وحدة عليا، يدعي مذهب الوحدية أو مبدأ وحدة الوجود
(في الفلسفة الغيبية أو الميتافيزيقية، كان قدماء فلاسفة الهنود يذهبون إلى أن التغيير والكثرة والسببية ليست حقيقة، وأن لا حقيقة إلا موجود واحد هو الله، وهذا المبدأ ينكر الموجودات إلا وجود الله والقائلون به هم المثاليون الصوفيون أما قدماء اليونان ففلاسفتهم أنكروا مثل الهنود، وجود الكائنات، وقالوا إن الوجود واحد غير متغير وسرمدي، ولم يصرحوا باتحاد هذا الوجود بالله، ودون الميل إلى الصوفية، فكانوا مثاليين أو تصوريين صرف. ومثل هذا المذهب قالت به الأفلاطونية الجديدة وظهر في فلسفة سبينوزا وفي فلسفة الإطلاق لهيكل وفي فلسفة الغيبية الساعية في جمع المادة والروح في وحدة عالية، فضلا عن الوحدة التصورية المثالية هناك الوحدية المادية المدعية أن لا وجود إلا لحقيقة واحدة وهي المادة سواء أكانت هذه المادة الأولى مجموع ذرات أم سديماً صدر عنه الكون
(الوحدوية) ليست هي (التوحيد) أو الإقرار بوجود إله واحد، وإنكار تعدد الآلهة أو الوثنية، وإنما تطلق على (الوحدة الحلولية) القائلة بأن لا تمييز بين الله والكون، سواء قيل أن الله حال في الكون حلول الجزء في الكل، أو قيل أن لا وجود إلا لله وما الكون إلا ظهور الله أو تجليه، وهذا ما ينافي التوحيد ' أي وجود الله ووجود الخلائق المتميزة عنه. التوحيد لا ينكر أن الله ظاهر بخلائقه، ولكنه ينكر أن لا وجود للخلائق. التوحيد ثنائي أي يقبل بوجود الله ووجود الكائنات متميزة عنه. إن الله متميز عن الكون ومستقل بذاته، والكون متميز عن الله لكنه غير مستقل عنه، التوحيد يقول أن العالم قد خلقه الله من العدم، وهذا أيضاً مذهب فلاسفة اليونان كسقراط وأرسطو وأفلاطون. أما غيرهم من أهل الوحدية فيذهبون إلى أن أصل العالم المادة، وأن هذه المادة القديمة صدرت عنها الموجودات، وهكذا يخلطون بين العلة المادية والعلة الفاعلة السببية)
أما بعد، فهذا ما كتبه عالم له في ميدان الفلسفة باع طويل فما قول الدكتور زكي مبارك بعد ذلك؟
(القدس)
(أ. جـ. جـ)(587/38)
بين الفلسفة والدين
قلت للأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة إني حاضر لمساجلته حول نظرية وحدة الوجود، على أن يكون أساس المساجلة أن نترك التفكير في أن هذه النظرية تجنى على العقيدة الإسلامية، فكيف كان رأيه في هذا الأساس؟
تفضل فقال: (هذا شرط عجيب، ولست أؤثر أن أقول إنه شرط خبيث!) ثم كرر هذه العبارة بعد سطور من مقاله الجميل!
وأقول إن من حقه أن يصف ذلك الأساس بما يريد، ما دام مخلصاً في الوصف، وهو في نظري من أهل الصدق والإخلاص
ولكني لا أقبل أبدا إخضاع الفلسفة للدين، لأن هذا يبعدها عن مراميها، ويصدها عن رياضة الفكر على التحليق في آفاق المجهول من سريرة الوجود
والخير للإسلام وأهله أن لا نزج به في جميع التيارات الفكرية، فهذا المسلك يبلبل الخواطر ولا يعود على العقيدة الإسلامية بأي نفع وإن ضرره لمحقق
وأقول أيضاً إني لا أجعل الإسلام في بالي عند كل فكرة يجول فيها عقلي، لأن هذا تعسف وتكلف، ولأنه صد للفكر عن الخوض في الحدود والفروض وهي المفتاح لمغاليق الثروة العقلية
والأستاذ دريني قال وكرر القول بأنه يريد لنفسه وللناس إيماناً بسيطاً، فأنا أرجوه أن يثبت على إيمانه البسيط، على شرط أن يسمح لرجل مثلي أن يختار الإيمان المعقد إلى أبعد حدود التعقد والاشتباك، وهو الإيمان بوحدة الوجود، وهو إيمان فلسفي لا أريد وصله بالعقيدة الإسلامية، لأني أكره الخلط بين الفلسفة والدين، ولأني أمقت مراءاة الناس
أما بعد؛ فهل تريد أن نتساجل على هذا الأساس الذي طاب لك وصفه بأنه أساس عجيب أو خبيث؟!
وفي انتظار جوابك أقدم إليك تحية الشوق وصادق الثناء
زكي مبارك
كتب جديدة للدكتور مندور(587/39)
دعامة الإتقان للقيم الأدبية ترتكز على صدق في التعبير وصدق في التصوير، وعلى قدر حظ الأديب منهما يكون حظ آثاره الأدبية من الخلود، والمتأمل في كل ما أنتجه الدكتور الفاضل محمد مندور يلمح في ثناياه روح الصدق في الإحساس والتعبير. فقد كان الدكتور صادقاً حتى في كتابه المترجم، فأكبر اليقين لا أكبر الظن أن الدافع لترجمته كان ما يشعر به في أعماقه من تجاول بين هذه الأفكار المترجمة وبين ما تزخر به وجداناته. وتلك ميزة ملموسة شاهدناها في ترجمته لكتاب (دفاع عن الأدب) ولقد كان دكتورنا المفضال صادقا أيضاً في كتابه (في الميزان الجديد) بل أن كتاباته عن الأدب والشعر المهموس إذا فهمت على حقيقتها نهضت دليلاً قاطعاً على صدق التجاوب بين أحاسيس الدكتور وتعبيره. إن رجلا يحس الهمس ينبض في ألفاف الكلمات ويبلغ من رهافه الحسي أن يقيم (لفتات الحياة) وزناً كبيراً. . إن رجلا هذا شأنه لرجل صادق في كل شيء. وإني لأنتهزها فرصة لأقول إن الذي افهمه من الهمس في الشعر هو صدق التعبير الذي يلمس الفتات ويعنى بالخطير من الأمور، ومن ثم يكون كل صادق هامساً. ومن ثم تكون كل كتابة صادرة عن شعور عميق، وتأثر بالغ همساً أيضاً، وهل كانت دموع أستاذنا الزيات حين بكى ولده إلا الهمس النبيل، وهل كان رثاء الأستاذ العقاد لبيجو غير الهمس، وكم في كتاب الأيام من همس حبيب. إن وفاء الكاتب أو الشاعر لموضوعه وإيمانه وصدقه في تصويره، لا يخرج إلا الهمس. وما كان دفاع صديقنا الدكتور الجليل عن الأدب المهموس إلا الهمس في أبلغ معانيه. وبعد فإن المكتبة العربية لتعتز بهذه الكتب الثلاثة: نماذج بشرية، ومن الحكيم القديم إلى المواطن الحديث. وفي الميزان الجديد
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي(587/40)
العدد 588 - بتاريخ: 09 - 10 - 1944(/)
أمية المتعلمين
للدكتور محمد مندور
نحن في حاجة إلى أن نكافح ببلادنا ثلاثة أنواع من الأمية: الأمية الأبجدية والأمية العقلية وأمية المتعلمين. ولابد إذا أريد لهذا البلد الصلاح من أن نكافح الأنواع الثلاثة معا، وساقا بساق في شبه ثورة اجتماعية تجند لها جميع القوى قسراً
فأما الأمية الأبجدية فتلك في الحقيقة أهونها، لأن تعليم فك الخط ليس بالأمر العسير، وإن تكن هناك ظاهرة تستحق النظر. فلقد اتفق لكاتب هذه السطور أن رأى صبية التعليم الإلزامي يطالعون دون أن يخطر ببالهم أن المطالعة إنما تكون لفهم ما نطالع أو محاولة ذلك الفهم. وأنا بعد لا أدري سر هذه الغفلة، وإن كنت أميل إلى التفاؤل، إذ يخيل إلي أن محو الأمية الأبجدية عند الأطفال كسب حقيقي، فهم إذا كانوا عاجزين عن أن يستفيدوا بما تعلموا من مبادئ القراءة والكتابة فلا أظن ذلك مانعا لهم عند الكبر وتفتح النفس من أن يهتدوا إلى أن القراءة إنما جعلت للفهم والإلمام بما نقرأ. وأكبر الظن أن هذه الظاهرة لن تحدث عند تعليم الكبار الذي تعتزمه اليوم حكومتنا، فالشخص الكبير لابد من أن يتحرك تفكيره بما يقرأ، وبخاصة إذا اختير له من القراءات ما يثير اهتمامه الشخصي، ويلابس ظروف حياته فيشعره بفائدة ما يقرأ. وسوف يزداد شغفا إلى إجادة القراءة بفضل ما يلقن من مبادئ الثقافة الشعبية التي تشق الحجب عن بصيرته، فيحس بآفاق جديدة تنتشر بها حياته، حتى لكأنك تفك عنه أغلالاً، سيدرك عندئذ أنها كانت توثقه على غير وعي منه، وإذا به يسعى إلى أن يتمكن من الوسيلة التي حررته. ومن هنا تظهر الصلة المتينة القائمة بين مكافحة الأمية الأبجدية والأمية العقلية، وتأثير إحداهما في إنجاح الأخرى
والأمية العقلية محوها لا ريب أشق وأبعد مدى من محو الأمية ألأبجدية، وإن خيل إلينا عكس ذلك، فقد يقول قائل: إن باستطاعتك أن تجمع الأميين وتخاطبهم بلغتهم العامية عما تريد أن يعلموا وإذا بك تبدد الجهل من عقولهم، وهذا قول لا يصح إلا في ظاهره. فقديما قال مفكرو الإغريق: (إن تثقيف الأطفال - والأميون في هذا حكمهم حكم الأطفال - لا يستطيعه غير الفلاسفة) والسبب في ذلك بين، فالمعلم لابد له من خيال قوي ليستطيع أن يخرج عن نفسه ليحاذي عقلية من يخاطب، ثم إنه ليس أشق من تبسيط المعرفة، وذلك(588/1)
لاستهداف المبسط في أغلب الحال لأحد أمرين: الغموض أو الثرثرة. ومن هنا ترى أن كتب التبسيط العلمية الجيدة لا يكتبها عادة في أوربا غير كبار العلماء الذين هضموا المادة حتى أصبح حديثهم عنها أشبه ما يكون بذكريات حياتهم الخاصة
وأيا يكون الأمر فهذان النوعان من الأمية باستطاعة حكومة حازمة أن تكافحهما أنجح الكفاح، ولكن ثمة النوع الثالث وهو أمية المتعلمين فذلك ما يحير اللب، حتى لأحسب أن تلك الأمية من أدوائنا العميقة التي اجتمعت لتأصيلها أسباب عاتية لا ندري كيف السبيل إلى علاجها
ولأمية المتعلمين ثلاثة مظاهر: الانتهاء من التعليم الدراسي بفائدة ضئيلة، وعدم تنمية كل صاحب فن لمعلوماته الفنية بعد التخرج، وأخيرا ضعف الثقافة العامة عند معظم المتعلمين، بل وإهمالها أحيانا إهمالاً تاماً
الخروج من التعليم بفائدة ضئيلة له ما يشابهه في حياتنا العضوية؛ فنحن جميعا لا نتمثل من الغذاء كل ما فيه من عناصر القوة، حتى لترى من الناس الضعيف برغم ما في شهيته من نهم، ومنهم القوي على ما به من اقتصاد في الغذاء. والقدرة على تمثل المعرفة للطبع فيها دخل كبير، ولكنه ليس كل شيء؛ فمناهج الدراسة وقدرة الأساتذة تفعل في ذلك الأعاجيب. وليس من شك في أن الثمرة الحقيقية لكل تعليم صحيح هي ما يخلف في النفس من رواسب تمتزج بملكاتنا، حتى تصبح جزءا منها، وأما المعلومات التي نحملها كودائع نسلمها لأوراق الامتحانات إسلاماً لا رجعة فيه؛ فذلك ما لا يمكن أن يسدد إدراكا أو يهذب ذوقا أو يرهف إحساسا. والمتعلم لن يصل إلى ما يجب من تمثل المعرفة إلا إذا أوتي من الخيال ما يستطيع معه أن يتصور في كل حين مواقف الحياة التي من الممكن أن يستخدم فيها كل نوع من المعرفة التي يتلقاها، وبفضل هذا الخيال يمد الصلات بين العلم والحياة. ونحن لا نملك هذه القدرة على نسبة سواء في مراحل حياتنا المختلفة، ولا أدل على ذلك من أن تعود بعد أن يستوي إدراكنا إلى أبسط كتب الدراسة نقرأها من جديد فنجد أننا كنا واهمين عندما اعتقدنا ونحن صغار أننا قد انتزعنا كل ما بها وفهمناه على وجهه. بل أن الكتب التي نقرأها مرة واحدة ونحن كبار نستطيع أن نعود إليها أو إلى الجيد منها فنعثر فيها دائما على جديد لم نفطن إليه أو غامض لم نحسن فهمه، وكل ذلك فضلا عما نستوحيه(588/2)
من تلك الكتب. ومن الثابت أن الكتاب وسيلة للتفكير الأصيل قدر ما هو مستودع للمعرفة، ويا ويل قارئ سلبي لا يقف من الكتب إلا موقف المتلقي. ولقد اتفق لكاتب هذا المقال أن لاحظ غير مرة فروقا شاسعة بين المتعلم المصري والمتعلم الأوربي. فشبابنا المتعلمون أغلبهم لا نحس في حديثهم بمعارفهم إيمانا بما يقولون، أو على الأصح يرددون حتى ليتضح أن كل ما يذكرون ليس إلا رهائن في نفوسهم لا يعرفون سراً لاحتفاظهم بها، ولا يرون لها صلة بالحياة أو فائدة من إثرائها بله إخضاعها وتوجيهها. ولقد يكون أحدهم واسع الذاكرة ولكنك مع ذلك لا تعدم أن تحس بضيق إدراكه، حتى لكأنه حبيس فيما يردد مستعبد له؛ وكل تلك مظاهر لأمية أخطر من أمية العوام. والغربي على العكس من ذلك إيجابي في تفكيره، معارفه حية لأنها وقود لتفكيره، ومن هنا تتسع حيلته في الحياة وتشتد ثقته بنفسه، فلا يرهب مجازفة ولا يقعده عجز عن البدء في كبار الأمور يخطط سبلها ويوفر لها أسباب النجاح. عجيب أن يتخرج متعلمنا عالة على الحياة ويتخرج متعلمهم عنصراً فعالاً في خلق تلك الحياة
وذوو المهن منا قل من يتابع منهم سير المعرفة في مهنته، وذلك لأنهم لا يلبثون بمزاولة العمل أن ينزلوا إلى الآلية التي لا تستطيع تجديدا، حتى في فأصيل المهنة. والسر في ذلك، هو أنهم لا يقدرون - لكسل أو إعياء - قيمة المعرفة النظرية في مهنتهم قدرها الحق، ونحن الآن في عالم تعقدت فيه وسائل العمل والإنتاج، وأصبحت تستند إلى أسس نظرية لن تتقدم مهنة بدونها؛ ونحن لا نلقى التبعة كلها على متعلمينا فمنهم المرهق المهموم بتبعات الحياة المادية كالمدرس، ولكن إلى جانب هؤلاء كم ترى من موظفي الدواوين الذين طغى الكسل على حياتهم فتسكعوا كالدواب، وكم ترى من أطباء ومحامين لم يترك لهم جشع الحياة فراغا، يطالعون فيه جديدا أو يجيدون فهم قديم، تلقاهم فتدهش لآفاقهم المحصورة ومعارفهم الضامرة لا في ثقافتهم المهنية فحسب، بل وفي ثقافتهم الإنسانية العامة، تلك التي لابد أن تستند إليها معارفهم الفنية إذا أريد لها أن تنمي قدرتهم على تكييف النفوس والحكم على مواقف الحياة حكما صحيحا؛ وهذه أيضاً أمية لا تجد لها مثيلا في الغرب حيث يؤمن كل ذي مهنة أن توقفه عن القراءة مميت لمهنته مجفف لنفسه، وأنه لن يستطيع المنافسة في ميدان الحياة ما لم يتابع مكتشفات المهنة وثقافتها النظرية متابعة حارة(588/3)
مستمرة
ونصل إلى ضعف الثقافة العامة؛ وهذا الضعف كما رأينا شديد الصلة بالتعليم وبالثقافة المهنية على السواء. ونقصد بالثقافة العامة كافة أنواع المعرفة الأدبية والتاريخية والفلسفية التي لا تتصل بمهنة ولا تؤدي إلى استغلال مادي مباشر. وفي هذه الظاهرة ترى ببلادنا ما يفزع حتى لتحسب أننا في أرض لم تتسرب إليها بعد معاني الحضارة الحقيقية. ففي أوربا مثلا من المستحيل أن تلقى موظفا أو طبيبا أو مهندسا أو محاميا يجهل مؤلفات كبار المفكرين من الأدباء والفلاسفة والمؤرخين. وأما في مصر فمن المستحيل أن تلقى من بين من ذكرنا من يعرف تلك المؤلفات في غير النادر الذي لا حكم له. ومن أشنع ما يهولك أن ترى سادتنا لا يستحون من جهلهم، بل يظهرون من عدم الاكتراث، إن لم يكن الاحتقار الكاذب لتلك الثقافة الحرة، ما يحزن. ومن عجيب الأمر أنهم لا يحلمون بما سيجدون في تلك الثقافة من عون على مزاولة مهنهم مزاولة صحيحة، وهم يكادون يجهلون أنهم يعيشون في وسط اجتماعي وأنهم يعملون في صلب الحياة. وليس من شك في أن أحدهم لن يفهم وسطه الاجتماعي أو ينفذ إلى نفوس من يحيطون به أو يستطيع علاج مشاكل الحياة ما لم يتسع أفقه وتشحذ ملكاته الإنسانية بالثقافة الواسعة الحرة، ولكم من مرة لقينا بأوربا طبيبا أو محاميا يحدثك أن نجاح مهنته لا يتوقف على معلوماته الفنية فحسب، بل لابد له من أن ينهض على فهم صحيح لنفسية المريض أو الخصم أو القاضي، وسبيلهم إلى ذلك الفهم هو مواصلة القراءة في ميادين البحث الإنساني. ثم هب أن الثقافة العامة لن تجدي في الحياة العملية، أليست هي المنبع الأول لمتع الحياة، أليست هي دليل التحضر وارتفاع الإنسان عن مستوى الحيوان الأعجم؟ ألا فلنذكر قول المفكر الفرنسي العميق جورج ديهامل: (المكاتب العامة لا تكفي حاجات الناس، ولذا يمتلك كل منهم - مهما كان فقيراً ومهما ضعف استقراره - مكتبة صغيرة هي كنزه التي يعتز به. فكل إنسان يشعر بالحاجة إلى أن يجد في متناوله وتحت بصره وسائل حياته، وهو يقتنيها لا لأن الكتاب هو أخص زينات المنزل، ولا لأنه ينشر في الأماكن التي يحليها عبيراً أليفاً نافذاً من الروحية، بل لأنه يجد فيها ما يركن إليه في ساعة ضلال أو انحلال أو شك أو فراغ نفسي. ولتتصور ماذا تكون حياتك في بيت مريح، ولكنه خال من الكتب، إنك لن تلبث حينئذ أن تحس بالنفرة وضيق(588/4)
الصدر)
محمد مندور(588/5)
ثقافة أبي العلاء
للأستاذ دريني خشبة
لم يحيي أحد من الشعراء حياة صدق صريح لا مواربة فيه ولا خداع كما حيي أبو العلاء. . . ولم تكن حياة أحد قصيدة من الشعر المكلوم المكتوم الحزين الباكي الناقم كما كانت حياة أبي العلاء. . . ولم يعبس أحد للحياة تلك العبوسة الطويلة المظلمة التي غبرت ثمانين عاماً، كما عبس هذا التنوخي أحمد بن عبد الله ابن سليمان، آكل البُلْسُن والبَلَس؛ ولم يثقف شاعر نفسه بكل ما استطاع أن يثقفها به مما وصلت إليه يده وقدرته كما فعل المعري؛ ولم يأخذ أحد نفسه بما أخذها به أبو العلاء من شدة وجد وصرامة، فقد عاش طول حياته منطويا على نفسه، عزوفا عن الناس، نباتيا لا يذوق اللحم، صواماً لا يفطر إلا في العيدين كما يحدثنا الأستاذ متز، مستعلياً عما فطرنا الله عليه من حياة وتناسل، حابساً نفسه في مائة سجن من شذوذه الذي يصادفك في كل شيء. . . في شعره وفي نثره وفي أخباره وفي ثقافاته وفي اختلاف الناس فيه. . . والسجن المؤبد في العرف الحديث هو ما زاد على العشرين عاما، إلا أننا لم نسمع عن سجن مؤبد زاد على الخمسين إلا في حياة أبي العلاء، وكان مع ذلك سجنا اختيارياً حبس الشاعر فيه نفسه عن طواعية. . . فلم يضق به. . . ولم يزور عنه، ولم يشك منه لمخلوق، بل كان له وفياً، وبه حفياً.
أراني في الثلاثة من سجوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري، ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسم الخبيث
وإذا قال لنا المعري إن سجونه كانت ثلاثة فهو يقول هذا تجوزا، لأنه دعا نفسه رهين المحبسين، وهو في الحقيقة رهين مائة محبس أو تزيد. . . فالمعري لا يلقاك إلا في سجن، ولا يحدثك إلا في سجن، ولا يسخر بك ويستهزئ منك إلا في سجن، لأن كل عادة من عاداته سجن، وكل طبع من طباعه سجن. وهو يفتن في ابتكار السجون التي كان مأخوذا بحبس نفسه فيها. فأنت تقرأه في الفصول والغايات فلا تفهمه، ولا تعرف ماذا يريد أن يقول، لأنه يختبئ منك وراء جدران سجنه الغليظة السميكة التي بالغ أشد المبالغة في غلظها وجعلها سميكة، لأنه تعمد ذلك، وسعى أليه. . . إنه لا يريد أن تفهمه في سهولة ويسر كما تفهم سائر الناس. . . لأنه ليس كسائر الناس. . . وأنت كذلك تقرأه في لزومياته(588/6)
فيخيل لك الغرور أنك تفهمه، مع أنك لا تفهم مما يقول شيئا. . . إنه يختبئ منك ويستخفي وراء سجن يشبه هذا الجحيم الذي صوره في رسالة غفرانه. . . سجن كله دركات مثل دركات جهنم، من فكرة في صدر البيت، تنفيها فكرة في العجز، ومن رأى في البيت الأول يضربه رأي في البيت الثاني، ومن عقيدة في هذه القصيدة تلطمها عقيدة أخرى في التي تليها. . . كل ذلك في ألفاظ خبيثة يخيل إليك أنها حوشيه، ألفاظ تكاد تصرفك عن قراءة هذا الذي سماه أبو العلاء شعرا، وما هو في نظرك بشعر. . . بل هو في نظرك كلام لا ينتمي إلى اللغة العربية التي عرفها الناس لغة راقصة ضاحكة طروبا. . . لا لغة عبوسا متجهمة تجهم تلك الثاكل التي وقفت بشاطئ اليم تبكي بنيها الذين ابتلعتهم لجته، ولما يلفظهم عبابه!!
ثم أنت تقرأه في رسائله الكثيرة المطبوعة التي نفحني عمي - شفاه الله وأطال بقاءه - بنسخة منها منذ أكثر من ربع قرن فلم أعن بقراءتها إلا حينما سمعت الناس يلغطون بذكر أبي العلاء، ويملأون الدنيا ضجيجا فرحين بعيده الألفي. فلا تكاد تفهم سطرا مما يقول، ولا تكاد تعرف فحوى رسالة واحدة من تلك الرسائل الكثيرة التي كان يرد بها على مناظريه، فيلجمهم، ويخرسهم أبد الدهر. . .
فما هذا كله الذي جشم أبو العلاء نفسه من وعورة الألفاظ والتراكيب؟ وما تصيده ذاك كله لشوارد الكلمات وأوابدها، إن صح أن تكون في الكلمات أوابد! يجب أن نتلمس العلل والأسباب لتلك القيود التي قيد بها أبو العلاء قراءه. . . ولم يتقيد هو منها بشيء كما يتوهم الكثيرون. . .
إذن، فقد نشأ أبو العلاء بمعرة النعمان في أسرة من الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء والقضاة وسراة الناس. . . جدوده قضاة وعلماء، وأعمامه قضاة وعلماء وشعراء، وأبوه قاض شاعر رقيق الديباجة اسمه أبو محمد عبد الله؛ وقد أعطانا ياقوت الحموي في معجمه (ج3 ص109 - دار المأمون) نموذجا من شعره في رثاء أبيه، جد أبي العلاء، حيث يقول:
إن كان أصبح من أهواهُ مطرحاً ... بباب حمص فما حزني بمطرح
لو بأن أيسر ما أخفيه من جزع ... لمات أكثر أعدائي من الفرح(588/7)
ثم أخوه قاض عالم، وفقيه شاعر، ولي القضاء بعد أبيه، واسمه أبو المجد، وكان أكبر من أبي العلاء سنا، وقد أثبت لنا الحموي نموذجا رائعا من شعره في الزهد، يبين لنا إحدى وشائج النسب في الأدب بين الأخوين الشقيقين، إذ يقول:
كرم المهيمن منتهى أملي ... لا نيتي أجر ولا عملي
يا مفضلا جلت فواضله ... عن بُغيتي حتى انقضى أجلي
كم قد أفضت علي من نعم ... كم قد سترت علي من زلل
إن لم يكن لي ما ألوذ به ... يوم الحساب فإن عفوك لي
فهذا شعر جيد نجد له أصداء كثيرة في اللزوميات، ولا عجب أن يكون للأخ الأديب أثر في أخيه الأديب. ولأبي العلاء أخ شقيق آخر، كان يكثر من أشعار الغزل، اسمه أبو الهيثم، ومن شعره في الشمعة:
وذات لون كلوني في تغيره ... وأدمع كدموعي في تحدرها
سهرت ليلي وبانت لي مسهرة ... كأن ناظرها في قلب مسهرها
ثم يعد لنا ياقوت أسماء كثيرة لامعة من أسرة أبي العلاء كانت تشتهر بالفقه والعلم والأدب والشعر. . . لكنه يحصيها كلها من أسرة أبيه، ولا يذكر لنا اسما واحدا من أسرة والدته، فيستدرك ذلك الميمني في كتابه (أبو العلاء وما إليه) فيسرد لنا أسماء كثيرين من أخوال أبي العلاء الذين مدحهم وذكر أياديهم عليه في كثير من شعره الوارد في ديوانه (سقط الزند) مما يدل على حفظه لجميلهم وشكرانه لهم بعد وفاة أبيه وهو في الرابعة عشرة من عمره. . . ويصيب التاريخ خرس شديد في هذه المرحلة الحزينة من مراحل سني أبي العلاء، فهو لم يحدثنا بشيء عن صلة أبي العلاء بأخوته أو عمومته أو بني عمومته بعد تلك الكارثة التي كانت أشد وبالا عليه من العمى الذي أصابه في الرابعة من عمره. . . وهو لم يذكر لنا إذا ما كان أحد من أخواته كان لا يزال حيا يرزق بعد وفاة هذا الوالد البار الذي كان يولي أبا العلاء من عطفه وبره وعلمه بما ينسيه فقدان بصره. . . أو ماذا كانت العلة في ترك أبي العلاء وشأنه ينفق عليه أخواله في رحلته إلى حلب، والى إنطاكية، والى اللاذقية وطرابلس، طلباً للعلم، واكتساباً للأدب، وتفقهاً في اللغة، على العلماء والأدباء وفي دور الكتب؟ حتى رحلته إلى بغداد كانت على نفقة أخواله، كما يحدثنا بذلك الميمني،(588/8)
وكما يشير إليه الدكتور طه حسين في (ذكرى أبي العلاء). . . ولكن أحداً لا يحدثنا عن علة اتصال المعري بأخواله هذا الاتصال الحبيب العجيب، ثم انصرافه عن أخوته وعمومته. . . وليس معقولاً أن تكون المحبة الطبيعية بين بني البطون وحدها سبب ذلك، وما يكون من عداوة بين بني الظهور. . لن يكون هذا سببا كافيا ولا معقولا أبداً. . . إن والد أبي العلاء لم يترك له ثروة تذكر. . . وكان كل دخله ثلاثين ديناراً يغلها له أحد الأوقاف من أسرته لأبيه، كان يدفع منها نصفها لقارئه كل عام. فأين كان أخواه؟! وأين كان هذا الثبت الطويل من أسماء القضاة والعلماء والفقها الذين أحصى ياقوت منهم طرفا ولم يحص أطرافا؟! هنا يصمت التاريخ. . . ولابد أن يكون لصمته سر فظيع في نشأة أبي العلاء الأولى، ولابد أن يكون لهذا السر أثره الفظيع كذلك في ثورة أبي العلاء وتبرمه بالدنيا وتجهمه للحياة وضيقه بالناس، وتسفيهه لمعتقداتهم التي لم ينتفع بها أهله من أبيه في علاقاتهم بهذا الفتى الأعمى المحروم من العون، المتقلب في البلاد، الضارب بين قرى الشام، المعجب بأساتذته من رهبان ذلك الدير باللاذقية يدرس عليهم الإنجيل والتوراة، والفلسفة، كما درس على أبيه الرؤوف الرحيم البار القرآن واللغة والتفسير والفقه والعروض، وكما درس طرفا لا يعتد به من الحديث على هذا الرجل المدعو يحيى بن مسعر الذي لم يستطع أن يشعر قلب أبي العلاء حلاوة الإيمان، فأسلمه بجهله إلى الشك والحيرة
ترى! هل يستطيع أحد أن يكشف لنا عن ذلك السر؟
(للحديث بقية)
دريني خشبة(588/9)
حول فلسفة نيتشه
ثورة على القطيع
للأستاذ زكريا إبراهيم
لم يقتصر نيتشه على مناهضة أصحاب النزعة العاطفية المغالية، بل لقد حاول أيضاً أن يناهض أصحاب النزعة العقلية المتطرفة؛ فحمل على (العلماء) الذين يؤمنون بالعلوم الوضعية ويرون فيها شفاء ومقنعا للفكر الإنساني، وحمل أيضاً على (الفلاسفة) الذين يؤمنون بالعقل ويعتبرونه المعيار الوحيد للحقيقة. وبين هؤلاء الذين لا يصدرون في تفكيرهم إلا عن (العقل)، وأولئك الذين لا يصدرون إلا عن (القلب)، وقف نيتشه موقف أستاذه شوبنهور، فجعل الصدارة للإرادة، وقدم القوة على الفكر والعاطفة، فالإرادة عند نيتشه هي جوهر الوجود، وكل ما في الوجود إنما هو تعبير عن هذه الإرادة
غير أن الإرادة قد تفهم إما بالمعنى الفردي أو المعنى الجمعي؛ وهذا المعنى الأخير هو ذلك الذي يحرص عليه الديمقراطيون والاشتراكيون، فيخضعون الفرد للجماعة. ولكن نيتشه يتمرد على (غريزة القطيع)، ويعلن سيادة الفرد المطلقة في نظام الطبيعة، على نحو ما أعلن رجال عصر النهضة
وقد انقسم عصرنا الحاضر كله إلى طائفتين: طائفة الاشتراكيين، وطائفة الفرديين؛ وهاتان الطائفتان قد تشكلت كل منهما في نهاية الأمر بصورة (إنسانية). أما النزعة الرومانتيكية فإنها في الواقع قد اتجهت إلى عبادة الشخصية، وإن كانت قد قدست على وجه الخصوص تلك التي لا تخضع إلا لقانونها فقط، أعني تلك التي لا تتقيد إلا بالشرعة التي استنتها قوتها الخاصة، متمثلة في الهوى المنطلق، أو الإرادة التي لا ضابط لها. وقد ترتب على هذه النزعة، أن ظهرت الفردية المتطرفة التي أفضت في النهاية إلى ظهور المذاهب (الفوضوية). ووجدت في الوقت نفسه نزعة رومانتيكية اشتراكية وديمقراطية، على يد بيير ليروه، وفيكتور هيجو، وجورج صاند، وميشيليه؛ وهذه أشاعت في المجتمع مبادئ السعادة، والحرية الشاملة، والإخاء، والمساواة. إلى آخر تلك المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية. أما نيتشه فقد رأى في كل هذه النزعات انحرافاً وانحلالاً، ولذلك فقد عاد إلى النزعة الفردية البدائية، ونصب (الأنا) أو الذات، ضد المجتمع بأسره. وبدلا من تلك(588/10)
الديمقراطية التي تتهدد بالمساواة بين الجميع ومحو كل الاختلافات والفروق، أو تلك الاشتراكية الشعبية التي تفنى الفرد لحساب المجتمع، نجد نيتشه يدعو إلى أرستقراطية جديدة يعارض بها كل تلك المذاهب الديمقراطية والاشتراكية والفوضوية، ويعتبرها سبيل الخلاص الوحيد، فيستبدل بالرجل المتوسط المساوي لغيره من الناس، الرجل الكامل أو (الإنسان الأعلى)
والرجل المتوسط الذي يحمل عليه نيتشه هو ذلك الإنسان الوضيع الذي ينساق مع القطيع، على طريقة خراف بانورج أما ذلك الذي ينطوي على نفسه، ويفزع إلى الوحدة لكي يعيش كالنجم الغارق في السكون، فهو في نظر نيتشه الرجل القوي المبدع: (إن الأحداث العظيمة لا تنشأ إلا بعيدا عن الجماهير والأمجاد، فكل من ابتدعوا القيم الجديدة قد انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا، على منأى من العامة، وبعيدا عن الأمجاد) والرجل الممتاز إنما هو ذلك الذي يهرع إلى الوحدة، وينفرد بنفسه، لكي يحيا كتلك (الدوحة التي تشرف على البحر في سكون، وتصغي إلى هديره في صمت)!
لقد يصرخ به القطيع قائلا: (إن من فتش فقد ضل، وما الوحدة إلا خطيئة)، ولكنه يمضي غير آبه بصوت القطيع الذي يهيب به، لأنه يعلم أن صوته نداء العبودية يستصرخه أن يبقى، وصوت الوحدة نداء الحرية يستصرخه أن ينطلق! اجل، إن الرجل الممتاز لم يخلق لكي يسير وراء القطيع، بل لكي يكون ثورة على القطيع، ونارا حامية تصلى بها الجماهير! فليس على الرجل الممتاز أن يخضع لحكم العامة، بل عليه أن يخضع لحكم نفسه فحسب. وليس من واجب الرجل المبدع أن يأخذ بما يمليه عليه قانون السواد الأعظم، بل إن من واجبه أن يتخذ من إرادته قانونا له، فيشرع لنفسه الخير والشر. وليس ينبغي للرجل القوي أن يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي به في طريقه، بل ينبغي له إذا التقى بتلك الحشرات التي يتحلب ريقها بالسم، أن يسارع إلى وحدته، حتى لا تمتد إليه السموم الخبيثة التي تنفثها حشرات المجتمع!
فالرجل الممتاز إذن هو ذلك المتوحد الذي يعتزل الناس لكي يعيش بعيدا عن المجتمع، منطويا على نفسه؛ وأما الرجل الضعيف فهو ذلك الذي يشعر بحاجته إلى الاجتماع بالناس، والانضمام إلى القطيع. ولذلك يقول نيتشه: إن الأقوياء ينزعون إلى الانفصال والتفرد،(588/11)
على حين ينزع الضعفاء إلى الاتحاد والتجمع. والرجل الممتاز - كما يقول زرادشت - هو ذلك الذي ينفر من المجتمع، ويأنف من الجماعة، ويحلق بجناحيه فوق السحاب، فترمقه أعين الحاسدين، وترشقه نظرات الحاقدين. وليس بدعا أن يثور الناس على مثل هذا الرجل، فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل رجل مبدع يعزف بنفسه عن غمار الناس: (إنك لتعلو عليهم وتسمو فوقهم، ولكنك كلما ازددت علواً، ازددت صغاراً في أعينهم الحاسدة. أما ذلك الذي يحلق بجناحيه فوقهم، فليس أبغض إليهم منه)!
ولكن، أليس الإنسان حيوانا اجتماعيا يميل إلى التجمع بفطرته، وينفر من العزلة بطبيعته؟ ألم يقل أرسطو إن حياة العزلة لا تتهيأ إلا لإله أو حيوان؟ إذن فكيف يزعم نيتشه أن (الرجل القوي) هو (الرجل المتوحد)؟ وكيف يذهب إلى أن الضعفاء هم الذين ينزعون إلى الاتحاد والتجمع؟. يجيب نيتشه على هذا فيقول: إن الإنسان حيوان مفترس متوحد، فالأقوياء الذين هم سادة النوع البشري يميلون بالضرورة إلى العزلة والتفرد، وينفرون من كل نظام يضطرهم إلى الاتحاد والتجمع، وبعبارة أخرى فإن الحياة الاجتماعية في نظر نيتشه معارضة للطبيعة، لأن الإنسان حيوان غير اجتماعي بفطرته. وإذا كان الأقوياء قد يكونون مجتمعا في بعض الأحيان، فإن ذلك يرجع إلى رغبتهم في القيام بحركة عدوان مشترك، يرضون بها إرادة السيطرة التي توجد لديهم جميعا. ولكن شعورهم الفردي في معظم الأحيان، ينفر من تلك الحركة المشتركة، ويتأذى من ذلك العمل الجمعي. أما الضعفاء فإنهم يرتبون أنفسهم في طبقات متلاصقة، إرضاء للحاجة التي يشعرون بها نحو هذا التجمع، وبذلك تلقى غريزتهم لذتها القصوى الكاملة
ولكن، هل من الحق أن التجمع دليل الصعف؟ أليس التاريخ الطبيعي شاهدا على فساد هذا القول؟. . . إن الواقع أن الحيوانات التي توجد لديها (غريزة القطيع) قد استطاعت أن تخرج من معركة تنازع البقاء ظافرة منتصرة بينما خرجت الحيوانات المتوحشة مغلوبة منكسرة. وهاهي ذي الحيوانات القوية تعيش جماعات، فتكون القردة لنفسها أسراً، على الرغم من أنها لا تقل في ذكائها عن النمورة والفهود. وهاهو ذا التاريخ يظهرنا على أن الإنسان القديم لم يكن يعيش وحده، بل كان يعيش في مجتمع. فليس من الصحيح إذن أن قوة الكائن الحي هي التي تولد فيه الميل إلى الوحدة والتفرد، بل الصحيح أن الكائنات(588/12)
القوية تجنح إلى الاتحاد والتجمع، وتنفر من الانفصال والتفرد. وهل كانت الفيلة حيوانات ضعيفة، لأنها تحب الاجتماع؟ أو هل كان رجال (ما قبل التاريخ) ضعفاء، لأنهم كانوا يميلون إلى التجمع، كما سبق لنا القول؟. . . إن سيد الكون الذي دان له كل شيء في الطبيعة، والذي قهر سائر الأجناس الحيوانية ولا يزال يقهرها، إنما هو (الإنسان) الذي يعتبر الحيوان الأول بين طائفة الحيوانات القطيعية؛ فهل علينا من حرج إذا قلنا إن الإنسان حيوان اجتماعي بفطرته؟
لقد أراد نيتشه أن يتمرد على المجتمع، لكي يقتصر على عبادة الذات وتقديسه، ولكن هل نسى نيتشه أن ما يسميه (ذاته) إنما هو في جانب كبير منه، تراث اجتماعي تعاقبت على تكوينه الأجيال؟ فماذا عسى أن يكون نيتشه، وماذا عسى أن تكون ذاته، إذا جردناه من كل ما وضعه فيه الآخرون، وإذا استبعدنا من نفسه كل ما أودعه فيها المجتمع؟ إن نيتشه حين يتوهم أنه يتأمل ذاته، فهو في الواقع إنما يتأمل العالم كله؛ وهو حينما يظن أن في إمكانه أن ينفرد بنفسه ويعتزل الناس، لا يزال بالرغم من ذلك محتفظا في أعماق نفسه بكل أصداء القرون الخالية. ففي أبعد أغوار نفسه - مهما تنكر للماضي - ترن أصداء الأجيال الغابرة. وهل يستطيع الفرد أن يفكر إلا إذا استعان بأفكار السابقين، واستند إلى أعمال المتقدمين؟ إذن فمن الجهالة والعقوق، أن يتنكر الإنسان للجنس البشري كله، وأن يكفر بكل شيء، اللهم إلا فرديته وما يجيء معها من أثرة وعجب وحمق وغرور! ولو أن نيتشه تدبر الأمر في جو حر لا تفسده نزعة أرستقراطية متطرفة، لما تردد في أن يقول مع جويو (أنا لست ملكاً لنفسي؛ لأن كل موجود ليس بشيء من غير الكل. فالموجود بمفرده لا شيء!)
زكريا إبراهيم(588/13)
اللغة القانونية في الأقطار العربية
ووجوب تصنيفها وتوحيدها
للأستاذ عدنان الخطيب
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
4 - إن النظام القضائي مختلف اختلافا بينا في الأقطار العربية، ولكنا نجد فوق هذا اختلافا في السماء والمصطلحات، فالمحكمة العليا هي محكمة النقض والإبرام في مصر وهي محكمة التمييز العليا في سورية، وفي العراق هي محكمة تمييز العراق، والمستشار في المحاكم المصرية هو العضو في محاكم سورية والعراق، إلى ما هنالك من أسماء كالقاضي والحاكم والمدعي العام أو العمومي والنائب أو المحامي العام أو الأفوكاتو العمومي ووكيل النيابة ومعاون النائب الخ. . .
5 - لنتجاوز كل هذا إلى القوانين الرئيسية فنجد أننا لم نتفق على اسم قانون واحد منها:
(ا) فقانون العقوبات في مصر والعراق، ولبنان أخيرا، ما زال قانون الجزاء في سورية
(ب) وقانون أصول المحاكمات الحقوقية في سورية والعراق هو قانون المرافعات المدنية في مصر وقانون أصول المحاكمات المدنية في لبنان
(جـ) قانون تحقيق الجنايات في مصر هو قانون الأصول الجزائية في العراق، وأصول المرافعات الجزائية في فلسطين، وأصول المحاكمات الجزائية في سورية
(د) القانون المدني في مصر هو قانون العقود والموجبات في لبنان بينما ما زالت مجلة الأحكام العدلية في سورية والعراق تقوم مقامه
(هـ) قوانين الملكية العقارية والتسجيل العقاري في مصر وسورية ولبنان ما زالت قوانين الطابو والأراضي في العراق.
8 - كيف يمكن توحيد المصطلحات القانونية
لابد لتوحيد المصطلحات القانونية من هيئة علمية عليا تمثل جميع الأقطار العربية، تقر المصطلحات والمعربات اللازمة للكلمات الأعجمية، ثم تتخذ الوسائل اللازمة لنشرها وتعميمها والاعتماد عليها في تشريع كل قطر من الأقطار(588/14)
يقوم اليوم في مصر مجمع لغوي كريم، وبالرغم من إنه يضم بعض كبار رجال القانون. فإن تمثيله للأقطار العربية، من الناحية القانونية مفقود، مما يدعونا للتأكيد بعدم إمكان الاعتماد عليه كهيئة عربية عليا لإقرار المصطلحات القانونية، لقد قدم إلى هذا المجمع في دورة ماضية أحد كبار رجال القانون في مصر رسالة تتضمن مصطلحات القانون لإقرارها كتعريب رسمي للمصطلحات الفرنسية، وبالرغم من أن هذه الرسالة جاءت محكمة في أغلب المصطلحات الواردة فيها، بليغة في بعض مبتكراتها، فإن فيها مجالا للبحث والمناقشة، وليسمح لي المؤتمرون الكرام بإبداء بعض الملاحظات على هذا المشروع ليتأكدوا من صحة قولي، وسيكون لي أجر واحد إن لم أصب فيها وأحظ باجرين
1 - لاشك أن من المرغوب فيه الإقلال ما أمكن من استعمال أكثر من لفظة واحدة للدلالة على لفظة أعجمية واحدة. ولو كان في العربية مترادفات كثيرة لها، ولكن هذا لا يعني أن نكتفي باستعمال لفظة عربية واحدة لكلمتين أعجميتين مختلفتين إذا أمكن تعريب كل واحدة منهما بلفظة مستقلة، فكلمتا ومثلا عربهما صاحب المشروع بكلمة (مذهب) دون تفريق، واستعمال كلمة عربية أخرى (كمدرسة) أو (طريقة)، ولماذا نعرب عبارة ' بـ (مذهب الوقوف عند النص)، ولا نعربها (بمدرسة الوقوف عند النص) إذا لم نستسغ أن نقول (أهل النصوص مثلا)
ب - يضع المشروع لفظة (لوائح) المستعملة في مصر ترجمة لكلمة الفرنسية، بينما قد يكون من المستحسن أن نعربها بلفظة (الأنظمة) المستعملة في العراق
ج - ويعرب صاحب المشروع - بـ (مرسوم بقانون)، بينما قد يحسن تبني الاصطلاح السوري (مرسوم تشريعي)
د - لم يرد واضع المشروع أن يفرق لنا بين كلمتي وفعرب كلتاهما بلفظة (قانون).
هـ - كما إنه ترجم كلمة بـ (الالتزام) ثم لم يأتنا بكلمة عربية غيرها مقابل لفظة
ووردت في المشروع جملة (وقف الدعوى الجنائية للمدنية) تعريبا لجملة وأرى أن الاصطلاح المعروف في سورية (الجنائي يعقل المدني) يفوقها جرسا وجمالا
ز - وقد ترجمت عبارة بـ (القانون التجاري) بينما جاءت ترجمة بـ (قانون التجارة البحري)، ولست أدري لماذا عدل عن الصفقة إلى الإضافة؟ ولماذا وصف القانون بالبحرية(588/15)
دون التجارة نفسها؟
ح - وأخيرا نجد كلمة عربت بـ (متعهد النقل) ومن الممكن الاكتفاء بكلمة (الناقل)
ولكن أنى لمثل هذه الملاحظات أن تقلل من فخر صاحب المشروع بابتكاراته الخالدة والتي منها:
عقد الإذعان تعريب '
عقد المساومة مقابل -
عقد التمهين مقابل '
هذا إلى جانب كثير من التعاريب الموفقة في إيجازها بالنسبة لما يقابلها مثل:
الخلف العام مقابل
والتسامح بدلا عن
9 - تصفية اللغة القانونية من الكلمات الدخيلة والأجنبية
ليس توحيد المصطلحات كل ما يتعلق باللغة من الأمور التي يجب أن نعمل لها، فهناك كلمات وألفاظ دخلت على لغتنا القانونية بعامل النفوذ أو التشريع الأجنبي، وهناك مشرعون وقضاة لا ينفكون عن إلحاق كلمات أجنبية بالكلمات العربية تعيينا لها وتحديدا
فإذا كانت الكلمات الدخيلة انتشرت بين العامة؛ فهذا لا يعني أن المشرع يجب أن ينزل إلى مستواهم بدل أن يرشدهم ويصحح لغتهم، وإلا لوجب أن يصوغ أوامره أيضاً باللغة العلمية، وإذا كانت الألفاظ العربية غير متفق عليها، فيجب أن يبدأ الاتفاق عليها من هذا اليوم أيضاً. وإذا كان في البلاد العربية تشريع لغته الأصلية غير اللغة العربية؛ فيجب أن لا نسمع بقانون، ولا نرى بعد اليوم قانونا، يطبق في بلد عربي وضع بلغة غير لغة أبناء البلاد الأباة
أي عذر يمكن أن ينتحل للعراق رمز العروبة الخفاق؟ إذا تناول أحدنا قانونه التجاري الذي صدر في مثل هذا الشهر من العام المنصرم، فوجد فيه هذه الطعنات المؤلمة (البورصات) و (السيف) و (القومسيون) و (البوليصة) و (الآفال) و (الكمبيال) و (الجك) و (الكومبيو) و (بوردورو)، و (ليكيداسيون) و (كونه سمان) و (ماركة) و (فاكتور) و (ناولون) و (السيقورطة) و (أكسيون) و (أوبليكاسيون) و (دوكروار) و (ره سي بي سه) و (واران) و(588/16)
(بروتست) و (الونج) و (ره تريت)
لا بل إن المشرع العراقي استعمل في قانونه فعل (التجبير) ومشتقاته فبلغت (135) طعنة في ظهر (التطهير) العربية
وفي مصر رأس البلاد العربية، قضت ظروف القرن الماضي باستعمال كلمات دخيلة في التشريع؛ فسمي المجلس البلدي لمدينة الإسكندرية مثلا بـ (القومسيون)، ولكن المشرع المصري ما زال يستعمل (القومسيون) بدلا عن (المجلس) حتى السنوات الأخيرة وهو ما زال يفسر قوائم الأسعار بـ (كتالوجات) وهو الذي استعمل لفظي (مصرف ومصارف) في تشريع يبحث عن تسليف الزراع لم ينشأ لهم إلا (بنكا) ولا يفتأ في لوائحه بترديد (البنك) و (البنكير)، والمياومين (جوبر) وعمليات (الأربيتراج) والربور - والمحاسبين المحلفين أو القانونيين والبطاقات (الفيشات) ومقدار التخفيض والمطالبات الناشئة عن الغش والتلف الداخلي والخلط
ونحن إذا رأينا الضرورة تقضي باستعمال كلمة دخيلة أو أجنبية في تشريع ما فلنكتف باستعمالها مرة واحدة في كل تشريع، وأي داع يبرر استعمال (البرود كاستنج) كلما وردت جملة (جهاز الاستقبال)، ولماذا تكرر لفظة (دروباك) تسع مرات مثلا في قرار يبحث عن رد الرسوم، أو كلمة (كنتراتات) سبعة عشر مرة تفسيرا لكلمة عقود
هذا في التشريع أما في القضاء فيكفي أن نتصفح أية مجموعة من قرارات المحاكم المصرية لنجد أن كلمة (الخطأ) كثيرا ما تذكر وتعقبها بأحرف لاتينية كلمة وكلمة (غلط في الواقع) وبجانبها وكلمة (غلط في القانون) قبل
وجملة (الخطأ في تطبيق التعريف)، مفسرة بجملة وكلمتي (الرضاء التحليلي) تلحق بهما لفظة
وجملة (إرادة التعبير الخارجي) متبعة بمعناها الفرنسي
هذا في مصر والعراق، أما في سورية قلب العروبة النابض فلا نستطيع أن نحكم على المشرع الوطني الآن، لأنه لم يخرج لنا بعد قوانين مهمة في هذا العهد الجديد، ولكن الغيارى على اللغة العربية النقية تألموا من أن مشروعاً بتعديل مرسوم اشتراعي قديم وضعه مخضرمون في وزارة المالية السورية مر على مجلسنا النيابي في دورته الأخيرة،(588/17)
وخرج قانونا يحوي هذه الألفاظ (بوليصة) و (بوالص) و (مانيفيستو) و (كمبيالات) و (بريم) و (كونكورداتوا) و (جيرو) و (كتلوغات)
بينما لبنان العربي الأشم أخذ يضرب لنا أمثالا رائعة. ففي قانونه التجاري الأخير تجد المشرع حرص كل الحرص على عدم تشويه النسخة العربية منه بالألفاظ الأعجمية؛ فقد استعمل دفتر (صور الرسائل) بدلا عن دفتر (الكوبيا) ودفتر (الجرد والموازنة) بدلا عن دفتر (البلانشو) و (طابع المصنع) بدلا عن (الماركة) وهو لم يستعمل كلمات (كولكتيف)، و (قومانديت) و (أنونيم) توضيحاً (للتضامن) و (التوصية) و (المغفلة) إلا نادرا، وهو قد استعمل لفظة (التعاون) بدلا من (الكوبراتيف) لا، بل إنه أتانا بمصطلحات عربية جديدة؛ فقد استعمل (المؤونة) بدلا عن (مقابل الوفاء) و (الصك المشطوب) عوضا عن (الصك المسطر) (والمشاهد العامة) بدلا عن (السينما والمسارح) واكتفى (بالتظهير) عن (التجيير) و (بالاحتيجاج) عن (البروتستو)، و (نوكيل التفليسة) عن (السنديك) ولم يستعمل أبدا لفظة (كونكورداتو) لإيضاح معنى لفظة (الصلح أو المصالحة).
10 - مقترحات
إذا كان للحرب القائمة من فضل؛ فلاشك أن إليها يعود فضل هذه الروح العربية التي عمت جميع الأقطار، وجعلت (الوعي القومي) يتنفس بين أيدي أطبائه الأشاوس، وما هذا المؤتمر إلا ثمرة من ثماره الطيبة، فعلينا أن نتضافر لما فيه مصلحة الآمال المشتركة والرغبات الموحدة، ومما يسهل مهمة توحيد المصطلحات الحقوقية وإحلال اللغة العربية محلها اللائق الأخذ بالمقترحات التالية:
1 - إقرار تأليف معجم قانوني وانتخاب لجنة تدرس السبل المؤدية إلى ذلك
2 - تبادل المؤلفات القانونية بشكل واسع
3 - فتح فصول خاصة في المجلات القانونية لبحث المصطلحات الجديدة ومناقشتها
4 - السعي لدى الحكومات لإيجاد مكتب عربي للمشاورات القانونية مهمته تقريب التشريع ما أمكن والعمل على توحيده إن أمكن
5 - العمل على توحيد مناهج الدراسة القانونية في البلاد العربية وإيجاد رابطة متينة بين كليات الحقوق العربية(588/18)
6 - توصية الحكومات بالاعتناء بلغة التشريع والعمل على استبعاد الكلمات البالية أو الدخيلة، ولنا فيما عملته سورية في إقرار لفظة (التنفيذ) بدلا عن (الإجراء)، وفيما قامت به مصر من إبدال كلمة (العدل) بكلمة الحقانية أسوة حسنة وأمل كبير في الوصول إلى أهدافنا القومية وآمالنا المنشودة كاملة غير منقوصة والله الموفق.
(دمشق)
عدنان الخطيب(588/19)
بمناسبة حفلات ذكرى المعري
كتاب الإنصاف والتحري
في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري
لابن العديم الحلبي المتوفى سنة 660هـ.
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
ذكر صاحب (فوات الوفيات) في ترجمة ابن العديم: أنه ألف كتابا في الدفاع عن أبي العلاء المعري سماه (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري)
وذكر هذا الكتاب أيضاً صلاح الدين بن أيبك الصفدي في كتاب (نكت الهميان في نكت العميان) أثناء ترجمة أبي العلاء المعري، ونقل عنه جملة صالحة، تلخص رأي ابن العديم في المعري، وكذلك فعل السيوطي في (بغية الوعاة). وذكر اسم الكتاب، ونقل عنه خلاصة رأي ابن العديم في المعري، وعده في صف المدافعين عنه.
ابن العديم مؤلف هذا الكتاب هو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن العديم، مؤرخ حلب، ومحدثها، وفقيهها، وأديبها. ألف تاريخ حلب - بغية الطلب - في نحو أربعين مجلدا. وهو الذي يقول فيه ياقوت الحموي:
(. . . إن الله عز وجل عني بخلقته، فأحسن خلقه وخلقه، وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول فعرف علله ورجاله، وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطي أمرا إلا جاء فيه مبرزاً، مشهور ذلك عنه، لا يخالف فيه صديق، ولا يستطيع دفاعه عدو). ولد في حلب سنة 588 ونشأ بها، ثم رحل إلى بغداد ومصر أكثر من مرة واحدة، ولما جاء التتار إلى حلب سنة 658 جفل إلى مصر مع من جفل، ثم رجع إلى حلب بعد خروج التتار منها، فوجدها على حال سيئة من الخراب والدمار، فرجع إلى القاهرة، وأقام بها إلى أن توفى بها سنة 660 من الهجرة ودفن(588/20)
بسفح المقطم.
يعد كتاب ابن العديم في إنصاف شيخ المعزة من الكتب النادرة الوجود، بل ربما كان من تلك التي ذهبت بها الأيام، فلا عين لها ولا أثر، غير ما حفظته كتب التاريخ والتراجم من أسماء ومقتطفات
لم يعثر إلى الآن - فيما أعلم - على نسخة كاملة من هذا الكتاب القيم النفيس، وكل الذي عثر عليه منه - من نحو عشرين سنة - نسخة ناقصة من آخرها، ومن قبل آخر الموجود منها، ولا يعلم مقدار النقص في كلا الموضعين. فقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي في تاريخه (أعلام النبلاء) بتاريخ حلب الشهباء (ج4 ص77): إنه عثر على كتاب (الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري). عثر عليه مخطوطا في خزانة كتب سعادة مرعي باشا الملاح، وأنه نسخ من هذا المخطوط نسختين، أهديت إحداهما للمجمع العلمي العربي في دمشق، واحتفظ بالأخرى لنفسه، وبعد أن نص الأستاذ الطباخ على موضع النقص في هذه النسخة التي عثر عليها قال: إنه يدمج الموجود من هذا الكتاب ضمن كتاب أعلام النبلاء. لعل ذلك يدعو بعض ذوي الهمم للبحث والتنقيب عن نسخة تامة منه
وقد نشر الأستاذ الطباخ الموجود من كتاب إنصاف المعري لابن العديم في الجزء الرابع من أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (ص78 - 154) من نحو عشرين سنة
وإني أنشر اليوم - بمناسبة حفلات ذكرى العيد الألفي لمولد المعري التي تقام الآن في دمشق - على صفحات الرسالة الغراء مقدمة كتاب الإنصاف على أن ألخص فصوله وأبوابه الموجودة في فرصة أخرى. أنشر هذه المقدمة راجيا - كما رجا الأستاذ الطباخ من قبل - أن يكون في هذا النشر الحافز لهمم محبي البحث للتنقيب عن نسخة كاملة من هذا الكتاب النفيس. حتى إذا أمكن الحصول عليه ونشر، كان في ذلك أبلغ تكريم لذكرى المعري بمناسبة عيد مولده الألفي
وإلى القارئ الآن مقدمة كتاب الإنصاف نقلا عن النسخة التي نشرها الأستاذ الطباخ:
(. . . وبعد فإني وقفت على جملة مصنفات عالم معرة النعمان أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان، مودعة فنونا من الفوائد الحسان،(588/21)
محتوية على أنواع الآداب، مشتملة من علوم العرب على الخالص واللباب، لا يجد الطامح فيها سقطة، ولا يدرك الكاشح فيها غلطة، ولما كانت مختصة بهذه الأوصاف، مميزة على غيرها عند أهل الإنصاف، قصده جماعة لم يعوا وعيه، وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتبعوا كتبه على وجه الانتقاد، ووجدوها خالية من الزيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين، سلكوا فيها معه مسلك الكذب والمين، ورموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصد له، فجعلوا محاسنه عيوباً، وحسناته ذنوباً، وعقله حمقاً، وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام، وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلمه عن مواضعه، وأوقعوه في غير مواقعه، ولو نظر الطاعن كلامه بعين الرضا، وأغمد سيف الحسد من عليه انتضا، لأوسع له صدراً وشرح، واستحسن ما ذم ومدح، لكن جرى الزمن على عاداته في مطالبته أهل الفضل بتراته، وقصدهم بإساءاته، فسلط عليهم أبناءه، وجعلهم أعداءه، فقصدوه بالطعن والإساءة. واللبيب مقصود، والأديب عن بلوغ الغرض مصدود، وكل ذي نعمة محسود، ومن سلك في الفصاحة مسلكه، وأدرك من أنواع العلوم ما أدركه، وقصد في كتبه الغريب وأودعها كل معنى غريب، كان للطاعن سبيل إلى عكس معانيها، وقلبها وتحريفها عن وجودها المقصودة وسبلها، ألا ترى إلى كتاب الله العزيز المحتوي على المنع والتجويز الذي لا يقبل التبديل في شيء من صحفه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف أحلى جماعة من أرباب باطل الأقاويل، تأويله على غير وجوه التأويل، فصرفوا تأويله إلى ما أرادوا، فما أحسنوا في ذلك ولا أجادوا، حتى أن جماعة من الكفار، وأرباب الزلل والعثار، تمسكوا منه بآيات، جعلوها دليلا على ما ذهبوا إليه من الضلالات، فما ظنك بكلام رجل من البشر، ليس بمعصوم إن زل أو عثر، وقد تعمق في فصيح الكلام، وأتى من اللغات بما لا يتيسر لغيره ولا يرام، وأودعها في كلامه أحسن إبداع، وأبرزها في النظم البديع والأسجاع، إذا قصده بعض الحساد، فحمل كلامه على غير المراد، وقد وضع أبو العلاء كتاباً وسمه (بزجر النابح) أبطل فيه طعن المزري عليه والقادح، وبين فيه عذره الصحيح، وإيمانه الصريح، ووجه كلامه الفصيح، ثم أتبع ذلك بكتاب وسمه (ببحر الزجر) بين فيه مواضع طعنوا بها عليه بيان الفجر، فلم يمنعهم زجره، ولا اتضح لهم عذره، بل(588/22)
تحقق عندهم كفره، واجترءوا على ذلك وداموا، وعنفوا من انتصر له ولاموا، وقعدوا في أمره وقاموا، فلم يرعوا له حرمة، ولا أكرموا علمه، ولا راقبوا إلا ولا ذمة، حتى حكوا كفره بالأسانيد، وشددوا في ذلك غاية التشديد، وكفره من جاء بعدهم بالتقليد
فابتدرت دونه مناضلا، وانتصبت عنه مجادلا، وانتدبت لمحاسنه ناقلا، وذكرت في هذا الكتاب:
نسبه ومولده، وتحصيله للعلم وطلبه، ودينه الصحيح ومذهبه، وورعه الشديد وزهده، واجتهاده القوي وجده، وطعن القادح فيه ورده، ودفع الظلم عنه وصده.
وسميته (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري)
وبالله التوفيق والعصمة، وإليه المرجع في كل وصمة، وهو حسبي ونعم الوكيل).
حرصت على نقل هذه المقدمة الطويلة المسجوعة بنصها ليستطيع القارئ تكوين فكرة عامة عن هذا الكتاب النفيس ويعرف روح مؤلفه فيه، وأرجو أن أستطيع تلخيص فصوله التي عثر عليها في فرصة قريبة
برهان الدين الداغستاني(588/23)
قبر أبي العلاء المعري
للأستاذ صبحي الياسيني
كان يوم الجمعة في الثالث من ربيع الأول عام 449 للهجرة، حين حضرت أبي العلاء الوفاة، وانطفأت تلك الجذوة المتقدة يوما مشهودا عند أهل المعرة، إذ وفد إليها غير الفضلاء والعلماء والخلق الكثير، أربعة وثمانون شاعرا، وقفوا حين مواراته الرمس يرثون عبقريته الفذة وعلمه المضيع
واليوم وقد انقضي ألف عام على مولده يعيد التاريخ نفسه فيقف مثل هذا العدد وأكثر منه من الشعراء والأدباء جاءوا من أقاصي البلاد على قبره ليستعيدوا ذكرى صاحب هذه الشعلة المتقدة التي مرت عليها القرون فما زادتها إلا وميضا واستعاراً.
والمعروف أن جثة المعري نقلت إلى ساحة لإحدى دور أهله ودفن بها، وهي واقعة في الطرف الغربي من المعرة، وقد كانت هذه الدار في عهده على ما يظهر من انقطاع آثار البناء ووجود القبور الأثرية بتاليها من الجهة الغربية، واقعة في أقصى البلدة باتجاه الغرب، وكانت قبور أهله وبني عشيرته وتلامذته قبل إنشاء الضريح الحالي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، إلا إنه كما حجب اسمه أسماءهم وفضله فضلهم في حياته، كالشمس إذا ظهرت غاب كل كوكب؛ فكذلك حجب قبره قبورهم، واضطر المهندسون الذين قاموا بتشييد الضريح إلى إزالة القبور الواقعة بجوار قبره، وحفظت حجارتها وشواهدها في حديقة خلفية لضريح أبي العلاء.
يروي التاريخ أن أبا العلاء أوصى أن يكتب على قبره البيت التالي:
هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد
وهذا البيت ليس له وجود على قبره ذي الكتابة الكوفية المشجرة، ولا يوجد على شاهد الضريح سوى الكلمات التالية: (هذا قبر أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان). وقد محا الزمان كلمات: (هذا قبر أبي)، وكتب على ظهر الشاهد: رحمة الله عليه. وقد وجد بجوار ضريحه حجر مستطيل الشكل بقياس 50 30 مسطر عليه هذان البيتان بخط ثلث حديث:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... نفيسة صاغها الرحمن من نطف
عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردَّها غيرة منه إلى الصدف(588/24)
وقد علمت من ثقة في المعرة أن هذا الحجر حديث، جدد عام 1903 بذيل آخر مكتوب بالخط الكوفي أتى عليه الزمان فجدده أهل الفضل.
وقد كان ضريح المعري في وضعه السابق على غير الاتجاه الصحيح؛ فكان منحرفا انحرافا قليلا نحو الشمال الغربي، وذلك على ما يظهر بسبب الزلازل أو انخفاض الأرض فعدل الآن إلى الاتجاه الصحيح.
أما الضريح القديم فقد كان حالة قبيحة من الإهمال ذكرها مؤرخو المعري حتى قام في عام 1903 المرحوم نورس باشا الحراكي، وهو رئيس للمعرة في ذلك العهد، وبني عند قبره غرفة يعلوها قبة وبجوارها مصلى جعل منه مدرسة للأولاد كان يقوم بالتدريس فيها شيخ أعمى دائما كلما مات واحد قام آخر.
ولما فتح قبره منذ خمس سنوات لم ير فيه من آثاره إلا بقية ضئيلة كالرماد من فتات عظامه، وقد صب الآن فوقها الأسمنت لتكون قاعدة قوية تحت حجارة القبر الثقيلة
وقد كان في النية نحت حجارة جديدة لقبره لتقوم مقام الحجارة الأثرية القديمة وتتناسب مع شكل البناء الجديد، إلا إنه صرف النظر أخيرا عن هذا العمل بعد القيام به، وكان ذلك الأوفق والأنسب.
وكان أمر بناء الضريح تكتنفه الصعوبات لعوامل شتى منها تبدل الحكومات المتعاقبة على البلاد السورية فكأن رغبة أبي العلاء التي أبداها في ترك قبره وعدم الاحتفاظ به إذ يقول:
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي ... ريب المنون فلا فضيلة للجسد
أو يقول:
إن التوابيت أجداث مكررة ... فجنب القوم سجناً في التوابيت
تحققت بقوة خفية لا يمكن التغلب عليها
إلا إنه تقرر في موازنة الحكومة السورية لعام 1931 مبلغ من المال كاف لبناء الضريح ولم ينفذ المشروع، كما إنه تقرر ذلك أيضاً في موازنات الأعوام التالية - 1932 - 1933 - 1937 - 1938، وأضافوا على ذلك في عام 1932 مشروعا جديدا هو طبع طوابع بريدية موشحة باسم أبي العلاء يعود ريعها لإنشاء الضريح فنفقت الطوابع والقبر على ما هو عليه(588/25)
وكانوا في كل عام يرصدون مبلغا لإنشاء الضريح، ولا ينفذ العمل، حتى جاء عام 1939، إذ خصص 15000 ليرة سورية في موازنة الحكومة السورية (فصل 7 مادة 1 فقرة 4) وتقرر البدء بالعمل، وكان ذلك يوم الأحد في 18 تشرين الثاني 939 عيدا أهليا عند سكان المعرة الذين احتفلوا بنفس الوقت احتفالا شائقا بإنشاء شركة كهربائية أهلية مساهمة، وشركة مياه إذ أنارت الكهرباء بلدتهم لأول مرة، وجرت المياه النقية إلى قسم من دورهم
وكان المظنون أن الأمور أخيراً سوف تسير سيراً حسناً لولا أن اندلاع الحرب جعل مواد البناء من أسمنت وحديد مرتفعة الثمن ارتفاعا فاحشا. كذلك صارت اليد العاملة تطلب أجورا فاحشة، فاستنكف الملتزم عن البناء، وقامت الحكومة بعد أخذ ورد بنقل الالتزام إلى رجل آخر مع وضع اعتمادات مالية إضافية تتصاعد حسب ارتفاع الأسعار، وقد انتهى العمل في أوائل هذا العام
والضريح في وضعه الحالي عبارة عن فسحة دار مزروعة بالرياحين يدخل إليها من أروقة محيطة بها من الغرب والشمال، وفي صدر هذه الدار قبر أبي العلاء موضوع تحت إيوان جميل، وخلف القبر مسجد يدخل إليه من بابين على طرفي القبر، ومكتبة على جانب المسجد للغرب، وخلف المسجد حديقة صغيرة محفوظ بها الحجارة الأثرية التي وجدت حول القبر
وقد سبق أن قامت بلدية معرة النعمان بشق وتخطيط شارع كبير من شرقي البلدة إلى غربها بحيث جعلته يمر مباشرة أمام ضريحه، وقد عبدته وجعلت الأرصفة على جانبيه حتى صار من الشوارع اللائقة بمدينة كبيرة، واسمه شارع أبي العلاء، كما خصصت البلدية قطعة أرض مناسبة في مدخل البلدة لإقامة نصب تذكاري فيها لأبي العلاء
وقام أهالي المعرة بنصيب طريف من هذا التمجيد، فأسموا فندق أبي العلاء ومطعم أبي العلاء، وهم يملئون القلل بالماء ليلة الجمعة ويضعونها طوال تلك الليلة بجوار قبره ليشربها في اليوم التالي من بلد ذهنه من صبيان المدارس اعتقاداً منهم أن الذهن يصفو من بلادته بهذا الماء، وهم يقسمون بالمعري كما يقسمون بمقام النبي يوشع الموجود عندهم ويتعصبون له، ولا شاعر عندهم أو فيلسوف سباق للمعري في شاعريته أو حكمته، وهم أول من يسوق لك الدليل على ذلك من أشعاره وآثاره(588/26)
إن بلدة معرة النعمان اعترافاً منها بفضل أبي العلاء المعري عليها تدعو جميع الأدباء والفضلاء لزيارة قبره في المعرة يوم 27 أيلول 1944 احتفاء منها بمرور ألف عام انقضت على مولده.
صبحي الياسيني
قائمقام معرة النعمان(588/27)
حلم الفجر. . .
للأستاذ سيد قطب
عجبا! أنتِ ما تزالينَ حُلْمي ... ومِثالي وفِكرتي ونَشيدي
ما تزالين في خياليَ رَمْزاً ... لرِجاءٍ منّور من بعيدِ
ما تزالين حافزاً لجُهُودي ... ما تزالين غايةً لوُجودي
أتحاشاكِ بالجفاءِ وباليأ ... س فأرتد ساخراً من جهودي!
أتحاشاكِ كالجحيم وكالسُّ ... م ولكن إليك يُفضي شرودي
عجبا! تركدُ الحياةُ فأنسا ... كِ قليلاً في غَمرتي ورُكودي
فإذا دبّتِ الحياةُ تراءي ... تِ كطيف مستيقظ من هُجود
وتراءتْ ترُّف حولكِ أطيا ... فٌ لما كان بيننا من عهودِ
كلُّ ما لامستْ يداكِ وما م ... سَّ هوانا من قّيم وزهيدِ
أتملأه بالخيالِ وبالح ... سّ كذكرى من عالم موعودِ
عجبا! بعد كلِّ ما كان مِنّا ... من صراع دام وجهد جهيدِ
أتمنَّاكِ في المنام وفي الصَّحْ ... وتمِّني العقيم وجهَ الوليدِ
وإذا سرْتُ في الزحام فعيني ... لخيال مستشرف من بعيد!
لهفةٌ تملأ الحنايا حنيناً ... لرِجاءٍ مجسَّم مفقود!
أنتِ حُلم الحياة في صحوة الفج ... ر فأنَّى لحلمنا من مُعيدِ
(حلوان)
سيد قطب(588/28)
القريب البعيد
للأستاذ حسين سرحان
ظَلْت ألقاك ليلتْين وأخرى ... فمضتٌ ليلة، ومرَّت ليال
والثواني كأنهن شهور ... والليالي تُربى على الأحوال
وقف الدهر وقفة الطّود قدَّامي (م) ... وأمسيتِ قاب قوس حيالي
أي قرب؟ لكنه أبعد البعد (م) ... وأنأى من النجوم العوالي
لو تقرَّبت باليدين محياك (م) ... لأقربت منك غير مبال
والزمان الرَّجيم أضحكُ من قر ... د على فرط خيبتي وضلالي
يتحدَّى صبابتي وعُرامي ... ويماريُ عزيمتي واحتمالي
وتلظيت من صدىً وزلال الماء (م) ... عندي وخالص الجريال
ضاق ذرعي بما أجن وضاقت ... عن أمانيَّ حيلة المحتال
ونيابي رحب المكان وأمللت (م) ... (الأفازير) أيّما إملال
موفضاً ناظراً إلى غير شيء ... سالياً، لا، فلست عنك بسال
وخلا البال ما عداك فما يخط ... ر لي كائن سواك ببال
ومضى القلب لا يُنيب إلى وا ... ل ولا يستجيب للعذال
خير ما قيل فيك ما ضاء فيه (م) ... اسمك ضوءاً كدرة اللآل
وسوى ذاك فرية وهراء ... لا أبالي بها على أي حال
حُبَّ بالوعد صادقاً وبه مطلا (م) ... وباثنْيهما ولست أغالي
وبما تخطرين فيه من الوشي (م) ... وما تملئينه من مجال
وبعين تراك أو أذن تسمع (م) ... نجواك في أرق مقال
بالأديم الذي عليه تسيرين (م) ... فيعلو بروحك المتعالي
بالهواء الذي يعود أريجاً (م) ... حين تولينه أقل احتفال
وإذا عدت تسأل الروح البارحَ السا (م) ... نح عنها فما غَناء السؤال
حُلُمٌ ماتني طليحَ هواه (م) ... عالقا منه في الكرى بالمحال
فإذا ما ألمَّ بعد ارتحال (م) ... أو أجدَّ الوصال بعد تَقال(588/29)
فهو شيء لا تستطيع الليالي (م) ... والمنى أن تصوغه في مثال
(مكة)
حسين سرحان(588/30)
البريد الأدبي
بيان إلى صحف الأقطار الشقيقة
بلغني من أحدهم بطريق المصادفة أن بعض صحف الأقطار الشقيقة تنسب ألي رأياً خاصا في الوحدة العربية، كما تشير إلى تهم قيل إنها صدرت مني ضد بعض الأدباء في تلك البلاد. ولم تقع في يدي حتى الآن صحيفة من تلك الصحف أطالع فيها تفصيل هذه الأخبار الغريبة. ولكني أكتفي هنا بأن أرجو من صحف البلاد الشقيقة أن تضن قليلا بحسن ظنها في صحة الأقاويل والإشاعات التي تنسب إلينا، وألا تلقي بالا إلى غير ما ينشر موقعا عليه بأسمائنا من مقالات أو تصريحات، فإن بدعة (أحاديث المجالس) المتفشية الآن في الصحافة الحديثة لم يبق فاصلا بين الجد والهزل، ولم تجعل حدا بين الحقيقة والخيال. وقد يأتي اليوم الذي أحاسب فيه أيضاً على تلك (النكات) والدعابات التي يضعونها على لساني تحت الصور الكاريكاتورية في المجلات الأسبوعية، أو ما يرد من حين إلى حين في صيغة (قال لنا الأستاذ فلان. . .) كل هذا يجب أن يؤخذ مأخذا خفيفاً، وأن يقرأ مع الابتسام، لا أن يجعل أساساً لحقائق يدور حولها الكلام. . . وكنت أود أن يفطن الناس إلى ذلك منذ زمن، فلا يجعلوا مثلي مسؤولا إلا عما يحرر بقلمه أو ما ينشر بإذنه، ولقد بحثت في ذاكرتي فلم أجدني نشرت أكثر من مقالين أدبيين منذ عام، ولم أسمح بأكثر من حديثين جديدين، ولم تكن الوحدة العربية موضوع بحث أو سؤال، ولا كان الأدباء محل نظر أو جدال. خصوصا وان اطلاعي على الصحف أو الكتب، ومعلوماتي عن كتابها ومؤلفيها من أبناء البلاد الشقيقة هي للأسف من الضآلة بحيث لا تبيح لي الكلام فيها. ولابد لي من وقت أعالج فيه هذا النقص، وأتوفر على الإحاطة بالإنتاج الحديث وأصحابه قبل إبداء الرأي أو توجيه الاتهام أو إزجاء الثناء. وأملي أن يوفقني الله إلى القيام بهذا الواجب في القريب. فإن أقل ما ينتظر منا هو أن نكشف للعيون عن ثمرات القرائح الناضجة في حدائق جيراننا. تلك غايتنا. فإذا عجزنا عن إدراكها سكتنا على مضض. أما أن نتكلم بشر فهذا ما لا يكون منا أبدا. وأخيرا أكون شاكراً لو تفضلت كل جريدة عربية في كل قطر عربي بنشر هذا البيان، إقرارا للحق في نصابه والسلام. . .
توفيق الحكيم(588/31)
حرية الفكر أيضاً
تفضل حضرة الأستاذ العلامة دريني خشبة في مقاله الأخير في الرسالة (حرية الفكر أيضاً)؛ فألمع إلى كلمتي الأخيرة في العدد الأسبق. ثم وضع لنا قانون حرية الفكر (والقول). وزبدة قانونه: (فليعتقد من يشاء ما يشاء بشرط ألا يجعل عقيدته دعوة يدعو إليها ويجهر بها الخ.) فعجبنا كيف تكون الحرية حرية متى قيدت بشرط أو شروط
ولأنني أعلم، وقد ازددت علما مما لاحظته في سياق النقاش في وحدة الوجود في الرسالة، إنه لا يجوز البحث في هذا الموضوع الذي اتفقت على بطلانه تعاليم الأديان الثلاثة. ولذلك حذرت سادتنا الكتاب من التوغل في موضوع قد بت فيه منذ مئات بل آلاف من السنين لئلا ينسب إليهم الإلحاد، وإنما رغبت أن يتجنبوا تهمة الإلحاد لأني أشفقت عليهم من غضب الجمهور الذي قد يثور على الملحدين. وكدت أنا أقع في نفسي ما حذرت منه إذ أصبحت في عرف أستاذنا العلامة دريني ملحداً أو زنديقاً لأني أعتقد بالمادة
لا باس أن ينعت المؤمن بالمادة ملحداً أو زنديقاً. ولكن ما قول أستاذنا فيما إذا اختلفت عقائد المؤمنين بالله؟
إن أصحاب الأديان الثلاثة يعتقدون أن الله خالق هذا الوجود ومدبره. ولكن لكل طائفة عقيدة بالله تختلف عن عقيدة غيرها. (فالله) الإسرائيليين يوصف بأنه (يهوه رب الجنود) أي إنه قائد حربي ينصر شعبه على أعدائهم. و (الله) النصارى ذو ثلاثة أقانيم في واحد. و (الله) المسلمين واحد أحد لا شريك له
وقد نضيف إليهم (الله) سقراط وتلاميذه الذين يعتقدون أن الله موجود مع الكون مستقل عنه ومدبره ولكنه لم يخلقه.
وهناك عقائد مختلفة بالله في الشرق الأسيوي وجزر الباسفيك القصوى. فمن هم الزنادقة؟ وفي نظر من هم زنادقة؟ وهل يحرم على أولئك المنسوبة لهم الزندقة أن يقولوا عقيدتهم. إذا أين حرية الفكر؟ وهي بيت القصيد في كلمتي الماضية وفي هذه أيضاً
أود أن يعلم حضرة الأستاذ جيدا أني لست أناقش في عقيدة معينة من العقائد الدينية. ولا أدافع عن عقيدة خاصة حتى ولا عن حرية الفكر. فما دامت الحرية غير مقيدة بسلاسل ولا(588/32)
هي معتقلة في السجن؛ فلا أغضب ولا أكون شبه غاضب. ولذلك أرجو من حضرة الأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة أن يسحب من مقاله (غاضبون أو شبه غاضبين) لأنه في الأبحاث العلمية لا محل للغضب عند من يعقلون، وإذا كنت أتطفل في مساجلته؛ فلأني أستلذ بحثه فأستزيده منه، وله تحيتي.
نقولا الحداد
تعريف الوحدة
الوحدة العربية، كلمة جذابة تطوي أطيب المعاني المستحبة عند كل الناس من جميع الطبقات، وقد أقترب كثيرا من الحقيقة إذا قلت إن تعريفها يختلف عند السوريين والعراقيين والحجازيين واليمانيين والفلسطينيين والمصريين
لا عجب في اختلاف معاني الوحدة العربية ولا غرابة في ذلك ما دام القائمون بها لم يضعوا لها بعد تعريفا يظهر الغاية ويزيل البلبلة والتضارب في التفسير ويحد من اجتهاد المجتهدين في إفراغ تعريفها في أحسن الألوان وأزهى المظاهر
وليس ثمة من دليل على البلبلة والتضارب اقطع من الدليل الذي أقامه الأستاذ أسعد داغر في صحيفة الأهرام، وما أدراك ما هي صلة الأستاذ بجميع القائمين بالوحدة والعاملين لها، قال في سياق مناظرة حول هذا الموضوع (أعرف أن الوحدة التي ينشدها العرب الآن هي وحدة الروح والفكر والمصلحة والخطة، والعمل على تحقيق آمال الأمة واستعادة مجدها الغابر لمصلحتها ومصلحة كل قطر من أقطارها، وكل فرد من أبنائها. ومصلحة الحضارة والعمران والسلام العام. على أساس الرضا والتعاون بين جميع البلاد العربية)
هذا الكلام وقد نقلته بنصه في تعرف الوحدة لا يروي ظمأ المتعطشين إلى الوقوف على الحقيقة من رجال السياسة والاقتصاد، ولا يحد من أخيلة المتخيلين الذين قد يضر الوحدة خيالهم ولا ينفع؛ فهل للأساتذة الأفاضل أمثال عبد الرحمن عزام وخليل ثابت ومحمود عزمي وعبد الوهاب عزام، وبقية المشتغلين بقضية الوحدة أن يضعوا لها تعريفا محدود القصد والغاية بعيدا عن التعابير الشعرية والأساليب الخيالية.
حبيب الزحلاوي(588/33)
إلى الدكتور زكي مبارك
مرحبا بك يا أخي مساجلاً وصديقاً وأستاذاً حر التفكير (معقد الإيمان)
خذ في الموضوع إذن، ورجائي أن تذكر ما قلته في كلمتك الأولى من أنك تؤمن بنظرية وحدة الوجود كما تناولتها في كتابك القيم؛ فلا تنس هذا. . . ولا تنس أنك قد أيدتها في صفحات، ثم عدت فنقضتها في صفحات أخرى، فهل كنت مؤمنا بهذه النظرية في الصفحات الأولى، وغير مؤمن بها في الصفحات الأخيرة؟ ولن يفوتني أن أسألك يا أخي عما يخيفك من دخولي الإسلام في موضوعنا؟ أفي الإسلام نقط واهية يخشى عليه منها بصدد هذه النظرية الصادقة في نظرك؟ وعلى كل فخذ في الموضوع، واشرح لنا هذه النظرية كما تؤمن بها ونحن في انتظار ما تقول؛ وتقبل تحيات صديقك الذي يقدرك، وسوف يظل إلى الأبد يقدرك
دريني
بقية عن تيمور
كتبت في العدد الأسبق عن (تيمور) وواضح أن التقدير الفني - لا للتسجيل التاريخي - هو الذي كنت أتجه إليه؛ وهو الذي يتسع له مقال في صحيفة لا فصل في كتاب
ولما لم يكن من غرضي - في هذه الفصول النقدية التي أكتبها هضم حق أحد ولا منح أحد أكثر مما يستحق، لسبب من الأسباب الكثيرة التي تعصف بمن يحاولون النقد في هذا البلد العجيب. فقد رأيت أن أنشر هذه (البقية) التي كنت أبقي تفضيلها لكتاب هو بين يدي الآن
فأحب أن أسجل لتيمور إنه واضع الحجر الأول في محاولة (الأقصوصة) في مصر بعد أخيه المرحوم (محمد تيمور). وهذه الحقيقة التاريخية لا شأن لها بتقويم عمله من الوجهة الفنية. ولعل حديثي الماضي عن تيمور في صدد كتاب الرواية والقصة والأقصوصة مجتمعين، هو الذي أخفى مكانه التاريخي والفني بينهم. . .
فأما حين نفرد (الأقصوصة) فإننا نجد تيمور هو واضع الأساس. ولعلنا لا ننتظر ممن يخط الحروف الأولى أن يبلغ القمة، وحسبه أن يمهد الطريق
هذا الحق التاريخي. لا يمنعني مانع من كبرياء أو عناد، أن أعود فأقرره لتيمور، لأثبت له(588/34)
- من وجهة نظري - ما له وما عليه. ولعل هذه الكلمة تكشف الحقيقة للكثيرين، ممن قرأوا كلمتي الماضية، فتأولوها تأويلا غير مضبوط.
سيد قطب
منع النساء من لبس العمائم الكبيرة
إتماماً لما كتبه الأستاذ النشاشيبي في (نقل الأديب) من (عدد الرسالة 578) من خبر النساء في إنطاكية وأنهن يتعممن كالرجال، وأن الرجال يلبسون السراقوجات، أنقل ما سيأتي من كلام ابن الجزري المؤرخ. وقد عودنا الأستاذ أن يشرح لنا غريب الألفاظ الذي يرد في كلامه، ولكنه لم يذكر لنا معنى (سرغوج). وهي شارة توضع على مقدمة القلنسوة، فيها شعر مفتول بعدد معين. تكون رمزاً لرتبة عسكرية عند المغول والأتراك حتى العثمانيين كما جاء في قاموس شمس الدين سامي وغيره:
قال المؤرخ محمد بن إبراهيم الجزري في تاريخه الكبير (حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه): وفي يوم الخميس لعشرين من رمضان سنة 690 رسم نائب السلطنة بدمشق - الأمير علم الدين سنجر الشجاعي - أن لا ترجع امرأة تلبس عمامة كبيرة، ومن خالف المرسوم غلظت عقوبتها. فامتنع النساء من ذلك على كره منهن. وكان في المرسوم أيضاً أن لا يكتب على المناديل البسملة ولا شيء من القرآن المجيد
وروى في كتابه المذكور عن الشيخ عماد الدين يونس بن علي بن قرسق الدمشقي، وكان والده متولي دمشق وشاد دواوينها، إنه قال: استتوب والدي بعض اللصوص ممن كان يخطف العمائم، قال ويبقى في خدمته بالباب، قال فقلت له مرة: أشتهي تحكي لي أعجب ما جرى لك فقال: اتفق أنني خرجت ليلة فوقفت في مظلمة فما استقر بي الوقوف إلا وخطفت عمامتي، قال فمشيت إلى بيتي وكان لي تخفيفة فتعممت بها ورحت إلى مكان آخر فما لحقت أقف إلا وقد خطفت، قال فعدت إلى البيت وأخذت مقنعة امرأتي فتعممت بها، والمرأة تخاصم وتحلف إن راحت مقنعتها تعرف الوالي، فأخذتها ورحت إلى مكان آخر فخطفت المقنعة، فقلت والله لا رحت إلى البيت إلا بشيء وخفت من المرأة، وكان وسطي مشدوداً بمنديل فتركته على رأسي وقلت في نفسي قد دخل الليل وما بقي إلا سقاية جيرون(588/35)
فجيت ودخلتها ووقفت أنتظر من يعبر، وإذا بإنسان قد دخل وعلى رأسه عمامة كبيرة إلى غاية، فقلت في نفسي هذه أخطفها، ثم إني تركته حتى عرفت إنه قد تمكن من القعود، وفتحت عليه الباب، وخطفت العمامة وجريت جرية واحدة إلى بيتي، وافتقدتها فإذا هي العمامة والتخفيفة ومقنعة المرأة التي خطفت مني تلك الليلة لا تزيد خيطا، وراحت ليلتي بلا فائدة لا ربحت ولا خسرت.(588/36)
العدد 589 - بتاريخ: 16 - 10 - 1944(/)
بين الحقائق والأساطير
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ محمود عزمي مقالاً اقترح فيه أن تطلق كلمة العروبة بفتح العين على الجامعة العربية
قال الأستاذ: (وقد وفقت مع رهط من أصدقائي اللبنانيين وأنا أصطاف معهم إلى تعريب لفكرة التعاون المستند إلى مدرك الأمريكية الشاملة - في نظام جامعة الأمم الأمريكية - بلفظ واحد يدل أبلغ الدلالة على جامعة الأمم العربية التي يصح أن يعبر عنها باللغات الأجنبية بكلمة - وهو لفظ العروبة بفتح العين لا بضمها. وقد وردت في القواميس وفي المدونات على أن من معانيها العرب مجتمعين في مواسمهم، كما ورد أن يوم الجمعة كان يسمى يوم العروبة بالفتح قبل أن يسمى يوم الجمعة)
وتناول هذا المقال (مشاغب) المصور فقال: (. . . ليسمح لنا الأستاذ أن نقفش له ولأصدقائه هذه القفشة. فقد رجعنا إلى أكبر القواميس والى أمهات اللغة فلم نعثر على أن العروبة بالفتح هي العرب مجتمعين في مواسمهم حتى يصح أن تطلق على الجامعة العربية. فقد قال صاحب لسان العرب وصاحب محيط المحيط وغيرهما إن العروبة والعروب بفتح العين هي المرأة اللاعبة الضاحكة، أو المتحببة إلى زوجها أو العاصية أو العاشقة الغاوية، وإن إطلاق العروبة بالفتح على يوم الجمعة كان قبل الإسلام، وأنه يظن أنه دخيل في اللغة، وقال صاحب اللسان: وفي حديث الجمعة أنها كانت تسمى عروبة بالفتح وهو اسم قديم لها، وكأنه ليس بعربي. . . وأشار بعد ذلك إلى أنه تغير بعد ظهور الإسلام وسمى يوم الجمعة. . .)
هذا هو مدار المشاغبة بين الأستاذ عزمي و (مشاغب) المصور الذي أصاب في قفشته اللغوية، وأحسن إذ حال بين الجامعة العربية وإطلاق كلمة العروبة عليها
فمن هي هذه العروبة؟
من هي هذه الحسناء اللعوب المتعجبة الغاوية العصية؟
من هي هذه الفاتنة التي كان يوم الجمعة يسمى باسمها في الجاهلية ولا تزال في خصائصه أثارة من تلك التسمية حتى اليوم؟(589/1)
أكبر الظن أنها هي (الزهرة) كوكب العشق والهوى واللعب والغواية، ثم كوكب يوم الجمعة الذي نسب إليه هذا اليوم في أرصاد المشارقة منذ آلاف السنين، وقد بطلت نسبته الآن في لغات المشارقة ولم تبطل من لغات الأوربيين الذين اقتبسوا أرصادهم من الشرق قبل ظهور المسيحية بقرون، فلا يزال الفرنسيون يطلقون على يوم الجمعة اسم فندردي أي يوم الزهرة ولا يزال الإنكليز يطلقون عليه اسم فرايدي أي يوم فرايا، وهي مقابلة الزهرة عند أبناء الشمال الأقدمين
والمعروف أن المشارقة فيما بين النهرين - قد سبقوا الأوربيين إلى رصد الكواكب السيارة والثابتة، ومزجوا هذه الأرصاد بالعقائد الخرافية التي اشتمل عليها علم الفلك القديم. فزعموا أن الكواكب مستولية على الأيام والحوادث، مسيطرة على السعود والنحاس، وقالوا إن الشمس مستولية على يوم الأحد، وإن القمر مستول على يوم الاثنين، وإن المريخ مستول على يوم الثلاثاء، وإن عطارد مستول على يوم الأربعاء، وإن المشتري مستول على يوم الخميس، وإن الزهرة مستولية على يوم الجمعة، وإن زحل مستول على يوم السبت، وإن هذه الكواكب تتداول الساعات جميعاً في هذه الأيام
وقد بقيت هذه النسبة في أسماء الأيام الأوربية إلى العصر الحاضر بعد أن بطلت في مصادرها الأولى
فيوم الأحد بالإنكليزية يسمى يوم الشمس بلفظ صريح.
ويوم الاثنين يوم بغير تحريف كبير
ويوم الثلاثاء يسمى يوم اله الحرب وهو تيوا عند أمم الشمال، ونسبته في اللغة الفرنسية أصرح وأظهر لأنهم يدعونه أي يوم مارس، وهو المريخ
ويوم الأربعاء يسمى يوم أووين إله الفنون ونسبته في اللغة الفرنسية كذلك أصرح وأظهر لأنهم يدعونه أي يوم مركيوري، وهو اسم عطارد عند جميع الأوربيين
ويوم الخميس يسمى بالإنكليزية يوم ثور إله الرعد والبرق والصواعق والنيران والصناعات التي تستخدم فيها النار ويشبه في خصائصه المشتري كما يعرفه الشرقيون
ويوم الجمعة منسوب إلى الزهرة كما تقدم، ويوم السبت منسوب إلى زحل، وهو في الإنكليزية أصرح منه في الفرنسية أي يوم (ساتيرن)، ومعناه زحل في تلك اللغة(589/2)
ولا شك في مرجع الزهرة خاصة إلى الأساطير المشرقية بلفظها ودلالتها
فكلمة فينس كانت تكتب باللغات الأوربية القديمة بنث ثم صحفت الباء إلى الفاء، كما يتفق كثيراً في جميع اللغات، وصحفت الثاء إلى السين فأصبحت فينس كما تنطق اليوم، ومرجعها على ما هو ظاهر إلى كلمة بنت التي تدل في العربية وغيرها من اللغات السامية على الفتاة
وكلمة (أشتار) التي أطلقت من قبل على الزهرة، ثم أطلقت على سائر النجوم مأخوذة من أستار و (عشتروت)، أي الزهرة عند الفينيقيين. ومنها الاسترلاب أو الاصطرلاب مقياس الكواكب والأفلاك
وخصائص الزهرة في أساطير الفلك المشرقية هي بعينها خصائصها التي تثبت لها حتى الآن في أساطير الغربيين، وهي الاستيلاء على العشق والهوى والجمال الغاوي والفتنة الخليعة، وفي رسائل إخوان الصفاء كما في غيرها من كتب الحكمة والفلك: (. . . من ذلك حال السعدين المشتري والزهرة. فإن أحدهما دليل على سعادة أبناء الدنيا وهي الزهرة، وذلك أنها إذا استولت على المواليد دلت لهم على نعيم الدنيا من الأكل والشرب والنكاح والميلاد، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء فيها)
وقد بقيت للجمعة صلة بالحب والمتعة حتى اليوم بعد نسيان كلمة العروبة التي كانت تطلق عليه في الجاهلية
فمن هنا إذن جاء وصف العشق والهوى ليوم الجمعة في الجاهلية المنسية، ومن هنا انعقدت الجامعة بينه وبين العروبة التي هي المرأة اللعوب المتحببة العاصية الغوية، وكل حسناء لعوب تجمع بين هذه الصفات كما جمعت بينها الزهرة ربة الفتنة والغرام عند الكلدان والفينيقيين قبل اليونان واللاتين
ومن الحسن إذن أن يكون للجامعة العربية كوكب غير الزهرة في مطلعها الجديد أو طالعها الجديد
فإن اجدر الكواكب أن يستولي على الجامعة العربية في هذا الطالع لهو كوكب عطارد الذي تنسب إليه الآداب والفنون في أقوال الشرقيين قبل الغربيين، كما قال ابن الرومي:
ونحن معاشر الشعراء نُنمي ... إلى نسب من الكتاب دان(589/3)
أبونا عند نسبتنا أبوهم ... عطارد السماوي المكان
وهذا من الأدلة الكثيرة على أن الخصائص الفلكية التي تزعمها الأساطير الأوربية لأرباب الآداب والفنون من شعر ونثر وغناء وموسيقى قد كانت معروفة على هذه الصفة في الشرق العربي وفي الشرق كله قبل دولة الإسلام والعربية
والرأي الصائب هنا غير بعيد من دلالة الأساطير على هذا المعنى.
فإن الجامعة العربية لا يجمعها شئ كما تجمعها اللغة وآدابها ومنظومها ومنثورها وأفانين الفصاحة والتعبير فيها
فالجامعة العربية قبل كل شئ هي جامعة اللغة العربية واللسان العربي بما أفاض فيه من شعر ونثر وخطابة وبيان
وعطارد السماوي المكان هو صاحب هذه الجامعة دون غيره من كواكب السماء، وبخاصة تلك الزهرة اللعوب!
فلن تنفصم للأمم العربية جامعة ما دامت لها لغة واحدة وأدب مشترك في تلك اللغة. لأن هذا الأدب هو الميراث الذي يربطها بأسرة واحدة، ولا يقع النزاع عليه كما يقع النزاع كثيراً على ميراث المال والحطام، بل هو أبداً مجلبة الوفاق وموزع الحصص بمقدار ما يتناول منها المتناول في غير ضرار ولا شقاق
أما الوحدة العربية من وجهة السياسة فلها ضمان واحد يتقدم على كل ضمان، وهو حرية كل أمة عربية في الحكم وحرية كل أمة عربية في الاختيار، وحرية كل أمة عربية في معاملة الأمم الأخرى
فإذا قامت الوحدة على هذين الأساسين: أساس الأدب وأساس الاستقلال؛ فكل ما وراء ذلك فهو تفصيل يطويه الإجمال، وهو بأية حال مسألة رسوم وأشكال. ولا يبالي العربي في قطر من أقطار العروبة ماذا يكون الرسم، أو ماذا يكون الشكل إذا سلمت له اللغة وآدابها، وسلمت له الحرية وحقوقها
ولكل عربي أن يقول يومئذ في سائر العرب: (أبونا عند نسبتنا أبوهم) إذا كان عطارد هو رمز الأدب والفصاحة والبيان.
عباس محمود العقاد(589/4)
صور من حياة أبي العلاء بين بدى ذكراه الألفية
أبو العلاء المصلوب!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(يطالع قارئ ديوان (اللزوميات) لأبي العلاء صوراً شتى من
حياة هذا الرجل، حتى ليختلط على القارئ المتعجل تمييز تلك
الشخصية بميزات وسمات تلازمها ولا تفارقها
غير أن حركة صور تلك الحياة في ذهني تكاد تستقر على مقطع واحد من مقاطع نظري إليه، وهو مقطع صورة لرجل مصلوب!)
كأنما الأقدار قد أطالت صلبه ليترجم عن معاني الألم والتشاؤم والسأم والشك والتبرم، وانتقاد شريعة الاجتماع، والانتفاض على شريعة الحياة نفسها. وكأنه كان رسول هذه المعاني في الأدب العربية، جاء لينذر الناس بنذر من عالم الفناء والتعطيل والظلام والآلام. فهو في آفاق هذا العالم رائد خبير، قطع حياته كلها يجوس بعينيه المطموستين في أمواجه الغامرة لم يبزغ عليه فجر نور يزوده بصور باسمة للحياة يتذكرها ويلهو بذكراها في رحلته القاسية الطويلة، إذ حرمته الأقدار بعض أسباب السلوى والنسيان والتلهي، وضاعف هو حرمان نفسه، إذ رفض بقية ما سلبته الحياة. فكتب على نفسه بيده أسباب نقمته الموصولة، وقد أعانه على إدمان آلامه ذاكرة واعية، وحافظة مصورة، وخيال خلاق مثال، بلغ من قدرته أنه كان يرى في كل لفظ من محصول اللغة التي كان فيها إماما قالبا لمعنى من معانيه، ونواة لفكرة من أفكاره، لا يلبث أن يدور حولها دورة يخرج منها معنى يضم إلى أسرة المعاني العلائية المعروفة
وقد نجح في أداء رسالته، فقبس (أقبساً) داجية من عالم التعطيل والظلام ونقلها إلى عالم الحياة والحركة والافتنان والاستسلام، وأتى من وديانه بصور وتهاويل وأشباح تطالع قارئ ديوانه (اللزوميات) فيقبل عليها في ارتياع ووجل وشوق غامض كما يقبل على عالم الضوء بعرائسه وأشباحه البيضاء الآنسة المأنوسة! فيبصر ذلك الجانب الآخر من حياة قانونها المزاوجة بين المسرات والآلام، وينبه السكارى باللذة إلى ما هنالك من السكر(589/6)
بالألم:
وأوقدتِ لي نار الظلام! فلم أجد ... سَناكِ بطرْفي بل سِنانكِ في ضِبْني
وقد أوثقته الأيام على صليبه في محبسه، وسمرت جوارحه بمسامير العجز، وحررت فكره ولسانه وبيانه. والبيان قوة خطرة في مثل هذه الحال، تخلق ما ليس موجوداً، وتبالغ في الموجود حتى تخرجه إلى الإحالة، وتخدع صاحبها قبل غيره، وتضخم تهاويل الحرمان والعجز، حتى تصير كابوساً يأخذ بالأنفاس. . .
ومن عجيب أمر الحياة مع المعري أن أطالت عمره مصلوباً وحيداً إلا من صحبة نفسه التي لقي منها البرح البارح، ولقيت من فكرة الحيران العذاب المضاعف
وقارئ (اللزوميات) يخيل إليه أنه أمام آهات موصولة من ذلك (الفكر) المصلوب الذي أكلت من رأسه وتخطفته طيور الشك والألم والحيرة وإرهاف الحس وعدم الصبر على الفتنة بالناس، وعلى السير معهم على سطح الوجود بدون تعمق وطلب لما لا ينبغي أن يطلب. وكأن ذلك القارئ أمام مريض مزمن يتقلب على فراش شائك. ولم تكن حالات التسليم والهدوء والرجوع إلى معاني سطح الحياة تعتري المعري إلا كما تهدأ الحمى عن مريض برهة مخطوفة، ثم لا تلبث أن تعود في إلحاح ولجاج وإنهاك
وقد قلت في مقال سابق: إن السكر بالألم سكر خطر، أشد خطورة من السكر باللذة؛ لأن في الثاني إقبالاً على الحياة واعترافاً بها، وحب تذوق لفرصتها ألعابرة، وخواطر مسرة ورضا عنها وعن أفانين الإبداع فيها. أما السكر بالألم فيحمل على هذيان فيه رفض للحياة جملة، وتعطيل لحركتها في النفس، وخواطر سخط على صانعها، وانتقاد لنظمه فيها، وانتقاض وثورة وإباق وفرار وحقد دفين وغيط معلن وفضول وتدخل من كائن صغير ضئيل في السياسة العليا للحياة
سكارى اللذة قد يسخرون بشريعة الاجتماع ويحطمونها من فرط وفور القوة وَتَوَفزِ الحس والشعور بما فيها من متاع عبقري تستجيب له نفوسهم، ولا يقفون في استجابتهم له عند الحدود التي دلت تجارب الأحياء الذين كان لهم مثل هذه الاستجابة النهمة على أنها حدود يلزم الوقوف عندها واحتجاز النفس دونها إبقاء على تلك الاستجابة ذاتها، وإدامة لتجددها وطلبا للمزيد منها. ومن السهل رجوع سكارى اللذة إلى أحضان شريعة الاجتماع باستخدام(589/7)
منطق التجارب في إقناعهم. فكل عيبهم أنهم أطفال جياع شرهون امتدت طفولتهم فاستمروا على حب الحلوى والزينة والمتاع بهما في إسراف، وسخطوا على (صمامات) الأمان و (فرامل) النجاة التي تتمثل في شريعة الاجتماع التي لا يدركون فيها مصالحهم الذاتية قبل مصالح غيرهم
أما سكارى الألم فيحملهم هذيانهم على تحطيم (شريعة الحياة) ذاتها، ولا يعترفون بها، ويقفون من صانعها وجها لوجه وقفة الند للند ثائرين صاخبين ساخطين!
والآن لننتقل بخيالنا لننظر ذلك الشيخ الأعمى المسمر على صليبه يحملق في وجه الظلام السرمدي بعينيه المطموستين، وأمام شفتيه كأس من الحنظل يرشف منها رشفات، ويئن من توقد جمرات الإحساس بالحياة. فينشد معلناً معاني نفسه ويطرحها قضية جريئة ثائرة. . .
فكونُك في هذه الحياة مصيبةٌ
أرى جُرَع الحياة أمَرَّ شئً ... فشاهِد صِدْق ذلك إذ تُقاءُ
شربت قهوة هَمٍ كأسها خَلَدي ... وفي المفارق مما اطلعتْ زَبَدُ
أرى جزء شهدٍ بين أجزاء علقم
أكُلتها جمرةً حرارتُها ... صدت أخا الحرص عن تنعمها
أف لها! جُلُّ ما يفيد بها ... من فاز فيها الطعامُ والباءُ
من لي بترك الطعام اجمعَ ... إن الأكل ساق الورى إلى الغبن
إلى الأنين استراح خِدنُ ضَنّى ... كما استراح السقاةُ بالرجز
ثم تذهب خواطره إلى نوع من ثورة العاجزين الذين يملكون الأفكار الثائرة ولا يملكون الأعمال المحررة التي تحررهم من إسار الحياة العنيف الكريه فينشد:
هذه الحبالة قد ضمت جماعتنا ... فهل ينوصُ فتى منها وينفلت
خلصيني من ضنك ما أنا فيه ... واطرحيني لمنكر ونكيرِ
إلام اجر قيود الحياة ... ولابد من فك هذا الإسار
آه لضعفي! كيف لي هابطاً ... في الوأد أو مرتقياً في العقاب
وما فتئت وأيامي تجدد لي ... حتى مللت ولم يظهر بها ملل
ربِّ متى أرحل عن هذه الدنيا ... فقد أطلت فيها المقامْ(589/8)
وقد تحمله سكرته على حالة يكون فيها مستغرق الفكر في ذهول الحالم
فيالك من يقظةٍ ... كأني بها حالم
والمرء في حال التيقظ هاجع ... يرنو إلى الدنيا بمقلة حالم
وقد تحمله يقظته المرهفة على حالة يكاد فيها يعد أنفاسه سأما وحساسية ببطء مرور الزمن كبطء مرور مبهور الأنفاس أو مرور نمالِ صغارٍ على كثيب من رمال.
وأنفقت بالأيام عمري مجزءا ... بها اليوم ثم الشهر يتبعه الشهر
يسيراً يسيراً مثل ما أخذ المدَى ... على الناس ماشٍ في جوانحه بُهرُ
كذرٍ علا ظهر الكثيب فلم يزل ... به السير حتى صار من خلفه الظهر
وهو شديد الشعور بجزئيات الزمن يتلقاها برهة برهة وتشد عليه سلاسلها، وهو واقف في إسارها جامد لا يتحرك
بتُّ أسيراً في يَديْ برهة ... تسير بي وقتَي إذ لا أسير
وهو يرصد دورات حياته المحدودة المكررة فلا يجد فيها مذاقاً جديداً للحياة:
أُقضِّي الدهر من فطر وصوم ... وآخذُ بُلغةً يوماً بيوم
أعيش بإفطار وصوم ويقظة ... ونوم فلا صوماً حمدت ولا فطرا
تداولني صبح ومُسى وحِندسٌ ... ومر على اليومُ والغد والأمس
غدا رمضاني ليس عني بمنقض ... وكل زماني ليلتي آخر الشهر
وهي حالة يبلغ من إلحاحها على صاحبها أنه يتعجل دورة الفلك ويتطلع إلى الغد قبل مرور اليوم:
أصبحت في يومي أسائل عن غدي ... متخبراً عن حاله مُتندَّسا
متى يتقضى الوقت والله قادر ... فنسكن في هذا التراب ونهدأ
ويزيد ن وطأة الشعور بهذه الحالة التعسة أن يرى صاحبها خلاص قرنائه ولذاته ومصارع الأقوام حوله، وبقاءه هو فريداً مردوداً إلى أرذل العمر
يمر الحلول بعد الحول عني ... وتلك مصارع الأقوام حولي
ثم يفر إلى تخيل يومه هو عندما يحين حينه فيرتاح
كأني بالأُلى حفروا لجاري ... وقد أخذوا المحافر وانْتَحوْا لي(589/9)
ثم يصيبه الإعياء والكلال من كثرة إرساله خواطر الثورة والحيرة والنفرة من الحياة والتشكيك فيها والسخط عليها ومضغ ألفاظ الألم والشؤم والكذب على الحياة، والإيغال في تخيل تلك الصورة الكئيبة التي يرددها دائماً على نفسه ويملأ بها حياته، فيعود إلى الصمت والأخذ عن الزمن الناطق الواعظ الخبير المصر على كلماته الأزلية:
قام للأيام في أذني ... واعظ من شأنه الخرسُ
أوجز الدهر بالمقال إلى أن ... جعل الصمت غاية الإيجاز
منطقاً ليس بالنثير ولا الشعر ولا في طرائق الرجاز ولقد تبلغ به في بعض الأحيان زلزلة الشك في صدق ما يقول من تلك الخطرات التي يظهر أن كثيرا منها كان وحي اللفظ أو القافية أو الخضوع لحب الأغراب، أن يشعر بصوت الزمن الصامت البليغ يرد عليه دعاويه ويفندها ويبكته
كادت سِنِيَّ إذا نطقت تقيم لي ... شخصاً يعارض بالعظات مُبَكِّتا
ويقول:
من بعث اللسان بغير ما ... أرضي فحقٌّ أن يُهان ويسكتا
دنياك لو حادثتك ناطقةً ... خاطبت منها بليغة لَسِنَهْ
تلك هي الصورة الأصيلة لأبي العلاء، لا يخطر ذكره بالبال، إلا وتتراءى لعارفيه أوضح ما تكون خطوطاً وقسمات. وهي صورة تتصل بمزاجه وشخصيته أكثر مما تتصل بفكره وفلسفته، وهي هالة اسمه وطابع شخصه. وله صور أخرى تتصل بآرائه وثقافته ومذهبه الكلامي
عبد المنعم خلاف(589/10)
2 - ثقافة أبي العلاء
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن أحد في عصر المتنبي أكثر إلماماً باللغة العربية من المتنبي، ولم يكن أحد في أيام المعري أكثر إلماماً باللغة العربية وغريب اللغة العربية من المعري، بل لعل الله لم ييسر لأحد ممن أحاط باللغة العربية ووقف على غرائبها ما يسر من ذلك كله لأبي العلاء. . .
وقبل أن نأخذ في هذا الحديث عن ثقافة أبي العلاء أحب أن أرجو القارئ في الرجوع إلى معجم ياقوت ليقرأ معي أسماء ذلك الثبت الطويل من الكتب التي آلفها، أو صنفها، أبو العلاء، وما أورده ياقوت من الأسباب التي دفعت أبا العلاء إلى تأليف تلك الكتب. . . وأحب كذلك أن أرجو القارئ في أن يصبر على قراءة أسماء تلك الكتب الكثيرة الغربية التي نضيق نحن اليوم بها وبموضوعاتها التي لا يدل ظاهرها على طرافة أو عبقرية، عن لم يخيل لنا أنها تدل على حذلقة وتقعر. . . أو تفاصح وتشدق. . . على حد ما عبر ياقوت. . . وأحب أن ألفت نظر القارئ إلى ملاحظة قد تكون سخيفة إلى آخر حدود السخف أولاً، لكنها لن تكون سخيفة آخر الأمر، لأنني سأتخذ منها دليلاً على أن أبا العلاء لم يكن يؤلف هذه الكتب الكثيرة المعقدة، المضطربة، فيما يبدو لنا، التي لا قيمة لها في رأي الكسالى الذين لا صبر لهم على حل الرموز وفك الطلسمات. . . أقول أنني سأتخذ من هذه الملاحظة دليلاً على أن أبا العلاء لم يكن يؤلف من هذه الكتب المعقدة. . لله. . . أو بغير أجر إذا ضقت بهذا التعبير العامي الذي لا يعجبك. . .
إذن ليلق القارئ باله إلى عدد الكراسات التي يتألف منها كل من كتب أبي العلاء. . . وسنضع تحت أيدي القراء ميزاناً سهلاً لحساب هذه الكراسات الكبيرة العدد التي كانت تتألف منها كتبه
1 - فياقوت يذكر أن كتاب الفصول والغايات كان يتألف من سبعة أجزاء أمليت في مائة كراسة (جـ3: 147) ويذكر الدكتور طه حسين - رجل أبي العلاء - أن الكتاب في أربعة مجلدات ضخمة. . . فإذا أخذنا بقول ياقوت وقع الجزء من أجزاء الكتاب في أربع عشرة كراسة وجزء من الكراسة، وإذا أخذنا بالقول الثاني وقع الجزء في خمس وعشرين كراسة، نستطيع أن نقدرها تقديراً كميا، أو حجميّا، بهذا الجزء الكبير الذي وصلنا من(589/11)
أجزاء الكتاب، والذي أنفق في ترتيبه وتصحيحه وطبعه، أستاذنا الشيخ زناتي، ما أنفق من كريم الجهد والعمر والمال، ما أنفق. . . وعوضه الله خيراً!. . .
ويقول أبو العلاء: إن المراد بالغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت، أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف، لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين. . . إلى آخر ما شرح به القيود التي تقيد بها في تأليف كتابه، والتي لم يبين لنا فيها سبب تأليف الكتاب الحقيقي، وإن كان الدكتور طه قد حدثنا عن ذلك حديثا قيماً في كتابه: مع أبي العلاء في سجنه، فذكر أن الفصول والغايات هو لزوم ما لا يلزم نثراً، مقيداً مثل اللزوميات، أو أشد منه، بقيود أشبه بعبث الأطفال الكبار! ونشهد الله على أنها لم تكن عبث أطفال كبار، ولكنها كانت حلقة في سلسلة الحيل التي كان أبو العلاء يتقي بها شرور زمانه وغطراسات حكامه. . . وندع ذلك الآن
2 - وألف أبو العلاء كتاباً يوضح فيه غريب الفصول والغايات، وما فيه من اللغز، سماه: الشاذن أو السادر، أو السادن، وهو جزء واحد في عشرين كراسة
3 - وكتاب إقليد الغايات، أي مفتاح الألغاز، في عشر كراسات
4 - ثم كتاب الأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف: يبنى على إحدى عشرة حالة، الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع والنصب، والخفض والتنوين (بدون أل طبعاً)، وسماؤه مرفوع مضاف، ثم منصوب مضاف ثم مخفوض مضاف، ثم سماؤها وسماءها وسمائها، ثم همزة بعدها هاء ساكنة، مثل عباءه. . . فإذا ضربت ذلك في حروف المعجم الثمانية والعشرين خرج من ذلك ثلاثمائة وثمانية فصول. . . الخ. ويقع الكتاب في اثنين وتسعين جزءاً تستغرق ألفاً ومائتي كراسة! وألف في تفسير غريبه كتاباً من جزء واحد
5 - ثم كتاب تضمين الآي: بعضه على حروف المعجم وقبل كل منها في الكلمة الأخيرة في كل فاصلة ألف. مثل نساء - كتاب - بنات - غياث - أجاج: وبعضه آخر فواصله على فاعلين أو فاعلون. . . وبعضه غير هذا وذاك. ويقع في أربعمائة كراسة. . . وهو من الكتب التي طلب إلى أبي العلاء تأليفها. . . طلبه منه أحد الأمراء فألفه برسمه في(589/12)
العظات والحث على تقوى الله!
6 - ثم كتاب سيف الخطبة. . . لخطب السنة المنبرية والخسوف والكسوف والاستسقاء وعقد النكاح. . . وهو على حروف المعجم كذلك. . . والظريف أن أبا العلاء أهمل الجيم والحاء، وما يجري مجراها: لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً ومقداره أربعون كراسة
7 - وكتاب تاج الحرة في عظات النساء، والتزم في فواصله خطاب النساء على حروف المعجم نحو: تشائي وهابي - وعلى تفعلين كتشكرين، أو الكاف، نحو كلامك وصيامك. ويقع في أربعمائة كراسة
8 - وكتاب سجع الحمائم، على لسان حمائم أربع، في العظات والحث على الزهد، وقد طلب إليه أحد الأمراء تأليفه فأملاه في أربعة أجزاء في ثلاثين كراسة
9 - وديوان لزوم ما لا يلزم، وقيوده معروفة، جعله في ثلاثة أجزاء، في أربعمائة وعشرين كراسة، وعدد أبياته أحد عشر ألفاً - وقد خاض بعض خصوم أبي العلاء في اللزوميات فرد عليه بكتاب زجر النابح، ثم جعل له ذيلا سماه بحر الزجر - ويقع زجر النابح في أربعين كراسة - وشرح اللزوم في جزء واحد - وكتاب آخر في شرح غريب اللزوميات سماه راحة اللزوم في مائة كراسة، وأظنه في شرح فلسفته ومثله كتاب الراحلة
10 - وكتاب جامع الأوزن، وفيه أشعار تنتظم ألغازاً استوعب فيه الأوزان الخمسة عشر التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها (وهذه عبارة ياقوت) مع ذكر قوافي كل ضرب. . . والمعري هنا مؤرخ للعروض جاهلية وإسلامية وعباسية. والكتاب في ثلاثة أجزاء في ستين كراسة تضم نحو ستة آلاف بيت بعضها لأبي العلاء وبعضها لشعراء غيره
11 - وكتاب السجع السلطاني في أربعة أجزاء، ألفه لبعض الوزراء الذين أقبلت عليهم الدنيا من غير طريق الأدب (وفيه مخاطبات للجنود والوزراء وغيرهم من الولاة)
12 - وكتاب سجع الفقيه في ثلاثين كراسة، وكتاب سجع المضطرين ألفه لبعض ذوي الأسفار (يستعين به على أمور دنياه)
13 - وشرح المعري غريب شعر أبي تمام (ذكرى حبيب) في أربعة أجزاء في ستين كراسة، وقد طلبه منه أحد أصدقائه فعمله؛ وراجع ديوان البحتري لأحد الرؤساء ليثبت ما(589/13)
جرى فيه من الغلط، فسمى النسخة الجديدة التي صنفها (عبث الوليد) في عشرين كراسة؛ وكلفه عظيم من الرؤساء يلقب بمصطنع الدولة ويدعى كليب بن علي بمراجعة أحد دواوين الحماسة (واسمه الحماسة الرياشية) فألف في ذلك كتابه الرياش المصطنعي فسر فيه ما لم يفسره أبو رياش. وهو أربعون كراسة
14 - وكتاب الصاهل والشاحج، على لسان فرس وبغل ألفه لأبي شجاع فاتك، الملقب بعزيز الدولة، والى حلب من قبل المصريين
15 - وكتاب شرف السيف، وقد أورد ياقوت عن هذا الكتاب خبراً هاماً جداً، نقله عمن كان يستملي أبا العلاء من الطلاب، وذلك حيث يقول أنه عمله لرجل من دمشق يدعى نشتكين الدزبري، كان يوجه إلى أبي العلاء السلام ويحفى المسألة عنه؛ فأراد جزاءه على ما فعل. . . فلنذكر ذلك إلى حين
16 - وكتاب اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي، صنفه للأمير عزيز الدولة - وهو كتاب معجز أحمد كما ذكره الصفدي، في مائة وعشرين كراسة
17 - ثم عشرات من الكتب في النحو والعروض والألغاز وغرائب اللغة، ثم كتابه ديوان الرسائل، الطوال ودون الطوال، والقصار، وتتجلى في ذلك الكتاب عبقرية أبي العلاء وخياله الخصب وأصالته الأدبية، وحسبك أن تعلم أن رسالة الغفران الخالدة ورسالة الملائكة هما وشل مما في هذه الرسائل. ذلك ولم نشر إلى ديوانه سقط الزند لشهرته، ولا إلى عشرات من كتبه الأخرى
فمن هذا الإحصاء الوجيز الذي وضعناه عن مؤلفات أبي العلاء عامدين ندرك أشياء شتى، ونستنسج أشياء شتى. . . ندرك تعدد ثقافات أبي العلاء واتساع آفاقها، وندرك أنه كان يصنف كثيراً منها - يزيد على الثلاثين كتاباً ضخماً، بطلب خاص من الوزراء والأمراء وأعيان البلاد العربية. . . وندرك أن أبا العلاء كان رجلا موسوعيا في آداب اللغة العربية، ثقة في فقه هذه اللغة، فوق كونه فيلسوفا ملماً بمعتقدات الأديان المختلفة، بل بمعتقدات فرق الأديان المختلفة، كما ندرك أنه كان يغلو غلواً شديداً في تعقيد تلك الكتب ويختط لها خططاً عجيبة مضحكة من الإسراف الشكلي والالتواء الشديد
أما الذي نستنتجه من كتب أبي العلاء ومن تاريخ حياته. فهو أنه كان يكون مع طلبته،(589/14)
شيئاً أشبه بهذا القسم من الجامعة المصرية الذي نسميه كلية الآداب. . . أو شيئاً أعظم من هذا القسم من الجامعة الأزهرية الذي نسميه كلية اللغة العربية
وليضحك من شاء من القراء على استنتاجنا ذاك الذي نذهب إليه جادين، ونزيد عليه أن أبا العلاء لم يكن يعلم طلبته أولئك طلبة كلية أبي العلاء. . . بالمجان. . . وأنه لم يكن يؤلف كتبه الكثيرة الضخمة هذه لمن يطلبها ولمن لم يطلبها بالمجان أيضاً. لقد جمعت عدد الكراسات التي أملاها أبو العلاء، من المصادر القليلة التي تحت يدي فوجدتها تربى على عشرة آلاف كراسة، وقد أشرت إلى أن كتاب الفصول والغايات الذي بأيدينا كان يقع في عشرين كراسة أو أكثر أو أقل من ذلك بخمس كراسات - وفي هذا الحجم كانت تقع مئات من كتب أبي العلاء. . . ولو قدرنا أن ثمن الكراسة الواحدة كان عشرة قروش مصرية، وهو تقدير متواضع جدا لزمن أبي العلام، لعرفنا أن أبا العلاء قد اشترى ورقاً، أو كاغدا، أو رَقّا، أو ما شئت فسم مادة كراساته، بمائة ألف قرش. هذا غير المداد والأقلام. . . وإذا ذكرنا أن أبا العلاء كان رجلاً فقيراً، بل رجلاً معدما، لا يزيد دخله عن الثلاثين ديناراً من ذلك الوقف المعرف، كان يقتسمها وخادمه، وإذا عرفنا كذلك أن أبا العلاء كان مع هذا الفقر رجلا كريماً لا يبخل على تلاميذه بحسن الوفادة، وإكرام المثوى والمعونة المادية، وأنهم ذكروا صنفا من البطيخ عنده مرة، فأرسل من اشترى لهم منه حملاً كاملاً، أكلوا منه ونعموا، ولم يذق هو منه شيئا. ً. . لو ذكرنا ذلك كله لما ضحك أحد علينا حين نستنتج أن أبا العلاء لم يكن يعلم الطلبة لله، ولم يكن يؤلف كتبه - حين تطلب منه - لله! بل كان الرجل يأخذ على ذلك كله أجوراً تتراوح بين القلة والكثرة، وإن يكن لم ينعم من أجورها بشيء إلا ما ينفقه على ضرورات حياته الضيقة، ثم ينفق الباقي في شراء الورق أو الكاغد أو المداد والأقلام. . . وفي شراء المصادر التي لم يكن له غناء عنها. . . إذ من السذاجة أن نذهب مع الذاهبين إلى أن ذهن أبي العلاء، بالغاً ما بلغ من القوة، كان يختزن كل تلك الغرائب اللغوية دون حاجة إلى مصدر يضبطها له أو يمسكها عليه. وقد أشار الدكتور طه في غير كتاب من كتبه عن أبي العلاء إلى أن الرجل كان يقبل الهدايا من أصدقائه ومحبيه. ولست أدري ماذا منع الدكتور من الجهر بما نذهب إليه الآن من أن أبا العلاء لم يكن يعلم ولم يكن يؤلف، لله، ولا بالهدايا، ولكن باجر كريم معلوم. إذ ما سؤال هذا الدمشقي(589/15)
عن أبي العلاء، وما إحفاؤه المسألة عنه، وما إرادة أبي العلاء أن يجزيه على ذلك؟ أصحيح أن إحفاء المسألة عن أبي العلاء هو كثرة السؤال عنه؟ كلا. . . فإن لم يكن في الرواية خطأ في النقل فالمقصود هو وفرة ما كان يغمر به الرجل أبا العلاء من الهدايا، كما يظن الدكتور طه، ومن المال الكريم المعلوم كما نظن نحن. . .
ولكن ما شاعرية أبي العلاء واثر ذلك كله فيها؟
إذن ما رأينا أن أبا العلاء كان شاعراً عالما أول أمره بالشعر والعلم، فلما انطوى على نفسه في المعرة سنة 400هـ صار عالما شاعراً. فأبو العلاء في سقط الزند غير أبي العلاء في اللزوميات. أنه في سقط الزند شاعر عالم فيلسوف، لكنه في اللزوميات فيلسوف عالم شاعر. . . ولن تكون له في اللزوميات قطع تزري بعض أبياتها بأكثر ما نعرف من شعر
والذين يقولون عن ثقافة أبي العلاء قد ذهبت بطلاوة شعره، أناس لا يعرفون أبا العلاء حق المعرفة. أنهم حريون أن يسألوا: ماذا اضطر أبا العلاء إلى هذا المركب الخشن في شعره وفي معظم ما ألف من الكتب؟ ولقد أجاب رجل أبي العلاء عن ذلك، فليرجع إليه من شاء.
دريني خشبة(589/16)
على هامش النقد:
3 - في عالم القصة
الرواية الشعرية بين شوقي، وعزيز أباظة
للأستاذ سيد قطب
عيب من عيوبي، أنني أنفر من الزحمة، واكره الضجيج. وأطبق هذا في عالم الأدب كتطبيقي له في عالم الحياة. فيكفي أن تثور الضجة حول مؤلف أو مؤلف، حتى يصرفني هذا عنه إلى حين، ثم أتناوله في هدوء وانفراد لأرى رأيي فيه. وكذلك أصنع مع كل شخصية في الحياة يتزاحم حولها المتزاحمون، إلا أن يخلو الجو، وتهدأ الضجة، فأقرب من هذه الشخصية لأتملاها، وكأنما لم أسمع من قبل عنها شيئاً!
ويسبق إلى نفسي سوء الظن؛ بكل ضجة وازدحام. ويقع في بعض الأحيان، أن يتبين لي خطئي في إساءة الظن بإحدى الضجات؛ ولكن هذا لا يعصمني في المرة التالية، من تغلب هذا الطبع، أو هذا العيب، الذي أعترف به ولا أخفيه!
كان هذا شأني منذ أكثر من عشر سنوات مع (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم. فآني لأذكر أن ضجة استقباله في عالم الأدب، قد أخرتني نحو عام كامل لا أقرأ الكتاب، ولا أعرف عن صاحبه شيئاً، حتى قرأته، فعلمت خطئي في هذا التأخير
وكذلك كان شأني مع (قيس ولبنى) لعزيز أباظة. لقد كنت أعرف فيمن أثنوا على الرواية وشاعرها من لا أشك في صدق تقديرهم وصدق تعبيرهم ولكني كنت أعرف بجوارهم جماعة أخرى؛ يضجون ويتبارون في الضجيج؛ وأنا على يقين جازم من أنهم إنما يتوجهون بالضجة إلى عزيز بك أباظة المدير!
ولما كنت قد قضيت شطراً من حياتي في احتقار هذا الصنف من الناس؛ وفي كشف العوامل الخفية التي تحفز هذه الطفيليات الواغلة في الأدب. فقد وجدتني - دون وعي - أعزف عن شهود الرواية وهي تمثل على المسرح، وأعزف عن قراءتها بعد أن طبعت في كتاب. وكأنما اختلطت الرواية في وعيي الباطن بما أكرهه من تزاحم المتزاحمين!
وأخيراً أقرأ في مجلة الثقافة للدكتور الفاضل أحمد بك زكي كلمة تحت عنوان: (بين(589/17)
المقروء والمسموع) يثنى فيه على (قيس ولبنى) ثم يوازن بينها وبين (مجنون ليلى) فيفضل الثانية على الأولى
والدكتور زكي بك من الرجال القلائل الذين أشعر لهم بالود والاحترام في هذا الزمان، والذين أثق بأخلاقهم وتلذ لي قراءتهم في آن. ولكني أعرف (مجنون ليلى) وأعرف مستواها الفني والتعبيري!
قلت في نفسي: إن كلمة هذا الرجل الفاضل في الموازنة بين الروايتين فرصة سانحة لقراءتهما جميعاً
قال الدكتور زكي:
(وجلست إلى (قيس ولبنى) أقرأه ساعتين حتى أتيت على آخره. أفتدري إلام شاقني؟ شاقني إلى صنوه (مجنون ليلى) لشوقي بك. ومددت يدي فجررته من محبسه على رف الكتب. وأخذت أقرأ لشوقي، فما أحسست أني انتقلت بعيداً. كان إحساسي إحساس من انتقل من منشستر إلى لندن. أو من ليون إلى باريس، أو من الإسكندرية إلى القاهرة. الناس هم الناس، واللسان هو اللسان، وأسلوب العيش هو أسلوب العيش، والمدنية هي المدنية، وإنما في ظرف أكبر. فعزيزي يترسم خطوات شوقي، وله من جزالة لفظه ما يعينه على أن يحاكيه فيقاربه، ويقاربه كثيراً. وهذه خير تحية (يتحي) بها شاعر في مصر أو في الشرق كله
(كان إحساسي. إلى أن بلغت إلى قول شوقي على لسان قيس. قيس ليلى. إذ بلغ وهو في سبيله إلى ليلى، جبل التوباد، ملعب صباهما ومرتع شبابهما. قال قيس ليلى:
جبل التوباد حياك الحيا ... وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى من مهده ... ورضعناه فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها ... وبكرنا فسبقنا المطلعا
وعلى سفحك عشنا زمناً ... ورعينا غنم الأهل معا
هذه الربوة كانت ملعباً ... لشبابنا وكانت مرتعا
كم بنينا في حصاها أربعاً ... وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم ... تحفظ الريح ولا الرمل وعى(589/18)
(الله! الله!
لم تزل ليلى بعيني طفلة ... لم تزد عن أمس إلا إصبعا
ما لأحجارك صمنا كلما ... هاج بي الشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك راجعت الصبا ... فأبت أيامه أن ترجعا
قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعا
(الله! الله! مرة أخرى، لهذا البيت الأخير
(بلغت هذه القطعة، فقلت: معيار المقارنة أن أجد مثلها لقيس لبنى. وبحثت فلم أجد
(أم أنا عميت؟ ربما. . .
(أم أني نظرت في الكتابين نظرة القارئ العادي، ومثل هذا الذي طلبت، يحتاج لا إلى بصر قارئ مثلي عابر، وإنما إلى بصيرة أديب مكين؟ ربما أيضاً)
ومع احترامي لهذا التواضع العلمي النبيل فيما كتبه الدكتور العالم الأديب. فأنني أخشى أن تكون عاطفة (تقديس الموتى) - وهي عاطفة إنسانية عامة وعاطفة مصرية خاصة - قد غلبت في نفسه على حاسة الفن، التي ألمحها في كل ما يكتبه!
وإلا فما يمكن أن يقرأ الإنسان هاتين الروايتين في وقت واحد؛ دون أن يحس بالفارق الهائل بين الحياة الحارة والصدق الطبيعي، في (قيس ولبنى)، وبين الموت البارد، والتلفيق المتهافت في (مجنون ليلى) من ناحية رسم الشخصيات وإجراء الحوادث والعرض الفني. ولا بين الطلاقة والقدرة على الأداء في الرواية الأولى، والاضطرار والتهافت في مواضع كثيرة من الرواية الثانية
ويجب أن يلاحظ أنني أتحدث عن (الروايتين) لا عن (الشاعرين) فشوقي الشاعر قد يكون أكبر من عزيز أباظة الشاعر في مجموعهما. ولكن رواية (مجنون ليلى) أصغر بما لا يقاس من رواية (قيس ولبنى). أصغر من جميع الوجوه التي تقاس منها الرواية الشعرية
والقطعة التي اقتبسها الدكتور زكي من (مجنون ليلى) قطعة عذبة النغمة جميلة التصوير، وهناك قطعة أخرى أو قطعتان في الرواية من هذا النوع. ولكن الرواية وحدة كاملة تقاس بمجموعها: برسم الشخصيات، وإجراء الحوادث، وعرض المشاهد، والتعبير القوي عن هذا كله في النهاية. وقياس الروايتين على هذا النحو، لا يدع مجالاً للشك في تقرير الحقيقة(589/19)
التي أسلفناها
إن معظم الخطأ الذي قد نقع فيه عند الموازنة بين عمل شاعر كشوقي بك، نال في زمانه شهرة عالية؛ وبين عمل لأحد الأدباء المعاصرين. إنما ينشأ من اعتمادنا على ما تحوي ذاكرتنا من طنين سبق؛ واطمئناننا إلى هذه الأوهام المقررة؛ والاستغناء بذلك عن مراجعة الأثر الفني مراجعة جديدة
ولكن الدكتور زكي بك يقول: أنه أعاد قراءة (مجنون ليلى). وهذا هو موضع العجب. فالأمر من الوضوح الحاسم، بحيث لا يقع فيه التباس
إن عمل شوقي بك في (مجنون ليلى) كان عملا مشكورا من الوجهة التاريخية في الأدب. وذلك لفتح هذا المجال، ومحاولة نظم الرواية في اللغة العربية - وإن يكن غيره قد حاول قبله ولم يبلغ ما بلغه - وعند هذا الحد يقف تقدير هذه الروايات التي أخرجها جميعاً، و (مجنون ليلى) في أولها
فإما حين تعرض هذه الروايات للتقدير الفني، فإنها تبدو عملا بدائيا متهافتا من جميع الوجوه
وأول ما يلحق الناقد في (مجنون ليلى) هو البرود والركود. فالمجنون - وهو المثل الأعلى لحرارة العاطفة، وللجد فيها ذلك الجد المتلف - يصبح في يد شوقي طيفا متهافتا كأنه أحد شبان القاهرة المترفين الأطرياء اللطاف! كل حرارة الحب عنده بكاء ودموع وإغماء. وذلك كل نصيبه من الجد في هذه العاطفة المشبوبة. بينما يلمح في (قيس ولبنى) حرارة العاشق، وحركة الإنسان، وفحولة هذه العاطفة في نفسه المحبة المهتاجة
أنك لا تلمح مرة واحدة في (مجنون ليلى) تلك الحرقة اللاعجة، ولا تلك الثورة العاصفة. ولم تكن كل ميزة المجنون هي الحب المتهالك الذائب من الرقة والحنين - كما فهم شوقي وكما يفهم الكثيرون من الظرفاء المترفين الوادعين - إنما كانت هي الثورة المشبوبة والحرقة الموقدة، والاضطرام العنيف
لقد كان يحب، ولم يكن (يتدلع)! وكان هذا الحب يتعمقه ويهيجه ويشقيه، وكان هذا الحب يقيمه ويقعده ويثير اعمق مشاعره، ويهزه في الصميم؛ ولم يكن الإغماء والنواح هو كل حظه من الحب المجنون!(589/20)
استمع إليه فيما يروى له من شعر، ثم استمع إليه فيما ينطق به شوقي، تجد المسافة شاسعة بين شعور وشعور:
استمع إليه يقول:
فيا رب إذ صيرت ليلى هي المنى ... فزِنِّي بعينها كما زنتها ليا
وإلا فبغضها إلىّ وأهلها ... فأني بليلى قد لقيت الدواهيا
أو قوله:
كان فؤادي في مخالب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا
هذه النغمة الجادة، التي تشعرك (بالهول) في هذا الحب العنيف العميق، لا تسمعها مرة واحدة في (مجنون ليلى). وذلك هو المقياس الأول في صحة رسم شخصية المجنون، وتصوير عاطفته كإنسان يحب حقيقة، لا مترف يتظرف بالتهالك في الحب و (يذوب) حنيناً وإغماء كان (الذوبان) هو وحده دلالة الحب الإنساني العميق!
فإذا شئت هذه النغمة الجادة الصادقة العميقة، فانك واجدها في (قيس ولبنى)
أن شوقي لم يعرف الحب، واغلب الظن أنه لم يعرف (الألم) والألم هو ذلك الزاد الإلهي، الذي يفجر عواطف الفنان؛ وبدونه يصبح الفن بل تصبح الحياة كلها متعة رخية توحي باللطف والرقة، ولكنها لا توحي بالعمق والصدق. وما الحب وما الحياة بدون الألم الصادق العميق؟
أما عرض المواقف والمشاهد، فتبدو فيها السذاجة وقلة الحيلة، في إثارة النظارة بالمشاهد الملفقة. وذلك طبيعي ما دامت الحرارة الإنسانية الطبيعية مفقودة
وإلا ففيم هذا الإغماء الذي لا يفيق منه المجنون حتى يعود إليه خمس مرات! لقد أغمى على (قيس لبنى) مرتين. ولكن ذلك كان لمرض هده ولأزمات نفسية حقيقية تهد الكيان. أما المجنون، فيبدو لنا متهالكا متهافتا منذ أول فصل في الرواية، قبل آية أزمة من الأزمات، قبل أن تمنع منه ليلى وقبل أن يهدر دمه وقبل أن تتزوج سواه فكأنما هو (مستعد سلفا) لهذا (الذوبان) الرقيق لأن هذه هي سمة الحب الوحيدة، كما يتوهمها الرجل الظريف!
ومشهد وادي عبقر وشياطينه وحواره مع شيطانه، وكذلك مشهد الصبية الذين يتحاورون:(589/21)
فريق مع الجنون وفريق عليه كلاهما حيلة من الحيل الرخيصة، التي تنشئها (قلة الحيلة) للفت النظر، حينما تقل الحرارة الطبيعية الصادقة!
وأعجب شئ هو ذلك الخصام بين رجال قيس ورجال لبنى، وكأنه لا يجري في الصحراء وما بها من رجولة وفتوة، إنما يجري في (صالون) بين بعض المترفين الظرفاء ويا للإخفاق عندما أراد شوقي أن يقلد شكسبير في يوليوس قيصر، فيصور ثورة الجماهير واندفاعها من جانب إلى جانب، متأثرة ببلاغة خطيب!
وموقف (ورد) زوج ليلى ذلك الموقف الطري المريب. الكي يقول لنا: أنه رجل كريم عطوف. لقد صور لنا (عزيز أباظة) ذلك الموقف نفسه أو ما يشبهه يقفه زوج لبنى فلم يمل به إلى هذه الطراوة المخنثة، وهو يصور نبله وكرمه. ذلك أنه صوره (إنسانا) حيا، لا دمية من الدمى، التي عرضها شوقي وسماها أشخاصاً!
وذلك في الحقيقة هو الفارق الأصيل بين الروايتين والمؤلفين وهو يلخص الفوارق كلها، ويختصرها: الصدق والطبيعة، والتلفيق والصنعة في كل موقف، وفي كل شخصية، وفي كل عاطفة أو شعور
ومن العجيب أن تخون شوقي في رواياته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه، وهي قوة الأداء وضوح التنغيم. ففي (مجنون ليلى) أضطرارات في التعبير لا تجد لها مثالا واحدا في (قيس ولبنى)
ففي بيت واحد كهذا:
لِم إذن يا هند من ... قيس ومما قال تَبْرا
يضطر إلى تسكين الميم في (لِمَ) وتسهيل الهمزة في تبرأ. ويطرد هذا التسهيل في مواضع شتى مثل (كيف تجرا) أي تجرأ، و (تهزا بنا) أي تهزأ. . . الخ
وتشاء تصبح (تشا) فقط اضطراراً للقافية في قوله:
وليلى تفيض على من تشاء ... رضاها وتحرمه من تشا
و (مُنازل) تصبح (مُنازِ) فقط لضرورة الوزن في قوله:
(أنعم (منازِ) مساء ... نعمت سعد مساء)
وليلى تصبح (ليلَ) لنفس السبب في بيت ينطق به ثلاثة:(589/22)
أوغل الليل فلنقم
بل رويداً ... واسمعي (ليلَ)
خل عني دعني
ومظلوم هذا (الترخيم) الذي يسرف شوقي في استعماله كلما نادى واحتاج للحذف خضوعا للضرورات النظمية!
والرُّبى تصبح (الرُّبىِ) لحركة القافية:
عارضنا الحسين في ... طريقه ليثرب
هذا سنى جبينه ... ملء الوهاد والرًّبى
وشيطان من وادي عبقر ممن يوحون بالشعر للشعراء يهبط ويهبط حتى يضع لا للناهية في موضع لا النافية لضعفه في النظم كقوله. (لا أدر. تلك ضجة)!
وكثير من مثل هذه الاضطرارات التي يعانيها المبتدئون في النظم، والتي تندر في شعر شوقي في غير الروايات، مما يدل على أنه كان يعاني، لا في تلفيق المواقف فحسب، ولكن في تذليل النظم أيضاً
وهذه عيوب تفهم حين ننظر نظرة تاريخية كما قلنا، فنسجل أن شوقي كان يطوع اللغة لفن جديد عليها فكان عمله هو عمل المبتدئ؛ وجهده هو جهد المبتدئ. وهذا كلام مفهوم. فإما حين نقيسه إلى عمل ناضج من الوجهة الفنية ومن الوجهة التعبيرية كالعمل الذي قام به عزيز أباظة في (قيس ولبنى) فإننا نشعر بالفارق العظيم بين العملين من الوجهة الفنية الصحيحة.
سيد قطب(589/23)
الأستاذ سيد قطب
بين تيمور ونجيب محفوظ
للأستاذ سيد صلاح ذهني
نشر الأستاذ الناقد سيد قطب مقالين عن القصة في مجلة الرسالة الغراء تحدث في أولهما عن أدب محمود تيمور، وعرض في الثانية لقصة الأستاذ نجيب محفوظ (كفاح طيبه)، وبقدر ما أثار مقاله الأول دهشتي؛ فإن مقاله الثاني قد خفف من هذه الدهشة أحالها إلى أسف عميق للوقت المضاع الذي صرفته في قراءة المقالين - وكلاهما عن القصة - متوقعا مرجو الفائدة من مقالين لناقد اشهد أني طالما قرأت له في النقد أبحاثا طيبة.
أما الدهشة فقد كان مبعثها حيرة ناقد يفهم في القصة أمام فن الأستاذ تيمور وأمام الطائفة (ولا أقول المدرسة فقد أوقع هذا اللفظ الأستاذ سيد قطب في سلسلة من الأخطاء) التي يمكن أن يوضع بين أفرادها.
أجل. لقد تملكت الحيرة الناقد سيد قطب ودار يطرق بفن محمود تيمور أبواب المذاهب الأدبية باحثا له عن مأوى يركن إليه فما وجد. فآب إلينا بعد رحلته ينادي بحيرته، ويقول أنه حائر بهذا الرجل (محمود تيمور) وبفنه.
دهشت كل الدهشة لأنني، ولست ناقداً، استطعت أن أضع تيموراً في مكانه منذ أقاصيصه الأولى، واستطاع العشرات ممن الكتاب أيضاً أن يضعوه في هذا المكان، فقلت وقالوا عنه أنه واحد من رواد المذهب الواقعي، واختلفت واختلفوا في أمر واحد، هو قدر تيمور بين رواد هذا المذهب. وهنا تشعبت الآراء واختلفت، وأحسب أن كاتبا من الكتاب غير تيمور لابد إذا وضع موضع الدراسة والتقدير أن يعاني نفس الاختلاف بين ناقد وناقد، لأن مذاهب الأدب ومدارسه، ليست كما يتصورها الأستاذ سيد قطب معسكر اعتقال تحكمه قوانين صارمة، وإنما هي في الواقع تسمى مدارس تجوزاً، حقيقة الأمر فيها أنها مجرد أبواب. أبواب مختلفة لمدرسة واحدة، لكل طائفة باب تسلك منه إلى داخلها، ولن تقوم القيامة حين يدخل كاتب من باب غير بابه، ولن يشنق الناقد إن سلك كاتباً في غير طائفته فلابد واجد في أدبه ما يصله بهذه الطائفة أو تلك أو غيرها.
لذلك دهشت ورثيت للأستاذ سيد قطب وهو يدور بتيمور فأتعب الرجل وأضنى نفسه.(589/24)
ولو علم أنه وهو يطوف بتيمور أقحم ثلاثة غيره في غير أبوابهم فما قامت القيامة ولا أمسك إنسان بتلابيبه لأراح نفسه
ألم يضع توفيق الحكيم صاحب مذهب في القصة، وليس لتوفيق في القصة ناقة ولا جمل، وما كان فيها صاحب مدرسة؟
ألم يهمل توفيق الحكيم نفسه حين تكلم عن الرواية المصرية في مقاله الثاني عن رواية نجيب محفوظ (كفاح طيبة)؟ هنا حيث المجال طيب للمقارنة وسلك الكتاب في طائفتهم واجب. فكلاهما ولى وجهه شطر مصر القديمة، وكلاهما أخرج عملا مصريا يشيد بمجد مصر القديمة؟
ألم يقحم أستاذنا المازني في سلك كتاب القصة، ومع ما أكنه ويكنه الكثيرون للأستاذ المازني من تقدير؛ فما جرؤ واحد منا أن يقول عنه أنه صاحب مذهب في القصة؟
ثم ألم يمسك بيد القصصي البارع يوسف جوهر ليقوده إلى حرم جي دي موباسان حيث كل شئ غريب عليه، ولو أنه أمسك بيده الأخرى تيمور لأنقذ نفسه وصاحبه من الخجل، ولوجد بين يدي موباسان عذراً لزيارته الطارئة. أنه على الأقل كان يدخل بإنسان يعرف المكان؟
ومع ذلك فما حدث كان يسيراً، أربعة أخطاء يسيرة
وضع كاتب رواية بين كتاب القصة القصيرة
ووضع كاتب مقالة ممتاز في عداد القصصيين.
وأقحم يوسف جوهر في مدرسة موباسان دون مؤهلات، ولا حتى طلب التحاق. . .
ورابعة الأخطاء - وليست الأثافي - الوقوف بتيمور أمام الباب الذي يجب أن يدخل منه، باب الواقعية، باب موباسان العظيم. الوقوف ساعات ثم الانصراف بالحيرة والتبلبل، ولا ذنب لتيمور إلا أنه وقع بين ناقد فاضل لا يجيد قراءة اللافتات (اليُفط)!
وبعد!
أيجب أن أقول إن الناقد الفاضل سيد قطب، كما اخطأ في مقاييس النقد قد أخطأ في حق التاريخ - علم التاريخ - فزلت قدمه في مقاله الثاني بدفعة لعينة من تلك العقيدة التي تسيطر عليه من أن النقد لا يكون صحيحا إلا إذا كشف عن نقائض، أو ابتكر نقائض. . .(589/25)
ذلك ما حدث في المقال الثاني الذي كتبه عن الرواية الرائعة (كفاح طيبه) للأستاذ نجيب محفوظ. فقد سرد ما في القصة من مزايا وما لها من قدر كعمل قومي، ولون من الكتابة بتطلبه الأدب المصري، وأثنى على الكاتب، ثم! ثم تذكر عقيدته في النقد فكشف عن بعض الهنات التي انطوى عليها الكتاب، فذكر من هذه الهنات أربعة أخطاء. أخطاء تاريخية!
الأولى أن المؤلف - نجيب محفوظ - قدر مدة حكم الرعاة (الهكسوس) في مصر بمائتي عام، والراجح (عند الأستاذ سيد قطب) أنها حوالي خمسمائة عام
والثانية أن كلمة (أحمس) أولها للمؤلف أنها مشتقة من الحماسة، وهذا خطأ في رأي سيد قطب، لأن هذا الاشتقاق في اللغة العربية، وأحمس مجرد اسم مصري قديم
والثالثة: أن نجيب محفوظ ذكر اسم (بلاد النوبة)، والواقع أن النوبة هي التسمية الحديثة لهذه البلاد
والرابعة: أن المؤلف ساق خلال الحوار جملة على لسان سكنن رع الملك المصري، يستنكر فيها أن يكون للرعاة من العجلات الحربية أضعاف ما للمصريين منها. ولا يعجب هو بهذا الاستنكار، لأن الهكسوس هم الذين أدخلوا العجلات الحربية إلى مصر
والحق أن المخطئ هو الأستاذ سيد قطب!
ذلك أن ما قاله نجيب محفوظ هو الحقيقة التاريخية الثابتة
فالهكسوس لم يمكثوا في مصر أكثر من مائتي عام، بل أقل من ذلك.
وليعد الأستاذ سيد قطب إلى المرجع العربي الذي يستطيع أن يحصل عليه ويقرأه بسهولة، وهو (المجمل في تاريخ مصر) الجزء الخاص بمصر القديمة من وضع الدكتور عبد المنعم أبو بكر
وبلاد النوبة هي نفسها بلاد النوبة القديمة، كما أن كلمة (نوب) معناها القديم هو الذهب، وكان المصريون يسمونها النوبة، لأنها بلاد الذهب، ويسمعون الإله (حوريس) (حوريس نوب)، أي حوريس الذهبي.
أما بلاد بنت التي يقول عنها فهي الصومال الحالية!
وأحمس اسم بمعناه يدل على الجرأة والإقدام في اللغة المصرية القديمة.
وأما قصة العجلات الحربية فالكلام الذي ورد في الحوار على لسان الملك سكنن رع حقيقة(589/26)
تاريخية
فهو يقول: (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدي الرعاة، فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟)
فالعجلات لم تكن من آلات الحرب لدى الرعاة، كانت آلتهم الحربية هي الحصان، وعندما مروا بفلسطين عرفوا العجلات واستخدموها، ونفس اشتقاق كلمة عجلة أو مركبة من الكلمة القديمة (عَجُلْتي) أو (مَركبوتْ) معناها العجلة أو المركبة عند سكان سوريا وفلسطين وهي نفس الكلمة التي أطلقها المصريون إذ ذاك. ولا يعنى ذلك أن المصريين لم يعرفوا العجلات، فقد عرفوها من قبل ورأوها قطعا في رحلاتهم وغزواتهم في عهد الدولة الوسطى والدولة القديمة، لكنهم لم يستعملوها ولم يأخذوا بها. فليس غريبا أن يستنكر الملك أن يكون لدى الهكسوس عدد كبير منها، بينما ليس يديه هو هذا القدر وهو صاحب مصر العليا، ولديه من الأيدي الصانعة أضعاف ما لدى ملك الهكسوس
هذه هي الهنات التي كشفها الأستاذ سيد قطب. إنما هي حقائق تاريخية لا تقبل الجدل. وكل ما كشف عنه الناقد هو حاجته للكثير من الاطلاع والتريث والصبر، الكثير الذي يجنبه حيرة هي أقرب شئ للجهل، ويجنبه أخطاء أن تكررت فقد تدعو الكثيرين من أمثالي ممن اعجبوا به في أبحاثه الماضية لإعادة النظر في كل ما رواه إذ ذاك على أنه حقائق
فإن لم يكن لديه الصبر فليعد إلى نقد الشعر، ولن يضيره شيئاً أن يقال أنه ناقد شعر فحسب
صلاح ذهني(589/27)
حول مقال. . .
للدكتور سيد نوفل
كتبت مقالا في مجلة (الثقافة) عن الشوامخ سلكت فيه طريق الناقد المعنى بتبيان الحقائق، وعرض المآخذ، في أسلوب علمي يورد الحجة، وينأى عن التجريح
أوردت ملاحظاتي على أبواب الكتاب، وبينت ما يشيع فيه من الاضطراب والاستطراد، وما يرد من أقوال عامة، يقع فيها أكثر الذين يأخذون العلم عن الصحف وحدها، تتناقض حيناً، ولا تثبت للبحث دائماً
وانتهيت إلى (أن هذه الصفحات المائة تتحدث عن الأدب العربي من امرئ القيس إلى مطران، وإن المؤلف كان حريصا على إيراد كل علمه فيها، فران عليها الاضطراب والاستطراد، وأنها لا تعدو الإيراد المقتضب والنظرات العجلى)
ثم لم أغمط المؤلف حقه فقلت: (لكنها في الحق من قبيل التعبير القريب الهين عن إعجاب قارئ بشاعر اطلع على بعض شعره، وطائفة من أقوال الناس فيه. ومن هنا فهي حقيقة بالحمد من مؤلف يعتبر نفسه مؤرخا سياسياً)
لكن الدكتور المؤرخ، هاج وماج على طريقته، ونقم على حظه العاثر، وتبين نفسه في موضعها القلق من هذا العالم الظالم العاتي، وبلغ التشاؤم منه مبلغه، فضاق بالدنيا وبكل ما فيها من معان ومن فيها من ناس. . .
ومن حسن الحظ أن عقل الإنسان، أو بعض بني الإنسان، يجد لصاحبه مخارج من المآزق دائماً، فهدى الدكتور عقله الكبير إلى أن له أسوة، ويا لها من أسوة! فيما أصاب شوقي، وما أصاب البحتري وفكتور هوجو من قبله. . . قد تعرضوا لهجمات النقاد وقد صبروا، وما أجدره أن يصبر، وألا يحمل نفسه ولا أهله مكروها. ولهذا اطمأن واستراح
هذه خلاصة دقيقة لمقال الدكتور الذي صاغ مادته، وأعتذر للقراء من إيراد بعض ألفاظه، من (البقر) و (الحمير) و (النطح) و (الدجل) و (الجهالة) و (الشذوذ) و (الفوضى)، وما إليها من مسارح ندع الدكتور الأديب المؤرخ يجول فيها ويصول، ونمر باللغو كراما
وأبرئ نفسي من مناقشته الحساب في هذا، فنحن لم نتعلم هذا اللون من القول، ولم نصطنعه فيما مارسناه من نقد سنين طويلة. وأختتم حديثي بنقد الكلمة التي اعتبرها المؤلف(589/28)
بيت القصيد في كتابه، وأوردها حكما بيني وبينه:
لقد جعل أولها قوله: (وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته في أفق الطبيعة الواسع)
سبحانك اللهم وبحمدك! هذا دليل لنا يورده المؤلف ذاته، ومصداق لما أخذناه عليه من الأحكام العامة القاطعة. التي لا يستطيع أحد أن يحمل تبعة الدفاع عنها، ولا يثبت أكثرها في العلم بله الأدب
هل أتاه حديث الشعر الذي سبق امرأ القيس والشعر الذي عاصره في الطبيعة؟!
وهل علم المحاولات التي أعقبته، وحديث النهضات المترامية في الشام والمشرق والأندلس ومصر بعده بقرون؟!
وهل درس حركة (الرومنتسزم الغربية) وسيادة شعر الطبيعة فيها، وقابل بين الخطوط الكبيرة لهذا الشعر الغربي، والخطوط الكبيرة لشعر امرئ القيس، ثم انتهى إلى ما قرر؟!
إن هذا اللون من الأحكام العامة منكر في باب البحث العلمي
ثم يقول: (وله في لمعان البرق واختلاجه في السماء آيات لا هي من الوصف الحسي، ولا هي من الوصف الخيالي، وإنما هي تصوير فقط)
ما معنى هذا؟ لقد طلبت المعونة من الله والناس على حل الغاز هذه العبارة، فلم يجب دعائي، ثم نظرت فتبينت الإحالة على أتمها: الحسي يقابله المعنوي لا الخيالي، فهذا يقابله الحقيقي أو الواقعي. والوصف الحسي تصوير والوصف المعنوي تصوير، وإذاً فلا تقوم هذه المقابلة العجيبة بين الوصفين وبين التصوير، وما نعلم أن تصوير الشيء يخرج عن أن يكون وصفا حسيا أو معنويا له!
ودع عنك الألفاظ البراقة التي استعملها والتي لا تجمل في باب الدرس والتحليل إلا إذا كان من ورائها معان مقررة ودلائل بينة
أما الأبيات التي أوردها، والتي تعتبر أقل شعر امرئ القيس دلالة في باب الطبيعة فهي ناطقة بأنها وصف حسي واقعي اللهم إلا إذا كان البصر بالعين غير حسي، وكان تصوير الحركات والأمكنة غير واقعي وكان الشاعر حريصا على الواقعية حين اكتفى بالتشبيه ولم يستعر(589/29)
وهذه هي الأبيات:
قال:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
وقال:
أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيباً في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض
وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض
وبعد، فإن النقد الذي وجهته إلى الكتاب لا يزال قائما لم يتناوله المؤلف بالرد، وإنما دعمه بالتجائه إلى الشتائم وبالقطعة التي أوردها
فهل له أن يأخذ بطريق العلم والعقل؟!
أنا لمنتظرون!
دكتور
سيد نوفل(589/30)
لعنة الحرب
للأستاذ علي الجندي
(في سبتمبر سنة 1944 دخلت الحرب في عامها السادس من
أعوامها المشؤومة؛ وكان أكثر الناس على أن رحاها الطحون
ستقف بعد سقوط باريس في يد القوات المتحالفة، فاستبشرت
النفوس الحزينة، واستعدت لتلقي نعمة السلام! ولكن الدوائر
الأمريكية حذرت من التفاؤل! ثم جاء ديجول فصرح: بأنها
ستستمر أشهراً وأشهراً! ثم أبان تشرشل في خطبته الجامعة
بأن القتال سيتحر في سنة 45! وليث شعري ماذا يبقى من
معالم الحضارة وآثار المدينة بعد هذا العالم؟! فرحماك اللهم
رحماك!)
طال ليلُ السُّرَى وحار الدليلُ ... ونجومُ الهدى طواها الأُفولُ
وقف المدلجون: لا دَنت الغا ... يةُ منهم ولا تَسَنَّى القُفول
كلَّ عام نُؤمِّل الخير فيه ... ويخَيب الرَّجاءُ والتّأميل
ظُلْمَةُ فوق ظلمةٍ تتدجَّى ... ليس فيها على الصبّاح دليل
وشقاءٌ ينساب إثْر شقاء ... وعذابٌ بمثله موصول
ليت شعري والشر أطبق فكيه (م) ... علينا، ألِلنّجاةِ سبيل؟!
كيف ينجو الأنام من شرك الهُلْك ... ولم تبق للأنامِ عقول؟!
أشكل الأمر: لا الصباح صباح ... نجتليه، ولا الأصيل أصيل
نبئوني: أين السلام؟ فظنِّي ... - وهو صدق - أن السلام قتيل
مشت النارُ تأكل الحرث والنَّسلَ (م) ... وكلٌّ لها غَداً مأكول(589/31)
إنْ خبا جانبٌ تسعّرَ منها ... جانبٌ حولَه الدماءُ تسيل
رحمتَا للدّيار أمست خراباً ... وخراب الديار خطب يَهُول
بُدِّلتْ بالأنيس بوماً يغنِّى ... فوقَها، والغِناءُ منه عويل
لا تقولوا: الجهَّالُ خير من العا ... لِم - في عصرنا - الغبُّي الجهول
غرّنا العلمُ، فالتمسنا هُداه ... فإذا العلمُ كلُّه تضليل
لا تقولوا: الألوانُ فالسُّودُ باتوا ... - فوقها - بعضهم لبعض خليل
لا رعي الله في الوجوه بياضاً ... خلفه الهمُّ والشقاء الطويل
لا تقولوا: الوحوش أظلم منها ... من نراه على البريء يصول
ساكنُ الغابِ أدرَكَ الأمنَ في الغا ... ب، وقد غالتِ الأناسِيَّ غُول
غابة الوحش لم تَدُسها العوادي ... والقصور التي بنيْتم، طُلول
إن يكن للذئاب أنيابها العُصلُ (م) ... فأنيابكم قَناً ونُصول
كل من في الوجود أرقم ليل ... قاتل - في سُراه - أو مقتول
سنَّ (قابيل) سُنَّة الفتك للنا ... س فلا كان منهمو (قابيل)
سأل الناسُ - ذاهلين حيارى - ... ما أفاد المعقول والمنقول؟!
لا (الكتاب الحكيم) يلقَى سميعاً ... - حين ندعو به - (ولا الإنجيل)
إن لله حكمة يسكنُ العقلُ (م) ... إليها إن خانه التأويلُ
فَسدَ الناس واستطالوا على الله (م) ... فأخنى عليهمو (عزريل)
علي الجندي(589/32)
نداء الموت
(إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد)
للأستاذ محمد مجذوب
كم تنادى يا موت نفسيَ صيفاً ... أنا في الصيف لن أجيب النداَء
كم تنادي، والحسنُ يهتف بالكو ... ن فيلهى عن صوتك الأحياء
إذْ يُسِرُّ العشبُ الحِييُّ إلى ألا ... ظلال ما شئنَ من حديث وشاء
إذ يحنُّ الصفصاف، والجدول الرقرا ... قُ مصغ والريح تغفو رُخاء
إذ يموج اللبلاب فوق تخوم الرو ... ض ريَّان نضرةً وسناء
إذ يغيب الوجود في غمرة الطيب ... فيهفو حتى الجماد انتشاَء
. . . كم تنادى!. . . أفي عهود الأزا ... هير، لك الويل، تنشد الإصغاَء!
عبثاً ترفع النداء فلن يبلغَ ... يا موت أذنيَ الصَّماَء!
إن نفسي في شاغل عنك بالصيف ... ففي الصيف لن أجيب النداء
غير أني يا موت جِدُّ سميع ... دعوة القبر يوم أطوي الرجاء
يوم تعرى هذي الحياة من الحَليَ ... ويكسو حطامُها الغبراءُ
يوم تسري الهوج الزعازع في السفح ... فيملأ، فحيحُها الأرجاَء
يوم يستروحُ الرعاةُ من الشرق ... لهاث الصقيع يغزو الجِواء
يوم لا حاصد هناك سوى النكبا ... ءِ تغدو بها الحقولَ عراء
يوم لا حاطب سوى منجل الإعصا ... ر يجتاحُ هَوْلُه الأوْداء
يوم لا بزر في التراب سوى الثلج ... تغطِّي به السماء الفضاَء
يوم لا رغبة تجلجل في القلب ... ولا متعة تذود الشقاء
. . . يومذاك ادعُني تجدني يا مو ... ت مجيباً، كما تحبُّ، الدعاَء
(طرطوس - سوريا)
محمد مجذوب(589/33)
البربد الأدبي
حرية الفكر أيضاً
إلى حضرة الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف المحترم
أرجو من حضرة الأستاذ أن يتذكر - أو أن يعرف إذا كان لم يعرف - أن نسخ كتاب لبعض المؤلفين المعروفين أحرقت في مصر والشام، وأن بعض الكتب صودرت بعد طبعها ونشرها بعد زمن، وبعضها صودرت في المطبعة قبل أن تنشر، وإن الرقابة على المطبوعات غير مقتصرة على الكتابات السياسية فقط، وإن النقاش بين الكتاب في (الرسالة) حول (وحدة الوجود) مفعم بتهمة الكفر والإلحاد. أجل ليس الكفر جريمة ولا سبة، وقد يجاهر بعض الناس بأن دينه ما يحسبه الناس كفراً، ولكن الاتهام بالكفر عندنا أيغار لصدور الذين يحرقون الكتب والذين يلعنون الكتاب المكفرين، أي الذين يتوهم بعض القراء أنهم كافرون
أجل ليس أمام الكتاب الصريحين أو الصرحاء مشنقة ولا سجن، ولكن أمامهم نقمة فريق من الناس، فإذا (الصراع في المجال الفكري متخذ سبيل القوة والإرغام حتى الاضطهاد) لذلك حذرت إخواننا الكتاب من التمادي في بحث (وحدة الوجود)
فمعذرة يا حضرة الأستاذ خلاف وتحية.
نقولا الحداد
عودة دجال (البديع)
وقفت برهة أصغي إلى متطبب دجال يروج على الناس عقاقيره الزائفة من سفوف وسعوط ولعوق وسنون وبرود ولدود ووجور وذرور. . . وهم يصيخون إلى أكاذيبه مصدقين
وكنت أعجب لغفلة القوم عن تزييف دجله، كما أعجب بلباقته وحسن تأتيه في التلبيس عليهم. وقد جعل من أول همه أن يكثر عددهم من حوله: فأقبل يثني علي من يتلبث أمامه يسيراً، ويقذع في سب من تحدثه نفسه بالريال عن موضعه قبل أن يعي بقية مقاله
وتدفقت على خاطري وأنا أسمع كلمته هذه، صرخة (دجال) بديع الزمان في إحدى مقاماته حيث يقول: من كان منكم يحب الصحابة والجماعة، فليعرني سمعه ساعة! ورأيتني(589/34)
كروايته عيسى بن هشام (قد لزمت أرضي، صيانة لعرضي)
ثم راح دجالنا العصري يتحدث بكلام مؤثر بليغ، لا يعيه إلا قلة حظه من فصاحة العربية. كلام لم أجد له ترجمة موجزة فصيحة احسن من قول (دجال) البديع: حقيق علي إلا أقول غير الحق، ولا أشهد إلا بالصدق
قد جئتكم ببشارة من نبيكم، لكني لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوته! وثبت القوم في أماكنهم وثبت معهم وأنا أغالب ابتسامة التعجب، مردداً قول ابن هشام في مثل هذا المقام: لقد ربطني بالقيود، وشدني بالحبال السود!
ووصف دجالنا ما كان من جهاده في عالم الطب؛ وكيف فتح بأبحاثه موصد أبوابه، ووقع على اثمن كنوزه وانفس أعلاقه، حتى لأرهفت أذني، لأن اسمعه يواصل حديثه فيقول ما قال سلفه: ولا من عليكم فما أعددتها إلا لضرسي، ولا حصلتها إلا لنفسي - والحق أنه عبر عن هذا المعنى بأفصح لهجة عامية أن صح أن توصف عامية بالفصاحة
وبعد أن أوضح خصائص دوائه - ورقم تسجيله بوازرة الصحة! - عرضه على الحاضرين وهو يقول ما ترجمته: فمن استوهبه مني وهبته، ومن رد على ثمن القرطاس أخذته. ثم قال ما هو أقرب شئ إلى قول الأول: ليشتر مني من لا يتقزز موقف العبيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد
وأشهد لقد رأيت القوم يجهرون بكلمة التوحيد - غير أنفين - ثم تتبسط أيديهم نحوه بالدراهم الكثر، ثمناً للدواء الذي لا يشفي، وقد يسقم
شهدت كل ذلك ثم انطلقت وحدي في زحمة هذه السوق الناشطة، وأنا أتعجب للنفس الإنسانية كيف تتواتر صورها على مرآة الزمان متشابهة في مكرها وغفلتها، واحتيالها وبلاهتها. وما زلت إلى اليوم أعجب لهذا الدجال - وأمثاله كثيرون - من (فصاحته في وقاحته، وملاحته في استماحته. وربطه الناس بحيلته، وأخذه المال بوسيلته)
ولو أن القارئ الكريم استحضر في ذهنه بعد مطالعة هذه الكلمة، صورة أحد أولئك الدجالين، أو سعي إلى مشاهدته حيث يقوم على رأس شارع أو في صدر سوق - ثم أقبل يراجع مقامتي بديع الزمان: الرابعة السجستانية والعاشرة الأصفهانية. إذن لرأى في وقائعهما التي تخيلها البديع على أساس من الحقيقة، أعظم الشبه بوقائع دجاجلتنا ومُكْدينا(589/35)
اليوم
فما أشبه الليلة بالبارحة حقا. لولا هذه الزيادات المتلاحقة من المآثم والشرور، تزيد صفحة حياتنا قتاماً وتشويهاً، وتضاعف من عمق إحساسنا بمرارة المعنى الذي ينطوي عليه قول أبي الطيب:
أتى الزمانَ بنُوه في شبيبته ... فسرَّهم، وأتيناه على الهرم
(جرجا)
محمود عزت عرفة
مقام الشهود لا وحدة الشهود
صوب الأستاذ أحمد صفوان في العدد 58 من (الرسالة) إطلاق وحدة الشهود على وحدة الوجود، وهذا لا يجوز، فمذهب وحدة الوجود يتلخص في أن الموجود الحقيقي هو الله تعالى، وما عداه من المخلوقات فهو عدم حال كونه موجوداً؛ فالكل محتاج إليه، لأن به قيام كل شيء. وعلى هذا لا يصح إطلاق هذه التسمية عليه
وأما مقام الشهود فهو من مقامات الصوفية، يصل الإنسان إليه بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي، فإذا حصل الشهود واستغنى عن الذكر بمشاهدة الذكور، وهذه حالة قلبية روحانية ليس لها علاقة بوحدة الوجود، ولا يصل إليها إلا الكمّل الأطهار
(شطانوف)
محمد منصور خضر
بين أبي العلاء وداعي الدعاة الفاطمي
فهمت مما كتبه الدكتور محمد كامل حسين في العدد 583 من (الرسالة) أن الرسائل التي تبودلت بين أبي العلاء ومناظره داعي الدعاة لم ينشرها غير المستشرق الإنكليزي مارجوليوث مرة سنة 1896 ومرة سنة 1902 بمجلة الجمعية الأسيوية الملكية، ولكن هذه الرسائل نشرت في مصر كذلك (1349هـ - 1930م) على يد الأستاذ محب الدين الخطيب الذي أشار في مقدمته التي قدم بها للرسائل أن المغفور له أحمد تيمور باشا أطلعه(589/36)
على نسخة خطية منها في خزانته تحت رقم 478أدب، وأنه قد بادر إلى نشرها في مجلته الزهراء، ثم ما لبث أن أفرد لها رسالة خاصة تقع في حوالي 40 صفحة تحت عنوان (بين أبي العلاء العربي وداعي الدعاة الفاطمي) (القاهرة. المطبعة السلفية 1349هـ)
ويؤخذ كذلك من هذه المقدمة أن ما أورده ياقوت في معجم البلدان (وهي التي نشرها مارجلويث) إنما هو مختصر لتلك الرسائل. أما نصها الكامل فموجود في خزانة ليدن
وذهب الأستاذ الخطيب كما ذهب الدكتور محمد كامل حسين إلى أن هذه الرسائل تبودلت في السنة التي توفي فيها المعري أي 449هـ
هذا وللأستاذ الفاضل إعجابنا وتقديرنا لبحثه القيم الطريف
مصطفى كمال عبد العليم
ليسانس في الآداب. جامعة فاروق
الإسكندرية(589/37)
العدد 590 - بتاريخ: 23 - 10 - 1944(/)
التفكير المذهبي
للدكتور محمد مندور
هناك نوعان من التفكير المذهبي: تفكير تفسيري، وآخر إنشائي. فالمؤرخ الذي يحاول تفسير التاريخ وتطوره وفقاً لفكرة موحدة جامعة، يفكر تفكيراً مذهبياً، فيقول مثلاً: إن تغير وسائل الإنتاج وحلول الآلة محل الأيدي قد غير من توزيع الطبقات الاجتماعية ونقل عقلية الشعوب، وهذا هو التفكير التفسيري. والسياسي الذي يقول بوجوب فصل السلطات الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية وتحديد علاقاتها بحيث لا تبغي سلطة على أخرى، ويرى في ذلك ضماناً لصلاح الحكم، يفكر تفكيراً إنشائياً ويدعو إلى المذهب الذي يؤمن به
ولقد كنت دائماً شديد الحذر من التفكير المذهبي في مجال التفسير لما لاحظته من أن المذهب عندئذ لا يمكن أن يفلت من الضيق والتحكم. فالمؤرخ في مثلنا السابق لابد متعسف في عرضه، والناظر الحر التفكير لا يمكن أن ينكر أن تغير وسائل الإنتاج لم يكن بحال العامل الوحيد في تطور الإنسانية؛ فثمة النشاط العقلي وتوليد الأفكار وإرادة البشر ونزوعهم إلى المثل وظهور كبار القادة، وما إلى ذلك مما يعمل في التاريخ قدر ما تعمل وسائل الإنتاج أن لم يفقها.
وأنا على العكس من ذلك شديد الحماسة للتفكير المذهبي في مجال الإنشاء والدعوة، ولقد زادني إيماناً بهذا النوع من التفكير ما ألاحظ اليوم من تشتت الأخلاق السياسية والاجتماعية بمصر، وأخشى أن يكون بالشرق كله تشتتاً يملأ النفس حزناً، حتى ليصبح بالقلب أمل أننا قد نستطيع علاج هذا المرض النفسي المدمر إذا حاولنا جمع النفوس حول الأفكار المذهبية
وأنا بعد لا أجهل ما في المذاهب الإنشائية بالنسبة لبلادنا من مشقات وأخطار، فنحن بعد لازلنا بظاهر الحضارة نقرع أبوابها، وجانب كبير من حياتنا لا يزال محاكاة لحياة الغرب. وما يستطيع عاقل أن يقول أننا قد وصلنا من النضوج إلى حد الأصالة. وموضع الخطر هو أن نحسب مذاهب الغرب كما هي صالحة لبلادنا مضمونة النجاح فيها. ثم إن كل تفكير إنشائي لابد مصطدم بالكثير من حقائق الواقع عندما تستجيب له النفوس فتأخذ في تطبيقه. وهنا تظهر الصعوبات، إذ ترى النفوس متعصبة لما تؤمن به، وشهوة الفكر لا تقل عنفاً عن شهوة الحس، ويأتي الواقع فيستعصي، وإذا بالتنافر في العمل وتبلبل الحياة العامة.(590/1)
هذه لا ريب صعوبات حقيقية، ولكنني مع ذلك لا أتردد في الدعوة إلى التفكير المذهبي في حياتنا العامة، ومن البين أن البلاد قد أخذت تتهيأ له في كافة نواحي نشاطها سياسية واجتماعية وثقافية. وكل ما تحتاج إليه لتخطو الخطوة الأخيرة هو التوجيه القوي من رجال، وبالأصح شباب ناضج على خلق وكفاية. وأكبر ظني أننا عما قريب سنمل سخائم الأشخاص وتخبط الشهوات وتحلل الأخلاق؛ فترتفع قلوبنا إلى مستوى التفكير المذهبي الذي ندعو إليه
وليس من شك في أن خير المذاهب الإنشائية ما نستمده من رغبات النفوس، فالسياسي الحكيم هو من يتحسس اتجاه مواطنيه، والشعب بغريزة الحياة يلتمس دائماً مخرجا من محنه؛ فما علينا إلا أن نبصره بذلك المخرج جامعين آماله حول فكرة موحدة نستمد منها مبادئ العمل. ولابد لنا من أن نروضه على ما ندعو إليه حتى يستقر بوعيه أن الخير لابد آت مما ارتضاه من نظام، ولنضرب لذلك مثلاً بنظام الحكم في بلادنا: ملك دستوري نرى فيه رمز الوطن وعزته ونضعه جميعاً موضع التقديس، حريصين على أن تظل ذاته بعيدة كل البعد عما نقتتل حوله من مبادئ الحكم ووسائله؛ وحياة نيابية وضعنا أسسها وفقاً لخير الدساتير. وتلك فكرة لاشك أن الأمة مجمعة عليها اليوم. ولكنك لو أنعمت النظر لوجدت أن هذا الإجماع لم يتغلغل بعد في إيمان الشعب ولا استقرت فوائده بنفوسهم ولا أدل على ذلك من انعدام ثقة الأمة بالانتخابات ونتائجها. ولعل في موقف أغلبية الناخبين - وبخاصة المثقفين منهم - من تلك الانتخابات أكبر دليل على صحة ما نقول. فما لقيت أحداً من مستنيري العقلاء إلا أخبرني أنه لم يشترك في الانتخابات طول حياته مرة واحدة، بل ولا يعلم أهو مقيد بجداولها أم لا، وتلك حالة تستحق النظر لأننا نخشى أن تدل على أن النظم قد سبقت إيمان الشعب وعقليته. ومن هنا أما يكون من الواجب أن نأخذ الأفراد بالقسر فنرغمهم على استعمال هذا الحق بل النهوض بهذا الواجب، فنجعل التصويت إجبارياً كما جعلته إسبانياً عندما كانت حديثة العهد بالنظم النيابية، وإلا فما فائدة نظام لا يتمتع بثقة ولا يتعلق بإيمان، ثم ما عمل القادة أن لم يروضوا الأفراد على ما فيه خيرهم؟
وأنت لابد ملاحظ نفس الظاهرة في الحياة الاجتماعية؛ ومشكلتنا الكبرى اليوم هي توازن الطبقات الاجتماعية، ولا يستطيع أحدنا أن ينكر أن بالأمة قاطبة نزوعاً إلى عدالة أتم(590/2)
ومساواة أحكم مما نحن فيه الآن. ولكنك تنظر فترى التبلبل في وسائل ما يحقق هذا النزوع، وقد أتلفت الشهوات حقائق الأشياء. فالخصومات السياسية وبالأصح الخصومات الشخصية قد أوشكت أن تعمي عن الأمة الحقائق. ونحن في الواقع أمام ثلاث مشاكل لكل منها حلها الواضح: مشكلة الاستغلال السياسي، ومشكلة أثرياء الحرب، ثم مشكلة الظلم الاجتماعي المزمنة المتأصلة، وتلك الأخيرة هي التي يجب أن يجتمع حولها تفكيرنا المذهبي، وأما الظاهرتان الأخريان فعارضتان، ومن حق أمة تحترم نفسها أن تحسمهما بالعمل العادل لا بالتلطيخ المزري. فإذا كان هناك استغلال سياسي قد حدث فأمامنا قضاة ومستشارون لا زالت الأمة تأمل فيهم الخير ومن حقها عليهم أن يقولوا في هذا الاستغلال رأيهم فإما براءة وأما إدانة، وفي كلتا الحالتين ستبرأ كرامة هذه الأمة البائسة. ومن الواجب أن نذكر الجميع بأن الاستغلال السياسي لا يمكن أن يكون السبب الوحيد في إثراء البعض وافتقار الآخرين فنحن الآن في حرب عالمية طاحنة قد غيرت من كافة وسائل الإنتاج والتجارة، وفي جميع أنحاء العالم وفي جميع أطوار التاريخ قد صحبت الحروب دائماً أكبر الاضطرابات الاجتماعية، فآلاف من الصناع والتجار بل والعمال قد أثروا دون أن تكون لهم بهذا العظيم أو ذاك صلة قرابة أو نسب، ونحن بعيدون عن أن ندعو إلى الرفق بهؤلاء المثرين الذين امتصوا دماء الشعب، ولكننا ندعو إلى إجراءات عامة تتناول الجميع كما يفعلون بالبلاد المتحضرة بدلاً من أن نقف عند شخص أو أشخاص بذاتهم متخذين منهم هدفاً لصغائر أحقادنا. إن من حق هذه الأمة أن يحاسب جميع أثرياء الحرب عن ثرواتهم وأن يرد ما اكتسب منها بغير وجه مشروع إلى خزانة الدولة. ولا يرهبنا في شيء أن ننادي بفرض ضريبة مستغرقة على رؤوس الأموال التي جمعت أثناء هذه الحرب، وأما ما سمعناه من فرض ضريبة على الأرباح الاستثنائية فتلك في الحق مهزلة. الواجب هو أن ترد رؤوس الأموال ذاتها لا أرباحها الخارقة، ترد من الجميع، لا من هذا الوجيه أو ذاك فحسب، وذلك أكرم على هذه الأمة وأعدل في النظر الإنساني السليم مما نغرق فيه اليوم من مهاترات. وهاتان المشكلتان بعد عارضتان كما قلنا، وما ينبغي أن تصرفانا عن المشكلة الكبرى، مشكلة العدالة الاجتماعية بين الطبقات. فهذه هي الفكرة المذهبية التي لابد للأمة من التعلق بها، وسبيل علاجها أيضاً هو التشريع وإصلاح نظامنا المالي والأخذ فيه(590/3)
بنظام التصاعد، ومما يحزننا ألا تقتصر محنتنا الحاضرة على إتلاف سياستنا القومية، فتصرفنا عن الجهاد في سبيل استقلال الوطن وتحريره تحريراً صحيحاً إلى محاربة بعضنا بعضاً بكافة السبل، حتى أصبحنا جميعاً كفيران في مصيدة حارسها لا يجهله أحد، وكل من ثارت نخوته سنة 1919 يعرف اليوم في حزن أننا جميعاً على ضلال. نقول إن محنتنا الحاضرة لا تقتصر على هذا التلف القومي المحزن، بل تمتد أيضاً إلى حياتنا الاجتماعية فتصرفنا عن التفكير في مشكلتنا العميقة، مشكلة العدالة الاجتماعية إلى مشكلتي الاستغلال والإثراء العارضتين، وبذلك تنحرف أيضاً بتفكيرنا المذهبي عن هدفه الحقيقي
والأمر في حياتنا الثقافية مثله كمثل حياتنا السياسية والاجتماعية سواء بسواء، فمن الناس وهم كثير من لا يزال يزج بالنعرات القومية والدينية في مجال الثقافة ليتلف علينا حياتنا عن جهل، فتسمع مقابلات عجيبة بين روحية الشرق ومادية الغرب، كان الغرب لا روح فيه والشرق لا مادة به. والمشكلة الحقيقية ليست مشكلة ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وإنما هي مشكلة الثقافة أو الجهل، وهذه أيضاً فكرة مذهبية يجب أن يستقر عندها ضمير الأمة حتى تستقيم لنا الحياة. هنالك ثقافة إنسانية موحدة نشأت في الشرق، ثم انتقلت إلى الغرب الذي احتضنها دون أن يستنكف من صدورها عن غيره. ثم نأتي اليوم نحن الحمقى فنجادل جدلاً عقيماً في وجوب استردادها منه أو رفضها. ومن عجب أن ترانا جميعاً آخذين في هذا الاسترداد بالفعل، ومع ذلك نجادل في هل نحن على حق أو باطل، إن كنا على باطل فلنتخل إذن عن جميع مظاهر الحياة المادية التي تحوطنا من جميع النواحي، فكلها غربية، بل لنتخل عن مدارسنا وجامعاتنا ومناهج بحثنا، ولنرجع إلى (الكتاب) والحفظ عن ظهر قلب، ولنستمر في (العنقلة) ومناقشة الألفاظ كما عهدها الأزهر القديم وفي هذا المجال أيضاً تعمل أمراض النفوس وعقدها ومركباتها المختلفة أسوأ العمل، فالجاهلون بلغات الغرب يرون أنفسهم محرومين من وسائل التحصيل وإذا بالعجز يرتدي في نفوسهم أزهى الأثواب، فيناهضون ثقافة الغرب زاعمين أنها مخالفة لروحنا مدمرة لأصالتنا، وهم مع ذلك لا يتعففون عن أن يأخذوا بما يصل إليهم من فتاتها
لقد حان الحين لأن يستقيم تفكيرنا على أساس مذهبي يرتفع بقلوبنا عن حزازات الأشخاص ومهاترات الشوارع. لقد حان الحين لأن يلقى النفر المثقف منا ثقافة حقيقية(590/4)
بنفسه إلى المعركة، فبئس مواطن يستحوز على قلبه اليأس. بئس مواطن يغطي يأسه بتعال حقير. الوطن ملك لنا جميعاً كما كان ملكاً لآبائنا وكما سيكون ملكاً لأبنائنا، ومصائره اليوم معلقة في الخارج وفي الداخل وأهول ما نخشاه أن ننصرف عن أهدافنا الحقيقية إلى صغائر الأمور
محمد مندور(590/5)
فوضى الأدب في مصر
للدكتور محمد صبري
تكلمت في مقال سابق عن التبعة التي تقع على عاتق مجلاتنا الأدبية الكبرى، من جراء تيسير نشر مقالات (لكتاب) معروفين بالفهم السقيم والغباوة. وقد خشي قوم أن نرمي إلى الحد من حرية النقد، والواقع أنه لا نقد في مصر
قد نقرأ في الصحف من آونة لأخرى مقالاً قيماً مفعماً بالرزانة والاعتدال، وسطاً بين الإفراط والتفريط، ولكن الشاذ لا يمكن اتخاذه قاعدة في الحكم على الأشياء. وقل أن تجد كاتباً في نقده الكتب يدرسها ويحللها كما يفعل كتاب الغرب. وأكثر ما نرى الإفراط في المدح تارة، وفي الذم طوراً. ومن الغريب أن كتابة أولئك النقاد لا يمكن (مناقشتها) لأنها لا تستند إلى منطق من الذوق أو الفهم، وإنما تستند إلى شهوة تدفع صاحبها إلى الكتابة إرضاء لغاية شخصية أو إرواء لغلة حسد أو حقد تأكل صدره
وخير لأولئك النفر أن يريحوا أنفسهم قليلاً فانهم لن يبلغوا الجبال طولاً، ولن يخرقوا السماء أو الأرض بقلمهم، ولن يقف الفلك الدوار من جراء ما يكتبون
وفي مصر (كتاب) كثيرون يتوهمون أنهم في مقدورهم أن يأخذوا الشهرة غلاباً، وأن يسخروا التاريخ لتسجيل ما تكتبه عنهم الصحف، أو ما يكتبونه هم عن أنفسهم في الصحف، وما ينتحلونه من صفات، كأن يدعوا أنهم من (كبار) الكتاب. وإني لأذكر بهذه المناسبة أن ممثلاً أعلن عن نفسه مرة أنه (الممثل العالمي) وأعلن عن شوقي في الوقت نفسه أنه (شاعر النيل). ولما كان العالم يسع النيل والسين والطونة والرين ومئات الأنهار والبلاد أخذت شخصية شاعرنا تتضاءل شيئاً فشيئاً، بينما وقف الممثل كالمارد الضخم يطأ بإحدى رجليه المشرق وبالأخرى المغرب. . .
وقد وقع كثيرون من رجال السياسة في عين الخطأ الذي وقع فيه بعض رجال الأدب، فأصبحوا يعتقدون أن الدعاية هي كل شيء، وأنها (تصنع) التاريخ كأنما كان التاريخ عبداً (نلقنه) ونأمره بكتابة ما نريد فيطيع. . . ناسين أن التاريخ هو أمس واليوم وغداً، وإن الفلك يدور، وأنه في دورته يغربل الحوادث والرجال، ويضع الأمور في نصابها، وأن حياة الأمم مكونة من أجيال فإذا ظلم جيل أنصف جيل، وأن الناس متباينون في طبائعهم(590/6)
ومذاهبهم، وأن هذا التباين نعمة لا نقمة لأنه يكفل نظام البقاء ويمنع الاستبداد بالحياة والشهرة واحتكارهما واغتصاب العظمة وما إليها
ولاشك أن الذوق الأدبي قد ارتفع مستواه في مصر، ولكن مصر يعوزها ذلك الجمهور المستنير الذي يزين بلاد الغرب، وبعبارة أدق وأبين أن أكبر نقص يعتور حياتنا الاجتماعية هو عدم وجود نخبة وافية من رجال العلم والأدب والسياسة وهو ما يسمى هذا فيما يتعلق بالقمة، أما فيما يتعلق بالقاعدة فيلاحظ عدم وجود طبقة متوسطة. وكل حياة سياسية أو أدبية لا تستند إلى هذه النخبة وإلى تلك الطبقة، فهي حياة مختلة التوازن
فعدم وجود النخبة الكثيرة العدد مثلاً يفسح للمجال أولاً للتحاسد والنزاع بين الأفراد بعضهم وبعض في دائرتهم الضيقة المحدودة، ويفسح للأدعياء طريق التسلل في قطرهم وقلب المقاييس والأوضاع
وكلنا نذكر أن زعيماً كبيراً مرض ذات يوم، وكان مرضه مرض موت، فهرع إليه من الأطباء الحابل والنابل والصغير والكبير. . . وكانت دقة الحالة تستدعي بالطبع أن لا يذهب إليه إلا الراسخ في صناعته المقدم على أهلها، وأن يتنحى الصغير للكبير عن مكانه دون النظر إلى رتبة يحملها أو لون سياسي يتباهى به. وسبب هذه الفوضى هو كما قلنا عدم وجود نخبة وافية من الأطباء تؤلف كتلة متزنة في نظامها
وهذه الفوضى نشاهدها في الأدب كما نشاهدها في الطب ونشاهدها في جميع أنواع الحياة العامة في مصر. والعجيب أن الأدعياء يجدون صحفاً ومجلات تنشر لهم. والأدعياء في مصر فريقان: فريق المتأدبين الأغبياء الذين يحاولون الوصول بكل الوسائل ظناً منهم أن مجرد الحصول على (شهادة) أو مجرد تأليف كتاب أو ألف كتاب يكفي لاكتسابهم صفة الأدباء. وفريق الأدباء الذين وصلوا بطرق ملتوية إلى الشهرة واغتصبوها اغتصاباً، فألئك يزعجهم ويقض مضاجعهم أن يتنفس أو يتكلم كل أديب صادق النسب، فهم لا يفتأون يتقلقلون ويتململون وراء ابتسامتهم الصفراء
فالأديب في مصر لا يجد عوناً من أهل صناعته، ولا يجد عوناً من الجمهور، لأن الطبقة المستنيرة لا تعد إلا بالمئات في حين أنها في البلاد الغربية تعد بمئات الآلاف. . . بل ولا يجد عوناً من أصحاب المكاتب والناشرين، فأكثر الأخيرين أميون أو شبه أميين لا يهمهم(590/7)
من نشر الكتب إلا الربح والتجارة ولو ظهرت الكتب مشحونة بالأغلاط ممسوخة. . . وقد عرض أحدهم على مؤلف قبل الحرب أن يطبع له كتاباً ويعطيه خمسة جيني!
وأكثر كتبنا تباع في بلاد الشرق والأقل منها يباع في مصر. وأكثر الكتب رواجاً هي بلا شك الكتب الدينية. . .
وتجد الجمعيات المستشرقة في أوربا أكبر عون في حكوماتهم لطبع الكتب العربية النادرة، ولذلك فإن أهم دواوين العرب وآثارهم. كان أول ظهورها في أوربا، وأوربا هي التي أحيت آدابنا ونشرتها نشراً علمياً، هذه حقيقة مؤلمة تجب مواجهتها
وفي مصر لا تتألف جمعية علمية أو مجمع أو معهد ثقافي أو لجنة استشارية إلا ويصبح فيها أصحاب الأبهات والمناصب أكثرية، ورجال الفن أقلية، والظل الأعوج يتبع العود الأعوج.
محمد صبري(590/8)
ثقافة أبي تمام وأثرها في تعقيد شعره
للأستاذ دريني خشبة
منذ عهد قريب كنت أقرأ ذلك الكتيب الصغير الذي كتبه جلبرت موري عن بطل الدرامة اليونانية الأشهر يوريبيدز فلفتت نظري عبارة عجيبة للمؤلف نسب فيها انصراف اليونانيين عن شاعرهم العظيم الخالد وقلة احتفالهم بفنه المسرحي من وجهتيه الشكلية والموضوعية إلى جملة أسباب كان أهمها (وضوحه)، ووصوله بسرعة إلى إفهام النظارة!. . . ثم تكلم موري بهذه المناسبة عن الأمة الإنجليزية، فذكر أن الإنجليز مثل اليونانيين القدماء، يكرهون أن يكون الشاعر واضحاً، ويؤثرون أن يكون في الشعر بعض الغموض، أو كثير من الغموض، الذي يستثير العقل ويحفزه إن كان خادماً، ولا بأس أن يعنيه، بل أن يضيفه أحياناً، أما الشعر العادي - يقصد الواضح السهل الذي لا يجشم القارئ نصباً - فهو أسخف ألوان الشعر في نظر هذه الأمة العجيبة التي أمدت العالم بخير شعرائه المحدثين. . . وافتخر المؤلف بأن الإنجليز قراء مهرة، وانهم سريعو الإدراك. أو: - كما يعبر هو، فالشاعر الذي يكفيهم مؤنة التفكير في شعره بجعله واضحاً، أو بإسرافه في جعله واضحاً هو أسخف الشعراء في نظرهم، لأن شعره هذا السهل المشرق الصافي ينيم أذهانهم ولا يكدها. . . وهم يكرهون ألا تكد أذهانهم بما يقرءون. . . ثم يتظرف موري فيقرر أنه ما على الشاعر إلا أن يغمض في شعره بعض الغموض، أو كل الغموض، ليخدع هؤلاء الإنجليز عن أنفسهم - وربما عن نفسه! - وليفوز بينهم بالمكانة العليا، ومنزلة الشاعر العبقري!
أما عندنا، فنحن نضيق بالشاعر الغامض ونلعنه. . . ويظهر أن في طبيعة أمزجة الشعوب العربية ما يحبب إليها اليسر والمرح، ويزهدها في العناء في التفكير. . . وذلك لأن طبيعة البيئة في أوطان تلك الشعوب سهلة غير معقدة، شأنها في اليونان وفي إنجلترا، حيث اختلاف المناظر وكثرتها وتعقيدها أحياناً يورث اليونانيين والإنجليز مزاجاً أعمق وتفكيراً أهدأ، وأشد غوراً، فلا يضيقون بالغموض في شعر شعرائهم، بل يغرمون به، في حين يضيقون بالشعر السهل الواضح الذي لا مجال فيه لإعمال الفكر، ويعدونه شعراً سخيفاً قليل الخطر منخفض الدرجة.(590/9)
ولست أعلل ثورة دعبل وابن الأعرابي والآمدي ومن إليهم ممن قدحوا في شعر أبي تمام وعابوه بالغموض، والبعد عن عمود الشعر العربي إلا بطبيعة هذا المزاج المشرق المرح، الذي يستمد كيانه من طبيعة بيئة الشعوب العربية. . . ويتجلى ذلك المزاج في تحمس الآمدي للبحتري، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، وتفضيله شعر البحتري لسهولته ووضوحه وإشراقه، والتواء شعر أبي تمام وتعقده وغموضه، وثورته على طبيعة الفهم العربي الوادع المرح الذي يبغض الالتواء والتعقيد والغموض. وقد رزق الله أبا تمام كثيرين من النقاد العرب الذين هبوا ينافحون عنه ويدافعون عن طريقته، وفي مقدمتهم، أو على رأسهم، أبو بكر محمد بن يحيي الصولي، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي برهن بدفاعه المجيد عن شاعرنا الخالد على أن فينا أمزجة تشبه هذه الأمزجة اليونانية والإنجليزية المولعة بالغموض في الشعر، التي تؤثر الالتواء والتعقيد فالحمد لله، وشكراً لأبي بكر الصولي!
وأكثر المؤرخين على أن أبا تمام ولد في جاسم إحدى قرى دمشق، وأقلهم - وفيهم صاحب الأغاني - على أنه ولد في إحدى قرى منبج.
وأكثر المؤرخين على أنه عربي من قبيلة طيء، وأكثر هو من الفخر بذلك في شعره. . ثم أقلهم على أنه ليس من طيء في الذيل ولا الذؤابة، بل أنه ابن رجل يوناني نصراني أسلم، وكان يدعى (تدوس) أو تيودوس فعدل به أبو تمام إلى أوس، فصار يدعى أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، فراراً عن هذه اليونانية التي كانت تكون له شرفاً لو أنها صحيحة، لا عاراً كما أراد أعداؤه أن ينالوا منه، ويقدحوا في نسبه، لأن ذلك يزكي مذهبه في الشعر ويجعل له أصولا وراثية من دماء هؤلاء اليونانيين الذين غضوا من شعر يوريبيدز في عصره لسهولته ووضوحه ويسره
وسافر أبو تمام إلى مصر بعد أن أيفع بالشام، وكان أبوه خماراً، وكان هو حائكا، كما جاء في تاريخه المضطرب. . . وأكبر الظن أنه لذلك لم ينتفع في الشام بعلم ولا أدب، وأن السنوات الخمس التي عاشها في مصر كانت فترة التعليم الجامعي الذي انتفع به أبو تمام، وشدا منه تلك الذخيرة من دروس الجامع الكبير، أو مسجد عمرو بالفسطاط مستعيناً عليها بسقاية الماء. . . ثم شد رحله إلى المشرق بعد أن تمكن من نظم الشعر في مصر تمكناً(590/10)
جعله سيد شعراء عصره عشرين عاماً كاملة بإجماع النقاد. فإذا عرفنا أن أبا تمام لم يتجاوز الأربعين، أو تجاوزها قليلاً ثم مات. . . عرفنا أنه ثقف الشعر في مصر. وحصل جميع علومه في مصر. وأن مصر قد صنعت الجزء الأكبر من أدب أبي تمام وعلمه وشعره. وأنه حينما سافر إلى العراق سافر إليه وقد نضج عقله وقلبه بكل ما كانا يفيضان به من علم وشعر. فإن يكن قد انتفع في بغداد والبصرة والكوفة بعلم أو أدب. فليس يعدو ذلك اطلاع الأديب الذي اشتد عوده والذي لا غنى لثقافته عن مواصلة القراءة. . . والمقارنة بين مدارس الفكر المختلفة. يتقلب من اجلها بين البلاد:
خليفة الخِضْر من يربعْ على وطن ... في بلدة، فظهور العِيس أوطاني
بالشام أهلي. وبغداد الهوى. وأنا ... بالرقمتين. وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تُشافِه بي أقصى خراسان
خلّفت بالأفق الغربي لي سكنا ... قد كان عيشي به حُلواً بحلوان
فإخوان أبي تمام الذين تركهم وراءه في مصر هم أخدان الصبا وأصدقاء الشباب وشركاؤه في أيام الدرس والتحصيل. . . وطالما تذكرهم أبو تمام بعد ذلك، وسجل ذكره لهم في شعره:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... واخوتي أسوة عندي وإخواني
في دهري الأول المذموم أعرفهم ... فالآن أنكرهم في دهريَ الثاني؟
عصابة جاوزت آدابهم أدبي ... فهم وإن فُرّقوا في الأرض جيراني؟
أرواحنا من مكان واحد وغدت ... أبداننا بشام أو خراسان
ورُبّ نائي المغاني روحه أبدا ... لَصُيق روحي ودانٍ ليس بالداني
ولله ما أسعد تلك العصابة من الأصدقاء الأوداء الذين تتجاوز آدابهم، وتتنافس ثقافاتهم، وتسفر بينهم قصائد الشعر ورسائل الأدب. . . وقد ثبت أن أبا تمام قد نظم كثيراً من غرر شعره وهو في مصر، وأنه عندما ذهب إلى العراق وأخذ في إنشاد أشعاره، وقف الناس منها موقف المشدوه الذي يرى فيها شيئاً جديداً لم تتعوده أذنه، ولم يعرفه فيما عرف من أشعار العرب فكان الذي يستطيع فهمها يستحسنها، ويشهد لها بالجدة والجمال، أما الذين كانت تستعصي عليهم، وتضيق بها أخيلتهم، فكانوا يشتدون في إنكارها كما يشتدون في(590/11)
خصومة نظمها، وإن كان بعض الطاعنين على أبي تمام لا يملك أحياناً إلا أن يصفق له. . . وقد كان أبو بكر الصولي لبقاً في سوق أمثلة ذلك. ولهذا فنحن نرى أن أبا تمام قد ذهب إلى العراق حينما ذهب إليه، بفن جديد أنشأه في مصر، وضع فيها أصوله، وقعد قواعده، ووشاه بذوقه المتفرد المفتن الجبار. . . وحسبنا أن نقرأ قصائده الأولى التي أنشدها في العراق لنعلم كيف فجأ الناس بها وبما تضمنته من غرائب هذا الفن الجديد العجيب. . . وليس يصح في الأذهان أن أبا تمام ابتدع ذلك كله بالعراق فجأة، لأن قصائده الأولى هذه تشبه قصائده الأخيرة في كل مشخصاتها ومقوماتها، وربما كان بعض المتقدم منها أجود من بعض المتأخر
ولعل القارئ يسأل: ما بالنا نبدأ في ذلك ونعيد، وماذا نبتغي ما إثبات فضل مصر على أبي تمام؟ والجواب على هذا لا يخلو من أن نشغب على أستاذنا الدكتور طه حسين الذي أنكر هذا الفضل على مصر، وجعل العراق وحده هو الوطن العقلي لأبي تمام، وذلك في محاضرته التي ألقاها عن أبي تمام وضمنها كتابه الفريد المفيد (من أحاديث الشعر والنثر) ونعود فنقول إن السنين العشرين التي تفرد فيها أبو تمام بجوائز الملوك والأمراء، والتي كان فيها جميعاً فارس حلبة الشعر، قد بدأت حينما بدأ أبو تمام حياته في العراق، وهو إذ ذاك في حدود العشرين من عمره أو فيما يقاربها، فأين إذاً نما غراسه الأول إن لم يكن قد نما واشتد وآتى أكله في مصر؟
ونحن لا ننكر أن أساتذة أبي العلاء في الشعر العربي لم يكونوا من المصريين، لأن أحدهما هو أبو نؤاس، والثاني هو مسلم ابن الوليد، وكان أبو تمام يعجب بهما ويسطو على آثارهما، ينتهب منها ما يشاء. فيغمض فيه، ويزيد عليه، ثم يغرب ويغلو في الأغراب، حتى تكون البضاعة له خاصة آخر الأمر: وفي ذلك يقول الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك:
(وليس أحد من الشعراء - أعزك الله - يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام؛ ومتى أخذ معنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به. . .)
وسئل دعبل - أشد خصوم أبي تمام - عن شعره فقال:(590/12)
ثلث شعره سرقة، وثلثه غث، وثلثه صالح
وأنشد ابن الأعرابي شعراً لأبي تمام فقال: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل!
ولأبي العنبس، ولابن مهرويه، كلمات في أبي تمام من هذا القبيل، ولم يكن أحد ينتصف لأبي تمام بمثل ما انتصف له الصولي
فكيف يكون العراق وطن أبي تمام العقلي، وقد كان مذهبه في الشعر غريباً على العراق إلى هذا الحد؟
(يتبع)
دريني خشبة(590/13)
على نمط المقامات
في العيد
للأستاذ علي متولي صلاح
حدثنا أبو الحسن الفسطاطي قال:
قضيت شهر رمضان المعظم هذا العام - إلا أقله - في عزلة عن الحياة، أتقرب بالعزلة إلى الله، وأبتهل إليه وأبتغي رضاه، فكنت أقضي النهار صياماً، والليل قياماً، وألزمت نفسي ألا تنطق إلا لماماً، وألا تقارف آثاماً، وألا تقول إلا سلاماً، والتزمت هذه الحال ثمانياً وعشرين من الليال. . .
ولما أوشك رمضان الكريم على النهاية، وأشرف على الغاية، حدثتني النفس الأمارة بالسوء، التواقة دائماً إلى ما يسوء، أن أنفلت من هذا العقال، وأتحلل من تلك الأغلال، وأسعد نفسي بالأنس بين الصحاب، والسمر بين الأحباب، وأنقل وإياهم الحديث في العلوم والآداب، فذلك عندي وعندهم أشهى الرغاب، وما خضنا علم الله يوماً في حديث نم أو اغتياب، ولا ذكرنا وقاك الله حديث أعراض ولا أنساب. . .
قصدت إلى تلك الصومعة الجميلة، والظلة الظليلة، صومعة الأدب والأدباء، ومثوى الشعر والشعراء، تلك التي أنشأها مقام الأستاذ الزيات بالمنصورة الحبيبة حينا من الدهر، كان والله في مثل عمر الزهر، وكان - وحقك - عهداً ما برحت نشوته في الفؤاد، وما زال برده في الأكباد، وما فتئ حديثه هو الحديث المعاد، ليته بقي ودام، إلى هاتيك الأيام. . .
وفي جوار تلك (الكافورة الحسناء) الكاملة البهاء، الحانية على النيل الجميل كأنها الرحمة والعطف والمحبة تهبط من السماء، تلك التي خلدها الزيات بآيات من السحر، ما هي من نثر، ولا هي من شعر، ولكنها من الدر والتبر، في جوارها أخذت مكاني، وآثرت الجلوس منتظراً إخواني، وطال بي المكث والانتظار، وما وافاني منهم ديار، ولا نافخ نار، فجلست وحدي أتأمل ما يفعل الناس في شهر الصيام وما يقولون، وفي أي حديث يخوضون، فما راعني إلا أن أسمع الناس يسبون شهر رمضان ويلعنون، ويتضجرون منه ويتململون، ويودون فراقه ويشتهون، ويصفونه بأقبح الصفات، ويشيعونه بأسوأ اللعنات، فسألت نفسي فيم يصوم هؤلاء ويمسكون؟ ومازالوا باللغو والباطل يتمسكون؟ أم هم على الصيام(590/14)
والإمساك مكروهون؟. . . والصوم كما أفهم عبادة مردها إلى الضمائر، ومرجعها إلى السرائر، ليست عبادة نفاق، ولا تجارة للإرتزاق، ولا يقصد بها سوى الخلاق! ومن أراد أن يبدو للناس صائماً وهو عند الله مفطر كان ذلك عليه يسيرا، لا عسيرا! أما أن يمسك عن الطعام، ولا يفتأ يسب الصيام، كأنه على فعله مسير، لا مخير، فذلك ما لا أستطيع له تأويلا، ولا أعرف له تعليلا. . . ورجعت إلى داري وقد انتصف الليل أو كاد، وأنا في إبراق وإرعاد، أسب هؤلاء الأوغاد، وأحمد الله على تلك الوحدة والانفراد. . .
وفي الليلة التالية - وكانت آخر ليالي رمضان - ذهبت كدأبي إلى مكاني المعهود، ومراحي المنشود، فما عتمت أن رأيت الناس وقد تنفسوا الصعداء، وأبرقت أساريرهم بالبشر والصفاء، كأنما انحطت أثقالهم، وانفكت أغلالهم، وتحللوا من وقر لا يطيقونه، وأسر لا يحتملونه، ولا حديث لهم إلا ما كانوا يحرمون في رمضان من لذات، ويمنعون من طيبات، ورأيت فيما رأيت بعد برهة شخصاً يخب في المسير، حتى ليكاد أن يطير، فلما وقع بصره على إخوانه في السهر، ورفاقه في ليالي السمر، صاح فيهم يقول:
رمضان ولى هاتها يا ساقي. . .!!
فرد عليه جميعهم في صوات واحد، وكل منهم يشير إلى صدر نفسه قائلاً:
مشتاقة تسعى إلى مشتاق!
وسرعان ما أداروا بينهم الكؤوس، حتى مالت الرؤوس فحوقلت ورجعت، ومن الشيطان بالله استعذت، وقلت: ليلة أخرى أحتسبها عند الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهرولت إلى بيتي كأسف البال، سيئ الحال، أعجب كيف لم يهذب الصيام تلك القلوب الكاشحة، ولم يكبح تلك الطبائع الجامحة. . .
وفي فجر يوم العيد الأغر، وبعد انبلاج صبحه الأزهر، خرجت ألتمس العظات، بزيارة الأموات، فقصدت إلى تلك الصحراء الموحشة التي ينتهي إليها الجميع، الرفيع منهم والوضيع؛ والمتبوع منهم والتبيع، تلك التي تسكن النفوس عندها وتخشع، وتتأمل القلوب لديها وتخضع، وتزهد الطامع فيما فيه يطمع، واليه ينزع،. . . فإذا بي أرى عندها مما تندى له الجباه، ما لا يصل الخيال إلى مداه! وما ظنك بنساء حول المقابر متبذلات، غير محتشمات، ولا مؤدبات؟ قد أخذن زخرفهن وازين بأفخر اللباس، ليبهرن عقول الناس؟(590/15)
ورجال قد خلعوا العذار، وتركوا الوقار، ونصبوا الحلقات للأحاديث والأسمار، لا للعظة والاعتبار، كأنهم وحقك في قصور، لا في قبور!
وشبان مفتونين قد جاءوا إلى المقابر جماعات، يسعون وراء الغادات، الرائحات الغاديات، ويغمزون لهن بأطراف الأحداق، ويبثونهن لواعج الصبابة والأشواق، ويظهرون لهن العشق والهوى، والهيام والجوى، ونسوا ما حولهم من الرجام! التي توحي بالآيات العظام، وتنسي الحب والغرام!
فلما شاهدت هذه الأباطيل ضاقت نفسي، وهاج حسي، وعدت إلى داري وصرت حلسها إلى وقت الأصيل، فخرجت بلا صديق ولا دليل، أنعم النظر في مشاهد العيد وأطيل، فما كادت والله تقع عيني إلا على شر، ولا ترى غير هزل ونكر، ولا تكاد تسمع أذني إلا الفحش والهجر، أفواج من الآدميين سائرون كالبهم هنا وهناك بلا أغراض ولا أهداف، كأنهم قطيع من الخراف، يسيرون - وقاك الله - كما تشاء لهم أرجلهم عن اليمين أو عن اليسار أو في المنتصف مشية الفرح والزهو والسرور، استمتاعاً بما تبيحه لهم حرية السير والمرور!
وعربات تكدست بالأجسام التي تتغنى بأنكر الأصوات، وأقبح النغمات، كأنها خوار ثيران، أو نهيق قطعان، ومجالس ومجتمعات لا للصلاة ولا للدعاء ولا للسجود، ولكنها لابنة العنقود! وناهيك بما يدور فيها من حديث الإفك والبهتان، والغيبة في الأبرياء والعدوان، مما تحرمه الأديان، ويستنكره الديان، ولا يليق بطبيعة الإنسان!
وكم وراء الستار في ليالي العيد من أمور! وكم يخفي ظلام أمسياته من فجور! وكم تباح حرمات، وتنال شهوات، وتدرك غايات! كأن الناس ما كانوا منذ يوم لله صائمين، ولحدوده ملتزمين، أو كأنهم كانوا في صيامهم هازلين لا جادين:
قال أبو الحسن: فلما رأيت هذه الحال، وذلك المآل، فزعت إلى الله أقرأ في كتابه، وأقف خاشعاً عند بابه، وأستزيد من رحمته ومن ثوابه، واطلب للناس الهدى والرشاد، والصواب والسداد، ثم أنشدت:
ما صام من أمسك عن طعامه ... ولم يصم عن اقتراف إثمه
الصوم أن تمسك عن عدوان ... وعن أذى. . . في السر والإعلان(590/16)
إن لم يهذب بالصيام الطبع ... فما وراء أن تجوع. . . نفع!
(المنصورة)
علي متولي صلاح(590/17)
قضية المرأة!
للأستاذ زكريا إبراهيم
قضية المرأة قضية قديمة قدم العقل الإنساني نفسه، فإن الإنسان منذ خلق ولوع بالتمييز والمفاضلة، حريص على تعرف أوجه الخلاف والمماثلة، وقد وجد الإنسان موضعاً للتفرقة بين المرأة والرجل، فخلق لنفسه من ذلك مشكلة، وكان الرجل هو المسيطر، فتلبست المشكلة بالمرأة، ومن ثم نشأت تلك القضية الصعبة، (قضية المرأة) لا الرجل!
وعلى الرغم من كثرة المناقشات التي أثيرت حول المفاضلة بين الرجل والمرأة، أو المساواة بينهما، فإن قضية المرأة لا تزال مستعصية على الحل، لأن وضع المشكلة نفسه ليس بالوضع الصحيح. والواقع أن كل تلك المناقشات العقيمة، لا يمكن أن يترتب عليها إلا أن تزيد المشكلة تعقداً وتشابكاً، لأن من شأنها أن توقف المرأة وجهاً لوجه أمام الرجل، تناضله وتذود عن نفسها، كأنما هي بازاء خصم عنيد جائر!
ولكن الأمر ليس من هذا في كثير أو قليل، فإن الصلة التي تربط بين الجنسين، ليس صلة (تفضيل)، وإنما هي صلة (تكميل) فكل مفاضلة بين الرجل والمرأة هي عبث لا طائل تحته، لأن المجال الذي يعمل فيه كل منهما يختلف عن المجال الذي يعمل فيه الآخر. ولما كان الزواج هو الوحدة التي تجمع بين الجنسين، فإن النقص الذي يوجد لدى المرأة يستحيل إلى كمال إذا اقترنت بالرجل، والنقص الذي يوجد لدى الرجل يستحيل إلى كمال أيضاً إذا اقترن بالمرأة، فيذهب نقصها في كماله، ويذهب نقصه في كمالها، ويخرج من ذلك الإنسان الكامل! وقد أراد القديس أوغسطينوس أن يعبر عن فكرة تضافر الجنسين فقال: (لو أراد الله أن تكون المرأة حاكمة على الرجل لخلقها من رأس آدم؛ ولو أراد لها أن تكون أسيرة له، لخلقها من رجله؛ ولكنه خلقها من ضلعه، لأنه أراد أن يجعل منها شريكة للرجل، مساوية له)
بيد أن هذا لا يعني أن المرأة والرجل على حد سوى، وإنما هو يعني أنه ليس ثمة وجه للمفاضلة بين الاثنين. فإذا استثنينا ما يرجع إلى الجنس، قلنا أن الرجل والمرأة سواء. وكل ما بين الرجل والمرأة من فرق في الناحية الجنسية، فذلك لضرورة تحتمها الوظيفة التي ينهض بها كل في المجال الذي اختصته الطبيعة به. وهذه الضرورة قد جعلت المرأة(590/18)
تميل إلى التعشق الذاتي والاكتفاء بالذات، في حين جعلت الرجل يميل إلى التعشق الغيري والخروج عن الذات. فالمرأة - كما يقول فرويد - حينما يكتمل نموها وتنضج أعضاؤها الجنسية (بعد أن كانت من قبل في حالة كمون يتزايد لديها الشعور بالتعشق الذاتي، فتنزع إلى الاكتفاء بذاتها - وتزداد قوة هذا النزوع إذا صاحبه اكتمال في الأنوثة والجمال، فيترتب على ذلك أن تعشق المرأة نفسها (فحسب) عشقاً يقرب في شدته من عشق الرجل لها. ولهذا نجد أن المرأة لا تريد أن تحب، بل أن تكون محبوبة، فإنها بطبيعتها لا تريد أن تكون طالبة، بل أن تكون مطلوبة. وإذا تهيأ للمرأة حظ كبير من هذا (التعشق الذاتي) فإنها تكون جذابة إلى أبعد حد، لأن التعشق الذاتي من شأنه أن يجتذب انتباه أولئك الذين تخلوا عن جزء من عشقهم الذاتي، وراحوا يلتمسون (موضوعاً) آخر لعشقهم - والسر في هذه الجاذبية، يرجع إلى أن المرأة (النرجسية) تكون في العادة جميلة الخلقة (لأن فرط الجمال هو الذي يدفع إلى التعشق الذاتي)، فضلا عن أن اكتفاءها بذاتها من شأنه أن يحيطها بهالة سحرية من الغموض المستحب الذي يزيد الرجل ولوعاً بها! ولكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك طائفة أخرى من النساء، يتخذ الحب عندها شكله المعروف لدى الرجال، فتنزع المرأة إلى البحث عن هدف من الجنس الآخر تجعله موضوعاً لحبها؛ ويكون هذا لنزوع مصحوبا بتقدير مبالغ فيه للناحية الجنسية
ويجب أن نلاحظ أن الحاجة الجنسية لدى المرأة تختلف عنها لدى الرجل، فإن اللذة الجنسية عندها ليست غاية في ذاتها كما هي عند الرجل - وإنما هي مجرد وسيلة لغاية أخرى تفوقها، وهي الأمومة: فغريزة الأمومة عند الأنثى أقوى بكثير من الغريزة الجنسية، كما تدلنا على ذلك التجارب التي أجريت على فصائل الحيوان. وإذا كانت المرأة - كما يقول مارانيون - تشعر بميل إلى الحياة الجنسية، فما ذلك إلا لكي تتخذ من الرجل وسيلة تحقق بها غاية الأمومة التي هي عندها كل شيء. ففي أبعد أغوار نفس المرأة، تكمن الرغبة في الأمومة. وهذه الرغبة القوية هي التي تصبغ بصبغتها كل حياة المرأة. أما اللذة الجنسية فهي عند المرأة بمثابة عرض مصاحب يقترن بالشعور الذي تظهره نحو ذلك الرجل الذي اختارته لكي يكون أباً لأولادها. ومن أجل ذلك فانه إذا كان الرجل قد يطلب اللذة الجنسية للذة الجنسية نفسها فإن المرأة لا يمكن أن تقنع بذلك مطلقاً، لأن كل ارتباط(590/19)
يتم بينها وبين الرجل، دون أن تستتبعه ولادة طفل، هو في نظرها عديم الجدوى
ولما كان الحافز الجنسي عند المرأة أقل شدة منه عند الرجل فإن من اليسير على المرأة أن توجه ميلها الجنسي توجيهاً آخر. وبفضل هذه المقدرة، تستطيع المرأة أن تضمن لنفسها العفة بجهد أيسر من الجهد الذي يحتاج إليه الرجل. فهي تستطيع بسهولة أن تجد منفذاً لحاجتها الجنسية، وذلك بالاشتراك في أعمال البر أو القيام ببعض المشروعات الاجتماعية أو باتخاذ بعض الأبناء الخ ولعل من دلائل ضعف الحافز الجنسي لدى المرأة بالنسبة إلى الرجل، أن في استطاعة المرأة بسهولة أن تصادق امرأة أخرى صداقة متينة حارة؛ وهذه الصداقة تصطبغ في بعض الأحيان بصبغة حب الجنس للجنس فتكون مظهراً لإرضاء الحاجة الجنسية عن طريق آخر، حين لا تساعد الظروف على إيجاد المنفذ الطبيعي لهذه الحاجة
ومن ناحية أخرى فإن وظيفة الأمومة قد اقتضت أن تتصف المرأة ببعض الصفات الثانوية الأخرى التي تهيئ لها القيام بالمهمة المعدة لها: فالمرأة أكثر حساسية من الرجل، وأسرع استجابة للمؤثرات الوجدانية. وهي تنظر إلى الحياة من خلال عواطفها ووجداناتها، وكثيراً ما تهتدي عن طريق شعورها إلى حقائق لا يستطيع الرجل أن يهتدي إليها بعقله. وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تلحق بالرجل في ميدان التجريد العقلي فإن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عجز أو قصور، لأن العقل إذا كان يعين الرجل أحياناً على أن يحكم حكماً صحيحاً، فانه أيضاً كثيراً ما يجنح به عن جادة الصواب. وليس من شك في أن المرأة إذا وضعت في موضع القضاء، فإنها لن تصدر أحكامها، إلا وفقاً لما يمليه عليها قلبها وشعورها، ولكن (هل يمكن أن تكون هناك طريقة في الحكم خير من تلك التي نحكم فيها على أفعال الآخرين، بمقتضى العقل المقترن بالعاطفة)؟
(للحديث بقية)
زكريا إبراهيم(590/20)
القضايا الكبرى في الإسلام
قضايا ابن تيمية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 9 -
أخذ الجمود في العلم يخيم على العقول منذ أقفل باب الاجتهاد، وأخذ الحجر على العلماء يتسع قرناً بعد قرن، حتى استحكمت حلقات الجمود في القرن السابع الهجري، فحرم الأخذ في الأصول بغير مذهب الأشعري، وفي الفروع بغير مذاهب الأئمة الأربعة، ومنع الناس من النظر في الفلسفة وعلومها، وبهذا وقف المسلمون عن النهوض في ميدان التنافس بين الأمم، فتأخروا وسبق غيرهم، وصاروا إلى ما نشاهده الآن، مما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى
وبينما كان أهل ذلك القرن يغطون في نومهم، ظهر بينهم ابن تيمية يحطم بعض تلك القيود، ويدعو إلى فتح باب الاجتهاد، ويحاول الخروج في الأصول على مذهب الأشعري، وفي الفروع على مذهب الأئمة الأربعة، ويحارب بدعة التصوف التي لعبت بعقول العامة، وجعلت دينهم ضلالات وخرافات
وهذا الإمام المصلح هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن القاسم بن تيمية، ولد سنة 661هـ بمدينة حمران، وأخذ على علماء عصره، وأكثر من المطالعة والقراءة، حتى فاق الأقران، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف
وقد دعا في الأصول إلى الأخذ بمذهب السلف من الوقوف عند ظاهر النصوص، وترك التأويل الذي يلجأ إليه الأشعري وغيره، وقد جره هذا إلى القول بأن الله في السماء، أخذا بظاهر قوله تعالى في الآية - 16 - من سورة الملك: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) ثم أخذ يدعو إلى منع ما شاع في عصره من التوسل في قضاء الحاجات بغير الله تعالى من الأنبياء والأولياء، ويفتي في الفقه بما قام الدليل عليه عنده، ولو لم يكن موافقاً لما قال به الأئمة الأربعة، ومن ذلك فتواه بأن الطلاق الثلاث من غير(590/21)
تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة
فقامت عليه بذلك قيامة العلماء والفقهاء والمتصوفة، وشكوه إلى السلطان المرة بعد المرة، وكانت أولى شكواهم في شهر ربيع الأول سنة 698هـ فبحث في شكواهم، وحكم بمنعه من الكلام فيما شكوا منه، ثم شكوه ثانياً إلى السلطان في سنة 705هـ فورد مرسوم من السلطان إلى نائب دمشق بامتحانه فيما يعتقده، فعقد له مجلس في (7 من رجب سنة 705) سئل فيه عن عقيدته، فأملى عليهم منها، ثم أحضروا عقيدته التي تسمى الواسطية، فبحثوا في مواضع منها، ثم اجتمعوا في (12 من رجب سنة 705) وندبوا الصفي الهندي ليناقشه، ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني، وقد انتهى الأمر في هذا التحقيق بإشهاده على نفسه أنه شافعي المعتقد
وكان لابن تيمية أشياع وأتباع، فأشاعوا أنه انتصر على خصومه، فغضبوا وقدموا شخصاً من أتباعه إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية، فحكم بتعزيره؛ وكذلك فعل الحنفي باثنين منهم، فقامت فتنة كبيرة بين الشافعية وغيرهم في دمشق، وقد اعتزل فيها القاضي ابن صصري الشافعي القضاء، احتجاجاً على ما أصاب الشافعية من الأذى
فطلب القاضي ابن صصري وابن تيمية إلى القاهرة، وكان أمراؤها قد انقسموا في أمره، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير والقاضي المالكي بالإنكار عليه وعلى أتباعه من الحنابلة، وقد اشتد الأمر عليهم حتى صفع بعضهم، وانتصر له الأمير سلار، فلما وصلا إلى القاهرة قدم ابن تيمية في (12 من شهر رمضان سنة 705) إلى القاضي المالكي لينظر في دعوى خصومه عليه، فقال ابن تيمية: هذا عدوي. ولم يجب عن الدعوى، وقد كرر عليه السؤال فأصر على الامتناع عن الجواب، فأقامه القاضي من المجلس، ثم حكم بحبسه فحبس في برج، وكان الناس يترددون عليه فيه، فلما بلغ القاضي ذلك قال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب
ثم أرسل مرسوم إلى دمشق فقرئ في الجامع على أهلها، ونودي في شوارعها بأن من أعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، وجمع الحنابلة من الصالحية وغيرها فأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي، وكان قاضي الحنابلة ضعيفاً ليست له مكانة في العلم، فبادر إلى إجابتهم في ذلك المعتقد، وقد استكتبوه فكتب لهم بذلك(590/22)
وكان قاضي الحنفية شمس الدين بن الجريري، وهو عالم شجاع لا ترهبه قوة السلطان، ولا يخشى في الحق لومة لائم، فانتصر لابن تيمية على خصومه، وكتب محضراً أثنى عليه فيه بالعلم والفهم، وذكر أن الناس لم يروا مثله منذ ثلاثمائة سنة، وكان جزاؤه على هذه الجرأة العزل من القضاء
وقد سعى الأمير سلار في تخليص ابن تيمية من الحبس، وأحضر القاضي الشافعي والمالكي والحنفي وكلمهم في إخراجه، فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يرجع عما أخذ عليه في الدعوى، وقد أرسلوا إليه مرة بعد مرة فامتنع من الحضور إليهم، وآثر الحبس في الجب على أن يرجع عن عقيدته، ولم يزل في ذلك الجب إلى أن شفع له أمير آل فضل، فأخرج من الحبس في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، وأحضر إلى القلعة وعقد لمباحثته مجلس من الفقهاء، ثم كتب محضر بأنه قال: أنا أشعري
ولكنه لم يكد يخلص من أولئك الفقهاء حتى قامت عليه قيامة المتصوفة، وكان زعيمهم في الثورة عليه ابن عطاء صاحب الحكم المشهورة، فذهبوا إلى القلعة في العشر الوسطى من شوال وادعوا على ابن تيمية أنه يطعن في شيوخ الطريقة، وأنه أنكر الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بتسييره إلى الشام على خيل البريد، وكان القاضي المالكي قد اشتغل عنه بمرض أشرف منه على الموت، ولكنه لم يكد يعلم بمسيره إلى الشام حتى أرسل إلى النائب فرده من نابلس، وأقيمت عليه دعوى عند القاضي ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني، فحكم عليه ثانياً بالسجن في حارة الديلمة، وقد نقل إلى القاضي أن جماعة من أتباعه يترددون عليه، وأنه يكلمهم فيما أنكر عليه مما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، وقد حبس هناك في برج شرقي، وكان موضعه فسيحاً، فقصده أصحابه هناك، وصاروا يدخلون إليه للقراءة عليه، وبحث ما يحتاجون إليه من المسائل، ولم يزل محبوساً إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده، فقبل الشفاعة فيه وأمر بإحضاره من الحبس، وكان حضوره إليه في (18 من شوال سنة 709) فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، وقد اشترط هذا القاضي في صلحه ألا يعود إلى ما أخذ عليه من الأقوال، فقال له الناصر: قد تاب
وقد ثار خصومه عليه بعد ذلك في شهر رمضان سنة 719هـ، لأنه أفتى بأن الطلاق(590/23)
الثلاث من غير تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة، ولم يهدأوا حتى عقد له مجلس في رجب سنة 720هـ، فحكم عليه بالحبس في قلعة دمشق، وقد مكث فيها إلى أن أخرج منها في 10 من المحرم سنة 721هـ
ثم ثاروا عليه في شعبان سنة 722هـ، لأنه أفتى بمنع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فأعيد اعتقاله بتلك القلعة، ولم يزل بها إلى أن مات في 20 من شهر ذي القعدة سنة 738هـ، وكان يوماً مشهوداً، حتى ضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأقل ما قيل في عددهم خمسون ألفاً
وهذه القضايا الخطيرة تمثل لنا أروع معركة علمية قامت في الإسلام بعد إقفال باب الاجتهاد، وتبين لنا كيف أقفل هذا الباب بالقهر والعسف، وأنه لم يقفل بالدليل والإقناع، ولا لمصلحة عامة أو خاصة اقتضت حظره على العلماء
وكم كان ابن تيمية موفقاً في محاولته فتح باب الاجتهاد في الفروع، وإيثاره فيها الدليل من الكتاب والسنة على أقوال الأئمة المعروفين، وكم كان موفقاً أيضاً في حملته على أولئك المتصوفة الذين حشوا أدمغة المسلمين كثيراً من الجهالات والخرافات، ومما أنشد له في ذلك على ألسنة فقرائهم:
والله ما فقرنا اختيارُ ... وإنما فقرنا اضطرارُ
جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
ولكنه لم يكن موفقاً في حجره على العقول في الأصول، والحكم عليها بالوقوف عند ظواهر النصوص، وموقفه في هذا غير منسجم مع موقفه الأول، وقد وقع بهذا فيما وقع فيه خصومه من الحجر على حرية الرأي، وحصر الدين في حدود ضيقة يشتد فيها الحرج على العقول، ولا تتسع للاجتهاد الذي لا شطط فيه ولا انحراف، ولقد كان خصومه منطقيين في جمودهم على كل ما ألفوه، وتحريمهم في الفروع مخالفة الأئمة الأربعة، وفي الأصول مخالفة الإمام الأشعري، ولم يكن هو منطقياً في تسويفه مخالفة تلك الأئمة بالاجتهاد في الأصول، فهو بهذا قد فر من جمود إلى جمود
واضطرابه في ذلك هو الذي لم يجعل منه المصلح السمح الذي يعلو على ما كان يقع فيه(590/24)
خصومه من المجازفة بالتكفير، وجعله يجازف بالتكفير مثلهم، ويشتط في الإنكار على الأشعري وغيره ممن حاول في الدين الجمع بين العقل والنقل، وأخذ في ذلك بالاجتهاد في الأصول، ولم يجمد كما جمد ابن تيمية وغيره على ظواهر النصوص، والإسلام من المرونة بحيث يعلو على ذلك التضييق، وهو الذي أتى برفع الحرج في الدين، ولم يقف من العقل موقف المنابذ المخاصم، بل وقف منه موقف المصالح المسالم
ولو أن ابن تيمية لم يقع في ذلك الاضطراب لكان منه المصلح الذي يتطلبه المسلمون في ذلك العصر، ولأمكنه أن يجمع كلمتهم على الإصلاح اللازم لهم، وهو إصلاح لا يقف عند الحدود الضيقة التي وقف هو عندها، بل يتناول الإصلاح في الدين، والإصلاح في العلم، والإصلاح في الحكم، وما إلى هذا من أمور الدنيا والآخرة
عبد المتعال الصعيدي(590/25)
امتحان الأستاذية الأزهرية
بعد أربعة أعوام
للأستاذ زكي الدين إبراهيم بدوي
منذ نيف وثلاث سنوات حضرت امتحانات العام الدراسي الأول لدرجة (الأستاذية) الأزهرية، وأبديت على صفحات الرسالة الغراء عدة ملاحظات عنت لي بشأن المحاضرات والرسائل التي اشتملت عليها تلك الامتحانات. ولما كنت قد قضيت معظم المدة المنصرمة بعيداً عن البلاد في مهمة تعليمية بالعراق عدت منها أخيراً، فقد بدا لي أن أحضر بعض امتحانات هذا العام لأقف على مدى تطور هذه الدراسة الجديدة في الأزهر بعدما سلخت امتحاناتها أربعة أعوام
ويسرني أن أبدا اليوم ملاحظاتي بتسجيل بعض خطوات التقدم في النواحي التي كنت قد تناولتها بالنقد في كلمتي الأولى.
فمن ناحية الشكل أخذت إدارة الكليات الأزهرية بطرف من النظم الحديثة المتبعة في مناقشات الرسائل، فأعدت مدرجات خاصة لهذه المناقشات بعدما كانت تجري في غرف ذات مقاعد منبسطة. وأصبح النظام الحاضر يقضي بأن يقدم للمناقشات بعرض موجز يلم فيه صاحب الرسالة بعناصر البحث الذي تشتمل عليه رسالته. فيتيح بذلك لجمهور المستمعين من الطلاب وغيرهم متابعة هذه المناقشات والإفادة منها. كذلك أخذ معظم حضرات أعضاء اللجان بالتقليد الجامعي الجميل، الذي يقضي بأن يبدءوا ملاحظاتهم على الرسائل بالتنويه بما يستحق التنويه من مواطن الإجادة فيها مما ينطوي على تشجيع نافع لأصحابها، ومكافأة أدبية لهم على ما بذلوا من جهد، وحفز لهم غيرهم
ومن ناحية الموضوع لمست تقدماً محسوساً لمستوى الطلاب العلمي تجلى في عرض الرسائل والمناقشات التي دارت حولها مما يدل على ارتقاء وسائل هذه الدراسات في فروعها المختلفة
على أنني حين أبادر إلى تسجيل بوادر التقدم الآنفة الذكر مقدراً للمشرفين على هذا النوع من الدراسة جهودهم التي أبلغته هذا المبلغ من النهوض على حداثة عهد الأزهر به - لا يسعني مع ذلك أن أغفل التنبيه إلى ما لا يزال بارزاً من مواطن القصور والتقصير(590/26)
فأول ما يسترعي الانتباه من ذلك أن هذه الدراسات تعوزها الطريقة الحديثة للبحث والعرض والتصنيف. فالرسائل وإن كانت قد تزحزحت قليلاً عن طرائق الأزهر التقليدية التي كانت تضفي على الآراء والمذاهب القديمة هالة من التقديس تجعلها بمنجاة من سهام المناقشة الطليقة والنقد الحر - إلا أنها مازالت في مجموعها محدودة بحدود التجميع والتنظيم للأبواب العامة في مختلف العلوم، ولا تخرج عن هذا النطاق إلا خروجاً جزئياً بأبحاث عابرة متفرقة يقع عليها قارئ هذه الرسائل في غضون صفحاتها دون أن يحس بوحدة فكرية تربط بين عناصرها وتوجهها وجهة معينة مما يبرز فيه أثر المجهود الشخصي الذي هو طابع التصنيف الحديث. يضاف إلى ذلك أنه حتى في نطاق التجميع والتنظيم لا يبدو في الرسائل والمحاضرات الحالية - فيما عدا القليل منها - أثر المجهود الشخصي في التجديد والابتكار في العرض
والأصل الذي تقضي به الطريقة الحديثة المتبعة في مثيلات هذه الرسائل والمحاضرات أن يتناول كل منها بالبحث نقطة معينة - لا باباً من الأبواب العامة - يدرسها الباحث دراسة مستفيضة من جميع نواحيها وما يحيط بها من ملابسات، ثم يعمل فكره ورأيه الخاص في ذلك كله، حتى يخرج بفكرة عامة تنتظم عناصر البحث وتقرر له كياناً مستقلاً يشهد عرضه لصاحبه بالبداء والابتكار، فيضيف بذلك جديدا إلى الموضوع الذي يعالجه، ومن شأن ذلك أن يثبت مقدرته على الاضطلاع في مستقبل حياته العلمية بإضافات جديدة من هذا القبيل يسهم بها في تقدم العلم والفن أن هو وفق إلى ابتكار آراء أو نظريات جديدة، أو يساعد على ذلك - على الأقل - إن وقف به جهده عند حد التجديد في العرض والتأليف المستساغ بين عناصر من الأبحاث جديرة بأن يبذل الجهد في تنظيمها تنظيماً علمياً جديداً وجمع شتاتها على هذا النحو. وهذا هو الهدف الأول للأبحاث والدراسات الأكاديمية المختلفة
كذلك يسترعي الانتباه في رسائل الأستاذية أن أصحابها لا يراعون فيها الطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم والفهارس، فما يزال بعضهم يجري على الطرائق القديمة في ذلك متبعاً التقسيم التقليدي إلى أبواب عديدة وفصول، ومقتصراً على فهرس واحد في آخر الرسالة. وقليل منهم يحاول محاكاة الطريقة الحديثة في التبويب والتقسيم، لكنه يسير في(590/27)
ذلك على غير هدى لعدم وقوفه على أصول هذه الطريقة، فيبدو تقسيماً غير منطقي يقدم فيه ما حقه التأخير ويؤخر ما حقه التقديم وتوضع بعض عناصر البحث في غير المكان المناسب من أقسامه مما يشيع فيه الفوضى والاضطراب والتكرار أحياناً، فيشوه العرض ويعوق الإفادة منه ويصد عنها
والطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم تقضي بالبدء بوضع خطة للبحث تقررها وحدته وكيانه المستقل بعد اتضاحه في ذهن الباحث، ويراعي فيها التأليف بين عناصره المتشاكلة لدرجها تحت أقسام رئيسية قليلة العدد، ثم يتدرج من ذلك إلى تبويب كل من هذه الأقسام، ثم إلى تفصيل الأبواب، فالتمييز بين المباحث المختلفة فيها، وتفريع كل من هذه المباحث إلى فروع، والتمييز بين النقط التي يشتمل عليها كل فرع وهكذا بحسب تشعب موضوعات البحث حتى يعرض في ثوب قشيب نسج على أساس منطقي متماسك البنيان متسق الحلقات يروق القارئ ويساعده على الإحاطة بأطرافه والوقوف على الفكرة أو الفكر الرئيسية التي يقصد الباحث إلى إبرازها. أما الفهارس في المصنفات الحديثة، فيراعى فيها التعدد بحيث تشتمل على ثبت للموضوعات بحسب ترتيب ورودها في البحث، وآخر لها بحسب ترتيبها الأبجدي، وثالث للمراجع، ورابع للأعلام، وخامس لأسماء البلدان وهكذا بحسب ما يشتمل عليه البحث ويتطلبه تيسير المراجعة
ولاتباع الطرائق الحديثة أهمية خاصة في موضوعات الدراسات الأزهرية التي تعتمد على مراجع عتيقة كتبت بأساليب القرون الخالية، ومن حق الناس على الأزهريين أن ينتظروا منهم - على الأقل - إفراغ هذه الموضوعات في قوالب جديدة تناسب عقلية الجيل الحاضر وتتفق وطرائق تفكيره
ولكن من ذا عساه أن يوجه شباب الأزهر التوجيه الذي يهيئهم لأداء هذه الرسالة؟ إن الطلاب لا يستطيعون الاهتداء بأنفسهم إلى طرائق البحث والعرض الحديثة، ولا مندوحة لهم من الاعتماد على أساتذتهم في الأخذ بأيديهم في هذا السبيل. وهنا نواجه من جديد مشكلة الأزهر العتيدة بل مشكلة الإصلاح العامة حيثما بدت الحاجة إلى الإصلاح في معاهد التعليم، وأعني بها مشكلة المدرس أو الأستاذ. وقد حاول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مشيخته الأولى علاج هذه الناحية يندب عدد كبير من أساتذة الجامعة للتدريس في الأزهر،(590/28)
وإيفاد بعوث أزهرية إلى الخارج عاد أكثر أفرادها إلى مصر بعد انتهاء دراستهم وانتظموا في سلك أساتذة الأزهر. لكن عدد هؤلاء من القلة بحيث لا يفي بإحداث هذا التغير الجوهري في طرائق التعليم، وقد وقفت ظروف الحرب الحاضرة إيفاد البعثات للخارج، كما فتر حماس الأزهر للاستعانة بأساتذة الجامعة الذين كان في مقدورهم حقاً المساهمة في التوجيه الدراسي المنشود، ويؤسفني أن أقرر أن معظم من بقي به للآن من الأساتذة غير الأزهريين هم من تلاميذ المدرسة القديمة الذين لا يختلفون كثيراً عن جمهرة شيوخ الأزهر الحاليين من حيث الصلاحية للتوجيه الأكاديمي
وإذا كان لي بمناسبة ما أبديته من الملاحظات المتقدمة على دراسات (الأستاذية) الأزهرية أن أنبه إلى ما أعتقده كفيلاً بالإصلاح الممكن في الظروف الحاضرة، فإنني أتوجه إلى المسؤولين في الأزهر والغيورين على نهضته بالمقترحين التاليين:
1 - العودة إلى الاستعانة - في نطاق واسع - بكبار الأساتذة الذين إليهم يرجع الفضل في توجيه سياسة التعليم الجامعي في مصر إلى الوضع الذي استقرت عليه الآن، وبخاصة من جمعوا في ثقافاتهم بين الدراسات الأزهرية وغيرها، سواء منهم من بقوا في الجامعة حتى الآن ومن خرجوا منها، دون ما نظر إلى الاعتبارات الأجنبية عن التعليم والتي وقفت حتى الآن عقبة في سبيل الاستعانة بهؤلاء الأفاضل الذين يستطيعون وحدهم الاضطلاع بوضع حجر الأساس للتطور المنشود
2 - الاستعاضة مؤقتاً عن البعثات الأزهرية الخارجية غير الميسورة الآن ببعثات داخلية توفد إلى كليتي الآداب والحقوق بجامعتي فؤاد وفاروق، ولهذا سابقة حاولها الأستاذ المصلح الكبير السنهوري بك لترقية تدريس الشريعة في كلية الحقوق بجامعة فؤاد في عهد عمادته لهذه الكلية، وكانت فكرة جليلة لم تمهله الظروف السياسية - مع الأسف - حتى يستطيع تنفيذها، فلا مانع الآن من الأخذ بها في نطاق واسع لصالح الأزهر وثقافته
وقبل أن أختتم هذه الكلمة أوجه النظر إلى ما سبق أن نهبت إليه في كلمتي الأولى من وجوب قيام الأزهر بطبع الممتاز من وسائل الأستاذية على نفقته مع الأخذ بنظام تبادل الرسائل مع الجامعات الأخرى، لأن في ذلك شحذاً للهمم، وإذاعة لمجهودات الأزهريين، وتقريباً نافعاً بين ثقافتهم وأنواع الثقافات الأخرى.(590/29)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخرج في الأزهر وكليتي
حقوق باريز والقاهرة(590/30)
طاقة زهر
(مهداة إلى البارونة الشاعرة جويتس برليشنجن
للأستاذ علي محمود طه
زهراتكِ الحُمْرُ التي أسْلَمْتِها ... بيديْ مودِّعةٍ يمينَ مُودِّعِ
لمّا وصلتُ إلى المصيف حملتُها ... كالطفل نام على ذراع المرضعِ
أمشي بها فوق الرِّمال كأنني ... امشي بطيف في الظلام مُقَنَّعِ
مضمومةَ الورقاتِ طيَّ غِلالة ... وُسِمَتْ بطابَع ذوقكِ المترفِّعِ
محجوبةً كأميرةٍ شرقيةٍ ... في هودجٍ أستارُه لم تُرفَعِ
حتى إذا آويتُها بعد السُّرَى ... وخَلَعْتُ عنها لِبسةَ المتمنّع
هشَّتَ لآنيتي وأشرق لونُها ... وترددتْ أنفاسُها في مضجعي
ومضتْ تخُالسني حَيِيَّ لحاظها ... لا تشتكي سهراً وفرط تَطَلُّعِ
هيَ أنتِ، أحلامٌ تغازلُ ناظري ... وتصبُّ حُلْوَ حديثها في مِسمعي
هيَ أنتِ، أطيافٌ تعانقُ مهجتي ... وتَفِرُّ حين تُحِسُّ حُرْقَةَ أضلعي
أمستْ تُعابثني وملءُ شفاهها ... من مُغْرياتك بسمةٌ لتولَّعي
ومكَرْتِ مكركِ يا حبيبةُ وانقضي ... ليلى، وأنتِ لديَّ ساهرة معي
أَرْسَلْتِها عيناً عليَّ رقيبةً ... تأتيكِ بالخَبَرِ العجيب الممتعِ
تُحصي حراكيَ إنْ مشيتُ لشرفتي ... وتَعُدُّ خطوي إنْ رجعتُ لموضعي
شَهِدَتْ بأنِّيَ مُذْ تركتكِ حائرٌ ... متفرِّدٌ بصبابتي في مخدعي!!(590/31)
من شعر الأطفال
للأستاذ علي متولي صلاح
1 - العام الجديد
مرحباً أهلاً بأيام العملْ ... مرحباً بالجِدّ من بعد الكسلْ
مرحباً مدرستي: ألفُ تحيّهْ ... لكِ مني كلّ صبْح وعشيّهْ
باجتهادٍ نبدأُ العام الجديدا ... فليكنْ يا ربَّنا عاماً سعيدا
وليكنْ في مصرَ إقبالاً وسعْدا ... ولْتزدْ بين الورى عزاً ومجْدا
نحنُ ما عشنا فداءٌ لحماها ... نبذلُ الأنفس منّا في رضاها
2 - صديق الطيور
الطيرُ كم أُكرمُهُ ... الطيرُ كْم أُرْضيهِ
أنا الذي أُطمعهُ ... أنا الذي أسقيهِ
الطير لا أُعذِّبهْ ... كلا. ولا أحبسُهُ
بلْ دائماً ألاعبُهْ ... ودائماً أحْرُسُهْ
عصفورتي صديقتي ... تَخُصُّني بحُّبها
قد زينتْ حديقتي ... بصوتها ولعبها(590/32)
البريد الأدبي
إليك أعتذر يا صديقي
كتب الأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة كلمة في الرسالة يدعوني فيها للمرة الثالثة إلى شرح نظرية وحدة الوجود. والحق أني وعدت ثم أخلفت، وما كان يجوز أن أخلف الميعاد، ولكن الذي منعني حق الوفاء هو عرفاني بأن لمجلة (الرسالة) قراء من جميع الطبقات في جميع البلاد العربية والإسلامية، وبهذا يكون في شرح نظرية وحدة الوجود بلبلة فكرية لا أحب أن يكون لها في هذا الوقت مجال
وأنا أتأدب بأدب الغزالي حين ألف كتاباً سماه (المضنون به على غير أهله) وهو كتاب ألفه للخواص وطواه عن جماهير الناس
ولأجل أن يدرك الأستاذ دريني خطر ما يدعوني إليه أقول أني أعتقد بأنه (ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت)
وهذا الحكم الذي صغته في كلمات يحتاج في شرحه إلى مجلدات، ثم لا يصير مع ذلك من البديهيات، لأنه من الدقة بمكان
وإذا كان الأخ قد عجب من أن أترك الإسلام على جانب حين أفكر في الأمور الفلسفية، فليس معنى ذلك أني أرى في الإسلام جوانب واهية كما قال، ولكن معناه أني لا أحب أن أحشر الإسلام في مضايق نهانا عن الخوض فيها رسول الإسلام
والأخ يعجب من أن أوثر السلامة وأتخوف من ظلم الناس، ويصرح بأن المفكرين في العصور الخوالي قد تعرضوا للظلم والقتل، وفي هذا قال الأستاذ عبد المنعم خلاف كلاماً جاء فيه أن المفكرين في هذا العصر لا يريدون أن يتحملوا في سبيل مبادئهم أي إيذاء، مع أن أسلافهم كانوا يرحبون بالنفي والتشريد والقتل
والجواب حاضر: وهو أني لا أرى لجماهير المسلمين مصلحة في أن يؤمنوا بنظرية وحدة الوجود، ولو كنت أرى لهم مصلحة في الإيمان بهذه النظرية لعرضتها في كل مكان، وتعرضت من أجلها للنفي والتشريد والقتل
وتقول أني في كتاب التصوف الإسلامي أيدت هذه النظرية في صفحات، ثم نقضتها في صفحات، وأقول إن البحث العلمي الذي ارتضيته لنفسي يوجب أن أدرس كل نظرية من(590/33)
جميع الجوانب، مع التحرر من رأيي الخاص، حرصاً على تثقيف قرائي
ثم أقول مرة ثانية أين أعتقد بأنه (ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت) فإن بدا لك أن تنقض هذه النظرية فافعل إن استطعت، ولعلك تستطيع، لأغير رأيي في نظرية وحدة الوجود، ولأسألك عن المكان الذي يقيم به خالق الزمان والمكان
ثم أقول: '
فإن فعلت فستحترق، أنجاني الله وأنجاك من الاحتراق بنيران وحدة الوجود.
زكي مبارك
إلى الأستاذ نقولا الحداد
عرضت سؤال السيد على مراجع اللغة العربية - لا على مراجع الدين - فوجدت في مادة (لحد) ألحد بمعنى عَدَل وماري وجادل وترك القصد فيما أمر به وأشرك بالله. ووجدت في (الزنديق) أنه أحد الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب زن دين أي دين المرأة ج زنادقة أو زناديق، وقد تزندق والاسم الزندقة، وعندنا نحن المسلمين أن الذي لا يؤمن بأن الله لا إله إلا هو، وأن الله الذي أرسل موسى هو الذي أرسل عيسى وأرسل محمداً وأرسل الرسل أجمعين بعقيدة التوحيد التي لم تتغير فهو ملحد وزنديق - أما أهل واق الواق والأقزام السبعة فلهم دينهم ولنا دين. وكذلك الذين لا يؤمنون إلا بالمادة الذين يقولون بأن الروح والسمع والبصر والفكر إن هي إلا من التفاعلات الكيميائية. ليعتقدوا ما شاءوا. فإن سألوا مراجع اللغة العربية عما تسميهم به. فقد عرفنا بماذا تجيب. أما حرية الفكر فمصونة بحمد الله الذي نؤمن به إلا أن يقدح أحد في ديننا أو يسفه إيماننا أو يكذب قرآننا بحجة تلك الحرية المفتراة التي هي أسفل دركات الفوضى حينئذ
وتقبل يا سيدي الأستاذ الجليل أزكى تحياتي وأوفى احتراماتي
دريني
بين تيمور وذهني
لم أفاجأ برد الأستاذ صلاح ذهني في عدد الرسالة الماضي، ولكنني فوجئت بلهجة هذا(590/34)
الرد؛ فالحقائق يمكن أن تقال، دون أن يحتاج قائلها حتماً إلى البذاءة!
وأكبر ما يأخذه عليّ في رده أنني تحدثت عن تيمور مع جماعة من كتاب القصة والرواية، - ولم أقصر الموازنة على كتاب الأقصوصة - فما تقوله إذا كان (تيمور) نفسه هو الذي يضطر الناقد إلى هذا، لأنه لا يقصر محاولاته على الأقصوصة، فيحاول معها القصة والرواية؟ وإلا فما (نداء المجهول) وما (قنابل) وكيف يتحدث الناقد عمن يحاول هذه وتلك؟
أما حكاية أن ليس هناك (مدارس) فنية فلست أدري إلى أي وأد من الفوضى والسذاجة تقودنا فأدعها لأنها لا تستحق الحديث!
وقال: إنني نسيت توفيق الحكيم عند الكلام على (كفاح طيبة) مع أنه في (رواية) له اتجه إلى مصر القديمة و (الرواية) التي يعنيها هي قصة (عودة الروح) وهي تتناول عهد الثورة المصرية. فهل هذا هو ما يعنيه الأستاذ العلامة بأنه (مصر القديمة)؟. ثم يا هذا العالم باللافتات (اليفط) كيف تتحكم فتحتم تسمية (عودة الروح) و (كفاح طيبة) روايتين، ولا تسميهما قصتين؟! مع اعتزازك العريض بأنك تعرف اصطلاحين؟!
ثم ينكر أن يكون المازني كاتب قصة. فبماذا نسمي (إبراهيم الكاتب) أو (إبراهيم الثاني)؟ نسميهما مقالتين، لأن المازني كاتب مقالة فحسب؟!
وينكر أن يكون لتوفيق الحكيم قصة. فما عودة الروح، وما راقصة المعبد وما سواهما في عرف السيد صلاح؟!
ثم ماذا؟
ثم يلجأ إلى لهجته وهو يتكلم عن جهلي بالتاريخ. فلقد رجحت أن تكون مدة حكم الهكسوس حوالي خمسمائة عام لا مائتين كما ذكر الأستاذ نجيب محفوظ. فما رأيه في جهل رجل كجوستاف لويون يقرر في كتابه (الحضارة المصرية) (أن حكم الهكسوس بقي نحو خمسة قرون) وأن الصراع بينهم وبين حكام طيبة قد ظل أكثر من مائة وخمسين وعاماً؟ لعل مدة الصراع هي التي يجزم الأستاذ العلامة بأنها مدة حكم الهكسوس؟
أما أنني مخطئ في تعقيبي على قول الملك (سكنن رع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها) لأن الهكسوس إنما أخذوا العجلات عن أهل فلسطين. . . فلست أدري كيف أرد على الأستاذ صلاح فيها. إنني في(590/35)
حاجة لأن أستعير لهجته!
آلهكسوس سبقوا المصريين في استخدام عجلات الحرب أم لا؟ أهم قد غلبوا بهذا السبق أم لا؟ هذا هو لب الموضوع وتعقيبي في موضعه. أما تعقيب الأستاذ صلاح فله وصف آخر ليس الآن في قاموسي!
وأما أن أحمس مشتق من (الحماسة) بمعناها. فأنا في انتظار ما يثبته، ولا يكفي أن يقرره العالم العلامة السيد صلاح ليصبح يقيناً لاشك فيه!
وأما أن بلاد بنت هي الصومال فهو محق في هذا وأنا مخطئ! والمسألة أهون من كل هذا التبجح العريض
ما الذي أثار الأستاذ صلاح إذن، وخرج به إلى تلك اللهجة البذيئة؟
أثاره أولاً: أن إشارتي إلى قصصه لم تكن مما يرضيه. فأنا إذن لا أصلح للنقد! ولكنني كنت أصلح ولا شك يوم كنت أجامله فأكتب عنه كلمة تشجيع. وكان على الأستاذ القصاص الكبير أن يعرف أنني شجعته في البدء منتظراً خطواته إلى الأمام. ولم يكن معقولاً أن تظل لغة التشجيع وهو يخرج كتابه الرابع فلا يبدو أن هناك خطوة وراء الخطوة الأولى، ولا يزيد على أن يظل مبتدئاً! حينئذ لم يكن بد من التنبيه الرفيق وقد فعلت، فآثر كل هذا الهياج
وأثاره ثانياً: أنني لم أرض تيمور. وهو يحس بينه وبين نفسه - وإن أنكر هذا كل الإنكار في أحاديثه - أنه ظل باهت لتيمور، وأن له خصائصه في (متحف الشمع) مع الفارق بين الأستاذ والتلميذ. فهو إنما يدافع عن نفسه حين يتخفى وراء أستاذه. أما تنصله الشديد العنيف من هذه التلمذة، فشيء متروك لأخلاق هذا الجيل!
وبعد فإن إعزازي الشخصي البحت لصلاح هو الذي يدفعني إلى أن أناقشه، وإلا فقد كنت أعرف يوم كتبت عن (تيمور) أن هناك صلاحاً وعشرة صلاحات أخرى، سيعدون أنفسهم (خونة) إذا لم يشتموا هذا الذي لا يتملق تيمور!!
سيد قطب
دعبل شاعر الهجاء(590/36)
بمناسبة تشرفي بزيارة الوطن العزيز أخذت أطلع على بعض الكتب التي تتناول أخباره وحوادثه، وكان من بينها كتاب للرحالة العربي (البكري) خاص بوصف بلاد المغرب من كتابه المسمى (المسالك والممالك)، وقد لفت نظري في الصفحة السابعة ما ورد بخصوص شاعر الهجاء (دعبل)، حيث قال: (. . . ولما فتح عمرو برقة بعث عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة، وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. وبزويلة قبر دعبل بن علي الخزاعي الشاعر. قال بكر بن حماد:
الموت غادر دعبلا بزويلة ... وبأرض برقة أحمد بن خصيب
فرجعت إلى بعض المصادر الأخرى أبحث عن ترجمة وافية لهذا الشاعر علي أهتدي إلى الأسباب التي دفعت هذا الشاعر أن يترك بغداد ويذهب إلى زويلة في جوف صحراء طرابلس. وكان من بين هذه المصادر معجم الأدباء لياقوت الحموي، طبعة دار المأمون؛ فوجدت له ترجمة في الجزء الحادي عشر، ولكن صاحب هذا المعجم لم يتعرض لوفاة هذا الشاعر وأين دفن. أما كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان الذي نشره ديسلان، طبعة باريس سنة 1338؛ فقد أورد له ترجمة صغيرة مكتفياً بذكر بعض الأمثلة من شعره، وقال في صفحة 260: (. . . وتوفي سنة 246هـ بالطيب، وهي بلدة بين واسط العراق وكور أهواز. . .). ثم تصفحت قاموس الأعلام للزركلي فوجدته يذكر في صفحة 209 من الجزء الأول أنه توفي ببلدة الطيب كما ينقل عن ابن خلكان.
فإلى أدباء مصر ومؤرخيها أسوق هذه النبذة راجياً التفضل بتحقيق هذه الأسباب على صفحات الرسالة الغراء حيث لها المكانة الأولى في نفوسنا نحن الطرابلسيين، والأمل معقود بأن يتفضل مؤرخ مصر الكبير الأستاذ عبد الحميد العبادي يتناول هذا الموضوع.
مصطفى بعيو
مسراته - طرابلس الغرب
الخوارزمي أيضاً
أخذ الأستاذ علي محمد حسن المدرس بالأزهر على الأستاذ منصور جاب الله في مقال نشرته الرسالة أنه لم يدقق في بعض أحكامه الأدبية، ومن ذلك دعواه على القدامى بأنهم(590/37)
منحوا الخوارزمي لقب (الأديب) لأنه كان (راوية)، ونبهه إلى أن الخوارزمي شاعر فحل وكاتب بليغ، وكذلك أخذ عليه جريه مع النقاد القائلين بهزيمة الخوارزمي في المناظرة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني
ولقد كنا ننتظر أمام هذه المآخذ أن يدافع الأستاذ منصور عن رأيه، وأن يحدثنا كيف أطلق على الخوارزمي (لقب الأديب) لروايته فحسب؟ ومن الذي أطلقه عليه؟. . . وأن ينتصر للبديع في تلك المناظرة بأسباب وجيهة، ولكن الرسالة طلعت علينا بكلام للأستاذ منصور لا جدوى منه ولا محصول له، فقد وافق الأستاذ علياً على كل ما أخذه عليه، وزاد أنه يعرف المراجع التي استند إليها الأستاذ في اعتراضاته (!) وأنه انساق إلى ذلك انسياقاً (!). وماذا يفيد القراء أن يعرفوا أن الأستاذ منصوراً اطلع على هذه المراجع، ولكنه انساق إلى ما انساق إليه انسياقاً؟. وهل أراد من ذلك أن يغض من خصمه؟
نريد أن نقول للكاتب إن الأستاذ علياً قد نبه على ما نبهه عليه منذ ست سنوات في صيف سنة 1939 حيث كان يكتب في السياسة الأسبوعية ترجمة للبديع يستطيع أن يرجع إليها إن شاء؛ ونظن أن الأستاذ علياً لم يطلع على كتاب المستشرق، كما (نحسب) أن الأستاذ منصوراً لم يطلع عليه ولا سمع به، وإلا لانتفع منه؛ على أن الانتصار للخوارزمي رأي قديم، لا فضل فيه للمستشرقين، وإن كنا لم نظفر بالأسباب التي ذكرها الأستاذ.
أحمد الشرباصي
كلية اللغة العربية(590/38)
العدد 591 - بتاريخ: 30 - 10 - 1944(/)
تبارك رزاق البرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
ذهبت لرد الزيارة لضيف نابه من ضيوف مصر ينزل بفندق كبير من فنادق مصر الجديدة، وكانت الليلة ليلة الأحد والسهرة سهرة راقصة في ساحة الفندق الكبير، فجرى ما لابد أن يجري في هذا المقام من حديث الحرب وملاهي الحرب وأغنياء الحرب وبذخ هؤلاء الأغنياء وحداثة نعمتهم في البذل والعطاء، والروايات في ذلك كثيرة تضيق بها صحائف الإحصاء
منها أن بعض هؤلاء الأغنياء دخل الفندق ومعه زميلة يريد أن يراقصها فاتفقت نهاية العزف الموسيقي في ساعة دخوله، فنادى بأعلى صوته على رئيس الفرقة (فوكس تروت. فوكس تروت)، واستجيب النداء في الحال، لأن رئيس الفرقة على ما يظهر كان من عارفيه ومن طلاب عطاياه
فما هو إلا أن فرغ من رقصته التي لا يحسنها حتى دعا الخادم فأعطاه ورقة بعشرة جنيهات يوصلها إلى الرئيس المستجيب، وورقة بجنيه واحد مكافأة للخادم على مشقة التوصيل!
ومن تلك النوادر أن غنياً (حربياً) آخر أفرغ جيبه في ميدان السباق من ورق لا يحصيه ولا يهتم بعده، تعويضاً لزميلة له عن خسارة زعمت أنها قد منيت بها في بعض الأشواط، وهذه الزميلة لا تذكره بين أترابها إلا باسم (الحمار)
ومن تلك النوادر أن غنياً آخر جازف بعشرين ألف جنيه لينافس بعض الكبراء على هوى من الأهواء
وكانت هذه الروايات - وبعضها حقائق مشهودة - تتوالى على أسماع بعض الغرباء عنها فيدهشون ويحنقون ويغلو بهم الدهش والحنق كما يغلو بهم الخوف على مصير المجتمع المصري من هذه الغوايات في أيدي أناس لا يستحقون ملء الجوف من خبز الشعير، وهم يخدمون شهواتهم بثروات تعبي بها جهود الأكفاء والأمناء. فرفع رجل من الحاضرين إصبعه إلى السماء: رجل من الحاضرين لا شك في إسلامه وإيمانه بوجود الله، ولكنه ذهل عن نفسه لما سمع من تلك المحرجات، فصاح وهو ينظر إلى القبة الزرقاء: أأنت موجود:(591/1)
أهذه عدل في قسمة الأرزاق؟
صيحة قديمة على ألسنة المحرجين في أشباه هذه الأزمان، قيل إن أبا العلاء صاحها، فقال:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
والبيتان معروفان، ولكن الشك كل الشك في نسبتهما إلى أبي العلاء، وهما أشبه بكلام ابن الراوندي حيث يقول:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وأشبه بكلام غيره ممن لا أذكره الآن حيث قال:
تبارك رزاق البرية كلها ... على ما قضاه لا على ما استحقت
فكم عاقل لا يستبيت وجاهل ... ترقت به أحواله وتعلّت
وما من صيحة في هذا المعنى هي أوجع من صيحة ابن الرومي في قصيدته البائية التي يقول فيها:
أتراني دون الأولى بلغوا ألا ... مال من شرطة ومن كتاب
وتجار مثل البهائم فازوا ... بالمنى في النفوس والأحباب
فيهم لكنة النبيط ولكن ... تحتها جاهلية الأعراب
أصبحوا يلعبون في ظل دهر ... ظاهر السخف مثلهم لعَّاب
غير مغنين بالسيوف وإلا الأقلا ... م في موطن غناء ذباب
ليس فيهم مدافع عن حريم ... لا ولا قائم بصدر كتاب
ولكنه يثوب إلى تسليم الحائر حين يقول:
تبارك العدل فيها حين يقسمها ... بين البرية قسما غير متفق
وما هو إلا تسليم الإعياء واللغوب لا تسليم الراحة والقبول
سمعت ذلك الرجل المسلم المذهول وهو ينظر إلى السماء ويصيح: أأنت موجود؟ فقلت: نعم! بل هذا هو الدليل على وجوده. فانه لأعلم بما حرمه الله من نعمة الإنسانية، فلو أراد أن يعوضه عما حرمه لكان قليلا في تعويضه أموال المصارف التي في القاهرة جمعاء(591/2)
وكانت هذه الصيحة تتردد في مجالس الأدباء ورجال الفنون خاصة؛ فكان يطيب لي أحياناً أن أسليهم وأعابثهم في آن واحد، فأسأل أحدهم: بكم تبيع ما وهب الله لك من الشاعرية؟ وأسأل غيره: وأنت بكم تبيع ما وهب من الذوق الجميل؟ وأسأل غيرهما: وأنت بكم تبيع ما وهب لك من الوسامة والقسامة؟
فمنهم من يقول أنه لا يبيعها بمال الدنيا، ومنهم من إذا سألته تقويم الملكات بالمال دون الرضى ببيعها وشرائها تردد في ذلك وذكر الألوف ومئات الألوف، وهو لا يظن المغالاة، ولو صعد بالتقدير إلى الملايين
فهذى الألوف يا هؤلاء إذن (بدل مفقود). . . وأنتم أول من يرضى بتسويم السلعة على هذا المقدار!
ولا أدري لم لم تخامر في قط نقمة على نظام الكون من هذه الناحية في أوائل الشباب حيث تكثر الشكوى ويكثر الطموح، أو فيما بعد ذلك حيث يكثر إيمان الإنسان بحقه في الراحة والرجحان، ولعلها قلة الاكتراث بالمال هي التي جعلتني أصغره في حسابي أن يكون التفاوت فيه علة الشك في نظام الوجود.
فقديما - قبل أربع وعشرين سنة - عرضت لهذه المسألة في مقدمة الطبعة الثانية من مجمع الإحياء، فقلت يومئذ: (لم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء وتنزلها على خلاف المقرر المسلم به في عرفهم. فهم يقولون: أما كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أليس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وإن يحرم العامل ويغدق على العاجز وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم؟ وإن كان هذا مراد الأقدار أفما كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه وتغنى كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسمعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغير الأحوال، وستسمع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني. . . والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، وينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير وإن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه، وإن أحدهم ليقول في أيام(591/3)
رضاه ما لا يقول في أيام سخطه، ويتقلب أمله في حالتي الرضى والسخط. فهل يريد أن يتحول العالم معه كلما تحولت به الصروف وتقلبت عليه الآمال؟. . . يشكون من تفاوت الأعمار والحظوظ، وهم إنما تعجبهم من الرجل شجاعته وهمته وجوده، لأن الأعمار مجهولة، ولن يكون لرجل على رجل فضل بشجاعة أو همة أو وجود لو زالت المخاطر من الدنيا وتساوي الناس في الآجال أو أمنوا الموت إلا في وقت معلوم، فإذا أمن الشيب والشبان فهل يرضيهم هذا العدل الذي لا تعيش معه فضيله، والذي يجعل الإنسان أشبه بالإنسان من اللبنة باللبنة، فتبطل مزايا البأس والذكاء والأريحية والمروءة: لا قائد ولا مقود ولا سيد ولا مسود ولا حاسد ولا محسود، ولا تتشعب علوم أو تتنوع صناعات أو تتعدد خصال وأعمال أو تتفرع أجناس واديان. فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ إن هؤلاء الشاكين لو أسند إليهم أمر السكون لحاروا في تصور هيئة غير هيئته ولهدءوه قبل أن يؤسسوه)
منذ أربع وعشرين سنة كانت الحال كهذه الحال، وكانت الدنيا في أعقاب حرب كهذه الحرب، وكان أناس مسلمون وغير مسلمين يصيحون تلك الصيحة وهم ينظرون إلى السماء: أأنت موجود؟
وكنت طوال حياتي أرضى أن أقول مع البحتري في لاميته الميكالية:
أعد أجل النائبات رزيئة ... وفور الرزايا وانثلام الأماثل
ولولا اهتمامي بالعلي وانعكاسها ... لما ارتعت ذعراً من تعلي الأسافل
ولكني لا أرضى أن أصيح صيحة ابن الراوندي، ولا صيحة غيره من المحرجين في قسمة الأرزاق، لأن مقداراً من الدراهم ينقص هنا أو يزيد هناك لا يزري بنظام الكون كله ولا يساوي أن تنظر إلى القبة الزرقاء نظرتك إلى خواء
فالآن أجدني في هذه الحرب أعيد إلى نفسي ما ابدأته في الحرب الماضية، وأجد أن لامية البحتري تسعدني بالشواهد حيث تقول:
أواخر من عيش إذا ما امتحنتها ... تأملت أمثالا لها في الأوائل
وما عامك الماضي وإن أفرطت به ... عجائبه إلا أخو عام قابل
أجل هي ليلة شبيهة بالبارحة، وفي كل عام قابل أو غابر عجائبه التي تغنيه، ومسائله التي(591/4)
ترتفع منها الصيحة إلى القبة الزرقاء.
ولكنني إذا أنكرت الصيحة إلى القبة الزرقاء فليس في وسعي أن أنكر دواعيها ولا مواجع النفس الإنسانية منها، وغاية ما أصنعه بها أن أحولها من صفحات علم التوحيد أو علم (اللاهوت) أو علم ما وراء الطبيعة إلى صفحات علم آخر هو أولى بها وأحق بتصريف أمرها، وهو علم الاقتصاد أو علم التشريع، لأنها مسألة الأرض والعمل وليست مسألة الآباد والأزال.
عباس محمود العقاد(591/5)
الحروف اللاتينية
للكتابة العربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
ذهب الأستاذ عبد العزيز باش فهمي مذهباً عجباً في نقد محاضرتي اللتين نشرت خلاصتهما في مجلة (الثقافة)، بعد أن حشر ما حشر من الكلم الجافي الذي ذكرت نبذة منه في المقال الأول، وإجمال هذا المذهب العجيب أنى كلما ذكرت مقدمة يقتضيها سياق الكلام قال هذا أمر معروف، وكلما عرضت لمزية من مزايا الخط العربي إيفاد لبحثي في (الخط العربي مزاياه وعيوبه) قال هذا ليس في الموضوع. فالموضوع في رأي الأستاذ هو الاعتراف بقصور الخط العربي وسقمه والعدول عنه فوراً إلى الخط اللاتيني. هذا هو الموضوع، فمن جادل فيه فقد حاد عن الموضوع.
بينت حاجة البشر إلى الإبانة عما في أنفسهم، ونقلت جملة من كلام الجاحظ في هذا. فقال الأستاذ: (آمنا وصدقنا، لا لأن الجاحظ أو غير الجاحظ قاله. بل لأن هذا ضرورة ماسة واقعة يدركها كل إنسان، سواء أرادها الجاحظ وغيره أو لم يريدوها. . . وليس هؤلاء المفكرون إلا مجرد مسجلين للواقع المقضي بالضرورة. وهذا التسجيل أستطيعه أنا وأنت وكل عالم متمكن وكل ناقصي التعليم. الخ). ولست في حاجة إلى أن أدحض هذا الرأي فهو داحض بنفسه
وبينت تاريخ الخط في العالم وتسلسل الخطوط من الخط الفينيقي إلى الخط العربي، فاستبان أن الأصل القريب للخط العربي هو الخط النبطي. فقال الأستاذ: (وهو تقرير يستطيعه كل إنسان يعرف لغة أجنبية فيطلع على معجم من معاجمها المطولة. الخ).
أفكان حتما علي أن أترك هذا الحديث وأحذف مقدمة لابد للبحث منها من أجل أن كل إنسان يعرف لغة أجنبية يستطيعه؟ وهل من الحق أن كل من عرف لغة أجنبية استطاع أن يكتب في هذا الموضوع. إن الأستاذ يكلف الناس علمه وذكاءه فيكلفهم شططاً
وقلت إن الخط العربي خط أمم منتشرة في أصقاع مترامية، وأن هذه الأمم على اختلاف لغاتها، أخذت هذا الخط فزادت فيه ما احتاجت إليه وأحكمته وجملته. فقال سعادة الأستاذ: (وهذا التقرير معروف الموضوع عند الجميع. . . فهو هنا مجرد حشو وتزيد لا غناء(591/6)
فيه).
وكذلك ادعى الأستاذ في مسائل أُخرى تحتاج إلى البيان أو يحتاج إليها الاستدلال: أنها معروفة ذكرها حشو وتزيد كأن كل مستدل يلزمه أن يحذف المقدمات المعروفة، ويأتي بدعواه منكرة يعوزها الدليل. أليس الاستدلال يا سعادة الأستاذ هو الاستعانة بالمعروف على معرفة المجهول
لم أستطع والله أن أنسى وأنا أقرا هذا الكلام وشبهه قصة جحا المشهورة، إذ صعد المنبر فقال: أتعرفون ما سأقول؟ - إلى آخر القصة التي يمنعني من ذكرها أنها معروفة يعد ذكرها حشواً وتزيداً
وقلت إن من مزايا الخط العربي أن السامع يستطيع أن يكتب به ما يسمع دون عناء. ولا كذلك الخطوط اللاتينية؛ فإن سامع الكلمة من بعض لغاتها لا يستطيع أن يضبط كتابتها بالسماع، ولابد له أن يراها مكتوبة أو يعلم كتابتها، ومقصدي أن أبين مزية من مزايا الخط العربي واللغة العربية، وموضوعي هو تبين المزايا والعيوب.
فقال الأستاذ: (إن حضرة المحاضر في هذه القطعة ينسى نفسه تماماً. . . إن أحداً لم يشك لحضرة المحاضر ولا لغير حضرة المحاضر من أن الكاتب بالعربية لا يستطيع أن يكتب ما يسمعه. ما شكا أحد هذا إليه قط، لأن أحداً - حتى ولا عطية كاتب الزراعة الجهول - لا يكاد يخطئ في رص حروف النغمات بعضها تلو بعض على الترتيب الذي يسمعه). إلى أن ذكر الأستاذ أن هذه الكتابة التي تسهل على السامع بشكل على القارئ قراءتها الخ. فهل إشكال القراءة وهو مسألة أُخرى ينفى هذه المزية، مزية السهولة واليسر على الكاتبين. أقول الكتابة العربية سهلة على الكاتب. فيقول الأستاذ: لا تقل هذا فإنها صعبة على القارئ. فهل هذا جدل يساير (أدب البحث والمناظرة). ومن الذي نفسه في هذا الجدال.
وقد رأيت - وهو رأي لم أسبق إليه، وإن عده الأستاذ معروفا عند الناس أو في غير الموضوع - أن حذف حروف الحركات من الكلمة ملائم للغات السامية، والعربية خاصة. ورددت هذا إلى اشتقاق هذه اللغات، والتفريق بين الأصول والزوائد فيها. وقلت لو كتبت الحركات أثناء الكلمات لاضطرب اصل الكلمة، وبان في صور مختلفة، وضربت مثلا مادة كتب وقلت لو كتبنا: (كاتابا يا كتوبو، في الماكتابي، كيتابن). بدل: (كتب، يكتب، في(591/7)
المكتب كتاباً) لالتبست مادة الفعل، وهي أصل الاشتقاق والعمدة في التصريف، وظهرت في صور تلبس الأصلي بالزائد - ولهذا كان خيراً أن تشكل الكلمات العربية شكلا خارجا عن بنية الكلمة.
قلت هذا فقال سعادة الأستاذ ما خلاصته: إن اشتقاق العربية وتغيير المادة فيها تغيراً كثيراً يجعلانها أولى بالضبط من اللغات الأُخرى التي لا تتغير موادها أو التي يقل فيها التغيير الخ.)، وما كانت دعواي أن العربية باشتقاقها غنية عن الشكل؛ بل كانت الدعوى أن الشكل الذي وضعه الخليل ابن أحمد أقرب إلى طبيعة العربية من إدخال حروف الحركات في ثنايا الكلمة، فنسى الأستاذ هذه الدعوى وذهب يجادل في غيرها. ثم ختم كلامه بقوله: (وعلى كل حال فإن الكلام في هذا الصدد هو كما ترى من قبيل الأدلة الخطابية المتخاذلة التي إذا عصرتها لم تجدها شيئاً، ولم تدرك لها آية فائدة فيما نحن فيه)
ولست أدري كيف سمى الأستاذ الاستدلال بالاشتقاق والتصريف والحروف والحركات أدلة خطابية. أنها أدلة برهانية واضحة، ليست من قبيل الخطابيات، ولكن الأستاذ يجادل كما يشاء، ويدعي على مجادليه ما يشاء، ويسمي الأشياء كما يشاء؛ فكيف يستقيم معه جدال؟
لم أرد الاستقصاء في هذا الجدال ولكن التمثيل. وحسبي ما ذكرت، وإني أعترف أني عاجز عن الجدال على هذه الطريقة، بل الجدال على غير طريقة، وقد رجعت إلى نصيحة صديق لي من زعماء فلسطين نصحني ألا أحفل بالرد على مثل هذا الكلام
عبد الوهاب عزام(591/8)
صلوات فكر
في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أقباس من ظلمات القبح
إن القبح يتعرض لي لأصوره في صحفي! أليس قانوناً مؤثراً في حياة الأرض كما يؤثر الجمال؟
إذاً فاستيقظي يا رؤوس الشر والقبح التي طال نومها وصمتها في دنياي، وحدثيني حديثك. . ارفعي رأسك، وجرجري جسمك، وارقصي أمامي رقصاتك فقد جاء دورك!
وما صور الأهوال في جحيم (دانتي)، ولا خيال الطفولة عن السعالي والغيلان والجنان في كسف الظلام، ولا أحلام الكظة و (الكابوس) على صدر نائم ممتلئ واسع الخيال مرهف الحس بأشد تهويلاً وتخييلاً وافتناناً مما أراه الآن في عالم القبح. . .!
سيالات متدافعة من ظلمات الأوهام. . . وتهاويل مفزعة من شناعات الأشباح والأجسام. . . وصور وأطياف من الوحل والجمر والقيح والصديد والغسلين والزقوم وزفرات البراكين ورؤوس الشياطين، كل أولئك بعض ما تمر مواكبه في خيالي الآن وأنا أستعرض ذلك العالم!
فسيري أمامي يا جنود الشر التي تطمس نضارة الحياة وتنهش جسمها العبقري وتشوه محياها الجميل. . .
انسابي أيتها الزواحف السامة في جنح الليل تحت أقدام الأحياء، وروعيها بفحيحك الهامس ولسعك القاتل. . .
إنك نفوس في أجسام حية أيضاً، ولكنها نفوس تعيش مقبوحة مسلولة ملعونة مطاردة تجرجر أجسامها في العفونات، وترقب الحياة في الأحياء العليا بعيون حديدة محمومة من الحقد، وأنياب يغلي فيها السم المخزون في رؤوس كلها حويصلات أذى. . .!
انعبي أيتها البوم والغربان على الأطلال والخرائب بصرخات تفزع منها طمأنينة النفس وتترك فيها أنغاماً جنازية قابضة تدبر منها بهجة الحياة. . .(591/9)
عيشي أيتها الجعلان والحنفسان والدود في الخبائث والعفونات، وعلى أشلاء الأحياء، غائبة عن عالم النور والعطر والطهر. . .
رصعي أيتها السوس والبرغوث والبعوض حقول النبات وأجسام الإنسان والحيوان، وأعطبي ثمراتها، وامتصي دماءها، واشربي ماءها. . .
اخفقي أيتها الخفافيش البغيضة حائرة محرومة في غبش المساء بين الخرائب والأطلال فلم يبق لعيونك الخشاء إلا وشل من النور تسبحين فيه، وتحومين على الوجوه بمس كريه
خوضي أيتها الأحياء الدنيئة في الأوحال والمناقع والأدغال متربصة بالأذى على طريق الحياة. . .
انبعثي أيتها العفونات والمنتنات وازكمي الأنوف وأفسدي الأذواق والطعوم واخنقي عطور الأزهار وطيوب الأشجار
اضربي يا أكف الظلام النجم بالأفول، والصحة بالمرض، والصبا بالشيخوخة والذبول
ثوري يا جبال النار واقذفي الحجارة المصهورة، والمعادن الذائبة، والشواظ الحارق، وانشري ذوائبك السود على أجواء الأحياء. . .
وأنت أيتها المقابح الخفية في قلوب الناس! اطمسي جمال الحياة من داخل النفس كما تطمسه تلك من خارجها. . .
انشري العقوق والحقد والبغض والحسد والرياء والكبرياء وفرقي بين الأحباء. . .
كُلي قلوب البشر وأكبادهم، وأثيري شهوات أحشائهم على حكومة العرش الأبيض الهادئ في رؤوسهم. . .
أعيدي إلى أضراسهم وأنيابهم وأظفارهم سعار اللحم والدم، وأدلعي ألسنتهم بالسباب والعهر والمهاترة والعواء. . .
اجعلي لبطونهم سعة البحر، ولأطماعهم جوع الجحيم. . .
تسللي أيتها الجريمة رهيبة مخيفة للغيلة والغدر، واختطفي حياة نفس آمنة شفاء لحزازات حقيرة وتلبية لصراخ الغرائز الوحشية. . .
أمطري الدمع والدمَ، وأحرقي شغاف القلوب ولفائف الصدور بالإثم. . .
ازرعي قرون الشيطان أبيك العتيد في كل مكان، وضاعفي البذور ليتضاعف محصول(591/10)
الحصاد. . .
ابرزي أيتها الحرب راقصة عارية بادية السوآت خاضبة بالدماء، حاجلة على جماجم العباد وأنقاض البلاد. . .
اختطفي زهرات الشباب من أحضان الأمهات والزوجات وضميهم إلى أحضانك الجافية القاسية عاشقين مخدوعين فانين. . .
تربعي أيتها الجهالات والضلالات، وانشري سلطانك الغشوم المقيت على أفكار الحيوان المقدس!
افعلن كل أولئك يا جنود الشر والقبح وخذن مكانكن من مجال المعركة الأبدية بين الخير والشر وبين القبح والجمال في هذه الدنيا لترى نفس ما تختاره لنفسها في تلك الآنية الموعودة التي لا يكون فيها مزيج من الخير والشر والجمال والقبح في مكان واحد. وإنما للخير والجمال وحدهما مكان، وللشر والقبح وحدهما مكان. . .
فإن كانت الدنيا مزيجا من عالم الجنة (وهو المباهج واللذات والكمالات) وعالم النار (وهو المقابح والآلام والنقائض) فإن الآخرة عالم جنة أو نار خالصة. . .
وقد شاء الله للإنسان أن يحيى حياته في الدنيا ذات الصبغة المزدوجة ليتعرف إلى العالمين ويختار أحدهما. فهو إذاً المسئول عن عذابه بعالم القبح والشر الخالص في أخراه، إذ أنه هو الذي اختاره لنفسه في دنياه. . .
ومن العدالة ووضع الشيء في موضعه ألا يدخل دار الجمال والخير إلا من مرن على الصفات الأساسية اللازمة لسكناها ومعاشرة قطانها. .
ومعاذ الجمال أن يوضع البعر في طاقات الريحان والزهر!
أجراس
في سمعي من سير الزمان أجراس رنانة تدق بالليل والنهار. . .
هي أجراس السكون والصمت اللذين يغمران العالم الأعلى. . .
لا يشغلني عنها شاغل من ضجة مطارق البشر في المصانع والمناجم، أو جلجلة مدافعهم وقوارعهم في الملاحم، أو رنين صحافهم وأقداحهم في المباهج والمناعم، أو عويلهم وصراخهم في المآتم، أو عربدات مجانهم في المباذل والمآثم. . .(591/11)
وسهل أن ألاقي أجراس الحركة بأذني وحاستي المحدودة. أما أجراس الصمت والسكون فعلي من ضجتها ضغط ثقيل أجتمع له بجميع حواسي وقوى نفسي!
الزمن
في (الكرنك) قضيت في الشتاء الماضي سويعات من الزمن! والكرنك أعظم رحبة من رحبات الأطلال الفرعونية؛ فهو أثر صناعي بشري ليس من الطبيعة. ولكن الزمن أضفى عليه من سحره ما جعله فيما وراء الوعي مني كأنه محراب من محاريبها. لفرط إيغاله في القدم حتى ليتصل ببواكير التاريخ الإنساني المعلوم ويتاخم منطقة المجهول من ذلك التاريخ
والزمن تشتد الحساسية به في هاته الرحاب حتى لكأنها مقبرته. نرى فيها مومياءه وجثوته تضحك لنا بفكين مقبوحتين وعينين مطموستين وشفتين مقلوصتين! وتغمرنا منه سيالات ورعشات حتى لنحسه حين نحس هذه الأطلال التي طالما رأت صباحه ومساءه وصيفة وشتاءه وظلاله وأفياءه وظلماته وأضواءه في يوم واحد معاد مكرور يشيب الصغير ويفنى الكبير ويبلى الحجر. . .
وبيني وبين الزمن علاقة سيئة! فأنا لا أباليه ولا أحفل به كثيراً. فالحياة عندي منذ أدركتها يوم واحد لا أزال في بهجة من تعاجيب صبحه وضحاه. .! وقد أقبلت على حدود الأربعين ليس بيني وبينها إلا خطوات ثلاث. ومع ذلك فأنا من حساسيتي بالطبيعة وأذواق الحياة أسير فيها كمبتدئ حياته أو كمبتدئ رحلته، يريد أن يتخفف من أثقال الزمن وأوقاره حتى يعبر الأسواق بجسم خفيف ونظر طليق لماح يرى كل يوم جديداً. . .
ومع هذا الشعور الذي يكاد يلازمني قد أحسست حين دلفت إلى معبد الكرنك بين صفين من تلك الكباش الرابضة منذ خمسة آلاف سنة تستقبل الوافد في وداعة وقوة، أنني قادم على الزمن شيخاً هرماً راعشاً راهباً ترهب وتعبد في الحجرات المظلمة والدهاليز المتداخلة والأقبية المسحورة التي تضمها أسوار هذا المعبد
وقد تركت لرفاقي حظ الاستماع إلى شرح (الدليل) وسرد التفاصيل، وأقبلت على أوهامي تلعب في ملاعب الأوهام القديمة التي كانت تعيش بها الإنسانية في تلك العصور السحيقة وتجسمها في التماثيل والتهاويل التي على عجزها وجمودها تثير خيال ناظريها واللائذين بها وتجعلهم يخلعون عليها ألوانا من حياتهم ويبادلونها أحاديث نفوسهم. . .(591/12)
أأطلال هذه أم ظلال! وجنادل وصفاح أو أوهام وأشباح! أهذه أعمدة لمعبد القارعات أو كاهناته الراقصات! أنهاري هذا الطالع المشرق أم نهارهم! أبقايا ظلام مخزون هذا الذي أراه جاثما في حجرات أسرارهم أو ظلام جديد!
أهذه النسمات التي تمسح وجوهنا الآن خفقات رياح القرن العشرين بعد الميلاد، أو رياح القرن الأربعين قبل الميلاد! أنحن أرواح بائدة تجول في خلال هذه الأطلال أم نحن فلان وفلان وفلان من أبناء هذا الزمان؟ أقصائد مرسلة هذه الأطلال أم حجارة ميتة جامدة!
ألا بقية حياة تحدثنا بصوت حي بين الرجام؟!
ألا تعست الأحلام وخابت الظنون! فبين اليوم وأمس جدار بحجم دورة الشمس في عرض السماء! فما بالك بما بيننا وبين هاتيك الأيام من دورات!
لماذا هذا التعلق بالبقاء يا أبناء الفناء؟ لماذا تولهون قلوب الأحفاد أيها الأجداد؟ لماذا تعمقون الإحساس بالزمن؟ امضوا من غير أن تتركوا صوى وأعلاما على الطريق، حتى لا يراع بعدكم أحد، من طول المدى بين الأزل والأبد!
وإنه ليخبل عقلك ويشرد لبك أن تبحث عن عمار هذه الهياكل الذين كانوا! وأن تضع قدميك على مواطئ أقدامهم، ويديك على ملامس أيديهم، وعينيك على مواقع أنظارهم!
وإنك لتحس لذع السخرية يصبها الزمن على حسك ووعيك حين تحين منك التفاتة إلى وجه الشمس من خلال ظلل المعبد؛ فتراها لا تزال كما رآها أجدادك جديدة الوجه عنيفة الشباب مصقولة المرآة قوية الضحوة، وكأنها بنت يومك أنت ولدت في صبحه وبكرته!
وانك لتوشك من فرط التخييل أن تنادي الأفراد المغمورين المملوكيين والسادة المالكين والكهنة حاضني الأسرار ليجيبك صدى صوتك مردوداً إليك باليأس والعجز بعد أن تتلقفه الزوايا والأبهاء وتعوي به التماثيل الصماء!
أكذلك أطبق ظلام الموت وظلام الأرض على أشخاص الأحياء فغابوا فيه ثم بقيت أعمالهم في محيط الجوامد الخوالد؟!
أكانوا أمواج ماء اضطرب به سطح الأرض فأرغوا وأزبدوا وهدروا، حتى وصلوا إلى شاطئ الموت فانسلحوا وفنوا بأصدافهم وقواقعهم وزبدهم وغثائهم!
أذهبوا وبقيت أحجارهم خالدة؟(591/13)
وهل يملك فانٍ أن يصنع خالداً؟
لقد أحسها حسرة (لبيد) فأرسلها كلمة جاهلية ترجمت كل معاني إحساس النفس البشرية بالألم في كل عصر حين ترى أن نصيبها من الزمن أوكس حظا من نصيب الجماد. إذ قال:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع!
عبد المنعم خلاف(591/14)
فتنة وحدة الوجود
والدكتور زكي مبارك
للأستاذ دريني خشبة
لست أدري علة هذا الموقف الذي يحاول أن يقفه الصديق الفاضل الدكتور زكي مبارك من فتنة وحدة الوجود! لقد حاولت بكل الوسائل أن أجتذبه إلى الميدان الذي لم يكن شك في أنه واجد فيه أخوة كريمة وصراحة تامة، وطريقاً منضورة بالورد. لكنه آثر السلامة آخر الأمر، وليته في إيثاره السلامة كان رحيماً بالناس كما يقول فأغلق باب جهنم حتى لا يصلى بحرها أحد لا من الخاصة ولا من العامة. . .
لقد وعد الأخ الكريم أن يجلي للناس غامض هذه الفتنة بعد إذ لاحظ أن كل الذين كتبوا عنها حاموا حولها ولم يخوضوا فيها. . . لكنه أخلف، ثم وعد، ثم اخلف، ثم وعد. . . ثم آثر السلامة آخر الأمر، خوفاً من بلبلة أفكار المسلمين، وإشفاقاً على العامة من أن يزلزل إيمانهم. . . فما هذا الذي يقوله الأستاذ؟ وأي وسيلة لبلبلة الأفكار أفتك من هذه الوسيلة من وسائل الحوار؟ إن الأستاذ بموقفه ذاك يلقى الريب في قلوب المسلمين أضعاف ما كان يفعل لو أنها توكل على (الوجود المطلق الكلي) فشرح لنا وحدة الوجود كما يفهمها ويؤمن بها. . . على أنني أسبق فأطمئنه؛ فمهما حاول الأستاذ أن يوهم بأن الذي قاله الشيخ معروف الرصافي في هذه الوحدة حق، فلن يتأثر بإيهامه أحد من المسلمين الصادقين الذين لا يعقلون كيف تكون الحمير والبغال والمجانين والببغاوات. . . و. . . وهذه القطة النائمة التي (تخربش) من يوقظها أجزاء من الله الذي يعبدونه ويخبتون له أو مظاهر لهذا الإله العجيب الذي يقول أنصار وحدة الوجود أنه لا وجود إلا له. . . أما هذه المخلوقات فهي باطل. . . هي وهم. . . ولست أدري كيف يكون وجود الرصافي وهماً وباطلا، ووجود الدكتور زكي مبارك وهماً وباطلاً. . . وهاهو ذا يعترف بوجود نفسه ويعترف الناس بوجوده ويأكل ويشرب ويسافر وحده أو مع غيره ويعلم وينتفع الناس بعلمه وينصح التلاميذ الأغنياء ويواسي التلاميذ الفقراء، ويكتب في الجرائد والمجلات ويحاضر ويخطب ويؤلف إلى آخر ما يقوم به من شؤون هذه الحياة الدنيا ولست أدري كيف يؤمن أخي الدكتور زكي مبارك بأنه لا وجود له وهو ينكر الموت في السؤال الذي يوجهه إلي(591/15)
لأحترق إذا حاولت أن أبينه له! إن الوجود كما تقول يا صديقي ليس فيه موت، فكيف تؤمن بوحدة الوجود إذن وهي تقول - أو المخرفون الذين يؤمنون بها يقولون، إن الموجودات كلها عدم، ولا وجود إلا للوجود الكلي المطلق الذي لا أدري وحياتك يا أخي ما هو؟ ثم كيف تجهر يا أخي بأنك تكفر بالموت؟ أتعني بذلك أن أحداً من حضرات أجدادك - وأجدادي - لم يمت؟! أحذر يا أخي أن تظن أنني أستهزئ بأحد، فالمسألة أجل من هذا! أحرام إذن أن أدعو لوالدي وأجدادي بالرحمة، وهذيان أن أقول اللهم ارحم أجداد أعز أصدقائي الدكتور زكي مبارك؟! ثم ما هذا الذي تقوله يا أخي؟ لماذا توهم الناس أن وراء الأكمة قطة (تخربش)! وقد آثرت القطة الظريفة اللطيفة السلامة؟ ثم ماذا تصنع الخربشة ما دام أنه لا موت؟ وماذا في الاحتراق تخيفني به وهو لا يميت؟! ولماذا تمنعني عن الإجابة على سؤالك فتدعوني بهذا المنع إلى السكون، وأنت نفسك في سؤالك تجهر بأنه لا سكون. . . وبهذه المناسبة يا اخي، هل باطن جبل المقطم متحرك غير هذه الحركة الكلية التي تحمله فيها الكرة الأرضية في رحلتها السماوية؟ وهل باطن الجنيه الذهبي الذي تشتري بألفين منه - ألفين عداً ونقداً - عزبة عامرة بفلاحيها وجاموسها وبطها وأوزها؟ وإذا كان باطن المقطم متحركا، وباطن الجنيه - الجنيه الذهبي! - متحركا، وباطن كتلة الفولاذ متحركا، وباطن زجاج كؤوس الطلي التي حفها - أو لم يحفها - الحبب - المتحرك دائماً - متحركاً. . . فعوضنا نحن المؤمنين السذج على الله في عقولنا، أو في غباوتنا!
آه. . . تذكرت. . . إن كتلة المادة مركبة من إلكترونات! والإلكترونات هي هذه الذريرات من الكهرباء السالبة تدور بسرعة حول بروتونات من الكهرباء الموجبة. وعلى هذا فكل شيء متحرك حتى باطن جبل المقطم وباطن الجنيه الذهبي والفولاذ وزجاج كؤوس الطلي. . . وحتى الموتى متحركون بتحرك ذراتهم على هذا النحو. . . وليس في الدنيا فضاء لأن الفراغ الموهوم بين الكواكب والسدم تملأه الجاذبية؟! وما الموت عندكم إلا نوع من أنواع التجول!
ولكن ما هذا كله وما نحن فيه! لماذا تخيفني يا أخي إن أنا أجبت على سؤالك الهائل على هذا النحو؟ وبعد صدور الرسالة صبيحة يوم الأحد بنصف ساعة؟! هل كنت تحسب أن الإجابة على هذا السؤال هي من قبيل ذلك المضنون به على غير أهله؟ لأنه من العلوم(591/16)
اللدنية. على أن الأمر أيسر من أن يخفى وراءه أحداً. أنك تريد أن تقول إنه ليس في الوجود فضاء، فلا مكان لله إلا المكان الذي يشغله العالم!؟ وعلى هذا فالله حال في العالم. وإذن فأنت تؤمن، مع إيمانك بوحدة الوجود، بالحلول الذي ينافي الإسلام الصحيح
يا آخي:
قبل أن نبعد. . . أصارحك أنني لا أقبل الدنية في ديني، ومن الدنية في الدين أن ألف معك إذا لففت، وإن أداورك إذا داورت. لنكن صرحاء إذن. فمن ورائنا ألوف القراء من المسلمين ومن غير المسلمين يرتقبون أن تنكشف هذه الغمة التي لم أفر من ميدانها حينما طلبت إلى أن أساجلك فيها، ولم أطلب أنا منك شيئاً قط قبل أن تبدأ أنت بطلب هذه المساجلة، في أمر أنت أول من يشهد بين يدي ربك أنه باطل، لأنك أقمت على ذلك الحجة التي لا تدفع في كتابك القيم الذي كان سبب هذا الشر، ولن يصدقك أحد اليوم إن تصيدت المعاذير عن نقضك لهذه النظرية بمثل الحجة الفارغة التي جئت بها في كلمتك الظريفة في العدد الماضي، والتي تدعي فيها أن (البحث العلمي الذي ارتضيته لنفسك يوجب أن تدرس كل نظرية من جميع الجوانب مع التحرر من رأيك الخاص، حرصاً على تثقيف قرائك). فليس هذا بعذر! لأنك لم تتبع تلك الطريقة في أي كتاب من كتبك، لأنك أقمت الدنيا وأقعدتها بكتابك عن الغزالي لأنك أعلنت فيه عن (رأيك الخاص) الذي كان الإجماع منعقداً ضده ومع ذلك فقد انتصرت! هذا، وقد ألممت، بالرغم من ذلك بكل النظريات التي سبقت إليها عن الأخلاق عند الغزالي، وأرجوك أن تعود إلى كتابك الثمين هذا فتقرأه إن كنت قد أنسيت ما فيه
ثم أنت قد أتيت في كتابك عن النثر الفني - هذا الكتاب القيم أيضاً، الذي أشدت لك ألف مرة بقيمته، بالرغم من البقع الكبيرة التي فيه، بنظريتك العجيبة التي لا يقرك عليها أحد في إعجاز القرآن بمعانيه لا بأسلوبه. وهذه النظرية هي بلا شك رأيك الخاص الذي جئت اليوم تزعم أنك تخفيه وتتحرر منه في دراستك لأي نظرية من جوانبها المتنوعة. . . وأعود فأرجوك أن تعود إلى كتابك الثمين هذا فتقرأه إن كنت قد أنسيته
ثم أنت أيضاً في كتابك عن التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق لم تكن مقراً للنظريات التي سبقك إليها الناس، وإلا ما استحققت قط أن تمنحك الجامعة درجة الشرف في الفلسفة.(591/17)
بل منحتك الجامعة هذه الدرجة لحسن مناقشتك لتلك النظريات وتزييف ما يستحق التزييف منها، وإحقاق ما يستأهل الإحقاق، ولو من وجهة نظرك أنت، لا من وجهة نظر الممتحنين. . . ويؤسفني أن تضطرني إلى تذكيرك بهذا كله بعد كل ما نلته من درجاتك الجامعية. . . كما يؤسفني أن أراك تقف هذا الموقف في قضية لا تستطيع أن تجهر برأيك فيها بعد أن أعلنت (أنا) للعالم أنك عندي أجرأ كاتب في مصر، بل في لشرق العربي كله! فإذا سألتك هل تخشى على الإسلام شيئاً من إعلان ما تعتقد أنه الحق في نظرية وحدة الوجود نفيت ذلك النفي الشفشاف، وقلت: كلا، بل خشيتي هي على عامة المسلمين الذين لا خير لهم في الإيمان بهذه النظرية. . ولست أدري لماذا لا ترى لهم مصلحة في الإيمان بها؟ أليس كما قررت في كتابك لأن هذه النظرية تهدم القوانين والشرائع وتنسف الأخلاق المقررة التي تواضع عليها الناس، والتي يكون أمرهم بدونها فوضى يستوي فيها الخير والشر، والتقى والدعارة، والهدى والعمى، والرشد والغواية، والأبيض والأسود، والسجود بين يدي الله الواحد القهار، وإكباب المرء على حليلته في وضح النهار!
ما هذا الموقف الزئبقي يا صديقي؟
كيف تتنكر لماضيك بهذه السهولة وبذل اليسر؟ وكيف تخشى أن تعلن عن رأى تؤمن أنه الحق، وأنت تعلم أنه ينقض ديننا الحنيف وينافيه، لأنه دعوة إلى التجسيم والحلول، وإن حاول أهل وحدة الوجود أن ينكروا ذلك بادعائهم أن جميع المخلوقات باطل ووهم لأنه لا موجود إلا الوجود المطلق الكلي؟
وبعد. فقد كنت لخصت آراء صاحبك الرصافي التي علق بها على كتابك في التصوف. . . وقد ذكرت أن هذا الرجل يجهر بما يأتي:
1 - أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مخترع خرافة وحدة الوجود
2 - وأنه لم يخبر بذلك أحداً من أصحابه إلا ما لمح به لأبي بكر
3 - وأن القرآن من تأليف محمد بدليل ما دأب على ذكره من قوله: قال محمد في القرآن
4 - وأنه كان يعتذر لمحمد عن ذلك بأنه كان يفنى في الوجود المطلق الكلي فيخيل إليه أنه ينطق بلسان الله الذي هو هذا الوجود
5 - وأنه لا يرى معنى للصلاة والأدعية لأنها لن تغير في نظره شيئاً من قوانين الوجود(591/18)
المطلق الكلي التي هي قضاء الله وقدره. . .
6 - وأنه لا يرى معنى للبعث الذي يؤمن به المسلمون وجاء به القرآن الكريم
7 - وأنه لا يرى معنى للحساب، ولا للثواب وللعقاب. إنما الثواب أن (يموت الإنسان) فيعود إلى التراب ويتحد بالوجود المطلق الكلي. . . والعقاب هو ذاك أيضاً مع شيء من وخز الضمير
8 - أن المتضادات أمام الوجود المطلق الكلي سواء، ومن هنا استواء الخير والشر وغيرهما مما قدمنا. ومن هنا ألوان الشذوذ الأخلاقية الني نددت من اجلها بالمتصوفة. . . أو ببعضهم. . . في كتابك
9 - أنه يخضع تفسير كثير من آيات القرآن لأهوائه في خرافة وحدة الوجود. فالله: الظاهر والباطن. أي المنظور المسموع المشموم المأكول الخ. ثم ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. أي الجبر المطلق الذي ليس معه لمخلوق اختيار في شيء ما
ثم أشياء أُخرى لا أذكرها الآن
فما رأيك أنت في هذا كله؟ أحق هو؟ أنك إلى الآن تؤيد نظرية وحدة الوجود وتشفق من تفسيرها على ما ترى. فكن حراً في إشفاقك هذا، ولكن هل تتفضل فتبدي رأيك فيما يذهب إليه صاحبك من هذه الآراء التي ربما خيل إلى الناس أنك تؤمن بها لإيمانك بوحدة الوجود!
يا دكتور زكي:
أعود فأذكرك أنني لا أرضى الدنية في ديني. وأنني لن أبقى على إرضائك لأسخط الله. . . وأنت الذي انتهيت بي وبك إلى هذا الوضع، وهأنذا قد كشفت عن مقصدك في سؤالك عن الفضاء والسكون والموت. فعسى إلا نعود إلى إيثار السلامة وإثارة الغبار في وجوه الناس
ولست أحذرك أن تحترق بشيء، ولكني أدعو لك بالهداية والتوفيق، وهكذا علمنا رسول الله، فلنتخذه أسوة
دريني خشبة(591/19)
على هامش النقد
في عالم القصة
شعاب قلب. . . حبيب الزحلاوي
للأستاذ سيد قطب
(شعاب قلب) مجموعة أقاصيص للأستاذ حبيب الزحلاوي، من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية. ففيها طبيعة قصاص، وقلب إنسان، وقسط من الشاعرية في الإحساس بالخلجات النفسية، وبصور الكون والحياة. وهي سمات تكفي لتقرير حقها في الظهور، ثم يبقى بعد ذلك مجال تقويم هذه السمات!
فيها طبيعة قصاص، يعرف كيف يتناول موضوعه، وكيف يدبر فكرته، وكيف يضمن شوق القارئ، ومتابعته للأقصوصة في غير تعمل ولا تكلف، ولا مغالطات براقة وهو قصاص طويل النفس - في الأقصوصة - متعدد المسالك، والبناء الأصلي لأقصوصته. يصلح لأن تقوم عليه قصة مع بعض التعديل والتحوير
وفيها قلب (إنسان) إنسان حي يعيش على هذه الأرض، ينفعل بأحداثها ويستجيب لهذه الانفعالات، ويتابعه القارئ في نبضه الطبيعي: ببطيء ويسرع ويرتفع ويهبط، كما تنبض قلوب الآدميين، فيه هذه الحياة
وفيها قسط من الشاعرية، ينقذ القصة من الواقعية المحدودة الضيقة، ويطلق في جوها بعض الإشعاعات الحارة. دون أن يحيلها إلى جو رومانتيكي مصطنع، ولا إلى أسطورة خيالية. أنه يمنحها الحرارة الإنسانية الطبيعية وكفى!
ولا يحسب أحد - تبعاً لهذا - أن الزحلاوي قد بلغ القمة. كلا. فهذه الصفات التي أعددها هي - في اعتقادي - بعض الشرائط الأولى للأقصوصة. ويبقى المجال بعدها مفتوحاً للسياق والمفاضلة. وعلى الذين تخلو أعمالهم القصصية من روح القصاص ومن حرارة الإنسان، ومن قبس الشاعرية، أن يبحثوا لهم عن عمل آخر في الحياة!
تحتوي هذه المجموعة على تسع قصص. كلها موسومة بهذه السمات التي أسلفت على تفاوت في حظها منها. وكلها موسومة بسمة أُخرى، هي دليل الصدق فيها جميعاً(591/20)
الأستاذ حبيب (الزحلاوي) ليس مصري الأصل - كما هو واضح من نسبته - وللبيئة في بعض جاراتنا الشرقية إشعاعات معينة، قد لا نحسها في البيئة المصرية على هذا النحو من العنف والوضوح. وهذه القصص تحمل - عدا طابعها الإنساني العام - طابع هذه الإشعاعات البيئية الخاصة
بعض هذه الجارات يضيق بسكانه، فهم أبداً يمدون أبصارهم إلى مطالع أُخرى: تارة تكون هذه المطالع نقلة جسم إلى حيث تتوافر وسائل الحياة. وتارة تكون نقلة روح، إلى حيث الغنى والثروة، أو السعة والحرية
وأقول الحرية، لأن التقاليد الدينية والاجتماعية، ولاسيما قبل ربع قرن، ربما كانت من الصلابة والشدة بحيث يفر منها الكثيرون ينشدون الحرية والطلاقة أما بأجسامهم وأما بخيالهم. فهناك أبداً رغبة في الانطلاق، وهناك أبداً شيء من العنف في التفلت من القيود، وفي الإقبال على الحياة
حلم الثروة، وحلم الحرية، هما الحلمان الواضحان في كل قصة من هذه القصص على وجه التقريب، وهما ينبعان من منبع واحد، ويتجهان في اتجاهين ومتضادين، يؤديان في النهاية إلى طابع واحد؟
هما ينبعان من الضيق بالواقع: الواقع المادي، والواقع المعنوي، الضيق بالمجال المحدود الذي لا يتسع لأهله من السكان. والضيق بالقيود والتقاليد، التي تقف دون أشواق الإنسان
وهما يتجهان في اتجاهين متضادين: أحدهما الرغبة في الغنى والحرص على جمع الثروة، (وقد تقود الرغبة والحرص إلى الجور على المتعة بالحياة، والانطلاق مع الأشواق) وثانيهما الرغبة في الانطلاق من القيود، والاندفاع للمتاع (وقد تقود الرغبة والاندفاع إلى التضحية بالغنى، والاستهتار بالمال)!
وهما يؤديان - في تناقضهما - إلى طابع واحد: طابع التقلقل والاضطراب، والحيرة بين هذا وذاك
وينشأ من هذا كله إشعاعات نفسية خاصة، هي التي تجمع في النفس الواحدة بين يقظة التاجر وحلم الشاعر؛ وبين عنف الثائر وترفق المهاجر، وبين استغراق البوهيمي، وروحانية الصوفي. .(591/21)
وكل هذه الإشعاعات تبدو في هذه القصص على السواء. تبدو وتبدو معها صفحات في وصفها وعرضها وتحليلها، هي التي تجعلني أقول: إن هذه المجموعة من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية
من عيوب هذه المجموعة أن يحفل بعضها بالتوجيهات الفكرية، والنظريات الفلسفية والاجتماعية، بحيث يطغى هذا على صور الانفعالات النفسية، والحوادث الواقعية. والفن فن. وهما يكن للعلم والفلسفة من مكانة. فيجب ألا يجتازا عتبة الفن إلا بمقدار، ومقدار لا يبرز بل يبقى وراء الستار
وقصة (إشاعة طلاق) مثال بارز لهذا العيب في المجموعة، فهي قصة رجل فنان تزوج، وسارت حياته الزوجية في المبدأ كما يبتغيها فنان، ثم نظر. فإذا المرأة قد صارت أماً وربة بيت لا عروساً جميلة، ولا زوجاً أنيسة. فضاق بها وهجرها، وانطلقت في محيطهما (إشاعة طلاق) وفي النهاية يرسل إليها رسالة طويلة، يشرح لها فيها ما دعاه إلى العزلة، ويبين لها وظيفة المرأة الكاملة، مع رجلها الفنان
في هذه الرسالة (توجيهات) أطول مما تحتمل الأقصوصة، وأبرز مما يحتمل العمل الفني. وهذه التوجيهات لها قيمتها في ذاتها، وهي تحليل صحيح لنفسية الفنان، ولوظيفة المرأة ولواجب الزوجة. ولكن قيمتها هذه لا تبرر حشرها - بهذا الطول - في أقصوصة وكان خيراً أن تبدو في حركات ولفتات، لا في عبارات وكلمات
ومن عيوبها كذلك بعض أخطاء السياق كما في قصة (تربص القدر) حيث يلتقي القصاص بزميل له لم يره منذ ست سنوات. كان هذا الزميل من الدعاة ضد الزواج. فإذا لقيه اليوم بغتة، اندفع يقص عليه أنه تزوج وأنه أسعد مخلوق بهذا الزواج. ثم يقص عليه كيف تزوج في نوبة حماسة إنسانية وكيف وجد الحياة الزوجية التي كان يخشاها حياة جميلة حافلة بما لم يخطر له على بال. . . وبعد هذا كله يفاجئه بأن زوجته قد ماتت منذ أيام، وأن حياته الآن لا تطاق، وأنه خرج ذاهلا يتمشى في الطرقات!
إن أنساناً منكوباً، خرج ذاهلا يتمشى وحده في الظلام حين يلقى صديقه لا يكون من التماسك بحيث يبدو سعيداً، وبحيث يقص أولاً قصة سعادته. إن الطبيعي في هذه الحالة أن يبادر صديقه بقصة نكبته التي تسيطر هذه اللحظة على نفسه، وتتراءى مجسمة في(591/22)
خاطره، ثم يتدرج منها إلى استعراض سعادته الضائعة
ولقد يبدو - من وجهة الفن القصصي - أن الطريقة التي سلكها المؤلف هي الأولى. لأنها تضمن شوق القارئ ومفاجأته مرتين: عندما يعلم بزواج هذا الذي كان داعية ضد الزواج، وبسعادته فيما كان يفر منه ويخشاه. ومرة عندما يعلم بالكارثة التي كان يتربص بها القدر، لينزلها به وهو في أوج سعادته
ولكن الصدق في عرض هذا الإنسان - وهو في حالة الذهول بالنكبة - أولى من كل حيلة فنية. وعلى قواعد العرض الفني أن تتحور وتحتال لتحقق الصدق - وليس على الصدق أن يتحور ويحتال! وقد كان هذا ممكناً لو أن المؤلف حكى عن زميله ولم يدعه يعرض حكايته بنفسه. أو لو أنه سلك آية طريقة أُخرى من طرق العرض الفني الكثيرة
إلا أنني احب هنا أن أنبه إلى أن هذه القصة لا تقوم على الحادثة وحدها. إنما تقوم - كمعظم قصص المجموعة - على استعراض المفارقات النفسية، والخلجات الشعورية والالتفاتات الذهنية، وهذا ما يجعل لها قيمة، وما يجعلنا نناقش عيوبها - كما نراها -
ومن عيوبها أن تغلب قوة المفاجأة على بساطة الطبيعة في قصة واحدة هي (عين زكية). فقد التقي القاص في ليلة زفافه والكاهن يربط بينه وبين زوجته برباط الأبدية. التقى بعيني فتاة استطارتا نفسه، فتمنى لو لقيها قبل هذا الرباط الذي ضاقت به نفسه منذ هذه اللحظة. ثم تسير القصة وقد علم فيما بعد أن هذه الفتاة صديقة زوجه. فكان هذا وسيلة إلى اجتماعهما وارتباطهما عشر سنوات. يستمتع فيها بالفاكهة المحرمة من بعيد، وتأبى هذه الفاكهة أن تستجيب لمن يطلب يدها، لأنها تؤثر حياتها في هذا الثالوث العجيب! ويستعرض المؤلف هنا مشاعره وخوالجه في كل موقف استعراضاً جميلا
وفجأة تعلم في النهاية أنها صنعت ذلك كله، لأنها تهيم بزميلتها!
لا نكران في أنها مفاجأة تامة لا يوجد في القصة أي إشعار سابق بها فلها في النفس هزتها. ولا نكران أن فيها سخرية بكل أحلامه وهواجسه، فقد كان يحسب ذلك كله لأجله! ولا نكران أن هذا الشذوذ هو حالة مرضية يعترف بها علم النفس الحديث!
ولكن هذا كله لا يساوي أن تسير الحياة على طبيعتها، وإن تكون هذه العقدة بسبب أي حادث آخر غير هيامها بزميلتها، وأن تختم القصة خاتمة أُخرى(591/23)
هنالك أقصوصة سلمت من كل عيب في هذه المجموعة، وفازت بكل ميزة من ميزاتها. هي قصة (هواجس) توازنت فيها الانفعالات النفسية والبحوث الفلسفية. وسار السياق مشوقاً حتى نهايته. واتسمت حبكتها بسمة الطبيعة الصادقة. واختلطت فيها الشاعرية المرفوفة، بالواقعية الصحيحة. وتوافرت لها كل عناصر الأقصوصة الجيدة
وهناك خمس أقاصيص أُخرى تتراوح بين الأقاصيص الثلاث السابقة وبين هذه الأقصوصة الجيدة؛ فتأخذ من هذه وتأخذ من تلك، وتبقى وسطاً بينها جميعاً
سيد قطب(591/24)
بحث علمي
حقائق عن الدماغ البشري
للأستاذ عبد العزيز جادو
في آخر يوم من أيام شهر ديسمبر منذ 167 سنة مضت، ولد بالقرب من قرية غلام قضى حياته في السعي باجتهاد لحل مشكلة الصلة بين قوى العقل ووظائف المخ والحالات المختلفة للجمجمة.
سعى جاسبر سبورزيم بالاشتراك مع فرانز جول إلى تفسير سر التفكير بطريقة سميت فيما بعد بعلم فراسة الدماغ وكان جاسبر أول من نشر هذا المذهب الجديد في إنجلترا. وقد أعتقد أن الارتفاعات السطحية في الجمجمة تشتمل على ارتفاعات مناسبة في المخ. وكانت نظريته باختصار أن الجمجمة البشرية تتركب من مجموعة نتوءات توضح مساحات الذكاء في المخ والقوى الذهنية الموافقة في الشخص.
ولسوء الحظ كانت طريقة علم فراسة الدماغ يعوزها الإتقان والتجربة والبرهان. ولكننا على أي حال مدينون بدين الشكر ومعرفة الجميل لهذين المشتغلين بعلم تشريح المخ.
واليوم قام طب المخ الجراحي بتحديد مساحات المخ شيئاً فشيئا بتدقيق علمي، فظهرت من اثر ذلك حقائق عجيبة. فانه قام الدليل مثلا على أن قوى الرجل العقلية تظل مستمرة في تأدية وظيفتها طبيعية وعادية حتى في حالة انتقال نصف المخ من موضعه. وكشف الأطباء الجراحون أيضاً أن العقلية لا يلحقها فساد أو تلف عندما تنتقل فصوص المخ الأمامية. والمسائل التي تواجه دارسي تركيب المخ وهندسته هي الكشف عن سبب نبوغ بعض الرجال وخمول بعضهم الآخر.
والدكتور واجنر هو أول عالم سبر سر طاقة المخ بمقارنته أمخاخ رجال ذوي نبوغ بمخ الرجل العادي، وأتم تجربته الأولى سنة 1860. فلقد قام الدكتور واجنر بفحص مخ أحد المشاهير في الرياضيات ومخ رجل بستاني، وبعد دراسة طويلة شاقة وصل إلى النتيجة الآتية:
1 - ليس هناك أي اختلاف بين المخين
2 - الشقوق والتلافيف في المخين متشابهة تماماً(591/25)
3 - وزن المخين كليهما متماثل من الوجهة العملية
ومنذ أن أجريت تلك التجارب وجد أن مخ المعتوه يكون في الغالب أثقل في الوزن من مخ الرجل العاقل والمرأة العاقلة.
أساطير عن المخ
بات من المفروض أن الجزء الجبهي (الأمامي) من المخ هو المنطقة التي تحتوي على أعلى الملكات وأسمى الطاقات
وأوصى كل من البروفسور ستانلي هول العالم النفساني الشهير، والسير ويليام أوسلر الطبيب العالمي المعروف بأن يشرح مخهما. وبمقارنتهما بالفصوص الجبهية لرجال عاديي الذكاء ثبت أن هذه الفكرة إن هي إلا محض خرافة. ولقد أكد أيضاً أن المرضى الذين تلفت فصوصهم الجبهية من تأثير مرض، عندهم القدرة - مع ذلك - على إجراء خططهم العقلية بطريقة اعتيادية. وعندما يواجه الأخصائيون في المخ مخين فلن يقدروا على تمييز مخ الرجل ذي الذكاء الحاد من مخ الرجل الأجير الأمي.
سر قوة المخ
وبعد قطع الرجاء من إيجاد قاعدة فيزيقية للذكاء، أدرك أحد المشتغلين بعلم تشريح المخ نهائياً أن جميع دراساته كانت على شيء من القيمة العلمية، فلقد كان من العبث وإضاعة الوقت سدى دراسة الأمخاخ الميتة أو أمخاخ الموتى! فهي أشبه شيء بدراسة آلة أو جهاز تالف، ولا يمكن الكشف عن كل شئ في الآلة إلا في حالة سيرها. والمخ ككل آلة يجب أن يكون له بعض منابع من الطاقة، أي القوة الدافعة. ما هذه الطاقة؟ الجواب على ذلك بسيط - فهي مورد الدم. والدم هو المفتاح لسر المخ، ويمكننا به أن نفهم آثاره وأعماله بدقة تفوق التأملات الميكروسكوبية للخليات والأنسجة
وأكبر غلطة لواجنر هي أنه تغاضى عن أغطية المخ. وهذه الأغشية أو الأنسجة الدقيقة الناعمة كانت بمثابة (حجر رشيد) للمشتغلين بعلم تشريح المخ. أنهم تكلموا كثيراً عن طاقة المخ أكثر مما تكلموا عن الحجم والثقل والتعقيد لبناء المخ ذاته.
وفي سنة 1926 قام الدكتور هينزيه الأخصائي الفرنسي في المخ بكشف مهم فيما يختص(591/26)
بسر طاقة المخ. وأدت أبحاثه في التركيب الشرياني لأمخاخ الأشخاص المتفوقين في الذكاء إلى التسليم بأن أنسجة الرجال (سريعي الفهم) لها دائماً مورد دم غزير وأوعية دموية ذات طاقات كبيرة. ولقد ثبت ثبوتاً لاشك فيه أن طاقة المخ لا تتوقف على وزن المخ أو على تعقيد طياته؛ وإنما المهم هو مجرى الدم. وغطاء المخ عند ثقيل الفهم له مورد دم عقيم بشريانات مزمومة (مضغوطة) وفي مقدور الخبير أو الأخصائي الآن أن يحدد بصفة قاطعة ما إذا كان المخ الذي يدرسه ملكا لنابغة أو لأحمق. ودم المخ الجيد عنصر جوهري في الذكاء.
جبر المخ وسكره
وثمة استكشافات مهمة جاء بها الدكتور هينزيه منذ بضع سنين تضمنتها رسالته (الدلالات الإضافية على أساليب دراسة الجهاز الشرياني للمخ) وبين هينزيه أن تركيب مجرى الدم إنما هو نقطة من الأهمية بمكان، أنه موضوع ليس في الكم فحسب ولكن في الكيف أيضاً. والأساليب العقلية يمكن أيضاً أن تكون محكومة بمجرى الدم الذي يسيطر عليها، ولقد وجد أن الجير والسكر يلعبان دوراً مهما في (دراما) المخ، وأكد الدكتور كاتزينيلبوجن طبيب الأمراض العقلية - أن غالبية المعتوهين الذين يرجع اختلال عقلهم إلى علة عضوية، عندهم نقص في الجير وزيادة في سكر الدم، والسكر الكثير في الدم يزيد التوتر العصبي، والمخ الذي تكون (حلاوته) شاذة، خارجة عن أصولها، يحتمل أن يكون مخاً سقيماً
كهرباء المخ
لم تعرف كهرباء المخ حتى زمن قريب. وكان معروفا منذ خمسين سنة أن المخ ينتج كهرباء، ولكن منذ أن أخذ الصمام المفرغ يتحول ويتقدم أخذت القوة الكهربائية للمخ نصيبها من البزل (اصطلاح طبي)
وكان الدكتور برجر أول من اشتغل بكهرباء المخ. وقد بزل للمخ بوضع آلات تسمى (إليكترودات مباشرة على العضو من خلال فتحات صغيرة في الجمجمة. وحصل على آثار موجة المخ للعباقرة والبلهاء. وهذه الطريقة الآن يسهل استعمالها
هب أن مخك أريد به أن يبزل؛ إذن يجب أن يدعك ذراعك الأيمن دعكاً تاماً لينتقل كل(591/27)
زيوت الجلد. ثم يلف حول الذراع ضمادات مشبعة بمحلول ملحي لتحفظ الآلات المسماة اليكترودات) مضغوطاً عليها تجاه الجلد عند المعصم والساعد. وتوضع حول رأسك عمامة بيضاء تحتوي على الجهاز الفضي للرأس، وتوصل الأسلاك هذا الجهاز بجهاز آخر يسجل (تموجات المخ) على قصاصات من الورق
التموجات الكهربائية للمخ
للموجات الكهربائية في المخ وزنان معروفان في العلم بموجتي (ألفا) و (باء) & ووزن يتموج نحو 10 مرات في الثانية الواحدة. يتموج نحو عشرين مرة في الثانية. وتظل هذه الموجات متماثلة يوماً بعد يوم في حالات اعتيادية. وحينما يحدث اضطراب عقلي أو عصبي تسجله الموجات الكهربائية. فمثلا في الصرع يوجد تكديس عظيم من القوة الكهربائية في المخ بمقدار 3000 % فوق العادي. وفي الإغماء تبطئ موجات المخ بالنزول إلى 3 أو 5 مرات في الثانية. وعلى قدر ما يكون استعمالك لمخك شاقا تكون القوة الكهربائية التي تنشرها أكثر. والاشتغال بالمسائل الحسابية العويصة يجعل الإلحاح على مقياس المخ كبيراً
ومن الوزن الذي يظهر على السجل نحكم بأن النساء يفكرن أسرع من الرجال. والتكرار المتوسط لموجات (ألفا) عند المرأة 11 في الثانية مقابل 10. 2 عند الرجال
والبزل الكهربائي للمخ يظهر في موجات أناس يختلفون اختلافا تاماً. ولقد برهنت التجارب حقيقة نظرية علم النفس بأنه ليس هناك شخصان يتشابه تفكيرهما بأي حال.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو(591/28)
العنصر الإنساني
في كتاب (النماذج البشرية)
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
أصدر الدكتور محمد مندور كتباً ثلاثة أضافها في الأسبوع
الماضي إلى المكتبة العربية هي (نماذج بشرية) و (في
الميزان الجديد) و (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث)
الأول والثاني من تأليفه، والثالث ترجمة عن الفرنسية
لمجموعة من الدراسات في الثقافة الخلقية، كتبها نفر من كبار
أساتذة فرنسا المعاصرين
وليست (النماذج بشرية) بالكتاب الغريب عن القراء فقد طالعنا بعضه مقالات في المجلات الأدبية، ظل ينشرها المؤلف تباعاً منذ عاد من أوروبا، قبل الحرب الحالية بقليل، حتى اليوم. وقد جمعها المؤلف في كتاب واحد بعد أن أعاد فيها النظر فأصلح منها، ورجع عن الكثير من آرائه وأحكامه، وفقاً لتطوره الروحي. وأضاف إليها نماذج جديدة؛ وفضلا عن ذلك فقد صدر للكتاب بمقدمة طويلة كتبتها زوجته السيدة ملك عبد العزيز خريجة كلية الآداب، وقد احتوت تلك المقدمة على دراسة عميقة لما جاء في الكتاب؛ وبما لها من نفاذ الأدبية الشاعرة، ويحكم كونها أقرب الناس إليه عرضت لشخصية المؤلف بالتحليل فكشفت لنا الستار عما يخفى علينا من خصائص نفسه الغنية الزاخرة بمختلف المشاعر الحادة والمعاني المتألقة
وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أو ما هي هذه النماذج البشرية التي عرضها علينا المؤلف؟ نفر قليل من العباقرة الخلاقين أمثال: (جيته) و (دستويفسكي) و (موليير) و (هوميروس) الخ. . . هم وحدهم الذين استطاعوا بطول ما تدبروا الوجود والنفس الإنسانية؛ النفاذ إلى جوهر الحياة الإنسانية، فكشفوا الستار عن أسرار البشر وطبائعهم الأصيلة، وأودعوا أبطال(591/29)
قصصهم هذه الأسرار وحملوهم هذه الطبائع فجاءت (نماذج بشرية) بحق كما سماها المؤلف لأنها تمثل آلافاً من البشر الذين يعيشون بيننا ويضطربون في مناكب الحياة؛ ولأنها تساهم في تجسيم المشاكل الإنسانية، تلك التي نشترك فيها جميعاً أياً كان زماننا وأياً كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال، كما تصورها مأساة (فوست)، وكالصراع الدائم بين قوى الفرد وصخرة المجتمع العاتية التي لا ترحم، كما تبرزها قصة (جوليان سوريل) أو قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، وكالحب ذلك القبس القدسي الذي أودعه الله قلوب البشر والذي لم تخمد جذوته ما بقي قلب ينبض في هذه الحياة، ذلك الحب الأبدي الذي خلد حياة (دانتي) الشاعر الإيطالي بقصته مع (بيتريس) في (العهد الجديد)
فكتاب النماذج إذن وحدة متسقة لأن كل نموذج إنما هو محاولة لبلوغ العناصر الخفية في نفوسنا الإنسانية. ولهذا كانت حياة النماذج حياتنا لأنها تجاوب ما فينا من عنصر إنساني، وتعبر عما يكتنف نفوسنا من مشاعر وأهواء
وقد أدرك الدكتور مندور هذه الحقيقة الواضحة التي يرجع إليها الفضل في خلود نماذجنا على صفحات الزمن، فبعث هذه الشخصيات الروائية خلقاً جديداً مليئاً بالحياة، زاخراً بمائها. وكأن المؤلف إذ يحدثك عن نماذجه ويورد أخبارها إنما يحدثك عن شخصيات رآها، أو حيوات عاشها؛ وذلك، بما له من قدرة على بعث نماذجه من مرقدها وإكسابها واقعية حية، وتهيئة الأجواء التي عاشت فيها، واستحضار الملابسات التي اكتنفت حياتها
وقد ساعده على هذا دراسة طويلة للأدب الغربية، دراسة تستطيع أن تقف على مدى عمقها أن أنت قرأت ما كتبه عن (أوليس)، تلك الشخصية التي خلدت في الأدب اليوناني، وذلك البطل الذي تردد ذكره في الأوديسا والإلياذة، ملحمتي (هوميروس) ثم بعد ذلك بقرون في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر اليوناني العظيم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وهل كان الكاتب يستطيع أن يلم بمعالم هذه الشخصية وتطورها إلا خلال دراسة ممحصة لهذه المسرحيات الثلاث؟ بل ولحياة اليونان بأسرها: تاريخها وفلسفتها، وفنها وأخلاقها؟ وإن القارئ ليلمس آثار هذا الجهد حين يقرأ المؤلف عن (أوليس) وكيف أودع هذا النموذج تطور اليونان الروحي من خشونة البداوة الأولى بما فيها من مظاهر(591/30)
الشجاعة والإقدام إلى طور الحكمة وما يسوده من مكر ودهاء؛ ثم إلى طور الانحلال الخلقي الذي يجعله المؤلف رهينا بظهور الفلسفة وما يتبعها من سفسطة وتمرد للفكر. ويقول المؤلف في ذلك (ص114):
(لا. إن أوليس لم يعد (في الأوديسا) من الصلابة بحيث كان، وقد أخذ التفكير يتغلب في نفسه على خشونة البداوة. أخذ الدهاء يسيطر على الشجاعة، أخذت الرقة تنفذ إلى صلابة قلبه. أخذ يتحضر، وهذا أمر لا عيب فيه، ولكن طريق الحضارة طريق زلق سوف تراه في الحديث آلاتي (فيلوكتيت) ينتهي برجلنا كما انتهى بالشعب اليوناني كله إلى بوادر انحلال خلقي، ستكون إحدى مظاهره ذلك الخبث القبيح الذي يصد عنه أوليس (فيلوكتيت) مسرحية سوفوكليس الروائي العظيم). ثم يقول عن أوليس في فيلوكتيت (ص114):
(تركنا أوليس وقد أصبح في الأوديسا أقدر على الدهاء مما عهدناه من قبل. وهانحن نلقاه اليوم في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر العظيم فإذا بنا في القرن الخامس قبل الميلاد وإذا بنا في أثينا حيث ظهر الفلاسفة، وكثر الخطباء، وتعدد السوفسطائيون؛ فأخذت بوادر الانحلال تدب في الأخلاق. وتلك ظاهرة لها أشباهها في تاريخ كل الشعوب، فالتفكير ملكة خبيثة كثيراً ما تنتهي بالإنسان إلى تبرير كل الوسائل والتماس كافة السبل لما تسعى إليه من أهداف، فيسكت صوت الضمير، وتختفي من النفس معاني النبل التي تتوافر عادة في البداوة)
وهو يأبى أن يدع (أوليس) بعد هذه المسرحيات اليونانية الثلاث فتلمسه في الآداب الحديثة أيام نهضت أوربا من رقادها في عصر النهضة، تفتش عن تراث اليونان الخالد فتبعثه من جديد. وكان (أوليس) - وقد اجتمعت فيه عوامل الخلود - ممن استوقف الناظرين فظهر في كثير من آداب عصر البعث العلمي. فتتبعه مؤلفنا عند (دانتي) الإيطالي وعند الشاعر الفرنسي (دي بالي وأخيرا ينتهي بنا عند أوليس الكاتب الإنكليزي المعاصر (جميس جويس)
هذا هو الجهد الذي كان على المؤلف أن يحتمله كي يخرج لنا أوليس نموذجاً بشرياً في صفحات قلائل، يقرؤها آلاف البشر في يسر دون أن ينعموا النظر فيما تخفي هذه السطور من دراسة دقيقة متصلة(591/31)
(أوليس) إذن عصارة مركزة لتلك الآداب اليونانية التي تشربها المؤلف، وأحسب أنه لو لم يشربها لما استمتعنا بقراءة (أوليس). فنحن إذ نقرأ أوليس نحس لذة لا تزول لأن من صور حياتها عاش أعواما في ظل (هوميروس) يحسو أعذب الرحيق من ملحمتيه، وماشى تطور اليونان حتى عصر (سوفوكليس). ولأنه زار تلك المواطن التي أوردها هوميروس في ملحمتيه: شاهد بحار اليونان التي خرج فيها (أوليس) على رأس جنده، وتطلع إلى قمة (الأولمب) مقر الآلهة، وشاهد تلك المخلفات الرهيبة الساحرة، التي لا تزال تفوح منها حتى اليوم رائحة هذه المعارك الدامية بين أثينا وإسبرطة، وتنبعث منها صور الماضي السحيق وأطياف أبطال اليونان وشعرائهم وفلاسفتهم
وهكذا فالمؤلف إذ يحدثنا عن (جفروش) أو (العبيط) أو (إبراهيم الكاتب) لا يحدثنا عن شخصيات قرأ عنها في بطون الكتب بل جاء حديثه نتاج تمثله لهذه النماذج وتشربه روح خالقها. فحديثه إنما هو بعض نفسه، ومن أجل هذا استطاع أن ينقل إلى قرائه في يسر، ما أحس من مشاعر، وأن يضمن في نفوسهم ما أحدثته هذه النماذج في نفسه من أثر عميق لا يمحى
كل ذلك في أسلوب لا أجد في التعبير عن موسيقاه أحلى من قول السيدة ملك في مقدمة الكتاب: (إنها ليست موسيقى رقص محدودة متقابلة، ولكنها فيض نفس، نفس حارة غنية، موسيقى سيالة تعلو وتهبط، وتتكسر وتتراخى وتتدافع حسب نبضات الإحساس أو وثبات الفكر).
وبعد: فهذا أيها القارئ كتاب النماذج من حيث هو كتاب أدب. ولكن هل هو كتاب أدب فحسب؟ أو أراد به مؤلفه أن يكون صياغة جديدة لبعض القصص العالمي، وعرضاً تحليلياً لأبطال هذا القصص؟ اللهم إن كان هذا لجاء الكتاب دراسة فحسب ولما كان فيه خلق أو طرافة. ولكن ما يعطى الكتاب قيمته التي سيخلد بها هو انطواؤه على تيارات خفية؛ من اليسير على القارئ اللبيب تأن يدركها، تيارات نفسية هي مزيج من السخط على ما في المجتمع من شرور، وتطلع قلق لتحطيم ما فيه من أصنام، وتدمير ما يحوي من نظم عقيمة بالية. هذه التيارات اعتملت في نفس المؤلف وأقلقت روحه مذ كان شاباً غض الشباب، فلم يجد سبيلاً للإفصاح عن هذه الثورة الكامنة والتعبير عن أفكاره، ومثله السياسية(591/32)
والاجتماعية، إلا أن تكون هذه النماذج البشرية، هذه المخلوقات الإنسانية التي تبناها لتصور بعض جوانب نفسه وتنقل رسالته الاجتماعية إلى الجيل الجديد.
عبد المنعم عبد العزيز المليجي
ليسانس في الفلسفة(591/33)
البريد الأدبي
فرقة التمثيل
حاربت مع من حارب الفرقة القومية للتمثيل التي كان يديرها الأستاذ الجليل خليل مطران، ولم أحفل بمن كان يطالب بالتريث والاصطبار إلى أن يشتد عضد الفرقة وتقوى على مسايرة الأمة في نهضتها الأدبية، لأني كنت ولا زلت أعتقد أن المسرح مرآة ثقافة الأمة وعنوان إدراكها معنى الحياة وأن السكوت عنه إنما هو خيانة للأدب
ولقد صفقت فرحاً يوم استخلص الشبان الإدارة من أيدي الشيوخ، لظن حسن مني بأن إرادة شبابنا لا تقاوم، وأن حبهم الفني للفن يقصيهم بعيداً عن الشهوات والنزعات
ولكن، سرعان ما قبض الشبان على أعنة التمثيل حتى استهانوا بالفن وبذواتهم، وتراخوا عن العمل، وانحدروا دراكاً إلى مستوى عامة الشعب
أسوق هذه الكلمة إلى إخواني في فرقة التمثيل المصرية وهم هم الذين قاموا على أنقاض الفرقة القومية، لا لأحاسبهم على ما اقترفوه في حق النهضة الأدبية خلال العامين المنصرمين في تمثيل روايات (كلنا كده) وشهرزاد (وسلك مقطوع) وإضراب هاتيك المهازل السخيفة والتهريج السمج، بل لأنبههم بأن أقلام الكتاب لم تعد تغلها قوة طاغية، ولا تسيطر عليها أهواء السياسة ووسوسات الشيطان
حبيب الزحلاوي
تعقيب
عقب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في الثقافة رقم (300) على كلمة الأستاذ عبد الحميد ناصف في الرسالة رقم (579) بشأن كلمة (الصدفة) إذ يستشهد الثاني على لغويتها ببيت أبي دهبل الجمحي:
فطوراً أمني النفس لقياك صدفة ... وطوراً إذا ما لجَّ بي الحزن أنشج
ويتساءل الأستاذ عبد الباقي عن المصدر الوارد به هذا البيت
قلت: ورد البيت في كتاب الأغاني جزء6 صفحة 151 (طبعة المغربي) هكذا:
فطوراً أمني النفس من عمرة المنى ... وطوراً إذا ما لج بي الحزن أنشج(591/34)
كما أنه ورد على هذه الصورة في آمالي المرتضى جزء (1) هامش صفحة 82
وأما عمرة هذه صاحبة أبي دهبل فهي امرأة من قومه (وكانت جزلة يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر والمحادثة)
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
سيدي الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة المحترم
قرأت في العدد 588 من مجلتكم الغراء في باب البريد الأدبي كلمة للأستاذ توفيق الحكيم يرد بها عن نفسه بعض تهم ألصقتها به الصحافة السورية، كما أنه يتبرأ من رأي (هو كعادة آرائه في المرأة) كان قد أعطاه عن الوحدة العربية راجياً صحف الأقطار الشقيقة أن تضن قليلا بحسن ظنها في صحة الأقاويل والإشاعات التي تنسب إليه وألا تلقي بالا إلى غير ما ينشر موقعاً عليه باسمه من مقالات أو تصريحات مسنداً ذلك إلى بدعة (أحاديث المجالس) المتفشية في الصحافة الحديثة (كذا)
ولما كنت ذلك الصحافي الذي تفضل عليه الأستاذ (حفظه الله) برأيه في الوحدة العربية لأنشره، وقد نشرته فعلاً في مجلة (العالمان) السورية في شهر يونيه الفائت إلى جانب آراء للأساتذة أنطون الجميل بك وعبد القادر المازني و. . وكان يومئذ جالساً في مقهى (ريتز) مع الأستاذ المازني (الذي لم اكن أعرفه) فقدمني إليه يعطيني بدوره حديثاً عن الوحدة قائلاً: إن الأستاذ المازني خير من يفي هذا الموضوع حقه لأنه أكثر ممارسة له
وقد كان الأستاذ المازني لطيفاً جداً إذ وعدني بإنجاز الحديث في اليوم التالي بينما كان الأستاذ الحكيم يكتب بخط يده! نعم بخط يده، أجوبته على أسئلتي على ورقة ما زلت محتفظاً بها
وبعد. فقد جئتكم راجياً نشر كلمتي هذه على صفحات رسالتكم لإظهار الحقيقة
وتفضلوا بقبول أسمى احترامي
محمد فاضل طلس(591/35)
نظرية دوركهيم والإصلاح الاجتماعي
كتب الدكتور محمد مندور مقالاً في العدد 586 من مجلة الرسالة الغراء، ذكر فيه رأيه في المنهاج الذي يجب أن نسير عليه إذا أردنا النهوض ببلدنا. ونص فيه على (شاب مسكين أكبر الظن أنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة) لأنه (تحدث عن مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فذكر (أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة) وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعات في مصر) وأنا لم أقرأ مقال هذا الشاب (المسكين) ولا يعنيني رد الدكتور مندور عليه أو شتمه إياه وإنما يعنيني أن أدفع زعماً نشأ عن سوء الفهم لنظرية المدرسة الفرنسية الحديثة وعلى رأسها العلامة دوركهيم
لعل الفكرة الأساسية في نظرية دوركهيم هي أن الظواهر الاجتماعية تسير وفق قوانين لا تقل في صرامتها عن قوانين الطبيعة، وإنها تتطور تبعاً لسير الزمان واختلاف المكان
وليس معنى هذا أننا لا نستطيع عمل أي إصلاح. ويتحتم علينا أن نقف مكتوفين أمام ما تبرمه تلك القوانين. كلا. أننا إذا دققنا الفهم ووضعنا هذا الإحساس أمام أعيننا أمكننا أن ننشئ فناً إصلاحياً دعامته علم الاجتماع. فمن يقوم على دراسة ظروف البيئة وأحوال الشعب وأخلاقه، ومقدار التطور فيها، ومقدار تقبل الشعب للإصلاح الجديد. ويجب أن نقف على حالته الاقتصادية وقوفاً تاماً. وبالجملة نكون على علم تام بحالة البلد التي نحاول أن نضع لها مشروع الإصلاح، وما يترتب عليه من نتائج في شتى فروع الحياة. وينبغي كذلك أن نستعرض آثاره في الأمم التي أخذت به، حتى نستطيع أن ننتفع بأخطاء غيرنا، وإن نكون على علم بالأحوال والظروف التي أحاطت بتنفيذه حتى نتلافى الضار منها
هذا هو الوضع الصحيح إذا أردنا الإصلاح، وأردنا أن نسير بالمجتمع نحو الكمال في شيء من التدرج الذي لا يحس معه أفراد المجتمع أن شيئاً خارجاً عن طبيعتهم قد أقحم عليهم، بل يشعرون إن إصلاحاً كهذا من طبيعة الأشياء ومن لوازمها. ولعمري أن هذا الشعور وحده قمين بنجاح أي إصلاح
ولقد أجاز بعض العلماء التدخل في قوانين الظواهر الاجتماعية. أي في لغتنا نحن أجاز(591/36)
هؤلاء العلماء أن نظفر بالشعب ونستحثه على السير إلى الأمام بخطوات أوسع، ولكن هذا لا يتم إلا إذا هيأنا أذهان المجتمع لإصلاحنا التهيؤ الكافي
ومن هذا نرى أن علماء الاجتماع لا يتفقون بعلمهم موقفاً عقيماً في وجه أي إصلاح بل أنهم يريدون أن يكون الإصلاح أساسه العلم الصحيح بأحوال المجتمع وميوله
وإذا رحنا نحن نوسع هذا القول ونقاربه من الموضوع الذي حدا بنا إلى كتابته وهو موضوع محو الأمية. فإننا نرى أن هذا المشروع يسير وفق قوانين المجتمع، فلقد أحسسنا برغبة شديدة في محو الأمية للاستزادة من العلم والسير في قافلة العالم المتمدن. ثم إن هذا المشروع لم يرتجل ارتجالاً بل أتى نتيجة لدراسة عامة شملت جميع النواحي الاجتماعية وخاصة الناحية الاقتصادية. زد على ذلك أنها عند عرض هذا المشروع على البرلمان المصري لم يعترض أحد على المبدأ مما يدل على أن هناك استعداداً لتقبله
وأخيراً فإني أعتقد أننا عملنا الدعاية الكافية له. وأن في مسارعة الهيئات المختلفة إلى تلبية ذلك النداء لدليلاً كافياً على أن الزناد كان متوقفا على إشعال الثقاب فقانون محو الأمية يوافق رغبات المجتمع إذن وهو بذلك يسير وفق قوانين علم الاجتماع التي قلنا عنها أنها تتطور على مرور الزمان وتختلف باختلاف المكان
أما إذا كان مخالفاً لرغبات المجتمع فما كنا نرى بالمرة صيحات الاستحسان له من كل مكان ومنها صيحة الدكتور مندور، وأظنه يعلم من تاريخ النهضة أولئك الرجال الذين أوذوا في سبيل دعواتهم لأنهم لم يمهدوا لها التمهيد الكافي مخالفين بذلك نواميس الاجتماع
فليطمئن إذن الدكتور مندور فإن أحداً لن يتأثر بدعوته الهوجاء في نبذ نظريات العلم لأن هذا يخالف قوانين المجتمع ولأن أحداً لم يبلغ من السذاجة مقدار ما بلغه رجله الفرنسي
وبعد فهذه كلمة قصيرة نكتفي بها اليوم ولدينا مزيد إذا أراد الدكتور مندور.
سعيد زايد
ليسانس في الفلسفة والاجتماع(591/37)
العدد 592 - بتاريخ: 06 - 11 - 1944(/)
العقلية المصرية
للدكتور محمد مندور
لست ممن يركنون إلى اليأس أو يدعون إلى تثبيط، وبودي لو نفثت في كل قلب إيماناً بالنفس وأملاً في الحياة حتى أرى جميع مواطنينا كالكراة من المطاط، كلما زدتها صدماً ازدادت قفزاً، ولكنني مع ذلك عودت قرائي الصراحة في علاج مشاكلنا، ولقيت دائماً ممن حظيت برأيهم تأييداً حاراً صادقاً. ثم أني أؤمن بأنه لا خير في التعامي عن الواقع، بل لا خير في إنكاره، لأن إنكاره لمن يمحوه. وهاأنا اليوم أعالج أخص ما تملك كأمة، وهو العقلية المصرية ولي في تلك العقلية رأي ثابت استخلصته من احتكاكي الطويل بعقليات الشعوب المختلفة وبخاصة الشعوب الغربية. وسأبسط هذا الرأي ثم أحاول تفسيره لنستنبط ما نستطيع من علاج.
كنت أنا وزملائي من المصريين نتلقى العلم سنين طويلة بالجامعات الأوربية مع طلبة من كافة الأجناس، ولاحظت أن الكثيرين منا كانوا يتفوقون على إخوانهم في الدرس تفوقاً واضحاً. ثم عدت وعاد زملائي؛ فإذا بالقليل منا من يوفق إلى اكتشاف جديد في ميدان المعرفة، بل إلى تجديد فكرة معروفة أو تعميقها، وعلى العكس من ذلك نسمع أن هذا الزميل الفرنسي، أو ذاك الإنجليزي قد اهتدى إلى نظرية غير معروفة أو كشف الحجاب عن مجهول في مجال المادة أو مجال الإنسان. وأنعمت النظر في هذا التناقض الواضح فاستقر بنفسي أن العقلية المصرية سلبية قابلة، بينما عقلية الغربيين إيجابية فعالة. فنحن نستطيع أن نحصل ما يلقى إلينا، ولسنا بلا ريب دون أحد في قوة الذاكرة، ولكننا لا نكاد نتخطى دور التقبل والتحصيل حتى يتبلد حمارنا، ولقد ينجح بعضنا في الجدل، ولكن مجهوده فلما يعدو فك الأفكار الأساسية كما تفك النقود إلى وحدات من البرونز، ولا يقف تأثير تلك العقلية القابلة عند ميدان المعرفة، بل يمتد إلى الحياة العملية ذاتها؛ فترى الكثيرين منا حتى المثقفين ضيقي الحيلة سيئي التصرف، قليلي الاعتماد على النفس والسير على أقدامهم أو الاهتداء إلى السبيل السوي عندما يضطرب حبل الأمور وتشتد المواقف هذه ظاهرة لا أظن هناك ما هو أخطر منها في حياتنا، ولابد من أن نلقي عليها من الضوء ما يظهر مواضع الخلل في بنائها(592/1)
لعل من أكبر الأسباب التي كيفت العقلية المصرية على النحو الذي ذكرنا تلك الحقيقة الواضحة، وهي أنه قد يكون عندنا تعليم، ولكن مما لا شك فيه أنه ليست لدينا ثقافة، حتى لقد استطعنا في إحدى المقالات السابقة أن نتحدث عن أمية المتعلمين، والتعليم شيء والثقافة شيء آخر، وإن كان من الممكن أن يصبح التعليم، إذا أقيم على مناهج سليمة ونهض به أساتذة أكفاء، وسيلة من وسائل التثقيف. التعليم كما نلاحظه عندنا تلقين للمعارف، وأما الثقافة فتكوين للملكات، وهذا ما لا وجود له بيننا تقريباً، وفي الغرب نستطيع أن نقول إن عملية التثقيف تبدأ مع الميلاد، وهذا هو ما يعبر عنه المفكرون بقولهم إن خلف الأوربيين قروناً من الثقافة يتوارثونها ابناً عن أب. وهذا قول لا يخلو من تجوز، ومع ذلك فهو صحيح ولفهمه يلجأ بعض المفكرين إلى البحث في تأثير النشاط الثقافي على مراكزنا العصبية، وتوارث تلك المراكز مشكلة مكيفة، ولكن هذا بحث نتركه لأنه في نظرنا لا يقل غموضاً ومجازفة عن البحث فيما وراء الطبيعة، وإنما نقف على العكس من ذلك عند أمرين: اللغة، وطريقة الحياة. فالطفل الأوربي يحصل بتحصيله لغته اليومية طائفة كبيرة من المعارف التي تملأ سوق الحياة، وهو يحس بأثر تلك المعلومات الفعالة في كل أموره ويخبر صدقها عن تجربة؛ فيتمثلها تمثل الهضم، وإذا بها جزء من تكوينه العقلي، وهو يسير في حياته على طريقة لا تخلو، مهما بلغت من البوهيمية، من منهج وغاية. وتنظيم تلك الحياة المادية ذاته فيه ما يرفع عن كاهله الكثير من تفاصيلها، حتى ليتكلف أقل الجهد في إعداد ما يحتاجه من طعام أو كساء. وليس من شك في أنه كلما تخلصنا من تلك التفاصيل وأنزلناها منزلة الآلية تحرر الكثير من وقتنا لنصرفه في النشاط العقلي، وبخاصة القراءة؛ فالأم في بيتها والأب في عمله يجد كل منهما متسعاً لتغذية تفكيره، وإذا بجو المنزل تغمره الثقافة التي تنفذ إلى عقل الطفل إن لم تند خلاياه
لقد ناقشنا بإحدى الصحف مشكلة الأخلاق؛ فرأينا أن التربية لن تجدي في علاجها قدر ما يجدي إصلاح النظم التي تمكن الفرد من أن يصل إلى حقه ويدفع عن نفسه العدوان بوسيلة كريمة غير الرجاء الذي تفشي في بلادنا كالوباء. وباستطاعتي اليوم أن أجد في نفس هذا الإصلاح علاجا للعقلية المصرية. وليس بخاف أن العلاقة متينة بين العلم والخلق، وقديماً قال أحد المفكرين إن علماً بلا خلق خراب للنفس، وفي الحق ماذا يستطيع(592/2)
في مجال العلم رجل لا يملك حتى الثقة بنفسه والاعتزاز بكرامته. وعندما تضطرب النفس وتتقاذفها الآلام كيف تريدها أن تصبر على كشف مجهول أو متابعة حقيقة أو استقصاء رأي. نعم إن العلماء في كافة بقاع الأرض لا تأخذ نفوسهم شهوة المادة، وتعلقهم الأول إنما هو بجوهر الفكر الخالد، ولكن هذا لم يمنع الهيئات الاجتماعية التي يعيشون بينها من أن توفر لهم أسباب الحياة، وتمكنهم من وسائل البحث. وأما نحن فمتى وضعنا معملاً تحت تصرف عالم، أو رزقاً ضرورياً في متناول أديب. وهبنا أيدينا استعداداً لأن نفعل ذلك فكيف السبيل لهذا العالم، أو ذاك الأديب أن يظهر مواهبه في بلاد بلغ فيها التفاوت في الثراء مبلغاً عض معه الفقر ملايين من البشر الذين لا يمكن أن نعدم - لو واتتهم الفرص - أن نعثر بينهم على نفر ولو قليل ممن حباهم الله مواهب النفس.
إذن فعدم تهيؤ الجو الثقافي الصحيح في منازلنا ودور تعليمنا من جهة، وفساد نظمنا الاجتماعية والاقتصادية من جهة أُخرى عاملان كبيران في تكييف العقلية المصرية. ولربما كان هذا هو السبب في أن الكثيرين ممن يعودون من أوربا من شبابنا لا يلبثون قليلا قليلا أن يخمد ضغط الوسط ما فيهم من حماسة ويثبط ما في قلوبهم من عزم بحيث لا نستبعد لو أن أحدهم بعد تخرجه باشر حياته العملية في أوربا لاستطاع خيراً مما يستطيعه هنا، وإن كنت لا أنكر أن نفراً غير قليل منهم لم ينزحوا إلى الغرب إلا بعد أن أخذوا طابعاً شبه نهائي، وكانت أمزجتهم من الصلابة بحيث لم تستطع ملابسة الوسط الجديد والتشبع بثقافته وطرق حياته؛ فلم تجد فيهم رحلة ولا أجدى اغتراب.
والآن كيف السبيل إلى علاج تلك الظاهرة. وهنا قد يصيح بي صائح، ولكن السبيل واضح تستطيع أن تجده فيما أسلفت من قول، فما عليك أو علينا إلا أن نصلح نظمنا، وأن نهيئ ما تريد ونريد من جو ثقافي في منازلنا ودور علمنا، ولكن هذا الصائح لن يلبث أن يوقعنا في دور؛ فمن لي ولكم بإنجاز ذلك، وهو لا يبدو هيناً إلا في الكتابة؟ هذه إصلاحات لابد أن يسوق إليها رأي عام قوي، وهذا الرأي لن يتكون إلا باستنارة العقول. والسبيل إلى تلك الاستنارة هو أن نسكت في نفوسنا النعرات الباطلة، وألا نستنكف في الأخذ عمن سبقونا في الحضارة، وألا نمل تكرار ما نأخذه عنهم، حتى يستقر في النفوس وينزل منها منزلة الإيمان؛ فعندئذ يصبح الفكر عملا، وإذا بعقليتنا السلبية القابلة تستحيل إيجابية فاعلة. فاليوم(592/3)
الذي نؤمن فيه أن لكل فرد حقاً يجب أن يناله بغير رجاء؛ فإن لم ينله حكم له به قضاء عادل، واليوم الذي نؤمن فيه بأن لكل فرد أن يستغل ملكاته، وأن يمكن من وسائل ذلك الاستغلال، وأن جهده لابد أن يقوته على نحو جدير بمستوى الإنسانية، واليوم الذي نؤمن فيه بأن للفكر الإنساني كرامة لا تدانيها كرامة المال، حتى تقر الهيئة الاجتماعية لرجاله بما يستحقون من وجاهة وتقدير، هو اليوم الذي سيعتز فيه المصري بالا تكون عقليته سلبية قابلة، بل إيجابية فاعلة
محمد مندور(592/4)
صلوات فكر
في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
في فيض الحياة
أحياناً ينبثق في روحي فيض غامر من الحياة كما ينبثق الماء في حوض جاف. . . ولن يقيد روحي وقت ذاك قيد ما، بل تكون كعين ثرة تتفجر فتشق الصخر العاتي وتجرف السدود كما يجرف السيل الحصى والحطب والغثاء. . . وأنا حينذاك أحس بإنسانيتي الفائقة، ويزداد شعور ثقتي بنفسي وإقبالي على الحياة. . .
وأتمنى أن يشيع هذا الشعور الفائق الفياض في جميع أرواح أبناء آدم. سواء كانت أرواح تلك الأجسام العاجية الوردية ذات العيون الصافية والشعور الذهبية والعنبرية، التي أتخيلها راقصة ضاحكة في أفراح الحياة مخمورة بخمار الحب وسكرات الجمال وطفور القوة. . . أتمنى لها ذلك حتى لا يكون خمارها خمار الغفلة والزهو والركون إلى فترات الحياة اللاهية مع إهمال ما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي. .
وأتمنى أن تشيع هذه القوة أيضاً وهذا الشعور الفياض في أرواح تلك الأجسام القبيحة الضعيفة الكئيبة ذات العيون المنطفئة والجلود المجعدة المخددة والشعور الكدرة التي تعبث بها نسائم الحياة كأنها شعور جماجم موتى تعبث بها ريح ثقيلة. . . والتي تتخيل بياض النهار سواد ليل، وذهب الضحى خزف تراب، وحرير الورد إبر شوك وقتاد. . . وترقص على ذلك رقصة ذبيح يجرجر جسمه المتهالك في رعشة الموت وحشرجة الفناء، وتغص بريقها وتأكل أكبادها من الحسرة، وتشرب حميم دموعها من الغصة وتطعم غسليناً وزقوماً. . . أتمنى ذلك حتى لا يكون وراء هذيانها وبحرانها بحمى الألم، وانكسار أعوادها بقاصمات الظهور شيء من يأس الكفر بالحياة والجحود لمستقبلها فيما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي
فأسكب اللهم فيضك ونورك على أرواحنا، وأوسع ما بينها وبين رحمتك، ولا تظمئها فتجعل هذا الفيض غوراً يغيض ولا يفيض!(592/5)
حياة مضاعفة
لست أحيا حياتي وحدي. . . وإنما أشعر أني أحياها ومعها حيوات جميع الكائنات التي أدركتها بالفكر والقلب!
وتظهر قيمة رحب النفس الإنسانية من مثل هذا الشعور.
إن الإنسان إذا اتصل بالكون اتصالاً وثيقاً كان حرياً أن يقذف الله مفيض الحياة على قلبه فيوضاً من كل منبع من منابع الوجود التي يتعرف إليها بفكره وقلبه!
الحياة بالحس وحده
يلذ لي أن أعيش حيناً بالحس وحده في فراش دافئ وثير في صبح يوم من أيام الشتاء جامد الفكر والجوارح لا أكاد أحرك في فكري وجسدي قوة! حين أتلقى من الحياة فيضاً من فيوض الشعور بالجسد!. . . حينئذ أستقبل الحياة بأنفاسي وحدها آخذها شهيقاً وأرسلها زفيراً في رتابة واسترخاء. . .
وقد يدور في خلدي حينئذ طائف من الأفكار المختزنة أجترها في هدوء كما تجتر الأنعام الجاثمة على العشب الطعام المختزن في كسل واسترخاء واستغراق واستقبال لموجات فيض الحياة من منبعها الخفي غافلة عما يدور في الكون. . .
حينئذ يحلو لي أن أتسمع إلى أنفاسي تتردد بين الجو وصدري، وأن أتسمع إلى نبضات قلبي التي تختلج وتهتز لها كل خلية في جسدي وتنقضي بها لمعة من لمعات روحي. . .
حينئذ أشعر بحنان غامر يغمر أعضائي وآلاتي العاملة في دءوب وقوة وصبر منذ أن دارت دورتها الأولى مع نسمة الحياة التي نفخها فيها نافخ النسمات، فابتدأت تدور طائعة مع جماعات الأحياء التي ترقص برعشات الحياة!
الحياة بالفكر وحده
وفي كثر من الأحيان أشعر بخفة في جسمي كأني لا أحمله ولا صلة لي به إلا إذا تحسسته بيدي. . . وحينئذ قد أشعر أنني صوت أو نظر أو سمع لا أكثر
يعتريني هذا الشعور غالباً حين أكون في الظلام في مهب نسيم رفيق. . .
ترى، هل يكون إحساسنا بالكون بعد انسلاخ أرواحنا من أجسامنا هكذا؟ فنصير كائنات(592/6)
مجردة من الأجسام، ترى وتسمع وتحس بدون هذه الوسائط المادية؟
على أي حال إن هذا الشعور مدخل ندخل منه إلى عالم كائنات الأفق الأعلى الذي يلي أفق حياتنا. . .
الكون الجديد دائماً
أرى الكون صباح كل يوم كأنما فرغ من صنعه الصانع الأعلى في التو والساعة! ولا أجد فيه قديماً إلا ذهني الذي أحس أنه يعرض عليّ صوراً قديمة من الأيام السابقة. . .
إن الله محتف بالكون مجدد عوامل الحياة والنمو فيه!
ولو أنصفنا لصحونا من نومنا كل صباح كأننا مخلوقون في ذلك الصباح وحده. ولأهملنا ما في ذاكرتنا من ذكريات الآلام في الأيام السابقة، حتى نتجدد مع الكون
الكون أبو الهول
كلما تخيلت نفسي فرداً واحداً في غمرات الناس، وذرة ضئيلة بين هذا الكون الواسع الهائل الجبار تنظر بعينين ضئيلتين إلى دولاب الحياة الدائر والى وجه الله القيوم على ذلك الكون وما وراءه، أحسست بهول المسألة الكبرى والنبأ العظيم الذي ينبث في الكون والسر الخفي الذي خلق له. . .!
وحينئذ لا املك إلا ما تملكه الذرة الصغيرة التي تحملها ريح عاصف وتضرب بها في فجاج الأرض في سفر لا ينتهي!
روائح الجنة
الجنة في الأرض ولكنها غير دائمة، نراها في رحاب الجمال في زمان الربيع في سكرة الحب في حالة صفو النفس ورضاها عن نفسها وعن ربها، وقت أن تقول ليس في الإمكان أبدع مما كان!
ولو دامت النفس على هذه الحال لاستراح الناس إلى الدنيا باستراحتهم من أحاسيس القبح والشناعة والشقاء واعتكار البال والسخط على الحياة
ولكن الله حين لم يرد لنا الدوام في هذه الأرض، لوح لنا بالجمال والقبح، والرضا والسخط، والراحة والشقاء، وداولها على نفوسنا حتى نعلم أن الكمال ليس هنا، وأن النقص(592/7)
الذي نراه وندركه هنا هو وسيلة إلى إدراكنا للكمال التام هناك. وما تحلم به النفس من المتاع الدائم والقدرة عليه والانتقال السريع إلى درجة الكشف عن رحاب السموات والأرض في خطرة النفس ولمحة البصر، ولقاء الأحباب بعد الموت والخلود معهم، وعدم وقوف عائق أمام إرادة النفس، وعدم استعصاء شيء على الإدراك و. . . كل أولئك هو من عالم الجنة، عالم (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) و (لهم فيها ما يدعون) و (لا مقطوعة ولا ممنوعة) و (عرضها كعرض السماء والأرض) و (ما اخفي لهم من قرة أعين) و (رضى الله عنهم ورضوا عنه) و (رضوان من الله أكبر)
إن الله يداول جميع المعاني الأرضية على القلب البشري كما يداول (الفنان) أنغامه على أوتار قيثارة، وفي القلب البشري أوتار للأم لابد من استعمالها لبرز نوعاً ما من الحياة لابد منه في الدنيا. وانفعال النفس نحن العوامل الدنيوية هو الذي ولد لها خواصها، وأخرج منها معانيها الكامنة
وكما تحرث الأرض بالمحاريث وتعزق بالفؤوس لتخرج كوامن العناصر تمد بها الزرع لابد من حرث النفس بعوامل النعمة والشقاء حتى تخرج كوامنها.
عبد المنعم خلاف(592/8)
2 - أبو تمام أعدائه وأصدقائه
للأستاذ دريني خشبة
في أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي أن أعداء أبي تمام احتجوا فيما احتجوا به على سرقاته بما رواه أحمد بن أبي طاهر أبو الفضل الكاتب قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نؤاس ومسلم، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثين سنة!
وقد دافع الصولي عن أبي تمام فقال: وهذا إن كان حقاً فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر والمعنى انهما شغلاني عن عبادة الله عز وجل
ثم انطلق الصولي ينفي تهمة الكفر عن أبي تمام، وفاته أن المقصود بالرواية هو إكباب أبي تمام على شعر أبي نؤاس ومسلم ينتهب من معانيهما ما يشاء. وقد دافع الصولي عن أبي تمام دفاعاً مجيداً، إلا أنه ليس - في نظري على الأقل - أمجد من اتهام الآمدي له، واستقصائه سرقاته يرجعها واحدة فواحدة إلى أصحابها، هذا وإن اشتط الآمدي وأفرط في ذلك إفراطاً يبدو من ثناياه تجنيه على أبي تمام، وظلمه له أحياناً. . . والذي يعفي الآمدي من سخطنا هو إلمامه الواسع بأشعار العرب، ومقدرته المدهشة في رد السرقات إلى أصولها من أشعار قائليها، وأستاذيته التي تتجلى في إدارة حواره بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري، والفصول القيمة التي أظهر فيها سقطات أبي تمام في الموازين والنحو البيان والبديع، وما إلى ذلك كله من نواحي الضعف في شعره
والذي يدرس أبا تمام في هذين الكتابين الفريدين من كتب النقد العربي، يرى كيف أن الناس - على حد ما ذكره المسعودي في مروج الذهب كانوا فيه طرفي نقيض. . . متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ومنحرف عنه معاند له. . أو كما قال أبو الفرح صاحب الأغاني: وفي عصرنا هذا من يتعصب لأبي تمام، فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك؛ وعبارة أبي الفرج توحي بما كان يضمره لأبي تمام من إعجاب. وقد ذكرنا في كلمتنا ما كان يقوله دعبل في شعر أبي تمام، من أن ثلثه سرقة، وثلثه عث، وثلثه صالح. وقد روي الصولي بعد هذا الخبر عن دعبل أنه كان يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً.(592/9)
وإنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر
وقد أشرنا إلى خصومة ابن الأعرابي، تلميذ المفضل الضبي والكسائي، لأبي تمام، وقد وعت بطون كتب النقد أعاجيب شتى من أنباء تلك الخصومة تعد من النوادر في أخبار الخصومات الأدبية: فمن ذلك ما ذكره الطوسي قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بأبي تمام. فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذلهِ ... فظن أني جاهل من جهلهِ
حتى أتمتتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت أنها لأبي تمام! فقال: خرق خرق! أي مزق، مزق!
ومع ذاك، فقد كان ابن الأعرابي، هذا الحجة الفاضل، يحفظ كثيراً من شعر خصمه أبي تمام، ويتمثل به، وهو لا يدري أنه له؟
وعلى هذا النحو كان الناس في عبقري الشعر العربي. وعلى هذا النحو، لا يزال الناس في أبي تمام!
والحق الذي لا يماري فيه إلا مكابر، أن أبا تمام كان نادرة زمانه في الشعر العربي، بل أنه لا يزال نادرة هذا الشعر حتى اليوم، فليس في شعراء العربية من استطاع أن يصور كما صور أبو تمام. وليس فيهم من استطاع تلوين صوره كما لونها هذا الشاعر المفتن المبدع، وذلك لا يعارض ما أثبته عليه خصومه من سطوه الكثير على معاني الشعراء، ذلك السطو الذي كان يفتن أبو تمام في إخفاء معالمه وستر مصادره بهذا البهرج الكثير من الصنعة البيانية، وتلك المركبات البديعية التي كانت تأتي زاهرة باهرة أحياناً، وملتوية معقدة لا تكاد تفهم أحياناً أُخرى: وما ظنك بهذا الالتواء الذي يشتد، حتى لا يفهمه عبد الله التوزي - أو التوجي، تلميذ أبي عبيدة والأصمعي، الذب قال فيه المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي، كان أعلم من الرياشي والمازني! فقد سئل هذا الرجل عن شعر أبي تمام فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وأما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! (الصولي ص 245) والعجيب أن يعترف بذلك الصولي نفسه وهو (محامي) أبي تمام وقد ذكرنا كلمته التي أقر فيها بأنه:(592/10)
ليس أحد من الشعراء يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام وأنه متى أخذ المعنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به! وقد ذكر الآمدي أن أبا تمام كان يتعالم في شعره ويتفلسف (الموازنة ص 2 - 11) ويصف ممدوحيه بالرمز إلى عقائد بعض الفرق الإسلامية، فيزيد ذلك في غموض شعره ويضاعفه، ويتعسر فهمه على غير من يعرف تلك العقائد، ويلم بهذه الأسرار: فقوله من مدحة في أبي سعيد:
فلو صح قول الجعفرية في الذي ... تنص من الإلهام خلناك ملهما
لا يفهم حتى نعرف أن الجعفرية فرقة من الشيعة تنتسب إلى جعفر بن محمد ويدعون له الإلهام، كما يحدثنا بذلك التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، وكما نعرف ذلك من كتب الملل والنحل مثلاً، ثم قل مثل ذلك فيما يصادفك من أبياته التي تنبئ بإلمامه بالمذاهب والعلوم والفلك والنحو والمنطق مما كان يجيد الرمز به والإشارة إليه، متعمداً مرة، جارياً على سليقته أحياناً. وكله مما لا نرى أنه يدخل في باب الشعر، بل هو، كما ذكرنا في كلامنا عن ثقافة أبي العلاء تعالم من أبي تمام على أهل زمانه المتعالين. أما ثقافة أبي تمام الحقة، فتنحصر في سعة إلمامه بشعر من تقدمه من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين، ودقة فهمه لمعانيهم، وحسن اطلاعه على مذاهبهم. وقد اشتغل فعلاً بالتصنيف الشعري، يؤيد ذلك ما ذكره البديعي في كتابه (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) من أن له (كتاب الحماسة) الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته، وحسن اختياره، وكتاب فحول الشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وكتاب الاختيار من الشعراء. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل أنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد!). وذكر البديعي كذلك سبب تصنيف أبي تمام ديوان الحماسة، فقال (ص 138): (فانه لما وصل إلى همذان (في رحلته شرقاً)، وكان في زمن الشتاء، والبرد في تلك النواحي شديد، خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند رجل عنده خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها وطالعها واختار منها كتاب الحماسة)). وفي مؤلفات أبي تمام يقول الآمدي: (ص23): (كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفا به، مشغولا مدة عمره (بتخميره!) ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة، فمنها(592/11)
الاختيار القبائلي الأكبر، اختيار فيه من كل قصيدة، وقد مر على يدي هذا الاختيار، ثم اختيار آخر لم يورد فيه كبير شيء للشعراء المشهورين، ثم اختيار ثالث تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، واخذ من كل قصيدة شيئاً حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشعاراً من العشرة المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابا وصدره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس، ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات، وهو مبوب على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم من القدماء والمتأخرين، وصدره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار وتلقطت منه نتفاً وأبياتا كثيرة، وليس بمشهور شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أِشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس. وهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر وأنه اشتغل به، وجعله وكده، واقتصر من كل العلوم والآداب عليه، فانه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه واطلع عليه. . .)
وينتقل الآمدي من ذلك إلى قوله: (ولهذا أقول إن الذي خفي من سرقاته أكثر مما قام منها على كثرها، وأنا أذكر ما وقع إلي في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله)
ثم يأخذ بعد ذلك في حصر سرقات أبي تمام وردها إلى مصادرها. فإلى أي حد وفق الآمدي في ذلك؟ سنرى
(يتبع)
دريني خشبة(592/12)
تلك الروح وذلك اليوم
للدكتور زكي مبارك
بعد جفوة مسبوقة بنذير يئس القلب أثقل اليأس، واليأس يتجسم أحياناً فيصير أثقل من الجبال، وأبرد من الثلوج
ثم بدت الحياة لعيني وكأنها بيداء قفراء ليس فيها نبات ولا ماء ولا ظلال
كنت أسير في شوارع القاهرة فأراها تموج بالبشر والإيناس، وأرى القاهريين كما عهدت مسرورين منشرحين، كأن الدنيا ليست في حرب شعواء، وإنما هي في حرب خفيفة الظل، هي الحرب بين العيون والقلوب
وكنت أنظر فأراني وحيداً شريداً، وإن كان من يراني يتوهم أني ماض إلى ميعاد، فقد كانت القاهرة فيما سلف من أيامي ملاعب للمواعيد اللطاف
لقد اغتربت أسابيع كانت لهولها أطول من الآباد، بفضل الجفوة المسبوقة بنذير من تلك الروح، وكنت أخشى أن يطول اغترابي فيما بقى من أطياف حياتي، فما حياتي بعد تلك الروح غير أطياف
هذا هو اليأس، وذلك طعمه المرير، وتلك أيامه السود
وحاولت أن أعيش في ظلال الذكريات فتكدر عيشي، لأن تلك الروح لا تزال بعافية، وهي صائرة إلى غيري إن ضاعت من يدي، فما في الدنيا جمال يعيش بلا عاشق، ولو كان مقدوداً من الصخر الجلمود
لابد من رجعة أعنف من رجعة السيل، لابد من اقتناص تلك الروح من جديد، لأحمها من الضيم وأحمي نفسي من الموت
قلت لنفسي: إن هنالك غنيمة مضمونة وهي سماع صوتها في الهتاف، فما نطقت كلمة (ألو) إلا تمثلت أنها بلبل جماله كله في الحلق
وبكلمتين اثنتين تواعدنا على التلاقي، فأين النذير؟ وأين الجفاء، وأين اليأس؟
إن عقول المحبين عقول أطفال!
كان يجب أن أنتظر في حديقة البيت، وأن يكون في يدي كتاب، مع أني لن ألقى تلك الروح في ضوء المصباح(592/13)
وتخفق أرواح في الطريق فلا ألتفت، لأن الروح التي أنتظرها لن تغيب عني، وإنني لأشعر بخطواتها على أبعاد الألوف من الأميال
ما هذا الذي أراه؟
إن الروح ثقيل وقد تجسمت في عروس من عرائس البحر في دمياط، وأنا أتلقاها بقلب قبست ناره من كهرباء الوجود
- أنت؟
- أنا؟
- ومن أنت؟
- أنا العاشق الذي صبر فظفر بعد صبوة دامت أكثر من عشر سنين
- وتستحق عطفي عليك؟
- إن رأيت يا روحي أن تؤدي زكاة الجمال
ثم يدور الحديث بما يعجزني، لأن الروح تقول:
(لقد أوحينا إليك)
فما هو إيحاء تلك الروح؟
أمرتني أن أصف لحظات التلاقي ولحظات العتاب، وتلطفت فلم تأمرني بوصف وجهها الوهاج، ولو أني أطعتها لاكتفيت بكلمة واحدة، وهي أني بها أعيش، ولها أعيش، فما للحياة بدونها مذاق
غنائمي من حياتي هي التعرف إلى تلك الروح، وانتظار عطفها في أوقات الكروب، وليس في الوجود بجانب عطفها كروب
ثم صحونا فوجدتها تشكو عدوان أظفاري. كتب الله عليها أن تشقى إلى الأبد بعدوان أظفاري! إن كنت جرحت جسمها فقد جرحت قلبي. . . والجروح قصاص
أنا صحوت؟ هو ذلك، وما الذي يمنع من أن أخادع نفسي؟
قضيت اليوم التالي وأنا لا أصدق أن ما وعته الذاكرة من وقائع الليلة التي مضت كان وقع بالفعل، فما تسمح الدنيا الغادرة بمثل ذلك النعيم، إلا أن يكون حلماً من الأحلام
وأستنجد بالهتاف لأسمع (ألو)، ولأعرف أن ما وقع حقيقة لا خيال، فيكون الجواب(592/14)
بالإثبات مصحوباً بالاستغراب من شطحات صوفية وأنها تلك الروح بوادر جنون
وآخذ بتلابيب الفرصة فأدعو إلى لقاءه ثانية لأقيم البرهان على أني عاقل لا مجنون
اللقاءة الثانية بالنهار لا بالليل، وبالصحراء لا بالبيت، ثم يدور الحديث:
- أنت مصر على أن الوجود ليس فيه فضاء؟
- نعم
- وما دليلك؟
- الدليل حاضر، وهو أن ما نراه فضاء هو في الواقع مسكون بالأربطة الكهربائية التي يتماسك بها الوجود، وهو باعتراف الجميع مسكون بالهواء، فهو ليس بفضاء
- سلمت إلى أن أجد ما ينقض رأيك، ولكن الذي لن أسلم به أبداً هو إصرارك على أن كل موجود فيه حياة حتى الجماد
- الجماد كلمة اصطلاحية فقط، ولكنه في الحقيقة يحيا، كما يحيا الحيوان والنبات، وأنا سأجد الشواهد من الحجارة المنثورة في الصحراء. . . انظري هذه زلطة في حجم ثمرة الدوم وشكل ثمرة الدوم
- أتظن أنها دومة تحجرت؟
- هو ذلك بالفعل. . . ثم انظري فهذه زلطة في حجم الخيارة وشكل الخيارة
- هي أيضاً خيارة تحجرت؟
- نعم
- ولماذا لا تتحجر جميع الثمار؟
- لأنها ليست جميعاً في قابلية متساوية ولا فاعلية متساوية
- والنتيجة؟
- النتيجة أن الجماد الذي يتحول من وضع إلى وضع لا يتم له التحول بدون حيوية، وقد جهل أبو العلاء حين قال:
والذي حارت البرية فيه ... حيوانٌ مستخرجٌ من جماد
- وما رأيك في الآية الكريمة (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)
- القرآن يعرض الظواهر التي تعارف عليها الناس لتكون الحجة على القدرة الإلهية أقوى(592/15)
وأوضح، فمن العجيب في نظر من لا يعرف أن تكون البذرة الخرساء أصلاً للدوحة الشماء، وأن تكون البيضة الصغيرة أصلاً لطائر جميل يغرد أو يصيح
ولكن البذرة قد تفسد فلا يصدر عنها شجر ولا نبات، والبيضة قد تفسد فلا يصدر عنها طائر ولا حيوان
- ليس في الوجود فساد، وإنما هو تحول، فالبذرة الفاسدة والبيضة الفاسدة تتعرضان إلى تعفن تعيش به خلائق
- آمنت بالله وكفرت بفلسفتك
- لن تؤمني بالله إلا يوم تدركين حقائق هذه الفلسفة، يا محبوبتي الغالية
- وأصدق أن الحجر فيه حياة؟
- نعم، في الحجر حياة، وأثمانه تتفاوت لهذا لسبب، فالحجر الذي يباع رخيصاً في هذا اليوم لأنه لين، سيباع غالياً بعد ألف سنة لأنه صلب، وإن صبرنا عليه مليون سنة فقد يتحول إلى جرانيت، وهذا هو الفرق بين محاجر طره ومحاجر أسوان
- بدأت أفهم
- وأنا لو شئت أفهمت جميع الأغبياء
- أنا غبية؟
- اسمعي يا غبية ثم اسمعي، هذا البناء الشاهق مم يتألف؟ أنه يتألف من جمادات يأخذ بعضها برقاب بعض، لأنها جميعاً أحياء، فالجبس يعشق الطوب، والأسمنت يعشق الحديد، وبفضل هذا التعاشق تنهض هذه البنايات الشواهق، كما تبتسم الخمر حين يصافحها الماء
- وأنت بالأمس أنكرت الموت، وهذا أغرب ما سمعت من الآراء
- ليس في الوجود موت، فالدجاجة التي ذبحناها وشويناها ماتت في نظر الناس، فكيف تستطيع وهي ميتة أن تثير فينا النشاط حين نأكلها في صباح أو مساء؟ واللحوم التي ترد إلينا من استراليا محفوظة في علب هي لحوم حيوانات بعضها ذبح قبل أعوام طوال، ونحن نأكلها فنشعر بنشاط وأريحية، فكيف نصدق أنها ماتت؟
- إننا نرى بأعيننا ناساً يموتون، وندفنهم ونترحم عليهم، ونقيم لفراقهم الحداد
- أنهم يموتون موتاً عرفياً، وهم في الواقع أحياء، فلو بدأ لرجل أن يأكل قطعة متعفنة من(592/16)
جثة ميت لأصابته نوبة تؤدي به إلى الهلاك، وهو نقله من حالة اسمها الحياة إلى حالة اسمها الموت في عرف الناس. . . وهنالك صورة أوضح من هذه الصورة في تأكيد الحياة لمن نتوهم أنهم أموات وهي خلود الفكر وتأثيره الموصول من مكان إلى مكان على اختلاف الأزمان، فأفلاطون لم يمت، والغزالي لم يمت، والمتنبي لم يمت، لأن هؤلاء بتأثيرهم الروحي أحياء غير أموات
- والدكتور زكي مبارك؟
- هو أيضاً لن يموت، وسيحيا بفكره وروحه حياة لا يعروها فناء، وسيقال فيما يلي من الأجيال أنه أول شارح لنظرية وحدة الوجود
- ولكنها نظرية غير إسلامية
- قلت ألف مرة أنني أتكلم باسم الفلسفة لا باسم الدين، فلا تثقلي علي بأمثال هذا الاعتراض، فأسلافنا ظلموا أنفسهم حين قالوا إن الفلسفة لا تخالف الدين، وكانت النتيجة أن يعقوا الفلسفة والدين
- بدأت أفهم
- ألم أقل أني لو شئت أفهمت الأغبياء!
- أنا غبية؟ أنا؟
- لو لم تكوني غبية لما كدرت هذه الساعة اللطيفة بهذه الاعتراضات
- وهل يؤذيك أن أدعوك إلى شرح آرائك الفلسفية ليرعوي من يتهمونك في عقيدتك الدينية؟
- الناس لا يهمونني في شيء، فمصايرنا جميعاً محتومة بصورة أزلية، وليس للمؤمن ولا الكافر إرادة فيما صار إليه، وليس هناك تعليل واضح لسحر هذه العيون
- عيوني؟
- عيونك وعيون ليلى المريضة في العراق
- يظهر أن تهمتك بالجنون لها أصل
- نعم، ومجنون ليلى يتعجب من أن تغزوه ليلى بعينيها الكحيلتين وبينها وبينه مسافات تعجز عن اختراقها الشياطين(592/17)
- أسكت يا مجنون!
- وهذا الفضاء الذي بيني وبين بغداد ليس بفضاء، وإنما هو مجال لأسهم سحرية ترسلها ليلى في كل وقت، وإني لأراها معي في هذه اللحظة كما أراك معي
- اسكت، اسكت، فأنا أخاف أن تقتلني الغيرة
- تغارين من الوهم يا غبية؟
- ليس هذا بوهم، إن ليلى تطاردني في كل يوم وتحاول أن تسد طريقي إليك
- ومن أجل هذا يا محبوبتي أنكر المكان وأنكر الزمان
- ماذا تقول؟
- ليلى معنا، أليس كذلك؟
- بلى، وأنا أغار منها أعنف الغيرة
- إذن فليس هناك مكان، وهل تغارين مما وقع بيني وبينها في سنة 1937؟
- أغار، أغار
- إذن فليس هناك زمان
- خبلتني، خبلتني
- كذلك كانت تقول ليلى، زادك الله وإياها خبالاً إلى خبال!!
- هذا الحوار ينتهي بنا إلى وحدة الوجود؟
- إن فهمت مرادي يا أجمل غبية رأيتها في حياتي
- تلميذتك لا تكون غبية
- إذن فاسمعي، ثم اسمعي، ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت
- آمنت وصدقت
- وليس في الوجود زمان ولا مكان
- آمنت وصدقت
- وليس في الوجود ماضٍ ولا مستقبل
- ما معنى ذلك؟
- معناه يا طفلتي أن الوجود كله دفعة واحدة، فالماضي والحاضر والمستقبل صور لحقيقة(592/18)
أبدية لا تحول ولا تزول
- لم أفهم.
- ستفهمين، هل تؤمنين بالأحلام؟
- أومن بالأحلام
- تؤمنين بأن الرؤيا قد تتحقق بعد سنين؟
- هو ذلك، ولي مع الرؤيا تواريخ، فقد رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تمزج بين المجادلة والمغازلة لانخدع لك باسم العقل
- وأنا أيضاً رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تلميذتي لا معشوقتي
- وانخدعت لك؟
- تلك أضغاث أحلام!
- أسرع وحدثني عن رأيك في الأحلام
- اسمعي، الأحلام واقعة بلا ريب، ولها تفاسير أختصرها في تفسيرين اثنين: التفسير الأول هو تفسير بعض علماء النفس، وهو أنها تعبير عن رغبات مكبوتة نعبر عنها في منامنا لنراها بعد أيام أو أسابيع، والتفسير الثاني هو تفسير الدكتور زكي مبارك، وهو أن لنا حاسة دقيقة تخترق المستقبل في بعض الأحايين فتحدثنا بما سيكون بعد أزمان طوال
- وكيف نعرف ما سيكون بعد أزمان طوال؟
- كما يعرف علماء الفلك أن الشمس ستكسف أو أن القمر سيخسف بعد عدد من السنين، ومعنى ذلك أن الوجود كله خلق دفعة واحدة، وأن الرجل الملهم قد يرى في منامه ما سوف يقع، لأنه سوف يقع، ولو طال الزمان
تلك الروح، وذلك اليوم، وآه ثم آه من تلك الروح وذلك اليوم! تلك الروح ملك يدي، وإن باعدت بيني وبينها مسافات لا أعترف لها بوجود
وذلك اليوم ملك يميني، وهو يومنا الهائم بمجاهل الصحراء، أنه يوم تجسم فيه إيماني بوحدة الوجود، وأعلنت فيه إشراكي بأوهام الغافلين
قيل أنه يوم ذهب، وأقول أنه يوم لن يذهب، لأنه سيلاحقني إلى البواقي من أيامي، وليس لأيامي نهاية، لأني قبس من كهرباء وحدة الوجود.(592/19)
زكي مبارك(592/20)
اقتراح في إصلاح الرسم العربي
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
قبل عرض الاقتراح، يحسن أن أذكر كلمة قصيرة في عيوب الرسم العربي وآثارها، لأنني قد راعيت في الطريقة الجديدة التي اقترحتها أن يتخلص رسمنا من جميع هذه العيوب وما يترتب عليها من نتائج
ترجع أهم عيوب الرسم العربي إلى الأمرين الآتيين:
(أولهما) أن الكلمات تدون بحسب هذا الرسم في الكتابة والطبع عارية عن حركات حروفها، أي مجردة من الإشارة إلى أصوات المد القصيرة (الفتحة والكسرة والضمة) التي تلحق الأصوات المقطعية في الكلمة
وقد ترتب على ذلك الأضرار الأربعة الآتية:
1 - أنه لا يستطيع أحد أن يقرأ نصاً عربياً قراءة صحيحة ويشكل جميع حروفه شكلاً صحيحاً إلا إذا كان ملماً بقواعد اللغة العربية وأوزان مفرداتها إلماماً تاماً، وكان فاهماً من قبل معنى ما يقره. ففي معظم اللغات الأوربية، كما يقول قاسم أمين، يقرأ الناس قراءة صحيحة ما تقع عليه أبصارهم، وتتخذ القراءة وسيلة للفهم؛ أما نحن فلا نستطيع أن نقرأ قراءة صحيحة إلا إذا فهمنا أولاً ما نريد قراءته
2 - أن النص العربي الواحد عرضة لأن يقرأ قراءات متعددة بعيدة عن اللغة الفصحى. وذلك أنه قد حدث تناوب واسع النطاق في أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة) في اللهجات العامية؛ حتى أننا لا نكاد نجد كلمة باقية في هذه اللهجات على وزنها العربي الصحيح. فالنص العربي المجرد من الشكل عرضة لأن يقرأه أهل كل لهجة حسب منهجهم في وزن الكلمات
3 - أنه من المتعذر مع هذا الرسم قراءة أسماء الأعلام (أسماء الأمكنة والبلاد والبحار والجبال والأناسي. . . الخ) قراءة صحيحة، إلا إذا كان القارئ يحفظ الكلمة وضبطها من قبل. ولذلك تضطر بعض المعجمات إلى تهجي حروف الكلمات التي من هذا القبيل والنص على حركة كل حرف منها.(592/21)
4 - أن رسماً كهذا من شانه أن يشيع اللحن، ويعمل على انحلال العربية الفصحى، ويحول دون تثبيت ملكتها في النفوس، ويحمل على الاستهانة بقواعدها، ويصرف كثيراً من خاصة الناس أنفسهم عن الإلمام بضوابطها النحوية والصرفية، لأن في استطاعتهم، بفضل هذا الرسم المعيب، أن يكتبوا ويؤلفوا بدون أن يكونوا ملمين بأصول هذه اللغة، ولا مستطيعين هم أنفسهم قراءة ما يكتبونه قراءة صحيحة، وبدون أن يظهر في كتاباتهم أي أثر لقصورهم هذا
(وثانيهما) أن للحرف الواحد بحسب هذا الرسم صوراً مختلفة: فله صورة إذا كان مفرداً وصورة إذا كان متصلاً بغيره؛ وله صورة إذا كان في أول الكلمة، وأخرى إذا كان في وسطها، وثالثة إذا كان في آخرها
وقد ترتب على ذلك الأضرار الأربعة الآتية:
1 - أن تعدد هذه الصور من شأنه أن يحدث الارتباك والحيرة عند المبتدئين من المتعلمين ويطيل زمن تعلمهم للهجاء
2 - أنه يكلف المطابع نفقات باهظة في الحصول على عدة نماذج لكل حرف من حروف الهجاء
3 - أنه يخلق صعوبات في الطبع ويرهق العمال القائمين على صف الحروف من أمرهم عسراً، إذ يتردد الواحد منهم بين أكثر من مائة صندوق مختلفة في صور ما تشتمل عليه من نماذج، فضلاً عن صناديق الشكل وعلامات الترقيم؛ بينما لا يتردد العامل القائم على صف الحروف الإفرنجية إلا على نحو خمسين صندوقا
4 - أن كثرة الصناديق وتعدد الصور للحرف الواحد، كل ذلك يجعل عمل هؤلاء العمال عرضة للزلل. ومن أجل هذا تكثر الأخطاء المطبعية في الكتب العربية بينما تندر جداً في الكتب الإفرنجية، مع أن جامعي الكتب الأولى ومصلحي تجاربها يبذلون من الجهد في الجمع والإصلاح أضعاف ما يبذله زملاؤهم في الكتب الثانية
وقد قدمت عدة اقتراحات لاتقاء هذه العيوب وآثارها ولكن معظم هذه الاقتراحات لا يحقق هذه الغاية تحقيقاً كاملاً؛ والقليل منها الذي يحققها أو يدنو من تحقيقها يخلق لنا رسماً يختلف كل الاختلاف عن رسمنا الحالي، فيقطع بذلك الصلة بين حاضرنا وماضينا،(592/22)
ويحول بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث العربي، كما بينت ذلك بتفصيل في كتابي (علم اللغة) و (فقه اللغة)
وقد كنت رأيت في كتاب (فقه اللغة) أنه من الممكن التغلب على صعوبات الرسم العربي (بالتزام شكل الكلمة التي من شأنها أن تثير اللبس عند أواسط المتعلمين إذا تركت بدون شكل)
ولكن ظهر لي فيما بعد أن هذا لا يقضي إلا على قليل من عيوب هذا الرسم ولا يقي إلا من بعض الأضرار التي أشرت إليها آنفاً
هذا إلى أن رسم الشكل فوق الحرف أو تحته مع اتصال الحروف بعضها ببعض وضيق الحيز الذي يشغله كل حرف منها يجعل هذا الشكل عرضة للانحراف فيحدث الارتباك ويوقع في الخطأ والحيرة. وفضلاً عن هذا كله فإن التجارب قد دلت على أن القلم كثيراً ما يزل في تدوين هذه العلامات الخارجة عن هيكل الكلمة وأن النظر كثيراً ما يتخطاها عند القراءة، فلا تكاد تؤدي الغرض المقصود منها
لذلك فكرت في طريقة أُخرى تخلص الرسم العربي من العيبين الرئيسيين الذين أشرت إليهما والى آثارهما فيما سبق، وتعفي القلم والنظر من الصعود والهبوط نحو حركات ترسم فوق الحروف أو تحتها، وتقي القارئ والكاتب شرور الانحرافات المترتبة على هذا الصعود والهبوط، ولا تقطع الصلة بين قديمنا وحديثنا، بل تتيح للأجيال القادمة الانتفاع بتراثنا القديم
فاهتديت إلى طريقة يمكن تلخيص أصولها في الأمور الأربعة عشر الآتية:
- أن ترسم حروف الكلمة مفردة منفصلاً بعضها عن بعض بنفس الصورة التي ترسم بها الحروف المفردة في رسمنا الحالي؛ هكذا: أب ت ث ج. . . الخ
2 - أن ترسم الهاء هكذا: (هـ)، والتاء المربوطة هكذا (ة)، للتمييز بينهما وللنطق بكل منهما على وجهها الصحيح، فينطق بالأولى هاء دائماً وينطق بالثانية هاء في الوقف وتاء في الوصل
3 - أن ترسم حروف المد الثلاثة مجردة من العلامات والنقط، هكذا: وى أ. ة ترسم الألف اللينة ألفاً مطلقاً مهما كان أصل الكلمة وعدد حروفها. فكلمات: رمى، إلى، على،(592/23)
متى. . . الخ ترسم ألفاً حسب النطق بها
4 - أن يوضع فوق الواو التي ليست حرف مد علامة ثمانية صغيرة هكذا (و8) (أو آية علامة أُخرى) للتمييز بينها وبين واو المد وللنطق بها على وجهها الصحيح
5 - أن يوضع نقطتان تحت الياء التي ليست حرف مد، هكذا (ي) للتمييز بينها وبين ياء المد وللنطق بها على وجها الصحيح
6 - أن ترسم همزة القطع ألفاً فوقها همزة هكذا (أ) للتمييز بينها وبين الألف اللينة ولينطق بها القارئ على وجهها الصحيح. وترسم على هذه الصورة أيا كانت حركتها وحركة ما قبلها، وأيا كان موضعها في الكلمة
7 - أن ترسم همزة الوصل ألفاً فوقها علامة ثمانية صغيرة هكذا (ا8) (أو آية علامة أُخرى) وذلك للتمييز بينها وبين الألف اللينة وهمزة القطع، وللإشارة إلى أنه لا ينطق بها مطلقاً في الوصل، وينطق بها همزة في الابتداء
8 - أن ترسم اللام الشمسية (التي لا ينطق بها في علامة التعريف) لاماً فوقها ثمانية صغيرة، هكذا (ل8) (أو آية علامة أُخرى)، وذلك للتمييز بينها وبين اللام القمرية وللإشارة إلى عدم النطق بها
9 - أن يرسم الحرف الساكن بطبعه غير متبوع بأية علامة، ويكون تجرده هذا دليلا على سكونه (وأقول (الساكن بطبعه) لأن الحرف المتحرك إذا سكن في النطق لعارض كالوقف عليه مثلاً في آخر الكلمة يكون حكمه في الرسم حكم الحرف المتحرك، فندون حركته وفقاً للقواعد الآتية)
10 - أن يرسم عقب الحرف المشدد بطبعه (كالسين في (مس)) أو المشدد في النطق لوقوعه بعد لام شمسية (كالسين في (السماء) علامة شدة فوقها فتحة أو ضمة إن كان مفتوحاً أو مضموماً وتحتها كسرة إن كان مكسوراً. فالسين المشددة أو الواقعة بعد لام شمسية ترسم هكذا في أحوالها الثلاثة: سَّ سِّ سُّ. وذلك للإشارة إلى أن الصوت ينطق به مرتين يسكن في أولاهما ويحرك في ثانيتهما بالحركة المدونة بعده. وإن كان الحرف المشدد منوناً رسمت علامة تنوينه فوق شدته. فالميم في (عم) مثلاً ترسم هكذا في أحوالها الثلاث: مَّ مِّ مُّ(592/24)
11 - أن يرسم عقب الحرف المنون غير المشدد علامة تنوينه: فيرسم عقب المفتوح فتحتان هكذا =؛ وعقب المكسور شرطتان متوازيتان تتصلان بشرطة مائلة هكذا= (حتى تتميز هذه العلامة عن العلامة السابقة)؛ وعقب المضموم علامتان من نوع الفاصلة في علامات الترقيم هكذا،، (وقد فضلت هذا الرمز على الرمزين المتداولين في التنوين المضموم وهما , , ٌ لأن أولهما يلتبس بالواو المكررة وثانيهما يلتبس بالقاف في خط الرقعة) فاللام المنونة ترسم في أحوالها الثلاثة هكذا: ل=ل ا=ل،، وذلك للإشارة إلى أن هذا الصوت محرك بالحركة المشار إليها ومتبوع بنون التنوين
12 - أن يرسم الحرف المتحرك الممدود بالألف أو الياء أو الواو غير متبوع بما يدل على حركته، لأن وجود الألف بعده يدل على أنه مفتوح، والياء على أنه مكسور، والواو على أنه مضموم. فيرسم المقطع الأول من: قال وقيل وقوت هكذا ق اق ي ق و. إلا إذا كان هذا الحرف مشدداً فتطبق عليه القاعدة العاشرة السابق ذكرها. (فكلمة الدار مثلاً ترسم هكذا: ا8 - ل8 دَّ ار،)
13 - أما الحرف المتحرك غير المشدد ولا المنون ولا الممدود فترسم حركته بعده: فإن كانت فتحة رسمت وفق صورتها في الرسم الحالي، وإن كانت كسرة رسمت هكذا (حتى لا تلتبس بالفتحة)، وإن كانت ضمة رسمت هكذا، (حتى لا تلتبس بالواو إن رسمت بصورتها المتداولة)
14 - وأما علامات الترقيم فترسم الأنواع الآتية منها وفق صورها في الرسم الإفرنجي، وهي؛.؟! (()) (). أما الفاصلة المجردة، فترسم فوقها نقطة هكذا، حتى لا تلتبس بالواو إن رسمت بشكلها الإفرنجي وبالضمة إن رسمت بالصورة التي نرسمها بها الآن في العبارات العربية (،). وأما الشرطتان اللتان تحصران بينهما الجملة المعترضة فيستبدل بهما القوسان حتى لا تلتبسا بالفتحة إن رسمتا بصورتهما العادية: فترسمان هكذا ()
وفيما يلي نموذج لتطبيق هذه الطريقة، فالبيت والعبارة الآتيان (وهما يشتملان على نماذج لجميع القواعد الأربع عشرة التي تقوم عليها طريقتنا):
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
لكل قاعدة استثناء، ولكل مطلق قيود(592/25)
يدونان حسب الطريقة المقترحة على الصورة الآتية:
ا8 - ل س َّ ي ف، أ - ص د - ق، أ - ن ب أ=م - ن -
ا8 - ل ك، ت، بِ ف ى ح - دِّ هِا8 - ل ح - دُّب - ي ن -
ا8 - ل ج - دِّ و - ا8 - ل8 ل َّ ع - ب -
ل - ك، ل ِّ ق اع - د - ة=ا8س ت - ث ن اأ،،،
ول - ك، ل ّم، ط ل - ق=ق، ي ود،،
وتمتاز هذه الطريقة عن جميع الطرق المقترحة من قبل بالأمور الآتية:
1 - أنها تخلص الرسم العربي تخليصاً تاماً من عيبيه الرئيسيين اللذين أشرت إليهما في صدر هذا المقال ومن جميع آثارهما الضارة التي أشرت إليها كذلك، وتحقق جميع الفوائد المقابلة لها
2 - أنها تعفي القلم والنظر من الصعود والهبوط نحو حركات ترسم فوق الحروف أو تحتها، وتقي القارئ والكاتب شرور الانحراف المترتب على هذه الحركات وموضعها. وذلك أن طريقتنا ترسم الحركات في صلب الكلمة نفسها. ولا تشتمل إلا على ثلاث علامات خارجة من صلب الكلمة؛ ولكنها تشير إلى أمور أُخرى غير حركة الحروف، وهي الهمزة وعلامة الوصل وعلامة اللام الشمسية وعلامة الواو غير اللينة أا8 ل8 و8
3 - أنها لا تقطع الصلة بين ماضينا وحاضرنا، ولا تحول بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث العربي المدون بالرسم القديم. لأنها تستخدم نفس الصور والأشكال التي يستخدمها هذا الرسم (فيما عدا الكسرة والضمة والعلامة المميزة لهمزة للوصل واللام الشمسية والواو غير اللينة -، 8. على أن العلامتين الأوليين قريبتان جداً من شكلهما القديم، والعلامة الثالثة لا تغير شيئاً من هيكل الحرف وإنما ترمز إلى أنه غير ناطق أو غير لين). فالعالم بهذه الطريقة يستطيع مع شيء يسير جداً من التأمل والمران أن يقرأ الكتب المدونة بالرسم الحالي
ولا يؤخذ على هذه الطريقة إلا أمران:
(أحدهما) أنها تطيل رسم الكلمة قليلاً بالنسبة إلى رسمها القديم. ولكن ضرر هذه الإطالة ليس شيئاً مذكوراً بجانب ما تحققه من جليل الفوائد للعربية وأهلها. على أن معظم عيوب(592/26)
الرسم القديم قد نشأ عن مبالغته في الاختزال والتعمية وإغفال الرمز إلى كثير من الأصوات التي ينطق بها في الكلمة فلا يرجى له إصلاح جدي إلا بالقضاء على اختزاله وتعميته واعتماده على فراسة القارئ. وهذا يستلزم حتما أن يطول رسم الكلمة حتى تكون رموزها معبرة تمام التعبير عن جميع أصواتها. هذا إلى أننا لم نأل جهداً في تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من الاقتصاد في مجهود القارئ والكاتب والطابع، مع عدم الإخلال بالغرض المقصود، وذلك بما تضمنته طريقتنا من الأصول المشار إليها في موادها التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. على أنه من الممكن أن تحذف علامة الحرف المفتوح لكثرة دوران الفتحة في اللغة العربية، ونثبت علامة الحرف الساكن لقلة دوران السكون، فيتحقق بذلك بعض الاقتصاد؛ وإن كانت الطريقة الأولى أكثر مطابقة للنطق
(وثانيهما) أنها ترسم حروف الكلمة متفرقة. ولكن رسم الحروف متفرقة أسلوب سليم لا غبار عليه ولا غرابة فيه. فقد سار عليه معظم أنواع الرسم السامي (الفينيقي والعبري والآرامي والحبشي واليمني. . .) وسار عليه الرسم العربي نفسه في أقدم صوره، ويسير عليه الآن الرسم الأوربي في الطباعة؛ بل لقد أخذ هذا الأسلوب منذ أمد غير قصير ينفذ إلى أقلام الكاتبين باللغات الإفرنجية، وأخذت مدارس كثيرة تسير عليه في تعليم الهجاء الإفرنجي وتأخذ تلاميذها به في كتاباتهم. وقد رأيت بعد تفكير طويل أن هذا الأسلوب وحده هو الكفيل بتخليص الرسم العربي من عيوبه وتحقيق الغايات التي نرمي إليها على أحسن وجه وأكمله. فبفضله نستطيع أن نرمز إلى أصوات المد القصيرة (الحركات) بعلامات ترسم في هيكل الكلمة لا فوق حروفها أو تحتها، وبفضله يصبح لكل حرف صورة واحدة لا تتغير، مهما كانت حركته وكان موضعه في الكلمة
صحيح أن من اعتاد الرسم والقراءة على الطريقة القديمة التي تقوم على الاختزال ووصل الحروف بعضها ببعض، سيعاني بعض العنت في السير على هذه الطريقة المفصلة المتفرقة الحروف. ولكن قليلا من المران كفيل بتخفيف هذه العنت وإزالته. على أن عبأه سيكون مقصوراً على أهل الجيل الحاضر ممن تعلموا على الطريقة القديمة. وأمر كهذا لا يقام له وزن بجانب ما تحققه الطريقة المقترحة من تقويم للألسنة والأقلام، وصيانة للعربية الفصحى، وتسهيل في طرق تعلمها وتعليمها، وتثبيت لملكتها في النفوس، وتمكين كل فرد(592/27)
من قراءة أية عبارة قراءة صحيحة مهما كانت درجته في العلم ضئيلة، ومهما كان ضعيفاً في مبلغ إلمامه بقواعد اللغة
علي عبد الواحد داني
دكتور في الآداب من جامعة السوربون(592/28)
ديوان أفراح الربيع
للشاعر حسن البحيري
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
لعل الحركة الأدبية في مدينة حيفا أظهر مما هي في المدن الأخرى من فلسطين، فهذا النشاط الدائب الذي نراه في جمعياتها وأنديتها يجعلنا نقول بهذا الرأي، ويعزز قولنا ما تطالعنا به في كل مناسبة من مهرجان تقيمه أو ذكرى تحييها تستفز بها الهمم وتوحي إلى الأدباء والشعراء
وقد طلع علينا في العام الماضي نادي أنصار الفضيلة في حيفا بديوان الأصائل والأسحار للشاعر الشاب حسن البحيري، وإذ قرأنا فيه كلمة اللجنة الثقافية للنادي، تلك اللجنة التي (أخذت العهد على نفسها أن تخدم لغة الضاد وأن تناضل لتذود عن لغة القرآن، وأن تبحث وتنقب عن تلك الكتب الضائعة المخفية وراء ظلام الوحدة لتخرج بها إلى عالم النور) أقول إننا إذ قرأنا هذا رأينا أي نهضة أدبية تتطلع إليها عيون الشباب في فلسطين وأي مطمح نبيل يساور قلوبهم المتفتحة للنور. فأفعم نفوسنا الأمل المشرق وملأها جمالاً وجلالاً وإيماناً بالمستقبل.
هذه ظاهرة ميمونة لم أر بدا من الإشارة إليها إذ أقدم بين أيدي القراء ديوان (أفراح الربيع) لشاعر حيفا حسن البحيري، أو شاعر الحب والجمال كما يسميه صديقه الشاعر المصري أحمد رامي
نقرأ في هذا الديوان كتاب الطبيعة المفتوح وقد زافت في منظرها الفتان، وفي جوها الذي سبح فيه خيال الشاعر تتضوع الأزهار وترف الأنداء على ثغورها رقيقة براقة، وهناك الجدول الراقص يستضحك من فرط الطرب (ويعزي من بكى عما بكى) بل هناك الدنيا ترف أمام عيوننا طيباً ونوراً وتمتلئ شذي وعطوراً
وللموسيقى وسحر إيقاعها نصيب وافر من الديوان، وكثيراً ما نستمع إلى حنين العود وأنين الناي فيه، فتتم لنا صور جمال الطبيعة، تلك الطبيعة التي نشأ الشاعر في أحضانها المفوفة وعل من جمالها ونهل؛ والشاعر كما يلوح لنا موسيقي بطبعه وله هيام لا حد له بالموسيقى، نلمس ذلك في (ألحان شاردة) وهو القسم الثاني من الديوان. حيث يستهله(592/29)
بقوله:
لئن يوماً حدا بكمو حنين ... لسكان القبور الدارسات
وأوقفكم على قبري اعتبار ... أو استعبارُ عين الذكريات
فناجوني بناي أو كمان ... لتسعد في حفائرُها رفاتي
وفي قصائده (عازف) و (ناي) و (وداع عود) وغيرها من الألحان الشاردة، نحس بالأنغام التي صيغت من ذوب القلوب. . . فبعثت الذكرى وهاجت الشجن، وقد تحمل الأرواح أحياناً من دنيا الهموم وتجعلها تطوف بأشواقها على متن الغيوم، وقد يهيج النغم أشجان القمر فيقف على باب مغيبه ويتمنى لو مد بقاء له لكي يتمتع بأنات الوتر. ولا عجب أن نرى وحي الموسيقى يشيع في الديوان فهي والشعر أخوان تهيم بهما النفس الجميلة، وتسمو على أجنحتهما إلى دنياوات ساحرة
وهناك من القصائد ما هفت فيها روح الشاعر نحو أليفها حيرى مضطربة، أذكر منها (الموعود) و (وادي الأحلام) وقد تشيع روحه الحيرى هذه في كثير من قصائده ولكنها في هاتين أظهر. ولنستمع إلى هذا العتاب وما فيه من مرارة عذبة، إذ يقول في قصيدة وادي الأحلام:
أنسيت عهدك والزمان مسالمي ... فتركتني والبؤس من أخداني
أم شاق قلبك غير ودِّي شائقٌ ... فرميت بي في وحدة الأحزان
يا سالياً ما إن ذكرت زمانه ... إلا بكى زمني وأنَّ مكاني
ثم يصف لنا ما كان في وادي أحلامه من طير وشجر وماء وزهر، وكيف كان الماء يروي للبنفسج شوقه هيامه بمراشف الأغصان، إلى أن يقول:
يا من رسمت خياله بمدامعي ... وحملت من ذكراه ما أشجاني
أنسيت وادينا وما كنا به ... من حلو أحلام وعذب أماني
كم ساعة للوصل في أحضانه ... سعدت بظل التوت والرمان
ولا أغفل عن ذكر قصيدته الجميلة (زهرة العمر) ومنها:
أخاف على زهرتي أن تموت ... وسلوة روحي في عطرها
لقد سمعت من فؤادي الجريح ... شجاه فكنته في سرها(592/30)
وبثت أساه لنظارها ... ببسمة شجو على ثغرها
وفي القصيدة نظرات فلسفية في الحياة والمصير الذي تنتهي إليه
وليس ما يؤخذ على الشاعر الشاب سوى وقوعه أحياناً في (سناد الردف) وهذا من عيوب القوافي، فنراه يردف في القافية بحرف الألف حيث يدع الردف في القافية التي سبقت أو تلت كقوله في قصيدة (عيد في عيد) إذ يشير إلى مولد النبي صلعم:
مولد كالشمس في إشراقها ... ضوَّأ الدنيا بأنوار اليقين
مالت الشمس له عن شرقها ... ثم حيته بإحناء الجبين
وكذلك في قصيدة (زورق الأحلام) حيث يردف بحرف الياء في قافية (الطير) بينما تخلو قوافي القطعة كلها من الردف مثل النهر والعطر
هذه هنات ما كنت أحب أن آتي عليها لولا إيثاري للشاعر ورغبتي الخالصة في أن يتجنبها في المقبل من شعره، وما عدا ذلك فالديوان يفيض بالشاعرية والجرس الموسيقي الذي يشمل كلماته المنتقاة التي تدل على ذوق جميل وطبع أصيل
وتتصدر الديوان أبيات للشاعر أحمد رامي صديق شاعرنا، فبين الشاعرين تألف روحي مصدره ذلك الشبه بين روحيهما الهائمين في سماء الحب والجمال. والديوان رشيق الطبع أنيقه، مزين بصور طبيعية لبلادنا الحبيبة الفاتنة، وهذه الصور تكمل في نفس القارئ شعوره بالجمال، وقد طبعته شركة فن الطباعة في القاهرة ونشره محمد أحمد حجازي
وإذ أشكر للشاعر الرقيق هديته الجميلة فإنني أهنئه بنتاجه الموفق الجميل.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(592/31)
البريد الأدبي
إلى الطبيب القدير الدكتور حسين همت
يا صديقي. ويا طبيبي!
دار الحول واقتربت الساعة التي أوشكت أن تكون موعد لقاء منظور، وقد كانت عندك أفجع فراق مرهوب
مضت ثلاثة أعوام على تلك الليلة التي ناديتني فيها لتبلغني كلمة واحدة لم تزد عليها، ولكنها لا تحتمل الزيادة، لأنها وسعت من التعبير عن آلام نفسك - أيها الصديق العزيز - ما تضيق به المعجمات والأسفار
ويخيل إلي أنني أسمعها الساعة كما سمعتها منذ ثلاثة أعوام، لأن للكلمات أرواحاً تعيش وتموت، وأعماراً تطول وتقصر، وقلما تموت كلمة مرهونة بألم طويل العمر، مديد البقاء
تعودت يا صديقي وطبيبي أن أطرق جرسك في هدأة الليل لأعوذ بعلمك وطبك في أمري وأمر الأعزاء عندي، ولكنني لم أسمع صوتك يطرق سمعي في هدأة الليل إلا هذه المرة، ولم أسمع منك في هذه المرة غير تلك الكلمة الواحدة. ولكنها الكلمة التي جمعت فيها من ألمك ما لم أجمعه في مئات الكلمات
ماتت!
ولا حاجة بعدها إلى مزيد
وليس من عادتي أن أقحم العزاء على المفجوعين في ساعة الفجيعة الدامية، لأنني أحسبه اجتراء على قدس الأحزان لا خير فيه، ولكنه صوت سمعته لابد له من جواب تسمعه غير الصمت والسكون. . فقلت كأنني لا أعلم ما أقول:
(إنك رجل يا دكتور، ولن تنفعك الرجولة في مقام بعد اليوم إن لم تنفعك بالصبر الجميل في هذا المقام)
نعم يا صديقي، ويا طبيبي!
إنك رجل ذو عزيمة وجلد وإباء. صبرت على الأهوال في بلاد الأهوال، وصحبت الحرب الماضية في البلاد التركية وفي بلاد أوربا الوسطى وأوربا الشرقية يوم كانت تلك البلاد موارة بالخطوب والقلاقل، سوارة بالفتن والزلازل، تصبح في حال ولا تمسي عليه،(592/32)
وتمسي ولا تدري كيف يطلع عليها الصباح
وبلوت من الدنيا ما هو أقسى على النفس من أهوال الفتن والحروب: بلوت منها تقلب القلوب وغدر الصحاب وخيبة الظنون
بلوت هذا كله فما وهنت ولا شكوت ولا أجريته على لسانك إلا كسمر السامر وفكاهة المتحدث، وعبرة المعتبر بأحوال الدنيا وخلائق الناس
أنت يا صديقي رجل ذو عزيمة
ولكنك وا أسفاه رجل ذو قلب وذو ضمير. وكثيراً ما يكون القلب وحده مدداً للعزيمة، والضمير وحده ينبوعاً للصبر والأباء
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الأباء؟
أكنت نسيت ذلك كله ساعة أبلغتني الخبر المشؤوم فأهبت منك بعزم الرجال؟
إن كنت قد نسيته في تلك الساعة فما كان اخلقني ألا أنساه، لأنني لمست شواهده قبيل ذلك بأيام، وشاءت الأقدار أن أسبقك إلى مصاب يهد القوي ويفت في الأعضاد، وشاءت الأقدار أن تكون أنت في لواعج الخوف من وقوع مصابك الأليم ولا علم لي بشيء من ذاك، لأنك كنت تواسيني مواساة الصديق والطبيب، وتعوذ من نفسك بعزم أولي العزم، وتكتم عني ما كنت فيه
فلما برح بي الألم ولجأت إليك أستمد منك عوناً لهذه البنية ينصرها على البرحاء علمت ما يشغلك، وعلمت مبلغ صبرك على مغالبة الخوف والفزع والبلاء
علمت أنك هجرت بيتك ولزمت حجرة المستشفى منذ أيام، وتركت محرابك الذي لا تتركه لتقيم إلى جوار تلك العزيزة التي تودع الحياة: تلك العزيزة التي كان منها مدد قلبك ومدد عزمك. . . تلك الزوجة الرؤم بل ذلك الملك الكريم الذي سكنت إليه كما تسكن السفينة إلى الميناء الأمين بعد هوج البحار
علمت أنك تأوي إلى المستشفى منذ أيام ولم أعلم ما حقيقة الداء وما مبلغ الرجاء في الشفاء، وكان أغلب الظن عندي أنها عقدة من عقد الجراحة يحلها مبضع الجراح. فلما ذهبت إليك قويت عندي هذا الظن وتمالكت وتجلدت وألححت في السؤال عني لتطلق لساني وتنسيني ما أنت فيه(592/33)
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الآباء؟
حين دق الجرس في هدأة الليل، وسمعت صوتك يجهش بالبكاء، ويلقي إلي بتلك الكلمة القصيرة في حروفها، الطويلة في عقابيلها - لم يخطر على لساني إلا الصبر أثوب بك إليه، ولولا ذهول المفاجأة لخطر لي أن الصبر قد أصيب في المقتل المنيع، لأنه قد أصيب في القلب الذي يعتصم به الرجل الصبور، وكثيراً ما يتراجع الرجال بعزائمهم إلى قلوبهم، فإذا أصيب القلب - فإلى أين يتراجعون؟
ذاك هو اللغم في الميناء، وأنه لأهول من الإعصار في هوج البحار
واليوم وقد دار الحول دورته الثالثة لا أحاول العزاء، لأن العزاء تخفيف من الأسى والأسى على الأعزاء عزيز مثلهم، لا يروقنا أن نمسه بتخفيف
إنما أحاول ترويض الحزن بشيء من التذكير
ولا أذكرك إلا بمصائب الحياة إلى جانب مصائب الموت. فوالله يا صديقي أن الحياة لأقسى من الموت في أكثر من مصاب، وأن قسوة الموت لرحمة في بعض الأحايين عند قسوة الحياة، فليست أوجع السهام مخبوءة لنا في جوف التراب، بل هي مخبوءة لنا في رحب الهواء
إن فقدان الموت يورثنا الألم ولكنه الألم الذي لا نهون به ولا نخجل من قبوله، وقد نشرف أمام أنفسنا بالصبر عليه والحنين إليه
وكم من فقدان في الحياة يورثنا الألم الذي يخجل ويضيم، لأنه ألم لا يجمل بنا أن نحسه ولا يشرفنا الصبر عليه والحنين إليه، وإنما يشرفنا أن نقتلعه من جذوره كلما استطعنا، وقد لا نستطيع
كل مفقود بالموت يستحق الحزن عليه، وكل مفقود بالحياة فالحزن عليه كثير
ولأكرم لنا وللأعزاء أن نفقدهم موتى ولا نفقدهم أحياء، وما يرضينا أن نفقدهم على حال من الحالين لو كان لنا اختيار بين الأمرين، ولكننا مسيرون يا صديقي للقضاء، ولا حيلة يا صديقي للموتى ولا الأحياء، مع حكم القضاء
عباس محمود العقاد
شرح وحدة الوجود(592/34)
في غير هذا المكان من الرسالة يجد القراء كلمات كتبتها لنفسي، ولم أكن أنوي نشرها في هذا الوقت، ولكن المقال الأخير للأستاذ دريني خشبة حملني على تقديمها لمجلة الرسالة، لتكون جواباً على اعتراضات كثيرة واجهني بها كثير من أصدقائي، وتمنوا أن أجيب، ليستطيعوا الإجابة عني حين يستطيل أعدائي
وأقول بعبارة صريحة: إن الأستاذ دريني بعيد كل البعد عن نظرية وحدة الوجود، ومقالاته في نقضها تشهد بأنه لا يريد أن يسمع ما نقول في تأييد هذه النظرية، وأنه يحرص على أن تكون كل فكرة موصولة بالدين الإسلامي، مع أني قلت له أني لا أجعل الإسلام في بالي حين أواجه معضلات الوجود، لأن الإسلام ينهانا عن مواجهة تلك المعضلات
وقراء الرسالة يشهدون أني فررت من الميدان حين رأيت أن ثباتي فيه يعرضهم لبلبلة فكرية لا أريدها لهم بأي حال، وأنا القائل بأن المجد كالرزق فيه حرام وحلال، وأنا لهذا أبغض الشهرة المجلوبة بإيذاء الناس
وقال قوم أنه كان يجب أن أرد على الأستاذ معروف الرصافي، وأقول أني لن أرد عليه، لأنه أكرمني بنقد آرائي، وأنا أحترم من ينقدون آرائي بإخلاص. . . وقد قلت مرة إن الذوق خير ما دعا إليه الأنبياء، ولهذا المعنى لن أناقش الأستاذ دريني، لأنه من أعز أصدقائي، وإن كان ينفر من آرائي
وأنتهز هذه الفرصة فأسجل بيتين هما خير ما قال صديق في الشوق إلى صديق، وهما تحية من الشاعر عبد الرحمن البناء:
لك يا ابن الغُرِّ الميامين نفسٌ ... خُلقت من مكارم الأخلاق
فرَّقتنا الدنيا فهل يا زكيُّ ... أنا باق إلى اللقاء، أنا باق
سأراك يا أيها الشاعر إن سنحت فرصة لزيارة بغداد، وسأراك إن تفضلت بزيارتي في وطني، فأنا بحمد الله من أكابر الأغنياء في وطني، وسيكون من الشرف أن أهدي إليك داراً في سنتريس هي طيف من دارك في بغداد، يا شاعراً سابق الرصافي إلى إكرامي في بغداد.
زكي مبارك(592/35)
حول أبي فراس الحمداني
إلى مترجمي دائرة المعارف الإسلامية
قرأت ترجمة أبي فراس في دائرة المعارف الإسلامية، فاسترعى نظري أمران خالف فيهما وجه الرأي مترجمو هذه الدائرة، والواجب العلمي يقضي بالتنبيه إليهما
أما الأمر الأول فما جاء في هذه الترجمة من قولهم: (وقبض عليه (أي أبي فراس) للمرة الثانية عام 351هـ (962م) وسيق إلى القسطنطينية وسجن فيها عدة أعوام، ونظم في ذلك الحين مراثي مؤثرة رثى بها أفراد أسرته، ومن بينها مرثيته المشهورة في أمه التي ترجمها أهلواردت وهذا خطأ واضح؛ فإن أبا فراس لم يرث أمه أصلاً؛ لأنه مات قبلها كما أجمع على ذلك مؤرخوه
أما القصيدة التي يشير إليها بروكلمان الذي كتب هذه الترجمة، فليست قصيدة رثاء لوالدته، ولكنها قصيدة أرسلها إليها وقد ثقل من الجراح التي نالته، ويئس من نفسه فكتب إلى أمه كأنه يعزيها، وأول هذه القصيدة التي ترجمها أهلواردت إلى الألمانية
مصابي جليل والعزاء جميل ... وظني بأن الله سوف يزيل
والأمر الثاني قولهم: (وتمتاز أشعاره بطابع شخصيته القوي الواضح، وهي أقرب ما تكون إلى اليوميات. ولو أنها لا تختلف في أسلوبها عن أشعار معاصريه، وهي ليست في روعة أشعار المتنبي)
وقد نقل المستشرق المعروف بلاشير في كتابه عن المتنبي (ص330) رأي بروكلمان الذي ذكره في دائرة المعارف الإسلامية، وهو يخالف هذه الترجمة التي نقلناها إذ يقول: , ? , -
أي أن بروكلمان، مثل فون كريمر، يضع أبا فراس في مرتبة أعلى من مرتبة أبي الطيب. ومنه يتبين الفرق بين ما نقله بلاشير عن بروكلمان في دائرة المعارف وما ترجمه مترجمو هذه الدائرة إلى اللغة العربية.
(حلوان)
أحمد أحمد بدوي(592/36)
مدرس بحلوان الثانوية للبنين
الهكسوس ومدة حكمهم لمصر
اختلف الأستاذان سيد قطب وصلاح ذهني في تحديد مدة حكم الهكسوس لمصر. فهذه المدة في رأي الأستاذ ذهني مائتا عام أو أقل مستنداً في ذلك إلى الفصل الذي كتبه الدكتور أبو بكر في كتاب (المجمل في تاريخ مصر العام)، وهي في رأي الأستاذ سيد قطب خمسمائة عام مستنداً إلى جوستاف لوبون في كتاب (الحضارة المصرية القديمة)، وهذا فارق كبير في التقدير يحتاج إلى كثير من التحقيق
يقرر الدكتور أبو بكر أن الهكسوس دخلوا مصر عام 1710 ق. م. وطردوا منها نهائياً عام 1580 ق. م. فتكون مدة حكمهم قرناً ونصف قرن ويقدر الأستاذ برستد في كتاب (تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي) المدة بين حكم الأسرة الثالثة عشرة (وهي التي بعد انحلالها أغار الهكسوس على مصر)، وبين نهاية حكم الأسرة السابعة عشرة بمائتين وثمانية أعوام (1788 - 1580ق. م) بما في ذلك مدة حكم الهكسوس، ويؤكد أن مدة حكمهم لم تزد على مائة عام، ويجعل المسيو دريتون في كتابه: , , مدة حكمهم بمائة وخمسين عاما (1730 - 1580ق. م)
أما الذين قالوا ببقاء الهكسوس بمصر خمسة قرون. فلا أذكر منهم غير المؤرخ اليهودي جوسيفوس الذي زعم أنه نقل عن ماتينون أنهم استمروا يحكمون مصر 511 عاماً. ولكن برستد يقرر أنه لم يوجد على الآثار ما يؤيد كلام ماتينون، كما يقرر الدكتور أبو بكر مبالغته مدة حكم الهكسوس
ويرجح الأستاذ دريتون حدوث المحاولات التي انتهت بطرد الهكسوس بين (1680 - 1580ق. م)، ويورد قائمة بأحد عشر ملكاً سماهم ملوك الأسرة السابعة عشر حدثت في أيامهم تلك المحاولات، فتكون مدة هذا النضال مائة عام وليست مائتين أو مائة وخمسين كما يحاول الأستاذ قطب تأويل كلام الأستاذ ذهني
هذا ونأمل أن يتقدم أحد المشتغلين بتاريخ مصر القديم والمهتمين بعصر الهكسوس بصفة خاصة، وأقصد به الأستاذ الدكتور باهور ليعرض عصر الهكسوس عرضاً سليماً صحيحاً(592/37)
ويجلو لنا بصفة خاصة مسألة العجلات الحربية، ولا يخفى على دارسي تاريخ مصر القديم ما كان للهكسوس من أثر كبير في ذلك التاريخ
وبعد فأنتهز هذه الفرصة لأعرب عن أسفي لاستعمال ذلك الأسلوب الذي غلب على الأستاذين المتساجلين ورمي أحدهما الآخر بالتبجح والجهل، فما كانت الحقائق التاريخية لتخضع لمثل هذا الجدل، بل لابد أن يدحضها منطق سليم وتؤيدها أدلة ثابتة قاطعة
وكم أود كذلك لو انتفع النقاد بما كتبه الدكتور صبري في العدد 590 من الرسالة، فهذا دستور سليم لمن أراد نقداً أدبياً صحيحاً، فقد سئمنا ذلك الأسلوب الذي جرت عليه المساجلات والمناقشات في السنين الأخيرة، وطالما تأذينا من ذلك الصغار الذي يقلب على كتابة كبار الكتاب، وكم نرجو أن تكون الحجة هي الفاصل والعقل هو الحكم، والخلق الأدبي هو الذي يسود حتى يتخلص النقد الأدبي من تلك المهاترات التي لا تقدم ولا تؤخر، بل تنزل من قيمة كاتبها درجات، ويبعث في مصر الرأي العلمي الصحيح الذي يزن الأمور بميزان النقد الصحيح فلا يكون النقد أداة هدم فحسب.
(الإسكندرية)
مصطفى كمال عبد العليم
ليسانسه في التاريخ(592/38)
العدد 593 - بتاريخ: 13 - 11 - 1944(/)
تعليقات على يوميات
للأستاذ عباس محمود العقاد
من آيات الكتاب الحي أنه يذكر ويوحي ويستطرد بك إلى مناسبات تشبه مناسباته وأحاديث تقترن بأحاديثه، لأنه يروي عن الحياة الإنسانية وهي متشابهة في كثير من الوقائع، متقاربة في شتى الأزمنة والأعمار. فإذا صدق الكاتب في الحكاية عنها لم يلبث القارئ أن يلمس دليل ذلك في أحاديثه ومناسباته التي تشبه ما في الكتاب من الأحاديث والمناسبات
وكذلك الكتاب الذي بين يدي وهو كتاب (من يوميات محام) لمؤلفه القانوني البحاثة والأديب المبين الأستاذ عبده حسن الزيات
والأستاذ عبده مؤلف معروف بأكثر من كتاب في أكثر من موضوع، فهو مترجم رواية اللصوص للشاعر شلر، ومترجم كتاب (حكايات من الهند) التي ظفرت بتقدير الأدباء، ومؤلف كتاب (سعد زغلول في أقضيته) وهو مرجع في تاريخ القضاء وتاريخ الزعيم
أما كتابه الجديد فقد يوهمك أنه كتاب محامين لأنه (من يوميات محام) كما جاء في عنوانه، ولكنه في الواقع مما يقرأه المحامي وصاحب القضية كما يقرأه من لا يلم بالقانون ولا يعرف ساحة القضاء، لأنه يعني أحياناً بالملاحظات النفسية والاجتماعية كلما عني حيناً بالملاحظات الفقهية والقضائية، وفي كل مسألة من مسائل الخلاف الذي يعرض على المحاكم مسألة من مسائل النفس وقصة من قصص البيوت أو الأفراد
وأدل ما فيه على الحياة كما أسلفنا أنه يوحي ويذكر ويستطرد بالقارئ إلى مناسبات كثيرة. فما قلبت صفحة فيه إلا وقفت عند حادثة تشبهها أو تقاربها أو تدعو إلى التأمل والتعقيب. ففي كل صفحة منه صفحات يضيفها القارئ إليه لو شاء، أو هو ينطوي على قطعة من كل نفس على حد تعبيره في الكلام عن ذكرياته بمدينة بور سعيد
أهدى كتابه (سعد في أقضيته) إلى صاحب الدولة أحمد زيور باشا لأنه كان عضوا في المحكمة التي كان يجلس فيها سعد رحمه الله، وكان المؤلف حريصاً على تسجيل رأي زيور باشا في زميله ورئيسه وعلى الإصغاء إلى ذكرياته في هذا الصدد من خمس وأربعين سنة
فسأل دولته عن جناية الجزيرة الشقراء وقال له: (بأن ما يهمني هو أن الحكم تضمن حملة(593/1)
شديدة على رجال البوليس في أسلوب عنيف قوي العبارة)
فقال غير متردد: (نعم هو سعد كان شديد على رجال الإدارة)
فذكرت تواً أحاديث سعد رحمه الله عن رجال الإدارة، وعجبت كيف تتنبأ طبيعة الرجل بما سيبلوه من بعض الناس قبل عشرات السنين، فقد كان سعد في أحاديثه وخطبه كما كان في أحكامه القضائية شديد الأنحاء على رجال الإدارة والشرطة، وسماهم في بعض خطبه ملوك النيروز الذين يدوم لهم الملك يوما ثم يزول، ولم يكن يعلم وهو يتعقب أخطاءهم بالتنديد من منصة القضاء أنه سيبتلى بهم على منصة الزعامة وسيعاني من تصرفهم أضعاف ما كان ينعاه من ذلك التصرف في شؤون الناس. وقد صدق ابن الرومي حين قال:
وللنفس حالات تظل كأنها ... بما سوف تلقى من أذاها تهدد
فلعل حالة من هذه الحالات هي التي أوحت إلى سعد أن يسبق حوادث الزمن فيقول في أسباب الحكم في قضية الجزيرة الشقراء: (وحيث إن وقوع مثل هذه التصرف بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة أشد خطراً على النظام العام من خفاء الجاني أو تخلصه من العقاب، لأنه لا شئ أسلب للأمن وأقلق للراحة وأزعج للنفوس من أن يعبث بالنظام من عهد إليه حفظ النظام. وحيث أنه لا يصح أن تكون مثل هذه التصرفات أساسا للحكم بل لا يصح غض النظر عن المؤاخذة عليها، لأن ذلك مما يضر بالقضاء ويجعله عوناً للظلم بدلاً من أن يكون نصيراً للعدالة)
وقد طرب زيور باشا وهو يسمع هذا الكلام مرة أخرى بعد خمس وأربعين سنة، فابتسم ابتسامة الصافية كما وصفها المؤلف وقال: هذا كلام سعد. . . والفرنسيون يقولون الأسلوب هو الرجل
وأشار المؤلف الفاضل إلى قضية لي مع مصلحة التلفونات كان له الفضل في كسبها قبل أربع سنوات
قال الأستاذ عبده: (منذ يومين أرسل إلى الأستاذ عباس العقاد حكماً صدر ضده قاضياً بإلزامه بأن يدفع لوزارة المواصلات مبلغ 475 قرشا والمصروفات، قال الأستاذ أنه يريد أن يعارض في هذا الحكم تمسكاً بوجهة نظره، فإن القيمة التي طالبته الوزارة بها هي أجرة مواصلة بين تلفونين كانا له حين اصدر صحيفة الضياء فلما ترك هذه الصحيفة نقل كلا(593/2)
من التلفونين إلى منزل لصديق من أصدقائه وقد تولى كل من الصديقين وفاء الاشتراك الخاص به لمصلحة التلفونات ولم يبق مبرر بل لم يبق سبيل للاتصال بين التلفونين، فانهما في دارين مختلفتين عند صديقين مختلفين، فعلام إذن تستحق أجرة أو رسوم هذه المواصلة المستحيلة؟)
هذه هي الواقعة التي بنيت عليها الدعوى
وتتمة الواقعة أن أروي للمؤلف الفاضل ولحضرت القراء قصتين صغيرتين
فالقصة الأولى قصة نزاع على شجرة في بعض جهات الإقليم الذي نشأت فيه وهو إقليم مشهور باللدد في المنازعات القضائية
هذه هي الشجرة التي لا ثمر لها ولا ينتفع منها بغير الوقود بعد قطعها كانت موضع النزاع سنوات بين أسرتين، واجتمع من قضاياها عشرات الملفات وألوف الصفحات؛ وتفرعت على الدعوى المدنية فيها دعاوى جنايات شتى لا تنتهي الواحدة منها حتى تتلوها الأخرى
وكان الأحكام العسكرية يومئذ مضروبة على إقليم أسوان لاشتعال الثورة المهدية وقرب الإقليم من الحدود
فكان قاضي المدينة ضابطاً من رؤساء الضباط في فرق الجيش المقيمة بها، وضاق ذرعاً بهذه المنازعات فأمر بإعداد الزورق البخاري ذات يوم ودعا بأحد الحطابين وبأفراد الأسرتين المتنازعتين لموافاته عند الشجرة. . . ثم أمر بقطعها وإلقائها في النيل ووراءها الملفات والأوراق. . . فأراحهم واستراح
تلك إحدى القصتين
والقصة الأخرى يعلمها أديب من بلد الأستاذ عبده الزيان: دمياط
وخلاصتها أنني كنت أشتري أقة من الكمثري الخشنة التي تعرف (بالخشابي) لأنني كنت أستعين بخشونتها على الهضم في بعض الأوقات. فسامني الرجل فيها ثمانية قروش، وكانت تباع بسبعة قروش في ميدان سليمان باشا
قلت للرجل: أنها تباع بسبعة قروش عند زميلك فلان
قال: إذن خذها من فلان!
قلت: نعم آخذها من فلان، ولن آخذ شيئاً منك بعد الآن. . .(593/3)
وكان اليوم قائظاً فأنفقت في الركوب إلى ميدان سليمان باشا والعودة منه عشرة قروش، لكي لا يسومني أحد من الناس أن أرضخ عن قرش واحد بالعنت والإكراه
أكانت معارضتي في قضية التلفون إذن من لدد الإقليم أم من هذه الخليقة الشخصية؟
لا احسبني أحب المنازعات القضائية لأنني أحسمها دائماً قبل الدخول فيها، ولكنني أعلم أنني كنت على استعداد لإنفاق عشرة أضعاف المبلغ الذي طلبته مصلحة التلفون قبل أن أسلمه لها بغير الحق، وإنني ما كنت ألجئها إلى المقاضاة لو علمت أنها كانت على حق فيما تدعيه
ولكن الأستاذ عبده قد أراحنا من سداد المبلغ ومن إنفاق أضعافه، لأنه وفق بدفاعه إلى تقرير مبدأ عادل في موضوع هذه القضايا، لعله قد أراح المئات من المشتركين وحق له في أموالهم جميعاً نصيب غير مقدور
ومن طرائف ما في الكتاب قصة ذلك (البريء) الذي حكم عليه بالسجن في قضية قتل لم يجنه، ولكنه كان قد جنى وأفلت من العقاب مرات
أعرف شبيه هذه القضية في سرقة عوقب عليها لص ولم يجنها وكان قد جنى غيرها ونجا من العقاب
فليس بالنادر هذا الجزاء الإلهي الذي يجري أحياناً على أيدي القضاء
ولكن الذي يحضرني في هذا الصدد مشابهة فكاهية لهذا الصواب في الخطأ، أو هذا في الخطأ في الصواب، حدثت لي يوم كنت في مراجعة التذاكر بمصلحة السكة الحديد
فقد زدت تذكرة في قسم ونقصت تذكرة في قسم آخر، وسألت في ذلك فقلت: واحدة بواحدة، ضعوا هذه في مكان تلك، فلا زيادة إذن ولا نقصان
إن جاز في حساب العدد والنقود جاز ذلك في حساب النفوس والأحكام
وكلاهما يجوز على اضطرار
ولو شاء القارئ لاستطرد من الكتاب إلى كتب على هذا المنوال، ففيه ضروب من القضايا وفيه فنون من الهوامش والتعليقات، وهو يلم أحياناً بجرائم المصادفة وأحياناً بجرائم العوارض النفسية وأحياناً بمذاهب التشريع في غير تعسف ولا إقحام، ويمزج ذلك بلمحات من السخر تستطاب في سياقها، كقوله في التعقيب على كلام مجرم ينتظر بعد خروجه من(593/4)
السجن أن ينصفه أقرباؤه في الميراث:
(. . . هذا مجرم لم يتحجر فؤاده بعد عشرين عاماً في قطع الأحجار. أنه حسن الظن بالناس، بل بالأقرباء أيضاً. . .) أو قوله يعاتب نفسه على إهمال المذكرات ثلاثة أشهر: (. . . إن هذه المذكرات هي هي التي حنت عليك وهي هي التي تقبلتك في صدرها واستمعت إلى هرائك وسخفك، وأصغت إلى هزلك إصغاءها إلى جدك! أتراك أنت أيضاً قد سرت إليك العدوى فأنت مدبر عمن يقبل عليك مسيء إلى من يحسن إليك) أو قوله عن القتلة أتباع الطريق الذين استباحوا القتل ولا يستبيحون الكلام في المرحاض (لأن شيخنا ينهي عن الحديث في محل الأدب، لأن الملائكة مكلفون بقيد كل ما نقول؛ فإن نحن تحدثنا فيه فقد أرغمناهم على ملاحقتنا داخله، وهذا لا يليق في حقهم!)
وترتفع نغمة الحديث أحياناً من السرد إلى الوصف البليغ بل إلى الشعر المنثور حين يعرض المؤلف للذكريات في مدينة الإسماعيلية وغيرها من مدن القناة
فهو لاشك قراءة ممتعة، ومطالعة نافعة، وكلام فيه ما يروق بالسخر والفكاهة، وفيه ما يروق بالوصف والبلاغة، وكله مما يشوق القارئ أن يرى يوما من الأيام (يوميات محام) ولا يقنع بـ (من يوميات. . .)
عباس محمود العقاد(593/5)
منع الحرب؟
حلم الأبد!
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
خبت نار الحرب الكبرى السابقة، وبقي أثر رزاياها وذكر أهوالها باعثين من البواعث على حب السلام والوعد بحفظه والتحذير من نقضه. من ذلك قول الفيكونت جراي إن الأفراد والأمم (إذا أرادوا ضمان المستقبل وحياة المدنية، وجب أن يعرفوا هل الحال العقلية السائدة في الحاضر هي أكثر حذراً وصواباً من العقلية التي سادت قبل تلك المحنة العظيمة، وإلا زالت مدنيتنا كما زالت مدنيات سابقة)؛ وقول بلدوين رئيس الوزارة البريطانية الأسبق (من في أوربا يجهل أنه إذا وقعت في الغرب حرب جديدة انهارت في زلزلة هائلة مدنيتنا المؤلفة، كما انهارت مدينة روما) وقول المستر ديفز (إذا نشبت حرب عالمية جديدة، واحتدمت بالأسلحة التي تعدها التطبيقات العلمية للإنسان، سهل إبادة الأمم في بضعة شهور)
لكن التجارب والمخاوف جميعاً لم تمنع هذه الحرب الضروس الشعواء التي يشهد العالم طرأ ما تحدث وحشيتها من دمار وانهيار. ذلك بأن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شان النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقصور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة، والتجارة والتسلح؛ وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين، تشتبك بحجة الدفاع الشرعي أو الدفاع عن شرف الدولة وسيادتها، وتارة ببعض تلك الحجج التي تموه بها بواطن الأمور وحقائقها من أنانية وشهوات وأطماع ذاتية ومصالح شتى، لتندفع الشعوب إلى الملاحم الجهنمية والمجازر الآدمية
على أن كل حرب كبيرة تعقبها فترة رجعية سببها الحاجة الطبيعية إلى الراحة واستجمام القلب ولم الشعث، فترة تهبط فيها غريزة المنافسة الطليقة إلى مستواها الأدنى، وتتلاشى في المعسكرات لتظهر على الأخص في الميدان الاقتصادي، فتدفع إلى الاستعداد لحرب تالية وإن كثرت الوعود بالمحافظة على السلام وبتوطيد دعائمه ومنع الحرب. من هذه(593/6)
الدعائم جمعية جنيف المحترمة التي أمست، فيما زعموا، لعبة بيد الدولة البريطانية وفرنسا ثم بيد بريطانيا وحدها، ثم أخفقت في منع الحرب: لأن منعها يحتاج إلى نظام يضمن العدل الدولي، والعدل الدولي دونه التسلح، ومنع التسلح لا يتحقق بغير أمن، والأمن ليس يوجد بغير عقوبة مقررة للمعتدي، وتقرير العقوبة ليس بوازع إلا إذا كانت هناك قوة تنفذها، قوة تفوق مجموع قوى الدول، وما من دولة تأمن طغيان مثل هذه القوة المتفوقة أو ترضى أن تنزل نزولاً حقيقياً عن سيادتها أو عن حق حماية شرفها، بل حتى عن حق الاعتداء على غيرها
وليست سياسة جنيف تجربة أولى لحفظ السلام بجمعية دولية، بل هي سياسة يمكن إرجاع العمل بها أول مرة إلى عهد المدنية اليونانية العتيد، على الأقل. وقد عادت إليها الدول مراراً منذ ذلك العصر القديم، وإن تكيف تنفيذها بالأحوال في كل زمان. ولكن الأمم لا تزال ترفض بعزم وحزم أن ترضخ لسيادة الحق، وإن هددت الجوارح مرات عديدة بأن تهلك الجنس البشري بأسره
كانت المدينة اليونانية في الغابر دولة حقيقية ذات سيادة. وكانت دول المدائن الهِلِّينية تتحد لأغراض دينية وسياسية. ومن محالفاتها (اتحاد ديلس) والعصبة (الآخية)
جمع اتحاد ديلس، تحت رياسة أثينا، الدول الهلينية البحرية، وأوجب عهد التحالف على كل منها تقديم سفن لأسطول مشترك أنشئ للدفاع عن الاتحاد ضد الفرس، وحراسة النظام في بحر إيجه، ولتنفيذ العقوبات التي يقضي بها مجلس الاتحاد في المنازعات بين أعضائه
كانت ديلس مقر المجس، ومن شروط الحلف نص يلزم أعضاؤه أن يعرضوا عن المحاربة فيما بينهم وإن يحكموا المجلس في منازعاتهم. وهو يمثل السلطة التنفيذية ويفصل الخصومات ويحكم بالعقوبات وأثينا تباشر تنفيذها وتقتضي كل عضو ما شرط عليه تقديمه من رجال ونقود، وتتخذ تدابير الإجبار للمخالفين والمقصرين في القيام بالالتزامات العسكرية
فكان كل عضو، في البداية، دولة بحرية مستقلة ذات سيادة، تعاون بحصة لحفظ القوة المشتركة. لكن أثينا كانت أقدر على بناء السفن الحربية وأسرع من غيرها، فانتهى الأمر إلى اختصاصها ببناء هذه السفن إذ صار أكثر الدويلات في الاتحاد يؤدي بدل السفن نقوداً(593/7)
للخزينة المشتركة
والنتيجة السياسية من هذا النظام هي سيادة أثينا على قوات الاتحاد الحربية، وإرادتها سائر الأعضاء على معاونتها براً وبحراً وعلى اتخاذ دساتير ديمقراطية مماثلة لدستورها هي، حتى ردت الاتحاد إمبراطورية بحرية تحت سيطرتها
أما العصبة الآخية فقد جمعت قرابة ستين دولة معرفة، حين بلغت أعظم شوكتها. وكان لكل عضو منها حرية التصرف في شؤونه الداخلية. أما السياسة الخارجية. فكانت بيد مجلس العصبة، ولكل عضو صوت فيه. والمجلس هو الذي يعقد المعاهدات والمحالفات ويعلن الحرب ويجتمع بدعوة من رئيسه. ورئيسه قائد ينتخب كل سنة ولا يعاد انتخابه إلا بعد مدة رياسته بسنة، وهو، في حالة الحرب، يصبح قائداً عاماً مطلق السلطة. وقد اعتمدت العصبة على جيش دائم تحت إمرة مجلسها رأساً، وكانت أحياناً تطلب مؤناً وعتاداً من بعض المدن، أو تخول قائدها السلطة لحشد جميع القوات العسكرية التي لأعضاء الاتحاد. أنشئت العصبة لمواجهة النفوذ المقدوني على الخصوص، وكانت تستعمل هذه القوى في حماية نفسها وتنفيذ العقوبات، وفي حتم الانضمام إليها على دول آخر في بعض الأحوال
وحق أن هذه العصبة وما سبقها من اتحادات كانت جميعها محالفات بين دول المدائن الهلينية توالي الإخلاص لعنصر واحد، ولكن يخطئ من يظن أن تحقيق الاتحاد بين تلك الدول كانت سهلاً أو أن التحاسد بينها لم يكن شديداً قاسياً
ثم بسط السلام الروماني رواقه على كل أرض رفرف فوقها علم رومه، وتحقق العدل بين الأمم للمرة الأولى في التاريخ، إذ ارتاض أقوام مختلفة عناصرهم ومدنياتهم لفكرة نظام سياسي مشترك؛ ولولا اعتماده على تفوق الجيوش الإمبراطورية لما أمكن قيامه في كل مكان وجدت به حامية رومانية
وشبيهة الإمبراطورية الرومانية في العصر الحديث هي الإمبراطورية البريطانية بالهند التي كانت إمارتها على اعتراك دائم والاضطهاد فيها كثير، ثم انتظمت محاكمها بعد الاحتلال واعتمد تنفيذ أحكامها على الشرط وخلفهم الحاميات البريطانية. فقضت الهند ردحاً من الدهر في ظل السلام البريطاني كالسلام الروماني. لكن نظام الهند قد ضرب على(593/8)
أهلها، ولم يبن على أساس من رضائهم وإرادتهم
وقد وضعت مشروعات عديدة في أزمان مختلفة لتحقيق العدل الدولي وإقرار السلام ومنع الحرب. ولكن الأمم والدول عاشت حتى الآن في تحاسد وحرص على سيادتها، وعلى حق في دفاعها عن شرفها؛ وآثرت أخطار الحرب - ولو فظعت بأسلحتها الحديثة، في سبيل الأطماع والشهوات - على سلام يحفظه مجلس مشترك بيده قوة متفوقة. ذلك بأن الاتحاد الذي يعتمد مجلسه على مثل هذه القوة قد ينقلب إمبراطورية يسود فيها الأقوى، كما شهد التاريخ
أما وقد مضى خمسة وعشرون قرناً عانت الإنسانية فيها من الحروب بلايا فادحة أفظعها ما ترى من فتك هذه الأسلحة الشيطانية التي تمحق البشر وتمحو المدن؛ أما وقد وعد الحلفاء بسلام دائم ورخاء عام، فالمأمول أن يفلحوا هذه المرة. والذي يؤكد للأملين أن الحلفاء صادقون في وعودهم قادرون على الوفاء بها هو ما يذاع من أقوالهم وبنشر من كتاباتهم ويجيء ذكره في الأخبار من أعمالهم، مثل (مشروع تأمين سلامة العالم) المقترح من مؤتمرهم في دومبرتون أوكس بأمريكا، وملخصه:
1 - إنشاء عصبة أمم جديدة تسمى (الأمم المتحدة) - على أن يكون للعصبة أربع هيئات هي (مجلس الأمن)، الذي تكون له القيادة الفعلية لقوات العالم المسلحة؛ (والجمعية العمومية)، التي ينضوي تحت لوائها جميع الأعضاء - يعني جميع الأمم المحبة للسلام؛ و (محكمة العدل الدولية)، وأخيراً (السكرتارية)، ويجب أن يكون السكرتير العام رئيساً إدارياً من حقه أن يوجه نظر مجلس الأمن إلى ما يبدو أنه يهدد السلام العالمي
2 - أن يكون للدول الأربع الكبرى: أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين، ثم فرنسا فيما بعد، مقاعد دائمة في مجلس الأمن؛ وأن تشكل الجمعية العمومية من جميع أعضاء هذه الهيئة الدولية، ويكون لها أن تنتخب الأعضاء غير الدائمين في المجلس
3 - تشكيل (لجنة عسكرية) مهمتها إسداء النصيحة إلى مجلس الأمن فيما يتصل بجميع الحاجات العسكرية لحفظ السلام، وبقواعد التسلح، أو نزع السلاح إذا لزم الأمر؛ وأعضاء هذه اللجنة هم رؤساء قيادة الولايات المتحدة وقيادات بريطانيا والاتحاد السوفيتي وفرنسا والصين، أو ممثلوهم؛ وعلى جميع أعضاء هذا النظام أن يضعوا تحت تصرف مجلس(593/9)
الأمن، بناء على طلبه، قوات مسلحة وأن يبذلوا العون اللازم للمحافظة على السلام
4 - أن يجب على الأمم المتنازعة اتخاذ الوسائل السلمية فيما بينها؛ فإذا استمر النزاع تولاه مجلس الأمن، وهو صاحب الحق في أن يقرر لنفسه تولي أمر هذا النزاع؛ فإذا وجد أن للنزاع ما يبرره أحاله على محكمة العدل؛ وللمجلس أخيراً أن يستعمل القوة المسلحة متى تراءت له ضرورة ذلك
واضح أن بين هذا المشروع وبين اتحاد ديلس والعصبة الآخية أوجه شبه
هذا ويرى المستر سمنر ويلز، وزير خارجية أمريكا السابق (إن وجود هيئة الأمن الدولية بعد الحرب سيكون مرهوناً باستعداد روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة للعمل معاً).
إن تحالف الروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة (نهض على أسس المصالح الجوهرية الدائمة) من حيث أن هذه المصالح، وإن اختلفت بين الدول، تقتضي الإجماع على التخلص أولاً من العدو المشترك. وفيا يتعلق بتواتر الأحاديث (عن نشوب خلاف بين الدول الكبرى الثلاث حول بعض المسائل المتصلة بضمان سلامة العالم، قال المرشال استالين: هناك خلافات بطبيعة الحال وقد أوضحت قرارات مؤتمر دومبرتون أوكس حزم الجبهة المعادية للألمان. . . والتحالف (سيصمد أيضاً لامتحان المراحل الأخيرة من هذه الحرب. . . بل يجب علينا أيضاً أن نجعل من المستحيل وقوع أي اعتداء أو حرب جديدة إذا لم تكن نهائياً فعلى الأقل لوقت طويل)
ويبدو أن في أمريكا نفسها من يعترض على أصحاب المشروع من هذه السياسة فيقول أنها (طريق الدولة العظمى) وقد قطع مراراً من قبل، وأنه يبدأ في الأغلب بفكرة (مثالية) ولكنه ينتهي دائماً بمعارك دموية. فالدول العظمى تتولى أمر العالم (بتحالف سلمي) ينتهي (بمناطق نفوذ) وكل دولة كبرى تسرع في الأخذ بأساليب القوة في منطقتها، والمناطق تتزاحم وتتصادم. يعد سمنر ويلز من أعظم الساسة المطلعين الذين أنجبتهم الولايات المتحدة، وهو يقول: (ما من محالفة عسكرية تدوم، فإن كل فريق فيها لا يلبث أن يحاور الفريق الآخر في سبيل الأهداف الفردية الخاصة)
ويقول آخر: (إن الحرب لا يمكن أن تمنعها إجراءات جماعة عامة، والنظام العالمية لا يمكن أن يحرسه الشرط. على أننا نستطيع أن نقيم مجلساً عالمياً تتشاور فيه الحكومات،(593/10)
وتحاول أن تتفق. فإن المسائل التي تعدها الدول حيوية لا يمكن أن تقرر بالتصويت. أن الولايات المتحدة تحتاج الآن إلى الدفاع عن نفسها - شانها في ذلك شأن الدول الأخرى في التاريخ - بالدبلوماسية والسياسة والسلاح. . . ولا يمكن إقامة نظام دولي إلا بعمل متسق من (جماعات) من الأول. وأنا أسمي إحدى هذه الجماعات (جماعة الأطلسي) ومن الجلي أن روسيا محور وحدة ثانية. . . فتقدم الدول الكبرى الحماية التي لا تستطيع الدولة الصغيرة أن تكفلها لنفسها، بسبب الخصائص الفنية للحرب الحديثة، وتقدم الدولة الصغيرة التسهيلات الاستراتيجية اللازمة للدفاع المشترك. . . ولقد اهتدت الأمم الأمريكية إلى سياسة ثبتت فائدتها، وإن كانت لم تبلغ بعد مرتبة الكمال. وقد كان من الممكن أن تفضي إلى إمبراطورية أمريكية؛ غير أنها أفضت إلى بدعة في الشؤون الإنسانية هي البديل الصحيح الوحيد من الإمبراطورية، وهو ما تسميه (سياسة الجوار الحسن)
وإذا كان هذا الحسن بديل الإمبراطورية، والتصادم من سوس الإمبراطوريات أو الدول العظمى أو مناطق النفوذ، وكانت الأنانية أس الاجتماع الإنساني، فالحق أن منع الحرب حلم الأبد.
محمد توحيد السلحدار(593/11)
يا أخت ليلى
للأستاذ دريني خشبة
صديقي الأعز الدكتور زكي مبارك:
رحمك الله رحمة واسعة يا أخي، وغفر لك، فلقد كنت فينا مرجوا قبل هذا؟!
عمرك الله ما ذلك الغرام الجديد يا أخي؟. . . وكيف اتسع له قلبك وليلاك المريضة لا تزال تئن وتتوجع، بالعراق وبغير العراق؟. . . ألم أقل لك يا صديقي إنك تياسر مع كل سانح، وتيامن مع كل بارح؟. . . ولكن لا عليك يا أخي، ما دامت ليلاك الجديدة غبية بلهاء، يسهل إقناعها بهذا الأسلوب الذي يحمل في تضاعيفه أدلة الإعياء. . بل أدلة الموت
هل تعبت في اجتذابك إلى الميدان كل هذا التعب، لتفضح نظرية وحدة الوجود على هذا النحو، غير الخليق بك، ولا بجميع الغيد الحسان اللائى وقعن في شراك هواك، وأحابيل حبك، على ضفاف السين مرة، وحفافي دجلة مرة أخرى، وفي مراتع القاهرة تارة، وبين أزقة سنتريس العزيزة الغالية تارات وتارات؟!
أهكذا يا صديقي يضيع تعبي في معالجتك هباء منثورا فتبعثره على هذه الصورة بين الخدود والقدود، والثغور والنحور وتجعله جروحاً لا قصاص لها في جسم محبوبتك الغبية البلهاء التي أنشبت أظافرك في بدنها، وفي عقلها، وفي روحها. . . دون أن تضع ثناياها العذاب الرطاب فوق (علابيك!) - أي عصب عنقك - ولست أفسرها لك - فتعضه عضة تريحنا من زكي مبارك، ومن أبالسة زكي مبارك، ومن وحدة الوجود، ومن المخرفين بوحدة الوجود؟!
لا تجزع من هذا الكلام يا أخي فأنت تكفر بالموت، الذي يؤمن به الأغبياء أمثالنا. . . وحبيبتك الغبية البلهاء لن تصنع شيئاً، مهما أنشبت أظفارها وثناياه العذاب الرطاب في عنقك. حقيقة أنها إن فعلت، فربما سكتت نأمتك، وشالت نعامتك، وأراحت جميع الأغبياء منك. . . ولكن هذا كله، في نظرك، لا يكون موتاً، وإنما يكون تحولاً. وأنت ماذا يهمك من هذا التحول، وإن شئت فسمه التناسخ، ولا سيما إذا انتهى بك إلى أن تكون دجاجة أو هرة، أو ثعباناً. . . أو. . . ببغاء مثلاً؟! ماذا يهمك أن تتحول بعد مليون سنة يا صديقي العزيز إلى ببغاء يهرف بما لا يعرف، ويزعم لجماعة الطير أنه لا موت ولا سكون، ولا فضاء(593/12)
ولا زمان، ولا مكان. . . ثم يتعالم على الماشية ودواب الحمل، فيزعم لها، في وقار الفلاسفة وسمت العلماء، أن كل من في الوجود حي يرزق، فالحديد حي، و (وابور) الزلط حي، والزلط نفسه حي. وكل ما في الدنيا من جماد حي، كما يفسر ذلك الدكتور زكي مبارك - الذي كان يعيش بعقله، وشحمه ولحمه، قبل مليون سنة، في بلاد اسمها مصر، ومدينة اسمها القاهرة، وكما كتبه بيمينه في مجلة اسمها (الرسالة) كانت تصدر في تلك المدينة، رداً على الأغبياء الذين كانوا يلحدون في نظرية وحدة الوجود. ويجادلون فيها بالباطل وهم أبعد الناس عنها، ويدعون وصل ليلى. . . وليلى لا تقر لهم بذاكا؟
أهكذا يا عزيزي الدكتور تعود إلى دائك القديم، أو يعود إليك داؤك القديم، من دعوى وقوع الغيد الأماليد، والأعاريب الرعابيب، في حبك، وشغفهن بك، وقتلهن أنفسهن تهالكاً عليك، وترضيا لك؟
لقد كان الناس يضيقون بتلك النغمة، أو تلك الدعوى، يوم كنت شاباً أزهرياً، غض الإهاب فتياً. . . ثم زاد حنقهم عليك حين لم تقلع عنها وأنت والد كريم ذو. . . وبنين. . . أما وقد صرت جداً. . . وجداً لحفدة. . . فأظن يا أخي أن تلك الدعوى. . . دعوى افتتان الحسان بدمك الخفيف الظريف. . . قد أصبحت شيئاً بائخاً. . . وبائخاً لدرجة لا تطاق. . . فهل أنت مرعوٍ عنها يا صديقي؟
هذه نصيحة. . .
وألاحظ هذه الأيام أنك تسيغ شيئاً من الكذب، تحسب أنه ينفعك في التهويش على أصدقائك، الذين تزعم أنهم أعداؤك، والذين تزعم أنهم إنما يناوشونك ليصلوا - على قفاك! - إلى شئ من المجد الحرام!
أما هذا القليل من الكذب، فهو زعمك في كلمتك القصيرة أنك كتبت الكلمة الطويلة (بالعدد السابق) لنفسك، ولم تكتبها ردا على أحد. . . لكنك نسيت كل هذا الافتراء القليل وأنت تخبرني - متحدثاً مع شخصي كما يقول المحضرون أنك عندما قرأت مقالي صبيحة الأحد الماضي، فار دمك، وانطلقت إلى مصر الجديدة من فورك، وسهرت ليلك الطويل، تستوحي فتاتك البلهاء الغبية، وتصور نفسك لها بطلاً، ثم تزعم لها أنك أقنعتها فاقتنعت، وتزعم لها أنك لو شئت أفهمت أغبى الأغبياء، وانك تفتخر بكونك أول شارح لنظرية وحدة الوجود(593/13)
في هذا العصر. . . . فما هذا كله يا أخي؟ أنك إذا حمدت الكذب القليل على الناس، فليس يحمد لك الناس هذا الكذب العريض على نفسك!. . . أنا واثق من الآن أنك مستطيع أن تقول أنك لم تقل لي هذا القول، فترميني بدائك وتنسل، كما يقول المثل. . . ولكن اذكر أنك قلته أمام تلاميذك الأذكياء الجدد، وقد نبهتهم إليه ليؤدوا الشهادة إذا أنكرت. . . فأحذر. . .
ومن هذا الكذب القليل الذي تستبيحه هذه الأيام أن تزعم أن الناس هم الذين طالبوك بالرد على فيلسوف العراق. . . وانك لن ترد على فيلسوف العراق. . . وانك قرأت رسائل التعليقات، مع إنك - وأقسم بحبك الجديد - لم تقرأها، لأنك اعترفت لي بهذا، وأنت تعترف لي بأنك كسول جداً هذه الأيام!
أما أن الناس قد طالبوك بالرد على ذلك الفيلسوف. . . فلا. . . لأنك أنت نفسك الذي وعدت بذلك في كلمة مكتوبة نشرتها لك الرسالة. . وهي أولى كلماتك في هذا الموضوع. . . ولكن لما حال كسلك بينك وبين الرد، لأنه حال كذلك بينك وبين قراءة الكتاب. . . فضلت أن تزعم أن أحداً يطالبك بالرد وانك لن ترد. . . إذ يقتضي الذوق في نظرك أن نحسن إلى من أحسن إلينا. . وقد شرفك الرصافي بتأليف كتاب علق به على كتبك. فأقل الذوق ألا نناوشه، وإن كان في عدم مناوشته إيمان بما يؤمن هو به من وحدة هذا الوجود وما يفرع منها من أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مبتدعها، وأنه منشئ القرآن، وأنه لا معنى للدعاء والصلاة والبعث والثواب والعقاب والحساب. . . إلى آخر هذه الكفريات التي هذى بها في كتابه
ولكن لماذا يطالبك الناس بالرد على الرصافي وأنت تؤمن بشر مما يؤمن هو به؟! ألم تصرح بذلك في فلتة من فلتات لسانك؟ وهلا يحسن أن أنتظر كيف ترد على هذا الخبر؟ لنترك ذلك الآن. . .
أما أكبر الأدلة على أنك لم تقرا رسائل التعليقات إلى الآن فهو قولك إني أصر على أن أقحم الإسلام في وحدة الوجود. . . وأنا - وحق صداقتك يا أخي، لم أصر على شئ قط، وإنما الذي أصر على ذلك هو صاحبك الذي علق بكتابه على كتابك لأنه لم يقحم وحدة الوجود في الإسلام فحسب، بل جعلها من اختراع رسول الله - أو رسول الإسلام - كما(593/14)
تقول أنت. وما صنعت أنا شيئاً إلا ما دفعت به ذلك الإفك الذي يفتريه الرصافي على رسول الله. فلو أنك تنازلت - أيها الكسول الكبير - فقرأت كتاب صاحبك الذي علق به على كتابيك، لما وقعت في هذا الخطأ الذي تكرر منك غير مرة، من اتهامك لي أنني آبى إلا أن أقحم الدين في الفلسفة. وأذكر أنني قبلت مبدأ إبعاد الدين عن وحدة الوجود حينما طلبت إلي أن تساجلني فيها. فرأيتك تهلع لقبولي هذا، ثم تصور لنفسك أنني أستدرجك، فتطلق للريح ساقيك فراراً غير كرار، زاعماً للناس أنني فيما يظهر، لا أنتوي إبعاد الدين والإسلام عن وحدة الوجود! ولكي تستر هذا الفرار، تخرج على الناس بآرائك الفلسفية المدهشة عن الموت والفضاء والسكون والزمان والمكان فتقع في أخطاء فتاكة، ليتك سترت نفسك فلم توقعها فيها، إبقاء على ماضيك العلمي المجيد، وسمعة كتبك القيمة التي لم تبال أن تتنكر لها مجاملة ذميمة لرجل حاول مجترئاً أن ينسخ عقائدنا وأن يعكس علينا ديننا
فوصيتي لك إذن ألا تستبيح ذلك اللون من الكذب الخفيف يا أخي لأنه غير خليق بك
وتلك نصيحة ثانية. . .
ووصية ثالثة أجترئ فأقدمها لك عسى أن تعمل بها. ذلك أنك تتعرض في مقالاتك لما لم تحسنه، بل لما لم تطلع عليه من كثير من العلوم. وكل الذين قرءوا كلمتك الغَزِلة السالفة عجبوا لك كيف لا تعرف الطريقة التي يتم بها تحجر الحيوان والنبات. فأنت تحسب أن مادتها تتحول إلى حجر. وهذا خطأ يحسن أن ترجع لتصحيحه إلى بعض مصادر هذا العلم الجميل، فإن تكاسلت، فاسأل أحداً في مصلحة الطبيعيات يشرحه لك
وبالمرة. . . يحسن لمن يدعي أنه بطل نظرية وحدة الوجود في هذا العصر والعصور التوالي أن يقرأ كتاباً واحداً على الأقل في كل من علم الفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات، ثم كتاباً واحداً في علم التطور أو النشوء والارتقاء، لتعلم أشياء كثيرة عن أسرار الحياة والموت وخلق العالم وتكون السدم وانفصال الكواكب وتكون القشرة الخارجية لأرضنا العزيزة، وما تتركب منه تلك القشرة وكيف غبرت عليها عصور جيولوجية متنوعة انتهت إلى العصر الذي أنجب لنا الصديق الأعز ومن سبق الصديق الأعز ممن يقولون مثله بأن الوجود إنما وجد هكذا مرة واحدة. . . بعجره وبجره!
لله ما اظرف دعاباتك يا دكتور زكي ما بعدت تلك الدعابات عن ليلى وأخت ليلى، وما لم(593/15)
يوقعها سوء الطالع بين علمك القديم، وعلمك الحديث؟!
ترى ماذا أنت صانع لو أن الشاعر العراقي صدقك، فشد رحله إلى سنتريس يطالبك بالبيت الذي وعدت، وما يحتاج البيت من زوجة وخدم وضيعة إلى آخر الحكاية التي تعرفها جيداً؟
أتهرب منه على النحو الذي هربت به من الأسئلة التي وجهناها إليك لتدلي فيها برأيك عما يعتقده الرصافي من قدم العالم وألهيته واختراع محمد (ص) لخرافة وحدة الوجود وتأليفه للقرآن وإنكار البعث والحساب والعقاب والثواب وتساوي المتضادات أمام (الوجود المطلق الكلي؟)
اثبت على حال يا صديقي. اثبت على حال واحدة، رحمك الله رحمة واسعة، وغفر لك، فلقد كنت فينا مرجوا قبل هذا. . .!
دريني خشبة(593/16)
على هامش النقد
5 - في عالم القصة
الذئاب الجائعة. . . محمود البدوي
للأستاذ سيد قطب
هنا قصاص من لون جديد. وهنا قصة ذات طعم خاص. . . لهذا القصاص عيوبه، ولهذه القصة هنواتها. ولكن هذا كله شئ آخر. وليس هو بأفضل قصاص، وليست هي بأرفع قصة. ولكن هذا كله شئ آخر كذلك!
هنا (لذعة) حارة تحسها وأنت تقرأ مجموعة (الذئاب الجائعة) كلها أقصوصة أقصوصة. وهنا (جوع) دائم في كل قصة، وفي كل شخصية - جوع إلى شئ ما: حسي أو معنوي - وهنا (تفزع) دائب في كل موقف وفي كل خاطرة - تفزع من شئ ما موجود أو مرقوب.
والقارئ يحس بهذا كله يلهب حسه، ويلذع أعصابه، فإذا فتر في بعض الأحيان أحس بخدر لذيذ، كأنه في بحران. . .
ولأول مرة - فيما أعتقد - تظهر هذه الخصائص في قصة باللغة العربية. وهذا ما يوجب تسجيل هذا اللون الخاص.
وأعود مرة أخرى لأقول: إن الخاصية ليس معناها الأفضلية؛ وإنني لا أرفع هذا اللون فوق الألوان الأخرى؛ وإن هذه الخصائص لا تنفي نواحي النقص في اللون الجدي. وكل ما يهمني هو تسجيل هذه الجدة؛ بخيرها وشرها، وتنبيه القارئ إليها في مجموعة (الذئاب الجائعة).
تحتوي هذه المجموعة على ثماني أقاصيص: الذئاب الجائعة، وساعات الهول، والنفوس المعذبة. ورجل مريض. وفي القرية. وحياة رجل. وقلب عذراء. وفي القطار.
في (الذئاب الجائعة) و (في القرية) لوحتان خاصتان من حياة الريف المصري الصميم. وفي كلتيهما ذلك الجوع الحار وذلك التفزع العنيف. فالأولى تصور منسراً من مناسر اللصوص حياة (أبناء الليل) كما يسمونهم في الريف، أو ذئاب البشر.(593/17)
الحروف الأبجدية
(بحث في الأبجدية بمناسبة اقتراح تغيير الحروف العربية
ورسم كتابتها)
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
أبجد أو أبو جاد، مستهل الكلمات الثمانين التي اعتاد العرب أن يدلوا بها على ألف بائهم. هذه الكلمات تنطق كالآتي (أبجد - هوز - حطي - كلمن - سعفص - قرشت - ثخذ - ضظغ)
والأصل أن يرمز لهذه الحروف بأبجد، وفي تاج العروس (وقيل أبا جاد كصيغة الكنية). وجاء في موضع آخر: (وقال قطرب - هو أبو جاد، وإنما حذفت واوه وألفه، لأنه وضع لدلالة المتعلم، فكره التطويل والتكرار وإعادة المثل مرتين، فكتبوا أبجد بغير واو ولا ألف، لأن الألف في أبجد والواو في هوز قد عرفت صورتهما، وكل ما مثل من الحروف استغنى عن إعادته
وفي دائرة المعارف الإسلامية: (وترتيب الحروف في هذه المجموعة هو نفس الترتيب في العبرانية والآرامية، وهذا يثبت إلى جانب أدلة تاريخ الخط نظرية أن العرب تلقوا أبجديتهم عن الأنباط. أما الأحرف الستة الخاصة بالعرب فقط فقد وضعت في آخر المجموعة
وأصحاب المعاجم من العرب، ولو أنهم لم يفطنوا إلى الموازنة بين الأبجدية العبرانية والآرامية القديمتين، وبين الأبجدية العربية، إلا أنهم فصلوا بين الحروف الأولى وبين الأحرف الستة الأخيرة، فقالوا عن الكلمات الأولى أنهم (ملوك مدين) ثم (وجدوا بعدهم ثخذ ضظغ فسموها الروادف). وفي التاج شرح القاموس، وهي أحرف ليست من أسمائهم. وهذا يدل على أن الأصل الذي انحدرت عنه الأبجدية العربية أصل قديم عبراني وآرامي، ولكن العرب نسوا ذلك الأصل
على أن بعض الباحثين من العرب رجحوا أن يكون أصلها أعجمياً. في تاج العروس (ثم الاختلاف في كونها أعجميات أو عربيات كثير، فقيل أنها كلها أعجميات كما جوزه المبرد(593/18)
وهو الظاهر. ولذلك قال السيرافي لاشك أن أصلها أعجمية، أو بعضها أعجمي وبعضها عربي كما هو ظاهر كلام سيبويه وغير ذلك مما ذكره الرضي وغيره، ووسع الكلام فيها الجلال في المزهر. وجزم جماعة بأن أبجد عربي، واستدلوا بأنه قيل فيه أبو جاد بالكنية، وإن الأب لاشك أنه عربي، وجاد من الجود، وهو قول مرجوح)
وأخذت دائرة المعارف عن تاج العروس هذا الرأي فقالت (على أن بعض النحاة من العرب كالمبرد والسيرافي لم يقتنعوا بالتفسير المتداول عن الأبجدية، وصرحوا بأن هذه الأحرف لابد أن تمتد إلى أصل أجنبي)
وفي دائرة المعارف أيضاً (والأصل العبراني والآرامي للأبجدية العربية مما لاشك فيه ومع ذلك فإن العرب لجهلهم باللغات السامية الأخرى، ولتحيزهم، وتعصبهم لجنسهم وشخصيتهم، حاولوا تفسير أصل الأبجدية التي وصلت إليهم مع التقاليد تفسيراً جديداً. وهي تفسيرات شائقة حقاً، ولكنها ادخل في باب الخرافات)
في القاموس (أبجد إلى قرشت - وكلمن رئيسهم - ملوك مدين) وفي تاج العروس (وفي ربيع الأبرار للزمخشري أن أبا جاد كان ملك مكة، وهوز وحطي فوج من الطائف، والباقين بمدين
وقيل بل أنها أسماء شياطين، نقله سحنون عن حفص بن غياث
وقيل أولاد سابور، وغير ذلك
قال وقد روي أنهم هلكوا يوم الظلة مع قوم شعيب عليه السلام، فقالت ابنة كلمن ترثيه:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد الحتف أتاه ال ... حتف ناراً وسط ظله
وهم أول من وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم
وفي دائرة المعارف (وقد نشأ إلى جانب هذا الترتيب القديم الذي يعود بنا إلى أصل الأبجدية العربية، الترتيب المستعمل في الوقت الحاضر. والفكرة فيه أن توضع الحروف المتشابهة في الرسم بعضها إلى جانب بعض، فمثلاً ت ث، يأتيان بعد ب وهكذا ثم هـ وي توضع في الآخر
وقد احتفظت الأبجدية المغربية بهذا الترتيب حتى الوقت الحاضر وهو:(593/19)
أب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وي
أما الترتيب الذي وضعه الخليل في كتاب العين، فهو ترتيب يتبع أساسا صوتياً فسيولوجياً، فيبدأ بالحروف الحلقية ثم ينتهي بالحروف الشفوية. وهذا الترتيب هو:
ع ح خ غ ق ك ج ش ص ض س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وأ ي
ويشبه هذا ما ذكره الأزهري في التهذيب والمحكم لابن سيده)
وجاء في دائرة المعارف أيضاً أن هذه الحروف لها قيم عددية تشبه ما هو موجود عند العبرانيين والآراميين. من الهمزة إلى القاف تدل على واحد إلى مائة، والتسعة الباقية من مائة إلى ألف
واعتمد المنجمون على خصائص الحروف العددية فاستعملوا أبجد وأخواتها كتعاويذ وطلاسم سحرية. فكل حرف من الألف إلى العين يدل على إله أو قوة طبيعية. وعلى أساس هذه الصلة المتبادلة بين العدد والحرف من جهة، وبين الرموز المقابلة لها من جهة أخرى قام بناء من السحر. وكان اليهود يزاولون ما يشبه هذا في القرون الوسطى
هذه هي خلاصة القول عن الأبجدية. ومنها يتضح أمران: الأول أنها ترجع إلى أصل عبراني وآرامي، والثاني أن الناس انصرفوا بها إلى عالم الطلاسم والتعاويذ والسحر
ولهذين السببين صدف المسلمون عن استعمالها، وزهدوا فيها وفكروا في وضع ألف باء أخرى كما سبق
على أن كثيراً من المسلمين لم يجدوا حرجاً في اتباعها
جاء في الشاطبية ما يأتي
جعلت أبا جاد على كل قارئ ... دليلاً على المنظوم أول أولا
وشرح الإمام أبو القاسم القاصح هذا البيت فقال
أخير أنه جعل حروف أبي جاد دليلاً أي علامة على كل قارئ نظم اسمه في القراء السبعة ورواتهم أولاً أولاً، أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء. ففي اصطلاحه أبج لنافع وراوييه، فالهمزة لنافع، والباء لقالون، والجيم لورش. . . الخ
وقد نهى القابسي عن تعليم أبي جاد، ووجوب اتباع ألف باء أخرى على الصورة المغربية، وهي التي ذكرناها سابقاً ونقلنا عن دائرة المعارف أن المغاربة لا يزالون يتبعونها إلى(593/20)
الآن. وفيها خلاف يسير في الترتيب من حيث التقديم والتأخير عن ألف باء المتبعة في مصر وفي كثير من معاجم اللغة كالقاموس واللسان والصحاح. ولكن القاعدة واحدة وهي تجاور الحروف ذات الرسم الواحد في الكتابة. ونثبت هذه الألف باء المتبعة في مصر من باب الموازنة
اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ وي
هذا الترتيب وضعه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك بن مروان. وهو الترتيب الذي عليه العمل الآن في البلاد العربية، وجرى عليه أصحاب الصحاح والقاموس ولسان العرب وغيرهم. والمقصود منه ضم كل حرف إلى ما يشبه في الشكل
والذي دفعهما إلى وضع هذا الترتيب، هو النظر في حروف الهجاء والتفكير في تنقيطها، لما كان يقع في قراءة القرآن من التصحيف. فاخترعا النقط كتميز الحروف المتشابهة في الشكل منعاً للالتباس
جاء في الإتقان (اختلف في نقط المصحف وشكله. ويقال أول من فعل ذلك أبو الأسود الدولي بأمر عبد الملك ابن مروان، وقيل الحسن البصري ويحيى بن يعمر وقيل نصر ابن عاصم
وقد دعا النقط إلى ملاحظة الحروف المتشابهة في الرسم. فالباء والتاء والثاء واحدة، وإنما تتميز بالنقط فقط. لذلك تدرج الذين نقطوا الحروف إلى وضع الترتيب الجديد للألف باء وهو ترتيب المشارقة.
وعندنا أن هذا الترتيب الجديد، سواء أكان ترتيب المشارقة أم كان ترتيب المغاربة، إنما وضع لتيسير التعليم على الصبيان، على الأخص لأن قاعدته الرسم والكتابة. وهذه الألف باء لا يحفظها الصبي إلا كتابة، لأنه لا يستطيع ضم حروفها في كلمات، وإذا كان بعضهم يحفظها حرفاً حرفاً، فإن هذا الحفظ يسير جنباً إلى جنب مع تعلم كتابتها
أما أبجد هوز، فلأنها تجتمع في كلمات، فلم يكن بد ولو على سبيل الاختراع من إلباسها معاني مختلفة. وليس هذا غريباً عن قواعد علم النفس، فكل لفظة يقابلها معنى، لذلك تعددت الروايات عن معنى هذه الكلمات وألبسوها ثوب الخرافة. فهي تارة أسماء ملوك(593/21)
بادوا، وتارة أخرى أسماء شياطين، وتارة ثالثة أسماء أولاد سابور
كما أن هذه الكلمات لبعدها عن العربية الصحيحة، تثير التعجب الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى السخرية في نفس العربي الأصيل. في تاج العروس قصة - أن صحت - يتضح منها سخرية أعرابي من أبي جاد. ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي أعرابياً فقال له: هل تحسن أن تقرأ القرآن؟ قال نعم. قال: فاقرأ أم القرآن. فقال: والله ما احسن البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه ثم أسلمه إلى الكتاب فمكث فيه ثم هرب، وأنشأ يقول:
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
كتابَ الله في رق صحيح ... وآيات القرآن مفصلات
فخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصاً وقُرّيشات
وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين من البنات
دكتور
أحمد فؤاد الأهواني(593/22)
بين سيد قطب والحقيقة
للأستاذ صلاح ذهني
لم تعد المعركة بيني وبين سيد قطب، فقد خرج الأمر من يدي. . .
المعركة الآن بين سيد قطب وبين الحقيقة الواضحة. أنه أن صلح ناقداً للشعر فلن يصلح ناقداً للقصة. ذلك لأن أبسط ما يستلزمه فهم القصة الحديثة ودراستها وفهم المدارس الأدبية إطلاقاً هو الإلمام بلغة أجنبية. ولو أن سيد قطب قصر كلامه في مقاله عن تيمور على إبداء الإعجاب والسخط، ولو أنه لم يتعالم فيتكلم عن مدارس الأدب ويأخذ في التقسيم والتوزيع. لو أنه قنع بذلك دون أن يقحم نفسه فيما جر عليه الخطأ، إذن لما كان يعنيني أن أرد عليه. لكنه أبى إلا أن يحشر نفسه في مجال لا يفهم فيه، ولا يعيبه ألا يفهم فيه.
وبعد. فلأخاطب القراء فيما بين سيد قطب وبين الحقيقة من خلاف، ولأعرض عليه القضايا التي أثرتها في وجه سيد قطب.
1 - حار سيد قطب في أمر تيمور فقلت له أنه من كتاب القصة القصيرة ومكانته بين ذوي النزعة الواقعية
2 - حشر الصديق يوسف جوهر حشراً في زمرة الناسجين على منوال موباسان. فقلت له: إن هذا خطأ، لأن يوسف جوهر ينحو نحواً غير الذي تنحوه القصة عند موباسان
3 - ذكر الأستاذين توفيق الحكيم والمازني في أصحاب القصة؛ والأول كاتب روائي ومسرحي ورائد فن قائم بذاته، والثاني كاتب مقالة ممتاز مهما يكن القالب الذي يصطنعه
ذلك في مقال الأول، أما في مقاله الثاني، فقد زج بنفسه مرة أخرى فيما ليس له فيه، وزعم أنه كشف عن هنات أربع للأستاذ نجيب محفوظ في روايته كفاح طيبة، ونبه إليها المؤلف في لهجة توهمه أنه إزاء عالم في المصريات. . .
1 - قال: إن نجيب محفوظ مخطئ لأنه قدر حكم الرعاة بمائتي عام. فقلت له: بل مصيب لأن ذلك هو التقدير الصحيح
2 - وقال: إن بلاد النوبة تسمية حديثة. فقلت له: بل هي تسمية قديمة ولصقت بهذا الإقليم من أرض مصر حتى العصور الحديثة
3 - وقال: إن الاسم الصحيح لهذه البلاد هو بلاد بنت فقلت له: إن بلاد بنت هي(593/23)
الصومال الحالية. . .
4 - وقال: إن نجيب محفوظ مخطئ في توهمه اشتقاق اسم أحمس من الحماسة والجرأة، لأن ذلك اشتقاق يجوز في اللغة العربية، فقلت له: بل إن أحمس بمعناها القديم تعني الجرأة والإقدام.
فماذا كان رد سيد قطب الناقد؟
ساق إلي دليلاً على صحة رأيه في حكم الرعاة لمصر تقدير جوستاف لوبون!!
وجوستاف لوبون عالم في الاجتماع لا في التاريخ. ولو سألني عن مؤرخ يؤيده في رأيه لقلت له اسم مانيتون مثلاً الذي قدر مدة حكم الرعاة بأكثر من ستمائة عام! ولقلت له إن جوستاف لوبون اعتمد على مانيتون وإضرابه من المؤرخين القدماء الذين أتوا بعده بقرون، والذين كتبوا قبل أن تتسع المعلومات عن التاريخ المصري القديم. . .
ثم لقلت له ما دام مغرماً بالأسماء الإفرنجية إرضاء لمركب النقص الخبيث. أمامك عشرات العلماء في التاريخ من المحدثين عد إليهم، عد إلى هنري برستد (في تاريخ مصر القديمة) الفصل الحادي عشر والثاني عشر، في أكثر من موضع من هذين الفصلين يتكرر تقدير مدة حكم الرعاة بأقل من مائتي عام وفي الخمسة أسطر الأولى بالذات من الفصل رقم 12 تجده يذكر ذلك. وغير برستد تجد فلندرز بتري وغيره.
أما التصويب الثاني بشأن تسمية بلاد النوبة، فقد صمت عنه صمتاً جميلاَ!
وأما التصويب الثالث، فقد أقره واعترف بخطئه، ثم رماني بالتبجح العريض لأنني صححت خطأ ناقد ممتاز. . .
وأما عن كلمة أحمس القديمة، فلم يسلم بتصويبي ولا أكد رأيه وإنما قال أنه ينتظر الإثبات!!
وأني لأترك للقراء أن يبحثوا في قواميسهم عن وصف يليق بناقد يخطئ كلاماً لا يملك له إثباتاً ولا نفياً. . .
وأما قصة العجلات الحربية التي أدخلها الهكسوس في مصر، فهي أوضح من أن تحتاج لتملله من الرد عليها، فهو يستنكر جملة وردت على لسان الملك المصري الذي شهد الحرب على الهكسوس لإخراجهم من مصر وهو (سكنن رع) يظهر بها استنكاره لكثرة(593/24)
عدد العجلات الحربية لدى الرعاة، مع أنهم حديثو عهد بها، وقد أخذوها عن سكان فلسطين، كما أخذها المصريون بدورهم عن الرعاة، هذه مسألة واضحة، من الجائز، بل من المنطقي، أن يطمع ملك مصر العليا في أن يصنع عماله عدداً أكثر مما يصنعه عمال ملك الرعاة. . .
وبقيت بعد ذلك قصة المدارس الأدبية، وهي التي جرت عليه أخطاءه في مقاله الأول عن تيمور، لقد كان رده ترك الحديث فيها لأنها لا تستحق الحديث
ومرة أخرى أصحح للناقد الفاضل. إنه مصيب في ترك هذا الموضوع، لا لأنه لا يستحق الحديث، وإنما لأن موضوع المدارس الأدبية هو موضوع الأدب الأوربي أولاً وقبل كل شئ، ولا غنى لمن يتكلم عنها من الاطلاع على هذا الأدب، ولا أحب مناقشة سيد قطب في موضوع الأدب الأوربي لأنه - ولن يعيبه ذلك - لا يعرف لغة أوربية معرفة تسوغ له الكلام فيه، ولقد أخطئ أو أصيب، ولكنه سيخطئ حتما إن تعرض له شأن من يقحم نفسه فيما لا يعلم.
وأرجو بهذه المناسبة أن يقلل سيد قطب من ذكر الأسماء الإفرنجية وترديد أسماء الكتاب الأوربيين بلهجة توهم القراء أنه من أهل الاطلاع الواسع في هذا الأدب. إنه لا يفعل أكثر من الخطأ المضحك كلما ذكر اسماً من الأسماء الأوربية، وأذكر أنني قرأت له منذ عام مقالاً جاء فيه ما نصه:
(وإن بعضهم ليحتج بمثل اعترافات روسو، وقصص بودلير، وقصائد لورنس. . . وقصص بودلير تحمل فناً وهي مع ذلك ليست خير الآداب ولا أرفعها، وقصائد لورنس تحمل فكرة يعالجها من هذا الطريق. . .)
والذين يعلمون أبسط العلم يعرفون أن بودلير لم يكن قصاصاً وإنما كان شاعراً وإن كتب قصتين، وأن لورنس لم يكن شاعراً وإنما كان قصاصاً، وأن الأوصاف التي وصف بها سيد قطب لا تنطبق إلا على شعر الأول وقصص الثاني!!
هذه الأخطاء منشؤها الولوع بترديد الأسماء الأوربية في غير داع إلا الإبهام والتغرير، ولا ضير على سيد قطب لو لزم حدود ثقافته. . .
ولقد أشار في ختام مقاله إلى الدوافع التي أثارتني لمهاجمته.(593/25)
فأما تشجيعه أو هجومه فما أحسب أن ساذجا يعني برأي ناقد في موضوعات مبلغ علمه بها ما قدمت.
إنما الذي أثارني أن سيد قطب له عادة غير عاداته التي قصها على قراء الرسالة في العدد الماضي وهي أن لا يقرأ كتاباً ولا يكتب عن كتاب إلا إذا استهداه. ولقد جاءني يوما يطلب أن استهدي له تيمور مؤلفاته لأنه يريد دراستها ففعلت، وكان أبسط واجب للياقة أن أصحح للناقد أخطاءه في دراسة صديقي تيمور، وليلحظ أني أقول صديقي. فإني حريص على أن يفهم أن الصلة بين الكتاب قد تكون صداقة أحياناً، ولا تكون دائماً صلة الأصل بالظل والتابع بالمتبوع.
وما أنكر أني أفدت من قراءة تيمور كما أفدت من قراءة غيره من الكتاب. لكن الذي أنكره دائماً أن يكون كل الكتاب ظلالاً. . . ذلك ما أنكره ولا احبه. ولا أملك مثلا غير سيد قطب نفسه أضعه أمام القراء ليروا فيه نموذجا للظلال. فقد قضى عشرين عاما لم يعد خلالها أن يكون ظلاً في ساعة الظهيرة للكاتب الكبير عباس محمود العقاد. . . وما كان في ذلك ضير لو أنه كان ظلا مستقيما. . .
وليحكم القراء أخيراً بين من يترفق بالجاهل فيصفه بعدم العلم ويدعوه في رفق إلى التثبت والتبصر، وبين من يخطئ ويعترف ويتهم من يصوب خطأه بالتبجح العريض!!
صلاح ذهني(593/26)
البريد الأدبي
محمد عبد العزيز
وصل إلي خطاب مسجل بإمضاء سيدة طوت اسمها عني، وهي ترجو أن أكتب في مجلة الرسالة كلمة يعرف منها العراقيون أن الأستاذ محمد عبد العزيز مات
فمن هو الأستاذ محمد عبد العزيز؟
هو الأستاذ الذي عرفته مصر باسم عبد العزيز سعيد، وعرفه العراق باسم محمد عبد العزيز، فمن هذا الرجل؟ وما قيمته الحقيقية؟
هو معلم مصري أقام في العراق ثلاث سنين في بداية عهد الاستقلال، فترك في العراق آثاراً روحية يعرفها الأكابر من تلاميذه الذين يسيطرون على الحياة العلمية في العراق
كانت مزية هذا الرجل لأنه لا يتكلم ولا يخطب، ولا يعرف أحد أين يقيم، وبهذه العزلة وصل إلى الظفر بوفاء العراق، لأن العراقيين يحبون أهل الصمت، بسبب ما ابتلتهم به المقادير من كثرة الصياح
وهذا سر إخفاقه في مصر، لأن مصر بسبب هدوئها تصفق للصائحين
لاحت فرص كثيرة لاختبار مواهب الأستاذ عبد العزيز سعيد، فكان يخيب ظني في جميع الأحوال. وكانت النتيجة أن أقرر فيما بيني وبين نفسي أن بغداد قد انتهبت حيويته في تلك السنوات الثلاث
كان جهاد هذا الرجل في بغداد معرضاً للضياع، فشاء حبي لوطني أن أشيد باسمه وأن اهدي إليه كتاب (ملامح المجتمع العراقي)
وكان الرجل يعرف أنني أهديت إليه كتابي لوجه الحق، فكان يجن من نشوة الفرح يوم يلقاني، وكنت أشعر بنشوة مزلزلة حين أتذكر أنني أهديت كتابي إليه ولم أهده إلى أحد أصدقائي من الوزراء
مات محمد عبد العزيز العراقي، ومات عبد العزيز سعيد المصري، وبقيت لوعة لن تموت، وهي فقد صديق بوزارة المعارف
ما هذا الذي أقول؟
إن الأقدار التي امتحنتني بموت الأستاذ محمد أحمد جاد المولى تعرف أنه لم يبق لي(593/27)
صديق بوزارة المعارف، مع الاعتذار للدكتور أحمد رياض.
زكي مبارك
إلى الوزير الأديب هيكل باشا
من حسناتك التي تذكر فتؤثر وتشكر، مسابقة الترقية إلى التعليم الثانوي التي عطلت في العهد السابق.
زعموا أنهم سيستبدلون بها معهداً للدراسات العليا. . .
وعطلت المسابقة وقام المعهد، فماذا كان؟
كانت المسابقة لمدرسي المدارس الابتدائية وسيلة يترقون بها إلى التعليم الثانوي فحيل بينهم وبين معهد الدراسات وقصر على معلمي الثانوي.
قيل - يوم عطلت المسابقة - إن الذين يتقدمون إليها قلة. وهذا غير صحيح - على الأقل في اللغة العربية - وإن صح فإن علاجه يكون بالترغيب والجزاء، لا بالتعطيل والإلغاء
وقيل إن المسابقة لم تنجح كوسيلة لكشف المواهب والكفايات. وإذا سلمنا هذا فإن علاجه يكون بتهذيب المسابقة وتجميلها، لا بإلغائها وتعطيلها
يا سيدي الوزير. . . إذا أردت أن تريح نفسك من شفاعة الشافعين. ولجاجة المتوسلين. وتلك سياستك - فالمسابقة المسابقة. . . أنها الطريق السوي
روى ياقوت في معجم الأدباء أن المتوكل لما أراد أن يتخذ المؤدبين لولده جعل ذلك إلى (إيتاخ) وتولى كاتبه ذلك. فبعث إلى أدباء عصره وأحضرهم مجلسه فلما اجتمعوا قال لهم: لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم واخترنا، فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاي
ذريني إنما خطئي وصوبي ... عليَّ وإنما أنفقتُ مالُ
فقالوا: ارتفع (مال) بإنما إذا كانت (ما) بمعنى الذي ثم سكتوا
فقال لهم أحمد بن عبيد من آخر الناس: هذا الإعراب، فما المعنى؟ فأحجم الناس عن القول، فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد، ما لومك إياي، وإن ما أنفقت مال ولم أنفق عرضا فالمال لا ألام على إنفاقه
قال ياقوت: (فجاءه خادم من صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطئ به إلى أعلاه وقال له:(593/28)
ليس هذا موضعك؛ فقال: لأن أكون في مجلس أرفع منه إلى أعلاه، أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط منه
فاختير هو ابن قادم
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
إلى الأستاذ سيد قطب
جاء في مقالكم القيم بالعدد (589) من الرسالة الغراء أنكم ترون (شوقي) نضر الله وجهه أخطأ في روايته: (مجنون ليلى) إذ يقول:
عارضنا الحسين في ... طريقه ليثرب
هذا سنى جبينه ... ملء الوهاد والرُّبِى
وقد حسبتم أنه كسر الباء في (الربى) للضرورة الشعرية ذاهبين إلى أنها جمع (الربوة) المضمومة الراء، وأرى أن (الربى) التي وردت في كلام (شوقي) صحيحة بكسر الباء على أنها جمع (ربو) وهو بمعنى (الربوة) كما في (الفيروز ابادي)
ووزن (البرى) بالكسر (فُعُول) مثل (دلو) الذي يجمع على (دلى) صار إلى هذه الصورة بعد إعلال كثير تبينه مباحث علم (الصرف)؛ وإذا كان في البيت ضرورة فهي تخفيف الياء المشددة وهذا كثير سائغ في شعر العرب كما يعلم الأستاذ الفاضل
وقد استعمل (شوقي بك) هذا الجمع على هذه الصورة في قصيدة فلسفية عصماء مطلعها:
ألا حبذا صحبة المكتب ... وأحب بأيامها أحبب
والسلام عليكم ورحمة الله
(الإسكندرية)
محمود علي البشيبشي
فرقة التمثيل
روايتان معروفتان في عالم الأدب والفن، الأولى (يوليوس قيصر) والثانية (مرتفعات(593/29)
روذرنج)
لا أعرف الأديب الذي ترجم الأولى وهي من تأليف شكسبير، أما الثانية فهي من تأليف أميل برونته وقد ترجمها عن الفرنسية الأستاذ فتوح نشاطي
أخرج الأولى الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة وقد اختار لتمثيلها الأكفاء من ممثلي الفرقة وممثلاتها. وأخرج الثانية الأستاذ فتوح نشاطي، وقد اختار الأصلح من الممثلين والممثلات لفهم أدوارهم وتمثيلها وفق حرفية أصول الفن
سقطت الرواية الأولى سقوطاً فظيعاً، ولم يقو شكسبير المسكين أن يأخذ بيد الكسحان من الممثلين، وعجز ببيانه الممتع ومقدرته الخلابة على إصلاح لكنات في ألسنتهم، وموات باد فيهم
ونجحت الرواية الثانية نجاحاً باهراً اجتذب النظارة أي اجتذاب، وكاد يذهل الناقد المتربص بالغرفة عن فنه. وكيف لا يذهل وقد خلت الرواية، تعريباً وإخراجا وتمثيلا، حتى من الهنات، فما السر في ذلك يا ترى؟
السر فيما أرى هو في قعود الأستاذ طليمات بعد أن وصل إلى ما كانت نفسه تشتهيه، وفي توهمه أيضاً أنه بلغ هو وزملاؤه وتلامذته أقصى ما يمكن بلوغه من فن الإخراج والتمثيل. أما في الناحية الثانية فهو في توفر الأستاذ فتوح نشاطي، وفي دأبه المتواصل على الدرس والتحصيل وفي عدم رضاه عن كل ما عمله في محيط الفن المسرحي لأنه ينشد الأحسن والأكمل
تانك عما القصتان الرائعتان اللتان أخرجتهما فرقة التمثيل في فصلها الحالي. وكم نتمنى أن تكون جميع الروايات التي تمثلها في هذا الموسم من هذا النوع ليكون مدرسة للذين تؤهلهم ملكاتهم الأدبية والفنية للتأليف المسرحي، ولان الروايات المترجمة إذا احسن اختيارها تمثل حقيقة أدبنا المستمد أكثره من الغرب
حبيب زحلاوي(593/30)
الكتب
1 - امرؤ القيس
(الكتاب الأول من الشوامخ)
لم نأسف على شئ قط، أسفنا على تأخرنا عن الكتابة عن هذا الكتاب
الجميل قبل أن يحدث الذي حدث بسببه بين صديقينا الفاضلين الدكتور
محمد صبري المؤلف والدكتور سيد نوفل الذي نقد الكتاب نقداً لم
يعجب الدكتور صبري فغضب غضبته التي رد عليها الدكتور نوفل
رده المعروف. ونقول الحق إن موقف الأستاذين لم يصادف إلا الأسف
الشديد من نفوس القراء جميعاً. فالدكتور نوفل - وهو البادئ - قد
جرد الكتاب من حسناته جميعاً، وقد صار حناه بذلك يوم صدور مقاله،
والدكتور صبري لم يكن واسع الصدر حين ضاق بنقد الدكتور نوفل،
فأهمل الرد على مآخذ الأستاذ وحصر رده في حملة كنا نجله عنها،
وقد عاود الكرة حينما رد عليه الدكتور نوفل فراح يلقي عليه وعلى
المجلات الأدبية الممتازة - وما أقلها عندنا - دروساً في ضبط النشر
وحسن التوجيه الأدبي، وهي دروس نشكرها له كل الشكر، ولكن في
غير ذاك المقام
أما الدكتور نوفل، فقد فاته أن ينوه بكثير من حسنات الكتاب، وفي مقدمتها ميزة الدكتور صبري الأولى، التي لا يشاركه فيها كثيرون ممن كتبوا عن الشعر الجاهلي، تلك هي ميزة الأستاذ في سمو تذوقه لهذا الشعر ومقدرته على إظهار صوره الرائعة التي كنا - أو كنت أنا على الأقل، كي لا يغضب أحد - لا أحس لها جمالاً، ولا أعرف لها روعة، حتى وقفني كتاب الدكتور صبري على طرافتها وإعجازها، وليست هذه بالحسنة الهينة التي ينفرد بها(593/31)
هذا الكتاب، ولابد لنا من عودة إن شاء الله. والذي أرجوه أن تصفو نفوسنا خدمة للأدب وأن نعدل في خطة النقد فلا نجعله ثناء سمجاً ولا تجريداً معيباً
2 - المعري ذلك المجهول
(منشورات الأديب ببيروت)
ليس الأستاذ عبد الله العلايلي مجهولا لدى قراء العالم العربي وهو معروف في كل مؤلفاته بالتعمق والاستيعاب، وكتبه تاريخ الحسين وحياة الحسين ودستور العرب القومي ومقدمة لدرس لغة العرب شواهد ناطقة بفضله. وقد أطرفنا اليوم بكتابه الجديد عن أبي العلاء فغزا به ميادين جديدة كانت مجهولة حقا في أهداف أبي العلاء الفكرية، وقد أعطانا الأستاذ بكتابه هذا مصباحاً نمشي في نوره وسط تلك الزحمة من ظلمات مذاهب الفرق الإسلامية التي كان يداعبها أبو العلاء فيوافقها مرة ويثور بها مرات ومرات، ونرجو أن نتفرغ للكتابة الطويلة عن هذا الكتاب العميق
3 - في قصور الخلفاء:
(منشورات دار المكشوف)
صديقنا الأستاذ صلاح الدين المنجد أديب شاب طموح حسن التنسيق لمؤلفاته التي ضايقتها الحرب فأخذت تخرج صغيرة الحجم عظيمة القيمة مع ذاك. . وقد قدمنا له بالأمس مجموعته الشائقة الرائعة (إبليس يغني) ويسرنا أن نقدم له اليوم مجموعته الثانية (في قصور الخلفاء) وهي مجموعة من القصص العربي الرائع استطاع الأستاذ أن يخرجها في ثوب قشيب من أسلوبه البديع وروحه الفياض. ولنا ملاحظات على هذه المجموعة سنعرضها على صديقنا الفاضل في كلمة أخرى
4 - قصص من العالم:
(الناشر المصري بالقاهرة)
قلم الأستاذ محمود حسني العرابي قلم جديد المنهج في أدبنا المصري الحديث. . وقد قرأنا مذكراته العظيمة (89 شهراً في المنفى) فلمحنا فيها روح عباقرة الروس الروائيين من(593/32)
أمثال دستوئفسكي وجوركي وتشيكوف، وكنا نشهد أطيافهم في ثنايا سطوره الأخاذة الشائقة فندرك السر في عبقرية أديبنا المصري العظيم الذي نرجو أن تواتيه ظروفه فيكمل لنا مذكراته القيمة ونحن نقدم للقراء في العالم العربي مجموعته الجديدة (قصص من العالم) ترجمها ولخصها واقتبسها من أروع القصص العالمي القصير: من أفريقيا وأوربا وأمريكا وآسيا بأسلوبه الروائي الممتاز وسهولته التي تمتنع على الكثيرين. . والمجموعة نماذج ممتازة لا يستغني عنها القارئ أو القصاص الناشئ
(د. خ)(593/33)
العدد 594 - بتاريخ: 20 - 11 - 1944(/)
قادة الفكر. . .
للدكتور محمد مندور
منذ القدم والمستنيرين من الناس يقتتلون حول قادة الفكر، فمنهم من يدعوهم إلى الكفاح مع مواطنيهم عندما يدعو داعي الوطن، ومنهم من يود لو نأى بهم عن كل ضجة فانية ليتوفروا على خلق الأفكار الباقية، وصياغة المشاعر التي تتغذى بها الأجيال في كل زمان ومكان. وتلك قضية تستحق النظر فما لا شك فيه أن الكاتب - وبخاصة إذا كان انفعالي الطبع - لا يملك في بعض الأحيان أن يدفع إحساسه بالمسؤولية، فكلما رأى فساداً من حوله أو أحس ظلماً يقع على الناس أو جراحاً تصيب وطنه ثارت نفسه، وكأن سكوته تأمين على ما يرى أن لم يكن مشاركة فيه. ولقد يتساءل الناس من حوله عن سر حماسته لهذه الفكرة أو تلك دون أن يحظوا برد يقنع العاديين منهم لأن الرد الوحيد هو طبيعة الكاتب وحرارة قلبه
وموضع التدبر هو أن نتساءل عما يستطيع الكاتب عندئذ أن يكتب دون أن يصيب كتابته الفناء، وليس أشق على نفس الكاتب من أن يحس بأن جهده سيتبدد أنفاساً، وإن كل ما يخط لن يخلف أثرا لأنه وليد ملابسات يومية لن تلبث أن تتغير فتفقد كتاباته قيمتها. ولكن هذا قول ليس صحيحاً على إطلاقه، فإلى اليوم لا زلت أقرأ خطب ديموستين الزعيم الإغريقي الخالد يوم كان يكافح فيليب المقدوني ويدعو مواطنيه إلى مكافحته دون أن يثنيه عن ذلك حتى اليقين بأنه ومواطنيه سائرون إلى الهزيمة مؤمناً بأن الجهاد غاية نبيلة في ذاتها، وأنه من الخير أن تموت وسلاحك بيدك عن أن تنفق في فرق الجبان. ولا زلت أقرأ لروبسبير وهو يناهض ما صاحب الثورة الفرنسية الكبيرة من انحلال في الخلق وتقلب في العقائد وتيقظ في الشهوات واستحصاد للضغائن العمياء. ويدعو إلى أن يكون الطموح عملا على استحقاق المجد وتقدير الشعب، أقول أنني لا زلت أقرأ للخطيب الإغريقي أو الخطيب الفرنسي فلا أستطيع أن أقول مع القائلين أن الكتابات أو الأفكار التي تولدها ظروف خاصة سيصيبها الفناء. فكل كتابة تستطيع أن نخلد بما تحمله من عناصر إنسانية ثابتة، والإنسان هو الإنسان في كافة عصوره. وسيظل ابد السنين يهتز لمعاني الكرم النفسي
هذه إذن قضية الحق فيها واضح. ولكن ثمة قضية أُخرى أشق منها علاجا وهي: أيهما(594/1)
أجدى على قادة الفكر: أن يتوفروا على فهم الإنسان وشق الحجب عن أسراره النفسية أم ينصرفوا إلى توجيهه وقيادته. وهنا قد يبدو التعارض واضحاً، ولكنه في الحق تعارض سطحي. وكبار الكتاب يجمعون دائماً بين الأمرين دون أن يقصدوا إلى أيهما. ففهمك للإنسان وتبصيرك إياه بحقائقه الغامضة فيه خير توجيه له. وأنه لمن الحمق أن يظن أشباه الأميين أن باستطاعتهم أن يخلقوا أمة أو يوجهوا رأياً توجيهاً ثابتا بالألفاظ الخطابية الرنانة أو بالجمل المرصعة الجوفاء، فهذه حماقات موقوتة التأثير وأما الأثر الباقي فهو ما تستمده من حقائق النفس لترده أليها، ولكم من مرة يكون من واجبك إذا أردت أن ترفع قلباً أو تحث عزماً أن تسلم له بادئ الأمر بحقه في أن يبتئس أو يتوانى عزمه، ولكم من مرة يكون في هذا التسليم ذاته أكبر ناهض بالنفوس، وأما المكابرة وأما التنكر لحقائق النفس البشرية ومحاولة أخذها بالضجيج فذلك تفكير عقيم.
وإذن فمشكلة الفهم أو التوجيه هي الأُخرىمحلولة في أعماقها. ولعل في تحديد العلاقة بين رجال الفكر وبين رجال السياسة ثم بين رجال الفكر وبين بيئاتهم مشكلات اشق من السابقتين
بعض رجال السياسة ليسوا من قادة الفكر ومنهم من لا يكاد. يقرأ كتاباً، وتلك لا ريب آفة شديدة الأثر على الحياة العامة، وقديماً رأى أفلاطون أن يقود الفلاسفة المدينة. وقادة الفكر بدورهم ليسوا جميعاً ممن يطيقون مجابهة الجماهير وخوض المعارك السياسية، ومن هنا تنشأ طائفة من السياسيين لا علاقة لها بالفكر وطائفة من المفكرين لا صلة لها بالسياسة، ومن عجيب الأمر أن ترى في التاريخ مفكرين سياسيين جاء تفكيرهم تقريرياً بحتاً بحيث لم يدعوا إلى عمل ولا نادوا بتغيير، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك كارل ماركس الذي يتخذه الاشتراكيون اليوم زعيماً لهم، فقد كان الرجل مؤرخاً عالماً لا سياسياً عاملاً، وهو لم يناد بتحقيق مذهب وإنما درس الماضي وتنبأ بأن تصيب العالم في يوم من الأيام أزمة اقتصادية تقضي طبيعتها إلا يكون لها حل غير الاشتراكية، ومع ذلك كم من السياسيين استطاعوا أن يتخذوا من مبادئه التقريرية دعوة إلى الثورة ومبادئ للعمل الإيجابي. ولقد يتفق أحياناً أن يقول مفكر بنظرية من النظريات في بلد ما، ثم لا تطبق إلا في بلد آخر، ولعل أوضح مثل لذلك مونتسكيو الفرنسي ونظريته في فصل السلطات، ففرنسا لم تطبق(594/2)
هذه النظرية على نحو دقيق وإنما طبقتها أمريكا. والأمر في العلاقة بين رجال الفكر ورجال السياسة عندئذ شديد الشبه بالعلاقة بين رجال العلم ورجال الصناعة. فالعلماء يكشفون عن قوانين المادة التي تمكن من تسخيرها للإنسان ويصوغون قوانينهم معادلات جبرية، ويأتي رجال الصناعة فيستغلون تلك القوانين والمعادلات في الإنتاج الاقتصادي والإثراء به. ولكن الوضع بين العلماء والصناع قد يكون مقبولا على نحو ما هو الآن، بينما هو بين المفكرين والسياسيين محفوف بأشد المخاطر على سلامة الأمم واستقامة الحكم فيها. ولقد تعقدت أمور الحياة العامة في العصر الحديث بحيث لم يعد كافياً لقيادة الأمم أن تكون وطنياً مخلصاً أو ذا وجاهة اجتماعية، بل لابد لك من ثقافة عامة شاملة حتى تعالج الأمور على نحو سديد مستنير
وعندما يصبح السياسيون من قادة الفكر ستتحدد العلاقة بينهم وبين بيئاتهم. فللرجل المفكر في وسطه مهمتان: أولاهما أن يبصر قومه بحالتهم الحقيقية، حتى يعوا ما هم فيه من شقاء وتخلف، وذوو النظر مجمعون على أن البؤس ذاته لا يحرك الشعوب، وإنما يحركها أن تفطن إلى ما هي فيه من بؤس. ولعل في حالة الفلاح المصري أوضح دليل على ما نقول، ومهمته الثانية هي أن يسبق الأمم إلى آمالها الغامضة، ومن هنا ترى أغلبية الكتاب المفكرين من الداعين إلى الأفكار المتقدمة، فهم رسل الرجاء وبألسنتهم تشكو النفوس آمالها وتتطلع إلى سعادة أتم. وهذا هو السر في أنهم يعيشون دائماً في كفاح مع بيئاتهم وكثير منهم لا يستجاب لندائه إلا بعد موته بسنين؛ فعندئذ يقر لهم بالفضل وتقام لهم النصب وتنزل آراؤهم من القلوب منزلة الإيمان
محمد مندور(594/3)
1 - أبو تمام
وموازين السرقات الشعرية عند ابن الأثير
للأستاذ دريني خشبة
رأينا أن أبا تمام لم يشتغل طول حياته بغير الشعر تأليفاً وتصنيفاً، ورأينا كيف كان يختار مرة للمشهورين ثم يختار أُخرى لغير المشهورين، فيحكم ذوقه النقاد في الحالين، فلا يقدم إلينا إلا كل درة وكل غرة من درر الشعر العربي وغرره. . . ولم يكن أبو تمام مصنفاً ومؤلفاً فحسب، بل كان حافظاً، بل كان أعجوبة في الحفاظ الذين اشتهر بهم تاريخ الفكر العربي. . . ورأينا اتفاق آراء خصومه وأصدقائه على أنه كان يأخذ المعنى، فيعني بتخميره - على رأي الآمدي - أو بالاتكاء فيه على نفسه - على رأي الصولي - حتى يخلص له آخر الأمر، أو لا يخلص له، بل يشوهه وينقص منه، كما صرح بذلك دعبل وابن الأعرابي التوجي وأبو هفان وأبو حاتم السجستاني وغيرهم من أعداء أبي تمام. . .
وقبل أن نأخذ في عرض طائفة من سرقات أبي تمام، مما استدركه عليه الآمدي، لا نرى بداً من وضع خلاصة لذلك الفصل القيم الذي ختم به الأستاذ العلامة أبو الفتح بن الأثير كتابه (المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر) والذي خصصه للسرقات الشعرية، ولا سيما عند أبي تمام والبحتري، وابن الرومي والمتنبي، وهو فصل من أبرع الفصول في بابه، وأكثرها إحاطة بهذا الموضوع الذي تشعبت أطرافه، وكثر فيه إرجاف الرواة والنقاد. ومن الطريف أن ابن الأثير المتوفى سنة 637هـ كان قد ألف في ذلك الموضوع كتاباً قائماً بذاته، ثم ضاع هذا الكتاب، فعوضنا منه بذلك الفصل خيراً
1 - فعند ابن الأثير أن الشاعر إذا أورد شيئاً من ألفاظ شاعر آخر، في معنى من معاني هذا الشاعر، ولو كان ذلك لفظة واحدة، فإن ذلك يكون دليلاً قاطعاً على سرقته.
2 - ويقسم السرقات الشعرية إلى خمسة أقسام: هي النسخ، والسلخ، والمسخ، واخذ المعنى مع الزيادة عليه، ثم عكس المعنى إلى ضده
3 - أما النسخ، فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته، من غير زيادة أو نقصان؛ وأما السلخ فهو أخذ بعض المعنى، وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه
4 - ويعود ابن الأثير فيجعل النسخ على ضربين: فإما أخذ كلاماً كما تقدم، وأما أخذ معظم(594/4)
اللفظ والمعنى كله، كقول أبي نؤاس:
دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا
فقد نسخه من بيت في أصوات معبد، وذكره أبو الفرج:
لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا
ومثل قول أبي تمام:
محاسن أصناف المغنّين جمَّة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد
نسخه ممن مدح معبداً، وذكره أبو الفرج، فقال:
أجادُ طوَيس والسُّريجي بعده ... وما قصبات السبق إلا لمعبد؟!
5 - ثم يقسم السلخ فيجعله أحد عشر نوعاً: (وهذا التقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه!)
فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إياه، وهذا من أدق السرقات مذهباً، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلاً كقول بعضهم:
لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
آخذه المتنبي فقال بيته المشهور:
وإذا آتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وقول أبي تمام:
رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاه وماء الروض ينهل ساكبه
آخذه البحتري فقال:
ركبا القنا من بعدما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر!
الثاني: أن يؤخذ المعنى مجرداً من اللفظ، وهو صعب قليل الورود، بل هو من أشكلها، وأدقها، وأغربها، وأبعدها مذهباً، كقول أبي تمام:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
فقد سلخه من قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً. أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل مُنجح(594/5)
ولا يخفى ما في بيت أبي تمام من الجمال والعبقرية في السلخ مع حسن السبك!
والثالث: أخذ المعنى ويسير من اللفظ، وهو عند ابن الأثير من أقبح السرقات وأظهرها شناعة، وقد افتضح بهذا النوع البحتري خاصة، ووقع فيه أبو تمام كثيراً، مثل قوله:
فلم أمدحك تفخيماً بشعري ... ولكني مدحت بك المديحا
فقد سلخه من قول حسان:
ما إن مدحت محمداً بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد
وقول ابن الرومي:
جرعته العيون فاقتص منها ... بجوى في القلوب دامي الندوب
فقد سلخه من قول أبي تمام:
أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب!
وسرقة ابن الرومي ظاهرة مفضوحة لا شك فيها، ويخفف من وزر السارق في نظر ابن الأثير أن يجيء بلفظ أحلى، أو معنى زائد فيه جمال. أما أن ينحط عن الأصل، فهذه هي الشناعة التي ما مثلها شناعة عنده!
- والرابع أن يؤخذ المعنى فيعكس. وهو حسن يكاد يخرجه حسنه عن السرقة، كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة ... شغفاً بذكرك فليلمني اللوم
عكسه المتنبي فقال:
أأحبه وأحب فيه ملامة؟ ... إن الملامة فيه من أعدائه
- والخامس أخذ بعض المعنى، كقول أبي تمام:
تُدعي عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفا
ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً ... حتى رأيت سؤالاً يجبتني شرفا
أخذه من قول أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل، وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال بشين
- والسادس هو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر، كقول ولد مسلمة:(594/6)
أذُلَّ الحياة، وكره الممات ... وكلا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيراً جميلاً
أخذه أبو تمام فقال:
مثَّل الموتَ بين عينيه والذلّ ... وكُلاً رآه خطباً عظيما
ثم سارت به الحميَّة قُدْما ... فأمات العِدا ومات كريما!
فزاد في المعنى: فأمات العدا ومات كريما
- والسابع أن يؤخذ المعنى فيكسي عبارة احسن من الأولى، وهنا تتجلى عبقرية أبي تمام. . . ولله من قال: من سرق معنى واسترقه، فقد استحقه: وإن كنا لا نشجع السرقة!! قال بعض الشعراء:
مُخَصّرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زيّنتها عقودُها
أخذه أبو تمام فقال:
كأن عليها كل عقد ملاحة ... وحسناً وإن أضحت وأمست بلا عقد
وسطا عليه البحتري فقال:
إذا أطفأ الياقوت إشراقُ وجهها ... فإن عناءً ما توخت عقودُها
وكلاهما رقق المعنى وزاده حسناً
- والثامن أن يؤخذ المعنى ويوجز في سبكه، وهو عند ابن الأثير من أحسن السرقات كقول أبي العتاهية:
وإني لمعذور على فرط حبها ... لأن لها وجهاً يدل على عذري
أوجز فيه أبو تمام فقال:
له وجه إذا أبصر ... ته ناجاك عن عذري!
وقول بشارة:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهِج
أوجز فيه تلميذه سلم الخاسر فقال:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور!
- والتاسع أن يكون المعنى عاماً فيجعله السارق خاصاً والعكس: كقول الأخطل(594/7)
(ونسبه الناشر إلى أبي الأسود):
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
خصصه أبو تمام فقال:
أألوم من بخلت يداه وأغتدى ... للبخل تربا؟ ساء ذاك صنيعاً
وقال أبو تمام:
ولو حادت شُولٌ عذرت لقاحها ... ولكن مُنِعتُ الدَّرَّ والضَّرع حافل
عممه المتنبي فقال:
وما يؤلم الحرمان من كف حارم ... كما يؤلم الحرمان من كف رازق
- والعاشر زيادة البيان مع المساواة في المعنى، أو ضرب مثال يوضح المعنى المسلوخ: كقول أبي تمام
قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فَخِيل من شدة التعبيس مبتسما
توسع فيه المتبني فقال:
وجاهل مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وقم
إذا رأيت نيوب الليث بارزةً ... فلا تظنن أن الليث يبتسم
وهذا عند ابن الأثير من المبتدع لا من المسروق!
- والحادي عشر هو اتحاد الطريق واختلاف المقصد. . . وذلك أن يسلك الشاعر طريقاً واحدة تنتهي بهما عند جنتين مختلفتين! ثم تتجلى فيهما عبقرية كل منهما. . . وقد ضرب ابن الأثير لذلك مثلاً قصيدة لأبي تمام في الرثاء بولدين وقصيدة للمتنبي في الرثاء يولد. ومطلع قصيدة أبي تمام:
ما زالت الأيام تخبر سائلا ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
وهي موجهة إلى عبد الله بن طاهر. ومطلع قصيدة المتنبي:
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يُبلى
وهي في رثاء أبي الهيجاء بن سيف الدولة وقد توفي صغيراً، ثم أقام بينهما موازنة يشوهها التلخيص، فيحسن الرجوع إلى المثل السائر ليشهد القارئ مثلا من أمثلة العبقرية العربية في النقد الأدبي الدقيق (جـ2 ص391 وما بعدها)، وإن ظهر فيها ابن الأثير(594/8)
متحزباً (بحق!) للمتنبي، مع سلخ المتنبي كثيراً من معاني أبي تمام. ثم أنه فضل المتنبي على البحتري في وصفهما الأسد في قصيدتين متشابهتين تواردا على كثير من معانيهما، ولعل هذا التوارد هو الضرب الثاني عشر من السلخ الذي لم يشر إليه ابن الأثير
ثم يعرف ابن الأثير المسخ فيذكر أنه (قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة. . . والعكس) على أنه هذا العكس ليس في رأينا مسخاً، بل هو خلق وابتداع وتجميل يقتضيه الذوق الدقيق الصناع
قال أبو تمام:
فتى لا يرى أن الفريصة مقتل ... ولكن يرى أن العيوب مقاتل
مسخ صورته المتنبي فقال:
يرى أن ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب
والمسخ هنا هو في تجاور ما وما المختلفتين معنى
وحسبنا الآن هذا القدر مما لخصناه من ابن الأثير، وهو تلخيص نضعه بين يدي القارئ العجل، ليكون نوراً يكشف له جوانب الظلام وجوانب العبقرية، فيما سنقدمه له من سرقات أبي تمام التي أحصاها عليه الآمدي. ولو أن ابن الأثير تولى عنا الفصل بين أبي تمام وخصومه، لأمدنا بذخيرة لا تنفذ، ويد لا تجحد. . . رحم الله نقادنا الأفذاذ وجزاهم عنا خيراً
دريني خشبة(594/9)
قضية المرأة أيضاً
للأستاذزكريا إبراهيم
إذا كان الرجل والمرأة سواء، اللهم إلا فيما يرجع إلى الجنس، فلا بد لنا إذن من أن نستند إلى البحوث الفسيولوجية الخاصة بمسألة التفرقة بين الجنسين، حتى نستطيع أن نفصل في (قضية المرأة) فصلا علمياً صحيحاً. والبحوث الجنسية التي أجريت في هذا الصدد كثيرة متعددة، ولكن النتائج التي تستخلص منها مختلفة متعارضة. وسنحاول في هذا البحث الموجز أن نجد أساساً مشتركاً بين كل هذه البحوث، نجعله عمدة لنا في الوصول إلى رأي صحيح تنحل به مشكلة الجنسين، وبالتالي قضية المرأة.
وأول رأي يواجهنا في مسألة الجنسين، هو ذلك الرأي القديم الذي ينظر إلى المرأة والرجل على انهما جنسان مختلفان، يقوم كل منهما بنفسه، ويستقل كل منهما عن الآخر. وهذا الرأي يقضي بأن يكون الرجل متميزاً كل التميز من المرأة، لأن جنس الذكر أرقى وأكمل من جنس الأنثى، ولان المرأة هي التي جبلت من ضلع الرجل، لا العكس! وقد دأب الناس على أن يأخذوا بهذا الرأي، حتى أن أي شك يثار حول رجولة فرد، كان كافياً لأن يثور له ذلك الفرد، باعتبار أنه إهانة عظيمة لا تغتفر! وليس من شك في أن قصة الخلق - كما وردت في التوراة - كانت عاملا من العوامل التي أدت إلى اعتبار الرجل أرقى من المرأة، كما يظهر من استشهاد القديس بولس بها، في معرض المفاضلة بين الرجل والمرأة
ولكن البحوث العلمية التي قام بها علماء (الجنس) والتجارب المنوعة التي قاما بأجرائها، تدلنا على أن الأدنى إلى الصواب أن تكون الأنثى هي الأصل الذي اشتق منه الذكر. فالمرآة هي (الصورة الأولى) للنوع الإنساني، والرجل إنما هو (الصورة الثانية) التي تفرعت من ذلك الأصل، ومعنى هذا أن الذكر ينطوي في أثنائه على أنثى كامنة، هي الجنس الأصلي الذي تنزع إليه كل الثدييات. وهذه الأنثى الكامنة هي على استعداد لأن تظهر بشكل واضح، حينما تستأصل تلك الغدد الزائدة التي تعوق ظهورها - فليست الفروق الجنسية بين الذكر والأنثى إذن، فروقاً جوهرية أصلية، بل هي فروق فرعية مستجدة. وبعبارة أُخرى يمكن أن يقال أن التركيب الجنسي لأفراد كل فصيلة، له أساس مشترك يحتمل التذكير والتأنيث، وهذا ما يعبر عنه بالإمكانية الجنسية المتعادلة(594/10)
من هذه الحقيقة البيولوجية، يتبين لنا خطأ النظرة القديمة إلى الجنس. فليس الذكر والأنثى وحدتين مستقلتين تقوم كل منهما بذاتها، وإنما هما حالتان متماستان، قد يبلغ بهما التقارب أن يندمجا معاً ليكونا حالة مختلطة هي ما يعرف بالخنثى فليس في استطاعتنا أن نتحدث عن (النوع المذكر) و (النوع المؤنث) بل عن تلك السلسلة الطويلة من الحالات الجنسية التي تمتد ابتداء من الخنثى حتى تلك الأشكال المعتدلة التي تكاد تكون سوية طبيعية.
هذه هي النظرة الصحيحة إلى الجنس، وهي نظرة تساعدنا على أن نفهم تلك الحالات الكثيرة التي طالما نظر إليها الناس على أنها انحرافات غريبة أو حالات شاذة، مثل حالة (التخنث) وحالة (حب الجنس للجنس): ذلك أن التجارب قد دلتنا على أنه ليس من الحق أن هناك رجولة خالصة أو أنوثة خالصة. فإذا لم يكن في استطاعة أحد أن يفخر بأنه رجل كامل الرجولة فأي حق يكون لنا إذا حكمنا بالغرابة والشذوذ على قوم بلغت درجة الرجولة عندهم حدا أدنى بقليل مما يوجد لدينا؟ أن كل ما هنالك هو أن هؤلاء القوم قد اخذوا من الجنس الآخر قسطا أكبر مما لدينا، فلذلك ظهرت حالة (الاختلاط) عندهم بشكل أوضح. والتجارب قد دلتنا على أن التميز الجنسي التام، يكاد يكون معدوماً. فالرجل الخالص، والمرأة الخالصة، هما حالتان قلما يلتقي بهما المرء في الظروف العادية - كما يقول بيدل - وإذن فإن كل ما يميزنا عن أولئك الذين نعدهم شاذين منحرفين، هو أن الإفرازات الهرمونية الموجودة لدينا أكثر مما يوجد لديهم. وقد كنا جميعاً في البداية، ذوي نزعة جنسية إلى نفس الجنس بالقوة ولكننا لحسن الحظ قد تحولنا إلى الطريق الصحيح، بافتراقنا عنهم وأصبحنا أميز من حيث الذكورة.
يتبين لنا من هذه النظرة الجديدة إلى الجنس أن الناس يخطئون إذ يعممون أحكامهم، فيقولون بوجود فروق جنسية كبيرة بين الرجل والمرأة، وبخاصة حول موقف كل منهما من الزواج والحياة الجنسية. فليس الرجل والمرأة كالقطب الموجب والقطب السالب، وإنما الصلة بينهما أبعد ما تكون عن هذا التصوير الساذج البسيط. وعلى الرغم من أن الخلط بين (الإيجاب) والذكورة، وبين (السلب) والأنوثة، قد يبدو لنا حقيقة بيولوجية، فإن الواقع أنه خلط لا أساس له - كما بين ذلك فرويد - وحتى في الناحية الجنسية الخالصة، فإننا لا(594/11)
نستطيع أن نقول أن موقف المرأة موقف سلبي خالص.
أما تلك التعميمات التي قد نضطر إليها لبيان بعض الفروق الموجودة بين الجنسين، فإنها قد تضللنا إذا اعتبرنا تلك الفروق عامة على الإطلاق. حقاً أن تلك الصفات التي ننسبها إلى كل من الجنسين، قد تكون صحيحة بالنسبة إلى الأفراد الذين يشغلون أعلى السلم أو أسفله، أعني بالنسبة إلى الرجل الحقيقي والمرأة الحقيقة (وهذان قلما يوجدان)، ولكنها تقل شيئاً فشيئاً حينما تقترب من الرجل المتأنث والمرأة المتذكرة (أو المترجلة). فإذا كنا قد فرقنا بين الرجل والمرأة (في البحث السابق) من بعض النواحي الجنسية والنفسية، فإن من الواجب أن نذكر القارئ هنا أن هذه التفرقة ليست عامة مطلقة، وإنما هي تطبق في دائرة محدودة فقط؛ وثم أفراد كثيرون لا تصح بالنسبة إليهم.
وإذا كانت هذه هي حقيقة الصلة بين الرجل والمرأة، فما أحرانا بأن نبتسم حينما نلتقي بأولئك الذي يفخرون برجولتهم، متناسين أن هناك (امرأة) تكمن في قرارة نفوسهم! (حقاً أن هؤلاء قد لا تكون بيوتهم كلها مصنوعة من الزجاج، ولكنهم مع ذلك ينسون أن نوافذ بيوتهم مصنوعة من الزجاج، فما يليق بهم أن يقذفوا الآخرين بالأحجار!)
لقد دنت الشقة بين الرجل والمرأة؟ فكيف بها بين الرجل والرجل؟ أن الرجولة الخالصة قد أصبحت أسطورة من الأساطير، فلنترك لأولئك الواهمين تلك الأسطورة الرائعة، أسطورة الرجولة المزعومة! أما نحن فحسبنا أن نكون (إنسانيين)، ننظر إلى الرجل على أنه إنسان، وننظر إلى (المرأة) على أنها إنسان، ونعتبر أن جوهر الإنسانية واحد في كل منهما؟
زكريا إبراهيم(594/12)
10 - القضايا الكبرى في الإسلام
قضية فدك
للأستاذعبد المتعال الصعيدي
تمتاز قضية فدك على سائر القضايا الإسلامية بتدخل السياسة فيها، وما دخلت السياسة في أمر من الأمور إلا جعلته عرضة للاضطراب والتقلب. ولو أن السلطة القضائية انفردت بالحكم في هذه القضية لكان لحكمها فيها قداسته واستقراره، ولم تقع فيه تلك التقلبات التي استمرت حوالي قرنين من الزمان
وفدك بلدة بينها وبين المدينة ثلاث مراحل، وكان أهلها من اليهود، فلما فتحت خيبر أرسل أهل فدك يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا بلدهم ويرحلوا ففعل، وبهذا كانت فدك خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فكان ينفق منها ويأكل، ويعود على فقراء بني هاشم، ويزوج أيمهم، وينفق على أبناء السبيل ونحوهم
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم غير فدك سهمه من خيبر، وصدقته بالمدينة، فأما سهمه من خيبر؛ فأنه كان قد قسمه نصفين: نصفها لنوائبه وحاجته، ونصفها بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً. وأما صدقته بالمدينة فقيل أنها كانت نخل بني النضير، أفاءها الله على رسوله فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها له هذه الصدقة. وقيل أنها كانت أموال مخيريق من يهود بني قينقاع، وكان نازلا ببني النضير. وقد شهد أحداً مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تولى بعده أبو بكر رضي الله عنه، آتته فاطمة رضي الله عنها فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لي فدك فأعطني إياه، وشهد لها علي بن أبي طالب، فسألها شاهداً آخر، فشهدت لها أم أيمن. فقال لها أبو بكر: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وقيل أنها قالت لأبي بكر: أعطني فدك؛ فقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لي. فسألها البينة، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدا لها بذلك، فقال لها: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين. ولا يقتصر الاضطراب في هذه القضية على(594/13)
هاتين الروايتين، فقدري أيضاً أن فاطمة سألت أباها أن يهب لها فدك فأبى
وهناك روايات أُخرى تؤيد الرواية الثالثة، وتجعل قضية فدك قضية ميراث لا قضية هبة، فقد روي البخاري أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أراضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، ثم قال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته. فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت
وروي البلاذري أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت أبا بكر فقالت له: من يرثك إذا مت؟ فقال: ولدي وأهلي. فقالت: فما بالك ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله، والله ما ورثت أباك ذهباً ولا فضة ولا كذا ولا كذا. فقالت: سهمنا بخيبر، وصدقتنا فدك، فقال. يا بنت رسول الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين، وروي البلاذري أيضاً أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه مواريثهن من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك، فقالت لهن عائشة: أما تتقين الله، أما سمعتن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما هذا المال لآل محمد، لنائبتهم وضيفهم، فإذا مت فهو إلى ولي الأمر بعدي. فأمسكن عن طلب ذلك منه. وقد مضى الأمر على هذا مدة ولاية أبي بكر، ولم يسلم له حكمه في ذلك إلا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. أما فاطمة وزوجها علي وعمه العباس فلم يسلموا له هذا الحكم وتمسكوا بحقهم في ذلك الإرث. ولا شيء في أن تغضب فاطمة مع احتجاج أبي بكر بذلك الحديث السابق، وهي أولى الناس بالخضوع لحديث أبيها، فلعلها قام بنفسها أنها كانت أولى الناس بمعرفة هذا الحديث، لأنها صاحبة الحق في الإرث، ولم يكن هناك ما يمنعها أن تسمعه كما سمعه أبو بكر. وقد قالوا في تسويغ ذلك أنها كانت تعتقد تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله صلى الله عليه وسلم - لا نورث - ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن يورث عنه. وروي بعضهم أن أبا بكر عاد فاطمة في مرضها، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن(594/14)
عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، ولكنها رواية مرسلة لا تقوى على معارضة ما سبق من أنها ماتت وهي مغاضبة له
وقالوا أيضاً في حكمة أن الأنبياء لا يورثون: إن الله بعثهم مبلغين رسالته، وأمرهم إلا يأخذوا على ذلك أجراً، كما قال تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً) وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في ألا يورثوا لئلا يظن انهم جمعوا المال لوارثهم
ومن الشيعة من يروي الحديث بنصب - صدقة - على أنه حال، فلا يفيد نفي إرثه صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وقد رد عليهم بأن أبا بكر احتج بهذا الحديث على فاطمة فيما التمست منه مما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأراضي؛ وهما من أفصح الفصحاء وأعلمهمبمدلولات الألفاظ، ولو كان أمر هذا الحديث كما ذكره بعض الشيعة لم يكن فيما احتج به أبو بكر حجة، ولم يكن جوابه مطابقاً لسؤالها، ومما يؤيد أنه بالرفع ما ورد في بعض طرقه - ما تركناه فهو صدقة - ولا شك أن هذا ليس بقاطع في رد ما ذكره بعض الشيعة، لأن فاطمة لم تقتنع باحتجاج أبي بكر، فيجوز أن يكون قد فهم الحديث كما يفهمه أهل السنة على أنه بالرفع، ويجوز أن تكون قد فهمت الحديث كما يفهمه الشيعة على أنه بالنصب، وأما رواية ما تركناه فهو صدقة فيجوز أن تكون مروية بالمعنى ممن فهم الحديث كما يفهمه أهل السنة
وهنا أمر لم ينتبه إليه أحد في هذه القضية، وهو في الحقيقة السبب في أن فاطمة لم تخضع لحكم أبي بكر، وفي أن ورثتها من بعدها لم يخضعوا له أيضاً، وهذا الأمر هو أن أبا بكر في هذه القضية كان خصماً وحكماً، والخصم في قضية من القضايا لا يصح أن يكون حكماً فيها، وكان الواجب أن تعرض هذه القضية على بعض كبار الصحابة ليحكم فيها بين أبي بكر وفاطمة، نزولا على ما هو الواجب من الفصل بين السلطتين، حتى يكون حكم القضاء نافذاً في الحاكم والمحكوم، ولا يكون لأحد وجه في أن يقف منه هذا الموقف الذي كان من فاطمة وورثتها من بعدها
وقد مكثت هذه القضية على هذا الوضع مدة خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ثم أتى علي والعباس عمر فطلب منه على نصيب امرأته من أبيها، وطلب منه العباس نصيبه من ابن أخيه، فدفع عمر إليهما صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأمسك خيبر(594/15)
وفدك، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر. وقد أخذ عمر عليهما عهد الله وميثاقه ليعملان في الصدقة التي دفعها أليهما بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عمل هو فيها إلى أن دفعها أليهما، فكانا بذلك نائبين عنه في النظر عليها. وقد اختلف علي والعباس بعد ذلك فيها، فأتيا عمر وطلبا منه أن يقسمها بينهما، فأبى أن يقضي فيها بغير ما قضي به، وطلب منهما أن يدفعاها إليه أن عجزاً عنها
ولكن علياً غلب العباس بعد ذلك على هذه الصدقة، ثم كانت بعده بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد علي بن الحسين والحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم كانت بيد عبد الله بن حسن، ثم ولي بنو العباس فقبضوها، وغلبوا أبناء علي عليها، وكان من يتولى منهم يولي عليها من قبله من يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة، ومكث الأمر فيها على ذلك إلى رأس المائتين من الهجرة، ثم تغيرت الأمور فيها بعد ذلك، وزالت الأوضاع فيها عما كانت عليه إلى ذلك العهد
وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك فقد مكث بيد أبي بكر وعمر مدة خلافتهما، وكانا يقدمان منه نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كان يصرف منه، وما فضل بعد ذلك يجعلانه في المصالح، ثم اختلف في أمره بعدهما، فقيل أن عثمان بن عفان أقطع فدك مروان بن الحكم، لأنه رأى أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عن فدك بأمواله ووصل بها مروان بن الحكم: وقيل أن الذي أقطعها مروان بن الحكم معاوية بن أبي سفيان، فوهبها مروان لأبنيه عبد العزيز وعبد الملك، ثم صارت لعمر بن عبد العزيز وللوليد وسليمان بن عبد الملك، فلما ولي الوليد سأله عمر حصته منها فوهبها له، ثم سأل سليمان حصته منها فوهبها له أيضاً، فاستجمعها كلها في يده، وكانت أحب أمواله إليه. فلما ولي الأمر بعد سليمان جمع بني مروان فأشهدهم على أنه ردها إلى ما كانت عليه مدة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
فلما كانت سنة عشر ومائتين أمر المأمون بدفعها إلى ولد فاطمة رضي الله عنها، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة: أما بعد، فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله،(594/16)
وخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرابة به، أولى من استن سنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه في العمل بما يقربه إليه رغبته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك، وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً، لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم، تقرباً إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله، والى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه، والكتاب به إلى عماله، فلقد كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك، فيقبل قوله وينفذ عدته، أن فاطمة رضي الله عنها لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها، وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها، فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين، وما ألهمه الله من طاعته، ووفقه له من التقرب إليه، والى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كانت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها أن شاء الله، والسلام - وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة عشر ومائتين
وقد مكثت فدك بعد هذا لآل فاطمة إلى أن ولي المتوكل على الله، وكان يعادي آل فاطمة عداء شديداً، فأمر برد فدك إلى ما كانت عليه قبل المأمون
عبد المتعال الصعيدي(594/17)
وحدة الوجود
للبروفيسور ج. ا. بودن
بقلم الأستاذ عثمان حلمي
لكي تقترب من قضية العلم الحديثة الخاصة بنظام الكون يجدر بنا أن نرجع إلى أولئك المخترعين العظام الذين ألموا بعلم الميكانيكا أمثال جاليلو وديسكارت ونيوتن، وعلى الأخص (نيوتن) أعظمهم جميعاً.
هؤلاء المفكرون لم يكونوا ضيقي الأفق في تفكيرهم، ولا كانوا محدودي التفكير (كأولئك الذين لم يخرجوا عن دائرتهم المحدودة، فلم يصلوا بسبب بين فلسفتهم وعلمهم وبين دينهم) ذلك أنهم واجهوا هذه المسالة كاملة واشتغلوا (بالتدين الطبيعي) فكانوا بذلك رجالاً كاملين في تفكيرهم، بينما كان أتباعهم أنصافاً. فلو أنهم لزمهم ذكر الخالق ومواجهة حقيقته، لفهم الطبيعة وإدراك أسرارها، فانهم لا يحجمون عن ذكره في علومهم.
لقد قيل: إن بحث نيوتن فيما وراء الطبيعة كان غير ناضج ومبايناً لما هو معهود في طبيعة علمه. والحقيقة أن نيوتن لم يكن فيلسوفاً - بمعنى الكلمة - ولكن تقاليد الفلسفة الأفلاطونية للعصور الوسطى التي جاراها في كامبردج في أيامه، هي قريبة للعبقرية العلمية أكثر منها للفلسفة السفسطائية التي تلت نيوتن.
لقد كان في وسع هذه التقاليد أن تعترف بميلاد العلم الحديث والإدراك الميكانيكي والرياضي الذي ساق أمامه آياته القابلة للتصديق مع علاقته بهذه التقاليد.
إن الدنيا في نظر نيوتن غير مفهومة المغزى بغير وجود (الله)، وعلى ذلك، فانه لا يحجم عن ذكر الله في طبيعياته وفلكه، وهو يوضح لنا فكرته في الله من الصفات التي يصفه بها: كالأبدية، والأزلية، والقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء. . . وهي صفات مستعارة من علم اللاهوت في العصور الوسطى، غير أن القدرة على كل شيء من وجهة نظر نيوتن لها معناها الطبيعي المادي، كما لها معناها الروحي.
(هو قادر على كل شيء، ليس نظريا فقط، ولكن مادياً أيضاً، لأن الفاعلية لا تعيش في رأيه ولا تستمر بغير المادية، فمنه - كما يقول نيوتن - تتكون كل الأشياء وتتحرك، ومع ذلك فهي لا تؤثر فيه، وهو لا يؤوده شيء من حركة الأجسام، كما أن الأجسام لا تقوى(594/18)
على مقاومة قدرته على كل شيء).
وبذلك فإن وجود الله الأكبر ضروري، وبمثل هذه الضرورة هو موجود أبداً وفي كل مكان، فهو يرى، لا كما نرى، ويسمع، لا كما نسمع، ويعقل، لا كما نعقل، ويريد، لا كما نريد، أي بحال ليست بالمرة كحال الإنسان، بل بحال يعجز العقل البشري عن إدراك كنهها.
إن المرء ليعجب إذن كيف يمكن وصف الله (في الدراسات الفلسفية)، ولكن فهم نيوتن الحقيقي لله هو قريب الشبه من طبيعيات أفلاطون السابقة أكثر منها للتعاليم المدرسية اللاهوتية، فهو يقول نفس ما قاله اكسينوفانس.
فنيوتن ليس أكثر من أنشتاين، لا يعتقد (في الحركة مع الحيز)، فإن الجاذبية في نظر نيوتن ناشئة عن النواميس الرياضية، أي أنها لا توجد في اصل الأجسام.
وفي نظر نيوتن، كما هو في نظر أنشتاين، أن الحركة في الأجسام (الأفلاك والأجرام والكواكب) مثلا يشترط فيها الحيز، ولكن الحيز ليس هو الفضاء المجرد الذي ورد في العلم الحديث.
فلماذا إذن وجد نيوتن أنه من الضروري ذكر الله في العلم، يوجد السبب العام وهو (حبه للجمال) هذا الجمال الذي أثر في أفلاطون بقوته فرآه في (البساطة والنظام)، هذا الجمال الذي غمر الطبيعة فجعله يعجب بها أيما إعجاب ويجلها كل الإجلال، وقد كان ذلك أيضاً بالنسبة لنيوتن مضافاً إليه الأسباب الخاصة بما شاهده في تجاربه الميكانيكية والرياضة، فالنواميس الميكانيكية للطبيعة ليست كافية لحصر منشأ الدنيا ولا لحفظ توازنها، ولو أن الكائن يحتاج في تكوينه بهذه القوانين إلى أحقاب عديدة، فإن الأساس المادي هو (قوة الاستمرار) فالحركة تابعة للمادة إذا تحركت، و (قوة الاستمرار) هي مبدأ سلبي بموجبه تثابر الأجسام على حركتها وإلا فإنها تقف لتستمد الحركة المناسبة لقوة الدفع لها فتقاوم بقدر ما تقاوم وبهذا المبدأ فقط لن تكون هناك حركة في العالم، فقد تكون الأجسام في وضع ضروري لحركتها فينشأ وضع وهي في حركتها يعكس هذه الحركة، ومن مختلف الوضعين في الحركتين يتضح أنه من المحتم وجود الكم من قوة الدفع في العالم).
إذن هو يرى أن الحركة قد تكتسب أو تنعدم إذ يقول: ولكن بسبب تماسك الأجسام السائلة وميوعة أجزائها وضعف المرونة في الأجسام الصلبة فإن الحركة أكثر عرضة للفقد من(594/19)
الاكتساب وهي دائماً عرضة للاضمحلال والانحلال والتلاشي
هنا يقرر نيوتن بمفرده حقيقة التعويض الداخلي لمثل هذا الفقد، فيظن أنه ربما كان ذلك آتيا من أرواح أثيرية، فتتكاثف هذه الأرواح من الله إلى (مادة) وتسد النقص في الحركة، وهنا يلقي نيوتن ضوءاً على نظرية النشاط الإشعاعي وأنه قد يتحول إلى نشاط مادي، وإن هذا الخلق وإعادة تجديده تأخذ محلا (في الله) الذي يصفه (بالقوة التي تعيش أبداً والتي توجد في كل مكان قادرة بإرادتها على أن تحرك الأجسام بوعيها الذي لا يحد، وعلى ذلك فإنها تكون وتعيد تكوين أجزاء الوجود بإرادة لا كما تعمل بإرادتنا في تحريك أجسامنا، ومع كل هذا فإننا لا نستطيع أن نقول أن العالم كجسم لله أو أن أجزاءه المتعددة كأجزاء متعددة له.
(يتبع)
عثمان حلمي(594/20)
على هامش الشؤون الخارجية
الرفق بإيطاليا
للأستاذ علي إسماعيل بك
تعرض الدكتور محمد عوض محمد في عدد (الثقافة) الصادر في 3 أكتوبر إلى (الرفق بإيطاليا) بعد هزيمتها، وعزا ذلك الرفق إلى نبالة أخلاق البريطانيين وكرمها الذي يقضي عليهم أن يمدوا أيديهم إلى العدو المهزوم بعد صرعه، والأخذ بناصره بعد خذلانه. وتبسط في الحديث عن تلك النبالة وعن ذلك الكرم مبدياً انهما كانا السبب في خلاف شديد ساد ردحاً من الزمن بين فرنسا وبريطانيا، حول معاملة ألمانيا بعد الحرب الماضية
وبعد أن دلل الكاتب على عاطفة الرفق عند البريطانيين بما اشتهروا به من حب العجماوات التمس لنفسه الاغتفار والغفران من مقابلة الرفق بإيطاليا بالرفق بالحيوان!
أما أن العفو من شيم الكرام الأنجلوسكسونيين فأمر قد أجمع عليه الجميع حتى خصومهم، وتدلل عليه طبائع الأفراد في بلادهم: فما دخل البريطاني ملاكمة وانتصر فيها على خصمه إلا كان أول واجباتها مصافحة ذلك الخصم بعد أن قيض الله له النصر
وما نازل غريماً في معركة انتخابية إلا نازله بأسلحة مشروعة لا غبار على استخدامها أمام الرأي العام؛ فإذا انتهت المعركة بادر لغريمه المخذول يتمتم في حياء كبير قائلا (آسف أنني انتصرت لأنك قمت بنصيب أكبر من الجهد، أو (هوذا الحظ الذي ساعدني على النصر) وما إلى ذلك من عبارات المجاملة التي تنم عن روح مرهفة الحس وشعور عريق في السراوة (الجنتلمنة)، وعواطف فياضة بالمدنية
ألا فليعلم حضرة الكاتب أنه مع الاعتراف الصادق بتلك الناحية من الخلق الأنجلوسكسوني، أقول ألا فليعلم أن الشؤون الخارجية وعلاقات الدول بعضها ببعض لا تقوم على شيء من هذا الذي ذكر بل قوامها قبل كل شيء ذلك الأساس الصخري الراسخ ما رسخت الأرض من المصلحة الذاتية وحدها دون مصلحة الغير
فهذا الرفق يدعو إلى كبير الأسف كما سترى
لقد دخلت إيطاليا هذه الحرب بفعل رجل واحد - هذا لا شك فيه - ومهما يكن من عيوب ذلك الرجل فقد كان له فكر ثاقب في تفهم سياسة بلاده الداخلية، ونظرة نافذة في وسائل(594/21)
الضرب على أيدي المهرجين فيها
ألا تذكر (جابرييلي داننونزيو) المشعوذ ورفقاءه الأرديتي يوم كانوا يحتلون (فيومي) دون أن يكون لهم أية علاقة بالسلطة العسكرية الشرعية في روما؟
ألا تذكر (بومباتشي) ذا اللحية الغثة السوداء يوم كان يلوح بقبضته اليمنى على منصة الخطابة في (مونتيشيتوريو) مهدداً بإدخال الدولة الثالثة في أرض هي مهد الكلاسيكية؟
ألا تذكر (كارلوسفورزا) سليل الأمراء إذ كان ينادي عبثاً بتوحيد الصفوف للذود عن حوض الديمقراطية فما لبى نداه أحد؟
أغمض الحلفاء إذ ذاك جفونهم لما كان يحدث في إيطاليا، وتركوا هذا وذاك يجر الحبل كل في اتجاه، بينا كانت أيد آثمة تعمل في الخفاء لقلب نظام الحكم: فمن إضرام النار في المسارح الشهيرة إلى إخراج القطر السريعة عن قضبانها، ومن إضراب غير مشروع في المعامل إلى إلقاء القنابل على برءاء في دور السينما، ومن حوادث قتل وفتك بأيد مجهولة، إلى حوادث إرهاب لا مبرر لها! تلك كانت حال إيطاليا! كوميديا إلهية! جحيم دانتي! جحيم دانتي الذي كتب على بابه (أولئك الذين يدخلون ألا فليطرحوا كل آمالهم طرحاً)
أتلوم الحوادث أن تلد رجلا بطاشاً يخرق الحجب الكثيفة التي تجهمت فوق سماء إيطاليا، ويفتح باب الجحيم الدانتية على مصراعيه، ويلقي فيها أصحاب تلك الأيدي الآثمة، الهدامة للنظام التي كانت تلعب في الخفاء وتبيت للأرض الكلاسيكية انقلاباً اجتماعياً لو أنه تم لقضى قضاء مبرماً على المعاهد الديمقراطية التي تغذي جيلنا بلبانها وتذوق حلاوتها وسكرها؟
أتلومن رجلاً قوياً: (وهل تشرشل ضعيف؟ وهل روزفلت ضعيف؟) أقول أتلومن رجلا قوياً أن يخرج ذلك الشعب الفنان المحبب من ظلمة التخبط إلى نور الاتزان اللاتيني الوهاج؟
لقد سار الرجل في برنامج داخلي أعاد إلى إيطاليا رونق العهد الكلاسيكي. سار سيراً حثيثاً، موفقاً، مذللاً الصعوبات بيد حديدية، مقتحماً العقبات التي اعتورت طريقه بإرادة قيصرية لا تعرف الكلل
ولما أن رأى أن الإصلاح الداخلي وما إليه من مسكنات شهوته اصبح بعيداً عن أن يغذي(594/22)
طموح الجبار - وتلك هي خطيئته - أراد أن يطرق ميادين أُخرى، ميادين كنا نظن عيون الحلفاء بها ساهرة لا تعرف الغمض ولا النوم؛ فأخذ يغري الشعب الإيطالي بأمان براقة - وما أغرى لعواطف الشعب من التلويح له بالأماني البراقة ولو كانت كاذبة! فصال صولة وجال جولة، وقال في صدد الحدود بين مصر وبرقة إلى وزير مصر المفوض (لن يخدش خطي قيد أنملة)
الخطأ الأول في دبلوماسية ما بعد الحرب العالمية أنها لم تقتل الفاشية في بدايتها، فقد كانوا يعرفون أن فضلات المائدة مهما كثرت بعمدة عن أن تغذي معدة كمعدة موسوليني، لقد كانت الفضلات على العكس بمثابة مشهيات عنيفة: فما طالب بطلب أو هدد بتهديد إلا وطائرة تحلق بين لندن وروما، وروما ولندن - خروجاً على التقليد البريطاني الراسخ - تحمل إلى نيرون أغصان الزيتون!!
لماذا أحجمت الدول عن قتل أفعى تلك الشهية وهي في مهدها؟ أكان هناك ما يبرر تنغيص العالم زهاء عشرين سنة بصراخ ذلكم الطاغية وتركه يتمادى في هواه وإثمه إلى أن شهر السلاح في وجه بريطانيا التي كانت العامل الأول في استقلال بلاده؟
ألمثل موسوليني يلوح بأغصان الزيتون؟
ألمثل موسوليني يطير ماكدنالد ويطير شامبرلين ويطير أيدن كلما صال الرجل وجال؟
لقد كانت الدبلوماسية البريطانية تعرف حق المعرفة أنه سيتمادى في مطالبه كلما أذعنت له، وأنه إذا أعطى قيراطاً عبس وتولى وطالب بقيراطين. فإذا أعطى القيراطان طالب بثلاثة فأكثر وهكذا، فإذا سلمت الجغبوب اليوم ظن تسليمك ضعفاً وطالب بالحبشة فملحقاتها فملحقات الملحقات إلى ما شاء الله، ذلك أن بعض العقليات الواطئة ترى في الكرم ضعفاً وفي الرفق خوفا ورهبة.
لماذا لم تعبر إذن الدول المتحالفة عن شعورها في حينه في حزم وفي صلابة؟ لماذا تركت موسوليني يتمادى في مطالب لا يبررها التاريخ ولا تقرها حالة إيطاليا المادية والأدبية دون أن تقابل تماديه بتهديد يعززه الاستعداد لمقاومته بالقوة؟
لقد دار الفلك دورته وانهزم الطاغية شر هزيمة وانهار صرح الإمبراطورية الإيطالية من أدناها إلى أقصاها وفقدت الصومال وأرتيريا والحبشة وطرابلس وألبانيا وجثا أسطولها(594/23)
الشامخ يتلمس الرحمة من ذئاب البحر ورفع مليكها التاج عن رأس وخطها وخز الضمير شيباً، وفتكت قنابل الحلفاء في حصونها فتكاً ذريعاً، وخربت القلاع والمعاقل والموانئ. فماذا بقي لإيطاليا بعد حدوث ما حدث؟
الرفق!
الرفق! كأننا لم نتعلم من دروس الماضي القريب!
فليرفق الدبلوماسيون بالمهزوم ما شاءوا، دهاء منهم أو غير دهاء. أما نحن في مصر وقد اصبح لنا مقعد في الأسرة الدولية الكبرى فلا صالح لنا البتة أن نحيد عن المبدأ الواقعي الذي أشرت إليه في بدء هذا المقال: نريد أن يبني مستقبل مصر الدولي على الصخر الراسخ. فليرفق إذن بإيطاليا ما شاء الدبلوماسيون ولكن بعيداً عن مصر وعن حدود مصر، بعيداً عن النيل وعن منبع النيل!
علي إسماعيل(594/24)
كلمة أخيرة. . .
للأستاذ سيد قطب
لست أملك أن أتمادى في الحديث مع الأستاذ صلاح ذهني أكثر مما فعلت حتى الآن، حيث لا موضوع للحديث غير الشتائم والسباب، وإلا فهو الرابح. . . لقد عجز بإنتاجه في القصة أن يكون موضع حديث أحد في صحيفة، فنال ذلك الآن عن طريق الشتائم والسباب!
وإلا ففيم كلمته الأخيرة؟
لقد أخذت عليه أن لهجة رده الأول كانت لهجة بذيئة، وإن ما جاء فيها من بيانات كان مستطاعاً دون الاضطرار إلى هذه البذاءة، صوتاً لمستوى المناقشات الأدبية. فإذا هو في كلمته الثانية يهبط ويهبط، حتى ليعز على كاتب يحترم قلمه أن يلاحقه. . . لقد فشلت إذن فيما وجهته إليه أول مرة!
والمسائل التي أثارها، فرددت عليها، عاد يثيرها بالنص من جديد: توفيق الحكيم ليس كاتب قصة، لأنه كاتب رواية؛ والمازني ليس كاتب قصة لأنه كاتب مقالة!
وعلى هذا النحو يسير، فلا يجوز أن أتحدث عن قصص بودلير لأنه شاعر، ولا عن قصائد لورنس لأنه قصاص وعلي أن الغي إنتاجهما الآخر، فلا أذكره ولا أسميه. وهكذا فشلت مرة أُخرى في أن أرد الأستاذ إلى الموضوع!
وقلت له: إن إنكاري للمدارس الأدبية مسألة لا تستحق المناقشة، لأنها تردنا إلى سذاجة في النقد، والى فوضى لا تنتهي فقال: أنني تركت الحديث فيها لجهلي بها. . . ثم إذا هو يقول عن تيمور: أنه ذو نزعة واقعية ينتمي بها إلى موباسان. . . لقد عدنا إذن إلى أن هناك عنوانات ترد إليها الأعمال الفنية. وكان قد أنكر ذلك وأثبته في آن واحد في مقاله الأول. فرأيت الحديث فيها عبثاً، وقد اتضح أنني محق فيما رأيت، فبعد مقالين هانحن أولاً، لا نزال حيث كنا من قبل!
بقيت أمور جديدة في قائمة الشتائم:
إنني لا أعرف لغة أجنبية: وهذا صحيح. ولعل منشأ كسلي عن تعلم لغة أجنبية هو أنني أرى الأستاذ صلاح وعشرات من أمثاله يعرفون لغة يتبجحون بمعرفتها ويلوكون(594/25)
مصطلحاتها ثم يكونون حيث هم، وأكون حيث أنا. فأرى أن اللغة - وإن كانت ضرورية - لا تخلق المعدومين، ولا تعدم الموجودين!
وثانية الشتائم أنني لا أكتب إلا عن الكتب التي تهدي ألي، ولذلك استهديته كتب تيمور. والأستاذ صلاح مسكين في هذا الهبوط، ثم مسكين. ولكن ماذا يقول، وقد أهدى ألي هو كتابه الأخير، إهداء لا أدري كيف أضع له الآن عنوانه في سجل الأخلاق وهو: (إلى أخي الناقد البارع الأستاذ سيد قطب مع وافر التقدير). ومع هذا فلم أكتب عنه شيئاً، لأنني لم أجد أنه يستحق شيئاً، فجاملته بالسكوت!
وليلاحظ أنني وقتها كنت (ناقداً بارعاً) وكنت الأستاذ فإما اليوم، فأنا لا (ناقد)، ولا (بارع)، ولا (أستاذ)، ولا يحزنون. . . لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وثالثة الشتائم في القائمة أنني ظل العقاد في الظهيرة. فلأكرر هنا ما قلته من قبل للدكتور مندور: أنني أفهم المسائل على نحو غير الذي يفهمه بعض (شبان) الجيل. أنني لا أحاول إنكار تلمذتي للعقاد، لأن لدي ما أقوله وما أبدعه وراء ذلك، فلست أخشى على وجودي حين أعترف بهذه الأستاذية، وهي حق، فلا يسمح ليس خلقي أن أنكرها أشد الإنكار، وإن أبرأ منها كل البراءة، كما كان الأستاذ صلاح يصنع ويتشنج حين قال:
إنه من تلاميذ تيمور!
وبعد، فظل العقاد هذا يستطيع أن يكون (الناقد البارع) كما كنت عند الأستاذ صلاح في 23 أبريل الماضي! وإن يكون (ناقد شعر فقط) كما أنا الآن عند الأستاذ صلاح أيضاً في 12 أكتوبر الحالي. وأن أكون شاعراً كما يقول بعض الناس غير الأستاذ صلاح. فهل يستطيع أن يقول لي ما هو: ماذا يستطيع أن يكون؟ لقد كنت أعني ما أقول حين قلت له: إن إعزازي الشخصي له، هو الذي يدعوني أن أناقشه، وإلا فليس هنالك من محور أدبي نلتقي عنده ليستحق الحديث. وحتى هذا الإعزاز الشخصي قد عبث به ببذاءة التعبير. . . تلك كلمة أخيرة، لأن الشتائم في منوال من يريد.
سيد قطب(594/26)
القيثارة
للدكتور عزيز فهمي
نسجتْ عليها العنكبوتُ شعارها ... ورمى البلى لما رمى أوتارها
كانت عزاءك دون كل خليلةٍ ... لهفى عليك وقد حرمتَ حوارها
كم قد شكوت لها تباريح الهوى ... في ليلة أرخت عليك ستارها
وشرحت الآم الجوى ولهيبه ... فاستودعتك بدورها أسرارها
تتناجيان ولا سمير سواكما ... والنجم يهتك أو يلم خمارها
حتى إذا طلعَ الصباحُ طرحها ... وأويت أهدأ ما تكون جوارها
وقفتْ عليك حياتها فأنينها ... باكٍ عليك إذا قدحت أوارها
ونشيجها لولا أساك كشدوها ... وأساك يلهبها ويضرمُ نارها
عزافة الألحان تشدو طلقةً ... ما شئت حتى تستثير قرارها
تحنو عليك حنانَ أم برة ... يفرى ويقلم طفلها أظفارها
لا تقتضيك على الوفاء بديله ... وتظل طوعك ليلها ونهارها
لولاك ما نطقت بآه حرةٍ ... يوماً ولا شق الحنين إطارها
ماتت عروس الشعر فوق شفاهها ... والقوس يعزف راوياً أشعارها
وحكى الصدى ألحانها فتجاوبت ... حيناً وأذهل صمتها سمارها
غنيتهم زمناً فهوم نائمٌ ... وأشاح عنك فعاودتْ إصرارها
وحبست عنهم لحنها فتلفتوا ... لما زجرتَ عيونها وهزارها
وصبنت عنهم كأسها فتذوقوا ... خمراً سواها واستسغت عقارها
فصدفت عنهم يائساً مترفعا ... وغنيت عنهم واحتملت إسارها
كانت عزاءك دونهم فحرمتها ... وبقيت وحدك حافظا تذكارها
حملت همومك عنك دهراً فاحتمل ... فيها المصاب مخلداً أخبارها(594/27)
من شعر الأطفال:
القلم يقول عن نفسه. . .
للأستاذعلي متولي صلاح
إنني شيء صغيرٌ ... في يديكم كل آنِ
ليس جسمي بكبيرٍ ... غير أني ذو مكانِ
كلكم يعلم فضلي ... كلكم يعرف شأني
أنا عند الطفل والأس ... تأذ في كل زمان
يفخر الناس بحملي ... فأنا زين البنان. . .(594/28)
صرخة اليأس
لشارل بودلير
(لا تقل ما أجملها بل قل ما أجمل الشر فيها)
جميلة أنت ي عيني يا جاني ... يا صرخة العار في شكي وإيماني
أقبلت في قوة كالشر يحفزه ... ضعف النفوس فوالهفي أنا الجاني
صببت قلبك في قلبي فأحرقته ... حتى تبدي لهيباً دمعه القاني
ماذا بروحك من خمر ومن لهب ... وأنت من أنت يا نيران أشجاني
صرعت قلبي وأنت اليوم كعبته ... يا جمرة الخلد في روحي ووجداني
يطوف حولك نفح دافئ عطر ... كما يطوف فراش حول نيران
يا صرخة العار يا كأسا مرنحة ... لعينة أنت في يأسي وخذلاني
أعيش في ظلك المسحور مرتجفاً ... كأنني عابد أستاف إلهامي
أنا السجين بأغلال عبدت بها ... قيد الجمال وإن أودت بأنغامي
أنا الطعين بسكين شربت بها ... خمر الهلاك وأنت الخنجر الدامي
ناشدت قلبي سلواً عنك فارتجفت ... فيها الحياة ودوى صوتها الحاني
ورحت للخنجر القتال أرفعه ... فغازل النصل عيني وهو ينهاني
ورحت للموت أسقيه وأنشده ... لحن الفناء فلم يهتف بألحاني
قالت لي الكأس لو ضاعت حقيقتها ... لعشت فيها وكنت الهادم الباني
أواه مما ألاقي اليوم من عنت ... وآه ما مضى في أمسي الفاني
عبد القادر محمود(594/29)
البريد الأدبي
نظرية الفصل وماذا يريد القائلون بها؟!
لا أريد بهذا المقال أن ألتقي مع المتلاحمين في معركة (وحدة الوجود)
فحسب هذا الميدان من فيه، وما أنا محاول كذلك فتح (جبهة ثانية) بعد
أن انسحب الدكتور زكي محتمياً بما قاله عن ظروف حرية الرأي في
مصر، وهو احتماء غير كريم. . .
إنما هي كلمة هادئة إلى هؤلاء الذين نادوا وينادون بنظرية عجيبة، يذوبون هياماٍ بإشاعتها، ويلبسونها قفازاً في أيديهم، يلفون به في كل معركة، عندما يعوزهم الدليل والبرهان. . .
ففصل العلم عن الدين غرام أنهك داؤه قلوب قوم أولعوا به، إذ وجدوا فيه رفعاً لالتزامات، لا تستطيع أعصابهم احتمال الوقوف عند سدها القائم لصد النزوات، ورد الهفوات - هذا الميزان العلمي، لضبط الفضيلة العلمية، ووقاية العقل من الشطط، وتحرير الحقيقة. . .
وقد كان لهذه النظرية والقول بها مذاق في أفواه الأقدمين، حين كانت الأديان طقوساً منعزلة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية والثقافية، وكل ما له صلة بحياة الناس العملية الواقعية وإن مستها فإنما تمسها وتتصل بها اتصالا رفيقاً لا يدخل في صميم نظمها وتنظيمها، ووضع أسسها، وتفصيل برامجها، والإفتاء في كل ما له صلة به بكل جلاء ووضوح. .!
كان لهذه النظرية مكان في هذا الماضي التاريخي، حين كانت الأديان على نحو ما ذكرنا، وحين كانت تعني بالمسائل الروحية التعبدية في مجموع ما فيها من وسائل، وقد يسوغ أيضاً أن يبقى هذا المكان أو أن يمتد هذا التاريخ في غير بلاد الشرق المسلمة، وفي غير مصر الإسلامية، بعد أن جاء الإسلام منذ 1363 سنة نظاماً عاماً، شاملاً كاملاً، تناول الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ونظم شؤون الناس جميعها، معنياً بالروح، عنايته بالجسم والعقل، وعنايته بكل النواحي الإنسانية الأُخرى، بما لا يدع مجالا لمنكر أو طالب حقيقة، وآيات القرآن ناطقة بهذه الحقائق، وسنوفيها حقها في موضعها من الكلام(594/30)
فما بالنا إذن نبعد عن فهم حقيقة الإسلام، ونحصره في زاوية ضيقة محدودة من آفاق الحياة؟! أنها ليست دعوى تعصب، ولكنها الحقيقة يؤيدها التاريخ والواقع
فعلى القائلين بنظرية الفصل أن يتريثوا، وإن يقترفوا بتاريخهم، ويتبصروا مقدار ما في هذا الخطأ الشائع من جناية على الحياة العقلية الشرقية، والحقائق الإنسانية
كنا نريد أن يكون المتزعمون للحركة الفكرية عندنا قوميين أحراراً، يصدرون في آرائهم عن باعث القومية الحرة، ونقول القومية الحرة، حتى يكون رأياً بعيداً عن التحيز أو التعصب، وبعيداً كذلك عن الالتماس في الفكرة الغربية. بتهالك المستسلم الذي نسى نفسه وجهل تاريخه وماضيه فذهب حاضره ومستقبله هباء
يا قوم. . . إننا أمة ذات مجد وذات تاريخ، فأين نحن في حاضرنا من مكاننا المرموق؟! إننا لا ندعوكم إلى تعصب في العلم أو تعسف فيه، ولا نطالبكم بتزييف التاريخ أو الممالأة فيه، ولكننا ننبه إلى تفهم الحقائق التي بين أيديكم، والسيطرة على مفاخر الكنوز من تاريخكم، وهي كلمة أولى إن اتسع لها صدر الرسالة، وما نظنه ضائفاً، فسنتبعها بالكلمة المقصودة من المقال وهي بيان كيف أن الإسلام جاء نظاماً شاملاً كاملاً تناول كل مظاهر الحياة وعناصرها، وكيف أنه لم يفرق ولم يفصل بين أية ناحية من نواحيها، بل جعل منها جميعاً مزاجاً واحداً متماسكاً، أقام عليه أسس الحضارة الإنسانيةالفاضلة، التي سعد في ظلها الناس جميعاً - ثم نعرض لموقفه من العلم - والعلم التجريبي خاصة
ومودعنا بهذا كله عدد آت إن تفضلت الرسالة الغراء.
أحمد. . . الحجاجي
إلى أستاذي البشبيشي
تفضلتم بتنبيهي إلى صحة كلمة (الربى) في بيت (شوقي) لأن أصلها الربى. وتسهيلها جائز. فأشكر لكم هذا التنبيه. وأذكر أنها وردت في مقالي في مجال نقدي لكثرة الاضطرار إلى التسهيل والترخيم. . . الخ مما لا يضطر إليه إلا المبتدئون.
تلميذكم
سيد قطب(594/31)
إلى سعادة عبد العزيز فهمي باشا
إذا وجد في الأمة مكابر واحد ينكر عليك أنك كنت المحامي الأول والقاضي النزيه الأول، فقد لا يوجد فيها من يجرؤ على إنكار أنك كنت ثالث رجلين حملوا كلمة مصر يجابهون بها مغتصب حقها ومستعبد أهلها يطالبونه بالاستقلال.
وليس بين عقلاء مصر من لم يكبر فيك تجنبك ديماجوجية زعامة الشعب وتهويشها
كان كل موقف من مواقفك هذه خليقاً بأن يرفعك إلى مصاف العظماء، وكان الأخلق بها متجمعة أن تسير بك في سبيل. المجد الخالد، ولكن أنت همتك الشماء إلا توقل مرتفعات المجد وبلوغ قمة الخلود
لقد أصبحت من الخالدين، لا يوم اصطفوك، لأن تكون في زمرة أعضاء المجمع الخالدين، بل يوم طرحت على زملائك رجال المجمع اللغوي اقتراحك (الحروف اللاتينية لكتابة العربية) فهذا الاقتراح في ذاته، بغض النظر عن خطئه وصوابه، بطريقة عرضه، وبالأسلوب الذي صيغ فيه، وبصدقك الصادق، وجرأتك العالية، وحججك الدامغة، قد نزع القناع الشفاف عن نفسية العبقري. هي عبقريتك الفريدة، فصرت في الخالدين
حبيب الزحلاوي
إلى الأستاذ العقاد
تبارك الرزاق في تقسيم الأرزاق
أيها الأستاذ الكبير. إن ذلك الرجل الذي رفع إصبعه إلى السماء وصاح:
(أأنت موجود؟ أهذا عدل في قسمة الأرزاق) (في مقالك في الرسالة بعنوان (تبارك رزاق البرية)، وأن أبا العلاء المعري الذي قال: (إذا كان لا يحظى. . . فتزندقا) - وإن ابن الراوندي الذي قال: (كم عاقل. . . العالم التحرير زنديقاً) - وغيرهم من الشعراء، وغير الشعراء ممن قالوا مثل هذا - أن هؤلاء يا أستاذ، يريدون أن يلقوا المسؤولية في ظلم الحظوظ لهم على الرزاق أو على القضاء والقدر. وكأنهم في الوقت نفسه يبتغون (وهم لا يدرون) أن يبرروا نظام المجتمع العسوف الغابن الجائر، وإن يبرئوا منظمي المجتمع من فساد نظامه(594/32)
ليس المسؤول عن ذلك الغبن في تقسيم الأرزاق، لا الرزاق ولا القدر. بل المسؤول هو جنس الناس أنفسهم، الذين سنوا قوانين مجتمعهم ناقصة وفاسدة وغير منصفة
أن تلك الألوف التي يبددها المسرفون ليست (بدل مفقود) كما تقول، وإلا جاز أن يكون (اتيس) التيوس صاحب الملايين، لأن الذكاء النابغ يثمن بالملايين. وإنما هي ثمن عدل بيع بخساً أو ثمن ظلم اشترى رخيصاً. فما كانت الألوف في زمن من الأزمان، أو مكان من الأمكنة تنال بالبله أو بالخساسة أو بالسخف أو بالكسل المطلق. وإنما كان ولا يزال كل قرش ينال بتعب في عمل معادل له. فإذا كان معك عشرات الألوف من الجنيهات فهناك ألوف من العمال حصلوها بتعب معادل لها، وإذا كان عندك مليون جنيه، فلا يعقل أنك بذلت تعباً يساوي مليون جنيه، فهي من جني تعب غيرك
فأولئك الكسالى والأخساء والبله، الذين يملكون الألوف والملايين لم يملكوها بدل ذكاء فقدوه، ولا بدل نباهة أو عبقرية فقدوها، ولا بدل عمل كسلوا عنه. وإنما نالوها متجمعة من حاصل أتعاب الذين تعبوا في تحصيلها - وأنت تعلم ذلك جيداً. وتعلم أن ذلك ليس من قسمة الرزاق ولا من قضاء القدر. وإلا فلا جزاء للبشر لا خيراً ولا شراً إذ لا مسؤولية عليهم. إنما هو من فساد نظام البشر
والذين يتذمرون من عدم العدل في تقسيم الأرزاق يعزونه إلى عدم التساوي في المواهب والعقول والأخلاق، حيث لا مبرر للتذمر أو الشكوى، لأن هذا قضاء الرزاق ولا حيلة لهم فيه
وإذن ففساد نظام الكون ليس (في تباين موازين الجزاء) بل في أن ذلك النظام يمنح من لا موهبة له ولا علم ولا ذكاء ولا عمل ويمنع الموهوب والذكي والعامل الصالح
على أن الفقرة التي ختم بها الأستاذ مقاله كفرت عن حملته على المتذمرين من عدم العدل في قسمة الأرزاق.
نقولا الحداد
الدكتور زكي والشيخ الدجوي
في بعض أعداد (الرسالة) الأخيرة، افتخر الدكتور زكي أنه القائل (المجد كالمال، فيه حرام(594/33)
وحلال).
والذي نذكره أن الدكتور زكي نسب هذه القولة إلى أستاذه الشيخ يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء، وقد كتب يذكر شيخه بها في بعض رسائله التي كان يرسلها في صحيفة (المساء) من مقامه في باريس عام 1930.
وقال الدكتور يومئذ أن الشيخ الدجوي نصحه بهذه (الحكمة) إبان صدور كتابه (الأخلاق عند الغزالي) حين أخذ جماعة من الناس يصاولونه ويناجزونه.
ولما كنا نعرف في الدكتور الحقائق التاريخية، فإننا نرجو أن يجلو لنا وجه الحقيقة حتى لا نقع في الاضطراب بين الأقوال وأصحاب الأقوال!
(الرمل)
منصور جاب الله
حول فرقة التمثيل
لو جرى النقد المسرحي على النمط الذي أرانا إياه الأستاذ حبيب زحلاوي في العدد الفائت من هذه المجلة، لوجب علينا إلا نعبأ بالنقد وإن نطلب الهداية لأصحابه، وأن نعقد (الفصول والغايات) في تبيان ماهية النقد وأصوله وأهدافه!!
سقطت رواية (يوليوس قيصر) التي أخرجتها بوصفي مديراً فنياً للفرقة المصرية، ونجحت رواية (مرتفعات ويذرنج) ومخرجها زميل لي. . . والسبب في هذا - كما يزعم الناقد - أنني قدمت عن توخي التجويد فني بعد أن وصلت إلى أعلى مراتبه، في حين أن زميلي دائم التوفر على التحسين والإتقان. كذا؟؟
بهذا جرى زعم الأستاذ زحلاوي، وهو زعم له ما وراءه، له أن يثير النفرة وبين زميل لي في الفن نجاهد معاً على تحقيق غرض واحد.
أما أن يعمد الناقد إلى تبيان كيف ولماذا لم تنجح الرواية الأولى، ونجحت الثانية، وأين مواطن الضعف في هذه، وأين مراتب التجويد في تلك، وما السبيل إلى تلافي وجوه النقص والوهن، وكيف نزيد في توخي الإتقان، فكل هذا أمر مطوي في سريرة الناقد لم يفصح عنه، وأؤكد أنه لو قدر على الإفصاح عنه لما تردد، لأنني اعهده متلمساً كل عيب يسهب(594/34)
ويفيض في كل أمر يكتب فيه!!
ولكنني أؤكد أن الأستاذ زحلاوي، لا يقدر على هذا، وإذا جرى قلمه بشيء منه، فكما تجري مطرقة الحداد في يدي اليسرى.
أسائل الأستاذ زحلاوي ماذا أفاد الناس من نقده وأنا في مقدمتهم؟ وبماذا ننعت نقدا لا يفيد المنقود ولا القارئ؟؟
ليعفني القارئ من الجواب، ومن أيراد النعت اللائق بذلك النقد، وللقارئ أن يقول فيهما ما يشاء، ولكنني أقول إن هذه الظاهرة العجيبة في النقد المسرحي - وهي ظاهرة نطالعها في أكثر ما يكتب عن المسرح - حدت بالوزارة إلى إنشاء (قسم النقد والبحوث الفنية) بمعهد فن التمثيل العربي الذي أتشرف بالعمل فيه.
فهل يجد الأستاذ زحلاوي من الشجاعة الأدبية ما يحث خطاه إلينا؟ أنني أدعوه دعوة صادقة مخلصة، فنحن ما عشنا طلاب علم، وإنما العلم من عند الله يؤتيه من يشاء.
زكي طليمات(594/35)
الكتب
1 - تاريخ ما قبل التاريخ
(مطبعة الشباب الحديثة)
الأستاذ الفاضل عبد الله حسين كاتب وصحفي معروف بسعة ثقافته وطلاوة أسلوبه وحسن تناوله للموضوعات التي يعرضها لقرائه المعجبين به، وقد اضطره مرضه الذي ابل منه والحمد لله إلى البعد عن عالم التأليف وقتاً غير قصير، وقد فاجأنا اليوم بكتابه الطريف (تاريخ ما قبل التاريخ) فذكرنا بمؤلفات ولزم خصوصاً في كتابه (خلاصة التاريخ) الذي جمع فيه أشتاتاً من المعارف منذ خلق الله الخلق إلى اليوم. . . وقد تصفحنا كتاب الأستاذ الفاضل ثم لم نجد بداً من قراءته أخيراً. . . فكانت ساعات ثمينة من المتعة الذهنية لم نقف فيها إلا عند هنات لا تنقص من جهد الأستاذ. . . نحسب أن أهمها ما كان يضطر إليه الأستاذ من السرد الصحفي للموضوعات، وعدم المبالاة أحياناً بتنسيق التبويب، فبينما يحدثنا عن الفن فلا يذكر من الفنون إلا التمثيل، ثم ينتقل إلى الأدب والشعر (وكل ذلك في الفصل الثامن عشر) إذا به يحدثنا عن العواطف الجنسية في الفصل الحادي والعشرين ويتناول الموسيقى في هذا الموضع مع كونها في مقدمة الفنون وكان مكانها في الفصل الثامن عشر وإن مست العواطف التي يحدثنا عنها الأستاذ. . . ومما لاحظناه أيضاً انتقال الأستاذ فجأة من العام إلى الخاص، ككلامه عن الحديد في مصر في الفصل التاسع (العصور الجيولوجية وعصور المصنوعات المعدنية) وكان الأظرف جعل الكتاب عاماً بدل هذا التخصيص الذي كان حقه أن يفرد بكتاب مستقل.
الحق أنه كتاب جميل؛ فيه جهد وفيه فكر.
2 - هارون الرشيد والبرامكة
(مطبعة جلبي بدمنهور)
كتاب شائق للآنسة بنت بطوطة كتبته بالفرنسية ونقله إلى العربية الأستاذ د. ن. والكتاب قصة لهذه الفاجعة الألمة التي انتهت بنكبة البرامكة، والتي كان لحادثة العباسة أخت الرشيد في علاقتها الشريفة بوزير الرشيد المقرب جعفر البرمكي دخل كبير في أشنع مأساة لطخت(594/36)
العصر الذهبي للحكومة الإسلامية. . . وقد استطاعت الآنسة بنت بطوطة أن تستعرض في الكتاب جميع الآراء المختلفة في أسلوب روائي ممتع تستحق من اجله التهنئة، كما جاءت الترجمة العربية ترجمة سهلة في عبارة خالية من التكلف
3 - عشاق العرب وقصر الهودج
(جماعة النشر للجامعيين)
يخطو الأستاذ الفاضل كامل عجلان المدرس بالأزهر خطى حثيثة نحو الكمال الأدبي، ونحن يسرنا أن يلتفت شباب الأزهر إلى ضرورة المشاركة في نهضة مصر الأدبية في عالم الشعر والقصة والرواية بأنواعها. . . فليس يحرم هذه الفنون على شباب الأزهريين إلا جاهل بقيمتها وقيمة الأزهر وبرسالته الحديثة. . . وقد بدأ الأستاذ عجلان يساهم في الإنتاج الأدبي، فقدم للقراء مجموعته الطريفة (عشاق العرب)، وهي خمس قصص حوارية من أروع قصص الحب في الأدب العربي أولاها، حبابة، وثانيتها جميل، وثالثتها زينب بنت إسحاق، والرابعة قيس ولبنى، ثم الخامسة غادة الهودج وهي أطولها، وكان الأحرى اختصاصها بكتاب قائم بذاته. . . وغادة الهودج التي نثرها الأستاذ عجلان هي قصر الهودج التي نظمها صديقنا الأستاذ باكثير. . . وقد وفق كل منهما توفيقاً كبيراً في الوصول إلى هدفه. . . وسنجري أن شاء الله موازنة بين التمثيليتين في فصل خاص عسى أن يكون قريباً.
4 - وامعتصماه!
(دار اليقظة العربية: دمشق)
مجموعة من التمثيليات الجيدة يصلح الكثير منها للتمثيل بالمدارس، أنشأها الأستاذ الأديب عبد الوهاب أبو السعود أحد أدباء سوريا الشقيقة، وقد راقتنا منها القطعة الرمزية الجميلة: الوطن - بقدر ما شاقنا حسن تصريف المؤلف للحوار في المجموعة كلها، وحسن استخلاصه لموضوعاته من أدبنا العربي الصميم.
(د. خ)(594/37)
العدد 595 - بتاريخ: 27 - 11 - 1944(/)
أيهما؟. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
سؤال من الأسئلة الكثيرة التي توجهها الصحف الغربية والعربية إلى المشهورين، وهو: أيهما أحب إليك: المال أو الشهرة؟
وقد وجه هذا السؤال في أمريكا إلى رجال ونساء عندهم المال وعندهم الشهرة، ولو وجه السؤال إلى أناس لا يملكون هذا ولا تلك، ولكنهم يسعون إليهما ويطمعون فيهما، لظفر السائلون بناحية أُخرى من نواحي الجواب، لعلها أصدق وأقرب إلى معرفة النفس من جواب المشهورين الأغنياء
فلإنسان لا يحسن تقدير الشيء الذي هو في يديه، لأنه ينزل به عن قدره، ولا يحسن تقدير الشيء الذي يصبو إليه، لأن يرفعه فوق قدره، ولكنه - على الأقل - بصوره لنفسه وللناس في صورة هي أجمل وأقرب إلى مرضاة الخيال
كذلك يختلف تقديرنا لما نملكه ونطمئن إلى بقائه وتقديرنا لما نملكه ولا نزال مهددين فيه
وإنما القصد بين جميع هذه التقديرات أن نملك الشيء ونحس الحاجة إليه، ولكن في غير فزع ولا اضطراب، فمن ثم لا نزهد فيه ولا ننزل به عن قدره ولا نغلو في تعظيمه غلو من يتطلع إلى الأمنية وهو يحسبها منه بمنزلة السماء من الغبراء
رجعت إلى نفسي في هذا السؤال فلم أفكر في جوابه، بل وثب بي الفكر إلى موضوعه، ورجع في طفرة واحدة إلى أيامي المدرسية في أوائل القرن العشرين. . . أيام كانت (أيهما) هي فاتحة كل موضوع من موضوعات الإنشاء العربي يطلب من التلاميذ أن يكتبوا فيه:
أيهما أفضل: العلم أم الغنى؟ أيهما أحب إليك: الحرب أم السلم؟ أيهما أجمل: الصيف أم الشتاء؟ أيهما أنفع للإنسان: الشجاعة أم الحكمة؟
إلى آخر هذه المفاضلات التي استأثرت زمناً بأقلام الناشئين الصغار، وكتب على جيلهم بعد ذلك بعشرين سنة أن يكون هو الجيل الذي يغرق إلى أذنيه في النقاش والحوار: تارة نقاش الأحزاب، وتارة نقاش الآراء والأفكار
وعرضت مراحل الإنشاء المدرسي من تلك المرحلة إلى الآن، وهي مراحل التي حضرتها(595/1)
على كرسي الأستاذ، ولم أحضرها على كرسي التلميذ
كانت هذه المراحل موزعة بين الوصف وكتابة الرسائل واستعادة الحوادث أو الذكريات
صف الربيع في الريف، أو صف الحجرة التي تتعلم فيها، أو صف رجلاً عظيما رأيته، أو صف محفلاً من المحافل العامة. . . إلى أشباه هذه الأوصاف!
أما الرسائل، فمنها ما يطلب من التلميذ أن يكتبه إلى أبيه، ومنها ما يطلب إليه أن يكتبه إلى أستاذه، أو زميله، أو شخص من شخوص الخيال
واستعادة الحوادث والذكريات تتلخص في تكليف التلميذ أن يذكر ما مر به في الإجازة المدرسية، أو في يوم من أيام البطالة، أو في السفر إلى بلد من البلدان
والمقابلة بين هذه الموضوعات في صعوبتها أو سهولتها على التلاميذ هي في الآونة درس نافع لسبر أغوار العقول، وقياس مقدرة الفكر الإنساني في كبار الرجال، وليس في صغار التلاميذ وحسب
فأصعبها بغير خلاف هو الوصف، ثم استعادة الحوادث والذكريات، ثم كتابة الرسائل على اختلافها
وإنما جاءت صعوبة الوصف من كونه امتحاناً للحواس والملكات جميعاً في وقت واحد، ومنها حواس النظر والسمع وملكات الملاحظة والترتيب والاختيار
فالواصف مطالب بأشياء كثيرة في شيء واحد يسمى (الوصف)، وهو في الواقع عمل تشترك فيه كل ملكة في الإنسان
فعليه أولاً أن يحصر ما يراه وما يسمعه وما يحسه على اختلاف ضروب الإحساس
وعليه ثانياً أن يرتب هذه المحسوسات كما سيذكرها في وصفه وعليه ثالثاً أن يختار ما هو حقيق بالذكر، وينبذ منها الفضول الذي يسكت عنه أو يجتزئ بالإيماء إليه
وعليه رابعاً أن يحسن التعبير عما أحسه ورتبه واختار أن يكتب عنه
فلا جرم كان بهذه المثابة امتحاناً صادقاً لعقل الكبير والصغير، وملكات الفيلسوف والرجل العامي من سواد الناس
ولا أخال الكاتب يعرف بعمل من أعمال قلمه يعرف كما يعرف بطريقة وصفه لمنظر من المناظر، أو خالجة من الخوالج، أو حادثة من الحوادث، لأنه لا يهمل ملكة واحدة من(595/2)
ملكات قريحته وهو يعالج هذه الأوصاف، وإذا هو أهملها عامداً أو غير عامد، فإهمالها نفسه دليل على ملكات القريحة كدليل العمل والانتباه
وقد رأينا صحفيين مشهورين يرحلون من بلد إلى بلد، أو من حي إلى حي، ليكتبوا مقالاً وافياً عن بعض الزيارات أو بعض (الشخصيات) فيعنون بالعرض قبل الجوهر، ولا يدرون (مكان الشاهد) كما يقال في لغة العامة عند حصر الحديث المفيد
فيحسبون مثلاً أن المهم من حديث (الشخصية) المقصودة هو ما يسألونها عنه وتجيب عليه، أو يحسبون أن السكوت عن بعض الأسئلة لا يفيد شيئاً كما يفيد الجواب عليها، أو يحسبون أو وضع الطرف والصور في بعض المواضع من المكتب أو البيت عامة أمر لا يهم الاطلاع عليه، ويجرون على قاعدة واحدة في السؤال والجواب، وابتداء الحديث والانتهاء منه، مع اختلاف الأمزجة والعادات بين أناس ينكشفون من المباغتة، وأناس ينكشفون من الشخصية والتكرار، وبين أناس يتحفظون في أحوال، وأناس لا يتحفظون في جميع الأحوال، أو يتحفظون في سياق، ولا يتحفظون في سياق
وقد تجري بين الصحفي والرجل الذي يحادثه محاورة في التمهيد للحديث يسقطها الصحفي من حسابه، لأنها جاءت قبل افتتاح الحديث، ولم تجيء في صلبه بعد بداية السؤال والجواب، مع أن المحاورة التمهيدية هذه قد تدل القراء على جوانب في ذهن صاحب الحديث وعاداته، لا يدلهم عليها عشرات الأسئلة والأجوبة التي تقال بعد تنبيه وتحضير
وندع الصحفيين وننظر إلى الروائيين الذي يتخللون رواياتهم بالوصف الحسي أو الوصف النفسي إما نصاً وإما في خلال السطور
فما أيسر ما نعرف هؤلاء الروائيين قبل أن نعرف أبطالهم وحكاياتهم عنهم؟. . . هذا روائي يصف لك الدنيا كأنما هي كلها سريرة نفسية لا محل فيها لاختلاف الصيف والشتاء وتبدل الأماكن والعصور، وهذا روائي يصف لك الدنيا كأنما هي كلها حديقة أو غابة لا محل فيها لشيء غير نضرة الأوراق وذبول الأوراق وألوان الأوراق، وهذا روائي غيرهما يصف لك الدنيا كأنما هي كلها سوق أو مضمار صراع أو مضجع غرام. وكلهم يظهرون بدنياواتهم هذه قبل أن يظهروا لنا أبطالهم من الرجال والنساء
عرضت مراحل الإنشاء المدرسي في ذاكرتي ورجعت منها إلى مرحلتي على كرسي(595/3)
التلميذ يوم أفاضل كل أسبوع بين العلم والجهل أو بين الحرب والسلم أو بين المال والجمال أو بين الصيف والشتاء، أو بين القوة والمعرفة، أو بين أولي الأشياء أحياناً بالتفضيل وأولاها أحياناً بالتهجين والإنكار
وذكرت كيف كنت أختار في كثير من الأحيان أضعف الشيئين لأجتهد في تمييزه والذود عنه، ففضلت الجهل على العلم مرة وفضلت الحرب على السلم أُخرى، وناقشت في ذلك أساتذتي وأناساً من كبار الزوار وأئمة العقول في الديار المصرية
ثم عدت أراجع اليوم موقفي من أمثال ذلك السؤال، وأعني به كل سؤال يبتدئ بأيهما ويرمي إلى تغليب شيء على شيء كل التغليب
أصبحت أعتقد أنه سؤال لا يجوز أن يوجه إلى عاقل ولا يحتفل عاقل بالجواب عليه
فليس في العالم الإنساني مسألتان يكون الحق كل الحق في إحداهما ويكون الباطل كل الباطل في الأُخرى
وإنما تختلف مواضع الاختلاف بمقدار نصيبها في الحق كثرة وقلة وقوة وضعفاً لا بخلوها منه كل الخلو واشتمالها عليه كل الاشتمال
يسألني بعضهم: هل تتغلب الديمقراطية بعد الحرب أو تتغلب الشيوعية! فأقول مبدئياً أن الديمقراطية والشيوعية لن تبقيا كما هما الآن، ولكن تأخذ الشيوعية من الديمقراطية وتأخذ الديمقراطية من الشيوعية وتتقابلان في وسط الطريق، ولكني أعتقد أن موضع الالتقاء أقرب إلى الديمقراطية بكثير
ويسألني آخرون: هل تفضل النهضة الفنية أو النهضة العلمية في الأمم التي تحتاج إلى النهضات؟
فأقول إن نهضة من هاتين النهضتين لن توجد على انفراد، ولن تحيى أمة قط بالعلوم دون الفنون أو بالفنون دون العلوم، فكل عالم تجرد من روح الفن عالم عاجز؛ وكل فنان تجرد من روح العلم فنان غير موهوب، ولا جواب (لأيهما) هنا إلا أن تقول (كلاهما) وتعود إلى التفصيل في التفضيل
ويسألني غيرهم: أيهما أحب إليك جمال المرأة؟ أو جاذبيتها؟ فأقول: وهل تتجرد الجاذبية من الجمال وتسمى جاذبية؟ أو هل يتجرد الجمال من الجاذبية ويستحق بغيرها اسم الجمال؟(595/4)
فإذا بدأ السائل اليوم بأيهما؟ أوشكت أن أجيب (كلاهما) قبل أن يتم السؤال
سألني بعضهم مازحاً وقد سمع مني هذا الرأي: وأيهما على هذا القياس أفضل: البصر أم العمى؟
قلت: وحتى هذا
نعم حتى هذا لا استثناء فيه، لأن العمى هو انعدام البصر وليس هو ملكة تقابله المناظرة والمشاكلة. فعلى هذا الاعتبار يمكن أن يقال إن احتجاب النظر في بعض الأحوال خير من النظر في تلك الأحوال. ومنها النوم والراحة والإعراض عن القبح والشناعة وما لا يستحب النظر إليه في جميع الأحوال، وليس لأحد أن يقول حتى في جواب هذا السؤال إن النظر خير من عدم النظر في جمع الأحوال
ألم يفعل المعري في هذا المعنى فقال:
قالوا العمى منظر قبيح ... قلت بنقدي لكم يهون
والله ما في الوجود شئ ... تأسى على فقده العيون
فإذا أردنا الإنصاف قلنا: بل في الوجود شيء تأسى على فقده العيون، وفي الوجود شيء لا تأسى على فقده العيون
و (كلاهما) ثم تفصيل جواب صالح لكل (أيهما) على هذا الاعتبار.
عباس محمود العقاد(595/5)
على هامش النقد
خواطر متساوقة
في النقد والأدب والأخلاق
الأستاذ سيد قطب
مما يؤسف له أن يقف الناقد بين فترة وفترة ليرسم طريقه، ويحدد أهدافه، ويعلن عنها للقراء! ولكننا في دور يفوعة أدبية، فلا مفر من الوقوف عند هذه البديهيات. ولعل مما يعزى عن ضياع الوقت والجهد في هذه الوقفات - وإن كان موضع أسف جديد -، أن الناقد في الشرق العربي، لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكنه ينهض كذلك لتصحيح معايير الأخلاق!
وحينما تصديت لعمل (الناقد) كنت أدرك - كما قلت مرة -: (أنني لن أخرج من بين المؤلفين بكثير من الأصدقاء! فالفنان - بل الإنسان عامة - لا يرى في الغالب إلا الصفحة الجميلة في نفسه، لأن هذا الجانب هو الذي يسره ويلذه، ويملق كبرياءه ويغذي غروره. فإذا ووجه بالصفحتين جميعاً، فوجئ بالصفحة الأُخرى التي يراها لأول مرة، وحسبها تزويراً عليه. وحتى لو اقتنع بأنها صفحة، فإنه لن يستريح لعرضها على نظره وأنظار الناس)!
ومن يومها وأنا أفقد الأصدقاء واحداً إثر واحد، لأكسب عدداً معادلاً من الخصوم! بل عدداً أكبر لأنني أضم إليهم كل يوم خصوما. . . ولكنني أعاهد القراء على أنني سأمضي في الطريق؛ فحسبي أن أعوض ما أفقد من بين القراء المحايدين وهم بحمد الله كثيرون!
ولقد احتملت منذ أشهر فقد صديق عزيز مقابل مقالة نقد، أعطيته حقه فيها من تطفيف!
ولابد أن يحتمل المرء ما يأسف له من الهنات الخلقية في هذا السبيل أيضاً، فلبعض المؤلفين حاشية خاصة، وظيفتها التهليل والتكبير لكل ما يخرجون من أعمال، والدفاع - بكل أنواع الأسلحة - ضد النقد الحر، إذا استطاع ناقد أن ينفذ من هذه الشباك!
ولقد رماني الحظ أخيراً في وقعة من هذا النوع! فلم يكن بد من أن يصيبني رشاش من هذه الهنات، وإذا كنت قد أسفت على شيء، فعلى أنني لم أكن عطوفاً عليها وأنا أفهم بواعثها(595/6)
الصغيرة. . . وهل أقل من أن أكون جاهلاً؛ وألا أكون ناقداً لينجو مؤلف من حكم النقد العادل؟ إنها أيسر سبيل لتجريح هذا (الناقد) الذي لا يعرف كيف يتخلى عن وظيفته على الطريقة الساذجة المتبعة في المحاكم من (تجريح) أفضل الشهود للحصول على البراءة عن هذا الطريق!
ما علينا. فمنذ اليوم سنعطف على مثل هذه الهنات!
وحينما تصديت لعمل (الناقد) كانت لي طريقة معينة أؤدي بها هذا العمل، لا أرى بأساً من عرضها هنا لقراء (الرسالة):
إن عملي مع كل مؤلف هو وضع (مفتاحه) في أيدي القراء الذين يقرءون أعماله متفرقة، ولا يدركون القاعدة التي تقوم عليها هذه الأعمال، ولا يتعرفون إلى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل
وهذا (المفتاح) ضروري للتعريف بالأديب؛ وإلا كان النقد عملاً جزئياً ليس وراءه كبير طائل بالقياس إلى القراء. ونقد كتاب دون بيان السمات (الشخصية) التي تطبعه إنما هو عمل ناقص لا يؤدي إلى شئ في هذا الباب
لا بل إن هذا (المفتاح) ضروري للمؤلف نفسه لا لقرائه وحدهم. فكثير من المؤلفين لا يعرفون أنفسهم، ولا يلتفتون إلى خصائصهم. وهم يستفيدون من الناقد الذي يضع المرأة أمام وجوههم ليتبينوا فيها ملامحهم الأصيلة
وليس من وظيفة الناقد أن يغير من طيعة المؤلف التي فطر عليها. ولكن وظيفته أن يعرف هذه الطبيعة ويبلورها، ويقيس أعمال المؤلف بها، ويهديه إليها إذا ضل أو أنحرف في فترة من فترات الضعف والضلال!
وكلما تناول الناقد أحد المؤلفين مرة، يجب أن يصير هذا المؤلف (معرفة) لدى القراء: لا من حيث الشهرة والبروز، ولكن من حيث تميز الملامح، ووضوح الخصائص. فلقد يكون المؤلف ذائع الشهرة عند آلاف القراء؛ ولكنهم لا يدركون (من هو) على وجه التحقيق؛ ولا يعرفون (مفتاح) طريقته الموحدة في أعماله جميعاً
وأذكر أنني سرت على هذا المنهاج في كل ما كتبته حديثاً من فصول النقد. فلم يكن همي هو التعريف بالكتاب فحسب، بل التعريف بالكاتب أيضاً. وكانت سمات الكاتب العامة(595/7)
وخصائصه الأساسية، هي التي تسترعي نظري، وتنال اهتمامي. وكان المؤلف في نظري إنساناً ذا طبيعة قبل كل شيء، ووظيفتي هي تصوير هذه الطبيعة. يستوي أن يكون المؤلف شاعراً أو باحثاً أو كاتب رواية أو قصة أو أقصوصة. فما يعنيني عنوان عمله بمقدار ما تعنيني طبيعة عمله
وعلى هذا الأساس تحدثت مثلاً عن أعمال تيمور، وأعمال المشتغلين بالرواية والقصة والأقصوصة من الكبار والصغار؛ وعن نزعته بين نزعاتهم، وعن المدرسة التي يمكن أن ينمي إليها بين مدارسهم. فأما الذين فهموا طريقتي، والذين يهمهم جوهر الطبيعة الفنية، فقد وافقوني أو خالفوني فاهمين، وأما الذين كل بضاعتهم مصطلحات وعنوانات، ولا يملكون أن ينفذوا من ورائها إلى جوهر الطبيعة الفنية؛ فقد راحوا يتعالمون ببضاعة من الفهارس والمعجمات!
إن الأديب يكون ذا طبيعة واقعية أو رمزية أو خيالية، ثم يكون شاعراً وكاتب رواية أو قصة أو أقصوصة، أو كاتباً اجتماعياً، أو باحثاً تاريخياً. والناقد المهتم بالطبائع الفنية، قد يتجاوز العنوان الذي يقدم به أعماله، ليبحث مباشرة في طبيعة هذه الأعمال، كما أنها قد يراعي العنوانات الظاهرية مع الطبيعة الداخلية زيادة في التبويب والتقسيم. حينما يقف الآخرون أمام هذه العنوانات لا يتجاوزونها إلى النزعة الكامنة وراءها. لأنهم محرومون من الفطنة إلى طبائع الأشياء!
أحب أن ينتبه قرائي إلى هذا الاتجاه.
وبعد؛ فالنقد ضريبة وتضحية! فما أحسب (الناقد) في الشرق العربي إلا خاسراً لو المسألة بالقياس إلى نفسه:
إنه لا يرضى أحداً إلا القليلين. وأنه لينفق من الجهد ليقول شيئاً ذا قيمة - أكثر مما ينفقه في أي فن آخر من الفنون الأدبية، فكتابة مقال تستأديه على الأقل قراءة كتاب، أو عشرة كتب أو عشرين في بعض الأحيان. لقد صنعتها حينما كتبت في (الرسالة) منذ عام أربعة فصول عن الدكتور طه حسين و (مدرسة الأسلوب التصويري) والأستاذ توفيق الحكيم و (مدرسة التنسيق الفني) والأستاذ المازني و (طريقة الحركة الحيوية) والأستاذ العقاد و (مدرسة المنطق الحيوي) ولقد كلفتني كل مقالة قراءة كل كتاب لهؤلاء الأربعة ومعظم ما(595/8)
كتبوه من مقالات. ولم أكن لأزيد على هذا الجهد شيئاً لو اعتزمت أو أؤلف عنهم كتاباً. وكل ما يعزيني عن هذا الجهد أن هؤلاء الأربعة هم مع آخرين هم عندي اليوم موضوع كتاب!
ولقد كنت آخذ - في وقت ما - على بعض كتاب الصحف الأول عندنا انهم لا يخصصون جزءاً من وقتهم للنقد وتوجيه الحركة الأدبية. فالآن بدأت أفهم أنهم معذورون. فالنقد عمل يستنفد الوقت والجهد، بلا تعويض مناسب. وخير لهم أن يؤلفوا كتباً موضوعية من أن يتتبعوا أعمال المؤلفين بالنقد. وقد لا يكون بين كل عشرة كتب يقرءونها كتاب واحد يستحق ما أنفق من الوقت في قراءته!
النقد ضريبة يؤديها الناقد من وقته وجهده! - وأنا أؤديها قدر ما أستطيع - وإنني لأرغب في التخلي عن أدائها لأنشئ أعمالاً أدبية أُخرى. فلولا إجازة أعطيتها لنفسي في صيف هذا العام ما استطعت أن أؤلف (كتاباً). وأشهد أنني لم أتعب فيه أكثر من تعبي في إعداد مقال من مقالات النقد الصغيرة!
ولكنني أصرح - وليقل من شاء ما يشاء - بأنه ليس هناك الآن (ناقد) يؤدي هذه الضريبة. كان هناك رجلان يستطيعان أداءها - على اختلاف في النوع والطاقة - هما العقاد والمازني: فانصرفا - وحق لهما ذلك - إلى الخلق والإنشاء
ثم تصدى لها الدكتور مندور. والدكتور مندور من خيرة الشبان المثقفين ومن القلة النادرة بين (الجامعيين) في مصر الذين لديهم ما يقولونه، وما يزيدون به شيئاً غير الفهارس والعنوانات. ولا يمنعني ما شجر بيني وبينه في وقت من الأوقات من الاعتراف له بهذه الخصائص
ولكنه - مع هذا كله وعلى الرغم من كتاب الميزان الجديد - لا يصلح ناقداً. أنها ناقل ثقافة وشارح آداب. أما النقد فلا. إن الحاسة الأولى للناقد تنقصه: حاسة التفرقة لأول وهلة بين الأصالة والزيف، وبين النضج والفجاجة
فالناقد الذي يخلط بين طبيعة المتنبي وطبيعة الأستاذ محمود حسن إسماعيل، فيرى أن هناك خيطاً - ولو ضئيلاً - يصل بين هاتين الطبيعتين، إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين الأصالة والزيف. ولو تشابهت المظاهر في بعض الأحايين(595/9)
والناقد الذي يعجبه (تيمور) حين لا يعجبه (توفيق الحكيم) إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين النضج والفجاجة، أيا كانت النزعة التي ينزع إليها هذا أو ذاك، وأيا كانت الطريقة التي يسلكها. فالعمل الفني الناضج ينال مكانة، مهما تكن عيوب النزعة التي أملته والطريقة التي يسلكها، والعمل الفني الفج لا ينال هذا التقدير مهما تكن نزعته واتجاهه.
ليست المسألة أن هذا اللون يعجبك أو ذاك. ولكنها في الصميم، أن هذا أصيل أم زائف، وناضج أم مبتسر. وتلك مسألة لا تخفى معالمها على الناقد الأصيل
ويكون الإنسان قارئاً ومثقفاً، ولكن هذه الحاسة هبة تنميها الثقافة، وتعجز عن خلقها في النفوس
والدكتور مندور يبدع ويعجب ما ظل يتحدث عن المبادئ العامة، ولكن الزمام يفلت من يده عند التطبيق، فتختلط عليه الأصالة بالزيف والنضج بالفجاجة. وتستهويه بعض النزعات الأدبية دون بعضها، فيضله هذا الاستهواء كما حدث في نماذجه عن (الشعر المهموس) وفي حديثه عن (تيمور)
وهذه لا ينقص من قدر الدكتور مندور؛ فنحن في مرحلة بعد نقلة الثقافة فيها هم رواد الجيل.
سيد قطب(595/10)
2 - أبو تمام
بين عبقريته وسرقاته
للأستاذ دريني خشبة
استطاع أبو القاسم الآمدي أن يحشد لنا في كتابه الموازنة طائفة كبير جداً من أشعار أبي تمام التي سطا فيها على معاني غيره من الشعراء، والتي تركها تختمر في رأسه - كما يعبر الآمدي - أو التي اتكأ فيها على نفسه - كما يقول أبو بكر الصولي - حتى أخرجها آخر الأمر زائدة المعنى، أو معدولاً بها عن معناها الأصلي، أو مذهوباً بها تلك المذاهب الطريفة التي تصورها ابن الأثير، والتي قسمها إلى تلك الأقسام الخمسة: من نسخ، ومسخ، وسلخ؛ وأخذ المعنى مع الزيادة عليه، وعكس المعنى إلى ضده، على نحو ما بيناه في الكلمة السالفة. وكان ابن الأثير يضرب الأمثال لكل من هذه الأقسام بأبيات شائقة لشعراء مختلفين، وكان ما خص منها أبا تمام شيئاً كثيراً. وسنجهد هنا أن نطبق موازينه على السرقات التي أوردها الآمدي، لنرى أن أبا تمام كان يسرق حقاً، وكان يستر هذه السرقة فتخفي على الناس أحياناً، ثم تكشف عن نفسها أحياناً أُخرى، بل أحياناً كثيرة. . . وسنرى أنه كان يزيد في المعاني المسروقة معاني مبتكرة يوفي بها على غاية الحسن. . . بل يظهرها بها في صور عجيبة لا يقدر عليها إلا خيال فنان مبتكر، قادر على التوشية الحية، والتلوين البديع. وسنرى أيضاً أنه كان يغلو في صوره، حتى يجعلها ضرباً من الألغاز، يكاد ينقلب إلى ضرب من السخف، لما يحشد فيها من الإغراب والتعقيد. . . الأمر الذي جعل حساده يقولون فيه: إنه ابتعد عن عمود الشعر، لإسرافه في استعمال أدوات البديع. . . استعمالاً حسياً أحياناً، واستعمالاً معنوياً في أغلب الأحيان
وسنرى كذلك أن أبا تمام كان يمسخ المعاني المسروقة، ويقصر بها عن صورها الأصلية الرائعة، وسنرى أن علامات السرقة التي نص عليها ابن الأثير، ولا سيما في السلخ بأنواعه، مستوفية في كثير من سرقات شاعر المعاني الخالد
1 - فمن نسخ أبي تمام قوله:
وركبٍ كأطراف الأسنة عَرَّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه
أخذ صدره من بيت كثير:(595/11)
وركب كأطراف الأسنة عَرَّسوا ... قلائص في أصلابهن نُحول
وأخذ قوله:
لما رأى الحرب رأْىَ العين نَوْفَلَسٌ ... والحرب مشتقة المعنى من الحَرَب
من قول إبراهيم بن المهدي:
ومسعر الحرب، واسم الحرب قد علموا ... لو ينفع العلم، مشتق من الحَرَب؟
ولم ينفعه ستر السرقة بقوله مشتقة المعنى بدل اشتقاق الإسم وأخذ قوله:
كأن بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرَّ من بينها البدر
من قول جرير:
أمسى بنوه وقد جلّت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر
أو من قول مريم بنت طارق:
كنا كأنجم ليل بينها قمر ... يجلو الدجى، فهوى من بينها القمر
وأخذ قوله:
وكانت لوعة ثم استقرت ... كذاك لكل سائلة قرار
من قول الفرزدق:
أنتم قرارة كل مدفع سوءةٍ ... ولكل سائلة تسير قرار
وأخذ قوله، وهو يجمع بين النسخ والمسخ:
فلو أبصرتهم والزائر يهم ... لما مِزْت الحميم من البعيد
من قول محمد بن بشير الخارجي:
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام
ولا غرو أن بيت الخارجي أروع!
وأخذ قوله، وزاد في معناه وأبدع:
تعوَّد بسط الكف حتى لو أنه ... دعاها لقبض لم تجبه أنامله
من قول مسلم بن الوليد:
! لا يستطيع يزيد من طبيعته=عن المروءة والمعروف إحجاما
والنسخ هنا كلى في المعنى، مع تجويد فيه، وتبديل للألفاظ وقوله في مغنية تغني(595/12)
بالفارسية:
ولم أفهم معانيها ولكن ... شجت كبدي فلم أجهل شجاها
من قول الحسين بن الضحاك في الظرف نفسه:
ولا أفهم ما يعني ... مغنينا إذا غنَّى
سوى أنيَ من حبي ... له، أستحسن المعنى!
وذلك مما يلحق أيضاً بآخر ضروب السلخ عند ابن الأثير، وهو الأخذ عن معنى ثم الانتهاء إلى جنتين مختلفتين! والحقيقة أننا حرنا في أي القولين أشجى رأيهما أملح وأروح؟
وأخذ صدر البيت التالي، وعدل بعجزه:
لا يحسب الإقلال عُدْما، بل يرى ... أن المقل من المروءة معدم
من قول أبي داود الإيادي:
لا أعد الإقلال عدما، ولكن ... فقد من فقدته الإعدام
وعجز بيته:
فتى في يديه البأس يضحك والندى ... وفي سرجه بدر وليث غضنفر
من بيت مسلم:
تمضي المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرجه بدراً وضرغاما؟
ونسخ هذين البيتين:
ما اليوم أول توديعي ولا الثاني ... البين أكثر من شوقي وأحزاني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تشافه بي أقصى خراسان
من قول الأرقط بن دعبل:
نهنه دموعك من سح وتسجام ... البين أكثر من شوقي وأسقامي
وما أظن دموع العين راضية ... حتى تسح دما هطلا بتسجام
ونسخ هذين البيتين:
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(595/13)
من قول النظار بين هاشم الأزدي:
يعف المرء ما استحيا ويبقى ... نبات العود ما بقي اللحاء
وما في أن يعيش المرء خير ... إذا ما المرء زايله الحياء
ولا يخفى أن تعبير أبي تمام أسلس، وإن لم يبق على معنى الأزدي المسكين!
وقوله:
إليك هتكنا جنح ليل كأنه ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
من قول أبي نؤاس:
أبِنْ لي كيف صرت إلى حريمي ... ونجم الليل مكتحل بقار؟
ولا يخفى أن أبا تمام وإن سرق من أبي نؤاس إلا إنه أجاد عنه ولم يقع فيما وقع هو فيه من قبح بتكحيل النجم بالقار - أي الزفت؟ -
ونسخ قوله:
حمراء من حلب العصير كسوتها ... بيضاء من حلب الغمام الرقرق
من قول مسلم:
صفراء من حلب العصير كسوتها ... بيضاء من حلب الغيوم البُجَّس
وقوله:
وأحسن من نوْر تُفتّحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب
من قول الأخطل:
رأين بياضاً في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب؟
وقوله، وهو يجمع بين النسخ والسلخ:
لو كان في الدنيا قبيل آخر ... بإزائهم ما كان فيها معدم
من قول بشار:
لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير
ونختم هذه المنتخبات التي وضعناها في باب النسخ، والتي تخيرناها من أكثر من ألفى بيت مما حشد الآمدي من سرقات أبي تمام، بما رواه أبو محمد بن اليزيدي قال: قال دعبل: لما مات ذفافة العبسي رثاه أبو سلمى المزني، من ولد زهير، واسمه مكنف، وكان بينهما(595/14)
هجاء في إفحاش بقصيدة منها:
أبعد أبي العباس يستعتب الدهر ... وما بعده للدهرُ عتبى ولا عذر
ألا أيها الناعي ذفافة ذا الندى ... تعست وشلت من أناملك العشر
ولا مطرت أرضاً سماء ولا جرت ... نجوم ولا لذت لشاربها الخمر
كأن بني القعقاع بعد وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
توفيت الآمال بعد ذفافة ... فأصبح في شغل عن السَّفر السَّفْر
وما كان إلا مال من قل ماله ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر
قال أبو محمد: أنشدني دعبل هذه القصيدة ثم جعل يعجب من أبي تمام في ادعائه إياها وتغييره بعض أبياتها!
وقصيدة أبي تمام التي يقصدها دعبل هي مرثيته الخالدة التي رثى بها محمد بن حميد الطوسي ومطلعها:
كذا فليجل الخطب، وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
والتي قهر بها أبو تمام أعداءه، بما أبدع فيها من معان، أقلقت بال دعبل، وسهدت جفنيه، فأخذ أبياتا من مرثيه أبي سلمى المزني في زفافه، وخلط بها روائع أبيات أبي تمام، ولا سيما:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر
وما كان إلا مال من قل ماله ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
ثم جعل يشنع بها على أبي تمام. . . ولو فطن إلى سرقات أبي تمام التي وقع عليها الآمدي في هذه المرثية، والتي أشرنا إلى بعضها في هذه الكلمة لكان خيرا له من ذلك التلفيق.
وفي أخبار أبي تمام للصولي (ص201) أن محمداً بن موسى حدث بذلك الحسن بن وهب فقال: أما قصيدة مكنف هذه فأنا أعرفها، وشعر هذا الرجل عندي، وقد كان أبو تمام ينشدنيه، وما في قصيدته شيء مما في قصيدة أبي تمام، ولكن دعبلا خلط القصيدتين، إذ كانتا في وزن، وكانتا مرثيتين، ليكذب على أبي تمام!!
وعلى هذا فليس في ذلك نسخ كما وهم بعض نقاد أبي تمام ومنهم الآمدي.(595/15)
(يتبع)
دريني خشبة(595/16)
أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي
هيلوئيز الجديدة
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان الحب في القرن السابع عشر يرافق البطولة ويصاحب الشرف. ولقد رأيت أن الأميرة دكليف، خشيت أن تؤذى في الحب. فأفضت إلى زوجها بأنها أحبت، لئلا يمس شرفه وتعر كرامته. فلما أتى القرن الثامن عشر، مالت المرأة إلى دراسة شمائل الرجل وعاداته من خلال الحب. وانقضى ما كان من قبل من حب هائم، يسهر الليل ويذهل اللب، ويضني الفؤاد.
وما لبث الناس أن انطلقوا. . . يلذون، ويفكرون فساقهم هذا الانطلاق البعيد إلى الملل، ودفعهم الملل إلى حب الطبيعة، والرغبة في البساطة، والبعد عن التكلف، مما هيأ النفوس لقبول رواية هيلوئيز الجديدة، والعناية بها.
كان روسو قد أشرف على الخامسة والأربعين من عمره، عندما كتب هذه الرواية وكان قد نشأ ابن ساعاتي في جنيف. ثم ماتت أمه وهو صغير. وفر أبوه من رجال الحكومة وتركه فولج كل باب، ودخل كل مدخل، ثم مضى لاهياً متشرداً لا يحفل أحداً.
واتصل بمدام دفرنس، فكانت خليلته وربيطته من غير أن تحبه. كما كانت جورج ساند ربيطة شوبان من بعده.
ثم تركها وصنع كل صناعة: فكان ناموساً لأرشمندريت، ثم سفيراً، ثم سارقاً، ثم موسيقياً، والى هذا كله، كان فناناً، حالماً، مرهف الحس، رقيق الشعور، يحس جمال الطبيعة، ويعشق اللذائذ الصافية البسيطة، وكان يرنو إلى زرقة السماء، وخضرة الحقول، وجريان المياه. . . ويداعب في نفسه حلما جميلاً.
وقصد باريس، حالماً بالمجد. كان يتمنى نصر الأبطالوخلود العباقرة. ولكن ما هو الثمن الذي ينبغي أن يؤديه؟ لقد اخترع طريقة لترقيم الموسيقى، وكتب غنائية لم ينشرها، ثم أنه يحس أنه قادر على التأليف، فهل يكفي هذا. . .؟(595/17)
وكان إلى ذلك أيضاً رقيق المشاعر، لكنه متكبر. وكان يعيش في الخيال. ويبتعد عن الواقع، ويقول: (إن الإنسان لا ينعم بما يناله، بل بما يأمله، ولا يحس المرء السعادة إلا عند ارتقاب السعاد). فرجل كهذا، قد يجد في عزلته من النعيم ما لا يجده بين الناس. ولكن هناك المجد. . وكيف يدركه؟
واستطاع أن يتصل بمدام دوبان التي كانت تستقبل عظماء باريس كلها وصادق ابن زوجها (فرانكويل) وكان هذا عاشقاً (مدام ديبيناي ' ثم انضم إلى جانب الفلاسقة. وعندما وضع مجمع ديجون بالمسابقة خطابا حول الفنون والعلوم، كتب دفاعه الشهر ثالباً محاسن المدنية:)
(. . . أيتها الفضيلة، أما نقشت مبادئك في جميع القلوب، أو لا يكفي، لكي نعلم قوانينك، أن ينحني الإنسان على نفسه فيصغي إلى صوت ضميره، عند صمت الأهواء. . .)
وذاع صيت روسو، وعرف بأنه عدو لدود للعواطف المتكلفة، وأنه صديق الطبيعة. هذا أول لقب من ألقاب المجد، فليفتش عن لقب آخر
وفي السنة 1752، مثلت روايته (عراف القرية أمام الملك في فرساي، وأوتيت حظاً كبيراً من النجاح فتطلع الناس كلهم إلى معرفة روسو والتحدث إليه
لكن هذا العالم الذي استقبله ورحب به، لم يكن قد خلق له. ولم تكن أبهاء باريس، وما فيها، لتروقه. (كانوا يلهون، يحاولون الجمع بين الفكر والعقل، ولا يتعمقون في المباحث خوف الملل. ويجنحون إلى الإيجاز، ثم لا تجد واحداً ينقد رأي آخر، أو يؤيده، ويتعصب له. . .)
فماذا يفيد روسو من هذه المحادثات؟
وعزف عن الناس، وانقطع إلى أمام ديبيناي، في أحضان الطبيعة
وهفن نفسه إلى تأليف رواية يدور موضوعها على الحب؛ هذا الحب الذي لم ينعم به في أيام صباه، وقد هاجه ما يحيط به في عزلته هذه، في دار مدام ديبناي. لقد ذاق طعم حياة هادئة فيها راحة وهناءة وسذاجة. وتمتع بمرأى الغابات والحقول، ولذته أناشيد العصافير، وأسكرته عبقات الأزاهير. أنها عزلة حلوة، ولكن، ما كان أكثر جمالها وأشد هناءتها، لو كانت عزلة مخلوقين اثنين عن الناس، عزلة قلبين متحابين يعيشان في دار كهذه، وينعمان(595/18)
بطيب الحياة، وكان الربيع الطلق قد أقبل يضحك ويغني، وفي كل مشهد من الطبيعة نداء للحب. فأغراه ذلك كله على كتابة رواية ما. فبدأ، وأحاط حوادثها بمنظر الطبيعة التي عاش فيها وتمتع بروائها، أيام كان صبياً غض العود، على ضفاف بحيرة جنيف. وسماها هيلوئيز الجديدة لأنها تشابه مغامرة هيلوئيز وآبيلار، المؤدب الذي عشق الفتاة التي عهد إليه أن يؤدبها. وتخيل شاباً لا نسب له ولا مال، اسمه سان برو، يحاكي روسو في خلقه، ويخالفه في تبلده، قد أتى به ليؤدب جوليا ابنة السيد ديتانج الغني السويسري. وكانت قد أوتيت الجمال والشرف والتهذيب. فما أن رآها حتى أحبها. فكتم حبه. فلما ثار الهوى، وضاق به ذرعاً، كتب إلى جوليا رسالة حبه الأولى. وهي رسالة رقيق تفضي إليها بحبه
كان سان برو كروسو، تؤثر فيه العواطف وتهزه الأهواء. وكان، كما قلنا، خيالياً حالماً، فلم يطمع من جوليا بما يصعب نواله ويستحيل إدراكه، بل كان يريد أن يقول لها: (إن ملامحك خلابة بهرت عيني. . .)
(. . . إن أبصارنا تتلاقى، فتفلت من صدورنا بضع آهات في وقت معاً، وتنحدر بضع دمعات. . .
(. . . لقد حاولت اليوم، مائة مرة، أن أرتمي على قدميك فأنديهما بعبراتي، فيفل شجاعتي دائماً رعب قاتل، وترجف ركبتاي ولا تطيقان ثنياً. . .)
وينمو الحب في قلبي العاشقين، ويحاول سان برو أن يفر خوف الفضيحة فيسافر، وتتبعه رسائلها تدعوه فيها، لكن كيف السبيل إلى صون الشرف. كلا العاشقين قد أذلهما الهوى. ويريدان أن يبقيا شريفين طاهرين؛ فكانت تتمنى إلا يجفوها صادقة في حبها إياه، ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم وبئس، وأذعن، ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها.
وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .
فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه سان برو، وتتطلب أن يحبها، وأن يصونها ويحترمها
ولكي تتم الرواية، جعل روسو لهذين البطلين وصيفين يكتمان أسرارهما. فاتخذت جوليا ابنة عمها، واتخذ سان برو صديقه ميلورد ادوارد، ويجتمع سان برو بجوليا، وتكون معهما(595/19)
كلير في غيضة شعرية، ويكون مشهد القبلة الشهير
(فلما دخلتها، دهشت لرؤية ابنة عمك تقترب مني وتسألني قبلة بدلال واستعطاف فقبلت هذه الصديقة الفاتنة غير مدرك من السر شيئاً، ولكن رباه! ماذا أصابني بعد لحظة، حينما أدركت. . . لقد رعشت يدي، وأحسست قشعريرة لطيفة تدب في جسمي، وشعرت بفمك الوردي، فم جوليا، يلتم فوق فمي، وبذراعيك تضمان جسمي. أواه! كلا ليست نار السماء بأكثر تأججاً، ولا أشد سرعة من النار التي سرت تلك اللحظة في جسمي. لقد كانت النار تندلع من آهاتنا، وتتأجج في لاهبات شفاهنا، وكاد قلبي يموت تحت عبء اللذة، ثم رأيتك، وقد شحب وجهك، تغمضين عينيك الحلوتين، وتتكئين على ابنة عمك، ثم تسقطين على الأرض من الإغماء. عندئذ أطفأ الرعب سرورنا، فلم يكن نعيمي غير سنا خاطف كالبرق. . .
(إن اثر الإحساس العميق الذي أحسسته لن يزول أبداً. احفظي قبلاتك يا جوليا. . فأنا لا أستطيع احتمالها. . إنهن شديدات الأثر، يخزن ويحرقن حتى اللب)
ويتأجج الحب ويفور وتقسم جوليا ألا تتزوج أحداً غير سان برو
ويحاول سان برو أن يهدئ من فوران حبه ويخفف ثوران هواه فلم ير بداً من السفر. فغاب وفي إيان غيبته، أعلم السيد ديتانج، ابنته جوليا، أن زواجها رجلاً غير ذي نسب ونبالة مستحيل
فلما عاد سان برو، هزها الشوق، وعطفها إليه الحنين، فتقربت منه، وأزلها الشيطان، فأضحت خليلته، وعندئذ شعرت بوخز الضمير
(ليعزب هذا البربري إلى الأبد عن وجهي، ليمض فلا يضاعف بحضوره آلام روحي، ليكف عن التلذذ الوحشي بتأمل دموعي، ماذا أقول؟ وا أسفي على نفسي! أنه ليس مجرماً. أنا المجرمة وحدي. إن مصائبي لمن صنع يدي، وليس لي أن ألوم غيري)
ويسعى ميلورد ادوارد في إرجاع الأب عما عزم عليه ولكن سعيه كان فشلا. واضطر سان برو إلى مغادرة سويسرا فقصد باريس.
وتكشف السيدة ديتانج بعد سفر، رسائل العاشقين.
(ضاع كل شيء، وانكشف كل شيء. لم أجد الرسائل في المكان الذي خبأتها فيه، مع أنها(595/20)
كانت فيه أمس مساء، لابد أنها لم ترفع من مكانها إلا اليوم، وقد تكون أمي وحدها استطاعت أن تراها، ولئن رآها أبي، فليكونن هذا آخر عهدي بالحياة!)
ويقف روسو، برسائله وروايته عند هذا الحد، وكان يحمل هذه الرسائل في حقيبته، ويقرأهن على النساء، فيبكين رقة وأسى، وكان يعتقد أن روايته قد نمت، وإن الحبيبين افترقا إلى الأبد، فلا لفاه، لكن حادثاً يقع، فيكون نتيجة لتلك القصة الخيالية. وهذا مثال واضح يفسر الصلة بين الرواية والحياة وبين الخيال والحقيقة
عرف روسو، في هذه الحقبة، مدام دوتو. وكانت هذه، شأن كثيرات من نساء القرن الثامن عشر، قد فركت زوجها وأحبت سان لامبير، القائد الشاعر، عاشق مدام دشاتليه
وصادف أن لجأت إليه - وهو في عزلته عند مدام ديبيناي - وحلة قد بللها المطر. ثم زارته زورته ثانية ممتطية حصاناً، وقد تزيت بزي الرجال.
يقول روسو: (. . . ورغم أني لا أحب شبيهات هذه السخريات، فقد بهرت بشكلها، وأحببتها. . .)
لم تكن مدام دوتو، جميلة. ولكنها ذات سحر وجاذبية. وسرعان ما اشتد حبه وانتقل فجأة من العالم الذي كان يتخيله على الورق، إلى عالم فيه ما يلاقيه الهائمون من الوله والحنين والشكوى. وكانت، تياهة، طياشة ذات دل ورقة، وكانت لا تأبى على روسو النزهات في ضوء القمر، أو القبلات على حفافي النهر. لكن قلبها كان شارداً. أسره رجل غير روسو، وغير زوجها. رجل قائد خيل إليه أنه شاعر، وأوهمته أنها صادقة في حبها إياه. ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم ويئس وأذعن. ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها
وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .
فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه ولما قد أوتى بسطة من البلادة، وإن سان برو، يذعن، وقد يئس. ثم يجعلها في حل مما كانت عاهدته عليه، فلا تتزوج غيره. وتذعن جوليا إطاعة لأبيها، وشفقة على حبيبها ويضطرب سان برو، فسافر ليطوف في البلاد، مسكينة جوليا أنها لم تذق من هواها غير القلق والخوف واليأس. . . ولم تلق في طريقها غير حبيب أحبته، فأبعد منها، وزوج لم ترض عنه قرب إليها.(595/21)
فلما طوف كثيراً، عاد فنزل عند ولمار نفسه زوج جوليا. وحادث جوليا أول محادثة، وكانت خجلى، وحاولت أن تبدي عذرها في زواجها، ولكن زوجها فاجأهما. . .
يقول روسو (. . . ولم تعبأ، وظلت تتكلم بحضوره كأنه لم يكن. وعندما سكتت قال لي: هذا مثال من الصراحة التي تسود هنا. وإذا شئت أن تكون فاضلاً حقاً، فاتبع هذه السبيل. هذا هو الرجاء الوحيد والأمثولة الطيبة اللذان أقدمهما لك. أن أول خطوة نحو العار أن تخفي الأعمال العلانية. إن حكمة واحدة يمكن أن تحل محل الحكم كلها. وهي: لا تعمل ولا تقل ما لا تريد أن تنظره من الناس أو تسمعه منهم. . .)
لقد حاولت جوليا إدراك سلام القلب مع زوجها، رغماً عن هواها القديم الذي يثور في فؤادها. وهكذا انقلبت الرواية إلى درس أو منهج للأخلاق
لقد أراد أن يثبت أن الإخلاص بين الزوجين هو أهم واجبات الزوج شأناً، وأن الهوى العنيف عندما تكون الفتاة عذراء، إذا دام بعد زواجها من لا تحب يصبح جريمة. وأن المرأة تستطيع أن تنشئ حياة سعيدة على أنقاض حب عظيم
وتقضي جوليا العيش مع زوجها، في الحقول، يراقبان الخدم، ويوجهان الزارعين، ويعنيان بالكروم
ويعجب سان برو، بحكمة دلمار وجوليا ورجاحة عقليهما. ويصف الخدم والحديقة، وصفاً ممتعاً، ولكنه لم يستطع أن يطفئ لهب هواه، أو ينسى حبه القديم فقد كان كل شئ يذكره ويذكرها بنعيم مضى. . . وعندما اتخذت جوليا قارباً تتنزه فيه، فكرا معاً في ذلك الماضي الجميل (. . . كان صوت المجاديف المتزن، يثيرني لأحلم، وكانت صدحات دجاج الحقول المرحة تذكرني بنعميات عمر مضى فتحزنني بدلاً من أن تفرحني. وشعرت، رويداً رويداً، بازدياد الغم الذي كنت به مثقلاً. فلا صفاء السماء، ولا طراوة الهواء، ولا شعاعات القمر اللطيفة، ولا رعشات الماء الفضية حولنا، حتى، ولا وجود هذه المخلوقة العزيزة، لم يستطع أن يطرد عن قلبي ألف فكرة مؤلمة. . .)
وينهى روسو روايته بموت جوليا. بعد أن أوصت سان برو بزواج كلير ابنة عمها، ولكنه أبي. وعاش مع كلير ينشئان أولادها، وفاء لها
تلك خلاصة موجزة عن هيلوئيز الجديدة. ولقد أوتيت من الانتشار ما لم يقدر لغيرها.(595/22)
وقرأها النساء والشبان والشيخان، بحماسة ولذة وظلت طوال القرن الثامن عشر، رواية الجمهور. لقد علم روسو بها الحب نابليون، وأخذ عنه غوته وستاندال أيضاً. وعلم بها الناس الفضيلة، فكان قائداً أخلاقياً، ثم علمهم حب الطبيعة فأحبوها، وكان أباً وأستاذاً للابتادعيين الذين أتوا بعده.
صلاح الدين المنجد(595/23)
السلم العالمية
حمل قريب الأمد
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
كتب الأستاذ محمد توحيد بك السلحدار في عدد سابق من (الرسالة) مقالاً عنوانه منع الحرب حلم الأبد، وأقول رداً عليه إن السلم العالمية حلم قريب الأمد
والحق أننا نعيش الآن على مسمع من قصف المدافع وأزيز الطائرات، وعلى مرأى من مشاهد حرب شنيعة المهلكات
ولاشك أن أحداً من الدول المشتركة في هذه الحرب القائمة لم يكن يرغب في إثارتها، ليكتوي بنارها. والواقع المسلم به أن كل دولة تتبرأ من إعلان الحرب وتصرح بالابتعاد عن تبعة إثارتها
ولم يكن الأمر كذلك في قديم الزمان، إذ درج الحكام والملوك والأمراء على التفاخر بالعدوان، والمباهاة بالقوة والبأس والسلطان. فإذا كنا نرى في الوقت الحاضر أن أصحاب العروش وذوي التيجان وأقطاب الدول والزعماء المحركين للشعوب يتنصلون من تبعة الحرب ويتبرءون من إعلانها، فلا شك أن هذا دليل يحمل في طياته النزعة القوية إلى السلام، ويبشر بتحقيق هذا الحلم الذي كان من أطماع الناس في القديم ولا يزال من آمالهم حتى الآن
والقول في الحرب أو في السلام يقتضي منا الإشارة إلى الأسباب التي تسوق الدول إلى الخصام أو تدفع بها في سبيل الوئام.
قال الأستاذ توحيد بك السلحدار في أسباب الحرب ما نصه: (إن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شأن النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقسور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة والتجارة والتسلح. وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين)
وقد جمع الأستاذ بين الدوافع النفسية في الفرد وبين العلاقات الدولية وتنافر مصلحة الجماعات(595/24)
والحجة لا تستقيم بذكر طبائع الفرد وخصائصه، لأننا بصدد حرب بين دولة وأخرى، ومن المسلم به أن طبائع الجماعة تختلف عن طبائع الفرد، كما هو معروف لكل من درس علم الاجتماع
والدليل على نقض تلك الحجة النفسية هو نفور الجند من هذه الحرب الحاضرة من الحرب، لأنها جماعات وكتل بشرية تترك في الميادين يفقد فيها الفرد شخصيته المستقلة.
وأبلغ دليل في هدم كيان تلك الحجة النفسية القائلة يجب الكفاح. وتغلب الغريزة والشهوة والأنانية، أن الأفراد يعيشون في داخل الدولة الواحدة، ويرتفع عددهم إلى ملايين قد تزيد على المائة، وتسود فيهم بطبيعة الحال غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان، ومع ذلك تعيش هذه الجماعة، الواحدة كخلية النحل، كل فرد يقوم فيها بعمل، يكسب معاشه، ويتصل بغيره من الأفراد في سبيل كسب المعاش، دون أن تقع بينهم معارك دامية، إلا ما يحدث من الخصام المعروف بين الأفراد، الذي يحله القانون ويقتضيه الأمن والنظام.
فنحن نسلم بوجود النزعة إلى الكفاح في الفرد، وقد اقتضت الحضارة والمدنية أن توجه هذه النزعة إلى كفاح الحياة والتغلب على عقبات المعيشة، وتذليل البيئة المحيطة بالإنسان وتسخيرها لمصلحته، ودفع عدوان الأمراض والأوبئة وهي أفتك بالإنسان من أسلحة الحرب.
والبوليس والقضاء كفيلان بضبط الأمن وحفظ السلام بين سكان الدولة الواحدة.
فالمسألة في السلام هي خضوع الجماعة لحكومة واحدة ونظام واحد، لأن الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد.
فهل يصبح العالم بأسره خاضعاً لحكومة واحدة، وتتحول النزعة الوطنية إلى دولة واحدة وعالم واحد ونظام واحد؟
ذلك أن العلة الأساسية في الحروب هي انقسام العالم إلى دول تنطوي على نفسها، وتحتفظ كل واحدة منها بشخصيتها المستقلة، وتشيع العقيدة في نفس بعضها أنها أقوى من غيرها بأساً، وأسمى عقلاً، وأرفع منزلة، وأوسع علماً.
لهذا وقعت الحرب الحالية لانقسام العالم إلى دولة عظمى وإمبراطوريات كبيرة تتنازع على(595/25)
السيادة والسلطان.
ولهذا أيضاً ستقع الحرب المقبلة - وأنا لا أشك في هذا - بعد أن تضع الدول السيوف في أغمادها، والطائرات في حظائرها، لأنهم يقولون: إن العالم ستتحكم فيه الدول الثلاث المنتصرة: إنجلترا، وأمريكا، وروسيا، وقد يضيفون إليها الصين أو فرنسا.
ستقع الحرب في الجيل المقبل أي بعد عشرين عاما كما يقال، وقد تقع بعد جيل آخر أيضا، ولكن الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة، فخطوات سريعة جداً، هي التي تجعلنا نقول بأن السلم قريبة الآن.
ونحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة.
ذلك أن الجماعات كانت تعيش قديما في مدن صغيرة، أو قبائل متناثرة، ثم اقتضى الرقي والعمران أن يلتئم شمل المدن في دول، وأن تتسع رقعة القبيلة فتصبح شعباً كبيرا.
وكلما اتسعت الدولة زالت الفوارق بين الناس في اللغة والتقاليد والعادات والفكر والدين.
وقد ظهر في العالم عامل جديد لا ينبغي إغفاله لكل من يريد أن يبحث في تطور البشر. وهو عامل سيقلب كيان الإنسانيةكلها ويغير من مظهرها القديم.
هذا العامل هو سرعة المواصلات البرية والبحرية والجوية، فأصبح انتقال الإنسان في أرجاء الدنيا الأربعة من أيسر الأشياء. وإن آثر أحدنا البقاء في مكانه ولم يكلف نفسه عناء إلى شتى بقاع العالم، فمن اليسير عليه أن يفتح المذياع فيتلقى أنباء العالم في لمح البصر. وانظر بعد كيف يتم التقارب الشديد بين الناس جميعاً في الفكر وأسلوب الحياة.
وهذه خطوة بالغة الأثر في توحيد العالم
وستعقبها خطوات أُخرى يخيل إلينا أنها قريبة الوقوع وهي وحدة اللغة، ووحدة التقاليد، ووحدة الزي، ووحدة الأساليب في شتى فروع الحياة.
ألا ترى أن تركيا اصطنعت الكتابة بالحروف اللاتينية. وأن عبد العزيز باشا فهمي يريد في مصر مثل ذلك. والدلالة التي نعتبر منها في مثل هذه الحالة وأشباهها، هي النزعة الشديدة نحو اتحاد العالم في مظهر واحد. ولن يتأخر اليوم الذي تتم فيه هذه الوحدة لما ذكرناه من سهولة شتى المواصلات وسرعتها.(595/26)
ولا يغيب عن بالنا أن نذكر في هذا الصدد ما دار في الأذهان في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي من محاولة اختراع لغة عالمية سموها في ذلك الوقت (اسبرانتو). وقد ماتت الفكرة حيناً من الدهر، ولكنها أخذت تبعث الآن. فتوحيد اللغة أمر لابد من وقوعه لأنه لا يتوقف على الأمل والنية، بل يعتمد على طبيعة الأشياء. وطبيعة العمران الجديد الناشئ عن تيسير المواصلات بين أجزاء العالم، تقتضي حتما التفاهم بين الناس بلغة واحدة
ومن العوامل القوية في منع الحروب وتحقيق السلام بعد توحيد العالم على النحو الذي وصفنا وقوعه في المستقبل، انتشار التعليم بين سواد الناس، وما يتبع ذلك من رقي عقلي، ونزوع إلى تغليب الحكمة على الشهوة، وحل المشكلات بالعقل لا بالقوة. وكلما ارتفعت عقليات الأفراد صعب قيادهم قياداً أعمى لمصلحة ذوي المطامع الذين اصطلحوا على تسميتهم بمجرمي الحرب، ولا ننس أن الحرب صناعة كسائر الصناعات، ويحتاج إعدادها إلى تهيئة جيش مدرب على استخدام السلاح، ويعتنق فلسفة العدوان ويكره الجنوح إلى السلام، والعالم يسير الآن نحو خطة جديدة يرمي بها إلى نزع السلاح، ويجري في التعليم على بث روح السلم واعتناق فلسفة السلام
هذا التطور السريع الذي نشاهده في العالم يرمي إلى اشتراكية اقتصادية لاشك فيها الآن. وقد كانت الشيوعية هي المذهب المنتظر للفلسفة المادية التي تبغي إلغاء الملكية ومنع الاستغلال المزري، ولكنها اعتدلت فأباحت شيئاً من الملكية لضرورة العمران، فاقتربت بذلك من المذهب الاشتراكي الذي أصبح واقعاً في جميع الدول الآن. ومن شأن تنظيم الاقتصاد العالمي، وتيسير المعيشة لكل فرد في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وتعليمه، أن يشعر جميع الناس بالراحة من جهة معاشهم، فلا يبقى محروم تدفعه الحاجة إلى الثورة وامتشاق الحسام للحصول على الطعام
فإذا ذهبنا مع أصحاب الفلسفة المادية الذين يفسرون جميع الحروب التي حدثت في التاريخ تفسيراً اقتصادياً، فإن تحقيق المساواة لجميع سكان العالم في الحياة المادية، وهو ما يقضي به التطور الذي نشهد آثاره، كفيل بمنع الحرب وإقرار السلام، ولهذا صح ما نقوله من أن السلم حلم قريب الأمد، لا أنه حلم الأبد
أحمد فؤاد الأهراني(595/27)
2 - وحدة الوجود
للبروفيسور ج. أ. بودن
بقلم الأستاذ عثمان حلمي
إن وجود الخالق الذي كون العالم من أرواح أثيرية والذي رعى ودعم العالم، لا يمكن أن يثبته وجود العالم نفسه، بينما يظن (نيوتون) في موافقة للتقاليد أنه لما كان للعالم بداية فإن النظام الكوني كان أزلياً منذ أن ضمن وجود الله إعادة تجديده المستمر. ويرى نيوتون أن في شتى أجزاء الفضاء إلهاً يشكل خلقه في المادة وكذا في قوانين الطبيعة، ومن الجلي أن الطبيعة في نظر (نيوتن) ليست محض كتل ميتة عمياء تصطدم على غير هدى وتتجمع أو تنفصل في الفضاء، ولكن العالم تتخلله روح خالق يدين له العالم بوجوده كما يدين بتدعيمه وحفظه لهذه الحقيقة، وهذا يجعل الدنيا قابلة للفهم كما يجعلها جميلة مقبولة
يسخر ليبنتز من فكرة أن الله غير قادر على أن يخلق آلة ميكانيكية فوراً تسير بنفسها، ولكنها في حاجة إلى عامل معها لحفظها، إلا أن (ليبنتز) لم يقدر حساب اتجاه الانحدار في المادة (انحلال الحركة)
ففي عالم (ليبنتز) لا يوجد فقد عارض، غير أن فهم (ليبنتز) في إعادة التناسق في الذرات الهيولية التي تدور كالساعة منذ الأزل لم يبرهن عليه بنتيجة يرتاح إليها العلم الحديث
وأبعد من هذا فإن لابلاس قد تناول علم نظام الكون في مبادئ نيوتون (بفرض عدم وجود الله) ولكنه لم يعمل حساب قوة قابلية المادة للتحول
ويرى كلارك ماكسويل ثاني أعظم مهندسي العلم الحديث وجهة قابلية المادة للتحول فيخال أن (روح العالم بكل شيء) الذي يقدر أن يتصرف بدقائق أجزاء الطبيعة قد يعكس تدرج الانحدار المادي باختبار عاقل مدرك، غير أن (روح العالم بكل شئ) اصطناعية بجانب إله نيوتن. ومما لا ريب فيه أن نيوتون رغب في أن يعرف الله وإن يكشف عن جوهره بينما ارتضى علماء اليوم أن يقروا بجهلهم، فهو مثلاً كان متأثراً بحقيقة أنه في أي توزيع لكم من المادة عدد لا حصر له من الأنظمة والقوانين، وأنه يجب أن يكون هنالك اتجاه إلى نظم أُخرى خارجة عنها حتى يمكن أن يظل استمرار تناسق الأشياء وتوازنها الذي لا يمكن أن يدوم بغير قوة إلهية لحفظه، وجدير بعلماء هذا العصر أن يلاحظوا، ما(595/29)
هي؟
هو يجزم أن هذه الدنيا سائرة لا محالة إلى نهاية بعد قليل من بليونات السنين من يومه، والذي نسيه هو أن مسألة النهاية محددة بمسألة البداية، وعالم حقيقي كنيوتون يهمه أن يقف على حقيقة كل ذلك
لقد كان نيوتون عالماً عظيماً بما وراء الطبيعة بفضل سلامة بصيرته وصحة وجدانه، فضلاً عن تخصصه الفني، وإن درايته بما وراء الطبيعة لتزيد كثيراً على ما تطلبه حاجة علمه
(إنك لا تستطيع أن تفصل الله عن العالم الذي فحصه العلم ثم تستطيع بعد ذلك أن تزعم أنك قد اقتنعت بهذا العلم)
هذه النظرة من فلسفة نيوتون قد أهملت طويلاً، وقد قال لنا علماؤنا السفسطائيون إن (كانت) قد دحض فلسفة نيوتون بتدليله على أن الفضاء والزمن وهميان - أي في العقل - وإنه بناء على ذلك لا يمكن أن يقال إنهما بميزان العالم الحقيقي إلا أن كل ما أورده (كانت) لم يكن إلا إظهار منطق نيوتون بصورة (إقليديسية) متخصص بعلم الفضاء، وأن النظام الزمني لم يكن ليستمد إلا من عقولنا، إن (كانت) لم يدحض نظرية الفضاء التجريبي الذي بني عليه علم نيوتون حقيقة وهذه لم يمكن دحضها بحجج سابقة، وفضلا عن ذلك فإن إيمان نيوتون بدقة هذا النظام المحكم المتزن في الطبيعة سيبقى حجة تتحدى العقل الإنساني، وإننا لا يمكننا أن نهمل سبق هذا النظام ولكن يجدر بنا أن نجهد أنفسنا لكي نكشفه كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا
إن إصرار نيوتون على فكرة ضرورة وجود مبدأ ميكانيكي سام في الطبيعة سيبقى كذلك، ولقد قال بعض ذوي الكفايات العلمية المحدودة من متأخري اللاأدريين أن (كانت) قد حطم أساس البراهين التي أقيمت على وجود الله، غير أن (كانت) لم يحطم في الواقع إلا البراهين السابقة التي بنيت على الأوهام وشرود الذهن الذي لا حد له
إن رأي نيوتون في الله كواسع ودائم وموجود في كل مكان كان رأياً علمياً غير ثابت عند الطبيعيين كما أنه لم يكن ليستطاع جعله مثاراً للجدل
إنه ليوجد سبيل واحد نستطيع به فهم الكون كدعوى سائرة، وذلك كما يقول أفلاطون عن(595/30)
طريق بعض الشعور بتسلط الحياة والعقل، والحياة هي الشيء الوحيد الذي نعرفه والذي تصل به الطاقة إلى أعلى مستوى في النظام ودقة الترتيب.
إن الجسم الحي هو النوع الوحيد من الأشياء الذي يستطيع أن يطوع الطاقة في حدود أجزائه بحيث يمكن توطيد صلة تداولها المشترك بين مصدرها وهدفها، والطاقة في الجسم الحي غير مبعثرة كيفما اتفق في التوزيع بحيث يمكن أن يصدم جزء منها شيئاً آخر في سبيله ثم يكون لهذا عواقبه المرجوة الموافقة، ولكي تكون الصلة مناسبة على الدوام فإنها لابد أن تكون دائمة حتى في المصادفات، والجسم الحي لا يعمل كمجرد مجموعة عرضية من الأجزاء مع مجموعة عرضية مماثلة من الصلات العرضية، ولكنه يعمل كوحدة، وتدار طاقات الجسم كلها لصالح الجسم كله، وبسيطرة ضابطة على جميع الأعضاء فإن كل عضو يقوم بوظيفته حسب منهجه الخاص
وليست كمية الطاقة فقط هي التي يعول عليها ولكنها الطاقة المناسبة وعملها المحدد الذي ينجز حيثما تدعو الحاجة إليه
ففي حالة ما إذا أصيب الجسم بجرح فإن عدداً لا يحصى من الكريات البيضاء يلم شعثه ويندفع إلى موضع الخطر لتلافي سوء نتائج ما حدث، وليست هذه بالطبع مسألة مصادفة، ولا تتكاثر هذه الكريات بدون تمييز في النظام والترتيب حتى يكون منها القدر الكافي في الموضع المعين فحسب، ولكن النشاط الكلي للجسم يتركز في نقطة الخطر لحصره، أما كيف ينتقل نشاط الجسم في مثل هذه الحال فإن ذلك يماثل في غموضه وتعقيده حالة النشاط الإشعاعي في فضاء الكون)
إننا نعرف أن النشاط الغدد المهمة مثل الغدد الدرقية أهميتها البالغة في حالة دثور وتجدد أجزاء الجسم المتعددة التي قد يكون بعضها بعيداً عن الغدد. ولكننا لا نعرف شيئاً عن انتقال هذا النشاط آلياً
وقد يكون إفراز عصارات الغدد داخلياً ومع ذلك فإنها تؤثر في النواحي المتعددة التي هي في حاجة إليها في كل مكان من أجزاء الجسم
نجد في الجسم الحي حينئذ مثالاً بل المثال الوحيد للعلاقة المشتركة - علاوة على المدى - بين الطاقة وهدفها(595/31)
ففي الجسم الحي بناء وتجديد لأجزائه، وهما في خدمة الجسم كله.
ولو اعتبرنا الأمة كوحدة في مقابل جسم الفرد لوجدنا الطريقة واحدة في البناء والتجديد لحفظ كيان الأمة. والمجتمع هنا يكون حياة الأمة في مقابل حياة الفرد ولكن المبدأ واحد
والآن لنفرض أننا فهمنا الكون قائماً كوحدة بتعدد جزئياته التي يجب أن تكون مناسبة لنا لتعليل ما يمكننا فمه من أسرار الكون من المادة إلى العقل الخالق - يجب أن نفهم أن الكون تدب فيه الحياة والروح، وإنه ليس مجرد كتل مبعثرة من المادة، ولنفهم أنه كوحدة حية ليس معناه أن كل جزء في الكون عضو حي، وهذه هي مغالطة في التقسيم، ففي الجسم الحي الذي نعرفه توجد عناصر وتحولات كما يستعمل هذا التعبير في الاصطلاحات الطبيعة والكيميائية - وهما يمدان حياة السم مع سيطرة الضابط - ولكنهما غير عضوين
ومن الواضح أننا لو فهمنا الكون كوحدة فانه لا يمكن أن تكون هناك علاقات خارجية - العلاقات حينئذ يجب أن تكون داخلية - لأن الكون ليس له خارج - والعلاقة بين جزء وجزء مع الضابط هي في أجسامنا أو في المجرة النجيمية أو في السديم اللولبي سواء
ويمكننا أن نقرر أنه لا توجد طاقة مبددة في هذا الفراغ من الفضاء، كما يمكننا أن نعتبر النشاط الإشعاعي في الكون كدم الحياة له، وبسيطرة الضابط العام يدور الجميع.
يتبع
عثمان حلمي(595/32)
عبد الرحمن عزام بك
لمن لا يعرفه من قرب
(بمناسبة تعيينه رئيساً للشؤون العربية بوزارة الخارجية،
وأميراً على ركب الحج المصري هذا العام)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(كتلة) دقيقة من الأعصاب! كلها نقاء وطهر، ليس فيها شر أصلا. عليها وجه دقيق الملامح في سماحة وجد وتواضع، فيه نفس عجيبة في هذا الزمان بل وفي كل زمان، تطل من عينين نافذتين فيهما ذكاء، وليس فيهما خبث الذكاء. . . وتتضح عبقريتها إذا نطقت مسترسلة هادئة واصلة إلى أغوار الحق. إذا سمعتها تتحدث سمعت منطقا مسلسلا مرتباً واضحاً يلقى في هدوء وقوة استدلال وبلاغة استيعاب وهدى بصيرة ملهمة، ومنطق طبع سليم من الالتواء والاهتمام بصغارات الحياة وصغائر الناس.
له عقل ذو قدرة عجيبة على تلخيص القضايا الكبرى المربكة وإيضاحها في تحديد دقيق.
بكرت رجولته وحساسيته بالمسئوليات الوطنية والقومية والمالية الكبرى فحمل من أعباء المجد وأوشحته ما لم يحمله أحد في مثل شبابه الأول، وظفر من تقدير من اتصل به من رجال السياسة والحرب في الشرق والغرب، وهو حدث ناشئ في باكورة الشباب، فأدار ثورة وأقام دولة، وأصلح بين أقوام مختلفين، وألف بينهم ووحدهم وهو فيهم غريب نزيل في الحدود الأولى من العقد الثالث من عمره.
عليه سكينة منزلة من الله في جميع الظروف. صابر دائما، باذل دائما، يبذل من نفسه وماله وشعاره قول محمد رسول الله: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) وهو قد وسع الناس بأخلاقه وماله معاً. فهو في بذل المال يحقق القول الشريف: (يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). وما يبذله من النفس شيء كثير عظيم عميق يتصل بأصول الخير في الوجود. الخير السلبي والإيجابي.
نظيف اللسان والجسد. لم يقع عليه ظل شبهة، لا ينطق هذراً لا سخفاً ولا سباباً، ولا ينال أحداً في حضور أو غياب، ويغفر غفراناً واسعاً كل ذنب. يقدر ضعف النفوس البشرية(595/33)
وينظر إليها نظر الملأ الأعلى سواء أكانت قريبة أم بعيدة في الجنس أو الدين والقومية.
حيي يستحي من الناس فينالون منه بحيائه ما يرهقه في بعض الأحيان. ومع ذلك لا يتململ، فهو كالنهر الكبير يأتي إليه كل وارد فلا يرده ولو كان كلباً. . . لأنه واسع طهور لا يتنجس. . . مجمع على حبه من جميع الأحزاب والأجناس والأديان فليس له فيما أظن عدو بالمعنى المعروف للناس. .
متواضع ليس لديه فروق مصطنعة في معاملة الناس، يملكه الفقير الضعيف المحدود ويأنس به.
زاهد حقيقي في دنيا الناس وزينتها، فلا يهتم بصغائر اللباس والرياش. وحظه من الدنيا حظ قليل لم يجد لديه من الوقت ما يتذوقه. .
حليم لا يثور ولا يؤذي عشيرة بجارحة، ولا يحب السيطرة والتحكم، مع ثقة بالنفس واعتزاز بالكرامة في عدم تبجح أو ادعاء أو تظاهر.
ليس به لهفة على شيء مهما كان. فهو دائماً هادئ الأعصاب، وإن كان كثير الآلام الاجتماعية، عميق الأحزان المقدسة في الدين والوطنية والقومية
الخير عنده واضح المسالك، فلا تأويل ولا عذر يصرفه عنه ويصد قلبه عن مقتضيات البر والإحسان. . كأن لكل قاصدته عليه حقا لازماً يلام إذا قصر في أدائه، وطالما عجبت لصبره على رجاوات الناس، فهو كنز من الصبر والاحتمال لا ينفذ، أو هو كالشجرة المثمرة المباحة القريبة الجني، لا ترد يداً عن قطاف. ما عرفه أحد من الناس إلا وأمسك بتلابيبه وعض على علائقه معه بالتواجد! فإن كان من أهل العلم وجد عنده علما وفقها بلباب الحياة وبصرا في شئونها وعلومها. وإن كان من أهل السياسة وجد لديه بصيرة ملهمة تنفذ إلى بواطن الأمور وتشير إلى مصادر الأحداث، وتضع يدها على ما غاب عن أكثر الأذهان، وإن كان من أهل السلوك والخلق وجد عنده فهماً له وتقديراً ورفعاً لشأنه وتشجيعاً واسع المدى. وإن كان من أهل الشر الذين لا يؤمنون بالخير وجد في شخصيته وسلوكه رداً ونقضاً بليغاً على دعواه يحمله على أن يرجع النظر كرتين فيما رأى لنفسه وما اتخذه من مسالك الشر.
إنه يرفع الحياة الإنسانية ويرسم المثل الأعلى أمام (الماديين) وأمثالهم حتى يتيقظو إلى أن(595/34)
في الحياة روحاً من الخير هي أثمن وأعظم مما يملكون وما به يفتنون واليه وحده ينصرفون.
فهو لطيف النفس والجسم كالنسيم الرفيق الذي يدخل الرحمة على النفوس البائسة المغلقة. وبالإجمال لا حصر لوقائعه في المجد والخير والسياسة الرشيدة، ولذلك يستطيع كل من عرفه أن يذكر عنه قصة أو قصصاً تكفي لرفع نفس إلى العظمة والذكر الطيب الخالد.
وقد كافأه الله وجزاه بأن أراه الدنيا في الشرق والغرب فأوسع له في آفاق المعرفة والخبرة، وجمع عليه قلوب من عرفه من رجالات الشرق والغرب. وكثير ما هم!
ولن أنسى قول المرحوم (مستر ألبرت فيش) الوزير المفوض الأسبق للولايات المتحدة في مصر قبيل سفره من مصر إلى منصبه في أسبانيا بيوم واحد حينما زاره ليودعه في مكتبه برياسة القوات المرابطة منذ ثلاثة أعوام تقريباً: (ما كنت لأسافر من مصر قبل أن أودع اثنين: جلالة الملك فاروق وأنت)
فحسب عبد الرحمن بك شرفا أن يذكر هذا الذكر بجوار اسم (الفاروق) على لسان رجل أحب مصر والشرق العربي وفهم روحهما وعرف من يمثلها خير تمثيل.
هذا النموذج الإنساني الرفيع الذي عرفته من قرب معرفة جيدة، أحببت أن أرسم له صورة عاجلة لمناسبة تعيينه عميداً للشئون العربية بوزارة الخارجية وأميراً على ركب الحج هذا العام، أضعها أمام الشباب الذي اختلطت عليه نماذج الخير والمجد، ونماذج الشر والضعة. وإن فيه لقدوة صالحة لمن يريد أن يقتدي.
عبد المنعم خلاف(595/35)
الكتب
كتاب المستقصي للزمخشري
محمود جاد الله الزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة إمام من أئمة اللغة له تصانيف فائقة في الحديث والتفسير والنحو واللغة والمعاني، وغيرها منها: (تفسير الكشاف) و (أساس البلاغة) و (المفصل في النحو) وهذه أشهر كتبه وأكثرها تداولاً، وله تصانيف غير هذه لا يعرف شيء عنها، منها (المستقصي في الأمثال العربية)، ولندرة هذا الكتاب أحببت أن أقدم شيئاً عنه على صفحات (الرسالة) العزيزة
لم يذكر صاحب (معجم المطبوعات العربية والمعربة) هذا الكتاب في
حديثه عن كتب الزمخشري المطبوعة، وهذا المعجم شامل لأسماء
الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية من يوم ظهور الطباعة
إلى نهاية سنة 1919. على أن المرحوم جرجي زيدان يذكر في كتابه
(تاريخ آداب اللغة العربية) شيئاً عنه، فيقول: (إن منه نسخة في
المكتبة الخديوية في 178 صفحة، ومنه في مكاتب أوربا، والظاهر أنه
غير مطبوع. . .)
وأقول إن النسخة التي اطلعت عليها تقع في 478 صفحة ولست أعتقد أن في الشرق نسخة أكمل منها
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب إنه قد خرج هذه الأمثال (في واحد وستين باباً ينطق كل باب منها بذكر ما يشتمل عليه أولاً، ويفصح عن الاستشهاد وسياقه المراد آخراً، وما منها إلا ما يتعلق في اللغة بسبب، ويضرب في الاستعارات والتشبيهات بسهم). وقد عقد الباب الأول منها للكلام فيما يضاف إلى اسم الله تعالى، والباب الثاني فيما يضاف إلى الأنبياء، والباب الثالث فيما يضاف إلى الملائكة والجن، والباب الرابع فيما يضاف إلى القرون الأولى، والباب الخامس فيما يضاف إلى الصحابة والتابعين؛ ولا أريد أن أعدد جميع الأبواب، وإنما أريد أن أذكر نماذج للمواضيع التي طرقها من غير أن ألتزم في ذلك(595/36)
تسلسل الأبواب. فقد ذكر في الأبواب الأُخرى ما يضاف إلى الشعراء، وما يضاف إلى البلدان والأماكن، وما يضاف إلى الحيوان والطير، ثم ما يضاف إلى النيران والشجر والنبات والطعام والشراب والسلاح والليالي والأوقات والأزمان، ثم الأدب وما يتعلق به، ثم في فنون مختلفة مرتبة على حروف الهجاء. . .
يتكلم في الباب الأول فيما يضاف إلى اسم الله تعالى فيبين لماذا يقال: أهل الله، وبيت الله، ورسول الله، وكتاب الله، وخليل الله، وأرض الله، وسيف الله، ونهر الله إلى آخر هذه الإضافات. ثم يمضي في شرحها فيقول في قولهم أهل الله مثلاً: (إنه كان يقال لقريش في الجاهلية أهل الله لما تميزوا به عن سائر العرب في المحاسن والفضائل والمكارم التي هي أكثر من أن تحصر؛ فمنها: مجاورتهم لبيت الله تعالى، وإيثارهم سكنى حرمه على جميع بلاد الله تعالى وصبرهم على أذى مكة وخشونة العيش بها، ومنها ما تفردوا به من الإيلاف والرفادة والسقاية والوفادة والرياسة. .) وهكذا يمضي في بيان فضائل قريش وتعداد مناقبها. ثم ينتقل إلى الكلام في بيت الله وفضائله ورسول الله (ص) وفضائله ثم ينتقل إلى الكلام في سيف الله (خالد بن الوليد). ويقول مثلاً عن نهر الله: (. . . من أمثال العامة والخاصة إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وإذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى، ونهر معقل بالبصرة ونهر عيسى ببغداد وعليهما أكثر الضياع الفاخرة والبساتين النزهة. وإنما يريدون بنهر الله النيل والأمطار فإنها تغلب سائر المياه والانهار، ولا أعرف نهراً مخصوصاً بهذه الإضافة سواهما)
وينتقل بعد هذا إلى الكلام في إضافات أُخرى مثل حسن يوسف، وبلاء أيوب، وصدق أبي ذر، وحلم الأحنف، وندامة الكسعي؛ فيذكر الحوادث والنوادر التي كانت سبباً في هذه الإضافات وهو في كلامه هذا أقرب ما يكون إلى المؤرخ. على أنه حين يتحدث عن الشعراء وما يضاف إليهم يجمع الأدب إلى التاريخ، وقد ذكر الشيء الكثير مما يضاف إلى الشعراء مثل: حلة امرئ القيس، وحلم لبيد، وحوليات زهير، وصحيفة المتلمس ولسان حسان، وسيف الفرزدق، وغزل ابن أبي ربيعة. . الخ، ثم يتحدث عن حلة امرئ القيس فيقول: (يضرب مثلا للشيء الحسن يكون له اثر قبيح)، ثم يذكر قصة امرئ القيس ووفوده على قيصر. ويقول عن لسان حسان (يضرب به المثل في الذلاقة والطول والحدة) ثم يذكر(595/37)
طرفاً في أخبار حسان ويقول عن سيف الفرزدق (يضرب مثلا للسيف الكليل بيد الجبان)، ويسوق حادثاً وقع لجرير والفرزدق كان سبباً في هذا المثل. وقد كسر أبواب الكتاب الأُخرى على ذكر مختلف الإضافات ولا أريد أن أمضي في الحديث عنها لأن فيما ذكرت ما يكفي لإعطاء فكرة عن الكتاب وما فيه ولست إلى غير هذا قصدت.
(البصرة)
عبد الحميد صالح البكر
مليم الأكبر
(جماعة النشر للجامعيين)
الأستاذ عادل كامل من أدباء الشباب المصريين الذين لهم في عالم القصة قدر ملحوظ، وقد فازت قصته (ملك من شعاع) بالجائزة الممتازة في مسابقة وزارة المعارف، ولكن قصة (مليم الأكبر) لم تفز بشيء من ذلك، مع أنها في نظرنا خير من قصته الفائزة، وكان ظريفاً من جماعة النشر للجامعيين أن تختار هذه القصة بالذات لتقدمها لجمهورها من القراء لتعطيهم مثلا من أمثلة التحكيم الأدبي في مصر، وخصوصاً ذلك التحكيم الرسمي العجيب. . . وقصة مليم الأكبر تشمل مقدمة ضخمة في 128 صحيفة هي من أثمن المقدمات الأدبية التي تذكرنا بمقدمات برنرد شو الممتعة. ولابد من عودة إلى القصة في فصل بذاته إن شاء الله.
وجيدة
(جماعة نشر الثقافة)
لست أدري لماذا يؤثر الأستاذ شعبان فهمي الكتابة باللغة الدارجة المصرية وهو يداول الحوار بين أبطاله، ولا سيما في مثل قصته الجميلة (وجيدة). . . لا أنكر أنني كنت من أنصار هذا الرأي قبل أن أستبين خطله، فاللغة الدارجة في رأيي هي أداة للتحادث مؤقتة، وسيقضي عليها انتشار التعليم والصحافة الراقية المهذبة. . . ثم نحن ليست لنا لهجة دارجة واحدة، بل قد تعدو لهجاتنا الدارجة العشرين أو الثلاثين. . . هذا غير لهجات(595/38)
الشعوب العربية الأُخرى. . . فإذا كان لدينا هذا اللسان العربي المبين الجامع الذي يخلصنا في طول البلاد العربية وعرضها، من هذه اللكنات العجيبة، فلماذا نهمله وهو خير لنا كل الخير؟ ثم لا يفوتن الأخ الفاضل أنه بإيثاره اللهجة الدارجة القاهرية يحصر مجهوده الأدبي في محيط ضيق وقراء معدودين، فلا أظن مثلاً أن قارئاً عراقياً أو شامياً أو جزائرياً يرغب في قراءة قصة طويلة كل حوارها بهذه اللهجة الدارجة التي لا يفهمها، ونحن كمصدرين للأدب إلى إخواننا العرب، يجب أن نلقي بالنا إلى تيسير الأداة التي نخاطبهم بها
وفي القصة بعض الآراء الجريئة التي يستجيدها بعض القراء كما يفرق منها بعضهم الآخر.
(د. خ)
القاهرة - من المعز إلى الفاروق
(للبكباشي عبد الرحمن زكي)
مؤلف هذا الكتاب من رجال السيف؛ إلا أن الله وهب له مزية البحث التاريخي؛ فوقف عليه كثيراً من وقته؛ ودرس حتى حصل على دبلوم في الآثار من جامعة فؤاد الأول. ولا أطيل الثناء على هذا الصديق الوفي، فإن أبحاثه ورسائله النفيسة الممتعة تغنيه عن كل ثناء. فهو صاحب كتاب (الجيش المصري في عهد محمد علي الكبير) وهو سفر تاريخي قيم؛ وصاحب رسائل (معارك مصرية في القرن التاسع عشر)، و (الصحراء المصرية والحرب)، و (القائد إبراهيم)، و (معارك مصرية في القرن العشرين)، و (موقعة كادش بين مصر وختيا) مشتركا مع الأستاذ محمد فاضل يوسف. و (حروب مصر القديمة) مشتركا مع اليوزباشي محمد حسين عواد. وغيرها.
وفي الكتاب أبواب عن قاهرة المعز، وقاهرة صلاح الدين، وقاهرة دولتي المماليك، وقاهرة الباشوات والبكوات. وقاهرة محمد علي باشا، وقاهرة الخديو إسماعيل وقاهرة المغفور له الملك فؤاد وقاهرة الفاروق
وفي خلال هذه الأبواب فصول طريفة عن قصور القاهرة وأخطاطها ومساجدها وأسواقها ومشاهدها وحفلاتها ودور كتبها ومدارسها وكل أثر للحياة فيها. والكتاب بحق يعد تتمة(595/39)
لخطط علي باشا مبارك على فرق ما بين الكتابين من الإجمال والتفصيل
إن مراجع المؤلف التي أثبتها في آخر الكتاب تدل على اطلاع واسع؛ وقد استطاع صديقنا أن يصور لنا القاهرة في ألف سنة في (فيلم) تاريخي جميل
وإذا كانت العواصم حبيبة إلى نفوس الأهل، فإن هذا الكتاب جدير أن يكون حبيباً إلى نفوس القراء.
محمد عبد الغني حسن(595/40)
العدد 596 - بتاريخ: 04 - 12 - 1944(/)
شعب مصر
للدكتور محمد مندور
لاقيت في هذا الأسبوع ثلاثة من مفكرينا: أحدهم وجهاً لوجه، وبيدي مقال أستعرض فيه ما نشكوه اليوم من مظاهر الانهيار الأخلاقي، وألتمس علاجاً لهذا الانهيار في إصلاح نظمنا السياسية والاجتماعية، علما مني بأن التربية وبث مبادئ الأخلاق في النفوس لا تكفي وحدها لتقويم النقص. ولقد أخذ محدثي على المقال ما فيه من قسوة، وعنده إنه من الخطر أن نجسم للشعب مواضع ضعفه، لأن ذلك التجسيم قد يزيده ضعفاً، وأنه لأجدى على هذه الأمة أن نحاول رد الثقة إليها، حتى ولو لم تكن تلك الثقة على أساس سليم، وأما فضح العيوب، فذلك ما لا ينبغي. وأضاف، وهو من ذوي الأمر، إنه كثيراً ما يتجاهل مواضع الضعف الأخلاقي فيمن يعملون معه، ويردهم إلى الأخلاق، وكأنه يستمدها من نفوسهم ذاتها، فإذا نقل إليه أحدهم قيلة سوء، فسرها على إنها قيلة خير، محاولاً حمله على أن يكون إلى الخير قصده، وعنده أن ذلك أجدى في معالجة النفوس من هتك ضعفها وأخذها بالقسوة
ساقني هذا الحديث إلى النظر في الحكم على الشعب المصري ووجوب مهاجمته بالحقائق أو سترها عنه، واتفق أن قرأت في هذا الأسبوع كتابين لمؤرخين من رجالنا، فلاقيتهما على صفحات ما كتبا، ولمست عند كل منهما اتجاهاً في الحكم على الشعب المصري يغاير اتجاه الآخر. فأما أولهما، فقد استلفت نظري حكمه في بعض مواقفه التاريخية، حكماً لا يخلو من صرامة، حتى لقد وقع في نفسي موقع السيف، وخشيت أن يكون صحيحاً، ولأضرب لذلك مثلين: الأول تفسيره لاستقرار الحكم وازدهار المدنية أيام الظاهر بيبرس وغيره من المماليك، برغم ما كان في حكمهم من شدة وعسف بقوله تفسيراً لخضوع المصريين وعدم ثورتهم للحرية: (إن ثمن الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا (أي المصريون) يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية، فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة)؛ وفي قوله: (إنهم يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية)، ما يملأ النفس رهبة، فتود لو لم يكن حقيقة. وفي موضع آخر يفسر نفس الكاتب سخط الشعب المصري على الفرنسيين وثورتهم ضدهم أيام الحملة الفرنسية بمجرد(596/1)
حرصهم على ما ألفوه. . . فقد رأوهم يقلقون عاداتهم ويزعزعون أساليب حياتهم الموروثة، فيكرهونهم على نوع من الحياة لم يألفوه، في مقاومة الأمراض، وتنظيف الشوارع، وما إلى ذلك، فثاروا بهم، وهذه أيضاً قسوة في الحكم، لأن الكاتب لم يشأ أن ينسب إليهم ما نستشعره نحن اليوم من عاطفة وطنية، أو تعلق بحرية وذود عن استقلال. وهذا منهج قد تمليه الروح العلمية التي تلزم المؤرخ بأن يحكم بعقلية من يكتب عنهم، لا بعقليته هو، ولكنني مع ذلك أخشى أن يكون مؤرخنا قد أسرف في القسوة وأسائل نفسي: هل من الحكمة، بل هل من العدل، أن نحكم على الشعب المصري أحكاماً كهذه؟ ونحن في مجال التاريخ نحرص على الحقيقة أكبر الحرص، ولكن ما هي الحقيقة التاريخية؟ وفي كل تاريخ نوعان من الحقائق: وقائع، وتفسير لتلك الوقائع؛ فأما الأولى، فمن الواجب الوصول إليها بجمع الوثائق ونقدها، وعلى العكس من ذلك تفسير تلك الوقائع، فهذا ما لا تحمله الوثائق، وإنما يصل إليه المؤرخ باستنتاجه الخاص، وهنا يكون تفاوت المؤرخين؛ وتدخل شخصياتهم بحيث نستطيع أن نناقش أحكامهم دون أن يكون في مناقشاتنا خروج على المنهج العلمي السليم
وباستطاعتنا أن نناقش المؤرخ السابق بآراء الكاتب الآخر الذي لاقيناه يتحدث عن زعيم مصري تركزت فيه يوماً نزعات شعبنا، وهو السيد عمر مكرم. فمؤرخنا شديد الحماسة لتطلع هذا الشعب إلى الحرية منذ أوائل القرن الثامن عشر، وهو يرى أن ظهور السيد عمر مكرم كان استمراراً وخاتمة لمحاولات عديدة قام بها زعماء الشعب المصري الصميم للمساهمة في الحكم، وحمل الباب العالي على تعيين من يرتضونه والياً على مصر. وعنده أن سنة 1807 هي التي وضعت حداً لتلك النزعة الشعبية، وذلك لأن محمد علي عاهل مصر الأكبر، وإن كان قد وصل إلى الحكم بموجة شعبية قوية قادها السيد عمر مكرم، إلا أن ضرورة الحكم، وحرص هذا المصلح الكبير على أن يحث الخطى في النهوض بالبلاد ورفع مستوى الحضارة بها، قد اضطراه لسوء الحظ إلى أن يرفض عرض السيد عمر مكرم في تلك السنة مساهمته هو والشعب المصري في عونه على رد الإنجليز عن رشيد. والرأي عند مؤرخنا أن هذا الرفض قد أثر في تربية الشعب السياسية، وباعد بينه وبين الاهتمام بأمور الدولة والمشاركة فيها نحواً من خمسة وسبعين عاماً، أي من سنة 1807(596/2)
إلى ثورة عرابي، وهنا أيضاً لا ندري إلى أي حد قد بلغ عطف المؤلف على الشعب المصري، والى أي مدى قادته الرغبة في تمجيده؟!
ويقف المرء حائراً. . . أي وجهة يوليها في حديثه عن هذا الشعب الذي نبغي كلنا خيره؟ هل نمس في رفق عيوبه، ونواريها عنه إلا بمقدار، ليظل محتفظاً بثقته بنفسه؟ أم نشق عنها الحجب، ونلقي الضوء كاملاً لعله يثيب؟ وإذا عالجنا ماضيه، هل نقسو في الحكم، أم نلين؟ وهل نحابيه، أم نزجره؟
إذا لم يكن بد من أن نفصل في هذه الاتجاهات العويصة، وجب - فيما أظن - أن نفرق بين الحاضر والماضي: فأما الحاضر، فالحكمة في أن نحدد فيه البصر حتى لا يأخذنا غرور مميت. وباستطاعتنا أن نتجنب الخطر بالا نقف عند تصوير العيوب، بل نلتمس لها العلاج. وليس من شك في أنك لن تستطيع حمل النفوس على قبول جديد وتغيير قديم ما لم تبصرهم بما في هذا القديم من عيب. والأمم لا يمكن أن ترقى ما لم يشتد بها النقد، وفيم الرغبة في التغيير إذا لم يؤمن الناس بضرورته؟
وأما عن الماضي، فلعلنا نكون أقرب إلى الروح العلمية الصحيحة كلما كانت نظرتنا أكثر عمقاً وأكبر اتساعاً. وآفة الأحكام في تفسير الظواهر كثيراً ما تأتي من التعميم، فالمصريون مثلاً إذا كانوا يكرهون النصب ويؤثرون السلامة أكثر مما يحبون الحرية، فإن ذلك لم يمنعهم عندما يشتد بهم الاستبداد من أن يغامروا بسلامتهم مؤثرين الحرية على كراهة النصب. وفي حركاتهم الثورية أيام الحملة الفرنسية وعرابي ودنشواي وسنة 1919 أدلة على صدق ذلك. وهم إذا كانوا بفطرتهم محافظين يكرهون الخروج على ما ألفوه فيثورون، إلا إنه قد لا يخلو من ظلم أن نرد حركتهم كلها إلى هذا الباعث، فهم إذا كانوا لم يتحركوا لفكرة الاستقلال الوطني بحكم تبعيتهم المتصلة للدولة العلية وعدم نشوء فكرة الانفصال عندهم إذ ذاك، إلا أن الشعور الديني مثلاً كان لا ريب من الحوافز التي يجب أن تضاف إلى نزوعهم إلى المحافظة على ما ألفوه. وها هو ذا الجبرتي نفسه يحمد الله أن سخر طائفة من النصارى (الإنجليز) لطرد طائفة أخرى (الفرنسيين) من أرض الوطن، وبذلك يتحقق - فيما يقول - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). وهل من شك في أن الدافع الديني كان من محركات سليمان الحلبي مثلاً في قتله(596/3)
لكليبر. ثم هل من الحق أو من الحكمة أن نجعل من الشعور الوطني عاطفة تنهض بذاتها منفصلة عن مصالح الأفراد الذين يكونون الوطن؟ ونحن ممن يعتقدون أن الوطنية ليست شعوراً بذاته، وإنما هي مجموعة من المشاعر يستند الكثير منها إلى مصالح الناس ووسائل حياتهم، ولهذا لن نمل تكرار القول بأن الوطنية الحقة لن تملأ نفوس المواطنين إلا إذا أحس كل منهم إنه عزيز في وطنه، ميسور الرزق في كرامة، متمتع بحياة تليق بالإنسان، وإنما يظهر انفصال الشعور الوطني عن غيره من المشاعر والمصالح عندما يحدث التعارض، وهنا يكون للمؤرخ الحق في أن يقسو في أحكامه أو يلين، وأما عندما تتساوق مصالح الناس ومصالح الوطن، فمن الظلم أن يأتي المؤرخ فيفسر الحركات الوطنية بالدافع الأول دون الثاني
ونجمل الرأي بأن الخير هو دائما في اتساع النظرة سواء نظرنا في الحاضر أو في الماضي، فأي أمة لا يخلو ماضيها أو حاضرها من مواضع ضعف ومواضع قوة؟ ومن الواجب إبراز الجميع ليكون في إظهار الضعف حافز للكمال، وفي إظهار القوة داع للثقة
محمد مندور(596/4)
غرام يوم الثلاثاء
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
إليك أقدم تحية الشوق، ثم أذكر أني أكتب هذه الكلمة، وهي مقدمة القصيدة الآتية، بعد المحادثة التليفونية التي دارت بيني وبينك منذ لحظات في صباح هذا اليوم، وهو يوم عرفات، أعاده الله عليّ وعليك بخير وعافية!
وقد اتفقنا على نشر هذه القصيدة بالرسالة في العدد المقبل، لأستريح منها وتستريح مني، فلو بقيت بين يدي أياماً أُخر لقتلتني، لأنها تقهرني على الغناء بعد نصف الليل، وهو أصلح الأوقات للغناء، ولكنه يكدَّر بمحادثات تليفونية مزعجة، فقد يحلو لكل سامر أن يسأل عني بعد نصف الليل، وكذلك الحال مع السامرات، فهنّ يزعجنني بلا ترفق ولا إشفاق
أنا اعرف أن قرائي يحبونني، لأن أدبي يقوم على الصدق، ولكني أرجوهم أن يترفقوا فلا يسألوا عني بعد نصف الليل
عفا الله وصفح عن أولئك الهاتفات بعد نصف الليل!
أترك هذا وأحدثك عن تاريخ هذه القصيدة، فلها تاريخ وتواريخ
هذه القصيدة من وحي روح غالية، هي الروح التي تلقيت عنها الدرس الممتع المشبع في شرح نظرية وحدة الوجود
ما أكرم دمعي وما أسخاه حين أسمع صوتها الجميل!
أترك هذا أيضاً وأحدثك عن التاريخ الجديد لهذا القصيد:
رأى صديقٌ عزيز أن يغنيه الأستاذ محمد عبد الوهاب، فقابلت صديقي عبد الوهاب في مكتبه بشارع توفيق
من يصدِّق أن هذا الباكي الشاكي رجل أعمال؟!
قدمت إليه القصيدة ومعنا الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، الذي وضع قانون اللغة العربية، فنظر في القصيدة لحظات، ثم اقترح تعديلات، فما تلك التعديلات؟
إنه اقترح أن أنوّع الأوزان ليلعب كما ألعب (وذلك نص كلامه بالحرف)
وكان الوجد في ثورته العاتية، فرأيت أن أنوّع الأوزان، ليلعب كما ألعب، وما كنت يوماً(596/5)
من اللاعبين!
ثم خطر في البال أن أغني قصيدتي في محطة الإذاعة بصوتي، وهو في رخامة صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب، ولكنَّ أبنائي اعترضوا، فما يجوز عندهم أن يكون أبوهم من المغنين، وهو يملك أكبر مجموعة من الألقاب العلمية
قلت لأبنائي: ألا تسمعونني أغني من حين إلى حين بقوة تنقل صوتي من الدور الثاني إلى أسماعكم بالدور الأول؟
قالوا: نعم
قلت: أنا أغني أشعاري حين يجود بها الوحي، فما الذي يمنع من تقديم صورة ناطقة يعرف بها الجمهور كيف أنظم أشعاري؟
قالوا: وأين الملحّن؟
قلت: أنا الملحّن، فالشعر شعري، وأنا أعرف كيف ألحنه بالصورة التي تموجت بها خفقات قلبي
لم يكن من السهل أن أقنع أبنائي، وهل أقنعت نفسي حتى أقنع أبنائي؟
إن جاز أن أغني هذه القصيدة في محطة الإذاعة، فيجب أن أكون في حال تشابه حالي في الأوقات التي نظمت فيها هذه القصيدة
وهذا غير ممكن، ففي المذيعين فريقٌ من تلاميذي، ولم يرني أحدٌ من تلاميذي في لحظة بكاء
نظمت هذه القصيدة وأنا أبكي من الفرح، وأصرخ من الفرح، فما أنعم الله على شاعر بمثل ما أنعم علي بإقبال تلك الروح
من حق الحياة أن تصنع بأبنائها ما تريد، فتسعدهم أو تشقيهم كما تريد، ولكنني فوق الحياة، لأنني العاشق المسيطر على تلك الروح
ثم ماذا؟
ثم أخبر صديقي صاحب (الرسالة) باعتراض الصديق محمد عبد الوهاب، إنه يقترح ترك المكان والزمان، فلا أقول (مصر الجديدة)، ولا أقول (يوم الثلاثاء)
أنا أوافق على اقتراح هذا الصديق العزيز، بشريطة واحدة هي أن يسمح بتزوير(596/6)
العواطف، والغرام الذي أوحى هذه القصيدة مكانه في مصر الجديدة، وزمانه في أيام الثلاثاء
إن قراء (الرسالة) يذكرون أنني أول كاتب وجه الأنظار إلى الفتن التي تنثر نثراً فنياً في شارع فؤاد
سأغني بجمال بلادي، سأغني بجمالها إلى آخر الزمان
أما بعد، فقد اتفقت مع الأستاذ الزيات على إيداع هذه القصيدة (بمطبعة الرسالة) في يوم الأربعاء، لأستريح منها وتستريح مني، فما لي قدرة على التفكير في مصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا قادر على تصور غرامي بمصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا مستطيع نحر قلبي في يوم عرفات
أنا بخير وعافية، فلي مع هذه الروح في ليلة عيد القمر وميعاد وسأغني بحضرتها القصيدة الآتية فأقول:
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
وهنا أذكر أن الأستاذ عبد الوهاب اعترض على هذه الزفرة المحرقة:
يا ليل، يا ليلى، يا ليل
وقال: سأترك هذه الكلمات عند الغناء
فقلت: ولكني كنت أهتف بهذه الكلمات عند كل فاصلة من فواصل هذا القصيد، فتأمل لحظة ثم قال: هي كلمات غير مفهومة، ولكنها (شمهورش)، وللجن وحيٌ يضلل الشعراء!
وأردت أن آخذ القصيدة لأردها إليه في حدود ما اقترح، ولكنه قال: اترك لي هذه النسخة، وعدّل النسخة التي عندك، فستكون لي معاودات أصل فيها إلى سريرة قلبك في اللحظات التي نظمت فيها ذلك القصيد
تاريخ لطيف
الصفحات الماضية كتبت بالأمس، وهو يوم عرفات، والصفحات الآتية أكتبها في مساء هذا اليوم، وهو يوم العيد، فما الذي وقع في صباح هذا اليوم؟(596/7)
مضيت إلى قصر جلالة الملك لأقيد اسمي في دفتر التشريفات، وتلك فرصة ذهبية أرى فيها أصدقاء لا يتسع الوقت للسؤال عنهم في يوم العيد
وراعني أن أرى رجلاً يجذب يدي بعنف وهو يقول: قيد اسمك وتعال معي!
والتفتُّ فإذا هو الأستاذ وهيب دوس الذي تحدثت عنه في مجلة (الرسالة) مرات، ففرحت بلقائه وصحبته إلى حيث يريد، وشاء كرمه أن ينقلني بسيارته إلى سنتريس، فكانت النتيجة أن يصحبني إلى حيث أريد
وفي الطريق سألني عما يشغلني من الشؤون الأدبية فقلت: إني مشغول بنظم قصيدة فصيحة على وزن الموَّال
- وما الموجب لذلك؟
- الموجب واضح في نفسي، وهو أن وزن الموال وزنٌ قديم عرفه المصريون قبل الإسلام بأزمان وأزمان، ولهذا يغنُّونه بسهولة عجيبة، تشبه السهولة التي يغني بها أهل الشام والعراق قصائد العرب القدماء
- وإذن؟
- وإذن يجب أن ننظم الأغاني باللغة الفصيحة نظما تأنس إليه الموسيقى المصرية، فنجمع بين المزيتين، ونتقي لذعات الأستاذ سليمان الصفواني
- ومن هو الصفواني؟
- هو صديق عراقي عيّرني في مجلة بغدادية بأننا ندخل (لم) على الفعل الماضي فنقول:
(في البحر لم فتكم في البر فتوني)
وقد أجبت بأن (لم) تجعل المضارع ماضياً، فدخولها على الماضي توكيد، والجواب صحيح، ولكن ما الذي كان يمنع من أن يقول صديقنا عبد الوهاب:
(في البحر ما فتكم. . .)
- وما خصائص هذه القصيدة؟
- لها خصيصة أساسية، وهي التحرر من مراعاة ما يسمى في علم العروض بالإبطاء، فاللفظة تقبل بكل ترحيب حين يوجبها المعنى، فلن ألتزم ما التزمته في قصيدتي عن الإسكندرية وقصيدتي عن مصر الجديدة، وقصيدتي عن بغداد، فكلمة (الساقي) كررتها(596/8)
عامداً متعمداً لأنها مطلوبة في القطعة الآتية:
شربتُ دمعي فلا كأسٌ ولا ساقي
مضى نديمي وخلاّني لأشواقي
يا ساقِيَ الراح هات الدمعَ يا ساقي
دمعي هو الراح فاسقِنيه يا ساقي
يا ساقيَ الدمع بعد الراح يا ساقي
دمعي دمٌ فترفَّق أيها الساقي
- إذن نرجع
- إلى أين؟
- إلى القاهرة، وإلى دار أم كلثوم، فهي القادرة على غناء هذا القصيد
- نروح إسكندرية!
- ماذا تقول؟
- كل طريق على غير هُدىً هو (نروح إسكندرية) كالذي وقع في فلم (يحيا الحب)
- لا أفهم ما تقول
- أنا أهديت هذه القصيدة إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب
- وأنا سأهديها إلى الآنسة أم كلثوم بإذنٍ صريح من الأستاذ محمد عبد الوهاب
رجعنا إلى القاهرة، فما لقينا أم كلثوم ولا عبد الوهاب، فقد صمت التليفون هنا وهناك، وأراد الأستاذ أن يدعوني للغداء فاعتذرت، برغم ما سمعت عن فخامة المآدب التي يقيمها الأستاذ وهيب دوس
أنا لا أشكو إلا من جوع روحي
هل أنشر في هذا العدد من الرسالة (غرام يوم الثلاثاء)؟
الموعد في العدد المقبل، وأنه لقريب
زكي مبارك(596/9)
كتابة العربية بالحروف اللاتينية
للدكتور داود الجلبي الموصلي
في المجلات والجرائد العربية ضجة في هذه الأيام حول إصلاح الحروف العربية أثارها اقتراح معالي عبد العزيز فهمي باشا لتيسير كتابة العربية باستعمال الحروف اللاتينية. قام كثير من الكتاب يؤيدون صعوبة الخط العربي ونقائصه ولكنهم يحجمون عن التوصية باستعمال الحروف اللاتينية ذاهبين مذاهب شتى كلها خاطئة فمنهم من يتوهم أن الحروف اللاتينيو تخل بالدين، ومنهم من يعتقد أنها تهدم القومية وتضيع معها اللغة، ومنهم من يرجح التمسك بالحروف العربية مع الاعتراف بنقائصها وصعوبة التعلم بها والتحريف والتصحيف اللذين ينشآن عنها، يرجحون بقاءها لا لسبب إلا لكونها قديمة. فهذه أوهام لا ظل لها من الحقيقة. واقترح بعضهم إبقاء الحروف العربية مع شيء من التعديل ولم يأتوا بشيء تطمئن إليه النفس. ومن الغريب أن أحدهم اقترح إلحاق خطيطات برؤوس الحروف للدلالة على الحركات، ولكنه لما لم يطمئن هو نفسه إلى اقتراحه هذا اضطر إلى أن يوصي باستعمال هذه الإشارات في المطابع فقط وإبقاء الخط باليد على ما هو عليه.
لقد لاحظت أن جميع من كتب عن الكتابة العربية ذكر من نقائصها أولاً اختلاف أشكالها حسب وقوعها في أول الكلمة أو وسطها أو نهايتها وحسب انفصالها أو اتصالها بما قبلها وبما بعدها، وثانياً خلوها من حروف الحركة. ونسوا أو تناسوا تشابه كثير من حروفنا مع بعضها وعدم تفريقها إلا بالنقط كالباء والتاء والثاء والنون والياء، وكالجيم والحاء والخاء، وكالدال والذال، وكالراء وكالزاي، وكالسين والشين، وكالصاد والضاد، وكالعين والغين، والفاء والقاف مع تشابه هذين الأخيرين مع العين والغين في أوساط الكلمات إن هذا التشابه في الحروف أوجب، منذ وجدت الحروف العربية، ولا يزال يوجب أتعاباً جمة لكتّاب العربية وأدبائها بسبب التصحيف الذي ينشأ عنه. إن الذين يعانون تدقيق وإصلاح الكتب لتهيئتها للطبع يدركون أكثر من غيرهم الصعوبة الناجمة عن تشابه الحروف هذا وأستطيع القول إن جانباً من علم القراءات ما كان يكون له وجود لولا هذا التشابه في الحروف. وكذلك قل عن الاختلافات في رواية وضبط بعض الأحاديث الشريفة وفي قراءة أسماء الأعلام وغيرها. إن زلة القلم قليلاً تجعل النقطة نقطتين، وتقصيره قليلاً يجعل النقطتين(596/10)
نقطةً. لا ننتظر اتقاناً وضبطاً في قراءتنا وكتابتنا ولا سهولةً في تعلمها ما لم نطرح هذه الحروف ونستعمل الحروف اللاتينية التي لا غنى لنا عن تعلمها وإن أبقينا على حروفنا لاحتياجنا إلى تعلم ألسنة الغربيين والاقتباس من علومهم ومعارفهم. فباتخاذنا حروفهم نكون قد وفرنا على أنفسنا تعلم نوعين من الحروف
وخلاصة القول إني أؤيد معالي عبد العزيز فهمي باشا في فكرة استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، الفكرة التي بعثت على يده من جديد بعد أن كنت أول من نادى بها منذ 37 سنة. فإني كنت قد بثثت هذه الفكرة في استنبول وطبعت فيها رسالة بالتركية أسميتها (إصلاح حروفه دائر) أوضحت فيها بإسهاب مصاعب التعلم والقراءة والكتابة بالحروف العربية والتصحيف والتحريف اللذين ينشآن من استعمالها وحثثت فيها الترك والعرب والإيرانيين على استعمال الحروف اللاتينية عوضها. وكان تاريخ طبع الرسالة المذكورة سنة 1326 هجرية، أي قبل أن تستعمل الترك الحروف اللاتينية في كتاباتهم بـ 18 سنة. وكانت بعض الجرائد المصرية قد تناقلت خبر اقتراحي ورسالتي في حينه. ثم كنت قد دافعت عن رأيي هذا في مقالتين نشرتهما إلى جريدة العراق البغدادية سنة 1928 وأتمنى الآن أن تروج هذه الفكرة فتقوم مصر وسوريا والعراق باستعمال الحروف اللاتينية فتقتدي بها سائر الأقطار العربية. فأهنئ معالي الباشا بقيامه بهذا المشروع
بيد أني لا أرى من الموافق إدخال بعض الحروف العربية بين الحروف اللاتينية كالجيم أو الحاء أو الخاء أو الصاد أو الضاد أو غيرها بصورها الأصلية أو مقلوبةً. وإني كنت قد عالجت الحروف العربية التي لا نظير لها في الأبجدية اللاتينية في رسالتي السالفة الذكر. وإني مرسل لمعالي الباشا نسخة منها لأجل الاطلاع. إن في الألبانية حروفا لا وجود لها في اللاتينية كالثاء والجيم والذال اتخذوا لها حروفاً تنسجم مع الحروف اللاتينية. وفي اليونانية ثاء وخاء. وهناك الطريقة التي يستعملها المستشرقون في ضبط الألفاظ العربية. وعند الروس والأرمن حروف تقابل بعض حروفنا التي لا نظير لها في الأبجدية اللاتينية فيمكن أخذ بعضها بأشكالها من الروسية واتخاذ البعض الآخر من الأرمنية بتعديل طفيف. أما حشر حروف عربية بين الحروف اللاتينية فيكون بمثابة ترقيع ثوب برقع من غير جنسه. لأن أشكال الحروف العربية لا تنسجم مع الحروف اللاتينية. وعدا ذلك إننا إذا(596/11)
استعملنا حرف الحاء (ح) كما هو ووقع في وسط كلمة واتصل بما قبله وبما بعده أخذ شكل حرف الراء اللاتيني تماماً
إني عالجت في رسالتي بعض الحروف في لساننا باعتبار كون أحدهما يلفظ مرفقاً يقابله آخر مثله يلفظ مفخماً. فمما لاشك فيه أن الطاء تاء مفخمة. والضاد دال مفخمة. والظاء ذال مفخمة. وكذلك الحال مع الصاد والسين، والقاف والكاف. ويمكننا بنوع من التقريب اعتبار العين همزة مفخمة، والغين كافاً فارسية مفخمة. والحاء هاء مفخمة. فنستطيع الدلالة على الحروف المفخمة بإشارة للتفخيم يتفق عليها توضع على الحروف المرفقة. وبذا نكون قد استغنينا عن اتخاذ أشكال لحروفنا المفخمة
هدانا الله جميعاً طريق الصواب، وألهم أولي الأمر ومنهم أعضاء المجمع اللغوي لفؤاد الأول قبول هذه الفكرة المصيبة، إنه هو الهادي.
الدكتور داود الجلبي الموصلي(596/12)
من رحلات القرن الماضي
انجلترة في نظر سائح عربي
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
تختلف أساليب الرحالين والسياح في كتبهم تبعاً لاختلاف أمزجتهم وطبائع نفوسهم. فمنهم المتزمت الوقور كابن جبير، ومنهم الناقد اللاذع كعبد اللطيف البغدادي - وخاصة حينما نزل مصر ورأى فيها ما لم يعجبه. ومنهم المحدث المتفضل بالحديث عن نفسه والدوران حول شخصه كابن بطوطة. ومنهم الذي يدرس الطبائع والظواهر كالمسعودى. ومنهم الدقيق الملاحظة المستفيد مما تقع عليه عينه ليقدمه إلى بلاده بعد عودته كالشيخ رفاعة الطهطاوي. ومنهم الذكي المتوقد الذي يتتبع كل أمر، ويتقصى كل شيء، وينظر إليه من وجهيه، ولا تفوته النكتة اللاذعة والفكاهة المرة - أو الحلوة - والنادرة المكشوفة، والعبارة المفضوحة كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. والشدياق من رحالة العرب في القرن التاسع عشر. وهو قرن اشتهر فيه منهم رفاعة الطهطاوي وأمين باشا فكري وأحمد زكي باشا. ولكنهم على فضلهم لا يرتفعون إلى منزلة الرحالة الأولين من العرب.
ومن كتاب الرحلات في القرن العشرين لبيب البتانوني بك في رحلاته إلى الحجاز وأسبانيا وأمريكا الجنوبية. وأمين الريحاني في رحلته إلى بلاد العرب. وأحمد حسنين باشا في رحلته إلى صحراء ليبية. والدكتور عبد الوهاب عزام في رحلاته إلى البلاد الشرقية ومحمد ثابت في رحلاته المتعددة حول العالم، وأحمد عطية الله في رحلاته إلى أوربا وفؤاد صروف في مشاهده في العالم الجديد
ولكل واحد من هؤلاء سبيله في الوصف، إلا أنهم يشتركون جميعاً في طابع الجد الذي يميز كتبهم
ولكن الشدياق غير هؤلاء جميعاً. فالمزح طبع أصيل فيه يشهد بذلك كتابه (الساق على الساق). وهو كتاب لم يخل من مجون أخذه عليه أهل الفضل والنظر.
وللشدياق رحلتان: أولاهما (الواسطة في معرفة أحوال مالطة - وضعهما سنة 1834). وثانيهما (كشف المخبأ عن فنون أوربا - طبع سنة 1854)
وقد أعلن المؤلف في مقدمة رحلتيه إنه يكتب عن حق ويروي عن صدق، فلم يمل به هوى(596/13)
أو غرض إلى انحراف أو ميل. أو تفضيل قوم على قوم. وإنما يكتب بحسب ما ظهر له إنه الصواب
ولكن المتصفح لكتابه يرى فيه تحاملاً وتجنياً. فهو متحامل على لندن. ولعل ضبابها ودخانها أثرا في مزاجه، وهو رجل مرهف الحس، مرح كثير النقلة والحركة. فلم يعجبه محبسه في بيت إنجليزي هادئ أمام موقد يرمي باللهب. وآثر الانطلاق إلى بعض عواصم أوربا الموسومة بحياة خارج الدور لا تسجن بجدران! ولا تثقل بوجوه دائمة من السكان.
وفي رحلة الشدياق إلى إنجلترا من الحقائق والإحصاءات الدقائق والدرس الواسع ما لا يستهان به. وكان يسعفه في ذلك الرجوع إلى الوثائق الرسمية. ومن هنا كان لكتابه قيمةٌ تاريخية
ولمشاهداته قيمة من ناحية الاستقصاء، وفيها كثير من الموازنة والظرف والفكاهة، والسخرية اللاذعة التي لازمت الشيخ الأشيب حتى على بياض لمته. . .
فالقرية الإنجليزية الصامتة المتزمتة التي وصفها الشدياق هي هي التي نراها اليوم (ليس فيها مواضع للهو والحظ، وإذا أرادوا اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام آلات الطرب) وذلك حق من الشدياق؛ فالريف الإنجليزي على جماله يخيم على قراه هدوء حزين لا يسر الطبائع المرحة التي تجد في الحركة والصخب أنسا وراحة.
والشدياق يصف من الريف أرضه وسماءه وكل شيء فيهما. . . حتى البقلة الناجمة والزهرة الحالمة. . . ويوازن بين بقل وبقل، وزهر وزهر. ويدرك الفرق بين أزهار مالطة وشبيهاتها في فرنسة وإنجلترا، ويصف حيوانه وصفًا دقيقاً. ولا تفوته النكتة فيقول (ومما من الله به على هذه البلاد - يعني إنجلترا - أن ليس فيها حيات ولا عقارب ولا سوام أبرص، ولا ابن آوى يعوي في الليل، ولا نمس يأكل الدجاج ولا بعوض يمنع من النوم، ولا براغيث في الربيع إلا نادرا)
والشدياق حين يلاحظ الأمور الجارية في رحلاته يردها إلى علل معقولة طبيعية أو اجتماعية. فالإنجليزي يتخطى السبعين ولا يخط الشيب رأسه ولا عارضه. على عكس ما هو حادث في الشرق. ويرد ذلك إلى أن الشيب سببه الهم والخوف وتوقع المساءة من أولي الأمر وذلك معدوم في إنجلترا لفشو العدل بينهم واطمئنان الناس إلى حقوقهم(596/14)
ويلاحظ رحالتنا العربي فرقاً بين ملامح الرجل المدني وأخيه القروي في إنجلترا، فالأول ضاحك السمات، مشرق البسمات، والثاني كثير العبوس قليل البشاشة لا يستخفه طرب ولا يستثيره لهو إلا في القليل. ويرد رحالتنا ذلك إلى حياة اللهو في المدن فينشأ الطفل على الطرب والخفة والبشاشة. أما القرية فقلَّ أن تجد فيها ملهى قائماً أو ملعباً دائماً. . ومن هنا نشأ أطفالهم على الجد والعبوس والتوقر
وعيب الشدياق في رحلته كثرة الاستطراد. وذلك عائد إلى ازدحام المعاني والأفكار والمعرفة عليه. فهو يروي ويصف ما شاهد ويؤيد ذلك بواقعة حال أو عبارة من مقال. أو يذكر بيتاً من الشعر أو لطيفة من الأدب أو حكاية عن العرب. ثم يعود بعد لف طويل إلى موضوعه الأول
وهو خبير في رحلاته بكل شيء. تراه عارفاً بالطعام، ذواقة لألوانه، خبيراً بأطايبه ناقداً لمعايبه. . . ولهذا لم يعجبه الطعام الإنجليزي على بساطته
وتراه خبيراً بالنساء طبيباً لأدوائهن. . . دارساً لخبايا نفوسهن. يعرفهن بالرمز والشارة، كما يعرفهن بالقول والعبارة. ويقدِّر جمال المرأة أحسن تقدير. . . ويؤثر العين والفم في وجه المرأة لأنهما يتحركان فيحركان الوجد ويثيران الشوق. ولا يذهب مع من قال (أحب منها الأنف والعينان) بل يذهب مع الراجز الآخر حيث يقول: يا ليت عيناها لنا وفاها. . .!
وتذهب به ملاحظته بعيداً فيتتبع الكتاب والشعراء الإنجليز في وصف محاسن المرأة. ويلحظ الفرق بيننا وبينهم في التشبيه والاستحسان. فهم لا يشبهون العيون بالسيوف كما يفعل شعراؤنا، ولا يشبهون المرأة بالشمس والقمر كما نفعل نحن. ولا يشبهون جيدها بجيد الغزال، وإنما يشبهون الجيد بالمرمر أو يقتصرون على وصفه بالبياض. ويشبهون المرأة بالنجم. ولا يستحسنون الفلج في الأسنان كما نستحسنه نحن ويستطرد إلى غسل النساء وجوههن بالصابون فينقله ذلك إلى أول من عمل الصابون، وإلى أول عهد استعماله في لندن سنة 1524، وإلى مقدار ما يستهلكه الإنجليزي منه في العام تبعاً لما وصل إلى علمه من إحصاءات
ويصف تقدير المرأة الإنجليزية للهدية وتعظيمها لها مهما قل شأنها وتفه أمرها. فلا تراها(596/15)
إلا مثنية على المهدي معترفة بحسن صنيعه. مبالغة في وصف الهدية وتقديرها حتى يتوهم المهدي إنه صار رابعاً لحاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب بن مامة من أجواد العراب. . .
ولا يفوته وصف الفلاحة الإنجليزية وهي تعمل في الحقل؛ حتى ليشفق عليها من البرد يعض جسمها، ومن شمس الصيف تلوح وجهها. . ويأسف لهذا الجمال الذي ترخصه مزاولة الأعمال. وينحى باللائمة على الرجال الذين يحوجون المرأة إلى هذا الابتذال
ولو عاش الشدياق في عصرنا هذا ورأى المرأة الإنجليزية في المصانع وفي لباس الجنود، وفي طبقات الجو وحبك السماء، ولو رآها تلعب دورها في هذه الحرب الضاربة فماذا كان يقول؟
ولكن النكتة لا تفوته في هذا المقام فيضع شعرا في الفلاحة الإنجليزية يقول فيه:
فلو برزت سواعدهن يوماً ... لشاعرنا لأنشد من ذهول
بربات الحقول يحق لي أن ... أشبب لا بربات الحجول. . .
كما لا تفوته النكتة البديعية فيعمل جناساً بين الحقول والحجول
ويثني الشدياق على المرأة الإنجليزية كزوجة صالحة وربة بيت تدير شئونه وتصرف أموره على أحسن تدبير وأكمل تصريف. ويقرر (أن من تزوج بإحداهن فقد هنأه العيش وقرت عينه بما يراه من نظافة منزله مع الاقتصاد في النفقة وراحة البال من الأسباب الباعثة على القيرة)
ولقد قر هو نفسه عيناً بزوجة إنجليزية صالحة إلا إنه لم ينجب منها. ولكنه أنجب من غيرها ثلاثة ذكور أكبرهم سليم الشدياق الذي ظفر بثقة السلطان عبد الحميد واحتل في الأستانة مكانا رفيعاً.
محمد عبد الغني حسن(596/16)
فرقة التمثيل ومديرها الفني
للأستاذ حبيب الزحلاوي
لم نحمل على الفرقة القومية التي كان يرأسها الأستاذ الجليل خليل مطران بك كرهاً لها، أو تقليلاً من قدر رئيسها الفاضل، لأنه يستوي عند الأديب الغيور على فن المسرح أن تكون الإدارة بيد بكر أو خالد من الناس، إنما حاربناها لتصدر مديرها إلى تحمل أعباء مسؤولية فنية أثقلت عاتقه وسهلت لذوي أغراض خسيسة إرضاء مطامعهم وشهواتهم على حساب فن المسرح. وأزعم أن لو استجاب الأستاذ مطران دعوات الداعين إلى إيجاد مدير فني يقظ الذهن يدرك غرض الحكومة من إنشاء الفرقة، ويحرص على فن المسرح تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً، لما حدث الانقلاب الذي نتج عنه تبديل في الاسم واستبقاء للغرض والوضع
فرحنا أيما فرح عند تأليف الفرقة المصرية للتمثيل، وقد أسند مديرها الجديد إدارتها الفنية إلى الأستاذ زكي طليمات الفنان المتخصص، واغتبطنا أيما اغتباط عندما تألفت لجنة القراءة من رجال بعيدين البعد كله عن تزمت شيوخ لجنة القراءة السابقة وعنعناتهم، تحدوهم غيرة على الفن وحب للأدب لا دخل فيه ولا تصنع. ووقفنا بعيداً ننتظر قطف ثمار هذا الانقلاب
كأني بالأستاذ زكي طليمات ساير الزمن في انقلاب أوضاعه وماشى حكاماً استهانوا بكل شيء وأقاموا من شهواتهم قوانين للطغيان والظلم والكسب، فجنح هو أيضاً عن دستور الفرقة وقوانينها، وهبط إلى مستوى الفرق الأهلية التي تراعي الربح المادي ولا تلتفت إلى الفوائد المادية المعدودة بالمليم والقرش، فصرنا نشاهد على مسرح الأوبرا الملكية تمثيل رواية (شهرزاد) و (سلك مقطوع) و (يوم القيامة) و (كلنا كده). . . وما شاكل هذه التلفيقات البهلوانية والتهريج الرخيص
بودي لو تسمح لي أعمالي الخاصة بالوقوف عند كل رواية من هذه الروايات التي لا تشرف أحط الفرق الجوالة لو مثلتها في ساحة عامة على مشهد من السوقة والدهماء، وإني لأعجب والله كيف يباح لفرقة حكومية تعيش من أموال الدولة أن تقول عن أبناء الأمة انهم كلهم ديوث وقواد وعكروت (وكلنا كده)؟!(596/17)
أفهم أن يعمد مؤلف إلى إبراز أشنع الصور الأخلاقية والاجتماعية، ويمعن في التهويل وفي تزييف هذه الصور إلى حد يجعلها بغيضة مكروهة من كل النفوس، حتى نفوس الشرار والمستهزئين، أما الذي لا يمكن فهمه ولا تسوِّغه سوى عقلية المدير الفني للفرقة الحكومية أن يقال للأمة (كلنا كده)!
ناهيك بالانحراف عن الكلام الفصيح، والتزام اللهجة العامية وتعابيرها النابية، والتنكيت البارد، والحركات السمجة، والزار، وضرب الطار، وهز البطن والأرداف، (والتشلبق البلدي) في رواية (يوم القيامة)، وقد كان ضحيتها ممثل بارع افتديه (بمعهد فن التمثيل) هو الممثل المقتدر عباس فارس، وقد اختاره زكي طليمات المدير الفني لأن يكون ذبيحة تلك الرواية ومهرجاً فيها. . . فيا لخيبة الفن!
وهكذا فعل أيضاً، فقد سخر أحمد علام وحسين رياض لأن يكونا مهرجين في رواية (سلك مقطوع)، ولم يسخرهما اعتباطاً، بل لغرض كامن في قرارة نفسه. ولم يخترهما لرواية (يوليوس قيصر)، بل تحايل بالمرض على تقديم فساكل من الممثلين المبتدئين ليمثلوا دوريهما، فكانوا على المسرح كالغراب صوتاً ومشية. . .
لا تخلو تصرفات المدير الفني في توزيع أدوار الرواية من الغرض، هذا إذا لم أقل مع الممثلين إنه يتعمده تعمداً، فقد شاهدت تمثيل رواية (الوطن)
وقد كانت بطلة تلك الرواية ممثلة لا أعرف اسمها، ولكني أذكر قصر قامتها، وشلل أوتار وجهها الذي لا يعبر عن شيء، وثقل حركتها، وعجز حنجرتها عن تلوين صوتها لعلة في مخارجه!
ألمثل هذه الممثلة الباردة يسند رواية عنيفة، متعددة المواقف، متنوعة التلوين والانفعالات؟؟
لا ألوم تلك الممثلة المسكينة، وأعتذر إليها من وصفي موقفها ذاك، إنما ألوم الذي أثقل كاهلها بحمل لا تطيقه طبيعتها بزعم خاطئ وتقدير معكوس في إنه يرفعها إلى مصاف كبار الممثلات، وإذا به يدفعها إلى الهاوية التي لا تستأهلها
لا يعني كلامي أن هذه الممثلة لا تتقن فن التمثيل، فقد تصلح ولا ريب لأدوار أخرى، إنما أعني أن المدير الفني أساء الاختيار كعادته في التحكم بالممثلين والتسيطر على الممثلات(596/18)
بودي لو أقف طويلاً حيال كل رواية أخرجها الأستاذ طليمات لأقارنها بروايات أخرجها الأستاذ فتوح نشاطي، وبذلك يتبين له البون الشاسع والفرق الظاهر بين المجتهد الدؤوب، وبين القاعد المتقاعس
وسأفعل ذلك إذا توفر لي الوقت، وسأتكلم عن المواقف الفنية وعن فعال العنصر النسائي في الفرقة، وسأخصص درساً لروايتي (قطر الندى) و (شارع البهلوان)
والآن أسأل: ماذا أفاد الأستاذ زكي طليمات الفرقة المصرية للتمثيل، وبماذا أساء إليها بكونه مديرها الفني؟
لقد أفاد الفن كثيراً، وسأذكر هذه الفوائد بالتفصيل في الحين المناسب، ولكن هذه الفوائد على كثرتها أقل كثيراً من إساءاته، ولا أحصى منها إلا ما يأتي:
1 - أساء إلى الحكومة في تعطيله قانون الفرقة بإدخاله اللهجة العامية وجعلها تطغى على اللغة الفصحى
2 - أساء إلى الحكومة في إنفاق خمسة عشر ألفا من الجنيهات من أموال الدولة على (تكية) ممثلين نفعوا ذواتهم ولم يحسنوا إلى الأمة، وكان في وسعهم نفعها لو توفر لهم مدير فني يعمل للفن بدافع من الغيرة على الفن والاعتزاز بأمته
3 - أساء إلى الحكومة التي وكلت شؤون التمثيل إلى جماعة توهمت فيهم المقدرة دون أن تقيم رقباء عليهم، فجعلوا الفرقة مطية للأهواء والشهوات
4 - أساء إلى النهضة الأدبية وإلى سمعة مصر في البلاد العربية
5 - أساء إلى نفسه وقد عرضها للوقوف أمام لجنة التحقيق - على حد ما ذكرت الصحف - عما نسب إليه من أمور لا شأن لي بذكرها
وأنه لمن المدهش حقاً أن تقف لجنة القراءة - وأعضاؤها من ذكرت - هذا الموقف الهين اللين من مدير الفرقة الفني، وهي تعلم أن مآلها مرتبط بسقطاته الفنية وغير الفنية، وقد يزول العجب متى أمطنا اللثام عن بعض أسباب ذلك الموقف وموعدنا قريب
حبيب الزحلاوي(596/19)
الحياة الأدبية في السودان بين ماضيها وحاضرها
للأديب سعد الدين. أ. فوزي
لا أريد أن أطوي القرون القهقري، لأتكلم عن النهضة الأدبية في السودان القديم الذي عاصر الفراعين في مصر، والبابليين والآشوريين في العراق. ولا أريد كذلك أن أقتصر على النهضة الأدبية الناشئة الآن، ولكني أحب أن أقدم عرضاً موجزاً للحياة الأدبية في السودان العربي
عندما انتصر العباسيون تفرق الأمويون في بلاد الله، فنزل فريق منهم الأندلس وأسس بها مملكته الشماء، وجاء فريق إلى جنوب السودان وهبط سنار بين النيليين الأزرق والأبيض، حيث وجد موجات عربية أخرى قد سبقته ما بين القرنين السادس والثالث عشر الميلاديين إلى تلك الربوع، وهناك امتزج بالسكان الأصليين وتزوج معهم وتناسل، على أشهر الروايات، وأسس صرح مملكة عظيمة تسمى بالسلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج، امتدت شهرتها حتى وصلت إلى القسطنطينية واتسعت حدودها حتى البحر الأحمر وأطراف الحبشة وحدود ذارفور
وقد اشتهر ملوك سنار بما جُبلوا عليه من الشيم العربية، من الكرم والشهامة وحب الثناء، فكان الشعراء يفدون عليهم من مصر ومن سائر البلاد العربية، فينظمون فيهم عقود الثناء، وينضدون فيهم قلائد المدح؛ ولكن الطابع الأصيل للنهضة الأدبية في رعاية ملوك سنار دينياً بحتاً، فكان للعلوم الفقهية المقام الأول، في الدراسة والتحصيل، وفي البحث والتنقيب. ولم تقتصر همة ملوك الفونج على رعاية العلماء في داخل حدودهم، بل كانت لهم صلات وثيقة بأفاضل العلماء في مصر، ورجالات الأزهر المعمور. ومن أشهر هؤلاء الملوك الملك بادي أبو ذقن؛ كان يرسل الهدايا والهبات إلى رجال العلم في الوادي الشمالي حتى مدحه الكثيرون بقصائد رنانة - أورد منها شقير بك في كتابه (تاريخ السودان) أبياتاً للشيوخ عمر المغربي قال فيها:
أيا راكباً يسري على متن ضامر ... إلى صاحب العلياء والجود والبر
وينهض من مصر وشاطئ نيلها ... وأزهرها المعمور بالعلم والذكر
لك الخير إن وافيت سنار قف بها ... وقوف محب وانتهز فرصة الدهر(596/20)
إلى حضرة السلطان والملك الذي ... حمى بيضة الإسلام بالبيض والسمر
هو الملك المنصور بادي الذي له ... مدائح قد جلت عن العد والحصر
سليل ملوك الفونج والسادة الألى ... علا مجدهم فوق السماكين والنسر
وظلت هذه الصلات وثيقة العرى حميدة الأثر حتى ضعفت دولة الفونج وصار الأمر فيها إلى مواليها من (الهمج). وكان القرآن هو الدعامة الكبرى للتعليم في ذلك الوقت، تخصص على درسه وتدريسه فقهاء إجلاء من علماء الأزهر وعلماء السودان
ومن أشهر هؤلاء في ذلك العهد، الشيخ إدريس بن محمد الأرباب، اشتهر بالفضل والتقوى، حتى لقب بسيد الأولياء، وكانت له ولأحفاده من المكانة عند ملوك سنار ما جعلهم ملجأ المستغيث ومأمن الخائف. واشتهر بعده الشيخ حسن بن حسونة الذي جاء أبوه من الأندلس، فسكن (كركوج) على النيل الأزرق، واشتهر بالصلاح والتقوى. وفي هذا العهد أيضاً رحَّب السودان بعلماء كثيرين وردوا ساحته من سائر البلاد العربية، كالشيخ تاج الدين البهاري الذي جاء من بغداد، والشيخ إبراهيم بن جابر البولادي من مصر، والشيخ محمد العركي من مصر أيضاً. وفي المخطوط التاريخي الذي يعرف عند مؤرخي السودان (بطبقات ولد ضيف الله) ذكر الكتاب نيفاً وتسعين من رجال العلم والدين في ذلك العهد في مختلف أنحاء السودان لا داعي لاستعراضهم جميعاً
أما الكتابة الفنية الخالصة والشعر الوجداني المشبوب فما كانا غرضاً من أغراض الكتاب في دولة الفونج، إذا استثنينا الشعر الشعبي الذي لا يتقيد بالفصحى، والذي يعرف عندنا (بالدوبيت) وإنما كانت الكتابة وسيلة لمدح، أو رداً على رسالة أو تهديداً لخصم، وكان عمادها الجملة القرآنية، والاقتباس من الأحاديث النبوية، مع التزام السجع، وتقطيع الكلام إلى فقر قصيرة. وإليكم مثلا الرسالة التي رد بها السلطان محمد عدلان على إسماعيل بن محمد علي قائد الجيش المصري الفاتح عندما طلب منه التسليم، قال:
(لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن الملوك وهم الرعية، أما بلغك أن سنار محروسة محمية، بصوارم قواطع هندية، وجنود جرد أدهمية، ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية؟)
وكانت الحياة الأدبية في مملكة دارفور المعاصرة لمملكة سنار الآنفة الذكر، والواقعة في(596/21)
غرب السودان مماثلة لما تقدم وصفه: حركة دينية عمادها القرآن والحديث والمذاهب، وأشعار مصطنعة في مدح الملوك والسلاطين، والفخر والحماسة، وتعليم أساسه الدين يبذل في المساجد وبيوت القرآن
ثم دالت مملكتا سنار ودارفور العربيتان، واستتب الحكم المصري في السودان سنة 1821 ميلادية، فاستمرت شعلة الإسلام متقدة وكثرت الطرق الصوفية في طول البلاد وعرضها وصار لأربابها من النفوذ ما يداني نفوذ السلطة، وانتشر علماء السودان الواردون من الأزهر في أنحاء البلاد، وازدحم الطلاب على أبواب كبارهم كالشيخ القرشي والشيخ محمد الشريف من زعماء الطريقة السمَّانية الكبار
وقد نشر المصريون في السودان عدداً من المدارس الأولية، وأنشئوا مدرسة وسطى بالخرطوم بنظارة الشيخ رفاعة بك الطهطاوي، وشمل خديويو مصر المساجد برعايتهم فأجروا أجور الأئمة، وقاموا بإصلاح الكثير منها، ولكن مما يؤسف له أن الشطر الأكبر من هذه الجهود ما زال مطوياً عن الجمهور في الوثائق الرسمية، ولم يصل بعد إلى آذان الجمهور في مصر في السودان. بيد أن سوق الأدب كسدت في أواخر الحكم المصري لاضطراب الحالة السياسية وضعف الإداريين واستبداد الجباة. وكان النثر على نوعين في هذه الفترة: لغة الدواوين التي تكتب بها التقارير وتصدر الأوامر وكانت مهلهلة لا ترمي إلى غير الأداء. ولغة العلماء والفقهاء التي ظلت تحتذي أسلوب القرآن وتسرف في تضمين آياته وأحاديث الرسول، ومن أشهر علماء هذه الفترة الفقيه السنوسي بقادي، والفقيه محمد الحاج الطيب إمام جامع الخرطوم في ذلك الحين، والفقيه محمد علي ولد العباس، والشيخ الطريفي بن الشيخ يوسف، والشيخ حسن ولد بان النقاب وكثيرون غيرهم.
وعندما انتهى الحكم المصري على يدي الثورة المهدية ازدادت شعلة الدين توهجاً، وامتزجت السلطة المدنية بالسلطة الدينية تماماً. وكان المهدي رجلاً متفقهاً في الدين متمسكاً بالكتاب والسنة، وكان على ذلك بليغاً سيال العبارة سلس الأسلوب، وقد عمل مخلصاً على نشر الدين وبث العلوم القرآنية. وكان إذا ما صلى صلت الأمة كلها وراءه، وكان إذا ما جاهد اندفع الجميع تحت لوائه. ولعل في النبذ الآتية من خطبه ومنشوراته ما يوضح ما(596/22)
نحن بصدده من تحليل النثر في ذلك العهد
قال المهدي في رسالة له: (قد اجتمع السلف والخلف في تفويض العلم لله، فعلمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بضبط القوانين ولا بعلوم المتفننين، بل يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قال تعالى: (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) و (عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) و (لا يسأل عما يفعل) و (يخلق ما يشاء ويختار). وإليكم نص البيعة التي بايعه عليها أنصاره الكرام (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله مع التسليم، أما بعد فقد بايعنا الله ورسوله، وبايعناك على توحيد الله، وألا نشرك به أحداً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها، والرضى بما عند الله رغبة فيما عند الله والدار الآخرة وعلى ألا نفر من الجهاد)
وكان للمهدي شعراء أفذاذ، نذكر منهم الشيخ عمر البناء، فقد كان شاعراً بليغا قوي الديباجة، رصين المعاني، له قصائد مشهورة أذيعها
الحرب صبر واللقاء ثبات ... والموت في شأن الإله حياة
ولولا ضيق المقام لأوردنا الشيء الكثير غيرها. والشعر في ذلك الحين كان يقوم مقام الخطابة عند العرب؛ مدح للمهدي وتشجيع لأنصاره وحملة على أعدائه - ومن ثم كانت دائرته محدودة، ونظرته ضيقة
ثم انقضت المهدية وجاءت الحكومة الحاضرة، واتصل أدباء السودان وشعراؤه بالعالم الغربي الحديث فنشأت مدرستان في الأدب: قدماء ومحدثون
أما المدرسة الأولى فنهلت من مناهل الأدب العربي القديم، ورشفت على وجه خاص من موارد العباسيين، وعاصرت شوقي وحافظ عند المصريين
وأما المدرسة الثانية فتأثرت بالأدب المصري الحديث أول ما تأثرت ثم تشربت روح الغربية، واهتزت لشعراء وأدباء المهجر
وفي طليعة الأوائل الشيخ عبد الله عمر البناء والأساتذة أحمد محمد صالح، وصالح عبد القادر
وفي طليعة الأواخر: للتيجاني يوسف بشير ومحمد عثمان محجوب والمرضي محمد خير(596/23)
ويوسف التنى
أما النثر فقد تطامن متنه لأدباء السودان، ولا داعي للإفاضة فيه، فهو لا يتميز عن النثر الحديث في العالم العربي، وإنما يجري في ركابه مع الاختلافات اليسيرة التي تميز أسلوب كاتب عن كاتب وشاعر عن شاعر
وقد اعتاد أدباء السودان وشعراؤه أن يقيموا مهرجاناً أدبياً كل عام يعرضون فيه ثمرات أفكارهم وروائع أشعارهم. وقد أقيم هذا المهرجان في ثاني يوم عيد الأضحى
وإذا ما قدر لإنتاج السودانيين في القريب بإذن الله، أن يجد طريقة إلى المطبعة فسيرى القراء الكرام مدى ما وصلنا إليه في عالم الفكر والأدب، ويحكمون بأنفسهم على ذلك الإنتاج
بخت الرضا - سودان
سعد الدين. أ. فوزي(596/24)
الذوق الأدبي العراقي
للدكتور مصطفى جواد
للأدب العراقي سمة واضحة وخصائص لائحة ومزايا مشهورة ومقام شريف، ولكل صقع من الأصقاع تأثير في سكانه، تحدثه الوراثة والأرض والماء والهواء. وإن سلَّمنا نحن هذه الحقيقة فإنا لا نغلو فيها فنقول قول فيكتور كوزان العلامة الفيلسوف الفرنسي: (صفوا لي بلاد قوم أذكر لكم تاريخهم) ولقد علم علماء العرب القدماء هذه المعرفة وأسلافهم سبقوهم إليها، حتى ذكر ذوو الدراية أن عمر بن الخطاب، حين فتح الله البلاد على العرب كتب إلى حكيم من حكماء العصر: (إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن الأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها). فهذا الخبر - إن كان صحيحا - يدل على تفطن العرب لأثر المسكون في الساكن منذ أول العهود الإسلامية؛ وإن كان موضوعاً فإنه لا يخلو من كون هذا الرأي قديماً يزيد قدمه على ألف سنة
ودونك اسم باب من أبواب أحد الكتب القديمة (لُمع من ذكر الأرض وشكلها أو ما يغلب عليها وتأثيراتها في سكانها وما اتصل بذلك والأهوية وتأثيراتها). والعراق في صفة الأرض القديمة معدود من إقليم بابل، وفي نعته يقول أحد سكانه: (وأما العراق فمنار الشرق وسرة الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فصفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم، واتصلت مسراتهم فظهر منهم الدهاء وقويت وثبتت بصائرهم. . . وفضائل العراق كثيرة لصفاء جوهره وطيب نسيمه واعتدال تربته وإغداق الماء عليه ورفاهية العيش به. . . كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد لأن أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور، كما يقع ذلك عن القلب، وبذلك اعتدلت ألوان أهله وأجسامهم. . وكما اعتدلوا في الجبلة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بمحاسن الأمور). فكل هذه المأثورات الدالة على أن الترب والأهوية والماء تأثيرات في السكان، كتبت في أواسط القرن الرابع للهجرة. ومما يؤيد اختصاص العراق بخصائصه الإقليمية المؤثرة في ثقافة سكانه ومعايشتهم وأخلاقهم ما ذكره سائح أندلسيّ بلنسيّ ورد بغداد سنة (580) هـ والدولة(596/25)
العباسية في عهد عزتها وفخامتها وزمن عظمتها من حيث العدل والتدبير والسياسة والاستقلال والسعادة والنظم والرسوم، قال: (وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً وإن كان نازح الدار مغترباً حتى حللنا بهذا الموضع. . . وهو على مرحلة من بغداد. فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونقعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من نفوسنا - على حالة وحشة الاغتراب - دواعي الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب في ريعان الشباب، هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن:
سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... وردّ إلى الأوطان كل غريب
والذوق الأدبي هو إدراك محاسن الأديب ومعرفة دقائقه ولطائفه ونكاته، وهو للأديب ملكة تأسيس على مقاييس المحاسن الأدبية، وللقارئ الأدبي هو ملكة تمييز واستذاقة، وامتلاك هاتين الملكتين قائم على الدراسة والزمان والذهن، وبالذوق الأدبي يستطيع الإنسان قدر اللطائف الأدبية حق قدرها، وتعرَّف الحكمة وإحساس الأدب الجميل ولمح التأثيرات الأدبية في النفوس، وتمييز المستحسن من المستكره من الأدب بالإضافة إلى ذوي الأكثرية من أهل الأدب، ومعرفة ما يلائم الطباع من الآثار الأدبية، والغوص على النكات والدقائق، وعلم سبل الشعور المستقيمة، فمحروم الذوق الأدبي لا يدرك مثلا قول امرئ القيس:
مكرّ مِفرّ مقبل مُدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
ولا يعلم أن المراد به (معاً) هو أن الكر والفر والإقبال مجتمعة في قوة الفرس لا في فعله المقترن بالزمان، وذلك لأن المشتقات في العربية هي للنعوت والأوصاف لا للأفعال والأحداث، ولأن (معاً) للمصاحبة المطلقة، لا للزمان البحت، فلذلك يقال: (جاءنا مع العصر) بجعله مصاحباً للعصر في المجيء. ومن حرم المقياس عدم الإحساس
أجل تضافرت الآثار والأخبار على أن الذوق الأدبي العراقي حكيم بارع كريم، ألا ترى أن أبا علي محمد بن إسماعيل القاضي الطوسي، قاضي طوس المتوفى سنة (459) هـ كان يلقب بالعراقي لظرافته وطول مقامه ببغداد، وما نشك في أن الظرافة العراقية هي سبب التلقيب وإن كان لقبه (البغدادي) لا العراقي لأنه أطال الإقامة ببغداد. وروى الإمام أبو(596/26)
عبيد الله محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة (384) أن محمد بن أبي العتاهية قال: (أنشدت أبي أبا العتاهية شعراً من شعري، فقال لي: أخرج إلى الشام، قلت: لم؟ قال: لأنك لست من شعراء العراق، أنت ثقيل الظل مظلم الهواء جامد النسيم) وقال العلامة أحمد بن محمد الفيلسوف المؤرخ الملقب بمسكويه: (إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب، والسجع الملائم واللفظ الموفق والتأليف الحلو والسبوطة الغالبة، والموالاة المقبولة في السمع، الخالبة للقلب، العابثة بالروح، الزائدة في العقل المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب الدالة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف) وقال أبو حيان ينعى على الصاحب بن عباد أسلوبه: (وطباع ما لجبلي مخالف لطباع العراقي، يثب مقارباً فيقع بعيداً، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً)
والظاهر هو أن ظروف أهل العراق في الأخلاق والأدب أصبح في العصور الإسلامية كالحقائق المجمع عليها المتخذة مقاييس وعبراً؛ فهذا أبو منصور عبد الملك الثعالبي يقول في نعت أدب أبي العباس محمد إبراهيم الباخرزي الكاتب إنه كتب إليه بيتين، فأجابه الباخرزي بأبيات منها:
استودع الله الحفيظ حبيبا ... يحكى إذا نظم القريض حبيبا
متطبعاً طبع الشآم مبرزا ... متدرعاً ظرف العراق أديبا
وإذ لم يكن بد من التخصيص المؤدي إلى الاختصاص نذكر أن جماعة من الأدباء خصصوا أكثر الظرف العراقي والإبداع الأدبي بدجلة - أعني سكان بلادها - ومن ذلك ما قاله أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي يصف أدب أبي القاسم عبد الواحد ابن المطرز الشاعر البغدادي بعد إيراده له هذه الأبيات:
عسى طيف الملمة بالنعيم ... يلم بنا على العهد القديم
أرقت له أماطل فيه هماً ... يلازمني ملازمة الغريم
لعل خيال ذات الخال يسري ... فينقع غلة النضو السقيم
وكيف ينام عشق تغلبي ... تؤرقه ظباء بني تميم؟
قال: (هذا لعمري الشعر الذي ورد دجلة فارتوى من زلالها، وروّح بشمال بغداد فرفل في سربالها، واستفاد الصَّحة من اعتلالها) ولقد حكى الباخرزي في هذا الوصف عن شعور(596/27)
شعره وإحساس أحسه ولون أدب ارتوى من نميره العذب، حتى امتلأ منه. وتفصيل ذلك إنه لما ورد بغداد مدح الإمام القائم بأمر الله الخليفة العباسي، بقصيدة صدّر بها ديوانه منها
عشنا إلى أن رأينا في الهوى عجباً ... كل الشهور وفي الأمثال عش رجبا
أليس من عجب أني ضحى ارتحلوا ... أوقدتُ من ماء دمعي في الحشا لهبا؟
وأن أجفان عيني أمطرت ورقا ... وأن ساحة خدي أنبتت ذهبا؟
وإن تلهَبَ برق من جوانبهم ... توقد الشوق من جنبُي والتهبا
فاستهجن البغداديون شعره وقالوا: (فيه برودة العجم) فانتقل الباخرزي إلى الكرخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها مدّة وتخلّق بأخلاقهم واقتبس من اصطلاحاتهم ثم أنشأ قصيدته التي أولها:
هبَّتْ عليَّ صبا تكاد تقول: ... إني إليك من الحبيب رسول
سكرى تجشمت الربُا لتزورني ... من علتي وهبوبها تعليل
فاستحسنها البغادّة وقالوا: تغير شعره ورق طبعه). ولا ينفك الأديب يلمح هذه الإشارات ويقرأ أمثال تلك العبارات ويستحيل هذه الحال في كثير من الكتب الأدبية، وتراجم الأدباء، فالثعالبي لم يومئ إلى ذلك في موضع واحد - أعني الموضع الذي أثرنا خبره - وإنما قال أيضاً في ترجمة أبي الفضل ممد بن عبد الواحد التميمي البغدادي: (وله شعر الأديب الظريف الذي شرب ماء دجلة وتغذى بنسيم العراق) ونحن لا نرى حقاً تسمية الخروج عن الأسلوب العراقي أو الأسلوب البغدادي خاصةً (برودةً) وإنما هو (أثر الانتقال) و (إمارات العبور) من الفارسية إلى العربية، فالمؤاخذة أكثر ما تكون في (الأسلوب) ولا يستطيع الفارسي وإن بلغ الذروة من صحة التركيب في العربية، أن يمتلك زمام مجاز العربية وبلاغاتها الأخر. ثم أن للشعر العربي طابعاً خاصاً به وسمةً دالةً عليه، فالفارسي على إجادته اختيار المعاني وإحسانه تزاويو التشبيه وزخارف الاستعارة، لا يخلص إلى أسلوب عربيّ لا حب، قال نقلة الأخبار إن الإمام أبا العباس أحمد بن الحسن الناصر لدين الله العباسي أسد بني العباس وسياسيَّهم الأعظم وأدبيهم البارع ومحدثهم الماهر لما سمع قول تاج الدين الطرقي الأصفهاني:
إذا ما رآني العاذلون وغردت ... حمائم دوح أيقظتها النسائم(596/28)
يقولون مجنون جفته سلاسل ... وممسوس حيّ فارقته التمائم
تعجّب من ذلك وقال: (ما ظننت أن أحداً من العجم يصل كلامه إلى هذا الحد) وبعث إليه بخلعة. وهذا الخبر يدلنا أيضاً على ما بلغه الإمام الناصر لدين الله من إدراك لمحاسن الأدب العربي ومعرفة لدقائقه ولطائفه وبارعه ورائعه.
وقال أحد المؤرخين العراقيين: (سمعت أبا عبد الله محمد بن يوسف الأرجاني ببغداد يقول: (قال لي إنسان بسمرقند - وقد جرى ذكر أهل العراق ولطافة طباعهم ورقة ألفاظهم - كفى أهل العراق أن منهم من يقول:
تنبَّهي يا عَذَبات الرند ... كم ذا الكرى! هبت نسيم نجد؟
وكرر البيت تعجباً من لطافته وعذوبة لفظه، وهو لابن المعلم (أبي الغنائم محمد بن علي بن فارس الواسطي الهرثي المتوفى سنة 592) مبدأ قصيدة مدح بها إنساناً يعرف بهندي، بني القصيدة على هذه القافية لأجل اسمه.
ولقد صدق هذا السمرقندي فان هذا البيت من قصيدة تجلَّت فيها محاسن الصناعة وبانت عليها بوارق البراعة، وهي في مدح الأمير هندي الكردي أحد الأمراء في أواسط القرن السادس للهجرة، كان في خدمة الإمام المقتفي لأمر الله الخليفة العباسي مجدد دولة بني العباس، وقال في ديباجتها الغزلية:
تنبهي يا عذبات الرند ... كم ذا الكرى هبت نسيم نجد؟
مر على الروض وجاء سحَراً ... يسحبُ بردَىْ أرج وبرد
حتى إذا عانقتُ منه نفحةً ... عاد سموماً والغرامُ يعدى
واعجباً منّىَ أستشفي الصبا ... وما تزيد النار غير وقد
أعلل القلب ببان رامة ... وهل ينوب غصُن عن قد؟
وأسأل الربعَ ومن لي لو وعى ... رجع كلام أو سخا برد
أأقتضى النوح حمامات اللوى ... هيهات ما عند اللوى ما عندي؟
كم بين خال وجوٍ وساهر ... وراقد وكاتم ومبدي؟
ما ضر من لم يسمحوا بزورة ... لو سمحت طيوفهم بوعد؟
بانوا فلا دار العقيق دارهم ... دار ولا عهد الحمى بعهد(596/29)
آه من البعد ولو رفقتم ... ما ضرني تأوهي للبعد
عشقي لا ما عشِقه عذرة ... قبلي وبي يستن بي من بعدي
تعلة وقوفنا بطلل ... وضلة تسآلنا لصلد
إن نكب الغيث الحمى وضن أن ... يثير في عراصها ويسدى
سقته عيني ورمته أضلعي ... بوابل وبارق ورعد
طرف تجف المزن وهو واكف ... كأنما جفناه كف هندي
وأقرأ أيضاً بجمال الأسلوب العراقي في الأدب أدباء مشاهير من أهل الأندلس، فان ابن جبير الرحالة الأديب المشهور، المتقدم الذكر حضر - أيام دخوله بغداد في سنة 580 - مجلس (أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي) فقال:
(وفي أول مجلسه أنشد قصيداً نير القبس، عراقي النفس، في الخليفة الناصر أوله:
في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل
يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل
ففرغ من إنشاده وقد هز المجلس طربا). فقوله إن ذلك الشعر عراقي النفس يدل على اشتهار النفس الشعري العراقي في الأندلس فضلاً عن الشرق. وهذه الخصائص الأدبية واللطائف الشعرية. لم تكن مقصورة على الخاصة من العراقيين دون العامة، ألا ترى أحد المؤرخين يقول: (ومن خالط أهل بغداد وعلماءها عرف فضلهم ولطفهم؛ ومن تأمل لطافة العوام بها في مجونهم وحديثهم وإشاراتهم التي لا يفهمها أكثر علماء غيرها من البلاد حتى أن فيهم من يقول الشعر المسمى (كان وكان) فيأتي بمعان لا يقدر عليها فحول الشعر تبين له فضلهم ولطافة أخلاقهم).
وإن من غير العراقيين من اعترف بهذه الخصائص الأدبية وأسجل بها على نفسه كما يسجل القاضي بالحكم ويثبته في المحضر، وهناك لا تجد أنبل من هذه النفوس العلية والطباع المرضية التي من عادتها الإقرار بالحقيقة والإذعان للواقع مع ما فيه من هضم الجبلة وزم النفس عن مواقعها وتواضع هو في مقياس الفضائل ترفع؛ ومن أولئك النبلاء الأدباء أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني؛ وفي ذلك قال:
فدىً لك يا بغداد كل مدينة ... من الأرض حتى خطتي ودياريا(596/30)
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل: لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا:
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمى النوى بالمقترين المراميا
روى هذه الأبيات أبو بكر الخطيب عن أبي القاسم علي بن المحسن القاضي التنوخي ورواها التنوخي عن ناظمها سماعاً بحضوره وإنشاداً من فيه، ومن طريف ما نذكر هنا أن أبا حيان التوحيدي لما مدح الوزير أبا عبد الله بن سعدان العارض، ذكر له إنه ممن يعتد به في مقامات المساجلة ومواطن المفاخرة وأنه يكابد به أصحابه ببغداد ويقول لهم: هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم، ويبعد بعلمه عن علمكم، ويبرز هذا التبريز في كل شيء تفخرون به على غيركم؟)
وآخر ما ننقل للقارئ شهادة أديب كبير وعلامة خطير ومنشئ بارع وشاعر مجيد وكاتب مجود ومؤرخ ذي يد باسطة في تحرير التراجم والأخبار، وهو عماد الدين الأصفهاني فانه قال في ترجمة أبي الفتح محمد بن محمد بن عمر الأديب الكاتب: (لم يكن في عصرنا أكتب منه، تبحر في أدبه، وتطرف في مذهبه. . . وله شعر كثير وديوان كبير، ولم يختلف له نظيراً. . . وعلى نظمه طلاوة بغدادية وحلاوة عراقية فمنه.
قام بالعذر في هواك العذار ... فسلوى عن حسن وجهك عار
أدلال هذا التعنت أم أن ... ت كما قيل خائن غدار؟
بغداد
مصطفى جواد(596/31)
المناجاة الثالثة
إلى أخي بفرنسا
للأستاذ محمد برهام
من ذا يزف تحرقي وحنيني ... لأخ يعيش على ضفاف السين؟
كنا على حذر وكان بمأمن ... ما بالنا وسط الليالي الجون؟
يا راكباً متن الصعاب إلى العلا ... وتكاد تقتلني عليه ظنوني
ما قيل إن على فرنسا غارة ... إلا بدوت بخفة المجنون
عام يقضَّي في انتظار رسالة ... وتفض كل رسالة تأتيني
ليد الرقابة أن تفض غلافها ... أو أن تحيط بسرها المكنون
لكن مطالعتي بها مبثورة ... من فرط ما بي من هوى يشجيني
فذر الرسالة يا رقيب سليمة ... وإذا أبيت فبعضها يكفيني
لله أمٌّ وهي في محرابها ... بين الخشوع وأنة المحزون
تدعو إِلهك أن يعيدك سالما ... لتقر شتى أنفس وعيون
وحنت على كل الطيور بزادها ... ربما أتت بالطائر الميمون
يا أمنا رُغمى تبلبلِ خاطر ... غالٍ على عمر الزمان مصون
ها قد تحققت الأماني ابشري ... فلقد لمحت النصر فوق جبين
(ياسين) لو بك أي جنب آمن ... قلت ارعه في الجانب المأمون
ما كان مهداً للجمال ومرتعا ... وتموج جنته بحورٍ عين
قد صيرته الحادثات جهنما ... أبوابها فتحت لكل قطين
أأخي العزيز، الصبر جنة حازم ... فاشدد يمينك صابراً بيميني
فلقد يعود إلى الحياة نعيمها ... وتعود دنيا من دَدٍ وسكون
ستقول كيف أبي وأين تحية ... منه لمضطرب المكان رهين؟
إني لأشفق أن أجيب فاعفني ... إن السؤال جوابه يعييني!
أسْلمتَ أمر أخي لرحمة ربه ... فإلى اللقاء، ويا رعاية صوني!
محمد برهام(596/32)
مناجاة. . .
للأديب إبراهيم محمد نجا
طواك الكرى في حنان ولينْ ... فيا ليت شعري بما تحلمينْ؟
بحب يبوح به مغرم ... يغنِّيك لحن الجوى والحنين
وأفق تحوم عليه الظلالُ ... وقد غُيِّبت شمسه منذ حين
وعش يحلق فوق الغمامِ ... تحوم عليه منى العاشقين
هواك جرى في دمي سره ... وراحت تغازل قلبي رؤاهْ
وذكراك تشرق في خاطري ... كفجر ينبِّه روح الحياه
ويهتز قلبي إذا ما رآكِ ... كأنك لحن وقلبي صداه
فأنسى الزمان كأني نبيُّ ... يشارف بالروح نور الإله
نظمت حياتي وأهديتها ... إليك قصيداً كنَوْر الربيْع
وقدمت عمريَ في طاقة ... من الزهر روَّيتها بالدموع
وأودعت حبيَ في غُنوة ... كأن صداها عبير يضوع
فرنّت بها في السيول الرياحُ ... وغنت بها الطير بين الربوع
بدا الفجر نشوان بين السهولِ ... يغني فيرقص روح الوجودْ
ويضفي السنا فوق تلك الربى ... ويلقي الندى فوق تلك الورود
فأحسست نفسي تفك الإسار ... وأحسست قلبي يحل القيود
وعاد كما كان روحي طليقاً ... يريد إلى عشه أن يعود
تعالي لنخطر فوق السفوحِ ... مع الطير حتى يحين المساءْ
أغنيك أشجى أغاني الغرامِ ... وما هيّج الشوق مثل الغناء
وسيان أن يتجلى الربيعُ ... على الكون، أو يتراءى الشتاء
فكل نهار - إذا ضمَّنا - ... صفاءُ، وكل الليالي ضياء
تعالي نعش في ثنايا المنى ... تعالي نعش في حنايا الخيالْ
لنا في الهوى جوسق في السماءِ ... وعشٌّ هنالك فوق الجبال
نعيش فريدين بين الضياء ... ونحيا وحيدين بين الظلال(596/34)
فكل الأغاني أغاني غرامٍ ... وكل الليالي ليالي وصال
إبراهيم محمد نجا(596/35)
البريد الأدبي
1 - ما لزكي مبارك ولكتاب الله
عاد الدكتور زكي مبارك يعرض للقرآن الكريم بسوء الرأي كما فعل في مقاله الأخير في (الرسالة). وهو لم يعرض للقرآن مرة إلا افتضح، ولكنه في هذه المرة قتل نفسه: قتلها بالهواء الذي يملأ العالم، وبالزلطة التي كانت دومة لأن شكلها كالدومة، والزلطة التي كانت خيارة لأن شكلها كالخيارة، وبحياة الزلطتين لأنهما من دومة وخيارة حيتين، وبحياة الجماد كله قياساً على حياة الزلطتين!!
فما الطفل الذي يضرب به المثل في بعض كتب التربية لأنه علل بياض اللبن ببياض أول بقرة رآها تحلب بأقبح جهلا ولا أضعف عقلا من هذا الذي زعم أن الزلط حي لأن بعضه يشبه شكله شكل الدوم والخيار.
ونعوذ بالله من أن نعرض لكتابه سبحانه بما لا يرضى فينتقم منا بنا كما انتقم من زكي مبارك. فما كان أحد يظن أن هذا الرجل إذا خلى بينه وبين قلمه يتخذ من قلمه حبلا يشنق به نفسه كما فعل على صفحات الرسالة في مقاله الأخير.
2 - إلى الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
تحيتي الخالصة إلى الأستاذ على غير سابق معرفة به، واعتذاري إليه والى قراء الرسالة من أني لم أجب على كلمته الفاضلة التي نقد بها كلمتي الرابعة في فساد الطريقة في كتاب النثر الفني. وأكثر عذري أني أردت أن أرجع إلى قديم مخطوط إعجاز القرآن للباقلاني لعلي أجد فيه حكما بين رأيي ورأي الأستاذ أدرجه في جوابي. فكان الأمل في الوقوف على المخطوط يتجدد كل أسبوع من غير أن يتحقق في أسبوع.
أما وقد طال الانتظار فسأكتب ما عندي من جواب غير راجع إلى ما في المخطوطات حتى تتيسر، والموعد الأسبوع الآتي إن شاء الله
محمد أحمد الغمراوي
الأقوال وأصحاب الأقوال
في العدد الأخير من مجلة الرسالة يذكر الأستاذ منصور جاب الله أنني أفتخر بأنني القائل(596/36)
(المجد كالمال، فيه حرام وحلال)، ثم يذكر أنني نسبت هذه الكلمة الطيبة إلى الشيخ يوسف الدجوي في بعض المقالات التي كنت أرسلها إلى جريدة البلاغ أيام إقامتي في باريس، ويرجو أن أجلو له وجه الحقيقة حتى لا يقع في الاضطراب بين الأقوال وأصحاب الأقوال
وأقول بعبارة صريحة إن هذه الكلمة الطيبة هي كلمة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي، وقد تلقيتها عنه في معرض النصح يوم رآني أجادل خصومي بعنف وأنا أدفع عدوانهم على الآراء التي دونتها في كتاب (الأخلاق عند الغزالي)
وقد انتفعت بهذه الكلمة فجعلتها شعاري في الجهاد العلمي، بحيث صرت أؤمن بدون وعي بأنها من كلامي، لأنها اتصلت أوثق الاتصال بروحي وعقلي، ولو كان الشيخ الدجوي يخطر في بالي عند الافتخار بهذه الكلمة الطيبة لأسندتها إليه مفتخراً بأني كنت تلميذه فيما سلف من أيامي
ثم أقول إني قرأت للأستاذ منصور جاب الله مقالات ظفرت بإعجابي، ولكن مقاله الوجيز في مجلة الرسالة فاق تلك المقالات، لأنه أتاح لي فرصة ذهبية، هي فرصة التنويه بمكانة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي، أطال الله في حياته وأسبغ عليه نعمة العافية
أما بعد فقد كانت النية أن أكتب لمجلة الرسالة مقالاً أفصّل فيه ما وقع بيني وبين هذا الشيخ الجليل من خلاف كان السبب في أن أحرم من صحبته عدداً من السنين، وهو خلافٌ طريف، لأنه يتصل بآراء لو نشرت لكانت من أجمل الميادين التي تصطرع فيها العقول
وأعترف بأن حجة الشيخ أقوى من حجتي، لأنه أصدق مني، فأنا مجادل، وهو مؤمن، والإيمان أقوى من الجدال
أنا أحب أن ألقى الشيخ لأستأذنه في نشر ما دار بيني وبينه من مصاولات، ولكن أين الوقت، وبين داري وداره أميال وأميال؟
لم يبق إلا أن أقول إن هنالك تاريخاً مجهولاً، وهو أن مشيخة الأزهر دعت أستاذنا الشيخ الدجوي إلى تأليف كتاب يشرح أصول الإسلام للأقطار الأمريكية، فألف الكتاب، ولكنه لم يجد المترجمين
لن تُعرف قيمة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي إلا بالرجوع إلى نضاله الديني في البلبلة التي أوجبتها الحرب الماضية(596/37)
على أستاذي ألف تحية من التلميذ الذي يحفظ الجميل.
زكي مبارك
إلى الناقد سيد قطب
لاحظت في سلسلة مقالاتك النقدية عن (عالم القصة) أنك تكرر في كثير منها قولك إنك لا تعرف - ولم تر - شخوص أغلب من تتحدث عنهم ويبدو هذا غريباً في نظري - فالقصة - في هذا اللون بالذات من ألوان الأدب - لاشك أن لشخصية الكاتب وحياته الأثر القوي في إنتاجها - ومن قرأ كتاب ديهامل (دفاع عن الأدب) الذي أهداه الدكتور مندور إلى المكتبة العربية - يذكر أن ميهامل عرف أغلب - إن لم يكن كل - من تعرض لذكره أو نقده في كتابه الحافل، من معاصريه من الكتاب أو القصصيين.
وأنت - لاشك - قد خطوت خطوة كبيرة في خدمة رسالة النقد المعنوية في هذا البلد فلم لا تحاول أن تخرج من عزلتك وتتعرف إلى من تكتب عنهم، بل وتكون معهم صداقات روحية، فإذا أمسكت بقلمك بعد ذلك لتتحدث عن إنتاج لهم، جمعت بين الصورة والأصل؛ كما أنك ستخدم تاريخ الأدب المعاصر فتترك للأجيال المقبلة صوراً حية قوية من حياة المفكرين والكتاب المعاصرين. والسلام عليكم ورحمة الله
فوزي سليمان
إلى الأستاذ دريني خشبة
لقد أضعتُ وقتا غير قليل من أيامي الماضية في تدبر أشعار أبي تمام، وجمع شتاتها، إذ احتلَّت من نفسي المكان المرموق برغم ما كان يستوقفني أحياناً عندما تتحرى الذاكرة فتعرض صوراً من أشعار بعض الشعراء القدامى مشابهة لبعض صور أبي تمام كما جاء في فصولك التي تقدمها إلينا اليوم بأسلوبك العذب، وعلى طريقتك المثلى
ولا يسعني - وأنا الحريص دائما على استيعاب كل ما يكتبه الأستاذ الفاضل - إلا أن أعرض عليه ما يأتي:
جاء في مقالك الأخير، أن أبا تمام نسخ قوله:
وأحسنُ من نْورٍ تفتحه الصِّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب(596/38)
عن قول الأخطل:
رأين بياضاً في سوادٍ كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب
فذكرتُ ما قاله ابن الأثير في الجزء الأول من المثل السائر ص 56 في الحكمة التي هي ضالة المؤمن: (ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها: على مثلها من أربعٍ وملاعب انتهى منها إلى قوله:
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسَتْه يدُ المأمولِ حلة خائب
ثم قال:
وأحسنَ من نَوْر يفتحه الصَّبا
ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا بسائل على الباب وهو يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا، فقال أبو تمام:
بياض العطايا في سواد المطالب
فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل)
أورد ذلك بعد ما قرر (انه يجب على المتصدِّي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم؛ فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حِكماً كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه). وعلى ذلك لا يكون عمل أبي تمام هذا من باب النسخ، وإنما يكون من باب الأخذ بالحكمة التي هي ضالة المؤمن، وقد أوجب ابن الأثير الأخذ بها كما جاء في كلامه، كما أن هذا لا يتفق وطريقة النسخ عند ابن الأثير.
وبعد، فلست أدري أي المصدرين لبيت أبي تمام خليق بالاعتبار، فانه تختلف درجة البيت بقدر ما بين هذين المصدرين.
أرجو إيضاح ما ذكرت أيها الأستاذ الفاضل، أيدك الله وألهمك التوفيق.
محمد العراقي(596/39)
العدد 597 - بتاريخ: 11 - 12 - 1944(/)
بعد الاعتكاف
وجدتُني بعد خروجي من المستشفى أشبه شيء بالآلة الميكانيكية الموهونة، تزلزلت مفاصلها وانحلت عراها، فشدوا بعضها إلى بعض بخيوط غليظة بالية؛ فكنت إذا نهضت نهضت متحاملاً على ذراع، وإذا مشيت مشيت متثاقلاً على حذر. وتلقيت على هذه الحال دعوة المجمع العلمي العربي بدمشق إلى مهرجان المعري، فارتحت إلى هذه الدعوة، لأنها ستتيح لي سعادة النفس بلقاء الإخوان، ومتعة العقل بشهود المهرجان، وصحة البدن بهواء الجبل، وتأدية الواجب لشيخ المعرة
ولكن السفر شاق، والأمد بعيد، والآلة الهشة لا تزال من الوهن تميد وتتخلع. فقررت الاعتكاف عن دنيا الناس حيناً من الدهر تحية وزلفى لإمام المعتكفين في مهرجانه؛ وقلت لنفسي: هي خلوة صوفية يثوب فيها الجسم، وتصفو بها الروح، وتشفُّ بيننا وبين أبي العلاء الحجب؛ فنخلو إلى روح الشاعر في كتبه، ونجلو لإخواننا المحتفلين فناً من أدبه. ووقفت بنا السيارة على باب صومعتي الريفية، وهي قائمة وحدها بين الحقول الخضر والأشجار الغين، كما كان يقوم عش آدم في الجنة حين لم يكن على الأرض إنسان غيره وغير زوجه، فدخلتها دخول الناسك الشريد وجد الظل والماء بعد وقدة الهجير وشدة الظمأ. وهبّت على الجسد العليل نفحات النسيم البحري فأذهبت عنه ما أرمضه في القاهرة من لفحات يوليو القائظ. وغمرني السكون الريفي الحي في المنزل والحديقة، وفيما حولهما من مزارع القطن والرز، فسبحتُ في فيض من سكينة الفردوس اختنق فيها ما بقى عالقاً بسمعي من أصداء الحياة وضوضاء المدينة. وقطعت عن عشي صلات العالم الخارجي فلم أعد أرى غير مخضرٍّ أو مفترٍّ، ولم أعد أسمع غير صادح أو باغم.
تذكرت حينئذ ناسك المعرة، وقد اختصر العالم في داره، واختزن العلم في صدره، ثم كفاه الله هم الرغيف والمرأة، فانفلت من إسار العيش، وانطلق سابحاً في جواء الفكر الحر، ينظر من علٍ إلى بني آدم المساكين، وقد سلطتهم الطبيعة على أنفسهم، فتفارسوا بالغرائز، وتنافسوا في الصغائر، وزعموا أنهم العلة الغائية لخلق السموات والأرض وما دب على ظهرها، وتولد في بطنها، ونما في ثراها، ولو أنك نضوت عنهم ثياب التمثيل، وجردتهم من وسائل التمويه والتجميل، لما وجدتهم في حقيقة الأمر يختلفون عن جماعة الكلاب تقتتل على جيفة، أو تختصم على كلبة!!(597/1)
كان اعتكافي كما قلت قرباناً لأبي العلاء؛ فأنا أعيش معه أكثر النهار في اللزوميات، أو في الفصول والغايات، أو في مسارح التأمل والتفكر. وكثيراً ما كنت أستغرق في ادِّكاره واستحضاره وأنا مستلق على العشب، فأتمثله وهو مضطجع على سريره يفكر، أو جالس على حشيَّته يملي، وكاتبه بين يديه، وأولاد أخيه من حواليه، وتلاميذه وزواره في صحن الدار يرقبون أن تشرق عليهم شمس المعرفة من غرفته. وكنت أتخيل الشيخ بين هؤلاء كائناً عجيباً يشع العلم طبعاً كما تشع الشمس النور، وتبث الزهرة العطر، وتعسل النحلة الشهد، فأسائل نفسي: هل أبو العلاء وأضرابه من عباقرة الفكر أفراد من نوع الإنسان؟ وإذا كان وجودهم دليلاً على قابلية هذا النوع لمثل الرقي، فلماذا كانوا من الندرة بحيث يعدون عدَّاً منذ وقع في سمع الزمان نبأ آدم؟ وهل يجوز أن يكون التفاوت بينهم وبين سائر الناس كالتفاوت بيني وبين هذه الحشرات التي تموج من حولي تحت وريقات هذا العشب؟
خلوت إلى أبي العلاء في هذا المعتكف شهرين شغلتهما بالفكر فيه والقراءة له والتأمل معه وكنت أشعر في خلالهما أني أعمق شعوراً بالكون، وأدق فهما للطبيعة، وأتم علماً بالناس، ولكني مع ذلك حاولت مراراً أن أكتب فلم أفلح! ذلك لأن الخواطر التي كانت تنثال عليً إنما كانت صدى لخواطر المعري أو اشتقاقاً منها أو اقتياساً بها. وكنت أجد في شعره أو نثره التعبير الجميل الصادق عن هذه الخواطر فلا أجد بي حاجة إلى مزيد. والاعتكاف بعد هذا ضرب من العبادة الصامتة يغنى بها الفكر عن الذكر، والاستغراق عن المشاهدة، والاستقبال عن الإذاعة
وأوفيت على تلك الحال بالنذر للشيخ، فودعته وودعني، وانسدلت بيني وبينه القرون العشرة؛ ثم عاد إلى قبره الجديد، وعدت إلى مقري القديم، ليستأنف هو راحة الخلود في سكون المعرة، وأستأنف أنا جهاد الحياة في زحمة القاهرة. فلما أخذت، على عادتي في الريف، أبسط رئتي للهواء النقي، وأرهف أذني للصوت الجميل، إذا الهواء منتن بزكم الأنف ويأخذ بالنفس، وإذا الصوت منكر يندب الأخلاق وينعى الشرف، وإذا النقائص والفواحش التي أخذها أبو العلاء على الناس متفرقين في الأمم والعصور، تتجمع كلها في زمن واحد وبلد واحد! وتلك كارثة خلقية تتضاءل بجانبها كوارث الحرب في الأموال(597/2)
والأنفس. فإن من يشكو الجوع والموت والدمار وهي بلايا تدفعها السلم القريبة ويعوضها العمل المنتج، ليس كمن يشكو جوع النفوس، وموت الضمائر، وخراب الأخلاق، وهي محن لا ينفع فيها غير تبديل الفطر الأصيلة، وذلك من صنع الله وحده!
لم يأت وا أسفا على مصر في دهرها الطويل حينٌ كهذه الحين انماعتْ فيه الرجولة، وانجلت الأخلاق، وطغت الشهوات، وأظلم الحس، حتى خفت الرذائل على الطباع، وساغت التهم الفواجر في الأسماع، فأصبح الناس يقرءونها كالأخبار، ويسمعونها كالقصص، ويتبادلونها كالتحايا، ثم لا يجدون لها في أنفسهم مضاً ولا غضاضة!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(597/3)
حول وحدة الوجود فيما كتبه الأستاذ دريني خشبة
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في العدد (591) من الرسالة مقالاً كرر فيه شتائمه السابقة لأهل وحدة الوجود عامة، وللرصافي خاصة، ونحن هنا لا نريد أن نقابل تلك الشتائم بمثلها، وإن كنا أقدر عليها من غيرنا، لأننا نكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
يقول الأستاذ خشبة: (كيف تكون الكائنات مظاهر لهذا الإله العجيب الذي يقول أنصار وحدة الوجود إنه لا وجود إلا له. . . أما هذه المخلوقات فهي باطل - هي وهم. . . ولست أدري كيف يكون الرصافي وهماً وباطلاً. .) إلى آخر ما هنالك من أقاويل أرجف فيها
إن الأستاذ خشبة يتهم خصمه بنقيض اعتقاده، ويحمل كلامه على ضد مراده، ثم يؤاخذه على ذلك مؤاخذة إرذال وتشنيع، وهذا لعمر الله لم يعهد في تاريخ البحث والمناظرة لأحد قبل الأستاذ
أنا لا أشك في أن الأستاذ، لو قرأ في الصفحة 21 من رسائل التعليقات، ما نقلناه عن محيي الدين بن عربي كلامه حول ما جاء في الحديث النبوي (أصدق كلمة قالتها العرب، قول لبيد (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وما أوضحناه نحن وذكرناه هناك، لأحمر خجلاً من قوله إن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم
إن أهل وحدة الوجود، يعطون الكائنات وجوداً لا يدركه الفناء. لأنهم يرون وجودها ووجود الله واحداً. وهذا هو كل ما يريدون من قولهم بوحدة الوجود، فالوجود في رأيهم واحد لا اثنان، وهو الله ذو الوجود الكلي المطلق اللانهائي، وما هذه الكائنات عندهم، سوى مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به، كالأمواج في البحر، فإن الموجود في البحر، واحد وهو الماء، وما الأمواج إلا مظهر من مظاهر الماء، وصور قائمة به، وليس للأمواج وجود غير وجود الماء، ولا ريب أن وجود الأمواج حق، لا وهم من الأوهام
والظاهر أن الذي حمل الأستاذ خشبة على جعله المخلوقات وهماً، هو قولهم: إنه لا وجود إلا لله، ولو افتكر الأستاذ جيداً، لأدرك إنه لا يلزم من ذلك أن تكون المخلوقات وهماً، ولنضرب له مثلاً أوضح من أمواج البحر: هرماً مبنياً من الثلج، فنسأل الأستاذ هل لهذا(597/4)
الهرم وجود غير وجود الماء؟ كلا! وهو مع ذلك حق، لا وهم من الأوهام، بل كل ما هنالك أنه غير قائم بذاته، بل بالماء، فهو من هذه الناحية، يقال له باطل على طريق التشبيه أي كالباطل، وبذلك فسر محيي الدين ابن عربي قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، إذ قال: (اعلم أن الموجودات كلها، وإن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله باطلاً، من حيث إنه ليس له وجود من ذاته، فحكمه حكم العدم، وهذا معنى قوله ما سوى الله باطل، أي كالباطل، لأن العالم قائم بالله لا بنفسه)
ثم قال: (والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه، ربما تلاشت هذه الكائنات، وحجب عن شهودها بشهود الحق، لا أنها زالت من الوجود بالكلية، ثم إذا كمل عرفانه، فإنه يشهد الحق والخلق معاً في آن واحد)
هذا ما قاله محيي الدين، وأين هو مما يقوله الأستاذ خشبة من أن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم. ولا ريب أن شهود الحق والخلق معاً في آن واحد كما قال محيي الدين، هو كشهود الماء والهرم والثلجي معاً في آن واحد، وهذه المرتبة عند الصوفية، تسمى مرتبة الجمع، كما هو مسطور في كتب التصوف، فكما أن وجود الهرم الثلجي حق، لا وهم، وإن لم يكن له وجود غير وجود الماء، كذلك وجود المخلوقات حق، لا وهم، وإن لم يكن لها وجود غير الوجود الكلي أو غير وجود الله، وكما أن هذا الهرم، مظهر من مظاهر الماء، وصورة قائمة بالماء، كذلك المخلوقات كلها مظاهر للوجود الكلي، وصورة قائمة به، فهي كهذا الهرم ليس لها وجود غير الوجود الكلي
أليس من المعيب عند الأستاذ خشبة، أن يتهم الوصفية بضد ما يقولون، ثم يشنع عليهم قولهم كل هذا التشنيع. وكيف جاز للأستاذ أن يتغاضى عن فصل كتبناه تحت عنوان (الحق والباطل، في رأي أهل التصوف) وقد صرحنا فيه بأن كل ما وقع فهو حق عند أهل وحدة الوجود وأنه لا باطل عندهم إلا المحال
2 - ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: (إن الرصافي يرى أن القرآن من تأليف محمد؛ بدليل ما دأب على ذكره من قوله: قال محمد في القرآن)
فنقول: إن هذا القول قد قاله بعض المشايخ من ذوي العمائم عندنا في بغداد قبل الأستاذ(597/5)
خشبة، وهو يدل على أنهم يجهلون اختلاف علماء الإسلام في القرآن، هل هو المعنى، أو المعنى واللفظ معاً، وأنه ذهب فريق منهم إلى أن القرآن هو المعنى القائم بذات الله، دون الألفاظ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك) ولم يقل على سمعك، حتى أن الإمام أبا حنيفة أجاز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، ثم إن هؤلاء اختلفوا في ألفاظ القرآن لمن هي، فمنهم من قال بأنها لرسول الله، ومنهم من قال بأنها لجبريل، ومنهم من قال غير ذلك كما هو مسطور في كتب العقائد الإسلامية
وأما الفريق الثاني فذهبوا إلى أن القرآن هو المعنى واللفظ معا، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والنطق يشمل المعنى واللفظ معاً، وأجاب الفريق الأول بأن (هو) في قوله: (إن هو إلا وحي يوحى)، عائد إلى القرآن، لا إلى المصدر المفهوم من (ينطق)، وإذا كان الأستاذ خشبة لم يطلع على هذا، فليقرأ ما كتبه الإمام السيوطي في الإتقان على الأقل
وعلى كلا القولين لكلا الفريقين، لا يلزم من قول الرصافي (قال محمد في القرآن) كونه من تأليف محمد، أما على القول الأول فلأن التأليف يشمل المعنى واللفظ معاً، ولا يكون اللفظ فقط، والقرآن هو المعنى الموحى من الله على قول هؤلاء، فيكون معنى قولنا (قال محمد في القرآن) عبر محمد عن المعنى الموحى إليه من الله. وأما على القول الثاني، فظاهر، لأن قول محمد هو قول الله، بدليل (وما ينطق عن الهوى إن هو وحي يوحى)
3 - ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: بأن الرصافي لا يرى معنى للبعث الذي يؤمن به المسلمون وجاء به القرآن الكريم
فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، إن الرصافي إنما قال عند الكلام عن البعث: (أما مسألة بعث الموتى بأرواحهم وأجسادهم، فلم أقف على كلام للصوفية في تخريجه على مذهبهم وتوجيهه) قال: (والذي أراه إنه معتقد صرف لا يقوم إلا بالإيمان، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يخفى أن الإيمان بالغيب، يتسع لأكبر منه وأبعد) قال: (ومن العبث إقامة الأدلة العقلية على أمور لا تقوم إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا إيماناً بالغيب، كما جاء في القرآن (يؤمنون بالغيب فالإيمان بالغيب هو أساس الأديان كلها)
وإنما قلنا إنه ليس للعقل فيه مجال، لأن العقل البشري، عاجز عن أن يدرك قيام الموتى(597/6)
من قبورهم شعثاً غبراً، ينفضون التراب عن رؤوسهم، إلى ربهم ينسلون
أما أنا فأعترف للناس أجمعين بأن عقلي عاجز عن إدراك حقيقة البعث على هذا الوجه، وإن آمنت به، فإن كان عقل الأستاذ خشبة، يستطيع أن يقيم لنا الأدلة العقلية والعلمية على ذلك، فليتفضل، فنحن له من الشاكرين، وبهديه من المهتدين
ولكن كيف يستطيع ذلك، وهو ينادي بأعلى صوته أنه مؤمن بالله وبرسوله إيماناً ساذجاً كأيمان العجائز، ولو كان في استطاعته إقامة الأدلة العقلية على البعث، لما كان إيمانه كإيمان العجائز، ذلك الإيمان التقليدي الذي يزلزله أدنى شك، ويزعزعه أقل ريب
وإلى القراء بعض فقرات مما كتبه الرصافي عند كلامه على البعث، قال:
(وإن كان البعث مما لا تدركه العقول، فإن الإيمان به معقول ومقبول، ذلك لأن الغاية المقصودة منه، هي اعتقاد المؤمن بيوم الدين، الذي هو يوم الحساب والجزاء، ذلك اليوم الذي يجازى فيه المحسن، ويعاقب المسيء، ولا ريب أن الإنسان إذا كان مؤمنا بيوم الدين إيماناً صادقاً، اجتنب الشرور، وكف عن العدوان، وبذل الجهد في الأعمال الصالحة، وهذا هو كل ما تريده جميع الأديان في كتبها السماوية، وجميع الحكومات في قوانينها الأرضية). قال: (وعليه، فلا حرية في أن الأيمان بالبعث، يكون من أهم الوسائل المؤدية إلى السعادة في الحياة الدنيا، لأن المؤمن به، وبيوم الجزاء، يستحيل عليه عقلاً وعادة، أن يرتكب الشرور، وأن يعمل غير الصالحات، ومتى كان كذلك، كان صالحاً للحياة الاجتماعية بكل ما اشتملت عليه من حقوق وواجبات)
ثم قال: (وتالله إني لا أرى في الوسائل العلمية والأدبية، وسيلة تؤدي إلى إصلاح الإنسان في حياته الاجتماعية، أنفع، ولا أنجع، ولا أروع من إيمانه بيوم الجزاء المترتب على إيمانه بالبعث، ولا ريب أن الفضل كله في ذلك، راجع إلى دين الإسلام القائل بالبعث دون غيره من الأديان)
هذا ما قاله الرصافي في رسائل التعليقات من الكلام الذي أعرب فيه عن كل هذه المعاني السامية، ولكن الأستاذ خشبة يقول إن الرصافي لا يرى للبعث معنى فإنا لله وإنا إليه راجعون
أنشدك بالله أيها القارئ الكريم، هل في هذا الكلام ما يدل على أن قائله كافر بالبعث، وهل(597/7)
يجوز للأستاذ خشبة أن يشتم الرصافي هذه الشتيمة المنكرة، ويتهمه بأنه لا يرى للبعث معنى
من الجائز شرعاً، أن أقابل هذه الشتائم بمثلها، و (الحرمات قصاص) وليس الأستاذ خشبه بمعجزي أن أكايله مثل هذا الشتم صاعاً بصاع، إن نثراً فنثر، وإن شعراً فشعر، ولكني كما قلت آنفاً أكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
أنا لا أطلب من الأستاذ خشبة، ولا من غيره، أن يترك أيمانه الساذج، إلى إيمان تسايره الحكمة، ويؤيده المعقول، فإن ذلك منى فضول. كما أني لم أكتب رسائل التعليقات لدعوة الناس إلى وحدة الوجود، بل كل ما هنالك أني قرأت كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، فعلقت عليه بعض ما عندي في التصوف من معلومات، وأنا خاضع لكل رد يأتيني بالحق، لا بالباطل. أما التغيير والتبديل، بقصد التكفير والتشنيع، فشيء لا يرتضيه حتى الكفر المركب، فضلا عن الإيمان الساذج، والسلام على من ترك هوى النفس، ولم يقل إلا الحق.
بغداد
معروف الرصافي(597/8)
على هامش النقد:
خواطر متساوقة في النقد والأدب والأخلاق
للأستاذ سيد قطب
كنت أعد مقالي للرسالة عن (مليم الأكبر) كتاب الأستاذ (عادل كامل) حينما وصل إليّ منها العدد الأخير، فقرأت فيه كلمة الأديب الفاضل (فوزي سليمان) الموجهة إليّ في باب البريد الأدبي عن الناقد بين الكتب والشخصيات. وقد رأيت في هذه الكلمة ما يدعو إلى البيان المفيد. ولم أجد بأساً من تأخير الكتابة عن (مليم). فهذا الشاب الفقير (مليم) قد صار من أغنياء الحرب كما يقول مؤلفه. وحسب أغنياء الحرب ما هم فيه من ثراء، ولا ضير عليه حين يتأخر نصيبه من الأدب. بل لعله لا يحفل مطلقاً بهذا النصيب!!! ثم إنّ له لدينا حساباً عسيراً عن أخلاقه وأعماله وآرائه. ومن حقه علينا وقد أصبح من الأثرياء أن نفرغ لحسابه بما يناسب المقام!!!
يقول الأديب الفاضل:
(لاحظت في سلسلة مقالاتك النقدية عن (عالم القصة) أنك تكرر في كثير منها قولك: (إنك لا تعرف - ولم تر - شخوص أغلب من تتحدث عنهم. ويبدو هذا غريباً في نظري، فالقصة - في هذا اللون بالذات من ألوان الأدب - لاشك أن لشخصية الكاتب وحياته الأثر القوي في إنتاجها. . .)
ثم يقول:
(فلم لا تحاول أن تخرج من عزلتك، وتتعرف إلى من تكتب عنهم. بل وتكون معهم صداقات روحية. فإذا أمسكت بقلمك بعد ذلك لتتحدث عن إنتاج لهم جمعت بين الصورة والأصل، كما أنك ستخدم تاريخ الأدب المعاصر، فتترك للأجيال المقبلة صوراً حية قوية من حياة المفكرين والكتاب المعاصرين)
وهذا كلام صحيح في مجموعه، وإن لم يكن ضرورياً في كل حين وأنا قد قلت شيئا منه في مناسبات سابقة:
فمنذ أثنى عشر عاماً كنت أقدم الديوان الأول لزميلي وصديقي الشاعر (عبد العزيز عتيق) - وكنت وإياه ما نزال طالبين - فجاء في مقدمتي هذه الفقرات:(597/9)
(أعتقد أنني أحق إنسان بأن أكتب هذه المقدمة لديوان (عتيق) وأنه لو لم يطلب مني وضعها لتقدمت أطلبه منه. ذلك أني قد أكون أعرف الناس بشخصيته، وبالعوامل التي تختلج في نفسه، والظروف التي تحيط به؛ وما كان هذا الشعر إلا صدى لهذه المجموعة، وصورة أخرى لها. ولقد قاسمته كثيراً من هذه العواطف التي سجّلها الديوان؛ وشاركته كذلك بعض ظروفها. والذي لم أكن موافقاً عليه من ناحية نسجه ومنحاه، كنت موافقاً على الظرف الذي انبعث عنه، والعاطفة التي أملته
(وإني لميال إلى اعتبار شخصية الشاعر جزءاً من ديوانه، - إن لم تكن هي كل ديوانه - فمعرفة الناقد بشخصية من ينقده أمر ضروري له في تحليله. وهو إذا لم يعرفها استعان على معرفتها بآثارها المكتوبة. فإذا قلت: إنني قد أكون أعرف الناس بشخصية صاحب هذا الشعر، كان ذلك معادلاً للقول بأني أحق إنسان يقدمه للناس.
(وأنا اليوم حينما أريد أن أعرف صدق الشاعر في التعبير عن شعوره - وهو عندي مناط الشاعرية - لا أجهد نفسي في التحليل والتمحيص. وتخريج المعاني ومراجعة الأحاسيس. كلا! فإن لدي صورتين حاضرتين: صورة صاحب الديوان وتصرفاته في الحياة وأفكاره وخواطره ودراسته. . . الخ. وصورته الأخرى المخطوطة في ديوانه. وما عليّ حين أشاء معرفة صدقه من كذبه، إلا أن أوازن بين الصورتين، فينماز المشوه والدخيل. وتتبين مواضع التزييف والمغالطة، أو تستقيم الصورتان وتنعدم الفروق. . .)
وأنا اليوم على هذا الرأي مع اختلاف في التطبيق والتفسير. فالصدق الفني - كما أفهمه اليوم - ليس من الضروري أن يحقق الصدق الواقعي. وحسبه أن يبلغ صدق الإحساس بالحياة وصحة الشعور بالطبيعة، وأن يعبِّر بعد هذا عن الخلجات المستسرة في الضمير، وإن لم يطابق تصرف الفنان الظاهر للعيان!
فهذه الصورة المستسرة هي الصورة الفنية مترجمة إلى لغة التعبير
على أن العجز لسبب ما عن تحقيق الشيء في عالم الواقع، كثيراً ما يقود الفنان لتحقيق ذلك الشيء في عالم الفنون. سواء أكان سبب العجز شخصياً أو كونياً. مثال ذلك شاعر أو قصاص مندفع بحكم بنيته أو وراثاته أو مزاجه إلى الارتكاس في حمأة الشهوات؛ ثم نجده يتغنى بالمثل الرفيعة أو يرسم شخصياته نماذج للترفع أو الصوفية. . .(597/10)
لهذا الفنان عالمان: عالم الواقع الملموس، وعالم الرغبات المكنونة. وعالمه الفني هذا العالم الأخير. إنه ذو شخصية مزدوجة، نعلم ذلك من صورة شخصه، ومن صورة فنه. وليست إحداهما بكاذبة وهنا يكون للمعرفة الشخصية قيمتها في تحليل هذا الازدواج!
والموانع الكونية شبيهة بالموانع الشخصية. وصرعاها أكثر وأكثر. وما المدينة الفاضلة والطوبى العصرية وأمثالهما إلا من صنع هذه الموانع الكونية، والرغبات الكونية كذلك. فأنا حريص على أن أعتقد أن للكون رغبات مضمرة في التسامي المطلق تمثلها رغبات الأفراد الفانين!
ولست كذلك ممن يخشون غلبة الملابسات الشخصية على الأمانة الأدبية في النقد - إذا أنا عرفت أشخاص المنقودين - ولا ممن يخشون اتهام بعض القراء لي بأن لهذه الملابسات دخلاً في توجيه النقد، تحت تأثير الصداقات والخصومات!
وقد وقفت قبل أحد عشر عاماً كذلك ألقي محاضرة عن (وحي الأربعين) ديوان الأستاذ العقاد في (رابطة الأدب الجديد) فبدأتها بهذا التمهيد:
(أود قبل أن أتحدث عن (وحي الأربعين) أن أعلن إليكم صداقتي لصاحب (وحي الأربعين)! وأن هذه الصداقة شرط أساسي للدراسة والنقد - ولاسيما نقد الشعر ودراسته - فأنت لن تستطيع فهم الشاعر وتحليله حتى تتصل بقلبه وعقله، ولن يتاح لك الاتصال بهما حتى تكون صديقاً للشاعر، وحتى يكون بينكما تواد وتعارف قديم.
(وربما جهد غيري في مثل هذا الموقف أن ينكر صلاته بالرجل الذي يتحدث عنه، أو ربما جهد أن يعلن إليكم انه تخلص من صداقته، ليخلص إليكم برأيه البريء!
(أما أنا فلا أنكر! وأما أنا فلم أحاول التخلص من هذه الصداقة؛ لا. بل إني لأعلن إليكم أنني اتصلت بالأستاذ العقاد لأستوضحه بعض النقط، ولأتأكد من بعض ما كنت في شك منه.
(ولست أخشى من هذه الصداقة - على أشدها - أن تؤثر في رأيي. لأن لي صداقة أخرى أقوى من هذه الصداقة. وهي صداقتي لضميري. لا. بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى. . .)
وأنا اليوم بعد أحد عشر عاماً كما كنت يومذاك بفارق واحد. وهو أنني لم أعد أعني اليوم(597/11)
- كما كنت أعنى يومذاك - بإعلان (صداقتي لشخصيتي وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى. . .)
إنني لم أعد أحرص اليوم على مقاومة الفناء في الشخصيات الأخرى، لأنني عدت أكثر اطمئناناً لعدم الفناء! وإني لأعرف اليوم أن صيحتي يومذاك إنما كانت صيحة الخائف الذي يحدث نفسه في الظلام، وينفي عنها الأوهام ليشعر بالاطمئنان!!!
لقد كنت أتحدث يومها عن العقاد. وكانت شخصية العقاد هي الشخصية الوحيدة التي أخشى الفناء فيها - كنت أحس هذا بيني وبين نفسي - ولقد ظلت هذه الخشية إلى وقت قريب حينما بدأت أشعر أنني قد تخلصت. وأنني أنتفع بالعقاد ولكنني لا أقلده. وأن لي طريقاً ألمح معالمه وأستشرف آفاقه. وأنني أتذوق بحسي، وأنظر بعيني، وأسمع بأذني. وإن كان للعقاد فضل التوجيه في الطريق العام.
عندئذ بدأت أسكت عن كل اتهام. وبدأت أتحدث عن أستاذية العقاد لي وتلمذتي له، وبدأت أسخر من بعض (شبان) الجيل الذين يحسبون هذا مطعناً إليّ منه الغمزات! فأؤكد لهم التهمة التي يلمحون بها أو يصرحون!
وإني لأضحك وأسخر من الكثيرين، الذين كلما رأوا أنفسهم ينتفعون ببعض الشخصيات، خافوا أن يضبطهم الناس متلبسين فراحوا يعلنون تجاهلهم التام أو خصومتهم القوية لهذه الشخصيات، على طريقة السذّج من المتهمين الذين إذا سئلوا: هل سرقتم من بيت فلان؟ كان الجواب: إننا لم نعرف فلاناً هذا ولا بيته في يوم من الأيام!
وبعد فأنا أرى الآن أن المعرفة الشخصية قد تكون ضرورية في أحيان، وغير ضرورية في أحيان؛ وذلك حسب طبيعة الفنان، فبعضهم يغنيك بما يكتبه عن معرفته لأنه يكتب ما يشبه الاعترافات كابن الرومي والمازني. وبعضهم لابد أن تعرفه وبعضهم تزيدك معرفته علماً بفنه. . .
تلك خلاصة رأيي في النقد والمنقودين، فإذا كان الأديب الفاضل لاحظ أنني ذكرت عدم معرفتي لبعض من كتبت عنهم من الشبان، فإنما كان ذلك لأنني لم أعرفهم فعلا؛ ولم تكن لدي الفرصة لمعرفتهم من قبل. كل ما هنالك أنني وجدت بين يدي أعمالاً أدبية تستحق التنويه؛ فلم يكن من الميسور أن أتعرف إلى أصحابها لأكتب عنها مقالة عابرة. ورأيت أن(597/12)
أكون أميناً، فلا أدعي معرفتي الكاملة لهذه الشخصيات، ولا أزعم أن ما كتبته هو كل ما هنالك. فأعلنت أنني لا أعرفهم، وهذا يتضمن في طياته بعض العذر إذا كنت لم أحط بكل جوانبهم.
ومنذ عامين لديّ كتاب عن (المدارس الأدبية المعاصرة) وما يؤخرني عن كتابته إلا استيفاء بعض الدراسات الشخصية لأبطاله. وقد استطعت أن أجمع عن كثب معظم ما أريد جمعه عن (العقاد وتوفيق الحكيم) وشيئاً مما أريد جمعه عن (طه حسين. والمازني) وقليلاً جداً عن (المنفلوطي والزيات) ومتفرقات عن (تيمور وحقي ولاشين) وآخرين. . .
وبعد ما أستوفي هذه الدراسات - لا قبله - سآخذ في الحديث عن (المدارس الأدبية المعاصرة). ولو صرفت عامين آخرين. فأنا أقدر قيمة هذا العمل وأعرف ما هو مطلوب مني إزاءه. ويومها سأحقق ما يقترحه عليّ الشاب الأديب.
سيد قطب(597/13)
بين الأبصار والبصائر
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
امتاز الأدب العربي بطائفة من العُميان فقدوا نعمة البصر ولكنهم لم يفقدوا نعمة الذكاء والفهم والبصيرة. حتى لقد بلغ بعضهم منزلة يحسده عليها المبصرون.
وفي كل أمة طائفة من هؤلاء، اشتهروا بحسن الأثر، وجليل العمل. وعند الإنجليز منهم أمثال الدكتور أرميتاج؛ والقس توماس برنارد، والسير فرنسيس كامبل، ودكتور رانجر؛ والسير روبرتسون تندال، وهنري تايلر، والسيدة هيلين كيلر.
وعند الفرنسيين منهم أمثال السيدة جاليرون دي كاليرون
وعند العرب أمثال أبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وحماد بن زيد الضرير.
والذي يولد أعمى يقال له أكمه. ومن هؤلاء عندنا بشار ابن برد وقد جمع إلى الكمه جحوظ العينين وضخامة الخلقة وعظم الوجه.
ومن العميان من أصابه العمى في طفولته، كما حدث للمعري، وقد اعترف هو بذلك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة.
وقد يكون العمى في الصغر نتيجة لشيء آخر غير المرض. كما حدث للقس برنارد الإنجليزي وللسير فرنسيس كامبل الذي جنت على بصره لعبة طائشة.
وقد يكون العمى نتيجة لحادث مقصود لذاته، كتوقيع عقوبة أو تنفيذ حكم. كما حدث لأمير المؤمنين المتقي الخليفة العباسي الذي خلعه الثوار وسملوا عينيه، ولم يمنعهم دينه وصلاحه وكثرة صلاته وقيامه من تعذيبه على تلك الهيئة. واجتمع عليه فقد البصر وعذاب السجن خمسة وعشرين عاماً احتملها صابراً راضياً مذعناً لقضاء الله. وله في ذلك أبيات مؤثرة يقول فيها:
سملونا وما شكو ... نا إليهم من الرمد
ثم عاثوا بنا ونح ... ن أسودٌ وهم نقدْ
كيف يغتر من أقا ... م وفي دستنا قعد
وكما حدث للوزير محمد بن بقية وزير بني بويه الذي رثاه ابن الأنباري الشاعر بقصيدته المشهورة التي مطلعها: -(597/14)
علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات
وهذه القصيدة وزعت في شوارع بغداد خفية - كما توزع اليوم المنشورات السرية - إلى أن بلغ خبرها ابن بويه فتمنى أن يكون هو المصلوب وأن تكون القصيدة قيلت فيه.
ومن الناس من يصاب بالعمى على سن عالية كما حدث للدكتور أرميتاج الإنجليزي من رجال القرن التاسع عشر، فقد كان جراحاً نابهاً وبرع في علم النبات براعة جعلته من أكبر الثقات فيه. وأتقن الألمانية كأنه وهو يتكلم بها لا يستعمل لغة غربية، فلما نزلت به البلية لم يستكن إلى محبس العمى وسجن الظلام بل استطاع أن يقدم إلى إخوانه في البلاء أجل المساعدات التي جعلته في عداد الآخذين بيد المكفوفين العاملين على تحسين أحوالهم وتهوين الحياة عليهم.
ومن هؤلاء في أدبنا العربي صالح بن عبد القدوس صاحب البيت المشهور: -
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
فقد ذاق متع الدنيا ولذات العيش وهو بصير، فلما عمى لزم بيته وأوى إلى محبسه، ووجد في الوحدة أنساً وفي العزلة سروراً. وعبر عن ذلك بقوله: -
أنست بوحدتي فلزمت بيتي=فتم العز عندي والسرور
وأدبني الزمان فليت أني ... هجرت فلا أزار ولا أزور
وله أبيات مؤثرة يخاطب بها عينه الذاهبة بقوله: -
عزاءك أيها العين السكوب ... ودمعك أنها ثوب تنوب
وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب
ومنها: -
على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب
يموت المرء وهو يعد حيا ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب
يمنيني الطبيب شفاء عيني ... وما غير الإله لها طبيب
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب
وممن أصيب بالعمى على كبر عطاء بن رباح الذي ولد في خلافة عثمان بن عفان، وكان تابعياً جليلاً. انتهت إليه الفتوى بمكة وشهد له أبو حنيفة بالفضل.(597/15)
ومنهم عقيل بن أبي طالب أخو الإمام علي؛ وقد اجتمع له من علم النسب وأيام العرب شيء كثير.
ومنهم عبد الله بن العباس ابن عم النبي عليه السلام، وأبو الخلائف من الدولة العباسية. وكان فقيهاً عظيماً. وبلغ من فقهه أن الخليفة عمر كان يستشيره في مسائل الفقه. هذا إلى وضوح في الحجة، وجهارة في الرأي، وقوة في البرهان.
وليس في الدنيا من يشتهي العمى ويطلبه، فهو شيء بغيض إلى النفوس؛ حتى ليدعي به على المكروه، ولكن شاعراً واحداً تمناه لنفسه فكان له ما تمنى. . .
أما الشاعر فاسمه المؤمل بن أميل؛ وأما قصته فكما يأتي: -
أحب امرأة من الحيرة، ورآها فجنت عليه نظرته إليها فقال: -
شفَّ المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
فما عتم طويلاً حتى تحقق ما تمناه، وضاعت منه عيناه. . .
ولم يبلغ أحد في الأدب العربي كله منزلة أبي العلاء، وهو في الشعر من هو. أما في التأليف فقد عد له المرحوم تيمور باشا أربعة وسبعين كتاباً؛ ليست مثل كتب السيوطي. . . ولكنها مثل (رسالة الملائكة) و (الفصول والغايات) و (رسالة الغفران).
استعمل العمى في القرآن بمعنى الضلالة والحيرة. وذلك شر أنواع العمى. أما فقد البصر فقد يخففه ويغني عنه تفتح البصيرة وتنور القريحة. ونحن نجد الآن بعض المكفوفين يفوقون المبصرين إدراكاً للأمور وخوضاً في المعترك الحيوي، وهم ليسوا كمكفوفي الأمس يخلدون إلى الدعة ويلتزمون المحابس في دورهم، ولكنهم يشتركون في الحياة العامة.
فالسير فرنسيس كامبل حصل على أعلى درجة من جامعة جلاسجو وهو أعمى. وكافح في الحياة، واحتل مكاناً بارزاً في الحياة الاجتماعية بإنجلترا حتى استحق لقب (سير) وهو به جدير.
والسيدة هيلين كيلر لم يمنعها العمى من التأليف المجدي في علم النفس ودرس نفسيات الأطفال. وكتاباها حجة في هذا الموضوع.
والشاعرة الفرنسية مدام جاليرون دي كالون لم يعطل العمى مواهبها في الشعر وبراعتها في الخيال. وهي تعبر عن ذلك في قصيدة لها عنوانها (ماذا بهم؟) تقول منها: -(597/16)
لن أراك بعد هذا أيتها الشمس الساطعة
ولكني سأحس حوادثك
لن أراك بعد هذا يا سناء الورود
ولكن السماء قسمت حظوظنا
فماذا يهم الضياء؟ - إن عندي روح الأشياء
لن أرى بعد هذا بهاء الورود
ولكن عندي عبيرها الفوَّاح
والدكتور رانجر مثال لشجعان المكفوفين. فلم ينطو على نفسه بل حصل على إجازة الحقوق وهو ضرير. واشتغل بالمحاماة واشترك في مجامع عديدة للعميان وصاهر إلى أشرف الأسر الإنجليزية.
والسير روبرتسون تندال لا يقل عنه شجاعة فقد ناضل واشترك في الهيئة الاجتماعية، وألقى دلوه مع المبصرين حتى شرفته مدينة بريتون الإنجليزية بالنيابة عنها في مجلس النواب.
والمستر هنري تايلر أكمل نفسه بالعلم - وهو ضرير - فاختير في سنة 1898 رفيقاً بالجمعية الملكية للمهندسين؛ واختير ممثلاً جامعياً في مجلس جامعة كامبريدج. واختير للمدينة سنة 1900م. وله على المكفوفين من طلاب العلم العالي فضل عظيم. فقد اشترك في طبع كتب لهم يقرءونها بأطراف أصابعهم، ولا بأبصارهم. . .
ولعل القراء يذكرون فصلاً ترجمته مجلة المختار خلاصةً لكتاب ألفه كفيف اسمه (كارستن اونستاد) وعنوان الكتاب (العالم عند أطراف أصابعي)، وهو ترجمة لحياة حافلة بالمغامرة والبطولة والنضال من شاب فقد نعمة البصر وهو دون الثلاثين. وهذا الكتاب يذكرنا بكتابين نفيسين للسيدة هيلين كيلر؛ الأول (قصة حياتي) والثاني (العالم الذي أعيش فيه)
وللمكفوفين نوادر وطرائف لا يخلو منها كتاب من كتب الأدب والتاريخ، وقد صنع فيهم صلاح الدين الصفدي كتابه المشهور (نكت الهميان) الذي أشرف على طبعه المرحوم أحمد زكي باشا رحمه الله.
محمد عبد الغني حسن(597/17)
جواب على نقد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تفضل الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي فنقد كلمتي الرابعة في فساد الطريقة في كتاب النثر الفني، وخالفني في رأيين ارتأيتهما، الأول يتعلق بالبيت المعروف
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
والثاني يتعلق بنص من كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني
فأما البيت فقد أورده صاحب النثر الفني مثالاً للكلام يكون بالغ الصدق فلا يمنعه ذلك أن يكون بالغ التفاهة. وضربته في كلمتي مثلاً لسوء فهم صاحب الكتاب، لأنه لم يدرك أن تفاهة البيت البالغة راجعة إلى صدقه ولكن إلى نوع من الكذب فيه، لأنه في الواقع بيت كاذب من ناحية التشبيه إذ لم يغاير بين المشبه والمشبه به. وأردت أن أمتحن هذا الرأي باختيار عملي فقلت لو نقلنا البيت عن التشبيه إلى الإخبار، بحذف كأن وإحلال إن محلها، لصار البيت صادقاً ولارتفعت قيمته ارتفاعاً ينجيه من أن يكون مثلاً مضروباً للكلام المستهزأ به. وتعقب الأستاذ بدوي قولي هذا بأن البيت يظل تافهاً حتى بعد التعديل المقترح، بل يكون من وجهة اللغة غير صحيح لأن الخبر فيه لا يفيد فائدة تزيد على المبتدأ، ولأنه لا يحتمل أن يكون من قبيل قول أبي النجم (وشعري شعري)
فأما أن البيت يظل تافهاً فصحيح. لكني لم أزعم للبيت أنه بذلك التعديل ينجو من التفاهة، ولكن زعمت أنه ينجو من التفاهة البالغة التي جعلته مثلاً يسخر منه. وتحول الكلام من تافه بالغ إلى تافه مجرد ارتفاع في قيمته من غير شك، كالعدد السالب الكبير إذا صار سالباً صغيراً أو موجباً صغيراً، وليس كل تافه يستهزأ به، فالكلام التافه كثير، ومضرب المثل للمستهزأ به منه قليل
أما عدم صحة البيت برغم جعله إخبارياً فلست أوافق الأستاذ عليه. ألا يرى أن الإظهار بعد الإضمار، والوصف بعد أن لم يكن وصف، فائدة زائدة في الخبر، لها قيمتها في الإخبار وليس لها أية قيمة في التشبيه، بفرض أن ليس هناك فرق معنوي ما بين الجملة الحالية في الشطر الأول وأختها الوصفية في الشطر الثاني؟ إن الجملة الخبرية في صميمها هي (إننا قوم جلوس) وهي جملة مفيدة من غير شك، كبرت الفائدة أو صغرت. وإسقاط(597/19)
الجملتين، الحالية والوصفية، عند تجريد البيت المعدل هكذا لتقدير فائدته جائز عند الإخبار، غير جائز عند التشبيه، لأن الجملة الحالية - والماء من حولنا - هي من صميم المشبه في بيت التشبيه، وليست من صميم اسم إن بعد أن صار البيت إخبارياً. أي أنها جزء أساسي من المشبه، وليست أختها الوصفية - حولهم ماء - إلا صفراً في المشبه به في البيت فطرح كل منهما من طرفي البيت لتصفيته وتقدير قيمته ممكن في حالة الإخبار، غير ممكن في حالة التشبيه
وأنا مع الأستاذ في أن المبتدأ والخبر - لولا الوصف بالجلوس - ليسا من باب قول أبي النجم (وشعري شعري)، لا لأنه لا يحتمل شيئاً مما يحتمله قول أبي النجم كما يرى الأستاذ، فإن المسألة في مثل هذا مسألة توجيه الذهن إلى معنى غير ما في ظاهر اللفظ، وتوجيه الذهن ممكن في الحالين، ولكن لأن قائل البيت لا ينتظر منه مثل هذه الالتفاتة الذهنية، لأن الذي يعجز عن أن يغاير بين طرفي التشبيه يكون عن مثل هذه الالتفاتة أعجز
على أن الأمر كله هين من الناحية التي كتبت من اجلها الكلمة المنقودة. فلو صح نقد الأستاذ كله لما غير شيئاً من السبب الذي من أجله خطأت صاحب النثر الفني في فهمه أن البيت بالغ الصدق وبالغ التفاهة معاً. ولا أظن الأستاذ يصوب صاحب الكتاب في هذا. والتعديل الذي اقترحته وتعقبه الأستاذ لم يكن، كما قلت، إلا من باب الاختيار العملي للرأي الذي ارتأيته. ولو شئت لاختبرته من الطرف الآخر، بإبقاء حرف التشبيه وإدخال المغايرة على المشبه به، كأن يكون - طير جثوم حولها ماء - بدلاً من قوم جلوس. وهذا يرفع البيت حالاً من الوهد إلى النجد، ويجعله في حالة التشبيه أعلى مرتبة منه في حالة الإخبار، لوضوح التشبيه وخفاء الاستعارة فيما يبدو. لكن الأمر لا يستحق كل هذا التدقيق
أما النص المنقول من كتاب إعجاز القرآن فأمره أهم. والنص محل الخلاف هو: (السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصلٌ بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون(597/20)
السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
هذا هو النص. وقد ذهبت إلى إنه مختلف غير متفق بعضه مع بعض، فما قبل قوله: (وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه إلخ. . .) مستقيم، وهو عمود الكلام وأصل رأي الباقلاني، إليه ينبغي أن يرد ما عداه؛ لكن ما بعده لا يتفق معه ولا مع نفسه إلا إذا تبودل المكان بين كلمتين تحل إحداهما محل الأخرى، وبين جملتين تحل إحداهما محل الأخرى كذلك. فتصير بقية الكلام كما يأتي: (وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) كانت إفادة السجع كإفادة غيره. (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى). والشرطتان تبينان الكلمتين، والأقواس تبين الجملتين - على أحد وجهين - اللتين حلت إحداهما محل الأخرى ليستقيم الكلام كله
وذهب الأستاذ بدوي إلى أن النص كما هو في الأصل مستقيم واضح كل الوضوح، لا تداخل فيه ولا اختلاف، وجاء بتوجيه هو خير ما يمكن أن يوجه به النص، لولا موانع من ذلك في نفس الكلام.
وأظهر هذه الموانع هو أن توجيه الأستاذ للنص المطبوع يستقيم به أكثر لا كله. فهو مثلاً لم يوجه قول الباقلاني (دون تصحيح المعنى) في قوله: (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى) مع أن هذه الكلمات الثلاث هي التي تحول دون ما ذهب إليه الأستاذ بدوي لأنها صريحة في أن الباقلاني يقصد كلاماً غير منتظم المعنى ولا صحيحه، وهذا لا يتفق مع صدر الجملة الشرطية لأن ارتباط المعنى بنفسه لا بالسجع يضمن صحة المعنى من غير شك لأنه هو المقصود وله في هذه الحالة الاعتبار الأول فكيف يمكن أن يكون غير صحيح أو أن الكلام المرتبط معناه بنفسه مستجلباً للتجنيس دون تصحيح المعنى؟ إن من الواضح أن من فعل الشرط وجوابه مختلفان غير متسقين في هذه الجملة من النص المطبوع؛ كذلك من الواضح أن الاختلاف يزول بالإبدال الذي اقترحته، لأن استجلاب التجنيس دون تصحيح المعنى يتفق مع الحالة الأخرى التي ذكرها الباقلاني، حالة ارتباط المعنى بالسجع وخضوعه له، في القسم الذي قال عنه في صدر كلامه إن المعنى يقع تابعاً للفظ المسجوع. فإذا وضع فعلاً الشرطيتين -(597/21)
أو جواباهما - أحدهما مكان الآخر، زال الاختلاف واتسق الكلام
ونستطيع أن نتبين وجه الحق في هذا الموضوع من طريق آخر: طريق رد النظائر في النص بعضها إلى بعض، لننظر على أي الوجهين يمكن أن يستقيم الكلام كله في نفسه ووفق رأي الياقلاني في تقسيم ما هو على هيئة السجع من الكلام
لقد قسم الباقلاني ما هو على هيئة السجع إلى قسمين في صدر النص: قسم يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وقسم يتبع اللفظ فيه المعنى. ولا خلاف في المقصود من هذين القسمين فأولهما للفظ فيه الاعتبار الأول، وثانيهما للمعنى فيه الاعتبار الأول
هذا القسمان قد أشار إليهما الإمام الباقلاني في بقية النص مرتين: الأولى في قوله (وفصلٌ. . دون اللفظ) والثانية في قوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع. . . دون تصحيح المعنى)
ففي الأولى ذكر صنفين من الكلام: كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه - وواضح أن هذا مراد به القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى - وكلام يكون المعنى فيه منتظماً دون اللفظ ولا محيص من رد هذا إلى القسم الأول الذي يتبع فيه المعنى اللفظ. ويتبين بأدنى تأمل أن الوصف كما هو لا ينطبق على القسم الذي يجب رده إليه، لأن الوصف يذكر كلاما غير منتظم اللفظ منتظم المعنى، والقسم الأول على عكس ذلك تماماً: منتظم اللفظ لأنه قصد فيه إلى السجع، غير منتظم المعنى لخضوعه للفظ وتبعيته له. فلا يمكن أن يكون الباقلاني أراد هذا. فما تعليل الخلف؟ لا شيء إلا أن كلمتي (المعنى) (واللفظ) حلت إحداهما لسبب ما محل الأخرى في الوصف. هذا هو أبسط تفسير ممكن. وإذن يجب أن تكون حقيقة الوصف هي (أن يكون اللفظ منتظما دون المعنى) حتى ينطبق على أول القسمين اللذين قسم إليهما الباقلاني ما هو على هيئة السجع من الكلام
لننظر الآن في الإشارة الثانية إلى نفس القسمين. أشار الباقلاني إلى أحدهما بقوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) وإلى الآخر بقوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع). فإلى أي القسمين ترجع كل من الإشارتين؟ إن من الواضح أن الإشارة الثانية راجعة إلى القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى، وإذن تكون الإشارة الأولى راجعة إلى القسم الأول الذي يتبع المعنى فيه اللفظ ويكون للفظ فيه الاعتبار الأول. ليس عن ذلك محيص
من هذا يتبين أن معنى قول الباقلاني (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) أي متى جاء تابعاً(597/22)
خاضعاً للسجع، ومعنى قوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) أي متى جاء مستقلاً عن السجع وجاء السجع تابعاً له. لكن توجيه الأستاذ بدوي عكس الوضع، وجعل ارتباط المعنى بالسجع معناه استلزامه السجع لأداء المعنى على وجهه، أي أن اللفظ المسجوع جاء في هذه الحالة تابعاً للمعنى، فرد صدر الإشارة إلى القسم الثاني، ورد آخرها إلى القسم الأول، أي عكس ما يحتمه رد النظير إلى نظيره في كلام الباقلاني
وما دام قد تبين أن ارتباط المعنى بالسجع هو تبعيته للفظ، وجب أن يكون هذا هو المستجلب لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، وتكون فائدة السجع كفائدة غيره في حال ارتباط المعنى بنفسه واستقلاله عن اللفظ. ومن هنا التعديل الثاني الذي يقتضيه الاتساق، ويقضي به رد النظائر بعضها إلى بعض، من إحلال فعلي الشطريتين - أو جوابيهما - كل محل الآخر على النحو السابق في الكلمة التي كانت موضع نقد الأستاذ في هذا الجواب
وبعد فهذان طريقان كل منهما يؤدي إلى وجوب تعديل النص المطبوع ليتسق كلام الإمام الباقلاني كله
وتحيتي الخالصة وشكري إلى الناقد المفضال.
محمد أحمد الغمراوي(597/23)
هوستن ستيوارت شمبرلين
فيلسوف النازية الأول وصاحب دعوة الزعامة الألمانية
للأستاذ زكريا إبراهيم
لعلّ من غريب المصادفات أن يكون الرجل الذي وضع الأصول الأولى للفلسفة النازية، رجلاً إنجليزياً ينتسب إلى أصل إنجليزي صريح. ولعل من غريب المصادفات أيضاً أن يكون الرجل الذي استمد منه فيلسوفنا هذه الأصول، رجلاً فرنسياً لا يمتُّ إلى الأصل الألماني بأدنى سبب. فقد نشر الكاتب الفرنسي (آرثر دي جوبينو) كتابه عن (تفاوت الأجناس البشرية) (من سنة 1853 إلى سنة 1857) وفيه أعلن سيادة العنصر الآري على سائر العناصر؛ فلم يكد القرن التاسع عشر يشارف تمامه، حتى تأسست في ألمانيا نفسها جماعة عرفت باسم (جماعة جوبينو)، أخذت على عاتقها أن تقنع الألمان - وهؤلاء لم يكونوا في حاجة إلى إقناع طويل - بأنهم أرقى الأجناس، وأنهم أنقى سلالة من سلالات الآريين. ولم تكد تمضي على اليوم الذي تأسست فيه هذه الجماعة خمسة أعوام، حتى ظهر كتاب ضخم يُعدّ إنجيل (العنصرية)، وهو كتاب (دعائم القرن التاسع عشر) للكاتب الإنجليزي هوستن ستيوارت شمبرلين
وقد ولد شمبرلين من أب إنجليزي كان ضابطاً كبيراً في الجيش؛ ولكنه تأثر بالمؤثرات الألمانية، فدفعه إعجابه بعظمة الجنس التيوتوني إلى أن يتخلى عن الجنسية الإنجليزية، لكي يتجنس بالجنسية الألمانية. ولم يلبث أن اقترن بابنة ريتشارد فاجنر، فأصبح يعد نفسه منذ ذلك الحين ألمانياً خالصاً ينحدر من أصل ألماني خالص! وحينما نشر شمبرلين كتابه الذي أودع فيه دفاعه الحار عن العنصر الجرماني، لقي هذا الكتاب رواجاً كبيراً، وأثنى عليه كثير من النقاد، حتى لقد قيل إن القيصر نفسه كان يقرأ هذا الكتاب على أبنائه؛ كما كان يقدمه لضباطه ويأمرهم بأن ينشروه خلال ألمانيا كلها. وحسبنا أن نلقي نظرة على كتاب (كفاحي) الذي ألفه هتلر، لكي ندرك إلى أي مدى أثر كتاب شمبرلين في ألمانيا الحاضرة نفسها
والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب الضخم هي أن الحضارة الحديثة وليدة العمل الذي قام به التيوتون، أعني أنها ثمرة للعمل الجرماني الآري. فالعنصر الجرماني قد(597/24)
استطاع أن يمزج بين الحضارات المختلفة (من يونانية ورومانية وغيرها) وعن هذا المزج اجتمعت له مدنية قوية، أقام على دعائمها حضارة القرن التاسع عشر
وكما أن حضارتنا الحديثة ليست إلا ثمرة لذلك الامتزاج الذي تم بين الحضارات القديمة، فكذلك التيوتون هم أيضاً ليسوا إلا ثمرة للامتزاج الذي حدث بين العناصر الجرمانية القديمة، والسلافية، والسلتية. وأنقى مزيج لهذه العناصر الثلاثة هو ذلك الذي نجده في ألمانيا، فلهذا كان الألمان هم الشعب المختار. وليس ثمة أمارات جسمية خاصة تميز الألمان، فليس بلازم أن يكونوا طوال القامة، أو زرق العيون، أو بيض البشرة؛ وإنما هم يتميزون بصفات خاصة لا تمت بأدنى صلة إلى تلك الصفات الجسمية المزعومة: (فالألماني - كما يقول شامبرلين - إنما هو ذلك الذي تدل أفعاله على إنه ألماني، كائناً ما كان الأصل الذي ينتسب إليه)
ولكن؛ ما هي أظهر الصفات التي يتميز بها الطابع الألماني؟ إنها ليست إلا الإيمان الراسخ بمبدأ الزعامة المقدسة؛ أعني الخضوع للزعيم خضوعاً مطلقاً، وطاعة أوامره طاعة عمياء. فلو وجدنا هذه الخصلة لدى الإيطاليين أو الفرنسيين، فانه يكون علينا أن نعتبر هؤلاء أيضاً ضمن التيوتون، مهما كانت مواطنهم الأصلية التي ولدوا فيها. وعلى ذلك فإن الجنس هو خلق، وليس دماً أو وراثة. وإذا غيّر أحد نفسيته العنصرية فإنه بذلك يكون قد غيّر أيضاً جنسه أو عنصره. (وليس أيسر على الإنسان من أن يصبح يهودياً. . . فإن حسبه في هذا أن يديم الاتصال بجماعة من اليهود، وان يقرأ الصحف اليهودية)
بيد أن شمبرلين يعود فيقول: (إن الرجل الذي ينتسب إلى جنس نقي خالص، لا يمكن أن يفقد شعوره بالعنصر الذي ينتسب إليه مطلقاً. والسبب في ذلك أن ثمة ملاكا أو حارساً يذكره دائماً بعنصره، ويرافقه دائما في تنقله؛ ويحذره حينما يتهدده خطر الضلال، ويجبره على الطاعة، ويضطره إلى القيام بكثير من الأعمال الجليلة التي ما كان يجرؤ على القيام بها. . . فالجنس (أو العنصر) يعلو بالإنسان على نفسه، ويمده بقوى غير عادية، بل بقوى خارقة للطبيعة. وإنها لحقيقة تظهرنا عليها التجربة المباشرة أن لنوع الجنس أهمية كبيرة، وقيمة حيوية عظيمة).
وإذا تأملنا في هذه الأقوال المختلفة، فإن من السهل علينا أن نرى كيف أن شمبرلين قد وقع(597/25)
في كثير من المتناقضات. فهو أولاً قد قال إن الجرمان هم أرقى البشر، لأنهم ثمرة لخير امتزاج تم بين (الأجناس النبيلة) ولكنه قال إن جلائل الأعمال إنما هي وقف على أهل (الأجناس النقية الخالصة). ثم عاد بعد ذلك فقال إن من الممكن أن يتغير الجنس، لا عن طريق امتزاج الدماء فحسب، بل أيضاً عن طريق الاتصال الاجتماعي بشعوب ذات (عقلية بدائية)!
ولكن شمبرلين لم يحفل بهذه المتناقضات، فإن ما كان يعنيه هو أن يجد أسطورة يستلهمها مبدأ العنصرية الذي يدعو إليه، أما التوافق المنطقي، فهذا ما لم يكن يعنيه في كثير أو قليل
والأجناس البشرية - في نظر شمبرلين - مختلفة أشد الاختلاف، إن في الخلق والصفات، أو في القوى والملكات.
وقد ترتب على هذا الاختلاف أن أصبح هناك جنس راق يتميز بصفات (فطرية) سامية، وجنس منحط يتميز بصفات (فطرية) وضيعة. ومن بين الأجناس المنحطة التي تنتسب إلى النوع الأخير (فيما يرى شمبرلين) الجنس (اليهودي)
فاليهود هم الشعب الذي لم يستطع يوماً أن يعيش على وفاق مع أي شعب آخر، ومن أجل ذلك فقد ظلوا دائماً أبداً (شعباً غريباً أجنبياً بين كل الشعوب). ولقد استجاب الأوربيون لداعي المحبة والصداقة، ففتحوا الأبواب أمام اليهود؛ وعندئذ لم يلبث اليهود أن اندفعوا كما يندفع العدو المنتصر، فاكتسحوا كل المناصب، واستلبوا جميع المراكز، ثم رفعوا من بعد أعلامهم التي هي غريبة عنا كل الغرابة. . . وأينما تركت القوة لليهود، فانهم لابد أن يسيئوا استعمالها. . . أليس اليهود هم ذلك الشعب الذي جعلت منه طبيعته جنساً ميالا إلى الربا والطمع، في حين أن شريعة موسى تحرم الربا تحريماً قاطعاً؟. . . (إن اليهودي لهو من الكراهية إلى الرجل الأوربي، بحيث أن الأطفال الصغار الذين لم تؤثر الحضارة بعد في نفوسهم ليقدرون أن يشموا رائحة اليهودي عن بُعد!)
هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب شمبرلين، ولسنا في حاجة إلى أن نبين للقارئ ما فيها من أخطاء علمية، وأغلاط تاريخية؛ وإنما الذي نريد أن نلفت نظر القارئ إليه، هو أن قوة الفكرة لا ترجع إلى صدقها أو مطابقتها للواقع، وإنما ترجع إلى ما فيها من قدرة على التأثير. وكثيراً ما تكون الفكرة الخاطئة نفسها، قوة كبيرة توجه شعوباً بأكملها فتنقاد(597/26)
لسحرها في حماسة وقوة، دون أن تدرك ما فيها من خطأ، وما يشوبها من العناصر الأسطورية. بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه اتفاقاً كبيراً حتى إنه ليصعب علينا أن نتصور أن يكون نيتشه لم يطلع على ما جاء فيها. ومما يتفق فيه الفيلسوفان:
أولاً: القول بأن (الحياة هي الكل) بمعنى إنه ليس في وسعنا أن نتصور شيئاً ما على إنه موجود حقيقة إلا إذا كان هذا الشيء حياً.
وثانياً: القول بأن الأخلاق التي تنادي بفكرة الواجب والأمر المطلق، أخلاق فاسدة يجب القضاء عليها، لأن الإلزام أو التكليف يرجع إلى الحياة نفسها، إذ الحياة هي التي توفر للفرد الشعور بالقدرة على العمل، وليس هناك قوة سحرية غريبة (كالأمر المطلق) المزعوم
وثالثاً: القول بأن التشاؤم يدعو إلى الانحلال والفناء، في حين أن التفاؤل يكسب الحياة خصباً وامتلاء، فكل من جويو ونيتشه يعتبر التشاؤم مظهراً للانحلال والهبوط والفناء. . .
رابعاً: القول بأن الفن هو المعنى الباطن للحياة بمعنى أنه ليس مجرد متعة أو أُلهية، بل هو أمر جدي له قيمته في الشعور بالحياة الحافلة الخصبة المليئة. فكل من جويو ونيتشه ينظر إلى الفن نظرة حيوية، ولا يعده عديم الغاية بل يذهب إلى أن الفن للحياة وبالحياة. ومعنى هذا أن الفن عندهما ليس للفن - كما يقال عادة - بل هو غائي، وغايته ليست تقويم الأخلاق أو إصلاح الناس، بل تقوية الشعور بالحياة
وأما النواحي التي يختلف فيها جويو مع نيتشه فهي تلك التي تمس مشكلة (الفردية)؛ وذلك لأن جويو يعتقد أن الرجل القوي ليس هو الرجل المتوحد (كما يزعم نيتشه) بل هو الرجل الذي تجمعه بغيره من الناس، وشائج العقل والقلب. فعلى الرغم من أن جويو يتفق مع نيتشه في القول بالحياة الخصبة المليئة، إلا إنه يتصور هذه الحياة على أنها أولاً وبالذات، حياة اجتماعية تنعدم فيها الأنانية، لأن الأنانية سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب أو امتلاء. . ولعل خير ما يوضح لنا الفارق بين نيتشه وجويو، هو أن الأول يدعونا إلى اتباع الطبيعة (كما دعا إلى ذلك الأقدمون)، في حين أن الثاني يدعونا إلى تعميق الطبيعة. فنيتشه يقول: (اتبع الطبيعة) وأما جويو فإنه يقول: (عمق الطبيعة) ومهما يكن من شيء، فإن جويو هو بلا ريب واحد من أولئك الرواد الذين سبقوا نيتشه في الطريق الذي سلكه.(597/27)
وقد رأينا أن هؤلاء الرواد كثيرون؛ فهل علينا من حرج بعد هذا إذا قلنا إن السبيل الذي سلكه نيتشه سبيل مطروق؟
(السويس)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية(597/28)
شعر البارودي في منفاه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
وضعت الثورة العرابية أوزارها، وقضى على كثير من زعمائها بالنفي إلى جزيرة سيلان التي تقع جنوبي بلاد الهند؛ ففي أواخر عام اثنين وثمانين وثمانمائة وألف أبحرت السفينة من مصر تقل البارودي ومن معه من الزعماء إلى هذه الجزيرة، وقد رست السفينة بهم في ثغر كولومبو حيث قدر للشاعر أن يعيش مع رفقائه سبع سنوات، سئم فيها تلك الحياة، وهؤلاء الصحب، فرحل إلى كندي العاصمة القديمة للجزيرة، وهي مدينة في الداخل مرتفعة عن سطح البحر ذات مناظر جميلة ومناخ صحي، وظل بها البارودي عشر سنوات أخرى
غادر البارودي وطنه وعمره أربع وأربعون سنة، لم يفارق بعد عهد الشباب والفتوة، وظل في منفاه سبعة عشر عاماً فقد فيها القوة والشباب، وفي هذه الغربة الطويلة كان البارودي في وحدة نفسية موحشة، فرفقاؤه الذين سافرا إلى كولومبو قد انقلب بعضهم على بعض، كلّ يلقي تبعة ما حل بهم على رفيقه، وكل يضمر لصاحبه الحقد ومر العتاب، ولعل نصيب البارودي من موجدتهم كان عظيما بمقدار ما كان له من يد في الثورة وشئونها، فتبرّم بهم، وآثر أن يعتزلهم، ويصم أذنيه عما تلوكه ألسنتهم، وما يتحدثون به عنه في غيبته
ولم يكن نصيبه في كندي بأفضل من ذلك، لأنه أضطر إلى الوحدة يقوم بشئونه فيها خويدم أسود، ذلك أن سكان هذه المدينة لا يعرفون اللغة العربية، فلم يستطع أن يجد من بينهم رفيقاً مؤنساً، يخفف عنه آلام وحدته وغربته، ولعل هذا هو ما دفعه إلى أن يعلم بعض أبناء هذه البلاد اللغة العربية عله يجد منهم من يفهم عنه ويجعله صديقاً، ولكنه لم ينجح في لقيان هذا الصديق، واضطر إلى معاشرة من لا تستريح نفسه إليه
وجد البارودي نفسه إذا في وحدة مؤلمة، فاتجه إلى الشعر يتخذ منه الأنيس الرفيق، والصديق المخلص، يبثه آلامه، ويناجيه بأحلامه وأمانيه، ونستطيع أن ندرس شعره في تلك الفترة من الزمن، فنجده صورة صادقة لما كان يعتلج في صدره حينئذ من الأحزان والآمال، وإنه لصادق حين قال في إحدى قصائد منفاه:(597/29)
فانظر لقولي تجد نفسي مصورة ... في صفحتيه، فقولي خط تمثال
شكا البارودي إلى شعره هذه الغربة الطويلة، والوحدة التي أضطر إليها، وهو يردد هذه الشكوى في كثير من قصائده، فحينا يقول:
أبيت في غربة لا النفس راضية ... بها ولا الملتقى من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته ... ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
وحينما يشبه نفسه بطائر ترك فريداً بين الأدغال، وقد غال الردى والديه فتركاه صغيراً لا يستطيع النهوض، ولا أن يصون نفسه ممن يريد به السوء، يرتاع كلما سمع صوت البزاة، بل إنه ليفوق هذا الطائر بما يحس به من الجوى، وما يذرفه من الدمع فيقول:
لا في سر نديب لي إلف أجاذبه ... فضل الحديث ولا خلّ فيرعى لي
فلو تراني، وبردى بالندى لثق ... لخلتني فرخ طير بين أدغال
غال الرّدى أبويه فهو منقطع ... في جوف غيناء لا راع ولا وال
أُزَيغب الرأس لم يبد الشكير به ... ولم يصن نفسه من كيد مغتال
يكاد صوت البزاة القمر يقذفه ... من وكره مبين هابي الترب جوّال
لا يستطيع انطلاقاً من غيابته ... كأنما هو معقول بعقال
فذاك مثلي، ولم أظلم، ورّبتما ... فضلته بجوى حزن وإعوال
شوق ونأي وتبريح ومعتبة ... يا للحميّة من غدري وإهمالي
ولقد كان أثر هذه الوحدة في نفسه قوياً، حتى صار أكبر آماله في منفاه أن يجد الصديق الوفي المخلص:
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه ... إلاّ صحابة حر صادق الخال
ولو كان البارودي قد وجد في مغتربه الخل الوفي لخفف قربه آلام نفيه، وعذاب اغترابه، فاضطر - كما قلنا - إلى أن يتصل بمن لا يشتهي قربه، ولا تأنس نفسه إليه، وظل يهتف باحثاً عن صديق يسره ويقول:
فهل من فتى يسري عن القلب همه ... بشيمة مطبوع على المجد مسعف
رضيت بمن لا تشتهي النفس قربه ... ومن لم يجد مندوحة يتكلف
ولو أنني صادفت خلاّ يسرني ... على عدواء الدار لم أتلهف(597/30)
وأبى القدر إلا أن يزيد في آلامه، فبعد زهاء عامين ورد إليه نعي زوجته فبكاها، ورثاها بما نلمس فيه صدق العاطفة وخالص الود، وأشفق على بناته بعدها، وقد اغترب الوالد وماتت الأم فقال:
يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي
إن كنت لم ترحم ضناي بعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فلم ينمن توجعاً ... قرحى العيون رواجف الأكباد
ألقين در عقودهن وصغن من ... در الدموع قلائد الأجياد
يبكين من وله فراق حفية ... كانت لهن كثيرة الإسعاد
فخدودهن من الدموع ندية ... وقلوبهن من الهموم صوادي
وهي قصيدة طويلة صادقة التعبير لا يقلل من قيمتها إنه تأثر فيها بقصيدة التهامي في رثاء ولده، لأن معانيها تنبع من إحساس صادق لا تقليد فيه
وفجعته الأيام كذلك بابنته، فقابل الفجيعة بحزن بالغ، جمدت له عيناه، ثم بصديقين عزيزين هما حسين المرصفي وعبد الله فكري باشا، فحزن عليهما أشد الحزن، وبكاهما في قصيدة طويلة أرسلها عبرة مسفوحة على موطن شبابه وأيام شبابه وصديقي شبابه، فقال:
لم تدع صولة الحوادث منى ... غير أشلاء همّة في ثياب
فجعتني بوالدي وأهلي ... ثم أنحت تكرَّ في أترابي
كل يوم يزول عني حبيب ... يا لقلبي من فرقة الأحباب
أين مني حسين بل أين عب ... د الله رب الكمال والآداب
لم أجد منهما بديلاً لنفسي ... غير حزني عليهما واكتئابي
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(597/31)
الضمير. . .
للدكتور عزيز فهمي
صاحبٌ وَسْنان منْ طول السَّهَرْ ... إنْ تنَمْ ناداك أَوْ تَنْسَ ادَّكَرْ
كلّما غافَلْتَه في سَكْرَةٍ ... من أمانيكَ تَجَنّى أَوْ عَذَرْ
فإِذا كَفّرْتَ عن وِزْرٍ عَفا ... وإذا عُدْتَ إلى إِثْم ثَأرْ
لَيْسَ مَلْموساً فَتَدْري كُنهْه ... وَهْوَ ما كَتّمْتَ يَدري ما تُسِرْ
وَتُواريه فَيُغْضي ساعةً ... ثمّ يَسْتَيقِظُ في لَمْح البَصَرْ
لَيْسَ عقلاً أو شعوراً خالصاً ... بل تُراثاً من شُعورٍ وَفِكَرْ
فَهْوَ عَقلٌ باطنٌ أو مُلْهِمٌ ... وَهْوَ إحساسٌ قديمٌ مُدَّخَرْ
كَمْ جَرَعْتَ الصّابَ من تِرْياقِه ... واسْتَسَغْت الشُّهدَ ممَّا قد هَصَرْ
أنتما الدَّهرَ طريدٌ آبِقٌ ... وغريمٌ طاردٌ أو مُنْتَصِرْ
أينما وَلَّيْتَ أحصى مُرْجئا ... مَوْعِداً حَتماً فَأيَّانَ المَفَرْ؟
يتراءى شاحباً أو إمَّعا ... فَهْوَ كالظِّل إذا الظِلُّ انتَشَرْ
وَهْوَ جَبّارٌ عنيفٌ تَارَةً ... وَهْوُ أحياناً ضعيفٌ يَأْتَمِرْ
وَهْوُ إعْصارٌ وريحٌ صَرْصَرٌ ... وهْوَ كالسَّيْلِ إِذا السَّيْلُ انْهَمَرْ
وهْوَ كالبَحْرِ إذا البحرُ طغَى ... وهْوَ كالْمَوْجِ إِذا المَوْجُ انحَسَرْ
وهْوَ كالسّهم إذا السهمُ رمى ... وهْوَ كالسّيفِ إذا السيف بَتَرْ
آمِرٌ ناهٍ وعاص طَيَّعٌ ... وهُوَ الآمِرُ وهْوَ المُزْدَجِرْ
لا ينامُ العُمْرَ إلا ساعةً ... فَتَرَقَّبْها وبَالْغ في الحَذَرْ
ساعة أن نِمْتَ عنها غافلاً ... عُدْت كالمخمورِ أو كالمُحْتَضَرْ
أيُّها السَّاهِرُ نَمْ أو لا تَنَمْ ... وترَفَّقْ وتَجَلَّدْ واسْتَعِرْ
إنْ جَنَينْا فعلينا وزْرُنا ... وإذا نحنُ أنبْنا فاعْتَذِرْ
عزيز فهمي(597/32)
قد كنت شيئاً. . .
للآنسة الفاضلة (دنانير)
أينَ زمانٌ كابتسام الضُّحى ... تُظِلُّني أغصانُهُ الوارفَةْ
أشهى من الدنيا إذا أَقْبَلَتْ ... أينقضي كاللمحة الخاطفَةْ
ما كنتُ إذ حاولتُ إبقاَءهُ ... إلاَّ كمن أُوقظ من رقدتِهْ
مدَّ يدْيِه خلفَ حُلْم سرى ... يودُّ لوْ يُبقيهِ في مقلتِهْ
أخشى على قلبيَ من يقظةٍ ... تسلُبُه أطيافَ أحلامِهِ
فإِنما يحيا بتلك الرُّؤَى ... ومن رؤاهُ فَيْضُ إلهامِهِ
يا من نأى الصدُّ به والنوى ... هلْ ضِقْتَ بالشوقِ وتبريحِهِ
فحاجةُ النفس إلى إلْفِها ... كحاجة الجسم إلى روحِهِ
لكنَّما قلبُكَ غِيضَ الهوى ... منه فأَضحى ناضبَ المنبعِ
وماتَ ممّا جفِّ، فانظرْ إلى ... حُطامِهِ وابكِ عليه معي
أَوْ لا فكيف اليوم عاف الهوى ... وطُهْرَ دنياهُ وعُليَا سماهْ
وراحَ يَهْوى في حضيض الثرى ... يخلِبُهُ جاهُ الغنى والرفاهْ
هل يَسْتوي القلبان هذا مضى ... في الأرض يَسْتَهْويهِ وَهْجُ الذَّهبْ
وذاك في الأفلاكِ تصعيدُهُ ... يفتُنهُ النورُ ووهْجُ اللهبْ
رغائبُ العيش وأطماعُهُ ... رَاوَدْنَ منكَ القلبَ حتى غَوى
يا ضَيْعَة القلبِ إذا لم يكنْ ... لعالم الحبِّ ودنيا الهوى
دُنيا من الطُّهْرِ هَيُوليّةٌ ... وكلُّ ما فيها رقيقٌ شَفِيفْ
خفيّة الألطافِ إلاَّ على ... مَنْ مسَّهُ منها الشعاعُ اللطيفْ
وعالَمٌ أبدعَهُ ساحرٌ ... يَنْفُثُ فيه من هُنا أوْ هُنا
لطافةُ السَّحرِ وإعْجازُهُ ... صاغاهُ جمَّ العَطر جمّ السَّنا
قد كنتَ شيئاً راعني سحُرُه ... صورّهُ وهْمي وصاغَ الخيالْ
واليومَ ما أنتَ؟ لقد بِنْتَ لي=حقيقةً أفرِغَ منها الجمالْ
(فلسطين)(597/33)
(دنانير)(597/34)
البريد الأدبي
زكي مبارك وكتاب الله
التحدي نشر بمجلة (الرسالة)، وهي مجلة عالية، والمتحدي أستاذ بكلية الطب، وهي أيضاً كلية عالية، فمن واجبي أن أدفع عن نفسي بلاء هذا التحدي فأقول: إني رجعت إلى مقالي المنشور (بالعدد 592) من (الرسالة) عن (تلك الروح وذلك اليوم)، فلم أجد فيه لفظة واحدة تدل على أني أخاصم القرآن حتى يصح لذلك الفلان أن يقول (ما لزكي مبارك وكتاب الله)
أنت يا أيها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي تسيء إلى نفسك بإصرارك على اتهامي في إسلامي، وإن صح زعمك، فسيكون كفري أفضل من إيمانك، لأني أعرف ما لا تعرف من حقائق العلم والدين
كان يجب أن تتذكر أني دكتور في الفلسفة ثلاث مرات، وأني أجدر العلماء وأقدرهم على شرح نظرية وحدة الوجود، وسأخرج عنها كتاباً يفوق فهمك، ولكنه سيشرّفك حين تدرك أن في أبناء وطنك من شرح معضلة عجز عن شرحها الفلاسفة فيما سلف من الزمان!
وأنا مع هذا راضً عنك، لأنك بعلمك الغزير الوفير ترشدني إلى فهم القيمة الصحيحة لحقيقة نفسي، فما خطر في بالي أني أعظم من أساتذة كلية الطب، قبل أن أقرأ ما تكتبه عني
ثم ماذا؟ ثم أتعجب من ثنائك على نفسك بنشر ما قال أحد مخاطبيك مدحاً في قدحك على كتاب (النثر الفني)
وهل تفهم كتاب (النثر الفني) حتى تتطاول على مؤلفه بذلك الأسلوب؟
ثم ماذا؟ ثم اسأل عن سكوتك المطلوب المرغوب عن نقد كتاب (التصوف الإسلامي). . . وأجيب عنك فأقول: إنك تعجز عن فهم كتاب (التصوف الإسلامي)، لأنه كتاب في الفلسفة العالية، ولا تستطيع أنت ولا يستطيع أشياخك أن ينقدوه بحرف؛ لأنه فوق ما تطيق وفوق ما يطيقون!
أنت يا أيها الأستاذ في احتياج شديد إلى من يدلك على أن الشتائم لا تنفع في مقارعة الخصوم، وإنما ينفع الصدق، ولو أن الله وهبك عمر نوح لعجزت عن تأليف كتاب مثل كتاب (النثر الفني)، أو كتاب (التصوف الإسلامي).(597/35)
زكي مبارك
كتاب المستقصي للزمخشري
اطلعت على ما كتبه الفاضل عبد الحميد صالح البصري عن كتاب المستقصي في الأدب للزمخشري؛ وهو في أمثال العرب أوله: الحمد لله على ما أثلج صدورنا من برد اليقين. ذكر فيه جملة من أمثال العرب، وعني في شرحها بإيراد قصصها، وذكر النكتة والروايات فيها والكشف عن معانيها والأنباء عن مضاربها، والتقاط أبيات الشواهد لها مع الاختصار المستحسن المقبول، وتجريد الألفاظ عن الفضول. رتبه على فصول المعجم، وانتهى من تأليفه في شهر رمضان سنة 499 هجرية.
ولدي نسخة من المستقصي، والنسخة التي تحت يدي في ستمائة صفحة مكتوبة بخط جيد أنيق على ورق من الكتان العتيق أحسبها كتبت في القرن السابع أو الثامن الهجري لاعتبارات فنية من ناحية قاعدة كتابتها ومن المادة التي كتبت بها والورق، وهي من ضمن مجموعة خطية أثرية من مخلفات والدي. وإني مستعد لتلبية من يود طبعه بشروط أتفق عليها أو أني أقدمها للمجمع اللغوي بمصر إذا رغبها. على أن الكتاب لا يخرج من القاهرة خدمة لأبناء وطني؛ كما إنه لدى تفسير البقاعي الذي لا وجود له بالمرة. وقد قدمت للمرحوم أحمد طلعت بك حول السبعين ألفاً من المؤلفات النادرة المثال، ومن النفائس منها: تفسير الخروبي لا يوجد له نظير مثل المستقصي وهو كتاب (ربيع الأبرار) اختصره هو نفسه وسماه: (روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار)، أما المعروف المتداول من مؤلفاته فهو: أساس البلاغة، أطواق الذهب، أعجب العجب، الأنموذج في الجبال والأمكنة، الحقائق في غريب الحديث، الكشاف في التفسير، الكلم النوابغ المفصل، النصائح الكبرى، مقدمة الأدب.
محمد عبد الله الغزالي
أمين مكتبة منطقة التعليم بإسكندرية
العقلية المصرية(597/36)
أعجبت بالكلمة التي كتبها الدكتور مندور عن العقلية المصرية في عدد 592 من الرسالة، ولست أخالفه في وجهة نظره، ولكني أريد أن أقول إن العقلية المصرية إيجابية فعالة كالعقليات الغربية، وليس أدل على هذا من أنها سلبية قابلة كحكمه عليها، لأن العقل المحصل الواعي القوي الذاكرة لابد أن يكون منتجاً فعالاً لو أتيح له، وفي نهضتنا العلمية الحاضرة مظاهر للإنتاج العقلي الإيجابي تتفق وخطواتنا في سبيل التقدم العلمي ووسائلنا المادية المساعدة، ومن شبابنا المثقف من اهتدى في عالم الأدب والنفس إلى نظرية غير معروفة، ومن كشف الحجاب عن مجهول، ومن استطاع أن يقود حركة خاصة ويتزعم مدرسة خاصة. فإذا تذكرنا أننا في الواقع في بدء النهضة التي ينتظر أن يتسع مجالها غدا استطعنا أن نصدق في كثير من الرضا أن العقول المصرية إيجابية فعالة. والمعقول أن النهضات تبدأ بالتحصيل والقبول أزمنة تختلف باختلاف الأمم استعداداً للنهوض واستجابة لدوافعه، ثم يكون بعد ذلك الإنتاج الإيجابي. فإذا كنا نحن في بدء النهضة، ونحن في الواقع كذلك، فليس لنا أن نحكم على العقلية المصرية بأنها تكيفت بكيفية ما تيئسنا من أن يكون فينا منتجون إيجابيون بالقدر الذي نبغيه وبأنه لا وجود للملكات بيننا تقريبا.
إن الإنتاج الإيجابي في أي أمة يتجلى في مظهرين لا ثالث لهما. الأول: المظهر الأدبي بأوسع ما يمكن أن تحتمله هذه العبارة، وهذا، ولا أغالي، قد قطعت فيه مصر شوطاً لا بأس به يتناسب جد التناسب مع عمر نهضتها الحالية. والثانية: المظهر المادي وحظ مصر فيه حقاً قليل جداً، لأن المظهر المادي دائماً يعتمد على المال وحسن استثماره، ولكن إذا قسنا كذلك ما وصلت إليه مصر في هذا المجال إلى عمر نهضتها وظروفها الخاصة، كان من المعقول أن يكون حظها منه مناسباً
وهذا لا يدلنا على أي حال أن العقلية المصرية تكيفت بالنحو الذي يجعلها سلبية قابلة فقط
ومظاهر سوء التصرف وضيق الحيلة وضعف الاعتماد على النفس وعدم الاهتداء إلى السبيل السوي عندما يضطرب حبل الأمور وتشتد المواقف، مرده في الواقع فيما نراه في الكثيرين منا حتى المثقفين إلى تغير مجرى الحياة السياسية بمصر منذ عهد غير بعيد. ولو أن مصر كانت حسنة الحظ سياسياً وسارت نهضتها التي بدت بعهد عاهلها الأكبر محمد علي باشا في طريقها لرأينا النفس المصرية غيرها الآن.(597/37)
والمشكلة الحقيقية عندنا هي مشكلة الأخلاق التي هي أقوى مظاهر الثقافة، فإذا استطعنا أن نربي في نفوس الأجيال المقبلة الملكات التي توجه الأفراد والمجتمعات صغيرة أو كبيرة الوجهة الصالحة في غير عناء اتسع المجال أمام العقلية المصرية السلبية القابلة ويسرت لها وسائل الإنتاج الإيجابي فكانت فعالة مبتكرة.
ولست أرى رابطة بين العلم والأخلاق إلا بقدر البيان الإرشادي فقط باعتبار أن الأخلاق قد تكون من مباحث العقل، فلا يمكن أن يكون العلم والتوسع فيه مقوماً للأخلاق، فالعلم شيء آخر. فليتجه من بيدهم الأمر بمصر إلى تقويم الأخلاق، وليجعلوا كل شيء من مظاهر الإصلاح في المحل الثاني بعدها، فهناك تستقيم أمورنا ويستطيع الفرد أن يبتكر، وهناك ترى العقلية المصرية إيجابية فاعلة.
عبد اللطيف ثابت
(الشوامخ)
أصدر الدكتور الفاضل محمد صبري الجزء الثاني من الشوامخ، وهو دراسة تحليلية لخصائص الشعر الجاهلي بدراسة أعلامه: الأفوه الأودي، وزهير، وطرفة، ولبيد، والشنفري، والشعراء الهذليين وقد قال المؤلف الفاضل في مقدمته: (ولا ريب أن خير وسيلة لدراسة الشعر العباسي، والشعر الحديث بصفة عامة، هي دراسة الشعر الجاهلي والرجوع إلى (عمود الشعر) الذي تكلم عنه مشايخ النقد، كما أن خير وسيلة لدراسة الشعر الجاهلي هي الانتباه إلى الصلة الدقيقة التي تربط النثر الجاهلي بالشعر الجاهلي، وبعبارة أدق درس المحيط والبيئة التي نشأ فيها الشعر وتمكن، والى الصلة التي تربط ذلك الشعر بآداب العرب وفنونها من نحت وتصوير.
(وفي اعتقادنا أن دراسة الشعر الجاهلي في ذلك الضوء الجديد من شأنها أن تظهر لنا الكثير من روائعه، وأن تفتح لنا منه كل باب مغلق). وهو كلام حق لا ريب فيه
والكتاب مطبوع في مطبعة (دار الكتب المصرية) طبعاً متقنا. ويطلب من المكاتب الشهيرة وثمنه ثلاثون قرشاً.(597/38)
العدد 598 - بتاريخ: 18 - 12 - 1944(/)
الثقافة والأخلاق
للدكتور محمد مندور
هذه مشكلة ما زالت تلح على عقلي منذ أخذت أفكر لنفسي، ولقد كنت ولا أزال أحس أن حلها ضرورة من ضرورات الحياة، لأنها تفسر الكثير من مواقفنا إزاء الناس، فالحديث عنها ليس مجرد رياضة عقلية نلهو بها ونلهي القارئ - وهذا نوع من الحديث تنفر عنه نفسي بطبيعتها وما أرى فيه نفعا لأحد - فمهمة الكاتب لا ينبغي أن تكون الإفحام بالجدل، بل الإقناع بالقلب، ولن تصل إلى إقناع إلا إذا اكتفيت بأن تعرض تجاربك النفسية داعيا الغير إلى مثلها
أول ما أثار تلك المشكلة في نفسي هو ما قرأته في صدر الشباب (لأفلاطون)، إذ يعرض نظرية (سقراط) في أسس الأخلاق؛ ومن المعلوم أن هذا الفيلسوف الجليل كان يرى أن المعرفة هي عماد الخلق، وقد زعم أنك لا تستطيع أن ترتكب الشر إذا أدركت إنه شر، وأنك لابد آت الخير إذا تحققته بنظرك. ولقد أبهج خيالي هذا الرأي، ولكنني كنت أنظر فأرى نفسي وأرى غيري ندرك الخير والشر، ثم لا نملك أنفسنا من الاندفاع في أعقاب الهوى، فيساورني الشك. ووقع بين يدي يوماً قول لفيلسوف فرنسي معاصر هو بول جانيه يقول فيه: (إن الإنسان بطبيعته يفضل الخير المحسوس على الخير المدرك). ولما كانت شهوات النفس أقرب إلى الحس منها إلى الإدراك المجرد، فقد كان من الطبيعي أن تستأثر بالنفس ما دام هدفنا الأخير من الحياة هو التماس السعادة بتحقيق أكبر قسط مستطاع من رغباتنا، وليس من شك في أننا نحس أن خيرنا في هذا التحقيق. وذلك ري يبلبل الفكر، ولكنك لن تعدم السبيل لرده إذا تعمقت الأمور، فأنه وإن يكن من الصحيح أننا نفضل الخير المحسوس على الخير المدرك، إلا أننا لن نعجز عن تغليب الخير الأخلاقي إذا أنزلناه هو الآخر منزلة الخير المحس. وذلك بألا نكتفي بتحقيقه بالنظر المجرد، بل نتعمق به إلى مجال الإحساس فندرك بقلوبنا ما فيه من جمال. وجماله تلحظه في صفات ثلاث يورثها النفس وهي: الحرية والقوة والمرح. فأما الحرية، فأي نشوة يستشعرها الفرد عندما يحس إنه لم يعد عبدا لشهواته، وأما القوة، فهل نحن بحاجة إلى أن نبصر القارئ بعظمة النفس البشرية عندما تنطلق بقوتها كاملة لا يحدها نفع حقير تحرص عليه، أو رغبة وضيعة(598/1)
تبغي تحقيقها؟ وعندما تحس بنفسك حرة قوية أي مرح سيأخذ بالروح عندئذ؟ ثم هل هناك ما ينشط ملكات الخلق في الفرد مثلما ينشطها المرح الروحي؟ وأي سعادة في الحياة تعدل سعادة الخلق؟
هكذا نستطيع أن نجد حلا للجزئية التي عرضنا لها، ولكن المشكلة لا تزال قائمة في عمومها، ولقد لاحظ الكاتب الفرنسي (ديهامل) أن من الكتاب والفنانين من وهبوا ملكات ساحرة دون أن يمنعهم ذلك من انحلال الأخلاق. ولقد قسا بهم الرجل فشبههم بالعاهرات بلهو الناس بأجسامهن ثم لا يمنعهم ذلك من احتقارهن. ولابد لتفسير الظاهرة من أن نفرق بين ثقافة النفس وملكة الخلق، فليس من الضروري للأديب، أو الفنان الخالق، أن يكون رجلاً مثقفاً، بل من الناس يرى أن ثقل الثقافة قد يعوق الخلق، وباستطاعتك أن تستعرض أسماء الكثيرين من كبار الكتاب أمثال: شكسبير وموليير وروسو وديكنز وبلزاك وفالري، ممن لم يتلقوا تعليما جامعياً منظما، وإنما هم رجال وهبوا القدرة على الخلق، ثم جدوا فحصلوا بقراءاتهم مواد أولية يعملون فيها ملكاتهم، وليس هذا هو المقصود بالثقافة، وإنما الثقافة بأدق معانيها هي تكوين نظام عقلي وغرس روح علمية في النفس، وهذا النظام وتلك الروح لا ينموان بالتحصيل أو بجمع المواد الأولية، بل هما راسبان يتخلفان بالنفس بعد أن ننسى ما حصلنا وما جمعنا. وعلى هذا النحو نستطيع أن نحل هذا الجزء الآخر من المشكلة، فنميل إلى الاعتقاد بأن ثقافة النفس خليقة بأن تسدد الخلق
ولكن كيف تسدد الثقافة الخلق؟ للجواب على ذلك يجب أن نميز بين المعرفة والثقافة: فالمعرفة التي تنحصر في تحصيل المعلومات لا نظن أن لها تأثيراً ما على الأخلاق، وإلا فأي أثر تريد أن يكون لعلمك بقانون الجاذبية أو بأن نابليون قد انتصر في موقعة أوسترلتز أو ما شابه ذلك على سلوكك الخلقي. وعلى العكس من ذلك الثقافة بالمعنى الذي حددناه، فإذا وصلت بفضلها إلى نظام عقلي وروح علمية، نمت بنفسك قدرة على تمييز الحقيقة، ثم محبتها، وعندئذ ستحس بالحرية الروحية، وقوة النفس، ومرح العقل، التي ركزنا فيها جمال الخير. ولي على هذا شاهد في أستاذ تلقيت عنه العلم، وهو رجل دؤوب على القراءة، وإطالة التفكير فيما يقرأ، حتى لأحسبه لطول ما قرأ وفكر قد وصل إلى ما وصفت من نظام عقلي وروح علمية، وأكبر ظني أن هذا النظام وتلك الروح قد أصبحا اليوم أساس(598/2)
سماحته الأخلاقية، فهو من قلائل الناس الذين يحرصون على أن يعطوا كل ذي حق حقه، وهو من قلائل الناس الذين يسلمون لكل فرد بما ينبغي أن يكون له من كبرياء، دون أن يلقى هذا الكبرياء على نفوسهم أي شبح من ظلال. أي جمال تحس في نفسه عندما تلوح لك خالية من عتمة الحسد؟ وقديما قال المفكرون: (إن قليلاً من العلم يبعد بنا عن الله ولكن كثيره يعود بنا إليه)
ونترك العلاقة بين الثقافة والأخلاق في حياة الفرد لنواجهها في حياة الأمم، وهنا تبدو لنا ظاهرة كبيرة لابد من تفسيرها، وهي ما نلاحظه في التاريخ من أن جميع الأمم قد انتهى بها الأمر عندما اتسمت ثقافتها النظرية إلى الانحلال فالفناء، وهذا ما تجده عند اليونان والرومان والعرب على السواء، فما السر في ذلك؟ يخيل إليّ أننا نجد الجواب في أمرين: أولهما: أن الأمم لا تحيا بالثقافة النظرية فحسب، وإنما تحيا أيضاً بتقاليدها. وثانيهما: أن للثقافة النظرية نوعين من النشاط: نشاط هدم ونشاط بناء. فعندما يسبق التفكير الفردي التقاليد ويأخذ في تناولها بالبحث ومناقشة الأسس، لابد من أن يقوضها، لما هو معروف من أن كثيراً من التقاليد لا تقوم على أسس نظرية قوية بل تستند في الغالب إلى مواضعات اجتماعية خلفتها عصور موغلة في الظلام. وإذا كان العقل قادراً على الهدم فهو أقل قدرة على البناء، وبخاصة بناء التقاليد، وتلك لا يكفي في تدعيمها النظر المجرد بل لابد من أن تطرد بها الحياة حتى تنزل من الناس منزلة العادات الآلية، وهذا أمر يحتاج إلى زمن طويل. وهكذا نفس انحلال الأمم: عقل يهدم ثم لا يستطيع لساعته أن يقيم بناء على الأنقاض
وإذا كان العقل يقوض من دعائم الأمم، فإن ذلك لا ينبغي أن يصرفنا عن تثقيفه، فهو ليس منبع الشر وإنما منبعه إنه لم يثقف عند كافة أفراد الأمم المنحلة، بل عند نفر قليل منها هم الذين قوضوا التقاليد. والتقاليد في الحق ليست من ضرورات الحياة الاجتماعية إلا بحكم أنها تحل عند غير المثقفين محل النظام العقلي والروح العلمية اللذين أشرنا إليهما، وعندما تستطيع أمة من الأمم أن تدعي أن كل فرد من أفرادها يملك ذلك النظام وتلك الروح فلن يرهبها عندئذ أن تضيع تقاليدها
وهكذا نستطيع أن نخلص إلى أن الثقافة الحقيقية دعامة قوية من دعائم الأخلاق في حياة(598/3)
الأفراد وحياة الأمم على السواء، وإنما تأتي الكوارث عندما نتخبط في فهم معنى الثقافة ومدى انتشارها بين الأفراد الذين يكونون أمة واحدة
الثقافة ضوء ولابد للضوء من أن يبدد الظلمات.
محمد مندور
المحامي(598/4)
السلم العالمية حلم الأبد
للأستاذ توحيد السلحدار بك
جاء في (العدد 595) من (الرسالة) مقال ظريف للدكتور أحمد فؤاد الأهوافي عنوانه (السلم العالمية حلم قريب الأمد).
وليس هذا من المستغرب: فإن الآراء تختلف، وكثيراً ما أيد الناس أحبها إليهم، أو أقربها إلى لون ثقافتهم، أو أصلحها لسياستهم. وقد نشط القائلون باتجاه الإنسانية نحو السلم العالمية أو بقربها بعد الحرب الكبرى السابقة، ومنهم مثلاً: ديفز، وكرنيجو، وويلز الذي يصف بكتابه المشهور (سير الإنسانية العظيم نحو وحدة عالمية). وهذا هو مذهب الدكتور. وموضوعه كثير الأبواب والأصول، متشعب الأطراف والحواشي؛ وإبقاء بيانه وأدلته يملأ سفراً فزائدا، ولا طائل وراء الإطالة فيه
يقول الدكتور في فاتحة احتجاجه: (لاشك أن أحدا من الدول المشتركة في هذه الحرب القائمة لم يكن يرغب في إثارتها) لكنه يقول في منتصف مقاله: (تشيع العقيدة في نفس بعضها (الدول) أنها أقوى من غيرها بأساً وأسمى عقلاً وأرفع منزلة وأوسع علماً. ولهذا وقعت الحرب الحالية لانقسام العالم إلى دول عظمى وإمبراطوريات كبيرة تتنازع على السيادة والسلطان)
عجبا! لم ترغب دولة في هذه الحرب، وقد نشبت، إذ أعتقد بعض الدول أنه أقوى من غيره، فتنازعه السيادة، ومن أراد السيادة أراد الحرب. أفلا يبدو أن في هذا الكلام تناقضا ينتفي به معنى الجملة الأولى منه؟ وفي الجمل التالية إشارة واضحة إلى ألمانيا، إذ المعروف أنها ابتدأت بالاعتداء على غيرها وأرادت أموراً حققتها بالقوة وهي عالمة بأن إرادات أخر تعارضها.
وقد علّمها كلز وتز أن غرض المحارب هو إخضاع إرادة العدو لإرادته هو. ولكليمنصو قوله: (سواء كانت الحرب استراحة من ملهاة السلم، أو كان السلم استراحة من مأساة الحرب، يبقى مقرراً أننا نقبل معاناة محنها الدامية، حتى إننا ننشدها، ويسرنا فوق ذلك أن نفخر بها). ولا حاجة إلى مزيد بعد أن جاء المحتج بدليل ونقيضه في آن معاً
ثم يقول الدكتور: (إن أصحاب العروش وذوي التيجان وأقطاب الدول والزعماء المحركين(598/5)
للشعوب، يتنصلون من تبعة الحرب، ويتبرءون من إعلانها، فلاشك أن هذا دليل يحمل في طياته النزعة القوية إلى السلام)
والصواب الذي يستقيم هاهنا مع حقائق الواقع في الإنسانية إنما هو أنهم (يتبرءون) سترا لطمعهم وأغراضهم، و (يتنصلون) دفعاً للتبعة إن هم قهروا، وتبريراً لجشعهم وإذلالهم عدوهم إن هم قهروا، وتضليلاً عن سوقهم الأمم إلى المجازر وعن سبل سياستهم؛ ولم يكونوا يوماً لينزعوا إلى (السلام) حين يخالف مصالحهم الحيوية وهم قادرون على الحرب، أو يحول دون مطامعهم الحقيقية، شخصية كانت أو قومية. فليس يصح في الأذهان أن ما تقدم دفعه من الكلام (يبشر بتحقيق هذا الحلم)، كما يظن الدكتور وإن قال: (ستقع الحرب في الجيل المقبل. . . وقد تقع بعد جيل آخر)، ليس غير
ثم رأى الدكتور في نظرته إلى أسباب الحرب (أن ذكر طبائع الفرد وخصائصه. . . بصدد حرب بين دولة وأخرى) حجة نفسية لا تستقيم، لأن (طبائع الجماعة تختلف عن طبائع الفرد كما هو معروف لكل من درس علم الاجتماع)
لكن عندنا دكتور آخر كتب مرة أن الآراء التي سمعها (من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس) هراء. وما التذكير بهذا التقرير إلا لتنبيه من قد يحب أن ينعم النظر في العلمين لينكرهما أو يعتبرههما، ويرى هل يتحقق أنهما عند ذكر أسباب الحرب، لا يسمحان بالجمع (بين الدوافع النفسية في الفرد وبين العلاقات الدولية وتنافر مصلحة الجماعات). فإن الذي يجهلهما، أو يقرأ فيهما ويفوته فهمه كل الفهم، قد يظن أن للأفراد، خصوصا في الأمم الحية المتعلمة، عاطفة وطنية، وحساسية قومية، وآراء مشتركة بينهم، وشعوراً بالمصلحة العامة، ملاحظاً في كلامهم واستعدادهم للدفاع عنها، وأن الرأي العام وإن كان دون الرأي الفردي أو أكثر منه تعرضاً للخطأ، يؤثر تأثيراً قويا في الحكام والزعماء، لأن البيئة تؤثر في الأفراد كما تتأثر منهم، وأن الأنانية مردها الأخير في التحليل النفسي غريزتا حفظ الذات وحفظ الجنس، وإذن فهي الأساس العميق في الفرد وفي الجماعة، سواء ظهرت أو سترتها التربية والآداب، زد أن الإنسان منذ ظهر على هذه الأرض قد جعل فخره في توسيع معاركه وزيادة أخطارها، وهو يرفع عقيرته بالسلم، بل يخيل إليه إنه يريد أن يعيش فيه، ولكنه لا يريده بشدة كافية لحفظه، والتزاحم الطبيعي(598/6)
الشامل يحتم تضاد القوى، ولو خفف الإنسان بعض أساليبه، أما الأحلام الكمالية، فإنما قربها في الكلام وشبه المنام
يقول الدكتور: (الدليل على نقض تلك الحجة النفسية نفور الجند في هذه الحرب الحاضرة) وهم يحاربون، لأنهم (جماعات وكتل بشرية تترك في الميادين).
يريد، على ما يبدو، أن الجندي النافر يسيطر عليه روح الجماعة في هذه الكتل فينساق معها إلى المحاربة. وهذه حجة لابد أن تكون حقيقة علمية دقيقة، لا يدركها إلا كل من درس علم الاجتماع. لكن الذي لم يدرس قد يظن أن روح الجماعة، وإن كان دون روح الفرد، يكون أحياناً أنبل من أرواح أفرادها، كروح الجمعية الوطنية في الثورة الفرنسية الكبرى، إذ أعلنت الجمعية حقوق الإنسان، مثلاً، ونزل النبلاء فيها عن ألقابهم ومميزاتهم. وقد يعجب القارئ لروح أولئك الجنود المتكتلين، وهو ناتج من أرواحهم النافرة من الحرب ونافر بالضرورة من هذه الحرب، كيف يدفعهم إليها وهم كتل مسلحة متجمعة في الميدان وفي المعسكرات، ففي وسعها العصيان بروح الكتلة المسيطر
هذا والأمم مجاميع أفراد، والفرد يؤثر في البيئة ويتأثر منها، كما ذكر آنفاً، والحياة ميدان قتال. فالقبائل ليس فيها نظام الحكومات والجندية، وإن كان الاحتكام عندها إلى شيوخها، وعادتها الغزو، يجمع له الأفراد مختارين للسلب والسبي، وطلب المرعى والماء؛ وشيمة هؤلاء الأفراد المنازلة وأخذ الثارات المنيمة. والذين فتحوا الولايات المتحدة الأمريكية من محيط إلى محيط. تقاتلوا فيما بينهم وكل منهم يحمي أرضه ويوسعها، وقاتلوا الهنود والحيوان أفراداً ثم جماعات قبل أن ينتظموا ولايات منفصلة فمتحدة. وما القول في المرتزقة قديماً والمتطوعين حديثاً من أمريكيين وبريطانيين وسواهم، كما تطوع كتشنر لفرنسا في حرب سنة 1870؟ وأرض الأهل حيث يفتح الفرد عينيه لنور الحياة بين قلوب تتحنن عليه أرض تحببه إياها وتسمو به. في كل أمر حتى يضحي بنفسه وبذوي قرباه في سبيل وطنه إرضاء لمعنى مثالي في فؤاده لا يقبل البحث. والأمثلة وافرة: رجال المقاومة والعصابات الأهلية في فرنسا وبولونيا وغيرهما، والذين يفرون من الأسر، ويركبون الأهوال في سبيل العودة إلى صفوفهم مختارين، والذي يقطع نصفه في الحرب فيخرج من المستشفى ملحاً في طلب طائرته ليعود بنصفه الباقي إلى القتال، والحال النفسية البادية(598/7)
على أوجه الجنود من شتى الأقطار وهم آتون غادون أمام أعين الناس، وهي حال لا تدل على تأفف أو استياء، بل تدل على الارتياح، واحتشاد الأهالي في الثورات والحروب الأهلية - وهي في الإنسانية أكثر من الحروب الدولية - لمحاربة السلطات القائمة والجيش بما تصل إليه أيديهم من الآلات
لكن هناك (أبلغ دليل في هدم كيان) القول (يجب الكفاح وتغلب الغريزة والشهوة والأنانية)
ذلك الدليل الأبلغ في نظر الدكتور، هو (أن الأفراد يعيشون في داخل الدولة الواحدة. . . وتسود فيهم بطبيعة الحال غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان (كذا)، ومع ذلك تعيش هذه الجماعة الواحدة كخلية النحل. . . دون أن تقع بينهم معارك دامية، إلا ما يحدث من الخصام المعروف بين الأفراد الذي يحله القانون ويقتضيه الأمن والنظام. والبوليس والقضاء كفيلان بضبط الأمن وحفظ النظام)
فلا يتوهمن متوهم، بعد هذا الدليل، أن تضارب فردين، أو جماعتين، أو قريتين، ولو قتل أناس منهم - لسبب كالغيرة مثلا أو السطو أو الانتخابات الديمقراطية - يعد (معركة دامية، إنما هي تضارب داخل حدود الدولة؛ وإن أبطل القضاء والبوليس، أي القوى المانعة الرادعة، وجوباً داخل (خلية النحل)، فإن أفرادها لا يتقاتلون بدوافع جبلتهم البشرية لتغيرها بالمدنية، حتى أصبحوا نافرين من الاقتتال، لا يحاربون إلا مكرهين في ميادين الحروب الدولية. أما ظلم ذوي القربى وشتى الجرائم التي يدرك أو لا يدرك البوليس والقضاء مقترفيها، فإنها أمور ليست في شيء مما يدل على أن الفطرة البشرية لم تتغير ذلك التغير، وإن كان مما يسلم به الدكتور أن الأفراد داخل الدولة (تسود فيهم غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان)؛ إذ إنه يقول: (قد اقتضت الحضارة والمدنية أن توجه هذه النزعة إلى كفاح الحياة والتغلب على عقبات المعيشة وتذليل البيئة المحيطة بالإنسان وتسخيرها لمصلحته ودفع عدوان الأمراض والأوبئة)
فكأن الحكام أوشكوا أن يصبحوا حكماء، والمحكومين أن يصبحوا قديسين! ذلك هو ما يؤخذ من تطبيق علمي النفس والاجتماع فيما يبدو من كلام الدكتور. غير أن كليمنصو يقول: (إن المحاكم لا تستطيع أن تشفي الناس من اقتراف القتل في العلم. . . ومنذ أقدم الأزمان إلى أيامنا هذه، لم نعرف بعد غير الدم كفارة عن الدم؛ والكلمة الأخيرة لمدنيتنا(598/8)
صاحبها الجلاد على ما يفهمنا جزيف ده مستر)
على أساس الكلام الذي تقدم النظر فيه، وهو أساس ليس يتحمل ما شيد عليه؛ يقول الدكتور: (الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد)؛ (فالمسألة في السلام هي خضوع الجماعة لحكومة واحدة ونظام واحد، لأن الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد؛ فهل يصبح العالم بأسره خاضعاً لحكومة واحدة، وتتحول النزعة الوطنية إلى دولة واحدة وعالم واحد ونظام واحد؟)؛ ثم يجيب عن السؤال بعرض الأمور التي يراها خطوات في سبيل (توحيد العالم) ومنع الحرب، لأن (العلة الأساسية في الحروب هي انقسام العالم إلى دول تنطوي على نفسها وتحتفظ كل واحدة منها بشخصيتها المستقلة)
وهذه حجة وهمية: فالدولة العالمية حلم قديم تغنى به فريق من عشاق السيادة الشاملة إرضاء للشهوات، لا توخيا لخير الإنسانية، وهو كذلك حلم الشيوعية، وقد يكون حلم الشيوعي عن يقين أو غير يقين. مع ذلك يقول الدكتور إن (الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة خطوات سريعة جداً (كذا) هي التي تجعلنا نقول إن السلم (العالمية) قريبة الآن)
فهل يسلم الناس بأن الإنسانية قد أصبحت على باب دولة الفارابي المثالية الشاملة للأرض المكونة بأسرها، كما صورتها نظراته الخيالية وهي اعتبارات فيلسوف لا سياسي ولا مشترع لكن الدكتور يقول: (نحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة)
والبحث في هذه الشواهد وهذا النظر مؤخر إلى عدد آت
محمد توحيد السلحدار(598/9)
شعر البارودي في منفاه
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
كان البارودي في أول عهده بالنفي متحفزاً متوثباً، بل كان ثائرا مهددا، يرى إنه لم يقترف ما يستحق النفي من أجله، غير إنه دافع عن دينه وعن وطنه، وليس ذلك ذنبا يستحق أن يحاسب عليه ويغترب، وهو لذلك غير نادم على ما قدم، وغير خاطئ فيما فعل، وحسبك أن تقرأ هذه الأبيات لترى فيها الثورة النفسية العنيفة:
ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب
لم اقترف زلّة تقضي علي بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلما وأغترب
فلا يظن بي الحساد مندمة ... فإنني صابر في الله محتسب
أثريت مجدا فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
إني امرؤ لا يرد الخوف بادرتي ... ولا يحيف على أخلاقي الغضب
وما أبالي ونفسي غير خاطئة ... إذا تخرص أقوام وإن كذبوا
بل إن شعره الذي قاله في تلك الفترة الأولى ليدل على إنه كان يؤمل قيام ثورة تعيد إليه مجده، وكان قوي الثقة في أن أنصاره سيرغمون خصومه بقوة السيف على أن يعود البارودي إلى السلطة التي ترضاها العلا، نرى ذلك حين يقول:
قحتّام نسري في دياجير فتنة ... يضيق بها عن صحبة السيف غمده
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت ... عليه، فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذَلَّ خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤدّه
وأقتل داء رؤية المرء ظالما ... يسيء ويتلى في المحافل حمده
علام يعيش المرء في الدهر خاملا ... أيفرح في الدنيا بيوم بعده
وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قيده
ولابد من يوم تلاعب بالقنا ... أسود الوغى فيه وتمرح جرده
يمزق أستار النواظر برقه ... ويقرع أصداف المسامع رعده(598/10)
تدبر أحكام الطعان كهولة ... وتملك تصريف الأعنة مرده
قلوب الرجال المستبدة أكله ... وفيض الدماء المستهلة ورده
أحمل صدر الفصل فيه سريرة ... تعد لأمر لا يحاول رده
فإما حياة مثلما تشتهي العلا ... وإما ردى يشفي من الداء وقده
غير أن الانتظار قد طال ولم تصل إليه أنباء تقوى فيه هذا الأمل، فسمعناه يستنجز الوعد، ويحث الصحب قائلا:
فيا سراة الحمى ما بال نصرتكم ... ضاقت علي وأنتم سادة نجب
أضعتموني وكانت لي بكم ثقة ... متى خفرتم ذمام العهد يا عرب
والبيت الثاني يحمل كل معاني الألم وخيبة الأمل.
وقد اختلفت بذلك نظرته إلى السيف، فبعد أن كان يهدد بامتشاق الحسان، وشن الثورة على الخصوم، رأى - وقد خذله ناصروه - أن سيفه ليس له غناء في يده ولا قيمة، ولننصت إلى ما دار بين الشاعر وسيفه من حديث حين قال:
ولا صاحب غير الحسام منوطة ... حمائله مني على عاتق صلد
أقول له والجفن يكسو نجاده ... دموعا كمرفض الجمان من العقد
لقد كنت عوناً لي على الدهر مرة ... فمالي أراك اليوم منثلم الحد
فقال: إذا لم تستطع سورة الهوى ... وأنت جليد القوم ما أنا بالجلد
وهل أنا إلا شقة من حديدة ... ألح عليها القين بالطرق والحد
فما كنت لولا أنني واهن القوى ... أعلق في خيط وأحبس في جلد
فدونك غيري فاستعنه على الجوى ... ودعني من الشكوى فداء الهوى يعدي
فهذا السيف الذي كان سبب مجده الحربي يراه الآن قطعة من الحديد ضعيفة واهنة القوى، لا تستطيع أن تقدم له يدا، ولا أن تساعده.
لم تنزل بالبارودي نفسه فيلحف في الاعتذار، ويلح في الاسترحام كما فعل سواه، ولعله طلب أن يعود إلى وطنه موفور الكرامة، متبرئا من تهم ألصقها به حاسدوه، كما يمكن أن نلمح ذلك في قوله:
يا غاضبين علينا، هل إلى عدة ... بالوصل يوم أناغي فيه إقبالي(598/11)
قد كنت احسبني منكم على ثقة ... حتى منيت بما لم يجر في بالي
لم أجن في الحب ذنباً استحق به ... عتبا، ولكنها تحريف أقوال
ومن أطاع رواة السوء نفره ... عن الصديق سماع القيل والقال
ولكن شعره الثائر وما عرف عنه من حب المجد والسعي إلى العلا، لم يكونا مما يدفع ولاة الأمر إلى الصفح عنه والمغفرة، فاستسلم إلى حكم القدر، وسلم نفسه لله، ولجت به الرغبة في زيارة الرسول الكريم، وأنشأ الشعر في مدح النبي والثناء عليه، ولكنه مع ذلك لم يسل يوما مجده ووطنه، بل أخذ يبث شعره شوقه إلا ملاعب شبابه وصباه، وما كان له من سلطان وجاه، فهو لا ينفك ذاكرا الماضي مشتاقا إليه، يحن إلى ملاعب الروضة وحلوان، وكان كلما تقدمت به السن، خلف الشباب وراءه، فتلفت يبكي هذا العهد السعيد الذي قضاه في وطنه ممتعاً بالأهل والأصدقاء والأحباب والسلطان، ويوازن بينه وبين ما صار إليه من ضعف وهوان، وقد وصف هذه النفسية القلقة المشتاقة حين قال:
أحن إلى أهلي، وأذكر جيرتي ... وأشتاق خلاني وأصبو لمألفي
فلا أنا أسلو عن هواي فأنتهي ... ولا أنا ألقى من أحب فأشتفي
أو حين تحدث في لهفة وشوق قاتل إلى النيل قائلا:
فهل نهلة من جدول النيل ترتوي ... بها كبد ظمآنة ومشاش
أو حين يذكر الماضي متأسفا على حاضره:
لله أيام بهم سلفت ... لو إنها بالوصل تأتنف
إذ لمتي فينانة ويدي ... فوق الأكف وقامتي ألف
أجري على إثر الشباب ولا ... يمشي إلى ساحاتي ألجنف
إن سرت سار الناس لي تبعاً ... وإذا وقفت لحاجة وقفوا
فالآن أصبح طائري وقع ... بعد السمو وصبوتي أسف
بل لقد انتهى به الأمر إلى أن أصبح يتمنى العودة إلى الوطن ولو عاش فيه فقيرا مملقاً.
أما حزنه على الشباب وبكاؤه عليه وألمه من الشيب وما ناله فيه من الضعف ففي كثير من قصائد منفاه، وهاهو ذا يصور لنا نفسه في عزبته شيخا أخلق الشيب جدته، ولوى شعر حاجبيه على عينيه، وضعف بصره فصار يرى الشيء كأنه خيال، وإذا دعي لم يتبين(598/12)
مصدر الصوت، وإن أراد النهوض قعد به الضعف فلا يستطيع.
كيف لا أندب الشباب وقد ... أصبحت كهلا في محنة اغتراب
أخلق الشيب جدتي وكساني ... خلعة منه رثة الجلباب
ولوى شعر حاجبي على عيني ... حتى أظل كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلا ... كخيال، كأنني في ضباب
وإذا ما دعيت حرت كأني ... أسمع الشيء من وراء حجاب
كلما رمت نهضة أقعدتني ... ونية لا تقلها أعصابي
كان البارودي كثير التأمل في حوادث حياته، ما مضى منها وما حضر، وكثيراً ما كان يفكر فيما آل إليه أمره، فيسلي نفسه حيناً بأن الحظ يلعب دوراً كبيراً في النجاح، ولا ذنب له إن جافاه الحظ فلم ينجح، وحيناً يعود باللائمة على الحياة الدنيا، فهي لئيمة قلّب، لا تحسن اليوم إلا لتسيء غداً، وأحياناً يسوق الأمثال والحكم ليجلب إلى نفسه الهدوء والراحة، فالسيادة لها تكاليفها والمغامر تقوى هموم قلبه، وطالب العلا يعرض نفسه للحلو والمر إلى غير ذلك، مما تجده منثوراً في قصائد منفاه، وإذا ذكر ثروته وكيف جرد منها قال:
أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشّب
وكان يسبغ على نفسه الرضا والطمأنينة راحة ضميره وإيمانه بأن سيرته ليس فيها ما يزري أو يغض من قيمته:
راجعت فهرس آثاري فما لمحت ... بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي
وأنه لم يبع ضميره بالمال ولم يفرط فيما يعتقد إنه واجب عليه، مؤمناً بأن التاريخ سينصفه، وسوف يبين الحق يوماً للناظرين، قال في إحدى قصائده:
ولو رمت ما رام امرؤ بحياته ... لصبحني قسط من المال غامر
ولكن أبت نفسي الكريمة سوأة ... تعاب بها والدهر فيه المعاير
وسوف يبين الحق يوماً لناظر ... وتنزو بعوراء الحقود السرائر
كان نفي البارودي إلى جزيرة سيلان ومعيشته بين القوم الذين وصفناهم له هذا الثر(598/13)
الحزين في كل شعره الذي قاله في منفاه، ولم تستطع طبيعة هذه البلاد - وقلبه مليء بالحزن والأسى - أن توحي إليه بشعر فرح إلا قصيدة واحدة يصف فيها روضة بكندي، ويوماً قضاء مع رفقة بتلك الروضة، وتلمح في هذا الوصف إنه وصف حسي لم يشارك القلب فيه الحواس، بل أن لسانه لم يتحرك بقول هذا الشعر إلا بعد أن سأله رفقاؤه أن يخلد ذكرى يومهم في شعره. وأما وصفه لكندي فمع قلته تشيع فيه روح الألم والحزن
برغم كل ما قاساه البارودي في غربته لم يفقد الأمل في أن يعود يوما إلى وطنه، فهذا الأمل وطيد لا يمكن أن يزول:
ولي أمل في الله تحيا به المنى ... ويشرق وجه الظن والخطب كاشر
وطيد يزل الكيد وتنقضي ... مجاهدة الأيام وهو مثابر
وقد حقق الله له هذا الأمل. ففي (17 مايو سنة 1900) أصدر الخديو عباس حلمي الثاني أمره بالعفو عنه، فعاد البارودي إلى وطن طالما حن إليه وشرب ثانية من ماء النيل الذي لم يرو بماء غير مائة فارقه حتى عاد إليه.
(حلوان)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين(598/14)
فرقة التمثيل ومديرها الفني
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية
يشاء السيد الزحلاوي أن يجعلني المسؤول الأول والأخير عن تصرفات الفرقة، وهو يعلم علم اليقين من المصادر التي يستقي منها معلوماته، أن للفرقة لجنة عليا تشرف على توجيهها إشرافاً دقيقاً، وأخرى تنتخب مسرحياتها - ولست عضواً فيها - ثم إن للفرقة لجنة ثالثة تتولى توزيع الأدوار على الممثلين، وأن للفرقة مديراً عاماً له السلطة الواسعة، وأنه ما من اقتراح أتقدم به يأخذ دور التنفيذ إلا بعد موافقة هذه اللجان.
ففيم إذن تجاهله كل هذا، إلا لغرض مبيت في سريرته. فهو والحالة هذه أحد رجلين: إما إنه (مخلب قط) لموتورين من الفرقة - وما أكثرهم وأحبهم إلى نفسي - فهم لا يزودونه إلا بالمغرض الكاذب من المعلومات، وإما إنه يعلم كل هذا، ثم يتجاهل ليغالط نفسه والقراء، وما أحب له أن يكون هذا أو ذاك
بيد أنني له في كل مزاعمه، وسأناقش على الاعتبار الذي اجتلبه وافتعله ولم يبال بحقائق الأشياء، أي على اعتبار أنني المسؤول الأول والأخير
1 - يأخذ علينا أن الفرقة قدمت (شهرزاد) و (يوم القيامة) و (كلنا كده) و (سلك مقطوع)، فكان في زعمه أن هبطت إلى مستوى الفرق الأهلية التي لا تراعي إلا الربح المادي)، وكأن الفرقة لم تقدم غير هذه المسرحيات! أسائله: أين إذن مسرحيات (يوليوس قيصر) لشكسبير و (متلوف) و (مدرسة الأزواج) لموليير و (غادة الكاميليا) لديماس الإبن، و (الوطن) لساردو، و (مروحة الليدي وندرمير)، و (زوج كامل) لأوسكار وايلد، و (مرتفعات ويذرنج) لأمبلي برونتي. ثم أين (قيس ولبنى) للشاعر النابه عزيز بك أباظة، و (قطر الندى) للمؤلف المصري الكبير عباس علام. وكل هذه المترجمات من النفائس الأدبية في عالم التمثيل، والروايتان الأخيرتان من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية، وقد توليت بنفسي إخراج ست منها؟
أتساءل لماذا لم يسجل السيد الزحلاوي غير الجانب الذي قد يؤاخذ عليه في منهج الفرقة، ولم يذكر الجانب الآخر الذي يشرفها ويقيم الحجة على أنها في جادة الطريق إلى تأدية(598/15)
رسالتها؟
ثم ذاك الجانب الذي لا يؤاخذ عليه إلا صاحب العنت والهوى، ما خطره ما دامت الفرقة تحرص في انتخاب مسرحياتها على إقامة توازن دقيق بين الهزيل والماحل، وبين الدسم والخصب من المسرحيات، تمشياً مع الجمهور الذي لم يستقم له بعد أمر الهضم القوي لما هو دسم حقاً، وموفور الغذاء حقاً؟
ما الخطر في أن تأخذ الفرقة بالاعتدال في انتخاب ما تقدمه مراعية أمر التفاوت البين بين طبقات الجمهور من حيث المستوى الثقافي والمزاج، فتكون تارة لخاصة الجمهور، وأخرى لعامته من غير تعال أو إسفاف مشين؟
كلنا يعلم - إلا المتعنت المتجني - أن التهذيب بطريق المسرح اختياري محض، إذ الجمهور إنما يغشى المسارح مختاراً لا مجبراً. ولهذا أسائل: هل من الخير للفرقة أن تحظى بإقبال الجمهور مع أخذها بهذه السنة الحصيفة المعتدلة في انتخاب مسرحياتها، أم تبوء بالفشل وانصراف الجمهور وهي لا تقدم إلا التحف الأدبية والروائع الفنية؟
هل يدري السيد الزحلاوي لماذا أخفقت الفرقة القومية فألغيت وقامت مكانها هذه الفرقة القومية المصرية؟ هل غاب عن علمه أن إيراد تلك الفرقة الملغاة انكمش إلى قروش وملاليم في الحفلة الواحدة؟
وهل في استطاعته أن يعرض على الجمهور تلك المسرحيات الرفيعة مع ضمان إقبال الجمهور؟ إذا كان هذا في وسعه فإنني أنزل له عن مكاني في الفرقة لأعمل تحت إمرته
2 - لم نقصر في إعلاء شأن العربية الفصحى كما يزعم الكاتب، بدليل أن الفرقة حتمت أن تكون كل المسرحيات المترجمة مكتوبة بالعربية السليمة معنى وإعراباً، كما أنها لم تتوان عن تقديم مسرحية (قيس ولبنى) وهي مكتوبة بالشعر الرقيق الآسر، كذلك لم تقض الفرقة بأن تكون المسرحيات المحلية الموضوع مكتوبة باللهجة العامية المبتذلة، ولكنها قضت بأن تكتب باللهجة التي يتكلم بها شخوص الرواية كما لو كانوا في الحياة الواقعية حتى لا ينهار جانب المعقول في أسلوبها
3 - الذي يأخذه علينا الأستاذ من أننا أوردنا (ضرب الزار وهز والبطن والأرداف) - وهما الرقص أو الحركة الإيقاعية في لغة العلم - لم نورده لذاته ولم نزج به زجاً في(598/16)
روايتي (شهرزاد) و (يوم القيامة)، بل أوردناه لأنه عنصر لا تستقيم بدونه المسرحية الغنائية الفكاهية (الأوبريت)، وهو نوع يقوم على الموضوع اللين المشرق بالفكاهة وبالغناء، ويقضي كمال إخراجه بأن نجعل من شخوص الرواية وماثليها والمنشدين منها عرضا منسقاً لمتعة العين والأذن
وإخراجنا هذا النوع يحقق جانباً من رسالة الفرقة، إذ هي للتمثيل وللموسيقى المسرحية كما يشهد بذلك عنوانها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى)، ومع هذا فإننا لا نقدم غير رواية واحدة من هذا النوع في كل عام
4 - تشاء خبيثة السيد الزحلاوي أن تتهمني بالتغرض والعبث في توزيع الأدوار على الممثلين، أي أنني أعطي الدور لمن لا يحسن تأديته. وتفنيد هذا الزعم الباطل إنه ما من رواية قدمتها الفرقة وباءت بالفشل، بل كان نصيب كل رواية النجاح الجدير بها. ومن المعلوم أن نجاح الرواية يتكئ أولاً على حسن تأدية الممثلين أدوارهم. فلو صح ما زعمه السيد الزحلاوي لأغلقت الفرقة أبوابها، لأنها لا تعيش من إعانة الوزارة وقدرها عشرة آلاف جنيه، فقد بلغت مصاريف الفرقة في العام الماضي ثلاثة وعشرين ألفاً من الجنيهات، وزاد دخلها على مصاريفها بدليل أن الممثلين تناولوا مرتبات خمسة عشر شهراً عن العام الماضي
ثم ماذا يقول الأستاذ المتجني، وما عسى أن يقول له القارئ، إذا علم أن توزيع الأدوار لا يرجع أمره إليَّ وحدي، بل إلى لجنة أنا واحد منها، إذ تتضمن سواي مدير عام الفرقة، وعضو من اللجنة العليا، وزميلي في الإخراج!
5 - شاء أدب الأستاذ الزحلاوي أن يتهمني بأنني أسأت إلى سمعة مصر في البلاد العربية. أسائله هل قرأ ما كتبته صحف فلسطين ولبنان وسوريا عن رحلة الفرقة ورواياتها في الصيف الماضي؟ ما أظن. . . ويقيني إنه لو قرأه لتغيرت في ذهنه معاني ما يقرأ، لأن العين التي يراني بها ترى الزهر شوكاً والضياء ظلاماً، وكان الله في عونه
وإذا سمح أستاذنا الزيات فإنني أنشر في (رسالته) نبذاً مما تفضل بكتابته عن الفرقة بعض الأدباء والكتاب في هذه الأقطار الشقيقة الكريمة
6 - وأروع مثال أقدمه ليتعرف القراء إلى مقدار فهم الأستاذ الزحلاوي لما يشاهد من(598/17)
مسرحياتي، ما أورده عن (كلنا كده) في مقاله، فالرواية في فهمه وعلى حد قوله: (تقول عن أبناء الأمة إنهم كلهم ديوث وقواد وعكروت)!
فليتصور القارئ رواية هذا موضوعها ومفادها! كيف وافق عليها قلم النشر في الداخلية، وكيف تأتى أن النظارة لم يحطموا مقاعدهم ويقذفوا الممثلين بحطامها، وكيف توالى تمثيلها شهراً ونصف شهر في حفلات متوالية! لا مراجعة فهذا فهم الأستاذ، في حين أن الرواية تجري حوادثها وتتعاقب مشاهدها لتلوح في لطف أننا كلنا كتب علينا الخطأ، وكأنها تذكرنا بالحديث الشريف (كل امرئ خطاء وخير الخطائين التوابون)
وأرجو أن يكون الأستاذ الزحلاوي من الخطائين التوابين!
زكي طليمات(598/18)
على هامش النقد
الرباط المقدس
كتاب توفيق الحكيم
للأستاذ سيد قطب
خيل إليَّ في وقت من الأوقات أن توفيق الحكيم قد بلغ مداه وارتقى آفاقه، وأنه منذ الآن سيكرر نفسه، مع شيء من التحوير والتعديل
خيل إليَّ هذا وأنا أقرأ (سليمان الحكيم) فأجد فيه اختلافاً ما في موضوعه وشخصياته عن أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون؛ ولكنه يتفق معهما في طريقة تناول الموضوع وفي إدارة الحوار مع تعديل طفيف
ثم كتب (زهرة العمر)، فلاحت بوادر آفاق جديدة، ولكن لها شبهاً في خطرات المصباح الأخضر والبرج العاجي. وإن ظهرت في صورة رسائل لا في هيئة مقالات فالفرق في صميم العمل الفني هنا كذلك طفيف.
ولكن هذا الوهم قد تبدد من نفسي وأنا أقرأ (الرباط المقدس) كتابه الأخير. هنا أفق جديد من آفاق توفيق الحكيم ونغمة جديدة، وعطر جديد. . . إنه عطر النضوج، ونغمة الاكتمال، وأفق الأستاذية. في الموضوع والأداء والطريقة، وسائر ما يقاس به العمل الفني الكبير.
ولقد التمعت من قبل ومضات من هذا الجديد في أعمال توفيق الحكيم؛ ولكنها بالقياس إلى (الرباط المقدس) تبدو بواكير فيها الالتماع والحلاوة، دون النكهة العميقة والنضوج الأخير.
فالخطرات الذهنية - التي اعتدناها من المؤلف - لا تقف هنا عادية، تتخايل بالألاقة والالتماع. إنما هي هنا تسري في مادة حية، وتخطر في إطار من اللحم والدم يمنحها الحرارة والحياة. . . هنا قلب إنساني يضبطه ويدل على حركاته ذهن فنان. وهذه هي اللمحة الجديدة في فن توفيق الحكيم.
لقد كان في (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) شيء من هذا. ولكن النبض الحيوي كان هناك باهتا ساكناً غير ملحوظ في ثنايا التنسيق الفني الدقيق. أما في (الرباط المقدس) فالنبض الحيوي يساوق التنسيق الفني، ويبدو كلاهما كاللحمة والسدى في النسيج(598/19)
الواحد، أو كالجسد والروح في الكائن الحي.
وفي الكتاب صفحات من خطرات الفكر، ووثبات الغريزة، وسبحات الروح، ووسوسة الضمير، ونزوات اللحم والدم، وصراع القوى البشرية في النفس الواحدة يقل نظيرها في كل ما سجله الأدب العربي الحديث.
والمهم ليس هو التماع هذه الصفحات في الكتاب. ولكن تناسق العمل الأدبي كله في مبدئه إلى نهايته، في مستوى متقارب من النبض والحرارة والالتماع والنضوج.
لقد أدركت بعد قراءة الكتاب خطورة الأحكام النهائية على المعاصرين. فلقد أعد بحثاً عن (المدارس الأدبية المعاصرة) وكدت أنتهي إلى حكم قاطع في فن توفيق الحكيم وطبيعته وطريقته. . . فهاأنذا أجدني في حاجة إلى تعديلات أستعد حيثياتها من (الرباط المقدس). وإلا فما كان أدراني أن في طاقة المؤلف بلوغ هذا الأفق الجديد. وإن كل ناقد يحترم نفسه يكون قد أصدر حكما سابقاً على توفيق الحكيم يجب أن يعاود حكمه فيتناوله بالتعديل!
القصة قصة امرأة تخون، امرأة منحرفة، تدعوها نوازع اللحم والدم فتستجيب، وتغريها بدعة العصر في التحلل من القيود فتفلسف السقوط بالحرية والتجديد، وتنظر إلى ما تسميه (مغامرة) نظرتها إلى أمر يومي صغير، لا يجوز أن يحطم عشا ولا أن يحدث ضجة؛ ثم تسخر ما شاءت لها السخرية من رجعية الرجل ومن أنانيته لأنه يتطلب فراشا نظيفا وذرية مضمونة!!!
وقصة رجل مستقيم الفطرة تربى في إنجلترا، ولكنه لم ينحل، وعرف كيف يؤدي حقوق الزوجية كاملة. ولكن في حدود الفطرة السليمة. فضاقت المرأة المنحرفة بهذه الحدود.
وتاقت نفسها إلى (المغامرة) اللذيذة، والاستجابة الممنوعة.
وهي تصف في مذكراتها لحظات هذه الاستجابة وصفا حسيا عنيفا. تصفها كما وقعت محوطة بالوهج واللهب، مغلفة باللذة الحيوانية الهائجة، غارقة في بحران الغيبوبة. . . فإذا وقعت هذه المذكرات مصادفة في يد الزوج الواثق المسكين كانت المفاجأة التي تهد القوى وتذهل اللب، وتمسخ كل لحظة من لحظات الماضي، فتحيلها غولا لئيما يعذب فريسته بالسخرية اللاذعة قبل أن ينقض عليها ليمزقها شر تمزيق!
والقصة بعد هذا كله قصة (راهب الفكر) الذي رأى هذه المرأة أول مرة فرفعها إلى مصاف(598/20)
الحوريات في الفراديس، ونسج حولها هالات من القداسة والسحر، وأقامها في مصاف الآلهة والقديسين. . ثم. . . ثم إذا هو يطلع على الكارثة مع الزوج المنكوب، فيفجع في أحلافه فجيعة الزوج في كيانه، ويحس لها بالحقد والازدراء، ويخيل إليه إنها انتهت من عالمه. . . ولكن!
أجل. ولكنها (المرأة). المرأة الخالدة في ضمير كل (رجل). وراهب الفكر هو كذلك رجل أيضاً. هو مزيج من اللحم والدم والفكر والشعور. ولئن كانت هذه الأفعى قد سحرت فيه رجل الفكر والشعور أيام أن كانت - عنده على الأقل - حورية أو قديسة، فإنها اليوم لتستطيع أن تسحر فيه رجل اللحم والدم، بعطرها العابق ونكهتها الأنثوية، وأن تدعوه لصوت الغريزة الخالدة فيستجيب. ولولا سبب خارج عن إرادته - حسب تعبير القانون - لتم كل شيء في عالم الواقع المحسوس، بعد أن تم في عالم الضمير المكنون!
يا للمرأة! بل يا للحياة في صورة المرأة!
وعلى الهامش رجل آخر أوقعته مذكرات الزوجة المفضوحة في شك مفترس في عشه وفراشه هو الآخر، ولكنه لا يستطيع الحزم واليقين، ولا يطيق جحيم الشك المؤلم فيستريح من قريب. . . ينتحر! ولا يستغرق من القصة إلا القليل، الذي يكفي للموازنة السريعة بين قسوة اليقين المحتملة على كل حال، وقسوة الشك التي تجل عن الاحتمال
أشهد أن الصفحات التي تناول فيها المؤلف عرض نظريات المرأة ودواعيها، ووصف نزواتها ومفاتنها؛ وكشف حيلها ومغرياتها. كالصفحات التي صور فيها كارثة الرجل وعاطفته، وأوضح منطقه واتجاهه. كالصفحات التي أبرز فيها (راهب الفكر) ونزعاته، واختلاجاته ونزواته، كالصفحات التي كشفت روح العصر والعوامل الخفية والظاهرة التي تعمل في كيانه. . . كلها صفحات رائعة فيها ذلك النضوج الأخير
ولكن الصفحات التي عرض فيها صورة (الشك) لم تجيء في مستوى تلك الصفحات. جاءت مختصرة ومجملة، جاءت في لمسات عريضة لم تتناول الجزئيات الثمينة في لحظات الشك المريرة. وختمت في عجلة ظاهرة
حقيقة إن (التنسيق الفني) سمة توفيق الحكيم الأصيلة - هو الذي يجبره في هذه القصة - حسب وضعها الحالي - إلى الاختصار في صورة الشك؛ فكيان القصة قائم على مواجهة(598/21)
الرجل المستقيم بالمرأة المنحرفة في العصر الحديث وعلى اضطراب رجل الفكريين الغريزة والوجدان أمام المرأة الخالدة، وعلى منطق الغريزة العميقة ومنطق الفكر المحلق، وعلى لغة الفناء الأرضي ولغة الخلود السماوي. . . الخ فلا مجال فيها لعرض صورة (الشك) إلا في هذا الحيز المحدود
ولكني أخشى أن يكون تصوير (الشك) في هذا المستوى الرفيع في حاجة إلى طاقة أخرى لم يزاولها حتى اليوم (توفيق الحكيم). طاقة كطاقة شكسبير في (عطيل) أو طاقة العقاد في (سارة) وطاقة الأضواء تتداخل في الظلال، لا طاقة الخطوط الحاسمة التي تفرق بين الظل والنور وإن كنت لا أظنها - بعد اليوم - بعيدة عن توفيق الحكيم. فتصويره لتأرجح (راهب الفكر) في اللحظات الأخيرة يمنحه المقدرة على تصوير (الشك) في النفس الإنسانية في هذا المستوى الرفيع
ونحن منتظرون. . .!
ثم لقد استوقفني المؤلف عند هذا الحوار بين راهب الفكر والزوجة المستهترة كانت تسخر من غيرة الرجل على فراشه، وتعد دفاعه عن هذه الغيرة حماسة منه للرجال.
- (ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج؟
- إني لم أبح للزوج أن يخون زوجته
- وإذا خانها. أليس لها الحق أن تخونه؟
- لا
- النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال. تبيحون لأنفسكم ما تحرمون علينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء.
- بل لأن الرجل هو الذي يعرق، والمرأة هي التي تنفق. اكدحي كما يكدح زوجك واعرقي كما يعرق؛ فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق. لا أقول إن الرجل يجب أن يخون. ولكنه إذا خان خان من ماله. ولكن الزوجة تخون من مال زوجها. ثم هنالك شيء آخر، هو النسل. . فالزوج يخون ولا يدخل على زوجته نسلا مدلساً. أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلا ليس من صلبه. لن تكون هناك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم إلا إذا تطوراً الزمن تطورا آخر فرأينا الزوجة تناضل في الحياة(598/22)
وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج. . . ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يفرز للزوج نسله عن نسل غيره بغير وقوع في شك أو ارتياب. . . إلى أن يتم ذلك فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة.
- إذا حدث ذلك فلن تكون هنالك زوجية. ولن يكون لها محل على الإطلاق. .
- ولن يكون للخيانة عندكن لذة ولا طعم. إذ لن يكون الزوج ضحيتها. . .
- (يا لك من خبيث!)
أحسب أن هناك اعتبارات غير الاعتبارات الاقتصادية الخاصة بالإنفاق والعائلية الخاصة بالنسل، بل أكبر من العوامل النفسية بين الرجل والمرأة حين يراد منهما بناء أسرة ورعاية أطفال. . . فلندع هذا كله، ولندع منطق الأخلاق لننظر من ورائه إلى منطق الطبيعة. . .
أحسب أن الطبيعة الخالدة كانت تقصد الإشارة إلى معنى خاص وهي تقدم أنثى الإنسان - وحدها دون بقية إناث الحيوان - مختومة مقفلة بذلك القفل الخاص! وأنها لم تحسب حساب العلم في تطوراته التي يستطيع بها فرز النسل أو لا يستطيع. فقامت هي بوسائلها الخفية الخاصة بضمان العفة في الحدود التي تملكها. وما كان عمل فرسان القرون الوسطى حين كانوا يلبسون زوجاتهم أحزمة ذات قفل في ثنايا اغترابهم للحرب، إلا محاكاة لفعل الطبيعة وامتدادا له في صورة عنيفة. فمهما كانت نظرتنا نحن اليوم إلى طريقة التنفيذ، فيجب أن نقدر أصالة الفكرة، وعمقها في تفكير الطبيعة. وإذا كان عصر من العصور ولا يسمح بفكرة القفل المادي، فإن هذا لا ينفي أن فكرة القفل المعنوي أصيلة في صميم الطبيعة كلها لا في صميم النفس الإنسانية وحدها!
إن الطبيعة لأحكم من كل فلسفة أخلاقية، ومن كل سفسطة إباحية. وإن كل انحراف عن سنتها لهو انزلاق إلى مهاوي الفناء!
سيد قطب(598/23)
الدستور في شعر شوقي
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 1 -
كانت الدعوة إلى الدستور قد قويت ودوت في أوائل هذا القرن، وزعيمها مصطفى كامل باشا وكان مصطفى لا يفتأ يدعو إلى الجلاء والى الدستور لأنه وسيلة الحكم الصالح، فقد كتب في اللواء في 5 أكتوبر سنة 1900 مقالاً بعنوان (الحكومة والأمة في مصر) ذكر فيه وعد لورد دوفرين باسم حكومته أن يؤسس في مصر مجلس نيابي، وإخلاف الحكومة البريطانية وعدها كإخلافها وعود جلائها
ودعا إلى الدستور في خطبته في العيد المئوي لمحمد على يوم 21 مايو سنة 1902، ومما قاله: (أين ذلك الدستور الذي يلجم الحكومة بلجام من حديد، ويهب الأمة حرية الرأي والفكر وحق المراقبة على أعمال الحكام وسن القوانين والشرائع ومناقشة الوزارة عن الصغائر والكبائر. . .
لعمري إن ما يسميه المحتلون وأنصارهم بالدستور لهو الفوضى في لباس النظام، والاحتلال في قالب الاحتلال، وإلا فأين الضمانة التي تطمئن لها القلوب والخواطر؟ أين مجلس النواب المصري الذي يقف في وجه كل طامع ويرد كل ظالم؟ أين ذلك المجلس الذي وعدت به بريطانيا على لسان اللورد دوفرين؟)
وقد كان لخطبته دوي في مصر، وأثر في المقيمين بها من الأوربيين، وكانت من أعظم دروسه الوطنية، وعلقت عليها الأهرام بقلم الشاعر الكبير خليل مطران بك، والبصير، وجريدة الفارد الكسندري تعليقاً يشف منه الإعجاب والحماسة
ولشوقي بمصطفى كامل صلات، فقد كان من كتاب اللواء، ومن أصدق أصدقاء الزعيم الشاب وأعظمهم إعجاباً به، وكان مصطفى يبادله الحب والإعجاب، فقد وصف شعره بأنه الغدير الصافي في ألفاف الغاب يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون، وخصص لقصائده أسمى مكان في اللواء، وفي ذلك يقول شوقي:(598/24)
قد كنت تهتف في الورى بقصائدي ... وتحل فوق النيرين مكاني
وكتب مصطفى إلى صديقه محمد بك فريد من أوربا:
(وإذا قابلت شوقي بك فقبله لي مرتين، وقل له أن يرسل لي ما طبع من ديوانه مع صورته وأعطه عنواني)
وشوقي يقرر أنه شارك مصطفى في البعث والدعوة إلى الاستقلال والحرية بقوله:
أتذكر قبل هذا الجيل جيلاً ... سهرنا عن معلمهم وناما
مهار الحق بغضنا إليهم ... شكيم القيصرية واللجاما
لواؤك كان يسقيهم بجام ... وكان الشعر بين يدي جاما
وقد اشترك معه في الاحتفال بالعيد المئوي لولاية محمد علي بقصيدته الخالدة (محمد علي) ورثاه لما مات بقصيدة من عيون المرائي العربية، ثم ذكره، وفي آخر ذكرى يقول:
يا أخا النفس في الصبا ... لذة الروح في الصغر
وخليلاً ذخرته ... لم يقوم بمدخر
- 2 -
على أنه قد درس في مصر طرفاً من القانون في مدرسة الحقوق قبل أن يتحول إلى قلم الترجمة، ثم أتم دراسة الحقوق في فرنسا، وما من شك في أنه وقف على آراء علماء الاجتماع والقانون والسياسة في خير نظم الحكم، وما من شك في إنه تأثر بميولهم إلى حكم الشورى، على إنه شاهد هناك صولة الدستور وفضل الشورى وسلطان الشعب، فطمح إلى ما طمح إليه غيره من المصريين الدارسين في أوربا أن يكون لمصر دستور، وإن يصرف الشعب أمره بنفسه، وأن ينجاب عن سماء الإسلام فتام الحكم المطلق
ثم إنه مولع بالتاريخ وتمجيد الماضي، ويعلم أن الشورى نظام الحكم في الإسلام، وأن الخلفاء الراشدين تسلموا مقاليد الحكم بالانتخاب، فهو يجمع هذا إلى ما يتجدد أمامه في الحاضر في الدول الراقية فلا يرى مندوحة من الميل إلى الشورى، والدعوة إليها والاستمساك بها
كان ذلك وشوقي في ريعان شبابه، فدعا إلى الدستور وهو شاعر الأمير تقيده الوظيفة، ونجد من جريانه في تيار الثوران على الحكم المطلق. فلما نشبت الحرب الماضية نفي،(598/25)
لأن الغاصبين أيقنوا خطورة شعره في التأليب عليهم والتنفير منهم، فأميره مبعد عن ملكه، ومصر كلها برمة بقيود الحماية، وتركيا في غير صف إنجلترا، وشوقي شاعر الأمير، وروحه مصري وتركي، وشعره يوقظ الغفلى، ويشدو به الصبية والكهول
ثم ألقى الله على العالم أمنه وسكينته، وعاد شوقي إلى مصر يغرد بالمجد، ويرجع بالدعوة إلى الدستور في مناسبات شتى في عهد الملك فؤاد، وهو في ترجيعه حر يصور عواطف الشعب آنا، ويرشده آنا، لا تلجمه وظيفة لا وتثنيه رهبة؛ فقد أفاق الشعب كله واستقاد لزعيمه سعد، وثار ثورته يشري حريته ودستوره واستقلاله، وشوقي مغتبط يحدو للسائرين أو الطائرين إلى مثلهم العليا؛ ولم يجاره شاعر في حماسة دعوته، ولا في تكرار صيحته، ولا في بلاغته وجرأته، ثم لم يدانه شاعر في جلال الصور التي صور الدستور بها، أو في مهارة الربط بين الفكرة التي يدعو لها والمناسبة التي يهتبلها
ولعل في هذا البحث بلاغاً لحساده الذين زعموا إنه لا يمثل عصره، ولم يتحدث بلسان شعبه، ولم يصور عواطف معاصريه وميولهم، وإن هم إلا واهمون أو ظالمون، فإن شعره ثبت مفصل لما اضطرب من أحداث، وما اشتجر من آراء ونزعات، وقلما حدث حدث إلا جلجل فيه شوقي بشعره الملتهب، فعضد الحق، وسند الشعب، ورسم الصوى للحيرى
وشعره في الدستور والشورى وفضلهما وما يتصل بهما كثير منوع الصور، جاشت به نفسه فنفس عنها، واستدعته عاطفته فاستجاب لها، وإنها لعاطفة صادقة لا مجاراة فيها ولا مَيْن، ولو جارى لأقل فأشار في معرض أو معرضين، ولكنه طرق الدستور وحكم الشورى في أكثر من عشرين موضعاً من ديوانه، وفي بعضها يخلق المناسبة خلقاً، ليمجد الدستور ونظمه، وليس هذا شأن المجارى. وعاطفته مع صدقها حارة عالية الدرجة نبيلة تثير عواطفنا وإعجابنا، فلا مرد إذن لأقاويل خصومه المتنقصين قدره إلا أنهم نفسوا عليه سلطانه ومكانه وبيانه، فاتهموه في موضع الاقتدار، فكانوا كمنكر النهار، أو المماري في حرارة النار
ومن الوفاء له أن نسوق هنا طرفا من شعره نحيي به ذكرى شاعر العصر، المساهم في مجد مصر، ونحيي به الدستور في وقت تمتحن فيه دساتير الأمم، فتجاهد الحكم المطلق
وإن من يقدر الظروف التي تغنى فيها شوقي بالدستور ليجد حرجها، ويحس أشواكها،(598/26)
فكيف سلم من معاطبها شوقي؟ وكيف لبق فأرضى نفسه وصور آمال الشعب ثم لم يجمح به قلمه أو كلمه؟
الحق إنه كان يروض الألفاظ حتى لا تثير سخطاً، وبروز المعاني ويصطفيها حتى لا يحس منها معارض بجفوة أو نبوة، وليس من السهولة أن تحبب إلى معارض ما يكره وأنت لم تشعره بغضاضة الرجعة، أو لم توقظ في نفسه نوازع العناد، وبهذه درجة علية من اللباقة والكياسة والحذاقة
- 3 -
هلل شوقي بالدستور العثماني واحتفى به، وقصر عليه قصيدة كاملة إثر صدوره عام 1908 إذ زف في بعض أبياتها البشرى إلى الترك وإلى الخاضعين لهم، ولعله استشف أن الدستور سينتظم مصر وغيرها، ففي رأيه أن الخلافة كانت تعاني الضعف وتقاسي الانحلال فجاء الدستور سياجاً لها وقوة، وكانت متداعية الأركان فحيطت بالشورى ونادى الشورى
والدستور الذي أصدره السلطان عبد الحميد نعمة على الشعب جليلة كجلال الخليفة، صافية الحواشي، إذ لم ترق لها دماء أو تلابسها جرائم، ومن عجب أن يرغب الناس عن الشورى وقد شرعها الله وأوصى بها نبيه
وحيثما نظرت رأيت سمات الفرح، فإن الشعب الصادي إلى الدستور والحكم النيابي ينقع اليوم بالشورى صداه، وكل فرد في الأمة يشعر بالعزة والعظمة والجاه أن صار له صوت في سياسة الوطن ورأي
بشرى البرية قاصيها ودانيها ... حاط الخلافة بالدستور حاميها
لما رآها بلا ركن تداركها ... بعد الخليفة بالشورى وناديها
أسدى إلينا أمير المؤمنين يداً ... جلت كما جل في الأملاك مسديها
بيضاء ما شابها للأبرياء دم ... ولا تكدر بالآثام صافيها
وإنما هي شورى الله جاء بها ... كتابه الحق يعليها ويغليها
أما ترى الملك في عرس وفي فرح ... بدولة الرأي والشورى وأهليها
لما استعد لها الأقوام جئت بها ... كالماء عند غليل النفس صاديها(598/27)
فضل لذاتك في أعناقنا ويد ... عند الرعية من أسنى أياديها
خلافة الله جر الذيلَ حاضرُها ... بما منحت وهز العطف باديها
طارت قناها سروراً عن مراكزها ... وألفت الغمد إعجاباً مواضيها
- 4 -
وينتهز الفرصة في إعلان رأيه في مشروع 27 فبراير فيخاطب الملك فؤاداً ناصحاً له أن يوطد ملكه على دعائم من العلم والأدب والعدل والشورى:
فؤاد حليت جيد النيل مأثرة ... حذوت في صوغها آباءك النجبا
ما زلت في السلم تغزو كل معضلة ... بالحلم حتى اقتحمت المعقل الأشبا
إن سرك الملك تبنيه على أسس ... فاستنهض البانيين العلم والأدبا
وارفع له من حبال الحق قاعدة ... ومد من سبب الشورى له طنبا
- 5 -
ويلتفت في قصيدته (الأزهر) التفاتة بارعة فيقرن إصلاح الأزهر بإصدار الدستور، أليس بإصلاح الأزهر يستقيم الدين والدنيا؟ وبالدستور تنهض الأمة وتسلك طرقها صعداً؟ أليس الأزهر فخار مصر المسلمة والدستور شعار مصر الناهضة؟
الله أكبر يا ابن إسماعيل لم ... تترك لصناع المآثر مفخرا
بالأمس تنهض مصر في دستورها ... واليوم تنهض للسماك الأزهرا
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد الحوني
المدرس بالسعيدية الثانوية(598/28)
منها. . .
لشاعرة غربية
(جمعتهما المصادفة فأحسا بذلك الانعطاف الروحي الذي يزيل
الحواجز ويمحو الفروق. هي شاعرة غربية نبيلة، وهو شاعر
شرقي أصيل، وأحسا بالهوة العميقة العريضة التي تفصل
بينهما فتحدث إليها عن ذلك الحب اليائس وألمه الممض، وأن
القدر لا يريد لهما هذه السعادة، وظنت هي أن كل شيء قد
تغير سريعاً، فكتبت إليه هذه القصيدة التي ترجمها هو فيما
يلي):
وحيدةٌ! ويْحي! بلا راحةٍ ... ما بين موجٍ طاغياتٍ قُواهْ
تجري بيَ الفُلْك كأُرجوحةٍ ... حَيْرَى بأقيانوس هِذي الحياه
أبحث عنه وسُدًى ما أرى ... أين حبيبي؟ أين سارت خُطاه؟
لم يَهْدِني نجمٌ إليه ولم ... يبسمْ لِيَ الحظ فأَلقى سَناه
وليس لي من موجةٍ بَرَّةٍ ... تحملني في إثْرِه كيْ أراه
من شاطئ الراحة لم يَدْنُ بي ... إليه أُفْقٍ لا يُرَى منتهاه!
هناك في الشاطئ وا فرحتاه ... أعزُّ إنسانٍ صفا لي هواه
منتظراً لي شاخصاً باسماً ... تُشِيرُ بالآمال لي راحتاه
لكنَّما هيهات كيف السُّرَى ... وأين من عصف الرياح النجاه؟
قد صار حتماً أن يُرَى زورقي ... محطَّماً قد مال بي جانباه
وهل فضاءُ البحر أو غَوْره ... مهما تناءى وارتمت لجتاه
يكفي مداه أن تُوارَى به ... جميعُ آلامي؟ أيكفي مداه؟
نَمَتْ زهرةٌ في غضون الخري ... ف كحُلْمٍ من الماءِ والخضرة(598/29)
كزنبقةٍ في زُهَى حُلّة ... ربيعيةِ الوشْي محمرَّةِ
تبثُّ المراعيَ نوراً يشفُّ ... ويجلو الطهارة في النظرة
كأني بها قدحاً مُتْرَعاً ... به مُزِجَ السمُّ بالخمرة
لها وهج الحب في قبلة ... على شفةٍ شِبْهِ مُفْترة
ألا إنها هي بُقْيا الهوى ... وآخِرُ ما فيه من نضرة
ألا إنها هي صهباؤه ... وآخر ما فيه من قطرة
تميتُ وتُحْيي فيا لَلْحياةِ ... والموتِ إِلْفَيْنِ في زهرةِ!
إن أنا قاومتُ هياج العبابْ ... مصطرعاً والأفقُ داجي السحابْ
ولم تَدَعَ كفي إلى زورقي ... زمامَهُ حُمراً وخضتُ الصعاب
فسوف يُلقيه خفيُّ القضا ... محطماً فوث الصخور الصلاب
وإن قوى ساعد عاجزٌ ... أن يُمسك المجداف دون اضطراب
إن عاند الأمواج فهو الذي ... يحفرُ في اليم حَفِيرَ التَّباب
وهو الذي يسعى إلى حتفه ... في هوَّة مَغفَورة في العباب
فلْيُلْقِ بالمجداف من كفه ... وليترك الموجَ طليق الرغاب
ولِيَمْضِ بالزورق ما يشتهي ... إلى القضاء الحتْم دون ارتياب
وليبتلعه الموجُ في جوفه ... فلا مفرَّ اليوم مما أصاب
طال كفاحي ويح نفسي فما ... طول كفاحي غير طول العذاب!
أطلَّ الخريف بأعقاب ليل ... دجيِّ الظلام بكيِّ السُّحبْ
وآخر ما في الربى زهرة ... عداها من الصيف وقْدُ اللهب
غدت وحدها في أديم عفا ... من النَّور والورقات القشب
كحارسة الميْتِ ليست تَرِيم ... مكاناً به وقفتْ تضطرب
تُساقط من حولها أدمعاً ... غصون تطالعها من كثَب
جرى الغيث، من ورقات بها ... إلى أُخَرٍ شاحبات، صبَب
تحدَّر مختِنقاً فوقها ... بلا نَبْأَةٌ قَطْرُهُ المنسكب
فيا من لها زهرة الجورحين ... مَنِ الزائرُ الحائرُ المقترب؟!(598/30)
جَناحٌ لآخرِ ما في الفراشا ... ت من رحمة بِقَيتْ أو حدب
مضى الصيف وانقطعت إثْرَه ... أغاريدُ كنَّ مَثارَ الطرب
نأى طيرُها مُجْهَداً واختفى ... غرامٌ أتى وغرام ذهب!
(هي)(598/31)
إليها. . .
للأستاذ علي محمود طه
(. . . وقرأ قصيدتها فراعه ذلك الروح الشاعر الثائر
المضطرب في محيط من العذاب والألم. . . وأدرك سر هذه
الخواطر الحزينة الباكية. . . وأحس أنه المتهم، وهو البريء
الذي لم يكفر بهذا الحب، ولم يخل قلبه من ألمه. . . فمد إليها
ذراعيه يخاطبها بهذه القصيدة):
لا تتركي زورقَنا المُجْهَدَا ... يجري به اليأسُ ويمضي العذابْ
لا تُسلمِي مجدافه للردى ... فالشاطئ الموعودُ وشْكَ اقتراب
سّيان أرغى الموجُ أم أزبدا ... لن نحنيَ الرأسَ أمام الصعاب
هذي يدي! مدِّي إليها يدا ... نقتحم النوَء ونطوِ العباب!
نادَي بروحي منكِ روحٌ شرودْ ... لبَّيكِ يا رُبَّانتي الهاتفه
شرائع الناس بهذا الوجودْ ... أعجزُ من أنْ تقهرَ العاطفة
وَددِتُ لو حطَّمتُ هذه القيودْ ... وجئتُ ألقاكِ على العاصفة
يُضيء وجهينا بريق للرعود ... فنثني بالنظرة الخاطفة
وحدِك أنتِ الآن؟ إِنَّا هنا ... روحانِ شبَّا في ظلال الكفاحْ
شراعُنا الخفّاق لن يَسْكُنَا ... لليأس مهما مَزْقَتْهُ الرياح
ونجمُنَا ما زال طلْقَ السَّنَى ... يُطالع الأفْقَ ويَلْقَى البطاح
إذا الغواشي السُّودُ مرَّتْ بنا ... ألَقى لنا الضوَء َوَمَّد الجناح
حُبُّكِ رُبَّانُ الهدى والسلامْ ... ما لان للأخطار أو أذعنا
لا تَنْزِعِي من قبضتيهِ الزمام ... ولا يَرُعْ قلبكِ هذا الضنى
كم ثار نوءٌ وتدجَّى ظلام ... وهذه أنتِ وهذا أنا
إنّا بلونا الهولَ باسم الغرام ... جنباً لجنبٍ، ورجونا المنى!(598/32)
ثِقِي بملاَّحكِ في المأزقِ ... إني أنا ابن الموج والعاصفاتْ
ألشعَرَاتُ البيضُ في مفرقي ... تُنْبِيكِ عن أياميَ الخاليات
آثارُ عمر مُرعدٍ مُبْرق ... تعصف فيه أروعُ الحادثات
ما كدَّرتْ من روحيَ المشرقِ ... تلك الليالي القُلَّبْ المظلمات
حبيبتي من أيِّ قلبٍ حزينْ ... وأيِّ روحٍ عبقريِّ الألمْ
وأيِّ وادٍ للأسى أو معين ... فجرَّتِ لحناً من أرقِّ النغم؟
وَصَفْتِ فيه زهرة (الْجُوِرجين) ... حارسةَ المْيتِ بوادي العَدَم
وَخِلْنِهَا كالكأس ذات الرنين ... بَّراقةً فيها الردى يبتسِم؟!
بكيتِ بالدمع السخين الذريفْ ... على غرام خِلْتِهِ قد مضى
وأبصرت عيناكِ ظلَّ الخريف ... يُجللُ الأرضَ ويغشىَ الغضا
تخضبُ كفَّاه النضيرَ الوريفَ ... وَرْساً، وتُدْمِي الزنبقَ الأبيضا
وتُخرس الطير بليلٍ شغيف ... يروعُ فيه القلبَ أن ينبضا!
هذا الخريفُ الْجَهُنم تمشي خُطاهْ ... على الربيع الذَّابلِ المحتَضرْ
كآبةٌ تحجبُ أُفْقَ الحياهْ ... سحابةً تخنقُ ضوء القمرْ
أختاهُ! هذا الحبُّ غَضُّ صِباهْ ... أيُّ عذابٍ صاغ هذي الصورْ؟
لم يَبْرجِ الشاطئَ، إنِّي أراهْ ... كعهدهِ في الموعد المنتظر!
كان حديثُ القَدَرِ المبهَم ... مثارَ هذا الخاطر المفزعِ
برغم قلبي: صحتُ لا تُقدمي؟ ... وكان ما كان فلم تسمعي
أشفقتُ أن تَشْقَىْ وأن تألمي ... معي، فناشدتُكِ أن ترجعي
لكنْ أبى الحبُّ فلم تأثم ... وكان أن أَبْقَى، وتَبَقىْ معي!
أكانَ حُلْمَا أم قضاءً دعا؟ ... ماذا يُفيد العاشقين الحذرْ؟
شئنا فلم تقدرْ وعدنا معاً ... يا أختَ روحي ذاك حكم القدرْ!
لم ندَّخِرْ جهداً ولا أدمعاً ... ولا دماً، ما نحن إلاَّ بشرْ!!
ما أمجد الحبَّ وما أروعا ... إذا تحدى العاشقان الخطرْ!
الجبُّ ما زالَ، وهذا سناهُ ... يُلهبُ حتى الشعلةَ الخامدة(598/33)
تذوي الأزاهير وتذوي الشفاه ... وهو ربيعُ الأنفسِ الواجِده
قلوبنا منه تُصيبُ الحياه ... وتستمدُّ منه النَّضْرةَ الخَالدة
إذا أصعناه فوا رحمتاه ... لنا، وبؤسَي لليد الجاحده!
(هو)(598/34)
البريد الأدبي
فكاهات الشعراء
(احتاج الشاعر الأستاذ محمد الأسمر إلى زوج من (كلوتش
الأحذية) فأرسله إليه صديقه الشاعر محمد عبد الغني حسن
مشفوعاً بهذه الأبيات):
إنني مُرْسِل إليك (الكوِتشا) ... وَيدي مِنْ نَدَاك ترَعش رَعشا
ليتني أستطيعُ إهداء نفسٍ ... لم تجدْ في صفاء نفسك خدشا
ما لحرب البَسوسِ عادت ضَروسا ... تبطش اليومَ بالممالك بطشا
عجباً أصبح (الكوتشُ) نفيساً ... بينما المرءُ لا يُساوي قرشا!!
لا تَضْركَ الكُعوب إن هي عزت ... أَنتَ أَعلى (كعباً) وأرفعُ عرشا
يا مُذيب القلوب رقةَ شِعْرٍ ... أوَ لم تخشَ أن تُذيب (الكوتشا)؟!
خفةٌ فيك لم تُتَح (لبهاءٍ) ... وأفانينُ لم تكن (للأعشى)
أنت تمشي على الأديم خفيفاً ... لم تُصِّعر خداً ولم تُعْلْ رمشا!
فلماذا (الكوتش) تطفر فيه ... طائراً في السماء تطلبُ عشا؟
يا خفيف الظلال بين أناسٍ ... يَطَأُون الثرى صخوراً (وديشا)
ما عهدنا عليك في الود زَيْفاً ... ما عرفنا عليكَ في الحب غشا
فلماذا تَزِيفُ كَعْبَ حِذاءٍ ... إنّ كَعْبَ القَنا يُهابُ ويُخشى
فلما قرأها الأستاذ الأسمر رد عليها بهذه الأبيات:
هشَّ قلبي لّما بعثتَ وبشَّا ... بقوا في القريض، بَلْهَ الكوِتشا
ما طلبناهُ للحذاءِ، وحاشا ... بل طلبناه في الأضاحيِّ كبشا
فهو خيرٌ من بعض لحم أراهُ ... يتعشَّى بمن به يتعشَّى
ربَّ لحم إذا الكوتش رآهُ ... قال ماذا أرى وخاف وكشَّا
العُجول المعلَّقات صخورٌ ... علقوها مثل العجاجيل غشّا
كل من كان مثل (دبشة) أمسى ... يَزنُ اليوم للجماهير (دبشا)(598/35)
هذه الحربُ غيَّرت كل شيء ... لم يعد عيشنا كما كان عيشا
فالرغيف اللُّبابُ أصبح طيناً ... والحرير الدِّمقبس أصبح خيشا
ما لهذا الغلاء يزحف كالسَّيْ ... ل ويغشى كالليل ساعةَ يغشى
ليس يُنجيك من بوائقهِ السو ... د اعتصامٌ أو أن تكون المِخَشَّا
نحن غرقى فيه، وحسبُكَ منه ... أن يصير الجنيهُ عشرين قرشا
يا صديقي يا بلبلَ النيل أرسلْ ... تُ بقلبي إليك فاقبله عُشَّا
أيها الشاعر المُرِّبي صُغِ الشع ... ر، وصُغِ فِتيةَ البلاد قُريشا
أنت نعم الشادي، ونعم المربي ... إن عوى جاهلٌ غروراً وطيشا
محمد الأسمر
الجامعات الأربع في وادي النيل
نشرت جريدة الأهرام كلمة للأستاذ منصور جاب الله اقترح فيها ضم كلية غوردون بالخرطوم إلى جامعة فؤاد الأول، أخذاً من خطاب ألقاه سعادة حاكم السودان العام حيث قال إن الكلية ستنتمي إلى إحدى الجامعات الخارجية في الوقت الحاضر.
ونحن نرجو أن يتم هذا الأمر في الوقت الذي تنشأ فيه جامعة أسيوط، فتضم ربوع وادي النيل جامعات أربعاً: جامعة فؤاد الأول في القاهرة، وجامعة فاروق الأول في الإسكندرية، وجامعة محمد علي في أسيوط، وجامعة غوردون في الخرطوم.
ومصر إن طالبت بإزالة القواعد القائمة الآن بينها وبين السودان ليصبحا قطراً واحداً وبلداً واحداً، فليس أقل من أن ندعو إلى ضم كلية غوردون إلى جامعتها الكبرى كخطوة نرجو أن تكون موفقة إن شاء الله.
وإنا لموقنون بأن مصر لن تدخر وسعاً للسعي في إظهار ما تكنه للسودان من ود وعطف عن هذا الطريق الثقافي ولاسيما وقد فتحت (مدرسة فاروق الأول الثانوية المصرية) بالخرطوم أبوابها لأبناء السودان الكرام كي تساعدهم على ارتشاف أفاويق الثقافة من مناهلها الطبيعية.
عبد العزيز جادو(598/36)
تصويب
وقع خطأ مطبعي في مقالي المنشور بالعدد 597 من الرسالة عن (هوستن ستيوارت شمبرلين)، إذ أضيفت إلى المقال فقرة طويلة من مقال آخر لي عن نيتشه عنوانه (سبيل مطروق). ولا ريب أن القراء قد فطنوا إلى أن هذه الفقرة تبدأ بالعبارة الآتية وهي: (بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه. . الخ) إذ لم يرد اسم نيتشه في المقال كله (وهو ينتهي قبل هذه الفقرة).
وبهذه المناسبة أحب أن أقول لذلك الأديب الذي بعث إلي برسالة يسألني فيها عن سبب انقطاعي عن الكتابة في الرسالة عن نيتشه؛ إنني لم أنقطع عن عرض فلسفة نيتشه (فإن لي كتابا بأكمله عن نيتشه وفلسفته) ولكنني لم أجد متسعاً من الوقت لموافاة الرسالة ببعض فصول من هذا الكتاب أعيد كتابتها من جديد، فلذلك تراني أؤثر أن أكتب في موضوع آخر، من أن أعيد النظر فيما سبق لي تدوينه.
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية
ذكرى شوقي وتمثاله
احتفلت وزارة المعارف بذكرى المغفور له (أحمد شوقي بك) في دار ألأوبرا الملكية مساء الجمعة الماضي، فألقى كلمة الافتتاح معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، وأنشد الأستاذ خليل مطران بك قصيدة عصماء، ثم تفضل صاحب الجلالة الملك المعظم بإزاحة الستار عن تمثال نصفي لأمير الشعراء نصب في مدخل دار الأوبرا الملكية
والتمثال من البرنز بالحجم الطبيعي. وهو من صنع الأستاذ إبراهيم جابر. وأول من فكر في إقامة هذا التمثال لأول من وضع الأساس للشعر التمثيلي في المسرح المصري هو الدكتور هيكل باشا سنة 1938، وهو الذي دعا اليوم إلى هذا الاحتفال، لإزاحة الستار عن هذا التمثال.
وبعد ذلك مثلت الفرقة المصرية فصلاً من رواية مصرع (كليوباترة)، وفصلاً من رواية(598/37)
(مجنون ليلى)، ثم فصلاً من رواية (هدى)؛ وكلها من تأليف صاحب الذكرى العظيم
إلى الدكتور زكي مبارك
سلام الله عليك، وبعد قرأت كلمتك الأخيرة المنشورة على صفحات الرسالة تحت عنوان (زكي مبارك وكتاب الله) فلم يقع نظري - مع الأسف - إلا على تجريحك للأستاذ محمد أحمد الغمراوي واتهامه المجرد بأنه يعجز عن فهم كتبك ولا يستطيع هو ولا أشياخه نقدها، وإلا على تعجبك من (ثنائه على نفسه بنشر ما قال أحد مخاطبيه مدحا في قدحه على كتاب النثر الفني). وكنت أنتظر أن أقرأ بدلا من ذلك - أو مع ذلك إذا لم يكن منه بد - تفنيداً علميا للنقد الذي وجهه إليك حتى أستبين ويستبين القراء وجهة نظر الطرف الثاني في الموضوع.
ولما كنت تعنى بمدح أحد مخاطبيه، كلمتي التي عقبت بها على مقاله الرابع عن (فساد الطريقة في كتاب النثر الفني) فإنني أبادر - إنصافا له وبيانا للحقيقة - إلى تنبيهك إلى ما في نسبتك إليه الثناء على نفسه من تجن عليه، فالواقع أنني لم أبعث إليه رأساً بكلمتي حتى يصح أن ينسب إليه إنه نشرها، وإنما وجهتها إليه على صفحات (الرسالة) وهي التي تفضلت بالنشر على عادتها فيما يرد إليها من كلمات (البريد الأدبي). وأتعجب بدوري: كيف يغيب ذلك عنك وأنت الذي توجه وتوجه إليك الرسائل على صفحات الرسالة منذ سنين! كذلك أقرر - في الوقت نفسه - أنني إنما عنيت بالمدح فيما وجهته إلى الأستاذ الغمراوي، آراءه العلمية التي اشتمل عليها نقده والتي تناولت بعضها بالتفنيد، فلا شأن لي بما عدا ذلك؛ ولو انك ضمنت كلمتك الأخيرة شيئاً من هذا، لكانت أيضاً جديرة مني ومن سواي بالإطراء
وبمناسبة تعرضك لنقد الأستاذ الغمراوي بعد طول سكوت، ألا ترى أن النقاش بيني وبينه قد وصل - بعد جوابيه الأول والثاني على نقدي - إلى مرحلة تقتضيك بعدها الأمانة العلمية وواجبك نحو القراء أن تتولى إكماله معه باعتبارك الأصيل، عسى أن يساعد ذلك على جلاء وجه الحق في هذا الموضوع، وبخاصة فيما يتعلق برأي الباقلاني في السجع؟
إبراهيم زكي الدين بدوي(598/38)
كتاب بساتين الفاكهة - إنشاؤها وتعهدها
كان من ثمار النهضة المصرية الحديثة في شتى نواحي الإنتاج الزراعي أن توسع القائمون على سياستها ورعايتها في إنشاء البساتين حتى بلغت مساحتها في الأقاليم المختلفة سبعين ألف فدان. وليس هذا التوسع العظيم في هذا الزمن القصير قائماً على الكم وحده؛ وإنما يقوم كذلك على الكيف باجتلاب الأنواع وأقلمتها وتجربتها، وانتقاء البذور وإكثارها وترقيتها على الطرق العلمية الصحيحة. والفضل في ذلك يرجع إلى جهود الأكفاء من الأساتذة الإحصائيين في كلية الزراعة وقسم البساتين. وفي مقدمة هؤلاء الأفاضل الدكتور محمد بهجت أستاذ فلاحة البساتين في هذه الكلية، وأحد العاملين المخلصين في ذلك القسم، ومؤلف هذا الكتاب القيم الذي نقدمه إلى قرائنا اليوم
اجتمع للأستاذ بهجت من دراسته العالية بمصر، ومن دراسته العليا في كاليفورنيا، ومن اطلاعه الواسع على الكتب والنشرات الحديثة، ومن مشاهداته الكثيرة بمحطات التجارب الزراعية وحدائق الزرع الأهلية، ومن تجاربه الخاصة في قسم البساتين؛ اجتمع له من كل ذلك ما جعله جديراً بتأليف كتابه (بساتين الفاكهة) على نمط لم يتهيأ لأحد من قبله. فقد امتاز هذا الكتاب بمزايا كثيرة نذكر منها: أنه أحاط بكل ما وصل إليه العلم الزراعي في موضوعه إلى يوم الفراغ منه؛ وأنه طبق النظريات العلمية على تربة مصر ومناخها فلم يأخذ بأقوال العلماء وتجاربهم أخذ الناقل أو المقلد؛ وأنه غلب فيه الجهة العملية على الجهة النظرية بناء على مشاهداته واختباراته؛ وأنه توخى في كتابته التبسيط والتسهيل ليكون داني القطوف من الطالب المختص والزارع العادي فيستفيد منه كل قارئ. والكتاب معقود على سبعة أبواب تضمنت أمهات المسائل في هذا العلم، كالمشاتل، وإكثار الفاكهة، والأصول، وإنشاء البساتين، والتسميد، والري، والتقليم. وقد صدره المؤلف بمقدمة تاريخية بليغة ألمت بأطوار فلاحة البساتين في القديم والحديث. فله من ربه خير الجزاء، ومن قرائه أجزل الشكر
مجلة (الثريا) التونسية
بهذا العنوان أصدر جماعة من صفوة الأدباء في تونس مجلة شهرية جامعة تعالج الأدب(598/39)
والتاريخ وتعنى على الأخص بتراجم النابغين من قدامى المغرب، وتشجيع الناشئين من محدثيه.
وهذه كلمة مقتطفة من افتتاحية عددها السابع عن الأدب المغربي:
(يوجد أدب مغربي رائع الصورة، فائق الأسلوب، واضح المعالم، بين الصفة والذات، يستمد وحيه من طبيعة الأرض ومناخها، ويتغذى إلهامه من عوائد أهلها ورجالها، وهذا الأدب المغربي في حاجة إلى من ينصره، وفي افتقار إلى من يدعو إليه ويظهره.
وأحلت الجنوب التونسي والجزائري والمغربي وتخيلها، ومياه أودية الشمال الأفريقي وجبال الأطلس وشواطئ المغرب الواقعة على البحر المتوسط تطبع الأدب المغربي بطابع قوي كما طبعت الفن (المألوف) بطابع ممتاز، وتاريخ الموحدين والمرابطين وتاريخ العرب الذين نزحوا للمغرب يحملون الدين والنور والبلاغة والشعر، وتاريخ العبيديين والعائلات المالكة التي انتشر صيتها واتسع نفوذها، لبنة صالحة لإقامة الهيكل القوي الذي نريد تشييده لتوضيح سبل تفكيرنا، وخصائص ثقافتنا.
والأدباء الذين ألفوا الكتب في العروض ونقد الشعر، وفي الفقه وأحكام التشريع، والشعراء الذين تغنوا بجمال المغرب والأندلس، حريون بأن يكونوا أساتذة لنا نسير على ضوئهم.
والعلماء المغاربة الذين ألفوا في الفلاحة والطب والبيطرة والهندسة ووسعوا آفاق المعرفة في هذه الربوع، وشع نبراسهم في جنوبي إيطاليا وفي جزائر البحر المتوسط يطالبوننا بتخليد ذكرهم، والإشادة بأمرهم، حتى يكونوا قدوة لشبابنا الطموح. . .)
الرصافي وأبو حنيفة
جاء في مقال (حول وحدة الوجود) للأستاذ الرصافي المنشور بالعدد السابق ما نصه:
(حتى أن الإمام أبا حنيفة أجاز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة) مع أن أبا حنيفة الفارسي يقول:
(لو قرأ بغير العربية فأما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل)، كما ورد في ص136 من شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، للعلامة ملا علي القارئ، نقلا عن شارح عقيدة الطحاوي عن الشيخ حافظ الدين النسفي في المنار. فهل عند الأستاذ الرصافي نص يؤيد ما قال؟(598/40)
راشد سليمان
غرام يوم الثلاثاء
ضاق نطاق هذا العدد عن نشر حولية الدكتور زكي مبارك فأرجأناها إلى العدد المقبل(598/41)
العدد 599 - بتاريخ: 25 - 12 - 1944(/)
أسئلة وأجوبة
للأستاذ عباس محمود العقاد
أتلقى بالسرور بعض الرسائل الأدبية التي تشتمل على أسئلة من أصحابها يستطلعون بها الرأي في غرض من أغراض الأدب يقع عليه الخلاف، ويحسن عرضه للقراء من وجهات النظر المتباينة. ومن أمثلة ذلك هذه الأسئلة التي تلقيت بعضها من العراق وبعضها من فلسطين واتفق أصحابها الفضلاء على طلب الإجابة عنها في مجلة الرسالة التي أصبحت كاسمها رسالة من العرب إلى العرب في جميع الأقطار
يقول الأديب الفاضل (عبد الحميد صالح) بالبصرة بعد تمهيد أومأ فيه إلى سابقة هذا البلد الذي عمر زماناً (بأفكار الجاحظ وابتداعات الخليل ومساجلات سيبويه) وغيرهم من العلماء والأدباء:
(. . . إن الأمر يحوطه كثير من اللبس والغموض ويشوبه الاختلاط، وإن الاختلاف فيه هنا بالبصرة قد بلغ حده ولم يرض أحد بأدلة الآخر. والمختلفون اتفقوا على أن يرجعوا إليكم لتقولوا القول الفصل فيه وكلهم من قرائكم على صفحات مجلة الرسالة الحبيبة. وفحواه قول (لاسل آبر كرومبي) في قواعد النقد إن مطالبة الأدب بأن يعلمنا أمراً أو يصلح أخلاقنا تخرج بنا عن فن الأدب، وإن الأدب قد يؤدي كل هذه الأشياء ولكنه لم يكن أدباً لمجرد أدائها)
وبعد أن قال الأديب إنه يدين بنظرية الفن للفن، وإن الأدب كالموسيقى متعة ولذة عاد فقال: (ولكن الذي لا أستطيع أن أفهمه - وهو موضع الخلاف ومدار البحث - هو ما مدى تأثير الأديب في بيئته عملياً؟ إنه يتأثر بالبيئة ولاشك، ولكنه هو هل بغير أحوال الناس ويحور أخلاقهم وينقلهم من طور إلى طور ومن عادة إلى عادة؟ أنا أرى يا سيدي أن الواقع ينقض هذا. فأبو العلاء لم تطبق آراؤه عملياً على كثرة مريديه الذين لازموه. . . والروايات التمثيلية التي تنقد أوضاع الناس أو تحل المشاكل لم نر الناس غيروا ما انتقدوا عليه ولا حلوا مشاكلهم؛ ولكن إنسانية كامنة في أعماق النفس: هي اللذة الفنية؟ وإذن ما مدى تأثير الأدب عملياً؟ إننا نقول إن الشعراء كانوا يبعثون الحماسة في نفوس الثائرين، ولكنني أظن أن الثائرين استعدوا للثورة ثم جاء الأدب يعبر عن عواطفهم، والثورة الفرنسية تهيأت لها(599/1)
أسباب عديدة ثم دفعهم مع عوامل أخرى - الكتاب لا الأدباء - إلى الثورة. . .)
ورأيي الموجز في كلام الأديب البصري أن ما ذكره عن الأدب يصدق على المطالب الإنسانية التي لا اختلاف بين المفكرين على أغراضها وفوائدها
فالناس يختلفون على الأدب هل يطلب للفائدة أو يطلب للمتعة الفنية، ولكنهم لا يختلفون في عمل المصلحين من دعاة الأخلاق أو السياسة أو الدين، بل يتفقون على أن الإصلاح مقصود للفائدة دون مراء، وأن المصلح الذي لا يبغي نفع الأمم بإصلاحه لا يستحق الإصغاء إليه. .: ومع هذا يدعو المصلحون إلى غرض. ويتحقق غيره في الطريق مقصودا أو غير مقصود، وتتبدل المذاهب وللناس أخلاق باقية لا تتبدل، ويتبعهم المعري جيلاً بعد جيل بقوله الخالد المتجدد:
كم وعظ الواعظون منا ... وقام في الأرض أنبياء
وانصرفوا والبلاء باق ... ولم يزل داؤنا العياء
حكم جرى للمليك فينا ... ونحن في الأصل أغبياء
ولكن الإصلاح بعد هذا كله مفيد، والدعوة إليه واجبة، والدنيا تتغير على وجه من الوجوه بعد كل دعوة من دعواته، وإن لم يكن هو الوجه الذي تعمده الدعاة
فليس الأدب بدعاً في هذه الخصلة التي عمت جميع أعمال البشر، ولكنه عمل إنساني يصدق عليه في أمر الوصول إلى غاياته كل ما يصدق على سائر الأعمال
إلا أن الأدب ينفرد بخصلة أخرى تصرفنا بعض الشيء عن النظر إلى الغايات، أو تمنعنا أن نقصر النظر عليها عند البحث في مزاياه
الأدب تعبير
والتعبير تلحظ فيه البواعث قبل أن تلحظ فيه الغايات
لماذا يصرخ المعذب المتألم؟
إنه قد يصرخ فيدركه على الصراخ منقذ أو مساعد على التعذيب والإيلام، ولكنه سواء ظفر بهذا أو ذاك إنما صرخ لباعث في نفسه أو جسده، ولم يصرخ لغاية يتوخاها من إسماع صوته
وقد يسمع صوته فيسعد أو يشقى بانتهائه إلى الآذان، فيتحقق النفع كما يتحقق الضرر غير(599/2)
مقصود
والتعبير وظيفة لا حيلة فيها، لأنه أثر الحالة التي تقوم بالنفس فتدل عليها بما لديها من وسيلة ناطقة أو صامتة
ولكنه مع هذا عمل مفيد لاشك في نفعه، لأن الرجل بعد التعبير غيره قبل التعبير، ومن استطاع أن يعبر استطاع أن يفهم نفسه ويفهم ما يريد، واستطاع أن يجمع إليه من يشعرون مثل شعوره ويريدون مثل مراده، ولكنه لا (يعبر) لأجل هذا ولا يكف عن التعبير إذا امتنع هذا. فكثيرا ما (يعبر) فيجمع من حوله الأعداء ويفرق الأصدقاء
وسؤال السائل: لماذا نعبر؟ كسؤاله لماذا نحس؟ ولماذا نحيا؟ لأن الحياة مظهران لا ينفصلان: تأثير من الخارج إلى الداخل هو الحس، ورد من الداخل إلى الخارج هو التعبير، والكلام في غايته كالكلام في غاية الحياة. وليس للحياة غاية وراءها، لأن وراءها الموت الذي تقف دونه الغايات
قل للأديب (عبر) أيها الأديب ولا تسأله بعد ذلك غاية من وراء تعبيره، وكفى أن يكون هذا التعبير من دلائل الحياة، ولا خير في الحياة بغير دليل
وأعود إلى مثل يطابق الحقيقة هنا كل المطابقة ويعين على فهمها أقرب معونة، وهو مثل الزهرة والثمرة في الشجرة النامية الفائدة كما نفهمها نحن هي الثمرة الناضجة
ولا فائدة للزهرة بهذا المقاس
ولكن الشجرة التي لا تنبت الزهرة تبطل فيها دلائل الحياة، وهي زينة وبهجة إلى جانب هذه الدلالة
ثم يأتي أناس فيعصرون الزهرة عصراً ودواء وشراباً ينعش ويفيد، ولكنها لم تكن زهرة لهذه الفائدة التي جاءت في عرض الطريق
وجملة القول أن الأدب على هذا الاعتبار أصدق من جميع المطالب العقلية التي تحسب من ذخائر الثقافة الإنسانية
لأن البواعث حق والغايات أوهام، ونحن حين نسعى إلى غاية فنحن منخدعون بها قبل الوصول إليها وبعد الوصول إليها. وقد نسعى إلى غاية ونصل إلى غيرها، وقد نصل إلى الغاية التي نريدها فإذا هي هباء لا يساوي مشقة السعي في سبيله(599/3)
أما البواعث فهي حق لا مهرب منه، وهي شيء موجود لا خلاف في وجوده، وهي مصدر التعبير، والتعبير دليل الحياة
فإذا بحثنا عن الأدب فلنبحث عن شيئين لا يعنينا بعدهما مزيد وإن وجد المزيد: أهناك باعث صحيح؟ أهناك تعبير جميل؟ فن وجد الباعث والتعبير فقد أدى الأدب رسالته، ونبقى على الدنيا أن تستفيد منها إن شاءت، وهي تستفيد بمشيئتها وبغير مشيئتها من كل عمل يجري على سنة الحياة
وجاءني من الأديب (داود أحمد العاروري) ببيت المقدس سؤال عنا نحن الشرقيين: ما بال رجالنا يتقاتلون ويخذل بعضهم بعضا حين نرغب في عمل يفيد بلادنا؟ أهو حب الظهور؟ أهو الغرور؟ أهو العناد والجمود؟
والسؤال جديد قديم منذ قال جمال الدين رحمه الله (اتفق الشرقيون على ألا يتفقوا)
أما السبب فقد تكتب فيه المطولات، وقد يوجز في سطور، ونحن في مقام الإيجاز فعسى أن نحصر السبب في كلمات قليلة تدل على مكان العلة وتترك المجال بعد ذلك مفتوحا للطبيب المأمول: طبيب الزمان
إن الخلاف يطول كلما قل الحكيم المسموع
والحكم المسموع بين الرجال العاملين هو تمييز الأمة أو تمييز الرأي العام كما نسميه في الاصطلاح الحديث
فالأمم التي بلغ الرأي العام فيها مبلغ التمييز يخاف المخطئ أن يصر على خطئه فيها، لأنها تقضي عليه
والأمم التي لم تبلغ مبلغ التمييز يطمع المخطئ في تضليلها ولا يخشى المتنازعون فيها عاقبة نزاعهم على الحق أو على الباطل، فيطول أجل النزاع ويصعب الفصل فيه
وسيظل الخلاف دأب الشرقيين ما دام مأمون العاقبة على المختلفين؛ ويظل مأمون العاقبة عليهم ما دام الحكم المسموع قابلاً للتضليل عاجزاً عن التمييز
وكلما صعد سواد الأمة درجة في سلم الإدراك والأخلاق هبط الخلاف درجة بين الزعماء العاملين
وأحسبهم صاعدين، وإن كنا نستبطئ خطواتهم في الصعود(599/4)
واحسبني قد أجبت عن السؤال الثالث قبل أن يكتبه صاحبه الأديب (صلاح حماد) من الناصرة بمساحة فلسطين
فهو يوجه إلي سؤالاً من تلك الأسئلة التي تبدأ (بأيهما) ويجاب عنهما (بكليهما) كما أسلفت في مقال قريب بالرسالة.
وموضع الخلاف بين أدباء الناصرة عن الزوجة: هل يعصمها حبها لرجلها دون خوفها منه، أو تعصمها سطوته ورجولته ثم حبها إياه! وهل إذا وجد الخوف بين اثنين امتنع الحب بينهما؟ أو يمكن الجمع بين الحب والمهابة في آن؟
قال أيهما؛. . . قلنا كلاهما!
وهذا هو الجواب الذي يغني عن إسهاب، ولكننا نضيف إليه أن الخوف قد يوجد مع الحب كما يوجد مع الكراهية:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علي، ولكن ملء عين حبيبها
فالمحب يخاف أن يغضب المحبوب لأنه يحبه ويرجو نفعه، والعدو يخاف عدوه لأنه يتقي الضرر منه. ويختلف الخوفان كما يختلف الحب والعداء
والزوجة يعصمها أن ترهب سطوة زوجها ولا تمنعها الرهبة أن تحبه، لأنها تحبه قوياً مرهوب السطوة، وليس معنى ذلك أن يبطش بها ويسيء اليها، وإنما معناه أن يحسب لغضبه ورضاه حساب
تلك وجهات من النظر تتقابل بين السؤال والجواب، وكل سؤال فيه وجهة فللسائل فيه هداية سبقت هداية المجيب.
عباس محمود العقاد(599/5)
2 - السلم العالمية حلم الأبد
للأستاذ توحيد السلحدار بك
يقول الدكتور الأهواني: (الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة خطوات سريعة جدا (كذا)، هي التي تجعلنا نقول بأن السلم قريبة الآن. ونحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة)
إن مذاهب التاريخ وأنواعه وكتبه كثيرة، فعلى أيها اعتمد الدكتور يا ترى؟ يحسن، على كل حال، تقديم كلمة في التاريخ بوجه عام، قبل النظر في (الشواهد) وفي (تطور الإنسانية) مما اعتمد عليه الدكتور
إن كل قرن يكتب في التاريخ لإحيائه وتجديده. والتواريخ المكتوبة على أحدث وجهات النظر تعتمد على المنطق والفلسفة كي تبين حقيقة ذات شأن تؤخذ، بالنظرة الشاملة، من مشهد الحوادث الإنسانية، وهذا هو التاريخ السامي إلى المرتبة العلمية. على أن تطبيق هذه الطريقة يعرض المؤرخ لتعميمات واهية الأساس، واستنتاجات فطيرة، وإطلاق في الكلام. ولا يقدر سوى القليلين على ترجيح كفة الأمانة، كل الترجيح، في التحليل والحكم؛ وترجيح الضمير والعلم على هوى الآراء المحملة، وجواذب الحاضر السطحية، والتباس الشهادات الناقص تحقيقها. ومما يجب التنبه له، في هذا الباب، عادة التوفيق بين الحوادث المنقضية وبين هم المؤرخ من جهة تأليفه وفنه، أو بينها وبين أذواق عصر من العصور ووجدانيات أهله، ومصالحهم أو بعض المصالح الحزبية. والزمان الحاضر عصر تقدم، لكن يجب الاعتراف بأن الذين بالغوا في الفروض المخاطر بها كثيرون
وهذا ويلز يقول في مقدمة كتابه: (ليس يمكن أن يوجد سلم ولا نجاح مشتركان بغير أساس مشترك من الفكر التاريخية)؛ وتاريخه مكتوب في سبيل هذا الرأي. بين في كتابه مذهب جبون في تاريخ الرومان، ثم قال: (حاولنا أن نعرض الحوادث على صورة أخرى). وقد ذهب الأستاذ جيمو، مترجم الكتاب إلى الفرنسية، في مقدمة ترجمته، إلى أن هذا التاريخ (هو، قبل كل شيء، صنيع كاتب وسع دائرة نظره، فجعل الأمم والمدنيات في مكان الأفراد من كتب الخيال: ومن هنا وقعه التمثيلي في النفس. إن هذا التاريخ - وإن تأسس على أدلة قوية - لينشئ بقدر ما يحدث. . . هو قصص يصف حادثة لم تكن منتظرة، بطلها(599/6)
الإنسان؛ والذين اعتبروا، حتى اليوم، من رجال التاريخ ليسوا فيها سوى المخرجين؛ وما الإمبراطوريات إلا مناظرها؛. . . وسيمة البطولة عند ويلز أن يخدم الإنسان، ويحمل نفسه منفذ الأقدار الذي يحتم على الإنسانية بالتدريج، في جميع المعتركات، اتحاداً في الفكر وفي الإرادة). ولم يوافق على وجهة نظر ويلز في كل الأحوال مع موافقتهم في بعضها: جنبير، الأستاذ بالسربون؛ وديريه، الأستاذ بجامعة رن ودينن، أستاذ الأدب فيها؛ وبول، الأستاذ في المزيم، أي حديقة النبات بباريس؛ ودسو، الأستاذ بمدرسة متحف اللوفر، وإضرابهم ممن ساعدوا المترجم
طال هذا الاستطراد المتعلق بالتاريخ، لكن عذره أن ملاحظة ما فيه تفيد في تقدير (شواهد) الدكتور التاريخية ونظره إلى (تطور الإنسانية)
فهو يقول إن الجماعات انتقلت، بمقتضى الرقي والعمران، من قبائل متناثرة ومدن صغيرة إلى دول وشعوب كبيرة، (وكلما اتسعت الدولة زالت الفوارق في اللغة، والتقاليد، والعادات، والفكر، والدين)
أما التاريخ فيقول إن الدول تتسع ثم تضيق، كما اتسعت الدولة العثمانية ثم ضاقت تركيا، من غير أن تزول تلك الفوارق؛ وكذلك الإمبراطورية النمسوية، وغيرها. واللغات وفروعها عديدة، والشعوب المختلفة لا تعرف غير لغاتها، والراقية تخلص لغاتها مما يهدد كيانها وإن تعلمت بعض اللغات الأجنبية؛ واليابان التي يعرف بعض أهلها اللغة الإنجليزية، مثلا، تحافظ على اليابانية ولا تهمل ثقافتها القومية، والروسيا اتسمت وليست اللغات العديدة فيها بسبيل الوحدة. ومصر التي اتسعت وضاقت، وتدانت أرجاؤها، وكثرت فيها المواصلات والمخالطات، لما تزل بها الفوارق على امتداد القرون بين التقاليد والعادات؛ بله ظواهر الأمور في طبقة محصورة من الآخذين عن الفرنسيين أو الإنجليز أو غيرهم، بل إن ما أخذوا يزيد الفوارق ولا ينتظر أن يعم. وقد تشعبت الأديان الوثنية والكتابية الأصلية، ولم تتوحد أصولها ولا مذاهبها في دولة ولا أمة؛ ولم ينس التاريخ ما وقع بين الكاثوليك والبروتستان؛ والذي أصاب اليهود، في دولة واسعة كألمانيا قد حدث في هذا الزمان. فالقول بزوال هذه الفوارق كلما اتسعت الدولة يشعر بعجلة في التحقيق، والاستنتاج، والتعميم، وإطلاق الكلام(599/7)
ويقول الدكتور: ظهر عامل جديد (سيقلب كيان الإنسانية كلها) و (هو سرعة المواصلات البرية، والبحرية والجوية)
وويلز يقول، في مقدمة كتابه: (أدنت البشر بعضهم من بعض لخيرهم أو لشرهم رسائل مواصلات أسرع). ويقول في كتابه: (لما كان جبون، من نحو قرن ونصف، يهنئ الجمعية اللطيفة في ذلك العصر بخاتمة طور الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى، كان يهمل أكثر من أمارة تبدو لنا اليوم، في ضوء الحوادث، منبئة برجات رهيبة وانفساخات وانفكاكات شديدة. . . كانت الإمبراطورية ضمان سلامة وأمن للعالم. . . إن تقدم الملاحة وبناء السفن، بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، أمكن من سلام بريطاني مقبول عند الجميع، إن نمو الملاحة الجوية والمواصلات البرية قد يرد هذا السلام أمرا تقل الرغبة فيه بقدر ما يكون غير ثابت آمن). ويقول أيضاً: إن نظام الدول العظمى كان بأعلى درجاته (في قريب من الوقت الذي بدأت تظهر فيه القوى الفاكة التي بلغت مبلغا يجعلنا نتساءل قلقين في الساعة الحاضرة (حول 1930): هل ستجلب خراب عالمنا بأسره؟)
ذلك ما يقول واصف (سير الإنسانية العظيم نحو وحدة عالمية). وبواكير الأحوال تدل على أن انقلاب (كيان الإنسانية) سيكون شرا لها، لا خيراً، لأن الغريزة الأساسية الدافعة إلى الكفاح في الحياة والفوارق الطبيعية بين الأفراد والجماعات لم تتغير ولن تتغير
ويقول الدكتور: ستخطو الإنسانية خطوات أخر (يخيل إلينا أنها قريبة الوقوع وهي: وحدة اللغة، ووحدة التقاليد، ووحدة الزي، ووحدة الأساليب في شتى فروع الحياة). ومن آيات هذا الاتجاه (أن تركيا اصطنعت الكتابة بالحروف اللاتينية. . وفي مصر من يريد مثل ذلك)؛ ومنها (محاولة اختراع لغة عالمية سموها. . . اسبرابتو)
وهذه (وحدات) كثيرة أو حجج كأنها واردة لمجرد الاحتجاج، إذ ليس بخفي على الدكتور أن سكان الأرض 1821 مليون، هم ستة أجناس أصلية فروعها أكثر من خمسين؛ وأن لغاتهم ومشتقاتها ألف على التقريب، أصولها الأساسية أحد عشر، ويتفاهم بها الهمجي والمثقف ومن بينها في دركات ودرجات لا تحصى؛ وأن اللغة صور لما في النفس من وجدانيات وأفكار. فكيف تنشأ وحدة النفس والدركات والمدركات فيها حتى تتحقق وحدة اللغة في جميع العالمين، مع ما بينهم من تفاوت طبيعي من الجهتين الحسية والمعنوية،(599/8)
ومن اختلاف الموطن والعيشة والموروث المستقر في أعماق الجسم والنفس، والمكتسب المتنوع تنوع عوامل التطور الباطنية والخارجية. فما (وحدة الأساليب في شتى فروع الحياة) إلا شيء خيالي. وإن جاز أن يتمنى هذه الوحدة وأمثالها آخذ بالظواهر الجزئية القريبة، في عجلة ومبالغة، فالنهج إلى الحقائق البشرية هو النظر في الأسباب الفطرية والعلل الجوهرية. أما الإسبيرانتو فلغة اصطلاحية وضعها زامنهوف الطبيب، اللغوي، الروسي، سنة 1887، تسهيلاً للعلاقات بين الأمم، والمقاطع الأصلية في هذه اللغة مأخوذة من أكثر المقاطع تداولاً في أكثر اللغات شيوعاً؛ وهي تكتب طبقاً للصوت في النطق؛ ونحوها بسيط محصور في ست عشرة قاعدة؛ ومع ذلك، فكم من الخلق ومن القائمين بشؤون الأمم استعملوا هذه اللغة بل عرفوها في السبع والخمسين السنة الماضية؟ كلا، إن حجة الإسبرانتو هي حجة على رأي المحتج بها وليست له. وأما الترك الجادون في إحياء قوميتهم، بإحياء تاريخهم ولغتهم، فلم يصطنعوا الكتابة بالحروف اللاتينية ليهملوا التركية التي يتوخون تصفيتها من الدخيل فيها. ومن أراد من المصريين استعمال هذه الحروف لم يقصد سوى المحافظة على اللغة العربية الصحيحة، أصاب أو لم يصب في اقتراحه. أما وحدة الزي، على فرض أنها قد تتحقق، فإنها تظل شيئاً سطحياً ليس يقوى على تغيير ما هو خاضع للسنن الطبيعية في القلوب والعقول. ولو تحققت هذه الوحدات جميعا لأصبح الناس كالآلات التي تخرج من المصنع على غرار واحد، ولابد من استحالة الفطرة البشرية قبل أن تحصل هذه الوحدة
تبين، فيما تقدم من البحث، ضعف (القوى) و (الأبلغ) من أدلة الدكتور على أن السلام (قريب الأمد). وبقي إنه خرج منها بقوله: (من العوامل القوية في منع الحروب وتحقيق السلام - بعد توحيد العالم على النحو الذي وصفنا وقوعه في المستقبل):
أولاً: إن (العالم يسير الآن نحو خطة جديدة يرمى بها إلى نزع السلاح)
لكن كليمنصو، وهو من علمت، يعترض إذ يقول: (الأخير هو أن تنظر ملهاة (نزع الأسلحة) الزائف في نفس الساعة التي تتسع فيها صناعة هذه الأسلحة اتساعاً جنونياً)
وقال لوي ده لنه، عضو مجمع العلوم الفرنسي، بشأن ما تلا الحرب الماضية من المؤتمرات: (منذ مدة، راجت مؤقتاً مؤتمرات السلام والأحلاف المقدسة. وهذه حال دورية(599/9)
تمتد عادة بقدر بقاء الذكرى الأليمة من حرب أخيرة: افرضه جيلاً. وبما أن من مميزات زماننا عقلية فؤيرة تتخيل أنها اكتشفت العالم، يميل الناس اليوم بوجه عام إلى التسليم بأن هذه الحال نهائية. أرجو أن يشاء الله!) وقد صدق: إذ نشبت الحرب الحاضرة، وهي أشد إيلاماً من الماضية، ولذا بدأ الناس من الآن ينتظرون نزع السلاح ويسلمون بإمكان سلم دائمة
ثانيا: إن العالم الآن (يجري في التعليم على بث روح السلم واعتناق فلسفة السلام)
ثالثا: إن الواقع هو (انتشار التعليم بين سواد الناس، وما يتبع ذلك من رقي عقلي، ونزوع إلى تغليب الحكمة على الشهوة، وحل المشكلات بالعقل لا بالقوة. وكلما ارتفعت عقليات الأفراد صعب قيادهم قيادا أعمى لمصلحة ذوي المطامع)
فهل يجب إذن أن نعتقد أن أفراد الشعب الأماني، مثلاً، لم ينتشر التعليم فيهم، وأن عقليتهم منحطة، ولذا أثر أصحاب المطامع في عقولهم ونفوسهم حتى انقادوا إلى هذه الحرب انقياداً أعمى؟ أو أن هؤلاء الأفراد وزعماءهم سوف يهذبون على (فلسفة السلام) حتى ينسوا أحقادهم القديمة والحديثة على أعدائهم، ويتغلبوا على غرائزهم وشهواتهم فلا يوجد بعد ذلك فيهم أحد يحاول دفعهم إلى حرب، ولا ينقادون انقياداً أعمى ولا بصيراً؟ ومن الذي سيتولى تغذيتهم بهذه الفلسفة؟ هم، من شقاء أنفسهم، أم غيرهم؟ وهل أفلحت الدول التي اقتسمت بولونيا منذ أواخر القرن الثامن عشر في عقليتها ونفسيتها ونزعتها الوطنية جميع الدول في تغذية شعوبها وتهذيبها بفلسفة السلام النظرية؟ وأيها يبدأ مخاطراً بهذا التهذيب؟ وما يكون الحامل على هذه المخاطرة؟ أهو خيفة رزايا الحرب الحديثة، أم مثل أعلى مهلك، أم مقتضيات الاقتصاد وهو الذي يسوق إلى الحرب؟ هذه أسئلة لا نهاية لأمثالها. وقد يغني عن أجوبتها استشهاد طائفة من العلماء وكبار الكتاب:
يقول له دنتك: (يبدو لي أن الحروب بين الأمم لا مناص منها. . . وحين لا توجد حرب أهلية يتباغض المواطنون ويتحاسدون. وهذه الحرب الأهلية الكامنة أليست أمقت الحروب جميعاً؟ وإن تحقق حلم أنصار السلام كان ذلك نهاية الإنسانية في أجل قريب. . . إن حلمهم يعبر عنه يجعل كريمة جداً ومؤثرة جداً: يقولون إن الإنسان المتخلص من هموم الحرب يتمم صنيع العلم العظيم. . . لا أحد يحب العلم أكثر من حبي إياه، لكن لا أحد(599/10)
أيضاً يلاحظ - بأكثر وضوح من ملاحظتي - عجز العلم عن تغيير الإنسان)
ويقول ويلز: (كل ما يفعل الأفراد والأمم هو نتيجة من البواعث الغريزية المؤثرة تأثيراً عكسياً في الأفكار التي نفثتها المحادثة والكتب والصحف ودروس المعلمين في عقل الشعوب. والفرق بين إنسان اليوم وإنسان كرمنيون فرق ضعيف كل الضعف: إن الفرق الأساسي هو في سعته ونوع الحصيلة العقلية التي تكونت على مر خمسمائة وستمائة القرن الفاصلة بين الأول والثاني)
ويقول كليمنصو: (إن الانفعال هو الذي يدفعنا إلى الفعل، وليس القياس (يعني ليس العقل والفكر). . . أليس الذي يفضي بنا إلى أعمال الحياة هو تتابع حركات انفعالية، تحدث عن صواب أو خطأ، ثم يتقدم العقل بعد ذلك لتبرير هذه الأعمال؟)
ويقول جستاف له بون، أو ماكس نردو: (العقل ينشئ العلم، والوجدانيات تسير بالتاريخ). ويقول له دنتك أيضاً: (أن توجد هو أن تكافح، وأن تحيي هو أن تغلب) و (الأنانية هي الإس الوحيد لكل جمعية)
رابعا: (إن تحقيق المساواة لجميع سكان العالم في الحياة المادية، وهو ما يقضي به التطور الذي نشهد آثاره، كفيل بمنع الحرب وإقرار السلام)
والثابت أن المساواة، مادية كانت أو معنوية، مستحيلة في البشر لاختلافهم وتفاوتهم تفاوتاً طبيعياً، جسمياً ونفسياً على ما ذكر آنفا، فليست إلا خيالاً وخرافة. ومفهوم المساواة التي أعلنتها الثورة الفرنسية - مثلا - غير معناها في العقول العامية ومن يظن أن المساواة المزعومة التي تشمل البشر سوف توجد يكون واهماً. وأكبر منه وهماً من يظن أنها ستعم الأرض قاطبة في مستقبل قريب
يقول ده لني أيضاً: (إن النظام المنعوت بالرأسمالية أخذ في التهدم لينتهي، من طريق الدولة الاشتراكية إلى الشيوعية والعبودية. . . وتلك قفزة مخيفة إلى المجهول)
وأخيراً، يقول كليمنصو أيضاً: (إن جدا أعمى يعلق المستقبل، ولا يستطيع العقل التجريبي أن يعد بشيء وراء الرجاء وهذه خسارة يتحملها) و (نحن - على الخير والشر - تحت سيطرة سنن لا تلين. فهل من المؤكد أن عندنا ما نتعاتب فيه؟ ألا يكون أعلى المقدور لنا أن نقتتل ونتحاب في آن؟ إننا نخفف من فظاعة الكفاح بفترات احترام، حتى بتواد بين(599/11)
السر الحية، أليس في ذلك مشابهة قاسية لما نسميه بسلامة طوية عند بني جنسنا سلام الإنسانية؟ بلى. إن هذا السلام الذي في وسعنا أن نهديه إليكم نرغب فيه ونعظ به الناس وصداه يرن في معابدنا، فانظروا ما صنعنا به؛ إن الحرب لا تزال قريبة جدا من حالنا الطبيعية، والسلام لا يزال في أكثر الأحيان نظاما للقسوة؛ وأنتم أنفسكم، يا من تشكون بحق، لا يبقي بعضكم على بعض؛ وارتفاع طاقتنا يجعلنا جميعاً على حال - سارة أو سيئة - نبيد فيها كل ما يقع تحت سلطاننا)
من يدري درس أو لم يدرس علمي النفس والاجتماع كل أولئك الشهود الذين ورد شيء من كلامهم في هذا المقال. لكن إذا كان لعرفانهم قيمة، فلا غرو أن يقول قائل: إن منع الحرب حلم الأبد وبوده لو يكون قريب الأمد. والحق أن السلم العالمية أمنية مثالية، حتى أن فرض جدلاً أنها قد تتحقق في زمان قصي من الأبدية؛ فليس اليوم بد من اعتبارها حلم الأبد.
محمد توحيد السلحدار(599/12)
من سير الرجال
أميران. . .
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
في العصر العباسي الأول كان أميران. . . عاصر أولهما الخليفة المنصور في طفولة الدولة، وعاصر الثاني (المعتصم) في اكتمال شبابها. ولكل منهما في الأمارة حوادث وأخبار
في عصر المنصور بنيت بغداد، وجذب الخليفة إليها أنظار الناس ترغيباً في الإقامة فيها. وقرب إليه الدعاة ممن توسم فيهم نبلة الأصل، وضخامة المجد الموروث.
وكانت اليمن في ذلك الحين محتاجة إلى وال رحب الباع، فسيح الحلم، حسن السياسة، مبسوط اليدين، فلم يجد الخليفة في غير معن بن زائدة طلبته
والأمير معن عريق في النسب، فهو من بني مطر الذين يقول فيهم الشاعر:
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
ولم يكن الأمير معن بخيلاً بعطاء، ولا ضنيناً بمعروف، بل كان يعطي عن سعة، حتى أدهش الناس بعطائه فقصدوه، والمورد العذب يكثر الزحام عليه
والكرم وحده ليس مزية الرجال. ففي الدنيا كرام يقلون أو يكثرون، ولكن مزية الرجل هي الكرم مع المروءة والجود مع الهمة، والعرف مع الأريحية، ومن هنا كانت شهرة معن. ومن هنا كان اسمه في سجل أرباب المروءات
فقد يعطي الكريم اضطراراً، أو مداراة، أو دفعا لمظنة، أو شراء لعرض، ولكن (معنا) كان يعطي للذة العطاء، ولاتصال المعروف، حتى بلغ كرمه إلى عدوه، ووصل نداه إلى خصمه، لأنه يفرق بين المعروف والخصومة
حدثوا عن هذا الأمير إنه كان جالساً وعلى رأسه صاحب شرطته، فإذا براكب مقبل يتهيأ للنزول، فقال معن لرئيس شرطته: ما أحسب الرجل يريد غيري. ثم أشار إلى حاجبه قائلاً: لا تحجب الرجل عني فلعل له حاجة، فنزل الرجل ومثل بين يدي الأمير وأنشد:
أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا(599/13)
فترنحت أعطاف معن، ووصله بناقة فتية وألف دينار وهو لا يعرفه
وقد أجمعت كتب الأدب على هذه الحادثة، وذكرها البغدادي صاحب (تاريخ بغداد) بسندها واحداً عن واحد
ولقد بلغ من مكانة معن في الكرم أن الكرام بعده حاولوا أن يتأثروا في جوده. فهذا الصاحب بن عباد وزير بني بويه، والذي ظهر بعد معن بأكثر من قرنين من الزمان، هذا الصاحب كان يعطي على طريقة معن أو يجود على مذهبه، فقد جاءه شاعر يمدحه، فقال الصاحب: قرأت في أخبار (معن) أن رجلا قال له: ارحمني أيها الأمير. فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير هذا عليه، وقد أمرت لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس. ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناك إياه. . .!
وكان في معن رجولة نادرة، وشهامة عربية عزيزة المثال، فلقد كان منقطعاً إلى الأمويين قبل ذهاب دولتهم، فلما جاء العباسيون خاف منهم، وظل في البلاد مستتراً عنهم حتى لا يقع في أيديهم، وجعل (المنصور) لمن يأتي به مالاً جزيلاً. وظل الرجل ضارباً في الفلاة، هائماً في الأرض حتى لوحته الشمس. وكان يتتبع الحوادث وهو متخف حتى لا تأخذه يد العباسيين، فلما استقام الأمر للمنصور، وكادت الدولة تتمكن، رأى (معن) من حسن السياسة أن ينضم إليهم، ولكنه تمهل في الأمر حتى تحين الفرصة. . .
وجاءته الفرصة سانحة. . . فقد ثار جماعة من خراسان على المنصور، وأرادوا قتله في يوم الهاشمية
وكان عند معن نبأ عن هذه الثورة، فخرج متنكراً، وما زال يقاتل دون المنصور حتى فرق الثائرين، فقال له المنصور: من أنت. . . ويحك؟!
فكشف لثامه في عزة وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين!
(من ذلك الحين اتصل بالعباسيين وانقطع إليهم واستعين به على قضاء الحاجات عندهم، فما رد سائلاً، ولا خيب طالباً
واشتد فضل الرجل، فاشتدت له عداوة الحاسدين وكشح الكاشحين؛ وهم في كل زمان لا تهدأ قلوبهم ولا تخبو نارهم. وكانوا يكثرون القول فيه والخوض في أعماله أمام الخليفة،(599/14)
وهو هو صلابة عود وشدة أسر، لا يبالي بحربهم، بل كان يرد التهم في شهامة وإباء، وعزة وكبرياء. فلقد حدثوا أن المنصور قال له يوما: يا معن! ما أكثر وقوع الناس فيك وفي قومك!! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العرانين تلقاها مجسدة ... ولن ترى للثام الناس حسادا
وفي ذلك الرد من أخلاق الرجال ما فيه. . .
وكان معن على يسار في العيش وبسطة في الرزق، ولهذا ظل بابه مفتوحاً، ولم يمنعه من فتح بابه إلا سنة ضيقة، أو نقص في الأموال والثمرات، فكان يستحي أن يقابل الناس على تلك الحال حتى لا ينكشف نقصه، ويتعلل بالحجاب زماناً حتى يتسع الضيق أو يكثر السويق. . .
أما الأمير الآخر، فهو أبو دلف، وكان معاصراً للخليفة المعتصم. ولقد بلغ عند الخلفاء محلاً عظيماً في الشجاعة وحسن القيام في المشاهد، وهو من (ربيعة) فهو يتفق مع (معن) في كرم الأصل، ولكنه يختلف عنه في الغناء وحسن الصوت!
ويظهر إنه قسم حياته بين الشراب والشجاعة والعطاء، فلا تجد له في كتب الأدب خبراً إلا حول مجلس شراب أو وسط معركة، أو مقسماً على الناس العطاء
وما نهاه الشراب عن مكرمة، ولا عوقه عن مروءة، ولا تأخر به عن معركة، فقد حدثوا عنه إنه كان جالسا يشرب مع جاريته (ظبية)، وعليه ثياب معطرة بالمسك، فجاءه الصريخ معلنا طروق الشراة وانتقاضهم على أطراف عسكره، فلبس درعه ومضى يقاتلهم، ويأسر منهم، ويضرب فيهم، حتى آخر الليل، ثم عاد في الصباح يغني:
ليلتي بالسرادق ... كللت بالمحاسن
وجوار أوانس ... كالظباء الشوادن
بدلت بالممسّكا ... ت أدراع الجواشن
وانقطع إلى أميرينا شاعران من أهل المكانة والقدر، فانقطع إلى معن الشاعر مروان بن أبي حفصة وانقطع إلى أبي دلف الشاعر علي بن جبلة. وكانت مدائح الشاعرين تثير على الأميرين أحقاداً وعداوات، وتخلق لهما مع الخلفاء عقداً ومشكلات، حتى لقد لام الخليفة المنصور الشاعر مروان بن حفصة على مدحه لمعن، والمأمون نفسه كان يحفظه أن يسمع(599/15)
من ابن جبلة مدحاً في أبي دلف، حتى لقد اشتدت به الحفيظة يوماً حين سمع قول هذا الشاعر في ذاك الأمير:
كل من في الأرض من عرب ... بين بادية إلى حضره
مستعير منه مكرمة ... يكتسبها يوم مفتخره
وحق للمأمون أن يغضب، فإن مدح الحكام والوزراء والأمراء جائز على شرط ألا يكون فيه انتقاص للملوك أنفسهم، أو إغفال لشرف أقدارهم
كان أبو دلف أريحياً يهتز للعطاء إذا وهب، ويطرب للشعر إذا سمع، وكان فيه شاعرية فياضة بلغت حد الارتجال في موقف العجلان، وتلك بديهة منه لم تفسدها العجلة ولم تعوزها الأناة، فقد أجاد حتى على حال الارتجال
ولقد كان أروع ما في هذين الأميرين مروءة ونجدة، وشهامة ونخوة. وفي تاريخ الأمة العربية إمارات وأمراء. وهي بلا شك لا تخلو من مواطن كريمة للمثال الكريم. ومن يقلب تاريخ هؤلاء الأمراء يجد فيهم ما يسر ويعجب
وفي نشر محمدة واحدة ما يغني عن المحامد، وفي شاهد واحد ما يجزئ عن مئات الشواهد
محمد عبد الغني حسن(599/16)
ما لزكي مبارك وكتاب الله
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
لقد فقد زكي مبارك كل حق كان له في أن يعرض لكتاب الله سبحانه بفهم أو برأي بعد أن ثبت عليه ما ثبت من إنكاره إعجاز القرآن، وقوله بأن القرآن كتاب محمد، وتعديه هذا وذاك إلى القول بمذهب وحدة الوجود الذي هو في الحقيقة إنكار للخالق بإجلاله في المخلوق، أو بإجلال المخلوق فيه (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً)
إن الذي يعتقد في القرآن عقيدة تضاد عقيدة المسلمين لابد متأثر بما يعتقد حين يعرض للقرآن الكريم يبحث أو يفهم. فالذي يقول مثل زكي مبارك بأن القرآن كلام محمد مضطر أن يحمل القرآن على ما ينتظر أن يقوله بشر في العصر الذي عاش فيه النبي. أما المعاني التي تدل دلالة قاطعة على أن القرآن من عند الله لاستحالتها على العقل البشري في العصر الذي نزل فيه القرآن، فهي عند مثل زكي مبارك ممتنعة عقلاً أن تكون من معاني القرآن. هذا هو السر في إنه دائما يحمل القرآن على ما يظن أن الناس كانوا يفهمونه أو يعتقدونه في العصر الذي عاش فيه رسول الإسلام كما يسعى النبي عليه الصلاة والسلام
حتى الوحي الذي كان ينزل على النبي هو زكي مبارك كهذا الإلهام الذي يزعم إنه يلهمه، أو أن الشعراء والمفكرين يلهمونه، ولو كان إلهاماً أسخف المعاني وأرذلها كما فعل في مقاله الذي قلت إنه عاد فيه إلى التعرض للقرآن بما لا يليق فانتقم الله منه في نفس المقال، وقال هو إنه رجع إلى المقال فلم يجد فيه لفظة واحدة تدل على إنه يخاصم القرآن
ولقد خاصم زكي مبارك القرآن الكريم في موضعين من مقاله ذلك، يصرف النظر عن موضوعه الذي كله خصومة لما جاء به القرآن ودعا إليه
أما الموضع الأول، فحين أنطق روح صاحبته بقولها له:
(لقد أوحينا إليك)؛ ووضعه ذلك هكذا بين أقواس ليدل على إنها كلمات مقتبسات وليست من إنشائه. واستعماله هذه الكلمات في المقام الذي وصف فيه ما كان بينه وبين صاحبته فحة وخصومة للقرآن. إنه يعلم أن (أوحينا إليك) و (لقد أوحينا) كلمات لا توجد في العربية في غير القرآن. إنها من أخص الكلمات القرآنية وأفخمها وأشرفها، لأن ضمير المتكلم فيها هو في القرآن ضمير الجلالة، وضمير المخاطب فيها هو في القرآن ضمير الرسالة.(599/17)
فتصور بعد ما بين الضميرين في الكلم القرآني وفي مقال زكي مبارك يتضح لك مبلغ عداوة هذا الرجل للقرآن.
ذلك هو الموضع الأول الذي تعرض فيه زكي مبارك للقرآن في مقاله. أما الموضع الثاني، فحين أجرى المحاورة الآتية بينه وبين صاحبته التي أراد أن يقنعها بأن الجماد حي، لأن بعض الزلط شكاه شكل الدوم والخيار!
هي: ما رأيك في الآية الكريمة: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)؟
هو: (القرآن يعرض الظواهر التي تعارف عليها الناس لتكون الحجة على القدرة الإلهية أقوى وأوضح. فمن العجيب في نظر من لا يعرف أن تكون البذرة الخرساء أصلاً للدوحة الشماء، وأن تكون البيضة الصغيرة أصلاً لطائر جميل يغرد أو يصيح
وفي جوابه هذا يفرض أن معنى الكلمات الكريمة لا يمكن أن يخرج عما كان يعرفه الناس في ذلك العصر، لأن القرآن عنده إن هو إلا كلام محمد العربي الذي عاش في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلاديين. ومن هنا نسبته الخطأ إلى القرآن الكريم مرات في جوابه هذا: نسب إلى القرآن إنه جارى الناس في تعجبهم مما لا عجب فيه في الحقيقة، ونسب إليه إنه أراد أن يحتج لهم على القدرة الإلهية بما لا حجة فيه في الحقيقة، ونسب إليه إنه جهل جهلهم حين عجب عجبهم من البذرة تخرج منها الشجرة، والبيضة يخرج منها الطائر، لأن هذا كله عجيب عنده في نظر من لا يعرف! أما من يعرف ما يعرفه زكي مبارك من أن الأشياء كلها حية حتى الزلط، فليس خروج الدوح من البذر، ولا الطير من البيض عنده يعجب!
والرجل يفتري في كلامه ذلك ليتوصل إلى إنكار الإعجاز المعنوي لتلك الآية وأشبهها في القرآن الكريم. فلا الناس في ذلك العصر، بل ولا جمهرتهم في هذا العصر يرون عجيباً أن يتحول البذر والبيض إلى نبات وحيوان، لأن ذلك شيء عادي مألوف قد غطت الألفة على موضع العجب منه، وصرفتهم عن تدبر سر القدرة الإلهية فيه. والقرآن الكريم هو الذي عجب الناس من أمثال هذا المألوف، واستلفتهم إلى ما فيه من معجز القدرة الإلهية حين طالبوا النبي بالمعجزات، وأقام منه الدليل العقلي العلمي على إمكان البعث حين أنكروا البعث، ودعا إلى التفكير والبحث عما أودعه متنزل القرآن سبحانه في كل ذلك من أسرار(599/18)
كشف العلم الآن عن بعضها؛ فتجلى بذلك جانب من إعجاز القرآن قامت به حجة الله على من يعلم ويعقل ولو لم يعرف من العربية ما يدرك به الإعجاز اللغوي للقرآن
فالعلماء، لا عوام الناس، هم الذين يعجبون من خروج النبات من البذور، وخروج الحيوان من البيض. يعجبون من ذلك عجباً لا يكاد ينقضي، يحملهم على متابعة البحث عن سر جديد حين يتجلى لهم بالبحث العلمي سر قديم، ولا يتفكرون يسلمهم السر هكذا إلى سر، جيلاً بعد جيل، من غير أن يكون لهم أمل في الإحاطة بكل أسرار الحياة. ثم يجيء زكي مبارك فيزعم أن القرآن يقيم الحجة على الناس بتعجيبهم مما لا عجب فيه إلا في نظر من لا يعرف! حتى إذا قلنا إنه عاد يعرض للقرآن بالجهل وسوء العقيدة والرأي قال: إنه رجع إلى المقال فلم يجد فيه لفظة واحدة تدل على إنه يخاصم القرآن!
محمد أحمد الغمراوي(599/19)
الدستور في شعر شوقي
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
(بقية المنشور في العدد الماضي)
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 6 -
وأية علاقة بين توت عنخ آمون والدستور؟ قد تكون الجمع بين النقيضين: قديم مغرق في القدم يبعث الدهش والعجب، وحديث طريف تمت إليه النهضات بسبب، وقد تكون إخبار توت عنخ بأروع ما جد في مصر بعد تلك الحقب، وقد تكون غير ذلك، ولكنها على أي حال ليست بالعلاقة القوية التي تتداعى لها المعاني وتتوافى الخواطر، فلم يبق إلا أنها نزعة أصيلة في نفس شوقي إلى الدستور يتلمس للتصريح بها معارض القول، فيشيد بفضل الدستور في هداية الأمم وحياتها.
يحدث شوقي توت عنخ في شماتة بدثور حكم الفرد، وغبور عهد الظلم، ويفخر عليه بأنه في عصر الشورى والحرية وسلطان الرأي العام على الرعاة والحكام، وكأنما هجس في قلب شوقي أن توت عنخ قد يجد في خضوع الملوك لشعوبهم غضاضة أو انتقاصاً من سلطتهم وأبهتهم، فبدره بأن الملك فؤاد أجل منه في قلوب شعبه المتمتع بالدستور؛ على إنه أشرف بنعمة الإسلام.
وكأنه وازن مجد مصر في عهد توت عنخ واتساع ملكها ومناعتها وبأسها بحالها في عهد فؤاد، فرجح الدستور وحده ما مضى، وانه لشرف للدستور أن يرجح عند الموازنة، وشرف للملك فؤاد أن يفوق في المفاضلة والمقارنة.
وينتقل إلى أثر الدستور في إعزاز الرعاة والرعية، فيبين في فخامة وضخامة وجلال أن قوة الملوك وسلطانهم وحبهم، إنما يكفلها الحكم النيابي وحده لهم، وأنه لا استقلال لمصر ما لم يمضه الدستور وحكم الشورى، لأنه يجمع رواد الأمة وزعماءها في ناد واحد يتحاجون ويقترحون ويراقبون، وإذا لم ينعقد مجلس النواب فقلوبهم شتى، نجد الحوادث وهم يلهثون، وأمور مصر فوضى وإن وليها الخلفاء الراشدون(599/20)
لا عاصم لمصر إلا دستورها، تصلح به ما فسد من أمورها، وإن شوقي لصنع بارع الحيلة في مطالبة الملك فؤاد بالتعجيل به، وفي بيان آثاره وفضائله، فهو النور يهدي الضالين، والمصباح يستضيء به المصلحون فيبعثون من الكهوف الجهال الغافلين، وهم يعدون بالملايين يرسفون في قيودهم، وينقادون لأفراد يحكمونهم طاغين، وليس مثله في علاج هؤلاء الزمني إلا معجزة سيدنا عيسى، فنوره سيشع على الجهلة عمي القلوب فيبصرون ويعلمون، ويده الرقيقة القوية ستحطم قيود المتخلفين فينهضون ويعدون، وأنه للحق والعدل والدواء الوحيد.
هاهنا جلال الفكرة، وجلال الأداء، وتأثيره، وطرافة الخيال، وهاهنا قلب الشعب يخفق، ولسانه ينطق، ويده تصفق، ومن أدلى من شوقي بذلك كله؟؟
زمان الفرد يا فرعون ولى ... ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ... على حكم البرية نازلينا
فؤاد أجل بالدستور دنيا ... واشرف منك بالإسلام دينا
بني (الدار) التي لا عز إلا ... على جنباتها للمالكينا
ولا استقلال إلا في ذراها ... لمتبوع ولا للتابعينا
ترى الأحزاب ما لم يدخلوها ... على جد الحوادث لاعبينا
وإن فقدت فأمر القوم فوضى ... وإن وليته أيدى (الراشدينا)
إذا سارت به أيد شمالا ... أتت أيد فسرن به يمينا
فعجل يا ابن إسماعيل عجل ... وهات النور واهد الحائرينا
هو المصباح فأت به وأخرج ... من الكهف السواد الغافلينا
ملايين تجر الجهل قيداً ... وتسحب بالقليل المطلقينا
فداو به البصائر فهو عيسى ... وفك براحتيه المقعدينا
ومن ير دونه حقاً فإني ... أراه وحده الحق المبينا
وفي قصيدة أخرى بعنوان توت عنخ والبرلمان يتجلى اعتزازه بالحكم النيابي، وكفالته بأن تسود مصر ويحكمها بنوها، وكأنه يلمح دعاوى خصومها بأنها لم تبلغ بعد رشدها، فليست جديرة بالدستور والبرلمان فيرد عليهم في حماسة وثقة بالشعب وسلامة عنصره وجدارته(599/21)
بالدستور والبرلمان.
وتنطق أبياته ببهجته بافتتاح البرلمان يوم المهرجان، وقد احتفى به الشعب من شيب وشبان وعقائل وفتيات، وتهادى موكب الملك فؤاد علي الريحان، تخطر العظمة في ركبه، ومن كفؤاد في عظمته وعظمة آبائه؟ وانه ليقيم في دار الندوة مجد مصر، ويؤسس الشورى ويوطد دعائمها، ويسوس بها هذا الجيل السعيد، وليس أدل على عظمة فؤاد وعلى سخائه من تنازله عن سلطته لشعبه الوفي.
مصر الفتاة بلغت أشدها ... وأثبت الدم الزكي رشدها
ولعبت على الجبال وحدها ... وجربت إرخاءها وشدها
وبعثت للبرلمان جندها ... وحشدها للمهرجان حشدها
حدت إليه شيبها ومردها ... وأبرزت كعابها وخودها
ونثرت فوق الطريق وردها ... واستقبات فؤادها ووفدها
موثلها وكهفها وردّها ... وابن الذين قوموا مقدها
وألقوا بعد انفراط عقدها ... وجعلوا صحراء ليبيا حدها
وبسطوا على الحجاز أيدها ... وسيروا العاتي فيه عبدها
حتى أتى الدار التي أعدها ... لمصر تبني في ذراها مجدها
فثبت الشورى وشد عقدها ... وقلد الجيل السعيد عهدها
سلطته إلى بنينا ردها
- 7 -
ولما ائتلفت الأحزاب صاغ قصيدته (البرلمان) فكرر الاطمئنان إلى الدستور وأنه أمان من طغيان الفرد، وعهده ظليل جميل، وهو الكفيل لكل مجد أن يجني ثمار جده، ولقد كسبته مصر بجدها لم تنله عفواً أو يوهب لها وهباً، فقد جالد رجالها بسلاحهم في الثورة العرابية فسجلوا جدارتهم بالحياة الراقية والحرية، وجاهد أبناؤها في الثورة الحديثة فباعوا دماءهم وأرواحهم. فالدستور إذن يقوم على دعامتين: إحداهما ضحايا النضال في التل الكبير، والأخرى شهداء الصيال في الثورة. والدستور عصمة من الهوى، ونواب الأمة حراص على مالها لا يغتنمونه، أعوان لسلطانها لا يستصغرونه، يتساندون في الضراء، ويتعاونون(599/22)
في السراء، ويعالجون الأمور برفق وأناة إذا عصف الجو، وتنمر العدو، أو اصطدم الإصلاح بقديم من التقاليد لا خير فيه فترسو السفينة على شاطئ السلامة وقد سلم ربابنتها وركبها.
وشوقي ليبق في امتداح النواب بهذه الصفات، لأنه يدعوهم لها في معرض المدح بها، وينههم عليها في أسلوب من الأخبار، ومن هنا يزكيهم للشعب، ويحصنهم بوصاياه من وراء ستار.
الحق ابلج والكنانة حرة ... والعز للدستور والإكبار
الأمر شورى لا يعيث مسلط ... فيه ولا يطغي به جبار
عهد من الشورى الظليلة نضرت ... آصاله واخضلت الأسحار
تجني البلاد به ثمار جهودها ... ولكل جهد في الحياة ثمار
بنيان آباء مشوا بسلاحهم ... وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا
فيه من التل المدرج حائط ... ومن المشانق والسجون جدار
أبت التقيد بالهوى وتقيدت ... بالحق أو بالواجب الأحرار
في مجلس لا مال مصر غنيمة ... فيه ولا سلطان مصر صغار
ما للرجال سوى المراشد منهج ... فيه ولا غير الصلاح شعار
يتعاونون كأهل دار زلزلت ... حتى تقر وتطمئن الدار
يجرون بالرفق الأمور وفلكها ... والريح دون الفلك والإعصار
ومع المجدد بالأناة سلامة ... ومع المجدد بالجماح عثار
- 8 -
ولقد عرض للدستور المصري ما يعرض لكل وليد أو لكل جديد، فحورب وأوقف، فماذا كان موقف شوقي نصير الدستور؟ لما ائتلفت الأحزاب سنة 1926 لإنقاذه برئاسة الزعيم الخالد سعد سجل شوقي هذا الاجتماع الخطير في قصيدته (المؤتمر) فامتدح الحرية ومدح الزعماء ثم خلص إلى أن الله أنعم على مصر بائتلاف أقطابها، وفيهم الحول القلب، والصرحة العلنة يكمل بعضهم بعضاً، وهم جميعا أسنادها وأعلامها وأبطالها يشيدون سياج الملك بالدستور لا بالقنا والسيوف.(599/23)
وبرع شوقي غاية البراعة فعبر في جلال وروعة إنه لا جلال ولا جمال لتاج لا تلتمع فيه جواهر الدستور وإن شرق بنوادر الماس وروائع الدر. ومن ذا الذي يقرأ له هذا البيت فلا يشعر بالجلال؟ ومن ذا الذي يقرأ هذا البيت ثم يجحد أن الشاعر كلف بالدستور أيما كلف؟؟ ثم يأسف أن عطل الدستور وأقفر ناديه وطيرت عنه بلابله، ويصف في حسرة هذا التعطيل، وبشاعة إغلاق البرلمان حصن الحق كما يسميه، فثكناته في شوق إلى أبطالها وكماتها، ومقاعد النواب مهجورة ومنبره معطل، وإنه لموحش قد نسج العنكبوت به بيوته، ويشبه حاله إذن بغار ثور حين اختبأ فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه صديقه فنسج العنكبوت على بابه، ولعله يريد أن الغار حمى الرسول والإسلام، وأن البرلمان سيحمي الحق والعدل والشورى، وإلا فلا وجه للمشابهة بين هذا وذياك.
الله ألف للبلاد صدورها ... من كل داهية وكل صُراح
وزراء مملكة دعائم دولة ... أعلام مؤتمر أسود صباح
يبنون بالدستور حائط ملكهم ... لا بالصفاح ولا على الأرماح
وجواهر التيجان ما لم تتخذ ... من معدن الدستور غير صحاح
احتل حصن الحق غير جنوده ... وتكاليف أيد على المفتاح
ضحت على أبطالها ثكناته ... واستوحشت لكماتها النزَّاح
هجرت أرائكه وعطل عوده ... وخلا من الغادين والرواح
وعلاه نسج العنكبوت فزاده ... كالغار من شرف وسمت صلاح
- 9 -
وقبيل 15 مارس سنة 1924 يوم افتتاح البرلمان الأول أقام نادي المعلمين حفلا ألقيت فيه قصيدة لشوقي عرض فيها للدستور كعادته، فيوم افتتاح البرلمان غرة في تاريخ مصر، وهو في الأيام عيدها، وسيتفيأ المصريون بظلال الدستور ويسعدون، وإذ كان في حفل تكريم المعلمين العلم دعامة من دعائم الملك فقد رجا النواب ألا يضنوا على التعليم بالمال، ويبارك للشبان أن جهادهم أثمر وأينع:
مصر إذا راجعت أيامها ... لم تلق للثبت العظيم مثيلا
البرلمان غدا يمد رواقه ... ظلا على الوادي السعيد ظليلا(599/24)
نرجو إذا التعليم حرك شجوه ... ألا يكون على البلاد بخيلا
قل للشباب اليوم بروك غرسكم ... دنت القطوف وذللت تذليلا
- 10 -
وبعد فنختم دعواته إلى الدستور وضرورته وآثاره بأبيات من تحيته للنسر المصري المرحوم محمد صدقي حين قدم طائرا من برلين إلى القاهرة سنة 1930 يدعوه فيها أن يحلق فوق قبة البرلمان السامقة المسموكة للفصل في مشكلات مصر، يتنافس النواب والشيوخ هناك ذائدين عن الحق كالبنيان المرصوص
قف تأمل من علو قبة ... رفعت للفصل والرأي الصراح
نزل النواب فيها فتية ... في جناح وشيوخا في جناح
حملوا الحق وقاموا دونه ... كرعيل الخيل أو صف الرماح
ثم في رثاء المرحوم أبى هيف بك يسر إليه حديث الائتلاف، ويختم الحديث والقصيدة بقوله لسعد:
أخرج لأبناء الحضارة مجلساً ... يبقى على اسمك في العصور ثناء
ويقول في رثاء سعد:
أو لم يكتب لها دستورها ... بالدم الحر ويرفع منتداها؟؟
وفي رثاء إسماعيل باشا أباظة يقول:
إذا سلم الدستور هان الذي مضى ... وهان من الأحداث ما كان آتيا
ألا كل ذنب لليالي لأجله ... سد لنا عليه صفحنا والتناسيا
- 11 -
ولقد كنا نحمد شوقي لو أنه استمسك بالدستور واستعصم ثم استكفى، وبحسبنا منه الإثارة والتوجيه، ولكنه مع ذلك أرشد الشعب إلى واجبه في اختيار نوابه، السفراء برأيه، المعبرين عن رغباته، الناظرين بلسانه، الذائدين عن كرامته وحريته وسلطانه، فليحسن الشعب اصطفاءهم، وليحذر عوامل الخديعة ومضلة الاختيار.
فلا يؤثر الثراء أو الجاه، ولا يبيع التزكية بمال، ولا يتخدر بخلابة الخطابة، أو يتأثر(599/25)
بسحر الوعود الكذابة، وضمان ذلك أن ينشر الناخبون أمام عيونهم صفحات المرشحين للنيابة عنهم فيشرفو بالنيابة ذوي الجهاد والخلق والفضل والعلم ونزاهة النفس وعفة اليد والاعتزاز بكرامتهم وكرامة مصر سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، وجهاء أم من صميم الشعب، ومن العار عليهم أن يبعثوا إلى دار النيابة تماثيل من حجر أو من خشب، لها حسبان في العدة، ولا أثر لها في رخاء أو شدة، وإذا كان الدستور قد استنقذ من بين أنياب الاحتلال فإن الإنجليز يرصدون على الشعب هفواته، ويحصون على كل نائب زلاته، فليدقق الشعب في الاختيار، وليفقه النواب تبعة هذا الفخار،
أيها الشعب لقد صر ... ت من المجلس قابا
فكن الحر اختيارا ... وكن الحر انتخابا
إن للقوم لعْينا ... ليس تألوك ارتقابا
فتوقع أن يقولوا ... من عن العمال نابا
ليس بالأمر جديراً ... كل من ألقى خطابا
أو سخا بالمال أو قد ... م جاهاً وانتسابا
أو رأى أمية فاخ ... تلب الجهل اختلابا
فتخير كل من شَبَّ ... على الصدق وشابا
وفي قصيدة مشروع 28 فبراير يكرر هذا النصح، وبين وظيفة البرلمان وخطره:
قل للكنانة قول الصدق من مَلكٍ ... مؤيد بالهدى لا ينطق الكذبا
دار النيابة قد صفت أرائكها ... لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
اليوم يا قوم إذ تبنون مجلسكم ... تبنون للعقب الأيام والحقبا
وإن رضيتم عمرتم ركنه ثقة ... وإن غضبتم تركتم ركنه خربا
وإنما هو سلطان يُدَان له ... إذا تكفل بالأعباء وانتدبا
يقول عنكم ويقضي غير متهم ... العهد ما قال والميثاق ما كتبا
وفي قصيدته (العلم) يقول:
ناشدتكم تلك الدماء زكية ... لا تبعثوا للبرلمان جهولا
فليسألن عن الأرائك سائل ... أحملن فضلا أم حملن فضولا(599/26)
إن أنت أطلعت الممثل ناقصاً ... لم نلق عند كماله التمثيلا
فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا ... لأولى البصائر منهم التفضيلا
إن المقصر قد يحول ولن ترى ... لجهالة الطبع الغبي محيلا
ويختم قصيدته (الأزهر) بهذه الصيحة:
دار النيابة هُيئت درجاتها ... فليرق في الدرج الذوائب والذرا
الصارخون إذا أسيء إلى الحمى ... والزائرون إذا أغير على الشرى
لا الجاهلون العاجزون ولا الألى ... يمشون في ذهب القيود تبخترا
نضر الله ذكراك يا شوقي، وكتب لك الخلود، فلقد كنت كما قلت:
وإني لغريد هذى البطاح ... تغدي جناها وسلسالها
ترى مصر كعبة أشعاره ... وكل معلقة قالها
أدار النسيب إلى حبها ... وولى المدائح إجلالها
احمد محمد الحوني
المدرس بالسعيدية الثانوية(599/27)
غرام يوم الثلاثاء
للدكتور زكي مبارك
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
يا ساقيَ الراح هاتِ الراحَ يا ساقي
من نور خديك أو من نار أشواقي
واشربْ رحيقَ الهوى الفضّاح يا ساقي
من نظرتي لك في ساعات إشراقي
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
مضت أسابيع لا ألقاك يا روحي
فكيف أنتَ رعاك الحبُّ يا روحي؟
مصرُ الجديدةُ مأوى حبنا الروحي
فارجعْ إليها نعشْ روحاً إلى روحِ
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
أمرٌ عرفناهُ أن الجافيَ الهاجرْ
قد يغتدي وهو روحٌ جامدُ غادرْ
الصبر عني نذيرُ الغدرِ يا هاجرْ
أعوذ بالحب وهو المالك الآمرْ
من أن يخيب رجائي فيك يا ساحرْ
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
عهدُ الهوى البكر عهدكْ
وطالع السعد وعدكْ
متى أراكْ؟
وداري حماكْ
أنا من نواكْ
مفطورُ الفؤادْ(599/28)
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
عهدُ الهوَى البكر هل تنساه يا هاجرْ؟
عهدُ الهوَى البكر هل تنساه يا غادِرْ؟
عهدُ الهوَى البكر هل تنساه يا قاهرْ؟
يا هاجرْ، يا غادرْ، يا قاهرْ، يا كافرْ
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
مصرُ الجديدةُ أيام الثلاثاء
كانت ملاعبَ أوطاري وأهوائي
يا فاطر الحبّ في يوم الثلاثاء
متى يعود لنا يومُ الثلاثاء؟
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
لِمن وفاؤك بعدي أيها الغادرْ؟
إن رُمتَ غيري فأنت الغانم الخاسرْ
حُبي هو الحبُّ وهو الغالب القاهر
فانُدبْ نَعيمكَ بعدي أيها الغادر
مصر الجديدة أيامَ الثلاثاء
تشكو اغترابي أيامَ الثلاثاء
يا ليلْ، آه يا ليلْ
يا ليلْ، آه يا ليلْ
شربتُ دمعي فلا كأسُ ولا ساقي
مضى نديمي وخلاني لأشواقي
يا ساقي الراح هات الدمعَ يا ساقي
دمعي هو الراح فاسقينيه يا ساقي
دمعي دمٌ فترفقْ أيها الساقي
آه، واه - آه، واه - آه، واه!!!(599/29)
بَعد الغناء الحزينْ
وهذه الآهاتْ
وبَعد لذع الحنينْ
وهذه الواهات
يقول طيفُ الخيالْ
بلحن ذاك الغزال
ما هذه النارُ تذكيها بأشعاركْ
لولا غِناؤكَ ما خُلدت في ناركْ
إذن أُغني!
ماذا نغني؟
إني أقول:
من أي بدع فُطرتَ
من أي سحر خُلقتَ
الزهرُ وحيُ دلالكْ
والشعر وحيْ جمالك
لا أظلمُ الأقدارْ
إن الهوى والنارْ
من بدْع سحرك أنتَ
تمضي أسابيعُ لا ألقاكَ، ما أسفي ... على حياةٍ بلا لُقياك ظلماء؟
تمضي أسابيعُ لا ألقاكَ، ما أملي ... من عيشةٍ أنت عنها باعدٌ نائي؟
يقول هذا الليل
ماذا يقول الليل؟
يقول إني أحبك
يقول إني أحبك
يقول إني أحبك(599/30)
يا أجمل الناس، أين الناس، ُ قد تعِبَتْ ... روحي من البحث عن مَعْناك في الناسِ
يا قاتلاً بالوفاءْ
ماذا يريد الوفاءْ
إغدِرْ، ودَعني أعيش
قتلي حرامٌ عليك
إغدِرْ، ودَعني أعيش
قتلي حرامٌ عليك
مصرُ الجديدةُ أيامَ الثلاثاء
كانت ملاعبَ أوطاري وأهوائي
يا فاطرَ الحب في يوم الثلاثاء
متى يعود لنا يوم الثلاثاء؟
كان الهوى بغدادْ
أواه من بغداد!
كان الهوى باريس!
أواه من باريس!
مصر الجديدة داري
والحب فيها قراري
لا تنس يا غدارْ
جميلَ هذى الدارْ
فيها اهتصرْتكُ غصناً ناعماً زهراً ... كدوحةِ الوردِ في أيام آذارِ
أحنو عليك
أرنو إليك
حُلوانُ تقصيك عني وهي ظالمةٌ ... مِصر الجديدة تشكو بعدَ حُلوانِ
مصرُ الجديدةُ أنتَ
فَطَرَتها أنتَ أنتَ(599/31)
بروعة الشعر أَمْلِكْ
وأنت باُلحسن تملك
الشعر للحسن عبدٌ ... فارحم إذا شئت عبدَكْ
الحسن بين يديك
إليك أمري إليك
يا شاعراً روحهُ نارٌ مؤججةٌ ... وشعره كالرحيق الصرف وهاجُ
إذن أغني!
ماذا نغني؟
إني أقول:
لروعة الشعر عند الحسن منزلةٌ ... أقوى من الجاه والسلطان والمال
يا ليلْ يا ليلَي يا ليلْ
يا غرامَ الروح والروحُ فداكْ
أين نجوى الحب في عهد الصفاءْ؟
أحرق القلبَ شواظُ من نواكْ
بالهوى قل لي متى يوم اللقاء؟
أين يا روحُ ليال سلفتْ ... وأغاريدكُ يا صداح زادي؟
لا تقل تلك الليالي ذهبتْ ... جُمرها المشبوب باقٍ في فؤادي
آه، آه، آه، آه، آه،!!!!
لم يدنني من أريد
في الحب مما أريد
ماذا تريد؟ ماذا تريد؟
أريد قتل همومي في منابتها ... بجائحاتٍ من الصهباء هوجاء
الكأس بين يديك
الكأس في شفتيك
هات اسقني هاتْ(599/32)
هات اسقني هاتْ
أسقيك إن شئتَ أكواب الثلاثاء ... يا فاطرَ الشعر في يوم الثلاثاء
زكي مبارك(599/33)
فرقة التمثيل
للأستاذ حبيب الزحلاوي
قلت في كلمتي السابقة كل ما يمكن قوله في نقد أعمال المدير الفني لفرقة التمثيل، فليس بالمستغرب أن يدافع الأستاذ زكي طليمات عن نفسه لينقذها من قلم الناقد، بل العجيب أن يندفع إلى الإقرار والاعتراف بأني سجلت عليه الجانب الذي يؤاخذ عليه في منهج الفرقة ولم أذكر الذي يشرفها.
وردي على هذا الاعتراف الصريح أن الجانب المشرف هو الأساس الذي قامت عليه الفرقة، ومن أجله وحده دون سواه تتفق الحكومة من أموال الأمة. والحكومة لم تشمل الفرقة برعايتها كما يتوهم الأستاذ طليمات بل الغرفة هي حكومية بكل معاني الحكومية، فلولا حكوميتها هذه لما التفتنا إليها ولا أضعنا دقيقة واحدة في الكلام عنها، وجعلنا شأنها كشأن الأفلام السينمائية التي تلفقها الشركات الاستغلالية. فالواجب إذن يقضي بأن تكون أعمال هذه المنشأة الحكومية مشرفة لها، أي للأمة التي تحكمها وللقائمين عليها من ممثلين وإداريين بمعدل مائة في المائة لا أقل من ذلك أبداً، لأن الإقلال من هذا المعدل الأساسي، إنما هو انحراف عن الغاية، فكيف إذن لا يكون انتقادي هو الصدق بعينه، والحق الواجب الاستمساك به؟ وكيف أكون مغرضاً في نقدي، أو مغالطاً لقرائي، أو مناهداً للمدير الفني؟
ذكرت من الروايات الملفقة (شهرزاد) و (يوم القيامة) و (كلنا كده) و (سلك مقطوع)؛ وأضيف إلى هذه الترهات المعيبة رواية (قطر الندى) و (شارع البهلوان). فهذه الروايات الست يعترف الأستاذ طليمات بأنها مشينة، ويذكر إلى جانبها روايات (يوليوس) و (منلوف) و (مدرسة الأزواج) و (مرتفاع وذريج) و (قيس ولبنى)، ويدس معهما روايتي (قطر الندى) و (شارع البهلوان) وهي الروايات المشرفة، فإذا قلت إن ست روايات من اثنتي عشرة هي خاسرة ألا تكون كفة أعمال فرقة التمثيل هي الراجحة إلى التهريج والمتجانفة إلى الإثم باسم الحكومة وعلى حساب الشعب؟ وكيف لا أكون عادلاً في نقدي فيما ذهبت إليه في تقرير حقيقة ودفع رزية؟
إن رواية واحدة مما ذكرت تكفي لتلويث الفرقة، فكيف بها ست روايات!!!
أعذر الأستاذ طليمات إذا ذكر هذه الروايات، لأنها درت عليه وعلى الممثلين المال الكثير،(599/34)
واجتذبت الدهماء إلى دار الأوبرا الملكية!!
إن هذا ادعاء عريض لا يدعيه ممثل يحسب أن لا فارق بين الواقع والخيال، والحق والباطل، وأنه لا يتدبر عواقب ما يقول
الفرقة المصرية للتمثيل كما أفهمها، وكما أرادتها الحكومة، مدرسة عالية للأدب الرفيع واللغة الفصحى، تصور الحياة الاجتماعية أو المشهد الحي من مشاهد الحياة الحقيقية، وتضع هذه الصورة ضمن إطار يتناسب وحاجات النفس البشرية والمزاج في التلوين والتسلية والتلميح تارة والردع تارة أخرى، توصلاً إلى غاية ثقافية تعلو بالأمة إلى المكانة السامية. وليس من غايتها أبدا أن تنحط إلى مستوى العامة والدهماء، ولا تكون تاجراً من التجار
حبيب الزحلاوي
في قصيدتي منها وإليها
وقع في هاتين القصيدتين أخطاء مطبعية صحتها:
حمرا
والصواب
حرا
هذه العيون
=
هذى
ونستمد منه
=
وتستمد(599/35)
العدد 600 - بتاريخ: 01 - 01 - 1945(/)
الرسالة في عامها الثالث عشر
لاحت في جوانب العالم المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي
الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت رواقد الأماني هنا وتحلب أشداق
المطمع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم كما
وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد - ومن طباع العالم العربي
الذي يؤمن بانقطاع الوحي إلا يعمل إلا بوحي - فوفد إلى القاهرة وفود
الدول العربية خفافاً وثقالا، واخذوا ينظرون في الصورة التي تكون
عليها الوحدة، وفي الألوان التي تتألف منها الصورة. ولا يزال أقطاب
(الجامعة العربية) يديرون الرأي فيما بينهم استعداداً لجمع (المؤتمر)
وعقد (الميثاق)
وذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصعدوا به وعملوا له. وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع، والتاريخ المشترك، فتجلي في المجمع اللغوي، وفي التعاون الثقافي، وفي مؤتمر الأطباء، ومؤتمر المحامين، وفي مهرجان أبي العلاء، وفي مؤتمر النساء، وفي بعوث الأقطار العربية في معاهد مصر العلمية، وفي الدعوات والرحلات، وفي الكتب والمجلات، وفي الأصوات المتجاوبة تزأر بالدفاع عن فلسطين المهددة، وفي الجماعات المتزاورة تتساقي المودة حيناً على النيل وحيناً على بردى وحيناً على دجلة
تلك وحدة الروح والهوى، لا خلاف فيها على زعامة، لأن زعيمها الخالد بالإجماع محمد. ولا خوف منها على استقلال، لأنها كدين الله لا تعرف الحدود ولا تقبل الحصر. ولا مثار لعصبية، لأنها كعروبة الإسلام لا تفرق بين أحد من الناس لدين أو جنس. والرسالة تحمد الله وتشكره على أن وفقها في سنيها الثلاث عشرة لتكون جندياً صادق البأس خالص العقيدة من جنود هذه الوحدة. وكان الرجاء أن تصدق نبوءة المتنبئين بانطفاء هذه الحرب في عامنا الذاهب، لتستعيد الأرض قرارها المطمئن، وتستأنف الحياة سيرها الأمن، وتستقبل(600/1)
الرسالة عامها الجديد وهي على حال من القوة والفتوة والجدة توافق هذا الجهاد وتطابق هذه السن. ولكن الشياطين ما برحوا يحتلون مختبرات العلماء ومكاتب الزعماء ورءوس القادة. وراس الشيطان كنفس الإنسان لا يسبر غورها ولا يحد مداها، فإذا خبت نار، ذكت نار، وإذا سكن إعصار ثار إعصار، وكلما أنكشف سر تلاحقت أسرار. فالخطة تنسخ الخطة، والعدة ترفد العدة، والاختراع يتبع الاختراع. وليس يعرف لهذه القوى الجبارة أمداً تخور عنده إلا الخبير القدير الذي شاء أن يطامن من كبرياء الإنسان ويكسر من غروره، فسلط هواه العارم على عقله القاصر ثم وكله إلى نفسه، فاعتل ادراكه، واختل توازنه، وأنطلق في ضراوة الوحش، ورعونة العاصفة، يدمر ما عمر، وينقض ما أبرم، ويقتل ما ولد!
ليست هذه الحروب مقصورة على جهاتها المادية بين الجيوش المتحاربة في أوربا واسيا إنما هي زلزلة اجتماعية عامة هزت كل وطن، وبلبلت كل نفس، وزعزعت كل نظام، فمن لم يجدها في جيشه أو على أرضه وجدها في نفسه وفكرة وعقيدته وأحزابه وتقاليده ونظمه. والأسلحة والوسائل تختلف باختلاف البواعث النفسية في كل محارب؛ فقد تكون، إذا تحركت في الجماعة حوافز السمو ونوازع الكمال، ثورة على قيد يعوق نهضتها، أو على حكم يلغي إرادتها
وقد تكون، إذا اضطربت في قرارة هذه الجماعة كدورة الطين وشهوات البهيم، اعتداء على حرم الناس بالدس والسباب، أو بالسرقة وإلاغتصاب، أو بالغدر والحيلة؛ أو تمرداً على الأوضاع الطبيعية، فيرغب الفقير الكسول في ثروة الغنى المجد، ويتشوف العاجز الكل إلى منصب القادر الكفء، وتطلب المرأة الخرقاء مساواة الرجل في الحق دون الواجب.
ستنطفئ ثائرة هذه الحرب في وقت ما؛ وستأتي نتائجها بالطبع منطقية مع أسبابها التي بعثها على صورة من هذه الصور. فأما الذين أنفقوا فيها من أنفسهم وأموالهم، في سبيل أمجادهم وأمالهم، فسيجدون الكمال في هذا النقص، والحياة في هذا الموت، كالشعر يغزر ويقوى بالقص، وكالشجر يغلط ويرف بالتقليم. وعقبي مثل هذه الحرب على الغالب والمغلوب وثبة إلى الرقي الإنساني والعمراني يفتتح بها عصر ويبدأ تاريخ الإنشاء
وأما الذين أنفقوا من فضائلهم وأخلاقهم، في سبيل مناصبهم وأرزاقهم، فقد خسروا كل شيء خسروا ما لا كفاء له ولا عوض منه، وربحوا ما لا بقاء له ولا فضل فيه وهل تغني المادة(600/2)
ذا ذهبت الروح، أو تحيا الأمة إذا مات الخلق؟
لقد نجا العالم العربي من حرب الإنسان التي تهدم لتجدد، وتقلم لتثقف، وتبيد لتزيد، فهل نجا من حرب الحيوان التي تقتل لتأكل، وتغلب لتلذ، وتغصب لتحتكر؟ أنك يا سيدي أبصر من أن بصر. والنتن يتم على وجوده، والشر يدل على نفسه. ومن لا يرى يسمع. ومن لا يسمع يشم. ومن أعوزه الدليل في نفسه وجده في غيره. فليت شعري ماذا أعد سادتنا وزعماؤنا للسلم التي تعقب هذه الحرب؟ أن أقطاب العالم الثلاثة قد استعدوا من اليوم لتعمير ما أندثر من المدن، وتجديد ما رث من النظم، فهل يستطيع أقطابنا الثلاثون أن يستعدوا لتعمير ما خرب من الضمائر، وتجديد ما رث من الأخلاق وتوثيق ما وهى من العقود؟
احمد حسن الزيات(600/3)
في عيد المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذا قطار فلسطين، يحمل ذكرى البلاد التي نحبها، وييمم بنا مهوى أفئدتنا، ومثار أشواقنا من بلدان وجماعات طالما حننا إليها، وسعدنا برؤيتها، ورددنا الفكر بين ماضيها وحاضرها، ووجهنا العزائم والآمال إلى مستقبلها. وأن حز في نفوسنا الألم لها فأنه الألم الذي يحفز الهمم، ويمضي العزائم، ويعد العدد، ويجمع الكلمة، ويؤلف القلوب، ويؤكد الآمال
وهذه قناة السويس تسيل مع مائها العبر، ويجري التاريخ، ويزخر الحاضر بما عبرها من الجنود والخطوب. وليس هنا مجال الحديث عنها. ليس بها من جديد إلا جسر من حديد جمع عبريها ليمر القطار بركابه لا ينتقلون من قطار إلى آخر، ولا يشق عليهم العبور بأمتعتهم ليلاً على معديات القناة. ووقف القطار على القنطرة الشرقية وقفته لجوازات السفر وما يتصل بها.
ثم سار حين كاد ينتصف الليل في بيدائه، وعبرناها مضطجعين، تجيش بنا هموم لا تنام ولا تنيم. ولاحت فلسطين مع الضحى، والعين تتقرى ما يسر وما يسوء، والفكر يضرب في الماضي والحاضر، ثم يرى مستقبلاً تكفله القلوب المجتمعة والعزائم الموحدة
وبلغ القطار حيفا ظهراً متأخرا عن موعده ساعتين أو ثلاثا. ولم نتلبث بها إلا ريثما أعددنا لاستئناف السفر. وهذه سيارتنا تغور وتنجد، وتتوغل الجبال وتنحدر السفوح، وتقطع الأودية، وتقف عند حدود لم يخلقها الله، ولم يعرفها التاريخ ولم يقرها الحق ولم تقبلها الأوطان ولا الأوطان. . . فلنطو المسافات، ونقتحم العقبات، مسرعين إلى دمشق الجميلة الجليلة أدركنا الليل ونحن نغذ السير على مقربة من دار الأمويين فطمحت الأبصار، وهفت القلوب، وغشى الأنفس ما غشيها من جلال الذكر، ومن الاغتباط والابتهاج بالعود إلى المدينة التي ما دخلتها ولا خرجت منها ولا غبت عنها إلا محبا لها مشتاقاً إليها معجباً بها مفكرا فيها أملاً لها كثير الخير، داعياً لها بما هي أهله من الأمن والرخاء والمجد والعظمة. المدينة التي ما دخلتها ولا أقمت بها إلا منشرح الصدر، قرير العين، على رغم الخطوب والركوب، والتي قلت فيها وقد عاودت الشعر بعد طول العهد، من اجلها:(600/4)
أحيت دمشقُ رميم الشعر في خَلَدي ... لا غرو أن تبعث الأشعار أشعار
أقصر أيها القلم فأني متهم بالعصبية لدمشق، والمغالاة فيها. وما حملتك بناني الآن لتكتب عن دمشق، ولكن عن عيد أبي العلاء المعري
بلغنا دمشق بعد الغروب بساعة ونزلنا عند فندق أمية. وقد تعودت أن أنزل به وذكرته في بعض رحلاتي، فلم نجد به مكاناً فنزلنا بفندق دمشق - وكنا نزلنا به في بعض أسفارنا مع طلاب الجامعة المصرية ونزل رفقاء لنا في غيره. ففخر فريقنا عليهم بأن تسموا بالدمشقيين
ولم يستقر بنا المقام قي الفندق حتى جاء بعض إخواننا المشرفين على مهرجان أبي العلاء، فرأينا وجوها معروفة محببة ألينا. ولا اذكر أسماء خوفا من التطويل أن ذكرتها كلها والعتاب أن ذكرت بعضها. وأصبحنا في دمشق يوم الجمعة خامس شوال سنة 1363 وقد بقى المهرجان ثلاثة أيام، واجتمعنا هذا اليوم نحن جماعة من علماء الشام وأدبائها أعضاء المجمع العلمي العربي في دار المجمع، وهي المدرسة الاشرفية التي بناها الملك الأشرف الأيوبي.
وكان العمل يسرع في صحنها لتشارك في حفلات أبي العلاء، ولكن وافي المهرجان ولما يفرغ من الترميم. وجلسنا مع رئيس المجمع وبعض أعضائه حينا. وقدم ألينا من مطبوعات المجمع: كتاب التبصر بالتجارة لأبي عثمان الجاحظ. صححه وعلق عليه السيد حسن حسني عبد الوهاب التونسي
تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة لأبى المنصور الجواليقي.
صححه وعلق عليه الأستاذ عز الدين التنوخي
ديوان الوليد بن يزيد جمعه المستشرق الإيطالي جبريالي وكتب مقدمته الأستاذ خليل مردم بك
بحر العوام فيها أصاب فيه العوام لحمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي نشره الأستاذ عز الدين التنوخي
الجزء الثامن من جامع التواريخ للتنوخي
وعدنا إلى دار المجمع مرة أخرى بعد أيام، فزرت ضريح الملك الأشرف، وقد اتخذ حجرة(600/5)
الضريح خزانة كتب. ثم خرجنا إلى البناء المقابل وهو المدرسة الظاهرية التي بناها الملك الظاهر بيرس، وزرنا القبة التي فيها قبره، ووراينا فيها بدائع النقش والفسيفساء فيها. وقد جعلت هي وحجرة متصلة بها خزانتان لبعض كتب المكتبة الظاهرية. ورأينا حول قبر الظاهر طائفة من الكتب المكتوبة بأيدي علماء معروفين فرأينا سلسلة من خطوط كبار علمائنا في عصور متطاولة. منها:
مسائل احمد بن حنبل بخط الذهبي
كتاب بخط سبط ابن الجوزي
أنباء الغمر لابن حجة بخطه
كتاب بخط ابن تيمية
كتاب بخط ابن الفوطى
كتاب بخط ابن عبد الهادي
كتاب بخط ابن عساكر
كتاب بخط الغزي
كما ورأينا كتبا أخرى قديمة نفيسة
وأمضينا سحابة يوم السبت قي الربوة دعانا إليها اثنان من كرام تلاميذنا: الدكتور اسعد طلس والأستاذ شكري فيصل، فاجتمع هناك الأساتذة طه الراوي ممثل العراق في مهرجان المعري، والأساتذة احمد امين، وعبد الحميد العبادي، واحمد الشايب ممثلو جامعة فؤاد الإنسان وجامعة فاروق، والمجمع اللغوي
والربوة مكان جميل نزه يحار فيه الطرف والفكر بين ماء يجري على السفح، وآخر في بطن الوادي وآخر في العدوة الأخرى وآخر فوقه. هناك تجري شعب سبع من هذا النهر المبارك العجيب نهر بردى، في القمم والسفوح وبطن الوادي واصلها واحد
والماء هناك تتجلى به الحياة قوة وبهجة وزينة ولعباً، يسقط من السماء على السفح شلإلا، ويجري على السفوح وفي الوادي أنهاراً، ويستسر تحت الشجر والعشب، يومض بينها أحيانا ويختفي، ويفجؤك منبجساً من صخراً أو صاعداً من نافورة، أو سائلاً من جدار، وتسمع خريره أحيانا ووسوسته حيث لا تراه. فما تزال بين الفكر والنظر والسرور(600/6)
والتعجب والمرح والوجوم. ولا تدعك هذه المرائي الجميلة العجيبة تفلت من بهجتها إلى التفكير فيما يحزنك من هموم العيش، ولا يخليك الجمال والجلال من نظر سادر، وخيال حائر، ووجوم سار ولذة يشوبها حزن.
ولا يمكنك هذا الجريان الذي هو أشبه بالزمان أن تحس مضي الوقت. ولا ينبهك طول الزمن من التمادي مع هذا الجريان وما احسبني جلست على هذه الربوة فقدرت الجلوس بالطول والقصر، والساعات والدقائق، ولكنها أفكار متوالية، ونظرات متمادية، وصور متتابعة، لا يدري الإنسان بينها أهو في فراغ الأمريكي أم في شغل، وفي تفكير أم في غفلة، وفي جد وفي لهو، يدعوه صحبه إلى الكلام أو القيام فيتكلم مشغولاً بها، ويقوم وملء عينيه التلفت إليها، وفي جوانحه الحنين إلى معاودتها. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(600/7)
دراسة اللغة العربية وآدابها
للدكتور محمد مندور
لا أستطيع أن أصور للقارئ مبلغ دهشتي عند ما وصلت إلى باريس وسألت في السربون عن لسانس الأدب الفرنسي فاخبر أن هذا شيء لا وجود له. فأنت لا تستطيع أن تحصل من الجامعات الفرنسية على ليسانس في آدابهم وإنما هناك شيء اسمه ليسانس الكلاسيكي، وهو يتكون من أربع شهادات عليا كل منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولك أن تبدأ بالتقدم لأيها شئت وفي أي سنة تريد بعد تمضيتك للسنة الأولى بالجامعة. وهذه الشهادات هي: اللغة اليونانية القديمة وآدابها، وشهادة اللغة اللاتينية وآدابها، وشهادة اللغة الفرنسية وآدابها، وأخيرا شهادة فقه هذه اللغات النحوي وإذن فلا يستطيع أن ينال ليسانس، أي إجازة التدريس في الأدب إلا من يعرف اللغتين اليونانية واللاتينية وفقههما اللغوي، وذلك إلى جوار اللغة الفرنسية وأدبها وفقهها وفي الجامعة تلقي الدروس والمحاضرات التي تعد لكل من هذه الشهادات، ولك أن تحضر منها ما تريد، وتتقدم إلى الامتحان عند ما تحس أنك قد وصلت إلى المستوى المطلوب وهو مستوى رفيع جداً لا نصل إليه هوناً؛ حتى أن قليلاً جداً من الأجانب من يستطيع أن يجازف فينافس الفرنسيين في هذا الميدان العويص. وذلك لأن الفرنسيين لا يتقدمون إليه إلا بعد إعداد طويل بمدارسهم الثانوية حيث تلك اللغات جميعا دراسة متينة مفصلة. وكاتب هذا المقال يستطيع أن يتحدث عن يقين عن جدية هذه الدراسات وقد تقلمت فيها أظفاره. ولقد يدهش القارئ عندما نخبره أن الامتحان في شهادة الآداب الفرنسية شيء بالغ البساطة في صورته بالغ المشقة في جوهره. فالامتحان التحريري عبارة عن سؤال واحد تعالجه في أربع ساعات، فإذا نجحت تقدمت إلى الامتحان الشفوي أمام ثلاث لجأن: اثنتان منها لقراءة وشرح نصين أحدهما قديم والآخر حديث، وأمام اللجنة الثالثة تسأل في مسألة من نظريات الأدب أو مدارسه أو كتابه. وهم لا يتطلبون منك في التحريري أن تدل على تحصيل فحسب، بل لا بد أن تثبت إلى جانب ذلك مقدرة حقيقية على النقد الشخصي والفهم العميق. ثم لابد فوق كل شيء من أن تملك هبة الأسلوب وجماله، وذلك لإيمانهم أنه لابد أن تكون إلى حد ما أديباً لتصطلح مدرساً للأدب، وعندهم أن الأدب في المجالات التي لا يغنى فيها شيء عن مواهب النفس(600/8)
غادرت مصر بعد أن درست الأدب العربي بجامعتها وعدت إلى مصر فدرست الأدب بجامعتيها، ولقد كنت منذ عودتي شديد التبرم بمناهجنا وطرق فهمنا لآدابنا. ولقد جاهدة في سبيل إصلاحها ما استطعت حتى تركت الجامعة، ولكن تركي لها لن يمنعني أن أواصل الجهاد في خارجها. وذلك لإيماني بأن دراسة الأدب هي المدرسة التي يتخرج منها قادة الرأي قي البلاد. فهي مدرسة الثقافة العامة ومدرسة فن الكتابة وما أريد أن تعترض سبيلنا نزعات مغرضة فنحارب بتعصب لمناهج الغرب التي تكونا بين أحضانها. ولي أمل كبير في أن يولني القارئ الثقة حيث أنني قد بلوت مناهجنا ومناهجهم في نفسي وأطلت فيها التفكير بعد أن استطعت أن استلقي بالحكم؛ ومن واجبنا أن نأخذ الخير حيث نجده
وفي دراستنا للغة العربية وآدابها عيبان كبيران، يشتق على من لم يدرس اللغات والآداب الأخرى أن يدركهما أو يجد لهما علاجاً. ولابد إذا أريد القضاء عليهما من إعداد جيل جديد من الذين تثقفوا بأوربا بالنهوض بتلك المهمة الشاقة، مهمة تدريس اللغة العربية وآدابها، وبغير ذلك لن تكون أي محاولة غير ضجة عميقة، وهذا ورأي يؤمن به من كبار أساتذتنا المصريين استطاع منهم لرحابة عقله وتخلصه من الهوى الشخصي أن يدرك الحقائق في شجاعة ونبل
أما العيب الأول فهو فهم معنى الأدب: فالأدب مقصور عندنا على الشعر والنثر الفني. ومن الملاحظ أن الشعر قد غلبت عليه ابتداء من القرن الثالث الهجري روح المحاكاة حتى أن التجديد فيه لم يعد إلا بمقدار. وأما النثر فأنك إذا قصرته على الفني لم إلا بمحلول ضئيل: خطب ورسائل ومقامات وتوقيعات وأمثال. ولقد كان ظهور النثر المرسل الخالي من الصنعة المتكلفة قصيرا إذ لم يلبث أن طغي البديع ابتداء من القرن الرابع فجرد الكتابة من صدق الإحساس وجوهر الفكر. والإحساس والفكر هما المادة التي إذا خلت منها كتابة فقدت الكثير من قيمتها. ويا ليت الأمر قد وقف عند هذا الحد، فمعنى الأدب حتى على النحو الضيق الذي ذكرنا قد تغير في عصرنا الحاضر، وذلك لأن العرب لم يعرفوا الحقيقة غير الشعر الغنائي والنثر القصير الباع، وأما الأدب المسرحي وأدب القصة ذلك ما لا نستطيع أن نقول على نحو جدي إنهم قد عرفوه. فالبون شاسع بين أنواع الحوار التي خلفوها من أمثال حوار وفود العرب عند كسرى وغيرها وبين المسرحية بالمعنى الحديث.(600/9)
وكذلك الأمر في البون بين أيام العرب وما شابهها من قصص وبين القصة بالمعنى المعروف اليوم. وهنا نحن منذ اتصالنا بالغرب أخذنا القصص والمسرحيات، وهذا يضعنا في موضع فريد بين الأمم، فالجامعات في أوربا لا تتناول عادة بالدراسة الأحياء من الكتاب. وفي فرنسا كلها لا يدرس الأدب المعاصر فيما أعلم، ولا تعطي عن دراسته درجة علمية إلا في جامعة استراسبورج، وأما السربون فتقف مناهجها عند أواخر القرن التاسع عشر. ولو أننا في مصر حذونا حذوهم كما نفعل الآن لكان موقفنا عجيباً. فسيخرج الطالب وهو لا يعرف عن أدب القصة وأدب المسرحية، وأصولهما ونقدهما شيئاً. ومعنى ذلك هو أن جامعة لن تساعد على خلق بيئة أدبية ورأي عام أدبي، ينمو فيهما أدبنا الحديث، ويتجه وجهه جدية تساير تيارات الأدب العالمي، وتدخلنا في ثناياه. وأمعن من ذلك في الدلالة ما نلاحظه من أن الشعر الغنائي، بل وكافة أنواع اشعر حتى المسرحي منه اخذ في التقهقر أمام النثر في كافة بقاع العالم حتى لأذكر أنه لم يعد في فرنسا كلها غير مجلة واحدة متخصصة في الشعر هي (اجدرازيل) وهي مجلة شهرية. وعلى العكس من ذلك النثر فقد احتل موضع الصدارة. ومن بين فنون النثر كلها اصبح للقصة بأنواعها المكان الأول. ومع ذلك فجامعتنا لا تزال عنايتها بالشعر فوق عنايتها بالنثر، وهذا أمر يفسر ما ذكرنا من قصرها لمعنى النثر على الفن منه. وباستطاعة القارئ أن يتناول أي كتاب في تاريخ أي أدب أجنبي كالأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني وأن يقلب فهرسة ليد فصولا ممتعة عن التاريخ والمؤرخين والفلسفة والفلاسفة، وعن كتاب الأخلاق والاجتماع والباحثين في فلسفة العلوم. ونحن لدينا أمثال هؤلاء: لدينا المؤرخون والفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، وفقهاء التشريع، ورجال الأخلاق والاجتماع. فلماذا لا نوسع من معنى الأدب كما يفعل الغربيون فندخل دراسة هؤلاء الكتاب جميعا في مناهجنا وندرسهم بروح العلم الحديثة وننقد مواضع الضعف عندهم وسبل الكمال على ضوء ما وصل إليه الغرب، وبذلك يخرج طالبنا بمادة فكريه لها قيمتها بدلاً من قصره على الدراسات اللفظية التي نأخذ بها اليوم؟
ولكننا إذا أردنا أن نفهم الأدب بهذا المعنى الواسع وإذا أردنا أن ندخل فيه أدبنا المعاصر الذي نأخذ ألوانه عن الآداب الغربية، تبين عندئذ صدق ما قلناه من قبل من أنه لن يستطيع عندئذ استقلال بتدريسه إلا من ثقف ثقافة الغربية وتشبع بمناهج الغرب على نحو واسع(600/10)
متين
والعيب الثاني قائم في منهج الدراسة فهو لا يزال المنهج التقريري كما عرفته القرون الوسطى مع أن مناهج الدراسة في كافة الجامعات أصبحت المنهج التاريخية ومن واجبنا أن نسلك مسلكهم فنوفر على أنفسنا قرونا من الزمان ولو أننا فعلنا لتغير دراساتنا كلها رأساً على عقب، فالنحو عندئذ لن ندرسه على أساس معايير للصحة والخطأ، فتلك دراسة مكانها في مدرسة الثانوية وإنما نتناوله كتطور تاريخي للغة منذ أصولها السامية إلا أنها انتهت اليوم باللهجات العامية، وهذه دراسة لا تعرف الخطأ والصواب وإنما تعرف التحول الطبيعي الخاضع لاعتبارات عضوية واجتماعية ونفسية. والبلاغة علم سنحذفه أصلا من برامجنا كما حذفته جميع الجامعات وتحل محلها دراسة الأساليب وتاريخ تكوينها والتميز بين اتجاهات الكتاب المختلفين وتحديد خصائصهم الروحية باعتبار أن الأسلوب صورة لملكات الرجل لا وسيلة من وسائل الأداء اللفظي فحسب. . .
وسوف نفطن عندئذ إلى شيء لم نسمع بوجوده بعد في جامعتنا وهو تاريخ اللغة، ففي كل الجامعات تجد كراسي لأساتذة كبار مضطلعون بهذه المهمة الشاقة وقد أتيح لي أن اتبع سنوات دراسة الأستاذ فرديناد برينو لتاريخ اللغة الفرنسية بالسربون. وكم كان يشجيني أن أستمع إلى هذا الشيخ الجليل وهو يقص تاريخ لغته، فإذا به يكشف لنا بهذا التاريخ عن العقلية الفرنسية كلها وقد رسبت على طول القرون في مفردات اللغة وتراكيبها ولقد كان يخيل إلى عندئذ أن هذا الرجل لا يلقي إلينا بعلم، وإنما يقص ذكريات حياته الخاصة، وذلك لطول معاشرته لتلك اللغة وإلفه لها ولقد أودع الرجل - رحمه الله - محصول عمره فيما يقرب من عشرين مجلداً في كل مجلد ما يقرب من ألف صفحة من القطع الكبير، واجمع الفرنسيون على أن هذا الشيخ الوقور قد أقام لفرنسا بكتابة هذا عن (تاريخ اللغة الفرنسية) تمثال مجد لن يفنى أبد السنين. وكم كان رائعاً يوم وفاته أن تحمل جثته إلى ساحة السربون ويأتي الوزراء ورجال الدولة ومعهم فصائل من الجيش وموسيقاه ليحيوا رفاته الطاهرة في مشهد وطني رسمي كان من أكبر ما اثر في نفسي إذ كشف عن عظمة هذه الشعوب التي كيف تقدس الفكر البشري.
والمنهج التاريخي كما سيجدد تدريسنا للغة، سيجدد أيضاً تدريسنا للأدب، فللأدب كما نريد(600/11)
أن نفهمه هو مستودع الحضارة، وما أظن أننا نستطيع أن نفهم الحضارة العربية فهما صحيحا ما لم نكشف عن أصولها ومصادرها الإنسان ولك أن تقلب الرأي كيفما شئت فستنتهي إلى نتيجة حتمية هي أن الثقافة العربية مزيج من عناصر ثلاثة: العنصر العبري، والعنصر الفارسي، والعنصر اليوناني. ففي القرآن وفي الإسلام مالا يحصى من مبادئ التوراة وقصص التوراة وأصول التوراة التشريعية، وفي الحضارة العباسية الكثير من وسائل الحياة الفارسية ببذخها المادية، بل وتياراتها الأخلاقية والفكرية في بعض الأحايين، وأما اليونان فأظن أن تأثيرهم في الفلسفة الإسلامية والمنطق الإسلامي وعلم الكلام بل وفي العلوم اللغوية كالنحو والبلاغة وغيرها أوضح من أن يذكر.
والآن لو وسعنا من معنى الأدب وزدنا من عنايتنا بالنثر وأدخلنا في دراستنا إلى جوار الأدب القديم الأدب المعاصر، ولو أصلحنا مناهجنا فجعلناها تاريخية كيف تظن أننا نستطيع عملياً أن ننظم تلك الدراسة. أليس من الخير لنا أن نأخذ بالنظام الفرنسي فلا نقيد دراسة الأدب العربي بسنين بل نجعله شهادات يحضر الطلبة ما يريدون منه، حتى إذا أحسوا بنضوجهم تقدموا إلى الامتحان! ونوع هذه الشهادات أمرها واضح فهي لا يمكن أن تكون أن تكون إلا: 1 - شهادة اللغة العبرية وآدابها. 2 - شهادة اللغة الفارسية وآدابها. 3 - شهادة اللغة اليونانية وآدابها. 4 - شهادة اللغة العربية وآدابها. وبذلك يخرج الطالب مثقفاً ثقافة حقيقية تمكنه من أن يفهم التراث العربي فهما صحيحاً وأن يستطيع مقارنته بغيره من الآداب. .
ومن البين أنه يجب أن يصلح نظام التعليم في المدارس الثانوية بحيث توجد به فروع تعد إعداداً صحيحاً لهذا النوع من الدراسة الجامعية بحيث الطالب ولديه العناصر الأساسية لمواصلة دراسته.
ولست أجهل ما في مثل هذه الدراسة من مشقة، ولك الأوربيين يعالجون مثلها في دراسة آدابهم اللاتينية واليونانية، ولقد تغلبوا على تلك الصعوبات، فلماذا يقعد بنا نحن الكسل عن مواجهة الطرق الجدية والسير في السبل الصحيحة؟
محمد مندور
المحامي(600/12)
الحياة صادقة!
العدل الإلهي!
مقدمات لإدراكه واليقين به
(مهداة إلى العقاد الكبير بمناسبة مقاله (تبارك رزاق البرايا))
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 - لاشك أن (العقل) هو المميز والخصوصية الأولى للإنسان، فواجبه أن يثق به ويقيم حياته جميعها عليه، وهو محاسب عليه اشد الحساب. لأنه ميزان الحساب في كل شيء وهو الذي وطد الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان الآن، واليه يرجع كثير مما في الحياة الإنسانية من اثر الرفاهة والسعادة والخدمة المشتركة بين الناس، فلماذا لا يصمم الإنسان على إلا يحيد عنه حتى يرتاح دائماً؟
ولماذا لا يعرف أن عقله روح من العقل الأعلى الذي يدير الكون بالتدبير والدقة والاطراد وعدم الإخلال بشيء؟
إن الغرائز يجب أن تكون ملجمة بحدوده حتى يتأنى تقدم الإنسان دائما وعدم ارتداده وانتكاسه
وعقلنا هو نتيجة تلاقي المؤثرات المختلفة التي في الطبيعة على كياننا، فيجب أن يكون تلاقي هذه المؤثرات موزونا بنسب معينة تقريباً من جميع الجهات، حتى يخرج العقل منسوقاً موزونا. . . فإذا صار لشيء من الطبيعة زيادة تأثير على ناحية من كياننا، كان في هذا اختلال لمركز التجمع الفكري العام.
ومهمة التربية والتنشئة أن توازن بين تسلط هذه المؤثرات الطبيعية جميعها على الإنسان، فلا تجعل مؤثرا أو عددا من المؤثرات يطغي أو يستأثر بالتسلط عليه، بينما المؤثرات الأخرى تكون معطلة
فأنسأن الصحراء وحدها قد خضع لمؤثراتها وحدها، فله عقل معين؛ وإنسان المزارع وحدها متأثر بها وحدها، فله عقل آخر. وإنسان المدن الصناعية له عقل ثالث. وهلم جرا
وإنسان الفن وحده له عقل معين، وإنسان العلم وحده له عقل آخر، وإنسان الأعمال(600/14)
التجارية له عقل ثالث وهلم جرا.
فلكي نتحاشى أن تكون الفروق بين العقول فروقاً فاحشة بحيث لا يمكن تلاقيها الإنسان يجب أن نجعل الفرد تتقلب عليه شتى المؤثرات وتتداول فكره، حتى تكون أثارها فيه بنسب موزونة تعطيه سعة النظر إلى الحياة وتقدير آفاقها جميعاً
وأني لأعجب للدولة الواحدة التي افرادها، وبينهم من التفاوت في النشأة العلمية الاقتصادية والخلقية ما لا يمكن أن يتصور معه لقاء منهم على شيء!
فكيف يتصور هؤلاء الأفراد الأوزاع المشتتون الذين لا رابطة تجمعهم معاني العدالة الإلهية أو الإنسانية؟!
لاشك أنهم معذورون إذا لم يستطيعوا أن يتصوروا تلك المعاني الكلية الجامعة التي تحتاج إلى إعداد وتهذيب وتمرين خاص لإدراكها
2 - وأول نظرة يدركها العقل الذي يتعرف وجهات الحياة والاعتراف بجميع الأمم والشعوب، المتحرر من التأثر بالمخلفات ومواريث التاريخ، توحي أن الإنسانية أسرة واحدة، وأن الأرض وطن واحد لهذه الأسرة
وثاني نظرة توحي أن الله وضع الإنسان في الأرض موضعاً عظيماً هو موضع السيد المتصرف، على الأقل في الظاهر
وثالث نظرة توحي أن الله أطلق للإنسان قدرة وأعطاه اختياراً لتكييف حياته كما يشاء. .
ورابع نظرة توحي أنه يكاد لا يكون في الطبيعة فساد ولا آلام تجعل وجه الحياة كريها مشوها، لا يعاشر إلا على غضاضة ومضاضة إلا بفعل الإنسان الذي نسبة الشرور التي يرسلها هو على الحياة وعلى بني جنسه اعظم بكثير من الشرور التي من الطبيعة مباشرة كالبراكين والزلازل والطوفان والصواعق. . . الخ، وخصوصا في هذا العصر الراهن. . . ومن المشاهد المعروف أن الإنسان لا يضيق صدره بقضاء الله وقدره المباشر، ولا يثور غضبه وحقده، ويتحول إلى عامل دمار وخسار إلا في مقاومة الاعتداء والشر الإنساني الذي يأتيه من الناس، لأنه يجد نفسه في قدرة على دفاعهم والانتقام منهم، فيقدم على ذلك ليرضى حزازات نفسه. أما شرور الطبيعة، فيتألم منها، ولكن لا يثور عليها، لأنه لا يملك أن يثور عليها، فهو يجد أن احسن وسيلة للقائها هو الصبر والاحتمال ومحاولة مقاومتها(600/15)
بادراك أسباب الوقاية أو المعالجة
فإذا أردت أن (تحاكم) الله، وتعرف واجبه الذي فرضه على نفسه، فلا تنظر نظرة ضيقة متأثرة بالأنانية الشخصية أو القومية. . . لا تنظر إليه من مكانك أنت في أمتك ولا من مكان أمتك في الأمم، بل أنظر إليه وأنت تمثل الإنسانية الواحدة الهائلة. . .
ثم إذا أردت أن تنظر إلى الإنسانية في الأرض، فأنظر إليها من السماء نظرة الله. . . أنك حينئذ تراها هكذا: أسرة واحدة منوعة أفرادا وجماعات وأمماً. . كل جماعة استأثرت بمكان ومنعت غيرها عنه. وكان اقتسام الأمكنة غير عادل فأخذت أمة السهول الممرعة ونالت أخرى الأجادب، فزاغت عيون المحرومين وجاءوا إلى الضروريات فلم يلب لهم رجاء، ولم يخف المترفون الأغنياء لنجدتهم، فهاجموا وقاتلوا واستولوا وأذلوا وصار بعضهم بموج في بعض. .
وحقيقة الحقائق الاقتصادية التي يجب أن تقوم عليها فلسفة الحياة المادية، أن ما في الأرض من خيراتها ومناجمها وموارد الأرزاق كاف لجميع سكانها. . ذلك أمر تولى الله تقديره وتدبيره (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها).
كان الواجب العقلي المجرد من الغرائز أن يسرع المتخوم بإسعاف المرحوم، وأن يقتسم معه ما عن كمالياته، وأن تقوم حكومة عادلة تتولى ذلك. . فأن الأرض كلها ميراث للإنسانية كلها كما يرى الله وكما قدر ودبر. . .
3 - وعقيدتي أن كل ظلم واقع على المستضعفين فمسئوليته أمام الله واقعة على كاهل الأمم القوية، وكل أمة جاهلة مسئولية جهلها واقعة علة الأمم العالمة. . وكل أمة فقيرة مسئولية فقرها واقعة على الأمم الغنية. فالله تعالى ترك القاصرين منا للراشدين، كما يترك الأب أولاده الصغار لرعاية الكبار. . ذلك قياس العقل الإنساني وذلك منطقة قي الأسرة الواحدة. فلم لا يكون قياسنا في الأمة الواحدة، ثم في الأمم المتعددة؟!
ولذلك كانت النفس العربية في أول نهضتها برسالتها تحس ذلك الإحساس المتمثل في قول رسول الله: (كلكم راع وكلكم مسئول).
وقول أبي بكر: (لو أن عقال بعير ضاع بالعراق لحسبت أني مسئول عنه أمام الله).
وقول عمر حينما رأى شيخاً قبطياً يسأل الناس على باب مسجد (لقد أضعناك صغيراً ولم(600/16)
نكفك كبيراً) وأجرى عليه رزقا يكفيه. .
وقد قام العرب أول الأمر بمقتضيات هذا. فكانوا يعتقدون أنهم مسئولون عن إصلاح الناس جميعاً، ورعاة لهم جميعاً. . فتنقلوا كالسحب لا يبحثون عن الأمكنة الخصبة للاستعمار، بل يبحثون عن عباد الله الإرشاد والإنقاذ والتعليم، فكان أحدهم يخرج من جنات الشام والعراق ومصر إلى صحاري الشرق والغرب يبحث عن النفوس الضالة والعقول الشاردة. . فلما ركنوا إلى المكث في الرياض وتركوا الهجرة لمثلهم الأعلى وفقدوا التبشير به قبل دخول الناس في دينهم إذ وجدوهم مثلهم. . تجار دنيا. .
4 - أن العقل إذا أهمل ضلت الإنسانية وتحولت أسباب حسناتها إلى سيئات. . والمسئول عن ذلك ليس الله، بل الإنسان في مجموعه، ولم يخل عصر من العصور التاريخية من إمبراطورية عظيمة كانت تسيطر على اغلب مقدرات الأمم، وتستطيع أن تقيم العدالة بينها لو أرادت، ولكن الأنانية والجهل وعدم الانتباه إلى مسئولية الأخلاق في الأرض هي التي ملأت الأرض بالظلم والفساد. .
والدليل على ذلك أن الإنجليز مثلا أو الجرمان أو الروس البلاشفة أو الأمريكان حين أقاموا دولهم على الشعور بالوصاية العامة وتوزيع العدالة بالتساوي ارتفعت نفوس الأفراد وصت لأجسام وسمت عقائد الحياة وتقدم العلم وكفيت حاجات النفوس إلى حد ما. مع أن كل أمة من هؤلاء مكونة من عدد كبير. . بينما أمة صغيرة من الهمج وأشباههم لا يزيد عددها على بضعة آلاف ولا تزيد مساحة بلادها على بضعة أميال، تعيش في فوضى واضطراب وفساد وجهالة وذلك لعدم الإحساس بالمعنى الإنساني في كل فرد، وعدم الإحساس بالوصاية وعدم تدبير الأمر بينهم.
وأن حياة السوء التي تحياها الأمم المتأخرة هي التي تبلبل عقائد المفكرين منا والجهال. وتجعلهم يحملون الله مسئولية ما يقترفون هم. . . . أنهم يعترفون بالأقدار ويحملونها متاعب ومسئولياتهم حين يكونون متأخرين متقاعسين، ولا ينظرون إليها ويعترفون بها حينما يكونون قادرين.
وأنك لو فكرت وقدرت لوجدت أن جرائم القادرين والأغنياء هي التي سببت ملء الأرض بجرائم الفقراء كالسرقة والقتل وحمل أسباب الأمراض وآثار الفقر المدمر. .(600/17)
(للكلام صلة)
عبد المنعم خلاف(600/18)
على هامش النقد:
مليم الأكبر
بحث وقصة. . . عادل كامل
للأستاذ سيد قطب
أيها القارئ!
هذا كتاب يجب أن تقرأه. لا لأنك ستوافق على كل ما جاء فيه. ولكن لأنه سيثير انفعالك بالرضى مرة وبالسخط مرة؛ ولأنه سيدعوك إلى التأمل والتفكير في كثير من القضايا المسلم بها في الأدب والفن والأخلاق والنظم الاجتماعية الاقتصادية، لتنبذها وتحطمها، أو لتذود عنها وتتمسك بها. . .
وأيما كتاب استطاع أن يستجيش انفعالاتك على هذا النحو، فهو كتاب قد وهبت له الحياة، ولو قذفت به في النهاية إلى الجحيم!
وقد كان الكتاب في أول أمره (قصة) تقدم بها الأستاذ (عادل كامل) إلى (المجمع اللغوي) لتنال جائزة معينة، فرأت لجنة المجمع الأدبية لاعتبارات خاصة إلا تمنحها الجائزة. . . ومن هنا نشا (البحث) الذي يرد به المؤلف على هذه الاعتبارات، فيتناول فيه نواحي في اللغة والأدب والفن والأخلاق، لا تقل في قيمتها، ولا فيما تثيره من انفعالات السخط والرضي عن القصة ذاتها
ونحن نؤثر أن نسير في مناقشة هذين الكتابين، حسب وجودهما في عالم الحياة فهذا هو الترتيب الطبيعي للأشياء
قصة (مليم الأكبر) هي قصة الصراع بين الطبقات، مصبوبة في قالب فني. فهي على هذا الوضع من أدب (الوعي الاجتماعي) الذي يدعو إليه جمهور من المفكرين في جميع أنحاء العالم، وتدعو إليه الاشتراكية والشيوعية بشكل خاص!
ولهذا النوع من الأدب قيمته - وبخاصة في هذه الفترة من حياة العالم - ولكن الذي يثير الانتقاد هو غلو الداعين إليه ومبالغتهم في فرضه على جميع الفنانين، بوصفه ضريبة إنسانية على كل فنان. . . هذا الغلو غير مفهوم من الوجهة الفنية - بل من الوجهة(600/19)
الإنسانية - فالإنسانية ليست هي هذا الجيل وليست هي بضمة الأجيال المقبلة. . . إنما هي الأجيال الماضية منذ الأزل، والأجيال المقبلة طول الأبد. وهذه وتلك لا تنكمش في هذا الحيز الضيق، حيز جيل من الأجيال. ثم أن هنالك مطالب الإنسانية التي لا تنحصر في ضرورات الطعام والشراب؛ ولا في حيز الضرورات على الإطلاق؛ وإنما تتطلع إلى آفاق ارفع وارحب؛ وتهفو حتى في اشد حالات الضرورة إلى ألوان من الفن المطلق الرفيع
وإذا صح أن أدب الوعي الاجتماعي ضريبة على كل فنان، فلتكن نسبته هي نسبة الضرائب إلى مجموعة الإيراد! بل ليكن فرض كفاية على الفريق المهيأ له من بين جموع الفنانين، فالتجنيد قد يصلح في كل بيئة إلا بيئة الفنانين!
ثم أبادر إلى تصحيح وهم ربما يكون قد سبق إلى ذهن القارئ حين وصفت هذه القصة بأنها من (أدب الوعي الاجتماعي). . . إن انحصار القصة في هذا الحيز لم يسلبها السمة الفنية الأصيلة. وأن المؤلف ليبدو في قصته هذه صاحب موهبة فنية لا سبيل إلى الشك فيها. موهبة العرض والتنسيق ورسم الملامح والشخصيات، وإدارة الحوادث والمفاجآت. . . فهي من هذه الناحية تستوفي صفات القصة الجيدة على وجه العموم.
ثم هي تحمل طابع مؤلفها بوضوح في نواحي النقص فيها ونواحي الكمال. فالمؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم. وهذا يقرر وجوده الفني في عالم القصة بلا جدال
يعمل المؤلف في جو متماوج مخلخل، جو (الضباب والرماد) فتمر الحوادث والشخصيات والملامح والانفعالات مرا متأرجحاً متماوجاً. وتبدو للعين كما تبدو الناظر وراء الضباب. . . ليست هناك مواقف حاسمة، ولا انفعالات صارمة، ولا حركات عنيفة، ولا ضجات توقظ الإحساس. وحينما تنتهي القصة تحس أنك في حاجة لأن تقراها من جديد لتتثبت من ملامحها التي مرت من قبل مر السحاب! وربما خطر لك أن تسأل، ماذا يريد؟ ثم تتوارى الشخصيات والحوادث لتجد في نفسك انفعالات غامضة متماوجة تثير القلق والتأرجح والاضطراب
. . . يخيل إلى أن هذا كل غرض المؤلف من عمله الفني - أن كان له غرض -: أن يثير القلق الغامض والتأرجح المضطرب، وأن يغمر اليقين الهادئ ويطلق في النفس(600/20)
الإنسانية عنصر الاضطراب ويسلبها الثقة والاطمئنان لأي شيء في الحياة! وما الحوادث والشخصيات إلا أدوات فقط للوصول عن طريقها إلى الهدف الأخير
إنه - من وجهة نظر المذاهب الاجتماعية التي تدعو إليها - يعد ناجحاً إذا هو قد هز في النفس الإنسانية عنصر الاستقرار! فهو إذن من خيرة من يصلون لهذه الدعوة، لا بما يلقيه هنا وهناك من توجيهات ظاهرة، ولا بما يغمز به النظام الاجتماعي والاقتصادي من غمزات موحية. ولكن - قبل ذلك كله - بما يطلقه في النفس الإنسانية من التأرجح المضطرب الذي لا يقر على قرار!
(قال مليم
- بلا جدال. . .
ثم حمل عدته وأنطلق في الطريق دون التفات، وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار كأنه مقدم على فتح عكاء. أما رفيقه فقد وقف يشيعه بابتسامة سآخرة؛ فلما أن صار منه على مرمى حجر، صاح في إثره قائلاً:
- سنرى. . .
وقهقه ضاحكاً ثم انكفأ إلى طريق غير الطريق)
(بلغ النقاش أقصاه بين خالد وأبيه كعادتهما كلما دار بينهما حديث - أي حديث -. ومهما يكن الموضوع تافها، فإنه يتطور على الدوام إلى اصطدام عنيف بين الأب وابنه. أما الأب فداهية مراوغ، يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها، فهو يطيل من النقاش ويدير دفته إلى وجوه من الرأي يعرف أن ابنه يضيق بها ذرعاً، ثم يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدره من ثورة، وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق
(وقد كان. فما لبث أن اربد محيا الفتى، فأنفجر يرد علي تساؤل أبيه قائلا:
- بلا جدال. . .
ثم انثنى إلى حجرة المكتب، وغلق من خلفه الباب، ولو أنتظر لرأى بسمة السعادة الأثيمة ترتسم على شفتي احمد باشا خورشيد، ولسمعه يتمتم قائلاً:
- سنرى)(600/21)
هكذا يبدأ المؤلف قصته فيرسم - منذ الصفحة الأولى - الخطوط الأولى في ملامح هذه الشخصيات الثلاثة التي هي محور القصة جميعا: مليم، خالد، احمد باشا خورشيد؛ ويرسم لهذه الشخصيات الثلاثة طريقها كذلك - لا طابعها وحده - فمليم (ينطلق في طريقه دون التفات وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار) تلك طريقته أيضاً في جميع أدوار القصة! وخالد (يريد محياه ثم ينفجر وهو يرد على أبيه، ثم ينثني إلى حجرة المكتب ويغلق من خلفه الباب) تلك أيضاً طريقته في مستقبل الحياة: انفعال وانفجار ثم انزواء واعتزال، واضطراب دائم بين هذين الخطتين حتى ينتهي الصراع). وخورشيد باشا (داهية مراوغ يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها. . وهو يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدر ولده من ثورة وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق) تلك طبيعته وهذه طريقه في القصة وفي الحياة!
هو استهلال بارع - كما ترى - وهي ريشة ملهمة تضع الخطوط الأولى فتشير إلى الخطوط الأخيرة. . . وقد يبدو أن القصة لم تسر في جميع مراحلها بهذه القوة وبهذا الوضوح. . . فيجب أن نلتفت إلى أن القوة والوضوح ليسا من أهداف المؤلف. . . وأن التموج والاضطراب هما قوام طبيعته وقوام طريقته. وقوام أهدافه المقصودة أو غير المقصودة ولكنا هي التي تتحقق على كل حال!
جعل المؤلف (مليم) هو بطل القصة وبه سماها. أما نحن فنرى (خالد) هو الشخصية الأولى فيها. فخالد شاب نشأ في طبقة الأثرياء - ابن خورشيد باشا - ولكنه سافر إلى إنجلترا وطاف بالبلاد الأوربية حيث كانت المذاهب الاجتماعية الحديثة، تصطرع مع الأوضاع التقليدية القديمة. ثم عاد فوجد نفسه غريبا بين أهله، غريبا كذلك في مجتمعه. أن رأسه محشو بالنظريات الحديثة وإنه لمتحمس لها كل الحماسة. ولكنه لم يكن ذا طبيعة عملية، تنفذ في عالم الواقع ما يجيش في نفسه من نزعات. كان خليطاً عجيباً من رجل الواقع ورجل الخيال. كانت تصطرع في نفسه وراثات مختلفة وتيارات متعارضة. كان صوفياً وشهواناً. كانت نفسه حلبة صراع بين شتى الاتجاهات. (ولو أتيح لأحد أن يكشف عن رأسه لوجد فيها حجرتين إحداهما يتربع فيها القرن العشرين بآلاته ومعادلاته. والثانية يمرح فيها القرن الثامن عشر وسط غابة يخترقها جدول) كما يقول مؤلفه(600/22)
تصطدم هذه الشخصية المخلخلة المضطربة الثائرة الحائرة بشخصية خورشيد باشا القاسية الجاثية الماكرة اللئيمة. ذلك الرجل الذي يجد طعم اللذة الأثيمة وهو يحاور ابنه الطيب القليل الحيلة ويداوره حتى يشعره بآلام والضيق. والذي يتهمه المؤلف بأنه قاتل أبيه ليرثه. وبأنه يشعر بسعادة أثيمة وهو يؤذي فلاحيه ويطلق عليهم كلبه ليعقرهم. . . الخ، أنه نموذج لتلك الطبقة الأنانية الجشعة (التي تسرق أموال الفقراء!) والتي افلح المؤلف في أن نمقتها كل المقت ونزدريها كل الازدراء
يصطدم خالد بابيه انتصارا لمليم (صبي النجار) المتهم من الباشا بالسرقة جزاء أمانته، وهنا نجد جميع القوى مجندة في صف المال. وما إجراءات العدالة إلا مظاهر جوفاء كمراسيم التضحية بالفريسة في مجتمع متوحش. ويسلم مليم للسجن جزاء أمانته!!!
أما مليم فمهمته الحقيقية في القصة أنه محورها الفني. . لقد فهمنا أن المؤلف يريد أن يرمز إلى (رجل الشارع) ذي الفضائل الفطرية والطبيعية المستقيمة والعزيمة العلمية. . . ولكننا فوجئنا وهو ينحرف به في منتصف القصة فيكلفه القيام بعمل لا يقوم به (الرجل الشريف) ثم يجعله في نهايتها أحد أغنياء الحرب المعروفين!
ترى افلت الزمام من يد المؤلف؟ الأمريكي هي طبيعته طبيعة الضباب والرماد؟! هنا تستوي الغلطة والإصابة في الدلالة طبيعة المؤلف وطريقته!
وفي القصة غير هذه الشخصيات الرئيسية الثلاثة شخصيات أصيلة هي الأخرى. أطلق عليها اسم (جماعة القلعة) أولئك جماعة من الحالمين المنحلين. يصنعون كل شيء في أحلامهم الممتزجة بدخان النرجيلة! أنهم ينشئون مجتمعاً جديداً مطلقاً من جميع القيود والتقاليد، ولكن (في المنام)! هذه الجماعة تمثل حيرة فريق من شباب الجيل في مفرق الطريق!
وهنا يجتمع خالد ومليم، فيقوم مليم بعمله الذي لا يقوم به (الرجل الشريف!) يحتال على الرجال باسم (هانيا) الفتاة إحدى شخصيات جماعة القلعة!
ويقوم خالد بدور من أدواره كذلك. حتى إذا انتهت القصة وجدنا هذه الجماعة النحلة الحالمة وقد تفرق شملها ولم تصنع شيئاً. ووجدنا (خالد) يعود إلى طبقته ومجتمعه وقد انحلت نفسه وفرغت طاقتها وسقط صريعاً في حومة الصراع الذي دار في داخل شخصيته أعواما.(600/23)
ووجدنا (مليم) وقد من أغنياء الحرب. . . ثم وجدنا الحوادث والشخصيات كلها تتوارى ليسال كل منا نفسه: ماذا أراد؟ وماذا كان يريد؟ وقبل أن يسال الجواب على سؤاله يجد نفسه تتأرجح وتتماوج في هذا الضباب الذي أطلقه المؤلف، وكأنما يطلقه بغير تدبير!!!
في أحلام (جماعة القلعة)، وفي تصرفات خالد ومليم. وفي حوادث القصة نزوات وفلتات خلقية وجنسية، أخشى أن تكون جميعها وحي مزاج منحرف شاذ!
مقياس الجماعة لصلاحية الفرد للجيل الجديد، إلا يجد غضاضة في معاشرة أخته معاشرة الأزواج! ذلك هو الدليل الذي لا يخطئ على أنه طليق من جميع التقاليد!
أحد أفراد الجماعة ينظر إلى مليم بإعجاب ويقول: إنه (زوجنا) جميعاً!
خالد يتحسر - بعد وفاة أمه - على أنه لم يوقظها بقبلاته كل صباح كأنها (زوج) له!
مليم يعثر على لفافة في بيت خورشيد باشا وهو يصلح النافذة، فيعطيها لخالد. فيتوقع خالد أن تكون غرامية تخص والدته الحاجة. ويبتهج لهذا الخاطر ويستريح!
بنت عمة خالد أنثى تتهالك عليه في أوضاع مخجلة عارمة البهيمة. لهذا ولأمثاله دلالته. ولعل هذه الدلالة كانت أهم الاعتبارات التي منعت لجنة المجمع من منح الجائزة للقصة. واللجنة محقة - لا من الوجهة الفنية - ولكن من وجهة أن مثل هذه الاتجاهات مما يجب أن يلقي به صاحبة رأسا إلى الجو الأدبي الطليق فيرى فيه ورأيه بحرية. لا مما تحتمل اللجان الرسمية تبعة تقديمه إلى القراء.
أما الكلام في المقدمة فموعدنا به قريب.
سيد قطب(600/24)
القضايا الكبرى في الإسلام
11 - قضية المؤامرة على المهاجرين
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، فلقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، وحاربهم حتى هزمهم وقتل من قتل منهم، وبينما هو على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه ابن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه، وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين. فسمع ذاك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال دعوها فإنها منتنة
وقد وقف الخصام بين الرجلين عند هذا الحد، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول أراد أن يتذرع بذلك إلى إحداث فتنة بين الجيش، وتأليب الأنصار على المهاجرين بعد أن ألف الإسلام بينهم، وجعل منهم أمة واحدة لا اثر فيها لعصبية من عصبيات القبائل العربية، فجمع عبد الله رهطاً من قومه، وكان فيهم غلام حدث يقال له زيد بن أرقم، فقال لهم: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم اقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، احتللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديهم لتحولوا إلى داركم
فذهب زيد بن أرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره بهذه المؤامرة، فقال له: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شبه عليك. فأصر على شهادته ولم يرجع عنها، وما أظن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض له بالرجوع عن شهادته، حتى لا يمضي في تحقيق هذه القضية الشائكة، لما كان لعبد الله من المنزلة بين قومه، وقد كان الإغضاء عنه وعن غيره من المنافقين مما يقضي به حسن السياسة في أول الإسلام، لأنه كان ضعيفا لا يحتمل الفتن، فكان من حسن السياسة أن يسالم أولئك المنافقين الذين يسالمونه في الظاهر، وأن(600/25)
يتحمل مثل ذلك منهم، إرضاء لمن حسن إسلامه من قومهم، واحتقاراً لأمر أولئك المنافقين، لأنهم كانوا يقولون ما لا يفعلون، وقد قال عمر لنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك من زيد بن أرقم: دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه
ثم أرسل إلى عبد الله وأصحابه ليسألهم عن تلك المؤامرة التي اخبره بها زيد بن أرقم، لأنه لم يجد بعد إصراره على شهادته إلا أن يمضي في تحقيق ما نسبه إليهم، حتى تأخذ قضيته حظها من التحقيق، ولا يهمل أمرها، فيطمعهم ذلك في المضي في مؤامرتهم
فلما حضروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم ضعف النفاق، فأنكروا ما نسبه إليهم زيد ابن ارقم، وحلفوا ما قالوا شيئا مما نسبه إليهم زيد بن أرقم، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم حقيقة أمرهم، وكذب زيد بن أرقم وهو يعلم صدقه وإخلاصه ولكن المصلحة العامة قضت بأن يكتفي منهم بذلك، فأهملت قضيتهم خوفاً من أحداث الفرقة بين المسلمين. وما كان للنبي أن يؤثر أمرا من الأمور على أمر الوحدة بينهم، وقد كان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً، فلما حلف بالله ما قال شيئاً مما نسبه إليه زيد بن أرقم، قال من كان بالمجلس من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فاظهروا بذلك حدباً على عبد الله، وعطفاً عليه ودفعاً عنه، وإهمال هذه القضية بهذا الشكل هو ما يسمى حفظ القضية في القضاء الحديث.
ثم بادر النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فلما ارتحل لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: وما قال؟
قال: زعم أنه أن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. قال فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها أن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله قد جاءنا الله بك وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً
وإن في هذا لدليلاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهمل هذه القضية وهو يعلم صحة تلك المؤامرة، ولكن زيد بن أرقم أصابه من ذلك هم لم يصب مثله قط، فجلس في بيته لا(600/26)
يظهر لاحد، ومكث مختفيا عن الناس حتى أنزل الله في شأنه - إذا جاءك المنافقون - الآيات إلى قوله (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم فقراها عليه، ثم قال له: أن الله قد صدقك. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ بعد هذا أن يثير تلك القضية، وآثر أن يمضي في إهمالها. وقد قالوا أن في مثل هذه القصة من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر اتباعهم، والاقتصار على معاتبتهم وقبول أعذارهم وتصديق إيمانهم وأن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك الإنسان لما في ذلك من التأنيس والتأليف
وأني أرى أن ما حصل من أولئك المنافقين لا عقاب عليه في الدنيا، لأنهم تآمروا على شيء وبلغ عنهم قبل أن يشرعوا فيه، ولا مؤاخذة على مثل هذا في كثير من الشرائع القديمة والحديثة، وإنما تؤاخذ الشرائع بعد المضي في الفعل، واقتراف الجرم، رافة بالناس ورحمة بهم، وجمعا بين الشدة واللين، والعقاب والعفو، لأن أمر الناس لا يصلح الشدة الخالصة كما لا يصلح باللين الخالص، وفي أخذهم بالعزم على الجرم قبل اقترافه قسوة يأباها العقل، وقد عفا الله عن الهم بالسيئة، وجعل لمن هم بها ولم يفعلها حسنة.
عبد المتعال الصعيدي(600/27)
فرقة التمثيل
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية سابقاً
يسرن أن يتجه الجدل بيني وبين الأستاذ حبيب الزحلاوي إلى ما يفيد منه القارئ ويعلي جانب الحق.
في مقاله الأخير، تحت هذا العنوان، يزعم السيد الزحلاوي أنه مثالي في نظرته إلى أعمال الفرقة المصرية، ولهذا كتب ما سبق أن كتب. وهذا الزعم إنما هو بادرة شعورية من جانبه لخلجة لا شعورية في خبيئته الباطنة، أقامها عقله الواعي تبريرا لما حاوله من تجريح أراده بي فلم يفلح.
بيد أن المثالية الحقة العادلة في مهمة فرقة للتمثيل إنما تستمد عناصرها مما هو عليه المزاج السائد والمستوى الثقافي العام في البلد الذي تعمل فيه هذه الفرقة. فما هو مثالي في مهمة فرقة تعمل في لندن وباريس لا يمكن أن يكون كذلك من جانب فرقة تعمل بين القاهرة وجرجا وكفر الشيخ. اقرر هذا باعتبار أن دور التمثيل للجمهور أولاً وأخيراً. فإن لم يقبل عليها فلا فائدة من قيامها، وأن فن التمثيل ثقافة اختيارية لا إجبارية، وأن السواد الأكبر من المسرحيات التي تقدم يجب أن تكون في متناول فهم واستساغة السواد الأعظم من الجمهور.
ولا أتدخل في هذا الصدد في (المثالية المطلقة) لأن تحقيقها فيما نحن فيه يقف جامدا عند حد القولة الفرنسية ? ومفادها شتان ما الإزماع والإنجاز!!
فمثالية المسرح المصري في الوقت الحاضر - والأسف لا يحسه سواي - لا يمكن أن يكون اكثر من الأخذ بالتوسط والاعتدال بين ما يجب أن يقدم وما يمكن أن يقدم وما يمكن أن يقدم من المسرحيات بحيث يكفل ما يقدم في مجموعة إقبال الجمهور على دور التمثيل، هذا الإقبال الذي يبرر وحده قيام هذه الدور وفتح أبوابها.
عرفنا هذه المثالية على ضوء التجارب، وليس على هدى النظر، وأخذنا بها على احسن وجه، وأشرنا إليها في البيان الذي تصدرت به برامج مسرحيات الفرقة في كل عام، فقد جاء فيها بالحرف الواحد (ورسالة الفرقة وهي أدبية وفنية تهدف إلى المستوى الرفيع في(600/28)
الأدب ولكن من غير تعال على ما يستسيغه الخاصة من الجمهور، ومن غير إسفاف إلى مجاراة العامة، وهي رسالة سامية بأغراضها متواضعة بوسائل تحقيقها).
وإخراجنا (شهرزاد) و (يوم القيامة)، كل واحدة في بداية كل عام فحسب، يحقق القسم الثاني من رسالة الفرقة وهي الموسيقى باعتبار أنها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى) فلا لوم ولا تثريب علينا.
وفوق هذا فليس في هاتين المسرحيتين الغنائيتين ما يخرج على شرعة النوع الذي ينتميان إليه وهو (الأوبريت) وأن كنت أسف على شيء في إخراجهما على المسرح فلأنه لم يتيسر لي عناصر الرقص الاجتماعي الذي هو ركن رئيسي في هذا النوع من المسرحيات.
ومن التعسف والحيف أن نطالب هذا النوع بمعالجة مشكلات المجتمع، عن حنايا النفس البشرية بالتحليل النفسي الدقيق، وأن تنبسط أطرافه إلى الفلسفة والأخلاقيات واللاهوت.
ومسرحيات (كلنا كده) و (سلك مقطوع) و (قطر الندى) و (شارع البهلوان) ليس في تقديمها ضير ولا إفساد ولا انحراف عما يجب أن تكون عليه المسرحية الباسمة، لأنها كلها فكاهيات ظاهرها هزل وباطنها جد، تخفي كل واحدة منها وراء مظاهرها المفرحة موضوعا له أثره في التبصير والتقويم الخلقي. فمسرحية (كلنا كده) توحي بأن الحياة للخطأ والتوبة. والثانية تلوح بأن التمادي في توخي القصاص من جانب المرأة لرجل فيه مداعاة إلى تعقيد الأمور والتردي في أخطاء أخرى. والثالثة تقرر أن الجريمة إلى قصاص وأن الشر لا يكون طريقا إلى خير. والرابعة، على إغراقها في الهزل، إنما هي سخرية من الغيرة العمياء. مسرحيات باسمة تثير الضحك في وقت عز فيه الابتسام بفعل ضائقة الحرب
وكلها للردع وللإيحاء بما يجب أن تكون عليه جوانب من الحياة ليسعد الناس ويستريح القاضي. فأين في هذه المسرحيات ما يشين؟ ومن أين جاء للسيد الزحلاوي أنني اعترفت بأنها مشينة ومقالي السابق بين يدي القراء؟؟
أما مثالية الأستاذ الزحلاوي، ومفادها (أن تكون الفرقة مائة في المائة للمسرحيات الرفيعة، ولا يهم أن يحضرها الجمهور أو لا يحضر) فأقول عنها أنها ضرب من الاجتلاب شف عما وراءه، ولون من التعالم النظري، ومحاولة للسطوع واللمعان من ضوء غيره.(600/29)
واعجب مما تقدم أن يبرز الأستاذ مطالبته بهذه المثالية بزعم أن الفرقة المصرية (حكومية بكل معاني الحكومية) وكان الحكومية في روعه مدعاة إلى أن تغير الأشياء من طبائعها وتتردى في مهاوي الفشل والخيبة لخروجها على محاور ذاتيتها، فتكون الفرقة هيئة لا يحسها إلا المقعدون ولا يأبه لها إلا الحالمون، تعيش على هامش الحياة كالتكابر وملاجئ العميان. . .
(وحكومية) الفرقة، وهم من أوهام الأستاذ الزحلاوي، لأنه من أولى مستلزمات هذه (الحكومية) أن تدفع الحكومة أجور الممثلين وكافة مصاريف الفرقة، وهذا غير ما هو واقع في الفرقة، وقد سبق أن قررت أن الفرقة هيئة تشملها رعاية الحكومة كما تشمل هيئات أخرى تمدها بالإعانة، وأن الإعانة التي تدفعها لا تفي بأجور الممثلين فحسب.
لندع الأوهام ولنواجه الحقائق. . أن مسرحنا المصري كائن كما يستحق كل مصري أن يكون، وكما نكون نحن يكون مسرحنا. ونحن نستطيع أن نقدم مسرحيات لشاكسبير وموليير وديماس الابن واوسكار وايلد وايملي برونتي إلى جانب فكاهيات ومحاولات من وضع أقلام مصرية لم يصل إلينا خير منها، نقدمها على مضض لتغري الجمهور على غشيان مسرحنا وتذوق مسرحيات من ذكرت من صفوة المؤلفين العالمين، ونحن فيما نفعل نرقص على إيقاع الزمان ونصدر عن مثالية المسرح في بلد لا أود أن اذكر النسبة المئوية في متعلميه. فإذا كانت هذه الحال تمض السيد الزحلاوي حقا فليجرد قلمه على الجمهور يوجهه ويستحثه على مشاهدة النفيس من المسرحيات، فهذا أجدى به، وبنا ابر واكرم. أما أن يوبس الثري بيننا وبينه مسوقاً بنطحات عاطفية وشطحات شخصية لا ترتكز على الروية والاعتبار فأمر أرجو أن يعاود النظر فيه.
زكي طليمات(600/30)
أيتها الابتسامة!
للأستاذ محمود الخفيف
اتَوقَّاكِ مَا رَأيُتكِ جُهدِي ... وأَعافُ الوَضِئ مِنْ لَمَحَاتكْ
مِثْلُ لَمْح السَّرابِ لَمْحُكِ عنْدِي ... لَيْسَ غَيْرَ السَّرابِ أَصْلُ صِفِاتِكْ
أتَوَقَّاكِ، لا أَسِيُغكِ. . . أني ... مَنْ سَقَاهُ العَذَابَ لَمْحُ السَّرابِ
أَبَّدا فِيكِ لَيْسَ يُخْطئُّ ظني ... بَلْ يَزِيدُ الِيَقينَ فيكِ ارْتَيابيِ
أَتَوقَّاكِ! كَمْ سَحْرتِ خيالي ... بأَفانيَن من بُرُوقِ الخِداع
يَوْمَ كان الفُؤَادُ غَّر الليالي ... لَمْ تُذِقْهُ الحياةُ لُؤْم الطباعِ
أيُّ مَعْنىٍ لِلخَيْرِ أَطْمَعُ فيِه ... مِنْ معانِيكِ في وجوه الرجال؟
أيُّ طَيْفٍ لِلسحْرِ لا أَتقِيهِ ... في وُجُوهٍ تُزْهي بِسِحْرِ الجمال؟
صُورٌ أنتِ من ضلال الحياةِ ... وطيوفٌ بَغِيضةٌ أَتقَّيها
عِفْتُ حتى ما حارَ من بَسَماتي ... بين سُحْبٍ من الأسى تَحَتَويها
أَتَوقَّاك. . . كَمْ لَمَحْتِ طِلاَء ... يَحْجبُ الافْكَ في حنايا الضُّلوع
يَحْملُ الِحْقدَ ما يريدُ انْطِفَاء ... والعَدَاواتِ مَالهَا من هُجُوع
أَتَوقَّاك صورةٌ للِتَّشَفي ... سَوْأَةً مَيَّزتْ سَليلَ التُّرابِ
أيُ وَصْفٍ لهذه أيُّ طَيْفٍ ... غَيْر ظُفْرٍ تَحْتَ الطلاَء وَنَابِ؟!
أَتَوقَّاك مَرْآكِ في وَجْهِ حُرٍ ... باسِم وهوَ لا يُطيقُ ابِتْسَامَا
وَجْهِ غرٍ ما كان يَوْماً بِغرٍ ... غَيْرَ أن الرّشادَ أن يَتَعامى!
أَتَوقَّاكِ في مُحيا دَعِي ... في ابْتِسَاماَتهِ أرَى الخُيلاَء
يَتبَّدى يا وَيْحهُ من غِبيٍ ... في عُبُوسٍ وفي ابِتْسَام سواء
وَكَريهٌ مرآك بَسْمَة ذُلٍ ... في وُجُوهٍ ذَلِيلةٍ القَسَمات
تَتَّقى عَصْفَ كلّ عَاتٍ مُدلٍ ... بكلام من ضارِع البَسَماتِ!
وشَجَىً للنفوسِ مَرْآك مَعْنًى ... من مَعَانِي مُغَالبٍ لَهِوَانِ
حَطهُ الدهرُ ما ارتدى بك لَوْناً ... من تأسٍ يشفُ عما يُعَاني
أَتَوقَّاكِ آيةً لِلوْفاءِ ... رُكبتْ من تَمَلُقٍ ودَهاَنِ(600/31)
يا لَزُلْفَي في صُورَةٍ نَكْراءِ ... ذَكرتَنْي ضَآلة الإنسانِ
جَمْرَةً في الحشا وَرَشْقَةُ سهمٍ ... في صميمِ الفؤادِ مَرْآك حِيناَ
إذ يَرْى العَاشِقون في غَيْر وَهْمٍ ... أن هَجْسَ الظنونِ أَمْسى يَقِيناً
إذا يَرْوَنَ الخِداعَ أَبْغَضَ وَمْضَا ... من شُعَاعَاتِ خِنْجَر مْشُهورِ
هوَ منْ حَدهِ آخر وأَمْضى ... إنَّ أَنْكى الْجَراحِ جُرْحُ الشُّعُورِ
أَتَوقَّاكِ مَا لَمَحْتِ لِعَيني ... لَمْحَة الكأس ضَوّأَتْ بالسُّلافِ
رُبَّ كأْسٍ يَغْلو إليها التَّمَني ... مُزِجَتْ حَمْرُها بِسُمٍ زُعَافِ
أَتَوقَّاك!. . . شدَّ ما أتوقَّى ... صُوراً مِنْكِ عفَّ عنها بياني
إن يَكُنْ عَاَفَها حَيَاء ورِفْقا ... رُبَّ ضَمْتِ حَوَى بليغ المعاني
أَيْنَ يَا قَلْبُ؟ أَيْنَ تُبْصِرُ عُيَنْي ... بَسْمَةً لا يكون مِنها عَنائي
وَْيك يَا قَلْبُ قَدْ سَئمِتُ التمني ... وأراني كَرِهْتُ فَقْد الرَّجاءِ!
قدْ أحبُّ ابتسامَةَ الطفْلِ لولا ... خاطِرٌ ساَء وقعهُ في خيالي
لَنْ تراهُ الغداةَ عيناىَ طِفْلاَ ... إن فيه الغداةَ لؤَم الرجال
وأُسِيغُ ابتسامةَ الزَّهرِ لولا ... سوءُ مرآهُ ذابِلاً في المساء
ويحَ نفسي كم يملاُّ النْفسَ هَوْلاً ... كلُّ حُسْنٍ تطويه كفُّ الفناء
أبهَجَتْني ابتسامَةُ الأُم طِفْلاَ ... وهْيَ أُنْسِى وبهجتي في شبابي
أهٍ! مَنْ لي الغداةَ يا قلبُ ألاَّ ... يملأُ القلبَ ذِكرها بالعذاب؟
لْيسَ غَيْرَ ابتسامَةِ الفَجْر فَارْقُبْ ... طَلْعةَ الفَجْرِ إذ يَشُقُ الظَّلامَا
ومِنَ اللْيلِ رَوْعَة البَدْرِ فاطُلبْ ... وْجَههُ إذ يزيحُ عنهُ اللثَاما
مِنْ بني آدم اشْمَأزَّ فُؤادِي ... وابتسامِاتهم عَذَابٌ لنفسي
كلَّ يَوْمٍ كُرْهِي لهم في ازْدِيادِ ... لَيْتَ لي في غَدٍ سَذَاجةُ أَمْسى
الخفيف(600/32)
في سبيل العرب
سيف العروبة
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
سَيْف العروبة في كفيكَ مُنصلتٌ ... فاضربْ به في رقاب الحادثِ الَجْلل
فأين منه سيوفُ الهند ماضيةً؟ ... فللعروبة سيفٌ غيرُ منخذل
وشَّته أيدي القُيون الصيدِ من مُضَرٍ ... وجلّلتْه يدُ الأبطال بالحلل
نَمَتهْ للبيضِ من عَدْنانَ آصرةٌ ... وأنبتتهُ مع الخطية الذُّبل
سلِ الوقائَع عما كان من أَجل ... في صفحتيه وعما كان من عمل
تُديره كفُ غلابين عمرُهُمو ... في ضربة السيف أو في طعنة الأسَل
لا يسكُتون على ضيمٌ يرادُ بهمْ ... ولا يَقرُ لهم قلبٌ على ذحل
يجيب كل فتى منهم مُسائلة ... بالسيف لا بعبارات ولا جُمل
من كل حُرٍ عزيزِ النفس ممتنعٍ ... كالشمس ممنوعةً إلا على المُقل
سيف من الجْبل العالي بذُروته ... المستطيلِ على القْمات والقُلل
يُهدي إلى السهل من مصرٍ ولا عجبٌ ... ما قيمة السهل إلا في ذَرا الجبل؟
لبنان لم يُلْقِ هذا السيفَ عن وهَنٍ ... من الضرابِ ولا خوفٍ ولا وجل
لكن لبنانَ أهداهُ إلى بطلٍ ... (لا يعمل السيف إلا في يد بطل)
يا سيفَ عدنانَ لا يُرجى لطائفة ... شأنٌ بغير حديدِ النَّصلِ معتدل
ما قيمةُ الحق أن لم يَحْمِ جانَبه صوتُ الأسَّنة لا صوتٌ من الجدل
قل للضعيف بلا سيف يؤيده ... أما سَمعت حديث الذئب والحَمل؟
يا أمةَ العُربِ هُّبوا من مراقدكم ... ولا تكونوا عن الأحداث في شُغل
ضموا الصفوف بقلب غير منقسمٍ ... على الزمان وحبلٍ غيرِ منفصل
ولا يكن وُدُّكم يوماً على خَبَثٍ ... ولا يكن حبكم يوماً على دَخَل
قد وحَّدت بينكم دنيا موزَّعةٌ ... من الجراحاتِ والآلام والعِلل
يا قوم إن سبيل الخُلد واحدةٌ ... فيم الخلافُ علي الغايات والسبل؟
لا يؤكل الشرقُ إلا وهو مُنعزلٌ ... وليس يُرهبُ إلا غير منعزلِ(600/33)
محمد عبد الغني حسن(600/34)
البريد الأدبي
الكشف الأثري في منطقة حلوان
زار صاحب الجلالة الملك منذ سنتين المنطقة الصحراوية الواقعة جنوبي حلوان، فأدرك قيمتها الأثرية وتوقع جلالته أن يعثر الباحثون فيها على آثار ذات شأن، فاصدر أمره الكريم بمزاولة الحفر فيها على نفقته الخاصة، وتفضل فعهد بذلك إلى الأستاذ زكي يوسف سعد كبير مفتشي الآثار في منطقتي القاهرة والجيزة، فبدا العمل في يوليو سنة 1942 ولم يكد ينتهي موسم الحفر في تلك السنة حتى كشف عن 735 مقبرة يرجع عهدها إلى الأسرة الأولى (3000 قبل الميلاد) وفي عام 1943 كشف عن 1266 مقبرة، ولا يزال يتابع الحفر والكشف، والمأمول لن يصل إلى نتائج عظيمة. وقد دل المكشوف منها على حقائق تاريخية هامة أشار إليها أتحد أستاذة الآثار البريطانيين في جريدة الصنداي تايمز قال (إن لهذا الكشف ميزة خاصة لمن يريد دراسة تاريخ العصور الأولى في مصر؛ وذلك لما له من أهمية تاريخية لا تتوفر دائما في الآثار العظيمة الأخرى كالتي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون، لأن هذه المقبرة لم تلقي أي ضوء على أمر جديد، بل أيدت ما كان معلوماً من فبل عن طريق إلاستنتاج، كما أنها أمدت المتحف بقطع ثمينة، في حين أن هذا الكشف الجديد يرجع بنا إلى عصر من اقدم العصور، وقد يجلو للعلماء الذين لم تتوفر لديهم البيانات ما يعينهم على الوصول إلى ما يبتغونه من النتائج.
وثمة أمر آخر وهو أن في هذا الكشف ما يثبت قيام أسرة ملكية قبل عهد الأسرة الأولى.
أنا نعلم أنه هناك ملوك حكموا مصر فبل عهد الأسرة الأولى، وأن الحفائر التي قام بها العلامة ايمري مدة عشر سنوات فبل عام 1939 قد برهنت على أن الأدوات المصنوعة من الأحجار والتي ترجع إلى عهد الأسرة الأولى هي ابعد في القدم مما كنا نظن، ولكن هذه الآثار الحديثة التي كشف عنها الأستاذ زكي يوسف، قد أظهرت حقائق جديدة مدهشة عن عصور اشد قدماً. على أنه ينبغي أن ننتظر ما ينشر عن هذه الاستكشافات، قبل أن نبدي فيها رأيا).
وقال الدكتور دريتون مدير مصلحة الآثار المصرية: (إن هذا الكشف ذو أهمية كبيرة من الناحية التاريخية فضلا عن أنه عنصر جديد لتاريخ المصاطب القديمة التي يرجع تاريخها(600/35)
إلى عهد الأسرتين الأولى والثانية، وهذا ما يدعو إلى إعادة بحث تاريخ المصاطب الأثرية من جديد).
عرب ومسلمون
حضرت المهرجان الذي أقامته مراقبة النشاط المدرسي، واشهد أنه دل على تقدم عظيم في حياتنا المدرسية في النواحي الفنية والرياضية والاجتماعية، ولهذا تفصيل ستتحدث عنه الجرائد في الغد، فأنا اكتب هذه الكلمة بعد الانصراف من المهرجان.
أنا أدون ملاحظة لن تدونها الجرائد، ملاحظة تلخصها السطور الآتية:
مثل طلبة المدرسة الإبراهيمية رواية عمرو بن العاص، وفي رواية أن قسيساً قبطياً عرض على اثنين من قواد الروم أن يجتمعوا بالدير القبطي إذا دهمهم العرب الفاتحون، وأن القائدين قالا: وماذا نصنع إذا أخذا العرب من الدير؟
فقال القسيس: العرب يحترمون المعابد.
والخطأ هنا في كلمة (عرب)، والصواب أن يضع المؤلف كلمة (مسلمين)، فهي الكلمة التي يعرفها تاريخ ذلك العهد، فمصر فتحت باسم الإسلام لا باسم العرب.
وفي الرواية أن فلاحاً مصرياً احضر الضريبة للروم وفيها خمر، ثم كان من حظه أن يلقي عمرو بن العاص، فقال له عمرو: نحن العرب لا نشرب الخمر.
والخطأ في كلمة (عرب)، فالعرب كانوا يشربون الخمر، والصواب أن يقول المؤلف (نحن المسلمين لا نشرب الخمر)، لأن الذي حرم الخمر الإسلام.
وإذن المؤذن فإذا هو يصيح: (الله أكبر، الله أكبر، اشهد أن لا اله إلا الله، اشهد أن لا اله إلا الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة).
وأنا أتذكر جيدا أن الأذان فيه (أشهد أن محمدا رسول الله، اشهد أن محمدا رسول الله).
فأين ذهبت هذه الشهادة؟ أين ذهبت؟
أن الرواية تاريخية، فيجب حتما أن يراعي فيها الصدق في رواية التاريخ.
أنا عاتب على المؤلف وعلى المخرج وعلى المراقب، فما يجوز بتر الأذان بهذه الصورة، ولا يجوز أن نضع كلمة عرب في مكان كلمة مسلمين، لأن في هذا تزييفا للحق والتاريخ.
لم يبق إلا الثناء على الممثلين، وهم طلبة نجباء سيكون لهم بإذن الله مستقبل مرموق.(600/36)
زكي مبارك
الجبال الجرداء وكيف تعشب
جاء في كتاب (منزل الوحي) صحيفة 298 لصاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا ما يلي:
(وعجيب أن تظل هذه الجبال جرداء على رغم ما ينحط عليها من سيول وأمطار فلا تنبت الأشجار في قنها وعلى سفوحها. أيرجع السر في ذلك إلى أنه لم يعن أتحد باستنبات هذه القنن والسفوح فظلت جرداء إذ لم تبذر فيها بذور ولم يغرس بها شجر. ما اظن، ففي صحاري تهامة وأوديتها ألوان من الشجر تنبت بذاتها منها السلم والعشر والطلح، ولعل هذه الألوان لا ترقي إلى سفوح الجبال وقننها، ولذلك ظلت جبال اليمانية جرداء رغم المياه التي تنحدر عنها).
والحقيقة أن لا عجب هناك، فالحيوانات التي ترعى وخصوصا الماعز منها هي السبب في هذا كله، فإذا دامت الحيوانات في هذا الرعي سنين عديدة فأنها لا تلبث أن تقضم كل طلق من النبات من شأنه أن يحفظ التربة من أن نجرف إلى الوادي بسب تهاطل الأمطار فلا تلبث أن تتكشف الصور وأن ينقل التراب الذي يغطيها إلى الوادي ولا يعود بعد ذلك بالإمكان أن ينبت الشجر لا في القنن ولا في السفوح. وعندنا في فلسطين مثل هذه الجبال الجرداء، والسبب واحد وانجراف التربة معضلة من أكبر المعضلات في الزراعة، والحكومات تعني بهذا كثيراً وطرق العلاج عديدة منها (الدورة في الرعي) كان تقسم المراعي إلى أقسام عديدة يسمح للحيوانات أن ترعى في قسم منها في السنة الأولى ثم تنقل إلى القسم الثاني في السنة الثانية وهكذا فما ترجع الحيوانات للرعي في القسم الأول بعد خمس أو ست سنين إلا ويكون القسم الأول قد اينع نباته وغلط وتعاظم. وقد زرت في هذه السنة هذه الجبال الواقعة بين السيل الكبير والزيمه، وأرى أن احسن علاج لها هي الدورة في المرعى، فإذا اتبعت هذه الطريقة في تلك المساحات الشاسعة وحوفظ عليها من الحيوانات فلا تلبث البذور أن تنتشر وأن تتكاثر من نفسها. ولا بأس من استعجال ذلك بأن تنثر البذور باليد في المساحات التي لم يبق فيها من الأشجار ما تستطيع أن تنثر بذورها.(600/37)
لواء غزة - فلسطين
صبحي الشهابي
كبير مفتشي الزراعة
أساطير الحب والجمال عند الإغريق
عزيزي الأستاذ دريني خشبة
أخرجت للناس باكورة كتبك فكنت راويا لروايات إغريقية عاشت عصورا وهي أملوحة الآداب، ومجلبة الإطراب، وألهية الفكر، فقراؤك نظارة، وصفحاتك مشاهد، وفي آخر كل قصة من قصصك يسدل الستار.
وشئت أن تطرف ببراعة استهلال، فقدمت بين أيدي القراء أروع هاتيك القصص عن بسيشيه وإله الحب، فإذا بك تعرض فينوس أم هذا الإله الطفل في معارض الحسد الذي ما سلمت منه امرأة، وفي دواهي الكيد وهو الصق الصفات بالنساء. فينوس تنصب شباكها لبسيشيه، فهي تغار منها وتحسدها على عرش الجمال، فترسل إليها ابنها بقوسه ونشابه ليرميها في جحيم الهوى، وبسيشيه فتاة لعوب غريزة الدلال، اصدق حليتها السذاجة والتصديق. فؤادها ما شق شغافه ولا خفقت بالهوى سويداؤه. فهي تخاف من الحب، والخوف منه هو الوقوع فيه. أما كوبيدون هذا الرب الصغير، فقد جاء الإغريق من قبلك عليه، فحملوا الشطط وركبوا به على غوارب الظلم وهو طفل ما شب عن الطوق، ولا أنشق له باب، ولا ترك التسلي واللعاب. فأنى له الحب وعذابه، والغرام ولظاه. وقد أبه لهذا الخطل في الفن مصورو القرون الأخيرة فكان دولاكروا اسبقهم إلى الصواب فصور كوبيدون في صورة شاب مراهق وهو يقبل بسيشيه من على الجبين. وأني لأعجب، كيف جاز في الشجون أن يهوى بسيشيه كوبيدون. فهل يحب نفسه الحب كما يجن الجنون.
وخلبتني بأسطورة نرجس وقد عشق جماله وهام على وجهه في حب محاسنه، فكان يطل على صفحة الينبوع وهو ظامئ، فيشغله الغرام عن الأوام فيهوى بفمه على فمه. ولكن يتكسر الماء دون الارتواء. ولمامات طلعت مكانه على ضفاف الغدير زهرة النرجس فهي تطل أبدا على صفحة الماء، تتمرى عليه، وتهفو إليه.(600/38)
ونقلني النرجس من هيامه بحال، إلى هيام بجماليون بتمثاله. فيا لله إبداعك وأنت تصف بجماليون الحيران في مصنع تماثيله ينقش بمنقاشه تمثال غالاتيا، فيسكب عليه كل مفاتن فينوس. وكان قلمك كمنقاشه فجمعت كل حلاوات المرأة، ثم وزعتها واحدة فواحدة على جوارح غالاتيا وقسماتها الحسان.
وشغف تمثال الرخام حباً بجماليون فمر بيديه اللامستين على مرمره البارد المسنون، وما راعه إلا حرارة الحياة تدب فيه، فإذا هو من لحم ودم وإذا غالاتيا تناجيه فيه بصوت فينوس.
وقد أولع رواة الأساطير بهذه القصة فافتنوا في سردها الفنون حتى كلن يراعك فسلك هذا المهيع الجميل.
ولا آتي على أساطيرك كلها، فهي زهرات مغريات تكفي واحدة منها أن تملا شمي بعطورها القبرصية حينا من الدهر القي فيه عن كتفي عبء الهموم. والأساطير يا صديقي منحة أدب غال. قد ابتكرتها الأمم القديمة لترفع الإنسان الفاني من حمأة الأرض إلى ملكوت السماء. ولم يك الأولمب عند الإغريق إلا سلما علويا لأولئك الآلهة الذين احبوا وابغضوا، وناحوا وضحكوا، وسلاهم عن كآبة الفناء لن كتب لهم الخلود، فذاقوا الحب الذي هو أقوى من الموت كما تقول التوراة. ولكنهم ما دنسوه بالمفاسد بل كان محور حياتهم: أنزع الحب منهم تفرغ الأساطير من الجمال، وتصبح صحراء سبسباً في لوافح الهجير. ونحن على الأرض منحنا حباً ولكن ما عرفنا حلاوته، ولا وعينا نبالته، ولقد دنسناه ثم دسناه.
كذلك رفعتي أساطيرك من هذا العالم حين قراءتها. ولا تعجب لأمري، فقد تمنيت لو كنت أحدها، لا إلها فما سموت إلى مقام الأرباب وعروشها، ولكن إنسانا أعيش في أكناف الأولمب كسادن في هيكل الفنون. وما رواية حياتنا يا صديقي بعد ألف عام إلا أسطورة كهذه الأساطير.
ثم هات حديث الأدب عنها، فقد أفادت فنون الغربيين فمزجوها في شعرهم ونثرهم، وحكمتهم وعظاتهم. فكانت فينوس ريحانه الشعور، وميزفا لسان الحكمة. وصورها المصورون، فألواحهم الخالدة من ألوانها غميسة. وترنم بها القيان وأصحاب اللحون،(600/39)
ورقص في إهابها الرقصات، فواتن لفتات.
فعلى شعر هوغو بل نداها، وفي ليالي موسيه أنفاسها وشذاها. وأنظر إلى الشاعر أندره شينيه، فقد كان حبيساً ينتظر ضرب العنق علة مقصلة روبيسبيير، فنظم في السجن ديوان (المراثي) شكوى مزامير بأنغام الأساطير.
ولم يفد منها أدبنا القديم، كما تقول في مقدمتك، تعلة الرميتين وقد آن يفيد على يديك ويدي أندادك من رواة هذا القصص الإغريقي البديع.
بعد هذا بقى على حسابك، فكيف أجزت لنفسك أن تجعل من أسطورة السطرين صفحتين. والأسطورة يا أديبي نص تاريخي عتيق، تفاوت في ادعائه سبع مدن. وأنا عذيرك في التزيد عند الأوصاف والبدائع، دون الصفات والوقائع. وهذه منك سابقة إبداع في العربية في أن تجري على غرار من كتب السيرة بأسلوب الأدب وطريقة الفن، لا بتحقيق التاريخ ونقد الحوادث. فخرجت بالأساطير من خمائل عتيقة إلى أفواف جديدة عربية، بأسلوب حر الكلام، مبين المعاني. وإن شئت في الختام وصفاً لروعات إنشائك في هذا القصص؟؟؟؟؛ قلت لك إني لا أراه أسطورة أحلى من الأساطير.
(القاهرة)
زكي المحاسني(600/40)
العدد 601 - بتاريخ: 08 - 01 - 1945(/)
اذكروا يا زعماء العرب!
اذكروا وأنتم اليوم بسبيل التشاور في تجديد وحدة العرب أن الركن الأول من أركان دينكم هو التوحيد، وان العمل الأول من أعمال نبيكم كان المؤاخاة
اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً؛ واذكروا إحسان النبي إليكم إذ كنتم أشتاتاً فجمع شتيت شملكم فأقمتم على وحدته ملكاً وسلطاناً.
اذكروا لماذا نذكر صاحب الهجرة في كل أذان وفي صلاة من كل يوم. هل نذكر اسمه مع اسم الله تعبدا به؟ معاذ الله فما يكون الشرك غير هذا؛ إنما نذكر الله ونذكر بعد محمداً كما تذكر القاعدة ومعها المثل، أو النظرية وبعدها العمل. لان الله يوحي والرسول يبلغ، ويأمر وهو ينفذ، ويشرع وهو يطبق. فنذكر الله استحضار لأوامره ونواهيه وتلك هي القدرة؛ وذكر الرسول استحضار لأفعاله وأقواله وتلك هي القدرة
اذكروا أن الوحدة هي التي أمكنت العرب في الأمس البعيد من تراث كسرى قيصر، وهي وحدها إلى تستطيع في الغد القريب تنقذهم من وراث (موسو) و (هتلر)
قولوا للمعوقين منكم والمخلفين عنكم: إن العصبية التي توسوس في بعض الصدور بالرياسة والسيادة والعزة إنما كانت في تاريخنا الحافل بالأحداث والعبر علة العلل في انشقاق العصا، وانقسام الرأي، وانحلال العقدة، وانتشار الأمر، وتعديل الدول. هي النعرة التي قالت يوم السقيفة: منا أمير ومنكم أمير. وهي الهامة التي خرجت من قبر عثمان وظلت تصحيح على دار الخلافة: نحن هاشميون وأمويون! نحن قيسيون ويمنيون! نحن علويون وعباسيون! نحن عرب وشعوبيون! نحن اثنتان وسبعون فرقة تتقاطع في الدين، وتتعادى في الدنيا، وتزعم كل فرقة منها أنها الناجية! نحن ثلاثة خلفاء في وقت واحد: عباسي على عرش بغداد، وأموي على عرش قرطبة، وفاطمي على عرش القاهرة، ولكل خليفة منهم شأن يغنيه، وعدوان مع الباغين على أخيه!
اذكروا كل أولئك يا زعماء العرب واستاروا بسيرة نبيكم في السياسة، واستنوا بسنته في الحكم، فإن محمد بن عبد الله الذي اثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً قد ساس الناس في عهده سياسة دينية بين علي وبلال، ولا بين قريش وباهلة. لم يسسهم عليه السلام سياسة وطنية، لأن الوطن محدود والدين لا حد له. ولم يسسهم سياسة قومية، لأن القوم جماعة متميزة لا تعرف العموم، والدين إنسانية شاملة لا تعرف الخصوص. ومن كان(601/1)
مدينا بزعامته لربه لا لحزبه كان خليقا أن يساوي بين الناس جميعا في عدله وفضله. أما وقد استشرت العصبية ففرقت شعبنا فرقا لكل فرقة طرز ورسوم، ومزقت وطننا مزقا تفصل بينها مكوس وتخوم، فإنا أحرياء بأن نصلح الأمر بما صلح عليه أو له: نخفت في نفوسنا صوت الاثرة، ونسكن في رءوسنا عصف الهوى، ونجدد في أذهاننا ما طمس من معاني الإيثار والإخاء والفداء والمروءة، ونحدد في إفهامنا ما أنبهم من هذه المبادئ الإسلامية الصريحة: (إنما المؤمنون اخوة)، (وأمرهم شورى بينهم)، (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، الناس سواسية كأسنان المشط.
وتلك هي المثل العليا للسلام والنظام والحكم تطلبها الشعوب المكروبة المسخرة بالثورة بعد الثورة، وبالحرب عقب الحرب فيحول بينها وبينها تصادم القوى وتعارض المنافع.
لا نطمع في أن نجعل من الوطن العربي الذي قطعه الغاصبون الآكاون دويلات أو لقيمات يسهل ازدرادها، وحدة كاملة. ذلك فوق الطاقة الآن، لأنه عمل لم يقو عليه من قبل غير محمد، ولن يقوى عليه من بعد غير رجل من رجال محمد. هو الرجل الذي ينتظره العرب انتظارهم رجعة الربيع، ثم لا ينفكون النظر إليه في الأفق النائم يرجعون أن تنشق الحجب عن ظهوره. وبحسبنا اليوم أن نمهد أمامه الطريق ونهيئ له النفوس بهذه (الجامعة العربية) التي تتوافدون إلى عقد ميثاقها في القاهرة. فإذا أقمنوها يا زعماء العرب على الإيمان الصادق والنية الخالصة كانت إرهاسا لظهور ذلك الزعيم العظيم الذي يجمع الله لكم فيه الراعي الذي يطرد الذئب، والنظام الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد الذي يرفع العلم، والأستاذ الذي يعلمكم أن تصنعوا الإبرة والمدفع، وتشقوا المنجم والحقل، وتوفقوا بين الدين والدنيا، وتلائموا بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة، ويومئذ تعودون إلى منزلتكم من صدر الحياة ومكانتكم من قيادة الناس.
احمد حسن الزيات(601/2)
وحي الهجرة في سياسة الأمم والشعوب
لصاحب الدولة الدكتور احمد ماهر باشا
قال صاحب الدولة الدكتور احمد ماهر باشا وهو الرجل الذي ندبه العون الإلهي ليكون الوزير الأول لمصر في تلك الحقبة من تاريخ يموج بالهول، وتفور أرضه بالحمم، وتمطر سمائه بالصواعق - ومصر - قلب العربية، وأمل شعوبها، تضطلع بأعبائها وأعباء جيرتها، وقد أخذتها الاحداث، واحاطت بها التبعات، وتقاذفتها الأهواء، فإذا (بالفاروق) اعزه الله يجعله على شؤون البلاد، يقيم الميل ويرد على الوطن هيبته، ويسير في المعترك العالمي على بصيرة من الأمر، وعلى هدى من الحق
قال هذا الرجل، وهو يتحدث عما (توحيه الهجرة) في وجدان الرجل السياسي:
(يوحي يوم الهجرة انه لا حياة للأمم ولا للشعوب، إلا بالجهاد الدائم، والكدح والداب المتواصل. وليس الجهاد قاصراً على مكافحة الاعداء، بل اشد الجهاد، واعنف الجهاد، مكافحة الشهوات والأهواء
فلقد رجع محمد رسول الله من بعض غزواته المظفرة فقال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر - جهاد النفس والهوى -
تذكرنا يوم الهجرة بأن الإنسان لا يحمي إنسانيته - بل عقيدته - إن هو أقام على الهوان راضياً، وإنما حق إنسانيته وواجب عقيدته أن يكافح الطغيان، ولن يصرخ في وجه الظلم، فإذا أعجزه أن يحمي عقيدته وإنسانيته فليهاجر بهما حتى يبلغ مأمنه، ثم يستأنف جهاده ونضاله
وإن الله لن يرضى أبدا عن الذليل المستضعف في الأرض، وهذا كتاب الله يحقر المستضعفين ويؤنب الأذلاء يقول تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)
يوحي يوم الهجرة، يصور لأولئك الذين أنجبهم الإسلام، وهذبتهم فضائله، فاحسنوا القيام علة أممهم وشعوبهم، وقدروا الأمانة التي ائتمنهم عليها حق قدرها الإنسان فلم يقربوا إلا لوجه الحق، ولم يبعدوا إلا في سبيل الحق(601/3)
وهذا عمر الفاروق يقول لولاته: اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم
إياكم والرشا - فإنها السحت - وإياكم والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب)
وإني إذا ما رويت في الأمر الإنسان وفكرت لم كان اختيار الهجرة بدا للتاريخ الإسلامي؟ لا البث أن اقتنع - على بينة من الأمر - انه يراد أن يكون المسلمون دائما على ذكر من الحقيقة الخالدة، وهي أن سبيل الرفعة وطريق العزة - الجهاد للحق الخالد والعدل السرمدي
وانه لمن يمن الطالع أن يكون على عرش مصر الملك المفدى الإنسان (فاروق الأول)؛ فهو الأسوة الحسنة لشعبه وللشعوب الإسلامية. اعز الله ملكه، ونصر عهده وحقق في أيامه مجد الإسلام وعزة المسلمين.
(م)(601/4)
طوالع الإسلام
للأستاذ عباس محمود العقاد
اسم كتاب ألفه الدكتور لورنس براون أستاذ مقارنة الأديان بجامعة مانشستر، ونشره في أوائل السنة الماضية 1944 وعرض فيه لحركات التجديد والإصلاح التي ظهرت منذ القرن الماضي في أنحاء العالم الإسلامي من الهند إلى إيران ومصر الإنسان وما يليها من الأقطار الأسيوية والأفريقية
وقد خرج من هذا العرض بخلاصة يسهل على الباحث من غير المسلمين أن يقبلها، ولكن لا يسهل قبولها على المسلم الذي يؤمن بدينه ويعرف ما فيه من قوة على بعث العزائم وإحياء الأمل ومزج الحديث بالقديم أو التقريب بين العقيدة والمعرفة وبين الأصول الدينية والأصول العلمية. فان الخلاصة التي خرج بها الدكتور براون من عرضه أن الأمل في نهوض دعوة إنسانية تنفع البشر كافة من أعماق الروح الإسلامية ضعيف، وانه لا يرى في العصر الحاضر زعيم من الزعماء الروحانيين في الأقطار المحمدية خليق أن يحمل أعلام النهضة المروجة، أو يقود بني الإنسان في طريق الصلاح والتهذيب، ليحل لهم المشكلات الروحية والاجتماعية التي تواجههم عند كل خطوة يخطوها في حياتهم العصرية
وتعليل هذا اليأس من مستقبل الإسلام عند الدكتور براون - أو من طوالعه كما سماها - أن الإسلام يعزل الدنيا عن الروح الإلهية، ويجعل الوحي الذي يقود الأنبياء والملهمين عملاً خارجاً عن الإنسان يهبط عليه من السماء بين حين وحين وقد انقطع هبوطه على البشر بعد خاتم المرسلين. ويزعم الدكتور براون أن شأن الإسلام في ذلك غير شأن المسيحية والموسوية، لان روح الله تمتزج بالإنسان في العقيدة المسيحية، ولان الموسوية أخرجت كثيراً من الأنبياء ونصت بعض آيات كتابها على تمني النبوة لجميع بني إسرائيل ليستمعوا من داخل سرائرهم إلى صوت الله. ويقول الدكتور براون إن الشعائر المادية في الموسوية والمسيحية إن هي إلا كناية عن المعاني الإلهية أو الروحانية التي ترمز إليها، وليست هي كذلك في الإسلام كما يقول
والذي فات الدكتور أن المسلم الذي يعتقد أن الله خلق آدم على صورته لا يمكن أن تعوزه الروح الربانية ولا أن يجرد الإنسان من هذه الروح، وأن الآيات التي وردت في القران(601/5)
عن روح الله والروح عامة اكثر من نظائرها في الكتب الأخرى التي قلما تعرض لكلمة الروح بالمعنى الذي يستفاد من نصوص القران
وقد فات الدكتور براون شيء أهم من ذلك كان ينبغي ألا يفوته لان الدليل عليه قائم من أطوار الحركات الإسلامية التي أشار إليها في كتابه، وذلك الشيء المهم الذي فاته هو أن الإيمان بنصيب الإنسان من الربانية أو بحلول المعاني الإلهية في الإنسان لم يكن قط مسالة نصوص مكتوبة وشعائر ملموسة، وإنما هو مسالة فطرة تمتاز بها الأمم كما تمتاز بها الأفراد، وقد نشأت عقائد الروحانية أو الإلهية في المسيحية من تفسير الفلاسفة والأحبار الذين آمنوا بالدين ولم تنشأ من الكلمات التي يقراها كل إنسان في هذا الكتاب أو ذاك
وإن الدين الواحد لتؤمن به امتنان هذه غالية في الوقوف عند المحسوسات، وتلك غالية في المزج بين عالم الحس وعالم الغيب، أو في المزج بين الجسد والروح. وإن الكتاب الواحد ليقراه الرجلان في مدينة واحدة - بل في بيت واحد - فيفهمه أحدهما على طريقه المتصوفة أو القائلين بوحدة الوجود ويفهمه زميله كما تفهم الأوامر العسكرية كلمة كلمة وحرفاً حرفاً بغير تعليق ولا تأويل
ولو شاء الدكتور براون لفطن لهذه الحقيقة الواضحة من التفرقة بين الحركات التي اجمل الكلام عليها في الهند وإيران ومصر والحجاز، وهي حركات القاديانية والبهائية ودعوة الإمام محمد عبده والإمام عبد الوهاب. فكل هذه الحركات تجديد أو إصلاح نشأت في الإسلام وبين المسلمين واعتمدت على الكتاب الذي يدين به كل مسلم وهو القران الكريم، ولكن الفرق بينها في الواقع هو الفرق بين فطرة الهند وفطرة الفرس وفطرة المصريين وفطرة العرب، أو بين الأمزجة والعادات الذهنية التي تعودتها هذه الشعوب من موروثاتها القديمة وبيئاتها الفكرية والإقليمية
ففي الهند ظهر غلام احمد القادياني فبشر بمذهبه الجديد وزعم أنه هو عيسى بن مريم وهو المهدي وهو الإمام المنتظر في مذهب الشيعيين، وادعى فيما ادعي انه تلبس بروح مريم العذراء ثم تلبس بروح المسيح على نحو لا تدركه العقول، وصدق نفسه وصدقه أناس من مريديه حين خيل إليه أنه روح الله حلت بجثمان إنسان لإنقاذ المسلمين والمسيحيين من السواء من الضلال(601/6)
ومن اليسير جدا أن يلمس المرء في هذه الحركة بقية من بقايا البيئة الهندية التي نشأت فيها عقيدة تقمص الأرواح وتجدد الروح في جثمان بعد جثمان، تارة جثمان ذكر وتارة جثمان أنثى، ومرة رسم حيوان ومرة رسم إنسان
وفي البلاد الإيرانية ظهر مرزا علي محمد الشيرازي، وزعم أنه الإمام المنتظر، ثم انتحل عقيدة الإسماعيلية في ما يشبه القول بوحدة الوجود ووثب من ذلك إلى القول ببطلان الشريعة الظاهرة والأخذ بالحقيقة الباطنة التي تبيح أصحاب - حلول الإله في الإنسان - أن يتصرفوا في الأحكام والقواعد الدينية تصرف الوحي الجديد لأنهم يستوحون مشيئة الله فيما يقولون ويعملون، ثم جهر بإلغاء بعض الشعائر المقدسة التي اتفق عليها المسلمون سنيين وشيعيين حيثما صرحت بها نصوص القرآن
ومن اليسير جدا أن يلمس المرء في هذه الحركة نزعة البيئة التي نشأت فيها طلائع الباطنية والإسماعيلية، بل نزعة البيئة التي نشأ فيها الإيمان بحلول أو رمز في جسد (مترا) رسوله الأمين في حربه الأبدية لإله الشر أهرمان
وفي الجزية العربية ظهرت الدعوة الوهابية والتي تنكر الترف في الكساء والبناء، يقع عليه الحس من جماد أو ذي حياة ومن اليسير جدا على المرء أن يلمس فطرة الصحراء في هذه الصرامة الخلقية وهذا الفصل الحاسم بين عالم الحس وعالم الغيب، خلافاً لتلك الأقاليم الهندية أو الفارسية التي امتزج فيها الحس بالتخيل واتصل فيها عالم الأرض وعالم السماء
وفي مصر ظهرت دعوة الإصلاح على يدي الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله فكانت تعليماً جديداً في المدرسة قديمة، أو كانت تفسيراً للقوانين الإلهية لا يخرج بها عن نصوصها ولكنه يحفظها في تلك النصوص ويقتبس منها المعنى الذي يوافق معارف العصر الحديث
ومن اليسير جدا على المرء أن يلمس في هذه الدعوة روح مصر التي عرفت نظام الحكم منذ ألوف السنين، وتعودت أن تدين بنصوص الأمر والنهي من ملك بعد ملك وأسرة بعد أسرة، فليس فيما تعلمه أو تدين به إلا ما هو نص محفوظ أو مستمد من تفسير النص المحفوظ بالمعنى الذي لا يخرج عليه، أو هي روح مصر التي عرفتها منذ قام فيها بالنبوة فرعونها إخناتون، وهي الأمة الوحيدة التي تلقت نبوتها من عرش وصولجان(601/7)
فالحركات التي تتمثل فيها روح التجديد أو الإصلاح بين المسلمين حركات أقوام وطبائع تختلف بينها في العقائد الروحانية والربانية على حسب الفطرة التي طبعت عليها، ولا تعوقها النصوص والكلمات عن اقتباس المعاني التي تتهيأ لها بفطرتها
وقد وقع خلاف كهذا الخلاف بين المسيحيين والموسويين يرجع إلى أسباب كهذه الأسباب من اثر البيئة الإقليمية أو البيئة الثقافية أو البيئة السياسية
فلسي في الإسلام إذن ما يمنع نشوء الحركات الروحانية أو يمنع الاتصال بين روح الإنسان ورح الله، وان كان المسلمون يأبون أن تلغى نصوص كتابهم كما يأبى الكتابيون من المسيحيين والموسويون أن تلغى نصوص التوراة والإنجيل
وإنما أصاب الدكتور براون في رأي واحد وهو كلامه عن حاجة النهضة الروحانية إلى زعيم قدير ينفخ في الأمم الإسلامية وغير الإسلامية من روحه القوية فينفعها وينفع البشر كافة من طريق نفعها
وقد شوهد أثر هذا الزعيم حين وجد، فإذا هو اثر عظيم قلما يشبه أثر الزعماء المصلحين في الأمم الحديثة، فكان جمال الدين الأفغاني باعثا لنهضات الإصلاح في الهند وإيران ومصر وتركيا وسائر الأقطار الإسلامية، وقد يخلفه زعيم مثله فيقترب الأمل الذي استبعده الدكتور براون لأنه لم ينظر إليه بعين المسلم الذي يستمد العزيمة من هذه الآمال
ومما لاشك فيه أن الإسلام اليوم قوة مانعة لكثير من الشرور التي تهب على الناس كافة من قبل المذاهب الهدامة التي تبنى على أساس المادية العمياء، وفي وسع هذه القوة المانعة أن تنطلق في سبيل الإصلاح قوة روحانية دافعة إلى الخير العميم، إذا قيض لها الزعيم العظيم
عباس محمود العقاد(601/8)
سر الخلود في الشريعة الإسلامية
للأستاذ محمود شلتوت
إنما شرعت الأديان لتصفية الارواح، وتخليص العقول من شوائب العقائد الفاسدة، لتؤمن بالله خالق الكون ومدبره، وتذعن لعظمته، وتعترف بوحدانيته، وتسلم من الخضوع والعبودية لكل ما سواه، وتتبع هداه وتسلك صراطه السوي فلا تضل ولا تشقى.
هذا هو الجوهر الذي قامت عليه سائر الأديان منذ عرفت الأرض هداية السماء، وهذا هو (الإسلام) الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهذا هو الوحي الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى به إلى نوح والنبيين من بعده، وهذه هي الوصية التي (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون).
تختلف الشرائع وراء هذا الجوهر في التفاصيل: فصور العبادات ليست واحدة، وأنواع التكاليف متعددة، ودرجات التثقيل أو التخفيف متفاوتة، كل ذلك باختلاف الأمم والأحوال والأزمان (لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم).
وقد قضت حكمة الله أن يضل هذا التدرج بالناس عصرا بعد عصر، ورسالة بعد رسالة، حتى تصل البشرية إلى مرتبة من النضوج الفكري والسمو العقلي، تتهيأ معه للاستقبال شريعة كاملة باقية، لا تنسخ بغيرها، ولا يأتيها الباطن من بين يديها ولا من خلفها، فكان ذلك في عصر محمد صلى الله عليه وسلم: اصطفاه الله لهذه الرسالة الكبرى بعد أن دعاه ورباه وصنعه لا عينه، ثم انتزعه من بيت الشرك والوثنية والكبر والعنجهية والثبات على الباطل الموروث إلى بيئة أخرى فيها صلاحية ولها استعداد لقبول دعوة الحق، فهاجر إليها مع صفوة من أهل الإيمان الراسخ، والولاء الثابت، يحبون الله ورسوله حبا لا تشوبه شائبة من أغراض هذه الدنيا، ويتسابقون إلى السمع والطاعة مخلصين راضين.
في هذا الجو الملائم وبين الأنصار والمهاجرين، اخذ الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بتفاصيل هذه الشريعة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وأخذت جماعة المسلمين تتركز ويتكون قانونها العام، واستمر ذلك بالتدرج مدة عشرة أعوام هي حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة حتى اصبح العالم أمام دولة ناشئة قوية لها(601/9)
أحكامها الشاملة، ومبادئها القوية في كل شان من شئون الحياة من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وميراث وهبة ووصية، وزكاة وصدقة، وقضاء وعقوبات وحرب وسلم وغير ذلك.
يومئذ أعلن القران في وضوح أن هذا الدين قد كمل كمالاً مطلقاً، وان نعمة الله به قد تمت، وانه قد ارتضاه لعباده فلا بنهل منهم سواء (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا)، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
بهذا تقرر، واصبح من العقائد الإسلامية، أن هذا الدين خالد، وانه بعقيدته وشريعته طريق الصلاح والنجاة للناس في دنياهم وأخراهم، وان العالم مهما طال بهم الزمن وامتدت به الحياة لا يحتاج في صلاحه إلى شيء وراء الاستظلال بظل هذا الدين، والعمل بمبادئه، ومن هنا استقر في الأذهان أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
ولكن ما سر الصلاحية التي استحقت بها شريعة الإسلام أن تكون هي الشريعة الخالدة؟ وهل في استطاعت الباحث أن يثبت ذلك في صورة علمية واضحة يستوي في النظر إليها جميع الناظرين؟
ذلك ما نريد في هذا المقال:
ليس الباحث أن يستقصي جميع الأحكام التي جاءت بها الشريعة المحمدية حكما حكما، ويتتبع ذلك كل جزئية من الجزئيات ليختبر مبدأ الصلاحية ويعرف مداه، فإن هذا شيء يطول ولا يكاد يقف عند حد.
ولكن حسبه أن ينظر إلى مبدأ واحد هو المحور الذي تدور عليه سائر الأحكام مهما تعددت وتنوعت، وبيان ذلك: أن من يتأمل حالة العالم في عصوره المتعاقبة وأطواره المتتابعة يعرف حق المعرفة انه كان يتردد بين طرفين من إفراط وتفريط،
وكان ذلك شانه في كل شيء: في العقائد في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة، في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون، وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وانهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعية البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي(601/10)
بالوقوف عند الحد الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح، وعدم التعرض للانحلال والفساد. أدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها مهما تنوعت وتشعبت في هذه الدائرة التي رسمها كتاب الله عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله):
هي في العقيدة وسط بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون ان هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليده المصادفات والتفاعلات المادية (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أنداداً: تقرر في صراحة وجلاء أن الله إله واحد، وأنه المعبود الذي لا يعبد سواه (قل هو الله اتحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)، (وقال الله: لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو إله واحد فأياي فارهبون)، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
وهي في الأخلاق وسط بين الذين يتحللون من كل الفضائل وبين الذين يشتطون في تصور الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها: تقرر أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولا تهور، لا بخل ولا تبذير، لا استكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وأساس ذلك كله قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
وهي في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية والبحت الإنسان التي لا تعرف شيئا وراء ما يقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للأموال وتكاثر وتفاخر، وبين الروحية البحت التي تزهد بالحياة وتعرض عنها إعراضاً تاماً، فلا زواج ولا سعي ولا عمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب! يقرر الإسلام في ذلك الوسط أيضاً فيقول (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطبيات من الرزق).
وهي طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط: لم تدع الناس يشرعون لا نفسهم في كل(601/11)
شيء، ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شيء بل نصت وفوضت: نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا وكيفية ونحو ذلك، وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك، وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه وتختلف المصلحة فيه بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد وكان ركنا من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الإنساني كرامته:
وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسط أيضاً: لم يترك الفرد طليقا يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث ويفترس ما يقدر عليه، ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه، وتنس اسقلاله، وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل إلا لها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يعرف لنفسه وجودا غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها، ولكنها اعتبرته ذا شخصية مستقلة، وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع، فأثبتت له، بالاعتبار الأول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده، ومنحته في هذه الدائرة حق التصرف بما يراه خيرا له وسبيلا لسعادته في حياته، وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني، حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان عن الوطن، وحقا في ماله في بالبذل والأنفاق في سبيل الله، وأوجبت عليه إرشاد الأمة وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأوجبت عليه أن يعمل لا نجاب النسل الصالح وتكثير سواد الأمة به فيختار الولود ذات الدين والخلق، لتقوى بذلك الأمة ويعلو شانها
وفي مقابل هذه الحقوق التي قررتها الشريعة على الفرد للجماعة، أوجبت على الجماعة للفرد حقوقا لا سعادة إلا بها: كفلت له دمه وماله وعرضه، وشرعت لحمايته حق القصاص وحق الحد والتعزيز، وجعلت له حق في لن تعينه بمالها إذا افتقر، وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع الحقوق والواجبات وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين، وعدم طغيان أحدهما على الآخر: فلو ضن الفرد بنفسه أو ماله أو لسانه على المجتمع ساءت حالته وأدركه الضعف والانحلال، ولو ضن المجتمع بقوته على الفرد فلم يكفل له سعادته، ولم يحفظه في ماله ونفسه وعرضه، ولم يعنه في حال فقره أضعفه وعرضه للهلاك، وبهذا(601/12)
وذاك تصبح الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمل، بل جحيما لا يطاق!
وكذلك كان شأن الشريعة الإسلامية في تحديد علاقة الأمة بغيرها من الأمم: لم ترض للمسلمين بحياة الضعف والذلة وان يكونوا عزلا من القوة ينتظرون حظهم، ويترقبون مصيرهم، وما تقرره الأمم الأخرى في شأنهم، ولم ترض لهم كذلك بحياة الظلم والاستبداد والفتك بالضعفاء والاعتداء على الآمنين في أوطانهم وأموالهم، ولكنها أمرت المسلمين بالاستعداد والتقوى بالعدد والعدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وأمرتهم أن يدعوا الله بالحجة والبرهان لا بالإلجاء والقهر (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)
ونظرت إلى الحرب وأسبابها الداعية إليها والمفضية إلى شب نيرانها نظرة تتفق وغايتها من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فحصرت أسبابها في دائرة معقولة تتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات: دفع الظلم والعدوان، وإقرار حرية التدين، والدفاع عن الأوطان، وإن القرآن الكريم ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:
(وقاتلوا في سبيل اله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة اعلموا أن الله مع المتقين) (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)
وقد أباحت الشريعة الإسلامية أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن من كل ما يرونه عونا لهم على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والعلم والسياسة والثقافة، ينظمون ذلك كله على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع والفطرة، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص، وقد أجازت الشريعة أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم
وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين،(601/13)
ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين)
هذا هو الصراط المستقيم، والمبدأ، الوسط، الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
محمود شلتوت(601/14)
وديعة مدينة سالم
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
محمد بن أبي عامر شاب عربي آباؤه من مسافر، وخؤولته في تميم. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلس في جند طارق بن زياد وارتقت بأسرته الأمور حتى عدت في اسر الوزارات في الأندلس.
نشأ محمد نجيبا طموحا هماما تبشر مخايله بنباهة شأنه، وتعد همته بعظيم مستقبله، بل تكفل آماله سؤدده، ويضمن عزمه مجده. سهر ليله وهو طالب علم يفكر فيمن يوليه القضاء إذا ل إليه أمر الأندلس. والمرء حيث يضع نفسه.
صار من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم وكيلا لولي العهد هشام بن الحكم المستنصر، وتداولت كفايته وحزمه المناصب إلى أن ولي شرطة قرطبة سنة إحدى وستين وثلاثمائة فضبط الأمور وقمع الأشرار ثم دعاه الغزو فلبى، فاجتمعت له الشرطة وقيادة الجيش.
فإما حزمة في الشرطة فقد قال صاحب البيان المغرب:
(فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من الكفاة وأولي السياسة. ولقد كانوا قبله في بلاء عظيم يتحارسون الليل كله. ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات؛ حتى ارتفع الباس، وأمن الناس. وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان حتى عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر في أيامه جملة).
وأما الغزو فكان قائده المظفر، وبطله المحبب. وسيأتي حديثه.
ما زال ابن أبي عامر يرقي منصبا إلى منصب، ويعلو مجدا إلى مجد كالنسر يعلو مرقبا إلى مرقب حتى يوفي على القنة. فلما توفي الحكم المستنصر وآل الأمر إلى طفله هشام اجتمع له الأمر كله وظفر بأعلى مناصب الدولة، حجابة الخليفة. ثم وكله إلى ابنه عبد الملك وجعل له القيادة العليا وسائر مناصبه وجعل ابنه عبد الرحمن وزيرا. وسما هو إلى(601/15)
السلطان الأعلى. وتسمى المنصور. وأمر أن يكتب عنه (من المنصور ابن أبى عامر وفقه الله) ثم كتب إليه باسم (الملك الكريم).
- 2 -
ملك ابن أبى عامر الأندلس ستة وعشرين عاما، يدبر شؤونها بعدله وعزمه ويعمرها ببره، ويجملها بأبنيته، ويضرب احسن الأمثال في البأس الذي لا يخالطه جور، والعدل الذي لا تشوبه هوادة، والأنصاف الذي لا يميز قريبا من بعيد، والحكم الذي لا يعرف إلا النصفة والمساواة والنفاذ على كل الناس في كل الأحوال.
ولم تكن سياسته العادلة الحازمة، اعظم من قيادته المظفرة. حتى لقد جاوزت غزواته أقصى غزوات الناصر، وحارب حيث لم يحارب قبله أمير من أمراء الأندلس.
غزا خمسين غزوة كانت الثامنة والأربعون منها إلى شنت ياقوب على البحر في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، ولم يحاولها قبله ملك عربي في الأندلس.
قال صاحب البيان المقرب:
(ومن أوضح الدلائل على سعده انه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما احسب شركة فيها اتحد من الملوك الإسلامية. ومن اعظم ما أعين به سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان).
- 3 -
هذه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة من الهجرة والمنصور بن أبى عامر يعزم على غزو جليقية في أقصى الشمال والغرب وهو مريض ولكنه كما قال أبو الطيب:
وقد علمت خيله أنه ... إذا هم وهو عليل ركب
سار من طليطلة إلى قشتيلة فأبعد الغارات فيها، ودوخ بلاد شانجه زعيم الأمراء المناوئين هناك.
وازداد بالبطل مرضه، (فاتخذ له سرير خشب ودع عليه أعضاءه وسوي مهاده متطاول(601/16)
الشكل يمكنه الاضطجاع عليه متى خارت قواه، وكان يحمل سريره على أعناق الرجال وسجفه منسدل عليه، وعساكره تحف به وتطيع أمره. . .
وكانت تحمل سريره السودان الرقاصة للين مشيهم. بذلك قطع أربعة عشر يوماً حتى وصل إلى مدينة سالم)
- 4 -
المنصور في قصره من مدينة سالم قد استولى على الأمد من مجده، وأوفى على الغاية من عمره. بنظر إلى الحوادث الجسام قد اتخذها درجا إلى المعالي، ويتمثل الزمان رخاءه وشدته وسلمه وحربه. ويرى الأندلس كلها وأصقاعا من المغرب طوع حكمه، وتحت أمره، ويشفق من تبعات هذا التاريخ المتطاول وأعباء هذا السلطان العظيم ويرى كل شيء وراءه ولا يرى أمامه إلا الموت. يقول:
(إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما فيهم أسوا حالا مني. وددت أن أفال زلتي، وأنا كبعض هؤلاء السودان الحاملين لسريري).
وأخذ الرجل العظيم يوصي أمراءه وجنوده. وخلا يولده عبد الملك يوصيه ويودعه ويقبض على يده، وكلما ذهب عنه استرده مستدركا بوصيته. وعبد الملك يبكي فينكر عليه ذلك ويقول هذا أول العجز والفشل).
أوصى عبد الملك وصية الخبير المحنك، الأريب المجرب. وافرغ في أذنه وقلبه تجاريب عشرات السنين. ولم يترك عظيماً من أمور مملكته وأسرته إلا بينة.
ثم أمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر ويعود هو إلى قرطبة ليتدارك أمور الملك.
- 5 -
ابن أبى عامر في مدينة سالم في أقصى الجزيرة الأندلسية، كالأسد ابعد في مساره، والنسر غالي في تحليقه، يختم مجده مجيداً، وينهي جهاده مجاهداً، ويختم قصيدة ظفره ببيت رائع، وسجل مجده بسطر بليغ، قصيدة مطلعها الطموح ومقطعها الظفر وسائر أبياتها الهمة التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تنثني، وسجل مقدمته طموح طالب علم في قرطبة، وخاتمته ملك(601/17)
حازم، وقائد مظفر، ومجاهد غاز في أقصى الثغور.
ليلة الاثنين لثلاث بقين من رمضان عام ثلاثة وتسعين وثلثمائة وألف في مدينة مات سالم الرجل النابغة والعبقري الداهية. ودفن في قصره هناك. وكان أوصى أن يدفن حيث يقبض ولا ينقل تابوته. وأراد أن يجعل قبره في هذا الثغر القصي دعوة إلى الجهاد دائبة، ومثلا في المجد سائراً، وحرزاً على الثغور حريزاً، ورباطاً على الحدود مشهوداً.
ليت شعري أين قبر المنصور من قصره من مدينة سالم؟ بل ليت شعري أين تاريخ ابن أبى عامر من صدور شبابنا، وكتب مؤرخينا، وأقلام كتابنا، وقصائد شعرائنا؟! يا شعراء العربية من ينظم القصيدة الرائعة التي عنوانها: (وديعة مدينة سالم)؟
عبد الوهاب عزام(601/18)
الله اعلم حيث يجعل رسالته
للأستاذ محمد محمد المدني
لا يكفي لنجاح أي نظام من النظم ولا تمام أي برنامج من البرامج أن يكون هذا النظام قوياً، أو يكون هذا البرنامج صالحاً، فكم من نظم قوية، وكم من مبادئ سليمة، وكم من برامج صالحة، صرعها الدهر وعفى عليها الزمان! ولكن أهم ما توطد به دعائم الإصلاح إلى منفذين صالحين يفقهونه ويدركون أسراره ويعرفون مراميه واغراضه، وتساعدهم صفاتهم وطبيعة نفوسهم على تحمل تكاليفه، والنهوض بتبعاته.
لذلك قضت حكمة الله، وقد طبع شريعته الخالدة بطابع الوضوح والصفاء واليسر والرحمة، أن يختار لها منفذاً ومطبقاً يكون له من الصفات النفسية ما لا يتنافر مع هذه الطبيعة، بل ما يستطيع به أن يجاري روحها ويمضي على سننها، وينفذ إلى صميمها، فاختار لها (محمد) صلى الله عليه وسلم، و (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
تمتاز هذه الشريعة بالصفاء والوضوح والصراحة في مواجهة شؤون الحياة، ومجانبة التعقيد والتكلف في كل شيء:
عقيدة سهلة لا تستدعي من العاقل اكثر من النظر في ملكوت السماوات والأرض، بل لا تستدعي منه اكثر من النظر في نفسه ليعلم أن له إلها قادرا حكيماً مبدعاً أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. عقيدة واضحة يدركها العامة والخاصة في كل زمان، وليست في حاجة إلى فلسفة المتفلسفين، ولا إلى تكلف المتكلفين، لأنها (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
عقيدة تفتح أمام صاحبها آفاق الحياة، وتجعله واثقاً من نفسه، غير مستعين إلا بخالقه، لا يعرف الخضوع والذل إلا لله الذي لا رب سواه.
وأحكام قوامها العدل والرحمة والتيسير على الناس، وبث روح التعاون فيهم، واقتلاع أسباب الشر والخصومة من بينهم، وتهيئة الحياة السعيدة لهم.
هذا الطابع الذي تمتاز به الشريعة الإسلامية، والذي هو مزاج من الصفاء والوضوح، والسهولة والتيسير، والرحمة والعدل، والصراحة في مواجهة شؤون الحياة، ومجانبة التعقيد والتكلف في كل شيء هو بعينه الطابع الذي طبع الله نبيه ومصطفاه: نفس صافية. مزاج سليم. قلب رحيم. لسان عف صدوق. صراحة في مواجهة شؤون الحياة. بغض شديد للنفاق(601/19)
والمنافقين. ترفع عن أساليب الختل والمواربة والخداع والدوران حول الأمور. تصرف عادل رحيم يبعث على الثقة، ويوحي بالطمأنينة، ويغري بالقدوة، ويحمل على الحب والإجلال!
كذلك كان رسول الله صلى اله عليه وسلم.
كان صافي النفس، وقد ظهر أثر هذا الصفاء في نواح متعددة من خلقه الكريم: فهو لا يحمل الحقد لاحد، ولا يحب أن يفسد عليه أحد هذا الصفاء النفسي فيقول: (لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني احب أن اخرج إليكم سليم الصدر).
وهو طبيعي في صلاته بأصحابه يمازحهم ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذرين، ويبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسماءهم إليهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وما دعاه اتحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال له لبيك!
وكان يكره التكلف، وينهي عن التشدد والتزمت (ويأخذ العفو ويأمر بالعرف ويخفض جناحه للمؤمنين، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الناس بالتي هي احسن، ويميل إلى اليسر والسهولة في كل شيء: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن آثما، وما سئل شيئا عنده إلا أعطاه، وما انتقم لنفسه قط، وما نهر خادما ولا مملوكا).
وكان سهلا إذا اخذ، وسهلا إذا اعطى، متلطفا في ضروب الإحسان: يقترض فيرد اكثر مما اقترض، ويشتري فيعطي أكثر من الثمن، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأضعافها، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكانت الصدقة احب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه اعظم من سرور الآخذ بما يأخذه. وكان إذا عرض له محتاج أثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان من خالطه وصحبه ورأى هدية لا يملك نفسه من السماحة والندى.
ولقد ظهرت آثار هذه الصفات الشريفة في سائر أحواله وتصرفاته صلى الله عليه وسلم، وظهرت في سياسته الحكيمة التي ساس بها قومه، وجعلها نهجا للحكام والرؤساء من بعده.(601/20)
وظهرت في تطبيقه لكتاب الله، وتنفيذه لأحكامه. وظهرت فيما أوصى به أمته مما يتصل بالعبادات أو المعاملات أو الأخلاق:
سامه أعداؤه سوء العذاب، واضطهدوه في نفسه وفي أصحابه، ورموه بكل منكر من القول وزور، وكانوا يضعون في طريقه الأشواك والأقذار، ويطرحون عليه وهو يصلي جلود الإبل والبقر؛ ويمنعونه وأصحابه أن يبيعوا لأحد شيئاً أو يبتاعوا، بل كانوا يتآمرون عليهم، ويدبرون المكائد لهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقي ذلك كله منهم صابراً محتسباً نقي الصدر من الحفيظة، سليم القلب من الموجدة؛ بل كان يلقاه بالدعاء لهم فيقول (اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون!)
ولقد خضبوا وجهه بدمه، وكسروا رباعيته، وهو مع ذلك عليهم، ولا يسأل الله تعذيبهم. ويقول: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً).
ولقد أخرجوه من مكة وطنه الحبيب إلى قلبه؛ وأخرجوا معه كل من اعتنق دينه، فلما أظفره الله بهم وفتح له مكة حطم أصنامها، أو زال أوثانها ثم خطب أهلها فقال: (يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
ولقد كان الرجل من العرب الجفاة الغلاظ يدخل عليه غبر مستأذن، ويناديه باسمه مجرداً يسأله عن شيء أو يقتضيه حقاً، فيحلم عليه ويجيبه متلطفا في خطابه، قاضيا حقه، فإذا غضب له أحد من أصحابه رده عن غضبه، وهدأ من ثورته. وقد أفضت هذه السياسة الرشيدة بكثير من أهل الكفر إلى الإسلام، واصبحوا بها من خيار المؤمنين!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم المعلم لأصحابه: يردهم إذا أخطئوا في رفق وأناة، ولا يعنف عليهم، ولا يؤنبهم، بل يبتسم لهم، ويبش في وجوههم. حدث معاوية بن الحكم السلمي قال: كنت اصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم، ولم اكن أعرف أن الكلام يفسد الصلاة، فقلت له يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم يتعجبون مما فعلت، فقلت: واثكل أماه! ما شانكم تنظرون الي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم وينظرون إلي متعجبين، فلما رأيتهم كذلك سكت حتى انتهى رسول الله صلى اله عليه وسلم من صلاته، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده احسن(601/21)
تعليما منه! فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني ولكن قال: أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفق حتى على أهل الكبائر من امته، وقد أقام الحد على رجل فمات فلعنه الناس وسبوه، فقال لهم: لا تلعنوه ولكن قولوا: اللهم اغفر له. اللهم ارحمه! وكان رجل يؤتي به إليه كثيراً وهو سكران بعد تحريم الخمر فلعنه الناس مرة فقال: لا تلعنوه فانه يحب الله ورسوله. فكشف لهم عما يعرفه من حقيقة نفسه ودخيلة قلبه لما رفضوه لظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب!
وجاءه مرة رجل وهو يصلي، فلما انتهى من صلاته قال له: يا رسول الله. إني أصبت حدا فاقمه علي، فسكت عنه، ثم عاوده الرجل بعد حين فقال له مثل ما قال فسكت عنه، ثم عاد إليه بعد صلاة الغداة فقال ليس: يا رسول له إني أصبت حدا فأقمه علي. فقال له: أصليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: فاذهب فإن الله غفر لك حدك!
وليس ذلك تهاونا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدود، وحاشاه، وهو القائل في حادثة المخزومية التي سرقت وشفع لها أسامة: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها!) وإنما ذلك رجل قد تاب قبل أن يعلم به أحد، أو يقدر عليه أحد، ومن تاب تاب الله عليه (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا بأهله، سهلا في معاشرتهم: روى انه كان يسرب إلى عائشة بعض بنات الأنصار يلعبن معها. ومر يوما جماعة من أهل الحبشة يلعبون، فقال: يا عائشة تعالي فانظري! فقامت فوضع لحيها على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت تنظر إليهم في سرور واهتمام، ثم قال: أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول له لا، انتظر. . انتظر!. .
ومن آثار صفائه النفسي وفائه صلى الله عليه وسلم، فهو لا يعرف الغدر ولا النكث ولا التنكر مع الزمان، لأنه لا يتقلب مع المنفعة، ولا تبطره النعمة:
كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد، فأرسلوا إليه رجلا منهم يفاوضه في أمر من الأمور، وهو أبو رافع، فلما رآه وحدثه أخذته عظمته وراعه حديثه، وألقى الله في قلبه الميل إلى الإسلام، وحينئذ نسيه الرجل انه سفير لقومه، وانه جاء(601/22)
للمفاوضة عنهم، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له في لهجة ضارعة: يا رسول الله؟ لا أحب أن ارجع إليهم فأبقني عندك! فماذا فعل الرسول؟ هل نسى عهده الذي بينه وبين المشركين؟ كلا. ولكنه قال: لا. لا. إني لا أخيس بالعهد ولا احبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع إلينا. قال أبو رافع: فذهبت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا صدوقا لم يعرف عنه أنه كذب مرة واحدة في حياته لا فبل مبعثه ولا بعد مبعثه، ولذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين ويرضون حكمه، وينزلون على قضاءه.
أن الكذب علامة من علامات النفاق، والنفاق لا يكون من أخلاق العظماء، ولا يخالط نفوس الأباة الشرفاء، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وان صام وصلى وحج واعتمر وقال أني مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أوتمن خان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يشدد على أمته ويسال الله دائما التخفيف عنهم، وكان يوصي أصحابه بألا يكثروا من سؤاله لئلا يشددوا على أنفسهم، ويقول (أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم على الناس) ويقول (دعوني ما تركتم. إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد إلى تعذيب نفسه وحرمانها من طيبات الحياة كما يفعل المتشددون الذين يتكلفون الزهد والورع قصدا إلى الشهرة بالصلاح، وإنما كان يأكل الطيب إذا وجده، وكان يحب الحلواء والعسل، ويعجبه لحم الذراع، ويستعذب له الماء.
وكان يأمر بالتبشير، ويكره التنفير. وقد بعث معاذا وابنه إلى اليمن فقال لهما: (تنفرا، ويسرا ولا تعسرا).
وكان يكره المبالغة في العبادة بما يشق على النفس، وقد دخل المسجد مرة فوجد حبلاً ممدوداً بين ساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا حبل لزينب: تصلي فإذا كسلت أو فترت(601/23)
أمسكت به! فقال: لا حلوة، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد.
وقال لأحد أصحابه (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إليك دين الله. لا أرضاً قطع ولا ظهراً ابقي).
وقد نزه الله رسوله الكريم حتى قبل بعثته عن كل ما كان يأتيه أهل الجاهلية من المباذل والمفاسد، وفي ذلك يقول صلوات الله عليه وسلامه عليه: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به إلا مرتين. كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته: قلت ليله لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى ادخل مكة فأسمر كمل يسمر الشاب. فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة فسمعت عزفا بالدفوف والمزامير فجلست انظر وأسمع، ولكن النوم غلبني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت ولم اقض شيئا، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك، ثم لم أهم بعدها بسوء!).
لهذه الحلال وأمثالها فطنت خديجة رضي الله عنها، فلما جاءه الملك لأول مرة بالوحي، وذهب إلى بيتها يقص عليها ما رأى، ويذكر لها ما يساوره من خوف على نفسه، قالت له: (كلا، والله لا يخزيك الله أبداً. انك لتصل الرحم، وتحمل الكل الإنسان وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق) عرفت من شريف صفاته ما اتخذته دليلا على نجاحه في مستقبل حياته.
هذه درس وعبر وآيات بينات تشرق واضحة في سيرة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتدل على خلاله الكريمة التي وافقت بها طبيعته طبيعة دعوته، فيها ما يفيد الناس جميعاً على اختلاف مراتبهم، وفيها ما يفيد العظماء والمصلحين بوجه خاص. إنها تقول بلسان فصيح:
يل دعاة الإصلاح: ليس الإصلاح أقوالا ثقال، ولا مذكرات تكتب، ولا مبادئ ترسم، لتخطف بها الأبصار، وتؤلف القلوب، وتقضي على حساب ذلك اللبانات. إنما الإصلاح أفعال تتحقق بها الأقوال. إنما هو تنفيذ حازم لما رسم من الخطط ووضع من البرامج. إنما هو مثل تضرب للناس يبدو فيها الإخلاص لله، والإيمان بالدعوة، والغيرة على الفكرة، والفناء في سبيل المبدأ.
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون)(601/24)
اسأل الله أن يعمر قلوبنا بالاخلاص، وان يشرح صدورنا للحق، وان يفتح لهدى الرسول أبصارنا، وينير به بصائرنا. إنه على ما يشاء قدير.
محمد محمد المدني(601/25)
اعترافات مؤمن
للدكتور محمد مندور
لا يستطيع مثلي أن يتنكر لجلال الفكر البشري، وهو منبع شقائنا وعزائنا على السواد، ولكنني احسب أن هناك أنواعا من ذلك الفكر، فالمرء قد يفكر بخياله وقد يفكر بقلبه. والتفكير بالعقل هو ما ينفر منه طبعي وذلك لأنه ما لم يحلق الفكر إلى عالم الصور الجميلة بخيال قوي أو يرسب إلى أعماق القلب بحرارة حية لم تهتز له نفس ولا اطمأن إيمان، وإن كنت لسوء الحظ مضطراً كغيري من البشر أن أكسر في بعض الأحايين جنح الخيال وان أطفئ حرارة القلب حين لا يكون بد من أن نتناول الأمور ببرودة العقل اللصيق بالأرض.
منذ أزمة الإيمان التي صادفتني في اليفاعة كما أحسبها صادفت غيري وأنا دائم التفكير في حقيقة ذلك الإيمان. ولقد مرت بي عقب تلك الأزمة مباشرة أعوام كنت أناقش فيها كل من القي عن المشاكل التي يثيرها العقل عن وجود الله وكيف كان ذلك الوجود وعن علاقته بهذا العالم وما فيه من خير وشر. ولاشك أنني كنت ابحث عندئذ على غير وعي مني عن يقين اطمئن اليه، ولكني اعترف في بساطة أنني ما قرأت ولا سمعت ما يوجب ذلك اليقين، حتى أصابني ما يشبه الملل فلم أعد أطيق الحديث في هذه الأمور، وأصبحت كلما سألني عنها سائل أو تحدث بها متحدث بها متحدث رميته بالتفاهة وذلك بوعي مني أو غير وعي، ولكنها تفاهة لا يمكن أن أعفيه منها مهما بلغ سؤاله أو حديثة من عمق أو أصالة. ولقد حاولت غير مرة أن أتبين السر في موقفي هذا فوجدته، أو خيل إلى أني قد وجدته، في أمرين: أولهما أن العقل نفسه نشاطه الأكبر موجه إلى تقويض ذاته، فهو لا يزال يبحث عن حدود قدرته ويتناول بالشك ما يصل إليه من آراء ونظريات يعاود فيها البحث فيقوضها حتى اصبح نقده لنفسه خليقاً بأن يهدم ثقتي فيه. وثانيهما أني كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلى ما لا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة، ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميداً لكلية الطب بباريس يقول: إن من إمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه، والعقل القوي هو الذي يغرف حدود قدرته). لقد خيل إلى عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت مظلماً في نفسي، فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضاً. ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله فهذا رجل ضعيف(601/26)
العقل مبدد لنشاطه هدراً
أنا إذن لا احب الحديث عن الإيمان ولا أؤمن بالدعوة اليه، ولكنني مع ذلك مؤمن إيماناً راسخاً، وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان، فقد تهب أعاصيرها ومن الممكن أن تتنكر لي يوماً عناصرها ذاتها، ولكن ذلك لا أظنه ينال مني شيئاً، وذلك لا اعتزازاً مني بعروض حياة أو مواهب نفس، ولكن لأنني مؤمن باله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا اذكر أنني قد اتجهت إليه يوماً فلم أجد تأييده، وعند ما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس غير الصمت الساكن ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي ابغيها، وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي إلى تلك الوسائل كالآلة المسيرة وهي تعرض لخاطري في لمحات خاطفة فأسير إليها دون أن أتبين حتى مواقع اقدامي، وإنما اكتفي بما استشعر من ثقة من أنني ما دمت قد تركت السكون إلى الحركة فإنني في سواء السبيل. ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات، فلا يمكن أن يساورني شك في أنها ستذل ولو في اللحظة الأخيرة وذلك هو الإيمان الهادي
من أين لي بهذا الإيمان وقد لقيت ضروبا من الناس وقرأت ألوانا من الكتب، ودرست أنواعا من اللغات والثقافات، بل وخبرت الحياة هزلها وجدها في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات. أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد به، ولا اكتشفته في بطون كتب، ولا تلقيته من أفواه بشر، بل ولا غرسته بمواصلة القيام بشعائره كما نغرس في النفس مختلف العادات بدوام مزاولتها، وإنما هو إحساس قديم مكنت له في نفسي حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي
ولا أرى ضيرا من أن أقص طرفاً منها على القراء فتلك تجارب بشرية قد تكون أجدى في إلقاء بعض الضوء على مشكلة خطيرة هي مشكلة الإيمان من كثير من موسوعات علوم التوحيد والكلام، ولها على الأقل ميزة الصدق النابض بالحياة، وهي صادرة عن نفس فيها من القوة ما لا يصرفها عن أن ترد كبار الأمور إلى صغائر الأشياء عند ما تؤمن أن تلك الحوادث الصغيرة هي الأسباب الحقيقية التي تتضاءل إلى جوارها كبرياء العقل ومغالطات الإحساس
عندما أخذت أدرك علمت أن والدي قد بنى بأحد حقوله (خلوة) لا منفذ لها غير الباب وانه(601/27)
قد هجر زوجته وأبناءه أربعين يوماً ليقيم في تلك الخلوة يعبد الله فيها آناء الليل وأطراف النهار لا يرى أحدا ولا يراه أحد، وإنما يحمل له الطعام من خصائص الباب. ولقد أثار هذا الخبر خيالي فكنت ألاحق أبي بالسؤال عنه ولكنه رجل كتوم لسره فلم احظ منه بجواب غير أن دافعه كان عبادة الله وكفى. ثم علمت أن الشباب كان قد ساقه في مهاويه فلم يجد عصمة خيراً من معاهدة أحد علماء الدين على التوبة إلى الله. وكان هذا العالم نقشبندي المذهب وكان رجل خيراً، فلم يعد تأثيره على والدي حد توجيهه نحو تجنب الإثم، وعبادة الله، والإحسان إلى الناس، وقراءة كتب الدين ولكم من مرة حاولت ان اعرف شيئا عن هذه الطريقة فكان أبي يرفض الإدلاء بشيء، مكتفيا بان يخبرني بان تلك أسرار لا يجوز أن تباح، ومن غريب الأمر أنني علمت منذ ثلاثة أشهر فقط أن لفظة نقشبند معناها النقش على القلب. واستنتجت من ذلك أن سر هذه العبادة هو أن يستشعر الفرد دائما أن اسم الله منقوش على قلبه. ولقد لاقيت والدي منذ أيام فأخبرته فرحا مسرورا أنني قد عرفت معنى الفظة دون بحث عنه، ولكن بتوفيق من الله ساقه إلى سوقا. فدهش الرجل وقال: (هو هذا وهو سر العبادة) وإذن فقد خلا أبى لعبادة الله أربعين يوما، وتحرك خيالي لتلك الخلوة، ولكنني لم يكشف لي عن سرها، واقتنعت بأنه لا يجوز لي لن أتطاول إلى معرفة هذا السر، ولقد آمن أبي سنين طويلة بأنه قد نقش اسم الله على قلبه واتخذ من هذا النقش سبيلا إلى حمده منعما وسالباً، وسمعت بذلك، ولكني أيضاً لم أكشف سر هذا الحمد، وآمنت انه لا يجوز لي لن أتطاول إلى كشفه، وهكذا تهيأت نفسي إلى الإيمان بالمجهول والاطمئنان إليه والثقة به، وأكبر ظني أن الخير ما أراد الله. فلو أن أبي بصرني بما أردت لخلت نفسي من الأسرار ولا أصابها العقم. واتفق أن أبي لم يستطع أن يتم حجه في بعض المرات إذ أصيب بنقرس شديد في السويس وأنا عندئذ في السادسة من عمري، والزمه المرض الفراش عامين كاملين قاسى فيهما من الألم ألوانا حتى لا أزال حتى اليوم كلما ذكرت أنينه اقشعر جلدي. ولست ادري لأي سبب ارتبط هذا المرض في نفسي بالإيمان حتى لا احسبه ثمن ما افاض الله علي والذي منه، ولا زلت منذ ذلك أؤمن بأنه لابد أن يبتلي الله المؤمن ليختبر إيمانه وان المرء لابد تاج ما سلم الإيمان في قلبه
وعندما اختارتني الجامعة لبعثها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي ابلغ الأثر:(601/28)
أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت (المصحف) على قمة الكتب، ورأى والدي ذلك عرضا فسر سرورا لم اقصد اليه، ولربما جاء توفيق من الله. وحدث اخوتي عما رأى قائلا (إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسيوفق في كل ما يعمل) فسألوه (ولم ذلك) فأجاب (لأنني لاحظت انه وضع كتاب الله فوق كل كتاب) ثم أنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن احتفظ بها مدة غيبتي وان أعود بها إليه، وكانت تلك الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي على الهدى. ولقد أخذت المنديل واحتفظت به تسعة أعوام التي مكثها بأوربا وعدت وهو لا يزال إلى اليوم بين ملابسي. ولا أستطيع أن ازعم أنني قد علقت به أيمانا خاصا أو قوة معينة بل ولا فكرت في ذلك، ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح. وقد اختلطت في نفسي قيمة الهدية بمحبتي لمهديها وإيماني به، وكان لهذين الحادثين فضل دائم في ردى الإيمان كلما تجهمت لي الحياة.
ولقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلى الغير، حتى لأحسب أنني عاجزاً عجزاً أصيلا عن بغض واحد، قد يقسو قلمي وقد يلذع لساني، ولكنني ما عدت إلى نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه. وأكبر ظني أن هذا الاتجاه كان أيضاً لا شعاع من والدي، وليسمح لي القراء أن أقص حادثا عائليا كان له في هذا الاتجاه أكبر الأثر كان لوالدي تسعة أخوة وكان يحبهم جميعاً حباً قلبياً صادقاً حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه هو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار، وكان اصغر اخوته رجلاً كريماً متلافاً، وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرمه وان أحزنه إتلافه لماله، ولقد هدد هذا الإتلاف ثروته حتى أوشكت أن تضيع، وكان والدي يحرص على أن يستنفذ من تلك الثروة ما يستطيع، وحدث ذات يوم أن ألح الدائنون بالمطالبة وكان الوالد يستطيع عندئذ أن يسكتهم ببعض ماله الخاص ولقد فعل وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري وكانت والدتي ككافة الأمهات تحرص على أن يستبقي الوالد أمواله لأبنائه، وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي فانتحى بي والدي في الليل ناحية واسر لي بنيته طالبا إلى أن اخفي الأمر عن والدتي وأخي. ولقد رأيت في هذه الحركة ثقة بي برغم حداثة سني أثرت في نفسي ابلغ الاثر، فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير وآمنت انه جزء من الإيمان حتى(601/29)
استقر بي الرأي إلى أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلى الناس لابد يخلفه الله بالخير إلى صاحبه، ولا زلت حتى اليوم اعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ الحين. وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب، بل زكاة بالإحسان.
هذه هي عناصر الإيمان في نفسي، اطمئنان إلى المجهول، وعدم تطاول بالعقل إلا ما لا يستطيعه، وربط للأخلاق بالإيمان، وتسامح مع الناس، وعمل للمعروف حيث نستطيعه. وأما منابع ذلك الإيمان فهي كما ترى لم تنك محاجة عقلية ولا إثارة عاطفية، ولكنها حوادث صغيرة كانت ابلغ في تمرسه بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب
محمد مندور
المحامي(601/30)
من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة
صديق إبليس
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة): (لم أزل أرى كلثم (هي بنت سعد المخزومية زوجة عمر) اجزل النساء رأياً وأصلبهن مكسراً، وأقواهن على غيرة قلبها سلطاناً، حتى إذا كان منذ أيام رأيت امرأة قد استعلن ضعفها، وتهتك عنها جلدها، وعادت أنثى العقل يغويها الذي يغريها.
(وإن انس لا انس يوم احتلت عليها حتى دخلت إليها، وقد تهيأت لي أجمل هيئة وزينت نفسها ومجلسها، وجلست من وراء الستر، فلما سلمت وجلست، تركتني حتى سكنت، ثم رفعت الستر عن جمال وجه يخطف الابصار، ثم رمت في وجهي تقول: أخبرني عنك أيها الفاسق! ألست القائل كذا وكذا؟ تعني أبياتاً لي، فما زلت أفتل في الذروة والغارب، وهي تند علي وأنا مقيم عندها شهراً لا يدري أهلي أين أنا، ولا ادري ما فعل الله بهم. ولا والله ما مر على يوم إلا حسبتها امرأة قد خلقت بغير قلب، لما ألقاه من عنادها وامتناعها، وأني لآتيها بالسحر بعد السحر من حديث تحن عليه العوانس المعتصمات في مرابي الزمن، وأنا يومئذ شاب تتفجر الصبوة من لساني، ويتلألأ الغزل في عيني، وهي يومئذ غادة غريزة لو نازعها النسيم، فيما أرى، لاستقادت له من دلها ولينها وغضارة العيش. ولبثت شهراً أقول واحتال واستنزل عصمها برقي السحر، حتى إذا قلت قد دانت، انفلتت مصعدة قد تركتني شاخصاً أنظر إلى صيد قد طار، ثم اطرق ناظرا إلى سحر قد بطل فلما اشتد ذلك على أستاذاتها في الخروج إلى اهلي، وقد يئست منها ومن هواها، فما سمعت حتى قالت: (يمين الله أيها الفاسق! بعد أن فضحتني؟ لا والله لا تخرج أبدا حتى تتزوجني!) فتزوجتها وهي احب النساء إلى أن أتزوج، وما زلت معها وأنا لا أنكر منها شيئاً، وأقول الشعر تأخذه الألسن لتشيعه إلى الآذان، وادخل بيتي فألقاها فلا أسمع منها قلت وقلت! فيكربني إغفالها لما يبلغها من الشعر، فألح على النسيب، واذهب كل مذهب في التشبيب، واتبع النساء بعيني وقلبي، وأقول، فلا والله ما نبض لها قلب ولا تحركت لها جارحة، ولقد ادخل عليها فإذا هي تلقاني ضاحكة لاهية، حتى أقول: لعلها لم تسمع! فأنادي مولاي وأملي عليه، وهي بحيث تسمع ما أملي، وأتخلل الإملاء بالشكوى والحنين وارفع بهما صوتي، ثم انهض(601/31)
ألقاها فما أرى وجهها يربد أو يتمعر، فكان ذلك غيظي وشقوتي، لا تزيدهما الأيام إلا اتقاداً. ويلمه كيلاً بغير ثمن! كم ذا أغيرها فلا تغار!
وأقبلت ذلك اليوم، بعد مرجعي من الكوفة بشهر أو اكثر، فاستقبلني جوان (هو ولد عمر من كلثم) فقال: (يا أبه. امي، ما فعلت بها؟) قلت: (أمك! بخير يا بني وعداها السوء). قال: (كلا يا أبه، وما ادري ما بها، غير أني ظللت أياما أستخبرها، وهي خالية، عما بريبها أو يؤذيها، فلا أسمع منها إلا ما تنشده من شعرك
كُمَّا كَمثل الخْمرِ كان مِزَاَجَها ... بالماء، لا رَنْقُ ولا تكديرُ
فإذا وذلك كان ظِلَّ سَحَابة ... نَفَحَتْ به في المُعْصراتِ دَبورُ
(ثم تنظر إلي وتقول: يا جوان، امض لشأنك، ولا تنسني في صلاتك، فورب هذه البنية، لقد حملتك ووضعتك وأنا أدعو الله أن يجنبني الشيطان، وان يجنب الشطيان ما يرزقني، فكنت أنت يا بني دعوتي، فادع ربك يا جوان لامك التي حملتك وهنا على وهن.
فابْكَ ما شئتَ على ما انقضىَ ... كل وَصْلَ مُنْقَض ذاهبُ
لو يردُّ الدمعُ شيئاً، لقد ... ردَّ شيئاً دمعُك السِاكبُ
فأقول: (يا أماه لقد أفزعتني!) فتقول: (اذهب يا بني (لو ترك الفطا ليلاً لنام). ثم تشيح وتنصرف، ولا والله ما قدرت منها على اكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتك. فبالله، يا ابه، لا تدع أمي تموت بحسرة تتساقط عليها نفسها! ارحمها يرحمك الله.
ويذهب جوان ويدعني لما بي، ويأخذني ما حدث وما قدم، وكيف ولم أنكر منك يا كلثم شيئاً منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وأني لأدخل عليها فتداعبني وتضحك لي وتذهب بي في لهوها مذاهب، ولا والله أن وقعت منها على مساءة تضمرها أو هم تكتمه، وكأن الحياة قد منعت دونها غير النفس فهي لا تتغير. وهذا جوان يقول، فلئن صدق لقد كذبتني عيناي وكذب على قلبي، وان كلثم لتلهو بي وتتلعب وأنا في غفلة عن كبر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار انظر، فإذا كل شيء أراه قد لبس من هم نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضي قد بعثت في أسمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنبات البيت وهي تنظر إلى نظرة الذليل المطرد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهن كاللبؤة المجربة ربعت أشبالها، وإذا أنا اسمع همهمة كأنين الجريح تنفذ في أذني من حيثما(601/32)
أصغيت، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأت علي مرفقي، والغشية التي أخذتني تتقشع عني شيئاً بعد شيء. وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جوان كما كان، فنهضت من مكاني اطلب كلثم في غرته حيث هي من البيت.
وقصدت مقصورتها فإذا هي قد اجافت الباب، فذهبت أفتحه وان يدي لتأبى على أن تمتد خشية أن اطلع منها على ما يسوءني، وهي أحب إلي من أراها مغمومة أو مكروبة، على غير ما عودتني وعودتها. فأستأذنها من ورائه فقالت: (مهلا يا أبا الخطاب، وبخير ما جئت). فقلت لنفسي: (كذب والله جوان وما كان كاذباً). فلما فتحت لي الباب رأيت سنة وجه كالسيف الصقيل يبرق شباباً ورضي، وقالت: (مرحباً يا عمر، لو رأيت الساعة جارتي وهي تدخل على ساعية تجري تقول: سيدتي أدركي مولاي فقد سمعت الناس يتناشدون من شعر قاله اليوم، وإذا فيه
ليسُ حبٌّ فوق ما أحبَبْتُها ... غير أن اقتل نفسي أو أَجّنْ
فاحفظيه يا سيدتي من روعة المصيبتين. فقلت لها: لقد وفى مولاك السوء أن ليس بينه وبين الناس إلا لسانه! ولا يقتل مولاك نفسه أو يجن حتى يقتل الحمام نفسه على هديله أو يجن)
لم ادر ما أقول، فقد كانت كلمات جوان قد تشبحت لعبني ودوت في أذني، فما أطقت صبرا أن أسألها: (ما يقول جوان؟ زعم انك لا تزالين مهمومة لأمر يستخبرك عنه فلا تخبرينه، ولقد مضت السنين بيني وبينك، ولا والله ما علمت إلا خيراً ولا رأيت إلا خيراً، وما قال إلا ما يجعلني آسى على ما كان مني إليك مما ساءك أو رابك). وما كدت أتم حتى رأيتها تنتفض كالرشا المذعور أفزعته النبأة، وبرفت فتخاذلت وغرق صوتها فما تنطق، فخاصرتها ومشيت بها إلى مجلس في البيت وجلست أتحفى بها حتى تهدأ. وبعد قليل ما قالت: (أما إذا كان هذا يا أبا الخطاب فوالله أن كتمتك شيئاً).
ثم أطرقت ساعة، وأنا أنفذها ببصري اطلب غيب ضميرها، ثم رفعت إلى بصرها ونظرت نظرة المرتاب ثم قالت (إني محدثتك يا أبا الخطاب عما كان كيف كان. هذه جارتي ظمياء تدخل علي كالمجنونة منذ أيام تقول: (آمنت يا ظمياء! ما يروعك؟) فتقول: (لا والله ما يروعني إلا أن ادع مولاتي توصم بين نساء قريش وبني مخزوم، ويتحدث(601/33)
أهل مكة أن أم جوان قد لقيت من البلاء كذا وكذا). فأقول: (ويبك يا ضمياء! انظري ما تقولين!) فتقول: (لا والله أن هو إلا الحق، أرأيت إلى تلك البيضاء الصهباء ذات العينين التي ما زالت تجيئني منذ أيام، لقد قالت لي في عرض حديثها: يا ظمياء لقد جئت مكة من بلاد بعيدة، وإني لأسمع الناس على الطريق يذكرونها ويذكرون بيت الله الحرام، فما ازددت إلا شوقاً أن أرى بيت الله الحرام، وان أرى الناس يجاورون هذا البيت العتيق، وما وقع في قلبي إلا أن أرى دنيا لم أراها، وقوما كتب الله لهم أن يكونوا أطهر واتقى الناس لله. ولقد خرجت من بلادي وهي ابغض إلي لما أرى من فجور أهلها وانغماسهم في كل إثم وباطل، وكنت أرى اشد أهلنا فجورا ولجاجاً أولئك الشعراء. ثم دخلت بلادكم وطوفت فيها ما طوفت حتى إذا انتهت إلى أرضكم هذه، لم أزل اعرف الشعراء فيكم افجر وافسق وأضل).
(فما أطقت أن اصبر يا مولاتي حتى قلت: (مه ياصهباء، وكذبت. وأين بنو الأصفر من بني يعرب؟ فإن شاعر العرب ليقول، وأن قلبه لاطهر من أن يدنسه ما يدنس به شعراؤكم أنفسهم يا بني الأصفر. وهذا مولاي وهو اغزل العرب لساناً، وما علم أحد عليه سوءاً. قالت صهباء: ما أحسن ما رباك أهلك يا ظمياء! وأحسني ما شئت ظنك في مولاك قلت: تبا لك. وإنك لتريغين إلى مولاي منذ اليوم، فلا والله لقد كذبت وخسأت أيتها الصهباء الطارئة التي لا مولى لها. فقالت صهباء: كذبت وخسأت! ما اصدق ما قال مواليك (من دخل ظفار حمر) وإنك لغريرة يا ظمياء، وأنا الصهباء الطارئة من بنات الأصفر لأخبر منك بغيب مولاك عمر. قلت: كيف قلت؟ قالت: انه الحق، وإن لمولاك غيباً عميت عنه عينك وعين مولاتك، وهو أحرص عليه من أن يطالع على خبئه اتحد قلت وأني لك أيتها الغريبة؟ قالت: دعي عنك، فهو الذي أحدثك.
(ثم دنت مني كالتي تسر إلي وقالت: ما كذبتك أيتها الحلوة الغريرة، فهذا مولاك قد ذهب إلى الكوفة منذ زمن، ألم يكن ذلك؟ وهذا مولاك قد نزل يا فسق خلق الله وأخبثهم عبد الله بن هلال الحميري الذي يزعم انه صديق إبليس وختنه وصاحب سره، وإذا هذا الفاجر يخرج إليه فينتين من أجمل خلق الله وأحسنه يغنيانه بشعرة حتى ذهب عقله، وإذا هو يدير مولاك يوما بعد يوم على أن يفتتن بهما، حتى إذا بلغ منه ما أراد ضمن له أن تكونا(601/34)
بالطائف بحيث لا تراهما عين بشر. لا تنظري ألي كالمرتابة، فهذا الخبيث ابن هلال قد ألقى الطاعة إلى إبليس حتى عظم أمره عنده فهو يخدمه ويناطقه، وحتى لقد ترك له الصلاة العصر تقرباً إليه، وحتى أباحه إبليس أن يأمر الشيطان تتلعب ببني آدم ومن شرطه عليه أن لا يزال أبدا يجمع بين الرجال والنساء في الحرام. وهو رجل كما يقول مولاي. . .) قالت ظمياء: وان لك لمولى يا صهباء؟ قالت صهباء: دعيني حتى أتم يا ظمياء. . هو رجل قد أوتى من القوة على السحر والقدرة على تلبيس أنظار الناس ما لم يجتمع لأحد من شياطين السحرة قبله، فلو هومس وجه امرئ بمنديله الأزرق ذي الوشي لم تأخذه عين بشر. وهكذا هو يفعل بمولاك وصاحبتيه حتى لا يراهم الناس. قالت ظمياء: وان هذا يكون؟! قالت صهباء: نعم! وليس في الأرض أحد يطيق أن يدر أشر هذا الشيطان الخبيث إلا مولاي. فقالت لها ظمياء: ولكن أني لمولاك يا صهباء أن يكون عرف الذي خبرتني به إن كان ما تقولين عن مولاي مما سمعته منه؟ قالت ظمياء: فدنت مني ونظرت في عيني بعينين مذعورتين يخفق فيهما مثل شقائق البرق، ثم قالت: ما من شيء يفعله هذا الخبيث ابن هلال حيث كان إلا كان عند سيدي خبره. فقالت لها ظمياء: ويبي! أحقاً قلت يا صهباء؟ قالت: وي، أو كنت كاذبة عليك وما أنا وأنت إلا من هذه الجواري الغريبات المستضعفات؟ ومالك تكذبيني وان عندي من برهان ذلك ما لا قبل لك برده. قالت ظمياء: بالله! قالت!: بالله، فاذهبي إلى صوان سيدك في هذه الغرفة التي إلى جوارنا، واخرجي من بين المطرف السابع والثامن من ثياب مولاك ما تجدين!
(قالت كلثم امرأة ابن أبي ربيعة):
(فهبت ظمياء فدخلت إلى صوانك (تعني عمر) فأخرجت شيئاً رجعت به إلى صهباء. ثم إذا هي تدخل علي وتقص قصة ما كان، فأمرتها أن تأتيني بصهباء لأسمع ما تقول، فروت لي كل ما حدثتك به يا أبا الخطاب.
(قال عمر بن أبي ربيعة):
(فما تمالكت أن قلت لكثم: ما تقولين؟ وأي شيء هذا الذي كان بين مطرفي السابع والثامن؟ فقالت كلثم رويدك يا عمر، أما أن تدعني أتم وإلا والله لأسمعت مني شيئاً حتى يقطع الموت بيني وبينك. قلت: ويحك، فأتمي:(601/35)
قالت كلثم. (ثم إني سالت صهباء عن سيدها ومولاها، فقالت انه رجل صالح يسيح في الأرض، وانه قد جاء فحج حجته وهو على سفره بعد قليل يضرب في البادية حيث يشاء الله. قلت لها: أو يعلم مولاك من أمر ما تحدثيني عنه أكثر مما قلت؟ قالت: لا ادري يا مولاتي، فإنه ربما دعاني ويجعل يحدثني حتى أقول لن يسكت، وما هو إلا كخاطفة البرق حتى يقطع فلا يتكلم. فربما عدت فسألته فلا والله ما يزيد على أن ينظر إلي ويبتسم. قلت لها. أو تستطيعين يا صهباء أن تأتيني بمولاك، ولك عندي مائة دينار؟ كلا لا نلت من مال مولاتي شيئاً، ولكني سأديره حتى يأتيك لما أرى في وجهك من الخير والسعد
(البقية في العدد القادم)
محمود محمد شاكر(601/36)
نظام الشورى في الإسلام
بين الكثرة والقلة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كم في السيرة النبوية من أسرار التشريعية لو رجعنا إليها لأغنتنا عن الاستعانة بغيرها من التشريعات المنحرفة، في عصر ظلت فيه السياسة ظلالا بعيداً، وطغت فيه التعصبات الحزبية حتى أعمت الأمم عن النظر في مصالحها العامة، وآثرت عليه النظر في مصالحها الحزبية، وحتى ثارت في كل أمة خصومات وخلافات خطيرة تفرق كلمنها، وتقضي على الأخضر واليابس فيها، لأن الحكومة تكون فيها على أساس الحزبية، فكل حزب يعمل كل ما يوصله إلى الحكم، ويرى مصلحته في هذا فوق غيرها من المصالح
وقد أخذنا نظمنا الحديثة في الشورى على تلك الأمم، وقلدناها في تلك السياسة الحزبية العمياء، فظللنا وجه الصواب كما ظلت، وأخذنا نتخبط في حكمنا مثلها تخبطا معيبا، حتى اضطربت أمور الحكم فينا، وحررنا من الاستقرار الذي لتفرغ فيه لمصالحنا
ولو رجعنا إلى السيرة إلى السيرة النبوية لوجدناها سنة نظام الشورى على وجه يسود فيه التسامح، ولا يغلو في التعصب للرأي إلى ذلك الحد المعيب، فسارت سياسة الحكم في هدوء، واستقرار الأمر استقراراً ظهر فيه الحق بوضوح، فلم يعمه عن أعين الناس تعصب للرأي ولم يصرف الأمة من مصلحتها العامة مثل ذلك التغالي في الخلاف
وقد تم ذلك في غزوة أحد من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، فقد وقع فيها خلاف بين المسلمين انقسموا فيه إلى فريقين: أحدهما يمثل الكثير، وثانيهما يمثل القلة، فحل الخلاف بينهما على وجه لا اثر فيه للتعصب ولا يمكن أن يكون هناك أتم منه في وجوه الشورى
وكان ذلك الخلاف أن رجالاً من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، لمل كانوا يسممونه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من شهدها، وعظيم ثوبه فكانوا يودون غزوة ينالون فيها مثل ما ناله أهل بدر وإن استشهدوا، فلما سار المشركون في غزوة اتحد إلى المدينة رأوا أن يخرجوا منها لقتالهم، وعرضوا رأيهم هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(601/37)
فنام النبي صلى الله عليه وسلم ليلته فرأى رؤيا، فلما اصبح قال: والله إني قد رأيت خيراً: رأيت بقرة تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة. فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل، وإني رأيت أن تقيم بالمدينة وتدعوهم ينزلون حيث نزلوا، فان أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم ورموا من فوق البيوت
وكانوا قد شبكوا المدينة بالنبال من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فكانت حصنا قويا لأهلها، وكان الرأي أن يقيموا فيها، كما فعلوا بعد ذلك في غزوة الأحزاب فلم يقو المشركون على اقتحامها على المسلمين، وكانت جموعهم فيها أكثر من جموعهم في غزوة أحد
فقال أولئك القوم الذين أسفوا على ما فادتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث لم يمكنهم أن يشهد تلك الغزوة الكبرى، فاحبوا لقاء العدو وطلبوا الشهادة فأكرمهم الله تعالى بها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا
وقد رأى عبد الله بن أبي رئيس المنافقين تلك الرغبة الصادقة في القتال من أولئك الشبان، فساءه هو ذلك منهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فأن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا خائبين كما جاءوا
ومال هذا لا يحمد من عبد الله بن أبي وإن وافق فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحق ليس في كلمة القتال، ولا في فعل يظهر بين الناس، بل لابد من هذا من صدق النية، وحسن المقصد، وقد عول الإسلام على النية في الأقوال والأفعال اكثر من التعويل على الأقوال والأفعال في ذاتها، حتى أثر قي ذلك القول المشهور: نية المرء خير من عمله
فلما سمع أولئك الشبان ذلك القول من عبد الله بن أبي لم يأبهوا له، واجتهدوا في حمل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وقال حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن أعداؤنا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا. وزاد حمرة: والذي انزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم(601/38)
طعاما حتى أجالدهم بسقي خارج المدينة. وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلناه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: له. فقال: لأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. وقد استشهد رضي الله عنه في هذه الموقعة
وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الذين يرون من أصحابه رأى أولئك الشبان أكثر من الذين يرون رأيه، فنزل طائعا على رأي ذلك الفريق الذي كان أكثر عدداً، وترك رأيه إلى رأيهم، وهو الرئيس الأعلى والرسول المبعوث إلى الناس كافة، لأنه رأي أن من يوافقه في الرأي اقل عدداً من الفريق الأول، فلم ينظر إلى شخصه في ذلك الخلاف، وإنما نظر إلى التشريع الذي يجب أن يسن في تلك الحادثة من الشورى التي شرعها في الإسلام، ليستقيم للمسلمين أمرهم فيها، ولا يقعوا في ذلك التعصب الأعمى للرأي، فتنقلب نعمة الشورى نقمة، ويضل الناس بها سبيل الحكم الصالح، وبهذا علم المسلمون أنه يجب عند اختلاف الرأي في الشورى أن ينزل الفريق الأقل عدداً على رأي الفريق الأكثر عدداً، وإن كان يرى انه رأيه هو الأرجح، لأن مخالفة الكثرة اشد ضرراً، وكما يجب تقديم النافع على الضار، يجب تقديم الأخف ضرراً على الأشد ضرراً ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك الكثرة صلى بالناس الجمعة، وثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد في التأهب للقتال، واخبرهم بأن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس لذلك فرحا شديداً، ثم صلى بهم العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي وهي القرى حول المدينة من جهة نجد، فدخل حجرته ولبس عدته، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره
وقد اصطف الناس ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ واسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، وقلتم له ما قلتم والوحي ينزل عليه من السماء فردوا إليه الأمر
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته، وتقلد سيفه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية - ما بدا لك - وفي أخرى - فإن شئت فاقعد
وإنه لا يثار جميل من تلك الكثرة، ولم يحملهم عليه إلا بدء النبي صلى الله عليه وسلم(601/39)
قبلهم بإيثار رأيهم على رأيه حفظا للوحدة، وحذرا من الفرقة، وإذا كانت فضيلة الإيثار جميلة فيما يملك الإنسان من مال، فكم يكون جمالها فيما يعتز به من رأي، والرأي عند الإنسان اشرف من المال وكم ضحي بالمال في سبيل الرأي، ولكن فضيلة الإيثار كانت ظاهرة ذلك العهد النبيل، فلا غرو أن تبادل تلك الكثرة النبي صلى الله عليه وسلم إيثار بإيثار، وأن تترك رأيها إلى رأيه طائعة مختارة، بعد أن جاهدت في تأييده ما جاهدت، وناضلت في الدفاع عنه ما ناضلت
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن رأيه كان هو الأرجح قبل أن يؤثر رأيهم على رأيه، وقبل أن يلبس لامته ويتقلد سيفه، فأما بعد ذلك فقد أتفق رأيهم جميعاً على الخروج، فإذا عنه لم ير الأعداء إلا انهم جبنوا عن قتالهم، فيحملهم ذلك على الطمع فيهم، ويعطيهم قوة معنوية يكون لها أثرها في قتالهم
فقال لأولئك الذين تركوا رأيهم إلى رأيه في القعود بالمدينة: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وفي رواية - لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو، أن يرجع حتى يقاتل. فياله من عهد كريم بلغ فيه حكم الشورى غاية الكمال، ولم تتفرق فيه الأمة إلى أحزاب متخاصمة على الحكم، بل ظهرت فيه كتلة واحدة، إذا اتفق أفرادها فرائدهم المصلحة العامة، لا مصلحة حزب من الأحزاب، وإذا اختلف أفرادها فرائدهم تلك المصلحة أيضا، لأنهم لا ينقسمون إلى أحزاب ينافس بعضهاً بعضاً، ويحملهم التعصب لها على نسيان مصلحة الأمة في نبذ التفرق، وإيثار الوفاق على الخلاف
وإذا فخر في عصرنا قوم بنظام الشورى عندهم، فهذا نظام الشورى عندنا قد بلغ غاية الكمال، وخلا من العيوب التي يرمي بها حكم الشورى في عصرنا، وتجعل بعض الناس يفضل عليه الحكم الاستبدادي، وأين تشريع البشر من تشريع الله تعالى؟ فلا تشريع أكمل من تشريعه، ولا حكم أعدل من حكمه، فتبارك الله اعدل الحاكمين، وأحسن الخالقين
عبد المتعال الصعيدي(601/40)
التصوير الفني في القرآن
للأستاذ سيد قطب
التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، وعن الحادث والمشهد المنظور، كلها سواء في طريقة التعبير المحسوس. وانه ليرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد والقصص، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يخيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل انه منظر يعرض، وحادث يقع، وأمر يكون:
فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتتم عن الأحاسيس المضمرة. . .
إنها الحياة هنا. وليست حكاية الحياة
فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر. . . أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن.
والأمثلة على هذا الذي نقول هو القران كله، حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها: حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد أو حالة نفسية أو صفة معنوية أو نموذج إنساني، أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد القيامة، أو حالة من حالات النعيم والعذاب، أو حيثما أراد أن يضرب مثلا في جدل، بل حيثما أراد هذا الجدل اطلاقا، واعتمد فيه على الواقع المحسوس، أو المتخيل المنظور.
وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا: (إن التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن).(601/41)
فليس هو حيلة أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخاصية شاملة. يفتن في استخدامها على طرائق شتى، وفي أوضاع مختلفة. ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة. قاعدة التصوير.
ويجب أن نتوسع في معنى التصوير حتى ندرك آفاق التصوير في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة - عن طريق التخيل - كما انه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، وإيقاع الجمل، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والاذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. وهو تصوير حتى من عالم الأحياء، لا لوان مجردة وخطوط جامدة تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات. فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد طبيعية تخلع عليها الحياة. . والآن نأخذ في ضرب الأمثال
1 - يريد أن يعبر عن معنى: أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً)، وان دخولهم فيها مستحيل. وهذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية:
(إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) ويدعك ترسم بخيالك مشهدا لتفتح أبواب السماء، ومشهدا أخر لولوج الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الصغيرة. (ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام!). ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالمشهدين ما شاء له التأثير، ليستقر معنى (القبول) ومعنى (الاستحالة) في أعماق النفس، وقد ورد إليها من طريق العين والحس - تخييلا - وعبرا إليها من منافذ شتى، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
2 - ويريد أن يوضح حالة نفسية لتزعزع العقيدة، حيث لا يستقر الإنسان على يقين، ولا يحتمل كل ما يصادفه من الشدائد غفي سبيل عقيدته القوية، مبتعدا بها عن ملابسات الحياة اليومية، مرتفعا بها عن مقاييس الربح والخسارة. فإذا هو يرسم لها هذه الصورة المحسوسة.
(ومن الناس من يعبد الله على حرف، فأن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب(601/42)
على وجهه. خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين)
إن الخيال ليكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا (النموذج) من الناس. انه يتخيل الاضطراب المادي لهم وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب، وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع النفسي، بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع لأنها تنطبع في الحس، وتتصل منه بالنفس
وإني لأذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي وأنا طفل صغير، أقرأ القران في المدرسة الأولية حينما وصلت إلى هذه الآية. لقد خيل لي رجل على مكان مرتفع ذي حرف؛ وهو قائم يصلي، ورجلاه لا تثبتان على حرف المكان، فهو يتأرجح في كل حركة، وهو معرض للسقوط في أي لحظة!
ترى يبعد تصوري الآن كثيرا عن هذه الصورة الساذجة؟ ما أظن. فالاختلاف الذي طرأ، وهو مجرد علمي اليوم، بأن هذا مثل يضرب لا حقيقة تشهد.
وذلك هو إعجاز التعبير، الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك، ويصل كل منها إلى صورة حية مع اختلاف الإفهام!
3 - ويريد أن يرسم نموذجاً إنسانيا للمكابر المعاند في كل زمان ومكان. فإذا هو يرسمه في يسر وسرعة ودقة على هذا المنوال:
(ولو فتحنا عليهم باباً من السماء، فَظَلوا فيه يَعْرُجوُنَ. لقالوا: إنما سُكرَت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون)!
أو:
(ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم. لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين)!
فيبرز من خلال هاتين الصورتين، نموذج إنساني معهود. لهؤلاء الذين يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان. ولكن القرآن لا يقول كهذا الذي نقول: يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان - انه ليرسم لهم صورة شاخصة أوضح من كل تعبير، لأنها تلمس الحس والضمير.
4 - ثم هاهو ذا يصور حادثاً وقع: مشهداً من مشاهد الهزيمة. فيرسم المشهد كاملاً تبرز(601/43)
فيه الحركات الظاهرة، والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية كأنما يمثل الحادث من جديد، ويقع مرة أخرى كما وقع في المرة الأولى، دون أن يغفل منه قليل ولا كثير:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنود لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً. إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقين، والذين في قلوبهم من مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم، فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة
- وما هي بعورة - إن يريدون إلا فراراً).
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة، وأية سمة من سمات الموقف الكثيرة، لم يسجلها هذا الشريط الدقيق المتحرك المساوق لحركة الموقف الأصيل؟
5 - وهذا مشهد واحد من مشاهد القصص الكثيرة، مشهد في قصة الطوفان.
(وهي تجري بهم في موج كالجبال) وفي هذه اللحظة تتنبه في نوح عاطفة الأبوة. فان هناك ابنا له يؤمن، وانه ليعلم انه مغرق مع المغرقين. ولكن هاهو الموج يطغي، فيتغلب (الإنسان) في نفس نوح على (النبي) ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه:
(ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا، ولا تكن من الكافرين).
ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه العاطفة، والفتوة المغرورة تعتمد على القوة الشخصية.
(قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد في تعبير خاطف، يصور الموجة العاتية تطغى على كل شيء: (وحال بينهم الموج. فكان من المغرقين).
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار: (وهي تجري بهم في موج كالجبال؛ ونوح الوالد الملهوف، يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة العاتية تحسم الموقف في لحظة، فكان من المغرقين).
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في(601/44)
الطبيعة، حيث يطغي الطوفان، على الذري والوديان وإنهما لمقياسان متكافئان!
6 - والآن فإلى مشهد من مشاهد القيامة:
(يوم يدع الداع إلى شيء نكر. خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر. مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر).
فهذا مشهد من مشاهد الحشر مختصر سريع، ولكنه شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات: هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنها جراد منتشر - ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المشهد العجيب - وهذه الجموع، تسرع في سيرها نحو الداعي، دون أن تعرف لم يدعوها، فهو يدعوها إلى (شيء نكر) لا تدريه (خشعا أبصارهم) وهذا يكمل الصورة ويعطيها السمة الأخيرة. وفي وسط هذا التجمع والإسراع والخشوع (يقول الكافرون: هذا يوم عسر).
فماذا بقى من المشهد لم يشخص بعد هذه العبارات القصار؟
7 - فإذا طرق القرآن موضوع الجدل حول إحياء الموتى مثلا، صاغه في قالب التصوير المؤثر، ولمس به الحس والوجدان، فيما ترى العين وفيما يستشعر الضمير:
(الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء ويحمله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله؛ فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لَمُبْلِسين. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى، وهو على كل شيء قدير).
هكذا مشهد بعد مشهد: إرسال الرياح. إثارة السحاب. بسطه في السماء. جعله متراكما. خروج المطر من خلاله. نزول المطر، استبشار من يصيبهم بعد يأسهم إحياء الأرض بعد موتها. . . لينتقل من هذه المشاهد المتتبعة ببعد استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل إلى: (إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير) في انسب اللحظات النفسية بهذا التقرير
هذه نماذج قليلة لطريقة القرآن العامة في التعبير عن جميع الأغراض، سواء كان الغرض تبشيراً أو تحذيرياً. قصة وقعت أو حادثا سيقع. منطقا للإقناع. أو دعوة للأيمان. وصفا للحياة الأخرى. تمثيلا لمحسوس أو ملموس. إبرازا لظاهر أو لمضمر. بيانا لخاطر في(601/45)
الضمير أو لمشهد منظور.
هذه الطريقة الموحدة. هذه القاعدة الكبيرة. هي: (التصوير) في أرقى آفاق التصوير.
سيد قطب(601/46)
شهيد كربلاء
للأستاذ محمود الخفيف
خَفَضْتُ اليراعَ لذكِرى الشْهيدِ ... وأشْفَقَتُ مِنْ ذلك المطْلَبِ
وَحَيَّرَ شِعْريَ هذا الجَلاَلُ ... فَهَلْ من سَبيلٍ إلى مأْرَبي؟
لِذكْرَى الُحْسَيْنِ خَفَضْت اليراعُ ... وأَكْبَرْتُ ذِكْراهُ مِنْ مَلْعَبي
لِذكرْىَ الأبىِ النّجيِد الفَتى ... الكَرِيمِ الزَّكِي ابنِ بنْتِ النْبي
هَلال المحرمِ، لَوْنُ السَّماء ... على جَانَبْيِك خياَلُ الدَّمِ
تَرَقْرَق في الأُفْقِ هذا النْجيُع ... وأَلْقَى الخِضَابَ على الأَنْجُمِ
وَجر عليه السَّوَادَ الدُّجى ... فَبَات به الأُفْق في مأْنَم
طيوفٌ تَرَددُ في خَاطرِي ... لكل معَاني الأسَى تَنتَمِي
خَيَالٌ يَؤَرقُني في الدُّجى ... وأصْحو الغَداةَ على ذِكرهِ
تَفِيضُ له أدْمُعي الغالياتُ ... ويَذْهَل قَلْبِي عن صَبْرهِ
وإني لَجلدٌ أقُل الخُطوبَ ... بِعَزْمٍ تَخَاذلُ عن قَهْرهِ
وأَحْبسُ دَمْعي فكَمْ داهَمَتْني ... صُروفُ الزَّمانِ فلمْ أُجِرهِ
فَتَى هاشمٍ يَا غليلي له ... جَرَى دَمُه أنْهراً وانتثر
وقُطعَ كالشاةِ سِبْطُ الرَّسُول ... وبَشَّرَ قاتِلُه وافْتَخَرْ
وهَاَمُته مثل رأسِ الجُزورِ ... على كف جَازرهِ تُنْتَهَرْ
عَلى فَمِه قُبلاَتُ النبِي ... وفي مْحَجَريْه الرضا بالقَدرْ
عَلى الدَّهرِ رُزءٌ لعمري جديدٌ ... وإنْ قَدُمَ الَعْهُد بالواقعةْ
غليِلي له وقْدَةُ في حَشَاي ... وَعْيَنايَ كالمُزْنِة الهَامِعَه
قَليلٌ له مَا تُريقُ الجفونُ ... وَمَا تَحْمِلُ الأنْفُس الجازِعَةْ
دَعَوْتُ القَريضَ فَحَارَ القَرِيضُ ... وَحارَتْ يراعَتَي الخاِشعَةْ
تئسَّ وهَات حَديثَ الشْهيدِ ... حَبيسَ الدُّموع كَظيمَ الألَمْ
فَما في البطولاَتِ يحلو البكاءُ ... وَلكنْ معَاَني الفِدا والشَّمَمْ
سَتُطْوى العُصُور وذِكْرَى الُحَسْينِ ... على الدَّهْرِ تَخْفِقُ خَفْقَ الَعلمْ(601/47)
إمامُ الُهدَى زِيَنُة المّتقِين ... مَنارُ الْحِجازِ الَعلُّي الشيَمْ
مَناَطُ الِخلاَفَة مِنْ هَاشمٍ ... دَعَا باْسِمِه نَفرُ بالعِراقِ
أبَوْا أنْ يطيعوا يَزيدَ وقالوا ... أُميَّةُ في النّاسِ أصْلُ الشقاقِ
ألم يَدْعُ في الشَّامِ جَهْراً أبوه ... إلى فْتَنٍة بَعْدَ سُوء احْتلاَق؟
ولما نالَ ما نالهُ مِن عَلي ... يَغْيرِ الأذى والخنى والغفاقِ!
ولما قَضَى نَحْبُه غِيلةً ... عليٌّ وطَاحَ الردَى باَلحْسَنْ
وسَاسَ مُعاَويةُ المسلِمِينَ ... تَكشَّفَ من أمِرِهِ ما بَطن
فأَنْكر في الُحْكَم شُورَى الأمُورِ ... ودَلَّ بِسلْطانِه وافْتتَنْ
وَمَهَّد مِنْ بَعْدِهِ لاْبِنِه ... فَنَالَ الُعهودَ بكل ثَمنْ
وبَات عَلى الضغنِ أهْلُ الحجازِ ... يُسُّرونَ سُخْطاً عَلى الظَّالم
فَلْلَمَوْتُ أَيْسَرُ مِنْ طاعَةٍ ... لَسْيفِ مُعاويةَ الغَاشم
أُبَاهٌ فَما عَرَفوا زُلفَةً ... ولا رَهَبوا سَطْوَةَ الحاكمِ
يَرَوْنَ الخلاَفَةَ شورَى فَفي ... أمَية بالرَّأي أو هَاشمٍ
دَعَاهُ إلى الكوفَةِ الثائِرون ... يقولونَ أنَّا عصينا يَزيدا
نَرَى في تَرديِه بُرْدَ النبِي ... عَلى المسْلمِينَ بَلاءً جَدِيدا
مِنَ العُصْبَة الباطِشينَ الغِلاظِ ... إلى الجْورِ يْحمِلُ قلباً حَدِيداً
إمامٌ لنا؟ ساَء هذا إماماً ... يرى النّاسَ إلا ذويهِ عبيدا
إمامٌ لنا في مَكانِ الُحْسَيْنِ ... يقومُ عَلَى الأمْرَ دُنيا ودِينا؟
فأيْنَ من النَّجمِ بَعْضُ الحصى ... وما كانَ إلا التُّرابَ المهينا
وهَلْ كابْنَ فاطمةً في الرجالِ ... إذا قُلبَ الطَّرْفُ في المسلمينا؟
أشدُّ الرجالِ يَداً في الجهادِ ... وأَضْوأُهم في المصَلى جَبِينا
إلينا. . . إلينا؟، فَتَى هَاشمٍ ... إلينا فَلَيْسَ سِواكَ الهُدَى
سَنَهْزَأُ إنْ جِئتنا بالخطوبِ ... ونَضْربُ حتَّى يخافَ الرَّدى
وَيْفديكَ آلافنا الدَّارِعون ... وهَلْ ثم غَيْرُكَ منْ يُفْتدي؟
ويَفْزَعُ خَصْمُك يابن الإمامِ ... ويطَّرحُ الخْوفَ مَنْ أبدا(601/48)
وَلبَّى الُحْسَيْنُ ومَا مِثْلُه ... إذا همَّ بالعَوْنِ من يَسْتَريبُ
لهُ هَّمِةُ إن تَداعَي الرجالُ ... وسَبْقٌ إلى المَكْرُماتِ عجيبُ
إذا اسْتَصْرخ الَحْقُّ يَوْماً بهِ ... فكلُّ عَناَء إليهِ حَبيبُ
وما كانَ عَنْ نَزَقٍ إذ أجابَ ... ولكنهُ الشَّمَمُ المْسَتجيبُ
وكائِنْ بمكةً مِنْ ناصِح ... يُعذبهُ أنَّهُ راحلُ
يظُّنون شراً بأهْلِ العِراقِ ... فكلٌّ هُناكَ لهُ خاذِلُ
وكم ذا احتواهُ فأوْحى لهُ ... ليَصْرفَهُ مَجْلٌس حافِلْ
يُردَّدُ نُصْحَهُمُ الناصحونَ ... ولِلْقَدرِ الكلمْ الفَاصِلُ
تَخَيرَ من أهله (مُسْلِماً) ... إليهِمْ يَجُوبُ ويَسْتَطْلُع
قُلوبُ العِراقِ حُسَينيةٌ ... فَلَيْتَ سيوَفُهُم تَتْبَعُ
يزَيدَّيةٌ تتوقى يَزيدَ ... فَهُنَّ لِسُلْطَانِه أطْوَعُ
إذا حَملَ الإمَّعاتُ السُّيوفَ ... فمِنْ حَطَبٍ هُن أو أضْيَعُ
قَضى نحَبُه ابنُ عَقِيلٍ فَما ... تَسَامَع أهلُ الحجاز به
تَبرّأَ مِنْهُ الذينَ دَعَوْا ... ومَنْ عَاَهْدُوا الله من حِزْبهِ
وأَسْلَمهُ الناسُ لابن زيادٍ ... رَسُول يَزيدَ إلى حَرْبِه
فَسَارَ الرجالُ بهِ مُوثقاً ... ومِنْ قمِة القَصْر أَلقوا بهِ
مَضى الرَّكبُ يطلبُ أرض العراقٍ ... فيا حادي الرَّكبِ أبطِئ بهِ
تمهَّل برَكْبكَ إن الزَّمانَ ... عَجُولٌ بمَا ساقَ مِنْ خَطْبِه
رُويدكَ يا حاديَ الرَّكبِ قفْ ... ومِلْ بالسَّوابِقِ منْ نُجْبِه
أدِرْ وجْهُه أيُّهذا الدَّليلُ ... وَعْد بالحُسيَن. . . إلا عُدْ بِه
سُكَيْنةُ في الرَّكبِ تُخفي الدُّموعَ ... وُتخفي هَواجِسَها زَينبُ
تَقُول لَئنْ أسْلمتنا الرجالُ ... فأينَ منَ الفاتكِ المْهَرب؟
يَزيد من الصَّخر قَلْبٌ له ... وأكْبَادُ أَصحابِه أَصلبُ
فوا حَرَبا إن هذا المسِيَر ... إلى غَيْهَب خَلْفَهُ غَيْهَبُ
أتبرزُ في قلةٍ الرجالِ ... ونبغي بهِ ثم أمراً جليلا؟(601/49)
فمنْ لِلْبنينَ غداً وللبناتِ ... إذا خَرّ فينا الحُسَيُن قتيلا
وَمَنْ للإْمامِة من هاشمٍ ... إذا قتلوهمْ هُناكَ قبيلا
عذابٌ لنفسي هذا الرحيلُ ... ألا ساَء هذا لعَمْرِي رحيلا
مَضى الرَّكْبُ عَجْلان صْوب الُفراتِ ... فهلاَّ انثنَى الرَّكبُ عن وِردِهِ؟
مَضى بالحُسين وآلِ الحُسْيَنِ ... وَشُمٍ ثمانينَ مِنْ جُنْدِه
ثمانينَ باعوا لديهِ الحياةَ ... سَمَاحاً وساروا على عَهْدِهِ
إلى حَيْثُ لا يَسْتَقرُّ امْرؤ ... ولا يَقْرُب السَّيفُ مِنْ غمِدهِ
عَلَى فَرْسَخينَ تَراءى الفُراتُ ... وأوْمأ للكوفة السَّالكونا
تَلفّتَ للنَّهر مُسْتَوحشاً ... حُسَينُ ورَاحَ يظن الظنونا
فأيْن الدعاة وأيْنَ الحماةُ ... وأين الكُمَاةُ بها الدّارِعرنا
رأى القْلبُ ما لا تراُه العُيونُ ... وَبَاحَ الفضاءُ بما يُضْمِرونَا
تَصَدَّى له (الُحْرُّ) في عَسْكرٍ ... فَسدَّ عليه مجازَ الطريقِ
فمالَ عَنِ الكوفِة ابنُ الإمامِ ... وفي النفس ضيقٌ بها أي ضيقِ
تَغشَّتْ مُحيَّاهُ سُحْبُ انْقبِاض ... وفي القلب وَسواسُ حُزْن عميقِ
نُكولٌ ولؤْمُ وَمكْرٌ وَغدْرٌ ... وخُلفٌ عَلَى أثر وعدٍ وثيقِ
يُسايُرهُ (الُحْرُّ) في جيشهِ ... ورَكبُ الحُسينِ يجُوب الفَلا
غَفا غَفْوَةً فرأى أنهُ ... يسيُر إلى حتفِه مُعْجَلا
تَسايَر في سيرِه جاهداً ... فَحَطَّ بهِ الَجْهُد في كربلاء
هُنالكَ حيثُ أحاط به ... غلاظٌ يُسُّرون أنْ يُقْتَلا
وكاثُره وهْوَ في قلةٍ ... عَلَى الشَّط من حَوْلِه عَسْكَرُ
وسَدوا إلى النَّهْر عنه الطريقَ ... فَتْدْمَع عيناهُ إذ ينظُر
ففي مَخْدعٍ بين تلك الخُدور ... صغارٌ عن الماءِ لا تَصْبُر
وفي خَيْمَةٍ حَجَبَتْها السُّتورُ ... جُفونُ مُقَرَّحة تُمْطِرُ
ألا كم تطاولَ هذا العذابُ ... وكم لَمحَتْ نُذر الغاشَية
وكم أرْمض الْحرُّ من مهجةٍ ... وقرَّحَ مِنْ كبدٍ صَاديْه(601/50)
سعيرٌ يُحَرقُ أحْشاءهْم ... إذا أبصروا حَوْلهْم آنية
وما شرِبوا غيرَ ماءِ سَخينٍ ... تظلُّ الجفونُ به هَامَيه
بنفسي صبيُّ ذَوَي عودُهُ ... كرَيْحَانةٍ غَضَّةٍ تَذْبُل
تظلُّ تُعللٌه أمُه ... وفي قلبهَا واعلٌ يأكلُ
فلوْ طلبوا ناظِرَيهْا معاً ... ليَشْربَ خَفتْ بما تَبْذلُ
بمُهَجِتَها تشتري جُرْعةً ... وماءُ الفُراتِ لهم سَلْسَلُ!
تَقدَّم مُحْبَياً بالحسامِ ... حُسَيْنُ وقال إلى: اسمعوا!
دَعَانَي لنُصْرتهِمْ قَوْمُكم ... وأني إلى الحق مَنْ يُسْرِع
فأما ألاقي بنُصحي يزيدَ ... هُنالكَ بالشَّامِ أو أرْجِعُ
فإن تَكْرَهوا تَيْنِك الخَصْلتَيْن ... إلى التُّرك أَفْتَحُ أو أصْرَعُ
أَبوْها عليه فما عنْدَهمْ ... سَوى أن يُبَايع مُسْتَسلما
أصَرُّوا عَلَى لؤمِهْم مُوعِدِين ... وقد عرَفوا شْيَخُهم ألاما
وكم صارخٍ فيهمُ العَداء ... جبانٍ تَعَودَ أنْ يُحْجمَا
سُيوفُهو حَوْلَه تُنْتَصي ... كفاهُ الأسى والضنَّى والظمأ!
ولكنُه عائفٌ ذلةً ... وريحُ الرَّدى حولهُ تَعْصفُ
صَبُوٌر عن الماء في مَوْقفٍ ... تُرَى الأرض من هَوْله ترجفُ
ولَو كان في نصفِ تلكَ الجموعِ ... لما كان عَنْ بطشِه مَصْرِفُ
ولولا عقائلُ بين الخدورِ ... تَصَدى لهم وحْدَهُ يَزحَفُ
تَدبَر حينَ احتواهُ الظلامُ ... فَزَيَّن للتَّابعينَ النَّجاء
خذوا البيَد منَجْاتكَم واجعلوا ... سواد الدجى في سُراكُمْ غِطاء
فما طلبوا اليومَ إلا دَمي ... فإن تسلموا الَسْتُ أخشى الفداَء
وليس عليكم لعَمَرْيَ عارٌ ... ولكن عَلَى طالبكُمْ ظماَء
تتابَعَ أصحابُه يُقْسِمون ... لَيَلقْونَ بين يديهِ الرَّدى
إذا بذل النفسَ منَّا غداُ ... شهيدٌ ففي الحق ما اسْتُشهدا
وقال بنو عَمِه: مَنْ يخوضُ ... سوانا فِدَاكَ الحُتوف غدا؟(601/51)
قليلٌ إذا ما لفظنا النفوسَ ... سَماحَاً لَعَمرْ أبيك الفدا
ورَددَ في الدهر أرْجُوزَةُ ... وكيف يَسومُ الكرِامَ الهوانَا
بكتْ أخْتُه وأتَتْ بابه ... تُشقُّ الثياب عليه حَنَانَا
فَهَدْهَدهَا ونهَاهَا الُحَسينُ ... وقال: رَضيتُ بهذا امتحاناً
فيا أخْتُ لا تأثمي أنْ قُتلْتُ ... وإلا امَتَهْنتِ مَقامي امْتهانَا
وباتت خيولُ العدا حَوْلهم ... تدُورُ فَتَقْرُبُ أو تبعدُ
لدَى كل رُكْنٍ حَديدٌ يرنُّ ... وفي كل زاوية مرصدُ
وَجْمُع يروحُ وجَمْعُ يجيءُ ... ويسخر ذاكَ وذا يوعِدُ
ومن خلف أستارِهِ في الخباءِ ... حُسَيْنُ لخالقه يَسجدُ
(البقية في العدد القادم)
الخفيف(601/52)
ثورة الإسلام
للأستاذ حسن جواد الجشي
كان الإسلام ثورة هائلة من ثورات الطبيعة الكبرى على جمود العقل البشري وتحجره، فأطلقه بعد أن كان موثقا في قيود الأوهام والخرافات، وأشعره بقيمته بعد أن كان فانيا في تفاهات الحياة وصغارها، وقلب أوضاع تلك الحياة رأساً على عقب وأبدلها بأوضاع أجدر بشرف الإنسان وكرامته. وتلك هي ظيفة الثورة الإصلاحية في كل زمان.
وإذا كانت الثورة كما يعرفها أحد كتاب الغرب (هي سقوط وتهدم يحدثان في قترة صغيرة لجميع ما كان يعد إلى ذلك الوقت أصلا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية في الأمة) فما أحرانا ونحن بصدد التحدث عن مبادئ الثورة الإسلامية أو عن ثورة الإسلام أن نلقي نظرة خاطفة على بعض النظم التي جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها لا بين العرب فحسب، وإنما في غيرهم من سائر الأمم أيضا، وإنما شمل أمما غيرهم ولو في الشكل دون الجوهر.
يقول الكاتب إنجليزي هـ ج. ولز في كتابه (موجز تاريخ العالم) عند تحدثه عن تلك الحقبة من تاريخ البشر ما ترجمته: (لو أن متنبئاً من هواة التاريخ استعرض العالم في ستهل القرن السابع لكان من المحتمل أن ينتهي إلى الحكم بأنه لن تمضي إلا بعد قرون حتى تصبح قارتا أوربا وآسيا خاضعتين للحكم المغولي القائم في الصين، إذ لم يكن هنالك ما يدل على وجود أي نظام أو اتحاد في أوربا الغربية؛ أما الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية فقد كانت كل منهما منطوية على هدم الأخرى وتحطيمها؛ وإذا التفت إلى الهند فإنه يجدها منقسمة على نفسها خاوية. . .) ثم يقول: (والخطأ الذي كان من المحتمل جدا أن يرتكبه متنبؤنا هذا في استعراضه هو تجاهله للقوي الأصيلة الكائنة في الصحراء العربية).
وفي هذا القول دلالة واضحة على أن العالم كان حين ذاك بتخطيط في غياهب الفوضى ودياجير الانحلال، وانه إذا كان ثمة بصيص أمل لإنقاذه فآفاق الصحراء العربية هي التي كان يتخايل على حواشيها هذا البصيص، لا لان سكانها كانوا في يقظة عقلية تؤهلهم للقيام بدور المنقذ، كلا بل لان أرواحهم كانت نقية لم تدنسها شوائب المدينة أو يدب إليها وهن(601/53)
النعيم. فما هو إلا أن تستثيرها وتوجهها الجهة الصالحة حتى تأتي بالعجائب في ميادين الثقافة والتقدم.
وعلى خلاف ذلك كانت بيزنطة وفارس، فقد كانتا في حروب متواصلة تنتصر هذه مرة وتفوز تلك أخرى؛ وبرغم ذلك لم تكن الحالة السياسية الداخلية في كلتا الإمبراطوريتين لتعرف الهدوء والاستقرار. أما الأخلاق فقد بلغت منتهى التدهور والانحطاط حتى عادت النفوس ولا مهما زلها يدفعها ويثير فعاليتها غير الشهوة الجنسية، وإلا فما معنى ذيوع مذهب مزدك في ذلك العصر - وهو مذهب إباحي هدام - لو لم تكن النفوس مستعدة لقبوله؟!
والى جانب ذلك كان يقوم في اكثر أنحاء العالم تقريبا نظام من الاسترقاق الفظيع الذي لا يعرف غير العنف والقوة في معاملة الأرقاء والمستعبدين، فكان مباحا للسادة أن يتصرفوا في حيوات أرقائهم كما يتصرفون في سائر أمتعتهم، فإن شاءوا ابقوا وان شاءوا أبادوا ودن أن يسألوا أمام قانون أو عرف. وإذا عاقبوهم فبالك على الجباة والجلد بالسياط إلى آخر ما هنالك من ضروب القسوة.
وقد يخطر لأحد القراء أن يسأل: وأين إذن تعاليم المسيحية لتعتكف من غرب هذه الشهوات ونجد من جموحها النفوس إلى نقاوة الفطرة وطهارة الإيمان. . والجواب على ذلك أتركه للمؤرخ الإنجليزي (جيبون) إذ هو خير من توفر على دراسة هذا العصر: قال جيبون (إن النصرانية في القرن السابع للميلاد قد استحالت وثنية، فقد أصبحت الوجوه تولى شطر الأصنام والأنصاب التي حلت محل الهياكل والمعابد واخذ مكان عرش الله وعظمته القديسون والشهداء، وحارت الإفهام في معنى التثليث والاتحاد والحلول وعموا عن التوحيد).
أما في مكة والطائف فلم يكن الوضع أحسن منه في بيزنطة وفارس؛ فقد فشا فيهما الانحلال الخلقي وسلفت مكانة المرأة حتى وأد الآباء بناتهم، وجاس المرابون خلال الشعب يمتصون دمه مستغلين فقره وحاجته، حتى أكره بعض المحتاجين بناتهم على البغاء ليستطيعوا وفاء ما ركبهم من ديون؛ فلما جاء القرآن نهاهم عن ذلك (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).(601/54)
شرور تتلوها شرور! وظلمات فوقها ظلمات! فلابد من النور! لابد من النور! وإلا تاه القطيع وتردى في هاوية الفناء!
وشع النور! وتلالا واستفاض! وإذا بصوت محمد يتعالى في شعاب مكة وبطاحها منادياً: (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا).
وكان تلك الدعوة شرارة الثورة الكبرى، الثورة قلبت الأوضاع الجائرة، ومحت النظم البائرة، ونقلت العالم من حال إلى حال، والإنسانية من ضعة إلى جلال.
لقد استهل الإسلام ثورته بالدعوة لتوحيد الله وقرن النجاح بهذا التوحيد، فما معنى ذلك؟ معنى أن الإسلام يعتبر وهي الروح أصلاً لوعي العقل؛ معناه أن الأمم مهما وفر حظها من ثقافة العقل، فان هذه الثقافة لابد لها من عقيدة روحية تسندها وتنير لها المسالك وتأخذ بيدها نحو صالحها وصالح الحياة الإنسانية، وإلا هدمت ما شيدت واقتلعت ما زرعت وتلبست طبائع الهر فأكلت ما أنجبت؛ ولهذا وجه محمد أول ما وجه جهود نحو غرس هذه العقيدة الروحية، فعمل على تطهير الأرواح مما علق منها من أدران الشرك واستبطنها من عقابيل الوثنية، ونادى أول ما نادى أن اله إلا الله، فلا الشهوات بعد اليوم ولا القوة ولا المال ولا الأصنام هي التي تعنو لها الحياة، وإنما تعنو لله الأحد الصمد خالق الخلق ومدبر كل ما في الكون. وبهذا مهد السبيل الإنسانية لتفلت من قيودها الثقيلة المرهقة وتتصل حرة ببارئها تستلم منه العون والهداية على مواصلة الكفاح وسلوك أقوم السبل دون لجوء لوساطة كاهن أو شفاعة ولي (وإذا سألك عبادي عني فأني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
هذا التسامي بالنفس الإنسانية والتعالي بها عن ضلالات العقول وزيغ البصائر هو الذي يفتقده الباحث في كثير من تاريخ الثورات البشرية، فالفرنسيون مثلا بعد أن ثاروا ثورتهم الكبرى وحطموا معاقل الظلم وزلزلوا معالم الاستبداد وأعلنوا حقوق الإنسان الطبيعية التي تستند إلى مركزه في الحياة، ساق الثائرون أنفسهم اكثر من ألفين من خيرة رجال الثورة إلى المشانق ثم عمدوا إلى اجمل فتاة في باريس ووضعوها في إحدى الكنائس واخذوا يقدمون لها فروض العبادة، ومراسيم الخشوع باسم (ربة العقل)، ناسين ما أعلنوه قبل ذلك من حرية البشر وتساويهم؛ وما كانوا في مثل هذا الهوس والتطرف، لو أن ثورتهم استندت(601/55)
إلى وعي روحي شامل كثورة الإسلام.
والحقيقة أن هذا الوعي الروحي الذي يقدر الشخصية الإنسانية ويحدد صلة هذه الشخصية بالروح السارية في هذا الكون ثم صلتها بسائر الأحياء والكائنات، نعم هذا الوعي هو الذي صقل النفوس المسلمة وهيأها لسائر الانقلابات الاجتماعية والعقلية لأنه وجهها وجهة واحدة وقضى على شعور الخضوع الرائن عليها فتنتج عن ذلك إحساس قوي بكفايتها وقدرتها على الفهم والتدبر.
ومن هنا ذلك الانقلاب العظيم الذي أحدثه الإسلام في تقدير العقل واحترام أحكامه باعتباره هادئ البشر - بعد الروح - في جهادهم نحو الكمال. فلقد كان الناس قبل ذلك أسرى موروثاتهم وتقاليدهم لا يصدقون إلا ما كان عليه آباؤهم، وما كان عليه آباؤهم هو الجهل والجمود، فدعاهم الإسلام إلى التفكير والتأمل وشبه الذين لا يعقلون منهم بالأنعام بل أحط منزلة (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً)، ولذلك كان سلاح الإسلام الوحيد لغزو النفوس هو الحجة العقلية والبرهان الاقناعي. . . ويوم سال الكفار الرسول أن يأتيهم بما عددوا من المعجزات أجابهم دهشاً: (سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً!).
أليس في ذلك إيذان بأن البشرية قد بلغت طوراً لا يليق بها فيه أن تقنع بغير ما يميله العقل، وان الإسلام يتمشى مع هذا العقل؟ ثم ما قولنا في دين يجعل تفكر ساعة خيراً من عبادة ستين سنة؟ إنه - وربي - لدين يجدر بالبشرية أن تحوطه برعايتها وتجد في تفهم أغراضه ومراميه، لأنه كان فاصلا بين عصرين مختلفين من عصورها: عصر السحر والخرافات وعصر العقل والعلم، وبذلك نقلها نقلة وسعت آفاق وعيها وألهبتها شوقاً للمعرفة والاطلاع، كان ذلك إرهاصا لكل التطورات الثقافية والعلمية التي نعم بها العالم بعد ذلك.
وعلى أساس هذا الوعي الروحي والعقلي نقل الإسلام مبدأ التوحيد من منطقة العقيدة إلى مجال الاجتماع فثار على جميع الفواصل المصطنعة بين الأفراد والأمم، وحارب كل فكرة من شانها أن تجر إلى التنابذ التنافر، وقرر أن البشر وحدة لا تتجزأ كلهم من آدم وآدم من تراب، وان أكرمهم عند الله اتقاهم، واتقاهم إبرهم عملاً وأخلصهم سعياً، لا أكثرهم تهجدا وأطولهم عبادة، وإذا كان الناس قد خلقواً شعوباً وقبائل مختلفة فلكي يتعارفوا ويتعاونوا(601/56)
لتستفيد كل أمة من مواهب الأمم الأخرى وخصائصها لا أن يتخذوا هذا الاختلاف ذريعة للتناحر والتباغض (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم). والأمم والأفراد يختلفون طبعا في استعدادهم للتقوى وللتعاون مع الغير باختلاف بيئتهم وظروف حياتهم.
وتطبيقاً لهذا المبدأ من المساواة والتوحيد الاجتماعي اخذ الإسلام بيد المرأة ورفعها من مراغة المهانة والاستعباد إلى ذروة الشرف والكرامة مقررا حقها الطبيعي في الحياة: (ولهن مثل الذي عليهن). وإذا التفتنا بعد هذا إلى الثورة التي أحدثها الإسلام في حياة البشر الاقتصادية وجدنا عجباً من العجب، وجدنا نظاما اقتصاديا لو اخذ به البشر وتمسكوا بأهدابه لكفوا كثيرا من ويلاتهم الاجتماعية والخلقية لأنه يكفيهم الفقر، والفقر منبع اكثر الشرور والمصائب.
لقد كان النظام الطبقي بالغاً اشده قبل الإسلام فكان الأغنياء والأشراف يستغلون شرور الشعب ويبتزون ثمرات اتعابه
- كما يفعلون اليوم - ويثقلون كاهله بمختلف الأتاوات والضرائب دون أن يستطيع دفع ذلك أو مناهضته. والى جانب هؤلاء كان المرابون الجشعون يعتصرون ما تبقى من هذه الجهود غير راحمين ولا مشفقين. فلما جاء الإسلام قلب هذه الأوضاع وأعاد الحق إلى نصابه فحرم الربا وجعل في أموال هؤلاء الأغنياء حقا معلوما للمحرومين ملزمين شرعاً وقسراً بأدائه لهم، بعد أن كان هؤلاء المحرومون ملزمين بتقديم ثمرات أتعابهم للأغنياء دون مقابل. . وبهذا التشريع أقام الإسلام العامة الثالثة التي هي التوازن الاقتصادي؛ وهو كالتوحيد الاجتماعي عامل ضروري في هناء البشر وتقدمهم كما انه نتيجة حتمية لمبدأ التوحيد.
هذه أقباس من تلك الشعلة العظيمة التي تفتح عنها قلب الغيب فتقلتها القلوب العربية المسلمة، وسهرت على تغذيتها وتلهب ضرامها، حتى إذا تم لها ذلك الداحت بها في أطراف الدنيا تزرع جذواتها في كل نفس تتصل بها فتذيب أرجاسها، وتنفث فيها الإيمان والقوة. . فيا ليت شعري ما الذي حل بالمسلمين اليوم - وهم أحفاد أولئك المغاوير - حتى خمدت هذه الشعلة في نفوسهم وعادوا غرضا لكل طامع وهدفا لكل مريد!؟(601/57)
إن في الأمر لسرا، على أن السراجلي من أن نجد في الكشف عنه. . السر أن المسلمين (وقد طال عليهم العهد وتنكروا لبيئتهم الصحراوية الأولى). نسوا مبادئ دينهم وتمسكوا بالأعراض والقشور، وانقسموا بينهم شيعاً وأحزاباً يتنابذون ويتهاترون.
فيا قلب الغيب شعلة كتلك الشعلة! عساها تحرك هذه النفوس الهوامد عساها!
(القاهرة)
حسن جواد الجشي
عضو الهيئة البحرانية(601/58)
مؤامرة تخيب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الأشخاص: أبو جهل. أبو سفيان. الشيطان. أمية بن خلف. جماعة من قريش
المكان: وتربص قرب دار النبي عليه السلام
الزمان: ليلة مظلمة من ليالي محرم. . .
أبو جهل:
هذا الفتى ضلَّ عن دُنيا أبوته ... وراح ينُشر في آبائه دِينا
إني لأخشى عليكم من تخُّبطه ... مسَّا ويحسبُه هدياً وتبيينا
قالوا أمين، فقلنا ما أمانته؟ ... ما كان حتى على الأصنام مأمونا
لا كان من هاشم فينا حكومُته ... إن صار هذا الفتى مستحكما فينا
أبو سفيان:
أيا بني هاشم لم تكف إمْرتكم ... ولا سدانتكم للبيت والغلبُ
حتى يجيء نبُّي بين أظُهركم ... دَعْوى ولكنها يا هاشمٌ كذب
رجل من بني أمية:
إن السدانة فيكم ... عَادتْ فَصارت نُبوهْ
بئس النُبوة ممن ... لم يَرْعَ حق الأبوة
أبو جهل:
لا كنتُ يوماً من بني مَخْزوم ... السائدينَ الناسَ بالُحلوم
والبالغين المجد في الصميمٍ ... إن لم يكن محمدٌ غريمي
الشيطان يهمس:
هذا مجالُ الدس والتفريق ... بين الصديق الُحر والصديقٍ
لا كنت من نارٍ ومن حريقِ ... إن لم أسِرْ فيهم على طريقي
ثم يجهر فيهم:
هذا الفتى يهَذي بكل وساوسٍ ... ويُذيعها ما بينكم قُرآنا
أن كان ربُّكم يخصُّ بفضله ... لمَ لمْ يخصَّ بفضله عدنانا؟(601/59)
أبو سفيان:
دَعُوا عدنان والماضينَ فالميتُ لا يحيا
أمَا في البَّفر الأحيا ... ء من يَستقبلُ الوحْيا؟
أبو جهل مخاطباً أبا سفيان:
لعلك أولىْ به من فتىً ... أقامَ على الفَقر يَرْعَى الغنمْ!
الشيطان مقهقها:
ومن عجبٍ أنه مُدع ... بإعْدَادِه كيف يَرْعَى الأمم
أبو سفيان:
نحن لسنا في حاجة لرعايةْ ... ما لهذا الفَتَى يزيدُ غَواية
قد دعوناهُ للهداية لكن ... ليس في مثله تصحُّ الهدايةْ
إذا سئمتم من فتًى ... فأسْلموه للرَّدى!!
كيف يَبيتُ قائماً ... في حيكُم وما اهتدى؟
الشيطان:
إني أرى صحابةً ... من حوله وَعَددا
فإن تركتم أمره ال ... يومَ فقد يَعْلو غدا
ناشدتكم أصنامَكْم ... أن تُعْملوا فيه المدى
وأن تُريحوا العصر م ... نه والمدَى والأبدا. . .
أبو جهل:
ما كنتَ شيطان إلا ... رَجْعَ نفسي والصدى
لم تَعْدُ ما في الرغ ... بة وُقيتَ الهدى. . .!!
قصدتُ بالأمس الفتى ... وكان يغشي المسجدا
أردت فَضْخَ رأسِه ... بحجر. . . فما بدا. . .
أمية:
لعله قد سحر ال ... عينين منكَ واليَدا!
عجيبةٌ تُخْطئ كف ... اك الفتى محمدا(601/60)
وليس أقوى منك كف ... اً أو أشد عضدا
أبو جهل:
أنا في الضرب لا أخيب ولكن ... خانني ساعدي غَداة قصدتُه
عجباً فأنني بفَحل من النو ... ق ولو كان لَهْذَماً ما فُته
حجر في يدي تيبَّس لما ... كدتُ أهوى عليه حتى قذْفُتْه
إن يكن أمس قد تولى فهذِى ... لحظات الرَّدى وذلك وقْتُهْ
أبو سفيان:
فلنتربصْ للفتى ... وهو على وساَدِه
حيث الظلام في رُبي الح ... يَّ وفي وهاده
فلا يرانا أحد ... يا قوم من آحاده
فنستريحَ من تحد ... يه ومن جهاده
أمية:
الليل أرخى على الدنيا ذوائَبه ... وفيه للبطش أوطارٌ وآراب
لعل جبريلَ يحميه إذا هبطت ... عليه منا بجنح الليل أسرابُ!
هَبناً رأيناهُ في المحرابُ مستوياً ... فهل يكفُّ أذانا عنه محرابُ؟
أبو سفيان ينظر من ثقب إلى مخدع النبي:
أراه في البُردة الخضراء مضطجعاً ... وسوف نَصُبْغها بالدم حمراء
إذا الصباح تجلى عن تآمُرِنا ... فسوف يحمل أخباراً وأنباء!
أبو جهل:
أقضَّ هذا الفتى بالأمس مضَجْعَنا ... فليس نذْهَبُ فيه اليوم آراء
ألم يسخفْ لنا دُنيا مورثةً ... وأمةً ودياناتٍ وآباء. . .
إني لأعْجبُ من أحوال صاحبكم ... أجاء يهدمُنا أم جاء بَّناء!؟
قريشي لزميله:
انظر إلى رأسي تجدْ تُراباً!!
رميلة:(601/61)
أواهماً أراكَ أم مُرتاباً؟!
زميل آخر:
أرَى أمامَ نَاظري ضَبَابا ... يعقدُ دَون رُؤيتي حجابا!
زميل رابع:
ليس ضباباً ما أرى. . . وإنما ... كأنما أصيب لَحْظي بالعمى
فلا أرى المضيء إلا مُظلما. . .
أبو سفيان:
أواهمون كلكم؟ ... لعل جنا مسكم
ما الرأي يا أبا الحكم ... فأنتَ خيرُ محتكَمْ. . .
أبو جهل متطلعاً إلى مخدع النبي:
محمدُ لما يزل هاًهنا ... قرير الوسادة في مَضْجَعِه
ينام ولم يدر أن قُريشا ... تهيئ للبت في مصرعه. . .
واحد منهم يقول:
محمدُ قد فَّر من بيننا ... وما كانْ لحَظِيَ بالكاذبِ
محمدُ أفلت من كفنا ... فيا حسرة الأمل الذاهب!
آخر يقول:
وما كان في مَضْجع الهاربِ ... نزيلٌ سوى علي ابن أبي طالب. . .
محمد عبد الغني حسن(601/62)
العقل في القران والحديث
للأستاذ قدري حافظ طوقان
العقل أساس الدين ومنبع العلم ومطلعه، وهل تقدم علم وازدهر فن إلا على أساس العقل؟ وهل يستقيم بلا عقل؟ وهل يعرف إنسان ما أمر الله به وما نهى عنه إلا بالعقل؟
وعلى أساس العقل شرعت الشرائع وسنت القوانين وقامت الحضارات وامتدت المدنيات. لهذا لا عجب إذا ورد ذكره في كتاب الله وعلى لسان نبيه الكريم. فقد شرف الله العقل وأعلى مكانته، وعظم الرسول العقل وقدس حرمته. ومجده الفلاسفة والحكماء والعلماء فصرفوا جهودهم إلى إعلاء شانه بالبحث فيه والرجوع إليه
لقد احل القرآن العقل منزلاً سامياً وجعله نوراً يهدي به الناس وطالبهم باستعماله والتحاكم إليه وسماه نورا في قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة. . .) وسمى العلم المستفاد منه روحاً ووحياً فقال تعالى: (وأوحينا إليك روحاً من أمرنا. . .) وقال: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس. . .).
وحين يجادل القرآن الماديين والدهريين وأرباب الملل والنحل إنما يجادلهم بل البرهان ويدعوهم إلى إنعام النظر والفكر، يتجلى ذلك في قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون.) وقد حمل القرآن على المقلدين الذين يعطون عقولهم ولا يستعملونها، فقال في موضع (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمى الذين لا يعقلون) وقال في موضع آخر. (أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون) وكثيراً ما وردت آيات تنتهي بهذه الجوامع (بل أكثرهم لا يعقلون) (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، أفلا تسمعون؟ إنما يتذكر أولوا الألباب، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. . ولم يقف القرآن عند هذه الحدود، بل أمر بإحسان استعمال السمع والبصر والعقل حتى يهدي الإنسان عن طريقها إلى الحق والحقيقة، ويكون الحق واضحا عنده والحقيقة ثابتة لديه: قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك من علم أو إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا. . .)
وفي هذه الآية الجامعة الكريمة أصول رئيسية في المتعبة في أصول النظر العلمي، فلقد أمر بالمشاهدة الصحيحة والتفكير الصحيح، وأن على الإنسان أن يتمسك بما يصل إليه من(601/63)
حق أو حقيقة عن هذين الطريقين، المشاهدة والتفكير.
ولسنا بحاجة إلى القول بأن الإسلام أكبر العقل إكباراً دونه أي إكبار، ودعا إلى تعظيم وجلاله والرجوع إليه دائما قال تعالى: (وآتيناه حكما وعلماً) أي فقها وعلما. وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي آتيناه الفقه والعقل وإصابة القول في غير نبوة. وقال: (فاتقون يا أولى الألباب. وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب) وقال: (واشهد ذوي عدل منكم) أي ذوي عقل. (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) أي عقل، (لينذر من كان حيا. . .) أي عاقلا، (ولقد بيننا الآيات لقوم يعقلون، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وهناك آيات جامعات تدعو الإنسان إلى النظر في الكون والبحث في روائعه، وإلى جعل العقل أساسا للتحكيم والتفكير في الطبيعة على جلالها وعظمتها تستحثه على إطلاق تفكيره في السموات والأرض والوجود وما على الأرض ومن عليها. ولفت إلى السماء كيف رفعها، وإلى الأرض كيف سطحها، والجبال كيف نصبها، وإلى الإنسان كيف خلقه، والأنعام كيف أوجدها، والى النباتات كيف أنبتها فقال تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال جل وعلا (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سطحت) وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما انزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون). وقال (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً. .) وقال (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم. . .)(601/64)
وقال (أو لم يرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) وقال (وآية لهم الأرض الميت وأحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)
ولاشك أن هذا النمط من الآيات الجامعات والأقوال البينات مما يرشد الناس إلى التفكير من الكون وخبايا الأرض وأسرار الحياة والتطلع على خفايا الوجود. وبهذا ينطلق العقل البشري باحثاً منقباً متطلعاً مما يؤدي إلى الوصول دقائق الحقائق في الوقوف على نظام هذا الكون وموجوداته على تعددها وتبيانها وتعقدها. كذلك كان الرسول ينظر إلى العقل نظرة كلها تعظيم وإجلال، فقد رأى فيه أصل الدين وأساسه، وأن لا دين لمن لا عقل له قال عليه السلام حين يسأله على عن سنته: (. . . والعقل أصل ديني) وأمر بالتواصي بالعقل والرجوع إليه ففيه النجاة وفيه الآمان. قال عليه السلام: (اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه. واعلموا أنه ينجدكم عنده ربكم (وبين أن الله يأخذ بالعقل ويعطي بالعقل ويثيب به ويعاقب على أساسه، وما تم دين أحد بالا بالعقل، وما عبد الله بشيء أحب إليه من العقل وبمثل العقل.
روى لقمان بن أبي عامر عن أبي الدرداء أن رسول الله قال: (يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً، قلت: بأبي أنت وأمي ومن لي بالعقل؟ قال اجتنب محارم الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً، ثم تنفل بصالحات الأعمال تزدد بالدنيا عقلا وتزدد مع من ربك قرباً وبه عزاً. . .) وروى أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (أثني على رجل عند رسول الله بخير فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله إن من عبادته. . . إن من خلقه. . . إن من فضله. . . إن من أدبه. . فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وتسألنا عن عقله، فقال رسول الله: (إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس من ربهم بالزلف على قدر عقولهم) ويرى الرسول لن الحياة من مستلزمات العقل فلا يكونان إلا مع العقل ولا يسيران إلا في كنفه.
والعقل نور جعله الله للدين أصلا وللدنيا عماداً به ميز الحق من الباطل وتعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات وعليه يقوم النجاح ويكون الفلاح. قال عليه السلام (العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل) وقال (أفلح من رزق لباً) أي عقلا.
قدري حافظ طوقان(601/65)
العدد 602 - بتاريخ: 15 - 01 - 1945(/)
الدين في معترك الشكوك
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
حفظ الدين وجوده في العصور الأولى للإنسانية بالغريزة الطبيعية، فلم يجد العلماء في تاريخها كله جماعة مجردة من الدين حتى فيما نقبوا عليه من عهوده الأولى قبل تدوين التاريخ ولما أجال الإنسان فكرة في الوجود المحيط به، ونشأت فيه خاصة النظر والاستدلال، أيد الإنسان دينه بالعقل ولما استبحر علم الكون، وافتتن العقل بالبحوث المادية تحت تأثير سحر المستكشفات الطبيعية في عالم القوى والنواميس، ووضع الدستور العلمي وظهرت آثاره في ترقي المعارف، وتجنب الأخطاء التي كان دليلها مجرد النظر العقلي، لم يعد للمنطق سلطان على الإنسان، وأصبح الدين لا يستطيع البقاء، إلا إذا كان له دليل من الوجود المحسوس. وصرح علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن عهد الدين قد انقضى، وأن بقاءه على الأرض مرتبط ببقاء السذاجة العامية؛ فإذا نشر العلم على العامية رواقه زال الدين كما يزول كل ما ليس له أصل ثابت يقوم عليه.
على هذا كان الإجماع منعقدا في العالم العلمي إلى زمان ليس ببعيد. فهل العقل لا يكفي لإيجاد الإيمان في العهد الذي نحن فيه؟
يكفي إذا كان يستمد من العالم الكوني المحسوس، أما والعقل الذي يعتمد عليه الاعتقادين يقوم على مسلمات لا تزال في نظر العلم مسائل تعوزها الحلول، كنشوة الكون والمادة، وكوجود روح من عالم علوي في الإنسان تبقى بعد انحلال جثمانه في عالم وراء هذا العالم الخ الخ؛ فما يقرره الاعتقادين اعتمادا على أمثال هذه المسلمات لا يراه العلو جديرا بالاعتبار
ومعنى هذا أن الاعتقادين في هذا العصر قد أصبحوا عزلاً من الأسلحة التي تصلح للكفاح في هذا المعترك. فإذا لم يستكملوا هذا النقص فلا يرجى للموضوع الذي هم بسبيله بقاء
وقد بين ذلك الأستاذ (و. ميرس) مدرس علم النفس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) فقال.
(كنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء عن العالم الروحي على أسلوب يستطيع العلم أن يقبله، ولن يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بالتأمل في علم ما بعد الطبيعة،(602/1)
ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تشاهد أساليب المباحث المضبوطة، تلك الأساليب التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. هذا المباحث لا يجوز أن تبنى على التأكيدات التي صدرت عن هذا الوحي أو ذاك، بل يجب أن تؤسس ككل بحث على علمي بمعناه الصحيح، على تجارب يمكننا تكرارها اليوم؛ مؤملين أن نزيد عليها غدا، ويكون الدافع إليها هذه القضية وهي: (إذا كان يوجد عالم روحاني ظهر للناس في أي عهد كان، فيجب أن يكون كذلك قابلاً للظهور في أيامنا هذه) اهـ
ونحن نقول: هذا شرط العلم في قبول الأصول الاعتقادية، وهو شرط لا يجوز الاستخفاف به ولا إغفاله، لأن العلم آخذ في الانتشار بخطوات واسعة؛ وأساليبه المحررة، وآثاره الفاتنة، أثرت في العقول ابلغ تأثير، وانتشرت معها شبهات لم تدع محلا للعقيدة في العقول، وضعفت حجة الاعتقاديين أمام هذا التحدي ضعفاً ظهرت نتائجه في الجماعات، وخاصة في البلاد الشرقية، حيث ينتشر العلم، ويصر حفظة الدين على التغاضي مما يستنبعه هذا الانتشار من شيوع ما يلابسه من الشبهات.
وقد ظهرت لذلك آثار خلقية وأدبية لا يحسن السكوت عليها ولم هذا التعرض هذه المخاطر؟ فإذا كنا ننتظر خلاصاً منها باعتمادنا على أساليبنا القديمة، فقد دلت دلالة قاطعة على أنها منيت بالعجز عن وقف هذا التدهور السريع، فإذا كنا نتشبه بالغربيين في جميع أوضاعهم وأتجاهاتهم، فلم نقتصر في تقليدهم في وقف تيار هذا الانقلاب الخطير؟
أن العلم الأوربي يشتغل من نحو مائة سنة بمسألة الحياة الإنسانية على أسلوبه من التجربة والتمحيص وقد اهتدى إلى نتائج كانت غير منتظرة أثارت دهش العالم كانت مثاراً لحركة لم تحدث لاكتشاف قبلها، فاجتمعت لها مجامع علمية للدرس والتحقيق، وتألفت من أجلها مؤتمرات عامة في أوربا وأمريكا اجتمع فيها ألوف من الباحثين، وثارت بسببها مناقشات صحفية لم تثر لغيرها من المسائل العلمية، حتى وصل قادتها إلى نتائج فاقت كل ما كان يتخيله كبار العقول قبل هذا العهد القريب، إذ ثبت للباحثين فيها ثبوتاً علمياً قاطعاً لا يتطرق إليه ريب لابتنائه على التجارب العلمية، أن للإنسان روحاً مستقلة عن جسده استقلالاً تاماً، مما حمل العلماء المجربين أن يقولوا كما قال أحدهم وهو العلامة الفلكي(602/2)
المشهور (كاميل فلامريون) في كتابه (المجهول والمسائل النفسية):
(إن لدينا اليوم من الأدلة على وجود عالم الروح مثل ما لدينا منها على وجود العالم المادي المحسوس)
اكتشاف خطير في عالم البحوث العلمية يدهش منه حتى الذين يعتقدون بوجود الروح، وهو غير اكتشاف أخرى يثبت مجموعها وجود عالم روحاني وراء هذا العالم لا يمكن التماري فيه وقد بذل أقطاب العلم في جميع أقطار العالم المتمدن ردحاً طويلاً من الزمن في تمحيصها وتحليلها، وانفق أثرياؤهم أموالاً وفيرة لإقامة معاهد تجريبية لها، منها المجمع العلمي لما وراء علم النفس، وقد شيد بناؤه المثري الفرنسي المسي (مييه) ووقف عليه أربعة ملايين فرنك ذهباً تنفق في كل عام، وكان ذلك سنة 1920 وشرط ألا ينخرط في جماعته إلا العلماء.
وفي الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها أمثال لهذا المجمع؛ ومنها جمعية البحوث النفسية في لندن وقد تألفت في سنة (1882) ولا تزال قائمة للآن يزاول العمل فيها علماء من الطبقة العليا، وقد جمعت مما تقرر تجاربها نحو ستين مجلداً ولا تزال قائمة إلى اليوم.
ذكر هذه الجمعية الأستاذ الكبير وليم جيمس الأمريكي في كتابه (إرادة الاعتقاد) في صفحة 313 فقال:
(أن جمعية المباحث النفسية التي يمتد عملها في إنجلترا وأمريكا قد سمحت بأن يلتقي العالمان العلمي والروحي، فإذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات، خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية وأن حب العجائب هو الأصل المحرك لها، ومع ذلك فيكفي أن نلقى نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة. فأن رئيس هذه الجمعية وهو الأستاذ (سيد جويك) معروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك بجميع البلاد الإنجليزية، ووكيلها الأستاذين (أرثر بلفور) و (جاب لنجلي) ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ (شارل ريشيه) الفيزيولوجي الفرنسي الخطير، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفايتهم العلمية أشهر من نار على علم. فإذا طلب أبي أن أعين مجموعة علمية(602/3)
تكون مصادر أخطائها ممحصة بأدق الأساليب فأني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فأن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها المجلات الخاصة بهذا العلم لا تبلغ في دقة النقد مبلغ دقة المحاضر التي نحن بسبيلها) اهـ
فهذه المجامع العلمية التي تألفت من أكبر رجال العلم في أرقى البلاد المتمدنة، واجتمعت بسببها مؤتمرات عالمية في أكبر عواصم العالم احتشد فيها ألوف من الباحثين المستقلين ووضع فيها مئات من العلماء كتبا مستفيضة، قد أثرت في العالم الغربي أكبر تأثير كان من أثره تغيير وجهة الفلسفة في القرن العشرين حتى نوهت مجلة المقتطف بذلك في عهد شهر ديسمبر من سنة 1918 فقالت:
(من يطلع على ما يكتب وما ينشر من المقالات الفلسفية يجد أن أصحابها مالوا عن الطريقة العلمية إلى الطريقة الروحية. . إلى أن قالت: (ومما يدعو للأسف أن أكثر اهتمام الناس كان موجهًا في السنوات الأخيرة إلى هذا القسم من الفلسفة كما يظهر مما نشرناه من أقوال السير (أوليفر) وإضرابه من المعتقدين بمناجاة الأرواح والتلباثي وما أشبه).
نقول والأمر الذي جعل هذه البحوث جديرة بالنظر والتمحيص أن الجمعية الجدلية في لندن كلفت ثلاثة وثلاثين عالماً من أجل أعضائها ببحثها وضع تقرير عنها، فقامت بما عهد إليها وكان ذلك في سنة 1869، ولبثت تعمل ثمانية عشر شهراً باذلة أقصى ما يتيحه لها العلم من طرق التمحيص والتحقيق، ثم وضعت عنها تقريراً وقع في خمسمائة صفحة، اعترفت فيه إجماعاً بصحتها. فكان ذلك مغرياً للعلماء في كل بلد ببذل الوسع في دراستها؛ وانتهى الأمر بهم جميعاً إلى القول بأنها حقيقة لا مريه فيها.
ولما آنست الكنيسة الإنجليزية شدة اهتمام الناس بها ألفت مؤتمراً دينياً لإبداء رأي الكنيسة فيها. وقد نشرت خلاصة رأيها المجلات المشهورة، فكان مما قالته عنها المجلة العالمية بقلم مديرها الفيلسوف الكبير (جان فينو) فقال:
(في مؤتمر الأساقفة الانجليكانية الذي عقد في قصر (لامبيت) من 5 يوليو إلى 7اأغسطس من سنة 1920، اجتمع مائتان واثنان وخمسون من رؤساء الكنيسة، منهم مطارنة كنتربوري ويورك وسدني وكبتاون والهند الغربية وميلبورن وإمارة بلاد الغال الخ، هؤلاء عدا أكثر من مائة أسقف من أكبر الأساقفة، وتقرر النظر في أمر الاسبرتسم والعلم(602/4)
المسيحي والتيوزوفية، فاعترف المؤتمرون بقيمة هذه الميول الروحانية التي تكافح المادية نجاح عظيم).
هذه خلاصة ما حدث حول هذه المسالة في البلاد المتمدنة وقد سماها مدير المجلة العالمية بالفيض الإلهي، وقد تسرب إلى الجامعات الكبيرة، فأسست له جامعة كامبردج في سنة 1940 دراسة خاصة، واتخذت جامعة اكسفورد لأمهات مؤلفاته محلاً خاصاً بها، وعينت لمحاضراته عالماً خبيراً به. وأدخلته إلى حظيرتها العلمية جامعات أخرى في أمريكا، فهل نغض نحن الطرف عنه ولا يستفيد منه حفظة العقائد ليصدوا به تيار المادية التي تتسرب إلى عقول النابتة، وتقذف بهم من الإباحة إلى مكان سحيق؟
لقد أدخلنا الفلسفة في معاهدنا العلمية المدنية والدينية مصبوغة صبغة مادية على ما كانت تعرض بها في القرن التاسع عشر في أوروبا، ولم نتبعها بالآراء التي تنازعها السلطان، ولا بالمكتشفات العلمية التي تحد من غلوائها!
نعم قد نشرت بحوث عن العالم الروحي في هذا البلاد ولكنها قوبلت بردود دلت على أن أصحابها لا يدرون عنها شيئاً، وكان أهون ما قالوه ضدها إنها لا تزال رهن البحث، ولم يبت في أمرها بعد، ونحن لا ندري متى تنضح هذه البحوث بعد ما مر عليها قرن برمته، وصدرت في إثبات صحتها ألوف من المؤلفات، وأعلن اقتناعه بها ألوف من العلماء والفلاسفة؟ وهل بعد دخولها أشهر الجامعات يراد دليل على أن البحث فيها قد استوفى حقه استيفاء يؤهلها لأن تأخذ مكانتها الرفيعة بين سائر المعارف المحققة، وتؤدي للمجتمع المهام الأدبية التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها؟
محمد فريد وجدي(602/5)
من مذكرات عمر بن أبي ربيعة
صديق إبليس. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وذهبت صهباء وبقيت أترقبها ثلاث أيام ولياليها وهي لا تجئ، حتى إذا كانت ليلة خرجت أنت إلى الطائف آخر خرجة، جاءتني صهباء في جنح العتمة ودخلت هي وظمياء فقالت: لقد أطاع مولاي في مرضاتك، فإن أذنت جئت به الساعة. قلت لها: لبثي حتى يأوي جوان. فلما كان بعد هداة الليل وفقدنا الصوت، ذهبت صهباء ساعة ثم جاءت ودخل على رجل أسمر طوال نحيل البدن معروف الوجه ابيض اللحية أشعت أغير، كأن عينيه جمرتان تقدان في وقبين غائرين كأنهما كهفان في حضن جبل ونضر في عيني فوالله لتمنيت أن الأرض ساخت بي ولم أنظر في عينيه، فما هو إلا أن سلم حتى سمعت نغمة صوت شجي كحنين الوالهة، فوالله لتمنيت أن يتكلم ما بقيت. ولم أدر ما أقول ودهشت وهلك صوتي، فنظرت فإذا هو يبتسم إلي ثم يقول، (يا أم جوان لقد سعيت إلى بيتك وما سعيت من قبل إلى بيت إلا إلى هذه البنية (يعني الكعبة). وقد جاءتني فتاتي صهباء تحدثني عما كان منها إليك، وقبيح بأمري أفزع قلباً ساكناً أن يدعه أو يطمئن، ولو كنت أعلم أنها مفتوقة اللسان، ما حدثتها بشيء أبدا). قالت كلثم: فكأن الله جعل لي قوة سيل جارف فقلت له: كذبت يا رجل وكذبت بنت الأصفر ووالله لئن لم تأتني ببرهان ما تقول، لتركت شيبتك هذه أباديد في أكف صبيان مكة. ووالله لو صدقت لأسرتك ولأكفينك ما عشت. فقال: (جزاك الله خيراً يا أم جوان! أما إذ كذبتي فآيتي أن تذهبي فتستخرجي من جوف حقيبة عمر الحمراء بين جلدها ومفرشها كتاب عبد الله بن هلال الفاسق بخط يده، قد جعله تميمة لزوجك أن لا يراه أحد إذا خرج إلى مأوى الفتاتين بالطائف، ومعه منديل ابن هلال الأزرق ذو الوشى، يمسح به وجهه قبل أن يرحل). فما كذبت أن طرت إلى ما زعم، فوالله لقد صدق وبر
(قال عمر)، قلت: ما تقولين؟ قالت: صه يا عمر فوالله لقد صدق وبر، وقلت له، أيها الشيخ(602/6)
أفأنت تعلم أين تجد هاتين الخبيثتين؟ قال: لا. قالت: فما تزعم فتاتك من أن لا شيء يفعله الخبيث ابن هلال إلا كان عندك خبره؟ قال صدقت. قلت: فكيف لا تعلم؟ قال: إنه أخبث والأم وأضل وأدهى وأقرب إلى إبليس وبنته بيذخ ذات العرش من أن أطيق معرفة ما أنقطع بيني وبينه. قلت: وما بيذخ ذات العرش؟ قال: إنها ابنة إبليس التي اتخذت عرشها على الماء، حولها سواد غلاظ يشبهون الزط، حفاة مشققو الأعقاب، ولا يصل إليها من قدم لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق، وترك لها من الصلاة والصوم، وقدم إليها من ذهب وفضة واللآلئ حتى ترضى، فإذا فعل ما تريد وصل إليها فسجد تحت عرشها، فتخدمه من يريد وتقضى حوائجه. قلت: وما علمك بهذا أيها الشيخ؟ قال: ذاك شيء قد كان والله هو التواب الرحيم. قلت: قد كان! قال: نعم أما اليوم فلا، وما يأتيني بأخبار اللعين الزندبق ابن الهلال إلا صاحب من الجن قد آمن بإيماني، ولكنه محجوب عن الأسرار. قلت: أفلا تكرمني أيها الشيخ فتسأل صاحبك أن يحتال ليعرف؟ قال: لا أدري. ولكن ائتيني بطست أناطق صاحبي.
(فأتيته بطست فكبه، وأخرج من كمه غلالة سوداء فنشرها عليه، وأمر بالفتائل فأطفأت، وطلب جمرات في طبق. فلما تم ذلك اخرج عوداً من المنديل فطير دخانه، وجلس وأختبئ، وإن عينيه لتبصان في الظلماء، وجعل يتمتم ويدندن ويهمهم حتى كدت أنشق، ثم قال: يا زوبعة! فإذا صوت يأتي كأنما يخرج من جوف بثر شطون يقول: لبيك أبا الحسن! قال: أتدري أين أنا؟ قال: بلى دريت! قال: إنه حضرني من الأمر ما تعلم، أفأنت بمدركي بمأوى الخبيثتين قينتي أبن هلال؟ قال: لقد علمت مالي ببيذخ طاقة بعد أيماني بالله ورسوله قال: أفلا تحتال؟ قال: تباً لك من شيخ سوء أترومني أن أرتد إلى الكفر بعد الإيمان؟ قال: مهلاً زوبعة! أما لك من صديق تزفق به حتى تستل منه السر؟ قال زوبعة: هذا فراق بيني وبينك أيها الخبيث. ووالله ما تزكت السحر إلا وفي قلبك رجعة إليه. خسأت أيها الفاجر!). وإذا الطست يتحرك فينقلب فأرى كمثل أم جوان، لقد رأيت، ومالي من حيلة. قلت: احتل لي وقاك الله السوء، ولا والله لا تخرج من هذه الدار حتى تعطيني المواثيق بأن تفعل ما أريد. قال: يا أم جوان، وكيف بعذاب الله؟
(قالت كلثم: فوالله ما أن سمعت مقالته حتى خانتني قدماي فوقعت أبكي ويرفض دمعي(602/7)
كلاذع الجمر، ورأيت الدنيا قد أطبقت علي، وما هو إلا أن أنشج بالبكاء. فدنا الشيخ وأسر إلى أن أبشرى أم جوان، فوالله ما أدعك أبداً حتى يطمئن قلبك، واصبري غداً تأتيك الصهباء. وما أفقت حتى رأيتني كالمأخوذة وظمياء تنضح وجهي بآلاء. وبقيت الليل كله أطويه ساعة بعد ساعة حتى أصبح الناس، وقلبي يرجف، ودمعي ينهل، وكأنه في سمعي دوى النحل، حتى إذا قام قائم الظهيرة جاءت صهباء فقالت: يقول لك مولاي إنه يبني رفرفين من الديباج، وعشرة أثواب من الإبريسم، وبردين كذابين من الخز، وخمسين لؤلؤة لم تثقب. فما كذبت أن أعطيها ما طلبت. وغابت يومين ثم جاءتني مع المشي وقالت: يقول لك مولاي: لو أطلق أن لا يكلفك لفعل، ولكن الأمر قد استعصى عليه بعد توبته، وأن بيذخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كفاء ما عصاه في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبح لها من الذبائح ما يسيل على جنبات الغور (مسكن الجن) حتى ترضى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المائتين والثلاثمائة. فوالله ما كذبت أن أعطيتها. فما غابت إلا يوماً أو بعضه حتى جاءت تطلب المنديل الذي أعصب به رأسي، فما كذبت أن أعطيها. ثم جاءتني من الغد عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يؤذنك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعته، وإذا أنا أسمع في سدفة الفجر صوتاً كالمتحدر ما بين جبلين يقول: قومي إلى صلاتك. فقمت فصليت وما كدت حتى أذن الفجر. فلما كان بعد أيام جاءتني صهباء تقول: أبشرى! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحباً به من ضيف. فلما دخل الليل وسكن الناس، جاء الشيخ لميعاده فسلم وسكت ثم قال: انظري ألي يا أم جوان. فنظرت في عيني كالنار المشعلة في الليلة الدامسة، وجعل يمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينيه أضاء ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياء تنضحني بالماء حتى أفيق. قلت: يا ظمياء أين الشيخ؟ قالت: لقد أذنت له أن ينصرف بعد أن أعطيه من المال ما طلب. قلت: تباً لي أين كان عقلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذهباً، وواعدك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين.
(قال كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عمر لقد حفظتك ما عشت في قلبي).
(قال عمر بن ربيعة)؛ (فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أصدقك؟ لقد ضلت(602/8)
إذن أيتها الحمقاء). (أنا حمقاء أيها الفاجر الفاسق! ثم قامت إلى صوانها فاستخرجت منه شيئاً ونشرته لعيني، فإذا سرقه من حرير أبيض عليها صورتان، فما تأملتها إلا كانتا والله قينتي ابن هلال حيث رايتهما وسمعتهما بالكوفة، ولقد كانتا في السرقة اجمل وافتن وأحب إلي مما كانتا. قلت: إنهما والله يا كلثم قينتا ابن هلال! قالت: وصدق الشيخ أيها الفاجر! أتدع حرائر بني مخزوم إلى الخبيثات الدنيئات من بغايا الكوفة، تخالف إليهن تحت الليل والسحر والكفر وعبث الشيطان بك وبعقلك.
(قال عمر): وإذا جوان بالباب ينظر إلى الصورتين، ثم يتقدم ويقول: ما بك يا أماه: فتقول: هذا الخبيث الفاجر يدع الحرائر من بيني مخزوم ملطمات ويختلف إلي زواني الكوفة يقتادهن إليه الخبيث ابن الهلال بالسح والطلاسم. وهذا منديله يمسح به الغبار وجهه لا يراه الناس ساعياً إلى فجوره.
(قال عمر): وجعلت نقص على جوان قصة ما كان، وهي تنتظر إلى كاللبؤة المجرية ريعت أشبالها، فما كادت تفرغ حتى جاءت ظمياء معجلة تقول: مولاتي، صهباء بالباب. قالت كلثم: إيذني لها. فما كدت أراها حتى فزعت قائماً إليها وأخذتها بغدائرها: (وإنك لأنت أنت أيتها الشيطانة؟) فأنقضت على كلثم تذوذني عنها وتقول: دعها أيها الفاجر! قلت: إنها فتن جارية الخبيث الفاجر عبد الله بن هلال، ولطالما خدمتني الكوفة! أليس كذلك يا فتن؟ قالت: ارحمني يا سيدي فما أنا إلا جارية يائسة مسكينة يركبني هذا الشيطان بخبثه وخبائثه. قلت: وأين أبن هلال صديق إبليس وصاحبه قالت، ما تدركه يا مولاي! فقد أرتحل الليلة وتركني أتبعه والثقل وقلت: وما جئت تبغين! قالت: أرسلني أطلب بع المال من مولاتي.
قالت كلثم: دعها يا عمر الآن، لقد ضللت إذن وبئس ما فعلت، ووالله لقد خدعني الشيطان ابن هلال. أين كان عقلي!
فقال جوان: والله يا أمه! لقد كان فجور أبي بامرأتين خبيثتين من بغايا الكوفة، احب إلى من شركك بالله وكفرك! قومي يرحمك الله مما كان من ضلالك وكفرك. . .)
محمود محمد شاكر(602/9)
الحياة صادقة!
2 - العدل الإلهي!
مقدمات لإدراكه واليقين به
(مهداة إلى العقاد الكبير بمناسبة مقاله (تبارك رزاق البرايا))
للأستاذ عبد المنعم خلاف
6 - لقد وجدت من حسن حظ الإنسانية في هذا العصر نظم صالحة تسمح لدعوات الحق والصلاح أن تتخذ طريقها وتزاحم في أسواق الحياة بدون عوائق غير طبيعية، بعد إن قدست حرية الفكر والقول وسمح لكل فرد أن يقول ما عنده بدون سباب أو أذى.
لقد تيقظت الإنسانية لحياتها وقيمتها، عرفت قيمة الفرد فيها، فأفسحت الأمم الراقية له المجال ليخدمها بالقول والفعل مهما كان ما يدعو إليه جديداً غريباً؛ ومتى أخذ الناس أنفسهم أن يسمعوا لكل قائل ثم يحاكموه إلى العقل فهم في تقدم. فعلى كل مظلوم أن يصرخ! وعلى كل داع أن يتكلم، وعلى الجماعة أن تسمع لهذا وهذا.
والظلم السياسي أو الاقتصادي من القوى أو للغنى للضعيف المحروم هو الذي يجعل الإنسان يكفر أو يشك في العدل الإلهي. . وطبيعي أن الله لا يتدخل في كل شئ بين الناس تدخلا ظاهراً. . وهو قد أقام قوانين الطبيعة حدوداً يتحاكم الناس إليها. . فالنار تحرق من يضع يده فيها سواء أكان صديقاً أم عدواً. . والتردي من شاهق يهلك، والتعرض للمرض يمرض، والماء يغرق. وهكذا كل عمل له نتائجه الحتمية لأنها قوانين طبيعية لا تبديل لها ولا تحويل. . والله يترك لقوانين الطبيعة العقاب الطبيعي على كافة مخالفة يرتكبها الفرد أو الأمة نحو تلك القوانين. ذلك ظاهر واضح في مجال الطبيعة.
وأما في مجال الإنسان. فلاختيار أفسد عنده كثيرا ما كان يجب أن يسير عليه سيرا طبيعياً، إذ قد ملا حياته بالتهاون.
فالظالم يظلم وعلى المظلوم أن يثأر لنفسه، ولو كلفه حياته. ذلك حكم الطبيعة وردها الإيجابي كما ردت بالإحراق على من دس يده في النار. . ولكن المظلوم كثيرا ما يغفل ويهمل الإصرار على أخذ حقه، وكثيرا ما تبطئ الجماعة أو تهمل في رد حقه عليه.(602/10)
وما دمنا نعيش في جماعة فلابد أن تتولى هي الأخذ بثأر المظلوم في حقه، وإذا فرطت العقد الاجتماعي. . فإذا فرط المظلوم في حقه، وإذا فرطت الجماعة في الإنصاف له كان هنا حينئذ قانون طبيعي اجتماعي اعتدى عليه وخولف ولم يكن له من الإنسان تصحيح ورد لقيمته. وكان وراء ذلك حتما ثلمة في الجماعة يتطرق منها الفساد. فليس الذنب هنا ذنب العدل الإلهي ولكن ذنب الجماعة التي برهنت حين أهملت الاقتصاص من ظالمها أو ظالم أحد أفرادها، مع أنها أقوى من ذلك الظالم، على أنها تستحق الحياة الرشيدة لأنها تعرف قوانين المقاومة، وعلى أنها غثاء وقش يستحق أن تضغطه قوة أخرى أصلح منه للسيطرة على الحياة.
أن الله يقاوم النفس بالنفس كما يقاوم أي قوة طبيعية بقوة مضادة لها ليضمن التناسق والصلاح ودوام كل شيء كما وضعه وجعله يسير في دوراته الأبدية.
وإن حجته الناهضة على عدله أنه لم يجعل لأحد سيطرة على فكر أحد وشعوره القلبي. فلن تستطيع أية قوة أرضية أن تتحكم في فكرك وشعورك، فإذا أحسست بظلم، فأمام نفسك قوة حرة تستعين بها: هي حرية الحركة الفكرية والغضبية لرد الظلم عنك، فلا تغفل حقك في الحياة، ولا ترضى بها غير كاملة الحقوق، ولا ترض بحياة الضعف مهما كلفك السعي للقوة، واستمع لهذا الصوت المتفجر من ضمير الكون يصيح بك: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً).
7 - وأول واجبات الجماعة أن تبحث عن أصلح رجالها لتوليه حكمها. أي أن نوسد الأمر إلى أهله، وأن تقيم حدود حياتها ولا تتهاون أن تستثني فيها، ثم تترك لحاكمها أن يحكمها بالعدالة والقوة القاهرة الرادعة.
ذلك هو أسلوب الله في حكم العالم: قوة وإحاطة، وقهر، ويقظة، وعدالة ومجازاة.
وإن الجماعة هي المسؤولة عن كل ظلم أو فساد يتطرق إليها. وأن الله لا يتدخل بتغيير شيء في حياتها إلا إذا أرادت وغيرت ما بنفوسها، أنه جعلها في الأرض صاحبة سلطان يكاد يكون مطلقا في شئون حياتها الاجتماعية وعلى هذا فهو غير مسئول عن توزيع الثروات توزيعا ظالما ولا عن شيوع الجهالة والآثام.(602/11)
من قال إن لكل إنسان الحق في أن يملك جزءا كبيرا من ثروة وطنه التي جمعها له كثيرون من العمال والفقراء، ثم لا يؤدي حق الفقير والمحروم، ويترك أبنائهم يبحثون عن اللقمة والخرقة في المزابل كما نرى! بينما هو يكاد رأسه يتحطم بعمليات حساب أمواله المكدسة!؟
من الذي أباح للإنسان أن يملك أكثر من حاجات نفسه وكمالياتها في متوسط عمر الإنسان؟ فإذا كفل أن يملا أن مطبخه كل يوم بألوان مختلفة كثيرة، وداره بالفرش والرياش الفاخرة، واصطبله بالخيول المطهمة والسيارات الفخمة، وفناء داره بالأزهار وهكذا. . فما باله يشح على أمته فيما وراء ذلك؟!
فإذا قال الإنسان الغني، أو الفقير: احشد على مائدتك كل مادة مغلظة. . أو كل لحم المريض من البهائم، أو كل ما لا تطيقه أحشاؤك. . أو كل طعام الصيف في الشتاء وطعام الشتاء في الصيف، أو أفرط في السهر وعربد وأطلق لأهوائك وشهواتك العنان وسوف لا يكون من وراء ذلك شقاء ولا هم يحزنون؟!
ومن قال لك: كن قوادا لفلان. . أو ماسح حذاء فلان، أو نماما له لترقي أو تنال درجة أو وظيفة؟
ومن قال لك: بع حريتك واجعل خدك مداسا وقل للكلاب: يا سادتي. . في سبيل الخبز القذر المعجون بدموع الذلة!
ومن قال لك: اترك ابنك قذر الجسم والثوب وعليه التراب والذباب لان العمر بيد الله؟!
ومن قال لك: لا تحافظ على الطفولة (منطقة نمو الإنسانية) وأخرجها ضعيفة جاهلة؟!
ومن قال: أن الحياة آلام ومشقات؟
من قال؟ ومن قال؟ ومن قال؟ الله قال هذا! أم الجماعة الفاسدة هي قالت ذلك وسبته إلى الله، جعلتك تتهجم على العدل الإلهي الذي أقام الناموس الطبيعي بموازين لا تخطئ ولا تحابي؟!
اسمع ما يقول القرآن: (ولو أن أهل القرى آمنوا اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاتقون) والتقوى كلمة(602/12)
جامعة ينبغي أن يكون لها مدلولها الأول: وهو العمل الوقائي للخير ولدفع الشر. (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) إلى آخر الآية التي مر ذكرها.
8 - قم إلى جسمك وقوه بالرياضة وحافظ عليه من عوامل الفساد، ولا تأكل إلا ما يسمح لك به الطب، ولا تسرف في الأكل والشرب، ونق جسمك من الأخلاط والفضلات الضارة. . ثم انظر هل يبقى به من سقم أو كلال إلا ما تستتبعه الحياة العادية في الأرض؟!
وقم إلى منزلك ومتعه بهبات الله من الشمس والضياء والهواء والبعد عن العفوفات والرطوبات ثم انظر هل تجد فيه غير بهجة الحياة؟
وقم إلى فكرك وعلمه وهذبه وسلحه بأدوات العصر وقلبه في أعاجيب الكون، ثم انظر هل تجد بعد ذلك سخطاً في نفسك وتشاؤماً؟! وقم إلى حواسك ومتعها بالجمال المباح ولا تحرمها من زينة الله التي أخرج لعباده، وأذهب عنها الملل والسأم وعنت الجد والعمل ببعض اللهو واللعب المشروع، وغن في غير فحش إن كنت حسن الصوت، وأسمع الغناء والألحان في غير إسراف، وأرقص رقص الرجال، رقص الفتوة وطفور القوة الذي لا تخنث فيه ولا شهوة ولا مخاصرة، لتنفض عن كفيك أعباء الهموم في بعض ساعات حياتك. . . واضحك من قلبك كطفل، وأفرح بالشمس والقمر، وأسلم جسمك للنسمات. ولكن أحذر أن تحول الإحساس بالراحة من عنت الأعمال الجدية إلى شهوة تتملكك وتسلبك التحكم في إرادتك وتمنعك من أداء واجباتك. فإن هذه الملاهي والراحات ما حرمت عند بعض المتزمتين إلا لأنها تطغى على النفوس وتمنعها عن الواجبات. وكما أن الماء يحرم إذا أورث شاربه أذى كذلك تحرم هذه.
وقم إلى طفلك وأحذر أن تلقى بذرة إنسانية مسمومة بالخمر أو بالأمراض الخبيثة حتى ينبت وهو صحيح في ظلمة الرحم ثم حافظ عليه وهو حمل جنين فلا تجعل مؤثراً عنيفاً يؤثر فيه حتى يخرج الطل بريئاً من عوامل الالتواء والاعوجاج فتعهده لتنمية حواسه وجسمه وأفتح روحه وثقفه، وكمله وهذبه.
وقم إلى روحك فأعتقد لها العقيدة الصالحة الصحيحة وتعبد بمقتضاها حتى توقظ فيك حياة الاتصال بباري الكون وتجعلك تحيل عليه جميع أمورك وهمومك وآمالك، وتقدم إلى وجهه جهادك وصبرك. ثم إلى الجماعة التي تعيش فيها وأقمتها على المنطق والمصلحة العامة(602/13)
واحمل الناس على الإنصاف فإنك حينئذ ترى الفردوس المنشود.
9 - كل هذا قد لا يملكه الفرد لنفسه وذريته وحياته، ولكن تملكه الأمة لأفرادها إن أرادت! وإرادتها حينئذ تكون من إرادة القدر الإلهي. . بل إرادة النفس هي بدء إرادة القدر الذي في حدود قوانين الحياة. أما القدر الذي يأتي من وراء الحدود فذلك أمره إلى الله وحده. وهو قليل ونادر جداً.
إن محمداً رسول الله هزم هو وجيشه في يوم (أحد) ويوم (حنين) لأن فئة من جيشه لم تأخذ بما أمرها به العقل فتركت في أحد أماكنها في الصفوف لشهوة صغيرة، وأعجبتها كثرتها في حنين فلم يحاب قدر الله الجميع ولو كانوا أصحاب محمد لأن القدر لا يحابي من يخالف قوانين الحياة. وفي ذلك إرشاد بالغ للمسلم حتى يعتمد على فكره وإرادته بعد أن يطلب التوفيق من الله.
إنني أتصور في بعض الأحيان أنني ألقيت بنفسي في النيل، أو لم أنحرف عن طريق ترام مقبل أو سيارة شبراً واحداً، فإذا بحياتي تضيع لأني أنكرت قوة من قوى الطبيعة لم أحسب حساباً أو استهزأت بها. وهي ذات بأس الحديد أو صعق النار أو غمر الماء.
إن الذي يقرا القرآن مليون مرة في مواجهة عدو مسلح لا يجديه ذلك شيئاً كما أن ينقذ آية واحدة منه وهي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. . . الخ)! ذلك لأن اللص لا يجديه شيئاً أن يحفظ أو يتلو قانون العقوبات، لأن هذا القانون لم يوضع للتلاوة والاستظهار بل للتنفيذ.
فالأوامر القرآنية منزلة لتنفيذها وإقامة الحياة بها لا (لحفظها) وإهمال تطبيقها. وتلك حقيقة كثير من المسلمين فهمها مع الأسف.
وطبعاً ليس في هذا وعد بالجنة في الأرض بناء على تنفيذ هذه الوصايا. . ولكن في هذا زحزحة عن النار. . عن جحيم السخط والألم والنكران والجحود والشك في قيمة الإنسان وفي العدل الإلهي وعن النظر إلى التدين كحياة كآبة وضعف وحزن وضنى وألم وسخط وندم.
وبعد (فلنحاسب) الله (ولنحاكم) عدله الإلهي بعقل سام وفكر كبير كفكره تعالى في الطبيعة كلها. . وهذا لا يكون إلا إذا نظرنا إليه نظرة تتمثل فيها الإنسانية كلها لا نظرة أمة أو جماعة يزعمون أنهم شعبه المختار، فهم لذلك يعتقدون انهم أحق بكل ثروات الأرض وقوة(602/14)
الأرض وجنة السماء! أو نظرة جماعة ذليلة مستبعدة فقيرة يملكون أن يموتوا أحراراً ولكنهم لم يفعلوا ورضوا بمذلات الحياة.
فمن سوء الإصرار وقلة الإنصاف أن نظل نحاسب عدل الله بعقول أطفال النظر يريدون أن يستأثروا بحبه تعالى لهم وحدهم ويحاربوا من عداهم من عياله.
ومن المضحك أن كل شعب يزعم أنه الشعب المختار. . أفراده أبناء الله وأحباؤه! ومن المؤسف أن كل فرد في كل شعب غير مهذب يريد ثروة الحياة كلها لنفسه وحدها!
إننا نستطيع أن نقيم العدل الإلهي في الأرض وأن نحصل على السعادة إذا تحررنا من تاريخ طفولة البشرية الذي لا يزال يصاحبنا ويتمثل في غرائز الإنسانية تمثلاً فظيعاً يحيل حياة كل أمة إلى شقاء. ويجعلنا كلنا نخسر التمتع اللائق بهذه الرحلة السعيدة التي دعانا الله إليها على هذه الأرض، ويؤخر تقدمنا العلمي الذي يفتح علينا بركات من السماء والأرض تطعمنا من جوع وتؤمننا من خوف وتزودنا من طمأنينة اليقين بعدل الله والرضا عن الحياة.
عبد المنعم خلاف(602/15)
على هامش النقد
2 - مليم الأكبر
بحث وقصة. . . عادل كامل
للأستاذ سيد قطب
تقدم الأستاذ عادل كامل إذن بقصته هذه التي تحدثنا عنها - على قدر الإمكان في مقال سابق إلى المجمع اللغوي، فلم تمنحها اللجنة الأدبية جائزة القصة المقررة. وقد وافقنا نحن اللجنة في قرارها على أساس أن مثل هذا الاتجاه مهما يحتمل الكاتب تبعه وحده أمام القراء مباشرة، بلا وسيط من الهيئات المسؤولة.
وعندئذ كتب المؤلف تلك المقدمة الطويلة التي بلغت مائة وثمانيا وعشرين صفحة! وكان في ذلك الخير. فقد أصبحت هذه المقدمة بحثاً مطولاً في اللغة والأدب والفن والأخلاق وصارت هي الأخرى عملاً أدبياً مستقلاً بذاته، قابلاً للنقد والجدال!
ولقد تشعبت نواحي هذا البحث، فلابد من الاختصار في مناقشتها. وتيسيرا للأمر سنسلك نفس الطريق الذي سلكه في إيرادها.
فهم الأستاذ عادل أنه كان هناك اعتراض على (مستوى) أسلوب القصة، فأخذ في بيان ما يفهمه عن الأساليب الجيدة والأساليب الرديئة فنفي أولاً بأن هناك فكرة وتعبيراً كلاهما مستقل عن الآخر، وأن هناك فكرة جيدة تعرض في أسلوب رديء.
(هذا رأي النظرة العجلى) فالفكرة لا تخطر للكاتب مجردة، بل تأتيه في صورة ألفاظ، هذه الصورة اللفظية هي أسلوبه الذي تتحكم فيه الفكرة تحكماً تاماً. لهذا فأنت لا تستطيع أن تعبر عن الخاطر عينه بطريقتين مختلفتين. فحتم أن يتغير المعنى إن اختلفت طريقة الصياغة لأن المعنى الذي يوحي به إليك كاتب ما هو خليط غير منفصل من الفكرة واللفظ
(فمن يفهم الأدب فهماً صحيحاً لا يقر بإمكان وجود موضوع جيد مكتوب بأسلوب رديء، لأنك وأن أعجبت بالموضوع، فأسلوب الكاتب وألفاظه هما اللذان أوحيا إليك بالإعجاب، فهما الصلة الوحيدة بينه وبينك.
(ثمة فكرة جميلة سرت إلى نفسك، وأنت تطالع كتاباً كيف يتم هذا! عن طريق لفظ وفي(602/16)
صورة لفظ. فحتم إذن أن يكون الجمال في اللفظ إذ لو كان الأسلوب رديئاً لما وصلتك الفكرة الجميلة)
وهذا كلام جيد. ونحن نوافق عليه بنصه وفصه. لا بل أنا قد كتبته منذ أشهر في فصل من فصول كتابي (التصوير الفني في القرآن) الذي يطبع الآن. . .
ولكن من الحق أن نرجع الفضل إلى أهله. فلست أنا ولا الأستاذ عادل، ولا النقاد الحديثون في أوربا هم أول من خطرت لهم الفكرة على هذا النحو كما يقرر هنالك رجال ممن كتبوا عن (البلاغة) منذ مئات الأعوام قد اهتدى إلى هذه الحقيقة؛ ولقد عبرت عن هذه الحقيقة في كتابي على النحو التالي
(إنا لنحسب إن (عبد القاهر) قد وصل في مشكلة اللفظ والمعنى إلى رأي حاسم حين انتهى في (دلائل الإعجاز) إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته على المعنى. وأن المعنى لا يتناوله البحث من حيث هو خاطر في الذهن، ولكن من حيث أنه ممثل في نظم. وأن المعنى مقيد في وجوده بالنظم الذي يؤدي به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
(لم يصغ عبد القاهر القضية هذه الصياغة فنحن نترجم عنه باختصار، وإلا فقد استغرق فيها كتاباً كاملاً لا نستطيع نقله هنا، ولا نقل فقرات منه بذلك الأسلوب المعقد الذي لا ينسق مع كتاب عن (التصوير الفني في القرآن)!
(ولكن (عبد القاهر) له فضله العظيم في تقرير هذه القضية. ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني. فنقول عنه: أن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى. وأنه حيثما اختلفت طريقة التعبير عن المعنى الواحد اختلفت صورة هذا المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطاً لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد. فلن يبرز المعنى الواحد ألا في صورة واحدة، فإذا اختلف المعنى بقدر اختلافها. وقد يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تختلف، وهي المعول عليها في الفن، إذ التعبير للتأثير، فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه، فالمعنى مختلف بلا مراء!)
هذا ما كتبته يومذاك. وفيه إقرار بالفضل للمفكر الأول، مهما يكن في عرضه للرأي من(602/17)
تقصير، ذلك أنه يطالب بالكمال في ذلك الزمن البعيد
ثم يستطرد المؤلف إلى أن اللفظ قد أستبد بالأدب العربي وأن آداب اللغة العربية جميعها آداب لفظية، وشيء كثير من هذا صحيح. هو صحيح بالقياس إلى النثر العربي بلا جدال. أما بالقياس إلى الشعر فالأمر قد يختلف. ذلك أن الشعر على ما فيه من عيوب تعرضت لها في مقالين قريبين بالرسالة واقتبس منهما الأستاذ عادل في الاستشهاد على هذا الرأي بعض الفقرات - أقول على الرغم من ذلك فإنه لم يخل من القليل الجيد الحي المعبر عن الحالات النفسية والخلجات الطبيعية، التي تبرز فيه من وراء الألفاظ حتى لتتواري هذه الألفاظ، والمجال لا يتسع هنا لضرب الأمثال، فأنا معجل عنها إلى قضية أخرى تعرض لها الأستاذ عادل تعرضاً لم يرض الكثيرين وذلك حين يقول:
(ولعل ما يلقي بعض الضوء على سر استبداد اللفظ بأدباء العرب ما قاله (موم) بصدد الأسلوب الأدبي في أمريكا. فقي رأيه أن هذا الأسلوب الذي تستمد معظم مقوماته من لغة الجمهور الحية يعتبر - في نماذجه الجديدة - أكثر أصالة وحيوية من أسلوب الكتاب الإنجليز. وهو يرجع علة ذلك إلى أن الكتاب الأمريكيين نجوا من استعباد الترجمة الإنجليزية للتوراة التي وضعت في عصر الملك جيمس) كما أنهم كانوا أقل تأثراً (بالأساتذة) الإنجليز القدماء. والحق إن تحكم كتاب بعينه في أدب شعب من الشعوب - ومثله تقديس كاتب أو نخبة من الكتاب - معناه منع هذا الأدب من النمو والتطور، والوقوف به عند حد معين لا يتعداه إلا بالثورة والثورة تصلح ولكنها تحطم وتفسد في نفس الوقت. ومع ذلك فقد تصبح في بعض الأحيان شراً لابد منه)
فهم بعض إخواننا من هذه الفقرات أنه يشير إلى أسلوب (القرآن) وتحكمه في نمو الأدب العربي وغبوا لهذا الفهم جداً. . .
وأنا أحب أن أعرض للمسألة على هذا الوجه، وأن أحكم الحس الديني في مسألة أدبية
أن هذا الواقعة غير صحيحة في ذاتها ومن أساسها بالقياس إلى الأدب العربي وعكسها هو الصحيح. والأمر الذي اهتديت إليه في كتابي الذي مر ذكره، قد يبدو عجيباً لأول وهلة.
إنني أزعم أن الأدب العربي لم يستفد بعد من أسلوب القرآن طوال هذه الأربعة عشر قرناً من الزمان! بله تحكم هذا الأسلوب في نموه! لقد بقى القرآن مجهولاً - من مناحية الفنية -(602/18)
طوال هذه القرون من العرب وغير لعرب على السواء. في الوقت الذي نضج البحث فيه عن النواحي التشريعية والاجتماعية والتاريخية واللغوية. . .
أن سر التعبير القرآني قد بقي مغلقاً فلم يتأثر به الأدب العربي في صميمه مجرد تأثر. هناك اقتباسات ومحاكاة لفظية، ولكن الطريقة والاتجاه قد بقيا سراً مغلقاً إلى الآن، ولو قدر للأدب أن يستقي من هذا المعين لمكان اليوم غير ما كان. . .
إن عيب الأدب العربي الأول - كما قلت في مقالي بالرسالة - أنه ضئيل الحظ من الصور والضلال، وأن الذي يغلب عليه هو المعاني الذهنية والحسية، والتعبيرات المباشرة التي لا تلقى ظلاً ولا تشع حياة. وهو في هذا نقيض الأسلوب القرآني الذي يجعل الصور والظلال قاعدة في التعبير، والذي يحيل المعاني المجردة والحالات النفسية صوراً ومشاهد وظلالاً. كما يحيل كل جامد في الطبيعة شخوصاً حية وكل مشهد من مشاهدها جديد كأنما تراه العين أول مرة والذي يصور المعاني الذهنية كما تبدو من خلال نفس حية. . . وهذا ما ينقص الأدب ليبلغ مداه.
ولن أستطيع هنا ضرب الأمثلة، ولأسرد بحث قد أستغرق مني أكثر من مائتي صفحة. ولكنني أستطيع أن أجزم بعد الاستقراء الممكن للشعر العربي أنه لم يستق من معين القرآن. فقد تحكمت فيه - مع الأسف - تقاليد الشعر الجاهلي فترة طويلة بعد وجود القرآن، ثم تحكمت فيه المباحث الفلسفية والذهنية منذ القرن الثالث بل قبل ذلك، فصار في معظمه أدباً حسياً ثم أدباً ذهنياً، وقلت فيه الصور والظلال لأنه أبعد عن معين الصور والظلال. فإذا آن له اليوم أن ترجع إلى هذا المعين، فسيجد فيه الزاد الكثير!. . . إذا كان تحكم كتاب بعينه في الأدب الإنجليزي قد عوق نموه فأننا كنا نتمنى تحكم كتاب بعينه في الأدب العربي ليدفع به إلى الأمام.
وعلى كثرة ما أجاد الأستاذ عادل وهو يتحدث عن عيوب الأساليب العربية في النثر، وعن الحسية والذهنية في الشعر، وعن القصور المعيب في قواعد النقد، فقد كان اندفاعه العنيف في هذا المجال سبباً في تجاوز القصد، ومجانية الصواب في بعض الأحيان، إننا نتفق معه في وجوب أن تملك نحن اللغة ولا ندعها تملكنا بأساليبها التقليدية، وكل ما ذكره في هذا الصدد بالغ غاية الجودة، ولكنه حين يتجاوز هذه المنطقة بأخذ في الغلو.(602/19)
يقول مرة: (موضوعات الشعر العربي - فيما عدا الغزل - هي الحكم والفلسفة، ثم النقد في صورة هجاء والوعض في صورة المديح فإذا تركنا الغزل جانباً وجدنا أن هذه الأغراض جميعاً أجنبية عن الشعر، لا بوصفه نظماً ولكن بوصفه أداة تعتمد على إثارة الخيال. .)
وفي هذا الكلام غلظة أساسية. فليس هناك موضوع للشعر وموضوع للنثر. إنما العبرة بطريقة تناول الموضوع. ففي بعض حكم المتنبي مثلاً شعر أصيل ينبعث من نفس حية ويوحي بشتى الانفعالات، وفي هجاء أبن الرومي صور فنية بارعة مليئة بالحياة، وفي بعض الوصف للبحتري إيحاءات وظلال شاعرية. . وهكذا.
فمن الخير أن ننظر في الفن دائماً إلى طريقة تناول الموضوع لا إلى ذات الموضوع. فكل موضوع قابل للفن وقابل للعلم وقابل للفلسفة على نحو من الأنحاء.
ورأي آخر في الشعر الغنائي. . فأنني أرى بيننا فتنة لا تنتهي بالشعر القصصي والشعر الروائي. وأنا أزعم أن الأصل في الشعر هو الغناء. الغناء الذاتي الفردي. وأنه حين يتجاوز هذه المنطقة يكاد يتعدى خير مجالاته. وأنه إذا كان الشعر القصصي أو الروائي قد راج في حقب من الزمان، فإنه الآن غير قابل للحياة ألا بمعجزة، وأنه أن للشعر أن يرتد غناء، وغناء فحسب!
أن الشعر العربي لم يتخلف لأنه غناء، ولكن لأنه لم يكن غناء حقاً! فلم يعرف كيف يغني فينطلق من قيود الحس والذهن إلا في القليل منه، وهذا هو اخلد قسم فيه.
ونحن لا نوافق رأي أرسطو الذي يستشهد به الأستاذ عادل: (إن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اقل حديث ممكن وإلا فهو ليس بالمصور والمحاكي للأعمال الرجال كما يفترض فيه)
فلأرسطو أن يقول في هذا ما يشاء. فنقول له: كلا! عن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اكثر حديث ممكن، وله، أولاً يلفت مرة واحدة إلى سواه!
ولدينا مباحث كثيرة قد أثارها الأستاذ عادل عن الطبيعة اللغة العربية وعيوبها الذاتية كلغة، والخلاف بيننا وبينه طويل في هذه المباحث، وإن وافقناه في الكثير منها، فنحن لا نرى النقص في صميم اللغة، ولكن في أساليبها، والأسلوب من يصنع الأدباء وعليهم وحدهم أن(602/20)
يطوعوه. وعلى كل حال فنحن لا نجد الفراغ الكافي للجدل حول هذه المباحث، لأننا نريد أن نعرض لنقطة أخيرة.
تلك هي مسألة الأخلاق، ومسألة الكتابة عن العظماء، وبينها نوع من الارتباط، ولا نحب أن نطيل القول في هذا المجال فلنرجع به إلى قاعدة محدودة.
أمن الخير للإنسانية أن تنطلق من غرائزها وشهواتها - بلا ضابط ولا قيود - أم من الخير للإنسانية أن تكون هناك كوابح وزواجر في صورة من الصور؟
وبتعبير آخر: أمن الخير للإنسانية أن تظل خاضعة للشهوات. أم من الخير للإنسانية أن تتحرر من هذا الضرورات - ولو بتسامي والتصعيد إذا كانت لم تبلغ حتى اليوم درجة التحرر التام؟
أما نحن فلا نتردد في اختيار الوضع الأخير. وأما الأستاذ عادل فيجعل (جماعة القلعة) في قصته يرون الخير كله في إباحة كل محرم، وفي انطلاق من جميع القيود الأخلاقية، للوقوع في جميع القيود الغريزية!
وهذا هو مفرق الطريق!
ثم إنه ينكر على بعض كبار الأدباء عندنا، ويستشهد في إنكار هذا برأي للدكتور مندور! أن يكتبوا عن محمد وأبي بكر وعمر وعلي. لماذا؟ لأنهم عظماء! وكان الواجب أن يكتبوا عن (رجل الشارع)!
لكان العظمة جريمة يعاقب عليها أصحابها بالإهمال!
أن رجل الشارع ليستحق الحديث، نعم، ولكن العظيم يستحقه - على الأقل كرجل الشارع - والأدب مكلف أن يتحدث عمن يحسن الحديث عنه، من هؤلاء أو من هؤلاء، وكل تحكم في اتجاهه إنما هو مجاوزة للحق ومجنبة الصواب.
وبعد فليس ما ناقشته هنا إلا جانباً ضئيلاً مما طرقه المؤلف من مباحث، وحسبه أن يثيرنا للرد أو الموافقة، فهذا أو ذاك نجاح ولاشك للكاتب.
سيد قطب(602/21)
أثر الرسالة في الأدب المعاصر
بمناسبة دخولها في السنة الثالثة عشرة
للدكتور سيد حنفي
راودت خاطري طويلاً فكرة الكتابة في أثر الرسالة في الأدب المعاصر. ولم يكن يمنعني عن المضي فيها غير انتظار المناسبة، فأنا رجل بطبيعة منتهى لا أقبل على عمل إلا بميعاد معلوم، ولا أقيم له كياناً إلا بميزان محدود. ثم كانت مناسبة دخول الرسالة في عامها الثالث عشر فتجسمت الفكرة يقيناً فعملا، وأسرعت إلى الكتابة يدفعني عاملان مهمان: الأول ما يضطرب في نفسي من رغبة الإنصاف، والثاني ما يغمرني غمراً من أطايب الرسالة وكتابها وشعرائها شيباً وشباناً.
ليس من شك في أن الكتابة عن أثر الرسالة في الأدب المعاصر تسدي خدمة كبيرة لمحبي الأدب والتاريخ الأدبي خاصة، فليس من الميسور على القارئ في المستقبل أن يلم بأطراف نهضتها الأدبية العظيمة في مجلدات ضخمة قد يتيسر له الإطلاع عليها وقد لا يتيسر. ومن ثم فإن الكتابة المركزة التي ترسم حدود المدارس الأدبية الكبيرة التي نشأت في ظلال الرسالة وكان قادتها من كتابها وشعرائها، إن هذه الكتابة تيسر الأمر الذي يصعب في الحالة الأولى، وتوفر الجهد لمن يريد الإطلاع والمعرفة وإقرار الحقوق لأصحابها.
ولا يهمني هنا أن ارسم الخطوط والظلال كاملة لقادة هذه المدارس، ولهذه المدارس نفسها، فهذا لا يتسع له مقال، وإنما يحتاج إلى كتاب. وحبذا لو نهض بهذا العمل الجليل أديب فاضل من أدباء الرسالة، والذي أريد أن أكشف عنه وأقدمه إلى القراء هو تقسيم أدباء الرسالة وشعرائها إلى مدارس متميزة متباينة لكل منها خصائص واضحة.
وقبل كل ذلك سنقدم أسماء كبار كتابها وباحثيها من شيوخها، وأسماء كبار كتابها وشعرائها ومفكريها من شبابها، وسنضطر إلى وضع اسم واحد في قسمين من تقسيماتنا لجمع احبه بين النثر والشعر مثلاً. وسيرى القارئ أيضاً أننا سنذكر أسماء لا تكتب في الرسالة اليوم، ولكن الحق والغيرة الأدبية يقتضيان أن نذكر فضل الرسالة عليهم وفضلهم عليها ليتم فضلهما معاً على الأدب عامة، فمن شيوخها الأفاضل: الأساتذة الإجلاء: الزيات، وطه حسين، وأحمد أمين، والعقاد، وعزام، والرافعي، ومظهر، ومحمد عوض، وزكي مبارك،(602/22)
ومحمود البشبيشي، والغمراوي، والنشاشيبي، والرصافي، وأحمد زكي، وعبد المتعال الصعيدي، وتوحيد السلحدار، وتوفيق الحكيم، والأب أنستاس الكرملي، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، والنشار، وجميل صدقي الزهاوي، وإيليا أبو ماضي، ومحمود غنيم، وخليل بك مطران، وقدري طوقان، ورامي. ومن شبابها العبقرين: الأساتذة الكرماء: علي طنطاوي، وعبد المنعم خلاف، وسيد قطب، وصلاح المنجد، ومحمود الخفيف، ومحمد مندور، ودربني خشبة، ومحمود إسماعيل، وحسين البشبيشي، وأمجد الطرابلسي، وسعيد العريان، وصالح جودت، ومختار الوكيل، ونجيب محفوظ، ومحمود السيد شعبان، وزكريا إبراهيم، وفهمي عبد اللطيف، وعبد الرحمن الخميسي، والعوضي الوكيل، والعجمي، والصيرفي، والدكتور عزيز فهمي، وفتحي مرسي، والجبلاوي، والزحلاوي، وعتيق. ولن أستطيع نسيان السيدة الزهرة، والآنسة فدوى طوقان.
هذه أسماء لامعة في تاريخ الأدب، والفضل في ظهورها في الأفق الأدبي يرجع إلى الرسالة قدمناها بغير ترتيب لتمهد للقارئ السبيل إلى تقاسيمها إلى مدارس تجمعها الرسالة.
رأينا أن بعض هذه الشخصيات قد انفردت باستقلال في شخصيتها، بل إن قوة هذه الشخصية المنفردة قد أثرت في غيرها فكونت مدارس سنعرض لها. ومن هذه الشخصيات الأساتذة: الزيات والرافعي والعقاد، وهؤلاء كان لهم حقاً مدارس ملموسة الأثر في الرسالة. أما طه حسين وزكي مبارك فمع حيويتهما الفائقة فإن أثرهما وإن عظم في الأدب عامة، لا نستطيع أن نجد له خطوطاً بارزة في مدارس الرسالة الأدبية. وسنتكلم عن هذه المدارس.
مدرسة الزيات
ليس من شك في أن للأستاذ الزيات طريقة فذة واضحة التقاسيم، قوية السبك، ولعل ابلغ بيان لها وأقوى دفاع عنها هو ما كتبه في سلسلة مقالاته عن (الدفاع عن البلاغة) ولسنا هنا بصدد توضيح معالمها، وإنما علينا أن نشير إلى تلامذتها وحملة مشعلها. وسنجد أن الأستاذ الزيات وإن كان كاتباً فحسب قد أثر في شعراء كثيرين.
فمن كتاب هذه المدرسة مع تفاوت في القوى والقرب أو البعد عن الأصل: الأساتذة الأفاضل: صلاح الدين المنجد، وشكري فيصل، ودريني خشبة، ومحمد فهمي عبد اللطيف، ومحمد محمد المدني، وعبد الرحمن عيسى، ومحمود عزت عرفة.(602/23)
أما الشعراء الذين تلمح أثر الزيات فيهم فيمتاز كل منهم بأنه ملك القدرة على الكتابة نثراً رصيناً وشعراً قوى السبك حلو الرنين، وفي مقدمتهم الأساتذة: علي محمود طه وعبد الغني حسن ومحمود الخفيف وحسين محمود البشبيشي وأنور العطار ومحمود السيد شعبان. وكل منهم يحتل مكاناً عالياً في الخلود الأدبي مع اختلاف في المزاج والاتجاه سنعرض له أخيراً عند الكلام عن المدارس الرسالة الشعرية.
مدرسة الرافعي
كون الرافعي رحمه الله مدرسة كبيرة، ولكنها في الحقيقة لم تنجح كل النجاح في تقليده تقليداً كاملاً، وإن كانت قد أحبت نهجه ودافعت عنه وألف بعضهم فيه كتاباً قيماً ولعل صعوبة التقليد للرافعي ناشئة عن خياله الخارق للعادة ودرايته العجيبة بكل شاردة أو واردة في اللغة والأدب. ومن تلامذة هذه المدرسة من لم يتأثر إلا بها، ومنهم الأساتذة الإجلاء سعيد العريان، وعلي الطنطاوي، ومحمود محمد شاكر. ولعل أقرب الشعراء إلى هذه المدرسة هو محمود حسن إسماعيل، ولكننا قد نلمح للرافعي أثراً في بعض الشعراء وسنعرض لذلك بعد الكلام عن مدرسة العقاد.
مدرسة العقاد
أما العقاد فله مدرسته وله شخصيته وهي الآن أشد أثراً، ولم ينجح كل تلاميذه في تقليده وإن نهجوا نهجه في طريق البحث والتفكير ووسائل التقسيم والتفسير. ولقد برز منهم أساتذة أفاضل في مقدمتهم الأساتذة: سيد قطب، وعلي أدهم، والزحلاوي والجبلاوي. وممن تأثروا به في الشعر غير سيد قطب والجبلاوي مخيمر والحملاوي والعوضي الوكيل وخاصة في بدء نشأتهم
وهناك مدرسة شعرية بين المدارس الثلاث: وهم شعراء جمعوا بين القوة الديباجة ورقة الموسيقى من الأستاذ الزيات. وقوة الخيال الشعري من المرحوم الرافعي. وملكوا العمق التأملي في الخفايا الوجدانية من الأستاذ العقاد، وأغلب هذه المدرسة من الشباب وفي مقدمتهم الأستاذ محمود إسماعيل والأستاذ سيد قطب والأستاذ حسين البشبيشي والأستاذ عبد الرحمن الخميس وفي هؤلاء صوفية حبيبة وروح فني وضاء(602/24)
أما الأساتذة: الوكيل والعجمي وشعبان وعبد الغني حسن وزكي مبارك في شعرهم قوة ديباجة وموسيقية ولكنهم يلمسون المعاني بهوادة.
مدرسة الإعلام الثقاة
ولعلها كلها من شيوخ الرسالة الأمجاد، وأن كل عالم منها لأشهر من أن يعرف في الأقطار العربية، بل إن آراءهم وأقوالهم وتحقيقاتهم الأدبية واللغوية لتحمل القول الفصل، وهم الأساتذة الإجلاء العلماء إسعاف النشاشيبي والأب أنستاس واحمد العوامري ومحمود البشبيشي والزيات والمبارك، وهؤلاء ينظر إليهم كقادة يحافظون على اللغة فوق قيادتهم للأدب.
وبعد فهذه كلمة موجزة تحتاج إلى تفصيل.
دكتور
سيد حنفي
-(602/25)
شهيد كربلاء!
(بقية المنشور في العدد الماضي)
للأستاذ محمود الخفيف
ويومٍ من الدَّمِ إصباحُه=علَى الأُفْق ذائُبه الأْحُمر
به صُور الهْولِ قبل الوقوع ... كأنَّ السماء بها تُنْذرُ
كأنَّ الرُّدى شَبحٌ ماثلٌ ... إليه قُلوبُهم تَنْظُر
من الحَر تُشوَى الوجوهُ ضُحىً ... كأنَّ الجحِيم بهِ تَزْفُر
بَيْمينِة الصَّف قَامَ زُهَيْرُ ... وقَام حبيبٌ عَلَى المْيَسرة
تَغَلَغلَ في كُل نَفْسٍ يقينٌ ... تُلاقي بهِ الموتَ مستبِشرَه
وَكْمَ من كَمى ترى وَجْهُه ... فَتُبْصر في وجْهه قَسْوَره
مِنَ الجِد تَعْبَسُ تلك الوُجوه ... ومما ارتَضَتْهُ تُرى مُسِفره
وهذا الْحَسْيُن فَتى هَاشمٍ ... بقَبْضَتِه سَيْقُه مُنْتَضى
تلألأ في الصف وَْجُه الُحْسَيْن ... كَصارِمِه الغَضْبِ إذ أَوْمضا
مَخَايُل في وجِهه من أبيِه ... علَى إمامِ الهُدى المُرْتَضى
يُسَوى الُكماة ويدعو الرُّماةَ ... وَيخضعُ لله فيما قضى
به غُلةٌ والفُراتُ الدَّفوقُ ... على قَابِ قَوْسَين أو أَقْربُ
تُلألىءُ شْمسُ الضحَى ماءهُ ... فلولاؤه للحشَا مُلهبُ
وقد أضرمَ الحُّر أنَفَاسهُ ... ونارُ الوغى حَوْلهُ تَصْخَبُ
يظلُّ على قَرنِ شَيْطانها ... نذيرٌ بأهْوالها ينعبُ
أبوُه عَلَى الحوضِ يسقى العِطاشَ ... إذا الحْشرُ عجَّ بهم وأضطرَمْ
فيَا وُيحهْم يمنعون الحسينَ ... من الماءِ وهْوَ لديهم عَمَمْ
وكم بلَّ غُلةٌ ذي غُلةٍ ... حُسَيْنُ وكم كَانَ عَينَ الكرمْ
حياً في الجدوبِ سني في القُطوبِ ... حمًى في الخطوب غًنى في العدمْ
يُعالجُ كَل فَتَى سَيْفَهُ ... وقد شَهد ألا كثيرين نفاراً
تَنادوْا وقد أحْدَقوا بالظماءِ ... إذا التفَتَوا يمنةً أو يسَاراً(602/26)
وَكَم ظامِئ بينَ تلك الخيامِ ... إلى الرَّوعِ هز الُحسامَ اضْطراراً
لهيفٍ إلى الماء وهْوَ الذي ... بكل وغًى من يُطبق اصطبارا
عَلَى فَرس زافرٍ باللهيبِ ... دعُاهم وفي يدِه مُصْحَف
أصيحوا فإني لكم ُمْنذرٌ ... ألم يأنِ يا قَوْمُ أنْ تُنصِفوا
لئن كانَ سَفْكُ دمي همكُمْ ... فأعفوا العطاشَ هنا وارأفوا
أمامكم الظمأُ المستحِر ... ضُحَى الحَشْرِ إذ يْعُظمُ الموقفُ
ألسْتُ ابنَ فاطمةٍ ويحكْم ... أجيبوا ألسْتُ ابنَ بنْت النِبي؟
أفيقوا أتْنَسون أنَّ أبي ... علىُّ وحَمْزةَ عمُّ أبي؟
وَجَعْفَرُ من كان يُدْعي بذي الج ... ناحْينَ عمى فَتَى يعرُب؟
حذَارِ لكُم أن ترُيقوا دمي ... فساء لكْم ذَاك منْ مَطْلبِ
وشقَّ الفضاء صُراخُ النساءِ ... فطنَّ لقُربِ المصاب الجللْ
لقد أحْدقتَ قَارعاتُ الخطوبِ ... فَما مَسَّه وهنُ أو وجلْ
تعاظمهُ أمرُ هذا الصُّراخ ... فَمادَ من الُحْزَن ذاك الجبلْ
تَخاذلَ عَزْمُ لهُ صارمٌ ... وخارَ. . . فوارحمتا للبطلْ!
وعاد الحسينُ ينادي العدو ... أثارٌ دعاكم لهذا العِداء؟
كرهْتُ لكْم أن تَشُدوُّا علينا ... جُموعاً، وأن تبطشوا بالنساءِ
لئن كان بيني وبين امرئ ... دمٌ فَلْيُجب بعد هذا النداء
عَجِبتُ! ألم يَدْعُني قومكْم ... إليهم ففيم اسأتمْ لقائي؟
وقال له قائلٌ منهُمو ... إذا رُمْتَ أمناً فبايعْ يزيدا
مقالةُ مُستهزئ شامتٍ ... يُمنى بوعدٍ ويُخفى وعِيدا
ورَد الحسينُ: أباتَ الكرامُ ... بنو هاشمٍ صاغرين عبيدا؟
دعَوْتُ ولكن أراكْم ضلَلَتْم ... بما تطلبون ضلالاً بعيدا
تَداعْوا إلى الطَّعنِ لكنما ... تَخَلف عن جَمْعِهمْ بَاسِلُ
مَشى في ثلاثين من جُنده ... أماثلُ ما فيهُمو ناكلُ
فوارسُ خَبثْ بهم خيلهمْ ... وفيهم أخو الرُّمحِ والنَّابلُ(602/27)
أصاخوا لقَولِ الُحسين كما ... يُفيقُ من الغَفلةِ الغافلُ
هو الُّحر ثارتْ به نخوةٌ ... فَهز بها بعض فرُسانِه
فأقبل مُعْتَذراً للحسين ... ومنْ حَوْلِه خيرُ أقرانِه
يقولُ بريء أنَا من يزيدَ ... وآل يزيدَ وأعوانِه
تجبر شيطانُه ابن زيادٍ ... فَسُحقاً له ولشيطانهِ
وصَاح: ألا يَا خُصوم الحسينِ ... لأَمكُمو يا لئامُ الهبلْ
أهذا الفراتُ حرامٌ عليه ... حلالٌ لكل لهيفٍ نزلْ؟
تعبُّ الخنازيرُ منه وما ... يُرى نابحٌ غلَّ إلا نهلْ
وتَنْهَلُ منه سباعُ الفلاَ ... ويصرعُ آل الحسين الغللْ؟
لك الويلُ ياابن زيادٍ ويا سوءَ ما أنت ماضٍ له يا عُمر
غداً يا بن ذي الجوْشن أصلَ الجحيم ... فأنْتَ وقودٌ لها يا شْمر
حَلْفتُ لأقتْحَمِن الحتوفَ ... وما كنتُ فيها امْرَءا ذا خورْ
فإن أنَا متُّ فداَء الحسينِ ... ففي جنةٍ مقْعَدِي ونهرْ
وغيظ العُدو فشدوا صُفوفاً=ففي زحفهمْ غلطةٌ واحتدامُ
فوا عجباً زلزلتْ جَمْعَهُم ... من القِلة الظامئينِ سهامُ
وشاءوا مُبارزةً فاثبري ... لهم مِنْ فريق الحسين عصامُ
فجْندلَ من جمعهم فارسَيْنِ ... وفي السيف والقلب منْهم ضرامُ
وطالتْ مُبارزةٌ بينهمْ ... فَكَرَّاتهُم كلها خاسِرَة
فما الَتَقتِ الخيلُ إلا جَرَتْ ... بفرسانها خيلهم ناَفِره
كأنَّ الحسينَ وأصحابهُ ... ضَرَاغِمُ مُهتاجةٌ زائره
كرامٌ على قلةٍ صابرونَ ... بدُنيا هُمو اشْتَروا الآخره
وخافَ المَبارَزةَ الأكْثرونَ ... فشدُّوا على الظَّامئينَ صُفوفاً
فَكَمْ كرةٍ ردَّها صَفْهُم ... ومَا وَهَنوا حينَ خاضو الحتوفاَ
وظلَّ الحسينُ لَهْمُ داعياً ... عطوفاً على المنهكينَ رؤوفاً
وحسهمو ما بهم من أوامٍ ... فكيفَ وهُمْ يَدَْفُعون الألوفَا(602/28)
فواجعُ تَغْشَى صميم الفُؤاد ... وللدم رائحةٌ تُنْشَقُ
وأولُ ما خرَّ منهمْ شهيدٌ ... وجَمْعُ العدُو بهم مُحْدقُ
دَعَا للحُسينِ وأوصَى بهِ ... وَجَفْنَيْه كفُّ الرَّدى تُطبقُ
وبشرهُ صَحْبُه بالنعِيم ... فهشَّ لهُمْ وجْهُه المُشرقُ
بَمْيَسرة الجيش شدَّ الدعىُّ أبنُ ذي الجوشن المستطيلُ الأثيمُ
دَنَتْ خيلهُ مِنْ مكانِ الحُسينِ ... فآذاهُ لولا كفاحٌ عظيمُ
وزُحزحَ بعد اقتتالٍ مريرٍ ... ودون الُحسين جهادٌ صريمُ
تكاثلَ من حَوْلِه الذائدون ... فخيلٌ تَشُدُّ وَخَيلُ تَحُومُ
طغَى وتمادى ابن ذي الجوْشنِ ... فكلُّ حًمى عندهُ مُسْتَباحُ
تصدَّى ليحرِقَ تلك الخيامَ ... وكَمْ ملأ السمعَ منها نُواحُ
ولولا فَتى عير ابن الدَّعى ... لمَا عفَّ وهو السَّفيهُ الوَقاحُ
دعا بالرُّماةِ فَخَفَتْ إليه ... مئاتٌ غلاظٌ تشدُّ القسيا
بها عقرُوا خيْلَ صَحْب الحسِين ... فلم يذروا دانياً أوْ قصَّيا
هَوَى الُحرُّ مُرتجَزاً هَاتِفاً ... أنَا الُحر مَا كُنْتُ إلا الأبَّيا
فإن تَعُقروا فَرَسِي لن أذلَّ ... سَأقْتَلُ دون الُحسيِن رَضيَّا
وَشدَّ زُهيْرُ وَجُنَّ القتالُ ... وزُلزلتْ الأرضُ زلزْالها
وأوْمَضتِ البيضُ تَحْتَ الغُبارِ ... وردَّدتِ الخيل تَصهالهَا
تَهَزأ كُلُّ فَتى بالحتوفِ ... فحاضَ هنالك أَهْوالها
وَرُد الأثيمُ على رَغْمهِ ... وقدْ هَاجَتِ الحَربُ أبْطالها
وكرَّ حبيبُ على ألاكثرينَ ... وكر أباةٌ شدادٌ مَعَهْ
فَقَاتَل فيهم إلى أنْ رَمَاهْ ... عدوٌ بسَهْمٍ لهُ أوْقَعَه
فهبَّ فعاجلهُ آخرُ ... بَسْيفِ فأوردهُ مَصْرَعه
وكَمْ هدَّ هذا المصابَ الحُسينَ ... وأسْبلَ من حَزَنِ أدمُعه
يقول: لقدْ جَل فيه المصابُ ... فَنَفْسي منْ ساعَتي أَحْتَسب
فشقَّ على الحر قوْل الحُسينِ ... وهيجهُ دمعه المُنسكِب(602/29)
فأقبل مُرتجزاً مُنشداً ... سألقى الردى عَنْك إذْ يقتْرَب
وأضربُ دونكَ لا أستطارُ ... ولا أستكينُ ولا أنقلِبْ
وَمَا لبثَ الحُر إلا قليلا ... يخوض الختوفَ وَيَستْقَيلُ
فَخَيلٌ تُحَمْحمُ مُرتدةً ... وأُخْرى تَصَدى له تصهلُ
وقَدْ شدَّ جمعٌ كبيرٌ عليه ... ودارَ به وَهْو مُستْبِسلُ
هَوى جَسَداً لا حراك بهِ ... يُعممهُ الدَّم والقَسْطلُ
وَجَاهَد فيهمْ زُهيْرُ وشدَّ ... فكانَ القويَّ الجليدَ الفتَّيا
يقول: فَدْيتكُ أقدمْ حُسَيْنُ ... غداً تلقَ جدك طه النبَّيا
وتلْقَ أباكَ الإمَام الوضئَ ال ... تقي النقَّي النَّجيد عليَّا
وَسبطَ الرسُولِ أخاك وذا ال ... جناحَيْن زينَ الشبابِ الكمَّيا
فما زَال يَضْرِبُ دونَ الُحسينِ ... وَمُذ خَاضَ هَول الوغى ما اسْتَراحاً
تحدى الحتوفَ وقدَّ الصفوفَ ... وردَّ السيوف وَصَد الرماحَا
أحاط بِه مُثْخَناً فارسان ... فما كان إلا أشدَّ كفاحاً
وما ماتَ حتى بدا عاجزاً ... من النزفِ عَن أن يَهُز السلاحا
تفانَي الرجالُ وقلَّ النصيرُ ... فما للْمُكاثر لمْ يَرْجع؟
ولبسوا إن خرَّ مِنهُم كثيرٌ ... يُحسونَ بالنقصِ في موضعِ
ويَشعر بالنَّقص جُند الحُسينِ ... إذا ما شهيدُ إليهِ نُعى
ألا كَمْ تَهَاووا لديِه تباعاً ... وفي الجو وقدٌ وفى الأضْلُع
بقيتهم حوله يَدْفَعونَ ... مُشاةً فما فيهمو فارسُ
وماتوا لدْيه فرادى ومثنى ... وكلٌّ لفُسطاتِه حَارسُ
تكاثَر صَوْبَ الُحسينِ الَعدُو ... إلى أن تَصَدى لَهُمْ عابِس
فذاق الرَّدى زاحِفاً وَحْدَه ... وكلُّ فَتى باسِمه هَاِمسُ
يَدُ الموت لم تُبقِ من صحبهِ ... كميا، وَهْولُ الوغى فاجعُ
تَقَدمَ أخْوتُه يدفعون ... وما للقضا منهمو دافع
وأبناء أعْمامِه حُومٌ ... يذودون وَهْوَ لهم دامعُ(602/30)
يلاقون بين يديه المنون ... أباةً فما فيهمو جازِع
فواحسرتا كم رمى الباطشون ... من الأفْرُعِ الشم من هاشمٍ
وَوالَهْفَتا إذا ينادي علىُّ ... أبي وهو بين يدي غاشِم
فَيَسْعى إليه أبوه الحُسينُ ... وليس من الموتِ من عاصِم
وَتصَرُخ زَينْبُ: يا بن أخي ... وتحنو على البطلِ النائِم
بكيت لأمْردُ جرَّ الحُسَامَ ... وَحيداً يُنافحُ عن عمهِ
غُلامٌ كما أعتدلَ السْمهَريُّ ... وَعَزمُ المهَّند من عَزمِه
فَتى دِرْعُه البأسُ لمْ يدَّرع ... بغَيِر الإزار على جِسمِه
هو القاسمُ ابن أخيه الإمام ... بَقيةُ مَنْ خَر من قومِهِ
فيا هولَ مَصْرَعه إذا أحاطت ... بهِ الخيلُ وَهْوَ لها صَامدُ
فيهتِف: عماه مُسْتَصرخاً ... ويهَوِى وقَدْ شَجهُ مَارد
برجْليِه يَفْحَصُ مَّما به ... وَبَينَ العِدا عَمهُ جاهدُ
على صدرِه أحتمل ابن أخيه ... ولكُنه جَسَدٌ هامِدُ
وأعيا على الباب فُسْطاطِه ... يضُم صبيا إلى صدْرِه
فبينا يشمُّ الحُسينُ ابنه ... ويوصي بهِ وَهْوَ في حجْرِه
بَسْهمٍ تصيدهُ قانصٌ ... ففار بهِ الدمُ من بحِره
تلقى دم الطفْل مُستَسلماً ... لما قدَّر الله مِنْ أمرِه
وجاءتْ له امرأةٌ خلسة ... بماء وَهُمْ حولهُ حُومُ
فما كادَ يَشربُ حتى رَماه ... بَسْهمٍ أخو خسةٍ مُجْرم
أصابَ بهِ الوغْدُ شدْقُ الُحَسين ... ففار علي الماء مِنْهُ الدمُ
دَعا ربهُ: رَب خُذْ ظالمِي ... فأنْتَ بما ظَلُموا أعْلَم
ألحَّتْ على البطل النائباتُ ... فمن لوحيدٍ ذوي. . . مَنْ له؟
تَوقَد من ظَمأ جوْفه ... وأصحابه رممٌ حوْلهُ
وَجَمعُ العَدُو محيطٌ به ... وإنْ خافَ كلُّ امرئ قَتلهُ
تهَيب أن يْقُتلوا ابن النبي ... شياطينُ كم بطشوا قَبْلهُ(602/31)
وظل يحرصُ أصْحَابه ... أضل العدا شمرُ الفاجرُ
وهونَ قَتْلَ الحسينِ فشدُّوا ... عليه وليس لهم زاجرُ
فهبَّ وصمصامه مصلتٌ ... كما وثَبَ الضَّغيم الثائرُ
فكَمْ كرةٍ هدَّها بأسُه ... وزلزلها عَزْمُه الصابرُ
ألحُّوا على البطل المستَميت ... فشدُّوا شمالاً وشدُّوا يميناً
يقوم ويكبوا وهم يضربون ... وتأبى عريكتهُ أن تلينا
إلى أن هوى مثخناً بالجراح ... على وجهه سمةُ الصابرينا
الخفيف(602/32)
البريد الأدبي
نون النسوة
(قالوا أن النساء قرون في مؤتمرهن الذي انعقد في القاهرة
منذ قليل المطالبة بحذف نون النسوة من اللغة تحقيقاً
لمساواتهن بالرجال، فنظم الدكتور عزيز فهمي هذه الأبيات
في ذلك):
هَلا أتَاكَ حَدِيثُهَّنه؟ ... الُّنونُ ليست نُونَهنَّه
هذا القَرارُ وثيقةٌ ... أفْصحْ وذَكرْ جَمْعَهُنَّه
النونُ تَخْدُش سَمْعَهُن ... . . وما أَرقَّ شُعورهنه؟
ظلم الرجالُ نساءهم ... ما للرَّجال وما لُهنَّه؟
النونُ فَرْضُ كفايةٍ ... يكفي النساَء فروضُهُنه
والميمُ أَحْسَمُ للخلا ... فِ فلا تُثيروا كَيْدَهُنه
بَرئ النساءُ من الأنو ... ثة مُذ مَلَكْن قِيادهُنه
عِفْنَ الخِباَء وما الحيا ... ةُ إذا لزمْنَ خُدورهُنهَّ؟
عبءُ الأموِمَة فادجٌ ... حَسْبُ العقائِل حَمْلُهنَّه
حَسْبُ العقائِل ما احْتَمَلنَ وما حَمَلْن من الأجنَّه
ما للغواني والرضا ... عةِ؟ أنَّ هذا الفرضَ سُنَّه
فإذا صَدَقْنَ فلا جُنا ... ح وأن عَطَفْنَ فتَلك مَّنه
رُفِعَ العقابُ فلا نقا_بَ لَهُنَّ غَيْرَ حياَئهُنَّه
أسَر الرجالُ نساءهمْ ... حتى استْحال إسارُهَّنه
وطغى الحليلُ على الحلا ... ئلِ واسْتباحَ حَريَمُهَنه
عَقد انوثق فما شَكَيْنَ ولا بَرمْنَ بحالهَّنه
ومكَرْنَ مَكْرَ خَديعةٍ ... وجَذَبْنَ من يَدهِ الأعِنه(602/33)
الطيرُ راشَ جَناحهُ ... قَدَرٌ يُنيُر لهُ الدُّجنه
وتَمردَ الحَملُ الوديُع على الذئابِ المُطْمئِنة!
عزيز فهمي
الرصافي وأبو حنيفة
كتب الأديب راشد سليمان تحت هذا العنوان في عدد 598 من الرسالة ينكر على الرصافى قولة أن أبا حنيفة يجير قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، ويطلب منة نصاً يؤيد ما قاله وأنا بذكر هذا النص فأقول: في كتاب التلويح والتوضيح لصدر الشريعة، بعد كلام طويل في تقسيم اللفظ بالنسبة للمعنى (وقد روى عن أبى حنيفة انه لم يجعل النظم لازمناً في جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط حتى لو قرأ بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت الصلاة عنده، وإنما قال خاصة لأنه جعله لازماً في غير جواز الصلاة لقراءة الجنب والخائض حتى لو قرأ آية بالفارسية يجوز لأنه ليس بقرآن لعدم النظم).
وفي بحث في ترجمة القرآن للإمام الماغي شيخ الجامع الأزهر: (قال الصدر الشهير في شرح الجامع الصغير: وهذا تنصيص على أن من يقرأ القرآن بالفارسية لا تفسد صلاته بالإجماع). وقال شارح الهداية: (والخلاف في الاعتداد ولا خلاف في أنه لا فساد). وقال الزيلعي في شرح الكنز: (ولا خلاف في الفساد حتى إذا قرأ معه بالعربية قدر ما تجوز به الصلاة جازت صلاته). وقال أبو اليسر: (والجواز عند العجز بالفارسية نص على أن القرآن بها لا تفسد الصلاة إنما الشأن في جواز الصلاة بها (كذا في جامع قاضيخان).
وقد تبين من هذا أن أبا حنيفة يجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة ولو بغير عذر. وإما الصاحبان فلا يجوز أنها ألا إذا عجز عن العربية لأن القرآن أسم لمنظوم عربي بقوله تعالى: (أنا جعلناه قرأناً عربيا) والمراد نظمه. ولم يكن فيه بهذه اللغة، وقوله تعالى: (إن الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى) وصحف إبراهيم كانت بالسريانية، وصحف موسى بالعبرانية فدل على كون ذلك قرأناً.
عبد الفضيل يوسف رجب
الأستاذ النشاشيبي(602/34)
عاد إلى مجلسه في (الكنتنتال) أديب العربية وخاتمة أدبائها المحققين الأستاذ إسعاف النشاشيبي. ومجلسه حيث كان متعة للعقل والقلب واللسان: فيه سلاقة النديم، وريحان اللبيب، ونقل الأديب، ونوادر اللغوي، وطرف المؤرخ. وقد زار الأستاذ النشاشيبي دمشق في مهرجان المعري ونزل بأريان بالأس فنزل معه الفضل والعلم وما يصحبهما من كل أولئك. وحضر مجلسه فيه الأستاذ صلاح الدين المنجد فقال يصفه:
(هذا الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إنه نسيج وحده في كل شيء: في أسلوبه المتين، وفي حديثه المبين، وفي إلقائه النادر، وفي سعة علمه، وكثيرة محفوظة. فلا يشابهه أحد، ولا يجازيه أحد
كانت حلقته في الأريان بالاس مهوى نفوس الذين يتذوقون الفصاحة، ويرغبون في سماع محاسن العربية. ينفض أناس، ويقبل أناس، وهولا يمل، يسمعهم من طريف أدبه، ويروي ظمأهم من روائع علمه، ويأسرهم بتهذيبه وتواضعه
قابلته بعد عودته، أساله عن صحته، أملاً ألا تكون هذه الرحلة الطويلة المتعبة المستعجلة قد أضرت به، فأجابني فرحاً:
- لقد كشفت سراً. . . في معرة النعمان!
- سر؟
- نعم، سر عظيم. . . ما كنا نفطن غليه لولا إن رأينا بلدة أبي العلاء
- وما هذا السر؟
- كان أبو العلاء منقطعاً عن أكل اللحم، وكان يمن علينا بذلك، فلما رأيت أن في المعرة التين، التين الحلو، المشوب بالعسل المصفى، الكبير الحجم، وأن فيها العدس المغذي، اللذيذ المفيد، قلت: ما اللحم أما تين المعرة وعدسها؟ أما لو كان لي معدة قوية كمعدة أبي العلاء وكنت في المعرة آكل من تينها أطعم من عدسها أذن لآليت إلا أذوق ما حييت لحماً. .!
فلا يمن علينا أبو العلاء. . . فقد كشفا السر. . .!
ثم أطرق وقال: الحق أن أبا العلاء شيء عظيم. لقد أحب الحياة، وود لو عاش ألفاً من السنين. وكان متفائلاً كأعظم المتفائلين. وكان يكره الموت إلا موت الأبطال الخالين. وكان مجنوناً. . . جن بالقرآن وجن باللغة العربية، فعرف من شواردها، وفصيحها، وصرفها،(602/35)
ونحوها، وشعرها، ما لم يعرفه أحد. ورأت هي حبه، فأطاعته فانقادت له فملكها وأكثر من تردد محاسنها لأنه يحبها. . .)
جماعة نشر الثقافة الإسلامية بكلية الآداب
تكونت بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جماعة النشر الثقافة الإسلامية) تحت رئاسة شرف الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام. وغرض الجماعة تبين ملامح الحضارة الإسلامية على أسس علمية وإظهار نواحيها الأدبية والعلمية والفنية ودراسة التاريخ الإسلامي على أسس منهجية تحليلية جديدة والعمل على صوغ التراث العلم الإسلامي في قالب جديد يتمشى مع العلم الحديث ومقتضيات النهضة المعاصرة.
وقد وضعت الجماعة منهاجاً يحقق لها هذه الخطوات، وذلك بأن نظمت سلسلة من المحاضرات يلقيها بالكلية كبار المشتغلين بالفكرة الإسلامية. وستقوم لجان من أعضاء الجماعة وممن يريدون أن يشاركوها في هذا العميل بإنشاء بحوث إسلامية تنشرها بالغة العربية وباللغات الأوربية الحية؛ وتقوم كذلك بتعريب البحوث التي كتبت عن الإسلام بلغات غير عربية وحتى يتكون لدينا من هذا كله فكرة صحيحة عن الإسلام وحتى ترتسم صورته أمامنا غير مشوهة.
وستقوم الجماعة أن شاء الله بإذاعة محاضرتها وبحوثها في نشرات خاصة تتعدد بتعدد نواحي الحضارة الإسلامية فسيكون ثمة مثلاً نشرة علمية وأخرى أدبية. . . وهكذا.
وتبدأ الجماعة نشاطها بإذن الله خلال النصف الثاني من محرم سنة 1364 راجية من الله التوفيق والتأييد.
عن الجماعة محمد علي الليثي
إلى الدكتور زكي مبارك
هل يتفضل أستاذنا الفال الدكتور زكي مبارك ويشرح لنا ما يريدون أن يقول في قصيدته (غرام يوم الثلاثاء) المنشورة بالعدد الأسبق من الرسالة؟ وإذا احسن الدكتور بذلك فليكن شرحه في غير الرسالة؛ لأني اضمن بحيزها الضيق عن أن يتسع لشرح المراد من مثل قوله:(602/36)
عهد الهوى البكر هل تنساه يا هاجر ... عهد الهوى البكر هل تنساه يا غادر
عهد الهوى البكر هل تنساه يا قاهر ... عهد الهوى البكر هل تنساه يا كافر
يا هاجر، يا غادر، يا قاهر، يا كافر
إسكندرية
محمد محمد يوسف
(الرسالة): تلقينا تسع رسائل عن (غرام يوم الثلاثاء) أحضرها أخفتها هذه الرسالة. وقد قسا حضرات الكاتبين في النقد واشتدوا في الخطاب حتى رمونا بالإساءة إلى الرسالة وإلى الدكتور بنشر هذه القصيدة. ولا ادري كيف نسوا أن الدكتور المبارك من مؤرخي الأدب ومن رجال النقد ومن كهنة القريض؛ فلم لا يكون ذوقه توجيهاً للأذواق وشعره تجديداً في الشعر؟ وهو بعد ذلك عاشق فمن حقه أن يئن كيف يشاء.
أساطير شرقية
يعجبني الأدب الذي يطبعه أصحابه بطوابع بلادهم، ويلبسونه حللاً من نسج أرضهم أو يتسقطون أخباره، فما كان منها لصيقاً بهم عطفوا فنونهم عليه، وحنوا بآثارهم إليه. كذلك سرني أن أقرأ الأساطير الشرقية التي ألفها ورودها الأستاذ كرم البستاني وأخرجتها دار المكشوف في بيروت. وللأستاذ كرم ولع قديم بهذه الطرف يحسن عرضها ويجلي في سردها ويعدها للقراء مثل طنفسة ثمينة طرزتها يد صناع، وكنت وأنا أقرأ هذه الأساطير أحس بشرقيتي ويتملكني العجب للأمم التي تعاورت على الشرق في قديم عهوده وكانت هذه الأساطير سفرها وأدبها.
تمتاز أساطير الأستاذ كرم بهذه الشرقية الصافية التي ألقت قدميها على شواطئ لبنان أيام الفينيقيين مثل حسناء بحرية، وداعب شعرها نسيم لبنان العليل وشاقها الغرب بملاحاته وسحره فأحبت بلاد اليونان ودعتها السياحة والمغامرة إلى زيارتها والبقاء فيها.
فعلى أساطير البستاني جمال الشرق وملاحة الغرب كأسطورة قدموس وأخته أوريا؛ فأم هذين الشقيقيين حورية الماء (صور)، وصور مدينة شرقية عتيقة ما نزال إلى هذا اليوم عليها غلائل الأساطير الفينيقية. ثم انظر كيف تمر هذه الأسطورة من مصنع الشرق إلى(602/37)
سوق الغرب متخذة فن راويها كبساط الريح. فان جمال أوريا أخت قدموس قد استلب لب جوبتير الشبق الذي يلوب على جمال بنات الأرض فيهبط عليهن يغترفهن مثل نسر كاسر ينقض على عصفور. فيرى في حقول صور أوريا ترعى الثيران فيرسل إليها أحد بنية يختطفها إليه ليسبيها فيهب أخوها يبحث عنها في الأمصار حتى يصل إلى اليونان وتجرى له ثمة حوادث تنسيه أخته وتذهله من نفسه.
وهذه الأساطير جرى كاتبها فيها على طريقة علمية اكثر مما يجرى على طريقة فن أدب فقد تحرى فيها المصادر، ودرس آثار الكاتبين عنها قبله في الآداب القديمة والحديثة، وألزمته هذه الطريقة أن يشرح ألفاظاً ويحقق تواريخ تتعلق بالميثولوجيا. والعجب لحوادث أوردها بعضها محقق في الوجود وبعض ورد ذكره وحوادثه في الكتب المقدسة فرواها الأستاذ البستاني على إنها في أساطير.
وليس في وسع التحقيق الأدبي وان شاء الأطراف أن يميل إلى هذا التسامح.
زكي المحاسني(602/38)
العدد 603 - بتاريخ: 22 - 01 - 1945(/)
رومان رولان
الأستاذ عباس محمود العقاد
في هذا الشهر رحل عن هذه الدنيا قائد الحملة الكبرى على عقائد البغضاء والعصبية النكراء
وفي هذا الشهر ولد قبل تسع وسبعين سنة، قضى أيامها العاملة في حرب دائمة ونضال واصب؛ حرب للحرب في سبيل المطامع والأباطيل، ونضال للنضال على الغنائم والأسلاب
وكان أكبر الرجاء عنده أن تبطل الحروب في العالم بأسرة. فقضى الله أن يشهد الحرب العظمى قبل ثلاثين سنة، وألا يفارق الدنيا حتى يشهد حربا عالمية أخرى أكبر وأهول من الأولى، ويذهب من دنياه وهي قائمة والرجاء في عقباها مبهم مجهول
كتب في مذكراته بعد نشوب الحرب الماضية: (أحس أنني في نهاية مواردي. ليتني قضيت نحبي. فظيع أن يعيش الإنسان والناس قد ضيعوا الصواب انطلقوا مجانين. فظيع أن نشهد الحضارة تنهار. إن هذا الحرب الأوربية أكبر الكوارث البشرية في مدى قرون عديدة. إنها تعصف بأغلى الآمال في الاخوة الإنسانية) وكتب بعد أيام: (ألمي جسيم لأنه يتجمع من ألام شتى ويوشك أن يخنق أنفاسي. . . تخريب فرنسا ومصير أخواني بين المصارع والجراح، والحزن على جميع هذه المصائب، ولواعج الفزع التي تمزق القلوب تعتلج بها صدور الملايين من المبتلين.
يساورني ذلك كله كأنما أنا في سكرات موت أدبي كلما نظرت إلى هذه الإنسانية المجنونة تبذل أغلى ذخائرها. . . تبذل جهودها وعبقريتها وحماستها وبطولتها قرباناً لأرباب الحرب الغبية السفاحة. . . إنني كسير القلب إذ أنظر فلا أرى علامة من العلامات تشير إلى أية رسالة ربانية. . . أية روح سماوية. . . أية زعامة خلقية يناط بها الرجاء في إقامة مدنية الله بعد نهاية المذبحة. . . لقد بلغ يأسي من كل حياتي غاية مداه. فليتني أرقد اليوم رقدة لا يقظة بعدها)
وعلى هذا اليأس البالغ في قرارة نفسه لم يلق سلاحه ولم يتخل عن موقفه في ميدانه: ميدان الحملة على البغضاء، وعلى شياطين القتال(603/1)
فطفق من صومعته يرسل الصيحة بعد الصيحة مدوية في آفاق الضمائر العالية لا تحول جلبة النيران دون بلوغها. وجعل شعاره تلك الكلمة التي سارت بعد ذلك سير الأمثال بعد أن جعلها صيحة الحرب في سبيل السلام، وهي: (فوق المعركة) مهيبا فيها بعقول المفكرين والمصلحين أن يرتفعوا بضمائرهم فوق هذه الوغى المصمة للآذان. فحسب البغضاء البهيمية أنها تصم السمع فلا ترتفع صعدا حيث لا ينبغي لها أن ترتفع فتصم الضمير
ولم يزل يكتب إلى كل أديب ينساق في دفعه الحرب سواء من صفوف قومه أو من صفوف الألمان: يكتب إليه ليذكره برسالة الأدب وواجب الكرامة البشرية في أمثال تلك الأوقات العصيبات، فيقبل منه من يقبل ويعرض عنه من يعرض. وهو مع يأسه الذي وصفه لنفسه في مذكراته لا يكف بينه وبين الناس عن الجهاد
ذلك هو رومان رولان
ذلك هو الكاتب الإنساني الكبير الذي يغني وصفه اليسير عن تسميته أو الإفاضة في وصفه، لأنه تفرد بغير شبيه من قومه أو أعداء قومه في هذه الشمائل الروحية، وهذه السمات النوادر بين أدباء هذا الزمان
كانت دعوته الفنية قبل دعوته الروحية دعوة رسول إنساني في عصر الفتن والزعازع والخصومات
فكتب عن بتهوفن وهو ألماني، وكتب عن ميكالنجلو وهو إيطالي، وكتب عن تولستوي وهو روسي، وكتب سفره العظيم الذي سماه جان كريستوف ليسرد فيه قصة فنان يحب الجمال الموسيقي حيث رآه الإنسان حيث كان
وقد رأينا أنه كان يناجي نفسه في مذكراته وهو يتلهف على علامة واحدة تبشر بمدينة الله وتؤذن أن تقام في يوم من الأيام بعد رجعة السلام. فما هو إلا أن سمع باسم المهاتما الهندي غاندي وعلم بحرية للحرب وكراهيته للكراهية ووصيته الأقربين والغرباء أن يقابلوا العدوان بالإحسان حتى تفاءل واستبشر وبادر إلى اللحاق بهذا الأمل المقبل من بعيد، فكتب سيرة غاندي وكتب سيرا أخرى لأنبياء الهند وحكمائها، وكان في عطفه على غاندي وقومه لا ينم على نزعة واحدة من نوازع البغضاء لمن يضطهدونه ويسيئون إليه
من أين للأديب الفرنسي هذه الروح السلمية الإنسانية العامة وقد حضر في حياته ثلاث(603/2)
حروب أصيبت بلاده في كل منها بأفدح الخسائر وأهول النكبات؟
فتح عينيه للدنيا في الرابعة من عمره على حرب السبعين التي منيت فيها بلاده بالهزيمة الجائحة، ثم شهد الحرب العالمية الماضية، وشهد الحرب العالمية الحاضرة في أصعب أدوارها وأخطرها على الأمة الفرنسية
ومن دأب هذه الحوادث أن تذكى في نفوس من يشهدونها عصبية عنيفة للوطن أو تعودهم السخر بكل شيء وقلة الاكتراث لأمر من الأمور، يأسا من الأحلام الجميلة واعترافاً بالوقائع الأليمة التي تبلبل الخواطر وتشتت الأذهان
وقد ظهر في الأمة الفرنسية فعلاً كتاب متعصبون متحمسون كما فيها كتاب ساخرون متهكمون. فلماذا خالفهم رومان رولان في هذه الروح ونزع في حياته وفي كتابته منزعاً آخر غير منزع العصبية ومنزع السخرية بالأحلام الكبار؟
جواب ذلك في الوراثة والنشأة الفنية، وله جواب غير هذا الجواب في أفق التفكير الإنساني كله، سواء منه ما أتجه ذات اليمين وما أتحه ذات اليسار
فالكاتب العظيم قد ورث الحماسة الروحية من أبيه وأمه ومن بيئة أهله بأجمعها
كان أبوه من دعاة حقوق الإنسان في إبان الثورة الفرنسية، وكانت أمه من أتباع جانسن الذين عرفوا بحرارة الأيمان وخلوص العقيدة
فلم يكن للطفل المولود في هذه البيئة غني عن عقيدة تلتهب بها حماسته الروحية وتتعلق بها آماله الكبرى في حياته وحياة الناس كافة
ووافق ذلك أنه نشأ محباً للفن الجميل ولاسيما الموسيقى والمسرحية الخالدة. وشغفه في صباه اثنان من كبار أهل الفن المخلدين في هذين المجالين المقدسين، وهما بيتهوفن وشكسبير
ثم شغف مع بيتهوفن بالموسيقى الألمانية كلها لأنها كانت في صباه غالبة على الأذواق الموسيقية في معظم القارة الأوربية، فلم يستطع أن يبغض الألمان - أعداء وطنه - ومنهم صفوة الأرباب الفنية المحببة إلى فؤاده وضميره، وتمثل فيه من هذا الجانب ما تمثل قبله في (جيتى) الشاعر الألماني الكبير، فإنه كان يقول كلما لامه أبناء وطنه على إعجابه بالأمة الفرنسية: كيف أبغضها وأنا أعيش مع أبنائها في عالم الفن والجمال؟(603/3)
أما شكسبير فهو شاعر الإنسان في كل زمان: من عرف أبطاله عرفهم أناسي لم تحجبهم صبغة الوطن والعصر، ولم تقيدهم شكول الزمان والمكان، وقد كان من أباطيله دنمركيون وإيطاليون ومغاربة ويونان، وكان الإنجليز منهم آدميين نراهم (أولاً) آدميين ثم نراهم بعد ذلك أصحاب صناعة أو أبناء طبقة أو أتباع دين
وكذلك تحولت برومان رولان وراثته ونشأته معاً إلى الوجهة الإنسانية التي تتجاوز الأوطان والعداوات العصبية. ثم دعته حماسته الروحية الموروثة إلى العمل فلم يجد كفئاً لها في العصبية المحدودة ولا في المطالب الموقوتة، وفتح له أفق التفكير الإنساني أبوابه فمضى فيه قدماً بكل ما وسعته نفسه من شوق وإيمان
فقد كانت الزوبعة الوطنية قد بلغت مداها الأقصى بعد ثورة الطليان وثورة اليونان، وتحرر الأمم من سلطان الكنيسة ذهاباً مع الحرية الوطنية التي كانت ضرورية لها للتمرد على تلك السيطرة الأجنبية، وكانت حروب نابليون قد أعقبت بعدها حنيناً إلى السلم والمؤاخاة، وكانت الحركة الصناعية نفسها قد أنشأت مذاهب الاشتراكيين الذين يدينون بالطبقة أو بالعالم قبل أن يدينوا بالوطن أو التراث العنصري القديم
فتعاقبت الدعوات إلى التحكيم وخلق المحاكم التي تدعي بمحاكم السلام، وسمع الغرب والشرق رسالة تولستوي التي تنكر السطوة وتبشر بالمحبة والإخاء، وشهدت أوربا سلسلة من المؤتمرات السياسية قوامها النفور من الحرب والاجتهاد في حل المشكلات بالمشاورة والمساومة والتوفيق
وكانت هذه الدعوة العالمية أشبه الدعوات بمزاج رومان رولان الذي ورثه من أبويه ونشأ في تربيته الباكرة عليه، فاستهوته حين استهوت غيره دعوة العصبية والبغضاء، واهتم بها حين بطل الاهتمام بالأحلام في النفوس التي افتقرت إلى حماسة الروح، وكان أشجع من دعاة الحرب ومن نافخي النار في الذحول الوطنية والتراث السياسية، لان الداعي إلى اجتناب الحرب كثيراً ما يحتاج إلى شجاعة المقبلين عليها أو المسوقين إليها، حين تغلي الدماء ويثور الضجيج وتخرس الألسنة وتعمى العقول
وعاش الرجل في أفق أعلى من الأفق الذي يرين عليه دخان المعارك، وتوجه إلى قبلة أبعد من القبلة التي يممها اللاصقون بالغبراء، وجمع رسالته كلها في كلمة موجزة هي أصدق(603/4)
الكلمات التي تقال في هذا الزمان وفي كل زمان، فعلم وقال وعمل بما قال: (إن الأيمان - وليس النجاح - هو غاية الحياة)
سلام على جندي السلام يوم استراح من الكفاح.
عباس محمود العقاد(603/5)
الرأي العام
للدكتور محمد مندور
لا يستطيع الناظر في حياتنا العامة أن يطمئن إلى وجود رأي عام بالمعنى المفهوم في بلاد الغرب، وتلك ظاهرة ترجع فيما يبدو إلى عاملين كبيرين: أولهما اقتصادي، وثانيهما ثقافي.
ولسنا في حاجة إلى التدليل من جديد على فساد توزيع الثروة في مصر، وتلك آفة قديمة ستلقى هذه الأمة في علاجها مشقات كبيرة، ولكنها ستعالج يوماً ما. وإنما نكتفي بإيضاح نتائجها فيما نحن بصدده من وجود رأي عام أو عدم وجوده. وأمتنا تنقسم في جملتها إلى طبقتين: أغنياء وفقراء، وأما الطبقة الوسطى فلا تزال في بدء تكوينها، وكبار الأغنياء بطبيعتهم قوم مترفون أنانيون يسخرون من الاهتمام بالمسائل العامة لتي لا تعنيهم إلا فيما يمس مصالحهم المباشرة. وأفراد الشعب تشغلهم مهام العيش ومشقاته حتى لا تترك لهم فراغاً لتفكير الجدي في الأمور العامة؛ والفقر ينال من قوة نفوسهم فلا يستطيعون أن يتحرروا من إرادة الأغنياء. وعندما يكون المرء في قبضة غيره، والحاجة إلى الكفاف من العيش تلاحقه، كيف تريد أن يكون حر الرأي. والملاحظ في الأمم الغربية أن الطبقات الوسطى هي التي تكون الرأي العام وتقوده. وذلك لأنها الطبقة الطموح، ثم لأنها قريبة من الطبقة الدنيا التي تكون جمهرة الأمة، وهي بحكم هذا القرب تعرف آلام الشعب وآماله كما تفهم عقليته. وهي طبقة جادة لا تعرف الاستهتار، تتمتع بقسط من الاستقلال المادي يعطيها القدرة على الصلابة في الرأي ومواصلة الكفاح من أجله. ثم إنها طبقة مستنيرة تستطيع بما لها من ثقافة ألا تقف عند الرضا أو السخط، بل تستنبط الوسائل الكفيلة بتحقيق الخير لعامة الناس، وليس من شك في أن نهاية هذه الحرب ستشهد صراعاً قوياً بين تيارين من التفكير: التيار الاقتصادي، والتيار الاجتماعي. ونحن على تمام الثقة من أن سفسطة الاقتصاديين لن تقف عند حد، فسيحاول إيهام الشعب أن علاج الفقر الصحيح هو زيادة الإنتاج بتنمية الصناعة وحمايتها من المنافسة الأجنبية. والاجتماعيون لا ريب يسرهم أن يزيد الدخل العام للأمة، وهم ليسوا من خصوم الصناعة، ولكنهم سيحرصون على أن تكون وسائل الإنتاج ملكاً للأمة جميعاً ولو بطريق التساهم، لا لفرد من الأفراد. وذلك لأنهم لن يستطيعوا صبراً على التفاوت القائم اليوم، ولابد أنهم سيمنعونه من أن يستفحل بظهور(603/6)
أثرياء الصناعة إلى جوار أثرياء العقار. وإذا كتب للاجتماعيين الغلبة فلن يتركوا مشكلة توزيع الثروة تغيب عن الأذهان تحب ضباب مريب من الحرص على تنمية الثروة القومية وتعزيز استقلال اقتصادي موهوم، لو حدث ذلك لتحررت عندئذ أرواح ملايين من البشر، وأرتفع مستواهم النفسي، فكان لهم صوت في تكوين الرأي العام.
والعامل الثقافي يطالعك في دور العلم وفي فنون الصحافة. والذي لاشك فيه لا مدارسنا العامة ولا صحافتنا بقادرة في وضعها الحاضر على أن تكون رأياً عاماً. والمدرسة العامة روحها الدرس، وباستطاعتك أن تقلب البصر فيمن تلقى من مدرسين، فما أظنك واجداً الكثيرين بينهم ممن لهم فلسفة خاصة، في الحياة. ولسنا نقصد بالفلسفة الخاصة آراء بعينها في الاقتصاد أو الاجتماع أو الأدب، بل نرمي إلى حالة من النضوج الفكري والعاطفي تمكن صاحبها من أن يتخذ له موقفاً محدداً من الناس والأشياء، فيعتقد مثلاً أن المادة هي عصب الحياة أو أن الروح هي محركها الخفي، ويكون من المؤمنين باطراد التقدم في الإنسانية أو القائلين بتراوحها بين المد والجزر. وقد يعالج مشاكل الحياة بالجد الحار أو بالسخرية الباسمة، وقد يتناولها بالثقة المتفائلة أو الحذر المتشائم، ونحو ذلك من أنواع الفلسفات الشخصية التي لابد أن تتصف بإحداها كل نفس ناضجة. وهذه الفلسفة الشخصية هي التي تمكن المدرس من التأثير في تلاميذه تأثيراً باقياً، وذلك لأنه يستطيع عندئذ أن يعطيهم ضوءاً هادياً في الحياة، وبفضل هذا الضوء يستطيعون بدورهم أن يحكموا على مختلف الأمور. ومن البين أن الرأي العام يتكون من تفاعل مجموعة الأحكام الفردية. وإذن فما دام معلمنا لا فلسفة له، ومادام كبار مفكرينا وأساتذتنا لا يعرفون كيف يزودون هذا العالم بتلك الفلسفة، فما أظننا مستطيعين أن نجعل من مدارسنا بؤرات لتكوين الرأي العام. وأهول ما أخشاه ألا نجد من بين أساتذتنا وكبار مفكرينا أنفسهم نفراً كافياً يصدرون عما نتحدث عنه من فلسفة شخصية، وما على القارئ إلا أن يستعرض الأسماء المعروفة ليحاول أن يحدد فلسفة كل منهم. ولقد يجد لأغلبهم مجموعة من الكتب أو طائفة من الأبحاث، ولقد يكون في تلك الكتب وتلك الأبحاث جمال ومتعة، ولكنه سيجد مشق في أن يستخلص منها روحاً عامة وفلسفة جامعة. وعندما يخرج التلاميذ من المدارس، وليس لكل منهم اتجاه روحي معلوم، لن تجد غرابة في أن يعجزوا عن حمل الصحافة على تقديم غذاء(603/7)
صالح للشعب.
والصحافة كما هو معلوم صحافة إخبارية أو صحافة رأي. والأولى وإن لم تخل من أثر على الرأي العام بحكم تخيرها لنوع الأخبار التي تنشرها وتلوينها لتلك الأخبار، إلا أنه في نهاية الأمر أثر محدود. وعلى العكس من ذلك صحافة الرأي التي تتكون في بلادنا من بعض الصحف اليومية ثم معظم المجلات الأسبوعية. وما دامت الصحف ملكاً لأفراد أو شركات وكان هدفها الأول هو الربح المادي، فما أظن أننا نستطيع أن نرجو من ورائها خيراً كثيراً في تكوين رأي عام سليم وذلك لأن حرصها على الانتشار يدفعها إلى اللعب على غرائز القراء، فلا تجد فيها إلا فتنا سياسية تدور حول كبار الشخصيات، ولا ترضي في القارئ غير حب استطلاع خبيث، أو تهرجاً ديمالوجياً يولول لآلام الشعب ويلوح له بآمال خادعة دون أن يدرس مشاكله دراسة جدية، ويقترح لعلاجها الوسائل المجدية. وأخيراً ترى إثارة الغرائز الجنسية اعتماداً على ما تنزله حياتنا الاجتماعية بنفوس الشبان من كبت، وإنه وإن يكن من الثابت أن أكثر الصحف انتشاراً في مصر، ليس أكثرها تأثيراً في الرأي العام بحكم أنه كلما ازداد جمهور الصحفية كان جمهور تسلية وتزجية فراغ، إلا أنه مما لاشك فيه أن أمثال هذه الصحف تقوم بعملية هدم كبيرة، فهي تقوض الجدية في النفوس، كما تحتل الأخلاق وتعود العقول الكسل. وأنت إذا وجدتها إلى جوار أمثال الصحف، صحفاً أخرى قليلة الانتشار ولكنها جدية مؤثرة باعتبارها أن قراءها ممن يلتمسون غذاء لأرواحهم، إلا أنك - لسوء الحظ - قلما تجد لا حداها قيادة عامة واتجاهاً روحياً واضحاً، وإنما هي طائفة من الأقلام والمعلومات لا يجمع بينها غير غلاف الصحيفة؛ ولهذا قلما تكون صحيفة منها مدرسة خاصة في الحياة. وإذا كنا لم نصل بعد حتى في مجال السياسة إلى خلق صحافة تعبر عن مذاهب الحكم المختلفة وتناضل دونها، مع أن السياسة أمر يهم الملايين من البشر فإنه لا ريب يكون من تعجل الأمور تعجلاً مسرفاً أن نتطلع إلى صحافة ثقافية موحدة الاتجاه، مع أن الثقافة بطبيعتها ميدان الخواص. ولكنني مع ذلك لا أفهم لماذا لا تكون لدينا مجلات تتحمس لتيارات التفكير المختلفة، وتحاول أن تجمع حولها النفوس. ولكم من مرة يسألك أحد الغربيين عن الاتجاه الذي تتميز به هذه المجلة عن تلك؟ فلا تستطيع جواباً. ونحن لا نقصد بذلك المجلات الخاصة، بل(603/8)
نصب القول على المجلات العامة، فهذه هي التي تزعم أن من الممكن بل من الواجب أن تكون لها روح عامة برغم تنوع موضوعاتها وعندما تتعدد أمثال تلك المجلات وتتفاعل تياراتها المختلفة سيبدأ الرأي العام في أن يتكون.
الرأي العام وليد لفلسفات فردية تشع في المجتمع. والمجتمع بدوره لا يستطيع أن يتمثلها إلا إذا تركت له الحياة الاقتصادية. من الراحة والفراغ ما يمكنه من تأملها. وتلك الفلسفات لن تنمو إلا عن طريق المعلم أو الصحافة، وإصلاح الأخيرين لا يمكن أن يتم بقرار من قرارات الدولة، بل ولا قانون من قوانينها وإنما لابد لتحقيقه من سنين طويلة تتضافر فيها جهود الأفراد والحكومات. ولابد لنا من أن ننتظر، مع استمرارنا فيما نحن بسبيله اليوم من فتح المدارس والجامعات ومناقشة مناهج الدراسة والتعليم، وحسن القيام على دور التمثيل والسينما ومحطات الإذاعة وما شابهها من وسائل نشر الثقافة بين الشعب. وإن يكن هناك ما نستطيعه لساعتنا فهو تعويد الجمهور أن يتجرع ما ينفعه والصمود له عندما تدفعه غرائزه الدنيا إلى التماس اللذات الرخيصة.
الرأي العام لم ينضح بعد في بلادنا، ولكن لا محل لليأس فنحن سائرون إلى الأمام، وما علينا إلا أن نواصل السير في ثقة وشجاعة.
محمد مندور(603/9)
للضحك أسرار. . .!
للأستاذ صلاح الدين المنجد
أدولف فيليت، فنان بارع، ومصور مجيد، أوتي من القدرة على الهزل في تصويره وعلى تبيان المعايب في شخوصه، ما جعله سيد هذا الفن، المتفوق المبرز، فانعطفت عليه الصحف الكاريكاتورية في باريس، ليمدها من حين إلى حين بصور فيها إبداع وأصالة.
وصوره ذات طابع خاص بها، وصفة لا تفارقها. فهي تبدو في النظرة الأولى، صوراً ضاحكة مضحكة، يفور ظاهرها بالسرور تثير في نفسك الإعجاب والتقدير. فإذا أنعمت النظر ودققت في تلك الصور، بدا لك أن ما فيها يدفع إلى التأمل والتفكير، وأن أعماقها كآبة تدفع إلى الحزن وعبرة تبعث الألم.
سألته يوماً فنانة باريسية جميلة عن سر ذلك، فأجابها (نعم. إن في كل شيء مهما كان قليلاً من الأسى ويجب أن نزينه بالضحك ليخفي، لئلا يؤذي أحداً، أو لم يؤلم أحداً!. .
وجواب الفنان جدير بالتأمل. فالحزن في الحقيقة لا يفارق الإنسان لأن هذه الدنيا لا تريح. ربما أوتي أحدنا المال، ولازمته الأمراض؛ أو أوتي العافية، وسلب المال؛ أو قعد به الحظ المنكود عن الترقي، وفي نفسه آمال؛ أو نال بسطة من العلم فأهمله ذوو الشأن؛ أو حسده الأصدقاء والأقران؛ أو اشتهى ولداً يوهب له؛ على سعة من غنى، وعلو في الجاه، فلم يوهب له الولد، فتبقى في نفسه حسرة على ما أمله، وحزن على ما فاته، لكن ماذا يفيد إذا أظهر حزنه؟ وما نفع التحسر والوجوم؟ إن الحزن والشكوى والبكاء، أشياء تثير الشفقة علينا، وتدل على ضعفنا، وفي الشفقة علينا حطة لنا، ثم هي قد تدفع الناس للابتعاد عنا، لأنها تؤذيهم، وتؤلمهم، أو تذكرهم، بآلامهم. فالحزن يبعث الحزن، ويذكر بالشجى. والدمع يستدر الدمع، ويجلب الأسى. والناس تكفيهم أحزانهم، وربما نسوها لحظة أو ساعة، فإذا ذكرناهم بها تألموا. والدنيا وما فيها أقصر من أن نقضيها بالحزن. . . ولابد من التجلد فإذا حزنت فأجعل حزنك في قرارة نفسك، وأظهر الفرح. بل أضحك. . اضحك دائماً، فلا تؤذي الناس.
بل إن هذا الضحك يؤدي، ولو كان يخفي وراءه الحزن، إلى إعجاب الناس بك، والى اكتساء رداء من الجمال، واكتساب مناعة، لا تؤثر فيها، على الأيام، المصائب والآلام.(603/10)
ولولا هذا لما كانت العرب تمدح من كان ضحوك السن، بسام العشيات، طليق الوجه. ولولا هذا، أيضاً، ما كانت تذم من كان عبوساً أو قطوباً، أو حامض الوجه، كأنما وجهه منصوح بالخل
وقد تيقنت، أن الضحك، ولو كان يخفي الحزن، يكسب الجسم مناعة، لا يؤثر فيه معها المصائب بعد حادثة شاهدتها بنفسي
ففي عودتي من القاهرة في يناير الخالي، لقيت في القطار سيدة فرنسية تحدر نحو الخمسين، وما تزال ناضرة الوجه، ريانة الجسم، كأنها احتسبت الشباب في جسمها، ولم تفلته. وكان يزيد في جمالها حديث رقيق يغري، ولطف شديد يغوي. فعجبت منها، وتساءلت في نفسي عن سر احتفاظها بالشباب والجمال؟
وكان بجانبها فتاة لم تختط العشرين من عمرها. علمت أنها ابنتها، كانت ذات وجه ساهم، ونفس مكروبة. تلمح الحزن في نظراتها، ولفتاتها، وآهاتها. فقلت في نفسي: ربما تكون مريضة. . . أو أن داء العشق قد لحقها. . . فلما بدأنا الحديث، شدني من ألام فرحها وضحكها، ومن البنت صمتها وعبوسها. كانت ألام تضحك لكل كلمة. . . فيزهر وجهها ويزيد سحرها.
وكانت الفتاة تعبس، فيظلم وجهها، ويحمض جمالها. وكانت ألام، تلفظ الكلمة، ترافقها بالإشارة، وترادفها بالضحكة؛ ضحكة رقيقة تهيج فرحك وسرورك. والبنت ترسل النادرة، إذا تندرت، بلفظ خشن وجفاء ظاهر. فعجبت، ومازلت حتى سألت ألام:
- إني أراها حزينة. . . أتشكو ألماً؟. . .
قالت: أوه! كلا. إن هذا الجيل لا يعرف كيف يحيا. إن في الحياة سراً، لا يهنأ بها، إلا من عرفه. دعها، إنها لا تسمع مني. الحياة عابسة ولا تغلب إلا بالضحك. قلت لها ذلك فلم تعقل. وهذا ما كنا نسمعه من عجائزنا اللواتي عشن سعيدات. أما اليوم، فالحياة تعبس وهم يعبسون. عبوس يجر الحزن، وحزن يدفع إلى الموت البطيء. أليس الأمر كذلك يا سيدي. . .؟
ثم أطرقت. . . وعادت تقول: (يا أسفا على ذلك الزمان، أيام كانت أمي توصيني أن أضحك دائماً. لقد ضحكت كثيراً، فهنئت. كنت أضحك لأتفه سبب، وفي قرارة نفسي حزن(603/11)
جاثم شديد. أوه! ماذا أحدثك؟ لقد جعلتني ضحكاتي أجمل فتاة بين صواحبي. ثم وجدت فيها ما يخففن من آلامي، ثم صرت إذا أصابتني مصيبة تعمدت أن أضحك، لأنسى همومي. أتدري أنني رزئت في ابنتي وبنيتي؟ لقد أبتلع البحر ابني وهو في العشرين من عمره، وماتت ابنتي الصغيرة في الألب، وأصابتني في هذه الحرب كوارث تحطم، وكنت أحزن وأبكي، ثم أعود إلى الضحك. . . وأصبر، فيذهب الحزن!.
قلت لها: إنها وصاه جديرة أن تتبع يا سيدتي. لو عرف الناس هذه الإسرار، لضحكوا. . .
قالت: أؤكد كذلك أنهم لو عرفوها لما تركوا الضحك أبدا.
كانت أمي تقول: إن في الضحك أسرار ليست في شيء غيره، ضحكة بل بسمة ترضي زوجك إذا كان مغضباً. وضحكة رقيقة تأسر عقل زائرك ولو كان جافياً. أضحكي، استعيني على قضاء حاجاتك بالضحكات والبسمات. اضحكي، وأنت في نزعك. . فإن ذلك يثير شفقة الناس، ويزيد في دعائهم لك، وحبهم إياك. أضحكي وأنت خانقة مغيظة، فان الضحك يهدئ ويرضي. بل اضحكي إذا أهنت يوما، ولم تستطيعي أن تنتقمي، فإن ضحكك يزيد في غيظ خصمك. فإذا واتتك الفرصة بعد ذلك فانتقمي منه.
لقد أثر حديثها في نفسي. وأنست به. وأدركت هذه النضارة التي تسيل في جسمها وترف على خديها، وهذا النور الذي يتألق في عينيها.
إن الناس جميعاً لا يستطيعون أن يفعلوا كل هذا. ولكن ألا يمكن أن يفعلوه إذا اعتادوه؟
ثم إنه يظهر بعد هذا، أن في الضحك، ولو كان يخفي الحزن، سراً.
وأن هذا السر يقاوم الأمراض، أو يدفع الجراثيم. إن علماء النفس يشيرون إلى النشاط الذي يتدفق في الجسم إبان الفرح. وكأن هذا النور الذي يفيض في الابتسام والضحك، ينشط ويقوي، وأن مادة كهربية تريح الأعصاب، وتزيد في العافية، بل كأن فيه ما يشفي فعلاً من بعض الأمراض.
فقد ذكرت أن (برغسون) الفيلسوف الفرنسي الشهير، أجهد التفكير والعمل، قبل موته بعشر سنين، فضعفت أعصابه، وبدت عليه إمارات النورستانيا، فلجأ إلى الأطباء، فلم ينج بعقاقيرهم مما هو فيه. حتى أشار عليه واحد منهم بأن الضحك. فعجب الفيلسوف، وألح الطبيب: (إن دواءك الفرد هو أن تضحك يا سيدي. فأضحك كل يوم ساعة، أو ساعتين. .(603/12)
)
وأنطلق الفيلسوف إلى داره يضحك من نفسه، ومن الطبيب. ولكن كيف يضحك ساعة أو ساعتين؟ وتعمد الضحك وتكلفه، ثم لجأ إلى الملاهي، يشهد كوميديات موليير إلى تثير الضحك. فكان يضحك، في أعماق قلبه. ولم تمض غير شهور قلائل حتى شعر أنه شفي: وعندئذ تساءل عن السر الذي يشفي، ووضع دراسته المسماة
فالشفاء هنا، أتى من موافقة الضحك الجسم ومداواته المرض أراحته الأعصاب.
ورأيت من قبل أن بالضحك حفظت السيدة الفرنسية شبابها وبنت لحمها. واعتقد أن الجاحظ العظيم قد فطن لذلك، فقال: (وما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه. وكيف لا يكون موقعه من السرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب. لان الضحك أول خير يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. . .).
فاضحكوا. . فإن ضحكة واحدة تخرج من أعماق قلبي، فيستريح بها عقلي، ويشفي حسمي، وتبعث في القوة والنشاط، لهي خير مما يجمعون.
دمشق
صلاح الدين المنجد(603/13)
على هامش النقد
في الوظيفة. . .
صور انتقادية. . . عبد الحميد جودة السحار
للأستاذ سيد قطب
حينما ينظر الإنسان إلى (دواوين الحكومة) بعين أخرى غير عين (الموظفين) ويقيسها بمقياس آخر غير عين المناصب والمراكز والألقاب. . . لا تقع عينه إلا على أمساخ ومهازل، ومخلوقات آدمية بائسة، محدودة الآفاق، صغيرة المطامع، حقيرة البواعث. ولا يشد إلا رواية تهريجية هازلة تنقصها كل أصول الفن وكل مقومات الإخراج، ولا يبقى لها من سمات الزاوية إلا عنصر (التمثيل)!.
بهذه العين الإنسانية نظر الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) إلى (الموظفين) وبهذه النظرة الآدمية رأى (الدواوين) وما في الدواوين، فكانت مجموعة (الصور الانتقادية) التي أخرجها بعنوان (في الوظيفة).
وليست تسميتها باسم (صور انتقادية) مجرد عنوان فهي (صور) في حقيقتها: صور سريعة على طريقة التصوير باللمسات الخاطفة. . . لمسة من هنا ولمسة من هناك، فإذا ملامح معينة وسحن محدودة ووجوه معروفة. ولا عليه بعد هذا ألا يعني بالدقائق والجزيئات: هذه سحنة منافق، وتلك سحنة جبان، هذه ملامح دساس، وتلك ملامح لص؛ هذا وجه مراء، وذلك وجه مدلس. . . أما سعة العين وشكل الأنف، وحجم الفم، فتلك تفصيلات لا تزيد شيئاً في دلالة السمات. . .
ومن ناحية أنها (صور) كانت قيمتها الفنية وقيمتها الإنسانية. وإلا فكل ما جاء فيها عن الدواوين وعما يجري داخل الدواوين، معروف ومشهور تلهج به الألسنة في كل مكان ويتندر به كل إنسان، ويشكو منه كل إنسان.
وإنك لتستطيع أن تقول ألف مرة: إن في الدواوين رشوة وسرقة ودسائس ووشايات؛ وإن الأعمال تسير فيها سير الأجهزة البطيئة والآلات الصماء؛ وإن الذي لا يجازي التيار فيها يجرفه ويحطمه، وإن كثيراً من الموظفين يدخل الديوان (إنساناً) فما يلبث أن يصبح(603/14)
(موظفاً). . . الخ.
ولكنك تكون واثقاً أن هذه الكلمات ستبقى كلمات، فلا تأخذ طريقها إلى النفس ولا تثير الانفعال ضدها والاشمئزاز منها إلا بمقدار. . . ألفاظ تنسى بعد حين كما ينسى كل ضخم من الكلمات.
أما حين تترجم هذه الكلمات إلى حوادث واقعية وصور آدمية كما صنع المؤلف. فعندئذ فقط تلبس ثوب الحياة، وتتخذ لها جسماً ملموساً يوقظ الحس ويثير الانفعال. وعندئذ ترجو لها حياة فنية لاشك فيها، وترجو لها موقظاً اجتماعياً، ربما كان!!.
ولحسن الحظ أن صاحب هذه الصورة الانتقادية موهوب في فن تصوير السريع؛ ومهما أخذت عليه، من عيوب في عمله الفني فإنك لن تخطيء الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي. .
إنه ذو عين لماحة تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة الموسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة. حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة. تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة!
ولعله أن يكون قد بالغ في إبراز مواضع السخرية، ومواطن التشويه المضحك في هذه الصور، ولعله أن يكون في الدواوين وجوه أخرى لم يلتفت إليها لأنها تغذي في نفسه هذه الحاسة.
ولكن الذي لا مراء فيه أنه وفق في تصوير (جو) الدواوين، وفي تشخيص (روح) الوظيفة. فهذا الجو هو جو الغش والخداع والتهافت والتهالك والرياء والجبن والنفاق والوقيعة. وهذه الروح هي روح البطء والتهاون والإهمال والتواكل والجمود والروتين والسأم والملالة. . . فإذا وجد على هامشه بقايا من الإنسانية السليمة، فهي محاربة منه، ومكروهة من أهله متهمة (بالقنزحة) لا تختلط به ولا تندمج فيه.
من (لمحات) هذه العين الخاطفة صورة محسوسة يراها سكان العاصمة الآن في كل آن. صورة الكتل البشرية التي تتزاحم على الترام. وهي على بساطتها صادقة كاملة فيها عنصرا الفكاهة وروح الدعابة: وهي جزء من صورة يسجل فيه ذهاب الجمال إلى(603/15)
الورشة:
(تكدست أكوام البشر في داخل الترام وعلى جانبيه، ومن خلفه ومن قدامه؛ واختلطت الأذرع والسيقان، حتى اصبح من المستحيل أن تقع العين على هيئة إنسان. فهذه ذراع، وهذا رأس، وهذا خصر. أما لمن هذا الرأس، ولمن هذه الذراع، وأين صاحب هذا الخصر أو هذه الساق، فهذا مالا يفطن إليه إنسان، وكثيراً ما يخيل للناظر إلى كتل البشرية المتراصة على سلم الترام، أن للجسم الواحد رأسين، أو للرأس الواحد جسمين، وأن أغلب الواقفين على سلم الترام ينافسون (البهلوان). فهذا واضح طرف قدميه على حافة السلم، وقابض على قائم الترام بإصبع، وهذا متعلق في عنق آخر متعلق بسروال ثالث. وهكذا).
ولمحة أخرى تبدأ حسية وتنتهي نفسية، ويتداخل فيها اللونان تداخل الأضواء والضلال، وهي تلي مباشرة صورة الترام:
(وبلغ الترام في أمان مصلحة حكومية، فتساقط الركاب عنه كما تتساقط الأوراق عن الشجر في يوم أشتد ريحه. وكانوا جميعاً من العمال، فساروا يتحدثون، فيحدثون صوتاً كدوي النحل. وراحوا يسيرون في نفس الطريق الذي قطعوه آلاف المرات قبل يومهم هذا، وكانوا يدبون كسلحفاة لا ينظرون أمامهم، ولا يلتفتون حولهم، بل ينطلقون كما ينطلقون كما تنطلق الدواب التي عرفت طريقها من كثرة ما دبت فيه، انطلقوا وما فكروا قط في يومهم، ولم يفكرون؟ فأيامهم جميعاً متشابهة ففي الثامنة صباحاً يدخلون، وفي الحادية عشرة يفطرون، وفي الثالثة ينصرفون، وكان الأمل الوحيد الذي يداعبهم في أثناء عملهم أن تتكرم عقارب الساعة الكبيرة المثبتة في الفناء الواسع الحجم المواجه للورش بالدوران السريع حتى تبلغ الثالثة لينصرفوا شاكرين. ولتستريح بعد ذلك ما شئت لها الراحة، فما أصبح دورانها يعنيهم بعد انفلاتهم من سجنهم، فقد كانوا ينظرون إلى ورشتهم نظرتهم إلى سجن بغيض.
وهكذا لا تخطيء سمة من سمات الصورة الحسية الفكهة؛ لا في الأولى؛ ولا سمة من سمات الصورة النفسية في الثانية. . . وإنك تلمح الآن هذه الجموع تنطلق في طريقها كالدواب. تلمح هذا القطيع يدب، لا يحدوه أمل، ولا تدفعه رغبة. ولكنها لقمة العيش تربطه إلى سجنه، وتكرار الطريق يقوده إلى مربضه في سأم بالغ وملال كئيب(603/16)
ثم يريد المصور أن يرسم بلمسة سريعة صورة من السرقة أو الاستغلال الذي يناله الرؤساء لأنفسهم بواسطة العمال، فيبرزها كاملة في هذه الفقرات:
(ولمح أحدهم صديقه فناداه وسلم عليه، وقال له وهو يحاوره:
(- لم جئت اليوم؟ هل انتهيت من العمل في بيت المهندس؟
(- لا لم أنته بعد. ولكن جئت لآخذ غراء ومسامير!
(- هل انتهيت نجارة غرفة النوم؟
(- لا. ولم؟
(- لأنه أمرني أن أطليها له!
(- هنيئاً لك؟
(- ستحتسب لك أيام الجمع!
(- أتحسدني على شيء سبقتني في الحصول عليه؟
(- لا أحسدك ولا تحسدني. وهل يدفع لنا شيئاً من جيبه؟ بارك الله في الحكومة!)
فيبلغ بهذا الحوار القصير أن يرسم صورة كاملة لاستغلال مال الحكومة ووقتها، وأدواتها. وليس هذا فحسب. بل يرسم معه صورة للفساد النفسي والخلقي الذي يبثه هذا الاستغلال في نفوس المرءوسين من العمال وغير العمال
حتى إذا شاء أن يسخر من طريقة العمل في الدواوين، ومن طريقة الإشراف والتفتيش، ومن الرؤساء والمفتشين. . . كل ذلك في آن واحد. أختار هذه الصورة السريعة الجامعة لكل ما يريد. والتي هي نموذج لسائر ما يجري في بقية الأعمال وبقية الدواوين إن لم تكن بنصه فبروحه، وإن لم يكن بصورته فبنوعه:
(وخلع العمال ملابسهم النظيفة، ولبسوا ملابس العمل الزرقاء، واتجهوا إلى أماكن عملهم، ووقفوا يتحدثون ولا يعملون، وراح الرقيب يقوم بمهمة الاستطلاع. والرقيب العامل من العمال يجدد انتخابه كل يوم، ويوكل إليه مراقبة الطرق والمنافذ، فإن لمح المهندس أو المدير مقبلاً، أعطى إشارة الخطر، فتدب في الورشة الحياة
(وفي حوالي العاشرة لمح الرقيب المهندس مقبلاً يتهادى في حلته الحريرية البيضاء، وقد ثبت وردة حمراء في صدره، وكان يرفع يده بين الفينة والفينة ليسوى رباط رقبته الجميل،(603/17)
أو ليرفع أطراف المنديل المتدلي من صدره. . . فصفر صفير الإنذار - وهو صفير طويل ممدود - فهمس من في الورشة: (ميمي. . . ميمي) - وهو ما اصطلحوا على إطلاقه على المهندس الأنيق - فأسرع كل إلى عمله، وأسرع أحدهم إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فدارت لآلات وارتفع عجيجها، وراحت المبارد ترتفع وتنخفض على قطع الحديد المثبتة في (المناجل) والمناشير تتحرك في توافق كأنما هي فرقة موسيقية تعزف لحناً. ودخل المهندس بقامته الفارعة. وملابسه الحريرية النظيفة يتبختر كغادة مدلة معجبة؛ وكان يتحاشى الاقتراب من الآلات أو العمال، حتى لا تتلوث ملابسه. فما تقول خطيبته التي سيقابلها عقب انتهاء العمل أن رأت بقعة زيت تشين لباسه، الذي تفنن في إعداده؟. وأجال بصره فيما حوله، فرأى حركة دائمة، فقرت عينه فاطمأن إلى أن العمل يسير على ما يروم. فانصرفت إلى مكتبه ليمضي به بقية يومه بين شرب القهوة، والمحادثات التليفونية، ومقابلة الأصحاب والأحباب
(ترك المهندس الورشة، فأسرع عمل إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فخرست تلك الآلات التي صدعتهم بصوتها بعض الوقت، وأستأنف العمال سمرهم، وراح بعضهم يبحثون عن مكان هادئ يستسلمون فيه للذيذ الرقاد)
وهكذا ترتسم تلك الصورة الحقيقية الهازلة لجو العمل في المصالح الحكومية الذي يشترك في خلقه الصغير من الموظفين والكبير!!
عشرات من هذه الصور الخاطفة تأخذها العين اللماحة، وتصورها الريشة السريعة. ولست أزعم أنها جميعاً في هذا المستوى البارع الذي ضربت منه الأمثال. فالمؤلف يظل موفقاً ما ظل يستخدم موهبته الأصلية: موهبة التصوير السريع باللمسات الخاطفة؛ وما ظل يدع الحادثة توحي بالمعنى، والحركة تدل على الانفعال. ولكنه يهبط وبجانبه التوفيق، حين يستخدم الوصف المجرد للتحليل النفسي؛ فليس هو موهوباً في التحليل. ولهذا تستحيل تلك الأداة في يده أداة معطلة لا تصور ملامح، ولا ترسم هيئات، ولا تبلغ في تشخيص النفسيات إلا أن تصفها وصفاً لا حياة فيه (ويضيق الفراغ هنا عن الاستشهاد)
ولحسن الحظ أنه لم يجنح إلى التحليل بالوصف إلا في قليل من هذه الصور. أما أغلبها فجنح فيه إلى التشخيص بالحادثة والتعبير بالحركة على النحو الذي ضربنا منه الأمثال(603/18)
نتلفت إلى ما بين أيدينا في المكتبة العربية من مؤلفات، لنقرن إليها هذا المؤلف الجديد، فلا نجد إلا (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم
ولكنهما لا يلتقيان إلا في المادة التي يتناولها للتصوير: مادة الشخصيات الآدمية في العمل الحكومي، والجو الرسمي، وإلا في جانب من الروح التي يتناولان بها الموضوع: جانب الفكاهة الساخرة على وجه العموم
ثم يختلفان بعد ذلك في طريقة التناول وفي نوع الإخراج، وفي مستوى التفكير:
ففي (يوميات نائب) تبدو سمة العمل الفني الموحد الكبير الذي تضطرب في مجاله الشخصيات كلها وترتبط برباط واحد من الحبكة الفنية ومحور واحد من التنسيق. و (في الوظيفة) تبدو اللمحات السريعة واللمسات الخاطفة، وتتفرق الشخصيات في الصور المتعددة فلا يربطها إلا عنصر التصوير
وفي (يوميات نائب) إشاعات فكرية، ولمحات فلسفية وومضات شاعرية لا يحاولها مؤلف (في الوظيفة) لأنه موكل بالتصوير الخاطف لا بالتأمل العميق وباللمحة الحاضرة لا بالغايات البعيد
ولكن كليهما جدير بأن يوجد في كل مكتبة، وأن يقرأه كل محب للإصلاح الاجتماعي أو للعمل الفني على اختلاف في المنهج والمستوى والطريق.
سيد قطب(603/19)
نقل الأديب
للأستاذ محمد أسعاف النشاشيبي
610 - هذا حسن، هذا مستوفي
في (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي:
جرى ذكر حديث الذكور والإناث، فقال الوزير: قد شرف الله الإناث بتقديم ذكرهن في قوله عز وجل: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) فقلت: في هذا النضر؛ فقال: ما هو؟ قلت: قدم الإناث - كما قلت - ولكن نكر، وأخر الذكور ولكن عرف، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم. قال: هذا حسن قلت: ولم يترك هذا أيضاً حتى قال: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) فجمع الجنسين بالتفكير مع تقديم الذكران، فقال: هذا مستوفي.
611 - وإلا فغير ذلك الاسم واشرب
في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) لياقوت:
قال أبو الفضل جابر بن زهير: كنت عند أبي محمد القاسم الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري قد شرب مسكراً، فكتب إليه:
أبا زيدٍ أعلم أن من شرب الطلا ... تدنس فأفهم سر قولي المهذب
ومن قبل سميت (المطهر) والفتى ... يصدق بالأفعال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهرا ... وإلا فغير ذلك الاسم وأشرب
فلما بلغته هذه الأبيات أقبل حافياً إلى الشيخ أبي محمد، وبيده مصحف، فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر. فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب.
612 - فما تم إلا والغمام قد انقضا. . .
قال المحسن بن التنوخي في معنى طريف لم يسبق إليه:
خرجنا لنستقي بيمن دعائه ... وقد كاد هُدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تم إلا والغمام قد انقضا
613 - حاجة الأديب إلى كل علم(603/20)
في (وفيات الأعيان): حكى أبو محمد إسماعيل بن موهوب الجواليقي (الأديب للغوي) وكان أنجب أولاده قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر والناس يقرءون عليه، فوقف عليه شاب: وقال: يا سيدي قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني معناها، فقال: قل، فأنشده:
وَصْلُ الحبيب جُنان الخلد أسكنها ... وهجره النار، يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا
قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي، قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وسيرها لا من صنعة أهل الأدب. فأنصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام وآلي على نفسه ألا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر فنظر في ذلك وحصل معرفته ثم جلس.
ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في آخر الطول لأنه يكون آخر فصل الخريف؛ وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر لأنه آخر فصل الربيع. فكأنه يقول: إذا لم يزورني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر.
614 - الأشراف والعقلاء تعجبهم الملح
في كتاب (التطفيل) للخطيب البغدادي أنشد محمد بن عمران قاضي المدين، وكان من أعقل من رئي من القرشيين:
يا أيها السائلُ عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يغدو على الخير من خابر ... لا يقبل الرهنَ ولا ينسى
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال لمنشدها: اكتبني هذه الأبيات فقال له، أصلحك الله، أن هذه لا تشبهك. فقال له: ويحك! أن الأشراف والعقلاء تعجبهم الملح.
615 - اسمع يا شيخ
قال أبن الباقرجي: بت ليلة متفكراً في قلة حظي من الدنيا فرأيت مغنياً يغني فالتفت إلي(603/21)
وقال يا شيخ.
أقسمت بالبيت العتيق وركنه ... والطائفين ومُنزل القرآن
ما العيش في المال الكثير وجمعه ... بل في الكفاف وصحة الأبدان
616 - ما قطعت شيئاً قط
في (تاريخ بغداد) للخطيب: قال أحمد بن أبي طاهر: كنت يوماً عند علي بن عبيدة الريحاني فورد عليه كتاب: (أم محمد ابنة المأمون) فكتب جواب الكتاب، ثم أعطاني القرطاس فقال: أقطعه.
فقلت: وما لك لا تقطعه أنت؟!
فقال: ما قطعت شيئاً قط.
617 - توجه إلى ثيابك. . .
قال رجل لبعض الفقهاء: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل، أتوجه إلى القبلة أم إلى غيرها؟
قال: توجه إلى ثيابك التي نزعتها لئلا تسرق. . .
618 - غري بذا من ليس ينتقد
قال يحيى بن حكم الملقب بالغزالي:
قالت: أحبكَ: قلت: كاذبة ... غرْي بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك (م) ... أن الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقول: النار باردة ... أو أن تقول: الماء يتقد
619 - . . . دعهم
في (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لأبن قيم الجوزية، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية (قدس الله روحه ونور ضريحه) يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن صلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي(603/22)
الذرية وأخذ الأموال فدعهم. . . . . .
620 - ولع النساء بخطوط العظماء
في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) سأل أمير المؤمنين عبد المؤمن بن حفصة بنت الحاج الزكوني يوماً أن تنشده، فقالت ارتجالاً:
يا سيد الناس يا من ... يمل الناس رفده
أمنن علي بطرس ... يكون للدهر عُدَّه
تحظ يمناك فيه: ... الحمد لله وحده
أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية فإن السلطان كان يكتب بيده في رأسي المنشور بخط غليظ (الحمد لله وحده) فمن عليها وكتب لها بيده ما طلبت
621 - كرديد ونكرديد
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: كان سليمان من شيعة علي (عليه السلام) وخاصته، وتزعم الإمامة أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوا متقلدي سيوفهم في خبر يطول وليس هنا موضع ذكره. وأصحابنا لا يخالفهم في أن سلمان كان من الشيعة وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك. وما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة: (كريد ونكريد) - محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئاً وما صنعتم: أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم؛ إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت، فلو كان الخليفة منهم كان أولى والأمامية تقول: أسلمتم وما أسلمتم، واللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى وإنما تدل على الفعل والعمل لا غير. ويدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن فلو كان ما تنسبه الأمامية إليه حقاً لم يعمل
622 - وإن أبغضها أنصفها
قال رجل للحسن (البصري) إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها؟
قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها، وأن أبغضها لم يظلمها.
وقال: بعضهم، وهو يشبه قول الحسن - لا تزوج كريمتك إلا من عاقل، فإن أحبها أكرمها وأن أبغضها انصفها.(603/23)
623 - ما خطر العدل على بالكم
يحيى السرقسطي:
نسبتم الظلم لعمالكم ... ونمتُم عن قبح أعمالكم
والله لو حُكمتُمُ ساعة ... ما خطر العدل على بالكم(603/24)
هذا العالم المتغير!
للأستاذ فوزي الشتوي
يجتاز العالم الآن ثورة تنبئ بقلب نظم الصناعة والزراعة والطب وكل ما له صلة بالحياة الإنسانية، فأن الحرب الحالية قفزت بالعلم خطوات واسعة فذللت كثيرا من العقبات التي طالما وقف أمامها الإنسان حائراً
وعندما يعود السلام وتعلن أسرار الاكتشافات العلمية سيجد الناس أنفسهم في عالم غير الذي عرفوه. وفي هذا الباب سنقدم إلى القارئ العربي بعض أنباء هذه المكتشفات الحديثة
قاتل الميكروبات
أي حياة نعيشها إذا تخلصنا من المكروبات والحشرات التي تفتك بنا وبمتاعنا؟ إنك إذا تركت كوبا من اللبن ساعات تراه تجبن واصبح غير صالح للاستعمال. وإذا تركت أناء طعام مدة من الزمن تجد الفساد يدب فيه، وعلة هذا الفساد تلك الأحياء الصغيرة التي نسميها مكروبات أو جراثيم تهاجمنا في عملنا وفي نومنا فتصبغ حياتنا بلون خاص من التحفظ. فنحرص ألا نشرب من كوب شرب منه غيرنا، ونغلي طعامنا لنقتل ما يحتوي من جراثيم نحرص ألا تتسرب إليه مع الهواء
إننا نظن أننا عرفنا كيف نتقي الجراثيم، فينكر علينا الواقع حسن ظننا: فالحقيقة إننا تعودنا الاستسلام لفتك الأمراض المختلفة بأجسامنا، فان أصبنا بالتيفود أو التيفوس أو الملاريا أو غيرها من الأمراض أدركنا أن اللص وجد منفذا إلى أجسامنا فهل من سبيل إلى الخلاص من هذا العدو الذي لا يهدأ؟
كان هذا حلماً، فاصبح الآن حقيقة. وأمدنا العلم بأسلحة تقضي على المكروب الذي يسبح في الهواء، ويندس بين طيات ملابسنا، ويلتصق بفراش نومنا. فقد وصل إلى اكتشاف مركب كيميائي نغمر فيه ملابسنا وفراشنا وندهن به حوائط منازلنا وأرضياتها فيقتل كل مكروب يتصل بها. وتحتفظ هذه الأشياء بقدرتها على قتل المكروب سنة أو أكثر مع الغسل المتواصل
فان أضيف هذا المركب إلى أدوات البناء وشبعت به سجف منازلنا وآثاثاتها ضمنا خلو منازلنا ومكاتب أعمالنا من الميكروبات، ووفرنا أيضاً متاعنا فلا تستطيع الحشرات إتلافه(603/25)
تمت أركان هذا الحلم في أحد معسكرات الجيش الأميركي منذ أسابيع قليلة بعد تجارب طويلة استمرت سنوات. فكر أطباؤه أول الأمر في إيجاد طبقة رقيقة تنشر على الأثاث والفراش والأرض، فإذا مر بها ميكروب امسكته إلى أن يموت. فلا يتطاير في الهواء كلما نظفت الغرف أو أثارت غبار أرضها مكنسة أو قدم.
واختير لهذه التجربة معسكران يعيش فيهما 16 ألف جندي قسموا إلى جزأين متساويين. فعاش ثمانية آلاف منهم في معسكرات عولجت بمادة زيتية تقبض على الجراثيم، وعاش الآخرون الحياة العادية. فكانت النتيجة أن قلت المكروبات المتطايرة 97 في المائة في المعسكر الأول، وقلت إصابات الجهاز التنفسي بمقدار الثلث عن زميلتها. ولم يرض الأطباء عن هذه النتيجة؛ فان الجنود لا تعيش داخل معسكراتها إلا فترة قليلة من الزمن. فليس المطلوب هو اصطياد الميكروب بل قتله
وأقبلت هذه الحرب فأوجبت ميادينها في الشرق الأقصى بين الغابات والمستنقعات حل هذا المعضل بكل سرعة. ولم يكن العلماء مجردين من كل الأسلحة بل كانوا يحتفظون بمركب من القار والنحاس ولكنه كان كريه الرائحة مهيجا للجلد يستحيل غمر الملابس به حتى لا تؤذي الجلد. فكان من الضروري الحصول على مركب عديم اللون والرائحة لا يؤثر احتكاكه بالجلد وتبقى خواصه في الأنسجة سنوات برغم غسلها وتنظيفها
وعهد بالفكرة إلى فريقين: أولهما كيميائي بلجيكي اسمه ليورامبل ويساعده ابنه جاي؛ وثانيهما علماء معمل الكيمياء التابع لشركة جالهور. وقدمت التجارب الأولى إلى الفريقين لتهذيبها أو استنباط ما هو أفضل منها. فاستمرت التجارب عدة شهور توصلوا في نهايتها إلى مركب أساسه الزئبق. وتقدر قابليته للفتك بالمكروبات بخمسة عشر ضعفا لحامض الفنيك ومع ذاك لا يهيج الجلد ولا يتلف الملابس
واختير المركب الجديد فجاز اختيارا دقيقا أثبت به أنه خير قاتل للمكروبات. فهو لا يستطيع أن يقتل فأراً صغيراً، فإن غمست فيه قطعة قماش ونشفتها ثم وضعتها في أناء به مكروبات التيفوس مثلا ثم سحبتها منه وحفظت الإناء في مكان مظلم وعدت إليه بعد أيام لتختبره تجد أن الميكروبات لم تتكاثر، وأن البقعة التي هبطت فيها قطعة القماش ظلت منطقة حرام خالية من الميكروبات. ولولا هذا المركب لتكاثرت ميكروبات التيفوس(603/26)
وغيرت لون سائل الإناء
وغمرت قطع النسيج في المركب القاتل للميكروبات ثم غسلت مرات وعرضت للهواء ولأشعة الشمس فوجد أن المنسوجات الصوفية احتفظت بقتلها لكل ميكروب يقترب منها بعد عشرين غسلة. وغمرت فرشة أسنان في المركب فاحتفظت بخواصه 700 غسلة.
وأراد الكيميائي رامبل أن يجرب تأثير مركبه على الجروح، ولكن المستشفيات رفضت أن تجعل من مرضاها حقل تجارب؛ فلم يجد مفرا من جعل نفسه هذا الحقل. فاحدث في كل من ذراعيه جرحا. ورطب إحداهما بمنديله المشبع بمركبه. وعالج الثانية بالقماش المعقم والقطن بالطرق الطبية، فشفيت الأولى بسرعة، وظلت الأخرى مدة طويلة التهبت فيها مرات لان المكروبات هاجمتها.
وليعرف رامبل تأثير مركبه على المنسوجات غمر نصف قميصه الأيمن في المركب الزئبقي. وبعد مدة طويلة من الاستعمال المتواصل خفت أنسجة الجزء الأيسر بشكله ومتانته. فان المكروبات والبكتريا التي تحب العرق إلا نساني كانت تهاجم الجزء الأيسر وترعاه، ولكنها لا تقرب من الأيمن فلم تستطع التأثير في أنسجته
فان عولجت كل الحاجات التي يتناولها الإنسان أو يستعملها بهذا المركب فأنه يأمن شر المكروب والبكتريا. فلا يكون وسيلة لنقل الأمراض في مناديله وملابسه وأحذيته أو في فراشه، بل يوفر على نفسه كثيرا من النفقات بحماية تلك الحاجيات من البكتريا فلا يتعفن طعامه أن هو أهمله يوما أو بعض يوم. فمن تجارب رامبل أنه عمد إلى برتقالتين غطى إحداهما بمركبه الزئبقي، وترك الأخرى للطبيعة، وتركهما ستة أسابيع فوجد الأولى كما تركها ولكن مقوسة لتبخر مائها، أما الثانية فوجدها خرابا تفوح منها رائحة العفن.
فوزي الشتوي(603/27)
حولي عينيك. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
حَولي عَيْنَيكِ، إني لا أُطيقْ ... ما تَصُبانِ بنفسي من حريقْ
حَولي عني سُطوعاً فيهما ... قد أراني الجُرْحَ في غَوْرى السحيقْ
حَولي عني سماءً فيهما ... طَيْرهَا قلبي، ونجواهاُ خُفوقْ!
حَولي عني لهيباً فيهما ... لَفْحُه يُوغْل في مَسرىَ العروقْ
إنما تَرسُبْ عيناكِ إلى ... قاع روحي. . . كالرَّدى المْنَعِقِد
إنما تختَرقْ النفس بما ... فيهما من لهبٍ مُتَّقِد!!
إنما تثُقبُ ما أنسجُه ... مِنْ غِشاءِ الكْبرِ مُنْفَرِدى
إنما تَجْذِبنِي. . . مُنْطرِحاً ... تحتَ إقدامِك، مَغُلول الَيْدَ!!
لَيْتَ لي القُوَّةَ، أَسْتَنزفُها ... في مُعاَناَةِ المَنايَا منهما!!
لَيْتَ لي الُقَّوةَ، لكنْ ما نجاً ... في احْتِماَلِي رَمَقٌ أو سَلِماً
ما نجا لي رَمَقٌ يُسْعدُني ... أن أُضحيِه ذبيحاً لهما
حَولي عَيْنَيكِ يا قاهرتي ... واسمعي القصةَ تَنْدَى بالدماءْ
قد نبشْتُ القبرَ، فأصْحُ الآن يا ... ماضِيَ الحب، قتيلَ البُرحَاءْ!
وأغْتَفِر لي أنني قد هَتَكَتْ ... قبضتي الُحرْمَة في وادي الفَناء
أيها الماضي. . . أفِقْ وأخْطُر كما ... شئتَ بالأكفَانِ في هذا الفضاء
أيها الماضي. . . أفِقْ واقذِفْ بما ... فيكَ من هَوْل إلى مَرْأى العُيُونْ
كلُّ يوم فيكَ كأسٌ مِلْؤُها ... دَمُ قلبٍ، وَنُفَاثَاتُ طَعِينْ!!
وَثَوانيكَ شُجونٌ رَزَحَتْ ... تَحَتَها مُهْجَةُ غِريدٍ أمين
سقَرٌ أنْتَ وقد كابدْتُهُا ... في نعيم الحب فياضَ الشئون
أيُّها الماضي أفِقْ واجْهَشْ بما ... فيك من رعْدِ البلايا والعذابْ
كي تُريها ما بأياِمك من ... حُرقاتٍ وَدُمُوعٍ وَسَرابْ. . .
جُثةٌ أنْتَ. . . وقد مزَّقَها ... سَوْطُ حِرْمَانِ شبابٍ من شبابْ
إسْلَخِ الأيامَ من ظلمتها ... تتساقَطْ حولها فوق التراب!(603/28)
أنْتَ يا ماضِي. . . أطْلِقْ نحوها ... كلَّ أوقاتِكَ من قَيْدِ الزمن
تتنزَّى في خُطًي تَلْقَفُهَا ... عثراتٌ وشكوكٌ ومحنْ. . .
وانشُرِ الآن ليالِي التي ... تنزفُ السعدَ وتستبقي الشجنْ
لترى ظالمتي السهد الذي ... طالما سايَرني فوق الدمَنْ!!
ابعثِ الآن دفين الذكَرِ ... لتُريها كيف ولي عُمُري
في هلاك اليأس قد طاردتني ... خوْفُ قلبٍ باللظى مُدَّثِر
خوف حرمان تَرَدَّيْتُ به ... وارتوى من نابعات الفكرِ
وتلوَّى في ضلوعي نَهِماً ... يغتذِي بي في شقاء السهرِ
كم حنين قصّ وجُداني وما ... كفّ حتى صبغَتْ ليلِي الدماء
وعذابٍ طحن النفس فلم ... يُبْقِ منها ما يُذَريه الهواءْ
وبكاءٍ كنت أَسْتدَنْي به ... في خيالي رحمة لي وعزاء
وأحرُّ الدمع ما تبذُله ... عين مظلوم شديد الكبرياء
هذه الغيلان عَبَّتْ من دمي ... فانتشت تقصف في هَوْلَ الظلامْ
نهَشَتْ لحمي فَدَوَّت من فمي ... صرخات الذعرْ والناس نيام
وأنا وحديَ دكَّتْ أعظُمي ... رهبة المُشْفى على مهوى الحِمام
هذه الغيلان غيلان الأسى ... أكلَتْ راحة قلبي المستهام
هذه الغيلان لم تُبْقِى سوى ... هيكل من جسدي مرتعد
وعظامٍ زلزلتها في الدُّجى ... سَطْوَةُ الحمىَّ التي لم تُعْهَدِ
طلَلٌ أسعى وزادي لم يعد ... غَير أشواق أضاءت معبدي
طلَلٌ أسعى وفي أركانه ... روح آمالي التي لم تُلْحَدِ
طلَلٌ مُنْتَفِضٌ يمشي وقد ... قصمَتْ أضلاعَه فأْسُ القضاء
خَرِبُ الأنحاء يستوطنه ... من معدات المنايا ألف داء
شاحب الجلد كأني مَيتٌ ... طرد اللحدُ رُفاتي في الخلاء
إن تجده العين لا تُنكره ... إنما تمطرهُ سَيْلَ بكاء!!
يَغْتَد الأحياء في قبضته ... رحمةً، لو يستَدِر الرُّحماءْ(603/29)
إنما يعينه قلبٌ واحدٌ ... هو في صدركِ يا نَيْلَ الرَّجاء
انظري كيف استحالت نضرتي ... صُفرة يُنكرُها حتى الفناء
غائر العينين، مَعرُوقُهما ... أطفأتْ سحرهما ريح الشقاء
أيهاَ المَاضي ألا تَعْرفُني؟ ... شَدَّ مَا أَلْقَاك قَد أنْكَرتني!
أنْتَ مني قطْعَةٌ كَفّنْتُها ... بِسِنيِني وَطَوَاهَا زمَني!
أنْتَ بُنْياَنٌ أَقَمَنا فَوْقَهُ ... حَاضِراً. . . يَا لَيَته لم يكُنِ!
حَاضِراً يَمْتَصُّ أَعْصابِي ولا ... يَنْثَني بالوَيْل يَسْتنزِفني
أَنْتَ سَيْلٌ عَارِمٌ مُنحْدَرٌ ... منْ حَيَاتَي في مَصَبَ الأَزَلِ
هَلْ لأمْوَاهِكَ أنْ تَرْتَدَّ في ... نَهْرِ عُمْرِي، مُرْجِعاتَ أوَّلى؟
ثُم هَلْ للريح أنْ تَقْتَادَني ... في اتجاهٍ غير ما قُدرَ لي!
كيْ أُوَقيك الذي حُملْتَهُ ... مِن رُكامِ النُّوبِ المُتَّصل!
أين تمضي أيُّها الماضي وفي ... أي كهفٍ تختفي باْلعُمُر؟
بعد موتي هل ستلقاني وَهَلْ ... سَوف ألقْاكَ كَميِلَ الصُّورِ؟
أمْ ستنساني وأنساكَ وما ... عُدْتَ تحيَا نَابِضاً في ذِكَرى
شَدَّ ما أرْهَبُ لُقْيَاكَ إذا ... حانَ حَيْني وانتَهى بي سَفَرِي
أنْتَ رَجْعٌ للأَغاَرِيد التي ... كُنْتُ أَسْتَودِعُها قلَبْ الزمانْ
عُدْ إلى ساحِرتَي واقْطُر بما ... فيكَ من شَجْوٍ لَدَيْهَا وهَوانْ
واحْتَفِر لي مَسلكاً في قلبها ... يحتويني مرَّةً مِنهُ الحنَانْ
أيُّها الماضي وطَهرْ كْعَبةً ... حولهَا تُعْبَدُ فيها وتُصَانْ
كم نهارٍ فيكَ أَسْتَوْقُفُه ... في هُوى الزمَنِ المُنْصِرمِ
كُنْتُ أَسْتَوْقُفه مُستَرْحماً ... أن يُعيد الكَر حَولَ الأنُجمِ
عَل في أوقاتِه لي مَوْعُداً ... تَائِهاً يُشْرى بِرُوحي ودمي
كم غُروبٍ كُنْتُ أَسْتَلُهمه ... في اجْتياحِ الهْادِرِ الُمْنصِرفِ
فَزعاً أَجْارِ في تَيَّارِه ... بضمير راعدٍ مُرْتجفِ:
أيُّها التيارُ لا تَطْرَحْ لقى ... خلفَ أنوارِكَ نَهْبَ السُّدُفِ(603/30)
أنني أخشى الدُّجَى، يا سُمه ... لُفِؤادِ الصب من مُغْتَرفِ!
كم مَساء كُنْتُ أَسْتَل به ... زَفْرَتي كالْخِنجَر المُنْغَرس
صُغْتُ أنفاسي بهِ أُنْشُودةً ... للْهوى رَفَّافةً كاْلقَبَسَ
كم تمَاثِيلَ بأحْضانِكَ قَدْ ... شِدتْهُا بالأمَلِ المُنْدَرسِ
شِدْتُها لِلحُب تَسَتْعبِدنُي ... وهْي مِنْ صُنْعِي سَوادَ الْغَلَسِ
كم ظلامٍ فيكَ قد مَزَّقُته ... عن صباح مُكْفَهر الْجبهِة
باعثاً طيرَ فُؤادي نحوها ... ضارعاً بالشوق يَفْرِي مُهجتي
آملاً تمنحهُ رحمتهَا ... فُيغَني فَرحاً في أيكتي!
وإذا الأيقاظ ركْبٌ هائِلٌ ... قَاصِفٌ يسخُر من أُمْنِيتَّي
كم نسيمٍ فيكَ قد حَرَّرْتُه ... من نِطَاق الْحَّيزِ المُخْتَلجِ
شَرَبْتُه أذُني واسْتَعْرَضَتْ ... ما به من همسات المُهَجِ
عَلهَّا تظفرُ في طَيَّاتِه ... بَصدًى من صوتها المُنْبِلجِ
بصدًى يُبْرقُ في رُوِحي كما ... تُبرقُ الأنوارُ فوق الثّبَجِ
كم ربيع فيكَ قد رَوَّيْتُ من ... روْضُه بالدمْع زَهْرَ الأملِ
وخريفٍ عاطفيٍ غالَ ما ... أَنبت الساقي بماءِ المُقَلِ
كم ربيع فيكَ داهمني ... بشتاءِ في ضميري مْوغِل
بَرْدُهُ يَصْطَكُّ منه قَفَصَي ... وَرَدَاه زاحفٌ في أجَلي
هكذا وَّلتْ حياتي فانظُري ... أي مَوت جَرعَتْنِيِه الحياة
أنقِذنِي قلبي ففي دقَّاتِه ... هتفاتٌ لكِ يا كلَّ مُناه!
هتفاتٌ شَقّتِ الصَّدْرَ لها ... من سِنانِ الصدْقَ حدُّ لا أراه
فاسمعيها وارحمي مُرْسِلها ... فَهْوَ يهواكِ ولو كنتِ رَداهْ!
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي(603/31)
البريد الأدبي
إلى معالي الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك
يا وزير الحقَّ والعدل ويا ... منهلاً يَغْرف منه كل غارفْ
// لك في العلم مكانٌ سابقٌ ... وتليد في القوانين وطارفْ
كنت كالصخرة لا تَعْيَا على ... صَخَبات الموج والتَّيارُ جارفْ
العصامية فيك انكشفت ... عن ضليع وقدير في المواقف
هذه (دجُلة) قد روَّيتها ... فهي ظلُّ مِنْ جَنَى علمك وارفْ
فاجعل العلم بمصرٍ قبلةً ... يلتقي في كعبتيها كلُّ طائفْ
قد شَدَدَتْ العدل في دارته ... فأَقْمُه اليومَ في دار المعارفْ
م. ع. ح
نشيد العرب
(اختار إمام العربية الأستاذ إسعاف النشاسيبي هذه الأبيات من قصيدة للشريف بهذا العنوان في كتابه (البيتمان) واقترح بعض الأدباء في مجلسه أن يلحنها أحد الملحنين لتكون النشيد العام لـ (جامعة الدول العربية) وكان الأستاذ سامي الشوا حاضراً فأخذ على نفسه أن يلحنها وتلك الأبيات):
أما كَنَتَ مَع الحي ... صباحاً حينَ ولينْا
وقد صاحَ بنا المجدُ ... إلى أينَ إلى أينا؟
لنا كلُّ غلامٍ هُّم ... هُ أن يَرِدَ الحْينا
لنا السَّبْقُ بأقدامٍ ... إلى المجدِ تساعَينا
ترى زَمْجَرَة الآسا ... د همساً بين غابَيْنا
مَلَكَنا مَقَطَع الرزِق ... فأقْفرنا وأغنَيْنا
وحُزنا طاعةَ الدهرِ ... فأغْضَبْنا وأَرْضينا
إذا ما ثَوَّبَ الداعي ... إلى الموتِ تَدَاعَيْنا
تصويب(603/32)
وقعت أخطاء مطبعية في مقالي الثاني عن مليم الأكبر بالعدد الماضي من (الرسالة). وكثيراً ما وقع مثلها في مقالاتي فلم أنبه إليه اعتماداً على ذكاء القارئ، وتوفيراً للوقت والورق!
ولكني يعنيني اليوم تصحيح خطأ يقلب قضية كاملة، فقد سقطت كلمة (لا) من جملة، فأحالت المعنى إلى نقيضه في موضع شديد الحساسية!
قلت عن المؤلف (مليم) بعد اقتباس فقرات من كتابه: (فهم بعض إخواننا من هذه الفقرات أنه يشير إلى أسلوب (القرآن) وتحكمه في نمو الأدب العربي، وغضبوا لهذا الفهم جداً. . .)
ثم قلت:
(وأنا لا أحب أن أعرض للمسألة على هذا الوجه، ولا أن أحكم الحس الديني في مسألة أدبية)
وهذا هو التصحيح بنفي الجملة، وهذا ما اتبعته في كتابي (التصوير الفني في القرآن) الذي أشرت إلى منهاج البحث فيه على هذا الأساس في نفس المقال. فقد أردت أن تكون نظرتي للقرآن نظرة فنية بحتة مجردة عن كل تأثر ديني في دراستي لطريقته التصويرية المبدعة.
سيد قطب
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
أصدرت لجنة التأليف هذا الكتاب بقلم معالي مصطفى عبد الرزاق باشا، وهو يقع في 359 صفحة من الحجم الكبير، والكتاب قسمان وضميمة: القسم الأول مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة الإسلامية وتحته فصول: الأول في مقالات المؤلفين الغربيين، والثاني في مقالات المؤلفين الإسلاميين، والثالث في تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، والرابع في الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين. وعنوان القسم الثاني (منهجنا في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية)، وتحته ثلاثة فصول: الأول في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي، والثاني في النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، والثالث في الرأي وأطواره. وخاتمة الكتاب ضميمة في علم الكلام وتاريخه(603/33)
هذا الكتاب هو أهم وأعظم المؤلفات خطراً من الناحية الثقافية في العصر الحاضر، ولا ترجع أهمية الكتاب إلى أن صاحبه وزير من وزراء الدولة، بل لأن المؤلف كان الأستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وانه صاحب مدرسة لها شأنها في مصر والشرق. وليست هذه المدرسة داراً ذات جدران يختلف إليها المدرسون والطلاب في أوقات معلومة، بل هي مدرسة روحية تعتمد على الطريقة والمذهب، والأسلوب والفكرة. وهي مدرسة قديمة زعيمها جمال الدين، ثم تلميذه محمد عبده، ثم تلميذه مصطفى عبد الرزاق.
منهج المدرسة الحرية في البحث، والتثبيت والتحقيق، والاعتماد على الثقافة الإسلامية الصحيحة، ومذهبها النهضة والإصلاح في العلم والدين.
والحرية أهم ما يميز منهج هذه المدرسة. ومن آيات ذلك أن زعماءها لم يجدوا حرجاً في الاطلاع على آثار الغربيين والمستشرقين، والأخذ بما في آرائهم من صواب، ونبذ ما جاء على لسانهم من أخطاء، ولاشك أننا استفدنا من طرائق الغرب في البحث، كما أننا نأخذ عنهم إلى جانب العلوم الحديثة كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة، التاريخ الإسلامي وعلوم الدين. ذلك أن المؤلفات الإسلامية في التاريخ والدين التي كتبت في عصور قديمة لا تلائم روح العصر الجديد ولا يتذوقها المحدثون الذين درجوا في دراساتهم على مناهج الغربيين الحديثة. ومن الخطر الشديد أن نستقي تاريخنا عن الغرب، ولا حيلة للشباب إلا الرجوع إلى هذه المؤلفات الأجنبية، لأن الطبيعة نشأتهم في الدراسة تدفعهم إلى ذلك. وقد كان مصطفى باشا رفيقاً في خطاب هؤلاء المستشرقين فقال: (أما بعد، فان الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم. وإذا كنا قد ألمعنا إلى نزوات في الضعف الإنساني تشوب أحيانا جهودهم في خدمة العلم، فأنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر، وانسياقها إلى دعوة السلم العام، والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بين الناس جميعاً على خدمة العلم باعتباره نوراً لا ينبغي أن يخالط صفاءه كدر)
فأنت ترى أن المؤلف اطلع على مقالات المستشرقين، ثم ناقشتها، ثم عاد إلى الأصول التي استقى منها الشرقيون نتائج أبحاثهم وهي الكتب والمخطوطات الإسلامية، ودرسها(603/34)
بنفسه وذوقه واستعداده وروحه أو روح المدرسة التي وصلت زعامتها إليه، ينشد الحق والخير، وينبغي النهضة والإصلاح.
وفي الكتاب ظواهر كثيرة جديرة بالتسجيل والالتفات أولاها أن المنهج الذي جرى عليه المؤلف منهج حديث سليم، يتذوقه أولئك الذين درسوا على مناهج الغربيين
والظاهرة الثانية هي الدقة في تحري الحقائق في مظانها، ورد الأقاويل إلى مصادرها، مع الإحاطة بأغلب المصادر من مطبوع ومخطوط.
والثالثة الوضوح التام، والتمييز بين المعاني المختلفة والآراء المتباينة، وإيراد الحجج لأنصار الرأي ومخالفيه، والخروج بعد ذلك بالنتيجة الصحيحة.
وعنوان الكتاب (تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية)، يشير إلى الغرض الذي يرمي إليه صاحب الكتاب، وهو دعوة المفكرين والطلاب إلى السير في هذا الطريق، واستيفاء البحوث التي أثارها وفتح أبوابها فكانت موضع النظر والتفكير الطويل
وأبرز الآراء وأكثرها خطراً القول بأن الفلسفة الإسلامية الصحيحة ينبغي التماسها في بفقه الإسلامي
هذه القضية تناقض تمام التناقض ما يقول به المستشرقون بأن المسلمين عارون عن الفلسفة، وأن الفلسفة التي دخلت إلى ثقافتهم يونانية.
ومنهم من يعتبر أن علم الكلام هو أصل الفلسفة الإسلامية وأن علم الكلام عند المسلمين مستمد من الفلسفة اليونانية متأثر بها.
ومنهم من يرد بعض الفلسفة الإسلامية إلى الفرس والهند
أما أن الفقه هو اصل الفلسفة الإسلامية، فنظرية جديدة لاشك أنها ستفتح باباً جديداً للبحث والجدل والمناقشة.
ويرى مصطفى باشا بعد الاستشهاد بأقاويل المؤرخين الإسلاميين أن الشافعي هو (أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية على منهج علمي)؛ ومصنف الشافعي هو (الرسالة).
ونحب أن ننقل إليك ما كتبه مصطفى باشا عن (مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة) بعد أن حللها تحليلاً وافياً:
(ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقاً مقرراً في ذهن(603/35)
مؤلفها، قد يختل اطراده أحياناً ويخفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى.
وإذا كنا نلمح في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزيئات بقواعد كلية. . . فأنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.
منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع حدود والتعاريف أولاً، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم.
ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه وحتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً.
ومنها الإيماء إلى مباحث من علم الأصول تكاد تهجم على الإلهيات، أو علم الكلام، كالبحث في العلم. . .)
هذه هي جملة ما ذكره المؤلف خاصاً بمظاهر التفكير الفلسفي عند الشافعي صاحب الرسالة. ولم يستطع أن يجزم بأنها فلسفة بمعنى الكلمة؛ فاستعمل ألفاظ الترجيح كقوله (نلمح للتفكير الفلسفي مظاهر أخرى) وكقوله (حتى لتكاد تحسبه).
ومهما يكن من شيء، فهذا الكتاب يفتح آفاقاً جديدة، وبحثاً لا يزال بكراً، سيدفع المفكرين إلى الاتجاه إلى الثقافة الإسلامية اتجاهاً جديداً، يلتمسون فيه الخصوبة الأصلية للإسلام، والقوة العقلية التي سادت في مدينتها قروناً طويلة من الزمان.
دكتور أحمد فؤاد الاهواني(603/36)
العدد 604 - بتاريخ: 29 - 01 - 1945(/)
أبو العلاء المعري
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
كان النبي محمد، وكان هذا القرآن، هذا الكتاب المعجز، فكانت تلك الدنيا العجيبة العربية، وكان مع الهدى والخير ذلك العلم وذلك الأدب وتلك الفنون، وكان أولئك الأئمة وأولئك النابغون وأولئك العبقريون، وكانت تلك المؤلفات الفائقات المحققات، وكان أولئك المؤلفون الراسخون في العلم المستبحرون. وكان هذا العبقري أبو العلاء المعري (أحمد بن عبد الله سليمان) رب هذا المهرجان.
كانت الحضارة العربية، وكانت هذه المدينة الغربية، ولن يقدر أن يكفر إفضال المفضلين كافرون. فمحمد والقرآن هما شائداً هذا المجد، وهما القائدان، وهما الهاديان، وهما الشمسان الباهرتان، ذواتا الضياء السرمدي في العالمين. .
(كما أرسلنا فيكم رسولاً يتلو عليكم آياتنا، ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون - فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون).
(دمشق عروس الشام الموموقة، وواسطة عقدها المرموقة).
في دمشق هذه التي قلت فيها - يا أبا العلاء - قولك هذا في رسالتك إلى (أبى منصور محمد) قد مهرج العربيون لك اليوم هذا المهرجان بعد ألف سنة من سعادتك بكونك وسعادة العربية بك، وإن أمة أقامت من بعدك هذا الدهر الأطول تصارع الكروب والخطوب، وتقارع تلك الهمجيات الشرقية والوحشيات الغربية ثم لم تبد بل لم تهن ولم تستكن، إن أمة وقاها كتابها ووقت لغتها ولسان كتابها؛ وعرفت قدرها في الأقدار، وفضلها من قبل، ومسعاها اليوم، وأرادت ألا تزول وأن تكون فكانت، إن هذه الأمة لقوية وعزيزة وسائدة وخالدة في الخالدين.
بلاد الشام جلها، ولا أقول كلها، (وإن مع اليوم غدا يا مسعدة) لا تردد كثيراً في الوقت قول الشيخ:
ألفنا بلاد الشام إلف ولادة ... نلاقي بها سود الخطوب وحمرها
فطورا نداري من سبيعة ليثها ... وحينا نصادي من ربيعة نمرها
فالحال اليوم - يا أبا العلاء - متهادن، والدهر مهادن. وفي الدار من قبلك صالحون(604/1)
وصادقون ومخلصون و (ما الخلاص إلا في الإخلاص) كما يقول أبو المنصور الثعالبي ورئيس القوم ملآن من الفضائل الإسلامية ومن العربية والوطنية، وهو كما أردت وكما أحببت وكما قلت:
إذا ما تبينا الأمور تكشف ... لنا وأمير القوم للقوم خادم
لا يتركنّ قليل الخير يفعله ... من نال في الأرض تأييداً وتمكينا
وقد أتى بكثير الخير وأكثره. ومهرجانك هذا هو حسنة من حسنة من حسناته.
كونت العربية في اللغات تكوين الألماس والراديوم في المعدنيات.
(صنع الله الذي أتقن كل شيء)
ولله أن يفضل لساناً على لسان، وأن يحظى إنساناً على إنسان
(ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات)
والشيخ يقول في (الفصول والغايات): (وربك خص بالفضيلة من أختار) وإذا قال العبقري ابن جني: (إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك على جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر) فما غالي بما قال ولا بالغ بل كان من المقتصدين. وهذا شيخ العربانيين العلامة الكبير (نلينو) الذي حذق لغات متقدمين ومتأخرين من الغربيين والشرقيين يعالن في خطبة غير متسمح في الكلام ولا مصاد بأن (العربية تفوق سائر اللغات رونقاً وغنى، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها).
(ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر)
فـ (لغة العرب افصح اللغات، وبلاغتها أتم البلاغات)
ولو تمثلت لغة غادة لأنشد المنشدون:
فدقت وجلت واسبكرَّت فأكملَت ... فلو جُن إنسان من الحسن جننتِ
فتنت هذه العربية (أبا العلاء) فتوناً، وسحرته فنونها، فأقبل رجلاً مسحوراً. شغف بكتابها (قرآنها) ذاك الشغف، وكلف بقريضها أي كلف، وهام بألفاظها هيامه بأقوالها.
(أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز.
ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. . جاء كالشمس اللائحة. . لو فهمه الهضب(604/2)
الراكد لتصدع (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) وأن الآية منه أو بعض الآية ليعترض أفصح كلام يقدر عليه المخلوقون فيكونون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق (فتبارك الله أحسن الخالقين).
(أجدني ركيكاً في الدين ركاكة أشعار المولدين).
ومن علق بأقوال العرب الأقدمين من الجاهلين أو المخضرمين أو الإسلاميين استنزل كلام المحدثين، وقضى قضاء أبى العلاء. وللكلام العربي القديم سلطان قاهر إذا استمكن من نفس خليطه سحره عما سواه، فلا يتقبل إلا إياه. ولولا أن عبقرية أبى تمام وعبقرية المتنبي جهرتا الشيخ وبهرتاه ما كان فخم حبيبا في (رسالة الغفران) ذاك التفخيم مشيراً إلى مقصدات له فائقات ثم قال: (إني لأضمن بتلك الأوصال، أن يظل جسدها وهو بالموقدة صال؛ لأنه كان صاحب طريقة مبتدعة، ومعان كاللؤلؤ متتبعة، يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار) وما كان افتتن بأبي الطيب تلك الفتنة. وسبك حبيب - وأن كان محدثاً - عجيب. ولغته قد ضارعت أو قاربت في القوة قديمة مطبوعة.
ذكر صاحب (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) جماعة من (الذين رزقوا السعادة في أشياء لم يأت بعدهم من نالها) فلما جاء إلى الشيخ قال: (أبو العلاء المعري في الاطلاع على اللغة).
يقول الأمام الشافعي في (رسالته في أصول الفقه):
(لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي).
ولو أحاط إنسان غير نبي بجميع هذا العلم لكان الشيخ أبا العلاء، وإن لم يحط به كله فقد أحاط - كما يخال - بجله. وتلميذه أبو زكريا التبريزي يقول كما ذكر أبن العديم في كتابه (الأنصاف والتحري): (ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة لم يعرفها المعري).
من حياة دمشق:(604/3)
نحن والتجار. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أكتب هذه الكلمة والمطر يهطل منذ ثلاث ليال، ما أنقطع خيطه، ولا سكت صوته، أقبل بعد سنة مضت، شحت فيها السماء، وضنت السحب، فرح به الناس واستبشروا، وانتظروا عاماً خيراً مباركاً، يغاث فيه الناس، ويأتيهم الفرج بعد الشدة؛ غير أن الخير إن زاد عن حده، كاد ينقلب إلى ضده، وكذلك المطر لما استمر صار الناس يسألون، الله الجفاف، ويتمنون لو تطلع الشمس، والشمس ما تطلع، والمطر ما ينقطع. . .
ووكفت السقوف، ونزت الجدران، واساقطت غرف، وسالت طرق الجبل أودية، فامتلأت بالحصى والحجارة، وغدت أباطح، ووقف سيلها الدفاع السيارات وحافلات الترام، واختبأ الناس في البيوت، وما تكاد البيوت تمنع برداً ولا بللاً، ونال حي المهاجرين (على سفح جبل قاسيون) ما لم ينل مثله حياً في دمشق، وحي المهاجرين نصفه قصور من الصخر شامخات، ذات طبقات كثر وشرفات، ونصفه دور لمساكين، هي أكواخ من اللبن والطين، وما في بلدنا مكان يلتقي فيه الفقر المدقع المتجمل الصابر، والغني السفيه الوقح المبذر، كما يلتقيان وجهاً لوجه في المهاجرين. أما بيوت الأغنياء فما أحست المطر ولا درت به، ونام من فيها على الفخم الأسرة ووثير الفرش، لا يعنيهم من خبر السماء وخبر الأرض إلا أن تشبع بطونهم، وتمتلئ صناديقهم، ويسلم لهم أولادهم وأهلوهم، وأما أكواخ الفقراء، فقد صبرت على المطر صبر الكريم، واحتملت ليلة وليلتين. فلما جاوز الحمل الطاقة، خرت في المعركة، كما يخر البطل الشهيد، وخرج من بقي من ساكنيها فراراً منها حين لم تعد دوراً وإنما صارت بركاً ومستنقعات. . .
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها ... وحيطان داري ركع وسجود
وسمعت في الليل هزة، اهتزت أهل الدور، ورجفت منها القلوب، فقمت أستقرئ الخبر، فإذا دار جيراننا قد هوت. . .
. . . ومضت ساعة، وأهل الحمية من الناس يعملون في الوحل والمطر والبرد، ليواسوا أسرة نزل بها القضاء، وينقذوا ما يستطيعون إنقاذه، من فرشها ومواعينها، وذلك القصر ينظر إلينا ثم يعرض عنا، قد شغلته حفلة أقامها تلك الليلة لا أدري فيم أقامها، ولا تزال(604/4)
أنواره ساطعة في عيوننا، ونساؤه الكاشفات يتراءين لنا من وراء الزجاج في الحرير والذهب، وأصوات الغناء والمرح في آذاننا، تهزأ بالفقر وأهله، وتضحك وقحة في مآتمهم، وترقص فاجرة في مقابرهم، والسيارات تقف في بابه تنزل منها باقات الزهر، وثمن كل باقة يحيي الأسرة من الأسر أياما، والهدايا التي تذهب بالمال ولا تأتي بالنفع لوحات مصورة، وكؤوس منقوشة مذهبة، وتماثيل للناس وللبهائم، لو وزعت أثمانها على فقراء الحي لم تدع فيه فقراء، والفضيلة قد توارت خجلاً في زاوية الطريق، وإبليس واقف يضحك مسرورا بأن سلب نفراً من أمة محمد فضائل دينها، ومروءتها، وأن ثأر من آدم فجرد بعض بنيه من بشرتهم، وأحالهم شياطين في أجسام بشر، أو ذئابا قد استخفت في الثياب. . . ولم أقل كلابا لئلا أشتم الكلاب!
ونعجب بعد هذا من إبراهيم بن أدهم لما أخرجوه ليستقي لهم، وقالوا له استبطأنا المطر، فأدع الله لنا، فقال: تستبطئون المطر؟ أنا والله استبطئ الحجارة. . .
(ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى)
وما هذا القصر لملك ولا أمير، ولكنه لتاجر من هؤلاء التجار الذين يحيون في أيام الحروب التي يموت فيها الناس، ويغنون حين يفتقرون، وينسون أن لهذا الكون ألهاً قادراً عادلاً جباراً، ما استقال ولا أحيل على المعاش، ولا يزال لهم بالمرصاد، وينسون أن الموت آت لا مفر لهم منه، وأن قبل الموت المصائب والرزايا؛ الفقر والثكل والمرض؛ وأن بعد الموت الحساب، وبعد الحساب جهنم أو الجنة، أفبلغ بالتجار أن يعلنوا الحرب على الله؟
أننا نعيش بحمد الله في منجاة من القتال وأهواله، والحرب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا هؤلاء المحتكرون أعداء الله وأعداء البشر، الذين حبسوا أقواتنا، وأخفوا أرزاقنا، وارتضوا لنا أن نجوع ونعرى، ليكنزوا الذهب والفضة ويطيفوا بها إطافة الوثني بصنمه، وليربقوا فيض مالهم على أرجل بنات إبليس: الأرتستات الراقصات، وفي معابد الشهوة الملهبات ونوادي القمار، وفي كؤوس الحميم التي اسمها الشمبانيا والويسكي، يحارون ماذا يشترون بمالهم من اللذات المحرمة، وفي أي مطرح من مطارح التبذير(604/5)
يلقونه، والموظفون والعمال لا يكادون يجدون ثمن الغذاء والكساء، إلا موظفا خان أو عاملا سرق، فما حال الأرملة المفردة، واليتيم الضائع، والشيخ الذي لا سند له من مال أو ولد، وعندنا في دمشق من الأرزاق والبضائع ما لو أخرج لكفانا الحاجة سنين أخرى، بل إن عندنا كما أكد لي من يوثق به، بضائع لا تزال في مخازنها منذ الحرب الماضية، والناس يحتاجون إليها والتجار يخفونها يرتقبون بها يوما أشد، وضائقة أحكم، لا يدرون أن كل من أخفى بضاعة أو سبها ينتظر بها ارتفاع الأسعار، وحرمها من هو في حاجة إليها فهو محتكر قل ما حسبه أو كثر، وهو عدو مؤذ، ولص سارق، وليس بتاجر، لأن التجارة كما يفهمها عقلي القاصر إنما تكون بنقل البضاعة من بلد تكثر فيه إلى بلد هي فيه قليلة، أو يجمعها في موسمها لبيعها في غير موسمها، أو بشرائها جملة وبيعها أفراداً، ويأخذ التاجر الربح المعقول على ما بذل في ذلك من ماله ومن عمله، أما ما نراه اليوم من اجتماع النفر من التجار حول مائدة من الرخام في (قهوة الكمال) مثلا، وفي أيديهم أقلامهم وفي أفواههم دخائنهم أو أنابيب نراجيلهم، ببيع أحدهم (بالة الخام) أو (كيس السكر) عشرين مرة بأسعار مختلفة، ويشتريها، وما باع على التحقيق ولا اشترى، ولا قام من مكانه ولا أخذ ولا أعطى. ثم ينفض الاجتماع ويلقي الستار على من ربح منهم عشرة آلاف ليرة، أو من خسر مثلها. . . أما هذا وأشباهه - وما أكثر أشباهه - فما هو لعمر الحق إلا القمار بعينه وأنفه وذنبه. . .
وإذا كان حقا ما أعتمده (رينان)، من أن الدولة تقوم على (الإرادة المشتركة)، لا على الأرض وحدها ولا اللغة منفردة، إلى آخر ما في (نظريته) المعروفة، فليس التجار منا ولا نحن من التجار، لأنهم يريدون غير ما نريد، ولا إرادة مشتركة بيننا وبينهم، فنحن نرجو الرخص وهم يتمنون الغلاء، ونحن نحب أن تنتهي الحرب وهم يحبون أن تدوم، ونحن نطلب من الحكومة أن تسعر وتراقب، وهم يطلبون لأنفسهم حرية إجاعتنا وتعريتنا، ونحن لا نجد مالا نشتري به لوازمنا، وهم لا يجدون لذة جديدة يتصرفون فيها أموالهم، فأي جامعة بيننا وبينهم؟
وإذا كانت الرسالة قد جردت قبل الحرب قلمها البليغ لنصرة أكرم مبدأ، مبدأ الإحسان، والدفاع عن الفقراء والمحتاجين، وإنارة الحمية في نفوس الأغنياء القادرين، ذلك والدنيا في(604/6)
رخاء، والحياة سهلة، والسلام قائم، فأولى أن تستل هذا القلم العضب اليوم، حين اشتد الخطب، واتسعت بين الفريقين الشقة، وازداد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ونشأت هذه الطبقة المحدثة النعمة، التي شبعت من المال ولا تزال في جوع إلى الرفاهية والبلهنية واللذائذ: طبقة (أغنياء الحرب)
إن أهل القصر لا يزالون في لهوهم وقصفهم وأهل الكوخ لا يزالون في كدهم وجدهم، والمطر دائب ما ينقطع، والبرد قارس ما يخف، والليل موحش مخيف، فمن لهؤلاء المساكين، إن تجرد لنصرتهم الأقلام من أغمادها، وتشرع حتى تصدع على هؤلاء الأغنياء حجارة القصر الذي اعتصموا فيه، ليروا ما الناس ويسمعوا ما خطب المساكين، من إخوانهم في الوطن واللغة والدين. إنهم في سكرة الذهب، فاصرخوا فيهم حتى يصحوا منها، قبل أن يذهب السكر ويأتي (الأمر)، فيروا أن أمر الله إذا جاء لا يرد. أفهموهم - وكيف السبيل إلى إفهامهم - أننا رأينا رأى العين، ما قرأنا في الكتب، ولا سمعنا من الناس، من غنى الحرب الماضية أكثر مما غنوا، وبذر أضعاف ما بذروا، ثم ذهب المال والأهل، وغدا يسأل الناس على أبواب المساجد، ولولا أنه يحرم التصريح بعد التلميح، لصرحت بأسماء أقوام عرفناهم، وإن جهلهم من قصرت سنه عن أسناننا.
على أنني ما أعمم القول، ولا أطلقه إطلاقاً، وإن في الموسرين لمحسنين، وفي التجار لمنصفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شر ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومن المستحقين من لا يعرف المحسنين، ومنهم من يعرف ولا يسأل، أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وإن من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن ننشئ جمعيات موثوق برجالها، بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حي كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج، تأخذ من الأول وتعطي (بعد التحقق من حاجته) الثاني، ومن عرفت أنه أتخذ السؤال حرفة - على مقدرة منه على العمل، أو على مال له قد خبأه، فعل أكثر هؤلاء المكدين - رفعت أمره إلى الحكومة لتعاقبه عقاب المتشردين. ويا ليت هذه الجمعيات الإسلامية الكثيرة في مصر والشام والعراق: الإخوان والشبان والهداية والتمدن وأمثالها، تجعل ذلك المطلب من بعض مطالبها
ثم إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوباً يهون به(604/7)
العطاء على المعطى، وتجزل به المنفعة للآخذ. ولقد وجدت أنا واحدا من مائة أسلوب تخطر على البال، حين كنت (من نحو ثلاث سنوات) قاضياً في القلمون، وضاقت الأقوات وقل الخبز، فدعوت إلى ما سميته (مشروع الرغيف)، وأعانني عليه القائم بأمر المنطقة يومئذ ففرضنا على أهل كل بيت من القادرين رغيفا واحدا في اليوم وكلنا من يجمعه، ووزعنا ما جمعناه على المحتاجين، وتركنا من هم بين ذلك فلم نأخذ منهم ولم نعطهم، وهذا الرغيف الذي لا يصعب إعطاؤه على أحد، ولا تشعر به الأسرة، أحيا الله به أهل القلمون - وهم أكثر من سبعين ألفاً - في سنة القحط والضيق، وما ذكرت ذلك لأفخر به، ولا لأنه الأسلوب البديع الذي لا نظير له، بل لأمثل به على ما أريد، والعبرة بالأعمال لا بالأقوال
نسأل الله أن يوفقنا حتى نعمل، ويرزقنا الإخلاص في عملنا حتى يقبل، وألا يجعل هذه المقالة كالصرخة في البيداء.
(دمشق)
علي الطنطاوي
حول فلسفة نيتشه(604/8)
سبيل مطروق. . .!
للأستاذ زكريا إبراهيم
أعتقد نيتشه أنه رائد الإنسانية الأول، وظن أن أحدا قبله لم يطرق السبيل الذي طرقه؛ ولكن الرواد قبله كانوا كثيرين، وهذا السبيل الذي ضرب فيه مطروق مطروق!. فهذا الإيمان الشديد بالأرستقراطية وعبادة الذات، قد سبقه إليه لاروشيفوكو وهلفتيوس ورينان وتين وبرودون وفلوبير وغيرهم. وذلك الاعتقاد الراسخ باستحالة المساواة بين الناس قد ذهب إليه من قبل (جوبينو) الذي أعجب به نيتشه أشد الإعجاب. وتلك الكراهية الشديدة للمذاهب الاشتراكية والفوضوية، قد ترددت من قبل على لسان (هارتمان) الذي أزرى به نيتشه كل الإزراء. وهذه الثورة العنيفة على الأخلاق السائدة والقيم الجارية، قد لقيت من قبل في (جوبو) أحسن معبر لها. وتلك الدعوى الجريئة إلى (اللاأخلاقية) قد سبقه إليها أحد معاصريه وهو (شترنر) - فليست رسالة زرادشت إذن جديدة كل الجدة على الإنسانية، وإنما هي رسالة رددها على مسمع منها كثير من مفكري العصر الحديث. وإذا كان في هذه الرسالة شيء من الطرافة، فذلك لأنها تعبر عن شخصية صاحبها التي استطاعت أن تؤلف بين كل هذه الأفكار المختلفة. ومعنى هذا أن ما يروعنا ويستهوينا في نيتشه، هو أولا وبالذات، شخصيته، لا آثاره. فهذه الشخصية الرائعة تنطوي في أعماقها على نفس فنانة، وقلب شاعر؛ وفي أبعد أغوارها يكمن (الإنسان العظيم) الذي طالما تحدث عنه نيتشه نفسه!
بيد أننا مع ذلك مضطرون إلى أن نضرب صفحا عن تلك الشخصية، لكي نقصر النظر على آثارها. وقد أراد نيتشه أن تحكم عليه الإنسانية بما خلف من آثار، فلم يبق إلا أن نحاسبه على هذا الأساس. وما دام هو قد تنكر للماضي، وثار على تراث الإنسانية كله، فلا بأس من أن تحكم على آثاره محاولين أن نتلمس ما فيها من جدة مطلقة. - ولكن لابد لنا من أن نقرر قبل ذلك أن نيتشه قد أستثنى بعض المتقدمين، فأعترف بالفضل لطائفة من الكتاب والمفكرين، ممن أنجبتهم الحضارة الفرنسية (التي هو مدين لها). وقد حرص نيتشه على أن يذكر بصفة خاصة ستندال، فإن هذا المفكر الفرنسي - فيما يزعم نيتشه - قد استلبه أجمل فكاهة الحادية يمكن أن تخطر بالبال، وهي قوله: (إن العذر الوحيد الذي يشفع(604/9)
لله هو أنه غير موجود!). ومهما يكن من شيء، فأننا إذا استثنينا الإعجاب الذي أبداه نيتشه ببعض المفكرين الفرنسيين، مثل: بول بورجيه، وبيير لوتي، وأناتول فرانس، وجي دي موباسان؛ وبعض الشعراء الألمان مثل هينرش هيني؛ فإننا نجد أنه كان يعتبر دائما أن أحدا لم يسبقه إلى تلك الأفكار الرائعة التي أعلنها، وتلك الآراء الصائبة التي أبدأها!
ولكننا نلاحظ - بالرغم من هذا الادعاء - أن جوبينو قد سبق نيتشه إلى كثير من هذه الآراء: فقد نادى جوبينو بانعدام التساوي بين الأجناس البشرية، واعتبر الجنس الأوربي أرقى الأجناس، وجعل على رأس هذه الأجناس جميعا الجنس الجرماني (الأشقر). وفضلا عن هذا، فقد ذهب أيضاً إلى أن من حق الجنس الأوروبي - باعتباره أرقى الأجناس - أن تتحكم في الأجناس الأخرى - باعتبارها أجناسا سفلى - وارتأى جوبينو أيضاً أن من الواجب تكوين صفوة أرستقراطية مختارة، تكون من تلك الجنسيات التي تنتسب إلى أرقى الأجناس - وقد انتشرت هذه الآراء التي نادى بها جوبينو في ألمانيا كلها، فأنشئت في أواخر القرن التاسع عشر، جماعة تحمل اسم جوبينو، وتعرف في ألمانيا باسم: وترددت آراء جوبينو على لسان نيتشه، فقال فيلسوفا بأرستقراطية الأجناس، وإمكان قيام جنس أعلى، أو نوع راق، يكون جديرا بأن يطلق عليه اسم الجنس (الأعلى) أو (فوق الإنساني)
وليس جوبينو وحده هو الذي سبق نيتشه إلى بعض الآراء التي ادعاها نيتشه لنفسه، بل لقد سبقه إلى ذلك أيضاً فيلسوف آخر ألماني، هو ماكس شترنر الذي نادى بمذهب (اللاأخلاقية) والفردية المطلقة. وسواء أكان نيتشه قد عرف شترنر أم لم يعرفه، فإن هذا الفيلسوف (الذي عاش من سنة 1806 إلى سنة 1856) كان سلفاً مباشراً لنيتشه في المناداة بالمذهب اللاأخلاقي. ويمكن أن تخلص فلسفة شترنر في عبارة واحدة هي (تقديس الذات)، أو (عبادة الأنا). فالذات هي مركز العالم، والعالم - بما فيه من أشياء وأفكار وأفراد - إنما هو ملك للذات. وكل ما في الكون ليس له حدود حقيقي بالقياس إلى الذات، التي هي الشيء الحقيقي الوحيد و (الإنسان) المجرد أو الإنسان باعتباره معني كليا (وهو ما يريد فويرباخ أن يجعله موضع تقديسنا) ليس له أي وجود حقيقي، (وإنما هو خيال لا يكون له وجود حقيقي إلا في ذاتي وبذاتي). ولما كانت الحقيقة الوحيدة هي حقيقة (الذات)(604/10)
أو (الأنا) فإن في استطاعتنا أن نتخذ لنا من هذه (الذات) مبدأ نسميه باسم (الواحد) أو (الفرد) ?. وما دامت الذات هي المبدأ الوحيد الذي يجب أن نأخذ به، فإن علينا أن نستعبد كل سلطة خارجية، سواء أكانت سلطة (الله) أم (الإنسانية) أم (الأخلاق اللاهوتية)، أم (الآمر المطلق). . . إلى آخر تلك السلطات التي يراد فرض سيطرتها على الذات وأذن فان علينا أن نهدم الأخلاق، لأن الأخلاق تقوم على (فكرة متسلطة) هي فكرة (الواجب) أو (الآمر المطلق). وهنا نجد أن نيتشه يتفق مع شترنر، فإن زرادشت سينادي بهدم الأخلاق، والثورة المسيحية التي تضع للحياة قيما فاسدة منحلة. . . أما القول بعبادة الذات أو تقديس (الأنا) فهذا أيضاً مما يتفق فيه نيتشه مع شترنر، فإن نيتشه هو الذي يقول: (إن وراء أفكارك وعواطفك (يا أخي) يكمن سيد قوي، بل حكيم مجهول، هو ذاتك نفسها وهو في بدنك يقيم، بل هو بدنك نفسه)!
ولا تقف أوجه الشبه بين نيتشه وشترنر عند هذا الحد، بل إنهما ليتفقان أيضاً في شيء أعمق من هذا، وهو القول بإرادة القوة فقد جعل شترنر لإرادة التوسع في القوة والامتداد بالذات، أهمية كبيرة في فلسفته، حتى إن هذه الإرادة لتبدو عنده باعتبارها (القوة الأساسية للكائن البشري)؛ وهذه الفكرة هي التي ستصبح على لسان زرادشت الأغنية المحببة التي يرددها نيتشه في كل حين. فنحن نرى من هذا كله أن شترنر قد سبق نيتشه في الثورة على الأخلاق، والانتفاض على المسيحية، والدعوة إلى عبادة الذات. فلم يكن نيتشه إذن أول من ضرب بقدمه في هذا السبيل، بل كان شترنر هو الرائد الأول الذي سار في الدرب الذي طرقه السابقون، حتى نهايته. وكل ما فعله نيتشه هو أنه جدد أفكار شترنر، وردد آراءه - دون أن يكون قد وقف عليها - كما ررد أيضاً آراء السوفسطائيين والكابيين وبعض المحدثين مثل لاروشيفوكو وهلفلتيوس وهولبلخ وفريدريك شليجل وستندال - مع وقوفه عليها -.
ونستطيع أن نضيف إلى هؤلاء الفلاسفة الذين أثروا في نيتشه أو الذين سبقوه إلى الآراء التي نادى بها، فيلسوفا آخر يتفق مع نيتشه في أنه شاعر مثله، ويختلف عنه أنه ليس منحرف الطبيعة مثله. إما هذا الفيلسوف الشاعر فهو جويو صاحب كتاب (صورة مجملة لأخلاق بلا تكليف ولا جزاء) وقد ذهب هذا المفكر الفرنسي في مؤلفه مذاهب شتى،(604/11)
بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه اتفاقاً كبيراً حتى إنه ليصعب علينا أن نتصور أن يكون نيتشه لم يطلع على ما جاء فيها. ومما يتفق فيه الفيلسوفان.
أولا: القول بأن (الحياة هي الكل) بمعنى أنه ليس في وسعنا أن نتصور شيئا ما على أنه موجود حقيقة إلا إذا كان هذا الشيء حيا.
وثانيا: القول بأن الأخلاق التي تنادي بفكرة الواجب والآمر المطلق، أخلاق فاسدة يجب القضاء عليها، لأن الإلزام أو التكليف يرجع إلى الحياة نفسها، إذ الحياة هي التي توفر للفرد الشعور بالقدرة على العمل، وليس هناك قوة سحرية غريبة (كالآمر المطلق) المزعوم.
وثالثاً: القول بأن التشاؤم يدعو إلى الانحلال والفناء في حين أن التفاؤل يكسب خصباً وامتلاء، فكل من جويو ونيتشه يعتبر التشاؤم مظهراً للانحلال والهبوط والفناء. . .
رابعاً: القول بأن الفن هو المعنى الباطن للحياة بمعنى أنه ليس مجرد متعة أو ألهية، بل هو أمر جدي له قيمته في الشعور بالحياة الحافلة الخصبة المليئة، فكل من جويو ونيتشه ينظر إلى الفن نظرة حيوية ولا يعده عديم الغاية بل يذهب إلى أن الفن للحياة وبالحياة. ومعنى هذا أن الفن عندهما ليس للفن - كما يقال عادة - بل هو غائي، وغايته ليست تقويم الأخلاق أو إصلاح الناس، بل تقوية الشعور بالحياة.
وأما النواحي التي يختلف فيها جويو مع نيتشه فهي تلك التي تمس مشكلة (الفردية)؛ وذلك لأن جويو يعتقد أن الرجل القوي ليس هو الرجل المتوحد (كما يزعم نيتشه) بل هو الرجل الذي تجمعه بغيره من الناس، وشائج العقل والقلب. فعلى الرغم من أن جويو يتفق مع نيتشه في القول بالحياة الخصبة المليئة، إلا أنه يتصور هذه الحياة على أنها أولاً وبالذات، حياة اجتماعية تنعدم فيها الأنانية، لأن الأنانية سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب أو امتلاء. . ولعل خير ما يوضح لنا الفارق بين نيتشه وجويو، هو أن الأول يدعونا إلى اتباع الطبيعة (كما دعا إلى ذلك الأقدمون) في حين أن الثاني يدعونا إلى تعميق الطبيعة. فنيتشه يقول: (أتبع الطبيعة) وأما جويو فأنه يقول: (عمق الطبيعة) ومهما يكن من شيء فإن جويو هو بلا ريب واحد من أولئك الرواد الذين سبقوا نيتشه في الطريق الذي سلكه. وقد رأينا أن هؤلاء الرواد كثيرون فهل علينا من حرج بعد هذا إذا قلنا إن السبيل(604/12)
الذي سلكه نيتشه سبيل مطروق؟
(السويس)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية
-(604/13)
إشهار الرؤوس المقطوعة
في أيام العباسيين
للأستاذ ميخائيل عواد
تمهيد:
في مقال سابق لنا، ذكرنا أخبار (خزانة الرؤوس) في دار الخلافة العباسية ببغداد، وما ضمته رفوفها من رؤوس لعب أصحابها أدواراً خطيرة في ميادين السياسة والإدارة والفكر.
وها نحن أولاً ننتقل إلى بحث آخر ذي صلة بهذا الموضوع، (وهو إشهار الرؤوس المقطوعة في أيام العباسيين) وذلك في مختلف البلدان الإسلامية فنقول:
أولاً - نصب الرؤوس في سامراء
1 - رأس الخليفة المستعين بالله:
تنكر الأتراك للمستعين لما قتل بعض أعيانهم مثل: وصيف وبغا، ونفي باغر التركي الذي فتك بالمتوكل، ولم يكن له مع رصيف وبغا أمر حتى قيل في ذلك:
خليفة في قفص ... بين وصيف وبُغَا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا.
وانحل أمره بعد وقعات كثيرة، فخلع نفسه وأحدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً، ثم رد إلى سامراء ولم يبلغها حتى حز رأسه، فقال المسعودي: (ولما كان في شهر رمضان من هذه السنة، وهي سنة وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، بعث المعتز بالله سعيد بن صالح الحاجب ليلقي المستعين، وقد كان في جملة من حمله من واسط؛ فلقيه سعيد وقد قرب من سامراء فقتله واحتز رأسه وحمله إلى المعتز بالله، وترك جثته ملقاة على الطريق،. . . . وذكر شاهك الخادم، قال: كنت عديلاً للمستعين عند إشخاص المعتز له إلى سامراء ونحن في عمارية، فلما وصل إلى القاطول تلقاء جيش كثير، فقال يا شاهك أنظر من رئيس القوم؟ فإن كان سعيد الحاجب فقد هلكت. فلما عاينته قلت هو والله سعيد، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهبت والله نفسي وجعل يبكي. فلما قرب سعيد منه جعل يقنعه بالسوط ثم أضجعه وقعد على صدره واحتز رأسه وحمله. . .).(604/14)
قال أبن الأثير: (وحمل رأسه (أي رأس المستعين) إلى المعتز وهو يلعب بالشطرنج، فقيل هذا راس المخلوع. فقال ضعوه حتى افرغ من الدست. . .).
وفي كتاب (الديارات) للشابشتي وصف مؤثر لهذا المشهد المحزن الذي حل برأس المستعين. قال: (وذكر أحمد ابن حمدون قال: بنى المعتز في الجوسق في الصحن الكامل بيتاً قدرته له أمه ومثلت حيطانه وسقوفه، فكان أحسن بيت رئي. قال: فدعانا المعتز إليه فكنا في أحسن يوم رئي سروراً. وخلف الستارة مغنية تغني أحسن غناء ليس لي بها عهد. قال: فنحن في ذاك، إذ دخل علينا خادم في يده طبق عليه مكبة، فوضعه في وسط البيت، وكان في يد المعتز قدح فنشربه وشربنا، ثم قال للخادم: أرفع المكبة فرفعها فإذا رأس المستعين في الطبق، فلما رأيته شهقت وبكيت.) فقال لي المعتز: يا ابن الفاعلة ما هذا؟ كأنك داخلتك له رقة. فثاب إلى عقلي وتماسكت وقلت: ما كان لرقة ولكني ذكرت الموت. فأمر الغلام برد المكبة ورفع الطبق، فرفعه. وكان المعتز داخلته فترة، وكذلك جميع من حضر وافترقنا عن الحال التي كنا عليها من السرور. قال: فنحن كذلك إذ سمعنا وراء الستر ضجة أفزعتنا، فإذا امرأة تصيح، وامرأة أخرى تشتم الصائحة، والصائحة تقول: يا قوم أخذتموني غضباً ثم تجيئوني برأس مولاي فتضعونه بين يدي! فسمعنا صوت العود قد ضرب به رأسها. قال: وكان الشاتم لها والضارب قبيحة، وكانت الجارية من جواري المستعين. قال: فانصرفنا عن المجلس أقبح انصراف وقد تنغص علينا ما كنا فيه، ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى وثب الأتراك على المعتز فقتلوه. ثم دعي بنا لننظر إليه فدخلنا عليه في ذلك البيت، فإذا هو ممدود في وسطه ميتاً).
2 - رأس صالح بن وصيف
روى قصته الطبري في حوادث سنة 256 هـ، ودونك بعض ما قاله في رواية مقتله: (. . . وقيل إنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه، حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا،. . . لما صاروا به إلى حد المنارة ضربة رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذه منها، ثم احترزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى دار المهتدي، فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح بقطر دماً، فوصلوا به إليه وقد قام لصلاة المغرب فلم يره، فأخرجوه(604/15)
ليصلح، فلما قضى المهتدي صلاته وخبروه أنهم قتلوه صالحاً وجاءوا برأسه؛ لم يزدهم على أن قال واروه، وأخذ في تسبيحه. . . فلما كان يوم الاثنين لسبع يقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة وطيف به ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه. ونصب بيان العامة ساعة، ثم نحى وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعاً. وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح، يوم الاثنين؛ فدفع إلى أهله ليدفنوه. . . فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف:
وصيفُ بالكرخ ممثولٌ به وبُغاً ... بالجسر محترق بالجمر والشرر
وصالح بن وصيفٍ بعد منعفرٌ ... في الحَيْر جيفته والروح في سقر
ثانياً - رؤوس جماعة من بني أمية
بين يدينا أخبار رؤوس لقوم من بني أمية، قطعت قبيل ظهور دولة بني العباس؛ أو إبان ظهورها، ثم نقل بعض هذه الرؤوس إلى العراق، وكان من أشهرها:
1 - رأس عبيد الله بن زياد
الوقعة التي قتل فيها ابن زياد مشهورة في التاريخ. قال ابن عبد ربه: (. . . ولما التقى عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب. قال: من هذا الذي يقاتلني؟ قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبياً يلعب بالحمام. قال: ولما قتل ابن زياد بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمت به عليه انتصاف النهار وهو يتغذى. قال: فلما رآه قال سبحان الله ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة، لقد ادخل رأس أبى عبد الله على ابن زياد وهو يتغذى. وقال يزيد ابن معن:
أن الذي عاش ختَّاراً بذمته ... ومات عبداً قتيل الله بالزاب
2 - رأس مروان الحمار:
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية. وبقتله طويت صفحة بني أمية من ديار المشرق. قال ابن الأثير في رواية مصرعه: (وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه، وصاح صائح: صرع أمير المؤمنين فابتدروه، فسبق إليه رجل من أهله الكوفة كان يبيع الرمان فأحز رأسه فأخذه عامر فبعث به إلى أبى عون، وبعثه أبو(604/16)
العون إلى صالح، فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه؛ فأنقطع لسانه فأخذته هر. فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر، هذا لسان مروان قد أخذته هر. وقال الشاعر:
قد فتح الله مصر عنوةً لكم ... وأهلك الفاجرَ الجَعْديَّ إذ ظلما
فلا مقولة هرٌّ يجرره ... وكان ربُّك مِن ذي الكفر منتقماً
وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام. . .، ولما وصل الرأس إلى السفاح وكان بالكوفة؛ فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك، ولم يبق ثاري قبلك. . .)
3 - رأس مصعب بن الزبير
قال ابن عبد ربه في رواية مقتل مصعب بن الزبير: (. . . فجاءه عبيد الله بن ظبيان وكان مع مصعب، فقال: أين الناس أيها الأمير. فقال: غدرتم يا أهل العراق. فرفع عبيد السيف ليضرب مصعباً. فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعباً بالسيف فقتله. ثم جاء عبيد برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خر ساجداً، فقال عبيد الله بن ظبيان وكان من فتاك العرب: ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته براس مصعب فخر ساجداً؛ أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. .، الرياشي عن الأصمعي، قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، نظر إليه ملياً ثم قال: متى تلد قريش مثلك. . .)
(البقية في العدد القادم)
ميخائيل عواد(604/17)
معرض الفن البريطاني الحديث
للأستاذ نصري عطا الله سوس
الفن لا زمان له ولا مكان، بل هو تراث الإنسانية الخالد على مر الأمان. وحين تتيح لنا أمة من الأمم فرصة مشاهدة آثارها الفنية تمهد لنا السبيل إلى مشاركة فنانيها ورجال الفكر فيها، أسمى أحلامهم وأمانيهم وأنبل عواطفهم واحساساتهم.
ففي الفن وحده يتسامى الإنسان عن المطامع والدنايا والمشاغل الدنيوية ويفسح الطريق لعواطفه ومشاعره التي تؤكد المعنى الإنساني فيه، المعنى الإنساني الذي لا يعرف الحدود الجغرافية أو المطامع السياسية وما تثيره من أحقاد وضغائن وفرقة، والفن وحده هو النبراس الهادئ الذي يذكرنا دائماً أن البشر عائلة واحدة مهما احتدم بينهم الخلاف والبغضاء. وتبادل التراث الثقافي هو خير ما يعزز هذا الإحساس في الإنسان. ومعرض الفن البريطاني المعاصر الذي أقيم في القاهرة خلال هذا الشهر مجهود طيب من مجهودات (المجلس البريطاني) في سبيل تعزيز الألفة الثقافية والفكرية بين مصر وإنجلترا.
وقد قسم المعرض إلى أقسام ثلاثة: قسم الصور الزيتية والمائية، وقسم الحفر والنقش، وقسم الأطفال. ويحتوي القسم الأول على ما يقرب من مائة لوحة لأقطاب الفن الحديث في إنجلترا، وهي تعطينا فكرة صادقة عن هذا الفن خلال الأربعين سنة الأخيرة. ولاشك عندنا في أن المجهود الذي بذل في انتقاء هذه المجموعة من بين آلاف اللوحات كان مجهوداً كبيراً صاحبه التوفيق إلى أبعد الحدود في اختيار خير العناصر التي تمثل مختلف المدارس الفنية المعاصرة في بلاد الإنجليز
والفن الإنجليزي المعاصر لا يتميز بطابع إقليمي قومي، ذلك لأن غالبية أقطابه تلقوا دراساتهم في البلدان الأوربية الأخرى وبخاصة باريس؛ كما أن سهولة المواصلات وسرعة تبادل الإنتاج الفكري ساعد الفنانين الإنجليز على سرعة استيعاب المذاهب الفنية الأوربية والتأثر بها.
ولطالما نعى النقاد - حتى الإنجليز منهم - على الفن كالبريطاني خلوه من الروح الفنية الصحيحة وضعف (معنوية الشكل) فيه، ولكن المجموعة المعروضة الآن تثبت أن الفنانين البريطانيين قد تحرروا إلى حد بعيد من ذلك الجمود الذي يرين على مجهود الكثيرين منهم.(604/18)
وفي هذا المعرض مجال طيب لدراسة الفن البريطاني المعاصر، كما أنه مجال خصب للتأملات الحرة التي تتصل بجوهر الفن عامة دون تقييد بعصر من العصور أو أمة من الأمم.
وجولة سريعة في هذا المعرض تقنع المشاهد أن الفنان الإنجليزي يبلغ أوجه عندما يرسم مناظر الطبيعة الريفية في بلاده، فالصورة رقم 7 (سنودنيا - لرايموند كوكن) تتميز بقوة التصميم والتعبير وحرارة اللون ودقته وحيوية العاطفة. والصورة رقم 83 (منظر طبيعي في وادي ستور - لرولاند سدبي) تمتاز بالتعبير الشعري وحسن اختيار اللون والشكل. والصورة رقم 27 (كنيسة - بريشة د. أبز) والصورة رقم 57 (تلال - لفيفيان بشفورت) تمتاز بالألوان الحية المعبرة.
والصورة رقم 73 (براري في دورست - لستانلي سبنسر) ليست إلا صلاة للطبيعة بالشكل والألوان وهي تتسم بنضوج العاطفة وحرارتها وقوة الأداء، وتستطيع أن تشعر صادقاً وأنت تتأمل هذه الصورة بذلك الشعور الصوفي الذي يستولي على الفنان عندما ينساق إلى الرسم انسياقاً استجابة لقوة أكبر منه. . .
وللرسام ولسن ستير (1860 - 1942) أربع لوحات وستير من أقطاب المدرسة التأثرية، واحد مؤسسي نادي الفن الإنجليزي الحديث الذي كان له أكبر الأثر في اتجاه الفن المعاصر بإنجلترا. تعلم في باريس، ورسومه الأولى متأثرة كل التأثير بمانيه، وديجا، ومونيه، ورينوار، ولكنه استطاع فيما بعد أن يتخلص إلى أحد ما من طابع التأثريين ويسير في طريق كبار الرسامين الإنجليز مثل ترنو وكونستايل وجيتر بورو. وصورة الأخيرة تجمع بين الطابعين الإنجليزي والفرنسي. وهو يجيد كل الإجادة عندما يرسم الأراضي المغطاة بالغابات والمساحات الشاسعة التي تغمرها الظلال والأضواء. وهو خير من بين لنا أي تأثير كبير يستطيع أن يحدثه الفنان الكبير في نفوسنا مع بساطة الأداء وسذاجته.
وأنا حين أضفي هذه الصفات السخية على هذه الأعمال الفنية التي ذكرتها لا أعني أن كل هذه الأعمال توضع جنباً إلى جنب مع روائع التراث الفني العالمي، ونحن لا نستطيع أبدا وليس من حقنا أن نطالب الفنان بما ليس في طوقه، إنما نستطيع أن نلزمه بالصدق والإخلاص لعاطفته والمحافظة على كيان شخصيته وطابعها، وهو إذا التزم هذه الحدود(604/19)
يستطيع أن ينتج شيئاً ونستطيع نحن أن نجد فيه مجالاً للمتعة الذوقية برغم ما يعتوره من ضعف، وكل ما يجب أن يتخلص منه الفنان والناقد والجمهور هو: الانخداع. فعلي الفنان أن يعرف حدود طاقته ولا يتعداها، وعلينا أن نقدره التقدير الصحيح ونضعه في موضعه اللائق - وقد قال (جيته) مرة: ما أسعد الرجل الذي يكتشف سريعاً الهوة بين رغباته وبين مقدرته - وطابع الإخلاص ظاهر جداً في الصور التي تحدثت عنها وهو يكسبها حلاوة وجمالاً برغم بساطتها ويسرها. ونطالع طابع البساطة أيضاً في بعض مناظر الطبيعة الصامتة: فالصورة رقم 38 (منضدة جانب الفراش لادوارد لبا) تعبر عن عاطفة لا تتكلم بل تغني وتغني بحرارة تتمثل في فرحة الألوان الزاهية. والصورة رقم 9 (زاوية غرفة المكتب لدى بليسس) تقول كل ما تقوله بالألوان فقط وهي تقول شيئاً ما برغم بساطة التصميم وفجاجته.
ويعتبر دنكن جرانت من أقطاب الفن البريطاني الذين يمتازون بالحساسية الشعرية وقوة اللون وحسن اختيار الشكل وبراعة الأداء، وكل هذا يبدو جلياً في لوحتيه رقم 18 (أقحوان) ورقم 19 (صورة شخصية)؛ وكأن صفاء نفس صاحبة هذه الصورة الأخيرة سرى إلى نفس الفنان فاختار اللون واللباس والجلسة التي تساعد على إبراز المعاني النفسية الوادعة البادية على وجه السيدة صاحبة الرسم.
وفي المعرض مجموعة لا بأس بها من صور الأشخاص، من أهمها الصورة رقم 31 لجوين جون، وهي صورة جانبية لفتاة صغيرة وهي من فرائد هذا المعرض في قوة الشكل وحيوية التعبير
وهناك صورة لأوجستس جون بريشته، وهي تمثل تمثيلاً قوياً الفنان اللاهي دائماً عن عالمنا، الشارد الذهن دائماً وراء عرائس الإلهام. وجون فنان بوهيمي غذى الفن الإنجليزي بدماء جديدة بدت غريبة أول الأمر وحدت من شهرته ولكنه تطور مع الزمن. ويمتاز فنه إبان نضوجه بالميل إلى تبسيط ووضوح الألوان وصفائها. وصور الأشخاص التي يرسمها تمتاز بقوة التعبير وصدق الدلالة على نفسية الشخص المرسوم
ومن الأعلام الممثلين في هذا المعرض السير وليم أوربن الذي لفت الأنظار إليه منذ صدر شبابه لبراعته وقدرته وتمكنه من مختلف نواحي الفن، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً وأوبرن(604/20)
يرسم صور الأشخاص وصور الطبيعة الحية والطبيعة الصامتة في يسر وسهولة وتوفيق في التعبير والأداء، ومنهم أيضاً رتشارد سكوت (1860 - 1942) وهو من أصل ألماني، وقد قيل عنه إنه رسام أدبي، أي أنه يعني بما تقصه الصورة أكثر عناية بالشكل. وقد تتلمذ على ويسلر، ولكن غلب عليه طابع التأثر بين خاصة ديجا - وصوره تغلب عليها الألوان القاتمة والظلال، وكان يفضل الرسم في الأيام الغائمة، وأكثر رسومه لردهات داخلية قليلة الحظ من الضوء.
وأود أن أشير هنا إشارة خاصة إلى الصورة رقم 88 (منظر لإثيل ووكر) وهي من أنفس ما في المعرض، والذي يتأمل هذه الصورة تأملاً صادقاً ينسى ما تحكيه - أي البحر والأمواج - ويذكر العاطفة الحية المتوثبة. الغامضة، الشادية، التي تستولي على نفوسنا أحياناً، فتجعلنا نحس أن الكون لحن كبير قوي، وإننا بعض هذا اللحن نحس موسيقاه في قلوبنا، وتهزنا هذه الموسيقى هزاً منغماً كما يهتز القارب الصغير على صفحة الأمواج اهتزازا قوياً متداركاً
قلنا إن الفنان الذي يلتزم حدود ذاته يستطيع أن ينتج شيئاً ما، ونقول أيضاً إن التفرد والشذوذ مع القوة، والإيمان بسداد هذا التفرد والشذوذ مع القوة، والإيمان بسداد هذا التفرد والشذوذ عبقرية وأصالة لاشك فيهما
ويتمثل التفرد والشذوذ في أعمال الفنانين المحدثين، ويمثلهم في معارضنا - تمثيلاً روعي فيه الجودة والتعقل - هنري مور وسذرلند، وآخر ينسج على منوال هذا الأخير اسمه ادوارد أرديدون (صاحب الصورتين رقم 1، 2) وأعمالهم لا تخلو من صدق في العاطفة والأداء
وهنري مور سام ونحات، وهو كصاحبه سذرلند مجدد يتسم بالجرأة والخروج على الأشكال المألوفة، وبرغم ذلك - أو ذلك - لا يستطيع الناقد إلا أن يسلم بأنه فنان بل فنان كبير أحياناً وسذرلند لا يتقيد بالطبيعة إلا فيما ندر، وإذا تقيد بها اختار ما لم تألفه العين من الأشكال والألوان فيوفق أحياناً ويخونه التوفيق أحياناً، وعلى كل أعتقد أنه خير من استطاع أن ينزع من الطبيعة نفسها مادة للتعبير المجرد المعبر
والجزء الأكبر من إنتاج هؤلاء الفنانين المحدثين لم تقرر قيمته الفنية بعد، ومن العسف أن(604/21)
يحكم الناقد ذوقه الفردي في ظاهرة فنية عالمية كالتي نحن بصددها. وإن كنا نرى أن النظريات الفنية الحديثة في حد ذاتها معقولة ومقنعة، ولكن الإنتاج الفني نفسه تعوزه القوة والعاطفة والخيال والطواعية أي ينقصه كل عناصر الفن!
وهذا الفن الحديث فيما أرى لا يمثل التحرر من القديم، بل يمثل عنف الثورة والتمرد على القديم - والثورة والتمرد عنصران سلبيان، والدافع إليه في الغالب اقتناع ذهني لا تسنده عاطفة أو خيال، وكل ما يستطيع أن يقوله الناقد المعتدل إن هذا الفن قد ينضج مع الزمن
وقد راعى منظمو هذا المعرض ذلك، فهنالك صورة واحدة تمثل مذهب السريالزم، وأخرى تمثل المذهب التكعيبي، وثالثة تمثل ما يسمى النيوريالزم، ورابعة تمثل الفن التجريدي، والأخيرة (رسم رقم 85 لجون تنارد) قطعة فذة في نوعها تمتاز باللون والتصميم وموسيقية التعبير، وهي تبين زلنا أن الفنان الصادق الإحساس ينجح دائماً مهما اتسم (الزي) الذي يختاره لعاطفته بالغرابة والبعد عن المألوف
وما دمنا بصدد الحديث عن النزعات الفنية الحديثة يمكننا أن نقول الفنان الإنجليزي عامة أخذ يحس ويبرز في لوحاته المعاني اللونية الباطنة للأشكال الطبيعية، ولعل هذا أكبر حسنات النظريات الفنية الحديثة.
نصري عطا الله سوس(604/22)
المسلمون في بولندا
للأستاذ مصطفى كمال عبد العليم
هناك صفحة ليست معروفة تماماً في التاريخ البولندي تتعلق بتاريخ القبيلة التترية الإسلامية التي استوطنت المنطقة الشمالية الشرقية من بولندا. فكما استقرت الشعوب الإسلامية في أوربا كغزاة - إذا استثنينا مسلمي يوغوسلافيا الذين هم من أصل صربي أسلموا عن طريق الغزو العثماني - كذلك استوطن تتار بولندا إقليما لم يطأ غاز من قبل. ومن المعروف أنهم بدءوا يستقرون في بولندا منذ منتصف القرن الرابع عشر.
وليس هناك من شك في أصلهم الجنسي، فهم من الجنس التركي المغولي انحدروا من إمبراطورية جوشي بن جنكزخان وعرفوا باسم (لرعيل الذهبي) في غربي القبشاق. ولكي نعرف متى وكيف استقروا في بولندا يجب أن نعرف أسباب تكوين تلك البقعة الإسلامية الصغيرة وظروف ذلك التكوين، ثم كيف استطاعت هذه الفئة المسلمة وهي محاطة من كل جانب بشعوب مسيحية - أن تحتفظ بدينها خلال كل تلك القرون، وبخاصة من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر، تلك القرون التي تميزت بالنضال العنيف بين المسيحية والإسلام.
هناك حقيقتان ثابتتان أولاهما: أنهم بدءوا في الاستقرار قبل سنة 1392 وذلك من وثيقة ترجع إلى ذلك التاريخ تتعلق بمنح قطعة أرض لأسرة تترية. والأخرى: من وثائق ترجع إلى سنة 1475 أمكن معرفة استقرار مركزهم الاجتماعي والقانوني إذ ذاك، فهم يمتلكون إقطاعيات منحها لهم السلطات المركزية مقابل تعهدهم بالخدمة العسكرية وقت الحرب. فما هي الأسباب التي دعت السلطات إلى أن تسمح بإيواء عنصر غريب الجنس والدين في أراضيها؟ حقيقة أن هناك خدمة إجبارية وقت الحرب مقابل هذا الإيواء، ولكن حتى هذا الإلزام دليل واضح على ثقة السلطات بهؤلاء التتار فما علة ذلك؟
أخذ أسلاف التتار في ضواحي مدينة فيلنو البولندية التي كانت تابعة لدوقية لتوانيا في القرن الرابع عشر. وكانت لتوانيا إذ ذاك دولة مستقلة متسعة ممتدة من نهر تيمن إلى نهر أوكا، ومن البحر البلطي إلى البحر إلاسود، وكانت مهددة بغارات الفرسان التيوتون في الغرب، وإمارة موسكو الناشئة في الشرق التي بدأت تسود الإمارات الروسية الأخرى(604/23)
بفضل مساعدة (الرعيل الذهبي) التابعين لموسكو. وكان سكان لتوانيا يبلغون بضعة آلاف، فكان يخشى أن تنفصل الإمارات الروسية التابعة للتوانيا لتنضم إلى موسكو بحكم اللغة ووحدة الدين. فكان على لتوانيا أن تحارب في اتجاهين متضادين، وكان على أدواقها تجنب الاشتباك مع الرعيل الذهبي القوي، وكسب تحالفه إن استطاعوا. وهذا ما حدث فعلا سنة 1319. فكان هذا التحالف موجها أولا سنة 1370 ضد الفرسان التيوتون، ثم ضد موسكو ثانيا سنة 1380. هذا هو مبدأ الاتصال بين التتار المسلمين وبين لتوانيا وبولندا. وقد يتصور البعض أنه من الصعب تحالف شعبين أحدهما مسلم والآخر مسيحي في ذلك الوقت الذي يفور بالعصبية العمياء، ولكن إذا عرفنا أن اللتوانيين كانوا وثنيين أمكن تصور حدوث مثل هذا التحالف
ثم كان أن اتحدت لتوانيا مع بولندا سنة 1386 واعتنق اللتوانيون الكثلكة، ولم يؤثر ذلك في سياسة لتوانيا نحو الرعيل الذهبي. بل العكس ازداد انتظام العلاقات الودية بين التتار المسلمين وبين المملكة اللتوانية البولندية المتحدة الكاثوليكية.
لم تعد لتوانيا تقنع بأضعاف موسكو، بل تريد القضاء عليها، فتدخلت في شؤون الرعيل الذهبي الذي بدأ يتفكك فأخذت تناصر الخانات الأقوياء لتفيد منهم في القضاء على إمارة موسكو، كما شجعت هجرة التتار إلى اراضيها، ومن ثم سمحت لهم بالاستقرار حول فيلنو كما وجد التتار المطرودون من القبشاق ملجأ رحباً في لتوانيا. والواقع أن لتوانب قد جربت إخلاصهم وشدة مراسهم في الحروب ضد الفرسان التيوتون وضد أمارة موسكو.
وقد عاش التتار في هذا الإقليم ستمائة سنة، إلا أنهم كونوا جماعة متميزة بتقاليدها وعاداتها من العنصر الذي عاشوا بين ظهرانيه. وبرغم أنهم تزوجوا بمسيحيات نظرا لقلة النساء المسلمات اللائى هاجرن معهم، فإنهم احتفظوا بدينهم وتمسكوا به كما ضل طابعهم التركي التتري متميزا ظاهريا.
وقد تأثر التتار بالبيئة الجديدة التي استقروا بها. فبعضهم لم ترضه حياة الدعة والاستقرار، فعادوا إلى مراكزهم الأولى في القبشاق، والبعض الأخر بقي، وهؤلاء كانوا قد تأقلموا في القرن الخامس عشر ونسوا لغتهم حوالي منصف القرن السادس عشر. ويرجع ذلك إلى اضطرارهم إلى الزواج بنساء بولنديات، فشب الأبناء على لغة أمهاتهم، إذ أن الأباء كثيرا(604/24)
ما كانوا يتغيبون في الحروب، وفي هذا تفسير جزئي لاتخاذ المسلمين أسماء بولندية. ولكن برغم كل ذلك لم يضعف تمسكهم بدينهم - كما قلنا - كما أنهم حرصوا على الاتصال الدائم بالعالم الإسلامي وان كان هذا الاتصال يتأثر بطبيعة الحال بالظروف السياسية. فمن وثيقة ترجع إلى القرن السادس عشر نعرف أنهم حجوا إلى مكة، كما كانوا في ذلك الوقت يتداولون فيما بينهم بنقود عربية لابد وأنهم جلبوها معهم بعد عودتهم من الحج. وكان من الطبيعي أن تفيد منهم الحكومة البولندية بأن تجعل منهم سفراءها لدى الدول الإسلامية، وهذا مشاهد من إرسال مترجمين ومبعوثين سياسيين من بين التتار المسلمين خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر وطوال القرن السادس عشر. ثم من ناحية أخرى كان التتار يستعينون بأئمة وعلماء دينيين من تركيا والقرم ليشعلوا بهم وظائفهم الدينية. ومن الطريف أن نذكر أنهم كانوا يستخدمون الحروف العربية في مؤلفاتهم الدينية والعلمية المؤلفة باللغة الروسية أو البولندية.
وقد بلغ التتار البولنديون القمة في تطورهم في منتصف القرن السادس عشر الذي كان عصراً ذهبياً كذلك للتاريخ البولندي. ويمكن أن نقدر عددهم إذ ذاك بنحو مائة ألف. وكان في كل قرية يقطنها المسلمون مسجدها الخاص، وفي بعض المدن هناك شوارع تترية إسلامية صرف. بل وأحياء بأكملها خاصة بهم.
وهناك مرسوم ملكي مؤرخ بتاريخ 20 يونية سنة 1568 بين مركزهم بالنسبة للعناصر الأخرى، وهذا المرسوم يعين حقوق نبلاء المسلمين وامتيازاتهم ومساواتها بحقوق المسيحيين وامتيازاتهم. والواقع أنهم كانوا أقل في بعض الحقوق من المسيحيين، فليس لهم حق الانتخاب للمجمع البولندي، وليس لهم أن يكونوا أعضاء فيه أو في مجالس الولايات. وظلوا محرومين من هذا الحق حتى ظهور دوقية وارسو على يد نابليون سنة 1807. ولكن من ناحية أخرى يشتركون مع النبلاء المسيحيين في الصفة المميزة لنبلاء العصور الوسطى، وهي ملكية اقطاعات من الأرض كان بقطعها لهم الملك، فكانوا يسمون أحيانا (تتار الملك) وهم إلى حد ما أتباع مباشرون له، فهم لا يستطيعون توارث أرضهم دون موافقة الملك، إلا أن هذا الحق في التوارث صار نهائيا فيما بعد. أما من الوجهة الاجتماعية فهم مقسمون إلى طبقات ثلاث: الطبقة الأولى كبار الملاك ذوي الإقطاعيات الواسعة، وهم(604/25)
ملزمون بالخدمة العسكرية وبتقديم جماعات من الفرسان كاملي العدة وقت الحرب، وتضم هذه الطبقة الأمراء والأشراف. والطبقة الثانية الجند العاديون، ولهم أراض تقل في مساحتها عن أراضي الطبقة الأولي، وهم على العموم يزرعون أراضهم بأنفسهم. أما الطبقة الثالثة فلا يمتلك أفرادها نصابا معينا من الأرض، يشتغلون بالزراعة وأعمال النقل والبريد، إلا أن في إمكانهم الوصول إلى مركز محترم عن طريق الخدمة العسكرية. وكانت الطبقتان الأولي والثانية معفاتين من الضرائب، ولكن بمضي الوقت أخذت الفوارق تتلاشى بين الطبقات.
(البقية في العدد القادم)
مصطفى كمال عبد العليم(604/26)
العصبية المفرقة
للأستاذ محمود الشرقاوي
أبرزت الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأسبوع الماضي ظاهرة جزع لها رجال السياسة كما جزع لها المفكرون على السواء
هذه الظاهرة هي تحريك العنصرية الطائفية واستغلالها في الصراع الانتخابي بين المرشحين والناخبين.
ورجال السياسة والمفكرون من حقهم أن يجزعوا لبروز هذه الظاهرة التي من شأنها - لو أنها لم تتدارك - أن تضعف التماسك الشعبي بين أبناء الأمة وأن تعطل إلى حد كبير إلى أهدافها الوطنية ووصولها بعد ذلك إلى هذه الاهداف، وأن تقلل من تقدير الأمم ذوات السيادة للوطن المصري وللوطنية المصرية ولقيمة الشعب ومكانته من الحضارة والثقافة وما يستتبعه ذلك من اعتراف هذه الدول لمصر بحقها في الحياة الحرة وتمكينها مما تتطلبه من مركز حسن بين مجموعة الأمم المتحضرة ومكان ممتاز بين مجموعة الشعوب العربية بوجه خاص
ومن المقاييس الصادقة التي تقاس بها حضارة الأمم وثقافتها وحظ طبقاتها من التهذيب مقياس التسامح الديني والطائفي. فكلما كانت الأمة أعرق حضارة وأعمق ثقافة وأرقى تهذيبا، كانت أبعد بطبقاتها وأفرادها عن التعصب الديني والعنصري، ومما يتصل بأي نوع من أنواع التعصب للإقليم أو المهنة أو التعليم أو الثقافة. وكلما كانت الأمة أقرب إلى البدائية في حضارتها وثقافتها وتهذيب شعبها احتد بين طبقاتها وأفرادها التعصب وتعددت ألوانه ومظاهره.
وكذلك الأفراد يمكن أن تقاس تهذيبهم رفعةً وخفضاً ورقة وغلظة، وأن تقاس ثقافتهم تعمقاً وسطحية وجوهراً ومظهراً، بمقياس بعدهم أو قربهم من التعصب لدينهم أو ذاتهم أو إقليمهم أو معهدهم التعليمي أو نوع ثقافتهم.
وهذه كلها بدائه أعتقد أن جمهوراً ممتاز الثقافة والفهم مثل قراء (الرسالة) لابد أن يعرفها ويسلم بها
وكما أبرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة هذه الظاهرة المؤسفة من مظاهر التعصب(604/27)
الطائفي عند فريق من الناس فتداركها رجال السياسة والعقلاء من المفكرين، أبرزت حوادث أخرى مثل إنصاف الطبقات والمتخرجين في الجامعات والمدارس ظاهرة أخرى لنوع آخر من التعصب للمهنة أو الوظيفة أو المعهد أو الثقافة، وكلها ألوان من التعصب هي كما قلنا تمس إلى حد كبير وحدة الأمة وتماسكها، ويستطيع بعض الناس أن يجعل منها مقياسا لحضارتها وثقافة مجموعها وفهمه لمقومات الأمم وتهذيب الأفراد.
وقد كان هذا المظهر الأخير من مظاهر التعصب أكثر وضوحا للمشتغلين بالصحافة والذين لهم وعي وحسن أدراك للتيارات الذهنية والتموجات النفسية والفكرية للمجتمع المصري.
كما كان أبز وأوضح لمن تولوا شؤون هذا الأنصاف للطبقات والخريجين والحاصلين على مختلف الإجازات العلمية والشهادات المدرسية وكم سمعنا وقرأنا لهؤلاء الذين تولوا هذه الشؤون فأدركنا أن أمر جد، أنه مما يستحق أن يشتغل به المفكرون والذين لهم غيرة على وحدة الأمة الثقافية أو تماسكها الثقافي على الأقل.
وقد كان مما يهون - إلى حد ما - من شأن التعصب العنصري والطائفي أن فشوه قاصر على السواد وأبناء الشعب وأن الساسة والمفكرين يقضون على سمومه عند أول نهزة.
ولكن هذا اللون الجديد من التعصب الثقافي ليس فاشياً بين السواد ولا بين أبناء الشعب، ولكنه قائم محتدم بين الخاصة والمثقفين منه، وان أحدا لم يدرك خطره ولا شره فيعمل على خلاص هؤلاء المثقفين والخاصة منه، ويعمل على أن يعود بهذه الشيع من المتخاصمين المتنابذين إلى ما يجب أن يكونوا عليه جميعاً من رفعة التهذيب، ومن تعمق وسعة الصدر والإدراك
وقد يكون للسواد والجهلة شيء من العذر في أن يتعصبوا وأن يفترقوا وأن يخاصم بعضهم بعضا فيما لا يجب أن يكون بينهم فيه خصام، أو فيما يجب ألا يكون بينه خصام، وأن يميز بعضهم بعضا أو يفاضل بعضهم بينه وبين بعض آخر فيما يجب ألا يكون بينهم فيه تفاضل ولا تمايز. ولكنه عذر للمثقفين - إذا أرادوا أن يكون لهم من هذا الوصف نصيب - في أن يتنابذوا ولا يتعصب كل منهم وينحاز إلى جانب يراه أرفع شأنا وأميز ثقافة وأقوم في حياة الأمة وفي نفعها، ليس لأنه كذلك في واقع الامر، ولكن لأنه هو من هذا الطريق.(604/28)
محمود الشرقاوي(604/29)
من كتاب الحياة
شريد. . .
للدكتور عزيز فهمي
مرَّ بي كالخيالِ في أَسْمالِه ... واهياً كالخيالِ عندَ زَوالِه
حائرَ الطَّرْفِ والخُطى كطريدٍ ... ذاهلاً عن يَمينه وشمالِه
راعشاً والسماءُ تُمْطَر سَيْلاً ... يُنْذِرُ الرعْدُ صاخباً بانهيالِه
يَهْرَأ البَرْدُ ما يُواريه بُرْدُ ... وصريرُ الرياحِ دونَ سُعالِه
أيها العابِرُ المُجِدُّ تَمَهَّلْ ... وأنْتَ أَحْرَى بأنْ تَرِقَّ لحالِه!
صِحْتُ: يا طِفْلُ! لمْ يَكَدْ يَنْتَبِه لي ... فتَبْعِتُ الشريدَ والقلبُ والِه
حَيْثُ أَثْوى بَمْسِجٍد غير ناءِ ... مُطرقاً من حَيائه وسُؤالِه
والمُصَلُّونَ مَنْ يُسَبحُ منهم ... عازفٌ عن فضوله وابتذالِه
حَرَماً يا أخي ويا صاحِ جَمْعاً. . . ... أينَ مِنْ وقعِهَا ذليل مَقالِه؟
لم يجدْ راحماً ولا مُسْتجيباً ... بعْدَ ما بُحَّ صوتهُ من كلالِه
فانثنى عائداً بِخُفى حُنَيْنٍ ... كاسفَ البالِ مُشفقاً من مآلِه
ثُم ولى إلى الكنيسةِ وجْهاً ... واسْتَجارَ الفتى بِعيسى وآلِه
رَدَّهُ سادِنُ الكنيسةِ رَكْلاً ... لَيْتَ من رَدَّهُ استحى من جلالِه!
ما على الدَّيْرَ لو أَقامَ نهاراً ... أو أطالَ الوقوفَ فوقَ احتمالِه؟
فمضى هائماً على غَيْرِ وجْهٍ ... ليس يَلْوي على هُدًى في ضلالِه
وإذا بي أرى فَتًى أرْيَحياً ... هَزَّهُ النَّبْلُ لا يَضِنُّ بمالِه
يَتْركُ الحانَ والنَّدامى ويعدو ... كالذي فَرَّ نَاشِطاً من عِقالِه
صاحَ بالطفلِ يا بُنَيَّ انتظرني ... لحظة: فالطريق في أوحالِه
وانْتَضَى ثَوْبه وقال تَدَثَّرْ. . . ... وأضافَ الجْوادُ بعضَ نوالِه
فتأملْتُ ما رأيتُ مَلياً ... ذلكَ الدرسُ فاعتبرْ بمثالِه
أيهم عندَ ربه مُتَّقِيه ... ليتَ شعري وأيهم غيرُ آلِه؟
ليتهم إذ صَغَوْا بِخَدٍ ومالوا ... عَنْه أَصْغَوا إليه عندَ ابْتهِالِه(604/30)
مَنْ لهذا الشريدِ إنْ جَنّهُ الَّليْ ... لُ وَأَرْخى عليهِ منْ أَسْدالِه؟
قابعٌ عندَ دَمْنةٍ تَحْتَ جُبٍ ... يَحْسَبُ الغولَ زاحفاً لاغْتيالِه
قد تَعَرَّى إلى الثرى غيرَ فَضْلٍ ... منْ قَميصٍ مُهَلْهَلٍ كَرمالِه
مَنْ لهذا اليتيِم أمسى وحيداً ... مُشْفِقاً من غولِ الدُّجى وخيالِه
بَيْنَ فَكَّيْنِ مِنْ طَوىً وعَراء ... يَدْفَعُ الموتَ وَهْوَ بينَ نِصالِه
عالِقٌ بالحياةِ يبغي خَلاصاً ... وَيُدبُّ الفَناءُ في أوصالِه
يَتَلوَّى كما تَلَوتْ قَطاةٌ ... عَزَّها الفخَّ وهْيِ بينَ حبالِه
أيُّها المانعونَ عنه زكاةً ... فَرَضَ الله بَذْلَها لعيالِه
لا تصوموا ولا تقيموا صلاةً ... إنْ ضنَنْتُم بها على أَمْثالِه
يعلم اللهُ ما غَنِمْتُم جزاَء ... أيها المُمْعِنونَ في إذْلالِه
أحسنوا البِرَّ إن أردْتم ثواباً ... وتواصَوا بِعْتِقه وانْتشِالِه
عزيز فهمي(604/31)
القصص
الجارم البريء
للأستاذ حبيب الزحلاوي
توهمت أني الشرقي المتأمرك الوحيد بين ركب الباخرة التي بعث بها رئيس روزفلت إلى الشرق لتعود بالأمريكيين إلى ولاياتهم المتحدة قبل أن تقطع الطريق عليهم الحرب الوشيكة الوقوع بين أمريكا واليابان وحليفتها. توهمت ذلك، لأني لم أر ساعة رفعت الباخرة مراسيها وأخذت تبتعد عن الميناء مودعاً واحداً يلوح بمنديل، ولا بصراً واحداً رنا لراكب واحد من ركاب هذه الباخرة التي ستشق طريقها بين عجاجات الجحيم المستعرة بين أنصار الحرية وأشياع الفردية.
ألقيت بالنظرة الأخيرة على ميناء بيروت، ولما اختلطت الرؤى، وصرت لا أميز بالعين المجردة إلا أشباح جبال لبنان الضاربة قممها فوق الغيوم دون أشجار الصنوبر الخالدة، طفقت أرود الباخرة أتطلع إلى ركابها الأمريكيين.
إن روح الجماعية أصيلة في خلق الأمريكان، تستمليهم المغريات كالفرنسيين، ويدفع بهم حب الاطلاع إلى معرفة ما خفي من الأمور، وما استتر من الأشياء وخفايا الناس أيضا، وهم لا يتورعون عن المراهنة على كل حدث أو خاطرة، فهذه الخاصة هي التي حفزت أكثر الركب، وقد تعارفوا وتآلفوا، إلى معرفة طوية رجل متأمرك آخر سواي، نفور جالس فوق كرسي مستطيل من كراسي الباخرة لا يجيب عن سؤال راغب، ولا يلتفت إلى طلب أي طالب، سيدة كانت أم رجلاً. وقد استعان هؤلاء الطلعات بي، وكانت رغبتهم في معرفة ازورار مواطني الشرقي تكاد تنقلب شهوة ملحاحاً أكثر لجاجة من حبه الرهان.
قالت لي فتاة رفافة البشرة: (أحسب صاحبك عاشقاً، لأن الحزن يجلل نفسه بوشاح من اليأس!! وقالت سيدة فقدت حيلتها في مغالطة نفسها لأقدار الزمن: (صاحبك هذا أقوى الغرام وهذه حالة تنتاب الكهول حين يشعرون بالهرم) وقال شيخ: (قد يكون سبب حزنه عدم إتمامه بناء القصر الذي بناه في قريته فتركه يعشش في الخفافيش والبوم وعاد إلى أمريكا يجمع الدولارات ليتم بناءه) ولكمني في بطني (وهو يضحك) لكمة لولا تعود بطون الأمريكان تحملها لأفرغت ما فيها من كل منفذ. وقال آخر يتعمد الرصانة: (الجنسية(604/32)
الأمريكية للبنانيين حصانة تقي أطماعهم من طغيان إخوانهم الأقوياء)، فقالت الفتاة الصبية مخاطبة هذا المعترض، كنت دائماً يا عمي العزيز تكبر في اللبنانيين مقدرتهم في شق طريقهم للحياة، برغم تحاملك عليهم. قلت وقد قطعت على هؤلاء النقاد حبل استرسالهم: (هذا بحث في خصال قومي سأحاسبكم عليه في ظرف مناسب، أما الآن وغايتكم معرفة صدوف مواطني عنكم، فأني أتكفل بإشباع رغبتكم وإرضاء فضولكم).
البحر والوحدة أنجح دواء للشفاء من لوعة الحزن، بل لا حرج على القائل: (إذا أنطلق لساني المحزون بالشكوى فقد زال نصف دائه، وإذا لقيت شكواه قلباً واعياً انتقلت إليه) لقد استطعت بوسائلي الخاصة حل عقدة لسان هذا الحزين وهو من مدينة في لبنان اشتهر سكانها بالفطانة والذكاء، وعرفوا بالصلابة والعناد والأريحية والشمم لتأصل صفات الحرية فيهم فقال لي:
أتعرف حي البرازيلي في زحلة؟
قلت: أعرف الأبنية الجميلة المزخرفة القائمة على ضفاف البردوني!
قال: يوجد في عاصمة البرازيل حي يشبه في هندسة البناء يدعى الحي الزحلي.
قلت: ما علاقة هذا بذاك؟
قال: لست أبالغ إذا قلت لك إن جل طلاب الكلية الشرقية في تلك المدينة كانوا يتوجهون وجهة الهجرة إلى البرازيل، ولم يكن يجول في خواطرهم إلا نيل شهادة الدراسة والرحيل إلى البرازيل واللحاق بإخوان سبقوهم إليها، وهمهم العمل والكسب يبنون بناية جديدة في الحي الزحلي في البرازيل ثم العودة إلى زحلة يشيدون قصراً فخماً في الحي البرازيلي الفخم.
قلت: أعرف روح المغامرة في الزحليين دون سواهم من المهاجرين من لبنان.
قال: ما كدت أفوز بالشهادة المدرسية حتى رغبت إلى والدي أن يأذن لي بالسفر إلى البرازيل وقد وافقا مكرهين.
كانت الباخرة التي أقلتني آنذاك تعج بمئات من المهاجرين أمثالي، وكانت مناديل المودعين ترفرف كأجنحة الحمام، والعيون ترنو بين ساهمة ودامعة، والقلوب تخفق حنان وحب ورجاء.(604/33)
كنت مشرد اللب ساعتذاك، أنظر إلى أمي وأبي بعين الولد البار، وأنظر إلى فتاة كانت بجانبهما بعين قلبي، لم تكن الفتاة غريبة عني، بل كانت من أقاربي الأبعدين، وقد جاءت من (كفر شيسما) خصيصاً لوداعي، كانت معرفتي بها بسيطة، ومحدودة، أما في ذلك الموقف، موقف الوداع، فقد انفتحت لها جوارحي فأحسست فجأة بأن كل ذرة من كياني الذاتي تدعوني إليها، وأنها هي هي المتممة لتكامل وجودي في الحياة، فوثبت على غير وعي وثبة قلب محفوز، وأخذت أدفع الناس حتى شققت طريقي إلى سلم الباخرة، فهرولت نحو والدي، فأخذت يد الفتاة بيدي اليمنى ويد أمي اليسرى، وقلت لوالدي هاك (أنيسة) خطيبتي بل زوجتي بالروح، احتفظا يا والدي بها. لن يطول غيابي. سأقتحم البحر، وأشق المنجم حتى أصل إلى الذهب أقتلعه من أصوله أقدمه عربوناً للزواج من حبيبتي (أنيسة) هذه. وقبلت جبينها قبلة خاطفة فيها كل الدوافع والبواعث والحوافز.
كان يتخلل حديثنا فترات ينقطع فيها الحديث لإشعاله لفافة أو مسح جبين للاستذكار، أو مشاهدة دارعة كقلعة تترنح، أو غواصة تطفو وتغوص، أو أسراب من طائرات تهبط وترتفع واحدة منها للاستكشاف.
قال محدثي: غمر البحر معالم الأرض، ولم تعد العين ترى ألا قبة مكورة فوق وجه الماء، وكنت أرى بعين البصيرة وجه (أنيسة) الصبوح، وعينيها الصافيتين الناعستين تدفعاني دفعاً إلى الأرض الجديدة التي سأنبش تربته كالخلد وأقضم خيراتها كالجراد
بدت منابت الأمل في نفسي تمتد سوقها، وتبرز براعمها، وتورق وتزهر، واخذ خيال السعادة يحوطني بشملة من فرح تريني وجه المستقبل نظراً بساماً، فوددت لو أستحث الباخرة أن تثب فوق اليم فتجتاز المحيط ساخرة من أنوائه وعواصفه فأصل طفرة إلى حلبة الجهاد والعمل. ثم صمت هنيهة وقال:
لقني مواطني في البرازيل بضع كلمات من لغة البلاد، وبعد أيام معدودات ملأت أكياسي بأنواع من جوارب ومناديل وأدوات زينة أعطانيها تاجر سوري، أطوف بها شوارع عاصمة البرازيل أقرع أبواب المنازل أعرض على رباتها بضاعتي. كنت أحس الشفقة بي والضحك من رطانتي واغتفار جرأتي وفضولي.
كان تقبل البرازيليين إياي على هذا النحو يحز في كبريائي فانتقلت إلى الضاحية. جبت(604/34)
الريف وتوغلت في القرى النائية أسعى على إقدامي، وكلما نقصت بضاعتي كنت أرسل في طلب سواها من عميلي الذي استأمنني ولا ضامن لي عنده سوى أني مواطنه!؟
لله در الأمريكاني يا صديقي من عطوف شفوق! ولكنه طلعة مغامر مراهن تستضيفه فيطعمك ويؤويك، لا عن كرم ولا بدوات خاطر، بل عن فضول حافز ملح إلى الاستطلاع والمعرفة.
(البقية في العدد القادم)
حبيب الزحلاوي(604/35)
العدد 605 - بتاريخ: 05 - 02 - 1945(/)
الشجاعة الأدبية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتبت مقالي السابق بالرسالة أحي ذلك الروح الإنساني الكبير الذي رحل عن الدنيا برحيل رومان رولان
وقد كان للأدباء على ذلك المقال تعقيب يشبه الإجماع، ويتفق كله على تحية ذلك الكاتب العظيم. إلا رسالة واحدة ينزع صاحبها منزعاً، يخالف ما سمعت، وما تلقيت من الآراء في رومان رولان، وفيما كتبت عنه. وخلاصتها أن الأوربيين في حاجة إلى أمثال رومان رولان لقدرتهم على العدوان وإيغالهم فيه، ولكننا نحن الشرقيين أحوج ما نكون إلى التربية الحربية التي نعالج بها الضعيف المقيم، ونحمي بها لحوزة المهددة، وإننا ينبغي أن نتعلم كل ما يحرصنا على منازلة الأعداء ومقاومة المعتدين، ونترك تلك الرسالة التي يبشر بها رومان رولان وأمثاله، حتى يحين موعد الحاجة إليها بيننا نحن الشرقيين
رأى فيه شبهة من الصواب، ولكنها شبهة من الصواب وليست بالصواب في اللباب
لأن الأديب المعترض قد التبس عليه الآمر بين المذهب رومان رولان، ومذهب أولئك القعديين الذين عرفوا في أوربا باسم (الضميريين) من قولهم (إن ضميري يأبى على حمل السلاح ولو دفاعاً عن الأوطان)
فليس رومان رولان من هؤلاء ولا هو ممن ينكرون الحرب حين يفرضها الحق الواجب على المدافعين، ولكنه ينكر البغضاء في سبيل الزهو والطمع، ويرى أن السلاح الآخر ما يعمد إليه الإنسان لعلاج أزمات السياسة، بعد أن تنفذ وسائل الحسنى وحيل السلام
وما دام في الدنيا حرب بغى فالحرب الشريفة مفروضة على الناس لجزاء ذلك البغي ومنعه أن يبلغ مقصده من الغلبة على الآمنين والمودعين. فمن ينكر حرب الإغارة والسطوة لا ينكر حرب المقاومة والدفاع
والفرق عظيم بين من يقول يمنع الحروب وتغليب وسائل السلام، وبين من يرى الحرب الباغية وينكص عن دفعها، لأنه لا يميز بين الاعتداء ورد الاعتداء
بل الفرق عظيم بين أولئك (الضميريين) وبين من يحاربون العنف بالحسنى، لعلهم يخجلون صاحبه، وينهمون فيه تبكيت الضمير، ومن هؤلاء غاندي وتولستوي وطائفة من(605/1)
المصلحين الشرقيين والأوربيين هنا وهناك. وإنهم ليقولوا بالحسنى، ولكنهم لا يتخذون الحسنى عدة في الحروب حين لا مناص من الحروب
ومهما يكن من رأى رومان رولان في ذلك، فليس كاتب هذه السطور بالذي يحمد (الدروشة) الضميرية في هذا المقام، وأقرب الشواهد على ذلك إنني كنت من دعاة المشاركة في الحروب وإن كانت لا توجبها علينا معاهدة من المعاهدات، لأن كفاح الطغيان واجب غنى عن الوثائق والعهود
إلا إن العجيب في كلام الأديب المعترض قوله: إن دعوة رومان رولان وأمثاله قد يحتاج إليها الأوربيون ولا نحتاج إليها نحن الشرقيين
لأن دعوة رومان رولان قائمة على الشجاعة الأدبية وهي الزم ما يحتاج إليه الضعفاء بعد عصور الجهل والظلم والفساد
وإن دعوة الضعفاء الذين طال عليهم مراس تلك العصور لأحوج إلى الشجاعة الأدبية منهم إلى حمل السلاح. لأن الشجاعة الأدبية تشفى أمراض الفساد. كلها وتبدل بها الصحة والسلامة والقوة والكرامة، وليس شيء من ذلك بمكفول من حمل السلاح في أمة تخاف الجهر بالحق ولا تجتري على الباطل، بل لعل السلاح يصيبها قبل أن يصيب أعدائها، كما رأينا في كثير من الدويلات الأوربية والأمريكية والشرقية، حيث يحمل السلاح ولا تعرف الآراء ولا الشجاعة في الآراء
قال أبو الطيب:
والعار مضاض وليس بخائف ... من حتفه من خاف مما قيلا
يريد أن الرجل قد يقدم على الموت ولا يقدم على العار، ويحسب أن العار كله فيما يقوله الناس
فأهون الشجاعات عنده هي الشجاعة على الموت، ثم يجعل الخوف من العار أكرم من الإقدام على الحمام
لكن الحقيقة أن الشجاعة العقيدة ارفع من الشجاعتين بلا مراء، وإن شجاع العقيدة اكرم من الشجاع على الموت، ومن الشجاع الذي يموت لأنه يتقي العار، ويفهم أن العار هو ما يقول الناس إنه عيب ذميم، وأن الشرف هو ما يقوله الناس إنه فضل حميد(605/2)
أكرم من هذا وذاك من لا يبالي بالموت ولا يبالي بما يقوله الناس إذا اعتقد انهم مخطئون فيه
ولا شجاعة في الجري مع القطيع حين يثور ويعدو في الطريق الذي تدفعه إليه الغرائز الهوجاء، ولكن الشجاعة أن يقف الرجل أمام ذلك القطيع ثم يتخلى عن مكانه حتى يصد القطيع أو يغلب على أمره غير مختار عن مكانه ولا ملوم
وهذه الشجاعة الأدبية التي تعلو درجات على شجاعة الموت وشجاعة العار هي الشجاعة التي نتمثلها في رومان رولان الذي يقول: (إن الأيمان - وليس النجاح - هو غاية الحياة)
وهي هي التي نحتاج إليها نحن الشرقيين قبل كل حاجة، ونتحلى بها قبل كل حلية، ونجترئ بها إذا كان لابد من الاجتزاء بفضيلة واحدة من الفضائل تغنى عن سائرها؛ لأن الأمة التي تحسن أن تجهر بالحق وتجترئ على الباطل تمتنع فيها أسباب الفساد، أو يكون مجرد اقتدارها على تلك الفضيلة دليلاً لا دليل بعده على امتناع أسباب الفساد
ومن الخطأ البين أن يقال إن التربية الحربية أو التربية العسكرية تخاف الشجاعة حيث لم تخلق في طباع الأمم جيلاً بعد جيل
وأبين ما يكون ذلك الخطأ إذا قيل أن الضعفاء يتعلمون الشجاعة بتلك التربية الحربية في العصر الحديث على التخصيص
ولا نبدأ بالتعليل قبل أن نمهد له بالإشارة إلى الواقع الذي لا جدال فيه
فهذا مثال الفاشية في إيطاليا غنى عن الإفاضة في مراجعة المثلات وضرب الأمثال؛ لأن الفاشية زعمت إنها تبعت النخوة بعثاً جديداً في بقايا الأمة الرومانية القديمة، وزعم أناس من الشرقيين مثل هذا الزعم فظنوا أن التربية الحربية منذ الصبا الباكر صنعت في الأمة الإيطالية الأعاجيب، وهي خليقة أن تصنع مثل تلك الأعاجيب في النهوض بعزائم الشرقيين، وراح بعض الدعاة يحاكونها محاكاة لا ترجع إلى فهم ولا اختبار، وكل ما كانت ترجع إليه تخيل كاذب ومظهر خلاب
والحق أن التربية الحربية أو العسكرية - كما كانوا يسمونها هناك - كانت أولى بالفلاح في التجربة الإيطالية لو إنها كتبت لها أن تفلح في بلد من البلدان
لأنهم كانوا ينشئون الأطفال عليها من الخامسة، ويتعهدون بها إلى ما بعد العشرين. ومضى(605/3)
على التجربة منذ بدايتها نيف وعشرون سنة بدأت قبل الزحف الفاشي على روما وانتهت قبل الزحف عليها بجيوش الخلفاء الديمقراطيين
فماذا أفاد كل ذاك؟
لقد كان أولئك الجنود الفاشيون اسبق المقاتلين إلى الفرار في ميدان الصحراء وفي ميدان اليونان، وكانت هذه التربية مجبنة لهم ولم تكن سبيلاً إلى الشجاعة ونهوض العزيمة، لأن العزيمة والجفجعة قلما تجتمعان
ثم ذهب موسيلني - إمام الفاشية - بين عشية وضحاها فلم يسرع إلى نجدته أحد من جنوده في طول البلاد وعرضها سواء ما وقع منها في قبضة الحلفاء الديمقراطيين، وما بقي منها في قبضة الألمان النازلين، وجاءه المدد حين جاءه من هؤلاء ولم يجئه من أبطاله الذين دربهم على نظامه سنوات بعد سنوات
وتعليل ذلك غير بعيد على من يكلف نفسه مؤونة النظر وراء المواكب والصيحات، أن لشجاعة خلق من الأخلاق، وليست نظاماً من النظم المدروسة، وكل خلق من الأخلاق فلابد له من الشعور بالتبعة ومن الحرية التي يقتضيها الشعور بالتبعة، لأنك لا تحمل الإنسان تبعة خلقية وأنت توثق مشيئته بوثاق الطاعة العمياء، ولا تعود خلقاً قط، وهو ملقى التبعة على السواء
وأظهر من هذه العلة البديهية علة الإحجام عن معونة الدولة المدبرة ومن حولها أولئك الأنصار الناشئون على يديها
فإن جنود الفاشية قد نبتوا في حمايتها وقاموا على يديها، فهي التي تحميهم وهي القوية وهم العاجزون أن يحموها يوم تزول عنها القوة. ومن قام على يد فهو يضرب بها ولا يضرب دونها، ويسقط معها ولا يقيمها بعد سقوطها
وهكذا صنع الجنود الفاشيون بالدولة الفاشية، وهكذا يصنع أمثالهم بأمثالها في كل زمن وبين كل قبيل
فالتربية على الشعور بالتبعة - أو على الشجاعة الأدبية بعبارة أخرى - هي حاجتنا اليوم نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وأمثولة رومان رولان ألزم لنا من أمثولة العسكرية المزعومة التي رأينا قصارى جهدها في تاريخ قريب لا تزال نشهده، ولا حاجة(605/4)
بنا إلى التاريخ البعيد.
عباس محمود العقاد(605/5)
أبو العلاء المعري
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 2 -
عبقرية عربية نثرت فبهرت، ونظمت فعجبت، وفكرت فحيرت، أبدعت وتفننت إذ قالت وألفت فأدهشت. وعلمها في كل فن من فنون اللغة علم إحاطة، علم ألحفي المحيط لا العالم النتفة. وإذا لم نر (الأيك والغصون) - وهو نحو من مائة جزء - وغير الأيك والغصون، ومؤلفات الشيخ كثير فقد رأينا المطبوعات المعروفات، واستدللنا بما حضر على ما غاب، ولم نستبعد ما روى ابن القارح في رسالته: (الشيخ بالنحو اعلم من سيبويه، وباللغة والعروض من الخليل) ووجدنا أبن القارح هذا من المقتصدين حين يقول:
(. . . لقد سمعت من رسائله غقائل لفظ، إن نعتها فقد عبتها، وإن وصفتها فما أنصفتها. وأطربتني (يشهد الله) إطراب السماع، وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا، ويرجع إلى هذا. . . لكان عجيبًا صعباً شديداً. ووالله لقد رأيت علماء، منهم ابن خاوية، إذا قرأت عليهم الكتب ولاسيما الكبار رجعوا إلى أصولهم كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط. والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه لأسماء الرجال والمنثور كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم. وهذا سهل بالقول، صعب بالفعل، من سمعه طمع فيه، ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه)
وإني لأقول: إنه لمن النادر الغريب أن يختار الأديب عبقرية نثرية، وعبقرية شعرية، كما احتاز هذا الشيخ: وإذا كانت الإجادة لا تتفق في فني المنظوم والمنثور معاً إلا لأقل - كما قال ابن خلدون - فكيف حال العبقرية؟ وهذان الشاعران العبقريان أبو يمام والمتنبي لم ترو لنا كتب الأدب والسير من نثرهما إلا رسالة قصيرة للأول سطرها البديعي في (هبة الأيام)، ورسالة أقصر منها للثاني أوردها ابن خلكان في (وفيات الأعيان). وأما البحتري المسكين. فكان لا يستطيع أن يخط في النثر سطراً، وإذا خاطب أحداً في شأن وجه إليه شعراً. قال الشيخ في إحدى رسائله: (روى أن البحتري كان لا يقدر على كتب رقعة، فيجعل المنظوم عوضاً عن المنثور)
وآلية محلوفة بالقرآن وإعجازه، لو أن هؤلاء الشعراء الثلاثة، وهم عند ابن الأثير وغير(605/6)
ابن الأثير أشعر العرب (هؤلاء لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته) مشوا في عرض (العروض) المتشعبة، ومناحي (النحو) المتفرقة المتصعبة، كما مشى الشيخ، ونقبوا مثلما نقب، واستظهروا من مقالات الفلاسفة والمتكلمين ومصنفات الفقهاء، أهل النحل بعض ما استظهر - لأجبلوا إجبالاً أو غث كلامهم أو جاؤا في القريض قرازيم. لكن عبقرية الشيخ قوية جنية قد تسيطرت على كل فن، ولم يسيطر عليها فن، ولم ينزل نضيمها ونثيرها من عليائهما في وقت، ولم تتبدل لهما ديباجة أو بهجة.
إذا قال أبو الطيب:
ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
فنط وشط وبدت (فأعلن) في العروض (فأعلاتن)
في حين أن المتنبي - كما قال الشيخ -: (كان شديداً التفقد لما ينطق به من الكلام؛ يغير الكلمة بعد أن تروى عنه، ويفر من الضرورة وإن جذبه إليها الوزن).
وإذا قال (الوليد) البحتري:
وكأن الأيام أوثر بالحسن عليها يوم المهرجان الكبير فكسر وجاء نقص من الزيادة.
وإذا قال حبيب بن أوس:
بالقائم الثامن المستخلف اتطأدت ... قواعد الملك ممتداً لها الطول
فتهور البيت في اللغة بـ (اتطأدت) ولم يتطد.
إذا جازف في اللغة المجازفون، وطفف المطففون (ويل للمطففين) فعند الشيخ الموازين القسط، عنده القسطاس المستقيم، وميزان الصيدلاني الحكيم.
(موازين صدق، كلها غير عائل)
نثر أبو العلاء مترسلاً ومسجعاً، فبذ الناثرين في وقته ومن بعده كلهم أجمعين، وشعر فتبدى في سماء القريض شمساً علائية لا تأفل ما كان القرآن، وكان هذا اللسان المبين.
ولقد أصاب الشيخ وأطاب حين حاش في رسائله ودواوينه وكتبه الكلمات الغريبات، فجمع نادات شاردات لم نر الكثير منهن في معجم من المعجمات. وإن عربيات قديمات نشأن في (الجزيرة) مع أخوات لهن - لحربات أن يظهرن وأن يعرفن. وقد برع أبو العلاء إذ نص(605/7)