تلك الغرائب في حلل عدنيات من العبارات كأنهن عرائس قعدن فوق منصات. ولأن تجتاف لفظة غريبة جملة أو بيتاً خير من أن توحد. ولكل لغوي في التصنيف نمط. وإذا أحسن المعري فقد أجاد ابن سيده، وأجاد الجوهري وابن دريد.
لم يكن الشيخ من العبقريين الملهمين، بل كان من العبقريين الدارين المدركين، تعلم واستعلم فعلم، وسأل واستفهم ففهم. وللقائل الملهم حال، وللمدارس حال، ولذاك وحي، ولهذا مقال. والوحي لا يحصل، ولا يؤازيه مؤاز.
وقد استهام الشيخ بلغة العرب، وكان متمناه في دنياه أو مرجاه الأسمى أو مثله الأعلى أن ينبغ فيها وفي علوها فنبغ، وبلغ حيث بلغ. فهويه هو هذه اللغة، وفنون زمانه التي شاء عرفانها هن للمهوى تبع.
وإذا تمادى الشيخ في إعجابه بالعرب الأقدمين، وتطربه سجع محدثين مسجعين فقلد، فقد افتن في تقليده واجتهد، فعد في الشعراء والكتابين من المبدعين. وتذرع أبو العلاء بالله وتحاميده وتماجيده فنظم (اللزوميات) وصاغ أو حاك (الفصول والغايات) والمقاصد لغوية لا ألهانية لا دينية، وأن اشتعلت على أشياء منوعات، ملونات، مهولات قد بدت مثل (صندوق العجب. .) وما كان يغرب حين يغرب حتى يعمي مقالة، ولكن ليعلن قدرة وبراعة. وكيف يكفر معنى قصده وقد اصحبه شرح الغريب من ألفاظه؟
ومؤلفات الشيخ العبقرية هن بنات القصد والنكلف وبنات الأثرية.
(. . . وقد تكلفت في هذا التأليف - يعني الشيخ اللزوميات - ثلاث كلف، الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها. والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك والثالثة انه لزم مع كل روى فيه شيء لا يلزم من ياء أو ثاء أو غير ذلك من الحروف.
ولو لم يجب الشيخ داعي أثريته، ويحقق قوله في لاميته، ويقصد ويتكلف ما كانت أمثال (اللزوميات والفصول والغايات والأيك والغصون) مما عرفناه وحرمناه إياه جهل الجاهلين، وضلال الصلييبن، وتتربة التتر، وحوادث الأيام، وما كانت العربية ازدادت ثروة بباهرات عبقريات تباعت بها، وباعت غيرها من اللغات. وإذا هجن في العلم والأدب تكلف الضعفاء العاجزين حين يتكلفون، فتكلف العباقرة القادرين يجل عن كل تعقيب أو تهجين(605/8)
حرث أبو العلاء القرآن حرثاً عجباً، وسيط هواه بلحمه ودمه، واستهداه فهداه، وذهن أو أدرك من إلهية (الكتاب) وسماويته ومن عربيته الناصعة الصافية ذات الإعجاز، وبلاغته الخارقة العادة ما أدركه الفصحاء البلغاء من العرب في عهد النبي أو كاد يدرك ذلك. ولا تستقلن هذه الكيدودة. ومصنف الشيخ (تظمين الآي) (وهو إن لم نره فقد سمعنا خبره) يبين أنه بلغ في علم (الكتاب) المبالغ - كما يقول الزمخشري - ولا يضمن مثل ذلك التضمين الفائق البديع إلا من خرجه (القرآن) هذا التخريج العظيم البليغ.
(ومن يهد الله فهو المهتدي)
بصر الكتاب الإلهي المحمدي (أحمد بن عبد الله بن سليمان) بعجائبه وآياته فأستيقن واستبصر، وارتوى الشيخ من كوثر البلاغة القرآنية فأزهر الكلام العلائي ونور
نور القرآن قولاً فعلاً وسما صاحبه في القائلين
إنما القرآن هدى الناطقين، إنما القرآن نور العالمين
غث قول لم يهذبه (الكتاب)
والقرآن، القرآن ذلكم الكتاب العجيب المبين، إنه يراه نابغة الأوربيين الأديب العبقري العظيم (جان ولفغنغ غوت) قد أعطي فيه كل مقام حقه، وأخذ كل معنى من مقاصده لفظه، كما يراه قوياً، عظيماً، سامياً، متعالياً، رائعاً، مهيباً قد خرق العادة، فلا غرو أن يبلغ أثره في العالم - كما قال - حيث بلغ.
ألا إن القرآن في الكلام، مثل محمد في الأنام. فإن وجدت لمحمد خطيراً، ألفيت للقرآن نضيراً
(قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)
دعاكم إلى خير الأمور محمد ... وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضحى ... وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكم ما ليس يعجز حمله ... أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جسم وملبس ... وعاقب في قذف النساء الغوافل
وحرم خمراً خلت ألباب شربها ... من الطيش ألباب النعام الجوافل(605/9)
فصلة عليه الله ما ذر شارق ... وما فت مسكاذ كره في المحافل
أبو العلاء (هو جوهرة جاءت إلى الدنيا وذهبت).(605/10)
علل المجتمع المصري
للدكتور محمد صبري
لكل مجتمع علله وآفاته، ولكننا إذا استعرضنا علل المجتمع الأوربي كانت هذه العلل خاصة بمجتمع قد تهيأت له جميع المشخصات القومية، وتجلت مظاهر الضعف فيه. أما المجتمع المصري، فهو مجتمع في طور الانتقال. وقد بدأت مرحلة الانتقال هذه منذ بداية القرن التاسع عشر، ولم تنته إلى اليوم، في حين أن شعباً كالشعب الياباني قطع فترة الانتقال في سنوات.
فما لاشك فيه، مثلاً، أن اللغة قد قطعت شوطاً في طريق التقدم والدقة والمرونة، فتركنا السجع والإطناب وما إليهما، ونحت الكتاب ألفاظاً جديدة ردت إلى اللغة شبابها وبهاءها، ولكن اللغة لا تزال بعيدة من غاياتها، ولا تزال في حالة انتقالية ظاهرة، كما لا يزال تعليمنا العالي في الأزهر والجامعة، وكذلك محاكمنا وقوانيننا مزيجاً من تعاليم القرون الوسطى والعلم الحديث، كما أن حركتنا النسائية بتجاذبها عامل الرجعية والعزلة والجمود من ناحية، وعامل الطفرة والمطالبة بإلغاء نون النسوة من ناحية أخرى.
ومعلوم أن كل حركة تتجاذبها عوامل متضادة، ولا تجد قادة يدفعونها بقوة في طريق الانتقال والتجديد، لابد أن تضطرب في سيرها، وأن تتعثر وتتباطأ ويختل نظامها.
وهذا الاضطراب، أو التردد، يعتور جميع حركاتنا الاجتماعية، لأن قادة الرأي مختلفو الأمزجة ووجهات النظر، ولم نسمع مرة إن مفكرينا وضعوا أساساً ثابتًا لإقامة أي إصلاح؛ بل يغتبط كل منا مطبوع على الأنانية وحب التفرد والظهور بأنه صاحب المشروع الفلاني، فيجب أن يسجل التاريخ باسمه - فرداً كان أو حزباً - ذلك المشروع. إما كيف يدرس المشروع، وكيف ينفذ، وهل ينفذ دفعة واحدة، أو على مراحل، وهل يراعي في تنفيذه الحال والمستقبل، وارتكازه على قواعد من البيئة والظروف، فهذا كله في المحل الثاني وهانحن أولاء قد أنشأنا جامعة فؤاد في القاهرة، ثم أنشأنا جامعة فاروق في الإسكندرية، ونفكر في إنشاء جامعة ثالثة في أسيوط دون أن نتأكد من أن أولاها بلغت الكمال كله أو بعضه، وحققت أغراضها في خدمة العلم الصحيح. وقد أنشأنا في إحداها صالة احتفالات بلغت تكاليفها، فيما يقال، مائة وأربعين ألفاً من الجنيهات، بينما يشقى(605/11)
بعض علمائنا وأدبائنا الأعلام في الجري وراء القوت اليومي، ولا يجد عض طلبة العلم ما يسدون به رمقهم في بعثة علمية منزهة عن المحسوبية وما إليها.
والواقع أن عللنا وآفاتنا كثيرة نشأ معظمها من الاستعباد وطول عهوده، وقد أصبحنا وفينا مركب الشعور بالنقص ? وهذا واضح جلى في (معاملات) المصريين والأجانب، وما بقيت هذه العلة بغير علاج حاسم فستظل (الامتيازات) في نفوسنا وأخلاقنا وإن تكن قد محيت في الورق والمعاهدات
وقد أصبحت هذه الحالة مدعاة لليأس والتشاؤم؛ ففريق من المصريين يقول: إنه لا أمل في إصلاح هذا الشعب. وفريق من الأجانب، وعلى رأسهم المؤرخ الكبير جبرائيل هانوتو، يقولون: إن مصر لا غنى لها عن الأجانب، وإن مركزها الجغرافي إلى جانب ذلك يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التي تهيمن على البحر الأبيض، أي قبول الاستعباد في شكل من أشكاله
وقد أخطأ الفريقان في نظرهم وتشاؤمهم، ويرجع ذلك الخطأ إلى انهما قد أصدرا حكماً على الشعب المصري باعتباره قد استكمل أداته للكفاح، وأخذ أهبته وجرب وكبر واستقر، وبعبارة أخرى قد قطع مرحلة الانتقال وظهرت ملامح شخصيته الثابتة من حسنات وعلل وعورات
ولو أنهما انتبها إلى أن حالة مصر اليوم لا تزال حالة انتقالية، وأن بعض العلل التي نراها ليست من العلل (المزمنة)، وقد تكون غريبة عن جوهر الخلق المصري الصحيح، وإنها إذا عولجت انتفت عنه، وزالت كما يزول كل عرض، أقول لو انهما انتبها إلى ذلك لفهما أن تشاؤمهما أكبر خط يتهدد الفكرة الإصلاحية بل وكل فكرة تطمح إلى المثل العليا، والسير بالبلاد إلى ابعد الغايات.
محمد صبري(605/12)
الرقص الكلاسيكي
للدكتور محمد مندور
بدا لي أن أكتب عن الرقص، وذلك أملا مني في تقويم الأخلاق، وقد يلوح هذا غريباً، فكيف نقوم الأخلاق بالحديث عن الرقص، ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعي والتعبيري، لا الرقص الشرقي طبعاً، يورث من يزاوله من رجال ونساء قوة في الجسم تحرر النفس من آفاتها
وقديماً حرص سقراط الشيخ على أن يتعلمه ليقلل من قيح جسمه المنبعج، ويقوي من ضعفه، فقال لأصدقائه وتلاميذه وقد اجتمعوا يوماً بمنزل أحدهم غلام يعلم الرقص: (أتضحكون مني لأني أريد برياضة جسمي أن أتعهد صحتي فأمتنع بأكل هنئ ونوم سليم؟! أتضحكون لأنكم تعتقدون أن شيخاً مثلي لن يصاحب مدرباً رياضياً إلى الخلاء فيعري جسمه أمام الجماهير، بل يقنع بغرفة طعام كهذه التي يكتفي بها هذا الغلام؟! أتضحكون لأني سأتدرب في الشتاء تحت السقف وفي الصيف تحت الظلال إذا اشتدت حرارة الشمس؟! أم تضحكون لأنني رحت ببطن كبير إلى حد ما فأردت أن أرده إلى الحجم معقول!؟)
وفي هذا يقول شاعر الإغريق أنا كريون. (عندما يرقص الشيخ لا ترى فيه عجوزاً غير شعره، وأما روحه فلا تزال فتية)
والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح، وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في إن هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى الجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدماً. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور.
ولو أنك قارنت بين الرقص الشرقي والرقص الغربي لأدركت الفارق بين المشاعر التي يثيرها كل منهما، فالرقص الشرقي رقص تمرد جسمي، حركاته زوايا لا منحنيات، وهو إثارة للغريزة الجنسية فحسب، وإما الرقص الغربي فإيقاع وتعبير، وهو في أصح أوضاعه(605/13)
يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة، ففيه عنصر التموج والاستمرار. وليس بخاف أن الحياة كلها تموجات موقعة، فالصوت والضوء والموج والريح والشجر وأوراقه، كلها تموجات أو تهتز موقعة في موجات. والحركة دائرة مستمرة حتى في الجماد حيث ترقص الذرات الكهربائية. والراقص أو الراقصة في أوروبا لا يخترع حركات وإنما يكتشف حركات، يكتشف ما هو كامن في نظام الحياة والوجود، وإن كان لا يقف عند الإحساس إلى الدرس، ويروض نفسه على تشرب موسيقاها بالتدريب الطويل المتصل حتى يجيد فهمهما فتصبح الحركة تعبيراً عن معاني النفس.
لقد أخذنا نعني في الشرق بتثقيف العقول، ولست ادعي أننا قد نجحنا كل النجاح في هذا التثقيف ولكنني أحسبه شيئاً يذكر إذا قارناه في بتثقيف الإحساس. ولقد فطن الناس إلى أن الشيء الرائع في تربية الإغريق القدماء كان عنايتهم بتنمية حاسة الجمال في النفوس عن طريق رياضة الجسم ورياضة الروح، فأفلاطون نفسه قد قصر منهج التربية في جمهوريته على العلوم الرياضية والموسيقى والرياضة البدنية، وبذلك يجمع بين تقويم العقل والإحساس والجسم، ويقيم بين ثلاثتها توازناً هو عماد النفس القوية. ولقد كان الرقص جزءاً هاماً من رياضتهم، وذلك سواء أكان حربياً أم فنياً، ولقد كان المقاتلون لا يسيرون إلى القتال إلا بعد أن يثيروا في نفوسهم الحماسة والنشوة بالرقص الموقع توقيعاً قوياً، حتى لقد قال أفلاطون بلسان سقراط: إن أكثر الناس تبجيلاً للآلهة في حلقات الرقص هم أشجعهم ضراوة على القتال في الميادين)
والإنسانية منذ أقدم عصورها لم تعرف الرقص منفصلاً عن غيره من الفنون. فمنذ الأزل والناس يجمعون بينه وبين الموسيقى والشعر في ثالوث فني يستهوي أفئدتهم. وربما كان الرقص أقدم هذه العناصر وأكثرها انتشاراً، فالحركة لا ريب قد سبقت اللفظ في التعبير. وفي الجسم إيقاع عضوي يتحرك لنغمات الطبيعة، على غير وعي منا، وعند الإغريق القدماء لم يكن الرقص والغناء والموسيقى مجتمعة مقصورة على مواكب النصر أو ولائم المرح، بل كانت تكون العناصر الأساسية في التمثيل المسرحي أيضاً. وهم لم يعرفوا تمثيلاً يقوم على الحوار والحركة لمسرحة فحسب، فكل مسرحياتهم يتخللها الرقص والموسيقى. وإلى جوار الممثلين تجد دائماً فرقة المغنين وعلى رأسهم عازف الناي. ومن(605/14)
كبار مؤلفيهم كسوفوكليس من كان يجيد الرقص والعزف ويشترك فيهما اشتراكاً فعلياً. ولقد كان ذلك من مواضع فخارهم، فتلك فنون كانت تشارك فيها آلهتهم ذاتها، ولكم من مرة رأس الإله هرميس أو الإله أبوللون بأعلى الأولمب وفي محضر كبير الآلهة زوس جوقات تعزف وترقص لتطرب الآلهة. ولقد جعلوا للرقص ربة ترعاهم كما جعلوا للموسيقى والشعر ربات. وليس من شك في أن إقبال الإغريق على الحياة ومحبتهم لها وإمعانهم فيها قد فجر في نفوسهم ينابيع الابتكار والخلق. وليس من شك كذلك في أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق. .
ولقد رأيت العصور الحديثة نهضة رائعة في فن الرقص بفضل (الباليه) الروسية والسويدية، وكان الفنان الكبير جاك دالكروز فضل إثراء فن الإيقاع وتحميله أنواعاً من التعبير الإنساني العميق. وكم طرب الأوربيون لرقص نيجنسكي وكار سافينا وإيزادورا دونكان ولوي فولر وبافلوفا وأرجنتينا. واستهوى الرقص ألباب كبار رجال الفن والأدب. ولقد كانت إيزادورا دونكان تلتهب حماسة لفن النحات الكبير رودان، وكيف كان رودان يعجب برشاقة الحركة وجمالها عند تلك الراقصة الروحية الكبيرة.
ومنذ سنين قليلة كتب الشاعر الفرنسي الشهير بول فاليري حواراً رائعاً عن الرقص، وفيه يقيم توازناً متصلاً بين الحركات الراقص وحركات المفكر الذهنية، ولفهم هذه العلاقة دعنا ننصت إلى فقرة رائعة من مذكرات دونكان: (لقد أنفقت أياماً وليالي كاملة في (الأتيليه) لأبحث عن رقص يستطيع بحركات الجسم أن يعبر عن الروح تعبيراً إلهياً. ولساعات طويلة كنت أقف ساكنة جامعة يدي إلى صدري ووالدتي ذاهلة من موقفي هذا، ولكنني أنهيت بأن اكتشفت الدافع الأساسي لكل حركة، والبؤرة القوية التي تنفذ منها وحدة الأوضاع.
ومدرسة الرقص التقليدية تلقن تلاميذها أن المركز الأساسي للحركة قائم وسط الظهر عند نهاية العمود الفقري من أسفل، ومن هذا المركز تنطلق حركات الأذرع والأرجل والجذع حرة، ولكنها عندئذ لن تكون غير حرية عرائس من الخشب، ولن ينتج عن رقص كهذا غير حركات آلية مصطنعة غير جديرة بالروح، والذي كنت أبحث عنه لم يكن مصدرها(605/15)
هذا النوع من الحركات، بل مصدرها حركات النفس التي تشيع في الجسد وقد امتلأ ضوءاً فتعكس فيه رؤية مشرقة. وبعد أشهر طويلة من الجهد المتصل ركزت فيها اهتمامي في هذه البؤرة الموحدة لاحظت أنني عندما أنصت إلى الموسيقى تنساب إلى أشعة وموجات. تجري في فيض متلاحق نحو منبع الضياء في نفسي حيث تنعكس الرؤية المشرقة. ولم يكن هذا المنبع مرآة نفسي بل مرآة روحي وبفضل إشراق تلك الرؤية كنت أستطيع أن اعبر عن الموجات الموسيقية بحركات راقصة). ولا غرابة في ذلك فقد ولدت ايزادورا الأمريكية الأصل على شواطئ البحار فاعترفت بأن فكرة الرقص لم تأتيها إلا من مشاهدة أمواج البحر، وكان أول رقص لها على إيقاع ذلك الموج. وما من شك في أن للنفوس البشرية إيقاعاً يناغم إيقاع الطبيعة. ولقد قالت تلك الأديبة البارعة (أن الرقص كان موجوداً في نفسها ولكنه نائم فأيقظته)
وما أريد أن أختم هذا المقال دون أن أذكر أحد أساتذتي الفرنسيين وهو لويس سيشان، وقد كان رجلاً جاداً على رقة نفسه، رجلاً حي القلب حي الضمير، وقد تعلقت تعاليمه فبحث عن مؤلفاته، وإذا من بينها كتاب قيم عن الرقص عند الإغريق القدماء، فدهشت لأستاذ في الجامعة يكتب عن الرقص، وكنت لا أزال حديث عهد بالشرق وأحكامه، ولكنني لم أكد أتناول الكتاب حتى وجدته قد صدره في أول صفحة بثلاث كلمات لأفلاطون قالها الفيلسوف عن الشعر، وأبي أستاذنا إلا أن يطلقها على الرقص، وهي قوله (شئ خفيف مجنح مقدس)
محمد مندور
المحامي
-(605/16)
على هامش النقد
قصص وأساطير
1 - أساطير الحب والجمال. . . . . دريني خشبة
2 - عشاق العرب. . . . . . . . . كامل عجلان
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
ليس هذا الكتاب (ترجمة) بالمعنى الكامل وليس (تأليفاً) كذلك، فهو استعراض لهذه الأساطير عند الإغريق مطلق من التقليد النصوص. . . ولست أدري أكان من الخير أن يسلك المؤلف هذا الطريق، أم أن يسلك طريق الترجمة الدقيقة لأصل من أصول هذه الأساطير أو لبحث حولها أو لتفسير. ولكن وجودها في المكتبة العربية - على وضع من الأوضاع - هو بدون شك كسب لهذه المكتبة كبير. وقد تلقيتها بفرح، وعشت معها أسبوعين؛ كانا فرصة لأن أعاود قراءة ترجمة الإلياذة الإغريقية، والشاهنامة الفارسية، والرامايانا الهندية، وبعض الأساطير المصرية، لأعيش فترة من الزمن في هذا الجو الأسطوري الجميل، ولأصحاب الطفولة البشرية العذبة. بعض الوقت، ولتكون لدي الفرصة - على قدر الإمكان - لملاحظة الخصائص القومية في الأساطير والملاحم. وهي أصدق المعايير. لأنها من عمل الشعوب في الحقيقة لا من عمل الأفراد.
وقد أثار وجود هذه المجموعة في اللغة العربية، شوقي لأن يوجد لها نظير عن (الأساطير المصرية)، ومجموعة عن (الأساطير الهندية). وإن كنت قد سمعت - ولم أقرأ - عن مجموعة صدرت للأساطير الشرقية
أن مصر القديمة. مصر العريقة، مصر الضاربة في مجاهل الأبد، النابتة في جذور التاريخ. إن لمصر هذه أساطير راقية وحياة روحية رفيعة. وقد ثبت بما لاشك فيه أن الإغريق قد تناقلوا كثيراً من هذه الأساطير، وتسلفوا الكثيرين من الآلهة من هنا من مصر! وثقفوا ثقافة مصر الروحية والعلمية والاجتماعية والقانونية، ثم أقاموا عليها حضاراتهم بعد(605/17)
ألف عام.
ولكننا نفتن عن هذا كله، فلا نلتفت إلى هذه الذخيرة الضخمة التي لا تزال العالم الحي يقبس منها. ففي عصرنا الحاضر يوجد في أوربا من النحاتين من يقيمون مذاهبهم على أساس الفن المصري القديم، ويوجد من رجال الآثار ومن رجال الأدب من يتعمق دراسة الآثار الروحية والدينية لمصر القديمة، ومن يحيل هذا الزاد طعاماً حاضراً شهياً، يزيد به ألوان المائدة العالمية
أما في مصر فلا شيء من هذا كله. إنما يكتب المفتونون منا بالحضارة الإغريقية، فيصورونها حضارة هبطت من سماء الأولمب، ولم تستق مرة واحدة من نبع النيل، اللهم إلا رجلاً عظيماً - عظيماً جداً لأنه نجا من هذه الفتنة - هو المرحوم عبد القادر حمزة باشا، ذلك الذي حاول في كتابه الخالد (على هامش التاريخ القديم) أن يكتشف لقراء العربية عن هذا الدين القديم!
وللشرق على وجه العموم - ولاسيما الهند - ثقافاته العريقة، ثقافاته الروحية والفكرية. ولكن المكتبة العربية منها خواء. وعندما عثرت على ترجمة مختصرة لرامايانا (مجازفات راما) من (مطبوعات مجلة النفير) أحسست أنني عثرت على شئ نادر! ليس من مثله إلا القليل. شيء نادر لأنه شرقي. ونحن المفتونين عن مصر وعن الشرق. لا نحفل من هذه الذخائر ما تحفله الأمم الحية في الغرب، التي تستنقذ كل ما خلفت البشرية من ثقافات فتحيله غذاء شهياً على مائدتها الحافلة بالشهي اللذيذ!
أفلم يئن لنا أن نعرف أنفسنا كما عرفها العالم المتحضر؟
إنني لأشعر بفيض من السعادة يوم أجد المكتبة العربية حافلة بالمترجمات من كل الثقافات العالم. على ألا يبقى ركن الثقافة المصرية وركن الثقافة الشرقية كما هما اليوم يعشش فيهما العنكبوت!!!
يحس القارئ للأساطير الإغريقية أن الحياة المتنزية الوثابة هي الحكم في هذا الكون العريض، بينما يحس في الأساطير المصرية أن العدل والخير والمبادئ الخلقية هي القانون أما الأساطير الهندية فتخيل إليه أن التضحية والصبر والتسامح هي محور الوجود. فإذا اجتازها إلى الأساطير الفارسية أحس أن القوة والمراسم والنظام هي دعائم الحياة (وذلك(605/18)
على تقارب الهند وفارس في الأصل الآري القديم).
وأوضح الأمثلة على هذه الملاحظات أساطير هرقل، وأوزريس، وراما، ورستم.
فمجازفات هرقل كلها تنفيذ لقضاء أعمى مبعثه نزوة شخصية لبعض الآلهة. ومأساة أوزريس هي تغليب للعدل والخير على الظلم والشر، وقد وقفت قوى الآلهة في صفه تحقيقاً لهذه المثل العالية.
ومجازفات راما كلها تنفيذ لعهد واجب الوفاء مهما يكن في سبيله من تضحيات فوق الطاقة البشرية المحدودة، ووقائع رستم كلها تمجيد للقوة الخارقة التي تخضع مع هذا النظام وتعترف بمراسيم السلطان!
تجمع آلهة الإغريق إلى قدرة الآلهة حماقات البشر. قانونها شهواتها. تحبط كيفما قادتها البدوات والنزوات. ويقع الخير في أعمالها كما يقع الشر كأنما هو اندفاع من اندفاعات الحيوية النابضة في الوجود. أما آلهة المصريين فتهدف في تصرفاتها إلى تحقيق مبادئ خلقية وإنسانية قوامها الخير والعدل والفضيلة. . .
ألا ما أحوجنا إلى أن تكون أساطير العالم كله بين أيدينا لنعرف حقائق الشعوب! إن غاندي وصبره وسماحته مثلاً، لا يفهم كما لا يفهم تاجور إلا بمدد من الأساطير الهندية تشرح عناصر النفس الهندية وتفسرها خير تفسير.
وشيء آخر يحسه القارئ الأساطير الإغريقية. يحس بالعبادة للطبيعة، والفتنة بالجمال، والنشوة بالحركة. الحركة العنيفة. التي لا تقرا ولا تهدا في اللذة والألم. وفي السعادة والشقاء. والحب والبغضاء، ويعيش في ذلك الجو المرفرف الطليق الذي هو مزاج من العرائس والجنيات؛ ومن المفاتن والشهوات، ومن المكائد والمجازفات. ومن الطبيعة الساحرة الفاتنة الحية الفائضة بالحياة المتجاوبة مع كل شيء في هذا الكون الكبير! إنها حياة تشوق وتعجب وتثير الحس والوجدان.
ويجب أن أقول: إن الأستاذ دريني خشبة قد افلح في نقل هذا الجو الحي الفائض بالحيوية، وان أسلوبه قد اضطلع بتصوير الحركة التي لا تهدأ في هذه الأساطير. وإن هذا وحده لشيء رائع في حد ذاته.
ولكن! - ووددت ألا أجد مكاناً فيما أقول.!(605/19)
لقد قادته رغبة التجويد في التعبير، والتفخيم في الأسلوب إلى أشياء أود لو تنبه لها كل مؤلف. ومترجم على وجه خاص:
إن المطلوب في الترجمة - خاصة - ليس هو نقل المعاني والأفكار فحسب، ولكن نقل الجو الذي تعيش فيه هذه المعاني والأفكار. هذا الجو رهن بطريقة الأداء وبألفاظ الأداء. وفي كل لغة بعض الاصطلاحات وبعض الألفاظ. تعد بضاعة محلية. لا سبيل إلى نقلها من بيئتها إلى أية بيئة أخرى. ذلك أنها تشع جواً إقليمياً أو قومياً خاصاً يتمثله الخيال بمجرد نطقها في أي مجال.
هذه الألفاظ وهذه التعبيرات موجودة في اللغة العربية.
وهي تصور جوها بمجرد ورودها. - وهي لحسن الحظ قليلة نسبياً بالقياس إلى معجم اللغة اللغوي والفني - وهي لا تصلح للاستخدام في الترجمة على وجه خاص، لأنها تعارض الجو الذي يجب نقله؛ وتعترض الخيال المستغرق في جو خاص بقطعة من الجو العربي البحث الذي لا انسجام بينه وبين ذلك الجو الخاص
إن للألفاظ والتراكيب أرواحاً كما لأفراد الإنسان. وكثيراً ما خيل إلي وأنا أقرأ بعض المترجمات، أن المترجم يقذف برجل بدوي في زيه الخاص على المسرح بين جماعة من الأوربيين، فيخيل بكل انسجام!
وفي أساطير الحب والجمال شيء من هذا: يتمثل في بعضه استعباد النصوص للمؤلف، كما تتمثل في بعضه الفتنة بالأغراب. ولا يتسع المجال لاستعراض جميع هذه المواضع فنكتفي ببعض الأمثال:
1 - من الأمثلة على استعباد النصوص، أن يرد في أسطورة إغريقية وثنية قول أبوللو لابنه: (فسر دربها تصل إن شاء الله) فطريف هنا ذكر (إن شاء الله) من إلهي إغريقي ودع عنك (سر على دربها) وما تمثله من بيئة صحراوية. وأن يرد كذلك في كلام هذا الإله نفسه: (ولا تنس السماء التي تجري فوقي لمستقر لها) وما فيه من جو قرآني ينقل القارئ من أساطير الإغريق إلى القرآن الكريم. ومثله وصف شارون حارس الجحيم كما وصفها القرآن: (لا تبقي ولا تذر، وإنها أبداً ترمى بشرر كالقصر)
وكثير من هذه النصوص القرآنية ومن مأثورات الشعر العربي والتعبيرات الإسلامية(605/20)
البحتة يتعارض في بعض الأحيان لا مع الجو الأسطوري فحسب ولكن مع الحقائق الموضوعية كذلك أو مع المشاهدات الواقعية. فلست أحسب أن (المنافقين في الدرك الأسفل من النار) تمت بصلة إلى أوضاع الجحيم الإغريقي! ولست أحسب أن الكبش حين يذبح (يتل للجبين) كما تل إبراهيم ولده للجبين في القرآن. فالكبش يتل للجنب، لأنه لا يذبح على طريقة ذبح الإنسان!. . . ولست أحسب أن عرائس الماء كانت تقول كما قالت نساء امرأة العزيز في القرآن: (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) أو أن عجوزاً أسطورية تقول لفتى إغريقي: (ألم تسمع من يقول: (وكم لظلام الليل عندي من يد) وتلك شطرة شعر عربي لم تكن قيلت بعد حتى يسمعها الفتى المسكين!. . . وهكذا وهكذا من هذه الأمثلة لاستعباد النصوص للمؤلف، واضطراب الجو الأسطوري الإغريقي بما يلقي فيه من ظلال عربية أو إسلامية خاصة لا تتفق مع هذا الجو بحال.
2 - وأما الفتنة بالأغراب فقد ظهرت كذلك في مواضع كثيرة: فلست ادري لم تنبذ كلمة المرآة ليوضع مكانها (السنجنجل) ولا كلمة نعش ليوضع مكانها (إران) ولا كلمة الظمأ ليوضع مكانها (الجواد) ولا كلمة المساند لتوضع مكانها (الحسبانات). كما لا أفهم أن تكون الفتاة الإغريقية (خدلجة)! ولا جماعة الفتيات (ربربا)
ولي من عاداتي أن أقف للأخطاء اللغوية البحتة ولكنني أنبه هنا إلى غلطات قليلة لعل معظمها من أخطاء المطبعة.
ولكم وددت أن يخلص كتاب الأستاذ دريني من هذا كله ليتم المتاع به في جوه الإغريقي الأصيل!
- 2 -
و (عشاق العرب) إنه هو الآخر ليس (ترجمة) وليس (تأليفاً)! ولكنه في هذه المرة مزاج بينهما عن أقاصيص الحب العربي. فلقد عمد الأستاذ (كامل عجلان) إلى بعض أخبار المحبين المبعثرة في المراجع العربية، التي لا يتيسر العثور عليها لشبان الجيل، أن معداتهم الرقيقة لا تستطيع هضم هذه المراجع الجافة. فصاغ منها قصصاً بأسلوب الحوار. وجعل من الخبر أو من مجموعة الأخبار رواية حب في فصل أو فصول. فكانت من ذلك روايات: حبابة مع يزيد بن عبد الملك. وزينب مع ابن سلام ومع يزيد ن معاوية. ولبنى(605/21)
مع قيس ثم غادة الهردج مع الآمر بأحكام الله ومع الشاعر ابن مياح (في أربعة فصول)
وأنا اعد هذا العمل خليطاً من الترجمة والتأليف فالواقع أننا حين نعرض بعض النصوص القديمة في أسلوبنا الحديث إنما نقوم بعملية ترجمة من معجم جيل إلى معجم جيل. ومن طريقة عرض قديمة إلى طريقة عرض جديدة. وقد كان هذا القسم من عمل الأستاذ كامل عجلان موفقاً ونافعاً. وهو طريقة من طرق الإحياء لتراث المكتبة العربية.
وأما القسم الثاني فلم يستكمل مداه. ذلك انه افرط في التقيد بالنصوص التاريخية، فلم يتسع أمامه المجال للخلق الفني. وإن يكن حين وسع على نفسه بعض الشيء قد رسم خطوطاً موفقة في ملامح بعض الشخصيات كشخصية (برغش) المهرج في غادة الهودج. وقد نص هو في المقدمة على أن قصده كان مجرد الإحياء والإمتاع بهذا القديم المهجور
فإذا كان معتزماً إخراج مجموعة أخرى كما قال في نهاية الكتاب فوصيتنا إليه أن يخطو خطوة أخرى فيعنى بتصوير الشخصيات الروائية، وتسجيل الانفعالات النفسية، وألا يكتفي بعرض الحادثة التاريخية، بطريقة حوارية. ولعله حين يفعل هذا يستغني عن كثير من الإشارات المسرحية التي كثرت في كتابه لتهيئة الجو للقارئ. فالحوار يجب أن يستقل برسم هذا الجو بطبيعة ألفاظه الموحية لا بالإشارات المسرحية الخارجية.
وبعد فقد استمتعت بهذه القصص. أنا الذي تستطيع معدتي الخشنة أن تهضم أصولها القديمة فما اجدر شبابنا الرقيق اللطيف أن يستمتع بها إذ لا مورد له سواها!
سيد قطب(605/22)
إشهار الرؤوس المقطوعة
في أيام العباسيين
(بقية المنشور في العدد الماضي)
للأستاذ ميخائيل عواد
ثالثاً - رؤوس متفرقة
1 - الرؤوس في مصر
قال المقريزي في كلامه على دار الوزارة الكبرى: (. . . . . وأخبرني شيخ معمر يعرف الشيخ على السعودي، ولد في سنة سبع وسبعمائة، قال: رأيت مرة وقد سقط من ظهر الرباط المجاور لخانقاه بييرس من جملة ما بقي من سور دار الوزارة جانب ظهرت منه علبة فيها رأس إنسان كبير، وعندي أن هذا الرأس من جملة رؤوس الأمراء البرقية الذين قتلهم ضرغام في أيام وزارته للعاضد بعد شاور؛ فأنه كان عمل الحيلة عليهم بدار الوزارة، وصار يستدعي واحداً بعد واحد إلى خزانة الدار ويوهم أنه يخلع عليهم، فإذا صار واحد منهم في الخزانة قتل وقطع رأسه وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وكانت دار الوزارة في الدولة الفاطمية تشتمل على عدة قاعات ومساكن. .)
ومما حفلت به سنة 410هـ من الأحداث أن (جرد صاحب مصر جيشاً لقتال صالح بن مرداس صاحب حلب، وبعث الجيش مع نوشتكين التزبري، فكانت الواقعة عند شاطئ نهر الأردن، فاستظهر التزبري وقتل صالحاً وابنه، وأنفذ رأسيهما إلى مصر. . . .)
2 - الرؤوس في قندهار:
قندهار من بلاد السند. قد وقفنا في بعض أخبار سنة 304هـ على أنه (ورد الكتاب من خراسان يذكر فيه انه وجد بالقندهار في أبراج سورها برج متصل بها، فيه خمسة آلاف رأس في سلال من حشيش، ومن الرؤوس تسعة وعشرون رأسا، في أذن كل رأس منها رقعة مشدودة بخيط ابر يسم باسم كل رجل منهم. والأسماء: شريح بن حيان، خباب بن الزبير، الخليل بن موسى التميمي، الحارث بن عبد الله، طلق بن معاذ السلمي، حاتم بن(605/23)
حسنة، هانيء بن عروة، عمر بن علان، جرير بن عباد المدني، جابر بن خبيب ابن الزبير، فرقد بن الزبير السعدي، عبد الله بن سليمان بن عمارة، سليمان بن عمارة، مالك بن طرخان صاحب لواء عقيل، ابن لهيل بن عمرو، عمرو بن حيان، سعيد بن عتاب الكندي، حبيب بن أنس، هرون بن عروة، غيلان بن العلاء، جبريل بن عبادة، عبد الله البجلي، مطرف بن صبح، ختن عثمان بن عفان (رض) - وجدوا على حالهم إلا أنهم قد جفت جلودهم والشعر عليها بحالته لم يتغير، وفي الرقاع من سنة 70 من الهجرة).
رابعا: الطواف بالرؤوس في الآفاق:
هذا لون آخر من ألوان عرض الرؤوس، فقد كانت تنصب ببغداد أياما فوق الأماكن البارزة ثم تحط، فمنها ما يستقر في خزانة الرؤوس، ومنها ما يرسل به إلى البلدان فيعرض في كل بلد وكورة، فيكون عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن تسول له نفسه الخروج عن طاعة أمير المؤمنين. وكانت من هذه الرؤوس:
1 - رأس محمد بن عبد الله:
روي الطبري في حوادث سنة 145 هـ: (حدثني عيسى (بن عبد الله) قال: حدثنا ابن أبى الكرام. قال: بعثني عيسى برأس محمد وبعث معي مائة من الجند. قال: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النجف كبرنا. قال: وعامر بن إسماعيل يومئذ بواسط محاصر هرون بن سعد العجلي. فقال أبو جعفر للربيع: ويحك ما هذا التكبير؟ قال: هذا ابن أبى الكرم جاء يرأس محمد بن عبد الله قال: أؤذن له ولعشرة ممن معه. قال: فأذن لي، فوضعت الرأس بين يديه في ترس. . . .، حدثني علي بن صالح ابن ميثم. قال: لما قدم برأس محمد علي أبى جعفر وهو بالكوفة أمر به فطيف به في طبق أبيض، فرأيته آدم أرقط، فلما أمسى من يومه بعث به إلى الآفاق).
2 - رأس بابك الخزمي
كان ظهور بابك الخزمي في أيام المعتصم، وقد أشتهر أمره وذاع صيته وكثر أتباعه، فهابته أمراء النواحي والأطراف، وبالغ في الظلم والعيث والفساد، وكان المعتصم يوم ذاك مشتغلاً في بناء سامراء، العاصمة الجديدة لبني العباس، فصبر له، حتى إذا فرغ من هذا(605/24)
الأمر، سير إليه الجيوش وعليها الأفشين، فاتصلت الحرب بين الطرفين مدة، حتى ضاق الأمر على بابك ثم دارت الدائرة عليه فوقع أسيراً هو وأخوه وجماعة من أصحابه، فجئ به مقيداً مشهراً. قال المسعودي يصف مشهد قتل بابك، (ووجدت في كتاب أخبار بغداد أنه لما وقف بابك بين يدي المعتصم لم يكلمه ملياً، ثم قال له: أنت بابك؟ قال: نعم أنا عبدك وغلامك؛ وكان أسم بابك الحسن، واسم أخيه عبد الله. قال: جردوه؛ فسلبه الخدام ما كان عليه من الزينة، فقطعت يمينه فضرب يمينه فضرب بها وجهه، وفعل مثل ذلك بيساره، وثلث برجليه، وهو يتمرغ في النطع في دمه؛ وقد كان تكلم بكلام كثير يرغب في أموال عظيمة قبله، فلم يلتفت إلى قوله وأقبل يضرب بما بقي من زنديه وجهه. وأمر المعتصم السياف أن يدخل السيف بين ضلعين من أضلاعه اسفل من القلب ليكون أطول لعذابه ففعل، ثم أمر بجز رأسه وضم أطرافه إلى جسده، فصلب ثم حمل رأسه إلى مدينة السلام فنصب على الجسر، وحمل بعد ذلك إلى خراسان فطيف به كل مدينة من مدنها وكورها؛ لما كان في نفوس الناس من استفحال أمره وعظيم شأنه وكثرة جنوده وإشرافه على إزالة ملك وقلب ملة وتبديلها. وحمل أخوه عبد الله ما فعل بأخيه بابك بسامراء. وصلب جثة بابك على خشبة طويلة في أقاصي سامراء، وموضعه مشهور إلى هذه الغاية يعرف بكنيسة بابك. . .)
3 - راس الحلاج:
للحسين بن منصور الحلاج أخبار غريبة أسهب الكتبة فيها، حتى إنهم صنفوا كتباً شرحوا فيها دعوته وأعماله وأقواله ويهمنا في هذا المقام خبر رأسه. فقد روى ابن الجوزي في ترجمته للحلاج، قائلاً: (. . . . فلما أصبح يوم الثلاثاء لست بيقين من ذي القعدة (سنة 309 للهجرة) أخرج ليقتل. . .، وضرب ألف صوت، ثم قطعت يده ثم رجله وجز رأسه أحرقت جثته، وألقى رماده في دجلة. . .).
ثم أشار أبو الفرج إلى مصير الحلاج في حوادث سنة 310هـ، فقال: (وفي يوم الاثنين سلخ ذي القعدة، أخرج رأس الحسين بن منصور الحلاج من دار السلطان ليحمل إلى خراسان).
وعلى هذا فإن رأس الحلاج مكث سنة كاملة ضيفاً على خزانة الرؤوس.(605/25)
ميخائيل عواد(605/26)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
معجزة الأبحاث الروسية
12 رجلاً يعودون إلى الحياة
أذاعت جريدة برافدا الروسية أن الطب تمكن من إعادة الحياة إلى 12 جندياً من 51 بعد وفاتهم. وأبرق المراسل الحربي لإحدى الجرائد الأمريكية بتفاصيل الخبر، فأيده وتمت هذه العمليات في خطوط القتال الأمامية، وتحت وابل من قنابل المدافع. فأن الأطباء الروسيين يستغلون الحرب الحالية وكثرة ضحاياها ليجروا من التجارب ما يستحيل التفكير فيه في زمن السلم
ويشرف على هذه التجارب الدكتور نيجوفسكي من معهد الاتحاد السوفيتي للطب التجريبي، فبعد ما ظهر على المصابين جميع علامات الوفاة أجريت معهم تجربة جديدة للتنفس وتغذية أجسامهم بالدم. فدفع الهواء إلى الرئتين مباشرة كما غذى الجسم بالدم عن طريق وريد يؤدي إلى القلب، لا عن طريق شريان
وتقول جريدة برافدا أن التجربة تمت على أساس النظرية القائلة إن الإنسان في الدقائق الأولى لوفاته يكون قريباً من الحياة، فيتاح إيقاف الموت أن اتخذت الخطوات الموفقة لإعادة القلب والرئتين إلى عملهما. وبذلك يستعيد الضغط الدموي بناءه، ويمتنع انحلال الجهاز العصبي.
ويقول الأطباء الذين أجروا هذه التجارب أن خطواتها يجب أن تتم بأقصى سرعة لأن الجهاز العصبي يتعرض لعدة تغيرات يتعذر تصحيحها أن حدثت في الدقائق الخمس أو الست بعد الوفاة. ولهذا كان من الضروري أن يكون الطبيب سريع التقدير كثير النشاط في التنفيذ
ولم تكن هذه التجربة الأولى من نوعها، بل سبقتها عدة تجارب بلغ عددها 250 تجربة على الكلاب. وتقرر في نهايتها أن إعادة الحياة ممكنة في بعض الحالات بواسطة منفاخ يدفع الهواء مباشرة إلى الرئتين، وبنقل الدم في وريد متصل بالقلب حتى يستطيع الدم تنبيه(605/27)
عضلاته.
وقال الأطباء إن نقل الدم بالطرق العادية ومثله عملية التنفس الصناعي كانتا عديمتي القيمة في حالة حدوث الوفاة. وقد اثبت هؤلاء الأطباء صحة أقوالهم بعدة محاولات لم تسفر عن أية نتيجة.
وذكرت جريدة برافدا حالة الجندي الروسي الكسندر نوزوف. فأنه أحضر إلى مستشفى الميدان بعدما أطارت قنبلة إحدى ساقيه. وظل في حالة نزع مدة 14 ساعة، كان تنفسه أثنائها غير عميق، وقال الأطباء أن النبض كان ضعيفاً جداً يتعذر الإحساس به. استمر الأطباء في علاجه مدة 12 ساعة، فنقلوا إليه الدم، وحقنوه بالكافور والكافيين بدون جدوى. وأخيراً فقدوا كل أمل في إنقاذه وخصوصاً عندما بدأت أعراض الموت تظهر عليه
وعندئذ تسلمه الدكتور نيجوفسكي ومساعدوه وأجروا عليه تجاربهم. واستعملوا الطريقة الحديثة بنقل الدم إلى الوريد بدلاً من الشريان فأستعاد القلب تأديته لوظيفته. وفي الوقت نفسه أجريت عملية التنفس الصناعي بدفع الهواء إلى الرئتين مباشرة فتحسنت صحة المريض كثيراً، فأتيح لأحد الجراحين إجراء عملية الساق بدون صعوبة. وبعد يومين استعاد المصاب من القوة ما يكفي لنقله إلى مستشفى في مؤخرة الميدان
لقاح للسل
أوشكت مشكلة الإصابة بمرض السل أن تصل إلى علاج ناجح بعد تقرير قدمه الدكتوران والاس بروك وروبرت داي من مستشفى هوبكنس أنهما توصلا إلى العثور على اللقاح المضاد للسل. فأنهما اكتشفا عدداً من الأحياء الميكروسكوبية في فأر الحقل البريطاني. وهذه الأحياء من نفس عائلة الميكروبات التي تسبب السل للماشية والطيور وللإنسان
وبتطبيق الطريقة القديم الناجحة التي أدت إلى الوقاية من الجدري الخبيث باستعمال لقاح جدري الأبقار يتوقع العلماء أن يقوا الإنسان مرض السل باستعمال قريبه الذي يوجد في الفيران كمادة لقاح
وأجريت عدة تجارب على حلوف جويانا لاختبار أثر هذه اللقاح الجديد، فلوحظ أن عدوى السل تأخرت مدة طويلة كما لوحظ عند ظهور أعراضه أنه لم يكن قاسياً. وتقدمت التجارب مرحلة أخرى لتطبيقها على الإنسان فأعلن في التقارير الطبية أن حقن اللقاح(605/28)
تحت الجلد أو في الأوعية الدموية في الإنسان يؤد إلى زيادة وطأة المرض
وتقول التقارير الأخيرة إن نتائج تجربة استعمال لقاح الفيران للوقاية من السل البشري نجحت تجاربها في حالات قليلة عرضت فيها القردة للعدوى فلم تصب بالمرض مما شجع الباحثين على الاستمرار في تجاربهما
من الطباق الرديء
يتجه العلم الآن إلى الاستفادة من كل حاصلات الأرض على أحسن وجه. ويهتم بهذه الناحية علم جديد يطلقون عليه اسم هندسة الكيمياء. فالمواد التي نلقيها، وخصوصاً النباتية من لحاء الأشجار وغيرها، تحلل إلى عناصرها الأولية، وتصنع منها مواد جديدة جيدة لفائدة الإنسان في الناحيتين الصناعية والغذائية.
ويتنبأ علماء هذا العلم بأن أنواع الطباق الرديئة لن تستعمل لأغراض التدخين، بل ينتظرها مستقبل احسن وأخطر، فيستخرجون منها الشمع والأصباغ وزيوت لمعمل الصابون، ويستخرجون من البذور زيوت الطباق والمنيكوتين، أما الألياف فتصنع منها لوحات للحوائط
طماطم بدون بذر
توصل أحد الأخصائيين في الزراعة من جامعة كاليفورنيا من استنبات طماطم بدون بذور داخلها. والمهم في هذا الاستنبات انه ينتظر أن يؤدي إلى نتائج كبيرة القيمة في توليد نباتات أخرى تكون ذات قيمة أكبر ومحصول أوفر وأقل نفقة
ويقول مستنبت هذه الطماطم إنها كانت تمتاز عن مثيلاتها من ذوات البذور بقوتها وكبر حجمها وخصوصاً في آخر فصل الحصاد
وفي سنة 1943 تيسر الحصول على ثلاثة مستنبتات مختلفة من الطماطم الخالية من البذور، والتي ينتظر عندما تقدم للأسواق أن تكون غالية الثمن
في 10 دقائق يجدد الإطار
من المشاكل التي يواجهها العالم في الفترة الحالية الحاجة إلى إطارات المطاط للسيارات، فإن نشوب الحرب في الشرق الأقصى حرم العالم من الموارد الطبيعية لهذه المادة(605/29)
الضرورية لأدوات النقل حتى أسرعت الدول إلى صقل صناعة المطاط الصناعي، وكان إصلاح إطارات السيارات من المسائل المعقدة، يحتاج ترميمها وإصلاحها إلى وقت طويل
ووصل أخيراً أحد مهندسي مصلحة الحرب البريطانية إلى استنباط وسيلة يتاح بها إصلاح الإطارات في مدة 10 دقائق، فتمتد حياتها إلى 100. 000 ميل أخرى. وذلك باستعمال الإليكترونات الكهربائية في ترقيع الأجزاء البالية من الإطارات فتعيدها جديدة إلى حالتها الأولى. وتضيف هذه الآلة المقدار اللازم من المطاط بطريقة آلية بصرف النضر عن كبر الجزء البالي أو صغره.
فوزي الشتوي(605/30)
القصص
2 - الجارم البريء
للأستاذ حبيب الزحلاوي
ركنت إلى الريف أبيع سلعي لا أنفق إلا نادراً في شراء سيجارة أو كوبة شراب أو إرضاء رغبة متواضعة، وإن هبطت المدينة فإنما أهبطها لأدفع ما علي من دين لعميلي أو أودع في المصرف ما يتبقى معي من مال
أخذت أرقام ريالاتي تزداد أسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، فصرت أسخو بتحويل عشرات منها لوالدي ولأنيسة
لم يكن شيء في الوجود يعادل فرحي حينما كنت أقرأ كتاباً وارداً من والدي يقول أبي في خاتمه، (أما خادمتك أنيسة فتهديك السلام وتقبل يدك).
كنت اغتفر لوالدي تمسكه بعادات أصيلة واعتبارات تقليدية في كينونة المرأة، وكنت أطلق أعنة خيالي تجول في عوالم الرؤى أتصور نفسي ملقى عند أقدام (خادمتي) أنيسة أقبل يديها.
اجل يا صاحبي كنت ابعث بكتاب فيه تحويل مالي وألحف في طلب وصل بالاستلام لأقرأ تحيات بريئة ساذجة ولازمة مستحبة لا يحيد والدي عن تسيطرها بالنص الواحد في كل كتاب: (خادمتك أنيسة تهديك السلام وتقبل يدك).
اتقدت نيران الحرب العالمية عام 1914 وامتدت ألسنتها المحرقة إلى جميع أرجاء العالم القديم، أما العالم الجديد، ة برغم اشتراكه فيها في الساعة الأخيرة، فقد راجت أسواقه التجارية وعم الرخاء كل الناس. كنت أن أعجب من شيء فعجبي من أخبار كانت تنشرها صحفنا العربية في أمريكا عن بؤس الناس في لبنان وموت بعضهم جوعاً، ولم يكن يخامرني شك في أن أنيسة المحبوبة ووالدي العزيزين ابعد من أن ينالهم ما ينال الناس الذين تكلمت الصحف وأطالت في وصف حالهم!. انقطعت أسباب الاتصال بيني وبين أهلي، ولكني كنت أغالط نفسي، أتعمد المغالطة، فأرسل الرسائل والتحاويل المالية كالعادة إليهم بدون انقطاع، واتهم إدارات البريد بالتقصير في القيام بالواجب، وكنت أطمئن إلى المغالطة المستحبة لتحيد بي عن مجابهة الحقيقة. وما كادت أجراس الهدنة تدق معلنة(605/31)
رجوع الإنسان إلى وعيه وانعتاقه من وحشيته التي لابسته طوال أربعة أعوام، حتى عقدت العزم على العودة إلى الشرق. عند سفري إلى أمريكا كان الأمل يحدوني، وقد افتر لي ثغره وابتسم، فصار حين عودتي منها إلى وطني يحدوني الشوق والفرح، فهل ينضحاني يا ترى بأنداء السعادة؟ كنت في الذهاب استحث الباخرة لتصل بي إلى ميدان الجهاد والعمل، وقد توسلت إليها في الإياب أن تسرع السير لأصل إلى مقام الحبيبة، مقر الوالدين، فهل يلازمني الحظ في هذه المرة أيضاً؟ كان دنو الباخرة من الشرق ينسل خيوطاً من غشاوات غالطت نفسي في تبين ما وراءها، ويلقيني في غبش صبح يتنفس الريب والشكوك، وكثيراً ما كنت أستيقظ من أحلامي، وانفض صور الذعر واطرد الخيالات المرعبة، ولكنني كنت أتجلد وأبتسم!. كل شيء في ميناء الوطن باق على ما كان عليه، إلا مظاهر مجلوبة، ورطانة مقتبسة، يممت المدينة، لم ألتفت إلى همة ناشطة في حركة البناء والتعمير، بل شقت سيارتي طريقها إلى الجبل. صدمتني مشاهد بيوت خربة وقرى مهجورة، أما قريتنا (كفر شيما) مسكن الحبيبة أنيسة فقد كانت مثالاً بارزاً للأطلال الدارسة. أين أبي وأمي؟ أين أنيسة؟ أسأل الجار ولا جار، وسألت الناس وإذا بهم غير الناس. جبت الدساكر المتناثرة حول القرية. لجأت إلى دير (القرقفة) إلى القساوسة، استعنت بالعجائز على التعرف على أهلي وأقربائي ففزت منهم بفيض من الأخبار المرتجلة والأكاذيب المفتعلة، والحيرة الكبرى!؟ ذهبت إلى مدينة (زحلة) أسال عن أمي وأبي فقيل لي: إنهما رحلا عن المدينة منذ سافرت! قد يكون الموت اخترم والدي الشيخين، ولكن أنيسة، الريانة الشباب، الغريضة الصبا، هل يقوي الموت اللعين على أن يمد لها يداً؟ هذا محال بل المحال هو هذا! نهض من مكانه يتمشى بخطوات واسعة، ولما عاد إلى مجلسه كنت أتخيل إمارات الهلع ترتسم على محياه فتحل عقدة صبره، وإذا بجبينه تعلوه مسحة من أمل. فقال بصوت حازم: لا يستنيم الأمل في نفسي ولا يهجع. سأترصد الرجاء وأقاوم شبهات اليأس، وأجد أنيسة. سأجدها لأني أرى بصيصاً من روحها يشع في أعماق نفسي، وأصغي إلى هاتف روحها يدعوني، إذن سأجدها. استعادتني أشغالي المتعطلة إلى أمريكا. . . استغرقتني الأعمال أو كادت تنحرف بي عن اتجاه بصيص أمل كنت أتطلع إليه. كان خيال (أنيسة) يلازمني دائماً، في الفراغ وفي العمل، ولم اكن أذكر والدي(605/32)
المسكينين إلا قليلاً، أستنزل عليهما الرحمة أو أكلف قسيساً إقامة الصلاة على روحيهما. لم يكن نداء أنيسة آتياً من وراء المجهول، بل كنت أسمعها وأراها وأحس بها تتقلب على اذرع الوجود! هل تزوجت؟ أشقية هي؟! وفي يوم من أيام ربيع عام 1937 لج بي لاعج خفي فنازعتني نفسي ودفعت بي - على الرغم مني - إلى العودة إلى الوطن أعيد الكرة في الاستقصاء والاستخبار. لم أمهل عقلي ليهديني إلى الممكنات ويريني المستحيلات، بل لبيت الهاتف الخفي وعدت إلى لبنان. وفي صبيحة يوم بينما كنت أصعد الجبل إلى كروم العنب والتين، إذا بي ألقى فتاة تحمل سلة على كتفيها مغطاة بورق الدوالي. نظرت إليها فإذا بها وضاحة المحيا، ساجية الطرف، مليحة المعارف. استوقفتها فأجفلت. لمحت في عينيها نور نفس أنيسة. صرخت على الرغم مني: أنيسة، أنت أنيسة.؟!
وقفت الفتاة مبهوتة تجيل نظرة حيري من عينين عقيقيتين مغرورقتين بدموع وقالت: لست أنيسة يا سيدي، بل اسمي أنا يمنى، أسمي يمنى.
يمنى! يمنى من! أين أمك ومن هو أبوك؟
ألقيت أسئلتي بنبرات سريعة جافة كادت تربك الفتاة، ولكني استدركت الأمر بتهدئة اضطرابي فتعمدت الابتسام لأدخل الطمأنينة على نفسها، فقلت هل لك أن تحدثيني عن والدتك وأين هي الآن؟ قالت بصوت مختنق: تعيش أنت يا سيدي! لقد ماتت أمي ومات أبي من زمن بعيد. قلت: أتذكرين صورة أمك وما وصفها؟ قالت مات والدي قبل اكتمال وعيي، وكل ما أعرفه عن أمي أنها ماتت نفساء وأنها تدعى أنيسة الخشناوي، أما أبي فارمني لا يحسن أحد نطق اسمه. واستطردت كأنها أحست تشوقي إلى الاستطلاع فقالت: إن عائلة بطرس بك قد ضمتني إليها، وقد نشأت واستيقظت نفسي بين أولاده وخدامه.
كادت عبارتها في وصف يقظة نفسها تشغلني من غرضي وقد أحسست بعاملين قويين وثبا علي وأغارا على مشاعري: عامل الأمل، وقد تحقق بلقيا هذه الفتاة التي لاشك أنها ابنة أنيسة، وعامل نفساني يماثل يقظة الحب التي استيقظت حين رأيت أمها إلى جانب والدتي ساعة الوداع في الهجرة الأولى. رافقتها إلى بيت مخدومها، وإذ كنا في الطريق كنت ألمح فيها الطمأنينة الطفل إلى جوار أمه، وكانت الأفكار، والصور، والتخيلات، ومرائي الماضي والحاضر والمستقبل تتعاقب على ذهني فتزدحم فيه وتكتظ. طلبت من بطرس بك(605/33)
يد خادمته (يمنى) فلم يمانع في الطلب بل علقه على الرضا زوجته التي كان يعز عليها فقد خادمتها اليتيمة التي لا تليق بمقامي المرموق. لم ادع (يمنى) تشعر طوال أيام الخطوبة أنى كنت أعرف أمها، وقد غام أو كادت تمحي من ذهني صور الماضي التي تقمعت وانبثقت متجسدة في شخص (يمنى). أخذت أوقظ نفسها وأشعرها، رويداً رويداً، بوجدانها الذاتي كإنسان له كامل الحق في وجوده وحريته في الحياة. كانت تصغي إلى أقوالي بوعي وتتلقفها بعينيها، صرنا نقرأ الكتب فاندمجت روحها بروحي، وما عتمت أن تحولت من تلميذة نجيبة إلى فتاة تدرك وتدري وتتذوق وتتمرد. كم تمنيت مطاولة الزمن لأيسر لها مجال الروح في حلبة الحياة بدراية وفرح، وكنت أنسى فوارق العمر وقد ناهزت الخمسين، وهي تشرف على العشرين. لذلك أسرعت إلى عقد إكليلي وقد تطوع بطرس بك وزوجته أن يكونا (إشبينينا) في الزوج، وقد أصرت زوجة بطرس بك على إلباس عروسي (فروة) المشيخة إجلالاً لفتاة يتيمة انتقلت إلى مصاف الطبقة العليا.
صمت محدثي قليلاً وقد علت وجهه سحابة غبراء، ولكن ما لبث حتى أشرق جبينه وقال: جعلت أن أنا الرجل الكهل فاتحة غرام لزوجتي الصبية وقلت: أترى تكون بنيتي هذه خاتمة غرامي كما كانت مقدمة كتاب حياتي؟ كان مجرد هذا الخاطر وقد داهم ذهني ليلة الزفاف، كافياً لأن يبعث في حيوية بكراً، ويدفعني إلى أن آلي على نفسي وقف وجودي وما أملك على زوجتي ابنة حبيبتي. كم تمنيت في ساعات الغبطة والهناءة التي كانت تقضيها زوجتي على أن تطبق بأصابعها أجفاني فأنام اسعد نومة أبدية، ولكن سرعان ما كنت أنتفض مذعوراً إذ أتخيل استجابة أمنيتي فاقبض بذراعي القويتين على جسم زوجتي البض اللدن أتشبث به كالطفل، أتمتم بكلمات متقطعات أغمغمها بلا وعي استحياء منها ومن نفسي الملتاعة. لا تعجب يا صاحبي إذا قلت لك أني أحيا بشخصيتين، وأعيش بماضيين، وقد كنت أقوى على صهر زوجتي في بوتقة لا دخل فيها ولا زيف، وعرفت السعادة معرفة حسية، واستبدلت أنواعاً منها عامة شائعة بنوع لدنى روحي بحت. أذكر يا صاحبي فوارق العمر، تنوع الاختبارات، ولا تنس فواصل العقل ونزعات المشاعر، ولك أن تقدر بعد هذا اضطرابي وخلجات نفسي ووساوسي ليست سوى مجرد أوزان قلقة لرجل شارف الخمسين من عمره ليعيش في جنون العشرين. ضحكت طويلاً من الزمن وانتقمت(605/34)
كثيراً منه! وسخرت من تقديرات أناس يعيشون في الضباب ويقدرون علة في زهرة لم تتفتح أوراقها في الربيع، حاسبين وجوب انطباق علم النبات على علم الإنسان، جاهلين النفس وعجائب الغريزة وأسرار الروح، وقد تفتحت أكمام روحي في غبر فصل الربيع. سنحت التفاتة مني فلقيت رفاق الباخرة، الأمريكان الطلعة مشرئبين كان أعناقهم تمتد إلينا لتسمع آذانهم حديثنا، وكانت هذه الالتفاتة سبباً لانتشال محدثي من أعماق نفسه. أشعل لفافة وأخذ ينظر إلى حلقات دخانها تغني في الهواء. لم أكن أجرؤ على مطالبته بإتمام حديثه. أطفأ سيجارته ثم التفت، فلمحت ابتسامة باكية ترتسم على فمه وقال: انقضى الصيف والخريف، ثم الشتاء والربيع، وأنا قابع في داري ارتع بنعم تفيضها علي زوجتي المحبوبة، مشمولاً بعناية خاصة منها، وكانت كلما طمأنت نفسي بالغبطة تهيئها بغريزتها لغبطة جديدة، وهكذا كنت أرى الأوضاع مقلوبة كأني أنا ولست هي الطفل الخليق بالتدليل! لم اكن زوجاً بل أباً، ولم تكن لي سوى أبنه معبودة وكان هذا الإحساس المختلط يحفزني إلى إشعارها بأني زوج قبل كل شيء، وكان الحياء يصدني تارة، وتارة أخرى يدفعني إلى إثبات رجولتي وكان من جنوني كلما داهمني إحساس تخاذل أو فتور، إنما الشعور بالتخاذل في مثل هذا الحال يخلق الحركة العنيفة دون وعي، أطلقت السيادة للجسد، وجعلت العقل خادمه المهمل، أسمع يا صاحبي لا شيء يجعلنا ننحرف عن سبيل هدى الطبيعة سوى عنعنات العقل، أليس كذلك؟ واستطرد. كدت أغرق عند شاطئ الغريزة غير حاسب إنها أوسع وعياً من إدراك الحكيم! أقول لك يا صاحبي إن الغريزة امرأة، والمرأة إرادة والإرادة تحايل على البقاء والخلود، ولكل هؤلاء غاية واحدة هي (حفظ النسل) وقد تجمعت هذه الادعاءات وانسجمت متوحدة في ذهني حين همست زوجتي في أذني، (إنا سنصبح أبوين) سوف أصبح أباً؟ يا لجنون السرور، بل يا للسرور المجنون! أحقاً يكون لي ولد له لطف الملائكة ولغتهم وصفاء السماء وتفتح الزهرة؟ إذن سأسميه باسم المرحوم والدي سيبقى اسم عائلتنا بعدي إلى الأبد، ولكن أتراني أعيش حتى أراه رجلاً يستعجله الطمع في الاستيلاء على أموالي؟ سيان عندي. . . سأعود للعمل وأضاعف ثروتي لا لتكون حجاباً بين ولدي الفاقة، بل سلماً يتوقل عليه ليبلغ قمة المجد الزمني. هذا ما جال في خاطري ساعة وافتني البشرى السعيدة. غدوت يا صاحبي في فردوس من الغبطة والسعادة يرف على خمائلها(605/35)
خيالي الفياض، وتبدع في زخرفتها وتنميقها تصوراتي. لم اكن ذلك الراعي وقد صدمت هراوته جرة السمن فاندلقت أحلامه، وتلاشت آماله وأمانيه، بل كنت ذلك المحارب الهمجي الظافر لم يصده التهم عن الأسلاب والسبايا ولم ينتقص الحرص والحيلة من ادخاره استعداداً لحرب مقبلة. عادت إلي أطماعي طافرة وتنبهت هواجسي وظنوني، خلت الأيدي التي تعمل في إدارة أعمالي تنهب خيراتي، وصور لي شيطان الحرص أن عمالي الأمناء ائتمروا بوالدي ليحرموه ما كسبته طوال أعوام الشباب بعرق الجين وادخرتها له وحده!
(البقية في العدد القادم)
حبيب الزحلاوي(605/36)
العدد 606 - بتاريخ: 12 - 02 - 1945(/)
الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي
للأستاذ عباس محمود العقاد
شاعت في الأدب العربي اتجاهات حديثة منذ أوائل القرن الحاضر لم تكن شائعة في عصوره الماضية. ولكنها على هذا لم تزل على اتصال بعناصر الأدب العربي من أقدم عصوره
ومن شأن هذا الاتصال أن يحوط التجديد بشيء من الأناة والتريث، لأن الأدب العربي متصل باللغة كجميع الآداب في الأمم كافة، ولكن اللغة عند العرب خاصة متصلة بكتاب الدين الإسلامي وهو القرآن الكريم، ومن هنا كان الانقطاع بين الاتجاهات الحديثة والعناصر القديمة أصعب وأندر من المعهود في آداب الأمم الأخرى، وأمكن أن تقاس درجة المحافظة، أو درجة التجديد، في كل قطر من الأقطار العربية بمقياس التراث الإسلامي فيه. فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة، أو المساجد الكبرى، أو المعاهد العلمية العريقة، فهنالك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث، ويشتد الحرص على دوام الصلة بين القديم والجديد، كما يشاهد في أطوار حركة التجديد بالحجاز والعراق والشام وفلسطين وبلاد المغرب ومصر ولبنان إلى جانب هذا العامل القوي من عوامل الأناة المقصودة، يعرض للأدب العربي سببان آخران غير مقصودين، يعوقانه عن الاسترسال مع كل حركة جديدة وكل اتجاه حديث. وهما غلبة الأمية وقلة القارئين، ونقص وسائل النشر لتوزع القراء بين الأقطار العربية وصعوبة توحيد النشر فيها
وقد يظهر اختلال وسائل النشر حتى في القطر الواحد الخاضع لحكومة واحدة، كما نرى في الديار المصرية، حيث أوشكت القاهرة أن تنفرد بوسائل النشر المنتظم وتعذَّر قيام المكتبات الناجحة في غير العاصمة الكبرى
فالاتجاهات الحديثة في الأدب العربي تخضع لهذه العوامل التي تحدها عن قصد وروية، أو عن ضرورة لا قصد فيها، وهي عوامل يندر أن تجتمع نظائرها في أدب أمة واحدة، ولهذا يلاحظ أن الاتجاه الحديث في أدبنا العربي يجري في مجراه بداءة ثم لا يبلغ أقصى مداه الذي يتاح له أن يبلغه في الأمم الأخرى، ولا يخلو هذا الحد من بعض الخير، حين يمنع الاندفاع والاعتساف في اتباع الدعوات الطارئة، ولكنه خليق أن يعالج في جانب التعويق(606/1)
منه، كلما كان هذا التعويق عارضاً من عوارض النقص والاختلال
وعلى هذا كله قد اتجه الأدب العربي في أوائل القرن العشرين وجهات محسوسة لم تكن شائعة في عصوره الماضية بعيدها وقريبها، سواء في مبناه أو في معناه، أي سواء في الألفاظ والعبارات، أو في المطالب والموضوعات
ففي اللفظ تتجه الكتابة العربية إلى التصحيح والتبسيط، وتنجم في العالم العربي من حين إلى حين دعوات جدية إلى إعادة النظر في قواعد اللغة، لتيسير الكتابة بها وتعميم فهمها. وتصدر هذه الدعوات عن نيات مختلفة لغايات متباينة. ولكنها قد تنقسم في جملتها إلى قسمين اثنين: أحدهما يراد به تغليب اللغة الفصحى، والآخر يراد به تغليب اللغة - أو اللهجة - العامية وإحلالها محل الفصحى في الكتابة والخطابة وأحاديث المعيشة اليومية.
وكل ما يبدو من مصير هذه الدعوات أن الأمر لا ينتهي بانفراد اللغة الفصحى ولا بانفراد اللغة العامية في الكلام المكتوب. وإنما يدل الاتجاه الظاهر - إلى يومنا هذا - على إمكان العزل بين الموضوعات التي تُستخدم فيها كلٌ من اللغتين. فتستخدم العربية الفصحى في الموضوعات العامة الباقية، وتستخدم العربية العامية في الموضوعات المحلية الموقوتة، ومنها لغة الكثير بين الروايات التمثيلية سواء في المسرح أو في الصور المتحركة، وكأنهم يحسبونها بهذه المثابة من الكلام المسموع الذي نمر به في المسرح كما نمر في الأسواق والبيوات، ولا يشعر من يسمعه بالانتقال من بيئة المعيشة اليومية إلى بيئة التعليم والثقافة، وقد يساعد على الترخص في لغة التمثيل أنها لا تكتب الآن ولا تؤلف للبقاء الطويل، وإنما تؤلف لموسم بعد موسم، وقلما تعاد بعد انقضاء مواسمها
أما موضوعات الكتابة العربية، فأول ما يلاحظ فيها غلبة المنثور على المنظوم، خلافاً لما كان معهوداً في معظم العصور، قبل بداية القرن العشرين. .
ولابد من انتظار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة. ولكننا نستطيع أن نلمس منذ الساعة، سببين بارزين يفسران لنا هذا الاتجاه الجديد في تاريخ العصور الأدبية: أولهما أن الشعر كانت له في العصور الماضية طائفة نافذة السلطان تشجعه وتتكفل بقائليه، وهي طائفة الممدوحين من العظماء والسراة وأصحاب المصالح السياسية، ولاسيما في الزمن الذي كان النظم مفضلاً فيه على النثر في(606/2)
الدعوات السياسية لسهولة حفظه على الأميين وغير الأميين. وثانيهما أن الشعر قد شورك مشاركة قوية في بواعثه ودواعيه عند جمهرة القراء من غير طبقة السادة والعظماء. فإن جمهرة القراء يجدون اليوم منافذ كثيرة للتعبير عن العاطفة والترويج عنها في الروايات الممثلة والروايات المقروءة وما يذاع من الأغاني أو يحفظ في قوالب الحاكي ويردد في المحافل العامة، فضلاً عن الصحف والمجلات وسائر النشرات. وكل أولئك كان ميداناً للشعراء يوشك أن ينفردوا فيه.
ويلاحظ بعد هذه الملاحظة العابرة عن الشعر والنثر، أن نصيب القصة في الكتابة المنثورة آخذٌ في الازدياد والانتشار، وأن فن القصة العربية قد تقدم في الربع الثاني من القرن العشرين تقدماً لم يعرف له مثيل في ربعه الأول ولا في القرن الماضي الذي ازدهر فيه فن القصة بين الآداب العالمية. وفي بعض القصص التي تؤلف في هذه الفترة نزوعٌ إلى ما يسمى بالأدب المكشوف ترتضيه طائفة من قراء الجنسين، ولا يقابل بالرضى عنه من جمهرة القراء
ثم يلاحظ مع هذا أن الترجمة تنقص في هذا الربع الثاني وأن التأليف يزداد ويتمكن في كثير من الأغراض.
ولعل مرجع هذا إلى نمو الثقة بالنفس في الأمم العربية، وإلى ظهور طائفة من الكتاب يستطيعون الكتابة في موضوعات مختلفة، كانت وفقاً على الترجمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة.
وهنا أيضاً يحسن بنا أن ننتظر أطوار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة
لأن نشاط التأليف في السنوات الأخيرة قد يرجع إلى عوارض مستحدثة في الحرب العالمية الحاضرة، ومنها قلة الوارد من الكتب والمطبوعات الأجنبية، واتساع الوقت للقراءة واللُبث بالمنازل في الليالي التي قيدت بها الإضاءة ومواعيد السهر في الأندية العامة، ومنها ضمور حجم الصحف والمجلات وفرض الرقابة على المنازعات السياسية التي تشغل طائفة كبيرة من القراء، ومنها حالة الرواج التي يسرت أثمان الكتب لمن لم تكن ميسرة لهم قبل سنوات(606/3)
فإذا استقرت هذه الأسباب جميعها في قرارها بعد تبدل الحال وضحت الحقيقة في حركة التأليف ووضحت كذلك في حركة الترجمة، لأن الترجمة قد تعود إلى رجحانها بعد تدفق المؤلفات الأجنبية التي تعالج مشكلات العالم في منابتها الأولى، وقد يكون تدفق هذه المؤلفات موجباً للكتابة في موضوعاتها والتعقيب عليها دون ترجمتها
أما أغراض الأدباء من موضوعاتهم وكتاباتهم، فالربع الثاني من القرن العشرين حقيق أن يشهد فيها أنشعاباً لم يسبق إليه قط بين المدرستين الخالدين على مدى الزمان، ونعني بهما مدرسة الفن للفن، ومدرسة الفن لخدمة المصالح الاجتماعية أو المصالح السياسية
فمنذ وُجد الأدب وجد الأدباء الذين يكتفون بالتعبير لجماله وإعرابه من سرائر النفس الإنسانية، ووجد الأدباء الذين يعبرون ليرجّحوا دعوة على دعوة، أو يقنعوا الناس بمذاهب من مذاهب الإصلاح ويحركوهم إلى عمل مقصود.
ولكن الآونة التي نحن فيها تجنح بالناس إلى التفرقة الحاسمة بين المدرستين الخالدتين، لأنها ليست تفرقة بين رهطين من الأدباء وكفى، ولكنها تفرقة بين حكومية وطبقات اجتماعية ودعوات فلسفية لا تزال عرضة للمناقشة في صدد المعيشة اليومية وصدد التفكير والدراسة. إذ كان من قواعد الاشتراكية المتطرفة أن الطبقة الاجتماعية الغالبة على الحكم في حل من تسخير الآداب والفنون والعقائد لخدمة مصالحها وتمثيل عاداتها وآمالها. فإذا أضيف القائلون بهذا الرأي لأنهم يدينون بالاشتراكية إلى القائلين به لأنهم ينكرون مذهب الفن للفن عامة، فقد أصبحت الآونة الحاضرة في الحقيقة آونة النظر في المدرستين الخالدتين على وجه من الوجوه.
وقد ظهر في اللغة العربية بعض القصص، والدراسات التي تتناول المسائل الاجتماعية، وتصور الغني والفقير، والرجل والمرأة في صورة تستحث النفوس إلى طلب الإصلاح والتغيير. ولا تزال تظهر فيها قصص ودراسات تصور الحالة في صورتها الفنية وتترك العمل المترتب على ظهورها في هذه الصورة لشعور القراء. ولكننا نعتقد أن مصير الخلاف بين المدرستين، كمصير الخلاف بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فلا تنفرد مدرسة الفن للفن بالميدان، ولا تنفرد به مدرسة الفن لخدمة المقاصد الاجتماعية، لأن أنماط الكتابة والتفكير لا تفرض بالإملاء والإيحاء، وإنما تفرضها على الأديب سليقته ومزاجه.(606/4)
فمن غلبت فيه سليقة المصلح على سليقة الفنان ظهرت الدعوة في كتابته عامداً أو غير عامد، ومن غلبت فيه سليقة الفنان على سليقة المصلح لم يفده إكراهه على الدعوة، إلا أن يقتسر طبعه على غير ما يحسنه ويجيد فيه، ولن تخلو الدنيا من أصحاب السليقتين.
وقد أسلفنا في صدر هذه الكلمة أن درجة المحافظة - في كل قطر من الأقطار العربية إنما تقاس بمقياس التراث الإسلامي فيه؛ فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة أو المساجد الكبرى أو المعاهد العلمية العريقة فهناك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث.
ولا تصدق هذه الملاحظة على شيء صدقها على الدعوات الاجتماعية التي تمس قواعد الدين. فأن درجة النفور منها تكاد تتمشى في الترتيب بين الأقطار الإسلامية على حسب المعاهد العريقة التي فيها وحسب منزلتها في القداسة والرعاية الدينية، وذلك هو شأن الأقطار العربية في كل تجيد له علاقة بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد.
وإذا أردنا أن نوجز القول في وصف الاتجاهات الحديثة فجملة القول في وصفها، بعد هذه اللمحات عن مبناها ومعناها، أننا نعبر الآن فترة البداية في الاستقلال والثقة بالنفس. وأن هذا الاستقلال يتجلى حيناً في التحرر من القديم ويتجلى حيناً آخر في التحرر من الجديد.
فقد مضى زمان كان يكفي فيه أن يكون الشيء قديماً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، ومضي بعدهُ زمن كان يكفي فيه أن يكون الشيء أوربياً أو حديثاً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، فهذا الربع الثاني من القرن العشرين قد عرف أنانساً يأبون التقيد بكل قديم لأنه قديم، كما يأبون التقيد بكل جديد. ومن الناس اليوم من يوصف بالابتكار والجرأة لأنه يتمسك بقديم كان الاستمساك به وقفاً على الجامدين، ومنهم من يوصف بالجمود والمحاكاة لأنه يعجل إلى الجديد الذي يستحب على سنة التقليد. ولعل الحقيقة المقبلة هي التي يكتب لها أن نثبت قدم الاستقلال وتطلق الآراء من حجر القديم والجديد على السواء.
عباس محمود العقاد(606/5)
أبو العلاء المعري
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيي
- 3 -
التشاؤم والمتشائمون
لما شاء الله أن يثب قَبيل من نامية الله تلك الوثبة، أن يطفر الطفرة، وليست الطفرة على ذي القدرة والحول بمحال، واعتدلت القامات و (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وتحركت الألسنة بعد حين من الدهر طويل بتلك اللهجات البينات، وكرّم الله أناسيّ كثيراً على سائر المخلوقات بالذي دعته اللغات (العقل) وهو نعمة الله الكبرى، وفضيلة الإنسان على غيره العظمى
(ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطبيات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
(اللبابُ أهلُ الألباب، ولكل حيوان حس ولكن الله فضل الناطقين)
لّما كان الذي سمته الإفرنجية وصرنا إلى أفق الإنسانية الذي ذكره ابن خلدون ووضحه وفصَّله النشوئيون تفضيلاً (وقد خلقاهم أطواراً) ونجم في الأدمغة ذلك (الفكر) المضيء، وهو خير ما في الدنيا، بل هو كل ما في الدنيا
- كما يقول العلامة بوانكريه - ومحلُّ العقل (الدماغ) كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأرنست هيكل لا القلب - كما يقول الشافعي - واستنبط الحجى معاني للأشياء كانت خافية قبل ذلك (الارتقاء)، وهشت النفوس وبشت بما ترى العيون، وأقبل (الإدراك) وأتى (الفهم) فادرِك المحسوس أو المحس، وفُهم المنظور، والحس البحث والنظر الصرف كما يشعر غير الناطق ويلمح من دون فكرة وفهامة هما كلا شيء، كونُهما مثل العدم، إنَّ الهناءة والسعادة في البصيرة لا البصر،
لمّا ارتقينا وعقلنا وعلمنا وبنينا وحفرنا وغرسنا وتلونا:
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)(606/6)
وقال الشيخ في (الفصول والغايات):
(إن شاء الملك قرَّب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تِهامه فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال) فخفَقْنا قوله، وطار في الجو أو في السُّمَّهى مثل الطيور الطائرون، وسمعنا في دمشق سرار القوم بله الطنطة في برلين وفي لندن وفي باريس وواشنطن، وبله العَطْعطه في ميادين القتال. وأورى (مركوني) ما أورى وهو في سفينته في بحر الروم فأضاءت (سدني) في أقصى الأرض (ويخلق ما لا تعلمون)،
لما قطعنا ما قطعنا، وبلغنا ما بلغنا، ومشينا اليّقدُميَّه، وحمدنا وشكرنا و (الحمد لله رب العالمين) طلعت علينا أجواق تذم الوجود، وتهجو الحياة، وتُطرى العدم، وتلعن الدنيا، وتكنبها بأم دَفْر وأم دَرَن، وتصفها بأنها دار قُلْعة، منزل قُلَعة، ونسمي خيراتِها حُطاما. وجاء فوج أنكر كونها، ولم يجد لها مثلاً؛ (قيل لبعضهم: كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا؟ لا أعرف لها وجوداً) (وقيل لآخر: ما مثل الدنيا؟ قال: هي أقل من أن يكون لها مثل) وتمادى محمد بن واسع في استحقارها بل جاز المدى (قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟) وأقبل الحجاج بن يوسف متقرئاً متحنثاً فقال في إحدى الخطب: (والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بمعامتي هذه؛ ولمَا بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء) وتالله لولا أنه الكُهاكه - وكان الحجاج قصيراً أصفر كهاكها - أيدي إلى العربية تلك اليد، وتقرب إلى (الكتاب) ذاك التقرب الكريم المشتهر، وولع بالقرآن ولعاً كبيراً حتى قال عمر بن عبد العزيز: (ما حسدت الحجاج على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله) لولا كل ذلك لسخطنا وأطلنا القول فيه وبدا (الوليد) متحذلفاً متفلسفاً في هذه المقطوعة التي أخرجته من بغداد:
أخَّي، متى خاصمت نفسك فاحتشد ... لها، ومتى حدثتْ نفسك فاصدق
أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التجمع (م) ... إلا علة للتفرق
أرى الدهر غولاً لنفوس وإنما ... يقي الله في بعض المواطن من بقي
فلا تتبعْ الماضي سؤالك لم مضي؟ ... وعرج على الباقي وسائلهِ لِمْ بقى؟(606/7)
ولم أر كالدنيا حليلة صاحب ... محب متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عيانا (وهي صنعة واحد) ... فتحسبها صنعَي لطيف وأخرق
ومن قول يذم جميع الناس:
إن الزمان زمان سوْ ... وجميع هذا الناس بوْ
وأطل علينا أحمد بن الحسين الكندي مجهورا هذا الكلام:
إذا كان الشباب السكر والشيب (م) ... هما فالحياة هي الحمام
هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
يقول ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم):
(كنت سافرت إلى مصر سنة (566) ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك، فلم يذكروا لي في هذا شيئاً، ثم إني فاوضت عبد الرحمن بن علي البيساني (القاضي الفاضل) في هذا فقال لي: (إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس) ولقد صدق فيما قال) فهل نطق المتنبي بتلكم الأبيات عن خواطر الأناسين، أم لغابها عن سوانح الشياطين، إنهم الشعراء يفتلتون (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) و (الشعر للخَلَد مثل الصورة لليد، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره). (وإذا رُجع إلى الحقائق فنطقُ السن، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان)
ودهمنا ابن الشبل البغدا_دي هتاتا جدافاً يردد هذا الشعر:
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نفتذي بموت وتحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
قبح الله لذة لأذنا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقد (م) ... فإيجانا علينا بلاء
ليت شعري وللبلى كل ذا الخلق (م) ... بماذا تميز الأنبياء
موت ذا العالم المفضل بالنطق (م) ... وذا السارح البهيم سواء
لا غويٌّ لفقده تبسم الأرض (م) ... ولا للتقيِّ تبكي السماء(606/8)
إنما الناس قادم إثر ماض ... بدُ قوم للآخرين انتهاء
يربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خطبت هشيم ... هي العجماء ما جرحتُ جبار
نعاقَب في الظهور وما وُلدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فبالوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار
فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجّدين به الخيار؟
وكانت أنعماً لو أن كوناً ... نُخَيَّر قبله أو نستشار
لقد استأسد ابن الشبل على الحق، وبالغ في العفلطة والعسلطة، ولقد عجبنا إذ سمعنا المفترح، وأطلنا الكركرة والقهقهة. إنَّ على مبدعنا أن يستشير تلكم الذريرات (أعني الأناسية) في الكون أو في العدم، ويقول لها: (أنت علي المتخير) أنت بالمختار، أنت الخيار. ولها أن تنعم أو تُلالي
(وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة، سبحان الله وتعالى عما يُشركون)
ذريةَ الأنس لا تُزهوا فإنكم ... ذَرًّ تُعدون أو نملا تضاهونا
إنَّ الأناسي لم يتمثلوا بشراً أو أبشاراً أسوياء إلا من بعد آلاف من الحقب ومن بعد أطوار مختلفات كثيرات لا يعلم عددها إلا الله. ومثل ابن الشبل إنما نشأ ذريرة لا تكاد ترى بالمجهر (ثم أنشأناه خلقاً آخر) درَّجته سنة الله إلى حيث انتهى أو ارتقى. وكان لا يحس في وقت ولا يسمع وما عقل - إن عقل - إلا بالأمس، ففي أي طور وفي حين يُخيّر أو يستشار؟
(إن الإنسان لَيطغى أن رآه استغنى) أو رآه قد احتسى من بحر علم الله حسوة!
إنَّ قوماً يريدوا أن يكونوا، وما أحبوا أن يكون غيرهم، فذموا الدنيا ذاك الذم، وصبغوها للناظرين بأردأ صبغ، بأبشع صبغ: (غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة)(606/9)
كما يقول قطري، أن كان قال هذا. وهجوا قطين الأرض، أهل الدنيا شر هجاء:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان
أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
زمان يمر، وعيش يمر ... ودهر يكر بما لا يسر
وحال يذوب، وهم ينوب ... ودنيا تناديك أن ليس حر
وإذا سمعوا المتفائلين الخلص يقولون: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) تحدوهم صائحين: (ليس في الإمكان أقبح مما كان) وما النجاة عندهم لمرتجى خلاصه مما يقاسي ويرى إلا في الانتحار
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا إن يكن أمانيا
ولهم في قتل الناس نفوسهم وتزبينه أقاويل، شرحها طويل. وهؤلاء القوم الذين سماهم المصطلح العربي بالمتشائمين واسمهم بالفرنجي بسيمست. إما أن يكونوا إلهيين، وإما أن يكونوا دهريين.
(وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يُهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من عِلم، إن هم إلا يظنون)
ودان أناس بالجزاء وكونِه ... وقال رجال: إنما أنتم بقل
ضل الذي قال: البلاد قديمة ... بالطبع كانت والأنام كنبتها
وأمامنا يوم تقوم عجوده ... من بعد إبلاء العظام ورفتها
فإن كانوا من الأولين فهل يحق إلا الإيقان كل الإيقان بأن ليس ثمة إلا الحكمة التامة والإتقان
(ما ترى في خَلق الرحمن من تفاوُت)
(صنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء)
(الذي أحسن كل شيء خلقه)
(صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة؟)
والله أعلم من كل عليم وأحكم من كل حكيم
(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً)؟(606/10)
وخلقُك من ربنا حكمة ... لقد جلَّ عن لعب أو عيث
وإن كانت برهمية وبوذية تريان الكون شراً، فليست البرهمية والبوذية على شيء، ولا يُحتسب بمثلهما. وإن عدهما (أرثر شوبنهور) أكمل الأديان طرأ من أجل هذا المعتقد
نعم (ما الدنيا إلا عمرَي ولا خلود إلا في الأخرى)
و (الدنيا قنظرة) قنطرة الآخرة؛ لكن هل علينا أن نقعد في القنطرة نشهق ونزعق، ونخمش الوجوه، ونلطم الخدود، ونلدِم الصدور حتى يجيء الأجل، حتى يجي وقت النقلة، و (الكتاب) يقول:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا)
ونطق (الكتاب) فصل الخطاب
وإن كان القوم المتشائمون من الآخرين فسوف يُسألون: هل علمتم كيف كنتم؟ هل علمتم كيف كانت داركم؟ إنها كانت داراً تستعر استعاراً، ولم تزل بقايا خبايا في الزوايا تضطرم. فاقرءوا تاريخها، واقرءوا تأريخكم، وفتشوا صحائف الأنساب
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)
وانظروا كيف عادت (محْلة) كيف عادت هذه (الغبراء)، وانظروا كيف عدتم بشراً، وكيف سدتم أقربين وأبعدين. وإن تأخر من عترتكم متأخرون إذ تقدم متقدمون، فتعلموا أن السابقين والمتوقفين المتمكثين لم يبرحوا في البدء، لم يبرحوا في أول الطريق، لم يبرحوا في الطور الشنبنزي كما قال توماس أدسن:
تشبه بعض ببعض فما ... تزال الشمائل قرديه
فأجد بالدهريين الذين ينشدون:
اجتنب ما سخرت جه ... لاً له هذى الخليقة
رغبوا في باطل زور ... يزهد في الحقيقة
ليس إلا ما تراه ... أنا أدري بالطريقة
خذ من الدنيا بحظ ... قبل أن ترحل عنها
فهي دار لا ترى من ... بعدها أحسن منها
فلا يرون أن هناك دارين، وأن هناك معنيين: معنى هذى، ومعنى تلك، بل يقولون: كل(606/11)
شيء معناه ومنتهاه فيه - أجدر بهؤلاء ألا يكونوا من المتشائمين في حين. ومقالهم هذا المقال.
إن الفتى بكونه سعيد، بكونه حسب، قد سعد بما وجد - كما يقول الإنكليز - فذروا التشاؤم في الحياة يا أيها الناس، وابهجوا أنفسكم، واجتذلوا لعلكم لا تحزنون. كونوا من المتفائلين، من أهل الفؤول، ولا تشاءموا ولا تطيروا وتمثلوا بهذا البيت وقد تمثل به رسول الله كما ذكر الشيخ في رسالة الغفران:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققاً
وكان (صلى الله عليه وسلم) كما روت أحاديث - يتفاءل ولا يتطير
وكونوا إيثاريين أثريين في هذا الوجود كيما تقوا أنفسكم، وكي تصونوا جنسكم، وتسعدوا وترتقوا. إن الأثرية والإيثارية هما الفضيلتان العظيمتان متحدتين لا مفترقتين، وأولى لأثري كفر بالإيثارية ثم أولى! وأولى لإيثاري لم يؤمن بالأثرية ثم أولى. إن الأول شرير شيطان من الشريرين، وإن الثاني - إما كان - لذو جِنة في المجانين
واستمعوا لما يقول شيخنا أبو العلاء، فقد أعلنت أقواله الحقيقة وهدت إلى الطريقة، وعززت شريعة المتفائلين. وفندت مذهب المتشائمين، وبينت للناس كيف يحيون، وكيف يقوون، وكيف يسيرون في هذا الوجود.(606/12)
علل المجتمع المصري
للدكتور محمد صبري
أحمد بن طولون - أو سمه ما شئت - باشا بن باشا، له جاه ومال، درس القانون وحاز الليسانس ثم وثب في المناصب واصبح رئيس مجلس شيوخ ثم عضواً فيه، فإذا كتبت إليه خطاباً وقلت: (حضرة صاحب السعادة أحمد باشا بن طولون عضو مجلس الشيوخ) ثارت ثائرته وصخب بل زأر وبربر وقال (أنا رئيس مجلس شيوخ سابق ووزير سابق فيجب أن تذكر ألقابي). . . حتى في العنوان الذي لا يقرؤه إلا ساعي البريد وغيره من (سعاة)
وقد بلغ بنا التعلق بالألقاب الجوفاء أن المجمع اللغوي وهو هيئة محترمة اشتهرت بالدقة في التعبير قد رشحت أخيراً لرئاستها رسمياً سعادة (الدكتور) أحمد لطفي السيد باشا، ولطفي باشا ليس دكتوراً، ولكنه أستاذ الأساتذة ومربي قادة الفكر الحديث، وكان يمضي مقالاته في الجريدة (أحمد لطفي السيد) وهذا الاسم في غنى عن كل لقب وتعريف. وقد يجهل الكثيرون أن أحمد لطفي السيد كان الكاتب الأول لرسائل الوفد المصري إلى مؤتمر السلام إبان الثورة، وأن مجموعة هذه الرسائل كانت توازي بدقة أسلوبها السياسي وبراعته واتزانه خير ما حادت به القرائح من أمثالها في الغرب
ولو كانت العبقرية المصرية عبقرية بناء لا عبقرية هدم، لعرف القاصي والداني هذه الحقيقة، ولكان التفاخر بشخصياتنا وآثارهم عاملاً من أكبر العوامل التي تساعد على تجديد كياننا وتدعيمه. ولو عرف شبابنا أن هذه الشخصيات المنزوية في جلالة الصمت وأبهة الشيخوخة - لأنها لا تعرف التهريج - لم تتكون إلا بعد جهد مضن وحياة مملوءة بالتضحية والتعلق بالمثل العليا، لخففوا من غلوائهم وعلموا أن الوظائف والدرجات ليست هي كل غايتنا في الحياة، وأنه ليس مما يشرفنا أن تقوم من أجلها في هذا البلد الطيب ثورة اجتماعية أصبح ضجيجها على الأبواب
ولكن شبابنا قد اندفع في تيار الديماجوجية الصاخبة فأصبح يضرب عن تلقي العلم ويتلمس لذلك أو هي الأسباب، وأصبحت الوظيفة مطمحه الأسمى في الحياة. وقد ساعد بعض قادة أمورنا على انتشار هذه الروح لأنهم يريدون تأييد السواد الأعظم لهم شقيت البلاد أم سعدت (وبعدي الطوفان. . .)(606/13)
وقد أصبح سلطان الوظيفة عظيماً في مصر حتى أن بعض كبار الموظفين المجردين من كل ثقافة يصيرون أعضاء في لجاننا العلمية (بحكم الوظيفة) وحدها، ولو أقصتهم اللجان عنها لحاربوها. .
ومن البينات على سلطان الوظيفة أن بعض الوزراء ووكلاء الوزراء لا يكادون يتركون الحكم حتى تترامى الشركات الأجنبية على أحضانهم وتعرض عليهم المناصب الكبرى الصورية أو غير الصورية في إدارتها. والواقع أن هناك سياسة عامة متصلة الحلقات متساندة يشد بعضها بعضاً ترمي إلى أغراض واضحة معينة.
وقد كانت الوظائف مستقرة إلى حد قبل الثورة ثم صارت قلقة مقلقلة كأنما أصابها مس من الشيطان، ولاشك أن الثورة والاضطراب الطبيعي الذي نفثته في الحياة العامة، ولاشك أن تكاثر الأحزاب وتعددها ووجود الحياة البرلمانية كان لها أثرها في (تفاعلات) الوظيفة وتقلب الوجوه عليها من وصوليين ومرائين واللاعبين على الحبل وماسكي العصا من الوسط. .
وقد أخبرني رئيس حزب كبير في سويسرا مرة أن مصيبة الأحزاب أنها تفتح ذراعيها لكل من هب ودب من أنصارها (وكل يدعى حباً لليلى. .) فإذا كانت هذه حال الأحزاب في أوروبا فكيف تكون حالها في مصر؟ في أوروبا يجد الحزب بفضل كثرة (الرجال) نقطة توازن لحياته، أما في مصر حيث الرجال قليل، وإن تكاثر الطغام، فان حياة معظم أحزابنا الداخلية مرسح تُمثَّل عليه في مضطرب ضيق ألوان المهازل والمآسي والمطالع التي لا تربطها رابطة بمبادئ الحزب وأغراضه
فالثعابين والذئاب والأفاعي نكاد نجدها تسعى حثيثاً صباح مساء، وتزحف وتدب، وتتزاحم، وتجتمع وتتفرق، وتنطوي وتنتشر في كل حزب وفي كل ناحية من نواحي المجتمع ولكن من خلف ستار
محمد صبري(606/14)
الصراع بين الإسلام والوثنية
صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص
للدكتور محمد البهي
الوثنية عبادة المحسوس المشخص، وعبادته تنطوي على تعدد المعبود أيضاً، لأن المشخص بحكم تشخصه محلى يحدده زمانه ومكانه. والأمكنة مختلفة والأزمنة متتابعة، ولهذا كانت آلهة الوثنيين متعددة. والجماعات الوثنية وإن اتفقت في عبادة ما في الطبيعة من أنهر وجبال وكواكب وأفلاك وغير ذلك إلا أن معبوداتها مع ذلك كانت مختلفة. لأن ما في طبيعة إقليم لجماعة يختلف بالشخص عما في طبيعة جماعة أخرى.
هاجم الإسلام الوثنية، وهاجم تعدد الآلهة ودعا الإنسان إلى عبادة إله واحد لا يعرف شخصه ولا نحد حقيقته، لأنه فوق الطبيعة وفوق ما فيها من أشخاص وجزئيات محددة. صنع الإسلام ذلك لأنه أراد للإنسان هدفا أسمى مما في عالمه. أراد أن يكون خضوعه وأن تكون طاعته لغير من يجوز عليه التغير والفناء. والمتغير الفاني ليس إلا أشخاص هذا العالم الذي نعيش فيه. أراد له هذا لأن خضوع الإنسان للمتغير الذي يعتوره الفناء معناه التقلب في الانقياد على نحو يجعل الإنسان مضطرباً في التوجيه في حياته، ومضطرباً في الغاية، وأخيراً مضطرباً في دوافع العمل والسلوك. فضلاً عن أن تشخيص المعبود يؤدي إلى تقليل قداسته أو التضييق من تعظيمه. وذلك بتوالي انكشافه وتعرفه. وإذا قلت القداسة وضاق نطاق التعظيم ضعفت الطاعة أيضاً أو تلاشت، وعندئذ لا تصلح القيادة أو لا توجد. ولذا كان غير المحدد هو وحده محل تعظيم الإنسان ومحل خشيته، وبالتالي إذا عبد نال من التقديس والطاعة بقدر خفائه وعدم الوقوف عليه من الإنسان
الوثنية وتعدد المعبود إذا متلازمان. والوثنية وتشخيص المعبود أيضاً وتشخصه، إلى عبادة إله وراء ما اتخذته من آلهة في الأرض أو السماء غير مشخص وغير محدد وقد تلقبه برب الأرباب أو بخالق السموات والأرض. وهي إن أفضت إلى هذا عدت شركاً لأنها أشركت مع الإله الذي يجب أن يعبد وحده، وهو الإله الطبيعي، آلهة أخرى تعد في ملكوته وتصرفاته؛ أشركت مع الإله الذي لا يحد ولا تدرك حقيقته آلهة أخرى محددة مشخصة.
فمهاجمة الإسلام للوثنية ومهاجمته للشرك، ومهاجمته لأهل الكتاب الذين حرفوا الكلم عن(606/15)
مواضعه وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وأشركوا مع الإله الطبيعي إلهين آخرين مشخصين هما عيسى ومريم؛ ومهاجمته هذه كانت لأجل أن يرفع الإنسان من عبادة الشخص المحدد المتغير الفاني إلى ما وراء ذلك مما له الدوام والاستقرار. وإذا كان له الدوام والاستقرار كان حتماً له الكمال لأنه يعلو عندئذ الأحداث وتقلباتها، أو لأنه لا يخضع لها كما يخضع المتغير. والخضوع في ذاته نقص، والاستقلال والاستغناء في ذاته كمال.
وإذا كان المعبود كاملاُ، وإذا كان دائم الكمال، شرف الإنسان بالخضوع له، لأنه أعلى قيمة منه. وبقيت كذلك وجهته في الحياة ثابتة لا نبدل فيها وهي وجهة الكمال المطلق
وكفاح الإسلام ضد عبادة الأشخاص أو الذوات المشخصة قصد به إذا إشعار الإنسان بكرامته وبقيمة ذاتية له لأنه جعل خضوعه فحسب لمميَّز عنه وعما في الكون كله، كما قصد به توجيهه في حياته إلى هدف باق هو الكمال الذي لا يتغير أو الخير الذي لا يتبدل. والصراع إذا بين الإسلام والوثنية أيضاً صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص. إذ ليست المبادئ إلا المعاني العامة، ولعمومها هي باقية في كل مكان وزمان لا تخضع للتغير والتقلب.
وفي طي مكافحة الإسلام للوثنية مكافحته انقياد الفرد لفرد آخر لذاته دون رعاية لما يحمله من مبادئ أو فكر مثالية. وكان انقياد المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنه محمد بن عبد الله، بل لأنه رسول الله، أي لما يحمله من رسالة ربه وليس لذاته كفرد من الأفراد (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). وكذلك كان انقياد المؤمنين حقاً لرسلهم. ولهذا لم يكن من المنطق في شيء أن يدعو الرسول لعبادة نفسه من دون الله أو مع الله، لأن الدعاء لعبادة نفسه على العموم يتناقض مع دعوى الرسالة التي تنطوي على أن قيمة الرسول في صلته بالله. (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)
وما عاب الإسلام على أهل الكتاب من المسيحيين تأليه عيسى وإشراكهم له مع الله في معنى الألوهية إلا لأن في تأليه عيسى معنى التبعية للشخص دون المبدأ. والذي دعاهم إليه ليس إلا التجاوز بالعبادة من الشخص إلى ما هو أسمى منه وهو الباقي الذي لا يتغير ولا(606/16)
يفنى. وبهذا إذا استمعوا لدعائه، التقوا مع المسلمين في هدف واحد. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. .)، (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها خيراً لكم إنما اله إله واحد. . .).
وما الاستمرار الذي طلبه القرآن من المسلمين في الدعوى إلى الخير بقوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) إلا وسيلة للمحافظة على فصل الإنسانية بين المبدأ والشخص كما طلب الإسلام، وإلا خشية من أن يؤول الأمر، إذا أهمل المسلمون إلهاب شعور الفصل هذا عند الإنسان، إلى الوثنية في صورةٍ ما، وهي الانقياد للمشخص لأمر آخر غير المعاني العامة الثابتة التي مرد جميعها إلى الخير المطلق والكمال الدائم. ومن السهل، إذا لم تستمر الدعوة لما وضعه الإسلام من هدف، أن ينجذب الإنسان إلى الانقياد للمشخص لأن التشخص ناحية مادية، والمادة أرجح كفة ما وراءها في نظرة الإنسان الأولى.
والأديان السماوية كلها، وفي مقدمتها الإسلام، متفقة على توجيه الإنسان نحو المبدأ دون الشخص، أو متفقة على أن تكون عبادة الإنسان لما هو وراء المادة، وما وراءها هو غير المتغير. ولعدم تغيره كان وحده إذا قورن بالمادة كاملاً. وتعدد الأديان لا يقتضي اختلافها في هذا التوجيه، بل لأن الإنسانية لم تحرص في فترات متفاوتة عليه. ولذا كان لابد من تجديد إيقاظ هذا التوجيه عندها. والدين اللاحق إذا هو بمثابة تجديد لدعوة الدين السابق. وإن وجد اختلاف جوهري بينها فمنشؤه إذا رجال الدين أنفسهم لأنهم بإصرارهم على إفهامهم في الدين وقد تكون بعيدة عن هدفه العام وبمرور الزمن على هذا الإصرار يختلط ما أصروا عينه بما للدين في الأصل إذا نقل عنه. وتحريف الكلم عن مواضعه الذي ينسب إلى رجال أي دين من الأديان منه هذه الإفهام البعيدة التي أصروا على أنها لدين. (إن الذين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم. . .).
وليس الإلمام بمعارف الإسلام أو أداء رسومه الظاهرة هو عنوان سيطرة الإسلام على(606/17)
الفرد أو الجماعة أو على نسبة الفرد أو الجماعة إليه، بل عنوان ذلك وحده هو الفصل على نحو ما ذكرنا بين الانقياد إلى الشخص أو إلى المبدأ. كما أن هذا الفصل نفسه عنوان رقي الفرد أو الجامعة لأنه ينطوي على شعور الفرد أو الجامعة بالكرامة أو بالقيمة الذاتية وعلى ما يسمى بالسمو الروحي أو النفسي، كما أن العكس وهو رواج الانقياد للشخص أكثر من الانقياد للمبدأ دليل على عدم سيطرة الدين وبالتالي على عدم نضوج الفرد أو الجامعة.
ويخطئ إذا من يفرق بين الدين وضروب الثقافات الإنسانية الأخرى في توجيه الإنسان، فيجعل الدين منزلة ثانية، لأن هذه الضروب من الثقافة إن كانت موصولة لرقي الفرد والجماعة؛ موصولة لتهذيب الإنسان وإشعاره بكرامته وموصلة لتحقيق معنى الصالح العام في الجماعة التقت مع الدين في هذا الغرض وامتاز الدين عنها يتجرده المطلق عن التحيز لجماعة إنسانية دون جماعة أخرى. وعلامة الصالح العام في الجماعة تقدير المبادئ العامة التي لا تخضع للتغير والتي تتسلسل جميعها في النهاية إلى مبدأ أعلى للوجود كله وهو الله.
ولأن الدين، وبالأخص الإسلام، له هذه المنزلة لا نكون مغالين إذا حكمنا بأن خلو التوجيه منه في الجماعة نقصٌ في التوجيه نفسه، لأن الثقافة الإنسانية التي تستخدم في التوجيه عندئذ مهما أكدت معنى المبادئ والمثل العليا فإضافتها للإنسان توحي تشككاً في أبدية ما فيها من مبادئ ومثل، أو يؤول أمر نسبتها للإنسان إلى تقديس الإنسان دون اعتبار حمله هذه المبادئ.
ولا نبعد عن الصواب كثيراً إذا حكمنا على بعض علماء الدين بأنهم لم يفهموا الإسلام إذا جعلوا من قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) ثلاثة أنواع من الطاعة، لأن الهدف الأخير للإسلام وهو طاعة الله وحده ممثلاً في الرسول باعتبار كونه حاملاً لرسالته، وفي أولي الأمر باعتبار كونهم قوّامين على تنفيذ ما ورد في هذه الرسالة في الجماعة الإنسانية. وفي هذا قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) والحديث الشريف: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله).
ولا نبعد أيضاً عن الصواب كثيراً إذا ذكرنا أن الوثنية التي حاربها ويحاربها الإسلام ليست(606/18)
هي وثنية العرب التي كانت قائمة على تقديس الأصنام وبعض الكواكب فحسب، بل هي وثنية الإنسانية على العموم، وهي تقديس المشخص دون رعاية للمبدأ والمثال. وهي لا تزول من هذا الوجود ما دام للإنسان ناحية مادية وأخرى روحية، وما دام للوجود كله أيضاً جانبان: جانب ظاهري هو الجانب المادي، وآخر مستتر وهو الجانب المثالي أو المعنوي، وما دام انجذابه إلى الجانب الآخر. ولسهولة انجذابه إلى الجانب المادي كان هو في حاجة على الدوام في الكفاح ضد هذه الوثنية أو كانت الإنسانية كلها - إذا ابتغت الرقي - في حاجة أبداً إلى دين سماوي هو الإسلام. لأن الإسلام آخر مظهر للأديان السماوية على طبيعتها صانه الرشد الإنساني في التدوين والرواية عن أن يختلط ببعض الإفهام المنحرفة فيه. فكلمة لم يحرف عن مواضعه كما حرفت الديانات السابقة عليه. إذا الإنسانية وقتئذ أي وقت تحريف هذه الديانات لم تملك الشجاعة الكافية في كتابة التاريخ حراً دون التأثر برأي رجال الدين ودون رعاية لسلطانهم، فكان الدين المؤرَّخ هو رأي رجاله وكان رأي رجاله هو التعبير عن الدين.
وإذا كانت الإنسانية منذ القدم في حاجة إلى معونة الدين في مكافحة الوثنية، وكانت حاجتها هذه قائمة على طبع فيها وهو ميلها النفسي إلى الصفحة الظاهرة من الوجود وهي الصفحة المادية، فالدين إذا ليس لعهد دون آخر. إنما الذي يخلع عليه البلى أو يجعله للماضي فقط هو فهم رجاله وعمل الدعاة باسمة، أو هو غرور الإنسان بالإنسان. إذ منذ قيام العهد الإنساني وهو منذ عصر النهضة الأوربية أخذ الإنسان يؤمن بنفسه ثم بالغ في هذا الإيمان حتى طغى أو حال دون إيمان له نتيجة عملية لشيء آخر في هذا الكون. ومنذ قيام هذا العهد أيضاً كان عمل رجال الدين بعيداً عن مقصد الدين. وبذا كانت فجوة بين الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية وبين تمثيل الدين في رجاله: الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية يؤمن بالقيمة الذاتية للإنسان، ويؤمن بالمساواة بين الأفراد لا عابد ولا معبود بينها، ورجال الدين يعلمهم يصورون الدين منحرفاً عن هذا الاتجاه.
ونفع الجماعة الإنسانية الحاضرة إذا بالدين متوقف إلى حد كبير على حاجة رجال الدين أنفسهم إلى الدين في مكافحة هذا الانحراف؛ متوقف على أن تكون الدعوة باسم الدين إلى الله وحده لا لإنسان آخر غيره مهما عظم ومهما كان له من سلطان. وهكذا أرباب الدعوة قد(606/19)
يحتاجون أنفسهم إلى الدعوة، ولكن على يد من لا ينسبون أنفسهم إليها.
محمد البهي(606/20)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
بخار البصل يقتل الجراثيم
تقرر الأبحاث العلمية الأخيرة أن البصل والثوم وكل نبات قوي الرائحة من أفتل المواد للجراثيم، وأكثرها وقاية لجسم من الأمراض
تجاهل جميع الباحثين أمر البصل مئات السنين برغم أن فلاحي اسكتلندا اعتقدوا أنه يقضي على الزكام والبرد، وبرغم أن الأوربيين والمصريين علقوه على أبواب دورهم ليقيهم شر الحميات. ولفتت الظاهرة نظر الدكتور توكين وأتباعه الروسيين، فأجروا تجاربهم ووجدوا أن البصل والثوم وغيرهما من النباتات القوية الرائحة تحتوي على زيوت أساسية تقتل البكتريا والجراثيم، وبويضات بعض الحيوانات الصغيرة. فأطلقوا على هذه المادة القاتلة اسم (فيتونسيد). ولم يوقفوا بعد إلى معرفة تركيبها الكيماوي، وإن عرفوا أنها سريعة التبخر، فإن تعريض عجينة من الثوم أو البصل للهواء من 10 إلى 15 دقيقة يفقدها كل قدرتها على قتل الجراثيم والبكتريا، ولهذا كان من الضروري استعمالها عقب تحضيرها مباشرة
وتختلف الطريقة العلمية لاستعمال عجينة البصل عن طريقة جداتنا اختلافاً يسيراً. فبعد أن يدق البصل لا يوضع على الجرح، بل يوضع في وعاء من الزجاج بسعة الجرح، وعلى فوهته يوضع لوح ليتلقى بخاره لمدة عشر دقائق على فترتين كل منهما خمس دقائق. وتستمعل عجينة جديدة في كل فترة.
بدأ الأطباء الروسيون تجاربهم على 25 مريضاً. ولكن قلة البصل عندهم اضطرتهم إلى قصر التجارب على 11 مريضاً فقط. منهم 7 بترت أذرعتهم، وواحد ساقه وثلاثة أقدامهم، واختير المصابون ممن ظهرت في جروحهم حالات التسمم والصديد؛ وكانت رائحة بعض الجروح منتنة، وأنسجة الأعضاء متورمة يصرخ أصحابها من الألم.
وعولج المصابون ببخار البصل فترتين متتاليتين كل منهما خمس دقائق. فتوردت كل الجروح بدل أن يطغى عليها اللون الرمادي. وأحس المرضى بآلامهم تزول. وفي المرة الثانية قلت كمية الصديد واختفت الرائحة النتنة. ومرت خمسة أيام بدأت فيها الأنسجة(606/21)
نموها الطبيعي. ولم تحدث مضاعفات في أية حالة، فاقتنع الأطباء بما في زيت البصل والثوم (فيتونسيد) من قدرة على التغلب على تسمم الجروح.
واستمر الدكتور توكين ومساعدوه 14 سنة يدرسون خواص الفيتونسيد القاتل للميكروبات والجراثيم، فدرسوا 150 نباتاً وأثبتوا أن البصل والثوم من أغنى النباتات في هذه المادة الوافية التي تستطيع قتل جراثيم خطرة مثل جراثيم حمى التيفوس
على أنهم وجودا أن نسبة تركز هذه المادة في أجزاء النبات مختلفة، فأكثرها وأقواها في قلب النبات وجذره ثم تتدرج في القلة إلى أن تكون على أقلها في الأجزاء الخضراء. ولعل هذا يفسر تعفن البصلة (تصنن) عند فصل الجذر عنها.
ووجدوا أيضاً أن بصل وثوم الخريف والشتاء أوفر في مادتهما القاتلة من مثليهما في الصيف والربيع. وتقل مادة (الفيونسيد) فيهما كلما طال بهما التخزين. فإن كانت عملية التخزين رديئة فقدا مادتهما الثمينة وصار أوساطاً جيدة لنمو الجراثيم مما نشاهده من تعفنهما إن طال بهما الزمن.
وأوصى باحثان باستعمال عصير البصل والثوم كعلاج منزلي عند الإصابة بالبرد. فنصحا بمضغ الطازج من النباتين من ثلاث دقائق إلى ثمان. وربما أنتج مضغهما لمدة دقيقة واحدة , فإنهما وجد أن هذا المضغ يؤدي إلى القضاء على جراثيم الغشاء الداخلي للوجنتين والفم، أو إلى توقف إفرازاتها.
وهناك ظاهرة أخرى يلفت إليها العلماء الأنظار من حين إلى آخر، وهي قدرة عصير البرتقال أو الطماطم أو غيرهما من النباتات الصنوبرية (المخروطية) على شفاء الجروح. وعزوا هذه النتائج في بعض الحالات إلى احتواء العصير على كميات من الفيتامينات.
على أن العلماء الروسيين يخالفون الآخرين في اعتقادهم ويعزون قدرة هذه الأنواع من العصير على قتل الجراثيم إلى احتوائها على مادة الفيتونسيد التي عرفناها في البصل والثوم. فهل لعلمائنا وأطبائنا أن يولوا البحث نصيبه ويقولوا كلمتهم فإن وصفاتنا البلدية أكثر من أن يحدها حصر؟
الغذاء كعلاج لضغط الدم
تمكن أحد الأطباء من تخفيض حالات الإصابة بضغط الدم في 60 % من مرضاه بواسطة(606/22)
التغذية. وضغط الدم من الأمراض الشديدة الوطأة وخصوصاً على كبار السن، ويتعذر شفاؤه في كثير من الأحيان. وقد درس هذا الطبيب حالات المرض والأغذية الملائمة له فوفق إلى تحديد غذاء من الأرز وعصير الفاكهة والسكر والفيتامينات ومواد حديدية. وهي تفيد المصابين بضغط الدم وبالكلى.
ويرى الدكتور كمبنر صاحب هذه النظرية أن الكلى تتعطل عن تأدية إحدى وظائفها فتعجز عن تحويل بعض المواد الزلالية إلى بول بسبب قلة الأوكسجين مما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم. فلجأ إلى الأرز ليخفف كمية الزلاليات عن الكلى، فتقل المواد الضارة التي تسبب ضغط الدم.
ومع أن نجاح هذه التغذية لم يكن كاملاً مع جميع المرضى فإنها لم تؤثر عليهم تأثيراً ضاراً، ولهذا يفكر بعض الأطباء في استنباط نظام تغذية له نفس التأثير على مرض السكر
أثر التغذية في الجهد العضلي
لأول مرة في التاريخ البشري يجري أحد أطباء جامعة مانيسرتا تجربة غذائية على الناس، والغرض منها دراسة تحول السكر إلى مواد غذائية، وعلاقته بالفيتامينات ومدى تأثيره على جسم الإنسان في نومه وفي نشاطه. وكانت مثل هذه التجارب تقتصر على الحيوانات لخطورتها. ولكن العمليات الحربية في المحيط الهادي دفعت إلى إجراء هذه التجارب على الناس، فعلى ضوئها تصرف وجبات الطعام للجنود.
ويعيش المتطوعون في هذه التجربة في عنابر نوم تابعة لمعمل الطبيب، ويتيسر فيها رفع درجات الحرارة والرطوبة إلى أن تصل إلى مثيلاتها في المناطق الحارة، أو خفضها حتى تصبح جزءاً من المناطق القطبية.
وتعطى جميع وجبات الطعام في المعمل، فيوزن كل غذاء يتناوله المتطوع، ويؤخذ جزء مساو له في الوزن ليحلل كيماوياً لكي تعرف قيمته الغذائية. ويمنع المتطوعون بتاتاً من تناول أي طعام خارجي. ولوحظ من يحرمون من تناول المواد المحتوية لفيتامين (ب، ا) يفقدون كل شهية للطعام، ويعجزون عن إبقاء أي طعام في بطونهم. وأحياناً يتعذر عليهم برغم كل ما يبذلون من جهد الاستمرار في تناول وجبات معينة.
ومن المعروف أن النشاط الذهني أو البدني شديد الصلة بالتغذية، ولهذا يقاس مدى نشاط(606/23)
المتطوعين في مختلف الوجبات بأنواعها، كما يفحص تأثير البيئة أو الحارة أو الرطبة على الحالة الغذائية، وحتى في أوقات الرياضة في الهواء الطلق تؤخذ عينات من دم المتطوعين لتحليلها ودراستها بالنسبة لكمية الهواء.
ويقول الدكتور كايس الذي يشرف على هذه التجربة: إن كثيراً من الأبحاث دار حول تحول المواد السكرية إلى مواد حية في جسم الإنسان، ولكن قليلاً منها طبق بمثل هذه الدقة. فإن أضفنا إلى هذه التجارب معلوماتنا المتزايدة عن الفيتامينات فانه يعتقد أنه قد حان الوقت لكشف تفاصيل تحويل المواد النشوية والسكرية إلى أنسجة حية في الجسم، كما أننا سنعرف الظروف التي يجب توفرها للفيتامينات للانتفاع بالسكر كوقود إنساني.
فوزي الشتوي(606/24)
القصص
الجارم البريء
للأستاذ حبيب الزحلاوي
تتمة
لقد انقلبت طفلاً ولا بستني حالة جيدة ليس في وسعي تصويرها. صرت أرعى زوجي الحامل كرعاية الأم رضيعها، واحرص على القرش الواحد كما لو كان ديناراً ذهباً. كنت اصدف عن الصحاب وازور إذ ألقى في منزلي، وددت لو أحتاز خيرات العالم أقدمها هدية لوالدي العزيز. قلت لصاحبي في شيء من الباسطة بغية إقشاع السحب المنتشرة - فوق نفسه، يخيل إلى أن (العامل الخفي) في زوجتك هو الذي جعلك لجوجا وثابا تقدير الأشياء بمقدار التخيل والتصور. وقد لا يؤذيك إذا قلت لك بصراحة الصديق الصادق إن بلوغك (سر المرأة) ابتعث فيك الشهوة عنيفة حادة. اطرق قليلاً وأجاب (الشهوة حيلة إرادة الحياة الكبرى على البقاء) نحن يا صاحبي نخلق الجمال ونعطي المعاني للأشخاص والأشياء. فالمعنى الصحيح لسر المرأة الراحة والطمأنينة. صمت هنيهة ثم أردف (أن رجلاً مثلى مفطور على العناد - والمغالبة والكبرياء لا يرضيه الاستسلام والليونة والركون شأن أكثر الأزواج. . . ثم تابع قوله كانت زوجتي. . . فقاطعت كلامه قائلاً: انتقال من الموضوع بارع ثم تقول. كانت زوجتي، وكانت هذه تدل على فعل ماض، فأومأ أن أتريث وتابع الكلام، كانت زوجتي، أجل كانت زوجتي على شيء عظيم من عزة النفس والكبرياء والمغالبة، وأنا أنا الذي أنميت فيها هذه الصفات وتعهدتها بدراية وحكمة، كان يلذ لي أن تعلو حجتها على حجتي فأرضخ للحق، وان يصدم عنادها عنادي فتنتهي إلى الرضا. ولم يبلغ كبرياؤنا في ظرف من الظروف حد الغرور، بل كنا نخلق الخصومة نوري بها الذهن فنستصبح بومضات الروح منبثقة من ظلمات المجهول، من هذا التناسق والانحاد جعلنا مواد بناء حياتنا الزوجية، وقد استخلصنا من ضروب أنواع الحب في فوضى الحياة خيطاً لنا بمثابة (الهارموني) من نشيد العمر، يرتفع بفرحة الغاية من الوجود الإنساني إلى أسمى مقام، أما خيط حياتي هذا فقد انقطع، أنا الذي قطعته بيدي، أجل يا صاحبي أنا الذي قطعته(606/25)
بيدي. لقد حطمت جرة السمن فاندلقت أحلامي، أنا الراعي الغبي، وانساح أملي في الرمل، أنا الحي الضائع!! نظرت إلى عينيه فإذا بنورهما قد ناص كمصباح نضب زيته، وأجفانهما تكسرت وجمدت فيهما دمعتان، وعندما أخذ يتابع الكلام توهمت - الصوت آتياً من بعيد قال، ذهبت وزوجتي ذات عشية إلى وادي العرايش، وما كدنا نأخذ مكاناً قرب النهر حتى توافد الصحاب، فاتسعت الدائرة، واتسقت صفوف الأقداح وشعشعت النفوس فانطلقت الأسنة. لم تهدأ جلبة السكارى إلا حين ارتفع صوت المغنى يشدو (العتابه) برنين شجي وصوت رخيم تشترك مع معاني العتاب في تطريب النفس - وإثارة ما فيها من حزن وفرح وقد استفاض صدري بإحساس مضطرب إذ سمعت المغنى ينشد (غربوا أحبابي) وشعرت كأن أحبابا تناديني، لقد فاض الدمع من عيني وانهمر، لاشك أنه دمع حنان النفس التي تضطرب فيها الآلام جميعاً!!!، في هذه اللحظة تلاقت نظراتي بنظرات زوجتي، فاعتلج في صدري شوق مفاجئ يدعوني بالحاح إلى العودة إلى أميركا حيث أموالي المتروكة في بلاد الناس، وعندما عدنا إلى البيت سألتني زوجتي متى نسافر إلى أميركا؟ في تلك الساعة عقدت النية على العودة إلى الوطن الثاني، وفي تلك الليلة المشؤومة انتهى كل شيء!!، أجل يا صاحبي في تلك الليلة الملعونة انتهى كل شيء في وجودي وبقيت وحدي كحروف رسالة بليدة بقبضة متصلبة وقال أنت تعرف أبنية زحلة متلاصقة ومنازلها متلاحمة لا يفصلهما من الجيران فاصل، قلت أعرف ذلك، قال: كنت أسكن بيتاً من هذا الطراز القديم لأنه أقرب إلى إحساسي وألصق بذكريات طفولتي، هذا البيت الذي كنت أخاله بقعة اقتطعتها الملائكة من فراديس النعيم قد انقلب بلحظة واحدة إلى قبر في الجحيم تحوطه نيران قلبي وألسنة الناس، قلت: اكتشاف خيانة؟، نظر إلي نظرة استخفاف خلتها تهز مكمن كبريائي فحجلت، واستطرد قائلاً: في هدأة الليل حيث كل شيء هادي إلا عيون السماء، دوي الوادي أو توهمت أنه دوي بصوت استغاثة قريب صادر عن قلب هلوع، الحرامي، الحرامي. . . النجدة. . . النجدة! وتلاه ولولة امرأة مخلوعة اللب وعويل أولاد. . . استيقظت بلا وعي أترنح من الذعر أو من الشجاعة، تناولت مسدسي من تحت الوسادة وهرعت لاقتنص السارق، لم يكن في وسعي ترتيب التصورات المتداعية والخيالات التي تراكمت في ذهني وازدحمت فيه مبلبلة مشوهة، توهمت السارق(606/26)
عميداً من عمداء الجبابرة سلطته قوى مجهولة تتربص بي لتنتزع مني زوجتي أم ولدي، وارث أموالي ومخلد ذكرى. لقد جن جنون أنانيتي وثارت في فطرة، فطرة الإنسان، أو غريزة لبوة بكرية اقتحم وحش ضار عرينها فهبت تدافع عن أشبالها، كنت أروح وأجيء وأتوهم أني أقفز من سطوح إلى سطوح، أدور حول نفسي كاللولب، أنادي السارق بصوت متهدج أجش، اختلط صوتي بعجيج أصوات عشرات الشبان الذين خفوا مسلحين للفتك بالسارق، إن السطو على منزل في رحلة عروس مدن لبنان إنما هو تحد لكرامة أهلها واستهانة بتقاليدهم ونخوتهم، لمحت شخصاً ماثلاً قبالتي فتصورته عملاقاً من الجن ينقض علي، أحسست بالعملاق الجبار يرفع يديه ليسحقني. . . أطلقت رصاصة أو انطلقت من المسدس رصاصة ردد الوادي صداها. أصابت الهدف فسقط الجسم بدون حراك، أيقظني الانتصار من غفوة الذهول، فتنبهت إلى نفسي وادا أرى حولي طائفة من الجيران أقبلت على صوت الطلق الناري، سمعت صراخاً وعويلاً وحسرات فيها كل معاني الألم والحزن والشفقة. . . أشعلت الأنوار، تجمع الناس، تبينت الوجوه، فإذا بالعيون - تحدجني بنظرات أسى وحيرة ملتاعة مضطربة، دهمنا الجند فإذا بهم يطبقون على القاتل يجردونه من سلاحه وقد دل الجيران عليه. يا للأجناد الأجلاف! بالرجال التحقيق ما أطيب قلوبكم لقد منوا علي - تكرماً منهم بإطلاق حريتي ريثما أرافق زوجتي فأواريه التراب؟!!!، ويلاه لقد جمد جسمي في تلك الساعات وتلبد شعوري وراغت نظراتي، كنت اعتصر عيني، استجدي قلبي قطرة من دمه، ولساني كلمة واحدة انطلق بها، كنت أرى جثمان (يمني) مسجًي في النعش على رأسها أزهار الليمون الذي زانته بها يوم اكليلنا وقد غطى الود ثوبها الأبيض الغارق بالدم، وكنت كقمة الحبل الشاهق جموداً وبرودة. وهأنذا أحس بالوقائع ماثلة أمامي أصورها لك وفق الرؤى والشعور، أحسست الأرض تدور بي والآلام تنساب في نفسي تنهب وتنوش أعصابي. أما محدثي فقد اعتدل في جلسته واشتدت نبرات صوته وقال: من السخرية الاستعانة بالعدل الإلهي واحترام شرائع الناس؟!! أليس رعونة أن تبرأ ساحة القاتل ويطلق من عقاله ولما يجف دم المقتول بعد؟ أليس ظلماً أن تعاد إلى حريتي أنا القاتل الأثيم؟ أين القصاص من حياة؟ أمن العدل أم من الظلم أن أجوب الأرض، أتسكع في الشوارع، أطوف حول الذكريات أتلمس آثار الحياة وأنا ميت القلب(606/27)
والروح؟؟ اسمع يا صاحبي ليس العدل والشرائع والقوانين والأديان نفسها تستطيع أن تشفى أدواء الناس، إنما الذي يستطيعها هو الضمير،. وسأنفذ أحكامه التي أرتضيها لنفسي حاكماً محكوماً. استلمنا كلانا للصمت: توهمت صاحبي المسكين لا يواصل رحلته إلى أميركا بل يترك الباخرة عند أول ميناء يتطوع للحرب حتى الموت ولكن سرعان ما استلمح هذا الخاطر يتوارى في طيات كلامي حتى قال لي ضاحكاً: أتحسب الموت يقضي على الموت؟ قلت لا أفهم ماذا تعني. قال: ولا أنا أيضاً أفهم كيف أقضي بيدي على حياة ألقيتها في غيابات العدم، بل أفهم أني سأبقى في فراغ يتساوى والعدم، وسأستمهل الموت حتى القي في كل ساعة ميتة تكفر عن جنايتي، طفرت دمعة كبيرة من عيني المسكين فتلقاها بمنديله، وعندما هم - بالنهوض تخاذل وخانته قواه، تأبطت ذراعه وأسندته على كتفي حتى بلغ غرفته في الباخرة، وإذ كنت عائداً لقيت الطلعة من الأميركان وقد تهيبوا سؤالي وانصرفوا بتتبع بعضهم بعضاً.
حبيب الزحلاوي(606/28)
وديعة مدينة سالم
(اقترح صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام في العدد الممتاز
من الرسالة على شعراء العربية أن ينظموا ملحمة البطولة من
حياة المنصور بن أبي عامر، وهذه محاولة أولى تقتطف منها
هذه الأبيات):
قل للحجيج، إذا ما ناله التعب ... يا أيها الركب: هل أديت ما يجب؟
وهل إلى (سالم) خبَّتْ ركائبكم ... وهل هداكم إليها المجد والحسب؟
وهل رأيتم على آثارها (جدثا) ... تطوف من حوله الأفلاك والشهب؟
هذى الحجارة - وهي الآن جامدة - ... كم ذا تفجَّر منها السلم والحَربَ
استخبروها حديث المج تخبركم ... فرُبَّ أخرسَ تَعْيا دونَه الخُطَبُ
قولوا لها: يا بنات الصخر ما صنعت ... بصفحتيك بنات الدهر، والنُّوَبُ؟!
هيا صلينا بآباء لنا نُجُبٍ ... قد أنجبتهم جدود سادة نُجُبُ
مًدُّو على البحر ظلاً من مراكبهم. . ... والنصر من فوقهم قد قاد ما ركبوا
حتى أتوا شاطئ الأسبان واختلطت ... على رباه رماح القوم والقُضُبُ
فأشعلوا البحر ناراً من سفائنهم ... كيلا يكون لهم من خلفهم سبب
وأصبحوا ولواء النصر مُنْعَقِدٌ ... من فوقهم، والمنى حولهم طُنُبُ
حتى إذا أرخت النعماءُ ساعدهم ... واستنوقوا ما يشاء اللهو والطرب
ذابت مهابتهم من عين واترهم ... كما يذوب بكأس الشارب الحبَبُ
لولا (محمدُ) وافاها على عَجَلٍ ... والريحُ عاتية، والموجُ يضطرب
لغيَّر الريح مجراها، ولارتطمت ... ألواحها بصخور شادها العطب
فتى كبير الأماني من حداثته ... قد كان يحلم بالعليا، ويرتقب
خمسون وقعة قاد الجيوش بها ... مُظَفَّراً، فائزاً، للنصر يصطحب
لم يثنه عن لقا أعدائه مرض ... ولم يثبَّطْهُ عن نَيْلِ العُلا نَصَبُ
قد يخمد الجسمُ من كْدٍ ومن تعبٍ ... وجمرة الروح تبقى فيه تلتهب(606/29)
لم يحمل (الزنج) منه غير هيكله ... وروحه احتملتها السبعة الشُّهُبُ
فأنت يا (سالم) للمجد قاعدةٌ ... تقوم من فوقها الأعلام والنُصُبُ
قد أودعتك العلا أغلى جواهرها ... واستأمنتك على تاريخها العرب؟
(كلية اللغة)
يوسف زاهر(606/30)
البريد الأدبي
بيت الكميت
العلامة الدكتور طه حسين تمثل في كلمة له في (المصور) الأغر، عنوانها (عشير الأدباء) ببيت جاء في هذه الصورة
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
وقد يخال قارئ البيت أن (كان) هنا ناقصة و (الأسنة) اسمها و (مركبا) خبرها، وإنما هي في هذا الكلام تامة ومركب فاعلها، فالرفع واجب، والأسنة بدل من مركب قُدْم فنصب على الإستثناء، ويرفع بعضهم مثله، والبيت للمكيت.
أزهري
الحضارة المصرية القديمة وأثرها في الحضارات الشرقية
ألقى الأستاذ ستروف أحد أعضاء الأكاديمية الروسية، خلال شهر ديسمبر الماضي، طائفة من المحاضرات العامة في لنينجراد وموسكو، كشف فيها عن عظمة الحضارة المصرية القديمة. كانت المناقشات التي تعقب محاضراته تدل على اعتراف المستشرقين الروس بالدور الذي قامت به مصر في تكوين الحضارات الأوربية والأسيوية
وقد تناول الأستاذ ستروف في إحدى المحاضرات موضوع الأسبقية بين حضارتي مصر وبابل مشيراً إلى وجوب إعادة البحث في هذا الموضوع على ضوء ما ظهر من بيانات أثرية جديدة.
ومما قاله الأستاذ، أنه يؤيد الرأي القائل بأن عصر الدولة الوسطى في تاريخ مصر القديمة يعد سابقاً لعصر الأسرة الأولى في بابل. وذلك لا يدع مجالاً للشك في أن الثقافة التي ازدهرت بمصر في عصور الدولة الوسطى قد انتقلت إلى فلسطين وسوريا وبدا أثرها في الحياة الاجتماعية بأرض الجزيرة
وكان مدار بحث الأستاذ ستروف في هذه المحاضرة، أثر المدنية المصرية القديمة في ثقافة بلدان حوض البحر المتوسط وآسيا الصغرى، فابان أن مصر كانت ميداناً لأول حركة شعبية ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. ثم قال: ونحن نعلم مدى الأثر الذي خلفه(606/31)
المهندسون والرسامون والمثالون وأرباب الصناعات من المصريين في مختلف الفنون، سواء في سوريا أو بلاد الحثيين، وان هذا الأثر انتقل إلى الآشوريين. كذلك امتدت حضارة مصر إلى اليونان فكان من نتائج هذا أن تهيأت الأسباب لتطور الفن اليوناني
وأشار بعد ذلك إلى القصص والأساطير التي شاعت في عهد الدولتين الوسطى والحديثة وما كان لها من عظيم الأهمية في حضارة العالم، قائلاً: إنه لا يسع المرء مثلاً عند قراءة قصة (السفينة الغارقة) التي كشفها الأستاذ جولينيشيف العالم الروسي في الآثار المصرية في متحف الرهبان بلنينجراد، إلا أن يذكر بطل قصة الأوديسة الإغريقية أو السندباد البحري. ومن الواضح أن مجموعة القصص التي تتضمن ما كان يقوم به السحرة المصريون من الأعاجيب تعد أعرق في القدم من كتاب (ألف ليلة وليلة) ذي الشهرة العالمية
ونوه الأستاذ ستروف بمدينة مصر من الناحية العلمية، ذكر أن الأطباء المصريين كانوا أول من كشف عوامل مسببة للأمراض، وأول من سجل في تاريخ الطب البشري لفظة (المخ) وان هذا الجزء من الجسم إذا اختل أدى إلى خلل أجزاء أخرى
ثم قال المحاضر، إن المصريين قد تمكنوا من قياس مسطحات الأجسام المستديرة، واستطاعوا قياس السطح الكروي، قبل أن يهتدي ارخميدس إلى ذلك بزمن بعيد. كما نوه بفضلهم في وضع التقويم الذي أخذه عنهم يوليوس قيصر، فأصبح بعد ذلك أساساً لحساب الزمن عند الشعوب الأوربية وانتهى من هذا إلى قوله: أن من واجبنا أن نعترف اليوم بما كان للثقافة المصرية من أثر في حضارتنا الحالية.
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
(تهنئة بعيد ميلاد ولده نبيل)
أنجبتَ للدنيا نبيلاً أوَّلا ... فالله يحبُوك غُلاماً أنبلا
لم نره لكنَّنا نعرفه ... لما رأينا منك فيه مثلا؟
إنا رأينا فيك فضلاً واسعا ... فلا يَضِرْكَ أَن يكون أفضلا
ترجو له عمراً مديداً سابغاً ... وَغَدَه المأمولَ والمستقبلا(606/32)
أَلا تَرى فيه الرجاَء المرتجى ... ألا تَرى فيه الضياَء المجتلى؟
يُشعُّ في البيت سناءً وسنيً ... ويملأُ الدنيا لديك أملا
يسألك الشيَء فلا تلبث أَنْ ... تجيبَه حالاً إلى ما سألا!
ينالُ بالدُّموع كلَّ ما ابتَغى ... وبالصياح كلَّ مَا قَدْ أمَلا
خَيَالهُ قد يَسَعُ الدنيا وما ... فيها فلا تكفيه أَغراض الفلا
وقد يَرُومُ في السَّماءِ مَصْعَدا ... ويَبتَغي بين النُّجومِ مَنْزِلاً
براءة الأمْلاكِ فيه اجتمعتْ ... والطهرُ في صفاته تمثَّلا
لا يحمل الحقدَ ولا يعرف من ... دنيا الأنام آفةً أو عِلَلاً
ولا يَدُوسُ بالنفاقِ حَمأً ... ولا يَخوضُ بالرِّياء وَحَلا!
سبحان من قد صوَّر الطفلَ على ... خَير مِثالٍ في الحياة شُكِّلا
قد صاغه من السلام مَلَكا ... مجسَّداً وَبَشَراً ممثَّلا. .
لكنه غداً يقود عالماً ... إلى القتال أو يسوقُ جحفلا. .
وقد يقيم للدمار مدفعا ... وقد يمد للقتال مُنْصُلا
وقد يَفُضُّ بالسيوف مُشْكلا ... ولا يَحُلُّ بالكلام مُعضلا
فإن أصاب جعلوه غازيا ... ولقَّبوه فاتحاً وَبَطَلا. . .
مَنْ عَلَّم الإنسان أَن ينمو على ... طبائع الذئبِ وكان حملا؟؟
علِّمْهُ بالله المطايا صعبةً ... ولا تعلِّمْه المطايا ذُلُلا
علِّمه أن الحربَ دكَّتْ أُمما ... وزلزلت ممالكاً ودُولا
علمه أن الحق لا يُحمي إذا ... كان الفتى من السلاح أَعزلا
علمه في النقد المرارة التي ... ليست تحابي لتكون عسلا!!
علمه في القول الصراحة التي ... عرفتها فيك تهز الجبلا
علمه في الحب الحرارة التي ... تجعل من قلب المحب شُعَلا
علمه أوْلا! فهو شِبْل ناشئٌ ... هل تنجب الأسُود إلا أشبُلا؟
محمد عبد الغني حسن
من كتاب الرسالة أيضاً(606/33)
كتب الدكتور سيد حنفي في العدد في العدد 602 من مجلة الرسالة الغراء مقالاً تحت عنوان (أثر الرسالة في الأدب المعاصر) ولما طالعته وجدته أغفل ذكر بعض الكتاب الأعلام الذين كانت لهم جولات في ميدان الرسالة وكانوا في مقدمة كتابها الكرام. فالأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني هو أحد الكتاب الأعلام الذين كانوا يحررون مجلة الرسالة، وكذلك المرحوم عبد العزيز البشري، وكانت أبحاث الأستاذ محمد عبد الله عنان التاريخية في مقدمة المقالات التي تنشر في الرسالة، ومن الذين كانوا يكتبون في الرسالة أيضاً الأساتذة: زكي نجيب محمود، وخليل هنداوي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عطيه الإبراشي، وحسين شوقي؛ ومن الشعراء الذين كانوا يخصون الرسالة بما تنتجه قرائحهم الفياضة الأساتذة: علي أحمد باكثير، وفريد عين شوكة، وفخري أبو السعود؛ وكل هؤلاء الكتاب والشعراء لم يتطرق الدكتور إلى ذكرهم في مقاله.
(بغداد - أعظمية)
عبد الباسط يونس رجب(606/34)
الكتب
في عالم الكتب
الشوامخ
خصائص الشعر الجاهلي وأعلامه
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
خيل إلي وأنا أقرأ هذا الكتاب الطريف الممتع أنني أقرأ لشيخ من شيوخ اللغة والأدب لا لرجل عل من الثقافة الأوربية ونهل، وغاص في بحار المحفوظات والأضابير والوثائق التاريخية يسترخ منها تاريخاً لإمبراطورية محمد علي الكبير، أو يكتب بالفرنسية كتاباً عنوانه: ? أو يؤرخ بالعربية للثورة الفرنسية ونابليون
ولكن الدكتور محمد صبري يستوي عنده التاريخ والأدب ما دام في ذلك رضي لحاسته الفنية الرفيعة، أو ترضى لقوميته المصرية العريقة، أو رضى لحاسته للغته العربية وأدبها الغني السمين.
وعجيب أن هذا الرجل الذي يقرأ في الفرنسية، ويكتب قادراً بالفرنسية، ويؤرخ لأحداث العصر الحديث يطوي القرون القهقري حتى يأتي (امرأ القيس) في أموره وخمور؛ ويأتي (طرفة) في رحلته وناقته، ويأتي (زهير بن أبى سلمى) في حكمته ومدائحه وفي المهاة التي شبه بها ناقته. ثم لا يكتفي بذلك فحسب، بل تراه ضارباً مع الجاهليين في الخيام، هائماً معهم في كل دوِّية، يلاحظهم وهم يشدون الاكوار على الرحال، أو يلعبون المقايلة في الرمال، أو يطاردون بالكلاب المضرَّاة الثيران: أو حين تخرج الأرامل الشُّعثُ يحملن المناقع إلى رجل كريم فتح بابه للسؤال، وتهلل وهو يبث النوال. . .
والحق أن في الشعر الجاهلي كثيراً من غريب الألفاظ باعد الزمن بيننا وبينها، فتغيرت على أذواقنا وتوعرت على أسماعنا. ولكن الدكتور محمد صبري - جزاه الله أحسن الجزاء - قد ألف بيننا وبين هذه الثروة المذخورة من الألفاظ؛ فقد عرض الشعر الجاهلي عرضاً متبوعاً بشرح غريبه؛ فلا تلبث حتى ترى نفسك أمام شعرٍ خَلعَ التفسير عليه جمال الوضوح، فبدا رائعاً في شرحه، رائعاً في متنه. وإذا بك ترى هذه الألفاظ المهجورة(606/35)
الموحشة مأنوسة مألوفة؛ وإذا بك تجد الحسَّ بينك وبين العربي مشتركاً، وتجد التجارب بينكما متبادلاً. فتقف أمام البيت من الأبيات وأنت تكاد تحس فيه قلب الشاعر أو همس الخاطر. . .
والمؤلف نفسه متأثرة بالأسلوب العربي الرصين؛ ويخيل إلى أنه عنده حاسة يتخير بها اللفظة الملائمة مهما كانت غريبة؛ ولعله واثق إن إعادة استعمالها قد يضفي عليها الحياة من جديد. ولعله ناجح فيما هو بسبيله من ذلك. فقد وصف في صفحة 58 مناظر الصيد والطرد بأنها (مرعبلة) ثم عاد في ص63 فشرحها في بضعة أسطر شرحاً يجذبك إلى استعمالها ويحملك على الأخذ بها.
الدكتور صبري محب للشعر الجاهلي، ولا نغالي إذا قلنا إن حبه إياه قد جرى مجرى الدم في مفاصله. وفي كل صفحة من الكتاب برهان ذلك ومصداقه. ولكنه أعلن ذلك الحب وجاهر به مصرحاً في ص71 حيث يقول (وإني أحب الشعر الجاهلي وأحب أسلوب الجاهليين). ولو أنا وجدنا بيننا من يحب الأسلوب الجاهلي كما أحبه صبري ماشكونا الآن من (ميوعة) بعض الكتاب والشعراء المعاصرين الذين لا يبالون بلفظ ولا يحفلون بأسلوب. ولكن همهم من القول أن يرصوا الكلام رصاً. من غير أن تكون لتلك الألفاظ التي يستعملونها دلالة خاصة - تلك الدلالة التي تجعل الأديب المعرق يؤثر لفظاً على لفظ أو أسلوباً على أسلوب.
وفي الشعر الجاهلي لوحات فنية كثيرة لم يغفلها المؤلف، ولكنه أبرزها في خير أُطرها غير مغفل جمال اللوحة نفسها وهو معنا ناقد غني بصير. ولا تقوية من حين إلى حين الموازنة بين صورة ناطقة لشاعر وصورة صامتة لمصور. فصورة (طرفة) التي يقولب فيها:
وجالت عذارى الحي شتى كأنها ... توالى صوار والأسنة ترعف
تذكِّره بصورة لرافائيل الإيطالي كانت موضع نقد من النقادة الفرنسي ص110
وقولة حميد الراجز في صفة القلب عند وشك الفراق تذكره ببيت للشاعر (فرلين) ص111. ولوحات الشعر الجاهلي الحيوانية تذكره بالمثَّال المصور الحيواني (باري) ص57.(606/36)
وإذا كان أبو نواس لم يفطن إلى نعت الإبل وناعتها فأن المؤلف يلومه على هذا الإغفال لحقيقة فطن إليها الجاهلي في شعره - ص70.
وهكذا ترى المؤلف فطنا إلى ما في دقائق الشعر الجاهلي من تمثيل وتصوير، حتى كاد كتابه يكون قائماً كله على هذه الناحية، وهو على ذلك متن عليه أطيب ثناء. إلا أنه - في بعض مواطن من الكتاب - قد يعدل عن الرسم الصحيح للشعر. وكان خيرا لو راعى الوزن في الرسم كما راعى التقصي في البحث. ففي صفحة 72 البيتان السادس والثامن من شعر البحتري لم يرسما على نهج صحيح.
وفي صفحة 48 ذكر البيت المشهور:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجارتكم غرثى يبتن خماصا
والصواب (يبتن خمائصا) على وزن فعائل كما ورد في الأمالي ج2 ص158 طبع دار الكتب. وفي صفحة 47 نسب البيت المشهور: -
أبا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
إلى الشاعرة ليلى الأخيلية. وقد نسبه ابن خلكان في وفيات الأعيان إلى الفارعة أخت الوليد بن طريف وقيل فاطمة وقيل ليلى. ولكنها على كل حال غير ليلى الأخيلية - راجع وفيات الأعيان ج2 ص231 الطبعة الأميرية البولاقية
وفي صفحة 87 (قال أبو الهندي. . . . . يصف أباريقا). ولعلها أباريق ممنوعة من الصرف. وفي صفحة 69 (ترى المصور أو الشاعر مولع) وهي من أخطاء الطبع. وفي صفحة 54 (إذ نظرت إلى الجمل. . . . لتبينت). واللام لا تقع جواباً لاذا الشرطية وإنما تقع جوابا (للو) في حالة الإثبات غالباً
وفي صفحة 65 (فيمكن للمصور تجريدها) واللام هنا لا محل لها.
وفي صفحة 72 (حاول الأدباء. . . . تحديد مراتب وطبقات الشعراء) والأولى أن يقال (تحديد مراتب الشعراء وطبقاتهم). فقد أولوا قول الفرزدق (بين ذراعي وجبهة الأسد) على تقدير مضاف إليه محذوف أي بين ذراعي الأسد وجبهته - المفصل للزمخشري مطبعة الكوكب الشرقي ص50 وفي صفحة 123 وردت الآية الكريمة هكذا (فما بكت عليهم الأرض والسماء). وصحة الآية (فما بكت عليهم السماء والأرض).(606/37)
تلك مآخذ شكلية لا تمس لباب هذا الكتاب القيم الذي نتوقع له من الرواج ما يتفق وإخلاص المؤلف في نيته وتحمسه لفكرته وافتخاره بعربيته - حفظ الله به الأدب.
محمد عبد الغني حسن(606/38)
العدد 607 - بتاريخ: 19 - 02 - 1945(/)
الرباط المقدس
للأستاذ عباس محمود العقاد
الرباط المقدس هو اسم رواية جديدة من قلم صديقنا الكاتب الفني الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم
والرباط المقدس هو رباط الزوجية
والتقديس يقترن في الذهن بالتحريم، والتحريم يقترن في الذهن بالإغراء، وهذا هو المعنى الذي فصله الأستاذ الحكيم في هذه الرواية أجمل تفصيل، وانتقل به خطوة خطوة بل همسة همسة من الوفاء إلى الإباحة فانساق معه القارئ في رحلة نفسية طبيعية لا فجوة فيها، لأنه لم يسه فيها من لمحة واحدة من اللمحات التي تتحول بها النفس من شعور إلى شعور ومن عزم إلى عزم ومن عمل إلى عمل، فإذا هي بدايات تنتهي إلى غاية بعيدة لمن ينظر إلى الطرفين الأقصيين، ولكنها لا تلوح للقارئ المتتبع إلا بداية بعد بداية لا يفرقهما قيد شعرة من خطرات الضمير.
وخلاصة الرواية أم فتاة تزوجت رجلاً يكبرها ولكنه يناسبها في عمرها، وكان الرجل من قراء الكتب وعشاق الثقافة، فأحب أن تشاركه زوجته في مسراته الفكرية، وحبت هي أن يرضيه فقصدت إلى كاتب معروف - راهب الفكر - لتسترشده في تربية ذوق القراءة والأدب عندها، وشعر زوجها بأثر هذه الزيارة - وإن لم يعلم بها - فذهب إلى راهب الفكر أيضاً ليشكر له إقبال زوجته على قراءة كتبه ومشاركته في متعة فكره، ثم انقطع ما بين راهب الفكر وبين الزوجين حتى خطر لراهب الفكر يوماً أن يعتزل الناس في بعض الفنادق الخلوية فإذا به يلقي الزوج مع ضابط من أقربائه وهما قلقان مضطربان، ثم يعلم جلية الأمر فإذا بالزوج قد عثر في بيته على كراسه حمراء تنطوي على مفكرات خاصة كتبتها زوجه واعترفت فيها بعلاقة غرامية بينها وبين ممثل من ممثلي أدوار الغرام على اللوحة البيضاء، وأشارت فيها إلى غوايات فتاة أخرى هي زوجة ذلك الضابط القريب. فأخذ الضابط القريب يشك في ذريته من تلك الفتاة ويستعيد حوادثها التي كانت في أوانها موضع ريبة لا يفهمها. ثم توسط راهب الفكر بين الزوجين فأخفقت الوساطة وأوشك الراهب أن يقع في الفتنة لولا دقات جرس التليفون، ثم افترق الزوجان وضاقت الدنيا(607/1)
بالضابط فأطلق النار على نفسه، وثاب الراهب إلى صومعته كما كان.
هذا مجمل سريع للقصة لا يعني شيئاً عن تفصيلها، لأن هذا التفصيل هو المقصود وليست الحكاية لذاتها، وفي هذا التفصيل تتجلى قدرة الكاتب الفنان على تصوير لفتات النفس ووساوس الضمير والانتقال بها من عصمة الوفاء إلى إباحة الخيانة في خطوات قصار لا يشعر بها المتتبع لها إلا وقد شارفت نهايتها القصوى
وأقوى ما يكون هذا التسلسل في ضمير بطلة الرواية وفي ضمير راهب الفكر نفسه، ثم في ضمير الرجلين المتزوجين.
فالزوجة - بطلة الرواية - مثل صادق للفتاة العصرية التي تنعم بدفء الزوجية فلا يستقر لها قرار أو تحترق بالنار، لأنها تلمح وهج النار حولها في كل مكان فلا تصير على النظر إليها والدفء بها دون الوقوع فيها.
وراهب الفكر - ولعله مؤلف الرواية - مثل صادق للرجل الذي يعيش بين الصومعة والحياة فيأخذ من الحياة للصومعة ويأخذ من الصومعة للحياة، ولكنه يجفل من هذه كلما حرفته عن تلك، ولا يرى في إحداهما غني عن الأخرى.
وأصوب ما يقال في شرح هاتين النفسين أنهما دراسة فنية تحليلية من الطراز الأعلى، ولو لم تكن في القصة إلا هذه الدراسة لكفي بها مادة حية وزادا شهيا لمن يولع بدراسات الفن والتحليل.
أما وضع القصة فهو تشويقه واستطراده تقل فيه الروابط الطبيعية التي تمسك أجزاءها وتحل في محلها روابط من عمل التأليف تأتي بها المصادقة ولا يستلزمها السياق.
مثل ذلك أن الفتاة - بطلة الرواية - تقصد إلى المؤلف لأنها مغلقة النفس من ناحية الأدب والتفكير، قد عيت بطبعها وعيّ بها زوجها في رياضتها على القراءة فضلاً عن الكتابة.
ولكننا نسمع إلى حوارها مع راهب الفكر فإذا هي تساجله فكرة بفكرة وفطنة بفطنة وبراعة ببراعة. فتقول له مثلاً إذا تمنع من رؤيتها في ملعب التنيس: (. . . يجب أن تهبط إلى ملعبي لترتفع بي. هكذا يفعل الأنبياء دائماً. يهبطون إلى الناس حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يصعدوا بهم إلى المساء. ولم يحدث قط غير ذلك. ولا تنتظر أن أصعد أنا إليك توا بغير أن تهبط أنت إلي ونأخذ بيدي. . .)(607/2)
ثم نقرأ كلامها في الكراسة الحمراء فإذا هو كلام أديب وصافة لا تفوته خلجة من خلجات الوهم ولا لفتة من الفتات الملاحظة، ويبدو عليها أنها أستاذة في هذا الفن وليست بالتلميذة الناشئة التي تتعثر فيما تحس وفيما تقول.
فمناسبة اللقاء هنا بينها وبين راهب الفكر ضعيفة، وأضعف منها سبب التعارف بينه وبين زوجها، لأنه ذهب إليه يشكره على اهتمام زوجته بقراءة كتبه، ولم تكن بينهما رابطة تدعوهما إلى اللقاء غير هذه الرابطة، ومنها استحكمت الصلة بينهما حتى أطلعه الزوج فجأة على سر بيته وبيوت أقربائه.
وفي الرواية صفحات طوال عن النساء اللواتي يحسبن مثلاً في التاريخ للزوجات الوفيات. وكل مناسبتها في سلب الرواية أن راهب الفكر كتبها إلى طيف الفتاة بعد لقائها واشتغاله بأمرها وهو ينوي أن يطويها عنها ولا يطلعها عليها. وقليلاً ما يخطر على البال المشغول بامرأة في عصمة رجل آخر أن يجعل أحلامه كلها بقديسات الوفاء الزوجي. وهو يكتبها لنفسه ولا يقصد بها عظة الفتاة وتعليمها.
وتشع في الرواية مناسبات المواقف ومداخل الشخصيات من هذا القبيل، ولكنها ملاحظة على الشكل لا تنفذ إلى جوهر الموضوع، ويبقى بعد ذلك أن صفحات الرواية جميعها مادة قراءة فنية تحليلية قليلة النظير في أدبنا الحديث، بل في كل أدب حديث، وهي مما يعرض للمقارنة بينه وبين ثمرات الأقلام التي تجود بها قرائح الممتازين من أدباء الغربيين في هذا الجيل.
ويلحق بهذه الملاحظة الشكلية هفوة هنا وهفوة هناك من هفوات اللغة المطروقة كمساق في موضع سوق ويسوي في موضع نشوة وتعدية الأفعال بغير حروفها أو في غير مواضعها، وهي حد قليلة في أكثر من ثلاثمائة صفحة من الحرف الدقيق.
ولكن الملاحظة التي تدخل في جوهر الموضوع هي الملاحظة التي تدور على حدود الوصف (المكشوف) في الروايات والكتب عامة.
فالأستاذ توفيق الحكيم من أغنى الكتاب القاصين عن إثارة التشويق والتطلع بالإفاضة في تصوير الغرائز التي لا حاجة إلى تصويرها، لأنه يملك زمام التشويق بوصفه لأنزه خواطر الفكر وأرفع سبحات الروح، فلا حاجة به إلى تنبيه الغرائز في زمن شكواه الكبرى(607/3)
فرط التنبه في غرائز أهله.
ولهذا وددنا لو خلت الرواية من صفحتين أو ثلاث لا يضطرنا السياق إلى إثباتها، وإن ذلك لخليق بالكاتب المتحرج الذي وصل إلى الفتنة فدق للنجاة منها جرس التلفون. . . لكيلا يسمح لغريزته أن تنطلق إلى مداها.
على أن صديقنا الأستاذ كما أسلفنا متردد بين عتبة الصومعة وعتبة الحياة، ولم يزل متردداً بين العتبتين من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة.
ففي هذه الصفحة الأخيرة يقول عن راهب الفكر: (أما هو فقد رجع إلى عاداته السابقة. . . يفض رسائل قرائه في الصباح باسم الثغر هادئ الأعصاب. وإذا هو بعد زمن قليل قد رقعت في يده رسالة بين البريد ارتجف لها: إنها من امرأة تسأله أن يحدد موعداً للقائها لأنها تريد أن تحادثه في شأن الأدب والفكر!. فصاح في نفسه: لا. لا. كفى. . . ألم يعرفهن؟. .
وضغطت أصابعه على الرسالة يردي أن يمزقها. . .)
هكذا كتب الأستاذ توفيق في الأسطر الأخيرة من الصفحة الأخيرة عدا سطرين اثنين
ولو ختم الرواية بعد ما تقدم لأحجم الأدبيات عن سؤاله وعلمن أن التمزيق العاجل نصيب تلك الرسائل التي يكتبها إليه. . .
وهو يريد ولا يريد.
وهو يتردد بين الصومعة والحياة
ولهذا اتكل على الله وختم الرواية معتصماً بالشجاعة فقال أن (الشجاعة ليست في تجنب مزالق الجسد وتحاشي مواطن الزلل. بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المثل العليا)
ومصباح الحقائق إذن هو الكفيل بانتظام البريد في مجراه، وليكتب إذن من يكتب فإن راهب الفكر شجاع!
عباس محمود العقاد(607/4)
أبو العلاء المعري
التفاؤل والأثرية عند الشيخ
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 4 -
الأمل:
لي أمل، فرقانه محكم ... أقرأه غضاً كما أنزلا
أجرى من الخيل آمال أصرفها ... لها بحِّثي تقريب وإخبابُ
لا تقنطن أيها الإنسان، فإن بلغتك عند الله الكريم، والرزق يطلبك وأنت تبصر الأحلام. لو أن للزرق لساناً هتف بمن رقد، أو يدا لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع.
سم الهلال إذا عاينته قمر ... إن الأهلة عن وشك لأقمار
وقد يخمل الإنسان في عنفوانه ... وينبه من بعد النهي فيسود
أحسبت الخير ليس بمثنمر؟ بلى. إن للخير ثمرة لذت في المطعم، وتضوعت لمن تنسم، وحسنت في المنظر والمتوسم، وجاوزت الحد في العظم، فما ظنك بثمرة هذه صفتها؟!
هون عليك:
الأمر أيسر مما أنت مضمره ... فأطرح أذاك وهون كل ما صعبا
إذا تفكرت فكراً لا يمازجه ... فساد عقل صحيح هان ما صعبا
العلم كالقفل، إن ألفيته عسرا ... فخله ثم عاوده لينفتحا
دع ما ضر وصعب، إلي ما نفع وهان. واترك المضلة إلى المرشدة فإن طرقات الخير كثير.
لا طيرة:
الأيام كلها لله، وربما ساءتك عروبة، وسرك الخميس. وإذا نزل بك نازل في يوم فلا تمقته لذاك.(607/5)
بركات الله ورحمة:
يبعث الله في نهار وليل ... بركات من رزقة مدروره
غشيت رحمة الله كل الحيوان، وتكفل بالرزق لكل المتغذيات.
فرح الملأ بالكلأ، وحق لهم أن يبتهجوا برزق الله الكريم. جاء اللَّبأ، وذهب الوبأ، فسبحان الله العظيم! يا خصب، ثِب لتُراق الكُثَب على الكُثُب وعلى الله رزق العالمين.
السماء تَدِقُ، والبلاد تورق، والله الموفق، والرزق بكرمه مهتدفق.
والشمس نغمر أهل الأرض مصلحة ... ربّت جسوماً، وفيها للعيون سنا
طهت لك الشمس ما يفني أخادعة ... عن أن يكون له في الأرض طاهونا
الأقدام، الجسارة:
وإني رأيت الصعب يكرب دائماً ... من الناس من لم يركب الغرض الصعبا
والعيش جسر، نال من هو جاسر ... أو كاد فيه وخاب من لم يجسر
ويحمد الصابر الموفى على غرض ... لا عاجز بعري التقصير معقود
ينبغي للمسبوق ألاّ يؤثر بصبوح ولا غبوق، فليستحي المتأخر أن يفتخر.
الخيف من رأي السخيف، فاجر على مَطَرتَك في تقوى الله؛ والخيل بفوارسها متمطرات.
إنما نحن في أحلام نائم لا أحلام ذوي العزائم، وقد يرى الراقد نفسه مع الفراقد، فإذا استيقظ رآها بالجدد.
وكن في كل نائبة جريئاً ... تصب في الرأي إن خطئ الهدان
وسائل من تنطس في التوفي ... لأية علة مات الجبان
اشِجُع فإن أقدار الله لا تعجل إلى الشجاع.
صُلْ على الظالم بالمنصل.
الدنيا، الحياة:
خُلقتُ من الدنيا وعشت كأهلها ... أجد كما جدوا، وألهو كما لهوا
أمور دنياك سطر خطه قدر ... وحبها في السجايا أول السطَر
ولا تظهرن الزهد فيها فكلنا ... شهيد بأن القلب يضمر عشقها(607/6)
نفسي بها ونفوس القوم ملهَجة ... ونحن نخبر أنا لا نباليها
أمرتني بسلو عن خوادعها ... فانظر هل أنت مع السالين ساليها
ولا ترى الدهر إلا من يهيم بها ... طبعاً، ولكنه باللفظ قاليها
فترومن هذى الحياة ... لكي تموت النفس ريّا
الموت، كرهة:
والنفس آلفة الحياة فدمعها=يجري لذكر فراقها منهُّله!
ولم أرد المنية باختياري ... ولكن أوشك الفتَيان سسي
ولو خيرت لم اترك محلى ... فأسكن في مضيق بعد رحب!
فليت الفتى كالبدر جدد عمره ... يعود هلالا كلما فني الشهير!
أحسن بدنيا القوم لو أن الفتى ... لا يُقتضي، وأديمه لا يحلم!
تضاعفت همي أن أتتني منيتي ... ولم تقض حاجي بالمطايا الرواقص!
فواها لأشباح لكم غير أنها ... تبدل من أوطانها برموس!
أنبأنا اللب بلقيا الردى ... فالغوث من صحة ذاك النبأُ!!!
صوت البطولة:
هناك ضرب من الموت لا يكره ولا يذم بل بحب ويعظم، وهو موت البطولة في الوغى. وقد حرض الشيخ عليه، والحرب شرعة العربي:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهويني بالفتى أن تقطعا
والجهاد من دين المسلم:
(كتبَ عليكم القتال وهو كرْهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون).
(وجاهدوا في الله حقَّ جهاده).
(وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون).
(انفروا خفايا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).(607/7)
وإذا كان الحال كما قال الشيخ.
وما سلُّ المهند للتوفي ... كسل المشرفية لتشفى
فالموت يومئذ خير من ألف حياة، خير من الخلود.
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى ... بهيجاء يغشى أهلُها الطعن والضربا
فإن قبيحاً بالمسوَّد ضجعة ... على فرشه يشكوا إلى النفر الكربا
كلُّ يحاذر حتفا ... وليس يعدم شربه
ويتقي الصارم العضب (م) ... أن يباشر عربه
والنزع فوق فراش ... أشد من ألف ضربه
لقد ركزوا الأرماح غير حميدة ... فبعدا لخيل في الوغي لم تطارد!
وما يجمع الأشتات إلا مهذب ... من القوم يحمي باردا فوق بارد
لضربة فارس في يوم حرب ... تُطير الروح منك مع الفراش
أخفُّ عليك من سقم طويل ... وموت بعد ذلك على الفراش
ألا تنهض للحرب ... وتدعو للوغى شوسك؟
وقد علمتُ وغيري عن مشاهدة ... أن العلا إلفُ قوم في الوغى لِيسِ
وجدتُك أعطيت الشجاعة حقها ... غداة لقيت الموت غير هيوب
من السعادة أن يموت القوم كراما
للحديد العلا على سائر الجوهر (م) ... ذلُّ العدى وعزُّ الضيوف
فوارسُ خيلكم تُعطى مناها ... إذا دمَّى نواجذَها الشكيم
وفي بيض السيوف بياض عيش ... بذلك - فاعلموا - نطق الحكيم
القوة:
يخضع الظبي الأخضع، وينتصر الليث المهتصر.
المال، تثميره:
والمال خَدنُ النفس غيرَ مدافع ... والفقر موت جاء بالإهمال
أو ما ترى حكم النجوم مُصوراً ... بين الحياة يليه بين المال(607/8)
ما اليسر كالعُدم في الأحكام بل شحطت ... حال المياسير عن حال المحاويج
انفقْ لترزق فالثراء الظفر، إنْ ... يُترك يَشن ويعود حين يُقلم
ينبغي لمن يرث، أن يًحترث، وإلا فني التراث
جل من سخره لقضاء الحاج
أعتمدُ على ذي وجهين، وما عُرف قط بالمَين. لو كان رجلاً لكان ناصح الجيب. . . سبّح ربه مذ خُلق، إذا انطلق به فهو منطلق، ومتى بُعث في المآرب قضاها، والله بلطفه أمضاها. ثم يُحبس ولا ذنب له. سجن فهو طول الدهر مستريح، لا تلج عليه الشمس ولا الريح. لا يأكل ولا يشرب. . . له منزل ما دخله الهم. . . إذا غاب الحافظ عنه فله الختم، وليس ذلك من القضاء الحتم. . . خُص بالعمر الطويل، وتناسخه جيل بعد جيل، فظهر في الأكاليل، والأسورة والخلاخيل، والكأس الدائرة بشراب الكرم والنخيل. ما شاب ولا هرم، ولا درَم للكبر ولا درم. ملكه قوم فدفنوه، فتطاولت في الأرض سنوه، ثم ظهر ما نُسى اسمه، ولا تغير جسمه. . . به صفرة من غير الضرب، ظهر بها في الشرق والغرب. . . تلقاه معِلماً بالتوحيد، وليس بالعالم ولا البليد، ولكن الله أنطق بعظمته كل جماد. . . جلَّ من سخره لقضاء الحاج.
العمل
تروم رزقاُ بان سموَّك متكلا ... وأدينُ الناس من يسعى ويحترف
لا تقومنَّ في المساجد ترجو بها الزلف
معملاً بسط راحتيك إلى نائب يُلف
وُرُم الرزق في البلاد فإن رمتَه ازدلف
يعرى الفقير وبالدينار كسوته ... وفي صوانك ما إعداه خرف
أملك من شداد بن عاد ساعة تفتقر الأملاك رجل اشترى كرْا، وقصد منابت الشجر محتطباً، فرجع بالعَضد متكسباًن فأحل في المكسب وأطاب
لا يصيرنّ فقير تحت فاقته ... إن السباريت جابتها السياريت
من في اللجة يغبط السائر على المحجة، والمسافر يغبط المقيم، والغنيمةُ مع الظاعنين(607/9)
العمل - وإن قلَّ - يستكثر إذا اتصل ودام
من سهر في الليالي السود فأحر به أن يسود
بُلغ أمل بعمل، وأهلُ التقصير بلا عون ولا نصير
أجدْ عملك وجِدَّ فيه
طِدْ بناءك على أس
الثمر، النبات
فإذا ملكت الأرض فاحم ترابها ... من غرسه شجراً بغير ثمار
إذا رملة لم تجيء بالنبات ... فقد جهلت إن سقتها السواني(607/10)
في عيد المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
ويوم الاثنين ثامن شوال سنة 1363 من الهجرة، اجتمعت وفود البلاد العربية في جامعة دمشق، واحتشد الناس ليشهدوا افتتاح المهرجان، وجلس الوفود على منصة عالية في صدر المجلس ومعهم رئيس المجمع العلمي العربي وأعضاؤه - وهم الداعون إلى الاحتفال والقائمون عليه - وحانت ساعة الافتتاح فأقبل رئيس الجمهورية وجلس وسط الصف الأول من الوفود ومعه بعض الوزراء وكبراء الدولة.
أمة تمجد شاعراً من شعرائها، وفد احتفت لهذا واجتمعت له، وشهد الإجماع رئيس الدولة. ذلكم أمر أمم، وخطب يسير لو وقف الفكر عند هذا المظهر المرئي، وهذا الجمع الحاضر؛ ولكن وراء هذا المرأى معان ومعان؛ هذه الأمة العربية المجيدة قد عرف نفسها، وتبينت وحدتها، فبعث وفودها إلى دمشق لتجتمع على تمجيد شاعر من شعرائها. فالتقت فيها وجوه متعارفة لا تتناكر، وقلوب متعاونة لا تتنافر، وتحدثت عن الماضي والحاضر، وطمحت إلى الآتي بآمال مجتمعة، وعزائم مجمعة، وقد اجتمعت في الساعة نفسها وفودها في الإسكندرية لتشرع لوحدتها شرعة، وتخط لها منهاجاً، وتتحالف على الخطوب، وتعد للحوادث، وتلقى الزمان برأي جميع، وأمر جامع. ولم يوافق اجتماع دمشق اجتماع الإسكندرية إلا إيذانا بيقظة هذه الأمة، وطلبها المجد والكمال في كل نواحيها، وسلوكها كل سبيل إلى مقاصدها. وما رئيس الجمهورية هذا الجالس في حفل المعرّي إلا ربيب الثورات وغذِي المجن فما نال مكان الرياسة من الجمهورية السورية إلا بأن العرب الثائرين تولوا أمورهم، ونالوا مكانهم في بلادهم، وأن الثورة ظفرت، والآمال تحققت، وبدت بشائر الفجر الصادق للمستقبل الكريم. ولقد كان من مقاصدي يوم أزمعت شهود مهرجان المعري أن أرى شكوى القوتلى وصحبه يصرفون الأمور في حاضرة بني أمية، وأن أسعد نفسي برؤية ما تمنيت، وشهود ما أملت. لقد أديل من الضعف للقوة، ومن الذل للعزة، ومن الفرقة للاجتماع. ولم يبق إلا أن تعتزم الأمة المجيدة وتقسم لتبلغن غايتها، ولتنالن مُنيتها. وما أقسمت أمة وعزمت إلا أبرتها الحادثات، وأمضى يمينها الزمان.(607/11)
قلت في نفسي، والسرور يملؤها: قد احتفلنا من قبل بذكرى أبي الطيب المتنبي فتجاوبت بلاد العرب بتمجيد الشاعر الكبير ما بين هضبة إيران وبحر الظلمات، وكتبت مقالات وألفت كتب تناولت سيرته وأديه. وتبين من يحتاج إلى بيان أن في هذه الأقطار الواسعة أمة واحدة، تنطلق بلسان واحد، وتروي عن تاريخ واحد، وتتأهب لتأليف تاريخ هو على ضخامته واختلاف فصوله، كتاب واحد.
ثم يدعى إلى الاحتفال بذكرى المعري والحرب دائرة، والخطوب محيطة، والأسباب بين البلاد متقطعة فتصيب الدعوة هوى من أمة نزاعة إلى إحياء مجدها وحفظ تاريخها القديم وتسطير تاريخ جديد أعظم وأروع. وكانت دمشق مكان الجمعين وما أجمل أن يحيا أدب العرب، ويذكر مجد العرب في مدينة العرب: دمشق الخالدة.
وقد اجتمعت الوفود على ذكر الشاعر الفيلسوف الحزين المتشائم، وهي فرحة مستبشرة، ترى تباشير الصباح في أعقاب الظلام، وتكاد ترى أشعة الشمس من وراء الأفق، ويعرف بعضهم في وجوه بعض بسمة الأمل ونضرة الرجاء، وقوة العزم وأهبة الجهاد الذي لا ينتهي دون الظفر.
احتفلنا بذكرى أبى العلاء يومين في دمشق تلقي المحاضرات في العشى، وللزيارات والمآدب سائر النهار وزلف من الليل.
ويوم الأربعاء عاشر شوال والساعة تسع ونصف من الصباح فصلت الوفود ومن معها من أدباء الشام وعلمائه تسير صوب الشمال. فتوالت السيارات على الطريق تخترق الغوطة الفيحاء الغناء وليست الغوطة إحدى جنات الدنيا، في حاجة إلى تعريف أو وصف، وامتد بنا السير فيها زهاء نصف ساعة. ومررنا بقرية حَرَسْنا من قراها فذكرنا الإمام محمد بن الحسن الشبباني الفقيه صاحب الإمام أبي حنيفة. ويقال إنه ولد بهذه القرية. وقال ياقوت في معجم البلدان في صفتها: (قرية كبيرة عامرة في وسط بساتين دمشق، على طريق حمص بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ.) وغدا ياقوت جماعة من العلماء المنسوبين إليها. ثم قال: (وحَرْسنا المنظرة من قرى دمشق أيضاً بالغوطة في شرقها). وجُزنا الغوطة إلى أرض واسعة فيها كروم ومررنا بالثنايا. ويقال إن هناك ثَنيّة العُقاب التي ركز عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه راية العقاب حينما اجتاز بادية الشام فجيء الروم من حيث أمنوا.(607/12)
وبعد قليل رأينا طريق بغداد يتفرع من طريقنا. وحسب هذا الطريق يمنا وفخراً أنه يصل بين دمشق وبغداد. وقد سعدت بقطعه عشر مرات فلم توحشني قفاره. ولم يعنيني طوله؛ بل أنست فيه بذكريات عظام، وتحدثت فيه إلى أمان جسام.
وبعد قليل رأينا طريق تدمر يتشعب إلى يمين طريقنا، ثم دخلنا أرضاً جبلية يسير الطريق فيها على سفوح الآكام وحفاف الأودية، ثم انفرجت الجبال واتسع السهل والساعة إحدى عشرة وبلغنا البنك بعد ربع ساعة، وهي في سهل واسع خصب، تلوح في نواحيه قرة قليلة متباعدة وضياع وأشجار. والعمران والخصب ظاهران في البلدة وحولها. وكذلك كانت في القرن السابع. قال ياقوت: (قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عجيبة باردة في الصيف صافية طيبة عذبة يقولون مخرجها من يبرور). ويبرور هذه بين حمص وبعلبك وهي إلى الجنوب الغربي من البنك. والبنك مركز قضاء يسمى باسمها. ويستخرج في نواحيها عرق السوس. وقد نزلنا على مجزى هذه العين، في بستان صغير فيه ناعورة. فاسترحنا واستروحنا إلى البستان والماء والناعورة واختفى بنا موظفو البلدة ونائبها وأعيانها. واستأنفنا السير بعد قليل نؤم حمص فمررنا بدير عطية ورأينا على بعد إلى يسارنا قرية القارة. وهي قرية قديمة معروفة. قال صاحب معجم البلدان: (قرية كبيرة على قارعة الطريق. وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق. وكانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق. وهي على رأس قارة وبها عيون جارية يزرعون عليها) والظاهر أن الأرض هناك كثيرة العيون وبهذه العيون تحيا الأرض هناك وتخصب وبنت الزرع والشجر وينشأ العمران. وكانت معنا الأستاذ أديب التقى فقال: العامة يقولون: بين القارة والبنك بنات الملوك تبكي؛ قلت: مم تبكي؟ قال والعهدة عليه: من شدة البرد.
أخذ السهل يتسع حتى اختفت الجبال التي كانت تلوح بعيدة على يمين الطريق وابتعدت الجبال التي على يساره، وأشير إلى سواد بعيد يبدو فيه الشجر والخضرة فقيل: انه منبع العاصي، وشرعنا نرى آثار الخصب والنضرة في سقي العاصي. والعاصي أكبر أنهار سوريا ينبع شمالي بعلبك ويجري صوب الشمال والغرب حتى حمص ويمر بمدينة حماة. ثم يتجه صوب الشمال والغرب حتى يفيض في البحر. وكم يفيض مجراه الخصب والبركة وينبت الزرع والجنات، وينضر البساتين والمنتزهات ويدير النواعير الكبيرة الرائعة.(607/13)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(607/14)
منخفض القطارة
في صحراء مصر الغربية
للأستاذ ستابلتون ترول
كان قدماء المصرين يظنون أن منخفض القطارة هو الدار الآخرة. وكان قدماء الإغريق يعدونه الموطن الخرافي للغول الوحشي: ميدوس الذي كانوا يعتقدون أنه إذا نظر إلى شيء حوَّله حجرا. ولاشك أن السبب في نشأة هذا الزعم هو ما كان يروي من قصص العجيبة عن الغابات والنباتات المتحجرة التي تغطي مساحة المنخفض. ولقد عبر منخفض القطارة جيش بقيادة قمبيز بن قورش الأكبر، حينما زحف إلى مملكة سيوة لفتحها. ويحدثنا هيرودوت أن ذلك الجيش وقع فريسة لعاصفة رملية اجتحته فلم يسمع عنه خبر. ولقد اجتاز الاسكندر الأكبر كذلك ذلك الطريق في عودته من سيوة بعد أن نادى به قساوسة المعبد السيوي إلها. تلك هي طبيعة منخفض القطارة، حتى إنها ظلت مئات السنين تقذف الرعب الخفي في القلوب، فكان الرحالون والقوافل تتجنبها دائماً
ومع أن المنخفض قد كشف في أواخر القرن الثامن عشر وارتاده الرحالة الألماني رلفس سنة 1784، لم تتجه إليه الأنظار اتجاهاً قوياً إلا في فجر القرن التاسع عشر
على أن حديثنا هنا هو عن جماعة الكولونيل باكنولد الذين اجتازوا المنخفض بالسيارات في سنة 1927 وقد دون باكنولد ما جاء على غير ما كان يتوقع جمهور الناس، إذ قال إنه لم يصادف في رحلته حوادث مثيرة أو خطيرة، فلم يضلوا الطريق، ولم تتعطل سياراتهم، ولم تهاجمهم قبائل معادية. وقد قامت الفرقة برحلتها المنهكة من غير حوادث ولا مصادفات ولكنها عادت بوصف واضح لتكوين المنخفض. ويقول باكنولد إنه حتى في أثناء الحرب العظمى الماضية لم تحاول عبور المنخفض دوريات السيارات الخفيفة التي كانت تقوم بعملها في مصر لحراسة حدودها. ولقد بدأ رحلته من مينا، باب الصحراء الغربية، واختط طريقه جنوبي حافة المنخفض عابراً إلى قارة، ومنها قدماً إلى سيوة - فبلغ ما قطعه في رحلته 400 ميل، ولاشك في أن الرحلة لم تكن نزهة يتفكه بها، إذ أن المنخفض ليس أرضاً صلبة، لذلك كانت عجلات السيارات تغوص في التربة الرملية الملحية.
وكانوا في بعض الأحيان يقاتلون قطعانا من الغزلان ترعى الحشائش المتناثرة التي تنمو(607/15)
بقطرات الندى، والتي يحيط بها من كل ناحية سهول ممتدة من الرمل الأصفر، تتلاشى بالتدريج في خط الأفق.
ويتألف المنخفض من سلسة من الأحواض الضحلة تحتضنها حروف واطئة ملتوية من الحصباء السمراء المحترقة بأشعة الشمس. وتقطع الأكمات على مقربة من منخفض القطارة مجار تشبه الجداول الصغيرة، غير أن الماء لم يعرف سبيله قط إليها. ومن المشاهد العجيبة في المنطقة الجنوبية للمنخفض انتظام الأكمات الرملية التي تنفصل كل منها عن الأخرى بما يقرب من مائة ياردة (أي نحو تسعين مترا ً)، في صرة مجموعة متصلة من السلاسل الرملية. وتجد متناثراً هنا وهناك على الأكمات الرملية جذوع أشجار الغابات المتحجرة بما فيها من عقد وفروع، وبعض تلك الجذوع غائر بحيث لا يبدو منها فوق الأرض الناعمة التربة إلا أعلاها بشكل يشبه مخالب عملاق تمتد في الفضاء. وفي أثناء عبور الفرقة للمنخفض عثروا على مواطئ أقدام لابد أن يكون قد مضى عليها سنوات عدة، ولكنها مع ذلك لم تكد تؤثر فيها العوامل الجوية. وهناك يلف صمت الصحراء الرهيب كل شيء، كأنه ملاءة شاسعة؛ ذلك الصمت الذي يستحوذ على مشاعر الإنسان، فان لم يسيطر العزم الصادق على أعماله حينئذ، تغلب ذلك الصمت عليه فساقه في أي اتجاه طلباً للنجاة مما استولى عليه من السأم، محاولاً البحث عن سلوى يلجأ إليها في ذلك العمق الرهيب لسكون المفازة الشاسعة، وما يزال كذلك حتى يضل الطريق فلا يعرف أمشرق هو أم مغرب. عندئذ تلحقه الخيبة والهزيمة فيقع في سبات - فان النجدة كان الهلاك مصيره. تلك هي الأراضي التي اجتازها باكنولد ورفقاؤه.
وتدل الكتابات الجغرافية عن المنخفض على أن مصلحة المساحة المصرية قامت بتخطيطه على خرائط دائرية منذ سنة 1927، وبذلك أصبحت مساحته معروفة على سبيل الدقة وتكتنفه الأجرف الرملية من جانبيه الشمالي والغربي، على حين أنه في جانبيه الجنوبي والشرقي مفتوح منبسط بحيث أن قاعه في معظم هاتين الجهتين يأخذ في الارتفاع تدريجياً حتى يوازي المستوى العام للصحراء الحقيقية ويتلاشى فيه. وهذا التدرج في الارتفاع من قاع المنخفض إلى سطح الصحراء يجعل من الصعب تخطيط حد فاصل بين نهاية المنخفض وبداية الصحراء. على أننا إذا اعتبرنا المنخفض شاملاً لبقعة الأرض الفسيحة(607/16)
التي ينخفض سطحها عن سطح البحر، كان طوله من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي 298 كيلو متراً، مع عرض يبلغ أقصاه 145 كيلو متراً، فتكون مساحته 19. 500 كيلو متر مربع. ويدخل في حدوده واحة المغارة على جانبه الشرقي، واحة قارة - وهي واحة آهلة بالسان على الدوام - على جانبه الغربي. ويقع الجزء الضيق لمنخفض، أي الجزء الشرقي الذي به واحة المغارة، على بعد 205 كيلو مترات من القاهرة، على حين أنه على مسافة لا تزيد على 56 كيلو متراً من البحر المتوسط؛ أما طرفه الغربي، بالقرب من واحة قارة، فأنه يمتد إلى نقطة تبعد 80 كيلو متراً عن القرية الرئيسية لواحة سيوة، كما تبعد 130 كيلو متراً عن حدود مصر الغربية، ويبلغ متوسط عمق المنخفض 60 متراً تحت سطح البحر، وأعمق نقطة فيه - وهي على مسافة 30 كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من قارة - يصل غورها إلى 134 متراً تحت سطح البحر. ومما يسترعي النظر أن من الـ 19. 500 كيلو متر المربعة التي تؤلف مجموع مساحة المنخفض جزءاً لا يقل عن 13. 500 كيلو متر مربع سطحها تحت مستوى سطح البحر بأكثر من 50 متراُ مربع سطحها تحت مستوى البحر بأكثر من 50 مترا.
وتتغطى مساحة كبيرة من قاع المنخفض بتربة سبخ - وهي خليط من الملح والرمل - فيها على وجه العموم قليل من الماء، وفي بعض البقاع تنبسط السبخة فوق أرض صلبة لا يمكن اجتيازها إلا بمشقة؛ غير أنه في جزء كبير من قاع المنخفض تتحول السبخة إلى قشرة صلبة أو رخوة تغطي وحلاً متشبعاً بالأملاح - وهذا الجزء يستحيل اجتيازه. وتقع الأكمات الرملية التي أشرنا إليها من قبل أقصى الأجزاء الجنوبية للمنخفض، وهي نتيجة لهبوب الرياح.
ويدل البحث الدقيق في مساحة المنخفض والمنطقة المحيطة به على أنه لم يكن هناك ولاشك اتصال مباشر بين البحر والمنخفض في وقت من الأوقات، بل إن الماء الذي يوجد بالعيون القليلة التي ينز فيها الماء على مقربة من الجانب الشمالي إنما سببه تواصل نشع الماء من تحت الأرض إلى سطحها، ذلك الماء الذي ينبع من نوجد اندي في أقاصي الجنوب الغربي لمنطقة خط الاستواء بأفريقية، ويسري في جوف صحراء ليبيا، فيمد الآبار الارتوازية في الواحات الخارجة، والداخلة، وواحة الفرافرة والبحرية، وسيوة. ويبلغ(607/17)
متوسط المطر الذي يسقط على منخفض القطارة نحو 20 مليمترا في السنة. يتكون الجرف الشمالي للمنخفض من هضبة واحدة ممتدة بغير انقطاع، ويبلغ ارتفاعه نحو 250 مترا، أما سفح تلك الهضبة فيبدو كما لو أن نهراً عظيماً كان قد اتخذ مجراه على امتداد حافته ثم جف ماؤه فلم يخلف سوى حوضه المحتفر. وفي هذا الحوض - الذي يمتد، على أعماق مختلفة، حتى داخل حدود ليبيا - نجد العيون المائية القليلة في تلك المنطقة. أما العيون التي تستمد مياهها من الأمطار فلا وجود لها هنا.
ورحلة باكنولد ورفقائه كانت عبر الحدود الجنوبية لتلك المفازة السبخة، الصامتة، الرهيبة، الخالية من الماء؛ وكانت جعابهم لا تحمل أمتعتهم فحسب، بل حملوا معهم كذلك كل قطرة من ماء الشرب العزيز الذي كان مقدراً لهم معلوم لا يتجاوز في كل يوم. وبلغ الركب آخر الأمر واحة سيوة، حيث يبدأ بحر الرمال الذي لا ساحل له، وحيث تتلاشى على الخرائط المعالم الأرضية، وتحل محل الخطوط التي تحددها النقط التي ترمز للرمال تتلوها الرمال، وحيث يقرأ المرء على الخريطة تلك الإشارة الغامضة: (حدود الأكمات الرملية غير معروفة).
ولقد عبر باكنولد ذلك البحر الرملي الشاسع بعد عبوره منخفض القطارة بسنتين، وعاد كذلك بمعلومات قيمة.
ومن العجب أن بعض الرحلات الاستكشافية قد تبدو إبان القيام بها عديمة الأهمية، ثم تحل من التاريخ لمستقبل محلاً رفيعاً وتسيطر على بعض حوادثه سيطرة بليغة، وبخاصة حين يكون مصير الشعوب في ميزان القدر: فلقد وجد الجيش البريطاني الثامن في منخفض القطارة ميسرة منيعة له حينما تقهقر من ليبيا واتخذ له خطاً دفاعياً جديداً يمتد العلمين، على ساحل البحر المتوسط إلى خرف منخفض القطارة - وهي مسافة تبلغ نحو 75 ميلاً. ولقد وقف ذلك الحاجز المنيع عقبة كأداء في وجه روميل وفرقة المدرعة التي كلن يعتمد عليها كل الاعتماد. ثم أصبح ذلك الحاجز المركز الذي وثب منه الهجوم البريطاني حينما تجمع في ذلك الخط، ذي الخمسة والسبعين ميلاً، كل ما كان للجيش الثامن من عدد وعدة. ثم صب على (الجيش الأفريقي) الألماني بتلك الصورة المهلكة، حتى أنه في مدى 38 يوماً تفرق شذر مذر مرتداً إلى طرابلس، متقهقراً مسافة تزيد على 1700 ميل - وهو أعظم(607/18)
تقهقر عرفه التاريخ الحربي. وفي أثناء تقدم الجيش البريطاني تحت لواء النصر في أراضي ليبيا، ألقى كذلك ميسرة طبيعية أخرى، تلك كانت بحر الرمال الشاسع الذي يلقي بالصعوبات في سبيل وسائل النقل العديدة (الميكانيكية). وبذلك كان الجيش على الدوام خلواً من كابوس العدو إذا عن له أن يصدر الهجوم بهجوم على الجناح أو المؤخرة. مما كان يفسد جميع الخطط الدقيقة التي وضعها القائد مونتغمري. أفلا يصح أن نقول أم منخفض القطارة كان اليد المساعدة التي مدتها الطبيعة إلى مصر، لإنقاذها من العصابات النازية المغبرة؟
ترى، هل يظل منخفض القطارة ذا أهمية لمصرفي في مستقبلها، أم هل يبقى مفازة تتحدى جهود البشر؟ ألا أن هناك مشروعاً نافعاً تقدم به الدكتور جون بول في تقرير له. فقد اقترح في سنة 1927، وأعاد اقتراحه مرة ثانية في سنة 1933، بأن من الممكن استخدام منخفض القطارة لتوليد الكهرباء بالقوى المائية، وقد بحث الموضوع بمنتهى الدقة، وغرض بشيء من التفصيل لطرق تنفيذه. وإذا نفذ مثل هذا المشروع فان آلافا من العمال يستخدمون في بناء الأقنية من البحر المتوسط إلى حرف المنخفض، كما تستخدم المهارة والكفاية الفنية التي تدخرها مصر في رجال المصاحة والهندسة من أبنائها. ذلك إلى أنه إذا أمكن العثور على بقعة من الأرض مصمتة لا تتخللها المياه لتكون حوضاً للملاحات، كان من السهل إنشاء منجم لملح بمساعدة محطة التوليد الكهربائي، وبذلك يتيسر إنتاج سلعة بثمن زهيد، وهي الملح الذي لا يستغني عنه بيت في البلاد الشرقية.
وبناء على تقدير الدكتور بول يمكن الحصول من محطة الكهرباء على 200. 000 كيلو واط صافية، وان هذه القوة الكهربائية تزود المناطق الساحلية على الشواطئ المصرية برفاهية لاشك في تقديرها، كما أنها تحول مئات الأميال في مناطق البراري والصحاري إلى مدن ومجتمعات تنبض بالحياة؛ فان هذه القوة الكهربائية هي التي تجلب معها حيث تسير الصناعة والتجارة والعمل لآلاف الناس.
ومن البديهي أن الأمل في إنفاذ ذلك المشروع يتوقف على الحاجة المستقبلة إلى القوة الكهربائية؛ غير أن أهم جزء في نفقات أي مشروع لاستغلال ذلك المنخفض المهمل هو الأعمال الإنشائية اللازمة لحفر الأقنية لمرور المياه من البحر المتوسط إلى المنخفض.(607/19)
على أن العمل لا ينقطع بمجرد إنشاء هذه الأقنية، فالحاجة إلى أعمال الصيانة لمخازن الكهرباء وما إليها تظل أبداً قائمة، كما تظل الحاجة إلى العمل في الملاحات.
وأمر آخر، وهو أن تحويل المنخفض إلى بحيرة يسبب زيادة صغيرة في سقوط الأمطار على السهل الشمالي، كما يخبرنا بذلك الخبراء في حسابهم الدقيق. ومن الواضح أن هذه النتيجة تكون من أعظم الأمور نفعاً للزراعة في المناطق الساحلية، كما أنها ترفع مستوى الماء في الواحات المختلفة.
إلا إن شبان الأمم جميعها يتطلعون إلى المستقبل: وسيكون أمام مصر، بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، فرص لا تعد للقيام بأعمال إصلاحية تؤدي بها خدمات لنفسها ولغيرها، وتحتل بذلك محلها بين شعوب العالم الرئيسية، متمتعة بثمار أعمالها؛ تلك هي الفرص التي تتيح لأهلها من العلماء، ومهندسي المساحة، والأطباء، ورجال الصناعة، ومهرة الفنيين، والطلاب، أن يتقدموا إلى الأمام - كل يؤدي نصيبه في جعل العلم والصناعة مرداً عذباً ينهل منه جمهور الشعب. ومنخفض القطارة في مصر، على حد قول الدكتور بول في مشروعه المقترح، لا يزيد على أن يكون أحد الأعمال الإنشائية اللازمة بعد الحرب، وهو عمل ينبغي أن ينال تفكيراً جدياً من جميع المهندسين المصريين سواء أكانوا من رجال الكهرباء أم من رجال التعدين، لكي تصبح ثمرة معارفهم ومهارتهم نفعاً عميا لأبناء جلدتهم.
ستابلتون نرول(607/20)
على هامش النقد
خواطر متساوقة
في النقد والأدب والأخلاق
1 - صرخة إنسانية 2 - قفزة نفسية 3 - تفاؤل مطمئن
للأستاذ سيد قطب
في عدد (الثقافة) قبل الأسبق قصيدة لشاعر شاب (محمد العلائي) بعث بها إلى أبى العلاء (من القاهرة إلى المعرة). . . هي صرخة إنسان مألوم. قذفت به إرادة الحياة إلى دنيا كدنيا أبى العلاء؛ ولم تكتف بهذا الشبه في كيانه وموقفه فسمته (العلائي) أيضاً!
وعلى كثرة ما أقرأ من الشعر في هذه الأيام منشوراً في الصحف وغير منشور، فقد وجدت في هذه القصيدة طعماً لا أجده في ذلك الكثير. وجدت طعم الصدق في هذه الصرخة المباشرة؛ فتحركت في ضميري كل أحاسيس (التعاطف). ولا أقول كل مشاعر (العطف) كي لا أوذي الشاعر، الذي ترتفع حساسته المؤذية حتى يقول هذه الأبيات:
شيخَ المعرّة هل مسّتك أهوالي؟ ... وهل طويتَ زماناً تحت أثقالي؟
هجرت دنياك لم تسهد مباذلها ... ولم تعرّج على صحب ولا آل
ولم تساير مَوَدّات على ريبٍ ... ولم تصانع أذى عم ولا خال
ولا الوجوه إذا اهتزت ملامحها ... بغمرة السوء من بال إلى بال
ولا العيون إذا رفّت بخائنة ... ولا تميع مسلول ومحتال
ولا حبائل مطموس على جدث ... به رميم الخطايا منذ أجيال
ولم تصعّد أمانيّا إلى شجر ... مدّ الظلال على طين وأوحال
ولم تضاحك غراب البين تحسبه ... غرْيدَ سانحة من يوم إقبال
ولم تذق خسّة الدنيا إذا مزجت ... كأس المقلْ بأشواق وآمال
ولم تكابد رزاياها إذا جلبت ... شؤم العثار على ضيم وإقلال
ووحدت طعم الصدق كذلك في هذه الصورة الزرية التي يرسمها للجيل البائس الذي نعيش فيه:(607/21)
بنو الأول مسوخ لا كيان لهم ... مرضى القلوب خطيئات لآباء
مَوْتى المشاعر إلا يوم تافهة ... عمى البصائر إلا نحو أقذاء
هدْت كياني بلواهم وحيرّني ... داء التفاهة في موتى وأحياء
كأن ثرثرة الأفواه في أذني ... رشاش سم على قلبي وأحشائي
يقيء سمعيّ أشهى ما يفوه به ... خيارهم يوم سراء وضراء
هم الذباب فلا خير بأنفسهم ... لأصدقاء ولا شر لأعداء
كلٌّ سواء: فلا بَرٌّ يفيء له ... قلبي. ولا فاجر أصليه بغضائي
يا أخي:
تلك - مع الأسف - صورة بني الأوان، في قلب كل (إنسان) وهي صورة كريهة شائهة، ولكنها هي الحقيقة الحقيقة. وقد تكون أنت أشد حساسية بها، ولكنك لست مفرداً فيها.
وإنني لأود لو تبلغ كلماتي إلى أذنيك، ولو تُجاوزهما إلى قلبك، ولو تستطيع أن تنقل إليك اهتزاز نفسي، فتشعر - على البعد - بهذا التجاوب معك في دنياك!
وانتقلت من هذه الصرخة الوجيعة إلى مقال بعدد الرسالة الأسبق للدكتور مندور عن (الرقص الكلاسيكي) وليست النقلة بعيدة - كما يبدو - فقد بدأ المقال هكذا:
(بدا لي أن أكتب عن الرقص، وذلك أملا مني في تقويم الأخلاق. وقد يبدو هذا غريباً؛ فكيف تقوّم الأخلاق بالحديث عن الرقص؟ ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعي والتعبيري - لا الرقص الشرقي طبعاً - يورث من يزاوله من رجال ونساء قوة في الجسم تحرر النفس من آفاتها)
نحن إذن في مجال الشكوى من قيود النفس ومن ضمور الأخلاق. في المجال الذي انبعث فيه صرخة الشاعر الوجيعة، لم نعده إلى سواه!
وتعجبني قفزات الدكتور مندور - في بعض الأحيان - ففيها طابع الحرارة، وعنصر الإخلاص؛ وهو مُيسّر لهذه القفزات، وإن اختلفنا معه في التطبيق هنا كما اختلفنا معه في تطبيق (الشعر المهموس)!
اسمه يقول: (والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح. وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في أن(607/22)
هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى لجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدما. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور)
وكل ما يختص بأحزاننا الهامدة صحيح. ولقد كتبت في عام 1940 مقالاً مطولاً في مجلة الشؤون الاجتماعية تحت عنوان: (مباهج الحياة عنصر أصيل في الإصلاح الاجتماعي) بدأته بهذه الفقرات:
(نحن في حاجة إلى حظ كبير من الفرح، لأننا في حاجة إلى حظ كبير من الحياة، وإلى حظ كبير من سلامة الفطرة، وصحة الشعور، وهما أكبر مقومات الحياة.
(وحظنا نحن المصريين من الحياة ضئيل، لأن حظنا من الفرح، ومن المباهج الروحية ضئيل. وإيما يصح هذا القياس لأن الفرح الإنساني ظاهرة نفسية وعقلية، تقابل في الحيوان ظاهرة القفز والوثب، وفي الطير ظاهرة السقسقة والغناء، وفي النبات ظاهرة التفتح والازدهار. وهذه الظواهر جميعاً دليل الحيوية والصحة في الحياء.
(نحن في حاجة إذن إلى حظ من الفرح الإنساني الراقي، لأننا في حاجة إلى حظ من الحياة الصادقة والفطرة السليمة.
(ولكن أهذا كل ما ينقصنا من ألوان الفرح؟
(الواقع أن حظنا كذلك ضئيل حتى من الفرح الحيواني الذي يدل على سلامة البنية وصحة الجسد واكتفاء الغريزة. والحرمان من هذا اللون ربما كان أخطر وأوغل في العلة، لأننا بهذا الوضع لا نرتقي في سليم الصحة حتى إلى مرتبة الحيوان!)
(تشخيص) الدكتور مندور للعلة في لشرق صحيح. ولكن الذي أخشاه هو ألا يكون قد وقع على العلاج الصحيح. وألا يكون رقصه المقترح هو الدواء المفيد.
فلقد ضرب المثل بالإغريق وإقبالهم على الرقص وأثر هذا الرقص في تربيتهم الخلقية وفي عبادتهم للجمال. والجمال الذي هو قوام العمل الخلقي: (وليس من شك كذلك أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق. ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق). . .(607/23)
فالذي أعتقده هو أن الإغريق إنما أقبلوا على الرقص الذي (يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة) لأنهم قبل أن يرقصوا فاضت نفوسهم بالحياة الدافقة، وأحسوا موسيقى الطبيعة الشائعة، فأفاضوا الحيوية الكامنة في كيانهم رقصاً، وبادلوا موسيقى الطبيعة الشائعة إيقاعاً. ولم يكن الرقص إلا منفذاً للرصيد المذخور.
وليس الذي ينقص الشرقيين هو أن يرقصوا على نغمات الطبيعة، ولكن الذي ينقصهم هو أن يدركوا هذه النغمات، وأن يجدوا لها رصيداً يكافئها في نفوسهم فيجاربوها بهذا الرصيد
أن الحيوية الكامنة هي التي تنقصنا - فيما أحسب - فليس لدينا منها ما ننفقه في الرقص وما ننفقه في المرح، وهما منفذان يتسرب منهما النبع الفائض حين يفيض. فمتى يمتلئ الإناء الفارغ، حتى يتسرب وحتى يفيض؟
هذه هي المسألة يا عزيزي الدكتور!
ولا نختم الصحيفة على هذا التشاؤم، ففي عدد الرسالة نفسه بصيص من نور مقال للدكتور محمد صبري عن (علل المجتمع المصري) جاء فيه:
(لكل مجتمع علله وآفاته، ولكننا إذا استعرضنا علل المجتمع الأوربي كانت هذه العلل خاصة بمجتمع قد تهيأت له جميع المشخصات القومية، وتجلت مظاهر القوة ومظاهر الضعف فيه. أما المجتمع المصري فهو مجتمع في طور الانتقال)
(والواقع أن عللنا وآفاتنا كثيرة نشأ معظمها من الاستعباد وطول عهوده. وقد أصبحنا وفبنا مركب الشعور بالنقص. وهذا واضح جلي في (معاملات) المصريين والجانب. وما بقيت هذه العلة بغير علاج حاسم فستظل (الامتيازات) في نفوسنا وأخلاقنا، وان تكن قد محيت في الورق والمعاهدات.
(وقد أصبحت هذه الحالة مدعاة لليأس والتشاؤم، ففريق من المصريين يقول: إنه لا أمل في إصلاح هذا الشعب. وفريق من الأجانب - وعلى رأسهم المؤرخ الكبير جبرائيل هانوتو - يقولون: إن مصر لا عني لها عن الأجانب، وان مركزها الجغرافي إلى جانب ذلك يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التي تهيمن على البحر الأبيض، أي قبول الاستعباد في شكل من أشكاله)
ثم يختم كلمته قائلاً:(607/24)
(وقد اخطأ الفريقان في نظرهم وتشاؤمهم، ويرجع ذلك الخطأ إلى أنهما قد أضدها حكمهما على الشعب المصري باعتباره قد استكمل أداته للكفاح، وأخذ أهبته وجرب وكبرواستقر. وبعبارة أخرى قد قطع مرحلة الانتقال وظهرت ملامح شخصيته الثابتة من حسنات وعلل وعورات
(ولو أيهما انتبها إلى أن حالة مصر اليوم لا تزال حالة انتقالية، وان بعض العلل التي نراها ليست من العلل (المزمنة) وقد تكون غريبة عن جوهر الخلق المصري الصحيح، وأنها إذا عولجت انتقت عنه، وزالت كما يزول كل عرض. . . أقول لو أنهما انتبها إلى ذلك لهما أن تشاؤمهما أكبر خطر يتهدد الفكرة الإصلاحية، بل وكل فكرة تطمح إلى المثل العليا والسير بالبلاد إلى أبعد الغايات).
هذا التفاؤل مطمئن على كل حال. وفي هذا القول كثير من الصدق. وشاهده قائم في الحياة المصرية القديمة والحياة المصرية اليوم. وقد كانت لمصر مباهجها الحية يوم كانت حياتها توحي بالمرح والابتهاج. . . وحتى الرقص، الذي يريد الدكتور مندور ليستجلبه لنا من الإغريق. قد حفظت لنا منه الصور الفرعونية والآثار مشاهد جميلة فائضة بالحيوية منسقة بالايقاع، مشعة بالسرور!
فلنسمع إلى صرخة الشاعر الإنسانية، وإلى قفزة الدكتور النفسية، وإلى تفاؤل الدكتور المطمئن، فكلها دليل حيوية قد أخذت في الظهور
سيد قطب(607/25)
من وراء المنظار
رئيس. . .!
عدت إلى منظاري فوضعته على أنفى وقد أزلت عنه ما علق به من الغبار والصدأ؛ وما زال لهذا المنظار سحره العجيب. فهو يريني من دنيا الناس ما لا تريني العين المجردة؛ فلولاة مثلاً ما استوقف بصري هذا الذي أحدثك عنه، والذي أضيف إليه لقب الرياسة العظيم، وما هو من ذوي الجاه ولا العظمة، إذ ما زاد على أنه كبير الخدم بالمدرسة التوفيقية الثانوية.
وأنا يا قارئي العزيز رجل بسيط، فقد لا أرى شيئاً من العظمة ولا من الرياسة في بعض من تواضع الناس على أنهم عظماء ورؤساء، وقد أرى العظمة كل العظمة والرياسة كأحسن ما تكون الرياسة في رجل كالذي أحدثك عنه. ولست بالضرورة أدعوك إلى أن ترى ما أرى، فأنت وشأنك، وإنما أدعوك لأن تقرأ هذا في غير سخرية مني. . .
إن (عم أحمد حسين) كما يسميه الطلاب (والريس أحمد العهدة) كما يدعوه زملاؤه، أو على الأصح مرؤوسوه، هو رجل يريني منظاري من خلقه وسمته ما يحملني على أن أرى فيه رئيساً بل ورئيساً محبوباً أن أردت الحق.
أول ما حببه إلى وقاره إذا تكلم أو مشى، ووفرة شعوره بشخصيته. والأنفة ممن كان في مثل موضعه تحمل على الإعجاب والمحبة؛ فكم نسى الأنفة كثيرون هم أرفع درجات منه بحكم العمل. وليس في أنفته شيء مما يرى في غيره من ذوي الرياسات من صلف أو غرور، وإنما هي الكرامة تلمحها في وجه (عم أحمد حسين) حين يأمر في صلف أو ينهر في غير موجب، فنراه عندئذ يرشق آمره أو ناهرة بنظرة ثائرة فيها التمرد الصامت، والعتاب الذي يشبه الازدراء، وبين يديه ثمانية وثلاثون عاماً قضاها بين جدران ذلك المعهد العتيق. فمثله ليس بالشخص الذي يرهب سلطان متسلط وقد درج تحت بصره في هذا المعهد مئات من رجالات هذا البلد فما أساء إليه أحد بكلمة.
وحببه إلى كذلك حيويته ودأبه وإخلاصه في عمله وعظيم تأثيره في مرءوسيه وقد علت به السن؛ فما تدور بسببك في ركن من أركان الدار إلا طالعك منه (عم أحمد) في جلبابه الجيد النظيف وقد تجعد شعر فوديه الأبيض تحت طربوشه القاتم الطويل يدفعه دائماً إلى الخلف(607/26)
قليلاً بحيث تتدلى خيوطه فوق أذنه اليمنى، وكأنما يكسبه هذا الوضع مهابة إلى جانب ما يكسبه منها شعره الأبيض وطول أعوام خدمته، أو هكذا خيَّل إلى منظاري. . .
ويعجبني منه ذكاؤه وسرعة خاطره وخفة روحه. فهو سريع الفطنة إلى ما يسرك من ألوان الحديث وكيفية الخطاب، فيحدثك وهو ينظر بعينيه اللامعتين إذ تسمع، فإن لمح أثر ارتياحك على محياك استرسل، وأن آنس فيه كدرة أدار الحديث في لباقة وسرعة حتى يقع على ما تحب.
وأجمل حديثه ما كان عن تاريخ المدرسة وتلاميذها القدماء، فيسمعك أسماءهم كما كانت تسمع في فناء الدار، خالية من ألقاب العزة والسعادة والمعالي وما إليها، وكأنه يريد أن يلقي في روع طلاب اليوم أن هؤلاء كانوا بالأمس مثل ما هم عليه الآن، وهو إيحاء يحبه الطلاب. ومن يدري فلعل فيهم من يحمل في غد أكبر الألقاب، أو من يستغني بنباهة اسمه عن جميع الألقاب.
على أن أكرم خلال ذلك الرئيس هي وفاؤه لكل من يعمل معهم، وغيرته على سمعة ذلك المعهد الذي يعمل فيه، وإن جميع من عرفوه ليلمسون فيه هذا الوفاء.
وإذا شئت دليلاً على وفاء هذا الرجل، فاعلم أنه يرسل كل عام في عيد الميلاد خطاباً إلى مستر اليوت بانجلتره؛ ومستر اليوت هذا كان ناظراً للمدرسة التوفيقية منذ ربع قرن، وهو لا يملك له اليوم ضراً ولا نفعاً، ولذلك فوقاره لا تعلق به شائبة من تلك الشوائب التي قلما خلا منها (وفاء) في هذه الأيام، وقل في الناس من يوادك إلا لعلة.
أرأيت معي أن (عم حسين) خليق بأن يدعى الرئيس، وبأن رياسته خليقة بأن تحب؟ أن كنت في ريب من هذا فأخطر ببالك من تطمئن إلى الاعتراف لهم بالرياسة، وأنظر أن كنت نجد فرقاً بينه وبينهم، ومرد الأمر فيما تحكم إلى ذمتك، أما أنا فلست أشك في أنه أكرم عندي من كثيرين، وإذا كان هذا الخطاب الذي أشير إليه دليلاً على ديمقراطية الناظر القديم، فإن فيه لك شهادة على أن كبير الخدم أحمد حسين جدير بأن يذكر وبأن يحب.
الخفيف(607/27)
من دعاة الحرية
جويو
للأستاذ زكريا إبراهيم
ليس أكثر من دعاة الحرية في هذا العصر! وليس أكثر إيغاراً للصدور من دعاة حرية الفكر! وما أنا بغافل عن تلك الضجة التي أثيرت منذ أمد قريب، حين عرض أحد الكتاب لقضية الحرية الفكرية. . . ومع ذلك فأنني أجد نفسي راضياً بأن أثير هذه المسألة الشائقة الشائكة معاً، لأجل خاطر (جويو) صاحب هذه الدعوة!
وصديقنا جويو فيلسوف أصيل جمع بين العمق والطرافة والوضوح. وهو واحد من أولئك الفلاسفة القليلين الذين استطاعوا أن يفهموا الفلسفة على أنها قطعة منتزعة من قلب الوجود، وليست مجرد أفكار عقيمة لا تمت إلى الحياة بأدنى سبب. فالفكرة الجوهرية في مذهب جويو هي أن (الحياة) جوهر الوجود، وأن الفكر ما هو إلا جانب من جوانب الحياة. وقد استطاع جويو أن يوفق بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية على أساس هذه الفكرة، فذهب إلى أن المثل الأعلى للحياة الفردية، إنما هو ذلك الذي تتمثل فيه الحياة الحافلة؛ والحياة الحافلة هي تلك التي لا تكون فيها الذات مغلقة على نفسها، بل تكون قادرة على أن تسع غيرها من الذوات. ومعنى هذا أن نقطة البدء في فلسفة جويو هي (الفردية) لأن الحياة الخصبة الحافلة إنما هي الحياة الفردية التي لا تكون فيها معارضة بين الفرد والمجموع، إذ تمتد الذات حتى تشمل المجموع وتضمه تحتها!
وقد نشأت فكرة الحرية عند جويو كنتيجة لهذه النزعة الفردية الخاصة. ونحن ندع جويو يعبر عن هذه الفكرة بعبارته التي تفيض قوة وحماسة؛ فيقول:
(. . . ألا يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي فمه تزول كل العقائد السائدة التي يتمسك بها الناس، بحيث لا يبقى أي إيمان عام يستأثر بالنفوس أو يمتلك العقول؟ إلا يمكن أن يحين ذلك اليوم الذي فيه يصبح الاعتقاد (فردياً) خالصاً، فلا تعود هناك سنة بل خروج وابتداع؟ إن الرغبة في التحكم في الجسوم، فمن واجبنا إذن أن تتحامى أولئك الذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم علينا، أو أن يجعلوا من أنفسهم موجهين لأفكارنا، أو قادة لضمائرنا. . . أجل، يجب علينا أن نتجنب هؤلاء كما نتجنب المصائب والمحن! فقد آن الأوان لأن نسير(607/28)
بمفردنا، وأن نفرع من أولئك الوعاظ الخادعين. . . علينا أن نصبح نحن قادة لأنفسنا، فلا ننشد الوحي والإلهام إلا في نفوسنا. أما المسيح فلم يعد موجوداً، لأنه ليس ثمة إيمان عام بعد اليوم! فليكن كل واحد منا إذن مسيحاً لنفسه، وليتصل ربه كما يشاء، وليعتمد على إلهه كما يستطيع. . . وليتصور كل منا هذا الكون كما يحلو له، وليختر أي نظام يروقه. أما أولئك الرجال الذين قد يستطيع المسيح أن يقول لهم: ما أقل إيمانكم، فطوبى لهم إذا كان معنى هذا انهم رجال مخلصون لا يريدون أن يخدعوا عقولهم، أو أن يلغوا ذكاءهم، أو أن ينتقصوا من كرامتهم! طوبى لهؤلاء القوم، لأنهم يملكون روحاً علمية حقيقية، وفكراً فلسفياً صادقاً، ولأنهم لا يؤخذون بالمظاهر، بل يأخذون الحذر حتى من عيونهم وعقولهم، ولأنهم يبدءون دائماً من جديد، فاحصين احساساتهم، وممتحنين استدلالاتهم. أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يظفروا بجانب من الحقيقة الخالدة، لأنهم لا يظنون في أنفسهم أن في وسعهم إن يظفروا بالحقيقة كلها؛ فلديهم إذن قدر كاف من الإيمان الحقيقي الذي يدفعهم إلى أن يبحثوا دائماً، بدلاً من أن يركنوا إلى الراحة والهدوء، مكتفين بأن يرسلوا الصرخة العالية قائلين: لقد وجدنا! لقد وجدنا! أجل، إن هؤلاء هم الشجعان الذين يواصلون السير والتقدم، حين يتوقف غيرهم ويركن إلى الدعة والخمود؛ فالمستقبل لهم وحدهم، وفي أيديهم يقع مستقبل الإنسانية في العصور المقبلة!)
هذه هي الحرية الفكرية كما يفهمها جويو، فهي في نظره ضرورة من ضرورات الحياة الحاضرة، وحاجة من الحاجات الهامة التي يقوم عليها مستقبل الإنسانية. وليس أحب إلى نفسي من هذه العبارة الخالدة التي يصور فيها جويو موقف الإنسانية اليوم فيقول: (إننا على ظهر سفينة هائلة كالتنين الضخم، وقد اقتلعت الأمواج العاتية دفة هذه السفينة، وحطمت الرياح الثائرة ساريتها. فالسفينة الآن ضالة في الميحط، تنخبط ذات اليمين وذات الشمال، مثلها مثل الأرض السابحة في الفراغ! وهي تسير بالمصادفة والاتفاق وتضرب ضرب عشواء، مدفوعة بالرياح السوافي، كأنما هي حطام هائل يحمل فوق ظهره الناس. . . وقد تصل هذه السفينة إلى هدف مجهول، أو غاية غير معلومة، فتبلغ الإنسانية غرضاً لم ترم إليه من تلقاء نفسها. ولكن ليس ثمة يدٌ تقودنا، ولا عينٌ ترعانا؛ والدقة قد تحطمت منذ زمن بعيد، بل لعلها لم توجد يوما ما، فعلينا أن نضع هذه (الدقة)؛ وتلك مهمة خطيرة،(607/29)
ولكنها عملنا، ومن واجبنا أن تقوم بهذا العمل).
نحن إذن في دور اضطراب وصراع، فلابد لنا إذن من أن نفكر بحرية في الطريقة التي نخلُص بها من هذه الفوضى. والحرية التي يدعو إليها جوّيو ليس معناها الفوضى، وإنما هي حرية تنطلق معها النفوس من نير العبودية، كما انطلقت الأجسام من نير الرق القديم. العالم - اليوم - يتحرَّق شوقا لهذه الحرية، فقد ظل الفكر أمداً طويلاً حبيس الأنفاس، لا يُفك إساره إلا بالقدر الذي يهيئ له أن يسير بضع خطوات في حظيرة الإيمان الضيق! ولكننا نريد أن ينطلق الفكر كما يشاء، حرّاً لا تقيده سلطة، ولا تردّه قوة، اللهمَّ إلاَّ سلطة المنطق، وقوة المعقول!
(السويس)
زكريا إبراهيم(607/30)
أدب الشام الحديث
للسيدة وداد سكاكيني
منذ القدم اقتسمت بلاد العرب أدبها الأصيل، فكان لكل قطر شعراؤه وأدباؤه. وكان الشعر في آثار العرب الثقافية أول ما جاد به دهرهم وأطل من آفاقهم، فكان في الجاهلية موزعاً بين قبائل وعشائر لكل منها شاعرها الذي يحمي ذمارها ويروى أخبارها، وكان لنجد شعراؤها كما كان للحجاز أندادهم من أهل الفرائح والبيان. بيد أن الأدب الذي انتهى إلينا منهم والشعر الذي أثر عنهم لم يكن بتلك القسمة في عهود الجاهلية متميزاً بعضه من بعض، إذ كان نسيج القصائد في تلك الفترات متشابهاً، ولم يستطع دراس الأدب من قدامى ومحدثين أن يكتنهوا الفروق بين أولئك الشعراء، فالجزالة والفحولة حتى في شعر النساء كانت شركة بينهم، وسلامة الطبع والجبلة موهبة فيهم، والسذاجة والبعد عن التكلف من سجاياهم، أما الفروق الفنية فقد دبت في الشعر والنثر بعد الإسلام، فكان شعراء أمية السياسية في طبيعة قصائدهم غير شعراء الحجاز الغزل. وقضي الأمر في قسمة الأدب بين البلاد العربية في العصور العباسية. فظهرت الميزات والعلامات بمياسم أكثر انطباعاً وأشد وضوحاً، فإذا للعراق أدب فياض شاعت في مجاليه مطارحة الندامى وأغاني القيان ومجون الشاربين، وإذا للأندلس طائفة من الشعراء انسرح خيالهم، ورق شعورهم، فابتدعوا الموشحات والمقطوعات، وخلعوا على أدب العرب وشاحاً هفهافاً، وفي نسمات الوادي الكبير، أطلقوا في ثناياه أعنة الخيال من روح الأدب الغربي الذي رف عليهم ومن صوب الأسبان أو عبر نحوهم من جبال (البيرنيه).
وكان ثمة شعر مطبوع وأدب بهيج الأوان، نجما في آفاق الشام، وقد نمتهما دارات غسان ودعتهما ضفاف بردى، ورفت بهما أفانين (جلق) بغوطتها الخضراء كيوم العصابة التي درَّ درها ونادمها حسان في الزمان الأول، فقد عرفت الشام بلون من الشعر سماه المعاصرون من عرب ومستشرقين بالطريقة الشامية، وهو ضرب من البيان ظهر في آثار أبى تمام والبحتري وأبى العلاء فيه اللفظ البليغ والصناعات ذوات التحاسين، حتى بات شعر الشام، كعصب اليمن، أفوافه مزركشة ومطارفة منمنمة، فكأنه نمارق على أرض أو ديباجة على جدار(607/31)
وإنني إذ أرسم صورة لأدب الشام، لا أقول بالإقليمية العصبية ولا أغلو في الرأي والتصوير، وإنما أقصد إلى تلك المزايا التي اختص الله بها كل بلد من الأرض، فجعل فيها البيئة ذات خلق وتكوين، تؤثر في سكانها وتطبع المرء بمزاجها، فتجعله حسب أطوارها ومقتضاها
من خطرات هذا الرأي ما صوره الشاعر ألفريد دوموسيه، فان له رواية سماها (الكأس والشفاه) وصف فيها رجلاً من سكان التيرول يقول الشعر ويروي سيرته، فيعرضه الشاعر بمعارض أولئك الأشداء الذين سكنوا في الأرض القاسية، فعلوا قمم الجبال على صهوات خيولهم، ولم تتطامن أخلاقهم كأولئك الذين سهلوا إذ سكنوا في السهول
وما ينكر المنصف أن الأدب كالمخلوق الحي ينمو وينضج وتسري في أعراقه دماء يطلب العارفون فيها الأصالة والنشأة التي تخضع لمنازع ثقافية وأحداث اجتماعية وسياسية
فأدب الشام الحديث هو من هذا القبيل أدب عربي الوجه والروح وقد صقله الفن والتطور وظهرت عليه مغارس الوطن، ولم يولد هذا الأدب ولادة ارتجال، وإنما فتحت الشام العيون بعد الحرب الماضية على حركة فكرية جديدة ويقظة ثقافية منها مثيلاً، وكانت مثل سجين لم يجد أرفه لنفسه وأقرب إلى قلبه من أدب المصريين فتأثرت الشام نهضتهم ومضت على غرارهم في نشأتها الحديثة. وكم راجت فيها سوق الأدب لقصيدة قالها شوقي أو حافظ، ولكتاب ألفه المنفلوطي أو الرافعي، وكان في تلك الآونة نفر من الشاميين متنورين لكل نهضة، بعضهم عرف الغرب وورد النحل على الأزاهير، ثم صدر عنها فعاد إلى الشام ينشئ المجلات وينشر الصحف ويحاضر في المجامع والندوات داعياً إلى نشر الثقافة والأدب. وأسس المجمع العلمي العربي في دمشق على الفصحى وحفاظ أمجادها وذخائرها فجمع بين لغوي مدقق وعالم فيلسوف ومؤرخ محقق وشاعر أديب، ورفدت أعماله مجلة ذاعت في أقطار العرب. وكان من السوريين شعراء قد استيقظوا بعد الحرب الغابرة على صيحات البعث والتحرر والتجديد فأخذوا بشيء من القصيدة كأنه الينبوع يفيض حيناً وينضب حيناً، وفيهم من حذا وجرير والأخطل حتى قلدهما في حلية القريض، ومنهم من أدمن الإلمام بالمتنبي حتى سرى في بيانه روح أبى الطيب وعنجهيته. وكما كان في كل بلد أدب للشيوخ وأدب للشباب فكذلك حدث في أدب الشام، وليس بين الفريقين تنابذ(607/32)
وجفاء، فالشيوخ رسخ مجهودهم في اللغة والعلم والبحث، والكهول والفتيان امتلأت نفوسهم بالأمل والطموح، واكتسبوا بالتحصيل ما بذوا به الأوائل، فقد جمع بعضهم بين الثقافتين العربية والغربية، فانبعثوا وراء المثل العليا يسترشدون بالهداة ويتأثرون أعلام هذه النهضة التي تنوروها من قريب ومن بعيد
وان في أدب الشام الحديث لألواناً وفنوناً، ففي الكتابة والإنشاء فريق لو أتيح لهم دور نشر وطباعة تفي بآثارهم فتذيعها في الناس، أو لو كانت صحفهم تجاوز آفاقهم، لشاع صيتهم، وفي هذا الملأ مواهب فنية في النقد والقصص، لولا إيثار أصحابها لوظائف الدولة لأثر عنهم كل أثر نفيس
إنه لأدب طريف الأوان أصيل السمات، ولكنه ضئيل الجزم، محلى الشيوع والازدهار، والشام سوق لهذا الأدب المصري بأكثر مما هي فيه لأهلها، فلو سئل المثقف أو المتعلم في ديار الشام عن مصر وأدباءها وكتبها وعلمائها، لأجاب بما يعجب وبما يطرب، إذ أن أدب مصر يعيش في تلك الديار منذ ثلاثين عاماً كما يعيش في حمى الأزهر وتحت قبة الجامعة، وفي ندوات الثقافة المصرية، غير أن مصر التي يجمل بها عتاب الحبيب لا تعرف من أدب الشام إلا القليل، وكلتا الشقيقتين على حق فيما ترى بهذا الشأن. ولعلي أتحدث قريباً عن فنون هذا الأدب مزوداً بذكر أعلامه وكاتبيه وأهل القصة والنقد فيه
وداد ساكاكيني(607/33)
صفحة حزينة. . .!
(إلى زوجتي الشابة المثقفة الطيبة الخلق شريكة حياتي ورفيقة
دراساتي).
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
بعد أيام. . .
مماتك في الرَّيعان أصمي مقاتلي ... وفقديكِ من عيشي مشيرٌ مشاكلي
وكنتِ الغِنَي من مشكل بعد مشكل ... وعقداتِ نفسٍ تستديم قلاقلي
مشاكل شتَّى: حاجةُ النفس للهوى، ... وحاجة ذي حسٍ، وحاجة عاقل
جمعتِ لي الدنيا - فأغنيت معدمي، ... وأمتعتِ محرومي، وزينتِ عاطلي
أدور بعيني كالشريد بلا هوىً ... ولا منزلِ مثلِ الهوى والمنازل
وما منزلي إلا الذي أنتٍ ملؤُه ... وما من هوى إلاّكِ بين العقائل
رأيت الغواني وهي لهوٌ ومظهرٌ ... وأنتِ مزاجٌ من جميل وكامل
ورقة إحساس، وعفة لفظةٍ ... ولحظٍ وتفكير، وحفل فضائل
تعزَّيْتُ لو أني كغيري من الورى ... وأَنَّكِ أُنثى كالنساء الحوامل
ولكنني نفساً وحسّاً مُعَقَّدٌ ... وأنكِ طبُّ للنفوس العلائل
أقول لدهري فيمَ، فيمَ حرمتني؟ ... وكل عزائي كان فيها ونائلي
أسائله في كل يوم وليلة ... ولن ينتهي مهما حييتُ تساؤلي
أراني مع الأيام تزداد لوعتي، ... وعهدي بها للنقص في قول قائل
ويوحشني، أني وحيد وأنني ... مع الناس - أبغي الأنسَ في غير طائل
يزلزلني همي، فأخرج هائماً ... أسكِّن في هذا الفضاء زلازلي
فأذهل أن ألقي السماء وضيئةً ... تَشِعُّ على الآفاق بسمة آمل
وأن تكتسي الأشجار أنضرَ خضرة ... ويرقص موجُ النيل رقصة جاذل
بنا تسخْر الأقدار: موتٌ وأدمعٌ ... وثمَّةَ أنوارٌ وزهر خمائل؟!
خيالك في التابوت أثلج بي دمي، ... وأحرق أعصابي، وهدَّ مفاصلي(607/34)
وغيَّض دمعي أن رأيتك جثةً ... وجسمك معروق العُلَى والأسافل
ووجهك شمعٌ ذو شجوبٍ وصفرة ... كرسم عتيق في التصاوير حائل
وشَعرك غريبٌ، وهُدبكِ أَسودٌ ... كذيل غُدافٍ حالك الريش ذائل
وما أنس لا أنسى جبينَك عالياً ... قوياً - على قيد الردى - غير ناكل
كأن الردى قد هاب ما في وِطا بِه ... من العلم عصريّاً وعلمَ الأوائل
وأذكر زوجي كيف كانت إلى مدىً ... قريب، وما اختُصَّتْ به من شمائل
فينهلّ دمعي هامراً بعد حبسةٍ ... تَفَجُّرَ مُزنٍ حافل الضرع هاطل
وأعجبُ من شان الحياة وسرّها ... وأعجب من شأن المنون المعاجل
ويبلغ من فعل الزمان تعجّبي، ... فأضحك كالمفجوء من فعل هازل
هنا كان إنسانان: شطرُ وصِنْوُهُ ... سعيدان في فيض من العطف شامل
ففيمَ انصداعُ الشمل، شطر على الثرى ... وآخر من تحت الثرى والجنادل
لقد كان لي في الحب مَحْيا مضاعفٌ ... وحبك - بعد البين - لاشك قاتلي(607/35)
ذكرى
على الرغم مني أن خلا منكِ معهدُ ... وأنَّك ذكرى الصدى يترددُ
وأنت التي كانت عميقاً شعورُها ... وتفكيرُها فهي الوجود الموكّد
طواك الردى ما بين يوم وليلة ... وأهنأ هذا الناس نحن وأسعد
وجَدّث الردى هزلُ، وأحكامه هوىً ... ومنطقه فوضى القياسٍ مفنَّد
قَضي أن تموتي حتفَ أنفك غضَّة ... وما أنت كُبرانا ولا أنتٍ أوهد
وأن يتوافىَ نحو بيتك صحبُنا ... فيلقاهم في البيت أَرملُ مُفرد
يصبّرني أهلي شجاهم تهالكي ... يقولون هذه أختها تتجلد
وما أختها؟ إني عَدِنْتُ قرينتي ... وأختي، ومن أرجو، ومن أتفقد
تسائلني أمي ضحّى: أين تقصد؟ ... فأفحم لا أدري، فَيْومي تشرُّد
وأغمض جفني حين تطرق مضجعي ... ليُسكن روعَ الأم أنيَ أرقد
يُهيِّج ما بي أن ألاقى معزِّيا ... وما بي - وإن طال المدى - ليس يخمد
وجانبتُ من لم يبلغ سمعَه ... حذارَ سؤالٍ عنك لا يُتعمَّد
وأعدل عن هذا الطريق لغيره ... فقد كالما جُزناه نُهوى ونصعد
وخير رفيقٍ أنتِ في كل رحلة ... وخير سمير للحديث ينضِّد
وتجلس في حضن الطبيعة ضمتُنا ... مناجاتها - إن الطبيعة مبعد
ونجلس للإسفار ندرسها معاً ... كأنْ ليس غير الكُتْب في العيش مقصد
فلا درس إلا وهو عندك أرشد ... ولا لهو إلا وهو قربّك أرغد
أمثلك لي خلٌ كريمٌ موافق! ... أبعدك نعمي في الحياة وأَسْعُدُ!
وهل متعة إلا عليها موكلٌ ... يحرّمها من ذكرياتك مُرْصَد
بحسبيَ أيام قلائل عشتُها ... بواحة روضٍ حولَها العمر فدفد
هنيهة أنسً، قبلَها العيش صفحةٌ ... بياضٌ وعيشي بعدها اليومَ أسود
ووالله لا أدري أدهري أذمُّه ... على قِنَصرٍ فيها - ولا شيء مُخَلَد؟
أوانيَّ على ما خصَّني فأذاقني ... ولو طرفاً من ذلك الخلد أحمد؟
برغمي أن قد عاود الشعر مِقْوَلي ... وأم كان في مرثاك منه التجدد
وقد كان يستعصي عليَّ، فما له ... كدمعي معينٌ سيلُه ليس يجمد!(607/36)
تعجّب أصحابي وطال سؤالهم ... يقولون لي في كل يوم تُقَصَّدُ
وما كان أغناهم عن القول لو دروا ... بأني طول الليل يقطان مُسْهَدُ
وكنتِ عروسي في الحياة، فلاتَنِي ... عروسً قصيدي تلهمين وأُنشد
عبد الرحمن صدقي(607/37)
كرسي مجلس النواب
للأستاذ محمد الأسمر
(نظم الشاعر هذه الأبيات للشبان النواب بمناسبة فوز أصدقائه
الثلاثة: مصطفى بك أمين، علي أمين، كامل الشناوي في
المعركة الانتخابية).
تهنئاتي: ثم كونوا عندما ... قلتم قُبل دخول (المجلس)
واحذروا (الكرسي) كم مرَّ به ... معشرٌ غيركم، ثم نُسى
لا تكونوا فوقه مثل الذي ... يحضر (الجلسة) مثل الأخرس
أو كمن يهتف للزور به ... فإذا الحق بدا لم ينبس
أو كمن تصفيقه ثروته ... وهي عندي رأس مال المفلس
أو كمن قيل له كن فوقه ... ضنما، جئتَ لهذا فاجلس
أو كمن يشتم قوماَ ظالماً ... فهو يعوي كعواء الأطلس
أو كرهط فوقه سيماهم ... عدم الفهم، وهز الأرؤس
أو كمن نام به ليس له ... من وجود فيه غير النَّفس
أو كعريان رآه متجراً ... فهو فيه قاعد كي يكتسي
بئس من أكرمه الله به ... فأبى إلا حياة التعس
يحمل الكرسي منه جثة ... أيها الكرسي لا تبتئس
هذه الدنيا حظوظ كلها ... وكذا حظك، فانظر وائتس
يا أزاهير الشباب المرتجى ... حققوا فيكم رجاء الأنفس
أنتمُ ضوءٌ جديدٌ علّهُ ... في غدٍ فجرٌ لهذا الغَلَس
محمد الأسمر(607/38)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
حذار الغيظ والحسرة
في مدينة نيويورك رجل أسمه توم وعمره، 57 سنة. عاش منها 48 سنة لم يبتاع طعاماً، ومع ذلك فهو يأكل أي طعام تشتهيه نفسه. سدت قناة الابتلاع (الزور) عنده وهو في التاسعة من عمره إثر شربه لسائل ملتهب حرق الزرو ولم يفد الطب في علاجه فأغلق إلى الأبد. واضطر الجراح إلى فتح نافذة مستديرة قطرها بوضة وربع في معدته ليتناول منها غذاءه
واندفعت أغشية المعدة من هذه الفتحة فكونت ثنية قطرها ثلاث بوصات. فان أراد أن يأكل رقد على ظهره وفك الأربطة عن وسطه، وأزاح وسادة عن فتحة المعدة، ثم يثبت فيها أنبوبة قصيرة من المطاط. وبعد ما يمضغ طعامه يضعه في معدته عن طريق الأنبوبة. وبهذه الطريقة تناول ما لا يقل عن 30 ألف وجبة طعام لم يشعر فيها بأية مضايقة.
مارس هذا الإنسان كثيراً من الألعاب الرياضية وهو غلام واشتغل في عدة مهن يدوية، فلم يلحظ زملاؤه شذوذه إذ كان يتمتع بصحة جيدة. إلى أن أكرهته ظروف العمل إلى الاشتغال في حفر الخنادق فأهبت الحركة المستمرة أغشية المعدة المكشوفة حتى أدمتها واضطر إلى الالتجاء إلى أحد المستشفيات، وهناك أكتشفه الطبيبان ولف، فوجدا فيه حقل تجارب لن يسمح الزمان بمثله. ففي هذه المعدة المفتوحة يستطيعان أن يكشفا أسرار أمراض المعدة، وأسرار التغذية، وتأثر عملية الهضم بالانفعالات النفسية.
وتمكنا من إغرائه بالوظيفة الثابتة في معملهما، وبما يؤديه للإنسانية من خمات، فقبل منذ ست سنوات أن يعمل معهما. فاشتغل في صباحه حقل تجارب، وبعد الظهر كمحضر في معمل مستشفى جامعة كورنل الطبية.
وفي مثل هذا الإنسان تسهل دراسة الظواهر المعدية بإنفاذ آلة مثل منظار الغواصة المزود بالضوء إلى داخل المعدة. ولهذا ظلت حياة هذا الإنسان طوال السنوات الست الماضية ممتزجة بالتجارب الطبية. فإنه أغنى الطبيب عن استعمال منظار المعدة الذي لا يتيح فحص الإنسان العادي أكثر من عشر دقائق.(607/39)
ومن أهم الدراسات التي أجريت عليه فحص العلاقة بين الانفعالات النفسية ومرض قرح المعدة. فبينما الطب يتقدم بخطوات واسعة في دراساته فان عدد الإصابات بهذه القرح يزيد، ويعتقد عدد كبير من الباحثين أنه نتيجة للإجهاد العصبي والقلق فقدمت لهم معدة توم الدليل العلمي بأن القلق المتواصل، والغضب، والعداوة تكون إفرازات تؤدي إلى الإصابة بالقرح.
ويتفق أكثر الأطباء على أن هذا المرض نتيجة لزيادة الإفرازات الحمضية، ويصف الطبيبان ولف تطوراته، بأن الانفعالات النفسية المتعلقة بالقلق أو الغضب تصحب بزيادة إفرازات الحوامض العادية ومعها فيض من الدم مما يؤدي إلى غمر أغشية المعدة وتمددها. ويصحب هذه الانفعالات أيضاً انقباض شديد في المعدة.
وفي مثل هذه الحالات يسبب الاحتكاك البسيط بمواد الغذاء الصلبة تسلخات دموية رفيعة في الأغشية يثيرها اتصالها بالسوائل الحمضية، المعدية الغير العادية فتزداد الإفرازات الحمضية، ويزداد غمرها بالدم وتمددها، فتبدأ حلقة إصابة خطيرة في المعدة، فتتصل مادة الببسين الهاضمة بأغشية المعدة الأصلية وتأكل جزءاً منها فتسبب قرحة.
ولا تهضم المعدة نفسها أو تأكل أجزاءها لأنها مبطنة بغشاء مخاطي قلوي سميك يقي أغشيتها فلا تلمسها المواد الهاضمة. فإذا انغمس الإنسان في الانفعالات النفسية المقلقة فإنها تأكل نفسها بطول المدة مبتدئة بالقرح، مما شاهده الطبيبان في معدة توم، فكانا يعرضانه لمختلف الانفعالات النفسية، ويراقبان التغير الذي يطرأ على معدته، ولكنه من الطبيعي أن توم لم يصب بقرح المعدة لأن فترة إقلاقه وانفعاله لم تكن طويلة بل كانت فترات قصيرة.
والأشخاص المعرضون لهذه الإصابات هم ممن يجدون لذة في الانفعالات وآلامها، فيصرون على أن تكون رفيقتهم في حلهم وترحالهم وفي عملهم وراحتهم.
ولم يؤثر تعاطي الكحول ولا التدخين أيا كانت نسبُه على معدة توم، لأن مخاط المعدة القوي كان يقي أغشيتها من فعل حوامضهما. فإن تعرضت المعدة لحوامض قوية لا تكفي لتعادلها قلويات المخاط، فإن الأغشية تكون غطاء آخر يحفظها من الحوامض فإذا فشل هذا الغطاء في تأدية عمله لقوة الحوامض تكونت القرح وبدأت المعدة تأكل نفسها
وهكذا صدق تعبيرنا القائل أنه يأكل نفسه كمداً وحسرة.(607/40)
يعيشون بدون معدة
أصبحت عملية إزالة المعدة أو جزء منها من المسائل العادية في الولايات المتحدة كما صرح بذلك الدكتور فرانرا انجلفنجر، فانخفضت نسبة وفياتها في الحالات غير السرطانية من 1 إلى 3 في المائة، فان كانت لإزالة سرطان المعدة انخفضت إلى 10 % وحتى في حالة إزالة المعدة كلها فان المريض لا يتعرض للخطر من العملية بنسبة تعرضه للمرض الذي تزال المعدة من أجله.
وأثبتت الإحصاءات أن 30 % ممن تجرى عليهم هذه العمليات لا يستعيدون وزنهم العادي ومنهم 3 % يحسون بضعف ودوار وضغط إن أكلوا وجبات كبيرة. ولكن هذا الإحساس يزال بعد سنة من إجراء العملية فيتجنب المريض الوجبات الكبيرة ويستعيض عنها بست وجبات في اليوم. فإن من العوامل المهمة أن تلائم عمليات الهضم للحالة الجديدة.
ويستطيع المريض بعد استئصال معدته تناول أي طعام وتأدية أي مجهود. ولكنه لوحظ أن النشويات والسكر والزلاليات يسهل امتصاصها، أما الدهنيات فتحدث بعض الاضطراب. وقد يصاب بعض المرضى بالأنيميا وإن كانت الحادة منها نادرة الحدوث.
فوزي الشتوي(607/41)
القصص
همس الجنون
للأستاذ نجيب محفوظ
ما الجنون:
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق، وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالحانكه، ويذكر - الآن أيضاً - ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعاً، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة - قصيرة كانت والحمد لله - فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلاً حائراً لا يدري من أمرها شيئاً تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصاً من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة. وتجيء أذنيه منه أحياناً ما يشبه الهمهمة، ما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتاً وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم. حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستاراً كثيفاً من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفي. فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متى وقعت؟! كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئاً غير العقل؟؟ وأن صاحبه أسمى فرداً شاذاً يجب عزله بعيداُ عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟؟
كان إنساناً هادئاً أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعل ذلك ما حبب إليه الجمود والكسل. وزهده في الناس والنشاط. ولذلك عدل عن مرحلة التعلم في وقت باكر. وأبى أن يعمل عملاً مكتفياً بدخل لا بأس به. وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل من طوار القهوة، فيشتبك راحتيه على ركبتيه، ويلبث ساعات متتابعات جامداً صامتاً، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين. لا يمل ولا يتعب ولا يجزع. فعلى كرسيه من الطور كانت حياته ولذته. ولم يكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال. كان تمثالاً من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس وهو بمعزل عن الحياة جميعاً.(607/42)
ثم ماذا؟
حدث في الماء الآسن حركة بريئة فجائية كأنما ألقى فيه بحجر.
كيف؟!
رأى يوماً - إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار - عمالاً يملئون الطريق - يرشون رملاً أصفر فاقعاً يسر الناظرين بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل لماذا يرون الرمل. . . ثم قال لنفسه إنه يثور فيملأ الخياشم ويؤذي الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعاً فيكنسونه ويلميونه، فلماذا يرشونه إذا؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك. فحال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد عملية الرش أولاً والكنس أخيراً والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة، بل أحس ميلاً إلى الضحك. ونادا ما كان يفعل. فضحك ضحكاً متواصلاً حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ. فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديد. ومضى يومه حائراً أو ضاحكاً، يحدث نفسه فيقول كالذاهل، يرشون فيؤذون ثم يكنسون. . . ها ها ها.
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرآة يهيئ من شأنه. فوقعت عيناه على ربطة رقبته. وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس. وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة. ومضى يقلب عينيه في أجزاء ملابسه جميعاً بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضاً؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته، ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش ففي إهابه دهراً طويلاً قانعاً مطمئناً. كيف له بالهدوء والرمل لا يزال عالقاً بأديم الأرض! كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه! أجل على رغمه؛ قد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه. وكبر عليه أن يرضي بقيد على رغمه. أليس الإنسان حراً؟!(607/43)
وتفكر ملياً ثم أجاب بماسة، بلى أنا حر، وملأه بغتة الشعور بالحرية. وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه. إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين شاء غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة. لسبب خارجي أو باغت باطني حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة. وأنقذها بحماسة فائقة من وطأة العلل. وادخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب. فالقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السب مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاُ. إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا. وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا. أما هو فيسير إذا أراد، ويقف حين يريد. مزدرياً كل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية. توقف مسيره بغتة وهو يقول لنفسه (هأنذا أقف لغير ما سبب) ونظر فيما حوله ثواني ثم تساءل: أيستطيع أن يدفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع. وهاهو يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة؟
وقال لنفسه نعم أستطيع وما عسى أن يعتاق حريتي؟ وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة وملأته ثقة بالنفس لا حد لها. فمضى يتأسف على ما فاته - طوال عمره - من فرص كانت حرية بأن تمتعه بحريته وتسعده بحياته. واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين. فرأى على طواره مائدة ملأي بما لذ وطاب. يجلس إليها رجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئاً ويشربان هنيئاً. وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبيل، عراياً إلا من أسمال بالية تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة. فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر. وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام. ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين (ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين). ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة التي أمامهما بسلام. هذا حق لا ريب فيه. أما إذا رمة بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان. فهل ثمة مانع من(607/44)
تحقيق رغبته؟. . . هيهات ربما كان التردد ممكناً في زمن مضى، أما الآن. . . واقترب من المائدة بهدوء! ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ثم رمى بها عند أقدام العرايا. وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمراً نكراً، غير عابئ الزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم. بل غليه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكاً حتى دمعت عيناه. وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته. بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكونه المعهود. لم تطاوعه نفسه، فقد فقدت قدرتها على الجمود. أو برنت من عجزها عن الحركة. فنبا به مجلسه، حتى هم بالنهوض. إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصاً غير غريب عن ناظريه وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد القهوة مثله. وكان جسماً ضخماً وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناتة بالزهو والكبر كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس. وكأنه يراه لأول مرة، بدا له قبحه وشذوذه عارياً. فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه. ولم تفارقه عيناه. وتثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضاً ممتلئاً مغرياً. وتسائل أيتركه يمر بسلام!. . . معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية. وعاده إلا يخالف له أمراً. وهز منكبيه استهانة. واقترب من الرجل فكاد يلاصقه. ورفع يده وأهوى بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة فرنت الصفعة رنيناً عالياً. ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكاً. ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة. فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلايبه وانهال عليه ضرباً وركلاً، حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثاً. ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم. وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل. وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله. وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، لم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة سعيدة من الزمان وأبى أن يغرب عنها ثانية واحدة من حياته. ومن ثم القي بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية وبصق في وجوه وركل بطونا وظهوراً. ولم ينح في كل حال من اللكمات والسباب.(607/45)
فحطمت نظارته ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه وانفضت ثنيتاه. ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل، ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ترفل في ثوب رقيق شفاف. تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري. وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعاً ودهشة. وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية. فخطر له أن يغمر هذه الحلمة الشاردة. إن رجلاً ما يفعل ذلك على أية حال فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما ومد يده بسرعة البرق وقرص. آه. لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات. وأحاط به كثيرون ولكنهم في النهاية تركوه، لعل ضحكته الجنونية أخافتهم. ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم، وتركوه على أية حال، ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءاً. وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات. ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلاً من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينه نظرة غائمة، وعاد يتساءل: لماذا يدع نفسه سجيناً في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه، وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق. فغلت مراجله ولم يستطع معها صبراً. وأخذت يداه تنزعانها قطعة فقطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعاً، فبدا عارياً كما خلقه الله. وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكاً واندفع في سبيله. . .
نجيب محفوظ(607/46)
البريد الأدبي
بين صديقين
(اشتد بصديقنا الأديب الفاضل الأستاذ عبد الرحمن صدقي
مصابه الأليم بزوجته المهذبة فنظم في رثائها قصيدتين من
أبلغ الرثاء، وأرسلهما إلى صديقه الجليل العقاد ومعهما هذان
البيتان):
أخي، منذ أعوام مضين ذكرتني ... وهنأت زوجي بالهوى، وهنَأتني
لقد ذهبت تلك السنون سريعة ... وهذى مراثي زوجتي اليوم، فارثني
فأجابه الأستاذ بهذه الأبيات:
أخي! ما عزائي أن أهوّن فاجعا ... أراه - وإن لم أبُله - غيرَ هيّن
ولكنْ عزائي هذه الحرب زلزلت ... قلوب بني حواء في كل مأمن
ولكن عزائي هذه الأرض علمَّت ... بنيها هوان العيش علم التيقّن
قضاء علينا في الحيلة فراقنا ... لأحبابنا حيث التقينا بموطن
فجيعتنا فيمن نحب بديلُها ... فجيعتهم فينا، ومن يبق يغبن
فلا ترض للأحباب غبنا يؤودهم ... وليس الرضا في الحالتين بممكن
إلا هان عيش لا يزال خياره ... لمن يرتجيه شاكياً: متْ أو احزن
أخي! هذه الدنيا وهذا عزاؤها، ... قصاراه - بعد الجهد - تسليم مذعن
وما أحسب الإيمان إلا حقيقة ... فلا صبر فيها لامرئ غير مؤمن
شرح لامية العجم، ما اسمه؟
شرح لامية العجم لصْلاح الصفدي، مصنف كبير، مكتنز بالفوائد - أظهرته مطبعة بولاق مسمية إياه هذا الاسم:
(الغيث المسجم في شرح لامية العجم)
وهو مسندي حين ذكرته فيما رويته عن مسماه - أعنس شرح اللامية - في (نقل الأديب)،(607/47)
وفي خطبتي أو مقالتي في (أبى العلاء المعري)، وقد أرشدني العلامة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الغراء إلى كتاب اسمه (سحر العيون) من مؤلفات القرن التاسع، وهداني إلى هذه الفائدة الآتية فيه.
(. . . عابوا على الشيخ صلاح الدين الصفدي (رحمه الله) في تسميته كتابه بـ (الغيث الذي انسجم في شرحه لامية العجم) وقد مزق جلده الشيخ بدر الدين الدماميني في كتاب عمله عليه وسماه نزول الغيث. . .)
فهل بدل الصلاح اسم كتابه من بعد ذلك النقد وتمزيق الجلد. . . - وإني لأستبعد ذلك - أم بدله الناسخون والطابعون.
محمد إسعاف النشاشيبي
من ناظر إلى فراش
عزيزي أحمد حسين
لك جزيل شكري على كتابك الذي تسلمته الساعة، وما يبعث كتاب في قلبي من دواعي السرور أكثر مما تبعث كتبك التي تصلني في نظام أول كل عام. وإنه لعجيب بعد تلك الأعوام الطويلة التي مرت منذ أن تعارفنا وهي الآن خمسة وعشرون أن تظل محتفظاً نحوي ونحو أسرتي بذكريات مودة وصداقة، وأن تتعب نفسك على هذا النحو بالكتابة معبراً عنها. وإني لشكور حقاً ولا أزال أتلو كتبك مرة ومرة في سرور بالغ. ولا ينقصني إلا أن نلتقي كما كنا نفعل في الأيام الماضية فأصافحك، ولكن هذا بالضرورة مستحيل فليس لدي إلا أن أصافحك بكتابي وهذا ما أفعله الآن. . . وكذلك أصافح ذلك الشيخ الكبير عزيزي الحاج عبد القادر، وكم تتوق نفسي إلى رؤية ذلك الرجل الطيب العجوز: وأكبر ظني أنه قد علت به السن جداً الآن كما علت بي. ولكن من دواعي الغبطة الشديدة أنه لا يزال حياً وأنك لا تزال على صلة به ولو أنك لا تراه؛ وأنك تبلغه رسالاتي التي أبعثها إليه عن طريقك. بلغه أني كثير ما أذكره كلما أذكرك وأذكر جميع الأخيار من الأصدقاء الذين عاشرتهم بالمدرسة التوفيقية في تلك الأيام الطيبة الخالية. ولقد رغبتْ إلى زوجي أن أقول لك إنها كذلك لا تزال تذكركم جميعاً في عطف ومودة وأنها جد فرحة بأنك لم تنسها.(607/48)
وبعد فأني أسرد عليك شيئاً عن حال أسرتي كما طلبت، وعلى الأخص حال ولديّ؛ إنهما والحمد لله بخير، وإننا في أيام الحرب هذه لنشكر الله على أنهما لا يزالان كذلك. وإنه ليؤسفني أنك غائباً حينما زار أصغر الأخوين المدرسة التوفيقية سائلاً عنك وكذلك يشغر هو بالأسف؛ ولم يكن لديه متسع ليعاود الزيارة كما ذكرت أنت مع أنه رغب في ذلك؛ كان جيمس أصغرهما هو الذي زار المدرسة لا وليم؛ وهو الآن (ليفتنانت كيرنل) في فرقة المدفعية وهو يحارب على رأس رجاله في جبال إيطاليا. ولقد كان وليم على مقربة من القاهرة حديثاً إذ كان يصحب مستر ونستون تشرشل أثناء المؤتمر الذي عقد في ديسمبر الماضي في مينا هوس؛ ولم يكن يستطيع أن يغيب طرفة عين عن مكانه قرب الأهرام، وعلى ذلك فلم يتمكن من زيارة المدرسة كما كان يحب أن يفعل. ولقد رقي الآن إلى مرتبة نائب مارشال الطيران وسيذهب لقيادة قوة الطيران الملكية في جبل طارق وهو عمل شائق يتطلع إليه في شغف، وفد يكون ممكناً أن يطير من جبل طارق يوماً ما إلى القاهرة، فإذا تم ذلك فمن المؤكد أنه يحب أن يراك وإنه لذلك سيزور المدرية، وآمل أن تكون وقتئذ حاضراً؛ ولكني لا أستطيع طبعاً أن أذكر متى يفعل ذلك إن كان ثمة ذلك في طوقه. ولوليم الآن طفلان هما حفيداي الحبيبان، بنت في السادسة وصبي في الرابعة، ولقد قضيا هنا عندنا أسبوعين؛ وكان جميلاُ أن نراهما وعلى الأخص ذلك الصبي فقد ولد في بدء الحرب ولم نره قبل اليوم أبداً؛ وهو ولد جميل قوي البنية لن يتعب من اللعب، ولذلك تراني أتعب قبل أن يتعب هو إذا ما لعبنا معاً ولما تنته اللعبة؛ فأن جسمه الصغير أكبر قوة من جسمي الذي هده الكبر.
ليست زوجي على خير ما أحب لها من العافية؛ أما أنا فعلى خير ما أرجو إذا ذكرت إني أدلف إلى الثمانين من عمري؛ فلا زلت أستطيع أن أصعد في تل قريب حيث أطل منه منظر بهيج، وإن كنت بالضرورة لا أستطيع أن أفعل ذلك في مثل ما كنت عله سالفاً من السرعة، كما أني لا أبلغ من التل ما كنت أبلغه من قبل.
أشكرك ثانياً على كتابك الكريم وما جاء فيه من عبارات طيبة، وأرسل إليك أطيب تمنياتي وتشاركني في ذلك زوجتي؛ كما نرسل حبنا ومودتنا لكل من لا يزال يذكرنا وبخاصة أنت والحاج عبد القادر العزيز.(607/49)
المخلص
ج. إليوت
تصويب!!!
ورد في مقال الدكتور البهي في العدد 606 من الرسالة قوله: (ولا نبعد عن الصواب إذا حكمنا على بعض علماء الدين بأنهم لم يفهموا الإسلام إذا جعلوا من قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) والصواب: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم).
(كلية اللغة)
عبد الفضيل يوسف رجب(607/50)
الكتب
المنطق
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
لي صديق من أفاضل العلماء يحب أن يجادلني على الدوام، فنلعب بالمعاني والكلام؛ ومن أساليب جداله قوله (أين المنطق)؟
ومررت منذ أيام بدار الرسالة فأعطاني الأستاذ الزيات كتاباً في المنطق صدر أخيراً لأكتب عنه. فرحبت بالفكرة، وقلت في بالي سأستفيد من هذا الكتاب الحديث فهو آخر ما صدر في هذه الأعوام، ومؤلفه من العلماء المعروفين، وأستطيع بعد ذلك أن أقنع صديقي الفاضل بأسلوب جديد في المنطق، وأعرِّفه ما هو، وأدفعه إلى الاقتناع بالحجة والبرهان:
مؤلف الكتاب الدكتور (جميل صليبا) عضو المجمع العلمي العربي، وعنوانه: (دروس الفلسفة - الجزء الثاني - المنطق) طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1944. ويقع في 440 صفحة من القطع الكبير. أما الجزء الأول من دروس الفلسفة فهو علم النفس طبع عام 1940.
وللمؤلف كتب أخرى عن ابن سينا، وكتاب من أفلاطون إلى ابن سينا، وكتب فلسفية نشرها وعلق عليها، مثل: المنقذ من الضلال للغزالي وابن الطفيل.
ولكني لم أكد أشرع في قراءة كتاب النطق حتى تبين لي أني كنت مسرفاً في الأمل والتفاؤل، لأنني لم أعثر على جديد معروف، وعلى العكس صادفتني أخطاء كثيرة كان ينبغي أن ينجو منها كتاب في المنطق، المفروض فيه أنه يعلمنا كيف نأمن الزلل ونتبع سبيل الصواب.
ونعرض لأول. مسألة قررها المؤلف وهي تعريف المنطق. قال: (فيمكننا أن نعرف المنطق بقولنا: هو علم صور العلوم، أو علم العلوم، أو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده، أو كما قال فلاسفة البور رويال: فن التفكير).
وليس في هذه التعاريف المختلفة تعريف واحد صحيح. التعريف الأول هو علم صور العلوم، ليس صحيحاً لأن المنطق منه الصوري والمادي، والمنطق الصوري لا يتصل بالعلوم بل بالفكر نفسه. وأكبر الظن أن المؤلف أخطأ في ترجمة التعريف المتفق عليه بين(607/51)
العلماء الآن، وهو أن المنطق علم صور التفكير قال ليارد في نفس الصفحة (إن موضوع المنطق تقرير قوانين التفكير في ذاتها بصرف النظر عن الموضوعات التي تنطبق عليها، ثم بيان الطرق المختلفة لتطبيق هذه القوانين، وهاهو الموضوع المزدوج للمنطق).
ويقول الأستاذ جميل صليبا عند الكلام عن موضوع المنطق إنه: (البحث عن العمليات الفكرية والشرائط النظرية التي يتوقف عليها التفكير الصحيح). والبحث عن العمليات الفكرية من خصائص علم النفس لا علم المنطق الذي يبحث عن قوانين الفكر الصورية، لا عن عملية التفكير كيف تقع في الذهن. ويخيل إلينا أن هذا اللبس ناشئ عن ترجمة المصطلحات عن اللغة الأجنبية، وستعرض لهذا الموضوع أي الاصطلاحات التي وردت في هذا الكتاب في مقال آخر. والعمليات الفكرية هي أما قوانين الفكر فهي
والتعريف الثاني علم العلوم، لا يفيد شيئاً، فهو كقولك الأسد ملك الحيوان. ولماذا يكون المنطق علم العلوم؟ لماذا لا تكون الرياضة مثلاً؟
والتعريف الثالث (العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده). ولعل صوابها وفاسده بدلاً من أو فاسده، إذ أن المنطق يبحث في الصحيح والفاسد على السواء لبيان وجه الصواب منهما.
والبحث في الصحيح والفاسد في الفكر ثمرة من ثمار المنطق تأتي بعد تطبيقه، أو هي غاية من غاياته، ولا تدخل في تعريفه أو ماهيته.
ولعل المؤلف قد تأثر بالتعاريف التي أوردها العرب في كتبهم ولم يعن بمناقشتها. لهذا نذكر بعض تعريفات العرب للمنطق ثم نذكر ملاحظاتنا عنها.
قال صاحب البصائر النصيرية (فإذا انقسمت الاعتقادات الحاصلة للأكثر في مبدأ الأمر إلى حق وباطل، وتصرفاتهم فيها إلى صحيح وفاسد، دعت الحاجة إلى إعداد قانون صناعي عاصم الذهن عن الزلل، مميز الصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته. وهذا هو المنطق).
وجاء في لباب الإشارات لأبن سينا شرح الرازي (الفكر ترتيب أمور معلومة ليتأدي منها إلى أن يصير المجهول معلوماً، وذلك الترتيب قد يكون صواباً وقد لا يكون، والتمييز(607/52)
بينهما ليس بيديهي، فلابد من قانون يفيد ذلك التمييز، وهو المنطق).
ويعرف الفارابي المنطق في كتابه إحصاء العلوم: (فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المنقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات).
ونلاحظ على التعاريف أنها تجعل المنطق ميزاناً للتمييز بين الصحيح والفاسد من الفكر وتجنب الزلل.
ونلاحظ ثانياً أنها تجعل المنطق آلة لغيره من العلوم.
وكلا الاتجاهين لا يجعل المنطق علماً بل فناً.
قال صاحب الرسالة الشمسية (المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) وعلق القطب الرازي على هذا التعريف بقوله: (والآلية للمنطق ليست له في نفسه، بل بالقياس إلى غيره من العلوم الحمية، ولأنه تعريف بالغاية. . .)
والمناطقة في أوربا في عصر النهضة وما بعده أخذوا بوجهة نظر العرب وجعلوا المنطق فناً لا علماً. والكتاب الصادر عن بور رويال عنوانه (المنطق أو فن التفكير) وهذا واضح الدلالة في التصريح بأن المنطق فن وليس علماً.
ولكن المناطقة المحدثين نظروا إلى قوانين الفكر في ذاتها، دون نظر إلى فائدتها في كشف العلوم، أو قيمتها في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ولهذا كان المنطق علماً، وألحقوه بالعلوم، وعرفوه بأنه العلم الذي يبحث في قوانين الفكر أو صور التفكير.
وهذا يبين فساد التعريف الرابع الذي أورده المؤلف وهو أن المنطق فن التفكير.
دكتور
أحمد فؤاد الأهواني(607/53)
العدد 608 - بتاريخ: 26 - 02 - 1945(/)
المجامع اللغوية
لصاحب العزة الأستاذ أنطوان الجميل بك
قالوا إن الإنسان حيوان ناطق، أي إنه مالك تلك القوة التي تساعده على التعبير عما يجول في جنانه من الأفكار والمعاني. فكان من البديهي أن يحاول، منذ نشأته الأولى، استنباط خير الوسائل إلى أداء ما يريد التعبير عنه على أكمل وجه، بالإشارة ثم باللسان، أصواتاً متقطعة فألفاظاً منسقة. وكان من الطبيعي كذلك أن يتواضع مع أمثاله على أساليب للتعبير تكفل إتقان أداة التفاهم، أي اللغة، والوصول بها إلى الإعراب عن مختلف المعاني في أدق مقاصدها.
ومن هنا نشأت على توالي الزمن الأندية والمجامع التي تعني باستكمال هذه الأداة، وهي المجامع التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أكاديميا).
وأصل الكلمة، على ما هو معروف، مشتق من اسم (اكاديموس) أحد أبطال الأغارقة. وكان (اكاديموس) هذا يملك على بعد فرسخين من أثينا روضة واسعة الأرجاء كان أفلاطون يختلف إليها فيجتمع تحت ظلال أشجارها الباسقة بتلاميذه ومريديه فيشرح لهم مذهبه الفلسفي. وبعد وفاته ظل هؤلاء يعقدون حلقاتهم للبحث والمدارسة في هذا المكان فعرف باسم (أكاديميا) نسبة إلى صاحبه. وشاعت الكلمة بعد ذلك في البلاد الغربية، مع توسع في مدلولها، فأطلقت على المجامع والأندية الأدبية والعلمية والفنية، بل تناولت المعاهد التي يدرس فيها بعض الفنون كأكاديمية التصوير، أو الغناء، أو الرقص، حتى إن الفرنجة اشتقوا منها صفات وموصوفات وأفعالا، وكثيراً ما استعملت الكلمة في لغاتنا الشرقية نفسها.
وعلى هذا الأساس نشأت أكاديمية البطالمة في الإسكندرية، والأكاديميات العبرية، وأكاديمية شارلمان، وأكاديمية الفريد الكبير في إنجلترا.
أما العرب فقد قامت أسواقهم ومجالسهم - وأشهرها سوق عكاظ ونادي قريش ودار الندوة - مقام هذه الأكاديميات. فكانوا في مجتمعاتهم هذه يتبادلون الأخبار ويتناشدون الأشعار ويبحثون في شؤونهم العامة. وكان للغة نصيب غير قليل من هذا البحث، كما تدل على ذلك حكاية النابغة مع الأعشى والخنساء. ثم صار بلاط الخلفاء في الشام والعراق والأندلس(608/1)
ومصر أشبه شيء بهذه الندوات الأدبية والفنية، كما هو مفصل في كتب الأدب.
أما انتشار هذه المجامع بمعناها الحديث فقد بدأ في عهد النهضة أو البعث، وبخاصة في إيطاليا، فقام في كل مدينة جمعية أكاديمية أو أكثر تضم الصفوة المختارة من المفكرين والباحثين في مختلف الفنون والعلوم.
ولم تلبث فرنسا أن حذت حذو إيطاليا فنشأت فيها مثل هذه الجمعيات وازدهرت.
وفي غضون ذلك أخذت اللغات الأوربية تتطور وتصقل بتأثير طبيعة كل إقليم وأخلاق ناسه، وكان لهذه الأكاديميات أثر مذكور في هذا التطور، فامتازت لغة كل قوم بطابع خاص عرفت به، حتى أن كارلوس الخامس المعروف باسم (شارلكان) وهو أول من فاخر بان الشمس لا تغيب عن أملاكه - كان يقول:
(إني إذا خاطبت الله ضارعاً خاطبته بالإسبانية. وإذا خاطبت النساء متحببا خاطبتهن بالإيطالية. وإذا خاطبت جوادي زاجراً خاطبته بالألمانية. وإذا خاطبت الناس عامة خاطبتهم بالفرنسية).
وهو يشير بقوله هذا إلى ما في لغة الإسبانيين من الإجلال والتفخيم، وإلى ما في لغة الإيطاليين من الرقة والعذوبة، والى ما في لغة الألمان من العنف والشدة، والى ما في لغة الفرنسيس من الواضح وحسن البيان.
وهل نغالي إذا قلنا إن هذا العاهل العظيم لو كان يعرف اللغة العربية لغنى بها عن غيرها في مواقفه الأربعة، فقد جمعت فخامة اللفظ وجمال الأسلوب إلى قوة الأداء وفصاحة التعبير.
قلنا إن الأكاديميات انتشرت في عصر النهضة وبعده. وتنوعت أهدافها واختلفت مقاصدها، ولكننا اكتفينا بالإشارة إليها إشارة عابرة لنقف عند مجامع اللغة، ونقارن بين مهمتها ومهمة مجمعنا اللغوي ما دام هذا موضوع حديثنا. ومن خلال هذه المقارنة سنرى وجوه الشبه في الأهداف، وفي الصعوبات المعترضة، وكذلك في ضروب النقد الذي يوجه إلى هذه المجامع.
وأشهر المجامع اللغوية بلا مراء إنها أشهر مؤسسة في تاريخ الأدب، وهي كذلك أقدم المجامع القائمة إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من ثلاثمائة سنة. ذلك أن الوزير الكبير(608/2)
الكردينال ريشليو نهض يعمل على نشر نفوذ فرنسا في أوربا، فأراد أن يدعم عن طريق نشر لغتها وثقافتها ما أحرزته من جاه وسلطان عن طريق انتصارات جيوشها.
وكان في ذلك العهد لفيف من الأدباء يجتمعون للنظر في منتجات القرائح وفي الموضوعات الأدبية. فخطر للوزير أن يجعل لهذه الاجتماعات صفة رسمية تعلي شأن الأدب في الدولة وترفع مكانته في أوربا، فاستصدر في شهر يناير من سنة 1635 أمراً ملكيا بإنشاء (الأكاديمية الفرنسية) ولكن السياسة عادة لا تحب الأدب، فخشي البرلمان أن يطغي نفوذ هذه الندوة الأدبية على نفوذه وسلطانه فلم يقر إنشاءها إلا بعد سنتين
أنشأ ريشليو هذا المجمع فكان موضع عنايته. وظل أسمه مقرونا به حتى قيل إن إنشاء الأكاديمية الفرنسية كاف وحده لتخليد اسم هذا الوزير الخطير. وفي سنة 1672 أصبح هذا المجمع في كنف الملك لويس الرابع عشر فشمله برعايته وأغدق عليه من نعمه الشيء الكثير.
ومضت (الأكاديمية) تعمل قرابة قرن ونصف قرن إلى أن قامت الثورة الفرنسية الكبرى تحارب طبقة الأرستقراطيين أو الأشراف، فألغت في شهر أغسطس سنة 1793 (الأكاديمية) لأنها كانت تمثل أرستقراطية الفكر. ولكنها ما لبثت أن عادت بعد سنتين فأقرت وجودها. وظل هذا المجمع بين مد وجزر إلى أن أصبح منذ سنة 1832 إحدى الهيئات الخمس التي تألف منها المعهد العام ' وهي الأكاديمية الفرنسية، وأكاديمية الفنون الجميلة، وأكاديمية النقوش والآداب، وأكاديمية العلوم، وأكاديمية العلوم الفلسفية والسياسية.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أن في أضابير وزارة المعارف عندنا مشروعا بإنشاء مثل هذا المعهد العام في مصر على أن يؤلف من خمس شعب هي: شعبة العلوم، وشعبة الطب، وشعبة الآداب، وشعبة الفنون، وشعبة العلوم السياسية والاقتصادية، إلى جانب مجمعنا اللغوي. ولعل زميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، وقد كان له اليد الطولي في إعداد هذا المشروع، سيحدثنا عنه الحديث الوافي في الوقت المناسب
عرضنا فيما تقدم موجزاً لتاريخ الأكاديمية الفرنسية وكان عدد أعضائها ولا يزال أربعين عضواً يسمون (الأربعين الخالدين) لا لأن آثار كل منهم كفيلة بتخليده، بل لأنهم كلما مات منهم واحد حل محله آخر. ولعل كلمة (الإبدال) العربية تؤدي مثل هذا المعنى. فقد جاء في(608/3)
لسان العرب: الإبدال قوم من الصالحين (ولنفرض رجال الأدب من أهل الصلاح) أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر. وجاء في اللسان أيضا: الإبدال الأولياء والعباد، سموا بذلك لأنهم كلما مات منهم واحد أبدل بآخر.
أما أهداف الأكاديمية الفرنسية فقد حددتها المواد 24 و25 و26 من الأمر الصادر بإنشائها، وتلخص في العمل على تطهير اللغة واستكمالها وتركيز قواعدها. وكان المفروض أن يحقق ذلك بتأليف المعجم لتحديد الألفاظ، وكتاب النحو لتركيز القواعد، وعلم العروض لميزان الشعر، وعلم البلاغة لأحكام الكلام.
وهذه الأغراض تكاد تكون وأغراض مجمعنا واحدة فقد جاء في المادة الثانية من المرسوم الملكي الصادر بإنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية ما نصه:
(أغراض المجمع هي:
(أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو في تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق، ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب.
(ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وبغير مدلولاتها.
(ج) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية.
(د) أن يبحث كل ماله شان في تقدم اللغة العربية، مما يعهد إليه فيه بقرار من وزير المعارف العمومية)
على أن المجمع الفرنسي لم يلبث أن قصر همه على إعداد المعجم، ثم على دراسة المنتجات الأدبية لمنح الجوائز للمتفوقين من الأدباء. ومع ذلك فان تصنيف هذا القاموس سار ببطيء قد نجد فيه بعض العذر عن التأخير في إنجاز قاموس مجمعنا. فان الطبعة الأولى منه لم تصدر إلا في سنة 1696، أي بعد ستين سنة من إنشاء الأكاديمية. ثم صدرت منه أربع طبعات في القرن الثامن عشر، أما الطبعة الثامنة والأخيرة فقد صدرت منذ عشر سنوات، أي أن الأكاديمية أصدرت ثماني طبعات من معجمها في ثلاثمائة سنة(608/4)
من حياتها.
وقد رجعت إلى مقدمة هذا المعجم فوجدت وجوه الشبه كثيرة بين عملهم وعملنا، وبخاصة بين العقبات التي اعترضتهم والتي تعترضنا. ففي الطبعة الأولى التي صدرت منذ 250 سنة قررت الأكاديمية أن تقصي من قاموسها المصطلحات العلمية والفنية إلا ما كان منها كثير الذيوع شائع الاستعمال. ولكن استعمال هذه المصطلحات ما لبث أن ذاع ذيوعا كبيراً بازدياد تذوق العلوم والفنون في القرن الثامن عشر، فلم ير المجمع مفراً من أن يفسح صفحات قاموسه في طبعته الرابعة (سنة 1762) للمصطلحات الأولية في العلوم والفنون والمهن مما يحتاج إليه الكاتب ويجده القارئ حتى في المصنفات التي لا تتناول هذه الموضوعات بالذات. ثم جاء في تصدير الطبعة السابعة (سنة 1877) أن الأكاديمية ارتضت أكثر من ألفي كلمة علمية وفنية لشدة الحاجة إليها.
ولما شرعت تعد الطبعة الأخيرة التي صدرت منذ عشر سنوات كانت الكلمات العلمية والفنية قد طغت على اللغة، فأن العلوم القديمة في عالم البخار والكهرباء والآليات قد تجددت معالمها وتعددت فروعها، وظهرت علوم ومخترعات جديدة، كما حدثت انقلابات كبيرة في عالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع مما دعا إلى استنباط عدد كبير جداً من المصطلحات ذاعت وشاعت وعم استعمالها بين جميع الطبقات بفضل المدرسة والصحافة. ولاحظت الأكاديمية أن من هذه المصطلحات ما هو ابن يومه ومصيره إلى الزوال، ومنها ما هو مضطرب الاشتقاق، وليد الارتجال. فلم يكن من التمحيص والتروي طويلا قبل إقراره، شكلا وصيغة، لإدماجه في قاموس المجمع.
وبعد تخير هذه الألفاظ وصقلها وتهذيبها، واجه المجمع صعوبة أخرى، كالتي نواجهها في مجمعنا اللغوي، وهي وضع التعريف الجامع المانع، للكلمة المختارة. فكانت الأكاديمية كثيراً ما تحتاج في كل ذلك إلى الاستعانة بالأكاديميات الأخرى - كأكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون وأكاديمية الطب. أو إلى الاسترشاد بآراء الأخصائيين والخبراء في المادة المبحوثة كما نفعل هنا
ولم تقتصر مهمة التحديد والتعريف على المصطلحات الجديدة بل امتدت إلى كثير من الكلمات القديمة التي كان تحديدها ناقصا أو غامضا أو التي تطور مدلولها مع الزمن.(608/5)
وعملت الأكاديمية كذلك على حذف الكلمات المماتة أو المهجورة، فأزالتها من قاموسها، وأحالتها إلى معجم اللغة التاريخي، كما أحالت إلى المعجمات الخاصة أسماء الأعلام والمسميات الجغرافية وما إلى ذلك مما لا يتسع له معجم اللغة.
وقد عرضت الأكاديمية الفرنسية كذلك لما نعرض له الآن من تبسيط قواعد النحو وتسهيل القراءة. وانتهى بها الأمر أن أعلنت أنها لا تدعى التشريع في القواعد، ولا الوصاية أو القوامة على الإملاء. بل اكتفت بما قام به أحد أعضائها في الطبعة الرابع من قاموسها منذ نحو قرنين من إدخال تعديل على كتابة عدد كبير من الكلمات كانت تدخل في هجائها أحرف لا فائدة منها سوى الدلالة على أصلها اللاتيني أو اليوناني. وأبى المجمع في الطبعات التالية أن يسير إلى أبعد من ذلك، مكتفيا بصورة الإملاء التي أقرها الاستعمال الطويل والتي طبعت بها ألوف المصنفات المنتشرة في العالم، ورأت أن تغيير هذه الصورة في الكتابة يدخل البلبلة والاضطراب في الأفكار مقابل فائدة ضئيلة لا يؤبه لها.
أما نحن فلم نصل إلى هذه المرحلة التي وصلوا أليها، وقد نكون في المرحلة التي كانوا فيها منذ قرنين فنحتاج إلى شيء من التبسيط في القواعد والى بعض التعديل في كتابة الكلمات. دون مساس بالجوهر.
ومن ينعم النظر في تنوع الصعوبات عند إعداد القاموس الوافي يجد من التجني على المجامع اللغوية اتهامها بالبطيء في عملها. وإذا كان المجمع الفرنسي قد سلخ ثلاثمائة من السنين للتغلب على جانب من هذه الصعوبات فان لمجمعنا، وهو لا يزال في عهد الطفولة بعد عشر سنوات فقط من إنشائه، بعض العذر، بل كل العذر، في عدم تحقيق جميع الأغراض التي أنشئ من أجلها، لا سيما وأن الصعوبات التي واجهت غيرنا تباعا قد واجهتنا مرة واحدة مجتمعة.
أيها السادة: قلنا إن المجمع الفرنسي هو بكر المجامع اللغوية القائمة، وعلى منواله نسجت المجامع التي أنشئت فيما بعد في البلاد الأخرى، لذلك نستطيع بعد أن تبسطنا في سرد تاريخه وبيان مهمته أن نمر سراعا بسائر المجامع.
ففي سنة 1700 أنشأ فردريك الأول مجمع العلوم في برلين بإيعاز من الفيلسوف ليبنز، وقد حول فردريك الثاني الكبير هذا المجمع إلى (الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب) وكان(608/6)
رئيسها في أول أمرها العالم الفرنسي موبرتوي. وظلت تقاريرها تطبع بالفرنسية من سنة 1746 إلى سنة 1804. وكان لهذا المجمع فيما بعد أثر كبير في ازدهار العلم الألماني.
وأنشئت أكاديمية مدريد في إسبانيا سنة 1713 برعاية الملك فيليب الخامس، فوجهت همها إلى وضع معجم وأجرومية أصبحا مرجعين بل حجتين في اللغة في إسبانيا والجمهوريات اللاتينية بأمريكا الجنوبية.
وفي سنة 1772 أنشئت في بلجيكا الأكاديمية الملكية وأعيد تنظيمها في سنة 1845 فقسمت ثلاثة أقسام: قسم الآداب، وقسم الفنون، وقسم العلوم. وكان معظم أعضائها من الفلاسفة والمؤرخين واللغويين والقانونيين، وقل فيها الشعراء والأدباء. فرأى القوم حاجتهم إلى إنشاء أكاديمية أخرى فأنشئت الأكاديمية الملكية للغة الفرنسية وأدبها في سنة 1920.
وإذا كانت الأكاديميات قد نشأت في مدن إيطاليا منذ نحو أربعمائة سنة فأن الأكاديمية الكبرى لم تنشأ في روما إلا في سنة 1926 وتم تنظيمها في سنة 1929 واشتملت على أربع شعب: العلوم الطبيعية والرياضية، والآداب، والعلوم الفلسفية والتاريخية، والفنون.
أما الشعوب ألانجلو سكسونية من إنجليز وأمريكان فلم يعنوا بالمجامع اللغوية عنايتهم بأندية البحوث التاريخية والعلمية والفلسفية، فالأكاديمية البريطانية والجمعية الملكية أو أكاديمية لندن ليستا بالمجامع اللغوية بالمعنى الذي نقصده، فان القوم رأوا تبسيط لغتهم ما استطاعوا ليعمموا استعمالها، حتى اهتدوا أخيراً إلى لغة مبسطة لا يزيد عدد كلماتها على 850 كلمة من الموصوفات والصفات والأفعال والحروف التي يحتاج إليها الإنسان في الكلام.
أما في الشرق. فقد ألف رهط الأدباء في العواصم العربية جمعيات أدبية لغوية كثيرة ولكنها لم تكن لتعمر طويلا لأن الحكومات لم تكن تؤيدها، بل كثيراً ما كانت تناهضها، إلى أن أنشئ المجمع اللغوي في دمشق منذ ربع قرن، وقد أدى للغة خدمات تذكر له بالشكر.
ويسرنا أن نحي هنا رئيسه الأستاذ محمد كرد علي ووكيله الأستاذ عبد القادر المغربي، زميلينا في المجمع المصري.
أيها السادة: وقفت بكم طويلا عند المجمع الفرنسي لأنه أقدم المجامع اللغوية وأشهرها، فاسمحوا لي أن أقف بكم وقفة أخرى عند المجمع الروسي، فهو أحدث المجامع وأكثرها(608/7)
اختلافا في تأليفه، وأهدافه، ونحن اقل معرفة به منا بغيره.
كان بطرس الأكبر قد أنشأ في بطرسبورج سنة 1725 أكاديمية للعلوم. ثم تفرعت إلى شعب على غرار شعب الأنستيتو الفرنسي. ولكن نظام هذه الأكاديمية قد قلب رأسا على عقب في روسيا السوفيتية، حيث أصبحت الأكاديمية العلمية بمثابة هيئة أركان الحرب في معسكر الفلم الروسي، وأصبح لها الشأن الأول في نهضة البلاد. وفي سنة 1941 قبيل اشتراك روسيا في الحرب القائمة كان هذا المجمع مؤلفا من 76 معهدا و11 معملا للاختبارات العلمية، و42 محطة للتجارب و6 مراصد و24 متحفا. ويبلغ عدد الأعضاء الآن 150 عضواً، وعدد الأعضاء المراسلين 230 وهناك 4700 أخصائي يساعدون في الشؤون العلمية والتطبيقية، وقد نشر المجمع في سنة 1941 من التقارير والنشرات الدورية ما يزيد على عشرة آلاف صفحة. وهذه الأكاديمية مؤلفة من ثماني شعب، وهي شعبة الطبيعيات والرياضيات، وعلوم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض والجغرافية، والعلوم البيولوجية والعلوم التطبيقية، والتاريخ والفلسفة، والاقتصاد والقانون، والأب واللغات. ويتبع كل شعبة عدد من المعاهد والمعامل والمتحف.
أما شعبة الأدب واللغات فتشتمل فيما تشتمل عليه على معهد اكتسب أخيراً أهمية خاصة وهو معهد الأبحاث الشرقية ورئيسه العلامة ستروف من علماء الآثار المصرية. ومن بين أعضائه البارزين المستشرق كراشكوفسكي الذي تخصص بالأدب العربي الحديث، وهو من أعضاء مجمع دمشق، وقد ترجم إلى الروسية بضعة مؤلفات لكتابنا المعاصرين منها كتاب (الأيام) لزميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، كما أشرف على نشر مؤلفات ابن فضلان التي تحتوي على معلومات ثمينة عن أقدم عهود التاريخ الروسي. وفي هذا المعهد أيضاً يعمل البحاثة أرنستد الأخصائي في اللغة القبطية. وقد أعد للنشر مخطوطات بهذه اللغة على جانب من الأهمية إذ تبحث في تطور مصر الاقتصادي في القرون الوسطى وهي تكاد تكون فريدة في بابها.
وفي هذا المعهد مجموعة ثمينة من المخطوطات الشرقية من عربية وقبطية وإيرانية وصينية. كما أن فيه مكتبة شرقية ضخمة تعد من أغنى مكتبات العالم. وليست الدروس الشرقية محصورة في معهد الأدب، فإن لها كذلك نصيبا من أعمال معهد اللغة والفكر ومعهد(608/8)
الأدب. وتدرس لغات الشعوب الشرقية الداخلة في اتحاد الجمهوريات السوفيتية في معاهد أرمينيا وجورجيا والتركمان. أيها السادة - قد يكون من الطريف، ونحن نعرض وجوه الشبه بين مجامعهم ومجمعنا، أن نورد بعض ما وجه إلى هذه المجامع من سهام التهكم والنقد البريء وغير البريء.
فهذا الشاعر الفرنسي بيرون لم يتمكن من خول الأكاديمية فأرسل إليها يوصيها بان تكتب على ضريحه: (هنا يرقد بيرون وهو لم يكن شيئا حتى ولا عضوا في الأكاديمية) وكان يقول عن الأربعين الخالدين: (هم أربعون ولكن عقولهم عقول أربعة).
قال فولتير، في أسلوبه اللاذع، يحدد الأكاديمية: (هي هيئة يدخلها أصحاب الألقاب وكبار الموظفين ورجال الدين والقانون والأطباء والمهندسون وأحيانا رجال القلم). وهو يشير في قوله هذا إلى بعض أعلام الأدب الذين لم تفتح الأكاديمية لهم أبوابها من أمثال موليير وغيره. ولكن الأكاديمية عوضت موليير تمثالا بعد وفاته في قاعة جلساتها وكتبت تحته: (لم ينقص مجده شيء ولكنه هو كان ينقص مجدنا). وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم).
وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم)
وقال آخر (هي جمعيات هازلة يحاول أعضاؤها أن يظهروا بمظهر الجد).
ولكن، مهما يقولوا ويتهكموا وينتقدوا، ما فتئ مطمح كل كاتب وكل عالم وكل باحث في البلاد الراقية الوصول إلى عضوية هذه المجامع التي يعتقد الكثيرون أن الكفاية والعقل يقدمان فيها على الثروة وشرف الأصل. وقد قال الفيلسون رينان في ذلك: (إن صوت العلم قد يكون أحيانا ضعيفا تجاه الجرأة والدجل، ولكن هذا الصوت متى خفت ضجيج الشارع يستمر مسموعا ولا يسمع غيره. لذلك ومهما تشتد الحملات على المجامع العلمية ستكون الغلبة دائما في النهاية لهذه المجامع لأنها الحارس الأمين على الأساليب الصحيحة، وإذا كانت محترمة في نظر عدد قليل، فان هذا العدد القليل هو على حق. ولا يبقى إلا الحق).
وتعرفون حكاية (بوانكاره) وقد يكون فيها أسطع دليل على مكانة هذه المجامع. وصل هذا الرجل العبقري إلى رياسة الجمهورية وظل مع ذلك عضوا في الأكاديمية، لا تشغله مهام(608/9)
الدولة عن حضور معظم جلسات المجمع، بل كان يشترك في التصويت عند انتخاب عضو جديد. وحدث أكثر من مرة أن فاز بالانتخاب من لم يكن قد أعطاه صوته وكان يوقع بصفة كونه رئيسا للدولة مرسوم تعيين الفائز وإن لم يكن مرشحه.
وعندما زار بوانكاره إنجلترا في شهر يونيو سنة 1913 وقف ملك الإنجليز وهو ملك يستطيع أن يقول كما قال شارلكان إن الشمس لا تغيب عن أملاكه - وقف يرحب بضيفه رئيس الجمهورية الحليفة فقال:
(إني سعيد بأن أرى في ضيافتي رجلا ممتازا بخدمه الجليلة، ذا شهرة بعيدة ليس في عالم السياسة فحسب، بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي منذ ثلاثة قرون موضع فخر لفرنسا تحسدها عليه أوربا جمعاء).
أيها السادة - من الأقوال المأثورة عند الفرنجة أن لا شيء ادعى إلى الملل والسأم من الخطب الأكاديمية. وكان نصيبي من هذه الحفلة خطبة أكاديمية في أكاديمية عن الأكاديميات، فإذا كنت قد أمللت وأسأمت فأرجو عذرا.
أنطون الجميل(608/10)
أبو العلاء المعري
التفاؤل والأثرية عند الشيخ
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 5 -
النسل، الزواج
والنسل أفضل ما فعَلتَ بها ... فإذا سعيت له فعن عقل
إذا شئت يوماً أن تقارن حرة ... من الناس فاختر قومها ونجارها
إذا خطب الحسناء كهل وناشئ ... فإن الصبا فيها شفيع مشفع
ولا يُزهدنها عُدمه، إن مُده ... لأبرك منصاع الكبير وأنفع
وما لأخي الستين قدرة سائر ... إليها ولكن عجزه ليس يُدفع
ويُخفض في كل المواطن ذمه ... وإن كان يُدني في المحل ويُرفع
إذا ما ابن ستين ضم الكعاب ... إليه فقد حلت البهله
هو الشيخ لم يرضه أهله ... ولم يُرض في فعله أهله
فلا يتزوج أخو الأربعين ... إلا مجربة كهله
رأى الشيب في عارضيه المسن ... فنعم القرين له الشهله
وواحدة كفتك فلا تجاوز ... إلى أخرى تجئ بمؤلمات
ولا يتأهلن شيخ مُقل ... بمُعصرة من المتنعمات
فإن الفقر عيب، إن أضيفت ... إليه السن جاء بمؤلمات
إذا خطب الزهراء شيخ له غنى ... وناشئ عُدْم آثرت من تعانق
إذا كانت لك امرأة عجوز ... فلا تأخذ بها أبداً كعابا
فإن كانت أقل بهاء وجه ... فأجدر أن تكون أقل عابا
وحسن الشمس في الأيام باق ... وإن مَجَت من الكبر اللعابا
ومن جمع الضرات يطلب لذة ... فقد بات بالإضرار غير سديد
معاملة الصغار(608/11)
ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا ... غدونا بالجميل معاملينا
فأطفال الأكابر إن يوقوا ... يُروا يوماً رجالاً كاملينا
لا تزدرُن صغاراً في ملاعبهم ... فجائز أن يُروا سادات أقوام
وأكرموا الطفل عن نكر يقال له ... فإن يعش يُدع كهلا بعد أعوام
. . . وبالوالدين إحسانا
العيش ماض فأكرم والديك به ... والأم أولى بإكرام وإحسان
وحسبها الحمل والإرضاع تُدمنه ... أمران بالفضل نالا كل إنسان
تحملْ عن أبيك الثقل يوماً ... فإن الشيخ قد ضعفت قواه
أني بك عن قضاه لم ترده ... وآثر أن تفوز بما حواه
حفظ الصحة
دارِ نفسك وإن بلغت سن الهرم كما يداري الوليد.
إفراط الشبع آفة على كل حيوان:
سنُّك خير لك من درة ... زهراء تعشي أعين الناظرين
عَجبت للضارب في غمرة ... لم يطع الناهين والآمرين
يكسر باللؤلؤ من جهله ... خُشْباً عتت عن أنمل الكاسرين
تجزأُ ولا تجعل لحتفك علة ... بإكثار طعم، إن ذلك لُوم
لا ترُبلنَّ وكن رئبال مأسدة ... إن الرشاد ينافي البادن الرَّبلا
الشبيبة
إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني ... ولو نُص لي بين النجوم خباء
إن الشبيبة نار، إن أردت بها ... أمراً فبادره، إن الدهر مطفئها
السفر
لو ملكت الرحيل جولت في الآفاق ... حتى يملني التجويل
أدب السلوك(608/12)
الكتاب المختوم يشتمل على سر مكتوم، فإن فضضته ولم يأذن من أمنك عليه فقد أوضعت في سبيل الخائنين
لا يبصر القوم في مغناك غسل يد ... على الطعام إلى أن يرفع السور
ولا يكن ذاك إلا بعد كفهم ... أكفهم، ويسير الفعل ميسور
فإن تقريب خدام الفتى حُرضا ... والضيف يأكل رأى منه مخسور
لكل زمان ما يشاكله
أعدد لكل زمان ما يشاكله ... إن البراقع يُستثبتن بالشُمُ
فإن ضربت بسيف الهند في ومَد ... فسيف إفرنجة المخبوء للشم
المرء شبه زمانه
وإن الفتى فيما أرى بزمانه ... لأشبه منه شيمة بأبيه
الناس
والناس بالناس من حَضْر وبادية ... بعض لبعض - وإن لم يشعروا خدم -
إن خالفوك ولم يجرر خلافهم ... شرا فلا بأس؛ إن الناس أخياف
قال الخليفة العظيم عمر:
(أعقل الناس أعذرهم للناس).
وقال رشيد بن خليفة: (اشكر المحسن ومن لا يسئ، واعذر الناس فيما يظهر منهم ولا تلمهم، فلكل من الموجودات طبع خاص)
ومن عرف الناس وتأريخهم ووراثتهم القريبة والبعيدة ' , ومنشأ ما يسمى (رذائل) وأسبابها عذر ولم يستعجب مما يشاهد. يقول الشيخ:
يلقاك بالماء النمير الفتى ... وفي ضمير النفس نار تقد
يعطيك لفظا لينا مسه ... ومثل حد السيف ما يعتقد
وهذان البيتان إن دل ظاهرهما على معايب في الناس ففيهما ما ينبئ بارتقاء لهم عجيب، فقد أمسى هذا الفتى الذئب الجشع الحاسد المحتقد سافك دم أخيه من أجل ثعلب ظفر به أو يربوع، ومن أجل مستنقع يرده أو مطيطة - قد أمسى هذا الفتى وارث تلك الغرائز يلقاك(608/13)
أحسن لقاء، ويخاطبك خطابا جميلا، وفي الضمير والمعتقد ما أبان الشيخ. فإذا طال تكلفه ما يتكلفه واستمر اعتياده ما يعتاده (وعادة المرء تدعى طبعه الثاني) كما يقول شيخنا حاكي بعد أدهار باطنه ظاهره، أشبه جوانيه برانيه، وحسبك منه اليوم ذاك اللقاء وذاك العطاء، وان كان في ضمير النفس نار تقد، وساء ما يعتقد.
. . . كذلك سخرناها لكم
قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه (طريق الهجرتين وباب السعادتين): (. . . ولما انتهى أبو عيسى الوراق إلى حيث انتهت إليه أرباب المقالات طاش عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه صنف كتابا سماه (النوح على البهائم) فأقام عليها المآتم، وناح وباح بالزندقة الصراح)، وقال العلامة الفيومي في (المصباح): (. . . ويحرمون - يعني البراهمة - لحوم الحيوان، ويستدلون بدليل عقلي فيقولون: حيوان برئ من الذنب والعدوان فإيلامه ظلم، خارج عن الحكمة. وأجيب بظهور الحكمة؛ وهو أنه استسخر للإنسان تشريفا له عليه، وإكراما له كما استسخر النبات للحيوان تشريفا للحيوان عليه. وأيضا فلو ترك حتى يموت حتف أنفه مع كثرة تناسله أدى إلى امتلاء الأفنية والرحاب وغالب المواضع، فيتغير منه الهواء، ويكثر به الفناء، فيجوز ذبحه تحصيلا للمصلحة، وهي تقوية بدن الإنسان، ودفعا لهذه المفسدة العظيمة. وإذا ظهرت الحكمة انتفى القول بالظلم والعبث).
وشيخنا المعري يقول داعيا إلى الارتفاق به:
يأكل أطايب الأعفاء، من سمح بالرسل في أيام السفاء، ويلج الغمار باذل السمار، وتثنى الضيفان، على الجائد بملء الجفان. لا يثني عليك فصيل بالأصيل. ومن أخضرت شربته بالواو أكمات مربده بالتمر الجلاد. ومن ركب العامة في طلب الصيد كانت بطون عياله قبوراً للحيتان. ومن تتبع بقوسه موارد الوحش كثر في منزله الوشيق.
وقال (الوليد): النبع ليس بمثمر ... وأخطأ، سرب الوحش من ثمر النبع
جِلَّة ابلك وعشارها. أروت ضيفك غزارها، وملأت جفانك وذارها، لن تبكيك بكارها إذا السنة كثر قطارها، وذبح في الروضة فارها، واعتم بالروضة بهارها. سالم ابنك شرارها.
الأثرية '(608/14)
إن تُرد أن تخص حراً من الناس ... بخير فخص نفسك قبله
إذا لم يكن لي بالشقيقة منزل ... فلا ظهرت عزَّاؤها والشقائق
إذا كان إكرامي صديقي واجباً ... فإكرام نفسي - لا محالة - أوجب
ومن أطال خلاجا في مودته ... فهجره لك خير من تلافيه
إذا ولى صديقك فول عنه، فإنما ينزل بالوادي ذي الشجر والروض العميم، ويقدح بزند العفار ما دام وأرى النار، فإذا خبت ناره بطل اختياره. وإذا السقاء لم يمسك الماء فهو زيادة في مشقة المسافر، لا تأو لمفسد تأو، فإن الذيب جدير بالتعذيب.
آخ في الله الأخوان، ولا تقل لبعيرك: أخ في دار الهوان.
ادفع الشر إذا جاء بشر ... وتواضع إنما أنت بشر
بأي لسان ذامني متجاهل ... عليّ، وخفق الريح في ثناء
تكلم بالقول المضلل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء
إذا ما قلت نثراً أو نظيما ... تتبع سارقو الألفاظ لفظي
كأني إذا طلت الزمان وأهله ... رجعت وعندي للأنام طوائل
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم ... بإخفاء شمس ضوءها متكامل
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل
فلو بان عضْدي ما تأسف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل
وكم من طالب أمدي سيلقي ... دوين مكانَي السبع الشدادا
ويطعن في علاي وإن شسعي ... ليأنف أن يكون له نجادا
ويظهر لي مودته مقالا ... ويبغضني ضميراً واعتقاداً
لي الشرف الذي يطأ الثريا ... مع الفضل الذي بهر العبادا
وأحسب أن قلبي لو عصاني ... فعاود ما وجدت له افتقادا
تعاَطوا مكاني وقد فتهم ... فما أدركوا غير لمح البصر
وقد نبحوني وما هجتهم ... كما يلبح الكلب ضوء القمر(608/15)
المذاهب الأدبية
للدكتور محمد مندور
في مصر الآن اتجاه عام نحو التفكير المذهبي، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الأدب. وهو اتجاه يبشر بالخير، أو على الأصح بالرغبة في الخير. وذلك لأنني لم أستطيع بعد أن أطمئن إلى أساس هذا الاتجاه. ومصدر عدم الاطمئنان هو أنني لا أكاد بعد أتبين وجود تفكير فلسفي يتشعب مذاهب مختلفة، فتستند إليه مذاهبنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية. ونقصد بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي التفكير الإنساني الذي يتناول ملكات الفرد وآماله وآلامه وكافة روابطه بالحياة والمجتمع؛ وأما ما وراء الطبيعة والجدليات والمنطقيات، فذلك ما لي أمل تكرار القول في جدبه وعدم غنائه، لأنها لا تعدو أن تكون رياضة عقلية.
لسنا نملك إذن حتى اليوم فلسفات إنسانية متميزة، وهذا هو السر في أن تفكيرنا المذهبي في نواحي النشاط الفكري المختلفة لا يزال تقليداً للغرب لا يقوم على أصالة نفسية حقة، وأوضح ما تكون هذه الحقيقة في فهمنا لمعنى المذاهب الأدبية. فنحن نظنها طرقاً فنية يقصد إليها الكاتبون قصداً، فإذا بأحدهم كلاسيكي والآخر رومانتيكي. وإذا بهذا واقعي وذاك مثالي، عقلي أو عاطفي، اجتماعي أو فني، وما إلى ذلك من المذاهب والاتجاهات، وهذا فهم خاطئ؛ فمذاهب الأدب - كما يشهد التاريخ - قد كانت دائماً حالات نفسية عامة خلقتها الحوادث، وكيفتها الظروف، وإن لم يمنع ذلك الاتجاه العام من أن تتميز بداخله نفوس الشعراء والكتاب بسماتها الخاصة.
وفي تاريخ الأدب العربي ذاته أمثلة لتلك الحقيقة. فالشعر العاطفي، وبخاصة الغزل، كما ظهر في الحجاز في صدر العصر الأموي، والشعر العقلي، وبخاصة الهجاء، كما ظهر في العراق في ذلك العصر أيضا، والشعر الفني المصنوع، وبخاصة المدح، كما ظهر في الشام عندئذ، حيث كان مقر الملك، ثم تيار الشعر الإباحي، شعر الخمر والغزل بالمذكر، والتكالب على اللذات، كما عرفه العصر العباسي الأول، والشعر الفلسفي الذي بلغ قمته عند أبي العلاء، كل هذه الاتجاهات كانت في حقيقة أمرها حالات نفسية. وما أحب أن أعيد القول في انصراف أهل الحجاز عن الكفاح في الحياة والمناضلة عن مجد الإسلام(608/16)
عندما رأوا القيادة تنتقل إلى غيرهم، وإذا بهؤلاء الأشراف الذين رقق الإسلام قلوبهم يتغزلون غزلهم الساحر الجميل. وكلنا يذكر روح العصبية القبلية التي لم يستطع الإسلام أن يميتها في العراق، وما كان لتلك الحالة النفسية من تأثير في تأجيج الهجاء بين القبائل والأفراد. وقد عمرت أشعارها بملاحاة القيم والأنساب. وأما في العصر العباسي فتأثير الحضارة الفارسية بلذاتها وأنواع بذخها المختلفة. أوضح من أن يذكر في خلق الحالة النفسية التي صدر عنها الشعر الإباحي. وفي فلسفة الهنود واليونان، وفي ظروف الحياة السياسية والاجتماعية في العصر العلائي وما سبقه بقليل ما يوضح اتجاه الشعر نحو الفلسفة بحثا عن حقائق النفس ومصيرها، وآلام الحياة وآمالها. وهكذا جاءت نشأة المذاهب الأدبية عند العرب، أو على الأصح، الاتجاهات الأدبية في شعرهم وليدة لحالات نفسية طبيعية لم تصطنع، ولا قصد إليها، فهي تقوم على أسس نفسية إنسانية لم يكن منها مفر، ولا إلى غيرها معدل. وإن لم يمنع ذلك - ما قلنا - كل شاعر من أن يتميز من غيره بأصالته الخاصة.
والأمر في الأدب الغربي مثله في الأدب العربي، وإن تكن الحقائق هناك أوضح، لأن الأدب الغربي هو الذي عرف - وبخاصة ابتداء من عصر النهضة - المذاهب الأدبية بمعناها الفلسفي الصحيح. وقد صاحب ظهورها وعي نظري بها ومناقشة لأصولها، وتوضيح لمعالمها وقتال دونها: وتلك ظواهر لم تكد تتضح في تاريخ الأدب العربي. اللهم إلا أن يكون ذلك في معركة كبيرة واحدة يحدثنا عنها التاريخ الأدبي، وهي تلك التي قامت بين أنصار البحتري وأنصار أبي تمام، إذ ناضل الأولون عن عمود الشعر والصياغة التقليدية المرسلة، وكافح الآخرون عن مذهب البديع والتجديد في الصياغة. ومع ذلك فتلك معركة لم تمس حالات النفس في شيء لأن مدارها كان التباين في أسلوب التعبير، وأما موضوعاته فقد ظلت تقليدية حتى قال أحد النقاد: إن التجديد عندئذ لم يعد التطريز على ثوب خلق؛ وقال مستشرق: إنه كان رقصا في السلاسل.
وعلى العكس من ذلك مدلولات المذاهب الأدبية في الغرب، فهنا نجد الحالات النفسية بأوسع معاني اللفظ. فالكلاسيكية التي ظهرت في القرن السابع عشر في فرنسا بنوع خاص ليست إلا نظاما عقلياً خاصاً في تناول حقائق النفس البشرية وصياغتها. وأساسها العام هو(608/17)
تنحية الكاتب لشخصه عما يكتب، وتسليطه ضوء العقل على ما يريد عرضه. ولهذا كان مظهرها هو الشعر التمثيلي. وأما الشعر الغنائي الشخصي فذلك نوع لم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر تحت جناح الرومانتيكية، والكلاسيكية قسط واعتدال فلا إسراف في إحساس ولا مبالغة في عبارة ولا تصنع في أداء ولا شذوذ في أسلوب. وهي نتاج عقلي يخضع لأصول مرعية ويسير على مبادئ مقررة، وهي أصول ومبادئ قَّنن لها النقاد فقالوا في المسرح بالوحدات الثلاث ونادوا بفصل الأنواع فلا تجاور الفصول المحزنة فصول مضحكة في المسرحية الواحدة ولا يختلط نوع بنوع.
وجاءت الثورة الفرنسية فشتتت أفراداً وفجرت آمالا، وهاجر من هاجر وأقام من أقام وتجددت بفضلها مشاعر البشر. وأمعن الناس في مصائرهم. وولت الثورة نابليون الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، حتى أثار في نفوس الشبيبة أنواعا لا تحصى من الطموح وقد أصبح مثلهم المحتذي. ومنذ الأزل كان لشهوة المجد سحرها العجيب. وتنكر القضاء لنابليون فانهار مجده وتحطمت بانهياره النفوس، فإذا بمرض اجتماعي ينتشر بين الناشئين هو المعروف (بمرض العصر) وما هو في الحقيقة إلا إحساس الفرد بعجزه عن الملاءمة بين قدرته وآماله، وبين شخصه ومجتمعه، وبين واقعه ومثله الأعلى، وتلك حالة نفسية تنشأ دائما عندما تجد أحداث أو تنهار شخصيات تدعو إلى أن يدب اليأس في الطموح. ولا أدل على صدق هذه الحقيقة من أن تجد الرومانتيكية التي ظهرت عندئذ، عامرة بالشكوى من الحياة، والإحساس إحساسا عميقا بجمال الأطلال ثم بصمت الطبيعة. ولكم يروعك عندئذ أن تستمع إلى شاتوبريان أحد أجداد الرومانتيكية الأوائل يفاضل بين الديانة اليونانية القديمة والديانة المسيحية، ويؤثر الأخيرة لأنها قد طردت من الطبيعة ما ملأها به الإغريق من ربات وحوريات وآلهة، لترد إليها ذلك الصمت الخالد الذي يعثر فيه الإنسان على الله عندما يعثر على نفسه. وهذه حالة تتطلع إليها النفس عندما تستشعر الحاجة إلى الاستجمام وترتد عن صخب الحياة وحركتها الدائمة وأهدافها المترامية مؤثرة التأمل الباطني على رقص الحوريات وأعياد الحياة. وعن هذه الحالة النفسية العامة صدرت الرومانتيكية التي تغلب عليها العاطفة والغناء الشخصي بالآلام والآمال غناء لا يخضع لقاعدة ولا يتقيد بأصل وهو أقرب إلى التشاؤم وشكوى الحياة منه إلى الرضى واطمئنان المصير(608/18)
وأفاقت النفوس من صدمتها. وتقدمت الأبحاث العلمية ونما الإنتاج المادي وأخذ المفكرون يكشفون عن الحقائق النفسية العميقة فإذا بالأدب يتجه نحو الإمعان في الواقع. ولما كان ذلك الواقع أمر مما يتخيل الشعراء وأميل إلى الدكنة فقد تولدت حالة نفسية جديدة هي الواقعية، التي تسيء الظن بالبشر وترى خلف دوافعه البراقة ظلاما كثيفا. وعلى إضاءة هذا الظلام توفر جهدها، فالكرم قد يكون مباهاة خاوية، والمجد قد يخفي طموحا شخصيا بل والعبقرية ذاتها قد تختلط بالتهريج الرخيص، على نحو ما تجد في الكثير من روايات بلزاك. ولم يكن هذا الاتجاه قاصراً على الأدب بل امتد إلى النحت والتصوير والموسيقى وغيرها من أنواع النشاط الروحي، لقد كانت الواقعية كما كانت الكلاسيكية والرومانتيكية حالة نفسية سائدة وتلك هي الحقيقة العامة التي أربد أن نتدبرها عندما نأخذ في الحديث عن ظهور مذاهب أدبية بيننا، فإذا لم تجد الحالة النفسية التي تستند إلى فلسفة إنسانية عميقة كنت في حل من أن تصف ما ترى بأنه لا يزال في دور المحاكاة.
محمد مندور(608/19)
المسألة الأفعوانية!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هلمي يا ذات الخطر والجلالة! إلى قلمي. . كما يقبل الثعبان العظيم زاحف الرأس إلى ساحر ليحطم نابه ويطهر لعابه!
هلمي يا بوق الشيطان ينفخ فيه على القلوب فتكون كالمخالي والخزائن والجيوب، تختزن الأجسام ذات الحجم والكثافة والثقل. . وتمتلئ بالحطام وهي مهبط الأسرار ومجلي الأنوار. .!
هلمي يا دين البشرية الوثنية وقبلة قلبها، وكعبة طوافها وسعيها.! هلمي يا أم الدينار! ذي الغمرة والطرة، والبريق والرنين، والثقل الخفيف والروح اللطيف الذي يسرى به الشيطان إلى الأقداس المغلقة في الضمائر فيفتح به مكان الطهر ويحيله إلى نجس وعهر.!
هلمي يا روح العجل الذهبي الذي يتشكل ويتجسد ويتقمص جسم كل شيء فيتراءى به ويتخايل في صور شتى تذهل العيون عن الحق والشرف والإيمان!
إلى قلمي أيتها الأفعى ذات الرءوس والقرون والألسنة والذيول التي لا عدد لها لأنها أم العدد والحساب!
هلمي أيتها (المسألة الاقتصادية)! يا وكر الجرائم الفردية والاجتماعية والسياسية!
الرباطات الثلاثة
إننا نشعر برباطات ثلاثة تضغط على قلوبنا وتشد عليها وتربطنا بثلاث غايات عظمى هي: (الحياة وما وراء الحياة) و (المال) فالذي يربطنا (بالحياة) هو (الحب) ونتيجته الاندماج في (الزواج) والامتداد في (النسل) تعزية وتعويضاً عن (خلود الذات) وهي الأمل الأكبر الذي لم يتحقق، والذي يربطنا بما وراء الحياة هو (الدين) ونتيجته التعرف إلى الله بارئ الوجود ومفيض الحياة. .
والذي يربطنا بالمجتمع هو (المال) إرضاء لجملة غرائز حادة وشهوات عنيفة تظهر في الأنانية والأثرة والخيلاء وحب التسلط والمباهاة والافتراس وحب الاقتناء والحيازة والتملك وحب (إثبات الذات) مقرونة بغيرها في مجموع. . والرباطان الأول والثاني لكل منهما منطقة تتصل بالجانب الأعلى من الإنسان وتثير في قلبه أشواقاً فيها سمو وفيها رفق(608/20)
ووداعة وحنان ونسيان (للذاتية) و (الأنانية) فلذلك تحيا بهما النفس سعيدة مسعدة، منتفعة نافعة.
أما الرباط الثالث فلا يتصل إلا بمنطقة العواصف والزعازع من النفس، إذ هي مجال الاحتكاك والمنافسة والسباق والصراع بين ذوات مختلفة متفاوتة القوى والمواهب. . وقد سبق الشر من هذه المنطقة إلى الحياة وأفسدها، ولذلك كانت محل العناية والتنظيم والتهذيب، ومحوراً عظيما لشرائع الأرض والسماء، ومثار الحروب قديمها والحديث.
وبدون تسوية (المسألة الاقتصادية)، في العالم وحل (مشكلة العيش) وتوزيع المواد الاقتصادية في الأمة الواحدة وفي الأمم المتعددة في عدالة وإنصاف وتجرد عن الأنانية الشخصية والقومية لا يمكن الاطمئنان إلى مستقبل سعيد للإنسانية
وربما كانت كبرى جرائم الحياة هي جرائم الغنى ومفاسد البطر والترف الطغيان نتيجة لغرور المال. نعم إن للفقر جرائم كبرى أيضاً، ولكنها جرائم ومفاسد هي في الواقع عقوبة (ورد فعل) على جرائم الغني وعدم التوازن الاقتصادي في المجموع.
ولذلك كان من أول الواجب على رجال الروح والفكر أن يجعلوا المسألة الاقتصادية وتنظيمها واعتبار أسسها العادلة محل عنايتهم الفائقة كما يعنون بالمسائل النظرية في اللاهوت والفلسفات والآداب، وأن تكون لهم رقابة ساهرة وجهاد دائم في التدبير والتنظيم الاقتصادي حتى يضمنوا لكل فرد أن ينال حق العيشة بالجسد كما ينال حق الحياة بالروح، وحتى يكفلوا لمثلهم العليا أن تحيا وتتجسد في أشخاص بدل أن تظل طول الحياة ميتة مدفونة في بطون الكتب.
ثم يكون واجبهم الأكبر أن يمنعوا التكالب عليها والتطاغي في رحابها وأن يحملوا المجتمع على السعي إليها في هوادة ورفق وشرف
الحدود في الاقتناء والتوريث
وإن ما تطلبه غرائز التملك وشهوة المال لا يمكن أن يقف عند حد ينتهي إليه. وعلى هذا فواجب أن يدرك الإنسان ذلك ويحد من آماله ومطامعه بما يوافق مصالحه ومصالح الآخرين وإلا القلب كذلك الثعلب الذي ظل يأكل من فريسة حتى امتلأ وعجز عن النهوض والجري فاقتنصه الصائد. .(608/21)
ومع عدم شعور الجد والأب بحب الحفدة والأبناء له بل مع عدم وجودهم في حياته. . . نجد الأجداد والآباء يغالون في الاقتناء والإثراء بدون حد للمطامع، وبدون التفكير في أن ما زاد على الكماليات في متوسط عمر الإنسان إنما هو حمل باهظ للنفس يرهقها ويكأدها
فينبغي أن يحد الثري ثروته بحيث تكفي ابنه المباشر وحده. أما الحفدة والأسباط فيجب إهمال التفكير في توريثهم وعدم تضحية المجتمع والمروءة مع الناس من أجلهم وهم في عالم الغيب. .
الأسرة تتسع
ولماذا يلزم الإنسان أن يعول أهله الأدنين وذريته الضعاف ولا يلزم بإعالة اخوته في الوطن من العجزة المحتاجين وهم أسرته أيضاً بالمعنى الواسع؟ لا بد من إقامة مسائل الاقتصاد والإحسان على هذا المعنى العميق الكريم لا على التبرع والتفضل والاختيار. . .
خطر العقليات المادية
لقد كثرت العقليات المادية المغالية التي تحاول أن تفسر الحياة دائما تفسيراً ماديا آليا. . مغفلة ذلك المعنى الإنساني العظيم الذي يتصل بالحق ومعاني المروءة والإيثار والنبل، ولا يكون المرء إنسانا إلا بسيطرة ذلك المعنى على فكرة وروحه. . هذه العقلية أعظم نماذجها هم اليهود. وقد انتقلت فلسفتهم المادية في غلوها إلى جميع الأمم. فهم ليسوا الآن ممثليها وحدهم. .
نعم إن للمادة آثاراً كبرى في الحياة الإنسانية، ولكنها يجب ألا تكون المحور الوحيد لسياستها العليا كما هي الحال الآن. . .
عبد المنعم خلاف(608/22)
في المحكمة الشرعية
صور جاهلية
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
رجل كهل معتم، له لحية وفي يده سبحة، دخل المحكمة ودخل وراءه مريدون له، ذوو عمائم، يتبعونه متخشعين ويلحظونه مكبرين، فوقف موقف المدعي عليه، وجلسوا من خلفة في مجالس المستمعين، وكان المدعي شيخا هما ترعش يداه، وتضطرب رجلاه، ويزيغ بصره، ويتلعثم إذا تكلم لسانه ويفيض لعابه، وكانت دعواه أن هذا الكهل ابنه، وأن زوجته وهي أم المدعى عليه قد ماتت منذ شهرين، وهذا الولد قد وضع يده على تركتها كلها، فلا هو يعطيه حقه فيها فعل الرجل الشريف، ولا هو ينفق عليه إنفاق الولد البار، فهو يطلب. . . فسئل المدعى عليه ذو اللحية والسبحة، فقال: أن المدعي أبي ولكن له مالا فلا تجب علي نفقته، وأمي مطلقة منه فلا نصيب له في ارثها. فلما سمع الشيخ ذلك بكى بكاء محروق الفؤاد، واستنزل على ابنه غضب الله. إذ يعظ الناس ويأمرهم ببر الوالدين، ويسوق في ذلك الآيات والأخبار والرقائق، ثم يأبى إلا أن يجمع على نفسه بين عقوق أبيه حيا، وأمه ميتة، ويضم إلى ذلك كذبا وافتراء، ولا يرعى حق الأبوة، ولا يرأف بضعف الشيخوخة، ويصم أمه بوصمة الطلاق، وهي تشينها أن كانت حقا فكيف إذا كانت باطلا، وينسى الدين والمروءة، كل ذلك من أجل شيء من المال ماله به من حاجة، وما هو إلى مثله فقير، ولكنه الطمع وحب الدنيا التي يزهد فيها، وقلة الأمانة التي يدعو إليها.
ونصحت المحكمة هذا (الواعط. . .) فما انتصح، وذكرته فما أذكر، ثم كانت النهاية أن خرج فائزاً بدنياه رابحا دعواه، يتبعه مريدوه وتلاميذه مكبرين موقرين، وخلف أباه الشيخ الراعش، يتلمس يداً تسنده ليخرج من المحكمة وفي عينيه الدموع وعلى لسانه اللعنات، وفي قلبه الحسرات. . .
- 2 -
امرأة محجبة مستورة، على صدرها ولد، وفي بطنها ولد، تدعي على رجل أنه زوجها وأبو(608/23)
أولادها وأنه طردها من داره، ولم ينفق عليها، ولم يكلها إلى منفق، والرجل من هؤلاء (الزكرت) الذين يسمون في مصر (الفتوات) حليق الخدين، مفتول الشاربين، عابس باسر، طويل الطربوش أسوده مائله، منتصب القامة. مرفوع الهامة، كأنه مقبل على صراع. فسألته المحكمة عما يقوله فقال، وقد صعر خده، وشمخ بأنفه: لست أعرف هذه المرأة!. . . قالت المرأة: لست تعرفني يا أبا فلان؟ أهذه هي مروءتك وشهامتك؟ تنكر زوجتك، وتجحد ولدك، وأنت ترى طفلي وحملي، وتبيع عرضك وشرفك بعشرين فرنكا في اليوم تريد أن توفرها على نفسك، فتهدم بيدك بيتك. وتكتب بقلمك صفحة عار أهلك، وفضيحة أولادك.
قال: اسكتي يا امرأة، أنني لا أعرفك، فسألتها المحكمة: ألم يسجل هذا الزواج في دفاتر المحكمة وسجلات النفوس؟ قالت: لا يا سيدي؛ انه أبى أن يسجله، وتركه مكتوما لكي يضيعني. وانطلقت تنشج.
وأصر الرجل على الإنكار، وأعيت المرأة الوسائل، وكادت المسكينة تغلب على حقها؛ وإذا بطفل في الخامسة يلج قاعة المحكمة فيأخذ بيد أمه المدعية، ثم يرى الرجل، فيقبل عليه، ولكن الرجل يعرض عنه ويتجاهله، فيبكي ويصرخ: (ليش يا بابا، شو عملت لك يا بابا. . .)
. . . ويعترف الخبيث ولولا ذلك ما اعترف!
- 3 -
امرأة قروية برزة ذات جمال ادعت على زوجها الطلاق. فأنكر فكلفتها المحكمة بيان زمان الطلاق ومكانه - فقالت: إنه وقع في دار زوجي. قال المدعى عليه: في داري؟! قالت: لا، بل في دار الآخر. وتنبه القاضي والمستمعون، وسألها: ماذا قلت ويحك؟ قالت: زوجي الآخر. قال القاضي. وما الآخر؟ قالت: انه تركني وأهملني ورماني فتزوجت غيره. قال الرجل: لقد كذبت، لم أهملها ولكنها أحبته وهربت إليه. قال القاضي: وماذا صنعت أنت؟ قال: وماذا أصنع، أنه عسكري وأني أخافه. قال: ومن عقد هذا العقد؟ قال: شيخ البلد وهو هنا.
وأمر القاضي بشيخ البلد فدعي. فحضر شيخ لحيته إلى سرته، له هيبة وشيبة ووقار. فسأله - فقال: نعم أنا زوجت هذه المرأة بفلان العسكري. أنها ذهبت إليه وساكنته فخفت(608/24)
عليهما المعصية!! فزوجته بها الزواج الشرعي على كتاب الله، وسنة رسول الله!
قال القاضي وزوجها الأول؟ قال: نصحناه أن يطلقها فأبى. فهو المسيء إلى نفسه. وما أكرهتها بل زوجتها برضائها وموافقة أبيها. ولقد أنجبت منه أولاداً هم زينة البلد، لا كأولادها من هذا الجاهل الذي لا يقيم الصلاة. . .
قال أبوها وقد أحضر وسئل: نعم، لقد رضيت بما رضى به شيخنا وعالمنا حفظه الله، وأطال عمره. . .
- 4 -
فتاة (على الطراز الحديث. . .) سافرة الوجه، غضة الأهاب، قصيرة الجلباب، تحاول كلما تحركت أن تبدي ما خفي من زينتها ومن فتنتها، وقفت موقف المدعي. وكان المدعى عليه رجلا عليه سيما الصلاح، وكان أباها، فلما تكلمت تكلم معها حاجباها وشفتاها، ورقص في صدرها نهداها، فأمرها القاضي بالأدب، لم رأى من تبذلها واستهتارها، وأن تلقي (منديلها) على وجهها، وأن تجد وتوجز في كلامها، وتسكن من جوارحها، وأن تستشعر حرمة المكان، وجلال المجلس، وإلا حبسها بذنب (الإخلال باحترام المحكمة). فأطاعت ما استطاعت
وكانت دعواها أنها ابنة المدعي عليه، وأنها لا تنكر أن داره رحبة، والمال فيها وفير، والعيش هنئ، وأنه ليس في الدار إلا أبوها وأمها، وأنها لا تشكو شيئاً من جوع أو عري، ولكنها تشكو عدوان أبيها على حريتها، فهو من (الطراز القديم) رجعي جامد، لا يؤمن بالنهضة النسائية. . . فهو لا يفتأ يسألها كلما خرجت، لماذا خرجت، وإن سهرت ليلة، قال لها: أين كنت، وإن سايرت شابا (مهذبا) أو زارته سبها وشتمها. فهي لم تعد تحتمل منه ذلك، وتطلب فرض نفقة لها عليه لتعيش في غير داره. . .
. . . ولا أريد أن أكمل الصورة فحسب القراء هذا الجانب منها. . . وتأويله عند صاحبات (المؤتمر)!
دمشق
على الطنطاوي(608/25)
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية التجسس لقريش
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه قضية لها قيمتها في أحداثنا الحاضرة، ولو كنا نرجع في حاضرنا إلى ماضينا، لكان لنا منه أكبر العظات، وأعظم العبر، ولكنا قطعنا صلتنا بماضينا، وأخذنا نتخبط في حاضرنا، وننظر فيه إلى من لا صلة بيننا وبينهم، ولا يتفق أمرنا وأمرهم، فتقطعت بيننا الأسباب، واستفحل بيننا الخلاف، ونكب المسلمون في زعمائهم وقادتهم، وصاروا ينظرون إلى من يأخذ بيدهم فيرتد الطرف إليهم وهو حسير
في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش عهدها مع النبي صلى الله وعليه وسلم في صلح الحديبية، فتجهز النبي للسفر، ولم يعلن أصحابه بما يريد من غزو قريش إلا أبا بكر رضى الله عنه، ثم استنفر الأعراب الذين حول المدينة، وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة، وقد طوى ما يريد عن الجيش، لئلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب، وهو لا يريد أن يقيم حربا بمكة، بل يريد أن يباغت أهلها فيضطرهم إلى التسليم من غير حرب، وقد دعا الله تعالى فقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وفي رواية أخرى: اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم، فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة. ثم أمر بالطرق فحبست، وأقام جماعة بالأنقاب يراقبون من يمر بها، وكان عمر رضى الله عنه يطوف على الأنقاب فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه. وكانت الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة، فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه
وقد أمكن حاطب بن أبي بلتعة مع ذلك التكتم الشديد أن يعرف قصد النبي صلى الله عليه ومسلم، وهو لخمي نزل مكة وحالف بني أسد بن عبد العزى، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا والحديبية، وكان له بمكة بنون واخوة، فخاف عليهم من قريش في ذلك الغزو، وأراد أن يتقرب إليهم بإخبارهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعرضوا إلى بنيه واخوته بسوء، فكتب إليهم كتابا يخبرهم بذلك، ثم استأجر امرأة بدينار وقيل بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فان عليه حرساً(608/27)
والروايات مختلفة في نص هذا الكتاب، فقيل إنه كان فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد
وقيل إنه كان فيه: أما بعد يا معشر قريش، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام
وقيل إنه كان فيه: إن محمداً قد نفر، فإما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر
فأطلع الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعله حاطب، فقال لعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فان لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها
فانطلق الثلاثة تعادي بهم خيلهم حتى أتوا روضة خاخ، فإذا هم بالظعينة تسير على بعير لها، فقالوا لها: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فأناخوها والتمسوا ذلك الكتاب فلم يجدوه، فقالوا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. وفي رواية أن علياً قال لها: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض. فأعرض فحلت قرونها فأخرجته من عقاصها، وهو الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب، أو الشعر المضفور، أولى الشعر بعضه على بعض على الرأس، وإدخال أطرافه في أصوله، أو السير الذي يجمع به الشعر على الرأس وفي رواية البخاري. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته. والحجزة معقد الإزار، والظاهر أن الكتاب كان في ضفائرها، وأنها جعلت الضفائر في حجزتها.
فأخذوا الكتاب منها ورجعوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا حاطبا فقال له: يا حاطب ما حملك على ما صنعت. فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون(608/28)
بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماضي حاطب وجهاده في إعلاء شأن الإسلام، والى موقفه في غزوة بدر، وما كان لها من عظيم الشأن في إظهار الدين، وفي قصة الحديبية ومبايعته فيها على الموت تحت شجرة الرضوان، وقد قال الله تعالى في شأن من بايعه تحتها في الآية - 18 - من سورة الفتح (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).
نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كله من حسنات حاطب، ثم نظر إلى تلك السيئة التي ارتكبها، وهي تعد في عرف الشرائع الوضعية الخيانة العظمى للدولة، والعقوبة التي تستحقها هذه الخيانة هي عقوبة القتل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن تنتهي حياة ذلك المجاهد بذلك الشكل القبيح، ولم يشأ أن يضيع له جهاده الطويل في الإسلام بفلتة من فلتات النفس، وغواية من كيد الشيطان، فرأى أن يستعمل فيها حقه في العفو، لأنه الرئيس الأعظم على المسلمين، فله حق العفو عن مذنبهم إذا كان فيه مصلحة من المصالح، ولكنه نظر قبل ذلك إلى من كان بالمجلس من أصحابه فقال لهم: إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيراً. فقال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فأن الرجل قد نافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا عن حاطب رضى الله عنه، بعد أن بين به أن عقوبة الجاسوس القتل، لأنه أرشد إلى أن علة تركه أمر عمر بقتله هي شهوده بدرا، فدل على أن من فعل فعله ولم يكن بدريا يستحق القتل، ثم نزل بعد هذا فيما فعله حاطب قوله تعالى في الآيات الأولى من سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، إن يثقفوكم يكونوا(608/29)
لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون، لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون نصير، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) إلى أخر القصة.
وفي هذه الآيات معاتبات رقيقة لذلك المجاهد الكريم بعد ذلك الصفح الجميل، وعظات كريمة أطلقت إطلاقا، ولم توجه إليه بخصوصه، حتى لا يكون في ذلك ما يشم منه رائحة تشنيع، ولا يكون فيه تصريح بتلك الخيانة، ولا يشوب جهاده منها شائبة تشوبه، ويمضي العفو عن ذنبه خالصاً يمحو كل أثر للذنب، ولا يبقى أية حفيظة عليه في نفوس المجني عليهم.
ولم يكن كل هذا إلا لأن حاطبا كان من المجاهدين الأولين في الإسلام، وللمجاهدين الأولين في كل دعوة شأنهم في نفوس من يأتي بعدهم، فإذا روعي لهم جهادهم إلى آخر حياتهم، وأحيطوا بجانب من القداسة يعلى شأن جهادهم، وينسى معه بعض ما يحصل من زلاتهم بحسن قصد، ومن غير تنكر للدعوة التي جاهدوا في سبيلها - إذا روعي لهم كل هذا كان مدعاة لأخذ الخلف بسنة السلف في الجهاد، حتى ينالوا مثل قداستهم في نظر من يأتي بعدهم، ودعا أيضاً إلى تكوين القدوة الصالحة اللازمة في تاريخ كل أمة من الأمم، وهي الماضي المجيد الذي يقوم على أساسه بناء المستقبل، وهذه هي الحكمة الجليلة في ذلك القول الذي ورد عن أهل بدر - اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي بعض الروايات فإني غافر لكم، وهذا يدل على أن المراد بقوله غفرت في الرواية الأولى أنه سيغفر لهم في المستقبل ما يقع منهم، وقد عبر عنه بالماضي مبالغة في تحققه، ولو كان المراد منه الماضي حقيقة لما صح أن يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه، لأنه ينكر به عليه ما قاله في أمر حاطب، ولا يكون فيه إنكار عليه إلا إذا كان الغفران لما يكون من ذنوبهم بعد بدر، على أنه لا يراد من هذا إباحة فعل الذنوب لهم، وإنما هو خطاب تكريم وتشريف، ولا يراد منه إلا أنهم حصلت لهم بتلك الغزوة حالة من القداسة،(608/30)
غفر معها ما سلف من ذنوبهم، وتأهلوا لأن يغفر لهم ما يحصل من الذنوب اللاحقة إن وقعت منهم وقد خصهم الله تعالى بذلك تكريما لجهادهم، وإعلانا عن عظيم حبه لهم، وما أحسن ما قيل في هذا الشأن:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وموضع العظة لنا من هذه القضية أنه كان لنا جهاد سابق جمع كلمة الأمة، وأيقظها من رقدتها، وسار بها في طريق الإصلاح والنهوض، فجنت من ثمار الجهاد ما جنت، وقطعت شوطا بعيداً في طريق الإصلاح ثم تنكرنا لذلك الجهاد، وأخذنا نجرح الذين قاموا به، ونرميهم بكل قبيح، ونكيل لهم التهم جزافا وتنكر أولئك المجاهدون بعضهم لبعض، فضعفت ثقة الأمة فيهم، وضاعت القدوة الصالحة التي تكون محل الثقة والقداسة، وعاد كل شخص إلى سيرته الأولى قبل ذلك الجهاد، لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يسعى إلا في سبيل مصلحته.
فهل لنا أن نعود إلى ماضينا فنتعظ بموضع العظة منه، وننظر إلى المجاهدين فينا كما كان ينظر سلفنا إلى المجاهدين فيهم، ولا نتنكر لجهادهم كما نتنكر الآن، فنحاسبهم على الهفوة بأشد ما يكون من القسوة، ونسلك في حسابهم سبيل التشنيع والتشهير، وهم لم يصلوا في هفوتهم إلى تلك الخيانة العظمى التي ارتكبت في تلك القضية.
وهل لأولئك المجاهدين أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى، فيمد بعضهم يده إلى الآخر، ويعرف له فضل جهاده الأول، ذلك الجهاد الذي كان فينا مثل جهاد أهل بدر؟
عبد المتعال الصعيدي(608/31)
رسالة الفن
الفن
الكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
تمهيد المترجم
في شهر مارس من عام 1925 أسعدني الحظ بالوقوف بباريس مدينة الفن والجمال والنور لأيام قلائل جعلت همي خلالها ارتياد المتاحف والدور والمعارض الني تزخر بأشتات الفنون، التالد منها والطريف. وكنت أنتهب بعيني وقلبي تلك الروائع الفريدة، وأحاول جهدي استيعابها واستذكار ما دق من محاسنها ومفاتنها ولكن هيهات!
وكان من بين ما راعني وملك على لبي ومشاعري أعمال المثال العظيم رودان، ثم غادرت مهد الفن والجمال آسفاً، ولم أنقع صدى نفسي الهيمانة من نمير ذلك المنهل الصافي العذب. غادرته وبالحلق غصة، وبالقلب لوعة، إلى بلاد الثروة والمال والجاه - إلى أمريكا العظيمة. واستقر بي المقام بولاية كاليفورنيا، قبالة مدينة سان فرنسسكو - عروس المحيط الهادي، حيث انصرفت إلى الدرس والتحصيل - تحصيل العلم والفن. غير أن شواغل الدرس لم تكن لتصرفني عن التحليق بروحي من آن لآخر في سماء باريس وفي ردهات متاحف باريس لعلي ألم ببعض ما افتتنت به من روائع القدامى والمحدثين، وبما أحببت من أعمال رودان. ولم ألبث طويلا حتى رأيت المال الأمريكي يستقدم نسخاً عديدة من أعمال هذا العبقري العظيم ويحشدها بأحد متاحف مدينة سان فرنسسكو، فكنت أخف لزيارتها من حين لآخر دارسا لها، مستمتعا بها.
وفي ليلة الميلاد من عام 1928، أهدى إلى كتاب عنوانه: (الفن) وضعه الكاتب الشهير بول جيزيل في أسلوب محاورة جرت بينه وبين رودان، يعرض الكاتب مسألة فنية فسيندفع الفنان في شرحها وتحليلها وإبداء رأيه فيها. وقد حاول الكاتب والفنان معا أن يجلوا كثيراً من نواحي الفن وأن يقربا فهمه إلى أذهان الكثيرين ممن لا يستطيعون فهمه على حقيقته، وأن يثقفا به عقول الكثيرين ممن يعنون بقراءة الكتاب ويقدمون لهم غذاء(608/32)
روحيا شهيا لا تنقد لذته. وعندي أنهما بلغا في ذلك تمام القصد بفضل طلاوة الموضوع الذي يعالجونه من ناحية، وبفضل الوضوح والنضوج اللذين امتاز بهما الفنان، والبساطة والرشاقة اللتين خص بهما الكاتب من ناحية أخرى، وإن كتابا يشترك في إخراجه فنان عبقري رقيق، وكاتب بارع رشيق، لخليق بأن يلقي من الإنسانية المتمدينة أكبر اهتمام، وأن يخلد بما فيه على مر الأيام.
وكان من الطبيعي أن يخطر ببالي نقل هذا الكتاب الممتع إلى فراء العربية فأقدم إليهم بذلك نوعا طريفا من التأليف، وثقافة فنية يحتاجها الفنان وغير الفنان على السواء. قمت بهذا العمل الشاق من زمن طويل، ثم طرحته جانبا متردداً مرتقباً لظروف غير الظروف إلى أن وقعت عليه عين أستاذي وصديقي الزيات فأرادني على نشر بعض فصوله فنزلت على إرادته.
تقدمة المؤلف
تقع على نهر السين، قريبا من بلدة ميدون التي لا تبعد كثيراً عن باريس، قرية ذات اسم جميل هو (فال فليري). تكلل هامة التل الصغير المشرف عليها بضعة أبنية تسترعي الأنظار بجمالها وغرابتها. وربما جال في خاطر من رآها أنها ملك لفنان. وحقيقة الأمر أنها ملك (أوجست رودان) الذي اتخذها مقراً له. وإذا ما قاربها المرء وجدها مؤلفة من ثلاثة أبنية رئيسية منعزلة، أما الأول فمنزل صغير ذو سقف عال مائل، مبنى بالآجر والأحجار على طراز لويس الثالث عشر، وقد اتخذه مسكنا له. وأما الثاني فبناء مستدير يقوم إلى جانب المنزل، له رحبة فسيحة يدخل إليه بسقيفة ذات عمد هي نفس السقيفة التي أظلت معروضاته التي عرضها عام 1900 في معرض خاص أقيم بزاوية من (شارع بونت دي لالما) ' بباريس. وكان من دواعي سروره أن تقام هذه السقيفة مرة أخرى في صدر هذا البناء الذي اتخذه مرسما وقريبا من هذا وعلى حافة التل المنحدر يقع قصر أو بالحري واجهة قصر من قصور القرن الثامن عشر بها مدخل ظريف يعلوه إفريز مثلث الشكل يظهر بمثابة إطار لباب من الحديد اللين الزهر. وسيأتي ذكر هذا القصر فيما بعد.
تقع تلك المجموعة المتباينة الصفات. وسط بستان وادع بناحية هي ولا ريب من أجمل وأسحر النواحي التي بأرباض باريس، جادت عليها الطبيعة بكثير من جمالها، وزاد من(608/33)
جمالها ذلك المثال الذي نزل بها وسكنها، فنمقها بكل ما يمكن أن يوحي به ذوقه السليم.
وبينما كنت أسير مع أوجست رودان تحت الأشجار التي تظلل رابيته الفاتنة في أصيل يوم من أيام مايو من السنة الماضية أفضيت إليه برغبتي في الكتابة عن آرائه في الفن وعلى أن يكون ذلك من إملائه فقال لي: (يا لك من إنسان عجيب. لا زلت مهتما بالفن إلى الآن! أن الاهتمام به لا يتفق والعصر الحاضر. فالفنانون اليوم، وأولئك الذين يحبون الفنانين أشبه شيء بالحفريات القديمة. تخيل ناشدتك الله مخلوقا من تلك المخلوقات البائدة يدب في شوارع باريس، وعند ذلك يستبين لك الأثر الذي ستحدثه بمعاصرينا عندما تكتب عن الفن أو تتكلم فيه. أن عصرنا عصر مهندسين ورجال صناعة، وليس عصر فنانين. فغاية السعي في حياتنا الحديثة هي المنفعة، وينصب جهدنا على تجسين بقائنا المادي. يطالعنا العلم كل يوم بمبتكرات جديدة خاصة بالمأكل والملبس وبوسائل التنقل ويخرج إلينا بسلع رخيصة وضيعة كيما يوفر لجمهرة الناس ما يصبون إليه من كماليات زائفة. ولو أنه مع ذلك أدخل تحسينا عظيما على كل ما يتصل بحاجاتنا اليومية ويمت إليها بصلة. ولكن لم تعد المسألة مسألة روح أو فكرة أو أحلام. لقد مات الفن.
الفن هو التأمل. هو لذة العقل الذي يبحث في أغوار الطبيعة والذي يقدس فيها الروح التي تسود الطبيعة نفسها. هو متاع الذهن الذي يستشف الكون والذي يعيد خلقه بنظرة فاحصة صادقة. الفن هو أسمى رسالة للإنسان لأنه يعبر عن الفكر الذي يبحث ليهتدي إلى تفهم العالم وليجعل العالم جليا مفهوما.
يعتقد الإنسان اليوم أنه يستطيع الحياة بدون فن. انه يأبى أن يتأمل أو يتيه في مهامه الفكر أو يسبح في عالم الخيال. يريد أن يستمتع استمتاعا ماديا، أنه يقنع بإشباع شهواته الجسمانية، أما سمو الحقيقة وأغوارها فلا يعبأ بها أو يعيرها اهتماما. فإنسان اليوم حيواني الميول لم يخلق من الطينة التي خلق منها الفنانون.
وفضلا عن ذلك فالفن هو الذوق. هو ما ينعكس من قلب الفنان على كل ما يبتدعه من الأشياء. هو ابتسامة الروح الإنسانية للمنزل والأثاث. وهو جمال الفكرة والشعور مجسما في كل ما ينفع الإنسان. ولكن كم من معاصرينا يشعر بضرورة شيوع الذوق في المنزل والأثاث، كان الفن منتشرا بكل مكان في فرنسا في أيامها الخوالي. فكان أوساط الناس،(608/34)
حتى الفلاحون منهم لا يستعملون من الأشياء إلا ما يفرح العين ويسرها. كانت مقاعدهم وموائدهم وقدورهم وقواريرهم جميلة. أما اليوم فقد اختفى الفن من الحياة اليومية، حتى ليقول بعض الناس أن الجمال لا يشترط توفره فيما هو مفيد من الأشياء. . . كل شيء قبيح خال من الرشاقة، تصنعه آلات غبية في سرعة وعجلة. أما الفنان فينظر إليه كما لو كان خصيما مناهضا. آه يا عزيزي جيزيل، أتريد أن تبسط آراء الفنان وأن تبرز أفكاره؟ ماذا بك؟ دعني أتفحصك! إنك وايم الحق لإنسان عجيب).
فقلت: (إني لأعلم أن الفن هو أقل ما نعني به في عصرنا هذا، ولكني آمل أن يكون هذا الكتاب بمثابة احتجاج على الآراء السائدة الآن، كما آمل أن يوقظ صوتك معاصرينا وأن يساعدهم على أدراك الجرم الذي يجرمون بفقدهم أجل شطر من تراثنا القومي ألا وهو الشغف الشديد بالفن والجمال). فأجاب رودان (عسى الله أن يسمع منك)
كنا نسير الهوينا بمحاذاة البناء المستدير الذي اتخذه مرسما. فشاهدت كثيراً من التماثيل القديمة الفاتنة في حمى السقيفة. فهذا تمثال صغير لعذراء مقنعة بعض الشيء تواجه خطيبا رزينا مشتملا بعباءته. وقريبا من هذين يوجد تمثال لكيوبيد ممتطيا ظهر وحش من وحوش البحر، ويقوم وسط تلك التماثيل عمودان رشيقان كورينتيان من الرخام الوردي اللون. ويدل احتشاد تلك القطع الثمينة في ذلك المكان على ولع مضيفي بالفنين الإغريقي والروماني.
وثمة بجعتان ناعستان على حافة بركة. فما إن مررنا بهما حتى مطتا رقبتيهما الطويلتين المقوستين وأرسلتا فحيحاً مغضبا. ولقد دفعتني وحشيتهما إلى الجهر بأن هذا الطير ينقصه الذكاء. ولكن رودان أجابني ضاحكا: (حسبه ما به من جمال الخطوط، وفي ذلك الكفاية).
وبينما كنا نمشي الهوينا بدت هنا وهناك محاريب صغيرة أسطوانية الشكل من الرخام حفرت بها اضافير الأزهار. ويوجد تحت عريشة بديعة يعلوها نبات متسلق نضير الخضرة وتمثال صغير لمثرا بدون رأس يعلوها وهو يتقرب بثور مقدس. ويوجد عند مفرق طريق معشوشب تمثال إيروس نائما على فروة أسد، وقد غلب النوم ذلك الذي يروض الوحوش ويغلبها على أمرها. وعند ذلك سألني رودان قائلا: (ألا ترى أن الخضرة هي أنسب شيء توضع بينه التماثيل القديمة؟ ألا تستطيع أن تقول عن أروس هذا الصغير(608/35)
الناعس بأنه إله الحديقة؟ أن لحمه ذا الغينات لشبيه بتلك الأوراق الخضراء في نضارتها وصفائها. لقد أحب فنانو الإغريق الطبيعة حيا جما حتى أن تماثيلهم لتزهو فيها كما تزهو في عناصرها التي قدت منها).
ولنبحث الآن هذه الفكرة: أنا نضع التماثيل في حديقة، كيما نجمل بها تلك الحديقة. ولكن رودن يضعها بها كيما تكتسب تلك التماثيل جمالا منها. وعنده أن الطبيعة هي أبدا صاحبة الكلمة العليا والكمال الذي لا يحد.
وتقوم عند أصل شجرة من أشجار الاسفندان جرة إغريقية من فخار وردي اللون يغلب على الظن أنها كانت منطرحة بقاع البحر قرونا عدة وقد درست وتشبثت بمسامها بعض الطحالب وغيرها من عرماض البحار الجميلة، فيخيل لمن يراها أنها أغفلت هناك عن قصد، ومع ذلك فما كان يمكن أن تعرض لأعيننا بأجمل مما كانت عليه، لأن ما كان طبيعيا هو غاية الذوق ومنتهاه.
ثم شاهدنا بعد ذلك بدنا لفينوس من غير ما رأس أو أوصال قد أخفى ثدياه بمنديل عقد وراء الظهر فيتبادر إلى ذهن الرائي أن أحداً من متكلفي الحياة يحدوه حياء مصنع - قد آلى على نفسه أن يستر تلك المفاتن.
ولكن من المحقق أن مضيفي لم يشاطر موليير رأيه في هذا الحياء المصنع. لأنه أفصح لي عن سر ذلك قائلا (أنا الذي أخفيت ثدي هذا التمثال لأنه أقل جمالا من بقية أجزاء البدن) وعند ذلك أدار مزلاج باب أدخلني منه إلى شرفة أقام عليها واجهة ذلك القصر الذي ذكرته منذ هنيهة والذي يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر. تبدو هذه القطعة النبيلة رائعة حقا إذا ما شوهدت عن كثب. أنها مدخل على رأس سلم من ثماني درجات، حفرت على الإفريز الذي يعلوه والذي يقوم على عمد تمثال تيميس تحيط بها ملائكة الحب. وهناك قال مضيفي: (قديما قام هذا القصر الجميل على منحدر تل مجاور بأيساي وكنت كلما مررت به أبديت إعجابي بجماله، ولكن سرعان ما اشتراه السماسرة وقوضوا بناءه. .) وعند ذلك لاح بعينيه وميض الغضب وقال: (لا تستطيع أن تدرك مقدار الفزع الذي تملكني عندما شاهدت هذه الجريمة ترتكب. آه يا للفظاعة! أيهدمون هذا البناء الجميل؟ لقد أثر ذلك في نفسي كثيراً كما لو كانوا يمثلون بجسم عذراء جميلة على مشهد مني).(608/36)
لفظ رودان هذه الكلمات بصوت ملؤه الخشوع العميق. ولا ريب أن في ذلك ما يشعرك بأن جسم الفتاة الأبيض البض هو أسمى وأروع المخلوعات في نظره. بل هو أعجوبة الأعاجيب! ثم وصل حديثه قائلا: (سألت أولئك الأوغاد الأنذال أن لا يبددوا الأنقاض وأن يبيعونيها فرضوا. ثم أمرت بالأحجار فأحضرت إلى هنا وشددت بعضها إلى بعض على أحسن ما استطعت. ولسوء الحظ لم أرفع إلا حائطا واحداً إلى الآن كما ترى).
ولتعجله وشدة تلهفه على الاستمتاع بذلك الأثر الفني البديع لم يتبع رودان الطريقة المثلى التي تقضي بأن تقوم حوائط البناء جميعها في وقت معا. وللآن لم يبن إلا جانبا واحداً من القصر. وإذا ما قاربت بابه الحديدي ونظرت من خلاله رأيت أرضا مخطوطة مشقوقة بها قطع من الأحجار تدلك على تصميم البناء المنتظر. حقا إنه قصر أحلام بل وقصر فنان! ثم غمغم مضيفي قائلا: (حقا لقد كان بناؤونا القدماء رجالا عظماء لا سيما عندما نقارنهم بخلفائهم من بنائي اليوم الذين لا يستأهلون شيئا.) قال ذلك ثم قادني إلى طرف من أطراف الشرفة حيث يظهر له جمال الوجهة بأجلى مظهر وصاح قائلا: (انظر كيف يعترض طيفه السماء الفضية بانسجام عظيم، وكيف يشرف على الوادي الذي يمتد من تحتنا.) ثم ذهل برهة وانتظم بصره المشغوف أثناءها ذلك الأثر القديم وما يترامى حوله من المناظر.
وترامت أبصارنا من المرتفع الذي كنا عليه إلى آفاق بعيدة، فهناك نهر السين تنعكس على صفحته البلورية سطور طويلة من ظلال أشجار الحور، يتخذ شكل عروة عظيمة من الفضة عند ما يتدافع إلى القنطرة عند سفر وتلي ذلك منارة سانت كلو البيضاء الصاعدة في الجو أمام تل أخضر. وأما مرتفعات سورسن الزرقاء وجبل فاليريان فكانت تبدو كأنها ذرت بهباء من الأحلام. والى اليمين من ذلك ترى باريس - باريس الهائلة - تمد مهادها إلى الأفق البعيد وقد نضد بمنازل عديدة تبدو صغيرة على البعد حتى ليخيل للرائي أن في استطاعته أن يستجمعها بكفه، باريس التي تبدو لأول وهلة عظمية سامية كأنها بوتقة هائلة تفور وتجيش بذلك المزيج العجيب من اللذات والآلام، وبالقوى الزاخرة وبالمثل العليا الموموقة.
محمد بهجت(608/37)
الحرب والعلم
للأستاذ محمود عماد
أصِلح المذياع نسمع ما يذاع ... أفلا نَنعم حتى بالسماعْ
إن تلك الحربَ أودتْ بالمتاعْ ... في مناحي اللمسِ منا والبصرْ
ذَكروا الصُّلح فقلتُ استعْجَلوا ... أفلم يبقَ لديهمْ مَنزلُ
يُبتلى أو يبقَ حيُّ يُقتل؟ ... إنما الشر بخير والضررْ!
أنْ سِتَّا من سنين دامياتِ ... لفناءِ الأرضِ ليست كافياتِ
لم نزل فيها بقايا من نباتِ ... وبقايا حيوان وبشرْ
لم تزل في الأرض نيرانُ مواحقْ ... في البراكين استقرتْ والصواعقْ
وبأضلاع وأكباد حوانقْ ... مثل سقطِ الزندِ ترمى بالشررْ
إن يكنْ أعياهمو هَرْسُ الفرائسْ ... لحديد لم يُوفرْ للمهاراسْ
فلديهم بعدُ صلبانُ الكنائسْ ... ومن الأجراسِ شيءُ مدخرْ
صار ما قد حرَّموا للحرب حِلاَّ ... لو أرادتْ ضربوا الليلَ فولى
أو رموا بالصبح عنه فتدلىَّ ... ثم قدُّوا الشمس أو هدوا القمرْ
كيف ننسى أسْهما جِدّ بِطانِ ... من مدَار الجَدْي تُلقى في اتزانِ
فيُلَقَّاها مدارُ السَّرطانِ ... منْ تُرى يحملها طول السفرْ؟
هو جِنِّيٌّ له في الجِنْةِ اسمُ ... واسمه العِلُم فهلْ عندكَ عِلمُ؟
أينَ منه قُمقمُ صُلبُ وخَتمُ ... لِسليمانَ كما تَروي السيرْ؟
لا بجيدُ العِلمُ أن يُحيَ ميتا ... بينما يبدعُ في الأحياءِ موتا
فهو مجنونُ وإن خِلناه ثَبتا ... وجنونُ العلم مرهوب الأثرْ
هو دجالُ يرينا الضرَّ نفعا ... وإذا أَحسنَ وترا ساء شفعا
فاحذروا يا قوم من قد جاء يسعىَ ... هاهو الدَّجالُ في الدنيا ظهرْ
إن يقل أنيَ سخَّرتُ الحديدا ... أو يقل أني أدنيت البعيدا
أو يقل طرتُ وجاوزت الحدودا ... فلويلٍ وثبور وخطر!
يُتعبُ الجاهل قتلُ اثنين غدْراً ... بينما العالم يُفْنِي الألف فوراً(608/38)
أي هذين إذن أكثرُ شراً؟ ... لا تقولوا الشِّعرُ بالعِلم كفر
لستُ رجعيا إذا كنتُ أَصيح ... ارجعوا للغابِ فالغاب مريحُ
إن يكن في الغاب زأر أو فحيح ... يُنْجنا منه قليلُ من حَذَر
ليس يؤذينا لدَى جار شجارُ ... بينما اليومَ إذا لاحَ شرارُ
عند قطبٍ غالتْ الآخرَ نارُ ... كم لقطب عند قطب من وطر!
لا تحبُّ الجهل بل تنشد أَمنا ... أن أتى العلم به بالعلم دِنَّا
وإذا اعتدَّ بسكينٍ هتفنا ... امنعوا الجزار عن وادي البقر
ما بحسبي أنني أن رُمت أمراً ... نلتُه فوراً إذا حركتُ زرْا
فبهذا الزِّر قد أُصْهرُ صَهراً ... ليتَ منْ أَخلص يوما ما غدرْ!
أننا عن كلْ نفع في غَناء ... أن يكن من نوع نفع الكهرباءِ
فالذي يكمنُ فنها من بلاءِ ... بعد هذا لجديرُ بالنظر
أن حرب العلم أوحت دون علم ... أن حرب الجهل كانت شبه سَلْم
والذي اليوم رمى أولَ سهم ... شرُّ سهمٍ هو في قوس القدَر
عصَّبوا الحرب وغطَّوا مقلتيها ... فمضت في الأرض ترعى جانبيها
ليت شعري ما الذي أبقيت عليها ... ليردَّ الجوع عنهم إن حضر؟
أنهم قالوا خشينا الموت جوعا ... فشَبَبْنا الحرب كي نحيا جميعا
أفلم يَلْقَوا بها موتا شنيعا؟ ... لم يشبوها لجوع بل بَطَرْ!
بل همو جاعوا بها لم يشبعوا ... والذي قد أشبعوه المدفع
ونسورُ في الصَّياصِي جوّع ... حَمِدَ الظيف قراهم وشكرْ
اسألوا (الفُهْرُرَ) كمْ (دنزيجَ) أُوتِي ... واسألوا (الدُّتْشِي) أَتاهُ كمْ (جبوتِي)
كم (بروما) من كراس وبيوت ... دكَّها (كرسي القناة) المنتظر؟
أين يا (دتشي) حصان أبيض ... فوقه جئت (لمصر) تركض
ما له من بعد جهد يرفض ... عبر (مصر) وبك البحر عبر؟
رمت تبني ما بنى (اسكندر) ... فتولى ما بناه (قيصر)
ما الملايين التي تستنفر؟ ... الملايين الثمانون صور(608/39)
قلت: أن قلتُ لجيشي هات (مصرا) ... نال (مصرا) ثم نال (الهندَ) قهرا
أَلهذا فات (روما) ثم فرَّا ... و (طرابلس) و (تانا) و (هرر)؟
كم على دبابة قد قمتَ تهزي ... وتهزُّ السلم فينا أي هزَّ
فاخطب اليوم على دودة قزّ ... وارقب الهزَّ بأوراق شجر!
اهبطْ القيعان من بعد الروابي ... واصحب (الفُهْرُرَ) يا خير الصِّحاب
واخطبا الناس بسلم مستطاب ... بعد حرب، فمن القاع الدرر!
اخطبا اليوم بآيات كريمة ... واذكرا الرحمة من بعد الهزيمة
أين كانت هذه النفس الرحيمة ... عندما شارفتما (بحر الخزر)؟
يا شرار الأرض ليس العيش شراً ... أنَّ خيراً أن يكون العيش خيرا
ليست الدنيا لكم إلا ممراً ... كيف يرجى في ممر مستقر؟
أن نور الشمس حقُّ للجميع ... فبم اختصّ فريقُ بالشموع
ليتهم يقضون فيه بالشيوع ... عندما يُحْصونه في (المؤتمر)
محمود عماد(608/40)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
سكر وكحول من النشارة
كم من نشارة الخشب والمواد النباتية نلقي كل يوم؟ إننا نحاول لاستغلالها في إشعال الأفران. فهل نحصل على أكمل فائدة منها؟
نتخلص كل يوم من أطنان من المواد النباتية. وينظر الكيماوي إلى هذه المواد أسفا لأنه لم يتوصل إلى طريقة يستطيع بها إعادة ترتيب عناصرها الأولية فيخرج منها مواد ضرورية للحياة. فهو يعرف أنها تتكون من كربون وإيدروجين وأكسوجين. وبعضها العناصر الأساسية في السكر والكحول والبترول.
والعقبة الكبرى هي إعادة هذا التكوين بطريقة تجارية نقلل نفقات صنعها حتى تصلح للاستهلاك العادي. وقد تمكن 12 عالما أميركيا في صيف السنة الماضية من تذليل هذه الصعوبة فحولوا نشارة الخشب إلى كحول وسكر. فمن 500 رطل من النشارة العادية حصلوا على 250 رطلا من السكر في 8 ساعات وحولت الأخيرة بدورها إلى 12 جالونا ونصفا من الكحول في 24 ساعة
ومعنى هذا أن الطن من النشارة يتحول إلى نصف طن من السكر أو 50 جالونا من أثيل الكحول. وهو غير المادة الكحولية المعروفة باسم ميثل وهي سامة وتستخرج من الخشب أيضا؟
ومن المعروف أن استخراج الكحول من الخشب عملية قديمة. على أن النجاح الذي أحرزه العلماء أخيراً كان استخراجه بنفقات زهيدة، فلم يتجاوز إنتاج الجالون 50 مليما، وفي زمن قصير، إذ تيسر إنتاجه في ثلث المدة السابقة
وكان هذا الكشف العلمي عاملا قويا ساعد على سد الحاجات العسكرية والمدنية في الولايات المتحدة التي قدر استهلاكها في السنة بـ 640 مليون جالون ينفذ منها في صناعة المطاط الصناعي 330 مليونا ويوزع الباقي على صناعات المفرقعات والنسج وغيرها، ولا تنتج هذه البلاد في الواقع إلا 590 مليونا فأتاح لها هذا الاكتشاف تعويض النقص
وتقدر نشارة الخشب التي تتخلص منها المصانع بالحريق بـ 30 مليون طن يكفي أقل من(608/41)
نصفها لإنتاج كل حاجة الولايات المتحدة العسكرية والمدنية
ووضع الفنيون تصميمات مصانع إنتاج الكحول من نشارة الخشب فقدرت نفقات واحد منها ينتج 150 مليون جالون في السنة بمبلغ 18 مليون جنيه. وقدروا إنه باستهلاك مخلفات النشارة كوقود يخفضون تكاليف الإنتاج بنسبة 20 إلى 25 %
فترة النقه وأسبابها
من أعقد المسائل التي يواجهها الطبيب ومريضه فترة النقاهة فان جميع أسباب العلة تزول، ومع ذلك يظل المريض فترة قد تصل إلى أسابيع يشعر أثناءها بارتخاء في أعصابه وعدم قابلية للعمل أو الحركة. فلماذا ينتاب الإنسان هذا الإحساس؟
لم يستطع أحد حتى الآن تفسير هذه الظاهرة وان كانت تعلل بأسباب مختلفة لم يقتنع بها الطب. ولهذا عكف بعض الأطباء على دراسة هذه الظاهرة دراسة عمية حتى يوفروا على المرضى كثيراً من سأم دور النقه
ويشرح الدكتور ريتشاردز الحالة بأنه عندما يصاب الإنسان بجرح أو مرض فان الضرر لا يؤثر في العضو المصاب وحده بل يشمل كل أعضاء الجسم، فيقل تركيز الدم، ويتأثر الجهاز العصبي، وتختل نظم التغذية لمدة طويلة لا يعتبر فيها المريض معافى ألا أن عادت إلى حالتها الطبيعية.
ويبحث الأطباء الآن في العلاقة بين هذه الظواهر ليتوصلوا إلى تقرير ما يجب عمله في أدوار النقة للمرضى
القهوة وقرح المعدة
أعلن ثلاثة من الأطباء في اجتماع الجمعية الطبية الأميركية أنه من الميسور معرقة الأشخاص المعرضين للإصابة بقرح المعدة بواسطة شرب القهوة. فقد وجدوا أن شراب القهوة يؤثر تأثيراً ضاراً على شخص من كل عشرة أشخاص من المصابين بالقرح أو المعرضين للإصابة بها.
فإن المعدة تتأثر بشراب القهوة وتفرز حامضاً قويا غنياً بالببسين، وهذا التأثير سريع الزوال في الأشخاص العاديين بينما يطول أمده في الأشخاص المصابين بقرح المعدة أو(608/42)
المعرضين للإصابة بها، ومن ثم يستطيع الطبيب أن يدرك استعداد الإنسان للإصابة بهذا المرض. وجرب مفعول مخدر القهوة على مجموعة من القطط بحقنه في عضلاتها فأصيب منها 40 إلى 50 في المائة بقرح المعدة.
ويعتبر الأطباء من يتناول أربع أو خمس فناجين قهوة في اليوم من المدمنين. ومن السهل تخفيف أضرارها بإضافة السكر أو الكريمة إليها، أو بتناولها مع الطعام فان هذه المواد تخفف حدة تأثيرها إلى 60 في المائة. فإذا اعتبرنا القهوة التركية السوداء 100 % فان تأثير القهوة الفرنساوي يكون 90 % والشاي 60 %
ويقول أحد الأطباء إن في القهوة عاملين يؤثران على الإنسان: أحدهما يؤثر على المخ والجهاز العصبي وهو الذي يؤدي إلى حالة الصحو، والآخر يؤثر على خلايا المعدة مباشرة وهو الذي يؤدي إلى حالة قرح المعدة أو يبين استعداد الإنسان للإصابة بها.
أنف بدل المفقود
تقدمت جراحة التجميل خلال هذه الحرب خطوات واسعة فتيسر بها إعادة كثير من الوجوه إلى حالتها الطبيعية. والفضل الأكبر في هذا التقدم يرجع إلى اكتشاف الأطباء لكثير من المعلومات الهامة عن المخدرات وفن (التبنيج) مما أتاح لهم حرية العمل في عملية واحدة لمدة أربع سنوات متواصلة مما كان يبدو مستحيلا منذ 25 سنة.
ويتعرض الإنسان في هذه العمليات إلى عدة مضاعفات مثل فقد الدم وتسمم الجروح وتيسر تعويض دم المصاب بنقله إليه من الخارج، كما منع اكتشاف البنسلين حوادث التسمم.
وليس معنى هذا أن الطب يستطيع تعديل تقاطيع الوجه كما يعدل المثال في قطعة من طين، فلم يوفق جراحو التجميل إلى تركيب أنف أو فك أحسن من الأنف أو الفك الأصليين، حقيقة إن وفرة المصابين في القتال أتاحت لهم إجراء عدة عمليات لم تكن معقولة فأعادوا لبعض الجنود أنوفا غير التي فقدوها في الميدان ولكنها لم تكن في إتقان الطبيعية
وتستطيع جراحة التجميل بما تستعمل من حيل إعادة الجلد المحروق والمتسلخ إلى طبيعته، فان كان كثيراً فأنها لا تضمن أن تترك فيه أثر المشرط لعدة أسباب، منها أن شرائح الجلد المأخوذة من أجزاء أخرى من الجسم تختلف في لونها وسمكها وبنائها عن جلد بشرة(608/43)
الوجه، فان كان الحرق أو التسلخ عميقاً حتى يتلف أنسجة الأعصاب فمن الصعب إصلاحه
واستطاع أحد العلماء ابتكار آلة دقيقة تقطع شرائح اللحم بأي سمك يطلب منها حتى تتفق مع المكان الذي ستوضع فيه فلا تكون سميكة ولا رفيعة
مواد التلوين والصناعة
المواد الكيماوية المستعملة في تلوين الأحذية والكتب من المسائل الهامة الآن لحفظها أطول مدة ممكنة، فكلما احتفظ الجلد بكمية وافرة من الحوامض كلما عاش مدة أطول، ولكن العكس مطلوب في صناعة ورق الكتب الثمينة، إذ يجب أن يحتوى على كمية من القلويات فان الحوامض المبيضة تتلف الورق.
وتتناول الأبحاث الأخيرة في التلوين عدة صناعات وزراعات من الألبان المحفوظة إلى الزهور. فقد وجد أحد الكيميائيين أن الورد الأحمر وزهر القمح الأزرق يتلون في الطبيعة بنفس المواد. ومع ذلك فلوناهما مختلفان. ويرجع ذلك إلى أن خلايا الورد تغلب عليها المركبات الحمضية، بينما خلايا زهور القمح تغلب عليها المركبات القلوية. وبتفاعل المادة الملونة مع أحماض الوردة ينتج اللون الأحمر. أما تفاعل نفس المادة مع قلويات الزهرة فينتج اللون الأزرق.
واستنبطت من هذه النظرية عدة قواعد هامة في تلوين المنسوجات، ومنع مواسير المياه من الصدأ، وفي صناعة حفظ الأغذية في الأوعية المعدنية.
ونال البسكويت نصيبه من الأبحاث الجديدة، فوجد أن لونه يسمر إن كانت القلويات كثيرة في الدقيق، ويبيض ويصير هشا إن زادت كمية الأحماض في العجينة
فوزي الشتوي(608/44)
القصص
المجنونة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب إبراهيم عند الرحمن خليل
كان السيد ماتيو داندولان والسيد روبرت دي بونيير يتجاذبان الأحاديث عندما وجه داندولان نظر صديقه إلى طيور برية قائلا: تذكرني هذه الطيور يا صديقي بحادث مؤلم من حوادث الحرب. . . أنت تعرف أملاكي في ضاحية (كورمي) التي أقيم فيها منذ احتلها البروسيون، وكانت جارتي (جادي) قد اعتراها نوع من الجنون بسبب حوادث مفجعة تتابعت عليها فأثرت فيها تأثيراً عنيفاً، فقد فقدت المسكينة في شهر واحد أباها وزوجها وأبنها الصغير، وكان حديث الولادة، وهكذا عندما يزور الموت منزلا أول مرة، يعود إليه ثانية كأنه يعرف الطريق. . . صرعها الحزن فلزمت الشابة البائسة فراشها وهي تهذي ستة أسابيع كاملة وتوالت عليها أزمات حادة ظلت بعدها خامدة عديمة الحركة، لا تكاد تتناول شيئاً من الطعام إلا بالجهد الشديد، لا يتحرك فيها إلا عيناها، وفي كل مرة حاولوا تغير موضعها كانت تصرخن بشدة كأنما يراد قتلها، فتركت نائمة كما شاءت وتوفرت على خدمتها سيدة عجوز طيبة القلب كانت تقدم لهما الماء من وقت إلى آخر مع قطعة من اللحم البارد تلوكها بين أسنانها. . . ما الذي كان يدور بخلدها المشتت؟ أكانت تحلم بالذين ماتوا؟ لم يعرف ذلك أبداً، لأنها لم تتكلم أبداً، ولأن فكرها المضمحل، ظل عديم الحركة كالماء الراكد. ومرت خمسة عشر عاما وهي على تلك الحال؛ مغلقة النفس، خامدة الحركة. . . جاءت الحرب، وفي الأيام الأولى من ديسمبر، تغلغل البروسيون في كورمي.
وكان الجو باردا والثلج يتساقط، إني أذكر هذا اليوم كأنه الأمس القريب، وكنت ممدداً على كرسي مستطيل بجوار نافذتي مريضاً بداء المفاصل، أسمع وقع أقدامهم الثقيلة وخطواتهم الرتيبة، وأراهم من النافذة صفوفا لا نهاية لها يبدون في حركاتهم المنتظمة كأنهم دمى تتحرك بخيوط مشدودة، وقد أمر القائد بتوزيع الرجال على سكان القرية فكان نصيبي منهم سبعة عشر رجلا ونصيب جارتي البائسة اثنا عشر رجلا، بينهم القائد وهو رجل عسكري(608/45)
قديم، حاد الطبع، غليظ الخلق. قيل له أثناء إقامته بالمنزل إن ربة الدار سيدة مريضة لم تفارق فراشها منذ خمسة عشر عاما متأثرة بحزن شديد أصابها ولكنه لم يقتنع بهذا، من غير شك، فقد توهم أن الذي منعها من استقبالهم إنما هو كبرياؤها واشمئزازها أن ترى البروسيين أو تحادثهم، فطلب مقابلتها وأدخل إلى غرفتها، فما إن رآها حتى خاطبها بصوت جاف خشن وبلهجة ركيكة فيها كثير من التحريف. . . أرجوك يا سيدتي أن تنهضي من فراشك وأن تنزلي لكي يراك الجميع. . . ولكن المرأة المسكينة أدارت نحوه عيونا مبهمة فارغة ولم تجب فأعاد بلهجته الغريبة مرة ثانية. . إذا لم تنهضي بإرادتك فسنجد وسيلة لإرغامك على نزهة فريدة. . ولكن المسكينة لم تأت بأي إشارة، كانت دائماً عديمة الحركة كأنها لا تراه، فتملكه الغضب، وظن أن السكوت منها علامة احتقار بالغ له، فأضاف مهدداً - إذا لم تنزلي يا سيدتي غدا. . . ثم أدار وجهه وانصرف.
وفي اليوم التالي، أرادت خادمتها العجوز الطيبة أن تلبسها ملابسها قبل أن يحضر الضابط ولكن المجنونة صرخت بأعلى صوتها في هياج شديد، ولم تجد أي محاولة معها. وفي هذه اللحظة صعد الضابط مسرعاً ليرى تنفيذ أوامره، فخرت الخادم على أقدامه مستعطفة صارخة، إنها لا تريد يا سيدي، أنها لا تريد، اصفح عنها، أنها بائسة تعسة.
ظل الجندي القديم، مشبكا ذراعيه كاظما غيظه، وفجأة انطلقت منه ضحكة عالية، وأعطى بالألمانية أمراً إلى رجاله، ورأى الرجالة يحملون المريضة بفراشها كما يحملون جريحاً في الميدان، ورأى في المؤخرة رجل يحمل حزمة ملابس نسائية.
المجنونة ساكنة هادئة لا تقاوم، ولا تبالي بالعواقب، كأنها نائمة نومتها الهادئة في منزلها العتيق. فرك الضابط يديه سروراً قائلا: سنرى جيداً إذا كنت تستطيعين أن تلبسي وحدك، وأن تقومي بنزهة صغيرة. . الموكب يسير مبتعداً متجهاً إلى غابة ايموفي. . . وقد مضت ساعتان عاد الجند بعدهم منفردين. . . ولم تعد المجنونة ثانية. . . ماذا صنعوا بها؟ والى أي مكان حملوها؟ لم يعرف أحد ذلك مطلقاً. الثلج يتساقط ليلا ونهاراً، وبدا الوادي في نعومة المخمل، أما الغابة فقد كفنها الجليد بثوب من الزبد المثلج، والذئاب تعوي حتى أبواب المنازل، وذكرى هذه المرأة المفقودة لا يفارقني.
قمت بجولات متعددة قريباُ من مناطق البورسيين مؤملا الحصول على معلومات عنها(608/46)
ولكني لم أفز بطائل، فظننت أنهم ربما قتلوها رمياً بالرصاص.
عاد الربيع، وابتعد الجيش عن القرية ومنزل جارتي المسكينة ظل مغلقاً تنبت الحشائش في أبهائه، والخادم العجوز في أثناء الشتاء، ولم يعد أحد يشغل نفسه بهذه الحادثة، ولكني - أنا نفسي كنت أحلم بها بلا انقطاع.
ماذا صنعت هذه المرأة؟ أهربت مخترقة الغابة؟ أم عثر عليها بعض المارة فأدخلها مستشفى قبل أن يستطيعوا الحصول على معلومات عنها؟
لم أجد ما يخفف حدة الشك في نفسي، ولكن الزمن خفف هذا الألم شيئاً فشيئاً. وجاء الخريف، وتتابعت أسراب الطيور البرية، واسترحت من مرضى قليلا فاندفعت نحو الغابة للصيد، وأصبت خمساً أو ستاً من ذوات المنقار الطويل، وكنت أبحث عن واحدة وقعت في حفرة صغيرة وسط فروع الأشجار، واضطررت إلى النزول في الحفرة لالتقاطها، ولكني سقطت على رأس ميتة، وفي الحال ترددت في صدري ذكرى المرأة المجنونة كأنها لكمة قوية، لقد كنت متأكداً أني سأقابل هذه البائسة يوماً ما، وفجأة فهمت، وفرضت كل شيء، لقد حملها البروسيون إلى هذه الغابة الباردة وأهملوها، وتركت المسكينة نفسها الخاوية تموت تحت وطأة البرد، وزغب الثلج المساقط، لا تحرك يداً ولا رجلا، ثم جاءت الذئاب الجائعة فافترستها، والطيور بنت أعشاشها من صوف فراشها الممزق.
حفظت هذا الحطام الحزين، وأقمت له النذور ودعوت الله ألا يرى أولادي الحرب أبداً.
إبراهيم عبد الرحمن خليل(608/47)
الكتب
في عالم الكتب
محمد عبده
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(محمد عبده) يدخل في سلسلة (أعلام الإسلام) نصاً وروحاً. ولقد أحسنت اللجنة التعجيل بإخراجه في أول السلسة، كما أحسن الدكتور عثمان أمين في اختيار الشخصية التي يقدمها من أعلام الإسلام.
ومن أولى المسلمين بأن يترجم له في الأعلام مثل الأستاذ الإمام؟ لقد عبنا على اللجنة إقرارها ترجمة (بشار) و (أبي نواس) ولكننا اليوم نذكرها بالثناء لهذا الانتقاء.
والدكتور عثمان أمين عالم بالشيخ محمد عبده من طول ما قرأ له وقرأ عنه. حتى لقد شغل به نفسه في رسالته التي ظفر بها بإجازة (الدكتوراه). ولا يزال الشيخ شغلا لصديقنا المؤلف في الصحف تارة وفي الندوات الأدبية تارات. حتى ليصح القول إن عثمان أمين ظل لروح الإمام لو كان للأرواح ظلال.
لعل هذا الكتاب موجز لرسالة المؤلف التي قدمها إلى الجامعة؛ ولعله أوجز فيه - مراعاة لاعتبار الطبع والنشر - كل ما يمكن أن يعرف عن محمد عبده
وإيجاز الرسائل الجامعية عمل لا بأس به لمن يريدون أن يجعلوا العلم سهلا تناوله قريباً مأخذه.
ولعل ذلك كان هدف المؤلف حين قصد إلى إخراج كتابه في هذه السلسلة المألوفة المنتشرة.
وليس كتاب (محمد عبده) عملا أدبياً يضع صاحبه في مرتبة الأدباء. وأظن المؤلف لم يقصد إلى هذا من وراء كتابه ولا عناه. ولكنه عمل عالم مشتغل بالفلسفة أراد أن يرسم للقراء صفحة واضحة من حياة رجل اشتغل بالحياة الفكرية الفلسفية الإسلامية فكان علماً من أعلامها.
ومن هنا أخطأ الذين لاموا عثمان أمين على طريقته في كتابه؛ ووجه الخطأ في قولهم إن(608/48)
(عثمان أمين) استعرض تاريخ رجل كما كان لا كما يريده المؤلف أن يكون. فهو يعرض الحوادث ويسوقها في تسلسل وحسن ربط وصحة عبارة وسلامة أسلوب. وهذا قصارى المؤلف في تاريخ الرجال. وما دام المؤلف قد بلغ بذلك العرض قصده من التعريف بحياة المترجم له فلا يعنينا بعد ذلك أن نبحث عن (مفاتيح الشخصية) التي يتحدث عنها بعض النقاد في هذه الأيام؟
وما حاجة المؤلف الواضح أن يصطنع (المفاتيح) ويتكلف البحث عنها ويدعي لنفسه فضل العثور عليها ما دامت الشخصية التي يتحدث عنها سهلة التناول واضحة للقارئ لا يجد فيها عناء ولا نصباً؟؟
الحق أن فكرة (مفاتيح الشخصية) هذه فكرة يلجأ إليها بعضهم حين يريد التجني على الكتاب لخدمة بعض الكتاب. وإلا فقد قرأنا (محمد عبده) لعثمان أمين ففهمنا حياة الشيخ من غير حاجة إلى (مفتاح). وكان المؤلف أفطن من أن يعنينا (بالمفاتيح) التي يقولون عنها في هذه الأيام!!
ولقد قرأت في الفرنسية كتاب لمؤلفه وهو من الكتب التي قرظها فلم أجد فيه (مفاتيح) بل وجدت الكتاب كله مفتوحا أمامي. . وقرأت في العربية كتاب (روزفلت) لفؤاد صروف وكتبت عنه في الرسالة الغراء فلم أجد الباب فيه إلى حياة روزفلت موصداً! وكذلك كان شأني حينما قرأت (محمد عبده)
إلا أن عثمان أمين لم يشر إلى المراجع التي وردت فيها أقوال من استشهد بهم، فقد ذكر أقوالا لأحمد بك أمين ولفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي ولم يشر إلى مأخذها - (ص22) وذكر كلام لجورجي زيدان ولم نشر إلى مصدره صفحة 24، وروى للشيخ عبد الوهاب النجار كلاما ولم يذكر مصدره - صفحة 105
وذكر المراجع والمصادر والمأخذ في خلال الاستشهاد يسهل على مريد البحث المطول أن يرجع إليه في مصدره، وخاصة أن الدكتور عثمان لم يثبت في ذيل الكتاب مسرداً بأسماء مراجعه
وقد جره ذلك الإغفال إلى إغفال أعداد الصحف والمجلات التي نشرت فيها مقالات للشيخ خصها المؤلف بالذكر لأهميتها، فذكر العناوين فقط ولم يذكر أعداد الصحف التي شوقنا إلى(608/49)
الاطلاع عليها وعنانا بالبحث عنها.
وفي الكتاب أعلام ذكرت الحروف الأولى منها ولم تذكر كاملة مثل (ع. ا. باشا) ناظر المعارف - ص 42؛ و (ل. بيك. س) الأستاذ بالمدرسة الحربية - ص 62.
ووجه الحكمة في إخفاء هذه الأعلام واضح في عصر محمد عبده حتى لا يتعرض الكاتب لأذى حاكم أو سخط رئيس. ولكني لم أفهم وجه الحكمة في أن يخفي علينا الدكتور عثمان أمين حقيقة هذه الأعلام بعد أن أصبحت في ذمة التاريخ. .
ولقد كان للشيخ محمد عبده رأى في الإصلاح الوئيد الثابت عن طريق التربية والتعليم لا عن طريق الطفرة والتطرف السياسي فكان كلام الدكتور في هذا منقطع الوشائج: ذَكَرهُ مواجزاً في صفحة 62، ثم عاد إليه مقتضباً في صفحة 120 حين تكلم عن جهود الإمام في الجمعية الخيرية الإسلامية. ولو عقد فصلا مستقلا في طريقة الإصلاح عند الإمام لوجد الكلام واسعاً موصولا. كما صنع أحمد أمين بك في الفصول الطيبة التي كتبها عن جمال الدين الأفغاني (راجع الثقافة - الأعداد من 264 إلى 269).
عيب الكتب التي تخرج دورية من شهر إلى شهر، أن كتابها يكتبون وهم مقيدون بقدر من الصفحات لا يتعدون حدوده! ولا يرضى مصدرو هذه السلاسل أن يتسع الكتاب أن يضيق تبعاً لموضوعه. ومن هنا يقع الكاتب في غل قد تأباه سليقته ولكن تحتمه عليه المناسبة (والظروف).
ومن هنا نجد كتب هذه السلاسل تنبسط هواديها وتنكمش أعجازها. . . تنبسط حين يبتدئ الكاتب في غير قيد، وتنكمش حين يحتم عليه تحديد الصفحات أن يقف في غير موقف! وأن يختم في غير مختتم! فترى آخر الكتاب ضيق الأنفاس على الضدَّ من أوله.
وكذلك كان الحال في (كتاب محمد عبده) فان محمد عبده المفتي لم يعرض كما عرض محمد عبده الطالب بالجامع الأحمدي في بضع الصفحات الأولى من الكتاب. ومحمد عبده المدافع عن الإسلام ص 126 لم يطل الكلام فيه كما طال مع الشيخ عليش صفحات 27 و28 و29 و30
إلا أن عثمان أمين يمتاز بالنصوع حتى على إيجازه، والحق أنني أحببته محدثا في ندوتنا الأدبية: ندوة الأحرار. وأحببته باحثاً في الفلسفة وكاتباً عن (محمد عبده). وأحببته فوق ذلك(608/50)
مثالا رفيعاً لتواضع العلماء.
محمد عبد الغني حسن(608/51)
هذه الشجرة
للأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
لم يكد الفكر يثب لإخضاع كل شيء من مظاهر الوجود للدرس؛ والتحليل؛ والتجلية؛ حتى اصطدم بأسوار الشخصية الإنسانية؛ فلقد لبث حيالها طويلا لاقتحام مجاهلها؛ وإضاءة جوانبها وكشف سراديبها، متخذا شوا ردها وظواهرها وما بند عنها وينبعث منها في سكونها واضطرابها؛ في تألقها، وانطفائها؛ في إقبالها وأدبارها؛ وسيلة إلى النفوذ إلى أعماقها؛ ومع أنه استطاع بفضل تسجيل هذه الظواهر؛ واستقراء هذه الأطوار أن يقدم إلى حد كبير معلومات قيمة عن هذا العالم؛ وكنه تلك الشخصية المحجبة؛ وإن كان الكثير منها لا يزال رهنا بما يدعم قوته في المستقبل أو يهدمه؛ ومع أن هذه الدراسات قد شارفت الاستواء العلمي في الغرب، فهي لا تزال محاولات أوليه في اللغة العربية؛ تقوم على الترجمة حينا و - الاختلاس - حينا آخر. فإذا ظفرت اللغة العربية بهذا البحث عن شخصية المرأة ومحاولة تحليل هذه الشخصية؛ وحل الكثير من عقدها؛ والغوص إلى مصدر تجاوبها الروحي والنفسي، واتصال ذلك بنظرتها في الحياة ودخله في تكييف نفسيتها وتكوين خلقها وإبانة مواضع سلوكها وما يتصل بعواطفها وأحاسيسها؛ فقد كان فوزاً عظيما للغة والأخلاق؛ أما اللغة فقد اكتسبت ثروة في ناحية لا تزال يعوزها الكثير منها؛ فلقد كان يطامن من شخصيتنا العلمية خواء المكتبة العربية من هذا اللون من الدراسات على كثرتها وعمقها في المكتبة الغربية؛ وأما الأخلاق فلا تخدم إلا بأمثال هذه الأبحاث؛ لأن المصلح الأخلاقي إذا أخطئه الوقوف على حقيقة الدوافع النفسية ومصادر هبوبها؛ والعوامل التي تعمل فيها حتى يتهيأ له قيادها حيث تجب القيادة، ويطب حيث يكمن داؤها؛ فشلت إلى حد كبير رسالته؛ لا أقول إن هذا البحث قد قال الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، أو أن كل ما فيه مبرأ من المآخذ التي يمكن أن تكون موضع جدل بين أساطين هذه الدراسات؛ بل ترجع قيمته إلى أنه أول بحث في اللغة العربية على ما أعلم - من نوعه؛ وأنه قد جمعت له من وسائل الفوز ما لا يظفر كثير بمثلها؛ فلقد تناوله ذهن منطقي بسليقته وطبعه؛ وقد نهل طويلا من أصفى مناهل المنطق؛ وعكوفه على هذه الدراسات(608/52)
العميقة الدقيقة؛ في هذا الجانب النفسي؛ وما يتصل به عكوفا متواصلا؛ وليس أدل على ذلك من هذا الثبت في آخر الكتاب يرشدك إلى أن هذا الموضوع ليس وليد المصادفات الغريبة؛ بل هو كمين في ذهن الكاتب من فجر حياته الفكرية؛ ووقوفه التام على ما تجود به الأقلام في هذه الناحية؛ ثم صياغته صياغة محكمة طلية؛ كل هذا يضع هذا البحث من القلوب موضع الإكبار والحب؛ لأنه الباكورة الأولى التي نرجو مخلصين أن تتابع؛ وقيمة الكتاب يجب ألا تقاس فقط بكثرة ما يحمل من نظريات لا يحوم حولها النقد؛ بل يجب أن تقاس أيضاً بما يثير من آراء؛ ويبعث من أفكار؛ وينير من جوانب؛ ولعل هذا النوع يكون أطول بقاء وأقوى على النفع بما يتولد عنه ويتجاوب معه؛ وحسبي ذلك في تقديم هذه الشجرة، فليقبل عليها القارئ ليجنى ثمرها؛ ويهدأ في ظلها.
محمد عبد الحليم أبو زيد(608/53)
العدد 609 - بتاريخ: 05 - 03 - 1945(/)
المدارس الأدبية
للأستاذ عباس محمود العقاد
من الحكايات الإنجليزية المروية أن بنتاً من بنات الفلاحين وصلت إلى العاصمة فرأت جنوداً مصطفة وزحاماً من الناس على جانبي الطريق وشرطا يذهبون وخيلا تعدو بفرسانها كوكبة بعد كوكبة، فعجبت لهذه الحركة التي لم تعهدها في قريتها وسألت ما الخبر؟ فقيل لها إنه الملك يعود إلى قصره من هذه الطريق. فوقفت تنظر مع الناظرين حتى عبر بها الملك في مركبته فنظرت إليه وهي لا تصدق ما تراه، وصاحت بمن حولها: عجبا! انه إنسان مثلنا، فلماذا يجتمع الناس لينظروا إليه.
هذه البنت الريفية توجد في كل بلد وفي كل زمن، لأن الدنيا لن تخلو يوما من أولئك الذين يغلو بهم وهم السماع فلا يعرفون الواقع حين يرونه، ويحسبون أن الأمور التي يتحدث بها الناس ينبغي أن تبدو للأنظار والأسماع على غير ما تألف وتعتاد.
وليس هذا بعجيب في أخلاق الجهلاء، ولكنه عجيب ولاشك حين يتصف به أناس يحكمون في الأدب والفكر ويقيمون الحدود بين الكتاب والشعراء ويزعمون أنهم يعرفون ويملون المعرفة على الذين لا يعرفون!
ومن هؤلاء كاتب في صحيفة سورية تناول ما كتبته (الرسالة) عن بعض المدارس الأدبية فقال كما قالت تلك البنية الساذجة: عجبا! أن هؤلاء إلا أناساً كسائر الناس، فكيف يكونون أصحاب مدارس في الكتابة أو الشعر كأولئك الذين نسمع عنهم من وراء البحار؟
وأظهر شيء تدل عليه تلك الدهشة أن (البنية الريفية) التي كتبت في تلك الصحيفة السورية لا تعرف مدرسة واحدة من مدراس الأدب في الغرب ولا في اللغة العربية، وإنما تعرف تلك المدارس على الوهم الذي يخيله إليها السماع ولا يتمثل لها لحظة في صورة الفهم الصحيح.
ولو لم تكن تلك (البنّية الريفية) كذلك لأدركت أن الأدب الغربي - منذ أربع أجيال على الأقل - لم تنشأ فيه مدرسة واحدة صنعت في أدب قومها بعض الذي صنعه أدباء العربية في الجيل الحاضر والجيل الذي سبقه، لأن الآداب الأوربية تجري منذ ألف سنة في طريق واحدة يتقدم فيها السالكون خطوة بعد خطوة ومرحلة إثر مرحلة، ولا ينتقلون فيها إذا انتقلوا(609/1)
فترة بعد فترة إلا من مقدمة محضرة إلا نتيجة منتظرة، تمشياً مع الحركة المطردة من عصر اليونان إلى عصر النهضة التي جددت بعض مدارس اليونان، إلى عصر الإصلاح والثورة بلا انقطاع ولا انحراف، إلا في أيام الركود والجمود.
فقصارى ما تصنعه المدرسة الأدبية بين الغربيين أنها تزيد في المجاز أو تزيد في التعبير عن الواقع، وإنها تميل إلى الأسلوب المأثور أو تدخل عليه بعض التصرف والتعديل، وأنها تجمع إليها رهطا من الزملاء بينهم تشابه في المزاج وتقارب في الموضوعات أو تقارب في موضع الإقامة وفي المناظر التي يلتفتون إليها ويعنون بوصفها، ثم يرجع الناقد إلى أدب قومهم قبل ظهورهم وبعد ذهابهم فإذا هو متقارب متتابع لا وثبة فيه ولا جنوح عن الجادة التي مهدت من قديم الزمان.
ولا يستطيع أحد من أولئك السماعيين أن يترجم شعر خمسين سنة متوالية إلا بدا له أنه كالحلقة بعد الحلقة في سلسلة واحدة قلما تتباعد في أوساطها وإن تباعدت في أطرافها، وانه على الإجمال نوع واحد من الأدب في الصميم.
أما أدباء العربية في الجيل الحاضر والجيل الذي سبقه فقد صنعوا في تغيير مقاييس الأدب ما لم تصنعه مدرسة واحدة أوربية في الأجيال الأخيرة.
لأن اختلاف المقاييس هنا هو اختلاف بين لغة ولغة، وبين طبيعة وطبيعة، وبين إقليم وإقليم، وبين زمن وزمن، وبين موضوعات وموضوعات.
كانت مقاييس الأدب عندنا هي المقاييس التي يقال فيها هذا أغزل بيت قالته العرب، وهذا أهجى بيت قاله الأنس والجن، وهذا معنى لو تقدم صاحبه في الجاهلية يوما واحداً لكان أشعر الشعراء.
وكان الأديب العظيم معصوماً من النقد والملاحظة، فإذا نقد أو لوحظ عليه فإنما يجترئون عليه لأنه متأخر لا يستشهد بكلامه في العربية، ولا يكون اجتراؤهم عليه لحرية فكر أو صدق نظر إلى القول والموضوع.
وكان البيت وحدة القصيدة، وكانت القصيدة شتيتاً لا يشبه البنية الحية ولا يقبل الاسم والعنوان، إلا أن يذكر في صدرها أنها نظمت في تهنئة زيد أو رثاء فلان.
وكانت الدواوين كراسات مملوءة بالقصائد من حرف الهمزة إلى حرف الياء بغير تفرقة في(609/2)
معارض الكلام ومعانيه إلا ما تعودوه في التفرقة بين باب المديح وباب الهجاء وباب الوصف وما شاكل ذلك من الأبواب.
وندع المنظوم والمنثور وننظر إلى الشعراء والكتاب أنفسهم فإذا هم كانوا في عرف العلية والسفلة متسولين أو ندماء يغشون المجالس للتسلية والترفيه، ولا تعرف لهم رسالة مرعية في عالم الفكر أو في عالم الروح.
كل أولئك قد تغير في جيلين، أو تغير معظمه في جيل واحِد، ثم لا يقال عن الذين غيروه إنهم جاءوا بمدرسة من مدارس الأدب أو بدلوا حالا بعد حال، ولا يزال كثيراً عليهم أن يشبهوا أولئك الأدباء الأوربيين الذين تنسب إليهم المدارس لأنهم كانوا يقيمون عند بحيرات الجبال ولا يقيمون في الحواضر والعواصم، أو كانوا يفصلون في مسائل الجنس والغرام ولا يجملون، أو كانوا من أهل التصريح في العبارة ولم يكونوا من أهل الكناية والإيماء.
جاء أولئك الأدباء الذين تستكثر (بنّيات الريف) أن تنسب المدارس إليهم فاستطاعوا في مدى قصير أن يغيروا النظرة إلى الأدب وأن يغيروا النظرة إلى الأدباء.
فليس أدباء العرب اليوم مسترفدين ولا ندماء اسمار، ولكنهم أصحاب صناعة مكرمة يضارعون في الكرامة أولئك الذين كانوا يمدحونهم ويتزلفون إليهم ويقفون على أبوابهم في انتظار جوائزهم قبل جيلين أو ثلاثة أجيال، وإذا أستطيع في الغرب تعظيم شأن الأدباء على هذا النحو فليس في ذلك من عجب وليس فيه كبير فضل للأديب ولا لأحد من أفراد الناس، لأن استغناء الكاتب أو الشاعر بأعماله بين أمم محيت منها الأمية وتعودت مطابعها أن تخرج من الكتاب الواحد عشرات الألوف من كل طبعة أمر غير عسير.
أما المعجزة حقاً فهي تعظيم شأن الأدباء في بلاد لا يزيد قراؤها على عشر أهلها، ولا تملك مطابعها أن تعمم نشر الكتب بين القراء القليلين وهم موزعون هنا وهناك بين شتى الأقطار.
وهذه المعجزة صنعها أولئك الأدباء يكثر عليهم أن تنسب المدارس إليهم!! ولم يصنعها الأدباء الذين تسمع بهم (نهيّات الريف) ولا يعقلون عنهم شيئا وراء السماع.
صنعوا هذا وصنعوا معه أنهم غيروا النظرة إلى الأدب كما أسلفنا فانتقلوا به من عصر إلى عصر ومن موضوع إلى موضوع ومن مقياس إلى مقياس، ولم يكن هذا الأمر ليتيسر في(609/3)
البلاد الشرقية كما تتيسر نشأة المدارس في البلاد الأوربية، لأن تقرير المقاييس الحديثة هنا نقلة من القديم إلى الحديث مع اختلاف اللغة والمزاج والفكرة ونماذج التفكير والتعبير، وما كان هناك إلا حلقة صغيرة في سلسلة متشابكة الحلقات.
وسبيل المقابلة جهود الأدباء في الشرق وجهود نظرائهم في الغرب قريب جداً لمن يسمع ويعقل وإن كان بعيداً جداً عمن يسمعون ولا يعقلون. . . أو يعقلون وقصارى عقلهم أن يصيحوا كما صاحب بنيّة الريف: يا عجبا! إنه لإنسان كسائر الناس.
سبيل المقابلة أن تختار خمسون سنة من تاريخ الأدبيين، ثم يرى الناقد من ذلك مبلغ التفاوت بين البداية والنهاية في كل من الفترتين، ومبلغ الجهد الذي كان لازما لا غنى عنه في أحوال الأمتين وإلى جانب هذا يختار كاتب أو شاعر من أصحاب المدارس هناك تعرض له صفوة أعماله التي تتخذ للموازنة والمقابلة وتبني عليها المناقشة والمفاضلة، فلعل الكفة التي ترجح في هذا الميزان غير الكفة التي ترجح في ميزان السماع، ولعل السالك في الطريق المعبد لا يبلغ شأن نظيره الذي يعلو ويهبط بين النجاد والوهاد، ويفتح طريقه قدما قدما وهو مدلج فيه منقطع عن الرفيق.
تلك هي الحقيقة السهلة لمن يبصر الحقيقة إذا وقعت عينه عليها، ولا ينتظرها كما ينتظر شيئاً يسمع به أبداً ولا يراه أو يدري كيف يراه.
فإذا خفيت هذه الحقيقة البينة على من تصدمهم ولا يدركونها - فليس الخطأ في ذلك خطأ الكتاب والأدباء، ولكنه خطأ الحظ الذي رزقهم من القراء من يشبه تلك البنية الريفية البلهاء، وما أكثرهم في الشرق على قلة القراء!
عباس محمود العقاد(609/4)
أبو العلاء المعري
التفاؤل والأتربة عند الشيخ
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
الإيثارية ?
وافعل بغيرك ما تهواه يفعله ... وأسمعِ الناس ما تختار مَسمعه
هذا البيت يشمل الأثرية والإيثارية معاً.
ولحكماء الإغريق قبل التأريخ الميلادي بخمس مائة سنة وفي الإنجيل ولحكيم الصين ما يشبه قول الشيخ. وروي البخاري في جامعه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وروى ابن سعد في (الطبقات): (قال رسول الله ليزيد بن أسد: يا يزيدَ بنَ أسد، احبَّ للناس الذي تحب لنفسك) والأثر الكريم - كما ترى - هو أثرى وإيثاري. وروى البحتري في حماسته لعبد الله بن معاوية الجعفري:
ارض للناس ما رضيت من الناس (م) ... وإلا فقد ظلمت وجرتا
ولأبي العتاهية:
ولا خير فيمن ظل يبغي لنفسه ... من الخير ما لا يبتغى لأخيه
وقال عبد الله ابن المقفع:
(أعدلُ السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك).
وروى السبكي في (طبقات الشافعة) لأبى سليمان الخطابي:
ارض للناس جميعاً ... مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً ... كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ... ولهم حس كحسك
وفي (كامل) المبَّرد هذا القول: (خير الناس للناس خيرهم لنفسه)، قال أبو العباس: (وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من الشرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه).(609/5)
ولما دعا الإمام الأستاذ أرنست هيكل إلى تلك النحلة الطبيعية الوحَدية اتخذ تلك الحكمة دعامة آدابها.
ولو أني حُبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علىّ ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
فيا وطني، أن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال
وما سرني أني أصبت معاشراً ... بظلم وأني في النعيم مخلد
فانفع أخاك على ضعف تحس به ... إن النسيم ينفع الروح هباب
كيف لا يشرك المضيقين في النعمة قوم عليهم النعماء
انجد أخاك على خيريهم به ... فالمؤمنون لدى الخيرات أنجاد
فجد بعرف ولو بالنزر محتسباً ... إن القناطير تحوي بالقراريط
فدار خصمك إن حق أنار له ... ولا تنازع بتمويه وإجلاب
إذا ما تبنيا الأمور تكشفت ... لنا وأمير القوم للقوم خادم
لا يتركن قليل الخير يفعله ... من نال في الأرض تأييدا وتمكينا
أضئ بالمعروف وأتلق، وأطلق يمناك فغدا تنطلق.
انظر بين يديك، واجعل الشر تحت قدميك، وإذا دعا السائل فقل لبيك، وإذا ألجأ عدوك الدهر إليك فانس حقودك الغَبِرات
أطعمْ سائلك أطيب طعاميك، واكس العاري أجد ثوبيك، وامسح دموع الباكية بأرفق كفيك.
الرجل كل الرجل من آتى الزكاة، ورحم المسكين، وتبرع بما لا يجب عليه، وكره الحنث، وكفر عن اليمين.
لتكن سماؤك ثرة، وثرى أرضك قريبا، فنعم الشيء الثراء لمن كسا العاري وأطعم السغبان.
ذُرّت البركة في طعام أكل منه الضعيف، ونزعت البركة من طعام خص به الغني دون الفقير، والله مطعم المطعمين. وزرُّ حرام يوقع المحقة في قميص انتسج من حل، وقطرة الدم تقع في المزادة فلا يحل منها الطهور.
أرَّ نارك لطارقك، ولا تؤرها لإحراق الجار، والله جار من لا جار له من المستضعفين. وبرٌّ في قلبك خير بُرَة في يدك فاتق الله، وكن مع الأبرار الطاهرين.(609/6)
قُد نَفسك إلى الواجب ولو بجرير، وكِد معاديك بأن تجتنب أفعال الكائدين، ودل السائل لتكون نعم الدليل، ودم على ما قربك من الأبرار الطيبين، ودِن من فعل خيراً معك فإنك مدين.
يا بغاة الآثام، وولاة أمور الأنام، مرتعُ الجور وخيم، وغبه ليس بحميد، والتواضع أحس رداء، والكبر ذريعة المقت، والمفاخرة شر الكلام. كلنا عبيد الله.
من بخل بطعام فقد بخل بقليل الأنعام.
بعدت رائجة قُتار، تظهر تارة بعد تار، ثم لا ينال خيرها الفقير.
النفاق يلبسك ثوب الإشفاق، والافتقاد يذهب الأحقاد. والأشر يهلك البشر، لا كتبنا الله مع الأشرين!
ماروا قُطُر ورائحة حبيب عطر بأطيب من ثناء مستطر يثنى به بَرّ على مُبر.
تلكم طائفة من أقوال الشيخ، وفيها التفاؤل كله في الحياة، وفيها الأثرية - كما أن فيها الإيثارية - وكان شيخنا (يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل) كما روى الصفدي في (نَكْت الهميان)
وكان خفيف الروح يَدْعب ويُفاكه، ومن فكاهته في إحدى رسائله إلى أبي الحسين أحمد بن عثمان النكتي البصري وقد غير هذا اسمه، وقصر كنيته - هذه النبذة:
(. . . وأهل البصرة (سلمهم الله) ينسبون إلى قلة الحنين، أليس قد مرت به هذه الحكاية وهي أنه وُجد على حجر مكتوب:
مَا من غريب وإن أبدى تجلّده ... إلا سيذكر عند العلة الوطنا
فكتب تحته إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم، والدليل ما قلت أنه - أدام الله عزه - لم يُثبت اسمى، جعلني محمداً واسمي أحمد. . . وله أن يقول إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. فأما أنا فحفظت اسمه وكنيته ونسبه، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته، وقد جعلت كتابه نائبا مناب الاجتماع معه. . .
وما عبت على أهل البصرة قلة التفاتهم إلى الأوطان وإنما وصفتهم بقوة القلوب والأكباد لأن العرب تصف نفوسها بذلك، أليس قد بلغه قول قتاد بن مسلمة الحنفي:(609/7)
يبكي علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
فكيف استجاز أن يقصر كنية صديقه؛ أما السمة فغيرها، وأما الكنية فقصرها، فإنا الله وإنا إليه راجعون! هذا أمر من الله، ليس هو من ضعف الشاعر ولا وهن القائل ولكنه من سوء الحظ لمن خوطب والاتفاق الردئ لمن سُمى وذكر. . . وإنما تغوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور الظر، أي مكفوف، مقصور في البيت أي لازم له، فكأني محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لو كنت أطول من ظل الرمح لصرت أقصر من سالفة الذباب، قد كدت أمْصَحُ في الأرض كما تمصح الظلال. . . وقد مدحني بما ليس فّي، ولكنه في ذلك على مذهب الخطباء والشعراء، وزعم صاحب المنطق في كتابه الثاني من الكتب الأربعة أن الكذب ليس بقبيح في صناعة الشعر والخطابة، لذلك آستجازت العرب أن تقول فتفرط. . .)
وما (رسالة الغفران) العبقرية إلا كتاب أماليح وأفاكيه وأهاكيم
وكان الشيخ كلفاً بالحمد والمجد (والثناء على الرجل أحس الملبوسات) (وغير ملوم من عشق الثناء لأنه أحسن حبيب مزور وأبقى نُفِس مذخور) وقد أعلن ذلك ابن القارح في رسالته المشهورة إلى أبى العلاء:
(. . . ويعلم الله الكريم (تقدست أسماؤه) أني لو حننت إليه (أدام الله تأييده) حنين الواله إلى بكرها، أو الحمامة إلى إلفها، أو الغزالة إلى خشفها - لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام والعصور والأعوام، لكنه حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن، والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النجاة، والقِلق إلى السكون، بل حنين نفسه إلى الحمد والمجد، فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الاسطقسات إلى عناصرها، والأركان إلى جواهرها. . .)
وإذا أقام أبو العلاء في عرينه مضرباً فيه، فقد كان مطلا على الدنيا - وإن خيل أنه تخلى منها - وما كان أخا زهد فيها، لا فكر له في شيء. وكانت شؤون أمته تعنيه أيما عناية، والمتشائم لاتهمه حالة، ولا يبالي بأمر بالة. كتب إلي أبى الحسن ابن سنان، وقد أوذم على نفسه الحج، والعدو يزأر في الثغور:
(. . . وسفُر مولاي إلى الحج في هذه السنة حرام بَسْل. . . وهل سمع في أخبار الصحابة(609/8)
(رحمهم الله) أو التابعين أن رجلا خرج من مُصافة العدو يريد بيت الله الحرام. . . وهو (أدام الله تمكينه) أمين من أمناء المسلمين، يُرهف الشوكة، ويستجيد اللأمة، ويحصن ما وهي من سور. . . البيت العتيق منذ عهد آدم يُزار ويحج، ما خيف عليه انتقال ولا تحول، ولا غيره عن العهد مغير. . . أما يعلم أن لأهل البلد أُنساً برؤية شخصه واستماع قوله. وما ينبغي أن يكون كما قيل في المثل (لجَّ فحجَّ) ولو قال وليد لوليد في ليل داج وهو محادث محاج: من يؤجره في مقامه في الديار أضعاف أجره في حج واعتمار؟ فقال الوليد الآخر: (محمد بن سعيد) لوقع سهمه غير بعيد. وحماية الذمار أولى من حج واعتمار. . .).
ولما صبأ الفتى طارق (خلده الله في جهنم)
وفارق دين الوالدين بزائل ... ولولا ضلال بالفتى لم يفارق
أرسلها (لزومية) صاعقة مجلجة أحرقت ذاك المضلل. وهذه اللزومية - وهي واحد وعشرون بيتاً - توضح فرط عنايته بأمته واستمساكه بنحلته، وتنبئ بأنه كان يداخل القوم في أحوالهم وإن كان جليس نفسه
اقرأ كلامي إذا ضم الثرى جسدي ... فإنه لك ممن قاله - خلف
محمد إسعاف النشاشيبي(609/9)
في معرة أبى العلاء
للدكتور عبد الوهاب عزام
وشارفنا حمص والساعة واحدة إلا دقائق، وطالعتنا بعمرانها وسط زروعها وجناتها، ثم دفعت بنا السيارات إليها واخترقتها غير معرّجة، وبودّنا أن نعرج عليها قليلا. وعزاّنا عما فاتنا من منى العين والقلب أنا عائدون إليها بعد أيام فنازلون بها. وجاوزنا حمص إلى سهل واسع محمر التربة تكسو الخضرة آكامه وجباله. وما زلنا نضرب في الأرض صوب الشمال حتى عبرنا العاصي عند قرية عليه ورأينا أولى نواعيره والساعة واحدة وخمس وعشرون دقيقة. وأشرفنا على حماة والساعة اثنتان، فقضينا بدخولها وطراً قديما، فقد مررت بها ثلاث مرات ولم يتيسر دخولها، فأنشدت قول امرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية رحنا من حماة وشيزرا
فاليوم أسعد برؤية حماة بين بساتينها ونواعيرها وهي أكبر نواعير الشام. ولاسيما هذه الناعورة العالية الرائعة التي لا يقل قطرها عن عشرين متراً فيما حزرت. ويقال إنها كانت في مكانها من حماة أيام المأمون العباسي.
نزلنا في المدينة فاستقبلنا حكامها وأعيانها ورجال التعليم فيها في (دار العلم والتربية) وهي بناء قديم جميل فيه من فن العمارة والنقش روائع. دخلنا ساحة فيها حوض كبير في وسطه صورة سبع يتدفق الماء من فمه، وفي جانبه شجرة كبيرة جميلة ترى خضرتها ونضرتها في صفحة الماء. وصعدنا إلى طبقة فيها باحة يتوسطها حوض آخر وعليها عقود جميلة وراءها قاعة من آثار الفن العربي الإسلامي. يستقبل داخلها خرير الماء في حوض صغير توسوس فوقه نافورة جميلة رخامية فيها أنابيب كثيرة تقذف الماء فتخرجه أغصانا متشابكة من البلور، وعلى سقف القاعة وجدرها من النقش والألوان ما يشغل النظر والفكر، وكتب عليها آيات وأحاديث وأبيات من الشعر. ومن المرائي العظيمة الجميلة المصورة على جدرها صورة مدينة حلب وقلعتها، وصورة القرن الذهبي في استانبول.
بنى هذه القاعة أسعد باشا العظم عام 1153هـ، وجود نقشها نصوح باشا العظم عام 1194هـ.
وصارت مدرسة منذ خمسة وعشرين عاما وهي اليوم دار العلم والتربية. لبثنا بهذه القاعة(609/10)
الجميلة ريثما سمعنا ترحيب المدينة وتحدثنا إلى إخواننا في فرح الأمل وبسمة الظافر. ثم خرجنا إلى فندق البلدية حيث أعد الغداء. وأهل المدينة في الطريق والشرفات يصفقون ويحيون بلاد العرب.
وقد رحب بنا رئيس البلدية هناك.
ولم يسعني الصمت في حماة وفي هذه الذكرى بين هذا الجمع، فألقيت كلمة أتذكر منها هذه الفقرات:
أرجو أن يعذرني إخواني إن تكلمت وفي صوتي أثر المرض، كأن دمشق الحبيبة، دمشق التي أحببناها وأخلصنا في حبها، فعل بنا هواؤها ما فعل، (وقد يؤذي من المقة الحبيب). وإني أقول مغيرأ قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لجلّق من أجسادنا ما استحلّت
أيها الإخوان: إن الأمم لا تستيقظ في جانب وتنام في جانب، ولا تنهض في ناحية وتقعد في أخرى، إذا استيقظت استيقظ كل شيء فيها، وإذا نهضت نهضت كلها، فليس محض اتفاق أن اجتمعت وفود البلاد العربية على ذكرى أبى العلاء المعري في الشام حين اجتمعت وفودها في الإسكندرية لتخط للجامعة العربية خطتها، إن الأمم إذا عزمت وأجمعت أمرها لم يقفها شيء دون الغاية. ثم ذكرت اغتباطي بدخول حماة بعد طول اشتياق إلى دخولها. وحييت أهل حماة وأهل الشام جميعا، وقلت: إني أعني الشام الذي عرَّفني إياه التاريخ، لا أعرف هذه الأسماء الجديدة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وكان بجانبي الأستاذ الصديق عارف النكدي، فطال تصفيقه لهذه الفقرة.
فصلنا من حماة والساعة ثلاث ونصف نؤم المعرة.
أشرفنا على المعرة أصيل اليوم بعد مسير نصف ساعة من حماة فرأينا سهلا خصباً كثير الزروع والأشجار فخفقت القلوب لذكرى شاعرنا الفيلسوف، وابتسمت الشفاه لمعاودة مدينة أبى العلاء، وكنا زرناها قبل خمسة عشر عاماً، واستقبلنا في مدخل البلد شارع فسيح طويل لم نره في زيارتنا الأولى. وعرفنا أنه فتح في السنين الأخيرة، ودُعينا إلى الاستراحة في دار حديثة جميلة من دور آل الحراكي، ثم خرجنا نؤم مقصدنا، ضريح رهن المحبسين(609/11)
ولست أنسى مسيرنا بين صفوف متراصة من أهل البلد، ودور ازدحمت منافذها وشرفاتها بالمشرفين على مهرجان أبى العلاء، وقد مال بالشمس الأصيل فغضَّت أشعتها من أبصارنا كأنما يغض منها جلال الشيخ الفيلسوف
ذكرت حينئذ مكانة الشيخ من أهل بلده، إذ كان حدباً عليهم براً بهم، إذ كانوا يفزعون إليه في الشدائد، وتمثلت صالح بن مرداس ينزل بساحتهم يريد الإيقاع بهم، فيفزعون إلى شيخهم وقد لزم محبسه وقطع بينه وبين الناس العلائق لو استطاع، ويستنجدونه ليدفع عنهم بأس الأمير الكلابي، ويستشفعون به ليطلق صالح رجالهم، وكان قد اعتقل من أعيانهم سبعين، وأبو العلاء يرم بالفتن المحيطة، آنس يخلوته، أو قلق بها، يصف الناس، إثمهم ورياءهم وخداعهم، وجنايتهم على أنفسهم وعلى الحيوان يبغي الأمن في داره الصغيرة، ولا يأمن أن تلج عليه آثام الناس، وقد اعتزلهم جهده، وود لو ينقذه الموت من صحبتهم وجوارهم. ولكن أبا العلاء الرحيم لا يملك أن يرد اللاجئين إليه، أو يقعد عن إغاثتهم وهو قادر، فيخرج أبو العلاء كارها إلى الأمير صالح فيقول:
الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ هجيره وطاب براده، والسيف القاطع لان مسه وخشن حدّاه. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فيقول صالح وقد أخذه مرأى الشيخ الذي سمع بمكانته، وعرف له قدره، قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ورجع الشيخ إلى داره وهو فرح بما يسر الله على يده من الفرج، مغموم لما اضطره إلى الخروج من معتزله والمثول بين يدي أمير.
قال:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل ... وُحمّ لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبنّي هذا النفاق ... فكم نفّقت محنة ما كسد
ويقول:
نجّىِ المعاشر من براثن صالح ... رب يفرّج كل أمر معضل(609/12)
ما كان لي فيها جناح بعوضة ... والله ألبسهم جناح تفضل
وقد ذكر صالحاً في مواضع أخرى من لزومياته، وقال:
ما لمت في أفعاله صالحاً ... بل خلته أحسن مني ضميره
وما زال أهل المعرة يعظمون شيخهم ب وفاته ويسمّونه (سيدنا أبا العلاء) فهم اليوم يعتزون ببلدهم ويفخرون بشيخهم وقد جاءت وفود الأقطار القريبة والبعيدة تذكره وتعظمه.
سارت الوفود بين الجموع الحاشدة ومعهم أعيان البلد، وزعيمها حكمت بك الحراكي. وقد رأيته - وقد ضغط الناسَ الزحامُ إلى طريق الوفود - يُسرع مشفقاً على ضيوفه يرد الناس بأمره وذراعيه. مبالغة في الاحتياط لضيوفه. ونحن في جذل وفي هيبة مما نرى ونسمع. أبصارنا تتخلل هذا الزحام، وتستشرف إلى الضريح المقصود وقلوبنا بين ذكرى الشيخ، وبين حفاوة أهل المعرة به وبوفوده. اقترب مني حينئذ الأستاذ الأديب خليل مردم بك وقد أعجبه احتشاد المعّريّين، وفرح الولدان ومرحهم، وراعه هذا الموكب السائر لتحية الفيلسوف الحزين فقال: هذا مهرجان المعري) قلت: صدقت، إن هذا لهو مهرجان المعري.
وانتهينا إلى بناء جديد ولجنا أحد أبوابه إلى ساحة فيها زرع وزهر. فملنا ذات اليمين والجنوب إلى القبر الرهيب، يجثم عليه هذا الجندل العتيق، وكنا رأيناه من قبل وقرأنا عليه اسم المقبور بخط كوفّي، وقال أحد أصحابي حينذاك: إن له هيبة الأسد الرابض. وفوق القبر عقد من الحجر لا تكلف فيه ولا تأنق، فهو يساير زهد أبى العلاء لو رضي زهدهُ أن يشاد على قبره بناء.
ألم يقل في لزومياته:
فدًى لنفسك نفسي آِونى جدثا ... من الخَفيّات لا قَصرا ولا فَدَنا
قد تمنى الرجل ألا يزار قبره ولا يعرف:
ولي منزل في الثرى ما يُزار ... ولو رامه زائر ما عرف
فهل يرضيه أن يكون قبره معروفاً مَزورا تحج إليه الوفود؟
وقد ود أن يكون جدثه في معزل عن أجداث الناس كما بعد هو في حياته عنهم:
يا جدثي حسبك من رتبة ... أنك من أجداثهم معزلا
وقد دفن في معزل من الناس إلا بعض قرابة، ولكني احسبه لا يكفيه هذا الاعتزال وهو في(609/13)
المدينة بين الدور. كان بوده أن يدفن في مهمة بعيداً عن الأحياء والموتى:
وددت وفاتي في مهمة ... به لامع ليس بالمُعَلم
أموت به واحدا مفردا ... وأدفن في الأرض لم تظلم
وأبعد عن قائل: لا سلمت ... وآخر قال: ألا يا اسِلم
أحّاذر أن تجعلوا مضجعي ... إلى كافر حان أو مسلم
إذا قال ضايقتني في المحل ... قلت: أساءوا ولم أعلم
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(609/14)
أسرار الشعراء
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لن تجد صاحب شغف يتسقط أسرار الأدباء، ولا طُلَعةً يتحسس أخبار القراء مثلي. ولا أعرف منهلاً أحلى رشفاً، وأكثر رّياً، وأبلغ عظة من هذه الأسرار، فهي إن لم تهذب وتحذّر تلذ وتهز. وقد تجد فيها ما ترومه. وقد تلتبس عليك الأمور فلا تجد شيئاً. لأن بعض الأدباء يخفون عمداً أسرارهم الصحاح، ويوهمون الناس أسراراً أخرى مزيفات، أو يلوذون بالصمت، فيلصق الناس بهم أشاوي لا عهد لهم بها، ولكنهم يرضون عنها، فالمهم أن يكونوا أحدوثة القوم وسمر المجالس. وما عليهم بعد ذلك إن صح ما ينسبون إليهم، أو بطل، ولكن ما رأيك إذا عثرت على طائفة من رسائل نفر من الأدباء، رسائل الأصدقاء إلى الأصدقاء، التي يفضي بها الإنسان بدخيلة أمره ومكنون سره ومضنون شكوه؟ إنها اعترافات لا يشوبها زيف ولا يعتريها بطلان، فلتقرأ أنموذجات منها ولننظر ماذا نلقي فيها.
ديموندفلاور أديب إنكليزي معاصر؛ شغف بتتبع أسرار الأدباء. فانتخب نهاد المائة رسالة، رسائل الأدباء من أيام شكسبير حتى أيام لورنس، أعني منذ منتصف القرن السادس عشر، إلى هذه الأيام. فأخرجها في كتاب فخم طريف سماه (في اقتفاء أثر الشعر) نقلوه إلى الفرنسية في فجر هذه الحرب وسموه وهو كتاب يغنيك عن ألف كتاب، وسفر لا يحوجك، لكي تفهم ما فيه، إلى كثير من العناء. يصور لك من خلال الرسائل أولئك القراء فترف حولك أطيافهم، وتتمثل في خاطرك أحاديثهم، وتراهم بقلبك، فتحسب أنك معهم ثم تشعر بعد هذا أنك صديق لهم، تحبهم ويحبونك، وتؤثرهم ويؤثرونك، فيفضون إليك بدخائلهم وأسرارهم، ويطلعونك على آرائهم وأفكارهم، بل قد تعلم هجسات قلوبهم ونجويات خواطرهم. وقد تجد فيهم لطفاً وعطفاً، وقد تلقى قسوة وخشونة. ثم إن شئت بعد ذلك أن تعرف شعرهم وطبعهم عليه، ونثرهم وبراعتهم فيه فذلك طوع يديك.
يقول فلاور في مقدمة الكتاب: لا تخدع نفسك أبداً، ولا تجهد كثيراً، ليس لديك وسيلة لمعرفة جوهر الشعر، والنفوذ إليه، والوقوف عليه، سوى القراءة. ينبغي أن تقرأ شعر الشاعر مرة ومرة، ثم تعيد قراءته مثلها، وقد تصل في النهاية إلى ما تريد. ولكن إذا(609/15)
تواردت عليك هذه الأسئلة: كيف ينظم الشاعر؟ أي نوع من الناس هو الشاعر؟ كيف يبدع، وكيف يخفق؟ فليس لديك شيء أكثر جدوى من الرجوع إلى سيرة حياته ورسائله الخاصات إلى صحبه وأصدقائه.
اقرأ هذه الرسائل، تعرف الشاعر حق المعرفة، وتعلم أن عمل الشاعر شاق صعب، طويل مجهد، يبعث الملل ويفضي إلى التعب. وتقف على المشقة التي يلاقيها الكتاب، للبحث عن لفظة أو صوغ جملة يؤدي بهما المعنى الواسع العميق الذي يزخر به صدره. إن من المعاني ما يكون عظيماً واسعاً، ولكن الثوب ضيق، ولابد من البحث والتنقيب، ليكون الثوب قدر المعنى، فيُظهر محاسنه ولا يخفيها، ويستر عيوبه فلا يبديها، ويؤثر في نفس السامع ويحيها.
الحق أن الأديب يجتهد ويتعب. ولكنه لا يشكو ولا يتأفف. وقد يبدو ذلك من فلتات لسانه أو قلمه، وقد يدعى أن لا أسهل عنده سهولة ولا أشد تملكاً من أن ينظم لك أو يكتب ما تشاء، وفي أي وقت تشاء، على حين يكون قد قطع الليالي في البحث عن حرف أو في نظم بيت.
إن هذه الرسائل مجمع حي للقراء الإنكليز وكتابهم. هذا دريدن وهذا وردثورت وذلك كيتز وذاك وهنا هاردي وبينهما بيرون فكلهم أمامي أقرأ رسائلهم فأتمثل وأفكر.
هنا دريدن يكتب إلى ناشر أحد كتبه بلهجة فيها عتب وتهديد:
(إنك لن تستطيع أن تعنى كثيراً بطبع كتابي طبعة جديدة مع التصحيحات التي أشرت إليها. إن أقل خطأ يسوؤنى إلى الأبد).
وإذا كانت غلطة واحدة تسوء دريدن إلى الأبد، فإن وردثورث كان أشد قسوة من دريدن وأقل بناشر كتبه رحمة فقد كتب إليه مرة: (لقد وجدت غلطة في مقدمة مؤلفي الجديد لقد طبعوا بدلا من فينبغي أن تصحح هذه الكلمة في كل نسخة طبعت).
فماذا يقول الناشرون اليوم لو أتاهم وردثورث يطلب إليهم بالقلم ذلك وكان المطبوع آلافاً من الكتاب؟
ثم حول وجهك نحو ولتر سكوت القصصي البارع. الذي يقول عنه هوغو (إنه يهزني ويتلاعب بي كما تهز الريح الورق في الخريف). تحول إليه واسمعه يتحدث عن الإيجاز(609/16)
في الكتابة ويدعو إليه. ويشمئز من النعوت التي يحشو بها الكتاب السطور لا لمعنى فيها ولا لسحر بها. ولكن للإطناب عند الكتاب , ولاستقامة وزن الشعر عند الشعراء. هذه الاستقامة التي يقتضيها علم العروض. حتى إنك لتراه في بعض الأحايين مبشراً بالشعر المرسل الحر محاربا الحشو والتطويل أي حرب، معيباً على بوب أنه ملأ ترجمته الإلياذة حشواً.
وعلى نحو من هذا , تجد الشاعر الأميركي ويتمان فانه يعجب بالإيجاز ويأنف من التطويل. ويكتب عندما أخرج مجموعته الشعرية المسماة (إنني سعيد , لأنني استطعت أن أنزه شعري من كل حشو. وإنني لأنتشي عندما أشعر أن كل كلمة في القصيدة لا غنى عنها، سواء أكان ذلك لوزن الشعر الذي راعيت حفظه، أم للمعنى الذي أردت إظهاره).
ولندع سكوت ينادى بالإيجاز، ولننظر شارل لامب، الدعبوبة المرح، يكتب إلى وردثورث رسالة طريفة، يتهزأ فيها من الكتاب الذين ينبهون قراءهم أو ينصحون لهم: (قد تعلمون وقد لا تعلمون)، (ولا يحسبن القارئ أبدا)، (وتخيلوا إذا استطعتم) وغير ذلك من شبيهات هذه التعييرات التي يعلو الكاتب فيها ويحسب القارئ طفلاً أمامه يلقنه ويعلمه أو يشك بعلمه.
فماذا يقول لامب لو قرأ ما يسوقه الدكتور طه حسين في ثنايا كتاباته من هذه التعبيرات؟
ولامب إلى ذلك يعيب على شعراء عصره أنهم يشطون في وصف المناظر الطبيعية بأوصاف مبتذلة (السماء الزرقاء والشمس الذهبية المتلألئة. . .) فماذا يقول لو سمع اليوم شعراءنا وكتابنا ما يزالون يقولون (النسيم العليل والماء النمير والهواء الرقيق؟)
استمع إليه يكتب إلى صديقه وردثورث، وقد دعاه ليقضى أياماً في الجبال. هذه الرسالة التي تثير دهشتك وشغفك:
(لا يسوؤني كثيراً أنى لم أر الجبل قط في حياتي، فلقد عشت دائماً في لندن. وكنت أشعر دائماً بميل شديد إليها لا يقل عن ميل أصحاب الجبال إلى الطبيعة الجميلة. إن الدكاكين المصفوفة والمصانع التي لا عهد لها والتجارة والزبائن والسيارات الكبيرات والصغيرات والمسارح والمقاهي. وهذا الفوران حول (كوفنت غاردن) وهؤلاء النساء اللندنيات وحراس(609/17)
الليل والسكارى والضجيج، وتلك الحركة الدائمة التي لا تنقطع في أية ساعة استيقظت فيها من الليل والجموع الغفيرة في كل مكان. حتى الأوساخ والوحول. ثم تلك الشمس المضيئة الرفافة فوق البيوت؛ وبائعي الصور المحفورة والأبخرة الفواحة التي تصاعد من مطابخ المطاعم. كل أولئك يملك على أمري ويستولي على مشاعري؛ ويغذيني دائماً، دون أن أشعر بملل قط. إن جمال هذه المناظر يدفعني أحايين كثيرة إلى التنقل ليلاً في الشوارع الملأي بالناس. وإنني لأذرف الدموع في بعض الأحايين من الفرح. ولابد أن تبدو هذه المشاعر غريبة عنك، كما تبدو غريبة عنى مشاعرك نحو الطبيعة والجمال. . .)
فهذا وصف ما فيه ترتيب ولا حسن نسق، وهو مضطرب مشوش ولكنه بارع. لقد تعمد الكاتب هذه الصورة المضطربة تعمداً، ليصور لك لندن المضطربة أيضاً. فبراعتها في اضطرابها وحسنها في قبحها.
صلاح الدين المنجد(609/18)
على هامش النقد
سلسلة جديدة
سارق النار. . . خليل هنداوى
للأستاذ سيد قطب
في العالم العربي نهضة لاشك فيها، أخص خصائصها عندي الإقبال على القراءة؛ فالرغبة في المعرفة هي الرغبة في الحياة، وما يغلق إنسان على نفسه أبواب المعرفة إلا وقد خمدت فيها جذوة الحياة، فلم تعد في حاجة إلى (الأوكسجين) الذي يجدد اشتغالها
وآية الإقبال على القراءة هي الإقبال على النشر الذي نلحظه في هذه الأيام في جميع البلاد العربية. والإقبال على النشر يدعو إلى الإقبال على التأليف. فما ينشط المؤلف أكثر من أن يحس أن هناك ناشراً يترقب ما تخرجه يداه، وأن من وراء الناشر قارئاً يتلقف ما تخرجه المطبعة!
وأياً كانت الأسباب التي بعثت هذه الحركة , فهي بشير خير على كل حل. وحين نجرد الحركة من الأسباب الطارئة مع الحرب فأننا نجد وراءها سبباً أصيلا هاماً، هو يقظة الشعوب العربية وتطلعها إلى مستقبل خير من الحاضر، مستقبل تتهيأ له بالمعرفة، ويشوقها ما فيه من حيوية وازدهار
أقول هذا بمناسبة ظهور سلسلة أدبية جديدة في (بيروت) تضطلع بها دار (الأديب)، وظهور سلسلة من قبلها في (دمشق) تخرجها (دار اليقظة العربية) اتباعاً للسلاسل التي تصدرها مصر: سلسلة أقرأ. وسلسلة أعلام الإسلام. وسلسلة النشر للجامعيين. وسلسلة كتب الشهر لدار إحياء الكتب العربية. . . وكل هذا بجانب الكتب الفردية للمؤلفين الكثيرين هذا بشير نهضة نرجو أن تظل في اندفاعها البعيد!
(وسارق النار) هي الحلقة الثانية من سلسلة (الأديب) ببيروت. ويهمني أن أكتب عنها! فإخواننا الشرقيون دائمو العتب علينا لأننا - كما يقولون - لا نحفل مؤلفاتهم، ولا نلتفت إلى نهضتهم. وذلك في الوقت الذي يعيبنا أن نحصل على هذه المؤلفات، أو أن نقف على أسباب النهضة لأنها لا تصل إلينا إلا في الحين بعد الحين، وبعد مشقة وعسر، حين(609/19)
نحصل عليها في مكامنها المخبوءة. وقد لا نعثر عليها أصلا لأنها لاتباع!
اعرضوا هذه الكتب في سوقنا، وأعلنوا عنها في صحافتنا ثم اعتبوا بعد ذلك ما تشاءون!
والأستاذ خليل هنداوي صاحب الحلقة معروف لنا من (الرسالة) ثم من (الأديب) ومن (المقتطف) في بعض الأحيان، فلعل إخواننا الشرقيين يعلمون من هذا أننا نتتبع كتَّابهم، ونعرف خطواتهم. ولسنا عن هذا بغافلين!
(وسارق النار) مجموعة من المسرحيات مستمدة من الأساطير الإغريقية - إلا واحدة منها فمن قصص الحب العربي - وليست (سارق النار) إلا واحدة من هذه الأساطير سميت بها المجموعة كلها. وقد ضمت سواها: فتنة جزيرة بلا رجل. ميلاء. المثّال التائه. اللحن الكئيب
و (سارق النار) هو (برومثيوس) الذي تقول الأساطير الإغريقية إنه سرق النار المقدسة بمساعدة هليوس، فاستطاع أن يخلق بها كما تخلق الآلهة، فغضبت هذه عليه وانتقمت منه.
والأستاذ خليل هنداوي يمثل في هذه المسرحية طريقة السرقة والحوافز النفسية التي زجت به في هذه الوعورات وغضب الآلهة وحوارها بشأنه، ثم انتقامها بما أرسلت إليه من الرذائل تشق طريقها إلى قلبه، والأمراض تنتقل على فراشه، والشقاء ينقض ظهره، والأشواك تملأ دربه، والموت يطفئ حياته. . . ومع هذه الآلام جميعاً. . . الأمل صديق الإنسان الوحيد في الحياة. الأمل الذي كان إله الأرض هو الشفيع في إرساله للإنسان مع هذه الآلام!
وكذلك عالج في (فتنة) عاطفة الغيرة. غيرة الجمال بين الربات الثلاث: أفروديت إلهة الجمال، وأتينا إلهة الحرب، وهيرا زوج كبير الآلهة. حينما غفل الآلهة عن دعوة (ايريس) خصيمة إفروديت إلى عرس إلهي. فقذفت بين المجتمعين بتفاحة كتب عليها إلى (أجمل فتاة) فانطلقت الفتنة في لحظتها. . . من الربات هي (أجمل). إن حكم الآلهة لا يرضي فليحكم الإنسان! ليحكم أول رجل يصادفنه. إنه باريس راعي القطيع. وإنه ليحتار ويذهل، وإنه ليتلقى الإغراء والوعيد. . . ثم يحكم. يحكم لأفروديت. إلهة الجمال التي لا تملك إلا الجمال. ثم ليتلق انتقام الإلهتين. لقد اختار الجمال. (وإن من يختار الجمال يختار معه الموت). وباريس لم يتلق الموت ولكنه تلقى الشرود الدائم في الفيافي والسهوب يرسل(609/20)
الألحان من شبابته في حنين دائم إلى ربة الجمال!
وعلى هذا النسق يسير المؤلف في الاستمداد من الأساطير، وصياغة ما يستمده مسرحيات تقصر أو تطول.
يجب أن نرتد هنا إلى التسلسل التاريخي في عالم الفن العربي فنرد هذا الفصل من فصوله - فصل الانتفاع بالأساطير المختلفة في عالم المسرحيات - إلى (الفنان الأول) الذي نقله إلى المكتبة العربية. . . هذا الفنان هو توفيق الحكيم:
أهل الكهف. شهرزاد. نهر الجنون. بيجماليون. سليمان الحكيم، هذه عنوانات لا تنسى، وقد فتح بها هذا الفصل في المكتبة العربية واستقر. واطمأن على وجوده بكل تأكيد.
بقي أن نتطلع إلى (الفنان الثاني) الذي يخطو خطوة وراء توفيق الحكيم. خطوة أصلية كخطوته. لا تقف عند تقليده. ولا تقف عند مداه. بل تمتح من نبعها، وترتقي آفاقا وراء الآفاق الأولى.
فهل استطاع الأستاذ (هنداوي) ان يخطو هذه الخطوة؟ يجب ألا نجد في أنفسنا حرجا من الجواب. . . لا!
ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يوفق. فهذا شيء آخر. إنما الذي أعنيه هو أن الخطوة الأولى في هذا الفصل لا تزال متفردة ولا تزال سابق، وهذا كل ما أريد أن أقول.
وفي مسرحية (المثال التائه) مجال للموازنة بين (بيجماليون) توفيق الحكيم و (بيجماليون) خليل هنداوي وأحب هنا أن أبرئ الأستاذ (هنداوي) من النقل. فحينما ظهرت (بيجماليون) توفيق كتب الأستاذ هنداوي في المقتطف أن له مسرحية من فصل واحد عن (بجماليون) نشرها في المقتطف في وقت لا يتسع البتة للنقل والمحاكاة.
ثم إنه عالج الموضوع بطريقة أخرى غير طريق الحكيم وبين الطريقتين وبين الطاقتين تصح الموازنة ويصح القياس.
فأما بيجماليون عند توفيق الحكيم فهو الفنان المضطرب المتأرجح بين الحيوية الحاضرة والنموذج الفني الخالد. والذي يفتن بما أبدعت يداه ثم يحطمه لأن في نفسه أبدا طموحا إلى ما هو أعلى. إلى الفني الذي يخايل له أبدا ويدعوه إلى الخلق من جديد.
وأما بيجماليون عند خليل هنداوي فهو الفنان الذي يفتن بعمله الفني فيحس فيه الحياة(609/21)
ويستغني به عن النموذج الحي الذي استوحاه.
وكلتاهما وجهة نظر وطريقة اتجاه. أما التقدير الفني لهما فيقوم على مقدار ما استطاع المؤلف أن يبثه من فن ومدى توفيقه في معالجة موضوعه على النحو الذي أراد.
لا تزال الريشة في يد الأستاذ هنداوي ترتجف، ولا تزال تنقصها الجرأة الحاسمة، والحركة المتمكنة. وفي مثل هذه المسرحيات يكون للومضات الذهنية والتحليقات الفكرية والإشرافات الوجدانية كل القيمة في معالجة الموضوع. وهذا كله في مجموعة (سارق النار) محدود بقدر، حين يقاس إلى مثله عند توفيق.
وفي اعتقادي أن مسرحية (سارق النار) هي خير ما في المجموعة بالقياس إلى توافر هذه العناصر، وبالقياس إلى لمسات الحوار الموحية؛ وإلى رائحة النضج التي تشتم في هذا الحوار.
ثم تليها مسرحية (فتنة) فمسرحية (جزيرة بلا رجل) فمسرحية (المثال التائه) فمسرحية (اللحن الكئيب).
أما مسرحية (ميلاء) فالفشل واضح فيها. وأخشى أن يكون منشأ هذا تخلي روعة الأساطير الإغريقية ووحيها عن (المؤلف) فميلاء عربية في جوها وشخصياتها. وقد بقيت عارية من اللحم والدم والفن. ولهذا دلالة خطيرة! لا أحب أن آخذ بها في هذه المجموعة بل أوثر أن أنتظر تجربة أخرى جديدة!
بقيت كلمة حق:
إننا إذا استثنينا توفيق الحكيم. ورحنا نبحث في الشرق العربي عما أخرجته المطبعة في هذا الفصل - فصل المسرحيات الأسطورية. نجد مجموعة (سارق النار) هي الأولى في جميع المحاولات. ولعل المستقبل يضمر لمؤلفها من النضوج والتمكن ما يقفز به إلى الصف الأول. ولكن بعد جهد طويل.
سيد قطب(609/22)
الأميرة علية بنت المهدي
160 - 210
للأستاذ سعيد الديوه جي
عاشت علية بنت المهدي في أوج الدولة العباسية، ولدت في خلافة المنصور، وتقلبت في نعيم أبيها المهدي وشاهدت بغداد وهي أعظم مدينة في العالم: دار السلام، وعاصمة الإسلام. مقر الخلافة وكعبة الأدب، ودار العلم والحكمة، جنة الأرض، وعرة البلاد، ومجمع المحاسن والطيبات، ومدينة الظرائف واللطائف، فهي حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وقد سأل الأمام الشافعي رجلاً: هل رأيت بغداد قال: لا. قال. ما رأيت الدنيا ولا الناس هذه هي بغداد التي كانت عاصمة الرشيد والتي مثل في قصورها وحدائقها وملاعبها حوادث ألف ليلة وليلة، التي كانت وما زالت مضرب الأمثال في العظمة والسعة والنظام، وفي سبيلها سفكت دماء، وثلت عروس، وانقرضت دول إثر دول. وهي صامدة تقاوم حدثان الدهر، وتضحك من فتنة آدم بها؛ فهي بحق (زوراء) بوجه كل عدو.
أما أمها: فهي مكنونة: من جواري المدينة المشهورات بالحسن والجمال والغناء والدلال والشعر والأدب ولها صوت رخيم، فأجتمع فيها جمال الخلق وجمال الصنعة وافتتن بها الناس، وبلغ أمرها المهدي، وكان يرغب بها ولكنه يخشى غضب أبيه المنصور المعروف بجده، فاشتراها سراً بمائة ألف درهم؛ ولما دخلت القصر غلبته على أمره وملكت قلبه فمال إليها دون بقية جواريه وفضلها حتى على (الخيزران) فكانت الخيزران تقول: (والله ما ملك امرأة أغلظ علي منها).
تولت أمها تربيتها بنفسها فحببت إليها الجمال منذ صغرها؛ فنشأت مطبوعة على حب الفنون الجميلة؛ أمرت بتعليمها الكتابة فأتقنتها؛ واختارت لها الكتب الأدبية فدرستها؛ وسلمتها إلى المؤدبين فأحسنوا تأديبها، وأحضرت لها الفقهاء والعلماء فأخذت عنهم، وكانت تريضها على قول الشعر منذ نعومة أظفارها فصارت من الشاعرات اللاتي يضرب المثل بشعرهن. كما كانت تطلعها على ألحان العرب وأصواتهم وتدربها على آلات الطرب. فكانت بلبل بني العباس وهزارهم.
ولما كمل شبابها تطلع أمراء البيت المالك إليها وكل منهم يتمنى أن يحظى بالفن والعلم(609/23)
والجمال، ولكن أباها آثر بها (موسى ابن عيسى الهاشمي) وهو أحد أبطال بني العباس شجاعة وأدبا ودهاء. وتولى إمارات الولايات المهمة. كمصر؛ والعراق؛ والشام؛ واليمن.
ورثت علية من هذا الأمير أموالاً طائلة وعقارات في الولايات التي تقلدها فاتخذت لها قصراً فخماً يضاهي قصور الخلفاء في السعة والجمال، يقع هذا القصر على ضفة دجلة بالقرب من قصر زبيدة (دار القرار) وقصر الرشيد (دار الخلد) ولقصرها شرف مطلة على دجلة؛ وقد زينت شاطئه بما تحويه من النقوش المتقنة والتصاوير الجميلة؛ والألوان الزاهية؛ كما كان لقصرها شرف أخرى تطل على الميدان - ميدان دار الخلافة - والقصر يضم آلاف الجواري والخدم والحراس؛ وبلغ من أمر القصر أن اتخذه الخليفة المعتصم داراً له بعد وفاتها.
في الشرفات المطلة على النهر كانت تجلس علية؛ تصعد أمامها السُّمرِيَّات والحرَّاقات والزَبازِب إلى دار القرار أو تنحدر إلى دارالخلد مقر عاهل الإسلام أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة عرفه الشرق والغرب. فيها القواد والأمراء والعلماء وأهل الفن بل يمر أمامها أهل بغداد على اختلاف طبقاتهم. وترى وفود الملوك والعواهل يتقدمون بذلة وخضوع حاملين هداياهم معرضين ولاءهم لأمير المؤمنين.
علية والرشيد:
كان الرشيد مشغوفا بأخته وقلما يصبر عنها، وإذا زارته فانه كان يجلسها معه على سرير الخلافة. وذلك لما يراه من عقلها وأدبها وظرفها؛ ورقة شعرها، وجمال غنائها؛ وحسن توقيعها، وكثيراً ما كان يزورها في قصرها ويطلب منها أن تقيم له الحفلات الغنائية ويقضي ليلة عندها يصغي إلى أصوات الحور العين؛ تردد في جو قصرها ما أبدعته قريحة من علية الشعر وما صاغته من الألحان
وفي إحدى ليالي الربيع وقد نشر البدر أشعته الفضية على بغداد وجناتها وساد المدينة الهدوء وأطفأت أنوار دار الخلافة وأمير المؤمنين على فراشه يتململ تململ السليم. يطلب النوم فلا يجده؛ وتوالت عليه الهواجس والأفكار فضاق صدره؛ بل ضاق به دار الخلد؛ فخرج إلى حدائقه الغناء يتنقل من محل إلى آخر لينفس غمه ويزيل همه. ولكن السرور لم يجد إلى قلبه سبيلاً؛ كأنه لم يشعر بما حوله من الأزهار والرياحين؛ وما يحف به من(609/24)
الحور العين؛ ترك القصر واتجه إلى قصر أخته (علية) هرع الخدم إلى الأميرة يعلمونها بقدوم أمير المؤمنين؛ فأسرعت الأخت إلى أخيها؛ وهي تعلم أن مجيئه في مثل هذه الساعة؛ ومن غير ميعاد؛ لم يكن إلا لأمر أصابه أو هم أقلقه. وعلية أدرى الناس بمعالجة أخيها - كيف لا؟ وهي أميرة الشعر والطرب.
جلس الرشيد في الشرفة المطلة على دجلة. وأمرت علية جواريها أن يلبسن أنواع الثياب المزركشة؛ ورصعت رؤوسهن بالعصائب الحريرية المكللة بالدرر والجواهر؛ وأخذن معازفهن وجلسن قريباً من أمير المؤمنين واندفعت تغني أبياتاً من نظمها وتلحينها والجواري يرددن الغناء:
فرجَّوا كربي قليلاً ... فلقد صرت نحيلاً
افعلوا في أمر مشغو ... ف بكم فعلاً جميلاً
فالشعر من نظمها؛ واللحن من وضعها؛ والصوت من قلبها وما خرج من القلب حل في القلب؛ فتغلغلت النغمات في أعماق قلب الرشيد ودافعت الهموم، فسر بذلك وابتسم فابتسمت الدنيا لعلية؛ إذ أنها فرجت عن أخيها؛ واستزادها فغنت من نظمها:
أوقعت قلبي في الهوى ... ونجوت منه سالمه
وبدأتني بالوصل ... ثم قطعت وصلي ظالمه
توبي فانك عالمه ... أولا فانك آثمه
فطرب الرشيد طربا شديداً. ثم استدناها منه وأخذ يتحدث معها عما كان به من الهم: وأمرت علية إحدى جواريها فغنت من أصوات سيدتها:
قل لذي الطرة والاصداغ والوجه المليح
ولمن أشعل نار الحب في قلب قريح
ما صحيح عملت عيناك فيه بصحيح
وغنت جارية ثانية:
ألبس الماء المداما ... واسقني حتى أناما
وافض جودك في النا ... س تكن فيهم إماما
لعن الله أخا البخل ... وإن صلى وصاما(609/25)
وبقي الرشيد عند أخته يستزيدها من الأصوات فتغنيه هي وجواريها حتى أذّن المؤذن يدعو الناس إلى ذكر الله وإلى الصلاة فلبى الرشيد داعي الله ونهضت أخته تودعه يحف بها الجواري والبشر طافح على وجه الخليفة والسرور قد ملأ قلبه.
وكانت عليه كثيراً ما تباغت أمير المؤمنين في الأزياء المبتكرة والألحان التي تضعها أو الشعر الذي تجود به قريحتها
- وفي أحد الأيام كتبت إليه تستزيره كعادتها - وما كاد يتوسط حديقة القصر حتى رأى أخته تستقبله هي وجواريها بأزياء جديدة مبتكرة وهن يرددن صوتاً من نظم أميرتهم وتلحينها:
تفديك أختك قد حُبيت بنعم ... ة لسنا نعد لها الزمان عديلا
إلا الخلود وذاك قربك سيدي ... لا زال قربك والبقاء طويلا
وحمدت ربي في إجابة دعوتي ... ورأيت حمدي عند ذاك قليلا
وكان كثيراً ما يستصحبها معه في سفراته ومتزهاته، لتشاركه في أفراحه وتخفف عنه عناء السفر في أنغامها وأشعارها. خرج مرة إلى الرقة البلدة الجميلة التي كان الرشيد كثيراً ما يرتادها لجمالها وطيب هوائها وكثرة أزهارها وأثمارها، فأحب أن تشاركه أخته بهذا الجمال الفتان فكتب إلى خال المهدي يأمره أن يصحبها معه إليه. وفي طريقها استيقظت صباح يوم على أصوات النواعير. فصغت إلى أنينها يتردد في ذلك الفضاء الواسع يشارك كل مفؤود ويسلي كل محزون ويخفف أتعاب البائس، ويحرك أشجان الهائم ويذكر الألف بألفه والحبيب بحبيبه، والغريب بوطنه، ويشكو إلى الله ظلم البشر - ولم تكن علية قد سمعت هذا الصوت السحري الجميل فحرك أشجانها وهيج قلبها، وذكرها ببغداد وما فيها، ففاض الشعر من قلبها واندفعت تغني على هذا التوقيع الطبيعي:
اشرب وغن على صوت النواعير ... ما كنت أعرفها لولا ابن منصور
لولا الرجاء لمن أملت رؤَيته ... ما جزت بغداد في خوف وتقدير
وصلت الرقة بسلامة وشاركت أخاها الأنس والطرب ثم رجعت إلى دار السلام. ولما سافر الرشيد إلى الري أمر علية أن ترافقه فوافقته كرهاً، ولم يطلب لها الخروج من قصرها جنة الدنيا ونعيمها إلى بلاد لا تعرفها وأناس لا تألفهم، ولما وصل الموكب المرج جلست علية(609/26)
مع الرشيد وكان قلبها معلقاً ببغداد فأظهرت لأخيها شوقها في شعرها فأنشدته:
ومغترب بالمرج يتكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون عن الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفى برائحة الركب
فأمرها الرشيد أن تعود إلى دار أنسها ومرحها.
وكان الناس يتقدمون إليها لتساعدهم في قضاء حوائجهم عند الرشيد، شفاعتها عنده مقبولة، وكلمتها لا ترد، وقاصدها لا يخيب، وكيف يردها وهي تخاطبه بلسان الشوق وتعبر له بأعذب الألحان.
أما تعلق (زبيدة) زوج الرشيد بالأميرة علية فكان لا يقل عن الرشيد بها. تشكو لها كل هم يصيبها وتطلعها على سرها وتستشيرها وتسترشد برأيها الصائب - كما كانت تبث لها شكواها إذا ما رأت جفوة أو إعراضاً من أمير المؤمنين وتستعين بها عليه.
أهدي للرشيد جارية في غاية الحسن. والجمال وعلى جانب من العلم والأدب فأعجب بها الرشيد وقدمها على جواريه. ثم تعدى الأمر إلى أعظم من هذا حيث قدمها على زبيدة، شق الأمر على زبيدة، فقد أفلت (هرون) من يدها، وظهر لها ضرة نافستها وتقدمت عليها - وداء الضرائر معروف وجد مع تعدد الزوجات فلا يغيظ المرأة أحد بقدر ضرتها (فالضرة مرة ولو كانت جرة) ولكن ما العمل والجارية قد احتلت مكان زبيدة وملأ حبها قلب هرون.
كتبت زبيدة إلى بنت عمها تستزيدها، ولما حضرت عندها عرضت عليها أمرها وشكت ما تقاسيه من مرارة العيش منذ وجدت هذه الضرة وطلبت معونتها فقالت علية: (لا يهولنك هذا الأمر والله لأردنه إليك).
نظمت عُليةُ أبياتاً. وصاغت فيها لحناً وجمعت جواريها وجواري زبيدة عندها وأمرتهن أن يلبسن أفخر ثيابهن ويأخذن أجمل حلاهن، وكلت رؤوسهن بالأزهار والرياحين، وعطرتهن بالطيب والغالية، وطرحت عليهن اللحن حتى أتقنه. انتشر الجواري بين أشجار جنائن الخلد وأزهارها، ولما كان وقت العصر خرج الرشيد للصلاة في مسجد قصر الخلافة، وما كاد يتوسط القصر حتى باغته الجواري وكأنهن حوريات أفلتن من الجنة، بأيديهن المعازف يتقدمهن عُلية وزبيدة، وهن يرددن بصوت واحد:
منفصل عني وما قلبي عنه منفصل ... يا قاطعي قل لي: لمن نويت غيري أن تصل؟(609/27)
فطرب الرشيد غاية الطرب وتقدم إلى زبيدة وأخذ بيدها واعتذر منها، ونادى يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته على الجواري. فيقال إنه نثر عليهن ستة ملايين درهم ولم يشاهد الرشيد في يوم مسروراً كسروره في هذا اليوم. عادت المياه إلى مجاريها وكفى الله زبيدة داء الضرائر بفضل عُلية. فسبحان محول القلوب!!.
قلما تصفو الدنيا الغدارة لأحد فهي لا تلبث أن تبدل الصفو بالكدر، والسرور بالقهر، والفرح بالحزن، والهناء بالعزاء، تضحك اليوم وتبكي غداً، وتعطي هذا وتحرم ذاك.
وبينما عُلية في شرف قصرها، تطل على القاصدين لدار الخلافة تترقب عودة أخيها الرشيد من (طوس) رأت حركة منكرة في دار الخلد، واضطرابا في القصر بل في بغداد أجمع، فقد اجتمع الأمراء والولاة والقضاة وأرباب الحكم على اختلاف طبقاتهم بثياب العزاء فتفرست بهم فإذا بوجوههم عانية، وقلوبهم خانقة، وعيونهم دامعة، وألسنتهم خرس. لا تقدر أن تعبر عن هول المصيبة التي حلت بأمير المؤمنين، والرزء الذي أصاب العرب والمسلمين: - أن أمير المؤمنين الرشيد قد قضى نحبه في طوس - اسودت الدنيا بعين عُلية وضاق بها القصر الواسع فقد فجعت بأخيها أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة أظهر للعالم عظمة العرب والإسلام، وأنفق في سبيل العلم والعمران ما يعجز عنه غيره - وكانت عاقبة هذا العاهل الذي خضعت له ملوك الأرض، ودانت له الأمم، وانقادت إليه الشعوب صاغرة، أن أدلى في لحده وأهيل عليه التراب بعيداً عن عاصمة ملكه. فقد ضن عليه الزمن أن يدفن في دار السلام، المدينة التي جعلها كعبة العلم والأدب والفن، بل عز على بغداد أن ترى الرشيد ميتاً يقبر في لحودها بعد أن زانها حياً وجعلها سيدة البلاد.
رفعت المعازف. وبحت الحناجر وساد الهدوء والخشوع في قصر عُلية فلا يسمع إلا صوت المؤذن وقراءة القرآن، ولا ترى عُلية إلا في محرابها تصلي، أو بكتابها تقرأ، أو تندب أخاها، أو تنتقل في خمائل قصرها تطلب العزلة لتخفف عنها أحزانها.
عز على الأمين أن يرى أميرة الشعر والطرب وهزار بني العباس على هذه الحالة المؤلمة فكان يتردد إلى زيارتها كثيراً ويدعوها إلى قصره. والحزن لا يجد قراراً في قلب شب على الشعر والأدب والعزف والطرب فلم تلبث أن وانقت الأمين في لهوه ومرحه.
عُلية اليوم قد ذهب نور شبابها، واشتعل الشيب في رأسها، وتغيرت نبرات صوتها، ولكن(609/28)
نفسها لم تشب، بل بقيت نفساً طاهرة، تحب الجمال، وتسمع الصوت الجميل، وتعشق كل جميل، وما زالت هذه الزهرة تذبل حتى ذوت وفارقت الدنيا سنة 210هـ وقد مضى عليها خمسون ربيعاً.
وفي صبيحة يوم رأى أهل بغداد أمير المؤمنين المأمون يسير خاشعاً أمام نعش مهيب يحف به الأمراء والوزراء والعلماء فخف به أهل بغداد، وقف النعش على مقابر قريش وصلى عليه الخليفة، وأدليت جثة عُلية ودفنت درة بني العباس في هذا التراب.
للحديث بقية
سعيد الديوه جي(609/29)
النابغون في أوطانهم
للأستاذ محمود عزت عرفه
كما تتوارى هذه الشمس في النهار المدجن خلف كسف من السحاب مركوم فلا يفتأ ينم عليها ساطع من سناها، يوشي أطراف السحابة بلألأئه، ويكاد ينبثق على جنباتها انبثاقا. . كذلك تستكن العبقريات النواشيء في زوايا بعض النفوس غير منفكة عن إرسال أقباسها الدالة عليها، في سدفة هذا الظلام المكتنف صاحبها، من فقر أو ضعف، أو أتضاع شأن أو بكورة سن، أو غير ذلك من سائر هذه المعوقات التي تؤخر تجلي المواهب، وتملأ السبيل إلى المجد بالشوك والصخور. .
ولهذه النباهة التي تهبط على الخاملين فجأة دلائل وإرهاصات قل من يدركها في حينها؛ لكن قل أيضاً من لا يعجب لنفسه كيف فاته أن يدركها في ذلك الحين! ومن هنا كان المرتقي أمام العصاميين شاقاً طويل المدى، لا يكاد يوفي على غايته منهم إلا كل صافي الجوهر في العبقرية، قوى المنة على مواجهة مصاعب الحياة ومقارعة أحداثها. .
والعصامي محروم - أول أمره - مما يستند إليه الناس عادة من الحرمة أو سابقة الفضل؛ وهو ملقى بلكيد منكوب بالمعارضة، موزع جهده بين التقدم تارة ودفع التعويق تارات، مقسومة قواه بين البناء من جانب وتوقى الانهيار من جانب آخر. . .
وأغرى الناس بمنابذته وأشدهم بأساً في مضارته، هم أدناهم إليه مكانا، وألصقهم به وشيجة ونسباً. . من أهل بلده وذوي قرباه، ومن رصفائه وأنداده الذين يشركونه في سن أو عمل، أو نزعة واتجاه.
وكأنما يعجب هؤلاء لفرد من أوساطهم، أو من أدانيهم، يسمو إلى منزلة لم يروه من قبل لها أهلا، ويبلغ من جاء الحياة أو من ثرائها حظاً لم يقدروا له أن يبلغه. وما أشد تقتير الناس في تقديرهم.
فلا غرو - وهذا هو الوضع - أن يكون لأكثر العصاميين ثارات قديمة عند أوطانهم الأولى حيث مرابع طفولتهم ومراتع صباهم. . تلك التي شهدت من بواكير ضرهم وبأسائهم ما لم يشهد سواها؛ ثم عند مواطنيهم الأقربين فيها، وهم من ذاقوا على أيديهم أول ما ذاقوا من كؤوس الحرمان والأذى، وتجرعوا أول ما تجرعوا من مرارة التثبيط(609/30)
والجحود. وإنها لثارات وذحول تأبى على أصحابها إلا ترقب العودة إلى هذه الأوطان في مواكب النصر بعد أن فصلوا عنها في ركاب الذل والصغار. . .
وليس من محض المصادفة أن نرى شكسبير يأوي في أخريات أيامه إلى قريته ستافورد أون آفون، مخلفاً وراءه لندن مبسوطة اليدين نحوه بمزيد من ثروتها وجاهها. ولا مراء في أن صورة عجيبة المنظر كان يلتمع مرآها في ذهن الشاعر الكبير وهو يقف على باب قريته كهلا في سن الخمسين. . صورة لشباب فويق العشرين يتسلل لواذاً من أبواب هذه القرية قبل ثلاثين عاماً، وقد جلله عار السرق وحز في بدنه وثاق السجن؛ هو وليم شكسبير نفسه الذي أبى أن يمحو عار ذلك الهرب في سواد الليل البهيم بغير هذا العود المظفر الكريم في وضح نهار مشرق سني. .
وكذلك كان شأن تشارلز دكنز الكاتب الروائي الخالد. فقد أنفذ في قرية شاتهام ستة أعوام من طفولته البائسة جابه خلالها الفقر في أقبح صوره، وتجرعه في أمر طعومه، وكان أعظم ما يبهره يوم ذاك قصر (جادز هِل) القائم على ربوة في الطريق بين شاتهام وجرافسند؛ ولقد طالما داعب أبوه مشاعره بإمكان استحواذه على هذا القصر إذا هو جد واجتهد، وأصبح رجلا ذا شهرة ومجد. ولسنا نعجب لهذه الأمنية وايغالها في الطموح قدر ما نعجب لتشارلز دكنز وهو يعود بعد أربعين حولا فيحققها في جملتها وفي تفصيلها؛ بأن يمتلك القصر الجميل بما فيه، ويقضي في رحابه ختام أيام حياته وأطيبها. ولقد طوف دكنز في مدائن إنجلترا وقراها ماطوف، وحظى بطيب المقام ولذاذة التكريم في سويسرا وأمريكا وسواهما من البلدان. . فلم تكن بقعة واحدة في جنبات هذا العالم الفسيح لتستهوي نفسه بمثل ما استهواها ذلك المكان الذي شهد مذلته وضيمه، فأبت عليه نفسه إلا أن يشهده - بعد حين - مجده وعزته ونعماءه.
على أن لورد بيرون لم يحظ بما حظي به صاحباه من هذا الشعور الجميل. . شعور التغلب على مصاعب الحياة، والانتصار على الزمن وأهله في نفس المكان الذي تسجلت به الهزيمة السابقة، فقد غلب الموت هذا الشاعر على أعز أمانيه، وراح يجود بآخر أنفاسه في ميسولونجى من أرض يونان وهو يتمتم في مرارة بكلمته الباقية: لست أخاف الموت. . . ولكني أتساءل لماذا لم أذهب إلى إنجلترا قبل مقدمي إلى هذا البلد!!(609/31)
ونحن إذ ننتقل فنتصفح سجل الأدب العربي نرى الأصمعي - راوية البصرة - أحد من دُهُوا بعنت الأقربين، ومنوا بكيد الأكفاء. فقد نشأ بالبصرة مقلاَّ رقيق الحال إلا من ذكاء مفرط ونفس وثابة طموح.
وكان ما يلقاه من شيخه عطاء بن مصعب - وقد تفتحت على يديه أزاهير عبقريته - أمراً رائعا عظيما. بلغه يوماً أن الأصمعي اتخذ حلقة، واجتمعت إليه فيها جماعة، فغاظه ذلك. ولما فرغ من حلقته استتبع أصحابه فقال: مروا بنا إلى ظاهر البصرة!. . قال راوي الحديث: فخرجنا حتى مررنا بشيخ معه أعنز يرعاهن وعليه جبة صوف: فقال له: يا قريب. فقال: لبيك! قال: ما فعل ابنك الأصمعي؟ فقال: هو عندكم بالبصرة فقال: هذا أبو الأصمعي لئلا يقول هذا إنه من بني هاشم!!
ويذكر القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) قصة الأصمعي مع أحد البقالين على باب بيته بالبصرة، وما كان يعيره به من الفقر، وينعيه عليه من انصرافه عن طلب المجدى من شئون العيش، حتى قال له مرة: يا هذا اقبل وصيتي. أنت شاب فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب أطرحها في هذا الدن وأصب عليه من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وانظر ما يكون منه.
على أن ضائقة الأصمعي تفرجت بعد حين؛ وأقبلت الدنيا عليه حتى أوطأته بساط الرشيد، فاستفاضت هنالك شهرته، وأثرى من مال ومن جاه. وكان من أكبر همه يوم ذاك أن يلم بموطن صباه، فترفق في استئذان الرشيد حتى إذن له، وكتب إلى والي البصرة بإكرامه والتحفي به. . قال الأصمعي: فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة، فقال: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد. فقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم، وطرحتها في الدن فخرج ما ترى. . .
على أن هذه الذكريات (الشقية) التي تربط الإنسان بموطنه الأول ليست مما يطيف بحياة كل نابغة قلقت في البلاد ركابه بل ربما كانوا يتخذون الرحلة عن الوطن الأثير الكريم - باباً إلى التقدم في الحياة، ووسيلة إلى تحقيق كرائم الغايات فيها: من إحراز مال وجاه، أو جمع معارف وعلوم، أو تقويم طبائع مستخذية وشحذ همم كليلة. وقد كان من مواطن(609/32)
العجب عند القوم - ولا يزال - أن يروج أمر من لا ينفك حلس بيته، وأن يحرز معالي الأمور من لم تنهض به همته إلى التغرب في طلابها. فليس كل مغترب إذن طريد وطنه أو ضحية ظلم مواطنيه، وإنما قد يفارق وطنه وأهله من لا يزال يحن إلى سالف سعادته هنالك حنين النيب إلى أعطانها، وقد يبلغ إلحاح هذه الذكريات السعيدة على النفس حداً تفوق به شقي الذكريات وما تدفع إليه من رغبة التشفي وتذوق حلاوة الانتصار، مما ضربنا له الأمثال آنفا.
وكان طاهر به الحسين الخزاعي، قائد الخليفة المأمون والملقب بذي اليمينين، أحد من أضناهم هذا الشعور الأخير. . شعور الحنين إلى الوطن وتعلق النفس بذكريات سعيدة فيه - حتى لنغص عليه من سروره الحاضر وسعادته المستأنفة.
قال له بعض جلسائه يوما وقد بلغ من الجاه في دولة المأمون ما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان. فأجاب طاهر: ليس يهنيني ذلك، لأني لا أرى عجائز (بوشنج) يتطلعن إليَّ من أعالي سطوحهن. .
وإنما حاكما. وممن اجتمع لهم شقي الذكريات وسعيدها، فحدا بهم إلى أوطانهم حاديان، وتمهد أمامهم نحوها سبيلان مهيمان - نبينا محمد عليه أفضل الصلوات. . ففي مكة نشأ وتربى ملحوظا بعناية من ربه، كريماً على نفسه وعلى قومه، يظله من قبيلته أرفع لواء ويكنه فيها أشرف بيت؛ وفي مكة أيضاً لقي الإعراضَ والأذى من قريش صنوفا. فيها لقب الصادق الأمين حقا وإنصافا، ثم وسم بالشاعر والكذاب بغياً وإسرافا.
فليس عجيباً بعد أن يكون حنينه إلى مكة قويا بليغاً يؤرثه شوق غلاب إلى عهود هنالك كريمة ومشاهد محببة أثيرة، وأن ينضاف إلى الحنين شعور آخر قوي بالرغبة في مجابهة هؤلاء القوم الذين أخرجوه من داره مجابهةً يزلزل بها عقائدهم الملتوية، ويزيل بها تلك الغشاوة التي رانت على أعينهم، فيعرفوا قدر دينهم في الأديان، ومنزلة رسولهم بين رسل الله المكرمين: (قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
ومن علائم الشعور الأول ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم يوم قدم أصيل الخزاعي من مكة فقال له: يا أصيل، كيف تركت مكة؟ قال: تركتها وقد أجحش ثُمّامها وأمشر سلمُها(609/33)
وأعذَق إذخِرها. فجاش صدره الطاهر بأرق الحنين وأحر الاشتياق، ثم غمغم يقول: دع القلوب تقر!
ألا الله ما أحلى العز والكرامة في أرض الوطن! فلمثلها يتجرع العقلاس كؤوس الذل والمهانة مغتربين. يقتحمون مشاق التطواف طلباً لدعة المقام، ويقتعدون ظهور المعاطب التماساً لمواطئ النجاة ومهابط الأمن والسلامة:
تقول سليمي لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوَّفُ
رب خفض تحت السرى، وغناء ... من عناء، ونضرة من شحوب!
وليس يحس قدر هذه النعمة إلا كبار النفوس ممن يغالبون الأيام فيقتلون أو يُقتلون، ويشربون كؤوس الحياة من أرْى وشرى حتى الثمالة. . . ولعل في رأس القائمة من هؤلاء كافَي الكفاة الصاحب بن عباد - وزير آل بويه - قال القاضي الجرجاني في بعض حديث له عنه: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فقال:
أكرمْ أخاكِ بأرض مولده ... وأمدَّه من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمسٌ ... وأعزُّه ما نِيلَ في الوطن
ثم قال: لقد فرغتَ من هذا المعنى في العينية، فقلت:
لعل مولانا يريد قولي:
وشيدتُ مجدي بين قومي فلم أقلْ ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
للكلام بقية
محمود عزت عرفة
المدرس بقوس الأميرية(609/34)
امرأة وشيطان
للأستاذ على محمود طه
(من إحدى قصائد ديوان الشوق العائد الذي يصدر قريباً)
ودنا الليل ورنَّت صدحةٌ ... نَّبههُ حين لا يبغي انتباها
وإذا مقصورةٌ من حوله ... خالها تَنبِضُ بالروح دماها
وقفتْ غانيةٌ في بابها ... قد تعرَّتْ غيَر فضلٍ من حُلاها
ثم نادت: يا (أحبايَ انهضوا ... واغنموا الليلة حتى منتهاها)
وتلاشى الصوتُ لا رجعَ صدىً ... لا ولا ثمَّ مُجيبٌ لنداها
فعرتها رِعدةٌ، فالتفتتْ، ... فرأْتهُ، فتلقّاها وجِاها
أبصرتْ وجهاً كوجه المِسْخِ لم ... يَتَقَنَّعْ، شاهَ هذا الوجهُ شاها
ورأتْ كفَّيهِ ينَدَى منهما ... أَرَجُ الزهرْ فأجَّتْ نظرتاها
عرفتْ ما اجترحتهُ يَدُهُ ... أو لا يعرفُ من داسَ حماها؟
يا لهذا المسخ! دوَّتْ ومَشتْ ... صيحةٌ يُنذر بالويل صَداها
فانثنى الشيطانُ عنها صارخاً ... أتُراها تتحدى؟ مَن تُراها؟
فَبَدتْ في شفتيها آيةٌ ... من مُبينِ السْحر، أو ما فمحاها
فدَنَتْ ترمقهُ فاختلجتْ ... عينهُ، حين أشارت بعصاها
بُدلَّتْ تلك العصا جمجمةً ... رِيعَ لمّا شرَعَتْها فاَّتقاها
هيَ من مَلْكة جِنٍ من تُصب ... يخترمْهُ بالمنايا محجراها
فتنحّى غاضباً مبتئساً ... وتنحَّتْ والاسَى يُلجِم فُاها
وسَجَى بينهما الصمتُ الذي ... يَتغثّى الأرض إن خان ردها
والتقتْ عيناهما فاستروحا ... راحةً من قبلها ما عرفاها
عرفت من هو فاستختْ له ... ورأى من هيَ فاستحيا قُواها
قال: أختاهُ اغفري لي نظرةً ... اشتهتْ كلَّ جمالِ واشتهاها
واغفري لي شِرةً عارمةً ... في دمي، لو أتأبى ما أباها
يا لهذا الدَّمِ! ما عنصرُهُ؟ ... كل ما في النار من وقد لظاها!(609/35)
فأجابتُ: زهراتي ردُهَّا ... إنْ تَقُلْ حقاً ولا تَبْغِ أذاها
قال: لا أذكرُ إلا حُلُماً ... لحظة ضلَّ بها عقلي وتاها
أأنا من تَتَخَطى قَدَميِ ... مَسبحَ الشمس فيريدُّ ضحاها
أأنا من يطفئُ النجمَ فمي ... وأردُّ الأرضَ غرقى في دُجاها
وتمسُّ القممَ الشمَّ يدي ... فُيرىَ منحدراً لي مُرتقاها
وأجئُ الأرضَ من محورها ... فإذا بي يتدانى قُطُباها
أأراني عاجزاً عن دَرْكِ ما ... تتمنَّى امرأةٌ؟! عزّتْ مناها!
آهِ ما أضعفَ سلطاني وما ... كنتُ إلاّ بغروري أتباهى!!
قالتِ: الآن سلاماً زائري ... وِرضَى نفسيَ إن رُمْتَ رضاها
أيها الشيطانُ ما أعظمَ ما ... قُلْتَهُ، ما قُلْتَ لغواً أو سفاها
زَهَراتي تلك، ما كانت سوى ... شهواتِ جِسْميَ الطاغي نماها
قهرتني واستذلتني بها ... غَيْرَةٌ ينهشُ قلبي عقرباها
وأنانيةُ أنثى لم تُطِقْ ... فاتناً تمسكُه أنثى سواها
قد صنعتَ الحقَّ قد عاقبتنيِ ... فارحم المرأة في ذُلّ هواها
فدنا منها فألفتْ وجههُ ... غير ما كانَ، لقد ألفَتْ أخاها!
قَرّبتْ بينهما روحُ الأسى ... فاجتبتْهُ بعد حَقدٍ واجتباها
واستهلُت دمعهٌ منْ عينها ... دمعةٌ رقَّتْ وشفّت قطرتاها
ضُمّنَت كلَّ عذابٍ وضنىً ... كل ما في النفس من بث أساها
ورآها فتندّتْ عينهُ ... رحمةً، فاحتال يُخفي من بُكاها
وبكى الشيطانُ! يا لامرأةٍ ... أبكتِ الشيطان لَمَّا أنْ رآها!!
على محمود طه(609/36)
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يجد الناشئ في مصر اليوم أبواباً مختلفة للدخول إلى الحياة التعليمية. فالوالد يرى أمام عينيه لابنه أنواعاً من المدارس متعددة: المدرسة الإلزامية، والمدرسة الأولية، والمدرسة الابتدائية، ومدرسة تحفيظ القرآن الكريم، وأخيراً المدرسة الريفية التي ظهرت حديثاً. فإلى أيها يتجه الولد وفي أيها يستمر؟
وبجانب هذه الحيرة من الوالد تجد السور من المواطن الذي لم ينظر إلا نظرة سطحية إلى هذه الأنواع الكثيرة من المدارس فسره تعددها معتقداً أن ذلك يفسح المجال أمام الناشئ للسير قدماً في حياته التعليمية وأن التعليم الشعبي في بلادنا قد تدرج في مدارج الرقي وتقدم سريعاً في تطوره وتنوعه في سبيل إنشاء جيل جديد مغامر مجاهد في نواحي الحياة المختلفة، غير أن نظرة أعمق من تلك النظرة السطحية كفيلة بأن توحي إليه بشعور آخر خصوصاً إذا درس تاريخ تلك الأنواع. فهذه المدارس البدائية في التعليم، لم تنشأ نتيجة تجارب وأبحاث علمية كما هو الحال في غير هذه البلاد، ولكنها نشأت كما نشأ غيره أحياناً في مراحل التعليم الأخرى نتيجة أفكار وآراء ارتجالية بحتة من أشخاص وأتاهم النفوذ والسلطان ردحاً من الزمن تبين لهم في خلاله شيء من العيب أو النقص في نوع ما من أنواع التعليم، فلم يفكر جدياً في إصلاحه وتركوه جانباً يتخبط في عيوبه حيث هو واتجهوا إلى خلق نوع جديد خال كما ظنوا من ذلك العيب أو النقص الذي تبينوه، وأطلقوا على مولودهم اسماً جديداً ليتميز عن قديم غيرهم. كما حدث أخيراً في المدارس الريفية التي تكاد تطغى الآن على المدارس الإلزامية والأولية. وفي المدارس الثانوية الزراعية، والتجارية والصناعية التي حلت محل المدارس الفنية المتوسطة. وكما حدث قديماً في قيام معهد التربية العالي والابتدائي على أنقاض مدرسة المعلمين العليا والمتوسطة وفي قيام كليات في الأزهر الشريف تناهض دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، وكليات الجامعة تتبعها معاهد دينية ثانوية على غرار المدارس الثانوية المدنية تؤهل للكليات الأزهرية ومعاهد ابتدائية دينية على غرار المدارس الابتدائية تؤهل للمعاهد الدينية الثانوية الخ.
وكانت نتيجة وجود هذه التشكيلات المختلفة التي نشأت في دور التعليم أن خرجت(609/37)
جماعات من أبناء البلاد الواحد مختلفة الثقافات متعددة الشهادات تعمل في مهنة واحدة مما حدا بوزارة المالية أن تكدح شهوراً طوالا في تقدير درجات تلك الوريقات وتقديم ما تستحقه حاملها من مرتبات وعلاوات في مختلف الوظائف الحكومية، وقامت بين تلك الطوائف المختلفة المشاحنات على ما تستحقه هذه الطائفة أو تلك من مرتبات ودرجات. ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فإنا نجد أن كل وحدة من وحدات الطائفة الواحدة أو كل فئة من فئاتها تتعصب في نفسها لمدرستها وثقافتها عاملة على رفع شأن نفسها على أنقاض الفئة الأخرى مجدة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليه مقدمة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليها مقدمة ذلك كله على الصالح العام المشترك.
خذ لذلك مثلا طائفة رجال التعليم والمعلمين وهي تلك الطائفة الكبيرة التي بلغ عددها آلافا مؤلفة والتي كان يجب أن تحمل لواء النهضة في البلاد لمركزها العلمي من جهة ولتغلغلها في القرى والمدن من جهة أخرى إذ تجد منها العشرات في القرية الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة بين جدران المدارس الابتدائية والثانوية والصناعية والزراعية والتجارية، هل ترى بين رجالها شيئاً من التآلف والتعاون على الصالح العام في سبيل النهوض بأبناء البلاد ورجال مستقبلها! وهل تجد تلك الوحدات من رجال التعليم في إقليم ما يجتمعون اجتماعاً جدياً للبحث في حالة التعليم في إقليمهم؟ إنهم مع الأسف لا يجتمعون إلا لتكريم زيد أو بكر الذي سيساعدهم في الحصول على الدرجات والعلاوات.
والأدهى والأمر من ذلك ما تجده في المدرسة الواحدة من تنافر بين الوحدات المختلفة الثقافة المتباينة التفكير! فقد تجد في المدرسة الواحدة الابتدائية أو الثانوية واحداً أو أكثر من رجال البعثات، وآخر من خريجي جامعة فؤاد، وثالثاً من خريجي المعلمين العليا، ورابعاً من خريجي دار العلوم، وخامساً من خريجي الجامعة الأزهرية، وسادساً من خريجي المعلمين الثانوية، وسابعاً من خريجي الفنون الجميلة العليا، وثامناً من خريجي الفنون والصنائع، وتاسعاً من خريجي المعلمين المتوسطة، وعاشراً من خريجي الفنون التطبيقية، وغيرهم وغيرهم من خريجي معهد التربية العليا، ومعهد التربية الابتدائي، وحملة(609/38)
البكالوريا وغيرهم، وإني أذكر أنه قد اجتمع لدي لما كنت ناظر لإحدى المدارس الابتدائية تسعة أنواع من هؤلاء، فكان لا يمر يوم واحد بدون مشاحنة بين بعضهم البعض، فكيف يظن متفائل أن عدداً من هؤلاء إذا اجتمعوا في مدرسة يمكن لهم أن يتفقوا ويتفاهموا في سبيل صالحها! فما بالك بما ينشده كل معهد علمي من التضافر والتعاون في سبيل النهوض به وبأبنائه! إن التعاون في مثل هذه المدرسة مستحيل لأن كل ضعيف من هؤلاء يفكر في الدفاع عن نفسه أو هاجمه غيره وأظهر امتهانه لثقافته، ولأن كل قوي منهم يحاول أن يهاجم غيره ويقلل من أهميته، ومصلحة التعليم ضائعة بين الكر والفر والهجوم والدفاع! لا يفكر فيها مفكر وليس الأمر في هذا التنافر قاصراً على التعليم وحده، ولكنه يتعداه إلى غيره من مرافق البلاد الحيوية خصوصاً تلك التي تسيطر عليها عناصر مختلفة الدراسات والثقافات. فهذه الحال نجدها بين رجال القضاء الأهلي والشرعي في المجالس الحسبية خاصة. كما نجدها بين رجال القضاء الشرعي فيما بينهم من طائفتي خريجي الجامعة الأزهرية، وخريجي مدرسة القضاء الشرعي! وهذه الحال نجدها بين طوائف المهندسين من خريجي كلية الهندسة وخريجي المدرسة التطبيقية وخريجي الفنون الجميلة العليا وخريجي الفنون والصنائع على النظام القديم والحديث! ثم إن هذه الحال نفسها نجدها مع الأسف في قادة الرأي والزعماء المشرفين على مصالح البلاد العامة كلها! فياله من انقسام وانحلال يكاد يهوي بنا! وكان للتشعب والتنوع في التعليم الواحد أثره الفعال فيه! لقد نبهنا من سنين عدة إلى ضرورة رسم سياسة تعليمية عليا توجه التعليم في البلاد توجيهاً صالحاً في سبيل التوحيد والتعاون ولكننا مع الأسف لم نجد سميعاً! فكان ما تراه من تخاصم وتنافر وتناحر!
وإذا كان اليوم قد تولى أمور التعليم رجل عالم واسع الفكر فانا نهيب به أن يعمل جاهداً في سبيل الوحدة بوضع التعلم والثقافة في هذا البلد على أسس قويمة تكفل الوحدة وتدفع إلى التعاون والتآزر بدلا من التخاصم والتنافر. إن ثمرة ذلك لا تأتي إلا بعد زمن طويل ولكن الفخر للوزير العامل الذي سيضع إن شاء الله بذور ثقافة موحدة تنمو وتزدهر في مستقبل الأيام وتستمر على مدى الأيام حاملة اسمه في سجل العاملين الخالدين.
عبد الحميد فهمي مطر(609/39)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
الفأر يختار لنا طعامنا؟
هل فقدنا وراء جرينا وراء الحقيقة حواس وغرائز زودنا بها الله؟
يصرح العلم بأننا أضعفنا كثيراً من غرائزنا أو على الأقل سيطرنا عليها فأصبحت لنا قوانين وتقاليد تحكم تصرفاتنا. ويرى خواص الحيوانات مميزات ليست في الإنسان. وعلى هدى هذه الغرائز يعيش الحيوان فيختار ما يفيده ويرفض ما يضره، ويتصرف بما يقي نوعه.
ومن التجارب التي أجريت أخيراً ما وفق إليه البروفيسور رشتار في أبحاث أجراها على الفيران لاختبار قدرتها الغريزية على اختيار الغذاء المفيد لها في الحالات المختلفة. فعمد إلى مجموعة من الفيران الكبيرة السن فأطلقها لتشرب كما تشاء من ماء نسبة الملح فيه 3 % ثم أزال غددها التي تعلو الكلى فكانت النتيجة عجيبة إذ شربت الفيران كمية كبيرة من الماء المالح.
وأزال الغدد التي في العنق فازدادت شهية الفيران إلى المواد الجيرية وغيرها من المواد المعدنية. ثم قسم البروفيسور رشتات وجبات الطعام إلى أكوام نقية من النشويات والزلاليات والدهنيات والفيتامينات، وزن كل منها محدود. وأعد أيضاً أوعية بسوائل تحتوي الأملاح المختلفة والفيتامينات وزيت كبد الحوت وكل مادة أخرى يراد اختبارها، فاختارت الفيران وجبات الغذاء اللازمة لها كأن أخصائيا في التغذية أوصاها بتناولها.
وتناولها مبعضه مرة أخرى فأزال البنكرياس من كل منها فأصبحت معرضة للإصابة بمرض السكر، فامتنعت الفيران عن تناول أي غذاء فيه سكر أو نشاء، واستهلكت كميات كبيرة من الدهن تماماً كما يوصي الطبيب مريضه.
وهكذا كلما استأصل منها الطبيب عضواً عوضت الجرذان عمله باختيار الطعام الملائم لها أو امتنعت عن الأغذية التي تضرها.
وكانت في كل مرة تقدم للبروفيسور رشتار قائمة بالأغذية التي يجوز تناولها والتي لا يجوز.(609/41)
فهل جرد الإنسان من مثل هذه الغريزة التي ترشده إلى الغذاء الصالح له؟ لقد عاش الإنسان ملايين السنين معتمداً على حاسة الذوق وحدها فلم يرشده طبيب ولا أخصائي عما يجوز تناوله من الأغذية وما لا يجوز.
إن تقدم العلم وحده حول من وسائلنا وطرقنا في الحياة فمنع وأجاز بناء على اختبارات ثابتة. ولكنه لم يقل كل كلماته، ولم يكشف عن كل أسراره. فمنذ مئات السنين عرف الإنسان أن التغذية ليست خبزا وإداما، بل هي ما في هذا الخبز والإدام من وحدات حرارية تحرك أجهزة الجسم فرأينا أنفسنا كغلايات وقودها الطعام.
واكتشفت الفيتامينات فعرفنا سراً آخر، وأدركنا أن الأجهزة الإنسانية لا تعمل بالوحدات الحرارية فحسب، بل إن نشاطها ومرضها يعتمدان إلى حد كبير على حيوية هذه المواد التي أطلقنا عليها الحروف الهجائية، فالاعتماد على اللحم وحده مع وفرة كمياته الحرارية لا يمنع الجسم من الانحلال إن لم تعضده مجموعة الفيتامينات.
فنقص الفيتامينات في الجسم يؤدي إلى عدة أمراض تبدأ من الالتهابات الجلدية فإن استمر نقصها أوصلت الإنسان إلى الموت، ولا عبرة في هذا بوفرة الوحدات الحرارية التي يحويها غذاء الإنسان في وجباته. على أنه من الثابت أيضاً أن كمية الوحدات الحرارية التي تنتجها المواد الغذائية ذات أثر كبير في نشاط الإنسان، فالعامل الذي يشتغل بعضلاته يحتاج إلى كميات طعام أكثر من الموظف الذي يؤدي الأعمال الكتابية.
وتقودنا أبحاث البروفيسور رشتار إلى نتيجتين: أولاهما أن يؤدي التوسع في أبحاثه إلى معرفة دقيقة لأنواع الأغذية الملائمة للأمراض المختلفة مما يساعد الطبيب والمريض على سهولة الشفاء أو توقي المرض.
والثانية هي حاسة التذوق، فإذا كانت الجرذان بفضل هذه الحاسة تجيد اختيار طعامها فكيف نصقلها في الإنسان، وما هي على التدقيق، فقد ثبت من هذه التجارب أن الجرذان تفضل الغذاء الطبيعي الغني بالوحدات الحرارية وبالفيتامينات وغيرها من المواد الضرورية للحياة. وهي بهذه الحاسة تدرك من مطالبها أكثر مما يدرك الإنسان.
لماذا لا تحترق الشمس؟
ولو كانت الشمس مجموعة عادية من الغازات المحترقة لزالت من عالم الوجود. ولو كانت(609/42)
كمية من الفحم المحترق
لاستهلكت كميته من قرون مضت. ويعلل العلماء بقاء الشمس إلى الآن بأنها تتكون من غازات مرتفعة الحرارة إلى درجة تمنعها من الاحتراق.
فالاحتراق نوع من التأكسد ونظن عادة أنه يحدث بالحرارة، ومن المحتمل أنه إذا كانت الحرارة شديدة جداً فان التأكسد يمتنع وهذا ما حدث للشمس فعلا. فدرجة حرارة غازاتها مرتفعة جداً إلى حد يمتنع فيه التأكسد والاحتراق.
ويعرف العلماء الذين يدرسون الشمس أن درجات الحرارة المرتفعة تحلل المركبات الكيميائية وتقسمها لعناصرها الأولية المختلفة، ولهذا فان الغازات المكونة للشمس هي خليط آلي من العناصر الأولية. ولا يوجد فيها مركبات كيميائية بتاتاً فان الخلط آلي وليس كيميائياً
ونحن نعرف أن الشمس تفقد حرارتها التي نستفيد منها، على أن هذه الحرارة تفقد ببطء ينتظر معه أن تعيش عدة بلايين من السنين.
تربية الأسماك
عندما هددت الغواصات الألمانية الشعب الإنجليزي بالجوع كلف معهد الصناعات الكيميائية الإمبراطوري السير جون جراهم كر والبروفيسور جروس بإجراء التجارب لزيادة المحصول القومي من الأسماك. وأفردت للعالمين بحيرة يجريان فيها تجاربهما في إحدى خلجان اسكتلندا.
وبعد عدة محاولات نجحا في تحقيق المطلوب منهما إذ تمكنا من زيادة إخصاب البحيرة بالنترات والفوسفات التي كان يتغذى بها السمك الصغير، وهو الغذاء الطبيعي للأسماك بسرعة غريبة فان حجمها ووزنها زاد في شهر أو شهرين زيادة كبيرة كانت تستلزم ثلاث سنين بطرق التغذية العادية. وكانت النتيجة أن شباك الصيد وجدت في الأسماك كمية وافرة فبلغ وزن بعض الأسماك 20 ضعفا لوزن مثيلاتها في العمر.
فوزي الشتوي(609/43)
القصص
إيزرهادن
للكاتب الروسي تولستوي
للأستاذ زكي شنوده
انقض إيزرهادن ملك الأشوريين أنقاض الوحش على دولة الملك ليلليَّ، فعذب فيها الناس، وخرب منها المدن، وأطلق في أطلالها ألسنة النار تأكل ما تبقى من معالمها وأخذ كل من فيها أسرى، وهنالك ذّبحهم وألقى ملكهم في غيابة السجن.
وبينما هو مستلق ذات ليلة في فراشه يفكر في أفظع الوسائل لقتل الملك الأسير إذ سمع حفيفاً خفيفاً يقترب منه فرفع عينيه فرأى أمامه شبح رجل طويل القامة أبيض اللحية في عينيه وداعة وسلام يقترب منه ويهمس في مسمعه هل حقا تريد أن تقتل ليلليَّ؟
فقال الملك: هذا ما أريد فخبرني بربك كيف السبيل؟ فقال الكهل: ولكنه أنت!!
قال - أنا من؟
- ليلليَّ
- ويحك هل جننت؟ إن ليللي هو ليللي وأما أنا فهو أنا!
- وهمت يا صاحبي فأنت وليللي كل لا يتجزأ.
- ولكن لا أفهم: فها أنذا مستلق على فراش وثير، وحولي الجواري والغلمان، وغداً سوف أجلس مع صحابي على سماط نأكل حوله الآكال ونشرب الأشربة ونتسارُّ ونتسامر كما فعلنا اليوم وكما فعلنا بالأمس. بينما ليللي هنالك ملقى في سجنه كطائر في قفص، وغداً يخوزق، ويعلق من لسانه فيظل يتخبط حتى يأخذ روحه الشيطان.
قال الشيخ: ولكنك لن تسلبه الحياة!!
- إذن ما رأيك يا شيخي العزيز في الأربع عشر ألفا من الجنود الذين اقتلعت من حلوقهم الأرواح وصنعت بأجسادهم رابية كجبل الهند. فأين هم الآن؟ لقد قتلتهم وليس ثمة لهم وجود وهاأنذا من أحادثك وتحدثني بترهاتك يا شيخ المخرفين.
- ومن يدريك أن لا وجود لهم؟(609/44)
- يدريني أنني لا أراهم الآن وقد أكلتهم بالأمس جوارح الطير أمام عيني.
- وفي هذا كذلك أنت واهم فما فعلت إلا أن قتلت نفسك.
- بربك إلا تدعني أفهم هذا الذي تهذي به؟
- أو تريد أن تفهم؟
- نعم.
- إذا تعال. .
وأشار الشيخ إلى طست فيه ماء وقال للملك اجلس فيه، فنهض الملك من سريره، وجلس في الطست. وأمسك الشيخ بقارورة تشف عن سائل، وقال للملك أحن رأسك فأحناه، فسكب عليه من ذلك السائل فانتفض ثم شعر بأنه إنسان آخر:
ورأى نفسه فجأة متكئا على سرير وثير إلى جانب امرأة كاللؤلؤة ما رآها من قبل بل عرف ساعتئذ أنها زوجته. ونهضت المرأة قائلة له أي ليللي زوجي العزيز، لقد رأيت أعمالك بالأمس متعددة متعقدة، أنهكت قواك فرحت مع النوم أكثر من كل يّوم، فضع على منكبك الرداء وهب يا مولاي إلى البهو الأعظم حيث الأمراء والحكماء ينتظرون.
فقام إيزرهادن وقد وقر في نفسه أنه ليللي، وعجب كيف لم يعرف نفسه من قبل؟! ثم تزيا وتمنطق وتهادى في جلاله الملك إلى البهو الأعظم حيث يسوس مع أعوانه شؤون الناس.
حيّا الأمراء ملكهم ليللي وقد عنت منهم الوجوه، ثم جلسوا بأمره واستهل كبير الوزراء الكلام فقال إنه من المستحيل أن تتغاضى المملكة عن تلك الإهانات الوقحة التي ما يفتأ يوجهها الملك المفتون الأحمق إيزرهادن ملك الأشوريين وإن لم يكن ثمة بد من القتال فأنها الحرب
ولكن ليللي انتفض ورفض، وقال إن الأمور تصرف بالسلام لا بالصدام. وأصدر أوامره بأن يبعث من لدنه رسلا يفاوضون الملك الأهوج إيزرهادن وزود الرسل بما يقولون ويفعلون، ثم بعث بهم على بركة الله.
وبعد أن نظر الملك ما عليه - في شؤون الملك من عمل خرج يقتنص من لفائف الغاب طرائد الوحوش، فتلك هي صبابته ولذة نفسه منذ كان في أكناف أبيه يافعا، وما كان أسعده في هذا اليوم إذ صرع بسهمه المراش عجلين من أفحل عجول الإحراج. نظر كذلك إلى(609/45)
هذه اللبؤة العرفاء التي جاءت نحوه تتهادى في دلال الإناث وإقبال الأسد، وعاد الملك بالقنائص طروبا، وقضى الليل مع ندمائه في قصف ورقص.
وهكذا عاش الملك مقسما بين ضرورات الحكم ومسرات القلب أياما وأسابيع في انتظار عودة الرسل الذين بعث بهم إلى الملك إيزرهادن، وعاد الرسل بعد شهر ولم تعد معهم أنوفهم ولا آذانهم، إذ أن الملك إيزرهادن قد أخذ رهينة على أن يقولوا لمليكهم ليللي إن ما حل بهم سيحدث له كذلك إن هو لم يحمل على ظهور المطايا أو ساقا من الفضة والذهب والأخشاب الثمينة ويقدمها للملك ايزرهادن ومن خلفها يذهب الملك ليللي بنفسه ويقدم للملك العظيم فروض الولاء
وجمع ليللي أمراءه فتشاوروا ودبروا وقدروا، وقرروا أن الملك قد أهين، وبالإجماع أعلنوها حربا على ملك الأشوريين، وعلى رأس جيش يتقد حمية وحماسة كان الملك ليللي يزحف إلى عدوه وقضى سبعة أيام يكابد هو وجيشه مشقة السفر ووعثاء الطريق.
وفي اليوم الثامن تقابل الجيشان في بطن واد مكشوف. ويا أكثر ما روع الملك الباسل ليللي إذ رأى جيش غريمه ينهمر كالسيل من أعلى الجبل ويكتسح الوادي بآلاف مؤلفة فدافع ليللي ببضع مئاته دفاع الأبطال.
ولكنه سرعان ما جرح وحمل أسيراً وذهب جيشه من قتيل وأسير وسيق به وبهم إلى نينوى حيث ألقى الملك في كهف مسوج بالقضبان.
ولم يعان الملك ليللي في هذا الأسر من آلام الجوع وإيلام الجروح كما عانى من إلام الروح: فها هو ذا ملطخا بالخزي والعار لا حول له ولا قوة، يكابد عذابه وأوصا به شجاعا صابراً لا شاكيا ولا متذمراً.
اثنتا عشر يوما ينتظر الملك الموت وهو يرى في كل لحظة خلصاءه وندماءه يساقون إلى الذبح كالخراف ولكنه تجمَّل وتحمل وكتم: رأي زوجته التي يحبها كل الحب مغلولة اليدين يسوقها عبدان إلى حيث تلقى مع جواري إيزرهادن فسكن وسكت.
وأخيراً صرصرت السلاسل وفتح باب السجن، ودخل جنديان، فأنهضا الملك وكبلاه بالحديد وساقاه إلى ساحة الإعدام، وخلعوا أثواب الملك وزجروه وزجوه إلى حيث الموت، وحينئذ صاح الملك: إنه الأجل. لا أستطيع. وفقد الملك شجاعته وبكى، ووقع الملك على(609/46)
أقدام الجلادين يبكي ويسترحم، ولكن لا سامع ولا مجيب: وشهروا السيف وأرادوا أن يُهووا به على عنقه.
وهنا صاح الملك: هذا لا يمكن. أنه حلم، ونفض الملك رأسه فعاد كما كان: إيزرهادن.
وقال إيزرهادن: يا إلهي كم قاسيت من العذاب. وكم طال هذا الكابوس.
فأجاب الشيخ ذو اللحية: كم طال هذا الكابوس!؟ إنه لحظة يا صاحبي دونها غفوة العين. . . فهل فهمت الآن؟
فنظر الملك في رعب ولم يجب.
فقال الشيخ أرأيت أن ليللي هو أنت، وأن الجنود الذين عذبتهم وقتلتهم ليسوا أحداً غيرك؟ إنك تظن أيها الملك أن الحياة تجري في عروقك وحدك، ولكنني أريتك أنك بعمل الشر للآخرين إنما عملته لنفسك لأن الآخرين وأنت شيء واحد، فالحياة واحدة في الجميع وإنما حياتك جزء من هذه الحياة العامة وصورة منها مصغرة: وإلا فخبرني هل يمكنك أن تجعل الحياة أسوأ مما هي أو أحسن مما هي؟ هل يمكنك أن تمدها حتى تطول، أو تقبضها حتى تقصر؟. . . كلا فما في استطاعتك أن تحقق الحياة إلا في نفسك وذلك بأن تحطم الحواجز بين حياة الآخرين وحياتك، وبأن تنظر إلى الآخرين النظرة التي تنظرها إلى نفسك وتحبهم كما لو كانوا منك. بهذا تزيد نصيبك في الحياة، إنك تنظر إلى حياتك كأنها الحياة الوحيدة في الكون وتريد أن تزيدها بما تأخذ من حياة الآخرين، وأنا أقول لك إنه بنفس هذا العمل إنما تخطئ في حق نفسك لأنه مستحيل وفوق قدرتك أن تسلب الحياة التي توجد في الآخرين. وخطأ أن تظن أن حياة الذين قتلتهم قد اختفت في الواقع أبداً، فالحياة لا تعرف الزمان ولا المكان.
حياة لحظة وحياة ألف عام وحياتك أنت وحياة كل الكائنات الكثيرة والمتنوعة في الوجود، كل هذا سواء، وواحد لا يختلف. مستحيل أن تسلب الحياة أو تّهبها لأحد. الحياة هي الشيء الوحيد الذي يوجد إلى الأبد؛ وكل شيء عداها نتخيل أنه موجود وهو وهم باطل.
قال الشيخ هذا واختفى.
وفي الصباح أصدر الملك إيزرهادن أمره بإطلاق سراح الملك ليللي وإلغاء كل أحكام الإعدام. وفي الثالث استدعى إليه ابنا أشور بانّي يال وتنازل له عن الملك بكل قوته(609/47)
وسطوته.
وأما الملك إيزرهادن فقد خرج إلى الغابات يتأمل في كل ما عرفه وطاف في المدن العساكر يبشر الناس بأن الحياة واحدة خالدة، وأن الناس إذ يسيئون للغير لأنفسهم لأن غيرهم وأنفسهم واحد خالد.
زكي شنودة
المحامي(609/48)
الكتب
ضجعة العروس
قصة مصرية
117 صفحة - مطبعة التوكل
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كنا جماعة في ندوتنا الأدبية الحرة؛ وكانت هذه القصة في يدي ولا أدري لماذا حملتها وطوفت بها الآفاق. فلفت غلافها نظر صديقنا الدكتور ع. فلم يعجبه العنوان من ناحية تناسب الحروف فيه متنافرة ثقيلة؛ والدكتور رجل دقيق الحس فيما يخص الذوق والجمال.
أما أستاذنا المحامي الكبير (ا. ق) فكان اعتراضه على العنوان من ناحية أخرى. . . (ضجعة العروس)؟؟! ما هذا؟ إنه عنوان لا يليق.
ولعل العنوان الذي اختاره الدكتور. ع. (رقدة العروس) كان أكثر مناسبة وأقل معترضا. لولا أن القضاء سبق فطبع العنوان ولم يبق إلا مجال الاعتراض لا مجال الاختيار والاقتراح.
هذه القصة قصة غرام حطمه الزمان. فأخرجها الأستاذ إبراهيم عز الدين في ثوب يريك أثر جراحات الزمان وندوبه. وللمؤلف هنا قوة في التعبير تصور لك المأساة في أروع صورها حتى ليكاد وصفه كله يقطر بالدماء المتقطرة على مذبح الحياة. لولا ومضات من الفكاهة هنا وهناك تجئ عفواً أحياناً؛ ويتعمدها المؤلف أحياناً ليروح عن قارئه المكدود بأثقال الحوادث.
وما أبرع المؤلف وهو يصور لنا - خلال مشاهد الأسى - مشهد المقابر وقد زحمتها جيوش المتسولين والفقهاء الذين يرتلون على قبور الموتى آيات من الذكر الحكيم لا يتبينها السامع لطول ما يلوون بها أشداقهم.
وما أبرعه أيضاً وهو يصور لنا (مأذون الناحية) في أسلوب يسيل فكاهة ومرحا. حتى لتكاد تنسى في تضاعيف الفكاهة المتلاحقة في هذا الشيخ (سعاد) المسكينة المطوية بعد التمرد في صفائح القبور.(609/49)
والقصة مملوءة بالجانب (الحكائي). وبطل القصة يروي لنا بنفسه ما تعاقب عليه من أحداث الليالي في أحضان النساء.
إلا أن البطلة (سعاد) ظهرت مقتضبة في القصة فلا تفتح عينك حتى تراها صريعة الجحود والنكران. .
وفي خلال القصص ترى للمؤلف حكم الحياة مبثوثة في تضاعيف السطور وهي حكم غير مقحمة ولا مجتلبة. ولكنها تصيب الموضع فتجمل وتصيب في الأذن والقلب مكاناً. وما اصدق المؤلف وهو يقول في صفحة 74 (إن مراكب الحياة تسير وتمخر في عبابها. . . ولن يثنيها عن طريقها صريع مدرج في كفن أو وليد مدلل في مهد).
وعلى الرغم من أسلوب القصة القوي فان في الكاتب استهتاراً كبيراً باللغة. وما قيمة الأسلوب والعبارة إذا خالفا اللغة ونحوها؟ أليس من حق اللغة على شباب الكتاب أن يهتموا بها اهتمامهم باختيار العبارات.
ففي صفحة 78 (الكف الندي) والصواب الكف الندية لأن الكف مؤنثه كما ورد:
فلو كفى اليمين بغتك خوفا ... لأفردت اليمين على الشمال
وفي صفحة 79 (وهم على وشك أن يفجعونه) والصواب بحذف النون.
وفي صفحة 89 (كان الشيخ والمرأة فرسا رهان) والصواب فرسي رهان لأن المثنى ينصب بالياء والنون وهو هنا خبر كان.
وفي صفحة 91 (إلى العمل في رابعة النهار) وليس للنهار ثالثة ولا رابعة. . وإنما هي رائعة النهار بالهمزة.
وفي صفحة 29 (كلما أمعن هذا الرجل تحليلا كلما تعقد). وكلما لا تتكرر في الجواب بل تحذف. قال تعالى في سورة الأعراف آية 37 (كلما دخلت أمة لعنت أختها). وقال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيِلة ... بعثت إلى عريفها يتوسم
وفي صفحة 15 (ويفرحن لشقوانا) وليس في اللغة شقوى بمعنى شقاء والمذكور في المعاجم الشقاوة والشقوة.
وإني على ثقة أن الأستاذ الكاتب القوي إبراهيم عز الدين لمحاول أن يكمل أسلوبه الفاتن ولوحاته الصادقة (برتوش) النحو واللغة فذلك خير لأدبه وقلمه - والسلام.(609/50)
محمد عبد الغني حسن(609/51)
محمود تيمور
رائد القصة العربية
المعجبون بفن محمود تيمور من الشباب السوري كثير. من هؤلاء الأستاذ نزيه الحكيم مؤلف هذه الدراسة الأدبية عن القاص المصري الكبير التي بدأها بعرض تاريخي عن الأسرة التيمورية ومنشئها وولوع بيتها بالعلم والأدب حتى كان أحمد تيمور باشا وكان ابنه الأستاذ محمود يدرج في أحضان بيت كريم. فإذا شب بدت عليه مخايل النجابة فهو منذ السن المبكرة يؤلف القصص حتى يجود بهذا الفن المدار الذي عرف به في الشرق وكانت له اليد السابقة عليه في نهضة القصة العربية الحديثة.
وفي الفصل الثاني من هذه الدراسة حلل المؤلف الأديب طبع تيمور وسجاياه من حب للخير وهدوء وإنسانية ممحوضة ظهرت آثارها في وصفه لطباع الأبطال في روايته وسجاياهم الهادئة وتصوير إنسانيتهم الخيرة الشفافة. ثم تحرّى وجهات فنه وطريقته في القصة وإيراد الحوادث مما لم ينسحب فيه على آثار غيره، وإنما جعله طابعاً لفنه معروفا لا تجثم عليه الواقعية الباهتة ولا تُغرِبُ حوادثه الأوهام. ثم مضى المؤلف في تبيان الألوان الفنية التي امتاز بها قصص تيمور والمراحل التي تحول فيها أثره من الفن الواقعي إلى التحليل النفسي ومن البيئة الخاصة المحدودة إلى الآفاق المنطلقة البعيدة. كل ذلك أتى عليه الأستاذ نزيه الحكيم بطريقة علمية ونقد تحليلي قويم تكاد كل كلمة فيه تنزل في مكانتها من المعنى الذي لا يؤدي بغيرها لدقة التعبير الفني. ثم أتبع هذه المراحل بخروج تيمور من القصة المقروءة إلى القصة التمثيلية وهو أفق أطلق تيمور فيه جناحي طائر يجيد التدويم. وحين وصل المؤلف إلى أسلوب تيمور بين التحول فيه أيضاً مما كان يعتريه في سوابق قصصه من لين في التعبير وانحراف عن مصح اللغة إلى هذه الحلية الحديثة في آثاره الأخيرة التي استقامت لغتها وأسلس تعبيرها.
المرأة ومركزها الاجتماعي في الدولة:
هذا كتاب طريف وظريف. أما طرائفه فلأنهُ يعني بتقديم المرأة عامة والمصرية خاصة بما يسدي إليها من نصح وإرشاد، وما يختط لها من خطط في إنهاضها وإصلاحها. وأما ظرفه فلأنُه حوار بين فيلسوف وتلميذه الفتي، فالفتى يجنح إلى عداوة المرأة والتنقير في عيوبها،(609/52)
والفيلسوف رحيم القلب رحيب الصدر يتخذ للمرأة ألين السبل لتسديد خطاها وإعلاء شأنها ودفع التلوام عنه.
فهذا الكتاب دعوة مصلح لم يلجأ إلى التنديد والوعيد ورفع العقيرة بالصراخ، ولا جعل الوسيلة إلى بلوغ غايته من طريق الغيرة الدينية والتزمت، وإنما هو دعوة مطمئنة هادئة تتسرب إلى النفوس بقبول، فكأن فيها الإيحاء على نحو ما يسميه علماء النفس. تقرأ الكتاب كله أو فصلا منه وتخرج بنفس رضيت عما قرأت ولمست وجه الخير فيه. وقد زانه مؤلفه الأستاذ محمد البندري بلُمَع من تاريخ العرب والأمم. وحين كتب فصل المرأة المعاصرة ونهضتها أوفى على الغاية وتناول البحث من جذوره إلى ثماره مؤرخا نهوض المرأة المصرية وأخواتها المجاورات. وجعل آخر كل فصل من فصول كتابه أبياتاً في معنى الموضوع بعضها جاء سليم النظم واضح المعنى وبعضها بدا ظالع المبنى فهيه المنى. وكيف اتفق الأمر ففي الكتاب أدب وحكمة؟ فهل كان اسم صاحبه منتزعا من اسم بندار الشاعر الحكيم القديم.
زكي المحاسني(609/53)
العدد 610 - بتاريخ: 12 - 03 - 1945(/)
المجاهد الشهيد!
كنت في الريف ليلة نعى الناعي الزعيم أحمد ماهر باشا. وكان من امتحان القدَر لصبري أن يروَّعني هذا النبأ الفاجع الفاجئ وأنا في وحدة من الناس ووحشة من الطبيعة، لا أرى ولا أسمع ولا أحس غير وكيف السحاب وزفيف الريح وشفيف البرد، فأقبع في الغرفة قبوع القنفذ، وأنشر فكري في معاني هذا الرزء الوطني الفادح، أسبر غوره، وأقصي أطرافه، فأشعر بثقله كله يهبظ نفسي ويصدع قواي، فأستكين للجزع وأستسلم للشجون!
ويتمثل لعيني منظر الصريع المسجىَّ على فراشه الدامي، وحوله ابنته وزوجته وأخوته هلعين مشدوهين لا يكادون يصدقون أن هذا الجسد الهامد هو رجلهم الذي تركهم منذ هنيهة وقدرته فوق الأحداث، وهيبته طي القلوب، وذكره ملء الأسماع، وعمله حديث الألسنة، وأمله سعة الدنيا، فينفر عني النوم، ويطول علىَّ الليل، وتهون في نفسي الحياة!
وفي الصباح الباكر من يوم الأحد كان القرويون يتناقلون النبأ العظيم، وعلى كل وجهٍ سهوم الحزن، وفي كل قلب لهيب الحسرة، كأنما وشجَت بهم جميعاً قرابة الفقيد، فمصابهم فيه واحد، وحزنهم عليه مشترك. وتلك ظاهرة اجتماعية لم يسجلها مرصد التاريخ من قبل أحمد ماهر إلا سعد زغلول. وتعليل هذه الظاهرة أبين من أن يُبين؛ فقد كان ماهر كما كان سعد زعيماً شعبياً تألق اسمه في سطور تاريخنا الحديث تألق النجم الهادي، وتردد ذكره في حوادثه الجَّلى تردد النشيد الحماسي على أفواه الجند، وكان له ولرفيقه في الجهاد وخليفته في الحكم - أطال الله عمره - من فضل التدبير والتنظيم والفعل، ما كان لرئيسهما الخالد من فضل التنبيه والتوجيه والقول. ثم كان ظهور سعد للزعامة حين أبطرت الحرب الماضية نفوس الغالبين، فسطت قوة الغالب على حق الوطن، وسيطرت إرادة المحتل على رغبة الأمة، وتطامنت الرءوس فلا ترتفع، وانعقدت الألسن فلا تنطق، فتميز واشتهر بشجاعته وكفايته وبلاغته وقدرته. وكان ظهور ماهر للزعامة حين أضلت الحرب الحاضرة عقول الحاكمين والمحكومين، ففسدت الأخلاق، وماتت الضمائر، وتحكمت الشهوات، وانتهكت الحرمات، وخست المطامع، فتميز واشتهر برجولته وصراحته ونزاهته وحريته.
كلا الزعيمين كان رجل الساعة في وقته، وحديث الأماني لقومه؛ ذلك لدعوة الإيقاظ والثورة احتجاجاً على صلح كفر بالعدالة، وهذا لدعوة الإصلاح والوحدة والوحدة استعداداً(610/1)
لصلح يؤمن - كما يقولون - بالحق، ومن ثَم كان الحزن عليهما حزناً شعبياً أحسه القريب والبعيد، وأخلص فيه الخصيم والولي.
والحق أن الحزن على الفقيد الشهيد قد غزا القلوب الغُلف والأكباد السود، فما ظنك بمن يعرفونه عن كثَب، أو يمتون إليه بسبب، أو يقرون بفضل؟ والإقرار بفضل أحمد ماهر قد بلغ حد الإجماع، إن لم يكن من جهة كفايته فمن جهة خلقه. والخلق في الرجل السياسي هو المزية التي يجزي عما عداها، والثروة التي لا يبلغ العلم والمال والسلطان مداها. وأخلاق أحمد ماهر كانت أخلاق الرجل الذي يعده القدر ليرفع أمته إلى الفوق ويدفعها إلى الأمام. كان أكرم الله مثواه وبرد بالرحمة ثراه، مؤمناً بما يدعو، مخلصاً فيما يعمل، صريحاً فيما يقول، جريئاً على ما يُقدم، عفيفاً عما لا يحل. وتاريخه كله مصداق لأصالة هذه الصفات النادرة فيه. جاهد في استقلال بلاده حق جهاده، ففكر وقدر، ثم جهز ودبر، وترصدته العيون، وانفجرت من حوله المخاطر، وأشفى به الإقدام على هوة الموت، فما نكص ولا وهن ولا استكان، ولم يكن يومئذ للمجاهدين أمل في منصب، ولا رجاء في حكم.
ورأَس مجلس النواب في حكومة الوفد فتجلت خلال الديمقراطية فيه: كان الوفد عنده أصغر الأحزاب حين ينتصف لغيره منه؛ وكان رئيس الحكومة عنده أضعف النواب حين يطبق (اللائحة) عليه، وكان الدستور قسطاسه المستقيم لا يصدر إلا عنه ولا يرجع إلا إليه.
وتولى المعارضة حيناً من الدهر فكان عف اللسان عن الهُجر. عف الضمير عن الفُجر، عف الفكر عن المغلطة، عف النفس عن الخديعة، يعالن بالمخالفة ويعتمد في إعلانها على الصدق والجد، ويصارح بالتهمة ويستعين على إثباتها بالحق والمنطق، وينفرد بالرأي ويجعل له من قوة إيمانه وثبات جنانه السندَ الذي لا يهي والدليل الذي لا يدفع. ومواقفه في (المجلس) و (القصر) لا تزال عطر الأفواه والأندية، فلا حاجة إلى ذكرها.
ثم رأس الحكومة، والخصومة الحزبية على أقبح ما تكون عنفاً وحدَّة، والأخلاق الاجتماعية على أسوأ ما تكون اعتلالاً وردَّة، والسياسة الدولية تتمخض عن أحداث جسام ستغير أوضاع الأرض وتبدل أنظمة الحياة، فساسها بالصراحة والسماحة والحرية والعدل، فمكن لكل ذي رأي أن يرى، ولكل صاحب قلم أن يكتب؛ ومهد لائتلاف القلوب واتحاد الكلمة(610/2)
بالمسامحة لاستلال ما في النفوس من سخيمة، وبالمشاورة لتهوين ما في المعارضة من خلاف، وأوشك أن يقول لنفسه: (عدلت فأمنت فنمت يا عمر)، لولا أن الخوارج لا يزالون أحياء، وأن أبا لؤلؤة لا يزال له في مصر أبناء! وهكذا تجري تصاريف القدر بما غُيب عن ابن آدم علمه، فذهب أحمد كما ذهب عمر صريع جنون أو فتنة. ولو كان أحمد أو عمر أو سائر الأسماء العظمى علما على رجل لهان فيه الخطب وتيسر عنه العزاء، ففي كل ساعة من ساعات الليل والنهار تبتلع القبور ألوفاً من الأنفس فلا يُعقبون فراغاً ولا دهشة؛ إنما هو عَلم على ثروة ضخمة من الخلق والعلم والمواهب والتجارب عمل في تكوينها مع الطبيعة الحرة والزمان الطويل عوامل جمة وأحوال مختلفة، حتى أصبحت قوة في طاقة الإنسانية وقطعة من ثروة العالم. ففقدها يحدث في سير الحياة من الخلل ما يحدثه فقد الضرسن الصغير في الدولاب الكبير. ذلك الخلل هو الفراغ الذي يحسه الناس بموت العظيم. وعلى مقدار العظمة يكون اتساع الفراغ. وإن الفراغ الذي أحدثه في صف القادة مصرع أحمد ماهر فراغ مثله في نواحي الحياة المصرية أودى الزمن بشاغليه، ولم يستطع شَغله بأمثالهم، فاضطرب المسير وأبطأ التقدم.
نحن فقراء إلى الرجال ذوي الخلق والكفاية، وليس لنا وا أسفاه في توفيرهم حيلة، لأنهم من صنع الله لا من صنع المدرسة، ومن أثر الأسرة لا من أثر البيئة. وأمثال الأسرة الماهرية في الشرق قلية؛ أنجبت رجالا تميزوا على نظرائهم بأخلاق الرجولة. شق كل واحد منهم طريقه إلى المجد بنفسه، ثم ساروا إلى غايتهم في طرق متوازية لا تتلاقى. وعهدنا بالأسر الكبيرة إذا سما فرع من فروعها وغلظ تسلقه الآخرون كما يتسلق اللبلاب جذع النخلة. هم يعملون للمجد أكثر مما يعملون للعيش، ويبذلون للناس أضعاف ما يبذلون للنفس؛ فهم في العظماء لا في الأغنياء، وفي معنى السماء لا في حقيقة الأرض! فما أجدر هذه الأسرة أن تُدرس لتكون لأسرنا قدوة! وما أخلق الشباب أن يتخذوا لهم من رجالها أسوة! وما أحق مصر أن تجزع جزع الثكلى على من يعز الصبر عليه ويستحيل العوص منه!
احمد حسن الزيات(610/3)
يوحنا الدمشقي
للدكتور جواد علي
عجيب أمر أولئك المسلمين! كانت صدورهم والله رحبة أرحب من صدور أهل القرن العشرين. هذا يوحنا الدمشقي أحد آباء الكنيسة اليونانية وأحد كبار القديسين يطعن في عقيدة المسلمين ويؤلف الكتب في الرد عليهم ويجادل علماءهم في صحة دعوى النبي العظيم، وهو مع ذلك موظف من كبار موظفي بلاط أمير المؤمنين، ورجل من ذوي الحل والعقد في دمشق عاصمة خليفة رسول العالمين.
عاصر يوحنا الدمشقي أو منصور بن سرجيوس المعروف (ينبوع الذهب) الخلفاء الأمويين وجالسهم وعمل لهم في دولتهم وكانت له دالة عليهم، كما كانت لوالده (سرجيوس) حرمة في نفوس العرب ومنزلة انتقلت إلى ابنه من بعده. كان سرجيوس هذا من الموظفين المشهورين في العهد البيزنطي ومستشاراً مالياً معروفاً، شهد الفتح الإسلامي لسورية وظل محافظاً على منصبه هذا حتى في الإسلام. ولعله كان موظفاً في عهد عبد الملك بن مروان.
أما ولده يوحنا فلقد كان من المقربين إلى الخليفة يزيد بن معاوية والأثيرين عنده. ولما توفي والده في منصبه المالي الكبير وظل في هذه الوظيفة حتى خلافة هشام (724 - 743) إذ ترك الدنيا والمركز الحكومي معا لينصرف إلى إعداد ما يلزم لحياته الثانية، الحياة الآخرة في دير من أديرة فلسطين.
ولم تصرف الوظيفة وجلالها يوحنا عن العلم والكنيسة التي كوَّنته وصقلت عقله. بل على العكس من ذلك اتخذ الوظيفة وسيلة للكنيسة والدين. وسيلة يتقرب بواسطتها إلى الرؤساء والزعماء ليخفف من شدة حدتهم إن كانت هنالك حدة ضد المسيحيين عامة وضد الأرثوذكس وضد البيزنطيين على الأخص، ولذلك كان رسولا سياسيا ودينيا في بلاط الخليفة في نفس الوقت. وقد عرف البيزنطيون ما حصل عليه قديسهم هذا من منزلة في بلاط (ملك العرب) المسلمين ولاسيما رجال الدين منهم وساسة الحكومة فكلفوه بمهمات صعاب مختلفة ووسطوه لحل مشاكل دولية معقدة. حتى تصوروا أن مركزه في سورية كان يضاهي مركز الخليفة بدليل إغداقهم عليه الألقاب التي كانوا يلقبون بها عادة خلفاء(610/4)
المسلمين، ونعتهم إياه بالنعوت التي كانوا ينعتون بها عادة آل أمية ملوك الشام.
ونال يوحنا من تقدير رجال الدين والكنيسة ما ناله من تقدير الدولة البيزنطية وجماعة الحكومة. نال لقباً عظيما هو لقب (قديس) ولقب بلقب آخر جميل اللفظ والمعنى هو لقب (يوحنا ينبوع الذهب) وخصصت له الكنيسة الإغريقية يوم 4 ديسمبر ويوم 6 مايو ليكونا عيدين خاصين بهذا القديس. الذي برع في علم المنطق والفلسفة وفي الثقافة اليونانية، والذي اتخذ من المنطق سلاحا يدافع به عن الكنيسة، والذي فلسف الكنيسة الشرقية وأخضع المعارف الإغريقية الوثنية لحكم سلطان الدين المسيحي
ووهب الله صاحبنا بصراً في العلوم الزمانية فاق بصره في العلوم الدينية. برع في علوم زمانه وتقدم على أقرانه وخلاَّنه. وألف كتابه الشهير المعروف باسم (ينبوع الحكمة) اقتصر في القسم الأول منه على محاورات أرسطو. وقد جمع العلامة لوكيان تأليفه اليونانية ونشرها في (مجموعة الآباء اليونان). والعلامة الفرنسي (لوكوين)
وهو بجملته وتفصيله مرآة صافية للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في معلوماتها ومعارفها في ذلك العهد. وبحكم مقامه في الخط الأول من خطوط القتال بين الإسلام والنصرانية اضطر إلى دراسة الأسلحة التي شهرها المسلمون على المسيحيين وعلى التنقيب في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول وفي سيرة النبي وأصحابه من الأنصار والمهاجرين لعله يجد نقصاً أو ضعفاً يتخذه هدفاً يهاجمه أو ركناً يبني عليه خطة هجومه على المسلمين بدون شفقة أو رحمة وهوادة.
بهذه الروح اعتكف يدرس القرآن الكريم والحديث النبوي وهو في عصر كان فيه أصحاب رسول الله أحياء يرزقون، حتى إذا ما حفظ القرآن وما شاء من أحاديث انطلق كالأسد يزأر فاتحاً فكيه يريد موضعاً سهلا يغرس فيه أنيابه من جسم المسلمين.
بتلك الروح صار يفلي آيات القرآن الكريم وينبش في ثنايا أحاديث الرسول وأخبار أصحابه من المهاجرين والأنصار لعله يعثر على ذلك الموضع السهل الذي يهجم منه على الإسلام، أو يمكن الطعن فيه بسلاح المنطق اليوناني الذي لم يتمرن العرب عليه ولم يكن لهم به خبرة أو إلمام، والذي صّوبه الوثنيون إلى النصارى فمضى مدة في جسم الكنيسة حتى إذا ما تعلمه رجال الدين استخدموه لمحاربة خصوم الدين. وفي الفصل 101 من(610/5)
رسائله وفضوله (بالآرامية، ميامي)، وهو الفصل الذي عنونه بهذا العنوان وفي مناظراته الكثيرة معلومات غزيرة تدل على اطلاع واسع على تاريخ المسلمين.
استشهد مثلا في الفصول التي كتبها دفاعاً عن المسيحية التي كانت تحتضر في سورية ومصر وفلسطين وفي المناطق العربية الأخرى بآيات من القرآن الكريم وبكثير من الأحاديث لإثبات وجهة نظره ولمناقشة المسلمين بتلك المصادر في صحة دعواهم على طريقة استخدام الكليات والجزئيات والمقدمات والنتائج والحوار والمناظرة.
وبالنظر إلى جهل أبناء دينه بأسباب الجدال الديني وبالبراهين العلمية المنطقية فإنه وضع لهم كتابا في المناظرة على طريقة السؤال والجواب على هذا النسق: (إذا سألك العربي كذا فأجيبه بكذا وليس بكذا)، وشدد على إخوانه بوجوب حفظ هذه المحاورة واتباعها حرفيا وشدد في تحريم مبادرة العربي بالسؤال خوفا من الزلل والوقوع في مهاوي الضلالة، ومن الارتباك الذي قد يؤدي إلى تغلب العربي على المسيحي في النهاية.
وهذه الرسالة حوار بين عربي مسلم وبين مسيحي جمع فيها أكثر ما كان يدور في خلده وفي خلد الجدليين من أسئلة ومن أجوبة ومن فروق بين الديانتين. خذ مثلا لذلك ما جاء في طبيعة المسيح قال: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله. ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمى المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه). فإذا أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
وفي موضع من مواضع الرسالة يجيب على اعتراض المسلمين على المسيحيين في قضية عبادة الصليب وتقديسه بقوله: (أنتم تنكرون علينا تقديس الصليب وهو خشب، في حين أنكم تقدسون حجراً أسود هو رأس (أفروديت)
ثم يستمر فيقول: (وتدعون بأنكم إنما تقدسون هذا الحجر الأسود لأن إبراهيم الخليل على زعمكم كان قد اضطجع عليه أو لأنه ربط به الناقة حينما هَّم بذبح إسحاق. وتسخرون منا لأننا نقدس الصليب الذي صلب عليه سيدنا عيسى المسيح)، وقوله هذا ظاهر البطلان لم(610/6)
يأت في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف
جاء في القرآن الكريم: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شّبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا أتباع الظن وما قتلوه يقينا) وهذا معناه عدم اتفاق وجهة نظر المسلمين مع المسيحيين في دعوى صلب المسيح. وذهب صاحبنا مذهب المغالطة والجدل الصوري فعمد إلى التفسير وإلى الآية التالية مدعيا بأن في (ولكن شبه لهم) غموضا تفسره الآية التي بعدها (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما) وفي هذه الآية على زعمه من الاعتراف بصحة الصلب والصليب ما لا يخفى.
ثم يقول: (وتدّعون أيضاً بأن الذبح، أي ذبح إبراهيم لإسحاق، إنما كان في مكة، ومكة بلد غير ذي زرع، وهذا موضع لا ينطبق عليه ما جاء في التوراة، وهو كتاب الله، إذا فمكة ليست بذلك المكان). ومن الأبحاث الأخرى التي تعرض لها هذا القديس مبحث تعدد الزوجات، وبعد أن ذكر نص الآية التي حددت عدد الزوجات، وبعد أن ترجمها ترجمة حرفية بحث في الطلاق، وانتقل إلى زواج النبي بزينب وتطليق زيد لها، ثم تحدث عن (التجحيش) بعد الطلاق الثالث وعن قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَّني شئتم وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)
وبحث في قضية عويصة، هي قضية حرية الإرادة والجبر والاختيار (مشكلة القدر)، وكانت قضية القدر من أهم المشاكل التي تعرض لها العصر الأموي لما كان لها من ارتباط بالوضع العام والسياسة فضلا عن الدين.
قسّم يوحنا العالم إلى فريقين: فريق دان بعقيدة (الجبر) والضرورة وهو فريق المسلمين، وفريق دان بحرية الإرادة أو بالقول (بالاستطاعة) وهو فريق المسيحيين. وبعد أن ذكر أن المسلمين قاطبة كانوا يدينون بعقيدة (القدر خيره وشره من الله). وذلك على عكس مدلول الكلمة والمعنى الذي خصصت به فيما بعد. قال: (إنهم إذا بقولهم هذا ينسبون الشر والقبيح إلى الله). ولماذا؟. يجيب على هذا الاعتراض بهذه الصورة. (هل يمكن أن يكون الله هو العلة والسبب والفاعل لكل شيء حتى المكروه؟ يقول المسيحيون لا، لأن الله لا يمكن أن يكون خالقاً للقبيح أو الشر - إذ يكون حينئذ ظالماً ومن المحال أن ينسب الظلم إلى الله. إن(610/7)
الله جل جلاله يجازي الظالمين والآثمين فكيف يجوز أن يجازي الله شخصاً أًمر أن يقوم بعمل فقام به، أو يكون العقاب في الدنيا فضلا عن ذلك عقاباً موجهاً ضد إرادة الله تعالى، فالله أراد أن يكون ذلك الرجل شريراً فأصبح شريراً ومن الحيف إنزال العقاب بشخص لم يكن له في العمل أي استطاعة أو اختيار).
يقول يوحنا بعد ذلك (وسيتعجب العربي من هذا القول، وسيقول لك ولكنك أشركت من حيث لا تدري، وعلى المسيحي أن يجيبه فوراً ولكنك نسبت الظلم إلى الله من حيث لا تدري. ثم ليباغت المسيحي المسلم بهذا السؤال: من خلق نطفة ولد الزنا في بطن أمه؟ سيقول المسلم: الله. وعلى المسيحي أن يرد عليه بقوله: إن الزنا عمل قبيح وهو في حد ذاته شر، فالله على قولكم إذا ساعد على هذا الشر، وهو أمر لا يليق بالله تعالى).
ويجيب يوحنا على لسان المسيحي بهذا الجواب (إننا معاشر النصارى نعتقد بأن الله لم يخلق شيئاً بعد أسبوع الخلق الأول. وإنما أمر الله عبيده بعد ذلك بالاستمرار على التكاثر والإنتاج. فجعل في صلب آدم أبي البشر قدرة الإنتاج وأصبح الإنسان منذ ذلك الحين منتجاً) وظن يوحنا بأنه قد تغلب على المسلمين بهذا الجواب. وقد رّدد تلميذه أبو قرّه الذي عاصر الخلفاء العباسيين هذه النغمة في الفصول (الميامي بالآرامية) التي ألفها في الرد على اليهود والمسلمين. وكأنك تقرأ في هذه الميامي النزاع الذي كان بين القدرية والجبرية أو بين المعتزلة والأشاعرة. تقرأ في الرسالة الأدلة والبراهين التي استعملها المعتزلة في خصامهم مع الأشاعرة والفرق الأخرى تماماً.
(البقية في العدد القادم)
جواد علي(610/8)
أسرار الشعراء
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ولنقرأ الآن صفحة أشد متعة، تتعلق بأمر ذي شأن عند الأديب، ذلك هو النقد، نقد آثاره بنفسه، ونقد الناس آثاره. والأدباء في هذا الأمر مختلفون متباينون. فهذا تهيجه الكلمة الواحدة فيثور لأخف نقد ولا يرضى عنه، وذاك لا يثور ولا يحفل بما قيل. وهؤلاء أناس يستقبلون أروع الآثار بنقد لا نقد فيه، وأولئك يستقبلون أهون الكتب بمدح وتقريظ وكلٌ يكتب عن هوى في نفسه أو غرض لديه فيسف ولا يعلو، ويتجنَّى ولا يقدر، كل ذلك لغرضه وحاجته، وقديماً قال الصوفيون (المرض في الغرض).
اسمع النقد الذي استقبلت به قصيدة كيتز المسماة (آنديميون) أروع قصيدة لهذا الشاعر، التي يقولون إنها تحوي أبياتا فرائد من الشعر الإنكليزي.
لقد كتب ناقد مجلة يقول: لقد سرق هذا الشاعر أفكار السيد هنت (وهو صحافي وشاعر معروف) وادَّعاها لنفسه. ولكنه كان أشد غموضاً منه، وهو جامد الطبع ينحت من صخر. .)
فماذا أبقى هذا الشاعر لكيتز؟ سرَّاق أفكار، وجامد الطبع ينحت من صخر! لم يبق له شيئا إذ ذاك. ولكن الناقد يمضي ويمضي معه غرضه الذي دفعه إلى هذا النقد الغث، وتبقى القصيدة وحدها خالدة لروعتها وعظمتها.
وحين أصدر الشاعر الأمريكي (ويتمن) ديوانه الخالد (أوراق العشب) قال النقدة عنه إنه مشابه كلام العوام، مفعم بالحماقات؛ وتطاول آخرون فقالوا ما ليس يُقال.
على أن هذه النّقدات ما أثرت في الشاعر ولا أبِهَ لها. وظَّل يعمل حتى أدرك الثالثة والسبعين من عمره. أما كيتز المسكين، فقد مات في السادسة والعشرين، وكان من سبب موته يأسه الشديد حين قرأ ذلك النقد السخيف.
شتان بين هذين الشاعرين! ولأن النقد غير السباب والتعريض. لقد كان عقله ذا سلطان على نفسه. أما كيتز فقد كانت نفسه الرقيقة أعظم من عقله، فتغلب عليه اليأس، وأضناه ما سمعه من سباب. وهكذا يكون النقد سبباً للأحياء ويكون أيضاً سبيلا للموت.(610/9)
هذا النقد الذي قضى على كيتز، وكاد يقضي على (اندرسن) هو الذي دفع إلى المجد كوَّبه، ولوئيس، وكلودفارير، وماترلنك.
ولنعد إلى شاعرنا كيتز. لقد ثار على النقاد جميعاً، ولا شيء يؤلم حقاً كقراءة هذه الرسالة التي كتبها شلَّي بهذا الشأن إلى مدير مجلة (كويرترلي روفيو) يخبره فيها (إن كيتز المسكين قد أُلجِئ إلى حالة لا تطاق من جراء تعسف الناقد وسوء تأتيه. لقد سبب له مرضاً أحسب أن الأمل ضعيف في شفائه منه. ولقد كتبوا إلى إن أولى علامات المرض تحاكي الجنون، وأنهم جهدوا كثيراً حتى استطاعوا أن يمنعوه من الانتحار. وإلى ذلك فإن آلامه النفسية سببت انفجار وريد دموي في الرئة. وبدت دلائل السل المعوي لديه).
فأي نفس، هذه النفس الرقيقة؟
والنقَّاد في بعض الأحيان لا يفهمون ولا يقدَّرون، وقد يهرفون بما لا يعرفون. ولكنهم، على كل حال، يكتبون وينقدون. ربما رفعوا قصيدة لبيت، وربما خفضوا كتاباً لمقطع. . . لقد اتهم النقادُ هاردي طول حياته بأنه كان متشائما. ولكنه لم يحفل بما قالوا ولم يحاول أن يدفع عنه ما نسبوه ولكنه ثار يوماً، وقد بلغ الرابعة والثمانين من عمره، عند ما نقده ناقد، فكتب يقول: (إني لأدهش من أنه ينبغي أن أذكّر الناقد الأديب أمراً هو أول قواعد النقد، أمراً كان عليه أن يعرفه كما أعرفه. إن أثر المؤلف ينقد ويحكم عليه بالجملة لا بمقاطع مأخوذة عرضاً ربما تعارضت وتباينت. . .)
ويتناول تينَّسون مسألة السرقة الأدبية، فيقول: (وربما صادفوا معنى واحداً عند شاعرين، فيقولون هذا سارق وذاك مسروق منه، مع أن العين البشرية تتأمل الأشياء نفسها في العالم كله، فمن الطبيعي أن يتلاقى الشعراء. . .) ويذكر أن أديباً صينياً كتب إليه ذات يوم يخبره أن بيتين في شعره وجدهما بألفاظهما ومعانيهما في قصيدة لشاعر صيني لم تترجم ولم تنقل إلى لغة من اللغات.
ويُدلّل تينسون على عجز النقَّاد عن الفهم بقوله:
عرفت عجوزاً، زوج صياد، فقدت ولديها في البحر. فرأيتها في يوم عاصف تشير بقبضة يدها إلى البحر الهائج وتصيح:
(آه! تستطيع أن تزأر وتغضب الآن! فلشدَّ ما أبغض مرآك مظهراً أسنانك البيض. .)(610/10)
قال: فلو أني ذكرت ذلك في قصيدة من قصائدي لنصح لي النقاد أن أصور عجائزي تصويراً طبيعياً لا خيالياً).
ويضرب تينسون مثلا آخر فيقول:
(قمت برحلة إلى ألبيرنة، وأنا في العشرين من عمري. فأعجبت بشلال عظيم يساقط من علو ألف قدم. فكتبت في كناشتي إنه يتساقط على ورْد، كأنه شُرعُ من القماش الناعم الرقيق.)
فلما أخرجت ذلك للناس، أعلمني ناقد، أن هذا القماش الذي شبَّهت الشُرعُ به هو نسيج يستعملونه في المسارح، ليقلدوا الشلال المتساقط، ثم أضاف (وأن السيد تينَّسون ليحسن صنعاً إن استوحى الطبيعة ولم يستوحي المسارح).
وبلغ تينسون الذروة من المجد، وقد يعجب القارئ إذا علم أن أول مجموعة شعرية صدرت له بيع منها خلال سنة كاملة نسختان فقط بعد جهد وإغراء.
وبعد، فهذى طُرُف من الأسرار. . فهل ترى أعذب من الأسرار؟
دمشق
صلاح الدين المنجد(610/11)
الأميرة علية بنت المهدي
160 - 210
للأستاذ سعيد الديوه جي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
غناؤها
ورثت هذا الفن الجميل عن أمها مكنونة التي غرست في نفسها الطرب منذ نعومة أظفارها فشبت مطبوعة على التلحين والغناء والعزف، ولم تكن عُلية من المقلدات لغيرها في هذه الصنعة، بل إن أشهر المغنين كانوا يسعون إليها ويأخذون عنها. وقد وضعت ثلاثة وسبعين صوتاً، فكانت من أجمل الأصوات التي يتغنى بها في العصر العباسي. ذلك لأن الأبيات التي غنتها كانت صادرة عن روحها الشاعرة، وهي أعلم الناس بمعناها، فكانت أبدع الناس في مغناها. ولها بعض الأصوات كان يتغنى بها الكبير والصغير، والسوقة والأمير، والعالم والجاهل؛ وانتشرت بين جميع طبقات الشعب ومنها الصوت التالي وهو من نظم (وضاح اليمن) في محبوبته (أم البنين).
حتام نكتم حزننا وِإلاما؟ ... وعلام نستبقي الدموع علاما؟
إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ... ونما وزادت وأورث الأسقاما
قد أصبحت أم البنين مريضة ... أخشى بما نقلوا على حماما.
وإن شهرة أخيها إبراهيم في الغناء كانت مستمدة منها، لأنها كانت كلما وضعت صوتاً استدعت إبراهيم وألقته عليه حتى يتقنه. ثم تأمره أن يعلم جواريه وجواريها هذه الألحان، فكان إبراهيم يتولى تعليم الجواري. وأحدثت عُلية ميلا كبيراً إلى الفنون الجميلة بين أعضاء الأسرة المالكة، كانت هي زعيمة الحركة وأخذ عنها أخوها إبراهيم وفاق كثيراً من أهل عصره حتى قالوا: (إنه لم يُرَ في جاهلية ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عُلية وكانت تقدم عليه) كما كان أخوها يعقوب زامراً مشهوراً وأختاها تضربان على العود ضرباً فائقاً.
وقصرها كان أشبه بمدرسة فنون جميلة يتردد في جوه ما أبدعته علية من الشعر، وما(610/12)
وضعته من الألحان يزينْها عزف إبراهيم وأختيه، مزمار يعقوب ترديد الجواري، كما أنها كانت في أوقات فراغها تستدعي أخاها تطارحه الألحان أو تأمر الجواري أن يعرضن أمامها ما أخذنه عنه. وكان الرشيد إذا نظم أبياتاً يبعث به إلى بلبل بني العباس فتصوغ لها لحناً وتغنيه بها. أرسل إليها مرة هذين البيتين من نظمه:
يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك
تحرجي بالله من قتلنا ... لسنا من الديلم والترك
فصاغت فيهما لحناً جميلا. ولما حضر عندها الرشيد أخذت تغنيه هي وإبراهيم أخوها يضرب بالعود ويعقوب يزمر والجواري يرددن علمت عُلية يوماً أن الرشيد قد غضب عليها بوشاية حاسد وهي من أعلم الناس بمعالجته. فنظمت ثلاثة أبيات وعملت لحناً فيها وألقتها على جواري الرشيد وأمرتهن أن يغنين بها في أول مجلس يجلسه فغنين:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت عُلية أربى الناس كلهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
فطرب الرشيد طرباً شديداُ، وسأل الجواري عن القصة فأخبرنه بها، فبعث إليها فحضرت فقبل رأسها وسألها أن تغنيه هي، فأعادته عليه فبكى وقال لها (لا جرم أني لا أغضب أبداً عليك ما عشت)، وبلغها يوماً أن الرشيد وأخاه منصور يتحدثان في جنة دار الخلد، فاستدعت جاريتها (خلوب) المغنية، وأمرتها أن تذهب إلى الرشيد وتغنيه هذا الصوت، وأن يضرب على غنائها بعود:
حياكما الله خليليَّ ... إن ميْتاً كنت وإن حيا
إن قلتما خيراً، فخير لكم ... أو قلتما غيَّا، فلا غيَّا
أما تأثير غنائها فكان عظيما، ذلك أنها تمتاز برخامة صوتها، وحسن توقيعها، وتفننها وإبداعها في كل ما تضع من الأصوات.
دخل يوماً (إسماعيل بن الهادي) على (المأمون) فسمع غناءً أذهله، فقال له المأمون: مالك؟ قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب أن أرغن الروم يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك. فقال له المأمون: ألا تدري من هذا؟ قال: لا والله. قال: (هذه عمتك علية تلقي على عمك(610/13)
إبراهيم صوتاً).
شعرها
نشأت علية منذ نعومة أظفارها مطبوعة على قول الشعر، فشبت متفننة في قرضه، وكانت آية في الفصاحة والبلاغة. وقد ذكر (ابن النديم) أن لها ديوان شعر قد رآه. ولكن أين هذا الديوان؟ لاشك أن أيدي البلى أبلته كما أودت بصاحبته. يقول الصولي (إني لا أعرف الخلفاء بني العباس بنتاً مثلها، على أن لها شعرا حسناً جدا، وصنعة في الغناء حسنة كثيرة) وما وصلنا من أشعارها يدل على أنها صادرة عن قلب شاعر ونفس صافية وقريحة فياضة وروح نشأت على حب الفنون الجميلة، فكان كل ما صدر عنها جميلا، ولهذا كان شعرها مما يغنى به في صدر الدولة العباسية لرقته وانسجامه ووقعة في النفس. ومما يدل على انطباعها على قول الشعر أنها كانت تعبر في شعرها عن الكثير من أغراضها حتى المراسلات الخصوصية.
كانت علية جميلة في صورتها، جميلة في نفسها، جميلة في صوتها، تحب الجمال وتألف الجميل، ففاض هذا الجمال في شعرها، فكان لؤلؤا منضودا تزين به تيجان الخلفاء، ولشعرها وقع في النفس وروعة في القلب، لأنه صادر عن قلب شاعر فياض.
وعلية تقول الشعر لنفسها تعبر به عما يخالجها من الأهواء والنزعات وما يجيش بصدرها ما حب وإجلال لأهلها، وما توحيه الطبيعة من مناظرها الخلابة، أو ما تحدثه فيها الحضارة من التنسيق والترتيب. وهي أصدق شاعرة عبرت في شعرها عما كانت تعانيه المرأة في ذلك الوقت من التضييق والإرهاق، وما كانت تقاسيه من لواعج الشوق والهيام في سجنها الضيق وأغلالها المادية، وما كانت تولده هذه من انفجار تردد صداه بغداد. فالكثيرات هن البائسات اللاتي أجسادهن مكبلة في القصور وأرواحهن كانت تتمنى القبور:
بتُّ قبل الصباح إن بت إلا ... في إزارٍ على فراش حرير
أو يحلْ دون ذاك غلق قصورٍ ... كم قتيل من الهوى في القصور؟
ونجد في شعرها ما كان يدور بين ربات الخدور من لغات العيون والرموز والإشارات تعبر عما تكنه الصدور من الحب والشوق ولا تقدر الألسن أن تبوح به:
تكاتبنا برمز في الحضور ... وإيحاء يلوح بلا ستور(610/14)
سوى مقلٍ تخبر ما عناها ... بكف الغيب في ورق السطور
أما أشعارها الكثيرة فهي في العشق والهوى والحب وأسبابه ووصف حال الحب ودلال المحبوب وظلمه وهجره. وقد أجادت في هذا الباب وأتت بما لم يتهيأ لغيرها من الشاعرات، بل إن الشعراء أخذوا يقتفون أثرها ويسلكون سبيلها في تعليلاتهم فهي تقول:
ليس خطب الهوى بخطب يسير ... لا ينبئك عنه مثل خبير
ليس خطب الهوى يدبر بالرأ ... ي ولا بالقياس والتدبير
إنما الحب والهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور
ولعلية غزل رقيق يستهوي القلوب، وأشعارها في هذا الباب كثيرة منها قولها:
أتاني عنك سعيك بي فسبي ... أليس جرى بفيك اسمي فحسبي
وقولي ما بدا لك أن تقولي ... فماذا كله إلا لحبي
فما زال المحب ينال سباً ... وهجراً ناعماً ومليح عتب
قصاراك الرجوع إلى مرادي ... فما ترجين من تعذيب قلبي
تشاهدت الظنون عليك عندي ... وعلم الغيب فيها عند ربي
وعلية إذا مدحت فأنها تمدح أخاها الرشيد وابنه الأمين، وهي بهذا تجزل اللفظ وتحكم المعنى وتوفي الممدوح حقه - كيف لا؟ وهي ما تمدح إلا نفسها فتعبر عما يكنه صدرها لأخيها من الحب والاحترام وما يملأ قلبها من الفخر بآبائها وأجدادها العظام، وإذا زارها الرشيد استقبلته بقولها:
قل للإمام ابن الإما ... م مقال ذي النصح المصيب
لولا قدومك ما انجلى ... عنا الجليل من الخطوب
ثم تثني بالأمين سليل بني العباس ابن زبيدة والرشيد فتقول:
يا بن الخلافة والجحاجحة العلي ... والأكرمين مناسباً وأصولا
والأعظمين إذا العظام تنافسوا ... بالمكرمات وحصلوا تحصيلا
والقائد إلى العزيز بأرضه ... حتى يذل عساكرا وخيولا
وإذا علمت أن الرشيد قد استزار أختيها ولم يكتب لها كتبت إليه تعاتبه:
مالي نسيت وقد نودي بأصحابي؟ ... وكنت والذكر عندي رائح غادي(610/15)
أنا الذي لا أطيق الدهر فرقتكم ... فرقب لي بأبي من طول إبعادي
وإذا ودعت أخاها الرشيد فأنها تودعه بشعرها وقلبها فتقول:
لا حزن إلا حزن نالني ... يوم الفراق وقد غدوت مودعاً
فإذا الأحبة قد تولت عبرهم ... وبقيت فردا والهاً متوجعاً
وإذا طالت عليها أيام رمضان وهي مشغولة بصيامها وقيامها تذكرت أيام لهوها ومرحها وحفلاتها التي كانت تقيمها في قصرها وحنت إلى ذلك بشعرها:
طالت عليَّ ليالي الصوم واتصلت ... حتى لقد خلتها زادت على العدد
شوقاً إلى مجلس يزهو بساكنه ... أعيذه بجلال الواحد الصمد
وإذا ما رأت تقصيراً من (طغيان) خادمتها أو خيانة من وكيلها (سباع) فأنها كانت تهجوها هجواً لاذعاً مقذعاً لا يخلو من الفحش. ومن أهاجيها الجميلة أنها حضرت حفلة زفاف ورأت مخنثاً قد تزيا بزي النساء وخضب يديه وكحل عينيه، وحمر شفتيه، وهو ينقر بالدف ويغني ويرقص والنساء قد حففن به يصفقن له ويضحكن عليه وهو مسرور بفعله هذا:
ومخنث شهد الزفاف وقبله ... غنى الجواري حاسراً ومنقباً
لبس الدلال وقام ينقر دفه ... نقراً أقر به العيون وأطربا
إن النساء رأينه فعشقنه ... فشكون شدة ما بهن فأكذبا
وإذا كتبت إلى صديقتها ولم يأتها الجواب كتبت إليها تعاتبها:
يا خلتي وصفيتي وعذابي ... ما لي كتبت فلم يُردَ جوابي؟
خنت المواثق؟ أم لقيت حواسداً ... يهوين هجري؟ أم مللت عتابي؟
وإذا جلست في حفلاتها ولم تجد من تحب وتهوى شعرت بألم الفراق ولوعة الاشتياق زفرت من قلبها:
يا مورىَ الزند قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما اقبح الناس في عيني وأسمحهم ... إذا نظرت ولم أبصرك في الناس
وإذا طال غياب الرشيد عن عاصمته بغداد وخلت حفلات علية منه شعرت بفراغ واسع ونقص في سرورها فلا يكمل إلا به كتبت تعاتبه:(610/16)
هرون يا سؤلي وقيت الردى ... قلبي بعتب منك مشغول
مازلت منذ خلفتني في عمى ... كأنني في الناس مخبول
ولعلية قلب ضعيف لا يحتمل القهر والهجر، فكانت تستعين بدموعها في تخفيف أحزانها وأشجانها وتروح بها عن نفسها وتنفس كربتها:
بليت بقلب ضعيف القوى ... وعين تضر ولا تنفع
إذا ما ذكرت الهوى والمنى ... تحدر من جفنها أربع
وكنت تراها تتنقل في حدائق قصرها الواسعة، تمتع نظرها بأزهارها وأشجارها وتصغي إلى ترديد أطيارها وخرير مياهها وحفيف أشجارها، فينعكس هذا في نفسها فتردده شعراً، تقف على الزهرة فتشمها وتناجيها، وعلى الساقية تردد معها الألحان، وأمام الحمام تشاركه السجع، ومع الهزار تشاركه التغريد. ومن أوصافها الجميلة أنها رأت ريحانه تميل مع الريح فمال قلبها إليها فاقتطفتها وقالت:
كأنها من طيبها في يدي ... تشم في المحضر أو في المغيب
ريحانة طينتها عنبر ... تسقى مع الراح بماء مشوب
عروقها من ذا، وتسقي بذا، ... ممزوجة يا صاح طيباً بطيب
تلك التي هام فؤادي بها ... ما إن لدائي غيرها من طبيب
هذا هو الشعر الحقيقي الصادر عن شعور خالص لا أثر فيه للتكلف ولا للمبالغة والتهويل. ولها أبيات معانيها مبتكرة، وتجري مجرى الأمثال يتناقلها الناس عصراً بعد عصر منها:
رأيت الناس من القى ... عليهم نفسه هانا
فزر غباُ تزد حباً ... وإن جرعت أحزانا
وقولها:
ما ينظر الناس إلى المبتلي ... وإنما الناس مع العافيه
وقولها:
الحب أول ما يكون جهالة ... فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً
عفافها
كانت علية مثالاً صالحاً، وقدوة حسنة للمرأة المسلمة التي تعبد ربها حق عبادته ولا تنسى(610/17)
نصيبها من الدنيا، ذات صيانة وأدب، شاركت الشعب في لهوه ومرحه وأناشيده، وترفعت من مفاسده ورذائله. قال أبو الفرج الأصفهاني (كانت علية حسنة الدين، وكانت لا تغني ولا تشرب النبيذ إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب، فلا تلتذ بشيء غير قول الشعر) فعلية كانت ترفه عن نفسها بطرق وأساليب تبتكرها هي، تدفع بها سأم البطالة والعزلة، فتمرح وتلهو وتلعب دون أن تفقد شيئاً من كرامتها أو أن تتعدى حدود ربها وهي تقول: (ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل عوضاً منه، فبأي شيء يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته) فهي ترى أن أسباب اللهو المباح كثيرة، ولكن المرأة الضيقة الصدر القليلة العقل، تتبع كل ناعق، وتجيب كل داع، فتقع في شرك التهتك والعصيان. ومما يدل على ثقتها بنفسها واعتدادها بشرفها وطهارة أخلاقها أنها كانت كثيراً ما تقول (اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته، ولا عزماً على حرام إن كنت عزمته، وما استغرقني لهو قط، إلا ذكرت سبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصرت عنه، وإن الله ليعلم أني ما كذبت قط، ولا وعدت وعداً فأخلفته) هذه هي أخلاق درة بني العباس الفريدة التي أرضت ربها بعبادتها، وخففت عن نفسها بمرحها العفيف الطاهر. وهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة الصالحة التي تتبع كتاب الله وسنة رسوله (وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا) (إن لربك عليك حقا، وأن لنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)
الموصل
سعد الديوه جي(610/18)
النابغون في أوطانهم
حديث عن البحتري
محمود عزت عرفه
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وللبحتري في هذا الشأن حديث عجيب.
فقد كان أحد الذين ارتفعوا بشعرهم من حضيض الجهالة والخمول إلى ذروة النباهة والمجد. ولسنا نجد في ديونه على ضخامته ما يشير به إلى حياته الأولى في موطنه (مَنْبج) سوى ما ينص عليه من عداوة بعض أهله له، برغم ما يعود به عليهم - وعلى سواهم - من فضل المال والجاه، والشفاعة لدى الخلفاء، ورفد العفاة وفك العانين. . وذلك حيث يقول في قصيدة له:
ومن الأقارب من يُسر بميتتي ... سفهَاً، وعز حياتهم بحياتي
إن أبقَ أو أهلكْ فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وَغنيتُ ندمانَ الخلائفِ نابهاً ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهمو ... بعد الجليل، فأنجحوا طَلباتي
وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رِفْد طلاَّبٍ وفك عُناةِ
وحضي البحتري عند المتوكل بأرفع المراتب وأسنى الدرجات فكان شاعره المقرب الأثير لا تندُّ عنه في الحياة رغبة أو تبعد دونه أمنية. . ولكن شاء القدر مع ذلك إلا تزال نفسه تهفو إلى عُرض ما، فكن ينتابه القلق ويساوره الحنين إلى الإلمام بوطنه منبج، ولا ينفك بالمتوكل مستحثاً إياه على قصد هذه البلاد كلما قصد إقليما أو غشي موضعاً:
لو كنت أحسد أو أنافس معشراً ... لحسدت أو نافست أهل الموصل
غشى الربيع ديارهم وغشيتها ... وكلاكما ذو عارض متهلّل
فأضاء منها كل فج مظلم ... بكما، وأخصب كل واد ممحل
فمتى تخيم بالشآم فيكتسي ... بلدي نباتاً من نداك المسبل؟!
وكأنما شاء القدر - مرة أخرى - أن يلوح للبحتري بتحقيق أمنيته. فاضطرب حبل الأمور(610/19)
على المتوكل في سامراء بسبب اتساع نفوذه الأتراك واستفحال خطرهم، ولم يكن ليخضد من شوكتهم في شيء قتله إيتاخ عام 235هـ، وكان المدبر لفتنتهم والمتولي كبر هذا الأمر فيهم. فصح عزم المتوكل على تغيير عاصمة خلافته والانحياز إلى دمشق ليكون بمنجاة من كيدهم وتطاوله. . وغدا عليه البحتري - مستحسناً محبذا - يقول:
إن دمشقاً أصبحت جنةً ... مخضرَّة الروض عَذَاة البرق
هواؤها الفضفاض غض الندى ... وماؤها السلسال عذب المذاق
والدهر طلق بين أكنافها ... والعيش فيها ذو حواش رقاق
ناظرة نحوك مشتاقةٌ ... منك إلى القرب ووشك التلاق
وكيف لا تؤثرها بالهوى ... وصيفها مثل شتاء العراق؟!
وأنفذ المتوكل عزمه في عام 243هـ، فشخص إلى دمشق ونقل إليها دواوين الخلافة، ووطن نفسه على المقام بها. فلم يكن عجيباً حينذاك أن نسمع البحتري يقول في قصيدة له، وكأنما هو يتنفس الصعداء بعد طول اللهفة وفرط الانتظار:
قد رحلنا عن العرا ... قِ وعن قطبها النكدْ
حبذا العيش في دمش ... ق إذا ليلها برد!
حيث يُستقَبل الزما ... ن ويستحسن البلد
سفرةٌ جدَّدتْ لنا ال ... لهوَ أيامه الجدد
عزم الله للخلي ... فةِ فيه على الرشَدْ
ويقول في موضع أخر وهو يحاول تحسين الشام في عين المتوكل، وحضه على موالاة المقام بدمشق:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفي لك مطريها بما وعدا
- ولعله يقصد نفسه بهذا المطري الوافي بما وعد -
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن، وزمان يشبه البلدا
يمسى السحاب على أجبالها فرقاً ... ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفاً خضلا ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا
كأنما القيظ ولىَّ بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعدما بعدا(610/20)
وذلك ضمن قصيدة فاخرة مطلعها:
العيش في ليل (داريّا) إذا بردا ... والراح تمزجها بالماء من (برَدىَ)
على أن السياسة ليست شيئاً يخضع لأهواء الشعراء، فما تلَّبث المتوكل بعد استقراره بدمشق إلا ريثما يعد عدته للرجوع إلى سرَّ من را، بعد أن شغب عليه الأتراك فيها وتحركوا في طلب أرزاقهم، وكانوا قد أوجسوا خيفة من انحيازه إلى الشام، وتوقعوا أن يستعين عليهم بسلطان العرب هناك. . .
عاد المتوكل يزعم أنه استوبأ دمشق، وفي صدره مما جرى غصة؛ وانهارت آمال أبى عبادة حتى ليبدو من المفارقات الغريبة أن نراه يهيئ المتوكل بهذا الهود، ويستحسن مْاتم من إنفاذه فيقول:
لعمري لقد آب الخليفةُ جعفرٌ ... وفي كل نفس حاجة من قفولهِ
دعاه الهوى في سرَّ من رَاء فانكفا ... إليها انكفاء الليث تلقاء غيله
على أنها قد كان بُدَّل طيبُها ... ورَّحل عنها أنسُها برحيله
وإفراطُها في القبح عند خروجه ... كأفراطها في الحسن عند دخوله
وقد لبست بغدادُ أحسن زيَّها ... لإقباله، واستشرفت لعُدوُله
ويثنيه عنها شوقه ونزاعه ... إلى عرض صحن الجعفري وطوله
وقد أصبح قسارى أمل البحتري بعد هذا الحادث أن يلم بموطنه في زيارات قصيرة خاطفة، يواكبه فيها من ألطاف الخليفة ومبراته ما يرضي غروره، ويظهر لقومه منزلته وجاهه. وإنه ليخاطب المعتز في ذلك، وكان من أحظى الناس عنده، فيقول:
هل أطلعنَّ على الشآم مبجَّلاً ... في عز دولتك الجديد المونقِ؟
فأرمَّ خلة ضيعةٍ تصف اسمها ... وألمَّ ثمَّ بصبية لي دردق؟
شهران إن يسرت إذنيَ فيهما ... كفلا بألفة شمليَ المتفرق
وإن المعتز ليعرف هذا الشعور من نفس البحتري فيبره ويكرمه، ويحمله على الجرد العتاق إلى موطنه منبج، حيث يلقى هنالك أهله، ويتعرف رجال ضيعته (الضائعة) كما يقول. والخليفةُ يصحبه الطرف والهدايا تحملها عشرة من خيل البريد وفيها بدر المال وخلع الديباج، وجوادان أصيلان: كميت وأبلق وسيف صقيل في إهدائه تشريف وتنويه. .(610/21)
وفي ذلك يقول أبو عبادة:
تجانف بَي نهجُ الشآم وطاعَ لي ... عنانٌ إلي أكناف منبج مطلقُ
أسرُّ صديقا أو أسوء ملاحياً ... وأنشر آلاءً بطولك تنطق
حملتَ على عشرٍ من البْردِ مركبي ... عجالاً عليهن الشكيم المحلق
وأكثرت زادي من بدورٍ تتابعت ... لجُودك فيهن اللجيْنُ المطرق
ومنتسبانِ للوجيه ولاحقٍ ... كميتٌ يسر الناظرين وأبلق
ومن خلع فازتْ بلبسك فاغتدي ... لها أرج من طيب عَرفك يعبق
عليها رداءٌ من حمائل مرهفٍ ... صقيل يزلُّ الطرف عنه فينزلق
وبوفاة أبى عبد الله المعتز عام 255هـ أفل نجم البحتري من سماء الخلافة في سر من رأى. إذ لم يكن موضعه لدى المهتدي أو المعتمد - وقد خلفا المعتز على التتابع - بالموضع الذي يرضي طموحه، أو يكافئ سابق منزلته لدى المتوكل وابنه. وكان الذي جرى من الأحداث على عهد المتوكل والمنتصر ثم المستعين والمعتز قد خلف في نفس الشاعر أثراً من اليأس عميقا، وجعله قليل الثقة بالناس وبالحياة. . يقول الشعر في مناسباته لأنه من واجبه أن يقوله لا لأنه متأثر بما يدور حوله، وبدت عليه في أخريات أيامه نزعة قوية إلى الانزواء في بلدته يراقب منها تيار الحوادث في صمت واعتبار. استمع إليه يخاطب أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل - الذي وزر للمعتمد بين عامي 272 و 278هـ - فيقول:
بقيت، فكائن جئت بادئَ نعمة ... يقلُّ السحاب أن يجيء رسيلها
وأعطيتَ طلاَّب النوافل سُؤْلهم ... فمن أين لا تعطي القصائد سولها؟
ووليت عمال السواد، فولني ... قرارة بيتي مدة لن أطيلها!
. . وهكذا لا يتشهّى البحتري من جاه الولايات الذي يسبغه الوزير على خلصائه؛ إلا أن يدعه يلوذ بقرارة بيته، متجانفاً بنفسه عن مزالق السياسة وفتنها بعد أن طال في ذلك حبه وإيضاعه. وإنه في موضع آخر ليطلب إلى الوزير أن يعتق (رقبته) بصرفه إلى بلده.
وقد شمل امتنانك كل حي ... فهل مَنٌّ يُفك به أسيرُ؟
وأعتقت الرقاب فمر بعتقي ... إلى بلدي، وأنت به جدير!(610/22)
وما كان اعتزال البحتري في منبج إلا شراً أجاءه إليه ما هو شر منه. ذلك أنه كان ودع أرغد عيشه وأطيب أيام حياته بتوديع عهد المتوكل الذي شهد بعينيه مصرعه الرهيب. .
وكانت فترة (المعتز) في حياة البحتري أشبه شيء بخفقة المصباح الأخيرة حين يصارع الظلمات ولما تخمد منه الأنفاس.
ولعل أشد الأشياء على نفسه ما كان يعالجه من جفاف الحياة في منبج بعد أن نعم بالمقام الطيب سنين متطاولة في بغداد وسر من رأى؛ ثم جلوسه إلى حاكمها مجلس (الرعية) من الراعي، بعد أن كان لا يرى إلا جليس خليفة أو وزير أو أمير خطير. . .
وكانت أيام المتوكل ونجيه الفتح - وأمثالهما ممن بسطوا على البحتري ظلال نعمائهم - تبدو له كأحلام سعيدة تمتع بها حينا، ثم انقشعت عن حسرة في نفسه وشجى. وإنه ليعبر عن شعوره بذلك أصدق التعبير حين يقول ضمن قصيدة بعث بها إلى أبي الصقر -
مضى جعفر والفتح بين مرمَّل ... وبين صبيغ بالدماء مضرَّج
أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في التراب أوسي وخزرجي؟
أولئك ساداتي الذين برأيهم ... حلبت أفاويق الربيع المثجج
مضوا أمماً قصداً وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير وإلى (منبج)
وتوفي البحتري في منبج، بداء السكتة، عام 284هـ.
وكان قد أربى من عمره على الثمانين.
(قوص)
محمود عزت عرفه(610/23)
صور فلسفية:
الفيلسوف المتوحد كير كجورد
(1813 - 1855)
للأستاذ زكريا إبراهيم
كير كجورد فيلسوف دنمركي متصوف، نشأت فلسفته في حضن الدين، وتكونت بفضل تجربته الروحية الخاصة وعزلته النفسية العميقة. وهو واحد من أولئك الفلاسفة القليلين الذين استطاعوا أن يحيوا حياة العزلة والتفرد وأن يحتملوا ما يجيء مع هذه الحياة من قلق وجزع ولهفة. ولم يكن كير كجورد فيلسوفا يتخذ من الفلسفة صناعة له، أو عالماً لاهوتياً كل همه أن يشتغل باللاهوت، وإنما كان أولا وبالذات، إنساناً مشتعل الوجدان، مشبوب العاطفة، تشيع في نفسه سورة القلق، وتضطرم في باطنه جذوة الألم؛ يجتذبه العالم من ناحية، وتؤرقه الرغبة في القداسة من ناحية أخرى. وهو إلى هذا وذاك، إنسان غني في مواهبه، ثري في إيمانه، عميق في نظراته الصوفية. هو رجل متوحد انطوى على نفسه، وعاش حياة أقرب ما تكون إلى حياة الأنبياء، فاستطاع أن يتوصل إلى فلسفة مخالفة لكل الفلسفات التي كانت موجودة في عصره؛ فلسفة تعتبر وجود الذات هو وحده الحقيقي، وترى في عزلة الذات، الحقيقة الوحيدة الثابتة. أما النزعات الفلسفية التي كانت موجودة في عصر كير كجورد فقد نظر إليها فيلسوفنا نظرة معادية، واعتبر فيها (سقوطاً) للذات، ومن ثم فقد هاجم الفيلسوف الألماني هيجل مهاجمة عنيفة وحارب فكرته عن الروح المطلقة، وحاول أن يفقد الإيمان الضائع بالتحول عن عالم الفلسفة إلى عالم الدين
وقد اتخذ كير كجورد كل ضروب التخفي والتستر، حتى يستطيع أن يأمن عدوان خصومه، فكان يطبع مؤلفاته موسومة بأسماء مصطنعة مثل اسم (قنسطنطين قنسطنطيوس أو اسم (جوهانس كليماكوس). . ولعل السبب في ذلك أن الوجدان الجائش الذي كان يعمر نفسه والذي كان هو يريد أن ينقله إلى الناس لم يكن من السهل أن يصل إلى عالم شاعت فيه الأفكار الهيجلية. فلذلك اضطر صاحبه إلى أن يصطنع أساليب التخفي التي تجنبه الخصومة والعداء. ومع ذلك فإن هذا الوجدان لم يستطع أن يستحيل إلى تصورات عقلية(610/24)
تكون مذهباً، فتمثل في محاولات رمزية وصور مجازية متباينة.
وإذا نظرنا إلى بعض الصفحات التي كتبها كير كجورد عن (الظلمات الروحية) للنفس التي تبحث عن الله فأننا نجد فيها نبرة صادقة قوية تشهد بتجربة صوفية عميقة. والواقع أن المشكلة التي واجهت كير كجورد باعتبارها المشكلة الوحيدة الهامة إنما هي مشكلة الإيمان، فقد بدا لكير كجورد أنه لا سبيل إلى إثبات حقيقة الإيمان إلا بإنكار عالم العقل والمنطق (وهو العالم الذي يعرف له كير كجورد قيمته، وإن كان في نظره متجسداً في هيجل). ومن ناحية أخرى فإن إيمان كير كجورد لم يكن مقترنا بمجموعة من المبادئ العامة أو الحقائق المطلقة (كما هو الحال عند أصحاب المذهب البروتستنتي الذين لا يرتبطون بكنيسة قوية تجمع بينهم في وحدة قوية شاملة) ولذلك فقد كان بطبيعته إيماناً منطلقاً سهل التحول، لا يتوفر فيه أي عنصر من عناصر اليقين أو الطمأنينة. ومثل هذا الإيمان لا يعسر أن يرتبط بالقلق والجزع والتمزق الداخلي في نفس صاحبه؛ بل إنه ليصبح حقيقياً بقدر ما يقترن به من هذه العوامل النفسية.
وهنا لعبت التجربة الروحية التي عناها كير كجورد دورها الأساسي الهام: فإن كير كجورد كان قد خطب فتاة أحبها وأحبته فاستقر رأيه على أن ينقض هذه الخطبة، واعتبر تضحيته هذه قبيل تضحية إبراهيم الخليل وظن أنه كان لديه إيمان حقيقي كما كان لدى إبراهيم، فإن المعجزة لا بد أيضاً أن تحدث، وبالتالي فإن خطيبته لابد أن تعود إليه كما عاد أسحق إلى أبيه. بيد أن خطيبته لم تعد إليه، فأدت به هذه التجربة إلى اعتبار الإيمان سراً عميقاً لا سبيل إلى اكتناهه؛ وانضافت إلى هذه التجربة نزعته اللاعقلية فذهب كير كجورد إلى القول بأن المؤمن (أو رجل الإيمان) يعيش بالضرورة في شك مرير قاتل من جهة الإيمان نفسه. فأنت إذا اعتقدت أن لديك إيماناً فكأنك بذلك تجدف على الإيمان.
ولكن كير كجورد لا يدعنا في هذه الحالة من التمزق الداخلي، بل سرعان ما ينقذ الإنسان من السقوط الكامل، فيثبت - في لمحة سريعة باهرة - عالم المعجزة، وعالم الحرية الإنسانية والصلة الفائقة للعقل بين الله والإنسان. ولكنه إثبات يعتمد على الذوق الصوفي واللمع الروحية، مما لا سبيل إلى العثور عليه عند فيلسوف آخر غير كير كجورد الصوفي المتوحَّد!(610/25)
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم(610/26)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسَعاف النشاشيبي
624 - مقالة أبى ذر جندب
في (تاريخ الطبري): أتى أبو معاوية فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله - يا أبا ذر - ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره. قال: فلا تقله. قال: فلاني لا أقول: ليس الله، ولكن سأقول: مال المسلمين. وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى به جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس. فكتب معاوية إلى عثمان: إن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت فكتب إليه: جهز أبا ذر إلى، وابعث معه دليلا، وزوده وارفق به. فلما قدم المدينة ودخل على عثمان قال: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذرَبك؛ فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا. فقال: يا أبا ذر، علَّي أن اقضي ما علَّى، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد. ودخل أبو ذر على عثمان وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف وقد ينبغي للمؤدي الزكاة إلا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات. فقال كعب: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه. . .
625 - هؤلاء مماليكنا. . .!
(إخبار العلماء بأخبار العلماء): بلغ ثوسيوس (الشاعر اليوناني) أن عدواً له اغتابه فقال هذا الشعر (على طريقة يونان): بلغنا أن كلباً وقرداً اجتازا بمقبرة سباع، فقال القرد للكلب: اصعد بنا لنترحم على هؤلاء الموتى. فقال الكلب، ومن أين هذه المعرفة بينكما؟ قال القرد: سبحان الله! أما تعلم أن هؤلاء مماليكنا؟ قال الكلب: والله ما أعلم شيئا من هذا ولكني كنت أحب أن يكون أحدهما حاضراً وتقول هذا.(610/27)
626 - ليس للشيطان ذنب
(تاريخ بغداد): قال مالك بن أنس: لهؤلاء الشطار ملاحة، كان أحدهم يصلي خلف إنسان فقرأ الإنسان: الحمدُ الله رب العالمين حتى فرغ منها ثم أرْتِج عليه، فجعل يقول: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، وجعل يردد ذلك فقال الشاطر: ليس للشيطان ذنْب إلا أنك لا تحسن القراءة.
627 - نحب فيها المال والجاها
الشميس الأندلسي:
لله في الدنيا وفي أهلها ... معمْياتٌ قد فككناها
منْ بَشرٍ نحن، فمن طَبْعِنا ... نحب فيها المال والجاها
دعني من الناس ومن قولهم ... فإنما الناسُ أخلاَّها
لم تُقبِل الدنيا على ناسكِ ... إلا وبالرحب تلقَّاها
وإنما يعرضُ عن وصلها ... من صَرفَتْ عنهُ محيّاها
628 - فسماهم الزوار ستراً عليهم
قال العباس بن خالد البرمكي: كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك - السؤَّال، فقال خالد: هذا اسم أستثقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يُسمى به أمثال هؤلاء المؤملين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا، ولكنا نسميهم (الزوَّار)
وفي ذلك يقول بشار:
وكان ذوو الآمال يُدعون قبله ... بلفظ، على الإعدام فيه دليل
فسماهم الزوار ستراً عليهم ... فأستاره في المجتدين سدول
629 - بين إمامين. . .
في كتاب (سحر العيون):
من بديع الاتفاق أن قاضي القضاة شيخ الإسلام بدر الدين محمود (العيني) الحنفي لما ولي مشيخة المدرسة المؤيدية التي بباب زويلة مالت منارتها فبلغ ذلك قاضي القضاة شيخ(610/28)
الإسلام شهاب الدين أحمد بن (حجر) العسقلاني وكان بينهما ما يكون ما بين المعاصرين فأنشد بديهة:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته تزهو على الفخر والزين
تقول وقد مالت عليه تمهلوا ... فليس على حسني أضر من (العين) ى،
فلما بلغ ذلك العيني أجابه بهذين البيتين، والمشهور أنهما من نظم الشيخ شمس الدين النواجي على لسان العيني:
منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ ... ما أوجب الهدم إلا خسة (الحجر)
630 - افتح عينيك
قال صاحب كتاب (سحر العيون):
كنت حاضراً في مجلس بين يدي شيخنا المرحوم برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن الملاح - وقد سأله بعض أبناء الأتراك أن يقرأ عليه في العروض، فكسر العين من العروض، فقال له الشيخ: افتح عينك.
631 - فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء
في كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي: حكى أبو القاسم البلخي أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إلى بعض المتكلمين، فأتاه مرة فناظره، فأمر المتكلم بأخذ دابته، فلما خرج لم يرها، فرجع إليه فقال: سرقت دابتي. فقال: ويحك! لعلك لم تأت راكبا، قال: بلى، قال: فكرْ، قال: هذا أمر أتيقنه فجعل يقول تذكرْ فقال: ويحك، ويحك! ما هذا موضع تذكر، أنا لا أشك أنني جئت راكباً. قال: فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء وأن حال اليقظان كحال النائم، فوجم السوفسطائي.
في (العقد) لابن عبد ربه: دخل رجل على المأمون فقال لثمامة بن الأشرس: كلمة: فقال له ما تقول؟ وما مذهبك؟ قال: أقول: إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك منها الناس على قدر عقولهم، ولا شيء في الحقيقة. فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سودت وجهه. فقال: (يا أمير المؤمنين) يفعل بي مثل هذا في مجلسك؟ قال ثمامة: ولعلي إنما دهنتك(610/29)
بالبان، ثم أنشأ يقول:
ولعل آدم أمنا ... والأب حوا في الحسابْ
ولعل ما أبصرت من ... بيض الطيور هو الغراب
وعساك حين قعدت قم ... ت وحين جئت هو الذهاب
وعسى البنفسج زئبق ... وعسى البهار هو السذاب
-(610/30)
همس الساعة
للدكتور عزيز فهمي
تَعُدُّ الثوانيَ همساً ونفضا ... وتزْحَفُ زحفاً وتنبض نبضاً
وتداني البعيدَ وتُقْصى القريبَ ... وتجْمَعُ شمْلا وتُبْعِد أرضا
تَواَرثها الناسُ جيلاً فجيلاً ... وشكَّلَها من تَوالي وقضَّا
تصوَّرَها البعضُ في عين هِرٍ ... إذا الهِرُّ تَثبَّت جفنا وغّضَّا
ولَوْلا الأهِلّةُ لمْ تَعْدُ عَنها ... مواقيتُ للناسِ والحجَّ تُقضَى
إذا الشَّمسُ خَلْفَ الغُيومِ تَوارَتْ ... هَداكَ سَناها وَلمْ تَألُ حَضَّا
تُوَحَّد بين اللغات وتُقْضِي ... إلى اَهْلِهنَّ بما هُوَ أفْضىَ
تُبَشَّر صَبَّا بِوَصْل الحَبيب ... فَتُحْي الشَّبَابَ الذي كانَ غَضّا
وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يُبينَ الجَمادُ ... وينطق جَهراً ويُمعن خَفْضا
تُبين وتُفْصِحُ في صَمْتها ... فَتُوجِبُ فَرْضاً وتُسِقطُ فَرْضا
وَتهْمِسُ: ما فاتَ ودَّعْتَه ... فَشيّعْتَ حيناً وَفارَقْتَ بَعْضا!
وهَيَهْاتَ يَرْجِعُ ما قد مضى ... وَهيهاتَ يَقْبَلُ حُكمِي نَقْضا
أُتْعرِضُ عني لِتَسْمَعَ لَغْواً ... وتَلَقي منَ اَلناسِ نَوكَي ومَرْضَي؟
ومعظمهم لو علمت دَعِيٌّ ... يُريكَ الودادَ وَيُضْمِرُ بُغْضَا
سِواَيَ يُرائيكَ في مَحْضَرٍ ... ويفْربكَ - إِنْ غِبْتَ - غمْزاً وَعَضاَّ
وغيري يبُثُّكَ ما تَشْتَهي ... وَيَهْزأُ مِنْكَ إذا هُوَ أَغْضىَ
أنا الوَقْتُ أُمْلي علي عاداتي ... وَفَتْكَيِ مِنْ فَتكَةِ السَّيْفِ أَمضَى
فإنْ شِئْتَ بادِرْ إلى عَزْمَةٍ ... فَعَزمْي يَكادُ يُسَلُّ وَيُنْضَى
وَخَلَّ المقاديرَ تجْري المَدى ... وَدَعْ ما يريبك ما دَامَ غَمْضَا
تَنَبَّه! تنبه. . . ولا تُرْجِئنَّ ... إلى الغَدِ وأنْهَضْ لأَمْرِكَ نَهْضَا
غَدٌ مَوْعِدٌ العاجزينَ وَوَهْمٌ ... تمنَّيكَ إِنْ رُمْتَ للريَّح قَبْضَا
غَدٌ - لوْ عَلِمْتَ - غُيوبٌ فَعَجّلْ ... وَبادرْ لَعَلَّك في الغَدِ ترْضَى
سَتَنْدَمُ بَعدَ فَوات الأوانِ ... وتَجُني الأمانِيَ صاباً وغَضَّا(610/31)
حَذَارِ، حَذَارِ وَلاَ تَلْحَنيِ ... فَكَمْ قَدْ بَذَلْتُ لَكِ النُّصْحَ مَحْضاَ
وَأَنذَرْتُ حَتّى مَلَلْتَ النذَّيرّ ... وّلوْلاَ مَلاُلكَ مَا عادَ مَضَّا
وَلو قدْ أَصَخْتَ لَقِيت الحتوفَ ... بدرْع يَصُدُّ فَيَزدادُ وَمْضَا
تَضِنَّ بِفَلْسٍ ضَنين الشَّحيحِ ... وَتُسِرفُ في العمْرِ جَهْلاً وَفوْضَى
فَيا لَلضَّلالِ! تَضِنُّ بِدُونٍ. . . ... وَتُرْخِصُ كَنْزاً وجَاهاً وَعِرْضَا!
عزيز فهمي(610/32)
صدى الفاجعة
للأستاذ سيد قطب
(لم تكن إلا مرات معدودة جلست فيها إلى فقيد مصر العظيم ثم هأنذا أعاني من الفجيعة فيه كأنها فجيعتي الخاصة. . . فيا ويح لأولئك الذين عاشروه، فأحبوه. ووارحمتا له كيف يعيشون. . .؟)
جَفّ الرثاء بخاطري المفجوعِ ... وَصَمتُّ لا أُفضي بغير دموعي
إني ذهلتُ عن المصاب بوقعه ... حيناً، ذهول الواهم المخدوع
فضللت أُنصت للرجاء، وأتّقي ... صوت اليقين الفاجع المسموع
أيموتُ؟ كلا! لا يموت وهذه ... مصر تُرجَّي نجمه لسطوع
أيموت والأحداث تهتف باسمه؟ ... أتكون تلك هُتَافةَ التوديع؟
قُل أيها الناعي سواه، فما أرى ... أني - وإن جاهدتني - بسميع!
واويلتاه! أئنها لحقيقةٌ ... جلّتْ عن الإيجاف والترويع؟
صمت الذي قد كان ألحن حجةً ... وتحدثت طعناته بنجيع
متفجرات بالدماء كأنها ... كلماته في قوة ونضوع
كلماته الللائي نبضن بقلبه ... ودماؤه من ذلك الينبوع
يا واهب الوادي مَربع حياتِه ... ما بال عمرك لم يكن بمريع؟
يا مانع الوادي العزيز بنفسه ... ما بال عمرك لم يكن بمنيع؟
خطفتك عادية المنون وخلفت ... وطناً يعالج سكرة المصروع
لخلا مكانك ليس يملأ رحبه ... إلا الأسى وتفُّجعُ المفجوع
لخلا مكانك والبلاد تهيأت ... تخطو إلى أفق رسمتَ وسيع
وتلفتت تصغي لصوتك هادياً ... في المدلهمَّ ورأيك المسموع
فصمتَّ - ياللهول - صمتة واجم ... ماضٍ لغير تأوُّب ورجوع
واهاً لمصر ويا فجيعة أهلها ... في الرائد المتفرَّدِ المتبوع!(610/33)
طريقي
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
طريقي إلى بيتي؟ نعِمْتَ، طريقي ... إلى خير محبوبٍ وخير رفيق
طريقي إلى دنيا غرامٍ ونشوة ... وفردوس أرض ناضر وأنيق
وهيكل تفكيري، وقدس عبادتي ... وآية توفيقي، وكنز حقوقي
تقلبت في عيني كريهاً معبّساً ... وكنت تلقَّاني بوجه طليق
شجيراتك اللفاء تُقعي كأنها ... أفاعٍ على أذنابها بمضيق
نهارك مغبرٌ، وشمسك سمجة ... كأن شروقاً فيك غير شروق
وجوك خنّاق أَبيتُ لثقله ... بأنفاسِ مضغوط الضلوع خنيق
كذا أنت مذ جازت سراتك في الضحى ... جنازة زوجي، زوجتي وصديقي
تسير وئيداً للتراب، وخلفها ... أنا الأرمل الباكي أجرَّر سوقي
طريقي! لقد جازتك أيام أنسنا ... بخطوٍ له حلو الأناة رشيق
فما لك، قد مرَّتْ عليك حميلةً ... ولم ترتجف زلزالَ غير مطيق
طريقي! ومازالتَ الطريق، وإنما ... إلى وحدتي من بعدها وحريقي
إلى البيت مبناه، وأما صميمه ... فكالقبر مكشوفاً وغير سحيق
طريقي، طريقي! كل دُورك ظلمةٌ ... بغير بريقٍ - وهي ذات بريق
إذا سرت فيك اليومَ سِرْتُ كأنني ... جنازتها - نحو الحِمام طروقي
قطعتَ، فأوْصِلْ شائقاً بمشوق ... وإلا، فتَعْساً لي، وتعس طريقي(610/34)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
مستقبل الطيران
يتنبأ أحد مصممي الطائرات أن الترف والراحة فيها سينافسان الترف والراحة في عابرات المحيط الكبيرة. فيستطيع المسافر أن يطوف حول العالم في 14 يوماً تشمل زيارات فرعية لمناطق متعددة تستعمل فيها الطائرات التي تهبط عمودياً فتهبط في أماكن لم يفكر أحد في زيارتها لوعورة مسالكها.
وتزود طائرات ما بعد الحرب بغرف طعام خاصة وغرف للملابس ولأنواع التسلية والتلفزيون والراديو، كما تجهز بمقاعد مريحة خاصة بنحاف الأجسام أو ضخامها. أما متاع الأشخاص فينتظر أن يفرد له ظهر الطائرة لتوفير داخلها وستوالي هذه الطائرات رحلاتها في مواعيد منتظمة، وقد صنعت طائرات تسع الواحدة منها 48 مسافراً وتكفي لنوم 24 مسافراً.
عمر الفرد 130 سنة
يقولون إن ابنك أو ابن ابنك سيعيش 130 سنة في أتم صحة، لأن هذا العمر سيكون متوسط عمر الإنسان بعد جيل أو جيلين، فقد لوحظ أن متوسط عمر الحيوان يساوي خمسة أضعاف أو ستة أضعاف عمر بلوغه، وعلى هذا الأساس يكون المتوسط العادي لعمر الإنسان بين 125، 150. ويميل العلماء إلى ربط طول عمر الإنسان بتغذيته، فيوصون بالألعاب الرياضية، والهواء الطلق، والشمس والفيتامينات، والنوم 8 ساعات والحمامات الباردة.
ويعللون سهولة الوصول إلى هذا المستوى من العمر بالتقدم الطبي واتجاه الأبحاث إلى الناحية الإنشائية في جسم الإنسان.
الموسيقى والأمراض العصبية
أجرى المجلس الاستشاري الأهلي للموسيقى في الولايات المتحدة إحصاء لدراسة مدى استعمال الموسيقى في المستشفيات للأمراض العصبية ونتيجة استعمالها في شفاء(610/35)
الأمراض، فأجابه على استفتائه 209 مستشفيات يتراوح عدد أسرة الواحد منها بين 33 و 8000 سرير. ويستعمل الموسيقى منها 192 مستشفى. ولم تستطع المستشفيات الأخرى الحصول على أدواتها بسبب صعوبات الحرب ونقص الأيدي العاملة وغيرها.
ويدير الحفلات الموسيقية في 160 من هذه المستشفيات موسيقيون محترفون أو مرضى موهوبون أو أندية سمر خاصة. وتستعمل الاسطوانات الموسيقية في 152 من المستشفيات، وهناك إجابات بأنها تستعمل الموسيقى كأداة علاجية في حالات بعض الأمراض العصبية، وأجابت 134 بأنها تستعملها لغرض العلاج والترفيه.
ويرى أكثر مديري المستشفيات أن الترفيه نوع من العلاج، على أنهم يعتبرون الاشتراك في توقيع القطع الموسيقية في جماعة أكثر تأثيراً في المرضى من مجرد الإصغاء إليها، فان روح الاشتراك مع الجماعة يكسب المرضى حب التعاون والصداقة ويساعدهم على تذليل صعوبات الكبت عندهم.
وقال المشرفون على علاج المرضى في أحد المستشفيات إن ضوضاء الطبول وأصواتها ذات تأثير مقلق لجميع حالات المرضى، بينما الموسيقى والأغاني الشعبية الهادئة ذات تأثير ملطف. وهناك شبه إجماع على أن الموسيقى لا تصلح كعلاج فعلي بل إنها قد تكون خطرة على بعض المرضى إذا اختير نوع غير ملائم لهم مما قد يؤدي إلى زيادة ارتباكاتهم العقلية ويقوي أفكارهم المشوهة.
عينات دم من الأعضاء الداخلية
صرح الدكتور جيمس ليري في اجتماع الجمعية الطبية للأبحاث أنه صار من السهل الحصول على عينات دم من القلب أو الكبد أو الكلى مباشرة، وذلك بامرار أنبوبة رفيعة طويلة ومرنة من الكوع. وترجع أهمية هذه العينات إلى خلوها من تأثيرات الدم في الأوعية الدموية الأخرى مما يساعد الطبيب على تشخيص المرض بدقة.
وليست العملية معقدة كما قد تبدو، وإن كانت رحلتها طويلة، فان الأنبوبة تمر داخل أحد شرايين الكوع ويلاحظ سيرها بجهاز خاص فتشاهد وهي تسير إلى الجزء الأيسر للقلب ومنه إلى الشريان المؤدي إلى الكبد أو الكلى أو غيرها من الأوعية.
وأجريت هذه العملية في السنتين الأخيرتين في 3000 حالة بدون أن يصحبها أو بعقبها(610/36)
أي رد فعل أو ضرر.
من البيض لقاح ينقذ الحياة
هي قصة فتح جديد في عالم الطب، هي قصة الصراع بين الصحة والمرض وبين الموت والحياة، أعلنت على الناس ثمراتها الأولى في سنة 1931 فجنوا نضجها في إبان الحرب. هي قصة مربية الفيرس ذلك الحي الدقيق المسئول عن كثير من الأمراض المستعصية مثل التيفوس والحمى الصفراء والأنفلونزا والحصبة وشلل الأطفال.
ولولا هذا الكشف لانتشرت الأوبئة الفتاكة بين الجنود والمدنيين كما حدث في 1918 - 1919 حينما أزهق وباء الأنفلونزا عشرين مليوناً من الأنفس. ولكن نجاح الدكتور جودباستور ومساعدته الدكتورة اليس وودرف أنقذ العالم من الأوبئة، كما وضع الأحجار الأساسية لوقاية الناس من أمراض عدة تسببها عائلة الفيرس.
وهذا الميكروب دقيق لا تراه الميكرسكوبات العادية، ويخالف سواه في وسائل تغذيته وحياته، فبينما الميكروبات الأخرى تعيش في أوساط مختلفة مثل الآجاراجار والحم، فإنه لا يعيش إلا على أنسجة حية إن ماتت قضى معها. وكان الأطباء يربونه لعمل اللقاح في القرود والطيور، ولكنهم لم يحصلوا منه على المقادير اللازمة لكفاية عدد من الناس فضلا عن أمة كبيرة. فاللقاح الواقي هو ميكروب المرض، ميتاً أو ضعيفاً، يلقح أو يحقن به الجسم فيكتسب مناعة ضد المرض نفسه.
بدأ الدكتور جودباستور أبحاثه لتربية الفيرس في الدجاج، وفي مرض جرري الطيور. وهداه البحث إلى الاستعانة بالبيض المخصب فهو يحتوي على أنسجة حية. فكان يفتح قطعة صغيرة من قشرتها ليمرر الفيرس، ثم يغلقها ثانية بغشاء شفاف يرى من خلاله ما يحدث داخل البيضة. وبعد أربعة أيام صارت أغشية البيضة سميكة وملتهبة فعرف أن مجموعات الفيرس تنمو وتتغذى على جنين البيضة.
وأعلن نتيجة بحثه في سنة 1913، فلم يجد من الأطباء إذناً صاغية. وأهملوا قيمة أبحاثه كما أهملوا في سنة 1929 نبأ اكتشاف الدكتور فلمنج للبنسلين، ولكنه انتقل إلى المرحلة الثانية. فأي أنواع الفيرس ينموا في البيض وأيها لا ينمو؟ فجرب فيرس الجدري البشري فحصل من البيضة الواحدة على كميات لقاح تكفي 1000 فرد فأي هدية ثمينة رخيصة(610/37)
يقدم للعالم.
وانتشرت أنباء نجاح الدكتور جودباستور، فصنع الألمان كل لقاح الجدري من البيض. ونجح الدكتور بيرنت في استراليا وربى فيروس الأنفلونزا في البيض. وأدركت الهيئات المختلفة أهمية الكشف الجديد فجربه معهد روكفلر لتربية فيرس الحمى الصفراء، فكان النجاح باهراً.
وما زالت المعاهد الطبية تقدم إلى العالم كل يوم لقاحاً جديداً، فقد أعلن الدكتور هرالدكوكس أن عدد أنواع الفيرس التي تنمو في البيض 25 نوعا، منها التيفوس ومرض نوم الخيل الذي قتل في سنتين 80 ألف حصان. ولفيرسه خطره على الناس أيضاً، فإنه فتك بسبعين في المائة ممن أصيبوا به ومن نجوا من الموت أصيبوا بانهيار في أعصابهم أو جنوا.
وهناك أمراض لم ينجح الباحثون بعد في كشف سر تربية فيرسها، ومثال ذلك مرض شلل الأطفال. ولكن العلماء يعتقدون أن التوفيق إليه قريب بفضل تقدم فن تربية الفيرس في البيضة، وما توصلوا إليه من تحسينات في أدوات حقن جنينها بالميكروب في أنحاء جسمه المختلفة. فمرة يحقن الفيرس في المخ، وأخرى في النخاع الشوكي، وثالثة في الجلد، ورابعة في العضلات، إلى غير ذلك من الأجزاء وهم يرجون أن تظهر أعراض المرض في أحد هذه الأعضاء فيتاح لهم صنع لقاحه ويكشفون سره.
وكانت القوات المحاربة الأمريكية من أسرع الهيئات التي استعانت بأبحاث الدكتور جودباستور، فوفرت على جنودها شر الإصابة بالأوبئة الفتاكة التي تعتبر من لوازم الحرب في المناطق الحارة في المحيط الهادي، وبالتالي تيسر لهم النصر في معارك القتال المختلفة. ولولا هذا الاكتشاف وما أضفناه على الجنود من صحة وطمأنينة لانقلب ميزان هذه المعارك، فالجندي المريض عبء على الجيش تخسر وحدته جهده، كما تزيد جهد الأقسام الطبية مما قد يؤجل النصر إن لم يمنعه.
فوزي الشتوي(610/38)
رسالة الفن
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
- 2 -
الواقعية في الفن
في نهاية شارع الجامعة الطويل، وقريباُ من الشان دي مارس يوجد (مخزن الرخام) في ركن منعزل مهجور يشعرك بأنك في الريف. في فناء هذا المخزن الذي تكسوه الأعشاب ترقد قطع رخامية غبراء ثقيلة مبعثرة، تبدو في مواضع منها كسور حديثة العهد تنم عن بياض ناصع. تلك هي أحجار الرخام التي احتفظت بها الدولة للمثالين الذين تشرفهم بعمل تماثيل لها.
ويقوم إلى جانب من هذا الفناء عدة مراسم خصصتها الدولة لمختلف المثالين، تبدو كأنها مساكن للطلبة من طراز جديد، وهي بمثابة مدينة صغيرة للفنانين، يجللها هدوء عجيب. يشغل رودان مرسمين من تلك المراسم، يعمل في واحد منها ويضع في الآخر سبائك الجص لقطعته المعروفة (باب جهنم)، تلك القطعة التي تسبي العقول برغم أنها لم تكتمل بعد.
ولقد اعتدت أن أزوره هنا أكثر من مرة في آخر النهار، عند ما يوشك أن ينفض يده من عمله اليومي. فكنت أجلس على كرسي وأرقبه وهو يعمل، وأرتقب تلك اللحظة التي يرغمه فيها الظلام على الكف عن العمل، ولكن كان حرصه على الانتفاع بآخر شعاع من أشعة النهار يلهب أعصابه ويصيره كالمحموم.
وهأنذا أراه يسوي ويشكل تماثيله الصغيرة من الطين بسرعة خاطفة. وهو يجد في ذلك ضربا من التلهي والتسلي يجنح إليه في الفترات التي تتخللها عمله الوئيد الذي يبذله في صنع التماثيل الكبيرة. ثم انه يجد في تلك الدراسات العجلي التي تؤدى للتو واللحظة متاعا ولذة لأنها تعينه على إمساك حركة رشيقة أو إيماءة جميلة عابرة، قد لا يتاح لصدقها الآبق(610/39)
أن يُدرس دراسة عميقة طويلة.
أما طريقته في العمل ففريدة في بابها. فترى في مرسمه كثيراً من المثل الآدمية العارية تمشي الهوينا أو تستريح، يؤجرهم رودان لكي يرى فيهم الجسم العاري يتحرك بكل ما في الحياة من حرية، فهو يلاحظهم في غير انقطاع؛ وبذلك أمكنه أن يلم برؤية العضلات في حركاتها وسكناتها. إن الجسد العاري الذي نعتبره نحن المحدثين علانية شاذة، والذي لا يرى فيه المثاليون إلا طيفاً لا يدوم لأكثر من جلسة أصبح منظراً أصبح منظراً مألوفا لدى رودان.
وإن الدراية المستمرة بالجسم الإنساني، تلك الدراية التي أكتسبها قدماء الإغريق من ملاحظة الألعاب الرياضية كالمصارعة ورماية القرص والملاكمة وغيرها من صنوف الألعاب الرياضية، والتي أباحت لفنانيهم أن يتكلموا بحرية عن الجسد العاري اكتسبها صانع (المفكر) أو رودان بجعل الآدميين العرايا يذهبون ويجيئون أمام عينيه باستمرار. بذلك استطاع أن يستكنه المشاعر التي تعبر عنها كل هنة من هناة الجسد. ويعتبر الوجه عادة المرآة الوحيدة التي نرى فيها النفس، كما يبدو لنا أن تحرك أعضاء الوجه هو المظهر الخارجي الوحيد للروح. وفي حقيقة الأمر الواقع أنه لا توجد عضلة من عضلات الجسم لا تعبر عن التغيرات التي تطرأ على الشعور الداخلي، كلها تعبر عن فرح أو حزن، عن يأس أو أمل، عن تعقل أو جنون. إن الذراع المنبسطة أو الجسم المسترخي ليبسم في رقة وحلاوة مثلما تبسم الشفاه أو العيون، ولكي يصبح المرء قادراً على تفسير كل خلجة من خلجات اللحم وجب عليه أن يوطن نفسه على قراءة ذلك الكتاب البديع - وهذا ما فعله أساطين الفن الأقدمون، وساعدتهم عليه ظروف مدينتهم أما رودان فقد توصل إليه في عصرنا هذا بقوة إرادته الخاصة. إنه يتبع مثله بنظراته الفاحصة النهمة ويتنسم في هدوء روح الحياة التي تختلج فيهم، ويعجب بطراوة هذه الفتاة التي تنحني لتلتقط إزميلا، أو بجمال أخرى ترفع ذراعيها لتصفف شعرها الذهبي فوق رأسها، أو بخطران شاب يمشي عبر الغرفة، وعندما يأتي هذا أو ذاك بحركة أو وضع يروقه يطلب منه تواً أن يستبقي ذلك الوضع ثم يهوي إلى طينه ويعمل بسرعة فلا يلبث أن يخرج تمثالا صغيراً إلى الوجود، ثم ينتقل بنفس السرعة إلى غيره يشكله ويسويه بالطريقة ذاتها.(610/40)
وفي إحدى الأمسيات، عندما أخذ الليل يرخي سدوله الكثيفة على مرسمه جرى لي حديث مع المعلم عن طريقته بدأته بقولي:
(إن ما يدهشني منك أنك لا تشتغل على وتيرة أقرانك. إني لأعرف الكثير منهم وقد رأيتهم يعملون، فهم يجعلون المثال يعتلي خشبة تسمى العرش ويأمرونه بأن يتخذ كذا وكذا من الأوضاع، وفي العادة يثنون أو يبسطون ذراعيه ورجليه حسبما يروق لهم، ويحنون رأسه أو يمدون جسمه كما لو كان بنتا من بنات الأطفال؛ ثم يشرعون بعد ذلك في العمل. أما أنت فعلى النقيض من ذلك، تنتظر حتى يأخذ مثالك وضعاً من الأوضاع التي تروقك فتقوم بانتساخه حتى لكأنك أنت الذي تأتمر بأمرهم ولينسوا هم الذين ينزلون على أمرك).
وكان رودان متشاغلا بلف نماذجه الصغيرة بلفائف مبللة فأجابني في هدوء.
(أنا لست رهين أمرهم وإنما أنصاع لأوامر الطبيعة، أما زملائي فلهم ولا ريب أسبابهم التي تدعوهم إلى الاشتغال على النحو الذي ذكرت، ولكن اعتسافهم الطبيعة على هذا النحو ومعاملتهم الإنسان معاملة الدمى تجعلهم يخاطرون بإنتاج تماثيل متكلفة لا تنبض بالحياة، أما أنا ينشد الحقيقة ويدرس الحياة كما ترى فسوف أحرص على ألا أنهج نهجهم. إني أستخرج الحركات التي إلا حظها من الحياة ولكنني لا أفرضها ولا أصطنعها، حتى إذا ألجأني الأمر وأنا أشتغل بموضوع ما أن أطلب من المثال أن يتخذ وضعاً معينا ثابتاً فأني أشير إليه بأن يأخذ ذلك الوضع متحاشيا جهدي أن أمسه لأضعه في الموضع المطلوب، لأني لا أنقل إلا ما تقدمه لي الحقيقة على الأثر. إني أطيع الطبيعة في كل شيء، ولا أحاول قط أن أسيطر عليها، وكل ما تصبو إليه النفس هو أن أكون عبدها الوفي الأمين)، فأجبته في شيء من الخبث والمداورة (ومع ذلك فأنت لا تبرز الطبيعة في أعمالك بنصها وفصها) فتوقف قليلا وهو ممسك باللفائف المبللة ثم أجابني وهو مقطب الأسارير.
- نعم إني أبرزها بنصها وفصها
- ولكنك تضطر إلى تغيير. . .
- لا أغير منها فتيلا
- ولكن البرهان على أنك تغير منها هو أن السبيكة لا تعطي من التأثير مثلما يعطيه عمل يدك من الأحوال.(610/41)
ففكر لحظة ثم قال:
هذا حق! لأن السبيكة أقل صدقاً مما تطبعه يدي في الطين أو تحفره في الحجر يكاد يكون مستحيلا على أي مثال أن يحتفظ بوضع حي طيلة الوقت الذي يلزم لعمل سبيكة منه
ولكني أحتفظ بجملة الوضع بمخيلتي وأصر على أن يتطابق المثال على ما وعته مخيلتي من ذلك الوضع. وأكثر من ذلك أن السبيكة لا تظهر إلا المظهر الخارجي، ولكني أظهر بجانب ذلك الروح التي هي بلا ريب جزء من الطبيعة أيضاً. إني أرى الحقيقة كاملة ولا أقصر نفسي على رؤية المظهر الخارجي. إني أبالغ في إظهار الخطوط التي تعبر أحسن تعبير عن الحالة النفسية التي أتولى تفسيرها)
وكان يريني وهو يتكلم تمثالا من أروع تماثيله قائماً على منصة قريبة، هو تمثال لشاب راكع رافع ذراعيه المتوسلتين إلى السماء كأنما تنهش كيانه الألم، جسمه مائل إلى الوراء، وصدره ناهد وحلقه متوتر من اليأس، أما يداه فممدودتان إلى مخلوق وهمي تتوقان إلى إمساكه، ثم قال لي:
(انظر، لقد أوضحت انتفاخ العضلات التي تفصح عن الألم، فهنا وهنا وهناك قد غاليت في توتير أربطة العضلات التي تدل على تدفق الصلاة وحرارتها) وبعد ذلك أشار إلي أقوى وأبرز ما بالتمثال من أجزاء، وهنا صحت به متهكماً:
(لقد أصبت منك مغمزا يا أستاذي. تقول بنفسك إنك تفصح، وتزيد، وتبالغ. . فترى من ذلك إذن أنك غيرت من الطبيعة) فأخذ يضحك من عنادي ويقول:
(أبداً، أنا لم أغير منها شيئاً، وعلى فرض أني فعلت ذلك فأني لم أكن أتوقعه وقتذاك، فالإحساس الذي سيطر على مشاعري وقتئذ أراني الطبيعة كما نقلتها. فإذا ما أردت تنقيح ما رأيت وجعله أكثر جمالا لما أنتجت شيئا طيبا) وبعد برهة عاود حديثه قائلا:
(إني أوافقك على أن الفنان لا يرى الطبيعة كما يراها السوقي لان عواطفه تكشف له عن الحقائق المخبوءة تحت ستر المظهر الخارجي، وعلى كل حال فالقاعدة الوحيدة في الفن هي أن تنسخ من الطبيعة ما تراه. ويرى المشتغلون بجمال الفنون أن أية قاعدة مغايرة لهذه يكون مآلها إلى البور، فليس ثمت من طريقة لتحسين الطبيعة، والأمر الوحيد هو أن ترى. آه، حقيقة أنه ليس في مقدور رجل من أوساط الناس ممن ينسخون الطبيعة أن يأتي بعمل(610/42)
فني لأنه في الواقع ينظر ولا يرى، ولو أنه استطاع أن يتتبع كل دقائقها بإنعام لجاءت النتيجة تافهة لا خطر لها، ولكن لم تخلق مهنة الفنان لأوساط الناس الذين لا يمكن أن يكتسبوا مواهب حتى من أجل النصائح والإرشادات.
فالفنان - على نقيض ذلك - يرى بمعنى أن عينه المركبة على قلبه تقرأ عميقاً في أغوار الطبيعة، وهذا يفسر السبب الذي يجعل الفنان لا يعتمد إلا على عينيه فقط).
(للكلام صلة)
محمد بهجت(610/43)
البريد الأدبي
عالمية الاسكندر
في هذه الأيام التي يتفاوض فيها أقطاب العالم لوضع نظام عالمي أو قريب من العالمي، يضمنون به الإشراف على القوميات الختلفة، ووضعها في نظام منسجم متناسق، قد يكون من الطريف أن نشير إلى محاولة لتطبيق فكرة العالمية قام بها صاحبها منذ أثنين وعشرين قرناً أو ما يقرب من ذلك، تلك هي محاولة الاسكندر المقدوني التي أراد به أن ينفذ هذه الفكرة في النصف الثاني من القرن الرابع قبل المسيح.
لم يكن العالم الهلّيني في ذلك الوقت قد اتسع أفقه بعد ليشمل نطاقاً
أوسع من نطاق (المدينة الحرة) الذي نادى به أرسطو في (سياسته)
والذي عبر به خير تعبير عن النظام السياسي الوحيد الذي كان يدركه
العالم الهليني حينذاك.
وإذا كانت بعض المدن الإغريقية قد حاولت أن ترتفع قليلا عن هذا الأفق لتضع نظاماً أوسع، كأثينا التي حاولت أن توجد نظاماً إمبراطورياً تكون هي سيدته، فمع ذلك نجد أنها لم تستطيع أن تمتد بنظامها هذا الجديد لتشمل به شعوباً أخرى غير شعوب العالم الهليني.
فلما ظهر الاسكندر، نظر نظرة أخرى جديدة، وقام بمحاولة بعيدة عن إدراك الإغريق، أراد أن يوجد (دولة) تكون حدودها هي حدود العالم المعروف إذ ذاك، فكيف عمل على تحقيق هذه العالمية، وكيف دبر النظام الذي يستطيع به أن يضمن تناسق أجزائها، وما مدى تأثير الظروف التي أحاطت بالعالم إذ ذاك في هذا النظام، وأخيراً ما مقدار نجاحه في تحقيق فكرته؟
نظر الاسكندر حوله فوجد بين يديه فتوة وقوة يستطيع بها أن يناضل وأن يتغلب، ووجد العقبة الوحيدة التي قد تعترض طريقه، وهي الإمبراطورية الفارسية، قد تفككت وأصبحت على شفا الانهيار، وإذن فليحقق عالية عن طريق إمبراطورية يكسبها بسيفه، وليجمع بين الشرق والغرب في نظام يكون هو على رأسه، وهكذا يسيطر الاسكندر على آسيا الصغرى وسوريا وفينقيا ومصر، ثم يتوغل في آسيا حتى يصل إلى شواطئ المحيط، ويود الوصول(610/44)
إلى الشواطئ المقابلة لولا أن تعاجله منيته.
عمل الاسكندر إذن على أن يوجد (المادة) التي سيطبق فيها نظامه العالمي، ثم انتقل إلى دور آخر، هو تطبيق النظام نفسه، وهنا تقابله المشكلة، فلكي يضمن تحقيق فكرته لابد أن يسيطر بنفسه على إمبراطوريته، ولكن إذا كانت هذه السيطرة الإمبراطورية مما يتفق ونظم الشرق، الذي جرب قبل ذلك نظام الإمبراطورية تحت سيطرة الفراعنة والفرس، فهي مما يتناقض تناقضاً تاماً مع نظام المدينة الذي درج عليه الهلينيون والذي قامت على أساسه الحضارة الهلينية.
وإذن فالاسكندر أمام مشكلة، إن وضع نظامه على أساس المدينة الحرة فقد ضاعت سيطرته، وضاعت بالتالي فكرته الأولى التي يرمي إليها من وراء هذه السيطرة، وهي العالمية. وإن قضى، في سبيل سيطرته، على نظام المدينة الحرة، فقد قضى على الحضارة الهلينية التي قامت هذا النظام، والتي كان يرمي قبل كل شيء إلى أن تسود (عالمه) الجديد.
فليفكر الاسكندر إذن في طريقة يسيطر بها على إمبراطوريته دون أن يقضي على الأساس الأول للحضارة، الهلينية، طريقة يجمع بها بين (ملكية) الشرق و (مدينة) الغرب.
وهنا يلجأ الاسكندر إلى خير طريق يربط بين النظم والأفكار على اختلافها وتباينها، ذلك هو الطريق الديني. ليسبغ الاسكندر على نفسه سمة دينية مقدسة، يجمع بها بين سيطرة الشرق والغرب، الذي تشغل الأفكار الدينية فيه إذ ذاك المقام الأول. . .
وهكذا يسعى الاسكندر إلى أن تكتسب سيطرته شكل الحق الإلهي، بل أكثر من ذلك أن يصبح هو نفسه إلهاً.
وهكذا نراه يحج في مصر إلى معبد آمون حيث يحصل على اعتراف من الكهنة بأنه ابن الإله (آمون)، ولآمون إذ ذاك مكانته سواء في مصر أو في العالم الإغريقي، الذي أخذ في ذلك الوقت يضعه في مصاف آلهته الكبار.
ثم تراه مرة أخرى في فارس يحيط نفسه بهالة كثيفة من الطقوس الدينية، والمراسيم التي تقدم إلى النار القريبة من عرشه، والتي تمثل فكرة الحق الإلهي للملك.
هذه محاولة للعالمية قامت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد قضت بقضاء صاحبها، فهل(610/45)
تنجح محاولات العالمية في القرن العشرين؟
لطفي عبد الوهاب
تساؤل واستفهام؟
قرأت معجم الأدباء لياقوت الحموي وهو المعجم الذي قامت بطبعه دار المأمون. وبعد البحث والاستقصاء لفت نظري خلوة من كثير من الشخصيات، إذ قد وجدت أن نخبة صالحة من الرجال البارزين لم تذكر في هذا المعجم. فإما أن تكون قد ضاعت من الأصل - وهو احتمال ضعيف - وإما أن يكون ياقوت قد أغفلها، وهذا هو موضوع التساؤل.
لقد كان في جملة من أغفل ذكرهم من الشعراء والأدباء شخصيات مختارة أمثال حسان بن ثابت والأخطل والكميت وجرير وبشار والبحتري وأبى تمام والمتنبي وابن زيدون وعمر بن أبى ربيعة وابن الرومي وابن المعتز وأبى فراس ومسلم بن الوليد (وقد ذكر ترجمة ولدُه سليمان)، ومن الأدباء والرواة والفلاسفة أمثال الحسن البصري والرئيس ابن سينا وابن سيرين والإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك والبخاري ومسلم وعبد الحميد الكاتب والغزالي والفارابي والرازي والأصمعي وأبى بكر الخوارزمي وابن الزيات وعلي بن الفرات وعمرو بن مسعدة وابن خفاجة والفضل بن يحيى والفضل بن الربيع والحسن بن سهل وإسماعيل بن صبيح والحسن بن وهيب وبني موسى بن شاكر وأبى الحسن الأشعري والوزير محمد بن علي بن مقلة (أشار ياقوت في ترجمته لأخي الوزير الحسن بأنه سيذكره في بابه ولكني لم أعثر على ترجمة له) وعبد الله ابن قتيبة (ذكر ياقوت ترجمة لولده أحمد) وابن المقفع ويعقوب بن إسحاق الصباح الكندي ومالك بن دينار والقاضي الفاضل وغيرهم ممن يصعب حصرهم في هذه العجالة. في حين أنه ترجم لشعراء كثيرين منهم الفرزدق وصريع الغواني وأبو دلامة وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم ممن هم دون من أغفلهم شهرة ومنزلة، وهنا موضع التساؤل؟
إذا فرض أن ياقوت قد أغفل ذكر هؤلاء أو قسماً منهم فما هو يا ترى السبب الذي حمله على إغفال أمثال هذه الصفوة المختارة؟ وما هو السر في ذلك؟ وهل من الجائز أن يقال إنه تعمد عدم الترجمة لهم أو لقسم منهم لأسباب ودواع تمت إلى سياسة حكام عصره(610/46)
ومسايرة ميولهم؟ تلك الميول التي ربما كانت لا تحبذ الترجمة لأحد من أولئك؟ وإذا كان كذلك فما هي تلك الميول، وهل كانت ظاهرة أمستترة؟ وما هي الدوافع لها؟ وإذا قال قائل إنه اقتصر في معجمه على شخصيات الأدباء فقط، فأقول إنه ذكر كثيرين ممن اشتهروا بالشعر دون غيره كما مر آنفاً. وقد ترجم للإمام الشافعي كما ترجم لأناس اشتهروا بالعلوم الفقهية والنحوية، أو في اللغة والقراءة. فهل لا يرى رجال الأدب اليوم أن إغفال ياقوت - إذا صح - لمثل تلك الشخصيات يعتبر نقصاً كبيراً في قيمة معجمه الأدبية، أو على الأقل إهمالا من ياقوت وغمطاً لحقوق أولئك الرجال؟ وهو يجب أن يتصف به كاتب أخذ على عاتقه تدوين حياة الناس. وإذا كان ياقوت قد قال إنه جعل معجمه قاصراً على من اشتهروا بالأدب؛ فما هو المقياس الذي يقيس به ياقوت الرجل ليكون أديباً في نظره؟ وما هو معنى الأدب عند ياقوت؟ وعلى أي شيء يشتمل؟ وهل إن الوراقين أو بعضهم - وقد حشرهم ياقوت في زمرة الأدباء - يعتبرون من الأدباء في العصر الحاضر؟
هذا بحث مقتضب جاء على عجل، إلا أنه لا يخلوا من حقائق كما أنه لا يخلوا من غوامض تريد من يزيح الستار عنها. فإلى أدباء العصر ولاسيما من عرفوا ببحوثهم القيمة واشتهروا بتحقيقاتهم العلمية والأدبية الثمينة أوجه قولي هذا راجياً أن يتفضلوا بكشف النقاب عما خفي واستغلق ولهم على ذلك شكر التاريخ وثناء الأدب والله الموفق.
(الزبير - البصرة)
احمد حمد آل صالح
شرح لامية العجم، سحر العيون، نزول الغيث
تعليقاً على ما نشره العلامة المحقق الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في صفحة 181 من (البريد الأدبي) للرسالة الغراء بعددها 607 بتاريخ 19 فبراير سنة 1945 تحت عنوان شرح لامية العجم - لم أقف على المصنف المذكور لصلاح الصفدي مطبوعاً في بولاق والذي أعرفه من طبعاته المتداولة طبعة معوض فريد (المطبعة الوطنية) بالإسكندرية سنة 1290هـ وأخرى طبع المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1305هـ
أما كتاب (سحر العيون) المنسوب لأحد تلامذة شهاب الدين أحمد الحجازي الشاعر(610/47)
المصري أحد علماء القرن التاسع فمطبوع طبعة حجر بمصر سنة 1276هـ
ومن بواعث الأسف أن (نزول الغيث) لابن الِدماميني لا يزال مخطوطا وتوجد منه أكثر من نسخة بدار الكتب المصرية فلعل هذا التعليق يهم المتتبعين لحركة النشر من قراء الرسالة الغراء، ومن الخير أن يدوّن للحقيقة والتاريخ.
يوسف كركور
شكر وتعليق
قرأت في (الرسالة) الغراء مقالاً للناقد الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن كتابي (محمد عبده) الذي ظهر منذ شهور في سلسلة (أعلام الإسلام) فوددت أن أوجه إلى الناقد الفاضل أحسن التحية للروح الجميلة التي أملت عليه مقاله الكريم الذي خصني فيه بكلمات طيبات، مما شاء له أدبه الجم وفضله الموفور. وودت أن أنوه أيضاً بسماحته وإنصافه، وهما خصلتان شريفتان من بين خصال أخرى محمودة تجلت في نقده لكتابي.
والواقع أن ما أورده صديقنا الأستاذ من ملاحظات على كتابي هو الحق البريء من الشبهات؛ وليس يسعني هنا إلا أن أهنئه على ما حباه الله من حدس صائب وذوق سليم.
غير أن لي تعليقًا على ملاحظتين وردتا في ثنايا المقال، وأرجو من هذا التعليق أن أبين الحقيقة فيما يتصل برسالة لي عن الأستاذ الإمام كتبتها أثناء بعثتي بأوربا، وقدمتها إلى السربون لنيل الدكتوراه في الفلسفة من تلك الجامعة، وتقوم وزارة المعارف المصرية بطبع تلك الرسالة وستظهر قريباً باللغة الفرنسية. وقد ظن الأستاذ محمد عبد الغني حسن كما ظن غيره أن كتابي عن (محمد عبده) في سلسلة أعلام الإسلام موجز لرسالة الدكتوراه، والواقع غير ذلك: فإن عنايتي في رسالتي الفرنسية كانت موجهة كلها إلى (آراء محمد عبده الفلسفية والدينية)، وبعبارة أخرى إلى فلسفة الأستاذ الإمام ومذهبه في الدين والأخلاق والاجتماع.
ولم يظهر من هذا البحث بالعربية إلا فصول مختصرة قلائل نشرت في (الرسالة) و (الثقافة) و (مجلة الأزهر) و (مجلة العلوم) أما (محمد عبده) في (أعلام الإسلام) فقد كتب خصيصاً لهذه السلسلة، ولم أقصد منه إلا التعريف بسيرة الرجل كما كان، لا كما يريده(610/48)
بعض الناس أن يكون. وهذا ما أدركه الأستاذ محمد عبد الغني حسن، وكشف عنه بإشارات ألمعية وبيان نفاذ. وما أحسبني إلا قد انتهجت لهذه الغاية طريقا سويا مفتوحا لا عوج فيه ولا يحوجنا إلى بدعة (المفاتيح) هذه التي يجري وراءها بعض (المحدثين) في هذه الأيام.
أما ما استدركه الأستاذ الناقد من أنني لم أشر إلى المراجع التي وردت فيها أقوال من استشهدت بهم، فاستدراك ينصب لا على كتابي وحده، بل على أكثر الكتب التي ظهرت إلى الآن في سلسلة (أعلام الإسلام): لأن المجال أمام المؤلفين ضيق محدود، وهم كما رأى الأستاذ نفسه، (مقيدون بقدر الصفحات لا يتعدون حدوده). وأنا أؤكد لصديقي عبد الغني حسن أن هذا القيد الذي أشار إليه كان أثقل على نفسي من أي شيء سواه.
أما ما لاحظه الأستاذ عبد الغني من ورود بعض الأعلام بالحروف الأول دون ذكرها كاملة فمرجعه إلى أن تلك الأسماء إنما أوردتها كما هي في نصوص من كلام محمد عبده نفسه، ولم يكن يسعني أن أغير فيها ما دمت أنقلها اقتباسا (وقد وضعتها بين أقواس صغيرة إشارة إلى هذا)، ولم يكن ثمة حاجة ملحة للكشف عنها لأنها أسماء أشخاص مغمورين ممن لا خطر لهم وان كانوا من أصحاب المناصب الكبيرة. وعندي أنه كان من الميسور إغفال أسمائهم بالمرة، دون أن يؤثر ذلك في سياق الكلام أو يقلل من مغزى الرواية.
وأود أخيراً أن أوجه خالص الشكر إلى صاحب (الرسالة) الذي هيأ لنا هذه الفرصة الممتعة للوقوف على مثال طيب من النقد النزيه الصادر عن خلوص النية وسداد النظرة وصدق الشعور.
عثمان أمين
الحوماني في فلسطين
هبط فلسطين منذ أيام الأستاذ محمد الحوماني صاحب مجلة (العروبة) في بيروت، وناظم ديوان (حواء)، وناقل رسالة الأدب العربي إلى أمريكا. وقد احتفل به جماعة الأدباء في يافا، وألقى مختارات من شعره في قاعة المعهد البريطاني هناك. وأقامت له اللجنة الثقافية في جمعية الشبان المسيحية في القدس حفلة دعي إليها جمهور غفير من المثقفين، وأنشدهم في نهايتها كثيراً من قصائده العصماء.(610/49)
حول كتاب (الفاروق عمر)
لا نريد أن نعرض هنا لتقريظ كتاب (الفاروق عمر) لسعادة الدكتور هيكل باشا، ولا لنقده، فذلك أمر لم يحن حينه، وإنما نحب أن ننبه وهم لغوي وقع في عنوان الكتاب، ذلك أن أصحاب اللغة من بصريين وكوفيين، نصوا على أن الاسم يتقدم على اللقب في جميع الأحوال، فيقال: (عمر الفاروق) ولا يقال (الفاروق عمر).
ويبدو أن الكاتب الكبير قاس اسم مؤلفه الجديد على اسم الكتاب السابق له المعنونَ (الصديق أبو بكر) ولا قياس في هذا، حيث لم تنص كتب اللغة على الترتيب بين اللقب والكنية كما نصت على الترتيب بين الاسم واللقب. ولعل سعادة الدكتور هيكل باشا يتدارك هذا الأمر في الطبعة الثانية من الكتاب، وفقه الله.
(الرمل)
منصور جاب الله(610/50)
القصص
التعس. . .!
أقصوصة روسية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
لست أعرف لماذا يعتقد كثير من الناس أن المقادير تعني بحظوظ الملوك والأبطال لا بالرجال العاديين، وأن الرجال العاديين لا شأن للأقدار بهم كأنها لا تلحظهم
لم يكن بطل هذه القصة من الملوك ولا الأبطال، ولكن الأقدار لم تكن في عناده أقل حرصاً على الانتصار منها في عناد (أوديب) الملك، حتى يظن المرء أنها تركت كل مشاغلها وتفرغت (لإيجور شيمو دانوف) مدة الثلاثين عاما التي قضتها في حرب معه.
ولد (إيجور) لأبوين غير معروفين لأنه لقيط. وكان مولده في قرية من قرى سيبريا. وترك عند باب تاجر من أغنياء التجار اسمه (إيجور) ومن ثم أطلق عليه هذا الاسم، وكان في الأعوام الأولى من حياته سعيداً تتهيأ له من أسباب الرفاهية ما لا يتهيأ أوفر منه لابن أمير.
وكان التاجر الغني وزوجه يقصران عنايتهما عليه حتى استثار بذلك حقد الأقارب وحسدهم، فألبساه الحرائر وأطعماه الشهي ونادياه بأحب الأسماء، وامتلأ الطفل والتف عوده، ولكن بقيت فيه نعسة الزيادة في الطعام. وهكذا ظل طول عمره ممتزج اليقظة بشيء من النعاس.
وكان شعره أصفر ناعماً وقوامه ممتلئاً قصيراً. ولكن سمنته مازالت تقل كلما كبر حتى صار هزاله محزناً في أخريات أيامه
لما بلغ السابعة من العمر مات اللذان تبنياه موتاً شنيعاً إذ تحطمت بهما عربة القطار، ولم يشك أحد في أنه أبنهما وكانت هذه النكبة أول حلقة في سلسلة أحزانه
وكان أول ما فعله ورثة التاجر أن جردوا (إيجور) من ثيابه الحريرية وطردوه من المنزل. ولقد كان الموت مقدوراً عليه في الطريق لولا أن رحماء آخرين أخذوه من الطريق فأرسلوه إلى الإصلاحية.(610/51)
ولم يكن الطفل مذنباً ولكنه لم يكن هناك مكان يؤويه غير هذا المكان، وهكذا كان أمر المقادير. ولقد قبل الطفل هذا الانتقال من السعادة الكاملة إلى الشقاء الكامل بنفس وطنها على المذلة، وهناك عرف الضرب كما عرف الجوع، وسمى لصا فلم يغضب لشيء من ذلك ولم يتمرد، بل بدأ يستشعر الحب لهذا المكان ويخلص بقلبه لأولي الأمر فيه. ونسي سعادته الماضية كل النسيان فلم يعد يتألم من حالته الجديدة حتى ولا في معرض الذكرى ولعل المقادير رأت في هذا السلوان شيئاً من السعادة فأنكرته عليه. وذلك أن النار شبت في الإصلاحية ذات ليلة من ليال الشتاء فاحترقت المديرة وأبناؤها الثلاثة ونجا (إيجور) بعد أن تعرض للموت. وكان حاضراً في وقت إطفاء الحريق رجل من رعاة الغنم فأصر على يأخذه معه لأن البناء أصبح غير صالح للسكنى
وقال إيجور لراعي الغنم وهو ذاهب معه: (لعلهم يجددون بناء (الإصلاحية؟) وكان يقول ذلك وهو يبكي فأجابه الراعي لا تخف فان بناءها سيعاد)
وأخذه إلى مدينة (سمارا) ولم يلحظ الدافع الذي حدا بالطفل إلى إلقاء هذا السؤال. ولقد كان الدافع في الحقيقة هو عزمه على العودة بعد تجديد البناء. وهذا عمل لم يعمله إنسان من قبل، بل المعهود أن كثيرين قد فروا من الإصلاحية ولم يتطوع أحد بالذهاب إليها. ولكن هذا العزم يدل على مزاجه الخاص الذي ساعده على احتمال ما أصابه من الحوادث. ولقد كان الطفل بغريزته عدواً للتمرد فأنكر على نفسه الفرار من الراعي ليذهب إلى سجن الأطفال، ولكنه راجع نفسه في ذلك بأن ذهابه إلى السجن كان بدافع آخر هو الاستسلام للقدر الذي قضى عليه بأن يعيش في السجن
وفر الطفل من سمارا ثلاث مرات عاد فيها إلى سيبريا. ولكنه ضبط مرتين وضرب ضربا مبرحا، ونجا في المرة الثالثة، ولكنه ضل الطريق في مجاهل سيبريا. وعلى الرغم من ذلك فان الأخطار والمتاعب لم تضل عنه فقد كان الدب يطارده في الغابة، وقطاع الطرق يهاجمونه في الطريق، والأشرار يعتدون عليه في المدن. وكان إيجور يجوع أحيانا ليشتري (ياقة) ويخشى على ثيابه أن تتمزق ولهذا كان يفر من طريق الأشرار. وكان شريفاً على الرغم من إقدامه على سرقة الثياب مادام في حاجة إليها ولا يملك ثمنها، ولم يكن يعد هذا ذنباً.(610/52)
ولما اعتاد هذه الحالة انطفأت نار شوقه إلى الإصلاحية وظل ينتقل من مدينة إلى مدينة حتى إذا بلغ السابعة عشرة وجدناه في تفليس عاملا في مصلحة التلغراف وكان مغتبطاً بهذه الوظيفة التي أهله لها حسن ملبسه وظل نظيف الثياب في الأعوام الثلاثة التي كان فيها مثالا لحسن الخلق والمعاملة. وشعر فيها السعادة التامة الماضية حتى كأنه قد نسيها
ولما بلغ الحادية والعشرين صار من دأبه التغني بأنشودة غرامية فسمعته فتاة ووهبته قلبها. ومن هذا العهد ظهر سوء الحظ مرة أخرى وكأنه كان مختفياً فجأة بشرٍ مرعب، فلقد ماتت هذه الفتاة بالجدري. وعلى الرغم من أن إيجور كان مطمئنا لكل هذه الحوادث فقد بدا أثر الحادث الأخير على وجهه فأفقده رواءه وارتسم عليه الهم والألم. وفي خلال هذا العام التحق بالجندية وكان يكره البحر وأسفاره ولكنه عين في فرقة البحريين في الأسطول واضطر إلى السفر في البلطيق فأصيب بمرض من أمراض البحر، وبدلا من أن يعطف عليه الجنود لمرضه صاروا يضحكون منه. وانقضى عامان كانت السفينة في خلالها راسية على بعض شواطئ أفريقيا، وكان أهل هذه الجهة من السودانيين الذين لا يعرف إيجور شيئا من لغتهم، ولم يكن معه مال ليعيش معهم ولكن هكذا شاء القدر أن يهرب من السفينة ويشرد في تلك المجاهل
ولم يزل يمشي حتى وصل بعد ثمانية عشر شهراً إلى القاهرة فتجددت له السعادة، لأن القاهرة خير مكان يستطيع أن يعيش هادئاً فيه. وتزوج واشتغل صانعاً في أحد المعامل، ولما كان قنوعا فقد اقتصد جزءاً من المال وعزم في النهاية على فتح حانوت لصنع الأحذية ولكن قبل أن ينفذ هذا العزم اعتقل صاحب المصنع وصودرت أمواله بسبب إفلاسه. وكان إيجور قد حفظ أمواله عنده فصودرت أيضاً.
في ذلك اليوم هرب إيجور من القاهرة ولم يزل ينتقل من بلد إلى بلد ومن صناعة إلى أخرى كاليهودي التائه، وركب البحر ثلاث مرات فغرقت السفن ونجا. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل مطمئنا كأن الذي أصابه ليس إلا حوادث عادية يتعرض لمثلها كل إنسان.
وأخيراً وصل إلى نابولي فأخذ يبيع بها السلع متجولا. ومن هناك سافر إلى سويسرا وكانت لغته قد أصبحت مزيجاً من الروسية والعربية والإيطالية. وألف هذا النوع من الحياة وأمهله القدر فصار لا يتعرض لأخطار جديدة وايسر وبدا اليسار عليه.(610/53)
ولكنه لم يكن قد تعود هذه الحالة فتاقت نفسه إلى المخاطر ليتعرض لصدمات الأقدار، فبدا في نفسه نزوع وحنين إلى ماضيه المستهدف، وان شئت فقل إنه أصبح في حالة عقلية قلقة بسبب الراحة التي لم يعتدها. وبالرغم من مقاومته نفسه فقد عجز عن كبح عزمه على العودة إلى مجاهل أفريقيا حيث تلفحه الشمس المحرقة ويتعرض لأذى الزنوج والحيوانات المفترسة
وسافر من مرسيليا على ظهر سفينة إلى الجزائر فغرقت السفينة على مسافة قليلة من الشاطئ الفرنسي فأعيد إلى باريس. ولكن ما الذي يفعله الباريسيون بمخلوق تعس كهذا. . .؟
وضعوه في معرض وكتبوا على قفصه (مخلوق تعس) وصار الأغنياء والأطباء والمفكرون يذهبون ليسمعوا منه قصته ويروا شكل جمجمته الصغيرة وعينيه الضيقتين ليصلوا إلى تعليل لتعاسته. ولكن كان ذاك على غير طائل
واستفاد إيجور من هذا العرض مالا كثيراً فعزم على استئناف العمل وعاد يعمل ويقتات. ولكن القدر أبى عليه أن يستريح فتشبثت بذهنه فكرة لم يستطع إلا تحقيقها وهي أن يعود إلى سيبريا فيبحث عن أمه المجهولة، فعاد، ولما وصل إلى روسيا كانت الثورة قد نشبت فجردته من أمواله عصابات اللصوص والته في خندق. وأبى عليه حظه أن يموت فيستريح ومن أجل ذلك نجا بأعجوبة واستأنف تجواله، ولما وصل إلى القوزاق اشتغل كاتباً وكادت الراحة تعرف طريقها إليه ولكن التفكير في أمه لم يتركه. ولذلك سافر إلى سيبريا
ولما وصل إلى البلدة التي ولد فيها كان قد بلغ الثلاثين من العمر، وفي يوم وصوله وكان جواز السفر الذي ابتاعه من موسكو قد باعه إياه رجل اتضح أنه مجرم سياسي محكوم عليه بالإعدام - في يوم وصوله وقع هذا الجواز في يد الحكومة فأعدمت (إيجور) بغير تحقيق. . . اعتقاداً منها بأنه ذلك المجرم السياسي
وهكذا شنق إيجور فلم يبكه صديق أو قريب ولم يذكره ذاكر، وهل يذكر الناس من ضحايا الأقدار غير الأبطال والملوك؟
عبد اللطيف النشار(610/54)
المسرح والسينما
فيلم (أحب البلدي)
تأليف وإخراج حسين فوزي
إنتاج شركة أفلام الشباب
القصة
قامت فكرة القصة - إن كانت لها فكرة - على أساس الإشادة بطبقة (أولاد البلد) والتنديد بالطبقة (الراقية) تنديداً أحسب أنه لا يتفق مع الواقع في كثير ولا في قليل. ولست أدري لماذا يعتمد أكثر المخرجين عندنا على عرض هذه الفكرة بالذات في أكثر أفلامهم؟! وإن كنت أدرى أن الفن أكبر من أن يستغل في هذا التملق الرخيص المبتذل، وليس بمعقول أن حياة الطبقة الراقية أو الطبقة الغنية عندنا تنحصر في (الرجس والخمر والميسر) وحياة (أولاد البلد) كلها (شهامة ورجولة وكرم)، وإنما المعقول أن لكل طبقة - على وجه الأرض - مزاياها وعيوبها، وأعتقد أنه من الخير لأهل الفن في مصر أن يدعوا هذا التهريج الأجوف ويعملوا للفن وللفن وحده يمكن أن يوجد عندنا نهضة فنية صحيحة.
الإخراج
حفل الإخراج بفجوات متعددة في أغلب المشاهد. مثال ذلك:
أقام (عادل) حفلة خيرية لجمع التبرعات لمساعدة (الأسطى إبراهيم)، ولم يحضر هذه الحفلة إلا نفر قليل من أبناء البلد. فكيف تسنى له أن يحصل على ثمن (جوز خيل) مع أن أي تبرع لم يزد عن خمسين قرشاً، وكيف هربت (شربات) من المنزل وأين كان أبوها وأين كانت أمها؟! وكيف غادر عادل منزل أبيه مطروداً ولم يتدخل جده في هذه المسألة؟! وكيف يشفى مريض قرر الطبيب أن مرضه خطير بكلمة (بابا وماما)؟! وكيف تذهب نازك إلى منزل لم تعرفه من قبل ولم تسأل أحداً عن مكانه، وكيف تركها والدها تذهب إلى ذلك المنزل في منتصف الليل بدون مبرر؟! وما الداعي للمشاجرة التي حدثت في (الصالة) وكان من الممكن عدم حدوثها بكلمة، وما هو عمل مختار في (الصالة) وبأي حق يضرب(610/56)
(زبون) ولا يتدخل أحد؟! وكيف عرف (الأسطى إبراهيم) نبأ اشتغال ابنته بالرقص؟! ولماذا لم يمنعها من ذلك إذا كان لا يوافق على اشتغالها بالرقص؟! وهناك أخطاء متعددة لا يتسع المجال لسردها فنكتفي بهذا القدر.
التمثيل
قامت تحية كاريوكا بتمثيل دور (شربات) فنجحت فيه، والذي لوحظ عليها أنها عندما كانت تبكي في بعض المواقف تبدو كأنها تبتسم، وقام الأستاذ أنور وجدي بتمثيل دور (عادل) فعرف كيف يقوم به على أكمل وجه. وقام الأستاذ محمود المليجي بتمثيل دور (شوكت بك) فوفق على الرغم من أن الدور لا يناسبه. وكذلك وفقت سامية عبد العزيز على الرغم من أنها أصغر من أن تكون (أم عادل) وكذلك نجح الأساتذة: حسن فايق - مختار حسين - كامل الصاوي - أما شكوكو فننصح إليه أن يخفف من (تهريجه) وأما شافية فقد نجحت كمطربة فقط.
الأغاني
أحسب أنهم لم يأتوا فيها بجديد تأليفاً وتلحيناً.
التصوير والديكور والصوت
بدت أكثر المناظر رديئة، ولم يكن الديكور متقنا، ولم يكن الصوت واضحاً.
كلمة أخيرة
أعتقد أن الوقت قد حان ليراجع أصحاب الشركات السينمائية أنفسهم من حيث الطريقة التي ألفوا إخراج أفلامهم بها (أو) عليها، فالهدنة قد قربت، والأفلام العالمية سوف تغرق سوقنا (ناطقة بلغتنا) مقدمة لنا خير الموضوعات لأخلد المؤلفين فما بالنا نحن لا نزال نعتمد على إقحام (الغناء والرقص والتهريج) في كل فيلم غير مبالين أن يجيء موضوعه تافهاً، وسياقه مفككاً. . . مع أن شيئاً من العناية بالقصة والقاص يوفق بين المزاج الشعبي الذي يريده أصحاب الشركات والنجاح الفني الذي يقاوم - إلى حد - طغيان الفيلم الأجنبي. . . لكلم أتمنى أن يراجع (تجار السينما) في مصر أنفسهم!!
عبد الفتاح متولي غبن(610/57)
العدد 611 - بتاريخ: 19 - 03 - 1945(/)
سؤالان وجوابان
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب إلى الأديب (علي الشوكاني) في البصرة يقول:
(كنت أقرأ المقدمة الممتعة التي صدر بها المستر هـ. ج ولز كتاب المستر فرانك سونرتن فوقفت أمام قوله: إنه باعتباره كاتباً ينتمي إلى مدرسة، وباعتباره قارئاً ينتمي إلى مدرسة أخرى، كما يتفق أن يشتغل الإنسان بالآلات البصرية ثم يعني بجمع الآنية الصينية القديمة. . . وهو قول يحتمل التأييد والتفنيد على السواء، ولا ينحصر الاعتراف به في الكاتب الإنجليزي الأشهر وحده بل يتعداه إلى أدباء كثيرين. ولكن هل تختلف عند الكاتب الواحد بوجه عام أهداف الكتابة وأهداف القراءة؟ وهل يصح مثلا أن يحيا عقله في دنيا تخالف كل المخالفة أو بعضها تلك التي يحيا فيها بقلمه؟ وهل ثمة تعليل مقبول لهذا التباين الواضح بين دنيا العقل ودنيا القلم؟. . .
هذا ما أرجو أن تتفضلوا بشرحه على صفحات الرسالة الغراء أحد ميادين الأدب الخالد، وإني الشاكر الحامد. . .)
والذي نعتقده أن هذه الحالة معقولة لا غرابة فيها، وليس من وجه لاستغرابها إلا أن ترى أن الإنسان لن يقرأ إلا ليكتب ولن يشتغل بموضوع إلا الذي يشتغل به قراؤه، وكلاهما مخالف للواقع المشاهد في كل مطلب وكل بيئة.
فمن الناس كثيرون يقرأون ولا يكتبون، وليس الكاتب ببدع بين القراء في مطالعته. فيجوز إذن أن يقرأ في موضوعات لا ينوي الكتابة فيها ولا يهمه أن يعقد التفاهم عليها بينه وبين قرائه.
كذلك يصح أن يشتغل الكاتب بشؤون كثيرة لا يشتغل بها قراؤه ومريدوه. فربما كان من هؤلاء القراء من يتلقى عنه تجاربه الخاصة التي يشرح فيها ما جرى له ولا يشرح فيها مطالعاته ومعارض درسه، وربما كان منهم من يقرأه لأنه حلقة بينه وبين جيل مضى من المؤلفين والكتاب، فيكون الكاتب حينئذ كالقنطرة الثقافية بين شاطئ وشاطئ مفترقين.
ومن المعهود بيننا أن الشاعر لا يقرأ الشعر دون غيره، وأن الفيلسوف لا يقرأ الفلسفة دون غيرها، وأن المصور قد يقرأ الروايات والروائي قد يجمع الصور ويدرس التصوير.(611/1)
ومن تجاربي التي أعلمها في الكتابة والقراءة أنني أقرأ كثيراً في موضوعات لا أطرقها ولا أنوي أن أطرقها إذا كتبت للتأليف أو للصحافة ومن هذه الموضوعات طبائع الأحياء وعجائب النبات ورحلات الأقدمين والمحدثين، وما من خليقة إنسانية أعرفها إلا أحببت أن أقابل بينها وبين نظائرها في عالم الحيوان أو عالم النبات ولكني لا أفعل ذلك تمهيداً للكتابة عنها وإن جاءت الكتابة عرضاً في بعض المناسبات.
وما زالت المطالعة ملجأ نفسياً للمطالع يأوي إليه ويحب أن يخرج إليه من شواغل دنياه. فالرجل المشغول بالمسائل الطبية أو الاجتماعية أو السياسية يروقه أن يخلو ساعة من الساعات بالشعر أو بالقصة أو بكتاب من كتب الإيمان والعقيدة، وهو إذا قرأ في كتب الإيمان والعقيدة لا ينوي من ثم أن يبشر بالدين أو يؤم الناس في الصلاة، ولكنه يستريح من حال إلى حال، ويدع الدنيا هنيهة لينفرد بضميره أو بتفكيره في مناجاة لا علاقة بينها وبين الناس.
فالاختلاف بين العالم الخاص والعالم العام في كثير من الأوقات معقول لا غرابة فيه، ومن قبيل هذا الاختلاف أن يختلف ما نقرأ وما نكتب، وأن يختلف ما يعنينا وما يعني قراءنا، فهم يقرأوننا نحن ونحن لا نقرأ أنفسنا، بل نقرأ غيرنا ولا يلزم أن يكونوا معنا طرازاً واحداً لا تنوع فيه.
لكن ينبغي أن نفرق بين هذا وبين القول بأن الكاتب يعيش في عالم غير الذي يقرأه ضرورة لا محيص عنها.
فإذا وجد من يقرأ أبا العلاء ويكتب في القانون فلا مانع ولا شذوذ، ولكنه لا يحرم عليه أن يقرأ أبا العلاء ويكتب في الزهد والأخلاق أو العقائد والديانات.
ومن البصرة أيضاً جاءتني رسالة ختمها كاتبها الأديب (الفريد سمعان) من طلبة المدرسة الثانوية بسؤال يقول فيه:
(. . . هل يكتفي الأديب أو الذي يريد أن يصبح أديباً بمطالعة الكتب التي تصدر في العصر الحاضر دون الرجوع إلى الكتب القديمة والاعتماد على المخطوطات السالفة؟)
وهذا سؤال مفيد.
وجوابه أن الاكتفاء بأدب العصر الحاضر مستطاع ولكنه ليس بأفضل الحالات.(611/2)
وتقاس حاجات النفس على الجسد بغير اختلاف يذكر في هذا المقام.
فالرجل الذي يكتفي بمحصول أرض واحدة يعيش ويأخذ بنصيبه من الحياة، ولكنه ليس بأوفى نصيب وليست عيشته الجسدية كعيشة الرجل الذي يغتذي بمحصولات البلاد على تنوعها ويأخذ من كل محصول خير ما يعطيه.
وقد يوجد في الأدباء من يكتب أو ينظم وليس له اطلاع واسع على أدب عصره ولا على آداب العصور الأخرى.
وكذلك يوجد في أقوياء الأجسام من يأكل الطعام الغث ويستفيد منه لجودة هضمه وانتظام وظائف جسده.
ولكننا عندما نضع قواعد الصحة وأصول التغذية لا نقول للناس كلوا الطعام الغث واعتمدوا عليه في تقوية الأبدان وتنظيم وظائف الأعضاء.
وعلى هذا القياس نفسه لا نقول للناس عندما نضع قواعد القراءة وأصول التثقيف والتهذيب إن الاطلاع وترك الاطلاع يستويان.
فالانتفاع بالطعام الغث شذوذ لا يقاس عليه. ومثله في الشذوذ أولئك الذين ينظمون أو يكتبون ما يحسن أن يقرأه القارئ دون أن يرجعوا إلى أدب العصر أو آداب العصور.
ومما لأمراء فيه أن الرجل الذي ينتفع بالطعام الغث يزداد انتفاعه بالطعام الجزل كلما وصل إليه، وأن الرجل الذي ينظم أو يكتب بغير اطلاع يترقى في منازل الأدب كلما استوفى حظه من المطالعة والدرس والمراجعة.
فالاكتفاء بالقليل من الأدب جائز كالاكتفاء بالقليل من كل شيء، ولكنه القليل في الحالتين ولن يكون شأنه كشأن الكثير.
ومن الحسن جداً في هذا الباب أن نذكر أن الأديب قيمة حيوية أو قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لغوية أو قيمة فنية أو تاريخية.
ويغنينا تذكر هذه الحقيقة عن الجدل أو عن اللبس في كثير من الأمور.
فالذين يقولون إن الطبيعة هو وحي الشاعر الأول الذي لا يحتاج بعده إلى وحي الصناعة:
أو الذين يقولون إن البلبل يوحي إلى الشاعر بتغريده. وإن الوردة توحي إليه بنضرتها، وإن الشفق يوحي إليه بألوانه وظلاله وخفقات الهواء فيه. . .(611/3)
كل أولئك خلقاء أن يذكروا أن القريحة التي تستفيد من تعبير عصفورة أو تعبير زهرة تستفيد ولا شك أضعاف تلك الفائدة من تعبير أبي الطيب وهوميروس وابن الرومي وبيرون وعمر الخيام، لأن قصائد هؤلاء تعبير عن الطبيعة الحية وليس قصاراها أنها لفظ يقال أو أنها فن يصاغ.
فالاطلاع على ثمرات القرائح اطلاع على ثمرات الحياة، وكلما اتسع النطاق اتسع التعبير وتنوعت الثمرات، لأنك لا تعرف الحياة الإنسانية بالإطلاع على أبناء زمانك الذين يشبهونك ويتلقون معك الشعور من مصدر واحد، ولكنك تعرف الحياة الإنسانية حق عرفانها إذا عرفت الصلة التي بين العصور المختلفة والأقطار المتباعدة، وعرفت الواشجة التي تجمع بينها على تعدد المصادر وتفاوت المؤثرات.
وليس هذا بميسور لشعراء العصر الواحد، وكيفما كان نصيب هؤلاء فهو ولا جدال دون النصيب الذي يظفر به قراء جميع العصور.
عباس محمود العقاد
-(611/4)
من مئذنة القصبة
لأمير الأمراء السيد حسن حسني عبد الوهاب
وزير القلم بتونس
من كوة هذه المئذنة الحفصية العتيقة - مئذنة جامع القصبة القائم في قلب مدينة تونس - يرسل المتأمل بصره فتتجلى له (الخضراء) كأنها برنس أبيض مفروش على شاطئ.
وأول ما يشخص أمام بصره هذه المآذن السامقة الضاربة في الجو التي تزين أفق تونس، وتقوم أدلة شاهدة على هذه العهود التي مضت، عهود الأغالبة والفواطم والحفصيين والأتراك الذين كانوا يفتنون افتناناً في إقامة هذه المآذن الرائعة يدعو عليها الداعي إلى عبادة الله، في مختلف مواقيت الصلاة.
ويا لله ما أجمل هذه القباب البيض الناصعة البياض، والخضراء الشديدة الخضرة، والصفراء الفاقعة الصفرة! كم تبعث في النفوس البهجة والغبطة! وكم توحي إلى النفس معاني من الجلال والتقديس! وكم تمتّع العين بمجال من الجمال الرائق، هذا الجمال الذي يزيده شعاع الشمس روعة وفتنة.
إن هذه المآذن والقباب لرائعة في إشراق الشمس وبزوغ القمر. إنها لسحر في الليل والنهار. إنها آية من الفن تمتع الناظر بمختلف المعارض والمناظر.
من كوة هذه المئذنة يشرف المطالع على تونس إشرافاً محيطاً فلا ينفلت من العين من معالمها، ولا يند عنها مظهر من مظاهرها.
يرى تونس العربية في شكلها الشرقي البديع، وينعم النظر فتبدو له المدينة الأوربية الحديثة بعماراتها الشاهقة وقصورها العالية.
هاهي ذي سطوح الدور العربية بيضاء مشرقة. وهاهي ذي سقوف الأسواق المقوسة تبدو كأنها مسايل من ماء منسابة. وهاهي ذي القصبة تظهر عامرة بهذه الدواوين الحكومية التي أقيمت على أشكال بعضها شرقي والآخر غربي. وهاهي ذي بحيرة تونس تلوح من بعيد وقد انعكست عليها أشعة الشمس وأرست فيها البواخر، وطار في جوها هذا الطائر الرائع النُحام (البشروش) ذو الأجنة الوردية والطيران النشوان. وهاهو ذا خليج تونس يشق الأرض شقاً والرتل الكهربي يبدو كأنه أرقم جد في هربه، ينساب في هذا البرزخ الممدود(611/5)
بين العاصمة والمصطاف التونسي البديع (حلق الوادي) الفضي الأسحار، الذهبي الأصائل. وهاهو ذا جبل (الزلاَّج) المترامي الأطراف تتوج هامته تلك القبة الخضراء القائمة في ذروته كأنها قلعة حربية، وما هي في الحقيقة إلا زاوية الشيخ أبي الحسن الشاذلي دفين عيذاب من صحراء مصر.
ومنه تنتقل العين إلى ذلك الجبل الأشم الشامخ المرهوب جبل (أبي قرنين) المطل على مربع (حمَّام الأنف) وعلى قمة هذا الجبل كان القرطاجنيون أقاموا معبداً لبعل ذي القرنين كبير آلهة الفينيقيين وما يزال التونسيون إلى اليوم يسمونه بجبل أبي القرنين.
وما تزال العين تقع من هذا الموقع الكاشف على بدائع الخضراء حتى يبدو لها من بعيد ذلك الجبل الآخر السامق الذراء (جبل زغوان) مسبح الصلحاء وخلوة العباد والزهاد، ومنبع العين الدفاقة التي تفيض بخيرات مائها النمير على العاصمة التونسية وضواحيها.
حقاً، ٍ إن تونس من هذا المكان تخلب اللب وتأسر الفؤاد. وإنك لتود ألا تبارح هذه المناظر الصباح والمباهج اللطاف، وهذا المزاج من الجلال والجمال والماضي والحاضر، والذوق الشرقي والغربي الذي عمل في تكوين تونس، في هندامها الأنيق، وتخطيطها الدقيق، وحسن موقعها، وإحاطة الجبال والهضاب بها إحاطة الهلال؛ اللهم إلا ما يصل بين البر والبحر.
إن موقع تونس الجغرافي لبديع غاية الإبداع، هي بحرية كأنها جزيرة، وهي برية كأنها صحراء. فهي تجمع بين الضب والنون كما يقول الجاحظ في مدينة البصرة.
أما ترى البحر كيف يهاجم بأمواجه هذا المرفأ، فهي تصطفق وتموج وتصخب، حتى إذا ما اصطدمت بهذه الحواجز القائمة على الساحل انثنت مبددة متناثرة، وما هي إلا لمحة حتى تتجمع موجة أخرى هاجمة تريد أن تشفي صدرها من صدمة هذه الحواجز، ولكنها تنهزم مع صاحبتها الأخرى، فلا الموج يكف عن الهجوم ولا الساحل يلقي سلاح المقاومة. . .
أما ترى هذه الهضاب المحدقة بتونس، كأنها جيوش جرارة نصبت لحراسة الخضراء، أعلامها أشجارها، وعدتها صخورها، وهيبتها شموخها، وخيلاؤها ارتفاع رأسها في الجو.
بحر إن شئت حدثك عن الأساطيل القرطاجنية، والأغلبية والفاطمية، وكيف شقت صفحته هذه الأساطيل الغازية لتونس، الحارسة لسواحل البحر الأبيض المتوسط، فكأنها اسود(611/6)
البحر، لكنها تدفع الشر وتجلب الخير.
وجبال إن شئت نبأتك عن مدنية قرطاجنة وعن حضارة الأغالبة والفواطم والحفصيين والأتراك، وحدثتك أحاديث القرون الغابرة، والأجيال العابرة، التي مرت بهذا القطر على سواحل البحر الأبيض المتوسط وضفاف أودية الصحارى الأفريقية، جبال تصور لك الشمس وهي مائلة إلى الغروب، مرسلة شعاعها العسجدي العليل على مآذن تونس، والمؤذن ينتظر ليدعو الناس إلى الشكر والحمد. وتريك ضوء الفجر ينشر في الآفاق رواءه والمؤذن أيضاً يجهز بدعائه: الصلاة خير من النوم!
حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي(611/7)
على قبر المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب
ما أجدر هذه الأبيات أن تنقش عند ضريح الشاعر، وأي كلام أولى بقبر أبي العلاء من أبياته في صفة قبره؟ طال وقوفنا وتأملنا واعتبارنا إلى هذا الحدث، قارئين فيه فلسفة أبي العلاء القائل.
لو نُخِل الناس لما حصْلت ... شيئاً سوى الموت يد الناخل
والفكر يحلق في أرجاء العالم، ويعبر صحف الحياة ثم يقف على هذا القبر كما يقع الطائر بعد طول تحليق وتدويم.
فيالك قبراً على قربه ... تظل العقول به في سفر
ويالك قبراً كعين البصير ... يحوي العوالم فيها صِغرَ
وتكلم على القبر الدكتور طه حسين والدكتور مهدي البصير وأنشدت قصيدة معروف الرصافي، ولكن كان سكون هذا الجندل أبلغ. كان هذا السكوت أغلب على السمع والقلب من كل قول. إن هذا السطر المسمّى الضريح بيتُ المقطع من شعر الفيلسوف الحزين. إن هذه الصفيحة الجاثمة على قبره وقد ألحَّ عليه البلى ألف عام لكلمة في فلسفة المعري جامعة. لا أدرى أأقول إنها عنوان وراءه كل ما قال الشاعر في الحياة والموت، أم أقول إنها توقيع الزمان مصدقا كل ما أنشد الشاعر في البلى والفناء والزوال.
ثم دخلنا إلى الحجرات التي شيدت وراء القبر لتتخذ خزائن لمكتبة المعري. وانصرف الزائرون يسلكون الشارع الكبير إلى دار مضيّفنا. وسلكت في صحبة سعادة الأستاذ كرد على دربا عتيقا ضيقا إلى هذه الدار، الدار التي أكرمت وفادتنا قبل أربعة عشر عاما، دار حكمت بك الحراكي. وهي من دور الشام القديمة ظاهرها قلعة وباطنها روضة. وكانت الدور الكبيرة في تاريخنا تبنى ليسكن إليها أهلها وينعموا فيها ويستكنوا، وكانت حرما لأهلها، ومنتدى للصَحب والجيرة. فلما قُلبت معيشتنا، قلبت الدور فصار باطنها ظاهرَها، وزالت حُرمتها وحصانتها وهجرها أهلها إلى النوادي العامة.
اجتمع الضيوف في قاعات الدار وفي حديقتها حول الأحواض والنافورات وقد صفت(611/8)
قلوبهم ونضرت وجوههم، وتحدثوا في ماضيهم وحاضرهم. ثم اجتمعوا على المائدة فكهين فرحين يذكرون المعري ويذكرون الأدب العربي والأمة العربية كلها. ورب الدار وأولاده وأقاربه قائمون يتنافسون في خدمة الضيفان مبالغة في الاحتفاء والإكرام.
وقدّمت الفواكه فيها تين المعرة وهو أخضر كبير حلو. قلنا لهذا رغب أبو العلاء في التين وجعله حلاوته قال:
يُقنعني بُلسُن يمارس لي ... فأن تكن حلاوة فبَلَس
والبلس التين.
وقال ياقوت في معجم البلدان عن أهل المعرة: (ماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين).
خرجنا بعد هزيع من الليل والقمر يترقرق نوره على بلدة أبي العلاء الحبيبة - كانت - إليه، وفيها يقول وهو ببغداد:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تغيث بها ضمآن ليس بسال
فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من العيش فلينعم لساكنك البال
فان أستطع في الحشر آتِك زائراً ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال
وضربنا صوب الشمال نقصد حلب.
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
والسيارات تجدّ في سكون الليل لا يُسمع إلا دويها ولا يرى معها إلا ظلالها. ورحم الله أبا العلاء كأنه عناها حين قال:
ولما لم يسابقُهنَّ شيْ ... من الحيوان سابقن الظلالا
وكان حديثنا أفانين في تاريخنا وحاضرنا وذكرى أبي العلاء وبعض الشعراء لا سيما أبو الطيب المتنبي، وتأبى مكانة أبي الطيب إلا أن تصله بكل حديث عن الأدب أو جدال فيه. وصدق الأستاذ النشاشيبي حين يقول: ما تلكم اثنان في الأدب إلا دخل معهما المتنبي خصما ثالثاً. وكم أنشدنا من شعر أبي الطيب في مسيرنا هذا وردّدنا الحديث بينه وبين المعري المعجَب به. وكيف لا نذكر المتنبي ونحن على مقربة من حلب التي ما برحت(611/9)
تدوّي بشعره منذ أنشده فيها.
طاب لنا أن نقيس فلسفة الشاعر الحزين اليائس رهن المحبسين بفلسفة الشاعر الساخط المتكبر الآمل الرّحال الجوال، صفحتان في الأدب خالدتان، وسيرتان في الحياة مختلفتان، وهما في الحق متقاربتان، على عكس ما قال أبو الطيب:
وقد يتقارب الوصفان جدا ... وموصوفاهما متباعدان
وأقبلت حلب بِذكَرها، وأشرفنا عليها في حشد من التاريخ نكاد نسمع البحتري والمتنبي والصنوبري، ونبصر ازدحام الوفود على أبواب سيف الدولة، والجيوش ذاهبة لحرب الروم وآبية والخطوب في مدها وجزرها، والزمان في نعيمه وبؤسه.
ودخلنا المدينة وكاد الليل ينتصف، والقمر يجلو محاسنها، ويجمل ذكرياتها وعلى ألسنتنا قول الصنوبري،
حلب بدر دجى ... أنجمها الزهر قراها
أي حسن ما حوته ... حلب أو ما حواها
حلب أكرم مأوى ... وكريمٌ من آواها
بسط الغيث عليها ... بُسط نَور ما طواها
وكساها حُللا ... أبدع فيها إذ كساها
ولم ننس أبيات كشاجم، وكيف ينسى زائر حلب هذا الشاعر المبدع.
أرتك يدا الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها
وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها
هي الخلدُ يجمع ما يُشتهى ... فزُرها فطوبى لمن زارها
وأوينا إلى فندق بارون حيث لقينا وجوها معروفة تبالغ في الحفاوة بنا، من حكام حلب وعلمائها وأدبائها، وبينهم شباب نجباء كانوا تلاميذ لنا في جامعة القاهرة.
وأصبحنا نجول في أرجاء المدينة نشهد آثارها وما شاده العمران الحديث فيها، ونمشي في أسواقها المعمورة التي عرفتها العصور القديمة والحديثة. رأيت القلعة العجيبة وكنت دخلتها مرات من قبل وذكرتها في رحلاتي فلا أعود إلى وصفها ولكن أكتفي بكلمة لياقوت لم أنقلها في الرحلات:(611/10)
(وأما قلعتها فيها يضرب المثل في الحسن والحصانة. لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض. وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندَم بتراب صح به تدويره. والقلعة مبنية في رأسه ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة)
وقد أخبرت أن آثاراً لسيف الدولة عثر عليها في القلعة أخيراً، إلى ما رأينا فيها من آثار الأيوبيين والمماليك وغيرهم.
وكانت جولتنا في الأسواق قصيرة ممتعة جامعة. سرّنا ما رأينا من عظم الأسواق والخانات، وأعجبتنا بدائع الصناعات الحلبية. وحلب منذ العصور القديمة معروفة بتجارتها وصناعتها ولأهلها بصر بالتجارة وعناية بها، وأسفار في سبيلها.
وقد حدثني أحد تجار حلب بهذه الفكاهة:
قال رجل لآخر: لا يخلو قطر في الأرض من حلبي. فما رآه الرجل في هذا وقال: إني ذاهب إلى الهند وما أحسبني أجد فيها حلبياً، وسأنظر. فلما جال الرجل في أرجاء الهند وجد قبرا كتب عليه: (هذا قبر فلان الحلبي الأعرج)
وقال ياقوت:
(وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير أموالهم، فقل أن ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك. فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، يتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان).
وأنا أرجو أن يدوم أهل حلب على هذه السيرة الطيبة النافعة إن شاء الله.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(611/11)
سهام ماضية
للدكتور محمد مندور
هناك ثلاث رذائل كبيرة تنخر في أخلاق الكثير من المصريين على نحو لم أر له شبيها في بلد من بلاد العالم على كثرة ما رأيت من بلاد وقابلت من بشر، ولا بد من أن نفضحها لعلها تخفي عن نواظرنا شبحها المرذول فقد سئمت لقياها في كل سبيل وبمنحني كل نفس.
أما أولاها فهي محاولة كل إنسان أن يوهمك أنه أكبر وأفضل وأعلم مما هو. ولقد كان من عادتي الصبر فكنت أتلقى هذه الدعاوي بصدر رحب، ولكنني لم أكن ألبث أن أحس بنوع من اختلاس الثقة يحاوله من يتخطى حدود نفسه. وليس أمر على النفس ولا أهيج للحفيظة من خيبة الأمل. وإنه لمن اليسير على من أوتى شيئاً من الفراسة وسداد الرأي أن يحكم على الناس وينزلهم منازلهم الحقة؛ وإنه لمن الخير لنا جميعاً أن نحاول دائما احتلال المكان الذي نستحقه في النفوس دون تطاول أو انحطاط، وأما الإقحام فما نظنه يعقب أثراً باقيا حتى ولا بنفوس البله. ولست في الحق بواثق من أن أمثال هؤلاء الناس الذين نشكو منهم الآن مر الشكوى يعون ما يفعلون، أم هم في غفلة الغرور. ولكنني لاحظت في الغالب الأعم أنهم مشربون بحقارتهم، وأنهم يبذلون مجهوداً إراديا لتغطية تلك الحقارة بالإيهام. وذلك لما نلاحظه من هياج في الحركات وضغط على مخارج الحروف وتصنع للانفعال وارتفاع في الصوت وهلهلة في ملامح الوجه وتنطع في السكون والحركة.
وثانيتهما غيرة مسرفة وحقد عجيب. ولكم ساءلت نفسي لماذا يشغل الناس أنفسهم بغيرهم إلى هذا الحد المدمر، وتلك مشاعر خليقة بأن تنزل بالنفس الخراب. والذي عهدته في النفوس القوية هو نزوعها المستمر إلى التسامي بذواتها. فهي تسعى لأن تكون في يومها خيرا من أمسها، وأن تعمل في غدها ما يبذ عملها في حاضرها.
فإذا عز التسامي كان الاستجمام في الثقة وتوثب. وأما أن يفنى المرء بياض يومه وسواد لياليه في التفكير فيما وصل إليه هذا الشخص أو ذاك، أو الخوف من أن يسبقك زيد أو بكر فهذا شعور صغير لا تعرفه إلا نفس صغيرة، وهو دليل عدم الثقة بالنفس كما هو دليل على انهيار الشخصية، وإن كان هناك شعور قبيح من مشاعر البشر فأجدر به أن يكون هذا الشعور.(611/12)
وثالثها فساد عميق في تربية الناس الاجتماعية. فقد تلاقي صنوفا من الأفراد بعضهم صغير وبعضهم كبير، ولقد تتلطف مع الصغير بدافع إنساني برئ ظانا أنك بعملك هذا تدخل السرور على نفس بشرية، فإذا بك وقد سقطت هيبتك من قلبه، وإذا به يتطاول إلى المساس بك في غير ذوق ولا حياء. ولقد تفسح في صدرك، ثم يأتي يوم يتحرك دمك فإذا بك ترد في عنف، وإذا بالمسكين يصحو بعد غفلة، وإذا به يشكو دون أن يفهم شيئاً أو يدرك له محنة. وإذا كان كبيرا ولكنه صغير النفس وعاملته في رفق وتأدب ظن معاملتك ضعفا، أو خيل إليه وهمه ذلك، فإذا جاء يوم وصفعته صفع الأقوياء لأنك رجل عزيز النفس حامي الدماء أسقط في يده وأخذه إما عناد الحمقى وإما انهيار الأذلاء. ولست أدري لذلك من سبب غير فساد التربية الاجتماعية، فسادها في المنزل وفي المدرسة وفي الوظيفة وفي الشارع وفي الدكان وفي المصرف وفي كل مكان، حتى لكأنك تسير في بلد كله أرقاء، سيان في ذلك سيدهم ومسودهم، رئيسهم ومرؤوسهم، بلاد منكودة وأخلاق مسفة! أي عذاب نفسي في أن تراك مضطرا إلى تقدير كل لفظ تقول وكل حركة أو ابتسامة أو تقطيب جبين! أناس لا فهم لهم ولا تقدير، لا يعرفون حداً يبدأون منه ولا حداً ينتهون إليه أنعام سائمة! ترى أباستطاعتك أن تخلق لنفسك عقلية جديدة وذوقا جديدا وتربية جديدة تماشي بها الناس، أم تأخذك العزة فتثبت كما أنت محاولا أن تنقل العقول وتحول الأذواق وتسدد التربية لتستطيع أن تتفاهم مع الناس أو أن تقبلهم أو تطيق عليهم صبرا. هذه أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها غير الله فإليه نفوض الأمر.
محمد مندور(611/13)
يوحنا الدمشقي
للدكتور جواد على
- 2 -
ذكرنا أن يوحنا جادل المسلمين في طبيعة المسيح، وأنه وضع خطة للمسيحيين وجادة ثابتة للبحث والمناظرة استهلها بهذه الكلمة: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم بعد ذلك بم سُمَّي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فإن أجاب بذلك، فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذاً كان ولم تكن له كلمة ولا روح. فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
قال المستشرقون: أثار يوحنا بهذا السؤال وبأمثاله مشاكل خطيرة في الإسلام كمشكلة (خلق الأفعال) ومشكلة (خلق القرآن) ومشكلة (صفات الله) وإضرابها. لأنه استدرجهم على رأيهم بهذه الأسئلة والأجوبة إلى أمور لم يكن المسلمون يخوضون فيها. وهو رأي لا يسمح لنا الموقف بالتعرض له لأننا في موضع ترجمة شخص لا في موضع مناقشة آراء.
على أن في كتب الأخبار والفرق والتواريخ ما يتعارض مع كثير من عقائد مذهب المستشرقين. وما بالنا نذهب بعيداً وفي عبارة يوحنا نفسها ما يفند هذا الرأي ويدحض هذا الزعم؟ جاء على لسانه: (فسيفحم هذا العربي لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين)، ومعنى هذا أن جماعة من المسلمين كانت تتباحث في صفات الله أهي قديمة أزلية أم حادثة ومن جملة ذلك كلام الله. والمعروف أن جعد بن درهم الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحية، والذي كان أستاذ مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية كان من القائلين بخلق القرآن.
وأما (القدر) والقدرية فقد وردت في القرآن الكريم آيات تدل على أن الإنسان مخير قادر على أفعاله. كما وردت آيات تدل على عكس ذلك، وقد ورد مثل ذلك في الحديث.(611/14)
ويستشهد (المعتزلة) ومن يذهب مذهبهم على صحة دعواهم بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث من أقوال الرسول. وقد ورد على لسان الصحابة ما يدل على أن بعض أصحاب رسول الله كانوا يذهبون هذا المذهب. خذ ما جاء في كتاب (نهج البلاغة) لما سئل الإمام علي بن أبي طالب (أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر)، وقد أجاب الإمام (بكلام طويل هذا مُختاره).
(ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حاتماً. ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إن الله سبحانه أمر العباد تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يطع مُكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
وروي عن على كل ما يخالف هذا الكلام، يرويه أصحاب نظرية (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه). وروي عن نافع أن رجلا جاء إلى ابن عمر، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام. فقال ابن عمر: أنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر، فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني عليه السلام).
وذكر ابن العبري أن معاوية بن يزيد الأول كان قدرياً (من المؤمنين بالاستطاعة)، وأن عمراً المقصوص كان قد علمه ذلك فدان به وتحققه، ولم يزل به حتى أفسد رأيه فلم يقبل بالخلافة، فوثب بنو أُمية على عمرو المقصوص وقالوا أنت أفسدته وعلمته، فطمروه ودفنهو حيَّا.
إلى آخر ما هنالك من أخبار تدل على أن (القدرية) أو (قدرة الإنسان على خلق أفعاله) كانت قد انتشرت لدى المسلمين قبل أن ينشأ يوحنا بل وقبل جداله مع المسلمين. وأن هذه الفكرة كانت قد اتخذت شكلا اجتماعياً سياسياً خطيراً. روي (أن رجلا قال لابن عمر: ظهر في زمامنا رجال يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله ثم يحتجون علينا ويقولون: كان ذلك في علم الله: فغضب ابن عمر وقال: سبحان الله، كان ذلك في علم الله، ولم يكن علمه يحملهم على المعاصي).(611/15)
وكان بنو أمية باستثناء نفر منهم يكرهون القدرية ومن كان يقول بها، وقد نكلوا بالقدريين كل التنكيل، ولذلك لم يكن المعتزلة وهم خلفاء القدريين يعطفون على الأمويين.
(وبنو أمية كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا ديناً فقط، ولكن سياسياً كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء ودولتهم بقضاء الله وقدره. فيجب الخضوع للقضاء والقدر).
كذلك أتى عطاء بن يسار ومعبد الجهني الحسن البصري وقالا: يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري على قدر الله تعالى.
فلأحداث السياسية التي حدثت بعد وفاة الرسول، والأوضاع الاجتماعية هي التي أثارت تلك المشكلة التي وردت في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول مع غيرها من المشاكل التي كان الصحابة يحجمون عن الخوض فيها وأعني بها مشكلة المتشابهات.
روى العلماء أنه (في عهد الفاروق رضي الله عنه، أخذ رجل يقال له صبيغ بن عسل يسأل عن المتشابه ويتكلم فيما لا يعنيه مما قد يحدث فتناً بين العامة، فطلبه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، وقال عمر: أنا عبد الله عمر. فأخذ يضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه. فقال صبيغ: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة حتى صلح حاله.
وعلى كل فقد حدثت هذه المشكلة، مشكلة القدر والاستطاعة قبل أن يخلق يوحنا بزمن، فلا يصح إذاً أن يقال بأن يوحنا كان هو مثير هذه المشكلة في الإسلام، وأن نظرية (القدر) دخلت عن طريق النصرانية وحدها إلى الإسلام بدليل ظهور هذه المشكلة في الشام، والشام ملتقى النصرانية في الجزيرة العربية، وبظهور هذه المشكلة في العراق على يد نصراني يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، وكان أول من نطق في القدر، وعنه أخذ معبد الجهني، وعن معبد هذا أخذ غيلان الدمشقي. فقد رأينا على أن القول بالقدر كان قديماً وعلى أنها لم تقتصر على الشام والعراق، بل ظهرت في الحجاز كذلك بنفس الوقت الذي ظهرت فيه الفتن السياسية، إن لم يكن قبل ذلك. وفي رواية ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك ما فيه الكفاية والتسليم. ولا عبرة أيضاً بإسناد كتب الفرق هذه الفكرة إلى نصراني معين أو مجهول فقد عودتنا هذه الكتب نسبة الفرق المخالفة إلى اليهودية أو المجوسية أو(611/16)
الوثنية والديصانية، وهي عادة كانت متبعة لدى جميع أهل الأديان.
(يتبع)
جواد علي(611/17)
على هامش النقد
التناسق الفني في تصوير القرآن
للأستاذ سعيد قطب
قلنا: إن القرآن يرسم صوراً ويعرض مشاهد، فينبغي أن نقول: إن هذه المشاهد وتلك الصور، يتوافر لها أدق مظاهر التناسق الفني في ماء الصورة، وجو المشهد، وتقسيم الأجزاء، وتوزيعها في الرقعة المعروضة.
والذي نعنيه هو:
أولاً: ما يسمى (بوحدة الرسم). وحتى المبتدئون في القواعد يعرفون شيئاً عن هذه الوحدة، فلسنا في حاجة إلى شرحها. ويكفي أن نقول القواعد الأولية للرسم تحتم أن تكون هناك وحدة بين أجزاء الصورة، فلا تتنافر جزيئاتها.
وثانياً: توزيع أجزاء الصورة - بعد تناسبها - على الرقعة بنسب معينة حتى لا يزدحم بعضها بعضا، ولا تفقد تناسقها في مجموعها.
وثالثاً: اللون الذي ترسم به، والتدرج في الظلال، بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة والموضوع.
والتصوير بالألوان يلاحظ هذا الانسجام، ويقع شيء منه في بعض المشاهد المسرحية والسينمائية المبدعة. والتصوير في القرآن يلاحظ هذا كله، وإن كانت وسيلته الوحيدة هي الألفاظ. وبذلك يسمو الإعجاز فيه على تلك المحاولات.
1 - خذ سورة من السور الصغيرة التي ربما يجسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان أو حكمة السجاع. خذ سورة (الفلق).
فما الجو المراد إطلاقه فيها، إنه جو التعويذة، بما فيه من خفاء وغموض وإبهام، فاسمع:
(قُلْ: أَعوذُ بربِّ الفَلَقْ. من شرِّ ما خَلَق. ومن شرِّ غَاسِق إذا وَقَب. من شرِّ النفّاثات في العُقدَ. ومن شر حاسد إذا حسد).
فما الفلق الذي يستعيذ بربه؟ نختار من معانية الكثيرة معنى الفجر، لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام ما سيأتي: مما خلق ومن الغاسق، ومن النفاثات، ومن الحاسد، ولأن فيه إبهاما خاصاً سنعلم حكمته بعد قليل.(611/18)
يعوذ برب الفجر (من شر ما خلق) هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير والشمول يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم. (ومن شر غاسق إذا وقب) الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء، ويمسى مرهوباً مخوفاً. (ومن شر النفاثات في العقد) وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هن لا ينفثن غالباً إلا في الظلام. (ومن شر حاسد إذا حسد) والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك.
الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض. وهو يستعيد من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء. فلم خصصه هنا (برب الفلق)؟. . . لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان المتبادر إلى الذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكم هنا هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد. . . و (الفلق) يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور.
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد؟
هي من ناحية: (الفلق، والغاسق) مشهدان من مشاهد الطبيعة ومن ناحية (النفاثات في العقد، وحاسد إذا حسد) مخلوقان آدميان.
وهي من ناحية: (الفلق) و (الغاسق) مشهدان متقابلان في الزمان. ومن ناحية: (النفاثات) و (الحاسد) جنسان متقابلان في الإنسان.
وهذه الأجزاء موزعة على الرقعة توزيعاً متناسقاً. متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق. وكلها ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفها الغموض والظلام. والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان.
ليس في هذا البيان شيء من التمحل، وليست هذه الدقة كلها بلا هدف. وليس هذا الهدف حلية عابرة. فالمسألة ليست مسألة ألفاظ أو تقابلات ذهنية. إنما هي مسألة لوحة وجو وتنسيق وتقابلات تصويرية تعد فناً رفيعاً في التصوير، يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير.
2 - عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر، وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها (هامدة)(611/19)
ومرة بأنها (خاشعة) وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير. فالنظر كيف وردت هاتان الصورتان:
لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو:
(1) وردت (هامدة) في هذا السياق (يأيها الناس: إن كنتم في ريب من البعث، فأنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، فم من علقة، ثم من مُضْغة مُخلّقة وغير مخلقة؛ لنبيَّين لكم، ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذل العُمر، لكي لا يعلمَ مِنْ بعد علمِ شيئاً، وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج).
(ب) ووردت (خاشعة) في هذا السياق: (ومن آياته الليلُ والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن، إن كنتم إياه تعبدون، فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)
وعند التأمل السريع في هذين السياقين، يتبين وجه التناسق في (هامدة) و (خاشعة). إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (هامدة) ثم تهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج.
وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، فما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (خاشعة) فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت.
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا، الإنبات والإخراج كما زاد هناك، لأنه لا محل لهما في جو العبادة والسجود. ولم تجيء (اهتزت وربت) هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك. إنهما هنا تخَّيلان حركة للأرض بعد خشوعها، وهذه الحركة هي المقصودة هنا، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة، فلن يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة. فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنا وكل الأجزاء تتحرك من حوله. وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة، يسمو على كل تقدير.
ويحسن أن نلاحظ أن الهمود والخشوع يتحدان في المعنى العام، ويستدل بهما في الآيتين(611/20)
على قدرة الخالق على البعث، فما هما إلا سكون أو خمود، تعقبه الحركة والحياة، فلو كان المقصود هو مجرد أداء المعنى الذهني، لما كانت هناك ضرورة لهذا التنويع. ولكن التعبير القرآني لا يرمي إلى مجرد أداء المعنى الذهني، إنما يريد الصورة كذلك، والصورة تقتضي هذا التنويع، ليتم التناسق مع الأجزاء الأخرى في اللوحة، أو في المشهد المعروض
ودلالة هذا التنويع حاسمة في أن (التصوير) مقصود قصدا في أسلوب القرآن؛ وأن التعبير لا يقصد إلى أداء المعنى الذهني مجردا، إنما يعمد إلى رسم صور للمعاني، تختلف هذه الاختلافات الدقيقة اللطيفة حسب اختلاف الأجزاء والألوان
ثم لننظر الآن إلى (وحدة الرسم) في كل من الصورتين وفي أجزاء الصورة كذلك.
وحدة الصورة الأولى هي: مخلوقات حية تخرج من الموت أو مشاهد حياة، والأجزاء هي: نطفة تدرج في مراحلها المعروفة ونبتة تصير زوجا بهيجاً. وهي تراب ميت تخرج منه هذه النطفة، وأرض هامدة تخرج منها هذه النبتة والجو العام هو جو الإحياء المرتسم من هذه الأجزاء
ووحدة الصورة الثانية هي: مخلوقات طبيعية عابدة، أو مشاهد طبيعية. والأجزاء هي: الليل والنهار، والشمس والقمر، والأرض خاشعة لله. تموج فيها وتتصل بها جماعتان من الأحياء مختلفتا النوع متحدتا المظهر: جماعة من الناس تستكبر على العبادة، وجماعة من الملائكة تعبد بالليل والنهار. والجو العام هو جو العبادة المرتسم من هذه الأجزاء.
وهكذا تتناسق الجزئيات مع الجو العام، وتتحد جزئيات الصورة الواحدة تحقيقاً لوحدة الرسم وتوزع الأجزاء في الرقعة بهذا النظام العجيب.
3 - عرض القرآن في مواضع مختلفة كثيراً من صور النعمة التي أفاءها الله على الإنسان، وفي كل موضع كان يعرض مجموعة من النعم، متسقة (الوحدة) على هذا النحو الذي نعرضه في موضعين للتمثيل:
(ا) (والله جعل لكم من بيوتكم سكناً، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها أثاث ومتاعا إلى حين).
(والله جعل لكم مما خلق ظلالا، وجعل لكم من الجبال أكناناً، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم. كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)(611/21)
(ب) (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها - من بين فَرثِ ودم - لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
(ومن ثمرات النخيل والأعناب، تتخذون منه سكَراً ورزقاً حسنا. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
(وأوحى ربك إلى النحل: أن أتخذى من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)
يلاحظ في هذين السياقين أن الأنعام مذكورة فيهما على السواء، فلننظر من أي الجوانب عرضت في كل سياق، ولماذا عرض هذا الجانب، وذلك الجانب هناك.
(ا) السياق الأول يرسم صورة أو مشهداً للبيوت، والأكنان والظلال، والسرابيل، وكلها مما يلاذ به، أو يستتر، أو يستظل أو يحتمى. ولأن هذا هو (وحدة الرسم) عرض من (الأنعام) الجانب الذي يتفق مع هذه الوحدة. عرض الجلود التي تتخذ بيوتاً تستخف يوم الظعن، والأصواف والأوبار والأشعار التي تتخذ أردية وأثاثاً.
(ب) والسياق الثاني يرسم صورة أو مشهداً لاستخراج. الأشربة: السكر الذي يستخرج من الثمار، والعسل الذي يخرج من النحل. ولأن هذه هي (وحدة الصورة) عرض من الأنعام الجانب الذي يناسب الأشربة. عرض اللبن السائغ للشاربين.
ولم تقف دقة التنسيق عند وحدة المنظر العامة، بل تمشت إلى دقائق الجزئيات: فهذا السكر يستخلص من الثمرات المخالفة في هيئتها وطبيعتها للعسل، وهذا اللبن يستخرج من بين فرْثٍ ودم المخالفين في هيئتهما وطبيعتهما للبن؛ فهي كلها تستحيل من أشياء أخرى. ثم المنظر كله منظر زراعي حيواني.
ألا أنه الإبداع في دقة التصوير، وفي تناسق الإخراج. ومثل هذه اللمسات الدقيقة التي تستوعب دقائق الجزئيات كثير في القرآن، نكتفي منه بهذه الأمثلة، ونضيف إليها المثال التالي لماله من دلالة خاصة!
4 - (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما).(611/22)
فالصورة صورة مبايعة بالأيدي، ولتنسيق الجو كله، جعل (يد الله فوق أيديهم) واستخدم هذا التجسيم في موضع التجريد المطلق، والتنزيه الخالص.
وعلماء البلاغة يسمون مثل هذا: (مراعاة النظير) ويعنون منه الجانب اللفظي، لأنهم لم يحاولوا أن يلحظوا جانب التصوير، ونحن نأخذ تعبيرهم نفسه (مراعاة النظير) ونعني به جانب التناسق الفني في الصورة، للمحافظة على (وحدة الرسم) وعلى جو المشهد وعلى الانسجام العام.
ولكن القرآن لا يستخدم في التصوير هذه (اللمسات الدقيقة) وحدها، إنما يستخدم كذلك (اللمسات العريضة) (ونحن نعبر بلغة التصوير لأننا في الواقع أمام تصوير قبل التعبير) هذه اللمسات العريضة قد تجمع بين السماء والأرض في نظام، وبين مشاهد الطبيعة ومشاهد الحياة في سياق. حيث تتسع رقعة الصورة لهذا كله على أساس من (الوحدة الكبيرة) بدل (الوحدة الصغيرة)
1 - من ذلك: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت؟)
فهذه ريشة تجمع بين السماء والأرض والجبال والجمال، في مشهد واحد، حدوده تلك الآفاق الوسيعة من الحياة والطبيعة، والملحوظ هنا هو (الضخامة) وما تلقيه في الحس من استهوال، والأجزاء موزعة بين الاتجاه الأفقي في السماء المرفوعة والأرض المبسوطة، والاتجاه الرأسي بينهما في الجبال المنصوبة، والإبل الصاعدة السنام. وهذه دقة تأخذها عين المصور الدقيقة في الأشكال والأحجام.
ومما يلاحظ هنا بعين المصور كذلك أن لوحة طبيعية تشمل السماء والأرض والجبال، لا يبرز فيها من الأحياء إلا الجمال، أو ما هو في حجم الجمال! والجمل هو الحيوان المناسب، لأنه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء والجبال!
2 - ومن هذا النحو - مع تغيير في مواضع اللمسات:
(ولقد جعلنا في السماء بروجاً، وزيناها للناظرين، وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من اسْتَرَق السَّمَْع فأْتبعهُ شهاب مبين. والأرض مددناها. وألقينا فيها رواسيَ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين).(611/23)
ففي السماء بروج ضخمة، وشهب تنقض على المردة. وفي الأرض الممدودة رواسٍ راسخة، ونبت (موزون) (لا (بهيج) لطيف!) وفي الأرض كذلك (معايش) بهذا الجمع والتكثير، وفيها من لا يرزقه الناس بهذا التهويل والتنكير. . . وهذه مشاهد وحدتها الضخامة الحسية والمعنوية.
3 - وقد تتسع الرقعة ويتطاول المدى وتعرض اللمسات، ولكنها تدق في النهاية حتى تتناول الجزئيات:
مثال ذلك: (إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير).
فهذه رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل والمنظور، والغيب السحيق، وفي خواطر النفس ووثبات الخيال، ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي بلفظه وحقيقته عن العيان، والرزق في الغد وهو قريب في الزمان مغّيب في المجهول، وموضع الدفن وهو مبعد في الظنون.
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء، ولكن اللمسات العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها، تدق في أطرافها، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول، وتقف بها جميعاً أمام كوة صغيرة مغلقة، لو انفتح منها سَمّ الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ولا نكشف القاصي منها والدَّان.
ذلك أفق واحد من آفاق التناسق الفني في تصوير القرآن ووراءه آفاق أخرى وآفاق!
سيد قطب(611/24)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
632 - فافطن لأمرك. . .
قال أبو حيان التوحيدي: جرى بيني وبين أبي على مسكويه شيء: قال لي مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد - في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة: لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق.
فقلت - بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف -: أيها الشيخ! أسألك عن شيء واحد فاصدق فإنه لا مدبَّ للكذب بيني وبينك، لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه أكنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذراً ومفسداً أو جاهلاً بحق المال، أو كنت تقول: ما أحسن ما فعل، ويا ليته أربى عليه. فان كان الذي نسمع على حقيقته فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف في الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار المختار؛ فافطن لأمرك.
633 - وأكره أن يكون على دين
خطب أعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصداق؟ وارتفع السَّجْف فرأى شيئاً كرهه؛ فقال والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون علىْ دين. . .
634 - نحن إلى إمام فعال أحوج منا إلى إمام قوال
في (محاضرات الراغب):
كان أبو بكر بن قريعة (قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد) من عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالأجوبة عن جميع ما يسأل عنه في أفصح لفظ، وأملح سجع. وكان رؤساء ذلك العصر والعلماء يداعبونه ويكتبون له المسائل الغريبة المضحكة فيكتب الأجوبة من غير توقف ولا يكتب إلا مطابقاً لما سألوه. فمن ذلك ما كتب به بعض الفضلاء: ما يقول القاضي (أيده الله تعالى) في رجل سمّى ولده مداماً، وكنّاه أبا الندامى، وسمى ابنته الراح، وكناها أم الأفراح، وسمى عبده الشراب، وكناه أبا الإطراب، وسمى وليدته القهوة، وكناها أم النشوة، أينهى عن بطالته، أم يؤدب على خلاعته؟(611/25)
فكتب تحت السؤال: لو نُعت هذا لأبي حنيفة، لأقعده خليفة، وعقد له رأيه، وقاتل تحتها من خالف رأيه. ولو علمنا مكانه، لقلبنا أركانه. فان أتبع هذه الأسماء أفعالا، وهذه الكنى استعمالا، علمنا أنه أحيا دولة المجون، وأقام لواء ابنه الزرجون، فبايعناه وشايعناه. وإن تكن أسماء سماها ماله بها من سلطان خلعنا طاعته، وفرقنا جماعته؛ فنحن إلى إمام فعال، أحوج منا إلى إمام قوال.
635 - يمشي في جنازته
في (معجم البلدان) لياقوت:
مسعر بن مهلهل في رحلته: بلغنا أن نصر بن أحمد السعيد الساماني (صاحب خراسان وما وراء النهر) عمل قبره قبل وفاته بعشرين سنة، وذلك أنه حدّ له في يوم مولده مبلغ عمره، وأن موته يكون بالسل، وعرف اليوم الذي يموت فيه، فخرج يوم موته إلى خارج بخارا، وقد أعلم الناس أنه ميت في يومه ذلك، وأمرهم أن يتجهزوا له بجهاز التعزية والمصيبة، فسار بين يديه ألوف من الغلمان وقد ظاهروا اللباس بالسواد، ثم تبعهم نحو ألف جارية، ثم جاء عامة الجيش والأولياء حاثين التراب على رؤوسهم، واتصلت بهم الرعية والتجار في بكاء شديد. وشهر هو نفسه بضرب من اللباس، ثم جاء أولاده يمشون بين يديه حفاة وبين أيديهم وجوه كتابه وخدمه وقواده، ثم أقبل القضاة والعلماء يسايرونه في غم وكآبة، وأحضر سجلا كبيراً ملفوفاً فأمر القضاة والكتاب بختمه، وأمر نوحاً ابنه أن يعمل بما فيه. واستدعى شيئاً من حساء في زبدية من الصيني ثم تناول منه شيئاً ثم تغرغرت عيناه بالدموع وتشهد، وقال: هذا آخر زاد نصر من دنياكم، وسار إلى قبره ودخله وقرأ عشراً فيه، واستقر به مجلسه، ومات. . .!!!
636 - يحب البلاء لماش كريم
أبو سعيد المخزومي:
إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم
فلا تبرزن إلى أن ترى ... من الصحو يوماً صحيح الأديم
فكم زلقة في حواش الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم(611/26)
وكم من لئيم غدا راكباً ... يحب البلاء لماش كريم
637 - لولا المشقة
قال ابن خلكان: بلغني أن ابن مطروح كتب - قبل ارتفاع درجته - رقعة تتضمن شفاعةً في قضاء لبعض أصحابه أرسلها إلى أحد الرؤساء، فكتب إليه ذلك الرئيس في جوابه: هذا الأمر علي فيه مشقة.
فكتب أبن مطروح جوابه ثانياً: (لولا المشقة)
فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغلَه وفهم ما قصده وهو قول المتنبي:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ ... الجودُ يُفقرُ، والإقدام قتّالُ
638 - لا جرم أن اثر الحسد فيك. . .
قال إسحق الموصلي: أنشدت الأصمعي شعراً لي، على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيلُ ... يروَ منها الصدى ويشف الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
قال لي: هذا - والله - الديباج الخُسرواني.
فقلت له: لا جرم أن أثر الحسد فيك. . .
639 - أشم نسيم قرطبة
قال ابن بشكوال: دخل الشيخ أبو بكر بن سعادة مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي فسألنا:
من أين؟
فقلنا: من قرطبة!
فقال: متى عهدكما بها؟
فقلنا: الآن وصلنا منها!
فقال: اقربا إلى أشم نسيم قرطبة. فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال في اكتب:
أقرطبة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة ... وقعقع في ساحات روضتك الرعد(611/27)
لياليك أسحار وأرضك روضة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد
640 - سكارى. . .
السري الرفاء:
وفتية زَهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشىَ الرُّخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
غدوا إليها كأمثال السهام مضت ... عن القسيّ وراحوا كالعراجين
وكان شربهم في صدر مجلسهم ... شرب الملوك وناموا كالمساكين(611/28)
في الأدب العربي
للأستاذ عبد اللطيف محمد ثابت
في عدد مضى من الثقافة كلمة للأستاذ الكبير أحمد بك أمين يعيب فيها على كثير من الأدباء ميلهم إلى قصر الأدب على الشعر والنثر الفني المصنوع، ويحثنا أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم والحديث؛ فمن ناحية القديم يجب أن نتوسع في فهم معنى الأدب، فندخل فيه الشعر الصوفي والنثر الصوفي، والأساليب المتبعة في شرح النظريات الاجتماعية والاقتصادية إذا كانت أدبية، وكذلك الأساليب المتبعة في كتب التاريخ والرحلات والفلسفة والقصص من نوع ألف ليلة وليلة. ومن ناحية الحديث يجب أن يتجه أدباؤنا إلى الموضوع أكثر من الشكل، وحمد الله إذ رأى هذا الاتجاه واضحاً جلياً من أدباء العصر الحديث، وضرب لذلك الأمثلة، ثم قال: (ففهمنا للأدب على أنه شعر أو نثر يشبه الشعر أو القصة بديعة، أو نحو ذلك، فهم قاصر، والأدب أوسع من ذلك وأشمل)، وقال: (وأرى أن هذه الفكرة عن الأدب غير صحيحة، وأنها ضارة بالناشئين والمتعلمين؛ إذ تجعلهم يتصورون الأدب على أنه حلية لفظية شكلية، فإذا عمق الكاتب وفكر تفكيراً دقيقاً، خرج عن الأدب ولم يسم أديباً، وضرر هذا واضح، وهو اتجاه الأدب العربي إلى السطحية، والعناية فيه بالشكل أكثر من الموضوع)
هذا مجمل ما قاله أستاذنا الكبير، ولا أدري إلى أي شيء يرمي. إنه عاب على الأدباء قصرهم الأدب على الشعر والنثر المشبه الشعر والقصة البديعة ونحو هذا، لأنه أوسع من ذلك وأشمل، فماذا بقي بعد هذا مما يصح أن يكون في متناول أوسع وأشمل؛ حتى ندخله في الأدب؟
إن الشعر هو الكلام ذو الوزن والقافية المشتمل على التصوير البديع المؤثر لأنواع الإحساس، سواء أكان إحساساً صوفياً أم فلسفياً أم خيالاً من واد آخر غيرهما. والنثر المشبه للشعر هو ذلك النثر الفني المصنوع، ويراد بالصنعة ما يرتفع بالنثر إلى ما يحقق معنى الفصاحة والبلاغة على ما اتفق عليه الأقدمون، ولم يعارض فيه المحدثون سواء أتناول النثر شرحاً لنظريات اجتماعية أم اقتصادية، أم تناول التاريخ والرحلات، أم تناول الفلسفة، أم كان قصصاً، بل يمكن أن يدخل في متناول النثر الفني المصنوع بهذا المراد من(611/29)
الفن والصنعة طوائف العلوم الأخرى، فكلها نثر فيه فن وفيه صنعة بحسبه، فماذا بقي بعد ذلك حتى يكون فهمنا للأدب على أنه الشعر أو النثر المشبه للشعر أو القصة البديعة أو نحو ذلك فهماً قاصراً؟
لم يبق يا سيدي ألبك إلا الكلام الذي أتضع ولم تتحقق فيه شروط الفصاحة والبلاغة، فصار بحكم ما فقد من شروط الأدب غير أدب، وصار الكاتب له غير أديب.
فهل تريد أن يدخل مثل هذا على أنه أمثلة تحتذي في مباحث الأدب؟ فماذا يكون الأدب إذن؟
إن الأدب فن رفيع كالموسيقى وما يشبهها؛ فلنتصور أننا توسعنا في متناول الموسيقى حتى جعلناها تشمل كل ما يمكن أن يكون صوتاً، فهل يكون ذلك مقبولا؟
كذلك الأدب لا يمكن أن يكون أدباً إذا توسعنا فيه فجعلناه يشمل كل ما يمكن أن يقال أو يكتب، فإن ذلك تضييع لقيمة المثل العليا من الكلام، وتضييع للمبرزين من الكتاب من القدماء والمحدثين، مع ملاحظة أنه لا يعقل أن يكون كلام مكتوب لا موضوع له إلا ما يصدر من المجانين؛ فأولئك الكتاب الذين يجلسون بجانب كل محكمة، ويسمون بالكتاب العموميين، لهم موضوعاتهم التي يتناولونها فيما يكتبون، وليس من المعقول أن تكون رسائلهم من مباحث الأدب. ولست أعلم أن أحداً من المتقدمين منع أن يكون الشعر الصوفي والنثر الصوفي، والكتب التي تشرح النظريات الاجتماعية والاقتصادية والتي تتناول التاريخ والرحلات والقصص من نوع ألف ليلة وليلة والفلسفة - منع أن تكون هذه مما يتضمنه معنى الأدب حتى ينبهنا الأستاذ الكبير إلى أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم فندخل فيه هذه الموضوعات.
ويقول الأستاذ إن هذه الفكرة عن الأدب أنه مقصور على الشعر والنثر الفني المصنوع ضارة بالناشئين والمتعلمين، ويقصد من غير شك الناشئين والمتعلمين في هذا العصر، فهو يخشى عليهم أن يتجهوا في أدبهم إلى السطحية والعناية فيه بالشكل أكثر من عنايتهم بالموضوع، ثم يحمد الله أن يرى أدباءنا يتجهون اتجاهاً واضحاً إلى الموضوع أكثر من الشكل.
فهل كان أدباؤنا من غير الناشئين المتعلمين في هذا العصر؟ فمن الذي أرشدهم ألا يتجهوا(611/30)
في أدبهم إلى السطحية وأخذ يحثهم على العناية بالموضوع دون الشكل، وهم إنما درسوا الأدب قاصراً على الشعر والنثر الفني المصنوع، وهو الذي يعيبه الأستاذ احمد أمين على الأدباء.
إنني لا أنكر أنه قد أتى على الأدب حين من الدهر مال فيه الكتاب إلى العناية بالأسلوب أكثر من عنايتهم بالموضوع، بل أسرفوا في ذلك حتى عيب عليهم، ولكن هذا النوع من الكتاب أقلية إذا قيسوا بغيرهم من أدباء اللغة العربية، وقد أخذ عليهم إسرافهم في العناية بالألفاظ وتنميقها أكثر من عنايتهم بالأفكار وتوليدها والموضوع ودراسته؛ فلم يكن لما عيب عليهم أثر إلا بمقدار ما تظهر بدعة غير مستحسنة في عصر من العصور، ثم لا تلبث أن تهمل لما يشق فيها على الناس، على أنه كان لأدب هؤلاء موضوعه الذي يحله محله من مباحث الأدب العام.
ولم يحل وجود هؤلاء الكتاب الشكليين في عصور الأدب أن نفهم الأدب على حقيقته في الشعر والنثر المشبه الشعر في عصورنا هذه فيظهر فينا الكتاب الذين يعتمدون على الموضوع في أسلوب، لا على الأسلوب له صورة موضوع.
عبد اللطيف محمد ثابت(611/31)
رسالة الفن
3 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
يرى الفنان كل ما في الطبيعة جميلا
يوجد بمرسم رودان الكبير بمَيْدوُن تمثال صغير على جانب كبير من الدعامة المروعة، استقى مثالنا العظيم موضوعه من قصيدة فيلون كانت الحظية تشع يوماً ما شبابا وجمالا، أما الآن فهي عجوز شمطاء متهدمة تنبو عنها العيون. كانت مختالة فخورة بحسنها وروائها فإذا بها اليوم تُغص بالخجل من بشاعتها.
وهذه ترجمة بعض الأبيات التي ساقها فيلون على لسان الحظية البائسة.
(آه أيها الهِرم المتعاظم الخوَّان، لم أذللتني هكذا سريعاً، ولم أمسكتني هكذا حتى لا أستطيع أن أضرب، فكنت أقضي بضربة واحدة على آلامي).
هنا تبع المثالُ الشاعرَ خُطوة فخُطوة. فتلك العجوز الشمطاء التي تكرش جلدها حتى صار أكثر تكرشا من المومياء تحزن على بلي جسدها. تراها جالسة مقوسة تنظر في يأس وألم إلى ثدييها الذين ضمرا ضموراً يثير الشجن، وإلى جسدها الذي تجعد وتقبض تقبضاً بشعاً، والى ذراعيها وساقيها التي أصبحت عقداء كأصول الكرم أو هي أعقد. وثمت بضعة أبيات أخرى ساقها الشاعر على لسان الحظية أيضاً.
(عندما أفكر بذهن كليل فيما كنت عليه بالأمس، وفيما أنا عليه اليوم، عندما أرى كيف استحلت هكذا: مسكينة بائسة مقددة نحيفة، يتملكني الأسى. أين جبيني الناصع وشعري الذهبي وكتفاي الجميلتان - وكل ما كان فيَّ وقد خلق للحب؟ هذه هي نهاية الجمال الإنساني! وتلكما الذراعان النحيلتان، واليدان المعروقتان، تلكما الكتفان الحدباوان، ذلكما الثديان والعجزان وتلكما الساقان، خفتا وأصبحتا منقوطتين كأنهما المصير المحشو).
وهنا لا نرى المثال يقل إدراكا للواقعية عن الشاعر، بل نرى على النقيض من ذلك أن البشاعة التي يثيرها بهذا التمثال أوقع في النفس من أبيات فيلونِ الجافية. نرى جلدها(611/32)
يتدلى على الهيكل العظمي في ضعف واسترخاء، والأضالع تبرز من تحت الصفاق أو الرِّق الذي يغطيها، ويبدو الجسم كله كأنه يرتعد أو ينكمش ويتضاءل. ومع ذلك نرى ألماً عميقاً ينبعث من ذلك الجسد البالي المشوَه المؤلم، وذلك لأن ما نشاهد منه هو الألم البالغ لنفس شغفها حب الشباب والجمال الخالد فأصبحت تنظر بيأس إلى الوعاء القبيح الدميم الذي يحويها. إنه التناقض البين بين الكائن الروحي الذي يتطلب اللذة الخالدة وبين الجسد الذي يبلى وينحل ويؤول إلى الفناء. تهلك المادة ويموت اللحم، أما الأحلام والآمال فخالدة. وهذا ما أراد رودان أن نفهمه. هذا وإني لا أعتقد أن فناناً آخر صور لنا الهرِمَ بمثل هذه الفظاعة الفجة، اللهم إلا واحداً. فانك لترى على مذبح كنيسة بفلورنسا تمثالا عجيبا من صنع دونا تللو. ترى عجوزا عارية أو هي متشحة بشعرها الطويل الرفيع الذي يتشبث بجسدها المتهدم الفاني. إنها القديسة مجدولين في الصحراء وقد قوست السنون ظهرها، تنذر إلى الله الرهبوت الصارم الذي ستأخذ به جسدها جزاء وفاقا لما أسبغته عليه من رعاية في الماضي. ولقد بلغت الصراحة الفطرية بهذا الفنان الفلورنتي مبلغا عظيما بحيث لا يتسنى لأحد أن يدانيه فيها، حتى ولا رودان نفسه. ولكنا نرى إلى جانب ذلك أن الشعور في العملين مختلف كل الاختلاف، فبينا نرى القديسة مجدولين تبدو في توبتها أكثر إشراقا كلما أحست أنها تزداد دمامة، نرى من الناحية الأخرى الحظية الشمطاء تهلع عندما ترى نفسها أشبه شيء بالجثة الهامدة. وعلى ذلك فالنحت الحديث أعظم وقعاً وأفجع في تأثيره من النحت القديم.
وفي أحد الأيام درست تمثال رودان هذا لحظة ثم قلت له في هدوء: (أيها المعلم! لا أظن أحداً يعجب بهذا التمثال المدهش إعجابي به. ولكن أرجو ألا يتملكك الامتعاض إذا ما أطلعتك على الأثر الذي تُحدثه مشاهدته في زائري متحف اللوكسمبورج، وفي السيدات خاصة).
(أكون شاكراً لو تفعل ذلك).
(حسن. إن النظارة لتفر منه قائلة: آه، ما أبشعه! وكثيراً ما شاهدت بعض السيدات يتقينه بأيديهن حتى لا يرونه) فضحك رودان ملء شدقيه وقال:
(لابد أن يكون عملي من الوضوح والصراحة بحيث يحدث مثل هذا الأثر البين. ولا ريب(611/33)
أن هؤلاء الناس ممن يرهبون الحقائق الفلسفية المرة. غير أن كل ما يعنيني من الأمر ويهمني هو أن أقف على آراء أولئك الذين وهبوا الذوق الحسن. ولقد سرني أن أظفر بمدحهم لحظيتي العجوز. إن مثلي كمثل ذلك المغني الروماني الذي أجاب على صخب الجماهير: إني أغني للنبلاء فقط، أو بمعنى آخر للهواة الذين يفهمون ويتذوقون).
يتبادر إلى ذهن السوقة أن ما يرونه قبيحاً في الحياة لا يليق أن يكون موضوعا للفنان. يودون لو يمنعوننا من إظهار ما يسوؤهم من الطبيعة أو يقذى أعينهم؛ وهذه غلطة شنيعة يغلطونها. إن ما قد يسمى عادة في الطبيعة يمكن أن يكون لدى الفن عامرا بالجمال. وفي الواقع نسمي قبيحاً كل ما كان مشوها أو مريضا أو يشعر بمرض، أو ما كان ضعيفاً أو مبتلى، أو ما كان منافيا للمألوف الذي هو إمارة وشرط من شروط الصحة والقوة. فالأحدب قبيح، والأعرج قبيح، والفقر في الأسمال البالية قبيح. وقبيح أيضاً روح الرجل الفاجر وسلوكه، والرجل الخبيث المجرم، والرجل الشاذ الذي يكون بلية على المجتمع، وقبيح أيضاً روح الذي يفتك بوالديه، وروح الخائن، وروح كل دنئ المطامع. ومن الصواب تسمية الناس أو الأشياء التي لا تتوقع منها سوى الشر بتلك المسميات الكريهة. ولكن دع فنانا مبرزا أو كاتباً نابها يتولى بفنه قبحا واحداً أو أكثر مما ذكر فسرعان ما يتحول في يديه؛ إذ ينقلب بلمسة من عصاه السحرية إلى جمال رائع. إن هذا إلا كيمياء، إنه السحر المبين!!
دع فيلا سكويز يصور سيباستيان، قزم فيليب الرابع، ملك إسبانيا، تراه يحبوه بتلك النظرة المؤثرة التي نقرأ فيها على الفور ما تنطوي عليه نفس هذا المخلوق التعس من الأسرار المؤلمة، ذلك المخلوق الذي ألجأته حاجته للعيش إلى أن ينزل عن كرامته الإنسانية فيصبح ألعوبة أو سخرة من المساخر الحية. وكلما زادت لذعة الألم في نفس المخلوق البائس زاد جمال عمل الفنان.
وليصور فرنسوا ميليه فلاحاً يتكئ على فعال فأسه ليستريح لحظة، رجلا بائساً أضناه التعب ولفحته الشمس، غبياً كالحيوان الأعجم الذي أذهلته الضربات فيلدم. وما هو إلا أن يظهر في تعبير هذا الشقي البائس ذلك الاستسلام السامي للألم الذي فرضه علينا القدر حتى يجعلنا نرى فيه الرمز العظيم للإنسانية كلها.(611/34)
ثم ليصف لنا بودلير جثة مقرَّحة، قذرة متلزجة ينخر فيها الدود، ثم دعه يتخيل خليلته المحبوبة في هذه الحالة المخيفة الممضة؛ فلا يمكن والله أن يداني شيء في الروعة والفخامة صورته التي يضع فيها جنباً إلى جنب هذا الجمال الذي نرجو له الخلود، وذاك الفناء المروع الذي ينتظره. وهاك أشعار بودلير
(ومع لذلك فستصبحين مثل هذا يوماً ما، مثل هذه الوخامة التي تتقزز منها النفس، أنت يا نجم عيني، أنت يا شمس طبيعتي. آه يا ملاكي ويا غرامي!
(نعم يا ملكة الحسن، ستكونين هكذا بعد القداس، عندما تلحدين تحت الحشائش والأزهار حيث تبلين بين العظام. وعندئذ يا حبيبتي خبري الديدان التي تلتهمك بالقبل أنني - على الرغم منها ومن كل شيء - قد احتفظت بهيكل حي المقدس وروحه الذي فني وباد).
ومثل هذا ما كان من شكسبير عند ما وصف أو رتشارد الثالث. وعندما صور نيرو ونرجس كذلك يمكن أن ينقلب القبيح الخلقي موضوعا رائع الجمال إذا ما فسرته عقول صافية راجحة نفاذة.
وفي الواقع نرى أن الجميل في الفن هو ماله شخصية. فالشخصية هي العنصر الضروري لكل شيء طبيعي، جميلا كان أو قبيحًا، أو هي الحقيقة المزدوجة كما يجب أن نسميها. هي الحقيقة الداخلية تفصح عنها الحقيقة الخارجية، هي الروح والشعور والأفكار تعبر عنها قسمات وجه أو أفعال الإنسان وإشاراته أو ألوان السماء أو خطوط الأفق. . .
يرى الفنان العظيم أن لكل شيء في الطبيعة شخصية لأن نظرته الفاحصة الصائبة تستجلي ما غَمضَ وخفي من معاني الأشياء جميعها. ولربما كان لما نحسبه بشعا دميما من الشخصية أكثر من ذلك الذي نراه بسيما وسيما. وذلك لأن الحقيقة الداخلية قد تسطع في أسارير سحنة مريضة، أو في نواحي وجه خبيث، أو في كل ما هو مشوه أو عفن، سطوعا جلياً أكثر مما في القسمات الصحيحة العادية.
وطالما كانت قوة الشخصية وحدها هي التي تظهر الجمال في الفن، فكثيراً ما يحدث أنه كلما قبح الشيء في الطبيعة زاد جماله في الفن. فلا يوجد في الفن قبيح اللهم إلا ما خلا من الشخصية، أي ذلك الذي تجدد من الحقيقة الداخلية أو الخارجية.
والقبيح في الفن هو كل زائف غير طبيعي، كل ما عني بحسن المظهر دون التعبير، كل ما(611/35)
كان هوائياً متقلباً ومتصنعاً، كل ما أبتسم من غير باعث على الابتسام، أو تثنى من غير ما سبب، كل ما كان بغير روح أو حقيقة. أو كل ما كان مظهراً للحسن والجمال فقط، وبالجملة هو كل ما كان كاذباً.
وعندما يحاول الفنان أن يحسن الطبيعة فيضيف اللون الأخضر إلى الربيع، والوردي إلى الشمس، والقرمزي إلى الشفاه الصغيرة، يخلق بعمله هذا القبح لأنه يكذب، وكذلك عندما يخفف من حدة الألم أو يلطف من تهدم الشيخوخة أو من بشاعة التحريف أو التصحيف، وعندما يحاول تنسيق الطبيعة فيقنعها وينكرها ويلطفها كيما تسر السوقة الجهلة، فهو يخلق القبح لأنه يخشى الحق.
كل ما في الطبيعة جميل في عيني أي فنان خليق بهذا الاسم، لأن عينيه اللتين تقبلان الحقائق الخارجية في شجاعة، تقرآن الحقائق الداخلية كما لو كانتا تقرآن في كتاب مفتوح. وما عليه إلا أن ينظر في وجه إنسان ما فيقرأ أغوار نفسه بحيث لا يمكن أن تخدعه قسمة من قسماته. والإخلاص كالتصنع كلاهما شفاف لا يستر ما تحته، فخط في الجبين، أو رفعة خفيفة من الحاجب، أو لمحة من العين، كل هذه تكشف له عن كل أسرار القلوب وتطلعه على خفاياها كذلك يستطيع الفنان أن يدرس ذهنية الحيوان الخبيثة، ويقرأ في عينيه وحركاته وسكناته مزيجاً من الشعور والأفكار والذكاء الأبكم والأحاسيس البدائية.
وهو فضلا عن ذلك صفى الطبيعة وأمينها؛ فتكلمه الأشجار والنباتات كما لو كان صديقها، وتحدثه أشجار البلوط القديمة العقداء عن حدبها على الإنسان الذي تظله تحت أفرعها الوارفة الظلال. وتخاطبه الأزهار باهتزاز سوقها الرشيقة، وبغناء ألوانها الشجي. إن كل زهرة وسط الخضرة لكلمة طيبة تخاطبه الطبيعة بها. والحياة عنده متاع مقيم، وسرور مستديم، ونشوة جنونية. ولكنه لا يرى كل شيء في الحياة مستطابا لأن الآلام التي تنتابه وتعتور أصدقاءه تتعارض مع تفاؤله وأمانيه تعارضاً مؤلماً، ومع ذلك فكل شيء عنده جميل لأنه يمشي دائماً في ضوء الحق النفساني.
نعم! إن الفنان العظيم، وأقصد به الشاعر والمصور والمثال ليجد، حتى في الآلام وموت الأحباب، وفي خيانة الأصدقاء بعض ما يغمره بفيض عجيب من السرور ولو شابته مرارة بشعة. وقد تمر به فترات يكون قلبه أثناءها فريسة للآلام ومع ذلك نرى اللذة المريرة التي(611/36)
يكابدها من تفهم وتفسير تلك الآلام أقوى من الآلام نفسها وأرجح. وهو يقدس أغراض القضاء في كل كائن حي، ويلقي على آلامه وجراحه الدامية نظرة ملؤها التقدير والاهتمام، نظرة الرجل الذي قرأ أحكام القدر. حتى إذا ما خانه حبيب ترنح تحت الضربة، ولكنه سرعان ما يثبت على قدميه ويستقر، ثم يرى ذلك الخائن مثلا طيباً للوضاعة والحقارة، ثم إنه يرحب بالعقوق لأنه يجد فيه ما يصقل نفسه.
وكثيراً ما يكون وجده وهيامه جامحاً مخيفاً، ولكن في ذلك السعادة على كل حال، لأن فيه التقدير العميق الثابت للحق والصدق. فعندما يشاهد الناس يقتل بعضهم بعضاً في كل مكان، وعندما يرى الشباب الغض يذبل ويذوى، وكل القوى العاملة تضمحل، وكل النبوغ يخبو، وعندما يواجه الإرادة العليا التي تملي تلك القوانين الصارمة وتفرضها على الكائنات، نراه اكثر ما يكون اغتباطا بمعرفته، سعيداً أيما سعادة إذ يستولي عليه حبه للصدق من جديد.(611/37)
في طريق الحياة. .
للأستاذ عبد القادر القط
في طريقٍ مِن لَقي الأنضاء والصرعى صُواهْ
وفضاءِ لم تعانق أرضَه يوماً سَماه.
مُقَرعاً ترتجع الأبصارُ حسرَى عن مَداه.
أضرب الأرضَ طليحاً تحت أعباء الحياة
وشبابٍ لم يمتَّع بالشباب.
اغتدى في زحمة الأطماع مشدوه الرّجاءْ.
وأَرودُ الودَّ في دنيا من الود خلاء.
مفردَ القلب وللقلب حنينٌ واشتهَاء.
ظامئ الروح وللنبع بأسماعي غناء.
من وراء الغيب من خلف الحجاب.
اغتدى في مهمه الدنيا ومالي من رفيق.
غيرَ روح سادر النجوى وقلبٍ لا يفيق.
كلما أوغلتُ في القفر تراءت لي بروق.
وامضاتٌ بأمانيَّ كأطياف الشروق.
بعد ليلٍ مدلهْمٍ وضباب.
طالما أدركتُ أن البرق خلاّبٌ جَهام.
ورأيتُ القطرَ محبوساً بأطباق الغمام.
غير أني كلما راودَ أجفاني المنام.
قذفت بي ظامئاتٌ من رِغابي للأمام.
ولقد ينجي من اليأس السراب.
أتخطَّى الصخر لا عزماً ولكني أسير.
وعلى السائر أن يمضي وإن شقَّ العبور.
لم أعد أسأل ما الجدوّى ولا أين المصير.(611/38)
ما سؤالي؟ وفؤادُ القفر مسلوبُ الضمير.
ليس يصغي لسؤلٍ أو جواب.
في طريقي كم تراءت لي جنانٌ وادعات.
مثقَلاتُ الدَّوح بالأثمار شتى ناضجات.
يرفُل الظلُّ بها في مسرحٍ جَمِّ الشيات.
ويميس النهرُ في أعطافها رحبَ الجهات.
بين أفوافٍ وألفافٍ وغاب.
كم رأت عيني وكم قد حَنَّ للروضات قلبي.
فتركتُ الدربَ مهجوراً وخلتُ الروضَ دربي.
وهفتْ للعشب أقدامي وقال الجهدُ: حَسْبي.
ورفعتُ الكفَّ لله أقضْي حقَّ ربي.
من ثناء وصلاة ومتاب.
وإذا بالروض قد حفَّتْ به جندٌ عُتاه.
لم يبالوا حرمة الحمد ولا قدسَ الصلاه.
صاح منهم صائحٌ: ردُوّا عن الروض الجناه.
أَغريبٌ مِلكُنا المحبوبُ من بعض مُناه؟!
أشهروا البيض وهزوا للحراب!
فهوتْ من حضرةِ الَّربّ إلى الأرض يدايْ.
وتلاشَى حَمْدِيَ المبتورُ وانجابتْ رؤُاي.
قلتُ: هذي الحربُ يا قوم أُعدَّتْ لسواي.
أنا منكم. طال في البيد ثوائي وسُراي.
كيف تلقون أخاكم كالذئاب!
قد صحبت الليلَ والليلُ على البيد رهيب.
ونهاراً للحصى من قيظه العاتي وجيب.
منحتني البيد بَلواها وأخفَتْ ما يطيب.(611/39)
من روُاء الفجر في الشرق ومن سحر الغروب.
لم أَنَلْ منها سوى قبض التراب.
يا صحابي روضكُم ريانُ ممتدُّ الظلال.
لن تضيقَ اليومَ بي سرحاتُه الفيح الطوال.
فدعوني يلتئِمْ جرحي ولي بَعْدُ ارتحال.
لن أقيم الدهرَ فيه وبجنبيَّ ملال.
يخزُ القلبَ إلى هذي الشعاب.
يا صحابي! أيها الواغل لسنا من صحابك.
اسْعَ في قفرك ما شئتَ وهوِّمْ في شعابك.
نحن من أصلاب مجدٍ، امض لسنا من ترابك.
وإذا ما مسَّك الضرُّ فكفكِفْ من رغابك.
واترك الدنيا لأرباب الرغاب.
قلتُ يا أقداميَ الحسرىَ إلى درَبك عودي.
وتأسّيْ يا لهاتي من خيالي بالوعود.
واصبري للظمأ القاتل يغتال نشيدي.
فغداً في روضتي العذراء يحلو لي ورودي.
وأرويِّكِ من الشُّهد المذاب.
روضتي العذارء في الربوة لم يُطمَث ثراها.
خلف هذي القفرة الجرداء قد طاب جَناها.
ضلَّ عنها الناسُ واستخفى عن الناس شذاها.
قلبي العامُر بالإيمان يوماً سيراها.
وسيلقاها وإن طالَ الغيابْ.
عبد القادر القط(611/40)
هيفاء الحفل
للشاعر الأستاذ محمد الأسمر
باتَ بعد السلوِّ صبا مُعَنى ... خافقاً قلبهُ، وكان اطمأنا
شاعرٌ هام بالجمالِ قديماً ... ثم عاداهُ، ثم عاد فجُنّا
لا تلوموه إن ترَّنمَ عشقاً ... بلبلٌ أبصرَ الرياضَ فغنَّى
كان عوداً معطلاً ثم مرَّتْ ... فوق أوتاره اليدان فرنَّا
من تكون الهيفاءُ تخطرُ غصناً ... لورآها غصنُ الربى ما تتسنّى
تتهادى في الحفل أشبهَ بالطا ... ووس يمشي من الدلال الهوينى
هي فيه كمثل زنبقةِ الرو ... ض استطالت على الأزاهير حسنا
حبذا القامةُ التي شغلتنا ... عن سواها، ونعم ما شغلتنا
أي قدٍ، بل أي رمح عجيبٍ ... ما نظرنا إليه حتى طُعنّا
من تكون الهيفاءُ، أبدعُ ما أب ... صر راءٍ عيناً وجيداً ومتنا
ذكرتنا بما مضى يوم كُنَّا ... في صبانا، أيام كُنَّا، وكنا
وأعادتْ شرخَ الشباب إلينا ... بعد ما صوَّحَ الشبابُ وشبنا
عربيٌّ لسانها أعجميٌّ ... نغماتٌ تشدو بها بين بيَنا
لست أدري لمصر أم لسواها ... ما علينا من أرضها، ما علينا
حَسْبُها أنها عشيَّةَ لاحت ... أصبحتْ دارها الجوانح منّا
يا حبيباً لكل قلب وعينٍ ... أنتَ نُعمى بها الزمانُ يُهنَّا
أنت والله يا جميلُ منانا ... أنت والله فوقَ ما نتمنَّى
يا رشيق القوام يا مفرد الحسن ... تعطفْ واجعل مع الحسن حسنى
نظرةٌ منك نحونا تكفينا ... كم نظرنا شوقاً لها وانتظرنا
ما حباكَ الجمال ربي إلا ... راضياً عنكَ! فارضَ بالله عنّا(611/41)
أشتاق للمجهول!
للأديب عبد العليم عيسى
أحيا على الدنيا بقلب زاخرٍ ... بالهوْل والآلام والأشجان!
حيران. . لا أدري لأية غاية ... أمشي على الأيام نهبَ هواني
البحر يزبد والعواصف لا تَنى ... والريح معْوِلَةٌ بكل مكان
والمْرفأ المجهول لا أدري متى ... يبدو لعين المجهد الحيران
حجبَتْه أردية الضباب فما أرى ... غير الدجى والهول والحرمان!
النار في قلبي وبين جوانحي ... تمتص أفراحي بألفِ لسان!
أنا في الحياة شكاية مفجوعة ... لا تنتهي أبداً مدى الأزمان!
أشتاق للمجهول إني ظامئ ... لأعيش في المجهول والنسيان
أشدو بموسيقى الحياة وأرتوي ... من سحرها المترقرق الفتان
مستقبلاً هتفاتِها ونداءها ... مستوحيا من نورها ألحاني
وأطل من فوق الذُّرا متأملاً ... في فسحة الآفاق والأكوان
وأعانق الكون الكبير كأن بي ... روح الحقيقة مشرقاً بكياني
أُصغي لأحلامي وهمس مشاعري ... ورسيس قلب دائم الخفقان
وأذيب روحي في غنائي والهاً ... كالبلبل المتفجَّر الولهان
أنا ذلك الوتر المجَّرح شدوه ... طالت عليه مرارة الأحزان
ضيعت عمري في الحياة خرافةً ... وحييت كالطلل الشجي العاني
ضاقت بي الدنيا فهمتُ بغيرها ... بعدت. . . فلم تحلم بها عينان
دنيا من النور المصَفَّى كلها ... فرحٌ وأحلام وعذابُ أغاني(611/42)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
خطوات العلم في سنة 1944
لخص وطسن دافيس مدير معهد الخدمات العلمية الخطوات العشر الموفقة التي خطاها العلم في سنة 1944.
1 - تطبيق عملية الدفع الغازي على الطائرات. وهذه العملية عبارة عن اندفاع غازات مضغوطة من مؤخرة الصواريخ تؤدي إلى دفعها إلى الأمام.
2 - استعمال القنابل الآلية والصواريخ الذاتية الاندفاع بنطاق واسع في هذه الحرب.
3 - نجاح استعمال المركب الكيماوي المعروف باسم وانتشاره كقاتل للميكروبات وخصوصاً لمقاومة ناقلات حمى الملاريا والتيفوس.
4 - استعمال العفن الكيمياوي مثل البنسلين كعلاج ناجع لمجموعة كبيرة من الأمراض المختلفة.
5 - صقل الأخشاب وتحويلها إلى أخشاب أفضل بالوسائل الكيماوية.
6 - استعمال السليكون بأنواعه في عزل المواد المختلفة وكمادة لا ينفذ منها الماء.
7 - تقسيم الدم الإنساني إلى سبعة أجزاء واستعمالها في كثير من الأغراض الطبية.
8 - صنع آلة ضخمة لتيسير العمليات الحسابية المطلوبة لشؤون الحرب والأبحاث العلمية.
9 - استعمال الأشعة فوق البنفسجية وغيرها لتقليل انتشار المكروبات في الهواء.
10 - استعمال القلاع الطائرة المعروفة باسم ب - 29 في الحرب.
بماذا نستعيض عن اللحم؟
هل اللحم مادة ضرورية لتغذية الإنسان؟ وهل نقص كمياته يسبب للإنسان ضرراً؟
يقول القلم نعم. فالأغذية الحيوانية سواء من اللحوم أو البيض أو اللبن ضرورية للإنسان لأنها تحتوي على مواد زلالية ذات قيمة حيوية كبيرة لاحتوائها على أنواع من الأحماض الأمينية التي لا يستطيع الجسم بناءها. فان قلت هذه الأحماض في جسم الإنسان سببت له(611/43)
أمراضاً مختلفة
وتقل نسب هذه الأحماض في المواد النباتية، ولا يستطيع الجسم تعويض نقصها إلا بتناول مقادير كبيرة من الأغذية النباتية إن اقتصر غذاؤه عليها.
ولعله من حسن حظ الفقير وطفله أن يجدا في بلادنا مادة نباتية رخيصة الثمن سهلة التناول وتعوض عليه نقص المواد الحيوانية وهي الفول السوداني. وهما يتناولانها دون أن يشعرا أنهما يأكلان مادة ضرورية لنمو جسميهما، فهما يأكلانها لمجرد التسلية فتعطيهما ما حرمهما منه المال وارتفاع مستوى المعيشة.
وقد اتجه نظر العلماء في العصر الحاضر إلى دراسة المواد الزلالية النباتية التي تستطيع أن تحل محل المواد الحيوانية في الطعام، فجرب جماعة من العلماء الأميركيين الفول السوداني وبذرة القطن وفول الصويا على الحيوانات. وقارنوا نتيجة تغذية الحيوانات بهذه المواد بمثيلتها من دقيق القمح أو اللبن فكانت النتيجة كما يبين الجدول الآتي: -
الزيادة في الوزن
الغذاء
دقيق قمح صافي
19 جرام
= قمح وردته
36 =
= فول سوداني
75 =
= بذرة القطن
85 =
= فول الصويا
87 =
= مخلوط سوداني وقطن وصويا
84 =(611/44)
اللبن
100 =
والإنسان لا يعيش على نوع واحد من الأطعمة بل يتناول ألوناً مختلفة، فجربوا خلط هذه المواد 5 % و10 % و15 % إلى دقيق القمح، فكانت النتيجة باهرة النجاح إذ عوض خلط دقيق القمح بـ15 % من دقيق الفول السوداني ما يتيحه لنا خلطه باللبن المجفف بنسبة 5 %، وهو ما يعز على كثير من الناس في العصر الحالي. ويبين الجدول التالي نسب الخلط والزيادة في الوزن بالجرام تحت كل من المواد المكملة لباقي النسبة لتكون 100 %
لبن
صويا
قطن
سوداني
قمح
49 %
39 %
29 %
29 %
95 %
77 %
75 %
41 %
44 %
90 %
85 %
93 %(611/45)
45 %
48 %
85 %
ومن هذا الجدول يتبين أن أكثر المواد نفعاً لجسم الإنسان هو فول الصويا الذي تتجاوز فائدة الجسم منه مثيلها من المواد الحيوانية مثل اللبن، فعندما خلط كل منها بنسبة 15 % إلى القمح زاد وزن الحيوان في الأول 93 جراماُ ولم يزد إلا 85 جراماً مع اللبن. ويليهما في المرتبة الفول السوداني.
على أن هذه النتيجة حلت معضلة الأميركيين لكثرة فول الصويا عندهم ومن ثم أقبلوا على استعماله بكثرة.
ولم تفت هذه النتيجة الهامة علماءنا المصريين وهم يعرفون أن الشعب المصري يتخذ الرغيف غذاءه الأساسي فأجروا عدداً من التجارب نرجو أن نطلع القارئ عليها فيما بعد
الطيور تكره الحبوب المصبوغة
تجري مصلحة الأسماك والحيوانات المشردة أبحاثاً عن استجابة الطيور والحيوانات للألوان. وقد وجدت أن بعض الطيور لا تقرب حبوب القمح إذا صبغت باللون الأصفر الفاقع أو البرتقالي أو الأخضر كما أظهرت بعضها عداء للون الأحمر.
والمعروف أن الطيور شديدة الحساسية للألوان وتشك في الغريبة منها. وربما أدى هذا الأساس إلى نجاح الفلاحين في مقاومة جرذان الحقول والكلاب الضالة وغيرها من الحيوانات الضارة وذلك بصبغ أغذية مسممة بألوان تعافها الطيور المنزلية وتقبلها هذه الحيوانات التي لا تتأثر بالألوان فتصاب بالتسمم وتموت
سلاح سري باللاسلكي
عثر الحلفاء أثناء زحف قواتهم على أحد الأسلحة الألمانية السرية. وهو عبارة عن طائرة من قاذفات القنابل الضخمة من طراز جنكرز 88. وهي تملأ بالديناميت، وتمتطيها طائرة أخرى صغيرة يقودها طيار وتحلق الطائرتان معاً، فان اقتربتا من الهدف انفصلت الطائرة الكبيرة عن الصغيرة ووجهتها الأخيرة باللاسلكي إلى منطقة الهدف.(611/46)
زميل للبنسلين من الثوم
توصل بعض الكيماويين من عزل عقار من نبات الثوم اسمه اليسين وهو يشابه البنسلين في كثير من خواصه. وهذا العقار سام عندما يحقن في الجسم وأقل أثراً من البنسلين في مقاومة بعض ميكروبات لا يهاجمها البنسلين.
وقد صنع أحد الصيادلة منه حبوباً تطهر مياه الشرب من الأحياء التي تسبب الدوزنتاريا وغيرها من الأمراض.
تحليق الطائرات بالصواريخ
تزود بعض الطائرات الضخمة بالصواريخ لتساعدها على التحليق في الجو من بقعة أرض ضيقة المساحة. ويسهل على الطائرات التخلص من هذه الصواريخ بعد تحليقها في الجو وكانت عقبة استعمال الصواريخ في تعذر السيطرة عليها من جهة، وفي إيجاد مادة تتحمل الحرارة الشديدة التي يولدها اندفاع الغاز الأبيض من جهة أخرى وقد تيسر تذليل الصعوبتين.
منفاخ للطيران العالي
كان الحد الأقصى الذي يستطيع الطيارون الارتفاع إليه 42 ألف قدم. ولا يستطيعون المكث في هذا الارتفاع أكثر من دقائق، وقد أتيح اختراع منفاخ ينفخ الرئتين مثل البالون فيستطيع الطيار بواسطته الارتفاع إلى 50 ألف قدم لدقائق قليلة بينما يستطيع الطيران على ارتفاع 45 ألف قدم لمدة نصف ساعة.
فوزي الشتوي(611/47)
البريد الأدبي
الأستاذ النشاشيبي
كادت القاهرة في هذا الشتاء أن تكون حاضرة العالم كله. وفد إليها الملوك والرؤساء والوزراء وأقطاب السياسة وأعيان الأدب وأعلام الصحافة، فأشرقت بهم إشراق الفجر المسفر عن صبح يوم سعيد، ثم غادروها بعد أن وضعوا في تاريخ الشرق العربي عنوان فصل جديد. وكان آخر من تركها إمام العربية وخاتمة محققيها الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي رائد الوحدة الوحدة العربية بما حاضر وخطب، ورسول الجامعة الإسلامية بما ألف وكتب. والأستاذ النشاشيبي شخصية قوية تميزت بجملة من الفضائل والمواهب قلما تجتمع لأحد. وقف نفسه ووقته وجهده على دراسة الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيل اللغة وعلومها وآدابها من منابعها الصافية، وأعانه على ذلك قريحة سمحة وبصيرة نيرة وذاكرة قوية وذوق سليم، فكان آية من آيات الله في سعة الاطلاع وكثرة الحفظ وتقصي الأطراف وتمحيص الحقائق. ومن يقرأ ما ألف من الكتب، ويتتبع ما نشر من المقالات، يجد الدليل الناهض على كل ذلك.
كان مجلسه في (الكنتنتال) ندوة علم وأدب وفكاهة؛ لا تُذكر مسألة إلا كان له عنها جواب، ولا تثار مشكلة إلا أشرق له فيها رأي، ولا تروي حادثة إلا ورد له عليها مثَل، ولا يحضر ندوته أديب مطلع إلا جلس فيها جلسة المستفيد. حفظ الله الأستاذ الكبير في حله وترحاله، وحفظ العربية والعروبة بنبوغ أمثاله.
الدكتور عبد الوهاب عزام
أقيل الدكتور حسن إبراهيم حسن من عمادة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. وفي يوم الأربعاء الماضي اجتمع مجلس الكلية لانتخاب العميد الجديد، فانتخب صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام بما يشبه الإجماع. وفي هذا الانتخاب الموفق رفعٌ لهذا المنصب إلى المستوى الذي كان له حين شغله الأستاذان الجليلان طه حسين وأحمد أمين؛ فإن للدكتور عزام من سعة العلم وسمو الخلق ورفيع المكانة ما يرد إلى عمادة الآداب اعتبارها، ويحقق للكلية ما ترجوه من حسن الثقة وسداد التوجيه واطراد التقدم.
ذكرى الأستاذ أمين الريحاني(611/48)
في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم السبت الماضي احتفلت بيروت بذكرى الكاتب الفيلسوف الأستاذ أمين الريحاني بمناسبة قرار الحكومة اللبنانية (رفع رسمه في دار الكتب الكبرى، وإطلاق اسمه على أحد الشوارع المعروفة)، فافتتح الحفلة وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة، وخطب صاحب الدولة رئيس الوزارة السورية، فمندوب المملكة السعودية، ثم أنشدت قصيدة للأستاذ خليل مطران بك عن مصر؛ ثم تتابع على المنبر الأساتذة: خليل تقي الدين، وخليل السكاكيني، وسامي الكيالي، وعمر الفاخوري، وفؤاد باشا الخطيب، فوفوا صاحب الذكرى حقه من الإشادة بفضله والاعتراف بجميله.
ومصر الأدبية تشاطر المحتفلين الأفاضل هذه العاطفة الكريمة وتسأل الله أن يتغمد فقيد العربية بالرضوان والرحمة.
محمد رمزي بك مؤرخ البلدان المصرية
يلاحظ الذين يقرئون في كتاب (النجوم الزاهرة) لابن تغري بردى تعليقات ثمينة على الأماكن الأثرية والمدن والقرى المصرية.
وتكاد هوامش هذا الكتاب القيم تزدحم بهذه التحقيقات التي تدل على بسطة في العلم وسعة في الاطلاع، حتى ليخيل إلى القارئ أن صاحبها لم يدع أثراً من آثار مصر ولا خطة من خططها إلا تعرف إليه معرفة الخبير.
ذلك العالم الذي فجع العلم بوفاته في الأسبوع الماضي هو المرحوم محمد رمزي المفتش بالمالية سابقاً ومؤرخ المواقع المصرية ومحقق تاريخ الآثار والديار وصفتها وتحديد أماكنها القديمة إذا كانت ضاعت معالمها
كان محمد بك رمزي دليلا حافلا من دلائل الآثار المصرية وخاصة الإسلامية منها. وقد عرفت له الهيئات العلمية والدوائر الرسمية هذا الفضل فكانت تأنس إلى رأيه وتطمئن إلى تحقيقه ولطالما تهافتت عليه الهيئات وألحت عليه فصرفته عن التأليف المستقل إلى الكتابة هنا وهناك وهو في ذلك لا يشفق على سنه العالية؛ كأنه كان يزيد على الهرم مضاء وفتاءً.
ويشهد بهذا الفتاء الجزء التاسع من (النجوم الزاهرة) الذي خرج إلى سوق الأدب من عهد غير بعيد فإذا به يفيض بتحقيقات عجيبة لا يتسع لها صدر رجل جاوز السبعين. فهو(611/49)
يحقق في هامش صفحة 96 موضع (جامع بين السورين) ويناقش المقريزي مناقشة العالم.
ويعلق في ص 144 على (خانقاه سرياقوس) وتاريخ إنشائها فيصوب ما ذكره المقريزي ويخطئ رواية ابن تغري بردى في (النجوم الزاهرة).
وهكذا تجد للرجل - في هامش كل صفحة تقريبا - تعليقاُ وتحقيقاً وتصويباً وتخطيئاً. وهو في ذلك كله الحجة الثبت. وهو الذي عرف الدكتور عزيز سوريال عطية الأستاذ بجامعة فاروق الأول إلى المغفور له الأمير عمر طوسون فكلفه إخراج كتاب (قوانين الدواوين) لابن مماتي إخراجا علمياً. فقام الدكتور بالعمل؛ وراجع محمد رمزي بك الباب الثالث من الكتاب وهو الخاص بتقويم البلدان، وأقام ما فيه من تحريف وتصحيف فاستحق بذلك شكر الأمير وتقديره في مقدمته للكتاب
ولقد عرفت الفقيد معرف عين وحديث من ثلاثة أعوام. قدمني إليه محمود نصير بك فرأيت منه فضل التشجيع وحسن التقدير؛ ورأيت منه فوق ذلك تواضعاً أكبره في عيني؛ ورأيت تحت إبطه خريطة منتفحة لا يحمل فيها مالا ولا ذهباً؛ ولكن يحمل علماً وأدباً. . .
وحدثته بعد ذلك في (المسرة) حديثاً علمياً تاريخياً. وكان ذلك منذ عام. وما كنت أدري أنه حديث لغير لقاء. أجمل الله للعلم فيه العزاء.
محمد عبد الغني حسن
تصويب اسم كتاب
ذكر الأستاذ الفاضل منصور جاب الله في العدد (610) من مجلة الرسالة الغراء أن أسم كتاب صاحب العالي الدكتور هيكل باشا (الفاروق عمر) خطأ لأن علماء النحو من بصريين وكوفيين نصوا على أن الاسم يتقدم على اللقب في جميع الأحوال، فيقال: (عمر الفاروق) ولا يقال (الفاروق عمر)
وقد فات الأستاذ أولا أن اللقب إنما يجب تأخيره عن الاسم إذا لم يكن اجتماعهما على سبيل إسناد أحدهما إلى الآخر، فإذا كان اجتماعهما على هذا السبيل أخر منهما ما قصد المتكلم الحكم به. ويمكن أن يكون اسم هذا الكتاب (الفاروق عمر) على سبيل الإسناد. فهو جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر. وقد ورد عن العرب العلم المركب من جملة فعلية مثل تأبط(611/50)
شرا، وشاب قرناها، ولم يرد عن العرب المركب من مبتدأ وخبر، ولكنه جائز بمقتضى القياس كما ذكره الأشموني.
وفاته ثانياً أن تقديم اللقب على الاسم في غير الإسناد جاء نادراً في مثل قول أخت عمرو ذي الكلب:
أبلغ هُذَيْلاً وأبلغ من يُبَلَّغهُا ... عني حديثاً وبعض القول تكذيبُ
بأن ذا الكلب عَمْراً خيرهم حسباً ... ببطن شِرْيَاِنَ يغوى حوله الذَّيبُ
وكذلك ورد في قول أوس بن الصامت:
أنا ابن مُزيْقِيَا عمرٍو وجَدَّي ... أبوه منذرٌ ماء السمَاءِ
ولا شك أن ورود هذا، وإن كان نادراً، مما يكفي في تصويب اسم هذا الكتاب (الفاروق عمر)، والحكم بأنه خطأ مع هذا تعنت لا يقبل في عصرنا.
عبد المتعال الصعيدي
وقد زاد الأديب أحمد إبراهيم الغرباوي على ذلك بقوله:
وقد نقل العلامة (يس) في حاشيته على كتاب التصريح قول الزرقاني: (قد نص ابن الأنباري على أن اللقب إذا كان أشهر من الاسم يبدأ به قبل الاسم، كما في قوله تعالى: إنما المسيح عيسى بن مريم، فإن المسيح لا يقع على غيره بخلاف عيسى فإنه يقع على عدد كثير. ولذلك تقدم ألقاب الخلفاء لأنها أشهر من أسمائهم).
قال السيوطي: (ففي هذا تخصيص لإطلاق وجوب تأخير اللقب).(611/51)
الكتب
1 - فصول في الأدب والنقد
للدكتور طه حسين بك
2 - الفاروق عمر
للدكتور هيكل باشا
- 1 -
لعل في الكشف عن بيان الفرق بين الأدب النقدي؛ والنقد الأدبي تصويراً لمذهب الدكتور فيما يعرض له من الدراسات الأدبية والنقد الفني؛ فالأدب النقدي نستطيع تعريفه بأن قوامه الفن الأدبي ثم يتخلص الحين بعد الحين ليوجه النظر إلى ما يستثير الإعجاب أو ينبه في رفق ولين إلى ما لا يجمل أن يكون؛ فالقارئ في صحبته مستغرق فيما يفيضه الأدب من صور جذابة وإن استوقفه كلما أطرد بهما السير ليمعنا الفكر فيما تنطوي عليه تلك الآيات. أما النقد الأدبي فلا تعدو دائرة الصواب إذا قلت إن عماده الدرس والتحليل والتشريح؛ وإن كان أريج الفن ينشر شذاه ملطفا هذا الجو الذي هو أقرب ما يكون إلى الجو العلمي الثقيل الصارم؛ ولكنك مع الدكتور أبعد ما تكون عن هذا الجو الذي يبث السأم في النفس؛ ويسلط العناء على الذهن؛ ويجعلك تتشوق دائما إلى الخلاص من هذا الجهد المضني الذي يثقل عليك إذا طال بك العهد في جواره فهو يجيد كيف يسري عن القارئ؛ ويذود عنه أشباح الملل؛ ويذله عن نفسه بما يسوق بين يديه من الصور الهادئة الطبيعية الجميلة؛ فأنت معه - في الأدب الجاهلي - لست في صحراء موحشة ما تكاد تلم بها حتى تتلفت متطلعاً إلى الفرار منها: ولست محتاجا إلى تسليط إرادتك على عواطفك حتى يتسنى لك قطعها؛ وإطراح أثقالها وأنت متبرم بها ساخط عليها، بل أنت معها في مكان موفق أشبه ما يكون بأحد الملاعب؛ أو دور الصور المتحركة تجلس هادئاً مستريحا جذلانا؛ ثم تأخذ الصور تتهادى أمام ناظرك وكلها متعة؛ وكلها ترويح؛ فكل ما تصبو إليه أن تطول هذه الأوقات لتأخذ من هذا المتاع الروحي بحظ وافر؛ فلا تكاد تتقدم معه في القراءة حتى تشعر بالحاجة إلى المعاودة لاستبقاء اللذة واطراد المتاع؛ لأنه تمكن من النجاح في الاستئثار بالحواس(611/52)
وتقديم النظريات العلمية مغلفة وموشاة بأزاهير البيان فلا ينفر منها الحس، ولا تنبوا عنها، المشاعر، بل تنساب في هذه النواحي سهلة لينة، هذا هو سر الكلف بأدب الدكتور وتعلق القلوب به، حتى ذهب بعض النقاد إلى القول بأن أبحاث الدكتور الأدبية ستخلد ببيانها وعرضها وأسلوبها كما تخلد بنظرياتها وأنت في حل من أن تماري فيما يضم هذا الكتاب أو ذاك من آراء لا تطمئن إليها أو تذهب إزاءها مذهبا آخر؛ ولكن الذي ليس فيه مراء أنك مع هذه الأبحاث في جو فني بديع؛ على هذا الأسلوب يتناول الدكتور أبحاثه ودراساته الأدبية، فقد يذهب بك إلى (المتنبي) أو (أبي العلاء) أو (الأدباء المعاصرين) فتجد خير من يؤنس ويقدم ويدير الحديث؛ ويرفع الحجب بينك وبينهم؛ ويضع يدك في لباقة على مواضع ضعفهم؛ وجوانب مآخذهم؛ ولم يلبث أن يصوب اتجاهك إلى مبعث خلودهم؛ ومصادر عبقرياتهم؛ كل ذلك بهذه الطلاة وهذا الجمال وهذه الأريحية؛ وكل هذه الخصائص نجدها بارزة واضحة في هذه الفصول التي نشرها الدكتور حديثا في الأدب والنقد؛ وهي إن امتازت بشيء فهي تمتاز بأنها لم تقدم لنا شخصيات من العصر الجاهلي؛ أو الأموي؛ أو العباسي؛ مما يفصل بيننا وبينهم كثير من العادات والأذواق والنظرة إلى الحياة، بل تقدم إلى الشباب الذي يأخذ نفسه بالدراسات الأدبية شيوخه في الأدب؛ ومن هم في الطليعة ومن يحملون المشاعل لهدايته. ومن ذا الذي لا يحتاج من الشباب إلى أن يكون علمه عن شيوخه أتم وبصره بمذاهب تفكيرهم وشيات إنتاجهم أوفى؛ حتى يستطيع أن يتمثل كل ما يصدر عنهم تمثيلا صحيحاًً لأنه يتركز على دعائم من الدراسة التي تبرز طبائع كل منهم؛ ففي هذه الفصول تستطيع أن تقف على كثير مما كان يستتر عن فهمك مما يتعلق بهؤلاء الشيوخ. فأنت ستعرف كثيرا عن أمثال الأستاذ - أحمد أمين بك - وأدبه في رأي الدكتور، وستعرف عن الأستاذ - العقاد - والأستاذ - أبي حديد - وغيرهم ممن يكيفون النهضة الأدبية في الشرق؛ وتقف على اتجاهاتهم الفكرية وخصائص أقلامهم، كل هذا تظفر به من غير أن يشعرك الدكتور أنه سيعرض عليك شيئاً من هذا بل هو يجعل من - فيض الخاطر - مثلا - لأحمد أمين بك - سبباً للكتابة يعرج بك من هذا الجانب مرة؛ وذاك أخرى؛ ويرسم لك هذه الصورة ويدع لك هذا اللون وإذا بشخصية لا يند منها شيء ولا يخفى عليك منها خافية؛ ويسير على هذا النهج مع كل من عرض لهم في هذه الأحاديث؛(611/53)
والكتاب ممتع في أسلوبه؛ شيق في عرضه؛ خليق بالقراءة والدرس لأنه يقرب بعد الشقة التي تفصل شباب الأدب وشيوخه وتعطي لك صورة عن مذاهبهم الفنية؛ وإن حمدنا شيئاً فأنما نحمد رجوع الدكتور إلى ميدانه بعد أن طالت غيبته؛ وتشوفت القلوب إلى طلعته.
- 2 -
العصور الإسلامية أحوج ما تكون إلى البعث والصقل والربط بين أجزائها وترتيب المقدمات الصحيحة التي أفضت إلى هذه النتائج؛ لأن هذه العصور لا تزال مطموسة المعالم؛ حائلة الصورة؛ مفككة الأجزاء؛ ينقصها رفع الأغشية عن اطرادها المنطقي لسير حوادثها؛ وحركات تطورها؛ فتاريخنا لم ينل من العناية والدقة ما يحفظ عليه ملامحه؛ ويحدد كينونته؛ وتأخذه العين كائناً؛ حياً؛ له خصائصه وشياته؛ بل تجده أجزاء متفرقة؛ لا ينظمها تسلسل منطقي؛ ولا تربطها وحدة؛ وما أشبه تاريخنا بحومة وغى؛ انكشف تلاحمها عن أشلاء قد كدس واختلط بعضها ببعض، فعلى من يريد أن يرد إلى كل جسم بقاياه؛ أن يعمد إلى متناثره من هنا وهناك؛ حتى يستطيع أن يسوي منه مخلوقا؛ هكذا انتثرت مهايا العصور الإسلامية ومهايا رجالها في هذا الحشد المزدحم من هذه الأخبار المتضاربة أحياناً التي ينقصها في كثير من المواضع طابع الاتزان؛ نجد في هذا المكان لمحة عن هذه الشخصية أو العصر ربما أتت عرضاً؛ وفي ذاك صورة يمكن بعد نفض الغبار عنها أن تكون مادة قوية في رسم لوحة من لوحات هذا العصر أو ذاك؛ فرسالة المؤرخ لهذه الحقب أن يطيل النظر كثيراً مع استعانته بكل ما من شأنه أن يعينه على جمع الأشباه إلى الأشباه؛ والنظائر إلى النظائر؛ وإقامة حياة من ذلك الشتيت المتناثر؛ ثم يعمد إلى سد الفجوات في هذا البناء؛ وتنسيق الحوادث تنسيقاً منطقياً؛ حتى يبدو عليه وقار الحياة؛ وجلال الدرس القيم؛ ثم يلقي الأضواء دائماً على الجوانب التي يكتنفها شيء من الظلام؛ ويجلو الآفاق التي يخيم على تألقها الضباب؛ هنا يصبح التاريخ وهو قطعة حية من صميم الحياة المطردة والوجود المتماسك؛ والدكتور هيكل باشا أول من حاول هذه المحاولة في كتابة التاريخ الإسلامي على هذا الأسلوب العلمي الدقيق؛ فقد كان صاحب اليد في تجلية العصر النبوي؛ وإماطة اللثام عن كثير من جوانبه؛ وتوجيه الأنظار إلى مشرق النور؛ ومصدر السمو البشري؛ ومنزل الوحي؛ وتقديمها لأول مرة في هذا الثوب الجديد؛ وقد استطاع أن(611/54)
يعطينا صورة من هذه الفترة التي لونت حياة العالم الإنساني إلى حد العلمية في البحث والتحليل؛ والجمال الفني في العرض؛ والتصوير؛ وهاهو ذا اليوم يهدي إلى الأدب؛ والعلم؛ والتاريخ؛ شخصية من أضخم الشخصيات العالمية؛ وهي شخصية - الفاروق عمر - والعالم كله يجتاز هذه المرحلة وهو أشد ما يكون احتياجا إلى الأخلاق؛ والشجاعة؛ والعدل؛ والعطف؛ والمساواة؛ والأخذ على يدي الطاغي مهما كانت مظاهر سطوته؛ التي سنها عمر في سياسته وضربها مثلا في معاملته؛ وهذا الكتاب الجديد يحمل طابع المؤلف في كتابيه السابقين - حياة محمد - والصديق أبو بكر - من حيث الدأب في الحصول على كل ما يتعلق بهذه الفترة؛ وتلك الشخصية في كل ما تفرق من المصادر العربية؛ وما يتصل بها من البحوث الغربية التي قام بها المستشرقون - وإعمال الفكر؛ ودراستها دراسة تحليلية؛ ومناقشة كل ما يستحق المناقشة على الطريقة العلمية؛ ثم يترك قلمه يصوغها صياغة فنية خلابة؛ فكتابة الدكتور - هيكل باشا - تحمل دقة المنطق؛ وطلاوة الأدب؛ ومن هنا كانت قيمتها لأنها تشوق القارئ إلى اقتحام فيافي التاريخ الشاقة؛ وتعين الباحث المختص على تقديم مادة قوية في هذا المجال ويرسم النهج الذي يجب أن يحتذيه من ينهض بعبء هذه الرسالة، ولا ريب أننا تعوزنا هذه الأبحاث؛ وهذه الدراسات في تاريخنا الإسلامي وتقديمه للشباب في هذه الأساليب العلمية والهالات الفنية؛ حتى يتهيأ لنا أن نوقد الرغبة في قلوب الشباب ونثير الشوق إلى هذا التاريخ حتى يتسنى له أن يأخذ حظه من العناية والدرس بين الحضارات الأخرى؛ ومن هنا كان أهمية هذا المؤلف القيم عن هذه العبقرية الخالدة. . .
والذي نأمله ألا يلبث القارئ طويلا حتى يظفر بين يديه بشخصية جديدة من شخصيات هذا التاريخ.
محمد عبد الحليم أبو زيد(611/55)
العدد 612 - بتاريخ: 26 - 03 - 1945(/)
معروف الرصافي
1875 - 1945
نعى العراق هذا الأسبوع شاعره الباقي، فوجمت لمنعاه ألسن، وجزعت لفقده نفوس! ثم قرأنا أن بغداد قد غسلت شاعرها الراحل بالدموع وشيعته بالحسرات، وكنا قرأنا من قبل أن الرصافي في أعقاب عمره كان يطلب الغذاء الكفِيّ فلا يجده، ويلتمس الدواء الضروري فلا يناله!
لفظ معروف الرصافي أنفاسه الأخيرة في حجرة مظلمة مقرورة لا
يلطف جهومتها نور ولا نار، ولا يخفف وحشتها خليط ولا جار؛ ولم
تقع عينه الشاخصة وهو في نزاع الروح إلا على ورقة هنا وكتاب
هناك، أو على خادمه الأمين يتماسك لحظة ويتهالك أخرى، والدنيا
التي صحبها الشاعر سبعين عاماً يدل على جمالها العيون، ويغري
بمتاعها الأفئدة، لم تُجد عليه ساعة الوداع بيد رفيقة تغمض عينيه، ولا
بعين حبيبة تذرف دمعة عليه!
كان الرصافي - أحسن الله إليه - لسان العراق الصادق، ينقل عن شعوره، ويترجم عن أمانيه، ويحدو لركبه المجاهد في سبيل استقلاله وعزته بالحداء الحماسي المطرب، ويصور خلجات نفسه ووساوس أحلامه بالشعر الصريح المعجب؛ وظل هو والزهاوي وشوقي وحافظ ومطران حقبة من الدهر يؤلفون الأوتار الخمسة لقيثارة الشعر العربي الخالص. ولكل وتر درجته في الرنين والجهارة والأثر.
والرصافي أشبه بحافظ من الزهاوي بشوقي. وإن شئت فقل كانا الوترين الرابع والخامس في القيثارة: صوت عريض ضخم، وذبذبة ضيقة محدودة.
كان هذان الشاعران يتشابهان في أسلوب العيش وأسلوب الفكر. كانا صدًى لهتاف الجمهور في السياسة والاجتماع، ورجعاً لأنين المساكين في الألم والشكوى. وكانا يتقاربان في جوانب من ضيق الثقافة وقلة الاطلاع وبوهيمية الحياة. ولكن الرصافي كان متميزاً على(612/1)
نظرائه جميعاً بالصراحة الجريئة والاستهتار البالغ. كان يعيش ليومه وينطلق على هواه ويستجيب لغريزته، فيفعل ما يشاء، ويقول ما يعتقد، ويطلب ما يشتهي، ثم لا يبالي أين يقع ذلك كله من رأي غيَره. ولا مراء في أن لهذه الحرية المطلقة أصلاً في مولده ونشأته. كان أبوه من بدو الكرد وأمه من بدو العرب. وكانا فقيرين فولداه ببغداد في مهد بدوي خشن. ثم نشَّآه على أخلاق البادية الأصيلة. ثم أرخيا له الحبل وتركاه يعدو ويروح على مقتضى فطرته. ثم تبناه بالروح عالم العراق الأستاذ محمود شكري الألوسي فلقنه في اثني عشر عاماً أصول المعقول والمنقول من علوم الدين واللغة والأدب. ثم حاول أن يقبسه أشعة من نور سلفيته وتقواه، ولقبه بالرصافي رجاة أن يخلف معروفا الكرخي في صوفيته وزهده. ولكن غرائز معروف كانت أقوى، ومطامحه كانت أبعد، فخرج من هذه الرياضة الطويلة مسلم اللسان جاهلي القلب.
ووجد الرصافي العراق على فترة من الشعراء ينتظر أبا نواسه المبعوث، فصدح على ضفاف الرافدين صدحاته المعروفة فأصغت إليه الأسماع واهتزت له القلوب. ورأى الناس في أمثال قصائده: (المطلقة) و (أم اليتيم) و (اليتيم في العيد) أسلوباً من الشعر لم يعرفوه فأكبروه. وحاول أن ينفض عن نفسه غبار المتربة فزاول التعليم في المدارس بغداد. ثم كان من الذين صارعوا استبداد عبد الحميد بقوافيه المسمومة؛ فلما خر الطاغية وأعلن الدستور تعاظمه النصر وازدهته الشهرة، فاعتقد كما كان يعتقد الشعراء أن له أن يقول وعلى الناس أن يفعلوا، وأن له أن ينفق وعليهم أن يبذلوا. فذهب إلى الأستانة يطلب المجد بواسطة شعره، فكان قصارى أمره أن يكون خوجة في مدرسة أو محرراً في صحيفة. ثم سما به الحظ درجة فانتخب نائباً في مجلس (المبعوثان) عن لواء المنتفق؛ وظل في عاصمة الخلافة مدة الحرب الماضية حتى أعلنت الهدنة. وكانت ثورة العرب على الترك يومئذ قد انجلت عن عرش أمية في دمشق يجلس عليه فيصل الأول، ومن حوله سيوف الثورة وألسنتها من أمثال ياسين ونوري وجعفر ورستم وساطع. وجاء الشاعر الطماح يبحث عن مكانه في الدولة العربية الجديدة فلم يجد. فانقلب بعد طول الصبر وإدمان السعي إلى فلسطين خائب الأمل كاسف البال يبتغي العيش فيها من طريق التعليم. فلما انتقل العرش الهاشمي من الشام إلى العراق سنة 1921، عاد الرصافي إلى وطنه ورجا أن ينال(612/2)
في بغداد ما لم ينله في دمشق. وتهيأ خليفة النواسي لينادم خليفة الأمين، وإذا الأمل الفسيح والطموح البعيد يسفران عن وظيفة في وزارة المعارف! حينئذ تفجر غيظه المكتوم على السلطان ورجاله فأعلنها شعواء بالهجاء المقذع والتهكم الفاحش. ووسعه (معاوية بني هاشم) بحلمه، وتغمد إساءته بإحسانه، ففتح له الطريق إلى مجلس النواب ثم عاد فأغلقه دونه.
ونال الخذلان والحرمان من نفس معروف ومن جسده ففتر نشاطه وتراجع شعره، ورضي من دهره بالمهلكات الثلاثة: شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال!
وعلى هذه الحال المضنية أدركه الفقر والمرض والموت دون أن يجد آسيا من إيمانه، ولا مواسياً من إخوانه!
قلت لصاحبي ذات ليلة من لياليَّ في بغداد: أريد أن أزور الرصافي فقد زارني مراراً ولم أزره. فقال: أتشجع على أن تدخل حي البغايا؟ فقلت له: وما صلة هذا بذاك؟ فقال إنه يسكن بينهن، وقد تزوره واحدة أو أكثر منهن. فقلت له: هلم، فما يسع زواره من العذر يسعنا. ودخلنا البيت فإذا هو بيت الشاعر الأعزب المتلاف، لا أثاث ولا نظام ولا حرمة. وكلمة الشاعر هنا بدل الأديب تدلك على أن ليس بالمنزل مكتب ولا مكتبة؛ فقد كان الرجل لا يقرأ، وإنما كان يتكئ على شدة ذكائه وحدة فهمه، ويكتفي بما حصل في شبابه من أدبه وعلمه. كان في الردهة قوم يأكلون ويشربون، وفي حجرة النوم آخرون يسمرون ويلعبون، وكان الرصافي يتصدر هؤلاء، في يمناه كأس، وفي يسراه ورق. فلما رآني فض اللعب وأقبل بأنسه عليّ. ثم أخذ يشرب ويتحدث بالغة العارية عن الحقائق العارية في غير اكتراث ولا تحفظ. ويظلم الرصافي من يقيد عليه في مثل هذه الحال. ولكن نداماه يروون شعره أو يذيعون حديثه فيبلغ صاحب المُلك فيغضب، أو صاحب الحكم فيعجب، أو صاحب الدين فيصخب، أو صاحب الخلق فيثور. وكل أولئك يعادون الرصافي، ولكنهم يهابونه لشخصيته، ويحترمونه لعبقريته، ويتربصون به سوء المصير
هذه صورة مصغرة لحياة الفقيد الكريم، أما عقيدته فالأمر فيها لله لا للناس، وأما شاعريته فالحكم عليها للناقد لا للمؤرخ. وقد يكون لنا إليها عودة. . .
احمد حسن الزيات(612/3)
الرقص. . .
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
نشر أحد الكتاب مقالة صالحة في (البلاغ) الغراء ذكر فيها الرقص وبيّن محاسنه، وحض الناس عليه. والرقص شيء حسن لا يجادل في فضائله وحسناته مؤمن
(الرقص) شيء حسن ... ليس به من حرج
أقل ما فيه ذهاب ... الهم عن قلب الشجي
وقد كان الآباء المتقدمون يتعلمون الرقص ويرقصون. ولإسحاق الموصلي (كتاب في الرقص والزفن) ذكره ياقوت في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)
وفي (السيرة الحلبية): (عن أبي بشر أن النبي وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكرعليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا من التكسر)
وقال ابن عساكر في تاريخه الشهير:
(كان العباس بن الوليد بن عبد الملك فارساً سخياً، وكان يقال له فارس بني مروان، وافتتح مدناً وحصوناً من بلاد الروم. وكان الوليد يجد بالعباس ابنه وجداً شديداً، وكان له من قلبه أحسن موقع، فأدبه بجميع الآداب حتى علمه الرقص وضرب الطبل)
وفي كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطب): (كان المنصور بن أبي عامر) (سلطان الأندلس) قد عزم في يوم على الانفراد. فأمر بإحضار من جرى رسمه من الأدباء والندماء، وأحضر الوزير (أحمد بن شهيد) في محفة لنقرس كان يعتاده، وأخذوا في شأنهم. فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، وطما الطرب، وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى أبن شهيد. فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل، ويومئ إلى المنصور وقد غلبه السكر:
هاك شيخاً قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا
لم يطق يرقصها مسثبتاً ... فانثنى يرقصها مستمسكا
عاقه عن هزها منفرداً ... نقرس أخنى عليه، فتكا
من وزير فيهمُ رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا
أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالاً على رأسي لكا(612/4)
قهقه الإبريق مني ضاحكاً ... ورأى رعشة رجلي فبكى
وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها. وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي حسن النادرة سريعها، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه. فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي يمنعه من الحركة قال: لله درك يا وزير! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة. . . فضحك المنصور، وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي)
وفي (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار): (قال محمد بن المؤمل: كنت مع أبي العتاهية في سميرية ونحن سائرون إلى (أشموني) فسمع غناء من بعض تلك النواحي فاستحسنه وطرب وقال لي: أتحسن أن ترقص؟ فقلت: نعم.
فقال: فقم بنا نرقص.
فقلت: في سميرية؟ أخاف أن نغرق.
قال: إن غرقنا أليس نكون شهداء الطرب؟. . .)
وفي (كتاب الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني: (قال عبد الله ابن جعفر: يا غلام، مر فلانة أن تخرج، فخرجت معها عود، فقال عبد الله: إن هذا الشيخ (يعني صديقاً له) يكره السماع. فقالت: ويحه! لو كره الطعام والشراب، كان أقرب له إلى الصواب. فقال الشيخ: فكيف ذاك وبهما الحياة؟
فقالت: ربما قتلا وهذا لا يقتل. فقال عبد الله: غني
لمن ربع بذات الجيش ... أمس دارسا خَلَقا
فغنت، فجعل الشيخ يصفق ويرقص ويقول:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيَمْ ويحرك رأسه، ويدور حتى وقع مغشياً عليه. . .)
وذكر القوصي في الوحيد أنه كان للشيخ ابن الفارض جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
حبذا مجلس أنس ... ضمنا بعد شتات
مجلس يرقص فيه ... طرباً قاضي القضاة(612/5)
وفي (يتيمة الدهر) لأبي منصور الثعالبي: كان القاضي التنوخي في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على التبسط في القصف، وهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنوخي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، كذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس، وطاب المجلس، ولذ السماع، وأخذ الطرب منهم كل مأخذ - وهبوا ثوب الوقار للعقار، ويرقصون أجمعهم. وإياهم عنى السري بقوله: (مجالس ترقص القضاة بها) فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاة، وحشمة المشايخ والكبراء.
هذا قليل من كثير من أخبار الرقص والراقصين من السلف الصالح، فكبيرة أن نحرم ما حللوه، وأن نستهجن عملا قد استحسنوه، وهم الناس عندنا، وهم لنا قدوة. بيد أنّا نقول: إلا يرى الكاتب الفاضل والعقلاء من أهل الرجولية والحزم أنا (معشر العرب) أحوج في هذا الوقت إلى إتقان فن (الإنقاذ) منا إلى تعلم فن (الرقص)؟ و (اليوم أمر وغداً خمر) وأنا حقيقون أن نتمثل بما تمثل به البطل الأموي (عبد الملك بن مروان) حين أقبلت عليه تلك الحوراء الباهرة وهو في محرابة (أبن الأشعث):
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأظهار
حتى إذا نجونا مما نحن فيه أجبنا داعي الطرب، ورقصنا الرقص العجب؟(612/6)
الواحد!. . .
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
(البحيرة الكبيرة من المنبع الصغير هذه الحرب من قلب
واحد. صمامات التيارات العظمى. الفرد المنشود عالم معقد
التبادل بين الفرد الواحد والإنسانية الجامعة. توزيع الدنيا على
الأفراد والأفراد على الدنيا. من جذور الشجرة الإنسانية إلى
ثمارها. لابد لحياة الشجرة من اعتراف كل جزء فيها بكل
جزء)
تظهر بوضوح قيمة الفرد البشري الواحد، ومبلغ آثار تصرفه، في تدبير تشرشل أو هتلر أو روزفت أو إينونو أو أبن سعود أو ستالين أو أيزنهاور أو أمثالهم. فإن تصرف أحدهم يجر على أمته إما الحسن والفخار، وإما السوء والدمار.
ففي أمثال هؤلاء يتبين كيف يجر فرد واحد العالم، أو شعبه وراءه فيخفضه أو يرفعه. ومعنى هذا أن الفرد البشري ذو قيمة كبرى في حياة الاجتماع، وأن وضعه هذا يحتم عليه وعلى الدولة أن يحترسا دائماً من سوء تصرفاته، وما يجلبه على الاجتماع من الضرر.
فتصرف الفرد في الحياة الاجتماعية أشبه بتصرف ماء مستبحر من ثلم رخو، على أرض منخفضة، يبدأ ضعيفاً، ثم لا يلبث أن يتحول سيلاً حَدوُراً لا يستطاع ردُّه.
ومهما قيل في حكم الديمقراطية المطلقة، والشورى الفضفاضة، فروح الانتقال والبطولة، وفتح آفاق جديدة تتركز غالباً في فرد واحد. وخصوصاً عند الأزمات الخطيرة، ويكون هذا الفرد حينئذ كموضع نبع الماء في البحيرة التي يكونها، ويكون آثاره وعظمته بها. فموضع النبع صغير، ولكنه هو البحيرة الكبيرة في الواقع!
وكيف انبثق هذا الدمار في هذه الحرب على العالم؟ لقد انبثق من قلب رجل واحد ملئ قلبه بالحقد والضغينة على الذين رآهم لم ينصفوا أمته. وتجمع الحقد والضغن في قلبه، كما يتجمع القيح والصديد والرَّحَضُ في رأس خراّج، فيصيب جسم أمته بالحمى والرعدة، ولا(612/7)
يمكن سده إلا بعد التصفية النهائية.
فهل بعد هذا يحتقر بعض الأمم شئون الفرد الواحد ويتركونه مهملاً، زاعمين أنه لا وزن له إزاء الأمة أو العالم؟!
وهل قام الخير، أو قام الشر إلا بواحد؟ الواحد هو أساس العدد اللانهائي.
وهكذا إذا أراد الله أن يتصل بالناس جميعاً اتصال تغيير في نظمهم المعاشية والسياسية والدينية، وضع يده في قلب واحد، وسلط منه تياراً خفياً على الجميع. فإذا كان يريد خيراً بالعالم أطلق تيار الخير من قلب رجل خير، وإذا كان يريد نقمة وقصاصاً أطلق تيار الصعق والحرق السريع أو البطيء من قلب رجل شر.
فلنجتهد أن نجعل قلوب الأفراد مواضع ليد الله حين يريد الخير.
والعناية والمشيئة الإلهية التي تخرج وجوه الناس ونفوسهم وعقولهم صوراً شتى متمايزة مهما كثرت الأعداد، بحيث لا يتشابه وجهان، ولا يتماثل عقلان في كل شيء حتى ولو كانا لتوأمين، ترشدنا إلى أن نرى في كل فرد جانباً متميزاً من الإنسانية، وأنه موضع عناية وقصد من مخرجه.
ولو فهمت الدولة قيمة القصد في الفرد الواحد وخطره في الحياة في حالتي صلاحه وفساده، إذن ما كانت تسمح لنفسها أن تترك فرداً دون أن تمر عليه بمنظار مكبر يكشف عن أدوائه ومنافعه.
فالفرد إما بؤرة ظلام نجس وفساد متنقلة تحمل الجراثيم الفتاكة معها حيث حلت. . . وإما بؤرة صلاح وطهارة وإشعاع تحمل وتعكس عوامل الحياة والجمال معها حيث حلت. وشتان ما بينهما! فكيف تهمله الدولة هذا الإهمال الشنيع وهو ما هو في جسمها؟!
لو أفلت فرد شرير شيطاني من قيادتها وحراستها إذا لعاث فساداً في حرثها ونسلها وعمرانها. ولو ضاع فرد ملكي من رعايتها وتعهدها وتشجيعها، إذاً لضاع عامل عظيم من عوامل نموها وارتقائها وسعادتها. ولعل فيه ما يرفع النوع كله.
ويظن أكثر الناس أنه يكفي لإنشاء (الفرد الإنساني) أن تطرح بذرة منوية في رحم من الأرحام، تولد بعد مدة، فتنمو حتى تكون ذلك الجسم المعهود الذي يملأ أسواق الحياة، ونسوا أنهم في إنشاء شجرهم وغراسهم وحيوانهم يسلطون يقظتهم وعملهم وتعهدهم الدائم،(612/8)
حتى يحصلوا على ما يريدون من الأصناف المطلوبة المرغوبة. وأنهم يستهترون ويحاربون الآفات التي تدنو من حرثهم وحيوانهم.
إلا إن الإنسان المنشود عالم معقد ليس الجسم الظاهر إلا وعاءه وقالبه! أما سره ومعناه ولبابه كما يريد رب الحياة من (النوع) فأمور لا تظهر إلى عالم الاجتماع إلا إذا اجتمعت لها عوامل الحياة الصالحة بنسب موزونة.
وإن الروح التي عنها يتحدثون هي نتيجة تفاعل الحياة الحيوانية في الجسم مع نتائج التربية والبيئة والتعليم وجميع المؤثرات. إنها كائن ينفصل عن الجسم كنتيجة وجود هذه العوامل الأرضية المختلفة. وإن من أدواتها ذلك اللوح الخفي السريع التأثر الذي ينطبع فيه ما يقع عليه، أو يتخايل أمامه من المؤثرات.
فالذين يلقون بذور الإنسان في الأرحام ولا ينتقونها قبل إلقائها، ولا يهيئون الجو الصالح وهي في مستودعها، ولا البيئة الصالحة وهي في نشأتها، ويتركونها هكذا تتداولها العوامل الطبيعية مصادفة؛ هؤلاء ينبغي ألا ينتظروا من الحياة أن تعطيهم تلك الوحدات الإنسانية المنشودة القريبة من الكمال في صفات نوعها.
والإنسانية ملك الفرد، والفرد ملك الإنسانية. وما كان من المستطاع أن يحصل الفرد الإنساني ما يحصله الآن من الأفكار والمعلومات والتجارب والأرزاق والمتاع لو أنه عاش فريداً متأبداً، أو لو أنه اعتزل حياة الاجتماع.
فنحن جميعاً بازاء بحار المعاني يأخذ كل فرد منا غرفة منها يلونها في إنائه الخاص، ثم يقدمها إلى غيره من الناس. وكلما أضيف فرد إلى المجموع زاد أفق من آفاق الحياة في الأرض. ولن يمكن أن يحل فرد محل آخر، فان كل ثمرة إنسانية لها سر خاص لا يرى في سواها. وإني ما أجلس مع فرد ما إلا أرى فيه صورة للدنيا لست أراها في مجلس مع غيره.
ومن العجيب أن كل فكر يريد أن يطبع الإنسانية على غراره ويحملها على حياة تصدق منطقه، مع أن التوزيع والتمايز بين الوحدات الإنسانية قانون مطرود.
وينطوي فكر كل فرد على صورة للدنيا غير الصور التي في أفكار الآخرين، فكل فرد يرى الدنيا من خلال نفسه، والأكوان عدد العقول.(612/9)
وما أعجب أن تنظر إلى وجوه الناس ورءوسهم! إنها صفحات يبدو للناظر العجلان أنها سطحية ضحلة. ولكنها للناظر المتملي المتفرس تقذف به إلى لا نهائية ذات أعماق. والعيون هي مسالك تلك الأعماق!
وكذلك يثير وجه كل فرد وعقله صورة من صور الدنيا. وكل فرد كأنه الحياة كلها مستقلة. حتى ليخيل إليك أن الدنيا الإنسانية تنقص بموت فرد واحد، وأن مكانه لا يملؤه غيره سواه علا أم سفل، علم أم جهل. فتوزيع الدنيا على الأشخاص، وتوزيع الأشخاص على الدنيا يعطي صورة فنية أو حبكة مسرحية يحشد فيها الفن الرفيع والإخراج البديع.
ولذلك قالت التوراة والقرآن: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. . .)
ومن هنا جاءت قداسة الحياة الفردية في الشرائع، واستنكر الاعتداء عليها استنكاراً إجماعياً. وقد أعطت الإنسانية الفرد حرية تخيلتها لنفسها واستوحتها من إحساسها العام وضميرها المشترك.
والإنسانية كجسم شجرة واحدة، فيها جذور لا بد أن تعيش في الطين والظلام والعفونة لتحلل غذاءها وتأخذه عناصر بسيطة تركب منه ما تشاء من اللباب والقشور والأزهار والثمار والعطور إلى آخر ما في عالم الأشجار.
وفيها سيقان لا بد منها لتحمل غيرها وترفعه إلى عالم الجو والضوء والنسمات.
وفيها أوراق تبلغ من الكثرة حداً كبيراً يرتفع إلى مستوى الزينة ويشترك في صميم العمل الضروري لحياة الشجرة، لأنها رئات يتنفس بها الشجر.
وفيها أزهار وهبها واهب الحياة العطر والجمال، وأخرج فيها روحاً خاصاً يخيل للناس أنها ليست من عالم الطين والعفونة والتحلل والظلام.
وفيها ثمرات هي صناديق أسرار الشجرة ومستودع حياتها المقبلة. وهي روح الشجرة تحمل سر نوعها من الماضي للمستقبل.
ولا مفر من اعتراف كل جزء من الشجرة بكل جزء آخر لتحيا جميعها. ولا بد أن يعلم كل جزء أنه وضع في موضعه الرفيع أو الوضيع ليخدم نفسه ويخدم الجميع. والسفالة في الموضع أو العلو فيه، والعلانية أو الخفاء كلها نظرات اعتبارية في الظاهر، والحقيقة أن(612/10)
نصيب العمل واحد، والنتيجة واحدة: هي حياة الشجرة بحياة أجزائها، وحياة الأجزاء بحياة الأم.
وينبغي ألا ينظر جزء من الشجرة لآخر، وإنما ينظر لليد التي وضعته في كل ليؤدي دوره وخدمته، ويكفي عزاء لما سفل واختفى أن حياته كثيراً ما تكون أثبت وأدوم مما علا.
ويكفي عزاء لما علا وارتفع عن سرعة فنائه أنه أجمل وأشهر. وكلا المعنيين جدير أن يحار بينه وبين قسيمه الاختيار.
إلا إننا ممثلون نؤدي أدواراً يرسمها ويحملنا عليها مؤلف رواية الحياة ومخرجها، بديع السموات والأرض! فينبغي أن نعرف مواضعنا الحقيقية من الكون، وأدوارنا فيه نؤديها على أكمل وجه، ثم نختفي وراء (الكواليس) إلى يوم إصدار الرواية الأخرى التي سنؤديها في المسرح الأكبر، في الكون الواسع!
فقط اضمنوا لكل عامل بارع مهما كانت مواد عمله خسيسة أو كريمة مكافأة وتكريماً وتعظيماً لمواهبه. ولا تقصروا اهتمامكم وتمجيدكم على الأجزاء الرفيعة الملونة المزوقة من شجرة الإنسانية: والساسة والحكام والأثرياء، ومن إليهم من الذين خصهم المجتمع الجاهلي بالاحترام، بل امنحوا وقدموا ذلك الاهتمام والتمجيد لكل عامل بارع في عمل من أعمال الحياة الإنسانية، تتفتح لكم أبواب من سعادة الحياة ما كنتم تتصورون أن وراءها شيئاً ذا قيمة وتأثير في حياتكم يعادل تأثير السياسة والحكم وما إليها.
اقضوا على تخصيص الحكام وذوي السلطان والثراء بتعظيمكم وخشيتكم، وانظروا لغيرهم كذلك من العمال والكناسين وغيرهم وكرموهم كرامتهم، فان لهم في الدولة أثراً لا بد منه كآثار (أصحاب الدولة)!.
عبد المنعم محمد خلاف(612/11)
اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس
للآنسة دولت حسن الصغير
نشر في مقتطف فبراير الماضي نص خطبة ألقاها الأب الفاضل أنستاس الكرملي، بين فيها أن أبناء يعرب القدامى اختلفوا إلى جزر القصدير ببحر المانش، وعرفوا تيار الخليج واتخذوه لهم ناقلا إلى تلك الربوع المعروفة الآن باسم المكسيك. واستدل على ذلك من الأسماء العربية للحيوان والطير التي تعرف بها إلى اليوم في تلك البقاع.
وكنت أحسب قبل مطالعة كلمته الرائعة، أنه سيورد من المراجع العربية ما يثبت أن من أبناء قحطان من اقتحم البحر المحيط ليرى ما به من الأخبار والعجائب ويقف على نهايته. غير أن الأب - أبقاه الله ذخراً للعروبة - اعتمد في كل ما قرره على مصنفات الأغراب فحسب، إلا ما وجده نبها بنفسه.
وليس لي أن أفند ما جاء به العلامة من تحقيقات لغوية، فما إلى هذا رميت في هذا المقال - ولكنني سأعني بالتحدث عمن ركب من العرب البحر المحيط قبل أن يركبه كلمبس، معتمدة على ما جاء بالمصادر العربية
ثبت قطعاً أن خرستوف كلمبس ليس أول من حط رحاله بالدنيا الجديدة، ولكن رحلته إليها هي التي فتحت أعين الناس على هذا العالم الجديد، فبدئ من بعده الظعن إليه والاستعمار.
حدثنا الأب أنستاس بنبأ رحلة الراهب برندان إلى جزيرة إيسلنده (المعروفة عند العرب باسم ثولي)، وجزائر الكناري (الخالدات)، ثم نزوله على الساحل الأمريكي في النصف الثاني من القرن السادس، كما حدثنا بخبر بعض الرهبان الأرندليين - الذين كانوا يدهشون لركوب العرب تيار الخليج القادم من المكسيك - ونزولهم في القرن الثامن الميلادي إلى سواحل أمريكا الشرقية. غير أن التاريخ غمط حقوق بعض الرواد المغامرين من يعرب، الذين ركبوا الأهوال محاولين اختراق الخضم المحيط المعروف في ذلك الحين باسم بحر الظلمات.
الكرة الأرضية والبحر المحيط عند العرب:
نقل العرب كتاب المجسطي لبطليموس القلوذي في مطلع العصر العباسي، وقالوا في أزياجهم وكتبهم الجغرافية إن الأرض كروية. جاء في مروج الذهب للمسعودي: (ذكروا أن(612/12)
الأرض مستديرة، ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات، وأخذوا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر أقيانوس إلى أقصى عمران الصين) و (علموا أن الشمس إذا غابت في الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة المذكورة التي في بحر إقيانوس. وإذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين. وذلك نصف دائرة الأرض، وهو طول العمران الذي ذكروا أنهم وقفوا عليه). ولعمري إن هذا تحديد دقيق لما يعرف اليوم جغرافيا نصف الكرة الشرقي.
وقال المسعودي أيضاً: (إن أقصى العمران في المشرق إلى حدود بلاد الصين والسيلي إلى أن ينتهي إلى بحر أقيانوس المظلم المحيط. وأقصى عمران المغرب ينتهي إلى بحر إقيانوس المحيط أيضاً).
فكأن الأقيانوس المحيط كان - بحسب ما عرفوه - متصلا من أقصى العمران في المشرق إلى أقصى العمران في المغرب. وهو ما يعرف اليوم جغرافيا باسم نصف الكرة الغربي.
وتواترت الأخبار قديما بأن بحر الظلمات هذا لا تدرك غايته، ولا يعلم منتهاه. وأنه بحر لا تجري فيه جارية ولا عمارة. جاء في كتاب الشريف الإدريسي - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق - (ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشر فيه على خبر صحيح، لصعوبة عبوره، وظلام أنواره، وتعاظم موجه، وكثرة أهواله، وتسلط دوابه، وهيجان رياحه. وبه جزائر كثيرة منها معمورة وغير معمورة).
وكان يعزز ما تواتر عليه الناس عنه، أسطورة مأثورة عن قدامى اليونان تقول بأن هرقل بنى أعمدة من النحاس والحجارة. حداً بين بحر الروم والأقيانوس. وعلى أعلاها كتابه وتماثيل مشيرة بأيديها أن لا طريق ورائي لجميع الداخلين إلى ذلك البحر المحيط. وأشار المسعودي إلى هذه النصب بما نصه. (وعلى هذا البحر المحيط مما يلي الأندلس، جزيرة تعرف بقادس مقابلة لمدينة شذونة. . وفي هذه الجزيرة منارة عظيمة عجيبة البنيان، على أعاليها عمود تمثال من النحاس يرى من شذونة وورائها لعِظَمه وارتفاعه. ووراءه في هذا البحر على مسافات معلومة تماثيل أخرى في جزائر يرى بعضها مع بعض، وهي التماثيل التي تدعى الهرقلية، بناها في سالف الزمان هرقل الجبار، تنذر من رآها أن لا طريق وراءها ولا مذهب، بخطوط على صدرها بينة ظاهرة ببعض الأقلام القديمة، وضروب من(612/13)
الإشارات بأيدي هذه التماثيل تنوب عن تلك الخطوط لمن لا يحسن قراءتها. صلاحا للعباد، ومنفعاً لهم من التغرير بأنفسهم في ذلك البحر).
وكان الحكماء والجغرافيون من العرب، يعرفون أن هذا البحر موصل إلى الهند. فقد جاء في كتاب السماء والعالم لأرسطو في الدليل على صغر الأرض أن الموضع الذي يدعى أصنام هرقل، يختلط بأول حد من حدود الهند. ولذلك قالوا إن البحر واحد)
رواد المحيط من العرب
واقتحام أبناء قحطان بحر الظلمات، وركوبهم أهواله أمر لا مرية فيه، وقد بسط الأب أنستاس الدليل على ذلك نقلا عن هيرودوتس وعن استرابون. ونحن بدورنا نبسط الدليل نقلا عن المصادر العربية.
جاء في مروج الذهب صفحة 71 في ذكر الكلام عن البحر المحيط (وله أخبار عجيبة، وقد أتينا على ذكرها في كتابنا (أخبار الزمان) في أخبار من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا).
وإذا لم يحفظ لنا التاريخ قول المسعودي في أخبار من ركب هذا البحر، فقد ذكر لنا الإدريسي في كتابه الجغرافي النفيس قصة الاخوة المغرورين أو المغررين الذين خرجوا من لشبونة، وضربوا في عرض المحيط، ثم عادوا يقصون على الناس مشاهداتهم. ولعلهم حاولوا عبثاً إقناع القوم بوجود دنيا جديدة وآفاق حديثة، وراء لجج المحيط، فرماهم البعض بالغرور والبعض بالتغرير. قصتهم ولا ريب، كانت معروفة قبل المسعودي - والأرجح أنها وقعت في القرن الثالث الهجري - التاسع المسيحي - وتناقلها الناس بعد ذلك فلحقها شيء من التحوير والتبديل، شأن جميع الروايات التي تجري على الألسن وتدخل في عداد الأساطير. لذلك سنورد القصة كما استقاها الإدريسي من الأفواه في منتصف القرن السادس الهجري - الثالث عشر الميلادي.
قال في كتاب - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق -
(من مدينة لشبونة، كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم. ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمه، درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين، إلى آخر الأبد. وذلك أنه اجتمع ثمانية رجال كلهم أبناء عم،(612/14)
فأنشئوا مركباً حمّالاً، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس (كذا) الريح الشرقية. فجروا بها نحو من 12 يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف. ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة، فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري. فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها. فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث. فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك. فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دار. فرأوا رجالا شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب.
فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم. فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.
فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه، فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.
ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيراً، وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر؛ قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا، وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس، ونحن في ضنك وسوء حال من شد الأكتاف؛ حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلونا من وثاقنا، وسألونا،(612/15)
فأخبرناهم بخبرنا. وكانوا برابرة. فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي. فسمي المكان إلى اليوم أسفي، وهو المرسى في أقصى المغرب)
والذي نستخلصه من رواية الإدريسي، أن الاخوة الذين نعتوا ظلما باسم المغررين أو المغرورين، ركبوا البحر المحيط من لشبونة عاصمة البرتغال الحالية، فضربوا في عرضه غربا، ثم انعطفوا نحو الجنوب، فوطئوا أرض جزيرة بها غنم وتين بري، بعد مسيرة أربعة وعشرين يوما؟. ونحن نستبعد أن تكون جزيرة الغنم هذه إحدى جزر اللازورد (أزوره) لأنها تقع غرب لشبونة لا إلى جنوبها الغربي؛ ولأنها جزر مسكونة من قديم الزمان عرفها القرطاجنيون والنورمانديون والعرب، كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية. وقد هاجر إليها فريق من عرب أسبانيا بعد طردهم من الأندلس.
والذي نظنه، هو أن هؤلاء الاخوة حطوا رحالهم في إحدى جزر برمودة أو جزر الانطيل، إن لم يظعنوا إلى أحد أنحاء المكسيك، بلاد التين البري (وفصائل الصبير)، والتي كانت تزخر بقطعان الماشية المعروفة عند الغربيين باسم البافالو. (بالفرنسية أو قطعان اللاما إحدى فصائل الأغنام الأمريكية. والذي استوقفنا فيما تواتر على ألسنة الناس في هذه القصة هو ذكر الغنم والتين البري. أما الغنم فكانت الدنيا الجديدة عامرة بقطعان البافالو واللاما - وكاد النوع الأول ينقرض الآن لأن المستعمرين الأوربيين أكثروا من صيده للانتفاع بجلده - وأما التين البري فنحسب أنه تعبير وصفي لفصائل العائلة الصبارية التي تنبت في أمريكا الوسطى عامة وسواحل عامة وسواحل المكسيك خاصة، وهي مشهورة بها كشهرة مصر بنيلها وأهرامها. أفيحق لنا أن نظن أن ما هبط إليه الاخوة (المغامرون) كان أحد أنحاء المكسيك التي منها يخرج تيار الخليج ويعرج فيها:
هذا رأي لا يحمل إلا على محمل الظن. . والله أعلم
وهناك قصة لمغامر آخر اقتحم البحر المحيط، ولا يعرف إلا الله مصيره ومن تبعه. في النصف الأول من القرن الثامن الهجري (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي) يحدثنا ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الملك موسى بن أبي بكر أحد ملوك (مالي) في السودان الغربي، وكان معاصرا لصاحب مسالك الأمصار في أيام(612/16)
الملك الناصر بن قلاوون. قال (قال ابن أمير حاجب والي مصر، عن الملك موسى ابن أبي بكر: سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك. فجهز مائتين من السفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها ألا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته، أو تنفذ أزوادهم. فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منها سفينة واحدة، وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم فقال: سارت السفن زمنا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه. . فجهز ألفي سفينة، ألفاً للأولاد، وألفاً للأزواد. واستخلفني، وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. وكان هذا آخر العهد به وبمن معه). فهل وصل هذا الملك المغامر بقافلته العريضة المزودة إلى بر السلامة أم ابتلعته ومن معه لجج المحيط؟ لا نحسب أن إقدام هذا الملك الجسور على اقتحام البحر كان من قبيل الظن بان للمحيط غاية تدرك، فلربما كان لديه من الأبناء والوقائع ما دعاه أن يكذب مقدم السفينة العائدة، ويركب أهوال البحر بألفي سفينة ليصل إلى غايته.
ومما يغلب على الظن أن كلمبس وقف على خبر الاخوة المغرورين، وعرف أنهم هبطوا إحدى الجزر فيما وراء المحيط - ولعله كان على علم بنبأ رحلة برندان - ولا جدال في أنه اطلع على ترجمات الكتب الجغرافية العربية التي تقول بكروية الأرض، وبأن البحر المحيط موصل إلى الهند. ثم استطاع أن يقنع الملكة إيزابلة، وسار بسفنه الشراعية الثلاث في 3 أغسطس سنة 1492 متخذا سبيله في المحيط غرباً، ثم جنوبا بغرب، حتى وصل في 12 أكتوبر إلى جزيرة غواني هاني (التي عرفت فيما بعد باسم سان سلفادور) وكأن معاصريه لم يجدوا فيما أتى به بدعاً، ولم يروا فيه أول مقتحم لبحر الظلمات. فضرب لهم مثل البيضة المعروف، ومات في بلد الوليد عام 1506 آسفا محسورا.
وبعد فهذه حقائق مستقاة من المصادر العربية، تثبت أن أبناء يعرب جابوا بحر الظلمات قديما. على أن أخبار مقتحميه منهم وما شاهدوا منه وما رأوا لم تلق من الناس والمؤرخين الأقدمين اهتماماً كبيرا. وهناك ولا ريب كثير من رواد المحيط الناطقين بالضاد ركبوا في قوافل بحرية كبيرة مثل ملك (مالي)، بيد أنهم لم يجدوا من يؤرخ لهم. ولا ريب أن بعضهم حط رحاله في ربوع أمريكا الوسطى وجزائرها. لذلك لا نعجب أن رأينا فيها كثيراً من(612/17)
الأسماء العربية العائدة إلى الحيوان والطير.
(لإسكندرية)
دولت حسن الصغير(612/18)
يوحنا الدمشقي
للدكتور جواد على
تتمة
ومن آراء هذا القديس أن النبي الكريم كان قد تلقى تعاليمه من أحد أتباع (آريانوس) (المتوفى سنة 336 للميلاد) والذي كان قد أنكر ألوهية المسيح فحرمه مجمع نيقيا ? الذي انعقد في عام 253 للميلاد، ثم أكد هذا التحريم المجمع الثاني الذي انعقد في القسطنطينية. وكان من أشد خصومه (أثناسيوس) رئيس أساقفة الإسكندرية القائل على العكس بألوهية المسيح.
وهو قول ردد صداه المستشرقون فيما بعد. وقد فاتهم بأن البدعة (الأريوسية) أو (الآريانية) لم تكن معروفة في البلاد العربية، فلا يمكن أن يكون الرسول قد تعرف إلى أحد من أتباع هذه الشيعة. وقد فاتهم أيضاً بأن النسبة إلى (الأريوسية) كانت شائعة بين الفرق النصرانية، فكانت كل شيعة من الشيع النصرانية تنسب الشيعة المعارضة لها إلى هذا الإسكندري الذي حرمته مجامع المسيحيين. وقد سلك يوحنا في مواضع من ميامره مع (المنوفيسيتين) والمعارضين الآخرين نفس هذا السلوك، ونسبة دراسة النبي على أحد (الأريانيين) - وهو قول واهٍ لا تؤيده الشواهد التاريخية - هو من هذا القبيل.
وخلاصة ما يمكن أن يقال، هو أن يوحنا كان قد خاف على دينه من الزوال، وهو رجل دين وصاحب عقيدة، وأنه وهو في بلاط خليفة دينه يخالف دينه عرضة للمناقشة في الدين وهدف للجدال كما كان يحدث ذلك دوماً لكل ذّمي يتولى مركزاً سامياً في قصور أمراء المسلمين. وقد ساءه ما رآه من دخول أبناء دينه أفواجا أفواجا في الإسلام، فأراد أن يضع لهم منهجاً ثابتاً في الكلام وطريقاً واضحاً لإخوانه من أبناء دينه كما يفهم ذلك من ميامره ومن كتابه الذي ألفه في الرد على المسلمين.
وغريب أمر أولئك الذين يتصورون بأن المسلمين الأولين كانوا كالحجارة الصم لا يحسنون سؤالا ولا يدرون جواباً. وفي القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والمغازي والأخبار(612/19)
أسئلة وأجوبة مختلفة في مسائل الكون والعالم والبعث ويوم الدين والأفعال والأعمال والخطير من الدنيا والحقير. وهم إن شكوا في كل شيء فلن يستطيعوا الشك في صحة القرآن وفي صحة روايته كما كان ينطق به الرسول. والقرآن وحده كفيل وخير شاهد على صحة ما نقوله.
ولا عبرة ببعض ما ورد في بعض الكتب مثل ما جاء في (كنز العمال) من أن القدريين سموا بهذا الاسم لأنهم (اشتقوا قولهم من النصارى) أو عبارة (اشتقوا أقوالهم من قول النصارى) إذ ورد في الأخبار (القدرية مجوس هذه الأمة).
ولو ذهبنا مذهب بعض المستشرقين ومذهب أهل الرأي والقياس لوجب علينا أن نقول بأن القدرية أخذت قولها هذا من المجوس، وهو قول يناقض المعروف؛ إذ المعروف بأن المجوس كانوا يقولون بالجبر لا بالاستطاعة والاختيار.
الحق أن ما ذكره يوحنا وما بنى عليه بعض المستشرقين هو من قبيل (الأفكار العامة) التي تخطر على كل بال، من قبيل تلك الأفكار التي ترددت على عقول البشرية منذ أول يوم هبوطها على سطح الأرض حتى اليوم. إنها من قبيل الأفكار العامة التي عالجتها أدمغة الوثنيين كما عالجتها أدمغة أصحاب الأديان بل وحتى الشعوب الابتدائية والقبائل البدوية، وما كان ظهور مثل هذه الأفكار في الإسلام بحادث غريب وقد عالج الإسلام أموراً أعقد من المواضيع التي نتحدث الآن فيها بكثير.
ولنعد الآن إلى الموضوع. ظهرت في الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وفي ردهات المسيحية فكرة غريبة هي فكرة (تحريم الصور) وقد انتشرت هذه الفكرة بسرعة كبيرة في سوريا وفي مصر وفلسطين فتحطمت الصلبان وأحرقت التصاوير، ونادى الناس حتى في الإمبراطورية البيزنطية بأن الصور والصلبان والزخرفة رجس من عمل الوثنية والشيطان. وشاعت أسطورة ذكرها ثيوفانس خلاصتها أن أحد اليهود، وكان يكره النصارى، تمكن من إقناع الخليفة يزيد الثاني بضرورة تحطيم الصلبان وتمزيق التصاوير كي يطول عمر الخليفة. فأصدر الخليفة أمره في الحال بوجوب تحطيم كل ما هو موجود من صلبان النصارى. ويذكرون أيضاً بأن إمبراطور القسطنطينية، وهو الإمبراطور (ليو) تأثر بعد ذك بأفكار أحد السريان، وكان قد وقع في أسر المسلمين، فاعتنق الإسلام وسمى(612/20)
نفسه (بشراً) (بسر) وغدا من أعداء الصلبان والتصاوير وكان ذلك في عام (726) للميلاد.
عندئذ أصدر الإمبراطور أمره في عام 726 للميلاد بتحريم الصلبان والتصاوير. وقد نفذ الأمر الإمبراطوري الرسمي في كافة أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، وتبرم صاحبنا يوحنا من هذا الأمر الملكي الرسمي واعترض عليه بست رسائل ألفها تفنيداً لهذا الأمر ولمن قال بهذه البدعة من أتباع الملوك.
وفي هذا التحريم أصل إسلامي ملموس وإجابة لدعوة النبي الكريم، تلك الدعوة التي حققها يوم أمر بتحطيم أصنام الكعبة وأصنام الطائف وكل صنم آخر قائم. ذلك ما قاله نفر من المستشرقين. على أن هنالك جماعة أخرى رأت غير هذا الرأي؛ رأت هذا التحريم مصدره تلك الفكرة اليهودية التي كانت قد حرمت تصوير المخلوقات الحّية وقاومت التصوير مقاومة عنيفة. وقد انتقلت هذه الفكرة إلى المسلمين وانتقلت على زعمهم من المسلمين إلى المسيحيين.
وتطرف هؤلاء فقالوا بأن الأحاديث التي رويت عن لسان الرسول، والتي حرمت التصوير، إنما ظهرت في هذا العهد الذي أعلنت الحكومة البيزنطية فيه أمرها بتحطيم الصلبان.
ورد في الحديث: من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ). واستعمل بعض المحدثين لفظة (تصاليب) بدلا من (تصاوير)، قال القسطلاني: (تصاليب أي تصاوير كصليب النصارى). وهذا ما يجعل للمشكلة صلة بالمشكلة التي أثارها (الإمبراطور ليو) في الإمبراطورية البيزنطية. ويلاحظ أيضاً بأن يوحنا لم يتحامل في رسائله التي ألفها للدفاع عن الصليب والتصوير على المسلمين كتحامله على اليهود. على عكس ثيودور أبو قرة أحد تلاميذه الذين احتذوا حذوه ونهجوا منهجه، فلقد تحامل هذا على المسلمين تحاملا شديداً وعنفهم تعنيفاً مراً لأنهم كانوا سبب هذا التحريم. لم تنفع هذه الحملة الصليبية التي أثارها هذا الموظف المسيحي في بلاط أمير المؤمنين في الشام شيئاً. قد يكون يوحنا نجح بعض الشيء في إثارة جذوة نار تلك المشاكل الكلامية التي ظهرت قبله بزمن وفي صبها في جداله مع المسلمين بقالب منطقي يوناني أثر على أسلوب الكلام(612/21)
عند المسلمين، ولكنه فشل في الحيلولة بين المسيحيين السوريين وبين الإسلام
وآثر يوحنا وهو في أواخر حياته الاعتزال في دير من أديرة الدنيا النائية ليوجه تفكيره نحو خالقه، فاختار دير (القديس سابا) قرب القدس ليكون محله المختار. وقد ظل في هذا الدير إلى أن جاءه أجله المحتوم بين عامي 748 و751 للميلاد على أكثر الروايات.
جواد علي(612/22)
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 2 -
لم يقتصر أمر التعدد في معاهد المرحلة الواحدة من التعليم مع ما يصحبه ذلك التعدد من اختلاف ثقافات المدرسين على تعليم البنين، بل سرى نفس الداء إلى معاهد البنات كذلك. خصوصاً في المرحلة الثانية منها حيث وجدت مدارس الفنون الطرزية ومدارس الثقافة النسوية والمدارس الثانوية والأوليات الراقية والتربية النسوية ومدارس المعلمات الأولية وغيرها، وحيث وجدت في هذه المدارس طوائف مختلفة الثقافات من المعلمين والمعلمات اللواتي تخرجن في مدارس التدبير بأنواعها والتعليم العام الإضافي ومدرسة المعلمات والسنية ومعهد التربية والفنون إلى غير ذلك مما أدى إلى تفكك تعليم الفتاة بسبب تعدد المعاهد وعدم انسجامها وقلة توافقها وترابطها، فخلقنا جواً ملائماً كل الملاءمة لتفاوت الطبقات في معاهد البنات كما سبق أن خلقناه في معاهد البنين مع أن الوظيفة الأساسية للمرأة في الحياة تكاد تكون محدودة معروفة وهي طبعاً الزوجية والأمومة. وكان لهذا كله أثره القوي الفعال في خلق التنافر والقضاء على التعاون بين الأفراد المثقفين من أبناء الأمة الواحدة وبناتها ذلك التعاون الذي هو أساس بناء وحدتها وعماد نهضتها قي كل أعمالها ومشاريعها التي تنهض بها الجماعات والطوائف المختلفة.
ولقد بدأ الاضطراب في سياسة إعداد المعلمين والمعلمات للتعليم العام في هذا البلد منذ ألغيت المدرسة السنية للمعلمات ومدرسة المعلمين العليا التي خرجت في نحو ربع قرن من الزمان عدداً كبيراً من رجال التعليم اضطلعوا ولا زالوا يضطلعون بأكبر قسط في تثقيف الناشئين في مختلف المدارس والمعاهد. ولم تستطع مصر مع الأسف أن تحصل على ما يسد فراغ هاتين المدرستين؛ فمعهد التربية العالي بشقيه الذي قام على أنقاضهما ليعد معلمين ومعلمات للتعليم العام لا يلتحق به إلا طالب منته من الدراسة في إحدى كليتي الآداب أو العلوم بالجامعة. وأنّى لطالب منته في إحدى هاتين الكليتين راغب في ولوج معترك الحياة العامة بعد الدراسة الطويلة أن يفكر في إعداد نفسه من جديد ليكون معلماً! أنَّى له ذلك وحظ المعلمين من متع الحياة ومتع الوظيفة ضئيل لا يُقدم عليه إلا من أكرهته(612/23)
الظروف للالتجاء إليه! لهذا كان الانصراف عن المعهد خصوصاً من خريجي كلية العلوم الذين تتخاطفهم الشركات. ولهذا بقي هذا المعهد سنين طويلة وعدد خريجيه من قسم الرياضة والعلوم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. ولهذا وجدت في مصر أزمة شديدة في الحصول على هذا النوع من المعلمين. ثم أَّنا لم نواجه الأزمة مع الأسف بما تستحقه من عناية فوقفنا إزاءها مكتوفي الأيدي ننتظر كل عام ما يجود به المعهد من خريجين قليلين حتى اصطدمنا بالحقيقة الراهنة المؤلمة الخاصة بعدم وجود المعلمين الضروريين للمعاهد التي تنشأ ولملئ الوظائف التي تخلو، واضطررنا إلى حل تلك الأزمة بحلول سريعة غير موفقة كالاستعانة بغير الفنيين من حملة البكلوريا وغيرهم. وزادت بذلك هوة الخلافات في ثقافات القائمين على أمر إعداد النشء وتثقيفهم كما هوى مستوى التعليم نفسه هويا كبيراً. ولما أحسسنا بذلك أخذنا نعالجه بعلاجات وقتية ضئيلة الأثر كالدروس الصيفية لغير الفنيين وما إلى ذلك. ثم جاء تقرير مجانية الابتدائي وما تبعه من إقبال أبنائنا على هذا التعليم ضغثاً على أبالة، إذ اضطررنا إلى التوسع فيه دون أن نعمل أي ترتيب لإيجاد المعلمين الضروريين. وأصبح المدرس يواجه أمامه عدداً كبيراً من التلاميذ لم يسبق له مثيل في الفصل الواحد حتى أصبح عسيراً على المدرس الفني أن يسوس هذا الجم الغفير أو أن يفيدهم، فما بالك بالمدرس غير الفني أو المدرس الضعيف أو المدرس المبتدئ قليل الخبرة! إنها لحالة تستدعي الاهتمام وتستدعي العلاج. إن مسألة المعلم الكفء ذي الضمير الحي هي أول ما يجب أن تفكر فيه الدولة الرشيدة الحريصة على مستقبل أبنائها وتربيتهم وثقافتهم قبل أن تخطو خطوات واسعة في نشر تعليم مشكوك عند الكثيرين في صلاحيته من حيث نوعه ونظامه وإنتاجه. وإن التفكك والانحلال القائم في كثير من المعاهد بسبب وجود عناصر متعددة من المعلمين ذوي الثقافات المختلفة والآراء المتنافرة التي لا يمكن أن توحي بالانسجام والتعاون لكفيل بأن يبقي حالة المدرسة المصرية بعيدة كل البعد عن الأخذ بأساليب التربية الحديثة مهما دعونا إليها ومهما نبهنا إلى ضرورتها ومهما حاضرنا فيها. ذلك لأن عناصر المعلمين المتعددة المتنافرة لا يمكن أن تجد من تنافرها الوقت ولا أن تتملكها روح التوفر على البحث والعمل للصالح العام، فكل منها لاه بنفسه وبمستقبله الخاص وبالتعصب لثقافته وبالظهور على غيره. وهي أمور كلها تزيد في هوة الخلاف(612/24)
المؤدي إلى التفكك والانحلال؛ وسيمتد ذلك التفكك والانحلال دائماً وبطبيعة ما للمدرسة من أثر في التكوين، إلى طبقات الأمة المختلفة خصوصاً منها أولئك الذين يتولون أعمالا موحدة ومرافق ذات غايات واحدة. ولن يمكن القضاء على تلك الخلافات وتوحيد الاتجاهات إلا بتوحيد الثقافات. ولن يتم لنا ذلك إلا بإيجاد المدرسة الموحدة التي تعد المعلمين الذين يقومون بتدريس مختلف العلوم في مدارسنا. أما وقد قُضي على مدرسة المعلمين العليا من زمن بعيد فلاشك في أن المصلحة تقضي بإدماج دار العلوم ومعهد التربية بعد شروط اللحاق بهما وجعلهما معهداً واحداً لإعداد معلمي المواد المختلفة. وإنا نسوق هذا الاقتراح للرجال المسئولين خصوصاً بعد تلك البحوث القيمة التي أجراها مؤتمر أساليب التربية الحديثة والتي تبين منها (أن الأمر يتطلب معلماً يفهم روح التربية وأهدافها فهما واضحا ويؤمن بها إيماناً قوياً يدفعه إلى الجهاد في سبيل تحقيقها) كما جاء في القرار الثاني من قرارات المؤتمر. ولا شك أن هذا المعلم النموذجي لن يندفع إلى ذلك الجهاد إلا إذا تعاون معه زملاؤه وأمن كيد عناصر أخرى تؤذيه في جهاده وقد تحاربه وقد لا تقدره. والمعلم الموحد الثقافة هو المعلم الوحيد الكفيل بالاضطلاع بهذا الجهاد في سبيل تحقيق الهدف المطلوب. يقول أحد قادة التربية الغربيين (أعطني المعلم الكفء واتركه بغير برامج يخرج لك من النشء رجالا. أما البرامج التي لا يقوم على تنفيذها المعلم الكفء مهما حسنت فإنها لا تخرج إلا أطفالا كباراً أشباه الرجال وما هم برجال) فمسألة المعلم الكفء الذي يفهم مهمته ويفهم روح التربية وأهدافها والذي يتعاون مع زميله على قدم المساواة لما بينهما من تجانس في التعليم والثقافة، وتوافق في الاتجاه والإحساس بالمسئولية هي مسألة المسائل ومشكلة المشاكل في مصر. وقد أعارها المؤتمرون جل اهتمامهم لأنها لا يصح أن تتجاهلها أية هيئة تعليمية
إن أمامنا مثلا رائعاً نحسه ونلمسه بين أيدينا اليوم يوضح لنا أثر الثقافة الموحدة في بناء كيان وحدات الأمة وتدعيمها وتقويتها. ذلك المثل هو جامعة فؤاد الأول بمختلف كلياتها. فقد ضن البعض في مبدأ تكوينها أن لا فائدة ترجى من الجمع بين عدة مدارس عالية وجعلها كليات في جامعة واحدة. فان ما يدرس في كلية الهندسة اليوم مثلا هو ما كان يدرس في مدرسة المنهدسخانة قديما مضافا إليه التطور الذي أوجده الزمن في فنون(612/25)
الهندسة الحديثة. وكان من الممكن البقاء على مدرسة المهندسخانة القديمة مع إدخال ما استدعاه التطور الحديث فيها.
نعم كان ذلك ممكنا وتبقى كلية الهندسة مستقلة كل الاستقلال بل بعيدة كل البعد عن كلية الحقوق وعن غيرها من الكليات الأخرى. كل ذلك صحيح، ولكن أنى يكون لنا عندئذ بفكرة الوحدة الهائلة العظيمة التي تضم عدداً كبيراً من الكليات تحت لوائها في إدارة واحدة يشرف عليها جميعاً مدير واحد يضم شتاتها ويوحد صفوفها لتسير في اتجاهات متوازية إلى غرض واحد؟ أنى يكون لنا عندئذ بتلك الوحدة الجامعية التي تضم الآلاف المؤلفة من شبابنا تحت لواء واحد يعملون جميعاً في تلك الصفوف المتوازية المتقاربة المتعاونة سائرة في اتجاه واحد لا يصطدم بعضها ببعض ولا يتعارض بعضها مع بعض إلى هدف واحد تهفو إليه مصر كلها وتنزله المنزلة الأولى من نفسها وتضعه في السماك الأعلى من آمالها؟ فلا شك إذن أن فكرة الوحدة الجامعية فكرة رائعة توحي إلى الشباب بالوحدة والقوة وتقضي على كثير من تلك الخلافات السخيفة التي يؤدي إليها اختلاف الثقافات. فهي مكسب هائل وربح عظيم ربحته مصر فدفعها نجاحها في الحصول على هذا الكسب أن خلقت في العاصمة الثانية أختا للأولى تشاركها في مسئولياتها وتسير في نفس اتجاهاتها مما سيؤدي أن شاء الله إلى خلق غيرها وغيرها بفضل توفر البحث وتضافر الجهود.
نسأل الله أن يسدد خطى العاملين لرفع شأن الثقافة وتوحيد اتجاه التعليم ومقاصده للنهوض بالناشئين أبناء الجيل الحاضر نهوضاً يتناسب مع مركز مصر بين أمم الأرض عامة وبين أمم الشرق والعروبة خاصة في ظل جلالة الفاروق المفدى.
عبد الحميد فهمي مطر(612/26)
محمد بن عبد الملك الزيات
للأستاذ عبد اللطيف ثابت
جلس عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة إلى ولده محمد يحدثه عن تجارة الزيت، ويروي له من تجاربه ويصف له مشاهده الممتعة في رحلاته التي كانت تنتهي بذكائه وصبره وجرأته إلى التوفيق، إذ كان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فيثرى من وراء ذلك ثراء عظيما، ويعد لما جمعه من المال في تجارة الزيت من مياسير الكرخ، وينصحه في لهجة العاطف الحاني أن يحذو حذوه، ويسلك مسلكه، فيتعلق بالتجارة ويتشاغل بها؛ ولكن الفتى وقد سمت به همته، وطمح إلى ما لا يطمح إليه السوقي الذي تشغله التجارة وملازمتها عن قصد المعالي - يأبى أن يصغي إلى حديث أبيه إلا بمقدار أن يسمعه، فيجيب عنه بإباء يؤكده أنه لا يشتغل إلا بالأدب وإلا بما هو من وسائل الأدب، لأنه يحس من نفسه بدوافع تدفعه إلى ما لا يرمقه إلا كل ذي همة وثابة، ونفس تطمح إلى العلا.
وهاهم أولاء لداته يشهدون له بكفايته في العلم والأدب، ويثنون على ذكائه وقوة إدراكه وسرعة بديهته، ومقدرته على حل ما يشكل عليهم من مسائل العلوم لا في النحو واللغة فحسب، بل فيهما وفي غيرهما من سائر العلوم. وهذا أبو عثمان المازني وقد عرفه لما قدم بغداد في أيام المعتصم يقول لأصحابه وجلسائه، إذا خاضوا بين يديه في علم النحو فاختلفوا فيما يقع فيه الشك - ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب، يعني محمد بن عبد الملك الزيات، فاسألوه واعرفوا جوابه فيفعلون، ويصدر جوابه بالذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه. فهذه الثقة من أترابه وغيرهم من أبناء عصره، تدفعه في قوة أن يخالف أباه عبد الملك ويراغمه، فيلزم الأدب ويطلبه ويخاطب الكتاب، ويلازم الدواوين، ويجيب أباه في قوة الواثق المطمئن - وقد قال له ذات يوم: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك، وليضرنك، لأنك تدع عاجل المنفعة، وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فيجيبه: والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت؟ ثم يشخص بعد قليل إلى الحسن بن سهل وزير المأمون، فيمدحه بقصيدة أولها:
كأنها تثّني خطوها ... أخنس موشي الشوى يرعى القلل
فيعطيه الحسن عشرة آلاف درهم، فيعود إلى أبيه فائزاً منتصراً، فيبتسم أبوه في رضا،(612/27)
لأنه تاجر يسره أن يرى الدراهم والدنانير ثم يقول له لا ألومك على ما أنت فيه. ولكن محمد بن عبد الملك لا يقنعه أن يصله الحسن بعشرة آلاف درهم، إذ ليس ذلك قصارى غايته مما تطمح إليه نفسه، بل يطلب أن يمثل بين يدي الوزير فيؤذن له فينشده:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التحجيل والغررا
وليس ذلك إلا أنني رجل ... لا أطلب الورد حتى أعرف الصَدرا
فيقدره الحسن قدره، ويعترف له لأنه شاعر مجيد لا يقاس به أحد من الكتاب إلا إبراهيم بن العباس الصولي. على أن الصولي مقل وصاحب قصار ومقطعات، ومحمد بن عبد الملك شاعر يطيل فيجيد ويأتي بالقصار فيجيد.
ويأبى إلا أن يصل إلى الغابة في أن يأخذ الحجة على أبيه بصدق نظره وصحة رأيه فيما هو يرمي إليه من الاشتغال بالأدب، فينتهز فرصة واتته بادر إلى افتارضها، فرد بها حقاً لأبيه كاد يضيع: ذلك أن إبراهيم بن المهدي وثب على الخليفة المأمون، ولما لم يكن لديه من المال ما يعينه على أمره، اقترض من مياسير التجار ما هو في حاجة إليه من المال، وأخذ من عبد الملك بن أبان فيمن أخذ عشرة آلاف درهم، وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال، ولم يتم أمر إبراهيم، فاستخفى حيناً ثم ظهر، ورضى عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم فقال: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من الفيء لو تم لي الأمر، والأمر الآن إلى غيري
وعلم محمد بن عبد الملك بقصة القرض، فعمل قصيدة يخاطب فيها المأمون بما يوقظ موجدته على إبراهيم بن المهدي، وأطلع أبن المهدي عليها، وقال له: لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأبعثن بهذه القصيدة إلى المأمون، فخاف ابن المهدي أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال ونجم على بعضه، ففعل بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون؛ فوفى له بذلك، ووفى إبراهيم برد المال كله. ويسر أبوه بهذا كله ويعجب، ومن هذه القصيدة ما يأتي:
فو الله ما من توبة نزعت به ... إليك ولا ميل إليك ولا ود
ولكن إخلاص الضمير مقرب ... إلى الله زلفى لا تخيب ولا تكدي
أتاك بها طوعاً إليك بأنفه ... على رغمه واستأثر الله بالحمد(612/28)
فلا تتركن للناس موضع شبهة ... فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فقد غلطوا للناس في نصب مثله ... ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس والتقت ... ببيعته الركبان غوراً إلى نجد
ومن سك تسليم الخلافة سمعه ... ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمي بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد
ومنها:
فان قلت قد رام الخلافة غيره ... فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه إذ خيب الله سعيه ... على خطأ إذ كان منه على عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفعته ... وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به ... إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
ومن هو في بيت الخلافة تلتقي ... به وبك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه وجندك جنده ... وهل يجمع القين الحسامين في غمد
ويظهر لما اشتهر به من العلم والفضل والبراعة في الأدب أثره، فينتظم في سلك الكتاب بديوان الوزارة، ويظل يعمل لا يزيد على غيره من الكتاب شيئاً، ولا يمتاز عنهم بشيء إلا بما وهبه الله من علم وأدب.
ويتولى الوزارة للمعتصم أحمد بن عمار بن شاذي البصري، ويرد على الخليفة من بعض عماله كتاب يقرؤه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلأ، فيسأله المعتصم: ما الكلأ؟ فيقول: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فيقول له المعتصم: خليفة أمي، ووزير عامي! وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم يأمر أن يبصروا من بالباب من الكتاب، وتشاء الأقدار التي تيسر كل إنسان لما خلق له، أن يكون بالباب محمد بن عبد الملك الزيات، ويدخلونه إلى الخليفة فيسأله: ما الكلأ؟ فيجيب: الكلأ العشب على الإطلاق، فان كان رطباً فهو الخلا، فإذا يبس فهو الحشيش، ثم يشرع في تقسيم أنواع النبات فيعلم المعتصم فضله فيستوزره ويحكمه ويبسط يده.
ويبلغ الفتى بالوزارة الذروة مما كان يطمح إليه، فيعلو شأنه وتنفذ كلمته، ويدل بما عرف عنه من العلم والفضل فيشترط إذ بتولي الوزارة ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد(612/29)
عليها السيف بحمائل فيجاب إلى ذلك فيمتاز بهذا أيضاً عما سبقه من الوزراء.
ويبدو في وزارته شديد البأس، عظيم المنة، قوي الإرادة قاسي القلب، لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا بل هو يرى الرحمة خوراً في الطبيعة وضعفا في المنة ويقول عن نفسه ما رحمت شيئا قط. ولا يقف في حقده دون نكبة من يحقد عليه، غير مبال بصروف الزمان وتقلب الدهر. اتخذ في أيام وزارته تنورا من حديد في داخله مسامير محدودة قائمة كرؤوس المال يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال فكيف انقلب أحدهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم، حتى إذا جأر إليه المعاقب يطلب الرحمة أجابه بكلمته السابقة إن الرحمة خور في الطبيعة:
ومن يتصف بمثل صفاته هذه ويكون في مثل شأنه هذا يكثر حساده ويشتد عليه أعداؤه.
ومن هم حساده وأعداؤه؟ إنهم عظماء الرجال في عهده: كالقاضي أحمد بن أبي داؤد، ويحيى بن خاقان، وإبراهيم ابن العباس بن محمد بن صول، وعلي بن جبلة، وأبي دلف القاسم ابن عيسى:
كتب إليه علي بن جبلة يقول، وكان قد قصد أبا دلف في بعض أمره:
يا بائع الزيت عرج غير مرموق ... لتشغلن عن الأرطال والسوق
من رام شتمك لم ينزع إلى كذب ... في منتماك وأبداه بتحقيق
إن أنت عددت أصلا لا تسب به ... يوما فأمك متى ذات تطليق
ولن تطيق بحول أن تزيل شجا ... أثبته منك في مستنزل الريق
الله أنشأك من نوك ومن كذب ... لا تعطفن إلى لؤم لمخلوق
ماذا يقول امرؤ غناك مدحته ... إلا ابن زانية أو فرخ زنديق
فأجابه محمد بن عبد الملك
اشمخ بأنفك يا ذا السيئ الأدب ... ما شئت واضرب حذاك الأرض بالذنب
ما أنت إلا امرؤ أعطى بلاغته ... فضل العذار ولم يربع على أدب
فاجمح لعلك يوما أن تعض على ... لجم دلاصية تثنيك عن كثب
إني اعتذرت فما أحسنت تسمع من ... عذري ومن قبل ما أحسنت في الطلب
صبراً أبا دلف في كل قافية ... كالقدر وقفا على الجارات بالعقب(612/30)
يا رب إن ما أنشأت من عرب ... شروى أبي دلف فاسخط على العرب
أن التعصب أبدى منك داهية ... كانت تحجب دون الوهم بالحجب
ثم اتصلت المهاجاة بينهما زمنا بسبب تعصب علي بن جبلة لأبي دلف وليس غريبا ولا فضولا أن يتعرض علي بن جبلة لهجو محمد بن عبد الملك لا يحمله على ذلك إلا انتصاره لأبي دلف وإخلاصه له وتفانيه في حبه، فقد تعرض أبن أبي جبلة لغضب المأمون وناله ما ناله منه بسبب أبي دلف إذ قال فيه:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
وإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
وقال:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدي طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
فأحفظه عليه، فليس يعقل أن يخشى سلطان محمد بن عبد الملك وهو لم يخش سلطان الخليفة وإن كان محمد بن عبد الملك قد بلغ من السلطان مبلغا جعل الناس يتملقونه، فيرضون عمن يرضى ويغضبون على من يغضب.
وهذا إبرهيم بن العباس الشاعر تنقلب صداقته لمحمد بن عبد الملك عداوة شديدة، وشحناء عظيمة ولا سبب لذلك فيما يغلب على الظن إلا أن ابن عبد الملك حسد إبراهيم حظه من الوجهة الأدبية فهو كاتب حاذق بليغ، فصيح منشئ، وهو إلى هذا شاعر مجيد يقول عنه أحد شعراء عصره لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء. وحسد كذلك نباهة شأنه، وعلو قدره، حتى لقد تنقل في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن تولى ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى - وكأنما كان يخشى منه ابن الزيات على نباهته أن يحملها، وسلطانه أن يذهب به، فهو يحمل عليه وينال من دينه وشرفه، ويرسل إليه أبا الجهم أحمد بن سيف ويكلفه أن يبحث بدقة في شئونه عسى أن يكشف عن أخطائه ويظهر من أغلاطه ما يأخذه به في غير حذر من لوم، فيكتب إليه إبراهيم.
وإني لأرجو بعد هذا محمداً ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
ولكن محمداً يقيم على أمره وأبا الجهم يلج في تحامله. فيكتب إبراهيم أيضاً إلى ابن الزيات(612/31)
شاكيا أبا الجهم نائلا منه، واصفاً إياه بالكفر، إذ هو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر ... وقد ملأ والأرض عرضا وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي ... ضرارا كأن قد قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلاة ... وأصطبح الخمر صرفا شمولا
فينسب محمد لشدة عصبيته على إبراهيم هذا الشعر له ويرميه بالكفر دون أبي الجهم، ويأبى أن يصغي لتوسلاته إليه شعراً أو نثراً ولا ينقذه منه إلا الخليفة الواثق فهو الذي يرفع عنه، ويأمره أن يقبل منه ما رفعه من المال برغم ما ثبت عليه من عجز في إدارته في ديوان الضياع بما كشفه أحمد بن المدبر، حين جمع المتوكل بينه وبين إبراهيم فأخذ يروي من عجزه أمثلة لا تفتقر - وقد اعترف إبراهيم نفسه بعجزه وقال: إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب عليّ في شيء مما ذكر. وينظر فإذا الناس يتحامون إبراهيم أن يلقوه، وقد انحرف عنه محمد به عبد الملك، حتى الحارث بن بشتخير الزريم المغني، وكان صديقاً مصافياً لإبراهيم يهجره فيمن هجره من الإخوان. فيكتب إليه إبراهيم:
تغير فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... غنينا وما بيني وبينك ثالث
ويحس إبراهيم أن ابن الزيات رُدَّ عنه، فيبسط لسانه فيه ويهجوه كثيراً، ويقول له:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصر قليلا عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزا ورفعة ... فإن رجائي في غد كرجائكا
ثم يبلغه أنه مات فيقول:
لما أتاني خبر الزيات ... وأنه قد صار في الأموات
أيقنت أن موته حياتي
ويعاديه أحمد بن دؤاد فيهجوه ابن الزيات كثيراً ويجمع أحمد الشعراء ويحرضهم على هجاء ابن الزيات، ثم يقول فيه وقد بلغه أن أحد الشعراء هجاه بقصيدة عدتها سبعون بيتاً
أحسن من سبعين بيتاً هجا ... جمعك معناهن في بيت
ما أحوج الملك إلى مطره ... تغسل عنه وضر الزيت(612/32)
يعير ابن الزيات بتجارة الزيت، فلما بلغ البيتان ابن الزيات كتب إلى القاضي أحمد يعيره ببيع القار وكان أبوه يبيعه
يا ذا الذي يطمع في هجونا ... عرضت بي نفسك للموت
الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت
قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت
ونشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدة يقول في مطلعها (لهان علينا أن نقول وتفعلا) فيثيبه عليها ثم يوقع له
رأيتك سهل البيع سمحا وإنما ... يغالي إذا ما ضن بالشيء بائعه
فأما الذي هانت بضائع بيعه ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
هو الماء إن أجممنه طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح شرائعه
فيجيبه أبو تمام منكرا عليه هذا التوقيع
أبا جعفر إن كنت أصبحتُ شاعراً ... أسامح في بيعي له من أبايعه
فقد كنت قبلي شاعراً تاجراً به ... تساهل من عادت عليك منافعه
فصرت وزيراً والوزارة مكرع ... يغص به بعد الذاذة كارعه
وكم من وزير قد رأينا مسلطا ... فعاد وقد سدت عليه مطالعه
والله قوس لا تطيش سهامها ... ولله سيف لا تفل مقاطعه
وقد حمل أبا تمام بقسوة ملاحظته أن يرد عليه رداً ثقيلا فيه هجاء وفيه تذكر بما قد يؤول إليه أمره مما يتمناه له حساده وأعداؤه وقد صار أبو تمام بهذا أحدهم.
(للحديث بقية)
عبد اللطيف ثابت(612/33)
الشيخ عبد العزيز البشري
لمناسبة انطواء عامين على وفاته
للأستاذ منصور جاب الله
طويت صفحة المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري في غمار الأحداث فلم تفه الأقلام حقه بحسبانه من أدباء العربية المعاصرين الذين خدموا لغة الضاد وتميزوا بجزالة الأسلوب ورصانة العبارة ووثاقة المعنى.
والحق أن المرحوم البشري كان من حواريي تلك المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، ولقد شرح بنفسه مدى تأثره بأسلوب المويلحيين في الجزء الأول من كتاب (المختار). ولو قد رجعنا إلى أساليب الكتاب قبل هاتيك الثورة لها لنا مقدار تهافتها وركاكتها وبعدها عن أوضاع اللغة الصحيحة ونحوها وصرفها، ومن ثم كان لنا أن نزعم أن الثورة العرابية خدمت - عن طريق غير مباشر - اللغة العربية بما أذكت من الكتاب والخطباء.
ولقد نشأ الشيخ البشري في بيت علم ونعمة وحفاظ، فكان أبوه شيخاً للأزهر حقبة ليست بالقصيرة وكان من الأساتذة المتبحرين في الفقه على المذهب المالكي، فلم يشأ أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق، بيد أن النهضة الحديثة كانت أضواؤها تأتلق في جنبات الأزهر بين طائفة قليلة من الطلاب وطائفة أقل من الأشياخ. وكان أن أصدر المرحوم إبراهيم بك المويلحي صحيفته الأسبوعية (مصباح الشرق) وفيها نقد للشخصيات المصرية في القرن التاسع عشر وفيها (حديث عيسى بن هشام) لمحمد بك المويلحي بأسلوبه التهكمي الجزل، وهكذا فتن (البشري الصغير) بالأدب والأدباء وعزف عن حلقات الدرس في الأزهر ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، وما كاد يظفر بإجازة العالمية حتى طلبته وزارة المعارف ليكون محرراً فنياً بها.
حدثنا رحمه الله فيما حدثنا أنه كان مغرما بالفن من صباه، وأنه وقد أدرك من المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وغيرهم، كان لا يفوته مجلس من مجالسهم الموفقة، وإذ كان صغيراً والناس ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، كان ما ينفذ من الخدم والأحراس إلا بالرشوة في أيديهم أو بالزوغان من أعينهم، وكان(612/34)
يمضي الليل ساهراً جله ما تغمض عيناه سويعات قلائل مع مطلع الفجر.
وكان الشيخ البشري يوافي الصحف بمقالاته التي تشيع في جوانبها الجزالة والترف اللفظي، غير أنه كان يطالع كل مقالة على ملأ من إخوانه قبل نشرها، وأخبرنا رحمه الله أنه كان ينهج في رسائل (في المرآة) نهج المويلحي الكبير في تحليله الشخصيات دون خدش للأعراض أو إسفاف في الأداء. وذكر أن أحداً من الزعماء إذا عرف أن نوبته قد أقبلت في (مرآة السياسة الأسبوعية) طوى ليله ساهراً لا يغمض له جفن حتى يطالع ما كتبه عنه البشري!
لقيته - رحمه الله - أول ما لقيت صيف عام 1928، وكان يصطاف في ضاحية (شوتس) الجميلة في رمل الإسكندرية، فتعارفنا من يومها وتوثقت بيننا الصداقة فكان لا يهبط الإسكندرية حتى يعلمني بمقدمه فلا نكاد نفترق طوال مقامه بالثغر البسيم. ولما أراد أن يسوّي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً، عهد إلي فأذكيت جماعة من النساخين في مكتبة بلدية الإسكندرية ونقلت بيدي طائفة منها مما كنت أحتفظ به من صحف ومجلات. وقد أحجم عليه رحمة الله طويلا عن جمع مقالاته في كتاب ثم أجاب طلبة أصدقائه على تكره واستثقال، وأشار إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتاب المختار فقال: (وكثيراً ما استحثني صُدقائي على أن أُسوَّي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى من الكذب منتدح)
وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، وتتقاصر حينما يمزح أو يداعب، ونستميح القارئ في أن نعرض عليه مثلا من الازدواجات (البشرية) الرائعة. قال رحمه الله على لسان مغرم صب (إنني ما رأيت دُرةَّ قط إلاّ حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلتُ أنها قطفت من خدَّها، ولا تمثّل لي غصن من ألبان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدّرت أنه من إشراق محياها، ولا سمعت شّدو القُمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو؛ ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا(612/35)
خلتها تعلو على الدنيا كبراً وتيها. وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجاً في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي)
وقال البشري الشعر في صباه، وكان يرسله في جريدة (الظاهر) هجواً في المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد تشيعّاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل زمانا، فلما توفي صديقه المرحوم الدكتور حلمي المنشاوي في ريق الشباب ومشرق الفتوة جرى لسانه بالشعر مرة أخرى ونشرت له (الرسالة) قصيدة باكية في ربيع عام 1934، وكانت آخر قصيدة له فيما أعلم؛ فلم يقل بعدها شعراً.
والشيخ البشري. كما عرفه أصحابه، حسن العشرة، بارع الحديث، سريع الخاطر، يجيد المفاكهة، ويستضحك بنوادره الباكي الحزين. ومن ثم اتخذه كثير من عظماء المصريين صاحباً وخدينا، وقبلوا وساطاته وشفاعاته في الناس، ولكنه كان إلى ذلك عصبي المزاج يثور لأقل بادرة، وفي سبيل ذلك يهدر الصداقة القديمة، ومن أجل هذا المغمز كان كثير من أصدقائه يتقونه ويتحاشونه، ويخافون سقطات لسانه.
زرته في مطالع عام 1934، وكان يسكن بضاحية الزيتون، فأخذ بيدي وأدخلني قاعة الاستقبال وأشار بيده إلى صور معلقة إلى الجدار قائلا (هؤلاء الثلاثة الذين أجلّهم وأحترمهم بين المصريين جميعاً) وتفرست في الصور فإذا هي لعظماء ثلاثة: المرحوم أحمد شوقي بك، والدكتور علي إبراهيم باشا، والدكتور عبد الحميد بدوي باشا. وقد رجعت الآن إلى كتابه (المختار) فألفيته يهديه إلى صديقه المرحوم محمد راغب عطية بك الوزير السابق بهذه العبارة (أهدي عصارة ذهني مدة الحياة، إلى من أهدت مودته إلي أحلى ذكريات الحياة).
كان الشيخ عبد العزيز البشري أديبا ملء إهابه، ولو قد قصر عملة على الأدب والكتابة لجاء فيهما بالعجب العجاب، ولكن أريد له أن يكون موظفا، وأريد له أن يكون رئيساً إدارياً، وليس ينتقص من قدر الأديب الصحيح سوى الوظائف التي لا توائم طبائعه، ولا تتفق مع سليقته، ومن ثم بدأ عجز أديبنا العظيم واضحاً حين جيء به وكيلا لإدارة(612/36)
المطبوعات، ثم مراقباً إداريا لمجمع اللغة العربية، وقد توفي وهو يشغل المنصب الأخير، كان لابد مما ليس منه بد، وترك رحمه الله الحبل للغارب لبعض صغار الموظفين، فأحفظ ذلك سائرهم، وكان فيهم أدباء معروفون، وكان فيهم أصدقاء قدماء له. فقام ذلك دليلا على أن الأديب الممتاز ينبغي ألا يشغل عن الأدب بما هو دون الأدب.
وبعد، فلقد غدا عبد العزيز البشري في المنسيين، لا بل لقد أصبح وأمسى في المذكورين. وبين أيدينا الساعة كتاب (المرآة) وهو أول كتاب من نوعه في الأدب العربي، يجد فيه ويمزح، ثم لا يقول إلا حقا، وبين أيدينا جزءان من كتاب (المختار) وقد جمع فيه أروع وأجمل ما أرسله في الصحف الدائرة، ثم هو قد ألف كتاب (التربية الوطنية) لتلاميذ المدارس وشارك في وضع (المجمل في الأدب العربي) لطلبة المدارس الثانوية. ومثل هذه الآثار مجتمعة ومتفرقة لا ينسى صاحبها، ولسوف تمضي سنون وسنون وهذا البلد وبلدان العروبة قفر من بيان البشري الساحر وملحه الطريفة، وشخصيته الفذة. تداركه الله برحمته، وجزاه عن لغة الضاد أحسن الجزاء.
(الرمل)
منصور جاب الله(612/37)
رسالة الفن
المنسوجات
في الخلافة الإسلامية
للدكتور ر. ب. سارجنت
لقد طغت صناعات الغرب على جميع أنحاء العالم في أثناء القرون الثلاثة الماضية، حتى أوشكنا أن ننسى أن صناعات الشرق، ولا سيما الشرق الإسلامي وبيزنطة، كانت تتهافت عليها البلاد الأوربية تهافتاً عظيما. يحدثنا رحالة البلاد الغربية في القرن السادس الهجري أن الإسكندرية كانت تموج بحركة الملاحة وسفن النقل البحري من جميع ممالك أوربا حتى أقصى حدودها الشمالية في البلطيق وإسكندناوة، بله العديد من التجار الذين كانوا من جهات أبعد في الشرق كالهنود وغيرهم. وليس ثمة شك في أن تلك السفن حملت معها (الإسكندراني) الثمين وهو نسيج من التيل المطرز بالحرير. وأغنية رولان، التي كتبت في القرن الحادي عشر، والتي كانت تصف حوادث عصر سابق بمدة طويلة لتاريخ كتابتها، تذكر جثة مكفنة بقطعة من نسيج الإسكندراني. وكما انتقلت تجارة المنسوجات إلى الغرب عن الطريق البحري، كذلك انتقلت إليه عن الطريق البري على الساحل الشمالي الأفريقي، كما أنها انتقلت إلى أوربا الشرقية كما يستدل على ذلك من العملة الإسلامية التي ترجع إلى ذلك التاريخ والتي عثر عليها في الطريق الرئيسية لأوربا الشرقية والسهول الشاسعة لبلاد الروسيا، مما وصل إلى بعض البلاد التي في أقصى الحدود الشمالية لبلاد الروسيا. ويحدثنا ابن فضلان أن الروس كانوا يتجرون مع البلاد الإسلامية في فراء القندر والسمور والسنجاب، إذ كانوا يجلبونها من الشمال بطريق الماء على نهر الفولجا، ويأخذون بدلها المنتجات المصنوعة في العالم الإسلامي المتمدن.
وكانت فرنسا، وإيطاليا، والدويلات الألمانية، وأسبانيا، وغيرها من بلاد أوربا تستورد المنسوجات من الشرق الأوسط لاستعمالها في القصور الملكية
والأغراض الدينية في المعاهد الكنسية الغنية، حيث معظم النماذج المعروفة لتلك المنسوجات لا تزال باقية حتى اليوم، ولا سيما ما هو باق منها في الأقطار البلطيقية.(612/38)
وعلى مقتضى ما تقرؤه في دفاتر الحسابات الملكية الإنكليزية التي ترجع إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، كان ملك انكلتره قد اشترى منسوجات إسلامية ليضعها في كنيسة وستمنستر. ولقد اطلعت في سجلات النفقات البيتية لملوك اسكتلاندة في سنة 1331 ميلادية، على أصناف تشتمل على قطع من الحرير الرقيق من إنطاكية وطرسوس وطرابلس الشام.
وفي عهد الخلفاء العباسيين - بل في عهد الخلفاء الأمويين كذلك - كان بلاط الخليفة يستورد منسوجاته الثمينة من مجموعة عظيمة من المصانع التي تملكها الدولة لصناعة تلك المواد الثمينة وكانت تعرف تلك المصانع باسم مصانع الطراز. ويقول رحالة العرب إنه كانت توجد مصانع للطراز في كثير من بلاد فارس، ومصر، وأفريقية الشمالية، وأسبانيا، كما يذكرون أنه كانت هناك مصانع للطراز في صقلية، وسوريا، والعراق، واليمن. ومن المرجح أن المنسوجات كانت تحمل من هذه المصانع إلى قصور دمشق ثم بعد ذلك إلى قصور بغداد، حيث كان يلبسها رجال البلاط أو ينعم بها هدايا قيمة وتكريما للمنعم عليه بتلك الخلع، من رجال الدولة، حتى الشعراء والمغنين كما تحدثنا بذلك القصص الطريفة التي تملأ كتاب الأغاني. على أنه ليس شك في أن هذه المصانع لم تكن من اختراع العرب الذين غادروا الصحراء وورثوا نظم وطرائق العيش عن البيزنطيين والفرس. ويشير الجهشياري إلي أن ديوان الخراج كان يستعمل اللغة اليونانية في الغرب واللغة الفارسية في الشرق، حتى حدث التعديل بنقل لغة الديوان إلى العربية. وهو يذكر ثبتا بالمنتجات الخاصة بكل إقليم، والتي حملت إلى بغداد بصفتها جزءا من الخراج وكثير منها كان من المنسوجات. فمن المرجح إذن أن ديوان الخراج كان على اتصال وثيق بإدارة مصانع الطراز. ويختلف المؤرخون في أصل نشأة الطراز، أكانت في مصر أم في العراق؛ ولكن المرجح أن الطراز كان في كل من القطرين منذ زمن لا تعيه الذاكرة، بقية من نظام الضريبة النوعية التي كانت تدفع
ولقد كان الطراز من الأهمية في عصر العباسيين بحيث عين له رئيس خاص بادارته، ولم يقنع هارون الرشيد بشخص أقل من جعفر البرمكي نفسه لإدارة ديوان البريد، ودار ضرب النقود، ودار الطراز - وهي وظائف لابد أنها كانت تدر الخير. وبانحلال الخلافة العباسية(612/39)
انحلالا تدريجيا شرعت الإمارات الصغيرة تستولي على دور الطراز السلطانية أو تنشئ دوراً جديدة، وعلى الخصوص في الأندلس وأفريقية الشمالية. ولإمام اليمن مصنع ملكي للطراز في صنعاء من المرجح أنه منحدر انحداراً مباشراً عن مصنع الطراز الذي كان للخلفاء.
وفي تاريخ غير معروف أنشئ مصنع ملكي للطراز على الضفة الشمالية لنهر دجلة بالقرب من الرصافة، ولا بد أنه كان يضم مساحة كبيرة من الأرض. وكانت بغداد كما هو المنتظر من دخلها الضخم وبلاطها المترف وسكانها الذين يقدرهم بعض من يحتج بهم بمليونين من الأنفس - أعظم مركز لصناعة المنسوجات في العالم الإسلامي. وكانت حلل ولاية العرش تصنع في دار الطراز حتى في العصور الأخيرة للخلفاء العباسيين المغلوبين على أمرهم والذين كادوا لا يملكون من سلطان الحكم أكثر من اعتمادهم لأولئك الذين كانوا يغتصبون السلطة في أيديهم. فقد كانوا مثلا يرسلون مجموعة من الحلل الملكية لأمير مثل محمود الغزنوي، محتوية على منسوجات بغداد الخاصة. وقد عثر علماء الآثار القديمة على نماذج موشاة بالكتابة من صنع دار الطراز ببغداد في أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية.
وكان من الطبيعي أن أنواعا شتى من المنسوجات كانت تصنع أو تباع في العاصمة الإسلامية. فاليعقوبي يحدثنا عن تجار للمنسوجات الخراسانية بالقرب من ناحية الكرخ وكانت بعض أجزاء مدينة بغداد تسمى بأسماء النسيج الذي تصنعه أو تبيعه فالنسيج الذي من صنف التستر كان يشترى من حي التستارية. وتستر مدينة من مدن خوزستان على رأس خليج العجم. ومن الشائق أن نذكر أنه كان في تلك الولاية كثير من مصانع الطراز ترجع نشأتها إلى عهد الدولة الساسانية التي كان ملوكها قد نقلوا الصناع من حدود رومية ليؤسسوا صناعاتهم في جنوبي بلاد العجم وفي العراق. وربما كانت الثياب الديبقية تصنع في حي الديبقية على نهر عيسى، وهو طبعا نسيج أصله مصري، كما أنه قد يكون أكثر الأنسجة تردداً على الألسنة وأعلاها قدراً في ذلك العصر. ويصف لنا الغرناطي نسيج العتابي بأنه مقلم كجلد حمار الوحش، وهو حيوان يقول عنه إنه من فصيلة الحمير، وقد رآه في القاهرة وعندما مات ذلك الحيوان حفظ جلده وحشي قطنا لعرضه في أيام المواسم.(612/40)
ولقد رأت الحكومة في تلك الصناعة الرائجة، صناعة الأنسجة، مصدرا لجلب الضرائب، فحاولت في القرن الرابع الهجري أن تفرض ضريبة على جميع المنسوجات المصنوعة من الإبريسم أو القطن في المدينة، مقدرة أن تجلب تلك الضريبة ألف ألف درهم للخزانة العامة. ولكن الضريبة كانت مكروهة وسببت اضطرابات عنيفة، فقررت الحكومة فيما بعد ترضية الشعب بفرض ضريبة على المصنوعات الحريرية فقط. وأنشئ مكتب بجوار بركة زلزل، وكانت جميع البضائع التي تدفع عليها ضريبة تختم هناك بخاتم الحكومة، وهو نظام يثير العجب لانطباقه على الأساليب الحديثة الآن.
(البقية في العدد القادم)
عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية(612/41)
في البيت. . .
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
أيا غرفةً مرموقةً لِصْقَ غرفتي ... مطفَّأة الأنوار رَهْناً بظلمةِ
أرى بابَك المطروقَ أمسى موصَّداً ... ومخدعُ زوجي أنتِ، بل أنت جنّتي
فأدعو بزوجي وهى جدُّ سميعةٍ ... لأمري، ولكن الصدى رَجْعُ دعوتي
لقد كنتِ يا زوجي لدى الصبح موقظي ... وكنتِ حسيبي في خروجي وأوبتي
فما ليَ لا ألقاك يومي وليلتي ... وبابُك من بابي على قيد خطوة
أرى من خلال السجف نوراً مُشَعْشَعاً ... من الشمس، لكن لا أرى شمس مهجتي
وأسمع للأطيار تزقو كما زَقَتْ ... وللوُرق تُزجي سجعةً بعد سجعة
فأين فتاتُ الخبز تُلقينه لها ... فيَنْقُرن منها حبَّةً إثر حبّة
عرفن أوانَ الأكل فهي كعهدها ... تراَءى صفوفاً فوق سورٍ وأيكة
تَألَّفْتهِا يا إلفَ قلبي وأنسّه ... فماليَ في هذا الحِمَى نَهْبَ وحشة!
ألا تسأليني كيف أصبحتُ؟ في الضحى ... وتَرْجين لي طيبَ الكرى في العشية
عَهِدْتُك لا ألقاكِ حتى تَزَيَّني ... أَلمْ تفرغي لي من حُلِيٍ وزينة
شريكةَ عيشي، أسفر الصبحُ فاطلعي ... أَعِدّي فَطوري وانتقي ليَ حُلَّتي
مكانك خالٍ في الخوان فأقبلي ... فيهَنا طعامي من حديث وطلعة
وإني لغادٍ للخروج كعادتي ... فأين ودَاعي بالوصيد وقُبلتي
أغضْبًي بلا ذنب وفي غير مَغضبٍ ... وأنت الرضى والصفح عن كل زلة
وكنتُ أعزَّ الناس عندك برهةً ... أهنْتُ عليك اليومَ من بعد عزةّ؟
معاذ الهوى! ما إن صمدتِ لجفوةٍ ... ولكنه حكمُ القضاء المشَّتت
نَأى بك عني للمنية غائلٌ ... ولولا المنايا ما سكنتِ لفرقتي
فأعدمني بيتي وعيشي وجنتي ... وكانت هنا في غرفة لِصق غرفتي
أمرُّ فأزوي الطرفَ عنها تألماً ... وكان إليها ما مررت تَلَفُّتي
ويفجؤني أن يفتحَ الباب فاتحٌ ... كأنْ كشف اللحَّادُ عن جوف حفرة
أطامن صوتي - إن همست - محاذراً ... وأحبس أنفاسي وأخلس مشيتي(612/42)
وما بي حذارٌ أن أنبَّه هاجعاً ... ويا ليت يصحو الميْتُ من بعد هجعة
ولكن مزيجٌ تارةً من تهيب ... وخوف، وطوراً من خشوع وحرمة
وولله لا أدري أتفكير عاقلٍ ... أفكر؟ أم هذي سمادير جُنةً(612/43)
الخطيئة الأولى
للشاعر إدوار حنا سعد
فتحتْ بابها وقالت تقدمْ ... سكتَ الليلُ والغرام تكلمْ
ما لكفيك ترجفان وكفي ... فيهما مستكينة تستسلم
ذاك ميعادنا وهذا هوانا ... فماذا تهمُّ حيناً وتُحجمْ
ليلة كالخلود بعد اشتياق ... تَتدَنَّى بها الليالي وتّنُعم
هتف المخدع الأنيق الوردي: ... الغرام العنيف واللهو عندي
والتهاويل والستائر قالت ... إن تقواك هاهنا ليس تُجدي
فدخلنا إليه كفاً بكف ... من فنون الهوى. . . وخداً لخد
وسباني إغراؤها وهي تخفي ... نار أشواقها دلالاً وتُبدي
أسكرتني العطور والأنوارُ ... فاترات وأحرقتني النار
فإذا الغرفةُ الصغيرة تغدو ... علماً لا تحدُّه الأبصار
وغيوماً مُوردَّات الحواشي ... وسمعاءً تحفها الأسرار
ورياضاً إعصارهن نسيم ... وبحاراً نسيمها إعصار
لم يعد للوجود سرٌّ يباح ... كلُّ ما فيه غامضٌ أشبّاح
ويدٌ عانقت وأخرى تراخت ... وأسًى يبتدي ونعمى تتُاح
أجريح شفته كأس التداني ... أم بريءٌ قد أثخنته الجراح؟
لا جديدٌ ولا قديمٌ ولكنْ ... حلم وانتباهة وصباح
ضحك الفجر ساخراً وبكاني ... حين غادرت معبد الشيطان
هارباً كالذئاب تحت ظلال ... من أسىً فائر ومن أشجان
حاقداً تملأ السموم كياني ... وخجولاً من كل وجه يراني
آه يا رب بعد طول تسام ... لحقت بي حقارة الإنسان
أتراني أخطأت أم ذاك ضعف ... كامن في دمائنا لا يكفُّ؟
سنه آدمٌ وأورثنيه ... أم جديدٌ على شبابي يرف؟
والخطايا كريهةٌ غير إنيَّ ... قد وجدت الأجساد ليست تعف(612/44)
تُهت في حيرتي فوجهت عيني ... للرحيم الذي يقيل ويعفو
أنت أنقذت من شراك الغواني ... يُوسفاً بالهدى وبالبرهان
فلماذا تركتني يا إلهي ... في سمادير جوهَّا الفتان
كلما قلت قربتني صلاتي ... زعم القلب أنه غير دان
لا على الشك يستريح فؤادي ... يا إلهي ولا على الإيمان
أنا يا رب تائه وغريقُ ... بعُد الشط والتوت بي الطريقُ
فاتحاُ قلبيَ الشجي لنجوا ... ك فأين السنا وأين الرحيق؟
ابعث النور في حياتي وهدهد ... نزواتي لعلني أستفيق
وابعث النار في هشيم شكوكي ... على شكي تقضي عليه الحريق(612/45)
جيفة
لشارل بودلير
بقلم الأستاذ عثمان علي عسل
أتذكرين يا حبيبتي ما رأيناه صباح هذا اليوم المشرق من أيام الصيف الجميلة؟ أتذكرين هذه الجثة البشعة وهي راقدة على فراش قد تناثر عليه الحصى. وقد رفعت ساقيها في الهواء كفاجرة تلهبها الشهوات، ينضح منها العرق سما، وكشفت عن بطنها المفعم بروائح منتنة بفتور واستهتار. كانت الشمس تسلط أشعتها على هذه الجيفة كأنما تريد أن تصليها وتسويها فترد إلى الطبيعة ما وسقته، مبعثراً في ذرات لا تحصى. وكانت السماء تنظر إلى هذه الجثة الرائعة كأنها زهرة تتفتح، وكانت رائحة العفن الشديدة حتى كدت تسقطين على الأعشاب مغشياً عليك. وكان الذباب يطن حول هذه الأحشاء المجفرة التي تنبعث منها حشرات صافات سود تنحدر كأنها سائل ثقيل على هذه الأسمال الحية، وهي تعلو وتهبط كالأمواج، وتندفع في صخب، فيخيل إلى المرء أن الجسد وهو ينتفخ بأنفاس خفية يستمر في الحياة بتكاثر أجزائه. كان هذا الحشد يردد أنغاماً غريبة، كأنه ماء جار، أو ريح عاصفة، أو وسوسة حبوب تُذرَىَّ بمنسفة في الهواء بحركات متسقة. غابت معالم هذا الجسد عن الأنظار، فلم تعد تبدو للعين إلا كحلم أو رسم أولي لصورة سيرسمها الفنان من ذاكرته بعد حين على لوحته المهجورة. وكان ثمة كلب قلق قابعاً وراء الصخور، ينظر إلينا شزراً، مترقباً لحظة ذهابنا ليعود فيلتهم العظمة التي تركتها من هذا الحطام. على أنك وا حسرتاه! ستصيرين يوماً كهذه القمامة المدنسة، كهذا النتن المخيف، أنت يا نور عيني، يا شمس حياتي، أنت يا ملاكي، يا هيامي. بلي! إلى مثل هذا المصير سينتهي بك المطاف، يا ملكة الجمال، بعد أن تتلى على روحك الصلوات الأخيرة، فترقدين تحت الأعشاب والأزهار، ويبلى جمالك بين الرمَّم. وحينئذ خبري يا حبيبتي الفاتنة، خبري الدود الذي سيلتهمك بقبلاته، إنني سأحتفظ بصورة غرامي الزائل وروحه المقدسة.
البريد الأدبي
الأستاذ ساطع الحصري بك(612/46)
ورد القاهرة في الأسبوع الماضي على الرحب والسعة المربي الكبير الأستاذ ساطع الحصري بك. زعيم النهضة العلمية في العراق، والمستشار الفني لوزارة المعارف في سورية، واحد أقطاب الفكر في الشرق، ومؤلف الكتاب القيم (دراسات عن مقدمة ابن خلدون)؛ ورد القاهرة يستجم قليلا بعد أن قضى سنة في العمل المتصل، متنقلاً من مدن الشام إلى قراه، يزور المدارس، ويدرس المناهج، ويبحث النظم، حتى استطاع أن يضع للتعليم في سورية دستوراً على أحدث الطرق التربوية الحديثة يلائم نهضتها ووطنيتها وعقيدتها ووحدتها، ثم أخذ يدعو إليه ويدافع عنه حتى نفذ. وقد نزل الأستاذ في فندق شبرد، فأقبل عليه المشوقون إليه والمعجبون به يرحبون بمقدمة وينعمون بلقائه.
معرض سيدات القاهرة
المعرض الذي أقيم في نادي سيدات القاهرة خلال هذا الشهر، لا يقل في مستواه عن أي معرض شاهدناه. والرسوم المعروضة كلها من رسم سيدات وآنسات، والبعض منهن لسن مصريات، ولكنهن عشن في مصر واستوحين تربتها السمراء وسماءها الصافية ومشاهدها المختلفة.
واحسن صور هذا المعرض من عمل الآنسات مرجريت يزبك وجان كوهين ومنيرفا فرح وكلو بادارو، ولكل طابعها وشخصيتها المميزة.
فرسوم الآنسة يزبك مفعمة بالعاطفة الشابة، وفي صورها شيء من الشاعرية، وهي ترسم وكأنها تصلي أو تغني وتبذل كل حرارة قلبها في الصلاة أو الغناء
وللآنسة جان كوهين صورة شخصية لرجل (دكتور هيكمان)، والآنسة جان رسامة بارعة ناضجة، قد وفقت فيما رسمت توفيقاً كبيراً، فأعطتنا خلاصة شخصية الرجل الذي رسمته، ويبدو أنه رجل ممتاز، فالصورة تنطق بالعمق والعزم ويقظة الحيوية النفسية.
أما لوحات الآنسة منيرفا فرح - وهذه أول مرة أسعد فيها برؤية صورها - فهي خير برهان على أن الآنسة الفنانة تجد جديداً يهز مشاعرها في الأشياء التي تصادفنا كل يوم ولا نحفل بها. وهي حين تعرض علينا صورها تشركنا في عواطفها المتجددة، وتفتح عيوننا على ألوان من الجمال كثيراً ما نغفل عنها. وتلك هي رسالة الفن.(612/47)
والآنسة عطيات فرج توفق أحياناً فتبلغ مستوى زميلتها وصديقتها (جان) وتقصر أحياناً، وهي غالباً ما تحمل لوحاتها أكثر مما تطيق هذه اللوحات احتماله من الأشكال والألوان، فتضيع (الوحدة الفنية) ويتوزع اهتمام الناظر المتأمل، ويبدو اها تبذل في عملها مجهوداً كبيراً، ولكن كل هذا الإجهاد لا يصل بها دائماً إلى غايتها، ولألوانها طابع قاتم، وليس لنا اعتراض عليه ما دام وحي شخصيتها واحساساتها، ولا شك أنها في طريقها إلى النجاح الكامل.
وقد وقفت الآنسة أنايت شمليان في منظر من مناظر الطبيعة الصامتة، ولكنها لم تبلغ المستوى نفسه في لوحيتها (العارية) و (زهور).
وهناك فنانات ما زلن في منتصف الطريق: ففي صور (ماريان بيرسن)، نجد أن الإحساس أقوى من الأداء، ومع ذلك فهو إحساس لم يتركز بعد، كما أن الألوان غير ناضجة، وفي صور (عم رضوان) للآنسة قدرية علوية نجد المظهر الخارجي للشيخ المسن، ولكنها لم تنجح في نقل صورته النفسية.
ونعتقد أن المستقبل والاجتهاد، كفيل بأن يصل ببعض هؤلاء الفنانات إلى مستوى أرقى، واللواتي بهذه الجملة الأخيرة، هن الآنسات: قدرية علوية، ومفيدة شعبان، وكوكب يوسف. والمعرض في مجموعة مجهود لا بأس به.
نصري عطا الله سوس
نقص إرشاد الأريب
إجابة عن تساؤل الأستاذ أحمد أحمد آل صالح المذكور في عدد (الرسالة 160) أقول: إننا لا نستطيع أن نتهم ياقوتا الحموي بإغفال بعض الفحول، غير أن الكتاب لم يصل إلينا كاملاً، كما ذكر ذلك الغرباني مرجليوث في مقدمة الطبعة الأولى. وأمر آخر هو أحد الوراقين كان لفق جزءاً وباعه للغرباني مرجليوث على أنه من (إرشاد الأريب)، فطبعه وألحته بطبعته، وراج ذلك على الدكتور الرفاعي فنشره في طبعته الأخيرة. ونفس ياقوت لا يخفى على الحاذق.
وفي دار الكتب المصرية، مختصر لإرشاد الأريب، لعله يتيسر لنا الإطلاع عليه قريباً، فنستبين منه بعض ما خفي علينا من أصله.(612/48)
فلسفة الإسكندرية القديمة
حاضرنا الأستاذ يوسف كرم، المدرس بكلية الآداب، بجامعة فاروق الأول، بقاعة المحاضرات لجمعية فؤاد الشبان المسيحيين، عن فلسفة الإسكندرية القديمة، وهي الحلقة الأولى من سلسلة محاضرات تقيمها الجمعية عن مدنيتنا الخالدة، الإسكندرية، في شتى العصور.
على أن ظاهرة لفتت نظري في محاضرة الأستاذ كرم، عن أصل الفلسفة! هل الفلسفة أصيلة في اليونان؟ لقد أكد لنا الأستاذ كرم، كما فعل كل مؤرخ للفلسفة من كتابنا المعاصرين، - ما عدا الدكتور غلاب فيما ذكر - أصالة الفلسفة اليونانية، وقال الدكتور كرم، متابعاً في ذلك أرسطو وأشياعه، إن طاليس الملطي هو أبو الفلسفة بلا منازع! فما قول الأستاذ كرم في إننا ننازع طاليس هذه الأبوة، ونزعم أن الشرق هو أبو الفلسفة.
على أن الأستاذ كرم أمتعنا كل الإمتاع باستعراضه التلخيصي لتاريخ الفلسفة منذ أن وضع لبنتها طاليس - فيما يرى أستاذنا الفاضل - إلى آخر عهد الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية، وأن أبناء الثغر من رواد الحضارة الجديدة ليتطلعون إلى بعث جديد، يحسون اليوم إرهاصاً بوشك حدوثه، وإن غداً لناظره قريب.
(الإسكندرية)
علي حسن حموده
حول اسم كتاب
اطلعت على ما كتبه الأستاذ منصورجاب الله فيما يصل بتخطئه عنوان كتاب (الفاروق عمر)، ثم رد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي والأديب احمد إبراهيم الغرباوي عليه، وكان من المصادفة أني كنت أقرأ ساعتها نص ابن الأنباري (على أن اللقب إذا كان أشهر من الاسم) فوجدت الأستاذ منصوراً محقاً في قوله لأن اسم سيدنا عمر اشهر من لقبه، والعامة عندنا لا يكادون يعرفون لقب ثاني الخلفاء الراشدين، على حين أنهم يحفظون اسمه حفظاً.
وأما ما ذكره الزرقاوي من ألقاب الخلفاء تقدم على أسمائهم فهذا نادر لا يقاس عليه، وبحسب القارئ أن يسأل نفسه: هل يقولون هارون الرشيد أو الرشيد هارون، وهل يقول(612/49)
عبد الله المأمون أو المأمون عبد الله. . . ليجد عند نفسه الجواب الصحيح. وقد أشار السيوطي إلى هذه المسألة اللغوية، وقال إنها (تخصيص لإطلاق وجوب تأخير اللقب)
وكان حرياً بسعادة الدكتور هيكل باشا ان يجري على المشهور من أقوال اللغةويدع التخصيص الذي أورده السيوطي وغيره.
ومن هان لا نرانا نميل إلى قول الأستاذ الصعيدي من أن الأستاذ منصور جاب الله كان متعتنا في تخطئة اسم كتاب مؤلفنا الكبير، وإنما كان رجلا يسعى وراء الحق، ولو كان متعتنا حقيقة لما أقدم على تخطئة رجل له من المكانة في وطنه وي بلدان العروبة ما له.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو(612/50)
الكتب
فيلسوف العرب والمعلم الثاني
لمعالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا
هذا الكتاب من تأليف معالي مصطفى عبد الرزاق باشا الرئيس الفخري للجمعية الفلسفية المصرية. وهو أول كتاب في سلسلة بحوث الجمعية التي تعمل على (إشاعة التفكير الفلسفي في أوسع نطاق بنشر طائفة من المؤلفات في تاريخ الفلسفة، وما بعد الطبيعة، والاجتماع، وعلم النفس، على أن تعالج حقيقة هذه العلوم من اسهل الطرق وأقربها مأخذاً) على حد ما جاء في التصدير
وكتاب فيلسوف العرب والمعلم الثاني يحقق هذه الأغراض كل التحقيق، فقد عرض معالي مصطفى باشا للموضوعات بما هو معروف عنه من التحقيق العلمي، مع نفاذ الفكر، وعمق النظر ورقة الأسلوب، وبراعة الاستهلال ولطف الانتقال
وموضوعات الكتاب أوسع من عنوانه، فإلى جانب فيلسوف العرب وهو الكندي، والمعلم الثاني وهو الفارابي، نجد الشاعر الحكيم المتنبي، وبطليموس العرب أبن الهيثم، وشيخ الإسلام أبن تيمية.
وإذا كان المقصود هو التعريف بشخصية هؤلاء الأعلام، على الأخص وإن حجم الكتاب لا يتسع للإحاطة بتفصيل مذاهبهم، فقد اكتفى معالي الوزير بتحقيق حياة بعضهم، وعرض الجانب الفلسفي عند البعض الآخر، وهي جوانب كلها طرافة. انظر إلى ما كتبه أبن تيمية، تجد قطعة من الأدب الرفيع استهلها بقوله (في أواخر سنة 728 هـ. كان في قلعة دمشق إمام من أئمة المسلمين، شيخ جاوز السابعة والستين من عمره، يعاني ألم الاعتقال والسجن، وحيداً، ليس معه إلا أخ يقوم بخدمته. وكان الشيخ يقاسي فوق ألم السجن ألماً آخر، هو على نفسه أشد وقعاً: فقد منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواة ولا قلماً ولا ورقاً. وكتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم). . . أليس هذا عرضاً للفلسفة بأسلوب الأدب
(* * *)(612/51)
وا إسلاماه!
للأستاذ علي احمد باكثير
بقلم الأستاذ لبيب السعيد
بعد أن ردت مصر الصليبيين في المنصورة المجيدة لم ينالوا من الإسلام خيراً، خرجت إلى (عين جالوت) ترد التتارهم الآخرين؛ ووقف سلطان مصر المظفر قطز على رأس جيشه يثخن بيده في أعدائه الطغاة، بيد أن هؤلاء مكروا مكراً كاد يرديه لولا أن برز فارس مسلم ملثم رد عليهم مكرهم وتلقى المكروه من دون السلطان ثم هتف وهو يعاني الموت: (صن نفسك يا سلطان المسلمين، ها قد سبقتك إلى الجنة).
لم يكن هذا الفارس سوى جلنار: زوجة السلطان وحبيبته. وقد جعل السلطان يقبلها ويقول لها في ذهول وجزع: (وا زوجاه! وا حبيبتاه!) فنادته وهي تجود بروحها: (لا تقل وا حبيبتاه قل: وا إسلاماه!).
وانطلق السلطان إلى المعمعة يصرخ: (وا إسلاماه!). ورجاله معه يرددونها ويلقون في قلوب الذين كفروا الرعب، ولا يزالون يجاهدونهم ويغلظون عليهم حتى يجيئهم النصر ويشفي الله صدور المؤمنين.
تلك هي القولة التاريخية التي اتخذها صديقنا الأستاذ علي باكثير عنواناً لروايته الجميلة.
كانت جلنار وقطز رقيقين في جملة الرقيق أيام آل أيوب، ولكن لهنا قصة حافلة بالعبر، فهما سلالة بيت بعيد النسب في المجد، فأما هي فأبنت السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، وأما هو فابن عمتها. وقد نزلت افجع الأحداث بآلها فبادوا جميعاً في ظروف تموج الهول، وسلم هذان من الموت ليباعا في الأسواق وليذوقا ضروباً من الهوان. وفرق الدهر المشت بينهما أمداً ثم جمعتهما الأقدار أخيراً ليكونا سلطاني المسلمين وليكتبا في تاريخ الإسلام صفحة جد نضيرة.
تجلو الرواية أياما مجيدة لسلف المسلمين. وفصولها جميعاً تنطوي على رسالات سامية، فهنا معرض خلق وبطولة باهرين، وهناك حديث وطنية وتضحية مثاليتين، وهنا دعوة قوية إلى الاستمساك بالحق والحماسة له، وثم حوافز للمجد وزراية على الضعف والضعفاء. ولكنك على كثرة ما تواجهك هذه المعاني لا تحس أن الكاتب تكلفها، بل تدرك(612/52)
أنها - مع علو نمطها - ليست الشيء الذي وضعت له الرواية وتلك لا ريب من خصائص القصة الفنية الناجحة.
ولقد عرض المؤلف أشخاصاً يتعذر على القارئ نسيانهم لوفرة ما لذوا شعوره وناجوا ضميره. فكيف ينسى مثلاً (ممدود) أبو قطز وصهر جلال الدين ووليه الحميم ومستشاره الحصيف الأمين؟ وكيف ينسى (سلامة الهندي) الخادم الوفي الذي حمل الطفلين: قطزا وجلنارا - وكان اسماهما في طفولتهما محمودا وجهادا - إلى الهند يوم أغرق نساء بيت (خوارزم شاه) في اليم تفادياً من ذل الإسار، والذي قاسى ما قاسى ابتغاء الوفاء، والذي مات هماً بالغلامين إذ بيعا في أسواق النخاسة وجزعاً عليهما من تفرق الشمل؟ وكيف ينسى (غانم المقدسي) السري الصالح وزوجته البارة؟ و (الحاج علي الفراش) الخادم الخير الذي لا تمنعه ضآلة منزلته من إسداء الجميل؟ و (ابن الزعيم) المحسن البار والوطني المسلم المجاهد؟
فأما (الشيخ عز الدين بن عبد السلام) العالم الذي لا يشتري بدينه ثمناً قليلاً، والسياسي الخالص العقيدة، والمجاهد الصادق البأس، والزعيم الذي يجد الناس في زعامته أنواراً وآمالاً، فما ألطف وما أجل وما أنفع ما جرى به عنه قلم المؤلف في روايته. إن القارئ كلما حكى المؤلف عن عز الدين شيئاً لتحويه موجات روحية، وإن نفسه لتسمو وتسمو.
وفي الرواية صفحات أخرى كثيرة كأنها لعذوبتها فيوض من الشعر كتبها المؤلف بأسلوب مسيطر ينتزع للرواية منزلة طيبة بين الآثار الأدبية.
فطفولة (جهاد) الحلوة ومعابثة أبيها إياها وطموح (محمود) وبطولته وغرامه بتدمير التتار وهو بعد في طفولته يجتاز الحياة على جسور من الأوهام والأحلام، والحب الأكيد بين الطفلين، ومناجاة جلال الدين لأبيه حين أخطأ جلال وقسا على بلد إسلامي. . هذه كلها فيها جمال مؤثر ورقة تلفت القلوب، وفيها دقة وحذق تساوقان علم النفس مساوقة ملحوظة.
والحب الذي كان بين قطز وجلنار، الحب العظيم الذي كأن السماء كانت ترعاه، والذي نعما به وشقيا، هو في كل مراحله من أمتع ما في الرواية وأكثره استهواء للب وهزاً للعواطف.
حدث المؤلف عن الحبيبين في فترة من أيامهما قال:(612/53)
(وحليت الدنيا في عينيهما فصارت رياضاً وأنهاراً ووروداً وأزهاراً وطيوفاً من ضياء الشفق البهيج، وروحات من نسيم الفجر العليل يتقلبان في أيام كلها أصيل وليالي كلها سحر.
ومن مثل هذا النسق العالي كانت كتابة (باكثير) عن ذلك الحب الفائق، ومن مثله كان وصفه للطبيعة في بعض جنبات روايته.
بقي أن نعتب على مؤلفنا الموهوب ما حشد به روايته من أسماء كثيرة لأناس في العهد الأيوبي لم تكن الرواية - في رأينا - بحاجة إلى ذكرهم.
ونحن نستميح صديقنا المؤلف في أن نسأله: ما هذه الحيدة عن الطابع الأدبي الخالص في بعض أنحاء الرواية حين يسوق أحداث التاريخ غير مدبجة بيراع الأديب فلا هي خفيفة ولا هي محبوبة بل هي مجهدة للقارئ مزعجة إياه. لقد قال مثلاً في أحد المواضع: (فلما كان يوم السبت لست بيقين من ذي العقدة سنة 657 حصل كيت وكيت) فانظر كيف يثقل هذا على من يقرأ قصة أدبية محضاً. إن اللمحات بله العبارات الأدبية - وخاصة إذا كانت من أديب تمرّس بالقصة وتوفر عليها مثل مؤلفنا البارع - كانت كفيلة جداً بأن تشق لنا مسالك التاريخ في الحدود التي تناسب روايته بوصفها أثراً أدبياً لا كتاباً تاريخياً. إن القصة الفنية كاللوحة - كم هو معلوم - والرسام يرسم الصورة للشيء القديم فيجعلنا بفنه ندرك تاريخ هذا الشيء، دون أن يضع عليه اسم يوم أو شهر أو سنة. ألا وإن الفطرة الفنية الذواقة على نقيض العقلية العلمية لا تحفل كثيراً بالتواريخ ولا تعني بالأسماء إلا بقدر. وأظن إن الأستاذ المؤلف إذا عني بتقديم روايته لمسابقة وزارة المعارف في الموعد الذي ضرب للمتسابقين أعجل عن بث مواهبه الفنية في تلك الأجزاء. ولو فعل لكانت روايته يقيناً من أرفع الآثار الفنية لدينا.
وبعد فلا بد أن نقرر أن المؤلف كان في جل روايته نافذ القوة، وأنه - فيما خلا المواضع المشحونة بالتاريخ لغير داع فني - بلغ فيما عرضه أقص ما يبلغه مؤلف في نفس قارئه من الانفعال والأثر القوي.
لبيب السعيد(612/54)
العدد 613 - بتاريخ: 02 - 04 - 1945(/)
المذاهب تتقارب
للأستاذ عباس محمود العقاد
من أهم الأنباء التي نقلها إلينا البرق في الشهر الماضي ذلك النبأ الذي يلخص نظام التوريث والوصية في البلاد الروسية، وفحواه أن القوانين الجديدة تبيح لمن يشاء أن يترك ميراثه لمن يشاء، بعد أن كانت التركات من حق الدولة وحدها إن لم يكن للمتوفى ورثة أو أقارب.
سئلت منذ تقدمت الجيوش الروسية في الأرض الأوربية: ماذا يكون مصير أوربا أمام الدعوة الشيوعية واحتلال الروس للأقطار التي يحتلونها الآن وقد يحتلونها إلى ما بعد انقضاء الحرب بسنوات؟ فقلت: إن الروسيا لن تكون شيوعية ماركسية في ذلك الحين، لأنها ستقترب من النظم الاشتراكية المعتدلة، ثم تقترب من النظم الديمقراطية، وسيكون للديمقراطية حظ السبق إلى التطور السريع في مسائل الثروة والتأمين الاجتماعي، فتحل المشكلات التي عجزت الماركسية عن حلها بعد ربع قرن من التجارب والمحاولات، فإن توفق الديمقراطية إلى الحل الحاسم في جميع هذه المشكلات فهي موفقة لا محالة في الابتداء الذي يكفل لها حسن الانتهاء أو حسن التقدم والاطراد في الطريق.
وقد يقتضي الأمر بضع سنوات قبل أن تصطبغ الماركسية بالصبغة الأخيرة التي تقربها من الديمقراطية، فلا نقول إن الماركسية اليوم قد تغيرت كل التغيّر ولا أنها قد رجعت في مسألة الطبقات عن القواعد التي قام عليها المذهب منذ أعلنه دعاته في القرن الماضي، ولكنا نقول إنها شرعت في النقلة التي لا رجوع فيها، وإن المسألة بعد ذلك مسألة الوقت والمناسبات.
والذي تغير حتى الساعة من أصول الدعوة الماركسية غير قليل فأول عوارض التغير هو العدول عن نشر الدعوة في العالم والاكتفاء بالتجارب الميسورة في البلاد الروسية وما جاورها، وقد كان هذا مبعث الاختلاف الشديد بين الزعيمين الكبيرين تروتسكي وستالين.
وجاءت بعد ذلك عوارض أخرى لم تكن تدور للينين - فضلاً عن كارل ماركس - في حساب. فاعترفت الحكومة السوفيتية بالكنيسة وبعض النظم الدينية، ثم اعترفت بالوطنية التي كانت تعتبر في عرف كارل ماركس وأصحابه بقية من بقايا رأس المال، ولجأ(613/1)
الزعماء إلى إثارة النخوة في صدور الشعب بتسمية الحرب الحاضرة (حرباً وطنية) وإحياء التراث الوطني في الأغاني والمواكب والمسرحيات.
وعمد ديوان التعليم إلى التفرقة بين الجنسين في المدارس الابتدائية والثانوية، مع حرص الماركسيين على إعلان المماثلة التامة بين الرجال والنساء في جميع الأعمال وجميع الكفاءات.
وقد سلم ولاة الأمر الروسيون في الملكية الصغيرة وسلموا في تفاوت الدرجات والأنصبة على حسب اختلاف الأعمال، وسلموا في معاملة الصناعات الفردية بغير النظام الذي يعامل به الأجراء في المصانع الكبيرة، ونشأت عندهم طبقات ممتازة في المعيشة تبعاً لامتيازهم في الوظائف المدنية أو العسكرية.
وكل هذا والروسيا بمعزل عن العالم يتخيل أبناؤها أن الإصلاح في ظل الديمقراطية مستحيل، وإن إنصاف العمال مع قيام رأس المال ضرب من الأساطير، فإذا ارتفعت الحواجز غداً وأبيح للروسيين السفر إلى أنحاء العالم وأبيح للأجانب السفر إلى روسيا فلا بد من تبدل الأحوال في أمد قصير، ولا بد من تغير النظر إلى حقائق الأمور. فإن الشيوعي الذي يعلم يومئذ أن الأمور تنصلح في ظل الحكم الديمقراطي، وأن العمال ينالون من خيرات الدنيا في البلاد الأخرى فوق ما ينالونه في الجمهوريات التي تسمى بجمهوريات العمال لن يثبتوا على توجسهم من الديمقراطية ولا يأسهم من صلاح الأمور على يديها، ولن يثبتوا على تعصبهم للشيوعية، ولا حصر الخير كل الخير في دعوتها، ولا سيما بعد التوسع في تطبيق مذاهب التأمين الاجتماعي وإنصاف العاطلين والعجزة والشيوخ، وشعور الروسيين حكومة وشعباً بضرورة التعاون بينهم وبين سائر الحكومات والشعوب.
والأرجح عندنا أن سياسة العزلة الروسية لن تدوم بعد الحرب بزمن طويل، ونعني بسياسة العزلة تصعيب السفر على الروسيين وتصعيب الدخول إلى الأرض الروسية على الأجانب، فإن قيام هذه العزلة لا يتاح لمن يريد، بعد تشابك المصالح وتواتر الأخبار والعلاقات من هنا وهناك، وبعد احتياج الساسة الروس إلى بسط قضاياهم السياسية، وتحصيل المواد الصناعية والسلع التجارية التي لا يستغنون عن توريدها والمبادلة عليها(613/2)
وعقد الصفقات الطويلة أو القصيرة بشأنها، وربما أحس هؤلاء الساسة قبل غيرهم بضرورة التيسير في مسألة السفر من بلادهم والسفر إليها، لأنهم يأمنون بذلك معارضة المنكرين لكل تغيير في الأساليب الماركسية إذا وجب أن يغيروها ويقتربوا بعض الاقتراب من النظم الديمقراطية، فإنما يصعب الخروج على قواعد كارل ماركس لمن يجهل أعمال الإصلاح وأحوال العمل في البلاد الديمقراطية ويمتنع عليه أن يعقد المقارنة بينها وبين أعمال الإصلاح وأحوال العمال في الجمهوريات السوفيتية، فإذا تيسرت هذه المقارنة للمتعصبين المتعنتين لم تقم الحوائل الحاسمة دون التغيير درجة بعد درجة، ومرحلة بعد مرحلة حتى يتم التقارب والتوفيق بين أطراف المذهبين، أو بين أطراف المذاهب التي تتناول مسائل الإصلاح ومشكلات الاجتماع.
وقد كان من قوانين العدل المروغ منها عند الماركسيين أن تحرم الوراثة كما تحرم الملكية. ولكن تحريم الوراثة فيما نرى أدنى إلى الظلم والمفارقة من تحريم الملكية حيث كانت في المال أو العقار، لأن الحكومات والقوانين لن تمنع الإنسان أن يرث عن أبيه أمراضه وعيوبه وسوء العلاقة بينه وبين غيره، فليس من حقها أن تمنعه ميراث الخير الذي يصل إليه أو تقطع الصلة بينه وبين مساعي أبيه، وإذا كان للمجتمع حق في ميراث الفرد الغني فليس للمجتمع أن يجهل حق بنيه وبناته وأقرب الناس إليه.
فاليوم يرجع الشيوعيون إلى الاعتراف بالميراث والتوصية بعد الاعتراف بالملكية الصغيرة مدى الحياة، وإذا كانت الأملاك المنتجة للثروة لا تزال في الجمهوريات السوفيتية مستثناة من حيازة الأفراد فالديمقراطية نفسها لا تمنع استيلاء الدولة على هذه الأملاك، ولا تمنع مشاركة المجتمع في التركات الكبيرة بحصة تربى على حصص الأبناء الأقربين.
نعم إن الملكية الصغيرة في الجمهوريات السوفيتية تخالف الملكية الصغيرة في الأمم الديمقراطية، لأنها هناك أشبه بالحكر الذي يستغل بإشراف الدولة ولا يجوز لمن يستغله أن يتصرف فيه بالبيع أو الهبة أو التأجير، ولكنه - كائناً ما كان - أقرب إلى الديمقراطية منه إلى الماركسية في أساسها. فهو قد تجاوز منتصف الطريق في اتجاه الديمقراطية، ولا سيما بعد تسويغ التوصية والميراث.
وليست الشيوعية وحدها بالمذهب الذي يقترب في إبان الحرب - وبعد الحرب - من(613/3)
المذاهب الاجتماعية على اختلافها.
فإن الديمقراطية مثلها تقترب من ناحية إلى الاشتراكية كما تقترب من ناحية أخرى إلى النازية أو الدكتاتورية. وإنها لمضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الهوادة والإغضاء في معاملة الخارجين على مبادئ الحرية الفردية والحرية القومية، ومضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الحيدة التامة - من قبل الحكومة - في الرقابة على شؤون الثروة ومسائل الأرزاق، ومضطرة لا محالة إلى اختصار (الإجراءات) الشكلية التي كانت تعوق حركة العمل في الحكومات البرلمانية، وهي اليوم بما تفرض من الضرائب على التركات وعلى الأرباح المفرطة والمرافق العامة أصح اشتراكية من مذاهب الاشتراكيين، لأنها تشارك الأفراد في أملاكهم الخاصة وغلات تلك الأملاك وتنقلها إلى المفتقرين إليها، على سنة الدعاة الشيوعيين الذي جعلوا شعارهم: (من كل حسب ما يستطيع، ولكل حسب ما يحتاج إليه).
إلا أن الفرق بين الديمقراطية والشيوعية في هذه الحالة أن الديمقراطية تدع الفرد مستطيعاً لجمع الثروة حتى يؤخذ منه العون الاجتماعي على حسب ما يستطيع، أما الشيوعية فقد سلبت الفرد نخوة المنافسة وحمية الطموح إلى التفوق، وتركت له شيئاً واحداً وهو أن ينتظر المدد من المجتمع على حسب الحاجة إليه.
ومن ثم لا يبقى بعد الحرب مذهب اجتماعي واحد كما كان قبلها أو أراد دعاته أن يبقى، وإنما تتقارب مع الزمن حتى يخلص منها مذهب واحد جامع لمحاسنها معتبر بمساوئها، والديمقراطية هي المذهب الغالب عليها في النهاية لأنها هي المذهب الذي لا يصطدم في أساسه بموانع التطور والاقتباس، فالشيوعية التي تبيح الملكية وتبيح الميراث تناقض أساس المذهب الذي قامت عليه، والدكتاتورية التي تنكر على الزعيم قداسته تناقض أساسها وتنتزع حجتها في محاربة الديمقراطية، ولكن الديمقراطية التي تحد الملكية على سنة المساواة، أو تزيد في سلطان الوزير المقيد برقابة النواب والناخبين لا تزال ديمقراطية في الصميم ولا تنقض مبدأ من المبادئ التي تقوم عليها الحرية الفردية، وتعاون الأمة ذلك التعاون الذي يشمل الطوائف والأفراد.
ما من حركة إنسانية هي شر محض من مبتدئها إلى منتهاها حتى الحرب العالمية وما(613/4)
أشنعها وأقساها.
فلعل هذا التصالح بين المذاهب التي تسعى إلى خدمة الإنسان هي ثمرة الخصومة التي تسفك فيها دماء بني الإنسان، ولن يزال الارتقاء غنيمة غالية الثمن في تاريخ أبناء آدم وحواء.
عباس محمود العقاد(613/5)
علم العرب الأقدمين بالجراد
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة
عرفت شعوب الشرق الأوسط من حاميين وساميين الجراد وأحواله وأطوار نموه وتحركه من أقدم العصور. يدل على ذلك ما ورد في كتب العهدين القديم والجديد، وما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما لدينا من أمثال العرب القدماء وأشعارهم. فوصف سفر الخروج (12 - 13) غاراته على مصر أبلغ وصف: (ثم قال الرب لموسى مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد ليصعد على أرض مصر ويأكل كل عشب الأرض وكل ما تركه البرد. فمد موسى عصاه على أرض مصر فجلب الرب على الأرض ريحاً شرقية كل ذلك النهار وكل الليل، ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد فصعد الجراد على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر شئ ثقيل جداً لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك، وغطى كل وجه الأرض وأكل جميع شجر الثمر الذي تركه البرد حتى لم يبقى شئ أخضر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر).
ووصف سيدنا سليمان أسراب الجراد في أمثاله بقوله: (الجراد ليس له ملك ولكنه يخرج كله فرقاً فرقا).
وجاء في القرآن الكريم (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).
وورد أن النبي الكريم كان يصلي ظهراً والجنادب تنقز من الرمضاء. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنّ رجلا قال أصبت دباة وأنا محرم، قال اذبح شويهه. وفي حديث ابن عباس أنه دخل مكة رجْل من الجراد فجعل غلمان مكة يأخذون منه فقال: (أما إنهم لو علموا لم يأخذوه) يعني بذلك أنّ صيد الجراد مكروه في الحرم. وفي الحديث الشريف (كأن نبلهم رجْل جراد). وذكر الجراد في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال ليت عندنا منه قفعة أو قفعتين. قال ذلك لأنه غذاء محبوب عند العرب. وسئل النبي كيف الناس بعد ذلك؟ قال دباً يأكل شداده ضعافه حتى تقوم عليهم الساعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن مريم جاءت فجاءها طبق من جراد فصادت منه - أي قطيع من الجراد. وورد أن عائشة(613/6)
رضي الله عنها أرسلت إلى النبي جراداً محسوساُ أي سوى على النار. وفي حديث غزوة حنين (أرى كتيبة حرشف) أي فرقة من الرحالة شبهوا بالحرشف أي الجراد لكثرتهم.
وقد ورد الجراد بأسمائه المختلفة في أمثال العرب وحكمهم وأشعارهم فقالوا (إذا أجدب الناس أتى الهاوي والعاوي) والهاوي هو الجراد والعاري هو الذئب. وسمي الجراد بذلك لأن له هويا أو دويا يعني صوتاً. وقد سمى بعض العرب خيلهم بالجرادة والخيفانة، تشبيها لها به في خفته وسرعته، فسمى عبد الله بن شر حبيل فرسه بالجرادة. وجرادة العيار اسم فرس في الجاهلية لأعرابي اسمه العيار صاد جراداً وهو جائع ودسها في النار وصار يخرجها واحدة واحدة ويأكلها حية وهو لا يدري من شدة الجوع فطارت منها جرادة فقال: (والله إن كنت لأنضجهن) فضرب ذلك مثلا لكل من أفلت من كرب. وقيل كانْ العيار رجلا أعْلَم أخذ جرادة ليأكلها فأفلتت من عَلَم شفته، ويصف العرب الفرس والناقة السريعة بأنها خيفانة لسرعة عدوها وخفتها وطمورها كالجراد قال عنترة:
فغدوت تحمل شكتي خيفانة ... مرط الجراء لها نميم أتلع
وقال امرؤ القيس:
وأركب في الروع خيفانة ... لها ذنب خلفها مسبطر
وقال مشبها الخيل بالحرشف:
كأنهم حرشف مبثوث ... بالجو إذ تبرق النعال
والحرشف ضرب من الجراد قال الراجز:
يا أيها الحرشف ذا الأكل الكُدَم ... يعني الشديد الأكل.
ويقول العرب في أمثالهم (صر الجندب) وهو مثل يضرب للأمر يشتد حتى يقلق صاحبه. والأصل في هذا المثل أن الجندب وهو الجراد إذا أرمض من شدة الحر لا يستقر على الأرض بل يطير فيسمع لرجليه صرير. وقد وصف ذلك أحد شعرائهم بقوله:
قطعت إذا سمع السامعون ... من الجندب الجون فيها صريرا
والجندب من أسماء الإساءة في لغة العرب فتراهم يكنون به الظلم والغدر والداهية فيقولون (وقع القوم في أم جندب) إذا ظلموا. قال الشاعر:
قتلنا به القوم الذين اصطلوا به ... جهاراً ولم نظلم به أم جندب(613/7)
أي نقتل به غير القاتل.
وكان من عادة العرب أن يسموا الأشخاص بأسماء الجراد، فورد أن جرادة اسم امرأة في الجاهلية غنت للرجال الذين أوفدهم عاد إلى البيت الحرام بمكة يستسقون لتلهيهم عن السقاية. وفي ذلك يقول ابن مقبل:
سحراً كما سحرت جرادة شربها ... بغرور أيام ولهو ليال
ويقال إنه كان بمكة في الجاهلية مغنيتان يقال لهما الجرادتان مشهورتان بحسن الصوت والغناء، وقيل إنهما مغنيتان للنعمان. وجندب اسم رجل.
وعادة أكل الجراد قديمة عند شعوب الشرق الأوسط فقد أحله الله لبني إسرائيل على لسان كليمه موسى (هذا منه تأكلون الجراد على أجناسه، والدبا على أجناسه، والحرجوان على أجناسه والجندب على أجناسه). وكان يحي بن زكريا عليهما السلام يقتات بالجراد والعسل وهو يتعبد في البرية.
وقد أحل أكله للمسلمين على لسان النبي الكريم (أحلت لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال). وورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الجراد في غزواته، فقد ذكر ابن أوفي (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد)، ولذلك كان العرب يصطادونه ويكتسبون لعيالهم منه كما قال المبرد:
إذا أكل الجراد حروث قوم ... فحرثي همه أكل الجراد
وللعرب في أكله طرق فكانوا يقشرونه أي ينتزعون رؤوسه وقوائمه ويسمونه الجُلُف ومفرد جليف كما ذكر قيس ابن الحطيم في وصف امرأة:
كأن لباتها تبددها ... هزلي جراد أجْوافه جلف
وكانوا يجففونه ويسحقونه ويضيفونه إلى الدقيق لصنع الخبز ويطبخونه في المرجل ويسمونه الهميشة لأنه يغلى بعضه في بعض فيسمع له حركة. ويشوونه على النار ويسمونه المحسوس، وكان العرب يأكلون بيض الجراد وبيض الضب ويسمونه المكن قال أبو الهندي عبد المؤمن بن عبد القدوس:
وما في البيوض كبيض الدجاج ... وبيض الجراد شفا القرم(613/8)
ومكن الضباب طعام العري ... ب لا تشتهيه نفوس العجم
ولم يعتبر العرب الجراد حشرة بل كان في عرفهم من صغار الطير لذلك سموه طيفورا أو طويئراً.
والجراد من صميم حشرات بلاد العرب لكثرة ما ورد من أسمائه في العربية. وقد سمي جراداً لأنه يجرد الأرض أي يدبشها أو ينمشها أو يحتنكها أي يلتهم كلأها فيتركها جرداء من جرد الشيء قشره وجرد الجلد نزع عنه الشعر. ومنه الرجل الأجرد. والجرد من الأرض الفضاء الذي لا نبت فيه. قال الشاعر يصف حمار وحشي يأتي الماء ليلا ليشرب.
يقضي لبانته بالليل ثم إذا ... أضحى تيمم حزما حوله جرد
والجردة أرض مستوية متجردة. ومكان جَرِد وأجرد وجَرَد لا نبات فيه. وفضاء جرد وأرض جرداء جردها الجراد أو القحط تجريداً. وفي الحديث (كانت فيها أجارد) أي مواضع متجردة من النبات. والسنة الجارود هي المقحطة الشديدة المحل. ويقول العرب جردت الأرض فهي مجرودة إذا أكلها الجراد.
والجراد اسم للجنس يطلق على الذكر والأنثى على السواء، ويسمى العرب ذكر الجراد بالعنظب أو العصفور أو الجندب. وقيل الجندب والقمل هو الصغير من الجراد قال الشاعر:
يغالين فيه الجزء لولا هواجر ... جنادبها صرعى لهن فصيص
أي صوت. ويسمون الأنثى من الجراد العنظوانة نسبة إلى العَنظ وهو الكرب لأنها تحدث الكرب والشدة قال جرير:
ولقد رأيت فوارسا من رهطنا ... عَنَظُوك عَنْظَ جرادة العيار
(أي لازموك وغموك) وتسمى الأنثى أيضاً السرعوفة أو العيساء أو المرادة أو الدباساءة. ومن أسماء الجراد الحسبان المذكور في القرآن الكريم (فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيداً زلقا).
ومنها الحاسة لأنه لا يدع في الأرض شيئاً إلاّ حسه أي لم يترك منه شيئاً. ومنها أيضاً السرواح لأنه يسرح. ومن أسماء الجراد أيضاً الجائح لأنه يجتاح كل شيء أي يستأصله، ومنها الجادي لأنه يجدي أي يأكل كل شيء. قال عبد مناف الهذلي:(613/9)
صابوا بستة أبيات وواحدة ... حتى كأن عليها جادياً لُبسَداً
واللبد هو الكثير.
والدَّيجَان هو الكبير من الجراد.
والجُنْدُعُ أو الخَنْدَع أو الحندع جندب أسود له قرنان طويلان وهو أضخم الجنادب.
وكان العرب على علم بأطوار نمو الجراد وتطوره وتزاوجه فقالوا غرزت الجرادة أو رزت أو متحت أي أثبتت ذنبها في الأرض لتسرؤ أي تدفن بيضها في الأرض فهي غارزة، والمغرز هو موضع بيضها، والجرادة السرؤ هي التي أسرأت أو سرأت أي ألقت السرء أي المكن وهو البيض. ويطلق العرب المكن على بيض الضب كذلك كما سبق القول.
ويقول العرب مكنت الجرادة فهي مكون إذا كانت حبلى أي جمعت البيض في جوفها وحفظته فيه فإذا ألقته فهي السلقة. فإذا لم يكن في جوفها بيض فهي جرادة صفراء.
وإذا انقف الجراد بيضه أي ألقاه فإنه يتنفس عن السروة وهي صهباء إلى البياض وهذه تصبح دبا عندما تأخذ في الحركة قبل أن تنبت أجنحتها أي قبل أن يطير فتكون الأرض لوجوده مدبوءة أو مدبية وواحدته دباة. والدبى اسم مكان بالدهناء يألفه لجراد فيبيض فيه. والدبا يكون في أول أمره قمصاً كالعث صغراً (الطور الحوري الأول) ثم يصبح كالقمل سوادا ويسمى الحبشان (الطور الحوري الثاني) فإذا سلخت الحبشان صارت يرقاناً فيها جدة سوداء وجدة صفراء (الطور الحوري الثالث) وجميع هذه الأطوار يسميها العرب خرشفاً وهي أشره ما يكون، ويسلخ اليرقان المعين أو الخيفان وتظهر فيه خطوط مختلفة من بياض وصفرة (الطور الحوري الرابع) ثم يصبح مرجلا أو كتفاناً لظهور أوائل أجنحته ولأنه إذا تحرك لا يطير بل يقفز في الأرض مثل المكتوف الذي لا يستعين بيديه إذا مشى، ويسمى، كذلك عتاباً لأنه يعتب أي يقفز (الطور الحوري الخامس) ثم يصبح غوغاء حين يخف للطيران (الطور الحوري السادس). وقد سمي العرب السفلة المتسرعين إلى الشر من الناس بالغوغاء لكثرة لغطهم وجلبتهم. ثم يصبح عند ما يطير جراداً (الطور البالغ). والمسيح هو الجراد إذا صار فيه خطوط سوداء وصفر وبيض وتسييح الجراد هو ما يخرج منه من ألوان شتى حين يزحف.(613/10)
وقد عرف العرب الكثير عن أعضاء الجراد، فقالوا إن للجرادة تأشيرة وهي التي تعض بها والتأشير أيضاً شوك ساقية أما الأشرتان أو الاثناء أو الأطواء فالعقد التي في رأس الذنب كالمخلبين وبها يرز الجراد أي يدفن بيضه في الأرض، ويقال للمخلبين اللذين تحت الساقين المنشاران. والنخاع هو الخيط الذي في حلق الجرادة كاللسان. والبخنق جلباب الجراد على أصل عنقه والمنكبان هما رؤوس الأجنحة - والأجنحة أربعة: اثنان أعلياّن غليظان هما الظهران واثنان سفليان رقيقان هما القشران والحؤشوش أو الجوش أو الجوشن هو صدر الجراد وله ست أيد وهي في الجوشن. وسرم الجراد هو ما خلف الجوشن وهو ذنبها
وكان العرب على علم بتجمع الجراد وهجرته وتفرقه فقالوا حوم الجراد في السماء أي حلق. وسام الجراد سوما إذا دخل بعضه في بعض. وهمش إذا تحرك ليثور. وارتهش إذا ركب بعضه بعضاً حتى لا يرى معه تراب. وقالوا الشفترة تفرق الجراد. والجراد المشفتر هو المتفرق قال الشاعر:
فترى المرو إذا ما هجرت ... عن يديها كالجراد المشفتر
وعيران الجراد هي أوائله المتطرفة القليلة - وأرجال الجراد أي جماعة أو طوائفه تسمى القفعة. فإذا كانت غير كثيرة فهي الشيتان. أما إذا كانت كثيرة فهي الطبق أو الثوالة لتثولها وتراكبها. ورجل الجراد هي قطعة أو خيط يملأ مكاناً بقدر ميل فإذا كان أكثر من ذلك فهو زحف. فإذا سد الأفق من كثرته فهو السد أو العارض أو العرض، فإذا كان أقل من ذلك فهو الحذقة. وصرير الجراد وفصيصه هو صوته، وحنشزته هي صوت أكله.
وقد وصف شعراؤهم ثوران الجراد وتحركه وأضراره أبلغ وصف. فقال ساعدة:
رأى عارضاًً يهوي إلى مشمخرة ... قد أحجم عنها كل شيء يرومها
والعارض كما قلنا هو السرب العظيم من الجراد يرى كالسحاب في ناحية من السماء كأنه يسد الأفق. ومنه قول العرب أتانا جراد عرض أي كثير.
(البقية في العدد القادم)
الدكتور محمد مأمون عبد السلام(613/11)
العناية الإلهية
للكاتب الفرنسي (لامنية)
للأستاذ زكريا إبراهيم
(. . . إلى اللآنسة المهذبة (ا. م): يا فتاتي: إن العناية الإلهية
ترعانا، فدعيني أضع بين يديك هذه القطعة الجميلة الرائعة
التي تعبر - في بساطة مقدسة - عن تلك العناية الإلهية
الفائقة. . .)
ز. إ.
كانا جارَيْن، يعيش كل منهما مع زوجته وأبنائه الصغار، ولا همَّ له سوى توفير أسباب الحياة لأسرته.
وذات يوم، طافت برأس أحدهما خواطر مزعجة، فقلقتْ نفسه، واضطرب باله، وأخذ يفكر في نفسه قائلا: (ماذا يكون من أمر زوجتي وأبنائي، لو عَدَا عليَّ عادي الموت أو المرض؟).
وألحَّت عليه هذه الفكرة، فلم يجد للخلاص منها سبيلا. وهكذا أخذت الخواطر المزعجة تأكل قلبه، كما تأكل الدودةُ الثمرةَ التي تختبئ فيها.
أما الآخر، فقد طافت بذهنه هذه الفكرة نفسها، ولكنه لم يتوقف عندها، ولم يِعْرها أدنى اهتمام، بل قال في نفسه: (إن الله يعرف كل خلائقه، وهو يعتني بها جميعاً، فلابدَّ أنه سيعتني بي، أنا وزوجتي وأبنائي).
وهكذا عاش مطمئناً هانئاً، بينما رفيقه في حيرة وقلق واضطراب، ولم يستطع - لحظة واحدة - أن يستمتع بالراحة والهدوء
وذات يوم، كان صاحبنا يعمل في حقله، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الحزن والكآبة، من فَرْط ما به من قلق وهَمّ، فرأى بعض العصافير، وهي تدخل إلى إحدى الشجيرات، ثم تخرج منها، ثم لا تلبث بعد قليل أن تعود إليها.(613/13)
وحينما اقترب من تلك الشجيرة، رأى عشَّين متجاورين، في كل منهما عصافير صغيرة، لم ينبت لها الريش بعد!
وعاد الرجل بعد ذلك إلى عمله، ولكنه يرفع بصره من وقت إلى آخر، وينظر إلى تلك العصافير التي تروح وتجئ حاملةً القوت إلى صغارها: وذات مرّة، كانت إحدى الأمهات عائدة إلى عشها ومعها القوت الذي جلبته لصغارها، فانقضّ عليها نسر كاسر، ومضى بها، وهي تتلوَّى في قبضته، وترسل الصرخات الأليمة المدوية!
وحينما وقعت عينا الرجل على هذا المنظر لجَّت عليه خواطر السوء أكثر من ذي قبل، فزاد قلقه واضطرابه، وأخذ يفكر في نفسه قائلا: (إن في موت الأم موتاً للأبناء، فماذا عسى أن يفعل أبنائي، لو قُدّرَ أن أموت، وما لهم من معين سواي؟).
وظل الرجل طوال اليوم حزيناً كاسف البال، وبات طيلة ليلته ساهداً لم تكتحل عيناه بنوم.
وفي اليوم التالي، حينما عاد إلى عمله في الحقل، فكّر في نفسه قائلاً: (تُرَى ما الذي صار من أمر الصغار الذين خلّفتهم تلك الأمّ المسكينة، لابدّ أن يكون عدد كبير منهم قد مات جوعاً) ومضى الرجل إلى الشجرة، لكي يرى بعينيه ما حدث وألقى الرجل نظرة على الشجيرة، فراعه أن الصغار جميعاً في أحسن حال، ليس بينهم من يبدو ضعيفاً أو خائراً أو موشكا على الموت) ولما كانت الدهشة قد بلغت به كل مبلغ، فقد اختبأ ليرى بنفسه ما الذي سيحدث.
وبعد لحظات، سمع الرجل صرخة خفيفة، ولمح صاحبة العش الآخر، وقد أسرعت تحمل القوت لصغارها، وصغار رفيقتها التي اقتنصها النسر. ورأى صاحبنا هذه الأمّ الرحيمة وهي توزع القوت على الصغار جميعا بلا تفرقة ولا تمييز، فيصيب كل منهم طعامه، ولا يُتْرك واحدٌ منهم يتيماً لا عائل له!
وفي المساء، مضى الرجل إلى جاره المؤمن، يروي له ما رآه بعيني رأسه.
وعند ذلك قال له رفيقه: (فيِمَ القلق والاضطراب إذن؟ إنَّ الله لا يتخلّى عن عباده أبداً، وهذه محبَّته لها أسرارٌ لا سبيل لنا إلى معرفتها. فحسبنا أن نؤمن، ونأمل، ونحبّ، ولنواصل السير في طمأنينة وسلام.
(وإذا قّدر لي أن أموت قبلك، فإنك تصير أباً لأبنائي، وإذا قّدر لك أن تموت قبلي، فإنني(613/14)
أصير أباً لأبنائك.
(أما إذا قُدّر لنا نحن الاثنين أن نموت قبل أن يصبح أبناؤنا رجالاً، فسيكون أبوهم، عندئذ ذلك الأب الذي في السماء!)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية(613/15)
على هامش النقد:
هذه الشجرة. . . للعقاد
للأستاذ سيد قطب
هذا كتاب يجئ في إبانه لتصحيح مقاييس كثيرة في عالم التفكير والشعور، وفي عالم الأخلاق والاجتماع، تجاه مسألة من أكبر مسائل الحياة، بل تجاه مسألة الحياة: مسألة الجنسين، وعلى أي أساس تقوم بينهما العلاقات.
هو كتاب يجئ في إبانة لأنه يرتفع بهذه المسألة فوق السفسطات الذهنية، وفوق تقاليد (الصالونات) وفوق الفتنة التافهة أو المغرضة بالمرأة (المسترجلة) التي كادت تصبح زياَّ من أزياء (المودة) يفتن بعض الرجال (المتأنثين) فتنة الأزياء الجديدة للمرأة في كل زمان!
يرتفع بها فوق هذا كله ليردها إلى منطق الحياة، وإرادة الطبيعة. ثم إلى وظائف المجتمع وقوانين الأخلاق، المستمدة من منطق الحياة ومن إرادة الطبيعة. وقد آن لنا أن نرد كثيراً من الأوضاع إلى هذا المنطق الأصيل، إذا شئنا أن نرجع إلى سواء الفطرة الخالدة، التي قد تفسد في بعض الأجيال لملابسات خاصة ولكنها تعود إلى الصلاح حتماً، لأن الحياة لا تستقيم طويلاً في عزلة عن هذه الفطرة الأصيلة.
والمسألة حين ترتفع إلى هذا المستوى، لا يعود الحديث فيها هو الحديث عن حقوق المرأة وحقوق الرجل، ولكن عن حقوق الحياة من وراء المرأة ووراء الرجل، ولا يعود المرجع فيها إلى إرادة هذا الجنس أو ذاك، ولكن إلى إرادة الطبيعة التي صاغت الجنسين، لتصل بهما جميعاً إلى تحقيق إغراضها وأغراض الحياة.
ومن هنا نصل إلى المنطق الفاصل، الذي يعود كل منطق سواه عبثاً وسفسطة، وتظرفاً يصلح (للصالونات) والمجتمعات؛ ولا يصلح لبناء الحياة وإقامة المجتمعات!
والعقاد هنا في ميدانه الأصيل: ميدان التحليل والتعليل، للبواعث النفسية والكوامن الفطرية، والسمات الشخصية. وهو الميدان الذي يقف فيه متفرداً في الشرق العربي الحديث.
ويجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لتوضيح ما نعنيه بالتحليل والتعليل. فليس أكذب على العقاد من شبهة شائعة عنه عند من لا يفرقون بين ألوان المنطق الإنساني في الحياة(613/16)
والفنون.
تقوم هذه الشبهة على أساس أن المنطق الفكري هو الذي يغلب على كتابات العقاد. . . وهذا في الواقع هو مفرق الطريق في اعتقادي - بين من يفهمون ومن لا يفهمون. بل بين من يشعرون ومن لا يشعرون، حين يتذوقون الفنون!
أن للعقاد منطقاً قوياً جارفاً. . . هذا صحيح. . . ولكن أي منطق؟ إنه (المنطق الحيوي) كما عبرت عنه في مقالة سابقة في الرسالة منذ أكثر من عام. وذلك حيث أقول:
(مدرسة العقاد هي مدرسة المنطق الحيوي. والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.
كلُّ ما تَصنعُ الحياة يُرجَّى ... من بنيها قبولُه واغتفارهُ
فإذا أنكروا قبيحاً ففي القب ... ح من الموت لونُه أو شعاره
وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأعمال والأقوال، ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي، فيتوحد الحكم عليها. وقد تتفق مظاهرها، ولكنها تختلف في الرصيد، فيكون ذلك مناط الاختلاف). إلى أن جاء في ذلك المقال نفسه:
(ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة، وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع لمصلحة هذه الحياة نفسها، وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة. وهذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد، فيه من هذه وفيه من تلك، على غير تحيز بينهما ولا انفصال.
(ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن ويقظة الوعي - وشيكا أن يبذل قواه كلها(613/17)
للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع، يجرف قوى الذهن والوعي، فتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد من القوة، وله عليها السيطرة في النهاية!)
في هذا الذي اقتبسناه إيضاح لطبيعة المنطق عند العقاد، ولأسس التحليل والتعليل التي نعنيها. وفيه كذلك تفسير لكل آراء العقاد في الكون والحياة، وفي الأدب والفن، على السواء.
وما لهذا أو ذلك وحده سقنا هذا الاقتباس. ولكن لأنه يصلح كذلك أساساً للحديث عن (هذه الشجرة)!
إنه يتحدث عن أسلحة المرأة وأسلحة الرجل في الحياة، فيردها إلى أهداف الحياة وإلى مصلحة النوع، وإلى إرادة الطبيعة. فسلاح المرأة هو الإغراء، وسلاح الرجل هو الإرادة. وتعليل ذلك فيما يلي:
(وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين.
(وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب.
فالذكور من جميع الحيوانات قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع طائعات أو مقسورات. ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة.
(فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان. وحكمته ظاهرة كل الظهور، لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل.
(فالإغواء كافٍ للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مُضيَّعة طوال مدة الحمل بغير جدوى: على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه.(613/18)
(وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر لا يضير النوع ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء، فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاز النسل: من قوة الأبوة، وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. . .
(وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضارّ النسل، لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث. . .!
(وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع وجدنا من الخير له أبداً أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائماً على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له، مضعف من لذة حسه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثاً من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوباً لذاته كأنه غرض مقصود. بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع، لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين)
بمثل هذا المنطق المستلهم مباشرة من الحياة يسير العقاد في (هذه الشجرة) فيتحدث عن: (غواية المرأة، وجمال المرأة، وتفاوت الجنسين، وتناقض المرأة، وحب المرأة، وأخلاق المرأة، وحقوق المرأة، والجنس، والحب، ومعاملة المرأة) وهي الفصول التي تضمنها كتابه، ثم يختمها (بمقتطفات عن المرأة من كتب المؤلف) تتساوق مع آرائه التي أبداها في الكتاب، وتدل على عمق هذه الآراء في نفسه، وأصالتها في طبيعته، وأنها ليست وليدة الاطلاع وحده، ولا وليدة التجربة وحدها، ولكنها قبل هذا وذلك وليدة الطبع المستقيم، والفطرة السليمة، التي تستمد عناصر شعورها وتفكيرها من صميم الحياة والطبيعة.
ولولا أننا معجلون - لضيق الفراغ - لاقتبست هنا كثيراً من الفقرات الدالة على هذا كله في ذلك الكتاب، الذي أعده من أعظم ما كتب العقاد(613/19)
ولكن هنا ملاحظة جديرة بالتسجيل. ذلك أن العقاد في كتابه هذا إنما يتحدث عن (الأنثى الخالدة) وراء أوضاع المجتمع، ووراء أزياء الحضارة، الأنثى التي طعمت من الشجرة المحرمة - لأنها ممنوعة - وأغوت رجلها فأكل، والتي لن تزال تطعم من كل شجرة محرمة - لأنها ممنوعة - وتغوي رجلها فيأكل! وتأويل هذه الفتنة بالممنوع، وتأويل قدرتها كذلك على الإغواء هو الذي تكفل به بعض فصول الكتاب!
والعقاد مهيأ بطبيعته، لأن تتكشف له (الأنثى الخالدة) من وراء المرأة المتجملة، والأوضاع الطارئة. وهو القائل في كتابه (شاعر الغزل) عن طبيعة عمر بن أبي ربيعة:
(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس، أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها، وتتقلب هواجسها وخواطرها)
الرجل الأول هو عمر بن ربيعة، والرجل الثاني هو العقاد.
وإن هذه الاستجاشة وتلك الخبرة الناشئة عنها لواضحتان كل الوضوح في هذا الكتاب!
سيد قطب(613/20)
التكتم في البحث العلمي
للأستاذ خليل السالم
لا يصيخ العلماء اليوم لصرخة الضمير الحي، الذي يهيب بهم أن يخففوا من غلواء إنتاجهم المهلك واستكشافهم المدمر، فالأسلحة السرية تثب من مكامنها، وتعبث بحياة البشر آنا بعد آن، وتهدم من معالم الحضارة عمراناً بعد عمران. ولا يذهبن الخاطر إلى الفتك والتدمير مقصوران على الأسلحة السرية وحدها، ولكن هذه أكثر إزعاجا وأفعل في بث الرعب والفزع لأنها كالعدو المفاجئ يخرج من الظلام في حين لم يحسب له الإنسان حساباً ولم يوطن نفسه عليه
والأمم التي تؤمن بالعلم، وتؤمن بفعاليته القوية في ابتكار أساليب الهجوم والدفاع الناجعة، هذه الأمم تفتح المختبرات وتجهزها بالمعدات والآلات، وتغدق عليها وافر الأموال والميزانيات، وتجند العلماء للعمل فيها. وطبيعي بعدئذ أن تحيط أبحاثهم بسياج حصين من الكتمان الشديد وتحزم النشر وتقتل حرية البحث.
وقد يرضى بعض العلماء بهذا الوضع الشاذ البعيد عن روح العلم الإنسانية، فما اسهل أن تكسب الحكومات في الأزمات والضروف الحرجة عطف العلماء وتعاونهم وتآزرهم، فهم يرضون ظناً منهم بأنهم يخدمون مصلحة الأمة ويقودون الجيوش إلى غاية النصر، ويؤكدون الذات في المعترك الدولي. ونجد نفراً آخر غير قليل يجد نفسه مجبراً على هذه الخدمة القهرية والوحشية تحت ضغط النظام القاسي الذي يحيا فيه، ليؤمن أسباب الحياة التي ما كان ليبلغها لولا انسجامه مع روح العمل وتفانيه فيه. فالسلطة لا تستخدم عالماً حراً ينشئ أسرار بحثه، ويبشر بصراحة العلم المثالية؛ وإنما تلاحقه بصنوف الاضطهاد والضغط، وتسوقه للقيام بأعباء عمل آخر لا ترتاح له نفسه ولا يتسق معه طبعه.
ولذلك نجد في أيام الحرب مبرراً لهذا الجو البغيض الكريه الذي يحيا فيه البحث العلمي المنتج. ولكننا لا نجد مبرراً شرعياً يسوغ للنظام المقاسي أن لا يمتع العلماء بالجو الفسيح الطلق في أيام السلم أيضاً.
فقد درجت مؤسسات الصناعة أن تعد المختبرات المجهزة تجهيزاً فنياً حديثاً، وتعين للأشراف عليها العلماء الذين لمعت أسماؤهم في الحقل الفني الذي فيه، وترصد(613/21)
المخصصات الطائلة لابتكار وسائل التحسين والسرعة في الإنتاج. وتوفير المواد الخام واقتصاد الطاقة المستنفذة، وإن لم يكن لها مختبرها الخاص بها. تكلف علماء الجامعات القريبة بحل المشكلة الراهنة أو إجراء التجارب الضرورية. . وهي في كل هذا تقيد الباحث وتشترط حفظ البحث سرياً. فيحرم على الباحث أن يتصل بغيره من أنداده ويتبادل معهم الرأي والنقاش، وتمنعه أن يستعير كتابا من مكتبة ما خشية أن يشتم من مادة الكتاب رائحة البحث، تعقل لسانه فلا يصرح أو يقول. وتتمادى بعض الصناعات في هذا التكتيم والتستر، فترفض أن تجيب أي سؤال يتعلق بماهية البحث، أو عدد الباحثين في مختبراتها، أو مقدار المبالغ المكرسة للبحث، ولا تبوح بأسماء مديري المختبر فيها. ولا تعلن أخبار التحسين والكشف أبداً. . والصناعة التي تحيا في جو التزاحم والتنافس ترى أن هذا الكتمان حق مشروع لها، فهي لا تمول العلم إلا لتستغل نتائجه في التجارة والإحتكار، فلا قيمة لأي كشف تستطيع الصناعات المنافسة أن تقلده وتستفيد منه.
ولكن هذا التكتم خطر على العلم المجتمع، يعبث بمقدرات الأول، ويمنع المجتمع من النفع والكسب ويحصرهما في فئة جشعة محدودة: خطر على تقدم العلم لأن انقطاع العلماء عن المراسلة المتبادلة والتفاهم الحر يضاعف الجهود المضاعة لاكتشاف حقيقة واحدة في منشآت متعددة، والإتيان بثمر كثير. ويقطع التكتم عن العالم معين الخبرة والإيحاء الخارجيين اللذين كانا في ظروف ليست قليلة سبب الاكتشافات والاختراعات.
والأبحاث الآمنة جانب النقد والنقاش يخرج مبتورة ناقصة تضرب في طياتها الفوضى والترجيح، وخصوصاً عندما يكون مدير الشركة شخصاً لا يمت إلى العلم بصلة، كما هي الحال في أغلب الأعيان، يشيع التدجيل في البحث، ومع ذلك أخطار الخلق السيئ المتولد في نفس العالم، كالتنفس الدنيء على حقوق التسجيل وابتكار ما يساعد يد الشر ومعاول الهدم أن تعيث وتفسد وتدمر.
والخطر الأكبر يحيق بالمجتمع، فالصناعة تكره العالم على الصمت حتى تحتكر السوق وترفع الأسعار وتجني الأرباح. قد ظهر هذا الخطر أوضح ما يكون في عمليات التسجيل وصناعة العقاقير والأدوية. فهذه تصنع من مواد موفورة رخيصة، ولكن أسرار صناعتها الغامضة تجعل في إمكان الصناعات أن ترفع أثمانها ارتفاعاً فاحشاً بحيث تسمح للمرض(613/22)
أن يزهق أرواحاً لا تعد ولا تحصى لأنها لا تجد لديها ثمن الدواء.
وتتصرف الصناعة بالمكتشفات السرية كما يروق لها، فمنها ما يقتل في المهد، ومنها ما يوضع على الرف، ومنها ما يطبّق في وقت متأخر مهما تكن حاجة المجتمع لها ماسة بالغة. وفي كثير من الأحيان ترفض الصناعة مبدأ التحسين قطعاً لئلا تموت الصناعة فلا يسمح مثلاً بتحسين مصابيح الكهرباء أو صمامات الراديو أو شفرات الحلاقة إلا ضمن نطاق مخصوص. لأن التحسين يقلل الاستهلاك والتلف فتقل تبعاً لذلك الأرباح، ولاهم للصناعة إلا أن تغمر الأسواق بالبضائع الرائجة سواء طالت خدمتها أو قصرت.
وكذلك يسيء هذا التكتم للصناعة أن تهمل التفكير بخدمة المجتمع، وتطيع قوانين المباراة التجارية قبل كل شيء آخر. وعندما تأمن ضغط المباراة التجارية كأن تعقد الشركات العامة في حقل واحد الاتفاقات بينها على تبادل البحوث واتحاد الآراء وتوحيد الأسعار، وإدخال التحسين في المصانع على نسق واحد وفي وقت واحد. وبذلك يكون هذا التكتم استغلالا بشعاً لطاقة العلماء الذهنية ومال الجمهور المستهلك
لذلك قرر مجلس جامعة كمبردج في فرصة ماضية أن تعلم العمدة بكل كشف جديد، فإن رأت أن تطبيقه يزيد في رضاء المجتمع وسعادة الأفراد، سمحت للصناعة باستغلاله واستثماره، وإن رأت غير ذلك استعملت سلطتها القانونية في كبته وقتله قبل أن تشتريه الصناعة وتفيد به، ويؤسفنا أن نقول إن النظام الرأسمالي السائد لم يسمح لهذا القانون أن يتنسم روح الحياة.
وإليك ما رد به العلامة رومور على الذين لاموه على كشفه النقاب عن أسرار صناعة الفولاذ وفضحه هذه الأسرار بعد أن مكثت سراً مكتوماً على طول الأجيال السابقة قال: (لقد وجهت إلي انتقادات متضاربة بعد اجتماع الأكاديمية، وإني لا أجد في نفسي نزوعاً قوياً للرد عليها. استغرب المنتقدون أن أفشي أسراراً كان يجب أن تبقى مكتومة محصورة في الشركات التي تستثمرها لمصلحتها أولاً ومصلحة الوطن ثانياً. . . ولكن ألا يتبرأ هذا الشعور من النبل ويناقض روح العدل الطبيعي. .؟ ومن أين لنا أن تكون مكتشفاتنا ملكاً خاصاً لنا بحيث لا يكون للمجتمع أي نصيب فيها؟! إن واجبنا الأول المهم أن نساعد المجتمع ونسعى للمصلحة العامة. . . والشخص الذي يكون بمقدوره أن يفعل خصوصاً(613/23)
عندما لا يكلف أكثر من أن ينطق ويقول شخص مقصر في واجب نبيل، والظروف التي تبرر له ذلك ظروف حقيرة مستهجنة. قد يكون حق في تذمر البعض من المجتمع لا يكيل المديح للمكتشفين ولا يفيهم حقهم من التقدير والإكبار، وإنما ينظر بعين التقديس والإعجاب لأبحاثهم ما دامت سراً مستغلقاً حتى إذا ما أعلنت صرخ بملء فيه (أهذا كل ما هنالك؛). . . ولكن أيكفي هذا لنمسك عن المجتمع ما هو بأمس الحاجة أليه، وما يحتمل أن يجني منه المغانم الوافرة؛ أيحق للطبيب أن يرفض تقديم الإسعاف والمساعدة لمريض مخطر حينما لا يتأكد من تقدير المريض له واعترافه بالجميل؛. . . إن نفسي لا تقر النظام الكريه الذي تبناه جيراننا في كتم الأسرار. . إن هناك ما هو أهم وأسمى من هذا كله. . . هو واجبنا نحو الإنسانية بأسرها. فالعلماء العاملون في حقل العلم لترقية وتقدمه يجب أن يكونوا اخوة ورفاقا ومواطنين في عالم واحد. . .)
إننا لننظر إلى المستقبل القريب بعين الرجاء والأمل: الرجاء بأن تزول من العالم هذه العلل المستعصية الفتاكة، والأمل بأن تكشف هذه الأزمة عن انتشار مبادئ الحق والحرية والعدل والمساواة في كل الشعوب.
(السلط - شرق الأردن)
خليل السالم
(ب. ع. من الدرجة الأولى في الرياضيات)(613/24)
السيد جمال الدين الأفغاني
أستاذ الوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
تمهيد تاريخي
كان السيد جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية)، الذي أقامها مذهباً، وأوضحها منهجاً، وخلفها في العقول وفي القلوب عقيدة اجتماعية وفكرة سياسية لها أشياع وأتباع، فتردد صداها في كل مصر من أمصار العربية، وظهر أثرها في كل قطر من الأقطار الإسلامية، حتى أصبح اسم ذلك المصلح العظيم لا يذكر إلا مقروناً بالدعوة لتلك الوحدة، مميزاً بالجهاد في ميدان هذه الفكرة.
كان جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية) الذي رفع لواءها، على أنه لم يكن أول من فكر فيها أو أقترح الرأي بها، فهم يقولون إن صلاح الدين الأيوبي قد دعا هذه الدعوة، وأراد أن يجمع دول الإسلام وولاياته عندما رأى دول الصليب قد تجمعت واحتشدت لتتخطف مجد الهلال من كل جانب، وعلى أي حال فقد طويت دعوة صلاح الدين بظروفها وملابساتها، وانتهت حملة الصليب على الهلال إلى غمرة شاملة، قضاها الشرق العربي مخدور الأعصاب، مجزور الأسباب، مهدوم الكيان والبنيان، بعد أن خذلته أمراض الفرقة، وفرقته أغراض الطمع، وقتله الجمود والخمود، فكان له ماض وكأنه لا يمت إليه، وكان له حاضر ولكنه لا ينتفع به، وكان أمامه مستقبل ولكنه ليس له.
هذه حقيقة لم يختلف في تقريرها أحد من الباحثين الذين عنوا بشؤون الشرق واهتموا بتشخيص دائه المزمن سواء أكانوا من الغربيين أم من الشرقيين، وإن اختلفوا في التعليل لهذه الحقيقة والتماس الأسباب التي أدت إليها، على أن هناك إلى جانب هذه الحقيقة حقيقة أخرى لا بد أن نذكرها في المقام، وهي التي شهد بها البحاثة الاجتماعي المعروف الدكتور جوستاف لوبون إذ يقول في هذا الصدد: (ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن المعنى الديني الذي هو أساس تلك الدولة قد ظل حياً ذائعاً، وبقي محمد (صلى الله عليه وسلم) من أعماق قبره يسود تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسيا المترامية(613/25)
بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء. .).
غير أن هذا المعنى الذي يشير إليه جوستاف لوبون، والذي بقي حياً في قلوب أمم الشرق، وظل يربط نفوسهم برباط الوحدة، استحال آخر الأمر في قلوبهم وفي نفوسهم وفي تفكيرهم إلى وضع معكوس مقلوب عما كان عليه آباؤهم من قبل، وليس لباساً ملفقاً من الأوهام والأضاليل والترهات، أجل! فقد كان الدين في قلوب الآباء قوة تتدفق بالحياة والحركة فأصبح في قلوب الأبناء إشارة ضعف وجمود، وكان في نفوس السابقين مظهر عزة وفخار، فصار في نفوس أولئك اللاحقين دلالة ذلة وانكسار، وكان في تفكير السلف صلة تصلهم بما في الدنيا من أرقى معاني الحرية والاستقلال فانعكس في تفكير ذلك الخلف إلى بلادة تفيض بالخضوع والاستسلام، حتى كنت لا تلمس في ذلك الجسم الطويل الممدود في أفريقية وآسيا من معاني الدين إلا الحسرة على مجد كان لهم، والبكاء على سلطانٍ ضاع من أيديهم، وإنهم لفي يأس من رجعة ذلك إليهم، كأن ما ذهب قد ذهب الأيام بحقيقته، فكان هذا مما فتح الباب لبعض المستشرقين في اتهام الدين الإسلامي في طبيعته وتعاليمه، فقرروا أنه هو الذي أفضى بالشعوب الإسلامية في الشرق إلى ما هم فيه من الانحطاط، وأن عقيدة القضاء والقدر هي التي أدت بهم إلى البلادة والخمول والاستسلام، ومن العجيب أن هذه التهمة الباطلة المغرضة قد راجت في الغرب، وجازت على بعض أبناء الشرق، على الرغم من أنها ظاهرة البطلان، واضحة البهتان. . .
كانت تركيا تحمل لواء الخلافة الإسلامية، وتبسط جناح السيادة على أقطار الشرق العربي فيما تحكم من الأقطار والإمارات، ولكن تركيا كانت تعني بأملاكها في أوربا أكثر مما تعني بشؤون الشرق العربي وشؤون أقطاره، ولم تكن لها صلات صحيحة تقوم على المودة بين أبناء العروبة، ولم تكن ترعى حقوق الرابطة الإسلامية كما يجب أن تكون الرعاية، بل لقد صارت سياستها في الشرق آخر الأمر مثلا شروداً في الظلم وخنق روح القومية بين أبناء الأقطار العربية، والاستبداد في القضاء على كل مظهر من مظاهر الاستقلال والتعاون بينهم، وعندما تنمر الاستعمار الأوربي وأخذ يتطلع لافتراس ممتلكات تركيا أو الشيخ المريض كما كانوا يقولون، لم تبادر تلك الإمبراطورية المتداعية إلى تدارك هذا الأمر برأب الصدع وإقامة جبهة إسلامية قوية في الشرق لمواجه هذا الخطر، ولقد أراد السلطان(613/26)
عبد الحميد أن يحقق هذه الغاية استجابة لدعوة السيد جمال الدين، كما سنشرح ذلك فيما بعد، ولكنه أخفق، لأنه أراد أن يقيم هذه الوحدة لا من حول تركيا ولا من حول الفكرة الإسلامية، بل من حول شخصه هو، فالتاث عليه الأمر، وجرت الأحوال في طريقها المحتوم، وانطلقت الدولة في سياسة الأقطار العربية على أساليبها الفاسدة، وخطتها الجامدة، فكان ذلك مما عجّل بتقليص ظلها عن الشرق، فاحتل الفرنسيون تونس في سنة 1881، واحتل الإنجليز مصر سنة 1882، ثم أغارت إيطاليا على طرابلس في سنة 1911، ثم وثبت فرنسا مرة أخرى فاستولت على المغرب في سنة 1912، ثم قامت الحرب الماضية فكانت نهايتها نهاية تركيا في حكم الشرق العربي جميعه. . .
الهمزة الأولى. . .
ولعل حملة نابليون على مصر كانت أول هزة هزت أقطار الشرق العربي، وحركت من وجدانات أبنائه، فإن تلك الحملة كانت كما يقول (كلوت بك) أشبه شيء بصاعقة هوت من السماء على الشرق، فأيقضته منزعجاً من سباته الطويل العميق، إذ كانت الأساليب العتيقة فيه قد بقيت إلى ذلك العهد على حالها لم يتناولها تغيير ولا تبديل، وكانت الدولة العثمانية قائمة بحروب طويلة ضد الروسيا والنمسا، ففازت بالنصر تارة وباءت بالخذلان أخرى، لكن هذه الحروب لم تغير شيئاً من أفكارها العتيقة، وكانت الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية تعتقد أنها بعيدة المنال على من يرومها بفتح أو قهر، وأنه لا يمكن أن يوجد على سطح الأرض دولة تبلغ مبلغها عزاً ومنعة لأن ذكرى الفتوحات القديمة كانت لا تزال عالقة بأذهانهم. .)
لهذا كله كانت تلك الحملة هزة هزت أعطاف الشرق العربي، واتجهت به وجهة جديدة مغايرة، ولم تكن تلك الحملة بما يكتنفها من الظروف والملابسات موجهة إلى مصر فحسب، ولكنها كانت تريد أن تتخذ من ذلك باباً إلى أقطار الشرق جميعها، وإذا كانت تلك الحملة قد فشلت من الناحية الحربية والسياسية، فإنها لا شك قد نجحت من الناحية العلمية والفكرية، وكانت الاتجاهات التي اتجه إليها نابليون في إنشاء المجالس النيابية والوطنية، مما فتح الأعين وهز النفوس بالتشوق إلى وضع جديد من أوضاع الحكم يقوم على الشورى والرأي، وأكثر من ذلك فقد وقف أبناء الشرق بواسطة هذه الحملة على ما دعت(613/27)
إليه الثورة الفرنسية من مبادئ سياسية وغايات اجتماعية في تحقيق العدالة والإخاء والمساواة، فكان لهذا كله اثر في الأفكار والميول ظهر فيما بعد. .
محمد على والوحدة. .
وتم الأمر لمحمد على باشا في حكم مصر والاستقلال بها عن الدولة العثمانية، وقد كانت لذلك العاهل العظيم مطامع وآمال كبار في إقامة إمبراطورية عربية شرقية تقوم على أطلال الإمبراطورية العثمانية المتداعية، أو على الأقل تقوم تجاهها في الشرق حفظاً للتوازن الذي يجب أن يقوم أمام الغرب الطامع، والتي كانت الحملة الفرنسية نية من نياته المتحفزة المتنمرة، وكان محمد علي يرى أن تحقيق آماله هذه منوط بشيئين أساسيين: سطوة السيف، وقوة العلم، ومن ثم فقد أرسل بجيوشه الفتية تحت قيادة ابنه إبراهيم لتحقيق هذه الغاية في ميادين الحرب، كما أرسل بالبعوث العلمية إلى أوربا لتكون سنادة لهذه الغاية، وتدعيما لسلطان السيف فيما يطويه من الممالك والأمصار، ولقد سئل إبراهيم باشا عندما شدد الحصار على عكا وأوشك حصنها أن ينهار أمام قواته: إلى أي مدى ستقف في فتوحك إذا ما تم لك الاستيلاء على عكا؟ فقال: إلى مدى ما يتكلم الناس وأتفاهم وإياهم باللسان العربي، ومما يؤثر عنه أنه كان يقول: أنا لست تركياً فإني جئت مصر صبياً، ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً. . .
إذا كان محمد علي يقصد إلى إقامة إمبراطورية تقف حدودها عندما يتكلم الناس ويتفاهمون باللسان العربي، وإذن كان ذلك الرجل العظيم يرمي إلى هدف معلوم مفهوم، وهو إقامة وحدة بين الأقطار العربية بحد السيف وسلطان القوة، على نحو الإمبراطورية العظيمة التي أقامها الفتح الإسلامي، والإمبراطورية الممتدة التي أقامها الفتح العثماني، فهو لم يتنكب الوضع التاريخي السابق الذي اتخذه مثالا وقدوة في تحقيق مطامعه، وقد كاد الأمر يتم له، لولا يقظة الدول الأوربية وتألبها عليه، إذ تبينت حقيقة مطامعه وخطر قيام هذه الإمبراطورية العربية على أطماعها في الشرق، فتآمرت على تحطيم أسطوله في معركة (نافارين) ووقفت إلى جانب تركيا تتحداه في مطامعه، وتحتم عليه أن يعود أدراجه، فاستطاعت بذلك أن تغير وجه التاريخ، وأن تقلب أطماع محمد علي رأساً على عقب، وأن تقضي على آمال ذلك البطل العظيم في إقامة وحدة عربية أو على التحقيق في تأسيس(613/28)
إمبراطورية عربية إسلامية. .
وأنت في الواقع لا تستطيع أن تجد فرقاً يذكر في تقدير محمد على بين العربية والإسلامية، فإن الرجل كان يتكلم بقوة السيف، والذي يتكلم بقوة السيف لا يعنيه غالباً البحث في الألفاظ والاهتمام بوضع الاصطلاحات والتدقيق في تحديد الفرق بينهما، كما يصنع الذين يجلسون على المكاتب فيرسمون الخطط، ويحسبون الخطوات، ويهتمون في حسابهم بالأصفار والفروق بين الأصفار، ويقدرون أن إنشاء الأمم وحياة الشعوب نظرية هندسية يقدر قياسها بالدرجة وأجزاء الدرجة، إنما كان قصد محمد علي كما قلنا إلى تأسيس إمبراطورية تقوم بين أجزائها وعناصرها على الوضع السابق في قيام الإمبراطورية العربية والإمبراطورية العثمانية، وأنت حر في نعتها بالعربية أو بالإسلامية أو بالعلوية، فهذه كلها ألفاظ مترادفة تؤدي إلى مدلول واحد، وغاية ما كان ينظر إليه محمد على هو وحدة اللسان العربي، وكأنه كان يريد بهذا إشعار الأقطار التي تدخل حوزته بأنه عربي لأنه يتكلم هذا اللسان، حتى لا يشعروا بأن حكمه عليهم صورة أخرى من الحكم العثماني، وأنه فرع من تلك الشجرة فيؤثروا أن يستمروا على العيش في ظلال الأصل بدل الفرع ما دام الوضع هو هو لم يتغير. .
إسماعيل والوحدة الأفريقية
ودالت دولة محمد علي، أو قل دالت أطماعه في إقامة الإمبراطورية التي كان يريدها، فلما كانت أيام إسماعيل باشا، كانت في نفس ذلك الخديوي نزعة طموح من نزعات محمد علي، وكانت تتخلله رغبة في الفتح، ولكنه كان يقف في هذه الرغبة عند إقامة وحدة أفريقية تشمل حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب، وما يتصل بذلك من الأقطار القريبة والأمصار التي لا بد منها، وقد أرسل بعض الحملات الحربية في سبيل تحقيق هذه الرغبة، وقد استطاع إسماعيل أن يشغل الأذهان بعض الوقت بمسألة (الوحدة الأفريقية)، وأعاد سيرة محمد علي في بعث البعوث العلمية، واندفع في الأخذ بمظاهر المدنية الأوربية حتى يكون لمصر الصدارة في ذلك بين الأقطار المجاورة، ولكن شتان ما بين محمد علي وإسماعيل، فقد كان محمد علي يجند جميع مرافق البلاد لخدمة جيوشه والإنفاق عليها، وكانت هذه الجيوش تجلب له ما تجلب من المغانم والأسلاب، ولكن إسماعيل كان يستدين(613/29)
وينفق على حملاته، وكانت هذه الحملات تأخذ دائماً ولا تعطي شيئاً، وجرت الأمور معكوسة، وأثقلت الديون كاهل إسماعيل، وذهبت فكرة (الوحدة الأفريقية) كما يذهب أمس من اليوم، مضت وكأنها لم تكن. . .
فآمال محمد على، وآمال إسماعيل من بعده إنما كانت هزات سياسية، ونزعات إلى التآلف والوحدة في ظل القوة والفتح والاستعمار، فانتهت بانتهاء الظروف التي لابستها، ولم يكن لها أثر إيجابي في النفوس، ولم تنحدر إلى العقول والقلوب عقيدة لها أشياع وأتباع، ولكنها خلفت وراءها أثرين متقابلين، وتيارين متضادين، أحدهما في الشرق، وهو تنبه الأذهان، وتفتح الأفهام، والطموح إلى حياة المجد والاستقلال، والتميز الشخصي بين ممالك الإمبراطورية العثمانية، وثانيهما في الغرب، وهو تنبه المطامع ويقظة المآرب في نفوس الدول الغربية المتحفزة لوضع يدها على تركة الشيخ المريض، والقيام مقام الدولة العثمانية المتداعية على أقطارها في الشرق. . .
(للكلام بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(613/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
641 - جعلته عجوزاً في محرابها
في تاريخ الطبري: ذُكر عن عُمارة بن عقيل أنه قال: قال لي عبد الله بن السمط. علمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ قلت: ومن ذا يكون أعلم به منه؟ فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره. قال: إني أنشدته بيتاً فلم أره تحرك له. قلت: وما الذي أنشدته؟ قالَ: أنشدته:
أضحى أمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين، والناس بالدنيا مشاغيل
فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئاً، وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها، في يدها سبُحتها؟ فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهو المطوق بها. هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.
642 - شهود طبقات
في (محاضرات الأدباء): قال سهل بن دارم: كان في البصَرة شيوخ يشهدون بالزور، وشرطُ بعضهم درهم، وآخرون يشهدون وشرطهم أربعة، وآخرون شرطهم عشرون درهما. فسألت عن ذلك فقالوا: أصحابُ الدراهم يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ويحلفون ويباهتون.
643 - خذها فاشتر بها زيتا
كان ابن الدقاق الأندلسي الشاعر المشهور يسهر في الليل، ويشتغل بالأدب، وكان أبوه فقيراً جداً، فلامه وقال له: نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه. فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر فقال في أبي بكر عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة منها:
ناشدتُكَ الله نسيمَ الصَّبا ... أنَّي استقرت بعدنا زينبُ؟
لم تسرِ إلاّ بشذا عَرفها ... أولاً، فماذا النَّفَسُ الطيب(613/31)
إيه وإن عذبني حُبُّها ... فمن عذاب النفس ما يعذب
فأطلق له ثلاث مائة دينار فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مُكبّ على صنعته فوضعها في حَجْره وقال: خذها فاشتر بها زيتاً. . .
644 - أستعين بالله عليكما!
وقف أحمد بن أبي خالد الأحوال وزير المأمون بين يدي المأمون، وخرج يحي بن أكثم من بعض الأماكن فوقف، فقال له المأمون: اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إن القاضي يحيى صديقي، وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغير عما عهدته منه.
فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعد لكما عندي أحد، فما هذه الوحشة بينكما؟!
فقال له يحيى يا أمير المؤمنين، والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه والله لو بلغ نهاية مساءتي ما ذكرته بسوء عندك أبداً.
فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد!
فقال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: أستعين بالله عليكما فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فتنة منكما.
645 - شهيد. . .
في (الأغاني): قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه: ما أخرّك عنا؟ قال: موت أخي. قال: بأي علة؟ قال: عضت إصبعه فارة فضربته الحمرة.
فقال محمد: ما يرد القيامة شهيداً أخس سبباً، ولا أنزل قاتلاً، ولا أضيع ميتة، ولا أظرف قتلة من أخيك. . .
646 - فشكرت رضواناً ورأفة مالك
قال أبو الفضل أحمد بن محمد الخازن في أبي القاسم هبة الله بن الحسين الأهوازي الحكيم وقد أضافه وأدخله بستانه وداره وحمّامه:(613/32)
وافيت ساحته فم أر خادماً ... إلا تلقاني بوجه ضاحك
ودخلت جنته، وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك
والبشر في وجه الغلام أمارة ... لمقدمات حياء وجه المالك
647 - . . . وأنا آكل عيونهم
في (نفح الطيب): حضر القاضي أبو الوليد هشام الوقشي يوماً مجلس ابن ذي النون فقُدّم نوع من الحلوى يعرف (بآذان القاضي) فتهافت جماعة من خواصه عليها يقصدون التنديرعليه، وجعلوا يكثرون من أكلها. وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى (عيون البقر) فقال له المأمون: ياقاضي، أرى هؤلاء يأكلون أذنيك!
فقال: وأنا أيضاً آكل عيونهم، وكشف عن الطبق، وجعل يأكل منه. وكان هذا من الاتفاق العجيب.
648 - فاشدد يديك بها. . .
اشترى رجل من أصحاب يعقوب الكندي الفيلسوف جارية فاغتاظت عليه، فشكاها إلى يعقوب، فقال جئني بها لأعظها، فجاء بها إليه فقال: يا لعوبة، ما هذه الاختيارات الدالات على الجهالات؟ أما علمت أن فرط الاعتياصات، على طالبي المودات، الباذلين الكرائم المصونات؛ من الموبقات المؤذنات بعدم المعقولات.
فقالت الجارية: أما علمت أن هذه العثنونات، المنتشرات على صدور أهل الركاكات، محتاجات إلى المواسي الحالقات؟
فقال يعقوب: لله درها! فلقد قسمت الكلام تقسيما فلسفيا فاشدد يديك بها. . .
649 - سبل الغواية والهدى أقسام
كان عبد الرحمن بن أبي عمار من قراء أهل مكة، وكان يلقب بالقس لعبادته، ثم شغف بقينة من مولدات المدينة اسمها سلامة، وافتتن بها وغلب عليها لقبه، فقيل لها (سلامة القس) ومن قوله في فتنة عشقه:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الغواية والهدى أقسام(613/33)
650 - كلانا على طول الجفاء ملوم
قال إبراهيم بن العباس: ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس ابن الأحنف:
تعالي نجدد دارس العهد بيننا ... كلانا على طول الجفاء ملوم(613/34)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
الراديو المصور في بيتك
قفز العالم خطوات واسعة عقب الحرب الماضية في ميادين العلم والاختراع، فتناولت أيدي الناس أدوات كانوا يعتبرون الوصول إليها حلماً عسير التحقيق. وينبئ عهد ما بعد الحرب الحالية بخطوات أوسع؛ فالتقدم العلمي عدة المتحاربين وسلاحهم الخطير في مفاجأة خصومهم، حتى قال أحد كبار الساسة إنها حرب علمية، وحرب مخترعات واكتشافات.
ومن الخطوات الحاسمة التي خطتها هذه الحرب التحكم في موجات الأثير، فأدخلت كثيراً من التحسينات على أجهزة اللاسلكي مما سمعنا عنه في توجيه القنابل الطائرة والصواريخ. ومنها أيضاً حديث الراديو المصور (التليفيزيون)
فتصور أنك جالس في دارك، وبضغطة خفيفة من إصبعك على زر صغير تعرض أمامك على شاشة صغيرة ما يمثل من المسرحيات في دار الأوبرا الملكية، فتسمع أصوات الممثلين والممثلات، وترى حركاتهم بالألوان الطبيعية، كما لو كنت جالساً في قاعة الأوبرا.
لم يعد هذا حلماً، بل هو حقيقة واقعة تستعد شركات اللاسلكي لتقديم أجهزته إلى الناس بعد الحرب. تمت الكثير من أبحاثه ولكنها لا تزال من الأسرار العسكرية التي لا تباح إذاعتها. ولا تختلف نظرية نقل الصور عن زميلتها نقل الأصوات كثيراً، ففي كلتا العمليتين تتحول الإشارات الصوتية أو الضوئية إلى إشارات كهربائية تنقل في الأثير.
فإذا تجاوزنا عملية نقل الأصوات بحكم وجود آلات الإذاعة بيننا فإننا نلخص عملية نقل الصور في ثلاث مراحل:
1 - تحويل الإشارات الضوئية إلى إشارات كهربائية.
2 - نقل الإشارات الكهربائية إلى مسافات بعيدة.
3 - إعادة الإشارات الكهربائية إلى إشارات ضوئية.
ولم تكن هذه المسائل الثلاث من الأمور الهينة، فقد كان من السهل تحويل الإشارات الصوتية إلى إشارت كهربائية، لما بين الإشارتين من صلة وثيقة عرفها الإنسان من زمان(613/35)
بعيد واستعملها في التلغراف والتليفونات بمساعدة المغناطيس.
ومن المعروف أن كل جسم يشع ضوءا يختلف باختلاف لونه. فكمية الضوء المشعة من جسم أسود تخالف مثيلتها من جسم أبيض. وعلى هذا الأساس تحول الإشارات الضوئية بانعكاسها على أجهزة حساسة للضوء يسمونها الخلايا الضوئية، تصنع موادها من مركبات معدنية شديدة الحساسية.
وهذه الأجسام تتأثر بكمية الضوء المنعكسة عليها وتقلبها إلى إشارات ضوئية تنشر في الأثير بأجهزة خاصة حتى إذا تلقاها جهاز استقبال عكس الإشارات الكهربائية بنفس الخلايا الضوئية إلى ألوان تراها العين المجردة.
وعملية إرسال الصور الملونة أكثر تعقيداً من عملية إرسال الأبيض والأسود، ففي الحالة الثانية ترسل الصورة مرة واحدة. أما في الصور الملونة فترسل الصور ثلاث مرات كما قال جون بيرد مكتشف الراديو المصور.
فقد وجد بالدرس أن أكثر الألوان أساسها ثلاثة: الأحمر والأزرق والأخضر. فترسل في أول الأمر الانعكاسات الحمراء وحدها، ثم الزرقاء فالخضراء، ولأن سرعة إرسالها شديدة جداً فإن العين لا تدرك اختلاف أوقات إرسالها بل تندمج الألوان الثلاثة في بعضها البعض مكونة الانعكاسات المطلوبة.
مطاط من اللبن
يستعمل حامض اللبن كعنصر أساسي في إنتاج المطاط الصناعي، فبإضافته إلى مواد أخرى ينتج عجائن (باغة) مختلفة وهذه تحول إلى مطاط. وحامض اللبن هو المادة التي تسبب حموضة اللبن ويمكن الحصول عليه بكثرة من مصانع منتجات اللبن من جبن وزبد وغيرها
رطل جبن يكفي 25 شخصاً
من المشاكل التي تواجهها السفن ضيق المساحة اللازمة لشحن البضائع والمعدات المطلوبة. وقد صنع أحد مصانع اللبن آلة كلفتها 5000 جنيه لتضغط الجبن وتخلصه من المياه التي يتشبع بها فيكفي الرطل منها 25 شخصاً، وتنتج هذه الآلة 180 قرصاً في(613/36)
الدقيقة الواحدة
المربع بدل المستدير
استبدلت شركات اللبن بالزجاج المستديرة آخر مربعا. فقد وجدت أن الزجاج المستدير يحتاج لمساحة واسعة، فالثلاجة التي تتسع لخمسة وعشرين زجاجة مستديرة تتسع ل 36 مربعة. ووزن الزجاجة المستديرة 18 أوقية بينما وزن المستديرة 22 أوقية
أضخم رافعة (ونش) في العالم
شيد في وادي تنيس بالولايات المتحدة أضخم آلة رافعة مزدوجة لرفع الأثقال وارتفاعها عن قاعدتها 400 قدم. ويستطيع كل من ذراعيها حمل ثقل وزنه 23 ألف رطل ونقله إلى أية مسافة على بعد 150 قدماً من المركز. وهي مجهزة بأدوات كهربائية تساعد على سرعة تحميلها، وتتحرك بحمولة كاملة بسرعة 375 قدماً في الدقيقة فإن كانت فارغة تحركت بسرعة 750 قدماً في الدقيقة.
لإصلاح الإطارات
تستعمل القوات العسكرية آلة كهربائية تصلح إطارات السيارات الخارجية وتقوي مطاطها بالتسخين الداخلي. وهذه العملية لا تؤثر على الجزء الداخلي للأطار، وتضيف هذه العملية إلى عمر الإطار 100. 000ميل، ووزن الآلة 500 رطل فقط.
المقاعد تحول إلى أسرة
أضيفت بعض الأجهزة التي تساعد الطائرات في الهبوط إلى الأرض إلى أسرة المرضى في المستشفيات. فيتيسر للمريض بضغطة صغيرة من إصبعه على زر خاص أن يحول السرير إلى مقعد مريح جداً دون أن يتحرك من مكانه
ويقترح بعضهم إضافة هذا الجهاز إلى مقاعد الطائرات وعربات السكك الحديدية فيتاح للركاب في الأسفار الطويلة تحويل مقاعدهم إلى أسرة ينامون عليها إن أتعبهم الجلوس
ويقترحون أيضاً استعمال ستائر نوافذ العربات على نظام متحرك فإن أراد المسافر أو المسافرة الاختفاء عن عيون بقية الركاب حرك الستائر التي خلف مقعده والتي أمامها فتكون لمقعده غرفة صغيرة.(613/37)
دبابة الأعماق
صنعت دبابة تستطيع السير في قاع المحيط تحت طبقة من الماء عمقها 200 قدم. والغرض منها إخراج كنوز البحار. وتسع هذه الدبابة رجلين لقيادتها ولالتقاط ما يصادفها، فلها أيد خارجها تتحرك بآلات من الداخل، ويستطيع قائدها البقاء داخلها من 10 إلى 12 ساعة على أن يستعملوا أوعية أوكسجين، وبذلك يستغنون عن أنابيبه المتصلة بسطح الماء. ويسهل إنزال هذه الدبابات ورفعها من سفن الإنقاذ.
تعب المعادن
اخترعت آلة لطرق سطوح المعادن بسرعة كبيرة فتمنعها من الكسر. فكثيراً ما تتعرض معادن بعض الأدوات لضغط أكثر من احتمالها (فيتعب) الحديد حتى إذا عرض للضغط مرة أخرى كسر. ولكن طرقه المتوالي بهذه الآلة يجعل سطح المعدن يتداخل في بعضه. وتمتلئ الفراغات التي قد تحدث من ثنيه فيتحمل العمل أضعاف المدة المقررة له.
صلب ينافس الخشب
تمكن المخترعون من الحصول على نوع جديد من الصلب الخفيف الذي ينتظر أن ينافس الخشب ويفوقه في بناء منازل ما بعد الحرب، فمن مميزات هذا الصلب أنه غير قابل للاحتراق، وأكثر مقاومة من الخشب، وأقل ثمنا، كما أنه يساعد على سرعة البناء. وقد صنعت منه عدة منازل، وصدرت إلى أنحاء العالم المختلفة حيث تشيد هناك فان أريد نقلها إلى مكان آخر فكت ونقلت.
الصور الملونة بالبرق
سجلت إحدى الشركات اختراعا ينقل الصور الملونة بالأجهزة السلكية أو اللاسلكية إلى أية بقعة من أنحاء الأرض. وترسل هذه الصور بالطريقة العادية لنقل الصور ذات اللون الواحد ولكن في ثلاثة ألوان مختلفة، وهي الألوان المستعملة في الأفلام الملونة. وبهذه الطريقة تستطيع الصحف إعدادها للطبع بمجرد تسلمها.
دراجة رخيصة(613/38)
صنع أحد الأمريكيين دراجة تسير بسرعة 30 ميلا في الساعة ويتكلف سيرها ساعة كاملة أربع قروش. وهذه الدراجة ذات ثلاث عجلات يسهل تسييرها بالبدالات كما يسهل تسييرها بالكهرباء وقوة محركها ربع حصان، ويمكن تشغيله في أقسى درجات البرودة. وقد كلفه صنعها بأكملها تسعة جنيهات ونصف ولها في مؤخرتها سلة توضع فيها الأشياء التي يراد حملها ولو كانت طفلا.
لتفريغ شحنة الطائرات
استنبط أحد المخترعين سيارة لشحن حمولة الطائرات أو لتفريغها في دقائق. فلهذه السيارة سطح مرتفع يعلو ويهبط تبعا لارتفاع باب الطائرة. وبنفس هذا السطح حصير يدور إلى أعلى أو إلى أدنى بأجهزة آلية، فإذا أريد تفريغ الطائرة أدير إلى أسفل وإذا أريد شحنها أدير إلى أعلى فتوضع الأمتعة أو البريد على الحصير فيرفعها أو يهبط بها.
علاج الجنون بالكهرباء
وفق الدكتور جورج تومبسون إلى علاج بعض حالات الجنون المعروفة بالشيزوفرانيا (انقسام الشخصية) بواسطة الصدمات الكهربائية في المخ. فبعد أن يسلط على المريض التيار الكهربائي يستغرق في النوم لمدة سبع دقائق يفيق بعدها وهو أحسن حالاً.
وكانت حالات الجنون تعالج من قبل بواسطة صدمات الأنسولين ولكنها كانت في بعض الأحيان تقتل المرضى. ويقول الدكتور تومبسون إن 76 % من الحالات التي عالجها شفي أصحابها ولم يمت من الألف حالة التي أجرى عليها تجاربه مريض واحد. كما أنها لم تؤد إلى زيادة حالة المرض أو إلى تعقيدات أخرى
عشرون مليونا بدون مأوى
يقدر عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مأوى عقب هذه الحرب بعشرين مليوناً من الأنفس، ويقدر من يشتغلون في تشييد منازلهم بمليون ونصف المليون من العمال يربحون ما لا يقل عن 200 مليون من الجنيهات.(613/39)
رسالة الفن
المنسوجات في عهد الخلافة الإسلامية
للدكتور ر. ب. سارجنت
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وكما كانت بغداد مركز الصناعة، كانت كذلك مركز الأناقة في الزي. وفي كتب الأدب العربي كتب وفصول تبحث في آداب البلاط الملكي وأزياء أهله، نجد ذلك مثلا في كتاب اللطائف والمعارف للثعالبي، كما نجد خير نموذج له في كتاب الموشي لمؤلفه الوشاء، وهو يحتوي على قسم خاص بثياب المتأنقين والحلل التي يرتديها ذوو المناصب. ففي صفحة 124 (من الطبعة التي حررها برونوف) يقول: (واعلم أن ثياب ذوي الفضل، والشجاعة، وأهل العلم، تتألف من القمصان الرقيقة والقمصان الغليظة المصنوعة من أنواع فاخرة من الكتان الناعم الصافي الألوان كالديبقي والجنابي. . . ويعد من سوء الرأي ارتداء ثياب ذات ألوان قبيحة مصبوغة بالطيب والزعفران كالملحم الأصفر والديبقي المضرج بالعنبر، لأن ذلك لباس النساء ولباس الراقصات والخادمات). ويصف الوشاء كذلك ما ينبغي للنساء في آداب الثياب، ولعل أفضل ما يوضح لنا كيف أن بغداد كانت عاصمة عالمية في حياتها هو تلك القوائم التي يذكرها للمنسوجات، والتي تحتوي على قمصان دارا بجرد في بلاد فارس، ومطاف سوس، وجباب فرس، والمنسوجات الاسكندرانية والخراسانية، وعباءات عدن، والنسج الأرمني المشهور، والأحذية الزنجية، أو اليمنية أو الهندية الواردة من كامباى. وكثيراً ما كانت الثياب تطرز بأنواع شتى من الكتابة العربية. فدراعة هارون الرشيد مثلا كانت محلاة في أحد جانبيها بكلمة (حاج)، وفي الجانب الآخر بكلمة (غار). على أن هذه العبارات التي كانت تحلى بها الثياب كثيراً ما كانت أبياتاً من الشعر الناطق بالظرف والدعابة كالبيتين التاليين اللذين كانت تحلى بهما عصابتها إحدى الجواري على ما يرويه صاحب كتاب العقد الفريد:
تمت، وتم الحسن في وجهها، ... فكل شيء ما سواها محال:
للناس في الشهر هلال، ولي ... من وجهها في كل يوم هلال.(613/40)
ويمكننا أن نتصور فخامة الأثاث في بلاط بني العباس من الثبت الذي ذكره ابن الخطيب للسجوف والطنافس التي شاهدها في حفل استقبال الخليفة المقتدر لسفير بيزنطة سنة 305 هجرية فقد اشتمل ذلك الثبت على مطرزات ذهبية فيها صور جامات، وفيلة، وخيول، وجمال وحيوانات برية، وطيور، إلى غير ذلك، وهو لون من الفن توارثه فنانو العرب واستعملوه في العهود المختلفة بنجاح عظيم، وكان يمتزج بهذه الأصناف كلها المنسوجات الصادرة من الصين والهند ورومية، وهي منسوجات كانت مشهورة عند أهل الشرق الأوسط.
ومع أنه ليس من الممكن أن نتناول هنا بالتفصيل ذكر سائر بلاد الخلافة فإن مصر وفارس لخليقتان بذكر خاص. ففي مصر تنيس، ودمياط، ودبيق، وعدد آخر لا يحصى من البلاد الصغيرة بمنطقة دمياط والأبوانية، تصنع وتصدر كميات من التيل؛ بل إن كسوة الكعبة تصنع عادة هناك منذ أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وأنا أعتقد أن القباطي التي كانت تستعمل في الكسوة كانت في الحقيقة مصنوعة في هذه المدن. وكذلك كانت الفيوم مركزاً لنشاط صناعي عظيم، وكانت تحتوي على عدة مصانع للطراز. وكانت مصر تستورد منسوجات من الخارج. ويمكننا أن نقتبس بهذا الصدد شعر بهاء الدين زهير في التاجر البغدادي في القاهرة:
دخلت مصر غنياً ... وليس حالي بخافي
عشرون حمل حرير، ... ومثل ذاك نصافي،
وجملة من لآل ... وجوهر شفاف
وكل من النطرون والشب اللذين كان يستعملهما الصباغون كان يوجد في مصر وكانا يصدران إلى أقطار أخرى. ويروى لنا ابن مماتي أنه كان هناك طلب كثير للشب في بيزنطة، وهو يصف لنا إدارة الإحتكار الحكومي لهذه المادة في القرن السادس الهجري. وكانت مناجم الشب في صحراء الصعيد، وكانت هذه المادة تحمل في النيل إلى الوجه البحري ومنه إلى الإسكندرية. وكان النطرون يستخرج طبعاً من وادي النطرون، كما كان الأمر على عهد قدماء المصريين، وكان النطرون احتكاراً حكومياً كذلك، ونجد أنه كان يباع في مدن دمياط وتنيس وأمثالهما. وما زال النطرون يستخرج حتى اليوم في مصر،(613/41)
وتستغله شركة أسست في آخر القرن الماضي.
وكانت بلاد فارس شهيرة بمصنوعاتها النسيجية في عهد الخلافة، سواء في ذلك ما كان منها تحت إدارة الحكومة وما كان تحت إدارة الأفراد، غير أنه بينما ظلت التقاليد الفنية متواصلة بدون انقطاع في مصر، كان لفتح المغول لبلاد فارس أثر في إدخال عدة عوامل جديدة على تلك الصناعة. فلم يكن عمل المغول مقتصراً على تخريبهم عدة مدن قديمة وبعثرتهم للنساجين في آسيا الوسطى حتى بلاد الصين، بل إنهم بنوا أو أعادوا إنشاء مدن جديدة هامة جلبوا لها صناعا من سائر أنحاء آسيا والعاهلية الصينية. كذلك نقلوا الصناع الفنيين من مكان إلى آخر في داخلية البلاد الإسلامية. وهناك رسالة من رشيد الدين، الوزير المشهور للسلطان غازان خان، يطلب فيها إرسال نساجين من أنطاكية، وسوس، وطرسوس. إلى تبريز إحدى حواضر المغول. ويبدو لي أن التقاليد الفنية الفارسية أصبحت، منذ تلك الحقبة، تزداد تميزاً واختلافا عن نظيرتها في القسم الغربي للثقافة الإسلامية ولا يتسع لي المقام هنا أن أعرض لمصنوعات مدن البلاد التي تسمى الآن بتونس، ولا للمنسوجات الأندلسية التي خلفت آثاراً كبيرة في المنسوجات الأوربية، ولا لمصنع الطراز في بلرمو الذي عادت إليه الحياة فيما بعد على يد النورمان الفاتحين. ولعل هذه النظرات في الصناعة وتقاليد الزي في العاهلية اللإسلامية في أثناء ستة القرون الأولى من حياتها، تنقل إلى القارئ صورة ما عن تلك الحضارة الثرية المبتكرة التي ما زال تراثها في أوربا باقيا حتى اليوم.
(عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية)
ر. ب. سارجنت(613/42)
الوحدة الكبرى
للأديب محمد سليم الرشدان
أمة العرب: يا ابنة المجد عودي ... وانشري للأنام عهد الجدود
في ثنايا ردائك السابع المع ... طار، نفحُ العَلاءِ والتخليد
والأزاهيرُ ناديات على ها ... مكِ تعلوه شارة التمجيد
أنت أغرودة الزمان وفي ذك ... رك يحلو لديه عذب النشيد
أنت قيثارة الخلود ومن في ... ك تعالى في الدهر صوت الخلود
لن تهوني وفي بنيك الميامي ... ن ذماء وأنت بيت القصيد
نحن أبناؤك الألى ندفع الضي ... م ونمشي على شفار الحديد
نبذل النفس طائعين لإسعا ... دك يا أمة الفخار التليد
لتعيدي مجداً بناه الغطاري ... ف أباة من الكماة الصيد
فانهض يا ربيبة العزّ والرَّف ... عة إلى المفاخر، عودي!
وانفضي عن جفونك المُلُم المف ... زع من بعد رقدة وهجود
وانظر مسرح الأشاوس في الير ... موك، مثوى فيالق ابن الوليد
يقذف الروم بالكتائب والأق ... ران من كل فارس صنديد
فإذا هم قد صيروا ساحة الحر ... ب هشيماً من القنا المخضود
وأعادوا الرومان ما بين مصرو ... ع، وعانٍ يجرُّ فَضلَ القيود
أمة العرب لا تنام على ضي ... مٍ ولو كان في جنان الخلود
وانظري: هل ترين في الأفق النا ... ئي قتاماً من الوغى المعقود؟!
ذاك سعدٌ شبَّ الحروب على كس ... رى، ووافى بجحافلٍ وعديد. .
يدمغ الباطل المهين فَيُزجي ... هـ ويَنُجي عليه بالتهديد
ويثل العرش المَكِين. وهل كا ... ن يفلُّ الحديد غير الحديد؟
سرحى الطرف بعد ذلك واجتا ... زى خُسّراسان ثَم في التصعيد
وابلغي إن أردت مزدحم الأفي ... ل، وَأْتي هنال أرض الهنود
أو ما تُبصرين في حومة الحر ... ب غلاماً ينقضُّ كالجلمود؟!(613/43)
لا يغرنَك أنه الأسَدُ الْوَرّ ... د بسربال يافعٍ أملُودِ
يهتف الجند باسمه حيث ترتجُّ ... لاصواتهم أعالي النجود
أن ذيالك الهمامَ هو ابن ال ... قاسم الفذ في العراك الشديد
يطأُ الهندَ بعد ما وطأَ السن ... د ويغزو في كل قطر بعيد
يبتغي الشبقَ مع قُتيَبة ما أو ... عل في الصَّين كل قرمٍ عنيد
هكذا تُنجبين يا أمة العر ... ب، وذاكم من نسلك المحمود
ليت شعري، هل تسمعين من الغ ... ب صدًى من صواعق ورعود؟!
ذاك لو تعلمين عُقبة! إذ أق ... دمَ إِقدامَ ضَيغْمٍ مفؤود
والذي تسمعين حَمْحَمَةُ الخي ... ل وزحفُ الجنود إثر الجنود
وازدِحامُ الخميس في جانب الأط ... لس من بين سِيفِه والصعيد
والأهازيج داوياتٍ من الأب ... طال إثرَ الغناء والترديد
واندحار العدوَّ أرهَبَه المو ... ت فألوى ينساحُ عرض البيد
هكذا شَيَّد الأباة ومن كال ... عرب يبنون صرح مجد عتيد؟!
أمة العرب: يا سليلة أْمجَا ... دٍ توالت في مشرقات العهود
أو ما خَدَّ ثواكِ عن يوم لُذرِي ... ق وأعظم بيِومه المشهود؟!
أو لم تسمعي عن البطل الفا ... نك مذكي السفين خلف البنود؟!
هاتفاً في الرجال: دونكم البح ... ر!! وإلا فانحوا طريق الخلود!
فاذا هم يستبسلونَ لَدَى المو ... تِ، وطوبى لكلَّ حر شهيد
كَبَّروا فاستحال في أُذُنِ الجو ... زاء تكبيرُهم زئيرَ أسود
وانَتضَوا خلف طارق فإذا بال ... قُوطِ ما بَيْن هالكٍ وشريد
وإذا بالإسلام ينشرُ جنحي ... هـ بظلَّ الخليفةِ الممدود
وإذا بالإسْبَانِ تستقبل البُش ... رى بصوتِ المؤذنِ الغَِّريد
هكذا سوف نبتني الوحدة الكب ... رى ونمشيِ على غرار الجدود
هكذا يُطْلَب الفخارُ! فلا نا ... مت على الذلَّ مُقلة الرعديد. . .
(القدس)(613/44)
محمد سليم الرشدان
ماجستير في الأدب والساميات(613/45)
البريد الأدبي
بين شاعرين
(يعرف القراء فجيعة الأستاذ عزيز بك أباضة في زوجته من
مجموعة أشعاره (أنات حائرة)، وقد عرفوا أخيراً فجيعة
الأستاذ عبد الرحمن صدقي من أشعاره التي يوالي نشرها هنا
وفي الثقافة. وفيما يلي كلمة أرسلها إلى زميله، وهي عامرة
بروح التقدير الكريم والمشاركة في الألم الوجع)
عزيزي الأستاذ عبد الرحمن:
تتبعتُ قصائدك التي تنشر في الرسالة والثقافة. وما أظنها قصائد بالمعنى المفهوم، ولكنها دموع العين والقلب معاً تقطر في أصدق تعبير واشرفه - ولكنها الحشاشة الذائبة والنفس المنصهرة تترقق في أنصع الشعر وأسماه.
وما من شك أن هذه اللوعة التي تحترق بها أنت، قد اهتز لها في آفاقه الشعر الباكي، وابتهج بها في محيطه الأدب الحزين. فلقد أضفت إلى صحفها التي طهرتها الآلام صحفاً أخرى تضيء بأنبل الألم وفي الألم لذة مشرقة تستشعرها النفس وهي تكتوي بناره، وتراح لها الروح وهي تتنزى فوق أواره.
أما أنا، فلي شأنٌ مع دموعك، شأن غير شأن الناس. فلقد رثيت لها أكثر مما رثى الناس. ذلك أنني فهمتها أكثر مما فهمها الناس. ثم إذا دموعك أو قصائدك قد امتزجت بأحناء تفسك وأعراقها حتى لأَوشك أن يتسرب بعضها في بعض.
ثم زدتُ فأوشكتُ أن أدعّي لنفسي منها هذه المقطوعة الدامية أو ذلك البيت الأّيم. . . ولِمَ لا أفعل، إذا كنت أجد فيها صدى نفسي، وأسمع فيها همسها وزفيرها، وأستاف منها رائحة الكبد المحترقة.
هل تظنني قائلا لك: (تماسك واصبر)؟
لن أفعل ذلك فأسيء إلى وفائك وحبّك(613/46)
ولن أفعل ذلك فأحرم الأدب من نفحاتك ولفحاتك
كان الله لك، ورضي الله عنها وعنك
أسيوط
المخلص
عزيز اباظة
الجامعة العربية
أصبحت الجامعة العربية أمراً واقعاً، وحقيقة ثابتة. وقد خلصت الجمعيات التي قامت لأجلها، والكتاب الذين دعوا إليها من التخبط في تعريق غاياتها وتحديد أغراضها وكذلك اطمأنت نفوس من كانوا يتوجسون من تأليفها، لزعيم باطل أو وهم مدخول، بأنها ستكون جامعة إسلامية تناوئ أو تقضي على كل ما هو غير إسلامي. أما الآن فقد وضح أمرها فصار في وسع كل إنسان أن يقول:
(إن الغرض من الجامعة العربية توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها)
(وكذلك من أغراضها تعاون الدول المشتركة فيها تعاوناً وثيقاً بحسب نظم كل دولة منها وأحوالها في الشؤون الاقتصادية والمالية، والاجتماعية والصحية، والمواصلات والثقافة، والجمارك والجنسية)
وإذا سأل سائل، الرجال الذين وقَّعوا وثيقة هذه الجامعة عن رأيهم فيها سمعنا دولة النقراشي باشا يقول باسم حكومة مصر
(أنها ضرورة تدعو إليها الظروف الدولية في هذا الوقت. لقد أردتم وأردنا أن تكون هذه الجامعة جامعة سلام ووفاق وهي هذه الصورة التي سوف تراها الدول وتستقبل بها عهداً جديداً للبلاد العربية، أساسه التضامن وحسن التفاهم)
ويقول دولة السيد فارس الخوري باسم حكومة سورية:
(نحن مطمئنون إلى أن هذه البداءة المتواضعة تأخذ مجراها في طريق النمو إلى أن تبلغ(613/47)
الهدف الأسمى الذي تتوق إليه نفس كل عربي حريص على وصل مستقبل أمته العتيد بماضيها المجيد)
ويقول دولة سمير الرفاعي عن شرق الأردن:
(أنها الحجر الأساسي للكيان القومي)
ويقول السيد أرشد العمري عن العراق:
(أن هذا الميثاق لهو الطلقة الثانية للعرب، ولكنها طلقة سليمة هذه المرة، بيد أن الطلقة الأولى لفكرة الجامعة العربية كانت للملك حسين بن علي)
ويقول السيد يوسف يس عن الحكومة السعودية:
(إن ميثاقنا سيلقاه الناس بسيطا في مبناه ولكنه سام في أهدافه وغاياته، وأهم ما تستند إليه جامعة دولنا العربية هو حسن ظن بعضنا ببعض)
ويقول السيد كرامي عن لبنان:
(نعلم حق العلم أن هذه الجامعة ليست هي غاية ما يصبو إليه العرب في مختلف أقطارهم، ولكنها خطوة مباركة، بل خطوة كبيرة جبارة نحو تلك الغاية السامية، أي اتفاق على تأسيس جامعة لدولتنا تكون أداة دائمة للتعاون الأخوي الوثيق بيننا)
ويقول عبد الرحمن عزام بك:
(الحقيقة هي أن الجامعة وميثاقها ليست إلا عنواناً لميثاق غير مكتوب، أخذه علينا آباؤنا ورسلنا من قبل وأخذناه على أنفسنا اليوم)
لقد سجلنا على رجال حكوماتنا أقوالهم لنشهد عليهم ونستشهد بها قريباً.
حبيب الزحلاوي
الإسكندرية في العصور الوسطى
الدكتور عزيز سوريال عطية، خير من يجلو لأبناء الإسكندرية ما غمض من تاريخ مدينتهم في العصور الوسطى، فقد عرض لمستمعي الحلقة الثانية من سلسلة المحاضرات الإسكندرية، التي تقيمها وتشرف على الدعاوة لها جمعية الشبان المسيحيين. أقول عرض الدكتور سوريال كيف كانت الإسكندرية في تلك الآونة كعبة الدنيا، وعروس الزمان.(613/48)
ومن أهّم ما حدّثنا عنه الدكتور الحاضر مسألة الامتيازات الأجنبية، فقال: إنّ لهذه الامتيازات التي تخلصنا من ربقتها أخيراً، أصلا في تاريخ الإسكندرية الوسيطة، وهو أنْ قد كان ما يعرف في تلك الآونة، بالفنادق، وقصة هذه الفنادق، تصور لنا كيف كانت تنشأ بأموال النزلاء الأجانب، على أن تعود ملكيتها إلى السلطان، وللسلطان بعد ذلك أن يصدر أمره إلى كلّ فئة يُقيم كلّ منها في فندق يشرفون منه على مصالح بلادهم الاقتصادية، على إلا يعترف لهم بأكثر من صفة الضيافة!! فهل يرى الدكتور سوريال أوجه شبه بين هذه الفنادق، وبين ما يعرف اليوم بنظام السفارات؟
أما تخطيطات الإسكندرية في العصور الوسطى، فقد شرحها لنا الدكتور المحاضر شرحاً وافياً، مستعيناً بخرائط كان يُعنى بلفت الأنظار إلى ملاحظتها عند كل نقطةٍ من نقاط بحثه، فكانت فرصة طيبة ليتابع المستمعون قصة مدينتهم في إحاطة وعمق، وكانت آيةً على حرص الدكتور سوريال، على أن يحيط متتبعوا محاضرته بعناصر الموضوع المختلفة من شتى الجهات، ولقد كان الدكتور سوريال دقيقاً أجلّ الدقة، في تحفظه حين كان يحدث عن رأى لم يقل العلم بَعْدُ كلمته الفاصلة فيه.
ومن أمتع ما حدثنا عنه الدكتور سوريال، حضارة الإسكندرية الوسيطة، تلك الحضارة التي تتجلى في أروع ظواهرها حين نستعرض مراحل الديانات المختلفة، فيحدثنا الدكتور عن مسجد النبي دانيال حديثاً طلياً عذباً، متتبعاً تاريخه منذ كان معبداً في العهد القديم، إلى أن أصبح مقبرة للاسكندر - فيما يقال - ثم يحدثنا عنه في صورته الحديثة، حديث الأستاذ المحاضر الذي ألمّ بأطراف موضوعه.
- وإني اعتقد أن في هذا النشاط الفكري الذي نلمسه في الإسكندرية الآن، ظاهرة حيوية جديدة، توحي بأن ليس من البعيد أن يعيد التاريخ نفسه، فتصبح الإسكندرية كما كانت، مشعل الحضارة الجديدة، حيثما تستقر النفوس، وحين يتطلع الناس إلى مثل عليا جديدة.
الإسكندرية
علي حسن حموده
أكاديمية مصرية للعلوم(613/49)
تألفت في القاهرة أكاديمية مصرية للعلوم، على نظام الأكاديميات العلمية في أوربا وأمريكا، وقد جعل مقرها (دار الحكمة) وتشمل بحوثها الآن العلوم الرياضية والطبيعية وعلوم الاحياء.
ويبلغ عدد أعضائها الحاليين تسعة، رؤى أن يكون كل منهم ممثلا لفرع خاص وحاصلا على درجة الدكتوراه في اختصاصه، وممن لهم أبحاث علمية مبتكرة معترف بها في العالم.
وهؤلإء الأعضاء هم - بحسب ترتيب الحروف الأبجدية - الدكاترة: إبراهيم فهمي رجب، وأحمد زكي بك، وحسن صادق باشا، وسعد الله مدور، وعلي مصطفى مشرفه بك، وكامل منصور، ومحمد خليل عبد الخالق بك، ومحمد رضا مدور، ويونس صالح ثابت.
وستعقد الأكاديمية أولى جلساتها العلمية في 3 ابريل القادم، ويستطيع من تعنيه المحاضرات التي ستلقى فيها أن يحضرها، بوصفه زائراً.
وقد وافق معالي وزير المعارف على نشر البحوث التي ستتلى في الأكاديمية على نفقة الوزارة.(613/50)
القصص
ناظر المدرسة
للقصصي الروسي أنطون تشيكوف
ترجمةاللأستاذ محمد قطب
كان فيودور لوكيتش سيسوييف - ناظر المدرسة التابعة للمصنع الذي يديره كوليكين - كان يعد نفسه لحفلة الغداء السنوية. ففي كل عام بعد انتهاء الامتحانات كان المدير يقيم حفلا يدعي إليه مفتش المدارس الأولية والممتحنون ويحضره كذلك مديروا المصنع.
وعلى الرغم من الصبغة الرسمية التي كانت لهذه الحفلات فإنها كانت ذائما حافلة بالحياة والمرح، وكان المدعوون يقضون فيها وقتاً طيباً ناسين ما بينهم من فروق. وكانوا يأكلون حتى يمتلئوا ويشربون ويتحدثون حتى تبح أصواتهم، ثم يتفرقون في المساء المتأخر وقد انطلقت حناجرهم بغناء صاخب تغطي حدته على ضجيج آلات المصنع!
وقد حضر سيسوييف من أمثال هذه الحفلات ثلاثة عشر إذ كانت قد مضت عليه ثلاث عشرة سنة في نظارة تلك المدرسة. والآن - هو يعد نفسه للرابع عشر - كان يحاول أن يبدو عليه البشر وأن تبدو حركاته مضبوطة بقدر الإمكان. وقد مرت عليه ساعة كاملة وهو ينظف بالفرشاة بذلته الجديدة السوداء وقضى ساعة أخرى أمام المرآة وهو يرتدي قميصاً على آخر طراز. ولكن دبوس الرقبة لم يشأ أن يدخل في عروته بسهولة فثار الرجل وصخب وراح يوجه أعنف اللوم إلى زوجته ويهددها بعظائم الأمور.
وكانت زوجته المسكينة قد أنهكت قواها وهي تدور حوله لتقضي له حوائجه وتساعده على إعداد نفسه. والحق أنه هو نفسه قد خارت قواه آخر الأمر حتى إنه - حين أحضر له حذاؤه الملمع من المطبخ - لم يستطع أن يلبسه واضطر أن يضطجع حينا من الوقت ويشرب كوبا من الماء فتنهدت زوجته آسفة وقالت له (لقد غدوت ضعيفاً جداً، وكان الأجدر بك ألا تذهب إلى هذا الغداء أبدا)
فقاطعها غاضباً (لا أريد نصائح من فضلك!)
وقد كان ثائراً جداً. . . وكانت نتيجة الامتحانات الأخيرة تثيره أكثر من كل شيء. ومع أن(613/51)
الامتحان قد أنتهى بصورة باهرة وحصل تلاميذ الفرقة الأخيرة على شهادات وجوائز أيضاً، وسر لهذه النتيجة رجال المصنع ورجال الحكومة سواء، إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً لحضرة الناظر. . . فقد آذاه أن التلميذ بابكين الذي لم يكن يخطئ في الإملاء أبداً قد أخطأ ثلاث مرات، وأن سرجييف كان شديد الاضطرات فلم يعرف حاصل ضرب 17 13، وأن المفتش وهو شاب غير مجرب - قد اختار للاملاء قطعة صعبة، وأن ليابونوف - وهو ناظر مدرسة مجاورة - لم يسلك مسلك الزملاء حين اختاره المفتش لإملاء القطعة بل جعل يبتلع الحروف ابتلاعا ولم ينطق الكلمات كما هي مكتوبة!
وبعد أن ارتدى الرجل حذاءه بمساعدة زوجته ونظر إلى نفسه في المرآة مرة أخرى، أمسك بعصاه المحببة وذهب إلى الحفل. وما إن وصل إلى منزل مدير المصنع حتى حدث له حادث بسيط فقد انتابه نوبة سعال عنيفة فجعل يهتز حتى طارت قبعته من فوق رأسه ووقعت عصاه من يده. وما إن سمع المفتش والمدرسون سعاله حتى هرعوا إليه فوجدوه جالساً على أسفل السلم سابحا في بحر من العرق، فقال المفتش مستغرباً (أهذا أنت يافيودور لوكيتش؟ هو. . . أتيت؟) ولماذا لا أحضر؟)
(كان يجب أن تكون في المنزل ياصديقي العزيز فلست اليوم على ما يرام)
إنني اليوم كما كنت بالأمس. . . وإذا كان وجودي يضايقكن فأستطيع أن أرجع)
(أوه يا فيودور. لا تتحدث بهذه اللهجة! تفضل بالدخول. إنك أنت تشرف هذا الحفل لا نحن. وإننا لمسرورون برؤيتك. . . مسرورون جداً!)
وكان كل شيء في الداخل قد أعد للحفل. وكانت في حجرة المائدة المزينة بزهور (الجيرانيوم) مائدتان إحداهما - الكبيرة - للطعام، والأخرى قد وضعت عليها طائفة من المشهيات. وكان ضوء النهار الحار يدخل بقدر من خلال الستائر المدلاة على النوافذ. وكانت مناظر الطبيعة المنقوشة على الستائر وأزهار الجيرانيوم وشارئح اللحم المرتبة في الصحاف. . . تعطي كلها جوا فطريا عاطفيا يلائم طبيعة صاحب المنزل وهو رجل ألماني طيب القلب صغير الجرم تلمع عيناه بالبشر والمحبة يدعى (أدولف أندريتش بروُني) وكان يدور حول المائدة الصغيرة نشيطاً متحمساً يملأ الأكواب بالشراب، ويملأ الصحاف بالطعام محاولا بكل طريقة أن يعبر عن صداقته وأن ينشر البشر على الجميع.(613/52)
ولما رأى سيسوييف صاح (من ذا الذي أرى؟ فيودور لوكيتش! إن هذا بديع! لقد أتيت برغم مرضك. أيها السادة دعوني أهنئكم بحضور فيودور لوكيتش!)
وكان المدرسون في ذلك الوقت قد اجتمعوا حول المائدة يأكلون المشهيات، فقطب فيودور غاضباً لأن زملاءه قد بدأوا الطعام والشراب من غير أن ينتظروه. ولاحظ من بينهم ليابونوف الذي أملى الإملاء في الامتحان فاجه نحوه قائلا:
(لم يكن سلوكك مما يجدر بالزملاء! أبداً! فأن السادة الكرام لا يملون هكذا!)
فقال ليانوف مقطباً (يالله! أما زلت تفكر في هذا الموضوع؟ أما سئمت الأخذ والرد فيه؟)
(بلى. مازلت أفكر فيه! إن بابكين لم يكن يخطيء أبداً! وانا أعرف لماذا أمليت هكذا. لقد أردت أن تطوح بتلاميذي حتى تبدو مدرستك خيراً من مدرستي. إنني أعرف كل شيء!. . .)
فصاح ليابونوف محتداً (لماذا تحاول أن تقيم معركة؟ وأي شيء حدا بك إلى إغضابي؟)
فتدخل المفتش قائلا: (مهلا أيها السادة. هل يجوز أن يتحدوا على شيء بسيط كهذا؟ ثلاثة أخطاء. . . بدلا من واحد. . . هل هذا يهم؟)
(نعم، يهم. إن بابكين لم يكن يخطيء أبداً)
فصاح ليابونوف (إنه لن يترك هذا الحديث أبدا. وهو يستغل ضعفه ومرضه فيسبب لنا المتاعب جميعاً. إنني ياسيدي لن أعاملك كرجل مريض)
فاحتد سيسوييف قائلا: (دع مرضي جانباً. فليس لك به شأن. إنهم جميعاً يرددون في وجهي المرض. . . المرض. . . المرض. كأني محتاج إلى عطفك! ثم خبرني من أين جاءتك فكرة مرضي؟ لقد كنت مريضاً قبل الامتحان. هذا صحيح لكني شفيت تماماً ولم يبقى من أثر المرض إلا شيء من الضعف)
وهنا قال مدرس الديانة الأب نيكولاى (لقد استعدت صحتك فاشكر ربك. وعليك أن تسر بهذا ولكنك سريع الغضب)
فقاطعه سيسوييف قائلا: (وأنت أيضاً. . . ما كان أحسن صنيعك! الأسئلة يجب أن تكون مستقيمة وواضحة ولكنك ظللت تسأل ألغازاً. ليس هذا ما يجب صنعه!)
. . . وأخيراً فلحوا في تهدئته وأخذوه إلى المائدة. فظل يتردد فيما يشرب حتى قرر أن(613/53)
يشرب زجاجة كاملة من النبيذ ثم جذب إليه قطعة من فطير اللحم واستخرج ما حشيت به وقضم منه قضمة فخيل إليه أنها خالية من الملح فرش عليها الملح رشا وما لبث أن دفعها بعيداً إذ أصبحت الفطيرة غارقة في الملح. . .
وفي أثناء الغداء كان سيسوييف يجلس بين المفتش وبروني وبدأ شرب الانخاب حسب العادات المتبعة. فبدأ المفتش بقوله: (إنني أعتبر من واجبي أن اقترح عليكم شكر اللذين أخذ هذه المدرسة تحت كنفهما وإن كانا لم يحضرا هذا الاجتماع وأعني بهما دانيال بتروفيتش و. . . و. . . و. . .) فقال بروني يلقنه (وايفان بتروفيتش)
(وايفان بتروفتش كوليكين الذين لاياكلون جهداً في سبيل المدرسة وأقترح أن نشرب نخبهما. . .)
فنهض بروني واقفاً كالملدوغ وقال (أنا من جانبي أقترح أن نشرب نخب مفتش المدارس الأولية بافل جينادييفتش ناداروف! فنهض المدعون وأزاحوا كراسيهم وبداوا يقرعون الأكواب وكان النخب الثالث دائماً من نصيب سيسوييف. وبهذه المناسبة نهض واقفاً ثم أخذ يلقي كلمته بعد أن أتخذ سماء الجد وتنحنح. . . وقد بدأ كلمته بقوله إن الله لم يمن عليه بموهبة البلاغة وإنه لم يكن مستعداً للخطابة. ثم قال إنه في خلال الأربعة عشر عاماً التي قضاها ناظراً للمدرسة كانت هناك دسائس تحاك وأياد تلعب في الخفاء. بل وصل الأمر إلى حد كتابة تقارير سرية إلى السلطات التي بيدها الأمر. وقال إنه يعرف أعداءه الذين أدلوا بمعلوماتهم ضده ولكنه لن يذكر أسماءهم (حتى لا يفسد شهية أحد) وأنه برغم هذه الدسائس فإن مدرسة كوليكين كانت الأولى في المنطقة كلها (ليس من الناحية الخلقية فحسب بل من الناحية المادية أيضاً).
ثم قال (في كل مكان آخر يتناول النظار رواتب تتراوح بين مائتي روبل وثلثمائة بينما أتناول أنا خمسمائة روبل، وعلاوة على هذا فقد أعيد تقش منزلي وأثث على حساب المصنع وفي هذا العام غطيت الجدران بالورق. . .)
وأخذ الناظر بعد ذلك يتحدث عن كرم المصنع في تزويد التلاميذ بأدوات الكتابة بالنسبة لمدارس الحكومة. وقال إن المدرسة مدينة في كل هذا لا إلى رؤساء المصنع الذين يقيمون على بعد ولا يزورونها إلا نادراً، وإنما إلى الرجل الذي برغم كونه ألماني العنصر وعلى(613/54)
عقيدة لوثرن فإنه روسي في دخيلة نفسه.
وتكلم سيسوييف طويلا. . وكان يقف بين الحين والحين ليلتقط نفسه، وكان يتصنع البلاغة وحسن التأثير حتى أصبح كلامه مملا ممجوجا. وظل يردد الإشارة إلى أعدائه ويكرر نفسه ويسعل ويمد أصابعه في الفضاء باشارات غير مناسبة، وأخيراً أنهكت قواه وتصبب العرق من كل بدنه وانخفض صوته حتى لكأنه يحدث نفسه وختم كلامه بجمل غير مترابطة (وعلى هذا فأنا أقترح شرب نخب بروني أعني أدولف أندرييتش، الذي هو بيننا. . . وبصفة عامة. . . تفهمون ما أقول. . .)
وحينما انتهى من حديثه تنفس الجميع الصعداء كأنما رش أحدهم ماء باردا فصفا الجو. . ولم يكن قد بقي فيهم أحد على مرحه إلا بروني الذي شد على يد سيسوييف مصافحا وعاد وجهه ينضح بالبشر قائلا:
(أشكرك. وأشعر بسعادة عظيمة لأنك فهمتني! إنني ارجو من كل قلبي أن يكون كل شيء حسناً ولكن يجب أن الاحظ أنك تضخم من أهميتي كثيراً وإن نجاح المدرسة يرجع في الحقيقة إليك أنت يا صديقي. فلولاك أنت لما امتازت من أي مدرسة أخرى. وقد تظن أنني أجاملك، ولكني لا أجامل أحداً. وإذا كنا ندفع لك خمسمائة روبل في السنة فلأننا نقدرك. أليس كذلك أيها السادة؟ إن ما أقول صحيح. إليس كذلك؟ إننا لن نكن لندفع لغيره مثل هذا الأجر. والواقع أن المدرسة الطيبة السمعة هي شرف للمصنع!)
فقال المفتش (لايسعني إلا أن أقول إن مدرستكم ممتازة ولا تظنوا هذا رياء، فإني لم أصادف مدرسة أخرى كهذه في حياتي. وبينما كنت أجلس لامتحان التلاميذ كان يغمرني الإعجاب. . تلاميذ مدهشون! إن معلوماتهم جيدة وإنهم يجيبون إجابات مشرقة وفي الوقت ذاته فإنهم - على نحو ما - ممتازون. ثم هم صادقون في عواطفهم، ويستطيع الإنسان أن يجزم بأنهم يحبونك يافيودور لوكيتش. إنك ناظر مدرسة لحما ودما. ولا بد أنك ولدت مدرساً. فإن فيك جميع المواهب، من ميل فطري وتجريب طويل وحب لعملك. وإنه - بالاختصار - يدهشنا - بالنظر إلى ضعف صحتك - أن نرى فيك كل هذا النشاط والفهم والمواظبة والثقة بنفسك. لقد وصفك أحدهم في اجتماع مدرسي بانك شاعر في عملك. أجل إنك لشاعر!)(613/55)
وهب الحاضرون على الطعام كرجل واحد يتحدثون عن مواهب سيسوييف وكأنما فتح خزان فسال طوفان من الكلمات الحماسية الصادقة. ونسي الجميع خطبة سيسوييف وحالته العصبية المنكرة ووجهه المعبر عن الحقد والكراهية. وجعلوا يتحدثون بحرية حتى أولئك المدرسون الجدد المستحون الذين كانوا لا يتحدثون إلى المفتشين إلا بقولهم (سعادتكم). وكان من الجلي أن سيسوييف - في محيطه - رجل ذو حيثية.
ولما كان قد تعود النجاح وسماع المديح مدة الأربعة عشر عاما التي قضاها ناظرا مدرسة فإنه كان يستمع بغير اهتمام إلى حماسة المعجبين. .
وكان بروني هو الذي شرب نخب هذا المديح بدلا من سيسوييف، فقد انتبه لكل كلمة تقال وكان يصفق ويهلل وينحني متواضعاً كأنما كان كل هذا المديح خاصاً به هو لابناظر المدرسة. وكان يصيح قائلا: (مرحى. . مرحى! هذا حق! لقد عرفتم ما أقصد!. . بديع!!)
وكان ينظر إلى ناظر الدرسة كأنما يريد أن يشاركه فرحه وأخيراً لم يطق صبراً، فقفز واقفاً وغطى بصوته جميع أصواتهم وهو يصيح: (أيها السادة! اسمحوا لي أن أتكلم! هس! أمام كل الذي تقولونه ليس لي إلا جواب واحد: وهو أن إدارة المصنع لن تنسى ما أداه فيودور لوكيتش من الخدمات!. . .)
وساد الصمت. ورفع سيسوييف بصره إلى وجه الألماني المتورد الذي عاد يقول: (إننا نعرف كيف نقدر مجهوداته. والجواب على كلماتكم هو أن أخبركم أن مبلغاً من المال قد وضع في المصرف في الشهر الماضي من أجل عائلة فيودور لوكيتش). فنظر سيسوييف متفهماً إلى الألماني وإلى زملائه كأنه غير قادر أن يفهم لماذا وضع المبلغ لعائلته وليس له هو. وفي لحظة واحدة استطاع أن يرى جميع الوجوه المنحدرة إليه، وفي العيون المثبتة نحوه، لا إحساس العطف ولا الشفقة التي لم يكن يحتملها، بل شيئاً آخر عطوفاً رقيقاً، ولكنه في الوقت ذاته مشؤم مخيف كأنه حقيقة واقعة. شيء سري كالقشعريرة في جسده وملأ قلبه بيأس دفين، فقام فجأة بوجه ممتقع وضرب وأسه بيديه، وظل هكذا ربع دقيقة وهو يحدق في نقطة امامه، كأنه يرى الموت الذي تحدث عنه بروني. . . ثم جلس ثانية والدموع تنهمر من عينيه. وسمع من حوله أصواتاً فزعة تقول: ماذا؟ ماذا؟ ماء اشرب شيئاً من الماء!)(613/56)
ومرت لحظة قصيرة هدأ خلاها الرجل، ولكن المجتمعين لم يعودوا إلى مزاجهم الأول. وانتهى الغداء في صمت حئيب، وفي وقت أسرع من كل المرات السابقة.
وحين عاد سيسوييف إلى المنزل ذهب تواً إلى المرآة ثم قال في نفسه وهو ينظر إلى خديه المترهلين وعينيه اللتين تحيط بهما هالة سوداء (حقا. لم يكن ما يدعوني أن أبكي كل هذا البكاء! إن وجهي اليوم خير منه بالأمس. وإن ما أعانيه هو الانيميا والزكام الناشيء من المعدة. وسمالي ناشيء من المعدة). وخلع ملابسه وقد عاد إليه اطمئنانه وقضى وقتاً طويلاً ينظف بالفرشاة بذلته الجديدة السوداء ثم طبقها بعناية ووضعها في مكانها. ثم ذهب إلى المكتب حيث تراكمت كراسات التلاميذ فأخرج من بينها كراسة بايكين وجعل يتأمل في جمال خطه. . .
وفي الوقت ذاته - بينما كان هو يفحص كراسات التلاميذ - كان طبيب المنطقة يجلس في الغرفة المجاورة ويهمس في أذن زوجته أنه لم يكن يجوز أن بيح الذهاب إلى حفلة غداء لرجل لايحتمل أن يعيش أكثر من أسبوع.
محمد قطب(613/57)
المسرح والسينما
فيلم سفير جهنم
تأليف واخراج وتمثيل يوسف بك وهبي
القصة
تدور حول مدرس يحيا مع زوجه وأبنائه حياة شقية كلها فاقة وعوز، قاده الشيطان بوسائله إلى حياة لم يألفها من قبل، وغدا ذلك المدرس من هؤلاء المترفين بفضل الشيطان الذي عرف كيف يسيطر عليه ويوجهه كيفما يريد. . . ثم تنتهي حياته بفقده زوجه، وجنون ابنتهه، وسجن ابنه، وأخيراً يستيقظ المدرس من نومه فيحمد الله على أنه كان في حلم، وينادي أبناءه وزوجه ليقص عليهم رؤياه، فإذا بهم كانوا مستغرقين في نفس الحلم هذا هو ملخص لقصة (سفير جهنم). ويظهر أن
الشيطان لعب دوراً خطيراً حتى استطاع أن يخدع يوسف بك ويجعله قصة مفككة كهذه ليس لها فكرة تهدف إليها، ولا وحدة تسير عليها لتكون فيلماً!!
الاخراج
اعتمد الأستاذ يوسف بك في إخراجه على تهاويل ومفارقات. فحشد المناظر حشداً، وجمع الصور جمعاً في فوضى عجيبة تشهد أن الشيطان وحده هو الذي أوحى إليه هذه التهاويل والمفارقات.
لست أدري كيف أخرج يوسف بك قصة فيلمه على أنها حلم مع أن المدرس نفى ذلك أكثر من مرة وفي مواقف متعددة، ولا أدري أي شيطان هذا الذي يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، يعرف الغيب، ويعيد إلى عجوز شمطاء صباها، ثم يعيد إلى كهل شبابه، ثم هو بعد ذلك أو قبل ذلك يعظ الناس في مكارم الأخلاق، ويتحدث بالفرنسية حيناً وبغير الفرنسية حيناً آخر. . .
التمثيل
قام الأستاذ يوسف وهبي بتمثيل دور (الشيطان)، فعرف كيف يكون خير سفير لجهنم وعلى(613/58)
أحداث طراز، على الرغم من مغالاته في التكلف في كثير من المواقف، وقام الأستاذ فؤاد شفيق بدور (المدرس) فوفق فيه، وكذلك وفق الأستاذ محمد كمال المصري (شرفنطح) الذي قام بدور (ناظر المدرسة)، ووفقت فردوس محمد التي قامت بدور (زوجة المدرس) أما الأستاذ عبد الغني السيد فقد نجح كممثل وكمطرب، ونجح الأساتذة محمود المليجي وفاخر فاخر، وأيضاً أمينة شريف وليلى فوزي وهاجر حمدي.
أما الأغاني، فقد نجحت أغنية (أنا روميو) تأليفاً وتلحيناً غناء وبعد، فالأستاذ يوسف بك وهبي فنان موهوب له أدواره التمثيلية الخالدة التي تضعه في مصاف الممثلين العالميين، ولكنه يأبى على نفسه إلا أن يرهقها، فيرغمها إرغاماً على الانخراط في سلك القصاصين والمخرجين، فلا تجاوبه بما يريد، لأنها - وأعني نفسه - ليس عندها استعداد للقيام بمثل هذه المهام، فماذا عليه لو ترك نفسه على سجيتها وركز مجهوده في التمثيل؟!
أعتقد أنه من الخير للفنان يوسف بك أن يدع مسألة التأليف والإخراج ويتفرغ للتمثيل ليستطيع أن يؤدي رسالته كممثل على أكمل وجه.
عبد الفتاح متولي غبن(613/59)
العدد 614 - بتاريخ: 09 - 04 - 1945(/)
الرصافي وأغاخان
أو الزعيم الأدبي والزعيم الديني
لك الله يا بن آدم، ما أغمض سر الطبيعة فيك! تزعم أن فيك عقلا
وأنت تتبع هواك، وأن لك ديناً وأنت تعبد دنياك، وأن عندك علماً وأنت
تجهل نفسك!
ما هذا الذي نرى من خذلان المنطق لك، وإسراف الرأي عليك؟ تعرف الله وتفسق عن طاعته، وتخلق الصم وتخلص في عبادته، ثم تقدس الجرائم باسم العدل، وتعتقد الأباطيل باسم العقل، وتفسد قوانين السماء وتقول إنه الشيطان، وما الشيطان إلا نفسك؛ وتزيف طبائع الأشياء وتقول إنه الحظ، وما الحظ إلا عماك!
إن من عماك لا من عبث الحظ أن يكون في بيتك الكلب يتقلد الذهب، ويتوسد الحرير، ويتهنأ اللحم، وفي جوارك الإنسان يفضح جسده العري، ويلحس كبده الجوع، ويقض مضجعه الهم
وإن من هواك لا من نزغ الشيطان أن تلح على أخيك بالأثرة والحرمان ثم ترثي لحالته؛ وإذا كان من عمل الشيطان أن تقتل القتيل فليس من عمله أن تمشي في جنازته؟
في الأسبوع الذي كان الرصافي شاعر العربية يعالج فيه آلام المرض، ويكابد غصص الموت، على الفراش القلق، في المضجع الموحش، وكل ما يملكه من حياته الطويلة العريضة أسماله البدوية وأشعاره المخطوطة، في ذلك الأسبوع نفسه كان أغا خان زعيم الإسماعيلية يقعد في كفة الميزان المأثور المشهور كما ترى، وبازائه في الكفة الأخرى مائة كيلو من سبائك الذهب المصفى، هي مثقال الزعيم العظيم في هذا العام، خرج له عنها أتباعه في الهند وفي غير الهند، ونفوسهم راضية، وقلوبهم مطمئنة!
إي والله! مائة كيلو من الإبريز الخالص، هي ضريبة العقيدة يقدمها المؤمنون المخبتون كل سنة إلى أميرهم المقدس، ورقابهم من الجلالة خواضع، وعيونهم من المهابة نواكس، فيتعطف صاحب السمو بأخذها، ليطهرهم بها، ويزكيهم لأجلها، في حلبات السباق، وخلوات العشاق، ومعابد الحب، على البحيرات الناسمة بالنعيم، والجبال الباسمة بالجمال،(614/1)
والشواطئ المائجة بالفتنة الحياة الروحية بسببه، فما بالهم تركوه يكتب في وصيته الأخيرة هذه الفقر التي تستدر الشؤون وترمض الجوانح:
(كل ما كتبته من نظم ونثر لم اجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به خدمة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. . . لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها؛ وكل ما عدا ذلك من الأثاث الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. . .)
أين كان ذوو النفوس الشاعرة القادرة من أتباع الرصافي حين أفرط عليه إباؤه وكبرياؤه، فانطوى على نفسه يهدهد آماله بالصبر، ويخدر آلامه بالشراب، وروحه الوثاب ينبثق انبثاق النور، وأمله الطماح يتقلص تقلص الظل؟ لو شاء الرصافي أن يهاوي السلطان، ويمالق الحكومة، وينافق الشعب، لعاش أرغد العيش وبلغ أرقى المناصب؛ ولكنه آثر الحرية على الرق، واستحب الصراحة على الرياء، فذهب شهيد كرامته وعفته.
ستقول إن الزعيم أغا خان كذلك صريح حر، وإن صراحته لسافرة وحريته الطليقة لم تبغيا عليه في قومه، ولم تجرا إلي لكلام في صلاته وصومه. والجواب أن أتباع الزعيم الديني يصورونه في نفوسهم بصورة العقيدة التي يدينون بها، ويجعلون هيكله المادي رمزاً لهذه الصورة. ولهذا الرمز ظاهرة يراه الأوزاع، وباطن يستأثر بعلمه الأتباع؛ فهم يسددون ما يبصرون من زيغه، ويؤولون ما يسمعون من باطله، ويسبلون على عمله المريب ما يسبله لصوفيون من القداسة على الطبل والدف والناي والصنج، فتصبح هذه الآلات في أيديهم غيرها في أيدي القيان والمجان، وهي في نظر الناس لا تختلف في شيء عنها. قل إنها الجهالة أو السذاجة أو البلاهة، فلن يقدح ما تقول في الحقيقة، ولن يغير من الواقع.
أما أتباع الزعيم الأدبي فإنهم يتخذون صورته من فنه وروحه؛ فلصورته في كل ذهن شكل مختلف، وفي كل قلب أثر خاص. وطبيعة هذه الصورة أو تلك الصور مشتقة من طبيعة الفن: تتضح تارة وتبهم تارة، وتختفي حيناً وتلوح حيناً، على حسب استعداد النفوس لتقبل الجمال الفني حالا على حال، ووقتاً بعد وقت. لذلك كانت عقيدة هؤلاء الأتباع في زعيمهم كالعرض المنفك: تزول ثم تؤول، فإذا زالت نسوه كما ينسون السرور والحزن واللذة(614/2)
والألم؛ وإذا آلت سمعوه كما يسمعون البلبل على فنن الدوحة، يطربون لشدوه ويعجبون بريشه، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أيجد الحب والغش، أم يجد الفخ والقفص. وكذلك شأن أصحاب السلطان وأرباب الحكم مع رجال الأدب، يقتبسون من عقولهم النور إذا أظلمت الخطوب، ويستمدون من نفوسهم اللهب إذا خمدت العزائم، حتى إذا استوثق لهم الأمر، وتنازعوا الغار، وتقاسموا الفئ، أنكروا ما بذل الأدباء، وقالوا بلهجة الساخر البطر: وماذا صنع هؤلاء؟ لقد قالوا وإن الكلام طبع، وكتبوا وإن المداد رخيص! ذلك إلى أن أكثر عشاق الأدب مفاليك لا يملكون لأزبابه إلا الدعاء في الحياة، وإلا الرثاء في الموت! وإذا كان لدى بعضهم فضل من القوت لم يجد في نفسه من سلطان العقيدة ما يحمله على المواساة به؛ وذلك هو الفرق بين العقيدة الأدبية والعقيدة الدينية. فالعقيدة الدينية سلبية لا تتجاوز الإعجاب بالكلام والإنفاق من الكلام؛ فإذا وجدت من يبذل في سبيلها المال كان ذلك قطعاً للسان الهاجي، أو شراء لضمير المادح، أو تزييفاً لصورة الحق، وليس في مثل هذا البذل كسب للأدب ولا نفع للأديب. ولكن العقيدة الدينية إيجابية تقوم على إعلان الفكر بالشعيرة، وتمثيل المعنى بالرمز، وتحقيق النية بالعمل. والسلطان الروحي فيها قاهر، والأثر المادي عليها ظاهر. وحسبك منها الزكوات والصدقات والأضاحي والنذور؛ ففي بعض أولئك للزعيم الديني ذهب وميزان، ومدد وسلطان، وقصور ورآسة، ثم ضريح وقداسة!
حظك يا معروف هو حظ الأديب منذ كان في الناس أدباء وفي الأرض أدب! يموت أمثالك شرقاً بالبؤس، كما يموت أمثال أغا خان غرقاً في النعمة! فلو أن ربك حقق لك ما كان يرجوه شيخك الالوسي من رسوخ قدمك في الدين، وعلو منزلتك في التصوف، إذن لخلفته في الزعامة الدينية، وبلغت من (طريقتك) ما بلغ أغا خان في الدنيا، ونلت من (صوفيتك) ما نال معروف الكرخي في الآخرة.
احمد حسن الزيات(614/3)
أقوال في الزكاة مهمة، لأئمة
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
أراجع من أجل الطبعة الثانية لكتابي (الإسلام الصحيح) مؤلفات القوم، فأجد في (إعلام الموقعين عن رب العالمين، وفي مفاتيح الغيب، وفي المحلى) هذه الأقوال العظيمة المهمة في الزكاة والمعونة. وهي أقوال لا تسأل راويها تفسيراً ولا تفصيلاً؛ إنها تشرح نفسها، وتعلن أمرها، وتذكر وتنذر، بل تكاد تنطق بالحق مصوتة مثل الأناس الناطقة. وقد رأيت أن أتعجل نشرها في (رسالتنا) الإسلامية، والسبق من دأب (الرسالة) ومن دأبها تعجل الخير.
- 1 -
قال الإمام عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية في (إعلام الموقعين عن رب العالمين):
إن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة. قال السعدي: حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز: حدثنا علي بن المبارك حدثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة. قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة. فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: إي لعمري.
قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟
فقال: لا. إذا حملته الحاجة على ذلك، والناس في مجاعة وشدة. وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي، وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك إما بالثمن أو مجاناً على الخلاف في ذلك. والصحيح وجوب بذله مجاناً لوجوب المساواة، وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج.
قلت: قد درأ الحد عن السارق في غير المجاعة وفي غير السنة، ففي (سيرة عمر بن عبد العزيز) للإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي:(614/4)
(. . . حدثنا زياد بن أنعم الألهاني عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى إليه بسارق، فشكا إليه الحاجة، فعذره وأمر له بنحو عشرة دراهم)
والمثل يقول: (الخلة تدعو إلى السلة) والخلة الفقر، والسلة السرقة، قال العلامة الميداني: ويجوز أن يراد بالسلة سل السيوف. . .!
- 2 -
قال الإمام محمد فخر الدين الرازي المعروف بخطيب الري في (مفاتيح الغيب) وهو تفسيره الكبير الشهير:
1 - إن النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وعملية، فالقوة النظرية كما لها في التعظيم لأمر الله، والقوة العلمية كما لها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم.
2 - إن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات وفي دفع الآفات عنهم - أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه - لا محالة - على ما قال عليه الصلاة والسلام: (جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من المال أكثر - أمدوه بالدعاء والهمة. وللقلوب آثار، وللأرواح حرارة، فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وبقوله عليه الصلاة والسلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة)
3 - إن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق، فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. وسمعت واحداً يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر. فقلت: بل يمكنه ذلك إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر، وإلى القيامة.
4 - إن إيجاب الزكاة يوجب حصول الإلف بين المسلمين وزوال الحقد والحسد عنهم،(614/5)
وكل ذلك من المهمات.
5 - إن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة والمسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، وعلى الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها.
- 3 -
قال الإمام ابن حزم في المحلي:
فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات ولا فيء سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والشمس وعيون المارة.
قال عمر بن الخطاب (ض) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.
وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة.
وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة.
. . . ويقولون: من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه.
فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري، وهذا خلاف للإجماع وللقرآن وللسنن وللقياس.
ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو ذمي، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإن كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلي قاتله القود، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله لأنه منع حقاً. وهو طائفة باغية. قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق مانع الزكاة.
تلكم أقوال الإسلامية عربية بينة. وأقول في هذا المقام وفي الختام: إنه من لم يجب داعي(614/6)
الله وهدى (الكتاب) وشرعة سيد الأنبياء والمرسلين - وفي الوقت فسحة - فليرتقب طلعة التنين، وقسمة لينين. . .!!
محمد إسعاف النشاشيبي(614/7)
علم العرب الأقدمين بالجراد
مع نبذ عن غاراته الحديثة
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم النباتات بوزارة الزراعة
بقية ما نشر في العدد الماضي
وقال جندل بن المثنى يصف غارة الجراد:
يثور من مشافر الحنادج ... ومن ثنايا القف ذي الفوائج
من ثائر وناقر ودارج ... ومستقل فوق ذاك مائج
يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن بالمحالج
(والكنافج هو السمين الممتلئ. والحنادج هي الإبل الضخام شبهت بالرمال).
ومن الطريف أن كتاب العرب الأقدمين كانوا على علم بأطوار الجراد، فقد وصفها صاحب المسالك ابن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى 749هـ (1348 ميلادية) إذ قال إن الجراد صنفان أحدهما يقال له الفارس وهو الذي يطير في الهواء عالياً. والصنف الآخر يقال له الراجل وهو الذي ينزوي فإذ فرغت أيام الربيع طلبت أرضاً طيبة رخوة فتنزل هناك وتحفر بأذنابها حفراً وتطرح فيها بيضها وتدفنه وتطير فتفنيها الطيور والحر والنور فإذا تم الحول جاءت أيام الربيع تفقأ ذلك البيض المدفون وظهر مثل الديبب الصغار على وجه الأرض، وقالوا كل جرادة تبيض شيئاً كثيراً فإذا خرج ذلك من البيض أكل ما وجد من الزرع والشجر وغيرها حتى يقوى ويقدر على الطيران فينهض ويذهب إلى أرض أخرى فيفعل ذلك أبداً دائماً تقدير العزيز العليم.
وينطبق ما قاله ذلك العالم العربي على النظرية الحديثة لأطوار الجراد التي وضعها العالم الأستاذ يوفاروف الاختصاصي الشهير في الجراد وبذلك يكون علماء العرب قد سبقوا علماء الغرب في القول بنظرية أطوار الجراد بنحو ستمائة سنة.
وقد نصح كتاب العرب لمقاومة الجراد وإبادته بالتدخين، ورش النباتات بمواد طاردة، وإحراق الجراد ومطاردة فراخه إلى أخاديد محفورة يحرق فيها، وقد شرح ذلك صاحب(614/8)
كتاب الدر الملتقط في علم فلاحتي الروم والنبط فقال. أما الجراد والجندب فيدخن مع جري الهواء بقصب القنة والقنب والكبريت وعظام الهداهد والسلاحف والتبن، ويرش على الشجر ما قثاء الحمار والترمس والملح بعد طبخه. أو يطبخ قشر الطلع بالماء حتى يخرج قوته ويرش الشجر والزرع به. ثم قال ويدق الشبوينز أي الحبة السوداء ويريب ببول الجمال على نار هادئة كذلك سبعة أيام ثم يرش ماؤه على الزرع والشجر فإنه يهلك الجراد والزنابير والزراريح وغيرها. ثم قال: وإن كان الجراد فرخاً فلتحفر له الأخاديد ثم يساق إليها ويحرق فيها أو إلى حفائر عميقة أو ابيار معطلة أو تنصب قدور كبار فيها ماء حار يلقي فيها أولاً بأول ليلاً ونهاراً.
غارات الجراد الحديثة
هذا ما أمكنني العثور عليه في مخلفات العرب عن الجراد ومقاومته. أما عن غارات الجراد في العصور الحديثة في الشرق الأوسط فأقول إن من الذين تكلموا عنها بمصر من الحديثين هو الرحالة بورخهاردت وهو سويسري كريم المحتد أرسلته إحدى الجمعيات الإنجليزية في رحلة علميه لبلاد الشرق الأوسط في عهد محمد علي فمكث بالشام عامين جاء بعدها إلى القاهرة عن طريق سينا ثم توجه صعدا إلى أسوان فوادي أم جات المتفرع من وادي العلاقي حيث شاهد أسرابا من الجراد الشره يلتهم أوراق أشجار السيال وفروعه الغضة ثم سار في وادي الطرفاوي وبه الكثير من أشجار الدوم والطرفا ونبات السنامكي ورأى أسراب الجراد تجردها من أوراقها وفروعها الغضة. ومنهم كذلك المسيو بوفيه وهو فرنسي استقدمه المرحوم الحاج إبراهيم باشا نجل محمد علي الكبير ليكون مديراً لمزارعه وحدائقه وقد أرسله في بعثة زراعية إلى بلاد اليمن وسينا وفلسطين، فلما توجه إلى سينا وصل إلى دير سانت كاترينا في أول يونية سنة 1832 فرأى قرب جبل سينا سحابة عظيمة من الجراد من نوع قال عنه إن قريب من ايدوبودا ميجراتوريا فالتهمت ما في طريقها من عشب الأرض وأشجارها فلم تبق ولم تذر.
ولم تتعد أخبار الجراد ما يقوله المسافرون والرحل عنه. فلم تعن الحكومات بأمره إلا من عهد قريب. وبلادنا بلا فخر من أسبق المماليك في دراسة أحواله والمبادرة إلى مكافحته ولعل أول مجهود حكومي في ذلك هو ما فعلته حكومتنا في غارة سنة 1891 وإليك ما قاله(614/9)
عنها المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في الجزء الرابع من كتابه (الكافي): -
وردت أخبار من بعض مديري الإقليمين القبلي والبحري على ديوان الخديوي وديوان الداخلية بظهور الجراد في جهات الصالحية والزنكلون وتل حوين من بلاد الشرقية. وأهوى وباروط وآها من بلاد مركزي النجيلة والدلنجات واليهودية وقبور الأمراء بالبحيرة وطود ودماريس والبرجين والأخصاص وغيرها بمديرية المنيا وأكثر بلاد القليوبية والمنوفية. وكسا أراضي الجزيرة بالبر الغربي من القاهرة، وكان ظهوره في أخريات رمضان فخاف الناس شره واهتمت الحكومة بأمره اهتماما عظيما وأرسلت إلى سائر المديرين والمحافظين بالتشديد على قطع شأفته فجدوا في تأثره، وكانت الأخبار ترد تباعا بتكاثره وانتشاره شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفتكه بكل ذي خضرة من النبات والشجر والنخيل، وظل الحال على ذلك أياما والناس في دهشة وحيرة حتى أذن الله سبحانه بان هبت ريح في أخريات شوال سنة 1300 هـ ورياح مختلفة بعضها من الشرق وبعضها من الغرب ولبست على اشتدادها أياما فاكتسحته وحملت بعضه إلى الحوف الشرقي وبعضه إلى الجبل الغربي ولم تترك منه إلا القليل في البلاد والقرى التي نزل عليها فأباده أهلها بضرب العصي وسعف النخيل وجدوا في جمع بيضة وفرضت الحكومة قرشين لمن يأتي بأقة من بيضه، فتسابق الناس إلى البحث عن مواطنه وإخراجه منها فكان أكثره في مركز النجيلة بالبحيرة وفي الجبل الغربي وسواحل البحر وفي الفشن بمديرية المنيا.
ومن غريب ما نقل عنه أن سحابة منه نزلت على مزرعة قطن بإحدى بلاد المنوفية فأكلتها وما أتت على آخرها حتى ماتت جميعها فجاءت أخرى إلى مزرعة في جوار المزرعة الأولى فلما رأت ما أصاب الأولى فرت من النزول على شجر القطن وتحول ضرره إلى الأشجار والنباتات الأخرى. وأخبر جماعة من تجار المنوفية مديرها وحلفوا له الأيمان المغلظة بأنهم شاهدوا في بلاد مركز أشمون جريس طيراً كثيراً جداً أقرب شبها بأبي قردان ولكنه أطول منقارا وقد ترك الجبل أسراباً أسرابا واخذ يتتبع الجراد أينما وجده ويكبس عليه ويزدرد منه ألمئين والألوف ثم يتقياه ميتا وهكذا فلا يرحل عن البلد أو المزرعة إلا وقد أفنى ما فيها من الجراد وأباده، وأن بعض الجهلاء من الفلاحين كانوا يخافون من ذلك الطير فيرجمونه بالأحجار وهو لا يلتفت إلى ذلك ولم يثن له عزما. قلت(614/10)
وقد شاهدت شيئاً كثيراً من ذلك الطير نازلا على طول الطريق من نفيشة إلى السويس وهو على هيئة صفوف الجند بعضها خلف بعض ساكن القلب لا يزعجه مزعج ولا يحركه محرك، وقد أخبرني بعض أهالي نفيشة بأنه قد نزل عليهم منذ أيام وهو يترصد الجراد الزاحف من بلاد الشرقية إلى الحوف الشرقي حتى إذا مر قام من فوره وسد عليه الطريق وجعل يضربه بأجنحته ومنقاره ويبتلع منه الألف فلا يستقر في جوفه لحظة حتى يتقياها فإذا أفلت منه شيء تعقبه وقتله ثم يعود إلى مكانه متربصا. قيل وبقى على هذه الحال أياما حتى قامت تلك الريح واكتسحت ما بقى من الجراد، فسبحان مدبر الأكوان ومسلط الأبدان على الأبدان إنه خلاق عظيم سبحانه جل شأنه).
وأغار الجراد بعد ذلك على الديار المصرية في سنة 1904 فورد أول بلاغ عن ظهوره من منطقة العريش في 21 مارس سنة 1904 ثم تلته بلاغات أخرى طول شهر إبريل عن ظهوره في الوجه البحري وشمال القاهرة. وكانت أرجاله قد جاءت من صحراء العرب وشبه جزيرة سينا، فأغارت على مديريات الدقهلية والشرقية والقليوبية وكل بلاد مصر الوسطى ومديرية المنيا حتى سمالوط. وصار يضع بيضه أينما حل. واستمرت غاراته طول شهر مايو والنصف الأول من شهر يونيه فلم يترك بلداً من بلاد مصر إلا ونزل بها. وكانت وزارة الداخلية المنوطة بمقاومته وتخليص البلاد من شره فأصدرت إلى رجالها في الأقاليم المنشورات ليحثوا الأهالي على مكافحته.
وأغار الجراد على مصر بعد ذلك عدة إغارات صغيرة في سنة 1914 شوهدت أرجاله خلالها في أسوان وكوم امبو وأدفو والمعادي وفارسكور وسيدي براني. ثم تلت هذه الغارات غارة كبرى في سنة 1915 فظهرت أسرابه أول الأمر في الواحة البحرية في شهر يناير ولكنه لم يبلغ عنه إلا في 2 فبراير. وقد شوهدت أرجال الجراد في وادي الريان والواسطي والصف والعياط وشبين القناطر ونوى وفي أسوان، ولم ينتصف شهر فبراير إلا وأطبقت جحافله على الوجه البحري ومديريات الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا وشبه جزيرة سينا، واستمرت غاراته حتى أوائل يونيه فلم تسلم منه بلد في القطر المصري حتى واحة الفرافرة. ووقع حمل مقاومته في هذه الغارة الكبرى على عاتق وزارة الزراعة فلم تأل جهداً على حداثة سنها (ولدت سنة 1913) في(614/11)
مكافحته مستعينة في ذلك بأحدث ما وصل إليه العلم من وسائل الكفاح مما تجده مفصلا في تقريرها عن (غارة الجراد الكبرى على مصر سنة 1915) فكان مما فعلته أن قررت مكافأة قدرها جنيه واحد لمن يدل على موضع بيض جديد في الصحراء فكشفت بذلك مغارز عديدة لبيضه فبلغ ما جمع من البيض في هذه الغارة ثلاثمائة وأربعين ألف أقة تحوي ثمانية وعشرين بليون بيضه. وبلغ مقدار ما جمع من الجراد نفسه عشرة ملايين أقة أي نحو ثمانية بلايين جرادة سوى النطاط
واستعانت وزارة الزراعة في هذه الغارة بعدة مصالح حكومية كالمالية والمساحة وخفر السواحل وعينت دوريات من الهجانة للبحث عن الجراد في الصحاري وقد بلغت نفقات هذه الحملة سبعة عشر ألفا من الجنيهات.
وأغار الجراد بعد ذلك على مصر في أواخر سنة 1929 وأوائل سنة 1930 غارته الكبرى التي كلفت البلاد في مقاومته ربع مليون من الجنيهات.
ومن ثم أخذت وزارة الزراعة في دراسة أحوال الجراد وغاراته دراسة علمية منظمة، فأنشأت فرعا لأبحاثه ومكتبا لمقاومته، وأخذت ترسل حملات الاستكشاف في صحاري مصر وبلاد العرب لتتبع حركاته ومقاومته في مواطنه قبل أن يستفحل أمره وتصعب مقاومته، وعقدت المؤتمرات مع الدول المهددة بغارته للتعاون وتبادل الرأي في مكافحته. وقد سجل الأخصائيون المصريون بوزارة الزراعة صفحة عالمية مجيدة في أبحاث الجراد وطرق مقاومته. وقد وضعت وزارة الزراعة نظاماً دقيقاً لمقاومة الجراد كفل للبلاد الوقاية التامة من شره وأذاه.
الدكتور محمد مأمون عبد السلام(614/12)
وقفة على طلل!
للأستاذ علي الطنطاوي
(في حمى المسجد الأموي، وفي ظلال سوره العالي، بين مثوى البطل الأجل الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاسية الأثرية، وبين المدرستين القديمتين السميساطية والاخنائية، تقوم المدرسة الجقمقية الخالية المائلة - التي بناها سنجر الهلالي - وجددها الملك الناصر سنة 761 هـ ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنسبت أليه).
ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة، وذكرت ما أودعتها من عواطف، وما تركت فيها من حياتي، إلا تلفت القلب، وصفى الفؤاد، واعتجلت في النفس خواطر، وانبثقت للعين صور، أقر بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً، ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقا من النور وأوسع من الزمان. . . ولا أجد إذا أردت وصفها إلا هذا الحديث المعاد، وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرئ القيس الذي وقف واستوقف، وبكى واستبكى، يعيدونه ويرددونه، وهو ما يزال ومعناه جديد في كل قلب، سريع إلى كل لسان - فأسائل هذه الجدران المائلة، وأخاطب. . . هذه الغرف الخالية. . . وآه! لو تصف هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدث المباني! وأنىّ؟! وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!
هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها، وتتخذ لكل يوم ميزانه. فيهون عندها اليوم ما عز بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه، وقبلا كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا، أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه اثر من أنفسنا، وفيه بقايا من أعمارنا!
لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه، إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلا وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت على هذا الهوان، وقد كانت بالأمس نصف دنياي. وهل دنيا التلميذ إلا داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسي: في الصباح حين أتوجه أليها، وفي النهار حين أكون فيها. وفي المساء حين أعود منها، قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي،(614/13)
وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطرح آراءه، وأهزأ بأفكاره. وأحقر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنس حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان، على حين تبدل العقول والأجسام؟
سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة!
سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا اليه، ويتسلوا بأذكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لاحيا فيه، وأفرّ إليه من حاضر امقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السن ازداد إيغالا في عزلته، وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل نارا، نارا من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوما، وتفتح عليها من جهنم أبواباً، وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً
. . . حتى غدوت وقد رث حبلي وتصرم ألاخيوطا، طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقي سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في ليالي الطوال مؤنس أو سمير، إلا هذه الكتب التي مللتها وملتني، وصارت مودتنا تكلفاً وحديثاً مملولاً. وهذا الماضي ازداد كل يوم تعلقا به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه حقاً ولا أجرؤ على التفكير فيه
لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته عليّ أجد في ثيابه عبقاً من ازاهير الماضي الحلو الذي سر بنا جميعا يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذ، فجسنا خلال رياضه، واوغلنا في دروبه المعشبة، ومسالكه التي فتح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرف على الكهولة، وهدته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي، عاجلها الخريف الظالم ببرده وعواصفه. . . أحاول أن أرى من ورائه(614/14)
طلعة (ذلك) الصبي الفرح أبداً، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يوماً والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه، فإذا لم أرها أبت أجر رجل خائب فجع في أعز آماله، وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر، أو معلب من ملاعب الطفولة، فتشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، عليّ أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يوماً ونسيتها.
ولذلك وقفت اليوم على (الجقمقية) ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل، كما يسرق النباشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدعا لي ألا كل تافه حقير، فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟!
هذه هي المدرسة التي أودعتها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها، ماثلاً بنيانها؛ وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من دارى ورائحاً منها إليها؛ وهذا هو (الأموي) العظيم الذي كنا نعرج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشية، وما بيننا ويبنه إلا أن نخرج من باب المدرسة فيدخل من بابه، نغافل (الحسكي) ونقفز، فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف، حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا، وذهب الحافز لنا على اللعب، عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو (الأموي) لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في سعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه، ومضى الساكنون، وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غير الأموي، فلا دروسه تلك الدروس، ولا علماؤه أولئك العلماء. ولا جوه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص تخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات، ولا حانات ولا ملهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها، والرجل لأهله، والعلماء عاملون بعلمهم، مطاعون في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا، ولا يتخذونه تجارة. فيا أسفي على دمشق التي(614/15)
ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة، والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولا كَلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين، فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصى، وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة ثم نرجع متفقين، وأن نتلهى عن الدرس بقراءة قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال، وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه، فشهود خيال الظل (كراكوز) وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً. وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروف) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان.
فأين أيامنا في هذه المدرسة، وهل تعود هذه الأيام؟ أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس، الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً؛ ستين عاما وهو دائب على عمله العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالا صغارا، فيردهم إليه شباباً متعلمين، يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم، ومن إيمان في صدورهم، فتعلم من الولد وأبوه وجده. أي والله وهذه سجلات مدرسة فسلوها تنبئكم، بذلك هو الإمام الشيخ عيد السفرجلاني.
هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟ أين رفاقي فيها؟ أين من كان يجمعهم مقعد واحد، وكانوا سواء في كل شيء لا يميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس، أو ينال ثناء من أستاذ. وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدم في التلاميذ. وكان الشيخ يتخذ منه مثلا مضروبا لأبناء الأغنياء، ويبشره بالمجد والمال والرتب، وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك.
رحمك الله يا شيخنا فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلا في هذا. تعال انظر تر الدهر قد ضرب بيننا، ففرق الإخوان، وشتت الخلان، فتفرقوا في أفاق الأرض، وأنتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاً، وسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية، ومشى قوم على الورق والفل والياسمين، وحازوا المال والمجد والرتب، ولن اسمي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك!(614/16)
لا. لا أحب أن أعود إلى هذا الحاضر فدعوني استمتع بأذكار ماضي كما يستمتع المنقطع في البادية بما بقي في سفرته من زاد المدينة التي خرج منها وأضاع طريق العودة إليها. إني أبصر كل ما حولي قد تغير فأنكره وأحس كأني صرت غريبا في وطني، ولقد كنت أنا وأخي أنور العطار لا نزال نحن إلى الوطن ونراه في صفحة البدر عند المطار، وفي صفحة دجلة على الجسر. فتسيل قلوبنا رقة وشوقا، ونحن في بغداد بلدنا وبلد اخوة لنا أعزة كرام. وطريق الشام مفتوح، فكيف بمن صار يحس أن وطنه قد طواه الزمان، واختبأ وراء السنين ولم يبق إليه من سبيل؟
فيا أيتها المدرسة - خبرينا لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان - كما نملك أن نرجع في طرق الأرض؟ لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا، كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟
إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك، أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني، وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه، وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما الشر، هذا ما تمنيت أن أكونه وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب!
أني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد، ولا يذكر شيخها إنسان، أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس. أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟ إن هذا الشيخ إن لم يكن عالما مؤلفا، ولا سياسيا حاكما، ولا فيلسوفا مفكرا، فلقد بنى في نهضة دمشق ركنا لم يبن أضخم منه عالم ولا حاكم ولا فيلسوف. لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد. لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب. لقد كان مربيا بالفطرة لم يقرأ بستالوسي، ولا تعلم أصول التدريس ولكنه كان أحسن مرب رأيته. . .
. . . فيا أيها القراء لا تقولوا، ومن الشيخ عيد السفرجلاني، وماله يملأ صفحات الرسالة بأخبار نكرة في الرجال. . . فكم في ظلام النسيان من عظماء حقا، وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناسا، وهي مبنية من جامد الصخر، أو بارد النحاس!
دمشق (المحكمة الشرعية)
علي الطنطاوي(614/17)
رحلة أسوان
للسيدة وداد سكاكيني
جئت مصر من الشام في يوم وبعض يوم، تخب بنا مراكب الحديد، وأين منها مطايا البيد! حتى بلغنا القاهرة فطالعتنا مواكب النخيل على لمحات النيل، وقد غمرت الآفاق شمس حمراء مازالت منثورة الغرر، وهاجة الضياء، حتى ألقى بنا القطار على محطة باب الحديد.
دخلت مصر يتنازعني الوجوم للغربة، والشوق لبلدة طالما هفا الخيال إليها، واستقرت بها نواي وقرت بها عيني، فتغمرت من النيل، واستذريت بظل المقطم كما قال الشاعر، وقد طوفت بحدائق مصر ومغانيها، وما فاتتني مفاتن الجزيرة ومباهج الطبيعة فيها، ثم وددت أن أملأ العين من ريفها، وأستمتع بنيلها الذي يفيض على جنباتها، فمضيت في رحلة فنية إلى أسوان، أنشأها المعهد العالي لمعلمات الفنون، وهو بنية مجد للمرأة العربية، وجامعة ثقافة للمصريات، أضفت عليه عميدته الفضلى السيدة عائشة إقبال راشد من اسمها ونفسها رشداً وإقبالا.
غادرنا القاهرة مع بضع عشرة فتاة من قسم الفنون الجميلة بالمعهد، تحدوهن صديقتاي الأستاذتان إنعام سعيد وعزيزة يوسف، وهما في طليعة من أنجبت مصر من بناتها اللاتي ضممن في الجوانح حب الوطن إلى ثقافة الغرب الذي نزلن معاهده سنين للقانة الفن ونباهة الفكر، ثم عدن إلى الكنانة يطبعن الفتيات المتعلمات بمياسم التجديد، ويكشفن عن مواهبهن بالتوجيه والتسديد.
فهذه محطة باب الحديد تلقاني مرة ثانية، تحت عشية غير مبتئسة ولا واجمة، منيرة بمصابيح تكسف الشمس بسطوعها، فأين نفسي الفرحة في هذه الأمسية من قلبي المحزون حين بلغت مصر منذ عام الوحدة مهيمنة علينا؟
الآن أدرك عظمة المكان، واحسبني لولا العمائم البيض تلوح بها الهامات، والجلابيب الضافية تخفق فيها القامات، لكأني أبرح عاصمة في ديار الغرب، فقطار يؤج ويعج، وناس يغلي بهم الزمن يخفون إلى الركوب أو ينزلون من التوديع.
ودق ناقوس الرحيل فوجف القطار ثم سار تحت جنح الليل، وباتت مصر خفية في طي(614/19)
الدجى عنا، وتغورت المصابيح كلما ابتعدنا، حتى عطفت بنا الدروب وهدهدنا في مجاثمنا دوي القطار وهدير آلاته، وكاد النعاس يأخذ بمعاقد جفوننا لولا أنس الرفيقات. ولولا مرح الطالبات واستفاضة النكتة على أطراف ألسنتهن، لغططنا في سبات عميق كما يغط الطفل حين يترجح به السرير.
وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنطل من المنافذ، والركب يسري كسهم نزعه العلم عن قوس الحضارة، فنمسك رؤوسنا عن صفقة الريح، ونحبس شعرنا عن التشعيث، وهاج فينا الحنين لمرأى النيل حين سكب القمر عليه شعاعه، فانسحب كسيف من فضة مسلول على أرض مصر ليدفع عنها عاديات المحن.
وأسفر الصبح على رؤوس النخيل يلتمع الندى على أوراقه الخضر، وتستدير سعفه فتبدو من بعيد كالقباب الصغيرة، ومن قريب كالمراوح المنشورة أو المظلات المرفوعة، وصاغت لنا ذكاء وجه النيل بالذهب فتألقت تلاميعه وتلوت على حواشيه، ولاح كمرآة مجلوة تتمرى بها الطبيعة على نشيد طيبة الذي كان رقراق الماء يردده لحناً مكروراً منذ الأزل باقياً على الأبد.
وأخذ يشارفنا الريف بصوره المتشابه وألوانه الكابية، وقد انطبعت بيوته بطوابع الروح المصري القديم، فلاحوه سمر الوجوه عراض المناكب، سكبوا على الأرض عرق الجبين، وعركوها بكدح الأيدي، وطفحت شفاههم بالمباسم لصباح وضاح لا يسأم القروي الفرحة بلقائه، ولو لقي هذا الفلاح من سيده بسمة الشاكر ورحمة المالك وكان أبي الخنوع، مطبوع الميل للنظافة متقبلًا للإصلاح، لعد أعز أمثاله في الدنيا، لأن ضفاف مصر الخيرة أجود أرض للزرع والإنبات
أما نساء الريف فوديعات الوجوه منتصبات القامات، يستقبلن وجه النهار غاديات بالجرار على رؤوسهن ثم رائحات من مسارب النيل، وهن يشاركن الرجل في خدمة الأرض والأنعام، وكلما وقف بنا القطار على ديار ذكرني بأرض بلادي، فمن مشارف الشام إلى مرابع بيروت يقف أولاد القرى تلقاء القطار في المحطات، بأيديهم سلال أو قصاع ممتلئة بالفواكه، ينادون على بيعها، وصنوف الباعة طوافون بخبز وأدام على سفر بغير زاد، ولم أجد مثل هذا في مسيري على درب أسوان. وجزنا أرضاً في جوارها الأقصر الحافلة(614/20)
بالآثار، فأمعنت التحديق في تلك الجنبات التي عاشت في تضاعيفها وجوفها خيالات الأقدمين وأطيافهم، وبقيت روعة الأطلال والآثار تدل عليهم، وقد برزت من بعيد تلك العمد الفرعونية ولاحت من بين أعمدة النخيل فقلت: يا لله كأني الساعة أمضي بقطار حلب فأمر ببعلبك، وأرى عمد هيكلها الروماني تتراءى من بعيد من بين أشجار الجوز والمشمش، ورحت أذكر أرضاً على وجه الشرق تعاورت عليها الأمم من رومان وإغريق وفراعنة وفينيق، حتى بسط عليها الإسلام جناح الأمن والرحمة ووهبت لها العروبة لغة القرآن، فكان عليها خير أمة أخرجت للناس، وما نقلني من تهاويل هذا الخيال سوى بشرى الرفيقات باقتراب الوصول إلى أسوان.
وأسوان بلدة دون سعة صيداء - لبنان، تساير ضفاف النيل في مبانيها وحدائقها، وإنها لشعرية الطبيعة، هادئة المقامة، هفهافة النسيم.
على رؤوس رجالها عمائم بيض لاثوها كأنهم الهنود، ونساؤها ملتفات بالسواد ضاربات على وجوههن بخمر مصرية، سجنت الخدين وأطلقت العينين.
هنالك دعينا إلى متنزهات على النيل، فبدا ثمة نهر مصر كما يسميه أهلوها بحراً رحيب الصفحة مترامي الساحة، وحملنا ذات صباح مركب بشراع مال بنا مترنحاً على خطرات الريح، فذكرت تحت شراعه وصف شوقي (النيل نجاشي والفلك حمامة بيضاء بجناح واحد) وسألت نفسي كيف يزهد شعراء مصر وهم غنية الأدب يوصف هذه المباهج والمغاني كما زهد شعراؤنا بالشام في وصف طبيعتها ومفاتنها، وما مصر سوى النيل الذي وهب لها البركة والحياة وكتب لها المجد والخلود، فلو أحصى ما قال الفرنسيون عن نهر السين وحده لجاء أكثر من ديوان، وما نظم القدامى والمحدثون من أمم الحضارة والثقافة في وصف بلادهم تضيق به الأسفار الضخام.
ذلك دأبنا نحن الشرقيين، فننا في جيوبنا دفين، وشعورنا في جمال أرضنا وسمائنا مكبوت أو كمين. ذكرت هذا في السفينة الشراعية التي نقلتنا إلى جزيرة الملك بأسوان، التي اشتملت على حديقة واسعة فينانة، ذات أدواح باسقة عتيقة، وأشجار لفاء مثمرة حديثة الزرع أفريقية المنشأ، وقد التفت غصونها وتكاثفت أوراقها، وحشدت في الحديقة أفواف الزهر ونسقت مغارسها يد صناع، وفي هذه الجزيرة الغناء تناثرت طالبات الفنون على(614/21)
حفافي النيل وفوق مجاثم الصخور بأيديهن الألواح والتلاوين، وطفقن يستوحين الطبيعة المصرية الجالبة ويتنافسن في رسم صورها الرائعة مرضاة لمواهبهن المتفتحة واكتساباً لتشجيع رئيستهن الفنية النابغة السيدة زينب عبده.
ولاحت لنا من على عدوة أسوان قبة الهواء تتناوح فيها الريح فوق جبل أسندت فيه رشيقات الأجسام ممن احتملن نقل الأقدام على الرمال حتى أشرفن على النيل وطوفن بمقابر الأمراء ثم صعدن في الروابي والشرفات.
وزين لنا الإلمام بالقبائل التي اعتزلت في ضاحية من أسوان كأنها الصحراء، فرأينا فيها رقص بناتها وترنح شيخاتها، وإنها لزمر تسكن المدر وتعيش على الفطرة نائية عن الحضارة، وفي ضاحية ثانية تقام كل خميس سوق عامة كسوق الجمعة في صالحية دمشق، يبسط فيها للبيع كل أوعية ومتاع، ويتنافس الباعة من نسوة ورجال في عرض بضاعتهم المزجاة، ويزدحم المساومون حولها.
ثم كان يومنا الأخير في أعز ما عند أسوان وهو الخزان، فركبنا سفينة تجري بالبخار، حملتنا في مؤنس الضحى على متن النيل إلى مجثم الخزان، فإذا هو متحبس ماء جبار رابض في قاع من جلمد الصخر، شيدته معجزة العلم الحديث بين ضفتين شاسعتين ومرتفعات راسخة، حصرت الماء الذي رأيناه منبثقاً من خلال الخزان، وكأنه أسنان مشط يرجل ضفائر عروس النيل، فكان الزبد يعلو ثم يهوي فيتفجر دقيق الرؤوس ضخم الأجسام ثم تتناثر منه الأقدام برذاذ كأنه ضباب أو دخان.
وتولع بنا صبية عوامون في النيل حول الخزان، وما راعنا إلا صغير منهم أسود الأديم قفز من ارتفاع عشرين متراً فهوى إلى الماء جنبنا وكأنه بأشق حالك، ولما غاص في الماء ثم عام أخذ يتقلب وكأنه سمكة سوداء.
وكذلك عدنا من أسوان، بمسيرة يوم، معنا لذكراها أوعية من القش موشاة بالألوان ومراوح منسوجة ذوات طرر، وقلائد من العاج سآخذها معي إلى الشام لأذكر بها أسوان كما ذكرتها من قبل إذ قرأت كتب العقاد،
(القاهرة)
وداد سكاكيني(614/22)
بعد الرصافي. . .
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
الآن ختم جيل الشعر في العراق، وانطوت صفحة أخيرة من كتابه، بعد أن فاضت روح معروف الرصافي، فقد توفي صباح يوم الجمعة الماضي، المصادف 16 آذار سنة 1945 في الأعظمية ببغداد.
وبموت الرصافي تبدأ صفحة جديدة في عالم الشعر العراقي، وتنتهي سلسلة الشعراء الكبار الذين امتدت حياتهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، والذين كان أخرهم في العراق - قبل الرصافي - جميل صدقي الزهاوي.
وحياة الرصافي تختلف عن حياة كل من عاصره من الشعراء من عدة وجوه. وليس المجال متسعاً للإفاضة في تاريخ حياته، لأن ذلك لا يتسع له مجال محدود، بل الأجدر أن تقوم فئة بتدوين حياته تدويناً علمياً، ولكن نقطة الاختلاف التي أشرت إليها تنحصر في عقدة نفسية كانت بارزة فيه. هي شدة حبه المطلق للحرية بجميع معانيها، حتى لقد كان هذا الحب الجارف أشبه بالقيد الذي قيد حياته، وأثر في نفسه تأثيراً عظيماً. فهو من قبيل القيد النفسي الذي تقيد به العبيد والمتصوفون. ومن مظاهر هذا القيد الخفي في نظري، حياته الأخيرة البائسة قبيل وفاته، حيث انزوى وانقطع عن العالم، وأصبح يعيش مهملاً.
ومن المآسي النفسية أنه كان في وضعه ذاك يأنف أن يشار إلى حالته بغير ما لا يأتلف وكرامته الجريحة. فقد أذاع بياناً على الناس قبيل وفاته رفض فيه النغمة التي كانت ترددها بعض الصحف عن بؤس حالته وقال إنه يتبع فلسفة أبي العتاهية الذي يقول:
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
وهذه حركة تدل على أنفته وكبريائه الجريحين اللتين خفف من حدتهما السن والمرض.
ولقد أدى الإهمال وسوء الحال بصحة الرصافي إلى التردي يوماً بعد يوم مع أنه يملك جسماً يكاد يكون عملاقاً. ومن مميزاته الشكلية وضوح النظرة، وجهارة الصوت، وقوة العارضة.
عرف الناس الرصافي الشاعر الذي لا حدود لصراحته ولا رقيب على لسانه غير ما يعتقد، منذ زمن بعيد، كما عرف بكرمه الزائد وعدم انصياعه للضرورة مهما كان شكلها.(614/24)
وهاتان الحالتان تكفيان لأشقاء فرد في العراق لا مال له ولا سلطان، ولا يعتمد اعتماد القرابة أو النسب على ذوي المال والسلطان. ولذلك كانت حياته سلسلة من تشرد ضيق الحدود، فيه فوق صفة التشرد التزام الحشمة التي ينبغي على رجل كالرصافي أن يؤدي جزيتها.
فمن غريب المفارقات أن الرصافي كان يستخدم اسمه وشهرته وحب الناس له في قضاء حوائج غيره ممن لا يرتدعون عن اللجوء إليه في طلب الشفاعات، ولعله كان أجدرهم بطلب الشفاعة لو أنه كان يأبه للضروريات، ولو أن نفسه تقيل التوسيط والرجاء.
ولقد نبذ الزي المدني منذ زمن والتزم زي البدو من العشائر، وسكن قبل مدة في الفلوجة إحدى القرى القريبة من بغداد، وعاش عيشة المتزهدين المتصوفين، ثم انتقل إلى الأعظمية قرب بغداد حيث ختمت بها أيامه.
وهذا التغير هو الآخر يدل على حبه للحرية، فإنه لم يرض أن يتقيد بالزي (الأفندي) وقبل أن يلتزم قيد اللباس العربي البدوي. ولعله لم يشعر بالنقلة شعور الذي يتفرج عليها، بل لعله لم يشعر بها مطلقاً.
لا أظن قلباً إنسانياً ينبض بحب الإنسانية لا تحركه هذه الكلمات البسيطة من وصية الرصافي التي كتبها قبل أن يموت
(لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه فهو بالخيار، إن شاء عفا عني، وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين).
في هذه الكلمات أتخيل الرصافي كالأسد الجريح. الأسد الذي هدت من حياته تصورات الموت وسخف الحياة الماضية. إن هذه النغمة ليست نغمة المستكين الضعيف، ولكنها نغمة القوي الذي وضح لعينه سخف القوة والأقوياء.
لقد كانت في حياة الرصافي عدة دروس جديرة بالاعتبار. ومما لا شك فيه أن ستقوم هنا وهناك حفلات التأبين، وسنسمع أصوات أولئك الذين يمجدونه ويلهجون بحمده وحمد شعره وآثاره. ولكن لن يكون لكل هذا من جواب من الرصافي نفسه، لو أنه يطلع عليهم من(614/25)
وراء الحجب، غير ضحكة الاستهزاء والسخرية. فما كان أكثر تعريضه بهذه الأساليب التكريمية وقلة جدواها
هل سنتعظ من درس الرصافي هذا؟
أشك في ذلك.
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(614/26)
الأفغاني والوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
- 2 -
بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، اشتد إمعان تركيا في الضغط على الشرق والاستبداد بأبناء العروبة حتى فيما يمس دينهم وينال اختصاصهم، ومن ناحية أخرى أخذ طمع الاستعمار الأوربي يفتح فاه على الشرق يريد التهامه ويطمع في ابتلاعه، وقد ابتدأ يتخطف أجزاءه، ويتحيف جوانبه. مرة بالحيلة، وأخرى بالوقيعة، وثالثة بالسطوة والقوة، وكان من هذه (الرزايا التي حلت بأهم مواقع الشرق أن جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة علل الضعف، مؤملين أن يسترجعوا ما فقدوا من القوة، راجين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسناً يسلكونه لوقاية الدين والشرف،. . وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي، ولا يقصرون في الجهد)، وكان رأس هؤلاء المصلحين الداعين السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه.
هال الأفغاني أن يرى الشرق بين أنياب الاستعمار الأوربي تنوشه من كل جانب وتدميه في الصميم من قلبه ووجدانه، ومع هذا فهو يغط في سبات عميق، وأهله في فرقة كلها التخاذل والتنافر، والدولة التي تحمل لواء الخلافة ليست لها صلات صحيحة - كما يقول - بأمم الشرق وأقطار العربية، وقد كان الرجل يعجب أشد العجب إذ (يرى للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم ويقينهم، يباهون بها من عداهم، حتى ليشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء) ومع هذا يراهم (في شقاق مقيم، وتنافر أليم، وغفلة عما ينتظرهم، ويلم ببعضهم).
أقول هال السيد الأفغاني ما رأى وما كان يتوقع من مقدمات الحوادث، وأفزعه ذلك الشتات في الجامعة الإسلامية، وتحقق له أن الفرقة علة الشرق المتوطنة، وداؤه المتمكن، فنهض يصيح (بأرباب الغيرة من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحجة والحق ألا يتوانوا فيما(614/27)
يوحد جمعهم، ويجمع شتيتهم، وأن يتعاونوا على صون الوحدة عن كل ما يثلمها، فيكونوا بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة، وطلبوا سعادة، والرمق باق، والآمال مقبلة)، ولقد كان ذلك المصلح العظيم يرى أن قيام هذه الوحدة للمسلمين (مما تقضي به الضرورة، وتحكم به العادة، حتى يقيموا بذلك سداً يحول عنهم تدفق السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب، ومن ثم ظل طول حياته ينهض بهذه الدعوة وينادي بضرورتها في كل مناسبة سانحة، وفي كل مكان تنزل به قدمه، ثم أراد أن ينظم سبيل الدعوة، وأن يقوي من صوتها وأغراضها، فأنشأ جمعية (أم القرى) وهو في مكة لتدعو إلى الجامعة الإسلامية تحت لواء خليفة واحد يسيطر على العالم الإسلامي أجمع، ثم ألف جماعة (العروة الوثقى) وهو في باريس من مسلمي الهند ومصر وشمال أفريقيا وسوريا، وأصدر بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده مجلة (العروة الوثقى) لساناً لحالها وتعبيراً عن أغراضها، وكان هدفها وحدة المسلمين وإيقاظهم من سباتهم، وتنبيهم إلى المخاطر التي كانت تهددهم، وإرشادهم إلى سبل مواجهتها والتغلب عليها.
كانت دعوة جمال الدين تتلخص في أن الوحدة بين المسلمين ضرورة تقضي بها الطبيعة والعادة، ويؤيدها العقل والنقل، وتقرها شواهد التاريخ للجماعات البشرية، وعوامل الاجتماع والألفة بين الأمم والشعوب، وكان يضرب لذلك الأمثال والسوابق في تاريخ الوحدة الإسلامية في الصدر الأول. والوحدة الجرمانية في العصر الحديث، أما المبررات والدعائم التي تقوم عليها هذه الوحدة، فقد أشار إليها إشارة عابرة في إحدى مقالاته إذ يقول: (إن من أدرنه إلى بيشاور دولاً إسلامية متصلة الأراضي متحدة العقيدة لا ينقص عددهم عن خمسين مليوناً، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، فلو اتفقوا فليس ذلك ببدع بينهم. .)، ومعنى هذا أنه يرى أن الدعائم لتحقيق الوحدة ترجع، أولاً: إلى اتصال الأراضي وتجانس الوضع الجغرافي بين الأقطار الإسلامية، وثانياً: إلى اتحاد العقيدة التي تربط القلوب وتؤلف النفوس وتوحد بين الإحساس والاتجاه، وثالثاً: كثرة العدد، وهذا مما يجعل الوحدة قوة يحسب حسابها ويخشى بأسها، ورابعاً: ما يتجلى فيهم من صفات الشجاعة الموروثة ومآثر الرجولة الكامنة، وهذا ما يقوي الأمل في قدرة الوحدة على مواجهة الخطوب والتغلب على الصعاب التي تحيط بها، وحطم الأنياب المسنونة لا(614/28)
نتهاشها.
ثم يشرح الأفغاني غاية ما يرجو في قيام الوحدة، ومدى ما يطمع فيه من الوضع الذي تتحقق به فيقول: (لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، فإن هذا ربما كان عسيراً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى جهده لحفظ الآخر ما استطاع، ويعتقد أن حياته بحياته، وأن بقاءه ببقائه، على أن تكون أول صيحة تبعث على الوحدة وتوقظ من الرقدة، صادرة من أعلاهم مرتبة، وأقواهم شوكة. .)، وهنا يبدو الرجل في الواقع حكيماً فطناً، وسياسياً عالماً ببواطن النفوس، فلم يركب الشطط في الطلب، ولم يسرف على نفسه وعلى الناس في الخيال، فيرجو وحدة يكون مالك الأمر فيها شخصاً واحداً، لأنه كان يعرف أن الأنانية المتسلطة على نفوس أهل السلطان لا تؤهلهم إلى إنكار ذاتهم ونسيان أنفسهم، ولا تسمح لهم بفناء أشخاصهم في شخص واحد من أجل مصلحة المسلمين ووحدتهم العامة، ولهذا وقف في رجائه عندما يسمح به الواقع، وتحود به الطبائع، ويكفي في تحقيق الغرض، ولعل الأفغاني لم يقتصد في وجه من وجوه الدعوة كما اقتصد في هذا الموضع الدقيق الذي كان يتعاظمه الناظرون في مسألة الوحدة، ويرونه عقدة المشكلة وعقبة الطريق، فتغلب عليها الرجل بالتغاضي عن مظاهر السلطان الشكلية، وإن كان أحكم الرباط المعنوي في القصد والغاية، والشعور والاتجاه، حتى يكون الجميع يداً واحداً، ووجهة متفقة، وقوة دفاعية لصد التيار الجارف، وهذا غاية ما تطلع إليه الآخذون بخطة الأفغاني من بعده، وهو الوضع الذي قام عليه (بروتوكول) الجامعة العربية وميثاقها في هذه الأيام.
وتحدث الأفغاني عن الأداة التي تهيئ للوحدة، وتجمع حولها العواطف والميول، وتغرسها عقيدة في النفوس وفي القلوب، وحاول أن يجد هذه الأداة في الصحافة التي كانت قائمة في أيامه، ولكنه لم يكن على ثقة بها، يراها قليلة الغناء والفائدة، وضرب المثل بما كان من سوء تأثيرها ودعوتها إلى التفرق والانقسام وتبديد بقايا الالتئام، وجعلها النوافذ والخصاص في بنيان الأمة أبواباً ليدخل منها الأجنبي، وكان هذا رأيه في ناشئة المدارس المدينة في مصر وتركيا لأنهم أضعفوا الأمة بدلاً من أن تنال بهم القوة والمنعة، وكل بضاعتهم التفيهق بألفاظ الحرية والوطنية والمدنية، وهم لا يدركون مغزاها ومرماها، ولا يقدرون(614/29)
تكاليفها، وغاية ما لهم هو الإسراف في تقليد الأجانب والانسلاخ من قوميتهم، فكان أن تجاوز الرجل الأمل في هذين العاملين، وانتهى في اختيار الأداة إلى العلماء العاملين، وجعلهم مناط التكليف للقيام بهذه المهمة وطلب منهم أن يكون لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، وقد وضع لهم في ذلك برنامجاً منظماً محكماً إذ يقول: (ومن الواجب من العلماء قياماً بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أن ينهضوا إلى إحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطاً لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منها حلقة في سلسلة واحدة، إذا أهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقل واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها في معهد بيت الله الحرام حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون ذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الإفهام وصيانة الدين من البدع. .)
هذه هي الأداة التي وقع عليها اختيار الأفغاني، وهذا هو البرنامج الذي وضعه لدعاة الوحدة وألسنتها، والظاهر أن الرجل في هذا الاختيار وهذا الإيثار قد تمثل أمامه ما كان لهذه الأداة من القوة والسلطة في الصدر الأول، وما كان للعلماء والأمة والوعاظ يومذاك من صلة محكمة بشئون الدين والدنيا، وأمور السياسة والملك، وأحوال الناس والعباد، ثم ما كان في نفوسهم وفي قلوبهم من إباء في الحق، وغيرة على الصدق، وعزة ترتفع بهم عن منازل الخضوع والخنوع، ولكن أين هم أولئك الوعاظ والخطباء والأئمة حتى يعلق بهم السيد الأفغاني كل الأمل في رأب الصدع، وجمع الشمل، وبناء المجد. لقد وقع الرجل بحسن ظنه بعيداً عن الحقيقة، واهماً في الأمل، ولو أنه تكشف بواطن الأمور في هذه المسألة لتبين أنه اختار للأمر أداة بطل عملها، وتفككت أوصالها، وفقدت قوتها، حتى أصبحت في نفسها وفي وضعها جزءاً من العلة، وأصلاً من أصول الداء، وعجيب أن يكون هذا أمل(614/30)
الأفغاني في العلماء والوعاظ والأئمة، وهو الذي اصطلى نارهم، وحرق بسعيرهم، وقضى حياته يشكو المناهضة منهم، والمضايقة من جمودهم وجحودهم للدين والحق تملقاً لأهل السلطان والسياسة، وهكذا عاش تلميذه الأستاذ الإمام من بعده. ولو أن العمر امتد بالأفغاني إلى تلك الأيام، ورأى ما كان من تطور الحوادث والأحداث، وعلم الزعماء والرجال الذين جاهدوا لمجد الشرق العربي، ومدافعة الاستعمار الأجنبي، وليس فيهم رأس من أولئك العلماء والأئمة والخطباء، إذن لتنكر لرأيه، ولبارك رجالاً أساء الظن بهم، فكان القادة منهم، والطلائع من بين صفوفهم.
وأخيراً ينتهي الأفغاني في الرأي إلى أن يكون لهذه الوحدة الدينية قبلة، هي قبلة الدين، ووجهة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فاختار مكة المكرمة لأنها كما يقول: (مبعث الدين، ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل والحقير، والغني والفقير، فكانت أفضل مدينة تتوارد إليها الأقطار، ثم تنبث إلى سائر الجهات. . . وما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم حتى تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب. .)، ومن ثم كان السيد الأفغاني يطمع في أن يكون موسم الحج مؤتمراً عاماً يتلاقى فيه المسلمون بآمالهم، ويتعهدون فيه شؤونهم ومصالحهم، ويؤكدون به غاياتهم وروابطهم، وإنها لفكرة قويمة جليلة لو استطاع القائمون بأمر الإسلام والقوامون على المسلمين الانتفاع بها، لكانت للأمم الإسلامية قوة روحية لا تنفد، وعدة تعينهم على مواجهة الشدائد والصعاب، وذخراً يملأ نفوسهم بالسمو والطموح إلى آفاق المجد والارتباط المتين لاستقبال الغد.
للكلام صلة
محمد فهمي عبد اللطيف(614/31)
فلاسفة المجتمع
الصراصير. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
قال لي صاحبي ليعلم ما بي. . . مالك كأن أمراً ذا بال استقل بك عن دنيا الناس. قلت: صدقت فراستك يا صاحبي على ندرة ما تصدق؛ فقد انفرجت الهوة بيني وبين دنيا الناس، وأصبحت مشغولاً بتوافه المخلوقات في دنيا الصراصير. . . وهذه الطائفة من هوام الأرض هيئة ضئيلة الخطر؛ لأنها تألف بإملاء طبعها عليها، ودفع تكوينها لها، (الجدار) المتداعي من (بيتك) الذي يريد أن ينقض وتريد أنت أن تقيمه، فلا تريد له هذه الصراصير بقاء أو سلامة، هي جادة في عبثها وأنت جاد في حذرك منها والهزيمة على البائس منكما. . .
ومن فلسفة الحياة أحيانا، أن تقذف بالسوس في لفائف العود الباكر فإما أن يتقصف أو يستطيل على الريح!!
ومن فلسفتها كذلك أن تحترم عزمة الكاسر الضاري وتشد وثاقه وتطلق عليه (الفيران) تلتطم بجبهته وتتساقط حواليها ولن تظفر بعد ذلك منه بغير تثاؤب طويل.
أعود بك يا صاحبي لقصة الصراصير. . . فهي في فلسفتها ليست بأقل شأنا من فلسفة السوس مع العود الباكر، أو جماعة الفيران مع الضاري الكاسر، وما أخالك تستريح للاسترسال في اكتناه أسرار هذا الفريق الآخر من فلاسفة المجتمع.
أعود فأقول لك: إنك إن يئست من اتقاء شر هذه الحشرات فأنت مقدم بذلك كافة جدران بيتك هدية لفتكها وعملها الخبيث.
هي مولعة أن تأكل اللبنات الطيبة، فان لم تجد جداراً تقوى عليه، انقلبت يعدو بعضها على بعض، فتتآكل وتفنى، والموقف منها ذو حيلتين: إما إن تقيم معها على الضيم الرخيص وفي ذلك اعتراف بها، وتقويم لوجودها. . . ثم فيه أخيراً تشجيع لها لتمضي على سنتها التي درجت عليها، من الاختلاف إلى كل جدار؛ تتكاثر في قاعدته، ثم تنسرب جماعاتها في تجاليدها المظلمة، تكد وتجهد، حتى يتطامن الجدار ويصبح كله قاعدة. فإذا البيت لا يصلح إلا لهذه الصراصير. . . وحيلتك الثانية معها أن تنزح وتتركها في الزوايا المظلمة؛(614/32)
تعبث وتلهو، وتجنب نفسك بذلك فضل إحساسها بشعورك بها. . .
. . . فانتقض صاحبي قائلا: أو ترضى يا أخي أن تهزم وتنتصر الصراصير!
قلت: هي على تلك الحالتين منتصرة، تعوز رب البيت وسائل التطهير.
ثم أنسيت أنت قول الرجل العربي (خير لنا أن تغلبنا قضاعة من أن تغلب قضاعة). . . قال: وما قصة قضاعة هذه؟ فقلت: هي قصة تلخص فلسفة مجتمع مضى كان صريحاً واضحاً. تربى في كنف فلاسفة الرجال ولم يتلق تعاليمه ونظمه الاجتماعية من فلاسفة الصراصير؛ تلك الطائفة الحائرة المحيرة. . . فاطمأن صاحبي في جلسته، وأخذ يفرك جبهته بأنامله قائلا: بدأت أفهم يا أخي فقلت: وأنا بدأت أفكر في ادخارك لحديث آخر يكون كله مفهوماً، أعرض لك فيه صوراً ناصعة، لطراز آخر من فلاسفة المجتمع الحديث.
أحمد عبد المجيد الغزالي(614/33)
رسالة الفن
4 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
التمثيل
كنت أتحادث مع رودان بمرسمه في أصيل يوم من الأيام، وقد أخذ الظلام يرخي سدوله فسألني فجأة:
(هل سبق لك أن عاينت تمثالاً قديماً على ضوء مصباح؟) فأجبته في شيء من التعجب: (كلا، أبداً).
(حسن، سأدهشك. فلربما بدا لك أن معاينة التماثيل في غير ضوء النهار أمر غير مألوف. صحيح أنك تستطيع أن تستجليها على أكمل وجه في وضح النهار ولكن تمهل قليلاً فسأطلعك على تجربة تخرج منها بفائدة محققة).
وعند ذلك أشعل مصباحاً أخذه بيده ثم قادني إلى تمثال من رخام قائم على منصة في ركن من أركان المرسم. كان نسخة جميلة مصغرة من تمثال زهرة مديسي وقد احتفظ به رودان هناك كيما تستعر به نار وحيه وإلهامه عندما يعمل.
(اقترب مني) قال ذلك ثم رفع المصباح إلى جانب التمثال وقربه منه حتى كاد يلمسه، وسلط الضوء كله على الجسم، ثم سألني عما عساي أن ألاحظه. ولأول لمحة أخذت أخذاً عجيباً بما بدا لي فجأة إذ أظهر الضوء وهو من ذلك الوضع نتوءات وانخفاضات هينة عديدة منتشرة على سطح الرخام مما لم أكن أتوقع مشاهدته. وهذا ما أجبت به رودان على سؤاله فصاح موافقاً: (حسنا، انتبه جيداً). وعند ذلك أدار المنصة التي يقوم عليها التمثال. وكنت لا أزال أبصر في جسم التمثال وهو يدور عدداً عديداً من تلك الفحصات التي تكاد تدق على الأعين. وبدا لي ما كان بسيطاً في أول الأمر غير بسيط، وإذ ذاك رفع رودان رأسه وصاح مبتسماً: (أليس ذلك عجيباً؟ اعترف بأنك ما كنت تتوقع اكتشاف الكثير من تلك التفاصيل. انظر إلى تلك التموجات العديدة على الجزء الذي يصل الفخذ ببقية الجسم.(614/34)
لاحظ كل انحناءات الورك الشيقة، ثم هنا تلك، الفحصات المليحة الفاتنة التي على طول الأرداف).
قال ذلك في صوت خفيض به حرارة التعبد ونبرات الخشوع وقد انحنى فوق التمثال كأنما شغف به حباً وقال: (حقاً إنه من لحم). ثم لمعت عيناه وقال: (يخيل إليك أنه قُد من العناق والقبل لا من الحجر الصلد). وبعد أن وضع يده على الدمية قال فجأة: (عندما تلمس هذا التمثال تحس كأن الحرارة تسري فيه) وبعد لحظات قليلة عاد فقال:
(حسن. وما قولك الآن في تلك الفكرة السائدة عن الفن الإغريقي؟ يقولون، وأخص بالذكر أصحاب المدرسة القديمة الذين نشروا هذه الفكرة، إن القدماء في عبادتهم للمثل الأعلى احتقروا الجسد أيما احتقار وأرخصوا من شأنه وأبوا أن يظهروا في أعمالهم دقائق الحقائق المادية العديدة. يدعون أن القدماء أرادوا أن تجاريهم الطبيعة في خلق جمال متخيل مبسط يروق للذهن فقط ولا يستثير الحواس. ويضربون لذلك الأمثال التي يتوهمون أنهم وقعوا عليها في الفن القديم، ويتخذون من ذلك حجة على تهذيب الطبيعة وتخنيثها وقصرها على حدود ضيقة جافة فاترة عقيمة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
ومما لا مشاحة فيه أن الإغريق بالغوا في إظهار ما يجب إظهاره بما أوتوا من عقول منطقية جبارة. لقد أفصحوا عن أهم المميزات البارزة في النوع الإنساني، ومع ذلك فإنهم لم يطمسوا شيئاً من التفاصيل الدقيقة الحية. إنهم كانوا يقنعون بمزجها وإدماجها في المجموع. وبينما تراهم مولعين بالحركات المنسجمة المتزنة الهادئة تراهم يخضعون أو يضعفون في غير ما تعمد كل ما شأنه أن يؤثر في جمال أو رواء حركة من الحركات، ولكنهم تحاشوا أن يمحوها كل المحو.
إنهم لم يبتدعوا قط طريقة أو أسلوباً من العمايات والأضاليل، كان ديدنهم أن يظهروا الطبيعة كما يرونها، يحدوهم في ذلك حبهم واحترامهم لها. ولقد أثبتوا إثباتاً قاطعاً في كل المناسبات شغفهم الشديد بالجسد. وإنه لمن البله أو الخبل أن نعتقد أنهم كانوا يحتقرونه، إذ لم يثر جمال الجسم الإنساني شعوراً أرق وأعمق مما أثاره في نفوس الإغريق، حتى لتبدو تماثيلهم التي نحتوها كأنما يطيف بها طائف من النشوة والوله. وعلى هذا الأساس يفسر الفارق العظيم الذي لا يتصور بين المثل الأعلى الزائف عند المدرسة القديمة وبين الفن(614/35)
الإغريقي. فبينما نرى في أعمال القدماء أن تعميم الخطوط ما هو إلا مجموع أو (كل) يتكون من التفاصيل والدقائق، نرى التبسيط المدرسي خوراً وضعفاً، نراه خاوياً كالطبل الأجوف. وبينما نرى الحياة تهيمن على عضلات التماثيل الإغريقية النابضة وتبعث فيها الحرارة والدفيء نرى دمى الفن المدرسي كأنما أثلجها الموت). وهنا صمت رودان هنيهة عاود بعدها حديثه قائلا:
سأطلعك على سر عظيم. أتدري كيف أمكن أن نحس دبيب الحياة في تمثال فينوس الذي نحن بصدده؟ بواسطة علم التمثيل. ولربما بدت لك هذه الكلمات تافه عادية ولكن صبراً فستسبر غور أهميتها بعد حين.
أخذت علم التمثيل عن معلم يسمى كنستانت كان يعمل في المرسم الذي ظهرت فيه أول مرة كمثال محترف. فبينما كان يراقبني يوما وأنا أعمل في رأس يكلله إكليل من الغار إذ صاح بي قائلا: يارودان! إنك لا تسير بهذا في الطريق السوي. فكل أوراقك منسطحة ولهذا فهي لا تبدو طبيعية. اجعل أطراف بعضها متجهة نحوك حتى يشعر من يراها أن لها أبعادا وأغوارا. عملت بمشورته؛ ولشد ما دهشت من النتيجة التي حصلت عليها.
ثم عاود كنستانت نصيحته قائلا: فلتذكر دائما ما سأقوله لك الآن. عندما تطبع في الطين أو تحفر لا تنظر إلى الجسم في طوله ولكن في ثخانته، ولا تعتبر سطحاً من السطوح إلا كحد أو نهاية لحجم ما، أو كالطرف الذي يوجهه إليك ذلك السطح. إنك أن تمارس ذلك تحصل على علم التمثيل؟ ولقد وجدت هذه القاعدة مفيدة أيما فائدة. ومن ثم طبقتها على صنع التماثيل. فبدلا من أن أتصور أجزاء الجسم مسطحات كثيرة الانبساط أو قليلة أبرزتها كنتوءات ذات أحجام داخلية. وقد حاولت جهدي أن يدل كل نتوء في الصدر أو الأعضاء على عضلة أو عظمة تحت الجلد، وهكذا يبدو صدق تماثيلي منبعثاً من الداخل كالحياة نفسها لا سطحياً تافها.
ولقد تبين لي الآن أن الأقدمين مارسوا هذا الضرب من التمثيل بحذافيره. ومما لا ريب فيه أن ما نراه من نضارة وطراوة أعمالهم التي تنبض بالحياة إنما يرجع إلى اتباعهم هذه الطريقة في أشغالهم.
وهنا تأمل رودان تمثال الزهرة من جديد ثم سألني فجأة:(614/36)
(ما رأيك ياجيزيل؟ هل اللون صفة من صفات التصوير أو النحت؟)
فأجبته: (من صفات التصوير طبعا).
فقال: (حسن. انظر إلى هذا التمثال). قال ذلك ثم رفع يده بالمصباح إلى أعلى ما يستطيع لكي يلقي بكل الضوء على صدر الدمية ثم قال:
(انظر إلى الأضواء القوية التي على الثديين، وإلى الظلال الثقيلة التي في ثنايا اللحم، ثم إلى هذه الصفرة الباهتة، ثم إلى تلك الألوان الأثيرية التي تخفق على أدق أجزاء هذا الجسم المقدس، ثم إلى تلك الأجزاء المظللة بظلال خفيفة حتى لتبدو كأنها تذوب في الهواء وتندمج فيه. ماذا تقول في كل ذلك؟ ألا يخيل إليك أنها قطعة موسيقية مؤلفة من الأبيض والأسود أو من الأضواء والظلال؟)
(وربما بدا لك في قولي بعض التناقض الظاهري إذا ما قررت بأن المثال العظيم لا يقل مهارة في فن الألوان عن أكبر المصورين، بل عن أكبر الحفارين وذلك لأنه يتفنن بكل حذق في كل ضروب التمثيل البارز وصنوفه، ويمزج حدة الضوء بهدوء الظل فتجيء قطعة سارة ممتعة كأجمل الرسوم المنقولة عن ألواح النحاس
والآن - وقد ازدت أن أصل بحواري إلى هذه النتيجة - أقول إن اللون هو زهرة التمثيل الجميل، وإن اللون والتمثيل صنوان لا يفترقان، وهما اللذان يسبغان على كل قطعة خالدة من أعمال النحت ذلك المظهر الوضيء للجسم الحي).
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين(614/37)
من وراء المنظار
بين الأرقام والأحلام
كنت أذهب مساء كل يوم إلى حديقة نادي الموظفين في عاصمة من عواصم مصر العليا فأجلس في ركن هادئ من أركان تلك الحديقة الفسيحة ساعة أشاهد قرص الشمس وهو يغيب خلف التل في إحدى عدوتي الوادي.
وكان لا يدنو مني هناك إلا رجل إنجليزي حاسر الرأس سريع الخطى أراه كل يوم وفي إحدى يديه ساجور كلبه وفي الأخرى عصا غليظة يدخل من باب النادي في ساعة معينة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، حتى لقد كنت أضبط ساعتي على مرآه كما أضبطها إذا انتبهت إلى صوت المدفع. وكان الرجل متى بلغ النادي يجري في حديقته ساعة يلاعب كلبه كما يفعل صبي في العاشرة، ثم يدع الكلب ويجلس غير بعيد مني على كرسي، ويمد رجليه على آخر، ويفتح كتاباً يخرجه من جيبه فيقرأ بعض الوقت ثم يبرح وكلبه النادي عند ساعة لا يتقدم عنها كذلك ولا يتأخر.
وتعارفنا أنا ومستر (للي) وهذا اسمه إلى وأنس (جوي) وهذا اسم كلبه. وأحسست من الرجل ما يشبه طبيعة المصري في سرعة الألفة، وذكرت له ذلك فضحك وامتدح في كياسة هذه الطبيعة المصرية قائلا وقد لمح على محياي ما داخلني من سرور: (هذا بعض ما أحببت من شمائل شعبكم الطيب؛ وقد عرفت الكثير منها من مخالطتي عملائي هنا في بنك بركليز).
- (هالو! مستر خفيف! سعيدة). . . . . . التفت ذات مساء على تحية مستر للي هذه يلقيها إلي بالعربية ضاحكا، ثم تقدم إلي وصافحني كما نفعل نحن المصريين كلما التقينا، ولو وقع ذلك في اليوم مائة مرة.
- (جوي! جوي! العب وحدك اليوم فلن أشاركك مرحك. . . . . . إن في توثبك دعوة إلي ولكني لن ألبيها؛ إني متعب من زحمة الأرقام في رأسي طول اليوم).
وكان الرجل يخاطب كلبه بلغته الإنجليزية كما لو كان يخاطب ابنا له. ثم التفت ألي قائلا: (لينصرف كل منا إلى كتابه فبنفسي ميل إلى القراءة) وبعد مدة ألقى كل منا كتابه ودنا مني ذلك الإنجليزي باسما وهو يقول: (والآن فلنتحدث).(614/38)
وتبادلنا الحديث وانتقلنا من موضوع إلى موضوع حسبما اتفق؛ وكثيراً ما عدنا إلى الحرب ومآسيها وأنبائها. ثم تحدث مستر للي عن وحدته وكيف يعيش هو وكلبه. ثم استدرك قائلا: (هذا إذا لم نعتبر الكتب وما في بطونها من ناس، فهؤلاء تغص بهم الكتب أو يزدحم بهم البيت!).
وسألته عن كتابه الذي ألقاه الساعة من يده، فأجاب متهللا: (هذا مختارات من شعر تنيسون. . . لشد ما تعجبني موسيقاه ومعانيه! أجل لشد ما يبهج نفسي ويؤنس وحدتي تنيسون العظيم!. . . إني لأقدمه على الشعراء ما عدا شكسبير وملتن. . . آه لهذا الساحر!).
وكان الرجل في كلامه عن الشعر والشعراء فياض المعاني بادي التحمس. وقد بدا وجهه الوسيم المتورد كوجه غلام في أول الشباب، وظللت أنصت إليه متعجباً من هذا الذي يقضي نهاره بين الأرقام في المصرف ثم يختتمه باللعب وقراءة الشعر. وزادني إعجابا به أنه يقضي وقتاً طويلا من ليله يقرأ ويستمع للموسيقى إلى جانب المذياع.
ولشد ما أبهج الرجل أن رآني أحب ذلك الشاعر كما يحب؛ وأنصت إلي فرحا وأنا أطري بعض قصائده ثم قال: (لابد من الشعر في هذه الدنيا. لاشيء يسمو بالنفس الإنسانية كما يسمو بها الشعر. لا تصاحب من لا تجد في نفسه شعراً. . . إنني طول نهاري بين الأرقام فما كان أشقاني لولا الشعر والموسيقى. ثم هذه الحرب ما كان أتعسني بويلاتها لولا هذا الروح العلوي. . . حقا إن القراءة أعظم متعة)
وكانت الشمس قد مالت لتغيب خلف التل في العدوة القريبة، وانعكست خطوط من التل على قبة السماء، وطرزت حواشي الأفق حمرة الشفق، ثم زحفت ظلال الطفل لتشرب هذه الحمرة، وتراءت القلاع البيض على صفحة النهر الأزلي يزيد بياضها خضرة الزرع على جانبيه! والتفت صديقي الإنجليزي قائلا: (مد عينيك! هذه قصيدة رائعة فلنصل لحظة).
وصلينا خاشعين لحظة طويلة، ونهض صاحبي وهو يقول: (إن هذا التل وهذا النهر ليملآن نفسي بخيال الماضي، فضلا عما يريانني من صور الجمال) ونادى الرجل كلبه ثم قال وهو يشير إليه (إني أحب هذا الكلب لأنه شديد الإحساس بالحياة، ولذلك سميته جوي. . . آه كم أحب أن ألعب مثله فأشعر أني صبي وأنسى أني في الرابعة والخمسين!)(614/39)
ووضع الرجل عصاه على ذراعه والساجور في عنق جوي وانصرف قائلا: (هذا برنامج كل يوم؛ ألست تحب ذلك؟
ولكم أحببت ذلك وأحببت هذا الشاعر وأغرمت بخياله الذي حبب إليه الحياة أو هونها على نفسه.
الخفيف(614/40)
رضا الفاروق
(إلى صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا)
للأستاذ محمد الأسمر
(الأبيات الآتية نظمها الشاعر الكبير الأستاذ محمد الأسمر
بمناسبة إبلال صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا رئيس
الديوان الملكي من مرضه الذي فاجأه وهو يشيع جنازة
اللوردموين، منتدباً من لدن حضرة صاحب الجلالة الملك
المعظم، وقد كتبها لرفعته الخطاط المبدع الشيخ محمد عبد
الرحمن، وأحاطها بزخرف من فنه الجميل، فجاءت إحدى
طرائف القلم، ونحن ننشرها بمناسبة إبلال رفعته من مرضه
الأخير).
تماثلَ للشفاء عظيمُ قومِ ... إذا مصرُ اشتكت كان الدواَء
عرفناهُ الشجاعَ، فكم دعته ... شجاعتُه، وكم لبَّى الدعاء
سلوا عنهَ الأمورَ إذا ادلهمَّتْ ... سلوا عنه (الرمال) أو (الهواء)
كفاهُ أنه - تفديه نفسي - ... يُقدمُ نفسهُ أبداً فداء
مشي بالأمس ليس يكاد يمشي ... يغالبُ عزمُه الداء العياء
يتابعُ خطوَهُ، والموتُ فيهِ، ... كذا شاءتْ رجولتهُ وشاء
أروني غيرهُ لمح المنايا ... تخف لهُ فما رجع الوراء
مضي قُدُماً يؤدي ما عليهِ ... لواجبهِ؛ فما أسمى الأداء
يُجّثم نفسه أشياء ينسى ... لديها الصارمُ الماضي المضاء
نجا من فتك (غادرةٍ) تمشَّتْ ... لصدرٍ ما حوى إلا الوفاء
ولو عرفتهُ ما عرفتهُ يوماً ... وصدَّتْ عن جوانحه حياء(614/41)
فلولا الله لاقت مصر منها ... ولاقي كلُّ مصريٍ عناء
تساءل معشرٌ عما شفاهُ؟! ... رضا (الفاروق) كان له الشفاء
رعاه الله من ملكٍ كريمٍ ... يرفُّ على رعيتهِ لواء
محمد الأسمر
خواطر في الظلام!
(من ديوان (فوق الحياة) الذي يصدر قريباً)
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
- 1 -
أَيُّهذا الغريقُ في الهمِّ يا قَلْـ ... بي سُدًى تَرتَجي نسيمَ الهناءِ
ليسَ للحزنِ يا فؤادي قرارٌ ... أنتَ فيه تغوص دون انتهاءِ
مزَّقَ الصخرُ في الشواطئ جَنْبي ... كَ، إذا أنتَ رُمْت بعضَ النجاءِ
اجتنبْ هذه الصخورَ حراباً ... لك مسنونةً ذوات مَضاءِ!!
فعسيرٌ أراكَ تَدمَى مَزِيقاً ... إنا فيكَ يا ثمينُ. . . بقائيِ
وعسيرٌ أراكَ تَنْشقُّ يا قلـ ... بي أمامي فَتَستفَيض دمائيِ!
فَدَعِ الصخرَ والشواطئَ، واهبطْ ... ما يشاءُ المقدورُ في الْبُرَحاءِ
إنَّ تلك المهاويَ السودَ حتمٌ ... أن تعاني بها صنوفَ البلاءِ
ولئن كنتَ يا فؤاديَ تشتا ... قُ إلى العيشِ فوقَ سطحَ الماءِ
فارتقبْ موجةً من القاعِ تسمو ... بكَ نحو السني ونحو الهواءِ
إنما البحرُ قُلَّبٌ يا فؤادي ... شأنُ هذي الحياةِ والأحياءِ
بينما قاعه على السطحِ أموا ... جٌ عوالٍ تنال ثوب السماءِ
فإذا الموجُ بعد حينٍ قرارٍ ... وإذا العائمُ المُقرَّب. . . ناءِ
- 2 -
يدُ مَن هذه التي دَفَعتَ بي ... وبقلبي إلى خضمِّ الشقاءِ؟(614/42)
يَدُها؟ بينما أكِبُّ عليها ... طابعاً قُبلةً تبثُّ وفائيِ!
يَدها أم يَدْ الزمانِ. . . أبادتْ ... نشواتي لبُعدِها وهنائيِ
يَدُها أم يدُ الزمانِ؟ أطاحتْ ... بِقلاعي التي بنيتُ ورائيِ
كنتُ شَيدتُ من ظنوني قصوراً ... حَرَما للحبيِبة السمراءِ
شاهقاتٍ يصفقُ الحبُّ فيها ... بجناحين مِن منىً وصَفاءِ
كنتُ أعْلَيتُ من أمانيَّ حتى ... شارفتْ بي مسابحَ الجوزاءِ
كنتُ. . . أوَّاهُ ما الذي هدم السا ... مقَ فاندكَّ في التراب رجائي؟!
ذلك المِعوَلُ الرهيبُ. . . أراهُ ... وهو يَهِوي على رفيعِ بنائي
هو في قبضةِ المقادير سّيا ... نِ لديه تَبَسُّمي وبكائيِ
والليالي وراءه زاحفاتٌ ... ساخراتٌ تضج في استهزاءِ
- 3 -
ذلك الليلُ. . . وهو عندي مكانٌ ... ألتقي فيه بالطيوفِ الوِضاءِ
كنتُ أحيا به، كأنيَ منه ... قطعةً في رحابه السوداءِ
وأبثُّ الرياحَ أوهامَ نفسي ... فَتُغَني بها على الظلماءِ!!
وأُناجي الأشباحَ والفكرَ والأحـ ... لامَ حتى تطلّ عينُ الضياءِ
ذلك الليلُ. . كم تَنَقلتُ فيه ... يَقظاً فرطَ نشوةٍ برجائي
كنتُ أودعته مطامعَ روحي ... وهو يُصغِي ويستجيشُ غنائيِ
والنجومُ التي تَلألأُ ياليـ ... لُ شهودٌ أمامَ حكمِ القضاءِ
أين واريتَ ما سمعتَ من الآ ... مالٍ يا هاتكاً عهودَ الإخاءِ
كيف راحت مطامعي وهي في قلبـ ... كَ سرٌ تلفٌه بالخفاءِ؟!
هي زادي على الحياةِ ومائي ... كيف تأَبَى عليّ زادي ومائيِ؟!
أعِدِ الآنَ للشقيِّ امانيـ ... هِ وإن كُنّ كالسرابِ النائي
أيُها الكاهنُ الجليلُ الذي اهتزَّ ... لشدوي وحارَ في أهوانيِ
أنتَ يا مَن نسجتُ خلدَ قصيدي ... بينِ أحضانهِ وصغتُ غنائي
أيُها الشيخُ. . . يا ظلامُ. . . أعِدْ لي ... أمَلي في شقيقتي الحسناءِ(614/43)
أوحَدَتني على دياجيكَ نفسٌ ... لم تفارقْ تَرَفِعي وإبائي. . .
رضيتْ قسمةً لها بانفرادي ... دون عيشي كسائر الدهماءِ
حَقرَتْ ذلك القطيعَ من النا ... س ولاذتْ بوحشةٍ خرساءِ
لم تعانق سوى العواطفِ والفكـ ... رِ ولم تَتَشِح بغير النقاءِ
غربتي. . . غربةُ المحبةِ عن قو ... مٍ أضاعوا الحياةَ في البغضاءِ
والذي يمتطي المصاعبَ في الدنيـ ... احرامٌ عليه طعمُ الهناءِ
كلما طَهرَ الصباحُ جبيني ... بسناه، علوتُ في استحياءِ
أبتغي النورَ في الذُّرى، وأمَنيِّ ... باكتناهِ المُحَجَبات علائي
وتُصَلي خواطري وهي تسمو ... بي إلى عِالم المعاني الوِضاءِ
بي طموحٌ منِ الحنين لمجهو ... لٍ بعيدٍ. . . مُلَفعٍ بالخفاءِ
واشتياقٌ إلى عَوَالمَ خَلف الـ ... عين، قْامت هناكَ. . . بعد السماء!!
وَمَطَاريِ من الحقائقِ يمتدُ ... رفيعاً، وَيستَحِثُ ارتقائي
قدْ بلوتُ الأنامَ فانكشفَ الستـ ... رُ وساَء الكمينُ تحتَ الطلاءِ
لي نفاذُ يكادُ يخترقُ الأنـ ... فُسَ حتى زهدت في الأحياءِ
أنا يا ليلُ قمة. . . ومٌحال ... أن تطولَ الربي إلى عليائي
كم تَطَلَعتُ. . لم أفُزِ بضريبٍ ... يَتَسامى على حياةِ الرياءِ
كم تَطَلعتُ. . . ثُمَ آبتْ عُيوني ... بدموعٍ سخينةِ بكماءِ. . .
كم تَطَلعتُ. . . فاخترقتٌ فضاَء ... شارداً، يرتمي وراَء فضاءِ. . .
غَمَرتَ هذه الثلوجُ، ثلوجُ الـ ... يأسِ قلبي فَجَمدَتْ أحنائي
لم يكن لي سوى شقيقة روحي ... مُنيَةٌ بين عزلتي وخلائي
أيُّهذا الظلامُ أرجعْ لنفسي ... أمَلى في حبيبتي السمراءِ
إنني قِمَة تَعالَى بها الحقُّ ... غريباً عن سائرِ الأهواءِ
وَحَرَامٌ يُباعِدُ الغيمُ في الأفـ ... قِ ارتفاعي ولا يزينُ علائي
وحرامٌ أطِلُّ حولي فلا ألـ ... قي سوى اليأس مُنذراً بفنائي
إنما تُسأَمُ الحياة. . إذا لم ... تَشدُ من حولها طيور الرجاءِ(614/44)
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(614/45)
البريد الأدبي
وصية الرصافي قبيل وفاته
إلى أصدقائي الأحرار الكرام:
أراهم يهيجون على الدوام باسم الدين، وما أظنهم يتركونني حتى بعد موتي. وليس لي من ألتجئ إليه سوى الله، وكفى بالله حافظاً وحسيباً. ليس لي من الأقارب من أعهد إليهم بوصيتي سوى معارفي من الأصدقاء الأحرار من أهل البلاد، فلذا اكتب إليهم عسى أن يقوموا بتنفيذها ولهم من الله الأجر
كل ما كتبته من نظم ونثر لم أجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به منفعة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه، فهو بالخيار، إن شاء عفا عني وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين.
أنا والله الحمد مسلم مؤمن بالله وبرسوله محمد بن عبد الله إيماناً صادقاً لا أرائي فيه ولا أداجي، إلا أنني أخالف المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وليست هي منه إلا بمنزلة القشور من اللباب. ولا يهمني من الدين إلا جوهره الخالص وغايته المطلوبة التي هي الوصول إلى شيء من السعادة في الحياة الدنيوية الاجتماعية والحياة الأخروية، ما أمكن الوصول إليه من ذلك بترك الشرور وبعمل الصالحات، وكل ما عدا ذلك من أمور الدين فهو وسيلة إليه وواسطة له ليس إلا.
بما أن عبد بن صالح الذي هو معاوني على العيش في مسكني كنت أنا السبب في زواجه، وقد ولد له بنات صغار، وليس له من أسباب المعيشة والكسب ما يجعله قادراً على إعاشتهن، أرجو من أهل الخير في الدنيا ومن أصدقائي الكرام الأحرار أن يسعوا في إيجاد شغل له يكسب به ما يقوم بأعاشتهن، وإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
كل ما عندي من الكتب المخطوطة التي كتبتها أنا، تباع لمن يرغب في شرائها على أن(614/46)
يكون له حق الطبع والنشر ولا يكون لي فيها سوى الاسم، ويدفع المال الحاصل من بيعها إلى بنات عبد.
أريد أن أدفن في أي مقبرة كانت على أن يكون قبري في طرف منها وأن يكون في أرض مظلومة وهي التي لم تحفر قبلا. . .
إن كانت الحياة نعمة سابغة من الله على عباده فإن الموت رحمة واسعة منه عليهم. فالموت هو رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
المؤمن بالله وحده لا شريك له
معروف الرصافي
جمعية مصرية تعرب الموسيقى العالمية
لا يزال هواة الموسيقى العالمية يذكرون تلك الحفلة التي أقيمت بكلية العلوم في اليوم التاسع عشر من شهر مارس سنة 1942، ويعتبرونها فاتحة عهد جديد في تاريخ هذا الفن الرفيع. ذلك أن برنامجها اشتمل يومئذ على عشر أغان اختيرت لعباقرة الموسيقى، ونقلها نظماً إلى اللغة العربية الأستاذ كامل كيلاني فسجل بذلك فوزاً مبيناً للعربية في ميادين هذا الفن، وأثبت بالفعل للذين يتهجمون عليها بالقول أنها تستطيع بشعرها العالي وعروضها الدقيق أن تترجم أغاني شوبرت وموتسارت ومندلسون وأضرابهم بمعانيها وأوزانها وألحانها دون أن يفقد شيء من جمال المعنى ولا من سلامة الإيقاع. وقد لقيت هذه الحفلة يومئذ من النجاح العظيم والتقدير الحسن ما حفز القائمين بها إلى مواصلة الجهد في هذا السبيل، فألفوا (الجمعية المصرية لهواة الموسيقى) رئيسها الدكتور علي مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم، وأبرز أعضائها الأستاذة محمد زكي علي وإسماعيل راتب وكامل كيلاني وعلي بدوي. وكان أول ما عنيت به أن طبعت هذه الأغاني العشر وقدمتها إلى الجمهور بكلمة طيبة جاء فيها: (. . . فنحن نستمع إلى الأغنية أو الأوبرا في كل بلد بلغة أهله. نستمتع إليها في روما بالإيطالية، وفي برلين بالألمانية، وفي لندن بالإنجليزية؛ فإذا استمعنا إليها في القاهرة سمعناها بكل لغة من لغات العالم المتحضر ما عدا اللغة العربية! فكيف(614/47)
نقبل هذه المعرة القومية، ونرضى بهذا الهوان الفكري؟)
ثم قالت في موضوع آخر: (وقد كان علينا أن نحل مشكلة رئيسة في التدوين الموسيقي كادت تستعصي على الحل، فإن الموسيقى تكتب من اليسار إلى اليمين، على العكس من الألفاظ التي تكتب من اليسار. وقد وقفنا طويلا أمام هذه المشكلة ثم انتهينا إلى حل يجمع بين الحرص على أصول الفن الموسيقي، والوفاء للغة العربية والمحافظة على تقاليدها، فجعلنا الكلمة وحدة ظاهرة، ولم نكتف بذلك فعمدنا إلى كتابة مقاطع كل كلمة سالكين في إثباتها الطريقة العروضية، فزال بذلك كل إبهام في المقابلة بين المقاطع اللفظية والمقاطع الموسيقية وبقيت الألفاظ سهلة القراءة بادية للعيان).
وعما قريب تصدر هذه الأغاني المختارة فتسدي إلى اللغة العربية والموسيقى المصرية معروفا يخلد الشكر عليه بخلوده.
بين شاعرين
سيدي الأستاذ الكبير عزيز بك أباظه.
لا أكتب إليك للشكر على التعزية أو على التقدير. فأننا نحيا - إن سميت هذه حياة - في جو واحد، وننطوي على فجيعة واحدة. وهذه المشاركة تغني بيننا عن كل عبارة.
وما يزال لدي الكثير من الأشعار. ولعل صفحات الرسالة والثقافة تتسع لنشرها. وهذه القصائد ما نشر منها وما لم ينشر نظمت جميعها تقريباً في شهر فبراير على أثر الوفاة. فهي الحصاد المشئوم لشهر وبعض شهر. وإني لا أدري كيف نظمت، وكيف كان النظم على هذه السرعة وأنا لست من أهلها. ولكن الذي أدريه أنني ليس لي فيها شيء، وأنها (هي) صاحبتها. (فهي) التي حفزتني منذ حين إلى التوفر على إخراج ما أخرجت من كتب؛ و (هي) الآن التي تملي علي ما أنظم من قصيد بعد أن انقطعت عن قوله سنوات وسنوات. ولقد كنت ماضيا على هذا الانقطاع على الرغم من حث كرام الأصدقاء والزملاء لي على مراجعته. وأخيراً. . . أخيراً يكتب لي أن أعود إليه، وأن يكون العود غير أحمد.
أيا مُذْكري يوماً بأني شاعرُ ... إليك التي فاضت بهنّ المشاعرُ
مَراثٍ. ومَن أرثي؟ شريكة عيشتي ... ودَرسْي، طوتها في التراب المقابر
ولو كنتَ تدري ما ازدهيتَ قريحتي ... فلا الشعرَ مذكورٌ ولا أنت ذاكر(614/48)
ويا ربِّ، لا كانت إلى الشعر رجعة ... فأني - ولو كان الخلودَ - لخاسر
كان الله في عونك وعوني.
عبد الرحمن صدفي
الأطياف الأربعة
(أصدرت (لجنة النشر للجامعيين) هذا الكتاب الذي اشتركت فيه أقلام (الاخوة الأربعة). وقد كتب أحدهم: الأستاذ سيد قطب. هذا (التعريف) للمؤلفين وللكتاب وهو يعطي لمحة عن شخصياتهم، وعن طريقتهم كذلك).
صبية وفتاة، وفتى وشاب. . . أولئك هم الأطياف الأربعة! اخوة في الدم، اخوة في الشعور. كلهم أصدقاء، وذلك هو الرباط الأقوى. إنهم يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف. هم أنفسهم كل ما يملكون في الكون العريض! كل ما يربطهم بالكون أن يتطلعوا إليه هنية، ليرده، صورا في عالمهم المسحور. إنهم أبدا يحملون. وقد يتفزعون في الحلم، ولكنهم إليه يعودون!
أحد هذه الأطياف تلك الصبية الناشئة. إنها موفوزة الحس أبداً، متفزعة من شبح مجهول. إنها تعبد الحياة وتخشاها. إنها تتلفت في ذعر كلما تفرست في المجهول
وأحد هذه الأطياف تلك الفتاة الهادئة. إنها ساربة في الماضي لا تكاد منه تعود! إنها شاعرة، ثروتها من التصورات أجزل من ثروتها في التعبير. إنها مستغرقة في حلم: بالمستقبل الذي لا تملك، وبالماضي الذي لن يعود.
وأحد هذه الأطياف ذلك الفتى الحائر. إنه دائم التجوال في دروب نفسه ومنحنياتها يفتش فيها ويتأملها، ولا يسأم التأمل والتفتيش. إنه يحلم في اليقظة، ويستيقظ في الأحلام!
وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد. إنه عاشق المحال. إنه يطلب ما لا يجد، ويسأم كل ما ينال. وإنه - بعد ذلك كله - للوالد والأخ والصديق لأولئك الأطياف.
أولئك هم الأطياف الأربعة. وهذه خطراتهم في كتاب. إنها عصارة من نفوسهم وظلال من حياتهم. إنها أطياف الأطياف!
سيد قطب(614/49)
الإصلاح الديني ومذهب ابن حنبل
كان مساء يوم الثلاثاء الماضي موعد المحاضرة التي ألقاها في مسرح الأزبكية العالم الكبير الأستاذ شاكر الحنبلي بك وزير العدل السابق في الحكومة السورية فأقبل على شهودها جمهرة كبيرة مختارة من رجال العلم والأدب والسياسة ولبثوا ساعة يستمعون إلى المحاضر العظيم وهو يتدفق بالبيان الرائع في صوت متزن ولهجة فصيحة فأبان عن شخصية الإمام - أحمد بن حنبل - وجلاها مبرأة مما رميت به من الضيق، ثم افاض في الكلام عن - ابن تيمية - ونفاذ عبقريته؛ وما رمى به من مروق وزندقة؛ وما أصابه في سبيل دعوته من سجن ومطاردة؛ وتناول الإمام ابن القيم - تلميذ ابن تيمية. وعمق تفكيره، ومرونة ذهنه، وحسن فهمه لروح الدين وما تكبده كذلك في سبيل آرائه. ثم ختم المحاضر الفاضل محاضرته ببيان أن روح الإسلام لا تقف ما يحفز المدنية إلى التقدم، ولا تقعد ما يسمو بالإنسانية إلى الكمال.
م. ع. ا
الفلسفة والدين، في جامعة الإسكندرية
لم تنس جامعة فاروق الأول أنها وريثة جامعة الإسكندرية القديمة، فقد حاضرنا مساء الأربعاء 28 مارس سنة 1945 بقاعة المحاضرات الجامعية أستاذ أعتقد أن الكثيرين من رواد الفلسفة الحديثة يعرفونه، كما أعتقد أن هؤلاء الكثيرين من الرواد يتطلبون منه الكثير من محاضراته ودراساته.
حاضرنا الأستاذ توفيق الطويل المدرس بكلية الآداب عن النزاع بين الفلسفة والدين في القرن السابع عشر.
وقد أمضينا ساعة ونصف ساعة مع الأستاذ توفيق الطويل، في رحلة فكرية شائقة، حاول خلالها أن يبرهن على أن لا تنافر بين الفلسفة والدين حتى في عصر محاكم التفتيش، وابتدأ بأن فرق بين الدين في ذاته، وبين رجال الكنيسة الذين جعلوا من أنفسهم حراساً على نصوص هذا الدين، حراساً جامدين على ظواهر هذه النصوص.
وأختار الأستاذ الطويل للتدليل على وجهة نظره ثلاث دول، كانت حركة النضال فيها بين(614/50)
الفكر الحر وبين اللاهوتيين الجامدين على أشد ما تكون عنفاً وحدة، وهي فرنسا، وهولنده، وإيطاليا.
واختار من كل بلد من البلدان الثلاثة فيلسوفاً واحداً، لضيق الوقت، فمن فرنسا تخير - ديكارت - وعرض موجزاً من فلسفته التي بدأت بالشك، وانتقلت إلى إثبات الذات التي تشك! والتي ابتدأت بأن أخضعت حقائق الوجود إلى العقل، ثم استثنى الحقائق التي وصلتنا عن طريق الوحي، واعتبرها غير خاضعة للاختبارات العقلية، فكان ديكارت - وإن لم يوضح لنا الأستاذ المحاضر - متأرجحاً بين الفلسفة والدين، بين عقله وقلبه، ولعل في خوفه من سلطة الكنيسة، أو رجال الكنيسة بمعنى أدق، تعليلا لذلك التأرجح الذي تعرض له الأستاذ المحاضر في سرعة وخفة نلتمس له فيهما عذراً لضيق الوقت، وانفساح مجال الموضوع الذي اختاره لمحاضرته القيمة.
ومن هولندا، تحدث الأستاذ الفاضل، عن - سبينوزا - ذلك الفيلسوف الذي نادى بمذهبه في وحدة الوجود، فأثار على نفسه ثائرة رجال الأكليروس، وأقام قيامة أولئك الذين في يدهم مقاليد الأمور فأجمعوا على تكفيره، وحرمانه، واضطروه أن يعيش منبوذاً من الناس، وأن يكدح لينال بلغة من العيش تقيم أودهن بعد أن هاجر من البلد الذي أصدر قرار حرمانه، وغير اسمه، وكان ينشر مؤلفاته بأسماء مستعارة. درءاً لأخطار المصادرات، وما وراء المصادرات، مما كانت تحفل به عهود محاكم التفتيش.
أما في إيطاليا، فقد كان لجاليليو قصة - أو مأساة كما سماها الأستاذ المحاضر - تبعث على كثير من الأسى، فقد اضطهد هذا الرجل من أجل عقيدته أقسى الاضطهاد، وحوكم مرتين أمام محكمة التفتيش وسجلت مؤلفاته في القائمة السوداء - أو الفهرست!! - كما كان يطلق عليه، وقد حرص الأستاذ الطويل على أن يذكرنا أنه اختار جاليليو، وتحدث عنه كفيلسوف - على الرغم من أنه كان عالم فلك ولم يكن فيلسوفاً، لأن الفلسفة في القرن السابع عشر كانت تعتبر عالم الفلك فيلسوفاً، ولم تكن العلوم قد تحررت بعد من حظيرة الفلسفة.
والطريف، فيما عرضه الأستاذ المحاضر، من رأي جاليليو عن دوران الأرض وعن النظام الكوبرنيكي الذي قال به، أقول الطريف في ذلك أن الإسكندرية كما حرص الأستاذ(614/51)
الطويل على أن يذكرنا بذلك، كانت سباقة في هذا المجال الخطير، فقد قال بنفس هذا الرأي من قبل كوبرنيكوس، ومن جاليليو، فيلسوف عاش في الإسكندرية، وهو أرسطو خوس!!
قصص هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، في بلدانهم الثلاثة، صادقة الدلالة على أن الاضطهادات التي حدثت، والتي كان ضحيتها هؤلاء الفلاسفة العظام، لم تكن من الدين، ولا من كل رجال الدين، وإنما كانت من تلك الفئة الجامدة التي لم يخل منها عصر من العصور ولا دين من الأديان.
ولا صحة لما يقال، من أن ازدهار الفكر لا يكون إلا حيث يتخلص من قيود الدين، فالتاريخ يحدثنا عن فلاسفة كثيرين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولعل أشهرهم من فلاسفتنا الإسلاميين هو ابن رشد الفيلسوف الأندلسي المعروف.
هذه خطوط سريعة لمحاضرة مرتجلة، جعلنا الأستاذ الطويل خلال حديث شائق في صددها، نعيش في عالم فكري بعيد عن ماديات هذه الحياة الصاخبة.
علي حسن حموده
جماعة الفكر
تألفت في القاهرة جماعة فكرية ثقافية باسم (جماعة الفكر) قوامها لفيف من أدباء الشباب، وستنشر مكتبة في شتى نواحي المعرفة.
فندعو لها بالتوفيق في إتمام هذا العمل الجليل.
-(614/52)
الكتب
1 - ابن رشد الفيلسوف للأستاذ محمد يوسف موسى
2 - بعد الموت للأستاذ السعيد يوسف موسى
- 1 -
هذا الكتاب من تأليف الأستاذ محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين، وهو من سلسلة أعلام الإسلام التي تصدرها لجنة دائرة المعارف الإسلامية. ويقع الكتاب في 117 صفحة من الحجم الصغير، ولكنه على صغر حجمه جيد في بابه، ولا غرو فالمؤلف مشتغل بهذا الفيلسوف من زمن، وينوي أن يضع فيه رسالة كبيرة، فهو ليس غريباً عن الموضوع. عرض أولا لعصر ابن رشد وأسرته، ثم إلى نشأته، ثم عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة، ثم عمله في نظرية المعرفة، ثم ابن رشد والغزالي، ثم انتهى إلى خاتمة المطاف، وإلى ابن رشد وأثره من بعده، وهل نجح في رسالته.
وأنت ترى أن صفحات الكتاب أضيق من هذه الموضوعات المتعددة. وقد كان المؤلف بارعاً في الإيجاز حتى يسوق جميع ما يريد أن يقول في هذا الثوب الضيق. غير أنه اضطر إلى التلميح عن بعض النظريات دون إشباع حسب ما يقتضيه المقام.
وفي الكتاب عرض جيد لحياة ابن رشد وعصره وتفصيل لمحنته ومناقشة أسبابها. وطريقة المؤلف في اقتباس النصوص وحبكها في مجرى الكلام، تدل فضلا عن الاطلاع الغزير، على امتلاك ناصية الموضوع.
وقد وفى الفصل الخاص بالتوفيق بين الحكمة والشريعة حقه إذ يستغرق 27 صفحة، بينما نظرية المعرفة تناولها في خمس صفحات ونصف. وكنا نرغب الإطالة في هذا الموضوع الذي لم تسبق الكتابة فيه، ولا يزال غامضاً. وأخاف الأستاذ محمد يوسف موسى فيما يذهب إليه من أن ابن رش يرى في الاتصال أنه (وصول العقل الإنساني إلى الدرجة العليا من الكمال، تعني إلى الاتحاد، أو الاتصال بالعقل الفعال أو الله تعالى ذاته) ص 63، 64 ثم قال: (ولا بد من توفر ثلاثة أمور فيمن يسعد بهذه النعمة أي نعمة الوصول: قوة العقل الأصلية، وكمال العقل بالفكر، وعون وإلهام غير طبيعي من الله).(614/53)
وأكبر الظن أنه يريد أن يقول (إلهام طبيعي) لا غير طبيعي.
وتصوير الاتصال بالعقل الفعال أو الله ذاته على النحو المذكور يجعل من ابن رشد صوفياً، خصوصاً وأنه اشترط فيما بعد العون الإلهي. وبهذا لا تستقيم النتيجة التي أوردها بعد ذلك، وهي أن ابن رشد (ابتعد عن مجاهدات الصوفية. . . فهو لهذا أقل الفلاسفة الأندلسيين بل المسلمين تصوفاً) ص 64.
فهل كان ابن رشد متصوفاً، أو عنده نزعة صوفية كالفارابي مثلا؟
- 2 -
وهذه قصة ألفها الأستاذ السعيد يوسف موسى، تقع في 286 صفحة من الحجم المتوسط.
أعرف المؤلف معرفة شخصية، وأستطيع أن أؤكد لك أن هذه القصة صورة من نفس المؤلف، أودعها أحاسيسه وعواطفه وآراءه. وهذا الصدق في التعبير هو السر في قوة هذه القصة وأكبر الظن أن المؤلف لن يستطيع أن يخرج لنا مثيلا لها إلا بعد مضي سنوات طويلة، تزدحم فيها نفسه بتجارب جديدة وصور أخرى يودعها قصته الجديدة، فإن أراد أن يبين فساد حكمي فليقدم على إخراج قصة أخرى. . .
نحن في حاجة إلى القصة الطويلة في اللغة العربية، فالقصة القصيرة يكتب فيها كثيرون على رأسهم الأستاذ محمود تيمور، فهو بطل هذا الميدان. وقصة (بعد الموت) قصة مصرية صميمة، لم يتأثر صاحبها بالمؤلفات الأجنبية، فهي بذلك تسد باباً كنا نحس فيه بالنقص. وهذه خلاصة الموضوع في إيجاز.
طالبان من الريف، ذهبا إلى المدرسة داخلية بالإسكندرية، فاتصلا في المدرسة وارتبطا بصداقة وثيقة العرى. أحدهما جلال، والآخر هو الذي يقص القصة. . . رأتهما (نجوان) صاحبة بار بالإسكندرية، فأحبت جلال الذي كان متعاهداً على الزواج من هند ابنة عمه. وهنا يحدث صراع بين الوفاء للوعد، وبين الحب الجديد الذي يستغرق فيه جلال، وصاحبه معه، إلى أن يطردا من المدرسة. وتعرف هند وأم جلال، فتحضران إلى الإسكندرية تطلبان إلى نجوان التخلي عن جلال، ولا تستطيع نجوان فتقتل نفسها ويشهد جلال مصرعها ويظل ذكراها عالقة بذهنه فلا يشفي من داء حبها حتى (بعد الموت)
إني آسف لهذا الاختصار المخل، فهو لا يغني عن قراءة القصة وتذوق ما فيها من حلاوة(614/54)
الحوار بين هذه الشخصيات المختلفة، التي يحاول صاحب القصة أن يجعلها تنطق بحقيقة المشاعر الإنسانية.
يريد المؤلف أن يقول إن الروح تبقى بعد الموت، وأنها تؤثر في ملوك الأحياء، بدليل أن موت نجوان لم يبطل حب جلال لها، ولم يصرفه إلى العودة إلى خطيبته الأولى هند وكان يراها في المنام فيفزع.
ولكن علماء النفس المحدثين يذهبون إلى خلاف ما يذهب إليه المؤلف، ويفسرون أمثال هذه الظواهر بأنها حالات مرضية يمكن شفاؤها بالتحليل النفساني. ونأخذ على المؤلف هجومه العنيف على المعلمين وعلى المدرسة وكنا نحب أن يسمو عن هذا.
الدكتور أحمد فؤاد الأهواني(614/55)
من إنتاج الأدب السوداني
1 - مهدي الله للأستاذ توفيق أحمد البكري
2 - الطريق إلى البرلمان للأستاذ إسماعيل الأزهري
- 1 -
مؤلف هذا الكتاب الأستاذ توفيق أحمد البكري شاب سوداني ذو ثقافة عالية وذوق أدبي أصيل - ولا عجب فهو خريج كلية الآداب ومعهد الصحافة من جامعة فؤاد الأول - وإذ تصدى للكتابة عن الإمام الكبير محمد أحمد المهدي فقد تصدى بعد دراسة عميقة مزمنة ورغبة ملحة صادقة. ولعل المستر ونستن تشرشل يعنيه حينما قال في كتابه حرب النهر (إن المؤرخ السوداني الذي سيكتب تاريخ بلاده يوما ما يحب ألا ينسى أن يضع (محمد أحمد) في طليعة أبطاله، (فأن هذا الشاب النابه قد خدم بلاده خدمة محققة بنشره هذا الكتاب في سيرة ذلك الرجل، الذي لا نعلم أن أحداً استطاع من قبل أن يصور له صورة إنسانية خالية من التحامل) كما يقول الأستاذ الكبير أبو حديد.
وسيرة الإمام المهدي سيرة فيها من هدى الدين وقوة الإيمان ما ذللت أمامهما الصعاب ورضخت لمشيئتها القوة المنظمة الحاكمة! فأن رجلا نشأ بين أبوين شريفين رقيقي الحال فشب عن الطوق وثقافته دينية بحتة، وحياته تأملات صوفية عميقة، وروحه نقية زاهدة، فلا تريد من متاع الدنيا مالا ولا جاها ولا ملكا. وإنما يدعو العباد إلى صلاحهم وإلى ما يقربهم من ربهم لتمتلئ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا - وظلما - وبهذه الدعوة الطاهرة المليئة إيمانا تكأكأ عليه المؤمنون جماعات ووحدانا يرتلون قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
استطاع، وهو الأعزل، أن يفتح ذاك الفتح المكلل بالظفر وأن يقيم دولة إسلامية دستورها الكتاب والسنة ست عشرة حجة طوالا
وإننا بصدد الإشارة إلى هذا الكتاب النفيس لا يفوتنا أن نزجي عاطر الثناء إلى لجنة دائرة المعارف الإسلامية لنشرها هذا الكتاب من سلسلتها التاريخية (أعلام الإسلام) كما نرجو(614/56)
أخانا الأستاذ توفيق البكري أن يتم ما بدأه فيفصل ما أوجز ويسهب فيما اقتضب، لتوفي هذه الشخصية الكبيرة حقها دراسة وتحليلا.
- 2 -
(الطريق إلى البرلمان): مؤلفه الأستاذ إسماعيل الأزهري خريج الجامعة الأمريكية ببيروت ورئيس مؤتمر الخريجين العام في السودان لهذه الدورة ودورات ماضية - والأستاذ معروف بأنه البرلماني الأول في السودان، فلا غر وأن يؤلف كتابا قيما بعنوان (الطريق إلى البرلمان) في أكثر من ثلاثمائة صفحة - والعنوان كما ترى جذاب أخاذ يدل على أن هذا الكتاب يأخذ بيدي القارئ ويدخله البرلمان بسهولة ويسر! ويتضخم هذا المدلول حينما تعلم أن الأستاذ زعيم معروف! بينا أن الكتاب يتحدث عن نظم الجمعيات، كالأندية والشركات واللجان والأحزاب وغير ذلك، مرتباً كيفية تكوينها وتنظيمها وإدارتها حتى يتدرب النشء والكبار على النظم البرلمانية وأساليبها فتنشأ الأجيال المقبلة عريقة فيها مجبولة على تقديس القوانين مفطورة على حب النظام.
ولم يفت الأستاذ أن يشير إلى استخدام هذا الاسم (الطريق إلى البرلمان) كعنوان، لأن الغرض من وضع هذا الكتاب كما قال: (نشر النظام البرلماني ليصبح بفضل التدريب والمران عادة مألوفة وتقاليد متأصلة عند الصغار والكبار في (الطريق إلى البرلمان) حتى إذا دخلوه استطاعوا أن يستفيدوا من نظمه في النهوض بأممهم إلى أعلى مراتب التقدم والكمال)
والكتاب يحتاج إليه رجل الاجتماع بقدر حاجة الطالب الماسة، ويا حبذا لو قررته مصلحة المعارف السودانية في مدارسها الثانوية ليساعد على إخراج رجل الاجتماع المنشود.
الفاتح النور(614/57)
العدد 615 - بتاريخ: 16 - 04 - 1945(/)
المدرسة الرمزية
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . استرعى نظري نوع من الأدب أسموه بالرمزية، ولا أعلم حتى الآن تعريف هذا النوع، وقد نبهني إليه تلك الإنذارات التي وجهها الأدباء إلى الشباب المحدثين بالآداب أن يكفوا عن تلك الطريقة الرمزية فإنها عقيمة النتاج لا تجدي نفعاً. فما هي الرمزية في الأدب؟ وهل هي تقتصر على الآداب العربية فقط عدا الآداب العالمية؟ وما هي نتائجها المضرة؟. . .)
(بغداد - الكاظمية)
جعفر آل ياسين
والرمزية التي يسأل عنها الأديب البغدادي قديمة في العالم، لأن الناس عرفوا الكتابة بالرموز قبل أن يعرفوا الكتابة بالحروف، ولأن الكهانات الأولى كانت تستأثر بأسرار الدين وتضن بها أن تذاع للعامة على حقيقتها الصراح، فكانت تعمد إلى الرموز أحيانا للتعبير عن تلك الأسرار.
ثم ارتفع حجر الكهانات عن أسرار الدين فتكلم الناس فيها وافصحوا عما يعتقدونه من خفاياها، ولكن الولع بالأسرار والبحث عن الغوامض والغيوب طبيعة في بعض النفوس لا تخرجهم منها صراحة القول ولا إباحة التفكير المطلق لمن يشاء، فظهر هؤلاء بين المسلمين كما ظهروا بين الأمم المسيحية والإسرائلية، وقسموا عندنا العلم إلى علم شريعة وعلم حقيقة، وأرادوا بعلم الشريعة ما يبدو على ظواهر الأشياء، وبعلم الحقيقة ما ينفذ إلى بواطن الأسباب المغيبة عن العقل المكشوفة للبصيرة، وقابلهم عند الأمم الأخرى جماعة المتعمقين الموكلين بالغوامض والأسرار وهم المعروفون باسم الخفيين أو الـ ولا يزال لهم مريدون ودعاة في كل عصر من عصور الآداب.
لكن المقصود بالرمزية في الأدب الحديث هو تلك المدرسة التي راجت في أوائل القرن الحاضر وظهرت في فرنسا على أعقاب مدرسة (البرناسيين) أصحاب القول بجمال القالب وأناقة النفس والعكوف على المحاسن الظاهرة في أساليب الشعر والنثر وصياغة العبارات، وعندهم أن الصقل المحسوس هو آية الجمال والبلاغة في جميع الفنون.(615/1)
فلما راج مذهب البرناسيين هذا في أواخر القرن الماضي ظهر الرمزيون يعارضونه ويغلون في إنكاره ويذكرونهم بما نسوه من أسرار المعاني التي لا تبرز على وجوه الكلمات، وينبهونهم إلى جمال الوحي والإيمان الذي أهملوه في سبيل الصقل المحسوس والرونق البارز على صفحات الأساليب.
وقد كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة جديدة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.
فالأدب لا يستغني على الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ ولا تحتويها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.
ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية
غرضاً مقصوداً لذاته ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة، فلم تعمر مدرستهم طويلاً وسقطت في الأدب الفرنسي كما سقطت في آداب الأمم التي انتقلت إليها.
وقد أملى لأتباع هذه المدرسة في الغلو أنها قامت للدعوة في العصر الذي ظهر فيه (فرويد) وبشر بمذهبه القيم عن الأحلام ودلالتها على الوعي الباطن وما يستكن فيه من الأسرار المكتومة والنوازع المكبوتة. وخلاصة هذا المذهب فيما يرجع إلى (الرمزية) أن الأحلام هي لغة الرمز التي يعبر بها (الوعي الباطن) عن شعوره المكبوت؛ فالرجل المبتلى في الخوف من عدو منتقم أو من وهم مسلط عليه يرى في نومه وحشاً ينقض عليه وينهشه بأنيابه؛ والرجل الطامح إلى المجد يرى أنه سابح في السماء على رؤوس الناس، أو يرى أن الناس بالقياس إليه كالنمال في جانب الفيلة الضخام. وهكذا تتمثل معاني (الوعي الباطن) رموزاً جسدية، لأن الإنسان لا يتمثل المعاني في أحلامه وأمانيه بل يتمثل فيها ما يرى بالعين ويلمس باليد ويسمع بالأذن ويترجم من لغة الفكر إلى لغة الحواس على أسلوب الخيال المعروف.
فما هو إلا أن راجت كلمة (الوعي الباطن) ورموزه في الإصلاح وخيالات الفنون حتى تلقفها أذناب المدرسة الرمزية كما تلقف الببغاوات صيحات الآدميين بغير فهم ولا روية،(615/2)
وخيل إليهم أن (الوعي الباطن) خلق جديد أنبته (فرويد) في بيئة الإنسان بعد أن كان معدوماً في الأجيال الماضية، وفاتهم أنه أقدم من الوعي الظاهر وأنه لم يزل يعمل عمله في الآداب والفنون وفي المعيشة اليومية منذ عرف الناس الشعور والتفكير، ولن يزال كذلك خفياً في مكانه القديم ما دام الإنسان هو الإنسان، وكل ما صنعه فرويد أنه نبه الأذهان إلى وجوده لا أنه أوجده من العدم في الزمن الحديث.
وبعد أن كان الرمزيون لا يتجاوزون في دعوتهم التذكير بوجود الأسرار والمعاني التي توحي إليها أصبح أولئك الببغاوات ينكرون الحس الظاهر وينكرون الحواس وعملها ولا يدينون بشيء غير ما يسمونه رموز الوعي الباطن وأحاجيه.
فبطل الوضوح عندهم كأنه نقيصة أو كأنه خروج على الحقيقة، وتقررت التعمية عندهم كأنها هي البيان دون كل بيان، وكأنما (الوعي الباطن) قد كشف في الزمن الأخير ليلغي العيون والآذان ويغرق الناس قي ظلمات لا تدركهم فيها أنوار النهار.
ومن آفات فرنسا الولع بالأزياء والمدارس التي كأنها أزياء تخلع بين كل صيف وشتاء، فما هو إلا أن يسمع فيها باسم الدعوة الجديدة حتى تقفوها مدرسة هنا ومدرسة هناك، وحتى تتقاسمها الفنون المختلفة فيبشر بها المصورون والنحاتون كما يبشر بها الشعراء والكتاب، وينتقل الأمر من حيز التفكير إلى حيز الصفقات والمساومات. فيأخذ المتجرون بالصور في جمع اللوحات التي يبيعها إياهم فقراء الفنانين بدريهمات معدودات، ويحتفظون بها حتى يحين الأوان لإبرازها والمتاجرة بها، فإذا بمجلة من المجلات التي يملكها أولئك التجار أو يستأجرونها قد نشرت فصلا مطولا عن (المدرسة الجديدة) المزعومة وتلتها مجلة أخرى تناقضها وتنحى عليها، وإذا بالمدرسة الجديدة بعد هنيهة قد أصبحت في دوائر الفن أحدوثة الفضوليين والأصلاء، ومحور الهجوم والدفاع، ويحضر إلى باريس في هذه الآونة أناس من أصحاب الثروات الأمريكية أو أصحاب الألقاب الروسية العريقة ممن يصطنعون الوجاهة ويفاخرون باقتناء التحف النادرة، ويودون أن يرجعوا إلى بلادهم وفي جعابهم أحدث ما يتحدث به أصحاب الأذواق وأدعياء التنظر في الثقافة والآداب الفنية، فإذا بهم قد وقعوا في الفخ المنصوب واستبضعوا اللوحات والتماثيل من تلفيقات تلك المدرسة الجديدة بألوف الجنيهات، وهي كلها لا تساوي مئات الدراهم عند بائعيها الماكرين.(615/3)
وهكذا تخرج إلى الدنيا (مدرسة جديدة)، وتبقى فيها ما بقيت صالحة لتلك الصفقات الخادعة، ثم تنطوي وتخلفها دواليك مدرسة أخرى على هذه الوتيرة، ولا تعقب بعدها أثراً من الآثار الباقية في عالم البلاغة والجمال.
وقد راجت الرمزية في الكتابة والشعر، كما راجت في النحت والتصوير، وشوهدت صور لبعض الناس لا يعرفها أصحابها، ولا يتفق اثنان من المصورين أنفسهم على عرفان ملامحها أو تفسير الغرض منها. وسئل واحد من هؤلاء المصورين عما يعنيه بهذا الخلط الذريع، فقال بلهجة هؤلاء المخرقين التي هي مزيج من لغة الدجالين والببغاوات: إن الكتاب الإنجليزي يقع في يد الرجل الذي لا يفهم الإنجليزية فلا يبصر فيه إلا خليطاً مشوشاً من الخطوط والنقاط. . . فهل يفهم من ذلك أنه كذلك، وأنه لا يشتمل على معنى من المعاني التي يدركها الإنجليزي، أو من يفقهون اللغة الإنجليزية؟
وهذا كلام دجالين وببغاوات لا يفهمون ما يقولون، لأن الناس لا يختلفون في رؤية الشمس كما يختلفون في فهم مئات الكلمات التي تدل عليها باللغات الإنسانية، ولأنهم لا يختلفون بالعيون والآذان والأفواه كما يختلفون بالألسنة والعبارات، وليس بين الرجل وبين مشابهة الإنجليزي في قراءة كتابة إلا أن يدرس الإنجليزية فينفذ إلى ما وراء الخطوط والنقاط من الألفاظ ومعانيها، فما هي الأداة التي يستعين بها الإنسان على فهم الصور التي لا تشبه أصحابها؟ أهي أداة الوعي الباطن، وهو لا يتماثل في رجلين اثنين على نحو واحد؟ أيصبح كل إنسان (فنا) وحده لأنه وحده صاحب الوعي الباطن الذي توارثه من آبائه وأجداده وأضاف إليه ما أضاف من مذكوراته ومنسياته؟
وكل مدرسة من هذا القبيل فهي مدرسة بكماء لا تستطيع أن تشرح مذهبها للناس إلا بمزيج من كلام الببغاوات، وكلام الدجالين.
ليكن الوعي الباطن حقيقة لا شك فيها، وهو كذلك حقيقة لا شك فيها، ولكنه كان حقيقة لا شك فيها من أقدم عهود المثالين والمصورين والشعراء في التاريخ، وقد عمل في شعر هوميروس عمله البديهي، كما عمله في شعر المتنبي والشريف وبيرون ولامرتين، وإنما كان يعمل عمله دون أن يلغي العيون والآذان، ودون أن يلغي الأذواق والأذهان، وعلى هذا ينبغي أن يمضي في عمله سواء ظهر فرويد أو لم يظهر في عالم الوجود، لأن فرويد لم(615/4)
يخلقه في طبائع الناس حتى يخلفه خلق جديد لم يكن معلوماً قبل مئات السنين، فقصارى ما في الأمر أنه سماه وفسر معناه، وترك العيون تنظر كما كانت تنظر، والآذان تسمع كما كانت تسمع، والأجسام البشرية تغدو وتروح كما كانت تغدو وتروح.
فالرمزية سليمة في حدودها الأولى، وهي حدود الاعتراف بالخفايا والأسرار، ولكنها دعوة مريضة عوجاء حين تنكر الوضوح لأنه وضوح وكفى، وتشيد بالتعمية لأنها تعمية وكفى.
وميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار فيها. فأنت تفصح حتى يعييك الإفصاح فتعمد إلى الرمز والإيحاء لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى القريب. والأصل في الإبانة عن الذهن أو النفس أن يحاول المبين جهده توضيح معناه حتى تعييه العبارة فيلجأ إلى الإشارة، فلا يكتب بالهيروغليفية ما يقدر على كتابته بالحروف الأبجدية، ولا يؤثر الكناية وهو قادر على التصريح.
أما من يقول بنقيض ذلك فليس عنده في الحقيقة ما يقول، وإنما هو مزيج من الببغاوات والدجالين يلفظ بالكلام ولا يفقه معناه، ويخلط الحق بالباطل على النحو الذي قدمناه.
عباس محمود العقاد(615/5)
في عيد المعري
من حلب إلى دمشق
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
كان أعظم ما رأيت من آثار حلب ذلك اليوم مقبرة الفردوس وكنت سمعت بها، وحرصت على رؤيتها في زورتي لحلب قبل ثماني سنين فأُعجِلت عنها آسفاً.
وهي مقبرة نادرة بنيت على هندسة المساجد، أو مسجد اتخذت أروقته للقبور. يدخل داخلها إلى صحن شرقية وغربيه رواقان في مستوى الصحن وفي جهة القبلة منه مسجد، وفي الجهة الشمالية عقد كبير فوق رواق مرتفع. والرواقان اللذان على جانبي الصحن بهما قبور أكثرها قديم وبعضها حديث. ويرى الداخل إلى المسجد ثلاث قباب: الوسطى وهي الكبرى تقوم فوق مصلى، وعلى جانبي هذه القبة قبتان أخريان تحت كل منهما حجرة كبيرة فيها قبور: فالبناء في جملته مقبرة مشيدة على هيئة مسجد. . . وما رأيت فيما رأيت من الآثار الإسلامية مقبرة أخرى على هذه الشاكلة. وشمالي هذا البناء حديقة ذابلة يشرف عليها رواق كبير خارجي وراء الرواق الداخلي الذي في شمالي الصحن. وعلى جوانب الصحن والمسجد كتابة كثيرة أعجلني ضيق الوقت عن قراءتها كلها. وهي آيات من القرآن وأبيات، وكلمات مأثورة.
وكان في عشية ذلك اليوم، يوم الخميس 11 شوال، احتفال حلب بذكرى المعري، فاحتشد جمع عظيم في فناء المدرسة الثانوية وقد أخذت زينتها من الأعلام والمصابيح، وتكلم هناك من أدباء العربية: السيد طه الراوي، والدكتور طه حسين، والأستاذ عبد القادر المازني؛ وأدباء وشعراء آخرون وكان يوماً مشهوداً.
وأصبحنا نتأهب للمسير إلى اللاذقية وودنا أن نفسح الوقت للتلبيث في حلب. وفصلنا من مدينة سيف الدولة ضحوة الجمعة فضربنا صوب الغرب والجنوب في سهول خصبة فيها آثار الكدح والدأب حتى لاحت إدلب بيضاء بين أشجارها. وأكثرها أشجار الزيتون، وكانت سيارتنا متقدمة فوقفت في ظاهر البلد ليلحق بنا الركب. ثم دخلنا المدينة فإذا حشد(615/6)
منظم من رجال الحكومة والمدرسين والطلبة يسر العين والقلب، والموسيقى تدوي فتبث ألحانها في هذا الجمال فإذا هو كله موسيقى مؤتلفة، واستقبلتنا طالبات صغيرات ينشدون أناشيد للبلاد العربية كلها، ويقدمن الأزهار إلى ضيوفهن. هنالكم اجتمعت ذكرى الماضي وصور الحاضر وأماني المستقبل، في أصوات هؤلاء الناشئات العربيات. فكان هذا ثقلا على القلب فزع منه إلى العيون يستنجد دمعها فذكرت قول البحتري:
وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة في العقيق
ورأيت أحد الأصدقاء من أدباء دمشق يغالب دمعه. وقد لقيني من بعد فقال: تبين لي أنا لم نكن وحيدين في الشجى، وأن غيرنا غلبته عبراته في هذا المقام. وما كانت هذه العبرات إلا أمشاجاً من الفرح والحزن، والألم والأمل، والحماس والعطف. وما لا يستطاع الإعراب عنه من أشجان غامضة، وعواطف مبهمة يجمعها كلها اضطراب النفس بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، واغتباطها وطربها بما ترى وتسمع وتتخيل.
ومررنا بين الجموع لنستأنف السير فقال لي أحد الشبان: أهذه رحلة أخرى يا أستاذ؟. قلت وعيناي أفصح من لساني: أجل! رحلة جميلة جليلة ألحقها برحلاتي الماضية.
إدلب مركز قضاء سكانها زهاء عشرة آلاف. وهي معروفة بالزيتون والقطن والبطيخ. ولكثرة الزيت بها عرفت بصناعة الصابون حتى سميت إدلب الصابون. كذلك أخبرني بعض الرفقاء من الشام.
وبعد مسيرنا عن إدلب علونا أرضاً جبلية فسرنا في حدور وصعود حتى جئنا جسر الشغور. وهو قرية كبيرة عبرنا عندها جسراً على مجرى ماء، وشرعنا نصعد بعدها جبالاً عالية مخضرة، ومازلنا صاعدين وهابطين حتى وقفنا عند أشجار باسقة ظليلة عندها مسيل ماء قليل ينصب في حوض، ويسمى قسطل العجوز. وكانت الساعة إذ ذاك اثنتي عشر وربعاً. ويقول ياقوت: القسطل بلغة أهل الشام الموضع الذي تغترف منه المياه، وهناك استقبلنا وفد من الصحفيين قدم من اللاذقية. وكثرت على طريقنا أشجار الصنوبر. وما زالت الطريق تتمعج بنا على سفوح الجبال وفي الأودية. وكلما جزنا جبلاً لقينا أعلى منه وأروع، حتى استقبلنا طريق صعود على سفح جبل شاهق، وشفا واد هائل، فلما شارفنا القمة وقفت السيارات بغتة ولما تبلغ مأمنها من القمة. قلنا ما الخطب؟ فإذا سيارة تشتعل(615/7)
فيها النار ليست من سيارات الركب. فزع بعضنا لهذه الوقفة في هذا المكان المخوف، ولهذا الحريق المفاجئ فنزلوا من السيارات مسرعين إلى جانب الطريق. وبينما الأستاذ المازني يتجنب هذا الخطر بعد أن نال منه الإعياء في هذا السير الشاق تقدم إليه سائل يسأله عن مطلع قصيدة لأحد الشعراء، فنال القصائد والشعراء ما نالهم من غضبة المازني.
وبعد الكلال والملال وطول السؤال بلغنا مقصدنا حرش باير. وهو حرج على قمة عالية مشرف على البحر يطلع السائر فيه على مناظر جليلة جميلة رائعة على السفح الغربي المفضى إلى الساحل، وكان هناك موعدنا للغداء في ضيافة الأديب العالم الأمير مصطفى الشهابي متصرف اللاذقية (أو متصرف جبل العلويين، واللاذقية عاصمة الجبل) وقد نعمنا بالراحة بعد التعب، والطعام بعد الجوع، وأنسنا بجماعة من التركمان يزمرون ويطبلون، وكانت جلسة فرحة مكافئة لما سبقها من تعب، وما لحقها من مسير طويل.
ومشينا بعد الغداء قليلا نطل على جمال السفوح الغربية وجلالها وروعتها ويتمنى الشعر والخيال التلبث بها. ثم ركبنا فهبطنا حتى أفضينا إلى سهل خصب يكثر فيه شجر الزيتون. ولما انتهينا إلى الساحل سايرناه شطر الجنوب حتى بلغنا بشق الأنفس المدينة التي نؤمها، وقد رددنا أسمها على الطريق في شعر المتنبي وغيره. كقول أبي الطيب، غفر الله غلوه.
لك الخير غيري رام من غيرك الغني ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وبلغنا المدينة قبيل الغروب فأسرع بنا النقيب إلى الفندق الذي أعد لنزولنا ولحفلة المعري فندق الكازينو، وهو مشرف على البحر، متصل بأمواجه.
وكانت حفلة أبي العلاء في فناء الفندق بعد الغروب فغص المكان بالمستمعين، وتكلم في أبي العلاء أساتذة من مصر والشام، وأنشدت قصائد تشيد بشاعر العرب الفيلسوف. ثم كان العشاء والسمر في الحديقة من دار الأمير الشهابي فنسى الضيوف هناك ما لقوا من نصب النهار. وفاتتني هذه المأدبة إلا أخبارها، إذ قعد بي الإعياء عن الخروج إليها ورحم الله ابن حمديس.
فإن أك أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها
وأصبحنا نسير في اللاذقية - وهي مدينة جميلة نظيفة يرجى لها في مستقبل البلاد العربية(615/8)
شأن عظيم - إلى الشارع الذي سمي شارع أبي العلاء وهو شارع في وسط المدينة ينتهي بعقد قديم من آثار الرومان فيما يظن. سرنا إلى المكان في موكب عظيم والموسيقى تدوي والهتاف بالبلاد العربية يعلو. وتقدم محافظ الإقليم الأمير مصطفى الشهابي فافتتح الشارع فسار الموكب فيه. واللاذقية، على نجد مشرف على البحر فيها كثير من أشجار الزيتون والتين والتوت وفيها بساتين كثيرة يسقيها النهر الكبير ولها مكانة في التجارة وسكانها اكثر من عشرين ألفاً.
وبرحنا اللاذقية والساعة عشر وعشر دقائق نسير صوب الجنوب مع ساحل البحر. وجاوزنا نهيراً صغيراً يسمى نهر أبي علي اخبرني الرفقاء انه ينحدر من جبل الأقرع ويسير إلى البحر، وضربنا في سهل واسع خصب يمتد بين الساحل وجبال العلويين. ورأينا جبلة على يسارنا في شرقيها جامع ظاهر. وهي مركز قضاء جبلة وحولها بساتين وسكانها زهاء ستة آلاف.
ولجبلة ذكر في الخطوب العظيمة التي انتابت بلاد الشام بأيدي الروم ثم الصليبين. وكانت حين الفتح الإسلامي حصنا للروم فلما جلوا عنه بنى معاوية حصنا آخر وبلدة، وينسب إلى جبلة جماعة من العلماء.
وقاربنا الجبال فسايرناها بعيدين من الساحل، ثم عاج بنا الطريق إلى البحر فمررنا ببلدة بانياس وقلعة المرقب، وما زلنا في طريقنا بين البحر والجبل نمر بقرى قليلة ونعبر جسوراً على مجاري مياه سائلة من الجبال إلى الساحل، ونمر بأشجار من الزيتون في الحين بعد الحين حتى بلغنا طرطوس والساعة إحدى عشرة ونصف. فنزلنا إلى حديقة هناك صغيرة بجانب بناء كنيسة عتيقة سماها بعض الكتاب الأوربيين نوتردام دي طرطوس تشبيها لها بكنيسة نوتردام دي باريس. دخلنا البناء وهو معطل يحتاج إلى الترميم. وكان قد اتخذ مسجدا ووضع له منبر. ولا ريب أن أيدي المسلمين والصليبيين تداولته إبان الحروب الصليبية. وبعد زيارة هذا المسجد جلسنا إلى حوض في الحديقة قليلاً ثم ركبنا بعد نصف ساعة من نزولنا
ومررنا على مقربة من طرطوس بخرائب عمريت. وكانت من مدن الفينيقيين الكبيرة، وبجزيرة أرواد المعروفة في التاريخ.(615/9)
ثم تركنا البحر وطريق الساحل المؤدي نحو طرابلس بين جبال لبنان والماء، وعطفنا ذات الشمال، فضربنا في إقليم جبلي حتى لاح لنا عن يسارنا بعيداً حصن الأكراد منيفاً على الجبل، يتميز عن القمم ببياضه وارتفاعه. وهو حصن كبير قديم، شارك في خطوب الحروب الصليبية زمناً طويلاً. ويقول ياقوت:
(هو حصن منيع حصين على الجبل الذي يقابل حمص من جهة الغرب). وقال: (وملكه الفرنج وهو لا يزال في أيديهم إلى هذه الغاية، وبينه وبين حمص يوم. ولا يستطيع صاحبها انتزاعه من أيديهم.)
ثم سايرنا النهر الكبير الذي يسير حيناً مع حدود لبنان. وسألنا هناك كم بيننا وبين حمص، فقيل: أربعون كيلا. وجاوزنا بعد قليل تل كلح، وهي قرية صغيرة على سكة الحديد بين حمص وطرابلس.
والآن نطوي الطريق قراه ومزارعه لنستقبل جنات العاصي الناضرة تحي القادم إلى حمص وتبشره بدخولها.
ودخلنا حمص نضرها الله والساعة اثنتان من المساء.
فبدأنا بزيارة الزعيم الكبير السيد هاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية قبلاً. وكانت رؤيته بلوغ أمل قديم. فنعمنا بالحديث معه في داره على قدر ما وسع الوقت الضيق. ثم خرجنا إلى الروضة، إحدى حدائق حمص العامة، وكان في ظلال الشجر أخذنا بأطراف الحديث، ثم اجتمعنا على المائدة.
وتكلم هناك الأستاذ عارف النكدي، وتلوته بكلمة. وكان لا بد لي أن أتكلم في حمص إعراباً عما جاش في نفسي من ذكر الماضي والحاضر حين دخلتها، ومما قلت:
(يملأ نفسي إعجاباً وروعة وفخاراً، أن أقف على مقربة من أعظم تمثال للبطولة المجاهدة المخلصة المطيعة، ضريح خالد بن الوليد رضى الله عنه. . .
ياقومنا، إن الفرصة قد سنحت، والزمان ضنين بفرصه، والفرص سريع مرورها، فاحذروا أن تناموا والخطوب يقظي، أو تبطئوا والزمان يسرع، أو تقفوا والفلك يدور، أو تهزلوا والزمان يجد. ألا إن تكاليف المجد شاقة، ومطالبه صعبة، وغاياته بعيدة، ولكن في ضمان العزائم المجتمعة، وفي كفالة النفوس الأبية تذليل الشاق، وتيسير الصعب، وتقريب البعيد.(615/10)
فأجمعوا أمركم، واجمعوا كلمتكم. وتقدموا إلى العمل بقلوب ملؤها الرجاء والأمل، ورؤوس ملؤها الحكمة والروية، وأيد ملؤها النشاط والقوة. . . الخ الخ
وفصلنا من حمص والساعة أربع وثلث راجعين أدراجنا إلى دمشق الحبيبة.
وكان في دمشق ختام عيد أبي العلاء يوم الأحد رابع عشر شوال من سنة أربع وستين وثلثمائة وألف (أول تشرين الأول سنة 1944)
عبد الوهاب عزام(615/11)
محمد بن عبد الملك الزيات
للأستاذ عبد الطيف ثابت
(تتمة ما نشر في العدد ى612)
وكما يسرف محمد بن عبد الملك في الظلم والقسوة، فلا يكاد يقع تحت يده مأخوذ بجريرة حتى يعاقبه أشد العقاب، وينتقم منه أقسى الانتقام، ناسياً أن الله بالمرصاد لكل ظالم قاس، وأن الزمن يومان يوم له ويوم عليه - يسرف كذلك في انتقاد الشعراء والكتاب، يدفعه إلى هذا غلوه في اعتزازه بنفسه، وثقته بعلمه وأدبه، ناسياً أن له عيوباً ومثالب شأن كل إنسان، فإذا لم يرفق بمن ينتقدهم فليس يرفق به منقذوه.
كتب عبد الله بن الحسن الأصبهاني وهو على ديوان الرسائل إلى خالد بن يزيد (إن المعتصم ينفخ منك في غير فحم، ويخاطب أمراً غير ذي فهم) فلما وقف عليه محمد بن عبد الملك قال: (هذا كلام ساقط سخيف، جعل أمير المؤمنين ينفخ بالرزق كأنه حداد).
ثم كان أن كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر يقول:
(وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح، والأرجح فالأرجح، لا تسعى بنقصان، ولا تميل برجحان). فقال عبد الله الأصبهاني: (الحمد لله قد أظهر سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال). فلم يلبث الأصفهاني أن انتصف منه، وقد حقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه.
وذكر يحيى بن خاقان فانتقصه، وقال عنه: هو مهزول الألفاظ، عليل المعاني، سخيف العقل، ضعيف العقيدة، واهي العزم، مأفون الرأي. وهذا نقد، ولكنه ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها النقد. وهو ناقد ولكنه في الواقع لا ينقد، وإنما يسخر سخرية من يرى الناس دونه، ويتهكم تهكماً لاذعاً لا ترتاب في أن باعثه الحقد على من يرى لهم في سماء المجد الأدبي سطوعاً، كما يحقد على من تعلو درجاتهم في الحياة فيماثلونه في دولته أو يقاربونه. ولم يكن على رغم سلطانه وقوته ننجوة من التهكم به كما يتهكم، أو السخرية كما يسخر، ولعل أشد من تهكموا به وسخروا منه في جرأة المغيظ المحنق إبراهيم الصولي الذي يقول له:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصر قليلا عن مدى غلوائكا(615/12)
لئن كان هذا اليوم يوما حويته ... فإن رجائي في غد كرجائكا
ويقول فيه:
قلت لها حين أكثرت عذلي ... ويحك أزرت بنا المروءات
قالت فأين السراة قلت لها ... لا تسألي عنهمو فقد ماتوا
قالت ولم ذاك قلت لها ... هذا وزير الإمام زيات
ويقول له:
فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة ... فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
فقد كشف الإثراء منك خلائقا ... من اللؤم كانت ثوب من الفقر
ويقول فيه:
من يشتري مني إخاء محمد ... أم من يريد إخاه مجانا
أم من يخلص من إخاء محمد ... وله مناه كائنا ما كانا
ونظن أن محمد بن عبد الملك الذي يقول: (الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة) ويقول: (ما رحمت شيئا قط) والذي يكثر أعداؤه وحساده، حتى يضيق بهم ويضيقوا به، وينال منهم وينالوا منه - تظن أن هذا الرجل لا يعرف قلبه الرفق ولا اللين ولا تحس نفسه شيئا من الأحاسيس التي تحمل على الرقة وتدفع إلى العطف، وتلفت العقل إلى ما لا يهنأ العيش به، ولا تجمل الحياة إلا بطلبه، ولعلك تستبعد أن يكون منه ما يكون من ذوي القلوب الرقيقة فيواد أو يتعشق أو يتنادر، فلا تنس أنه شاعر فهو في الواقع يجمع بين جفاء الحاكم القاسي القلب، ورقة الشاعر الذي يحس بما في الحياة من لذة وألم، وعرف ونكر.
اعتل الحسن بن وهب كاتبه، فتأخر عنه أياما كثيرة لا يأتيه رسوله ولا يتعرف خبره، فكتب إليه الحسن:
أيهذا الوزير أيدك الل ... هـ وأبقاك لي بقاء طويلا
أجميلا تراه يا أكرم النا ... س لكيما أراه أيضاً جميلا
إنني قد أقمت عشرا عليلا ... ما ترى مرسلا إلي رسولا
إلى آخر أبيات رقيقة تضمنت عتبا رقيقا فأجابه محمد:(615/13)
دفع الله عنك نائبة الده ... ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزا مقبولا
إنني أرتجي وإن لم يكن ما ... كان مما نقمت إلا جليلا
أن أكون الذي إذا أضمر الإخ ... لاص لم يلتمس عليه كفيلا
فاجعلن لي حظ التعلق بالقد ... ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاد بالصفح والعف ... ووما سامح الخليل الخليلا
واستقى منه الحسن نبيذاً وهو مع المعتصم ببلاد الروم فسقاه وكتب إليه:
لم تلق مثلي صاحبا ... أندى يدا واعم جودا
يسقي النديم بقفرة ... لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأ ... ن بكأسها درا نضيدا
وأجود حين أجود لا ... حصراً بذاك ولا بليدا
وإذا استقل بشكرها ... أوجبت بالشكر المزيدا
وكتب إليه راشد الكاتب وقد عاد من الحج
لا تنسى عهدي ولا مودتيه ... واشتق إلى طلعتي ورؤيته
فان تجاوزت ما أقول إلى العصب ... فذاك المأمول منك ليه
فأجابه محمد:
يا بأبي أنت ما نسيتك في ... يوم دعائي ولا هديتيه
ناجيت بالذكر والدعاء لك الله ... لك الله رافعاً يديه
حتى إذا ما ظننت بالملك ال ... قادر أن قد أجاب دعوتيه
قمت إلى موضع النعال وقد ... أقمت عشرين صاحبا معيه
وقلت لي صاحب أريد له ... نعلا ولو من جلود راحتيه
ثم تخيرت بعد ذاك من ال ... عصب اليماني بفضل خبرتيه
موشية لم أزل ببائعها ... أرغب حتى زها علي بيه
وعشق جارية من جواري القيان، فكان منه ما يكون من العشاق ذوي القلوب الرقيقة ثم بيعت الجارية لرجل من أهل خراسان وخرج بها، فذهل عقل ابن الزيات حتى غشي(615/14)
عليه، وفيها يقول:
يا طول ساعات ليل العشاق الدنف ... وطول رعيته للنجم في السدف
ماذا تواري ثيابي من أخي حرق ... كأنما الجسم منه دقة الألف
ما قال يا أسعفا يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
من سره أن يرى ميت الهوى دنفاً ... فليستدل على الزيات وليقف
ويتمادى بدافع من التظرف في التشبه بشعراء المجون من أبناء عصره فيظهر الوله بغلام رآه على فرس، ويتغزل فيه على سنتهم ولا يأنف أن يذكر به، بل هو يتمنى أن لو كان فارس ذا الفارس وتؤثر عنه أمثلة من التنادر، تصور ما طبعت عليه نفسه من رقة وظرف في بديهة حاضرة وخاطر سريع وإن ظهر في بعضها متهكما ساخراً، وهو يقدر ما يجابه به أو يكتب إليه من ظريف التنادر فيطرب ويضحك، ويوقع في جو الطرب والضحك بما يريد المتنادر، بل قد يقربه إليه ويصطنعه.
فمن ذلك أنه جلس يوما للمظالم، فلما انتهى المجلس، رأى رجلا جالساً فسأله ألك حاجة؟ قال نعم، أدنني إليك فإنني مظلوم وقد أعوزني الإنصاف. قال ومن ظلمك؟ قال أنت، ولست أصل إليك فأذكر لك حاجتي. قال ومن يحجبك عني؟ قال يحجبني عنك هيبتي لك، وطول لسانك، وفصاحة قولك، واطراد حجتك. قال ففيم ظلمتك؟ قال أخذ وكيلك ضيعتي الفلانية غصباً، فإذا وجب عليها خراج اديته باسمي لئلا يثبت لك ملكها، فوكيلك يأخذ الغلة وأنا أؤدي الخراج، فهل سمعت بمثل هذا في الظلم؟ فقال محمد قولك هذا تحتاج عليه بينة وشهود وأشياء، فقال له الرجل أيؤمنني الوزير حتى أجيب؟ قال نعم أنت آمن. قال البينة هم الشهود، وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شئ، فما معنى قولك بينة وشهود وأشياء؟ إيش هذه الأشياء إلا العي والتغطرش! فضحك وقال صدقت، والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعا، ثم وقع له برد ضيعته.
ومن ذلك أن أبا دهمان المغني سرق منه منديلا ديبقيا، وأخفاه تحت عمامته، وبلغه فقال.
ونديم سارق خاتلني ... وهو عندي غير مذموم الخلق
ضاعف الكور على هامته ... وطوى منديلنا طي الخرق
يا أبا دهمان لو جاملتنا ... لكفيناك مؤونات السرق(615/15)
ومن ذلك أن آفة لحقت غلات أهل البت من جراد وعطش فكلمه جماعة منهم، فوجه ببعض أصحابه ناظراً في أمرهم، وكان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن علي البتي.
أتيت أمراً يا أبا جعفر ... لم يأته بر ولا فاجر
أغثت أهل البت إذ أهلكوا ... بناظر ليس له ناظر
فبلغه فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سلوا بغير نظر. ولم يكن محمد بن عبد الملك مع هذا مؤثرا موادة منافسيه ولا محسنا مصانعتهم، اعتماداً على أنه أعظم معاصريه شأنا وأخبرهم بتدبير الأمر فلا يسهل على الخلفاء أن يجدوا عنه عوضا، ولكن أعداءه وهم كثيرون وعلى رأسهم القاضي أحمد بن أبي دؤاد أخذوا يكيدون له، ويوغرون عليه صدر الخليفة الواثق هرون الذي كان عليه ساخطا في أيام والده المعتصم، حتى لقد حلف يمينا مغلظة أنه ينكبه إذا صار الأمر إليه ثم يتولى الخلافة الواثق، فيستقبله أبن الزيات ببيتين هما من قوله في رثاء المعتصم.
قد قلت إذ غيبوك وانصرفوا ... في خير قبر لخير مدفون
لن يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هرون
ويأمر الواثق الكتاب أن يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة، فلا يأتي على ما في نفس الواثق في هذا الأمر إلا ابن الزيات فيرضى عنه، ويقره على ما كان في أيام المعتصم، ويكفر عن يمينه. ثم يتولى المتوكل الخلافة متسخطا على ابن الزيات، لأنه كان يتجهمه حين يدخل عليه في أيام الواثق، ويغلظ له القول يتقرب بذلك إلى قلب الواثق، ولأنه أشار بتولية ولد الواثق دون المتوكل، ويجد القاضي أحمد بن دؤاد في إغرائه به، فيجد لذلك عنده موقعاً. ويجيبه بعد أربعين يوماً من توليه الخلافة فيقبض عليه، ويقيده بما زنته خمسة عشر رطلا من الحديد، ويأمر بإدخاله في التنور الذي كثر ما عذب فيه معاقبيه في غير رحمة، ثم يراجع المتوكل الرأي فيه، ويرق له فيأمر بإخراجه، ويبادرون إليه فيجدونه قد مات.
عبد اللطيف ثابت(615/16)
على هامش النقد
المدينتان
1 - دمشق: للأستاذ محمد كرد علي
2 - بغداد: للأستاذ طه الراوي
للأستاذ سيد قطب
أحببت أن أجمع بين هذين الكتابين في مقال؛ لأن جميع الأسباب توحي بهذا الجمع. فكلتا المدينتين حاضرة خلافة إسلامية في القديم ودولة عربية في الحديث. وكلتاهما كانت مقر نهضة ثقافية ومهبط حضارة إسلامية في التاريخ، كما أن كلتيهما اليوم تتطلعان إلى فجر جديد. ثم اتفق أن يكون الكتابان حلقتين في سلسلة (اقرأ) وأن يكتبهما كاتبان عربيان متعاصران، وأن يسلكا فيهما نهجا واحداً في التأليف على وجه التقريب!
وقبل أن أحكم على هذا النهج، أحب أن أطلع القارئ عليه كي يشترك معي في الحكم الأخير:
من عنوانات الكتابين المتتالية يتضح هذا النهج بعض الوضوح. فهذا كتاب دمشق يبدأ هكذا ويسير:
(دمشق وطبيعتها) ثم (تاريخ دمشق السياسي: تاريخ دمشق القديم. دمشق قبل الفتح العربي. دمشق في الإسلام. دمشق في عهد العباسيين. دمشق في عهد ملوك الطوائف. دمشق في عهد السلجوقيين. دمشق على عهد الدولتين النورية والصلاحية. دمشق على عهد المماليك. دمشق في عهد الدولة العثمانية. دمشق في العهد الأخير).
فإذا انتهى التاريخ السياسي على هذا النحو بدأ (التاريخ العمراني) على النحو نفسه متتابعاً من التاريخ القديم إلى الحديث. حتى إذا انتهى من تاريخ عمارتها ابتدأ (وصف القدماء والمحدثين لدمشق). فإذا انتهى هذا الوصف بالترتيب الزمني تحدث عن (سكان دمشق وخصائصهم). حتى إذا انتهى هذا الفصل تحدث عن (الحياة الأدبية والفنية والصناعية) في تدرجها حتى العهد الأخير مع تقسيم هذه (الحياة) إلى أقسام كل منها له بدء ونهاية حسب التدرج التاريخي (فالعلم والأدب لهما فصل منفرد و (الفنون الجميلة) لها فصل كذلك(615/17)
ومثلها: (صناعات دمشق) و (تجارة دمشق). ثم يفرد المؤلف فصلا عن (غوطة دمشق) لأن لهذه (الغوطة) شأنا خاصاً وفي هتافات الشعراء بنوع خاص.
أما كتاب بغداد فتسير عنواناته على النحو التالي:
(بغداد) ويشمل بحثا عن معنى الكلمة وتاريخها. (خبر بنائها. سبب الاختيار. البدء بالبناء) ثم (شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم) ثم (شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظما ونثرا). ثم (خلاصة التاريخ السياسي لبغداد) مقسما إلى ثلاثة أبواب لكل باب فصول تتمشى مع تمشي الزمن إلى اليوم. ثم تاريخ عمارة بغداد ويسميه المؤلف (الخطط والآثار) فإذا انتهى من تعدادها وبيان أماكنها تحدث عن (الحياة العقلية) مقسمة إلى (العلوم الشرعية) و (العلوم الكونية) و (العلوم اللسانية) مع فصل كل منها عن الأخرى وتنبع خطواته. ثم إذا انتهى تحدث عن (الشعر والشعراء) في عجلة واختصار.
هو نهج واحد سار عليه المؤلفان، الاختلاف فيه هو اختلاف الأداء واختلاف المستوى. ولكنه ليس اختلاف النهج ولا اختلاف الطريق.
وهو نهج لا نوافق عليه في الكتابة عن (المدن) في هذا الزمان. وإن لم ننكر ما يفيد منه القارئ العجلان من بعض (المعلومات).
أقول (المعلومات) وهي كل ما يضطلع هذا النهج بتقديمه للقارئ. ولكنها معلومات مبعثرة بعثرة هذه العنوانات التي أسلفها. مسوقة بطريقة بدائية في التأليف إذا قبلناها من مثل صاحب (تاريخ بغداد) و (خطط المقريزي) و (تاريخ ابن الأثير) وسواهم في الزمن القديم، فلسنا نقبلها من مؤلف عربي في القرن العشرين؛ نتطلب منه أن يخطو خطوة وراء (المعلومات) المتناثرة. خطوة التنسيق الفني. وخطوة (التشخيص) والإحياء.
أقول (التشخيص) وهو أفضل مناهج الكتابة عن (المدن) في هذا الأوان. . .
فالمدينة يجب أن يكتب عنها كما يكتب عن (الشخص) الحي، والشخص الحي وحدة تنمو كاملة بمرور الأيام، ولا تنمو أجزاء وتفاريق. لا ينمو جسم (الشخص) الحي وحده، وينمو عقله وحده، وتنمو نفسه وحدها. وإذا تحدثنا عنه فلسنا نبدأ بنموه الجسمي فنتحدث عنه من مولده إلى وفاته. ثم نكر راجعين إلى عقله من البدء للنهاية. ثن نكر للمرة الثالثة إلى نفسه على التوالي. إنما نحن نتناول مراحل حياته فنسجل مظاهر النمو في كل قواه التي لا(615/18)
تنفصل ولا تتجزأ؛ والتي يموت الكائن الحي فيه إذا نحن فصلناها وجزأناها!
وتاريخ حياة (المدن) كتاريخ حياة (الأشخاص) لا ينفصل فيه النمو السياسي عن النمو العمراني عن النمو العقلي عن النمو الفني. إنما يسير هذا كله وحدة لا تتجزأ في المرحلة الواحدة، وتسير المراحل المتتالية متواصلة كالأمشاج، متفاعلة كالعناصر المختلفة في المزاج.
يجب أن تطالعني (دمشق) أو تطالعني (بغداد) بنية حية؛ تبدأ صغيرة، ثم تنمو وتنمو، ثم تتعاقب عليها الأحداث فتترك آثارها في هذه البنية الحية، التي لا تنفصل ذراتها لأنها لا تزال على قيد الحياة.
يجب أن يجتهد المؤلف في (إحياء) هذه المدينة، حتى تبرز لي شخصية متماسكة حية تعاطفني؛ وأعاطفها؛ وحتى أساير خطاها في الزمان بقلب جياش يطلع منها على ضمير منفعل، وحركة مثيرة؛ أو على حسن خامد وغفوة هامدة، أو على صراع مع الأحداث والأيام، تواجهه بقلب الكائن الحي، الذي يضطرب وينبض للأحداث والأيام.
فأين هذا كله من كتابي (دمشق) و (بغداد)؟
تبقى الموازنة بين الكتابين في دائرتهما المتواضعة! وكثيرون من الناس يشفقون من الموازنة بين الأحياء؛ وينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات!
وأنا لا أومن بهذه النصائح التي تنشأ من (تقاليد الصالونات) تلك التقاليد الناعمة الرقيقة، التي لا يمكن أن تبرأ من الجبن والنفاق. في الوقت الذي تبرأ من أعظم عناصر الحيوية، الحسم والحماسة!
كتاب (دمشق) أوسم واثمن من كتاب (بغداد) والتماسك بين مباحثه المتفرقة أدق وأعمق. ونفس المؤلف فيه أقوى وأطول. وقد عرف المؤلف حدود المجال الذي يضطرب فيه فلم يزج بنفسه في مباحث (كبيرة) لم يتهيأ لها في هذه الحدود.
مثال ذلك ما زج بنفسه فيه مؤلف كتاب (بغداد) من الحديث عن خصائص الشعر البغدادي. ذلك الموضوع الخطر الذي يحتاج الحديث عنه إلى فطرة موهوبة، وإلى بحث كذلك عميق. فلم يزد فيه على الملخصات المدرسية المعروفة. من ذلك قوله:(615/19)
(والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه، وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة، والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها. كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد، والاسترسال وراء الأهواء. وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر، أو - على الأقل - هم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون وغالوا فيه غلواً تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال، ومحامد الخصال وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى عقولهم من أمثال بشار بن برد وحماد عجرد وحسين بن الضحاك وأبي دلامة. . . الخ)
ثم يجمل ما جد من الشعر ببغداد في نقط كالنقط المدرسية في مذكرات التلاميذ:
(1 - الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب الحوشي.
2 - الإكثار من الألفاظ الدخيلة ولا سيما الدالة على أنواع الخمور وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة.
3 - استعمال مصطلحات العلوم التي كثرت في هذا العصر.
4 - الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطباق. وأكثر الشعراء ولعاً بهذه المحسنات مسلم بن الوليد وأبو تمام وعبد الله بن المعتز
5 - الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى).
وعلى النسق نفسه يسرد ما جد في (معاني الشعر وأخليته) وما جد في (أغراضه وفنونه):
واعتقد أن الكتابة على هذا النحو لا تصلح لغير التلاميذ.
وبعد ففي الكتابين كما قلت (معلومات) مفيدة في اختصار ينفع المتزود العجلان. ولكن هذه المعلومات كان يمكن أن تستحيل لبنات متماسكة في بناء الكتابين لو سار المؤلفان الفضلان على منهج (التشخيص) والإحياء الذي أسلفا بيان خصائصه.
وإذا كان للنقد وظيفة فليست وظيفته هي تغيير طبائع المؤلفين المخلوقة، ولا زيادة طاقاتهم(615/20)
المحدودة؛ ولكن وظيفته أن يوجه الأنظار إلى المنهاج الأقوم ليسلكه من يملك الطبيعة، ومن يطيق السلوك فيه.
سيد قطب(615/21)
13 - القضايا الكبرى في الإسلام
قتل مالك بن نويرة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان مالك بن نويرة التميمي اليربوعي شاعراً شريفاً، معدوداً في فرسان بني يربوع الجاهلية وأشرافهم، وبلغ من أمره أنه كان يضرب به المثل فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. وبلغ من شرفه أنه كان يردف الملوك، وللردافة موضعان إحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس. والموضع الثاني أنبل وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. ولكنه كان فيه خيلاء، لما كان يرى من نبله وجماله.
وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن وفد عليه من العرب، فاستعمله على صدقات قومه بني يربوع، وقد مات صلى الله عليه وسلم وهو عامل على تلك الصدقات فلما بلغه موته اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يده من إبل الصدقة، فكلمه القرع بن حابس والقعقاع بن معبد فقالا له: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:
أراني الله بالنعم المندى ... ببرقة رحرحان وقد أراني
تمشي يا ابن عوذة في تميم ... وصاحبك الأقيرع تلحياني
ويعني أم القعقاع، وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو.
وقال أيضا:
وقلت خذوا أموالكم غير خائفٍ ... ولا ناظر فيما يجيء من الْغَدِ
فإن قام بالأمر المُخَوَّف قائمٌ ... منعنا وقلنا الدِّينُ دينُ مُحمدِ
يعني أنهم لا يدينون إلا له، فإذا مات لا يدينون بعده لانتفاء أمر النبوة.
فلما فعل مالك ذلك في كثير من العرب الذين ارتدوا ومنعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد وغيره في جيوش من المهاجرين والأنصار، وكان فيما أوصاهم: إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا، فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شئ إلا الغارة، ثم اقتلوا كل قتلة الحرق فما سواه، فإن أجابوكم إلى داعية(615/22)
الإسلام فسالموهم، فإن هم أقروا بالزكاة قبلتم منهم، وإلا فلا شئ إلا الغارة ولا كلمة.
وقد قصد خالد بن الوليد مالكاً بعد أن فرغ من أسد وغطفان وغنى، فلما علم مالك بقصده ندم وتحير في أمره، ففرق قومه في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع، فلما وصل خالد إلى مكانهم لم يجد فيه أحداً، فبعث السرايا وأمرهم برعاية وصية أبي بكر رضى الله عنه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع وغيرهم، وقد اختلفت السرية فيهم، وكان أبو قتادة رضى الله عنه فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بحبسهم، وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شئ، وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: ادفأنا الرجل وأدفئوه، فذلك معنى اقتلوه، وفي لغة غيرهم: أدفئوه من الدفء. فظن القوم أنه يريد القتل، فقتلوهم على هذا الظن، وكان ضرار بن الأزور هو الذي قتل مالكا، فخرج خالد وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. وقد وقع خلاف بين القوم في قتلهم، وقال أبو قتادة لخالد: هذا عملك. وقد عاهد الله ألا يشهد حرباً بعدها أبداً.
وهناك رواية أخرى أراها أقرب من هذه الرواية، وهي أن خالداً راجع مالكا فيما فعله، فقال له مالك: إني آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً، لا تقبل واحدة دون أخرى. فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك. ففهم خالد أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: وما تراه لك صاحباً، والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجاولا بالكلام طويلا، فقال له خالد: إني قاتلك. فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ فقال له خالد: وهذه بعد تلك، والله لأقتلنك. ثم قدمه فضرب عنقه وعنق أصحابه، وقد اختلفوا أيضاً في قتلهم على هذه الرواية، ومن يؤاخذ خالداً يرى أن هذا ليس بصريح في الكفر، لأن مثل هذا يمكن أن يعد من جفوة الأعراب، ويجوز أن يكون قد عنى بصاحبه أبا بكر
وكان لمالك امرأة فائقة في الجمال، تسمى أم تميم بنت المنهال، فلما قتله خالد تزوج امرأته قبل أن يستبرئها، ثم تركها حتى ينقضي طهرها، فأكثر في ذلك القالة على نفسه، حتى أتهمه أناس بأنه إنما قتله لأجل أن يخلفه عليها.
فلما قتل مالك قصد أخوه متمم بن نويرة أبا بكر ينشده دم أخيه، ويطلب إليه في سبيلهم،(615/23)
وكان شاعراً جيد الشعر، فلما وصل المدينة صلى مع أبي بكر الصبح، ثم أنشد:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحتْ ... تحت الإزار قتلتَ يا ابن الأزْوَرِ
أدعوته بالله ثم قتلَتهُ ... لَوْ هُو دعاك بذمة لم يغدر
فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا قتلته. فقال:
لا يضمر الفحشاء تحت ردائه ... حلو شمائُلهُ عفيف المِئزَرِ
ولنعم حشو الدرع أنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المُتَنَوِّر
ثم بكى حتى سالت عينه، ثم انخرط على سية قوسه مغشياً عليه، ولما أفاق طلب من أبي بكر دم أخيه، وأخذ يدافع عن قضيته بالشعر والنثر أحسن دفاع، ومضى يطري أخاه ويذكر محاسنه ويرثيه حتى لفت أهل المدينة إليه، وصار شعره حديث أنديتهم ومجالسهم، ومن ذلك قصيدته المشهورة في الرثاء، وهي معدودة من عيون المراثي:
لَعَمْريِ وما دهري بتأبين مالكٍ ... ولا جَزِعٌ مما أصاب فأوجعَا
لقد كَفَّنَ المنهال تحت ردائه ... فتى غير مِبْطَان العَشيّات أرْوَعَا
وقد صلى يوماً الصبح مع عمر بن الخطاب، فلما انفتل من صلاته سأل عنه فقيل إنه متمم بن نويرة , فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده هذه القصيدة حتى بلغ إلى قوله:
وكنا كندمانيْ جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصَّدَعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نَبِت ليلةَ مَعَا
فقال عمر: هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل مارثيت به أخاك.
وكان عمر رضى الله عنه من الذين رأوا مؤاخذة خالد بقتل مالك وتزوجه امرأته قبل استبرائها، فذهب إلى أبي بكر وقال له: إن في سيف خالد رهقا، وحق عليه أن يقيده. وأكثر عليه من ذلك.
فلما رأى أبو بكر ذلك كتب إلى خالد أن يقدم عليه، فأقبل قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء، وعليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع السهم من رأسه فحطمها، ثم قال: أقتلت امرءوا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك. فلم يكلمه خالد، وظن أن رأي أبي بكر على رأي عمر فيه.(615/24)
فلما دخل على أبي بكر سأله عما فعل، فأخبره بما كان منه وذكر عذره فيه، ثم شهد قوم من السرية أن مالكا وقومه أذنوا وأقاموا وصلوا، وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شئ فقتلوا.
فرأى أبو بكر أن خالدا لا يعدو أمره أنه تأول فأخطأ، وأن الشهود مع هذا مختلفون في شهادتهم، والجناية في الشرائع الحديثة يكفي مثل هذا في سقوطها في حال السلم، فما ظنك بحال الحرب، فلا يصح أن يؤخذ خالد بالقود مع هذا وهو ذلك البطل الذي أبلى في حروب الردة أحسن البلاء، حتى قضى على تلك الفتنة التي كادت تقضى على الإسلام في مهده، وتعيد بلاد العرب إلى ما كانت عليه من وثنية مظلمة، وفوضى هادمة مخربة، وما كان مالك إلا ممن أغواهم الشيطان فأوقدوا نار تلك الفتنة في بلاد العرب، فذهبت فيها نفوس كثيرة من المسلمين كانت دماؤهم أذكى من دم مالك، وكانوا أكرم على الله منه، وإذا صح أنه عاد إلى الإسلام فقد عاد إليه والسيف مصلت على رأسه، فهو إسلام محوط بالشك، لا يصح أن يؤخذ فيه إسلام لم يجد الشك إليه سبيلا، ولم تزعزعه الفتن كما زعزعته.
فلما نظر أبو بكر إلى ذلك كله حكم بعذر خالد فيما فعل، وتجاوز له عما كان في تلك الحرب، ولكنه عنفه على مبادرته بتزوج امرأة مالك قبل أن تمضي مدة استبرائها، ثم قضى لمتمم ابن نويرة بدية أخيه من بيت المال، وحكم له برد السبي.
فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر لا يزال جالسا بالمسجد، فقال له خالد: هلم إلى يا ابن أم شملة. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ودخل بيته.
وقد أصر عمر على رأيه في خالد حتى صارت إليه الخلافة، فكان من أول ما بدأ به أن عزل خالدا من قيادة جيش الشام، وولى مكانه أبا عبيدة بن الجراح، ولاشك أن أبا بكر كان أدق نظراً في هذا من عمر، وقد قال لعمر لما ألح عليه أن يعزله، وقال له أن في سيفه لرهقا: لا يا عمر، لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين.
فرحمك الله يا أبا بكر، لقد عرفت أن مثل خالد من أبطال التاريخ إنما يحيا لأمته، فلا يضيره أن يعزل من قيادة أو نحوها، وإنما يضير ذلك أمته التي تحرم من حسن جهاده، وتتعرض جيوشها للهلاك حين تفقد قائدها المدرب، وبطلها الذي يقودها من نصر إلى نصر، وما الأمة إلا بزعمائها، وما الجيوش إلا بقادتها، فلا يليق أبدا أن نغمط جهادهم بهنة(615/25)
من الهنات، ولايصح أن ننسى ماضيهم المجيد لزلة من الزلات، فهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، فيجب أن يعذروا في خطئهم، لأنهم لا يقع منهم من عمد، والعصمة لله وحده.
عبد المتعال الصعيدي(615/26)
كلمة لابد منها
للأستاذ علي الطنطاوي
ولقد كنت أود أن أجد من نشرها بداً - غير أن ما تنشره صحف مصر ومجلاتها في موضوع الأدب الشامي والتعريف بأهله لمن نعرف ومن ننكر من الكتاب أوجب نشرها - وأنا اعرف قولهم (العبرة بما قيل لا بمن قال) ولكن ذلك في الحقائق التي يستقل العقل بتمحيصها ووزنها، والحكم عليها بالصحة أو الفساد، أما الأخبار الممكنة التي تحتمل الصدق والكذب، كقولنا: إن لفلان أسلوباً بارعاً، وفلان بليغ، وله كذا من الكتب، لمن لم يسمع بفلان هذا ولم يقرأ له، فلا يمكن الحكم عليها بالتصديق أو بالتكذيب، وبالقبول أو بالرد، إلا بعد معرفة حال راويها ومخبرها، ومبلغه من الاطمئنان إلى خبره وحكمه، فإن كان عدلاً ضابطاً، والضبط في الأدب هو التمرس به والذوق فيه وفهمه، والعدالة ألا يميل به حب ولا بغض، وأن يحكم على الرجل بأثره، فلا تمنعه عداوته مجوداً من الثناء عليه، ولا صداقته مسيئاً من نقده. فان كان كذلك قبل خبره وإلا رده، وأنا أقول آسفاً إن مجلات مصر لما فتحت صدرها لمن يعرف قراءها بالمجهول من أدب الشاميين، جاءتها مقالات من أشخاص هم أكثرهم وكبير مطلبه أن يرى اسمه منشوراً في هذه المجلات، ومنهم من لم يكد يضع من قبل سواداً في بياض، فنشرت لهم كل الذي جاءها منهم وحكمتهم في قارب الأدباء، وجعلتهم من أهل الترجيح في الأدب، فكتبوا أشياء لا يفهم منها الجاهل بأدبنا شيئاً، ويضحك منها العارف به أو يشنعوا على صاحبها، ومنها ما يخرج في جملته وتفصيله عن أن يكون دعاية لمن كتبه ولأصحاب الكاتب وأصدقائه، وحشراً لهم بين مشايخ الأدب والمقدمين فيه، ثم كانت الطامة التي لا أقول إنها الكبرى لأني لا أدري ماذا يجيء من بعدها، فنشرت مجلة محترمة مقالة في ذنبها اسم لم نسمع به، خلط فيها صاحبها وخبط، وانتهى به الخلط والخبط أن نحل رياسة الأدب في الشام رجلاً ليس منه في العير ولا النفير، وليس منه فرس ولا بعير. وأشهد لقد ضحكنا منها في مجالسنا كأشد ضحك ضحكناه قط. ولكن القراء لم يضحكوا لأنهم لا يعرفون من الأمر إلا أنه (كف عدس. . .)، ولأنهم يثقون بأن هذه المجلات لا تقدم لهم إلا حقاً، ولا تنشر إلا لأديب أريب.
وأنا لا أنكر منافع (التشجيع) ولقد كتبت فيه وأثنيت على أهله، ولكن هذا التشجيع إذا بلغ(615/27)
هذا المبلغ صار أذى لن يشجع، وضرراً على الأدب وأهله، لأن من يشجع على الادعاء والغرور والعدوان يؤذي ولا يبقى فيه مصطلح، ويصدق أنه صار زبيبا وإن كان في ذاته حصرماً حامضاً يلذع اللسان ويجرح الحلق، ويكون عند نفسه أستاذاً جليلاً، وعلماً مشهوراً وهو عند الناس تلميذ صغير. . . ولأن الأدب إذا كثر الأدعياء فيه والواغلون عليه، وتصدر الجهلة مجالسة وامتهن العلماء الأبيناء هان الأدب وسقط. وهل في الهوان أهون من أن يكتب (زيد) من الأدباء مائة مقالة، يبذل فيها الغالي من عمره ومن قوته، ومن دم قلبه وضياء عينيه، بعد أن استعد لها بالدرس والتحصيل وسهر الليالي في مدارسة كتب العلم ومطالعة أسفار الأدب، وصرم في ذلك الدهر الأطول فيأتي (عمرو) فيختصر الطريق، ويقفز من فوق الجدران فلا يقرأ شيئاً ولا يكتبه، ولكن يكتب مقالة يقول فيها عن نفسه: إن له مائة مقالة أو يسخر صديقاً له ليقول عنه إنه أحسن من (زيد) ذاك، وأرسخ منه في الأدب قدماً، وأضخم منكباً، وأعلى هامة، ويصدق ذلك القراء ويستوي عندهم الرجلان. أو هو يسب العاملين بدلا من أن يعمل، وينقص أقدار الرجال ليزيد بما ينقص منهم، ويعلو بما يظن أنه يخفض من منازلهم. . .
. . . خبروني بالله إن كنتم تعلمون، كيف يكون التدجيل إن لم يكن هذا تدجيلاً؟!
أما إنني لا أدعو إلى احتكار الأدب وما في سوق الأدب احتكار، ولكن أدعو المجلات المصرية المحترمة أن تتريث في نشر ما يحمله إليها البريد من مقالات النقد والتقريظ والكلام في الأدب وأهله حتى تعرف الكاتب، ومبلغ الثقة يخبره وحكمه، ومكانته في بلده، وألا تدع أسماء الكبار من أدباء الأقطار العربية مضغة في فم كل محب للشهرة، يشتهي أن يكون كاتباً ولم يعد للأمر عدته
وأنا لا ألوم الشباب أن يستمرئوا التدجيل ويستسهلوا طريقة، ويستصعبوا الجد والدأب ودخول البيوت من أبوابها. فهذا هو شأن الشباب، وكلنا كان كذلك أو كان قريباً منه، ولكنا لم نجد مجلات تعيننا عليه ووجدوها، وها أنذا قد دانيت الأربعين، وأظن أني كتبت من الصحائف المنشورة ما يزن أرطالاً، وإني والله ما أبعث اليوم بمقالة إلى مجلة إلا مستحيياً منها ألا تكون للنشر صالحة، وخائف أن تصير لقي، أفلا يحق لنا أن نعجب من صفاقة أقوام من هؤلاء الكاتبين وأن نعتب على هذه المجلات المحترمة، إذ تضع الشيء في غير(615/28)
موضعه فتجود في غير مجاد، وما لكل ناشئ اليوم لا يرضي بأقل من الرسالة والثقافة فلا ينشر فيها غذرمته. . . فقد كنا نتمنى جريدة يومية تنشر لنا فما كنا نصل، ونحن يومئذ أقل من أكثرهم اليوم جهلا!
ولقد كنا سألنا مجلات مصر أن تنشر لأدبائنا وتعرف بأدبنا وعتبنا عليها إنها لا تفعل؛ ولكنا لم نرد إلا الأدباء حقا لا أن تنشر لكل من يسود صحيفة ويضعها في ظرف ويبعث بها إلى المجلة. . . ثم تحمل ذلك علينا وتنسبه إلينا وتمثل به على أدبنا، وتقبل حكم صاحبه علينا يرفع منا من يشاء ويخفض من يريد.
والسبيل لا سبيل سواها هي تكليف أحد أدبائنا المعروفين ممن لا يطعن على شخصه وإن خولف في رأيه البحث في أدب الشاميين بحثاً علمياً منظماً خالياً من أثر الحب والبغض، مؤيداً بالدليل مستنداً إلى التحليل فينظم أدوار هذا الأدب وطبقات أهله من جهة السن، ومن جهة الأسلوب والبلاغة، إذ رب شاب هو أبلغ بلاغة، وأصفى ديباجة، وأعلى أدباً، من شيخ يحمل أمجاد نصف قرن، أي أنه يؤرخ أدبنا على نحو ما نؤرخ الأدب القديم الذي تقطعت بيننا وبين أهله أسباب الميل والنفار والحب والكراهية. أما هذا الطريق الذي سارت عليه مجلات مصر إلى الآن فحسبنا ما لقينا من وعره ووحشته والتوائه.
القاهرة
علي الطنطاوي(615/29)
صوت من العالم الآخر
(مهداة إلى روح أبي العلاء مؤلف رسالة الغفران)
للأستاذ نجيب محفوظ
- 1 -
مقدمة
(سودت هذه الصحائف يد ميت. كتبها بعد أن فارق الحياة
واطمأن إلى مضجعه الأخير. ويبدو هذا - أول وهلة - غريبا
لا يصدق؛ ولكنه يغدو لا غرابة فيه إذا تذكرنا حكمة قدماء
المصريين التي أملت عليهم أن يودعوا قبر الميت آثاره وما
كان يحبه أو ينتفع به في دنياه، كي تتمتع روحه - إذا زارت
القبر وعاودت الجسد ليلة بعد أخرى - بما كانت تتمتع به في
دنياه من مسرات الحياة. فان كان الميت كاتبا أو دعوا قبره -
بطبيعة الحال - كتبه وأوراقه، وربما تسلت روحه بالكتابة
كما كانت تفعل في الدنيا. وهذا ما يبدو أنه كان الواقع في
الحال التي نحن بصددها فقد اكتشفت في العهد الأخير مقبرة
لكاتب اسمه توتي من كتاب الأسرة التاسعة عشرة، عثر بها
على مخطوط من البردي تدل القرائن على أن صاحب المقبرة
- أو روحه على الأصح - كتبه على أثر الدفن مباشرة. وهو(615/30)
يحوي حقائق غريبة لا يدري الحي عن أكثرها شيئا، ولا يمكن
أن توضع موضع الاختبار والتجربة. وقد أثارت من الدهشة
ما هز الأفئدة جميعاً. ويقتصر عملي على ترجمة هذا
المخطوط العجيب دون تعرض للتفسيرات التي أثيرت حوله،
ولا للجدل الذي اكتنف هذه التفسيرات. وللقارئ أن يري فيما
جاء به رأيه، بيد أنه ينبغي أن نذكر دائما أنها خطرات ميت.
وإليك ترجمة هذا المخطوط).
ترجمة المخطوط الهيرغليفي
يا إلهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفرش بأفخر الأثاث، وأجمل الرياش. وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي؛ وفيه مخزن مفعم بالحبوب والبقول والفاكهة. وهاهي ذي مكتبتي حملت إليه بمجلداتها الحكيمة، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام. هي الدنيا كما عهدتها. ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبي حاجة إلى متعة من متعها؟! جهد ضائع ذلك الذي بذله الذين هيئوا هذه المقبرة. بيد أني لا أستطيع أن أنكر أمراً غريباً هو أنه ما فتئت نفسي تنازعني إلى القلم. يا عجبا! ما لهذه الأوراق تناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمح منه الموت منازع الضعف والهوى؟ أقضي علينا - معشر الكتاب - أن تشقى بضاعتنا في الحياتين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية. فلأشغل هذا الفراغ بالقلم. فلطالما دان القلم الفراغ بالجميل.
رباه! ألا زلت أذكر ذاك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي(615/31)
الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي اثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. وأغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقاً متأوهاً. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزوناً مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحضور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هئ الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه. فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقا متأوها. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة(615/32)
شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزونا مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحظور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هيئي الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه، فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني التي تهواني على صدرها. وجاء الحكيم فجرعني الدواء وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: (توتي. . . أيها الكاتب الكبير! يا خادم الأمير الجليل! أنت في حاجة لرحمة الرب. فادعه من أعماق قلبك). ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلت حكمتك! ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؛ بلى أيها الرب. ونجوت من الرماة والعجلات والمعارك. فكيف يتهددني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمى. واشتد الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. ما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمين ثابتتين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزك الدموع، ولا تستعطفك الآمال. تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام. ثم لا تبدل سنتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة. إنها لم تسؤني قط ولم أزهد فيها أبداً. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والآمال كباراً. ألم تحط بكل أولئك خبراً؟ ومن حولي قلوب محبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعين الدامعة؟ كأني لم أعش ساعة واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جربت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غداً؟ أي نشوات ستخمد! أي عواطف ستهمد! أي مسرات ستبيد! ذكرت ذلك جميعه. ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرت أمام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى(615/33)
الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض وامتلأت حزناً وكمداً، وهتفت كل جارحة لي (لا أريد أن أموت). وتتابعت جحافل الليل. فغلب النوم الصغار. ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا. ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر. هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف. وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير. ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج (بني. . . بني!) وهتفت زوجي المحبوبة (توتي ماذا تجد؟) ولكني لم أستطع جوابا. لا شك أن أمراً استثار جزعها. ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقاً بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب. فعرفته دون سابق معرفة فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة: كان مهيباً صامتاً مبتسماً ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي. ولم أعد أرى من شئ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان. وكأني به قد أدرك نيتي الخفية. فازدادت ابتسامته اتساعا. فآنست منه رفقاً. ولم أعد أبالي شيئاً. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته. وغفلت عن دموع من حولي. ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم اعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية وتركت جسمي في المعركة وحيداً! رأيت - دون مبالاة ألبته - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض. وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث. وقد تحول الرسول عني إلى جسمي وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجملتين. وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد والأعضاء تهمد والقلب يسكت، حتى غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد. وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد. وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة. وأني لم أعد من أهل الدنيا. . .
للكلام بقية
نجيب محفوظ(615/34)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
651 - والشيب يغمزها بألا تفعلي!
في (كتاب الأذكياء) لابن الجوزي: قال العتبي: رأيت امرأة أعجبتني صورتها فقلت لها: ألك بعل؟ قالت: لا. قلت: أفترغبين في التزويج؟ قالت: نعم، ولكن لي خصلة أظنك لا ترضاها. قلت: وما هي؟ قالت: بياض برأسي. قال: فثنيت عنان فرسي، وسرت قليلاً. فنادتني أقسمت عليك لتقفن، ثم أتت إلى موضع خال فكشفت عن شعر كأنه العناقيد السود. فقالت: والله ما بلغت العشرين ولكن عرفتك أنا نكره منك ما تكره منا.
فقال: فخجلت وسرت وأنا أقول:
فجعلت أطلب وصلها بتملق ... والشيب يغمزها بألا تفعلي
في (الأغاني): قالت امرأة لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس! قال بشار: أما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان؟ فقالت له: أما قولك فحسن في السمع، ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع. . .؟ فكان بشار يقول: ما أفحمني قط غير هذه المرأة.
652 - فإنا لله وإنا إليه راجعون!
قال الجاحظ في (الحيوان): بينا داود بن المعتمر الصبيري جالس معي إذ مرت به امرأة جميلة، لها قوام وحسن وعينان عجيبتان، وعليها ثياب بيض، فنهض داود، فلم أشك أنه قام ليتبعها، فبعثت غلامي ليعرف ذلك. فلما رجع (داود) قلت له: قد علمت إنما قمت لتكلمها فليس ينفعك إلا الصدق، ولا ينجيك مني الجحود، وإنما غايتي أن أعرف كيف ابتدأت القول، وأي شئ قلت لها، وعلمت أنه سيأتي - بآبدة - وكان مليا بالأوابد - قال: ابتدأت القول بان قلت: لولا ما عليك من سيمياء الخير لم أتبعك. فضحكت حتى استندت إلى الحائط، ثم قالت: إنما يمنع مثلك من اتباع مثلي والطمع فيه ما يرى من سيمياء الخير، فأما إذ قد صار سيمياء الخير هو الذي يطمع في النساء، فانا لله وإنا إليه راجعون. . .!
653 - لعن الله شر الثلاثة(615/36)
اطلع مروان بن عبد الحكم على ضيعة له بالغوطة فأنكر منها شيئاً فقال لوكيله: ويحك إني لأظنك تخونني
قال: أتظن ذلك ولا تستيقنه؟
قال: وتفعل؟
قال: نعم (والله) إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله. فلعن الله شر الثلاثة.
654 - أردت أن أقول بعد يوم
قال الحمدوني: بعث إلى أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة موضوعة مغطاة وقد وافت عجاب المغنية فأكلنا جميعاً وجلسنا على شرابنا. فما راعنا إلا داق يدق الباب فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال: هو فتى من آل المهلب ظريف نظيف. فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه. فأذن له فجاء يتبختر وقدامى قدح شراب فكسره فإذا رجل آدم ضخم، وتكلم فإذا هو أعيا الناس، فجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وكتبت إلى أحمد بن حرب:
كدر الله العيش من كدر العي ... ش فقد كان صافياً مستطابا
جاءنا والسماء تهطل بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا
كسر الكأس وهي كالكواكب الدري ... ضمت من المدام رضابا
قلت لما رميت منه بما أكره ... والدهر ما أفاد أصابا
عجل الله نقمة لابن حرب ... تدع الدار بعد شهر خرابا
ودفعت الرقعة له فقال: ألا نفست فقلت بعد حول؟ فقلت: أردت أن أقول بعد يوم فخفت أن يصيبني مضرة ذلك. وفطن الثقيل فنهض. فقال: آذيته، فقلت: هو آذاني.
655 - فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال ابن جريج: ما ظننت أن الله ينفع أحداً بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشداً ينشد قوله:
بالله قولا له غير معْتبة: ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن؟(615/37)
إن كنتَ حاولتَ دنيا أو ظفرتَ بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
فحركني ذلك على ترك اليمن والخروج إلى مكة فخرجت فحججت.
656 - لا يتيه وزير في وزارته
قال أبو العيناء: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه على في ولايته الوزارة. فلما صرف رهبني. فلقيني فسلم علي فأحفى. فقلت لغلامي: من هذا؟ فقال: أبو موسى. فدنوت منه وقلت: أعزك الله، والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك. فالحمد لله على ما آلت إليه حالك. فلئن كانت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك. ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك؛ فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم.
فقيل له: يا أبا عبد الله لقد بالغت في السب، فما كان الذنب؟ فقال: سألته حاجة أقل من قيمته، فردني عنها بأقبح من خلقته
657 - سارت مشرقة وسرت مغربا
ذكر بعض الأكابر أن بعض أهل الظاهر في عصر الحافظ ابن حجر كتب على تائية ابن الفارض وأرسل إلى بعض العظماء من صوفية الوقت ليقرظه، فأقام عنده مدة ثم كتب عليه عند إرساله إليه:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
فقيل له في ذلك، فقال: مولانا الشارح أعتني بإرجاع الضمائر والمبتدأ والخبر والجناس والاستعارة وما هنالك من اللغة والبديع، ومراد الناظم وراء ذلك كله.
658 - رفعة. . .
في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب): قال علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر بن عنين الشاعر وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة خالية من معنى، فارغة من فائدة؛ فألقاها إلي قائلا: هل رأيت قط أسقط من هذه مع طول وعرض، فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر، ثم(615/38)
أنشدني لنفسه:
وردت منك رقعة أسأمتني ... وثنت صدري الحمول ملولا
كنهار المصيف ثقلا وكربا ... وليالي الشتاء بردا وطولا
فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة، وعجبوا من حسن المعنى.
659 - كتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحونا
في (تاريخ بغداد) للخطيب:
كتب (المهدي) إلى عبيد الله بن الحسن العنبري - وهو قاضي البصرة - كتابا فقرأه عبيد الله فرده، فحمل عبيد الله إلى المهدي فعاتبه، فكان فيما عاتبه به أن قال له: رددت كتابي! فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين، إني لم أرد كتابك، ولكنه كان ملحونا، وكتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحونا. فصدق المهدي مقالته وأجازه ورده إلى عمله.
660 - وألقيت عليك محبة مني
في (رسالة الصداقة والصديق) لأبي حيان التوحيدي:
ابن سمعون الصوفي: ما يقف البشر على بعد غور قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني) فإن في هاتين الكلمتين مل لا يبلغ كنهه. ولو أن أرق الناس لسانا وألطفهم بياناً أراد أن يتوسط حقيقة هذا القول لم يستطيع، ونكص مبهورا. ثم قال: اللهم، حبب بعضنا إلى بعض، واجمع شملنا إلى رضاك عنا مع إحسانك إلينا؛ إنك أهل ذلك والجواد به.(615/39)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
خلجات الأصابع تدل على تفكيرك
خلجات أصابع يدك تبين محتويات عقلك. فعندما تجري عملية ضرب ويدك مرفوعة في الهواء، فإن اهتزازات أصابعها تكون أقل من اهتزازاتها وأنت تستجم. ويزيد هذا الاهتزاز قبلما تنطق بالجواب بصوت مرتفع.
وقد ذكر هذه الحقيقة الدكتور جون فرنش في نشرة الأبحاث السيكولوجية فقال: إن كمية الاختلاج تزيد بسرعة على أثر صوت مرتفع، أو عقب مؤثر يستدعي استجابة، فإذا طلب إليك أن ترفع يدك في الهواء وتقبض بيدك الأخرى على جهاز معين فان فترة خمود قصيرة تحدث قبل يصبح اهتزاز أصابعك كاملاً.
ويقصد الدكتور فرنش بكمية الاختلاج المسافة الكلية التي يهتزها طرف الإصبع بعامل الاختلاج في ثانية واحدة، وهذه الحركة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالإنسان وهي في اعتباره ظاهرة عضوية (فسيولوجية) توصل دراستها إلى معرفة اتجاهات العقل وتفكيره.
وتوصل الدكتور إلى هذه المعلومات بتجارب أجراها على خمسة أفراد وباستخدام جهاز خاص بذلك فكان يلبس الإصبع السبابة كستباناً متصلاً بعصا طويلة مرتفعة إلى أعلى وتنعكس العصا والإصبع على مرآة محدبة بحيث تتضخم اهتزازات العصا إلى عشرة أمثال الواقع. ثم صور هذه الانعكاسات فحصل على اختلاجات الإصبع مضاعفة عشر مرات.
معدن جديد يستغل
يعد معدن الليثيوم من أخف المعادن إذ يبلغ وزنه النوعي 20 % من وزن الألومنيوم. وهو معدن فضي اللون تفوق الكمية الموجودة منه في كوكبنا الأرضي مثيلاتها من معادن الرصاص أو القصدير
وقد كان معروفا من زمن بعيد، ولكن الصناعة لم تستطيع استغلاله إلا في السنوات(615/40)
الأخيرة؛ فإن الأخصائيين في المعادن تمكنوا من تركيب عدة أخلاط معدنية منه بإضافته إلى المعادن الأخرى. وكانت هذه الأخلاط ثمينة من الناحية الصناعية حتى حرم تصديره
وأزيلت عنه أخيراً قيود التصدير وأبيح استخدامه في الصناعات العامة مما ينبئ له بمستقبل كبير؛ فإن خفة وزنه وشدة مقاومته أتاحتا الفرصة في صناعة أدوات النقل وغيرها إلى توفير كميات الوقود أولا وزيادة السرعة ثانياً فضلا عن رخص الأسعار
لقاح ضد البرد
تدعي بعض شركات العقاقير الطيبة أنها تمكنت من تحضير مصل يقي الإنسان الإصابة بالزكام وما يتبعه من أنواع البرد. وقد حذرت الجمعية الأميركية الناس من تصديق مثل هذه الأقوال كما طلبت إلى الأطباء اعتبار جميع هذه الأمصال في مرحلة التجارب
وبنيت الجمعية بيانها على دراسات قام بها لفيف من الأطباء. وتضمنت هذه الدراسات عدداً كبيراً من أنواع اللقاح مما يتناوله الأفراد عن طريق الفم أو الحقن أو الرش داخل تجاويف الأنف، وكانت نتيجة هذه الدراسات أن أنواع اللقاح كانت سلبية النتيجة، إما لأنها استخدمت مع أفراد قلائل وإما لأنها استخدمت لمدة قصيرة
وقالت الجمعية في تقريرها إنه يجب على الأطباء ألا يشجعوا استخدام هذه العقاقير. فإن أراد الأطباء اختبارها فيجب أن تخضع لقيود خاصة تكشف عن فوائدها أو مضارها حتى لا يتكرر وصفها أو تحضيرها
ويلجأ بعض الأطباء إلى أخذ مواد اللقاح من المريض نفسه، وقد يكون هذا أكثر نفعاً للمرضى أو المعرضين للإصابة بالبرد ولكن الثابت أن أمراض البرد ما زالت تحتفظ بغموضها.
بقايا الدم لقاح
تجمع بعض الهيئات الأمريكية الطبية كميات الدم من المتطوعين لتقدمه إلى الجرحى من الجنود لتعوض به ما يفقدون من دماء حتى يستعيدوا صحتهم، ولكن هذه الهيئات لا تستخدم كل مواد الدم بل تنقص بعضه لإنقاذ الجنود، وتستغني عن المواد الأخرى
وأدت الأبحاث التي أجريت أخيراً إلى أن هذه البقايا الدموية جليلة النفع فهي تستخدم كمادة(615/41)
لقاح ضد كثير من الأمراض ومنها مرض الحصبة كما قال لفيف من أطباء مصلحة الصحة هناك في بيان نشروه أخيراً في مجلة الجمعية الطبية الأميركية
ويؤخذ من هذا البيان أن التجارب أجريت على 814 طفلا أعمارهم بين ستة شهور وست سنوات لقحوا بمستحضرات هذه البقايا وعرضوا للعدوى بوضعهم مع أطفال آخرين مصابين بها
وكانت النتيجة أن نجى من العدوى 654 طفلا وأصيب 160 بحصبة خفيفة و13 طفلا أصيبوا بالعدوى العادية. وبدون هذا اللقاح كان من المؤكد إصابة 80 في المائة منهم بالإصابات العادية
بكتريا لصنع الفيتامينات من الإنسان
يتاح للإنسان أن يحصل على أنواع من الفيتامينات التي يحتاج إليها في غذائه اليومي من نفس جسمه كما قال البرفيسور الفيجم الأستاذ بجامعة وسكونسين
ففي الجسم مصانع للفيتامين. وتدير هذه المصانع أنواع من البكتريا التي تسكن الأمعاء. وقد عرف العلماء هذه الحقيقة منذ جيل من الزمن حينما رجحوا وجود علاقة بين البكتريا التي تسكن الأمعاء وبين طول حياة الإنسان
وتبين الأبحاث الأخيرة تقدماً ملموساً في دراسة هذه الأنواع من البكتريا وإفرازاتها مما يرجى معه إطالة الحياة البشرية وتحسن الصحة العامة
وآخر هذه الأبحاث يدل على أن أنواع البكتريا المنتجة لأنواع الفيتامينات تختلف باختلاف الأحياء. فهي في الكلاب أو القطط تخالف مثيلتها في الدجاج أو القردة أو الإنسان. وتختلف في كل من هذه الأنواع باختلاف ألوان الطعام التي يتناولها، فبكتريا الحيوانات من أكلة اللحوم تخالف مثيلتها عند أكلة النباتات. ويدخل في هذا النطاق نصيب كل منها من الفيتامينات في طعامها.
لافتات للطيارين
وضعت مصلحة الطيران المدني في أميركا نظاماً لإرشاد الطيارين إلى مواقعهم. وذلك بإنشاء 100. 000 لافتة (يافطة) في أميركا. وتقرر أن يكون سمك الحروف التي تكتب(615/42)
بها اللافتات من 9 إلى 20 قدما حتى يراها الطيارون من ارتفاعاتهم الشاهقة. وهي تكتب على الحوائط أو السطوح المرتفعة حتى يسهل على الطيارين رؤيتها كما أنها ستكتب بمواد مشعة تضئ بالليل. ويذكر في هذه اللافتات خط طول المكان وعرضه واسم المدينة كما يرسم سهم يبين الاتجاه الشمالي إلى غير ذلك من المعلومات التي يحتاج إليها الطيار أثناء رحلته وترشده هذه اللافتات أيضاً إلى أقرب مطار يستطيع الهبوط فيه.
فوزي الشتوي(615/43)
حيرة. . .!
للأستاذ عبد الرحمن صدفي
أأهرب من ذكراكِ، أم لست أهربُ؟ ... وهل من وفاءٍ أن يُجنّ المعذَّبُ؟
أأترك هذا البيت قد كان عشَّنا ... وكُنَّا به الإلفَّين والأرض مَعْشَب؟
تناغيني بالحب والكتب وحدَنا ... ويا حبذا مغناك مغنىً ومكتب
أأتركه تركَ الطريد، كآدمٍ؟ ... ويا ليت أني ذلك الزوج والأب
طريدٌ ولا حَوّاء تُبدل جنتي ... بأخرى، فحوَّائي قَضَت قبل تُنجب
أو أبْقَى أوفِّي ذكرياتكِ حقَّها ... أُحَيِّ الصبا والعلمَ فيك وأندب؟
هنا عالم الأنثى، ثيابٌ وزينةٌ ... يُكَظُّ بها تخت ويزدان مِشْجب
أرى المعطفَ الشاتي تريكاً، وطالما ... أفاض عليه الحسنَ عِطْفٌ ومِنكب
ويا رَبِّ، هذا الثوبُ حُلَّةُ سهرةٍ ... وكان عليه العزمُ لولا المغَّيب
وألمح مرآة الجميلةَ عندها ... تفانينُ حَلْيٍ: بَهْرَجٌ ومُذَهَّب
وثَمَّ قواريرٌ تضوَّع عَرْفُها ... قوارير كانت لي بها تتطّيب
هنا الطيبُ والأبراد والحَلْيُ كلُّهُ ... فأين التي كانت بها تتحبّب
إلى أين أمضي عنكَ، يا طيفَ زوجتي ... أليس إلى السلوى مجازٌ ومهرب!!
وأمضي أسرِّي من خبالي، وإنني ... لأُشفق من هذا الخبال وأعْجب
إلى شُرفتي هذي - ويا حسنَ شرفتي ... على النيل تبراً تحتها يتسبسب
كَأنْ قد خَلَتْ من مجلسٍ ضمَّ شملنا، ... وما إن خلا منكِ المكان المحبَّب
أأنسى التناجي في الأصائل عندها ... وبالأُفُق الغربيْ نارٌ تَلَهَّب
نتابع ماَء النهر ينساب حالماً ... ونحن مع الأحلام نطفو ونرسب
مناظر قد كانت، فباخ ضياؤها ... وغام عليها دمعيَ المتصبَّب
فلا حسنَ، كلُّ الحسن كان بمهجتي، ... وقد كان منك الفيضُ، فالآن ينضب
إلى أين أمضي عنك - رُحْماكِ - زوجتي ... أمنكِ إلى ذكراكِ أمضي وأذهب
وأفزع للأسفار في جوف مكتبي ... تجاورَ فيها أعجميٌّ ومُعِرب
إلىَّ جميعاً - بالتعازيم والرُّقي! ... فَبي طعنةٌ مسمومة لا تُطَبَّب(615/44)
أفيكنَّ من جرح الحياة مَخِّدرٌ ... أفيكن أفيون، أفيكن قِنَّب؟
فما حاجتي علمٌ وشعرٌ وحكمةٌ، ... وكيف، ويومي مستطار عصبصب
وكيف، وهذا الشعر كان نشيدَنا ... وذي صفحةٌ للفن كُنّا نُقلّب
وهذي تواريخٌ، وتلك مشاهدٌ ... مررنا بها سّيان شرقٌ ومغرب
وتمتد كفّي نحو سِفْر أريده ... فترجع كالملدوغ مسَّته عقرب
فهذا كتابي، ربِّ! هذا كتابها ... قرأناه نستقضي معاً وننَّقب
مجاميع أبحاثٍ، متون تفلسفٍ ... بهن حواشيٍ، وهي ذاك المعقِّب
أيا زوجتي، قد كنت حافظ مكتبي، ... وقارئَه قبلي، ونِعْمَ المرتِّب
لمن أستجدّ الكتب في كل مطلب ... وقد كنتِ لا يعدو اهتمامَك مطلب
فكم من علومٍ كنتِ من نَهَم الحجى ... جُهَيْنَتَها، َتْرَوْين منها وأنغب
تفوقتِ تحصيلا وحسنَ إفادةٍ ... ولم تكتبي يوماً وقد كنتُ أكتب
وكنتِ ترجّين الحياةَ لتقرئي=إلى جانبي، والصِّنو للصنو يطرب
وحيدان نستوحي الدفاتر علَمها ... صموتان لا نلغو ولا نتغضّب
خلونا - وفي هذا التفرُّد أُنسُنا ... وفي صمتنا نجوى الهوى والتحبب
ويا زوجتي، كنتِ المدّبر عيشتي ... فعيشيَ أهنا العيش طرَّا وأطيب
حرصتِ على مالي، وصُنْتِ مغيَّبي ... وأخلصتِ لي في الحبّ والحبّ قُلَّب
تقومين في شأني - وثمة خادمي، ... وحُبَّ من الزوج العَروب التَعرُّب
وماليَ في الأهلين بعدك عائضٌ ... ولو قام منهم في ركابيَ موكب
وتلتاع نفسي إن تعهّد مَلْبسي ... سواك ووفّاني الذي أتطلَّب
أأشعر أني عن تعهد زوجتي ... غَنيتُ، لقد آثرتُ أني المترَّب
وما بيَ من سُخْف وما بيَ جِنَّةٌ ... ولكنه الحب الشديد المؤرَّب
خيالك يا زوجي كظِّليَ إن أَسِر، ... وإن أَبقَ تمثالٌ أمامي منصَّب
خيالك لا أقوى عليه، فأنه ... - وقد صار جزءا من حياتي - مُغَلَّب
إلى أين أمضي عنك - لا أين - زوجتي ... وما ليَ غير الموت بعدك مذهب(615/45)
أصداء. . .
للأستاذ أنور العطار
ما كان أَفْدحَ أحزاني وأعظَمَها ... لو كنت أحمِلُ مِنْ ماضيَّ أَحْزَانَا
خَلَّفْتها صارخَاتٍ منْ كآبتِها ... وَعُدْتُ أضحَكَ خَلْقِِ الله أجْفانَا
يا بَؤْسَ قَلْبي لو عاشَتْ بساحتِهِ ... لمَادَ مِنْ عِبْئِها وانهَدَّ أركانَا
وأنت يا بهْجَتِي عُودِي ويا فَرحي ... أمْلأ فؤادي تَرْنِيما وسُلْوانَا
وظُف بروحي في الآفاق حاليةً ... والنَجِمِ مُتَّلها والبدر وسنانا
وهاتِ من نَغَم الأملاك قافية ... وهاتِ من فلك الأفاك ألحانا
لَعَلَّني من أعاليلي وأخيلَتي ... أيبتُ في رغَد الأحلام نشوانا
ُخذِ الفؤادَ صَدِيئا مِنْ كآبِتِه ... وهاتِ َقلْباً من الآمالِ ريَّانا
جَمَّ الوَلُوع كثيرَ الشَّوْق لاهِبهُ ... يَطْوي الليالي مَفْتونا وَهَيْمَانَا
إذا ألَمَّت بِهِ الأوْجِاع هَدْهَدَهَا ... حتَّى تزَايِلَهُ بُرءاً ونِسْيانا
أطُوفُ بالغَابِر النَّائي فُيرْمِضُنِي ... أني مَلأتُ رباعَ الأمْس أشْجَانَا
وأنْ طَوَيْتُ عَلى غَمٍّ صَحَائِفَهُ ... وأن مَرَرّتُ بحُلْوِ العُمْرِ أسْوَانَا
وأن شَقِيتُ وكان السَّعدُ يكلَؤُني ... وأن ضَجِرتُ فَذُقْتُ المرَّ ألوانَا
فلَيْتَ أحْلامَهُ دامتْ مناعِمُها ... وَلَيْتَ طُول التَّشكِّي منه ما كانا
كأنَّ أصْداَءه قد خامَرَتْ كبدْي ... فَفَجَّرتْنِي أشواقاً وتحنانا
يا فرحة العمر عودي غير آيسة ... وأطمِعِينِي في لقاك أحيانا
لعلَّ قَلْبي وقد هاج الحنين به ... يعيش في غمرة التذكار سكرانا
كأن أعرافه قد ضخمت خلدي ... وأوسعتني أطياباً وَرَيحَانا(615/46)
معاد الربيع
(قطعة من ديوان (أصداء بعيدة) الذي تقدمه جماعة الفكر بعد
أيام. . .)
للأستاذ العوضي الوكيل
عُدْتَ يا صاحب الربيعَ، وعُدْنا ... فامضِ في الكونِ كيف شئت! وشِئْنا. . .
قَد روينا عَنكَ القصائدَ زُهرا ... فارْو هَذِي القصائَدَ الزُّهر عنا!
ورسمنا ما راقنا من مرائي ... ك، وهل فيك منظر لم يرقنا!؟
قد عَمرْتَ الحياةَ رُكناً فَركناً ... وغَمْرتَ القصيدَ وزَناً فوزناً!
لَكَ مَسرىً أخفى من الرُّوح في الجس ... م تَهادى في خاطِري واطْمأنا!
قد سَلكتَ الحياة في سببٍ مِنْ ... كَ فَزِدْت الحياة سِحرا وَفنا!
أنتَ في الغصن حينما يتثنى ... أنت في الطير حينما يتغنى!
ربَّ لحن سَرَى إلى النفسِ رَوْضاً ... ورياض سَرينْ في النفس لحناً!
ضمَّ عَوْدُ الربيع بَلْبَلة الأك ... واَنِ طرّاً فانسَقْن في النَّفس كوناً. . .(615/47)
البريد الأدبي
أريحية كريمة
تأثر كريم عظيم لم يرد أن نذكر اسمه، حين قرأ وصية الرصافي المنشورة في العدد الماضي من (الرسالة) فتبرع بجنيهين مصريين لخادمه عبد، وقد أرسلناهما بالبريد المسجل إلى صديقنا الأستاذ طه الراوي ببغداد ليؤديهما إلى هذا الخادم المسكين.
جواب عن تساؤل واستفهام:
قرأت في العدد 610 من الرسالة الغراء في البريد الأدبي (ص 214) كلمة للسيد أحمد حمد آل صالح تحت عنوان (تساؤل واستفهام)، فأكبرت له إحفاءه في التساؤل، ودقة ملاحظاته في النواحي التاريخية، وأحببت أن أجيبه إلى بعض ما سأل عنه:
1 - من أنعم النظر في معجم الأدباء الذي قام بطبعه المستشرق مارجليوث طبعتين، ثم حذت حذوه دار المأمون في طبعتها المشكولة - علم أن كل هذه الطبعات كانت عن نسخة واحدة لا ثانية لها، وإذا كانت هناك نسخ أخرى فإنما هي ناقصة مخرومة. ومن هنا يجد المتصفح للكتاب المذكور أن بعض الأعلام لم يرد منها في الكتاب إلا النزر اليسير، فإن المسمين - من الأدباء - بعمرو كثيرو العدد جداً، مع أنه لم يرد منهم في هذا المعجم إلا أربعة، وكذلك المسمون بعبد الله لم يرد منهم إلا عشرة، والمسمون بعمر لم يرد منهم إلا بضعة عشر، مما يدل بوضوح على أن قسماً كبيراً من هذا الكتاب لا يزال في طيات الخفاء. يعرف ذلك كل من تصفح هذا الكتاب من أهل المعرفة بكتب الطبقات ومعاجم الأعلام.
2 - هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فإن لياقوت معجمين اثنين واحدا منهما للشعراء والآخر للأدباء. والظاهر أن الأمر قد اختلط على بعض الوراقين فنقلوا من معجم الشعراء ترجمات وضموها إلى معجم الأدباء مثل ترجمة الفرزدق وصريع الغواني وأبي دلامة ومن إليهم.
3 - على أننا نرى أن نترك كلمة الفصل في الجواب لياقوت نفسه إذ قال في مقدمة كتابه هذا ما نصه: (وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين، واللغويين، والنسابين، والقراء المشهورين، والإخباريين، والمؤرخين، والوراقين المعروفين، والكتاب(615/48)
المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، أو جمع في فنه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز).
ثم قال: (وكنت قد شرعت عند شروعي في هذا الكتاب أو قبله في جمع كتاب في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، ونسجتها على هذا المنوال، وسبكتها على هذا المثال في الترتيب، والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين، والكبراء المتصدرين، لا تخلو قرائحهم من نظم شعر، وسبك نثر، فأودعت ذلك الكتاب كل من غلب عليه الشعر، فدون ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشأنه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها، وأما من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف، وصحت روايته، وشاعت درايته، وقل شعره، وكثر نثره، فهذا الكتاب عشه ووكره. . . وأجتزئ به عن التكرار هناك، إلا النفر اليسير الذي دعت الضرورة إليهم، ودلتنا عنايتهم بالصناعتين عليهم، ففي هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء، من العلماء والشعراء، وقصدت بترك التكرار، خفة محملة في الأسفار. . .)
ومن هذا يعلم القارئ الكريم السبب في إغفال ياقوت في معجمه هذا ذكر حسان بن ثابت والحطيئه والأخطل. . . الخ لأنه ذكرهم في معجمه الثاني. وأن من جاء ذكره من الشعراء في هذا المعجم ممن لم يشتهر بالتأليف مثل الفرزدق، فإنما هو من عمل الوراقين ليس غير.
ونحن لا نشك في أنه إذا تيسر العثور على معجم الشعراء يتبين التمايز بين هذين المعجمين.
4 - أما الأئمة العظام الذين لم يشتهروا بقول الشعر أو النثر الفني كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد فلا معنى لإثباتهم في هذا المعجم. أما الإمام الشافعي، فله شعر معروف، ونثر موصوف، لا يزالان خالدين إلى يوم الناس هذا. والمعروف أن الإمام الشافعي طلب الأدب قبل أن يطلب الفقه. وقد روى الرواة أن عبد الملك ابن قريب الأصمعي قال: قرأت شعر الهزليين على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس (يعني الشافعي).
ملحوظة: ذكر الكاتب الفاضل اسم البحتري بين الشعراء الذين أغفلهم ياقوت في معجمه(615/49)
هذا. مع أن ترجمته وردت مبسوطة في الجزء التاسع عشر من (ص248 إلى ص258) ويظهر لنا أن السبب في ذكره بين الأدباء يرجع إلى كونه معدوداً في زمرة المؤلفين، فإن له ديوان الحماسة الذي عارض به حماسة أبي تمام، وقد طبع بمصر في المطبعة الرحمانية سنة 1929 فاستحق بهذا أن يعد بين الأدباء، كما هو معدود في الطليعة من فحول الشعراء.
(بغداد - كلية الحقوق)
هاشم الراوي
في الأدب الحديث
أعتقد أن الذين قرءوا شعر الدكتور إبراهيم ناجي يلذ لهم كثيراً أن يتعرفوا رأيه في الأدب الحديث، واتجاهه في الشعر الحديث، فلا عجب إذا ما احتفت كلية الآداب، بجامعة فاروق الأول بالدكتور ناجي محاضراً في الأدب الحديث.
وقد تجلى احتفاء كلية الآداب السكندرية بالدكتور ناجي في كلمة موجزة شاء الأستاذ العميد عبد الحميد العبادي أن يقدمه إلى الحاضرين بها، فتحدث في إيجاز عن العلم والأدب، وشرح في دقةٍ وعمقٍ كيف تغزر بالعلم مادة الأدب، وكيف ينبغي أن يكون الشعر بعد أن مازجت الثقافة الحديثة بينه وبين العلم، ثم حدثنا الأستاذ العبادي عن أوجه الشبه بين العالم الأديب - الجاحظ - وبين الطبيب الشاعر - ناجي - وبين الفيلسوف المجرب، فرنسيس بيكون، ذلك الرجل الذي نحل مسرحيات شيكسبير لما كان من شهرته في الأدب، تلك الشهرة التي طغت عليها شهرته كعالم وفيلسوف مجرب
وبعد أن غادر الأستاذ العبادي منصة الخطابة وقف الدكتور ناجي وابتدأ حديثه عن الأدب، منكراً على الكثيرين من المشتغلين بالأدب فهمهم لمصطلحات الكلاسيكية، والرومانتيكية، والرمزية، سارداً بعض كلمات الرمزيين من الأدباء، وهي كلمات لا مدلول لها، وكنا نحب أن يذكر لنا الدكتور ناجي أسماء أولئك الأدباء حتى نكون على بينة من الأمر أولا، وحتى نستطيع دراسة هؤلاء الرمزيين بأنفسنا على ضوء من دراساته التي عرض لنا لوناً منها
ومهما يكن من شئ، فقد ضرب لنا الدكتور ناجي مثلاً أوجه الخلافات بين المذاهب الثلاثة،(615/50)
فقال: إن الكلاسيكية تصنع تمثالا من المرمر دقيق الصنع، معبراً عن أرستوقراطية الفن، وترفعه عن الأحاسيس الشعبية، فتأتي الرومانتيكية فتضع أحمر في شفتي التمثال. ولا ندري، أتصنع الرومانتيكية ذلك تظرفا أم نزولا إلى منطقة المحسات الشعبية؟ أما الرمزية فتسدل على التمثال رداء من الحرير المتموج
والدكتور ناجي حريص أشد الحرص على أن يحتفظ المجدون من الشعراء والأدباء بالتراث الأدبي القديم، وأن يتمسك الأولون بعمود الشعر، أو على حد تعبيره أن يضعوا الخمر الجديد في الزجاجات القديمة. فلا جديد في الشعر يمكن أن نزعم أنه منبت عن القديم. وليس من شاعر معاصر إلا وهو متتبع خطوات من سلف. وقد ضرب الدكتور ناجي مثلا بشوقي. فقال إنه كان من أعرف الشعراء بدقائق الشعر القديم.
ولقد كان نصيب الأدب الإنجليزي - القديم والحديث - من عناية الدكتور المحاضر نصيب الأسد كما يقولون! فقد طاب له أن يسرد لنا نماذج عدة من ذلك الشعر على سبيل الاستشهاد
على أن إحجامي عن إثبات ما استشهد به الدكتور ناجي من شعر مترجم لا يمنعني من أن أعتب عليه، وهو الداعي في غضون محاضرته إلى شعر القوة، قراءته ذلك الشعر - العريان - على حد تعبيره في حشد من طالبات الجامعة، وكان بحسبه أن يشير إلى من شاء بأن يقرأ شعر (لورنس - إن يرد أن يطلع على لون من الأدب المكشوف)
الإسكندرية
علي حسن حموده
وحدة الروح والهوى:
أربعة من الشباب جمعت بين قلوبهم آمال حلوة، وعقدت بين أرواحهم أواصر القربى آلام مرة، ولم شملهم صلات من الفكر واتفاق النظرة إلى الحياة، ونزعات من خلجات الفؤاد.
كنا - ولانزال - نلتقي كل ليلة عند صديق لننفس عن نفوسنا بما نعي من أحاديث، وبما نتداول من آراء، وبما نتطارحه من أخبار الشعر والأدب: فنتعرض للحرب، وننقد الأوضاع، ونقرظ الحسن، ونسخر مما يدعو إلى السخر.(615/51)
ففي ليلة من ليالينا اللاهية الجادة، أقبل علينا صديق، وبيده الأعداد الأخيرة من مجلة (الرسالة) الغراء. فقلت: هاتها، هاتها، هات مصر مثقفة، هات الينبوع السلسال! فقال: كلا ولكن انصت؛ فصمت وصمت الآخرون، وراح صديقنا يقرأ: (لاحت في جوانب العام المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت روافد الأماني هنا، وتحلبت أشداق المطامع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم، كما وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد. . .)
وهنا هتف صديقنا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: إنها والله زياتية يا رفاق، فقلت: لعلك تعني هذه الفقرة من المقال، فقال: أي والله، أمعن في قوله (فأوحى إليه أن يتحد) فصمتنا جميعاً نتصور مبلغ ما أوتيت هذه العبارة من جمال
ومضى صاحبنا يقرأ حتى بلغ: (ذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصدعوا به، وعملوا له؛ وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع. والتاريخ المشترك) فصمت صاحبنا وقد غرقت عيناه بالدموع وكان مؤثراً في قراءته، فالتفت إلى صديقي الأنصاري وقلت: ماذا؟ فقال: حسب الزيات أن يبكي من جراء قلمه الأدباء! ثم وضع جبهته على كفه وراح يفكر، وللأنصاري في عوالم الفكر سبحات
يا لروعة البيان! سطور ثلاثة تجمع كل روابط العرب في بيان ضاحك باك، هذه الروابط التي يبعث ماضيها في النفس سروراً وبهجة، ويسكب حاضرها الكسير في القلب لوعةً وشقاءً!!!
سطور ثلاثة طوت التاريخ منذ خلق الله البشرية إلى اليوم الذي نعيش فيه، (فالوطن المشاع) ما هو غير هذه البلاد العربية؛ مصرها وشآمها، ونجدها وعراقها وحجازها ويمنها وحضرموتها.
ما هو الوطن المشاع غير هذه المقاطعات المقسمة المحددة المبعثرة المفرقة (واللغة الواحدة) ما هي غير لغة القرآن؟ ما هي غير لغة الخلود، لغة الضاد أمنا الزءوم وعزنا القوي، ورجاؤنا الكريم؟
ما هي (هذه اللغة الواحدة) غير ما قلت وغير ما ثار عليه صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا؟ عفى الله عنه.(615/52)
(والتاريخ المشترك) ما هو غير هذه الصفحات الوضاء بأسطار المجد وآيات النضال؟ ما هو غير هذه السطور الشعاعة بالعظمة والخلود
ما هو هذا التاريخ المشترك غير ما نقول، ويقولون، وغير ما يقرره الشرق، فيعترف به الغرب، ما هو غير هذا وأكثر من هذا؟
وهذه (القرابة الواشجة) أليست مستقاة من الدين واللغة والرحم والوطن.
فما نحن وهذه الروابط؛ أليست داعيا قويا إلى أن نتحد ثقافةً ولغةً ووطناً؛ فنقوى بعد ضعف، ونعرف بعد جهل، ويقام لنا ويقعد، بعد أن كنا غفلا من كل عناية لا يؤبه لنا، ولا يقام لنا وزن!
لهذا فلنتحد. وقد أوحى الله إلينا بالاتحاد لننجو من حرب ما بعد الحرب.
ورضى الله عنك أبا رجاء وأرضاك.
(مكة)
عبد الله الفاطي(615/53)
الكتب
أربعة كتب
1 - القومية والعروبة
2 - المنتخب المدرسي من الأدب التونسي
3 - إلى الأبد
4 - عطر ودخان
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
1 - القومية والعروبة
هذا الكتاب على صغر حجمه يعد من أمتع ما كتب في موضوعه. سار فيه مؤلفه الأستاذ نقولا زيادة، من حياة القبيلة أو العشيرة، إلى حياة المدينة فالدولة، وذكر فيه فكرة نمو القومية والوطنية أولا، ثم وقوفها أجيالا طويلة، ثم عودتها ثانية للظهور بعد عصر النهضة الأوربية المعروفة بالرينسانس. وذكر أثر تلك النهضة في التحرر الفكري والتعبيري الذي كان من نتائجه محاولة التعبير عن النفس باللغة الوطنية: وتلك هي الخطوة لنشأة الشعور الوطني والقومي.
وللعروبة في هذا الكتاب فصل يعد، على إيجازه الكثير، تلخيصاً جيداً لتاريخ الأمة العربية، والموجات التي انساحت منها. ولو أن المؤلف أطال في هذا الفصل لاستطاع أن يلائم بين فصول الكتاب من حيث معالجة الموضوع. وذلك ما نعيبه على صديقنا المؤلف؛ فإنه لم يكتف بنصيب العروبة الضئيل في مكانها العالمي الآن، حتى جعل نصيبها في كتابه ضئيلا.
والأستاذ نقولا منصف للإسلام ومتعصب لعربيته. وهو يدعو غير المسلمين - وهو منهم - إلى إتقان اللغة العربية، وفهم القرآن الكريم فهماً صحيحاً. وفي ذلك أجران: أجر المسلم عند ربه، وأجر غير المسلم عند نفسه وعند عروبته، وعند أبنائه الذين ينشأون على منهج(615/54)
عربي صحيح.
وهذا كلام فيه من الجمال، والسماحة، واتساع الأفق، وصدق الوطنية، وقوة الروح العربية، ما لا يصدر إلا عن فتى عربي مثل أخي المسيحي نقولا زيادة، الأستاذ بالكلية العربية بالقدس، وخريج جامعة لندن، والذي أهدى كتابه (إلى كل من علمني درساً في الوطنية).
2 - المنتخب المدرسي من الأدب التونسي
العروبة كلها وطن واحد مهما تباعدت بها الأصقاع. ألم يكن المتنبي ينشد الشعر في حلب فتردده الدنيا في كل بلدة عربية من العراق، إلى مصر، إلى اليمن. واللغة العربية رباط يصل بين العرب والمستعربين. وقد وصل في التقديم بين العرب وغير العرب ممن أظلتهم الراية الإسلامية.
وما أحوجنا نحن العرب، في هذه الأزمان، التي تلعب فيها الأحداث السياسية أدواراً جساماً، إلى أن نصل بين تراثنا الفكري، ونصل منه ما قطعت الأيام.
في تونس أدباء، وفي تونس شعراء. ومن ثرى تونس الخضراء نبت علماء، نبتت لهم في الفكر العربي شئون، مثل ابن خلدون.
وإذا أتاحت ظروف النبوغ لرجل مثل ابن خلدون أن يشتهر في العالم العربي، وغير العربي، فإن مئات غير ابن خلدون لا نزال نحتاج إلى التعرف إليهم، والقراءة لهم.
وهذا ما فعله الأمير حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي، حين أخرج كتابه (المنتخب المدرسي من الأدب التونسي). وقد أحسنت وزارة المعارف المصرية في طبع هذا الكتاب، الذي يعرف أبناء العروبة بإخوانهم في العروبة والإسلام أهل تونس من أهل الشعر والأدب والعلم. كما أحسن سعادة حسن حسني عبد الوهاب في تأليف هذا الكتاب وإهدائه إلى كل تلميذ عربي نجيب.
والواقع أن أستاذنا المؤلف الفاضل كان متواضعاً في إهداء كتابه إلى (التلميذ)، فهو كتاب يهدى إلى المعلم والمتعلم على السواء. ولكن في الرجل تواضعاً يبعد به عن الادعاء.
لقد أمتعني هذا الأمير التونسي المتواضع العالم بهديته النفسية التي عرفتني إلى فضيلة أرضه وفصل قومه. وهم إخواننا وجيراننا. والحق أن هديته هذه باقة تونسية مختلفة الثمر، ناضرة الزهر. ولو أنها وصلت إلى أدباء القرن الرابع عشر الهجري، لعرفتنا(615/55)
بتونس الحديثة التي يهم كل عربي أن يعرف كثيراً عن أدبائها وشعرائها وعلمائها. ولكننا نطمع منه في دراسة أخرى تصل حاضر تونس بماضيها، ولعله فاعل إن شاء الله.
3 - إلى الأبد
هذه ملحمة شعرية جديدة للأستاذ إلياس أبي شبكة، الأديب الشاعر اللبناني المعروف. أخرجتها دار المكشوف ببيروت. وهي دار لصنيعها في النهضة الأدبية الحديثة أطواق في أعناقنا. ولقد حاولت أن أدرس شعر هذه الملحمة الفاتنة على وجه واسع إلا أن (الرسالة) الغراء قيدتني في هذا المكان الضيق وقالت لي أكتب! كما يقيد الرجل الطير في قفص ويقول له غرد!
ولست بمستطيع ذلك على سبيل يرضي عنه النقد والذوق. فآثرت أن أنقل إلى القراء بعض أبيات من هذه الملحمة تعرفهم بنفسها وتدلهم على جمالها. قال:
جنت الدنيا كما نهوى فجنى ... إنما الدنيا هوى منك ومني
أنزلت عيناك في صحرائها ... من سماء الحب سلواي ومَنيِّ
وقال:
أحبك. . . لا أدري لماذا أحبها ... كيفاني إيماني بأني أشعر
وأهوى الذي تهوين حتى كأنني ... بقلبك أستهدي وعينيك أنظر
وقال:
أحبك لا أرجو نعيما يصيبني ... وأبذل من قلبي ولا أبتغي جدوى
وقد كنت أهوى فيك حسنا أناله ... فأصبحت أهوى فيك فوق الذي أهوى
وقال:
كنت في الناس كالنساء فلما ... جئت قلبي ظهرت شعراً ولحناً
وزرعت الآمال فيَّ نجوماً ... أي كنز أحب منها وأغني؟
نحن يا ليلَ أسعد الناس فلنغ ... فر لهم كل ما يقولون عنا!
ولقد كنت وأنا أمضي في قراءة هذا الديوان - أو هذه القصيدة الفريدة - أخط بقلمي على كل موضع فيه منها جمال. فلما كثرت الخطوط خرجت من هذه المهمة بأن القصيدة كلها نشيد عذب من الجمال. فأهنئ الأخ الشاعر (إلياس أبو شبكة) على تحفته، وأشكره على(615/56)
هديته. والقصيدة كلها - على اختلاف أوزانها وقوافيها - تجري على نغم حلو الرنين مستقيم الوزن
ولقد وقفت وأنا أقرأ هذه القصيدة عند بيت أعجبني وهو:
سوف نغدو في الورى أسطورة ... ينقل الناس الهوى عنك وعني
أترى في أي ديوان قرأت مثل هذا البيت؟ ولأي شاعر ينسب هذا المعنى؟ ألم يقل شوقي في مصرع كليوباترة:
غننا في الشوق أو غنى بنا ... نحن في الحب حديث بعدنا
نعم قال شوقي ذلك. ولكن الياس أبو شبكة زاد عليه قوله (ينقل الناس الهوى عنك وعني) وتلك زيادة شرح وبيان زاد بها المعنى حلاوة وليست من فضول الكلام.
4 - عطر ودخان
اشتهر الأستاذ محمود تيمور بالقصة وله فيها مكان مشهور أما أدب المقالة فلم يطالعنا منه إلا هذا الكتاب الجديد (عطر ودخان). فهو محاولة أولى من قلم تيمور؛ ولكنها محاولة ناجحة، فإن أفكار تيمور التي كان يبثها في خلال قصصه ومسرحياته نراه اليوم يبثها في خلال طائفة من المقالات الممتعة.
ولكن أليس لنا أن نتساءل لماذا عدل تيمور عن فن القصة في معالجة المشكلات إلى فن المقالات؟ هل وجد في المقالة متسعاً للعلاج لم يجده في القصص والمسرحيات؟ جواب هذا السؤال عند تيمور نفسه. ولكننا نستطيع أن نؤكد له أن هذه المقالات فيها من المتعة الفنية الكثير. وأن فيها من روح القصصي الكثير. وأن فيها نفوذاً إلى دقائق الحياة عالجها تيمور في هدوئه ورفقه أكثر مما يعالج الكتاب الاجتماعيون بالأرقام والمستندات. . .
وأول شئ في هذا الكتاب فصل عن الرجعية الحميدة وكونها من دعائم النهضة الحديثة. فالأستاذ تيمور في هذا الفصل العميق ينادي بأن نأخذ من الجديد ما يبقى على شخصيتنا ويجعلها قوية نامية. وينادي بأنه ليس من المستطاع قطع الصلة بالماضي قطعاً باتاً مهما يكن من أمره ومهما تكن المصلحة في هذا القطع. فما يدعو أليه ولاة التجديد من نفض اليدين من تراث الماضي مضاد للطبيعة القاهرة التي جعلتنا زبدة ذلك الماضي. وهذا كلام جميل وخاصة أن الرجل كمحمود تيمور عرف ثقافة العرب وثقافة الغرب. ولعل هذه(615/57)
الصرخة الكريمة من تيمور مضافة إلى صرخات المعتدلين تحمل المغالين في تحقير القديم على أن يخففوا من غلوائهم.
وهذا الفصل الأول جعله تيمور جداً كله، ولهذا صدر به كتابه الجديد، إلا أن في الفصول التالية جمعاً بين الجد والدعابة. ودعابة تيمور كالجد لأنه يرسلها في جو من الحياء والاستحياء والوقار فيختلط على قارئه الأمر ولا يدري أجاداً كان أم مداعباً. . .
ومحمود تيمور بارع في الصور الوصفية للرجال، ولا شك أن لوحاته الثلاث لشقيقه إسماعيل باشا تيمور ولصديقه زكي طليمات وبشر فارس هي مما يحملنا على أن نستزيده من مثلها لأخواننا الأدباء. . .
محمد عبد الغني حسن(615/58)
المسرح والسينما
نقد فيلم (القلب له واحد)
تأليف وإخراج بركات. إنتاج آسيا
القصة:
تصور طبقتين مختلفتين، الطبقة الأولى تعقدت نفوس أصحابها بحب المظاهر وهذه يمثلها ملك هانم وابنتها منى، والطبقة الثانية صفت نفوس أصحابها فساروا في الحياة سيراً طبيعيًا لا يعتوره مغالاة ولا تكلف، وهذه تمثلها سعاد. والجميع في بيت واحد هو بيت شوكت بك، فملك زوجته تحوط ابنتها منى برعايتها وحنانها. وسعاد - ابنته من زوجته الراحلة - منطوية على نفسها ترسل تغاريدها شجية فيستمع لها الجدم ويمسحون دموعها فتتعزى بعطفهم وتنسى ما ألم بهم من حرمان. وهنا شاء المؤلف أن يكون هناك صراع بين الفتاتين حول رؤوف فأيهما ستفوز؟ هذه منى بجمالها المتكلف تلاحق رؤوف في كل مكان وتحاول - بمعاونة أمها - أن تطويه، وتلك سعاد لا تملك من السلاح إلا البساطة والسذاجة وعلى الرغم من ذلك فلا يتردد رؤوف في اختيار سعاد فأنساها بذلك ما لقيته في الحياة من شقاء. فغنت سعاد ولكن غناءها في هذه المرة يختلف عما اعتادت أن تغني به فكان ذلك خير ختام للقصة.
هذا هو ملخص لقصة الفيلم وقد وفق المؤلف في إبراز فكرته في بساطة محببة وأسلوب لطيف خال من الافتعال الذي نلمسه في أكثر الأفلام.
التمثيل:
صباح - قامت بدور (سعاد) فنجحت كممثلة أولاً لأن المخرج لم يرهقها بتعاليمه وإنما تركها على سجيتها فاستطاعت أن تكون ممثلة وممثلة عظيمة، أما كمطربة فقد تعاون زكريا والقصبجي ورياض على تكييف صوتها، واستطاعت هي أن تأسر الجمهور بصوتها وهي تغني (أروح وألا ما أروحش - وانا مالي كده متخده - وبشويش على عقلك بشويش - وحيرانه يا ربي)
أنور وجدي: قام بدور (رؤوف) وكان من الممكن أن يكون هذا الدور درة أدوار أنور(615/59)
العاطفية. ولكن المخرج كان يعلم أن أنور ليس بالممثل العاطفي، فجعل كل مواقف النجوى بينه وبين صباح أقرب إلى الفكاهة وحسناً فعل، فقد نجحت تلك المواقف وخاصة عند لقائهما على شاطئ النيل وفي البيت حين ظنته سارقاً. والحقيقة أن أنور يجيد تمثيل دور العاشق العابث، أما العاشق الجدي الذي كان جديراً أن يسند إليه هذا الدور فلم تعثر عليه السينما المصرية بعد.
سليمان بك نجيب - قام بدور - (شوكت بك) وكان عليه أن يكون ضعيفاً مستسلماً في أول الفيلم فكان الضعيف المستسلم ثم كان عليه أن يثور في آخر الفيلم فثار وهنا. وهنا فقط ظهرت موهبته. ميمي شكيب - قامت بدور (ملك هانم) وهو دورها الذي تجيد تمثيله من غير شك. فردوس محمد - قامت بدور (الدادة) فأدته على أكمل وجه، أما محمد كامل وإسماعيل يس وعبد الحميد زكي وعبد النبي محمد (فريق الخدم) فكانوا موفقين كل التوفيق. يحيى مراد - نجم جديد ظهر في بعض الأفلام ولكنه في هذا الفيلم أثبت موهبته على الرغم من قصر دوره. الضوء، والصوت، والمناظر. لا بأس. .
الإخراج: لم يخل الإخراج من بعض الهنات كان من الممكن تلافيها مثال ذلك: مهاجمة العصابة للسيارة من غير أن يحاولوا الاستخفاء حتى على النظارة، والمغالاة في معاملة ملك ومنى لسعاد (والعريس) الذي جاء لخطبة سعاد على صورة مشبعة بالافتعال وموقف سعاد وهي تنتظر والدادة. وإجادة سعاد للرقص مع أنها ترقص لأول مرة، وموقف سعاد من رؤوف في نهاية الفيلم، وليس بمعقول أن تخدع فتاة - مهما كانت سذاجتها بشاب أنيق مثل رؤوف بأنه (غلبان ومسكين ومش لاقي ياكل). وعلى الرغم من هذه الملاحظات فقد قفز بركات بفن الإخراج قفزة موفقة نهنئه عليها.
أما بعد، فإذا كانت السينما في مصر لم تزل موسوعة يحوي الفيلم الواحد مواقف متعددة. درامية وكوميدية ورقصاً واستعراضاً وغير ذلك فإن مخرج هذا الفيلم قد نجح في المزج بين هذه الأشياء وفي نفس الوقت عالج مشاكل اجتماعية لها خطرها في أسلوب رائق متجدد خال من الافتعال والتكلف والحشو، ولا يسعني إزاء هذا المجهود إلا أن أهنئ آسيا وأتمنى لبركات ولجميع من اشتركوا في الفيلم اطراد التقدم.
عبد الفتاح متولي غين(615/60)
العدد 616 - بتاريخ: 23 - 04 - 1945(/)
إلى صاحب المعالي عبد الرزاق السهوري بك
رأي واقتراح
إن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق
المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم عن طريق المدرسة،
ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق
الترجمة
يا صاحب المعالي، إن أخص ما يميزك على نظرائك في العلم والحكم أنك تقدس الحقيقة وتطلب الحق. وإن سبيلك إلى ذلك عقل راجح واضح يتعمق ويتبسط، ويحيط ويستوعب، ويدقق ويحقق، ويستقرئ ويستنبط؛ فإذا رأيت الحق في جانبك أقنعت ومنطقك سديد وحجتك ملزمة؛ وإن رأيته في الجانب الآخر اقتنعت وعقلك راض ونفسك مسلمة. وقد أجمع الذين عرفوك أن في مناقشتك الرأي أو في مطارحتك الحديث متعةً للعقل والذهن؛ لأنك توضح الخطة وتحدد الرسوم وتعين الغاية، ثم تعرض الرأي عالما بما تقول، وتسمع الرأي فاهماً لما يقال، ثم تعارض القول بالقول، وتوازن الدليل بالدليل، ثم تحكم الحكم المسبب لك أو عليك فلا تدع للمكابرة والمماراة سبيلاً إلى استئناف أو نقص!
لذلك أحببت أن أتقدم إلى معاليك برأي يتصل بالتقافة؛ ويقيني أنك إذا اقتنعت به أمضيته؛ وإذا أمضيته كان حرياً أن يضيف عصر الفاروق إلى عصر عصور بركليس وأغسطس والمأمون ولويس الرابع عشر، وهي كما تعلم العصور الذهبية التي تحدد المراحل المتعاقبة للإنسان المتمدن في طريقه إلى المعرفة.
تعلم معاليك أن أدبنا الجديد لا يزال ناقصاً في نوعه قاصراً في بيانه. ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس، فلم يغذه ماض ولم يمنه حاضر، فظل مخدج الخلق لا هو حي ولا هو ميت. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخصم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت(616/1)
عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل حيناً بعد حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا في أكثر ما استجد فيه غذاء عقله ولا رضا شعوره؛ لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد منه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه!
فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوالم أثراً في الأدب.
والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة، ومجمعنا اللغوي على ما نرى من نشاه لن يقدم إلى الناس معجمه المنتظر إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدة يومئذ كمعجم (لسان العرب) اليوم! والزمان يا معالي الوزير يسرع، والعالم كله يجد، والساري على مركب العجز لا يلحق، والبيان قاصر لصف الخرس، واللغة الناقصة ثلاثة أرباع الجهل.
وما قلناه في اللغة والأدب تقوله في العلم والفن؛ فإن ما في العربية منهما لا يعدو في الغالب أن يكون ملخصات مجهولة النسب، أو مقتبسات قليلة الغناء، إذا نفعت أحداً فإنما تنفع طلاب المدارس. أما الشعب الظامئ إلى المعرفة فلا يجد بين يديه من أمهات الكتب العلمية والفنية ما ينفع غليله ويسد عوزه. وما دام المر كذلك فسيظل اللسان العربي والعقل العربي محصورين في حدود القرون الوسطى لا يواكبان ركب الحياة، ولا يسايران تقدم الفكر.(616/2)
إن العلوم اليوم أوربية وأمريكية ما في ذلك شك. وإن الفروق التي باعدت بين الشرق والغرب في مدلول الإنسانية الراقية إنما يجمعها كلها لفظ العلم. وهذا العلم الذي يسخر السموات والأرض للإنسان الضعيف، ويذلل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى ملكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر؛ ولا يمكن أن يصلنا به أو بديننا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة.
فالترجمة إذن يا معالي الوزير هي الوسيلة الأولى لدفع القصور عن اللغة، وسد النقص في الأدب، وكشف الظلام عن الأمة. وبحسبنا أن ننقل معجماً من المعاجم العلمية الأوربية لتصبح لغتنا كاملة وثقافتنا شاملة؛ فإنا مضطرون في أثناء الترجمة أن نضع المصطلحات الحديثة لكل علم وفن، فلا يتم المعجم حتى تتم اللغة. وإذا نقلنا إلى العربية نتاج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنكليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان، أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتت فيه ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس.
لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين؛ فإنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر؛ أو قل إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدهما بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية.
هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحة مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه؛ وقد(616/3)
تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية. على أن ما ينفق في سبيل هذا العمل العظيم يقل مهما كثر في جانب ما يؤتيه من تجديد اللغة، وتطعيم الأدب، وتعريب العلم، وتعميم الثقافة، وتدعيم النهضة، وتسيير القراءة، وتشجيع القارئ، وفي تحقيق منفعة واحدة من هؤلاء تخليد لذكر من قام بهذا العمل أو شارك فيه أو أعان عليه؛ فما بالك إذا حقق هذه المنافع جمعاء؟
ذلك جوهر الفكرة يا معالي الوزير عرضته عليك، أما النظر في تأثيلها وتفصيلها فأتركه إليك.
احمد حسن الزيات(616/4)
النيف في العدد
للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي
في مقالة (أبو العلا المعري) في الرسالة الغراء 604 في الحاشية رويت هذا الخبر في (الموشح):
(نظر يعقوب الكندي في شعر أبي تمام فقال: هذا رجل يموت قبل حينه، لأنه حمل على كيانه بالفكر. ويقال: إن أبا تمام مات لنيف وثلاثين سنة)
فقال لي في القاهرة عالم كبير: (لثلاثين سنة ونيف)
فقلت: هذا ما جاء في (لسان العرب) - عنيت المعجم - ولكن المبرد في (الكامل) في مواضع كثيرة قدم هذا المؤخر. ومثله غيره من الأدباء وكتاب السير والمؤرخين والعلماء. والذي ورد في (الموشح) هو كلام الإمام المرزباني لا ريب فيه، ولا تبديل وقد بعثني تنبيه ذلك العالم على إملاء هذه الأحرف.
لم تجئ (النيف) مع العدد - حسب ظني - في كلام جاهلي أو إسلامي متقدم، فهي في هذا الاستعمال إسلامية متأخرة أو مولدة متقدمة. وإذا صاحبت قولاً جاهلياً أو إسلامياً متقدماً فقل: أنه مصوغ أو مبدل أو هو من عند راوية المحدث. ذكر المسعودي في (المروج) هذه الجمل من خطبة منسوبة إلى علي (رضى الله عنه): (وقد زعمت قريش أن أبن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحروب. تربت أيديهم! وهل فيهم أشد مراساً لها مني، لقد نهضت فيها وما بلغت الثلاثين، وها أنا ذا قد أريت على نيف وستين)
ورواية الرضي في (المجموعة النهجية) (وها أنا ذا قد ذرفت على الستين)، ورواية المبرد في (الكامل): (ولقد نيفت اليوم على الستين)
فإن قال الإمام ما قال فليس هناك إلا (ذرفت أو نيفت على الستين) فاعرف ذلك ولا تثق بما روى المسعودي.
لم يقل ابن دريد في كتابه (جمهرة اللغة) - وهو أقدم معجم بعد العين - في النيف إلا هذا (النيف الزيادة من قولهم نيفت على السبعين أي زدت عليها) ولم يزد. . .
ولم يحدث سيبويه في (الكتاب) ولا ابن سيده في (المخصص) في تلكم اللفظة في باب العدد بشيء.(616/5)
يقول الجوهري في صحاحه: (النيف الزيادة، يخفف ويشدد، وأصله من الواو، يقال: عشرة ونيف ومائة ونيف)
وقال اللسان: (الأزهري: يقال: هذه مائة ونيف - وبتشديد الياء - أي زيادة، وعوام الناس يخففون ويقولون ونيف، وهو لحن عند الفصحاء. الأصمعي: النيف والنيف كميت وميت. قال اللحياني: يقال: عشرون ونيف ومائة ونيف وألف ونيف، ولا يقال إلا بعد عقد.
وفي (المصباح): قال أبو العباس: الذي حصلناه من أقاويل حذاق البصريين والكوفيين أن النيف من واحد إلى ثلاثة، والبضع من أربع إلى تسع، ولا يقال نيف إلا بعد عقد نحو عشرة ونيف ومائة ونيف وألف ونيف.
وفي (همع الهوامع): هما - يعني البضع والبضعة - من ثلاث إلى تسع، وبذلك فارقه النيف فإنه من واحد وفارقه أيضاً في أنه يكون للمذكر والمؤنث بغير هاء.
فالنيف كما يستدل مما أورده الجوهري والأزهري واللحاني والفيومي - تتأخر ولا تتقدم، تعطف على العدد، ولا يعطف عليها. وقد قدم المبرد فقال في كامله (رغبة الآمل ج3 ص181:. . . فقال الحسن ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف ملاح. ومثل ذلك في ج 4 ص 197 وج 7 ص 244 وفي ج 8 ص 95 وأنا أروى هذا الخبر بكامله إكراماً لبطولة المهلب وبنيه ورجاله وبطولة قوم شجعان يقول شاعرهم وقائدهم:
ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أساقك بالموت الزعاف المقشبا
فما في تساقي الموت في الحرب سبه ... على شاربيه فاسقني منه واشربا
قال أبو العباس:
وجه الحجاج إلى المهلب رجلين أحدهما من كلب، والآخر من سليم يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم! وحمل يزيد عليهم، وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب على فرس له أدهم وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل(616/6)
يزيد ولى الجمع، وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني: من لهذين؟ قال: أنا. فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشنى فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطاً جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً. فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء فحجزوا بينهما، فإذا معانقة امرأة، فقال قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقالت: أرأيت لو قتلت، أما كان يقال قتلته امرأة.
ولم يناقش العلامة المرصفي في (رغبة الآمل) صاحب (الكامل) في موضع من المواضع الأربعة في حين أنه نبه على أشياء غير قليلة في كتابه.
والحريري الذي اعتاد تخطئه الصواب في (درته) لم يغلط إلا من خفف النيف.
وقال أبو بكر الخوارزمي في إحدى رسائله (ص132 مطبعة الجوائب): في نيف وسبعين من جماعة شيعة.
ومثل هذا الاستعمال في مروج الذهب ج 2 ص 195 وج 3 ص 58.
وفي تاريخ الطبري ج11 ص 212.
ومثله في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) ج1 ص 216 وج 2 ص141 وج 4 ص215 وج 16 ص219 وج 17 ص231 وج 18 ص81.
ومثله في (معاهد التنصيص) ج1 ص102 وج 2 ص116 و182 وفي (كليات أبي البقاء) ص360.
ذلكم ما جاء في مصنفات القوم، وقد نزل النيف في أقواله حيث نزل. وإنا لنستبعد تبديل ناسخين فيها. فما الذي حملهم على تقديم الزيادة على المزيد عليه؟
هل قاسوا النيف على البضع في بعض حالاته فقالوه، أو استخفوا هذا التركيب فمشوه. وهل عليهم فيما أتوه من حرج؟
وهل نؤخر نحن معشر العرب في هذا الزمان أو نقدم. .؟
محمد إسعاف النشاشيبي(616/7)
لماذا تفلسف الإنسان؟
للدكتور محمد البهي
يعتبر مؤرخو الفلسفة القرن السادس قبل الميلاد بداية التفلسف الإنساني. والفلسفة إذا قيل في شأنها إنها محبة الحكمة، والتفلسف إذا عبر عنه بأنه البحث عن الحكمة، فمن غير شك أيضاً أن الفلسفة في أول عهدها مجموع المعارف التي حررها الإنسان أو استخلصها من المعارف السابقة على عهدها، وأن التفلسف في بداية عهده أيضاً نظر الإنسان في هذه المعارف السابقة لاختيار ما يصلح منها في رأيه للبقاء. فالفلسفة هي معارف مختارة، والتفلسف هو إعمال الروية في تصفيف المعارف التي كانت متداوله في الجماعة الإنسانية إلى حين التفلسف في القرن السادس قبل الميلاد.
والتفلسف إذا كان تصفية واختيار يفرض طبعاً وجود مجموعة من المعارف بعضها محلاً للتصفية والاختيار. وقبل عهد التفلسف كانت هناك معارف متداولة في الجماعة الإنسانية، ولكنها كانت كلها معارف إلهية، أي كانت منسوبة إلى الآلهة، وكانت طائفة بالذات هي طائفة رجال الدين أو من تسمى بالكهنة تقوم بشأنها وتتعهدها بالحفظ والتناقل والشرح. وما عدا هذه الطائفة من طوائف أخرى كانت تقف من هذه المعارف موقف القابل المطيع الذي لا يسمح له بمعارضة أي نوع منها ولو معارضة نفسية داخلية، فضلاً عن معارضتها بالتفنيد عن طريق الحجة أمام آخرين، فهذه المعارف لها قداستها من الجميع، وقداستها تمنع نقدها وتحتم قبولها.
والإنسانية في جماعات مختلفة وفي أجيال متعددة قبلت المعارف الدينية، وقبولها يتضمن تقديسها وعدم نقدها، وتقديسها وعدم نقدها ينسحب إلى تقديس من يقوم بأمرها وعدم معارضته. وما عرف للإنسان من عمل فيها كان عبارة عن شرحها شرحاً عقلياً يساعد على رواجها لدى أصحاب القلق النفسي من التابعين للدين. وبهذا كان عقل الإنسان في خدمة التعاليم الدينية ولتأييد قداستها وقداسة القائمين بأمرها. وقد نسترسل فندعى أو خدمة الإنسان لهذه التعاليم عن طريق عمله العقلي لم يكن لعهد وجودها ونشأتها فحسب، بل استمرت أيضاً في مراحل تطورها. والإنسان بعقله كما أيدها أيضاً وقد دخلتها صنعة الدين. وربما كان تعظيم طائفة الكهنة وتميزها عن بقية الطوائف في الأمم الشرقية القديمة(616/8)
من عمل الإنسان المؤيد أو من نتائج تأييده لتلك التعاليم عن طريق عمله العقلي، ولم يكن بوحي أصل من أصول أديان تلك الأمم.
وقبل التفلسف الإنساني أو قبل التفلسف الإغريقي في القرن السادس قبل الميلاد كانت تسيطر إذا على معارف الجماعة الإنسانية عدة مظاهر:
1 - كانت المعارف الدينية وحدها هي التي تقود الإنسان.
2 - وكانت طاعة الإنسان لهذه المعارف ناشئة عن تقديسه لها واعتقاده بعصمتها.
3 - وكان القائم بأمر هذه المعارف، سواء بتعليمها وتلقيها أو بشرحها وتحديد مدلولات عباراتها، طائفة معينة هي طائفة الكهنة.
4 - وعمل الإنسان العقلي كان مرتبطاً بأصول هذه التعاليم وفي خدمتها ولغاية تمكينها من النفوس الحائرة.
وإذا كان القائم بأمر التوجيه في الجماعة الإنسانية طائفة معينة، وإذا كانت في توجيهها تصدر عن إرادة الله ومن تعاليم وسيط في الكون وهو الرسول، وإذا كان غيرها من الطوائف في الجماعة عليه أن يخضع ويطيع فحسب، فليس هناك من ضمان في أن يبقى توجيه الطائفة المعينة في دائرة التعاليم الأولى للدين. وليس هناك من ضمان أيضاً في أن يكون شرحها لهذه التعاليم في حدود الغاية التي يبغيها صاحب الرسالة، بل يجوز أن تجعل هي من الدين سراً تختص بعلمه دون بقية التابعين وهو غير ما عرض على هؤلاء التابعين، ويجوز أن تشرح ما عرف لهؤلاء باسم الدين بما تراه هي لا بما يهدف إليه الدين نفسه. وإذا جعلت من الدين سراً خاصاً بها فليست هناك لأحد استطاعة في أن يراقبها فيه، وإذا فسرت ما عرفه الناس من تعاليم الدين بما تراه هي فإسناد التوجيه إليها خاصة وقيامها وحدها دون سواها بأمر هذه التعاليم يحميها من التجريح ومن رميها بأتباع الهوى والغرض في التفسير. ثم نسبتها إلى مقدس هو الدين يزيد في حميتها وفي إبعاد الأغراض الخاصة عنها.
وفي طبع الإنسان إذا شعر بالتمييز أن يطمع في أن تتسع دائرته حتى ليود أن يصبح طبيعة أخرى مغايرة لطبيعة الإنسان ولكنها أرقى منها. ورجال الدين أو طائفة الكهنة كانت متميزة لأنها اختصت بمعرفة الدين وشرحه والقيام عليه، وطمعت أيضاً في أن يزداد(616/9)
تميزها. وقد زاد حتى عدت في بعض العهود أبناء للآلهة أو من سلالتها كما اعتبرت بعض الطبقات الأخرى عبيداً لها.
وانقسمت الجماعة الإنسانية عندئذ إلى قسمين متقابلين: قسم شريف هو طائفة الكهنة، وقسم أخر خسيس هو العمال والأكرة.
وإذا الإنسان أو ادعى تميزه إلى حد أن يعتبر طبيعته مغايرة لطبيعة من دونه، في الوقت نفسه يتولى هو أمر هذا الذي دونه، فتوليه للأمر يصدر فيه عن الشعور بالمفارقة. والكهنة كذلك جعلوا تكاليفهم ورسومهم في العبادة مختلفة أيضاً.
وهكذا آل الدين الذي شأنه أن يسوى بين الناس في الطبيعة ويجعل تفاوتهم في بعدهم أو قربهم من مثله الأعلى، إلى أن يكون عاملاً في التفريق بين طبائعهم. وهكذا آل أمر رجال الدين إلى أن يكونوا طبقة متميزة، وآل توجيههم إلى أن يكون إملاءً للمحافظة على تميزهم أو للمحافظة على بقاء دولتهم. وبالتالي أصبح الدين صناعة محتكرة، وأصبحت المعرفة المسيطرة على الجماعة الإنسان إلى سعادته، بل لإسعاد طائفة معينة.
هذا المصير الذي صارت إليه المعرفة الدينية، وصار إليه رجال الدين فيما قبل القرن السادس قبل الميلاد، وصارت إليه الجماعة الإنسانية، حمل بعض الناس على أن يثور، وعلى أن يسلك طريق الفكر في ثورته للرد والإقناع. ولم تكن ثورته الفكرية حباً في معالجة الجدل، بل لوضع حد لامتهان الإنسان، ورد اعتبار الإنسان، وتخليص الإنسان من الإنسان، وإسعاد كل فرد من الإنسان لا طائفة معينة بالذات. وتوجه هذا البعض إلى تعاليم الكهنة لا ليقرها ويقبلها كما كان الشأن بالنسبة إليها بل لينقذها. ومعيار نقده ليس السماع والرواية، وليس الإذعان للعصمة والقداسة، بل عقله ومنطقه.
وأطلق على هذه الثورة الفكرية تفلسفاً. والنفر الذي رفع علم هذه الثورة كان من الإغريق. والشرق إذا كان فكر قبل هذا، وأنتج في محصول الفكر البشري، فقد كان على نحو ما بينا في دائرة الدين ولخدمة المعارف الدينية. والإصلاح التي قامت في الشرق لرفع مستوى الإنسان ورد اعتباره وإزالة الفوارق الطائفية كانت إصلاحات دينية كالزرادشتية والبوذية. فالأولى كانت تعديلا دينياً أو إصلاحاً دينياً للديانة الشعبية الآرية التي قامت على عبادة النار والطبيعة المحسوسة، والثانية كانت تعديلاً للبراهمية التي حولت الجماعة الهندية إلى(616/10)
طبقات متفاوته في الطبيعة.
وبنشأة التفلسف تكونت الفلسفة، وأصبح في الجماعة الإنسانية نوعان من المعرفة: المعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفية أو الإنسانية. وإذا كانت الأولى يدعى فيها العصمة، فالثانية للإنسان أن يصوب أو يخطئ فيها. وإذا كانت مبادئ الأولى محدودة لأنها وقف على الوحي، فالثانية قابلة للزيادة والنماء لأنها في متناول كل الأجيال الإنسانية. وإذا كان رجال الدين هم المحافظون في كل أمة بحكم موقفهم من عدم التصرف في معارف الدين، فالفلاسفة هم رجال الثورة الفكرية وأصحاب التطور في توجيه الإنسان. وإذا كان رجال الدين يضعفون من قيمة الإنسان واعتباره، وقد يلغون أثره في الحياة، ويردون كل أثر فيها إلى الله، لتتضاعف بذلك عظمة الإله، فالفلاسفة يشيدون بالإنسان وينسبون إليه أثراً ويسندون إليه فعلاً في تغيير الحياة نفسها.
والفيلسوف وإن كان رجل ثورة على التعاليم الدينية، فثورته في الواقع على التعاليم التي كونها الإنسان باسم الدين، والتي ربما قلب بها أوضاع الدين وحرف بها هدفه. والفيلسوف وإن رمى بالإلحاد فرميه به عادة من رجال الدين، وليس بلازم أن يكون منكراً للدين وإن أنكر تعاليم رجاله. ولكنه مع عدم إنكاره الدين لا يبلغ مبلغ رجل الدين في إلغاء وجود الإنسان بغيه إظهار عظمة الله.
ولأن التفلسف في بدايته كان خروجاً على تعاليم رجال الدين وعلى المألوف من المعارف المسيطرة على الجماعة الإنسانية عد الفيلسوف مناوئاً لرجل الدين وعدت الفلسفة عدوة للدين. وبمقدار ما في القضية الأولى من صدق بمقدار ما في الثانية من مبالغة. إذ الأديان في طبيعتها تنظر إلى أفراد الإنسان نظرة مساواة وتهدف إلى إسعادهم جميعاً، وكذلك الشأن في الفلسفة، وفقط طريق أحدهما قد يختلف عن طريق الآخر.
وكما لم تستطع الفلسفة أن تلغى الأديان كذلك هذه لم تستطع إلغاء الفلسفة، بل الفلسفة إن لم تنته إلى ما ينتهي إليه الدين، تعترف بحيز له لا تستطيع السير فيه إذا اقتحمته، والدين في وضعه الأصلي إذا لم يشجع التفكير الإنساني في دائرة ما يرسمه له يدع له مجالاً خاصاً به، لا يبدى - إذا أبدى - رأياً في ناحية من نواحيه إلا عن طريق الإجمال.
وما بين الفلاسفة ورجال الدين، فلأجل توجيه الإنسان. فالفلاسفة يرون أن رجال الدين لما(616/11)
لتعاليم الدين الذي ينسبون إليه من قداسة، ولما لهم هم أنفسهم من طبيعة إنسانية تميل إلى الجاه والسلطان، قد يكون لهم خطر على الإنسان في قيادتهم له إن احتكروا الدين وجعلوا فهمه وفقاً عليهم وحدهم. فلكي لا يقع هذا الخطر يذكر الفلاسفة بتفلسفهم الإنسان بقيمته واعتبار وجوده، حتى لا يكون انجذابه إلى تعاليم رجل الدين عن غير روية واختيار. ورجال الدين لأنهم يرون في الفلاسفة منكرين لإفهامهم الدينية ومفرقين بين الدين وتعاليمهم، ومحرضين الإنسان على عدم الانقياد لهم في يسر وسهولة يقررون بعد الفلاسفة عن التوجيه الصحيح للإنسان ويصورونهم منحرفين عن الدين.
وإذا كانت الفلاسفة في بدايتها تكونت من المعارف الدينية، فالفلاسفة في العصور المختلفة إلى عصرنا نشئوا تنشئة دينية وكانوا من رجال الدين قبل أن يصيروا من رجال الفكر، وإن اختلفت بدايتهم عما صاروا إليه، فليس لأنهم أنكروا الدين، بل لأنهم خالفوا رجال الدين في تصويرهم للدين وعرضهم له.
وإذا كان تفلسف الإنسان في أول الأمر لرفع طغيان الإنسان باسم الدين، فلم تزل حرية التفكير التي هي أساس التفلسف وسيلة الإنسان السلمية لتكبح اعتداء الإنسان باسم أي شيء آخر.
محمد البهي(616/12)
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
مع العالم الأكبر
لنا نحن الآدميين عالم صغير، هو الأرض. شغلنا به وبصغاراته عن العالم الأكبر وغاياته، بل إن لأكثرنا عالماً لا يعدو أن يكون بيته أو حجرته أو حقله أو وظيفته أو ديناره أو كأسه أو بطنه، إلى آخر هذه التفاهات.
وقد مضينا نقطع العمر هكذا دائرين على هذه الصغارات كما يدور الذباب على القاذورات والعفونات. . . وكأنه لا يعنينا من شأن هذا العالم الأكبر الذي نرى معالمه العظيمة في السماء تضيء لنا، وتنادي عيوننا بنورها إلى النور الأكبر الذي يضيء ذلك العالم، ما نراه ولا ما نراه، لنتجه إليه بآمالنا وأفكارنا ومساعينا، ولتتسع سماحة نفوسنا باتساع عالمنا الذي يشغل بالنا؛ فإن الذي يتجه إلى الكثير ويعنى بالعظيم، قليلاً ما يخاصم على القليل والحقير. وإن السر في سماحة النفس التي شغلتها السماء فلم تخلد إلى الأرض، هو هذا الاتجاه إلى مفاتح الرحمة وكنوز الثراء وخزائن النور الأعلى!
لهم عذرهم أولئك الذين مضوا قبل التاريخ، وقبل معرفة جدود الأرض وضآلتها ومركزها الصغير في الكون، أن تشغلهم أنفسهم أو ديارهم الضيقة، أو جزرهم المنثورة في محيط مائي، أو واحتهم الضالة في بيداء، وأن يحسبوا أن العالم ضيق لضيق ما يعرفون. . .
ولكن، لا عذر لأبناء هذا الزمان الذي يتلقى صغارهم وناشئوهم كثيراً من حقائق الكون وأوضاع الأرض وأخبار الأمم مما لم يبسر عشر معشاره لفلاسفة تلك الأزمنة التي خلت وبادت
كما كان يشير الرواد الأولون بأيديهم صوب الدروب والبقاع المجهولة التي كشفوها ورادوها، ينبغي أن يشير الآن رواد الحياة والعلوم للناس إلى الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه وحده إلى حقائق الوجود الحالي وعلومه ومعارفه. . . ينبغي أن يشير المعلمون والآباء للأطفال إلى ذلك الطريق. . . ويفتحوا مداركهم على فجاج الحياة ومناجع الأسرار، وأن يشعروهم رهبة الرحلة في هذا الكون!
ينبغي أن يقول الوالد الجسدي أو الروحي لولده عند ما تتفتح مداركه ويستطيع التمييز: يا(616/13)
بني إني جئت الحياة مثلك. وقبلي جاء أبي وأبو أبي، في حبل نسل طويل يتصل بآدم أبي البشر. . . لنرى هنا ما تراه أنت اليوم بعيونك الجديدة. وقد أصاب عيني الكلال من كثرة التحديق إلى مشاعل النور التي تراها فوق. . . ولم يشغلني عنها من ظلمات الأرض. وحسبك نظرة بالليل الرهيب لترى أن عينيك غريبتان في هذه الظلمات! لأنها لم تصنع لها غربة روحك في كثافة جسمك التي لم تخلق لها. . .
يا بني إن عينيك مخلوقتان لنور الشمس والنجوم التي تعرفها في السماء. . . وكذلك روحك مخلوقة لنور الكون وروحه. ولا تستطيع حياة الظلام الأرضي. . . فأرفع عينيك إلى منابع نورها، وارفع روحك إلى منبع نورها. . . يا بني إننا ألقينا في ظلمات هذه الأرض لغرض عظيم خفي من أغراض واهب الحياة. ثم لا نلبث أن نرفع ونعود إلى ذلك العالم الذي ألقينا منه.
يا بني فكر دائماً في أن تتخذ سلماً تعرج عليه روحك إلى هذا العالم، ولا تخلد إلى الأرض إخلاد حشراتها وحيواناتها الدنيئة. ولا تدم النظر إلى تفاهاتها وحقارتها وضيقها، لئلا يضيق نظرك وخلقك وفكرك، وتعشى عيناك من رؤية النور، وهو ما يجب أن تبصر به. . . شتان بين عقلين أحدهما يحدق في النور والثاني يأبى أن يرفع عينيه إليه.
الأول أوسع وأعلم وأروح. . والثاني أضيق وأجهل وأكثف. . . لأنه مطارد ملهوف خائف من فوات فرصة حياة الظلام التي لم ير غيرها إلى غير رجعة، فهو يملأ منها كل أوعيته، وكلما امتلأ غاص حتى لا يبقى منه على سطحها إلا ما يبقى من فقاعة على سطح وحل وحمأ مسنون!
على عتبة من عتبات الكون!
إنما مثل الله، جل جلاله، مع أحدنا حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وأدخله هذه الأرض ليريه من عجائب ملكوته ما يشير به شهوته وتطلعه للخلود، وحبه للمتاع بملكوته وعجائب صنعه، كمثل غنىٍ أخذ بفقير جائع عارٍ إلى قصره الفاخر، وأوقفه على عتبته وفتح له الباب، فرأى من موقفه هذا ما أثار شهوته للطعام والمتاع والسكني في هذا البيت. . . ولا شك أنه سيسأل هذا الغنى ويتمنى عليه أن يمنحه دخول هذا القصر والخلود فيه والمتاع بما به من بهجة وتعاجيب وثراء. . ولا شك أن موقفه الصحيح ينبغي ألا يكون شغل(616/14)
النفس بعتبة المنزل، ورؤية واجهته وحدها بدون تطلع إلى ما وراءها. . .
كذلك هذه الأرض إنما هي عتبة من عتبات ملكوت الله الذي لا نرى إلا جزاءاً ضئيلاً من سطحه في السماء. . . ينبغي لنا ألا نخلد إليها وننسى ما وراءها. بل ينبغي أن نسأل الله مالك هذا الملكوت الأعظم، ونلح في السؤال أن يدخلنا إلى واسع ملكوته ورحاب رحمته وسبحات جماله وأفانين صنعه. . .
ذلك هو الموقف المعقول إن كنا ذوى طبع سليم وعقل غير مصروف ومزاج غير مؤوف!
دود!
رأيت دوداً حقيراً شنيعاً يرعى في جيفة كلب بشراهة، فتذكرت مصيري وفزعت. . .
ثم رأيت فكري يقول في رنة أسف وألم وتحد: أنت يا هذا الدود تأكلني وتمزق أوصالي وتغيبني في جوفك. . . ثم تفنى أنت أيضاً.!
لي الله! لك الله يا جسدي وأعضائي التي تجمعت لأكون! لكما الله يا قلبي ويا مخي! يا موضعي الأسرار الذهبية مني! والله لما اختزنتماه من معاني الحق والجمال والحب والخير والإيمان إن كان مصيرها كمصيركما!
هبوا أحشائي السفلى ومواضع القذر في جسمي تفنى هذا الفناء وتصير إلى المصير الرهيب؛ ولكن ما بال رأسي وقلبي يفنيان مع هذه الأنجاس والأقذار.! ما بال الرأس يساوى القدم واللسان يساوى الظفر!!
أنا فتى هذا الفناء مع الكلاب!!
كلا! لست هذه الأوصال. . . ولكنها دوابي وآلاتي أركبها وأعمل بها، تفنى وتتجدد في حياتي وتتهدم وتتخرب بعد مماتي. . . أنا الساكن المستخفي في جسمي ولا أراه! والذي يحدثني الآن ويحاكمني ويدير هذه الآلات ويوجهها. . ذلك كائن آخر له شأن آخر. . .
إنه هو الذي يتخلى عن تلك الأوصال. وسواء بعده رأس وقدم، وعين وظفر؛ فإنها آلاته ترساً ومسماراً، وجهاً أوقفا، لابد له منها ليعلم بها ما هنا ويستكمل شئونه.
إنه هو الذي ينظر أوصالي في جوف الأرض ويتعجب من شأنها معه الآن، وشأنها بعد أن يتخلى عنها. . .
إنه هو الذي يذكرها الآن بمصيرها لتجد وتعمل وتأخذ نصيبها من الإحساس والشعور(616/15)
والفكر والعلم والقوة والنزوع قبل ألا تستطيع.
أنه راصد يقظ دائماً وراء الحس والفكر، يقول هذا حسن وهذا قبيح، وهذا حق وهذا باطل. . .
إنه من عالم الصحو المطلق، والإدراك الكلي، والخلود السرمدي، والانطلاق الحر، والجمال الدائم. لا يفزع من ذلك المصير الحقير لنعله الباليه التي بها يسير في أوعار الأرض وأشواكها ومجهولاتها ومهولاتها، بعد أن يقضي منها أوطاره. .!
إن هذه الأوصال طين مزوق، لبسته روح الحياة فمنعت عفونته وظلمته، وقللت كثافته. . . ثم لا يلبث إذا فارقته أسرار الحياة أن يختمر ويتخلل، شأنه شأن كل نوع من طين الأرض، يوقد عليه في حرارة الحياة. . . فلا بأس أن يذهب روح الحياة ويتركه يرتد إلى ما كان. . .
ومن الطين وروح الحيوان تولد كائن آخر هو الإنسان الذي يستعلى على ذلك المصير الفاني، ويتعلق بالفكر العالي، والجمال السني، والكمال السري. . . هو الذي فزع حين رأى جيفة الكلب، وأبى حكمه ويقينه أن يكون مصيره مصير روح هذا الكلب، وإن سلم لقميصه المادى أن يجيف كما جيفت جثة الكلب. . .
عطر الخلود ورباه:
خبرت الحب، فلم أره من أشياء هذا العالم الفاني. . . وإنما هو من الخالد. . . هو عطر الخلود ورباه، يهب حين يتماس قلب بقلب فلا يشعر به غيرهما. . .
وإذا صح أن الحب في أكثر حالاته البشرية هو عاطفة مهددة للزواج والشعور بالجنس، أو أنه خدعة لتحقيق مآرب من امتداد النوع. . . وإذا صح أن ثمرة الغريزة هي الولد، والنسل هو امتداد الشخصية الأبوية، وأنه صورة من صور الخلود الذي تتعلق به وتتمناه كل ذات لنفسها. . . إذاً فقد صح قولي، إن الحب هو صبوة النفس إلى عالم الخلد. . .
ويحس الفرد حين يصرعه الحب، ويغدو قلبه في يد هذا الطفل العابث الدائم الطفولة، أنه يتهافت على موارد الحياة، ويهفو قلبه إلى جميع مصادر الأنس والبهجة والتفتح والخفة والطيش إلى ما تعزف النفس عنه حين لا تكون في قبضة ذلك الطفل. وهذا يؤيد عندي أن الحب هو مفتاح الشعور العميق بالحياة، وأكبر دافع إلى خوض غمارها وخبر شعابها.(616/16)
وليس يكون تصوير الحب أصح وأوفق من تصوير قدماء اليونان إياه، حين صوروه طفلاً. فالشعور بالطفولة وارتداد النفس إليها بين المحبين، هو أخص صفاته وسماته؛ إذ هو يرد الشيخ والكهل إلى حب الحياة والتجمل والتزين لها، كحب الأطفال وتجملهم. . .
ولا غرابة مع هذا أن يكون الحب مستشاراً سيئ الرأي. . . لأن طفولته تمنعه من سداد الأحكام!
عبد المنعم خلاف(616/17)
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
مقدمة
كان عندنا مدرس (فاضل)، يعلمنا إنشاء ولا ينشئ، ويريد أن يجعلنا كتاباً وما كان قط كاتباً ولا صاحب قلم، وكان مما لقننا من مسائل هذا (الفن. . .) ولم نستفد منه لأننا لم نعمل به، أن القطعة الأدبية يجب وجوباً لا جوازاً أن تجيء في أحد عشر سطراً، في كل سطر إحدى عشر كلمة، فإن زادت على ذلك فهو الإسهاب الممل الذي وصفه أهل البلاغة، وإن نقصت فهو الإيجاز المخل، وأن الموضوع إن انتشر على الكاتب واتسع كان عليه أن يأخذ من أطرافه، ويضم بعضه إلى بعض، ولو بتر في سبيل هذا النظام (الأحد عشري) عضواً منه أو هدّركناً، حتى يعود إلى حده، ويدخل في أحد عشر سطراً لا تزيد، وإن ضاق عن ذلك وكان في أقل منه مجزأة ودلالة على القصد ووفاء بالمرام، كان على الكاتب أن ينفخ الموضوع حتى يكبر، أو يركب له فوق أعضاء أخر، ولا بأس أن يخرج مخلوقاً مشوهاً عجيباً. . .
لقد مرّ على هذا المدرس دهر طويل، وأكبر الظن أنه قد ذهب إلى رحمة الله، ولكني كلما عرضت لي فكرة لا تبلغ أن يكتب فيها مقال ذكرته، فأنا أضيع صوراً وخواطر كثيرة لأنها تجئ في الجملتين أو الثلاث ولا تؤلف مقالا، ومن حقها عليّ وحق القراء ألا أضيعها، وأن أدونها كما هي. . .
لذلك فتحت هذا الباب (مقالات في كلمات) أطرقه كلما تجمع لدى من هذه الكلمات ما يصلح للنشر:
ردوا علينا فننا
كنت أجوز أمس سوقاً في حي بلدي من أحياء القاهرة، أسرع الخطو لأنجو من هذا البلاء الذي يأخذ بالعين والأنف والأذن، قذارة ورائحة مزعجة وضجة مدوية، وفي بعض هذا ما يهرب منه، وإذا بي أسمع صوتاً تيقظت له روحي وتنبهت أعصابي، صوتاً منبعثاً من قهوة هناك ذكرني أيامي الخوالي وبلدي ومجالسي لي فيه. وا شوقاه إلى هذه المجالس!(616/18)
صوتاً أبصرته يطفو على وجه هذه الأمواج العاتية من ضجة السوق وصراخ الباعة، يرقص نورانياً، ثم يذهب في جوانب السوق القذرة فيغسلها، ويطهرها ويحيلها جنة شممت عبيرها، ورأيت وردها، وسمعت تغريد بلابلها، ذلك الصوت هو (دور) قديم للصفتي طالما سمعته فلم أمله، ولم تبل في أذني جدته، هو دور (يا الله اصلح الحال) الذي يقول فيه، يصرخ صرخة متألم محروق (أنا على نار في انتظار مطلوبي) و (يا اللي عليك العين تبكي أشوفك فين) يرددها وما أحلى ذلك الترداد إذ يقلب فيه الأنغام والقلوب، وهذا هو سر فننا، وفيه براعة المغنى من مغنينا، أما الغافلون فيسحبونه ترداداً نمطياً، وقولاً معاداً، وهو السحر، وهو الفتنة. . . لقد نسيت منه السوق، ونسيت يومي، وعشت مع هذا العاشق الذي تبكي عينيه على حبيب لا يدري أين مقره ومثواه. وأبصرت مأساته، ولمست جرحه الدامي، وأحسست دمه الآني.
يا ناس، افهموا عنا، وسلوا قلوبكم، ودعوا التقليد، فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم. إنكم لن تطربوهم ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفنا، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. يا ناس، هذه أغانينا، لا ما تنقلونه إلينا من هناك. إنها لنا وحدنا. إنها ألفت من خفقات قلوبنا، وأشواق محبينا، وزفرات عشاقنا، ودموع آلامنا، ودماء أكبادنا. ألا ترون المغنى ينطلق بها صوته حراً ممتداً، على حين نرى أصحاب هذا الفن (الجديد)، يغنون ملوية أشداقهم، يعتصرون الحناجر اعتصاراً، فيخيل إليّ وأنا أسمع منهم (آه. . .) وهم يرجمون ألفها، أني أمام نفساء تصرخ من آلام الوضع!
أليس حراماً عليكم يا أيها الموسيقيون، أن تحرمونا هذه المتعة بفننا الذي هو لنا، وأن تأتونا بكل غريب عنا! ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرقي الأصيل؟ أنسيتم كيف هتف السامعون في كل قطر عربي لصوت (على بلد المحبوب وديني) لأنه لحننا، ومعانيه معانينا التي نحس بها؟ ما لنا وللجندول وأهل الجندول؟ ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقنا؟! إن كان لابد من تجديد. فهاتوا مثل تجديد سيد درويش!
أما إنني قد أعجب بعبد الوهاب، ولكني أطرب لدور الصفتي أما الطرب الحق الذي يهز نفسي ويبلغ قرارتها، فللعتابا الشامية، والأبوذية البغدادية، وهذه الأغاني البلدية المصرية!(616/19)
أي والله وقولوا عني ما شئتم!
لذة الخمول
إن من دأبي كلما هبطت بلداً لا أعرف فيه، أن أجوب طرقاته وأضرب في سككه على غير هدى، أمشي حيث يدعوني بصري وتحملني رجلاى، وكلما رأيت مشهداً استوقفني وقفت عليه، أستمتع بالجديد ألقاه، ولا يلقاه الناس جديداً لطول ألفتهم إياه، وأعجب من الأمر لا يعجبون منه. . . لذائذ خصصت بها من بينهم وحدي!
وأختزن هذه الصور في موضع الذكريات من نفسي إلى اليوم الحاجة إليها، كما يدخر مصور السينما ما يصور من المشاهد ليضعه في مكانه من (الفلم).
وسر المتعة في هذا التطواف أني أرى الناس ولا يرونني، لأن جهلهم بي يصرفهم عن الانتباه إليَّ، فأكون كمن يلبس (طاقية الإخفاء) فيحس الحرية والانطلاق وأنه هو وحده مكافئ لهؤلاء الناس كلهم، وتلك هي لذة الخمول والنكارة، وإنها لأكبر من لذة الشهرة. ولأن أمر في الطريق لا يعرفني فيه أحد أحب إلي من أن يشير بإصبعه إليَّ كل واحد، وإذا كان الرجل المعروف يزهى وينتفخ فإنه يتقيد ويتضايق إذ يحس أنه مراقب، تعد عليه أنفاسه، وتحصى حركاته وسكناته، وإن المجهول المغمور أهدأ منه بالاً، وأسعد حالاً. . . فلا تحسدوا أهل الشهرة على شهرتهم، بل اغبطوا أهل الخمول على خمولهم. . .
مجلة أوتوماتيكية:
من أعجب ما رأيت في مصر، وما أكثر عجائب مصر، مجلة لا يدري صاحبها من أمرها إلا أن يرسل الورق إلى المطبعة وأن يدفع الحساب، أما الكتابة فيها وإعداد مقالاتها فيقوم به صاحب المطبعة بالمقص، فهو يقطع من الجرائد والمجلات والرسائل ما يراه يصلح لها، والمنضد يصف حروفه، والطابع يطبعه، ثم ترسل المجلة إلى المشتركين والباعة، وأعجب من هذا كله أن صاحبها المكتوب اسمه في رأسها بالقلم الجلي لا الثلث، لا يقرؤها ولا يطلع عليها أبداً، ولا يحاول أن يعلم ما الذي نشر فيها. . .
. . . والناس يسمونه صحفياً، وأديباً، وكاتباً، ووزارة المعارف - فيما سمعت - تشتري من مجلته أكثر مما تشتري من مجلة الرسالة مثلاً. . . ويقال بأن هذا العصر عصر(616/20)
الحقائق، لا عصر التدجيل!
التطبيع:
التطبيع: هو الخطأ المطبعي كما سماه الأديب الضليع واللغوي المحقق، الذي لم يسم عضواً في المجمع اللغوي في مصر، النشاشيبي.
وإن في قلبي من التطبيع لحزات وغصصاً، أكتب المقالة وأبعث بها إلى المجلة، فتجيئني وقد حرفت فيها الكلمات وصحفت، وبدلت وغيرت، وزلزلت عن مواضعها وزحزحت، وأتى بما لا يخطر لي على بال ونسب إليّ ووضع عليه اسمي، ولو عرفت العامل الذي صنع بي ذلك لأخذت بخناقة، ثم لم يشف غيظي منه إلا أن أنزل عليه ركلاً ولكماً، ولكني لا أعرفه ولا أناله، فليعلم ذلك القراء، حتى إذا استشكلوا شيئاً أو وجدوا خطأ قدروا الضمير المستتر فيه إلى العامل قبل إعادة الضمير فيه إليّ، أو سألوني عنه قبل أن يأخذوني به.
القاهرة
علي الطنطاوي
تصويب
وقع تطبيع في مقالة (كلمة لا بد منها) في العدد 615 من الرسالة وهو:
الخطأ
العمود
السطر
الصفحة
الصواب
ردّه
2
2
392(616/21)
ردَّ
يشنعوا
2
9
392
يشفق
يخرج
2
9
392
لا يخرج
فلا ينشر
2
12
393
ينشر
نصل
2
13
393
نصل إليها(616/22)
العلم الحديث والعمران
للأستاذ نقولا الحداد
يقوم عمران البلاد على نتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية، ودماره يقوم على هذه أيضاً.
المدينة الغربية الحديثة هي مجموعة الاختراعات المادية العملية العجيبة التي أثمرها هذا العقل الإنساني القدير في القرن الماضي ونصف الحاضر مستندة إلى العلوم الرياضية والطبيعية ومقترنة بتوسع الشؤون الاجتماعية من اقتصادية وسياسية وصحية.
وأسوأ مساوئ هذه الاختراعات التي تعاظم شأنها مع تقدم العلم أنها كانت أفعل العوامل في تقويض العمران وإطفاء نور المدنية. فما ابتكرته هذه المدينة الحديثة من علم واختراع كان مقوضاً لأركانها وهادماً لبنيانها. وقد يكون في المستقبل العامل الوحيد لفنائها (كدودة القز ما تبنيه يهدمها).
سطعت هذه المدينة الغربية حتى غلف ضياؤها سطح الكرة الأرضية، وكادت تغمر النوع الإنساني بلوامع السعادة والهناءة، لولا ما اعتورها من غياهب النزعات السياسية والاقتصادية، فكانت هذه النزعات تثير ثورات الشعوب والأقوام بعضها على بعض فتطفئ تلك اللوامع بألوف منتجات الكيمياء والبخار والكهرباء التي تمتع بها العالمان القديم والجديد مما يعمله كل إنسان وبألوف تلك المنتجات وما أضافته عقول الحرب إليها يتدمر الآن عمران العالم كله. لذلك يقول بعض قصار النظر: (لا كان العلم والاختراع ولا كان هذا الدمار).
وقد خفي على هؤلاء أن الذنب ليس ذنب العلم والاختراع، وإنما هو ذنب هذا العقل الإنساني العجيب الذي ابتدع هذا العلم الأرضي الباهر، ولم يبتدع إلى جنبه خلقاً سماوياً ساطعاً.
لهذا أمكن جيش الشياطين والأبالسة أن يغزو ملكوت الإنسان ويفتحه وستتب فيه ويملكه. فليس الذنب ذنب العلم، بل هو ذنب النفس الأمارة بالسوء، أصلح النفس وطهرها فيطهر العلم من عوامل الشر ويعمل للخير وحده. ماذا كان نصيب الشرق من هذه المعمعة التي التحم فيها العقل المبدع والنفس الأمارة بالسوء.(616/23)
كان أن الشرق سرق من فردوس الغرب بعض ثمار علمه وشاركه بالتمتع بها ولكنه لم يشاركه في فلاحة ذلك الفردوس وزراعته. على أنه لما جاء دور التدمير أصاب الشرق ما أصاب الغرب من ويلات التدمير. وأقل ما منى به الشرق أنه ازداد عبودية للغرب في السياسة والاقتصاد وغيرهما، وبالتالي أصبحت سعادته الحيوية متوقفة على الفضلة من سعادة الغرب. وهذا الفقر في السعادة جزاء ذلك الفقر في العلم. وكيف يمكن أن تغتني بالسعادة ونحن لم نشترك مع الغرب في تحصيلها بل نسرق فضلاتها منه؟
لا يمكن أن نرفع عن رقابنا نير العبودية للغرب إذ لم نباره في العلم العملي والاختراع والاصطناع. لو كان لنا علم وقوة اختراع وأمكننا أن نخترع الطيارة واللاسلكي والبارجة والغواصة، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الاختراعات لاستحال على الغرب أن يستعبدنا وأن يبتذ ثرواتنا وأن يزعزع كياننا وأن ينغص عيشنا.
أخذنا العلم الحديث عن الغرب فلا حرج، ولا عيب أن نقتبس العلم منه. الغرب اقتبس قلبنا من الشرق. ولكن أية فائدة عمرانية استفدنا من هذا العلم؟ هل استفدنا منه أن نخلص من الاتكال على الغرب؟ هل استطعنا أن نستقل عمرانياً أو اقتصادياً على الأقل؟
منذ بنى خزان أسوان إلى اليوم ونحن نتحدث عن توليد الكهرباء منه. واصطناع السماد بواسطتها فلماذا لم نولدها؟ - ليس ذلك لأنه لا يوجد عندنا رأس المال اللازم لهذا العمل العظيم، ولا لأن الحكومة عاجزة عن تقديم المال، ولكن ليس عندنا مهندسون كهربائيون ويجرءون أن يقدموا على هذا العمل أو يوثق بكفايتهم. وليس عندنا الآلات والأدوات اللازمة لهذا العمل ولا مصانع لها عندنا. ولذلك نعرض المشروع على المهندسين الأجانب مضطرين. فإذا لم يتفق الأجانب معنا على هذا المشروع لا يتكهرب خزان أسوان. وقس عليه كثيراً من المشروعات الاقتصادية العمرانية الكبيرة التي نحن محرومون منها لقصور فينا. إذا فماذا استفدنا من هذا العلم الذي اقتبسناه؟ ما استفدنا إلا أن شبابنا حصلوا على بعض الثقافات الفنية العملية التي تمكنهم من الارتزاق فقط. ولكن بعد الحصول على وسائل الاسترزاق لم يستمر المثقفون في طلب المزيد من العلم بعد الحصول على الدبلوم التي توصل إلى حرف الارتزاق. قلما نرى مثقفاً يستمر في الدراسة بغية الاسترداد من المعرفة، ولا ترى مثقفاً قصد البحث في العلم بغية اكتشاف نظرية علمية أو استخراج(616/24)
حقيقة جديدة. والأرجح أن معظم الذين تخرجوا وغنموا الشهادات التي تخولهم حق العمل لم يعودوا يفتحون كتاباً لترويض عقولهم وتوسيع معارفهم لكي تحفز أذهانهم للبحث والتفكير والاستنباط.
أكسلا كان هذا الإهمال أم عجزاً أم ضعفاً عقلياً أم قلة ثقة بالنفس وتمادياً في الاتكال على الغرب؟
فلقلة اكتراث المثقفين بالمطالعة لا نرى في مطبوعاتنا اليومية إلا النزر اليسير من المؤلفات العلمية المفيدة التي تحتوى على كل ما استجد من الحقائق العلمية، وكل يوم تظهر معلومات جديدة في العلم. ولكن الذين كانوا في معاهد العلم قبل ظهورها لم يقفوا عليها لأنهم لم يجدوها في مطبوعاتنا الجديدة. وإذن فكأنهم لم يثقفوا الثقافة التامة.
لا نرى من المطبوعات الجديدة عندنا واحداً في المائة حتى ولا واحداً في الخمسمائة من المؤلفات العلمية التي تلم بكل جديد من العلم. لا نرى إلا مئات المؤلفات في الأدب والقصص واللغة والتاريخ الخ. ولكن بكل أسف لا تقوم المدنية على الأدب. ولولا ما نقتبسه من علم الغرب لكنا بلا مدنية عصرية نجارى بها العالم.
الأدب ليس قوام المدنية وإنما هو حلية لها. فإذا كانت المدنية مزينة بأجمل الحلي وأثمن الجواهر ولكن على بدنها أطمار الجهل العلمي فهل نقول إنها حسناء رائعة الجمال؟
وكيف تحيا وتترعرع وهي بدن سقيم وجسم ضعيف. وكيف يبدو جمالها وهي لا قلب ولا روح. ليس بالقصائد والقصص وروائع الأدب اخترعت الطيارة والسيارة واللاسلكي والسينما والمطبعة إلى غير ذلك من ألوف الاختراعات التي يتمتع بها البشر الآن. الأدب وحده لا يبنى مدنية أو عمراناً بل هو ثانوي في بناء العمران وإنشاء المدنية.
بكل أسف نقول إن الأدب طغى عندنا على العلم حتى كاد يختفي هذا وراء الغيوم، ولم يعد المثقف وقليل الثقافة يرى في سوق الطباعة إلا قليلاً من الأدب الجميل وكثيراً من الأدب السخيف. فكيف يمكن أن تكون لنا مدنية ذاتية خاصة بنا وغير مستعارة وغير مزيفة؟
لسنا فقراء في رجال العلم. ولكننا فقراء في قراء العلم حتى من المثقفين، وأغنياء بقراء الأدب الفكاهي وبقليل من الأدب الراقي الصافي. ولذلك قل الذين يؤلفون في العلم ويقدمون ثمرات العلم الحديث.(616/25)
لولا بعض المجلات التي تعنى قليلاً بطرائف العلم الحديث، ولولا بعض المؤلفين الذين أغرموا بالمطالعة والتأليف والنشر لكان عندنا قحط علمي يعنون مدنية زائفة.
حبذا لو أمكن إحصاء إقبال القراء على المؤلفات العلمية ذات القيمة لكي نعلم هل نحن جادون في التقدم العلمي، وأن هذا التقدم يبشرنا بأننا مقبلون على مساهمة الغربيين في الإنتاج العلمي والاختراع والاكتشاف لكي نستبشر بالاستقلال العمراني الحقيقي وعدم الاضطرار إلى الاتكال على الغرب في بنيان مدنيتنا.
إذا عرفنا أن للمؤلفات العلمية ونحوها إقبالاً من القراء كبيراً عرفنا أننا نبني عمراننا وليس الغربيون يشيدونه. هل يا ترى من وسيلة لهذا الإحصاء لكي نعلم في أية درجة نحن من التقدم العلمي؟
نقولا الحداد(616/26)
الأفغاني والوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
- 3 -
ماذا كان يرجو السيد الأفغاني من وراء الوحدة؟ وماذا كان يعلق عليها من الآمال والأغراض؟ ويحدد لها من الأهداف والغايات؟
لقد كان الرجل يقف من ذلك بادئ الأمر عند مسألة المسائل، فكان كل ما يرجو أن تكون الوحدة قوة دفاعية تقف في وجه الاستعمار، وتقوم (سداً يحول عن المسلمين السيول المتدفقة عليهم من كل جانب)، ومعنى هذا أنه كان يرجو من الوحدة أن تكون وقاية وحماية، هدفها الوقوف في وجه الخطر وكفى، ولكنا نراه بعد ذلك يتوسع في الأمل، ويتفسح في الغاية، إذ يقرن (بالميل إلى وحدة تجمع، الكلف بسيادة لا توضع!!، ويطمع أن يرى المسلمين (تتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، وألا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه. .!!
وكأن الرجل قد رأى نفسه في القمة من الرأي والقوم لا يزالون يدرجون عند السفح، وكأنه أدرك أنه بلغ في التوسع بالأمل مبلغاً تتعاظمه النفوس، وتستهوله العزائم، فأخذ يلتمس كل وجه من وجوه التدليل على ما يجب من الحماسة لهذه الغاية الضرورية، وراح يبذل كل ما في وسعه من اللباقة والزلاقة ليصل بهذا الرأي إلى أطواء القلوب ومكامن العقيدة، فنراه يقرر أن الوحدة والسيادة (أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدى إليهما الدين تارة أخرى، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه)، وبعد أن يتمشى الأفغاني في شرح هذا الاستلزام من الناحية النظرية، يجنح في الاستدلال إلى ما يدل عليه (تصفح تاريخ الأجناس، واستقراء أحوال الشعوب في وجودها وفنائها، وما درجت عليه سنة الله في الجمعيات البشرية، من جعل حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب. .!!، ثم ينتهي في أسلوبه هذا إلى الوتر الحساس، وتر الدين المشدود بالقلوب، فيقرر (أن الوفاق والغلب ركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بهما، فمن خالف أمر الله فيما(616/27)
فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. .!!، ولكنه لا يخلص من هذه النتيجة إلا بعد أن يدعمهما بكثير من آيات التنزيل ومأثور السنة ومواقف الإسلام. .
فما هذا؟ أهي أحلام المجد، ونعرات مثالية كانت تملأ رأس الرجل وتفعم وجدانه؟ أم هي دعوة إلى الممكن يؤدى إليهما الإمكان ويحتملها الجهد؟! يبدو لنا أن الأفغاني وضع أمامه صورة الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر، وسلطانها الغالب، وأخذ يرسم للمسلمين صورة مماثلة لها ويضعها أمامهم الغاية الرشيدة التي يجب عليهم بلوغها والأخذ بأسبابها، فكان صنيعه هذا كصنيع الحكماء فيما تصوروه في قيام (المدينة الفاضلة)، كل ما عندهم أن يصح الرأي في أذهانهم ولا شأن لهم إذا لم يصح في عالم الواقع الذي عليه الناس، وهكذا راح الرجل يموج في أمل طويل عريض، ويقف بالرأي عند غاية نحتاج في إدراكها إلى رجال وحبال كما يقولون، وفاته أنه كان يهز جسماً فقد حيويته، وينادى على عالم ضاعت معالمه، فليس هذا مما يكفي في إيقاظه، ولكنه كان يحتاج إلى بعث جديد، وخلق من طراز آخر.
فالأفغاني لم يكن في أمله هذا بالرجل السياسي الذي يرسم طريق الخلاص على ما تسمح به الظروف والملابسات، وما يمكن أن يكون في عالم الواقع الماثل بما يصح أن تبلغه الجهود ويؤدي إليه الاستعداد، ولكنه كان ينزع نزعة مثالية يضع بها الأمل فوق العزم، وينتهي فيها إلى غاية أكبر من الجهد، وهل كان من الممكن أو من المعقول أن ينهض العالم الإسلامي الذي فرقه الاستعمار، وقتله الجمود، وفقد كل عدة مادية، وقوة معنوية، فيقف بين عشية وضحاها جبهة مدافعة، وقوة متسلطة، أمام الغرب الطاغي، والاستعمار الزاحف بما لا مثيل له في التاريخ من أساليب السياسة والفكر، وافانين العدة والذخر، فيا ليت شعري، ألم ير الأفغاني، وهو الذي طرف بكثير من أنحاء الدنيا كيف كان الغرب يسير بالبخار وبالكهرباء على حين كان الشرق في ذلك الوقت لا يزال يركب الجمل؟!.
إنها في الواقع حقيقة لم تغب عن فطنة الأفغاني، ولم تغرب عن إدراكه النافذ، فعلى الرغم من أنه كان يثق ثقة كبيرة بالقيمة العددية واحتشاد الجموع، فأنه لم يقف بأمله عند تحقق الوحدة وجمع الكلمة، بل أخذ يدعو إلى الاستعداد المادي (واكتناه أسباب تقدم الغرب(616/28)
والوقوف على تفوقه وقدرته)، وإنه ليضرب للمسلمين المثل في ذلك بأمة الروس، وهي كما كانت (أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوروبا، وليس في ممالكها ينابيع للثروة، ولكن كانت، فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي مصابة بالحاجة والفاقة والعوز، غير أن تنبيه أفكار آحادها لمل به يكون الدفاع عن أمتهم، واتفاقهم على النهوض به، وارتباط قلوبهم صير لها دولة تميد لسطواتها رواسي أوروبا. لم يكن للروسيا مصانع لمعظم الآلات الحربية ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق الفن العسكري إلى ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعد بها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم عساكرها حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوربا. .)
وهذا صحيح، صحيح في عالم المعقول، وفي عالم الإمكان، وهنا يسير الأفغاني بأمله في الوحدة إلى طريق عملي، ويهدي إلى أسلوب واقعي، كان من الضروري أن يكون في إدراك الغاية، وبلوغ الهدف، وهو الذي كان فعلا فيما أخذت به الأمم الإسلامية في نهوضها وفي توثبها إلى حياة العزة والحرية، وما من شك في أن الأفغاني كان يعلم أن هذا الطريق يستغرق في اجتيازه مسافة من السنين والأعوام، وأنه لا يؤدي إلى نتيجة عاجلة يستطيع العالم الإسلامي بلوغها في أيام، ولكنه على الرغم من ذلك كان ينادي وبهيب ويتعجل الغاية ويطمع أن يرى القوم عندها بين طرفة عين وانتباهتها، وهنا يبدو الأفغاني مرة أخرى مسرفاً الأمل، مغرقاً في الرجاء.
إن بناء الأمم والشعوب يتمشى مع الزمن وتطور الأيام، ولن تستطيع دعوة من دعوات الإصلاح أن تؤتي ثمرها وأن تتحقق النتيجة من ورائها إلا إذا نضجت واستوت وأشربتها النفوس والقلوب عقيدة راسخة ثابتة، فالمبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية لم تستطع القوة أن تحققها طفرة، ولم تقدر المقصلة أن تفرضها رغباً ورهبة، ذلك لأن الزمن لم يكن قد أنضج تلك المبادئ بعد، فشبت الثورة واستطار لهيبها في أرجاء العالم، ثم همدت وماتت وقد خلفت من ورائها تلك المبادئ يحققها الزمن بما في قدرته على الإنضاج والتسوية، ولا يزال الزمن يجد في تحقيقها إلى اليوم. وكذلك كانت الثورة العرابية، تلك الثورة التي قامت كما نعلم تروم خطة واسعة وغاية كبيرة كانت لا تزال نجوى في المجال الفكري والعقلي عند القادة، ولم تكن قد انحدرت بعد إلى قلب الشعب في مكان العقيدة، ولهذا فشلت الثورة(616/29)
بها فجأة كما قامت فجأة، وانتهت على أهون ما يكون كما ابتدأت بأهون ما يكون. ولو أن الشعب كان يضم جوانحه على ما تنادي به الثورة من المبادئ والأغراض، وما تهدف إليه من المطامح والغايات، لما أفلحت الدسيسة في خذلانه، ولا وجدت الخيانة مكاناً بين صفوفه، ولما سلم في الجولة الأولى وجعلها بداية النهاية.
فما نحسب أن الأفغاني كان يخفى عليه إدراك هذه الحقيقة، ولكنه كان ينظر إلى طغيان الاستعمار على الشرق وإلى المطامع التي أنشبت أظفارها بعنقه، فكان يفزع لسوء المغبة، ويجزع من التراخي أمام الكارثة، ويصرخ بدعوته إلى رأب الصدع وحشد الجهود وفي الأمل بقية. وإن من الظلم للتاريخ وللرجل أن نتهمه بالفشل وأن نصف مسعاه بالخيبة، فحسبه نجاحاً أنه رسم الطريق، وهيأ الأذهان، وأقام فكرته عقيدة كان لها أكبر الأثر في توجيه الشرق الإسلامي إلى مجالي النهوض والتجمع، وإن ما وصلنا إليه من وضع في الوحدة لثمرة من ثمرات ذلك الرجل العظيم.
لقد أيقظت دعوة الأفغاني الشرق، كما أفزعت الغرب، وعلى الرغم من أن الرجل كان يبذر آراءه في تربة غير صالحة من طول ما تراكم عليها من صدأ الجهل واستبداد الظلم ويأس الخنوع، فقد استطاع لصدق غيرته وشدة نخوته وقوة شخصيته أن يصل بها إلى قرارة النفوس والقلوب، وأن يحشد لها جهود الغيورين، وأن يقيم لها دعامة قوية من التلاميذ والمريدين، وبهذا أصبحت تياراً فكرياً مضاداً لأطماع الاستعمار الأوروبي من جهة ولمفاسد الاستبداد العثماني من جهة أخرى، ولم يكن الاستعمار الأوروبي الطامع بجهل خطر هذه الدعوة عليه إذا ما نجحت، ولم تكن تركيا دولة الخلافة والرئاسة تنظر إليها بعين الشك والريبة، بل كانت تراها فكرة هدامة، ودعوة إلى التمرد على (الإسلامية) التي تمثلها الخلافة، فكان من الطبيعي أن يكون الأفغاني ومريدوه والمتشيعون له هدفاً للمناهضة والتنديد والاتهام. وكان أول تهمة ألقيت على الأفغاني وأتباعه في دعوتهم أنهم دعاة عصبية وتعصب. وقيل يوم ذاك إنهم يريدون النهوض بالمسلمين على حساب الطوائف الأخرى التي تقطن البلاد الإسلامية، وارتفعت صيحات كثيرة تندد بالتعصب وبالمسلمين (الجامدين) الذين يدعون إلى العصبية. ارتفعت هذه الصيحات من جانب الغرب وفي وسط الشرق الإسلامي نفسه، وكان لها أثر ملموس في مناهضة الوحدة على الوضع الذي كان(616/30)
يريده الأفغاني، وإنها لتهمة مغرضة ينكرها الرجل كما ينكر دعاتها، ولهذا اضطر الرجل أن يرسل هذه الصيحة للتحذير والتنبيه في العدد الثامن من العروة الوثقى إذ يقول: (لا يظنن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحياناً ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم، ويتفق معهم في مصالح بلادهم، ويشاركهم المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه، ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجانب، واستأثروا بخيراتها، وأذلوا أهلها أجمعين. . .)
فالأفغاني لم يكن داعية تعصب ديني بالمعنى المفهوم في الغرب، ولم يكن داعية تعصب جنسي يقف عند صلات الدم، ولكنه كان ينادي في ذلك بروح الإسلام السمحة، وقد لبث هو وتلاميذه يصولون في مجالس الدعوة بهذه الروح وفي هذا الاتجاه، وإذا كانوا في كتاباتهم قد دعوا إلى العصبية، فإنما هي العصبية للنهوض والأخذ بأسباب التقدم، ولو أننا رجعنا إلى كتاباتهم لرأيناهم يستعملون العربية والشرقية مرادفة للإسلامية، وإنما دعا الأفغاني أتباعه إلى الوحدة الإسلامية لتكون أعم وأشمل، وليدخل في حسابها أمم إسلامية لا تمت إلى العربية ولكن لابد من ضمها إلى الوحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن (الإسلامية) كانت كما يقول بعض الكتاب: (رمزاً لروح خاص، وعقلية خاصة، وحضارة خاصة أيضاً)، وقد كانت الرباط المتين الذي ربط أجزاء الإمبراطورية العربية على طولها وامتداد في أفريقية وآسيا وأوروبا، وقد كانت تركيا نفسها تحكم هذه الشعوب وتبسط سلطانها على جميع الطوائف في الشرق باسم الإسلام وحمل لواء الخلافة الإسلامية.
والواقع أن الأفغاني لم يكن واهماً في اختيار العامل الديني للوحدة وجمع الكلمة، فقد ظل هذا العامل يكيف التفكير الاجتماعي والاتجاه العمراني في الشرق آماداً طويلة وقروناً متعاقبة، ولم يكن العامل من العوامل في تحريك الوجدانات والعواطف وسحر العقول والقلوب مثل ما كان لذلك العامل العريق الذي صنعه الزمن وقواه التاريخ وأرسخته المشاعر المستغرقة، فكان اختيار الأفغاني اختياراً طبيعياً ضرورياً لا غبار عليه ولا(616/31)
مناص منه، لأنه أمسك برابطة قوية متينة لا تقوى عليها إلا رابطة راسخة تستندها قوة دافعة، ولو أن الرجل تنكب هذا الطريق ونظر إلى الاعتبار السياسي بعيداً عن هذه الرابطة لما صنع شيئاً، ولضاعت صرخته في واد.
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف(616/32)
صوت من العالم الآخر
للأستاذ نجيب محفوظ
- 2 -
غمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا، ماذا حدث؟! وما الذي تغير فيّ؟! مازلت في الحجرة. والحجرة كما كانت، فأمي وزوجي تحنوان على جسمي، ولكن حدث شيء بلا ريب، بل أخطر الأشياء جميعاً. لم أوخذ على غرة. ولو كان بي قدرة على الكلام لأجبت زوجي - حين سألتني (توتي. . . ماذا تجد؟) بأني أموت. ولكني فقدت قدرتي على الكلام وغيره. فلم أوخذ على غرة كما قلت، وشعرت بزورة الموت كما يشعر المضطجع بدبيب الكرى وتخدير النعاس. ثم رأيته جهرة. والذي لا شك فيه أن الموت مؤلماً ولا مفزعاً كما يتوهم البشر، ولو عرف حقيقته الحيّ لنشده كما ينشد نشوة الخمر المعتقة، وفضلاً عن هذا وذاك فلا يخامر المحتضر أسف ولا حزن بل الحياة تبدو شيئاً تافهاً حقيراً إذا ما تخايل في الأفق ذاك النور الإلهي البهيج. كنت مكبلاً بالأغلال فانفكت أغلالي. كنت حبيساً في قمقم فانطلق سراحي. كنت ثقيلاً مشدوداً إلى الأرض فخلصت من ثقلي وأرسلت وثاقي. كنت محدوداً فصرت بغير حدود. كنت حواس قصيرة المدى فانقلبت حساً شاملا كله بصر وكله سمع وكله عقل، فاستطعت أن أدرك في وقت واحد ما فوقي وما تحتي وما يحيط بي، كأنما هجرت الجسم الراقد أمامي لأتخذ من الكون جميعاً جسماً جديداً. حدث هذا التغيير الشامل الذي يجل عن الوصف في لحظة من الزمان، بيد أني ما برحت أشعر بأني لم أغادر الحجرة التي شهدت أسعد أيام حياتي السابقة. كأن العناية وكلتني بجسمي القديم حتى ينتهي إلى مستقرة الأخير، فجعلت أتأمل ما حولي في سكون وعدم اكتراث. وقد غشى جو الحجرة حزن وكآبة، وأخذت أمي وزوجي تتعاونان على إنامة جسمي على الفراش، ثم قبلت زوجي جبيني. ولثمت أمي قدمي، ونادتا أبنائي والخدم. وراحوا جميعاً يعولون وينتحبون، رأيت جسمي - صاحبي القديم - بملامحه المعهودة راقداً لا حراك به، وقد ابيض لونه وشابته زرقة وتراخت أعضاؤه وأطبق جفناه، ومضى الحاضرون يسكبون عليه الدمع الغزير يكادون يهلكون كمداً وحزناً وغماً. ومضيت أنظر إليهم بعدم اكتراث غريب كأنه لم تربطني بهم يوماً آصرة قربى! ما هذا الجسم(616/33)
الميت! لماذا تصرخ هذه المخلوقات؟ ما هذا الأسى الذي جعل من سحنهم دمامه شوهاء! كلا لم أعد من أهل هذه الدنيا، ولم يردني إليها صراخ أو بكاء، وددت لو تنقطع أسبابي بها لأحلق في عالمي الجديد. ولكن وا أسفاه، إن بقية من حريتي لم تزل عزيزة علي، أسيرة إلى حين. فلآخذ نفسي بالصبر وإن شق علي. وجاءت أمي بملاءة وسجت الجثة، ثم أخرجت العيال والخدم، وأخذت زوجي من يدها، وغادرتا الحجرة، وأغلقتا الباب. لم يغيبا عن ناظري لأن الجدران لم تعد حائلاً يحجب شيئاً عن بصري، فرأيتهما وهما تغيران ملابسهما وترتديان السواد، ثم اتجهتا نحو فناء الدار وهما تحلان من ضفائرهما وتحثوان التراب على رأسيهما، وخلعتا النعال وهرعتا إلى باب الدار، وانطلقتا تصوتان وتلدمان، ومضت تصرخ (وا أبناه) فتصرخ زوجي (وا زوجاه) ثم تهتفان معاً (يا رحمتا لك يا توتي المسكين! خطفك الموت ولم يرحم شبابك) وتركتا الدار على تلك الحال من العويل والنواح، وأخذتا في طريقهما، حتى إذا مرتا بأول دار تليهما برزت لهما ربة الدار في ارتياع وصاحت بهما: (مالكما يا أختاي!) فأجابت المرأتان (خربت الدار، وتيتم الصغار، وثكلت الأم، وترملت الزوج، يا رحمة لك يا توتى!) فصوتت المرأة من أعماق صدرها وصاحت (وا حر قلباه. . يا خسارة الشباب. . . يا ضيعة الآمال. . .) وتبعت المرأتان وهي تحثو التراب على رأسها وتلطم خديها، وكلما مررن بدار برزت ربتها وانضمت إليهن، حتى انتظم الحشد نساء القرية جميعاً، وتقدمتهن امرأة دربة بالنياحة، فجعلت تردد اسمي وتعدد فضائلي، وذهبن يقطعن طرقات القرية باعثات الحزن والأسى في كل مكان. هذا اسمي تردده النائحات، ما له لا يحركني؟!
أجل، لقد صار الاسم غريباً غرابة هذه الجثة المسجاة، وبت أتساءل: متى ينتهي هذا كله؟ متى ينتهي هذا كله؟! وعندما أتى المساء جاء الرجال وحملوا الجثة إلى بيت التحنيط والصراخ يطبع علينا، ووضعوها على السرير بالحجرة المقدسة. كانت الحجرة مستطيلة ذات اتساع كبير، وليس بها نافذة إلا كوة تتوسط السقف، وفي الصدر قام السرير، وعلى الجانبين رفعت رفوف رصت عليها أدوات الكيمياء، وفي الوسط - تحت الكوة - حوض كبير مليء بالسائل العجيب، وخرج الرجال فلم يبق إلا رجلان، وكان الرجلان حكيمين من المشهود لهما في فنهما، فأخذا في عملهما دون إبطاء، وقد جاء أحدهما بطست، ووضعه(616/34)
على كثب من السرير، ثم تعاونا معاً على تجريد الجثة من ملابسها حتى بدت عارية لا يحجبها شيء. فعلاً ذلك في هدوء وعدم اكتراث، ثم قال الذي جاء بالطست وهو يغمر عضلات صدري وذراعي: (كان رجلاً قوياً. . . أنظر!)؛ فقال الآخر: (كان توتي من رجال الأمير، يؤاكله ويشاربه، وفضلاً عن ذلك، فقد خاض غمار الحروب!)؛ فقال الذي جاء بالطست متحسراً: (لو أن الأجسام تعار!)؛ فأجابه الآخر ضاحكاً: (أيها العجوز، ما جدوى جسد ميت؟!)؛ فقال وهو يهز رأسه: (كان قوياً حقاً!)؛ فقال الآخر ضاحكاً وهو يتناول خنجراً حاداً من أحد الرفوف: (فلنختبر قوته!) وطعن الجانب الأيسر فيما يلي الصدر بخنجره، حتى غاب نصله، وشقه حتى أعلى الفخذ، وأعمل في الداخل يده بمهارة ودربه، ثم استخرج الأمعاء والمعدة، وأودعها الطست، وقفاها بالكبد والقلب، فسرعان ما رأيت باطني جميعاً، ولم يستغرق ذلك إلا دقائق معدودة، فالرجل من مهرة المحنطين الذين أتقنوا عملهم أيما إتقان، ورحت أنظر إلى باطني بعناية، وبخاصة إلى معدتي التي عرفت بقوتها ونشاطها، ولم يحل غلافها دون رؤية ما بداخلها بفضل تلك القوة السحرية التي اكتسبها بصري، فرأيت فيها مضغ الأوزة والتين وبقايا النبيذ التي تناولتها على مائدة الأمير مساء الأمس، وذكرت قوله حين عزم علي بالطعام (كل يا توتي واشرب، وتمتع بالحياة أيها الرجل الأمين!). . . رأيت وذكرت دون أن يعرفوني أي تأثر أو انفعال، ودون أن يزايلني عدم الاكتراث العجيب، ثم حولت بصري إلى قلبي فرأيت عالماً حافلاً بالعجائب. رأيت بشغافه آثار الحب والحزن والسرور والغضب، وصور الأحبة والرفاق والأعداء، وقد ترك الهيام بالمجد به فجوة عمقها ما خضت من معارك في بلاد زاهي والنوبة، ولاحت على رقعته مشاهد مروعة لميادين القتال، وأجزاء ملتهبة دامية من أثر ذلك الطمع العنيف الذي بعثني للكفاح بلا رحمة حتى ضممت إلى أرض أسرتي قطعة أرض تجاورها نازعني عليها جار بضع سنين. رأيت فيه جل حياتي وما عانيت من الأهواء، أما الرجل فمضى في عمله يحدوه الهدوء والمران، فأتى بكلاب دقيق وأولجه في أنفي باحتراس حتى تمكن من هدفه، ثم وجهه بدراية وعنف وجذبه بسرعة، فسال مخي الكبير من منخري مادة رخوة تذرو في الهواء ما تجمع فيها من لوامع الفكر ولآلئ الآمال ودخان الأحلام. هذه أفكاري منقوشة أمام عيني، فإذا قارنتها بنور الحق الذي يتخايل(616/35)
لروحي بدت تافهة مشوهة، لقد قاتلها المثوى الذي آوت إليه: رأسي ومخي، هاأنذا أقرأ القصيدة التي صغتها في وصف قادش! وهاهي ذي الخطب التي ألقيها بين يدي الأمير في المناسبات المختلفة، وهذه آرائي في آداب السلوك، وهذه الحكم الذي حفظتها عن حقائق النجوم كما جاءت في كتب قاقمنا! كل أولئك أزاحه الرجل مع فتات المخ فاستقر بين الأمعاء والمعدة في الطست الدامي، غير ما تناثر على الأرض فداسته الأقدام. قال الحكيم وهو يعيد الكلاب إلى موضعه (الآن صارت الجثة نظيفة!) فقال صاحبه ضاحكاً (ليتك تجد بعد موتك يداً ماهرة كيدك!) وحمل الحكيمان ما تبقى من جسمي إلى الحوض الكبير، وأناماه فيه، فامتلأ بالسائل الساحر وغرق فيه، ثم غسلا أيديهما وغادرا المكان، وقد أدركت أن الحجرة لن يعاد فتحها قبل كرور سبعين يوماً - مدة التحنيط - فمسني الجزع، ووقع في نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم لألقى عليه نظرة الوداع. . .
(للقصة بقية)
نجيب محفوظ(616/36)
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 3 -
تم والحمد لله ميثاق الجامعة العربية العتيد بعد أن وافقت عليه المجالس النيابية في البلاد الدستورية والحكومات في البلاد الأخرى، فعمّ الابتهاج وشمل السرور بذلك نفوس أبناء العرب جميعاً
ولقد اقترح بعض المتحمسين جعل يوم توقيع هذا الميثاق وإعلانه عيداً قومياً عربياً تحتفل به هذه الدول في كل عام تقديراً لهذه الوحدة وتذكيراً. وحق لهم أن يقترحوا ذلك وأن يدعوا إليه وإنا لنشاركهم في هذه الدعوة. فهو عيد وأي عيد. قال عنه عزيز مصر ومليكها المفدى إنه أسعد يوم في حياته. وكيف لا نسعد به جميعاً وهو اليوم الذي وضع فيه الحجر الأساسي في إعادة بناء مجد الأمة العربية التليد، فجعل وحدتها في تعونها وتناصرها أمراً واقعاً وسياسة عملية محققة تضم شتاتها وتجمع وحدتها وتؤلف بين قلوبها وتقوى أواصر المودة والإخاء بين أبنائها. وقد أصبح من آمالها القريبة المنال إن شاء الله توحيد تشريعاتها وقوانينها بحيث تستقي جميعاً من منبع واحد وتنهل من معين واحد وترجع كلها إلى أصل واحد وتدور حول محور واحد هو ملتقى آمالها وجامع عناصر قوتها ووحدتها فتصبح بذلك أمة موحدة اسماً ومعنى، تسير بمختلف فروعها إلى غايات نبيلة واحدة وأهداف سامية واحدة مشتركة. وإن أهم ما يحقق تلك الوحدة ويجمع فلولها ويقوي أواصرها لهو توحيد الثقافة فيها ووضع البناء الذي بدأ يتكون من لبنات صغيرة مفككة على أساس من الرابطة القوية المتماسكة حتى لا يشذ طفل في رجولته المستقبلة، ولا تضل جماعة بعد ذلك اتجاهها نحو الغايات السامية والأهداف العظيمة الموحدة.
من أجل ذلك تشخص أبصارنا وأبصار رجال التربية والتعليم والثقافة في مختلف دول الجامعة إلى وزارة المعارف المصرية التي بدأت تنظم نفسها على أسس جديدة فتية، آملين أن تتجه في سياستها الحديثة إلى جمع أشتات بني العروبة في تثقيفهم وتعليمهم وتربيتهم، وأن تعمل جهدها على تقريب المسافات وتقليل الفروق بين مختلف الثقافات وتوحيد الاتجاهات في الأخذ بأساليب التربية الحديثة في مختلف معاهد العلم والتعليم في دول هذه(616/37)
الجامعة الفتية. وإن خير ما تعمله في هذا السبيل أن تبدأ بالدعوة إلى مؤتمر جامع من رجال التربية والتعليم في مختلف دول العروبة يعقد في مصر لتبحث فيه الأسس التي تراعى في وضع سياسة تعليمية عامة موحدة على أساس من التفاهم والتناصر والتعاون والاتصال المستمر الدائم وتبادل المنافع والآراء العلمية بين معاهد هذه الدول الناطقة بالضاد فعسى أن يكون ذلك الخير قريباً.
لقد أحسنت هذه الوزارة في تنظيم نفسها وفروعها على أساس ثابت من اللامركزية بعد أن طال تأرجح هذه الفكرة فيها تأرجحاً كاد يودي بها. وإن خير ما في هذه الفكرة لهو إعطاء سلطة واسعة لنظار المدارس حتى تكون المدرسة كخلية مستقلة تنظم نفسها حسب ظروفها وبيئتها المحيطة بها وتوجه أبناءها إلى دراسة وافية لتنتفع بهم وينتفعوا بها وإلى تعرف مركز بيئتهم وأحوالها وكل ما يتصل بها وتعرف علاقاتهم بإخوانهم في الوطنية المصرية وأبناء عمومتهم في مختلف دول الجامعة العربية، وإلى ما تستلزمه تلك العلاقات الحديثة والقديمة من ضرورة التفاهم والتآزر والتعاون والتناصر في سبيل العمل للخير الخاص والخير العام (تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) فإذا كانت المدرسة المصرية إلى اليوم، لا تزال مع الأسف نواة لأخراج شعب مشتت الاتجاه متباين التفكير غير موحد الثقافة بسبب تفرع التعليم في مدارسنا منذ البداية، وبسبب تشتته في المرحلتين الأوليين منه اللتين هما عماد الثقافة العامة وأساسها، وبسبب تنوع طوائف المعلمين في المعهد الواحد وتنكر بعضهم لبعض وتنافر بعضهم مع بعض وعدم تعاون بعضهم مع بعض كما أسلفنا، فقد أصبح لزاماً قد تزعمت مصر دول العروبة أن نعمل جهدنا لوضع أساس المدرسة الموحدة في المرحلة الأولى من التعليم خاصة وفي المرحلة الثانية منه عامة، وأن نبذل كل ما في وسعنا لإيجاد المعلم الموحد الثقافة المستقل التفكير الحي الضمير، ليكون دعامة قوية للأمم العربية جمعاء وعوناً لها على توحيد ثقافتها وتكاتف أبنائها والسير بهم قدماً في صفوف متوازية إلى أهداف الجامعة وأغراض الوحدة.
نعم أصبح لزاماً أن نكون المعلم تكويناً جديداً يتفق مع هذا الوضع الجديد ومقتضيات أحواله، وأن نبصره بانبثاق هذا الفجر الجديد الذي غمرنا بضيائه، وأن نوجهه التوجيه الملائم ليكون خير قدوة لأبنائه وخير حافز لهم على متابعة النهوض بالبناء الجديد. وإن(616/38)
خير ما نفعل في هذا السبيل أن نوحد معاهد تخريج معلمي التعليم العام توحيداً يضمن لأبناء الجيل المقبل في دول الجامعة تفاهماً وتناصراً وتعاوناً. وأن نبني ضمير المعلم الجديد لا على أساس المادية الجشعة التي تنتابنا في كل مكان فتحط نفوسنا وتقوى سلطان الهوى فينا وتفرق جموعنا وتفكك وحدتنا وتفصم عرى محبتنا، بل على أساس من السمو الإنساني والتكوين الروحي الذي يقوى ضمير المعلم ويرفع من نفسيته ويحببه في جهاده ويسعده في شقوته، فيقبل على التضحيات المطلوبة منه عن طيب خاطر ونفس طيبة تدفعه إلى العمل في بناء لبناته بهمة لا تعرف الكلل وقوة لا يتطرق إليها ضعف ولا ملل. ثم ينفث تلك الروح القوية العالية في أبنائه فتشب أجسامهم تملؤها أرواح طيبة وضمائر قوية تتضافر على العمل للخير العام في بناء صروح السلام العام.
إن العالم العربي يحق له أن يصبو إلى كل ذلك، ويحق أن يصبو إلى الاشتراك الفعلي مع الموكب العالمي في بناء صرح السلام العام. وقد كان أسلافه أول المنادين (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام) فتجاوبت أصداء ذلك النداء الحار في مشارق الأرض ومغاربها، فكان العرب خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. لقد تخبط قادة الأمم في هذه الأيام المريرة في تنكب طرق السلام لما أصاب نفوسهم من الجشع المادي والشغف بالسيادة وحب الاستعمار. وإن الصوت الخافت الذي يرفعه العرب اليوم ضد ذلك لابد له من أن يستمر ولابد له من أن يقوى، ولابد له من أن يعلو حتى يسمع الآذان الصم! ولن ينهض بهذا العبء الثقيل الدائم ولن يضع أساسه حقاً إلا المعلمون الصادقون المخلصون المتعاونون المتضامنون المتآزرون، فاعملوا على تكوينهم، واعملوا على الإكثار منهم، فهم أصحاب الأثر القوى الفعال الذين لا يضل سعيهم والذين قيل فيهم قول لا يفهمه الفكر المادي الحديث إنهم ورثة الأنبياء.
عبد الحميد فهمي مطر(616/39)
أحاديث عابرة
التجديد في الشعر
كما يراه شاعر القطرين خليل بك مطران
في جلسة شاعرة مع شاعر القطرين خليل بك مطران - أحد الأوتار الخمسة في قيثارة الشعر العربي الحديث - كما يقول أستاذنا الزيات، تشقق بنا القول، وتنقل بنا الحديث في شجون من الأدب، فأدى بنا ذلك إلى الحديث عن قديم الشعر وجديده، وإلى الكلام عن الشعراء المجددين والمقلدين. . . وكانت فرصة طيبة أن أسأل الأستاذ الجليل عن علة عدم تقدم الشعر الحديث، وقصوره عن مجاراة الشعر العالمي في باقي اللغات، فأخذ - حفظه الله - يتحدث في بيانه الرائع عن محاولته الأولى وإخوانه من متقدمي شعراء هذا الجيل في هذه السبيل، قال:
ظل الشعر العربي منذ فجر حياته محدود الأغراض، مقيد الأفق، لم تنفسح له ميادين الخيال، ولا مجالات التجديد، بسبب طبيعة البيئة التي نشأ فيها، والأرض التي درج عليها. والغايات التي كان يهدف لها. . .
وكان المبرزون من شعراء العرب ينسجون على منوال من تقدمهم من الجاهلين، ويترسمون خطاهم، ويسيرون على هديهم، فلا يجتاز خيالهم وصف البيئة التي يعيشون فيها، ولا يمتد إلى ما وراء ذلك من آفاق واسعة وأحاسيس إنسانية، اللهم ما كانت تسبق إليه طبيعة الشاعر الفنية بين الحين والحين - على غير قصد وفي غير تعمد - في سياق قصيدة، إذ تجد البيت أو البيتين كأنما ساقهما محض المصادفة، وإلهام الفطرة! وكان أن حدد علماؤهم للقصيد شروطاً لا يتعداها الشاعر ولا يتخطاها. . . فإن هو جاوزها عد مقصراً، وأخذ ذلك عليه. ومن أهم هذه الشروط وحدة القافية، وقد كان ذلك - فيما أرى - أهم عوائق نهضة الشعر، وبخاصة في عصرنا الحديث الذي تنوعت فيه ألوان الحضارة، وتغيرت فيه أهداف الشعر ومقاصده، وأضحت له أغراض غير التي كانت له بالأمس؛ فلم يعد لشعر المناسبات تلك الأهمية التي كانت له، ولا لوصف البيئة التي يعيش فيها الشاعر ولا راحته ولا دياره ما كان لها من روعة وبهاء وقد دفعني ذلك كله منذ بدأت أحاول الشعر إلى أن أنهج به منهجاً آخر يجاري ما نحن فيه من حياة، ويتمشى وتلك الحضارة(616/40)
التي يدفع بها إلينا الغرب ونتلقاها نحن عنه، سواء في الثقافة وتنوع أغراضها، أو الاجتماع وتعدد مراميه؛ وكان أن أخذت أنقل إلى العربية آثار كبار شعراء الغرب وأدبائه من أمثال شكسبير وكورني وراسين وفيكتور هوجو، وألفريد دي موسيه وغيرهم من الإنكليز والفرنسيين، متوخياً أن تكون نماذج أدبية سواء في روعة أخيلتها، أو تعدد مقاصدها، أو سعة أفقها، أو ما تحمله في طواياها من جدة المعنى وروعة اللفظ وبراعة الأداء.
ثم حاولت أن أقحم في الشعر العربي نظم (الملحمة) وما كان له أن يدخل في هذا الفن إلا إذا تحلل من وحدة الروى، ولكني أردت بتجربة منظومة أن أبين نهاية ما يستطاع بالروي الواحد، أنشأت على سبيل المثال قصيدة (نيرون) في نحو من أربعمائة بيت من بحر واحد ورويّ واحد، تخيرت لها حرف الراء حتى أبرز للقراء أقصى ما تصل إليه طاقة الناظم بالقافية الواحدة. على أن اللغة العربية تعطى في الروي الواحد ما لا تعطيه لغة أخرى بإطلاق. ولكن التزامه فيها من أسباب ضعف التبسط إذا أريد القصص الطويل، أو الوصف الدقيق بالتحليل والتفصيل، فلهذا عمدت بما قدمته من المثال إلى أن أصور للأذهان أين موضع العجز عندنا عن مجاراة الشعر القصصي والوصفي والتحليلي عند الأمم التي لم تلتزم وحدة القافية.
وقد انتفع بمحاولاتي ومحاولات أخر من شعراء عهدي، نفر غير قليل من شعراء هذا الجيل، وتمسك آخرون بما ورثناه عن شعرائنا الأقدمين؛ ومازلت أؤمن بصدق نظرتي في أن التزم القافية الواحدة هو الذي يقعد بالشعر العربي عن مجاراة نظيره في آداب الأمم الأخرى التي لا تلتزم قافية واحدة كما يقعد بالشاعر عن التحليق فيما يرد من آفاق بعيدة المدى. . ولن يعيب القدماء ما آثروا للشعر من النهج، ولن ينقص من جمال ما أتوا به من الروائع، ولكن ما لا ريب فيه هو أن طبيعة الحياة قد تغيرت عما كانت عليه من قبل، إذ تعددت مناحيها، وتشعبت مراميها، وتباعدت أطرافها. وما كان لنا في ظروف حياتنا وما تزودنا به حضارة العلم الحديث من وسائل شتى للعيش، وضروب مختلفة للترفيه، أن نظل كآبائنا في نطاق محدود من الخيال ووسائل الفن. ولن يتأتى لنا - فيما أرى - أن نجاري ما يتحفنا به أدباء الغرب من روائع، إلا إذا تحللنا من ذلك القيد الذي ظل الشعر العربي(616/41)
يرسف فيه منذ قرون طوال. ولا شك في أن ذلك - مع المحافظة على ما امتاز به الشعر العربي من مقاطع وأوزان - يفسح لنا ميادين التفكير ويؤدي بنا إلى أن نستطيع الإنتاج بأنفسنا، وتزويد الثروة الأدبية العالمية بثمرات جديدة من وحي بلادنا، وفيض عواطفنا وأحاسيسنا، ويومئذ نكون قد عرضنا للعالم ما تمتاز به لغتنا من جزالة وسعة، وما يوحي به شرقنا - مهبط الأديان ومنزل الوحي - من حكمة، وما تفيض به قلوب أبنائه من سمو في العاطفة وعلو في التفكير. هذا رأي اقتبسناه من حديث للشاعر الكبير نعرضه لشعراء الشباب، والرأي لهم الآن
س. العناني(616/42)
رثاء البشرى
بمناسبة مرور عام على وفاته
لشاعر القطرين خليل مطران بك
وا رحمتا ليَ من صروف زماني ... أَنَّي رمت رَأَت السهامُ مكاني
إني لأسأل والرفاق تحملوا ... أتُرى يطيل عذابيَ الملوان
من مبلغ السلوان مقروحَ الحشا ... سدت عليه مسالك السلوان
منعاك يا عبد العزيز أمضّى ... وأضاف أشجاناً إلى أشجاني
فاجأتني بالنأي قبل أوانه ... هل حرقة كالنأي قبل أوان
أتسوء إخواناً ملكت قلوبهم ... ظرفاً وكنتَ مسرَّة الأخوان
رَبَّ البيان وأنت بالغ شأوه ... أعجزت بالسبق البديع بيانه
أدب يخال مطالعو آياته ... أن الكلام مثالث ومثاني
فقت الذين أخذت عنهم يافعاً ... وبززت من جلوا مِن الأقران
هذا بإجماع فماذا عارضت ... دعوى دعني من سَنَي البرهان
لا خير في زمن إذا ما طاولت ... فيهِ الصِّعادُ عواليَ المُرَّانِ
أحدثتَ أسلوباً وكنت إمامَهُ ... وبقيت فَذّاً فيه مالك ثان
جمع السهولة والجزالة لفظه ... تتخالفانِ حِلىً وتأتلفان
ديباجة عربية مصرية ... نقشت برائعة من الألوان
مَن للنوادر تَجَتْني منها النهى ... ما تشتهى من طيبات مَجَان
مَن للبوادر لا يجود بمثلها ... بل الروية أَحْضَرُ الأذهان
من للدعابة وهي قد قَرَنت إلى ... حلم الشيوخ فراهَةَ الشبان
إن ثَقَّفَتْ لطفت وفي ضحكاتها ... إيماضُ برقٍ لا انقضاض سُنان
نُهَلٌ تساقاها القلوب فتشتفى ... غلَلٌ وتُقضَى للقلوب أمان
بدوات أَلْبقِ كاتب ومحدث ... صافي البداهة بارع التبيان
في جِدِّهِ ومزاحه متصرفٌ ... بيراعة خلابة ولسان
أخَلا من البشرى عصر لم يكن ... فيه على ذاك المثال اثنان(616/43)
شخص قليل ظِلُّهُ طاوي الحشى ... يمشي فلا تتوازنُ الكتفان
طلقُ المحيا إذ تراه وربما ... نَمَّت بكامِن دائه العينان
حُبَّت ملامحه بمسْحَةِ أُدْمَةٍ ... هي من (مِنا) إن شئت أو (عدنان)
وبعارضيه الهابطين وَلِمَّةٍ ... شعثاَء لم تُلْمَمْ من الثَّوَران
وَمَضنّةٌ يطوي عليها صدرَه ... وكأنه أبدا عليها حان
من ذلك التمثال لاحت للورى ... آيات أيِّ حجىً وأيِّ جَنان
حُسنُ المنارة في سطوع ضيائها ... لا في زخارفها ولا البنيان
أما خلائقه فقل ما شئتَ في ... جَمِّ المروءة راسخ الإيمان
ما ضاق صدراً وهو أصدق مسلم ... بتخالف الآراء والأديان
نعم الفتى في غيبة أو مشهد ... نعم الفتى في السر والإعلان
بالعدل يقضى في الحقوق وبالندى ... يقضى حقوقَ الأهل والجيران
يسعى كأدأب من سعى لِمُهمه ... مهما يجشَّم دونه ويعاني
متشمراً بغدوِّه ورواحه ... عَجِلَ الخُطى مسترسل الأردان
لو كان ما في جِدِّهِ في جَدِّهِ ... لعلت مكانته إلى كيوان
لكنه لم يُلْفَ يوماً عاتباً ... أو طالباً ما ليس في الإمكان
ورعى حقيقة نفسه وأجَلَّها ... عن أن تبدل عزةً بهوان
ما منصب فوق المناصب أو غنى ... فوق المطالب غاية الفنان
مهما يزاول فالكرامة عنده ... هي في إجادته وفي الإتقان
ماذا يكون سليل بيت صالح ... عالي المنارة باذخ الأركان
الوالد الشيخ الرئيس وَوُلْدهُ ... شَرْواه في أدب وفي عرفان
صبراً جميلاً يا أخاه وأنت مَن ... بحجاه يدركُ حكمه الرحمن
كم في القضاء تلوح للفطن الذي ... وَلى القضاء سرائرٌ ومعان
وعزاءكم يا آلهُ أن الذي ... تبكونه في نَعْمة وجِنان
وعزاءكم يا معجبين فضله ... فيما دنا ونأى من الأوطان(616/44)
انتهينا. . .!
للأستاذ سيد قطب
انتهينا. قد مضى الماضي جميعاً ومضيْنا
انتهينا. لم نَعدْ نسأل أيّانَ وأيْنا
أو نمدَّ اليوم للأحلام والأوهام عينا
انطوى الحلم الذي لاح زماناً وانطوينا
ويد الدهر تمشّت تسبل الستر علينا
اضربي في زحمة الأرض على غير طريقي
فكرةً ضلت وحُلماً يتوارى عن مفيق
ولقًى يقذفه الموج إلى الشط السحيق
وهوًى يخسره الفن، على عين الصديق
وسنى يطمسه الليل إلى غير شروق
وأنا المكدود فلْيلقِ إلى الأرض عصاه
آنَ للمجهد أن تسكن في الأرض خطاه
آنَ أنْ يصمت لا تهتف شوقاً شفتاه
آن أن يغمض لا توقظه وَهْناً رُؤاه
جاوز الجهدُ قواه، فتهاوت قدماه
طال هذا الحلم حتى صار في النفس عيانا
ومضينا في طريق الوهم تنساب خطانا
تهدم الأيام ما نبني فتبنيه رؤانا!
ونخوض الشوك يُدمينا فتمضي قدمانا
تتبع الوهم الذي صاغ من الشوك جناناً
يا لهذا الحلم والأيام تمضي والليالي
عابثات بالأماني وهو يمضى لا يبالي
يغلب الواقع في الأرض بتحليق الخيال(616/45)
ويَرى خلف الروابي والصحارى طيف آل
فيرود الأفق ظمآن مشوقاً للظلال
قد مضى، والعمر يمضي والأماني والزمانْ
وانتهينا وصحا بعد الأوان الحالمان
عجبا! قد كان حلمٌ! ليت شعري كيف كان؟!
العيان اليوم كالحلم وحلمي كالعيان
صمت الدهر عياءً ومضى يعطو الزمان(616/46)
نشيد عسكري
عاش الملك
للشاعر الأستاذ محمد الأسمر
هيَّا بنا إلى الأمامْ ... هيّا بنا، هيّا بنا
المجدُ في الدنيا زِحامْ ... فزاحموا نحوَ المُنى
واسعَوْا إلى خير الوطنْ
عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ ... عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ
نحن الحياةُ للبلادْ ... ونحنُ أنصارُ العَلَمْ
إذا دعا داعي الجهادْ ... كُنَّا بها أُسْدَ الأجَمْ
نذودَ عن أرضِ الوطنْ
عاش الملكْ، عاش الوطنْ ... عاشَ الملكْ، عاش الوطنْ
يا مصرُ يا كَنْزَ الوجودْ ... نحنُ على الكنزِ أُسودْ
ونحنُ أمثالُ الجدودْ ... نفني ونعطيكِ الخلودُ
يا مصرُ يا خيرَ وطنْ
عاش الملكْ، عاشَ الوطنْ ... عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ
هيّا بنا، هيّا بنا ... نبني الخلودَ والبقاءْ
نبني ونرفعُ البِنا
المجدُ في الدنيا ... لمّا بنى اللهُ السماءْ
بنى لنا مجدَ الوطنْ
عاش الملكْ، عاشَ الوطنْ ... عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ(616/47)
البريد الأدبي
الزار ظاهرة اجتماعية أفريقية
حاضرنا الأستاذ علي أحمد عيسى، في مدرج كلية العلوم، بجامعة فاروق الأول، عن الزار كظاهرة اجتماعية أفريقية.
فابتدأ بأن قال: إن هذا الموضوع الجديد على الباحثين الاجتماعيين في مصر لا يعتمد على الكتب، أو المراجع، بقدر ما يعتمد على المشاهدة عن كثب. كان أول عهد اهتمام الأستاذ المحاضر بهذا الموضوع الخطير حين وجهه إلى دراسته البروفيسور (هوجارت) الأستاذ بجامعة فؤاد الأول - وكان أستاذاً لمحاضرنا الفاضل في سنة 1935
وقد أخبرنا الأستاذ عيسى، أنه عثر على كتاب في - طب الركة! - يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، أورد مؤلفه حديثاً عن الزار لأول مرة في مصر، واستدل الأستاذ المحاضر بذلك، على أن تلك الظاهرة الاجتماعية لم تكن معروفة في مصر قبل ذلك القرن، ثم حدثنا عن سيدتين كتبتا عن هذا الموضوع أيضاً وفصلتا بعض طقوسه هما: زينب فواز، وحواء غرزوزي، وكانت من سيدات القرن التاسع عشر.
أما المصادر الأوربية، فقد ذكر الأستاذ الفاضل أن البروفيسور (تشيروللي) تحدث عن الزار في دائرة المعارف الإسلامية.
وخلاصة رأى العلماء في صدد هذا الموضوع أن الحبشة هي المنبت الأول لهذه الخرافة، وقصة الزار في الحبشة تبتدئ منذ اعتناق الأحباش للديانة المسيحية - وقد كانوا من قبل يعبدون إلهاً يسمى ظارو! أو دارو! أو زارو! على حسب الروايات - فلما استجابوا للدين الجديد ظلت آثار الديانة القديمة راسبة فيها وراء اللاشعور، وابتدءوا يتوجسون في أعماق نفوسهم خيفة من مظنة انتقام الإله المندحر، زارو! وأنشأوا ضروباً من الطقوس والشعائر البدائية يترضونه بها، وصاروا يجتمعون فيرقصون رقصات تشبه كثيراً من المشابهة رقصاتهم الدينية القديمة تقرباً وتزلفاً للإله القديم. . .
فظاهرة الزار إذن، ظاهرة دينية، لا تسود في غير الشعوب البدائية، تلك الشعوب التي تختلف أداة تفكيرها عن أداة التفكير لدى الشعوب المتحضرة، والتي تتفشى أمثال هذه الخرافة في بيئاتها تفشياً يبعث على كثير من التأمل.(616/48)
وإذا نحن علمنا أن رجل الشعب البدائي، يجمع بين الأشياء التي تفصل بينها، وأن لا فرق لديه بين شخصه وبين ظله! ولا بين شخصه وبين اسمه! وأن الرجل الصيني حريص على أن يباعد بين ظله وبين نعش الميت وقت تسميره، مخافة أن يموت في الحال إذا ما قدر لهذا الظل أن يلتصق وقتذاك بالنعش. إذا علمنا ذلك، أدركنا إلى أي مدى تتحكم الخرافات في أمثال هذه البيئات.
وليس من شك في أن هذه المعتقدات تجعل معتقدها مهدداً في كل آن بغارات خفية من عالم الأرواح، فهو في فزع دائم لا ينقطع، وهو محاط بغيوم من الروع جاثمة لا تنقشع. ولا عجب إذا ما اندفع إلى استرحام تلك الأرواح التي تهدده كل وقت باحتلال جسمه، مقدماً إليها القرابين المختلفة، ممارساً لأجلها شتى الطقوس والشعائر، استجلاباً لعطفها واستدراراً لرحمتها ورفقها.
وقد تلقت مصر أيام العثمانيين هذه الخرافة عن الرقيق الذين توافدوا إليها أثناء حملات محمد باشا وغزواته للحبشة والسودان، وساعد على انتشارها في البيئات المصرية أنها كانت في حال من الانحلال النفسي تبرر تقبلها لكل دخيلٍ من أمثال هذه الفكر.
فمصر، كما اهتم الأستاذ المحاضر أن يؤكد لنا، ليست عريقة في اعتناق ديانة زارو، بل هي حديثة العهد بها جداً، إذ لم تعرفها قبل الربع الأول من القرن التاسع عشر.
ولا يسعني إلا أن أقول في إيجاز: إن الأستاذ المحاضر قد أعطانا صوراً دقيقة من مراسيم الزار، وأكد لنا أن كلمة - زار - هي بلا شك تحريف لاسم الإله الحبشي القديم زارو!! كما برهن على أن الطقوس التي تؤدي في هذا الصدد ليست طقوس مصرية أصيلة، ولكنها طقوسٌ دخيلةٌ محدثةٌ
(الإسكندرية)
علي حسن حمودة
إلى ابنتي عفاف
في الربيع النضر، حين سرى الماء في العود اليابس، ونبضت الحياة في البراعم النابتة، وتألق الجمال بألوانه الزاهية في الزهور المتفتحة؛ في الربيع النضر يا ابنتي، حين أشرق(616/49)
كل شيء بالبهجة، ورقص كل حي من المرح، ونعم كل ألف بإلفه؛ وسكن كل طير إلى عشه، تذبلين أنت يا زهرتي الغضة، وربيع شبابك لا يزال في إبانه، ويذوي غصنك الرطيب في غير أوانه، ويخلو عشك الناعم من بسمتك الحلوة ونظراتك الأنيسة وصوتك الغرد!
وفي الربيع الماضي، وفي مثل هذا الشهر، ذوت أختك الجميلة أمام عينيك وبين يديك، فعلمت كيف يروع البين، ويتصدع الشمل، ويوحش الأليف، ويرمض الحزن، فهلا رثيت لأبيك الواله فلا تجعلي بذبولك في هذا الربيع روضة من غير زهر، وقلبه من غير أمل، وبيته من غير أنس!
ثلاثون يوماً يا عفاف رقدتها على جنب واحد تتبخرين كما تتبخر دمعة الحب، وتذوبين كما تذوب شمعة العرس، وبسمات الرضا لا تغيب عن ثغرك، وومضات الأمل لا تخبو في صدرك، وداء السل الوبيل يخادعنا ويخادعك، فيتورد خدك، ويرهف إحساسك، ويرق حديثك، ويتسع رجؤك، فتنذرين النذور للشفاء، وترسمين الخطط لتغيير الهواء، فنصدق الظواهر ونكذب الأطباء ونتعلق بأهداب الأمل!
ماذا دهاك يا عفاف وقد تركتك في المساء وأنت على حالة مطمئنة، ونفس راضية مؤمنة، وقلت لك مساء الخير فقلت أنت مساء الخير والسعادة. أين الخير وأين السعادة؟
وا لهفتاه حين أصمني صوت الناعيات المروع وأذهلني عن نفسي، وأخرجني عن حسي، فلم أعد أعلم مما جرى شيئاً.
أختك يا عفاف طال عليها الكرى، وهاهي ذي في جوارك، فحلى دثارك، ودعي أزاهيرك البيض والحمر تتناثر على جسدها البالي برفق، ثم ارقدي مطمئنة يا عفاف فليس وراءك في هذه الحياة ما يقلقك في قبرك، فابنتك الصغيرة قد ماتت منذ أشهر، وأمك منذ ثماني حجج في جوار الله، فحييها تحية صامتة كدموع أبيك، ولا نقضي عليها ما كان من أمر (عواطف) وهي تندبك وتبكيك!
نامي طويلاً كيف شئت يا عفاف فقد طال بك السهاد ونال منك التعب، وقد قلت لي ليلة عدت من حلوان:
أنا بخير! لا أحب البكاء! أريد أن أستريح! فاستريحي يا ابنتي المحبوبة، واسمحي لي يا(616/50)
زهرتي الأولى أن أقدم إليك هذه العبرات الجافة الصامتة وإن كنت تكرهينها؛ فإن فيها تفريجاً عن قلب أبيك الثاكل، وما أملك لك يا أعز الناس عندي غير الذكريات الطيبة طول حياتي، والدعوات الطاهرة في خلواتي وصلواتي. وإلى اللقاء.
والدك الحزين
حسن عبد العزيز الدالى
أرض مصر: معرض صور جان هيكمان
معرض صور جان هيكمان من المعارض القليلة الجديرة بعناية كل مشتغل بالفن محب له. ولا أذكر أني زرت معرضاً حافلاً بالمعاني والدروس مثل هذا المعرض، وصاحبته ولدت في وادينا وعاشت بين ظهرانينا، وهي إن لم تكن مصرية بالدم، فهي مصرية صميمة بالقلب والروح، ومعرضها دليل بليغ على صحة هذا الكلام.
ومن المفرح حقاً أن توفق هذه الفنانة الكبيرة إلى إنتاج هذا الفن المصري الصميم الذي يجمع بين الطابع المحلي البحت والروح الإنسانية الشاملة التي يتميز بها كل فن ناضج في أي بيئة.
ويجب أن نتحدث أولاً عن القيمة الفنية الذاتية لرسوم السيدة جان. وهذه الفنانة تجمع بين الإحساس الفني الصحيح وهو الشعور بالقيم اللدينة للأشكال والأوضاع، ورقة العاطفة وحيويتها، وقوة الخيال واكتماله. ومتى توفرت هذه الملكات لفنان استطاع دون عناء أن يعثر فيما حوله من أشكال على الصور التي يتخذ منها أداة للتعبير عن ذاته، ومع ذلك قد يظل مثل هذا الفنان بعيداً عن روح البيئة التي أنتجته فينتج إنتاجاً خالصاً للفن ينظر إليه المصري بنفس العين التي ينظر بها إليه الصيني مثلاً. ولكن هذه الفنانة، مع احتفاظها بطابعها الشخصي الخالص، استطاعت أن تعبر عن روح بيئتنا تعبيراً وفياً فذاً.
وصورها كلها تمثل مظاهر الحياة المصرية الصميمة التي نشاهدها كل يوم: الفلاحون بملابسهم وأوانيهم، السحنة المصرية تشرق من أساريرها الروح المصرية الصميمة، آلاتنا الموسيقية المحلية الساذجة، الغيط والساقية والقوارب النيلية، والعامل المصري بأعبائه الثقيلة ومسكنه المتواضع.(616/51)
وصورها لا تمثل (مظاهر الحياة) فقط، بل جوهر الحياة المصرية وروحها، فصورة (الأمومة) تمثل المرأة المصرية الوادعة المستسلمة المستغرقة في شؤون العيش، يفعم قلبها السلام والإيمان مادامت تجد الكفاف، وتمثل صورة (عزبة في إمبابة) منزلاً يكاد يحدثك عن الحياة التي تنطوي عليها جدرانه. وفي صورة (أرض النيل: الفلاح) تخفق روح القرية، بل تكاد وأنت واقف تتأملها تشم رائحة التربة المصرية وتشعر بقلبها النابض، والنسيم المتجاوب في أنحائها، وتلمس شقاء الفلاح وبؤسه وصبره وأمله وإيمانه وتعاونه مع زوجه.
ومن مزايا هذه الفنانة شدة الإحساس بالضوء المصري الصافي وما يضفيه على الألوان من حيوية وقوة، ويتجلى هذا جيداً في المناظر الطبيعية التي رسمتها، وهي نماذج صادقة من الجمال العبقري وأناقة الطبيعة المصرية، كما أنها مفعمة بالإحساس الشاعري الرقيق - وبينما تطالعك لوحة الفلاحين مثلاً بغلطة الحياة الواقعية وقسوتها، كأنها جلاد لا يرحم، تطالعك صورة (المحمودية) بجمال الطبيعة ورقتها وحدبها علينا، كأنها أم رؤوم.
ولا شك أن الفنانة التي تستطيع أن تستوعب كل هذه الاحساسات وتعبر عنها تعبيراً موفقاً فنانة كبيرة - ولا شك أن الفن الذي يجمع بين: (1) الشيء في حد ذاته، أي الشكل ذو الدلالة المعنوية و (2) التعبير عن رؤيا فنية شخصية و (3) الإحساس البيئي الاجتماعي الذي يصور الآلام والآمال المشتركة، فن جدير بالذكر والتنويه والدرس والاعتبار. وإني لأزف إلى صديقتي جان أخلص تهنئة على توفيقها التام في رسومها التي تفتح أعيننا على صور الجمال التي تفيض بها (أرض مصر).
نصري عطا الله سوس(616/52)
الكتب
كتاب التصوير الفني في القرآن
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ نجيب محفوظ
قرأت كتابك (التصوير الفني في القرآن) بعناية وشغف، فوجدت فيه فائدتين كبيرتين:
أولاهما للقارئ: خصوصاً القارئ الذي لم يسعده الحظ بالتفقه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته. بل حتى هذا القارئ الممتاز لاشك واجد في كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطى كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدرة في البيان، فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمة عملها. والمهم أنك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً، مستعيناً بهذه المقاييس الفنية التي يألفها المعاصرون ويحبونها ويسرون في وادي الفن على هداها ونورها. إن عصرنا - من الناحية الجمالية - عصر الموسيقى والتصوير والقصة، وهاأنت ذا تبين لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع. ألم نقرأ القرآن؟ بلى. وحفظنا - في زمن سعيد مضى - ما تيسر من سوره وآياته، وكان - وما يزال - له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تحسه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته، فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً.
ولقد قلت بعد نظر طويل وتدبر (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور. وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛(616/53)
وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. .) ومضيت تستشهد لكل حالة بالأمثال مفسراً شارحاً موضحاً، ولم تقتنع بذلك فتوثبت للبحث عن القواعد التي يقوم عليها هذا التصوير المعجز من التخيل الحسي والتجسيم في فيض من الأمثال والشواهد. ثم لم تقنع بما فتح الله عليك من سحر هذا الفيض الإلهي فقلت (حينما نقول إن التصوير هو القاعدة الأساسية في تعبير القرآن وإن التخيل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية عامة ولا خصائص التصوير القرآني خاصة. . . هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.) فكان هذا الفصل الذي بلغت به أنت أيضاً الذروة في النقد والذوق والفهم. كنت أود لو أستشهد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجزة ويأباه ذوقي الذي يأبى المفاضلة بين آي الذكر على أي وجه من الوجوه. ومهما يكن من أمر فينبغي أن أقرر هنا أنه في فصلي (التناسق الفني) و (القصة في القرآن) قد بارك القرآن مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن. .!
أما أخرى الفائدتين: فهي لك أنت! لأن الكتاب في جملته إعلان عن مواهبك كناقد. إنك تستطيع أن تعبر أجمل التعبير عن أثر النقص في نفسك، ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسه وما يحفل به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها، وتستأدي الحياة حرارتها وحركتها. ولا تقنع بهذا كله! فيقرن ذهنك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصاً حياً ذا غاية واضحة، وسياسة بارعة، وخطة موضوعة، تهدف جميعاً إلى الإعجاز الفني فتناله عن جدارة. فهذا ذوق جمبل، وتذوق عسير وفكر ذو نفحة فلسفية. . .
والآن اسمح لي أن أوجه إليك سؤالاً، وأن أسوق ملاحظة: أما السؤال: فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر، أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟ وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به آيات ما يعبر عن(616/54)
طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وهو قد يحوى الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوى غيرها، والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها، فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج.(616/55)
حماري قال لي. . .
توفيق الحكيم. . . مطبعة المعارف 147 ص
للأستاذ كامل عجلان
حمار الحكيم، لين الطبع هادئ التأمل، يمر خفيفاً على هامات التاريخ، يقتطف شيئاً من الدقائق القصصية مثل مشاهدة في حادثة الطوفان. . . ويأبى الحكيم إلا أن يكون صادقاً في تأملاته.
فإذا نشط الحمار وتطاول إلى الاشتراك في (الدعاية) وتعرض (لهتلر ثم موسيليني) وانغمس في جحيم الحرب، والخواطر التي تدور مع رحاها الطحون، انقلت الحمار وصاحبه إلى الأساطير الشرقية، فأرسل بشهر زاد إلى الغرب تتهادى هنالك. ولا لوم على الحكيم الذي أبى إلا أن يحلم عن الحرب، وإلا أن يعيش في أحلامه المفتنة وآرائه عن المرأة وأفكاره في السياسة التي تجد وتجمل في عين السياسي ورجل الاجتماع مثل (حماري ومؤتمر الصلح)
ومع خفة الآراء وطرافة موضوعها تطالعك شخصية الحكيم ص48 في حزب الحمار. . .
(الحمار: ألست معي؟
الحكيم: أبداً أبداً. . . ما الذي صنعناه إذن؟
الحمار: ماذا كنت تريد أن تصنع أكثر من ذلك؟
الحكيم: أشخاص ومكان وناد، إني يا سيدي - كما تعلم - لا أعرف لعب الطاولة ولا الشطرنج. ولست ساحر الحديث، ولا ظريف المجلس، ولا أحب أن أكون من ذوي الجاه، كل ما عندي قلم لا أرضى أن أسخره في هدم الأشخاص لمجرد الهدم ولا أن أستخدمه في بناء أشخاص طمعاً في الغنم. . . الخ)
هذه هي أنفاس الحكيم، وتلك آراؤه الهادئة العابرة، التي لا يريد صاحبها أن يأخذ فيها بخناق أحد، ولا يرقب شيئاً إلا الإخلاص لفنه والصداقة لحماره الذي غلب كما غلب هو على أمره أيضاً.
وقد أرانا توفيق صوراً من ظلال العاطفة المحرومة الخائفة من المرأة في أحلامه وآرائه (حماري والطالبة) وأبدع وتخابث وأسرف في الصدق حين صور (العقاد) في خوف وحذر(616/56)
من براثنه العملاقة، ومن فرط حذر الحكيم كان في فصل (حماري وعداوة المرأة) يشرح فكرة العقاد عين الأنوثة التي يراها دائماً كما هي فاكهة فيها الدود يتشهاها ويأخذها كما أراد لها القدر لا كما أراد الحكيم وأمثال حماره من الناس.
ولذلك يقيد رأى العقاد بعد ذلك بأبيات منها:
أنت الملوم إذا أردت لها ... ما لم يرده قضاء باريها
ثم يجلس الحكيم وهو آس على نصيبه من المرأة وحظه منها وهو لا يفعل وإنما يتكلم، ويعجب للمرأة التي تثور للكلام ولا تتمرد وتصرخ للفعال.
وهذا ضرب من التأملات الصادقة التي توحي بسمو العقلية النابغة.
ولا ألوم الأستاذ (توفيق) في شيء إلا أنه كثيراً ما ينسى نفسه وينسى حماره وينسى أن لغة الكتاب من وحي حماره، وهو هنا له العذر لأن ميزة الحكيم في (سهواته) وجماله في (شطحاته) التي تغيب به عن الجالس وعن الناس وعن الحياة الصاخبة التي تحيط به. وبعد فالحكيم هنا موفق كل التوفيق وقد استطاع أن يمزج أفكاره العميقة بتأملاته في الحياة والناس والمرأة والحرب وحرب الأحزاب وجحيم الأدباء وجناتهم.(616/57)
مشكلة اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
عضو جامعة كبار العلماء
هو كتاب عالج أصعب مشكلة تواجه المعلمين والمتعلمين في بلاد الشرق، وهي مشكلة اللغة العربية.
فقد عالج الكتاب هذه المشكلة فأبان أن سر هذا الإخفاق يرجع إلى سببين، أولهما طريقة تعليم اللغة، وثانيهما قواعدها، أما طريقة تعليم اللغة التي تجري عليها مدارس الشرق ومعاهده فقد ذكر أنها غير طبيعية في تعليم اللغات، وأقام الأدلة القاطعة على ذلك ثم بين الطريقة الطبيعية التي يجب أن تسلكها معاهد الشرق في تعليم اللغة العربية وسائر اللغات، وقد أفاض في هذا القسم ولم يدع زيادة لمستزيد، ولم يبق إلا أن يقتنع ألو الأمر في بلاد الشرق فيأخذوا بها فإذا اللغة العربية طيعة مذللة، وإذا الإخفاق الذي منيت به مدارس الشرق انقلب إلى نجاح عظيم وأما القسم الثاني - قواعد اللغة - فقد بحث الكتاب لماذا هي مبغضة إلى التلاميذ؟ ولماذا تند عن أذهانهم فوصل إلى الحق في ذلك، وقد بين أن القواعد منها ما حرف وبدل، ومنها ما هو صحيح ولكنه جرد من علله الصحيحة وألقى إلى التلاميذ جافاً خالياً من التعليل.
وقد ناقش بعض القواعد مناقشة علمية هادئة فأرانا رأى العين إننا كنا ندرس باطلاً وقواعد محرفة لا تصبر على النقد، وأرانا الجديد الذي أحله محلها فإذا هو أحظى بنصرة العقل وتأييد الدليل.
وقد كنا نود أن يطيل المؤلف في هذا القسم ولكنه وعد أن يصدر ذلك في كتاب مستقل.
وإذا كان لنا رجاء من المؤلف فهو أن يسرع في إخراج هذا الكتاب إذا كان على سنن ما يبينه في كتاب مشكلة اللغة العربية فأن ذلك يكون فتحاً جديد في اللغة.
ولا يسعنا إلا أن نشكر المؤلف على ما بذل من جهد أو ما تحمل من نصب، فجزاه الله خيراً عن أبناء الشرق الذين يحدب عليهم ويرعاهم، ويريد أن يوفر عليهم جهودهم وأعمارهم فينالوا في الزمن الوجيز من اللغة ما ينفقون أعمارهم سعياً وراءه ثم لا يظفرون منه إلا بالنذر اليسير(616/58)
م
1
1(616/59)
العدد 617 - بتاريخ: 30 - 04 - 1945(/)
الأسرة والمجتمع
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتاب جديد من الكتب القيمة التي تدرس فيها مسائل الاجتماع على الطريقة العصرية الحديثة، وتقرر فيها الآراء بسند من الإحصاء والاستقصاء والوصف والمقابلة والتحليل.
ألفه الأستاذ علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وأداره على موضوع الأسرة والمجتمع، فلخص فيه مشاهدات العلماء الثقاة في مسائل علم الأجناس وعلم وصف الإنسان، ولم يلتزم فيه وجهة نظر واحدة من وجهات النظر الكثيرة التي يذهب إليها أولئك العلماء، ولكنه أجملها ووازن بينها ورجح بعضها في موضع وبعضها الآخر في غيره على ما تبين له من وجوه الصواب.
ويظهر أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، فتكررت فيه العبارات بمعنى واحد، وورد فيه بعض الأسماء بألقاب مختلفة، ولكنه على هذا مطرد السياق متتابع الفصول، يتمم اللاحق منه ما سبقه من الأجزاء، وينتقل فيه القارئ من تمهيد إلى مقدمة نتيجة بغير انقطاع
وخلاصة الكتاب كله أن الأسرة نظام اجتماعي لا طبيعي كما جاء في الفصل الثالث حيث قال: (قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس أن نظام الأسرة الإنسانية قائم على دوافع الغريزة وصلات الدم ومقتضيات الطبيعة، وانه لا يكاد يختلف في دعائمه عن نظائره في الفصائل الحيوانية الأخرى. فيظن هؤلاء أن العلاقة بين الزوج وزوجه، والرابطة بين الأولاد وآبائهم، وشفقة كبار الأسرة على صغارها وحرصهم على تربيتهم وما يقوم به كل من الأب والأم من وظائف في الحياة العائلية. . . يظنون أن كل أولئك وما إليه من الأمور التي يتألف منها نظام الأسرة الإنسانية يسير وفق ما تمليه الغرائز الفطرية، وتوحي به الميول الطبيعية شأنه في ذلك شأن أشباهه في عالم الحيوان. ولكن نظرة يسيرة إلى الحقائق التي ذكرناها في الفصلين السابقين تدلنا على فساد هذا الرأي. فمن هذه الحقائق يتبين لنا في أوضح صورة أن نظم الأسرة تقوم على مجرد مصطلحات يرتضيها العقل الجمعي، وقواعد تختارها المجتمعات، وأنها لا تكاد تدين بشيء لدوافع الغريزة؛ بل إن معظمها يرمى إلى محاربة الغرائز أو توجيهها إلى طريق غير طريقها الطبيعي. فقد ظهر(617/1)
لنا مما سبق أن النظم العائلية تختلف في جميع مظاهرها باختلاف الأمم والبيئات وتختلف في الأمة الواحدة باختلاف العصور).
تلك هي خلاصة الكتاب، وهي خلاصة توافق رأي الكثيرين من علماء الإجتماع، وليس فيهم من يخالف الواقع فيما يثبته من التجارب والمشاهدات، ولكن النتيجة مع هذا لا تتحقق على وجه الحتم واللزوم في جميع تلك المشاهدات.
لأن اختلاف النظم العائلية بين الأمم أو اختلافها في الأمة الواحدة بين العصور لا يقطع الصلة بينها وبين الغريزة ولا يجعلها عملاً مستقلاً عنها غير متأثر بدواعيها.
وإلا لوجب القول بأن الغرائز الإنسانية قد بطلت وبطلت آثارها في جميع الأحوال التي تلابس الحياة الاجتماعية، لأن الحياة الاجتماعية تنظم تلك الغرائز على ضروب من النظم لا تزال مختلفات في جميع الأمم وجميع العصور. فغريزة حفظ البقاء معدومة إذن لأن الناس يتقون الخطر ويجلبون الأمن ويستشفون من الأمراض بما لا يحصى من أساليب السكن واللباس والطعام والطب والدواء والسلاح، ولا يزالون على اختلاف في هذه الأشياء بين الأمم والأجيال.
والقوانين التي تروض الجشع والعدوات أو تروض الشر بضروبه لا تتفق بين الناس على اختلاف الأمم والأجيال، فهي إذن تقول لنا باختلافها وتطورها إنها شيء منعزل عن الغرائز الإنسانية لا يتأثر بدواعيها ولا باعث لها إلا تلك المصطلحات التي يرتضيها العقل الجمعي والقواعد التي تختارها المجتمعات.
وكل أولئك لا يقال ولا يعقل إذا قيل، فلماذا يقال إن الغريزة بمعزل عن الأسرة، لأن نظام الأسرة متعدد متجدد من قديم الزمان؟
إن أمرين اثنين تختلف النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل، وهما حضانة الطفل والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء، وكلا هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وجميع العصور.
فمن الخصائص الفطرية في الإنسان أنه طويل الحضانة لأطفاله، ضرورة لازمة لا دخل فيها للمجتمعات ولا لقوانين الاجتماع، ومن هذه الخصائص أنه يحتاج إلى الألفة الحميمة(617/2)
بينه وبين فرد آخر أو أكثر من الأفراد، أياً كانت حالة الاجتماع من القبيلة البدائية إلى جامعة اللغات والعناصر والأديان
وكل أسرة وجدت بين الناس فهي محاولة مستمرة لتحقيق هذين الغرضين الغريزيين، ولولاهما لما كان هذا الإصرار على خلق الأسرة ومحاولة تحسينها وتنظيمها في كل مكان.
وما هو الأثر الذي يترتب على إلغاء الأسرة بأنواعها المعروفة بين الأجيال البشرية؟
إن أول الآثار التي تشاهد في هذه الحالة أن الناس يخلفون الأسرة بما يشبهها وينوب عنها، فلا يكفيهم مجرد الاجتماع في مكان واحد ولا يغنيهم أنهم يشتركون في المأكل والمشرب مئات وألوفاً كما يحدث في الجيوش والأديرة والمدارس الداخلية، ولكنهم يخلقون حنان الأسرة ورعاية الأبوة والأمومة خلقاً يعلمون أنه اصطناع ولا يستغنون عنه مع علمهم أنه اصطناع. فتظهر أسماء التحبيب والتصغير في الجنود، ويتسمون بأسماء (تومي وجوني) كأنهم أطفال صغار، وتظهر الحيوانات الداجنة التي يعطف عليها المعسكر كما يعطف على أبناء البيت، وتطهر أمومة الكنيسة وأحضان المدرسة وأخوة الدير وأشباه هذه القرابات، وهي شيء غير ألفة الاجتماع بين الناس بمعزل عن هذه القرابات (العائلية) التي يخلقها المجتمعون معها حتى لو وجدت لكل فرد منهم علاقته العائلية بذويه.
وإذا فقد الإنسان هذا الشعور الحميم لم يكن قصارى الأمر عنده أنه يعاني (النقص الاجتماعي) في أخلاقه القومية أو أخلاقه الإنسانية، بل كان من جراء ذلك أنه يعاني نقصاً (بيولوجياً) يؤثر في الغريزة والعقل ويدل على أن المسألة في أصولها مسألة الحياة لا مسألة الأوضاع والأنظمة والقوانين.
ومن الصفات المشتركة بين جميع الأسر في جميع الشعوب والأجيال أنها قيد للعلاقات الجنسية ملحوظ فيه مصير النسل على نحو من الأنحاء. فكل أسرة هي ضابط للنسل وليست وحدة من وحدات البنية الاجتماعية الكبيرة وكفى، ولا عجب في اختلاف الضوابط والقيود، بل العجب كل العجب أن تتفق كل الاتفاق من المحاولة الأولى إلى الأخيرة، فإن ذلك لهو المستحيل الذي لا يخطر على البال فضلاً عن انتظاره وتعليق الاعتراف بالغريزة في تكوين الأسرة عليه.
ولا نقول إن هذا الضابط مقصود لغاية من الغايات أو غير مقصود؛ ولكننا نقرر المشاهد(617/3)
حين نقول إن منع الزواج من المحارم قد أفضى بالنوع الإنساني إلى ثروة شعورية لم يكن ليطمع فيها بغير هذه الوسيلة، فكأنما يتجه النوع الإنساني من قديم الزمن إلى (تخليص) الشعور وتنويعه في العلاقة بين الأقربين والبعداء، فلا يشعر الرجل بالمرأة الأخت أو الأم، كما يشعر بالمرأة الزوج أو المرشحة للزواج، ولا تزال هناك ضروب من العطف بين الأقربين لا تقتصر على ضرب واحد ولا تتشابه فيها الأواصر والصلات. ومعنى ذلك أن الإنسان يحرص على أنواع كثيرة من القرابة العائلية ولا يريد أن يخلطها بعلاقات المجتمع الذي لا قرابة فيه.
إن أواصر القرابة تختلف بين الأمم والأجيال فتشمل في أمة ما تستثنيه في أمة أخرى، وتنكر في هذا الجيل ما تعترف به في ذاك. ولكن هل يقع هذا الاختلاف لو لم يكن في طبيعة الإنسان استعداد للشعور بالقرابة أياً كان عنوان القريب؟ وهل أنكر الإنسان قط قرابة من القرابات إلا ليعترف بقرابة تعدلها أو تنوب عنها؟ وهل أنكر ما أنكره طويلاً دون أن يعود إليه؟
فالغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في جميع هذه الأحوال، والفطرة الإنسانية أحوج فطرة بين الأحياء إلى النشأة في أسرة والاتصال بقرابة عائلية. ويغلو في القول من يرجع بكل ظاهرة من ظواهر الأسرة إلى الاجتماع لأن الناس يعيشون جماعات جماعات. فإن انتساب الفرد إلى أمة لا يغنيه عن النشأة العائلية بحال من الأحوال، ولو جاء الوقت الذي تهدم فيه الأسرة وتلغى فيه الأمومة والأبوة لتحل في محلها (تربية المجتمع) لكان ذلك تبديلاً في الخلق ولم يكن تبديلاً في النشأة الاجتماعية وكفى، لأن الفطرة قد عودت الأحياء أن يخدم الفرد نوعه، وهو يشعر بأنه يخدم نفسه لفرط ما يخالجه من اللذة والسرور بإنجاب الذرية. فماذا لو قيل غداً إن اللذة الجنسية ليست أصلاً من دوام النوع، وإن الحمل قد يتم بغير هذه اللذة التي يشعر بها الآباء والأمهات؟
إن من يقول بذلك لن يكون في مقاله أغرب ممن يزعم أن المجتمع ينشئ الأطفال بغير حضانة الأمهات والآباء، وأن الفطرة تستقيم على هذه التنشئة لأنها وضع من أوضاع الاجتماع.
ولقد أحسن صاحب الكتاب في تسجيل المشاهدات وتقرير وجهات النظر بين العلماء،(617/4)
وكتابه من هذه الناحية أو في كتاب ظهر بالعربية في هذا الموضوع، ولكنه تجاوز حد المشاهدات التي أثبتها حين بنى عليها الفصل بين الغريزة ونشأة الأسرة أو تطورها. فإن تلك المشاهدات لن تبلغ بنا ذلك الحد الذي ذهب إليه، ولن تثبت لنا إلا أمراً واحداً لا نتعداه هو عمل المجتمع في الأسرة، وهو عمل من البداهة بمكان، ولن يلجئنا توكيده إلى الفصل بينه وبين الغرائز الفطرية، فهي لن تنفصل عن وضع من الأوضاع المتواترة بين الناس.
عباس محمود العقاد(617/5)
تأييد لاقتراح (الرسالة)
للأستاذ علي الطنطاوي
ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدرى القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعددها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقري في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أخص السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمت أسماءهم صحيفة، ثم أذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفسوا الهواء الذي كانوا يتنفسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين بحق، المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محص الحقائق، وماز الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبد يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فرب كتاب يطبل له ويزمر، ويقام له مقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر: (لقد نسى التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني). كما نسى التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلده شاعر حين أمر أسمه على لسانه في قصيدة من قصائده.
هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وأذهان روعتها، هذه الكتب (قدر مشترك) بين أبناء الشعوب المتمدنة كلها، ليست لشعب ولا لجيل، لأنها حديث القلوب فهي لكل ذي قلب، ولغة القلوب واحدة وإن اختلفت الألسنة وتعددت البلدان، فما يليق بأمة لها شعور وكرامة وعقل، أن تجهل هذه الكتب ولا هؤلاء الرجال.
أكتب هذا تعليقاً على مقالة الأستاذ الزيات في العدد الماضي من الرسالة. وإذا كتب الأستاذ في موضوع لم يدع فيه ركناً يعرض له بالوصف مثلي، لأنه يوفى فيه على الغاية، ويبلغ(617/6)
في الإجادة فيه النهاية، وما علقت مستدركاً بل معيداً ومردداً، وليكون لي في هذه الدعوة المباركة نصيب.
ولقد عادت بي مقالة الأستاذ إلى أيامي الخوالي حين قرأت قصة (رفائيل) أول مرة، بإذن من أستاذنا شيخ أدباء الشام سليم الجندي، وكان يحرم علينا أن نلم بشيء من الأدب الحديث أو ننظر في جريدة من الجرائد، قبل أن نتمكن من الأدب القديم، ونألف الصياغة العربية، وتستقيم ملكاتنا على طريق البلاغة السوي خشية أن تدخل جراثيم العجمة إلى أسلوبنا، وأن يفشو الضعف في بياننا، فلما سألته عن قصة رفائيل غداة صدورها هل أقرئها؟ نظر فيها ثم أذن لي بقراءتها لأنه رآها بليغة الأسلوب، صافية الديباجة، سليمة اللغة، سامية البيان، فكانت أول ما قرأت من الأدب الحديث بعد (النظرات) ولا والله لا أستطيع أن أصف أثرها في نفسي ولا في خيالي ولا في قلمي، ولا أملك حتى الإلمام بذلك إلماماً، لأنه شيء فوق الوصف وإنما أعترف أنها أحد المصنفات القلائل التي كانت غذاء أدبي من الكتب الجديدة، بعد أن غذيته بأمهات كتب الأدب القديم. وقرأت (آلام فرتر) فكان لها مثل ذلك الأثر؛ ثم افتقدت هذا اللون من الأدب فلم أجده؛ ثم وجدت شبهه في مثل (عطيل) مطران و (مرجريت) زكي و (فاوست) عوض وإن كانت هذه من قماش وتلك من قماش، وإن اختلف النسيج وتغيرت الديباجة، وأمثال (تأبين فولتير) التي نقلها (المنفلوطي) إلى العربية بقلم أحسب لو أن (هوغو) كان عربياً ما كتبها بأبلغ منه؛ كما أن لامارتين لم يكن ليكتب قصته ولا جونت كتابه، خيراً مما كتبهما الزيات ولو خلقا عربيين من أبين العرب وإني حين أقرأ اليوم هذه الروائع من أدب الغرب مترجمات في (روايات الحبيب) مثلاً أكاد أخرج من ثيابي غيظاً وغضباً لهذه المعاني الكريمات تجيء في هذه الكلمات، وأسفاً على هذه العرائس الفاتنات تخرج في هذه الثياب الأخلاق الباليات. وأفكر لو أن الله قيض لقصة (ذهب مع الريح) مثلاً أو (الفندق الكبير) أو (الأم) وأمثالها الكثيرات من عبقريات القصص العالمية التي ترجمها كتاب روايات الجيب، ونشكرهم على كل حال على حسن اختيارها، وبذل الجهد فيها، إذ لم يدخروا في التجويد وسعاً؛ لكن البلاغة درجات، والكتاب طبقات؛ لو أن الله قيض لها قلماً لدناً قوياً، لا يضعف فينكسر ولا يقوى فيؤذي، فترجمت بأسلوب عذب بليغ، لا يصح من غير جمال فيجف ويجمد، ولا يجمل من(617/7)
غير صحة فيميع ويسيل، لكان منها لهذا النشء مدرسة، الله وحده يعلم كم كانت تخرج لهذه الأمة من كتاب. وليست العبرة في الترجمة بنقل المعنى المجمل للقصة بل بنقل التفاصيل الفنية الدقيقة والصناعة الناعمة، وطريقة عرض الفكرة، وأسلوب تصوين المشهد، ولو أن المعنى المجمل هو المقصود للخصت قصة يوسف مثلاً في كلمات وضاع إعجاز السورة وجمالها الإلهي، ولكانت كل قصص الحب في الأدب متشابهة لا تخرج عن أن رجلاً أحب امرأة حباً عاطفياً أو جسمياً، فوصل إليها أو حيل بينه وبينها؛ فهذه أنواع أربعة للقصص الغرامية ينشأ منها أربع قصص فقط ويكون الباقي كله لغوا. مع أن في كل قصة جواً خاصاً بها ودنيا لها وحدها، لا تغنى في المتعة الروحية بها قصة منها عن قصة، وما ذاك إلا لاختلاف الدقائق والتفاصيل، ولا يظهر هذه الدقائق والتفاصيل إلا قلم بليغ، بصير بمواقع الكلام، عارف بأوجه الدلالة في الألفاظ، له الحاسة الخفية التي يفاضل فيها بين الكلمات ويحسن انتقاءها، إذ رب كلمتين بمعنى، وبين إحداهما والأخرى مثل ما بين البلاغة والعي. ورب كلمة في لسان لها جو ولها مدلول، وتحيط بها ذكريات عند أهل ذلك اللسان، لا يمكن أن تجيء بها مرادفتها في اللسان الآخر، ومن هنا علت بعض النصوص كالقرآن مثلاً عن الترجمة واستحال أن تنقل إلى غير لغتها.
ونحن اليوم في أشبه العصور بعصر المنصور والمأمون، أمة كانت معتزلة منطوية على نفسها، ثم اتصلت بأمم غيرها لها مدنيات ولها علوم، فإذا استمرت على عزلتها علت عليها تلك الأمم بعملها وقويت، وإن تعلمت ألسنتها لتفهم علومها، أضاعت لسانها وعصبيتها: فلم يبق إلا أن تنقل كتب تلك الأمم إلى لسانها، فتزداد به غنى في الأفكار وفي طرق التعبير، ثم تفهمها وتسيغها وتهضمها كما يقولون ثم تنشئ مثلها إنشاء.
ونحن في الواقع لا نستغني عن الترجمة ولا نقل منها، ولكننا نسيء الاختيار فندع الكتاب العبقري الفذ الذي يعد واحداً من مائة كتاب هي خلاصة آداب الأمم كلها ونترجم الكتاب لا فائدة فيه. ثم نسئ التعبير فلا ننقل هذه الكتب إلى العربية وإنما نضع في مكان ألفاظها الأعجمية ألفاظاً عربية، ولا يقدر على الترجمة الصحيحة إلا متمكن من اللغتين، بليغ في اللسانين، يقرأ الفقرة ثم يفهمها ثم يدعها تخالط روحه وتصير كأنها له، ثم يعبر عنها بلسانه، ويزينها بجمال بيانه.(617/8)
والأستاذ الزيات يوجه كلامه إلى معالي الأستاذ السنهوري بك الذي عرفناه في بغداد ودمشق عالماً قبل أن نعرفه وزيراً. ونحن نعلم وجه الصواب في الأمر ولا نملك تحقيقه، والوزراء على الغالب يملكون ولا يعلمون. فلما جاء الوزير العالم الذي يعرف الحق ويقدر عليه، كان موضع الأمل، ومحل الرجاء، فإذا ألهمه الله أن يفعل فقد أراد الخير لهذه الأمة على يديه.
بقيت كلمة للأستاذ الزيات، هي أنه ترجم فكان أبرع المترجمين، فلماذا لا يكمل ما بدأ به، ويترجم لنا قصة (غرازيلا) ثم (جوسلان)؟ وينتقل بعد ذلك إلى غير لامارتين من أمراء البيان، وأئمة الأدب في كل لسان؟ وما فيمن سيجمعهم معالي الوزير السنهوري فيما أظن من هو أقدر على ذلك من الزيات وأولى به.
الجواب عندك يا أستاذنا!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(617/9)
على هامش النقد
التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
تأليف الأستاذ عبد اله مشنوق
للأستاذ سيد قطب
هذا كتاب جيد في موضوعه. . . وليس هو كتاباً أدبياً ولا فنياً، ومع هذا نفسح له مكاناً (على هامش النقد) لأنه الكتاب الأول في هذا الموضوع، ولأنه يعالجه معالجة دقيقة واضحة، ويترجم (التعاون الثقافي بين الأقطار العربية) إلى حقائق واقعة، واقتراحات عملية، في أسلوب تقريري بسيط، يعجبني في أمثال هذه الموضوعات، وأفضله ألف مرة على الأساليب البيانية والاستعارات اللولبية، والتفاصح الذي يغيظ!
والموضوعات التي تناولها المؤلف الفاضل في كتابه حين تستعرض استعراضاً سريعاً تكفي لبيان اتجاهاته، وقد جاءت في الكتاب بهذا الترتيب:
(بين التعاون والتوحيد. الطغيان الثقافي. ليس التعاون بدعة. التعاون أداة تقدم. الشعوب العربية المتعاونة وموقف التعاون من الغرب. ميادين التعاون الثقافي. المناهج: الأهداف والاتجاهات العامة، أقسام الدراسة وأنواعها ومراحلها وشهاداتها، مواد الدراسة في مختلف المراحل والسنوات. تحضير المعلمين. الكتاب، مجلة للصغار، وسائل الإيضاح. تنظيم المعادلات بين الشهادات: المعادلات مع الخارج، البكالوريا العربية. البعثات العلمية: تبادل البعثات بين الأقطار العربية. تبادل الأساتذة: الأساتذة الزائرون، الخبراء الفنيون. المجامع اللغوية والعلمية: الخمسون المخلدون، المعجم الجديد، المصطلحات العلمية، تتويج روائع العلم، إصلاح الحروف العربية، الموسوعة العربية. المدارس والجامعات. المكتبات العامة. التأليف والترجمة والنشر).
عالج المؤلف الفاضل هذه الموضوعات كلها بروح عملية، لا تشط في الخيال، ولا تقف مكتوفة اليدين أمام العقبات. ومن هنا قيمة الكتاب. فلقد استحال هذا التعاون المنشود حقيقة عملية في حيز الإمكان. وأحسب أن الشرق العربي سيتلفت ليجد أمامه الوسائل ميسرة لتحقيق هذا التعاون؛ وسيجد منها الكثير بين يديه حاضراً مهيئاً، والبقية ليست عنه ببعيدة.(617/10)
والمهم أن كلمة (التعاون) لا تبقي بعد هذا البيان أملاً. غامضاً مبهماً. بل تصبح حقائق ووقائع في متناول التفكير والتنفيذ.
وأمر آخر يقرره هذا الكتاب في نفوس القراء.
إنه يطلع الشرق العربي على دخيلة نفسه وحقيقة حاله! فحاجاته الثقافية، والوسائل التي يملكها لسد هذه الحاجات، يضعها المؤلف بمهارة وبساطة تحت عين هذا الشرق العربي. وكأنما يرفع في وجهه المرآة ليراه!
والذين يستطيعون أن يرفعوا المرآة في وجه الشعوب ببساطة فائقة ومهارة كبيرة قليلون جداً بين الباحثين والكتاب. والذين يستطيعون أن يرفعوا هذه المرآة في اللحظة المناسبة هم أقل من القليل. ومن هؤلاء الآخرين الأستاذ عبد الله مسنوق الأديب اللبناني صاحب هذا الكتاب!
وهو يرقع المرآة في وجه الشرق العربي ليقول له: إنه في حقيقته وحدة متعاونة، وأجزاء متكاملة. وهو لا يعتمد في تقرير هذه الحقيقة على الأساليب الحماسية، بل يبدو أن هذه الحقيقة جزء طبيعي من إحساسه العادي بالمسألة. فحين يتحدث عن بعثات أمم الجامعية العربية إلى البلاد الأوربية ينظر إليها كأنها بعثات بلد واحد، لتلبية حاجة البلد الواحد، ويصوغ رأيه فيها بهذه البساطة العميقة:
(أما التعاون بين العرب في البعثات إلى الخارج، فأمر يحتاج إلى تنسيق حتى تكون الجهود منسجمة، فلا يحدث تضخم في ناحية من نواحي الاختصاص، وقحط في النواحي الأخرى؛ فليس من الضروري أن يتخصص رجال كل قطر في وقت واحد في الجامعات الغربية في علم الآثار والعاديات والقانون والآداب والفلسفة واللغات القديمة وفن القتال والهندسة وعلم المعادن والزراعة والميكانيك ومختلف الصناعات، وما إليها من أنواع التخصص، لأن أمثال هذه البعثات تكلف موازنات الدول مبالغ قد لا تتحملها. ولذلك يحسن أن توزع هذه النواحي بين الحكومات العربية وفقاً لمقدرتها ودرجة احتياجها، على أن تتعاون هذه الدول فيما بينها بتبادل الخبرات والأساتذة لسد النقص الناشئ عن هذا التوزيع. . .).
وبنفس هذه الروح يعالج مسألة (تبادل البعثات بين الأقطار العربية) فيسميها (كوتا العلم)(617/11)
ويشبهها بالترخيصات التي يمنحها مركز التموين في الشرق الأوسط للاستيراد حسب الحاجة الضرورية! ثم يقول:
(ولعلي لست مخطئاً في التشبيه عندما أقول في معرض حديثي عن البعثات أن ثمة (كوتا) علمية بين الأقطار العربية المتعاونة، وأن على المكتب الثقافي الدائم في القاهرة توزيعها بالعدل والقسطاس بين البلدان الشقيقة، مراعياً في ذلك الإمكانيات والحاجات الثقافية في كل بلد متعاون، فلا يكون تبادل البعثات العلمية مظهراً من مظاهر الفوضى، بل يخضع لخطة مرسومة مبنية على دراسة علمية صحيحة للحالة الثقافية الراهنة في مختلف الأقطار العربية. ولن يتم توزيع (كوتا) العلم ما لم تعد كل حكومة عربية تقريراً ضافياً يحتوي على الحد الأقصى لما تستطيع قبوله في معاهدها العليا والثانوية من طلاب الأقطار الأخرى من جهة، ويحتوي على ما تشعر بأنها في حاجة ملحة إلى إيفاده من بعثات إلى الأقطار الشقيقة من جهة ثانية. ومتى تم وضع هذه التقارير وزعت مقاعد الدراسة على ضوئه. فإذا كانت مصر مثلاً قادرة على قبول 100 طالب في معهد التربية لإعداد المعلمين، فإن مهمة المكتب الثقافي الدائم تنحصر في توزيع هذا (الكوتا) بالعدل بين حكومات الأقطار المتعاونة مراعية في ذلك المستوى الثقافي في كل إقليم، مفضلة الحاجات الملحة السريعة على سواها)
ومن هذه المقتطفات تبدو الروح العامة التي عالج بها المؤلف حقيقة العلاقات بين أمم الجامعة العربية كما تتبين طريقته العملية في معالجة وسائل التعاون، وإحالتها إلى حقائق ملموسة ممكنة التنفيذ في نظام دقيق.
وبمثل هذه الروح عالج جميع الأسس التي يقوم عليها التعاون. ولكن هذا لم يكن كل محتويات الكتاب، فقد تطرق من أسس التعاون إلى موضوعات في صميم التربية والتعليم، كمكتبة الطفل، ومجلة الطفل، ووسائل الإيضاح، والأهداف الوطنية والثقافية والروحية من المناهج وكان موفقاً في هذا كله، لأنه آثر أن يعالج موضوعاته في بساطة وعمق وأن يصوغ تعبيره في قالب دقيق.
وثمة أمر آخر ساعد المؤلف على النجاح في دراسته لموضوعه. . . ذلك هو الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف. فقد نبه إلى مواطن النقص في وسائل الثقافة عند كل(617/12)
شعب، وإلى مواطن الكمال أو التفوق حيثما وجدها بلا تحيز إقليمي لا معنى له.
فهو يقول مثلاً عند الموازنة بين هذه الوسائل في مصر وشقيقاتها: (لقد زرت عدداً كبيراً من المدارس - على اختلاف أنواعها - في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين؛ وأستطيع أن أصرح دونما تحيز أو مواربة، بأن المعاهد المصرية الرسمية تأتى في الطليعة من حيث أخذها بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم وسخاء الحكومة في الإنفاق عليها لتتوفر فيها الشروط الفنية؛ ويشمل قولي هذا المعاهد الابتدائية والثانوية والعليا، العامة منها والفنية المهنية. لذلك أدعو الأقطار العربية أن تتعرف تماماً إلى هذه المعاهد المصرية قبل البدء بإنشاء مدارس جديدة أو القيام بإصلاح عام في مدارسها القديمة. . .)
ويقول في صدد المعاهد التي تخرج المعلمين في جميع بلاد الجامعة العربية: (وبوسعي أن أقول جازماً: إنه يتعذر الآن على أية حكومة عربية إنشاء معهد كدار العلوم العليا لتحضير أساتذة اللغة العربية، هذا المعهد الذي يتهمه البعض بالرجعية ويود إلحاقه بالجامعة؛ ولكنه على الرغم من ذلك مفخرة من مفاخر مصر، ومعقل من معاقل العروبة، وإليه يعود الفضل الأكبر فيما أنجبته مصر من أساتذة متمكنين من فقه اللغة وفلسفتها وقواعدها، متعمقين في فهم روح البلاغة وأسرارها، مختصين في أساليب تدريسها. فلماذا لا تفتح أبواب هذا المعهد على مصاريعها في وجه الأقطار العربية، فيخرج لها نخبة صالحة لتدريس اللغة العربية في الأقسام الثانوية؟ وقد أسلم جدلاً بأن منهاج دار العلوم مثقل بالمواد القديمة الصعبة المرهقة والجافة أحياناً، ولكن فهمنا للغة فهماً صحيحاً يخولنا تدريسها بكفاءة، لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة عميقة لهذه العلوم على النحو المتبع في دار العلوم.
(وتستطيع كلية اللغة العربية في الجامعة الأزهرية أن تقبل الراغبين في التخصص باللغة العربية إلى جانب العلوم الدينية. وهذه قد لا تشترك فيها جميع الأقطار العربية)
وبمثل هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف سار في بقية فصول الكتاب، فلم يقتصر كذلك في نقد مواضع النقص حيثما وجدت. وحينما ساقه الحديث مثلاً عن (مكتبة الأطفال) كشف عن نقصها وفقرها في جميع بلاد الجامعة العربية ومصر من جملتها وكان محقاً كما كان منصفاً.
هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق يجعلنا نوجه الحديث بصراحة إلى الأستاذ المؤلف،(617/13)
وإلى جميع الراغبين رغبة نفسية أكيدة في توثيق عرا التعاون بين أمم الشرق العربي.
إن لمصر ما تشكو منه من بعض شقيقاتها العربيات، أو ما تعتب عليه بتعبير أصح. . . ويجب أن نكون صرحاء فيما بيننا ليقوم البناء على أساس سليم. . . ومصر لا تشك في إخلاص الشقيقات لها وتطلعهم إليها واهتمامهم بها. ولكن هنالك مع هذا أشياء!
فأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أن تلبي حاجة الشقيقات إلى المعلمين. . . وإنما هو واجب عليها تؤديه. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات ينظر إلى المسألة نظرة أخرى، فيرى في هؤلاء الأساتذة مرتزقة، أو بلغتهم (عياشة) يزاحمونهم الرزق ويطلبون العيش؟ إن كثيراً من هؤلاء الأساتذة يعودون شاكين لا لما يعانونه من معالجة شئون الحياة بعيداً عن أهلهم وصوالحهم، ولكن لأنهم ينبزون بلقب (العياشة)! مع أنهم منتزعون من ضرورات المدارس المصرية.
وأعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها كانت سابقة في الأدب والثقافة. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات يعدون هذا استعماراً ثقافياً، ويحملون في بعض الصحف على الأدباء المصريين وعلى الثقافة المصرية، حتى يصدر أحد رؤساء الحكومات أمراً بالكف عن هذه الملاحاة؟
واعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها فتحت أبواب معاهدها للطلاب من كل الشقيقات. فما بال بعض هؤلاء الطلاب الذين تقوم لهم مصر بواجبها في الضيافة الكاملة والثقافة والرعاية يحلو لهم أن يملئوا أفواههم بنقد المصريين حتى ليصل هذا النقد إلى درجة التجريح في وجه المصريين؟!
هذه كلمات لا تنقصها الصراحة، وهي كلمات واجبة، وهي عتب الشقيق على الشقيق، مبعثة الود الصريح، والإخاء العميق والإخلاص الوثيق.
سيد قطب(617/14)
التطور الاجتماعي بعد الحرب
للأستاذ عبد القادر المغربي
إن اهتمام المفكرين في نتائج هذه الحرب وما تتركه وراءها من أثر في شؤون البشر قد تجاوز كل حد، وأصبح لا يقل عن اهتمامهم بأخبار وقائعها وأهوال ملامحها ولهم الحق في ذلك: لأن الحرب مهما طالت ظل متقلص وسحاب متقشع، أما نتائجها وما تتركه وراءها فهو على ما يظهر حكم مبرم باق إلى ما شاء الله.
وقد انتشر من جراء ذلك الذعر في قلوب قادة الأمم وكبار زعمائها، وأوجس كل منهم خيفة على مستقبل بلده وأوضاع وطنه.
وليس الشأن في هذا، وإنما الشأن في التطورات الاجتماعية التي سوف تقلب عادات الأمم وأخلاقها وقوانين حياتها رأساً على عقب، حتى زعموا أن التطور الاجتماعي سيشمل كل ما تقع عليه العين من مادة أو تحس به النفس من معنى - فالعالم بعد الحرب عالم آخر ينبغي أن يسمى منذ الآن (عالم ما بعد الحرب) - وحتى خشي الحريصون على أديانهم وتقاليدهم وآخرون على قومياتهم ولغاتهم، أن يعمل ناموس التطور عمله في تلك الأديان وهذه اللغات فيأخذ بهما ذات اليمين أو ذات الشمال.
نعم إن العقلية السياسية الديمقراطية التي تسيطر على البشر بعد هذه الحرب ستضمن للبشر سلماً دائماً يغمرهم، وأنظمة دولية ثابتة تصون استقلالهم وتحمي حدودهم وتنتزع العدوان الديكتاتوري من بينهم.
أجل قد يكون هذا كله، ولكن السلم الدائم المضمون شيء والتطور الاجتماعي المتوثب شيء آخر.
التطور الاجتماعي لا تقف في وجهه حدود ولا تصده حرس ولا إغلاق، هل سمعتم بالمظليات الجوية قط؟ وهكذا هبوط التطورات الاجتماعية.
العقلية السياسية المسيطرة تقدر على وقاية الإنسانية من كل شئ إلا شيئاً واحداً: هو سلطان التطور الاجتماعي وما يحمله على كفه من المبادئ الاشتراكية والنزعات المتطرفة.
التطور الاجتماعي ناموس طبيعي قوي الشكيمة ماضي العزيمة، ولم يكفه هذا حتى تقوم (الحريات الأربع) تحميه من ورائه وتنهض الدعاية بسحر دسائسها تمهد له من أمامه.(617/15)
ونحن معشر المسلمين والعرب خاصة لا يمنعنا مانع أن تؤمن بكل ما يتكهن به المتكهنون عن نتائج هذه الحرب وتطور شؤون البشر بعدها، إذ أن التطور من قدر الله سبحانه له فيه حكمة ومصلحة لعباده، كما أن السلم الدائم من صنع أقطاب السياسة المسيطرة: لهم ولنا وللأمم كافة فيه الأمن والصلاح والإسعاد.
ولكن هل ننام معشر المسلمين والعرب على هذه الفكرة البراقة، ونتعلل بها مطمئنين مستسلمين؟
إذا لم يمكنا درء التطور غير الملائم لنا، أفلا يمكننا تلطيفه وتحويل مجراه إلى ما فيه صلاحنا وسلامة إسلاميتنا ولغتنا؟
فكر ملوكنا وكبار زعمائنا بأمر الوحدة العربية، وتسييجنا بها، فنعما فعلوا، وإن فعلهم هذا من نوع تلطيف القضاء وتخفيف وقعه وتوجيهه إلى توفير مصلحة العرب السياسية والقومية
أفلا يفكر غيرهم من العاملين المسئولين فيلطفوا التطور المتوقع حصوله في الدين واللغة، ويوجهوا إبرة بوصلته إلى ما فيه حفظ لدينهم وسلامة للغتهم؟
والتطور الفكري في الدين وإصلاحه أمر خطر وخطير في آن واحد، ولا يمكن التعرض له في موقفنا هذا بأكثر من قولنا: إن في المتطرفين من المثقفين المسلمين من يرى ضرورة تقضي بفصل الدين عن الدنيا، وآخرون منهم لا يرون هذا الرأي وإنما هم حريصون على العمل بالاجتهاد في الدين كما كان يجتهد الأولون من السلف عندما تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، ويزعمون أن هذه الشروط اليوم ممكنة الوجود في مجموعة من الأفراد، لا في الفرد الواحد. وهذا الفريق لا يبعد عن روح الدين الإسلامي كما بعد الفريق الأول وإن كان معظم رجال الدين اليوم لا يرون فتح باب الاجتهاد.
وهناك فريق ثالث يرى التعجيل بعملية (التصفية) وخلاصة ما يقال في وصف هذه العملية أن ينحى إلى جانب من مسائل الدين وأحكامه ودراساته ما لا يمكن تطبيق نصوصه ولا العمل به في عصرنا الحاضر، فهو مرجأ إلى أن يأذن الله بعودته، مثل معظم أحكام الجهاد والرق والعتق وإقامة الحدود إلى غير ذلك مما أصبح عبئاً على عاتق الثقافة الإسلامية التي تضطرها الظروف القاهرة إلى التخفف منه كي تنشط وتتمكن من لحاق من سبقها في(617/16)
ميادين الحضارة والعزة والغلبة.
هذه خلاصة ما يحدث، أو ربما يحدث من توثب الفكر الديني - خيره وشره - بعد الحرب.
وما ذكرته أصول لها ذيول لا يمكن استيفاؤها إلا في مصنفات أو محاضرات تلقى في غير هذه الحفلة. أما حفلتنا هذه فيكفيها ما اجترأت به عليها مذ شغلتها بغير ما أعدت له: أعدت هذه الحفلة (بعد البيانات الرسمية) لبحوث اللغة وطرق وقايتها مما يهدد سلامتها.
ومهما ذكرت لكم من مهددات سلامة اللغة لا آتى بشيء تجهلونه بل سأعمد إلى عكس ذلك: فأذكر لكم أيها السادة من أسباب سلامة اللغة وضمانة أبديتها شيئاً جديداً، شيئاً فيه طرافة وفيه استجمام، وفيه استشفاف لما يأتي به الغد القريب من صنع الله العجيب.
يعود نشاط الآراء وتوثب الحرية في المسائل الاجتماعية بعد الحرب إلى أشد مما كانت عليه قبلها. ويعود الداعي فيدعو إلى الشيء النكر: إلى استبدال اللغة العامية باللغة الفصحى، ولا أطيل القول في هذه المسألة لما أنكم أيها السادة المصريون خاصة أعرف بها وبمبتدأ خبرها من كل أحد. فالدعوة إلى اللغة العامية أشأم ما يهدد لغتنا العربية، وهناك مسألة أخرى وهي استبدال الحروف اللاتينية بحروف كتابتنا العربية. . . وهذه الدعوة أيضاً قد علمتم من أمرها أكثر مما علمتم من أمر الدعوة الأولى، إذ لم تهدأ بعد هماهم الداعين إليها، وشقاشق الرادين عليها، وهي فلتة قام على أنقاضها نهضة مباركة تدعو إلى تيسير الكتابة العربية وتسهيل الإفادة والاستفادة منها، وذلك من طريق إضافة حركات أو نترات موصولة بأطراف الحروف العربية أو أوساطها، فتصبح الكتابة العربية (ونسميها الكتابة الميسرة) سهلة في القراءة، قريبة التناول في الطباعة، خفيفة الظل على المعلمين والمتعلمين، ولا شؤم في هذا المشروع ولا ضير، بل إن فيه الخير كل الخير.
ومثله مشروع إصلاح قواعد اللغة العربية والاقتصار من مسائلها على ما تمس إليه الحاجة وتتوقف عليه صناعة البيان وملكة الإفصاح. . . وهذان المشروعان (تيسير الكتابة، وإصلاح قواعد اللغة) أهم ما يعنى به مجمعنا في دورته التي نحن واقفون على عتبتها، غير أن بعض المتشائمين يعترضنا ويقول: إن ما عرض حتى الآن من نماذج الكتابة الميسرة لا يخرجها عن كونها كتابة مستقلة ذات طابع خاص وشكل خاص، لا يحسنه إلا(617/17)
من أعتاده وتمرن عليه، فإذا حذقت الأجيال الآتية من أبنائنا هذه الكتابة وأهملوا الكتابة بالحروف العربية القديمة نسوا هذه الأخيرة بالطبع وجهلوا قراءتها. فتنقطع صلتهم بثقافة ماضيهم والاستمتاع بآثار أسلافهم. ومثاله القريب حروف الكتابة المغربية الأفريقية اليوم فإنها عربية في أصلها، لكن طرأ عليها من الأشكال والأوضاع والنترات والتقوسات ما حولها عن شكل الخط العربي المشرقي إلى خط خلاسي حتى أصبحنا نحن المشارقة عاجزين عن قراءة خطوط المغاربة، وبذلك انقطعت صلتنا بثقافتهم وآثار علمائهم وهم إخواننا وأهلونا.
(وإنا نرى أقدامنا في نعالهم=وآنُفَنا بين اللِحَى والحواجب)
وكم مرة حملنا كتابات هؤلاء الأخوان ومصنفاتهم المخطوطة أو المطبوعة بحروفهم إلى من يقرؤها لنا منهم، وقد لا نجده، غير أن هذا كان قبل أن ينهض إخواننا فضلاء المغرب إلى تدارك هذه القطيعة بيننا وبينهم، أما اليوم فقد أخذوا يطبعون وينشرون آثارهم القلمية بحروفنا المشرقية، وبذلك عدنا إلى الوصل واجتماع الشمل، وإلى الانتفاع بآثار عملهم والارتواء من معين فضلهم.
هذا بعض ما يقال في لمز الكتابة الميسرة المتوقع اختيارها، فإذا كان ما يقوله هؤلاء العائبون لها حقاً، وكان ما قاله أولئك في لمز الحروف اللاتينية حقاً أيضاً، وقعنا في حيرة من أمرنا، وأركسنا في اليأس من تيسير كتابتنا، وتسهيل تناول العلم على أحداثنا.
هنا أسمع بعض الملهمين يقول مستبشراً: إنه لا ينجينا من هذه إلا إذا أصغينا إلى هاتف الأمل، يهتف بنا من وراء حجب المستقبل؛ فهو ينصح لنا - أولاً - بالبقاء على الثقة بكتابتنا العربية الجميلة التي ورثناها عن ابن مقلة. ويبشرنا - ثانياً - قائلاً: أنكم علمتم مبلغ التطور المتوقع حدوثه بعد هذه الحرب، وسيكون هذا التطور على أشده في الصناعات ومختلف آلاتها وأدواتها، ومن الصناعات التي سترتقي وتتطور إلى أقصى حد من الترقي والتحسن صناعة طبع الكتابة، أي تصويرها بالفوتوغراف بآلة خاصة، وطريقة خاصة، وقد ارتقت هذه الآلة، وطريقة التصوير بها في سنين قليلة إلى حد أن مجلة (المستمع العربي) التي تطبع في لندن باللغة العربية أصدرت منذ نحو شهرين عدداً قدمته إلى القراء بقولها: (قمنا في هذا العدد بتجربة جديدة، ذلك أننا قررنا جرياً على خطتنا في(617/18)
تحسين مجلتنا أن نستخدم طريقة الفوتوغرافير هي ليست من أحدث طرق الطباعة فحسب، بل هي من المستلزمات الضرورية لطبع الصحف الكبيرة المصورة، وقد اتبعت أمهات الصحف العالمية المصورة هذه الطريقة أهـ.
وطريقة الفتوغرافير الطفلة سوف لا تبقى على طفولتها ولا على حالتها التي طبعت بها مجلة المستمع، بل ستترقى وتتطور كما ترقت وتطورت مطبعة (يوحنا غوتمبرج) التي تدار باليد إلى المطبعة الحديثة التي تطبع مطبوعاتنا بتذويب الرصاص (لينوتيب) بل إن الطيارة التي قطعت المانش منذ خمس وثلاثين سنة لا نسبة بينها وبين طيارات هذه الحرب، ولا يعلم إلا الله ماذا يكون من مصير تطورها بعد خمس وثلاثين سنة أخرى.
وعلى هذه النسبة سترتقي الكتابة العربية المصورة بطريقة (الفتوغرافير) ارتقاء مدهشاً نستخدمه معشر العرب في حفظ مكتبتنا والميراث الثقافي الذي تلقيناه من أسلافنا، وفي نشر العلم واللغة الصحيحة بين أبنائنا، وعندها نبقى على اتصالنا بماضينا والانتفاع بعلوم أسلافنا.
سيكتب الكاتب منا بعد خمس وثلاثين سنة - أو أقل - ما يريد كتابته من مقال أو خطاب أو رسالة أو مصنف، ويضطر الكاتب - بسبب أوامر الحكومة التي تجعل طبع الكتابة المعربة إجبارياً - يضطر أن يجود حروف ما يكتب، ويتحرى وضع النقط على الحروف وضبطها بالشكل الشامل لها، أو ما يلزم تشكيله منها، ثم يسلم أصول ما كتب إلى مدير مصنع الفتوغرافير فيطبع منه أو نقول يصور عنه ألوفاً وألوفاً من النسخ في ساعة من الزمن، فتجيء كلها طبق النسخة الأصلية المخطوطة بخط الكاتب أو المؤلف، وتنشر هذه الملايين من النسخ المحلاة بعلامات الإعراب بين أيدي القراء، فإذا مر على الجيل الآتي من أبنائنا نصف قرن، وهم لا يقرءون من الخطوط إلا ما كان مطبوعاً بطريقة الفوتوغرافير لا يعود أحد منهم يقرأ الكلام إلا معرباً، ولا يلفظه إلا معرباً، ولا يستظهره إلا معرباً، بل لا يفهمه إلا معرباً ويصبح إعراب الكلام سليقة لأبنائنا، وملكة راسخة في نفوسهم، وهذا كالشأن في أولاد عرب الجاهلية، قبل فساد اللغة بمخالطة الأعاجم، وإذ ذاك يصح للفتى العربي منا أن يتمثل بقول أبي الأسود.
ولستُ بنحويٍ بلوك لسانه ... ولكن سيُّلقى أقول فأعرب(617/19)
وإذا اتفق وأصدر مصنع الفوترغرافير كتابة عربية، لا هي بالمجودة، ولا بالمحررة ولا بالمعربة، بحيث لا يفهمها قارئوها، رفع الأمر إلى وزارة المعارف، فتصادر النسخ ذات الخطأ، وتحاكم مدير المصنع، وبهذه الصورة تقع المحافظة على سلامة اللغة العربية التي هي مبتغانا، ومن أهم أغراض مجمعنا، وسيكون من أثر انتشار هذه الطريقة (طريقة الفوتوغرافير) أن تهمل مطبعة (غوتمبرج) وتكسد صناعتها وصناعة ما يشبهها من آلات الطباعة، كما تبطل صناعة النحو إلا قليلاً.
أما صناعة الخط بالقلم (نون. والقلم وما يسطرون). (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) فتنتعش وتنتشر، ويعود سلطانها إلى سابق عهده، وسامي مكانته.
وإذا نسخ الكاتب العربي في المستقبل كتباً لطبعها وتصويرها سوف يكتبها معربة بسليقته وملكته السليمة لا بملكة قواعد قاسى عرق القربة في تعلمها، إلى غير ذلك من النتائج التي تحدثها صناعة (الفوتوغرافير) في ثقافتنا، وسهولة نشر العلم بين أحداثنا، وما يدرينا أن تقوم مجامعنا فتضع لصناعة الفوتوغرافير أسماء كالفغرفة مثلاً كما قالوا الفلسفة والفذلكة.
وإذ ذاك لا نعود نهدد بمشروع اللغة العامية ولا نروع بمشروع الحروف اللاتينية، بل ستهدأ فورة هؤلاء وتتحول إلى رضى واطمئنان وابتسام، ويضطر مجمع فؤاد الأول أن يعدل قوانينه وأنظمته تعديلاً كبيراً أو صغيراً حسب الحاجة، ويستبدل ببعض أغراضه أغراضاً أخرى اقتضاها التطور، وترتفع الأصوات بشكر الله وحمده على أن وفق البشر إلى هذا الاختراع العجيب فأنقذنا من الحيرة، ونجانا من المحنة.
عبد القادر المغربي(617/20)
من تاريخ الأدب الفرنسي
بوفون وحديثه عن الأسلوب
للأستاذ أحمد أحمد بدري
في حديقة النباتات بباريس، وأمام متحفها، يجلس تمثال بوفون بادياً على محياه وقار العلماء، وهدوء الباحثين، وسكينة النفس، واطمئنان الضمير، ولقد أحسن الفرنسيون في اختيار هذا المكان لتمثاله، فقد وقف الشطر الأكبر من حياته على دراسة ما في الطبيعة من حيوان ونبات.
ولد بوفون في السابع من سبتمبر سنة 1707 في مونتبار القريبة من بيجون، وقضى تعليمه العالي بكلية بيجون، ولم يكن متميزاً فيها إلا بميله إلى الرياضيات. وظل بيفون إلى الثانية والثلاثين من عمره غير مهتد إلى السبيل التي هيأته الطبيعة لها، ولم يقم بما يدل على أنه سيكون في قابل حياته العالم العبقري والكاتب الممتاز، وفي تلك المرحلة قام برحلة مع أحد الأمراء إلى إيطاليا ولندن، وألقى بحثاً في المجمع العلمي نال به لقب العضو المساعد، وترجم عن الإنكليزية بعض الكتب العلمية. وإذا كانت المصادفة تقود خطى بعض الناس، وتكشف لهم عما يكمن في أنفسهم من المواهب؛ فإن الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في حياة بيفون، وحددت له الطريق الذي يجب أن يوجه إليه جهده، فقد عين مديراً لحدائق الملك، وكلفه الوزير أن يضع وصفاً منهجياً لما بالمقصورة الملكية من مجموعات النباتات، ومنذ ذلك الحين وجد بيفون طريقه، وخصص نفسه لدراسة التاريخ الطبيعي.
كان حينئذ في الثانية والثلاثين من عمره، وقضى المدة الباقية له في الحياة، وقدرها تسعة وأربعون عاماً، بين باريس التي كان يفر منها كلما استطاع ذلك وبين بلدته مونتبار؛ وهناك كان ينهض من نومه الساعة الخامسة، ويحبس نفسه بمكتبه يملي إلى التاسعة، ويفطر في نصف ساعة يعود بعدها إلى العمل حتى الساعة الثانية إذ يتغدى. وهكذا كان يقضي كل يوم إلى نهاية حياته سنة 1788 قدر بيفون أن يخرج كتابه: التاريخ الطبيعي العام والخاص في خمسة عشر مجلداً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن صار ستة وثلاثين مجلداً، ولقد أحرز ما ظهر من هذا الكتاب في حياته شهرة واسعة، وأقبل عليه القارئون في شوق(617/21)
وحب.
كان بيفون ذا نفس سامية متزنة، مستقلة، هادئة، وكان بعيداً كل البعد عما يدور في عصره من المجادلات والاضطرابات وعاش للدرس والبحث والتأمل، واجداً في ذلك كل سعادته.
ولكي يجعل التاريخ الطبيعي - وهو مادة جافة - مقبولاً لدى الذوق احتاج أن يكون في ذكاء كاتب من الدرجة الأولى.
وفي سنة 1753 دعاه المجمع الفرنسي إليه من غير أن يتقدم بيفون بطلب إلى المجمع، واستقبل فيه يوم 25 من أغسطس، وألقى حديثاً عرض فيه بعض خواطره عن الأسلوب، وقد أثرت نقل هذا الحديث إلى اللغة العربية بجملته حتى لا يشوهه التلخيص؛ قال بيفون:
سادتي:
لقد غمرتموني بالشرف حين دعوتموني إليكم، ولكن التشريف لا يكون مزية إلا إذا كان المرء به جديراً؛ وأنا لا أستطيع أن أقنع نفسي أن بضع مقالات كتبت خالية من الفن وغيره من الزخارف سوى زخرف الطبيعة تكون حججاً كافية للجرأة على أخذ مكان بين سادة الفن، والرجال الأمجاد الذين يمثلون هنا عظمة فرنسا الأدبية، والذين سارت أسماؤهم في مختلف الأمم، وسيظل ذكرهم حياً رفيعاً على ألسنة آخر أحفادنا. وإن لكم أيها السادة لبواعث أخرى في اختياركم إياي، ذلك أنكم أردتم أن تقدموا للمجمع العلمي المجيد الذي كان لي الشرف باتصالي به زمن بعيد - علامة جديدة من تقديركم، وإن اعترافي بجميلكم - مهما يكن مقسماً - لن يكون لتقسمه أقل قوة.
والآن، كيف أؤدي الواجب المفروض عليّ؟ ليس لديّ أيها السادة، ما أقدمه إليكم سوى ما لكم أنتم من فضل، فهو بعض أفكار عن الأسلوب استقيتها من كتبكم، فبقراءتي لكم وبإعجابي بكم أدركتها؛ وبعرضها تحت أضواء أفكاركم تتضح في جلاء.
في كل الأزمنة وجد رجال عرفوا كيف يسيطرون على غيرهم بقوة الكلام، ومع ذلك لا تعرف الكتابة الجيدة وفصاحة القول إلا في العصور المستنيرة، وإن الفصاحة الحقيقية تتطلب مران العبقرية والموهبة النفسية، وهي في الحق تختلف عن السهولة الخلقية في الكلام التي ليست إلا نوعاً من الفطنة، موهوباً لكل هؤلاء الذين عواطفهم قوية وألسنتهم مطواعة وخيالهم سريع. هؤلاء الناس يشعرون شعوراً قوياً، ويتأثرون بقوة أيضاً،(617/22)
ويبرزون شعورهم في الخارج مدموغاً بالقوة؛ وبتأثير آليّ محض ينقلون إلى الآخرين حماساتهم وانفعالاتهم. إن الجسم هو الذي يتحدث إلى الجسم، فكل الحركات والإشارات تتعاون وتخدم أيضاً
ماذا يجب لإثارة الجماهير وقيادتها؟ وماذا ينبغي لتحريك القسم الأعظم من الرجال وإقناعهم؟ نغمة حادة مؤثرة، وإشارات معبرة كثيرة، وكلمات سريعة رنانة. ولكن العدد القليل من أصحاب العقول الراجحة، والأذواق الدقيقة، والمشاعر السامية، الذين هم على شاكلتكم - أيها السادة - ممن يستقلون النغمة والإشارات، والرنة الفارغة للكلمات، تجب له أشياء أخرى وأن تقدم إليه أفكار وحجج، ينبغي لمن يقدمها أن يعرف كيف يبرزها وكيف يلونها وينسقها، ولا يكفيه أبداً أن يقرع الأذن أو يشغل العين، بل يجب أن يحرك الروح، ويلمس القلب، متحدثاً إلى اللبّ.
ليس الأسلوب إلا النظام والحركة التي يضعها المرء في أفكاره، فإذا ربطت هذه الأفكار بدقة، وضمت، صار الأسلوب متيناً قوياً موجزاً، أما إذا تركت تتابع في بطء ولا تأتلف، إلا بفضل رباط الكلمات، مهما كانت أنيقة فإن الأسلوب يكون مسهباً رخواً مملاً.
ولكن قبل أن نبحث عن النظام الذي تصب فيه الأفكار يجب أن يكون ثمت خطة أشمل وأثبت، من الواجب ألا يدخل فيها سوى العناصر الأولى، والأفكار الأساسية، وإنه بتعيين مكان العناصر والأفكار من هذه الخطة البدائية، يكون الموضوع محدداً معروف المدى، وبالتذكر الدائم لهذه الخطوط تحدد المسافات الصحيحة الأفكار الأساسية، وتخلق الخواطر الإضافية الثانوية التي تفيد في إكمالها بقوة العبقرية، نستحضر كل الأفكار العامة والخاصة في ثوبها الحقيقي، وبالدقة العظيمة في الفرز تتميز الأفكار المجدية من الخصبة، وبالبصيرة النافذة المتنبئة التي بها كثرة اعتياد الكتابة يشعر الكاتب سلفاً بما سوف تفضي إليه كل عملياته العقلية. وعندما يكون الموضوع واسعاً أو معقداً يكون من البيّن أنه من النادر أن يستطاع شموله بنظرة واحدة، أو اختراقه بأول مجهود للموهبة. ومن النادر كذلك أنه حتى بعد تأملات عدة أيضاً تدرك كل تفصيلاته فلا يستطاع إذاً أن يشغل الكاتب نفسه بذلك كثيراً، ومع هذا، تلك هي الطريقة الوحيدة لتوطيد أفكار الكاتب، وتفصيلها والسمو بها: فكلما منحها ما يقومها ويقويها بالتفكير يكون من السهل عليه بعدئذ أن يوضحها(617/23)
بالتعبير.
ليست هذه الخطة مع ذلك بالأسلوب، ولكنها قاعدته. هي التي تصونه وتقوده وتنظم حركته، وتخضعه للقوانين، وبدونها يضل خير الكاتبين، ويسير قلمه بدون قائد، ويأتي مصادفة بصفات شاذة، ومجازات متنافرة؛ ومهما تكن الألوان التي يستخدمها لامعة، والمحسنات منثورة في الجزئيات، فإن العمل في جملته يصدم الإحساس ولا يتضح، ولن يكون التأليف أبداً محكم البناء. ومع إعجابنا بعقل المؤلف يستطاع الارتياب في أن الموهبة تنقصه. ولهذا السبب كان هؤلاء الذين يكتبون كما يتكلمون - مهما كان حديثهم عظيم الجودة - ذوي كتابة رديئة؛ وهؤلاء الذين يتبعون أول شرارة يقدحها خيالهم يأخذون سمة من لا يستطيعون ضبط أنفسهم؛ وهؤلاء الذين يخافون أن يفقدوا أفكارهم المفرقة الشاردة، ويكتبون في أوقات مختلفة قطعاً متفرقة لا يستطيعون أبداً أن يجمعوها بدون تغيير اضطراري، وفي كلمة واحدة: نجد كثيراً من المؤلفات قد كون من قطع شتى وقليل منها ما له هدف واحد.
ومع ذلك كل موضوع وحدة، ومهما يكن البحث واسعاً فمن الممكن وضعه في مقال واحد، والانقطاعات والاستراحات والتقسيمات لا يصح أن تستخدم إلا عندما تعالج موضوعات مختلفة، أو عند التحدث في أشياء جليلة شائكة متابينة، فيجد تيار التفكير نفسه معترضاً بشتى العقبات، ومكرها بضرورة الظروف؛ وفضلاً عن ذلك ترى كثرة الأقسام، مع بعدها عن أن تجعل الموضوع شديد الالتحام تهدم وحدته. وإن الكتاب بها يبدو أمام العينين واضحاً، ولكن هدف المؤلف يظل غامضاً، ولا يمكن أن يؤثر في نفس القارئ؛ وإن الغرض لا يدرك إلا باتصال الأفكار، وارتباطها ارتباطاً ملتئماً، وبالشرح المتتابع، والتدرج الآخذ بعضه بحجز بعض، وبالحركة المتسقة التي يهدمها كل انقطاع أو يضعفها.
ولماذا كانت أعمال الطبيعة تامة الكمال؟ ذلك أن كل عمل وحدة تامة، وأنها تعمل تابعة لخطة خالدة لا تفارقها أبداً. إنها تهيئ في صمت بذور ما تنتجه، وترسم بنظام واحد الشكل الأول لكل المخلوقات الحية، وتنميه، وتكمله بحركة دائمة وفي وقت معين. العمل عجيب، ولكنه الطابع الإلهي فيه سماته التي يجب أن تؤثر فينا. وإن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تخلق شيئاً، ولا تنتج إلا بعد أن تكون خصبة بالتجربة والتأمل؛ ومعارفها بذور إنتاجهاً،(617/24)
ولكنها إذا قلدت الطبيعة في سيرها وعملها، وإذا ارتفعت بالتأمل إلى أسمى الحقائق فوحدتها وربطتها، وكونت منها بالتفكير كلاً ومنهاجاً فإنها تبني آثار خالدة على أسس لا تتزعزع.
إنه لمن نقص في الخطة، ومن عدم التفكير الكافي في الغرض، أن رجلاً ذكياً يجد الموضوع يملك نفسه ولا يعرف بم يبدأ الكتابة. إنه يدرك مرة واحدة جملة عظيمة من الأفكار، ولأنه لم يستطيع أن يوازن بينها، ولا أن يلحق فكرة بأخرى، لا يمكنه أن يجزم بتفضيل بعضها على بعض، ويظل إذاً يتخبط في حيرته.
ولكنه منذ أن يضع الخطة، ومنذ أن يجمع أفكاره الأساسية للموضوع وينظمها، يدرك في الحال بسهولة ما يجب أن يتناوله قلمه، وسيشعر باللحظة التي يتم فيها نفح فكرته، وسيجد نفسه معجلاً إلى الإنتاج، ولن يجد إلا السرور بالكتابة، تتابع الأفكار في يسر، ويصير الأسلوب طبيعياً سهلاً، وتتولد الحرارة من هذا السرور، وتشيع في كل مكان، وتعطي الحياة لكل تعبير، وينتعش كل شيء كلما تقدم الكاتب في الكتابة، وترتفع نغمة الأسلوب، وتأخذ الأشياء ألواناً زاهية، والشعور منضماً إلى الوضوح يفخمها ويقويها، ويصير الأسلوب بذلك جذاباً مشرقاً.
لا شيء يعارض الحرارة إلا الرغبة في أن نضع دائماً عبارات أخاذة. ولا شيء ينافي الوضوح والضوء الذي يجب أن يكون له مركز ينتشر منه متناسقاً في المؤلف كله - إلا هذه الومضات التي تغتصب بالقوة من تضاد الكلمات بعضها لبعض، والتي لا تبهرنا بعض الوقت إلا لتتركنا بعدئذ في الظلمات. إنها أفكار لا تلمع إلا بتضادها، ولا تبرز إلا جانباً من جوانب الموضوع بينما يوضع في الظلام كل الجوانب الأخرى؛ وفي العادة يكون هذا الجانب الذي يختار حداً أو زاوية يتلهى الذهن بها بسهولة، بينما يكثر بعده عن الجوانب العظيمة التي اعتاد الفكر المستقيم أن يقدر بها الأشياء.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(617/25)
صوت من العالم الآخر
للأستاذ نجيب محفوظ
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
استرق إلى نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم فانطلقت، لم تحدث حركة في الواقع. وإنما كان يكفي أن يتجه فكري إلى شيء حتى أجده ماثلاً أمامي. بل الواقع أعظم من ذلك؛ فقد صار بصري شيئاً عجباً؛ لا يعصى أمره شيء، صار قوة خارقة تشق الحجب وتتخطى السدود، وتنفذ إلى الضمائر والأعماق. بيد أني - وقد حم الوداع - نازعني الفكر إلى أهلي. فوجدت نفسي في داري. أما الصغار فقد راحوا في نوم عميق لا يزعجه مكدر. وأما زوجي وأمي فقد افترشتا الأرض، ولاح في وجهيهما الهم والغم. لشد ما أعياهما الحزن والبكاء! وغدا يتضاعف حزنهما عند تشييع التابوت إلى مثواه الأبدي. وقد تغلغل روحي في فؤاديهما فتحرك رأسهما وتمثلت لهما في الأحلام، ورأيت القلبين المحزونين يخفقان في كمد وألم. فيم كان كل هذا الكدر؟! بيد أن شيئاً استرعى بصري! رأيت في سويداء القلبين نقطة بيضاء. فعرفتها - فما عاد يخفى علي علم شيء - فهي بذرة النسيان! آه. . . ستكبر هذه النقطة وتنتشر حتى تشمل القلب كله. أجل أدركت هذا حق الإدراك، ولكن بغير مبالاة فلم أعد أكترث لشيء. وتساءلت مسوقاً بلذة المعرفة متى يمكن أن يحدث هذا؟! فأرتني عيناي العجيبتان صورة من المستقبل: رأيت أمي تمسك غلاماً بيمناها وتشق طريقها وسط زحام شديد ملوحة بزهرة اللوتس. فعلمت أنها خرجت - أو أنها ستخرج - للمشاركة في أسعد أعياد قريتنا، عيد الإلهة إيزيس. كان وجهها متهللا كان ابني يهتف ضاحكاً. ورأيت زوجي تهيئ مائدة - والطعام خير ما تصنع في دنياها - وتدعو إليها رجلاً أعرفه، فهو ابن خالها ساو. ونعم الزوج هو. ولو أن ميتاً يسر لسررت لها، لأن ساو رجل فاضل، وهو خير من يسعد زوجي ويرعى أبنائي. وانصرفت روحي عن داري. فمرت في سبيلها بقصر أميري المحبوب، فشاهدت عقل الأمير ووجدته متأسفاً لفقدي وهو الذي قدرني أجمل التقدير وجازاني خير الجزاء. ووجدته مشغولاً باختيار خلف لي فقرأت في ذاكرته أسم المرشح الجديد (آب رع) وكان من مرؤوسي النابهين وإن لم تتصل بيننا أسباب المودة. كل هذا جميل. ولكن إلام أبقى في قريتي واليوم يستقبل فرعون رسول الحيثيين لتوقيع(617/27)
معاهدة الصلح والسلام؟ رأيت منف - في لمح البصر - تعج بجمهورها الحاشد. والقصر في أروع منظر. وقد اجتمع في بهو العرش العظيم الملك والرسول والكهنة والنبلاء والقواد. هؤلاء هم سادة الدنيا قد جمعهم مكان واحد. وهذا فرعون المظفر يحادث رسول الحيثيين الجبابرة في جو بالمودة عامر، أما صدر الملك فقد امتلأ احتقاراً، وترددت بأعماقه هذه العبارة: (لابد مما ليس منه بد) وأما صدر الرسول فقد بض كراهية، وتحيرت به هذه الفكرة: (صبراً حتى يموت هذا الملك القوي). ونشطت عيناي، فرأيت الوجوه والملابس والقلوب والعقول والبطون. رأيت عالمي الظاهر والباطن بغير حجاب. وتسليت زمناً بتفحص ما في البطون من طعام فاخر وشراب معتق، حتى عثرت بمعدة كاهن على بصل وثوم! وهما محرمان على الكهنة. وتساءلت ترى كيف غافل هذا الرجل الورع أقرانه ودس هذا الطعام في جوفه؟! ولمحت في ناحية من معدة أحد النبلاء دبيب المرض الذي أودى بحياتي، وكان الرجل يحاور قائداً في سرور وانشراح فقلت له في نفسي: (على الرحب والسعة!). ثم وقع بصري على الحاكم تيتي الذي اشتهر بالقسوة والبطش حتى ليوالي فرعون النصح له بالاعتدال مع رعايا إقليمه. فنظرت إليه بإمعان. وسرعان ما تكشف لي عن جسم مهزول، مريض الأعضاء، لا يفتأ يشكو مر الشكوى أسنانه ومفاصله. وكلما ألح عليه الألم تمنى لو يستطيع بتر الفاسد من جسمه. ولذلك تملكته فكرة البتر بقسوة فلا يتردد عن بتر المعوج من رعاياه بعنف لا يعرف الرحمة. وإلى جنب تيتي شاهدت الوزير مينا، ذلك الرجل العنيد الذي حارب فكرة الصلح بكل قواه، وطالما حرض على القتال، وتساءلت ترى ما سر عناد هذا الوزير الخطير؟! رأيت عقله نيراً، ولكن أمعاءه ضعيفة فتستبقي فضلات الطعام طويلاً فتلوث دمه في دورته فيذهب إلى عقله فاسداً، ويغشى نور أفكاره، حتى إذا خرجت من فمه كانت ذات شر كبير! والرجل مقتنع برأيه يراه واضحاً مستقيماً كما أرى مخه مسوداً ملوثاً! ثم دار بصري بالصدور يستقرئها خفاياها الكامنة وراء بسمات الثغور. هذا صدر ثقل عليه الملل فهمس لصاحبه: (متى العودة إلى القصر حيث السماع والقيان؟!) وهذا صدر يتوجع قائلاً: (لو مات الرجل بمرضه لكنت الآن قائداً على فرقة الرماح!) وذاك صدر يقول في جزع متسائلاً: (متى يقوم الأحمق برحلته التفتيشية فأهرع إلى زوجه الحسناء المحبوبة. . . آه. . .) وقال صدر لصاحبه من(617/28)
الأعماق: (لا يدري إنسان متى يحين الأجل. فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخر بناء مقبرتي. أو فما فائدة المال إذاً؟!) وتولت الحيرة صدراً كبيراً فجعل يقول لصاحبه: (قال إخناتون إن الرب هو آتون. وقال جار محب إنه آمون. وهناك قوم يعبدون رع. فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟) ولم أواصل الاستطلاع طويلاً في هذا الحفل الفرعوني الجليل إذ سرعان ما ادركني الملل. فتحولت عنه ووجدت نفسي مرة أخرى في الدنيا الواسعة. ومرت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرة، ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكون في رحم، فرأيته يكتسي لحماً وعظماً. وشهدت مولده. وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلاً وصبياً وغلاماً وشاباً وكهلاً وشيخاً وميتاً. وشاهد ما أعتور من حادثات وحالات سرور وحزن ورضا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأى ذلك جميعه في دقيقة من الزمان. حتى كاد يختلط في أذني بكاء الميلاد وشهقة الموت! وغلبتني على أمري رغبة جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات. واستلذذت كثيراً وقوع الحالات المتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن! فهذا وجه يضحك ويقطب ثم يضحك ويقطب عشرات المرات في جزء من الثانية! وهذه امرأة تتيه حسناً وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان! ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن. هذا وغيره مما لا يحيط به حصر جعل الحياة مهزلة. فلو أن ميتاً يضحك لأغرقت في الضحك. وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير! ورغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري. ورنوت إليهم من بعيد جمعاً غفيراً لا يحده شيء. تضاءلت الحجوم وطمست المعالم وإنعدمت الفوارق. فصاروا كتلة واحدة. ساكنة صامتة. لا حياة فيها ولا حركة. رحت ألقي البصر في دهشة وحيرة. حتى ألفت المنظر. فتكشف لي عن جانب جديد كان من قبل خافياً. رأيت ذاك الظلام الساكن يشع نوراً شاملاً؛ فإن الأنوار الخافتة المتهافتة التي تخفق في كل مخ - على حدة - ضعيفة خابية، اتصلت في المجموع الملتحم المتماسك ولاحت نوراً قوياً باهراً. رأيت في لمعتها حقاً باهراً وخيراً صافياً وجمالاً متألقاً فازددت دهشة وحيرة. رباه لشد ما تعاني الروح وتتعذب ولكنها تبدع وتخلق على رغم كل شيء. رباه لقد رأى توتي أموراً جليلة وليرين أموراً أجل وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من(617/29)
السماء التي سأعرج أليها. وغضضت البصر. ووليت الدنيا ظهري. فوجدت نفسي في حجرة التحنيط المقدسة. وقد ملأ روحي سرور إلهي لا يوصف. .
وانتهت أيام التحنيط السبعون. فجاء الرجل مرة أخرى، واستخرجوا الجثة من الحوض وأدرجوها في الأكفان، وأتوا بالتابوت وقد زالوا غطاءه بصورة جميلة لتوتي الشاب ووضعوا فيه الجثة، ثم رفعوه على أعناقهم وساروا به إلى الخارج، فتلقاه المشيعون من الأهل والجيران بالعويل واللطم، وعاد النواح كأفظع مما كان يوم النعي، وذهبوا إلى شاطئ النيل، وهبطوا إلى سفينة كبيرة أقلعت بهم صوب مدينة الأبدية على الشاطئ الغربي، والتفوا بالتابوت يصوتون وينوحون. قالت أمي: (لا جف لي دمع، ولا اطمأن لي قلب من بعدك يا توتي!). وصاحت زوجي: (لماذا قضى علي بأن أعيش بعدك يا زوجي!)
وقال حاجب الأمير: (توتي أيها الكاتب المجيد. لقد تركت مكانك شاغراً!)
ولبثت أنظر بهاتين العينين اللتين تنكرتا لماضيهما، وكأن سبباً لم يصلني يوماً بهذه الدنيا، ولا بهؤلاء الناس. ورست السفينة إلى الشاطئ، فرفعوا التابوت مرة أخرى، ومضوا به إلى المقبرة التي أنفقت في تشييدها جل ثروتي، وأحلوه موضعه من الحجرة. وفي أثناء ذلك كان جماعة من الكهنة يتلون بعض الآيات من كتاب الموتى، يلقنونني التعاليم الهادية من أقوم سبيل! ثم جعلوا ينسحبون تباعاً حتى خلا القبر، ولم يعد يسمع من شيء إلا العويل الآتي من بعيد، وأغلقت الأبواب وهيلت عليها الرمال، فانقطعت كل صلة بين العالم الذي ودعت، والدنيا التي أستقبل. . .
ملاحظة: هنا انقطعت الكتابة في المخطوط الهيروغليفي، ولعل فترة الانتظار التي أشار إليها الكاتب في أول كتابه كانت قد انتهت. ولعل رحلته الأبدية كانت قد بدأت، فشغل بها عن قلمه المحبوب، وعن كل شيء.
نجيب محفوظ(617/30)
من وراء المنظار
متحمس. . .!
يتحمس في كل شيء: في رأيه، في أشارته، في نطقه، في عبارته، في جلسته، في حركته، فيما يختار من ألوان ملبسه، في ضحكته؛ ولابد أنه قياساً على كل هذا متحمس كذلك في بكائه. وكم تمنيت - على شدة كراهيتي للبكاء - ولو رأيته يبكي لأرى مبلغ حماسته في دمعته!
قارب الثلاثين أو جاوزها قليلاً. حديث العهد بشهادة من شهادات إحدى جامعتينا فهو بها معتز مغتبط متحمس في اعتزازه واغتباطه. ولست أجد في ذلك ما يلام عليه فهذا ما يفعله كثيرون غيره ممن يظفرون بشهادات جامعية يستطيعون بعدها أن يعملوا ليظفروا بالألقاب العلمية الضخمة، ومن منهم لا يحب أن يصبح دكتوراً مرموق المكانة عظيم الخطر؟
وصاحبنا الذي اختلس منظاري النظر إليه ساعة، وحملقت فيه عيناي أكثر من مرة من شدة إعجابي به، ولست أقول من فرط تعجبي منه، قد عقد النية فيما علمت من أنبائه على أن يكون دكتوراً مهما كلفه ذلك من جهد. على أنني لا أذكر أني رأيت فيمن يحملون هذا اللقب العظيم من هو أشد ذهاباً بنفسه من صاحبنا هذا، ولا من يصطنع لهجة الأستاذية والضلاعة، ولا من يقطع بالرأي في سرعة ويقين، ولا من يقذف بالأحكام العريضة في سخاء ويسر، كما يفعل هذا الذي لم يصبح دكتوراً بعد، وهذا هو سر إعجابي به، فما أحسب إلا أنه غنى بذلك كل الغنى عن جميع الألقاب كل وصف عنده، سواء وصف ما يرضيه أو وصف ما يسخطه، يأتي على وزن أفعل كما يقول النحاة، فهذا أحسن مؤلف ظهر حتى اليوم، وفلان أكبر عالم في البلد، وهذا أجهل رجل بكيت وكيت من المسائل، وهذه أحسن خطة؛ وهكذا دائماً على وزن أفعل النحاة، أو على طريقة أفعل التجار في مثل قولهم أحسن صنف وأفخم قماش وأجمل لون وأرخص سعر!
وهو على أهبة دائماً لأن يعارضك فيما تبدي من رأي. وليته يقارعك حجة بحجة، أو يعنى حتى بمجرد الاستماع إلى أن تتم رأيك، فإنك ما تكاد تشير إلى فكرة حتى تراه ينهال عليك بما حفظ من مسائل، فيورد طائفة مختلفة من الآراء وليس يهمه إن كانت تتصل من قريب أو من بعيد بما يدور الكلام حوله، وإنما يكفيه أنه هكذا قرأها، وإنه ليوردها أحياناً مبتورة(617/31)
مشوهة فيقحمها عليك إقحاماً، فإن غيرت مجرى الحديث لتصحح له نصوصه عاند وأصر على أن الصحيح ما يقول، فلا مناص إذاً من أن تجد نفسك وإياه وقد خضتما في حديث جديد لتنقلا منه بنفس الطريقة إلى غيره ثم إلى غيره، وحينئذ ينظر إليك نظرة الظافر، ويبتسم ابتسامة من يرثى لضيق عقلك وقلة اطلاعك، وإنه لأهون عليك ألف مرة أن ترضى بذلك من أن تسايره في جدله
وإنه ليلتفت إلى متحاورين في المجلس فما أسرع ما يجعل من نفسه خصماً ثالثاً وما سأله أحد رأيه. وإنه ليسفه كلا الرأيين المتجادلين، فما تدري ماذا يريد، ثم يهجم هجومه على أسلوبه العتاد، فهذا الرأي أضعف ما قيل في هذه المسألة، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، وقول فلان هذا يرفضه أبسط متعلم، ولا يجوز عند أقل الناس إلماماً وأضعفهم إدراكاً، وإن الرأي الصحيح بل أدق الآراء واحذقها هو ما ذكره العلامة فلان والفيلسوف علان في كيت وكيت من الكتب. وإنه ليرتعش من جميع نواحيه وتهتز أطرافه من فرط تحمسه، وتتعاقب الصفرة والحمرة على محياه الكريم، بحيث لو دخل زائر في هذه الحالة لما شك أنها معركة تبودلت فيها أقذع التهم وأفحش المطاعن
وإنك لتقرأ في وجهه العجب والغضب من أنك تطاوله، فضلاً عن أن تنكر عليه ما يقول، فهل قرأت مثل ما قرأ أو بعضه؟ وكيف لا تؤمن بطول باعة ورسوخ قدمه، وإنك لتراه يتناول كل معضلة ويجادل في كل فن ولا تغرب عن ذهنه صغيرة ولا كبيرة من المسائل، فإن تكلم في المجلس اقتصادي انبرى له، وإن تحدث لغوي وثب عليه، وإن جادل سياسي أخذه من أقطاره، وإن شرح طبيب سبب علة أبان له وجه الخطأ فيما يقول، وإن أرخ مؤرخ لحادث شهده بنفسه أو روى حديثاً عن عظيم طواه الموت جابهه بما يشبه التكذيب لأنه لا يمكن أن يعتقد وقوع ذلك فإنه أبعد ما يكون عن العقل وأضعف سنداً من أن يعتمد عليه.
وبعد فما كانت الحماسة عيباً، وإننا معشر المصريين لمن أكثر بني الدنيا تحمساً في معظم الأمور، وإنما هو هذا المنظار اللعين يأبى إلا أن يستخرج من هذه الحماسة الشائعة ما يسوقه مساق التندر والمعابثة، وهذه صورة منها سوف تعقبها صور
الخفيف(617/32)
التصوير الفني في القرآن
لمؤلفه الأستاذ سيد قطب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
نقد وتعليق
هو كتاب شاعر ناثر ناقد، زاول الشعر والنثر والنقد، ونجح في ذلك كله كثيراً من النجاح.
ولابد لمن يتناول البحث في القرآن من جانب فنه البياني أن يكون قد زاول التعبير الفني ونجح فيه واتصل بفنونه اتصالاً وثيقاً، وأن يكون كذلك له ذوق وحكم وتقليب نظر في أجواء البيان الرفيع.
ولست أقدم (المؤلف) للقراء، فهم يعرفونه، بل أقدم كتابه هذا الذي هو لا شك نظرة واسعة لبيان القرآن جاوزت حدود تلك النظرات القديمة المعقدة الضيقة التي كانت في أكثرها تتخذ (وحدة) القياس البياني في الغالب من العلاقات والتخييلات الجزئية بين أجزاء الجملة. فتنظر لوضع اللفظ وحده في وصلته بالحقيقة والتخييل، وقليلاً ما تتخطاه إلى الصورة الجامعة وملابساتها وما حولها من الظلال والرموز.
ومن حق المؤلف أن يخطئ من النقد بالتفتيش والتتبع لما يكتبه من أدب حر، لأنه هو يعنى نفسه في التفتيش والتتبع لما يكتب المؤلفون، وتقديمه للناس وتعريفهم به. وهو عمل متعب مشكور، له أثره في تعريف الكتابين إلى أنفسهم أولاً، وفي وجود صدى لابد منه لآثارهم. وفي إثارة الأذهان نحو النقد والحكم على الآثار الأدبية ومعرفة أهدافها وتبيين آثارها وأساليبها وسماتها، وفي التاريخ لها أولاً بأول. . .
والذي أستطيع أن أقوله بسرعة عن هذا الكتاب: إنه ينزل إلى مكان كريم من مكتبة القرآن، لأنه حديث جديد عميق في أسرار بيانه، وعرض رشيق لمذهب من مذاهب الفهم والذوق لإعجاز تعبيره.
وينزل كذلك إلى مكانه من مكتبة بحوث (البلاغة) والنقد الأدبي، لأنه ظاهرة طيبة لتحررهما من النظرة الجزئية وتسديدهما إلى النظرات الواسعة الكلية التي تستوفي (الجو) العام الذي صدر فيه الأثر البياني، وتتلمس المناسبات الداخلية والخارجية حوله، وتحلل(617/34)
العلاقات الكثيرة بين الكاتب والمكتوب والقارئ والموضوع.
ويدخل كذلك ببعض فصوله إلى مكانه من مكتبة الأدب الفني لأنه يكشف عن صورة للقرآن في ذهن شاعر معروضة عرضاً جميلاً بأسلوب ناثر دقيق التعبير مشرق الأسلوب، له ذوق وحساسية وبيان، لا بأسلوب (محصل) علم، إن أصاب الفكرة فقد يخطئ التعبير.
ويدخل كذلك إلى مكتبة (الفن) وأعنى به هنا التصوير بالريشة والإزميل، فهو يضع أمام المصورين الباحثين عن المشاهد الرائعة صوراً بيانية للوحات حية مشروحة الدقائق والتفاصيل والأضواء والظلال والأطياف والشواخص والمعاني، يستطيعون أن يتملوها ويتفرسوا فيها فيجدوا متاعاً أي متاع. .
وينزل كذلك إلى مكانه من (البحث) المستقصى والتتبع والتحقيق وجمع الحلقات المفرقة عن الموضوع الواحد. كما يتجلى ذلك في مباحث (القصة في القرآن). وهي مباحث استغرقت أكثر من ربع الكتاب وتعد موضوعاً قائماً بذاته فيه.
وقد عرض في بعض فصوله لكثير من المباحث التي تدور حول القرآن، ولا غنى عنها لمن يريد أن يتفرس في بيانه.
غير أنني أخشى أن يكون قد أفلتت لفظه أو اثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية التي عنونه بها في جو من المبالغة والتعميم.
ذلك أن يقرر في الفصل الذي أنشئ من أجله الكتاب أن (التصوير هو الأداة (المفضلة) في أسلوب القرآن) وأن إدراكه وسيلة إلى (إدراكنا (سر الإعجاز) في تعبير القرآن)
فإذا تجاوزنا عن الفرق بين كلمة (أسلوب) وكلمة (تعبير) وفهمنا أن الأستاذ في الغالب يريد من الكلمة الأولى معنى الكلمة الثانية، إذ لا يخفي عليه الفرق بينهما، وخصوصاً في القرآن، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز عن إطلاق كلمة (المفضلة) ولا عن إطلاق (سر الإعجاز) لأن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة في التعبير يقتضي الاعتماد على (الإحصاء) وظهور نتيجته بكثرة عددية. . فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره المؤلف يحظى بالكثرة العددية؟
إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن، فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن، وليست هي الغالبة ولا الكثيرة.(617/35)
فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ، والذي يستخدم الألفاظ الوضيعة وحدها، وتارة يستعير لفظاً واحداً من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك به الخيال ويلمس الحس لمساً رفيقاً، وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية، وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة، وتارة تكون هي الكل، ومع ذلك يحتفظ القرآن في كل أولئك بأسلوبه المتفرد وسر إعجازه؛ فليس التصوير الفني وحده هو سر الإعجاز في تعبيره كما يرى المؤلف الصديق.
وحديث سر الإعجاز حديث شغل الباحثين في القرآن من قديم، ولا يزال يشغلهم للآن، وسيظل يشغلهم أبد الدهر، ولن يصلوا إليه (ويدركوه) وقد (أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)؛ لأننا نستطيع في اليوم الذي (نصل) فيه إلى إدراك سر الإعجاز في تعبير القرآن أن نستخدمه في صنع كلام معجز. . . وحينئذ لا يكون معجزاً. . . مادام مفتاحه بأيدينا وفي طوق صنعتنا.
فالمعجز من أمور الحياة هو ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه. ونحن نجد في مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور والنموذج الإنساني والطبيعة البشرية) إلى آخر ما قرره المؤلف من الحالات والسمات والمواقف التي رأى القرآن يعبر عنها على قاعدة التصوير التي تجعل (المستمعين نظارة) فلو لم تفلت هاتان الكلمتان من قلم المؤلف الواعي، ولو لم يحاول أن يجعل قضية كتابه التي عنونه بها (قاعدة ومذهباً مقرراً وخطة موحدة وخصيصة شاملة) يفضلها أسلوب القرآن أو بالأحرى تعبيره، إذا لجاء المعنى الذي أراده خالياً من هذا التعميم، ولكان موضوعه كما يحدده عنوان الكتاب هو استقراء (الصورة الفنية) في القرآن وعرضها والتعليق عليها وبيان ما فيها من روعة وأسرار.
في الكتاب فصل عن (المنطق الوجداني) يتصل بالمباحث العقلية حول القرآن وأسلوب دعوته إلى الأيمان بالله الواحد وقضايا الدين. وهو فصل أثار في نفسي تعليقاً وخواطر حول بيان أساس الدين، وهل هو الوجدان أو العقل؟
والمؤلف يرى أنه الوجدان، وأن الذهن ليس أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها إلى الدين.(617/36)
ونظراً لخطر الموضوع وقيمته في الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة سأضطر إلى مناقشة هذه الفكرة التي صارت زعماً عاماً انتقل إلى المسلمين الذين أساس دينهم (بل أساس الدين الصحيح كله) العقل؛ لأنني أعتقد أن المسلمين الآن بحاجة إلى أن يعلموا أن قضية الإيمان بالله الواحد كما استعرضها ودعا إليها القرآن ليست قضية (وجدانية) تأخذ من المجهول للنفس أكثر مما تأخذ من المعلوم لها، بل هي في أصلها ومنبثقها الأول تأخذ من (المعلومات) ويقينات الحس والبداهة والحكم العقلي أكثر مما تأخذ من أي منطقة أخرى من مناطق النفس البشرية. . .
فليس الموطن الأول لهذه العقيدة هو الوجدان، منطقة الانفعال والاستسلام أو الثورة، بل موطنها هو موطن ذلك (البرق) الذهني أو العقلي الذي ينتج (حكماً) يرسله إلى الوجدان فينفعل له ويتقبله (ويعقده) في طويته ويستسلم له ويسير حياته على مقتضاه.
هذا البرق الذي ينتج (الحكم) يستمد حيثيات أحكامه من انطباعات الصور الثابتة للكون في النفس ومن الانفعالات الداخلية بهذه الصور. والذي أعلمه من علم النفس أن أول (برق) يبرق في النفس وينطبع فيها هو حقيقة (السببية) التي تفجأ الطفل ويتحرك لها فمه حركة (منعكسة) آلية عندما تلقمه أمه ثديها، فيجد أثراً واضحاً لذلك التحريك تنفعل له أعصاب الجوع والشبع.
وكذلك عندما يصل إلى عينه أو أذنه أول شعاع ضوئي أو أول صوت فيجد له أثراً في حساسية بصره أو سمعه، ثم لا تلبث الآثار المطردة (الأسباب) أن تتلاحق على مجمع حواسه حتى تنتج طائفة من الأحكام المطردة المبنية على الانفعالات المطردة التي يجدها في حواسه وفيما وراءها.
وهذا ما يقرره القرآن نفسه بقوله: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) فعندما يصل الناشئ إلى ترك مرحلة ذهول الطفولة وإلى إدراك الكون كله كوحدة، لا يتجه بانفعال وجداني إلى السبب الأكبر للكون لأن ذلك الوجدان لم يوجد بعد، وإنما يتجه إليه بحكمه الذهني الذي يركب قضية ذهنية منطقية في خفاء وبدون ألفاظ، يحكم بها بأن لهذا الكون سبباً وقدرة ومشيئة تدبره. . . وهي التي أدخلت الإنسان إلى الدنيا العجيبة وتخرجه منها. ولن ينفعل لهذا وجدانه (بالدين)(617/37)
إلا إذا صح لديه هذا الحكم. فإن لم يصح لديه أن لهذا الكون عقلاً يدبره فلن ينفعل وجدانه لعقيدة دينية إلا تحت تأثير الخوف والقصور والتهيب أمام المجهول. وليست هذه مواقف الإيمان الصحيح المستنير الثابت الذي لا يتزعزع، وإنما هي مواقف الإيمان الأعمى المقلقل الحائر المستعد للتقلب، كما هو الحال في أكثر الذين لا يأخذون الدين بالفكر عند ابتداء صحوهم من ذهول الطفولة. فالعقل أو الحكم أو (الذهن) يا صديقي قطب، هو صاحب هذا الموضع الأول من النفس، ينتج لها تلك النتيجة الأولية التي تجعلها تنفعل بوجدانها انفعال الإيمان. وهو الجزء (المتبلور) في جميع النفوس - والوجدان جزء مائع - وهو الحكم الذي يكاد يكون من عالم الأرقام التي تنتج نتائج واحدة بقوانينها الواحدة.
ولن يضيره أن يكون مختلفاً في الناس اختلافاً ما. فكذلك الوجدان مختلف.
ونحن في سبيل البحث عن حجة لله على الناس جميعاً. ولن تكون هذه الحجة في أغلب الأمر إلا عن طريق العقل والذهن الدقيق الذي يحاكمنا الله إليه دائماً في الحياة وفي القرآن، ويردد اسمه دائماً؛ ويلومنا ويقر عنا بأننا لا نفكر ولا نعقل ولا نتدبر ولا نتذكر ولا نتخذ أسباب الوقاية كما يوحيها العقل.
نعم إن الموطن النهائي للعقيدة الحارة هو الضمير والوجدان، ولكن بعد أن تمر من العقل أولاً ويحكم بوجوب سكناها في الوجدان لتستمد من حرارته قوة الاندفاع والعمل للدين.
وقد كان الوثنيون الذين أنزل إليهم القرآن يعتقدون عقيدة في (وجدانهم) ويتعصبون لها ويصدرون عنها في حياتهم، لأن أذهانهم كانت تحكم بصحتها. فبماذا زعزعها القرآن في وجدانهم وضميرهم؟ أليس بالمحاكمة العقلية التي كشفت عن عقولهم ضباب الوثنية القديم، وأدركوا بها الحق الأول بالذهن والحكم، ثم أخلوا وجداناتهم من العقيدة القديمة وأحلوا محلها العقيدة الجديدة؟
والوثنيات تجد في منطق الوجدان وحده مدداً متصلاً لها بالانطلاق وراء الرموز والتهاويل والإثارات الفنية التي هي باب الوجدان. . . وقد افتخر (طاغور) واحتج للوثنية بأنها مجال طيب لرقي الفنون. . . ولا شك أن هذا احتجاج طفلي وجداني لا يتصل بسبب كريم بالحق والعقل والكرامة الإنسانية والمصلحة الاجتماعية. فالقول بأن منطقة الدين هي الوجدان وحده قول غير إسلامي. أخذه المسلمون المحدثون عن المفكرين غير المسلمين(617/38)
الذين لم يعرفوا الأساس الأول للإسلام والدين عامة، والذين وجدوا في أديانهم أسساً يأباها العقل والمنطق، ووجدوا الدين في حد ذاته كفاية نفسية لابد منها، فأرادوا أن يجمعوا بين الدين والعقل، فزعموا أن لكل منهما منطقة قد يناقض ما في إحداهما ما في الأخرى ولا ضير! أما الإسلام فأساسه أن إله القرآن هو الإله الذي وصفته الطبيعة ووجهت العقل إليه؛ واعتمدت في هذا التوجيه على المحاكمات العقلية كأساس أول وعلى المحاكمات الوجدانية المبنية على هذا الأساس، وقد استخدم القرآن في سبيل ذلك كله البيان المشرق الجميل البارع المعجز في تعبيره وأسلوبه.
ولم يقتصر خطابه على طائفة واحدة معينة هم طائفة الذين ارتفعوا عن المستوى العام للناس واحتكت عقولهم بما وراء سطح الحياة وما وراء البداهة والحس من عوالم الفروض والصور الطليقة من قيود الحياة الظاهرة، بل خاطب الناس بالقدر المشترك بينهم جميعاً وخاطب هذه الطائفة الممتازة في بعض معارضه كما خاطب المبتدئين القاصرين في البعض الآخر.
والقرآن يفرض الفكر ميزاناً قائماً بذاته مستقلاً عن الإنسان ثم يعجبه مما يراه في الوجود، كأنه زائر غريب عن الحياة دخل إليها من عالم آخر وهو بكل وعيه، ولا شك أن الفكر بجميع قواه حينما يدخل إلى الوجود كأنه غريب عنه يعجب غاية العجب من بدائعه ويحكم الحكم الجازم بأنه لبارئ واحد. وليس هنا مجال تفصيل هذا، وقد سبق أن عالجناه في بعض البحوث.
فالموقف الأول من الكون والإيمان بربه الواحد، موقف (جزم) بالذهن والحكم العقلي. إذ أننا نشعر ونحس أننا واقفون إزاء (معلومات) تنتج العلم والحكم الضروري البديهي والمركب.
وهو موقف ديني سابق على مجيء النبوات والرسالات، لأنها تعتمد عليه في التدليل على قضاياها والتحاكم إليه. فالدين عقلي طبيعي في الإيمان بأصله الأول وهو الله الواحد.
ولقد وجدنا كل جماعة دينية تؤمن بما عندها بوجدانها. فهل لهذا وزن إلا عندما يدركون شاكلة الحق الذي عند الله والذي يوحي به الكون؟ وهل يدرك الحق إلا بقوة (الحكم) التي هي موضع الحساسية بالعدالة والقوانين الطبيعية التي استمددنا منها حكمنا، والتي لا تنظر(617/39)
إلى الصور والإطارات وإنما تنظر إلى صلب الأمور؟
والقرآن لم يعن بأن يرد على منكري وجود الله. وكأنه لم يفرض وجودهم. أو كأنه نظر إليهم على أنهم خارجون عن نطاق العقل والبداهة، ولذلك لم يحاجهم ولم يوجه إليهم قولاً يشعر بأن لهم وزناً. وإنما وجه حديثه الأكثر إلى المشركين مع الله آلهة أخرى، والذين من فرط شعورهم بالألوهية استكثروا منها. . .
وخلعوا صفاتها على كثير من المخلوقات، فهؤلاء لديهم الإيمان الوجداني ولكنه إيمان مدخول منكوس يحتاج في تعديله ولإقامته في نصابه الطبيعي إلى منطق عقلي يستعرض الكون ويستقرئه ويستنتج منه أنه لإله واحد.
فالحديث مع هؤلاء المشركين لا يستلزم إلا الإيقاظ إلى الكون وأعاجيبه الموحية أنه من صنعة يد واحدة. . وهذا ما فعله القرآن. أما الذين التمسوا وراء حديث الإيمان الفطري مناطق يتحدثون فيها عن ذات الله وصفاته والكون ومبدأ وجوده وعلاقته بالله وصفاته، إلى آخر مباحث علم الكلام والفلسفة فهؤلاء لا يدعون أنهم يؤسسون عقيدة للجمهور بكلامهم، وإنما يريدون أن يصلوا بين هذا الكون المادي العجيب وبين ما قبله وبعده. وموقفهم هذا طبيعي، هو نتيجة للعجب الذي يرونه في هذا الكون، ونتيجة لشعورهم بأن عقلهم وحكمهم يريد أن يتصل بألغاز الحياة وما قبلها وما بعدها. فإنهم يشعرون أنهم غرباء، في هذا الكون المادي ذي القوى الموزونة والطلعة الجبارة المثيرة للفكر أيما ثورة. ولابد للغريب أن يبحث ويتقصى ويتعرف المكان الذي دخل إليه ويتعرف إلى صاحبه ويبحث عن شئونه حيثما ساعدت الوسائل.
غير أنهم يجب لكي يضمنوا الحياة العملية في الأرض والألفة العقلية ألا يشردوا ويحملوا عقولهم فوق ما تطيق، ولا ينسوا أن الإله الحكيم الذي وضعهم هكذا قاصرين عن إدراك كثير من الأمور، وعن إدراك المبدأ والمنتهى إدراكاً كما يشتهون ويتطلعون، إنما فعل ذلك لحكمة بالغة هو يعلمها، فيجب أن يلتزموا حدود (الضيافة) المؤقتة في هذه الحياة. ولا شك يكون لهذا الالتزام ما بعده من التناسق بين الفكر والعمل والألفة العقلية. وما كان للقرآن أن يكون على أسلوب تفكيرهم الخاص وهو قد جاء ميسر الذكر للناس جميعاً.
ولكنه مكن هؤلاء العقليين والمتفلسفين أن يؤلفوا من معانيه التي تحت (سطحه التعبيري)(617/40)
قضايا ذهنية يستطيعون أن يستخدموها في أسلوبهم الخاص. فهو قد ساق قضية عقلية عظمى بأسلوب بسيط ميسر للناس جميعاً حينما قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)؛ وترك للعقليين أن يبينوا كيف يكون هذا الفساد حينما يفرض التعدد في الآلهة. . .
وحينما قال: (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض). أرسل هذه القضايا هكذا واضحة ميسرة، وترك للعقل أن يتحاكم إلى الكون ويستقرئ أحوال الأشياء إذا كانت بين والد ومولود وإذا كانت بيد واحدة، وإذا كانت بأيد متعددة، وعماد الحكم في ذلك هو الحركة العقلية الآخذة من كل مورد من موارد النفس والكون وكل قوة من قواهما لتصل إلى الحكم.
والمتتبع للقرآن يرى أن وراء (سطحه التعبيري) السهل الميسر، عالماً يموج بالمسائل العقلية والبديهية والفرضية تضع العقل البشري في مواضيع أصيل كريم كأنه هو وحدة القياس في كل العالم لا في الأرض وحدها.
وأخيراً أشكر المؤلف الصديق على هديته التي جعلتني أعيش فترات في جو فني بديع، فيه الفكر والبيان، وحسن الترتيب والتبويب، ولطف المدخل إلى ما تناوله من موضوعات.
عبد المنعم خلاف(617/41)
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
بترول من الميكروبات؟!
من الأخطار التي تهدد المدينة الحديثة نقص احتياطي البترول في العالم، فقد استنفدت أدوات الحرب كميات طائلة منه. ولهذا اتجهت أنظار الساسة والاقتصاديين إلى مد أنابيب البترول عبر شبه جزيرة العرب لاستغلال آباره مع ما يتكلفه هذا المشروع الضخم من نفقات كبيرة. ولقد أجهد الكيمائيون والعلماء أذهانهم ليحصلوا على موارد جديدة تزيل المخاوف المقبلة.
وكان من أمتع الأبحاث وأغربها بحث الدكتور كلود زوبل الذي تجاوزت مدته 15 سنة، قضاها لا يحفر الأرض ليعثر على آبار جديدة للبترول، بل منقباً عن حشرة صغيرة تحول المواد الأولية إلى بترول. ووفق أخيراً إلى العثور على ضالته فكان لكشفه أهميتان مزدوجتان.
أولهما أن البحث عن آبار البترول لن يحتاج إلى حفر إغوار بعيدة، ولا إلى استعمال المجسات المختلفة، بل سيبحث العلماء بعد ذلك سطح الأرض للعثور على هذا النوع من البكتريا، فإن وجودها فقد وجدوا الآبار.
والثانية أن دراستنا لهذا النوع من البكتريا ستتيح لنا معرفة الوسيلة التي يتكون بها البترول في الطبيعة، فيستطيع الإنسان بوسائله الصناعية الإسراع في إنتاجه بالمقادير اللازمة.
فمنذ خمس عشرة سنة اقتنع الدكتور زوبل بأن نوعاً من البكتريا يقبض بيده على سر إمداد العالم بالزيوت، فنقب ودرس ما وسعته الدراسة وهو يوفق في كل فترة إلى كشف جديد يبطل فكرة قديمة أو يقدم للعام معلومات جديدة - فعثر على قائمة طويلة بأنواع البكتريا لم يسمع عنها الناس، ومنها ما تحول الدهنيات النباتية أو الحيوانية إلى مواد بترولية. ولكن الميكروبات لم تكن ثابتة الإنتاج فأحياناً تترك بقايا زيتية وأحياناً ترفض.
واتجه تفكير وبل إلى ناحيتين، فأما أن البكتريا تنتج البترول بشروط خاصة وإما أنه يجرب في أكثر من نوع واحد منها، وأي الاحتمالين يقض مضجع صاحبه. ففي أي الظروف تنتج البكتريا الزيت؟ وكيف يحصل على البكتريا الأصيلة نقية؟(617/42)
ولكي يحقق الاحتمالين خرج إلى عرض المحيط مرات ليستخرج من قاعه عينة نقية. فمن المعروف أن أكثر الزيوت العالمية نشأ في ظروف بحرية. وفي خلال هذا التنقيب قلب كثيراً من الأوضاع العلمية القديمة، وأثبت خطأها، فنفى ما قيل من أن البكتريا لا تعيش في المياه المالحة في أعماق المحيط.
وقال العلماء أيضاً أن الأحياء الميكروسكوبية لا تعيش في أعماق المحيط أو الأرض لأنها تتأثر بالضغط ودرجة الحرارة فأخرج لهم زوبل أحياء ميكروسكوبية من أعماق زادت على ثلاثة أميال. وأثبت أن بعض الأحياء تعيش في أبعد الأعماق، وتتحمل عشرة أضعاف ضغطها وفي درجات حرارة لم يحلم بها عالم.
وغذى ميكروباته بالسكر واللحم والدهن والملح والخضروات والجيلاتين والفيتامين وأحياناً بالكعك، فهضمت كل المواد العضوية وأنتج بعضها ثاني اكسيد الكربون أو الميثين كما حلل آخر أحجار الجير أو أطلقوا الألمنيوم من السليكا أو استخرجوا البوتاسا أو النيتروجين إلى غير ذلك من قائمة المستخرجات والانحلالات.
ولكن الموضوع الذي يحصر فيه كل تفكيره استمر على غموضه إذ تعطيه بعض الأنواع مادة زيتية لا تلبث أن تتلفها. فكيف تنتج المادة وكيف تفسد وتزول؟ أهو قبل نوعان من البكتريا يتشابهان في المظهر؟
سؤال أرسل إلى رأسه الصداع مرات فإنه ليضع 15000 حي تحت المجهر فلا يزيد طولها عن بوصة واحدة فكيف السبيل إلى التفريق بين النوعين. كثيراً ما أعطته هذه المجموعة نفسها دهنيات لا زيوتاً.
ولقد جرب حتى أنهكته التجارب، وفصل الأنواع حتى أرهقه التنويع. وأخيراً هدته المصادفة وحدها إلى عزل النوع المضبوط، فحصل على النتيجة التي يريد، ففي إحدى المرات عزل مجموعات منها في أوانيه الصغيرة ثم غطاها بلصقة باريس ووضع فوق الجميع شمع البارافين. وبعد أسابيع أزال الأغطية فعثر على سائل أثبت التحليل الكيماوي أنه زيت خام. كما وجد أن التجربة التي عملها أوجدت بيئة بحرية داخل الإناء، وأعاد التجربة مرات فإذا هو يجد نفس النتيجة.
ومن الطبيعي أن تعتبر الجزء التجاري من أبحاث زوبل في الوقت الحالي من الأسرار(617/43)
العسكرية. ويقال إن نجاحه كان عظيماً حتى ليتيح تحويل جميع مخلفاتنا النباتية إلى زيوت معدنية، على أن مبدأ واحداً أذيع وهو كيفية الكشف عن منابع البترول التي يتسرب قليل منها خلال طبقات الأرض مما يتعذر على الطرق الكيميائية معرفته، ولكن هذه (البكتريا المحللة) تستطيع بطبيعتها الخاصة اكتشاف أماكنه. فأينما وجد هذا النوع من البكتريا فإلى جواره منابع زيت.
فهذه الجراثيم الدقيقة هي الآن قائدتنا إلى منابع الزيت المختفية في باطن الأرض لا المجسات ولا وسائل الحفر والاستنتاج.
زجاج من غير رمل
استخدمت إحدى مصانع النظارات نوعاً جديداً من الزجاج للوقاية من بعض أنواع الحوامض التي تأكل الزجاج العادي، فإن سقطت على جسم الإنسان أحرقته. وهذا النوع نقي جداً ولا يدخل في صناعته الرمل كما هو معروف.
وينتظر أن يكون لهذا النوع من الزجاج مستقبل كبير لأن الحامض المعروف باسم هيدروفلوريك ضروري في كثير من الصناعات الحيوية الهامة مثل صناعة المعادن والمنسوجات والمطاط الصناعي. وكان في أول أمره عسير الحفظ لأنه يأكل المعادن والزجاج ويصعب وضعه في آنية.
وقد استعيض في هذا الزجاج عن الرمل الذي يعتبر جوهرياً في جميع أنواع الزجاج بأحد مركبات الفسفور. ومن الغريب أن هذه المادة شديدة التفاعل مع الماء ويحدث فرقعة شديدة ولكنه تيسر تذليل هذه العقبة بجعلها أقل تفاعلاً مع الماء. وعلى العموم فأنه يفضل وضع هذا الحامض الشديد الأثر في هذه الأواني الزجاجية على وضع الماء فيها.
ولهذا الزجاج نفس خواص الزجاج العادي فينصهر في درجة حرارة الزجاج. ويمكن صنعه في رقائق طويلة أو مربعة أو لفه على شكل زجاجات ويسهل صقله بوسائل صقل الزجاج المعروف.
لوقاية الآذان من الضوضاء
استخدم أحد المصانع أخيراً غطاء للآذان يقيها من الصمم الناتج عن الأصوات المرتفعة.(617/44)
ويستخدم هذه الغطاءات رجال المدفعية في البحر والبر فإن شدة انفجار القنابل تحدث دوياً مرتفعاً يؤدي إلى الصمم الكامل.
وتخفض هذه الصمامات دوي أصوات المطارق الكهربائية الضخمة وحركات الآلات الكبيرة الكافية لصم الآذان فتجعلها كصوت قطار قادم على محطة وقوفه.
علاج لشلل الأطفال
لا يزال شلل الأطفال من الأمراض المستعصية في الطب. وقد وصل الطب إلى اكتشاف علاج له على ضوء اختبارات نباتية وصناعية. فقد كانوا من قبل يجربون لإحياء أعصاب المرضى مهتدين بما هو متبع في تقليم الأشجار بفضل الفروع التي لا فائدة منها للشجرة.
وكان الأطباء يعمدون إلى قطع الأعصاب الباقية في جزء ملتهب من الجسم بدقه بمطرقة صغيرة ذات وجهين. ونظرية الأطباء في هذه العملية هي أنه عندما يقطع العصب يبدأ في النمو ثانية ولكنه في هذه الحالة يتفرع بطريقة أقوى مما يجعله أكثر تغذية للعضلات وهو ما يحدث عند تقليم شجرة.
ولكن الاستخدام اليدوي لهذه المطرقة كان عملاً مرهقاً للطبيب ويحتاج إلى قوة احتمال طويلة منتظمة مما يصعب على أعصاب الطبيب تحمله.
وحدث أن زار بعض الأطباء الذين يهتمون بهذا المرض أحد مصانع الطائرات، وهناك رأوا مطرقة كهربائية على شكل مروحة تدور فتدق أطرافها المسامير. وفي هذه المطرقة وجد الأطباء ضالتهم المنشودة فصقلوها حتى تؤدي الغرض المطلوب منها في تقليم أعصاب المرضى بشلل الأطفال.
وقد أجريت التجارب في معهد فيلادلفيا في 500 مريض فتحسنت حالتهم إلى حد يدعو إلى كثير من الرجاء. ويرجع فضل هذه الاكتشافات إلى إحدى المؤسسات الخاصة بعلاج حالات الشلل التي قدمت لأطبائها ما يلزمهم من أموال لإجراء تجاربهم.
فوزي الشتوي(617/45)
حَنةُ غريب!!
للأديب محي الدين صابر
مضى الَرَّكبُ، يا قلبي، فأين حبائبي ... وأينَ مجالاتي؛ وأين مذاهبي؟
وأين الرَّبيعُ الحلُو؟ قد مات في يدي ... وصوَّح إلاّ صورةً في رغائبي
وأين العِشيَّات الرِّطابُ؟ عَبْرَننِي ... كما تعبرُ الصحراَء، غنوةُ راكب!
وأين غدي؟ إنِّي دفعتُ خيالَهُ ... على جدولٍ في منهل الغيب ساكبٍ!
ويومي؟ لقد كفَّنْتُه. . . في دمُوعه ... بوادٍ حزينِ الظلِّ سَأمانَ شاحب!
وعشتُ فضاءٌ ناعساً خلف ربوةٍ ... على سفحِها المحرومِ، أغفتْ ركائبي
ملالُ طريدٍ. . . أو سآمةُ مُدْلجٍ ... ويأسُ شَقّيٍ. . . أَو تثاؤب شارب!
فيا موكبَ الأحزانِ عطلتَ فرْحِتي ... وشرَّدْتَ أنغامي وأْضرعْتَ جانبي!
وأطلقتني في اللَّيل؛ كاللَّيل ذاهلاً ... حنيفاً. . . كأنِّي فيه دمعةُ راهب!
وأفردتْني كالنَّجْم حَيْرانَ ساهِراً ... كأني على دنياكَ. . . لَفْتَةُ هارب!
وأظمأَتِني حتى من الوهمِ. . . في دمي ... وكان كثيراً، كالحياةِ، مَشَاربي. . .
وأفقرتَنِي حتى المنَى. . . ما تزورني ... وكانت يدُ الأقدار تُسْنِى مَطالبي!
وأشقيتني يا ذلَّ روحي، على الذُّرى ... وضيعةَ أيَّامي؛ بوادي المصائب
تمرُّ بيَ الذكرى؛ فأجثو كأنني ... ضميرُ نبّيٍ. . . أوْ ضراعةُ تائبِ
فتنثر أفراحي، على حَرِّ مهجتي ... كما تنثرُ الأشواقَ دمْعةُ عاتب
أُحدِّثها كالطِّفْل حين تهزُّهُ. . . ... طرافةُ لهٍو، أو مجانةُ صاحب!
وأبكي كما يبكي الغريبُ قد الْتَقَى ... بسامره - بعد النوى - والحبائب!
واعذرُ دمعٍ. . . دمعةٌ كُرِّمتْ بها ... محاريبُ اشواقٍ - خلتْ - وملاعب!
أحسُّ حياتي في التراب صريعةً ... تساقَطُ من روحي، كأنفاس لاغب
وأغمضُ عَيْني أستعيدُ مباهجي ... وأخدعُ حِسِّي في الليالي الذَّواهب
لياليَ أشباهٌ حياتي. . . على الهوى ... فيومي ندىُّ الأُفْق. . . رطب الجوانب
وليلىَ أنغام، وخمرٌ وفتنةً ... وسُمَّار صدقٍ. . كالأماني الكواذب!
فعُدْنَ كأنَّ الكأسَ دمعٌ شربتُه ... وأنَّ صدى الألحان صرخةُ نادب(617/46)