنسبة لأكثر العبرانيين الذين ارتحلوا إلى البلاد الأجنبية فاحتاج اليهود بحكم الضرورة لا بحكم الدين إلى (إمام) يحسن اللغة العبرية القومية ويحفظ القطع المقدسة التي تتلى في الصلاة وأصبح هؤلاء الذين لم ينسوا لغتهم وأمور دينهم بمرور الزمن أئمة ورجال دين.
وهذا هو عين ما حدث في الإسلام، فالديانة الإسلامية لم تعين مبدئياً طبقة خاصة لتقوم بواجب (الإمامة) في الصلاة. ولم تعترف بطبقة (كهنوتية) تحتكر لنفسها تعليم الدين وإقامة شعائره من دون سائر الناس. ولا إمامة الناس في الصلاة دون سائر المؤمنين المصلين. وقد كان النبي (ص) نفسه يأتم بغيره كما كان الصحابة يأتم بعضهم ببعض. نعم قد كان الرسول ينص على صحابي معين بإمامة الناس في الصلاة؛ ولكن ذلك لا يعني حصر الإمامة فيه ما دام حيَّا بل كان ذلك في ظروف خاصة وأحوال معينة. جاء عن مالك بن الحويرث أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأمْنا عنه عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً؛ فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا؛ فإذا حضر الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
وحدث مثل ذلك من الخلفاء الراشدين: كانوا يعينون رجلا بعينه مع الأمير أو القائد لإقامة الصلاة. أو كانوا ينصون على الأمير نصاً بإمامة الناس في الصلاة. غير أن ذلك لا يعني كما قلنا آنفاً أن الإمامة مرتبة من المراتب الدينية أو وظيفة معينة لا يتقلدها إلا بعض الأشخاص من ذوي الرتب والدرجات الروحية. وإذا كانت الإمامة في المساجد اليوم تعيينا - في بعض البلاد الإسلامية فإن ذلك لا يعني شرعاً أن الإمامة في المساجد لا تكون إلا(629/22)
لهؤلاء الأئمة فقط، بل من الجائز لأي شخص آخر ولو كان من غير رجال الدين أن يؤم المسلمين في نفس ذلك المسجد. وتعين هؤلاء الأئمة ليس إلا ضماناً لإمامة المصلين في الصلاة حين خلو المسجد ممن يحسن قواعد الصلاة وأمورها كما يجب وفق أحكام الشرع.
ولتسهيل تعيين مواقيت الصلاة ولدعوة الناس إلى عبادة ربهم في الأوقات الخاصة اتخذت الأديان طرقاً مختلفة للدعوة إلى الصلاة. من هذه دق الناقوس أو التبويق أو إشعال النار إلى آخر ما هنالك من علامات. وقد شعر المسلمون بهذه الحاجة حينما تكاثر عددهم وتزايد جمعهم حتى شمل أكثر أهل المدينة. وشعر النبي (ص) نفسه بهذه الحاجة، وتشاور مع أصحابه في المسألة فقيل له (انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رآها الناس آذن. فلم يعجبه ذلك؛ فذكر له بوق اليهود ويقال له الشبور أو القبع وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم؛ فقال هو من أمر اليهود. فذكر له الناقوس الذي يدعو به النصارى لصلاتهم فقال هو من أمر النصارى. فقالوا لو دفعنا ناداً فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس).
وجاء في الأخبار أيضاً أن الرسول (ص) قال: (أولاً تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؛ ففعلوا ذلك) وكان اللفظ الذي ينادي به بلال قبل رؤيا عبد الله: (الصلاة جامعة) وجاء أيضاً: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بالحرث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى عليه وسلم فقال له يا رسول الله أنه طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده؛ فقلت له يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ قلت ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت وما هو؟ قال تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى عليه وسلم قال أنها لرؤيا حق أن شاء الله. فقم مع بلال فألقها عليه فيلؤذن بها فانه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت(629/23)
مثل الذي رأى. فقال رسول الله فلله الحمد على ذلك).
تلك هي قصة الأذان في الإسلام. وهي قصة تناقض رأي من قال من المستشرقين بأن الأذان في الإسلام إنما هو ترديد لأذان اليهود أو لأذان النصارى وهو دق الناقوس.
أما في مكة وقبل الهجرة فلم تكن هنالك ضرورة للأذان، لأن الحكم كان للوثنية، ولان الجماعة الإسلامية لم تكن سوى أقلية لا قبل لها بالتظاهر أمام الوثنيين. فلما استقر النبي (ص) في المدينة وتكاثر عدد المسلمين أصبح الأذان ضرورة لابد منها، ولم تعد كلمة (الصلاة جامعة) تكفي لأداء وظيفة إسماع الناس في أقاصي المدينة وكل المسلمين شوق لأداء الفرائض مع النبي (ص) فصار بلال يدعو إخوانه من علٍ إلى الصلاة بالشكل المعروف. واقتصرت كلمة (الصلاة جامعة) على صلاة العيدين حتى ينادى بها إلى اليوم.
وكانت هنالك كلمة أخرى بسيطة يرددها المسلمون قبل معرفتهم الأذان؛ والظاهر أنها كانت أبسط شكل من أشكال الأذان هي (الصلاة. الصلاة) ولعلها أقدم عهداً من كلمة (الصلاة جامعة) وهذا الشكل البسيط من الدعوة إلى الصلاة كان يردده الخلفاء أنفسهم حين مجيئهم إلى المسجد صباحا على الأخص لتنبيه النائمين وطالما قرأنا في كتب التاريخ كلمة (الصلاة. الصلاة يرحمكم الله) لتنبيه الغافلين إلى الصلاة ولا زالت مستعملة إلى الآن في صلاة الصبح جماعة على الأخص.
ويتألف الأذان الذي أقره الرسول (ص) من سبع فقرات، السادسة منها تكرار للأولى. وتردد العبارة الأولى أربع مرات متتاليات، والمالكية ترددها مرتين، كما تردد كل عبادة من العبادات الأخرى مرتين ما عدا العبادات الأخيرة فينادى بها مرة واحدة فقط. وبعد أن يؤذن بالعبارتين الثانية والثالثة مرتين يرفع الصوت بها عند المرة الثالثة. وقد أوصى بهذا الترجيع الشرع. أما الحنفية فترفضه. ويضاف إلى أذان الصبح عبارة (الصلاة خير من النوم). عند أهل السنة، وتردد مرتين (تثويب) بين العبارة الخامسة والسادسة.
ويتفق المسلمون جميعاً على صيغة الأذان؛ وهذا يدل على أنه كان على هذه الصورة منذ عهد الرسول. غير أن هنالك خلافاً بسيطاً بين أهل السنة وبين الشيعة في عبارة (أشهد أن علياً ولي الله) التي تردد مرتين بين الفقرتين الثالثة والرابعة؛ وفي عبارة (حي على خير العمل) التي تردد مرتين بين الفقرتين الخامسة والسادسة.(629/24)
ويعاد الأذان في داخل المسجد بصورة مختصرة إذ تذكر عبارات لآذان مرة واحدة قبل المباشرة بالصلاة، ويطلق على هذا الأذان كلمة (إقامة).
فالأذان كما رأيت ضرورة من الضرورات التي اقتضتها الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأت في المدينة. ويقول المستشرق بيكر (الأذان في الإسلام لا يمثل فكرة الدعوة إلى الصلاة، أو بتعبير آخر: الأذان تماماً لأن عناصر الدعوة إلى الصلاة فيه قليلة أو تكاد تكون معدومة؛ فهي لا تتمثل فيه تمام التمثيل وليس الأذان على رأيه إلا قطعة من القطع الكنائسية التي يرددها الكاهن والشماس حيث الترجيع الديني بين الاثنين. يقوم الإمام في الإسلام مقام الكاهن؛ أما المؤذن فيؤدي واجبات الشماس).
وهذه النظرية خاطئة طبعاً؛ فالأذان وإن كان يعيده الإمام إقامة. فإن المصلين يعيدونه أيضاً. ولا وجه للشبه أبداً بين الترجيع الديني في الكنائس وبين الأذان عند المسلمين.
وذهب المستشرق اليهودي ميتوخ إلى أن الأذان في الإسلام مأخوذ من الأذان عند اليهود. وحجته في ذلك هو دعوة المؤذن (اللاويين) إلى الصلاة وعادة النفخ في الصور (البوق). تلك العادة التي لا زال اليهود يمارسونها حتى اليوم في طقوسهم الدينية في نهاية السنة، والتي كانوا يمارسونها سابقاً في عهد الهيكل لإعلان أوقات الأضحية، وفي أيام الجمع قبيل قدوم المساء لإعلان قدوم السبت إلى الجمهور. وفي عهد التلمود المتأخر.
أما حجته في أن اليهود يدعون طبقة اللاويين إلى أخذ محلاتهم قبل البدء في الصلاة وتلك الدعوة هي علامة الأذان أو الأذان بعينه، فإن تلك الدعوة هي دعوة خاصة في داخل (الكنيس) بينما الأذان دعوة عامة لجميع المصلين السامعين. وعبارات الأذان الإسلامي تختلف كل الاختلاف عن عبارات دعوة اللاويين. واليك هذه الدعوة: أيها الكهنة استعدوا لأعمالكم. أيها اللاويون قفوا في مصاطبكم. أيها الإسرائيليون خذوا مواقعكم)
وهذه الفقرات هي فقرات خاصة بطبقة كما ترى.
وأما قضية (التبويق) فقد رأيت أن النبي (ص) كرهها كما كره استعمال الناقوس. وليس هنالك بين الأذان وبين التبويق أي وجه من أوجه الشبه، اللهم إلا الفكرة والفكرة عامة في جميع الأديان.
يقول المستشرق ميتوخ: (يظهر من عبارة وردت في كتاب المقريزي أن الأذان إنما كان(629/25)
تنبيها للرسول عليه السلام وأخباره بحلول وقت صلاة الجماعة، كما كان تنبيهاً لخلفائه من بعده بحلول وقت الصلاة. وقد نبه إلى هذه الفكرة المستشرق بيكر أيضاً. وأما الإقامة فإنها علامة لبدء الصلاة أو مقدمة قصيرة للصلاة.
جواد علي(629/26)
سيباي الكافلي
آخر نائب للمملكة المصرية بالشام
للأستاذ أحمد رمزي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
كان سيباي من تلك الزمرة الممتازة من الرجال الذين تملأ قلوبهم الدوافع النفسية للعمل والحركة ولا ترضى بغير المعالي والقيادة والسيادة، وكان شجاعاً إلى أقصى حدود الشجاعة لا ترهبه الأخطار، وصريحاً إلى أقصى حدود الصراحة لا يبالي بما تأتي به صراحته من خير أو شر، ما دام في ذلك إرضاء لنفسه. فكان لا يلين إذا قام عالم من الناس يحاربه أو يؤذيه أو يحط من قدره. ولا يهمه إذا وجد نفسه وحده، يدافع ويناضل عما يقول ما دام الحق في جانبه.
وبهذا وحده يمكن تفسير مواقفه مع الغوري ورسائله إليه وصراحته؛ فلولا قوة أخلاقه وجرأته لأظهر ليناً وسياسة وكياسة ولا نطوي انطواء الغزالي وخير بك وغيرهما وترك العاصفة تمر واكتفى بفتات الموائد؛ ولكنه كان قوة والقوة تنتصر ولا تلين.
ولم يكن ينقصه شئ من الذكاء والنجابة ليحل المكانة الأولى بين رجال الدولة المصرية. ولو قدر لها وعاشت لكان لبطلنا شأن فيها ولذكر اسمه في التاريخ بين الخالدين من رجالنا.
ولم تحرمه الدنيا في السنين التي قضاها فيها من شئ، فقد أوتي من الهيبة والقوة والنفوذ والاحترام والعلم الشيء الكثير، كما ابتلته الأيام فلم يسلم من كيد الناس ودسهم ولا من نكد الدنيا ومقارعة الزمن وكان في كلتا الحالتين صبوراً:
وقد أجمع المؤرخون على أنه رجل يعد برجال.
أصل سيباي من رجال قايتباي وأعتقه وجعله من أمراء جند مصر، ثم أخذ يرقى إلى أن تولى وظيفة كافلي الممالك الحلبية وهي بدرجة أمير ألف، وذلك في عهد الغوري. وكان الأتابكي قيت الرحبي يوم بويع الغوري بالسلطان أمير سلاح، وهو الذي تقدم ومعه الأمير مصر باي وأخذا بيد السلطان بالبيعة وناديا باسمه وهو يمتنع، فبايعه الأمراء والقضاة وغيرهم - فحدثته نفسه بعد حين أن يتسلطن، وكتب إلى نواب مصر بالشام، والى سيباي(629/27)
بحلب، فاشتبك الأخير مع نائب القلعة وحاصره وقاتله فاحترقت بسبب الحصار المدرسة الظاهرية الشهيرة بالسلطانية وقتئذ، فنذر سيباي أن يبني مدرسة مثلها. وقد بر بوعده وبنى جامعه الذي زرناه. في إبان هذه الفتنة تغير قلب الغوري من جهة سيباي فعزله ثم عاد فضمه إليه وأنعم عليه بإمرة السلاح بالقاهرة.
وفي شوال 911 عين سيباي ثانياً بالشام، وكان الغوري في نفسه أشياء منه؛ فهو يعلم بأنه بطل من أبطال الحروب لا يخطر الموت على باله، علاوة على أنه من أشجع فرسان مصر وأنجبهم ومن ذوي العزم الشديد ولكنه كان يتخوف منه ويخشاه ولذلك رسم له أن يتوجه إلى دار الأمير أزدمير الداودار وإن يقابله هناك أمير المؤمنين الخليفة المستمسك بالله يعقوب والقضاة الأربعة وبعض الأمراء، فإذا انعقد المجلس اخذوا عليه المواثيق والإيمان بالطاعة لسلطانه؛ وقد تم ذلك. ثم لبس الخلعة وخرج بموكب من القاهرة وهو يحمل التقليد بنيابة دمشق.
ويرجع ذلك الشك لأمرين ما سبق من تحالف سيباي وانضمامه لحركة قيت الرحبي المطالب بالعرش، وبما اتصل إلى علم الغوري من بعض المنجمين من أن الذي يلي الحكم بعد الغوري يبدأ اسمه بحرف السين. فأخذها السلطان على سيباي وتطير من اسمه، وأصبح لا يأتمنه ولا يصغي لنصائحه ولا يأخذ بأقواله.
ولما تولى سيباي النيابة عن مصر بالشام واضطلع بالأمور حتى علم بما بين خير بك نائب مصر بحلب والسلطان سليم العثماني من اتصالات مكتومة وبالمكاتبة، فأبلغ الخبر فوراً إلى بلاط القاهرة؛ ولكن الغوري لم يأخذ الأمر جدياً بل اعتمد على قوة المصريين في الحروب وثقته بما سبق أن أبدوه من البسالة في حروبهم أيام قآيتباي وانتصاراتهم المتتالية بقيادة (أمير الجيوش) أوزيك أتابك العساكر المصرية. ثم لعدم ارتياحه لكل ما يأتي من حامل حرف السين. وأخيراً لأن خبر بك نائب حلب وسيباي كان يشغل هذا المنصب قبله ولابد أن بين الأميرين أشياء.
ولم يكن ذلك من المصلحة لأن التغاضي عن نائب حلب جرأ الغزالي نائب حماه الذي قلد زميله في الشمال ولم يحدث طول تاريخ مصر أن تجرأ العمال والنواب على الاتصال بالأعداء كما حدث في تلك الأيام، بل يذكر لنا التاريخ بعض الأمراء الذين حاولوا شيئاً من(629/28)
ذلك فعوقبوا بما يستحقون.
وقد ظهر علمه وفضله أيام نيابته بالشام، فكان يجمع العلماء عنده في كل ليلة جمعة يتذاكرون بين يديه في أنواع العلوم والفقه وأعد لهم سماطاً كبيراً. ولما توترت العلائق مع العثمانيين كان من رأيه إلا يخرج السلطان من مصر، بل يبقى بها يمد الجيوش وهو في مأمنه حتى لا تتعرض البلاد للأخطار. وفي سبيل ذلك تحمل الكثير، وجاءت النتائج محققة لظنه مؤكدة حسن فراسته وبعد نظره، ولو أخذ برأيه لما وقعت الكارثة ولما زالت عظمة مصر والشام من التاريخ
وقد ذكر ابن إياس وغيره شيئاً من ذلك فقال أنه بعث إلى الغوري برسالة جاء فيها: (يا مولانا السلطان، أن الغلاء شديد بالبلاد الشامية وفيها نقص العليق والتبن، والزرع في الأرض لم يحصد، وليس ثمة عدو متحرك فلا يترك السلطان سره ولا يسافر، وإن كان ثمة عدو فنحن له كفاية) فلم يلتفت السلطان لكلامه واستمر على رأيه
ولم تكن القاهرة مرتاحة لخروج السلطان، فأخذوا يعيبون عليه أنه خالف ما اعتاد عليه الملوك السابقون في أشياء كثيرة من ترتيب الجيوش وجمعها، وأخيراً قالوا أنهم كانوا يخرجون في فصل الربيع والوقت رطب. أما الغوري فقرر سفره في فصل الصيف والجو في شدة حرارته. ثم أذاعوا أن الملوك إذا ذهبوا للجهاد كانوا يخرجون من الجهات النائية ولا تشعر القاهرة بمواكبهم إلا في عودتهم من ميادين القتال. وقد خالفهم الغوري في ذلك فشق العاصمة بموكبه عند سفره.
ولكن السلطان لم يكن ليلتفت لشيء من ذلك بل بقي متمسكاً برأيه في جميع الأمور ونفذ ما يريد.
وتحرك ركاب آخر سلاطين مصر والشام ومعه الجيوش المصرية في يوم الجمعة 20 ربيع الآخر سنة 922هـ قاصداً الشام عن طريق الريدانية فسر ياقوس ثم الصالحية فقطيا إلى غزة التي أقام بها ثلاثة أيام.
ويقول المحلي: (ولما كان السلطان في غزة وردت إليه مكاتبة من الأمير سيباي يذكر فيها: الذي يعرضه المملوك على المسامع العالية أعلاها الله تعالى وأدامها أن العبد سمع بأن السلطان يريد السفر لقتال ابن عثمان، وإن المملوك يقوم بهذا الأمر ويكون السلطان مقيما(629/29)
بمصر ويمد المملوك بالعساكر المنصورة. والذي يعلم به مولانا السلطان أن خير بك ملاحي علينا ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل حين) فرد عليه الغوري هانحن قد جئناكم بأنفسنا. ثم أمر برحيل الجيوش والعساكر وهم يموجون كالبحر الزاخر.
في يوم الاثنين 18 جمادي الأولى سنة 922 استقبلت دمشق العاصمة الثانية الملك الأشرف أبا النصر قانصوه الغوري، وقد حفظ لنا التاريخ وصف ذلك اليوم الخالد فقالوا: إن موكبه دخل من باب النصر وشق المدينة وخرج منها إلى ناحية القابون العليا، حيث كان معسكر الجيش وأقام تسعة أيام بمصطبة السلطان. ولم يتفق مثل موكبه لسلطان من سلاطين مصر بعد الأشرف برسباي سنة 826 هجرية فدقت البشائر بقلعة دمشق - وكانت عامرة - وزينت المدينة أجمل زينة وفرشت شقق الحرير تحت أرجل خيله ابتداء من جامع سيباي، ويذكر ابن إياس أن قنصل الفرنجة بدمشق وتجارهم اشتركوا مع الأهلين في الترحيب بملك مصر ونثروا دنانير الذهب عليه وجاء رئيس دار الضرب بدمشق المحروسة المعلم صدقة الإسرائيلي، فنثر نقوداً من الفضة جديدة ضربت لهذه المناسبة السعيدة.
وكان سيباي قد خف إلى ناحية سعسع على طريق مصر، وقيل إلى طبريا لاستقبال الغوري، ولما دخل دمشق كان بجوار السلطان يحمل له القبة والجلالة، كما جرت بذلك المراسيم المعتادة للملوك المصريين
وسار الغوري إلى حلب ومعه سيباي وأمراء الشام، وهناك تجمعت جيوش ممالك مصر والشام وحلب استعداداً ليوم مرج دابق - وليس هنا موضع درسه ولا بحثه - وإنما نذكر حادثة وقعت هناك أن دلت على شئ، فهو جرأة سيباي وصراحته المتناهية، وهي أن والي عين تاب، وكانت من أعمال مصر، انضم إلى العثمانية، فلما رأى أهبة المصريين ندم على ما فعله، وجاء إلى السلطان منضماً إليه تائباً، فلم تجز عليه حيلته، وأعدم لتسليمه المدينة، وكان ذلك بحضور الأمراء والنواب والأعيان، فقام من بينهم سيباي وقبض على خير بك نائب لب وجره بين يدي الغوري وقال: (يا مولانا السلطان أن أردت أن ينصرك الله على عدوك فأقتل هذا الخائن) فقام الغزالي وقال (يا مولانا لا تفتن العسكر ونبدأ في قتال بعضنا بعضاً: وتذهب أخباركم إلى عدوكم ويزداد طمعه فيكم وتضعف شوكتكم(629/30)
والرأي لكم!)
والتفت السلطان نحوهم وطلب إليهم (بأن يتحالفوا ثانياً، وألا يخون منهم أحد، والخائن يخونه الله تعالى وعليه لعنة الله) ثم أمر بأن ينادي بالرحيل، وتحركت القوى إلى حيث تلقى جموع العثمانيين في شمالي حلب على بعد ثلاثين كيلو متراً في وسط سهل مرج دابق ليوم من أيام مصر السود، وهو يوم الأحد 25 رجب سنة 922، وهناك كان مثوى ملك الأمراء سيباي آخر من حكم دمشق باسم مصر
في يوم شديد الحر وقد انعقد الغبار حتى صار لا يرى المقاتلون بعضهم بعضاً خطت الأقدار حكماً ضد مصر وجندها فخسروا المعركة بعد يوم لعبت فيه البطولة والخيانة وعظمة النفس مع الكيد وسوء الظن معا، وكان على رأس جند الشام سيباي في ميمنة الجيش يقاتل قتال المستميت، ويصادم مع أمراء مصر لكسب معركة خاسرة. قال المحلي: (ولكنهم مع قلتهم أوقفوا هذا الجيش العظيم ولم يقدر أحد منهم أن يتقدم). وفي مواجهة العدو وتحت لأمة الحرب سقط أمير الأمراء سيباي الكافلي مع من استشهد في وطيس ذلك النهار.
ماذا كان من أثر ذلك اليوم؟ كان أن أصبحت مصر العظيمة تحت الجزية بعد أن أمضت القرون تفرض الجزية على غيرها.
وفي حارة من حارات دمشق على رأس شباك من زاوية يطلق عليها اسم زاوية السلطان عمر بن عبد العزيز أبقى الزمن هذا المرسوم بالخط النسخ المملوكي منقوشاً على الحجر
(مما رسم بالأمر الكريم العالي المولوي السيفي سيباي مولانا ملك الأمراء كافل الشام المحروسة اعز الله أنصاره بأبطال المظلمة المحدثة على حارة القنوات بسبب واقع في النهر وبأبطال الجبايات والحماية وشيخ الحارة). تلك تحية من الزمن لمصر الخالدة!
أين عظامه؟ أين تراثه؟ أين الأوقاف التي أرصدها على مدرسته بدمشق؟ أين آثاره بحلب؟ كل ذلك ذهب مع الريح!
لا لم يذهب شئ، إن سيباي وغيره باقون مع الزمن، لأن الدروس التي نتلقاها من الموت والهزيمة أقوى وأشد وقعاً من دروس النصر والغلبة، وراحة البال والطمأنينة.
أحمد رمزي(629/31)
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان(629/32)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
الفيتامينات تغذي عقلك أيضاً
سمعت طبعاً عن الفيتامينات وضرورتها للحياة السعيدة وللصحة الجيدة. وعرفت أن الجسم الذي يعاني نقص منها يعاني من الآلام والعلل ما لا يتيح له مواصلة الحياة. ولكنك لم تعرف أن العلماء اكتشفوا أخيراً أنها غذاء العقل أيضاً. وإن نقصها يؤدي إلى حالات مختلفة من الاضطراب العقلي فيصاب الإنسان بالقلق وضعف الذاكرة وسرعة التعب وعدم الرغبة في العمل كما يحس بالآم خفية في مفاصله وظهره ويفقد شهيته.
وقد يكون الضعف التناسلي نتيجة لنقص أحد أنواع الفيتامينات المتعددة. بل هناك نوع من الفيتامين ينظم قدرة الإنسان الجنسية. وأولئك الذين يعانون نقصاً في الفيتامينات هم في الواقع أقل قدرة على مواجهة الحياة وأكثر تعرضاً للفشل لأنهم محرومون من صحة الجسم وسلامة العقل.
ولكي ندرك تأثير الفيتامينات على العقل يجب أن نعرف عملها في الجسم. فالفيتامينات إحدى الهبات التي نجدها في منتجات الطبيعة من الأغذية والخضراوات التي نأكلها مثل البيض والكبد واللبن والقمح والطماطم والفواكه وغيرها. وتيسر منذ سنوات قلائل الحصول على هذه المواد بالطرق الصناعية فانتشرت مركباتها في الصيدليات كحبوب أو كحقن تستخدم لعلاج حالات نقصها أو للتغلب على بعض الأمراض الناشئة.
ولا يحتاج جسم الإنسان إلى مقادير كبيرة من هذه المواد الضرورية فما نحتاجه من فيتامين (ب) المعروف اسم الثيامين لا يتجاوز جزاءاً من ألف من الأوقية في اليوم الواحد، أي أن أوقية واحدة من الفيتامين تكفيك ثلاث سنوات أو تكفي ألف شخص ليوم واحد.
وعمل الفيتامينات في جسم الإنسان أنها تساعد على تحويل المواد الغذائية التي تتناولها إلى نشاط جسماني وعقلي. وبغيرها لا يستفيد الجسم شيئاً من المواد التي نأكلها. وقد اكتشف الطب والكيمياء عشرة أنواع من الفيتامينات مرتبة على الحروف الهجائية تبعاً لوقت اكتشافها. ولا يزال العلماء منهمكين في اكتشاف أنواع أخرى منها.
وأكثر الفيتامينات تأثيراً على العقل هو فيتامين ب بأنواعه الستة، ولأثنين منها تأثير خاص(629/33)
على العقل وهما الفيتامين والنيكوتين. وتوجدان بكثرة في الخمائر والكبد والبيض. وأيسر طريق لتعاطي هذين النوعين من الإقبال على حبات الخمائر المجهزة المعروفة في الصيدليات، فإن تعذرت فعليك بإحدى خمائر الأفران الإفرنجية أذبها في قليل من الماء المحلى بالسكر واشربها في الصباح وفي المساء فتحصل على كمية وافرة من الفيتامينات التي يحتاج إليها جسمك وعقلك.
وظواهر نقص الفيتامين تبدو من تنمل الأطراف، فإن كانت الحالة حادة شعرت بألم في يديك وقدميك. ويبدو هذا الألم في الغالب كأنه التهاب لا تعرف سببه. وأحياناً يخطئ فيظنه نوعا من الروماتزم. ويلاحظ في الوقت ذاته أن الإنسان يحس بالتعب السريع والضعف إن هو اجهد نفسه.
ومن نتائج نقص الفيتامين أيضاً المرض العرف بالنورستانيا. وظواهره مختلفة متباينة من ميل إلى الخمول أو فقدان الشهية والذاكرة والأرق، كما يبدو الإنسان مغموماً ورأسه مثقل بالهواجس، ولا تكون هذه الظواهر شديدة حادة ولكنها تكفي لأن يشعر الإنسان أنه مريض أو متوعك المزاج.
فإن أقبل المريض على تعاطي نوع جيد من مركبات الخمائر فانه لن يلبث أن يدهش للتقدم السريع الذي يحصل عليه في أيام قلائل فانه سيحس بانتعاش عاجل، وبتطور غريب يعيده إلى حالته الطبيعية.
وثاني أنواع الفيتامين تأثيراً على العقل هو المعروف باسم حامض النيكوتين وتركيبه الكيمياوي قريب من نيكوتين التبغ. وقد تكلمنا عن نقصه في مقال سابق عن البلاجرا وذكرنا مدى انتشارها في بلادنا.
ولم يكشف العلم الغطاء تماماً عن أسرار فيتامين حامض النيكوتين وإن كانت ظواهر البلاجرا من إسهال وميل إلى النحافة وظهور الالتهابات الجلدية وغيرها من الآلام التي يعانيها الجسم من النتائج الثابتة لنقصه.
ولا يعنينا في هذا المقال أن نتحدث عن الظواهر الجسمانية بل أن ما يهمنا هو الظواهر العقلية التي يحس فيها المصابون بقلق وعدم اطمئنان فهم يخشون شيئاً لا يعرفون ما هو ويغلب عليهم الاضطراب والميل إلى التقلب وصعوبة التفاهم ولا يستطيعون السيطرة على(629/34)
عواطفهم، فما أسرع ما تبكيهم وما أسرع ما تضحكهم، تغضبهم ضوضاء حركة المرور، وإقفال الأبواب بعنف. وقد يثيرهم سماع الراديو ويتعب أنظارهم الضوء الوهاج.
فإذا كانت الحالة حادة أوجدت فيهم استعداداً للجنون فلا مفر من نقله إلى المستشفيات العقلية. وعلاج هذه الحالة إذا لم تؤد إلى حالة أخرى هو طبعا تعاطي فيتامين حامض النيكوتين.
والمواد الكحولية والمسكرات تؤدي إلى نقص الفيتامينات في الجسم لأن المعدة تستهلك كمية أكبر لتوازن كيماويات الكحول ولتعادل تأثيرها فضلا عن أن الجسم نفسه يحتاج إلى مقدار أوفر من فيتامينات ب. فإن وصلت حالة النقص إلى تأثيرها الحاد اختلط العقل ورأى المصاب أشباحاً وحيوانات مخيفة تسبح فوق رأسه وتكتنفه من كل جانب، ومن الضروري في هذه الحالة حقن المصاب بكميات كبيرة من فيتامينات ب. وهذا العلاج في الغالب يؤدي إلى تحسن ملموس.
ومن الخطر أن يهمل الإنسان نفسه أن أحس بنقص هذه المواد الحيوية لأن النتائج تكون في الغالب وبيلة. وقد تنفع في علاجها في أول الأمر بضع حبات من الفيتامين المطلوب فإن أزمنة فإنها ستنقلب إلى أمراض أخرى يتعذر شفاؤها ولا سيما أن الأمراض العقلية من أعسر الأمراض علاجاً، وقال بعض الأخصائيين أن علاجها ليعود الإنسان إلى الحالة الطبيعية ولا يتجاوز الثلاثة في المائة.
الأشرطة السينمائية واختبار نجاحها
توصل الدكتور جورج جالوب إلى اختراع آلة تسجيل استجابات الجمهور من نشوة أو ابتهاج أو استسخاف حيال مسرحية أو شريط سينمائي وتسجيل هذه الآلة احساسات كل فرد من المشاهدين على لوحة من الورق حيال كل منظر من مشاهد الشريط. وبتطبيقها على مفتاح للشريط يعرف منتجوه أي أجزائه حاز القبول أو الاستهجان.
وبعد انتهاء عرض الشريط أو المسرحية تجمع الآلة استجابات الجمهور وتوضحها في خمس درجات وهي (مقبول) و (مقبول جداً) و (محايد) و (سخيف) و (سخيف جداً).
وطريقة استخدام هذه الآلة أن يجلس الجمهور في الحفلات الأولى كالمعتاد ويمسك كل مشاهد بيده آلة صغيرة متصلة بالآلة الكبيرة فتسجل إحساسه في كل مشهد يراه على شريط(629/35)
من الورق. وتعتمد الآلة في تسجيل هذه الاحساسات على اهتزازات الإنسان المختلفة حيال المشاهد المختلفة، فللفرح هزته، وللانتعاش هزته أيضاً.
وقد توصل العلماء الأمريكيون من زمن إلى تحليل ظواهر الاحساسات النفسية. ويقسم الدكتور جالوب رواد الملاهي أيا كانت ثروتهم أو فقرهم إلى 42 قسما من مختلف الأعمار والميول.
ويتوقع أصحاب الملاهي لهذه الآلة مستقبلا باهراً كما يتوقعون انتعاشاً كبيراً لأعمالهم فعلى هديها يتاح لهم أن يقدموا للجمهور ما يحتاج إليه من متع. وغنى عن القول أن هذه الآلة سوف تطلعهم على مواطن الضعف في مباهجهم فيعدلونها بما يناسب طلبات الجمهور وذوقه.
وقد اختبرت هذه الآلة حتى الآن 45 شريطاً سينمائياً وصححت بعض الأشرطة بعد اختبارها بهذه الآلة فارتفعت من مرتبة ضعيف جداً إلى نجاح كبير.
فوزي الشتوي(629/36)
رسالة الفن
11 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
عن الأمس وعن اليوم (تابع)
فقلت وأنا أطبق ما شرحه صديقي على التماثيل التي أمامنا:
(لابد وأن يكون صعباً على المرء أن ينفذ إلى أعماق نفوس الآخرين على هذا النحو).
(نعم لا ريب في ذلك) ثم عاود حديثه في شئ من التهكم:
(ولكن أكثر الصعاب التي تصادف الفنان الذي يمثل تمثالا أو يصور صورة لا تأتي من ناحيته ولكن من ناحية العميل الذي يعمل له الفنان. إن الإنسان الذي يطالب الفنان بعمل مثال له يشابهه تمام المشابهة لهو الذي يعنت الفنان عنتاً شديداً بقانون عجيب قاتل. إذ قلما يستطيع امرؤ أن يرى نفسه على حقيقتها، وإن هو استطاع ذلك فانه يأبى على الفنان أن يظهره على تلك الحقيقة. بل يريد منه أن يظهره بمظهر مبتذل تافه. أنه يود أن يبدو كاللعبة التي تحركها الخيوط، يسره أن يظهر بالوظيفة التي يؤديها أو بالمركز الذي يشغله في الهيئة الاجتماعية، وإن يمحى الرجل الذي فيه محواً تاماً. فيرغب الحاكم أن يرى ثوبه المنمق، والقائد عباءته الموشاة بالذهب ولكن قلما يعني أحد منهم بأن تقرأ أخلاقه ونفسيته من صورته.
وفي هذا ما يفسر نجاح الكثيرين من أوساط المصورين والمثالين الذين يقنعون بإبراز المظهر الذي لا يدل على شخصية عملائهم كملابسهم المزخرفة وهيئاتهم الرسمية. أولئك هم الفنانون الذين لهم الحظوة الكبرى لدى الجمهور لأنهم يسدلون على مثلهم ستراً من العظمة والأبهة. وكلما زادت تهاويل الصورة وتزاينتها كانت أقرب إلى اللعبة الجامدة المزوقة، وازداد ارتياح العميل إليها.
ربما لم يكن هذا كذلك في كل الأحوال. إذ يظهر أن بعض سادة القرن الثامن عشر مثلا كانوا يطربون لرؤية أنفسهم مصورين على هيئة ضباع أو نسور على ظهر أنواط من تلك(629/37)
التي كان يصنعها بيزانللو. كانوا ولا شك فخورين بشخصياتهم أو بالحري كانوا قد أحبوا الفن وأجلوه، واستساغوا صراحة الفنان الجافة النابية كما لو كانت جزاء موقعاً من رئيس روحي.
لم يتردد المصور تيتيان في إظهار أنف الباب بولس الثالث على هيئة فنطسية ابن عرس، ولم يحجم عن إيضاح غطرسة شارل الخامس الجافية، أو عن تبيان شهوانية فرانسوا الأول. ومع كل ذلك لم يفقد مكانته أو شهرته لديهم. كذلك كان شأن فلاسكويز الذي لم يملق الملك فيليب الرابع فصوره كرجل غفل خامل برغم ما يبدو عليه من الظرف وحسن الشمائل؛ ولم يتحرز من إظهار فكه المتدلي، ومع ذلك استبقى حظوته لديه فاستحق بذلك الملك الأسباني الإجلال والإكرام من الأجيال القادمة لأنه كان نصير العبقرية وملاذها.
أما رجال اليوم فقد أصبحوا يخشون الحق ويحبون الكذب. ويبدو منهم أنهم يمقتون رؤية أنفسهم على سجيتها في الصور والتماثيل. كلهم يريد أن تكون عليه سيما التجمل والتزين.
حتى أكثر النساء جمالاً ممن لهن قسمات مليحة ممتازة يستبشعن جمالهن وينكرنه عندما يبرزه مثال نابه. فتراهن يضرعن إليه أن يجعلهن دميمات بأن يضفي عليهن ملامح كالتي تبدو على عرائس الأطفال ودماهم.
وعلى ذلك، فعلى المثال الذي يشرع في عمل تمثال أن يخوض غمار معركة طويلة مضنية. وكل ما يهم في الأمر إلا ينكص على عقبيه أو يضعف أو يهن بل يظل ثابتاً مخلصاً لنفسه. فإذا ما رفض عمله زاد الطين بلة. وربما كان الخير في ذلك لأنه غالباً ما يكون لذلك العمل مزايا عظيمة.
أما العميل الذي يقبل قطعة طيبة على غير مشتهاة ورضاه، فانه لا يلبث أن يغير شعوره نحوها عندما يمتدحها الهواة، وينتهي به الأمر أخيراً إلى الإعجاب بها، وبعد ذلك يعلن في صراحة أنه كان يحبها ويقدرها دائماً.
وفضلا عن ذلك أن أروع التماثيل هي ما صنعت للأهل أو للأصدقاء بلا مقابل، وليس ذلك لأن الفنان يعرف مثاله معرفة طيبة من طول النظر إليه ومحبته له فحسب، بل لأن مجرد شعوره بإهداء عمله إليه يطلق له عنان الحرية في العمل.
ومع ذلك فقد رفضت أحسن التماثيل عندما وهبت للأصدقاء بغير مقابل، وعلى الرغم من(629/38)
أنها قطع خالدة، فقد أعدت إهانة للمهدى إليهم. ينبغي على الفنان أن يسير في طريقه قدماً، ويجد تمام لذته وحسن جزائه في أن يقوم بعمله على خير الوجوه وأحسنها)
لقد تابعت باهتمام كبير نفسية الجمهور الذي يتصل به الفنان ولكن يجب علي أن أثبت هنا أن كثيراً من المرارة كانت تمازج تهكم رودان، قلت له:
(ولكن يظهر يا أستاذ أنك أغفلت تجربة من تجارب حرفتك، وهي أنك تصنع تمثالا لعميل لا يحوي رأسه تعبيراً ما أو ينطوي على غباوة ظاهرة. فضحك رودان من قولي ثم أجب:
(هذا لا يمكن أن يحسب في عداد التجارب. ثم لا يجب أن تنسى مبدئي الذي أستمسك به دائماً وهو: أن الطبيعة جميلة أبداً. وليس علينا إلا أن نفهم ما تظهره لنا. أنك تتكلم عن وجه بلا تعبير. وفي الواقع لا يوجد مثل هذا الوجه لدى الفنان الذي عنده أن كل رأس يدعو إلى الاهتمام. دع مثالا يلحظ وجها غفلا ساذجا، أو دعه يظهر لنا معتوهاً منصرفاً إلى العناية بمظاهر دنياه فنرى منه تمثالا جميلا رائعاً.
(ثم أن ما يسمى (بالسطحية) غالباً ما يكون شعوراً غير مكتمل بالنسبة لنقص التعليم والتهذيب وفي تلك الحالة يتخذ الوجه مظهراً غامضاً جذاباً لعقلية تبدو كأنها مقنعة بقناع شفاف).
(وأقول أخيراً. . . ولا أدري وايم الله كيف أفصح عما أريد أن أقول - إن أحقر الرؤوس شاناً، وأقلها خطراً ما هو إلا مستكن لتلك القوة السحرية العجيبة - الحياة. وعلى ذلك فهو معين لا ينضب لعمل الطرفة الفنية الفذة).
شاهدت بعد عدة أيام بمرسم رودان في ميدون صبائب لكثير من تماثيله البديعة. وهناك انتهزت الفرصة وسألته أن يوقفني على الذكريات التي تبعثها تلك التماثيل. كان هناك تمثال فيكتور هوجو - غارقاً في بحار التأمل، جبهته المجعدة كأنها البركان، وشعره الأشعث كأنه ألسنة لهب أبيض تندلع من جمجمته. . . أنه تمثيل صادق للشعر الغنائي الحديث من حيث عمقه واصطخابه. قال رودان:
(إن صديقي بازير هو الذي قدمني لفيكتور هوجو وعرفني به. وكان بازير كاتم سر جريدة المارسيز ثم جريدة الانتران سيجان فيما بعد. وكان يعبد فيكتور هوجو. وكان أول من فكر في عمل حفل سنوي للشاعر العظيم بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. وكان الحفل كما(629/39)
تعلم هادئاً رائعاً. فقد أشرف الشاعر من شرفة منزله يحي الجماهير الغفيرة التي قصدت منزله تطلب مشاهدته. فكان كأنه البطرك يبارك شعبه. ومن أجل ذلك اليوم احتفظ هوجو بامتنان عظيم لذلك الرجل الذي دعا إلى الحفل ونظمه. وهكذا استطاع بازير أن يقدمني إليه في غير مشقة. ولسوء الحظ كان فيكتور هوجو مبتوراً من مثال وسط أسمه فيلان اضطره إلى جلوس ثمان وثلاثين جلسة أخرج له بعدها تمثالا رديئاً. ولهذا فإني عندما تقدمت إليه متعثراً بأذيال الخجل، مبدياً له رغبتي في تخليد قسمات مؤلف (التأملات) قطب حاجبيه الأوليمبيين وقال: (أنا لا أستطيع أن أمنعك من العمل، ولكني أصارحك القول أنني سوف لا اجلس إليك وسوف لا أبدل عادة من عاداتي من أجلك، فدبر أمرك وتخير أداتك.
(يتبع)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(629/40)
من وحي إنكلترا
نهر الجمال
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
في مقاطعة دنفونثير الجميلة بإنكلترا مفاتن من الجمال الطبيعي؛ وأحد هذه المفاتن نهر (الأكس) الذي ينبع من مرتفعات ديفون مارا بمدينة إكستر. وهنا يناجيه الشاعر بهذه الأبيات: -
ألفيتُ في واديك أُنسا ... وصفاء عيش ليس يُنسى
أمسٌ طوته يدُ الغي ... وب فمن يردُّ إلىَّ أمسا؟
أودَعتُ تلك الذكريا ... تِ لديك بالكتمان رمسا
فاحفظْ وديعتَك التي ... خُلِسَت الأيام خلسا. . .
خلتُ الحياةَ على ضفا ... فك لا تزولُ ولا تضيعُ
فإذا الحياةُ قصيرةُ ... وإذا البطيءُ بها سريعُ. . .
وإذا الليالي الذاهبا ... تُ لديك ليس لها رجوعُ
لا دام يا نهرُ الشتا ... ءُ بها. ولا بقيَ الربيعُ
سيَّانِ منبعكَ الموشَّى ... بالبدائع أو مصُّبك
أين الذي روَّيتَه ... ماَء الحياةِ ولا يحبُّك؟
وعلى ضفاف النيل ظَمْ ... آن مُناهُ لو يعبُّك!
القلبُ بَاحَ بسرِّه ... أفهل يبوحُ اليومَ قلبُك؟
تلك الهضابُ الحانيا ... تُ على ضفافك لا تزال؟
وعلى صحيفتك المُضي ... ئة لم تزل تلك الظلالُ؟
وهل الليالي المُقْمِرا ... تُ هناكَ يُحْيها الوصال؟
حيث القلوبُ تشبُّ جذْ ... وتها ويَسْتعرُ الخيال؟
أين الطيورُ الرائحا ... تُ على مياهك والغوادي؟
تلهو الصغارُ بها وتُط ... عمها الوليدةُ بعضَ زادِ
هي آمناتُ السربِ تَمْ ... رَحُ تحت أكناف العباد(629/41)
هل فرَّقتها اليومَ غا ... رات الوحوش على البلاد؟؟
هل ظلَّ منبعك الغزي ... ر من الشَّمالِ كما رأينا؟
وهل المصبُّ كما افترق ... نا في رُباه أو التقينا؟
والصخرة الحمراءُ هل ... بقيت كما كانت علينا؟؟
أين السبيلُ إليكَ يا ... نهر الأحبة أين أينا؟؟
محمد عبد الغني حسن(629/42)
يا شعر!
للمرحوم أبي القاسم الشابي
يا شعر! أنت فم الشعور، وصرخة الروح الكثيب
يا شعر! أنت صدى نحيب القلب، والصب الغريب
يا شعر! أنت مدامّع علقت بأهداب الحياة
يا شعر! أنت دم تفجر من كلوم الكائنات
يا شعر! قلبي - مثلما تدري - شقي مظلم
فيه الجراح النجل يقطر من مغاورها الدم
جمدت على شفتيه أوزار الحياة العابسة
فهو التعيس، به مرارات القلوب البائسة
أبداً ينوح بحرقة بين الأماني الهاوية
كالبلبل الغريد ما بين الزهور الذاوية
كم قد نصحت له بأن يسلو وكم عزيته
فأبى وما أصغى إلى قولي، فما أجديته
كم قلت: صبراً يا فؤاد! أما تكف عن النحيب!
فإذا تجلدت الحياة تبددت شعل اللهيب
يا قلب. لا تجزع أمام تصلب الدهر الهصور
فإذا صرخت توجعاً. هزئت بصرختك الدهور
يا قلب! لا تسخط على الأيام، فالزهر البديع
يصغي لضجات العواصف قبل أنغام الربيع
يا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور
فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور
يا قلب لا تسكب دموعك بالفضاء فتندم
فعلى ابتسامات الفضاء قساوة المتهكم
لكن قلبي وهو مخضل الجوانب بالدموع(629/43)
جاشت به الأحزان إذ طفحت بها تلك الصدوع
يبكي على الحلم البعيد بلوعة لا تنجلي
غردا كصداح الهواتف في الفلاة يقول لي:
طهر كلومك بالدموع وخلها وسبيلها.
إن المدامع لا تضيع حقيرها وجليلها
فمن المدامع ما تدمع جارفاً حسك الحياة
يرمي لهاوية الوجود بكل أشواك الطغاة
فارحم مضاضته ونح معه على أحلامه
فلقد قضى الحلم البديع على لظى آلامه
ردد على سمع الدجى أنات قلبي الواهية
واسكب بأجفان الزهور دموع قلبي الدامية
فلعل قلب الليل أشفق بالقلوب الباكية!
ولعل جفن الزهر احفظ للدموع الجارية!
كم حركت كف الأسى أوتار ذياك الحنين
فتهاطلت أحزان قلبي في أغاريد الأنين
ولكم أرقت مدامعي حتى تقرحت الجفون
ثم التفت فلم أجد قلباً يقاسمني الشجون
فعسى يكون الليل أرحم فهو مثلي يندب
وعسى يصون الزهر دمعي فهو مثلي يسكب
قد قنعت كف السماء الموت بالصمت الرهيب
فغداً كأعماق الكهوف بلا ضجيج أو وجيب
يأتي بأجنحة السكون كأنه الليل البهيم
لكن طيف الموت قاس والدجى طيف رحيم
ما للمنية لا ترق على الحياة النائحة!؟
سيان أفئدة تئن أو القلوب الصادحة؟(629/44)
يا شعر! هل خلق المنون بلا شعور كالجماد؟
لا رعشة تعرو يديه إذا تملقه الفؤاد؟
أرأيت أزهار الربيع وقد ذوت أوراقها
فهوت إلى صدر التراب وقد قضت أشواقها؟
أرأيت شحرو الفلا مترنما بين الغصون
جمد النشيد بصدره لما رأى طيف المنون؟
فقضى وقد غاضت أغاريد الحياة الطاهرة
وهوى من الأغصان ما بين الزهور الباسره
أرأيت أم الطفل تبكي ذلك الطفل الوحيد
لما تناوله بعنف ساعد الموت الشديد؟
أسمعت نوح العاشق الولهان ما بين القبور
يبكي حبيبته فيا لمصارع الموت الجسور؟
طفحت بأعماق الوجود سكينة الصبر الجليد
لما رأى عدل الحياة يضمه اللحد الكنود
فتدفقت لحناً يردده على سمع الدهور
صوت الحياة بضجة تسعى على شفة البحور
يا شعر! أنت نشيد أمواج الخضم الساحرة
الناصعات، الباسمات، الراقصات، الطاهرة
السافرات، الصادحات، مع الحياة، إلى الأبد!
كعرائس الأمل الضحوك يمسن ما طال الأمد
ها إن أزهار الربيع تبسمت أكمامها
ترنو إلى الشفق البعيد تغرها أحلامها
في صدرها أمل يحدق نحو هاتيك النجوم
لكنه أمل ستلحده جبابرة الوجوم
فلسوف تغمض جفنها عن كل أضواء الحياةِ(629/45)
حيث الظلام مخيم في جو ذياك السبات
ها أنها همست بآذان الحياة غريدها
فتلت عصافير الصباح صداحها ونشيدها
يا شعر! أنت نشيد هاتيك الزهور الباسمة
يا ليتني مثل الزهور بلا حياة واجمة
إن الحياة كئيبة مغمورة بدموعها
والشمس أأضجرها الأسى في صحوها وهجوعها
فتجرعت كأساً دهاقا من مشعشعة الشفق
فتمايلت سكرى إلى كهف الحياة ولم تفق
يا شعر! أنت تحيها لما هوت لسباتها
يا شعر! أنت صداحها، في موتها، وحياتها
يا شعر! يا قيثارة الأحلام يا ابن صبابتي
لولاك مت بلوعتي وبشقوتي وكآبتي
فيك انطوت نفسي وفيك سكبت كل مشاعري
فاصدح على قمم الحياة بلوعتي يا طائري
أبي القاسم الشابي(629/46)
البريد الأدبي
في (طبيعي لا طباعي ولا طبعي)
جاء في (اللسان): (والطباع واحد طباع الإنسان على فعال مثل مثال).
وقد ضبطت (طباع) الثانية في هذا الكتاب بالكسر، فتوّهني هذا الضبط، وظننت اللفظة المفردة جمعاً، فقلت في كلمتي (طبيعي لا طباعي ولا طبعي): (والأزهري أو غيره يقول: - كما نقل اللسان والتاج - الطباع واحد طباع الإنسان على فعال قلت: فهو عنده كهجان وهجان ودلاص ودلاص). وقد أخطأ ضابط الطباع هنا بالكسر، وأخطأت أنا في ظني أنها جمع، ومن دأب (اللسان) تكرير العبارات التي ينقلها دون تبيين كاف، والصواب هو ضبط (الطباع) الثانية بالضم، وهي تفسير لقوله (الطباع واحد)، فليست الطباع في هذه الجملة جمعاً.
محمد إسعاف النشاشيبي
بمارستان قلاوون
في الأسبوع الماضي أقام اتحاد خريجي الجامعة في ناديهم حفلة تأبين للدكتور الراحل محجوب ثابت، وقد قام أصدقاء الفقيد وزملائه وطلبته يعددون مآثر الفقيد ويترحمون عليه بما هو أهل له. ولست بصدد الكلام عن الحفلة، بل أقول أن الكلمة الختامية لهذه الحفلة كانت للأستاذ عبد العزيز عبد الحق أستاذ التربية بكلية الشريعة، وقد بين فيها ما كان للفقيد من مشروعات وبرامج إصلاحية من الوجهة التعليمية، وذكر منها: أن الفقيد كان يرمى إلى إنشاء كلية إسلامية للطب يكون مقرها مستشفى قلاوون (البيمارستان)، تلك المستشفى التي زارها كثيرون من الأجانب، والتي وعت كتب التاريخ عنها الشيء الكثير، فقد ذكرت أن الذي كان يقوم بالتدريس في هذا البيمارستان شيوخ معممون من الذين تشبعوا بالثقافة الشرعية والعلوم الإسلامية، وتكون تلك الكلية تابعة للأزهر، وهو بذلك العمل يريد أن يعيد لذلك البيمارستان ما كان له من المجد الغابر والمكانة العظيمة أيام المماليك.
تلك بعض معلومات تناولها الأستاذ عبد العزيز في كلمته ولما كان بعض القوم ليس لهم علم بهذا المشروع، وتساءلوا عنه حين سمعوه، وود البعض الآخر لو يعرفه حق المعرفة،(629/47)
ويفهم مراميه حق الفهم، فإننا تتقدم إلى الأستاذ راجين منه أن يوضح لنا هذا المشروع الذي خفي على بعضهم، والذي أنتجته رأس مفكرة، وقريحة متقدة قبيل الوفاة!
حسين عبد اللطيف السيد
المركسية والحرية الفردية
يقول الأستاذ العقاد في مقاله (السلفية والمستقبلية) أن الحرية الفردية والتبعة الشخصية هي مقياس التقدم التاريخي، وإن الماركسية تقضي على هذه الحرية كما تقضي على التبعة الشخصية، وهو اتهام قديم طالما وجه إلى الماركسية، فالماركسية لا تنفي الفردية وإنما تنفي الانفرادية، وهي لا تهدم الشخصية ولكنها تهدم الانعزال. والانفرادية معناها تجريد الفرد من المجتمع، وعزلته عن الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها، ومعناه إنكار أثر المحيطات والظروف الاجتماعية في حياة الفرد، ومعناها أن الدوافع الحقيقية التي تسيطر على الإنسان تظل مجهولة له، فيتخيل دوافع زائفة أو ظاهرية، ليست في الحقائق المعقولات، ولكنها المثاليات التي نحتفظ بها لا بلا شعور، ولكن بشعور زائف. وعندما تقول الماركسية بأثر التطور في وسائل الإنتاج في التطور التاريخي وفي الروابط القائمة بين بعض الأفراد، وبين الطبقات وبعض، أو على الأصح بين الطبقتين اللتين يتكون منهما المجتمع، فإنها تبنى هذا القول لا على تضارب الترهات، وإنما تبنيه على أن الطبيعة ليست أحداثاً فجائية، لا رابطة تقوم فيها بين الشيء والظاهرة، ولكنها كل مرتبط ببعضه، فيه الأشياء والظواهر مرتبطة حيوياً ارتباطاً يجعل كلا منها أساساً للآخر ومعتمداً عليه ومكيفاً له، وعلى هذا لا يمكن تجريد أي شئ في الطبيعة وأخذه لبحثه في ذاته، وعلى هذا فالانفرادية شئ يتعارض مع قوانين الطبيعة
والماركسية تؤكد الشخصية والفردية، كما تؤكد الحرية حين تقول أنها تقدير الضرورة، وحين تقول أن الضرورة عمياء ما دامت غير مفهومة، وحين تبني التحول في فهم ماهية الأشياء من كونها ذات قيمة ذاتية إلى كونها ذات قيمة لنا، وحين نقول أن الحرية الفردية إذا لم يدعمها استقلال مالي، ومستوى معيشة مرتفع، وإلغاء للملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ولاستغلال اقتصادي، تصبح لا قيمة لها. وحين تعمل على دعم الحرية بعناصرها الحقة،(629/48)
فإن تساوي الفرص وتكافؤها هي عنصر الحرية الأول. أما الانفرادية البرجوازية، انفرادية الأبراج العاجية والأرستقراطية الفكرية والجهل المطبق بروح الجماعات وميزات الشعوب، وأما الاستقلالية البرجوازية، استقلالية الاستغلال والرجعية، وأما الحرية البرجوزاية حرية الأقلية في سلب الأغلبية ثمار عملها، هذه الانفرادية، وهذا الاستقلال، وهذه الحرية، هي التي تنادي الماركسية بهدمها وتكافح لإلغائها، لأنها تتعارض مع اجتماعية الإنسان.
إبراهيم عامر
إلى الدكتور مأمون عبد السلام
أعجبني مقالك في الرسالة (البحث العلمي) بقدر ما أفادني أنها ملاحظات عميقة وإرشادات سديدة لا غنى عنها لكل باحث متتبع. ولا سيما تلك الشروط الحكيمة التي لو سار عليها العلماء والمتعلمون في بلادنا لتقدموا في مضماري العلم والعمل على سواهم.
ذلك قولك: (فإن كشف في بحثه نقطة تخص أحدهم فليبادر بإطلاعه عليه لأن التعاون من روح العمل. وإن عثر على كتب أو نشرات تفيد أحدهم وجب إرسالها إليه لأن ذلك يبعث على توثق العلاقة ومحو التنافر وغرس المحبة والوئام بين أفراد يجب أن يكونوا أدعى الناس إلى التضامن في خدمة العلم والإنسانية).
من ذلك المقال النفيس زدتني تفاؤلا بعدم انعدام الإنسانية وكمونها في نفوس لا تزال نبراساً يستضاء به، وبلسماً للجروح المتسممة وعوناً على نهوض الضعفاء والعاجزين. . .
(نعمانية)
عبد الجبار محمود
جائزة (الكاتب المصري) للقصة
قررت إدارة (الكاتب المصري) للطبع والنشر التي يشرف عليها الدكتور طه حسين بك من الناحية الثقافية إنشاء جائزة سنوية للقصة قدرها مائة جنيه.
وهي تدعو الكتاب والمؤلفين إلى الاستباق لنيل هذه الجائزة. وستحكم بين المستبقين لجنة(629/49)
مكونة قوامها خمسة من كبار الأدباء الممتازين في مصر - وقد حددت آخر موعد لتقديم القصة يوم 31 يناير 1946.
وهذه هي أصول المسابقة:
1 - المسابقة مفتوحة للكتاب العرب جميعاً على اختلاف الأقطار العربية في الشرق والغرب.
2 - الكاتب حر في اختيار الموضوع الذي يكتب فيه لا يقيد بزمان ولا مكان ولا بيئة ولا اتجاه.
3 - يجب أن تمتاز القصة بالابتكار وقوة الخيال وجمال اللغة العربية في الشرق والغرب.
4 - القصة التي تظفر بالجائزة ملك لشركة الكاتب المصري - إدارة الطبع والنشر تطبعها وتذيعها على أن تحتفظ لصاحبها بحق المؤلف وقدره عشرون في المائة من ثمن البيع الفعلي بعد الخصم - وهذا الحق مستمر مهما تتعدد الطبعات. وكل ذلك يجري طبقاً للنظام المعمول به في شركة الكاتب المصري والذي يستطيع كل كاتب أن يطلع عليه.
5 - يجوز لشركة الكاتب المصري أن تطبع القصة الثانية إذا أوصت بذلك لجنة التحكيم وقبله صاحب القصة في حدود النظام الذي أشير إليه في البند السابق.
6 - يرسل الكاتب نسختين من قصته مكتوبة على الآلة الكاتبة بعنوان شركة الكاتب المصري 26 شارع جلال - القاهرة - إدارة الطبع والنشر - ولا تقبل أي قصة تصل بعد تاريخ 31 يناير 1941.(629/50)
القصص
أُم. . .
للكاتب النمسوي فنستر شيافكي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(هذه قصة أم - فرقت عن زوجها - فحاولت وجاهدت وضحت في سبيل رفع ولدها إلى ذروة المجد. . . فهل وفقت؟. . . ذلك ما أبانه (فنستر شيافكي) في سياق هذه القصة، وهي من روائعه ويعد (شيافكي) من كتاب (النمسا) المبرزين في فن القصة، إذ يمتاز بطلاوة أسلوبه وصدق وصفه وسمو معانيه)
(مصطفى)
في ضحوة يوم رائع من خريف سنة 1844 وقفت سيدة في نافذة دارها المعروفة باسم (ستاج هوس) في حي (ليبولد ستادت) تلقي بنظرات حائرة قلقة إلى الطريق؛ وكانت تبدو فاتنة حسناء على الرغم من أنها تدنو من عقدها الرابع. . . أما وجهها فكان مجالا لانفعالات شتى تعانيها امرأة طلقها زوجها، فاضطرت إلى إعالة بنيها. . . وأخذت على عاتقها تربيتهم وتنشئتهم. . .
ويغلب على أخلاق تلك السيدة - وهي من الطبقة المتوسطة - الرَّزانة والتواضع والهدوء. . . ومع بساطة ثوبها شاعت فيه الأناقة والبهاء. . . وينبعث من عينيها شعاع يعبر عما تستران من قلق، ويجول فيهما التوسل إذا ما انحسرت أهدابهما. . .
حانت ساعة الغداء فطرح على المائدة خوان ناصع نظمت فوقه ست صحاف - صنعت في (فينا) - وتوسط المائدة زهرية محلاة بالزخارف وصفت في أنحاء الغرفة أريكة وستة مقاعد كسيت بالمخمل - وقام في أحد جوانبها صوان بأدراج نحاسية الحلقات. . . استقرت فوقه ساعة فوق قاعدة من الرخام. . . أما في الجانب المقابل فصوان آخر عليه صليب غطي بزجاج - رسمت عليه بعض الطيور المائية والبرية - ويوجد في ركن متطرف (بيان) وضعت عليه زهرية فيها زهور ذابلة أما جدران الغرفة فزينت باللوحات الزيتية. . . والصور التذكارية. . .(629/51)
جلس في الحجرة التالية غلام في السادسة عشرة: باهت الوجه، يعلوه الشحوب. . . مكباً على لوحة للرسم وقد انصرف إلى عمله بكل حواسه. بينما جلست على مقربة منه في النافذة فتاتان تحيكان في صمت، وبعد هنيهة اندفع طفل في الثامنة من عمره إلى أمه ودفن رأسه بين ثنايا ردائها. . . وراح يئن ويصيح: (أني جائع يا أماه) فقالت الأم في تهكم وقد أضجرها بنواحه: تناول شيئاً من الملح فسوف تغدو عطشان أيضاً. . .) وراحت تحدث نفسها: (لست أدري ما الذي يفعله إلى الآن، وهو يعلم أني سأقدم إليه اليوم (طبقه المحبوب). لابد أن شيئاً مهماً عاقه عن العودة. . .)
وفي هذه اللحظة دخلت خادمة العائلة العجوز (وابي) تحمل باقة من الزهور وضعتها على المائدة، فسألتها سيدتها في دهشة:
- من ذا الذي بعث بتلك الزهور الجميلة؟!
- أنها من لدني يا سيدتي، وسأهديها إلى سيدي (جوني). . . فاليوم من أدق أيام حياته، ولكني متأكدة من رضائه. . . لقد قال لي عندما تركنا هذا الصباح (انظري يابتي) فهو يناديني (ببتي) لا (وابي) كالآخرين، فهو طيب القلب. . . قال: (انظري يا بتي) إذا عدت بأقدام ثابتة راسخة وفي سترتي زهرة فاعلمي أني نلت ما كنت أطمع إليه، وإذا كانت ساقاي متخاذلتين والزهرة في قبعتي. . . فهذا معناه الفشل والإياب بخفي حنين. . .)
فقالت سيدتها: (ولكنه لم يطلعني على شئ مما تقولين. . . يا إلهي لو أنه نال الإذن الذي يوده! أني لخائفة من رفض طلباته لأني سوف أكون الملومة، فقد كنت أستحسنه وأقف إلى جانبه ضد أبيه. . .)
- أنت مخطئة في زعمك. . فسوف يجاب إلى طلبه وينال بغيته.
- أني لست خائفة من ذلك، فهو لا يهتم بالجيش كاهتمامه بتكوين فرقة موسيقية. . . ولكن. . . ماذا سيؤول إليه أمره أن هو فشل؟ سوف يفقد آماله في العثور على وظيفة في الجيش. . . ويعود إلى البحث عن عمل موسيقي حقير في المطاعم. . . وهذا النوع من الأعمال. . . آه طالما حذره والده من ذلك. . . عن تلك الأعمال شاقة جداً وأفقها ضيق، فواحد في المائة هو الذي ينال مأربه ويرتقي إلى ذروة المجد. . .) فقاطعها يوسف بعد أن ترك لوحة الرسم قائلا:(629/52)
- ولكن جوني سيكون ذلك الشخص. . . فهو عبقري. . . وقد عزف لي لحنه (الولس) الجديد البارحة. . . ولم أسمع من قبل شيئاً يسيطر على النفس ويملك الفؤاد كذلك اللحن. . .
- أصبت يا بني، فهذا اللحن جعلني أضحك وأبكي في آن واحد. . . أنه ليذكرني بلحن أبيه. . . ولكن لحن جوني يداخله شئ من الحرارة. . . شئ من - لا أدري بماذا أعبر. من المؤكد أني لم أكن مخطئة عندما تشاجرت مع أبيه في هذا الشأن. . . لأني أعتقد أن جوني لا يقل عن أبيه عبقرية ونبوغاً. . . أني أعرف بعض الشيء عن هذا اللحن؛ لأن أباك كان يعزف لي أحياناً أنغامه الجديدة في ركن من الحديقة عندما خطبني. . . كنت أصاحبه بالعزف عل قيثارتي. . . وكان يرجع تلك الأنغام ويعيدها حتى تبلغ شأو الإتقان.
- لست أدري سبباً لتلك القسوة التي يصبها والدنا على (جوني)!؟
- ليس من شأنك أن تتحدث عن أبيك أيها الأحمق. . . ربما كان على حق؛ ولكن قلبي لا يدعني في سلام. إن ذلك يعني كل السعادة لذلك الفتى. فبهذا يخبرني قلبي. . .) فصاحت (وابي) في اضطراب.
- هه. . . هاهو سيدي جوني ينحدر إلينا في الطريق. . . ولكن لا أستطيع أن أتبين أن كانت الزهرة في سترته أو في قبعته!) فقالت الأم في مرح:
- أنها لا شك أنباء سارة. . . فها هو يشير بيده إلي.
الزهرة؟ أين الزهرة؟
- أنها من المؤكد في سترته. . .
وبعد لحظات هرول (جوني ستروس) وهو شاب في التاسعة عشرة ذو قوام نحيف وشعر أسود وعينان براقتان. . . وصاح وهو يمسك بورقة في يده: (نلته. . . نلت الإذن. . .) فقالت الأم وهي تتهالك على مقعد:
- (شكراً! شكراً يا الهي. . .) فركع جوني إلى جانب كرسيها. . . وراح يمطر يديها بالقبل. وصاح في حماسة:
- آه يا أماه. . . إن ذلك كله يرجع إلى فضلك أنت. . . أيتها الأم العزيزة. سترين كيف أني سأشرف لقب العائلة. . . أني لتجري في عروقي دماء آل (ستروس) إن رأسي يموج(629/53)
بالأنغام، منها ما يحزن ومنها ما يفرح. . . إن عائلة ستروس ستفخر بي. . . ولن تهدأ ثائرتي حتى أضيف إلى مجدها التالد مجداً طريفاً. . .
- (إذن فقد نلت الإذن للظهور أمام الجمهور. . .) ولكن ما لبثت الأم أن قالت في لهجة حزينة: (لست أدري كيف يتلقى أبوك ذلك النبأ!) فأجاب جوني في غير مبالاة:
- ليس هناك من يكترث لما يقوله أبي. . . كم كنت حزيناً عندما أخبروني أنه يجب أن أحوز موافقة والدي. . . لولا أن السيد (بال) ذلك الحاكم الطيب جعل الأمر في غنى عنها. . . والآن ليس هناك ما يعوق ظهوري أمام الجمهور مديراً لإحدى الفرق الموسيقية. . . أتعلمون ما الذي سيعود علي من ذلك؟! الحرية. . . الشهرة. . . المجد، حياة ترفع الإنسان فوق ذلك العالم الخامل. وداعاً أيتها السجلات. . . لقد حطمت قيودي بعزمي الراسخ واعتدادي بنفسي. . . ضعوني على منصة المدير ودعوني أنصت إلى التصفيق. . . ثم استمعوا إلى تلك الألحان العذبة الشجية التي ستنساب في تسلسل. . .)
وأخذ - في نشوة تلك الحماسة - يراقص والدته ثم خادمته العجوز (وابي).
خيم الصمت على الجميع حول المائدة ما عدا جوني الذي طفق يتحدث عن مشروعاته: -
سأطلق على لحني الجديد اسم (قلب أم) وسنعزفه في صالة (دمرير) ذلك المطعم الشهير. . . والكل يدرك ماذا أعني بذلك الاسم. . . أنه أنت. . . أنت وحدك يا أماه. . . يا من عاونتني على صعود أولى درجات المجد. . . ولكن والدته كانت في شغل عنه، متجهة بتفكيرها إلى والده، وانتبهت واقترحت على جوني أن يسمي اللحن الجديد (الأمر بالمعروف).
وأخيراً حل اليوم الخامس عشر من أكتوبر، وعلم الجمهور من الإعلانات الضخمة مدار الحديث في الأندية والحوانيت والمقاهي. . . أدرك أن (جوني ستروس) كون فرقة موسيقية يديرها لعزف لحنه الجديد في صالة (دمرير) في (هتزيج). . .
واجتمع جميع أهالي (فينا) لمشاهدته: أما نصراً يسمو إلى أوج المجد، أو فشلاً يهبط إلى الحضيض. . . وبلغت حالة التوتر أقصاها بين ذلك الجمع الحاشد،. . . وكان لظهور ذلك الفتى الفتان بمظهر الفنان بتجاعيد رأسه وبريق عينيه اجمل وقع متباين في النفوس. . . وتمت النساء وقد استخفهن الإعجاب فرحن يهتفن ويشدن بعبقرية ذلك الفنان. . . بينما(629/54)
جعل فريق المعضدين يصفقون ويصفرون. . . وقوبل لحن المقدمة بشيء من الفتور وتصفيق ضئيل خلو من حرارة الإعجاب. . .
وجلست في المطبخ - المجاور للصالة - امرأة تحاول أن تسيطر على أعصابها التي شملها الاضطراب. . . فقالت (وابي) العجوز - وكانت جالسة بالقرب منها: (ما هذه إلا المقدمة. . . ولحننا هو التالي. . .)
وكانوا إذ ذاك قد بدءوا في عزفه. . . وانتهى لحن (الأمر بالمعروف). . . انقضت لحظة من الصمت. . . لحظتان. . . ثلاث، ثم إذا بعاصفة من التصفيق ترج أنحاء الصالة. . . وكان ذلك باعثاً على تورد وجنتي الأم بعد أن علاهما الشحوب. . . كانت تقدر مبلغ الإخلاص الذي يقابل به الجمهور لحن ولدها. . . وفجأة سكنت الضجة وأعيد عزف اللحن من جديد وعادت عاصفة التصفيق أشد من الأولى. . . كانت تزيد كلما أعيد عزف اللحن حتى لكان ليس لها نهاية. . .
جلست الأم في مكانها الخفي - وقد ارتضته لنفسها - ترتجف من الابتهاج. . . وأبكمها الفرح فعجزت عن النطق. . . وكانت نيران المطبخ تلقي على وجهها ظلالاً أرجوانية. . . وبغتة اندفع (جوني) إلى ذراعيها واحتضنته، وتدفقت دموع الفرح على وجنتيها في انفعال ظاهر. . . فصاح جوني: -
أسمعت يا أماه؟! لقد كنا على حق دائماً. . . والآن يجب أن نعمل على إغاظة ذلك الرحيل العجوز. . . والدي. . .)
واندفع خارجاً. . . وبدئ في عزف لحن (لوريا ولس) الذي ألفه والده. . . فثار الجمهور وأخذ يصيح ويطلب إعادة لحن (الأمر بالمعروف) فكان هذا فوزاً له. . . وانتصاراً على أبيه. وتنهدت (وابي) العجوز وأغرورقت عيناها بالدموع وقالت (آه. . . لو يرتد لي شبابي وأعود جميلة. . . لقبلت سيدي جوني مراراً، وتكراراً. . .)
وفي طريق العودة في عربتهم. . . مالت الأم على ولدها وطبعت على جبينه قبلة مترعة بالحنان. . . وقالت:
جوني. . . إن هذه ساعة حزني وسعادتي التي لا تقدر يا بنى. . . إني لأشعر كأني ولدتك من جديد. . .)(629/55)
وكانت هذه هي الكلمات الحقة التي قدر لأم أن تعثر عليها. . . أم ضحت بنفسها في سبيل ولدها. . . تجلدت أمام المشقات وذللت ما عرض لها في سبيل تحرير عبقرية ولدها من الاندثار. . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(629/56)
العدد 630 - بتاريخ: 30 - 07 - 1945(/)
أحمد محرم
لصاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا
أيها السادة الأماثل:
حباكم الله، فلقد اجتمعتم في هذا الحفل الحاشد لتكريم سيرة راحل خالد كنت أحب أن أشارككم في الاحتفاء بها، فأحضر بنفسي لأرد بعض الصنيع الأدبي الذي علي لفقيد الشعر العربي المغفور له الأستاذ أحمد محرم؛ فكم له من أياد خالدات على مصر والمصريين، سوف يذكرها له تاريخ الأدب الحديث. فقد أضاف الشاعر الكبير ثروة ضخمة إلى تراثنا الأدبي كنا في أمس الحاجة إليها منذ أن ألقى سامي باشا البارودي بأعنة القيادة إلى خلفائه الفحول: شوقي وحافظ ومحرم ومطران والكاشف. رحم الله من رحلوا، ومتع الباقين بالصحة والعافية
كان شاعرنا الكبير أحمد محرم بين هؤلاء الأعلام علماً بارزاً ساهم بأوفى نصيب في بناء صرح الشعر الحديث، فتجاوبت أرجاء وادي النيل بأصداء قصائده الجياد قرابة نصف قرن، وشعره يعتبر سجلا زاخراً بشتى ألوان السياسة والاجتماع، لم يفرط في صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من شؤون القومية الصادقة والوطنية الكريمة العاملة
وشيء واحد أريد أن أقرره لشاعرنا الكبير، كثيراً ما دار بخلدي، ولعله من خصائص شاعريته - رحمه الله - وهو بهذا الشيء يقف وحده بين سائر أئمة الشعر العربي الحديث، ذلك إنه شاعر الإسلام غير منازع في عصرنا هذا
فلقد توفر منذ حداثته على دراسة آثار الإسلام من علوم ومعارف، ولم يدرج في بيئة دراسية توجهه وتبصره بمناحي الدراسة والتحصيل
. . . فلم نسمع إنه درس في الأزهر أو أي معهد آخر، بل عكف وحده على المنابع الثرة للغة العربية من كلام الله وكلام العرب، يهديه وحي الفطرة النقية، وتدفعه نوازع المواهب الأصيلة، فشب نبتاً كريماً يرويه هذا الورد المورود حتى أينع وأخرج شطأه واستوى على سوقه
وكان لكل ذلك أعمق أثر اضطرب في نفس شاعرنا الكبير مما حداه في أخريات أيامه إلى نظم ملحمته الكبرى (الإلياذة الإسلامية) التي عارض بها (إلياذة هوميروس)، وهو بهذا(630/1)
العمل المجيد الذي جاء نتيجة موفقة لنشاط المواهب التي استوعبت أمجاد الإسلام ومفاخره وأزهى أيامه وعهوده. . .
هو بهذا العمل يقف وحده في الطليعة بين قادة الشعر الحديث. وليس هذا المجهود على ضخامته وفخامته لشاعرنا فحسب، بل أذكر أنني قرأت له في إحدى المجلات الأدبية الكبيرة ثلاث قصائد في موضوع واحد وغرض واحد متباينة في سمو معانيها، وصفاء ألفاظها، ودقة أساليبها، فلا تكرار في المعاني، ولا تشابه في الأساليب والألفاظ. . . تلك قوة منقطعة النظير، لا تواتي إلا من هو في مواهب شاعرنا الممتازة، وعبقريته النادرة، التي تعاونت في تكوينها أسباب الثقافة الإسلامية، وكان ذلك الموضوع الذي أحدثكم عنه هو (غزوة بدر الكبرى)
تلك ناحية باقية تكفي وحدها لتخليد ذكره بين عظماء الفكر الحديث، فهو الشاعر الإسلامي العربي في كل ما ينتجه ذهنه الخصب وخياله الواسع
ديباجة مشرقة، وأداء محكم، وأسلوب أنيق، كل ذلك يصدر عن طبع أصيل في نفس شاعرة تستلهم أصدق مصادر الشعر العربي، وكان يتجلى ذلك حينما تستثار شاعريته الفياضة في موضوع يتصل بمذخوره العربي الخالص
فمشاهد الحركة الإسلامية الأولى ومجالي طبيعتها الشاعرة في عصورها الناصعة تسيل لها نفسه معاني وأخيلة في كثير من الدقة والجمال. تلكم الصحراء، يزورها الشاعر مع رفقة من أصدقائه وأحبائه، فتجري على لسانه قصيدته الرائعة التي حلت بها جريدة الأهرام جانباً كبيراً من صفحتها الأولى أستهلها رحمه الله بقوله:
هي الدنيا التي تسع الجمالا ... فسر إن شئت أو ألق الرحالا
هي الدنيا التي وسعت خيالي ... مررت بها فظننتني خيالا
هذا، ولقد مر شاعرنا الكبير يعبر دنياه كما يقول كالخيال الخاطف، لم يخلف من آثاره العديدة شيئاً مذكوراً، وأرجو أن أوفق في رجائي زميلي صاحب المعالي وزير المعارف ليصدر أمره بطبع أثره الفني القيم الماثل في (الإلياذة الإسلامية)
وبذلك تكون الحكومة قد أدت بعض الحق للشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم، عوض الله اللغة العربية عنه خيراً، وأجزل له بقدر ما أدى إلى وطنه العزيز في نهضته(630/2)
الفكرية الحديثة إنه سميع مجيب.
إبراهيم دسوقي أباظة(630/3)
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
إن الذين رأوا حربين عالميتين، أطلقوا على الأولى (الحرب العظمى)، وعلى الثانية (الحرب العالمية)! يتساءلون اليوم عما يأتي به الغد لهذا البلد الأمين
لقد تبلورت أمانينا عند نهاية الحرب الماضية في كلمة (الاستقلال التام)، فخيل إلينا أنها سلَّم النجاة، وتلقينا من قادتنا أن علة بلادنا هي سيطرة الغالب على مرافق الحياة فيها، وأن العلاج الشافي هو (الاستقلال)!
وهانحن أولاء اليوم - كما بدأنا بالأمس فقط - تغير الإسم، فأصبح (الأماني القومية) بدل عنوان (الاستقلال)، ولكن هناك فارق، ففي الماضي كنا نصدق ونؤمل وننتظر، كنا ننظر إلى القادة نظرة ملؤها الإجلال. أما اليوم، فإننا نجر وراءنا ربيع قرن من التجارب القاسية، والأحلام الضائعة، والآمال التي لم تتحقق. فهل لدى هذا المجموع اليوم من القوى الروحية الواقعة ما يجعله يترقب طلوع شمس الحقيقة، كما تطلع إليها الجيل السابق وعمل للوصول إليها؟
من واجب الجيل الناشئ والمخضرمين أن يوجهوا هذا السؤال إلى أنفسهم أولاً، وأن يعلموا يقيناً أنه قد يسهل تحريك الشعور الوطني أو القومي أو العاطفي، كما حدث عام 1919، ولكن لا نريد أن تتكرر أخطاء 25 عاماً مرة أخرى، فما العمل؟
يجب أن نعرف مقدار ما لدينا من عوامل البناء قبل أن نحرك القوى الدافعة، لكي لا تعرض مشروعاتنا دائما للفشل والتراجع كما حدث في الماضي، وكما يحدث في الوقت الحاضر
ولنا أن نتساءل: إلى أي مدى يمكن أن تسير بنا القوى الروحية والمقاييس العليا والسياسة العاطفية؟ ولماذا تتبخر هذه القيم وتفنى لدى الصدمة الأولى؟
إذا عدنا إلى أنفسنا وجدنا أننا نشأنا على النمط الذي وجدنا عليه آباءنا من قبل، فحملنا أخطاءهم ومزاياهم، وجاء التعليم الحديث الأوربي، فتعلمنا على القدر الذي سمح لنا به، كما صيغت نفوسنا في القالب الذي أراد واضعو هذا التثقيف أن تصاغ عليه، فماذا كانت النتيجة؟(630/4)
جاءت أذواقنا مختلفة، وثقافتنا واهية، ونظرتنا للأشياء ناقصة، وهذه مجتمعة علة هذا التبلبل والتفكك القائم اليوم
واكتفينا بالسير على قدر، والنوم على الأمجاد الماضية، وكانت الوعود غير المعقولة تغذينا، والعبارات المسجعة تشبعنا، وطالما خدرتنا الألفاظ والمقالات المنمقة، فلهونا بالمظهر عن الجوهر وعما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟
وأخوف شيء على مستقبل هذه الأمة أن ننشئ الجيل الجديد على هذا النسق، فهل لدينا من الشجاعة والإخلاص الصحيح ما يدفعنا إلى إنقاذه وحمايته من الأقدار التي لم تنصفنا؟
سؤال تصعب الإجابة عليه، ولكن فلنجتهد أن نواجه أكبر أزمة مرت بالبلاد منذ قرون طويلة، ذلك لأننا نعيش في عالم يتطور بسرعة غريبة لم نعهدها من قبل، وسيصيبنا منه الكثير من الخير والشر معاً.
أضف إلى ذلك أن القيم الروحية والقيود الخلقية التي عشنا أجيالا تحت أكنافها، قد أخذت تنهار ولم تترك ما يحل مكانها، ورأينا في خمس سنوات الحرب، وهي تعدل خمسين عاماً تقدماً مادياً يكاد يكون خاطفاً، وتسابقاً إلى إحراز الغنى والثروة في أي طريق، ويصحب كل هذا تدهور أخلاقي، وفقدان للثقة، وسخرية من كل من يؤمن بالصالح العام، أو يدعو إليه
وأمامنا جيل ناشئ يرجو لأمته حياة أرقى وأعلى وأسعد مما نعيش عليه الآن، وهو جيل سيحاسب ويناقش، وبما إنه إنساني، فمن الطبيعي أن يتعجل الخطوات، بل يخلق الظروف لاستعجالها، وسيتوهم في نفسه القوة والمقدرة، وسيكافح إلى مدنية جديدة أقرب إلى أحلامه وأكثر طلاوة ونفعاً مما ألفناه، وسيقول: إنني أريد أن أحيا حياة أقرب إلى حياة البشر، فماذا أعددنا لهذا اليوم؟
أنا لست بمتشائم، ولن أحاول أن أقلل من طاقة مصر، أو من قيمة القوى الإنشائية والخلقية، ولكني أخشى الأخطار التي تواجه هذا الجيل، وأولها الغرور الذي يتملك الأفراد والجماعات على السواء، وقد أصبح علة من علل المجتمعات الشرقية الناشئة.
إننا ندعوه أن يتعرف على نفسه، فإذا عرف ما ينقصه أسرع إلى استكماله، وإذا اكتشف نواحي القوة الكامنة التي لديه أخذ في تقويتها. ثم ليعرف تماماً أن مقدرات هذا الوطن(630/5)