الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
(تتمة)
ألغاز منثورة
لم تسلك الألغاز سبيلها إلى النثر الفني كغرض من أغراضه إلا في عصور الأدب المتأخرة عندما انحط الشعر والنثر جميعاً. فخاض الأول مجارى ضحلة من الأفكار والأخيلة والأساليب، وتهافت إلى معان ضئيلة ليس أدل على مبلغ ضؤولتها من أنهم لم يكونوا يصوغونها في أكثر من أبيات لا تتجاوز في تحديدها (البضع)؛ يضمنونها من متكلف التورية ومستكره الطباق والتجنيس ما قد يكون توفر لديهم في لحظات تفكيرهم الآلي، واعتكافهم الطويل على تصيد الألفاظ من معجماتها. فاقتحم النثر على الشعر حرمه وقد زايلته قداسته، وشاركه سائر فنونه وأغراضه. ولم يبق إلا أن يجوس معه خلال مجاهل الألغاز التي حلا لأكثر الشعراء المتأخرين أن يلتاثوا فيها. . . وهكذا نجد الألغاز المنثورة منحصرة في هذا النوع المريض الدنف. . . المتحامل على سندٍ واه من أغراب لفظ، أو لي تركيب، أو تعمية إعراب، أو تصحيف أو تحريف أو عكس أو قلب أو غير ذلك
ومن أمثلته قول الصاحب بن عباد لأبي العباس الحارث في يوم قيظ: ما يقول الشيخ في قلبه؟ أراد قلب (الشيخ) وهو (خيش)
ومن طريف الألغاز المنثورة قول العماد الكاتب للقاضي الفاضل: (سر فلا كبا بك الفرس) فهذا الكلام إذا قوى معكوساً - بالابتداء من آخر أحرف الفرس - حصلنا منه على العبارة بنصها! ويناظره جواب القاضي الفاضل على دعاء العماد بقوله: (دام علا العماد)
ومن رسالة لفضل الله بن عبد الرحمن بن مكانس ملغزاً في الورد: ما عاطل تتحلى به المجالس، ويتفكه به المجالس، تحمر وجناته من الشرب، وتحمد آثاره في البعد والقرب. . . إن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمراً بالشراب، وإن فعلت كذلك في ثانيه رأيت ما بقى يؤكد المحبة بين الأصحاب. و (وَرّ) إن حذفت آخره كمن ورَّى، وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج (درا). . .(570/28)
وكتب بدر الدين بن الدماميني من لغز في (روضة): ما قول مولانا أبقاه الله تعالى. . . في دار ينعم بها الجاني، وتطرب في مرابعها الألحان المغنية عن المثالث والمثاني. . . طالما تحركت بها السواكن وهاجت البلابل، ونهر من سأل عنها فاستعذب نهرها السائل. . . إن عرف لفظها كان علماً لمحل لا يطرقه محل، ولا ينكر تأنيثه فحل. يحدث المصري بحلاوته، ويخبر عن لطفه وطلاوته. وإلا فعلم على جملة يعرفها الطالب ويستحسن ارتكاب المهالك لينال ما فيها من المطالب. قد فتحت لأرباب المقاصد أبوابها، ومنحت الأفهام الضالة هديها وصوابها. . . الخ
ونحن لا نطيل بإيراد الأمثلة من هذا الباب وإنما نترك للقارئ أن يطلب المزيد منها - إن شاء الله - في مظانها ومواطن طلبها من مجاميع الأدب المتأخرة. . .
تتمة في الملغزين وبعض تصانيفهم
نختم هذا البحث بذكر بعض من كانت لهم شهرة الاختصاص بالألغاز وسمة البراعة والحذق فيها، دون من ألموا بها غير مكثرين، في أشعارهم أو تصانيفهم، كأكثر الذين أشرنا إليهم. فمن برزوا في هذا الفن: الحسين بن علي المعروف بالنديم قال ياقوت: (كان أديباً كاتباً شاعراً له اليد الطولى في حل الألغاز العويصة)، ومن طريف أمره أنهم وضعوا له أبياتاً على صورة الألغاز ولم يلغزوا فيها - يختبرون بذلك فطنته - فقالوا له:
وما شئ له في الرأس رجلٌ ... وموضع وجهه منه قفاه
إذا غمَّضت عينك أبصرته ... وإن فتحت عينك لا تراه
ونظموا له أيضاً:
وجارٍ وهو تيار ... ضعيف العقل خوار
بلا لحم ولا ريش ... وهو في الرمز طيار
بطبع بارد جداً ... ولكن كله نار
فقال عن الأول إنه طيف الخيال وعن الثاني إنه الزئبق؛ وعلل إجابته في ذلك بكلام مقنع!
وبرع في هذا الفن أيضاً محمد بن أحمد الهاشمي الملقب أبي العبر، له فيه طرائف أورد ياقوت كثيراً منها في معجمه وذكر أيضاً عن محمد بن سعيد الموصلي أنه كان (ذكياً فهماً إماماً في استخراج المعمي والعروض)، ووصف ابن عنين الدمشقي بقوله: (لغوي أديب. .(570/29)
برع في الشعر وحل الألغاز)
وممن اشتهر بالألغاز في مصر تاج الدين محمد بن أحمد الدشنائي (646 - 722). ذكره تلميذه كمال الدين الأدفوى في الطالع السعيد فقال: (كان لشيخنا تاج الدين يدٌ جيدة في نظم الألغاز والأحاجي وحلها) ثم أورد بعض ألغازه شعراً. وتحدث أيضاً عن الشريف فتح الدين علي بن محمد القنائي (المتوفي سنة 708) فقال: (وله يد عليا في حل الألغاز وله فيها نظم كثير. كان شيخنا تاج الدين الدشنائي يكتب إليه بالألغاز ويحلها، وكذلك علم الدين يوسف بن أبي المنا) وذكر عن هذا الأخير - وقد توفى عام 728هـ - أنه كان ذا (معرفة جيدة بحل الألغاز والأحاجي، ونظم فيها أشياء كثيرة) ثم أورد له شيئاً من كلامه
وممن لهم تصانيف في الألغاز أشارت إليها المصادر الأديبة - وإن لم يصلنا أكثرها -: ثابت بن قرة مؤلف رسالة السبب الذي لأجله ألغز الناس في كلامهم؛ وأبو الحسن بن كيسان النحوي صاحب كتاب (المعمى)؛ ومحمد بن أحمد ابن طباطبا صاحب كتاب المدخل في معرفة المعمى من الشعر؛ ومحمد بن أحمد الكاتب المعروف بالمفجع، وله كتاب: الترجمان في الشعر ومعانيه، يشتمل على ثلاثة عشر حداً آخرها حد للغز. وللحسن بن أسد الفارقي كتاب في الألغاز؛ والزمخشري صاحب الكشاف وأساس البلاغة معروف أيضاً بكتابه: الأحاجي النحوية. وقد قام الإمام السخاوي (أبو الحسن علي ابن محمد) بشرح هذا الكتاب. قال السيوطي في بغية الوعاة: وله من التصانيف - يعني السخاوي - شرح أحاجي الزمخشري النحوية، من أجل الكتب في موضوعه، والتزم أن يعقب كل أحجيتين للزمخشري بلغزين من نظمه
إلى هنا نقف الحديث. ونحن لا نحاول أن نستوعب أو تستقصي في مثل هذا المبحث المستفيض؛ وإنما نضع أمام القارئ خلاصة نرجو أن تكون وافية ملمة من الموضوع بأكثر أطرافه. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة(570/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
560 - أغذية السوء كالذنوب
أبو القاسم السميسر:
يا آكلا كلَّ ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني ... فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يوم ... أغذية السَّوء كالذنوب
561 - الخليفة يدعو لطبيبه النصراني في عرفات
(عيون الأنباء): قال اسحق بن علي الرهاوي في كتاب (أدب
الطبيب): عن عيسى بن ماسة أن يوحنا بن ماسويه أخبره أن
الرشيد قال لجبرئيل بن بختيشوع وهو حاج بمكة: يا جبرئيل،
علمت مرتبتك عندي؟ قال: يا سيدي، وكيف لا أعلم؟! قال له
دعوت لك (والله) في الموقف دعاء كثيراً. ثم التفت إلى بني
هاشم فقال: عيسى أنكرتم قولي له، فقالوا: يا سيدنا، ذمى،
فقال: نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه، وصلاح المسلمين بي.
فصلاحهم بصلاحه وبقائه. فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين
562 - وما ننفض من حولك
كان أحمد بن أبي خالد وزير المأمون فاضلاً مدبراً جواداً ذا رأي وفطنة، إلا أنه كانت أخلاقه سيئة
قال له رجل يوماً: والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله(570/31)
فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك
قال: قال الله تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)
وأنت فظ غليظ القلب، وما ننفض من حولك
563 - فيم اقتحامك؟ - أريد بسطة كف
دخل الشيخ عبد الرزاق الشيبي على الحسن بن أبي نمي شريف مكة يستأذنه في السفر وركوب البحر، فأنشده الشريف قول الطغرائي:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه مَصّة الوشل؟
فأنشده الشيخ على البديهة من القصيدة:
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلي قبلي
فأمر له الشريف بقضاء دينه، وأمر له بألف أحمر، وترك الشيخ السفر
564 - مشيت في مكرمة
في (تاريخ بغداد) بينا أبو السائب المخزومي (عبد الله ابن السائب) في داره سمع رجلاً يتغنى بهذه الأبيات:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
حسبي بأن تعلمي أن قد أحبكم ... قلبي وأن تجدي بعض الذي أجد
ألقيت بيني وبين الحب معرفة ... فليس تنفد حتى ينفد الأبد
وليس لي مسعد فامنن على به ... فقد بليت وقد أضناني الكمد
فخرج أبو السائب من داره يسعى خلفه، فقال له: قف، أنا مسعدك، إلى أين تريد؟ قال: إلى خيام الشعف من وادي العرج، فأصابتهما سماء شديدة فجعل أبو السائب يقرأ: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)
ثم رجع إلى منزله وقد كادت نفسه تتلف، فدخل عليه أصحابه وإخوانه فقالوا له: يا أبا السائب، ما الذي تصنع بنفسك؟ قال: إليكم عني، فإني مشيت في مكرمة، وأحييت مسلما، والمحسن معان. . .(570/32)
جمال وشوك
(إلى أخي الصابر الراضي الأستاذ محمد سعيد العريان)
للأستاذ محمود الخفيف
ياَ حُسْنَها تُعْجِبُ مَنْ ينظُرُ ... صَبَّارَةٌ يا طُولَ ما تَصْبِرُ!
ظَامِي الْحَصَى مَنْبِتهُا مُقْفِرُ ... لاَ نَبْعَ يُرْجَى حَوْلهَا أو يُرَى
إلا لَمِاماً عَارِضٌ مُمْطِرُ
لولاَهُ ما إِنْ عَرَفَتْ مَوْرِدا ... قَدْ حُرِمَتْ في القَفْرِ حتَّى النَّدَى
عَزِيزةٌ تحْيا بِرَغْم الصُّدى ... كَمْ أَشْبَهَتُ في عَيْشِها حُرَّةً
العارُ تَأْبَاهُ وَتَرْضى الرَّدى
مُحْصَنَةٌ ما داعَبَتْها الرِّياحْ ... ولاَ ثَوَى في فَرْعِها ذو جَنَاحْ
لها مِن الشَّوْكِ رهيبُ السِّلاَحْ ... كأنما العِفّةُ لم تَكْفِها
فاتّخَذَتْ أُهْبَتَها للِكفِاَحْ!
واعَجَباَ! أَغْصاَنُهاَ كالنِّصاَلْ ... لَكنما رَفَّ عَلَيْهاَ الجَماَلْ
ما شاَبَ هذا الحُسْنَ قَطُّ ابِتذَالْ ... فَماَ تَراهاَ العَيْنُ مَيَّاسَةَ
تَأَوَّدَتْ في نَزَقٍ أو دَلاَلْ
وحِيدَةٌ أَفْرَدَهاَ الموْلِدُ ... يَتِمَةٌ ماَ هَدْهَدَتْهاَ يَدُ
بالْيُتْمِ لاَ تَشْقَى ولاَ تَسْعَدُ ... ماَ عَرَفَتْ في قَفْرِها راعِيًا
أَو أَسْخَطَتْها عِيشَةٌ أَرْغَدُ
نَعْماَؤُها أَنْ تَجهَلَ الأَنْعُماَ ... وغايَةُ الشِّقَوةِ أَنْ تَعْلَماَ
مَنْ عَيْشُهُ الحِرْمَانُ لَنْ يُحْرَما ... ومَنْ يَعُبُّ الماَء في وفْرَةٍ
كانَ حَرِيَّا أَنْ يُحِسَّ الظما
وحْشيّةٌ ما اتخَذَتْ مِن حُلىً ... إلا التي تَنْسِبُها للِعُلى
ياَ رُبَّ حُسْنٍ إذ يُرَى عاطِلا ... أَصالةُ السِّحْرِ به أَبْرَزَتْ
جَمَالَهُ فَهْوَ يُرَى أَجْمَلاَ
في غَيْرِهاَ إِنْ رَفَّ خُلْوُ الزَّهَرْ ... أَو لاَحَ لِلْعًيْنِ شَهِىُّ الثّمَرْ(570/33)
أَذْهَلَ هَذَا عَنْ سِوَاهً البَصَرْ ... كم زينةٍ في العَيْنِ بَرّاقةٍ
زاغَتْ بها الأبصارُ عَمَّا استَتَرْ
صَبَّارَتي شَقّتْ عَلَيكِ الحياة ... لَكِنّما جُنِّبْتِ أَيدِي الجُناةْ
في وحْشَةِ البِيدِ أَطيلي الصَّلاَة ... زاهِدَةَ الصَّحْرَاءِ لا تحْزَني
ياَ رُبَّ بُؤْسٍ كان فيه النَّجاةْ
يا شَوْكةَ الصَّحْراءِ لَنْ تَعْدِمي ... رِعايةً مِنْ رَبِّكِ الأكْرَمِ
في كَنَفِ البارِيْ لَمْ تَيْتَمِي ... الخالقُ الرزَّاقُ لوذي بهِ
في عُزْلَةِ الصحراء واسْتَعْصِمِي
كم رَاعَني فِيكِ صَريمُ الإبَاءْ ... وتُضْرَةُ العوِد برَغْمِ الشَّقَاءْ
وبَسْمَةٌ فيها الرِّضا والرَّجاءْ ... وَرَوعةُ الحُسْنِ وزَهْوُ الصبَاَ
والطُّهْرُ والعِصْمَةُ والكبرياءْ
صَوَّرْتِ ياَ صَبَّارَتي الناضرةْ ... إِنسِيَّةً كالظبْيَة النَّافِرة
قاَسِيَةٌ شَوْكاتُها زاجِرَه ... رَيَّانةَ العًودِ عَلَى بُؤْسها
ضاحكةً رائعةً ساحِرَه
في نَشْوَةِ المُبْتَهل الزاهد ... وفي خُشُوع الرَّاكعِ السَّاجِدِ
جَلَسْتُ في الصَّحرْاءِ كالعابد ... أَرنو إلى زاهِدَةٍ سبّحَتْ
لله في محرابه الخالد
يا حُسْنهَاَ كم تُعْجِبُ الناظرين ... صَبَّارَةٌ: لَفْظٌ ومعنى مبين
ذكّرْتِ يا عصماءُ قلبي اليقين ... ما أًنتِ يا صَبَّارَتي صُورَةٌ
أَنتِ خَيَالُ الصَّبْر للموقنين(570/34)
البريد الأدبي
على هامش الشعر الجديد
اطلعت في (568) من الرسالة على كلمة للأستاذ الفاضل حبيب الزحلاوي، يعلق بها على قصيدة للدكتور بشر فارس، نشرت في مقتطف مايو. قال الأستاذ: (قرأت القصيدة ثم قرأتها مرات، ثم أعدت قراءتها في أوقات متفاوتة. وكنت عقب كل قراءة، أعود بالخيبة من عدم الفهم؟!. . .). ثم قال إنه يشرك قراء الرسالة معه في قراءة هذه القصيدة، ويتعهد بجائزة مالية. . . ولا يستثنى قراء العربية في سوريا ولبنان وفلسطين والحجاز والعراق. . . الخ.
ولقد طمعت في الجائزة، فأكببت على القصيدة، ممعناً فيها، مقلباً فيها النظر ساعات بعد عاسات؛ فكنت أبوء بالخيبة بعد كل محاولة. ولا غرو أن تنبو العقول عن مثل هذا التخليط والعبث!
ثم إني قلبت صفحات العدد نفسه من الرسالة، فإذا أنا أمام قصيدة عنوانها: (من خريف الربيع) - وما أكثر أمثالها! - فتلوتها، ثم تلوتها، ثم تلوتها، فوجدتني أكاد أكون في مثل موقف الأستاذ الزحلاوي من قصيدة بشر فارس فقلت: فألجأ أنا أيضاً إلى قراء العربية فأستعين بهم؟
فليتفضل منهم متفضل، فيشرح لي هذه القصيدة شرحاً تلتئم به أجزاؤها، وتتجمع أوصالها، وتتكشف به غرائب مجازاتها، وعجائب استعاراتها، وبدائع أسرارها؛ حتى تعود كوناً متماسكا ذا قوام.
إني إلى هذا لشديد العطش.
(ا. ع)
جائزة الزحلاوي
رصد الأستاذ الزحلاوي جائزة مقدارها خمسة جنيهات مصرية لمن يفسر له قصيدة كان الدكتور بشر فارس قد نشرها في المقتطف، وقد أغرتني قيمة الجائزة ودفعتني إلى محاولة تفسير القصيدة لأنال جنيهات الزحلاوي، والحق أنني وقفت أمام القصيدة طويلاً وما(570/35)
استطعت - علم الله - أن أظفر منها بمعنى مفهوم أو خاطر واضح. القصيدة كلام يوهم أنه ذو معان فلسفية عميقة، وليس بها معان على الإطلاق، إلا ما كان من المعاني الفردية للكلمات
(القاهرة)
مصطفى علي عبد الرحمن(570/36)
(الشعر الجديد) لا (شعر الشباب)
معاذ الله أن يكون الشباب هدفاً مقصوداً في هذه المعركة، وإنما هو الشعر الجديد شباباً كان قائلوه أو شيباً. وما علاقة العمر بقديم الشعر وجديده؟ وهل اخترم طرفة وأبو تمام إلا وشبابهما في عنفوانه؟
ولو أنك رجعت إلى كلمات الأستاذ الكبير (ا. ع) في هذا الموضوع لوجدت عنوانها (الشعر الجديد)، وكذلك عنوان مقالي في العددين 568 و569 من الرسالة
نعم إن الأستاذ الكبير قال في إحدى كلماته: (ولكنهم كلهم - أو جلهم - أحداث أو أشباه أحداث). ولكنك لو تدبرت هذه العبارة لم تجد فيها ما يفهم أن شعراء الشباب كلهم - أو جلهم - مجددون، وأسارع إلى الاحتراس فأقول: (على النحو الذي فصله الأستاذ في كلماته عن مذهبهم في التجديد)، ثم إن الأستاذ يقول أيضاً: (وهل في كلامي ما يشير أو يدل على أني أجحد شعراء الشباب عامة؟ لا يا سيدي. إني حكمت على فئة كبيرة تسنى لها بعوامل مختلفة أن تنشر شعرها بين ظهرانينا. وهو شعر هزيل في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه؛ فليس معنى هذا ألا يكون من بين شعر هؤلاء الشباب ما يستجاد أو يستملح. . . الخ.)
إذن فمن الذي أقحم لفظ (الشباب) في هذه الأحاديث؟ إنهم أنصار الشباب أنفسهم، فهم الذين كتبوا (شعراء الشباب والأستاذ الجليل) و (حول شعراء الشباب) و (شعراء الشباب) و (لقد ظلموا شعراء الشباب) و (حول شعراء الشباب) و (حول شعر الشباب). وغير ذلك
لسنا ننكر أن أكثر النظامين لهذا الشعر الجديد من شباب الشعراء، ولكننا لا ننكر أيضاً أن من الشباب من لم يفتنهم هذا التجديد المزعوم، بل إن من هؤلاء المجددين أنفسهم من ينزع عنه - طوعاً أو سهواً - في بعض الأحيان ثوب التجديد الخادع، وحينئذ ترى من شعره ما يروقك ويعجبك. وهذا هو الذي أشرنا إليه في حديثنا عن بعض مواضع الحسن في قصيدة الشاعر علي شرف الدين، وإذن فليس للأستاذ البشبييشي على حجة إذ يقول: (. . . إذا أخطئهم النسج القوى وصفتم شعرهم بالسخف والفتور؛ وإذا راعكم منهم البيان الجزل قلتم: هذا من الشعر القديم)
ومن العجيب أن أنصار هذا الشعر يقحمون في ثبت شعرائه أسماء لا تمت إلى جديدهم بصلة، بل إننا لنقرأ شعرهم فنستعذ به ونستملحه كما نستعذب ونستملح شعر المجيدين من القدماء(570/37)
أما الغموض الذي أخالف فيه أستاذي، وأما (معنى التجديد) الذي يتساءل عنه ولده الأديب (حسين) فحقهما التفصيل في بحث قريب إن شاء الله
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
اللهجة المصرية وصلتها باللهجات المغربية
بين اللهجات المغربية واللهجة المصرية وجوه شبه في أصوات الحروف، فالثاء في الأولى تبدل تاء كما يبدلها المصريون في ثلج وثوب وثوم وثور وكثير. ومثلها الذال إذ يحول إلى دال مهملة في نحو الذهب ويذوب ويذوق. كذلك الظاء فإنها، تنقلب إلى ضاد كما في نطق المصريين الظهر وظفر ونظيف
وبعض القبائل العربية في المغرب تتلفظ بالقاف على النحو المعروف في صعيد مصر، وقد تمكن هذا النطق في اللهجات المحلية الأخرى حتى تأصل فيها
وكما أن معظم المصريين يبدلون القاف همزة، فكذلك يصنع سكان المدن المغربية مع تفاوت في الصوت، أي الترقيق والتفخيم
والجيم المصرية لها أيضاً نصيب من الانتشار في الأقاليم المغربية؛ إلا أن دائرة انتشارها محدودة لا تتعدى بضع مفردات من جملتها: يجازي ويجوز وجوز وجزار. وأصل هذا النطق يمنى يحتمل أن يكون قد انتقل إلى مصر عن طريق الخزرج الذين وفدوا إليها من المدينة يؤيد هذا ما رواه ابن دريد من أن اليمنيين يقولون للرجل ركل وللجمل كمل
أما كيفية انتقال طريقتهم في النطق إلى المغرب فهي أن فريقاً منهم استوطن مدينة سرقسطة بعد فتح الأندلس ثم توالت هجراتهم إلى عدوة المغرب حيث خلفوا أثرهم إلى اليوم
والملحوظ في لغة المصريين أنهم يقدمون حرفاً ويؤخرون حرفاً في قليل من الكلمات، كما في يفحر ويجوز وأنارب واتغاظ، فأصلها يحفر ويزوج وأرانب واغتاظ، ومثلهم تصنع فئة من المغاربة في السجادة وبلهاء ودجاج؛ يقولون: السداجة وبهلاء وجداد
وفي الأحاجي الشائعة بين القبائل في جبال أوراس غربي الجزائر ذكر لمصر والنيل مثل(570/38)
ما جاء في أحجية المرارة:
سجرتنا سجرة النيل ونابتة في هواها،
لا سطحها الريح ولا شربت ماءها
وأحجية الخرشوف:
على سجرتنا سجرة النيل نابتة في هواها
أولادها ستة وستين يرضعوا في قناها
وأحجية المطمورة:
بغلتنا مصرية (أي كبيرة) ترفد مائة صاع (حمل) بلا حوية (بردعة)
على أن اللهجة المصرية لم تخل من تأثير مغربي فيها، فأهل الإسكندرية يضيفون النون إلى أول الفعل في حالة المفرد المتكلم، فيقولون: (نسافر) بدلاً من أسافر؛ ثم يتبعون الفعل بالواو إذا تحدثوا عن أنفسهم، فيقولون (إحنا بنسافرو)
وهذا النهج في التعبير من خصائص اللهجة المغربية والأندلسية، لعل المهاجرين من أهل الربض في عهد الحكم أو الفاطميين من بعدهم حملوها معهم. ومن هذا القبيل لفظتا (الكسكسي) و (البلغة) فإن لهما شهرة في المجتمع المصري غنية عن التعريف.
أحمد مدينة
ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول(570/39)
العدد 571 - بتاريخ: 12 - 06 - 1944(/)
السطحيون أو الكتعاء
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني في البريد مقال مطول قال مرسله إنه نشره في بعض المجلات نقداً لكتابي عن عمرو بن العاص في سلسلة أعلام الإسلام
وخلاصة المقال بعد كلمات لا تقدم ولا تؤخر أن مؤلف عمرو بن العاص (غلب على العرض عنده أسلوب الصحافة، والاكتفاء بالاسترسال دون التحري والتحقيق، وأن مراجعه محدودة، وأن بعض أحكامه يعوزها التحري، وأن السطحية وقلة العناية بالتحقيق تبدو في مواضع غير قليلة من الكتاب) إلى آخر هذه التهم التي تتردد بتوكيد ليس بعده توكيد وثقة ليس من ورائها ثقة، واطمئنان يفوق كل اطمئنان
ولغير دليل يقال هذا كله اللهم إلا الأدلة التي من قبيل قول هذا العميق الكثير المراجع حيث يقول: (يرى القارئ الاختصاصي في تاريخ الإسلام أن المؤلف أخطأه التوفيق في مواقع، وأن مراجعه محدودة، وأن بعض أحكامه يعوزها التحري. مثال ذلك ما كتبه في تردد عمر بن الخطاب في تسيير عمر ولفتح مصر، فقد زعم المؤلف أن عمر لا يرى داعية للحرب إلا درءاً لخطر أو قصاصاً من عدوان، وهذا غير صحيح. فليس معروفاً أن فتوحات العرب كانت للدفاع أو للانتقام فقط. وإلا فأين الجهاد لإعلاء كلمة الله؟ وأين الأسباب الاقتصادية البحتة التي تتجلى في بعض ما كتبه المؤرخون العرب؟ ففي فتوح البلدان للبلاذري قالوا لما فرغ أبو بكر من أمر أهل الردة رأى توجيه الجيوش إلى الشام فكتب إلى مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستفزهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم فسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل أوب. . .)
فالعلامة العميق، الكثير المراجع، قد حسب أنه وقع على المراجع التي لم يقع أحد عليها لأنه قرأ في فتوح البلدان ذلك الكلام، وقد حسب أن أحداً من الناس لا يعلم أن أبا بكر استنفر المسلمين للجهاد بغير هذا المرجع الفريد الوحيد البعيد عن كل قارئ مستفيد
ونحن أيضاً قد فاتنا هذا كما فات كل قارئ مستفيد
فاتنا أن نعلم أن أبا بكر استنفر المسلمين للجهاد ونحن نؤلف كتاباً في تاريخ محمد عليه(571/1)
السلام، وكتاباً في تاريخ الصديق، وكتاباً في تاريخ عمر، وكتاباً في تاريخ علي بن أبي طالب، وكتباً أخرى في تاريخ صدر الإسلام. فلم يفتح الله علينا بكتاب واحد في أثناء ذلك كله يقول لنا إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قد استنفر المسلمين للجهاد. . . ولهذا نحن سطحيون قليلو المراجع. . . وحضرة الناقد بفتوح بلدانه وحدها عميق يعلم ما لا يعلم إلا بالجهد الجهيد
حضرة الناقد العميق إذن مسئول، وله الفضل والكرامة، أن يدلنا على كتاب واحد - واحد فقط - تلقيناه عن تاريخ صدر الإسلام ولم يذكر هذا الذي ذكره واستدل به على كثرة مراجعه وقلة مراجعنا. . . نحن المساكين السطحيين
نعم كتاب واحد لم يذكر هذا الذي ظنه كنزاً مخفياً لا يعثر به العاثرون إلا بعد فك الأرصاد وإطلاق البخور والتنقيب في كل رف مسحور وكل سرداب مطمور
وما قول صاحبنا بعد هذا في رسائل الصديق نفسها وهي تدل على مكان الغنائم من ترغيب المسلمين في الجهاد؟
قال في رسالة (سارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه، ولتحسن نيتكم فيه، فإنكم إلى إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة)
ولكنه قال في رسالة أخرى: (فاستتموا موعد الله إياكم، وأطيعوه فيما فرض عليكم، وإن عظمت فيه المثوبة، واشتدت فيه الرزية، وبعدت فيه الشقة، وفجعتم في ذلك بالأموال والأنفس، فإن ذلك يسير في عظيم ثواب الله!)
فهي أسباب اقتصادية بديعة تلك التي نتقدم عليها الفجيعة في الأنفس والأموال وتعظم فيها المثوبة وتثقل الرزايا!
وأيا كان غرض الجهاد مع هذا فليس الأمر موضع شك في فريضة الجهاد على المسلمين، وليس في السامعين باسم الإسلام من يجهل أن الجهاد مفروض على المسلم في حالة من الأحوال، بل المبالغة التي أربت على كل مبالغة في حديث الأقوام عن الإسلام أنه دين السيف كما يقولون
إنما المسألة هي موضع الجهاد لا وجوب الجهاد في بعض الأحوال، والذي ننكره كل الإنكار أن المسلمين يقاتلون لغير ضرورة ويحملون السيف في غير موضع السيف، ولسنا(571/2)
نحيل صاحبنا العميق إلى مراجع الرف المسحور أو السرداب المطمور، ولا إلى ما كتبناه في وصف عمر أو وصف الصديق، ولسنا نكلفه شيئاً أكثر من فهمه للكتاب الذي ينقده بل للفصل الذي يشير إليه، بل لأول جملة فيه، حيث نقول: (كان الصدام بين العرب والدولة الرومانية قضاء موعوداً منذ اللحظة التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية وكتب لها البقاء. لأن الإسلام رسالة تتجه إلى أسماع الناس وقلوبهم، والدولة الرومانية سلطان قائم يحول بين رسالته وبين الأسماع والقلوب، فلا مناص من التقائهما يوماً من الأيام، على سلام أو على خصام، وهما إذا التقيا على خصام أو على سلام دخل الإسلام مصر مدافعاً أو غير مدافع، ويفتح الإسلام مصر على كلتا الحالتين: فتح رضوان أو فتح تسليم)!
فنحن إذن يا شاطر يا عميق! لسنا بسطحيين إلى هذه الدرجة، وفتوح بلدانك يا شاطر يا عميق ليست بالمرجع الذي نحتاج إليه أو يحتاج إليه أحد ليعلم ما يعلمه جميع المنصفين إلا أمثالك من العمقاء الكثيري المراجع!! وهو أن الجهاد واجب إذا اضطر إليه المسلمون، وليس بواجب ولم يجب قط في غير هذه الحال
وهل نحن سطحيون قليلو المراجع لهذا دون غيره أيها القراء؟
معاذ الجهل والجهلاء والكتاعة والكتعاء
بل نحن سطحيون قليلو المراجع لأن العميق صاحب المراجع الكثيرة يقول عنا: (فترى مثلاً أن المؤلف يصحح أرطبون إلى أريطون. . . والظاهر أن المؤلف يتأثر هنا بتلر في كتابه فتح العرب لمصر، والصواب أطربون كما فطن إلى ذلك دي جويه في تعليقاته على الطبعة الأوربية لتاريخ الطبري، والواضح أن كلمة أطربون تعريب اللاتينية وهي رتبة من رتب القيادة الرفيعة عند الروم)
فواضح بالله كيف؟
وصواب يا أخانا بأي دليل؟
هكذا (وبس). . . واضح وصواب!! ونحن غلطانون (وبس) لأننا اعتمدنا على بتلر وأنت لم تعتمد على شيء؟
أما نحن فنعترف أننا عولنا كثيراً على بتلر في كتابه فتح مصر، ونقرر أننا لم نعرف في تاريخ هذه الفترة من هو أولى منه بالتعويل عليه، ونحيل صاحب المراجع إلى الهامش(571/3)
الذي فيه أن أبا المحاسن ذكر الاسم الصحيح وهو أريطيون
فعلام يعول صاحب المراجع الكثيرة في الجزم بتخطئة بتلر وضبط الاسم على أرطبون دون أريطيون؟
أيكفي أن تكون في الدولة الرومانية وظيفة يقال لصاحبها (تريبوناس) ليكون واضحاً وصواباً أن حاكم بيت المقدس اسمه أرطبون؟
إن كان هذا كافياً فلله در المتهكم الساخر الذي قال إن شيكسبير من أصل عربي أندلسي هاجر إلى الجزيرة البريطانية وأصل اسمه الشيخ زبير فصحفت إلى شيكسبير!
ولم يكون واضحاً وصواباً بالله؟ الشيخ زبير اسم من أسماء العرب، والمسلمون قد هجروا الأندلس إلى كل مكان، والإنجليز يبدلون الكاف بالخاء في كثير من الأسماء. فما أقرب التصحيف بعد هذا من شكسبير إلى الشيخ زبير رحمه الله؟
أما نحن فما كنا متهكمين ساخرين لأن الله خلقنا سطحيين غير محققين، ولهذا رفضنا تصحيف (تريبوناس) إلى أرطبون وعللنا ذلك بأسباب تليق بالسطحيين المتعجلين
(أول) هذه الأسباب أنه على كثرة التصحيف في نقل الألفاظ الأعجمية لا نزال نرى أن المسافة بعيدة بين أرطبون وتريبوناس
و (ثاني) هذه الأسباب أننا نريد أن نعرف لماذا لم تصحف ألقاب أخرى مع أن اللغة اللاتينية زاخرة بالألقاب ولقب التريبوناس يطلق على غير واحد من الناس
و (ثالث) هذه الأسباب - وهو أسخفها وأضعفها - في نظر السطحيين المتعجلين أن وظيفة التريبوناس كانت ملغاة إلغاء باتاً منذ قرون في نظم الدولة الرومانية على عهد قسطنطين
و (رابع) هذه الأسباب - وهو أسخف وأضعف - أن الذي يجزم بهذا اللقب عليه أن يذكر اسم صاحبه الأصيل وأن يثبت وجود الوظيفة واللقب في ذلك الحين
كل خذا أخذنا به لأننا سطحيون قليلو المراجع، ولو كنا عمقاء كثيري المراجع كصاحبنا لما حفلنا بشيء من هذه الأشياء ولكان حسبنا أن يقول (صواب وواضح) بغير عناء
ولا تنتهي سطحيتنا نحن السطحيين المساكين عند هذا الذي قدمناه أيها القراء
كلا. نحن سطحيون جداً والعياذ بالله. نحن من السطحية نكاد نتجاوز سطح الأرض إلى أجواز السماء(571/4)
نحن سطحيون جداً، لأننا بالغنا في إجمال الكلام على حريق مكتبة الإسكندرية، (فجاء عرضنا للمسألة مبتورا لا يغنى كثيراً، والمسألة خطيرة الشأن ووثيقة الصلة بسيرة عمرو)
أي والله معشر القراء!
إن مسألة المكتبة وثيقة الصلة بسيرة عمرو بن العاص!. . . عمرو بن العاص الذي لا يعدو في هذه المسألة أن يكون على حال من حالين: إما أن المكتبة لم تحرق وحينئذ لا صلة على الإطلاق، وإما أنها أحرقت بأمر الخليفة وحينئذ لا صلة له بها على الإطلاق غير صلة التنفيذ والطاعة، وليس هنا إذن موضع الإطالة في هذا الموضوع
فهمنا هذا لأننا سطحيون متعجلون، فأطلنا القول على حريق المكتبة في (عبقرية عمر) وشغلنا به بضع عشرة صفحة من ذلك الكتاب. ولم نر أن نعيد هذه كله في موجز عن تاريخ ابن العاص الذي لا يقال عنه هنا إلا إنه أمر فأطاع، إن كان قد أمر بشيء وهو لم يؤمر قط بشيء!
سطحيون يا معشر القراء
سطحيون متعجلون، فماذا يصنع معنا أولئك العمقاء المتريثون، الذي يقرئون فتوح البلدان وما شاء الله كان!
وإن السطحيين المتعجلين أيها القراء لا تحتمل منهم إطالة أكثر من هذه الإطالة في مساجلة العمقاء المتريثين. . . فكفاية هذا. . . ولا حاجة إلى مزيد من السطحية وقلة المراجع وكثرة المعاذير!
عباس محمود العقاد(571/5)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
2 - الفن والإصلاح
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لا يجوز لنا ونحن في أول عهد النهضة الذي مر بمثله الغربيون قبلنا بما يقرب من خمسمائة سنة تقريباً أن نرجو من أدبنا الحالي أن يرمي إلى القيمة الفنية والمزايا الأدبية وحدها كما يرمي إليها الأدب الأوروبي الحاضر. لأن الأدب الأوروبي ثمرة عوامل اجتماعية وأدبية وسياسية عدة هي التي عملت فيه وكونته وأنضجته وجعلته أقرب إلى الكمال
وإن الغلطة التي نرتكبها ونكررها في مجالات السياسة والأدب والاقتصاد هي أننا دائماً ننسى الفارق التاريخي العظيم بيننا وبين الأوروبيين، ونحاول أن نطبق على بيئتنا القاصرة المتخلفة مقاييس الحياة الأوروبية الحاضرة غروراً منا بالمدينة الصناعية الآلية التي أمكننا نقل كثير من مظاهرها إلى حياتنا في السنوات الخمسين الماضية وغفلةً منا عن أن نقل المكان دائماً من حضارة لأخرى أسهل وأسرع من نقل السكان؛ لأن نقل السكان يستلزم المرور بدرجات من النضج العصبي والثقافي والسياسي والأدبي لا يمكن أن يتحقق إلا في أطوار وأدوار تاريخية، وبخاصة إذا كان الانتقال لم يتخذ طريق الطفرة والثورة وإنما اتخذ طريق النضج البطيء على نار هادئة كثيراً ما يطفئها أعداء الإصلاح فترة، ويعوق عملها الاستعمار والوصايات السياسية الجائرة
فيحسن بنا أن نطرح جانباً الآن قصة الموازنة بين أدبنا الحالي وأدب الغربيين الحالي فإنها موازنة مثبطة
فما كان الأدب الأوروبي الحاضر ليبلغ مبلغه من الازدهار والقيمة الفنية والمزايا الأدبية لو لم تسبقه تلك الحركات الإصلاحية والثورات. وهي ثورات وحركات ساهم فيها أدباء النهضة بجهود عظيمة. وما كان يمكن أن يصل الأدب الأوروبي بمعناه الموسوعي ولا بمعناه الفني الضيق إلى ما وصل إليه الآن لو لم تقم حركات تحطيم قيود الجهالة والجمود فتحطم الأغلال عن العقل الأوروبي
فإذا نادى الأستاذ أحمد أمين بك أن يكون بجوار أدبنا الفردي والفني الخالص أدب(571/6)
اجتماعي يعرض مشكلات حياتنا ويصور أمانينا ورغباتنا في الإصلاح، ويوقظ أفكارنا الراقدة ويثيرها إلى مطالب المجد والشرف والصلاح والحرية، فلن يكون في طلبه هذا اعتداء من النقد على الفن ولا تقييد له ولا حمل له على السير في طريق آداب الأمم الديكتاتورية الحالية، وإنما هو طلب معتدل لا يرضي الغلاة من محبي الإصلاح السريع الذين قد يرون من الواجب في حياة أمة مثل أمتنا لم تحقق جميع ضروريات حياتها الاجتماعية والسياسية ولم تتحرر تحرراً كلياً من وصايات جائرة أن يكون معظم أدبها وفنها موجهاً وموحياً بالكفاح في سبيل حريتها، وتصحيح أوضاعها الأساسية في السياسة والاقتصاد والأخلاق، وأن يرسم لذلك المنهج الذي يصح أن يكون في هذا الدور، فإن الجهاد للأحياء الأشقياء العبيد الذين لم يدركوا بعد حقوق الحياة ومبادئها الأولية أولى من الجهاد للفن الخالص على ما فيه من لذة وانطلاق وفلسفة وشعر وترف
إننا نكون أناساً غير طبيعيين حين نفرط في الاستمساك بحقوق الحياة والحرية ونتهاون فيها، ثم نأبى إلا الاستمساك بحقوق الفن في حريته وانطلاقه.
نكون كالفرنسيين الذين جنت عبادتهم للفن وآثاره على كرامتهم السياسية والقومية حين أخذهم الذعر على مدينتهم باريس، فسلموا للألمان حين وصلوها إبقاء على ما فيها من مخلفات الفن وآثاره. وكلما وازنت بين صنيعهم هذا وصنيع الإنجليز بتعريض لندن لجماعات الطير الألمانية تفجؤها بالهدم صباح مساء في أسلوب جديد من الحرب المطلقة المجنونة التي لا عهد للناس بها، فلم يبالوا بما أصاب كنوزها الفنية وآثارها التليدة والطارفة من الهدم والحرق في سبيل إنقاذ حريتهم وكرامتهم وشرفهم القومي، وفي سبيل سلامة الروح من التعبد لغير الحرية والتغذية - أقول كلما وازنت بين صنيع هؤلاء وهؤلاء أدركت الفرق العظيم بين روح الأمتين. وبين العقلية الأنجلوسكسونية واللاتينية على العموم
فالعقلية الأول عقلية أحسنت التلقي عن الطبيعة في تقويم الحقائق والأشياء، فهي تحافظ على آلات الحياة الأصلية التي تكفل حق العيش وحق الحرية قبل المحافظة على أي شأن آخر. وقد نسيت في ساعة المحنة والشقاء والجد هوايات الترف والكماليات، وضحتها خوف أن تضحي ما هو أعظم منها. . . هدمت لندن لتنقذ ما هو أعظم من لندن، وهي(571/7)
الروح الإنجليزية! وهو درس عظيم أعطته إنجلترا للعالم جميعه في هذه الحرب. . . أعطته لأعدائها وأصدقائها على السواء فانتفعوا به ولن ينسوه!
أما العقلية اللاتينية في دورها الحاضر الذي ابتلى المصريون بجوارها فيه وذيوع ثقافتها فيهم. فهي عقلية لم تحسن التتلمذ على الطبيعة في تقدير لباب الأشياء، بل تستهويها حياة القشور المزوقة والثرثرة والجدليات والاستعراضات المسرحية والانطلاق وراء النوازع والشهوات، والتحلل من قيود الاجتماع بحجة الحرية الفكرية. وإنما هي في الواقع حرية طباع لا حرية أفكار. فهي عقلية يسهل استهواؤها واستفزازها وزعزعتها، لأنها لم تستند إلى طبع ركين يستمد من الطبيعة أسلوبها في تقويم الأشياء وتقديرها، وتقديم الأنفع على النافع، وتضحية الفروع محافظة على الأصول. . .
ذلك هو تقدير الطبيعة والحياة الصادقة الناجحة للفن وآثاره. وهو تقدير موزون ليس فيه تقتير ولا إسراف. هو تقدير في الواقع خاضع للمنفعة والجد في خدمة الأغراض الأصلية للحياة. لا للترف ولا للهزل، ولا لإرسال قوة الخلق على هوى طليق أو جموح.
وليس الفن البشري كله مع الأسف سائراً مع هذا الاتجاه. بل منه ما هو سائر معه، وهو أسمى درجاته. ومنه ما يفسد غايات الحياة ويشترك في تعطيلها وتقويض كيانها في النفوس، وهو أحط دركاته. . . ومنه ما لا فساد معه ولا ضرر منه، وهو ما يفيض لإرضاء عبقرية الخلق المودعة في الإنسان، أو لإظهار المهارة والذكاء، أو لتزجية الفراغ وتسلية المجتمع. وهذا فن لا بأس من كثرته في الأمم التي فرغت من إقامة حياتها على دعائم العدالة والقوة والحق
وإذ ثبت أن الحياة الجماعة من القيمة والاعتبار ما تستحق معهما حياطتها والمحافظة عليها من عوامل الهدم والبلبلة والانتكاس التي تسببها النزعات الفردية والاستبدادية في السياسة - وهي فن الحكيم - فلا جدال حينئذ في أن للجماعة الحق في فترة من فترات حياتها أن توجه الفن بلسان النقد إلى الوقوف عند حد ما فيما ينتجه، حتى يكون منسجماً مع منطق الطبيعة، أو أن تلزمه على الأقل الوقوف دون حدود الفساد، والضر الذي يبلبل الأفكار ويشوش على الإحساس الصادق بالحياة.
وإن قوة السخرية في نفس فنان أو تشاؤمه أو إباحيته أو شذوذه قد توحي إليه بصور فنية(571/8)
تثير دهش الناس وعجبهم، ولكنها قد تزلزلهم وتفسد عليهم ألفتهم بالحياة، وائتناسهم بمثلهم العليا، أو تأخذهم إلى حياة اللذة والجموح الذي لا تحتمله الحياة العملية، أو تبحث لهم عن الصور الشاذة في الحياة، أو تخلق لهم تلك الصور وتحملهم على تقليدها بطريق الإيحاء.
ومن هنا يجب التيقظ للأعمال الفنية، لأنها أخطر أنواع الثقافة وأشدها تأثيراً، وأوسعها حيلة في استهواء الناس، وأعظمها انتشاراً بين الجماهير
والفنان الكامل لا بد أن يكون في فنه نوعان من الإنتاج: نوع فردي يجري فيه على طبعه المتفرد الخاص المعتدل وذاتيته الممتازة، ونوع اجتماعي يجاوب فيه الأصداء الاجتماعية التي تتداول سمعه وسمع الناس في عصره. وبخاصة إذا كان مجتمعه مشوشاً ناقصاً يحتاج إلى تكميل وتنظيم، وما يد أن يكون هذان النوعان من الإنتاج في آثاره. وليس في هذا إعنات من المجتمع له وإنما هو تنبيه له وتوجيه إلى الآفاق التي يستمد منها عوامل كمال فنه يؤدي منها ضريبته الأدبية
وليس بصحيح أن الأثر الفني الذي أنتج في مناسبة اجتماعية بعينها وكان مستوفياً شروطه الفنية في الصياغة والحبكة والإخراج يفقد تقديره ووقعه بزوال مناسباته وانقضاء عصر أشخاصه، كما توهم الأستاذ توفيق الحكيم حين قال عن إبسن إنه كاد يهزأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع لولا فنه، وأنه قد مات فيه المصلح وبقى الفنان
ليس هذا بصحيح لأن (التاريخ) له خطه في التقدير، ولأنه يظل تاريخاً حياً كل العصور ما دام الفن قد استطاع أن يضفي عليه من الحركة والحياة ما يضمن لشخصياته الوجود الخالد في ذهن القارئ وخياله. وليس لصحة الآراء أو خطئها باختلاف العصور أثر كبير في التقدير ما دام الشرط الأساسي وهو بلاغة الفن قد تحقق
فلن يغمط حق الفنان المصلح الذي جرد نفسه لخدمة مجتمعه وأراد قيادته نحو الكمال ولو تغير عهد الناس ورأيهم في آرائه الإصلاحية إلا إذا ذهب التقدير الفني للتاريخ الخالص، وإلا إذا أهدرت قيمة جهاد الطفولة البشرية وخطواتها المتعثرة الأولى نحو الرشد ونشدان الكمال
وإذا كان الفنان يملك قوة الإنتاج الذي يهدي أمته ويسددها نحو الكمال ويأخذ بيدها في عهد الانتقال. ويملك أيضاً قوة الإنتاج في الأدب الإنساني الخالص، ثم يعرض عن النوع الأول(571/9)
سعياً وراء الخلود الواسع والشهرة العريضة بالإنتاج في النوع الثاني؛ فإنه لا شك ذو عقوق بأمته وبخل عن أداء (الضريبة الأدبية) الواجبة لها في فنه
وسيحسب هذا لدى النقد الصحيح نقصاً في طبيعته الفنية التي لم تستجب لنداء بيئتها، وبلادة في طبيعته الاجتماعية التي لم تحركها عوامل البؤس أو الجهل أو الاستبداد، لم تعطفها عواطف الرحم التي يجب أن تكون بينه وبين مجتمعه
على أننا لا نسلم أيضاً بأن الأدب الخاص بمجتمع ما، والذي يعالج مشكلة من مشكلاته أو يعرض مشهداً من مشاهد حياته لا يروق أذواق غيره من المجتمعات ما دام ذا ذخيرة موفورة من العواطف والأفكار والغرائز والمواقف والمفاجآت البشرية المشتركة. وتلك ذخيرة لا يخلو منها عمل فني يستحق الخلود، حتى لدى المجتمع الذي أنتج فيه. فالطبع البشري واحد الجوهر في كل مكان وزمان وإن اختلفت أعراضه اختلافاً ما، وهانحن أولاء نرى فيما نقرؤه ونشاهده في السينما من آداب الأمم وفنونها الخاصة مصداقاً لما نقول، فهي كثيراً ما تعالج مشكلات خاصة بالوسط الذي أنتجت فيه. ومع ذلك تجد فينا نحن الشرقيين الأسيويين أو الأفريقيين تذوقاً وفهماً لمراميها وأشخاصها
والتاريخ البشري متشابه الموجات، وأمراض المجتمعات البشرية في دور تكوينها واحدة تقريباً، ووسائل كفاح الاستبداد والجهالة والبؤس واحدة أو متشابهة
فلا يتوهمن فنان أن دائرة شهرته وخلوده تضيق بضيق المجتمع الذي يعالجه أو يصوره، فإن النماذج البشرية التي تعرض في حذق وبراعة أبداً خالدة؛ تلتقي في فهمها وتقديرها عقليات الأمم. والبشرية المتفرقة الآن صائرة حتما إلى لقاء: لقاء في الفكر والقلب والعلم والفن. . . وطلائع هذا المستقبل المأمول مقبلة بل هي حاضرة في دراسة كل أمة لآثار عبقريات كل أمة، وفي اقتناء مخلفاتها وترجمة روائع آدابها والتعرف إلى خصوصيات روحها. والدليل على ذلك يا صديقي الأستاذ الحكيم أن أدبك القومي ترجم كله؛ فقد أخبرتنا أن (عودة الروح) (ويوميات نائب في الأرياف) ترجما. . . أما أدبك الذي يدور حول الرموز والأساطير العالمية، فالنسبة في ترجمته أقل من هذا
فابحث في قومك ومجتمعك القريب عن ينابيع لوحيك وصنعتك البارعة، فإن قومك أولى وأحوج إلى الإيقاظ والتحرير والإصلاح. ولا عليك من الخلود وذيوع الصيت، فانهمالك ما(571/10)
احتفظت بصنعتك
إنك شغلت نفسك بالأدب العالمي الذي يدور حول الأسرار والرموز والأساطير والقضايا الفلسفية التي تتصل بها النخبة الممتازة في كل أمة. وأنتجت في هذا إنتاجاً هو لا شك مفخرة للأدب العربي بين آداب العالم وللعقل المصري بين عقول الأمم. ولكن اسمح لي أن أقول لك بصراحة إن (الشعب) المصري لم ينتفع بما أنتجت إلا انتفاعاً يسيراً جداً بالنسبة إلى إنتاجك المبارك، فليس لك في السينما الشعبية إلا (رصاصة في القلب) وهي على ما فيها من بعض المواقف التهذيبية لم تعالج عقدة هامة من عقد الحياة المصرية الكثيرة، ولم تثر في أذهان الجماهير ثورة ما على الأوضاع السيئة التي تضيع حياتهم الراهنة. وإنما هي لون من ألوان أدب الفكاهة والمتعة في قوم لا ينقصهم من ألوان الفكاهة والتهريج وإزجاء الفراغ شيء. . . بل قد استحالت حياتهم إلى أضاحيك ومباذل. . . أما رواياتك الكبرى فلن تتسع لها الآن حوصلة المسرح المصري أو السينما، ولن يهضمها جمهوره إذ أنها تعالج قضايا فلسفية ورمزية فوق المستوى العام. وأحسبها وضعت للقراءة العميقة لا للتمثيل والتجسيم، فإن أحاديث شخصياتها تحتاج إلى سامعين مثقفين دارسين. وقد شهدت ذلك بنفسي في (أهل الكهف) حينما مثلت في أول عهدها
لقد تركت أنت وأمثالك لغيركم من المؤلفين التجاريين أن يمدوا بنتاجهم شركات السينما وهيآت المسرح التي كأن بينها سباق في قتل روح هذه الأمة وفي تشويه سمعتها في الأقطار العربية بما ينتجه أكثرها من فنٍ فجٍ رخيص مهرج داعر يسرق البقية الباقية من أخلاق الشرف والقوة في الأمة، ويفسد ذوقها ويحطم رجولتها ويديل عفاف نسائها، ولا يرتفع بها - إلا في النادر - إلى مستوى أعلى ولا يثيرها وينبهها إلى أوضاعها السيئة في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع
وإن تبعة المسئولين عن توجيه الثقافة الفنية العامة لهذا الشعب تبعة ثقيلة فادحة! فقد أطلقوا لتجار الغناء والمسرح والسينما أن يفعلوا ما يحلو لهم. وما يحلو لهم هو الربح والثروة بأي الطرق، وكثير منهم لا يفهمون روح هذا الشعب لأنهم ليسوا منه. . . ولا يبالون مصالحه ولا يقدرون ظروف الانتقال الخطيرة التي يمر بها. ولا يعلمون ما يحتاجه الآن لتدعيم بنائه الاجتماعي وتقوية روح النضال والكفاح فيه حتى لا ينسى ولا يفنى بين غمرات(571/11)
الحياة الجديدة العجيبة
لقد أصبحت أوقن أن قادة هذا الشعب الحقيقيين هم زمرة المسرح والسينما والغناء، ففتيان الشعب وفتياته ونساؤه وأطفاله على معرفة تامة بتفصيلات حياة الممثلين والمغنين والممثلات والمغنيات، وعلى إلمام تام بمواقفهم وأحاديثهم وأغانيهم ومراقصهم ومباذلهم. بينما هم على جهل تام بحياة الأبطال والمصلحين والخدام الحقيقيين لمصالحهم وسعادتهم، وما أظن حياة الأغلبية لهؤلاء الممثلين والممثلات تصح أن تكون قدوة تقود الفتيان والفتيات
عبد المنعم خلاف(571/12)
2 - رسائل التعليقات للرصافي
للأستاذ دريني خشبة
أشرنا في العدد السابق إلى بعض آراء الرصافي القديمة، مما له علاقة بآرائه الحديثة التي طلع بها على الناس فجأة تعليقاً على كتابي الدكتور زكي مبارك: التصوف الإسلامي والنثر الفني. . . إلى القراء الآن بعض هذه الآراء:
1 - يؤمن الرصافي بوحدة الوجود، وأن لا إله إلا هذا العالم الأعظم الكلي، وأن قولنا لا إله إلا الله معنى لها (أنظر العدد السابق)، وخير أن يقال لا إله إلا الوجود. . . (إن البحث والتفكير قد ألجآني إلجاء لا محيص عنه إلى الإيمان بوحدة الوجود (ص 11) وأن الله هو الوجود المطلق اللانهائي (ص 13) - وقد فسر الظاهر والباطن في سورة الحديد بأن (الظاهر الذي نراه بأعيننا وندركه بحواسنا، والباطن الذي لا نراه ولا ندركه) (ص13). ويدعى أن كل شيء في هذا العالم جزء من الله، أو أن المخلوقات (مظاهر للوجود الكلي، كمظاهر الأمواج لماء البحر المائج (ص 15)). ولا يصح لأحد أن يقول أنا الله، كما قال الحلاج، لأنه جزء من كل، وإلا كفر (ص 16)
2 - ويؤمن بأن محمداً، بما أوتى من الكمال النفسي، والفكر القدسي هو سيد العارفين بهذه الحقيقة (ص14)، وإن يكن قد أخفاها عن أصحابه، ولم يلمح بها إلا لأبي بكر: (ولا نعلم أحداً كان يقول بها (بوحدة الوجود) من أصحاب رسول الله اللهم إلا أبا بكر. . . فلا يبعد أن يكون قد أخذ عنه هذه الفكرة بالتلقين، أو يكون قد عرفها من القرآن بالتدبر والتفكير (ص 84))، (وآخر ما نقوله في هذا إنه لم يكن في زمن البعثة من يمثل فكرة وحدة الوجود سوى رسول الله، وأصدق الظن يجيز أن يجعل أبا بكر من عارفيها، كما مرت الإشارة إليه (ص 72))
3 - ولا يعترف بأن القرآن هو كلام الله، ولكنه كلام محمد، فإذا ذكر شيئاً من القرآن قال: يقول محمد في القرآن، (ص 13)، ولكنه يعتذر لمحمد بأنه كان يفني في الله - أو في الوجود الكلي - فناء كاملاً، ولذا جاز له أن يقول هذا القرآن ويزعم أنه يقول الذي يقوله الله، ويفعل الشيء ويؤمن بأن الله هو الذي يفعل (ص 14)
4 - ويعتقد أن كل ما يقع في العالم إنما يقع حسب قوانين لا يمكن الإفلات منها (سنة الله(571/13)
ولن تجد لسنة الله تبديلاً) - ويؤمن بالجبر (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) (ص 23) والإنسان دابة، وأخذه بناصيته، أي جعله تحت قهره وسلطانه واستيلاؤه عليه (ص 24)
5 - وهو لهذا ينكر الأدعية (والصلاة من الأدعية طبعاً)، لأنها لا يمكن أن تغير شيئاً مما لا بد من وقوعه: (. . . لأن الدعاء لا يصح في المعقول أن يكون سبباً لهلاك الظالم، أو لشفاء المريض، أو لقضاء حاجة المحتاج، فإن ذلك خروجاً عن سنة الله. فأن قلت: (فما معنى الاستجابة التي وردت في القرآن (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قلت: إن الاستجابة تكون بمعنى أن الله (تعالى) يهيئ أسباب هلاك الظالم، وشفاء المريض على وجه موافق لسنة الله، تهيئة غير مسببة عن الدعاء ولا مترتبة عليه. . . الخ (ص 76) وأن هذه الآية واردة مورد التمثيل الذي هو كثير في القرآن (ص 77) ويستدل على أنه لا معنى للدعاء بالحديث (إن الله لا يعجل لعجلة أحدكم) فعبارة هذا الحديث (وحديث غيره) تدل بصراحة ووضوح على أنه لا معنى للدعاء ولا للاستجابة على الوجه الذي يقولونه ويتصورونه (ص78). وإنما فائدة الدعاء هي في التسلية لنفس الداعي عما أصابه، والتنفيس لكربه. . . الخ ص 78
6 - وينزلق الرصافي من هذا ما ينزلق إليه بعض المتصوفة من القول بأن الأدعية (ومنها الصلاة) (هي من الأمور التابعة لظاهر الشريعة، فهي لعامة الناس دون خاصتهم من العارفين (ص82 - 83))
7 - وهو يؤمن بأن كل ما يقع في الوجود فهو حق، وأن الباطل هو المحال. وهو في ذلك يأخذ برأي محيي الدين بن عربي. . . (كل ما وقع في هذه الكائنات فهو حق، إذ لو كان باطلاً لما وقع، وإذا كان كل ما وقع في هذه الكائنات حقاً، تساوت المتضادات بحكم الضرورة، فالضلال كالهدى، والعصيان كالطاعة، والتقوى كالفسق والفجور، والشر كالخير، والحسن كالقبيح. . . الخ (ص 23) ويؤيد هذا بالآية الكريمة: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك، فقناعذاب النار)
8 - وما دامت قد استوت المتضادات في نظره: (. . . فعلى الصوفي أن يأخذ نصيبه من الدنيا كما يشاء، وأن يقرع جبهته بالكأس الروية من لذاتها بقدر ما يستطيع! (ص 83) كيف لا، وهو الذي خلق كل نفس فألهمها فجورها وتقواها، وهو الذي إلى نجديها من الخير(571/14)
والشر هداها! (ص 86)
9 - والتصوف عنده (ليس زهداً وعبادة، وإنما هو فكرة ونزاهة، يتساوى فيه الترهب والخلاعة، ويتلاقى فيه التزمت والدعارة، لأن الله في مذهب وحدة الوجود يعرف بكل ما في الكون، وأن كل ما في هذا الكون حق عند أهل وحدة الوجود، فلا أدل عليه من آثاره، ولا أهدي إليه من ساطع أنواره، وليس وضع الرجل جبهته على الأرض ساجداً لله، بأدل على الله من انكبابه على حليلته (بحروفه من ص 85). وأكثر من هذا، إذا رأى الصوفي في أي نوع من لذات الدنيا وشهواتها ما يفتح له باباً من أبواب المعرفة لم يتأخر أن يطرق بابها، ويفك عيابها، ويلبس ثيابها. . . كيف لا وقد استوت عنده المتضادات، واجتمعت الملذات بالمذلات، وإنما الأعمال بالنيات؟! وكيف يذمون الدنيا وقد أودع الله حبها في الغرائز، وساوى في محبتها بين الشواب والعجائز. (بحروفه وثمة أشد منه ص 84)
10 - وهو يكفر البعث، وربنا آمن بالتناسخ - أو عودة الكائنات بأمثالها لا بأعيانها - ولكنه مع ذلك يعترف بفائدة الإيمان بالبعث، وما يتصوره المؤمن من الحساب، فيمتنع عن الشرور ويقبل على الخيرات. (والذي أراه (في البعث أنه معتقد صرف لا يقوم إلا بالإيمان، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يخفى أن الإيمان بالغيب يتسع لأكبر منه وأبعد، ولم تقم لنا عليه في الحجج الدينية حجة أعظم من قياسه على النشأة الأولى، ولا يخفى أنه قياس مع الفارق بعيد جداً، لأن النشأة الأولى إنما وقعت على وجه من أسباب النشوء موافق لسنة الله في خلقه، وليس كذلك النشأة الأخرى. نعم! نحن في عالم الكون والفساد ومن الممكن عقلاً أن تعود الأشياء الفاسدة أو الهالكة في هذا العالم إلى كونها الأول، ولكن بأمثالها لا بأعيانها، فإن عودتها بأعيانها مستحيل، ومن العبث إقامة الأدلة العقلية على أمور لا تقوم إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا إيماناً بالعيب، كما جاء في القرآن (يؤمنون بالغيب)، فالإيمان بالغيب هو أساس الأديان كلها (!) (ص 36)
(وكما ينكر الرصافي البعث على الصورة التي نؤمن بها، فكذلك ينكر الثواب والعقاب، ما دام الله - أو الكون الكلي - هو الأخذ بناصية كل شيء، وما دام كل ما يقع في الوجود إنما يقع حسب قوانين لا يمكن الإفلات منها (الجبر المطلق!) وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى(571/15)
للثواب والعقاب، بل لا معنى ليوم القيامة! إلا أنه يعترف بفائدة الإيمان بهذا كله كما قدمنا - وهذه مسألة أخرى - ومع أنه يؤمن بالجبر، يؤمن بأن الإنسان مكلف! لأنه عاقل (وحيثما كان التكليف كان الثواب والعقاب 22 ص 39 إلا أنه يجعل الثواب بعد الموت بالاندماج في الوجود الكلي) ويجعل العقاب بالألم أو الندم الذي يحيق بالمسيء في الدنيا، فإذا مات المسيء وتساوى هو والمحسن في الاندماج بالوجود الكلي، وهو في ذلك يؤمن بما وسوس به الجيلاني. . . (لأن تساوي الطائع والعاصي عند الله لا يكون إلا بعد الرجوع إلى الله أي بعد الاندماج في الوجود الكلي المطلق، فهناك لم يبق للطاعة ولا للعصيان أثر ما!!) ص 32 - 33
وبعد فهذا بعض ما في ذلك الكتاب وموعدنا العدد القادم إن شاء الله
دريني خشبة(571/16)
مستقبل القطن المصري
للأستاذ زكريا بك حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(3) دفاع عن الأقطان ذات التيلة الطويلة
طول التيلة في بعض أنواع أقطاننا ميزة منفردة لا يجوز
إهمالها - مأساة القطن السكلاريدس وملابساتها وكونها
مقصورة على هذا الصنف بالذات وليست تمس كل قطن
طويل التيلة - استنباط أقطان جديدة طويلة التيلة - ميزة هذه
الأصناف - فلنعمم في غير خشية زراعة الأقطان طويلة
التيلة.
ويشترك القطن المصري مع أقطان البلاد الأخرى في بعض الميزات، ولكن له ميزات خاصة أتاحتها له طبيعة مصر، فطول التيلة مثلاً في بعض أنواع أقطاننا ميزة متفردة، وليس من الحصافة الاقتصادية إهمال هذه الميزة، ومحاولة منافسه البلاد الأخرى في إنتاج أقطان قصيرة التيلة، ولا سيما وأن في الوسع - بجهود سنشير إليها - توزيع أقطاننا ذات الميزات المفضلة بشروط مناسبة.
نعم لقد اقترن إنتاج السكلاريدس وهو ممتاز بطول تيلته بتضحيات عظيمة، إذ كان يكلف الفلاح نفقات كبيرة لم يكن يعوضها السعر، لأن إنتاج الفدان منه كان ضئيلاً نسبياً، وتصافي حليجه كان دون المائة
وما منع الناس وقتئذ عن ترك زراعته إلا الأمل في تحسن أسعاره، وعدم وجود أقطان مماثلة تكون أضمن وأكثر ربحاً(571/17)
وفي الثلاث أو الأربع السنوات التالية للحرب الماضية مباشرة استطاع الفلاح بفضل اليسر الذي خلفته سنوات هذه الحرب أن يواجه تلك التضحيات، ولكن لما عاد النقد إلى قاعدة الذهب لم يجد فائضاً يضحي به، فما لبث أن رهن أطيانه
وقد زاد المسألة حرجاً أن غلات الأطيان المرهونة قدرت قيمتها على أساس الأسعار في وقت التضخم النقدي، ولم تقدر بسعرها العادي. هذا إلى توالي النقص فيما ينتجه الفدان من قطن السكلاريدس نتيجة لانحطاط الفصيلة وللتلقيح الطبيعي والخلط الزراعي وقلة التسميد وضعف العناية بالوسائل الزراعية الصحيحة
وكان طبيعياً، وقد تدهور سعر السكلاريدس وهو سيد الأقطان المصرية أن تتدهور أسعار الأصناف التي تقل عنه تنفيذاً لقانون النسبية الظاهر الآثار في كل مناحي الحياة. فهبطت الأسعار جميعها إلى أدنى مستوى وأتيح لمحترفي المضاربة أن يلعبوا على مسرح الاقتصاد المصري أدواراً أكسبتهم على حساب المنتج كسباً كبيراً
لذلك ليس غريباً أن تثير الدعوة إلى زراعة الأقطان طويلة التيلة أشد الانزعاج. ولكن المأساة - إذا نفذنا في حقائق الأمور - مأساة صنف السكلاريدس بالذات وليست مأساة كل قطن طويل التيلة. وليس يصح منطقياً أن يسوء حظ كل الأقطان طويلة التيلة لأن أحدها كان سيئ الحظ لظروف خاصة
ساءت أسعار السكلاريدس في المدة من سنة 1922 إلى 1932 إلا فترات قصيرة ارتفع فيها السعر نسبياً. وقد اختتمت هذه الفترة بهبوط السعر هبوطاً مزعجاً إذ بلغ في شهر يونيو سنة 1932 تسعة ريالات
لذلك جد المهتمون بالأمر في استنباط أصناف أخرى يكون لها من وفرة الإنتاج ما يضمن الربح لمنتجها؛ فاستنبط في سنة 1934 صنفا النهضة والجيزة 7، وكان الأول قصير العمر فمات، فأما الثاني فما زال يعيش
وتوالى الاجتهاد فيما بين سنة 1934 ووقتنا هذا، فاستنبط الوفير وهو متوسط التيلة ثم الكرنك والملكي اللذان يعدلان السكلاريدس في طول تيلته، وأخيراً صنف جيزة 39 أو شرييني
وفي هذه الفترة الأخيرة (من سنة 1934 إلى الوقت الحاضر) لم يصب الأقطان طويلة(571/18)
التيلة كساد. بل - على العكس - صادفت هذه الأصناف إقبالاً طيباً جداً. من المصانع على الرغم من ظروف الحرب التي حدت من التصدير
وإذا كنا متفقين مع المستر هانكوك خبير القطن بوزارة الزراعة فيما ينادي به من أن الصناعة لا تتطلب طول الشعرة فحسب، بل هي تتطلب أيضاً متانة الشعرة ودقتها، فإننا لنغتبط إذ نؤكد أن الصنفين المصريين المستنبطين أخيراً وهما الملكي والكرنك يجمعان إلى مزية طول التيلة مزيتي المتانة والدقة
إن مناطق زراعة القطن في أمريكا وآسيا وأفريقيا - إذا استثنينا بعض جهات أمريكا - لا تنتج إلا أقطاناً قصيرة التيلة. ومن المقطوع به أن البيئة الأولى لإنتاج القطن ذي التيلة الطويلة هي أرض الكنانة التي أكرمتها العناية الإلهية بطبيعة جوية معتدلة ويد عاملة رخيصة مجتهدة
فلنعمم - في غير خشية - زراعة الأقطان طويلة التيلة ما دامت توائم طبيعة أرضنا، ولا سيما وقد استنبطت منها أصناف وفيرة الإنتاج عالية التصافي
على أن الغبن في زراعة القطن السكلاريدس لم يكن مرجعه في الحق إلى نوعه، ولكن إلى ملابسات بيعه، فالمنتج كان ينشد الربح، أو على الأقل الفرار من الخسارة؛ والمغزل كان يستكثر السعر، فكان يؤثر الرخيص من الأنواع ولو كان قصير التيلة. ولو استطاعت المصانع شراء السكلاريدس بما يزيد 20 % على أسعار القطن الأمريكي لفعلت راضية
وقد كان بيع القطن المصري يخضع لعوامل توجدها الآلة البورصية؛ فهي كانت تسجل بحساسية شديدة كثرة العرض عند بدء الموسم، ويظل ذلك التسجيل حتى يخرج أغلب المحصول من أيدي المنتجين
هذا إلى الملابسات التي أوضحناها قبلاً، وإلى عوامل أخرى كانت تتآمر على خفض أسعار ذلك القطن
على أن النسبة الآن بين سعر القطن المصري طويل التيلة وبين سعر القطن الأمريكي ليست عالية. فالقطن (المدلن) الأمريكي يساوي الآن 20 دولاراً، أي يوازي 660 قرشاً باعتبار أن الدولار يساوي 33 قرشاً، فلو أضيف إلى هذا السعر 20 % منه، أي ما يعادل 132 قرشاً، لكان السعر ثمانية جنيهات مصرية تقريباً، وهو ما يقرب جداً من سعر القطن(571/19)
الكرنك المصري محلوجاً
هذه هي النسبة، والظروف ظروف حرب حدت من تصدير قطننا المصري ودعت إلى عدم التعامل عليه في البورصات. فكيف في الظروف العادية حين ينطلق قطننا من كل قيد؟
(4) - وسيلة التبادل
فساد نظام المعدنين النفيسين - نظام التبادل التجاري المرجح
الأخذ به بعد الحرب - اقتراح الأخذ بهذا النظام في مصر
أن عناصر الغنى في أمة من الأمم هي مقدرتها على الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ووفرة اليد العاملة والآلات فيها. وليس النقد في حقيقة أمره إلا أداة للاستبدال ووسيلة للمقارنة بين القيم. ولقد ظل الذهب والفضة طويلاً مقياس الغنى في الأمم، ولكنهما مقياس أفسده سوء الاستعمال. وما مثل هذين المعدنين في تقدير الثروة العامة للأمم إلا كميزان مختل في حانوت بدال، لا يلبث أن يؤدي إلى إفلاس صاحبه
إنه ليس من العدل أن ينقسم الأفراد إلى فريقين: أحدهما وهو الفريق الأكبر يقضي حياته في الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ومع ذاك يعاني الكثير من البؤس والبطالة، والثاني وهو فريق الأقلية يتحكم في الفريق الأول، يعطي ويمنع لأن بيده المال
هذا النظام ينبغي أن يستبدل به نظام آخر يحقق العدالة لأفراد الأمة، ولا يدع للمال كل ذلك السلطان الضخم، بل ينصب الإنتاج نفسه حاكماً اقتصادياً بدلاً من الحاكمين الحبيسين: الذهب والفضة
والظن أن العالم يتجه بالفعل هذا الاتجاه، وأن نظام التبادل التجاري فيما بعد الحرب سيحمل كثيراً من الدول على التخصص في إصدار سلع معينة مقابل استيراد ما يلزمها من الدول الأخرى على نحو قريب من نظام المقايضة فليكن القطن طويل التيلة سلعتنا التي نحصل بها على حاجاتنا من الخارج
وبهذه المناسبة نذكر أن عندنا الآن كميات من هذه الأقطان ينبغي ألا يساورنا القلق على تصديرها، لأنه عندما يستقر السلام سنستطيع أن نجيب بها مطالب البلاد المجاورة التي(571/20)
ستعوزها يقيناً هذه الأصناف
(5) - نظام تمويل المصارف للقطن
نقد نظام التمويل في مصر - إرهاقه للمنتج - النظام المنشود
إن نظام أعمال المصارف في مصر - فيما يختص بتمويل المنتج الزراعي عامة، ومنتج القطن بصفة خاصة - يخالف نظام المصارف الوطنية في بلدان العالم جميعاً. وكأنما وضع خصيصاً لهذا البلد السيئ الحظ
يقدم الفلاح إلى المصرف إنتاجه القطني فيقدِّر المصرف للسلعة ثمناً بخساً، وبذلك يكون (الغطاء) الواجب أداؤه عالياً، ثم يرفع المصرف سعر الفائدة، ويقيد المنتج بالتزامات ثقيلة تؤوده وتعجزه عن الوفاء بها، فلا يلبث المصرف أن يقذف إلى البورصة بمئات الألوف من قناطير القطن دفعة واحدة فيهبط السعر بطبيعة الحال، وكأن المصرف بما فعل قد سهل للأقطان الأجنبية والصناعة القطنية الأجنبية منافسة أقطاننا وصناعتنا
ولسنا نرى في ذلك غرابة، فالمصارف الأجنبية التي لدلينا إنما تمثل وترعى المصالح الاقتصادية والصناعية لبلادها وحملة أسهمها
لا جرم إذن أن هذا النظام المصرفي هو من عوامل اختلال اقتصادياتنا وانحطاط مستوى معيشة المنتج المصري. ولقد عاش هذا النظام طويلاً دون أن ننتبه لمساوئه. فلنعمل جاهدين على درء هذه المساوئ كلها أو بعضها، وليكن ذلك عاجلاً بقدر المستطاع
إن النظام المصرفي الذي ننشده في مصر يجب أن يكون نظاماً يشجع الإنتاج ويحميه من الكساد المصطنع ويحافظ على الثروة الوطنية، ويدفع عنها كيد المتلاعبين، ويكون منطوياً على روح مصرية صميمة تعني بالصالح المصري أولاً وأخيراً
(6) الطموح إلى نهوض بيوت مصرية بتصدير القطن
المصري
وكذلك يجب أن تكون الروح في تصرفات بيوت تصدير القطن مصرية، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت وطنية. ولئن قيل إن بيوت التصدير الأجنبية لها من خبرتها الطويلة بحاجات المغازل ما لم يتح لبيوت مصرية، فإن هذه الخبرة لن تكون كل شيء في تصريف إنتاجنا(571/21)
حين تضع الحكومة - طبقاً لاقتراحنا - نماذج للقطن المصري كله
والواقع أنه ليس في التجارة أو الصناعة سر يستغلق على العنصر المصري، وكل ما يستلزمه نهوض المصريين بتصدير أقطانهم هو مزيد من النشاط والمثابرة والجد وممارسة عملية تبصرهم بما خفي عليهم طويلاً. إن المصريين حين يقومون هم أنفسهم بتصدير أقطانهم قد يواجهون مصاعب جساماً، ولكن لنتخذ من هذه المصاعب دروساً نافعة، وكل صعب يهون في سبيل أمنية عزيزة كتمصير بيوت التصدير ذلك التمصير الذي يساعد على إتمام استقلالنا في ناحية اقتصادية لها أهميتها
زكريا حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه(571/22)
النصاح والوعاظ على أبواب الخلفاء
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الحكم في الإسلام لم يبن على الاستبداد ولم يقم على الانفراد، بل أقيم على الشورى وبنى على الرأي. ولقد قال تعالى لنبيه عليه السلام: (وشاورهم في الأمر). وما كان أغنى النبي عن نصح الناصح ومشورة المشير، لمكان فضله، ومقام علمه. ولكن المبادئ الصحيحة لا تحابي مقاماً ولا مكاناً، ولا تعرف عصراً ولازماناً
فلقد حدث حماد بن زيد بن هشام عن الحسن قال: (كان النبي يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به)
وكان عمر على شدته ينتفع بأهل الرأي والمشورة ويستمع إلى قولهم، وروى عنه قوله (الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة خيط مرار لا يكاد ينتقض) وطبيعي أن حكاما ذلك شأنهم في قبول المشورة وتلقي الرأي كانوا يستمعون إلى الناصح المبتدئ بنصحه، المتفضل برأيه، فيفتحون له قلوبهم وآذانهم، أو يعطونه الأمان أن يقول ما يشاء في صراحة وحرية. وفي كتب التاريخ والأدب من ذلك طرائف وأشتات
وكان خلفاء الرسول أكثر الناس اهتداء بهديه واقتداء به فلم يصدر عنهم من الأحكام ما فيه مخالفة لسنته وحيد عن طريقته. ولهذا لا تجد على أبوابهم مزدحماً من الناصحين والوعاظ، لأن الوعظ لا يكون إلا عند ما تدعو إليه الحاجة وتشتد الضرورة. وقل أن تجد في عصر الخلفاء الراشدين إلا مذكراً يذكر الخليفة في عبارة موجزة وإشارة قصيرة. كما حدث لعمر ابن الخطاب فقد دخل عليه سعد بن عامر وقال: (إني موصيك بكلمة من جوامع الإسلام ومعالمه. قال: أجل. قال: اخش الله في الناس ولا تخش الناس في الله، ولا يخالف قولك فعلك. فإن خير القول ما صدقه الفعل. وأحبب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك. وخص العناية بالحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم)
ولقد كان عمر يصغي إلى نصح الناصح، ولقد يبلغ به التأثر حتى يبكي فتخضل لحيته كما صنع مع خولة بنت حكيم
أما في العصر الأموي فنجد الخلافة قد انقلبت ملكاً. ونجد الخلفاء قد صدر عنهم من الأعمال ما يعده المؤمنون بعداً عن السنة، وتجافياً عن المعالم. وهنا يكثر الوعظ ويفشو(571/23)
النصح بأبواب الخلفاء. ونجد جماعة من هؤلاء النصاح يقفون على أبواب الخلفاء لا يبغون جزاء. ولكن يطلبون رضى الله ولو أسخط المنصوح. ولا يبالون بكلمة الحق يعلنونها صريحة في وجوه الحكام على قلوبهم تلين وتخضع
فلقد ذكر ابن طلحة في (عقد الفريد) حادث وفود أبي بكرة على معاوية ناصحاً مذكراً في كلمات بليغة وعبارات فصيحة، ومعاوية يستمع إلى رجل في حسن إقبال، والرجل يذكره بالدنيا الفانية والمتاع القليل والدار الباقية. ويقول في نص عبارته: (اعلم أنك في كل يوم يمضي عنك وفي كل ليلة تأتي عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً. وعلى أثرك طلب لا تفوته، وقد نصب لك حد لا تجوزه. فما أسرع ما تبلغ الحد، أو ما أوشك ما يلحقك الطالب. وأنا وأنت وما نحن فيه كلنا زائل، وسنصير إلى ما هو باق في الآخرة)
وما أكثر ما وقف النصاح بباب سليمان بن عبد الملك. وكان هو نفسه يسأل عنهم ويطلبهم إلى مجلسه ويبدؤهم بالسؤال، ويفسح لهم المجال، فلا يقف بينه وبينهم حراس، ولا يذودهم عنه حجاب. حدثوا أنه حج، ولما أتم المناسك دخل المدينة وسأل عن جماعة ممن أدركوا أصحاب رسول الله. فأتوا له بأبي حازم التابعي. فقال له الخليفة يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمر تم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. . . وما وال الرجل يصف هول الحشر حتى بكى الخليفة. وسأل واعظه قائلاً: كيف السبيل إلى صلاح الأعمال: قال: تقسمون بالسوية، وتعدلون في القضية، وتراعون أمر الرعية
ولما طلب الخليفة منه أن يذكر حاجته، طلب الناصح منه أن يزحزحه عن النار ويدخله الجنة. . .! وهو طلب ليس في يد الخليفة تحقيقه. فاعترف بعجزه. . .!
ولقد روى المدائني أن رجلاً من عبد القيس بن قصي دخل على سليمان بن عبد الملك طالباً الكلام. فأذن له، فقام وهدد الخليفة بالغلظة في كلامه، ورجا منه أن يحتمله على كره، فإن وراءه للخليفة نفعاً وللأمة خيراً. فأذن له بالاستمرار. فأخذ يطلق لسانه في الخليفة بما خرست عنه الألسن قبله، وأخذ يلوم الخليفة على سوء اختياره لبطانته، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، وهم لن يألوا الأمانة تضييعاً، والأمة عسفاً وخسفاً. وأخذ يحمل الخليفة مسئولية(571/24)
ما اجترحوا من سيئات ويذكره بخسارة الصفقة وفساد التجارة لمن يريد إصلاح دنياه بفساد آخرته
ومن عجب أن رواة هذه الأخبار لم يصلوا بنا إلى نهاياتها. . . بل كثيراً ما كانوا يضيعون الواعظ في الزحام. . . فلا يوقف له على أثر. . . كل حدث مع واعظ الخليفة المنصور الذي لقيه ليلاً في الطريق فدعاه إلى المسجد فأخذ الرجل يعظه بكلام شديد وحديث طويل وبعد الصلاة طلب الرجل فلم يوجد. . .!
وأكثر ما تكون الحاجة إلى النصح حين تسوء الأفعال ويكثر الانحراف من الحكام. ولكننا نلاحظ في كتب الأدب والتاريخ أن الوعاظ لا يزدحمون إلا على أبواب الصالحين من الخلفاء. . . وعلة ذلك أن الحاكم الصالح أكثر قبولاً للنصح واستماعاً للوعظ من غيره. فالطريق إليه ميسر، والباب إليه مفتوح، والعاقبة مأمونة، والمغبة محمودة. لأنه لا يثور ولا يسخط ولا يغضب حتى ولو أغلظ الناصح في نصحه
وهكذا ليس من الغريب أن نجد جماعة من الوعاظ يزدحمون على باب عمر بن عبد العزيز، ويجدون في ظلاله أمناً. فهو يفرح بهم ويهش لهم ويتلقى الكتب منهم ويحتفظ بها ويشير إليها في مجالسه. فقد كتب إلى طاووس الواعظ كتاباً يسأله عن بعض ما هو فيه. فكتب إليه طاووس: (سلام عليك يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى أنزل كتاباً؛ وأحل فيه حلالا، وحرم حراما، وضرب فيه أمثالاً، وجعل بعضه متشابهاً، فأحل يا أمير المؤمنين حلاله، وحرم حرامه. وتفكر في أمثال الله تعالى واعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله والسلام عليك). وطريقة طاووس في هذا الكتاب هي طريقة الفقيه لا الواعظ. وإن كانت تؤثر عنه مواقف ومقامات لم يخش فيها حاكماً ولا مسلطاً. وكثيراً ما حاول الأمراء تقريبه إليهم فكان يعرض عنهم ولا يزداد إلا جرأة في النقد وصراحة في القول. . .
ومواعظ طاووس تجدها في شكل كتب ورسائل يرسلها ولا يلقيها أمام الموعوظ، لأنه كان من أبعد الناس عن مصاحبة الملوك والقرب منهم، وكان واحداً من ثلاثة رجال اجتنبوا السلطان ولم يتصلوا به، والاثنان الآخران هما أبو ذر الغفاري وسفيان الثوري
وكثيراً ما وقف محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر ابن عبد العزيز ينصحه ويعظه، وقد يشتد في النصح وعمر لا يضيق صدره ولا يخرج عن حلمه ويقول الواعظ: (إن الدنيا(571/25)
سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم) فيطرب عمر لهذا الكلام
ويقول الواعظ: - يا أمير المؤمنين! افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم. فيطرب عمر لهذا الكلام ولسان حاله يقول: - اللهم إني ما أغلقت دون أحد من المسلمين باباً، ولا ألقيت بيني وبينهم حجاباً، ولا رأيت مظلوماً إلا أخذت له الحق من ظالمه. . .
ودخل عليه زياد العبد مولى ابن عباس. فقال: - يا أمير المؤمنين: أخبرني عن رجل له خصم ألد كيف حاله؟ قال سيئ الحال. قال فإن كانا خصمين ألدين؟ قال ذلك أسوأ الحالة. قال فإن كانوا ثلاثة؟ قال لا يهنيه عيش! قال والله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد إلا وهو خصم لك عند الله تعالى! مطالبك إن قصرت في حقه. فبكى عمر حتى رق له الحاضرون.
ومن خلفاء بني أمية الذين استمعوا إلى نصح الناصحين هشام بن عبد الملك. وكان على شحه حليماً واسع الصدر. فقد حدثوا أن خالد بن صفوان المشهور بابن الأهتم دخل عليه فحدثه عن ملوك الأعاجم وزوال ملكهم بعد تمكن الأمر لهم، فبكى هشام، وأجزل العطاء للناصح على ما كان من بخله وحرصه
وفي أول العصر العباسي بقيت بقية من هؤلاء الوعاظ، وقد وجدوا بباب المنصور منفسحاً. ولهذا تجد في كتب الأدب طائفة من أخبارهم معه. وكان الرجل منهم يشتد في الكلام ويقسو على الخليفة ويعنف على البطانة، ويصف الأدواء في صراحة. حتى لقد بلغ من بعضهم أن قال له: (هل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح). وهذه الموعظة طويلة. ولعلها أطول ما روى في الوعاظ والنصاح، ولا يدانيها في طولها إلا نصيحة الأوزاعي للمنصور أيضاً، ولكن الأخير كان أخف نقداً وألطف مدخلاً من الأول الذي أوردنا جملة من مواعظه ولم نعرف اسمه، لأن المصادر التي رجعت إليها لم تذكر اسمه، بل جعلته رجلاً عابراً! يظهر في المسجد ويصلي مع المنصور، ثم يطلب فلا يوجد
ويلاحظ أن الوعاظ من أهل العلم والفقه لا يغلظون في النصح كما يفعل أهل الزهادة والتقشف، فطاووس الفقيه أميل إلى الفقه والأحكام منه إلى التعنيف والإيلام، وكذلك(571/26)
الأوزاعي إمام الشام
وما أكثر حاجة عصرنا هذا إلى رجال من طراز هؤلاء النصاح الشجعان الذين لا يعجبهم فساد الزمان ولا يرضيهم إلا رضى الديان
محمد عبد الغني حسن(571/27)
رسالة الشعر
وحي لقاء
للأستاذ سيد قطب
هذا اللقاء كأنه ذكرى ... مكنونة في عاَلمِ النفس
وكأنه وهمٌ أُجسّمه ... لا حادثٌ في عالًم الحسَّ
هذا اللقاءُ الخاطفُ الواجفْ ... رتلفُّتُ الأنظار في حذر
كثمالةِ الأحلام، كالذكرى ... في رِعشةِ اللفتات والصور
أختاه. وأعجباً لنا! عدنا ... في هذه الدنيا غريبين
عدنا إذا ما خلسةٌ سنحت ... نمضي على حذر كلصين!
ألقاكِ مثل الطيفِ عابرةً ... وكأن ما قد كان ما كانا
وكأنما الأيام ما شعرَتْ ... أنَّا عَمَرْنا قطُّ دُنيانا!
وتفكرين كأنما افترقتْ ... من مَطْلع الدنيا طريقانا
وتذكِّرين كأنما اجتمعتْ ... في خاطرِ الأيام ذِكرانا!
ما أنتِ؟ إني لم أجدْ أبداً ... أني كشَفتُكِ قطّ في النور
ما أنتِ إلا فكرةٌ شردت ... ما أنتِ إلا طيفُ مذعورِ!
وشقيَّةُ الخطوات عاثرةٌ ... في حيثما اتجهتْ لمأمولِ
وكأنما تمضي مُرَوّعةً ... وضميرُها يُضفي لمجهول!(571/28)
أيها الحب!
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
(ننشر هنا الجزء الأول من ملحمة كبرى عنوانها (الحب) تقع
في عشرة أجزاء)
أيها الحب الذي يُظمئُني ... لمزيد، كلما جَرَّعني!
اسقني خمرك حتى أنتهي ... أنتَ يا منْ للردى يُسْلمني
اسقني: فالموتُ عندي غايةٌ ... لكَ عُلْيا نحو من أَوجدني
وأَنِلْ للدود جسمي ثم طرْ ... بحياتي. . . حُرَّةً عن بدني
أيها الحب الذي أخضعني ... لقواه وهو يغزو مهجتي
تلك نيراُنكَ. . . ما أعذبها ... حينما تحرق مني قوْتي
جاذبُ أنت فؤادي مرةً! ... دافعٌ أخرى، لتُذكي لهفتي
وأنا نهْبٌ لما يا حُبُّ قد ... شِئته من رحمة أو قسوةِ
أيها الحبُّ تسامَى وانحَدَرْ ... جنة كنت لدينا أم سَقَرْ
أنت ريٌّ خالدٌ ما ذاقه ... أحد إلا سما فوق الفِكَرْ
عانقت روحيَ روحاً فيك، ما ... حَلُمَتْ إلا بها أنقى الصُّور
فاستبح ما شئت قلبي ودمي ... أنا حي بك من دون البشر
إن تكن قيداً، فما أكرمه! ... فهو لي طوق إلى حريتي
فنيتْ ذاتيَ في شرعك - إذ ... عشقتْ - لكن لتُحيي يقظتي
وتُريني فِتناً أبصرُها ... خَلَل الإغراق في محبوبتي
وتُريني صوراً في الغيب ما ... نصعت إلا لتنسي مهجتي
أيها الحبُّ لك التقديسُ يا ... صفةَ الربِّ ويا سرَّ الحياهْ
إن لمست الصخر لمساً ينتفضْ ... كائناً يسعى مُدِلاَّ بقواه
تجنحُ النفسُ إلى ظلِّك في ... لهفة الناسك تدعوه الصلاه
وتغني الروحُ من أحلامها ... لكَ لحناً هو زُلْفى للاله(571/29)
أنتَ في كل شروق وغروب ... تمزج الظلمة بالنور الحبيب!
أنتَ تنسابُ مع الماء إلى ... برعم الزهرة في الوادي الخصيب
ثم في الزهرة لَمَّا ترتجي ... بلبلاً يطربها حتى تغيب
ثم في الموت، وفي البعث: مُنًى ... تنشأ الأنفسُ منها والقلوبْ
أيها الحبُّ الذي قامتْ على ... أصله الدنيا ودارَ الفلَكُ
وارتمى النور على أقدامه ... وجثا بين يديه الحَلَكُ
أنتَ في الربح إلى الغاب إذا ... أخذت أغصانها تشتبك
ولقد عشنا بمعناك، وفي ... دينك الحقِّ الأنامُ اشتركوا
معبدٌ أنتَ لأبناء الحياء ... تسجد الألباب فيه والجباه
قد سرى فيه بخورٌ عابقٌ ... باحتراق في الحنايا والشفاه
يغنم الراكع في ساحته ... نعمةَ الإيمان تستهوى دماه
معبدٌ أنتَ ولا يَجْحَدُه ... غير كفَّار بأشواق الحياه(571/30)
اللقاء الأول
للأستاذ أحمد مخيمر
ولما تلاقينا لأولِ مرة ... ورف فمي الصادي على فمك العذبِ
وجدت لينبوع الحياة تدفقاً ... بنفسي، وموسيقى تغلغل في قلبي
وأحسست أني من جديد على الذّرا ... أُطلُّ إلى الأجيالِ، والزمن الرحبِ
هنالك جيث النورُ طلقٌ مجدَّد ... سمعتُ أغاريد السمواتِ والغيبِ
يغنى بها سرْبٌ من الحور هائم ... فناهيكِ من شدوٍ وناهيكِ من سرب
وأبصرتُ أمسي في الحياة، وحاضري ... وبانَ غدي المرجوُّ من خلل الحجْب
وحينَ رنتْ عيناكِ، والحلمُ فيهما ... وظِلُّ الكرى مُلقى على طرف الهدب
ذهبتِ بأحلامي إلى مَشَرع المنى ... وَرُحتِ بأشواقي إلى منهل الحبِّ
وأَدنيتِني للخلدِ حيناً، فلم تزلْ ... تطالعهُ عيناً فؤادي على قُربِ
ولما وقفنا للوَدَاع، وأوشكتْ ... تفيضُ بناتُ العين غرباً إلى غربِ
وهبَّتْ نُسيماتُ الأصيلِ رقيقةً ... أرقَّ من النجوى وأحلى من العتْبِ
يَهجنَ دواعي الشوق بين جوانحي ... فيلمعنَ في أغوارها لُمعةَ الشُّهبِ
أهبتُ بقلبي: قد خُدعتَ بما ترى ... من الثمر المنضودِ والغُصُن الرَّطْب
أغرَّك أن الوِرْدَ دَانِ، وأَنها ... قريبٌ، وأنَّ النور في وجهها يَسْبي!
لعلك لو فتشت عنها وجدتها ... أحابيلَ للدنيا تظلُّ بها تُصْبى
غداة غدٍ أَخشى إذا ما تكشَّفتْ ... تُقلِّبُكَ الآلامُ جنباً إلى جَنْبِ
فقال فُؤادي: كلُّ حبّ لقيتُه ... فَزادٌ يعينُ السالكين على الدَّرْبِ
إذا ما بدَا الحبُّ الكبيرُ لناظري ... نفضتُ يدي مما عرفت من الحبِّ
وهَبنْي سَمعتُ اليوم صوتاً أجبتُه ... فما لَكَ من عَتْبٍ، وما لي ذَنبِ(571/31)
البريد الأدبي
في اللغة
جاء في كلمتي في (57) من الرسالة ما يأتي: (ولا غرو أن تنبو العقول عن مثل هذا التخليط العبث)، وكانت العبارة في الأصل الذي أنفذته إلى الرسالة هكذا: (ولا غرو من أن تنبو. . .)
ويظهر أن المصحح ظن أن (من) من الخطأ، أو من سبق القلم، فحذفها
ولكن إثبات (من) صحيح كحذفها، ففي (الأساس) (لا غرو من كذا: أي لا عجب)
(ا. ع)
تعليقات قرشية مكية
(1)
تثور اليوم على صفحات الرسالة الغراء وفي (بريدها الأدبي) الشائق معركة نقدية هائلة أخالها لا تزال بعد في مرحلتها الأولى.
أما الحملة فمثيرها الأستاذ الكبير (ا. ع) ولقد كان في رأيي - محقاً فيها - وموفقاً إلى حد كبير؛ فآفة الشعر العربي - في النظرة الصحيحة العادلة - هاته البعثرات والقشور يزوقها ويبهرجها من لا يستفظع أن يجعل من روحانية الشعر العربي وموسيقاه الرفيعة معرضاً للسخرية الأدبية والزراية الصاخبة في شكول هي غاية في بلادة التذوق وتحجر الإحساس. ولكن الأستاذ الكبير (ا. ع) رأى أن يجعل من هذا العراك - حداً فاصلاً، وكأنه لم يقتنع بنجاح عمليته في دورها الخطير - فانبرى للشعراء الشباب عامة بالتهكم العارم والنقد اللاذع، وكنا نود لو ترفق الأستاذ رعاية لعهد الشعر في ذاته! فلا مكابرة في أن الشعر العربي اليوم هو في أزهر عصوره الذهبية وأزهاها - إذا استثنينا بعض المشاركات المتشاعرة فيه. وحسبنا تدليلاً على هذا ما تزخر به دواوين الشعر الحديث وسجلاته. ومالي لا أحيل القارئ الكريم على (مجموعات الرسالة العالية)، وما حوته من جيد الشعر ورائعه في جميع سنيها الخالدة. على أننا - ونحن بصدد الحديث عن هذه المعركة الجديدة - نجد لزاماً علينا التنويه بفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) الذي تكرم فأثار هذا الجدل، كما أن(571/32)
من فروض الشكر تقدير مجهود النقاد الرشيق الأستاذ (دريني خشبة) والشاعر المفضال الأستاذ (محمد عبد الغني حسن) على نبله وقصده، أما الأستاذان (سيد قطب وحبيب الزحلاوي) فمن حق القارئ أن يوجه إليهما عتباً لطيفاً على هذا التجني لا يحسن أن يبدر من مثليهما!
(2)
لم يقتصر الأستاذ الجليل العقاد على عبقرياته الرفيعة الأربع فراح يجلو للعالم من حيوات أبطال الإسلام وساداته وعالماته صحائف وضاءة تتجلى بين سطورها ذكريات طيبة حبيبة؛ فثمة (الصديقة بنت الصديق) وثم (عمرو بن العاص) وسيصدر له، إن لم يكن صدر أخيراً ولم يردنا بعد، الكتاب الشائق (عبقرية خالد بن الوليد)، كما التفت ذهن العقاد الشاعر إلى شعر العرب الفني وتراثهم فانبرى يبسط لنا من هيولاه ما يسر ويبهر عن مذهبي الشاعرين الغزليين العظيمين (عمر بن أبي ربيعة) و (جميل بثينه) ومسلكيهما فتكشفت لهما - بفضله - مدرستان عتيدتا الصبغة عما ذخر الباحث وعدة الأديب
أما مجموعة العقاد الأخيرة (عرائس وشياطين) التي انتخب فيها نتفاً وطرفاً من مذخور الأدب ما بين عربية وشرقية وغربية والتي يترجمها في مقدمته: (مجموعة وحي العرائس ذوات الشياطين أو من وحي الشياطين ذوي العرائس تلقيناها من هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية للقراء) فأقرب وصف لها - عندنا - يزاوج بين وضعها وحقيقتها أن نقول إنها حديقة فيحاء ذات أفنان مزهوة ملونة في خمائل شهدية الجني عطرية الشذى منغومة الصدى تتخطر فيها عرائس (هنريك هيني) و (شارل ماكي) و (توماس هاردي) معتنقات مع شياطين (ابن المعتز) و (ابن سهل) و (الشريف الرضي)، وغير أولئك وهؤلاء من الأرواح المرحة المجنحة التي أباحها العقاد ورضى لها أن تتهامس وتتلاقى وتتخالس في حديقته الناضرة المريعة (عرائس وشياطين)
(3)
وهاهو الزمن يسعف ويفي فنقرأ للزيات الحكيم الشاعر، قطعة عتيدة عن المعري الحكيم الشاعر! قطعة رائعة تزخر بالمعاني الخوالد، وتفيض بالألفاظ البارعة، في بيان مشرق(571/33)
زاهر، وإحساس دقيق مرهف، هو بيان الزيات.
لقد أعدت قراءة المقال مرات ومرات، فكان يتجلى لناظري ونفسي أنني أطالع مجلداً ضخماً عن الشاعر الخالد، لا مقالاً موجزاً فيه الفكرة العابرة والنظرة السريعة
الواقع أنني لا أدري - والله - بماذا أصف هذه الفقرات البليغة النابضة: (. . . كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر. ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء، وأنشأ عواطفه وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه! ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله؛ فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس، وقوة الحفظ ودقة التخيل). . .
(صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فنقلب إلى داره نافضاً كفيه من دهر لا رجية له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه!)
(كأن أبو العلاء في شبيبته نسيم زحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا وتغير رأيه في الناس!) أأصف هذا بسحر التعبير، وبنصاعة التدليل، وبدقة الملاحظة، أم أصفه ببراعة المنطق، وعمق التحليل، وبهر الإحاطة، أم أنعته بتلون - الاتساق، وإشعاعات العبقرية ومقدرة الفنان؟!
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
في الأسبوع الماضي انتقل إلى جوار الله شيخ من شيوخ الأدب، وعلم من أعلام الصحافة، هو الأستاذ (عبد الرحمن البرقوقي) منشئ مجلة (البيان)، وصاحب المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ. فجأته المنية وهو مشغول بإعداد الجزء الثالث من كتابه (الذخائر) فأسكتت قلباً كان ينبض بأنواع المعرفة، وأسكنت قلماً كان يجري بمعاني الجمال. والأستاذ البرقوقي(571/34)
كان ثمرة مبارك من ثمار الشيخ محمد عبده، تأثر به في الناحية الأدبية، فكتب في علوم البلاغة، وشرح بعض كتب الأدب. وكان من خير أعماله إصداره مجلة (البيان) في عهد لم يكن للأدب فيه نفاق، فلقي في سبيل ذلك ما يلقى المجاهدون الأولون من الجهد والمشقة في تذليل مصاعب الطريق، وارتياد مجاهل الأرض. جزاه الله على اجتهاده وجهاده خير الجزاء، وعوض أمته وأسرته من فقده خير العوض
إلى الأستاذ محمد عبد الغني حسن
يسرني أن أبدي على صفحات الرسالة إعجابي بما تكتبون، وتقديري لما تحققون، ولا ينقص من قدر ذلك الإعجاب، أو يغض من قيمة هذا التقدير، أن يقع في تعقيبكم على كتاب (الوعي القومي) مما يقتضي التعقيب في زعمي
لقد ذكرتم أن الواو بعد النفي والاستثناء في قول المؤلف (وما من أحد يلمس الحياة العربية الحاضرة إلا ويشعر) لا لزوم لها والفصيح تركها
فهل تقصدون إلى تلك القاعدة التي تقول: (إن الجملة الماضوية الواقعة حالاً بعد إلا يتعين ربطها بالضمير ويمتنع ربطها بالواو)، كما في قوله تعالى: (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)؟
أعتقد أنكم لا تقصدون إلى ذلك ولا تريدونه؛ لأن الجملة في عبارة المؤلف مضارعية مثبتة لا ماضوية
لم يبق إلا أنكم قد عمدتم إلى التنبيه على ما في عبارة المؤلف من الخروج على القاعدة التي تضمنها بيتا ابن مالك
وذات بدء بمضارع ثبت ... حوت ضميراً ومن الواو خلت
وذات واو بعدها انو مبتدأ ... له المضارع اجعلن مسندا
ولكني ألاحظ أنكم قصرتم القاعدة على جملة الحال المضارعية المثبتة الواقعة بعد النفي والاستثناء، مع أنها عامة تنتظم ما وقع بعدهما وما لم يقع، فأني لحضرة الأستاذ هذا التخصيص؟
أحمد مصطفى طاحون(571/35)
الكتب
الشيرازي يغني
سمعنا قبل ثلاث عشرة سنة على شبابة الدكتور عبد الوهاب عزام تناغيم فارس، فلقد غنى هذا الأديب الكبير أناشيد الفردوسي بلغة الضاد ونشر (الشاهنامة) عن المخطوطات التي سلك الأسفار للتنقيب فيها والحصول عليها. فأتم الترجمة النثرية التي أثرت عن (قوام الدين البنداري). ولست بسبيل الفردوسي والدكتور عزام فلهما فينة إطراب وإعجاب سيأتي بها الكتاب، وإنما هذه استهلالة يمر عليها القلم تلقاء كتاب جديد لشاعر فارس أخرجه للناس الدكتور إبراهيم أمين الشواربي المدرس بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، وإنه لترجمة غزل لحافظ الشيرازي كتب مقدمته الدكتور طه حسين بك، فأوفي على الغاية من تحليل أدب الشيرازي كدأبه في مقدماته للكتب القيمة التي يحملها بيده إلى الجمهور لتحل بينه في المقام الكريم. وكتب الأستاذ الفاضل مترجم (أغاني شيراز) توطئة لسيرة الشاعر الفارسي وضح فيها نهج غزله، وفتح الطريق سالكة أمام القارئين، وحقق بعد ذلك في كل منسوخة أثرت لديوان الشاعر على الطريقة الجامعية في تحري المصادر وتنقية الأقوال من تصحيف الناسخين وتحريف الطابعين؛ ثم اندفع في ترجمة عربية نقية يخيل إلى قارئها أنه يرف بروحه على الأبيات لا تعتوره عقبة ولا تصدمه عقدة. إنها مقطوعات اختار لها المترجم بحوراً مزدوجة من كل جانب، ولقد كان منه هذا الازدواج أغنى للكلام في بيت وأوفر للسياق في شطر
يالها غزليات منسوجة بالصوفية كما زعم بعض النقاد، معطرة بالخمرة كما قال الشراب. وقد حار الناس في شعراء الخمر الفارسيين، إذ عرفوا عمر الخيام يسكب على نفسه الخمرة حياً وميتاً، ويشرب الصهباء بكأس من التراب ربما كانت جوانبها من فم امرأة ويدها يد إنسان، فقالوا: صوفي يشطح الشطحات. ولم يقيد الشيرازي قراءة ففتح لهم باب معانيه على مصراعيه، فمن كان منهم صوفي النزعة فهمها على هواه، ومن كان غير ذلك فهم المعنى دون لباس التصوف، وكيفما دار الأمر فإن أشعار الشيرازي خلقت للناي والمزمار، سواء أديرت بها الأذكار، أم لثمت بها الأقمار
إنها لتحفة جديدة في الأدب العربي المعاصر ضمها كتاب قيم زين بصور فنية أبدعت(571/37)
بعضها ريشة المثال الموهوب الأستاذ محمد بديع
(القاهرة)
زكي المحاسني
1 - الوميض
عدلت الكاتبة الفلسطينية المهذبة هدية عبد الهادي في قضية الرجل والمرأة عدلاً تاماً في هذا الكتاب الجميل الذي أذاعت معظم أحاديثه من محطة الشرق الأدنى للاذاعة العربية. ولقد قرأنا الكتاب كله فحمدنا للكاتبة الفاضلة حسن إشاراتها إلى المرأة العربية عامة، والمرأة المصرية بوجه خاص، كما بهرنا الحديثان القيمان عن باحثة البادية وقاسم أمين. . . إن كتاب الوميض، صيحة حق تجهر بها سيدة مسلمة تعترف في صراحة بما للمرأة وبما للرجل من حقوق وواجبات، ونحن يسرنا أن يذيع هذا الكتاب في مصر خاصة ليتم التجاوب المنشود بين الأوساط النسائية في العالم العربي العزيز. وبالكتاب محاولات قصصية بارعة نرجو أن تصلها المؤلفة الأدبية حتى تتم منها مجموعة مستقلة لتساهم في قضية تجديد الأدب العربي على خير وجه. وإن كان لنا أن نلاحظ شيئاً على أسلوب الكتاب فرجاؤنا أن تضاعف الكاتبة عنايتها باستدراك الهفوات القليلة التي لا تنقص من قيمة جهدها المشكور شيئاً
2 - من النقد الفرنسي
أحسن الأستاذ روحي فيصل كل الإحسان في جمع بحوثه الجميلة هذه التي لخصها عن ثلاثة من أئمة الأدباء والمفكرين الفرنسيين، ونشرها في ذلك الكتيب الصغير بحجمه الجم الفائدة بموضوعه. . . إنها دروس حميدة في النقد، عالجت الشعر، والحاجة إلى الشعر (لبول فاليري) والعاطفة في الأدب، والبيان (لغوستاف لانسون) والحياة والشعر (لآبل بونار)، وقد وفق الأستاذ روحي كل التوفيق في تلخيصه هذه البحوث الجيدة التي أكسبها أسلوبه الطريف طلاوة وحلاوة. والكتيب هو الحلقة الثانية من سلسلة (اليقظة) السورية التي تنسج على منوال (اقرأ) المصرية، والتي نتمنى لها الرواج الذي تستحقه
3 - عرفت ثلاثة آلاف مجنون(571/38)
هذا الكتاب مؤلم في حياة المجانين وأحوالهم، ألفه الدكتور آر. سمول، وعربه الدكتور فائق شاكر، والأديب حافظ جميل (مطبعة التفيض - بغداد) وهو يحوي ثمانية عشر فصلاً في أخبار المجانين وأسباب الجنون، وطرق ترويضهم ونوادرهم المشجية، في قصص شائق وتحليل سيكولوجي فريد. والكتاب لا يستغني عنه الطبيب ولا المربي ولا المراهق ولا كاتب القصة ولا المشتغل بالتحليل النفسي. ولا عيب في الكتاب إلا فوضى الأخطاء المطبعية التي يجب تداركها في الطبعة الثانية
4 - رسالة الغفران بالإنجليزية
لا ندري لماذا آثر الأستاذ ج. براكنبري أن يقدم رسالة الغفران لبني وطنه - أو بني لغته - الإنجليز على هذا النحو الذي لم يألفوه في أدبهم. . . لقد كنا نفضل أن ينقل خلاصة لها طويلة على نسق الخلاصة التي كتبها المرحوم الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي مثلاً، والموجودة في بعض أجزاء النظرات. لأن المقصود من نقل الروائع الأدبية هو إعطاء صورة من روحها وموضوعها، لا من شكلها، ولا سيما إن تعرضت تلك الروائع للمشكلات اللغوية ومعضلات النحو والصرف، مما لا يهم إلا أصحاب اللغة نفسها. وما دام الأستاذ المترجم قد نقل الرسالة عن النسخة المحررة التي وضعها الأستاذ كامل كيلاني، فلم تكن مندوحة عن اتباع طريقة الأستاذ المنفلوطي، ولكن على صورة أوسع، ولم تكن ثمة ضرورة في ترجمة الأشعار العربية تدعو إلى الارتباط باللفظ، بل كان يكفي أن يعطي المترجم صورة متماسكة من روح البيت أو القصيدة، مع تقريب المعاني إلى الذوق الإنجليزي بما يناسب طبيعة هذا الذوق نفسه، وهذا ما نفضله نحن في ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية. وما دام الكتاب مقصوداً به أن يقدم للقراء الإنجليز، فلم يكن ثمة داع إلى إثبات هذا القدر الكبير من الشعر العربي - باللغة العربية - في صلب الرسالة. إلا إن كان غرض المترجم هو إضفاء ثوب علمي على عمله. أو أن ينتفع المستشرقون مثلاً بجهده المشكور، فإن كان قد قصد إلى شيء من ذلك، فنحسب أن عامة القراء من الإنجليز لا يزالون في حاجة إلى شيء آخر من رسالة الغفران، لم نقدمه لهم بعد
وفي الترجمة أخطاء يسيرة في نقل معاني الشعر العربي لا يتسع المجال لاستعراضها هنا(571/39)
5 - مباحث في فلسفة الأخلاق
كتاب صغير، إلا أنه جم الفائدة، ألفه الأستاذ الفاضل محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين، فاستطاع أن يضغط فيه فصولاً قيمة في الخلق وتكوينه، والسلوك، والضمير والمثل الأعلى، والقياس والمقاييس الخلقية. . . الخ في عبارة جيدة، وعرض جميل. . . ولولا مغالاة الأستاذ المؤلف في ضغط هذه البحوث حتى أصبحت بالبحوث المدرسية أشبه منها بالبحوث الحرة لكان الكتاب خيراً مما هو. ولعل هذه الإشارة تحفز الأستاذ إلى إطرافنا بتوسيع كتابه ليخلص لنا منه سفر قيم. والأستاذ محمد يوسف موسى من المؤلفين المعروفين بحسن اطلاعهم على الفلسفة الإسلامية خاصة، وكتابه: فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية، هو من أمتع الكتب في موضوعه، وهو آية على اجتهاد الأستاذ وحسن فهمه لما يكتب. وكتابه الثالث: تاريخ الأخلاق آية ثالثة على مقدار ما ساهم به في التأليف الفلسفي في نهضتنا الفكرية الحديثة
(د خ)(571/40)
العدد 572 - بتاريخ: 19 - 06 - 1944(/)
وسائل الوحدة العربية ومقاصدها
للدكتور عبد الوهاب عزام
للعرب موطن واحد أو مواطن متصلة، مترامية بين هضب إيران وبحر الظلمات. وسعة هذا الموطن لم توهن الصلات بين أرجائه المتنائية، فكانت متعاونة متواصلة، على حين لم يكن للناس من وسائل الاتصال وطرق التعارف ما كشفت لهم الحضارة الحديثة، وقد خضعت هذه البلاد كلها حيناً، ومعظم البلاد الإسلامية الأخرى لدولة واحدة الكلمة العليا فيها لرجل واحد، يشرف على هذه الأقطار الواسعة ويدبر أمورها العليا. وكأنما زويت للعرب جوانب الأرض فتدانت أطرافها أو كأنها كانت مصورة على خريطة، كما قلت في الخليفة الوليد:
دانت لسطوته البلدان واجتمعت ... في همة العرب أقطار وأمصار
كأن ما بين شيخون وقرطبة ... على الخريطة للرائين أشبار
فكيف وقد قرب العلم والصناعة ما بين أقطار العالم كله، وصار ما بين مشرق الأرض ومغربها أيسر على المسافر وأقرب مما كان قديماً بين أرجاء القطر الواحد. كيف وقد صار الإنسان وفق الأستاذ روحي كل التوفيق في تخليصه هذه البحوث الجيدة التي أكسبها أسلوبه الطريف طلاوة وحلاوة. والكتيب هو الحلقة الثانية من سلسلة (اليقظة) السورية التي تنسج على منوال (اقرأ) المصرية، والتي نتمنى لها الرواج الذي تستحقه
3 - عرفت ثلاثة آلاف مجنون
هذا كتاب مؤلم في حياة المجانين وأحوالهم، ألفه الدكتور آر. سمول، وعربه الدكتور فائق شاكر، والأديب حافظ جميل (مطبعة التفيض - بغداد) وهو يحوي ثمانية عشر فصلاً في أخبار المجانين وأسباب الجنون، وطرق ترويضهم ونوادرهم المشجية، في قصص شائق وتحليل سيكولوجي فريد. والكتاب لا يستغني عنه الطبيب ولا المربي ولا المراهق، ولا كاتب القصص ولا المشتغل بالتحليل النفسي. ولا عيب في الكتاب إلا فوضى الأخطاء المطبعية التي يجب تداركها في الطبعة الثانية
4 - رسالة الغفران بالإنجليزية(572/1)
لا ندري لماذا آثر الأستاذ ج. براكنبري أن يقدم رسالة الغفران لبني وطنه - أو بني لغته - الإنجليز على هذا النحو الذي لم يألفوه في أدبهم. . . لقد كنا نفضل أن ينقل خلاصة لها طويلة على نسق الخلاصة التي كتبها المرحوم الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي مثلاً، والموجودة في بعض أجزاء النظرات. لأن المقصود من نقل الروائع الأدبية هو إعطاء صورة من روحها وموضوعها، لا من شكلها، ولا سيما إن تعرضت تلك الروائع للمشكلات اللغوية ومعضلات النحو والصرف، مما لا يهم إلا أصحاب اللغة نفسها. وما دام الأستاذ المترجم قد نقل الرسالة عن النسخة المحررة التي وضعها الأستاذ كامل كيلاني، فلم تكن مندوحة عن اتباع طريقة الأستاذ المنفلوطي، ولكن على صورة أوسع، ولم تكن ثمة ضرورة في ترجمة الأشعار العربية تدعو إلى الارتباط باللفظ، بل كان يكفي أن يعطي المترجم صورة متماسكة من روح البيت أو القصيدة، مع تقريب المعاني إلى الذوق الإنجليزي بما يناسب طبيعة هذا الذوق نفسه، وهذا ما نفضله نحن في ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية. وما دام الكتاب مقصوداً به أن يقدم للقراء الإنجليز، فلم يكن ثمة داع إلى إثبات هذا القدر الكبير من الشعر العربي - باللغة العربية - في صلب الرسالة. إلا إن كان غرض المترجم هو إضفاء ثوب علمي على عمله. أو أن ينتفع المستشرقون مثلاً بجهده المشكور، فإن كان قد قصد إلى شئ من ذلك، فنحسب أن عامة القراء الإنجليز لا يزالون في حاجة إلى شئ آخر من رسالة الغفران، لم تقدمه لهم بعد
وفي الترجمة أخطاء يسيرة في نقل معاني الشعر العربي لا يتسع المجال لاستعراضها هنا
5 - مباحث في فلسفة الأخلاق
كتاب صغير، إلا أنه جم الفائدة، ألفه الأستاذ الفاضل محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين، فاستطاع أن يضغط فيه فصولاً قيمة في الخلق وتكوينه، والسلوك، والضمير والمثل الأعلى، والقياس والمقاييس الخلقية. . . الخ في عبارة جيدة، وعرض جميل. . . ولولا مغالاة الأستاذ المؤلف في ضغط هذه البحوث حتى أصبحت بالبحوث المدرسية أشبه منها بالبحوث الحرة لكان الكتاب خيراً مما هو. ولعل هذه الإشارة تحفز الأستاذ إلى إطرافنا بتوسيع كتابه ليخلص لنا منه سفر قيم. والأستاذ محمد يوسف موسى من المؤلفين(572/2)
المعروفين بحسن اطلاعهم على الفلسفة الإسلامية خاصة، وكتابه: فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية، هو من أمتع الكتب في موضوعه، وهو آية على اجتهاد الأستاذ وحسن فهمه لما يكتب. وكتابه الثالث: تاريخ الأخلاق آية ثالثة على مقدار ما ساهم به في التأليف الفلسفي في نهضتنا الفكرية الحديثة
(دخ)
يسمع الإنسان يتكلم في أقصى الأرض، ويعرف الأحداث التي تقع في أبعد الممالك أسرع مما كان القدماء يعرفون أحداث المدينة الواحدة
لقد طويت المسافات والأوقات، وتدانت الأبعاد والآماد. فما سعة الوطن العربي بحائلة دون اتصال أقطاره وتعارفها وتعاونها وتآخيها.
ولهذا الموطن الشاسع لغة وأدب وتاريخ وثقافة، كانت وما تزال على تطاول العصور، وتنائي الديار، واحدة أو كالواحدة. فأما اللغة فقد بقيت لغة القرآن شائعة في هذه الأقطار مسيطرة عليها، فنشأ ما نشأ من اللغات المحلية أو العامية، ودامت اللغة العربية ملتقى عقولهم وعواطفهم، وترجمان آمالهم وآلامهم، ووسيلة تفاهمهم وتعارفهم. فما يلتقي عربي بعربي مهما تباعدت ديارهما إلا ارتفعا قليلاً عن لغتيهما المحليتين إلى العربية الجامعة الواسعة فتحدثا بها، وتعارفا بما علمتهما العربية من قبل من تاريخ وأدب وما طبعتهما عليه من عواطف وآداب، وكأنهما أخوان فرقت بينهما الحادثات حيناً ثم اجتمعا.
وإذا تحدثا في التاريخ رجعا إلى أواصر جامعة، ومفاخر مشتركة فإذا ذكرا خليفة أو ملكا أو أديباً أو شاعراً أو كاتباً أو متكلما أو محدثاً أو مفسراً أو فقيهاً أو فيلسوفاً ذكرا رجالا ليس أحدهما أولى بهم من الآخر، وسمع كل من أخيه ما يعرفه أو ما يسره أن يعرفه من تاريخه، وإذا تحدثا في الحاضر فبينهما على العلات عواطف مولفة، وثقافة مقربة، اجتمع على تأليفها الماضي والحاضر. وكثيراً ما لقينا العرب من غير ديارنا في أوطان عربية وغير عربية فما تناكرت الوجوه، ولا تقاطعت الألسن، ولا تباعدت العواطف، ولا اختلفت المعارف إلا بمقدار ما تختلف معارف رجل عن أخيه في المملكة الواحدة والبلد الواحد
هذا ولم يعمل العرب اليوم لنشر ثقافتهم بينهم، وإشاعة أدبهم فيهم، والتقريب بين عقولهم وقلوبهم، وإنما هو ميراث التاريخ الذي لم تقو الخطوب على تفريقه، ورباط الماضي الذي(572/3)
لم تجرؤ العصور على تمزيقه. فكيف إذا مهدت السبل واتخذت الوسائل لتعريف العرب بثقافتهم الموروثة وإمدادهم بثقافة جديدة مشتقة من تاريخهم وأوطانهم، مستمدة من كل ما أخرجته عقول البشر في الشرق والغرب. كيف إذا اجتمع علماء العرب على نشر ثقافتهم القديمة مهذبة مرتبة موضحة ميسرة، واتفقوا على إشاعة ثقافة حديثة ملائمة بيئاتهم وأحوالهم، ثم اتخذوا في نشر هذه وتلك وسائل النشر الحديثة. إن الكتاب ليؤلف اليوم في القاهرة أو دمشق فيقرأ في بغداد بعد قليل ويقرأ في الغرب بعد حين على كثرة ما وضع من الفواصل التي أريد بها قطع المغرب عن سائر بلاد العرب. فكيف إذا نظمت الحكومات والجماعات وسائل التعليم والنشر، ورفعت العوائق وأزالت العقبات، وتوسلت بما يعرف العالم اليوم من وسائل. إن العالم العربي ليصير إذن بلداً واحداً في ثقافته وتربيته إلا ما تقضى به البيئة من اختلاف بين الأقطار وبين أرجاء القطر الواحد غير مضر بالأواصر ولا مخل بالثقافة المشتركة
والحق أننا حين نتحدث في التقريب بين بلاد العرب أو التأليف بينها لا نحاول أن نخلق أو نضع أواصر وروابط ولا أن نحتال بالأوهام إلى مقاصدنا ولكنها الحقائق الماثلة، والأواصر القائمة التي غفلنا عنها حيناً فما وهنت، وحاول الزمان إنكارها فما خفيت، وعالجتها الحادثات لتزيلها فيما قدرت. إنها خلق الله ومن يغير على الله خلقه، وإنها سنة الله ومن يبدل على الله سنته. وإنها الحق الذي لا يملك الباطل له تحويلاً، والتاريخ الذي لا تستطيع الخدع فيه تأويلاً
بين البلاد العربية من الروابط والأواصر والعواطف ما بين كل أمة موحدة قوية، وفيها من الآمال والمقاصد ما لكل أمة عزيزة طامحة، ولكن ينقصها التهذيب والتدبير والتنظيم والتوضيح. ولهذه كلها وسائلها وهي يسيرة إن صحت عقولنا ونشطت أيدينا
لقد دعا العرب منذ سنوات إلى الاحتفال بذكرى أبي الطيب المتنبي. فاجتمع أدباء من الأقطار العربية في دمشق، وتجاوبت البلاد العربية كلها بهذه الدعوة، واحتفلت بهذه الذكرى، فلم يخل قطر بين دجلة والمحيط الأطلسي من احتفال بالمتنبي وكتابة عنه، وإعراب عن عواطف العرب بشعره. هذا لم تكن الوسائل الكافية قد اتخذت للاحتفال بالشاعر الكبير، ولكنها كانت دعوة صادفت نفوساً متعارفة، وقلوباً متآلفة قد غذاها أدب(572/4)
واحد وأيدها تاريخ واحد، والبلاد العربية تدعو اليوم إلى الاحتفال بأبي العلاء المعري هذا العام. وكل أدباء العرب سواء في الاهتمام به، والدعوة إلى إعظامه. وسيكون احتفال المعري، مرآة لوحدة الثقافة في البلاد العربية
هذه الأواصر والوشائج الطبيعية والتاريخية التي تربط بين بلاد العرب لا تعمل عملها إلا إذا عنينا بها فأحكمناها، وأزلنا العوائق من طرقها، ووجهناها إلى الغاية المرجوة وأحسنا الانتفاع بها. وإلا بقيت كقوانين الطبيعية التي لا يهتدي إليها أو المعادن الغنية التي لا يستخرج ما فيها، أو الأشجار العظيمة التي لا تجني ثمراتها، أو الأنهار الزاخرة التي لا يستقى ماؤها. إن النيل ودجلة والفرات وبردى وأنهاراً أخرى صغيرة تجري في بلاد العرب ولكنها لا تسقيها حتى يسيطر الإنسان على مجاريها ويحوز مياهها ويسوقها إلى الأرض بالسدود والقنوات. وكذلكم هذه الأفكار التي في عقولنا والعواطف التي في قلوبنا والآمال التي في نفوسنا، والقوى التي في أيدينا، وكل ما عندنا وما نستحدث من علم وأدب وخلق كلها تحتاج إلى العناية والرعاية والتوجيه والاستثمار. فنحن في حاجة إلى مؤتمرات للائتمار بيننا في التعليم والتربية والاقتصاد وشؤون كثيرة، ثم اتخاذ الوسائل التي تؤدي بنا إلى ما نؤمل من اتفاق وتعاون على بناء حضارتنا على قواعد وطيدة، والسير إلى مقاصدنا على خطط سديدة. على أن نأخذ للأمور أهبتها، ونعد لها عدتها، ونعرف المقاصد وتخط الوسائل على بينة من أمرنا، وبصر بحاجاتنا، واعتداد بأنفسنا فنخلق من بيئتنا وتاريخنا وأحوالنا وأخلاقنا حضارة فيها من تاريخنا سمات، وعليها من أيدينا ملامات، فليس كرامة أن تقلد ولا تبتدع، وليس حياة أن تستعير من غيرك لباسه، وتستجديه طعامه، وتأخذ منه حليتك وزينتك ثم تزعم أنك نظيره، ولكن الحياة فكر ونصب وعمل ودأب وخلق واختراع واعتداد بالنفس واعتزاز بها، أن تشيد بناءك بيدك لنفسك ثم للناس. إنما الحياة أن يكون للأمة على الأرض آثارها، وسماتها وخصائصها. ولا حرج من بعد أن تأخذ من الأمم وتعطي، ثم تعاون البشر كافة على حضارة إنسانية جامعة
وبعد فعلى الذين يهيمنون على شؤون العرب من رؤساء وزعماء وعلماء وأدباء أن يخطوا للأخلاق خططها كما يخطون للمعارف والصناعات وغيرها. فما يرتفع لأمة بناء على غير قواعد من أخلاق قوية صحيحة فاضلة. ولا يستقيم لها في الحياة منهاج إلا على هدى(572/5)
الفضائل. والمكارم. إننا وقد أخذتنا الفتن والمحن، وألقت علينا الحوادث أعباء باهظة لا نستطيع أن نثبت ونجد إلا بعدد من الأخلاق وأسلحة من الفضائل. ويخشى أن نفتن عن أنفسنا فنضل طريقنا، ونفقد سجايانا ثم لا يردنا إليها الجهاد الطويل، والجد الدائم والندم الضائع وقديماً قال شاعرنا العربي:
ما تنسج الأيدي يبيد وإنما ... يبقى لنا ما تنسج الأخلاق
وحديثاً قال شاعرنا شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فليحسن سادتنا وقادتنا القيام على أخلاق هذه الأمة، وليحسن الشعراء والكتاب تربيتها وتغذيتها وليجنبونا كل فكرة سقيمة، وكل معنى عليل، ليجنبونا الألفاظ الرخوة والمعاني الدنيئة، فلا يهبطوا بشبابنا إلى الدرك الأسفل حيث تموت الهمم، وتخمد العزائم، وليسموا بهم إلى المعالي التي تطمح إليها النفوس الأبية القوية الطماحة
أمامنا تجاربنا وتجارب الأمم، فلنعتبر ونتعظ، فالسعيد من وعظته الحوادث وأخذ من الأيام العبر، واهتدى بهدى التاريخ، واستمع لنصائح الزمان. إن الزمان يسرع، والحوادث تتوالى، والأعمار تمضي، والتاريخ يسجل والأجيال تقرأ، فليسرع بنا التفكير والتدبير ولتحكم الأقوال والأفعال، لنساير الزمان بكفتيه من الأهبة، ونلقى التاريخ بملئه من العمل الصالح، والمجد الباقي
وبعد فالعرب اليوم، على علاتهم، فيهم من العقول والأخلاق وبينهم من الروابط والعواطف، ولهم من التاريخ والمكانة ما يؤلف أمة قوية رشيدة عزيزة كريمة فاضلة. وليس لمسير القافلة إلا أن يبين الطريق وتصلصل الأجراس
وليست دعوة العرب إلا إلى الكرامة والعزة وإلى الخير والحق والوئام والسلام. وليست نيتهم إلا الخير للناس جميعاً. لا يريدون إلا أن يتخذوا مكانهم بين الأمم، ويؤدوا نصيبهم في الحضارة الإنسانية، ويوفوا دينهم للتاريخ. ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل أنصار حق ودعاة أخوة وبناة مدينة وأئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون. ليست دعوة العرب عدواناً على أحد ولا عداء لأحد، وإنما هي دعوة الأمة الكريمة العزيزة العادلة التي تعرف ما يجب عليها لنفسها وللناس، وتحرص على أن تحمل ما هي أهل له من الأعباء، وتشيد ما هي(572/6)
جديرة به من المكارم، وتأخذ حقوقها وتؤدي واجباتها على سنن بين من العدل والإحسان، وخطة قويمة من الهدى والرشد. والله المسؤول أن يهيئ لها من كل أمر رشدا
عبد الوهاب عزام(572/7)
بعث القديم
للدكتور محمد مندور
ليس من شك في أن ثقافتنا الحديثة تقوم كما قلنا في المقال السابق على أساسين: بعث التراث العربي القديم والأخذ عن أوربا، ولقد كان للحملة الفرنسية في ذلك أبلغ الأثر وذلك لأمرين: نقل الطباعة إلى مصر وفتح منافذ بلادنا على العالم الغربي. ولا ريب في أن عودة الفرنسيين إلى بلادهم حاملين آلات الطباعة التي كانوا قد أتوا بها إلى مصر قد أخر نهضتنا الثقافية ما يقرب من جيل، وذلك لأننا لم نستطيع أن نستخدم الطباعة بعد ذلك إلا في سنة 1822 أي بعد الحملة الفرنسية بعشرين عاماً، وإذا ذكرنا أن حركة البعث العلمي في أوربا لم تصب ما أصابت من نجاح في القرن السادس عشر بعد الميلاد إلا بفضل تلك الطباعة، أدركنا أن نهضتنا الثقافية الواسعة لم تبدأ في حقيقة الأمر إلا منذ استخدامنا لآلات الطباعة على نحو مطرد أي منذ سنة 1822 كما قلنا، وإنه وإن تكن الجمعيات العلمية التي ألفت لنشر الكتب لم تتكون في حقيقة الأمر إلا بعد ذلك بكثير؛ فجمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860 وهي تشبه في تكوينها إلى حد بعيد لجنة التأليف القائمة الآن وشركة طبع الكتب العربية التي كان من أعضائها حسن باشا عاصم وأحمد بك تيمور لم تتأسس إلا سنة 1898؛ إلا أن حركة البعث أقدم من ذلك بكثير فهي لم تنتظر تكوين الجمعيات لتبدأ، ولعل انتشار الأفكار الأوربية بفضل أعضاء البعثات كان من أهم الدوافع لذلك البعث، فرجل كرفاعة الطهطاوي قد فطن بلا ريب أثناء إقامته بفرنسا إلى أن النهضة الأوربية التي رآها قد ابتدأت بحركة بعث قوية للآداب القديمة لاتينية ويونانية، ولهذا كان يؤمن بأن نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعنى إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي
ولقد ظهرت آثار هذا البعث في الشعر قبل ظهورها في النثر، وأكبر شخصية تمثل بعث الشعر هي بلا شك شخصية محمود سامي البارودي، وتلك ظاهرة من اليسير فهمها، فالنثر الذي كان شائعاً عندئذ لم يعد أن يكون: إما نثراً تعبيرياً يستخدم في التأليف العلمي أو في الصحافة، وإما نثراً شخصياً كالذي نجده في الرسائل، والنوع الأول لم يكن يخلو من عجمة في الصحف ومن نزعة للجدل والتعقيد في التأليف. والنثر الشخصي ظل نثراً مسجوعاً(572/8)
لفظياً متكلفاً حتى عند أولئك الكتاب الذين نمت ثقافتهم حتى امتلكوا أفكاراً يغنيهم جمالها أو عمقها عن تزويق اللفظ كالأستاذ الإمام الذي ظل يكتب بالأسلوبين معاً، أسلوب التأليف وأسلوب الرسائل
وفي الحق إننا لا نعرف أسلوباً يتميز به الأدب الحديث بأضيق معانيه غير أسلوب القصة، فهي أكبر مظهر من مظاهر الأدب الحديث، وليس بخاف أن القصة حديثة العهد ببلادنا وهي بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهذا واضح في حديث عيسى بن هشام؛ فأسلوب المويلحي رغم حرصه على أوجه العبارة البلاغية لا يخلو من فكر وإحساس صادقين، وذلك لأن القصة بطبيعتها تقدم للكاتب مادة، وكل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة
ومنذ أن خطا أسلوب النثر تلك الخطوة أخذ يشيع في غير القصص حتى امتد إلى المقالة أو الموضوع القصير على نحو ما نجد عند السيد توفيق البكري الذي جمع في أسلوبه بين الصنعة اللفظية وجمال الصور الخيالية وصدق الإحساس أو أصالة الرأي. ولكننا رغم كل ذلك لا نستطيع أن نقول إن النثر قد وصل عندئذ إلى ما لم يكن بد من أن يصل إليه ليجاري النثر الأوروبي فيصبح تعبيراً مباشراً عن فكر غني أو إحساس صادق ثم يتسم رغم مباشرته بصفات الأدب كعمل فني، وتلك مرحلة لم نصل إليها إلا في القرن العشرين. وليس من شك في أن السيد مصطفى لطفي المنفلوطي هو الذي خطا بنثرنا إلى تلك المرحلة الأخيرة، ومنذ ظهور هذا الكاتب العظيم لم يلبث النثر أن استحصد حتى سبق الشعر
واليوم ننظر في نثرنا فنرى تيارين كبيرين ينطوي في أثناء أحدهما المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الأحساس، ولكنهم يجتمعون معاً في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شئ اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً، ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها(572/9)
والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر. ولقد كان لعدم معرفة هذا الكاتب باللغات الأجنبية معرفة تعمق وإحساس، ما احتفظ لأسلوبه بالسلاسة العربية الصافية. وأما غيره من كتاب هذا التيار فلن تعدم أن تجد في أسلوبهم آثاراً واضحة للتأثر باللغات الأجنبية، وما نظننا في حاجة إلى أن ندل على ما في أسلوب كاتب كبير كطه حسين من تأثر واضح بطرق الأداء الفرنسية
وأما الشعر فقد سبق النثر - كما قلنا - إلى التحلل من سخافات الصنعة اللفظية وتفاهة المادة، وسر هذا التحرر يرجع إلى بعث الشعر العربي القديم من جهة، وإلى طبيعة هذا النوع من الأدب من جهة أخرى، فنحن نلاحظ أن البارودي قد سلك إلى تكوين مذهبه الشعري نفس المسلك الذي سلكه من قبل أبو تمام، فالشاعر العباسي قد كان دائم القراءة للشعر القديم والاختيار منه، حتى قالوا إنه قد ألف ثمانية أنواع من المختارات، ولا يزال بين أيدينا ديوان الحماسة شاهداً بأن هذا الشاعر كان أحسن اختياراً وتذوقاً للشعر منه خلقا له. وكذلك فعل البارودي، فمختاراته تضم جانباً كبيراً من خير ما خلف العرب. وشعر البارودي نفسه شديد الشبه بشعر المتنبي، كما أن شعر صبري باشا يكاد يحكي شعر البحتري، وفي هذه الحقائق ما لا يدع مجالاً للشك في أن نهضة الشعر الحديث عندنا إنما قامت على بعث القديم ومحاكاته
وموضع التساؤل هو: كيف يستطيع شعر يقوم على محاكاة القديم أن يعبر عن حياة جديدة؟
هذه المشكلة سبق أن واجهها الأدب العربي واقتتل حولها النقاد والشعراء، ففي العصر العباسي سخر أبو نواس من الدمن والأطلال وبكاء دعد وإسعاد الرفيق وإلف الناقة، وظنه تجديداً أن يخرج على تلك الأوضاع ليغازل الخمر ويداعب الغلمان ويصف القصور والحدائق. وهذه النظرية وإن تكن لها وجاهة الظاهر، إلا أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون وجاهة سطحية، فالفن ليس بهياكله، وإنما هو بروحه وصياغته، ولا أدل على ذلك من أننا لا نزال إلى اليوم نؤمن بأن خير ما خلف العرب من شعر هو لا ريب الحنين إلى الديار، وذلك لأن هذا الحنين وإن لم يمت إلى تجاربنا الحاضرة بسبب من واقع الحياة، إلا أنه يرمز في حقيقة الأمر إلى مشاعر إنسانية عامة، لا تزال ولن تزال من أجمل ما نحمل من(572/10)
مشاعر، فهو يثير في النفس شعور الإلف والحنين إلى الماضي، والتعليق بالأمكنة التي لا ريب لها أرواح تعلق بأرواحنا فتحملها على المحبة. والإحساس بالأمكنة وما تحوى من ذكريات ومسرات والآم من أخصب منابع الأدب. ونحن بعد لا نحتاج إلى أن نمارس بالفعل كل التجارب التي نتحدث عنها في أدبنا، وإلا كنا فقراء الخيال. ومن يستطيع أن يزعم أن كاتباً أو شاعراً ما قد بلا بنفسه كل ما يتحدث عنه؟ وهل ننسى أن جانباً كبيراً من آداب العالم أجمع لا يمثل ما عاشه كتابه بالفعل، بل ما ودوا أن لو عاشوه؟ والواقع والخيال يرجعان بعد في الأدب الصادق إلى منبع واحد، هو القلب البشري. وأساس النجاح هو أن يستثير الكاتب فينا إحساساً حقيقياً، سواء أكان ذلك الإحساس التفاته إلى ماض عرفناه، أو تلهفاً إلى مستقبل نود أن نعرفه، أو مزيجاً منهما وإذن فعندما نسمع الشاعر الذي يقول:
ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى ظمياء، حبيت واديا!
لا نملك إلا أن نهتز، ولو لم نر في حياتنا سيلا ولا وادياً ولا عرفنا ظمياء
والشعر القديم أمس قرباً بالروح الشعرية بحكم موضوعه وصياغته، فالطلل والناقة أحب إلى النفس من القصر والسيارة. الطلل يستثير معنى الغناء، ونحن البشر لا يحركنا معنى أكثر مما يحركنا هذا المعنى. وإن كان من نعم الله أننا ننساه أغلب الوقت، وربما كان في هذه الحقيقة ما يزيده قوة حينما يثار. والناقة حيوان أليف صبور ودود، ولا كذلك الآلة الصماء، وصياغة الشعر القديم كموضوعاته ألصق ما تكون بحقيقة الفن. الشعر الجاهلي يجمع على نحو رائع شاعرية الروح وواقعية العبارة، حتى ترى صورة مادية قريبة مأخوذة من واقع الحياة وقد خلت من كل تكلف فاسد
لقد ابتدأ البعث الشعري في بلادنا إذن بإحياء القديم، ولكن هذا الإحياء لسوء الحظ جنح إلى العصر العباسي، حتى إننا لا نزال إلى اليوم أكثر معرفة ودراسة لأدب ذلك العصر منا للأدب الجاهلي والأموي، وذلك فيما يبدو لسهولة الأدب العباسي ومشقة الأدب القديم، ثم لأننا فيما أعتقد لم نصل بعد من النضوج الفني إلى حيث نؤمن بتلك الحقيقة الكبيرة التي قال بها من قبل الرجل الصادق الذوق السيد المرصفي من أن خير الأدب العربي الجاهلي والأموي.(572/11)
ونحن نعتقد أن الإمعان في دراسة ذلك الأدب الجاهلي وتذوقه هو الوسيلة الوحيدة للخطو بشعرنا التقليدي خطوة جديدة أو على الأقل لصيانته من أن ينقرض أمام تيار الشعر الحديث المستمد من الأدب الغربي
هذه هي مظاهر البعث الأدبي في مصر المعاصرة أجملناها، وبقى أن ننظر في النقل عن أوربا، وكيف أثر هذا النقل فيما بعثنا من تراث، وكيف تفاعل معه ليخلق نوعا جديداً من الحياة الثقافية نخشى أن يكون جانب كبير منها مفتعلا، ولكننا نرجئ تفصيل ذلك إلى المقال الآتي
محمد مندور(572/12)
3 - رسائل التعليقات للرصافي
وحدة الوجود في الفلسفة اليونانية
للأستاذ دريني خشبة
ذهب الأستاذ الرصافى في تعليقاته إلى أن (وحدة الوجود) هي شئ لم تعرفه الدنيا قبل الإسلام، وأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أول من عرفها، وأنه لم يذكر منها شيئاً لأصحابه إلا ما لمح به منها لأبي بكر، وإن يكن قد أشار إليها في القرآن، ثم ظلت مجهولة حتى القرن الثاني من الهجرة حينما جهر بها المتصوفة الذين يعدهم الأستاذ وحدهم فلاسفة المسلمين (ص 13 - 14)
وقبل أن نخوض في هذا الحديث الذي لم نكن نؤثر أن نعرض له لو لم يدع الأستاذ الرصافي جميع المسلمين إلى الأخذ به، عائباً عليهم أخذهم بظاهر ما أتاهم الرسول به، وعدم فهم ما قال (محمد) في القرآن على أصله، مستشهداً على غفلة المسلمين بكلام لمستشرق إيطالي جاهل يقول: (إن المسلمين تمسكوا بمتن الإسلام لا بروحه، فأغمضوا عيونهم على شكل الأحكام التي أثبتها محمد، وبقوا جامدين عليها، فلذا بقيت على ما هي عليه من ركود وجمود، أي بقيت ديناً ابتدائياً لا يتمشى مع كل زمان؛ وليس ذلك من عمل محمد، بل هو من عمل المسلمين. . .) ص 203، داعياً لهذا المستشرق بالا يفض الله فاه لقوله هذا الكلام. . . فض الله فاه وأفواه الزنادقة أجمعين!
لولا هذا اللغو الذي يدعونا الرصافي إليه، ولولا أنه طبعه في كتاب وزعه وأهدى منه، لما آثرنا أن نخوض في إفك نهانا رسول الله عن الخوض فيه حتى لا نهلك. . . ولكن ما الحيلة ونحن نرمي بالجمود والدعوة إلى الحجر على حرية الفكر إذا دعونا إلى محاربة هذا البهتان الذي شاع في الدولة العباسية؛ فكان في شيوعه القضاء على أمجاد المسلمين الفكرية والسياسية
قبل أن نخوض في هذا الحديث إذن نحب أن نعود بالأستاذ الرصافي، هداه الله، إلى ما قبل الإسلام بقرون عشرة أو نحوها. . . لنستعرض ما كان يراه فلاسفة اليونان في هذا الوجود، وذلك منذ أن بدأت الإنسانية تتفلسف تلك الفلسفة التي نمقتها، وإن تكن هي التي هدتنا إلى الله خالق كل شئ. . . المحيط بكل شئ، الهادي إلى سواء السبيل. وسنجتهد ألا(572/13)
نلتوي بالقراء في مهامه تلك الفلسفة اليونانية التي تصور لنا أخصب نضال فكري في التاريخ للاهتداء إلى الحق. ومع ذلك فلم يفز الحق منها بشيء: وسنرى أن اليونان فكروا في وحدة الوجود، وأن مشكلات هذه الوحدة كانت تتعقد في رؤوس فلاسفتهم تعقداً يقف عند أصول مضحكة، لأنها مزيج من خيبة الرجاء، ومن الخبط في ظلمات لم يحن الحين للتفكير الإنساني أن يستجلى أسرارها. ومع أنه من الجرأة أن نلخص هذه الأفكار المتضاربة في عمود أو عمودين من أعمدة هذه المجلة، إلا أننا مضطرون إلى ذلك، لنضحك آخر الأمر على وحدة الوجود التي تملأ أدمغة متصوفينا، كما ضحكنا أياماً ونحن نكب على الفلسفة اليونانية نتأملها ونتدارسها عسى أن تهدينا إلى شئ نفرح به
1 - فكر طاليس في نشأة الموجودات، حية وجامدة، فزعم أنها نشأت من الرطوبة ولكن كيف نشأت؟ هذا ما لم يستطع طاليس أن يفسره
2 - ثم زعم تلميذه أنجزماندر أنها خلقت من مادة غير معينة ولا محدودة، وذلك بالانفصال عنها، ثم قضى الله عليها بالفناء في تلك المادة ثانية للأنانية التي أبدتها في أن تكون لها حياتها المستقلة!
3 - ثم زعم أنجز مينس أنها البخار - وأن الأشياء قد خلقت منه، إما بالتكاثف (السحاب والماء والتراب) أو بالتخلخل (النار والشموس)!
4 - ثم جاء فيثاغورس وأتباعه الذين اقتدوا بأورفيوس الموسيقي في تقشفه وزهده واتخذوا البياض شعاراً لهم وسعوا إلى تطهير النفس من أدران المادة بالتفكير الفلسفي فزعموا أن الأشياء قد خلقت من العدد (!!) وملئوا فلسفتهم بالألغاز التي لا يفهمها من ليس من طائفتهم
5 - ثم كان أجزنوفانس المنشد الذي ثار بأساطير هومر الإلهية ودعا الناس إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شئ والذي تنزه عن الأعضاء، فهو سميع كله سمع، وبصير كله بصر وعاقل كله عقل. . موجود في كل الوجود إلا أنه كان يؤمن بأن الله (حال) في العالم، وأنه ليس شيئاً غيره، وهو لذلك أول قائل بوحدة الوجود
6 - ثم جاء بارمنيدس فأنكر كل ما تدركه الحواس ولم يؤمن إلا بما يدركه العقل، وذهب إلى أن كل شئ غير الوجود - الكينونة! - خداع ووهم، لأن المحسات كلها فانية والوجود(572/14)
وحده هو الأزلي الخالد، إلا أنه عاد فاعترف بكرّية الوجود وأنه يشغل مكاناً وفي ذلك اعتراف ضمني بمادية الوجود. . .!
7 - ويؤيد الفيلسوف زينو ما ذهب إليه بارمنيدس، وينكر الحسيات والتعدد والحركة (وسبحان واهب العقول!) فكأنما العالم عند هؤلاء عالمان، عالم الوجود المعنوي، وعالم الوهم (اللاوجود) الحسي - أما ما هي العلاقة بين العالمين فلم يحاولوا تبيانها
8 - ويجئ هرقليطس فينقض آراء من تقدموه، ويعترف بالتقاء عالمي الوجود واللاوجود، بل باتقاء المتناقضات كلها، محتجاً بأن التناقض هو في نظرنا فحسب، ثم يرتأي أن العالم كله مخلوق من النار، وأنه دائم التحول لا يثبت على حال واحدة لحظة واحدة، وأن العقل الإنساني والحياة الإنسانية هما قبضة من تلك النار تشتعل بالحواس والتنفس - ودوام التحول هو دوام الاشتعال إلى أعلى وإلى أسفل الخ
9 - ثم يأتي إميذوكلس فيرد المخلوقات إلى أربعة جذور (عناصر!): التراب والماء والهواء والنار، ويزعم أنها لا تتغير في طبيعتها وأن الذي يقوم بالاتصال بينها هو الحب (الجاذبية) وأن الذي يقوم بالانفصال بينها هو البغض (التنافر). ويتناوب الحب والبغض تجميع العناصر وتفريقها إلى الأبد، فمرة ينتصر الحب فيصير الكون مزيجاً (وحدة) وأخرى ينتصر البغض فتتفرق العناصر
10 - وتأتي نوبة الذريين، فيقول ديمقريطس إن العالم يتركب من ذرات يدفع بعضها بعضاً، خبط عشواء (!!) فيناقضه أناجزا جوراس الذي يقول بتعدد العناصر وبوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة هي (العقل) أو ما يسميه هو ? تتولى تحريك تلك العناصر وتوجهها وجهة غائية صالحة تضمن جمال الكون ونظامه، إلا أنه يعتقد قدم العقل والعناصر على السواء وأن أحدهما لم يخلق الآخر، وإن حرك العقل العناصر وألف معها (وحدة الوجود!) - ومع ذاك فقد ظل اثنينياً آخر الأمر
11 - ويأتي (دور) السوفسطائيين الذين يعنون بالحياة العملية، ويهملون الفلسفة النظرية، وزهدوا في المناقشة حول الآلهة. . . ويقول أحدهم (بروتاجوراس): (إنني لا أستطيع أن أقرر إن كانوا موجودين أو غير موجودين، كما لا أستطيع أن أستبين صورهم، وإن حياتنا القصيرة لا تساعدنا على معرفتهم معرفة صحيحة لشدة الغموض الذي يكتنفهم!) وبهذا(572/15)
أثاروا الشكوك وزعزعوا العقائد، وإن خدموا الثقافة خدمة جليلة.
12 - ويصلح سقراط ما أفسده السفسطائيون، وينشئ نظرية المعرفة القائمة على الإدراكات العقلية والمعاني الكلية، والتي جعلها أساساً للفضيلة كما جعل الجهل أساساً لكل الشرور، وتجاهل عواطف المرء وشهواته؛ فكانت نقطة الضعف في فلسفته التي ردت إلى الناس إيمانهم بالحقائق الخارجية على أساس ثابت غير الأساس القديم الساذج الذي هدمه السوفسطائيون. وقد انقسم أتباع سقراط بعد موته إلى طوائف ثلاث، فانصرف الكلبيون عن زخرفة الحياة وآثروا التقشف، وزهدوا في العلوم والفنون. بل دعوا إلى الجهل مكتفين بالفضيلة التي تكفل لهم السعادة! أما القورينيون فقد خالفوا الكلبيين في طريق الوصول إلى الفضيلة ولم يروا السعادة في الزهد والتقشف، بل رأوها في اللذة والاستمتاع بكل ما تصبو إليه النفس في حدود الاعتدال حتى لا تكون النتيجة شراً، وكلما كانت اللذة حسية كانت في نظرهم أضمن جلباً للسعادة من اللذة الذهنية، ولهم في شرح الملذات كلام طويل عجيب - أما الميجاريون فقد نشدوا السعادة - أعني الفضيلة - في حياة التأمل والمعرفة - في التعمق الفلسفي، واستكناه حقيقة هذا الوجود
13 - ثم كانت نظرية المثل التي قال بها أفلاطون، وأن لكل شئ مثالاً من الكمال مجرداً من الحس يسعى إليه، فهو يجعل المثل ذوات مستقلة عن الأشياء لها وجود قائم بنفسه، وجعل مثال الخير أساس جميع المثل: ومع أن أفلاطون يعترف بوجود إله خلق العالم ويمسكه ويدبر أموره فهو يتردد بين الوحدانية والتعدد، ولا يحدد العلاقة بين الله ومثال الخير؛ والعالم عند أفلاطون عالمان. عالم الحقيقة وهو عالم المثل، وعالم الظواهر وهو هذا العالم المحس، وهو صورة لعالم المثل. ثم هو يؤمن بالتناسخ، فتعود النفس السعيدة إلى عالم المثل وتبقى فيه حقبة ثم تعود فتحل في إنسان آخر؛ فإن كانت شقية عذبت قليلاً ثم حلت في جسم مخلوق وضيع، والسعادة عند أفلاطون هي الإحاطة بعالم المثل، وفهم العلاقة بين المثل والمحسوسات والتمتع بالمتع البريئة، ثم تحصيل أكبر قدر من الثقافات، ونرانا من أفلاطون أمام ثالوث عجيب: المادة، والمثل، والله، وكلها قديم. وهذا هو الضلال
14 - وقد نقد أرسطو نظرية المثل وهدمها من أساسها لما خلق أفلاطون من هذا العالم الخيالي الذي يوازي هذا العالم المدرك، ولأنه لم يستطيع تعليل كليهما ولا تعليل الحركة(572/16)
في العالم الثاني. وقد رأى أرسطو أن سبب هذه البلبلة في أفكار الفلاسفة هو عدم وجود قواعد ثابتة تضبط أفكارهم وكلامهم فاخترع المنطق لهذا الغرض. وقد عرض لمسألة الله وخلق العالم فنفي الزمنية بينهما، بل جعلهما مقترنين، اقتران المقدمة بالنتيجة، فلم يكن الله أولاً ثم كان العالم. وبهذا كان العالم قديماً عند آرسطو. . . والله عنده هو الكمال المطلق والعلة الصورية الغائية التي تحرك هذا العالم بجذبه إليه. وهذا هو الترقي، اقتراب العالم من الكمال المطلق. . . وما دام العالم قديماً فهو لا أول له. . . وكذلك لا نهاية له. . . واضطرب أرسطو في تصور ذات الله، هل له وجود مستقل مشخص، أم ليس له هذا الوجود المشخص للمستقل؟ فقول آرسطو مرة إن الله يحيا في سعادة أبدية، وأنه هو الوجود المطلق يدل على التشخيص والوجود المستقل؛ ولكن تعبيره عنه مرة أخرى بأنه هو الصورة المجردة يعني أنه من مادة لا وجود لها. . . وعلى هذا فلا وجود له إلا هذا الوجود المعنوي. وليس بعد هذا اضطراب في فلسفة المعلم الأول الإلهية. أما فلسفته الطبيعية فسليمة لا غبار عليها، إذ تتبع هذه الفلسفة نشوء العالم من الهيولي إلى الصورة، وإن فضله دروين في هذا الباب
وبعد، فكيف بعد هذا العرض السريع لهذه الناحية من نواحي الفلسفة اليونانية يزعم الأستاذ الرصافي أن وحدة الوجود هي شئ إسلامي بحت لم يعرفه إلا محمد، ثم فلاسفة المتصوفة المسلمين بعد محمد بقرن أو قرنين من الزمان؟!
ثم ماذا أصاب الفلاسفة اليونانيين من الهلكة والتخبط، من لدن طاليس أول فلاسفتهم إلى آرسطو أعظم مفكريهم، بسبب القول باندماج الله في العالم أو العالم في الله. . . إلا من هدى الله!
أما الرد على الأراجيف التي تنشأ عن هذا الإفك، فليس هذا أوانه
دريني خشبة(572/17)
2 - التناقض
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
إن الأمثلة التي ضربناها لنناقض صاحب الكتاب لا تمثل كل مظاهر فساد التفكير الفاشي في الكتاب، وليست هي كل أمثلة التناقض فيه على الرغم من أن أكثر الكتاب تراجم ونصوص في كثير منها طول، وهذه وتلك تقي بطبيعتها صاحب الكتاب أن يظهر عيوب تفكيره اللهم إلا إذا تطوع بالتعليق
فمن أمثلة وقوعه في التناقض حين يأخذ في التعليق وهو يترجم لرجال القرن الرابع ما وقع في كلامه على ابن شهيد؛ فقد روى لابن شهيد رأياً يناقض صريح رأي زكي مبارك في الأسلوب، وأقره على ذلك الرأي فهدم بذلك رأي نفسه وتناقض من حيث لا يدري. روى له في صفحة 51 من الجزء الثاني قوله: (إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازج القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر وطابت المخابر) إلى آخر ما روى له. ثم علق عليه بقوله: (وهذا كلام جيد، وأجوده ما نص فيه على أن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام؛ فإذا جاور النسيب النسيب ومازج القريب القريب طابت الألفة وحسنت الصحبة) وليس لتعليقه هذا معنى إلا أنه يقر للأسلوب بما أنكره مراراً من قبل. فإن تناسب الحروف من صميم الأسلوب أو هو الأسلوب صرفاً، لأنه يتعلق باللفظ والصيغة دون المعنى. فهذا نص لا يستطيع صاحب الكتاب تمحلاً ولا تأويلاً له، يضاف إلى ما ناقض به نفسه سابقاً في أمر الأسلوب، وينقض عرضاً كل ما كتب عن أسلوب القرآن، لأن القران الكريم هو المثل الأعلى لهذه الظاهرة البلاغية التي نبه إليها ابن شهيد، وأقرها واستجادها زكي مبارك في غفلة من ذاكرته وهواه. على أن هناك نصوصاً أخرى له غير التي سبق ذكرها ينقض بها مذهب نفسه في الأسلوب وإنكار مكانته قد تأتي لبعضها مناسبة فنذكره
ومما جاء فيه صاحب الكتاب بقول مختلف استقامة ألسنة الأعراب. فهو يقول في صفحة 55 من الجزء الأول: (وأرى من المضحك أن يظن أن العرب لم ينتبهوا إلى وقوع اللحن في لغتهم إلا بعد الإسلام، وأن اتصال العرب بالأعاجم هو الذي رماهم باللحن، كأن لغة(572/18)
العرب بدع من اللغات لا يلحقها تغير ولا تبدل، وذلك رأي واضح البطلان) وهو هنا يخلط بين اللحن وبين التغير الطبيعي الذي يطرأ على اللغة بالتدريج في الدهر الطويل والذي نشأت وتنشأ عنه اللهجات، والذي لا يمكن أن يعد من اللحن بحال. لكن لا علينا، فنحن هنا لا ننظر في صحة نتائجه، ولكن في اتساق تفكيره؛ إذ النتائج قد يرجع بطلانها إلى فساد المقدمات مع اتساق التفكير أو إلى فساد التفكير مع صحة المقدمات، كما قد يرجع طبعاً إلى فسادهما معاً. فلتكن مقدمات صاحب الكتاب ما تكون أفهو متسق التفكير؟
لقد أشار إلى هذه النقطة في موضعين آخرين على الأقل. أشار إليها عرضاً في صفحة 58 من الجزء الأول حين أراد توكيد تأثر نثر الصدر الأول بالمدنيات الأجنبية. قال: (ولا عبرة بما عرف عن فريق من العرب من الحرص على تربية أبنائهم تربية عربية صرفة، فإن هذا لم يكن يراد به صرف الشباب العربي عن فهم المدنيات الأجنبية، وإنما كان يراد به حمايته من العجمة التي كانت تعيب الأرستقراطية العربية، وتجعل صاحبها موضع السخرية بين معاصريه) وهو بهذا يشير طبعاً إلى ما هو معروف عن العصر الأموي من إرسال بعض الأمراء والخلفاء أبناءهم إلى البادية لينشئوا فيها على استقامة اللسان والسلامة من اللحن. لكن اقرأ الآن له من صفحة 21 من الجزء الثاني: (فإننا نرتاب في سلامة الأعراب من اللحن والغلط، ونرى أنهم قد يلحنون كما يلحن المولدون)! إذن ففيم كان إرسال الأبناء إلى البادية حماية لهم من العجمة التي كانت تعيب الأرستقراطية العربية؟ لقد كان ذلك عبثاً إن صح رأي صاحب الكتاب في أن الأعراب قد يلحنون كما يلحن المولدون. ولو وقف قول صاحب الكتاب عند هذا لكان الخلف خفياً بين طرفي أقواله الثلاثة وبين أوسطها، ولجاز أن يلتمس له شئ من عذر، لكنه - وهذا موضع العجب - علق على قوله الثالث في الهامش بما يأتي:
(ويجب أن نذكر أن الشعر الجاهلي والأموي كان يجري على قواعد من النحو لم تأخذ صيغة نهائية في التحديد والترتيب، كما اتفق ذلك في العصر العباسي؛ فأغلاط الجاهليين والأمويين ليست أغلاطاً بالقياس إلى لغتهم هم، وإنما هي أغلاط بالإضافة إلى اللغة التي حدد قواعدها النحويون)! إذن فلم رميهم باللحن حين لا لحن ما داموا كانوا ينطقون طبق لغتهم هم، وافقت نحو العصر العباسي أو خالفته؟ إن هذا الرجل لا يدري أنه بقوله هذا قد(572/19)
نفى تطرق اللحن والعجمة إلى الأمويين في الوقت الذي ينسب فيه الجاهليين إلى اللحن في صلب كتابه، ولا يدري أنه بجعله الشعر الجاهلي والأموي يجري على نحو رجراج كالذي يدعى ويتوهم يصطدم بالسبب الذي من أجله زعم أن نشأة علم النحو قديمة في الجاهلية، ألا هو جرى القرآن (على نمط واحد في أوضاعه النحوية لا يختلف في ذلك إلا باختلاف رواته من القبائل المختلفة) إذ كيف يمكن أن يجري القرآن على نحو واحد ولا يجري الشعر؟ وإذا كان القرآن لا يختلف نحوه إلا باختلاف القبائل فلم لا يكون الشعر أيضاً كذلك؟ إن الرجل يعترف من حيث لا يدري باطراد النحو في لغة كل قبيلة ما دام اختلافه من اختلاف القبائل، ويعترف بأن اللغة في جملتها تجري على نحو واحد ما دامت لا تختلف إلا في المواطن اليسيرة التي تختلف فيها الرواية في القرآن حسب اختلاف القبائل عند هذا الرجل، وإذن فلا معنى لترجرج نحو اللغة في العصر الأموي وانعقاده في العصر العباسي إلا أن هذا الرجل أراد أن يأتي بجديد يخالف به علماء العربية فوقع في خلف بعد خلف في النقطة الواحدة وفي العبارة الواحدة، سنة الله في الباطل وأهله
على أنه لا حد فيما يظهر لباطل هذا الرجل، ولا نهاية لتخبطه؛ فقد تعرض للقرآن مرة أخرى حين ترجم لابن فارس وحاول نقد آرائه، لكنه ترقى في هذه المرة فاقترح أن يفرد للقرآن نحو خاص! إي والله! واقرأ له إن شئت من هامش صفحة 42 من الجزء الثاني: (والقرآن يجب أن يفرد له نحو خاص، وكذلك الأدب الجاهلي والأموي، ولغات العالم كله تعترف بما يسمى (النحو التاريخي) ونحن في حاجة إلى ذلك النحو لتوجيه بعض ما يبدو شاذاً من تعابير القرآن)! أفكان علماء العربية ينتظرون صاحب النثر الفني حتى يجئ بذلك النحو الخاص لتوجيه (بعض ما يبدو شاذاً من تعابير القرآن)؟ وفيم كانت علوم العربية كلها إن لم تكن لفهم القرآن وتبيان ما يبدو لهذا الرجل شذوذاً في القرآن؟ وشذوذاً عما ذا؟ عن نحو لغة قريش وهو معترف بأن القرآن يجري على نمط واحد في أوضاعه النحوية إلا إذا كان الراوي من قبيلة غير قريش؟ أم عن نحو لغات القبائل الأخرى وهو يعترف أن لغة القرآن إنما هي لغة قريش؟ فما الحاجة إلى نحو جديد إذا كان القرآن يجري - وكان الأدب الجاهلي والأموي يجري - إما على نحو لغة قريش أو على نحو لغة قبيلة أخرى في المواطن القليلة التي تختلف فيها القبائل عن لغة قريش؟ أمن أجل وجود نحو تاريخي(572/20)
للغات العالم، يريد أن يوجد نحواً تاريخياً للقرآن؟ إنه إذن لا يفهم ما النحو التاريخي ولا لماذا وجد في لغات العالم الحاضرة تغيرت بالتدريج عما كانت عليه ولو من قرون قليلة، فلغة شاكسبير مثلاً غير لغة ماكولي وولز، ولا أحسب لغة بوالو وراسين عين لغة هوجو وأناتول فرانس. والنحو التاريخي للإنجليزية أو الفرنسية يبين الاختلاف الذي طرأ فيما بين ذلك على الإنجليزية أو الفرنسية، فأي شبه بين عربية القرآن والأدب الجاهلي والأموي وبين الإنجليزية أو الفرنسية من هذه الناحية؟ لو كان هذا الرجل يكتب عن فهم لا عن تقليد ببغائي، لأدرك أن النحو التاريخي للغة القرآن هو نحو نشأة العدنانية عن أصلها في ماضي العربية السحيق، وهذا لو أمكن الوصول إليه لا يفسر ما يبدو لهذا الرجل شذوذاً في القرآن، لأنه لا شذوذ هناك إلا إذا كان نحو الجاهلي الأولى هو الأصل وإذن يكون أكثر نحو العربية المعروف شذوذاً، كما إن أكثر نحو الإنجليزية أو الفرنسية الحاضرة شذوذ بالإضافة إلى نحوهما في الماضي السحيق. فصاحب النثر الفني يكتب من غير علم ولا ترو ولا تفكير سديد، أو هو رجل راكب في البحث هواه (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى الله)
محمد أحمد الغمراوي(572/21)
كل يوم لنا عتاب جديد
للدكتور زكي مبارك
قرأت كلمة الأخ الكريم الأستاذ دريني خشبة فرأيته يصرح بأني خاصمت الرسالة وخاصمت الأستاذ الزيات، لأنهما أطلقا العنان لحرية النشر وحرية الفكر وحرية المجادلة، فهل يكون معنى هذا أني أحارب تلك الحريات، وأني أبغض من يتعرضون لنقد ما يصدر عن قلمي؟
لا شئ من ذلك، فهذا الأخ يعرف مبلغ حبي لحرية الرأي، وإنما أراد أن يتلطف فيدعوني إلى الصلح بذلك الأسلوب الرقيق، ولعله لو انتظر أياماً لرأى كيف يسعى الأستاذ الزيات إلى أو أسعى إليه، فبيننا أواصر أخوية لا يزلزلها خصام ولا قتال، ونحن أعقل من أن نختصم بصورة لا ينفع معها صلح، فالعقل الذي يوحي بمجاملة الأعداء رغبة في تحويلهم إلى أصدقاء، لا يقبل أبداً محاربة الأصدقاء ليحولهم إلى أعداء
والدنيا لا تسمح في كل يوم بخلق صداقة كالصداقة التي بيني وبين الأستاذ الزيات، ولعلها لن تسمح أبداً، فقد تبدلت الدنيا من حال إلى أحوال، حتى كادت تصير الصداقة الصحيحة من ضروب المحال
وما بيني وبين الأستاذ الزيات من الوداد تعرض لمكاره كثيرة، فقد كان لنا في كل يوم عتاب جديد، وكان حين يتعب مني يقول: كيف أستطيع أن أصلح ما بينك وبين الناس ولا أستطيع أن أصلح ما بينك وبيني!
والخصومة الأخيرة لم تكن مما يحب، لأنها وقعت بعد صلح شهده أبنائي قبل أسبوعين اثنين، ولهذا قال وهو يعاتب: ما الذي سيقول أبناؤك؟
وكان الجواب حاضراً، ولكني لم أجب، ولو أني أجبت لقلت: إن أبنائي تعجبوا من أن يسمح الأستاذ الزيات بنشر كلام يزعم كاتبه أني أحارب القرآن، وأحارب الدين، مع أنهم يرون في كل يوم أني أدعوهم إلى المحافظة على الصلوات
وكنت أستطيع أن أقول للأستاذ الزيات: وما الذي تقول أنت إن عاتبك ضميرك وأنت تعرف أني أديت للإسلام خدمات لن يؤدي بعضها من يتهمونني في إسلامي؟
ولكني لم أقل شيئاً، وتركت الأستاذ الزيات ينشر سلسلة من المقالات لرجل حاقد شوى قلبه(572/22)
الحقد عشرين عاماً أو تزيد، وقد قدمت للأستاذ الزيات ردين فطواهما عن عمد، لأنه رآني أحاسبه ولا أحاسب ذلك الحقود، فكيف رغب الأستاذ الزيات في أن ينجو من حسابي، وهو حساب يحمل أنفاس العتاب؟
وما الذي يقع إن طوى الأستاذ الزيات هذا الرد أيضاً ليصورني أمام قرائه بصورة من يأبى الصلح؟
لن يقع شئ، فقد كتبت عشرين رداً، ثم مزقتها جميعاً، رعاية للمودة الغالية التي تفيأنا ظلالها عدداً من السنين. . . وللأستاذ الزيات أن ينسى أني عرفته أو عرفني، فأنا نفسي تناسيت فنسيت، ولم يعد بيني وبين الرسالة من صلة غير متابعة ما ينشر فيها من الأبحاث الجياد
كان رأيي أن معاونة الرسالة فريضة على كل مصري، لأنها صوت مصر في الشرق، ولم يقع ما يغير هذا الرأي، فالرسالة باقية بإذن الله، وسأعاونها ما حييت، وسأتذكر في كل وقت أنها كانت لقلمي أجمل ميدان، وأرحب ميدان
والله عز شأنه هو الذي أراد أن يقع ما وقع، فما كان يخطر في بالي أن لقراء الرسالة نحو كتابها عواطف تصل إلى حد العشق، ولا كنت أتوهم أنني سأتلقى في كل يوم خطابات من قرائي في مصر والشام والعراق، خطابات كلها أسف على ما قيل من أني خاصمت مجلة الرسالة وخاصمت الأستاذ الزيات
وأنا لا أستكثر أن ينزعج قرائي لفراقي، فما كذبت عليهم في حرف، ولا صارحتهم بغير الحق، ولا تخوفت من تمردهم على الصراحة، ولا دعوتهم إلى مصانعة الباطل في سبيل المنافع الفانية
والأستاذ الزيات يعرف كيف جنى قلمي على حياتي، وكيف خلق لي ألوفاً من الأعداء، وكيف قضى بأن أعيش في وطني عيش الغريب
وهل ينسى حزنه لحزني يوم نجح بعض الحاقدين في محاربة الحوار الذي أدرته على لسان آدم ولسان حواء؟
وهل ينسى العلقم الذي اجترعناه معاً ونحن نعاني ثورة الجهّال على القلم البليغ؟
مضى ما مضى، وأصبح ودادي للأستاذ الزيات طيفاً من أطياف التاريخ؛ فلم يبق إلا أن(572/23)
أنص على ظاهرة خطيرة، ظاهرة مؤذية تزلزل المجتمع الإسلامي من حين إلى حين، وهي تتمثل في غرام الجاهلين بالغض من عقائد المثقفين، ليقولوا إنهم وحدهم أهل الإيمان، وليعزوا أنفسهم عن جهلهم البغيض، وتلك تعزية كانت تنفع في الأيام الخوالي، ولكنها اليوم أضيع من الضياع
كنا نجد في عبارات المؤرخين عند التعرض لأحد المفكرين أمثال العبارة الآتية:
(وكان غفر الله له يُتَهم بالنظر في العلوم العقلية)
فهل تبقى هذه العبارة وأمثالها على ألسنة بعض الخلق في هذا العهد؟
وأنا أوجه الأسئلة الآتية إلى من يدعون التفرد بالغيرة على الدين الحنيف:
إذا عجز الإسلام عن غزو قلوب المثقفين فإلى من يصوب سهامه الروحية؟
وإذا صح أن الإيمان الحق هو إيمان العجائز فما هو مصير أهل الشباب والعافية؟
وإذا كان الجهل بشيراً بصحة العقيدة، فما الموجب لإنشاء المعاهد العالية؟
أتريدون الحق؟
الحق أني لن أيأس من أن يظفر المثقفون بمكانتهم في المجتمع الإسلامي، فقد نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة، وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين، والمسلمون كلهم يشهدون بأن أقلامنا هي التي تبصرهم بجمال الشريعة الإسلامية، وجمال اللغة العربية، والله يؤتى الحكمة من يشاء
أقلامنا هي التي تشرح دقائق الأدب العربي، وسرائر الدين الإسلامي، ولن نترك هذه الميادين للجاهلين، ولن نرحم أعمارهم التي تضيع في اتهامنا ظلماً بالزيغ والإلحاد
وإذا ألحدنا فمن يؤمن؟
أيومن الجاهلون وقد حجبهم الجهل عن الإيمان؟
على أنفسهم فليبكوا، إن كانوا صادقين، فما فوق غفلتهم غفلة، ولا فوق جهلهم جهل، وهم حطب جهنم، ولكنهم لا يشعرون
الإسلام دين العقل، لا دين الجهل، ونحن بفضل الله ومشيئته ورعايته أنصار هذا الدين، ولن يتلقى المسلمون مبادئه إلا عن أقلامنا، فليرحم نفسه فلان الفلاني، وليطمئن إلى أن متاعبه في محاربتي لن تنال مني إلا بقدر ما تنال النمال في نسف الجبال(572/24)
لقد سمحت مجلة الرسالة لفلان الفلاني أن يشطح وينطح في نقد كتاب النثر الفني، فماذا صنع؟
انبهرت أنفاسه وانقطعت بعد خمس مقالات هي من الهزال بمكان!
هل كان الأستاذ الزيات ينتظر هذه العاقبة لذلك الفلان؟ اسمع كلامي يا صديقي الزيات، اسمع كلامي ثم اسمع، فما كنت نبياً حتى تزعم القدرة على بعث الأموات، ولا كنت سينمائياً ينطق الصور الهوامد من وراء حجاب
قد أثق بقدرتك على المستحيل يا صديقي الزيات، ولكني أستبعد كل الاستبعاد أن تقدر على خلق ذلك الفلان
ولك أن تجرب حظك إن أردت، لك أن تحاول مغاضبة الله فتحي من أراد الله أن يموتوا، لأنهم جاهلون، وإن زعموا أنهم علماء وأحياء
جرب حظك يا صديقي، فنحن في أزمان التجاريب، وقد تصل إلى أشياء لا تخطر في البال
وأسارع فأقرر أن نجاحك في تجاريبك لن يصل إلى الزعم بأن إيمان الضفادع أشرف من إلحاد الرجال
لقد فرح فلان الفلاني حين رآني أعترف بصحة ما رواه من كتاب النثر الفني، وأنا أرجو الأستاذ الزيات أن يخبرني أنه رأى كتاباً في الأدب العربي أعظم وأعمق من كتاب النثر الفني
أن الأستاذ الزيات يؤرخ الأدب، فليحدثني عن كتاب هو أعظم من كتابي، أن كان يستطيع، ولن يستطيع
أن ذلك الناقد الحاقد لكتاب النثر الفني وقف عند مسألة شائكة، وهي المسألة الخاصة بآرائي في إعجاز القرآن، ولم يقف عند هذه المسألة إلا لأنه يعرف أن الظروف لا تسمح بأن أجازيه عدواناً بعدوان، ولو أني وثقت بأن كلامي ينشر في الرد عليه لوضعت وجهه في الحضيض، لأني في نظره ملحد، ولأنه في نظري جهول، وقد عشنا حتى نرى التهمة بالإلحاد أخف من التهمة بالجهل!
ثم ماذا؟ ثم يبقى ما حدثنا به الأستاذ دريني خشبة عن الكتاب الذي أصدره الأستاذ معروف(572/25)
الرصافي نقداً لكتاب النثر الفني وكتاب التصوف الإسلامي
ومعنى هذا أني وجدت فرصة تشغلني بالأستاذ معروف الرصافي عن ذلك الفلان، فليحمد الله ذلك الفلان، وليثق بأنه في أمان
سأرى ما يقول الأستاذ الرصافي، وسأرد عليه حرفاً بحرف، لأنه من أكابر المفكرين بالعراق، ولأنه شغل نفسه بمؤلفاتي شغلاً يستوجب الثناء.
زكي مبارك(572/26)
رسالة الفن
في معرض الفن
للأديب نصري عطا الله سوس
عناصر العمل الفني هي إحساس الفنان ومخيلته، وشخصيته الخالقة التي تحيل مشاعره وتأثراته إلى مادة جديدة لها طابعها الخاص، والرغبة الملحة في الإنتاج، والقدرة على الأداء، ثم التوفيق في الإخراج
وتقاس قوة العمل الفني بقوة هذه العناصر مجتمعة، كما يتسرب الخلل إليه بقدر ما يتطرق الضعف إلى أحد هذه العناصر أو بعضها
كما يجب أن تكون هذه العناصر في حالة توازن، فلن تجدي قوة الأداء شيئاً إذا كانت العاطفة ضعيفة أو فجة. والفنان الكبير حين تعوزه الرغبة في الإنتاج ويقسر نفسه عليه قسراً، يأتي عمله الفني مشوشاً مضطرباً تنقصه الطواعية: ذلك الإحساس الذي يتملك الفنان حين مؤاتاة الملكة فيشعر أنه في يد قوة أكبر منه تسوقه وتلهمه وتختار له الألفاظ الدالة أو الألوان المعبرة. . .
هذه مبادئ أولية - أو أظنها كذلك - ولا أدري كيف غابت عن عقول أعضاء اللجنة التي اختارت هذه المجموعة من اللوحات وجعلت منها معرضاً للفن، إذ مستوى المعرض في مجموعه أقل من المتوسط بكثير ونسبة المجيدين فيه قليلة جداً. وأنت إذ تلقى نظرة عابرة على ما في المعرض من لوحات يفدحك الإحساس بأن بعض هؤلاء المصورين قد قضوا أعمارهم في غرف مغلقة فلم يروا من محاسن الطبيعة أو جمال الكون شيئاً، وإلا فلما اختاروا هذه الأشكال العثة الرثة للتعبير عن عواطفهم واحساساتهم!؟
وفيما يلي بعض أرقام قد تلقى بعض الضوء - أو تهيئ بعض العذر للذين يحكمون على هذا المعرض حكماً قاسياً كما فعل ناقد في إحدى الجرائد الأجنبية المحلية فقال إن صور هذا المعرض قد طبخت طبخاً وأنه معرض كئيب!
بلغ عدد العارضين 116 بينهم 27 آنسة وسيدة
وبلغ عدد الصور 358 منها 85 للسيدات
وبلغ عدد التماثيل 28 تمثالاً(572/27)
وبلغ عدد الذين ينتمون إلى الرسم بحكم المهنة - من مدرسين وطلبة بمعاهد الفنون - 37 رساماً ومثالا، عرضوا 118 صورة وتمثالاً
ونحن لا ننكر على بعض هؤلاء الموهبة الفنية، ولكن امتلاكهم ناصية الأداء بحكم المهنة يغري البعض الأخر باقتحام قدس الفني وليس في مكنتهم إلا الإساءة إليه وانتهاك حرمته، كما يفعل كثير من طلبة الأزهر ودار العلوم حين يتوهمون أنهم شعراء لأنهم درسوا اللغة العربية والعروض!
أبرز صور هذا المعرض من صنع الأساتذة لبيب تادرس وحسن محمد البناني وحسين بيكار ونظير خليل، والآنسات مرجريت يزبك وإحسان خليل وج. كوهين
والذي يتأمل صور المرحوم لبيب تادرس يحس أن الفن قد خسر خسارة كبيرة بوفاة هذا الفنان الناضج الذي كان بينه وبين الطبيعة صلة روحية عميقة تنعكس على صوره في جلاه ووضوح وتضفي عليها سر الفن، ذلك السر الذي يحاول الرائي استكناهه فيفشل
أما حسني محمد البناني فهو فنان لا شك في مقدرته، خصوصاً في (ظل التكعيبة) و (منظر ريفي) و (مراكب) تلك الصور الرائعة التي تحاول سبر غورها فلا تستطيع، لأن فيها قلب فنان، وقلب الفنان أعمق من أن يسبر غوره.
وللأستاذ حسين بيكار ثلاث لوحات تنبض حياة وقوة: منها (حديقة الحب بتطوان) التي تتمثل فيها فرحة الألوان، وتحس إذ تنظر إليها فرحة الفنان نفسه والفرشاة في يده يودع لوحته ما أودعته الطبيعة قلبه. ومنها (حرم الدكتور أبو ذكرى) تلك الآية الرائعة التي تتمثل في تقاطيعها الأنوثة الشرقية المحضة والجمال المصري الصميم، تطل من ورائه روح عذبة وادعة تمكن من إبرازها فنان متوفر الشعور والإحساس
أما (زوريان أشود)، فقد وفق تماماً في قطعته الحية (زنجية)، وهي تمثل امرأة عارية، وهي ليست امرأة عارية حقاً بل (شكل) مجرد شكل اتخذه الفنان رمزاً لعاطفة، وأداة لإبراز نبضات قلب. وهي نبضات غامضة مستسرة توحيها الحياة الداخلية الغامضة المستسرة، فتبرز العاطفة من وراء الشكل، وتنسى المرأة وتذكر القلب الحي المودع في التقاسيم والأوضاع
كما أن (السيدة ا. ب) وهي من رسمه أيضاً صورة ناضجة حية، ونحن إذ نطلق كلمة(572/28)
(حية) على صورة شخصية نعني أن الصورة لا تمثل وجهاً من الوجوه، إنما تمثل روحاً كما تتمثل في مرآة روح أخرى هي روح الفنان
واسترعتني صور (نظير خليل وهبه) لم فيها من عمق الإحساس وقوة الأداء والفهم التام لمعنى الفن، فلا إسفاف هناك أو اضطراب أو خلل في كل ما رسم
أما صور (تيتا) - الآنسة مرجريت يزبك - فيتمثل فيها الجلال الفني الذي ينبع من تقديس وإكبار الفنانة لفنها، ومن هنا تبدو صورها كصلوات في محراب الفن، صلوات للجمال الأبدي والحقائق الخالدة التي تكمن وراء الأشكال والتقاسيم والأوضاع، وصورها الثلاث تدل على دراية ونضوج وعاطفة قوية، ولكنها مستقرة لا تعرف الطفرات أو سورات الإلهام، ومن هنا ألوانها الهادئة الرزينة
وقد وقفت وقفة طويلة أمام صور الآنسة إحسان خليل: إن هذه الفتاة فنانة حتى أطراف أناملها، والذي يتأمل المناظر الطبيعية التي رسمتها يحس أنها تتناول الفرشاة بقلبها الرقيق لا بأصابع يديها، ومن حسن حظ (إحسان) أن صور الآنسة عايشة عبد العال قد وضعت إلى جانب صورها، فأظهرت تماماً مميزات (إحسان) وتفوقها!
والآنسة ج. كوهين متأثرة بالفنان (رودان) بعض الشئ، ولكنها فنانة مجيدة ناضجة تمام النضج، وقد عرضت الآنسة ا. شمليان لوحتين تعتبر إحداهما من خير ما في المعرض من صور الطبيعة الصامتة، والثانية لا بأس بها
وأحب أن أقول كلمة عن محمود سعيد بك فقد عرض ثلاث لوحات، وكلنا يعرف مكانة هذا الفنان الكبير الذي سبق أن أيدينا إعجابنا به. ولكن إذا كانت هذه اللوحات تعبر عن الفنان محمود سعيد في طوره الحالي، فلا شك أن فنه قد أصيب بالخرس. وقد خلا فن محمود سعيد في السنوات الأخيرة من التنويع والتجديد، وليس في صوره التي رأيناها في هذا المعرض تلك العذوبة أو القوة التي كانت تطالعنا بها صوره السابقة
كما أن الآنسة مرجريت نخلة قد ظلمت نفسها بعرضها ثلاث لوحات لا تمثل فنها كل التمثيل، وقد رأينا لها مجموعة قوية من الصور في معرض الفن النسائي الذي أقيم في نادي سيدات القاهرة منذ شهرين أو ثلاثة، ولذا أوثر عدم الحديث عنها
وقد عرض الأستاذ الحسين فوزي 14 لوحة، وإذا كان قد نجح في واحدة أو اثنتين على(572/29)
الأكثر، فلا شك أنه نجاح الصدفة لا نجاح القدرة. ومن الغريب حقاً أن تعثر على صورة للأستاذ الشيتي عنوانها (الأمومة)، ويبدو على وجه الأم وله العاشقة الحيرى، وعلى وجه الطفل الرضيع مشاغل وأعباء ونستون تشرشل، ونحن نعترف للأستاذ الشيتي بالقدرة في الرسم والتلوين فقط. . . أما الروح الفنية فلا
وقد اختارت الآنسة (أندريه ساسون) موضوعات يسهل ظهور الفشل فيها، فظهر واضحاً جلياً إلا في صورة واحدة وهي (فاطمة)، ففيها شئ من البراعة. وإذا لم يكن في صور الأستاذ يوسف كامل ما يصدم العين أو الإحساس فليس فيها ما يثير الانتباه أو يحرك النشوة الفنية
أما صور الأستاذ سند بسطا فالفن منها براء، فهي لا تدل إلا على عاطفة قلقة باهتة شاحبة، ولا تنبئ إلا عن الاجتهاد الذي يصطدم بحدود الموهبة وحدود القدرة على الأداء فيفشل!
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فيجب أن نذكر أن الإمعان في الصقل يذهب برواء الفن ويطمس معالم العاطفة فيه كما حدث في صور محمود سعيد والسيدة فتحية ذهني
ومن بين الذين نجحوا في الصور الشخصية الأستاذ محمد حسن، فليس هناك من ينكر مقدرته، والسيدة اعتماد الطرابلسي في (رأس الأميرة فريال) والأستاذ بدوي اسكندر في (ابتسامة) التي تفيض شباباً وبشراً وحياة، والأستاذ حسين محمد بدوي في (الجدة) وصلاح الدين طاهر في (توفيق الحكيم) والسيدة رايس مولى في (صورة لمارتن) والأستاذ أحمد صبري في قطعتين من ثلاث، وسمسونيان سيمون في (رأس طفل)، وإجادة الأخير لصور الطبيعة الصامتة خير بكثير من إجادته للمناظر الطبيعية أو الصور الشخصية؛ وقد عرض جورج ميخائيل لوحتين إحداهما لفتاة والأخرى لفلاح، وكلاهما فياض بالمعاني
وخير من رسموا مناظر الطبيعة هم: الآنسة إحسان خليل في لوحاتها الثلاث، والأستاذ نجيب أسعد، وله قطعة واحدة جيدة، هي (في الحديقة)، أما بقية مجموعته فهي دون المتوسط بكثير. وسعيد حامد الصدر في (شجر) و (في الحديقة)، والأستاذ نعيم جاب الله في (منظر ريفي). كما يجب ذكر زهور الأستاذ شفيق رزق فهي خير ما عرض من نوعه في المعرض
وهناك مجموعة أخرى من الرسامين نلمح فيهم الروح الفنية، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى(572/30)
المستوى الذي نرجوه لهم، ونأمل أن نرى لهم صوراً أحسن في المعارض المقبلة، وهم الأساتذة صدقي الجباخنجي، وكامل مصطفى محمد، ومصطفى المهدي، وسمسونيان سيمون، والآنسات مفيدة شعبان وزينب محمد علي
أما فن النحت فأعتقد أن تماثيل الأستاذ جمال سجيني هي خير ما في المعرض، ويأتي بعده الأستاذ فتحي محمود
وآمل أن أستطيع قريباً الكتابة في توسع وإفاضة عن بعض الفنانين الذين أبدينا إعجابنا بهم، اعترافا بفضلهم ومقدرتهم
نصري عطا الله سوس(572/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف الشاشيبي
565 - لكنه أسد
(إخبار العلماء بأخبار الحكما) للقفطي: تفاخر ابرخس الشاعر اليوناني وأوميرس، ففخر على أوميرس بكثرة الشعر وسرعة عمله وعيره ببطاء عمله وقلة شعره. فقال أوميروس: بلغنا أن خنزيرة بإنطاكية عيرت لبوة بطول زمن الحمل وقلة الولد وافتخرت عليها بضد ذلك. فقالت اللبوة: لقد صدقت؛ إني ألد الولد بعد الولد لكنه أسد. . .
566 - واستمرض الله يمرضك
في العقد:
قال الأعمش: أتاني عبد الله بن سعيد بن أبي بكر فقال لي: ألا تعجب، جاءني رجل فقال: دلني على شئ إذا أكلته أمرضني، فقد استبطأت العلة، وأحببت أن أعتل فأوجر
فقلت له: سل الله العافية، واستدم النعمة؛ فإن من شكر على النعمة كمن صبر على البلية، فألح على، فقلت له: كل السمك واشرب نبيذ الزبيب، ونم في الشمس، واستمرض الله يمرضك إن شاء الله
567 - لرخص فيه حفنة حفنة
في (تاريخ بغداد) عبد الله بن هلال البزاز: أكل أشعب مع سالم بن الجعد تمراً، فجعل يأكل زوجاً زوجاً، فقال سالم: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد نهى عن القران في التمر
فقال: اسكت، والله لو رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) رداءة هذا التمر لرخص فيه حفنة، حفنة. . .
568 - وأنت أنت وطنبورك طنبورك
في (مسالك الأبصار) للعمري: قال جحظة البرمكي: كنت بحضرة إسماعيل بن بلبل (الوزير) بواسط فلما انصرفت رافقني البحتري، وكان قد زاره، فلما وصلنا إلى (دير قُنَّى) قال لي: ويحك يا جحظة! هذا دير قنى، وهو من الحسن والطيب على ما ترى، وأنت وأنت، وطنبورك طنبورك، فهل لك أن تقيم به اليوم فنشرب ونطرب وننعم ونلعب؟ فقلت:(572/32)
نعم، ولم يكن معنا نبيذ، فسألنا عمن يقرب منا من العمال (الولاة)، فكتب إليه البحتري:
يا ابن عيسى بن فرّخان وللفرس بعيسى بن فرّخان افتخار قد حللنا بدير قنى وما نبغي قرى غير أن يكون عقار
فاسق من حيث كان يشرب كسرى ... عصبة كلُّهم ظماء حرار
من كُميت تولت الشمس منها ... ما تولته من سواها النار
فوجه إليه عشرين دنّا شراباً، ومائة دجاجة، وعشرين حملا، وفاكهة. وعملت في الأبيات لحناً، فلم نزل نشرب عليه يومنا وليلتنا
569 - استنباط
قال السبكي (صاحب الطبقات) استنبط كمال الدين القليوبي شارح (التنبيه) من قوله تعالى: (يا أيها النبي، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: يدنين عليهن من جلابيبهنَّ، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) - أن ما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام، وكبر العمامة، ولبس الطيالس حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزاً لهم يعرفون به، ويلتفت إلى فتاويهم وأقوالهم(572/33)
البخلاء. . .
للأستاذ علي الجندي
الناسُ فيِ اُّللؤمْ أنواعٌ، وشرُّهُمو ... عندي البخيلُ. ألاسُحْقاً لمن بَخِلاَ
يا ليته حين لا تَنْدّى أَنامِلَهُ ... بالنّائلِ النَّزْر يندَى وجهُه خجلا
أُعْجُوبةٌ في الوَرى أَنَّ البخيلَ - على ... فَقْدِ الرُّجُولة - يُدْعَى بينهم رجُلا
يَا بُؤْسَ لِلْحُرِّ أَعمَتْه مَطاِمعُه ... فصاغَ من ماله غُلاَّ - له - قَمِلاَ
هذا الجنونُ! وكم في الناس ذُو خَبَل ... تُخْفى ظَواهرُهُ عن عَينكَ الخَبَلاَ
السل والبخل: ذا داءٌ يُطَبُّ له ... وذَا عياءٌ، وشر الداء ما قتَلا
يشقى البخيل على الدنيا وفي يده ... أَسْبابُ نِعْمته لو أنه عَقَلا
جَرى له (الُمشْتري) سعداً، فعاجَلهُ ... بِطبعِه النَّحس رَدَّه (ذُحَلاَ)
يُمْسِي ويُصْبح مجهوداً، وليس له ... ممَّا جَنته يَدَاه غَيرُ ما أَكلاَ
ويَجْرع الصَّابَ مُختاراً، وثروتُهُ ... يجرى ينابيعُها من تحته عَسَلاَ
لاَقى العقوبة في الدنيا مُعجَّلةً ... كذلك الشر يأتي أهله عجلا
ماذا على الموت لو أخنى بِكلْكلهِ ... على اللئام، فنشفى منهمُ الغُللا
ما نَفع زِعِنفةٍ بالمال قد فُتِنوا ... لا يحسنون - سوى تحصيله - عملا
لو كان لله ما للمال عِنْدَهُمو ... من الجَلال، لصاروا في التُّقَى مثلا
ماتوا من الفقر خوفاً قبل موتهمو ... والخوف موت وَحِيٌّ يسبق الأجلا(572/34)
من أغاني الشاعر الحائر
(أغنية روح)
للأديب إبراهيم محمد نجا
هات قيثاري، ففي قلبي غناءْ ... وبعينيَّ دموع الفرحِ
واستمع مني أغاريد الصفاءْ ... وأناشيد الهوى والمرحِ
مرت الأيام، أيام الشقاءْ ... وأتى عهد الطلا والقدح
واستفاق القلب من أحزانهِ ... واستراح الروح من أسر الشجونْ
وهفا قلبي إلى أفنانهِ ... بلبلاً يصدح باللحن الحنونْ
ذهب الليل بأحزان الظلامْ ... وأتى الفجر بأفراح الضياءْ
وتغنى بأغانيِّ الغرامْ ... كل قلب بات محزون المساءْ
فإذا روحي المشوق المستهامْ ... سابح ما بين أطياف الفضاءْ
وإذا الدنيا كما كنت أراها ... في رؤى الحب وأحلام الكرى
فكأن الفن بالحسن كساها ... أو براها الله خلقاً آخَرا
هاهي الأزهار تندى بالجمالْ ... وهْي نشوى بالضياء الغامرِ
كعذارى راقصات في الخيالْ ... أو كأحلام بقلب الشاعرِ
زفها النور، وزفتها الظلال ... للفراش المستهام الطائر
ونسيم الفجر من لهفته. . . ... يحتسى الأنداء من ثغر الزهور
والغدير الطلق من نشوته. . . ... يتثنى بين أسراب الطيور
صور تفتنني كل صباحْ ... وتوافيني بفن باهرِ
وأنا الشاعر كم غنَّى وناحْ ... للجمال العبقري الساحر
فتولت بأغانيه الرياحْ ... في فضاء ما له من آخر
أين منها صورة الماضي الدفينْ ... في قلوب موجعات داميه؟!
صورة ينسجها الليل الحزينْ ... من خيوط الذكريات الباكية!
إيه يا قلبيَ دع ما قد مضى ... من ليالي اليأس والحزن الوجيع
الشتاء الجهم ولَّى وانقضى ... والربيع الطلق غنى في الربوع(572/35)
آه لو عدت فؤاداً نابضاً ... بالهوى العذري من بعد الهجوع
رب غصن قد تعرَّى فاكتسى ... فلمَ اليأس؟ وما هذا الشحوب؟
إن تكن يا قلب قد ذقت الأسى ... فلكم ذاقته من قبل قلوب
لا تلمني إذ أغنى في الصباحْ ... بعدما قد كنت أبكى في المساءْ
فأنا الشاعر أيامي جراحْ ... ولياليَّ سهاد وبكاءْ
فلماذا أترك الصفو المتاحْ ... بينما أغرق نفسي في الشقاء؟!
إنها لحظة صفو أجتليها ... في حياة غُشِّيت بالكدر!
إنها زهرة أنس أجتنيها ... بين أشواك الأسى والضجر!
يا ليالي الحب في الماضي البعيد ... هل تعودين؟ فقد عاد الأمل
وكأني اليوم أحيا من جديدْ ... للأماني. . . للأغاني. . . للغزل
ولقد حطَّمت هاتيك القيود ... وتهيأت لأغلال المقلْ
فتعالى. . . كل أيامي تهونْ ... غير أيام الغرام الأول
إنها - والعمر شجو وأنين - ... فرحةُ الزهر، وشدوُ البلبل
يا حبيبي ها أنا بين يديكْ ... لهفة كبرى، وشوقاً، وهياما
وفؤادي ما هفا إلا إليك ... أوشكا - إلا لعينيك - الغراما
فإذا ما جاء واستلقى لديك ... فاحتضنه يا حبيبي. . . ثم ناما
وإذا جاء الصباح الباسمُ ... فاحبُه صفو الحنان الطاهر
إنه قلب رقيق حالم ... إنه قلبيَ. . . قلب الشاعر:(572/36)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد قرأت مقالكم الشائق في قضية نسب زياد في مجلة (الرسالة)؛ ولقد كنت أرجو وأنا ألمس في أبحاثكم نفوذ النظر وثاقب الفكر أن لا تفوتكم في هذه القضية نقطة وجيهة وذات خطورة، وهي احتمال التلفيق وأثر الحزازات السياسية والحزبية
فمعلوم أن ما وصل إلينا من الروايات في هذه الموضوع وغيره قد دون في عهد الدولة العباسية؛ ومعلوم أن كثيراً مما دون في هذا العهد، مما يتصل خاصة بالدولة الأموية وكبار رجالاتها، قد تأثر إلى حد كبير بتلك الحزازات، وأن الذي ينعم النظر يلمس تعمد التشويه والتسوئ والمبالغة والإعظام قوياً بارزاً
وزياد من كبار رجالات هذه الدولة وموطديها، وقد كان في ولايته للعراق في عهدها صارماً شديداً؛ ثم خلفه ابنه فيها فسار من جهته على غرار أبيه، ووقعت من جهة أخرى في عهده حادثة كربلاء الأليمة التي جلبت عليه نقمة الناس، وانتشرت عنه بسببها أسوأ الأحاديث
فهذا من وجه عام من شأنه أن يدعو الباحثين إلى التحفظ والتوقف والارتياب في رواية نسب زياد واستلحاقه لأن لحمة هذه الرواية وسداها مطعن وغمز وتشويه وتسوئ
ومن العجيب أننا نجد الروايات تغمز نسب عمرو بن العاص بما غمزت به نسب زياد بشكل ما؛ وهو من أعاظم رجال الدولة الأموية وموطديها، ونجدها كذلك تسخف في وصف ظروف ولادة الحجاج وحلقه ورضاعه سخفاً مضحكا، وهو صنو الرجلين العظيمين الأولين في هذه الدولة إلا غمزته في أمانته أو عرضه أو دينه أو خلقه؛ وإنه لمن الحق أن يحمل هذا بوجه عام الباحثين في قضية من القضايا المتصلة بالدولة الأموية وكبار شخصياتها إلى التحفظ والتوقف والارتياب، وأن لا تجعله يكتفي بتوجيه وتخريج الروايات والبحث في نطاقها كأنها قضايا مسلمة
يضاف إلى هذا أنه إذا أنعم النظر في عناصر رواية نسب زياد خاصة ظهر فيها ثغرات عديدة تؤكد قوة احتمال التلفيق وضلع الحزازات السياسية والحزبية كما أشرنا إلى ذلك(572/37)
آنفاً. ففي عناصر الرواية:
1 - أن زياداً كان يعرف بزياد بن عبيد، وأنه كان له أخوة من أمه ومن أبيه هذا؛ فهذا قد ينقض نقطة كون سمية من البغايا العامة؛ فإذا كان أبو سفيان قد اتصل بها سفاحاً فيكون قد اتصل بها وهي تحت زوج. فكيف يستقيم هذا مع رواية توكيد أبي سفيان أن زياداً من نطفته؛ وكيف يمكن لأبي سفيان أن يؤكد ذلك من حيث الأصل. على أنه مما يصلح أن يكون موضع تساؤل وارتياب معاً وثغرة كبيرة في الرواية هذا التفصيل الدقيق المروي عن اتصال أبي سفيان بسمية في الطائف في زمن الجاهلية، وتداول هذا التفصيل ومعرفة شاهده العياني أبي مريم الخمار وأدائه الشهادة عنه بعد البعثة النبوية بنحو خمسة وخمسين عاماً ورواية تلك الصورة البذيئة عن سمية بعد اتصال أبي سفيان بها. . .
2 - أن أبا سفيان قد اتصل بسمية في الجاهلية وأن زياداً قد ولد أيضاً فيها. ولقد كان استلحاق أولاد السفاح في هذا العهد سائغاً جارياً لا غضاضة فيه ولا مطعن: وقد زعمت رواية نسب عمرو بن العاص أنه ولد سفاح وأن أباه قد استلحقه؛ والعاص بن وائل السهمي والد عمرو من كبار شخصيات وبيوتات قريش؛ فالقول بأن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد لا يستقيم مع السائغ الجاري
3 - لم تصرح الرواية أن أبا سفيان قال للإمام علي إن زياداً ابنه حينما أعجب الإمام بموقفه الخطابي في خلافة عمر؛ وكل ما ذكرته قوله إنه يعرف أباه؛ فكيف عرف أنه عني نفسه حتى أنذره بضرب الخليفة؟ ثم إذا كان الإمام قد عرف ذلك - لأن هناك رواية فيها إيماه أوضح - وكان في اجتهاده أن تصريح أبي سفيان موجب لحده؛ فهل كان يسكت عنه وهو المشهور بالشدة في مثل هذه الأمور. هذا مع أن في رواية تهديد الإمام ثغرة أخرى، لأن اتصال أبي سفيان بسمية وولادة زياد مما كان في الجاهلية والإمام أجل من أن يجهل أنه لا حد ولا بأس على أبي سفيان، لأن إسلامه قد جب ما قبله. ثم أليس هنا موضع تساؤل وعجب عن ذيوع حديث جرى بين الإمام وأبي سفيان خاطفاً عابراً وغدوه من الروايات المتداولة على ألسنة الرواة؟
4 - إذا فرضنا أن أبا سفيان قد أنف من استلحاق زياد عند ولادته مع تأكده أنه ابنه وأنه أعجب به فيما بعد فإنه لم يكن هناك مانع من جهة مطعن من جهة أخرى في استلحاقه لأن(572/38)
الحادث مما يتصل أصلاً في الجاهلية، وقد أقر الإسلام أنساب الجاهلية على علاتها
5 - لقد كان زياد والياً من ولاة الإمام، فهل يعقل عاقل منصف يعرف طبيعة ورع الإمام وتحفظه وتشدده، ويعرف ما كان ناشباً بينه وبين معاوية بن أبي سفيان أن يستخدم شخصاً يعرف أنه ابن سفاح أولاً ويعرف أنه ابن أبي سفيان وأخو معاوية ثانياً
6 - ويخيل إلي بالإضافة إلى هذا كله أن زياداً المعروف في شدته وقوة شخصيته والذي كان نابغة عبقرياً منذ خلافة عمر، ثم كان والياً من ولاة الإمام علي ليأنف أن يعلن على رؤوس الأشهاد وفي مجلس شرعي أنه ابن زنا وأن أمه بغي، ولو كان ذلك بسبيل التحاقه بنسب أبي سفيان، وأن معاوية الملك العربي المسلم العظيم ليأنف أن تسوأ سمعة أبيه واسمه في هذه المناسبة مهما كان الباعث السياسي، كما أنه ليس من ضرورة إلى ذلك، وزياد هو ما هو من عبقرية والنبوغ وقوة الشخصية، ومعاوية هو ما هو من الدهاء والعقل والحلم إلى تلك الفضيحة الخالدة على الدهر للاثنين معاً لتكون وسيلة تضامن وتناصر بينهما
هذا ما عن لي أن أعلق به عساكم تتفضلون ببيان رأيكم توفية للموضوع الطريف الذي طرقتموه ولكم الشكر والاحترام
محمد عزة
في القافية
جاء في قصيدة الأستاذ محمد الخفيف (جمال وشوك) بالعدد 570 من الرسالة يصف شجرة الصبار:
وحشية ما اتخذت من حُلى ... إلا التي تنسبها للُعلَى
يا رب حُسنٍ إذ يرى عاطلاً ... أصالة السحر به أبرزت
جماله فهو يرى أجملا
وفي قافية الشطر الثالث خطأ يسمونه (سناد التأسيس) لأن ألف (عاطلاً) تأسيس - والتأسيس ألف في كلمة الروي بينها وبينه حرف متحرك - ومتى أسست قافية في قصيدة وجب تأسيس سائر القوافي(572/39)
ولو أنصف الشاعر لقال
(يارب حسن حينما عُطِّلا)
أو نحو ذلك.
(بني سويف)
محمد محمود رضوان(572/40)
العدد 573 - بتاريخ: 26 - 06 - 1944(/)
تعليم الجنسين
للأستاذ عباس محمود العقاد
من القرارات التي لها شأن لا يدانيه شأن في قرارات التربية الحديثة أمر الحكومة الروسية الأخير بالفصل بين الجنسين في دور التعليم بعد أن مزجت هذا التعليم كل المزج سنوات متواليات على أساس المبدأ الشيوعي المعروف الذي فحواه أن الرجل والمرأة متساويان كل المساواة في الملكات العقلية والنفسية
وقد عللت نشرة الأخبار الحكومية التي أذيعت بواشنطون هذه التفرقة فقالت ما خلاصته إن التجارب الطويلة في تعليم الصبيان والبنات قد دلت على فارق واضح بينهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما حولهما. فكانت النتائج تختلف اختلافاً بيناً مع وحدة السن والمجهود، ويظهر هذا الاختلاف في طاقة العمل عند الصبي البنت ومع تعدد التجارب والبيئات
والمعلوم أن عدد الصبيان والبنات الذي يقع تحت الملاحظة الحكومية في المدارس الروسية أكبر عدد يتيسر لأصحاب مذاهب التربية في قطر من الأقطار، فإن رعايا الحكومة الروسية يتجاوزون مائة وخمسين مليوناً يذهب أبناؤهم وبناتهم جميعاً إلى المدارس الابتدائية من سنواتهم الباكرة، وينشأ هؤلاء الأبناء والبنات في بيئات الشمال والجنوب، وفي مدن الصناعة وقرى الزراعة وبين الشعوب الأوربية والأسيوية على السواء. فإذا تعذر الانتفاع بخلط التعليم بين الجنسين في هذه البيئات جميعاً فهي تجربة لا تعدلها في الوفاء والتمحيص تجربة أخرى يملكها أصحاب مذاهب التربية في عصرنا الحديث
ويضاف إلى هذا أن المشرفين على التعليم بالبلاد الروسية لهم مصلحة وهوى في إثبات المساواة الكاملة بين الجنسين في جميع الملكات والأعمال، لأنهم يبنون على هذه المساواة نظماً كثيرة تتناول الأسرة وتوزيع العمل وحقوق السياسة، بل تتناول أساس المذهب الشيوعي كله في مواقع الخلاف بينه وبين سائر المذاهب الاجتماعية، فهم لا يفرقون الجنسين في مرحلة من مراحل التعليم إلا إذا بطلت عندهم كل محاولة للتوحيد والتوفيق وإثبات التشابه الذي ينفى كل فارق من الفوارق بين الصبيان والبنات أو بين الرجال(573/1)
والنساء
لهذا نقول إن قرار الحكومة الروسية بالفصل بين الجنسين في دور التعليم له شأن لا يدانيه شأن في قرارات التربية الحديثة، وينبغي أن يلتفت إليه النظر فيه كل مشتغل بتعليم الصغار والكبار من الحكوميين وغير الحكوميين، بل نعتقد أن المسألة يحق لها الالتفات وإنعام النظر في نطاق أوسع من نطاق المدارس الابتدائية أو نطاق البحوث التي تعني بالصبيان والبنات. لأن الفارق إذا وجد في البنية لا يوجد في زمن ويختفي بعد ذلك أو قبل ذلك في أزمان، بل هو موجود قائم في دخائل البنية وأعماقها، وإن تفاوتت درجات ظهوره بين حين وحين
ولقد كان أناس من أساطين علم النفس وأئمة المذاهب الكبيرة فيه بين علماء العصر الحديث يقاربون هذه المسألة الجلي بعناية دون العناية التي ينبغي لأمثالها وتنبغي لهم وهم يطرقون المباحث التي تتصل بتهذيب النفوس ومصير الأجيال، ولا نحاشى من هؤلاء أمثال (ألفرد أدلر) الذي خطر له أن يناظر (فرويد) في دراساته النفسية المشهورة، وهي في تاريخ المعرفة الإنسانية فتح من أعظم الفتوح. فأدلر يقول في موضوع تعليم الجنسين، من كتابه عن فهم الطبيعة الإنسانية (إن أهم المنشآت التي أقيمت لتحسين العلاقات بين الجنسين ما أنشئ للتعليم المشترك بينهما)
ثم يقول (إن هذه المنشآت لا تقابل باتفاق الآراء. لأن لها خصوماً كما لها أصدقاء)
(فأصدقاؤها يجعلون أقوى برهان لهم على صلاحها أن الجنسين - خلال التعليم المشترك بينهما - تنفسح لهما الفرص ليفهم كل منهما صاحبه في السن الباكرة فيقضي هذا التفاهم على الموروثات الوهمية ويمنع عواقبها الضارة جهد المستطاع. أما خصومها فيجيبون عادة بأن الصبيان والبنات يكونون في سن المدرسة قد بلغوا من الاختلاف حداً يزيد الشعور به والانتباه إليه عند الاختلاط في معهد واحد. لأن الصبيان يحسون أنهم مرهقون، ويداخلهم هذا الإحساس مما يشاهد على البنات من أنهن أسرع في النمو الذهني خلال هذه السن الباكرة. فإذا اضطر هؤلاء الصبيان إلى المحافظة على مزيتهم وإقامة البرهان على تفوقهم بدا لهم فجأة لا محالة أن مزيتهم في الحقيقة إن هي إلا فقاعة صابون ما أسهل ما تنفجر وتزول(573/2)
(ويقول بعض الباحثين غير هؤلاء إن الصبيان في المعاهد المشتركة يقلقون أمام البنات ويفقدون كرامتهم في نظر أنفسهم
(ولا محل للشك في اشتمال هذه الأقوال على نصيب من الصدق والرجاحة، ولكنها لن تصمد للاختبار إلا إذا نظرنا إلى تعليم الجنسين معاً كأنه ميدان للتنافس بينهما على قصب السبق في الملكة والكفاءة، وهي نظرة وبيلة إن كان هذا هو غرض التعليم عند الأساتذة والتلاميذ. وما لم نوفق إلى أساتذة يرون في التعليم المشترك رأياً أفضل من اعتقادهم أنه سبيل إلى التدرب على التنافس أو التنازع المقبل بين الجنسين في المجتمع، فكل محاولة للتعليم المشترك فاشلة إذن لا محالة، ولن يرى خصومه من النتائج المحتومة إلا دليلاً على صوابهم بما أصابه من إخفاق)
ثم يستطرد أدلر فيقول: (وما أحوجنا إلى خيال شاعر لتصوير الحالة كلها في صورتها الصحيحة. فلنقنع من ثم بالإشارة إلى المواضع البارزة منها، ومنها أن الفتاة الناشئة تتصرف فعلاً تصرف من يشعر بالضعة، ويصدق عليها تماماً ما قلناه آنفاً عن الرغبة في التعويض عند ابتلاء الإنسان بذلك الشعور. وإنما الفارق هنا أن شعور الضعة مفروض على الفتاة بحكم بيئتها، وأنها تساق إلى هذا الاتجاه سوقاً حثيثاً يدعو الباحثين ذوي النظر الثاقب أحياناً إلى تصديق هذه الضعة فيها، وليس لهذا الوهم من نتيجة إلا النتيجة التي يندفع إليها الجنسان حين يتعجلان خطط التزاحم والتنافس التي تشغل كلا منهما بغير ما يعينه وما يصلح له. . .)
هذه تخريجات أدلر وتأويلاته فيما عسى أن يصيب التعليم المشترك من عوارض النجاح أو الفشل قبل أن يوضع هذا التعليم موضع التجربة في نطاق واسع كنطاق المدارس الروسية
فقرار المشرفين على تعليم الجنسين في روسيا مفيد في استدراك هذه التأويلات والتخريجات قبل أن توغل في طريقها إلى تلك النتائج المزعومة
إذ لا يمكن أن يقال إن فصل الجنسين في المدارس الروسية ناشئ من شعور الضعة المفروض على الفتاة أو البنت الصغيرة، لأن النساء الروسيات من سن الأربعين فنازلاً قد نشأن على عقيدة التساوي بين الجنسين ولم تفرض عليهن البيئة عقيدة غيرها منذ فتحن(573/3)
أعينهن إلى الآن. ولو غلا الدعاة الروسيون إلى أحد الطرفين لجاز أن يكون غلوهم في تقرير هذه العقيدة وتوكيدها لا في إدحاضها وإضعافها، فليست هناك ضعة مفروضة على الفتاة بحكم بيئتها، ولا يوجد هناك من يسوقها إلى هذا الاتجاه سوقاً حثيثاً يوهم الباحثين ذلك الوهم الذي (توهمه) أدلر من بعيد
ومع هذا سجل الباحثون الروسيون أن الفرق حاصل بين الجنسين في أدوار التعليم، وتبين لهم أن الصبي من سن العاشرة إلى الرابعة عشرة يعاني من تجميع القوى في بيئته عناء يثقل عليه فيبطئ نموه بعض الإبطاء، وعلى خلاف هذا يطرد النمو في البنات بين العاشرة والرابعة عشرة فيزدن في الوزن والطول فضلاً عن استعداد الفهم والمعرفة
ثم يأتي دور الصبيان بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة فإذا هم الذين يسبقون البنات في الوزن والطول والاستعداد للفهم والمعرفة. فلا يتأتى وهذه هي الفوارق بين الجنسين من العاشرة إلى السابعة عشرة أن يتلقوا معاً دروساً واحدة ويجاري بعضهم بعضاً في مضمار واحد
وعدا هذا يأتي دور آخر وهو دور التفكير في الفوارق بين عمل الرجل والمرأة في الحياة. إذ ليس من المستطاع أن يناط بهما عمل واحد يؤديانه على نحو واحد من القابلية والكفاءة.
فالرجال يعدون للجندية ويدربون على فنون من الدربة الرياضية العسكرية وهم فتيان صغار؛ ولا يقال إن النساء أيضاً يعملن للدفاع عن أوطانهن في الجيوش. فإن الواقع أن الوظائف موزعه بين الرجال والنساء حتى في ميادين القتال، فلا تناط بالنساء إلا الأعمال التي توائمهن كأعمال التموين والمواصلات والتمريض وما شاكلها مما يباشرنه وراء خطوط النار
وكذلك لا تناط بهن في تحضير الذخيرة والأسلحة إلا الأعمال التي يطقنها دون الأعمال الكبرى التي لا يصلحن لها ولا تناط بغير الرجال
وكما ينبغي أن يعد الرجال للجندية ينبغي أن يعد النساء للأمومة وما يتصل بها من فنون التربية والتنشئة والعناية بالصحة والغذاء، ومهما يكن من التسوية بين الآباء والأمهات في تبعة الأبوة والأمومة فلن تلغى هذه التسوية كل فارق بين الأب والأم في النشأة والاستعداد
ولقد جرب فصل الجنسين بضعة أشهر فظهر أثر هذه التجربة في زيادة التجانس والتوازن(573/4)
بين صفوف المتعلمين والمتعلمات، وأمكن أن يستفيد الصبيان والبنات خير فائدة من كل فترة يتشابهون فيها ولا يتفاوتون
ولم يزل أساتذة التربية هنالك حريصين على مذهبهم المعهود من التسوية بين الجنسين وهما مفترقان. فقال سولوخين مدير إحدى المدارس بموسكو إن هذا التفرقة لا تفيد التفضيل والتمييز (لأن البنات والصبيان في مدارسنا يتلقون وسيتلقون طبقة واحدة من التعليم والتدريب، ويؤهبون أهبة متساوية لنصيبهما من عمل الحياة وينشئون على عقيدة التكافؤ بين الجنسين)
ونقول نحن إن عقيدة التكافؤ لا تهم في هذا الموضوع ما بقى الفارق بين الرجل والمرأة في البنية والوظيفة محسوباً له حسابه الصميم في مراحل التعليم من الطفولة إلى الشباب
فليست المسألة التي نحن بصددها مسألة تقدير المنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها هي مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين، وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتلقفها ببغاوات الصيحات الجديدة في هذا الشرق المسكين. فرب بدعة جديدة هي أعرق في الغباء وضيق العطن وضحولة الوعي من أعرق جهالات القرون الأولى
فمن شاء من ببغاوات الصيحات الجديدة عندنا أن يقال له إنه (على آخر طراز) فليكن كما شاء على آخر طراز يختاره في سنة 1944 أو بعد ذلك بألف سنة أو ألفين
إنما عليه أن يردد صيحاته الببغاوية في الأقفاص التي تليق بها، ولا يتجاوزها إلى حقائق الحياة وقواعد الآراء التي تناط بها مصائر الأجيال
عباس محمود العقاد(573/5)
على ذكر رسائل التعليقات للرصافي
دليل علمي يدحض مذهب
وحدة الوجود
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لخص الأستاذ الفاضل دريني خشبة مقولات احتواها كتاب أصدره الشاعر العراقي معروف الرصافي تدور حول الإيمان بوحدة الوجود وحلول الخالق في المخلوق
وكنت اهتديت إلى دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون حتى لا ينزلق إلى الأخذ به. . . اهتديت إليه في 5 - 12 - 1940 وسطرته في سجل خطراتي اليومية. وهممت بنشره في مناسبات عدة أثناء مقالاتي عن الإيمان بالإنسان، ولكن أراد الله أن أطرح هذا الدليل في مطارح البحث والجدل الذي سيثيره حتما كتاب الرصافي. فهذا هو أنسب الأوقات لانصباب هذا الدليل الجديد على ذلك المذهب القديم الرجعي الذي يرفع رأسه على قلم شاعر يريد أن يستخدم القرآن ورسول الإسلام ستاراً ودريئة ويزج بهما في الدعوة إلى مذهبه. مع أن القرآن وبيان رسول الإسلام ليس أوضح منهما في تبيين الحدود بين الله والطبيعة
وكنت وما أزال داعياً ابتداء التفكير في الطبيعة وما وراء الطبيعة على ضوء التأمل فيما استطاعت قوة الخلق والمحاكاة والإنشاء المودعة في الإنسان أن تصنعه وأن تسخره؛ لأن ما أنشأه الإنسان وما وصل إليه من أسرار الطبيعة جدير أن يغير منطقه التجريدي القديم ونظرته للعلاقة بين الله والطبيعة
ولكن مع الأسف لا تزال ظلال التجريدات والفروض القديمة تسيطر على عقول كثير من الباحثين الشرقيين في مسائل الوجود، ولا يزالون خاضعين في تفكيرهم الديني والفلسفي لرجال المدرسة القديمة التي لم تتصل بأصول الثقافة العلمية الحديثة التي تحتك أيدي العلماء فيها بيد الله وتأخذ منها أسرار الخلق والتكوين، ولو أن عقلا كعقل الرصافي، أو كعقل الزهاوي اصطنع ذلك الأسلوب الذي ندعو إليه، وهو أسلوب تجديد النظر في الوجود على أساس أسرار الإنسان الحالية، إذن ما وجدوا ضرورة إلى اعتناق مذهب وحدة(573/6)
الوجود. . . ولكنهما عقلان متأثران بالمباحث الصوفية وفلسفاتها القديمة التي أوغلت في بحث قد أثبتت الحياة أنه لا طائل وراءه بل وراءه كل الهلاك والبلبلة والضياع والاختلاط
ولقد غزا هذا المذهب عقول بعض الفلاسفة والصوفية الذين آفتهم أنهم طلبوا أن يدركوا الله وما وراء الطبيعة بالحواس التي يدركون بها الطبيعة وبالعقل البشري المخلوق لأدراك النسب بين كائنات الطبيعة وحدها أولا. فلما عجزوا عن رؤيته تعالى وإدراكه - كما هو المنتظر - ذهبوا إلى أنه لا بد أن يكون الله هو هذا الوجود الظاهر، وأنه يحل فيه وليس له وجود منفصل عنه، وهكذا تجد الوثنية التي حاربتها الأديان والفلسفات السامية سنداً عظيماً من هذه الفلسفة التي تعيش في ظلال هذا المذهب
وهكذا تتحول كل الطبيعة إلى أصنامٍ آلهةٍ!
وهكذا تعود الحجارة والبقر والخنفسان والخنازير معبودات إلهية!. . .
وبدهي أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة. وأن هناك انفصالا بين الخالق والمخلوق
ولكن النظرة البديهية هذه كثيراً ما يطمسها التأمل الذي لا يقنع بالظاهر الواضح، ولا يرضيه الوقوف عندما يوحيه المنطق العملي، بل يلذ له أن يلجأ إلى الفروض ويحاكم فكرة الله إليها. . . ولا شك أن هذا إيغال مهلك لا طائل وراءه إلا الضياع والبلبلة
وقد ذهبت بي نظراتي في النفس والوجود إلى أن الوقوف على سطح الوجود هو المنطق الذي لا نملك غيره ما دمنا محدودين ضئيلين في أرض ضئيلة الحجم جداً بالنسبة إلى الوجود الأعظم الذي نرى منه بعض سطحه حين نسرح أبصارنا في السماء. . . فكل إيغال وراء ما توحيه البداهة يكون وراء الشرود والجموح والبلبلة. فالإحساس بانفصال النفس عن الكون وانفصال الله عن الكون تبعاً لذلك هو تلك النظرة البديهية التي لا نملك غيرها إن أردنا أن نسير مع المنطق العملي للحياة. وأن نحل أكثر مشكلات الوجود، وأن يطرد تقدمنا البشري وأن تحدد المسئوليات والتبعات، ولا تختلط الحدود ولا تسقط التكليفات ولا تهدر قيم الأشياء
أما اعتناق مذهب (وحدة الوجود) فمعناه الاختلاط والتشويش والفوضى والتباس المقاصد وذهاب الاختيار بين الخير والشر(573/7)
وبديهي أن الحياة الاجتماعية وصلاحها هي الفاصل في الأمور الجدلية، أو ينبغي أن تكون كذلك. والحياة الاجتماعية تأبى هذا المذهب كل الإباء ولا تحتمله لحظة، لأنه أعظم أسباب انهيارها ودمارها! فإن الإنسان سيكون بهذا المذهب إله نفسه لأنه جزء من الخالق. . . وسيكون الآلهة بعدد المخلوقات أو بعد الناس على أقل تقدير!
وإن الحياة الحالية لم تحتمل شطط الإنسان وجبروته ومتابعة هواه، وهو يعتقد أنه مخلوق تافه مسئول له خالق سيحاسبه حساباً عسيراً. . . فما بالكم به حين يعتقد في نفسه أنه إله أو جزء من الإله!
لقد ضرب الإنسان العالم بالأضغان والمدمرات وأشعل الحياة وهو طفل عاجز قاصر. . . فما بالكم به إذا حسب أن إرادة نفسه هي من إرادة الكون كله؟!
إن الأمر أعظم مما يتصور هؤلاء المفلسفون المأفوكون! وإن الحياة العقلية لم تقبل أن يكون للكون آلهة متعددة من العقلاء. . . فكيف بهم إذا كانوا مجانين!
فاللهم اهد الرصافي في شيخوخته ومرضه إلى منطق البداهة حتى يعود إليك على دين الفطرة التي يلقاك بها الفطريون المؤمنون الذين يتركون لك ما لم يستطيعوا إدراكه في حياتهم المحدودة!
هذا جدل يعتمد على النظر وتقليب المسألة أمام المنطق التجريدي الذي يصطنعه أصحاب المذهب، ويعتمد أيضاً على التحاكم في هذه المسألة إلى المنطق العملي الذي توحيه الحياة الاجتماعية
ولو كان الأمر مقصوراً على هذا الأسلوب لوجد أصحاب هذا المذهب مجالا للمناقشة ورد القول وتشقيق الجدل، وما كان طمعنا في إفحامهم إلا بقدر
ولكن عمدتنا في دحض هذا المذهب حجة بالغة من العلم الحديث صاحب المعجزات التي تخضع لها جميع أعناق البشر، ولا يستطيع أن يماري فيها الممارون من صناع الكلام وحاذقي الجدل
حجة يبعثها التأمل بيقظة في أسرار الأعمال الإنسانية العظيمة في الطبيعة: تلك الأعمال التي استحالت إلى آيات من آيات الكون يمر عليها الناس وهم عنها معرضون، كما يفعلون مع آيات الله في الآفاق. . .(573/8)
وهي تسلُّط العقل البشري (باللاسلكي) وتحكمه به في الآلات وإدارتها ورصدها من بعد شاسع، وانفصال تام بين العقل الإنساني والآلة. . . فقد رأينا (ماركوني) يضئ مكاناً في استراليا وهو في أوربا. . . ورأينا الدبابات تزحف والطائرات تطير وتحارب وليس فيها سائقون. . . وإنما يديرونها ويتحكمون في تحريكها من بعد
ورأينا (رادار) تلك العين السحرية العجيبة التي حدثتنا مجلة (المختار) عن التقائها أو التقاء الإنسان بواسطتها بالأحجام على مئات وآلاف من الأميال. ومع أنها في العهد الباكر من اكتشافها والانتفاع بها، فقد انتفعت بها إنجلترا في مقاومة الغارات الألمانية في معركة إنجلترا
ورأينا أن ما يحدث لتلك الآلات ينتقل إلى ذهن الإنسان الراصد لها في لحظة. فهو معها بعلمه وقدرته وإرادته يصرفها كيف شاء مع الانفصال التام والبعد الشاسع بينه وبينها. وهو يكونها ويركبها ويجعل فيها عقلاً وروحاً تحركها وتصرفها. وما دام قد أعطاها قوانينها فلا لزوم لوجوده فيها والمكث بجانبها أو الامتزاج بها
أفلا تقاس على هذا الأساس علاقة الله بالكائنات؟ وتحل بذلك تلك المشكلة التي خلقتها عقول من لم يروا لهم سبيلاً غير اعتناق مذهب وحدة الوجود؟ بلى! فإن ما يقدر عليه الله لا يذكر بجانبه ما يقدر عليه هذا الإنسان الضئيل العاجز. ولا شك أن من كمال الإنسان أن يقدر على التصرف في (مخلوقاته) من بعد، وأن يرصدها ويرقبها ويوجه إرادته إليها وهو متحرر منها منفصل عنها لا يشعر بضرورة الاتصال بها والتقيد بحيزها الضيق. . . فأولى برب الكمال المطلق والقدرة المطلقة والإرادة القاهرة أن لا يكون عليه شئ لسلطان وألا يتقيد بقيد
وإن في ذلك آية يرسلها الله من التأمل في أسرار الإنسان ووحي أعماله في الأرض. . . وسبحان الله! لقد أقام من الإنسان دليلاً ووسيلة لحل كثير من العقد والمشكلات، وخلقه صورة مقربة لبعض شؤونه الجليلة التي يتعجل المتعجلون في الحكم عليها بعقلهم القاصر وفي مدى عمرهم المحدود الذي لا يقاس إلى الأبد الكبير الذي يظهر الله فيه شؤون الخلق والأمر في أدوارها وأوانها الموزون المقدور و (لا يعجل لعجلة أحدكم) كما قال (محمد) سيد الأصفياء العارفين بشؤون الله!(573/9)
وقد قلت مرة: إن الحياة لم تنته ولم يبد أنها تقرب من نهايتها التي تتضح بها غاياتها وتنضج ثمراتها. فلا يليق بالفيلسوف أن يحكم حكمه النهائي عليها قبل اكتشاف غاياتها. وأولى به أن يرصد الأدلة التي تلدها الأيام وتضعها على طريق الأحياء يوماً فيوماً لترشد السالكين وتشير لهم إلى الأمام
ومنذ أن اهتدى الإنسان إلى وجود القوة التي يظهر أنها (مادة) الطبيعة الأولى وهي الكهرباء، وبعد أن شرع يدس يده وفكره في هذه القوة الخفية ويستخدمها ويحرك بها ما يشكله من المادة. ومنذ أن ظن أنه سيصل إلى أن يكثف هذه القوة بدرجات مختلفة تحت ضغوط معينة ليخلق منها العناصر المادية المتبلورة الثلاثة والتسعين. . . منذ ذلك كله، ينبغي للمكفرين التجريديين أن يتربصوا أفعاله وكشوفه ليبنوا عليها أحكامهم ومنطقهم وأن يقصدوا في تلك الفلسفات الفرضية والشطحات الصوفية التي لا نهاية لها، لأنها (ذاتية) وليست (موضوعية) موضوعها ذلك الكون المادي العجيب الذي استمددنا منه عقولنا وأحكامنا. وأن ينادوا معنا إلى الصوفية المادية التي تعجب وتتعبد بالفكر في الطبيعة الظاهرة وأعمال الله وأعمال الإنسان فيها، وتتعلق بالمحسوس قبل المتعلق بغيره حتى تفرغ منه قبل نهاية رحلتها على الأرض، ثم تلتفت - إن قدر لها البقاء على الأرض بعد هذا الدور - إلى ما وراء الطبيعة لتبحث فيه وتحكم عليه
عبد المنعم خلاف(573/10)
بحث نفسي عملي
العقل الباطن
ما هو وكيف تصل إليه؟
للأستاذ عبد العزيز جادو
شبه وليم جيمس العالم النفساني المعروف العقلين الواعي والباطن بكتلة من الجليد عائمة في البحر. عشرها يرى طافياً على سطح الماء، وتسعة أعشارها مغمورة فيه. ويهمنا أن نذكر أن ليس هناك كتلتان - واحدة فوق سطح الماء وأخرى تحته - ولكنها واحدة فقط تسعة أعشارها مغمور
وفي تشبيه البروفيسور جميس، نرى أن العقل ككتلة الجليد، عشره واع. والعقل الواعي هو العقل المفكر؛ عقل الدراية؛ العقل الذي يبت في الأمور. وتسعة أعشار العقل باطن - أي تحت مجال الشعور. . . ليس هناك عقلان، وإنما هما حالتان متباينتان للعقل
العقل الباطن هو مستودع الذاكرة. هو مركز عواطفنا وغرائزنا، يسيطر على أفعال الجسم العادية المنعكسة وغيرها من الأفعال اللاشعورية. وهو يباشر تجديد بناء الجسم حينما تموت خلايا قديمة وتولد أخرى جديدة. العقل الباطن لا يناقش قانونه الإيحاء، فهو يتلقى الإيحاءات الموجهة إليه من العقل الواعي ثم يبدأ في العمل على إبداع الحالات التي توافق تلك الإيحاءات. وهذا هو السر الأعظم للنفوذ العقلي على الإنسان. وإن الرجال أو النساء الذين يقدرون هذى الحقيقة ويتعلمون بالتمرين ليصلوا العقل الباطن ويغرسون فيه إيحاءات الصحة والسعادة والقوة والتحصيل، يمكنهم أن يكونوا أساتذة أحراراً لأنفسهم ومصايرهم مجددين بناء أنفسهم في حدود كون أوسع وأنبل وأقرب إلى الغاية البشرية العليا
والطرق التي ينصح بها علماء النفس للوصول إلى العقل الباطن تتطلب هدوءاً وجهداً ذاتياً، وانسحاباً من مشاغل الحياة
كثير من أساتيذ علم النفس والعلوم العقلية يؤكدون أهمية العقل في الهيمنة على التصرفات الإنسانية، كما في حالة الصمت مثلاً، فقد يكون الصمت مطلوباً لذاته، بيد أن طلاب العلوم النفسية يكابدون آلاماً في سبيل هذا الصمت. وإذا حملنا النفس في مثل هذه الحالة على(573/11)
الرضوخ إلى الفكرة اللاشعورية يكون التأثير إثمه أكثر من نفعه
والطرق المتبعة يمكن أن تمارس في الطريق إلى عملك، وفي عملك، وفي بيتك، ومهما يكن عملك. يمكنك الوصول إلى اللاشعور طول يومك، وبواسطة الإيحاءات المغروسة فيه تحول حياتك كما تريد
1 - لقد تعلمنا أن اللاشعور هو مستودع لجميع الأفعال الانعكاسية والاعتيادية. وكل عادة من عاداتك تكون كأمر محقق، عاملة على التأثير في العقل الباطن. ونحن نبني العادات بتكرار أفعال ثابتة. وكل عادة تطبع نفسها على اللاشعور؛ تكون في الواقع شيئاً من اللاشعور وأنت لا يمكنك أن تكون عادة من غير أن تعمل تخطيطاً في العقل الباطن، ومن ثم تمسى هذى العادات انعكاسات. وأنت تتصرف بطرق مبهمة بدون فكرة متيقظة أو إرادة. وهذه العادات تباشر سلوكك حتى أن الطريقة العملية للوصول إلى اللاشعور تكون ببناء العادات الحسنة، وهذه تبنى بالتكرار الدائم. أبدل عاداتك السلبية بعادات إنشائية. وبذلك تتحول حياتك بواسطة هذه الطريقة الوحيدة - طريقة القيادة اللاشعورية - مثال ذلك أن رجلاً في السادسة والسبعين من عمره اعتاد الإسراف في التدخين. ولقد حاول مرات عدة أن يقلع عن هذه العادة. وألان، ما عادة التدخين؟ هي التدخين، مراراً وتكراراً إلى أن صارت حركة عادية. فلكي تقطع العادة عليك أن تغطيها بعادة أخرى. لقد بدأ هذا الرجل بالإقلاع عن التدخين. لقد شعر أول مرة أنه يحب التدخين، ولكنه قال (لا) تلبية للمؤثرات الداخلية. إن له رغبة في التدخين ولكنه لم يفعل. وفي المرة الثانية استجاب كذلك للرغبة، على حين كاد يبدأ في تكوين عادة أخرى. وفي المرة الثالثة كان ينمى ببطء عادة معاكسة للتدخين (لا. لن أدخن) فبعد أن فعل هذا عدداً من المرات كون عادة عدم التدخين. وهكذا ركب عادة على أخرى بهذه الطريقة حتى أمحت السابقة
إن هذا سيعطيك مفتاحاً لمنع أية عادة، أيا كانت لا سيما إذا كانت عادة طبع سيئ. والطبع هو تلبية تؤثر في الاحساسات لتتنبه من الخارج الذي يقلقنا
2 - العقيدة هي الوسيلة المستترة للوصول إلى اللاشعور. فالذي تعتقد فيه برسوخ يصير في العقل الباطن أثراً سائداً. وآثارك السائدة هي التي تقودك. ولهذا يجب أن يكون لك عقيدة، لأن وجهة نظرك ستحكم أفعالك(573/12)
إذا كان لك عقيدة غير معقولة - عقيدة مبنية على خرافة وجهل وخوف وكذب لا تقوى على البحث العلمي - وتضحي حياتك ملتوية، ضيقة وبيلة؛ ولكن إذا كانت لك عقيدة غير مكبلة بقاعدة أو مبدأ، لم يفسدها خوف، عقيدة في سمو الحياة، والاعتقاد الذي لا شك فيه للوجود غير المتناهي، عقيدة في الاستقامة الجوهر للأشياء - هذه العقيدة السماوية هي التي سوف تجعل من حياتك جنة، وتطهر شعورك الباطن، وفي هذا تطهير لقواك الواعية
3 - لقد بينا أن اللاشعور هو مستودع الذاكرة، وكل شئ تذكره يهبط إلى اللاشعور، فإذا أردت أن تصل إلى العقل الباطن فما عليك إلا أن تستذكر شيئاً. استذكر الفكر العظيمة، فإن أثراً مدهشاً، وهذا هو السبب في أنك في الصيف يروقك كثيراً أن تحوطك المناظر الجميلة. خذ إجازة أسبوعين تمضيها في جهات خلوية تر فيها عجائب الطبيعة منتشرة أمامك. ثبت هذه الصور في اللاشعور. استذكر بعض أبيات شعر جميلة، أو فكرة منبهة، أو عبارة نبيلة، ستفتح باباً من أبواب اللاشعور، وتضع فيه اهتزازات شافية وتأثيرات فعالة
4 - قانون الهدوء يتطلب تركيز قواك الباطنة على شئ محدود فتكون سيداً وعقلك الباطن خادمك. ألق مطالبك على اللاشعور فعنده القوة على إجابة طلبك، وله القوة على العمل بأمرك إذا عملت على إلقاء طلباتك بقوة كافية. إذا أعطيت إيحاءاتك إلى اللاشعور بطريقة مترددة ومسايرة للزمن، لا يمكنك أن تنتظر نتائج من أي نوع
عندما تذهب إلى عقلك الباطن لا ترج ولا تتملق. بل ألق أوامرك على اللاشعور كأنما أنت قائد وهناك ملايين الجنود في انتظار سماع أوامرك لتفعلها. ألق أوامرك؛ وليكن رجاؤك هو الأمر الهادئ بدلا من الالتماس الحقير - هذا هو الرجاء حسب الأصول العلمية
5 - قدم رجاءك الاصطلاحي إذا شعرت بدافع. ادفع الإيحاء إلى جميع مشاعرك على قدر ما تستطيع. مثال ذلك: إذا أردت نظراً صحيحاً فكر فيه، وقل: (أعين سليمة، أعين سليمة)، ما الذي يفعله هذا؟ إنه يدفعها إلى الأذنين. ثم انظر لنفسك في مرآة وتصور عينيك كأنهما سليمتان تماماً. اكتبها على قصاصة ورق. اكتب خمسين مرة (نظر صحيح) فهذا ينبه حاسة النظر. اطبعها على اللاشعور بواسطة جميع الحواس المختلفة
6 - صور الأشياء غير منظورة لعقلك في رسوم. ويمكنك أن تطبع في اللاشعور رسمياً(573/13)
بأكثر سهولة من فكرة مختلسة - ازرع المقدرة على التصور، أي المقدرة على إتيان صور عقلية واضحة وعيناك مغلقتان. شاهد نفسك كاملا، فاعلا الشيء العظيم الذي تتمنى أن تفعله، ما حاجتك؟ أنت تشتغل في شركة بكفايتك الضئيلة بأجر زهيد؟ إذن صور نفسك لعقلك أنك رئيس أو مفتش. انظر لنفسك كأنك أنت هذا الرجل وأنك تقوم بعمله. احتفظ بهذه الصورة دائماً أمامك
7 - في الصباح المبكر عند استيقاظك من النوم، وفي المساء قبل أن تأوي إلى فراشك، لحظتان سيكولوجيتان. يكون الشعور فيهما في تأدية وظيفته عن جزء فقط، واللاشعور في رقوده مفتوحاً. فحالما تفتح عينيك في الصباح، لتكن أول فكرة لك هي الفرح. الفرح باستقبال فجر يوم جديد. استقبله بابتسامة واغتبط بمرور ليلة وبدء يوم آخر. ردد قولك: (اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، فلك الحمد ولك الشكر)
هذه الأفكار الحسنة ترفعك فوق كل شئ حقير، وتضعك في جو من الأمن والفرح والجمال والقوة
استعمل اللحظة السيكولوجية فإنها ستفتح اللاشعور
(إسكندرية)
عبد العزيز جادو(573/14)
4 - رسائل التعليقات للرصافي
(كلمة أخيرة)
للأستاذ دريني خشبة
وبعد، فقد عرضنا على القراء في كلمتنا الأولى عن هذه الرسائل آراء الأستاذ الرصافي التي يلحد بها في الله وفي الإسلام والتي نقلتها الرسالة عن الأستاذ أمين الريحاني، عن الرصافي سنة 1935؛ ثم عرضنا في كلمتنا الثانية طائفة من آرائه تلك، أوردها في كتابه الجديد الذي علق به على كتابي الدكتور زكي مبارك: التصوف الإسلامي والنثر الفني، ومن بين هذه الآراء إيمانه المطلق بوحدة الوجود وما ينبني على هذه الوحدة من آثار أخلاقية هدامة، ثم رأيه في تأليف القرآن، والأدعية (ومنها الصلاة)، والبعث، والجبر، وتساوي المتضادات من خير وشر، وتقي وفجور، وترهب وخلاعة. ثم إنكاره للثواب والعقاب على النحو الذي جاء به الإسلام. ثم دعوته المسلمين إلى الأخذ بآرائه إن أرادوا أن يكون لهم مجد، أو أرادوا بين الأمم مقاماً محموداً. ثم أثبتنا في كلمتنا الثالثة فساد ما ذهب إليه الأستاذ من أن نظرية وحدة الوجود هي شئ من صنع الرسول الكريم، لم يعرفها العالم إلا حينما جاء بها محمد. ثم ما كان من اهتداء متصوفة المسلمين إليها بعد محمد بقرن أو قرنين من الزمان. أثبتنا في كلمتنا الثالثة فساد هذا الزعم لأن نظرية وحدة الوجود فكرة ترددت في الفلسفة اليونانية، فقد قال بها إجزنوفنس الذي كان يؤمن بالحلول، وأشرنا إلى ما كان يزعمه هرقليطس من التقاء المتضادات وتساوي الخير والشر وجميع المتناقضات بناء على ذلك، لأن التناقض في زعمه، هو في نظرنا فقط! وذلك وما قبله هو لباب نظرية وحدة الوجود! وأشرنا كذلك إلى ما ذهب إليه أناجزاجوراس من تعدد العناصر ووجود قوة عاقلة - ال ? حالة في الكون متحدة به، تتولى تحريكه وتنظيمه - ثم أتينا على ما انقسم إليه تلاميذ سقراط من بعده من حيث نظرة كل منهم إلى الفضيلة أو السعادة. ونشدانها. . . فالكلبيون ينشدونها في الجهل والزهد والتقشف والقورينيون ينشدونها في اللذة، واللذة الحسية بنوع خاص - وهو ما يذهب إليه معظم متصوفة المشرق - هداهم الله - والميجاريون ينشدونها في التأمل الفلسفي، ثم وقفنا من أفلاطون أمام ثالوثه العجيب: المادة، والمثل. والله، وما كان من اضطراب أرسطو في تصور ذات الله، هل له وجود مشخص(573/15)
مستقل، أو هو صورة مجردة معنوية؟
استعرضنا هذه الآراء اليونانية لنثبت أن نظرية وحدة الوجود ليست شيئاً جاء به محمد أو تضمنه الإسلام، لأنها إفك لم ينته الفلاسفة من شأنه إلى شئ يطمئن إليه قلب أو يؤمن به عقل، ولأن الإسلام دين الفطرة ودين الاستقرار يأبى أن يسلم الناس لفوضى لا ضابط لها ولا خير للأنام فيها، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن التفكير في ذات الله، وأمرهم بإدمان التفكير في مخلوقاته، كان الحكيم الأعظم الذي يهدي للرشد ويجنب الأمة مهاوي الضلالات، وإن أخذنا أخذ رسول الله ليس دعوة إلى الجمود والحجر على حرية الفكر، ولكنها دعوة ضد الباطل الذي ندعي إليه ولا خير لنا فيه. . . بل هي تصرفنا عن الجد الذي تأخذ به أمم العالم نفسها إلى هذا العبث الذي يضحك الدنيا بأسرها علينا، ويجعلنا موضع سخريتها وازدرائها. . . لقد أمرنا نبينا بالتفكير في مخلوقات الله لنستثمر تفكيرنا في مخلوقاته في صنع مدنيتنا وتوفير سعادتنا، ولو قد عرف رسول الله خيراً في التفكير في ذات الله لما ضن به علينا، ولكنه أشفق على هذا العقل البشري الذي لم يطلع من أسرار الوجود إلا على أتفه مقدار لا يعتد به. . . أشفق عليه من مثل هذا الضلال الذي انتهى إليه الفلاسفة من بحثهم في ذات الله. . . أليس حسبنا أن نعقل أن هذا الوجود الغائي الجميل لا يمكن أن يكون موجوداً بنفسه! ألم ندرس علم طبقات الأرض وعلم الفلك وعلم الحياة وعلم النفس؟ أي مقدار عجيب من المعرفة هدتنا إليه هذه العلوم؟ أكل هذا السحر العلمي المعجز شئ لم يهبنا إياه إله حكيم قادر؟ ثم هذه الوحدة الوجودية التي يهرف بها عقل المخرفون: هل لها عقل؟ وهل ترى وتسمع، وهل هي مادة صرفة أو روح صرف، أو مادة وروح؟ ثم ما قيمة نظرية خائبة لا تفرق بين الخير والشر، وبين الأبيض والأسود، وبين التقوى والدعارة، وبين الزهد والجشع، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين السجود بين يدي الله، وإكباب المرء على حيلته؟! ما هذا البلاء الذي يدعونا المأفونون إليه، ويزعمون أن عدم أخذنا به ووقوعنا فيه هو سبب تخلفنا وعلة تأخرنا؟ ماذا يريد هؤلاء؟ أيريدون أن تكون الدنيا داراً واسعة شاسعة يعمرها قوم من المجاذيب؟! هل فرغنا من استكناه أسرار خلق الله، فلم يعد إلا التفكير في ذات الله؟! هل انتصرنا على أمراضنا فشفيناها، وعلى مشكلات الفقر والجوع والجهل فمحقناها، وعلى استئصال الشر من النفس الإنسانية فمنعنا(573/16)
الحروب وعالجنا الآفات؟! هل عرفنا سر الكهرباء؟ هل اهتدينا إلى (ذات!) المغناطيس و (ذات!) الضوء و (ذات!) أنفسنا فلم يعد إلا أن نهتدي إلى ذات الله! وهل يعقل أن ندرس الهندسة الفراغية ونحن لا ندري شيئاً عن الهندسة النظرية، أو حساب المثلثات ونحن نخطئ الجمع والطرح!
أليس يكفي أن تكون هذه النظرية قائمة على ذلك الخيال الأخلاقي ليثبت أنها فاسدة، وأنها لابد أن تكون تعلة يتعلل بها المؤمنون لستر نواحي الضعف في أدبهم المنهار، وسلوكهم المريض، وخلقهم المعتل؟ إنهم مثل القورينيين من تلامذة سقراط، ينشدون اللذة، واللذة الحسية الخسيسة على وجه الخصوص، وانغماسهم هذا الذميم في الملذات هو الذي جعل أذهانهم تتبلد، وأرواحهم تصدأ، وتفكيرهم يسف، فراحوا يوهمون هواهم أن الخير والشر سواء، وأن التقى والدعارة صنوان، وأن المصير واحد، وأن سبب تأخر الأمم الإسلامية وتخلفها هو هذا التعفف الذي لا موجب له، وهذا الفهم السيئ لما جاء به محمد من شريعة أخذناها بحرفيتها ولم نعبث بها فحورناها وأولناها، وفهمنا ثلاثة أرباع هذا القرآن الكريم على أنه آيات تمثيلية يخوف بها الله، فهو - سبحانه وتعالى عن هذا البهتان - يقصد بظاهرها الأميين، ثم جعل لها باطناً لا يعرفه إلا الراسخون في علم وحدة الوجود من الزنادقة الذين اتصلت نفوسهم بنفس إبليس الأكبر، ولم تندمج في الله. . . أو في الوجود الكلي كما يكذبون ويبهرجون ويلفقون
وبعد أيضاً. . .
فحسبنا أن نأتي على نظرية وحدة الوجود من جهتها الأخلاقية هذه لنراها تنهار من أساسها، فنريح أنفسنا من تكرار ما قاله ابن حزم والشهرستاني، وابن تيمية، وابن القيم، وأبو منصور عبد القاهر البغدادي في توقينها ثم تكذبها وتبيان زيفها، مما هو مذكور مشهور، ومما يسهل على كل قارئ أن يرجع إليه ليرى كيف حارب علماؤنا الأعلام تلك الفئة الباغية. . . ثم نريح أنفسنا من الرد على المكذبين بالوحي وبالقرآن، المتحللين من شريعة الله السمحاء التي يتخذونها هزواً، ويملؤهم الغرور فيأبون أن يؤمنوا كما آمن السفهاء، إلا إنهم هم السفهاء ولكن لا يفهمون
وحسبنا أيضاً أن ننبه إلى ما يقع فيه هؤلاء الأنجاس من أخس ألوان الحب الحسي(573/17)
والانحراف الشديد القذر في هذا الحب مما نقرأ أخباره عن أئمتهم وأقطابهم، مما أورد بعضه أبو عبد الله الزنجاني في أطروحته، وما نجد أخباره في الكشكول وروضة المحبين وديوان الصبابة وتزيين الأسواق وتلبيس إبليس ويتيمة الدهر وكتاب الكنايات. . . ودفاع الصديق الأعز الدكتور زكي عن الصوفية في هذا الميدان - وهو من البقع التي ذكرت في حديثي الأول - لن يغنيهم شيئاً - فقد شوى جلودهم فيما يتعلق باستنتاجاتهم الخبيثة في التقاء المتناقضات وتساويها في نظرية وحدة الوجود، وقد هاجمهم غير مرة، ولا سيما في باب التجريد
وحسبنا أن ننبه مرة ثانية إلى أن وقوعهم في الموبقات الحسية هو الذي جعلهم يلتمسون تبريراً لها بقولهم إن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص أي لهم، ورحم الله ابن القيم فقد نكل بهم من أجل هذا، ورحم الله الشافعي حيث قال:
(لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق) وحيث قال: (ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً)
وصدق الله العظيم القائل:
(ومن الناس من يجادل الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ ثاني عِطْفِه ليُضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه في الآخرة عذاب الحريق)
وحسبنا الآن أن نترك الكلمة للصديق الأعز الدكتور زكي، ليناقش آراء الأستاذ الرصافي، وليرى إن كان يدعونا الأستاذ إلى دين جديد
دريني خشبة(573/18)
6 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
(ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعي إلى
الإسلام)
(قرآن الكريم)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
لقد كنا على حق حين شرحنا الدكتور زكي مبارك وحللناه وفضحنا موقفه من الإسلام والقرآن. وكنا على حق حين قررنا أنه يتخذ الأدب حيلة ووسيلة إلى محاربة الله الذي أنزل القرآن آية منه سبحانه، هي عند من يفقه ويعلم أكبر وأعجب من آياته في السماء والأرض. وكنا على حق قلنا إن اتخاذ زكي مبارك الأدب وسيلة لإفساد الخلق بنشر المجون، ولإضلال النفوس بنشر الإلحاد، هو أول تلك المحاربة وليس بآخرها، وإن يكن بعد أظهر مظاهرها، فإن محاولة إبطال حكمة الله في جعل كتابه الذي أنزله على آخر أنبيائه ورسله معجزة أدبية، هي محاربة لله من غير شك وزكي مبارك يحاول إبطال تلك الحكمة عن طريقين: طريق نظري هو الدعوة إلى إنكار إعجاز القرآن ليبطل عند صغار العقول أمثاله أن القرآن من عند الله، وطريق عملي هو العمل على جعل الأدب إباحياً شهوانياً بعد أن جعله الله في القرآن وبالقرآن إصلاحياً ربانياً. لقد أحيا الله بالأدب أمة، وأنزل معجز كتابه للإنسانية رحمة، وزكي مبارك يريد أن يعين بالأدب على موت أمة، أو أن يسد باب الحياة ونديم فتح باب الفساد والفناء على هذه الأمة المبتلاة به وبأمثاله من الملاحدة الإباحيين
ولسنا نريد ظلم زكي مبارك، فهو في هذا تابع مقلد، لا مبتكر ولا مبتدع. فقبله كان أبو نواس وأمثال أبي نواس من الذين صرفوا الأدب عن الوجهة التي شرعها الله للناس في الأدب بالقرآن، فجعلوا الأدب للغواية بعد أن كان للهداية، وجعلوه للشيطان بعد أن كان لله. وقبله كان ابن الراوندي وأمثال ابن الراوندي من أهل الأهواء الذين أرادوا أن يهدموا(573/19)
الإسلام فلم يهدموا ولم يهلكوا إلا أنفسهم، والذين كانوا يبغون كلام الله عوجا، فلم يقع العوج إلا بهم عقلاً ونفساً وقلباً وعملاً، كما وقع بعقل زكي مبارك ونفسه وقلبه وعمله، وذهبوا وبقى كلام الله، كما وصفه الله سبحانه وتعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) و (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)
ولقد ندم أبو نواس وما ندم زكي مبارك، وما أظنه يندم. ندم أبو نواس حين قال: (فإذا عصارة كل ذاك أثام)، وحين قال: (وتذكرت طاعة الله نضوا). وما ندم زكي مبارك حين يقول - في بعض ما كتب بعد كتابه التافه الفاسد الذي شغلنا بهذه الكلمة عما كنا بسبيله من تبيين تفاهته وفساده - يقول محدثاً عن نفسه في العراق: (يئست من الصيد في الحرم الحيدرى بعد فرار تلك الغزالة، وبدأت أعتب على سيدنا علي بن أبي طالب، فمثلي لا يكرم في رحابه بالماش والجلاش، وإنما يكرم مثلي بالهيام في أودية الفتون)! وليت سيدنا علياً (كرم الله وجهه) كان حياً يسمع عتبه، إذن لأكرمه بالعصا أو بالحجر، جزاء الماجنين المتهتكين أمثاله. ذلك في العراق، وفي مصر لم يندم حين يقول تحريضاً على الفجور في بعض ما كتب: (ارجعوا، فالفضيحة في غرامي تكريم وتشريف، لأني قيثارة الغرام في ألحان الخلود)! ونعوذ بالله من غرور يؤدي إلى خبال! فما سمع قبل اليوم أحد في أدب مكشوف أو مستور، بتكريم في فضيحة، أو بقيثارة في ألحان، إلا من مثل هذا الدعي الذي يكذب على الأدب وعلى الناس كما يكذب على الله
ولقد أصر ابن الراوندي كما يصر زكي مبارك على محاربة الله ورسوله بالكذب والزور وقلة الحياء. وهل كذبٌ أفظع أو زور أشنع من زعم هذا الرجل في كلمته الأخيرة أن القول بإعجاز القرآن جهل، وإن إنكار الإعجاز علم، وإن الإيمان بالقرآن كما آمن ويؤمن المسلمون من لدن عصر الرسول إلى اليوم هو إيمان العجائز لا إيمان أهل الشباب والعافية؟ إذن فماذا كان إيمان أمثال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص، ومن إليهم من شباب الإسلام الذين صار كثير منهم بعد شيوخا، والذين جاهدوا في شبابهم وشيبهم من كان على مثل إيمان زكي مبارك اليوم؟ أفكان إيمان أولئك يمت إلى عقيدة زكي مبارك بصلة وهو يقول ما يقول في القرآن؟ أم كان إيمانهم إيمان عجائز يقوم على مجرد التصديق وإيمان هو يقوم على الدليل(573/20)
والبرهان؟ والله لو كان إيمانهم كذلك لكان خيراً ألف مرة مما يزعمه زكي مبارك لنفسه من إيمان هو في الواقع لا إيمان، ويقين هو في الواقع شك وإلحاد. إذ ما فائدة الدليل والبرهان إلا أن يوجد عند صاحبه ذلك الإيمان القرآني الذي لا يتزعزع، إيمان العجائز الذي يتهكم به زكي مبارك الآن؟ وإذا وجد هذا الإيمان الراسخ الراسي عن طريق التصديق البديهي، فما الحاجة إلى سوق الأدلة والبراهين؟ ومع ذلك فالأدلة والبراهين متظاهرة متضافرة، لا تدحض ولا تنقض، ولكن زكي مبارك وأمثال زكي مبارك قوم لا يفقهون
ومن وقاحة هذا الرجل ومكابرته التي لا حد لها زعمه الذي زعم من أن المرجع في شرح أصول الدين صار إلى مثله - والعياذ بالله - وأن المسلمين كلهم يشهدون بأن أقلام من لف لفه هي التي تبصر المسلمين بجمال الشريعة الإسلامية وجمال اللغة العربية، والله يؤتى الحكمة من يشاء! فهل رأيت صفاقة أوقح من صفاقة هذا الذي ينكر أن القرآن امتاز بأسلوب ثم يزعم أنه بجمال اللغة العربية بصير، وينكر من الشريعة الإسلامية أسسها ويزعم أنه بجمالها خبير، ويقول في بعض ما كتب: (أعبد الله وأحب الشيطان) (أنا كافر يا ظمياء) ثم لا يتحرج أن يتبجح بقوله (ونحن بفضل الله ومشيئته ورعايته أنصار هذا الدين، ولن يتلقى المسلمون مبادئه إلا عن أقلامنا) (والله يؤتى الحكمة من يشاء)! (إن أبنائي تعجبوا من أن يسمح الأستاذ الزيات بنشر كلام يزعم كاتبه أني أحارب القرآن، وأحارب الدين)؟
طيب! زكي مبارك لا يحارب القرآن ولا يحارب الدين، وما شاء الله كان! ففيم قوله من كلمته الأخيرة (إن ذلك الناقد الحاقد لكتاب النثر الفني وقف عند مسألة شائكة وهي المسألة الخاصة بآرائي في إعجاز القرآن، ولم يقف عند هذه المسألة إلا لأنه يعرف أن الظروف لا تسمح بأن أجازيه عدواناً بعدوان) إلى آخر سفهه الذي قال. فلم كانت مسألة إعجاز القرآن شائكة إن كان يقول فيها بما يقول المسلمون ونطق به القرآن؟ ولماذا تمنع الظروف أن يجازيني عدواناً بعدوان إذا كان عدوانه هو إيراد الحجة التي تبطل عدواني وما اتهمته به من إنكار إعجاز القرآن؟ أيكون لكلامه هذا الممضوغ معنى إلا زعمه أن لديه حججاً تبطل إعجاز القرآن لا يمنعه من إيرادها إلا خوف الناس وبطش القانون؟ إذن فقد أقر مرة أخرى بإنكار إعجاز القرآن!(573/21)
على أني اتهمته بأكثر من إنكار إعجاز القرآن. اتهمته بأنه يرى القرآن كلام محمد لا كلام الله، وأن الأديان كلها، لا الإسلام وحده، بنت البيئة ومن وضع الأنبياء، وأوردت على ذلك البراهين من كلامه. فهل يستطيع دحضاً لتلك البراهين؟ إن كان يستطيع فلماذا لم يفعل؟ وإن كانت تلك التهمة الخطيرة لا تطابق ما يعلم من نفسه، وإن صادفت عبارات تشهد لها من كلامه، فلماذا لم ينكر التهمة؟ ولماذا لا ينكرها مجرد إنكار وإن لم يأت لعباراته تلك بتوجيه أو تأويل؟ وإذا كان لا يستطيع هذا ولا ذاك فأينا الجاهل بالإسلام، الكاذب على الله، المخادع للناس؟
الحق إنه لم يعلم من نفسه صدق ما وصفته به، وصدق تحليلي نفسيته، ويعلم أني وفيت بوعيدي الذي كنت أوعدته من كشفه للناس حتى لا يعود ينخدع به مسلم، وأنه لن يجديه بعد اليوم أن يسوق للناس ما ليس من الإسلام باسم الإسلام تضليلاً لهم وإغواء كما كان يفعل من قبل. ومن هنا عدوله عن مقارعة الحجة إلى الشتم، ومن هنا تظاهره بالمقدرة وهو يعلم من نفسه ما يعلمه الناس فيه من العجز. ثم من هنا محاولته إبهام من لم يتبع أصل هذه الخصومة أني أنا الناقد الحاقد تعرضت لنقد كتابه من حيث هو كتاب، ثم وقفت منه عند مسألة واحدة شائكة هي مسألة إعجاز القرآن. وهو يعلم والذين تتبعوا هذه الخصومة يعلمون أنه كاذب، لأن هذه الخصومة لم تثر إلا حول القرآن وإعجازه حين عجز زكي مبارك عن فهم أبسط كلمة في أبسط آية من سورة الفلق، ولأن كتاب النثر الفني لم يذكر حين ذكرناه أول مرة إلا كمرجع يحوي الأدلة على إنكار صاحبه إعجاز القرآن، وذهابه إلى أن القرآن من كلام البشر لا من كلام الله. وطاولناه وأمهلناه لينكر ما في كتابه مما يتصل بذلك، فأبى إلا التشبث به، وفضل أن يذهب معه إلى جهنم الحامية مكان الملحدين الأحرار، فلم يكن بد من أن نورد نحن من الأدلة ما يكفي لإثبات ما ادعيناه عليه وما أسندناه إليه، من غير استقصاء للدليل. فإن كان الذي سقناه من الدليل لا يكفيه فإن لدينا غيره من النثر الفني ومن غير النثر الفني مما ألف ونشر. وإن اكتفى اكتفينا بما قلنا في هذه الناحية، ومضينا فيما كنا بدأنا من التدليل على فساد كتابه من حيث هو بحث. وإن عاد إلى الناحية الدينية بمثل بذاءة كلمته الأخيرة وافترائه، عدنا إلى دمغة بالحجة من غير أن نلجأ إلى إيراد نص سبق، فما أكثر غلطاته وسقطاته وشطحاته التي أتى حين كان(573/22)
يظن أنه في أمن وعافية. وليذكر البيت المشهور الذي قيل في العقرب والعودة إليها إن عادت. ومن أنذر فقد أعذر وحسبنا الله ونعم الوكيل.
محمد أحمد الغمراوي(573/23)
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية المغيرة بن شعبة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 6 -
كان المغيرة بن شعبة من عظماء العرب في الجاهلية والإسلام، وقد اشتهر بالدهاء، حتى كان يقال له مغيرة الرأي، فلما أسلم قيل عمرة الحديبية لم يلبث أن ظهر شأنه في الإسلام، فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره، واستعمله أبو بكر في خلافته. وولى لعمر البحرين والبصرة والكوفة، وكان أول من وضع ديوان البصرة، وسلم عليه بالإمرة
وقد اتهم بالزنا في هذه القضية الكبرى، وكان والياً على البصرة عند اتهامه بهذه الجريمة الشنيعة، فتطلع الناس إلى هذه القضية الكبرى وما يجرى فيها، لأن القضاء قبل الإسلام كان قد فسد أمره في العالم، حتى صار حكمه يجري في الوضيع دون الشريف، ويتناول الضعيف دون القوي، كما فعل اليهود في حكم الزاني وقد أنزل رجمه في التوارة على موسى عليه السلام، فكان أول ما ترخصوا فيه أنهم كانوا إذا أخذوا الشريف تركوه، وإذا أخذوا الضعيف أقاموا عليه الحد؛ فكثر الزنا في أشرافهم حتى زنى ابن عم ملك لهم فلم يرجموه، ثم زنى رجل آخر من قومه فأراد الملك رجمه، فقام قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجم فلاناً - لابن عم الملك - فرأى اليهود أن يضعوا شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع، فوضعوا الجلد والتحميم وحرفوا بذلك الحد الذي أنزل الله عليهم، وقد نزل في ذلك قوله تعالى في الآية - 43 - من سورة المائدة (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)
وما كان الإسلام ليعيب على اليهود تفريقهم في القضاء بين الشريف والوضيع، ثم يقع فيما وقعوا فيه، فلم يفعل مع المغيرة إلا أن أنزله من كرسي الإمارة إلى مجلس الاتهام، ليعلم الناس أنهم سواء في الإسلام، وأن شأن القضاء فيه أكبر من المغيرة ومن فوق المغيرة
وكان الذي اتهم المغيرة بالزنا أبا بكرة نفيع بن الحارث الثقفي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بينه وبين المغيرة منافرة لم يذكر المؤرخون سببها، ولعلها ترجع إلى أن(573/24)
المغيرة ولي البصرة بعد عتبة بن غزوان، وكان عتبة يقرب أبا بكرة لما بينهما من صلة النسب، فلما ولى المغيرة بعده لم يجد في ولايته ما كان يجده قبلها، وكان المغيرة وأبو بكر متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكر نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته، وهو بين رجلي امرأة فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا. وهم زياد بن عبيد أخو أبي بكرة لأمه، ونافع بن كلدة، وشبل بن معبد البجلي، فقال أبو بكرة لهم: اشهدوا. قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بنت الأرقم من عامر بن صعصعة. وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، لأن النهضة الإسلامية في ذلك العصر كانت تشمل الرجال والنساء جميعاً، فلما قامت أم جميل من تحت المغيرة عرفوها، واتفقوا على أن يشهدوا عليه عند عمر.
فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة، وكتب إلى عمر بما حصل منه، فعزله عن البصرة وبعث أبا موسى الأشعري أميراً عليها، وأمره بلزوم السنة، فقال له: أعنى بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح. فقال عمر له خذ من أحببت، فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم أنس مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر وخرج معهم فقدم البصرة ومعه كتاب عمر بإمارته، فدفعه إلى المغيرة فقرأه، وكان أوجز كتاب وأبلغه
أما بعد - فإنه بلغني نبأ عظيم. فبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك، والعجل
فسلم المغيرة ما في يده إلى أبى موسى، وأهدى إليه وليدة تسمى عقيلة، ثم رحل إلى المدينة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، وحضروا مجلس القضاء بين يديه، فلما فتح باب التحقيق معهم قال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد: كيف رأوني؟ أمستقبلهم أم مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبرى فبأي شئ استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها
فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله كالميل في المكحلة، وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل شهادة أبي بكرة، ولما جاءت شهادة زياد قال عمر: أرى رجلاً أرجو(573/25)
ألا يفضح الله به رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يفصح زياد شهادة الزنا وقال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، وإستين مكشوفتين، وسمعت حفزاً شديداً فقال له عمر: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. فقال له: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها
فلم يثبت الزنا بذلك على المغيرة، لأنه لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون به شهادة صريحة، كشهادة أبي بكرة وشبل ونافع، فانقلب بذلك الأمر على هؤلاء الثلاثة، وعدت شهادتهم قذفاً بالزنا، وقد أمر بهم عمر فجلدوا حد القذف، ولما رآهم المغيرة قال لعمر: اشفني من الأعبد. فقال له عمر: أسكت أسكت الله نامتك، أما ولله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك
ولما كان الله تعالى يقول في القاذفين (والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) جمع عمر الثلاثة فقال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته. فأكذب شبل نفسه، وأكذب نافع نفسه وأبى أبو بكرة أن يفعل لأن فعل عمر به بلغ منه ما بلغ وقد حقد على أخيه زياد مخالفته له في الشهادة، فلم يكلمه بعدها
وقد يستغرب القارئ تلويج عمر لزياد بمخالفة الثلاثة في الشهادة على المغيرة، لأن مقام الحاكم يقتضي منه أن يساعد على كشف الجريمة لا على سترها، حتى لا يفلت المجرمون من يد العدالة، فيأمن الناس شرهم، ويستقيم بذلك حالهم، كما يستغرب مؤاخذة أولئك الشهود الثلاثة مع هذا بالقذف، وإقامة حده عليهم، وحملهم على تكذيب أنفسهم، حتى تقبل بذلك شهادتهم في المستقبل
ولكنه إذا رجع إلى الأصل في تشريع تلك الحدود وزال منه ذلك الاستغراب، لأن الشارع في تشديده في تلك الحدود يقصد الإرهاب أكثر من التنفيذ، ولهذا قيد تنفيذها بقيود تجعلها لا تقع إلا في النادر، وإلا حين تتعين لحسم شر تفاقم أمره، ولا يجدي غيرها في علاجه، كأن يشتهر شخص بانتهاك الحرمات، فمثل هذا يجب على الإمام أخذه بتلك الحدود، ولا يصح أن يعمل على إسقاطها عنه(573/26)
وما كان لأبي بكرة أن يفعل مع المغيرة ما فعل، فيتجسس عليه في بيته، ويطلع ضيوفه على أمور يجب فيها الصون، بل كان يجب عليه أن يكف نظره عما شاهد، ولا يحاول استقصاءه وتفصيله، لأن المغيرة لم يشتهر بانتهاك الحرمات، وقد كان من العقل والشرف بحيث يجل مقامه عن ذلك، وكانت امرأته معه في بيته؛ فكان عليه أن يحمل ما رآه عليها، ويكف نظره سريعاً عن ذلك الأمر الذي لا يجوز له أن ينظر إليه
ولو صح أن المغيرة فعل ما شهد به أبو بكرة، لكان عليه أن يستر ذلك عليه هذه المرة، ثم ينصحه فيما بينهما، أو يخبر عمر في السر بما رأى، ولا يجتهد في إقامة الحد عليه ذلك الاجتهاد الذي ينافي أصل تشريعه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب، وقال أيضاً: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبدي لنا صفحته تقيم عليه كتاب الله عز وجل. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يلقنون المقر ما يسقط الحد عنه، وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء؛ وذهبت المالكية إلى أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرمات
وقد قال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: والشهود الأربعة إذا شاهدوا الزنا كان أولى في حقهم الستر بحكم الأخوة، ويكونون كأنهم لم يشاهدوا موافقة لمن لم يشاهد؛ فإن الله تعالى ستر على عبده حيث لم يطلع على قبيح فعله جماعة أكثر من الأربع، فلو اختاروا الستر ووافقوا من لم يطلع كان هذا أحق، وبالأخوة أليق، لكن لم يفترض الستر عند تمام الحجة، إذ لو وجب ذلك لم يبق لشرع الحد قاعدة
عبد المتعال الصعيدي(573/27)
ذو الرمة صاحب مي
للأستاذ محمود عزت عرفة
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
(ذو الرمة)
بين عامي 77 و177 من الهجرة عاش ذو الرمة سني حياته الأربعين، أكثر ما تراه على ظهر قلوصه يذرع الصحراء ويعتسف البيد، وهو أشعث أغبر:
صريع تنائفٍ ورفيق صرعى ... تُوفٌّوا قبل آجال الحمام
سروا حتى كأنهمو تساقوْا ... على راحاتهم جُرَع المدام
وأقل ما تراه في حمى الكوفة أو البصرة أو دمشق لا يلبث إلا ريثما ينشد مدحته، ثم يعود ممتلئ الوطاب، ليسأنف من سيره وسراه على راحلته صيدح. . . تلك التي:
تصغي إذا شدها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غرْزها تثب
وهو في كل ذلك ينشد قلبه الضائع، وينتقل من ماء إلى ماء خلف إظعان محبوبته (مي) ملتمساً وجوه الحيل إلى لقائها، والتزود من النظر إليها والاستمتاع بحديثها، في عفة واحتشام يضعانه في صف جميل وكثير وقيس بن الملوح من عشاق العرب المستعففين
وذو الرمة هو أبو الحارث غيلان بن عقبة العدوى المصري، ويلتقي حديث تلقيبه بذي الرمة، في قصص واحد، مع حديث أول لقاء بينه وبين صاحبته (مي)؛ إذ يروون في ذلك أنه مر يوما بخباء قومها فاستسقاهم. فقالت لها أمها: قومي فاسقيه. . . فجاءته الفتاة بالماء؛ وكانت على كتفه رمة - وهي قطعة من حبل - فقالت: اشرب يا ذا الرمة!
ويروون كذلك أن الحصين بن عبدة العدوى - كبير عشيرته - كان أول من لقبه بذلك حين سمعه ينشد شعره. فقال: أحسنت يا ذا الرمة؛ وكان الشاعر منذ صغره يربط بهذه الرمة جلداً فيه تعويذة ويعلقها على عاتقه حتى كبر على ذلك وشب. على أن ابن قتيبة أورد كتابه (الشعر والشعراء) أنه سمي بذلك لقوله:
لم يُبق منها أبدُ الأبيد ... غيرَ ثلاثٍ ماثلاتٍ سود
وغير موضوح القفا موتود ... فيه بقايا رُمةِ التقليد
أما صاحبته مي - بنت مقاتل المنقري - فلا يكاد الرواة يختلفون في حقيقتها، بل إن هذه(573/28)
الهالة التي يطوقونها بها من الأدب الممتع لتترك في نفس القارئ صورة جميلة لها لا تكاد تمحي
وأحاديث لقاء ذي الرمة بمي كثيرة مترددة في كتب الأدب، ولكن يبدو أنه بقدر جمالها وملاحتها كان قبح ذي الرمة وشناعة خلقه، حتى لكان من قول أمه فيه: اسمعوا شعره ولا تنظروا إلى وجهه. . . وكان أسود اللون دميم الخلقة ينبزه جرير الشاعر بالأسود والعبد.
ومن الثابت أن مياً تزوجت من غير ساعرها، وأنها افترقت عنه أضعاف أضعاف ما اتصلت به؛ ولكنا لا نستطيع أن نتبين من هذا - ولا من غيره - حقيقة ما كان من شعورها نحوه، ولا مبلغ ما تطور هذا الشعور في فترات تعارفهما المختلفة. أما شعوره هو فواضح: حب خالص، عفيف متمكن، إلا ما كان يشوبه من ذكر خرقاء - كمحبوبة له أخرى - وسنشير إلى حقيقة ذلك بعد قليل
وقد كان من صفة (مي) عند الراوين أنها جميلة، مسنونة الوجه طويلة الخد شماء الأنف، عليها وسم ملاحة وجمال. ويزيد هذه الصورة في النفس تجسما ما يسبغه ذو الرمة عليها من وصف ممتع في ثنايا شعره. فهي كما يقول:
براقة الجيد واللبَّاتِ واضحة ... كأنها ظبية أفضى بها لبَبُ
تزداد للعين إبهاجاً إذا سفرتْ ... وتحرَجُ العينُ فيها حين تنتقب
لمياء في شفتيها حُوةٌ لَعَسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيابها شنب
وهي ناعمة الجمال إذا رآها، رخيمة المنطق إذا سمعها. وأجمل ما فيها عيناها وابتسامتها:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ ... رخيم الحواشي لا هُراءٌ ولا نزرُ
وعينان قال الله: كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
وتبسم لَمح البرقِ عن متوضِّح ... كلَون الأقاحي شاف ألوانَها القطرُ
ومية بعد مشرقة الجيد كالغزال، مشرقة الوجه كالشمس، ولكن أجمل ما فيها - دائماً - عيناها وابتسامتها:
لها جيد أم الخشف ريعت فأتْلعت ... ووجه كقرن الشمس ريان مشرق
وعين كعين الرئم فيها ملاحةٌ ... هي السحر أو أدهى التباساً وأعلق
وتبسم عن نور الأقاحيِّ أقفرت ... بوعساء (معروفٍ) تُغام وتطلق(573/29)
تلك مي الفتاة كما يصفها الشاعر في ريق جمالها وميعة شبابها، أما ميُّ المسنة العجوز، بعد أن غالت شاعرها غول المنايا، وقوض من صرح جمالها تواتر الأيام؛ فهي التي يحدثنا عنها أسيد بن عمرو حين يقص فيقول:
مررت على مي وقد أسنت، فوقفت عليها وأنا يومئذ شاب فقلت: ما أرى ذا الرمة إلا قد ضيع فيك قوله:
أما أنت عن ذكراك مية تقصر ... ولا أنت ناسي العهد منها فتذكر؟
فضحكت وقالت: رأيتني يا ابن أخي، وقد وليت وذهبت محاسني، ويرحم الله غيلان فلقد قال هذا في وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة في عين المقرور: ولن تبرح حتى أقيم عندك عذره. ثم صاحت: يا أسماء، اخرجي. فخرجت جارية ما رأيت مثلها. فقالت: أما لمن شبب بهذه وهويها عذر؟ فقلت: بلى! فقالت: والله لقد كنت أزمان كنت مثلها أحسن منها، ولو رأيتني يومئذ لازدريت هذه ازدراءك إياي اليوم. انصرف راشداً. هذه مي في أيام ذي الرمة وبعده، فمن هي خرقاء؟ لقد شبب الشاعر بها وردد اسمها في شعره غير مرة، وقدم إلينا من صفاتها الجميلة صورة معجبة. ولكن الروايات بعد كل هذا تصطدم في حقيقة شخصيتها بين إنكار وإثبات، فعند بعضهم أنها هي مي بذاتها، لقبها الشاعر خرقاء في مواضع من كلامه. ويروى آخرون حديث خروجه إلى بعض البوادي والتقائه بخرقاء من آل البكاء من عامر صعصعة - وما كان من تخريقه أدواته توصلاً إلى مكالمتها بالتماس إصلاحها؛ ثم ما كان من اعتذارها عن نفسها بأنها خرقاء لا تحسن عملاً وتلقبيه إياها بذلك
وثمة أقصوصة أخرى يروونها عن سبب تشبيبه بخرقاء متممين بها (الرواية الكبرى) عن حبه لمي؛ تلك هي أن ذا الرمة ضاف زوج مي من ليلة ظلماء، فلما عرفه وخلا بالعراء أنشد في جوف الليل:
أراجعةٌ يا مي أيامنا الألى ... بذي الأثل؟ أم لا، مالهن رجوع
فألزم الزوج المحنق زوجته أن تصيح بالشاعر: (يا كذا) وأي أيام كانت لي معك بذي الأثل؟
فركب غيلان راحلته وانصرف غاضباً، حتى مر بخرقاء، فوقعت في عينه، فقال فيها(573/30)
يسيراً من شعره يريد بذلك أن يغيظ ميا، ثم ما لبث بعد قليل أن مات
ويقيم لدينا الدليل الملموس على حقيقة وجود خرقاء وانفصال شخصيتها عن شخصية مي - فضلاً عن الروايتين السابقتين - ما يقوله ذو الرمة في مطلع قصيدة يمدح بها عبد الله بن معمر التيمي:
أخرقاء للبين استقلت حمولها؟ ... نعم غربة، فالعين يجري مسيلها
كأن لم يرعك الدهر بالبين قبلها ... لميِّ ولم تشهد فراقاً يزيلها
فها نحن أمام محبوبتين لذي الرمة يروعه الدهر بفراق واحدتهما بعد الأخرى، ويؤيد هذه الحقيقة أيضاً قوله من قصيدة أخرى:
وأروع مهيام السرى كل ليلة ... بذكر الغواني في الغناء المواصل
جعلت له من ذكر ميٍ تعلةً ... وخرقاء فوق الواسجات الهواطل
ونحن نختم كلمتنا هذه بقولنا إن الغزل وما يتصل به هو الناحية البارزة من شعر ذي الرمة، على أن في مدائحه وأهاجيه وفي قيمة شعره الأدبية واللغوية ما يستحق التسجيل. وحسبي الإيماء هنا إلى بائيته: ما بال عينك منها الماء ينسكب. . . فإني وجدت أكثر أبياتها - بل كلها - مستشهداً به في مختلف المصادر العربية القديمة على دقائق لغوية ونحوية وبلاغية وبيانية لا يحيط بها العد
فهذه ناحية أخرى من نواحي دراسة ذي الرمة قد نعود إلى بسط القول فيما وقفنا عليه منها، إن أسعدنا الوقت وانفسح لنا المجال.
(جرجا)
محمود عزت عرفة(573/31)
السراب. . .!
(الجزء الأول من ملحمة السراب)
للدكتور إبراهيم ناجي
السرابُ الخؤونُ والصحراءُ ... والحيارى الُمشَرَّدُونَ الظماءٌ
وليالٍ في إثرهنَّ ليالٍ ... سَنةٌ أقفرتْ وأخرى خَلاءُ
قلَّ زادي بها، وشحَّ الماءُ ... وتولَّى الرفاقُ، والخُلَصَاءُ
كيف للنازح الغريب ارتحالي ... وجناحايَ السقُم والْبُرَحاءُ
وجراحي المُسْتَنزفات الدوامي ... وخطاي المقيَّداتُ البِطاءُ!
أدركي زورقي فقد عبث اليمُّ ... به، والعواصفُ الهوجاءُ!
فغرَ الليلُ فاهُ وانبسط البح ... رُ وجُنَّت أمواجه السوداءُ
والعباب العريض، والأفق المو ... حش، واللانهايةُ الخرساءُ!
أبدٌ لا يُحَدُّ للعين قد ضا ... ق، فأمسى والسجن هذا الفضاء
سهرت ترقب الصباح وعين الن ... جم كلّت وما بها إغفاءُ!
عجبي من تَرَقُّبي، ما الذي أر ... جو ولمّا يَعُد لقلبي رجاءُ!
وأنا مرهف المسامع فيه! ... لي إلى كل طارق إصغاءُ. . .
التقينا كما الْتَقَى بعد تطوا ... ف على القفر في السُّري أنضاءُ
قطعوا شوطهم على الدم والشو ... ك، وراحوا على اللهيب وجاءوا
في ذراعيكِ أو ذراعيَّ أمْنٌ ... وسلام. . . ورحمة. . . ونَجاءُ
وعلى صدركِ المعذب أو صد ... ريَ حصن وعصمة واحتماءُ
كم أناديكِ في التنائي فَترْتدُّ ... بلا مغنم ليَ الأصداءُ
وأناديكِ في دمائي فتنسا ... بُ على حسرة لدىَّ الدماءُ
وأناديكِ في التداني وما أط ... مع إلا أن يُستجابَ النداءٌ
اسُمكِ العذب أروع الأس ... ماءِ مهما تَعَدَّدَتْ أسماءُ
لفظة لا تبينُ تنطلقُ الأق ... دار عن قوسها ويرمى القضاءُ
وهي بين الشفاه نايٌ وتغري ... د وطير وروضة غَنَّاءُ(573/32)
وهي في الطرس قصة تُذْكر الأح ... بابُ فيها وتُحْشَدُ الأنباءُ
صُدْفةٌ ثم وقفة فاتفاقٌ ... فاشتياقٌ فموعدٌ فَلِقاءُ!
فقليلٌ من السعادة لا يك ... ملُ فيه ولا يطولُ الهناءُ
فلوعةٌ فاحتراقٌ ... فجحيمٌ وَقُودُه الشهداءُ(573/33)
من أدب الشاطئ
موجة. . .!
(مهداة إلى موجة بشرية متجنية لعل الله يبصرها بمواطن
الحق والعدل)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
موجة أَزبدت وأَرغت فقلنا ... كادت الأرض تحتنا تتبعثرْ
وعلت كالجبال وَهْيَ رواس ... وبدت مثل مارد لا يقهرْ
تقذف الرعب في القلوب وتُلْقى ... كلَّ هَولٍ والبحر بالناس يزخرْ
تتعالى تجبُّراً كقوىٍ - يتعالى على الضعيف الأصغر
أدركتها الحظوظ سعداً فراحت ... تهزأُ اليومَ بالأنام وتسخرْ
أيها الزاخر العنيف تمهل! ... كلُّ حال لضدها تتغير. . .
ومضت لحظة علينا فكانت ... مثل عمر الندى السريع وأقصر
فإذا الموجةُ القوية أضحت ... تتلاشى على الرمال وتُنْثرْ
وإذا مَتْنُها الشديد الأواذى ... يتهادى في الرمل أو يتكسرْ
والهدير الذي على صفحتيها ... صار في الشط ساكناً لا يهدرْ
والعتوُّ الذي تمثل فيها ... صار ذكرى للمرء لو يتذكرْ
أيها الزاخر العنيف ترفَّقْ ... أيها الظالم القوى تدبر
كل شئ في الكون يجرى عليه ... أَجَلٌ حائنٌ وحكم مُقَدَّرْ
إيه يا موجة التجبُّر رفقاً ... من يكن للفناءِ لا يَتَجَبَّر
كان في البحر قبل خلقك موج ... عدد الرمل والحصا أو أكثر. . .
لا تقولي: أنا. ففي الكون خلق ... أَنتِ أَدنى منه مكاناً وأَحقر. . .
رُبَّ مستكبر على الأرض يمشى ... فوقه في السماء من هو أكبر(573/34)
البريد الأدبي
وحدة الوجود
حضرة الفاضل الأستاذ صاحب مجلة (الرسالة)
أستأذنكم والأستاذ دريني خشبة قول كلمة وضيعة في نقد (رسائل التعليقات للرصافي) للأستاذ دريني خشبة في العددين الأخيرين من المجلة
كان موضوع النقد (وحدة الوجود)، وليس في المقالين تعريف (لوحدة الوجود) ولا اقتباس هذا التعريف عن كتاب الرصافي (إن كان الرصافي قد عرفها)
فعبارة (وحدة الوجود) من غير تعريف مبهمة ولا أعلم كم قارئ من قراء الرسالة فهموا المراد منها. وفيما كنت أقرأ المقال الثالث للأستاذ دريني خشبة كنت أؤمل أن أفهم المراد منها فيما سرده من نظريات فلاسفة اليونان من طاليس إلى أروسطو إلى أفلاطون إلى غيرهم؛ فإذا بوحدة الوجود ازدادت غموضاً بل غابت وراء سحب تلك الفلسفات السفسافية التي يعجز القارئ عن أن يحصل منها معنى معقولاً. وهو معلوم الآن أن نظريات الفلاسفة القدماء في الوجود لا تذكر إلا في تاريخ الفلسفة لكي يعلم المتأخرون ماذا كان تفكير المتقدمين فيها. لأن تلك النظريات سلاسل سخافات كنشوء الكون من (الرطوبة)؟ أو من العدد أو من البخار إلى غير ذلك مما لا تهضمه العقول السليمة
واختلاف الفلاسفة القدماء في شأن الوجود دليل قاطع على أنهم تخبطوا فيه على غير هدى. ولو أصابوا كبد الحقيقة لالتقوا كلهم في مركز الحقيقة وهو واحد، كما أن العلماء العصريين كلما اهتدوا إلى حقيقة علمية التقوا كلهم عندها من غير خلاف كالتقائهم جميعاً عند الجوهر الفرد في الكيمياء وعند كروية الأرض في الجغرافيا وعند (تمركز) الشمس في وسط أفلاك السيارات في الفلك، وعند جميع القوانين الطبيعية المحققة
فإذا كان المراد بوحدة الوجود أن الكون كله من ذرات وأجسام وأجرام نشأ من هيولي واحدة، فهو ما أثبته العلم الحديث ولا يد للفلاسفة القدماء فيه. فقد ثبت للعلم العملي الاختباري التجريبي أن جميع الأجسام والأجرام الأرضية والسماوية مؤلفة من عناصر كيمية متماثلة، وأن العناصر مؤلفة من كهارب (ذريرات متماثلة. وإنما تختلف العناصر بعضها عن بعض بعدد ذريراتها وترتيبها وحركاتها فيها. فالهيولي (أصل المادة) هي(573/35)
الذريرات المتماثلة التي تتألف منها جميع أجزاء الوجود
بهذا المعنى وبه فقط، يعتبر الوجود (وحدة) أي أنه مؤلف من هيولي واحدة لا ثاني لها
ولم ترد وحدة الوجود في فلسفات الفلاسفة المتأخرين إلا نادراً حتى تقابل مع (ثنائية الوجود) والمراد من هذه أن للوجود ضلعين: مادة هيولانية وعقلاً متفاعلين. ولهم في (الثنائية) أبحاث عويصة جداً
وعند أهل العلم، العقل هو كالحياة أحد منتجات تفاعل المادة؛ فهو والحياة والاجتماع وأدب النفس، كل هذه ظاهرات للمادة - الهيولي أصل كل شئ
وما وراء الطبيعة الذي زعمه الفلاسفة وتفلسفوا به كالحرية والجبرية والقدرية والعلة والمعلول الخ ما هو الإنتاج عقلي، والعقل كما قلنا نتاج المادة. فإذن ليس وراء الطبيعة شئ. وما نزعمه (وراء الطبيعة) ونتفلسف به إنما هو ضمن نطاق الطبيعة - طبيعة المادة - الهيولي
الهيول أصل كل شئ، ومنها وحدانية الوجود
وأما مسألة نسبة الله إلى الوجود أو نسبة الوجود إلى الله، فمسألة فقهية لاهوتية لا أتعرض لها بتاتاً.
نقولا الحداد
حول مذهب وحدة الوجود
ليس أيسر على الناس من أن يقرفوا الفلاسفة والمفكرين بالكفر والإلحاد، فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل ضرب من ضروب الامتياز؛ وهؤلاء قد تفردوا بالامتياز العقلي، فلابد أن يكونوا موضعاً لاتهام العامة. ويظهر أن الناس أسخياء في منح لقب (الإلحاد) سخاءً ما بعده سخاء، فإن واحداً من المفكرين لم ينج من هذا اللقب الذي لا يكلف الناس كثيراً! وقد كان أصحاب القول بوحدة الوجود - من بين سائر المفكرين - أكثرهم تعرضاً لهذا الاتهام، فحكم على الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو بالحرق، وحكم على الفيلسوف اليهودي أسبينوزا بالطرد من الكنيسة اليهودية، وكفر غيرهما ممن قال بوحدة الوجود كابن عربي في الإسلام، وسكوت إربجين في المسيحية. ولكن على الرغم من(573/36)
هذا الطعن الشديد الذي لقبه مذهب وحدة الوجود، فقد استمر الفلاسفة والمفكرون ينظرون إلى وحدة الوجود على أنها أعلى صورة من صور (الواحدية) وذهب نفر منهم إلى حد أبعد. فأعلن (أن وحدة الوجود هي النظرية الكونية الوحيدة التي لابد أن يأخذ بها العالم المحدث)
بيد أن ثمة فريقاً آخر من الفلاسفة قد نظر إلى (وحدة الوجود)، على أنها تتضمن إنكاراً لوجود الله، فذهب شوبنهور - مثلاً - إلى أن (مذهب وحدة الوجود ليس إلا صورة مهذبة لمذهب الإلحاد، لأن حقيقة مذهب وحدة الوجود تنحصر في أنه يهدم التعارض الثنائي الموجود بين الله والكون، وأنه يقرر أن الكون موجود بفضل قواه الباطنة الخاصة به. فالمبدأ الذي يقول به أصحاب وحدة الوجود من أن الله والكون شئ واحد، إنما هو وسيلة مهذبة للاستغناء عن الله، أو تعطيل عمله). وعلى الرغم من هذا النقد، فإن مذهب وحدة الوجود يعتبر من أمعن المذاهب الفلسفية توحيداً وتنزيهاً. وليس من الصحيح ما يقوله شوبنهور من أن هذا المذهب يتضمن إنكاراً لوجود الله، بل الصحيح أنه يتضمن إنكاراً لوجود العالم وحسبنا أن نرجع إلى كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، حتى نتحقق من صحة هذا الحكم، فإن هذا المفكر الإسلامي قد انتهى إلى القول بأن (العالم متوهم ماله وجود حقيقي)، لأنه ليس ثمة غير حقيقة واحدة لا تتكثر ولا تتغير، وهذه الحقيقة الواحدة هي الله أو (الحق)؛ وهو قد أظهرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، على أن الله هو عين الوجود (فما ثم إلا الله الواجب الوجود، الواحد بذاته. . . منه وإليه يرجع الأمر كله)، فمن التعسف إذن أن نصف مذهب وحدة الوجود بأنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف (كما ذهب إلى ذلك أحد الكتاب في (الرسالة))، ومن قلة الإنصاف أن نحكم على الفلسفة، باسم الدين، حكما هذا قدره من الخطأ والمجازفة والتعسف
زكريا إبراهيم
ليسانسيه في الآداب والفلسفة
بدرجة الشرف الأولى
إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي(573/37)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإني يسرني أن أرسل إليكم وقد فرغتم من نقد كتاب النثر الفني في تعرضه للقرآن الكريم، أجمل عبارات الشكر على ما كتبتم؛ فإنه والله قد شفى غيظ قلوب المؤمنين، وقمع شياطين الضلال والإلحاد بعد أن كثرت هذه الأيام في كل واد
وقد قمتم بهذا الواجب الديني عنا جميعاً، فلكم من الله الجزاء الحسن والثواب الأوفى، وقد كان من بركات ما كتبتم أن حيل بين مؤلف الكتاب وبين مجلتنا المحبوبة (الرسالة) التي نقدرها وصاحبها المفضال
وسلامي وتحياتي وإجلالي لكم وللأستاذ الزيات الجليل
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
حول قصيدة
جاء في الأديب إبراهيم محمد نجا (أغنية روح) المنشورة بالعدد الماضي من الرسالة هذان البيتان:
وإذا الدنيا كما كنت أرَاها ... في رؤى الحب وأحلام الكرى
فكأن الفن بالحسن كساها ... أو براها الله خلقاً آخرا
ويلاحظ القارئ أن في الشطر الثاني من البيت الثاني خطأ عروضي: يسمى سناد التأسيس. وقد أشار إلى مثله الأستاذ محمد محمود رضوان في قصيدة الأستاذ الخفيف. فإلى متى يقع الشعراء في مثل هذا الخطأ
محمد عبد الفتاح إبراهيم
شجر المشمش وميعاد إزهاره
جاء في العدد 569 من الرسالة الغراء شرحاً لكلمة (المشمش) الواردة في قصيدة الأستاذ العوضي الوكيل بأنه أسبق الأشجار إزهاراً وإيراقاً. والذي أعرفه أن أول الأشجار إيراقاً وإزهاراً هو شجر اللوز، ثم الجارنيك، ومن ثم المشمش. ترى هل يختلف زمن الإزهار(573/38)
والإيراق في مصر عن الشام؟
(حماه)
محمد كيلاني(573/39)
العدد 574 - بتاريخ: 03 - 07 - 1944(/)
العلم والعلماء
في رعاية الإسلام والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
إن الذين يعيشون في حماية القانون وحراسة الشرطة ورقابة القضاء، الذين يعيشون في الحضر بين جدرانه وأبوابه وشوارعه ودروبه، يحسبون أن جماعة لا يسيطر عليها سلطان قاهر ولا يقهرها قانون نافذ ولا يقوم بين أفرادها قوامون من الشرط والجنود هي جماعة مسلمة للقتال والنهاب، يبطش قويها بضعيفها، ويفتك المسلح فيها بالأعزل، ولكنا نرى جماعات بادية تعدل بينها سنن العيش، وتمسك بها دون العدوان الرغبة والرهبة، ويقوم عليها عرف عادل مسلط. وربما يظفر فيها الفرد من الحرية ورعاية الحق والواجب بما لا يظفر به إنسان الحضر، ويقيده العرف بأكثر مما تقيد الحضري سلاسل القانون
وكذلكم يحسب الذين يعيشون في هذا العصر، يرون ضروبا من دور التعليم تتداول الناشئ منذ الطفولة إلى أن يبلغ الثلاثين أو يجاوزها، ويرون وزارات للمعارف تسيطر وتدبر وتنفق، ويبصرون سننا شتى ونظما مختلفة لتلقين العلم وتفقيه المتعلم، ويسمعون دوياً مستمراً في التعليم والتربية، وجدالا متماديا في وضع القوانين ونقضها وخط الخطط وتغييرها - يحسب الذين يشهدون هذا ويسمعونه أن جماعة ليس فيها وزارة للمعارف تضع القوانين وتنشئ المعاهد وتنفق الأموال ليس لها من العلم نصيب، ولكنا نرى في تاريخ الأمم كلفا بالعلم ودأباً عليه وتبحراً فيه. ونقرأ عن العلماء النابغين في كل علم والصناع الماهرين في كل صنعة، ولم يقم على هذه العلوم والصناعات وزارة للمعارف ولا حشر لها ما نعهد اليوم من الموظفين والقوانين والأموال والأعمال
وفي تاريخ الإسلام ما يحير القارئ من الحث على العلم والدأب على تحصيله والولع به واحتمال المشقة في سبيله والرحلة إلى الأقطار البعيدة من أجله، والتنافس فيه، فقد جاء الإسلام داعياً إلى العلم حاثاً على النظر في ملكوت السموات والأرض وسمي دستوره الكتاب والقرآن، وكانت أول كلمة نزلت من القرآن (اقرأ). وحمل العرب أمانة الإسلام، ورعوا سنن القرآن، فاجتمعت الأمم في رعايتهم على حب العلم وطلبه، والكد فيه والدأب عليه حتى صار العلم الإسلامي كله كمدرسة واحدة يجد معلموها ومتعلموها في التعليم(574/1)
والتعلم. ويقوم عليها خلفاء وأمراء وكبراء يبذلون من جاههم ومالهم لأولى العلم. وقد بلغ الخلفاء بالعلم والعلماء منزلة التقديس. وأثرت عنهم في هذا سير لا يعرف الزمان نظائرها ولا يعي التاريخ أشباهها. هذا هرون الرشيد يصب الماء على يد عالم ضرير ويقول إنه يفعله إكراما للعلم، وولداه الأمين والمأمون يتنافسان في تقديم النعلين لأستاذهما الكسائي. والخليفة المعتضد بالله، كان يوما يطوف في بستانه وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني، فجذبها دفعة وخلاها، فقال ثابت ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يديك والعلم يعلى ولا يعلى عليه
وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون والفاطميون وملوك بني أمية بالأندلس وأمراء العرب جميعاً، ثم الملوك المسلمون من بعدهم على سنن واحدة في نشر العلم والحث عليه وإعزاز أهله والبذل لهم، وبناء المدارس وخزائن الكتب وبلغوا في هذا غاية ليس وراءها غايات
وما ظنك بأمة تدون القرآن ثم لا تعتمد على مصاحفه وحدها فتحفظه وتتلقاه بالرواية الشفوية لا تشذ منه كلمة ولا حرف، ثم لا تكتفي بهذا بل تروي طرائق النطق به على اختلاف اللهجات، فتحفظ للكلمات طرقا للأداء تخلدها في الصحف وتحفظها بالمشافهة على مر العصور؟ ثم ما ظنك بجماعة جمعت من أفواه الناس في المشرق والمغرب أحاديث الرسول وقد مضت عليها عشرات السنين غير مدونة. بهذه الهمة سار المسلمون في هداية شرعة الإسلام الواسعة، وأخوة الإسلام الجامعة، وفي رعاية العرب الأحرار وملوكهم الأخيار
طلب المسلمون العلوم الدينية واللغوية والعقلية في كل مكان، بكل الوسائل وعلى كل الأحوال، وكانت البلاد الإسلامية كالبلد الواحد يرحل طلاب العلم فيه والعلماء من جهة إلى أخرى ويقطعون الفيافي البعيدة كما ينتقل أهل القطر الواحد من جانب فيه إلى جانب، حتى صارت الرحلة سنة بين العلماء، فمن لا يرحل ولا يرحل إليه لا ينال بينهم مكانة عالية. وكم تغلغل علماء اللغة والأدب في البوادي يتلقون عن الأعراب جيلاً بعد جيل
وحسبنا مما تفيض به أخبار العلماء هذه المثل:
الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق المتوفى سنة 571 طلب العلم في مكة، والكوفة، وبغداد، وأصبهان، ومرو الشاهجان، ونيسابور، وهراة، وسرخس، وأبيورد، وطوس،(574/2)
والري، وزنجان، وقد عد شيوخه ألفا وثمانمائة، منهم نيف وثمانون امرأة
والخطيب التبريزي اللغوي الأديب. يقول فيه ابن خلكان: (وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهر في عدة مجلات لطاف. وأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري. فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة. ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل. وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب)
وأبو القاسم سليمان بن مطر اللخمي الطبراني الشامي المتوفى سنة 360، رحل في طلب الحديث إلى العراق والحجاز واليمن ومصر والجزيرة الفراتية، ولبث في الرحلة ثلاثاً وثلاثين سنة وعدد شيوخه ألف
وتاج الإسلام أبو سعد التميمي السمعاني نقل ابن خلكان أنه وصل في طلب الحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وسافر إلى ما وراء النهر وخرسان عدة دفعات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها. . . وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ
وانظر هذا المثل في الحرص على العلم إلى النفس الأخير. روى ياقوت عن بعض العلماء قال: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً مسألة كذا وكذا؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها
غير العلماء الذين رحلوا لرؤية البلاد والأمم ووصفها عن عيان، كالمسعودي الذي رحل إلى بلاد الفرس والهند وأطراف الصين وبلاد السودان وزنجبار، فضلا عن البلاد العربية وقال:
نطوف آفاق البلاد فتارة ... إلى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب
وغير الراحلين المعروفين كابن جبير وابن بطوطة وابن سعيد
ولم يكونوا في هذا الجمع كحاطب ليل بل كانت سنتهم في أخذ العلم التثبت والإسناد.(574/3)
التزموا هذين في الحديث ثم أشاعوهما في العلوم الأخرى فصار ديدنا لكل عالم ومتعلم. وكان من تثبتهم أنهم لم يكتفوا بما يكتب وحده وسموا من يعتمد عليه صحفياً. والتزموا السماع من المشايخ الموثوق بهم والقراءة عليهم، والاستجارة منهم، فلم تقبل رواية شفوية أو مكتوبة إلا بسند مقبول ولم تقبل الكتب إلا بنسب يصلها بمؤلفيها. لم يقصروا عنايتهم على كتب الدين، بل نالت كتب الأخبار التي لم تمت إلى الدين بصلة أو التي يتحرج منها المتدينون كأخبار الشعراء والمغنين، كثيرا من عنايتهم. وحسبنا كتاب الأغاني. وكثيراً ما نجد دواوين الشعراء في نسخ عليها سماع يصحح نسبتها إلى أصحابها. وقد وضعوا للسماع أصولاً التزموها واهتدوا بها. ومن عجيب ما روى من التثبت في الرواية أن أبا علي القالي البغدادي الذي رحل إلى الأندلس وأدب الحكم المستنصر ولي عهد عبد الرحمن الناصر، أعار تلميذه الحكم كتابا من كتبه فأبقاه الحكم عنده مدة طويلة فلما رده إلى أستاذه أسقط الرواية به وقال: لا آمن من أن يكون لحقه تغيير وهو عند الحكم
هذا وقد كان التعليم في أكثر مقاصده يراد به وجه الله وحفظ الدين وما يتصل به أو تكميل النفس، والاستجابة لنزوعها إلى المعرفة. ولم يكن موصولاً بالمناصب والمرتبات كما نرى في هذا العهد. لم يكن أهل العلم مضيعين ولم يكونوا محرومين من الجزاء الحسن، ولكن لم يكن طلب العلم مرتبطا بالشهادات والدرجات ارتباطه في هذا العصر، بل اختلف علماؤنا في جواز أخذ الأجر على التعليم، واستقبحوا أن يطلب العلم للمال والجاه ونحوهما
وسنذكر بعد ما قاله بعض العلماء حينما أنشئت المدارس ورتبت فيها الوظائف لطلاب العلم
دور العلم
كان طلب العلم في المساجد وفي دور العلماء أحيانا، وكانت خزائن الكتب مباءة درس كذلك. ثم أنشئت مدارس للتعليم خاصة
فأما المساجد فقد كانت دور علم في البلاد الإسلامية على اختلافهما في هذا ولاسيما المساجد الجامعة. فالجامع العتيق في مصر وهو المعروف اليوم بجامع عمرو كانت فيه دراسة متصلة. وكان به في بعض العصور أربعون حلقة للدرس لا تبرحه، وبهذا الجامع درس الشافعي وتلاميذه، وبه أملي الطبري ديوان الطرماح. وفيه نشئ أبو تمام، وغشى حلقاته المتنبي(574/4)
وجامع ابن طولون وهو أكبر جوامع القاهرة وأقدمها كانت تدرس به العلوم الدينية كما يدرس الطب والميقات، وكذلك كان الجامع الأموي. قال ابن جبير: (وقد أجري فيه كل يوم لأكثر من خمسمائة إنسان). وكذلك كان جامع قرطبة في الأندلس وجامع الزهراء، وفيه أملي القالي كتاب الأمالي. ولا تزال المساجد حتى اليوم موضع درس
وأعظم المدارس صيتا في التعليم في عصرنا الجامع الأزهر بمصر، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس
ثم أنشئت دور للتعليم خاصة، من أقدمها بيت الحكمة الذي بناه الرشيد فيما يظهر، وكان للترجمة والتعليم. روى القفطي في أخبار بني موسى بن شاكر أن المأمون أوصى بهم أسحق ابن إبراهيم المصيصي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة. . . إلى أن قال: فخرج بني موسى بن شاكر نهاية في علومهم، وكان أكبرهم وأجلهم أبو جعفر محمد، وكان وافر الحظ من الهندسة والنجوم عالما بأقليدس والمجسطي وجميع كتب النجوم والهندسة والعدد والمنطق
وفي القرن الثالث الهجري أراد المعتضد بالله العباسي أن يبني ببغداد جامعة. روى المقريزي أن الخليفة المعتضد لما أراد بناء قصره في الشماسية ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريد ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه، ولم يكن رأي المعتضد عجبا في ذلك العصر الذي أولع فيه الناس بالعلم ومهدت وسائله، ولم يكن جديداً فيه إلا جمع الناس في مكان واحد
ثم أنشئت جامعة القاهرة التي سميت دار العلم في القرن الرابع. أنشأها الحاكم بأمر الله، وفتحت للناس يوم السبت عاشر جمادي الآخر سنة 395، وحملت الكتب إليها للنسخ والقراءة، ودرس بها القراء والنحويون والأطباء والمنجمون ودرس الحساب والمنطق
قال المقريزي: وأباح ذلك كله للناس على اختلاف طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها. . . وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج إليه الناس من الحبر والأقلام والورق(574/5)
والمحابر
(للحديث بقية)
عبد الوهاب عزام(574/6)
الأخذ عن أوربا
للدكتور محمد مندور
يردد بعض الناس هنا وهناك أن الشرق غير الغرب، وأنه لا سبيل لالتقائهما، ونحن في الحق لا نعرف قولا أكذب من هذا وبخاصة في مجال الثقافة، حيث يشهد التاريخ أن التيارات الفكرية لم ينقطع لها مدد بين شطري العالم، وإن كان من الصحيح أن لكل من هذين الشطرين خصائص مميزة إلى جانب ما يجتمعان فيه حقائق إنسانية عامة
والناظر في تاريخ الحضارات يلاحظ أنها لم تتوقف قط عن التأثر ببعضها البعض، ولئن كان من الثابت أن الشرق قد كان مهد الحضارات؛ فإن الغرب لم يلبث أن أخذها عنه واتجه بها وجهات جديدة فنشر في الروح مبادئ العقل واتجه بالنظر إلى العمل، وبذلك وسع من أسس الحياة الروحية كما مكن للإنسان من استخدام المادة والسيطرة عليها
ولقد سبق للعرب أن اتصلوا بالحضارة الإغريقية القديمة، وأخذوا عن تلك الحضارة ما أمكن أخذه مما يصح عند العقول كافة كأصول التفكير الرياضي والفلسفي، وأما ما يتصل من تلك الحضارة بمقومات الحياة الاجتماعية والعاطفية، وهو ما تتميز به الحضارات، فلم يستطيعوا بداهة فهمه ولا قبوله أو نقله، ومن هنا لم يترجموا إلى لغتهم شيئاً من شعر الإغريق وإن كانوا على العكس من ذلك قد ترجموا من أشعار الفرس كالشاهنامه وغيرها. وربما كان ذلك لأن حياة الفرس التي يصورها ذلك الشعر كانت أقرب إلى حياة العرب من حياة الإغريق، ثم إن الدين قد لعب في هذه المفارقة دورا حاسماً، فالفردوسي شاعر مسلم وهوميروس وثني
ولقد تجردت نفس الظاهرة ببلادنا منذ أن ننقل عن أوربا في أوائل القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، فالشعر بل والنثر الأدبي بمعناه الضيق كان آخر ما أخذنا في نقله، بينما اتجهت جهود بعثات محمد علي وخريجو مدرسة الألسن إلى نقل العلوم أولاً، ولهذا الاتجاه سبب مزدوج، فوالي مصر العظيم محمد علي كان رجلا ذا طموح عملي، ولقد رأى الأوروبيين يسيطرون بعلومهم التي تمكنهم من القوة المادية، ولهذا أرسل معظم أعضاء بعثاته للتخصص في تلك العلوم كالهندسة والكيمياء والطب وصناعة السفن والفنون الحربية المختلفة، والسبب الثاني هو ما سبق أن أشرنا إليه من بعد الكتابات الأدبية شعراً ونثراً عن(574/7)
محيط حياتنا في الشرق واتصالها الوثيق بنوع الحياة والإحساس الغريين
هذا، إلى ما في نقل الأدب من مشقة، بل من استحالة في بعض الحيان وبخاصة الشعر
وبعد: لقد سبق فرأينا أن نهضتنا الحالية تقوم على أساسين: بعث التراث العربي القديم ثم الأخذ عن أوربا. ولا مراء في أن البعث لا يثير بيننا جدلاً، وكلنا مجمعون على وجوبه بدافع قومي وثقافي معاً. وليس كذلك أمر الأخذ عن أوربا فهنا يجب أن نميز بين نوعين مما نأخذ: أخذ مبادئ العلوم المادية والعقلية وهذه لا نظن أن صوتا جديا يرتفع لمقاومتها. وهي في الحق ليست ملكا للعرب ولا للشرق، بل ولا من السهل أن نقول أين نبتت وأين نمت، ومثلها مثل السيل يجتمع من جداول لا حد لها تأتيه من كافة الآفاق، وعلى العكس من ذلك أخذ الأدب؛ فهنا ترتفع الخصومة ويشتد الصخب، ولتلك الخصومة ما يبررها وهي حقيقة بأن ننظر فيها عن قرب، وذلك لما للأدب من خطورة لا يدانيها شئ؛ فالأدب وعاء لتقاليد الأمة الاجتماعية والأخلاقية، بل والدينية، وفيه تتركز روحها بحيث يعتبر بحق مرآة حياة الأمم، ثم أنه من أخص المجالات التي تظهر فيها أصالة الشعوب في الخلق والحساسية وإدراك مواضع الجمال والقبح، ومن الطبيعي أن تحرص كل أمة على مقومات حياتها كما تحرص على أصالتها
ولكننا نلاحظ برغم ذلك أننا قد أخذنا في الربع قرن الأخير ننقل عن أوربا أدبها شعراً ونثراً؛ فهل في هذا حقيقة ما يهدد كياننا القومي أو يمس أصالتنا كشعب شرقي له مميزاته التي رسبت عن السنين الخالية، حتى استقرت بروحه؟
ذلك ما لا نراه. فحياتنا الراهنة قد تأثرت بما نقلنا عن أوربا من علوم وتطبيقات لتلك العلوم أكبر التأثر حتى أصبحت اليوم بلا جدال أقرب إلى الحياة الأوروبية منها إلى حياة البداوة الأولى. ونحن اليوم نجاهد شعبا وحكومة لنشر هذا النوع الجديد من الحياة بأقصى وسعنا. وهذا شيء من السهل أن يفسره العقل، فبمواصلة الطرق لا بد أن تصبح حداداً. بل أنك لتستطيع أن تصل إلى الإيمان ذاته بالمواظبة على شعائره وحركاته الخارجية، فما بالك بالأثر الخطير الذي تحدثه مظاهر الحياة المادية في نوع الحياة اليومية التي نحياها؟ ومن هنا لا يستطيع أحد أن يزعم أن مقومات حياتنا لا تزال بعيدة عن أن تجد في الأدب الأوروبي ما يعبر عنها بل ويغذيها. وليس من شك في أن هناك الكثير من مبادئ الأخلاق(574/8)
والاجتماع، بل ومن مبادئ الدين التي نتفق عليها مع الغربيين بحيث لا نكاد نتبين مواضع الخطر على حياتنا القومية في النقل عن أوروبا. ونحن بعد لا نجهل أن هناك جوانب من الحياة الاجتماعية نخشى محاكاتها بغير حذر واستنارة. وأهم تلك الجوانب مشكلة العلاقة بين المرأة والرجل، وتلك مشكلة تمد الأدب في الشرق والغرب أكبر المدد. ولكننا وأن كنا مجمولين بطبعنا على وجوب التبصر إلا أننا نلاحظ أن الأدب العربي ذاته قد وصل في تصوير تلك العلاقة إلى حد من الحرية بل والإباحة لا نحتمله نحن اليوم، بل ولا يجرؤ عليه شعراؤنا، وفي قصائد امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس من ذلك الشيء الكثير. وبالرغم من هذه الحرية وتلك الإباحة لم تثر ثائرة العرب ولا قوضت أركان حياتهم ولربما كان في الأدب متنفس أهون ضرراً من الكبت والتزمت. ثم إن الهيئة الاجتماعية بوجه عام تأخذ الأدباء وبخاصة الشعراء منهم في جميع بلاد العالم بشيء كثير من التسامح حتى لنلاحظ أننا في مصر نفسها كثيرا ما نقرأ للشعراء ما لا يجرؤ ناثر أن يقوله. ولقد سبق لروسو عند مناقشته للدور الذي يلعبه المسرح في الحياة أن أنكر قدرته على تقويم معوج أو إصلاح فاسد، لأن الناس لا يذهبون إليه لتلقي درس في الأخلاق والاجتماع بل لمجرد التسلية أو المتعة العقلية وفي هذه التسلية وتلك المتعة ما يكفي لأنها تهون علينا حمل الحياة. والأمر في الأدب عامة كالأمر في المسرح
وأما عن الأصالة في خلق الأدب والمحافظة علة خصائصه المميزة، فهنا أيضاً لا نرى من المحاكاة، بل نراها على العكس المدرسة الأولى للأصالة، ومن ناشئة الأدب من يظنون مخطئين أن الأدب يخلق من العدم، وأن الموهبة في غنى عن القراءة والتحصيل والاستيحاء، بل والمحاكاة أحياناً، مع أن تاريخ كبار المؤلفين وكتبهم تشهد بنقيض ذلك. فلافونتين قد أخذ (حكايته) عن إيزوب اليوناني ولابرويير ابتدأ (صوره الأخلاقية) بالنقل عن تيوفراست، بل وشكسبير نفسه قد استقى موضوعات رواياته من (بلوتارخ) و (ناسيت) و (جيرالد دي سنتيو) وغيرهم. ومع ذلك لم يقل أحد إن هؤلاء الكتاب الكبار قد فقدوا أصالتهم. ولقد يقول قائل فليكن. ولكن لم نحاكي الأوربيين ونستلهمهم ولدينا تراثنا القديم الخليق بأن يمدنا بما نريد وجوابنا على ذلك هو أننا لا نريد أن نقصر الأخذ على أوربا. ولقد قلنا في المقال السابق إن في الأدب العربي، بل وفيما نظن أنه قد مات منه ما(574/9)
لا يزال ولن يزال حياً أبد السنين كالجنين إلى الديار، وذلك لضربه في الشعور الإنساني بأعراق عميقة، ولكننا مع ذلك نلاحظ أنه ما دامت حياتنا قد تغيرت، وما دام الأوربيون قد استحدثوا من الأدب أنواعا لم يعهدها أدبنا العربي، فإنه من الحمق أن نزج بالاعتبارات القومية في هذا المجال ونحرم أنفسنا من أنواع الثقافة والغذاء الروحي. لو أن الأوربيين كانوا مكاننا لما أحجموا عن الإفادة منها، ولقد سبق لهم أن نهبوا تراث الشرق قبل أن يغزوه بأسلحتهم. فما بالنا نتقاعد الكسالى الذين يحتجبون خلف نمرة باطلة ليخفوا ما هم فيه من عجز عن اللحاق بقافلة العالم التي تسير حثيثة الخطى.
محمد مندور(574/10)
الرصافي، والحر، ووحدة الوجود
للأستاذ دريني خشبة
الدنيا حر! والكلام في الفلسفة، وفي وحدة الوجود كما يفهمها الأستاذ الفاضل، معروف الرصافي، يزيد رهق هذا الصيف القاهري القائظ، والناس لهذا السبب محتاجون إلى ما يسليهم لا إلى ما يكربهم، ويؤجج الدنيا من حولهم، ويزيدها سموماً إلى سموم. . .
إلا أننا مع ذاك لا نرى بدا من العودة إلى هذه القضية، قضية الأستاذ الفاضل، معروف الرصافي، أو قضية وحدة الوجود، مكرهين، بعد إذ حسبنا أننا قلنا فيها الكلمة الأخيرة، أو كلمتنا نحن الأخيرة على أقل تقدير. . .
فأستاذنا الفاضل المحبوب (نقولا الحداد) يتفضل فيشرف هذه القضية بالاشتراك فيها، في حيز خاص، ويلاحظ أننا لم نورد تعريفا لنظرية وحدة الوجود، ولا اقتبسنا هذا التعريف عن كتاب الرصافي (إن كان الرصافي قد عرفها) ثم قال حفظه الله إن مقالنا الثالث زاد النظرية غموضاً، بل جعلها (تغيب وراء سحب تلك الفلسفات السفسافية التي يعجز القارئ عن أن يحصل منها معنى معقولا). ثم أخذ الأستاذ الجليل يفيض علينا بعد ذلك من علمه الغزير الذي طالما انتفعنا به، شارحاً رأيه، أو رأى العلم الحديث، في نشأة الخليقة، مما لا نعرض له هنا بخير أو شر. . . لأن الدنيا حر، كما بدأنا هذه الكلمة، ولأن الرجل الذي لا يعترف بالوجود إلا للمادة، ويقرر أنه ليس وراء الطبيعة شيء. . . وأنها - أي الطبيعة - هي كل شيء وأنه يعتبر مسألة نسبة الله إلى الوجود، أو نسبة الوجود إلى الله مسألة فقهية لاهوتية لا يتعرض لها بتاتا. . . ذلك الرجل الفاضل الذي يقول هذا جازماً به غير متردد فيه، لا بد أن يكون بطل هذا الموضوع. والبطولة في هذه الموضوعات الشوائك تفتح أبوابا ليس في فتحها خير لأحد، لأنها تفضي إلى مجادلات فارغة، وتولد خصومات مرة. بل ربما أحدثت فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة
ونحب أن نوضح موقفنا في هذه القضية التي ابتلانا بها الأستاذ الفاضل معروف الرصافي، كي يقتصد بعض كتابنا الإجلاء، وأدبائنا المحترمين، فلا يحرفوها عن مواضعها، ولا يبعدوا بها عما أردنا أن نحصرها فيه. فقد ألف الأستاذ الرصافي كتابه تعليقاً على كتابي صديقنا الأعز الدكتور زكي مبارك: التصرف الإسلامي والنثر الفني، ثم تعليقا على كتاب(574/11)
لمستشرق إيطالي يدعى (لئونا كايتاني) سماه (التاريخ الإسلامي)، والتعليقات على الكتابين الأول والثالث تعليقات من وجهة نظر تعد إسلامية بحتة، وقد ذكرنا شيئا كثيراً عن معتقدات الأستاذ الرصافي الذي لا يفهم معنى للآية: لا إله إلا الله. . . ويرى الصحيح أن يقال: لا إله إلا الوجود. وينكر الوحي على الصورة التي يؤمن بها المسلمون، وينكر أن القرآن كلام الله. ويكرر عبارة. . . قال محمد في القرآن، في معظم صفحات كتابه، ثم ينكر البعث على صورته الإسلامية، وينكر الحساب والثواب والعقاب، ويؤولها تأويلاً سخيفاً مضحكاً أشرنا إليه فيما كتبنا من قبل. ويؤمن - كما ننقله بحروفه من مقالنا الثاني (العدد 571) - بوحدة الوجود فيقول: (أن البحث والتفكير قد ألجآني إلجاء لا محيص عنه إلى بوحدة الوجود (ص11)، وأن الله هو الوجود المطلق اللانهائي (ص13)، ويدعي أن كل شيء في هذا العالم جزء من الله، أو أن المخلوقات (مظاهر للوجود الكلي) كمظاهر الأمواج لماء البحر المائج، (وقد فاتنا أن نذكر هذا التشبيه ليس من اختراع الرصافي، بل إنه من أخذه عن شيخه التلمساني أحد القائلين بهذا الإفك - ولا يؤاخذنا الأستاذ زكريا - (كتاب الحجج النقلية والعقلية للعلامة ابن تيمية ص79)، وهذه هي وحدة الوجود التي يؤمن بها الرصافي، الله هو العالم والعالم هو الله، وأن ممن قال ذلك في القرآن في سورة الحديد: (هو الأول والآخر والظاهر والبطن وهو بكل شيء عليم)؛ فإن هذه الآية تدل بمفهومها دلالة صريحة على أن لا موجود إلا الله. . . هو الأول الذي ليس له بداية، والآخر الذي ليس له نهاية، وليس معنى هذا إلا أنه هو السرمدي اللانهائي، وهو الظاهر الذي نراه بأعيننا وندركه بحواسنا، (أي نراه ونشمه ونسمعه ونذوقه ونحسه، ولا أدري ماذا أيضا!) والباطن الذي لا نراه ولا ندركه، وليس معنى هذا إلا أنه هو كل شيء، وأنه لا موجود غيره. ونحن إذا أخذنا صفو المعنى من عبارة الآية قلنا بأن الله هو الوجود الكلي المطلق اللانهائي، وأنه لا موجود غيره. هذه هي وحدة الوجود التي هي أساس مذهب التصوف وهذا منشؤها) (بحروفه من الرسائل ص13)
وقد فرع الرصافي من هذه النظرية كل ما ذهب إليه من إنكار من صميم العقائد الإسلامية التي تخرج منكرها من حظيرة الإسلام، ثم فرع منها تساوي المتضادات، فالخير مثل الشر، ومصيرهما واحد، والتقى مثل الدعارة، والكفر مثل الإيمان، والأبيض مثل الأسود،(574/12)
والعقل مثل الجنون، وتفكير العلماء مثل تخريف الجهلاء المخرفين، ولا فرق بين فضيلة ورذيلة. والمغفل لهذا السبب، هو الذي يحرم نفسه من لذة أتيحت له، سواء أتاحها له الرحمن أو هيأها له الشيطان. . .
والأستاذ الفاضل معروف الرصافي، يدعونا في آخر كتابه إلى الأخذ بآرائه هذه، ويعزو غفلة المسلمين وتأخرهم إلى التمسك بحرفية الإسلام وعدم تأويله كما تزخرف له الأباطيل التي فرعها عن تلك النظرية. وقد ذكرنا في مقالنا الأول، كما ذكرنا في مقالنا الأخير أنه لولا هذه الدعوة لأهملنا الرد على ترهاته إهمالا تاما. . . لأننا لسنا موكلين بإفهام الناس، ولا جعلنا الله قوامين على حرية الفكر
من هذا يرى أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد أن القضية قضية إسلامية، زعم الرجل المسلم الذي أثارها - أنها من تفكير رسول المسلمين، وأن متصوفة المسلمين هم الذين أذاعوا بها ونشروها، مما اضطرنا إلى نقض هذا الزعم بإثبات وجودها في الفلسفة اليونانية. . . في ذلك المقال الذي لا أدري والله كيف زاد النظرية غموضاً
ومن هذا يرى أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد، أننا قوم مسلمون، قام فينا رجل ينقض لنا معتقداتنا، ويزعم لنا أن الحمير والبغال والجمال والحمام والبط والإوز والهوام والضفادع وكل ما يدخل فيها ويخرج منها هو جزء من الله الذي نعبده ونؤمن به. . . وأننا نستطيع أن ندرك هذا الإله فنراه ونشمه ونتذوقه ونسمعه ونحسه ونأكله ونشربه ونلفظه ونبني به بيوتنا غرفها وجميع (مرافقها!) فننام فيه ونخرج منه - ولا نخرج منه إلا إليه! - ثم يأتي يوم فنهدمه!
أفأن زعم لنا هذا الرجل تلك المزاعم، وزعم لنا أن رسولنا الكريم هو صاحب هذا اللغو. وأن ما نؤمن به من إله قدير خلق هذا العالم ولا يعقل أنه هو. . . أو هو إياه! - باطل أوقعنا فيه قصر نظرنا. ثم غلا بعد ذلك فهدم المعايير الأخلاقية بقوله في تساوي المتضادات. . . فهل يوافق أستاذنا الجليل المحبوب، (نقولا حداد) على ترك هذا الإفك، يسمم عقول المسلمين، وإغفال تلك الأراجيف تعبث بالفضائل التي يحثنا عليها ديننا الكريم القويم؟!
لست أدري لماذا أوجه هذا الحديث كله إلى الأستاذ نقولا الحداد، ولا أوجه شيئا منه إلى(574/13)
الكاتب الأديب الفاضل الأستاذ زكريا إبراهيم (الليسانس في الآداب والفلسفة بدرجة الشرف الأولى) الذي طالما أثنيت على رقائقه الجميلة لأستاذنا الزيات، شفاه الله وعفاه، وحفظه للأدب والدين، وإن أنكر الرصافي المغوار فائدة الصلوات والأدعية
لست أدري لماذا لا أوجه شيئا من هذا الحديث إلى أخينا الأستاذ زكريا؟! ألكونه جعلنا في كلمته الطيبة من العوام الذين يرمون الناس بالإلحاد ويمنحونهم ألقابه التي لا تكلفهم شيئا؟ أم لكونه جعلنا نكرة حيث تفضل علينا بتلك الإشارة العظيمة الكيسة التي سوف تكسبنا الخلود! لا هذا ولا ذاك. . . فنحن مع ذلك نعترف بقيمة ما قرأناه لهذا الأديب المفكر المهذب، ولكننا بالرغم من حسن رأينا فيه، نصر على توجيه السؤال التالي إليه:
أيؤمن حضرته بأن هذا العالم غير موجود؟ وبما انتهى إليه ابن عربي من أن العالم متوهم ما له وجود حقيقي، لأنه ليس ثمة غير حقيقة واحدة لا تتكثر ولا تتغير، وهذه الحقيقة الواحدة هي الله أو الحق، وأنه ما ثم إلا الله الواجب الوجود، الواحد بذاته. . . الخ؟
أيؤمن حضرته بأن هذه الأرض التي نعيش فوقها وهي تسبح بنا في السموات وهم في وهم، وأن الشمس التي تنير لنا ظلمات البر والبحر، وهم في وهم، وأن كل شيء من هذه المدركات وهم في وهم، حتى الأستاذ زكريا نفسه وهم في وهم، وأن ليسانسيه الآداب والفلسفة بدرجة الشرف الأولى التي حصل عليها بعد أن أذاب بصره وصهر مخه وهم في وهم، وأن أساتذته المحترمين المبجلين وهم في وهم، وأن البطيخ اللذيذ البارد الذي يطفئ حر الظمأ في هذا الصيف القائظ وهم في وهم، وأن باعة هذا البطيخ الذين يشتطون في ثمنه هذه الأيام وهم في وهم؟!
أيؤمن حضرته بأن جدار غرفته التي يقرأ فيها كتب فلسفاته وهم في وهم، وأنه لو نطح برأسه هذا الجدار لما سال الدم منه لأن الجدار وهم في وهم، ولأن رأسه وهم في وهم، وحتى لو فرض أن سال الدم، فالدم وهم في وهم؟! ما هذه الفلسفة يا عالم؟! ولماذا يعز عليكم أن نصف هذه الفلسفة بأنها إفك وأنها تنطوي على كثير من الأراجيف؟ ولماذا يكون من قلة الإنصاف أن نحكم على الفلسفة باسم الدين، ما دامت هذه الفلسفة كما رأى الأستاذ زكريا تحاول نقض ديننا الكريم القويم، ومادامت هذه الفلسفة تدعونا إلى ذلك التدهور الأخلاقي والتحلل من جميع الآداب؟ أيؤمن الأستاذ الفاضل زكريا إبراهيم بتساوي(574/14)
المتضادات كما يؤمن الرصافي؟ أيؤمن بأن الدعارة كالتقي، وإن إكباب المرء على حليلته لا يقل عن سجوده بين يدي الله؟ أم أن هذا هو حكمنا على الفلسفة باسم الدين، وهذا قدر ذلك الحكم من الخطأ والمجازفة والتعسف؟
وما رأي أستاذنا الفاضل المحبوب نقولا الحداد في هذه الفلسفة التي لا تعترف بالعالم، أو بالطبيعة التي لا يؤمن حضرته بما عداها؟!
يا عالم. . . الدنيا حر، ونحن موجودون. . . فكونوا أنتم وهماً في وهم. . . ودعوا لنا ديننا الفطري الجميل الساذج. . . فالعالم يجد وأنتم تلهون.
دريني خشبة(574/15)
على هامش النقد
عرائس وشياطين
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ سيد قطب
(هذه الصفحات نخبة مجموعة من وحي العرائس ذوات
الشياطين، أو من وحي الشياطين ذوي العرائس. تلقيناها من
هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية إلى القراء. وكل ما توخيناه
فيها أن نتجنب التكرار كما نتجنب الإسفاف والإطالة
(فهذه قصائد من الشعر العربي أو العالمي، يكثر فيها الإيجاز ويقل الإسهاب، ويندر فيها المشهور المتكرر على جميع الأسماع. . .
(وحسبنا منها شرط واحد نرجو أن يتحقق لها جميعا في رأي قرائها، وذاك أنها - وهي من وحي العرائس والشياطين - خير ما يقرب الإنسان إلى قلب الإنسان)
عباس محمود العقاد
جد لي رأيان متناقضان في هذه المجموعة، هما اللذان أستعرضهما هنا مع القراء: ففي أثناء القراءة الأولى السريعة، ولم أنته بعد من المجموعة، ولم أتبين مواقع قصائدها ومقطوعاتها في نفسي. قي هذه القراءة التي يلتفت فيها الذهن إلى أكثر الأشياء التماعا ويلتفت فيها الحس إلى أشد الأصوات تصدية. . . عندئذ قلت: أن الشعر العربي يستطيع أن يقف على قدميه أمام الشعر العالمي
وحينما انتهيت من قراءة المجموعة وخلوت إلى نفسي أتبين موقع كل قطعة وكل قصيدة، وألمح وراء الألفاظ والمعاني، ما ترسمه من ظلال إنسانية وما تصوره من حالات نفسية. عندئذ قلت: إن هذه المجموعة صحيفة اتهام للشعر العربي! فأي الرأيين هو الخطأ، وأيهما هو الصواب؟(574/16)
مرجع الحكم في هذا هو طريقة إحساسنا بالحياة، وحقيقة مطلبنا من الشعر. فأما أنا فلا أتردد في القول بأن الحياة في صميمها إن هي إلا انفعالات واستجابات، وعواطف وحالات نفسية، وأن الأفكار والمعاني إن هي إلا بلورات صغيرة على سطح الحياة، وكثيراً ما تكون معوقات لجريان الحياة، وإن كانت في أحيان قليلة تساعدها على التعمق والنفاذ
وليس (الإنسان) الراقي هو الذي تستهويه المعاني المجردة والأفكار المبلورة، - كما يعتقد الكثيرون - ولكنه الإنسان الذي يتعمق حسه أدق المشاعر وأجلها، والذي يدرك نبضات الحياة وانفعالاتها، والذي يتخذ من ذلك كله غذاء لحسه وفكره جميعاً
والشعر هو نبضة قلب قبل أن يكون لمعة فكر؛ وهو خفق حياة، قبل أن يكون فكرة ذهن، وهو حالة نفسية قبل أن يكون قضية فكرية؛ وهو ظلال إنسان قبل أن يكون التماع أفكار، ووسوسة أفئدة قبل أن يكون رنين ألفاظ
فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي بهذه العين في مجال الشعر وجدناه فقيراً في الظلال الإنسانية والحالات النفسية بمقدار ما هو غني بالأفكار والمعاني والاستجابات الحسية المباشرة التي لا تتعمق النفس الإنسانية إلى مدى بعيد
والتعبير العربي - وبخاصة في الشعر - تعبير مباشر أقرب ما يكون إلى الاستجابة الحسية، فهو يؤدي الفكرة أو المعنى، ثم لا تلمح وراءه مخلوقا إنسانياً. إنك تلمح ولاشك فكراً وحساً، ولكن المخلوق الإنساني الذي يشتمل الفكر والحس ويشتمل بجوارهما حياة آدمية كاملة قلما تلمحه وراء التعبير العربي
ولقد خيل إلي مرة أن هذه اللغة نبتت في الظهيرة على صحراء مكشوفة. فهي لا تلقي حولها ظلا. ليس هناك ما يسمونه (بين السطور) كل لفظ وكل تعبير يقابله معنى أو فكرة، ثم لا شيء وراء المعنى ووراء الفكرة. لا ظل. لا صورة. لا رؤى في الضباب غير مميزة الملامح بينما تثير في النفس شتى التخيلات وشتى الاهتزازات
وبمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال، وفي الحالات النفسية، والملامح الإنسانية؛ وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين)
حتى شعر الغزل عند العذريين وغير العذريين، قلما تجد فيه وراء اللفظ إلا المعنى، ووراء(574/17)
التعبير إلا الفكرة. قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية، قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ وتتوارى خلف التعبيرات.
إن بيتين ساذجين بسيطين كقول مسلم بن الوليد (فيما أذكر) وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب وليس حوله إلا نخلة بجرجان يناجيها فيقول:
ألا يا نخلةً بالسّفحِ ... مِن أكناف جُرْجان
ألا إني وإياك ... بجرجان غريبان
إن هذين البيتين لهما نموذج راق في الشعر العربي، وهو نموذج متواضع بالقياس إلى الشعر العالمي، ولكنه كذلك نموذج نادر!
فماذا في هذين البيتين الساذجين. فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية. صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن، وخلع الحياة عليه ومعاطفة القريب للقريب
وعلى هذا النحو ينبغي أن ننظر إلى الشعر، على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس، وما يرسم لخيالنا من صور، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة. وذلك فيما اعتقد واجب شعراء الشباب
ولكن حذار أن نفهم من هذا ما يفهمه بعضهم من تلك الفوضى. إن الشعر - مع هذا - ليس تهيؤات مخبول، ولا تهاويل مذهول. والحالات النفسية المطلوب تصويرها، ليست هي خلط المجانين، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات. إن بين الشعر وبين هذه التهيؤات والتهاويل لبعداً سحيقاً، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا، والشعر العربي القديم بحسيته وتجريده أقوم وأهدى، وأخلد فناً
وإلى القراء بعض الأمثلة الحاسمة بين المعاني والأفكار، وبين الحالات النفسية والصور الإنسانية في قطعة من مجموعة العرائس والشياطين، للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان) بعنوان (إلى السوق أول مرة) وليست هي بأغنى ما في هذه المجموعة من هذا الرصيد
يوم أنشأت أذهب إلى الأسواق، أوائل عهدي بالأسواق(574/18)
كانت الدراهم في الكيس جد قليل
وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف
على أشياء في السوق لا تنال
تغير الزمن اليوم، فلو أردت الشراء لاشتريت
هنا الدراهم في الكيس، وهناك أشياء الأمس في السوق
ولكن أين يا ترى ذلك الفتى المحروم؟
(طالما شكا قلب الإنسان، لأن (اثنين واثنين: أربعة)
لا هي ثلاثة كما نودها حيناً. ولا هي خمسة كما نودها بعد حين
وأحسبه سيشكو إلى آخر الزمان
فبقياس الأفكار والمعاني، هذه المقطوعة لا شيء! إن معانيها قريبة قريبة، فهي لا تزيد عن قولهم: (كل ممنوع محبوب) و (كل ما تملكه اليد تزهده النفس) و (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)
ولكن أين هذا من تلك الأحاسيس الإنسانية الخالدة الغامضة التي تثيرها هذه المقطوعة في نفس كل (إنسان) عانى ما عاناه الشاعر من (أن اثنين واثنين أربعة لا هي ثلاثة، كما نودها حيناً ولا هي خمسة، كما نودها بعد حين) وأحس بحلاوة التشهي وزهادة المشتهى بعد حين. واضطرب بين واقع الحياة الذي يحتمه المنطق ولا مفر منه ورغائب النفس التي لا تستند إلا للشوق المجهول الذي ينكر المجهول الذي ينكر المنطق المحتوم!
ليس المعنى هنا هو المهم، إنما هو المخلوق الآدمي الذي تحس دبيب انفعالاته ووسوسة وجداناته، وليست الفكرة التي تحويها المقطوعة هي المهمة، وإنما هي الصورة المترائية بين الظلال الشفيفة
ثم طريقة تناول الموضوع واستعراض الصورة واحدة بعد الأخرى وتسلسل الصور الحية المتخيلة، كل هذا له شأنه وله قيمته في استثارة الأحاسيس. لا إلقاء المعنى مبلوراً مجرداً كأنه قذيفة!
وسنعود إلى استعراض بعض المقطوعات الأخرى في هذا الصدد الذي يستحق في اعتقادي أن نعود إليه مرة ومرة لتصحيح الفكرة السائدة بيننا عن الشعر والشعور(574/19)
أما الآن فنقول: إن العقاد قد أحسن إلى الأدب العربي بهذه المجموعة، وإنها لمحسوبة له كأي كتاب من كتبه، وإننا لفي حاجة إلى غيرها من المجموعات. وإذا لم يكن لها من فضل إلا إثارة مثل هذه التفسيرات للشعر وتصحيح مقاييسه تصحيحاً عملياً، فإن هذا وحده يكفي
والطريقة التي اتبعها في التعريف بكل شاعر وعصره وطريقته ومنزلته تجعل للمجموعة هدفا آخر غير المادة التي احتوتها. ذلك هو التعريف السريع المفيد لعدد من الشعراء في العالم لا يتسنى للكثيرين أن يتعرفوا إليهم بمثل هذا الوضوح.
سيد قطب(574/20)
1 - فساد الطريقة
في كتاب النثر الفني
(عدم الدقة)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
أردنا بما قدمنا من أمثلة لتناقض صاحب الكتاب أن ندل على فساد تفكيره. وورود مثله في أي بحث بل في أي كلام كاف في إسقاطه، فلا يقام له وزن في ميزان الحق والصواب. لكنا لا نريد أن نقف عند هذا، بل نريد أن ندل أيضاً على فساد طريقته، لأنه قد جمع فساد الطريقة إلى فساد التفكير
وسنبدأ من عيوب طريقته بعيب يمت إلى سوء التفكير بسبب وثيق، ذلك العيب هو عدم الدقة. وصاحب الكتاب يعلم أن الدقة أول شروط البحث، وأن مراعاتها أول ما يجب على الباحث. وما أظنه إلا قد اجتهد أن يكون دقيقاً: دقيقاً في التفكير، دقيقاً في التعبير، دقيقاً في الفهم، دقيقاً في الاحتياط لما يظنه الحق. لكن أخطأه التوفيق أو أعوزته المقدرة في كل هذا، فلم تنجه محاولة الدقة في التفكير من الوقوع في التناقض الذي رأيت، وأسلمته محاولته الأخرى إلى ما سترى
وسأبدأ من الأمثلة بمثل جامع أو شبه جامع لعدم الدقة في كل هذا. ذلك أن صاحب الكتاب أراد أن يحكم في مسألة الشعر والنثر أيهما أفضل فقال من صفحة 25
(أحب أن أدون رأيي في الفرق بين منزلة الشعر ومنزلة النثر، وهو رأي لم أسبق إليه: رأيي أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة؛ فهناك مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر. والبليغ الموفق هو الذي يفهم سياسة الفطرة في مثل هذه الشئون)
وأراد أن يضرب مثلا يوضح معناه. فهل تظنه جاء بشعر لا يصلح لموضوعه النثر، أو بنثر لا يصلح لموضوعه الشعر؟ لا هذا ولا ذاك، بل جاءك بمحاورة بينه وبين المسيو مرسيه في مغزى عدول معاوية رضى الله عنه عن سجعه كان أملاها على كاتبه، فأخطأ كلاهما الصواب كما سنبينه في موضعه، وأخطأ هو في الاستطراد. ثم قال تماما للتوضيح:(574/21)
(ولو تتبعنا آثار الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر لرأيناهم يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغني فيها النثر شيئاً؛ فبديع الزمان يمضي في رسائله ومقاماته ناثراً، ثم ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد. وقد رأينا عبد العزيز بن يوسف يراسل الصاحب بن عباد فيبدأ خطابه ناثراً، ثم يميل إلى النظم ولا يفوته أن يعلل ذلك فيقول: ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا وفي نفسي إتمامه نثراً فمال طبعي إلى النظم، وأملي خاطري على يدي ما كتبت ونعم المعرب عن الضمير مضمار الفريض:)
هذا اقتباس طويل، أليس كذلك؟ لكن لا بأس بطوله ما دام يعين على ما نحن بصدده من ضرب المثل لعدم الدقة عند صاحب الكتاب في أكثر من ناحية
وأول ما يلفت من كلامه هذا هو بعد ما بين أوله وبين آخره، أو ما بين رأيه وبين استشهاده على ذلك الرأي، فرأيه عبر عنه بصيغة القصر والحصر: (مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر). . . (يجنحون إلى الفريض في مواضع لا يغنى فيها النثر شيئاً). . . فهو هنا لم يدع لاشتراك النثر والشعر موضعاً، لكنه فيما استشهد به يخبرك عن بديع الزمان في رسائله ومقاماته إنه (ينتقل إلى الشعر فجأة حيث يرى الشعر أقرب إلى ما يريد) فهل كون الشعر عندئذ أقرب إلى ما يريد بديع الزمان معناه أن النثر لا يغني شيئاً عن الشعر في ذلك الموضع؟ أم معناه، أن النثر قريب إلى ما يريد البديع ولكن الشعر أقرب، حتى في رأي صاحب الكتاب؟ فرأي صاحب الكتاب في الآخر غير رأيه في الأول، أو دعواه على بديع الزمان في الآخر تقصر عن دعواه في الوسط وعن تفرقته بين ما لا يصلح له إلا الشعر وما لا يصلح له إلا النثر في الأول. ولا أريد أن أسمي هذا تناقضاً، ولكنه تقصير في الفهم وتقصير في التعبير، فيما يتعلق ببديع الزمان وفيما يتعلق بعبد العزيز بن يوسف
ومع ذلك قد نفى صاحب الكتاب في صفحة 26 عن عبد العزيز بن يوسف أن يكون جيد الشعر (والقطع التي وصلت إلينا من شعره باردة الأنفاس) في قول صاحب الكتاب، مع أنه قد أدخله قبل في (الكتاب الذين منحوا موهبة الشعر)، كما رأيت. وإذن فقد استشهد به، على علات تلك الشهادة، ثم كر عليه بما يبطل شهادته في صلاحية الشعر حيث لا يمكن(574/22)
أن يصلح النثر. فماذا تسمي هذا من صاحب الكتاب؟ إن لم يكن تناقضا فهو على الأقل عدم دقة في الفهم والتفكير
ولعلك لاحظت أن صاحب الكتاب حين أراد أن يحكم بين الشعر والنثر في المنزلة بادعائه مواطن للقول لا تصلح إلا لأحدهما دون الآخر، لم يتمم التقسيم من ناحية، ولم يبين تلك المواطن من ناحية أخرى. لكن يظهر أنه ترك بقية التقسيم لفطنة القارئ، وإن كان هو ليس عنده من الفطنة ما يتجنب به إبطال شهادة ثاني شاهديه؛ أما مواطن كل من الشعر والنثر، فقد عاد إلى تبيينها بقوله من صفحة 26: (قلنا أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة، فلنعد إلى ذلك بكلمة حاسمة فنقول: إذا كان موضوع القول متصلاً بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب، لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب، لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع). وتلاحظ أنه هنا قد عدل عن صيغة القصر إلى صيغة التفضيل، فهو يبيح لكل من النثر والشعر أن ينوب عن صاحبه، وإن لم يسد مسده ويغن غناءه، لكنك تلاحظ أيضاً أن كلمته الحاسمة هذه، وإن كانت أرخى زماماً من كلمته الأولى التي لم يسبق إليها، قد أخرجت الشعر من مجال العقل وأخرجت النثر من مجال القلب من حيث السبق في الإجادة والصلاحية للتعبير؛ فالسبق دائما للشعر في مجال القلب، وللنثر في مجال العقل من غير نظر إلى الشاعر ولا إلى الكاتب. أي أنه لم يعر شاعرية الشاعر ولا كاتبية الكاتب أي التفات: فعنده أن المواضيع المتصلة بالقلب يجب أن يتناولها صاحبها بالشعر؛ فأن لم يكن شاعراً لم يكن له أمل في النبوغ. ومثل هذا يقول طبعاً في المواضيع المتصلة بالعقل. ولسنا ندري - ولا نظنه يدري - من أين له هذا الحكم النظري البحث، وإن ادعي له الحسم. كما لا ندري ما رأيه في مثل معلقة الحارث بن حلزة، وهي خطبة جدلية في قصيدة. لكن الأهم من هذا وذاك أنه وهو يبحث ويأتي بالحاسم من الرأي لم يرد داعياً لأن يحدد الاتصال بالمشاعر والعواطف والقلوب ما نوعه وما مداه، إذ غير معقول أن يكون كل ما اتصل بالشعور أولى به الشعر، ولا كل ما اتصل بالفهم أولى به بالنثر، وإن كان الثاني أقرب إلى المعقول من الأول. فالحارث بن حلزة ألقي خطبة شعرية والجدل منها أكبر النصيبين، ولم يمنعه ذلك أن يذكر بها مدى الدهر.(574/23)
والخطب الوعظية أو الحماسية في الصدر الأول، وبعد الصدر الأول، لها من القلب والشعور أكبر النصيبين، ولم يمنعها ذلك أن تؤثر ويذكر بها أهلها مدى الدهر، فأين هو ذلك الحسم الذي ادعاه صاحب الكتاب لكلمته تلك؟ إنها كلمة مبهمة، لا حسم فيها ولا فصل، فهي مثل للتقصير في النظر، وعدم الدقة في التفكير وفي التعبير
على أننا سنفرض أن صاحب الكتاب أراد بذلك الذي سماه اتصالاً بالمشاعر والعواطف والقلوب، على أقل تقدير علاقة الحب. فهل تظنه حتى في هذا كان أدنى إلى الدقة في بحثه والاحتراس في التعبير، فلم يسو بين النثر والشعر في هذا الباب؟ إن كنت تظن هذا فاقرأ له ما كتب في صفحة 157 في فصل النسيب: (وفي القرن الرابع يظهر الغزل في النثر ظهوراً رائعاً بحيث يمكن مقارنة الرسائل الغرامية بأقوى قصائد التشبيب، ولا يمكن الارتياب في قدره كتاب القرن الرابع على إجادة هذا الفن وتفوقهم فيه وتصرفهم في ضروبه تصرف المبدعين). فأين ذهبت إذن تلك الكلمة الحاسمة وذلك الرأي الذي لم يسبق صاحب الكتاب إليه؟ أم هو مجرد كلام يثبت باسم البحث في صفحة 26 وينفي باسم البحث أيضاً في صفحة 157؟ وإذ كان صاحب الكتاب لا يستطيع الاحتراس والتزام الدقة حتى في أضيق الدوائر وأظهرها وأقربها إلى ما ألف وألف الناس، فمتى يرجى منه أن يقوم بما يوجبه البحث من الدقة والاحتراس والاحتياط؟ ولا تنس أن عبارته هذه قد كتبها وهو يبحث عن خصائص النثر الفني في القرن الرابع، أو هكذا على الأقل قد ترجم للباب الثاني من الجزء الأول من كتابه، فلا يمكن أن يعتذر له عنها بالمبالغة أو بالتحمس كما يعتذر للناشئين، لأن النثر الفني في القرن الرابع هو موضوع بحثه الأصيل، وما عدا ذلك فهو ملحق به محشور فيه. فإذا كان هذا الرجل جاداً في بحثه، يعتقد بما يقول وما يقرر، فلماذا لا يطبقه؟ وإن كان يطبقه فلماذا لا يتعلم كيف يحسن التطبيق؟
محمد أحمد الغمراوي(574/24)
إعجاز القرآن
في كتاب النثر الفني
للدكتور زكي مبارك
انتهت مقالات الغمراوي في الثورة على آرائي في إعجاز القرآن، الآراء المبثوثة في كتاب النثر الفني، انتهت مقالاته بأسرع مما كنت أتوقع، ففي كتاب النثر الفني آراء في إعجاز القرآن أخطر من الآراء التي تحدث عنها بإسهاب، ولو كنت أستظرف هذا الرجل لدللته على تلك الآراء، فهو في أشد الاحتياج إلى أن يعلن عن نفسه بتكفير الدكتور زكي مبارك، كما أعلن عن نفسه أعواماً بتكفير الدكتور طه حسين
لقد أشقى نفسه، وأشقى المطابع، وأشقى باعة الورق، ليخرج كتاباً ضخم الحجم في نقد كتاب الشعر الجاهلي، وهو اليوم يصوم ليدخر ما يطبع به كتاباً أضخم وأفخم في نقد كتاب النثر الفني
أعانك الله يا أيها الأستاذ المفضال على نفسك، فما بعد شقوتك شقوة، ولا بعد ضياعك ضياع
وأنا مع هذا أعطف عليك، لأنك من قراء كتاب النثر الفني، وبقراءته ستدخل الجنة بغير حساب، فهو تميمة لنجاتك من تكفير المؤمنين بلا دليل ولا برهان
وإذا صح زعمك الأثيم باني أحارب القرآن فلن يسمع الله لك، ولن تجد من يستريح إلى بهتانك، يا كاتباً يؤذي الرجال باسم الدين، وهو أجهل من أن يفهم أسرار الدين
إن مقالاتك في مجلة الرسالة كانت وبالاً عليك، فقد صورتك بصورة من لا يفهم حرفاً واحداً من حروف القرآن، وهي أيضاً شهدت عليك بالعجز عن الصراحة في مجادلة رجل قضى شبابه في الاعتصام بالرأي الصريح
أنت تعرف جيدا أن إدارة الرقابة بوزارة الداخلية لا تسمح بنشر المجادلات الدينية، ومن هنا كان طغيانك، وإلا فما الذي أسكتك عن نقد آرائي في إعجاز القرآن وقد ظهر كتاب النثر الفني قبل عشر سنين؟
لا يؤذيني أن تزعم أني ملحد، ولا يؤذيني أن يتفق الناس جميعاً على أنني ملحد، فأنا أصافي الله وحده، ولا أقيم لبني آدم أي ميزان(574/25)
ولو أن الله أنعم عليك بإيمان مثل إيماني لكان لك من الوجود الذاتي ما يعصمك من الافتراء على الرجال
هل يعرف القراء هويتك يا أيها الأستاذ المفضال؟
استخبرت عنك فعرفت أنك أستاذ كيمياء بكلية الطب فما الذي ابتكرت في علم الكيمياء؟
أرجع إلى المعمل كما يعبر المصريون، أو المختبر كما يعبر العراقيون، واحبس نفسك هناك لتصل إلى شيء، يا شخصا يستر تقصيره في عمله بالتطاول على الرجال
لن تفلح أبدا، يا هذا الشخص، ولن يكون لك من المجد العلمي أو المجد الأدبي نصيب، وإصرارك على الإفك بتكفير الدكتور زكي مبارك لن يزيد في إيمانك، وهل يكون لمثلك إيمان؟
أنا الملحد في زعمك لم أستعن بغير الله، ولم أستنصر بغير الله، ولم أحول وجهي إلى وجهة ينكرها الله، وقد صرحت مرات ومرات بأني لا أخاف الله إلا تأدباً مع ذاته العلية، فكيف أخاف الناس؟
سهمك مردود إلى صدرك، يا هذا الفلان، وستموت مسلولاً بفضل حقدك، فارحم نفسك من الحقد لتعيش
بيدي - بعد استئذان الأقدار - حياتك أو موتك، فانظر ما الذي تختار لنفسك، يا هذا الفلان!
لم تكن أول كاتب يدعو إلى تشكيك الناس في إسلامي، وقد اندحر من سبقوك إلى اتهامي، فلتندحر أنت أيضاً، وستحق لعنتي عليك فيكون اسمك محمد احمد الغمراوي
ولن أعاتب الأستاذ الزيات بعد اليوم على أن ينشر لك ما تريد في الغض من أقدار الباحثين، فقد عرفت أن مجلة الرسالة تعبت من تلوم بعض من القراء على إكثارها من الأبحاث المتسمة بالحرية الفكرية، فهي تنشر مقالاتك لتقول إنها حديقة تجمع بين الأزهار والحشائش، وبين الأسود والثعابين
وأنت لجهلك فرحت بمخاصمتي لمجلة الرسالة، فهل كنت تنتظر أن أخاصم مجلة الرسالة من أجلك إلى أخر الزمان؟
إن قراء الرسالة سألوا عني حين غبت، ولن يسأل عنك سائل حين تغيب(574/26)
ومن أنت حتى يسأل القراء عنك؟
بضاعتك تنحصر في تكفير المؤمنين
وأما مع هذا أعطف عليك، لأنك من قراء النثر الفني، والله عز شأنه سيتفضل فيرفع من يقرأون كتاب النثر الفني
ولكن كيف؟
أفترع الجواب فأقول:
آرائي في إعجاز القرآن بكتاب النثر الفني آراء تقنع المستنيرين بإعجاز القرآن، وهم الفئة التي تخاف عليها من الارتياب في إعجاز القرآن
لا خوف من إلحاد العوام، فإيمانهم لن يتعرض لأي زلزال، ولكن الخوف من إلحاد الخواص، وقد أقنعتهم في كتاب النثر الفني بصحة إعجاز القرآن
هؤلاء الخواص كانوا في بالي وأنا أؤلف كتاب النثر الفني، فأشبعتهم إيماناً بإعجاز القرآن، ولن يرضيهم كلام غير كلامي
ثم ماذا؟
ثم أترك محاسبتك على حقدك، ولا أرجو الله أن يغفر لك، فما لمثلك مكان في فردوس الغفران
وإن بدا لك أن تعاود الإصرار على اتهامي في إسلامي فسأقول بعبارة صريحة إن إسلامك مدخول، وإنك تستر جهلك بدعوى الغيرة على الدين الحنيف
وما غرامك بأن تفهم قراء الرسالة أني أحارب القرآن؟
ما هذا الغرام الأثيم بإيذاء المؤمنين يا هذا الشخص المسلم بالصورة لا بالوجدان؟
إن آرائي في إعجاز القرآن شرحت صدور الألوف من المسلمين، وأقنعتهم بأن القرآن قوة روحية لا قوة لفظية، وأن روحانيته هي السر في ظفره بالخلود
إن مجلة (الرسالة) غير مسئولة عما تصنع بنفسك، ولو نشرت لك ألف مقالة لبقيت حيث وضعك القدر العادل أستاذ كيمياء لم يبتكر شيئاً في علم الكيمياء
اترك تكفير الدكتور زكي مبارك وتكفير الدكتور طه حسين يا هذا الفلان، واشغل نفسك بمصيرك، يا شخصا لن يكون له مصير، ولو اعتصم بالخيوط الفانية مما ينسج السراب(574/27)
أنا أقنعت المثقفين بإعجاز القرآن، فماذا صنعت أنت؟
أما بعد فهذا جوابي لقرائي، وهو جواب رجل يقال إنه ملحد، رداً على مفتريات يذيعها عني جهول يدعو إلى اتهامي في إسلامي
لك الويل يا هذا الفلان، فلن أترك الرد عليك ما دامت مجلة الرسالة ترى أنك أهل لنشر ما تسوق من المفتريات
رأي هو الرأي، ويكفيني مجداً وشرفاً أني أقنعت المثقفين بإعجاز القرآن، وعند الله جزائي، وما عند الله أخلد من الخلود
زكي مبارك(574/28)
وحدة الوجود
بين الفلسفة والدين
للأستاذ محمد يوسف موسى
تناول في هذا الأيام مذهب وحدة الوجود بعض كتاب الرسالة وقرائها النابهين الأفاضل، بمناسبة (رسائل التعليقات للرصافي) ونقدها للأستاذ دريني خشبة، وكل عرض لهذا المذهب من الناحية التي يراها جديرة بالاهتمام. وقد رأى أحدهم، وهو الأستاذ زكريا إبراهيم المعروف باصطناع الدقة في التعبير والحكم، أن من التعسف والخطأ والمجازفة أن يقال عن هذا المذهب إنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف وإنه لا يتفق وعقائد الدين الحقة
لذلك أرجو أن يكون لي التقدم بهذه الكلمة؛ لعلها تكشف بعض الحقيقة، أو تساعد على الوصول إليها
الذهاب إلى الفكرة (وحدة الوجود) ليس إلا أحد الحلول أو الإفهام التي حاول بها المفكرون والفلاسفة في القديم والحديث أن يحلوا أو يفهموا مسألة صلة الله بالعالم، وفد أنتج التفكير في هذه المسألة كثيراً من المذاهب التي وعاها الزمن وسجلها تاريخ الفلسفة
ومحي الدين بن عربي من زعماء القائلين بهذه الفكرة، وكان له من أجل ذلك أنصار وخصوم؛ هؤلاء يقذفونه بالزندقة والكفر، وأولئك يجعلونه الشيخ الأكبر وأحد أولياء الله وأصفيائه، ولكل أمارات ودلائل، ولا يتسع المقام لذكر ذلك أو الإشارة إليه. إلا أني أشير إلى أن عبد الوهاب الشعراني، وهو من أكبر أنصار الشيخ، حاول أن يوفق بين الشريعة وبين ما ورد في مؤلفات الشيخ مما لا يتفق والدين، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فلجأ أخيراً إلى حذف ما لا يتفق وما عليه أهل السنة والجماعة من كتاب الفتوحات، كما يروي ذلك بنفسه في مختصره لهذا الكتاب، وتلك لعمري خطة إثمها أكبر من نفعها!
ولكن، ما معنى هذه الفكرة (وحدة الوجود) التي تؤدي إلى التكفير في رأي كثير من الناس؟ هي، كما تبين من كتب ابن عربي نفسها، القول بأنه ليس هناك إلا وجود واحد هو الله والعالم كله مظاهر له، أو بعبارة أخرى ليس جميع الممكنات إلا مظاهر للحق (الله) يتجلى فيها ولولاه لكانت عدما(574/29)
ومعنى هذا أن الحقيقة التي هي الوجود الحق هي ذاته تعالى: وهي في عالم الحيوان حيوان، وفي عالم النبات نبات، وفي عالم الجماد جماد؛ فالله منبت في كل شيء من سماء وأرض وشجر وحيوان، وما إلى ذلك كله مما خلق حتى عجل بني إسرائيل هو بعض مجالي الله ومظاهره، ولهذا صح لموسى عليه السلام أن يقول للسامري: (وانظر إلى إلهك)
هكذا يقول ابن عربي ويتناسى تتمة الآية: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرفنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً) مما يدل دلالة واضحة لا تختل الجدل والمكابرة على ما في خطاب موسى عليه السلام للسامري من تهكم به وبما صنع!
وليست هذه النصوص متفردة في مؤلفات ابن عربي، إنها مليئة بكثير أمثالها الدالة على هذه النظرية الغامضة الصعبة التصور والعسيرة الفهم، والبعيدة عن العقل والدين فيما أرى، ويرى كثير غيري إنها لا تتفق مع الدين الذي يرى وجود موجودين - الله والعالم - متباينين في كل شيء ومنفصلين تمام الانفصال، أحدهما وجوده رهن بإدارة الآخر، ولا تتفق كذلك معه بحال ما، ما دام الدين ينزه الله عن أن يكون أشرف مخلوقاته مجلى ومظهراً له، فكيف بعجل بني إسرائيل وما دونه
ولا تتفق كذلك مع العقل الذي يرفض أن يؤمن بشيء يعجز عن إدراكه على أي نحو كان، كما أنه لا يرى ضرورة للإيمان بها في سبيل فهمه الله والعالم والعلاقة بينهما
ولعل رفض العقل والشرع لفكرة وحدة الوجود هو الذي جعل بعض المفتونين بابن عربي يبرئونه من القول بها أو الذهاب إليها؛ أمثال السراج البلقيني والسيوطي والشعراني وعبد الغني النابلسي، ولكن كيف يمكن هذا، والفتوحات والفصوص قاما على هذا المذهب ولا يستطاع تأويلها جميعاً!
قد يقبل الإغماض في عبارة يجري بها لسان صوفي أخذه الوجد، وارتفع به الحال، وشاهد ما لا نشاهد، فقال في لحظة من لحظات التجلي والمشاهدة: أنا الحق - مثلاً! - ولكن ليس من المقبول الإغماض في نظرية قام عليها مذهب، وامتلأت بها كتب، وسجلها صاحبها وهو هادئ النفس يحس بما يقول ويقدره قبل أن ينطق به!
لقد أبنت رأيي بوضوح وتفصيل في ابن عربي - معتمداً على مؤلفاته - من الناحية الدينية والأخلاقية، في كتابي الذي ذكرته بالهامش، وأتبعت ذلك برأي ابن تيمية فيه وفي(574/30)
أمثاله، وفعلت ذلك للعلم وحده ولتوفية ما يجب للدراسات العلمية من أمانة وعدم تعصب، ولا أريد هنا أن أذكر شيئاً مما ذكرته هناك في هذه الناحية
ولعل الأخ الفاضل الأستاذ زكريا إبراهيم لا يرى تعد هذا أن من التعسف والخطأ والمجازفة وصف مذهب وحدة الوجود بأنه إفك ينطوي على كثير من الأراجيف، بل لعله يرى أن هذا الوصف فيه غير قليل من الاعتماد!
وأما القول بأن (من دأب العامة أن تتمرد على كل ضرب من ضروب الامتياز)، ولهذا (ليس أيسر على الناس من أن يقرفوا الفلاسفة والمفكرين بالكفر والإلحاد)، فلن يصرف من يرى الحق أن يصدع به، ومع هذا، ليت شعري أكان الغزالي وأمثاله من العامة؟ على أني أرى أن نتشدد جميعاً ونقتصد اقتصاداً كبيراً في الحكم بالتكفير والزندقة والإلحاد ونحو هذا مما يتصل بالعقيدة والدين.
محمد يوسف موسى(574/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
570 - إن الكفاف لراهب أو زاهد
أبو القاسم عامر بن هشام القرطبي:
قالوا: الكفاف مقيم. قلت: ذاك لمن ... لا يستخف إلى بيت الزراجين
ولا يبليله هب الصبا سحرا ... ولا يلطفه عرف الرياحين
ولا يهيم بتفاح الخدود ورمان (م) ... الصدور وترجيع التلاحين
571 - فأصلح الأمر أن يبقوا مفاليسا
الحسن بن شاو المعروف بابن النقيب:
في الناس قومٌ إذا ما أيسروا بَطِروا ... فأصلحُ الأمر أن يَبقَوا مفاليسا
لا تسألِ الله إلا في خمولهم ... فهم جيادٌ إذا كانوا مناحيسا
572 - ما تطاق في الشعر يا أصمعي!
أسحق الموصلي: سأل الرشيد عن بيت الراعي:
قتلوا ابن عفاف الخليفةُ محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
ما معنى (محرما)؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج. فقال الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج، ولا أراد الشاعر أنه أيضاً شهر حرام فيقال: أحرم إذا دخل فيه كما يقال: أشهر إذا دخل في الشهر، وأعام إذا دخل في العام. فقال الكسائي: ما هو غير هذا. فقال الأصمعي: ما أراد عدي بن زيد بقوله:
قتلوا كسرى بليل محرما ... فتولى لم يُمتع بكفن
أي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد فما المعنى؟ فقال: كل من لم يأت شيئاً يوجب عليه عقوبة فهو محرم لا يحل منه شيء. فقال الرشيد: ما تطاق في الشعر يا أصمعي!
573 - ليس عدو بين أضلاعه إلا معدته
قال أبو الفرج الأصبهاني: وجدت في كتاب الشاهيني: أنشد أبو الحارث حميد قول العباس بن الأحنف:(574/32)
قلبي إلى ما ضرني داع ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
إن دام هجرك لي يا مالكي ... أوشك أن ينعاني الناعي
فبكى ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة، فقيل له: من أين قلت ذاك؟ فقال: لأنه بدأ فقال: (قلبي البيت)، وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما ضره من الطعام والشراب فيأكله فتكثر علله وأوجاعه، وهذا تعريض ثم صرح فقال: (كيف احتراسي: البيت)، وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلا معدته، فهي تتلف ماله، وهي سبب أسقامه، وهي مفتاح كل بلاء عليه، ثم قال: (إن دام لي: البيت). فعلمت أن الطباخة كانت صديقته، وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام، فلو دام ذلك عليه لمات جوعا، ونعاه الناعي(574/33)
الطبيعة في الصيف
جلاد الضلال. . .
(الهجير)
(الجزيرة في هاجرة الصيف)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
دعوها على راحاته الخضر ترتمي ... فقد شفها برح الهجير المسمم
رمت فوقه أشجانها وتنفست ... إليه بشكوى عابر لمخيم
ولاذت به مفطورة، فظلالها ... أسارير وجه اليائس المتهجم
وأدواحها ركبانَ دور أحالهم ... ضلال الفلا أصنام دير مهدهم
تناجت بصمت أيقظت هجساته ... يمامات طهر صاحيات كنُوَّم
هَففنَ، وذرَّفنَ التغني صبابةً ... فخطَّفنَ إحساسَ الغصون المكتم
وأغفت على حضن من الموج نائم ... بَخيل الرُّؤَى إلا على كل ملهم
هو النيل رباها على الحب والهوى ... وعانق شطيها عناق المتيم
وطوق جنبيها فلاحت غريبة ... على ساعديه من أسى البين تحتمي
وتحكي له أشجانها، وحديثها ... يغني بلا عود، ويشكو بلا فم
تضوع غراما وانتظاراً وحيرة ... وشعراً إلى غير الهوى كم يُنغم
يمر على محرابها الناس غُفَّلاً ... كما مر بُوِذيٌّ على دار مُسلم
وتسرى حواليها السفائن خشعاً ... سُرَى تائب في كعبة الله مُحرم
نشق عباباً مات هسهاس موجه ... فلاح كمشتاق إلى نفسه ظمى
ولولا خطا تياره لحسبتها ... تماثيل طير في سراب مدوم
لها شرع بيض الحواشي متونها ... كأعلام جيش مستجير مُسلم
سكون ولكن في حنيات صدره ... بقايا لُهاث الشد في قلب مجرم
وأقعي على الأسوار قيظ رأيته ... يطل بوجه الحانق المتندم
يلوح كجلاد الطلال وهذه ... سياط اللظي منه طوال التضرم(574/34)
يكدنُ يحلن الَظل وهماً وغصنه ... تهافت مفزوع عميق التوهم
تشاكي من التعذيب فرع وطائر ... وعشب فكان الروض إيحاء مأتم
وأوقف نعش الريح لاَ كفُّ لاَحد ... ولا خطو بَكَّاءٍ كثير الترحم
تَعَّرى عن الأستار، فهو مكَّفنٌ ... بضوء على الأغصان حيران مُحجم
شواظ ولا نار، ونار ولا لظى ... ورؤيا لهيب في خيالي وفي دمي
وموقدُ عبَّادين مات لهيبهُ ... وشبت أغانيه سعيراً بأعظمي
وكنت أرى والنار لم تبد سجدة ... مجوسية قامت على كل مجثم
وركباً من التهيد تخفي وجوهه ... وتنظر من وجه الأثيم الملثم
وحائرة من عالم الزهر أطرقت ... حداداً على عطر الصباح الململم
مقيدة، ملهوفة، ذات آهة ... مقيدة تبدو كطيف مجسم
تمد يدها للغدير، وقلبه ... إلى عودها يجري بكوب محطم
أظمآي تنادي ظامئاً؟ من رآى الأسى ... يُغيثُ الأسى في الخاطر المتألم؟!
لقد بُحَّ صوت الجو برحاً ولهفة ... كما بَحَّ سر الغيث صوت المنجم
وهاجرةُ يشوي بها الظل مثلما ... يقلب في الأشواق قلب المتيم
لها وهوهات في الربى خلت أنها ... فحيح أفاع من زوايا جهنم
رميت بها حران أحكي حكاية ... عن الصيف لم أنبس ولم أتكلم
ولكني أروي عن الوحي كيفما ... روي لي بأطياف الخيال المهمهم
لنفسي أحكيها، ومن هول سحرها ... طلاسم سمعُ الغافلين المَختَّم. . .
رأيت جحيماً لم تُباركه فارس ... بعباد نار من بنيها مزمزم
ولم يرن طواف إلى قباسته ... بقلب من التسبيح شاد مرنم
ولا حدثت عنه الخرافات أهلها ... ولا خط عنه الوهم حرفاً بمرقم
له وهجُ يصلي الوجوه بحره ... ويفهق كاليحموم في مسرب الدم
وألسنة بيض لَهُنَّ رطانة ... بمثل لغاها كاهن لم يتمتم
كأن عفاريت الظهيرة طنبوا ... خياماً على هذا البساط المضرم
تنادوا بألفاظ صداها وساوس ... سمعت معانيها بآذان أعجم. . .(574/35)
وجو غضوب الذر يكظم نقمة ... ويكتم غيظ الساخط المتبرم
شممت به ريح المعاصي سخينة ... محملة الأنفاس من كل مأثم
يفحُّ كجراع الشكوك هواجساً ... لهن دبيب السم في رأس أرقام
وألحد صوفي النخيل، فما أرى ... به هِزة كانت إلى النسك تنتمي
لقد كان رعاش الأيادي تبتلاً ... إلى الله لم يدنس، ولم يتأثم
ولم يجن ذنباً يبتغي عنه توبة ... مع الناس يدعوها بكف ومعصم
أما قام في الفجر الرطيب مؤذناً ... يصيح بتكبير على العقل مبهم
فما باله أصغي وأصغت ظلاله ... كمنتظر حكم القضاء المحتم!
وألقي على الأفق المصفد نظرةً ... كأصفاد عيسى والتفاتات مريم
وأزهق إحساس الطبيعة، فاغتدت ... كخزن على كتم الشكايات مرغم
كأن ثكالي مخرسات على الرُّبى ... شليلات همس الروح والجسم والفم
وقفن عليها ينتظرن معزياً ... وطرف المعزي عن طريق الأسى عمى
طرحن مناديل الظلال على الثرى ... وكاد بهن العود كالظل يرتمي
وأطرق فيها كل شيء فما بها ... سوى طيف مصلوب وإيماء مسقم
كأن القصور الشامخات بأرضها ... محاريب جن في مزار محرَّم
يطن حواليها الهجير كأنه ... تخافت عار حول عرض مَثَّلم
وينفخ كالحداد ناراً شرارها ... تناهش خزى في ضمير مذمم
مشيت بها حيران أشبه خاطراً ... بقلب ملول جازع اليأس مظلم
أفتش عن سحر الربيع وعطره ... كأني نقَّابُ بأحشاءِ منجم
لقد مات! واغتالت مغانيه بغتة ... كما اغتال عصف الشك أحلام مغرم
ألا أين هفهاف النسيم بأيكها ... وأين مزامير الضحى المبتسم؟
وأين أغاني الموج والموج شاعر ... وإن لم يُذِع شعراً ولم يترنم
وأين الهوى إني حملت ربيعهُ ... بقلب من الأشواق عات مدمدم
وهمت على صيف الجزيرة شارداً ... بحبي كسرٍ في حشاها مطلسم
أحب لياليها، وأهوى تُرابها ... وأهوى غروب الشمس في أفقها الظمى(574/36)
فقدت أليف الروح بين شعابها ... وعدت بحزن المستطار المتبم
كأني هجير تائه فوق أرضها ... يغني بناي من أسى النفس ملجم
محمود حسن إسماعيل(574/37)
البريد الأدبي
حمد وشكر
أسرة الرسالة تحمد الله على ما أسبغ من نعمة العافية على رئيس تحريرها. وتنوب عنه في شكر الأمم العربية قاطبة، أفراداً وجماعات لما طوقته به من كريم رعايتها وجميل برها ونبيل عواطفها، وسؤالها المتصل عنه أثناء مرضه، مما كان له أطيب الأثر في تخفيف ألمه وسرعة إبلاله. وإن لم يكن بد من أن تخص بالشكر أحداً فهي تقدمه خالصاً موفوراً إلى صديقها الفاضل الدكتور عبد الله الكاتب بك الذي أجرى العملية للأستاذ الزيات بمستشفى الروضة، وتولاه بعنايته حتى تماثل للشفاء.
ثم تخص بالشكر وزراء مصر ونوابها وعلماءها، وكل من تفضل بالسؤال عن الأستاذ بحضوره إلى المستشفى أو بإرسال البرقيات والرسائل، وتبتهل إلى الله اللطيف أن يتم للأستاذ من كمال الشفاء ما هو أمنية أصدقائه ومحبيه، إنه سميع مجيب.
البستان
أهدي الأديب الكبير والأستاذ الجليل إسعاف بك النشاشيبي مجموعة من مؤلفاته إلى صديقه الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن. ومنها كتاب (البستان) الذي هو مجموعة من الشعر والنثر أحسن الأستاذ الجليل فيها الاختيار. فكتب إليه الشاعر هذه الأبيات:
بستانك الناظر في حسنه ... لله ما أبهى وما أفتنا!
أمتعتني منه بما يَسْتَبي ... ويخلبُ الألبابَ والأعينا
آويتني منه إلى روضةٍ ... آنست منها الظلَّ والمجتَنَي
في كل سطر منه تغريدهٌ ... يوشك منها العقلُ أن يُفتنا
جمعت فيه كلَّ أصل زكا ... ورُمتَ فيه كل فرع دنا
واخترتَ من نظم ونثرٍ به ... ما جوَّدَ المنشئ أو أتقنا
ما كنتَ فيه كاتباً منشئاً ... بل كنتَ فيه راوياً محسناً
ورب شعر أنت أحييته ... وكاد بالنسيان أن يُدفنا
هذا اختيارٌ فيه من عقلكم ... ما قد رأيناه عياناً هُنا
في فندقٍ ذكرانا (بابلاً) ... قد بَلْبَلَ الله به الألسنا(574/38)
في موطن العجمة منْ حية ... صادَفتِ (الضادُ) لها موطنا
أيامَ ما انحلَّ لكم مجلسٌ ... صبحاً ولا انفض لكم موهنا
تُديرُ فيه القولَ مستوعباً ... وتنشُدُ الأشعار مستحسنا
تلك الليالي البيضُ يا سيدي ... لم يبق منها غير حُلو المنى
تكرار (بين) بين الاسمين الظاهرين
تفضل الأستاذ دريني خشبة فأصدر مقاله القيم في الرسالة عدد 569 معنوناً على هذا الوجه: بين (إناث حائرة) وبين (قيس ولبنى)، فجاءت (بين) مكررة بين الاسمين الظاهرين، كما جاء في الرسالة العدد 273 ص 1574 في البريد الأدبي بعنوان: (وزير المعارف يحكم بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية)، جاء تحت نفس العنوان ما يأتي:
(وصنيع الأستاذ هيكل باشا هو الفرق بين وزير يقرأ ويقضي وبين وزير آخر يسمع ويمضي)، ونعتقد أن الصواب هو عدم جواز تكرار (بين) بين الاسمين الظاهرين
وكنت قد قرأت للمؤرخ واللغوي العراقي المنسي المرحوم (رزوق عيسى) صاحب مجلة (المؤرخ) البغدادية رأيا في هذه القضية وجدته في بعض المسودات من تراثه الأدبي القيم أرغب في عرضه على أنظار حضرات أساتيذ اللغة ليبدوا رأيهم في ذلك وإليكم النص عنه:
(من أوهام فريق كبير من كتاب العربية أنهم يوسطون (بين) بين الاسمين الظاهرين المتعاطفين فيقولون مثلا: (الحرب قائمة على ساق وقدم بين اليابان وبين الصين)، والصواب: بين اليابان والصين، لأن (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، ولإثبات صحة ما نحن بصدده ننقل بعض ما جاء في كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) للحريري: (ويقولون المال بين زيد وبين عمرو) بتكرير لفظة (بين) فيوهمون فيه. والصواب أن يقال: (بين زيد وعمرو)، كما قال سبحانه وتعالى: (من بين فرث ودم)، والعلة فيه أن لفظة (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، كقولك: (المال بينهما والدار بين الأخوة). . . قال الشيخ الرئيس أبو محمد - رضى الله عنه -: وأظن الذي وهمهم لزوم تكرير لفظة (بين) مع الظاهر ما رأوه من تكريرها مع المضمر في مثل قوله عز وجل: (هذا فراق بيني وبينك)، وقد وهموا في(574/39)
المماثلة بين الموطنين، وخفى عليهم الفرق الواضح بين الموضعين، وهو أن المعطوف في الآية قد عطف على المضمر المجرور الذي من شرط جواز العطف عليه عند النحويين من أهل البصرة. تكرير الجار فيه، كقولك: مررت بك وبزيد. قال أبو القاسم المرتضى:
بيني وبين عواذلي ... في الحب أطراف الرماح
أنا خارجي في الهوى ... لا حكم إلا للملاح
وقد جوز بعضهم إعادة (بين) بين اسمين ظاهرين، ومنهم السيد أحمد شهاب الدين الخفاجي، ولكنه مذهب ضعيف يناقض ما ورد في الفرقان العظيم من الآيات البينات في عدم إعادة (بين) مع الاسمين الظاهرين. قال ابن بري: إعادة (بين) هنا جائزة على جهة التأكيد، وهو كثير في الكلام العرب، كقول الأعشى:
بين الأشج وبين قيس باذخ ... بخ لوالده وللمولود
وقال عدي بن زيد: بين النهار وبين الليل قد فصلا. وقال ذو الرمة
بين النهار وبين الليل منعقد ... على جوانبه الأوساط والهدُب
وقد علق (الخفاجي) على هذا في كتابه (شرح درة الغواص في أوهام الخواص) ص94 قائلاً: فمن هنا يعلم أن إعادة (بين) لا تفسد نظماً ولا معنى كما توهمه المصنف - أي (الحريري) -
وجاء بحث مفصل عن (بين) في كتاب (كشف الطرة عن الغرة) للسيد محمود شهاب الدين الالوسي ص136 ومن قوله: (ومن أوهام أنهم يوسطون (بين) بين الاسمين الظاهرين المتعاطفين فيقولون: (المال بين زيد وبين عمرو).
والصواب: (بين زيد وعمرو) بترك التوسط والتكرير، لأن (بين) تقتضي الاشتراك فلا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، كقولك: (المال بين الأخوين، والدار بين الأخوة).
هذا ما أردنا بيانه، والمرجو أن نقع على الصواب الذي يراه أساتذة اللغة الكرام
(بغداد)
ضياء الدين أبو الحب
أغلاط(574/40)
قرأت في عدد الرسالة 573 قصيدة عنوانها (السراب) للدكتور ناجي، وهي من عيون الشعر الحديث، غير أني مررت فيها بهنات أحببت أن يعلمها الشاعر الكبير وقراء الرسالة:
1 - القصيدة من بحر الخفيف وأجزاؤه: (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، وقد تصير فاعلاتن فعلاتن أو مفعولن، وقد تحول مستفعلن إلى متفعلن، ولكن البيت:
اسمك العذب أروع الأسماء مهما تعددت أسماء لا يوافق هذا البحر، ولا تحول إليه أجزاؤه، فهو بيت مكسور
2 - لا أعرف في اللغة (صدفة) ولا (هناء)، وإنما أعرف مصادفة وهناءة، وكذلك لفظ (الأبد) يعرفه اللغويون بمعنى الزمن، ولكن الشاعر يقول:
أبد لا يحد للعين قد ضا ... ق فأمسي والسجن هذا الفضاء
ولا يفوتني أن أقول إن الشاعر عبد الغني حسن له قصيدة في نفس العدد وفيها: (تتلاشى على الرمال وتنثر)، ولا أعرف في اللغة (تتلاشى) هذه، فلعل الشاعرين يدلاني وقراء الرسالة على مصدر صحة هذه الكلمات
3 - العواصف الهوجاء وأمواجه السوداء عبارتان مغلوطتان، وصوابهما: (الهوج) و (السود)
4 - ولست بدار الفرق بين سنة مقفرة وسنة خالية، وهما متقابلتان في شعر الدكتور
هذا وللشاعر الكبير تقديري واحترامي
محمد حسن
مدرس في الأزهر(574/41)
العدد 575 - بتاريخ: 10 - 07 - 1944(/)
مسألة الجنسين
للأستاذ عباس محمود العقاد
في مقالنا الماضي عرضنا لقرار الحكومة الروسية الذي أمرت فيه بفصل الصبيان والبنات في بعض مراحل التعليم، لأن الذكور والإناث يختلفون في استعداد النمو ما بين العاشرة والسابعة عشرة، فيبطئ تكوين الذكور ما بين العاشرة والرابعة عشرة ويسرع تكوين الإناث، ثم يبطئ تكوين الإناث ما بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة ويسرع تكوين الذكور
وهذا مع اختلاف الإعداد للمستقبل بعد انتهاء الدراسة. فالذكور يعدون للجندية والإناث يعددن للأمومة، وكلتا الوظيفتين تدعو إلى تعليم خاص لا يشترك فيه الجنس الآخر ولا يفيده أو يفيد الأمة أن يشترك فيه
وقد قلنا في التمهيد لذلك: (إن الفارق إذا وجد في البنية لا يوجد في زمن ويختفي بعد ذلك أو قبل ذلك في أزمان. بل هو موجود في دخائل البنية وأعماقها، وإن تفاوتت درجات ظهوره بين حين وحين)
وهذا الذي نريد أن نتوسع فيه بعض التوسع في هذا المقال. لأن الاختلاف بين العاشرة والسابعة عشرة ما كان ليظهر في هذه السن لو لم يكن هناك اختلاف مستقر في أجزاء البنية جميعاً من ساعة الميلاد بل من قبل ساعة الميلاد. فالبنية قبل العاشرة كانت مختلفة في خلاياها ودقائقها ما في ذلك أقل ريب، ولولا ذلك لما نشأ الاختلاف في الاستعداد حين نشأت دواعي ظهوره
كذلك يظل الاستعداد العقلي والجسدي مختلفاً بعد السابعة عشرة وإن تواري بعض التواري في بقية أدوار الحياة. لأنه لا يختلف عبثاً ومصادفة بل يختلف لغرض باق هو المقصود لا شك بالاختلاف في مدى تلك السنوات
وهذه حقيقة يستطيع العلم أن يفسرها ولكنه لا يستطيع أن ينفيها ويمنعها بحال من الأحوال. لأن نفيها أو منعها من وراء سلطان العلم والعلماء
فالاختلاف بين الجنسين في الطاقة والملكة موجود من زمن قديم، ونتائج هذا الاختلاف في الحياة العامة والحياة الخاصة موجودة كذلك منذ زمن قديم، وغاية ما ينتظر من العلم أن يفسر لنا أسباب هذا الاختلاف أو يفسر لنا دلالاته ومعانيه، ولكنه ينقض نفسه حين ينفي(575/1)
وجوده أو يعترف بوجوده ثم ينفي دلالته في الماضي ووجهته في المستقبل، فليس للعلم ولا للعلماء هذا السلطان
على أن اختلاف الجنسين في الطاقة والملكة سابق لاختلافهما في نوع الإنسان. فلا مساواة في الحيوانات العليا بين الذكور والإناث، وليست حقوق الإناث مساوية لحقوق الذكور في تلك الحيوانات، إن صح التعبير هنا بكلمة الحقوق. ولم تشاهد قط جماعة من الحيوانات الاجتماعية تقودها أنثى أو تحتل منها محل الزعامة كما تفعل الذكور، ولم تشاهد قط أنثى تستتبع لها طائفة من الذكور، لتختار منها ما تشاء حين تشاء
والعلم لا يستطيع أن ينكر هذا ولا يستطيع أن يجرده من الدلالة، ولا يستطيع بعد هذا وذاك أن يزعم أن الحيوان يحتاج إلى التنوع في وظيفة الجنسين ولا يحتاج إليها الإنسان.
على أن العلم قد أخذ منذ سنوات قليلة في كشف هذه الحقيقة من مكامنها الأولى التي تبين لنا أن الاختلاف في القدرة الإنشائية كان من أبدأ البداءات بين خلايا التذكير وخلايا التأنيث، ونحسب أن العلماء واصلون إلى فصل الخطاب في هذا الباب بعد بضع سنوات، فيبطل يومئذ محال الدعاة الذين يعمون أو يتعلمون عن المحسوس لأنهم يسخرون حقائق الحياة لمذاهبهم العوجاء، بدلاً من تسخيرهم هذه المذاهب لحقائق الحياة
وحسبنا أن نقرر هنا ما أثبته الباحثون في (فزيولوجية الجنس) من تجارب الخلايا في كلا الجنسين. فهذه التجارب تثبت أن عوامل الذكورة إنشائية، وأن عوامل الأنوثة سلبية تابعة أو هي على وجه من الوجوه بمثابة اختفاء عوامل الذكورة. فالجزء الذي تستأصل منه خصيته يضمر ولا تنبعث فيه دواعي النماء، ولا يحدث مثل هذا في أنثاه إذا نزع منها المبيض ولو من أوائل الطفولة، لأن نموها الأنثوي لا يحتاج إلى عامل مضاف من عوامل الإنشاء
ومع هذا لا نحسب أن الأمر يلجئنا إلى الميكرسكوب والخلايا لنعلم أن طبيعة الذكورة تقتضي الإرادة الإيجابية وأن طبيعة الأنوثة تقتضي المطاوعة والمتابعة وما يمتزج بهما من الخلائق والنزعات
فالذكور في جميع الحيوانات هي المجتهدة الطالبة والإناث في جميع الحيوانات هي الملبية المطلوبة، وإن اشترك الجنسان في رغبة التناسل واستبقاء النوع(575/2)
وقد خلق الذكور، نفوساً وأجساماً، بحيث يريدون تحقيق رغباتهم الجنسية ويستطيعون تحقيقها كرهاً إذا بدا لهم الإكراه، ولم تخلق هذه المزية للأنثى في نوع من الأنواع، وليس إمكانها بمعقول
ولا عبث في هذه التفرقة بين مزية الجنسين، لأن الأنثى ليست بها ولا بالنوع حاجة إلى تسليط إرادتها بعد الحمل الذي يشغلها عدة شهور. فمن العبث أن تعطي الإرادة لتعطل وظائف الذكور في خلال هذه الشهور، ومن مصلحة النوع أن تكون مزية الإرادة والسيطرة للرجل ومزية الطاعة والتلبية للمرأة. وهكذا شاءت حكمة الخليقة سواء عندها من يشاء من اللاغطين ومن لا يشاءون
وكما قضت حكمة الخليقة بالإرادة والسيطرة للرجال قضت بفارق آخر بين الجنسين يجعل التدبير وبعد النظر خاصة للرجال لا يرزقها النساء
فكثيرا ما تلام المرأة، لأنها أسيرة لميولها الحاضرة، تندفع معها ولا تفكر في عواقب الأمور ولا يفلح معها الإقناع ولا الوعيد في تحويلها عن تلك الميول
ويفوت اللائمين أن نسيان العواقب ضرورة فزيولوجية لتحقيق فريضة النوع من جانب النساء، فلو كان من طبع المرأة أن تبالي بالعواقب وتوازن بينها وبين الميول الحاضرة لتعاظمت أمامها متاعب الحمل والولادة والحضانة وما فيها من أخطار قد تودي بالحياة ومن منغصات قد تبغض الإنسان في أقدس الواجبات
فهذه ضرورات الخلقة التي لا كلام فيها لعلم عالم ولا لتحليل محلل قد ميزت الرجل بالسيطرة والإرادة في صميم الفارق بين الذكورة والأنوثة، وقد جعلت وظيفة الرجل وظيفة لا يناقضها التدبير والنظر البعيد، كما يناقضان وظيفة المرأة
وحكمة الخليقة هنا يؤيدها المشاهد المحسوس، فإذا علمنا أن تكوين النساء لا يتيح لهن جملة أن يساوين الرجال في مزايا الإرادة والعزيمة والتدبير والنظر البعيد؛ فكل كلام عن تشابه الملكات بعد ذلك محض هراء
نعم تعرف للمرأة مزاياها التي لا يشابهها فيها الرجال، وهي مزايا يفيد فيها التخصيص والتوزيع، ولا مناص فيها كما قدمنا من التباين والافتراق في مراحل التعليم وفي مراحل العمل والمعيشة، هذا الذي نعنيه ونخشى أن يغفل عنه المتعجلون والمغربون في انتحال(575/3)
المذاهب واتباع الدعوات
ونعيد هنا ما قدمناه في مقالنا السابق حيث نقول: (إن المسألة التي نحن بصددها ليست مسألة تقدير للمنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين)
فلا يضير الناس أن يقال ما يقال عن تساوي الأقدار وتعادل المراتب بين النساء والرجال ما فهموا حقيقة الاختلاف بين استعداد هؤلاء وهؤلاء، وما وكلوا لكل منهما عمله الذي يحسنه ولا يعطل فيه ملكاته التي توارثها من أول عهد التاريخ، بل من أول عهد الأحياء بالاختلاف بين التذكير والتأنيث
وهذه مسألة تثار الآن كما تثار جميع المسائل في أوقات الحروب والثورات. فإن كلمة حقي وحقك وحقوقهم وحقوقنا هي أول ما يسمع في الدنيا عندما يتسع فيها ميدان النزاع والتنافس والمغالبة على حظوظ الحياة، وقد سمعنا الكثير عن حقوق العمال وحقوق الجنود وحقوق الشيوخ والأطفال، وسمعنا الكثير عن حقوق الضعفاء المحكومين وحقوق الأقوياء الحاكمين، وسنسمع الكثير غير هذا حين تقترب ساعة الفصل بين جميع هذه الحقوق. فلا عجب أن تتردد بيننا وبين الأمم الأخرى كلمات الداعين والداعيات إلى حق المرأة في كل شئ حتى ما ثبت للرجال كل الحق فيه
لا عجب في ذلك ولا مدعاة فيه للتشاؤم والإنكار. إذ لا شك أن التنبه الخاطئ بغير فهم وسداد أنفع من الجمود الخاطئ بغير فهم وسداد، وقد جمدت المرأة زمناً طويلا؛ فلها اليوم أن تأخذ كفايتها من اليقظة كما أخذت كفايتها من الجمود، ولها في هذه اليقظة أن تخطئ ثم تخطئ حتى تصيب طائعة أو ترد إلى الصواب بحكم الحوادث التي تنفرد أبدا بالحكم الأخير
والذي نحن على يقين منه أن المرأة ستظفر بكل حق هي قادرة عليه ومحتاجة إليه، أو هي به في حدود الأنوثة التي أقيمت لها حدودها قبل المذاهب والقوانين، وستبقى لها حدودها بعد المذاهب والقوانين
ستظفر المرأة كل حق من هذه الحقوق، ولكنها ستعدل بمشيئتها عن تلك المطالب التي لا تريدها لأنها قادرة عليها أو محتاجة إليها، بل تريدها لأنها (زي جديد) كتلك الأزياء الجدد(575/4)
التي يشغف بها بنات حواء
وسيأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا الزي الجديد قديماً؛ فإذا هو منبوذ غير مطلوب، وفوات المدة هو كل ما يلزم لمناقشة هذه الدعاوي وتنفيذ تلك الآراء. إن صح أنها آراء
عباس محمود العقاد(575/5)
محو الأمية في مصر
المشروع الجليل الذي تضطلع به وزارة الشئون الاجتماعية
للأستاذ دريني خشبة
ليس أخزى لأمة من الأمم أن تشيع فيها تلك الأمة الذميمة على الصورة التي تشيع بها في مصر. وبالنسبة العالية التي ترتفع إلى 85 % في بلادنا. . . وأي خزي ألا يكون في مصر من الملمين بالقراءة والكتابة أكثر من مليونين وربع المليون وأن يكون بها من الأميين أكثر من أثني عشر مليونا وثلاثة أرباع المليون!
أي خزي أن تكون هذه حالنا بالرغم من الملايين العشرة من الجنيهات التي شرعنا ننفقها على التعليم سنويا؟
وكيف أغمضنا عيوننا على هذه الحال كل تلك السنين الطوال، والمسألة تتعلق بكرامتنا وقوميتنا واستقلالنا وحياتنا وبكل ما هو عزيز علينا؟
وإذا عددنا أدواءنا الاجتماعية، فأي داء وبيل يكون أقسى على المجتمع المصري من تلك الأمية الذميمة المتفشية في طبقاته على هذا النحو، وبتلك النسبة العالية؟
وإذ عددنا أمراضنا المتوطنة، فأي مرض فتك بنسبة تزيد على اثنين بالمائة أو سبعة بالألف من سكان مصر، كما تفتك تلك الأمية الوبيلة بثمانمائة وخمسين من كل ألف مصري عزيز؟
وماذا يصنع التيفود والتيفوس والملاريا والرمد والأنكلستوما والبلهرسيا أشد مما تصنعه تلك الأمة بإخواننا المساكين المصريين من فلاحين وعمال وصناع وتجار وجنود وشرطة؟
إن هذه الأوبئة التي ذكرنا، وغيرها مما لم نذكر، ليس مصدرها الميكروب كما يزعم الأطباء، وإنما مصدرها تلك الأمية التي تغشي عقول هذه النسبة العالية من إخواننا المصريين البائسين
إن الفلاح الذي يشرب من البركة الراكدة، والفلاحة التي تغتسل في تلك البركة، إنما يصنعان ذلك بعامل الأمية التي حالت قسوة الأمة ونومها الطويل الذي نامته دون إنقاذ غالبية الشعب من براثينها
وإن المرابي الذي يغتال أموال الفلاحين وغير الفلاحين من طبقات الشعب، إنما يغتالهم من(575/6)
طريق أميتهم التي رانت على أبصارهم، وناءت على عقولهم، وحجبت عنها النور بتلك الطبقة الكثيفة من السذاجة والغفلة والجهل المبين
إن اضطلاع وزارة الشئون الاجتماعية بمهمة محو تلك الأمية الذميمة هو أشرف الأعمال التي تضطلع بها وزارة من الوزارات بل هو أجل خدمة تؤديها للوطن، الوزارة التي أنشئت لخدمة المجتمع المصري، وانتشاله من تلك الوهدة التي تتردى فيها غالبيته المسكينة البائسة التي لا تنتفع من ملايين التعليم العشرة إلا بأزهد مقدار وأضأله، وبطرق بعيدة غير مباشرة
وإن مهمة محو الأمية في مصر لعمل تنوء به وزارة واحدة، ويجب لهذا أن يعد خدمة وطنية عامة تعبأ له جهود الشعب كلها، بحيث يكون مرتكباً لجريمة الخيانة الوطنية الكبرى كل مصري يستطيع أن يساهم في هذا العمل ثم يحجم عن المساهمة، أو يتراخى في القيام بنصيبه فيه
إن هذه النسبة العالية من إخواننا وآبائنا وأمهاتنا وأخواتنا وأبنائنا المصريين، المحرومين من نعمة القراءة والكتابة، هم في الحقيقة محرومون من النور، بل من الحياة، بل من الكرامة الإنسانية. وإن من الأنانية التي ليست وراءها أنانية أن تنتفع نسبة ضئيلة من سكان البلاد بمائة مليون من الجنيهات أو تزيد كل عشر سنوات، دون أن تنتفع غالبية الشعب بشيء من هذه الملايين
فالمسألة جد أذن، ونحن منها إزاء خطر وطني يجب أن تتضافر الجهود على التغلب عليه. . . لقد أنشأنا وزارتي التموين والوقاية المدنية من الغارات الجوية لأسباب لو اجتمعت كلها ومعها عشرة أضعافها، لما بلغت أسباب هذه الأمية بعللها وآثامها وعقابيلها الوخيمة، لأنها أضل العلل، ولو أنصفنا هؤلاء الإثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون من إخواننا المصريين الأميين التعساء لأنشأنا لهم وزارة لمكافحة تلك الأمية التي تنحط بهم إلى مراتب الحيوانات بين أسماعنا وأبصارنا، نحن إخوانهم المتعلمين الأنانين!
فإذا نهضت وزارة الشئون الاجتماعية لهذا الأمر، وجب ألا تضطلع به وحدها، بل واجب على كل وزارة أن تعاضدها فيه، بل وجب على جميع المصريين، أفراداً وجماعات، أن يقدموا لها معونتهم الصادقة المثمرة، بحسبان أن هذه المعونة خدمة وطنية عامة، وفرض(575/7)
مقدس في عنق كل مصري أن يضطلع بنصيبه فيه
ولعل وزارة المعارف هي أولى الوزارات التي ستقدم لوزارة الشئون النصيب الأوفى من المعونة الصادقة، وستقدمه شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل، لأن قيام وزارة الشئون بهذا الأمر دون وزارة المعارف فيه معنى من أنبل معاني التضامن الوزاري في الحكم الصالح، لأن أحداً لم يقل إن وزارة المعارف قادرة على كل شئ، بل إن أحداً لم يقل إن أية وزارة من الوزارات قادرة على القيام بالعمل كله الذي أنشئت من أجله، بل إن أية وزارة من الوزارات لعاجزة أتم العجز عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها ما لم تعاونها في ذلك معظم الوزارات، بل كل الوزارات. . . فإذا اعترض أحد بأن مكافحة الأمية هو أول الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة المعارف، قيل له إن كل الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة الشئون الاجتماعية كان مفروضاً أن تقوم بها وزارة المعارف، فلما أنشئت وزارة الشئون كان إنشاؤها إتماماً لوزارة المعارف، وتركيزاً للأعمال والواجبات، والخدمات العامة التي تنوء بها وزارة واحدة، على أن نصيب وزارة المعارف من هذا المشروع الجليل سيكون أكبر الأنصبة كلها وأوفاها، فهي التي ستقدم مدارسها كلها للتعليم الليلي، وهي التي ستقدم مدرسيها في جميع فروع التعليم، الأولى منه والابتدائي والثانوي والخاص والعالي والجامعي، لتعليم إخواننا المصريين البائسين مبادئ القراءة والكتابة والحساب. . . وهي ستفعل هذا عالمة أن أساتذتها من التعليم الإلزامي إلى التعليم الجامعي، لن يشق عليهم أن ينتدبوا لهذه الخدمة الوطنية الكبرى، لأنها دين مقدس في أعناقهم للوطن المرزوء بتفشي الأمية في طبقاته، بل إن أستاذ الجامعة سوف يشعر وهو يقوم بتلك الخدمة الوطنية أنه لم يؤد لبلاده خدمة أجل منها من قبل. . . وهانحن أولاء نرى بين صفوف الجنود الحليفة بيننا أطباء ومهندسين وحاملي درجات جامعية رفيعة يعمل كل منهم برتبة جاويش بسيط، أو عسكري لا يحلى ذراعه غير شريط واحد، وهو مع ذلك يشعر أنه يؤدي واجبه المقدس لبلاده أولاً، وللمدنية المضرجة بالدماء ثانياً، وهو مع ذلك يشعر أن قيمته قد ازدادت، وأن ضميره قد استراح، وأن درجته العلمية لم تنقص. . .
ستفعل وزارة المعارف ذلك، وستعبئ كل رجالها وكل جهودها في هذه السبيل، وستفعله شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل لوزارة الشئون الاجتماعية، وستحذو جميع الوزارات حذو(575/8)
وزارة المعارف في معاضدة وزارة الشئون، فتساعدها وزارة الصحة في مكافحة الأمية الصحية بين طبقات الفلاحين والعمال والصناع والتجار ومن إليهم من سائر طبقات الشعب. . . وتساعدها في مكافحة الأمية الصحية بين الأمهات والآباء يبث أطبائها ومفتشيها في القرى والمدن والمساجد والأسواق لتنظيم الاجتماعات للتنوير، ولتبصير الآباء والأمهات بما لا بد من تبصيرهم به من معضلات الصحة والوقاية من الأمراض العامة، وسيفعل الأطباء ذلك راضين متواضعين شاعرين أنهم يقومون بنصيبهم في هذا الجهاد المشترك والخدمة الوطنية العامة الكبرى
وتساعدها وزارة الدفاع الوطني بتعليم جنودها مبادئ القراءة والكتابة تعليما إجباريا تخصص له ساعات قليلة من ساعات العمل والتدريب العسكري
وتساعدها وزارة الداخلية بمثل ما تساعدها به وزارة الدفاع، فلا تقبل شرطياً أمياً بين شرطتها، ولا خادماً أمياً ولا خفيراً أمياً بين خدمها وخفرائها، وبذلك تضطرهم إلى تعلم مبادئ القراءة والكتابة اضطراراً وتحملهم عليه حملا. وكذلك سائر الوزارات
وتساعدها وزارة الأوقاف أكبر المساعدة بوضع مساجدها ودور أوقافها المعطلة تحت تصرفها. . . وبتعبئة الأئمة والخطباء والوعاظ ورجال الدين للقيام بنصيبهم في التدريس ومكافحة أمية الخرافات والشعوذة. . . وبهذه المناسبة نشير إلى ما ينبغي أن يساهم به الأزهر والأزهريون من نصيب موفور مشكور، فهم أقرب إلى نفوس العامة ويتمتعون بينهم بالثقة والمحبة، ومثل هذا يقال عن رجال الأديان الأخرى المحترمين
وتساعدها وزارة الزراعة بمكافحة الأمية الزراعية بين طبقات الفلاحين، ولا بد أن تصنع وزارة الزراعة ذلك جادة غير عابثة، فالفلاح الذي لا يجيد زراعة غير محصولات ثلاثة، وهو مع ذلك يجهل آفاتها، هو فلاح أمي جدير بالرثاء خليق بالتنوير. ولقد آن الأوان الذي يجب فيه التفكير في مستقبل هذا الفلاح إذا ألغيت زراعة القطن تحت ضغط الحرير الصناعي وصوف اللبن. . وسيكون مستقبل هذا الفلاح المسكين أشد تعاسة إذا لم نكافح أميته الزراعية منذ الآن. وإذا لم نكافح هذه الأمية مكافحة فنية على أحدث أصول التربية الزراعية
هذا واجب الوزارات. . . أما واجب الأفراد والجماعات فهو عندي أعلى وأسمى. . . إننا(575/9)
محتاجون إلى بث الدعوة الواسعة العريضة لمكافحة الأمية بين طبقات هذا الشعب المسكين، حتى يصبح وجوب مكافحتها عقيدة، بل أيماناً. . . وهذا يقتضي تضافر الجهود كلها، وخاصة جهود الكتاب والخطباء والرؤساء والصحافة على نطاق واسع. . . فالصحيفة أو المجلة التي تصدر دون أن تطرق هذا الموضوع تنسى مهمتها الأولى المقدسة، وتؤثر الخوض في السفساف على التمرس بالجد. . . والهيئة التي تستطيع أن تساهم في هذا المشروع بنصيب موفور مشكور، ثم تقصر في المساهمة هي هيئة تفر من صفوف الجيش الوطني في ساعة الخطر. فهي جديرة بالازدراء بل بالعقاب
وفق الله وزارة الشئون الاجتماعية في إنجاز أشرف الواجبات الوطنية لخدمة الجيل الجديد. . . ووفقها الله في تنظيم هذا المشروع العظيم وتوقيته ووضع خطته وتدبير ماله، إنه سميع مجيب.
دريني خشبة(575/10)
على هامش زكي المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
الآن يستعد العالم العربي للاحتفال بالعيد الألفي للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري، فرأيت أن أميط اللثام عن شخصية معاصره ومناظره (المؤيد داعي الدعاة) بعد أن ظل مجهولا طوال هذه السنين، بالرغم من أنه كان رجلاً له خطره وشأنه يرجف الناس باسمه في القرن الخامس الهجري، خشي بأسه الخليفة العباسي ببغداد، وأبو كاليجار البويهي وطغرلبك التركماني، وخشيه المعري في مناظراته، هذا الرجل الذي وصفه المعري بقوله: (لو ناظر أرستطاليس لجاز أن يفحمه، وأفلاطون لنبذ حججه). فمن الغريب حقاً أن تظل شخصية هذا الداعي غامضة مجهولة بالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها جماعة من المستشرقين للبحث عنه، ولو لم أعثر على نسخة خطية لسيرته كتبها بنفسه عن نفسه ما كنت أستطيع معرفة شئ عن هذا الداعية الداهية
عرف هذا الداعي في التاريخ بلقبه (المؤيد في الدين)، واسمه هبة الله بن موسى بن أبي عمران، ويكنى بأبي نصر، ولد بشيراز في أواخر القرن الرابع من الهجرة، وأرجح أنه ولد حوالي سنة تسعين وثلاثمائة من أسرة تدين بمذهب الفاطميين، وكان أبوه داعي دعاة هذا المذهب في فارس، وقد عثرت على جزء من رسالة من أبيه إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي يطلب فيها من الحاكم أن يعترف بالمؤيد داعي الدعاة بعده، ولكن الحاكم أجابه بشيء من الجفاء والغلظة، لأن أمر الدعوة لا يورث، ومع ذلك استطاع هبة الله أن يصل إلى مرتبة أبيه، وأن يصبح حجة جزيرة فارس، (وهذا بالاصطلاح الفاطمي ومعناه داعي دعاة إقليم فارس). أما كيف ومتى وصل إلى هذه المرتبة فهذا ما لم نوفق لمعرفته إلى الآن، وكل الذي وصلنا أنه نجح في اجتذاب عدد كبير من الناس لدعوته، وأنه كان محبوباً عند جمهور أهل مذهبه حتى قالوا عنه لوزير أبي كاليجار البويهي سنة 429: (إنهم يتخذون هذا الرجل أباً لهم وأخاً وصاحباً ومحلًا لكل سر ومفزعاً في كل خير وشر).
نحن لا نعرف من أمر المؤيد قبل سنة 429 شيئاً إلا أنه كان مضطهداً من جمهور أهل السنة لتمذهبه بمذهب الفاطميين، وأن العلماء أغروا به السلطان البويهي، ورموه هو(575/11)
ومذهبه بكل موبقة، حتى أن السلطان أبا كاليجار ما كان يطيق سماع شئ عنه لشدة مقته له، مع أنه لم يعرفه معرفة شخصية، ولما ضاق السلطان ذرعاً بما كان يسمعه على المؤيد أمر بإخراجه من شيراز في رمضان سنة 429، وأمهل المؤيد عدة أيام ليخرج فيها من المدينة، على أن يظل في داره لا ينتقل منها ولا يقابل فيها أحداً، فكبر ذلك عند شيعته وأثاروا فتنة شعواء في المدينة بين السنة والشيعة، فاضطر الوزير إلى أن يسمح للمؤيد بعقد مجالسه، وأن يفتح بابه لزائريه، كما هدد علماء أهل السنة بالقتل والتشريد إن هم أثاروا مرة أخرى مسألة الخلافات المذهبية؛ فركن الجميع إلى الخضوع على كره وبقيت حزازات النفوس كما هي
أما المؤيد فقد عمد إلى الدهاء والمكر حتى استطاع أن يقابل السلطان أبا كاليجار، بل استطاع بقوة حجته وفصاحة منطقه أن يكسب عطفه وأن يجوز إعجابه ورضاه، حتى أمره السلطان بأن يحضر المجلس السلطاني متى شاء كما سمح له بمناظرة مخالفي مذهبه، وكانت هذه المناظرات إما كتابة يطلع عليها السلطان بنفسه أو كانت شفاهاً على مسمع من السلطان، والمؤيد قوي الحجة بليغ في مناظراته مجادل له خطره فكان يخرج من مناظراته منتصرا دائماً مما أبهر السلطان وازداد به إعجاباً حتى قال له يوماً: (إني أسلمت نفسي وديني إليك وإنني راض بجملة ما أنت عليه) وهكذا اعتنق السلطان أبو كاليجار البويهي مذهب الفاطميين ودخل دعوتهم على يد المؤيد، ولكنه اعتنق هذا المذهب سراً فلم يجرؤ على الخطبة باسم الخليفة الفاطمي، ولم يستطع أن يعلن بين الناس تحوله عن مذهبه واعتناقه مذهب التشيع، إنما كان دخوله في الدعوة الفاطمية أمراً أخفاه إلا عن أستاذه المؤيد الذي خصص للسلطان مساء كل خميس لتلقينه أصول المذهب وجرت هذه الدروس بأن تبدأ بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم؛ ثم بباب من كتاب (دعائم الإسلام) للقاضي أبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي، ثم يناقشه السلطان في بعض ما أشكل عليه من أمر المذهب، ثم يختم المؤيد دروسه بالحمد والدعاء للخليفة الفاطمي، ثم للسلطان أبي كاليجار البويهي
على أن أمر هذه المجالس الليلية سرعان ما عرفه الناس، وانتشر خبرها بين جمهور أهل السنة ولكنهم لم يستطيعوا أن يحركوا ساكناً، وإن كان بعض المقربين إلى السلطان نصحوه(575/12)
بالابتعاد عن المؤيد؛ والسلطان لا يزداد إلا تقرباً منه وتعلقاً به، وكلما مرت الأيام ازداد السلطان حباً لأستاذه وإعجاباً به، حتى قال الناس إن السلطان لا يقطع بأمر إلا بعد استشارة المؤيد؛ واعتقد المؤيد نفسه أن السلطان أصبح طوع أمره وأنه لا يخالفه في شئ فانتهز المؤيد هذه الفرصة وأخذ في تهجين الشراب والخلاعة للسلطان فأغضب ذلك جماعة الندماء الذين حول السلطان فانضموا إلى أعداء المؤيد وأجمعوا أمرهم على الإيقاع به والعمل على إبعاده عن السلطان حتى لا يستأثر به من دونهم، فأخذوا يحيكون الدسائس ويدبرون المؤامرات حتى نجحوا في مكائدهم وأظهر السلطان موجدته على المؤيد فأمر بقطع المجالس الليلية، وعدم السماح للمؤيد بدخول المجلس السلطاني. في هذا الوقت أي في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة تولى أبو منصور هبة الله الفسوي الوزارة لأبي كاليجار، وكان هذا الوزير الجديد من أشد الناس بغضاً للمؤيد، ومن أشد الناس نقمة على الشيعة عامة والمذهب الفاطمي خاصة، فكسب أعداء المؤيد بهذا الوزير الجديد ركناً مكيناً يأوون إليه وعضداً قوياً يعتمدون عليه في الإيقاع بالمؤيد؛ فالتفوا جميعاً حول الوزير يتلقون منه ما يحيكون به الشراك للمؤيد حتى كانت قصة مسجد الأهواز التي استغلها هؤلاء الأعداء في اقتلاع المؤيد من فارس بأسرها، أما هذه القصة فتلخص في أن المؤيد سافر إلى الأهواز لزيارة شيعته ورجال دعوته، وهناك احتوى على مسجد مهدم فأمر أتباعه بتجديد عمارته وكتب على محرابه اسم النبي الكريم (ص) وأسماء الأمة الفاطميين من علي بن أبي طالب حتى اسم المستنصر بالله وأمر دعاته بالأذان (بحي على خير العمل) ولم يكتفي بذلك بل أقام الخطبة باسم المستنصر الفاطمي. فأثار عمله هذا ثائرة الناس بالأهواز وقامت ضجة بالمدينة من أنصاره المهللين وأعدائه المستنكرين والناس في عجب من أمر هذا الرجل الذي استطاع أن يقيم دعوته ظاهرة مكشوفة في بلد يدين بمذهب يخالف مذهبه حتى أن قاضي الأهواز اضطر إلى أن يرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد ينعى الخلافة العباسية، وينعى مذهب الجماعة والسنة وهول في القضية إن ترك المؤيد طليقاً حراً، ووجه لوماً عنيفاً للسلطان أبي كاليجار لأنه احتضن هذا الرجل مدة من الزمان، وفي ختام خطاب القاضي نصيحة للخليفة العباسي بأن يداهن أبا كاليجار حتى يسلمه المؤيد وإلا حلت الدعوة الفاطمية بالبلاد بدلاً من الخلافة العباسية(575/13)
وهنا نرى مقدار ما وصلت إليه الخلافة العباسية من الضعف حتى لم يبق للخليفة العباسي إلا الخطبة باسمه على المنابر، أما السلطة الحقيقية فكانت في أيدي البويهيين والوزراء إذ لم يستطع الخليفة العباسي القائم بأمر الله أن يفعل شيئاً عندما بلغه قضية مسجد الأهواز إلى أن يرسل رسولاً من قبله إلى أبي كاليجار ومعه بعض الهدايا والخلع نظير السماح للرسول في القبض على المؤيد، فاشتد بذلك ساعد أعداء المؤيد وأشاعوا في البلاد أن الخليفة أهدر دمه وانتهزوا فرصة وجود رسول الخليفة في شيراز وأقاموا مظاهرات صاخبة في أيام ركوب السلطان يلهجون بمدح السلطان الذي نقم على المؤيد ويرمون المؤيد ومذهبه بكل نقيصة حتى أحرج السلطان نفسه ولم يدر ماذا يصنع بعد فرط حبه وإعجابه بالمؤيد، وأخيراً أمر المؤيد أن لا يخرج من داره
أما رسول الخليفة؛ فكان يخشى المؤيد ويتجنب التعرض لذكره خوفاً من الشيعة، وخاصة من الديلم الذين دخلوا الدعوة الفاطمية، فلم يستطيع إلا أن يكتب للمؤيد يحذره من الاندفاع في عصيانه وخروجه عن الستر إلى الجهر، وأخذ يحبب إليه ترك المذهب الفاطمي والدخول في سلك الجماعة ويمنيه الأماني الطيبة من مراكز سامية في الدولة وأموال تغدق عليه؛ فكان رد المؤيد على ذلك بأنه لن يترك ما هو عليه، وأنه سيمضي في دعوته جهراً ولو أدى ذلك لموته لاعتقاده أنه على الحق وأن غيره على الباطل، فلم يسع رسول الخليفة إلا الرجوع إلى بغداد، أما السلطان فخرج إلى الصيد وبقى المؤيد بين أعداء ألداء فخشي على نفسه بغتة من بغتاتهم فرأى أن يخرج لزيارة شيعته ولكنه خشي أن يغتال في الطريق ولا سيما بعد شاع في الناس أن الخليفة أهدر دمه ولذلك خرج خفية، وكان في طريقه يلتمس الطرق الموحشة ولا يطرق الأماكن الآهلة، ومع ذلك كان يسمع من حين لآخر أن السلطان فعل به كيت وكيت، أو أنه قتل وقطع إرباً إرباً، وأن بغلته مزقت إلى غير ذلك من هذه الأقاويل التي كان يروجها الناس عنه وما بالك بمن يسمع بنفسه عن نفسه مثل هذه الأقاويل!
وانتهى به الطواف إلى الأهواز مرة أخرى وهناك قابل أنصاره فدهش الناس من وجوده بينهم، وعلم السلطان بوجوده في الأهواز، فأقسم لينتقمن منه لمخالفته أمره بالبقاء في داره، ولأن جماعة الندماء أدخلوا في روع السلطان أن المؤيد فر إلى الأهواز لينظم ثورة ليقلع(575/14)
السلطان عن عرشه، وكان للمؤيد عيون في مجلس السلطان أبلغوه نقمة السلطان وغضبه وألحوا عليه في الخروج من الأهواز، لأن السلطان في طريقه إليها؛ فخرج المؤيد إلى حلة منصور في ضيافة أميرها الحسين ابن منصور الذي استمع لقصة المؤيد فوعده الأمير بالتوسط لدى أبي كاليجار لتعود المياه إلى مجاريها الأولى، وبالفعل قام هذا الأمير ليصلح بين السلطان والمؤيد وكادت تنجح مساعيه لولا أن توفي أبو طاهر البويهي ملك بغداد، وطمع أبي كاليجار في ملك بغداد، وذلك لا يتأتى إلا برضاء الخليفة العباسي، وهذا ناقم على المؤيد وناقم على أبي كاليجار بسبب المؤيد، فلم ير أبو كاليجار إلا أن يصانع بدوره الخليفة العباسي ووزراءه، وأن يضحي بالمؤيد في سبيل الوصول إلى ملك بغداد، وجرت مكاتبات عديدة بين السلطان والمؤيد وبين السلطان والأمير الحسين ابن منصور وأخيراً رجحت كفة الهوى على كفة العقل واصبح محالاً أمر التوفيق بين مطامع السلطان وعودة المؤيد إلى داره، فاضطر المؤيد إلى أن يغادر حلة منصور وإلى أن يرحل إلى قرواش بن المقلد وهو أمير العرب إذ ذاك. ولكن قرواش كان يتلاعب بالخلفاء، ينضم إلى العباسيين إذا أغدقوا عليه نعمهم وعطاياهم ويستجيب للفاطميين طمعاً في خلعهم وألقابهم، ويصانعه البويهيون خوفا من سطوته وقوته، فلما وجده المؤيد إلى هذا الحال تركه واتجه إلى مصر حيث إمامه الفاطمي ومقر الدعوة الفاطمية.
(يتبع)
الدكتور محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة(575/15)
الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
الأحلام - كما درسها بعض العلماء - تبين اشتغال الشعور الباطن، وتقيم الدليل على تلك المشكلة التي طالما حير الإنسان فهمها. والحلم حالة نفسية يشتمل على ما نراه في نومنا من صور وتمثلات غريبة في الترتيب عجيبة في الظهور. وهذه لا تتكون دائماً من الأشياء والشئون المعلومة لدينا في اليقظة، بل قد تكون أشياء وأموراً نجهلها تماما. وللأحلام معنى مهم يتعلق بتوازن حياتنا اليقظة وليس اللاشعور مجرد نظرية، ولكنه جزء من الطبيعة البشرية التي يمكن أن تظهر بواسطة الأحلام. فلكي نفهم الحلم علينا أن ندرك معنى اللاشعور. الشعور هو جزء صغير فقط من شخصيتنا. أما اللاشعور - الذي يتألف غالباً من التأثيرات، والنزعات الموروثة والمكتسبة، والرغبات الجنسية المكبوحة - فيكون الجزء الأكبر من الذات الحقيقية
فإذا كانت هذه الحياة اللاشعورية غير منسجمة مع الذات الشعورية فإنها ستستولي علينا بالتدريج وتتلف فهمنا للحياة. هذا من حيث إمكان مساعدة الأحلام لنا
إننا جميعاً نرغب في أكثر مما نملك. ولما كان الطموح هو ينبوع الحياة، فإن النزعات المكبوتة يمكن أن تقلب حياتنا المنتعشة إلى حياة خاملة. فالأحلام تمهد السبيل للتهرب من الحقيقة، وفي الأحلام يقوم الناس بما قد يكون مستبهماً عليهم في عالم الحقيقة
كثير من الأحلام يأخذ صورة إرضاء الرغبة - والرغبة يمكن أن تميَّز بسهولة، ولكن هناك كثيراً من الرغبات الغامضة. وهذه الرغبة الغامضة هي التي تسبب معظم القلق. وفي اللاشعور يكتمن الكثير من الرغبات الغريزية التي لا يمكن أن تكون مرضية في الحياة العادية من غير ما تناقض مع الدستور الاجتماعي للفرد، واحترامه الذاتي
وهكذا نرى أن الميول التي نرضيها ونشبعها أثناء النهار لا تحتاج إلى إرضاء في الأحلام
والأحلام ربما تكون في أصل جنسية، سواء أكانت الذكري من الطفولة المبكرة أم من الكبت الحالي، أو ربما تكون متعلقة بذوي القربى في صورة رغبة لا شعورية لموتهم أو لبعدهم؛ أو ربما تكون أيضاً شهوة للقوة. هذه الأمثلة غالباً ما تكبح ولا يسمح بظهورها، لأنها متناقضة مع الحياة اليومية، الحياة الواعية الشعورية، ولأن الرقيب من جهة أخرى(575/16)
يمنعها من الظهور بضغطه عليها. ولكنها قادرة على إظهار نفسها أثناء النوم عندما تتعطل الحواس وتنقطع عن العمل، وتكون الرقابة الأخلاقية على العقل الواعي مسترخية عندئذ يدأب اللاشعور في عمله فينسج لنا حياة أخرى يعيش المرء فيها غاطً في احساساته وتصوراته وانفعالاته وآماله المكبوتة التي لم يتمكن من تحقيقها، فتتجسم إذ ذاك تلك الاحساسات والتصورات، وتتوالد وتظهر منها سلسلة وقائع قد تكون من الغرابة بمكان. إلا أن هذى الرغبات لا تجرؤ على الظهور بمظاهرها الحقيقية حتى ولا في الأحلام، بل تتستر وراء أشكال ورموز ظاهرها برئ
وهذا هو السبب في أن أكثر الأحلام من الماضي والحاضر، ومجموعة مختلفة من الناس؛ وهذه التمثلات تتلون غالباً بصور معاني ما اختزنه الإنسان في عقله الباطن في حالة صحوة ويقظته. كما أن الأفكار والرغبات وآثار الأعمال، وما يُلقَّن عن الغير من صفوف الإيحاء قد تكون مادة الأحلام وأشكالها
ومن هنا تنشأ الفكرة بأن الأحلام ما هي إلا صحيفة أخرى من صفحات حياتنا الكثيرة، ومظهر آخر من مظاهر فعالية النفس
ويهمنا هنا أن نعرف أن الحلم - إذا حاولنا استعادته عند استيقاظنا من النوم - كثيرا ما يمحى منه أثر أشياء كبيرة الأهمية، ويحل محلها عند اليقظة عمل آخر للرقيب، بواسطته يُنسى الجزء المكبوت من الحلم
وإذا ترسّم الحالم ارتباط عدة أحلام فلا ريب في أنه سيجد أنها جميعاً تتجه إلى نقطة واحدة في حياته، هي مركز الكبت، نقطة البداية لميله الحالي
هذى هي الأحلام التي تتعلق باللاشعور، والتي تمدنا بالدليل على تناقضنا. إلا أن هناك عناصر معروفة تنشأ عنها الأحلام العادية هي:
1 - التأثيرات التي تأتينا من الداخل كامتلاء المعدة، وسوء الهضم، أو عدم انتظام الدورة الدموية وارتباك المخ. وهذه كلها أو بعضها يسبب في الغالب أحلاماً مزعجة نسميها بالكابوس
2 - الذكريات المحفوظة في أعماق اللاشعور. بيد أن هذه الذكريات تتولد منها أفكار أخرى تناسبها فيتوسع النطاق فيبني صروح أحلام شامخة(575/17)
3 - التهيج والانفعال النفسي الذي ينعكس إلى مراكز الدماغ فيجعله في حالة عمل متواصل، ويحصل العمل غالباً في تداعي الأفكار، وهي توضح لنا سبب تنوع الأحلام واختلاف مناظرها وحادثاتها
ومن تلك العناصر نرى أن أكثر الأحلام مصدرها الحادثات اليومية الواقعة في حياتنا. وقد تتركب هذه الحادثات فتنشأ منها قصة أو واقعة غريبة
وللأحلام نوع آخر لا يقل رتبة عن الإلهام ندع الكلام فيه لمقال تال.
عبد العزيز جادو(575/18)
اتجاه الأدب العربي
بعد الحرب القائمة
للأستاذ منصور جاب الله
قيل إن أبا بكر الخوارزمي وقف بباب الوزير الصاحب بن عباد فقال له الآذن: إن سيدي قد ألزم نفسه ألا يلج بابه إلا من كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فأجاب الخوارزمي على الفور: هذا القدر من شعر الرجال أو من شعر النساء؟. . . وإذ علم الصاحب بجواب الخوارزمي قال: دعه فإنه الخوارزمي!
إنما كان ذلك رأياً قديماً في الأدب العربي، إذ كان القدامى يعدون الأديب أديباً بكثرة حفظه، على حين أن كثرة الحفظ لا تجعل من الإنسان أديباً وإنما تخلق منه (راوية). وليس أدل على ذلك من أن الخوارزمي الذي صدرنا بحكايته هذا الفصل قد هزم هزيمة نكراء حيال بديع الزمان الهمذاني، وهو الشاب الحدث، هزيمة اختصرت حياته فخانه العمر ولم يأت عليه إلا ما دون العام حتى كان في عداد الثاوين
الحق أن معنى كلمة (الأدب) قد لقي تحولاً كبيراً في سائر اللغات، ومع أننا ما برحنا ننظر إلى معنى كلمة الأدب نظرة رجعية، لا نستطيع أن نغفل التحول الكبير الذي طرأ على الأدب العربي بعد الحرب العالمية الماضية، فقد كانت لأدبنا مظاهر نحب أن نناقشها ونفحصها حتى تتكون على ضياء البحوث النضيجة عناصر الأدب الجديد بعد انقضاء الحرب الناشبة وعودة الأمور إلى مجاريها
لقد كان من مظاهر الأدب العربي فيما بعد الحرب الماضية أن اتجه الأدباء إلى الترجمة والنقل عن اللغات الأجنبية، حتى عد عدم التمكن من إحدى اللغات نقصاً لا يغتفر في الأديب، ورأي الكثيرون أن اللغة العربية وحدها لا تكفي في تكوين الأديب العربي. وكان من جراء ذلك أن ذهب الأدباء مذاهب عدة، فكانت هناك النزعة (اللاتينية) والنزعة (السكسونية) ولكل من النزعتين أنصار وخصوم، حتى لقد بصرنا بأدباء يكتبون بالعربية على حين أن أحدهم لا يطالع كتاباً عربياً مهما تكن قيمته العلمية، ومن ثم لم يكن (أدب ما بعد الحرب) أدباً إنشائياً ذا نزعة استقلالية، وإنما كان عالة على سواه من الآداب الغربية، حتى لقد صدق كاتب محدث بوصفه الأدب عندنا بأنه (مستعمرة!) فالنقل عندنا هو كل(575/19)
شئ؛ فإذا شئنا التحرر من ربقة النقل الصريح فزعنا إلى (الاقتباس) والمحاكاة، ومن هنا كان الكاتب ينقل القصة - مثلاً - عن كاتب غربي ثم يحور أسماء الأشخاص والأماكن، ويغير طابع الرواية بعض التغيير، ثم يخرجها إلى الناس قصة مصرية!
وحالنا في هذا تحاكي الحال التي آل إليها الأدب في العصر العباسي حين كان الكتاب لا يقرأ إلا إذا نص عليه بأنه منقول عن الفارسية، وقيل في هذا الشأن إن عبد الله بن المقفع وضع كتاب (كليلة ودمنة) وضعاً، ثم نحله إلى الهند وفارس ليقرأه الناس ويجدوا فيه متاعاً!
ولما كان الشيء بالشيء يذكر؛ فإن كاتب هذه السطور يذكر أنه كان محرراً بإحدى الصحف اليومية المصرية، وكان صاحب الصحيفة من المولعين بالترجمة؛ فكان لا يسيغ مقالاً من إنشاء المحرر، ولو ضرب به المثل في البلاغة ونصاعة البيان، بيد أنه كان يتطاير طرباً كلما بصر بمقال مترجم عن كاتب أوربي مهما تكن قيمته! ومن هنا كان كل محرر منا يبذل الجهد الجهيد في كتابة مقال، فإذا شاء أن يحظى بتقدير صاحب الجريدة نسبه إلى التيمس أو الطان - مثلاً - رحمة الله وغفر لنا وله!
هذا مثال لسنا مغرقين فيه علم الله، يدل على مقدار ما بلغه الأدب عندنا من التدهور. . . وعلى ذلك يقتضينا الأمر أن نفك الأغلال التي ناء بها أدبنا حتى يكون أدب ما بعد الحرب الراهنة أحسن حالاً من أدب ما بعد الحرب الماضية
نريد أن يكون أدب ما بعد الحرب أدباً ذاتياً مستقلاً يصدر عن أحاسيس ذاتية وخوالج نفسية صحيحة، وليس معنى ذلك أن نخنق (الترجمة) ونقضي على المنقول من اللغات الأخرى، وإنما نريد أن نتخير من كل حسن أحسنه، ثم يكون النتاج أخيراَ أدباً عربياً خالصاً فلا يضطرب المزاج ولا يطغي عنصر على عنصر. ولا نريد أن نسهب في هذه النقطة فسنفرد لها بحثاً خاصاً إن شاء الله
ولقد عابوا على الأدب العربي خلوه من القصص، على حين أنه يفهق بالقصص، وإنا لنكتب هذه الكلمة وبين أيدينا كتاب (مجمع الأمثال للميداني)، وهو كتاب لو نسق على الطريقة الحديثة لكان من أروع كتب القصص في سائر اللغات. وحتىلو سلمنا جدلاً بخلو الأدب العربي من القصص، فإن ذلك إنما يكون طبيعة مزاجية فيه، لا نقصاً يحسب عليه،(575/20)
على أن العرب ليس لهم أن يشكوا خلو أدبهم من القصص بعد الحرب الحاضرة، فقد خاضوا غمراتها واشتركوا في ملاحمها، ولا مشاحة في أن هذا الصراع العالمي يخلق فيهم روح (القصة)، إذ كانت الحرب السالفة مادة لا يستهان بها في القصص الغربي
ولقد استطاع كتاب قلائل من المحدثين أن يخلقوا القصة (المصرية)، ولكنه بقي علينا أن نكتب القصة (العربية)، وهذا ما نحاول العمل في سبيله الآن
ولقد كان الأدب العربي فيما بعد الحرب الماضية إقليمياً أو محلياً إلى حد بعيد، فضعفت الصلة بين الأدباء المصريين والسوريين والعراقيين وغيرهم، فالكاتب المصري قل أن يعقد صلة أدبية مع كاتب آخر في سوريا أو العراق مثلاً، والصحف المصرية لا تنشر في الغالب سوى مقالات الكتاب المصريين أو مقالات الكتاب الغربيين المترجمة، ولذا لا نحسب قارئ الصحف العادي يعرف أحداً من كبار الكتاب العرب خارج مصر، ونحن المصريين لا نخلي أنفسنا من تبعة هذا القصور، ولا نحاول دفع التهمة إلا بإزالة أسبابها
وهنا يؤدي بنا الكلام إلى التعريج على (الفكرة الإسلامية) و (الفكرة العربية) وأيهما أولى بالتفضيل. ونحن هنا في مصر نمزج الفكرتين ولا نجد فرقاً بينهما. أما في البلاد العربية الأخرى فيأخذون على المصريين تمسكهم بهذا المزج. ويرون في ذلك ضرباً من التعصب الديني. ولا نحسب الأمر على هذا التصوير يصيب الحقيقة المجردة. ذلك لأن الفكرة (الإسلامية) أعم من الفكرة (العربية)، فكان من الطبيعي أن تطوي أولاهما أخرهما وتحتويها، ولقد سفه الإسلام النعرة العنصرية والجنسية
وهنا نقول أيضاً إن الشقة بعدت بين الكتاب المصريين ورصفائهم العرب بسبب النزعتين (الفرعونية) و (العربية) ثم (الشرقية) و (الإسلامية)، وقد ذهب أحد الزعماء المصريين إلى لبنان مصطافاً قبل بضعة عشر عاماً وأقيم له حفل خطب فيه زعيم لبناني معروف فقال (نريد أن تكونوا معنا عرباً لا شرقيين ولا فراعنة) والحق أن المصريين لا يستطيعون أن يجردوا أنفسهم من ميراثهم الفرعوني القديم، ولكن هذا لا يحملهم على الازورار عن القافلة العربية والتخلف عن الركب الإسلامي العظيم، ولا نستطيع أن نفرق بين النزعتين العربية والإسلامية، فقد كان الإسلام على فطرته وبساطته يوم كانت الإمبراطورية الإسلامية عربية خالصة، ولم تدخل المذاهب الملية المعقدة إلا حين دالت(575/21)
دولة العرب وخرج الأمر عن أيديهم، وكان العرب كذلك أعرف الناس بالتسامح الديني لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فلما آل الأمر إلى الأعاجم جهلوا معنى التسامح فكانت الحروب الصليبية الغاشمة
فإذا صحح الكتاب المصريون نظرتهم إلى (الفرعونية) تحتم على الكتاب العرب في الأقطار الأخرى أن يصححوا نظرتهم إلى الفكرة (الإسلامية العربية) على اعتبار أنها وحدة لا تتجزأ
بقي بعد ذلك أن يعالج الأدب مسائل الإصلاح الاجتماعي علاج الباحث المحقق، فكلنا ما برح في مثل هذه المسائل كحاطب ليل، على حين أنها من صميم الأدب الحديث.
ولعل اتجاه الأدب العربي بعد الحرب القائمة يكون منصرفاً إلى الدعوة إلى زيادة الإنتاج القومي والأخذ بأسس الاقتصاد الصحيح. وهذه كلها نقاط مجملة نرجو أن تسمح لنا الظروف بعلاجها في شئ من التفصيل.
(الرمل)
منصور جاب الله(575/22)
7 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)
(قرآن كريم)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
طلع زكي مبارك بمقاليه كما يطلع الشيطان بقرنيه. لا يستجيب إلى خير، ولا يبصر هدى، ولا يدعوا إلى رشد، ولا يأتي إلا بإثم أو إفك أو ضلال
وبضاعة زكي مبارك كلام يلقيه لا يدري أعليه يكون أم له، بل يلقيه بظن أنه له فإذا هو عليه، وهذا من خذلان الله له، ومن يحارب الله مخذول.
إن كان أحد عدو نفسه فذلك زكي مبارك. يبلغ منها بجهله وغروره ما لا يبلغ الخصم بعقله. يريد أن يخفي معايبها فيدل عليها، ويريد أن يدرأ عنها فيبدي عن مقاتلها
لقد كتب يدافع عن نفسه فأمكن منها في كل موقف من مواقف الدفاع: أمكن منها حين صاح مرتين يستغيث بالدكتور طه حسين، وماذا يملك له الدكتور طه وهو يجمع على نفسه من الاعترافات ما يوبق أقله ويهلك
وأمكن منها حين اعترف متطوعاً مختاراً بأن في كتابه آراء في أعجاز القرآن أخطر من الآراء التي رويناها له. وهو يعلم أي آراء روينا، ويعلم أن ما كشفناه للناس من آرائه قد هدمه وهده، ولا زال يمضه ويقض منه المضاجع. فأي نفع له في أن يقول إن هناك في كتابه ما هو شر وأخطر، اللهم إلا أن يكون أراد أن ينسب غيره إلى الغباوة، فنسب نفسه إلى الغباوة والحمق معاً. فإن الغبي الأحمق هو وحده الذي يريد أن يدفع عن نفسه فيعترف عليها اعترافاً كهذا فيه كل التأييد لما قال الخصم، وفيه بعد ذلك مزيد
وأمكن من نفسه حين أكد هذا الاعتراف بقوله إنه لو شاء لدل الخصم على تلك الآراء التي هي شر وأخطر! ونحن نعرف من كتابه كل ما يخاف كما قد أنذرناه، ومع ذلك فما الحاجة إلى تلك الآراء وقد دمغته أخواتها دمغة سيعرف بها ما عاش؟ ألا يكفيه من الوسم ما بلغ العظم؟ ألا يكفيه من الغل ما أحاط بالعنق؟ أم هو يريد غلاً يأخذ منه بالمخانق حتى يكتم منه الأنفاس؟ لينتظر فسيرى أنا نعرف منه ومما كتب ما لا يخطر له ببال.(575/23)
وأمكن من نفسه حين زعم لنفسه الشجاعة والصراحة ونفاها عن غيره. وأي صراحة يدعي أو أي صراحة يبغي بعد الذي كان؟ لقد صار حناه رأينا فيه، وأنصفناه إذ لم نقتصر على الادعاء كما يفعل هو مع الناس، بل جئنا على الدعوى بالدليل لنمكنه من إبطال الدليل إن استطاع. واجهناه وجابهناه بالتهمة ودليلها وهو حي يرزق يستطيع أن يدفع عن نفسه: بالحق إن كان لديه، أو بالباطل كما يفعل الآن. ألا يقارن هذا بما فعل هو مع الشيخ مصطفى القاياتي رحمة الله؟ زعم في بعض ما كتب ما لم يكن ليجرؤ على زعمه لو كان الشيخ القاياتي حياً، وما ليس يصدقه فيه أحد، من أنه كان - أي زكي مبارك - وهو تلميذ يحضر لمصطفى القاياتي محاضراته وهو أستاذ! ثم لا يستحي زكي مبارك بعد هذا أن يحشر نفسه في عداد الصرحاء الأشراف!
هكذا أمكن زكي مبارك من نفسه، كما أمكن منها حين سمي ظهوري عليه بالحجة طغياناً، وحين علل هذا الطغيان بعلمي أن الرقابة تمنع نشر المجادلة الدينية! أما إنه الحق يطغي على الباطل ولؤمه، لا الحق يمنع من ظهوره الرقيب. ومع ذلك فما حاجة زكي مبارك إلى المجادلة مطلقاً إن كان رأيه في القرآن وإعجازه رأي المسلمين من لدن عصر النبي الكريم إلى اليوم؟ ما حاجته إلى المجادلة الدينية التي يمنع منها الرقيب، إن كان يمكنه التوفيق بين النصوص التي أوردناها عليه من كلامه وبين عقيدة المسلمين في القرآن؟ إن أحداً لا يعرف أن الرقابة تمنعه من تأويل كلامه إلى ما يطابق عقيدة المسلمين ويوافق إجماع علمائهم. أما الجدل الذي يراد به تبرير إنكار إعجاز القرآن أو إثبات أن القرآن من كلام البشر فنعم منع الرقابة منه، ونعم عقاب القانون عليه. فهل هذا هو الجدل الذي كان يريد زكي مبارك والذي لا يجد إليه السبيل؟ إذن فقد أراد أن يعتذر عن نفسه فاعترف عليها حين أراد أن يحتمي هذا الاحتماء بالرقيب
ومع ذلك فالمسألة بيننا هي رأي زكي مبارك في القرآن لا دليل زكي مبارك على ذلك الرأي. فإذا كانت الرقابة تمنعه من الجدال عن رأيه بالدليل فذلك شهادة منه ومن الرقابة أن رأيه ليس مما يجوز عنه الدفاع، كما لا يجوز الدفاع مثلاً عن رأي زاعم لو زعم أن مصر لا يحق لها الاستقلال
إن هذا الغبي الأحمق لا يستطيع لأن يفهم أنه ينال من نفسه أكبر النيل بدفاعه عنها هذا(575/24)
الدفاع. إنه كالغريق في الحمأة لا يزيده جهاده للخلاص منها إلا غوصاً فيها حتى يلتئم سطحها فوق رأسه، وكان خيراً له ألا يقربها، فإذا قاربها فقد كان أنجى له ألا يتورط فيها
ومحاولة الرجل الخلاص بالكذب أو بالمكابرة أو بالمغالطة والمهاترة لا تنفع ولا تجدي. فليس ينفعه مثلاً أن يلجأ إلى حيلته القديمة التي نبهنا إليها في التمهيد، فيسمي الأشياء بغير أسمائها أو بضد أسمائها، كما يفعل من تسمية العلم جهلاً والجهل علماً، أو الإسلام إلحاداً والإلحاد إسلاماً وإيماناً. فهذه الحيلة التي قد تجوز على الناس عند انبهام الأمر، لا يمكن أن تجوز على أحد في البسائط الواضحة والبديهات المسلمة
وموضوع الخصومة بيننا وبين هذا الآفك هو في دائرة البسيط البديهي؛ دائرة المسلَّم المعروف من الدين بالضرورة؛ دائرة الأموال التي هي فصل بين الإسلام وغير الإسلام، بين المسلم وغير المسلم: دائرة إعجاز القرآن، وأن القرآن كلام الله لا كلام البشر، وأن الأنبياء والرسل ليس لهم من الدين إلا تبليغه، وأن وحي الله إليهم ليس كهذا الذي يسميه الشعراء والمفكرون إلهاماً. هذه الأصول المسلمة عند المسلمين كافة، المعلومة من الدين بالضرورة هي موضوع الكلام بيننا وبين زكي مبارك، وموضوع الخصومة. وهو ينكرها ويكابر فيزعم أننا نفتري عليه الإلحاد
المسلمون كافة يقولون إن القرآن معجز، ويفهمون من إعجازه إعجاز الأسلوب قبل كل شئ، وهو يقول إن القرآن غير معجز وإن أسلوبه أسلوب عادي يقدر عليه جميع الكاتبين. ثم يزعم أنه قد أقنع المثقفين بإعجاز القرآن!
إن إنكار إعجاز الأسلوب يستتبع حتماً إنكار إعجاز المعنى إلا في المواطن التي يكون فيها المعنى من النبوءات التي تحققت بالفعل، أو يكون من العلميات التي يحققها البحث العلمي على مر الزمان. فكثير مثلاً من قصص القرآن كان معروفاً، إن لم يكن للعرب فللنصارى واليهود في التوراة والإنجيل. ومن السهل على المكابر أن يدعي أن محمداً درس أو أن محمداً سمع. وقد قيل ذلك بالفعل. قالوا فيما حكي الله عنهم: (لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين). حتى لو لم يكن القصص معروفاًُ لسهل على المكابر بعد معرفته أن يدعي أنه كان غير مجهول، بل لصعب جداً على غير المكابر أن يطمئن إلى أنه لم يكن معروفاً من قبل، ولاستحال إثبات ذلك إثباتاً يرتفع معه كل شك، إن لم يكن في عصر النبي(575/25)
ففي ما بعد عصر النبي من العصور. فما الذي حال بين المنصفين من العرب في زمن النبي صلوات الله عليه وبين مثل هذا الشك في إعجاز القرآن وفي رسالة النبي؟ إعجاز الأسلوب! إعجاز الأسلوب حال بينهم وبين الشك
إن المعنى بعد أن صار معروفاً لهم كان يمكنهم التعبير عنه بالطبع، ولكن لا بأسلوب القرآن ولا بشيء يشتبه بأسلوب القرآن. وهذا بعض وجه الحجة عليهم في مثل قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). وسنعود فيما نستقبل من الكلمات إلى موقف صاحب الكتاب من هذه الآية بالذات كمثل ناطق بسوء فهمه وخلطه وإحالته حين يعرض للقرآن. أما الآن فيكفي أن ننبه إلى أن التحدي في الآية الكريمة بقوله تعالى (مثله) وفي غيرها من الآيات إنما هو تحد بالأسلوب قبل كل شئ، لأنهم بعد أن سمعوا بعض السور وعرفوا معناها كانوا يستطيعون أن يزعموا أن المعنى ملك للجميع، أخذوه هم كما أخذه محمد، ويعبرون عن المعنى بأي أساليبهم يرون أنه يقوم لأسلوب القرآن. ولو فعلوا وكان ذلك ممكناً لسقط التحدي به إلى الأبد. لكنهم لم يفعلوا ولم يكونوا ليفعلوا، لأنهم كانوا إزاء أسلوب لا يمكن تحديه، لا كما يزعم هذا الأفاك الأحمق إنه أسلوب في مقدور جميع الكاتبين
فالذي ينكر إعجاز الأسلوب مثل صاحب النثر الفني يلزمه حتماً أن ينكر إعجاز بعض القرآن على الأقل كالقصص القرآني أو بعضه، أسلوباً ومعنى، لأنه يستحيل عليه وقد أنكر إعجاز الأسلوب القصصي أن يزعم أن القصص نفسه معجز بالمعنى أو بالروح، كما يزعم أنه أقنع المثقفين بهذا النوع من الإعجاز في القرآن. وإذا سقط التحدي بقصص القرآن سقط التحدي بسورة من مثل القرآن، لأن كثيراً من قصص القرآن سور بأسرها، أو في قدر سورة من غير القصص، وإذن يسقط التحدي بالقرآن بأسره، لأن الله سبحانه حيت تحدي عباده بسورة من مثل القرآن لم يقيدهم بأي قيد في اختيار السورة. فلو اختاروها سورة قصص، أو جاءوا بقصص في قدر سورة ولو قصيرة من غير القصص، وكان ما جاءوا به يلتبس بالقرآن من حيث الأسلوب، لكانوا قد كسروا التحدي وبطلت معجزة القرآن بين العرب، فضلاً عمن جاء بعدهم ممن ليس له بصرهم بالفصاحة والبيان
فالنظر في هذا وتأمله جيداً وحكم عقلك ومنطقك ما شئت، تجد أن إنكار إعجاز الأسلوب(575/26)
يؤدي حتماً إلى إنكار الإعجاز كله في القرآن كله؛ فإذا تبين لك هذا فاحكم حكمك على صاحب النثر الفني، منكر إعجاز أسلوب القرآن ومدعي إقناع المثقفين بإعجاز القرآن من ناحية الروح!
إن الرجل يلعب ويلهو بالخطير العظيم من الحق، ويكذب ويأفك على الناس وعلى الله رب الناس. لكن لا عجب فهو يخبرنا أنه لا يخاف الله إلا تأدباً، فهو لا يستشعر خوفاً حقيقياً منه سبحانه. فماذا يمنعه من الكذب والافتراء على الله؟
على أننا لم نفرغ بعد من هذا الأفاك
محمد أحمد الغمراوي(575/27)
بضاعة القلم
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا جدال أن بضاعة القلم هي البضاعة التي تصدر خاماً من منجم الدماغ الإنساني، وتتحول إلى مصنع الحافظة للقيام بمهمة فرزها وضروب حياكتها. وما مصنع الحافظة سوى مستودع يعج بمفردات اللغة وشواردها، ومسبك يصب ألفاظها وتعابيرها. والملهمون وحدهم يحسنون خلق هذه البضاعة وإبداع نسجها، لأنها فريدة صعبة المراس، تقدر بالجودة لا بالكثرة.
فكم فص من الماس لا يساويه ألف فص، وكم قلادة من قلائد اليراع لا يعادلها ألف قلادة. فالثرثرة إذاً ليست أدباً، وحوشي اللفظ ليس بياناً، وانتحال أفكار الغير لا يعد نتاجاً، واجترار أقوالهم لا يعتبر فناً. إنما الأدب والبيان والفن نتاج يرتكز على دعائم الابتكار في المعنى، والبلاغة في المبني، والجزالة في الأسلوب، والإيجاز في التعبير
أما الابتكار في المعنى وهو بيت القصيد، فلا يبدعه غير الموهوبين. والموهوبون أنفسهم لا ينتجونه طريقاً إذا لم يستثمروا مناجم أدمغتهم، ويغرزوا في أعماق تلافيفها ومطاوي أغوارها معاول تفكيرهم ومهاميز جهادهم ليكشفوا عن مستغلق أرواحهم، وعن كل ما تلبد في مستودع أذهانهم، وتستر في مكنون طباعهم وخفايا غرائزهم. وأدباء العربية أحوج الأمم في هذا العصر إلى استغلال مناجم أدمغتهم. فهي ما تزال بكراً لم يستثمر منها غير اليسير الذي لا يروي غلة ولا يبل ظمأ
ومن العار أن تظل حياتنا الأدبية والعلمية مقصورة على معارف الجدود، أو مستمدة من نتاج أدمغة الغربيين نأخذ منهم ولا نعطيهم، ونتمتع بمستحدثاتهم العلمية وروائعهم الأدبية والفنية، ولا نبادلهم علماً يستحق الذكر، أو أدباً جديراً بالتقدير، أو فناً خليقاً بالإعجاب
إن العاجز يمثل دور الطفيلي ويعيش عيلاً على غيره. أما نحن فلسنا بالعاجزين. نحن أبناء أمة عريقة، لنا من ماضيها الزاخر بغرر الفكر، ومن تاريخها الحافل بجليل المآثر، ما يؤهلنا لمماشاة أرقى الأمم حضارة وعلماً، وما يذكي فينا روح المساهمة الواجبة علينا إزاء العالم، في حلبة الإبداع والتجدد.
وليس يعوزنا غير التضلع في العلوم والفنون والصناعات، والاطلاع على طارفها وتالدها،(575/28)
والتعمق في درسها وتمحيصها لاستجلاء كنوزها. ثم التمرن على أشغال الذهن ومواصلة التفكير لبعث ملكة الاستنباط الراقدة في حنايا أدمغتنا البكر، وهذا كله في متناول أيدينا. فجامعاتنا ومدارسنا ومكتباتنا كلها تزخر بمختلف المعارف الإنسانية، ينهل منها الطالب ما يشاء، ويثقف نفسه ما شاء لها من التثقيف.
ولكن هل من السهل إجهاد الذهن لاستخراج ما فيه من الدرر واللآلئ؟ إنه لعمري إجهاد عنيف لا يضاهيه إجهاد الغواص لاستخراج لآلئ البحر، يتطلب علماً وجلداً وخبرة في الحياة، ويستدعي جهداً خارقاً في التفكير، ورهفاً دقيقاً في الملاحظة، وإنعاماً خالصاً في الروية، تتعاون كلها على بعث اليقظة في الحواشي والوعي في البصيرة. والحواشي المستيقظة والبصيرة الواعية مصراعا الدماغ، لا ينفذ إلى دخائله دونهما، ولا تستخرج درره الكامنة في أغواره إلا بهما.
فلا شئ في هذا الكون يجني عفو الخاطر، بل بشق النفس وإجهاد الجسم والعقل
فالعلم الذي نستوعبه بحول، هو نتاج كفاح الأجيال. والكتاب الذي نتصفحه بساعة هو نتيجة جهاد الأعوام. والصناعات التي نتمتع بأدواتها المدهشة، قد صرف مبدعوها العمر كله لإيجادها. والأدوية الناجعة التي نفزع إليها عند الحاجة، ونتناولها ساعة نشاء، قد بذل في سبيل تحضيرها واكتشافها دماء القلب وعصارة الروح
فارتقاء الإنسان إذاً مصدره الفكر. ولولا أعمال الفكر الشاقة، لما كانت الحضارة ومستحدثاتها ولا العلم ونواميسه. فكل جليل وجميل في الكون تمخض فكراً في الذهن قبل أن تجسم كتاباً، أو تحول آلة أو تقمص فناً
فمن شاء الخلق والإبداع فليفكر. وألا يمل من التفكير. فمن لا يزرع لا يحصد، ومن لا يواصل التفكير لا يخلق ولا يبدع
إن الجسم لا تقوى عضلاته بلا مواصلة العمل والرياضة. . . هكذا الدماغ وهو خير ما في الجسم من عضل وخلايا لا تتفتح مواهبه الخالقة، وتشتد قواه المبدعة إلا بقوة المران والتفكير المستمر. ولا يغرب عن البال أن الثقة بالنفس هي أساس الفكر، فمن وثق بنفسه فكر بدماغه دون أن يتوكأ على أدمغة الآخرين. وما الإحجام والخمول والتواكل سوى قيود مرهقة للنفس. يتحتم علينا أن نتحرر منها ليتسع أفق تفكيرنا ونتاج عقولنا(575/29)
أما البلاغة في المبني فمزيتها خلوها من الحشو والتكلف، وبعدها عن الإبهام والتعقيد، وحرصها على الوضوح والطلاوة ومجيئها عن محض الشعور والسجية. هكذا الأسلوب لا يعتبر جزلاً إلا إذا كان سهلاً ممتعاً، مؤدياً المعنى بلغة صحيحة، وعبارة رشيقة، ولفظ متلائم
أما الإيجاز في التعبير، فهو من أهم لزوميات هذا العصر الخاطف، الذي جعل الناس يتنقلون من قطر إلى قطر بسرعة تبز جوارح الطير، ويرسلون أصواتهم وأفكارهم من قطب إلى قطب، كما ترسل الصواعق
لقد مضي عهد المداورات والمترادفات، وتصرم زمن الاستغراق في الكنايات والاستعارات، وجاء العهد الذي يستدعي الكاتب النفاذ إلى لب الموضوع بسرعة توازي سرعة العصر الذي نعيش فيه
فالمعاني التي تستوعب بصفحة من خطل الرأي أن نعبر عنها بصفحات. والفكرة التي توضح بجملة من الخطأ أن نمدها في كثرة الجمل. فالكتاب الشائق في هذا العصر هو الكتاب السهل المأخذ، الغني بروي البيان والفكر والتعبير الموجز
أما المطولات فقد تصرم عهدها وطوتها الرفوف
إني أوثر اليوم أن تنسج بضاعة القلم على هذا النحو، فلكل عصر بضاعة كما لكل عصر رجال.
(بيروت)
توفيق حسن الشرتوني(575/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
574 - فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه
في السياسة الإلهية لابن تيمية:
سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو. أحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى
فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه. وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين. يُغزى مع القوى الفاجر
575 - قارئ عجيب
في (الحوادث الجامعة في المئة السابعة) لابن الفوطي: في سنة (637) توفي الشيخ علي بن حازم القارئ المعروف بالأبله، كان آية في حفظ القرآن المجيد، وتجويد قراءته، يقرأ كل سورة شاء معكوسة، واختير له مرة على سبيل الامتحان سورة (الرحمن والقمر والجن) فقرأ ثلاث السور معكوسة دفعة واحدة من كل سورة آية، وكان يقرأ من كل سورة شاء آية من أولها وآية من آخرها ويختمها في وسطها. ومع هذا كله كان عنده بله، وميل إلى اللعب مع الصغار والتشبه في أفعالهم مع علو سنه
576 - يأكل ليعيش لا يعيش ليأكل
في (رسائل أبو بكر الخوارزمي): حق على العاقل أن يأكل ليعيش، لا يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عاراً أن يكون صريع مأكله. وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، فكم من لقمة أتلفت نفس حر، وكم من أكلة منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة خلفها بشاعة الفوت. ومن غلبت شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمية وانخلع عن ريقة الإنسانية
577 - لم يكن من يجور
(المحاسن والمساوئ) لإبراهيم بن محمد البيهقي:
لولا من يقبل الجوار لم يكن من يجور(575/31)
578 - لا تحسن أن تقول كقوله
في (الصبح المنبي): حكي صاحب المفاوضة قال: كان سيف الدولة يميل إلى أبي العباس النامي الشاعر ميلاً شديداً إلى أن جاء المتنبي فمال عنه إليه، فغاظ ذلك أبا العباس، فلما كان ذات يوم خلا به وعاتبه وقال:
الأمير لم يفضل عليَّ المتنبي؟ فأمسك سيف الدولة عن جوابه فلج وألح وطالبه بالجواب، فقال: لأنك لا تحسن أن تقول:
يعود من كل فتح غير مفتخر ... وقد أغذ إليه غير محتفل(575/32)
ملحمة السراب. . .!
القسم الثاني
للدكتور إبراهيم ناجي
ما بقائي وأجمل العمر ولّى ... وانتظاري حتى يحين الشتاء
تعست حقبة تغير وجه ال ... كون فيها وحالتِ الأشياء
يطلع الفجر مرهَقاًُ شاحب النو ... رعليه الكلال والإعياء
وأرى الصبح في المشارق يحبو ... ما به نضرةٌ ولا لأَلاء
قد علا طلعةَ النهار شحوبٌ ... واصفرار واعتلّت الأضواء
وبنفسي دب المساء وحلْ اللي ... ل من قبل أن يحين المساء
عُدْتني كالربيع في موكب الزه ... ر له روعة وفيه رُواء
ولك الوجه أومض السحر فيه ... والتقي الحسن عنده والذكاء
وشحوب كَظل راحٍ وللنَّد ... مان تجلو شحوبها الصهباء
ولك الكرم ذو العناقيد رفّت ... وتهادت فروعه الملساء
ولك الجيد أتلعاً أودع الصا ... نع فيه من قدرة ما يشاء
قُدْ من مرمر وشعشعه الفج ... ر بورد وصُب فيه الضياء
ولك المقلة التي يشرئب السه ... م من لحظها ويغضي الحياء
ولك اللفظة التي تبعث الها ... مد حيَّا كأنها كهرباء
وأنا الطائر الذي تصطبي نف ... سي السموات والذّرا الشماء
راشني صائدٌ رماني فأدماني ... وولَّى الجاني وعاش الداء
كلما مرت الليالي يزيد الجرح ... غوراً والطعنة النجلاء
طُويتْ رحلتي وودعتُ أح ... لامي فنفسي من الأماني براء
كثرت حَيْرَتي وزادت تباريحي ... وشكي وما لحزني انتهاء
مرحباً بالهوى الكبير فإن يب ... ق وإن تسلمي بطب لنفسي البقاء
فهو القمة التي تهزم المو ... ت ولا يرتقي إليها الفناء
إبراهيم ناجي(575/33)
مزامير!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ليتني كنتُ صلاةً ... في كهوف الناسكينا
أتلاشى في طريق الل ... هـ شوقاً وحنيناً. . .
ليتني كنت غِناءً ... تائهاً فوق الصحاري
هزَّني طيرٌ غريبٌ ... فوق رُكبان حيارَى
لَيتني كنت شعاعاً ... في ليالي الحائرينا
أسكب السُّلوان للدم ... ع وأغتال الأنينا. . .
ليتني كنت سكوناً ... خاشعاً بين الجبال
تَتَلاَقى فِيَّ آيا ... ت وجودي بالزوال
ليتني كنت غداً لا ... تعلم الأقدار سرَّهْ
أو نشيداً ضنَّ شادي ... الغيب أن يعزف نبرهْ
ليتني كنتُ على لُجِّ (م) ... البحار الخضر زورقْ
كيفما شاءت بي الريح (م) ... على الأمواج تخفِقْ
ليتني كنت حفيف ال ... غاب في آذان بيدِ
يسمع الليلُ صبابا ... تي ويُصغي لنشيدي
ليتني كنت صفير الح ... ب من نايِ الرُّعاةِ
تشرب الوديان والقط ... عان خمراً من لهاتي
ليتني كنت عصاً ... في كف أعمى لا يراها
هي تهديه ولكن ... مَن إلى النور هداها!
ليتني كنت غراماً ... بين جنبَيْ عاشقْينْ
سًمِعا إنشادَ نِيرا ... ني. . . فظلا خاشعيْنْ
ليتني كنت رياحاً ... تهتفُ الآبادُ منها
أنا أهواها. . . ولكن ... رغم أنفي لم أكُنْها
محمود حسن إسماعيل(575/35)
البريد الدبي
الوجود المادي
1 - أشكر عظيم الشكر لحضرة اللوذعي المفضال الأستاذ دريني خشبة تفضله عليَّ (بالفاضلية والمحبوبية) وهو بهما أجدر مني وأليق
2 - أرجو من حضرته ألا يزجني في معركة وحدة الوجود لأني لا أصلح جندياً فيها. وما تعرضت لها في العدد السابق من الرسالة إلا لأنني كنت أود حقيقة أن أعلم ماذا يراد بوحدة الوجود
3 - أرجو من الأستاذ دريني أن يراجع ما قلته في مقالي السابق لكي يتحقق جيداً أني لم أقل إن مقاله الثالث زاد النظرية غموضاً: بل قلت بكل وضوح وصراحة لا تقبل التأويل، إن ما سرده من نظريات فلاسفة اليونان زاده غموضاً لأنها سلاسل سخافات كنشوء الكون من الرطوبة الخ. فهي لا تستحق أن يستشهد بها ولا يستفاد منها شئ لتعريف وحدة الوجود. لذلك أرجو منه أن يصحح عبارته لكيلا يفهم القراء أني نسبت إليه قولاً لم يقله
4 - فهمت من كلمة (الوجود) الكون المادي، لأن ما استشهد حضرته به من أقوال فلاسفة اليونان يدل دلالة صريحة على أن هؤلاء الفلاسفة عنوا بالوجود أصله المادي لا غير. كذا فهمت. وهو واضح من قولي (إذا كان المراد بوحدة الوجود أن الكون كله من ذرات وأجسام نشأ من هيولي واحدة الخ. فهو ما أثبته العلم الحديث الخ). فعن الوجود المادي تكلمت، وهو الذي عنيت، وطبيعته قصدت. ولذلك لا أسلم بهيولي أخرى غير هيولاه ما دمت لا أحس بهيولي أخرى. ففي عقيدتي أن كل ما أحس به بإحدى حواسي هو من طبيعة هذا الوجود الهيولي ولا غيره. وما وراء الطبيعة لا أحس به إذن فليس هو من الوجود المادي. ولذلك قلت إنه لا شئ وراء الطبيعة المادية. أما إذا كان وراء الطبيعة شئ آخر وهو الروح فهو وجود غير مادي، غير طبيعي. ولذلك تنصلت من التعرض له
5 - أما قول أستاذنا الفاضل دريني إن القضية قضية إسلامية فأقول بشأنه أني لم أنازع في هذه القضية ولن أنازع على الرغم من أن قضية نسبة الوجود إلى الله (رب العلمين) ليست إسلامية بحتة بل هي قضية عالمية ولا تحتكرها أية أمة دون أخرى. على أني لا أتعرض لها بأي حال(575/37)
6 - وهو موضوع خرج من دائرة قصدي فيما كتبت وإنما استدرجني إليه أستاذنا دريني بقوله أخيراً: ما رأى الأستاذ نقولا الحداد في هذه الفلسفة التي لا تعترف بالعالم أو الطبيعة الخ. رأيي أني لا أستطيع أن أعتقد بأن ما أحس به بحواسي الخمس هو وهم كما حاول الفلاسفة التصوريون أن يقنعونا وكبيرهم الفيلسوف بركلي في أواخر القرن السادس عشر على الرغم من مقدرته المنطقية في الإقناع. إن حواسي بنات أفعال المادة في جسدي فلا أقدر أن أكذبها أو أقول إنها تخدعني. وهذا موضوع عويص جداً أتهيب أن أتصدى له.
نقولا الحداد
الجائزة الأدبية
كنت في مجلس ضم عشرة من الأدباء، فيهم ثلاثة من الأقطاب، أي إذا ذكر الأدب في مصر أو في العالم العربي كان هؤلاء من المتقدمين
جرى الحديث في القصيدة بشر فارس والجائزة الأدبية التي لم يفز بها واحد من الأدباء، فحمل واحد من هؤلاء الأقطاب (ولا أسميه الآن) على شعر بشر فارس حملة تؤيد الغرض الذي رميت إليه في وضع الجائزة، وتؤيد أيضاً رأي الأستاذ الجليل (أ. ع) في أنها غير مفهومة لا يمكن شرحها ولا معرفة غرض ناظمها
ثم بلغني من رجل صادق الرواية، أن ذاك الأديب القطب الكبير قال للشاعر بشر فارس، إن قصيدته وعنوانها: (إلى زائرة) واضحة مفهومة، وأنه شرح لي ستة أبيات من ثمانية أبيات هي كل القصيدة ففهمتها، وقال أيضاً إن العيب ليس في شعر بشر فارس بل المرض في فهم من لا يفهمون هذا الضرب من الشعر ولا يفطنون إلى بدائعه!
لا يسعني، وقد بلغتني الرواية كما وقعت، إلا مطالبة الأستاذ الأديب القطب الكبير ببعث شرح الأبيات الستة التي قال أنه شرحها لي ففهمتها، إلى الرسالة ليعرض على القراء، وإني أنقده أجراً على ذلك عشرة جنيهات لا خمسة.
حبيب الزحلاوي
حول وحدة الوجود أيضاً
علمتنا الفلسفة أن البطل لا يصير حقاً بكثرة منتحليه، والحق لا يستحيل باطلاً بقلة(575/38)
معتقديه. فلئن كثر الناقمون على وحدة الوجود من كتاب (الرسالة)، إلا أن هذا لن يصرفنا عن تبرئة أصحاب هذه المقالة مما ينسب إليهم. فأما القول بأن وحدة الوجود تدعو إلى التدهور الأخلاقي والتحلل من الآداب، فهذا قول باطل مردود، وليس أدل على فساد هذا الحكم من أن ابن عربي نفسه - وهو أمام أصحاب هذا المذهب - كان (يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات)، كما شهد بذلك ابن تيمية نفسه. وأما القول بأن عبارة ابن عربي القائلة بأن العالم ما له وجود حقيقي (وهي تلك العبارة التي جعل منها الأستاذ دريني خشبة محوراً لرده، واتخذها ذريعة للسخرية من الفلسفة) عبارة فاسدة تنبو على العقل، وتند على المنطق، فهذا قول مرفوض منقوض، لأن ابن عربي لا يعني بالوجود هنا، ذلك الوجود المحسن الملموس، بل يعني الوجود الحقيقي الذي لا يتطاول إليه الوهم، ولا يرقي إليه العقل الإنساني القاصر. فكل ما تدل عليه هذه العبارة، هو أن وجود المحدثات المخلوقات ليس بوجود حقيقي، لأنه وجود عارض يلحقه التغير، ويتوقف على وجود غيره؛ في حين أن وجود الله الذي لا يثبت كونه إلا بعينه، وجود واجب لا يعرض له التغير والإمكان، ولا تلحقه الإضافة والتقييد بحال
أما تلك الأحكام السريعة المبتسرة التي يطلقها البعض على مذهب فلسفي عميق كمذهب وحدة الوجود، من غير تثبت أو تحقيق، ومن دون بحث أو تدقيق؛ فهذا ما لا نعني أنفسنا بالرجوع إليه وإدامة النظر فيه - وحسبنا أن نقرر هنا ما لمذهب وحدة الوجود من نزعة واحدية تتفق مع اتجاه العلم الحديث (وهو ما أظهرنا عليه أرنست هيكل عند حديثه عن هذا المذهب في كتابه (لغز الكون))، وما ينطوي عليه هذا المذهب من تنزيه بالغ استحال معه العالم إلى موجود متوهم ما له وجود حقيقي وأصبح الله وحده هو الموجود!
هذه كلمة ثانية أكتبها دفعاً لكل شبهة، ولن أردفها بأخرى مهما بدا للأستاذ الفاضل دريني خشبة أن يقول. فإن مثل هذه المسائل المعقدة قد لا تحتملها أعصاب القراء الفائرة في هذا القيظ!
زكريا إبراهيم(575/39)
العدد 576 - بتاريخ: 17 - 07 - 1944(/)
الشيخ عبده وطريقته في التفسير
للأستاذ محمود شلتوت
من المعروف أن البيئة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً فهي تطبعه بطابعها وتنشئه على أخلاقها وتحمله بقوتها وسلطانها على أن يكون عضواً فيها، يعيش كما تعيش، ويفكر كما تفكر، وينزل على إرادتها وحكمها مطمئن القلب راضى النفس ولكن مع هذا قد يظهر في الأمة أو الجماعة من الحين بعد الحين أفراد يجعل الله منهم مظهر رسالة خاصة إلى الأمة أو الجماعة، فيصنعهم على عينه ويعصمهم من التأثير ببيئاتهم، فينشأ الواحد منهم برأسه أو أمة في نفسه، لا يتأثر بجماعته، ولا يتقيد بقيودها، ولا يزن الأشياء بميزانها بل بالعكس يؤثر هو فيها ويقتحم عليها حصونها، ويعيش معها ما عاش في كفاح وجلاد وهو في كل يوم يفتح فتحاً جديداً ويدك حصناً عنيداً، ويتعهد من وراء ذلك بذوره التي يضعها حتى ترسخ أصولها، وتسمق فروعها، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
أولئك هم المصلحون في كل زمان ومكان: منهم رسل الله المبلغون عنه، المؤيدون بوحيه، ومنهم دون ذلك من عباقرة الأمم وأفذاذ التاريخ
ولقد كان الشيخ عبده من هؤلاء العباقرة الذين عصمهم الله من التأثير ببيئاتهم ومكنهم من التأثير فيها
كانت بيئة الشيخ عبده هي البيئة الأزهرية التي تكونت في أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة. وكان طابعها الركود الفكري، والتعصب المذهبي، والتقديس للآراء والإفهام والسمو بها عن النقد ومحاربة كل رأي جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد في دين الله وحرمت الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وقاومت من حاول الخروج عليها في ذلك زماناً طويلاً. وكانت أكبر جناية لهذه النزعة جنايتها على القرآن فقد صورته كتاباً عزيز المنال بعيداً عن الإفهام لا يدركه إلا الراسخون الذين مضوا وقد درسوا واستنبطوا منه جميع ما يلزم المسلمين فليس لأحد بعدهم أن ينظر فيه كما نظروا ولا أن يستنبط منه كما استنبطوا، ولا أن يفسره بغير ما فسروا
ظل القرآن في ظل هذه النزعة يدرس دراسة أساسها الإسراف في المناقشات اللفظية لعبارات المفسرين، والاعتماد في قصصه على الروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة(576/1)
وفي تشريعه على المذاهب الفقهية وفي عقائده على الآراء الكلامية. وقد صار القرآن بهذا كأنه تابع لا متبوع ومحكوم عليه لا حاكم
ولقد تهيب الناس بهذا الوضع كتاب الله وصاروا لا يعرفون من مزاياه سوى أنه كتاب يتعبد بتلاوته ويتبرك به وتستمطر به الرحمة على الموتى ويستشفي به من الأمراض والعلل الجسمية
في هذه البيئة نبت الشيخ عبده كما ينبت الورد بين الأشواك أو كما ينبع الماء الصافي من بين الصخور. فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر انتفع به من انتفع وازور عنه من ازور، وبقي على ذلك قوياً وهاجاً يجذب إليه أنظار المؤمنين وينفذ إلى بصائر المخلصين
زلزل رحمه الله على الجامدين حصونهم، ودمدم عليها بالحجج، والبراهين، وكشف الحجاب الذي أسدله الجمود والتعصب على الدين شرعة وعقيدة، فبدا منه ما كان خافياً وعاد إليه بهاؤه الأول وجلاله القديم، وبدد الغبار الذي عقد حول كتاب الله وأنقذه من شر هذه النزعة التي جعلته وراء الظهور، وآثرت عليه قول فلان وفلان
وليس من الممكن أن نبسط آثار هذا المجدد العظيم في كل ناحية من النواحي، ولكننا نعرض في اختصار إلى موقفه من القرآن؛ فإنه كان يراه أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً. فأستقبله على أنه - كما أنزله الله - كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهى عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهديه وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلى مركز القرآن، وأنه المسيطر على كل ما سواه في العلميات والعمليات، يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله؛ فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي ولا سني ولا معتزلي
وقد عني رحمه الله أشد العناية بتجريده التفسير من كل ما لا ثقة به من الروايات والإسرائيليات، وأوجب الوقوف عند الحد الذي قصه القرآن من أحوال الماضي أو أخبر به من شئون المستقبل(576/2)
ولم يكن رحمه الله ذا اهتمام كبير بأسباب النزول، بل كان يعتمد في فهم المعنى وربط الآيات على ما يفيده الموضوع وترشد إليه الألفاظ والأساليب، حسب المعهود من اللسان العربي المبين
هذه هي طريقة الشيخ عبده في تفسير القرآن، عرفناها واضحة جلية مما كتبه بنفسه كتفسيره لجزء (عم يتساءلون)، الذي فرغ منه كما يقول في آخره - منتصف الساعة السادسة بعد الظهر من يوم الأحد 23 أغسطس سنة 1903 في مدينة جنيف من بلاد سويسرا، وكتفسيره لآيات خاصة تفنيداً لشبه أثارتها، عند خصوم الإسلام، مكانة الجمود والرواية من التفسير. وما دونه عنه تلميذه البار السيد رشيد رضا، وهو من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة النساء: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)
لم يكن الشيخ عبده من هؤلاء الذين يقترحون ويدعون إلى ما اقترحوا دون أن يكون منهم أسوة عملية تشق للناس طريق ما يقترحون، بل كان رحمه الله عملياً قبل كل شيء، فلم يدع فرصة في حضره أو سفره تمر حتى يلقي فيها دروس التفسير على طريقته ومنهاجه. وقد واظب على ذلك في دروس متتابعة ظل يلقيها بالأزهر نحو سبع سنين، وكان يحضرها كثير من علماء الأزهر والنابهين من طلابه، ويحضرها الكبراء من رجال الدولة والتفكير، حتى أحدث في الأزهر حركة فكرية حادة لفتت أنظار العلماء والمشتغلين بالمسائل الإسلامية في الشرق والغرب إلى الأزهر وإلى الإسلام
بهذا مما ذكرنا وبغيره مما لم نذكر كان الشيخ عبده هو المجدد الإسلامي العظيم للقرن الرابع عشر من الهجرة، له نمطه المعروف وفكرته الواضحة التي أسهر لها ليله وأضنى بها جسمه، وتعرض في سبيلها لحقد الحاقدين وكيد الكائدين، ثم لبى دعوة ربه معتزاً بما لم يترك سواه من علم وإصلاح
وإذا كانت تعاليم الشيخ عبده قد أثرت من نصف قرن مضى في التفكير الإسلامي تأثيراً قوياً؛ فإن المخلصين للأزهر لا يزالون إلى الآن يرجون أن يسرع الأزهر في الاقتراب من هذه التعاليم، وأن يجعلها من أسس دراسته وأساليب تفكيره ولا بد أن يقترب الأزهر - وهو معقل الدين - من طريقة الشيخ عبده مهما طال الأمد. لأنها طريقة السلف الصالح التي فهم بها الدين وعز جانبه، وآخر هذا الدين لا يصلح إلا بما صلح به أوله(576/3)
أيها السادة: هذه ناحية من نواحي عظمة الشيخ عبده وأحب ألا أغادر موقفي هذا حتى أسجل أن عظمة الشيخ عبده لم تكن ترجع فقط إلى علمه الواسع وإحاطته بأساليب الحياة الصحيحة، ولكنها في الواقع ترجع إلى صفات صيغ بها وطبع عليها؛ فقد كان مؤمناً قوي الإيمان، كان مخلصاً لفكرته، كان شجاعاً في الحق لا يعرف التردد ولا المجاملة، كان متجرداً عن الأهواء والمطامع، ليس مشغولاً إلا بفكرته ولا معنياً إلا بنجاح دعوته، كان معتمداً على الله وعلى قوة الحق وعلى الصراحة والوضوح، وما كان يعرف ركناً يأوي إليه سوى هذه الصفات
وكان بكل هذا شخصية مهيبة يحيط بها الوقار ويحفها الجلال، ويشع منها نور الحق وروعة الصدق فتجذب إليه الناس فيملك عليهم السمع والبصر والفؤاد
ذلكم هو المصلح وذلكم هو الإمام رحم الله الإمام وأسبغ عليه رضوانه:
محمود شلتوت(576/4)
العلم والعلماء
في رعاية الإسلام والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
وقد أنشئت في أرجاء البلاد الإسلامية دور أخرى للعلم عرفت باسم المدارس ومن أقدمها مدارس نيسابور: المدرسة البيهقية، ومدرسة الأمير نصر أخي السلطان محمود. ثم جاء الوزير نظام الملك وزير السلاجقة في القرن الخامس فأنشأ مدارس كثيرة في بغداد ونيسابور وهراة وأصفهان ومرو والبصرة والموصل. وقد فتحت نظامية بغداد للدرس سنة 459، وتولى التدريس بها على مر العصور جماعة من كبار العلماء منهم:
الغزالي، وابن عساكر، وأبو اسحق الشيرازي. وأقام بها الغزي الشاعر، وتولى الأبيوردي خزانة الكتب بها
ورتب نظام الملك في مدارسه أرزاقاً للعلماء وجرايات للطلاب ليفرغوا لطلب العلم. وقد روى أنه كان ينفق على مدارسه 600 ألف دينار في السنة
وقد روى الحاج خليفة أن بعض العلماء اغتموا لبناء هذه المدارس وخشوا أن تكون ذات أثر سيئ في العلم والعلماء قال:
(على أن من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً إنما جاء شبيهاً بالعلماء، ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به. لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم. وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخسّاء وأرباب الكسل فيكون سبباً لارتفاعه
قال جيبون: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء شأن العلم والعلماء، والإنفاق على دور العلم , ومعاونة الفقراء على التعلم، فأولع الناس بالتعليم والتعلم ما بين سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء المدرسة النظامية ببغداد وجعل نفقتها خمسة عشر ألف دينار في السنة.
وكان فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن العظيم وابن الفقير. إلا أن الغني ينفق من مال أبيه(576/5)
والفقير يأخذ من ريع المدرسة. وكان للمعلمين رواتب كبيرة
وكثرت المدارس على مر الزمان وتنافس فيها الأمراء والكبراء. قال ابن جيير في الكلام عن بغداد: (والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية. وما منها مدرسة إلا يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محتبسة تصير إلى الفقهاء والمدرسين بها ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم)
ولا ننسى المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العظيم المستنصر بالله العباسي (623 - 640) ولا تزال آثارها قائمة على شاطئ دجلة. وكان يدرس بها العلوم الدينية والتاريخ والطب والحساب والمساحة. وكان يتصل بها صيدلية ومستشفى. وقد بلغ عدد الفقهاء المدرسين بها ثلاثمائة تجري عليهم الأرزاق.
وكان لكل طالب جراية من الطعام وراتب من المال. وكان من مدرسيها أبو الفرج بن الجوزي وغيره من كبار العلماء
وكانت هناك دار للاجتماعات والحفلات الرسمية كما يكون في جامعات هذا العصر أحياناً. وكان من شروط الواقف فيها أن يكون لكل مدرس في كل يوم 20 رطلاً من الخبز و5 أرطال من اللحم بالخضر والحطب وفي كل شهر 12 ديناراً، ولكل مُعيد سبعة أرطال من الخبز وغرافان من الطعام وثلاثة دنانير في الشهر، ولخازن الكتب 10 أرطال خبزاً في اليوم وأربعة لحماً وعشرة دنانير في الشهر، وللمشرف على هذا الخازن خمسة خبزاً واثنان لحماً، وثلاثة دنانير في الشهر الخ. وكان من الشروط أيضاً أن يرتب فيها طبيب مسلم حاذق يعلم عشرة من الطلاب دائماً ويعطي المرضى الأدوية بغير ثمن
تنافس أمراء المسلمين وكبراؤهم في بناء المدارس ودعوة الطلاب والمدرسين إليها، وإجراء الأرزاق الكثيرة وتيسير طلب العلم لهم. وقد عد المقريزي مما أنشئ في القاهرة إلى عصره من المدارس الكبيرة زهاء ثمانين مدرسة أقدمها المدرسة الصلاحية التي بناها السلطان صلاح الدين بجانب مسجد الإمام الشافعي بالقرافة سنة 572؛ وجعل رئيسها الشيخ نجم الدين الجنوشاني. ومما يذكر مثالاً لأرزاق العلماء في تلك المدارس ما رواه السيوطي في حسن المحاضرة أن معلوم الشيخ نجم الدين كان أربعين ديناراً في الشهر وعشرة دنانير للنظر على أوقاف المدرسة. ورتب له كل يوم سبعين رطلاً مصرياً من(576/6)
الخبز وراويتين من ماء النيل
وبنى القاضي الفاضل المدرسة الفاضلية بجوار داره سنة 580 ووقف بها جملة عظيمة من الكتب قيل إنها كانت مائة ألف مجلد. ومدرسة الأمير جمال الدين بنيت سنة 810 ووقف فيها لكل طالب ثلاثة أرطال من الخبز و30 درهماً في الشهر ولكل مدرس ثلاثمائة درهم
وكذلك كانت حواضر البلاد الإسلامية العربية الأخرى غاصة بالمدارس. وقد عد المؤرخون في دمشق وحدها مائة وثلاثين مدرسة وفي بيت المقدس زهاء خمسين. وقيل إنه كان في قرطبة وحدها أيام الحكم المستنصر ثمانون مدرسة
كانت تدرس بهذه المدارس العلوم الدينية والعربية والعلوم الفلسفية والطب والرياضة. وكان بكل مدرسة خزانة كتب غالباً، كما كانت بعض الدور التي بنيت لتكون خزائن كتب مدارس أيضاً. وما كان أعظم جدوى خزائن الكتب في تيسير العلم والتقاء العلماء في العصور التي لم تكن فيها مطابع تيسر للناس الكتب بأثمان قليلة وزمن يسير. وكم يحدث التاريخ عن خزائن الكتب في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة
روى ياقوت أنه كان بكركر من نواحي القُفص ضيعة نفيسة وقصّر جليل لعلي بن يحيى المنجم - وكان من العلماء المقربين عند الخليفة المتوكل، ومن بعده إلى المعتمد، وتوفي سنة 275 ودفن بسر من رأى - وكان في القصر خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون فيها صنوف العلم. والكتب مبذولة لهم في ذلك والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى. فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شئ في النجوم فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وتعلم فيها علم النجوم، وقد جمع على هذا للفتح بن خاقان وزير المتوكل من الكتب أكثر ما اشتملت عليه خزانة حكمة قط، كما يقول ياقوت
ويقول ياقوت كذلك في ترجمة جعفر بن محمد الموصلي المتوفى سنة 323: (وكان له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب للعلم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معدما أعطاه ورقَاً وورِقا. تفتح في كل يوم). ويقول ياقوت عن مدينة مرو: (فارقتها وبها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا(576/7)
مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع: إحداهما يقال لها العزيزية بناها رجل يقال له عزيز الدين من خدام السلطان سنجر، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها - إلى أن يقول عن إحدى هذه المكاتب: (وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن)، فهذه خزائن في مدينة مرو مكنت ياقوتا من تأليف كتبه، وحسبك بمعجميه الجامعين: معجم البلدان ومعجم الأدباء
ويحدثنا التاريخ أن أبا تمام الشاعر كان ماراً بهمذان في بعض أسفاره؛ فنزل البرد وسدت الطريق فأقام عند بعض معارفه، فجمع ديوان الحماسة من خزانة له
فهذه خزائن العلماء والكبراء من أطراف البلاد الإسلامية، فما الظن بخزائن الخلفاء والملوك في المدن الكبرى؟ لقد كانت خزائن الكتب من سنن الحضارة الإسلامية والعربية، ولا تزال بيوت الخاصة في الأقطار العربية مشتملة على خزائن قيمة. ولا تزال بقية الخطوب من تلك الخزائن تحدث أخبارها. وقد أدركنا في خزائن استامبول مثلاً مما كان في العواصم الإسلامية الأخرى
وكان الناس إذ ذاك لا يجدون الورق ميسراً رخيصاً كما نجده في هذا العصر، وكان كل كتاب ينسخ ويصحح على حدة. فغلت أثمان الكتب، وكانت النسخة من الكتاب تصحح وحدها على مؤلفها أو عالم يوثق به؛ فكان لا بد من الجهد والدأب لضبط نسخ قليلة من كتاب واحد
ولم يكن الأمر كما نرى اليوم تصحح نسخة واحدة للمطبعة فتخرج على غرار آلاف النسخ مصححة رخيصة ميسرة للفقير والغني. ومع هذا نرى الكتب المطبوعة غير مسندة إلى نسخ يوثق بها ونجدها مملوءة بالتحريف والغلط، فأين الهمم من الهمم؟ ومع هذا نرى خزائن الكتب في عصرنا أقل منها في العصور الماضية، أيام لم يكن الورق رخيصاً والمطبعة تنشر آلاف النسخ من كتاب في زمن يسير لا يزيد على زمن كتابة نسخة واحدة منه. فلعل أهل العصر يكفون من غلوائهم، ويقلون من زهوهم وإعجابهم بأنفسهم والزراية على أسلافهم
هذا الإجلال للعلم، والجد في طلبه وتيسير السبل له وتنافس الناس فيه وحرص الكبراء(576/8)
على إنشاء المدارس وخزائن الكتب والإنفاق على دور العلم، كل هذا أشاع العلم في أرجاء البلاد، فشمل وعم، وكانت للمسلمين حضارة كاملة ومعارف شاملة، ومؤلفات سجلت كل ما أدركه العقل وعرفته الصناعة إلى تلك العصور. وكانت الجماعة تفي بحاجاتها من العلم وفاء طبيعياً فيكثر المحصلون في الفن على قدر حاجة الأمة إليهم أو على قدر الرغبة في المعرفة والكمال دون نظر إلى المناصب، فلم يعان الناس إذ ذاك ما يعاني أهل هذا العصر من كثرة المحصلين المبتغين الوظائف وقلة هذه الوظائف
ومن الأدلة على سعة المعارف الإسلامية وشمولها كتب التراجم. كتب المسلمون تراجم شتى بعضها عام كتاريخ ابن خلكان وذيوله وبعضها خاص بطبقة من الناس كتراجم الصحابة أو تراجم المفسرين والمحدثين والفقهاء والحفاظ والرواة والقراء والأدباء والشعراء والنحاة والنسابين والمعبّرين، والأولياء والصوفية وتراجم المتكلمين والفلاسفة والأطباء والمصورين الخ، وكثرت كذلك تواريخ المدن والأقطار ومن خرجت من العلماء كتاريخ بغداد ودمشق والقاهرة. وقد أثبت صاحب كشف الظنون نحو سبعين تاريخاً للمدن. وأكثر تاريخ المدن تاريخ العلماء من أبنائها، وحسبك تاريخ صقلية لابن القطاع الذي ترجم فيه لمائة وثلاثين شاعراً من جزيرة صقلية وحدها، وتاريخ الأندلس الأدبي لابن بسام الذي سماه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة). وهو بحر زاخر بأخبار العلماء والأدباء
وحسبنا دلالة على سعة العلم ووفرة العلماء أن المقزي صاحب نفع الطيب ترجم للسان الدين بن الخطيب، ثم استطرد إلى ذكر شيوخه فملأ مجلدين كبيرين في أخبار الوزير وأساتذته.
وكذلك فعل في كتابه زهر الرياض في أخبار القاضي عياض.
ومطالع التاريخ يستطيع أن يأتي بالمثال بعد المثال، ويقيم الحجة إثر الحجة على ما كان لأسلافنا من سيرة مجيدة، وخطة رشيدة في طلب العلم ورعايته وإكرام العلماء وتشييد المدارس والخزائن، وهي سيرة لم يحدثنا التاريخ بمثلها في الحضارات الماضية، لقد فتحنا للناس أبواباً من النظر، وهديناهم سبلاً في المعرفة والنقد والتثبت. وأخذنا إلى ما عندنا تراث الماضين وأمانة القرون الأولى فما قصرنا في الاختراع والابتداع ولا فرطنا في حفظ الأمانة ورعايتها(576/9)
والمنصفون يعرفون حقنا وإن أنكره الناس فنحن أعرف بأنفسنا وأبصر بتاريخنا. وسنبني على مجدنا التليد مجداً طريفاً وملئ أنفسنا الإعجاب بتاريخنا والثقة بأنفسنا واليقين بمستقبلنا، والإيمان بالله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
عبد الوهاب عزام(576/10)
1 - الأدب الإغريقي
في عصر الإسكندرية
للدكتور محمد مندور
يذكر القراء أن الإسكندرية كانت في زمن ما عاصمة عقلية للعالم أجمع، حتى ليصطلح علماء التاريخ على تسمية القرون الثلاثة السابقة لميلاد المسيح بعصر الإسكندرية. وهو عصر إغريقي بلغته وثقافته. ومع ذلك فمن واجبنا نحن المصريين أن نعني بدراسته لاتصاله الوثيق بتاريخ بلادنا. وما نظن فهمه يستقيم ما لم نلم بملابساته التاريخية لنرى كيف احتلت الإسكندرية هذه المكانة، ونحدد أهميتها بالنسبة للعواصم الأخرى التي عاصرتها، وبخاصة أثينا. وعندئذ سوف نرى خصائص الأدب الإغريقي في ذلك العصر تتحدد بذاتها متميزة عما عداها
ونقطة التحول كانت بلا ريب ظهور ملوك مقدونيا، وبخاصة فيليب وابنه الإسكندر الأكبر في القرن الرابع ق. م. فإلى ذلك الحين كانت بلاد الإغريق عبارة عن مدن مستقلة، تكون كل مدينة وضواحيها دولة قائمة بذاتها. ومع ذلك فقد استطاعت تلك المدن أن تأتي بالمعجزات في المجال الثقافي والمجال العملي على السواء. ونخص بالذكر أثينا التي وإن لم يبلغ قط سكانها هي وضواحيها نصف المليون؛ فقد خلفت من التراث العقلي ما لا يزال يبهرنا حتى اليوم، كما استطاعت أن تتزعم المدن الإغريقية الأخرى لترد جحافل الفرس وتحمي الحرية في بلاد اليونان كافة، ولكنها لم تكد تستوي في الزعامة بفضل انتصاراتها الباهرة حتى أخذها الصلف فنفرت إسبرطة الأبية، وكانت بين المدينتين حروب طاحنة دامت ما ينيف على ربع القرن، وقد اشتركت فيها جميع المدن، وخرجت منها ضعيفة متهافتة. وعندئذ ظهر المقدونيون الذين امتد طموحهم إلى السيطرة على بلاد اليونان، بل على العالم أجمع في وحدة شاملة
ولكن العرين كان لا يزال به أسود وبخاصة أثينا، حيث صمد الزعيم الوطني الشهير (ديموستين) لفيليب وابنه، وقد رفض أن يستسلم على الرغم من ضعف مدينته، وذلك لأنه لم يكن يعرف غير الجهاد مهما تكن احتمالات الفوز أو الهزيمة، وعنده أنه ليس أشرف للرجل من أن يموت وسلاحه بيده(576/11)
ولاشك أن موقعة كيرونيد التي حدثت سنة 338 ق. م. بين فيليب المقدوني وجنده من جهة، وجيوش أثينا وطيبة من جهة أخرى، قد كانت من المواقع الفاصلة في تاريخ الإنسانية؛ فانتصار فيليب على ديموستين هو انتصار عالم على عالم آخر. مضى عالم المدن. . . عالم الحرية، وحل محله عالم الحكم المطلق والروح العالمية. وقتل فيليب سنة 336 ق. م. وخلفه الإسكندر، وكان ما نعرفه من سيطرة هذا القائد العظيم على الشرق والغرب. ومات الإسكندر سنة 324 ق. م. وهو يعد العدة لغزو شمال أفريقية وإسبانيا وبلاد الغال، ليعود إلى وطنه من الغرب بعد أن تركه من الشرق. وكان في اتخاذه من بابل عاصمة لملكه ما يرمز لفكرته في توحيد العالم والجمع بين الشرق والغرب
بعد موت الإسكندر تطاحن قواده على اقتسام إمبراطوريته العظيمة، وكانت عدة معارك وعدة تقسيمات إلى أن حدثت معركة ابسوس سنة 301 ق. م. فكان التقسيم النهائي. وليس يعنينا من تلك المدة المضطربة غير نتائجها النهائية، وقد تمخضت عن ثلاث ممالك كبيرة. مملكة أنتيجونوس بمقدونيا وبلاد اليونان، ومملكة سليكوس بسوريا، ومملكة بطليموس بمصر
أما مملكة أنتيجونس فما زال اليونان يناهضونها العداء وتناهضهم، حتى انتهى الأمر بوقوع بلاد اليونان بيد روما الناشئة؛ فأصبحت مقاطعة رومانية منذ سنة 146 ق. م. وإنه وإن تكن الثقافة الآثينية لم تخب دفعة واحدة، إلا أن مراكز الثقافة الأخرى أخذت تحتل مكانها، ونحن لا نجد بآثينا خلال القرن الرابع غير الفلسفة والكوميديا، وأما ما دون ذلك من مظاهر النشاط الروحي فقد ذوى. فالشعر الغنائي قد جفت ينابيعه حتى لم يعد يقصد لذاته، بل لمصاحب الموسيقى على نحو ما نرى في الأوبراكوميك الحديثة. والشعر الهجائي وشعر الوجدان لم يعودا غير عبث باطل أو سخرية مصطنعة وأما الملاحم فكان عهدها قد انقضى بحيث أنه عندما كتب أنتيماخوس ملحمته عن أساطير طيبة ومغامرات هرقل لم يهز شعره نفساً، لأنه شعر مصنوع علم الشاعر فيه أوضح من روحه، وكذلك الأمر في التراجيديا التي لم يعد لها وجود يذكر
لم يبق إذن بآثينا من فنون الأدب غير الكوميديا، فهي التي ترعرعت في ذلك الزمن، وقد انتهى بها الأمر إلى ما يسمى بالكوميديا الجديدة على يد فيليمون وميناندروس، وهي(576/12)
الكوميديا الأخلاقية: شئ مغاير للكوميديا القديمة، كوميديا أرستوفانس. فهي لم تعد نقداً لنظم الحكم وتيارات التفكير، بل تصويراً لشخصيات عادية يأخذها الشاعر من الحياة اليومية، ولكنها لاتصل إلى كوميديا النماذج البشرية أمثال: ألسست وهرباجون وترتيف لموليير، تلك التي يخلقها كبار المفكرين؛ فيهتدي بها الناس إلى أنفسهم
ومع الكوميديا نجد كما قلنا الفلسفة، فقد نهضت إلى جوار الأكاديميا والليسية مدارس أخرى: مدرسة الرواق، وحديقة أبيقور، ثم مذهب إبزون والمذهب الكلبي، ونحن وإن كنا ننظر عندئذ، فلا نجد مقراً للفلسفة غير آثينا إلا في القليل من نحو ميجارا وبرقة، إلا أننا نلاحظ أن الكثيرين من فلاسفة ذلك العهد قد كانوا غرباء عن آثينا، فزينون من مستعمرة فينيقية بجزيرة قبرص وكليانتوس من مدينة أسوس بآسيا الصغرى، وكريزيبوس ولد بمدينة سوليس بآسيا الصغرى أيضاً. وفلسفتهم وإن تكن إغريقية بما فيها من تحكيم العقل والربط بينه وبين نظام العالم إلا أنها شرقية بروحها الذي يكاد يكون دينياً. ولقد نادت الرواقية بالجبر وقال الإبيقوريون بالمصادفة، وأنكر هؤلاء وجود الروح وأثبتها أولئك وتبلبلت الأفكار، فانتهى الأمر بالشك البيروني وامتدت كل تلك الآراء إلى تعاليم أفلاطون نفسه، فإذا بالأكاديمية تقول بالاحتمالية، وقد انهارت المثل فأنهار بانهيارها عنصر الثبات في المذهب. ومن هنا يتضح كيف أن كل هذه الفلسفات برغم ما في بعضها من نبل كالرواقية لم تكن بلا ريب إلا السبيل الذي قاد إلى الانحلال، وفيها إنكار للإرادة البشرية أو استسلام لأحداث الحياة أو توقف في الحكم، فيها عنصر سلبي خليق بأن يقوض حياة الشعب
ذلك ما كان من أمر آثينا التي لم يعد بها كما رأينا غير الكوميديا والفلسفة، ولكن المملكتين الأخريين قد نشأت بهما مراكز فتية للثقافة، ففي آسيا الصغرى وسوريا نشأت بمملكة السيليكيين مدن كبيرة كبرجاما وأنطاكية، وفي مصر نشأت بمملكة البطالسة الإسكندرية ونيوقراطيس وبتوليماييس وإنه وإن تكن كل تلك المدن قد ازدهرت فيها الحياة المادية والروحية إلا أن واحدة منها لم تبلغ ما بلغته الإسكندرية، ومن هنا يصطلح علماء التاريخ، كما قلنا، على تسمية العصر الذي يقع بين الإسكندر الأكبر وأوغسطس إمبراطور روما باسمها(576/13)
وهو عصر لم يكد يتأثر بالثقافات الشرقية التي عاش بينها بحيث يخيل إلينا أن تيتيوس ليفيوس المؤرخ الروماني الشهير قد أصاب الحقيقة عندما قرر أن المدن اليونانية التي نشأت بالشرق إذ ذاك كانت (كجزر يونانية تضربها من جميع النواحي أمواج بحر من البرابرة)، ولقد كان الإغريق ينظرون إلى شعوب الشرق نظرة الغالب للمغلوب، نظرة السيد للمسود، وكانت شعوب الشرق بدورها تمقت أولئك الغزاة وتصدف عنهم، ولقد وجدنا في دستور نيوقراطيس ما يحرم على الإغريق الزواج من المصريات، وكانت مدن الإغريق في الشرق تعيش على النظام اليوناني، فللكثير منها مجالس تشريعية (إكليزيه وبوليه)، وحكام كحكام المدن الإغريقية الأوربية وإن تكن اختصاصات تلك المجالس وهؤلاء الحكام قد كانت شكلية استشارية أكثر منها فعلية نافذة، وكانت السلطة الحقيقية بيد الملك
لم يصبغ الإغريق إذن بلاد الشرق بصبغتهم ولا لقنوه ثقافتهم في ذلك العصر، بل ظلوا غرباء عنه لا يكادون يؤثرون فيه أو يتأثرون به، وإنما تداخلت الثقافات في العصر الروماني وبعد ظهور المسيحية حيث امتزج التفكير اليوناني بالإيمان الشرقي في الأفلاطونية الحديثة التي هزت الروح الإنسانية كلها في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد
عصر الإسكندرية إذن عصر إغريقي بحت، وهو مجرد اصطلاح تاريخي. فالحديث عن أدب الإسكندرية يتناول كل ما قيل من شعر ونثر في البلاد اليونانية كلها خلال ثلاثة قرون.
والملاحظ على ثقافة ذلك العهد أنها أصبحت ثقافة علمية محصلة أكثر منها أدبية خالقة، كما أصبحت عالمية لا قومية وصناعة لا حياة. ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت الحياة الفكرية من الساحات العمومية (الأجوار!) إلى المكاتب والصالونات، انتقلت من حرارة الحياة إلى برودة الكتب، انتقلت من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الفكر المجرد، نمت الدراسات التاريخية: تاريخ عام وتاريخ الفن والفنانين والكتب والكتاب، تاريخ الفلاسفة والعلماء. لقد أبتدأ العالم يعيش على ماضيه، ويجد في ذلك الماضي خيراً من حاضره. ونمت الدراسات العلمية:
رياضة وطبيعة وطب وتاريخ طبيعي وجغرافيا ونحو وفقه لغة وموسيقى وكل هذه(576/14)
الدراسات مع ذلك لم تكن أصيلة. كانت جمعاً لا فلسفة فيه ولا نقد إلا بمقدار. لقد امتاز هذا العصر بثقافة موحدة سمحت حتى لذوي النفوس التافهة بأن يصبحوا أدباء وشعراء وبذلك امحت الفروق الشخصية ولم يعد للأسلوب الفردي غير وجود محدود
في هذا الوسط العلمي نشأ أدب الإسكندرية، فكان نصف قائليه من العلماء. ولفهم البون الشاسع بين هذا الأدب والأدب الإغريقي القديم لا بد من أن ننظر في نشأة الفنون الأدبية المختلفة نظرة عاجلة
نشأت فنون الأدب القديمة نشأة شعبية، فالقصص والغناء وإن كانا قد ظهرا معاً ملازمين فيما يبدو لنشأة الإنسانية، إلا أن القصص الأدبي قد سبق الغناء؛ فأعمال البطولة الماضية أفعل في خيال الرجل الفطري من الحاضر والقصص خليق بأن تستجيب له نفوس رجال يعيشون في نظام ملكي، حيث للملك هيبة وجلال يحملان أفراد الشعب على الإعجاب بالأبطال السابقين. وكانت الشعوب في جملتها زرعاً وبحارة وعمالاً لا يجدون في عملهم اليومي غير حرارته التي تشغلهم حيناً، ثم ينقضي العمل غير مخلف ما يشغل النفس، أو يهز الخيال.
ولهذا صادفت ملاحم هوميروس ظمأ في النفوس حتى كان القرن الثامن ق. م. وقد انهارت الملكليات وحلت محلها نظم أرسطوقراطية أو ديمقراطية لا يتخللها الاستبداد الفردي إلا من حين إلى حين، وتقهقرت الحياة الجماعية القبلية وأخذت الشخصية البشرية تظهر وسط المجموع، وأصبح الحاضر يشغل الناس ويتعلقون به ناظرين فيما يحمل من مسرات وآلام، فظهر الشعر الغنائي بما يحمل من عنصر شخصي ومن أصداء الحاضر.
وسارت الحياة وقد أصبح الإغريقي لا يقنع بالقصص أو الغناء بل يود لو تُصوَّر حياته وحياة آلهته ليراها بعيني رأسه ويشهد أحداثها بما فيها من معان فنشأ الشعر التمثيلي في القرن الخامس
وكانت نشأة تلك الفنون موزعة بين الشعوب الإغريقية، فالقصص نشأ في إيوليا بآسيا الصغرى حتى ليكاد ينحصر الخلاف الجدي عن مولد هوميروس بين جزيرة كيوس ومدينة أزمير، ومن إيوليا أنتشر في إيونيا لينتهي أخيراً إلى أتيكا بأوروبا حيث دون بأمر بيزيستراتس مستبد آثينا في القرن السادس قبل الميلاد. وأما الشعر الغنائي فقد ظهر(576/15)
موزعاً حسب أنواعه. فالأغاني الشخصية: أغاني الشراب والغرام ولدت وازدهرت بلزبوس الإيولية. جزيرة (ألسية) و (سافو) تلك التي قالوا إن رأس أورفيوس قد أرست بها فأوت إلى أحد خلجانها. وشعر الجوقات، شعر الجماعات، شعر النصر والمواكب قد نشأ بين الشعوب الدورية الخشنة المحمولة على الجهاد النازعة إلى الحياة القبلية والنظم الأرستقراطية: ففي طيبة ولد بنداروس وباللهجة الدورية كتب أناشيد النصر التي لدينا. والشعر الهجائي وشعر الوجدان ذهبت بهما القبائل الأيونية، وأما الشعر التمثيلي ففن آثيني في جوهره
ولقد كان لنشأة تلك الفنون بين هذه الشعوب ما يبررها، فالجنس الإيولي جنس مرهف الإحساس فنان المزاج مقبل على الحياة متأثر بأحداثها، والجنس الدوري كما قلنا جنس خشن مولع بالمعارك والانتصارات والإيونيون قوم أغنياء بمالهم وبحياتهم العقلية، والسخرية والوجدان خصائص تلازم حساسية العقل ولين الحياة. وأما الآثينيون فأهل نشاط عملي وإقدام على المغامرات ولا شك أن في المسرح ما يرضي تلك النزعات
هكذا نشأت فنون الأدب، شعبية إقليمية. ومع ذلك لم تلبث أن أصبحت إغريقية عامة، فتكونت لغة قصصية مزيج من الإيولي والإيوني والأتيكي ولغة إيولية للأغاني الشخصية ولغة دورية لشعر الجوقات ثم اللغة الأتيكية للمسرح. وبلغ من ثبات تلك اللغات الأدبية وتخصصها أن رأينا شعراء آثينا مثلاً يكتبون باللغة الدورية الأجزاء الغنائية من مسرحياتهم
تكونت إذن لغات أدبية مصطنعة , ولكن ذلك لم ينل من قوة الأدب الذي ظل متصلاً بالحياة حتى جاء عصر الإسكندرية، وقد اختلطت في المدن الجديدة الأجناس وانهار استقلال المدن القديمة وجفت الحياة العامة فنضبت ينابيع الأدب الذي لم يعد يتجه إلى الشعوب بل إلى نخبة من المثقفين. لم يعد خلقاً تلقائياً بل صناعة أو تزجية فراغ. لقد حلت فيه المهارة محل العبقرية، حل العلم محل نبض الحياة، حل الظرف والكياسة محل وثبات القلب وتأجيج القرائح
لقد نشأ أدب الإسكندرية بعيداً عن الشعب، بعيداً عن الحياة، فجاء الكثير منه أدباً متكلفاً قليل الحظ من الصدق(576/16)
أدب الإسكندرية كنبات في بيوت من زجاج. ومع ذلك لم يذو النبات كله كما سنرى في المقال الآتي.
محمد مندور(576/17)
مشروع محو الأمية أيضاً
وجوب عقد مؤتمر أو مجلس أعلى
من كبار رجال التربية للنظر في المشروع
للأستاذ دريني خشبة
تمنينا في كلمتنا السابقة أن يوفق الله وزارة الشئون الاجتماعية إلى النجاح في هذا المشروع العظيم الذي اضطلعت به، والذي يجب أن ننظر إليه باعتباره الأساس القويم الذي يجب أن تنهض عليه جميع مشروعاتنا، لتنهض على هدى وعلى نور مبين
ومشروع مكافحة الأمية أو محوها ليس من السهولة واليسر بحيث يقف عند حدود تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحسابة، وقليل من مبادئ الدين وتدبير الصحة. . . فهذا القسط من التعلم قسط زهيد لا يكافح الأمية ولا يمحوها. . . إن لم يضاعفها ويزيد طينها بلة. . .
لقد همت الأمة بمثل هذا المشروع من قبل، حينما فكرت في تعميم التعليم الإلزامي، وذلك منذ نحو من عشرين سنة. . .
فماذا كانت النتيجة؟! هذا هو الضوء الذي يجب أن نسير على هداه. . . ونحن على يقين من أن وزارة الشئون الاجتماعية سوف لا تتردى في مهاوي الفشل الذي تردت فيه وزارة المعارف في عهودها السابقة، والتي أضاعت فيه على الأمة جيلاً من طفولة أبنائها ومن صباهم ومن شبابهم. . . دون أن يتعلموا شيئاً. . .
كما أضاعت نحواً من خمسين مليوناً من الجنيهات لو أن نصفها أو ربعها أنفق على هدى وبصيرة، وفي ضوء تجارب الأمم الأخرى، بل في ضوء التجارب التي أجراها في مصر محمد علي الكبير، الحاكم الأمي العظيم، لسهلت على وزارة الشئون الاجتماعية اليوم أعباء القيام بما تبقى من هذه المهمة الشريفة الهائلة
لنذكر دائماً أننا أمام مشكلة من أشد مشكلاتنا تعقيداً. . .
لنذكر أن وزارة الشئون أخذت على عاتقها مهمة انتشال اثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون من إخواننا المصريين، من براثن الأمية الذميمة. . . من ظلمات الجهالة المهلكة. . .(576/18)
فكيف يا ترى تنهض بهذا المشروع الضخم؟ وبمن من هؤلاء الإثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون تبدأ؟ أتبدأ بالأطفال وأمرهم موكول إلى وزارة المعارف، أم بالغلمان وأمرهم موكول إلى سياسة التعليم العام الذي شرعت وزارة المعارف تُعدَّ له برنامجاً ذهبياً؟ أم بالشباب والشيوخ، ومشكلة تعليمهم ليست هنةً من الهنات، بل هي مشكلة المشكلات! وهل يكون للمرأة - أو الفتاة - نصيب من مشروع وزارة الشئون، بوصفها تشغل من الأمية نسبة أعلى مما يشغله الذكور؟ وإذا استقر الأمر بوزارة الشئون على أن يشمل مشروعها الذكور والإناث على السواء، فما هي الوسيلة - أو الوسائل - التي سوف تروض بها تلك الكتلة الهائلة العجيبة من الأميات المصريات البائسات، وتروضهن بها على قبول الفكرة أولا، فكرة محو الأمية، ووجب إقبالهن على تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحسابة وما هو وراء الكتابة والقراءة والحسابة من محتوم الثقافات؟ أم تفضل وزارة الشئون أن تبدأ بتعليم الذكور، فإذا فرغت من شأنهم شرعت في حربها ضد أمية النساء؟ ومتى تفرغ من إبادة الأمية بين الذكور لتبدأ إبادة الأمية بين النساء يا ترى؟ وهل من الخير لمصر والمصريين أن يهملوا إبادة الأمية بين النساء حتى يفرغوا من أمر الذكور؟ وأيهما خير: البدء بمكافحة الأمية بين النساء، أم البدء بمكافحتها بين الذكور؟ وإذا نهضنا بالحرب ضد الأمية في الميدانين في وقت معاً، فكيف نبدأ في حدود الوسائل التي تيسرها لنا ظروفنا الحاضرة، ومواردنا المالية؟
هذه بعض مشكلات البدء في مكافحة الأمية
وثمة مشكلات لا تقل خطورة عن تلك التي ذكرنا، تتعلق بالهيئة التي سوف تتولى الإشراف على هذا المشروع الشريف الضخم. . . هل يشترك في ذلك نفس الرجال الذين اضطلعوا بمشروع التعليم الإلزامي ففشلوا فيه فشلاً ذريعاً تاماً كما عبر وزير المعارف الحالي؟ وهل حقاً كان هؤلاء الرجال الأفاضل سبب الفشل في هذا المشروع. لا يشاركهم في ذلك أحد ممن يتولون في مختلف الظروف سياسة التعليم في مصر؟ ثم ما هي الوسيلة، أو الوسائل، التي تتقي بها وزارة الشئون تكرر المأساة التي وقعت لسوء الحظ من قبل؟
وثمة مشكلات أجل خطورة من كل ما ذكرنا. . . تتعلق باختيار المعلم - أو المعلمين - الذين سوف نعبئهم للنهوض بهذا المشروع. . . ومما لا ريب فيه أن المعلم الإلزامي سوف(576/19)
ينهض بأثقل الأعباء في تلك الحرب، يعاونه سائر المعلمين في سائر فروع التعليم؛ فهل هؤلاء المعلمون جميعاً صالحون لأن توكل إليهم تلك المهمة النبيلة السامية؟ والمعلم الإلزامي بنوع خاص ما خطبه؟! لقد عبنا عليه قلة العلم وقلة الثقافة، بل منا من اتهمه هو نفسه بالأمية الشنيعة في أفكاره وفي معلوماته، بالرغم من وجود عدد لا يستهان به من المعلمين الإلزاميين المثقفين ثقافة ممتازة استطاعوا أن يلمسوا هذا العيب في أنفسهم، فعالجوه بالإكباب على القراءة وحسن الدرس واقتناء الكتب، حتى أصبح منهم الكتاب والشعراء والمفكرون. فماذا صنعت الدولة لإصلاح حال هذا المعلم البائس؟ لقد تناول المستشار الفني لوزارة المعارف حياة هذا المعلم المصري الكريم في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) في أكثر من فصل من فصوله. فصوره لنا في صورة مؤلمة. . . وطلب له من الدولة العناية اللائقة به في حالتيه الأدبية والمادية؛ فماذا حققت الدولة إلى اليوم من رجاء المستشار يا ترى؟ نعترف أنها أوشكت أن تفرغ من إنصافه مادياً، ولكن متى تنصفه أدبياً؛ فتكمل هذا النقص العلمي والثقافي الذي أخذه عليه المستشار في كتابه، بالطريقة التي يراها الفنيون، والتي من أجلها وأكثرها نفعاً تلك الدراسات الصيفية التي أخذت بها مراقبة التعليم الحر لتكميل النقص الذي لمسته في ثقافات الكثيرين من مدرسيها. لقد استكثر المستشار الفني على هذا المعلم أن يضطلع بحالته تلك بمهمة تعليم الأطفال في المدارس الإلزامية. فكيف نترك العبء الأكبر من مكافحة الأمية بين الكبار يقع على كاهله وهو لا يزال في الحالة التي عهده المستشار عليها منذ ست سنوات. أي عندما فرغ من تأليف كتابه
إن المعلم الصالح سيكون المثل الأعلى الذي تقيمه الدولة بين الأميين، يعلمهم ويهذبهم ويهديهم إلى الرشد. ويقيم عليهم من شخصيته سلطاناً أدبياً جديراً بالمحبة والاحترام. . . فأي بلاء يصيب أمانينا إذا كان هذا المعلم أحوج من الأميين إلى من يكافح فيه أميته الكامنة، التي تزيدها قشور المعلومات الفجة سوءاً على سوء؟؟
أما مشكلة البرنامج، فبالرغم مما يبدو من سهولتها ويسرها وبالرغم من أن مجرد التفكير فيها يثير الضحك، فهي لا تقل تعقيداً عن سابقاتها. . . إن الذين يظنون مشكلة البرنامج سهلة ميسرة، يحصرون تصورهم في مكافحة الأمية في ذلك الميدان - أو النطاق - الضيق المحدود. . . نطاق القراءة والكتابة والحسابة. ولو فكروا في ألوان الأميات التي(576/20)
ينبغي مكافحتها، لاعترفوا بتعقد هذه المشكلة وتشعبها. وقد أشرنا إلى ألوان من الأميات الزراعية والصناعية والصحية في كلمتنا السابقة، والذي نريد أن نخصه بالذكر هنا، هو المدة التي تكفي لمحو عار الأمية عن الرجل العادي أو المرأة العادية، ثم القدر اللائق من التعليم والثقافة الذي يكفل محو هذا العار، ثم الوسيلة التي نتقي بها انصراف من علمناهم من الأميين عن القراءة والكتابة والإطلاع حتى لا يعودوا أميين كما بدأوا. . . ونكون قد انتهينا إلى ما انتهى إليه أمر التعليم الإلزامي من فشل ذريع، ساحق ماحق، لسوء الوسائل التي اتخذناها، وللأرض البور التي بعثرنا فيها بذورنا، ولقصر نظرنا الذي حصرناه في ذاك النطاق الضيق المحدود. . . نطاق القراءة والكتابة والحسابة، الذي ربما ظننا أننا نفرغ منه في أشهر أو في عام أو عامين
ماذا نُدرس إذن لهؤلاء الأميين؟ ماذا نعلمهم حتى يصبحوا مواطنين صالحين ذوي كرامة، صحاح الأجسام لا تخترمهم العلل، صحاح الإفهام لا تجوز عليهم الترهات، صحاح الأيدي لا يقترفون سوءاً، صحاح النظر يستحقون أن ينعموا بنعمة الديمقراطية؟!
وكم من الزمن يكفي يا ترى لضمان بلوغ الأمي الواحد هذه المرتبة؟ وكم من السنين تكفي لمحو الأمية من مصر؟
وهل يكون البرنامج واحداً في فترة المكافحة كلها؟ أم عساه يختلف في السنة الثانية عن السنة الأولى، وفي السنة الثالثة عن الثانية. . . وهكذا!. . . وماذا أعددنا من الكتب والأدوات لهذه الحرب الطاحنة؟! وماذا أعددنا من المكتبات المتنقلة وأشرطة السينما التهذيبية والثقافية، والمصابيح السحرية، والفرق التمثيلية وغير ذلك من المشوقات التي لا غناء عنها؟!
كل هذه مشكلات يجب أن ينعقد مؤتمر أو مجلس أعلى يضم النخبة المختارة من كبار رجال التربية في مصر لدراستها ووضع خطة السير لكل منها
يجب أن نسير على هدى أخطائنا الماضية، والله ندعو أن يوفق خطانا
دريني خشبة(576/21)
بمناسبة انتهاء العام الدراسي
عهد التلمذة
للأستاذ راشد رستم
أول العهود وأميزها
وأمتن الروابط وأدومها
تدور الدنيا وتدور، وتذهب الأيام ولا تعود، وتتفرق الجماعات ولا تدوم، وهذا الحرم المدرسي المعنوي قائم لا يحول ولا يزول
واسع الرحبات، فسيح الجنبات، يستقبل الأجيال بعد الأجيال، في رضا ومهابة وسلام
هؤلاء الذين نراهم فيه اليوم رأي العين، هم أولئك الذين كنا نراهم فيه، أيام كنا فيه بالأمس، رأي الغيب - وهكذا حلقة إثر حلقة وجيلاً بعد جيل
هاهم أولاء يلعبون كما كنا نلعب، ويدرسون كما كنا ندرس - أبناء لآباء ثم آباء لأبناء، والكل عند المحراب سواء
ساحة دائمة البقاء، تتلاقى فيها ما لا يتلاقى إلا فيها من حلاوة الدهر، وبراءة السن، وبداوة العمر
ساحة تتجلى فيها حياة الفكر والروح، وتلعب فيها حكمة الشعوب لعبتها الكبرى في صقل العقول وتكييف الميول
هنالك تشهد الإنسانية أبناءها الصغار بين أيدي أبنائها الكبار، فترجو أن ترى في هؤلاء الصغار أسمى معانيها الكبار
في البيت تتجلى مسؤولية الفرد، وهنا تتجلى مسؤولية الجماعات
إن مراكز الجماعات من نواد وجمعيات وثكنات وما يخرج عنها للسلام وللعراك، من حروب ورحلات واجتماعيات، هي لا شك في حياة الشعوب والأمم روابط وعهود وذكريات، يختلط فيها الدم بالدم، واللحم باللحم، والفكر بالفكر. ولكن يشهد الله أن عهد المدرسة هو عهد الجميع، وهو فوق جميع العهود، بل هو قبل جميع العهود، هو عهد الصداقة والأخوة والصفاء
هو الحقل الذي توضع فيه البذرة الأولى لشجرة الأخوة الأولى، تنمو وتنمو، فتنمو معها(576/22)
الفروع والأغصان والأوراق والظلال. . .
إن نظام المدرسة اليومي، رغم تكراره اليومي، لا يدعوا إلى السأم ولا إلى الملل - ذلك أنه نماء متدفق وتجديد مستمر، مرحلة بعد مرحلة وعاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم
هذا التكرار اليومي لهذا العهد المدرسي لا يحيله جموداً، بل هو يزيد في معناه ثبوتاً ورسوخاً وخلوداً، ويرتفع به إلى طبقات ليس فيها غير صفاء النفس، ودوام الربط، وسعادة الذكر. . .
بل إن هذا التكرار المتنوع المستمر يصهر النفوس الناشئة صهراً هيناً ليناً شديداً قوياً يجعلها صالحة للعمل صالحة للبقاء
وهو العهد الذي يشعر فيه الإنسان مهما كان صغيراً، أنه قوة، وأنه ينمو، وأنه سيصير قوة أخرى
حركة دائمة، وتنافس محبوب، وآمال متتابعة، وحياة لها كل المستقبل ولا تنسى أبداً
هي الوحدة الموسيقية التي تضبط خطى الجيل، والتي تربط بين أفراده وهم يسيرون في الحياة لخدمة الأوطان. هنالك تتجلى عظمة هذه الموسيقى إذا ارتفعت بالنفوس إلى مراتب التضحية وخدمة المجموع
نعم ما أحلاه عهداً، وما أحبه إلى النفوس عوْداً، فكلما تقدم المرء في السن كلما عرف قدره، وعاد به الحنين إلى تلك السنين
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فحنوا لذالكا
يود المرء أن يرجع إلى هذا العهد الذي أقام له بينه وبين إخوانه زمالة هي زمالة الدهر، والتي هي أسمى من قرابة اللحم والدم، ورب صداقة خير ألف مرة من قرابة، وإذا لم يكن القريب صديقاً فهو والغريب سّواء بل أشد غرابة
وهل أشق على التلميذ من فراق الإخوان، وهل أحب إليه من العودة بعد الإجازات لرؤية الإخوان!
قد تمر الفترات يكره فيها البعض مدرسته، يرجو هدمها ويتمنى حرقها!! ولكنه لا يدري أنه يحبها. . . ويحب العودة إليها، يلعب كما كان يلعب، ويعيش كما كان يعيش، لا يحمل العبء الذي يحمل، لا هرباً منه، إذ ليس منه مفر، وإنما حباً وحنيناً إلى تلك التي كان يظن(576/23)
أنه لا يهواها، وما هو إلا العاشق الولهان، غيور. . . يثور ويثور. ثم يثوب ويثوب، يعيده حبه وغرامه إلى حبيبه ومحبوبه
أليست هي ألطف العهود وأقساها، وأنها في الحالين ما أحلاها. . . بل إن شدتها التي كان المرء - وهو صغير - يخشاها، ما هي إلا تلك الراحة التي - وهو كبير - دومْا يتمناها؟ وإن راحتها التي كان يظنها خيالاً، ما هي إلا الحقيقة التي يود لو أنه استطاع فاستبقاها؟!
لَعبٌ مع تلقين، وجهد في تهوين، وشدة في لين، وشك إلى يقين، وحياة في تكوين، ونمو في تمكين - ذكرى وحنين، وعهد لن يمين
من عنده لي عهد لا يضيَّعه ... كما له عهد صدق لا أضيَّعه
راشد رستم(576/24)
على هامش النقد
الشعر العربي والشعر العالمي
في عرائس وشياطين
للأستاذ سيد قطب
في كلمتي الماضية عن هذا الموضوع قلت: (بمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال. وفي الحالات النفسية والملامح الإنسانية. وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين) وضربت لذلك مثلاً قطعة: (إلى السوق أول مرة) للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان)
فاليوم أضرب أمثلة أخرى تشرح هذه الفوارق وتوضحها.
في المجموعة قطعتان متقاربتا الموضوع، فاستعراضهما معاً قد يكون أقرب إلى توضيح الفروق
فأما القطعة الأولى، فهي لابن زهر الأندلسي بعنوان:
(في المرآة)
إني نظرت إلى المرآة أسألها ... فأنكرت مقلتاي كل مارأتا
رأيت فيها شيخاً لست أعرفه ... وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل من هذا المكان متى؟
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك، وهذا بعد ذاك أتى
وهي أبيات جيدة في موضوعها، ولفتة لها قيمتها، ووقفة بين صورتين من صور الحياة أجمل ما فيها أن إحدى الصورتين تنكر الأخرى وهي تكملتها. وذلك أقصى ما نستطيع أن نسنده إليها من المزايا مع الاعتراف بأننا نضيف إليها من أنفسنا بعض ما قد تقصر عنه ألفاظها!
ولكنها - مع هذا - وقفت عند الحس لا تتعداه إلى أغوار النفس. فهذا شاعر لا يدرك الفرق بين الفتى الذي كانه والشيخ الذي صاره، إلا حين يقف على المرآة، فيرى تغير(576/25)
الملامح وتنكر السمات - وهذه أمور مردها إلى الحس - فإذا علم بهذا الانقلاب الظاهري لم يتجاوزه إلى التفتيش في أحناء النفس عما هنالك من انقلابات. ولم تثر في نفسه أشتات الذكر، وألوان الخواطر التي تعتلج في نفس (الإنسان)، وترد على الخاطر ولو لم ينظر في المرآة!
ولا أحب أن أنكر جمال اللهفة في قوله: (متى ترحل من هذا المكان متى؟) فإنه نبضة (إنسانية) لها قيمتها، ولكنها نبضة واحدة، تكاد تلتقي بومضات الذهن، ولفتات الفكر للصور المتناقضة، وأياً ما كانت فهي تنبض مرة واحدة، ثم تجمد بلا حراك
على مقربة من هذه القطعة في الكتاب قطعة أخرى للشاعرة الإنجليزية (أليس مينل) تحت عنوان: (خطاب فتاة إلى العجوز التي ستكونها بعد سنين) وهي مقطوعة طويلة، ولكنا سننقلها كاملة لأن الاجتزاء ببعض منها دون بعض لا يجدي.
فهنا (إنسانة) تطل بشطر منها على شطر، وتنظر بعين الفتاة الناضرة العابثة إلى العجوز المستكينة الفانية، فلا تستطيع أن تتماسك أمام الصورة التي تستحضرها بعين الخيال، فترثي لنفسها بنفسها. وتشتبك الأحاسيس والمشاعر، وتظل رائحة جائية بين المستقبل الأعجف المظلم والحاضر المنضر المنير وتعرض أمام خاطرها شريطاً حافلاً بالخواطر والأحاسيس. وهي بين ذلك كله (الإنسانة) و (المرأة) في مخلوقة واحدة، وهذه هي المقطوعة:
اسمعي! أيتها المرأة التي أبلتها السنون
إذا طويت يدك الناحلة على هذا القرطاس
فاذكري تلك التي باركته بلمساتها وقبلاتها
أناديك: يا أماه؛ فإن أثقال السنين كسرتك
بل أناديك: يا بنتاه؛ فإن ذكرى الزمن أيقظتك
ومن أطوار قلبي. يخلق الزمن كل ما فيك
آه أيتها السائمة المكدودة. إن الصبيحة في السماء لشمطاء
أفلا تذكرين السحب كيف تساق؟
أترينها كانت تهدأ عند المغيب؟(576/26)
تمهلي هنيئة في ختام مطافك الطويل
فإن في هذه الساعة الموحشة
لألفة لساعة التدبر والتذكار
يؤلمك أيتها الصامتة الخافقة تذكيري وإياك
بتلك الهضاب - هضاب الشباب - التي عصفت عليها السماء
وتلك الأعاصير الأوابد من القوة والعافية، التي خلفتها وراءك
اعلمي أن البطحاء الموحشة التي تدرجين فيها الآن
إنما هي دنيا مساء صموت
وتأملي في تلك القمم المغشاة. إنها تسفر عن صباح
اسمعي. . . هاتيك رياح الجبل تهب بالغيوث
وهاتيك القمم على حين غرة تتألق بالشعاع
حاشاى أن أدعك تذهبين - ناسية - إلى الموت
ليتني أعلم أي جانب من قلبي هذا المضطرم سيتبعك
إلى حيث الرياح لا تعصف ولا تتهزْم
وحيث أزهار الجبال الصبية لا تعيش ولا تجود
ولكن دعي خطابي وفيه ما فيه من خواطرك المفقودة
ينبئك كيف كانت الطريق في بداية الطريق
ويصحبك إلى الغاية، حين إلى الغاية تنتهين
آه. رب ساعة من ساعاتك تقودك فيها خواطري
فما تشعرين إلا والرياح من وطنك القديم تحوم حواليك
وإن أخفاك عنها الزمن والظلام والسكوت
تقول لك: كم جاشت بالفتاة هذه الذكريات
وكم رانت على الصباح ظلمات هذه الظلال
وكم خّيم عليها هذا الحزن الذي تفارقينه بقلب حزين
وبعد. فمالي أقفوك بخواطري هذه ليت شعري؟(576/27)
إن الحياة تتبدل، وإنك مع الأيام تتبدلين
فيأيتها الطبيعة التي لا تتبدل. ليتك تردين إليها فؤادي الضلَّيل
ستعود إلينا نسماتها بقبلاتها
وستسري إلينا في المساء كأنها قبلة قي الصباح
وسينفث الصيف نعمته التي لا يغيرها الزمان
ونحن وقد تبدلت لنا لمحة بعد لمحة، ونسمات بعد نسمات
تتعقب إحدانا الأخرى في شتى المسارب والدروب
علىِ نفحات الطفولة الخالدة التي تتأرج بها الرياحين أطفال الخلود
وما أكتب إليك هذا الخطاب المستطلع الناظر إلى الغيوب
لأموهّ لك الذيول بإكليل من المجد والفخار
وأحف هذا الذّواء بشارات النصر والنجاح
كلا! إنما هو شباب واحد وينطوي من الحياة الضياء
إنما هو صباح واحد ويُغشى النهارَ السحابُ
إنما هي شيخوخة واحدة تتلاقى فيها الأشجان والهموم، جموعاً وراء جموع
صه يا لساني، إن كلماتي أسالت عبرات عينيك
صه صه. فما أغزر ينبوع الدموع
يا للجفون البائسات. ما أسرع ما تبكي وهي قريبة إلى الرقاد!
عذراً للفتاة! لقد وسوست لها نزوة من غرائب نزوات الشباب
أيتها المرأة البائسة! ألق من يدك هذا الخطاب
إنه حطم قلبك فانسي أنني كتبته إليك
إن التي كانت تنظر منك إلى ذلك المحيّا
هي الآن تلمس براحة البنوة شعرك المشتعل
وتبارك هذا الشفق الحزين بدموع الصباح
هذه هي المسارب النفسية التي سارت فيها خطرات تلك الفتاة، وتلك هي المسالك والدروب المتعرجة الطويلة. وهي (إنسانة وامرأة) حين تحس بخطوات الزمن هذا الإحساس، وحين(576/28)
تزج بخيالها إلى المرهوب من شيخوختها - وهي في حمى منها بفورة الشباب الحاضر - ومع ذلك تفزع وتضطرب فتلجأ إلى خيال الذكريات التي ستعتادها في الشيخوخة المرتقبة ذكريات الشباب التي (ستسري إلينا في المساء كأنها قبلة الصباح) فإذا هدأ روعها وتماسكت عادت تواجه (العجوز التي ستكونها) بالحقيقة الأليمة (إنما هو شباب واحد ونطوي من الحياة الضياء). شباب واحد والمرأة أحس ما تكون بوحدانية هذا الشباب!
وإننا لنمضي في تتبع هذه الخطرات النفسية في نفس هذه (الإنسانة) فلا نبلغ مداها , بأيسر ولا أوضح مما بلغته بألفاظها، فلا ضرورة إذن للشرح والبيان
هنا فيض إنساني من الخوالج والخواطر والأحاسيس، قلما تعثر فيها على (معنى) بارز، أو فكرة مبلورة، أو حكمة سائرة. ولكنك لا تخطئ فيها وجه الإنسان وانفعالاته وخطراته، تتماوج وتتداخل، وتضطرب وتختلج وتسمع فيها حركة الحياة وتلمح فيها ظلالها من وراء الألفاظ والتعبيرات
ذلك شعر. وشعر كله. وشعر يحسن أن نتأثره لا مقلدين ولكن مستفيدين. ففي نفوس الكثيرين من ينابيع طليقة، تحبسها الطرائق التقليدية للشعر العربي في التعبير. وإن كانت المسألة في صميمها أكبر من الألفاظ وأوسع من التعبير.
سيد قطب(576/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد استعاف النشاشيبي
579 - نشبهها في ذنبها وقرونها
قال القاضي أحمد بن خلكان: كان أبو البقاء يعيش ابن علي بن يعيش حسن التفهم، طويل الروح على المبتدئ والمنتهي. وقد حضرت يوماً حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه (اللمع) لأبن جني فقرأ بيت ذي الرمة بباب النداء
أيا ظبية الوعاء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم؟
فقال الشيخ موفق الدين: إن هذا الشاعر لعظم وجده بهذه المحبوبة وكثرة مشابهتها للغزال - كما جرت عادة الشعراء في تشبيهم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها - اشتبه عليه الحال فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: آأنت أم أم سالم وأطال الشيخ القول في ذلك بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن وذلك الفقيه منصت حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله الشيخ، فلما فرغ من قوله قال له الفقيه:
يا مولانا، إيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال له الشيخ موفق الدين قول منبسط: تشبهها في ذنبها وقرونها فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه وما عدت رأيته حضر مجلسه
580 - فسكت وسكتنا
في (الأغاني): أقبل عيينية بن حصن إلى محلة بني زبيد في (الكوفة) فسأل عن محلة عمرو بن معد يكرب؛ فأرشد إليها، فوقف ببابه ونادى: أي أبا ثور، أخرج إلينا، فخرج إليه وقال: أنزل، فإن عندي كبشاً، فنزل فعمد إلى الكبش فذبحه، ثم ألقاه في قدر وطبخه حتى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها، وأكفأ القدر عليها فقعدا فأكلا. ثم قال له: أي الشراب أحب إليك اللبن أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟
قال: أو ليس قد حرمها الله علينا في الإسلام؟ قال: أنت أكبر سناً أم أنا؟ قال: أنت. قال: فأنت أقدم إسلاماً أم أنا؟ قال أنت. قال: فإني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فوالله ما وجدت لها تحريماً إلا أنه قال: (فهل أنتم منتهون) فقلنا: لا فسكت وسكتنا، فقال له: أنت(576/30)
أكبر سناً وأقدم إسلاماً فجاءا فجلسا يتناشدان ويشربان ويذكران أيام الجاهلية حتى أمسيا، ثم انصرف عيينية وهو يقول:
جزيت أبا ثور جزاء كرامة ... فنعم الفتى المزدار والمتضيف
قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ... تحية علم لم تكن قط تعرف
وقلت: حلال أن تدير مدامة ... كلون انعقاق البرق والليل مسدف
وقدمت فيها حجة عربية ... ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف
وأنت لنا (ولله ذي العرش) قدوة ... إذا صدنا عن شربها المتكلف
يقول أبو ثور: أحل حرامها ... وقول أبي ثور أسد وأعرف
518 - ضعف الإسناد. . .
في (خاص الخاص) للثعالبي: كان أبو محمد السرجي من ظرفاء الفقهاء والمحدثين ببغداد، فركب يوماً في سفينة مع نصراني، فلما بسط سفرته، سأل السرجي مساعدته ففعل، ولما فرغا أحضر شرابَه فحكى لونُه عينَ الديك وريحُه فأرة المسك، وأراد السرجي أن يجد رخصة فقال: ما هذه؟ وتوهم النصراني مراده، فقال: خمر، اشتراها غلامي من يهودي
فقال: نحن أصحاب الحديث نكذّب سفيان بن عُيَيْنة ويزيد بن هرون أفنصدّق نصرانياً عن غلامه عن يهودي؟ والله ما أشربها إلا لضعف الإسناد. ومدّ يده إلى الكأس وشربها(576/31)
سجعة الكروان. . .
للدكتور عزيز فهمي
هاتف في السَّحرْ ... بارعٌ مُقتدِرْ
صادحٌ مُطنِبٌ ... ساجع مُختِصرْ
مطربٌ هزّني ... لحنُه المبتكَرْ
لم يزل هاتفاً ... في ليالي القمر
عاده وجْدُه ... ودعتني الذَّكَر
فاحتسبْتُ الهوى ... والصبا المحتَضِر
ودعوت المنى ... والشباب النَّضِر
بين همس الرُّبى ... وخريرِ النَّهَرَْ
ودبيب المُنى ... وحفيفِ الشجرْ
وهبوب الصَّبا ... واعتراض الدُّبُرْ
طاب لي مجلسي ... وحلا لي السهرْ
جَنَّةٌ عندَها ... يعذبُ المُستقرْ
دوحهُا حافِلٌ ... بِشَهِيّ الثَّمَرْ
روضها عابقٌ ... وَرْدُهُ والزَّهَرْ
ماءها سَلْسَلٌ ... وِرْدُهُ والصَّدَرْ
جنّةٌ حفّها ... نخلها المُشْتجِرْ
بينما يستوى ... قائماً ينأطِرْ
ليلةٌ في الزمن ... لم يشبها كدر
ليلةٌ فَذّةٌ ... من هِبات العُمُرْ
فَتزَوَّدْ بها ... لِلَيال أُخَرْ
يا غلام اسقنا ... هاتِها وابتَدِرْ
هاتها مُرةَّ ... حُلْوَةَ المختَبَرْ
في كؤوس ذهب ... وأوانٍ حُمُرْ(576/32)
هاتها رَطبةً ... في دمى تَسْتعرْ
هاتها وابتدر ... لم أعُدْ اصطَبِرْ
هاكَها هاكَها ... يا نديمي اعتبر
عانسٌ زانها ... ثوبها والخَفَرْ
من عقيق العنْب ... دَمُها المُنهْمَرِْ
فتنةٌ للنظرْ ... من رآها سكرْ
وزرها هَيّنٌ ... ذنبها مُغتَفرْ
خمرة عُتِّقَتْ ... من قديم العُصُر
أُمّها بابلٌ ... وأبوها مُضَرْ
قهوةُ صُهْرِجتْ ... في أقاصي الُحفَرْ
دسها كاهن ... قبل عهد الحَضر
لم يذق مثلها ... قيصرٌ ذو سُرَرُْ
يا طيورَ الرُّبى ... روضكم مُزدْهرْ
كلُّكم نائحٌ ... ويحكم! ما الخبر؟
حسبكم حَسبكم ... بعض هذا الخور!
شاعر ناقمٌ ... ومُغَنٍّ ضجِرْ
كلكم عازفٌ ... فوق هذا الوترْ
كلكم ريشةٌ ... في مهبّ الغِيَرْ
كلكم هدّه ... دَهْرُه فانكسر
كلكم مُوجَعٌ ... مُشتْك مُفتقِرْ
عاشقٌ مُذْنفٌ ... قد براه الَحوَرْ
وأخٌ يائسٌ ... من ضحايا القَدَرْ
لم يَعُدْ صادحٌ ... في ليالي السمر!(576/33)
ألزم الألزم من لزوم ما لا يلزم
الناس بالناس من حضر وبادية ... بعض لبعض - وإن لم يشعروا - خدم
والنسل أفضل ما فعلت بها ... وإذا سعيت له فعن عقل
ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا ... غدونا بالجميل معاملينا
فأطفال الأكابر إن يُوقّوا ... يُروا يوماً رجالاً كاملينا
لا تزدرُنْ صغاراً في ملاعبهم ... فجائز أن يروا سادات أقوام
وأكرموا الطفل عن نكر يقال له ... فإن يعش يدع كهلاً بعد أعوام
رب شيخ ظل يهديه إلى ... سبل الحق غلام ما احتلم
إذا الإنسان فُض العقل منه ... فما فضل الإناس على النمال؟
فانفع أخاك على ضعف تحس به ... إن النسيم بنفع الروح هباب
فجد بعرف ولو بالنزر محتسبا ... إن القناطير تحوى بالقراريط
تروم رزقاً بأن سموك متكلا ... وأدين الناس من يسعى ويحترف
فإذا ملكت الأرض فاحم ترابها ... من غرسه شجراً بغير ثمار
إذا فاتك الإثراء من غير وجهه ... فإن قليل الخل أولى وأبرك(576/34)
البريد الأدبي
1 - إلى الأستاذ الفاضل نقولا الحداد
يؤسفني أيها الأستاذ أن تكون فهمت من كلمتي السابقة شيئاً ما أكنه لك من المحبة الصادقة والإجلال الأكيد. . . فأنت أستاذنا الفاضل، وكاتبنا العالم المحبوب، وذلك مذ كنا تلاميذك الصغار المعجبين بك. . . وتشككك في صدق هذا الاعتراف هو موضع أسفي وألمي. أما ما عنيته، بل كتبته صراحة، من أن الذي كتب عن نظرية وحدة الوجود - تلك النظرية المشئومة - قد كتب من وجهة نظر تكاد تكون إسلامية بحتة، فلا يعني أن تكون احتكاراً لأمة دون أخرى ولا يعني منع أحد من الخوض فيها، وإلا كنا متناقضين مع أنفسنا حينما نفينا ما وهمه الأستاذ الرصافي من نسبتها إلى نبينا الكريم، وحينما استعرضنا آراء الفلاسفة اليونانيين فيها. ونحن نزيد المسألة بياناً فنقرر أن نظرية وحدة الوجود ليست من الإسلام في شئ. بل هي الكفر الصريح في رأي كبار الأئمة المسلمين، أما ما فهمه أستاذنا الفاضل المحبوب من مقالنا عن النظرية في الفلسفة اليونانية، وأنه خرج من المقال بأن اليونانيين عنوا بالوجود أصله المادي لا غير، فهذا كان ولا يزال موضع عجبي، فقد أوردت في المقال إزاء من قالوا بالوجود المادي لا غير. ومن قالوا بوجود أي عقل مدبر حكيم وراء هذا الوجود المادي، وآراء من قالوا بعالم المثل. ثم ألمعت إلى رأي أرسطو في الصورة ورأيه في الله. الخ
على أننا نكرر لأستاذنا الفاضل المحبوب شكرنا ونعرب له عن حسن قصدنا
2 - الدفاع عن وحدة الوجود
كال لنا الأستاذ زكريا كيلاً شديداً دون أن يعرض للنظرية بشيء مقنع؛ فهل يتفضل حضرته فيتناولها في صراحة، وليبدي لنا رأيه فيما ذهب إليه العلامة أبن تيمية بصددها في كتابه الفريد (الحجج النقلية والعقلية فيما ينافي الإسلام من الجهمية والصوفية، كالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، ونفى القدر، أو الاحتجاج به على الرضا بالمعاصي. الخ)، وما تناول به ابن عربي من التكفير والزندقة والإزراء بالرسالة
يا أخي. . . اقصد في دفاعك عن ابن عربي، حتى تفرغ من دراسة هذه القضية، وأسأل الله لك السداد.(576/35)
دريني
(أفتوني في رؤياي)
لعل الأستاذ الفاضل (عبد العزيز جادو)، وقد تعرض للأحلام تعرض الفاحص الخبير، أن يكشف ما التبس عليّ من أمر هذه الرؤيا. وله مني ومن قراء هذه الكلمة الشكر على إيضاحه سلفاً
في ظهر يوم الاثنين 27 رمضان (من العام الفائت) كنت أطالع في كتاب نظام العالم والأمم للشيخ طنطاوي جوهري (جزء 2 ص 113)
وكنت مجهدا البدن محروراً، فلذت بفراشي واستلقيت على ظهري، وأسندت الكتاب مفتوحاً إلى صدري، ثم تابعت القراءة، وهذه عادة مقيتة أعترف وأنا آسف بأني ما زلت أتبعها! على أني أنصرف إلى غايتي فأقول إني استغرقت فجأة في نوم مضطرب خفيف، ثم رأيت كأنني أركب قطاراً أعود به من القاهرة إلى الصعيد وقد توقف عند محطة بني مزار. ووجدتني أخترق بعض شوارع هذه البلدة - والواقع أني لم أزرها من قبل - ثم أقف أمام بيت أساوم صاحبه في بيعه! وبعد قليل كنت أحادث الرجل نفسه عن كتاب له، وقد تناولته فاحصاً، ثم رحت أقرأ فيه هذه العبارة: (ويسبق السبق هي المعالي؛ فإذا لا حظنا الحياة)، وفجأة استيقظت وأنا أكرر هذه الجملة من الكتاب وأراها بعيني فيه وما كان أشد عجبي حين وجدت أمامي - حقيقة - هذا السطر من كتاب المرحوم الشيخ طنطاوي: (والناس يتسابقون وقصب السبق هي المعالي، فإذا لاحظنا الحياة) الخ
وعليه فأكون قد قرأت وأنا نائم الكلمات السبعة الأخيرة من السطر الذي أمامي قراءة صحيحة لم أحرَّف في أثنائها إلا الكلمة الأولى فجعلتها (ويسبق) بدل (وقصب) فهل معنى هذا أن العين وهي مغمضة تجيد القراءة الصحيحة إلى الحد الذي يعيه العقل؟
وإذا صح أن أذن النائم تعي أصواتاً حقيقية، فتختلط هذه الأصوات بأحلامه مع شئ من التكييف - وذلك ما يحدث كثيراً - فكيف يصح أن ترى العين أشياء حقيقية رؤية يعيها العقل، والعين في كل ذلك منطبقة؟. . .
وقد نفترض أن العين لم تكن مغمضة تماماً، فهل يؤدينا هذا إلى الإقرار بأن الإنسان قد ينام(576/36)
ويرى الرؤى في نومه، وعينه مع كل ذلك مفتوحة تبصر؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
ذكرى الإمام محمد عبدة
في يوم الثلاثاء الماضي (11 يولية سنة 1944) احتفل الأزهر الشريف بدار (الإذاعة اللاسلكية المصرية) بذكرى الأستاذ الإمام المصلح محمد عبدة. فألقى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء كلمة قيمة عن (الشيخ عبده وطريقته في التفسير) صدر بها هذا العدد من الرسالة، وألقى بعده الدكتوران الفضلان محمد البهي ومحمد ماضي - وهما عضوا بعثة الإمام محمد عبده إلى ألمانيا - كلمتين أخريين وقد سر أهل الفكر والعلم بهذا الاحتفال يهتم به الأزهر، ويذيعه باسمه على المسلمين في الشرق والغرب، لأن في ذلك وفي الكلمات التي ألقيت، دلالات على روح جديدة نرجو أن ينتفع الأزهر بها، وأن تكون عوناً على بلوغ ما يصبو إليه ما آمال إن شاء الله.
(م. . .)
في اللغة
قال الأستاذ علي محمد حسن في عدد الرسالة 574 (ولا يفوتني أن أقول إن الشاعر عبد الغني حسن له قصيدة في نفس العدد - 573 - وفيها: (تتلاشى على الرمال وتنثر) ولا أعرف في اللغة (تتلاشى) هذه. . .)
قال في (نهج البلاغة): وما تلاشت عنه بروق الغمام. قال ابن أبي الحديد: هذه الكلمة أهمل بناءها كثير من أئمة اللغة، وهي صحيحة وقد جاءت ووردت، قال ابن الأعرابي: لشا الرجل إذا اتضع وخس بعد رفعة، وإذا صح أصلها صح استعمال الناس: تلاشى الشيء بمعنى اضمحل. وقال القطب الراوندي: تلاشى مركب من (لا شئ) ولم يقف على أصل الكلمة
وقال البديع الهمذاني في رسائله: فإن أطفأت بارت وتلاشت. وفي مقاماته: وتلاشت(576/37)
صحتي. وفي معجم الأدباء لياقوت: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به. وفي المثل السائر لابن الأثير: وأوسعها توشية وإذهاباً إذا وسع غيرها تلاشياً وذهاباً. والتلاشي في كلام ابن خلدون كثير جداً. ووردت اللفظة في شعر الغزي في مواسم الأدب، وفي نقد النثر لقدامة، وأوردها التاج في مستدركه وأبو البقاء في كلياته. وفي تفسير الإمام الطبري: لما خرج ابن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تنازعوا في القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد لكثرة الرد. . .
حمد صفوان
ابن جميع على ابن جميَّع
كنتُ نبهت الأستاذ الفاضل الدكتور باول كراوس إلى صواب اسم ابن جميع الطبيب الإسرائيلي على وزن كريم لا على وزن فعَّيل بالتشديد
ولكن الأستاذ أصر في مقال آخر له بمجلة الثقافة عدد 286 على الاسم الخطأ. فأرجو منه وهو مولع بالتحقيق والتدقيق أن يتقبل هذا التصحيح مرة أخرى من المخلص.
محمد عبد الغني حسن
إلى الأستاذ السيد محمد عزة
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته - وبعد فأشكر لكم حسن ظنكم بي، وجميل تقديركم لما أكتب في مجلة الرسالة الغراء، وإن تعليقكم على مقالتي في قضية نسب زياد ليدل على ميزة عظيمة في أدب النقد، وحسن فهم لقضايا التاريخ، وإني أعتقد أنه لم يفتني ذلك التوجيه الذي أشرتم إليه في هذه القضية، لأني حينما أنصفت معاوية وزياداً فيها قضيت بذلك على الروايات التي فيها تحامل عليهما، وكان لتدوينها في عصر العباسيين أثر في ذلك التحامل، وهذا غاية ما يمكن أن يسلك في تحقيق هذه القضية، لأننا نجد أنفسنا بعد هذا أمام أمر لا يصح الشك فيه، وهو أنه كان هناك قضية في نسب زياد، وأن زياداً كان ينسب قبلها إلى غير أبي سفيان فألحق بعدها بنسبه، وأن خير توجيه لهذا هو ما روى من اتصاله بأمه على ذلك الوجه من أنكحة العرب في جاهليتهم، ولا سيما أنه لا يوجد في التاريخ توجيه غيره لذلك النسب، ولا يقدح في كون سمية من البغايا أنها كانت تحت زوج، لأن(576/38)
البغي بغي على أي وضع كانت، ولاسيما في ذلك العهد الذي وصلت الإباحية فيه إلى أبعد الحدود، وكذلك لا يقدح في عظمة زياد أن ينشأ من ذلك النكاح الجاهلي، لأن عظمته كانت ترجع إلى شخصه لا إلى نسبه، ومثل هذا ونحوه من السهل أن يستساغ في التاريخ، ولا يسهل أن ترد به تلك القضايا الظاهرة
عبد المتعال الصعيدي
الأغوار
(ديوان شعر للأستاذ الأديب المعروف أحمد الصافي النجفي - صدر عن دار المكشوف - بيروت - 1944)
باقة يانعة من شعر التأملات والخطرات الفكرية - تقرأه فينقلك من هذه الدنيا الممتلئة بالآلام. . . إلى عالم من التأمل الذي لا يورثك غير الآلام أيضاً. . . لكنها آلام لذيذة. . .
إنها آلام الإنساني التي تبكي في كل مكان. . . وتضحك في أمكنة قليلة. . .
لا نريد أن نستطرد. . . ففي نيتنا الكتابة الطويلة عن هذه (الأغوار) في فرصة أخرى، نرجو أن تكون قريبة. . . فتحياتنا سلفاً لشاعرنا الرقيق المحبوب الأستاذ النجفي
مجلة السودان
(أسبوعية - تصدر نصف شهرية مؤقتاً - عمارة إيموبليا شارع شريف - القاهرة) عدد يونية سنة 1944
صدر من هذه المجلة الرشيقة عددها الأول فجاء مبشراً بما هو ظننا دائماً بشباب السودان المثقف، وما هو أمل كل مصري يؤمن بأن السودان هو نصفه الثاني. والعدد حافل بأنباء السودان العزيز وأخبار أعيانه ومرافقه؛ والمجلة تمثل الجالية السودانية في مصر أصدق تمثيل - ونحن حين نقول الجالية نقصد بها هذا الشباب الشقيق الذي لا يختلف منا ولا نختلف منه، والذي نكن له أصدق عواطف الأخوة وأنبل مشاعر الوفاء. وقد خصصت المجلة أبواباً للشعر والقصص والسينما والمسرح، وهي تحرر هذه الأبواب بروح سوداني نرجو أن ينفعنا في تتبع الحركة الأدبية الفنية في السودان. . . ونكرر تهنئاتنا
تصويب(576/39)
تغيرت في المقال الافتتاحي للعدد الماضي كلمة يتغير بها معنى الجملة كلها، وهي: (الجزء الذي تستأصل منه خصيته يضمر ولا تنبعث فيه دواعي النماء، ولا يحدث مثل هذا في أنثاه إذا نزع منها المبيض. . .)، وصوابها: (الجرذ. . .)(576/40)
العدد 577 - بتاريخ: 24 - 07 - 1944(/)
موضوعات الكتب
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتبت منذ أسابيع مقالاً بمجلة (آخر ساعة) عنوانه (أريد من هؤلاء) قلت فيه:
(أريد من زعمائنا أن يشغلوا أوقات فراغهم، لأن الذي لا يحسن تدبير الفراغ لا يحسن تدبير الأعمال)
ثم قلت: (وندع رجال السياسة والأعمال، ونلتفت بعض الالتفات إلى طائفة من كبرائنا لها في العصر الحاضر عمل لا يغني عنه عمل الآخرين
(إن العصر الحاضر عصر حرب، وإن مصر قد أصيبت من هذه الحرب ووجب أن تعرف على التحقيق كيف تتعرض لها وكيف يكون الدفاع عنها. وقد ظهر عن معارك العلمين وطرابلس وأفريقية الشمالية ما لا يقل عن خمسين كتاباً في اللغة الإنجليزية ولم يظهر كتاب واحد من رجالنا المختصين بشئون الحرب في هذا الموضوع. وعندنا طائفة غير قليلة العدد من كبار ضباطنا المحالين إلى المعاش، فلماذا لا يكتبون لنا رأيهم في معركة العلمين وفي خطط القتال الذي دار بين أوكفلك ومنتغمري وروميل وجرازياني وسائر القواد والضباط؟)
وقد عقب على مقالنا هذا الأستاذ عبد الخالق يوسف المحامي فقال إنه يوافقنا على رأينا ولكن (ذلك لا يمنع من الإشارة إلى المؤلفات التي وضعت في هذا الموضوع والتي كتبها الأديب الملازم الأول السيد فرج). . . وهي تناول حرب الصحراء المصرية وأفريقيا الشمالية، وأحاديث أخرى عن الحرب من وجهة عامة
ونحن، والحق يقال، قد فاتنا أن نطلع على المؤلفات التي أشار إليها الأستاذ عبد الخالق يوسف حين صدورها، ثم اطلعنا على بعضها بعد أن نبهنا إليها قراؤها المعجبون بها فألفيناها من الموجزات الوافية بمقاصدها في هذا الموضوع، وصح أن يقال إن مؤلفها الفاضل قد قام بما يسميه الفقهاء (فرض كفاية) عن الكتاب العسكريين في مصر، أو الذين كانوا ينبغي أن يحسبوا في مقدمة الكتاب العسكريين
فكتابه عن حرب الصحراء المصرية ملم بمقدمات هذه الحرب وأطوارها واختلاف عوامل النصر والهزيمة فيها، وقلما اتصلت بهذه الحرب مسألة من المسائل التي تعني العسكريين(577/1)
إلا كان له إلمام بطرف من أطرافها
كذلك اطلعت في مجلة الجيش على بحوث كثيرة عن الحرب في جميع ميادينها وأطوارها يضارع بعضها أحسن ما نقرأه لخبراء هذه الموضوعات في المجلات الأوربية والأمريكية
ولكننا نرى بعد هذا أن ملاحظتنا الأولى لا تزال قائمة في مكانها، لأنها متجهة إلى زعمائنا العسكريين وغير العسكريين ليشغلوا أوقات فراغهم بدراسة الموضوعات التي لا يغنى فيها غيرهم، وليس ظهور الكتب والفصول في هذا الصدد مما ينفي عن زعمائنا في مختلف ميادين الحياة أنهم متى فرغوا من العمل لم يشغلوا هذا الفراغ كما يشغله أمثالهم في البلاد الأخرى
ولا تزال ملاحظتنا الأولى قائمة من وجه آخر وهو الابتداع والإنشاء في درس شئون الحرب التي تمس البلاد المصرية من قريب
فالصحراء الغربية مصرية قبل كل شئ
ومن الواجب أن يكون علم المصريين بها وتعقيبهم على أساليب الدفاع والهجوم فيها هو العلم الأصيل الذي يرجع إليه الخبراء من أمم العالم بأسره، وأن يكون بين أيدينا اليوم كتب شتى عن الغزوات التي تعرضت لها مصر غرباً من بداية التاريخ إلى هذه الأيام، وأن تدرس هذه الغزوات دراسة عصرية كما يدرس الأوربيون غزوات هانيبال وأتيلا في بلادهم ليعلموا منها عوامل الضعف والقوة في الدفاع والهجوم على حسب اختلاف العصر والخطة والسلاح
فأين هو الكتاب المصري الذي يحقق لنا غزوات الليبيين لحدودنا الغربية؟ أو غزوات قواد الرومان ثم الفاطميين لتلك الحدود؟
وأين هو الكتاب المصري الأصيل الذي يحقق لنا المصادفات والمفاجآت والعوارض المنتظرة وغير المنتظرة مما حدث في أرضنا وتخومنا ونحن أحق الناس أن نعرف كل صغيرة وكبيرة عن تلك الأرض وتلك التخوم؟
ليس لي شأن بالمسائل العسكرية في ناحيتها الفنية، ولكني أعلم أن نيابتي عن الصحراء الغربية كلفتني أن أراجع كل ما تيسرت لي مراجعته عن تاريخها وتاريخ الغزوات الأجنبية فيها، وكان الشائع أن النفاذ منها في جميع وجهاتها مستحيل أو قريب من(577/2)
المستحيل، ولكنني تبينت أن الاطمئنان إلى هذا الرأي باب من أبواب الخطر الشديد وكتبت في هذا المعنى منذ ثلاث سنوات رداً على المؤكدين لهذه الطمأنينة أقول إن الحيطة واجبة في الشواطئ المصرية وإلا فالنفاذ منها ليس بالمستحيل، وإن كان عسيراً بالغاً في العسر أقصاه. وبيان هذا من رجال عسكريين أدعى إلى الثقة ووضوح الحقيقة بالحجة الفنية التي تموز الغرباء عن هذه الفنون
وقد كان هذا النقص في خاطري يوم أردت من زعمائنا العسكريين أن يتداركوه وأن يسقطوا عن كاهلهم هذه الفريضة التي لا تلقى قبلهم على كاهل أحد من الناس
والذي نرجوه أن يتحول فرض الكفاية الذي قام به بعض ضباطنا الشبان إلى (فرض عين) يقوم به كل قادر عليه، وهل ينبغي أن يقدر عليه أحد قبل ضباطنا العظماء؟
ويستطرد بنا الكلام عن الكتب وموضوعاتها إلى بدعة مضحكة تروج على بعض الألسنة التي لا تمل الاقتراح ولا تقترح إلا غير ما تراه، وخلاصة هذه البدعة أن الكتابة عن أبطال التاريخ ممنوعة وأن الأدباء يجب أن ينحصروا في الحاضر الذي هم فيه
وقد رد صديقنا الأستاذ المازني على هذه البدعة في مقال له بالبلاغ عن كتابنا (عبقرية خالد) فقال: (هل يراد ترك القديم جملة؟ إن تاريخ الأمم كالذاكرة للفرد ولا ندري كيف يعيش إنسان بغير ذاكرة ولا كيف تحيا أمة تجهل ماضيها وترى أن تدفنه وتهيل عليه التراب)
ثم اطلعنا في مجلة الاثنين على كلمة بعنوان (المستقبل لا الماضي) يعيب فيها كاتبها الأديب أن يتكلم الناس عن علي وعثمان وموقف أبي موسى الأشعري من التحكيم، ثم يقول إنه لا يريد هذا (ولكنا نريد أن نعرف ما عسى أن يصنع 17 مليون مصري 95 % منهم فقراء معدمون نريد أن نعرف ما هو مستقبل الوطنية الصحيحة في مصر وما هو مركز الاستقلال الحقيقي في هذا البلد. نريد أن نعرف هل الأفضل لمصر أن تبقى زراعية فتعيش في الذل والاستعباد أم تجمع بين الزراعة والصناعة ليرتفع مستوى الحياة فيها ويسمو. . .)
إلى آخر ما يريد أو يريدون
والظريف أن يصدر هذا من محرر (الاثنين) وهو يعلم أن العالم ينطوي وقد استنفدت(577/3)
المطابع من صحف المجلات عشرة آلاف صفحة في توافه المتبطلين والمتبطلات من رواد المراقص والمحافل وميادين السباق، ثم يستكثر بعد هذا بضع مئات من الصفحات على سيرة خالد بن الوليد أو عثمان بن عفان أو إنسان من ذوي الذكر كائناً من كان!
ويظن الكاتب الظريف أن (التقاليع) الأمريكية تنفع هنا كما تنفع في أخبار المجالس والأندية وما وراء الستار وما أمام الستار
والتقاليع الأمريكية لا تنفع في هذا الباب
لأنه يصح أن يذكر أن انتشار الزراعة أو الصناعة وما شابه ذلك من نظم الثروة وتوزيعها أمور فنية لها قوم مختصون بها، هم الاقتصاديون والزراعيون وخبراء المال والنقد والمصارف والشركات، ودخول الأدباء في هذه المباحث افتيات على (وظيفة) أصحابها وتعطيل لعملهم الذي هم أحق الناس أن يلتفتوا إليه
ويصح أن يذكر أننا تناولنا من مسائل العصر الحاضر أهمها وأولاها بالالتفات والتحقيق وهي مسألة النهاية التي تصير إليها الحرب الهتلرية، كما أوضحنا حقيقتها في كتابنا (هتلر في الميزان). ولم تكن هذه المسألة غريبة عن مستقبل الوطنية في مصر ولا عن مركز الاستقلال الحقيقي فيه، ولكنها غريبة عن عقول طمسها الله، فحملت من التبعات التي تجهل مداها ما تنوء به كواهل الأجيال
ويصح أن يسأل نفسه بعد هذا سؤالين وهما: ما هو الوقت الذي يسقط فيه حق التأليف بمضي المدة؟ أهو خمسون سنة أو مائة، أو عشرة أسابيع أو عشرة شهور؟
وأين هي الأمة التي ليس لها حاضر ولا مستقبل؟ ولماذا لم توجد أمة قط تركت الكتابة عن الماضي ولها حاضرها ومستقبلها في كل دقيقة من الزمان!
فسنة 1944 ليست هي الحاضر الوحيد الذي خلقه الله، وسنة 1944 ليست هي السنة الوحيدة التي اشتغل فيها الناس بمعيشتهم وبحثوا عن أسعار الخبز واللحم والقمح والقطن والشعير
سنة 1944 في هذا كسنة 944 وكسنة 94 وكسنة 94 وسنة 1944 قبل الميلاد
كل سنة من هذه السنين يا أخانا هي وقت حاضر، وهي سنة يأكل فيها الناس ويشربون ويهتمون بأسعار اللحم والخضر وبمسائل الفقر والغنى، وبمستقبل الصناعة والزراعة، أو(577/4)
ما شابه الصناعة والزراعة من مصادر الأرزاق
ومع هذا لم ينقض (عصر حاضر) قط حرمت فيه الكتابة عن الماضي البعيد أو الماضي القريب
ولم ينقض عصر حاضر قط شغل فيه الأدباء بواجب الخبراء الاقتصاديين والماليين والزراعيين، مع أنهم لم يبلغوا من قبل ما بلغوه الآن من الكثرة والافتنان والتوسع في الاختصاص. . . فلماذا يمتنع على الأدباء في سنة 1944 وحدها أن يكتبوا في الأدب والتاريخ، ويجب عليهم أن ينازعوا المختصين في الشؤون الاقتصادية وهم كثيرون أكفاء ميسر لهم سبيل البحث في هذه الشؤون؟
إن المعرفة الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان
وإن النفس الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان، وليست هي من (مودل) سنة 1944 دون ما تقدمها من السنين
فإذا كشف الكاتب حقائق المعرفة الإنسانية أو حقائق النفس الإنسانية في سيرة خالد بن الوليد؛ فهو قد كشف الحقيقة التي تبقى ألف سنة وألفي سنة بعد اليوم، بل تبقى ما بقي الإنسان ونفس الإنسان، يوم تكون مساحة الأرض الزراعية وعدد الآلات الصناعية في سنة 1944 عدماً فانياً، كأنه لم يخلقها الله قط في عالم الوجود
يصح أن يذكر الكاتب الظريف هذا كله، ويصح أن يذكر معه أن إحياء الروح العربي والقومية العربية في عصرنا هذا موضوع لا يجئ اليوم في غير موعد ولا على غير أوان
إنجلترا والولايات المتحدة تتحدث بالجامعة السكسونية، وهي القوية الغنية عن الجامعات
والروح العربي لازم جداً في هذا العصر، لأن المذاهب الهدامة التي تهدد مستقبل الآدمية كلها تأبى أن تكون للأمم نخوة قومية، أو نخوة لغوية، أو نخوة دينية، ولا تريد من الناس إلا أن يكونوا نقابة أجراء تشتغل بأسعار السوق وأحاديث الخضر واللحوم
ولهذا نحن نكتب عن خالد بن الوليد وعلي بن أبو طالب وعمرو بن العاص، وكل بطل من أبطال التاريخ
وإذا فرغنا من كتبنا التي ندرسها الآن فأحب شئ إلينا أن نبحث عن بطل مضت عليه خمسة آلاف سنة لنخصه بالتقديم والتفضيل، ونعتقد أن تقديمه وتفضيله أعون على(577/5)
التعريف بنفس الإنسان من أبطال العصر الحاضر، لأن الناس يستغربون ما مضى من الأجيال؛ فإذا رفعنا عنهم الغرابة كان هذا أدعى إلى التعريف بحقائق الإنسان
سنكتب عن هذا وأمثاله ما شئنا نحن أن نكتب فيه، وشئ واحد لن نكتب عنه طال عليه الزمان أو قصر، وهو الموضوع الذي يمليه علينا أعدائنا الماركسيون مستترين أو مصرحين، وهم فاهمون ونحن فاهمون
عباس محمود العقاد(577/6)
1 - أحمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
حاولت أن أكتب عن أحمد رامي غير مرة، فكان الشعر يغازل قلمي، وكانت الدنيا كلها تمتلئ بالغناء والموسيقى من حولي، وكانت ترجمته تجتمع في خيالي نشيداً طويلاً تاماً متسق الألحان متنوع النغم، يضرب العقاد في مثانيه من هنا، والقصبجي في مثالثه من هناك، وبقية السادة النُّجُب، أفراد التخت الموقر الخالد من فوق ومن تحت، يلوّنَون ويفتنّون، والصوت الإلهي المقدس يشيع في اللحن فيرف به في القلوب، ويملأ به المشاعر، ويطوف به على العذارى والمحبين والمكلومين، فَيِطب للكبد الحَّرى، ويأسو الفؤاد المحترق، ويكفكف الدمع في المقلة المؤرقة، ويرطب اللسان الظامئ، والفم الغرثان، بالأغاني الصامتة، والآهات الخافتة، فيتسلى محب، ويرق حبيب
وكنت في كل مرة أستغني بهذا الخيال الجميل الحلو عن الكتابة، لأنه خيال روحي حي تمسخه الكلمات، وتزيفه تراكيب الجمل، ويُضَنُّ به على هذا الهراء الذي يسمونه التحليل في عالم النقد، وأسميه التزييف في دنيا الجمال. . .
يتهمني كثير من إخواني القراء بأنني أسخو في ثنائي على الشعراء الذين أختارهم للكتابة عنهم، وابتسم لي الأستاذ الزيات مرة وأوصاني بالاقتصاد في هذا الثناء؛ فمن عذيري إذا لم أجد مندوحة عن الثناء على رامي!. . . رامي الذي أغرم العالم العربي كله بأغانيه، فأنصت إليها، وتغناها، وهتف بها، وداوى بسحرها آلامه، وأروى بسلسالها أُوَاَمه، وجعلها مشرع حبه، وترنيمة وجده، وتعلَّة هواه
من منا أيها الإخوان لم يخل إلى نفسه فوجدها تردد أغاني رامي؟ ترددها راضية وترددها محزونة، وترددها مشوقة وترددها هائمة وترددها فرحة مرحة طروباً! من من أبناء هذا الجيل لم يملأ رامي عشرين عاماً من عمره السعيد المديد بما يمتلئ به قلبه من شعر وغناء ومحبة؟ من منا لم تسحره منظومات رامي التي أودعها أسرار قلبه، وسقاها مُنْهَلَّ دمعه، وخلط بها دمه ونجوياته وأمانيه؟!
إن رامي العظيم الخالد، هو ذلك النبع الأول الصافي ذو الخرير، الذي تفتأ الحمائم الوُرق تحوْم من فوقه وتهوى إليه، لتحسو من صفحته الحسوة والحسوتين تبل ظمأ وتشفى جُواداً،(577/7)
ثم تسكن إلى الأفنان لتملأ الدنيا هديلاً، وتبشر المحبين برسالة رامي. . . رامي الذي يقول منذ ربع قرن:
تغلغل الحب في فؤادي ... تغلغل الماء في الغصون
وأرسل الحسن في قريضي ... من نوره الواضح المبين
فجاء أحلى من الأماني ... بَسمن لليائس الغبين
وجاء أشجى من الأغاني ... نَديَن بالوجد والحنين
يا ريشة الوهم صوّري لي ... في صفحة الخاطر الحزين
ما جف من يانع جَنيٍ ... وغاض من سلسل مَعِين
ويا طيور الخيال خفي ... في دولة الليل والسكون
وابكي فضاء صدري ... ورجعّي من صدى أنيني
ورفرفي في على فائت تقّضي ... ترفضّ من ذكره شئوني
ويخيل لي، وأنا أردد هذا الشعر الجميل من شعر رامي الذي حفظته منذ ذلك العهد، أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يكتب عن رامي دون أن يغازل الشعر قلمه كما يغازل قلمي الآن. وللكتابة عن الشعراء الممتازين أو الأدباء الممتازين خطط متنوعة سهلة كلها، يسير على المؤرخ أو الناقد. . . ولعل أصعب هذه الخطط وأشدها عسراً على الناقد أو المؤرخ، هي تلك التي يغازل الشعر فيها قلمه، فلا يدعه يقول ما يريد، ولا يتركه يسير في تلك السبل السهلة المعبدة التي سار فيها الكتاب قبله. فيبدأ بكلمة عن نشأة الشاعر والبيئة التي أرضعت بلبانها خياله وغذت بثمارها وجدانه، وسلطت ظبائها وألوانها وأضواءها على قلبه تنوشه وتطبع على شغافه الأحمر والأصفر والوردي والبنفسجي، وتضوّي سويداءه استعداداً لتلقي وحي السماء ثم يتناول بعد ذلك الظروف التي هيأت للشاعر قول الشعر، ومما يتردد في تلك الظروف من غزل ونظر ودعابة، تنقلب آخر الأمر إلى قلب يرتجف ولسان يتلجلج، ودمع يترقرق وعين مؤرقة، وكبد محترقة وخيال كامل شامل يتسع للأرض والسموات، ويد تتناول القلم، هذا المخلوق العجيب، فتسجل الآيات البينات، ترسلها كلاماً موسيقياً موزوناً حافلاً بالمعاني الفريدة، ثم يفرغ - أي الكاتب أو المؤرخ - إلى شعر هذا الشاعر ينقده ويزنه، ويظل يقول لك هذا جيد وهذا رديء، وذلك متوسط، وذاك غامض،(577/8)
وتلك الفقرة لا معنى لها، وهذا الشطر لا خير فيه، حتى إذا كنت قد كونت لنفسك رأياً في الشاعر قبل أن تقرأ هراء الناقد. وحتى إذا كنت قد أغرمت بشعره، ورضيت عن طرائقه وموضوعاته، تسلمك لناقد المحترم بآرائه فلا يدعك حتى تغثي نفسك ويتقزز خيالك، وتمسخ الصورة الجميلة الرائعة الحبيبة فتصبح هولة أو سعلاة. . .
أما الخطة التي يغازل الشعر فيها شباة القلم، فلا تتأتى إلا إذا كانت ثمة صلة روحية بين الشاعر والناقد. ولقد أراد المرحوم الأستاذ صادق عنبر أن يكتب كلاماً ما يجعله مقدمة لديوان رامي، فلم يستطع أن يقول شيئاً. ولكنه كتب سطوراً جميلة، يحمل كل منها بيتاً منثوراً من الشعر، لا يصله بالبيت السابق ولا يربطه بالبيت اللاحق سبب من الأسباب. . . وإليك نموذجاً من أوائل هذه الأبيات:
عرفته فتياً يخف للشعر ويجتمع له. . . الخ
وعرفته وقد لبس الشباب، وإذا شمائل مرجوة المخايل. . .
ثم عرفته شاعراً غزلاً يشبه أن يكون كالبهاء. في الضحك والبكاء. . .
وإنك لتراه، فتقرأ شعره فيه. . . وتقرأ له فتراه في شعره، لقد رق مزاج شعره، وعذب على النفس اطراده. . .
ويندر أن تلقاه إلا باكياً أو ضاحكاً. . . فإذا بكى. . . وإذا ضحك. . . وهكذا إلى آخر الصفحات الثلاث التي قدم بها للجزء الأول من ديوان رامي الذي يشمل شعر صباه بين سنتي 1916، 1917
وأنا ولله أعذر المغفور له الأستاذ عنبر وأطلب من الله الرحمة، فرامي من الشعراء الذين تصعب الكتابة الموضوعية عنهم، وقد غازل الشعر قلم عنبر كما يحاول أن يغازل قلمي الآن، وكما غازل قريحة شوقي - رحمه الله - حينما قدم للجزء الثاني من ديوان رامي بأبيات ثمانية يقول في أولها:
ديوان رامي تحت حاشية الصبا ... عذب عليه من الرواة زحام
بالأمس بل صدى النهى وسمْيُّه ... واليوم للتالي الولي سجام
شعر جرى فيه الشباب كأنه ... جنبات روض طلهن غمام
في كل بيت مجلس ومدامة ... وبكل باب وقفة وغرام(577/9)
والبيت السابع
أما زهير فقد سما (هرم) به ... ولتسمون بشعرك الأهرام. . .
وإذا استثنينا البيت الثالث من هذا الكلام العجيب، طلبنا من الله لشوقي الرحمة، كما طلبناها للأستاذ عنبر. . .
ولعل أصدق كلمة قيلت في شعر رامي هي تلك التي كتبها حافظ - رحمه الله - يحي بها هذا الجزء الثاني الرائع من ديوان رامي، الذي يجمع شعر صباه أيضاً (1918 - 1920). قال حافظ:
(أدمنت النظر في شعر رامي، فإذا به من ذلك النوع الحسن الذي يعجزك تعليل حسنه. تسمع البيت منه فيشيع الطرب في نفسك قبل أن تعلم مأتاه، وقبل أن يتطلع العقل إلى فهم معانيه. ذلك هو شعر النفس، وهو أرقى مراتب الشعر
ورامي شاعر موفق الشيطان إذا تغزل أو وصف، رقيق حواشي الألفاظ، بعيد مرامي المعاني، يقول الشعر لنفسه، وفي نفسه، فإذا جلس إليه، وسنح له المعنى العصري، تخير له اللفظ السَّرِي
وهو كثير الاعتماد على نفسه في شعره، فلا يتسلق على كلام غيره، وأثر ذلك بيّن في غزله ووصفه، فقد نحا فيهما منحى عصرياً جديداً، أكرمهما فيه عن عنجهية البداوة، وركاكة أولئك الذين تصدوا لقرض الشعر، فوضعوا أمامهم مشقاً من الشعر الغربي، وترجموا معانيه، ولكن إلى أَلاّ لغة، فجاء أسلوبهم يرتضخ أعجمية، وأسلوب رامي يتدفق عربية. فديوانه سلوة العاشق، ونزهة المتأمل)
وحافظ رحمه الله صادق جداً في معظم هذه النظرة السريعة المركزة في شعر رامي، وإن ظلمه بقصر نبوغه على الغزل والوصف، إذ عبقرية رامي عبقرية متعددة النواحي، إذا جاء الغزل وأشعار الغرام في أولها، لم يأت شعر الوصف في المرتبة الثانية مباشرة، بل سبقته ألوان زاهية زاهرة من شعر رامي. . . في مقدمتها ذلك الشعر الإنساني الرفيع الذي سوف نتحدث عنه بعد أن نذكر لك هذا الكلام جرى الكتاب على إثباته والذي تعرف أكثره؛ فنذكر أن رامي ولد بالقاهرة سنة 1898، أي في السنة التي عرفنا أن أخانا الشاعر المحبوب (ناجي)، وأن شاعرنا الجليل الموهوب (عزيز أباظة) قد ولدا فيها. وأن والده كان(577/10)
طبيباً كبيراً معروفاً، وأنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم زهد في حرفة التدريس ففرغ لقرض الشعر مستعيناً براتبه الحكومي ومنصبه في دار الكتب، وما تدره عليه أغانيه ودراماته الشعبية من ربح حلال لا أظن أنه ينتفع بمعظمه، وإنما ينتفع به البائسون والمحتاجون. . .
(يتبع)
دريني خشبة(577/11)
على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 2 -
اتجه المؤيد إلى مصر حيث إمامه الفاطمي، ومقر الدعوة التي كان يدين بها، وفي طريقه كان يحدوه أمل باسم مشرق بما سيلقاه في مصر من تقديم وتكريم لما قام به من جهود في سبيل الدعوة وعلو كعبه في علوم المذهب، فقد كان إليه المرجع في عويص مسائله، حتى أن داعي الدعاة الأكبر كان يرسل إليه يسأله ويستوضحه في بعض المشاكل المذهبية، لهذا كله بنى لنفسه في الخيال قصوراً شامخة، وعلا به خياله إلى الوصول أعلى المراتب، ولكن هذا الأمل كانت تغشاه أحياناً سحابة مظلمة تطغى على فكره فتهدم ما بناه خياله وتهبط به إلى الحضيض، فبالرغم من اعتناق المؤيد للمذهب الفاطمي، وبالرغم من شدة احترامه لإمامه حتى درجة التقديس كان المؤيد يعلم أن السلطة الحقيقية في مصر ليست بيد الإمام إنما كانت بيد أم الإمام، أو بمعنى آخر كانت بيد التستري وكيلها، ولم يكن التستري يأبه بشئون الدعوة الفاطمية بقدر ما عني بتركيز سلطانه وسطوته، فخشي المؤيد أن لا يجد في مصر ما كان يطمح إليه، وكان هذا التفكير يثنيه عن المضي في رحلته إلى مصر ولكنه نظر حوله فلم يجد مكاناً يأوي إليه آمناً على حياته سوى مصر فمضى إليها حتى دخلها سنة 437هـ. وذهب إلى دار الخلافة حيث قابل الوزير الفلاحي الذي رحب بمقدمه وأكرمه وأمر بأن تهز له دار وصفها المؤيد بقوله: (فأخذوني إلى دويرة كانت فرشت لي هي من الكرامة في الدرجة الوسطى من الحال، لا بالإكثار ولا من الإقلال) وسمع الناس بمقدمه، فتوافدوا على داره للترحيب به ونصحوه بالاتصال بالتستري. فذهب المؤيد إليه، وبالغ التستري في إكرامه ووهبه الأموال والخلع، وأخذ يعده ويمنيه بل أراد أن يختص بالمؤيد دون غيره من وجوه المصريين، ولكن هذه الوعود كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فلم يف التستري بما وعد بل كاد للمؤيد ومنعه من مقابلة إمامه المستنصر، وزاد الطين بلة أن بعض المغرضين سعوا بالفساد بين المؤيد والتستري،(577/12)
وخوفوا التستري من وجود المؤيد وقالوا له: (كيف تطوع لك نفسك أن تأخذ هذا الرجل الأعجمي المقام الذي أنت مخصوص به، وما يؤمنك أنك إذا أدخلته أخرجك وإذا قدمته أخرك، وهو أبسط منك لساناً وأقوى جناناً، وهو يدل بعزة الإسلام والتخصيص بالدعوة والخدمه) فكان لهذا الكلام وأمثاله أثر في نفس التستري الذي قلب للمؤيد ظهر المجن وأوعز لبعض حاشيته للتحرش بالمؤيد حتى ضاق المؤيد ذرعاً، كان يلتفت حوله فلم يجد له ناصراً ولا معيناً حتى الوزير الفلاحي لم يستطع مساعدته ومؤازرته في هذا الوقت، وهنا أجد في سيرة المؤيد التي كتبها عن نفسه صورة دقيقة لحالة رجال مصر في هذا الوقت، ولا سيما لهؤلاء الذين يتنافسون للوصول إلى الحكم وإلى المؤامرات التي كان يدبرها بعضهم لبعض التي أدت إلى اضطراب البلاد، والغريب أن يصدر هذا الكلام من رجل خدم الدعوة الفاطمية وأشاد بذكر الفاطميين وفضائلهم وتهكم بخصومهم، ومع ذلك كله كان المؤيد في سيرته مؤرخاً صادقاً صور حالة مصر كما هي دون تحيز لإمامه أو خوف ممن تناولهم من معاصريه، فقد كانوا جميعاً يخشون ازدياد نفوذ المؤيد فعملوا جميعاً على الإيقاع به. لذلك فكر المؤيد في الخروج من مصر بل استعد فعلاً للرحيل، ولكن التستري خاف من المؤيد إذا خرج من مصر فمنعه من الرحيل ليكون تحت رقابته ورقابة عيونه، فاضطر المؤيد أن يكشف القناع عن هذا الرجل وأن يهجو التستري في كل مناسبة تتاح له، فبسط فيه لسانه في المجالس والأندية دون خوف أو وجل إلى أن قتل التستري سنة 439هـ
وصفا جو مصر للوزير الفلاحي الذي كان يعطف على المؤيد بعض العطف. لذلك نراه يسمح للمؤيد بمقابلة إمامه المستنصر. وتمت هذه المقابلة في آخر يوم من شعبان سنة 439؛ وهنا أترك للمؤيد وصف مقابلته الأولى لإمامه: (وكنت في مسافة ما بين السقيفة الشريفة والمكان الذي ألمح فيه أنوار الطلعة الشريفة النبوية، فلم تقع عيني عليه إلا وقد أخذتني الروعة وغلبتني العبرة وتمثل في نفسي أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ماثل، وبوجهي إلى وجهيهما مقابل، واجتهدت عند وقوعي إلى الأرض ساجداً أن يشفعه لساني بشفاعة حسنة بنطقه، فوجدته بعجمة المهابة معقولاً وعن مزية الخطابة معزولاً، ولما رفعت رأسي وجمعت عليّ ثوبي(577/13)
للقعود، وجدت بناناً يشير إلي بالقيام، فقطب أمير المؤمنين خلد الله ملكه وجهه عليه زجراً على أنني مار رفعت به رأساً، ولا جعلت له قدراً ومكثت بحضرته ساعة لا ينبعث لساني بنطق ولا يهتدي لقول، وكلما استر الحاضرون مني كلاماً ازددت إعجاماً ولعقبة العي اقتحاماً وهو خلد الله ملكه يقول: (دعوه حتى يهدأ أو يستأنس)، ثم قمت وأخذت يده الكريمة فترشفتها وتركتها على عيني وصدري ودعيت وخرجت)
وعين المؤبد بعد ذلك حاجباً على باب المجلس الذي يدخل منه إلى أم الخليفة المستنصر الفاطمي، حتى يكون على صلة دائماً بإمامه، وقنع المؤيد بهذا العمل المتواضع لا لشيء إلا لأنه سيكون على قرب من الإمام، ولكن اليازورى خليفة التستري، خشي مغبة اتصال المؤيد بالمستنصر فعزله بعد ثلاثة أشهر واشتدت نكبة المؤيد بقتل الوزير الفلاحي وتولية الجرجرائي الوزارة بعده، فقد كان هذا الوزير الجديد يخشى على مركزه وسلطته من المؤيد، فعادت إلى المؤيد سيرته الأولى من كثرة الأعداء حوله وعن ذلك يقول المؤيد (وتحيرت في شأني لا أفتح عيناً إلا على عدو، ولا أرى في جهة من الجهات إلا ضمير سوء)؛ فصمم المؤيد على السفر من مصر، وبلغ اليازروي ذلك فاستدعاه وأقنعه بالعدول عن عزمه، فظن المؤيد أن هذا التبليغ بإيعاز من المستنصر فاضطر إلى الخضوع، ولا سيما وقد أصبح اليازوري الداعي الأكبر، وكان اليازوري، كما وصفه المؤيد رجلاً عاطلاً من المواهب التي تؤهله لمرتبة الدعوة؛ فأراد المؤيد أن يتقرب إليه وأن يصلح علاقته معه، فاتفقا على أن يضع المؤيد المجالس والمحاضرات التي يقرؤها داعي الدعاة عادة كل يوم خميس على أتباع المذهب، واجتهد المؤيد في تحسين وتجميل هذه المحاضرات حتى يعلم اليازوري أن المؤيد قد أخلص الخدمة له، واستمر الأمر على هذا المنوال مدة طويلة كان اليازوري يلقي المحاضرات التي كتبها المؤيد وكأنها من إنشائه حتى ولى اليازوري الوزارة سنة 442، فلم يشك الناس في أن أمر الدعوة صار إلى المؤيد، دون غيره، ولكن خاب فألهم إذ ندب لها أحد بني النعمان وأعتذر اليازوري للمؤيد بكلام خفف آلامه بعض الشيء ووعده وعداً حسناً، وانتظر المؤيد الوفاء بهذا الوعد، ولكنها لحقت بالوعود الأخرى، فاشتد حنق المؤيد، وأرسل إلى الوزير يهجوه، فتوعده الوزير وهدده، والمؤيد كعادته لم يأبه بوعيد ولم يخش من تهديد، فاستمر في حملته ضد الوزير وانقطع عن لقائه(577/14)
سبعة أشهر إلى أن كانت ثورة بني قرة وانتصار الجيش في قمع هذه الثورة سنة 443 وسارت الوفود لتهنئة الوزير، فألح أصدقاء المؤيد عليه أن يذهب معهم للوزير، ففعل مرضاة أصدقائه، وسر الوزير لقدومه وعينه بعد ذلك رئيساً لديوان الإنشاء وضاعف في رزقه فتحسن حاله ومع ذلك كانت أحواله مع اليازوري بين الرضى والغضب، وكل ذلك مرجعه إلى طموح المؤيد وطمعه في الوصول إلى درجة داعي الدعاة
ظل المؤيد صاحب دار الإنشاء في مصر إلى أن سمع بدخول طغرلبك التركماني مدينة الري سنة 446، وبحكم عمله بدار الإنشاء علم بأن البيزنطيين اتفقوا مع السلجوقيين لغزو أملاك الفاطميين في الشام وأعالي الجزيرة، فعمد المؤيد إلى المكر والخديعة، فكاتب الكندري وزير طغرلبك وكاتب غيره ممن توهم أنهم على اتصال بالسلجوقيين، واجتهد في أن يستميلهم جميعاً للمذهب الفاطمي وإلى مساعدة الفاطميين ضد البيزنطيين والعباسيين، وكان يرمي بذلك إلى هدفين، إما أن ينجح مسعاه ويدخل القوم في الدعوة الفاطمية أو أن تصل إلى مسامع الخليفة العباسي أمر هذه المكاتبات، فلا يطمئن إلى طغرلبك وصحبه ويحاربه ليبعده عن أملاك الدولة العباسية، ولكن جيوش طغرلبك زحفت إلى العراق وخطب له على منابر بغداد سنة 447، وسمع المؤيد بهروب البساسيري من بغداد خوفاً من التركمانية؛ فانتهز المؤيد هذه الفرصة وكاتب البساسيري ووعده بالأموال والسلاح ليحارب السلجوقيين باسم الفاطميين، ومن الطبيعي أن يرحب البساسيري بالعمل باسم الخليفة الفاطمي، وأرسل إلى المؤيد بذلك، فذهب المؤيد إلى الوزير اليازورى وأطلعه على هذه المكاتبات فوافقت هوى الوزير، واستعد الفاطميون في تجهيز الأموال والخلع والسلاح التي وعدوا بها البساسيري، ولكن اليازوري لم ينس للمؤيد تصرفه هذا بدون استشارته في أول الأمر، وانتهز هذه الفرصة لاقتلاع المؤيد من مصر لازدياد نفوذ المؤيد في البلاد؛ فقد اكتسب المؤيد في هذه الفترة الطويلة احترام وحب عدد كبير من المصريين وخاصة بعض حاشية الإمام المستنصر. لذلك نرى اليازوري يعهد إلى المؤيد أن يكون على رأس الركب المسافر بالأموال والخلع؛ فاعتذر المؤيد وأدرك من توه ما كان يجول بخاطر اليازوري، ولذلك كان يقابل مكر الوزير بمكر أشد منه وأقوى، حتى كاد اليوم الذي حددوا فيه السفر تمسك الوزير بأذيال المؤيد، وأخذ يستعطفه ويلح عليه بأن يتولى توصيل الأموال إلى(577/15)
البساسيري، والمؤيد يمعن في الرفض كلما أمعن الوزير في الإلحاح، حتى اضطر الوزير أن يقول للمؤيد: (افتقرنا إليك وافتقرت الدولة والإسلام والمسلمون، وديانتك تقضي أن تصرخ صريخهم وتجير مستجيرهم). فسخر المؤيد من كلامه هذا، وأجابه متهكما: (سبحاني سبحاني إن كنت بهذه المثابة ومحلاً لهذه المخاطبة!) ولكن الوزير ازداد إلحاحاً واشتد دفع المؤيد، وأخيراً قبل المؤيد أن يتولى هذا الأمر بشرط أن يخرج توقيع الإمام المستنصر بأن لا يوجه إليه لوم لو فشل في مهمته؛ فأجيب إلى ذلك وصدر التوقيع وبه الإنعام على المؤيد بخلع الوزارة، ودعي المؤيد للبسها ولكنه رفض، واعتذر عن ذلك مفضلاً أن يظل في زي أهل العلم
وأخذا الركب في السير بين جلبة عظيمة، والناس في عجب من أمر المؤيد الذي قبل السفر في هذه المهمة الشاقة؛ فقد كان مقدماً على خطر جسيم وعمل لا يستهان به، وهو قلب نظام الحكم في العراق وإسقاط الدولة العباسية. والغريب حقاً أن يطلب المؤيد ألا يصطحب معه جنداً واكتفى بما معه من خزائن المال والسلاح
تجاوز الركب حدود مصر في طريقه إلى الرحبة، وكان اليازوري قد نصح المؤيد بالابتعاد عن ابن صالح المرداسي صاحب حلب، لأنه نقض عهد الفاطميين واستقل ببلاده، فصار عدواً للفاطميين بعد أن كان تابعاً لهم، ونصحه كذلك أن يصطنع عدداً من الكلبيين ليحاربوا مع البساسيري، فكانت هذه النصائح موضع تفكير المؤيد طول سفره، حتى بلغ دمشق ومكث ليستريح قليلاً، نراه يكاتب ابن صالح ويعرض عليه العودة إلى الدعوة الفاطمية، بل يطلب منه مساعدته في حروب العباسيين، وأخذ يعد ابن صالح في كلام طويل أثبت المؤيد نصه في سيرته، ولست أدري كيف استجاب ابن صالح إلى المؤيد؛ فأعاد الخطبة على المنابر باسم المستنصر الفاطمي، وذهب هو نفسه لمقابلة المؤيد الذي خلع عليه ولقبه بتاج الأمراء. ثم نرى ابن صالح وجيشه ينضمون إلى المؤيد ويسيرون معه لمحاربة العباسيين، والواقع أن تحول ابن صالح بسهولة تعد من أغرب ما ذكره المؤيد لأن المؤيد، لأن المؤيد استطاع بخطاب منه أن يكبح جماح ثائر له خطره وقوته، بل استطاع أن يتخذ منه عوناً وعضداً. ثم استطاع أن يسترجع حلب إلى أملاك الفاطميين، كل ذلك تم بخطاب من المؤيد إلى ابن صالح. أما الأسباب التي جعلت ابن صالح يقبل هذا كله فهذا ما لم نستطع تعليله(577/16)
(يتبع)
الدكتور
محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة(577/17)
ما هذه الحرب وما وراءها؟
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لم يبق في المعمور قطرٌ مهما يكن قصيَّا عن مناطق القتال، لم يصطدم بشظايا هذه الحرب، ولم يحمَّل عبء ويلاتها وشرورها. إنها لعمري حرب غريبة بفظائعها وأهوالها، خارقة بعددها ومعداتها، فاقت كل حدس وتخمين، وبزّت أقاصيص الجن وأساطير الأقدمين
فالتاريخ لم يرو لها مثيلاً في كثرة الضحايا واتساع الجبهات، وجُسامة التخريب والتدمير. لقد شملت نارها العالم بأسره، حتى أمسى لا يأمن مغبتها الطفل النائم في سريره، ولا الراتع في أحضان أمه، ولا المريض المستلقي على فراشه، ولا الشيخ القابع في داره، ولا الساكن مشارف الجبال، ولا العائش في بطون الأودية ومطاوي الأدغال
صدام فظيع هذا الصدام البشري الهائل الذي لم يبق ولم يذر. فالمدن التي يجتاحها يدعها قاعاً صفصفاً، والأرض التي يعركها يجعلها خراباً يباباً. كيف لا والسابحات في الجو تدك أمنع الجبال دكاً، وتهتك أوعر المفاوز هتكاً، والغائصات في اليم تقدّ بطن العباب قدّاً، وتبلغ أعمق الأغوار حداً. والقاطعات البيد تنهب أرذل القفار نهباً وتقطع موحش المجاهل قطعاً وهي تنشر الموت والدمار في كل مكان
فأين المفر من حرب طاحنة كهذه الحرب. أضرم نارها جنون الإنسان على أخيه الإنسان، وأثارها حرباً شعواء تقذف نيران الجحيم من آلاتها الجهنمية، فتتلف الضرع والزرع وتفتك بالإنسان والحيوان، وبكل ما هب ودب على سطح الأرض وما تمخض في أحشائها
خمسة أعوام تصرمت على هذه الحرب، أو تكاد تتصرم. تحمّل منها البشر ما لم تتحمله القرون، وبذلوا في ساحاتها الأرواح بالملايين، والأموال (بالبلايين) وضحّوا من تراث الحضارة ومن مخلفات الآباء وآثار الأجداد بما لا يقدر بثمن ولا يعوض بأجيال
والحرب دائرة بعد ما خمد أوارها، ولا خفّت نارها، وهي ما تزال مسعرة تتأجج لهيباً وتزداد ضراماً
أيود الإنسان الغافل أن يروي الأرض بالدماء، ويغمرها بالخراب. فيقضي قضاء مبرماً على أينع ما في الدوحة البشرية من مخضلّ الغصون. ويلوي على البقية الباقية من ذخائر الحقب ونفائس الدهر التي هي خلاصة العقل البشري ونتاج جهاده على مر العصور(577/18)
والدهور
أما كفى البشر ما قاسوه حتى الآن من فظائع التقتيل والتخريب، وما كابدوه من ضورب الشقاء والحرمان! وما تحملوه من وطأة الأوبئة والمجاعات!
لقد هللوا كثيراً لاختراع السيارات والطيارات واستبشروا خيراً بتقدمهم الباهر في صناعة الكيمياء واللاسلكي، وعّدوا العصر الذي نعيش فيه عصراً للرخاء البشري والتمدن العالمي. فكانت النتيجة كالعسل الممزوج بالسم يحلو طعمه ويقتل مذاقه كيف لا وقد انقلبت السيارات الوفيرة في هذه الحرب الآلية الطاحنة دبابات تزرع الويل والثبور، وتبدلت الطائرات الجالبة الغبطة والحبور قاذفات تلقي على الأرض أفدح الشرور. هكذا الأجهزة اللاسلكية والسوائل الكيماوية التي كانت نعيماً للأرواح والأبدان قد تحولت جحيما لاهبة وغازات خانقة. . .
ما شاء العلماء ولا أئمة الفكر والاختراع أن يجنوا على الإنسانية بمختلف علومهم ومستحدثاتهم. فهم صفوة خلق الله وأكثرهم نفعاً لعباده. لكن الغريزة البشرية المرتكزة على الجشع وحب الأثرة هي التي تحول الخير شراً والعلم ضراً. وستبقى هكذا عائشة في مقررات الحياة البشرية ما دامت وسائل علاجها مستعصية على مدارك علماء النفس والجسد، وسر إصلاحها مغلقاً في وجوههم
ولهذا أعتقد أن الأخلاق الشاذة والغرائز الملتوية في هذا الكائن المجهول الذي يُدعى الإنسان، لا تتعدل ولا تتغير، بمجرد تعديل الأنظمة أو تغيير القوانين. فمهما يُبدع المصلحون والمشترعون يظل إبداعهم حبراً على ورق، ما لم يؤتوا علماً راهناً يسيطر على الغرائز البشرية نفسها، ويتمكن من التحكم في عناصرها الأصلية، ليتم له تعديل نزعاتها وتوجيهها توجيهاً صالحاً لقبول الأنظمة المستجدة والشرائع المستحدثة
فنتائج الحرب الماضية ما تزال ماثلة للعيان، وهي حرب تعد في مجموع خسائرها أعظم حرب عرفها التاريخ - ما خلا هذه الحرب - زُهقت فيها الأرواح بالملايين، ناهيك بفظاعة تدميرها، وفداحة الأوبئة والمجاعات التي انتشرت بسببها في معظم أنحاء الأرض، وفتكت بالناس فتكا ذريعاً، حتى أمست ضحاياها تزيد على ضحايا المعارك زيادة هائلة
فماذا جنت الإنسانية من هذه الخسائر الجسيمة؟ لقد انتهت تلك الحرب المشؤومة وأسفرت(577/19)
عن عصبة أمم كسيحة، لم تقو يوماً على تطبيق الشرائع والأنظمة التي استحدثتها لسلامة الأمم والشعوب. ولم تتمكن من مجابهة المغيرين الذين كانوا ينتهكون حرمة قوانينها ويعبثون بشرائعها. والاعتداء على بلاد الأحباش وعلى الصين، وبقاء العصبة مكتوفة اليدين تجاههما، يدل دلالة واضحة على إفلاسها
غير أنها ولو باءت بالفشل وانتهت بالهزيمة؛ فإنشاؤها عقيب الحرب الماضية يعد محاولة في سبيل الإصلاح. وهي لعمري محاولة لها قيمتها ووزنها في ميدان التجدد الفكري واليقظة الاجتماعية. لأنها تبرهن على الوعي البشري الذي شمل العالم المتمدن، حتى أصبح يرى من الضروري إنشاء عالم أفضل من عالمنا، يحفظ حقوق الناس على اختلاف أجناسهم، ويسبغ عليهم جميعاً نعم الحياة وخيراتها
أجل إن عصبة الأمم لم توفق لإنشاء هذا العالم المنشود. وقد جرنا فشلها وفشل ما سبقها من المعاهدات الناقصة إلى هذه الحرب الضروس التي أثقلت كاهل الإنسانية. فأقفرت أرضها ودُكت معالمها، ويُتم أطفالها، وقُضي على خيرة شبابها
فما وراء هذه الحرب، أرخاء ووفاق يشمل العالم بأسره، أم بلبلة وشقاق؟ لا أدري. لكني أتفاءل خيراً بتدرج الإنسانية نحو المثل العليا التي تضمن سلامها ورخاءها ورقيها
فميثاق الأطلنطي بادرة أمل ورجاء. إذا تمكن العالم في الغد من تطبيق بنوده وتعميم نفعه، صحت الآية القائلة: على الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ولكن لا يعزب عن بال المصلحين أن الطبيعة البشرية أمارة بالسوء. فمن الواجب درسها وتمحيصها على ضوء العلم، والتغلغل في أعماق جذوعها، لتفهم عناصرها واستقصاء أطوارها. فعندئذ لا يصعب على البشر أن يتبينوا لها طريقاً قويماً. فبمقدار ما تصلح الطباع البشرية يصلح الكون
(بيروت)
توفيق حسن الشرتوني(577/20)
8 - القرآن الكريم
في كتاب النثر الفني
(إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)
(قرآن كريم)
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
لم نفرغ بعد من إفك صاحب النثر الفني
فالمسلون كافة يدينون بأن القرآن كلام الله ليس لإنسان فيه حرف، وصاحب النثر الفني يتكلم عن القرآن كأنه كلام النبي، ويبني على ذلك في بحثه ما قد بنى. وقد أوردنا على ذلك النصوص من كلامه في كلمتينا الرابعة والخامسة، لكننا قلنا في كلمتنا السادسة إننا لن نحتاج إلى تكرار نص إذا لج بزكي مبارك العناد فألجأنا إلى معاودة الاستشهاد
فهاك نصاً لم نذكره يجمع صنوفاً من الجهل وسوء الأدب
قال من فصل النسيب صفحة 147 من الجزء الأول:
(ولم نجد في المجموعات الأدبية مختارات نثرية في النسيب لأن مصنفي المجموعات كانوا يفهمون أن الغزل لا يخرج عن الأنفاس الشعرية). وقد كشف بقوله هذا عن قلة اطلاع، لأن كتاب (النثر المختار) يحوي أكثر من نص طويل من النثر الجاهلي في النسيب على مذهبه؛ لكن لا علينا، فليس هذا من همنا الآن وإنما همنا ما كتب عقب كلامه السابق عن القرآن قال:
(غير أننا في النثر لأقدم عهوده نماذج غزلية كالذي وقع في القرآن وصفاً للحور والوالدان نحو:
(وحور عين؛ كأمثال اللؤلؤ المكنون)
ونحو: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين)
وكما جاء في سورة الواقعة:
(إنا أنشأناهن إنشاء؛ فجعلناهن أبكارا عربا أتراباً)
فهذه كلها أوصاف تدخل في باب النسيب. ونسب إلى إحدى النساء حديث في وصف(577/21)
الرسول هو أيضاً نسيب، لأنها تكلمت عن أوصافه الحسية التي تعين أنه إنسان جميل، ووصف الجمال من ألوان النسيب. ثم جاء القصص الغرامي الذي شاع في عصر بني أمية وأول عصر بني العباس)
وأول ما نلاحظ على كلامه أنه أدرج القرآن مع كلام البشر في فصل من باب عقد لبحث خصائص النثر الفني في القرن الرابع، وكلامه السابق مقدمة هذا الفصل ليريك في زعمه تطور النسيب والغزل في النثر من أقدم عهوده إلى القرن الرابع، فهو بهذا يقول بلسان الفعل والتطبيق أن القرآن من كلام الناس، يحشر مع كلام الناس ويصنف مع ما يناسبه من أصناف كلام الناس. والصنف الذي وضع فيه الآيات السابقة هو الغزل والنسيب
فهل قرئ أو سمع في الأدب العربي قبل كتاب النثر الفني أن القرآن به غزل ونسيب؟ هل سمع أو قرأ لباحث مسلم أو غير مسلم قبل أن يكتب زكي مبارك كتابه أن آيات سورة الواقعة من الغزل والنسيب؟
ما هو الغزل وما هو النسيب عند الأدباء وعند كل الناس؟ أليس هو في أضيق حدوده إعراب إنسان عن الآفتان بجمال إنسان؟ فأي ركن من هذه الأركان يمكن أن يطبق على ما ذكر زكي مبارك من نصوص القرآن؟ دع عنك ما يصحب الغزل عادة من التمني الظاهر أو المستتر، فهل ذلك الوصف للحور في الآخرة يمكن أن يعد عزلاً بأي وجه من الوجوه؟
إن أحداً لم ير الحور، حتى يفتتن فيصف. وليست الحور من متاع الدنيا ونعيمها حتى يكون وصفهن ووصف نساء الدنيا من باب سواء. ولو تخيل كاتب أو شاعر نساء القرن الآتي فوصف من جمالهن وبالغ ما عد أحد ذلك من الغزل، فكيف يمكن أن يكون من الغزل جمال وصف الحور في الآخرة وهن من الغيبيات عند المؤمنين ومن الخياليات عند الملحدين؟
ولنفرض أن الحور حاضرات يراهن في الدنيا كل إنسان أفيعد جمال وصفهن من الغزل والنسيب؟ إن وصفهن عندئذ يكون مثل وصف نساء قطر من أقطار دنيانا هذه، فهل يعد هذا غزلاً ونسيباً، أم الغزل يقتضي تخصيص أنثى معينة أو إناث معينات بالافتتان أو الإعجاب؟
وعلى أي حال فمن هو المفتتن المعجب بالحور العين في القرآن إن الغزل يستلزم متغزلاً(577/22)
كما يستلزم متغزلاً فيه. يستلزم شاعراً أو كاتباً في طرف، كما يستلزم أنثى - أو غير أنثى في مذهب صاحب النثر الفني - في الطرف الآخر. فما هو الطرف الذي منه الافتتان فالوصف في القرآن؟ محمد بن عبد الله؟! إذن لقد دار البحث ورجع إلى نفس النتيجة التي ظهرت من الأول: أن صاحب النثر الفني يرى القرآن من عند محمد لا من عند الله، إذ لا يمكن أن يجوز أن يصدر من الله جل جلاله غزل أو نسيب
لقد كان في نفس النصوص القرآنية التي أوردها ذلك المغرور المتعالم ما يرده إلى صوابه لو كان يبحث حقاً، فقد عد من النماذج الغزلية في القرآن الآيات الكريمة (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً. عُرباً أتراباً). وهذا الكلام لا يمكن أن يكون من قول مخلوق، بشر أو غير بشر، لأنه لا يمكن أن يستقيم في عقل عاقل أن يكون أحد من الخلق أنشأ أو ينشئ صنفاً من النساء إنشاء في الدنيا فضلاً عن الآخرة. وإذا حاول مكابر أن يتجاهل دلالة المصدر ليصرف فعل (أنشأ) عن معناه الحقيقي إلى معنى مجازي يمكن أن يقوم به بشر، فقد حال الله سبحانه بينه وبين ذلك بقوله تعالى: (فجعلناهن أبكارا)، لأن الله وحده هو الذي يخلق الأنثى بكرا، لا يقدر على ذلك غيره سبحانه. أما البشر أجمعون فيعجزون حتى عن أن يردوا الشيب بكراً مهما حاولوا. فضمير المتكلم في تلك الآية الكريمة لا يجوز في عقل أن يرجع إلى محمد أو إلى غير محمد من العرب أو من الخلق أجمعين. لا يجوز ولا يمكن أن يرجع ضمير المتكلم في تلك الآية إلا إلى الخالق سبحانه، فهو دليل قائم ومذكر دائم أن القران ليس من كلام مخلوق، فلا يجوز أن يجريه أحد مجرى كلام البشر كما فعل زكي مبارك حين أجرى تلك الآيات الكريمة - وكلها من سورة واحدة - مجرى الغزل، وحضرها بجهله وسوء أدبه في فصل النسيب، برغم خلوها من كل شرط من شروط الغزل والنسيب
على أن خطل زكي مبارك لم يقف به عند أمر الحور بل جعله يتعداهن إلى الوالدان، فاجترأ على أن يدخل في باب النسيب قوله تعالى في أهل الجنة: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين)
وليس يدري أحد ماذا في هذه الآية الكريمة مما يمكن أن يدخل في النسيب من قريب أو من بعيد حتى على فرض أنها من قول النبي لا من قول الحق سبحانه. فالأكواب والأباريق(577/23)
والكأس لا يمكن أن يعد ذكرها من باب الغزل بحال، حتى لو كانت من خمر تغتال العقل؛ فكيف وهي من معين لا يصدح ولا يغتال كما أخبرنا الله سبحانه في الآية التي بعدها ليحول بين العقلاء وبين إنزال نعيم الآخرة منزلة ما يألف الناس في الدنيا، وليبطل إفك آفك إن زعم أو أراد أن يزعم أن الآية من الغزليات أو الخمريات. وما هي الآية التي بعدها؟ هي قوله تعالى: (لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزِفون). واسأل صاحب النثر الفني - البحاثة المتجرد عن الهوى - لماذا لم يذكر هذه الآية عقب أختها ليتم المعنى وليكون القارئ على بينة من الأمر وهو يقرأ لصاحب الكتاب إفكه المبين؟
لقد عرف صاحب الكتاب أن ذكر الآيتين معاً يفسد معناه ويفوت عليه غرضه. وغرضه أن يوقع في نفس القارئ أن الوصف وصف مجلس شراب كالمعروف في الأدب الخليع، إذ ماذا تنتظر من شرب بين خمر وولدان؟ فهذه هي القرينة الوحيدة التي أراد زكي مبارك أن يأتفكها ليصح له أن يقول إن آية (يطوف عليهم ولدان مخلدون) هي من باب الغزل والنسيب، وليوحي إلى القارئ أن ما سماه بعد في نفس الفصل بغزل المذكر كان معروفاً عند العرب، أو سيكون معروفاً في الجنة، أو ما شاء الشيطان أن يسخر صاحب الكتاب لنفثه وبثه في الصدور والنفوس. فان لم يكن هذا من مقصود صاحب الكتاب ومراده؛ فليخبرنا وجهاً آخر يمكن أن تدخل به تلك الآية في الغزل والنسيب بأي شكل أو على أي احتمال، مع أنه ليس فيها إلا مجرد لفظ الولدان، وليس فيها من وصفهم إلا أنهم (مخلدون). فليسوا من ولدان الدنيا التي علم منزل القرآن سبحانه أن سيجعل الشيطان لبعضهم أوصافاً لا تليق، فنزههم سبحانه عن تلك الأوصاف بقرينتين مانعتين: وصفهم بالتخليد، ووصف ما يحملون من شراب بأنه ليس مما يصدع الرأس أو يغتال العقل، وذلك فضلاً عن القرائن الأخرى المنبثة فيما قبل هاتين الآيتين وما بعدهما من الآيات.
وبعد فإن من أعجب عجائب القرآن الكريم وأروع مظاهر إعجازه أن تأبى آياته الكريمة هذا الإباء على من يبغيهن عوجاً، أو يبتغي لهن نقصاً، كهذا الذي أراد أن يجعل منهن غزلاً ونسيباً، وقد أكرمهن الله ونزههن وأعزهن أن يكون بهن غزل أو نسيب. ولو أفلح زكي مبارك أو غيره في مثل ما ابتغى وبغى، لكان ذلك الغزل والنسيب من كلام البشر، ولما كان القرآن هو القرآن الذي وصفه الله سبحانه بقوله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه(577/24)
الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد). وقد رأيت مثلاً من عزة القرآن كتاب الله، ورأيت كيف يرتد عنه الباطل مقهوراً مدحوراً لم ينل من قدس القرآن وحماه شيئاً، ولم يعلق بذلك القدس والحمى منه شئ. فالقرآن يدفع عن نفسه هذا الدفاع العجيب، ويمتنع من عدوه ذلك الامتناع التام الأشم , امتناع الحق من الباطل. وكل الذي يلزم لإدراك ذلك عقل يدرك وقلب يفقه ونية خالصة لله لا تعرج على ما سواه، وهي صفات تجتمع للمسلم حيناً ويعز اجتماعها كل حين
ومهما يكن من أمر الناظر في القرآن، فالقرآن فيه دلائل الإعجاز لمن يبصرها، وفيه كل قوى الحق ليس في الوجود ما يقهرها. (والله متم نوره ولو كره الكافرون)
محمد أحمد الغمراوي(577/25)
حول بعث القديم
للأستاذ محمد خليفة التونسي
قرأت مقال الدكتور محمد مندور الذي نشرته الرسالة في عددها (572) في (بعث القديم) وقد عنت لي عليه الملاحظات
الآتية:
أولاً: ذهب الدكتور إلي أننا لم نستخدم الطباعة إلا في سنة 1822، ولا أدري إلي أي مطبعة يشير الدكتور، ولكني أرجح أنه يشير إلى المطبعة التي أسسها محمد علي باشا، ولو رجعنا إلى كتب التاريخ حتى ما كان في أيدي صبية المدارس الابتدائية فضلاً عن كتب تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث لوجدناها تذكر أن هذه المطبعة أسست سنة 1821 وإن اختلف في اسمها فهي تدعى المطبعة الأهلية أو المصرية أو مطبعة الباشا أو بولاق والاسم الأخير أشهرها
ثانياً: ذهب في الكلام عن الجمعيات التي تألفت لنشر الكتب - إلى أن جمعية المعارف أسسها محمد عارف باشا وأنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860، وجمعية المعارف إنما أسسها إبراهيم بك المويلحي سنة 1867. قال الدكتور تشارلز آدمس في ترجمته: (وأسس حوالي سنة 1867 جمعية سماها (جمعية المعارف) لتعمل على نشر الكتب العربية القديمة. وأنشأ أيضاً مطبعة سماها باسم الجمعية لنشر مثل تلك الكتب)
وذكر الأستاذ الزيات سبب إنشائها فقال في ترجمته بعد أن ذكر إفلاسه في التجارة، وفشله فيما ولاه الخديوي إسماعيل من مناصب: (وجاءت وزارة شريف تريد أن تضع الدستور الأول فكان المويلحي ممن اختيروا لوضع (اللائحة الوطنية) ولكن آماله كانت تسفر دائماً عن الفشل، فابتغى الوسيلة إلى الرزق في الكتابة والنشر، فأنشأ (جمعية المعارف) لطبع الكتب القيمة وإذاعتها في مطبعة اشتراها لنفسه) وإسماعيل لم يل مصر إلا في سنة 1836 والمويلحي لم يؤسس الجمعية والمطبعة إلا بعد وضع اللائحة الوطنية، ومجلس شورى النواب الذي وضعت لائحته الوطنية في وزارة شريف لم يفتح إلا في 19 نوفمبر سنة 1866 وهذا مما يرجح أن إنشاء الجمعية كما قال الدكتور تشارلز آدمس كان سنة 1867. وقد ذكر المفصل أن تأسيس المطبعة كان سنة 1285هـ وهي توافق سنة 1867(577/26)
ثالثاً: بعد أن أشار الدكتور إلى جمعية المعارف السابقة وأنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860 قال ما نصه: (إلا أن حركة البعث أقدم من ذلك بكثير فهي لم تنتظر تكوين الجمعيات لتبدأ، ولعل انتشار الأفكار الأوربية بفضل أعضاء البعثات كان من أهم الدوافع لهذا البعث، فرجل كرفاعة الطهطاوي قد فطن بلا ريب أثناء إقامته بفرنسا إلى أن النهضة الأوربية التي رآها قد ابتدأت بحركة بعث قوية للآداب القديمة لاتينية ويونانية، ولهذا كان يؤمن بأن نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعني إلى جانب ذل ببعث القديم العربي)
وإن البعث قد بدأ قبل رفاعة الطهطاوي وليس الدافع إليه انتشار الأفكار الأوربية أولاً بل الدافع الأول الحاجة إلى ترجمة الكتب عن اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، فليس انتشار الأفكار الأوربية من أهم الدوافع إذ ذاك ولا هو منها في شئ. والترجمة بدأت على التحديد في سنة 1827، وهي السنة التي أسس فيها محمد علي باشا مدرسة الطب في أبي زعبل وجلب لها الأساتذة ما أوربا وأسند رياستها إلى الدكتور كلوت بك. وكانت اللغة الشائعة إذ ذاك قد وصلت إلى منتهى ما قدر لها من الانحلال والتهافت بعد أن وسعت كل ما قدم لها من المعارف زمن الدولة العباسية، كما كانت العلوم التي تدرس بمدرسة الطب قد نضحت في الغرب فناءت العربية الشائعة عن حملها إلى الطلبة الذين كانوا - من مصريين أزهريين وغير مصريين - عاجزين فهم ما يدرس لهم باللغات الأوربية، وكان الأساتذة لا يعرفون العربية ولو قد عرفوها كما كانت في عهدهم لعجزوا لقصورها وقصورهم عن إفهام طلبتهم ما يريدون، لذلك اضطر محمد علي إلى إحضار المترجمين من السورين والمغاربة والأرمن ليترجموا في الفصول ما يقول الأساتذة فيها بلغاتهم الأجنبية إلى العربية كيما يفهمه الطلبة. وليترجموا أيضاً ما يؤلف الأساتذة لطلبتهم من الكتب في الطب البشري والبيطري والتشريح والأقراباذين، وعلم وظائف الأعضاء، ولما كانت العربية المعروفة عاجزة عن الترجمة اضطر المترجمون إلى الاستعانة بما وضع العرب قديماً من مفردات فنية، وبهذا بدأ بعث القديم في مصر. قلت في مصر لأنني أقيد نفسي ببعث القديم والترجمة في مصر وحدها اعتماداً على أن الدكتور لم يتعرض لها في غيرها في مقاله بعث القديم، مع ملاحظة مقاله السابق (مصر الإسلامية) (الرسالة العدد 570)، وإن كان(577/27)
مما يفهم من ذلك ضمناً أن هناك من سبقوا المصريين في بعث القديم والترجمة، كالمستشرقين في أوربا، وكما وقع في سوريا بعد أن وفدت عليها البعوث التبشيرية من البروتستنت والكاثوليك، فقد أسسوا أول مطبعة في أوائل القرن السابع عشر، أي قبل أن يؤسس محمد علي باشا مطبعة بولاق بنحو قرنين، كما أسس الآباء اليسوعيون مطبعتهم في منتصف القرن التاسع عشر فبعثوا بما طبعوا كثيراً من الكتب، وقد كان المترجمون في مدرسة الطب في أبي زعبل من السوريين والأرمن والمغاربة - كما قدمنا - وعلى أيدي أولئك المبشرين تعلم أولئك المترجمون، وبدأت ترجمتهم وبعثهم القديم في مصر سنة 1827؛ فإذا بحثنا عن رفاعة الطهطاوي حينئذ وجدناه في باريس يتعلم مبادئ هجاء الفرنسية لأنه لم يبعث إلى فرنسا إلا في إبريل سنة 1826، وعاد إلى مصر سنة 1831، ولم يهتم ببعث الكتب القديمة إلا في عهد سعيد باشا بعد أن رجع من السودان، فأحيا قلم الترجمة بنفوذه بعد أن مات في أيام محمد علي، وهنا ذكر الشيخ عهده بالمستشرق ده ساسي والمستشرق كوزن وما يقوم به المستشرقون من أعمال قيمة في خدمة اللغة العربية بنشرهم أمهات الكتب؛ فوضع مشروعاً للعناية بتصحيح الكتب القديمة القيمة وطبعها بمطبعة بولاق، وعرضه على سعيد باشا فأجازه)، ونحن نعلم أن سعيداً لم يل مصر إلا في سنة 1845، فإسناد الدكتور سبب بعث القديم إلى رفاعة الطهطاوي خطأ بلا ريب، وإلصاقه به إيمانه بأن (نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعني إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي) إلصاقه برفاعة ذلك تخرص بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، بل هو يدل على أن الدكتور في مقاله يحوم حومان الصفيين ويحدس حدسهم، ولا يقع وقوع العلماء ويتثبت تثبتهم، وإن كان ما قلناه لا ينفي أن رفاعة قد شد أزر البعث وتوسع فيه وإن لم يكن المبدع له حتى في مصر، ولا ينفي أنه أصبح يؤمن بعد ذلك بحاجة نهضتنا إلى بعث القديم إلى جانب النقل وإن كان ما دفعه إلى هذا البعث تقليده المستشرقين في هذا الميدان إذ كان قد صادف أيام وجوده في باريس علمين من أعلامهم: أحدهما الأستاذ سلفسر ده ساسي مدير مدرسة اللغات الشرقية، وكان واسع الاطلاع في العربية، نشر كتباً عربية كثرة وألف شرح مقامات الحريري المتداول بين أيدينا وقد توفي سنة 1838؛ وثانيهما الأستاذ كوزن وقد نشر كثيراً(577/28)
فرفاعة إذن لم يبدأ البعث إلا مقلداً المستشرقين، وذلك بعد تأسيس مدرسة الطب بنحو ثلاثين سنة وقبل تأسيس المويلحي جمعية المعارف بنحو عشر سنوات
رابعاً: وإذا رجعنا إلى صدر الفقرة السابقة لم نجد مفراً من الجزم بأن آثار البعث قد ظهرت في النثر قبل ظهورها في الشعر. فالبارودي الذي يمثل أول أثر البعث في الشعر لم يكن قد ولد حين نهض النثر ليحمل تراجم تلك الكتب، فالبارودي لم يولد إلا سنة 1839 (1255هـ) بينما الكتب التي ترجمها وألفها المترجمون كالمسيو عنحوري والمسيو رفائيل وغيرهما تبدأ قبل مولد البارودي بنحو اثنتي عشر سنة، والكتب التي ترجمها وألفها رفاعة وأصحابه وتلاميذه بدأ ظهور بعضها قبل سنة 1831 حين عاد رفاعة إلى مصر وظهر كثير منها والبارودي لم يولد وبعضها وهو ملفوف في أقمطته إذا كانت مدرسة الألسن قد أسست برياسة رفاعة نحو سنة 1834 وما أسرع ما نبغ كثير من تلاميذه في الترجمة والتأليف مثل عبد الله أبو السعود واحمد عبيد وخليفة محمود فألفوا وترجموا كثيراً من الكتب، ولا ريب أن هذه الكتب التي ظهرت قبل شعر البارودي كانت تكتب نثراً لا شعراً، ولا ريب كذلك أن نثرها - وإن لم يبلغ مبلغاً عالياً من البلاغة - يرتفع كثيراً عن نثر الجبرتي والشرقاوي، وغيرهما قبله وإذن فالنثر قد تأثر قبل الشعر ببعث القديم لا كما زعم الدكتور في مقاله وكرر زعمه مرتين من أن الشعر تأثر ببعث القديم قبل النثر، ولكن لا مفر لنا من تقييد النثر الناهض بأنه النثر التأليفي وليس النثر الفني أو الأدبي، وإن كان هذا لا ينفي أن النثر الأدبي أيضاً قد استمد من بعث القديم مادة غزيرة للفكر، وذلك لأن نواة النهضة الثقافية في مصر هي العلوم التي كانت تدرس في مدرسة الطب بأبي زعبل. وفي ذلك قال الزيات: (لم ينل الأدب من عناية الأمراء العلويين ما نال العلم)
خامساً: قال الدكتور: (في الحق إننا لا نعرف أسلوباً يتميز به الأدب الحديث بأضيق معانيه غير أسلوب القصة، فهي أكبر مظهر من مظاهر الأدب الحديث، وليس بخاف أن القصة حديثة العهد ببلادنا، وهي بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهذا واضح من حديث عيسى بن هشام، فأسلوب المويلحي برغم حرصه على أوجه العبارة البلاغية لا يخلو من فكر وإحساس صادقين، وذلك لأن القصة بطبيعتها تقدم للكاتب مادة، وكل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة. ومنذ أن(577/29)
خطا أسلوب النثر تلك الخطوة أخذ يشيع في غير القصص حتى امتد إلى المقالة أو الموضوع القصير) ونلاحظ أولاً في عبارة الدكتور أنه استعمل الأسلوب بمعنى القالب فسمى القصة أسلوباً، وخير أن تسمى قالباً وسنسميها هنا كذلك، واستعمل الأسلوب بمعنى طريقة التعبير ونحن نوافقه على ذلك، ثم نذكر أن عبارته تشتمل على قضيتين: الأولى أن القصة هي التي غذت السجع بمادة الفكر ونقلته من التفاهة إلى الجد، ويستشهد على ذلك بحديث عيسى بن هشام للمويلحي. والقضية الثانية أن مادة الفكر قد أثرت هذا الأثر في القصة ثم في المقالة أو الموضوع القصير
أما عن القضية الأولى فإننا نعلم من تاريخ إبراهيم المويلحي أنه لما عاد من الآستانة إلى مصر سنة 1894 أو سنة 1895 أسس جريدته الأسبوعية مصباح الشرق، وقد قال فيها الزيات: (هي صحيفة أسبوعية كان يدبجها باللفظ الرشيق والأسلوب الأنيق، ويرسلها بالسهام النافذة في الاجتماع والنقد والسياسة، فقضت حاجة في نفوس الأدباء، ونهجت لهم الطريق السوي في الإنشاء، ووطأت له هو أكناف الرؤساء والكبراء، واستمر على إصدارها حتى حان يوم وفاته)
وذكر في المفصل أنها (كانت نموذجاً من أعلى نماذج الأدب الحر في هذا العصر، يتطلع إليها المتأدبون في شوق ولهف لما تطلع به من مصفى الكلام ومنتقاه، وأبدع البيان وأحلاه في أبواب السياسة والعلم والفلسفة والأدب، ويترقبها الكبراء في قلق ووجيب قلوب. . . فلقد كان المويلحي أقدر كتاب العربية على النقد وأمرهم وأوجعهم. . . وكان يعاونه في تحرير هذه الصحيفة الفذة ولده الأديب الكاتب العالم محمد بك المويلحي وهو الذي كان يكتب رسائل (حديث عيسى بن هشام) التي سويت بعد كتاباً) وأريد أن أقف هنا ولا أرجع القهقرى الآن لأسأل الدكتور: أكان ما تنشر هذه الصحيفة في العلم والفلسفة والاجتماع والأدب والنقد كلاماً فارغاً من المعاني، ولم تكن تحتوي على المادة الفكرية فيها إلا رسائل حديث عيسى ابن هشام وهي لا تخرج في مضمونها عي النقد، وقلم إبراهيم المويلحي الذي كان يرسل بالسهام النافذة في الاجتماع والنقد والسياسة، فيترقبه الكبراء في قلق ووجيب قلوب، أبقى هذا القلم لا يكتب إلا للغو حتى جاء الابن محمد فزوده بمادة الفكر ونقله من التفاهة إلى الجد؟ أيهما أكبر يا سيدي جحا أم ابنه؟ وأيهما علم الآخر النقد: الأب(577/30)
أم الابن؟
ولنرجع إلى ما قبل ذلك مع المويلحي الأب حين أصدر هو وعثمان جلال صحيفتهما (نزهة الأفكار) سنة 1869، وكانت شديدة اللهجة فلم يلبثها إسماعيل باشا حتى ألغاها. فهل كان ما تكتب هذه الجريدة كلاماً خالياً من الفكر حتى يلغيها إسماعيل؟ وأسأل الدكتور ثانياً هنا: أكان الابن محمد قد ولد في هذا الوقت أم لم يولد؟
أحسبك هذا يا سيدي أم تريد التوغل إلى الوقائع المصرية التي أسست سنة 1828، وما كانت تنشر من بحوث علمية وأدبية واجتماعية وفلسفية ودينية وقانونية منذ أسست، لأنها لم تكن قبل كما نراها اليوم قاصرة على الأمور الرسمية، بل كانت تتسع لكل ما تتسع له جرائدنا اليوم، فقد كتب فيها رفاعة وأصحابه وتلاميذه ومحمد عبده وتلاميذه، ثم صحيفة (اليعسوب) الطبية التي أنشأها محمد علي البقلي باشا سنة 1865 وجريدة وادي النيل التي أسسها عبد الله أفندي أبو السعود سنة 1865 ومجلة (روضة المدارس) التي أسست سنة 1870، وفيها يقول المفصل: (كانت تفيض بسابغ الفصول فيها أقلام أئمة العلم والأدب من أمثال رفاعة بك وعلي مبارك باشا وإسماعيل باشا الفلكي والشيخ حسين المرصفي وعبد الله باشا فكري، والواقع الذي لا مرية فيه أن هذه المجلة كانت مما نفخ في روح النهضة اللغوية والأدبية في هذه البلاد)، وفيها قال الزيات: (مجلة علمية أدبية يحررها نخبة من ذوي المكانة في العلم والأدب)
وما ألف وترجم رجال الثقافة في مصر في القرن التاسع عشر من كتب في العلوم المختلفة إلى منتصف العقد العاشر قبل تأسيس مصباح الشرق. أكل أولئك كان لغواً من القول وزوراً حتى ظهرت القصة وهي المعجزة السحرية التي أجراها الله على يد محمد المويلحي في حديث عيسى بن هشام، فأخذت كما قلت تغذي السجع بمادة الفكر، وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهل خفي على الأستاذ وهو يتعرض لتاريخ الثقافة في العصر الحاضر أنها بدأت علمية؟
أما القضية الثانية وهي أن القصة تأثر سجعها بمادة الفكر حتى انتقلت من التفاهة إلى الجد ثم امتد ذلك إلى المقالة أو الموضوع القصير - فنحن لا نوافق الأستاذ على رأيه فيها - فما قدمناه في الرد على القضية الأولى يكفي لبيان فساد الثانية، لأن ما كتب أولئك الأئمة(577/31)
في الصحف التي أشرت إليها قبل مصباح الشرق لم يكن قصصاً، بل مقالات. والنتيجة التي لا مفر لنا من استخلاصها إذن هي أن المقالة قد تأثرت بمادة الفكر، وانتقلت من التفاهة إلى الجد قبل القصة، ثم شاع ذلك في القصة وفي غيرها، فالعلوم قد أمدت أولئك الكتاب بالمادة، وكما قال الدكتور: (كل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة) وهذا تسلسل منطقي مقبول ولا ريب.
وبعد فقد طال المقال، ولنا رد على رأي الدكتور في المنفلوطي وانقسام النثر إلى تيارين الآن ورأيه في نثر الإمام محمد عبده والأسلوب الشائع في عصره والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك، فلنقف عند هذا الحد مكتفين فيما سبق بالإيجاز المخل، لأن الموضوعات التي تعرضنا لها تشتمل على الثقافة في النهضة الحديثة كلها، فلا بد لها من البحث المستفيض، ولكن حسبنا من الكلام فيها ما يؤدي بنا إلى الإفهام.
هذا وللدكتور مني إعجابي وتحياتي
محمد خليفة التونسي(577/32)
نقل الأديب
الأستاذ محمد استعان النشاشيبي
582 - فلم أر فيه للشراب حدوداً
في (مطمح الأنفس) للفتح صاحب (القلائد): قال أصحاب محمد بن عيسى (قاضي قرطبة) ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس، فعرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه، وأراد الانصراف فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط وأطرق، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به بين الأنام فريداً
قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدوداً
فإن شئت أن تجلد فدونك منكباً ... صبوراً على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ... تروح بها في العالمين حميدا
وإن أنت تختار الحديد فإن لي ... لساناً على هجو الزمان حديدا
فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه
583 - تبا لها! قد كان بصري فيها ثابتا
في الطبقات لابن سعد:
عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال: إني لا أشرب شيئاً يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدني مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد، فنزلت هذه الآية في سورة المائدة في الخمر. فمر عليه رجل فقال: حرَّمت الخمر، وتلا عليه الآية فقال تبّا لها! قد كان بصري فيها ثابتاً
(قلت): هذه الآية هي الكريمة العظيمة:
(يا أيها الذين آمنوا، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون)(577/33)
سلام على أسمهان!
للأستاذ علي أحمد باكثير
غرقتْ؟ كيف يغرق النُّور والحس ... نُ وفنَّ الخلود في شبر ماءِِ
ما تقولون؟ هل تجدُّون أم تا ... هون أم هل يجد صرف القضاء؟
لو حواها البحر العريض أضق ال ... بحر ذرعاً عن روحها الشّماءِ
أو حوتْها الصحراء لاَنْتفَضتْ ظ ... لاَّ وماء في جنة خضراءِ!
لَِم لَمْ تغرق الكواكب والشُّهب ... وشمس الضُّحى وبدر السماء؟
صوتها العبقري قد كان يُغْني ... عن ضياء ينير في الظلماء!
مَم شَدَا بعد أسمهان بحن ... فَلأُذنِ عن لحنه صّماْءِ
ما عزائي من بعدها بنشيد ... أو غناء ولات حينَ عزاء؟
ضلَّةً قيل إنها بُلبلٌ أو ... كروانٌ أو عندليبُ غناءِ
أين من صوتها حناجر طير ... أو أرانين آلة خرساءِ؟
صوتها الصوت للخلود وللفر ... دوس لا للدُّنيا ولا للفَناء!
أسمع اللهُ منه للناس حيناً ... ليحنُّوا شوقاً لدار الجزاءِ
ليَروْا أنْ ما على الأرض فان ... والنعيم النعيم في الفيحاء!
ليت عيني تذهبان ويُضْحِى ... خطبُها كاذباً من الأنباء!
شهر يوليوَ مَنْ ذا يردُّك ابري ... لَ وأعطيه مهجتي وذَمائي؟
شهر يوليو لا كنت يا شهر يوليو ... أنت شهر الدموع والأرزاء
آه يا أسمهان! يا بهجة الدُّني ... اوأغنية السنَّا والسّناءِ
خرست بعدكِ البلابل في الرو ... ض وجفت جداول السّرّاءِ
وظلال الفن الرفيع اضمحلّت ... وتولّت بشاشة النُّدماء!
كنت أبكي - إذا سمعتُك تش ... دين - بدمع يندى على أحشائي
صرت أبكي - إذا سمعتك تش ... دين - بدمع مُرورّد بالدماء!
ليت عيسى يعود حيَّاً فُيحيي ... ك لتُحيي موتى من الأحياء!
أنت أولى بمعجزات رسول ... بثَّه صوتُ الله في العذراء(577/34)
فاذهبي كالربيع. . . كالكوكب الها ... وي. . . كساى النسيم. . . كالأنداء!
واخلدي في القلوب ما خلد الفنُّ ... وجاشَتْ بلابلُ الشعراء
وارقدي في ثَرَى الكنانة واقضي ... ما تشائين من هَوًى ووفاء!
نضَّرَ اللهُ بالنعيم مُحيّا ... كِ وأولاك منزل الشُّهداء
(المنصورة)
علي أحمد باكثير(577/35)
ألزم الألزم من لزوم ما لا يلزم
لأبي العلاء المعري
منع الفتى هيْناً فجر عظائما ... وحمى نمير الماء فانبعث الدم
لا يتركن قليل الخير يفعله ... من نال في الأرضتأييداً وتمكينا
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم ... لما رأيت بني الأعدام شاكينا
فإن تعش تبصر الباكين قد ضحكوا ... والضاحكين لفرط الجهل باكينا
قبيحٌ مقال الناس جئناه مرة ... فكان قليلاً خيره لم يعاون
إذا أنت لم تعط الفقير فلا يبن ... له منك وجه المعرض المتهاون
إذا ما فعلت الخير فاجعله خالصاً ... لربك وازجر عن مديحك السنا
فكونك في هذى الحياة مصيبة ... يعزيك عنها أن تبر وتحسنا
فلتفعل النفس الجميل لأنه ... خير وأحسن لا لأجل ثوابها
أشد عقاباً من صلاة أضعتها ... وصوم ليوم واجب - ظلم درهم
توهمت يا مغرور أنك دّين ... علّى يمين الله مالك دين
تسير إلى البيت الحرام تنسكا ... ويشكوك جار بائس وخدين
والظلم يمهل بعض من يسعى له ... ومحل نقمته بنفس الظالم(577/36)
البريد الأدبي
تفسير الحلم
رداً على سؤال الأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في العدد السابق من الرسالة نحيل حضرته إلى مقالنا المنشور بالعدد 573 من الرسالة بعنوان (العقل الباطن)، وفيه تفسير واف لحلمه؛ فإن العقل الباطن أنشط بكثير من العقل الواعي. ولحلمه هذا، الذي يعده علماء النفس من أحلام اليقظة، تأويلان:
أولهما: أن عقله الباطن سبق عقله الواعي واستدرك عليه ما نقص من مطالعته
ثانيهما: أنه يغلب على الظن أن حضرته طالع الفقرة التي يشير إليها في الكتاب وهو بين اليقظة والنوم في حالة كان الفكر فيها مكدوداً تمر به الحقائق مر الأطياف، فم يدرك أنه قرأها، ومن ثم فسرت القوة الباطنة ما تبهم على القوة الواعية. ولعل القارئ كان تفكيره مصروفاً إلى ناحية أخرى على حين أن نظره كان متشبثاً بالحروف التي تكون الجملة المشار إليها وسنعود إلى علاج هذا الموضوع في شئ من التفصيل إن شاء الله.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو
عوُدٌ إلى وحدة الوجود
لم يكن في نيتي أن أعود إلى (وحدة الوجود) بعد كلمتي الأخيرة التي كنت أعتقد أن فيها دفعاً لكل شبهة؛ ولكن يظهر أن طريقتي في الإيجاز لا تستقيم مع الأسلوب الجاري عندنا في الجدل، فلا بد لي إذن أن أسهب وأطيل حتى يكون في القول شفاء ومَقْنَع وما دام الأستاذ الفاضل دريني خشبة قد دعانا إلى اتخاذ الصراحة في القول، فلا بأس من أن نأخذ بنصيحته، داعين الله أن يقينا شر العواقب!
ولسنا نريد أن نمضي في دفاعنا عن وحدة الوجود، دون أن نبين الفرق بين هذه النظرية وغيرها، فإن هذه التفرقة من شأنها أن تجلي لنا جانباً كبيراً من المشكلة التي نحن بصددها. ولعل أهم فرق بين مذهب وحدة الوجود ومذهب المؤلهة أن الثاني ينظر إلى الله باعتباره طرفاً مقابلاً للطبيعة، أي باعتباره موجوداً خارجاً عن الكون: يخلقه ويحفظه(577/37)
ويتصرف فيه من الخارج بينما ينظر الأول إلى الله على أنه يكون مع الطبيعة شيئاً واحداً ويعمل في الكون من الداخل باعتباره (قوة) أو (طاقة). فالفرق الجوهري بين مذهب وحدة الوجود ومذهب المؤلهة، ينحصر في مسألة علو الله على الكون ومباينته له. أو بطونه فيه ومحايئته له
وإذا نظرنا الآن إلى هذه المسألة نظرة عقلية خالصة، فإننا نجد أن الأدنى إلى الصواب أن يكون الله باطناً في الكون، لا عالياً عليه: ذلك أن الذات الإلهية لا يمكن أن تكون ذاتاً مشخصة، وإلا كانت محدودة معينة، فلا بد لنا إذا أردنا أن ننزه الله التنزيه الواجب، أن نتجنب كل ضرب من ضروب التشبيه أو التجسيم أو التشخيص، فنقول إن الله ليس كمثله شئ، أي أنه ليس لذاته حد ولا وصف. ولما كانت الصفة الوحيدة التي نستطيع أن ننسبها إلى الله (وهي في الحقيقة صفة سلبية خالصة)، هي أنه غير متناه، فلا يمكن أن يكون هناك شيء غير الله، ولا بد إذن بالتالي أن يكون العالم جزءاً منه.
وعلى ذلك فإن الكون مظهر الله، أو مجلي من مجاليه، إذ لو كان ثمة شيء غير الله، لكان الله محدوداً، ولما وجد في كل مكان هذه هي الحقيقة الجوهرية التي يقوم عليها مذهب وحدة الوجود، وهي عندي حقيقة ثابتة تتأيد بكل وجه من الوجوه، وقد انبرى جيته للدفاع عنها، فقال عنها: (إن من خطل الرأي أن نتحدث عن الله باعتباره منفصلاً أو مستقلاً عن الطبيعة، فإن الفصل بين الله والطبيعة هو بمثابة الفصل بين النفس والبدن. وإذا كنا لا نعرف النفس إلا عن طريق البدن، فكذلك نحن لا نعرف الله إلا عن طريق الطبيعة. فمن التعسف إذن أن نكيل التهم لأولئك الفلاسفة الذين يوحدون بين الله والطبيعة، وليس من شك في أن كل ما هو موجود لا بد أن يكون متعلقاً بالجوهر الإلهي، لأن الله هو الموجود الوحيد الذي يشمل وجوده سائر الموجودات ويستوعبها جميعاً. . . وإن الكتاب المقدس نفسه لهو بعيد عن معارضة هذه الحقيقة، على الرغم من أننا نختلف في تفسير عقائده حسب ما يتراءى لكل واحد منا)
وفي استطاعتنا أن نضيف إلى عبارة جيته، أن الكتاب المقدس ينطوي على أقوال تؤيد وحدة الوجود بصراحة، فإننا نجد عبارة للقديس بولس يقول فيها: (إننا في الله نحيا ونتحرك ونوجد)، وعبارة أخرى يقول فيها: (إن منه (أي من الله) وبه، وله كل الأشياء)،(577/38)
فليس مذهب وحدة الوجود إذن وقفاً على الفلاسفة والمفكرين، بل إن هذا المذهب شائع في كثير من الديانات كما يظهر بالنسبة إلى المسيحية التي تقول إن الله حي في كل شيء، وكل شيء في الله
بقي لنا بعد هذا أن نتعقب الاعتراضات التي وجهت إلى هذا المذهب، فنرد على كل اعتراض منها على حدة. وقد سبق لي أن كتبت بحثاً عن (الاتحاد والحلول ووحدة الوجود) عرضت فيه لنقد ابن تيمية الذي هاجم فيه هذا المذهب، فلعلي أستطيع أن ألخص طرفاً منه في كلمة أخرى إن شاء الله.
زكريا إبراهيم
الفهم والشعر والمال
قرأت (إلى زائرة) وليست (إلى زائرة) من أجود قصائد بشر فارس ولكنها على كل حال ترمز إلى ترجرج العاطفة عند الشاعر وقد تولته نوازع الغريزة فكتب بها فكانت قصيدته تلك ظلاًّ لحالته النفسية
وبعد ليس الشعر ألهية عارضة يقرأ كما يقرأ الخبر المحلي في الصحيفة
فليعد الأستاذ الزحلاوي إلى إعادة قراءة زائرة فلعله يكون أول الفائزين. ولي رجاء أن لا يتبرع الزحلاوي بعد اليوم بالمال من أجل الفهم
بهذه الفقرات ختم (صلاح الأسير) كلمته التي نشرها في مجلة الأدب البيروتية عن (الجائزة الأدبية) واعتقد أنه لم ينل ناقد من أديب بمثل ما نال (صلاح الأسير) من صديقه بشر فارس في تصديه للدفاع عن شعره واجتهاده في تفسير حالته النفسية عندما نظم قصيدته إلى زائرة، وهل من سلاح أقتل من سهم مسموم يريشه عدو إلى صدر شاعر يدافع عنه فيقول فيه: إنه (مترجرج العاطفة تتولاه نوازع الغريزة) فكانت قصيدته المشؤومة تلك ظلاًّ لحالته النفسية؟
كنت ولا شك، رءوفاً بالشاعر بشر فارس عندما تظاهرت بالتواضع فنسبت لأداة فهمي الركود والعي، فاستنجت بأرباب الفهم، في مصر والبلاد العربية، حتى لا أنسب إليه عيوب ترجرج العاطفة، والتواء الذهن، والحمي الحيوانية التي تنتاب من تتولاهم نوازع(577/39)
الغريزة
ما كنت أود أن أقول إن الدكتور بشر فارس ليس بشاعر ولا يمت إلى الشعر بصلة، وأن ليس بينهما إطلاقاً أواصر قربى ووشائج تعارف، ولكن الأستاذ الأسير - عافاه الله - قالها على طريقته هو، طريقة الصداقة والعداوة، الجاهلة والعاقلة، فلينعم إذن بشر فارس المتهم بصلاح الأسير المدافع
أي أديب يا صاحبي لا يعرف أن الشعر ليس بألهية عارضة؟ بل يجب أن تعلم يا صاحبي أن الأديب لا يعرف أن الشعر صدق، ووضوح، وملاحظة، ونقد، وإنسانية، وعطف، وفلسفة وحب، إنما هو أديب مشكوك فيه. بل يجب أن تعلم مرة ثانية أنه لا يكفي الشعر المعنى المبتكر، ولا الديباجة الرائعة بل يجب فيه الاتساق الفني بين المعنى والديباجة يربطهما الجرس الموسيقي، وعندها تحس النفس بجمال لدنى وبطرب ونشوة تعجز عن تحليل عناصرها، فكيف به إذا خلا من كل هذه العناصر الأساسية؟
رجاني الأستاذ الأسير أن لا أتبرع بعد اليوم من أجل الفهم، فأنا أطمئن الأستاذ على أني وقفت حياتي (من المهد إلى اللحد) على العلم والفهم، فهل أضن بمالي من أجل الفهم؟ وليفهم الأستاذ الأسير (أن كل ما في الأرض من مال لا يكفي لتفتيح ذهن من الأذهان ليفهم مثل هراء بشر فارس)
حبيب الزحلاوي
مكتبة نقابة الصحفيين
أهدي إلى مكتبة نقابة الصحفيين 12 كتاباً من رياسة مجلس الوزراء و47 من وزارة الأشغال و7 من إدارة المطبوعات و7 من المتحف الحربي و8 خرائط وأطالس كبيرة من مصلحة المساحة والمناجم و5 مجلدات من مصلحة الإحصاء والتعداد و8 من مرصد حلوان و10 من لجنة التأليف والترجمة والنشر (هدية أولى) و3 من الاتحاد المصري للصناعات و63 من مكتبة المعارف و5 من مكتبة العرب و23 من المطبعة العصرية(577/40)
العدد 578 - بتاريخ: 31 - 07 - 1944(/)
الأدب الإغريقي
في عصر الإسكندرية
للدكتور محمد مندور
خلصنا من المقال السابق إلى أن الأدب الإغريقي في عصر الإسكندرية كان كنبات في بيوت من زجاج، فهو بمعزل عن الفضاء الطلق حيث تهب نسمات الحياة منبعثة عن الشعب. ومع ذلك فالنبات - كما قلنا - لم يذو كله وإن شحبت نضرته وقل ماؤه
ولما كانت ملابسات الحياة لم تدفع إلى فن أدبي بذاته، ولا غلبت فناً على فن. فقد كتب أدباء ذلك العصر في كافة الفنون. ولكنني لا أستطيع أن أقف مع القارئ عند كل منها، ولقد سئمت القبح حتى أعود استخرجه من بطون الكتب. وأي خير في أن أطلعك على شعر أو نثر ترى فيه مدح الملوك قد حل محل الوطنية، والتملق محل حرارة القلب، والخرافة محل الإيمان، والتعلق بالخوارق محل تبجيل الآلهة، ثم التفيقه والتبجح بالمعرفة المحصلة المكتسبة محل استطلاع المجهول والحرص على الفهم الصحيح. وإنما أقف بك حيث يعود هذا الأدب فيتصل بالحياة وإذا بالجمال يشرق في نواحيه. أقف عند نفس تفتحت للحب فتذوقت حياة الريف وأنشدت مع الرعاة أناشيدهم. أقف عند نفس تحن إلى الماضي فتستنشق شذاه أو تمعن في الحاضر فترصد أحداثه وقد نطقت بأسرارها
شعر المقطوعات
ولنبدأ بشعر المقطوعات وهي قطع شعرية صغيرة لا تكاد تعدو العشرين بيتاً، ولكنها كثيرة العدد حتى لتملأ أكثر من مجلد في المجموعة المعروفة (بالمختارات وهي لأكثر من أربعين شاعراً من شعراء ذلك العصر، وإن يكن معظمهم من ضعاف الشعراء. ومع ذلك فمن بينهم من تطرب النفس لشعره طرباً حقيقياً. خذ مثلاً الشاعر ألكبيادس الساموسي تجد له ما يقرب من ثمان عشرة مقطوعة شديدة الشبه بشعر أليسه وسافو:
(اشرب يا ألكبيادس. لِمَ هذه الدموع؟ أية محنة قد أصابتك؟! لست الوحيد الذي اتخذت منه كبريس إلهة الحب) فريسة. لست الوحيد الذي أردته سهام إيروس القاسي. لِمَ تدفن نفسك في التراب؟! لنشرب نبيذ ياكوس ضافياً. هاهو الفجر ينبثق. إذا كان المصباح قد انطفأ(578/1)
أتريد أن تنتظر حتى يستيقظ؟ لنشرب في مرح. أيام أخرى قلائل - أيها المسكين - ثم يطويك الظلام الرحب تستريح بين أحضانه)
أو ما تحس في شعره بجمال الأسرار. جمال الاعترافات. نجوى نفس أليفة. شاعر مرهف
وخير من ألكيبيادس فيما أظن ليونيداس الترنتي من شعراء القرن الثالث ق. م. ولد فقيراً وعاش مشرداً، فتوثقت معرفته بالحياة. كتب لوحات للمقابر والنذور ومحفورات للتماثيل وصوراً للشعراء والفنانين وقطعاً فلسفية وأخلاقية، كتب الكثير منها لصغار الناس: صيادين وعزّالات يحملون القربان إلى الآلهة أو يموتون لشدة الكد في الحياة، ومن ثم واقعية شعره وألفاظه الملونة بالمهن المختلفة، ألفاظ دقيقة تشف عن عاطفة حيِيَّة. لقد عبر في سحر عن جمال الحياة الفقيرة الجاهدة كما عبر عن روعة الربيع وصفاء الينابيع استوحى مثلاً الشاعر القديم سيمونيدس فوصف حقارة الحياة. وصف تلك النقطة، الهروب بين أبديتين: أبدية الماضي وأبدية المستقبل
(لقد انقضى أيها الرجل زمن سحيق قبل أن تأتي إلى الحياة وسينقضي زمن سحيق بعد نزولك إلى هاديس (العالم الآخر). ما هي برهة حياتك؟ نقطة أو أقل من ذلك، وهذه الحياة شاقة، فاللحظة الراهنة ذاتها لا سرور فيها، بل إنها لأشد إيلاماً من الموت البغيض. اهرب إذن من الحياة، اهرب إلى المرفأ)
ولربما كان أقوى الجميع ملياجر الذي جمع مختاراته المسماة (بالتاج) فكانت نواة للمختارات الإغريقية التي بين أيدينا. ولنستمع إليه يرثي هليودورا حبيبته:
(لتذهب إليك دموعي، هليودورا، هدية! لتذهب إلى هاديس كأثر مقدس لحبي! دموع قاسية الإراقة. هأنا أسكب فوق قبرك الذي طالما بكيته، أسكب الأسى ذكرى لغرامي. أنا ملياجر، أئن من أجلك أيتها العزيزة الراحلة، أئن في ألم، ألم مبرح. قربانا للأكيرون لا خيرَ فيه. وا أسفاه! أين غصني الأخضر الذي طالما أحببته! لقد سلبني إياه هاديس، وهذه الزهرة المتفتحة قد غبرها التراب، آه إنني أضرع إليك جاثياً، أضرع إليك أيتها الأرض الكريمة الثمار أن تتقبلي في رفق من الطفلة المبكية، تقبليها في رفق أيتها الأم وضميها إلى صدرك، بين أحضانك)
أغاني الرعاة(578/2)
وهنا أيضاً دعنا نكتفي بتيوقريطس؛ فهو أكبر شعراء الرعاة، بل أكبر شعراء عصر الإسكندرية، ولعله من كبار شعراء الإنسانية، ولنوجز ما نريد معرفته عنه لنستطيع بعد ذلك أن ننصت إلى شيء من شعره وفيه ما يبعث النضرة في القلوب
ولد تيوقريطس في سيراكوسة بصقلية في السنوات الأخيرة من القرن الرابع ق. م. وأمضى جزءاً من حياته بجزيرة كوس حيث تعرف إلى الشاعر فيليتاس ومدرسته كما تعرف بألكبيادس الساموسي السابق الذكر وبأراتوس، وعاش جزءاً آخر في إغريقية الكبيرة (= جنوب إيطاليا). أرسل قبيل سنة 270 ق. م. إلى هيرون مستبد سيراقوسة قصيدة مدح ليمنحه رعايته ولكنه لم ينجح فانصرف بمديحه إلى بطليموس فيلادف وعاش في الإسكندرية بعض الزمن. وأما تاريخ موته فلا نعرفه على وجه التحقيق
لدينا من شعره عدد من المقطوعات الصغيرة ثم ثلاثون قصيدة تسمى (إيدليا) وهذه اللفظة تصغير للفظة إبدوس الإغريقية، وإبدوس معناها قصيدة غنائية إطلاماً واذن فالإيديليا هي القصائد أو اللوحات الصغيرة. ولكنه لما كانت قصائد الرعاة تغلب في المجموعة؛ فقد غلب هذا المعنى على اللفظ في العصور الحديثة
ولكن شعر تيوقريطس في الحقيقة ليس كله من أغاني الرعاة؛ فمن بين الثلاثين قصيدة تسقط خمساً منتحلة واثنتين كشوك فيهما، وننظر في الباقي فنجد من بينها أغاني الغرام وفصول المحاكاة التي تشبه أشعار هيرونداس. ومنها الريفيات التي تجمع بين الغناء والمحاكاة، ومنها القطع القصصية، ومنها الأناشيد، وأخيراً منها المدائح
كل ذلك إلى جوار أغاني الرعاة
لقد تملك تيوقريطس القدرة على الإحساس؛ ثم القدرة على خلق شخصيات حية في أسلوب شخصي. لقد استمر الرجل الطبيعي حياً فيه. استمر فلم يقتله الأديب. فهو يرى العالم: يرى صيغة وألوانه وعبيره. الكأس لا يزال يفوح فخاره، وفروة الراعي ليكيداس تشتم منها الخميرة، وروائح الخريف تطفو في أعياد التاليسيا. وعذوبة الماء والظلال، ولين المخدع من أوراق الكرم، كل هذا يدركه تيوقريطس مختلطاً بخرير الينابيع وتغريد العندليب
الفكرة المسيطرة عند تيوقريطس هي الحلم بالحياة الريفية. وهذا شعور كثيراً ما يظهر في(578/3)
عصور الحضارة. وموضع المشقة فيه هو أن يأتي طبيعياً. وبهذا تميز تيوقريطس عن غيره من اللاحقين.
الطبيعة عنده ليست الطبيعة القاسية التي عرفها هزيودوس، ولا الطبيعة الحزينة الحالمة، التي تغنى بها فرجيليوس، ولكنها طبيعية مشرقة يراها الشاعر دائماً في فصل الضوء بأعلى الجبال حيث ترعى القطعان. وما نظن شاعراً قد حملنا على الإحساس بأواخر الصيف وأوائل الخريف مثلما فعل تيوقريطس في وصف التاليسيا، العيد الذي أشرنا إليه فيها سبق:
(أهداني ليكيداس في ابتسامة عذبة عصاه، أعطاها رمزاً لصداقتنا باسم ربات الوحي؛ ثم اتجه إلى اليسار متابعاً طريق البسكا، وأما إقريطس وأنا وأمينتوس الجميل؛ فقد يممنا بيت فرازيداموس، حيث رقدنا فوق أسرة كثيفة من ورق الكرم النضر. وكان كثير من السرو والعبل يترنح فوق رءوسنا غير بعيد من الموجة المقدسة التي تخر من كهف النامف
وفي الأعشاب المشتبكة كانت الصراصير التي أحرقتها حرارة الشمس تغني حتى بح صوتها، والضفدعة الخضراء تصيح قصية تحت الأشواك المتداخلة. والقبرة وعصافير الجنة تغرد، واليمام يئن، والنحل الأصفر يطن حول الينابيع. من كل فج كانت تنبعث رائحة الصيف، وقد مازجها عبير الخريف، والكمثري والتفاح تتساقط وفيرة على أرجلنا وإلى جانبنا، وقد ثقلت الأغصان بالبرقوق، فتدلت حتى مست الأرض. وأزيل عن الدنان طين عتيق. يا نامف كاستاليا: يا ساكنة. البرناس! هل قدم كيرون العجوز كأساً كهذه إلى هرقل في كهف الفولوس الخصيب؟ ليتني أستطيع أن أعود فأضع المذراة في القمح، بينما تضحك هي وقد امتلأت يداها بالسنبل والحبوب)
هذه لوحة ناطقة موحية. سر جمالها في بساطتها وصدقها؛ فالشاعر يسمي الأشياء بأسمائها، وهو أرهف حساً من أن يصطنع لغة شعرية متحجرة. فالضفدعة والصرصار لم يتحولا تحت قلمه إلى كروان وعندليب، وكل من يعرف الريف يذكر صدق ما وصف. وبفضل طبيعية أسلوبه نحس بأعقاب الصيف وأوائل الخريف وقد غمرها الشعر، فإذا هي أفعل في النفس من الواقع.
وما يحبه تيوقريطس من الرعاة هو بساطتهم: شعر أشعث وحزام من جلد الشجر، وفتاة(578/4)
طبيعة يتغنى بجمالها. وما يعنيه ما يظن الناس بذلك الجمال
(يا ميز ببريه! غن معي الطفلة الرقيقة. فكل ما تمسينه أيتها الإلهة يصبح جميلاً. بومبيكا أيتها الفتاة الباسمة الخفيفة الدم! يدعوك الجميع سورية عجفاء قد أحرقتها الشمس، ولكني أنا، أنا وحدي، أقول إنك شقراء كالعسل. البنفسج أيضاً أسود، والزنبق مجعد. ومع ذلك يُجمعان للتيجان قبل غيرهما من الزهور. الجدي يجري وراء شجرة النحل، والذئب وراء النعجة، والبجع خلف المحراث، وأنا مجنون بك. بودي لو كنت غنياً كقارون. إذن لأقمت لنا تمثالا من الذهب هدية لأفروديت: أنت بالناي ووردة وتفاحة، وأنا بثوب جديد وأحذية فخمة. بومبيكا أيتها الباسمة الخفيفة الدم! إقدامك كعقل الأصابع، وصوتك كالحلم، وأما جمالك فلا أستطيع أن أصفه)
ولقد يحمل السيكلوب بوليفيم في إحدى قصائده على التغني بجمال معشوقته جالاتيه بقوله:
(جالاتيه أيتها البيضاء، لماذا تردين من يحبك؟ أنت أنصع بياضاً من اللبن المخيض، أنت أرق وداعة من الحمل، وأشد حيوية من البقر، وأمعن لذعاً من عنقود العنب الأخضر)
هذه قصائد فيها اهتزاز من انفعال الحب، فيها نغمة صادقة كأنها من حرارة الحياة
تيوقريطس شاعر الريف. شاعر الغرام. وأما ما دون ذلك من شعره في المديح فتافه
وهو إلى جانب ذلك شاعر المحاكاة حتى ليعتبر حواره بين نساء سيراقوسة أنموذجاً لذلك النوع من الأدب الذي سنتحدث عنه في المقال الآتي
محمد مندور(578/5)
2 - احمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
كل الناس على أن موهبة رامي في الغزل وشعر الغناء هي خير مواهبه. . . ونحن لا نرى هذا الرأي
لا نرى هذا الرأي بالرغم من هذه الخمسين والمائة أغنية التي تملأ آذاننا وقلوبنا، وتتدفق مع أعذب الأصوات وأرخمها في كل جوارحنا، وتطوي مع الأثير في كل لحظة ألفاف الهواء حول كواكبنا؛ فتداوي كلوم المحبين، وتذهب بلواعج المدنفين وتترنم بها الأصوات كلها حتى المنكر منها والأجش، فيخيل لها أنها صارت بلابل!
لا نرى مطلقاً أن موهبة رامي هي روحه الغنائية التي تجيد الغزل، وتفتن في مذاهبه هذا الافتنان الحلو الموفق، الذي يحس الناس في ثناياه حرارة الحب، ويتسمعون إلى دقات القلوب العاشقة، ويشهدون من فنون الجفون المؤرقة، والأنفاس المحترقة، أشكالاً وألواناً
إن رامي الذي يحترق من أجلنا، ويذيب قلبه وروحه كيما يطب لنا، هو شاعر الإنسانية ولسانها الناطق وترجمانها الأمين
إن الذين يزعمون أنه شاعر الليالي الحمر، والسهرات الصوادح، أولئك يصدفون عن حقيقة رامي، ويخطئون جوهره، إنما رامي شاعر الإنسانية كلها. . . الشاعر الذي صدق في التعبير عن آلامها، لأنه بلا منها الشيء الكثير الشيء المتنوع، والغزل - أو شعر الحب - هو أحد الألوان التعبيرية الصارخة التي أذهلت الناس عما هو أشد منها من ألوان رامي التعبيرية الأخرى، لأنهم سمعوه من هذين اللسانين الخالدين وحياً بديعاً، لا تسجيعاً ولا ترجيعاً، ولو ذكرنا قلب رامي المعذب ونحن نلتذ أغانيه تشيع بالنشوة في أرواحنا، لحق أن نتذكر قوله:
أنا في غيهب الحياة منار ... ضاء من فرط نوره الديجور
لم أذق في الحياة للسعد طعما ... كيف يدري الحلو الفم المرور
أطرب الناس بالأغاني من الش ... عر وفي القلب لوعة وسعير
ولذكرنا أن رامي يستعين بشعره للتنفيس عن آلامنا بما ينظمه لنا من تباريح قلبه شعراً نحسبه يفيض بهجة في حين أنه يقطر دماً. ونخاله يندى بشاشة في حين أنه يتنزى ألماً(578/6)
دعيني يا بنات الشعر أبكي ... على ما نالت الأيام مني
أمان مِتْن في قلبي صغاراً ... كما ذوت الأزاهر فوق غصن
وزرع طاب لم أقطف جناه ... وكم بذرت يداي ولست أجني
وأهل أصبحوا بدداً وشدوا ... إلى دار النوى أرحال ظعن
ولست أطيق بعدهم، ولكن ... أروح عن فؤادي بالتمني
فكوني يا بنات الشعر أهلي ... وأشياعي لدى البلوى وركني
وغنّى من أساك وألهميني ... فبينك في الهوى عهد وبيني
أراك بخاطري وأودأني ... أراك بناظري وأن تريني
إذن أشفقت من وجدي وسقمي ... وشفّك لاعجي وشحوب لوني
ولسمعناه يستعبر قائلاً:
أحن إلى الماضي كما يذكر الحمى ... طليح نوى ترمي به الفلواتُ
وأندب أيامي اللواتي تصرمت ... لشعري إذا ضمتني الخلوات
وفي الشعر تأساء وفيه رفاهة ... وفيه لقلب ياقظ نشوات
أنيم به حزني كما يبعث الكرى ... إلى عين طفل صارخ نغمات
وأكذب نفسي أنني إن صدقتها ... أغار عليها الهم والحسرات
لقد ألفت نفسي الشقاء وإن يكن ... أليماً فمن آلامه الخطرات
وما يحسن الأشعار إلا معذب ... تضرّمُ في أحنائه الحرقات
ولو كان كل ناعماً في حياته ... لما بهرتكم هذه النفحات
لقد صنعت لنا الآلام من رامي هذا الشاعر المرهف الحس، الدقيق الشعور، الذي حرك ألسنتنا كما ملأ عواطفنا، بأغانيه ولعل كارثته في المغفور له والده العزيز - الدكتور محمد رامي - المتوفى بالقاهرة يوم الأحد 21 سبتمبر 1919، هي التي وجهت قلب رامي، أو شعره، تلك الوجهة الإنسانية التي تجتمع فيها عواطف الألم والرحمة والرثاء للضعفاء، وإسعاد المحزونين، وتمني الخير للناس جميعاً. . . وذلك أن الشاعر قد ألقيت على كاهله بوفاة والده مسئوليات عائلة كاملة، فيها الأم البارة الرؤوم وفيها الأخوة الصغار الخُضْر كأفراخ القطا، وفيها الشاعر نفسه الذي لم يكن يغنى، وينظم خلجات شبابه الغض وصباه(578/7)
المتفتح، باقات يانعة من هذه القصائد التي يضمها الجزء الأول من ديوانه 1926 - 1937 حتى قذف بقلبه جميعاً في خضم اليتم المصطخب ذي الأمواج والأثباج، ولهذا لا نكاد نرى ديواناً عربياً من دواوين شعرائنا يفيض بالروح العائلي، كما يفيض به الجزء الثاني من ديوان رامي وما جاء من ذلك في الجزءين الأول والثالث، وما لم ينشره رامي من شعره في ديوان بعد. . . وذلك إذا استثنينا ديوان (أنات حائرة) لشاعرنا الجليل الأستاذ عزيز أباظة بك
اسمع إلى رامي ينظر إلى سرير أبيه المريض، ثم يتوجع ويقول من قصيدته (نهر الحياة)، ذاكراً أخاه النازح، وأمه واخوته:
يا نهر أيامي، أما آخر ... لشقة العيش التي أقطع
أربت همومي فنبا مضجعي ... وصاحب الآلام لا يهج
أب طريح في فراش الضنى ... أقض في رقدته المضجع
تتابعت في الليل أناته ... وكل أنات الدجى تسمع
شكا من الداء الذي شفه ... وانهمرت من عينه الأدمع
وقال أخشى أن يحل الردى ... ولي قطا زُغبٌ ولي مطمع
أخاف أمضي عنهم تاركاً ... عشهم تلوى به زعزع
ولي أخ يا نهر عيشي خلت ... منه ديار وخلا مهيع
وكان أنسى في ضمير الدجى ... وكان لي من عطفه مرتع
فهل لذي العلة من صحة ... وهل لنضو نازح مرجع
وهل لليل العيش من مشرق ... يجلو ظلام اليأس إذ يطلع
لو كنت فرداً لم أرع إربة ... إن كان يعطي الدهر أو يمنع
لكن لي أماً ولي اخوةً ... ولي أباً في ظله نرتع
ولا يطيب العيش إلا إذا ... سقاهم حوض المنى المترع
هذا شعر يحس فيه القارئ لذع الألم الذي يرتجف أمام شبح اليتم
ثم مات الوالد المريض، وبعد أن خفت وقدة الحزن في نفس رامي، رثاه بتلك المنظومة الفريدة التي أومأ فيها إلى أيام مرضه، ثم إلى الأماني التي كان الوالد يعلقها على الشاعر(578/8)
الشاب، وإلى الوضع الذي وضعته فيه المقادير بعد هذا الخطب الجلل:
كم جنى والد على أبن ولكنا ... جنينا عليك - صفحاً وغفرا
ثم هنيئاً فليس بالميْت من خلّ ... ف من بعد موته ابناً أبرّاً
أنا أحنو على اليتامى وأرعى ... أيّما عاشرتك بالطهر دهرا
ثم أحيي ذكراك ميتاً وقد خلد ... ت ذكرى تضوع في الكون نشرا
ولم يفتأ رامي يذكر أباه ويرعى عهوده، ويذرف عليه دموع أمانيه:
كم مر بي عيد تمنيت أن ... يكسوني فيه جديد الثياب
وكم نقضت بي ليال ولا ... سمير لي فيهن إلا الكتاب
وحين أدركت المنى لم أفز ... من ثغره بالبسمات العِذاب
وكم جلسنا أسرة نرتجي ... رجوعه بعد طويل الغياب
نرنو إلى موضعه بيننا ... وقد خلا من بشره والحِبابْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نشأت في يتم ولي والد ... فما اكتفى الدهر بهذا العذاب
نرنو إلى موضعه بيننا! ما أبسط هذا التعبير وما أبدعه وما أشد لذعه! لقد كان يتم رامي مفجر ينابيع الإنسانية في قلبه الشاعر النابض الكسير! لقد صحبه ذلك الشعور باليتم حتى في رثائه أصدقاءه، ولعل ما رثى به صديقه، فقيد الأدب والشعر والمسرح المرحوم محمد تيمور، هو من عيون الشعر العربي في باب رثاء الأصدقاء:
كيف أرثيك يا رفيق شبابي ... يا نجي من شيعة الأحباب
أبدمعي؟ الدمع أرخص ما يب ... كى به صاحب على الأصحاب
أنت أولى بأن يبلل مثوا ... ك بنضح من الفؤاد مذاب
وهو يلم في القصيدة كلها تلك الإلمامات العائلية المؤلمة التي لا يقدرها إلا من جربها، والتي تذيب القلوب وتقطع نياطها ألماً وحزناً:
طار لبي لما نعيت وضاقت ... بي دنيا كثيرة الأسباب
تلك حالي؛ فكيف حالك يا تيم ... ور لما غدوت في الغياب
خلت الدار منك يا بهجة العم ... ر وأقوت من سرحها المخضاب(578/9)
ثم أضحت (ريري) تنادي أبي أيْ ... ن ولا من يرد رجع الخطاب
طرت من عشها وكنت لها عط ... فا وزقا تحت الظلال الرطاب
ثم طال انتظارها لك حتى ... يئست بعد صبرها من إياب
فاطمأنت على مصارحة الده ... ر وقرت على أليم المصاب
وقد لزمت رامي هذه الروح الرثائية في معظم شعره، وفي معظم نظراته التي كان ينظم فيها الشعر لنفسه خاصة، ونقول لنفسه خاصة، لأن لرامي منظومات كان (يصنعها تحت الطلب)، وهي منظومات - أو أغان - لنا فيها رأي ربما أعلناه فيما بعد. وتتجلي هذه الروح الرثائية في قصيدته (إلى أخي البعيد ج 2)، التي يتمنى فيها أوبة هذا الأخ المسافر. فيحسب الإنسان أنه يرثيه بشعر من أجود أشعار الرثاء. . . وتتجلى أيضاً في قصيدتيه الفريدتين (الجمال العاطل - والجمال الراحل ج 2). ثم قصيدته (اللقيط)، وفي (غريب يغني)، و (مستقبل الحب)، و (إلى البدر)، و (شكوى عليل)، و (طيور الأماني)، و (شعر الدموع)، و (الشيب الباكر). إلى آخر هذه المجموعة المؤثرة من أشعار رامي الإنسانية الباكية التي جمعها الجزء الثاني من ديوانه، والتي ترن أصداؤها في جميع أغانيه
(يتبع)
دريني خشبة(578/10)
محرجات. . .
للأستاذ علي الجندي
كان المجلس مرصعاً بكواكب لامعة من الأدباء والأديبات، فدار الحديث حول مبالغة بعض الناس في كتمان سنهم، وأن أديباً كبيراً قضى نحبه ولم يعرف سنه أحد! حتى كأنها من مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها! وهنا انبرت أديبة نابهة فقالت:
الناس جميعاً في ذلك سواء بدليل أن الأستاذ - وأشارت إلى - لا تسعفه شجاعته بإخبارنا عن سنّه! فدارت بي الأرض الفضاء، وأطرقت قليلاً أزور في نفسي كلاماً، فلحظت الشيطانة ذلك، وعلمت أن وراء الإطراق ما وراءه! فاستدركت قائلة: على شرط أن يقول الصدق كل الصدق، لا شيء غير الصدق!
ويحك أيتها الإنسانة! إن الصدق ليكون أحياناً معجزة للمرء كما يقول بعض السلف رحمه الله!
ومع أني لم أتجاوز دائرة الشباب، وهي دائرة (مرنة) والحمد لله! ومع أني لا أستجيز الكذب إلا في الشعر، فقد أحسست ميلاً شديداً إليه! وخيل إلى أنه لا بأس في هذا المقام أن أطرح من عمري بضع سنوات! ولكني عدت فتذممت من ذلك، ووجدت عنه مندوحة في قولي:
أعلم أني ولدت في أيام حرب من الحروب المشهورة، فقال أديب: لعلها حرب البسوس! وقال آخر: لعلها حرب الردة! فقالت الأديبة: هذا تحامل شديد! أظنها: حرب (المائة عام)! فقلت: ولم لا تكون حرب (الوردتين)! فضحكوا وضحكن! وانفسح المجال للمفاكهة البريئة، فتنوسي السؤال، وكفى الله المؤمنين القتال!
وحينما كنت مدرساً بالتجارة، جاءتنا من الوزارة (نشرة) تطلب فيها من المدرسين أن يخبروها بأسمائهم وعناوينهم وشهاداتهم ومرتباتهم وأسنانهم، والخطب فيما عدا السن يسير، ولكن من الذي يستطيع أن يدون أسمه على مرأى ومسمع من زملائه؟! أشهد لو أن الوزارة ضاعفت لهم الحصص، أو قطعت عنهم المرتبات ما ثاروا عليها هذه الثورة! وطال تردد المسألة بين الناظر والمدرسين على غير طائل حتى كادت تحدث الجفوة، وأخيراً فطن الناظر لما كان يجب أن يفطن له أولاً، فاستدعاهم إلى مكتبه، وقال - وهو(578/11)
يضحك - لقد عرفت السر! ليبح كل واحد منكم لي بسنه على انفراد وعليّ عهد موثَّق أن أطويه في صدري! وهنا برح الخفاء وانفرجت الشفاه عما أجنته السرائر! ولكن أستطيع أن أزعم: أن كثيراً مما قيل تبرأ منه شهادات الميلاد!
وإني لأعرف قوماً يجهلون زمن مولدهم! أو قل: يتجاهلونه فلا يحتفلون به، كما يحتفل بعض الناس! ويلذ لهم أن يذهلوا عنه عامدين متعمدين! ومع أن ذلك مغالطة في الحقيقة المرة لا تجدي عليهم شيئاً، إلا أن النفوس تأنس لهذه المغالطة وتسكن إليها!
ولا يصح أن يكون هذا موضع العجب، لأنه فطرة في الإنسان يستوي فيها الرجل والمرأة، فالتعلق بالشباب يعادل التعلق بالحياة، بل الحياة في أنضر عهودها وأبهى مظاهرها، وكل سنة تمر علينا تبعدنا من هذا الشباب المحبب المرموق بقدر ما تدنينا من شيء كريه مقيت هو الهرم الذي يسلمنا إلى الفناء! وإنه ليروعك أن ترى شاعراً زميتاً جاداً صارماً كالمتنبي يبكي الشباب، وهو يرفل في ورقه النّضر ويمرح في ظله السابغ فيقول:
ولقد بكيت على الشباب ولِمّتي ... مُسودّة ولماءِ وجهي رونق
حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
وصدق عمرو بن العلاء في قوله: ما بكت العرب شيئاً ما بكت الشباب، وما بلغت به قدره. كما صدق الأصمعي حين يقول: أحسنُ أنماط الشعر: المراثي والبكاء على الشباب!
وإنك لمستطيع أن تقدر مبلغ حرص الإنسان على الشباب، وحسرته على زواله من هذه النادرة التي حدثت بين الرشيد ومغنّيه إبراهيم الموصلي، مع ما يملك الملوك من وسائل تغنيهم عن الشباب أو تعزّيهم عنه على الأقل: جاء في أمالي المرتضى: أن إسحاق الموصلي حدث عن أبيه إبراهيم. قال: غنيّت بين يدي الرشيد يوماً والستارة منصوبة:
وأرى الغوانيَ لا يُواصلن امرأً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
فطرب الرشيد واستعاده وأمر لي بمال. فلما أردت الانصراف وجه إليّ كلاماً شديداً وقال: أتتغنى بهذا الصوت وجواريّ من وراء الستارة؟! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال إبراهيم فتركت الصوت والله حتى نسيته!
وقد كنت أظن أن كتمان السن والمغالاة في إخفائه من سمات العصر الذي لانت فيه الأخلاق، واشتد الحرص على المتع، وكثر فيه الزور والزيف، ولكني وجدت ذلك سنة(578/12)
القدامى من أعلام السلف؛ ففي النجوم الزاهرة: أن الإمام أبا بكر الأنصاري كان إذا سئل عن سنه يقول: أقبلوا على شأنكم، لا ينبغي لأحد أن يُخبر عن سنه؛ إن كان صغيراً يستحقروه، وإن كان كبيراً يستهرموه! ثم ينشد:
لي مُدّة لابدّ بالغها ... فإذا انقضت وتصرمت مِتُّ
لو عاندتني الأسدُ ضاربةً ... ما ضرّني ما لم يَج الوقت
وفي نفح الطيب يحدث المقَّري الأكبر عن نفسه قائلاً:
كان مولدي بتلمسان، ووقفت على تاريخ ذلك، ولكني رأيت الصفح عنه، لأن أبا الحسن بنُ مؤمن سأل أبا طاهر السَّلفي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا الفتح بن زيّان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت علي بن محمد ابن اللبان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سالت حمزة ابن يوسف السهمي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا بكر المنقري عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الترمذيّ عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت مالك بن أنس عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ ليس من المروءة للرجل أن يخبر عن سنه!
وقد زاد بعض الأقدمين على كتمان السنّ، كتمان السر والمال والمذهب، وفيها يقول الحسين البغدادي كما نقله معجم الأدباء:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ ... سر ومالٍ، ما استطعت، ومذهب
فعلى الثلاثة تُبْتلَى بثلاثة ... بمفكّر وبحاسد ومكذّب
وقد جاء في كتمان المال: ما رواه الكامل في المبرد: من أن عبد الملك بن مروان سأل عبد الله بن يزيد بن خالد - وكان من العقلاء - عن مقدار ماله، فقال له: شيئان لا عيلة عليْ معهما: الرضاء عن الله، والغنى عن الناس. فلما خرج قيل له: هلا أخبرت الخليفة! قال: لا يعدو أن يكون قليلاً فيحقرني، أو كثيراً فيحسدني.
علي الجندي(578/13)
صفحة من كتاب
نيتشه والزواج
(صفحة مهداة إلى الآنسة المهذبة (أ. م.))
للأستاذ زكريا إبراهيم
في ظلال الوحدة القاسية، ومن خلال الحياة العقلية الباردة، أرسل نيتشه صيحته العالية: (إن ما تسمونه الحب، ليس إلا سلسلة من الحماقات القصيرة المتتالية. أما الزواج فهو الحماقة المستقرة الكبرى التي تجيء خاتمة لتلك الحماقات)! وليس من عجب أن يعلن نيتشه مثل هذا الحكم على لسان نبيَّه زرادشت؛ فإن فيلسوفنا قد جهل المرأة، ففاتته بذلك معرفة جانب كبير من جوانب الحياة الإنسانية. وقد شهدت بذلك أخته فقالت: (إنني لم أشهد لديه أدنى أثر من آثار عاطفة المحبة. فكل اهتمامه كان منصرفاً إلى المسائل العقلية، وأما ما عدا ذلك فلم يكن يلقى منه غير اهتمام سطحي. ويظهر أنه هو نفسه قد عانى كثيراً فيما بعد، بسبب انعدام كل عاطفة من عواطف الحب لديه). وإذا كان نيتشه قد جهل ذلك العلم الكبير الذي سماه سقراط باسم (الحب)؛ فليس بدعاً أن تجيء أحكامه التي أطلقها على المرأة، أحكاماً قاسية لا تثبُّت فيها ولا هوادة. وهو نفسه قد فطن إلى أن جهله بالمرأة لابد أن ينحرف به عن جادة الصواب؛ فذكر على لسان تلك المرأة العجوز التي التقى بها حكيمه زرادشت: (إن من الغريب أن ينطق زرادشت بالحق في حديثه عن النساء، مع أنه لا يعرف عنهن إلا الشيء القليل!)
ولكن ما هو هذا الحق الذي نطق به زرادشت في حديثه عن المرأة؟ أَلا فلنستمع إليه وهو يفضي إلى تلك المرأة العجوز بسر (المرأة) الذي كشفت له عنه الحياة!: (كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز من حل إلا الولادة. . . ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة، أما الغاية فهي دائماً: الولد. . . يجب أن يُنشأ الرجل للحرب والقتال، أما المرأة فيجب تُعّد للترويح عن المحاربين، وكل ما عدا ذلك فهو حمق وضلال). أما المساواة بين الرجل والمرأة فهي حديث خرافة، لأن الجنسين مختلفان، ووظيفة كل منهما مختلفة كذلك عن وظيفة الآخر. ويصف نيتشه هذه المساواة بأنها مساواة مضادّة للطبيعة لأن من المحال أن تنقلب المرأة(578/14)
رجلاً، مهما أجهد أنفسهم في توطيد أسباب ذلك الانقلاب. ومهمة الرجل في نظر نيتشه هي أن يقوم بجلائل الأعمال، ومختلف ضروب الحرب والقتال؛ أما المرأة فإنه ليس ثمة لديها شيء سوى الحب والطفل. وتبعاً لذلك فإن سعادة الرجل هي: (أنا أريد)، وأما سعادة المرأة فهي: (هو يريد)
وقد حَمَل نيتشه على (الزواج الحديث) - كدأبه في الحَمْل على كل ما هو مُحدث -، وأخذ عليه أنه زواج يقوم على العواطف الصاخبة التي لا تدوم، والأهواء الجامحة التي لا تستقر. فالزواج لا يمكن أن يقوم على الحب، لأن الحب يعصف برجاحة الحكم؛ وإنما الواجب أن يقوم على أساس من التدبر والحكمة. وإذا كان نظام الزواج، في المجتمع الأوربي الحديث، قد أخذ يزحف على ساقين؛ فما ذلك إلا لأن زواج الحب قد أصبح يُنظر إليه اليوم نظرة ملؤها التسامح والتساهل. أما الزواج الكامل الذي تتحقق فيه حكمة هذا النظام على أحسن وجه، فهو ذلك الذي تكون فيه الرابطة بين الزوجين، رابطة قوية لا تنفصم عُراها، بحيث لا يمكن أن تعصف بها الأهواء العابرة والنزوات العارضة. ومثل هذا الزواج لا يمكن أن يكون الأصل فيه هو الحب، بل (غريزة النوع) أو (غريزة الامتلاك) (باعتبار أن الزوجة والأبناء بمثابة ممتلكات للزوج)، أو (غريزة السيطرة). ويؤكد نيتشه قيمة غزيرة السيطرة في الزواج؛ فيقول إن الأسرة أشبه ما تكون بمملكة صغيرة تحتاج إلى أبناء وورثة لكي يدوم بقاؤها، ففي مجال الأسرة يستطيع الرجل أن (يباشر) إرادة القوة التي توجد لديه!
بيد أن نيتشه سرعان ما يعدل عن هذه النظرة، لكي يقدِّم لنا عن الزواج صورة أخرى محببة جميلة، يُدخل فيها فكرته عن الإنسان الأعلى؛ فيقول: (أنت شاب في مقتبل العمر، وتتمنى أن تكون لك زوجة وأولاد، ولكنني أسائلك: هل أنت رجل يحق له أن يطمع في البنين؟ هل أنت الرجل الظافر المنتصر على نفسه، المسيطر على حواسه، السائد على فضائله؟ أم أن الشهوة الحيوانية والحاجة الضرورية هما اللتان تتكلمان بلسان رغبتك؟ أم هي العزلة قد دعتك إلى ذلك؟ أم هو اضطرابك وتنازعك مع نفسك؟ إنني أريد أن يكون ظفرك وحريتك هما اللذان يتشوفان إلى الولد؛ وإن عليك أن تبتني الأنصاب الحية لظفرك وحريتك. أجل، إن عليك أن تبتني شيئاً يعلو عليك، ويسمو فوق مستواك. ولكن يجب قبل(578/15)
ذلك أن تكون أنت نفسك متين البنية، قوياً في الجسم والروح. فليس عليك أن تتناسل وتنتج فحسب، بل إن عليك أن تُنتج في صعود، فترتفع بنفسك إلى ما فوق. . . وإنما الزواج عندي هو اتحاد إرادتيْن أو شخصين، لكي ينشأ منهما واحد يكون خيراً منهما)
وعلى هذا النحو لا تعود المرأة مجرد أُلْهيَّة، ولا تقف مهمتها بعد عند الترويح عن المحاربين، وإنما تصبح مخلوقاً جديراً بالاحترام والتقدير، نظراً لأن قيمتها لا تقل عن قيمة الرجل في خَلْق الإنسان الأعلى، والتأدِّي بالإنسانية إلى تلك الغاية السامية التي تعلو عليها.
زكريا إبراهيم(578/16)
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية الشاعرين هدبة وزيادة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 7 -
هذه قضية الشاعرين العذْريين: هُدْبة بن خشْرَمٍ وزيادة بن زيد، بل مأساة الشعر الذي أراد الإسلام أن يجعل منه رسالة إصلاح، وصلة تراحم، فأبى إلا أن يمضي على ما كان عليه قبله، يثير العصبية بين العرب، ويقطع صلة التراحم بينهم وقد شغلت هذه القضية الناس ثلاث سنين، بوقائعها المثيرة، وأخبارها المؤثرة، وأشعارها البليغة، وكان أهل المدينة أكثر الناس افتناناً بأخبارها وأشعارها، لأن وقائعها جرت فيما بينهم، وكان هدبة أول من أُقيد منه في الإسلام، فأحدث ذلك في أهل المدينة الوادعة أثراً عظيماً، حتى قال مصعب الزبيري: كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها.
وكان من أمر هذه القضية أن هدبة وزيادة اصطحبا في ركب من قومهما إلى الحج؛ فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فنزل فارتجز فقال:
عوجي علينا واربعي يا فاطما ... مادون أن يرى البعير قائما
ألا ترين الدمع مني ساجما ... حذار دار منك لن تلائما
فعرَّجت مُطرداً عُراهما ... فعماً يَبُذُّ القطف الرواسما
كأن في المثْناة منه عائما ... إنك والله لأن تباغما
خَوْداً كأن البوص والمآكما ... منها نقاً مخالطٌ صرائما
خير من استقبالك السمائما ... ومن مناد يبتغي معاكما
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أم خازم أو أم القاسم، فقال:
لقد أراني والغلام الحازما ... نزجي المطى ضُمَّرا سواهما
متى تظن القلص الرواسما ... والجلة الناجية العياهما(578/17)
يبلغنِّ أم خازم وخازما ... إذا هبطن مستحيراً قاتما
ورجع الحادي لها الهماهما ... ألا ترين الحزن مني دائماً
حذار دار منك لن تلائما ... والله لا يشفى الفؤاد الهائما
تماحك اللبات والمآكما ... ولا اللمام دون أن تلازما
ولا اللزام دون أن تفاقما ... ولا الفقام دون أن تفاغما
وتركب القوائم القوائما
فشتمه زيادة وشتمه هدبة، وتسابا طويلاً، ثم صاح بهما القوم: اركبا لا حملكما الله، فإنا قوم حجاج
وقد خشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدهما حنقاً، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله، ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله؛ فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما، ورجعا إلى عشائرهما
وكان هدبة من بني عامر وزيادة من بني رقاش، فتفاقم الشر بين الرهطين، والتقى نفر من بني عامر فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه، وخشرم أبو هدبة، وزفر عم هدبة، ونفر من بني رقاش فيهم زيادة واخوته عبد الرحمن ونفاع وأدرع، وكان ذلك بواد من أودية حرتهم؛ فكان بينهم كلام؛ فغضب أدرع وأبو جبر، وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش؛ فقام أدرع فرجز به فقال:
أدُّوا إلينا زُفَرا ... نعرف منه النظرا
وعينه والأثرا
فغضب رهط هدبة وادعوا حداً على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان. ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر منهم؛ فما رأوه عليه أمضوه. فلما خلوا به ضربوه الحد ضرباً مبرحاً؛ فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا، وكان على السلطان أن يتولى إقامة الحد على أدرع، حتى يهدئ تلك النفوس التي لا تزال تنزع إلى جاهليتها، وتحاول الرجوع إلى عاداتها التي قضى الإسلام عليها
ثم جعل زيادة وهدبة يتهاديان الأشعار ويتفاخران، ويطلب كل واحد منهما العلو على(578/18)
صاحبه في شعره، وجرت بينهما في ذلك أشعار كثيرة روى صاحب الأغاني بعضها، ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله، ثم تنحى مخافة السلطان. وكان على المدينة يومئذ سعيد بن العاص؛ فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة. فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه، وتخلص عمه وأهله؛ فلم يزل محبوساً حتى شخص عبد الرحمن أخو زيادة إلى معاوية بدمشق؛ فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد من هدبة إذا قامت البينة فأقامها؛ فمشى رهط هدبة إلى عبد الرحمن وسألوه قبول الدية فامتنع. وقال:
أنختم علينا كلكل الحرب مرة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل
فلا تدعني قومي لزيد بن مالك ... لئن لم أُعجل ضربة أو أُعجل
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
أُذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
وقيل إن سعيد بن العاص كره الحكم بين هدبة وعبد الرحمن. فحملهما إلى معاوية بدمشق؛ فلما صارا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي، وقتل أخي، وترويع نسوتي. فقال معاوية لهدبة: قل. فقال هدبة: إن هذا رجل سَجَّاعةٌ، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت. فقال له معاوية: لا بل شعراً. فقال هدبة:
ألاَ يا لقومي للنوائب والدَّهر ... وللمرء يُردى نفسه وهو لا يدري
وللأرض كم من صالح قد تأكمتْ ... عليه فوارته بِلَمَّاعةٍ قَفْرِ
فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للقفر
إلى أن قال:
رمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قَدْر
وأنت أمير المؤمنين فمالنا ... وراءك من مَعْدىً ولا عنك قَصْر
فإن تك في أموالنا لم نضق بها ... ذراعاً وإن صبر فنصبر للصبر
فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم. ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه. فقال له معاوية: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه
ثم رد معاوية هدبة إلى المدينة، فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور، فذهب عبد الرحمن(578/19)
به إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص، وقيل مروان بن الحكم، فسأل سعيد عبد الرحمن أن يقبل الدية عن أخيه، وقال له: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب، أعطيك مائة ناقة حمراء، ليس فيها جَدَّاء، ولا ذات داء. فقال له عبد الرحمن: والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها ذهباً ما رضيت بها من دم هذا الأجدع. فلم يزل سعيد يسأله ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:
لَنَجدْ عنَّ بأيدينا أنوفكم ... ويذهب القتل فيما بيننا هدرا
فدفعه سعيد إليه ليقتله، وكان الأولى أيضاً أن يتولى قتله بنفسه
فلما مضى من السجن إلى القتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء، فقال:
أَقِلِّي عليَّ اللومَ يا أَمَّ بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا
ولا تنكحي إن فَرَّق الدهر بيننا ... أغَمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا
كلِيلاً سوى ما كان من حد ضرسه ... أُكَيْبدَ مِبْطانَ العشيات أروعا
ضروباً بلحييه على عظم زَوْرِهِ ... إذا الناس هشوا للفعال تَقنَّعا
وحُلِّي بذى أكرومة وحميَّة ... وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا
فمضت إلى السوق حتى انتهت إلى قصاب فقالت له: أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك. ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة، أتراني متزوجة بعد ما ترى؟ قال: لا الآن طاب الموت
ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثُّكلَ وهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال:
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً إن بدا باديُّ شر
لا أراني اليوم ميتاً ... إن بعد الموت دار المستَقرْ
اصبرا اليوم فإني صابر ... كل حَيٍّ لقضاء وقَدَرْ
فلما دفع هدبة إلى عبد الرحمن ليقتله استأذن في أن يصلي ركعتين، فأذن له فصلاهما وخفَّفَ، ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما. ثم قال قبل أن يقتل:(578/20)
إن تقتلوني في الحديد فإني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يُقَيَّدِ
فقال عبد الرحمن: والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه. فأطلق فقام إليه وهز السيف ثم قال:
قد علمتْ نفسي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلنَّ اليوم من لا أرحمهْ
ثم قتله. وقد رثاه واسع بن خشرم فقال:
يا هدب يا خير فتيان العشيرة من ... يُفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهمُ ... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أُسْلِمْ أُخَيَّ لهم ... حتى نعيش جميعاً أو نموت معا
وكان هدبة قد بعث إلى عائشة يقول لها: استغفري لي. فقالت: إن قتلت استغفرت لك. فلما قتل وفت بوعدها واستغفرت له.
عبد المتعال الصعيدي(578/21)
2 - فساد الطريقة
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(عدم الدقة أيضاً)
ومثل آخر يجمع صنوفاً من عدم دقة صاحب الكتاب، موقفه من السجع. فإننا صرفنا النظر عن موقفه من سجع القرآن نجد صاحب الكتاب غير دقيق في تعبيره، وغير دقيق في تفهم كلام غيره، كما نجده غير دقيق في تقسيمه بل في تفكيره، حتى لتبلغ أغلاطه من هذه الناحية أحياناً مبلغ التناقض
فمن عدم دقته في التعبير خلطة بين السجع والازدواج في شاهدين من شواهد ثلاثة استشهد بها من كلام ابن المعتز (على أن التزام السجع لم يغلب غلبة مطلقة كما سنرى عند كتاب القرن الرابع، وإنما هي طلائع لهجوم السجع نراها عند كتاب القرن الثالث) كما يقول
فأول الشاهدين قدم له صاحب الكتاب بقوله من صفحة 82 من الجزء الأول: (ولابن المعتز من كلمة ثانية يغلب عليها السجع والازدواج) ثم ذكر سطرين أو أكثر قليلاً من كلام ابن المعتز يغلب عليهما الازدواج وليس فيهما إلا سجعة واحدة. فليس فيهما إذن ما يدل على غلبة السجع على كلمة ابن المعتز وإن كان فيهما ما يصح أن يدل على غلبة الازدواج. والدقة كانت تقتضي أن يأتي بشاهد يدل على غلبة الاثنين، فإن كان لا بد أن يكون أحدهما أظهر فليكن السجع لا الزدواج، لأن الموضوع موضوع السجع، والفصل فصل أطوار السجع، والاستنتاج متعلق بالسجع وطلائع هجومه عند كتاب القرن الثالث
وثاني الشاهدين كأولهما في دلالته، فقد اقتبس صاحب الكتاب لنفس الغرض من كلمة أخرى لابن المعتز ما يزيد قليلاً عن أربعة أسطر يغلب عليها الازدواج، ولا تحوي إلا سجعتين متفرقتين لا تدلان على أن السجع كان يغلب على كلمتي ابن المعتز كالازدواج، ولا على ما أراد صاحب الكتاب أن يستدل عليه من بدء هجوم السجع في القرن الثالث، لأن مثل الفقرتين المشار إليهما يمكن استخراجه لكاتب ما من المشاهير أو غير المشاهير بين كتاب أي قرن. فليس فيهما إذن دلالة خاصة عن السجع في قرن خاص كالقرن الثالث،(578/22)
خصوصاً، وقد زعم صاحب الكتاب في الصفحة قبل ذلك أن السجع بعد أن ضعف سلطانه قليلاً في العصر الأموي - وكان غالباً فيما زعم على عصر النبوة - أخذ يسترد قوته في أواخر القرن الثاني. وهذا معناه أن طلائع هجوم السجع ظهرت لا في القرن الثالث ولكن في أواخر القرن الثاني إن كان لكلام هذا الرجل قيمة ووزن، ولم يكن يكتب كل ما يرد على خاطره من غير تمييز أو تمحيص
ولم يقف صاحب الكتاب عند مجرد القول إن السجع (عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني) بل تجاوز ذلك فزعم أنه بدأ يرى في أواخر القرن الثاني (رسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإن صدق في قوله هذا كان ذلك أدل على الحين الذي أخذ السجع يغلب فيه من الشاهدين المشار إليهما آنفاً من كلام ابن المعتز في النصف الثاني من القرن الثالث، لأن ذينك الشاهدين ليس فيهما التزام ولا شبه التزام للسجع كما بينا لك. صحيح إنه جاء لابن المعتز بفقرة ثالثة طويلة كلها سجع لكنه كذلك جاء بفقرة فيها طول لكلثوم بن عمرو العتابي يؤيد بها قوله إن القرن الثاني شهد في أواخره رسائل يكاد يلتزم فيها السجع. فهذا كاتب من القرن الثاني وذاك كاتب من القرن الثالث، وبكل استشهد صاحب الكتاب على أن السجع بدأ يغلب في زمنه. وواضح أنه إذا كان السجع بدأ يغلب في أواخر أحد القرنين فمن المستحيل أن يكون بدأ يغلب في أواخر القرن الآخر؛ فصحة أحد القولين تبطل صحة القول الآخر من غير ريب على أننا إذا رجعنا إلى ما زعم صاحب الكتاب في أول صفحة 81 من أن السجع (كان يغلب على النثر في عصر النبوة، ثم أخذ سلطانه يضعف قليلاً في العصر الأموي وإن حرص عليه القصاص والخطباء وناقلوا أحاديث الأعراب) وقارنا ذلك بقوله عن السجع عقب ذلك مباشرة (إنه عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني، وبدأنا نرى وسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإننا نجد رأياً ثالثاً لصاحب الكتاب لا يتفق مع بدء غلبة السجع في أواخر القرن الثاني ولا الثالث. ذلك أن السجع إذا كان غالباً في عصر النبوة فضعفه قليلاً في العصر الأموي معناه نقص في مقدار غلبته لا انمحاؤها، فهو إذن في زعم صاحب الكتاب كان أيضاً غالباً في العصر الأموي وإن دون غلبته في عصر النبوة؛ وهذا هو معنى وصف الضعف بالقلة إن كان لذلك الوصف معنى. وإذن تكون عودة السجع إلى استرداد القوة في أواخر القرن الثاني معناها عودته إلى ازدياد الغلب لا إلى(578/23)
اكتساب الغلب. فالسجع حسب هذا الكلام من صاحب الكتاب كان غالباً في العصر النبوي، وظل غالباً في العصر الأموي، وإن إلى درجة أقل، ثم ازداد غلبه وظهوره في أواخر القرن الثاني. فلا معنى إذن لقوله بعد ذلك إن طلائع هجوم السجع بدأت تظهر في القرن الثالث في حين لم يسبق قول بأن السجع فقد الغلبة التي كانت له في القرنين الأولين إن صح ما زعم صاحب الكتاب
فالمسألة كما ترى ليست مجرد عدم دقة في التعبير ولكنها في حقيقتها قلة تحقيق وعدم دقة في التفكير
لكن من عجيب أمر صاحب الكتاب، وذاك كلامه عن السجع في القرنين الأولين، أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة كما ترى من قوله في صفحة 83:
(ومن أظهر الدلائل على ذيوع بدعة السجع في القرن الثالث ما رأيناه من حرص ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة)، وهو لم يكن ذكر قبل أن السجع كان قد اختفى أو تضاءل لا في القرن الثاني ولا في أوائل القرن الثالث حتى يصح إذا عثر على نص منه أو نصوص في أواسط القرن الثالث أو أواخره أن يعد ذلك بدعة ذاعت يستدل على ذيوعها باطراد السجع في عناوين الفصول من كتاب
ثم بيْنا أنت تقرأ له هذا في صفحة 83 إذا بك تقرأ له في صفحة 96 من نفس الفصل: (وكلام ابن الأثير يؤيد ما انتهينا إليه في أثناء هذا الفصل من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث)! وابن الأثير صاحب المثل السائر عاش في أوائل القرن السابع، وكلامه لم يكن في تاريخ السجع متى ظهر وغلب، أو متى ضعف واختفى، ولكن كان في مدح السجع إذا استوفى شروطه؛ فكيف يمكن أن يكون ذلك في كلامه ذلك ما يؤيد ما انتهى إليه صاحب الكتاب في تاريخ السجع وتطوره؟ ثم إذا كان ما انتهى إليه صاحب الكتاب في أثناء الفصل هو (أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث) فكيف يمكن أن يكون السجع عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني؟ أم كيف يستقيم أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة يلتمس لذيوعها الدليل؟ إن تلك الجملة التي لخص فيها صاحب الكتاب ما انتهى إليه لا تدع له محلاً للاستثناء في أمر السجع وذيوعه، لا من ناحية الزمن ولا من ناحية الكلام، فليس أشمل من(578/24)
ناحية الكلام من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع، وليس أكثر استغراقاً من ناحية الزمن من قوله إن ذلك كان طوال القرنين الثاني والثالث
فهذه نقطة واحدة بسيطة تضارب صاحب الكتاب فيها عدة مرات
على أننا إذا تركنا اضطراب صاحب الكتاب في السجع في القرون الثلاثة الأولى، وذهبنا إلى القرن الرابع الذي هو الأصل في بحثه، لم نجده فيه أقل اضطراباً ولا أكثر دقة وتحقيقاً
وأول ما تلقاه من فصل السجع والازدواج (صفحة 113) أربعة أسطر يخبرك صاحب الكتاب في الأولين منها أنه بين لك أطوار السجع في النثر الفني، وأنك رأيت كتاب القرن الأول والثاني والثالث يتنقلون بين السجع والازدواج، ويذكر لك في السطرين الآخرين أن التزام السجع صار من خصائص نثر القرن الرابع، وأن كتابه لا يتحررون من السجع إلا إلى الازدواج! فإن كنت ترى فرقاً بين هذا الذي ذكر لك عن كتاب الرابع وذلك الذي أخبرك عن كتاب الأول والثاني والثالث كنت كبير النصيب من قوة الخيال، فإذا قرأت له عقب ذلك عن القرن الرابع قوله: (ولم يخرج من كتاب هذا العصر إلى الحرية في الصياغة الفنية إلا عدد قليل) عجبت أولاً كيف يكون التزام السجع من خصائص النثر الفني في القرن الرابع ويكون بين كتابه مطلقاً من يؤثرون الحرية في الصياغة الفنية، قلوا أو لم يقلوا، وعجبت ثانياً كيف ينبه صاحب الكتاب إلى الحرية الفنية في القرن الرابع دون القرون الثلاثة قبله، كأن القرن الرابع كان أقل التزاماً للسجع من تلك القرون
ثم تقرأ له بعد ذلك تقسيم كتاب القرن الرابع إلى طوائف ثلاث: طائفة تلتزم السجع وتزاوج قليلاً، وطائفة تؤثر الازدواج، وتسجع قليلاً، وطائفة تؤثر الحرية، فلا تسجع أو تزاوج إلا قليلاً. وقد عد لك من الأولى تسعة، منهم الخوارزمي ومن الثانية ثمانية منهم ابن العميد، ومن الثالثة سبعة منهم ابن مسكويه
فإذا قارنت بين عدد من عدّ لك من كتاب الطوائف الثلاث عجبت كيف وصف الطائفة الثالثة من قبل بالقلة وهي سبعة أثمان الثانية وسبعة اتساع الأولى إن كانت تلك الأرقام تتناسب مع اتساع كل طائفة كما ينبغي أن تكون. على أنه بعد ذلك قد زاد في الطائفة الثالثة حين عد منهم إخوان(578/25)
ثم يأخذك عجب أشد حين تقرأ له في صفحة 115: (وإذا نظرنا في نثر ابن العميد وجدنا الحرية غالبة عليه، ولكنا نراه يلتزم السجع أحياناً، كأن يقول. . .). ويأتيك بمثل كله سجع. يشتد عجبك حين تقرأ هذا، وتتساءل كيف أمكن أن يخطئ صاحب الكتاب هذا الخطأ، أو كيف أمكن أن يتراخى في التعبير إلى هذا الحد: يجعل ابن العميد على رأس الطائفة الثانية، ثم يقول إن الحرية تغلب عليه فيحشره مع الطائفة الثالثة! أي باحث هذا الذي يقسم فلا يحسن التقسيم، أو يطبق فلا يحسن التطبيق؟
فإذا خطر لك أن تستقري ما أورد صاحب الكتاب من نثر ابن العميد لترى إلى أي الطائفتين ينسبه في الحقيقة، انقلب عجبك سخرية بهذا الباحث الذي يجعل ابن العميد على رأس طائفة، ثم يدخله بالوصف في طائفة أخرى، ثم لا يورد له من شواهد نثره في كتابه بجزأيه إلا ما يخرجه من الطائفتين جميعاً ويلحقه بالطائفة الباقية! لأن ابن العميد في تلك الشواهد يسجع أكثر مما يزاوج، بل الازدواج قليل في تلك الشواهد بالنسبة إلى السجع، أما الحرية فليس له منها إلا أقل من القليل
وإذا كان هذا هو مبلغ تناقض صاحب النثر الفني في الحكم على نثر كاتب مشهور مثل ابن العميد، حتى فيما الحكم فيه سهل، فكيف يمكن أن يوثق أو يطمأن إلى حكمه على من ذكر أو لم يذكر من كتاب القرن الرابع أو غير القرن الرابع؟
الحق أن الرجل لا يحسن تقسيما ولا حكما، ولا استقراء ولا استنباطاً، وإن نادى على نفسه أنه باحث كبير يستطيع الخروج على الإجماع حتى في أمر القرآن
محمد أحمد الغمراوي(578/26)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
583 بل يتعدى إلى الأحقاب
قال النواحي: قال التيفاشي في كتابه (سرور النفس بمدارك الحواس الخمس). وهو عدة مجلدات: إني وجدت جل من يستعمل هذا المشروب لا يفي له خيره بشره، ولا يقوم نفعه بضره. وذلك لجهله بوجه استعماله؛ فإن من المعلوم أن المقصود من شرب الخمر منفعتان: إحداهما راجعة للنفس، وهي التفريح ونفي الهموم، والأخرى للبدن وهي حفظ صحته عليه، ونفي الأمراض النازلة به. ويتحقق عند كل من له أدنى مسكة من عقل أنها إذا استعملت على غير ما ينبغي انعكست هاتان المنفعتان مضرتين؛ فصار عوض السرور هماً وغماً وضجراً وسوء خلق، وعوض الصحة مرضاً مزمناً أو موتاً فجأة. إلا أنه لا يقتصر الأمر على عكس هاتين المنفعتين فقط، بل يتعدى إلى مضار أخرى عظيمة إن سلمت المهجة كذهاب العقل والمال والجاه والذكر الجميل. ولا يقف الأمر على ذلك بل يتعدى إلى الأعقاب؛ فإن الحكماء أجمعوا قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب، وإن أنجب كان الولد أحمق
584 - هذا الكلام عليك لا لك
لما ناظر أبو الوليد (سليمان بن خلف) الباجي الفقيه أبا محمد علي بن حزم قال له الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب؛ وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق
فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاءً تبديل بها مثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته؛ فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة. فأفحمه
585 - . . . زادتها سنة أذرع
في (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي: في سنة (641) أنفذ محي الدين بن يوسف الجوزي رسولاً إلى ملك الروم (كيخسرو بن كيقباذ)، فاجتمع به في إنطاكية؛ فلما عاد حكى أشياء(578/27)
غريبة، منها أن النساء يتعممن كالرجال، والرجال يلبسون السراقوجات، وعمائم النساء تختلف في الكبر والصغر، لأن المرأة إذا جاءت بولد تعممت بعمامة طولها ستة أذرع، وكلما جاءها ولد زادتها ستة أذرع. وذراعهم ذراع ونصف بذراع بغداد
586 - دعانا إلى الخروج عليك
أسر عتاب بن ورقاء جماعة من الخوارج؛ فوجد فيهم امرأة فقال: وأنت يا عدوة الله ممن مرق من الدين، وخرج على المسلمين، أما سمعت قول الله تعالى:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
فقالت: حسن معرفتك بكتاب الله دعانا إلى الخروج عليك يا عدو الله(578/28)
من وادي عبقر
معركة الثلوج. . .!
(من أدب الحرب)
يا صاحبي هلا شهدت اليوم معركة الثلوج؟
حشد الحمام بها وسائله على بيض المروج
ومشى إلى الغابات مصطخب الخطى جم الضجيجِ!
هو منجل الحصَّاد يقتطف الجني قبل النضوج!
كم من شباب باسم الخطوات وثاب بهيج!
حُشِدوا إلى الموت الذي بسموا له حشد الحجيج!
فوق الجواري المنشآت وتحت ألوية البروج
حرب الحضارة هذه يا صاح ... هل بلغت مداها؟
تئد الذي تلد العلوم ... وما تغار على جناها
مجنونة بالفتك طاغية ... تجور على فتاها
كم آلة للبطش قاسية ... تهدِّم من بناها!
ويح لعقل يبتني مج ... داً ويهدمه سفاها
سكت النهى وتكلم الفولا ... ذ واأسفى، وتاها
قد حرتُ فيمَ يهدم الر ... جل المثقف أو يحاربْ
أيقية الوحش القديم ... بنفسه تلد العجائب!
أم تلك فطرته استوى ... في لؤمها ذئب وراهب؟
أم في سبيل المجد قد ... حشد الفواتك والكتائبْ
ما المجد غير مظاهر خد ... اععة ومنى كواذبْ
يا ويح من شاد القصو ... ر وبات يرتع في الخرائب!
ركب الهواء وغاص تحت ... الماء يغلب أو يغالب!
أترى يشيد العلم أر ... كان الحضارة من جديد؟
أترى فوارق الأجنا ... س في الزمن الرشيد!(578/29)
أترى نشيد ثقافة كبرى ... تجل عن الحدود؟
وتعيش أسرة آدم ... في عالم مرح سعيد؟
لا شعب يفخر بانتصار ... ناضح بدم الجنودِ
أو سيداً يختال في الد ... نيا على شرف المسود
المجد نعرفه ولكن ... في مؤازرة وجود!
(الخرطوم - السودان)
سعد الدين. أ. فوزي(578/30)
ألزم الإلزام من لزوم ما لا يلزم
لأبي العلاء المعري
خف دعوة المظلوم فهي سريعة ... طلعت فجاءت بالعذاب النازلِ
عزل الأمير عن البلاد وماله ... الادعاء ضعيفها من عازل
إذا ما تبينا الأمور تكشفت ... لنا وأمير القوم للقوم خادم
وفي كل مصر حاكم فموفق ... وطاغ يحابي في أخس المطامع
يجور فينفى الملك عن مستحقه ... فتسكب أسراب الدموع الهوامع
ومن حوله قوم كأن وجوههم ... صفا لم يلين بالغيوث الهوامع
ذريّة الأنس، لا تزهو، فإنكم ... ذرا تعدون أو نملا تضاهونا
فجنَّب الزهو في الدنيا فلو زهيت ... غر الغمام لذُم القطر إذ نزلا
وليحذر الدعوى اللبيب فإنها ... للفضل مهلكة وخطب موبق
لو قال بدر التم: إني درهم ... قالت له السفهاء أنت: مزأبق
وكيف يؤمل الإنسان رشداً ... وما ينفك متبعاً هواه
يظن بنفسه شرفاً وقدراً ... كأن الله لم يخلق سواه
لا يفخرن الهاشمي ع ... لى امرئ من آل بربر
فالحق يحلف ما ع ... لى عنده إلا كقنبر(578/31)
البريد الأدبي
حول بعث القديم
نشرت (الرسالة) بعددها الأخير لأديب أظنه أحد طلبة المدارس تعليقات على مقالي بعث القديم. ولم يكن هذا المقال يقصد إلى تحقيق جزئيات بل إلى استخلاص حقائق عامة بقيت بنفسي من تدريس الأدب المصري المعاصر بالجامعة. والظاهر أن الطالب الأديب لم يفهم ما قصدت إليه فحشد كتبه المدرسية ليحتاجني بها
قلت: (إننا لم نستطع أن نستخدم الطباعة إلا في سنة 1822) وفي موضع آخر، (إننا لم نستخدمها على نحو مطرد إلا منذ سنة 1822) والمعنى واضح، فالمقصود هو ابتداء طبع الكتب. وهذا ما يثبته ما نقله جرجي زيدان في تاريخ الأدب العربي الجزء الرابع ص 58 عن بيانكي إذ قال (إن أول ما طبع كان قاموساً إيطالياً عربياً سنة 1822)، وأضاف جرجي زيدان إلى ذلك في نفس الموضع أنه (اطلع في مكتبة محمد بك آصف بمصر على كتاب في صباغة الحرير ترجمة القس رفائيل راهب عن الفرنسية وطبع في بولاق سنة 1822) وإذن فما قلته صحيح. ومع ذلك يأتي الطالب الأديب فيخبرني مشكوراً أن كتب التاريخ حتى ما كان في أيدي صبية المدارس الابتدائية تذكر أن مطبعة بولاق أسست سنة 1821. وهذا ما لم أتحدث عنه. ومع ذلك فأنا أخبر الطالب الأديب دون أن أنتظر منه شكراً أن كتب صبية المدارس التي اطلع عليها كذابة وأنه قد اكتشفت منذ عشر سنوات ببولاق لوحة تركية دون فيها تاريخ افتتاح مطبعة بولاق ونشر صورتها الدكتور إبراهيم عبده في كتابه عن (تاريخ الوقائع الرسمية)، وهي تثبت أن هذه المطبعة قد افتتحت سنة 1819 - 1820لا سنة 1821 كما حدثته كتب صبية المدارس
وذكرت أن (أقدم الجمعيات التي تألفت لنشر الكتب وهي جمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860) وإيراد التاريخ على هذا النحو لا يفيد تحديداً ومع ذلك لم يفهم الطالب الأديب فقال وكتبه المدرسية بيده إن مؤسس الجمعية هو إبراهيم بك المويلحي وإن تأسيسها كان سنة 1867 والأمر لم نتركه بغير تحديد إلا لأنه ليس من البساطة بحيث يظن الطالب الأديب، ونحن لم نكن بحاجة لذلك التحديد لتستقيم المحاجة، ولهذا لم نقف عنده. وفي المرجع الذي أشرنا إليه فيما سبق يذكر جرجي زيدان(578/32)
أن محمد عارف باشا قد أسسها سنة 1868، ولكن نفس المؤلف يذكر في (تراجم المشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) طبعة سنة 1911 جزء 2ص 115 ما يأتي: (اتفق المويلحي مع المرحوم عارف باشا أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى على نشر الكتب على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها وأنشأ هو مطبعة باسمه سنة 1285 لطبع تلك الكتب وهي من أقدم المطابع المصرية. على أن الجمعية كانت تطبع كتبها في مطابع أخرى وخصوصاً المطبعة الوهبية). والذي يستفاد من هذا النص هو أن المويلحي قد أنشأ مطبعة سنة 1285هـ أي حوالي سنة 1867 ميلادية، ولكن المطبعة شيء والجمعية شيء آخر، وأظن أنه من الطبيعي أن المطبعة لم تنشأ إلا بعد تأسيس الجمعية خصوصاً وأن الجمعية كانت تطبع في مطابع أخرى، والراجح أن اتفاق المويلحي مع عارف باشا كان على طبع الكتب التي تريد الجمعية نشرها في مطبعة المويلحي، ولقد تفادينا في المقال كل هذه التفصيلات التي لا تحتملها مجلة وأخذنا بخصوص مؤسسها برأي زيدان الذي صرح فيه أن المؤسس الحقيقي للجمعية كان عارف باشا، وأما عن تاريخ إنشائها فحيث أننا لم نستطع أن نجزم به فقد قلنا إطلاقاً إنه لا يرجع إلى أبعد من سنة 1860، وفي هذا ما يكفينا لنمضي في محاجتنا
هذه هي الوقائع التاريخية. وأما ما دون ذلك من الآراء التي أوردها الطالب الأديب، فهي لا تستحق المنافسة لأنها مبنية على عدم فهم لما ذكرنا أو خلط فيه لالتماس مجال للكلام. فالذي نقصده بأسبقية الشعر على النثر في النهوض قائم على الموازنة بين النثر الأدبي الفني والشعر في بدء النهضة. والنثر الفني الأدبي غير نثر الترجمة أو التأليف، بل إن هذا الأخير نفسه لم يتحرر من الزخرفة اللفظية إلا من عهد قريب، وعناوين الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي ومن يليه بل والكتب التي ألفت كانت مسجوعة مثل (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) للطهطاوي ومع أنه كتاب ذكرياته عن مدة البعثة بفرنسا. وفي كتاب جواهر الأدب الهاشمي مئات من الأمثلة للنثر الفني الأدبي في ذلك العصر من رسائل شكر على هدايا إلى وصف لفصول العام إلى منظرات بين مدن القطر المختلفة مما يعرفه الجميع صبية المدارس القدماء، وأما عن الطهطاوي؛ فأنا لم أقل إنه أول من بعث القديم. بل قلت إنه كان يؤمن به ويدفع إليه بحكم ثقافته المستنيرة التي عاد(578/33)
بها من أوربا، وهذا ما أقر به الطالب الأديب بعد أن نفاه
وأما عن المعلومات الكثيرة التي سردها الطالب الأديب عن الصحف والترجمة ففي الكتب الأكبر من مراجعه معلومات أكثر منها وهو يستطيع أن يعود إلى كتب برو كلمان وشيخو وزيدان وعبد الرحمن بك الرافعي وغيرهم كثيرين لينسخ صفحات مكدسة بأسماء الكتب والكتاب والصحف والصحفيين، ولا شك أن هذه المراجع أغنى من (المجمل) (والمفصل)، ولا شك أن وضعها في الهوامش يدل على علم أغزر واطلاع أوسع. وهذا لا ريب خير من المهاترة التي ضيعت على الطالب الأديب ما كنت أود أن أتبسط معه في شرحه وإيضاحه لو أنه قصد إلى فهم ما لم يفهم بدلاً من التخبط والتناقض الباديين في مقاله المضحك
محمد مندور
عمرو بن العاص
استعرض الباحث النابه الأستاذ سيد قطب في صحيفة النقد بالعدد 281 من مجلة الثقافة، مؤلف (عمرو بن العاص) للكاتب الجليل عباس العقاد؛ فجلا روائعه أحسن جلاء يستوجب جزيل الشكر وعاطر الثناء
ولقد رأى مخالفة المؤلف في عدّه عمرا من عباقرة الأخلاق لأنه لم يكن عظيما في أخلاقه، ولكنه لم يدعم ما ارتآه بدليل على أننا لا نظن أن شيئاً من هذا يجل عن أن يقف عليه أستاذنا العقاد ولو قد وقف لكان له من أخلاق عمرو موقفه الصائب الحكيم
ومما يشهد لعلم الإسلام بسمو سجاياه وجلال فضائله؛ قول إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر: صحبت عمرو ابن العاص فما رأيت رجلاً أبين منه قرآنا، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه.
دسوقي إبراهيم
تلاشي
أخذ الأستاذ الشيخ علي محمد حسن في عدد سابق من الرسالة، على بعض الشعراء استعماله كلمة (تلاشى) وذكر أنه لا يعرفها في لسان العرب(578/34)
وطلع علينا العدد السابق بمحاولة يرمي الكاتب فيها إلى تصحيح هذه الكلمة، وكلها نقل عن مجلة المجمع من بحث للأستاذ الجليل النشاشيبي
وهي تدور على قطبين، أولهما وجود الكلمة في النهج، ونقل الشارح كلمة (لشا) عن بعض أئمة اللغة - فأما وجودها في النهج فإن أول من يدفع الاستشهاد بما فيه هو أستاذنا النشاشيبي، وأمر الخلاف فيه بيّن، ويكاد الإجماع الأدبي ينعقد على أن بعض ما فيه عن كلام الصدور بمنأى. وأما وجود (لشا) فغير مدفوع، بيد أنه لا يقتضي بحالٍ وجود تلاشي، والأستاذ خبير بأن جمهرة المزيدات غير مقيسة، ثم هذا التحول في المعنى ماذا أحلَّه - فإن (لشا) من الضعة والخسة، وأختها أو لصيقها (تلاشى) من الاضمحلال
والقطب الثاني هو ورود الكلمة في كلام المؤلفين الثقاة، ولكن متى كان كلام المؤلف - مهما كان موثقاً حجة ثبيتاً - قاطعاً في ثبوت كلمة لغوية، ودليلاً على أنها صريحة النسب في اللسان العربي
كثر أولئك الذين روي لنا عنهم الكاتب ناقلاً عن الأستاذ الجليل، ولكنها كثرةُ قِلَّةٍ لا تأتي بقطع دليل، ولا بغير برهان
وكأنها إلى معاونة النفي أقرب منها إلى مؤازرة الإثبات.
كامل السيد شاهين
المدرس بمدرسة رأس التين الأميرية
الاتحاد والحلول ووحدة الوجود
كثرت المناقشات حول وحدة الوجود في الأعداد السابقة من الرسالة الغراء، واتجهت في آخر كلمة للأستاذ الفاضل دريني خشبة إلى الرغبة في تحديد وجهة الخلاف وبيان مقدار سلامة أو عيب دعوى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود ولست أريد بهذه الكلمة الرد على الأستاذ دريني أو الأستاذ المفضال زكريا إبراهيم وإنما أقصد بها عرض هذه القضايا عرضاً موجزاً مع مناقشتها والرد عليها
فإن فكرة التصوف الأصلية بعيدة كل البعد عن ترهات الحلول وضلالات الاتحاد وظلمات الوحدة، فقد ظل مذهب التصوف غير مشوب بها إلى القرن الثالث حيث تمكن واشتد(578/35)
اختلاط المتصوفة بغلاة الشيعة القائلين بدعوى الحلول فنقلها عنهم متأخرو الصوفية الذين قال بعضهم بأن السالك إذا أمعن وتوغل وجاهد فعبر (لجة الوصول) وانتهى سلوكه إلى الله وفي الله واستغرق في بحار التوحيد وكان صادقاً في هذا السلوك؛ فإن الله (عند أصحاب هذه الدعوى) قد يحل فيه!
هذا وقد ظهر الاتحاد والحلول عند النصارى فقد قالوا بأن الله تعالى ثلاثة أقانيم هي الوجود والعلم والحياة وهي ما يعبر عنها (بالأب والابن والروح القدس) وتفصيل ذلك معلوم
كما أن هناك جماعة من غلاة الشيعة، رأوا جواز ظهور الله في صورة بعض الكاملين من الناس وقدموا بطبيعة الحال سيدنا علي على سائر الكاملين، كما قدموا أيضاً أولاد سيدنا علي
ولئن فرض علينا التحقيق العلمي دراستها كتراث عقلي إنه ليفرض علينا أيضاً التأمل في بطلانها والرد عليها وإنا لنقول بصدد الرد على دعوى الحلول والاتحاد
إن الله واجب والواجب يتنزه عن صفات الحلول وأن الحلول محال على الله تعالى لأسباب كثيرة؛ ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث
ثم إن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول، لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعاً لما حل فيه كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثراً به، بل إنه ليصبح في غير الإمكان تصور الحال إلا بتصور المحل! وإذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى
ثم إن الله واجب الوجود، والواجب ليس عرضاً أو ليس جوهراً. فإذا كان الحلول حلول عرض في جوهر؛ فلا يمكن بالنسبة لله تعالى لأنه ليس بعرض، وإذا كان حلول جوهر في جوهر؛ فلا يمكن أيضاً لأن الله تعالى ليس بجوهر
. . . هذا من ناحية الحلول، أما من ناحية الاتحاد؛ فكما تنزه الواجب عن الحلول، فهو يتنزه عن الاتحاد، لأنه لو حدث أن اتحد الواجب يغيره نتج عن ذلك حالتان: إما أن يبقيا موجودين، وإما أن يدركهما العدم معاً ويخرج منهما ثالث أو يدرك لعدم أحدهما ويبقى الآخر(578/36)
ففي بقائهما موجودين: فهما إذاً في هذه الحال اثنان متباينان متمايزان، وهذا التمايز ينافي الاتحاد، لأن الاتحاد يستلزم أن يصبحا واحداً
وفي عدمهما معاً يبطل الاتحاد، لأن المعدوم لا يتحد بمعدوم، وفي حالة عدم أحدهما فقط فإن الاتحاد لم يتحقق أصلاً
أما وحدة الوجود فمذهب أحدثه في الإسلام متأخرو الصوفية المتكلمون فيما وراء الحس، وخلاصته أن الله تعالى هو الموجود المطلق وأن غيره لا يتصف بالوجود أصلاً، فلو قيل إن الإنسان موجود فمعنى ذلك عندهم أن له تعلقاً بالوجود وهو الله تعالى. وإن جميع العوالم سواء اختلفت أنواعها وتباينت أجناسها وأشخاصها موجودة من العدم، وإن وجودها هذا محفوظ عليها بوجود الله تعالى وليس بنفسها لأنها معدومة من جهة نفسها بعدمها الأصلي، ومن ثم فوجودها الذي هي به موجودة في كل هو وجود الله تعالى فقط، وإن الوجود الحق هو عين ذات الحق أي الله تعالى، وهو واحد لا ينقسم ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتنقل ولا يتغير ولا يتعدد أصلاً، ثم هو مطلق عن الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان. . .
هذه خلاصة وحدة الوجود، وإننا لا ننكر كون العالم موجود بقدرة الله وإرادته، ولكن يجب أن نفرق بين وجود الله وهو وجود أزلي لا بداية له ولا نهاية، ووجود العوالم وهو وجود حادث له بداية ونهاية
ثم إننا أيضاً نسلم بأن وجود العوالم مسبب عن الله تعالى ولكن لنا أن نقرر أن هناك فرقاً كبيراً بين السبب والمسبب والعلة والمعلول
وأغرب ما في الأمر أنهم بعد أن أثبتوا أن وجود الله (لا ينمو ولا يتبعض ولا يتجزأ) أجاز لهم منطقهم بعد ذلك توزيع هذا الوجود على أفراد الموجودات، وحلوله فيها حلولاً أزلياً!!
وبعد: ففي هذا القدر الكفاية، وللأستاذ الفاضل دريني الشكر على غيرته، وللأخ الكريم الأستاذ زكريا الإعجاب بحيويته. ألهمنا الله الصواب
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي(578/37)
العدد 579 - بتاريخ: 07 - 08 - 1944(/)
طفيليون ومقترحون
للأستاذ عباس محمود العقاد
لبعض الهيئات الإنجليزية نشرات دورية تصدر بأسماء الكتب التي تؤلف وتطبع في الموضوعات المختلفة شهراً بعد شهر وموسماً بعد موسم، وترسل إلى من يشاء في أنحاء الأرض للتوصية والانتقاء
في النشرة التي صدرت أول السنة الحاضرة أسماء كتب كثيرة في موضوعات مختلفة، منها كتاب بعنوان النسر والحمامة، من تأليف ساكفيل وست، يدور على ترجمة القديسة تيريزا راعية أسبانيا، وترجمة القديسة تيريزا الليزية الملقبة بالزهرة الصغيرة!
ومن هذه الكتب ترجمة لقارع الجرس البيروني الذي استطاع في القرن الثامن عشر أن يقفز في أسبانيا من قارع جرس إلى كردينال وأن يحكم البلاد الأسبانية بسلطان الدين والدنيا. وعدة صفحات الكتاب نحو ثلثمائة صفحة يباع بواحد وعشرين شلناً
ومنها ترجمة جديدة - شعرية - لقصيدة دانتي الشاعر الإيطالي عن الجحيم
وهذا بعض المحصول في شهر واحد من السنة الحاضرة فأين المقترحون يا ترى في البلاد الإنجليزية؟
مسكينة تلك البلاد التي لا تظفر بمقترح واحد من مقترحينا الذين يعدون بالعشرات.
فأول ما يخطر على البال أن نزود أولئك المساكين ببعثة من هؤلاء المقترحين يعلمونهم ما يكتبون وما لا يكتبون، ويذكرونهم أنهم في حرب زبون، وأنهم يضربون بالقنابل صباح مساء، وأنهم مواجهون بمشكلة التعمير في لندن والبلاد الإنجليزية، ومشكلة التعمير في أوربا والقارات الأخرى، ومشكلة البلاد الحرة والمستعمرات، ومشكلة النقد والتصدير والمعاملات بينهم وبين الدول كبيرها وصغيرها، ومشكلة التفاهم على توحيد الخطة بينهم وبين الروس والأمريكيين والصينيين، ومشكلة العمال ورءوس الأموال، والتأمين الاجتماعي، والتوفيق بين الديمقراطية وسائر المذاهب الاجتماعية نسى المساكين هذه الحرب الحاضرة التي يذكرها المقترحون الطفيليون عندنا ويذكرون بها الكتاب والمؤلفين
نسى المساكين أنهم في سنة 1944. للميلاد، وأنهم مواجهون بتلك المشكلات التي لا تواجه أمة من الأمم. فظهر بينهم من يؤلف الكتب في القديسات في البلاد الأجنبية، وعن قارعي(579/1)
الأجراس في بلاد الأسبان قبل قرنين، وعن شعر رجل إيطالي ينظم القصائد قبل ستة قرون
وعندنا نحن في مصر ذخيرة كافية من المقترحين و (المهنكرين) الذين يقفون على أيدي المؤلفين ليعلموهم ما يكتبون وما لا يكتبون
فلماذا نبخل على الناس بحفنة من هذه الذخيرة الكافية تذكرهم ما نسوه، وتحاسبهم على ما فرطوا فيه، وتمر بالمداد الأسود على أسماء الكتب التي لا يجوز أن تكتب أو تطبع في سنة 1944، لأنها ترجع إلى موضوعات في سنة 1800 أو سنة 1300 أو ما قبل ذلك بزمن يقصر أو يطول؟
لسبب واحد يصح أن نبخل على الناس بحفنة من تلك الذخيرة الكافية، وهو أنها ذخيرة مستغنى عنها في الأمم الصالحة كل الاستغناء، فيوشك أن تعود في السفينة التي ذهبت بها إلى الديار الإنجليزية، لتقترح بيننا ما تشاء في البلد الذي يحب المقترحات ويكره الأعمال
الأمم الصالحة تستغني عن تلك الذخيرة كل الاستغناء، لأنها تعلم أن المعرفة مطلوبة حيث كانت، وأن التاريخ قد خلق ليكتب عن الماضي البعيد والقريب، ولولا ذلك لما خلق التاريخ، وأن المؤلف يحاسب بشيء واحد وهو إحسان ما يكتب وإتقان ما يطرق من الموضوعات؛ فإن أحسن فهو مقبول نافع، وإن كتب عمل قبل الطوفان؛ وإن أساء فهو مرفوض غير نافع، وإن كتب عن موضوعات يومه ساعة بعد ساعة، ولم ينتظر بكتابته عن اليوم موعد الغروب
الأمم الصالحة لا تفهم تلك البدعة الزرية التي تجعل العقول البشرية مرهونة بالأفران والمطابخ، فلا تفكر ولا تكتب إلا في الطعام والشراب يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام
وأقسم أن الذين يتفيهقون بتلك البدعة عندنا لا يفهمون كذلك ما يقولون، ولا يدرون أو لا يدري كثير منهم أنهم مسخرون لأغراض يساقون إليها وهم لا يشعرون
فالواقع أن الكتابة عن الماضي لا تبطل في زمن الأزمان، لأن الناس كانوا يعرفون أن التاريخ (ماض) حين اخترعوه وكتبوا فيه
وأن الكتابة عن النفس الآدمية وأسرارها في العظماء وغير العظماء تبطل في زمن(579/2)
الأزمان، لأن التعريف بإنسان واحد هو تعريف بالنوع الإنساني كله من قديمه وحديثه وماضيه وآتيه، وهو معرفة ينمو بها العقل الذي تنميه كل معرفة في كل موضوع
ولكن الدعاة المغرضين للمذاهب الهدامة يكرهون الكتابة في بعض الأمور ولا يجسرون على الجهر بعلة الكراهة، لأنها تصرف عنهم الأسماع والعقول، فيحاولون الوصول إلى أغراضهم من طريق غير طريق العقول: من طريق المعدات والبطون
هاتوا الفتة! نحن لا نريد التاريخ ولا نريد النفس البشرية فتسمعهم البطون وإن لم تسمعهم العقول
أصحاب المذاهب الهدامة يكرهون الكتابة عن عمر ابن الخطاب وخالد بن الوليد وعن الأدب واللغة وتواريخ الأوطان وتواريخ الأديان
يكرهون الكتابة عن كل ما يحيى في الأمم نخوة وطنية أو نخوة روحية أو نخوة أدبية أو لغوية، لأنهم لا يريدون من الناس إلا أن يشعروا بطبقة واحدة تحارب جميع الطبقات ولا تجمعها بالآخرين جامعة دين ولا وطن ولا لغة ولا مطلب من المطالب الإنسانية التي تتجاوز الأجور والأسواق
يكرهون ذلك ولكنهم يخرسون دون الجهر بما يكرهون، فلا يقولون إنهم يكرهون الكتابة فيما يحيي الكرامة الوطنية أو الكرامة الروحية بل يصيحون: الفتة الفتة، والجوع الجوع، والحاضر الحاضر، لتعمى العيون وقت البطون كما يقولون
ومتى كانت (مشكلات اليوم) مانعة أن يفكر الناس في مقاصد المعرفة ومطالب النفس الإنسانية؟
ومتى كان الكلام في التاريخ وسير العظماء وأسرار النفس البشرية معطلاً لبحوث الزراعيين والصناعيين ودعاة الإصلاح الاجتماعي والعدالة الاجتماعية؟
هنا في مصر - ولا نقول في أوربا وأمريكا - تصدر بين الحين والحين كتب في الزراعة وتربية الحيوان ومستقبل النقد وقواعد المعاملات وأصول السياسة تزيد في العدد على كتب الأدب والتاريخ
فإن كان البحاثون الاقتصاديون لا يحسنون جمع الأرقام واستخلاص الحقائق التي يبنون عليها صلاح المجتمع المصري فقولوا لهؤلاء إنكم مقصرون وإنكم لا تكتبون فيما ينبغي(579/3)
لكم أن تكتبوا فيه
قولوا لبائع الملابس إنك لا تأتي بالصوف الأصيل والقطن الجيد والكتان المتين، ولكن لا تقولوا للصيدلي أو بائع السكر إنك المسئول دون غيرك عن الصوف المصنوع والقطن المخلوط والكتان المدخول والتفصيل المعيب
أو قولوا إن كنتم مخلصين إن المعرفة مطلوبة وإن دراسة النفوس البشرية حسنة نافعة، ولكننا نحتاج إلى مؤلفين آخرين يكتبون فيما نقترح عليهم من المقاصد والأغراض
لكنهم لا يقولون هذا ولا ذاك
وإنما الشيء الوحيد (غير اللازم) عندهم هو الكتابة في إحياء النخوة القومية أو النخوة الروحية أو أن تجعل بين أبناء آدم آصرة غير آصرة الأجور والأسواق. وليكتب من شاء بعد ذلك فيما يشاء
ويأتي المقترحون الطفيليون عندنا فلا يكتبون ولا يدعون غيرهم يكتب فيما يحسن أو يدرس، ويحسن الناس أن يقرأوه
فإن كان بهم لاعج من الهم أن يبسطوا القول في الزراعة والصناعة ومعارض الثروة ومحصول القمح والبرسيم فما منعهم أن يبسطوا القول فيها ويعقدوا الفصول عليها ويملئوا المكتبات بمصنفاتها ومترجماتها وهم يحملون الأقلام ويسطرون؟
نحن في شهر أغسطس وفيه ذكرى سعد العظيم وهو رحمه الله لا يجهل هؤلاء المقترحين لأنهم عاشوا في زمانه كما يعيشون في هذا الزمان
ففي سياق الذكرى والعبرة نشير إلى كلمة له في هذا الصدد تأتي ولا ريب في أوانها المقدور
قال لي مرة: (إن آفتنا الكبرى ألا نحمل تبعاتنا وأن نحاسب غيرنا على واجباتهم ولا نحاسب أنفسنا على واجباتنا. ثم استطرد قائلاً: منذ نحو ثلاثين سنة دعونا بفراش مشهور طلبنا إليه أن يقيم سرادق عرس وأوصيناه أن يفرغ من إقامته قبل المساء. وفي عصاري اليوم مررنا بالمكان فإذا بالسرادق أكوام من الأخشاب والكراسي والثريات والمصابيح ولا سرادق إلا العمدان مفرقة هنا وهناك لا تؤذن بالانتهاء قبل أيام. . . ما الخبر؟ الخبر أن العمال اختلفوا في التنظيم والتقسيم فراح كل عامل منهم يشير على غيره بما يعمل وينتظر(579/4)
هو تنفيذ الإشارة! واضع الكراسي يقول إنه لا يدري كيف يصفها قبل أن تقام العمدان، فيأمر من يقيم العمدان بأن يقيمها حسبما يأمره ويملي عليه! ومعلق الثريات في خلاف مع الاثنين يقول إن الكراسي ينبغي أن تصف هنا والعمدان يجب أن تقام هناك. . . ولو أقبل كل على عمله لانتهوا جميعاً واستطاعوا أن يفضوا فيما بينهم هذا الخلاف - 553 من كتاب سعد زغلول)
ونحن نعرف ما نصنع ونكتب ما نريد أن نكتب ونعرف لما نكتبه ونريده. فعلى غيرنا أن يلتفتوا إلى كراسيهم وثرياتهم وعمدانهم فيشتغلوا بها عن الاقتراح والإشارة وهم مكتوفو اليدين
أما الذين يتطاولون فيومئون إلى مكاسب الكتب فإنما نقطع ألسنتهم بكلمات معدودات لا نزيد عليها، وهي أنهم يعملون وغيرهم يعلم في أنحاء العالم العربي أن كاتب هذه السطور قادر على أن يكسب بقلمه أضعاف ما يكسبه من الكتب إذا سولت له نفسه أن يخدم الدعوات التي يخدمونها أو يخدمون أمثالها. . . وفي هذا الكفاية!
عباس محمود العقاد(579/5)
3 - أحمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لعلنا لم نفاجئ أحداً بتلك الصورة الشاحبة التي حاولنا أن نرسم بها خطوطاً سريعة لقلب رامي. . . ذلك القلب الذي كان الناس يحسبونه خلق للفرح والمرح والغناء، والليالي الساهرة الطروب. فإذا هم يرونه قلباً ينضج بالآلام، ويفيض بالمآسي، التي استحالت في فم الشاعر شدواً حزيناً باكياً، وغناءً رقيقاً رفيقاً موجعاً. وإذا هم يرونه قلباً عالمياً يخفق بآمال الإنسانية وآلامها. يكلم الناي ويناجي البدر، ويتوجع للقيط، ويخاطب الطير، ويرثي للجمال الراحل، ويرق للغريب، ويندب حظ الهزار السجين، وينتفض لليتيم، ويفي للحبيب، ويأسى للزهرة الذابلة، ويخفق بجناح الرحمة فوق قبر الجندي المجهول
ونحن لا نعتذر عن هذه الصورة الشاحبة ما دامت هي الصورة الحقيقية لقلب رامي، وما دامت هي النبع الصافي الذي شاعت موسيقا خريره في أغانيه. في تلك السنين العشرين التي ظل رامي طوالها أسطع شاعر من شعراء الغناء في مصر، بل في العالم العربي كله
لم يطبع رامي من شعره الكثير الزاخر غير هذه الدواوين الثلاثة التي يجمع أولها شعره بين سنتي 1916 و1917، وثانيها شعره بين سنتي 1918 و1920، وثالثها شعره بين سنتي 1921 و1925. كما نشرت له سنة 1942 مجموعة من شعره لأغانيه. ويختلف الجزء الثالث عن الجزء الأول والثاني اختلافاً شديداً بيناً؛ إذ نرى الشاعر في أول الديوان يشكو عزوفاً عن قول الشعر. ونراه يحن إلى جنته الأولى التي طالما خفق فيها بجناحيه. وحلق فوق أفنانها يغازل الحور ويعب من الخمرة الإلهية. . . ونراه لا ينظم في العام الطويل العريض غير قصيدة واحدة أو قصيدتين يتشوف فيهما إلى عروس غابه التي كانت تلهمه وتوحي إليه. ثم صدت فجأة. . . وولت لا يدري إلى أين. . .
أين وحي الخيال والوجدان ... يستقي منه خاطري ولساني
طال صمتي حتى خشيت على شعر ... ي يفنى وخفت وأد بياني
أسكوت والكون جم المعاني ... وسكون والنفس في ثوران
هذه نضرة الطبيعة تنثا ... ل جمالاً على مُحيَّا الزمان
وحرام في ليلة البدر ألا ... تسمع الأذن سجعة الكروان(579/6)
وحرام ألا يُحيي طلوع ال ... فجر طير الصباح بالألحان
وحرام ألا تميل غصون ال ... روض في هبة النسيم الواني
لست أدري أأستحم لخطب الد ... هر أم أنطوي على أحزاني
يا بنات الشعر انفحيني وغن ... يني وهاتي من شيقات المعاني
ودعيني إما أنوح على ح ... ظي وإما أبكي شبابي الفاني
لا أريد المضي عن هذه الدني ... اولم تمتلئ ببث جناني
إن صعبا على المزاهر تبلى ... لا تَناغَى على أكف القيان
وشديداً على النفوس مدارا ... ة أساها بالصبر والكتمان
فاجعلي أنّي روياً فبعض الن ... وح أشجى من مطربات المعاني
ودعي همسة الضمير تُدوّى ... من عميق الآباد في الآذان
ربما شاق لحنها قلب محزو ... ن وراقت ألفاظها سمع عان
كنت رطب اللسان ينطف منه ... ريّق الشعر بين آن وآن
وإذا بي حرمت نفسي سلوا ... ها وحرّمتها على إخواني
هذه أبيات من قصيدة جميلة لم يقل رامي غيرها في مدى ستة أشهر. وإليك أبياتاً من قصيدة أخرى لم يقل غيرها في مدى ستة أشهر كذلك:
إني لأخشى أن تموت عواطفي ... ويجف ذاك النبع من أشعاري
وتقر نفسي بعد ثورتها فلا ... يهتاجها شيء سوى التذكار
وترى مجال الكون عيني خالياً ... من بهجة الآصال والأسحار
إني ليحزنني بقائي صامتاً ... ولدي هذا الكنز من أفكاري
وأكاد أندب خاطري ومشاعري ... وهما إلى نفائس الأذخار
في الشعر تأسائي وفيه رفاهتي ... وإليه أشكو صولة الأقدار
فإذا سكت فقد حرمت شكايتي ... ولرب شكوى نفست أكداري
ترى، لماذا صمت رامي هذا الصمت الذي أفزع خياله، وأرق شيطانه، وجعل عرائس الشعر تجأر بالشكوى من طول ما سكت البلبل؟! إن رامي يجيب على ذلك بقوله:
هل زال من دنياي حُسْنٌ هزّني ... أم قرّ في قلبي لهيب نار؟(579/7)
حب تضرم في حنايا أضلعي ... فأصابه يأس بطول قرار (؟؟)
وبكيته حتى مللت بكاءه ... فسكت منطوياً وحزني وار
وأردت أسدل فوق ماضي صبوتي ... من طول أيامي فضول ستار
فإذا الحياة خلت من الحسن الذي ... قد كان فيها متعة الأبصار
وإذا بها أقوت من المعنى الذي ... قد راقني في سالف الأدهار
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي ... مثل الغريب غدار رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول ... بعدت مطارحه على الأنظار
ويزيدنا علماً بمأساة قلبه، فيقول هذه الأبيات الخوالد:
لمن الغناء أقوله فأصوغه ... من ادمعي ودمي وطيب سراري
ومن الذي يوحي إلى من الهوى ... قبس الخيال، وصدحة الأوتار
ما أطلق الطير الصدوح بشدوه ... مثل ابتسام الزهر والنوّار
أو نضر الزرع البهيج زهوره ... كالشمس والماء النمير الجاري
أو أرقص البحر الخضم عبابه ... كالبدر يشرق باهر الأنوار
الحب نبع الشعر منه تفجرت ... عين المعاني والخيال الساري
الحب لحن النفس وقعه على ... وتر القريض بنان موسيقار
الحب يفسح في الحياة مراحها ... ويحفها ببدائع الآثار
فلرب ساعة خلوة هفافة ... طالت عن الأجيال والأعمار
ولرب وجهٍ أبدعت قسماته ... أبهى من الجنات والأنهار
ولربما فاقت مناجاة الهوى ... معنى ومغزى ممتع الأسفار
ولرب ثغر باسم أحيا المنى ... وأطارها في النفس كل مطار
هذا هو الحب الذي أشتاقه ... فيهيج ساكن روحي الزخّار
ويمدّني بالشعر معنى سامياً ... ويبث فيه جلائل الأسرار
وبعد. . . فنخشى إذا أطلنا الاقتباس على هذا النحو أن يخرج المقال مكتوباً بقلم رامي نفسه. . . وبعد أيضاً، فلنسأل رامي عن هذا الحب العجيب الذي تضرم في حنايا أضلعه، وبكاه حتى مل بكاءه، ثم سكت منطوياً عليه وحزنه وار، وأراد أن يسدل ستاراً على(579/8)
ماضي صبوته، فلما فعل، وجد الحياة قد أقفرت من معناها الجميل الذي كان يروقه في الزمان الغابر. وإذا. . .
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي ... مثل الغريب غدا رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول ... بعدت مطارحه على الأنظار؟!
ولله هذه الصورة الرائعة للقلب الذي أقفر من الحب، يصورها خيال رامي الشاعر المبدع الفنان! إنها لصورة تذكرنا بصورة صديقنا العبقري الدكتور إبراهيم ناجي، صاحب القلب:
الشهيد المتواري في الضلوع!
وهنا. . . يجب أن نقف قليلاً لنقذف في أسماع شعرائنا خاصة، وأدبائنا عامة، بذلك السؤال الذي طالما هممت أن أكتب في موضوعه كلاماً طويلاً لا ينتهي، أناقش فيه أولئك الشعراء والأدباء الحساب عن قصص قلوبهم، وأنباء حبهم؟
لماذا لا يصارحنا سادتنا الشعراء والأدباء بأنباء ذلك الحب الذي يخفونه عنا، وهم يعلمون أن:
الحب نبع الشعر منه تفجرت ... عين المعاني والخيال الساري
والحب لحن النفس وقّعه على ... وتر القريض بنانُ موسيقار
لماذا يتركنا سادتنا الشعراء والأدباء في ذلك الظلام الدامس من أنباء حبهم، ونحن لا نفتح كتاباً من كتب تاريخ الأدب في الشرق أو الغرب إلا ونطلع من أنباء غرام الشعراء والأدباء المفصلة تفصيلاً تاماً ظريفاً طريفاً ما نقف منه على أهم صفحة في كتاب حياة كل منهم؟ أي شاعر من شعراء العرب الجاهليين أو المخضرمين أو الإسلاميين أو الأمويين أو العباسيين لا نعرف قصة حبه رائعة مفصلة؟ وأي شاعر من شعراء الغرب لم تكتب عن أخباره الغرامية الكتب والمؤلفات؟ هل يعتبر شعراؤنا الخوض في أحاديث حبهم فضيحة؟ حبهم الذي أثمر لنا أشهى ثمار الشعر المصري الحديث، والقصص المصري الحديث، والأدب المصري الحديث؟
إن إمتاع رامي هذه الحقبة الطويلة عن قول الشعر بسبب نكبته في حبه الذي نجهل أخباره، يشبه إمتناع ناجي عن قول الشعر تلك الحقبة الطويلة التي تكلمنا عنها حينما كنا نكتب عنه، وذلك بسبب نكبته في حبه الذي نجهله كذلك، والذي أبى ناجي أن يحدثنا عنه(579/9)
(لأن أوان ذلك لم يؤن بعد) كما قال لنا مرة ونحن نحاوره في ذلك:
لماذا نجهل حديث حب ناجي، ونحن نعلم حديث حب شلي؟
ولماذا نجهل حديث حب رامي، ونحن نعلم حديث حب قيس؟
ولماذا نجهل حديث حب علي محمود طه، ونحن نعلم حديث حب بودلير؟
ولماذا نجهل حديث حب العقاد ونحن نلم بأحاديث حب بيرون؟
وهذا الغزل الرقيق الذي يطرفنا به الجارم، ولا يزال يطرفنا به، حتى في المؤتمرات الطبية، ما خطبه؟ حب من هذه التي لا تزال توحي إلى أستاذنا الجارم هذا الغزل الراقص الرقيق يا ترى؟!
لماذا تعدون الكلام في أحاديث القلوب عيباً لا ينبغي، وأنتم تطرفوننا بكل هذا الغزل الجميل العلوي الخالد؟
لقد حدثنا العقاد في ساره أحاديث ملفوفة عن وقائع قد تكون فصولاً من كتاب حبه
ولقد حدثنا الحكيم في عودة الروح أحاديث مبرقشة عن وقائع قد تكون فصولاً في كتاب حبه، الذي ربما كان عصفور من الشرق وراقصة المعبد وبعض قصصه الأخرى فصولاً منه كذلك
ولقد حدثنا المازني أحاديثه عن مغامراته بمثل ذلك الأسلوب غير الصريح
أما الأستاذ عزيز أباظة فقد كان أصرح أدباء مصر الحديثة وشعرائها جميعاً، حينما صارحنا بقصة قلبه في ديوانه الباكي (أنات حائرة)
هذا سؤال ألقيه في جو مصر الأبي، وأرجو ألا يثير زوبعة!
وهذا سؤال ألقيه وقد أحسست بالشوك يدمي قدمي وأنا أسير في جنة حب رامي. . . هذا الحب الذي خاض الناس فيه كثيراً، ولم يعرفوا حقيقته إلى الآن.
دريني خشبة(579/10)
وحدة الوجود
والأستاذ دريني خشبة في مقاله الثالث
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في مجلة (الرسالة) المصرية، أربع مقالات متتالية، تعقب بها (رسائل التعليقات) للرصافي، وفند بعض ما جاء فيها من أقوال. ونحن هنا لا نريد أن نعرض إلا لمقاله الثالث فقط المنشور في العدد 572 من الرسالة أما مقاله الأول والثاني والرابع فنضرب عنها صفحاً، لأنها خارجة عن حدود آداب البحث والنقد. والظاهر أنها مكتوبة لغرض آخر غير النقد لا نشك في أن الأستاذ خشبة يعرف حدوده فلا يتعداها، كما يعرف حقوقه فيرعاها، وواجباته فيؤديها؛ إذ وجه فيها إلى الرصافي تهمة هو بريء منها، ونسب إليه أقوالاً لم يقلها، وكل ذلك يدل على أنه لم يقرأ رسائل التعليقات، وإنما تصفحها سريعاً بلا إمعان ولا تثبيت، ولم ينقل عبارات الرصافي بنصوصها، بل ذكرها ناقصة مقتضبة ومشوهة واكتفى بالإشارة إلى عدد صفحاتها، ولا شك أن الناقد النزيه لا ينظر إلى المساوئ فقط، بل في المحاسن أيضاً، وقد تعمد في تعابيره القدح والشتم، مما لا يليق بأقلام النقاد العارفين، إلى غير ذلك مما يدل على أنه لم يقف فيما كتبه موقف الناقد، بل موقف الطاعن الحاقد، لسبب لا نعلمه نحن بل هو
وأما مقاله الثالث المنشور في العدد (572) من الرسالة؛ فإنه قد ترجم فيه للقراء أقوال القدماء من فلاسفة اليونان حول وحدة الوجود كما يزعم هو، ليثبت بها أن نظرية وحدة الوجود قديمة، وأنها ليست بإسلامية محضة كما يقول الرصافي
فعلى ذلك نقول: كان يجب على الأستاذ أن يذكر أولاً نظرية وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف كما ذكرها وصورها الرصافي في رسائل التعليقات، ثم يأتي بعد ذلك بأقوال فلاسفة اليونان، لكي يعلم القراء أين تقع هذه الأقوال من وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي، ولكنه لم يفعل ذلك، بل أهمل ذكرها، فكان، بسبب ذلك، قراء الرسالة في حكمهم كالقاضي الذي سمع رد المدعي عليه من دون أن يسمع دعوى المدعي ولا ريب أن ذلك مخالف لآداب البحث والنقد
ولنذكر وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي في تعليقاته، ثم نذكر تلك الأقوال ونقارن بينها(579/11)
لكي نرى أين هذه من تلك
وحدة الوجود عند الصوفية
يعبر الصوفية عن ذات الله (بالوجود الكلي المطلق اللانهائي) ويقولون بأنه لا موجود غيره، وأن هذه الكائنات ما هي إلا مظاهر وصور للوجود الكلي قائمة به، فليس لها وجود غير الوجود الكلي، ويشبهون ذلك بأمواج البحر؛ فكما أن الأمواج ليست سوى مظاهر وصور قائمة بالماء، وكما أنها لا وجود لها غير وجود الماء، كذلك هذه الكائنات بالنسبة إلي الوجود الكلي
هذا مجمل ما يقال في تصوير وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف ويمثلونها بقولهم لا موجود إلا الله وهم فيها مستمدون من الآيات القرآنية، كما هو مذكور بالتفصيل في رسائل التعليقات
ما يقوله فلاسفة اليونان
لقد ذكر لهم الأستاذ خشبة أقوالاً كثيرة، وكلها بعيدة عن وحدة الوجود؛ فلا نعرض إلا لأقربها حوماً حول الوحدة التي يقول بها أهل التصوف، وإذا ثبت بطلان هذه ثبت بطلان غيرها بطريق الأولى فنقول:
ذكر الأستاذ في رقم (5) أقوال (أجرنوفانس) الذي دعا الناس إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، والذي تنزه عن الأعضاء فهو سميع كله سمع، وبصير كله بصر، وعاقل كله عقل. . . موجود في كل الوجود، إلا أنه كان يؤمن بأن الله (حال) في العالم، وأنه ليس شيئاً غيره. قال الأستاذ وهو في ذلك أول قائل بوحدة الوجود
فنقول إن القول بالحلول ينافي وحدة الوجود كل المنافاة، لأنه بحكم الضرورة يقتضي حالاً ومحلولاً فيه. فيكون الوجود وجودين، لا وجوداً واحداً. فكيف يكون الله حالاً في العالم، ويكون ليس شيئاً غيره
والصوفية ينكرون الحلول أشد الإنكار، ويرون القول به كفراً بوحدة الوجود، فالعالم عندهم ليس له وجود حقيقي غير الوجود الكلي فهو قائم به ومظهر من مظاهره ليس إلا، وكذلك الموجة في البحر، فإن الماء لا يكون حالاً في الموجة، لأن الموجة لا وجود لها غير وجود(579/12)
الماء. فالوجود واحد، وهو وجود الماء، والموجة لا وجود لها وإنما هي صورة قائمة بالماء
فإن كان الأستاذ خشبة يرى قول هذا الفيلسوف اليوناني منطبقاً على وحدة الوجود، فهذه ليست بوحدة الوجود التي قال بها الصوفية في الإسلام
ثم نقل الأستاذ في رقم (10) بعض أقوال الذريين في فلاسفة اليونان، فذكر عن (أناجزاجوراس) أنه كان يقول بتعدد العناصر، وبوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة هي (العقل) تتولى تحريك تلك العناصر، وتوجيهها وجهة عالية صالحة تضمن جمال الكون ونظامه، إلا أنه يعتقد قدم العقل والعناصر على السواء، وأن أحدهما لم يخلق الآخر، وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود
فنقول حق لنا أن نتمثل هنا بالمثل القائل: (صرحت بجدان)، فإن قول هذا الفيلسوف مصرح عن وجودين قديمين. فأي معنى يبقى لقوله في الجملة الأخيرة: (وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود). وكيف يصح تأليف الوحدة من وجودين قديمين، وكيف يصح من الأستاذ أن يعتبر هذا الفيلسوف قائلا بوحدة الوجود. نعود هنا فنقول إن الصوفية يقولون بالوجود الكلي المطلق اللانهائي، وإنه لا موجود في الحقيقة سواه، وإن جميع الكائنات ليس لها وجود حقيقي مستقل عن الوجود الكلي، وإنما هي مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به قيام صور الأمواج بماء البحر
نكتفي من تلك الأقوال التي ذكرها الأستاذ بهذين القولين تاركين التعرض لغيرهما، لأنهما يحومان بعض الحوم حول نظرية وحدة الوجود، وإن كان بينهما بون بعيد جداً
هذا ما نريد أن نقوله الآن للأستاذ خشبة، وقد بقى أمران لا بد من التعرض لهما، الأول أننا نرى الأستاذ خشبة في مقالاته يتهم الرصافي بأنه (يدعونا إلى دين جديد). فعلى هذا نقول:
إن الرصافي في رسائل التعليقات لم يجيء مقرراً لمبدأ، ولا واضعاً لمذهب، وإنما تكلم عن وحدة الوجود التي قال بها كبار الصوفية من قديم الزمان، فأوضحها وشرح غوامضها، وكشف النقاب عن وجهها، وهو في كل ما قال عنها منتهج مناهج الصوفية الذين يعبر هو عنهم (بفلاسفة الإسلام)،
سلوا من شتم ممن عرفوا الرصافي من قريب أو بعيد، هل ادعى التصوف أو هل تظاهر(579/13)
به، فإنكم لا تجدون من يجيبكم بنعم. على أنكم لو كنتم قرأتم رسائل التعليقات بإحاطة واستقصاء، لعلمتم أن الرصافي يخالف الصوفية في بعض أقوالهم، وينكر عليهم بعضها، وإن وافقهم في كثير منها، لا سيما وحدة الوجود
فالرصافي لم يتكلم في رسائل التعليقات عن وحدة الوجود دعاية للتصوف، وإنما تكلم عنها بمناسبة مطالعته كتاب (التصوف الإسلامي) للدكتور زكي مبارك يقصد الاستفادة منه، لأنه منذ أيام الصبا مولع بمباحث التصوف، وإن لم يكن هو من الصوفية
وإذا كان هذا هكذا فماذا يريد الأستاذ بقوله إن الرصافي يدعونا إلى دين جديد، وأي دين يعني، وكل من قرأ الرسائل علم أن الرصافي غير داع إلى شيء، وإنما هو فيما كتبه هناك موضح وشارح ومفسر لا غير، ولكن الأستاذ أراد التهويل والتشنيع عند العامة فقال هذا القول المخالف للحقيقة من دون مبالاة، فالظلم غفرا
الثاني: يظهر من الكلمة الأخير التي كتبها الأستاذ خشبة في (الرسالة) رداً على رسائل التعليقات، أنه يتهم الصوفية أهل وحدة الوجود كلهم، لا الرصافي وحده، بأنهم زنادقة وأنهم إباحيون، وأنهم مثل القورينيين من تلامذة سقراط ينشدون اللذة، واللذة الجنسية الخسيسة على وجه الخصوص (وأنهم يقولون بأن الهداية والضلال واحد، وأن التقى والدعارة صنوان، وأن المصير واحد) إلى غير ذلك من الأقوال التي ذهبت مشرقة والصوفية مغربون، وهم منها بريئون، وعنها بعيدون
إن في هذه الأراجيف لدليلاً آخر على أن الأستاذ لم يقرأ رسائل التعليقات، بل مر بها الخطَفى، فثارت به حميته الدينية، لا ثقافته العلمية، فأخذ يقول هذه الأقوال جزافاً، ويرمي الكلام على عواهنه رمياً من دون تأن ولا تثبيت
ولننظر في الذي دعا الأستاذ إلى هذه التهم ما هو، فنقول: لما كان الصوفية يقولون، كل ما وقع في هذا الكون فهو حق، وأنه لا باطل إلا المحال كما هو مذكور في رسائل التعليقات، تساوت عندهم المتضادات، فالشر كالخير والضلال كالهدى كلاهما حق، لأنه واقع، ولو كان باطلاً لما وقع، لأن الباطل هو المحال الممتنع الوقوع. ولكن هذا التساوي في المتضادات، إنما هو بالنسبة إلى الوجود الكلي أي إلى ذات الله، لا بالنسبة إلينا، فذات الله في رأيهم لا يصدر عنها الباطل، بل كل ما صدر عنها فهو حق، وهم يستدلون على ذلك(579/14)
بآيات من القرآن كما هو مذكور في رسائل التعليقات
فإذا كان الأستاذ خشبة ينكر عليهم هذا الرأي فما عليه إلا أن يذكر دليلهم، ثم ينقضه بدليل مثله أو خير منه، وأن يفسر لنا الآيات التي استدلوا بها تفسيراً يبطل به رأيهم، وحينئذ نشكر له ذلك شكراً جزيلاً، ويكون هو أيضاً في غنى عن اتهامه إياهم هذه التهم المنكرة بغير حق
ولا بد أن الأستاذ خشبة قد قرأ كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، واطلع على ما نقله عن الجيلي من أن الله هو الهادي وهو المضل، وأن الضال متحقق بصفة الضلال كما أن المهتدي متحقق بصفة الهداية، وأنهما أمام الله سواء، كما هو مذكور في رسائل التعليقات أيضاً. وهذا صريح في أن تساويهما إنما يكون أمام الله، أي بالنسبة إلى الله، لا بالنسبة إلينا
إلا أن الدكتور زكي مبارك حفظه الله لم ينتبه إلى أن هذا التساوي إنما هو بالنسبة إلى الله فقد، فلذا أخذ في كتابه يتخوف منه على الشريعة والديانة، والدولة والقوانين والأنظمة، بما هو مذكور في كتاب التصوف الإسلامي ولا حاجة إلى ذكره هنا. ونحن في رسائل التعليقات قد أوضحنا للدكتور زكي مبارك أن هذه المخاوف واقعة في غير محلها، بما لا حاجة إلى تكراره هنا
ولو أن الأستاذ خشبة قرأ رسائل التعليقات واطلع على ما كتبناه في رد هذه المخاوف، لما وجه هذه التهم إلى الصوفية الأبرياء، ولعلم أن القول بتساوي المتضادات، لا يصادم أحكام الشرع، ولا يستلزم الفوضى، ولا يجعل الدعارة في الناس كالتقوى، ولا الرذيلة منهم كالفضيلة، ولكن اتباع الهوى، هوى النفس هو الذي حمله على هذا التهويل والتشنيع، حتى نثل ما في كنانته في تهم منكرة على صدور هؤلاء الأبرياء
ومن المعلوم أنه قد انتسب إلى الصوفية في الأزمنة الماضية أناس ليسوا منهم، فكانوا ولم يزالوا في التصوف أدعياء، وبالصوفية لصقاء، وكثروا في البلاد حتى كانت لهم الزوايا والرباطات والخانقاهات، وانتشرت بدعتهم حتى كتب في ذمهم وتوهينهم ما كتب بعض المتحمسين من علماء الدين كابن تيمية وابن القيم وغيرهما
ولا ريب أن هؤلاء ليسوا من الصوفية في العير ولا في النفير، وقد تكلم عنهم الرصافي(579/15)
في رسائله ونفاهم من التصوف، واستخرج نفاوتهم من الصوفية فرماها جانباً، وقال نحن إذا قلنا الصوفية فلا نعني بهم هؤلاء وإنما نعني بهم رجالاً من الأصفياء الأبرار، أولى النفوس الزكية والتفكير الحر، القائلين بوحدة الوجود
ولكن الأستاذ خشبة قد أبى ضميره المدفوع إلا أن يخلط هؤلاء بهؤلاء، ويجعلهم كلهم فئة واحدة، ويوسعهم ذماً وتعباً، لا سيما القائلين بوحدة الوجود، فإنه قد شدد عليهم النكير، وشنع عليهم قولهم بوحدة الوجود كل تشنيع، وعبر عنهم بالأنجاس، ولم يستثن منهم أحداً حتى الجنيد وأمثاله ممن تقدم عليه أو تأخر عنه. ولم يكتف بذلك حتى أخذ يذكر قراء الرسالة بما كتبه علماء الدين في الماضي من ذمهم وتوهينهم، كأن ذلك كأقوال القدماء من الفلاسفة اليونان، شيء لا يعلمه أحد إلا الأستاذ خشبة
ومما يدعوا إلى الحيرة والعجب، أننا لم نر في الأولين ولا في الآخرين من اتهم الصوفية بأنهم إباحيون يطلبون اللذة الجنسية الخسيسة في جميع أحوالهم، حتى جاء الأستاذ خشبة فافتأت عليهم هذا الباطل الذي ليس فوقه من باطل
إن الكلمة الأخيرة من الأستاذ خشبة قد هتكت لنا ستار ضميره، وكل ما قاله عن رسائل التعليقات يدل دلالة واضحة على أنه لم يكن ناقداً، بل كان مشوهاً ومشنعاً، فهل كان هذا منه بدافع من تحمسه الديني، أو كان بدافع آخر. وإلا فليس من آداب البحث والنقد، ولا من المعقول، أن يهرف (!) برسائل التعليقات كل هذا (الهرف!) من دون داع إليه
وآخر ما نقول، هو أن الرصافي إنما يكتب للحقيقة، لا لأغراض أخرى، فإن أصاب فلله المن والفضل، وإن أخطأ فأجره من الله مأمول، وعذره عند كرام الناس مقبول.
(الرصافي)(579/16)
على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 3 -
استجاب إبن صالح المرداسي صاحب حلب دعوة المؤيد؛ فدخل المؤيد حلب ومعه خزائن الأموال والسلاح والخلع ومكث مدة يستريح ويدبر أمر ما هو مقدم عليه، ثم أخذ يرسل الكتب إلى أمراء العرب والأكراد يستميلهم إليه وإلى المذهب الفاطمي ويدعوهم للقيام لنصرته ضد طغرلبك؛ فأستجاب له بعضهم مثل ابن مروان صاحب ديار بكر وابن الأحزم الخفاجي صاحب الكوفة وابن قائد صاحب واسط ووعدوه جميعاً بإمداده بالجند كما أقاموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي، وقد حفظ لنا المؤيد في سيرته نص رسائله إلى أمراء العرب وجوابهم له مما يجعل (السيرة المؤيدية) وثيقة تاريخية لها قيمتها لمن يدرس العالم الإسلامي في القرن الخامس من الهجرة
سار المؤيد ومعه خزائنه وجيوش ابن صالح حتى بلغ الرحبة حيث البساسيري وجيوشه، وخرج البساسيري ومعه أمراؤه للقائه، وفي ذلك يقول المؤيد (إلى أن لقينا أبو الحارث البساسيري والعسكر البغدادي على رحلتين من الرحبة، وإذا هم قد ضربوا مصافهم وضرب خيلنا مصافه؛ فرأيت العسكر تلاحق ميمنة نحو الجبل وميسرة طرف الفرات، وسمعت الأبواق تخرق الحجب بالأصوات، ورأيت أقطار الهواء كأنها صبغت حمراء وصفراء من أصباغ الرايات، ودخلنا الرحبة دخولاً عليه من آثار السعادة وسم، وتجاوزناها إلى شاطئ الفرات فنصبنا الخيام ووسطت جمعاً جمع كل قاطع زقاق، وكل جلال من الناس ودقاق، تراموا إلى تلك البقعة من كل آفاق تركي وكردي وعجمي على اختلاف الجنس وعربي من كل طامع ذي ناب من الطمع حديد)
أخذ المؤيد بعد ذلك العهود والمواثيق على الأمراء، وخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم يشاهدوا لها مثلاً، ووهب كل فريق نصيبه من الأموال؛ فكان بعضهم يأخذ نصيبه شاكراً، وبعضهم كان يستقل القدر ويرده طمعاً في المزيد، وتذمر أكثر الجنود وطالبوا(579/17)
بزيادة العطاء، وانتشر دعاة السوء بينهم، فحاول المؤيد أن يرضيهم بالحسنى فلم يوفق. وأخيراً اضطر إلى أن يأنبهم وأن يسامحهم باليمين التي أقسموها بين يديه وأظهروا أن الأمر إنما هو أمر الدين قبل كل شيء؛ فعادوا جميعاً يعتذرون إليه وجددوا اليمين بين يديه، وبعد أيام دعا أبا الحارث البساسيري وخلع عليه وقرأ عهده على الناس في يوم مشهود. ثم علم المؤيد أن نور الدين بن مزيد الأسدي وهو رجل العرب إذ ذاك وأكبر أمرائهم قد نقم على طغرلبك، فانتهز المؤيد هذه الفرصة وكاتبه ليحثه على اللحاق به والانضمام إليه؛ فذهب ابن مزيد إلى الرحبة ومعه جماعة من العلماء والأمراء، وأخذ يفاوض المؤيد في شروط الانضمام إليه وتحالفه معه، كما أوعز ابن مزيد للعلماء بمناظرة المؤيد أمامه في بعض المسائل الدينية والمؤيد مضطر إلى أن يصطنع الصبر، وأن يداهن ابن مزيد ومن معه، حتى قبل ابن مزيد بعد لأي أن يقسم يمين بين يدي المؤيد؛ فكتب المؤيد له العهد ولقبه (بالأمير سلطان ملوك العرب سيف الخلافة صفي أمير المؤمنين)، ومع ذلك كله أخذ ابن مزيد يطالب المؤيد بأمور من شأنها أن تقسم الجيش وتبعد ابن صالح والمؤيد يقابله بشيء من المكر والدهاء، ويحاول أن يسعى بين ابن صالح وابن مزيد، ولكن سعيه (كان سعي امرئ بين ضباع تتهارش، وذئاب تتجارح وتتحارش) فالجيش كما قلت كان من أجناس مختلفة ومذاهب متباينة تدب فيه روح التشاحن والتباغض، مما جعل المؤيد يصبح ويمسي في التوفيق بينهم، وفي ذلك يقول المؤيد (وكنت أصبح وأمسي في أثواب من انقطعت به الحبال، وضاعت على يده الأموال، وضاقت به من الهم السهول والجبال، غير أني أظهر في خلال ما أقاسيه جلداً، ولا أشعرت بحزازات صدري أحداً، وازداد الأمر سوءاً بورود نجدة من دمشق من بعض الأمراء الكلبيين الذين سرعان ما ضجوا وتذمروا زعماً منهم بأنهم جردوا على أن يشهدوا جيش القبائل العربية خارجاً عن جماعة الأتراك والأكراد، فاضطر المؤيد إلى أن يغريهم بالأموال الجزيلة، وأن يضاعف عطاءاتهم، فساروا مع باقي الجيش إلى أن ظفروا بالانتصار على جيوش طغرلبك في رمضان سنة 448 في موقعة سنجار، وهي الموقعة التي أشار إليها ابن حيوس الشاعر بقوله:
عجبت لمدعي الآفاق ملكاً ... وغايته ببغداد الركود(579/18)
ومن مستخلف بالهون يرضى ... يذاد عن الحياض ولا يذود
وأعجب منهما سيف بمصر ... تقام به بسنجار الحدود
بانتصار المؤيد في هذه الموقعة استطاعت جيوشه أن تدخل الموصل في شوال، واستطاع كذلك بعض الأمراء الذين ترددوا من قبل في محالفة المؤيد أن يسارعوا بالانضمام إليه وشد أزره، وأن يقيموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي صاحب مصر
ولكن الجيش عاد إلى الانقسام وأنفصل عنه بنو عقيل، وتبعهم عدد كبير، وانتهز طغرلبك هذه الفرصة فأسرع للانتقام منه، كما أن الكندري وزيره أخذ في الاتصال بالأمراء الذين انضموا للمؤيد، وأخذ الكندري يخدعهم ويمنيهم بالولايات المختلفة فاستجاب له بعضهم، ولما رأى البساسيري حالة جيشه اضطر إلى الهرب؛ فتشتت بذلك شمل جيش المؤيد الذي كان في الرحبة، وكان يظهر للناس جلداً ويشجعهم ويقوي من نفوسهم ويحاول لم شعثهم. أما في قرارة نفسه فكن كما وصف نفسه، (وأنا في باطن أمري متكفن متخبط أنتظر تخبط الأيدي لي من كل مكان، وأجمع أمري على أنه إن دهمني ما أحذره رميت بنفسي في جانب البر؛ فلا أزال أضرب فيه إلى أن يحضرني حاضر الجوع والتعب والعطش فأهلك، وإن أدركني طالب من جهة العدو أبيت أن أعطيه قيادي دون أن أقطع قطعه قطعة تفادياً من أن أقاد إليهم حياً). وأمر المقربين إليه بالابتعاد عنه، أو الهرب من الرحبة خوفاً عليهم من سطوات العدو. وأخيراً اضطر المؤيد نفسه إلى أن يهرب من الرحبة؛ فدخل حلب سنة 449 ومكث بها يترقب ويكاتب الأمراء والقواد، وفي حلب ناظر المعري في مسألة تحريم أكل اللحوم، وهي المناظرات المتداولة المعروفة. وسنتحدث عنها فيما بعد
أخذ المؤيد في إرسال الرسائل للأمراء يستميلهم إليه مرة أخرى، ويعدهم النصر على أعدائهم، وكان على صلة بالبساسيري الذي لم ييأس، بل جمع إليه بعض الجند، وكاتب المؤيد يطلب مقابلته دون أن يفطن أحد إلى هذا اللقاء، فتقابلا في دير حافر، (وهي قرية بين حلب وبالس)، واتفقا على الخطة التي يجب أن يسيرا عليها حتى ينجح مسعاهما. ثم جاء إلى المؤيد وفد من قبل إبراهيم بن نيال يطلب من الظاهر الخضوع لطغرلبك، وفي الباطن يطلب من المؤيد أن يخلع على ابن نيال، ويلقبه إذا غدر بطغرلبك، وشايع المؤيد وملك البلاد باسم الفاطميين، فرحب المؤيد بذلك، وأمر البساسيري بالرجوع إلى الرحبة،(579/19)
وتمت المؤامرة بالنجاح، إذ استطاعت جيوش البساسيري أن تدخل بغداد سنة 450هـ. وأن يدعي على منابرها باسم المستنصر الفاطمي، وأن يأسر القائم بأمر الله العباسي، وأن يصلب ابن المسلمة وزيره عدو المؤيد القديم الذي أرسله الخليفة العباسي لأبي كاليجار البويهي لإخراج المؤيد من شيراز، وقد أظهر المؤيد شيئاً من الابتهاج بصلب هذا الرجل، وظهر ذلك في شعر المؤيد بقوله:
وعبوس يوم لابن عباس به ... لاقى الردى متشخصاً لعيانه
إذ بات يعثر في ذيول مذلة ... يعتاض ضيق الحبس عن إيوانه
وأرى على الصاري ابن مسلمة الذي ... ضجت فم الإسلام من عداوته
فسقى الإله سجال رحمته ثرى ... قبر ثوى فيه أبو عمراته
إن ابنه كم من مقام قامه ... صعبا بثبت جنانه ولسانه
في رفع رايات النبي وآله ... وضرابه لعداتهم وطعانه
واتجه المؤيد إلى مصر، وفي الطريق قابله صاحب البريد ومعه أمر من الوزير المغربي بأن يعود المؤيد إلى حلب؛ فدهش المؤيد من هذا الأمر وأخذ يفكر فيه، وأخيراً استقر رأيه على أن يواصل سيره إلى مصر، ولكنه فوجئ بأمر ثان كالأول فلم يأبه وواصل رحيله. فإذا بأمر ثالث مما جعل المؤيد في حيرة من أمر هؤلاء الذين يحاولون منعه من دخول مصر بعد هذه الخدمات التي أداها لهم، وبعد أن نشر دعوتهم وبسط سلطانهم في قلب أملاك العباسيين، بل بعد أن أزال سلطان العباسيين من عاصمة ملكهم وبعد أن أسر الخليفة العباسي نفسه، وبالرغم من وصول هذه الأوامر إليه فقد أصر على دخول مصر وخشي أن يتخذ في سيره إلى مصر الطرق المألوفة فيفاجأ بمثل هذه الأوامر، لذلك عمد إلى أن يتخذ طريقه في المجاهل، وسار إلى مصر متنكراً في رحلته إليها، كما جاءها متنكراً في رحلته الأولى، فما شعر به أحد حتى رأوه على باب القاهرة فأسقط في يد الوزير ولم يدر ماذا يصنع.
يخيل إليّ أن المؤيد لم يجد من الوزير المغربي ما كان أهلاً له وما يجدر بمثله، ولكن الوزير اضطر إلى أن يكل إلى المؤيد أمر الدعوة، وبذلك أصبح المؤيد حجة الدعوة وداعيها المطلق ولقب (بالرئيس الأجل عصمة أمير المؤمنين). وبذلك وصل المؤيد إلى ما(579/20)
كانت تصبو إليه نفسه وبلغ أعلى درجات الدعوة الفاطمية فقد أصبحت مرتبته تلي مرتبة الإمام مباشرة، ولكنها مرتبة روحية قبل كل شيء، وليس لصاحبها أن يتدخل في شئون السلطة التنفيذية
ولا أستطيع أن أحدد المدة التي مكثها المؤيد في هذه المرتبة ولم يحدثنا أحد من المؤرخين عنه، ولم يحدثنا هو نفسه عن حياته بعد سنة 450 هـ، وكل الذي وصلنا أن الوزير عبد الله بن يحيى ابن المدبر (الذي تولى الوزارة مرتين إحداهما في صفر سنة 453 هـ وصرف عنها بعد شهور، والأخرى في ربيع سنة 455هـ وتوفي عنها في جمادى الأولى من هذه السنة) قد طلب إبعاد المؤيد من مصر ونفيه إلى الشام فسير المؤيد إلى الشام وعاد إلى مصر بعد مدة، ولا أدري متى كان ذلك، ولا أشك أن المؤيد أصبح له بعض النفوذ في مصر حتى خشي الوزير سطوته ونفوذه، فاقترح بإبعاده عن البلد ثم نرى بعد ذلك شيئاً من نفوذ المؤيد إذ تولى صنيعته وكاتبه ونائبه في ديوان الإنشاء أبو الحسن بن الأنباري الوزارة سنة 457 هـ ومع ذلك كله فحياة المؤيد بعد سنة 450هـ غامضة أشد الغموض إلا ما كان من أمر علاقته بقاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الذي جاء مصر على رأس وفد من علماء اليمن ومكث في دار المؤيد خمس سنوات وأخذ عنه كل علوم المذهب الفاطمي، وعاد إلى بلاده يبشر بآراء المؤيد وعلومه، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا تختلف المصادر في أن المؤيد توفي سنة 470 هـ ودفن في دار العلم بالقاهرة وصلى عليه إمامه المستنصر الفاطمي.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة(579/21)
على هامش العرائس والشياطين
الطبيعة
في الشعر العربي والشعر العالمي
للأستاذ سيد قطب
أثارت مجموعة (عرائس وشياطين) التي اختارها الأستاذ العقاد من الشعر العالمي - وما زالت تثير - في نفسي موازنات شتى بين الشعر العربي والشعر العالمي في الاتجاهات العامة والخصائص الذاتية، وهذه الموازنات - كما قلت - ضرورية للجيل الجديد من الشعراء، يرى على ضوئها كيف يحسن أن يكون اتجاهه في الالتفات وطرائق التعبير، لا على سبيل التقليد والمحاكاة، ولكن على سبيل الاستفادة والتوجيه. ولهذا سأخرج في مقال اليوم قليلاً عن (العرائس والشياطين) فيما اختاره من النماذج العربية والعالمية
يخيل إليّ من مجموعة الشعر العربي أن (الطبيعة) لم تكن إلا قليلاً - متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة - بله اتصال المجموعة الحية - فهي في الغالب صلة عداء يمثلها قول الشاعر:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها (تِرَةً) من جذبها بالعصائب
وإن كانت هذه الظاهرة العامة لا تنفي الأحاسيس المفردة لبعض الشعراء حينما تختلف البيئة كقول حمدونة الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة والنديم
وكأبيات المتنبي المعجمة في وصف شِعب بوان وفيها ذلك البيت الجميل
يقول بشعب بَوانٍ حصاني ... أمن هذا يسار إلى الطعان؟!
وظاهرة أخرى تغلب في الشعر العربي، وهي الإحساس بالطبيعة عند ألفتها كأنها منظر يوصف أو يلتذ، لا شخوص تحيا، وحياة تدب. والمواضع التي أحس فيها الشعراء العرب بالطبيعة هذا الإحساس الأخير تكاد تعد. فنحن إذا استثنينا - ابن الرومي - وكان بدعاً في(579/22)
الشعر العربي كله، ولا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطعات يحس الشعراء فيها هذا الإحساس على تفاوت في قيمتها الفنية. نذكر منها على سبيل المثال قول مسلم ابن الوليد:
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وأبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:
وأرعن طماح الذؤابة شامخ ... يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب
أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السري بالعجائب
وفيما عدا ابن الرومي وتلك الأبيات والمقطعات التي ضربنا لها هذه الأمثلة تكاد الطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)؛ فهي منظر جامدة للوصف الحسي والتشبيه بالمحسوسات، تعلو سلم الفن، حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان، وتسفل حتى تصل إلى تشبيهات ابن المعتز جميعاً!
وظاهرة ثالثة: هي أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة، ويلحظ خلجاتها ويحصي نبضاتها، كما يصنع ابن الرومي في بدائعه. ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها، وأن حركته من حركاتها، ونبضه من نبضاتها، وأنه منها وإليها، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها
فأبن الرومي حين يقول:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه ... إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشى من أزاهرها ... حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أو حين يقول:
برياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة بالأبراد
منظر معجب تحية أنف ... ريحه ريح طيب الأولاد
إنما يبلغ في هذين المثالين وفي غيرهما أبدع ما يبلغه الشعر العربي من الإحساس بحياة(579/23)
الطبيعة، ولكنه يبقى في منتصف الطريق بين هذا المدى، والمدى الذي يبلغه الشعر العالمي عند بعض الأمم في الاتصال بالطبيعة اتصال الفرد بالأسرة والخلية بالجسم الحي، والذرة الصغيرة بالكيان الكبير
فها هي ذي الشاعرة الإنجليزية المعاصرة (روث بتر)، تقول في مجموعة العرائس والشياطين، للموت:
لا تناديني والصيف مشرق أيها الموت!
إنني في الصيف لن أجيب النداء
حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه
لا ترفع إلى صوتك بالنداء من تلك الظلال السفلى
(حين يحن الصفصاف ويترقرق الماء
حين يتوانى الجدول وينعس الهواء
حين يتموج اللبلاب على الأسوار
لا تنادني. قلت لك لا تنادني أيها الموت في ذلك الأوان
إنك عبثاً تنادي وترفع الصوت بالنداء
ففي إبان الأزاهير النامية لن أصغي إليك)
(لكنني سأصغي إليك حين يتجرد كل حال وحالية
ومرحباً بدعائك حين ينتثر الورق من الشجر على ثراه
حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج
حين يشم الرعاة من الشرق رائحة الثلوج
حين يهجر الحقل للريح تتولى حصاده
حين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده
حين يصبح البَرَد بذرة الأرض التي تنثرها السماء
حين ننفر من كل شيء ولا نتوق إلى شيء
ناد يومئذ يا موت ولك الإصغاء والترحاب
فيومئذ أسمع وأنهض وأمضي!)(579/24)
وليس لدينا من الفراغ ما نقف على مواضع الجمال الجزئية في تصوير الطبيعة في الصيف إبان الحياة، وفي والشتاء إبان الموت، ولا في تصوير وسوسات الحياة ووساوس الموت هنا وهناك: (حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه. وحين يحن الصفصاف ويترقرق الماء. وحين يتوانى الجدول وينعس الهواء)، أو: (حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج. وحين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده. وحين يهجر الحقل الريح تتولى حصاده). . . الخ. فهذه جزئيات قد تخطر للشعر العربي، ولا سيما لابن الرومي
ولكننا نتجاوز هذا إلى الظاهرة الكبيرة الجامعة في هذه المقطوعة. تلك هي شعور الفتاة بأنها لا تستطيع أن تموت والطبيعة في فصل الحياة، ولن تلبي الموت إذا دعاها، لأن الطبيعة حولها حتى وهي خلية حية في هذه الطبيعة النامية. أما حين يدب الموت في الأم الكبيرة. فهنا يحس أبناؤها أن لا مانع من إجابة دعاء الموت، وذلك (حين ننفر من كل شيء ولا نتوق لشيء)، وحين يدب الموت من الداخل تسهل إجابة النداء من الخارج
وفي القطعة مجال لتصوير (المرأة) التي تحسب الموت طوع رغباتها ورغبات الحياة النابضة في قلبها كأمها الطبيعة، فهي تناديه أن ينصرف عنها الآن، كما تنادي الخطيب والحبيب في تمنع وإدلال! ولكننا معجلون عن الإفاضة في هذا إلى إيضاح الظاهرة الكبيرة الجامعة في قطعة أخرى لفتاة جديدة! (للورنس هوب) الاسم الرمزي لشاعرة إنجليزية معاصرة أيضاً!
إن رفيق الحياة يدعوها. . . وإنها لترغب في إجابة دعوة الحب والحياة، ولكن الطبيعة حولها حزينة والليلة شاتية، وإنها لتشعر أنها هي وهو وثمرة هذه الاستجابة إنما هم جميعاً خلايا في هذا الجسم الحي، وأن هذا الحزن الذي يدب في حنايا الطبيعة سيتسرب في (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدُّ فيها جثمانها). فتنشأ الثمرة وفيها من هذا الحزن قطرات. فلتؤجل الدعوة إذن إلى حين تكون الطبيعة كلها في فرح صبوح:
(لا. . . غير هذه الليلة!
إن المطر يقطر حزينا وانياً. . .
عبراتِ أسى تحت سماء شجية(579/25)
وعلى البعد (ابن آوى) هزيل خافت العواء
يزيد الغسق وحشة وعزلة
(النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى
والظلال تؤوي إليها الوساوسَ الخفية
وعيناي ترنوان نحو عينيك ابتغاء عزاء
فتلقاهما الأهداب مبللة بالدموع
(إن الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها
إن دخلتْ من خلال قبلاتنا إلى حظيرة الحياة
ورثت كل ما في قلوبنا من أسى
وكلَّ ما في المطر المنحدر من شجن مكظوم
(لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى
أقبل إليَّ والصباح يرتع في الأنوار
والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء
بين الورود من حمر وبيض
(وكذلك حين يقضي الله لي تلك الفريضة الحلوة القدسية
مذعنة لمشيئته الإلهية
كي أمنح الدنيا صورة من جمالك
لأسلمنها إذن إلى الدنيا ومعها فرحي فيك)
فهذه شاعرة وامرأة. يبدو في مقطوعتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة؛ وهذه هي الظاهرة التي نريد إبرازها. ولكن هذا لا ينسينا أن نقف مرتين أمام موضعين من مواضع الإبداع في القصيدة:
الأول: طريقة الإحساس بحزن الطبيعة وفرحها: فالمطر (الذي يقطر حزيناً وانياً عبرات أسى تحت سماء شجية) يجتمع إلى (ابن آوى هزيل خافت العواء على البعد) فيزيد الغسق وحشة وعزلة. و (النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى) يجتمع إلى (الظلال تؤوي إليها الوساوس الخفية) وكلاهما يجتمع إلى (عينيها ترنوان نحو عينيه ابتغاء عزاء فتلقاهما(579/26)
الأهداب مبللة بالدموع). ثم في الوجه الآخر: (الصباح يرتع في الأنوار. والبلابل مشوقة تصدح بالغناء) وكلمة (مشوقة) خاصة في هذا المكان إنها لوحة متناسقة الألوان أو سيمفونية متوافقة الألحان بين الطبيعة وأبنائها الجميع
والثاني: تلك الكناية الدقيقة البارعة عن (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها) وعن (استجابة الحب الكبرى) التي ترتفع بها وترتفع حتى تجعلها (الفريضة الحلوة القدسية التي يقضيها الله). إنها كناية امرأة. وامرأة تحب. وامرأة شاعرة تجتمع كلها في سياق!
وقد توجهنا حتى الآن في الموازنة بين الشعر العربي والشعر العالمي إلى شعراء الغرب في مجموعة (العرائس والشياطين) وبخاصة الشعراء الإنجليز، فلنتوجه نحو الشرق أيضاً في هذه الموازنة ففي الشرق البعيد، وفي مصر الفرعونية مثل نتقدم بها مطمئنين
يقول الشاعر الصيني (يوان مي) من شعراء القرن الثامن عشر الميلادي بعنوان (زهر الصفصاف):
(أزهار الصفصاف كنديف الثلوج. . . إلى أين؟
أين تمضي جموعك الضالة مع الريح؟
(قلما نبالي. وأقل من ذلك ما ندري!
إنما سبيلنا من سبيل الهواء
حياتنا في دوّاماته العاصفة
وموتنا في الهاوية هناك)
فهذا إنسان يحس بنفسه وبالناس كزهرة أو أزهار للصفصاف. (سبيلهم جميعاً من سبيل الهواء. حياتهم في دوّاماته العاصفة وموتهم في الهاوية هناك). فيزيد على إحساس الغربيين بالاندماج في الطبيعة، تلك الصوفية الغيبية، طابع الشرق الجميل العميق البسيط الذي لا يكاد يبدو في الشعر العربي
وفي المجموعة قطعة أخرى للشاعر نفسه فيها هذه الصوفية الرقيقة وبجانبها إحساس المودة الصادقة بينه وبين الطبيعة التي تداعبه نسماتها وترسل عليه زحاماً من العطور وتبسم في وجهه وهو لا يدري من زحمة العطور عليه عطر الورد من عطر البشنين:(579/27)
(على ضفة الجدول الغربي
تطيف بي الأحلام في النسق المزنبق
وتداعبني نسمات الربيع
فترسل عليّ زحاماً من العطور
وتبسم في وجهي حين لا أدري
عطرَ الورد من عطرِ البشين)
ونتجاوز مجموعة (العرائس والشياطين) لنقع على أغنية مصرية قديمة حيث: (تدعو شجرة الجميز فتاة إلى موعد حب تحت ظلالها، واعدة أن تكون أمينة على أسرارها)!
وفي الموضوع كما ترى تلك الصداقة الحلوة بين شجرة الجميز وبين الحبيبين، حيث تشترك الطبيعة في مباركة الحب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن شجرة الجميز كانت مقدسة عند المصريين لأن إلهة (الخصب) (حاتحور) كانت تسكنها وترسم مطلة بين فروعها، زاد الموضوع قوة. فليست الطبيعة وحدها هي التي تبارك الحب بل الآلهة أيضاً، وإلهة الخصب بنوع خاص!
وهذه المقطوعة مترجمة ترجمة حرفية ربما ذهبت بالكثير من جمالها ولكنها تفي بالغرض الموضوعي:
(غنت شجرة الجميز إلى فتاة جميلة
وكانت كلماتها تتساقط كقطرات الشهد
فأصبح الثمر الذي أحمله بلون الياقوت الأحمر
وكل ما في تعريشتي لأجلك
(إن أوراقي تزدان بلون خضرة البردي
وفروعي وجذعي لهما بريق عين الهر
تعالي تحت ظلي الرطب
ليستريح حلم قلبك الذي به تحملين
(سترسل سيدتي رسالة حب
إلى الشخص الذي سيكون سعيداً(579/28)
قائلة: احضر إلى حديقتي قليلاً
واجلس معي في ظلي
سأجني لك الفاكهة لسرورك
وسأقطع الخبز وأصب النبيذ
سأقطف لك الأزهار النضرة
(في يوم هذا العيد السعيد
ستكون سيدتي وحدها مع حبيبها
آه. سأصمت عما أرى
ولا أتفوه بما سمعت!)
إن إحياء الطبيعة والاندماج في حياتها، كلاهما مرحلة بعد أخرى. وكلتاهما في حاجة إلى رصيد ضخم مذخور من الحيوية الباطنية. وقد كانت حيوية العرب حيوية حس تنفق أولاً بأول في الانفعال القريب والحركة المباشرة، والعمل المنظور. فلم يبق في نفوسهم ذلك الرصيد المذخور في الباطن للتأملات والتصورات، التي هي أعلى وأعز ما في الفنون. ولعل في هذا تعليلاً لعدم نمو القصة الفنية في الأدب العربي إلا على نحو قريب من الحكاية والخبر
والكلام في هذا الموضوع يطول. وليس هذا المقال موضعه على كل حال.
سيد قطب(579/29)
من أدب الزراعة
الخط الأول. . .
لصاحب العزة محمد محمود جلال بك
لثمانية أعوام خلت كنت إذا مررت بناحية معينة من زراعتي أشعر فجأة بشبه صدمة يعقبها شيء من الاشمئزاز، إذ تقع عيني بين نضرة النبات على بقعة جرداء. وحتى في الأوقات التي لا تكتسي الأرض بحلة من زرع كنت أرى في لون التربة معنى من الجدب ولوناً من الإهمال. كنت أراها كالمن يفسد معروف الرجال، وتجاور هذه البقعة مقابر (الشيخ عطا)؛ فكأنما تفصل بين الدنيا والآخرة. وكم آلمني منظرها، والفلاح كالفنان يجد أذى في النشاز؛ فهذا يسره اتساق المزروعات مرأى، وذاك يكره تنافر الألوان، أو إهمال التنسيق في ناحية من تمثاله
وقلت مرة إن إصلاحها يأخذ بيد أهل الدنيا، ويرفه الجوار لسكان هذه المقبرة!. . . كان ذلك سنة 1936
ومنذ يومين مررت بها كأي مرور مما يحدث مرتين في الشهر على الأقل. ولكن ما أدري كيف سبح الخيال إلى عام 1936، ولمَ رجعت الذاكرة سراعا إلى ما كان؟!
نظرت فإذا الحقل ضمن زراعة القطن هذا العام، وإذا الحقل يمتد في نظام ونضرة واتساق إلى آخر حدود المقبرة!
تلفت إلى ناظر الزراعة عن يميني، وتلفت القلب إلى صفحات تنشر من عمر مضى، وكادت تشغل الصحف كل البال، وتغمر في طياتها الحاضر. ثم تيقظ العزم وتيقظ الحاضر؛ فتساءلت: أين القطعة التي عملنا على إصلاحها؟ قال: هي تلك! مشيراً بيده: انظر، لقد أصبحت أخصب ناحية في زمام القطن. . . المجاور!
وهل زرعت لحسابنا؟ قال: كيف! لقد تقاطر الراغبون حين فراغنا من عملية الإصلاح، وإني لأذكر كيف كانت مطمح النظر لأول (خط) رسمه المحراث فيها
وفي الشهر الماضي زرت صديقي وأستاذي صاحب الرسالة، وفي حديثنا أشار بلفظه العذب وأسلوبه الصافي عاتباً عليَّ انقطاع كتابتي قائلاً: أهكذا لا شيء من نظمك ولا شيء من نثرك؟ إني غاضب حقاً. لم يكن ردي اعتذار ووعد بإعادة ما كان بيني وبين الرسالة(579/30)
ولست أخفي على قراء (الرسالة) أني تهيبت العودة إلى ساحتها، وكل ما فيها رشيق دقيق. تهيبت تهيب من يخشى لأمانته حسن قدره للأمور مع الرغبة في الوفاء
وقمت في بكور اليوم إلى مكتبي أسجل هذه السطور القليلة؛ ويقوي من عزمي ما أعلم من أن الأدب أوسع صدراً وأبر بمن ينسب إليه، أو يحاول قربه من أن يرده خائباً، أو أن يطوى عنه ستره
ومنذ سنة 1936 لم أكتب شيئاً، ومن العجب اتفاق التاريخين.
وما كدت أكتب السطر الأول في تعليقي على ما رأيت حتى ذكرت (الخط الأول) الذي أشار إليه ناظر الزراعة. فالخط الأول في كل سعي هو أشقه! أو لم يقبل الزارعون إثر الخط الأول في الحرث؟ وإذن فلتقبل معاني الأدب وعظاته ما تم الخط الأول في المحاولة
ومن أروع ما قرأت حكمة لأبي شرف الأندلسي عنيت بها قديماً، حتى نقشتها في رحبة داري وجعلتها خلف الباب، لتكون أمامي وأمام أولادي شحذاً للعزم، متى همّ أحدنا بالخروج. قال أبو شرف: (إذا خرجت من دارك، فقد قطعت ثلثي الطريق).
وإذن فالخط الأول. . . هو الخط الأول. . .
الشيخ عطا) في
5 شعبان 1363
25 يولية 1944
محمد محمود جلال(579/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
587 - وبشرى به للقتيل الكفن
قال أبو الحجاج البلوى في كتابه (ألف با): أنشدني الشيخ الفقيه أبو محمد العثماني لبعض الشعراء يمدح أحد الملوك، وكان يرمي عدوه في حال القتال بسهام من ذهب!:
وقد صاغ من ذهبٍ نصلَه ... فأبدى من المنّ ما لم يُمَنْ
يُداوي الجريح به جرحَه ... ويشرى به للقتيل الكَفَنْ
588 - حمق شاعر وسخف صوفي
في تتمة (اليتيمة): استصفع حيدر الخجندي بقوله:
ما إن سالت الله مذ أيقنت ... نفسي أن الذل تحت السؤال
وإنما كتبته تعجباً من خرقه وحمقه في الترفع عما يدين به أفضل العالم وسيد ولد آدم نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) ونظيره في الجهل الكثيف والعقل السخيف - الصوفي الذي كان إذا ذكر الله (سبحانه) لا يقول: تبارك وتعالى، ولا عز وجل؛ فإذا قيل له في ذلك أنشد:
إذا صفت المودة بين قوم ... ودام إخاؤهم سمج الثناء. . .
589 - كتب الدولة وعرضها على أئمة اللسان والفتوى
في (طبقات الشافعية) للسبكي: كان إلى (ابن برِّي) التصفح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه إمام من أئمة اللسان وكان (القاضي الفاضل) يتصفح الكتب التي يكتبها العماد الكاتب ومن دونه. وكانوا يستعظمون صدور كتاب عن السلطان غير معروض على أئمة اللسان وأئمة الفتوى
وفي (وفيات الأعيان): كانت وظيفة (ابن بابشاذ) بمصر أن ديوان الإنشاء لا يخرج منه كتاب حتى يعرض عليه ويتأمل؛ فإن كان فيه خطأ من جهة النحو واللغة أصلحة، فسيروه إلى الجهة التي كتب إليها، وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زماناً. . .
59 - البخيل(579/32)
في (بخلاء) الجاحظ، في رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب الثقفي: البخيل عند الناس ليس هو الذي يبخل على نفسه فقط، فقد يستحق عندهم اسم البخيل ويستوجب الذم ولا يدع لنفسه هوى إلا ركبه، ولا حاجة إلا قضاها، ولا شهوة إلا بلغ فيها غايته، وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهداً في كل ما أوجب الشكر، ونوه بالذكر، واذّخر الأجر. وقد يعلق البخيل على نفسه من المؤن، ويلزمها من الكلف، ويتخذ من الجواري والخدم، ومن الدواب والحشم، ومن الآنية العجيبة، ومن البزة الفاخرة، والشارة الحسنة ما يربي على نفقة السخي المثري وجود الجواد
591 - إذا ماتوا لم يخلفوا شيئاً
قال الصفدي: كان أبو الحسين بن السماك يتكلم على رؤوس الناس بجامع المدينة، وكان لا يحسن شيئاً إلا ما شاء الله، وكان مطبوعاً بالتكلم على مذاهب الصوفية فرفعت إليه رقعة فيها: (ما تقول السادة الفقهاء في رجل مات وخلف كذا وكذا) فلما فتحها ورأى ما فيها من الفرائض رماها من يده وقال: أنا أتكلم على مذاهب أقوام إذا ماتوا لم يخلفوا شيئاً
فعجب الحاضرون من سرعة جوابه(579/33)
3 - السراب. . .!
للدكتور إبراهيم ناجي
مر يومي كأمسه مسرحاً تُعْ ... رَضُ فيه الحياةُ والأحياءُ
آدم كالقديم قلباً وتفكي ... راً ولكنْ تَبَدَّلُ الأزياءُ
لم يَحُلْ طبعه ولا ذات يومٍ ... لَبِستْ غير نَفسِها حوَّاءُ
النَّضارُ المعبودُ ربٌ وَمِحْرا ... بٌ وقدسُ والشهرَةُ الجوفاء
والحُطامُ الفاني عليه اقتتالٌ ... والأماني بَريقُها إغراءُ!
وسفينُ تمرُّ إثرَ سفينٍ ... والرياحُ اللذاتُ والأهواء
والغيوبُ المُحجَّباتُ رِحابٌ ... تعبتْ في رموزها الحُكماء
عندها المرفأ المؤمَّلُ والشَّطّ (م) ... المُرَجَّى والصخرةُ الصماء
مرّ بي اليوم كاسفاً وأتى لَيْ ... لٌ مُضيءٌ تُزَفُّ فيه السماء
قد جلت فيه عُرسْها كل نجم ... قدحٌ يستحمُّ فيه الضياء
لم تزل تسكب السلاف والأق ... داح فيها تجدُّدٌ وامتلاء
لم تزل! حتى هوَّمَ الحان نعسا ... ن وأغفى البِساطُ والتُّذْماء
غير نجم في جانب الأفق يقظا ... نُ له رونقٌ به وجلاء
ذاك نجم السعيدُ مِنِّي له الشو ... ق ومنه الوميض والإيماء
كم أُغِّنيه بالحنين كما غَنَّ (م) ... تْ على فرع غصنها الورقاء
وذراعاي في انتظار وصدري ... فيه للضيق فرحة واحتفاء
موقداً للغريب نار ضلوعي ... رُبَّ بالنار للغريب اهتداَء
قد سرى مُدْلجاً إليّ على خو ... ف وبيني وبينه بَيْداء
كم دعوناه وهْوَ نور بعيدٌ ... فاحتويناه وهْوَ جسم مضاء
كيف خلَّيْتَني وباعَدْتَ مَسْرا ... ك وما لي إلى ذُرَاكَ ارْتِعاء
بالذي فيك من سنا لا تدعني ... فيم هذا التسويفُ والإبطاء
ما تُراني وقد ذَهبتُ بخطى ... أخطأتني من بعدك النَّعماء
وانتهى بعدك الجميل فلا فض ... ل لمسْدِ ولا يَدٌ بيضاء(579/34)
ومضى الحسن بعد بينك والإحس ... ان طرَّا والغُرة السمحاء
حسناتٌ كانت يد الدهر عندي ... فانطوت بانطوائِها للألأء
إبراهيم ناجي(579/35)
تحية المعري
(ألقيت في مهرجانه الألفي الذي أقيم في حيفا)
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
سلام عليك حبيس الظلام ... حليف العذاب، طريد القدرْ
على قلبك المبتلى بالشقاءِ ... على روحك المضطرب المستعرْ
سلام عليك سلام الندى ... إذا صافح الزهر غبَّ السحر
أمنطلقاً من قيود التراب ... على حين يرسف فيها البشر
ومتخذاً عزلة المحبسيْن ... صفياً يقيه أذاةً وشر
ويا من حييت بروح تأبى ... على ربقة الجسد المنتصر
أجزْ برزخاً قام ما بيننا ... وبينك وارفع كشيف السُّتُر
ومن عالم الغيب أشرف علينا ... وبينْ لنا كنهه المستتر
وقل كيف بتَّ وراء الزمان ... وهل طبت نفساً بذاك المقر
أما زلت تسعى وراء اليقين ... فينأى به عنك عقل عسر
ظللت مدى العمر في أسره ... وما قاد يوماً إلى مستقر
فكم حيرتك خبايا الغيوب ... وأورثك الشكُّ سودَ الفكر
لقد فلسفتك حياة ألحت ... عليك بآلامها - والغير
حياة تمرُّ على جانبيها ... فهذا يُسيُّء وهذا يَسُرّ
طوت عنك وجه بشاشاتها ... وأولتك وجهاً لها مكفهر
فأقفر قلبك وهو الخصيبُ ... وعاف الرَّفاة وعاف الأشَرْ
عذرتك، ما أنصفتك الحياة ... فكيف يطيب لديها العمر
وكيف يروق، ولا نفسَ تهفو ... فتحنو عليك بقلب أبرْ
ويا باعث النور يهدي البصائر ... ما ذاق نعمةَ نور البصر
تملَّ من السرمديَّ البقاءِ ... ضياَء الأُلوهية المنتشر
ضياء يفيض الرضى والأمان ... على من يحط رحال السفر
هنالك لا محنة تبتليك ... ولا أنت تشقى بخط عثر(579/36)
ويا سيرة تملأ الخافقيْن ... فتعنو لديها كبار السير
حياة الفتى حلم ينقضي ... وما العمر إلا خلود الأثر
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(579/37)
البريد الأدبي
تعقيب على مقال
طلعت علينا الرسالة الغراء في عددها الـ 573 بمقال قيم للأستاذ عبد المنعم خلاف، عنوانه (دليل علمي يدحض مذهب وحدة الوجود)، ولما كانت بعض الآراء التي يحويها المقال المذكور تحتاج إلى مزيد من التمحيص والإيضاح رأيت أن أدل على ذلك باختصار في هذه العجالة
والذي يلفت النظر لأول وهلة قول الأستاذ في مستهل مقاله: إنه اهتدى إلى (دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب، ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون) ومذهب الواحدية أو وحدة الوجود من أقدم المذاهب الفلسفية في العالم وأشدها إثارة للجدل. ويكفي لإدراك خطره في تاريخ الفلسفة الحديثة، أن نذكر الفيلسوف الكبير (سبينوزا) الذي يعد من أساطين هذا المذهب في العصر الحديث ومن أعظم الداعين إليه بالقول والعمل
فليأذن الأستاذ - ونحن من المعجبين بكتاباته - بأن نناقشه الرأي في هذا الموضوع الخطير، الذي لا يصح إطلاق القول فيه من غير حجة أو برهان
1 - بدأ الأستاذ بقوله: (وبدهيّ أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة، وأن هناك انفصالاُ بين الخالق والمخلوق. . .) ونحن لا نوافق الأستاذ على أن هذه القضية من (البدهيات)، بل ينبغي أن تعد من مسائل الفلسفة الكبرى التي شغلت عقول المفكرين القدامى والمحدثين. . . وعلى أساس الحلول التي قدموها لهذه المشكلة قامت مذاهب لها أثرها في تاريخ الفكر - ومنها مذهب وحدة الوجود
ولعل أقرب دليل على أنها ليست أمراً (بدهياً) أن يعني الأستاذ خلاف بإيراد دليل علمي جديد لإثباتها
2 - يقول الأستاذ خلاف: (ينبغي للمفكرين التجريديين أن يقتصدوا في تلك الفلسفات الفرضية والشطحات الصوفية. لأنها ذاتها (ذاتية) وليست (موضوعية). . .)
ونسائل الأستاذ مستطلعين لا منكرين: هل يجوز أن نصطنع الطريقة (الموضوعية) في بحث المسائل الدينية؟ ألا يمكن أن تؤدي بنا هذه الطريقة إلى نتائج تشبه ما توصل إليه(579/38)
(رينان) في بحثه القيم المعروف؟ أم ترى ذلك صحيحاً بالقياس إلى الدين المسيحي، وليس يصدق على الدين الإسلامي؟
3 - أما الدليل العلمي الذي يدحض به الأستاذ مذهب وحدة الوجود. فخلاصته:
(أن العقل البشري تسلط باللاسلكي وتحكم به في الآلات وإدارتها ورصدها من بعد شاسع. كما نرى في (الرادار) وغيره (وعلى هذا الأساس) يجوز أن تقاس علاقة الله بالكائنات، وبذلك تحل المشكلة التي خلقتها عقول (أصحاب) مذهب وحدة الوجود)
وهذا التعليل (العلمي) طريف ولا شك، ولكنه متهافت قليل الغناء. ألا ترى أنه يوقع الأستاذ خلاف - وهو المؤمن المخبت لله - في ورطة أخرى لا قبل له بها، هي (التجسيم والتشبيه)!
وإن كان (ماركوني) قد أضاء مكاناً في أستراليا وهو في أوربا، كما يقول الأستاذ. فالعلم الحديث يفسر هذه الظاهرة تفسيراً مادياً بحتاً. . . ومَثلُ (ماركوني) في ذلك مثل الذي يوقد ناراً بحجرين يصك بعضهما ببعض. وحاش لله أن يتصل بنا على هذا الوجه المادي الغليظ. . .
4 - ويقول أخيراً: (ينبغي للمفكرين أن ينادوا معنا إلى الصوفية المادية). فما الصوفية المادية التي يدعو إليها الأستاذ؟ فإن رأى الأستاذ خلاف إيضاح ما سبق على صفحات الرسالة الغراء، ليعم به النفع، ويرتفع اللبس، كنا له من الشاكرين.
(بغداد)
صدقي حمدي
حول أغلاط
أخذ الأستاذ (علي محمد حسن) في عدد ماض من الرسالة على الدكتور ناجي بعض أغلاط قصيدته (السراب) أحببت أن أصحح بعضها فيما يلي:
1 - لعل البيت المكسور ينقصه كلمة (عندنا) فيكون هكذا:
اسمك العذب عندنا أروع الأسماء ... مهما تعددت أسماء
وبذلك يكون صحيحاً(579/39)
2 - (الصدفة) كلمة لغوية بالرغم مما شاع من عدم لغويتها، فكثير من المعاجم وكتب اللغة كاللسان أوردها. وفي حديث أبي ذر (والبر ما حاك في النفس ولم تلده صدفة) وقال أبو دهبل الجحمي:
فطوراً أمني النفس لقياك صدفة ... وطوراً إذ ما لج بي الحزن أنشج
أما (الهناء) فلم أعثر عليها إلا في قول الشاعر:
هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما لبث المحزون حتى تبسما
3 - يوصف الجمع أحياناً بوصف المفرد، وخاصة فيما كان مفرده على أفعل مذكر فعلاء (المغني والأشموني) كأهوج وهوجاء وأسود وسوداء
قال جرير:
وجوههم السوداء جهم كأنها ... ظرابي غربان بمجرودة محل
4 - أما الأبد عند الدكتور ناجي، فلم يخرج عن الزمن عند اللغويين، ولكنه زمن الشاعر الذي يتجسم في خياله المعنى والزمن كأنه محدود.
عبد الحميد ناص
مدرس بكلية اللغة العربية
الخوارزمي
جاء في مقال الأستاذ منصور جاب الله المنشور في العدد 575 من الرسالة ما يأتي:
(كان القدامى يعدون الأديب أديباً بكثرة حفظه، على حين أن كثرة الحفظ لا تجعل من الإنسان أديباً، وإنما تخلق منه (راوية). وليس أدل على ذلك من أن الخوارزمي الذي صدرنا بحكايته هذا الفصل قد هزم هزيمة نكراء حيال بديع الزمان الهمذاني، وهو الشاب الحدث هزيمة اختصرت حياته)
ولا أريد أن أستعرض مع الأستاذ ما كان يراد بكلمة (أديب) في العصور المختلفة، ولا أن أناقشه في أن القدامى لم يطلقوا هذا اللفظ على الخوارزمي لكثرة حفظه فحسب، وإنما رأوا مع ذلك فيه الشاعر الناثر، لست أريد شيئاً من هذا، وإنما أريد أن أرفع عن أبي بكر هذا الظلم الذي لحقه طوال هذه القرون(579/40)
فالخوارزمي لم يهزم في هذه المناظرة من ضعف أو تقصير، ولكننا نجمل أشياء لعلها ترفع عنه هذا الحيف:
(1) انفراد البديع برواية هذه المناظرة، وهو شاب حدث يطلب الشهرة؛ فمن شأنه التزيد والادعاء
(2) استغل البديع قبل المناظرة سيداً شيعياً من المحكمين مدحه بقصيدة. ثم ادعى على الخوارزمي كرهه للشيعة الخوارزمي مبغوضاً من وجوه القوم في نيسابور البلد الذي جرت فيه المناظرة.
(4) استعان البديع بفتائه وحداثة سنه وميل الحاضرين إليه فهوش وشوش، ولعل الخوارزمي استصغر هذه الأمور فكف وعف
(5) وعلى فرض أن الخوارزمي هزم حقيقة في هذا الصراع. فالمعروف أن المناظرة لم تكن في أمور أدبية ذات بال، حتى يستدل بذلك الأستاذ على ما دعاه
هذا مجمل موجز لهذا الموضوع أحببت به أن أنبه الأذهان إلى الحق في هذه المناظرة التاريخية المشهورة
على محمد حسن
مدرس بالأزهر
(وجيدة) للأستاذ شعبان فهمي
تفضل الأستاذ شعبان فهمي المحامي فأهداني قصة (وجيدة) التي قامت بنشرها جماعة نشر الثقافة بالثغر الحبيب؛ فأخذت أنقل البصر بين صفحاتها، وأرسل الفكر وراء لفتاتها؛ فما وجدت فيها غير حيوية تفرض عليك شخصية المؤلف الفاضل في رفق وأناة في غير ما مبالغة في التصوير ولا اضطراب في الوحدة القصصية
القصة صورة واضحة التقاسيم، باسمة الألوان التي تصور البيئة التي أنبتت بطلها ووجد فيها منازع تصوره ومطارح هواه ومهابط إلهامه، وهي فوق ذلك توشك أن تكون طبيعة صادقة تزخر بالآمال والأحلام وتموج بالأشجان والآلام، وقد نلمس آثارها في كل صفحة بل في كل كلمة من كلماتها. ولقد صدق الدكتور (المرحوم) إسماعيل أدهم حين قال إنها قد(579/41)
تكون أول قصة مصرية طويلة تنبع من أصول مصرية وتفيض بمشاعر مصرية
وبعد، فليس بغريب أن تكون القصة على هذه الحال من الكمال في الوحدة والسهولة في العرض والصدق في التعبير فصاحبها الصديق الفاضل تجري في دمائه الروح القصصية، بل إن ثقافته القانونية لتفرض عليه ذلك.
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي(579/42)
العدد 580 - بتاريخ: 14 - 08 - 1944(/)
مسألة الجنسين
للأستاذ عبد العزيز جادو
نستعير هذه العنوان من الأستاذ العقاد لنتكلم في هذا الموضوع من وجهة نظر أخرى يحتمل أن يكون لها اتصال وثيق بما كتب الأستاذ الكبير، وربما تكون متممة لبحثه من الوجهة السيكولوجية والبيولوجية معاً. فمن رأينا أن حركة الأنوثة تستهدف لثلاثة عوامل هي من الأهمية بمكان: (الأول) أنها في حاجة إلى أي ظاهرة متيقظة و (الثاني) أن قوتها الشديدة لا تزال تكمن في قسمين محكمي السد: السيكولوجيا الأنثوية القديمة التي عليها يترتب ضعف الأنثى مدى حياتها؛ والسيكولوجيا العنيفة الحديثة، ويدخل التحصيل من ضمن فروعها. . . وهاتان لا يمكن أن تمتزجا بحال؛ و (الثالث) حركة الأنوثة ويعوزها البرنامج الثابت الذي يحسب للذكر حسابه. ولا يمكن أن ينجح أي برنامج اجتماعي أو سيكولوجي ما لم يكن مشتملاً على اشتراطات أو نصوص لكل جماعة اجتماعية وسيكولوجية في حدود اختصاصها. . .
قام جماعة منذ حين بدعوة يرمون من ورائها نشر ما يسمونه مذهب العُرى، وأسسوا لأنفسهم أندية كانت تعرف بأندية العراة. بيد أننا لا نعرف غرض تلك الشرذمة تماماً ولا ما يقصدون من هذا العرى. ومع هذا فنحن نقول هنا: هيا نتجرد من ملابسنا المعنوية جميعاً، سيكولوجيا وبيولولجيا، طارحين وراءنا القيود الجنسية والاعتبارات الأخرى، لنرى ما هذه المادة التي بأسفل هذا الحيوان الذي نسميه امرأة، سواء أكانت مستترة بنبات الخلنج أم بأوراق التين؛ وهذا الحيوان الذي نسميه رجلاً، سواء أكان مستوراً تحت ستر سرمدي أو سروال
من المحقق أم جهاز التفكير، جهاز (حالات الشعور مثلاً) الذي أتيح بضعة أسماء عظيمة كسيكولوجية الأنثى، كان يجب أن يُهمل من مدة بعيدة. والمرأة بالرغم من حريتها لا تزال مولعة بأعمال الخدم، فهي تمضي أكثر وقتها في المطبخ تعمل في غسل الأواني. وإذا تأنقت كانت دمية. والذكر أينما كان لا يملك سوى دقيقة واحدة يمضيها معها عندما يؤثر عليها بطريقة أو أخرى
والحياة كلها استجابة للبيئة. والوراثة ما هي إلا حركة انتقال لتجارب بيولوجية عالقة لا(580/1)
الذاكرة. فالمرأة استجابت لبيئتها بما نعرفه عنها كامرأة، وملابسات الضعف انتقلت في خلايا النطفة في أمشاج كلا الجنسين. وهي لا يعوزها إلا أن تغيِّر بيئتها لتغير استجابتها؛ وهي لا تحتاج إلا أن تُعاد ولادتها سيكولوجياً كي تمحو العوامل المتناقضة التي تصدّها وتقيدها
والمرأة في أمريكا ربما يكون لها النفوذ والكلمة العليا. والرجل ربما كان مجرد (حصان) ينقل الأحمال. . . ولكن كيف تكونت المرأة على هذه الحال من الضعف، والنعومة، واللطف؟ إن أحداً لا يعرف الجواب الصحيح، لأن هذا كما يقول الأستاذ العقاد من وراء سلطان العلم والعلماء. ولكن هناك من يقول إن هذا راجع إلى نماذج الجنس في مراكز خلايا النطفة. وهناك أيضاً من يقول إنه يرجع إلى وظيفة الحمل، وربما يرجع إلى الحادث الشهري في الأنثى البشرية (الحيض)
ولو أن الحيوانات الذكور من أي نوع يمكن أن تحوط الإناث التي من صنفها ببيئة من الضعف، أو بشيء مضعف، ترى الإناث تحت أضرار الحمل تنسل. والحيوانات الذكور، على الأقل، تستميلها الإناث عندما تكون متأثرة بانفعال أو تأثر. والجهاز يعمل جيداً إذا كنا حيوانات راقية. ولكن الزمن هو الذي جعلنا ننتج مقداراً كبيراً من الأناس بتحسينات في المبادئ الأساسية، وتمحيصات للعمل والمظهر أكثر مما لو كنا نعمل في إنشاء السيارات وإصلاح الإطارات وتحسين الإنارة كلما واجهنا ضرورات الحياة الحديثة والنظم المبتكرة
لنكشف عن خلايا النطفة أولاً: خلية الأنثى كبيرة، مستديرة تحمل مخزناً صغيراً من الغذاء، كما تحمل عدداً معيناً من الأمشاج وخلية الذكر أصغر كثيراً، مستطيلة، لا تحمل غذاء، ولها ذيل عائم، تحمل عدداً مماثلاً من الأمشاج التي تشمل نماذج فيزيقية وعقلية لأسلاف الجنين. وحينما تتقابل هاتان الخليتان يطرحان اختلافهما ويجددان ترتيب مادتهما اللقاحية إلى أن يتماثلا تماماً عندما يتدفقان معاً ويبدآن واجبهما العادي في تقسيم الخلية
والجنس على الأرجح مثل الشعر يميل إلى السرعة حينما يتم توافق الأمشاج. وعلى أي حال لا يمكننا أن نقرّ جنس الجنين حتى الأسبوع الخامس أو السادس من تكوينه، غير أن هناك من يزعم معرفة الجنس لكل الخلايا. على أن حقيقة الذكورة أو الأنوثة ترينا اختلافات واضحة حتى في رحم الأم. وكذلك في أي جهاز للتناسل. فعلينا أن نعمل ما(580/2)
ازدراه نيكوديموس وهو أن ندخل مرة أخرى في بطون أمهاتنا ونولد ثانية لنؤرخ الميلاد من وقت وصول خلايا النطفة
إن مدة الحمل في الذكر تقل يومين عن الحمل في الأنثى، وذلك لأن الذكورة أشد تحولاً من الأنوثة. واشتغال نمو الجنين يسير بسرعة ونشاط أكثر. والطفل الذكر أثقل في الوزن من الطفل الأنثى، كما شوهد من بحوث بوديش وهايبرج وآخرين، كما أن أعضاءه وعظامه أثقل
والأطفال من كلا الجنسين يختلفون في حجم أعضائهم الجسمانية وفي وزن عظامهم. ولكن يمكننا أن نعزو أي اختلاف بينهم إلى الحقيقة بأن مبيض الأنثى ينتج بويضات على حين أن الذكر ينتج الحييونات المنوية وغدد كلا الجنسين تقتسمها خلية ذات فتحة مشتركة
وفي خلال الفترة التي تسبق المراهقة ينمو البنون والبنات نمواً يكاد يكون متشابها بالرغم من القصور الذاتي الأنثى. وليس يبدو على المرأة حتى انقطاع الحيض أنها في حلٍ من موانع سيكولوجيتها الأنثوية. إنها سن الفتح، وهي السن التي يتسنى فيها لنساء أن يصبحن ذوات شخصيات متسلطة قوية. وحينما نجردها من ملابسها يمكننا أن نلاحظ أن تشريحها ينتج لنا اختلافات كَميَّة فقط، من الاستجابة للبيئة. والمرأة يُقويها التشريح السهل، وإذا كانت نموذجاً حسناً قلنا إنها جميلة، بمعنى أنها أكثر طفولة وأكثر وداعة. فهي إذن أكثر ميلاً إلى جنسها، ولذا تُححَب ويُرغب فيها. . . ولو أن الذكر الحالي يعجب بنوع من الجمال الأنثوي الذي كان يعتبر فيما مضى (أداة) للتناسل
وهناك نقطتان ضيقتان في تشريح الأنثى بجانب مقدار صغير من أنسجتها العضلية، وأعضائها القليلة الفعالية والكفاية، الأولى: ميلها إلى البدانة بسهولة. وهذا الميل إلى البدانة عرض من أعراض التحول فبدلاً من أن يحرق الجسم الغذاء إلى نقطة النشاط يقف في منتصف الطريق عند نقطة البداية. وهذا يوضح السبب بنوع ما في اتساع صدور نساء كثيرات. والبدانة مصدر حيرة شديدة للمرأة الحديثة أياً كان عملها. وهذا الميل إلى البدانة إنما هو نتيجة ضعف أنسجتها العضلية، لأن حاجزها البطني الضعيف لم يبين إلا موضعاً عضلياً واحداً. ولكن هذا المشدّ الحقيقي في غاية الأهمية، لا لأنه يمسك الأحشاء في مكانها فحسب، ولكن لأنه يحافظ على ضغط الدم المناسب، ويقف خفقان القلب عند حده.(580/3)
أما الرجل فإن له مشداً متوتراً من العضل في حاجزه البطني، وهذا يمده بضغط دمه العالي، ودقات قلبه البطيئة. ويبدو واضحاً غاية الوضوح عندما نذكر أن الحزوز البطنية الممتدة تكون في بعض الحالات سبباً لصدمة جراحية لا يكون الجراح مسئولاً عنها
والرجل والمرأة في اختبارات الذكاء متساويان، ولكن المرأة تتأخر في التحصيل، لأنها في حاجة إلى قوة توصِّلها إلى أطماحها. وإن تحولها البطيء، وحاجزها البطني الضعيف هما العائقان الرئيسيان لبلوغ تمام القوة
والنقطة الأخرى هي أن الأمراض التي تتعرض المرأة لها تدل أيضاً على أن تحولها أقل قيمة، في حين أن الأمراض التي يكون الذكر متعرضاً لها تشير إلى أن هناك تحولاً يعمل زيادة عن المقرر. ومن رأي (ماك ليود) أن تحول الأنثى أقل من تحول الذكر بنسبة 6. 8 % ولقد وجد (ألفاريز) من دراساته في ضغط الدم أن ضغط الدم عند الذكر أعلى مما هو عند الأنثى بـ 16. 5 ملليمترات. ويعرف كل شخص أن دقات قلب المرأة أسرع منها في الرجل. وبالطبع يجب علينا أن نتأمل الغدد الصماء بما فيها غدد الجنس. ولكننا لا نعرف إلا القليل لنستنتج النتيجة الأخيرة
إذا سلَّمنا جدلاً بعبارتي ذكر وأنثى، ترى أنه ليس هناك ذكور بحت ولا أنوثة بحت، وما دامت الحالة كذلك نضع اسماً لا يكون مربكاً، ولتكن كلمة (الطفل) أو (ناقص النمو) بدلاً مما نعني بالمؤنث. وعبارة (مراهق) أو (تام النمو) بدلاً مما نقصد بالذكر. وقد ترى المرأة أن هذه التعبيرات غير مقبولة، ولكن ليس في كل أنثى ما يجعلها (طفلة) أكثر مما يجعل كل ذكر مراهقاً. إذن، فحركة المراهقة هي التي يشمل برنامجها وظواهرها كلا الجنسين. وعلى الذين يحبون أن يشتركوا في المفاضلة بين الرجل والمرأة أن يدركوا تماماً أن الجنسين كليهما مشترك في التبعة. وربما يكون الرجال أكثر خطأ في ذلك؛ فقد ساعدوا المرأة على الاحتفاظ بضعفها لكي تكون أكثر خضوعاً لهم سواء كانت ألعوبة أو خادمة. وربما يعترض الرجال على الكلام المتعلق بالمراهقة على ضوء ما تقدم بقدر ما تستنكر النساء كلمة (الطفولة) التي أصبحت تنطبق على أجسامهن، ويجب علينا أن نفهم بادئ الرأي أن واجب الرجل في حركة المراهقة يكاد يكون ثورياً كما في المرأة، ولو أنه قد تم فعلاً في مجالات مختلفة(580/4)
وحركة المراهقة معناها الميلاد الجديد لكلا الجنسين. ففي حالة المرأة مثلاً - يجب أن تستسلم لسيكولوجية المراهقة التي تطغي على الحياة من المهد إلى اللحد. لأن المرأة تولد في سيكولوجية خاصة مضعفة تتمشى معها في الحياة. وسيكولوجية الأنثى هذه هي التي تجعل إضعاف البيئة ممكناً. والتي تحتفظ على الدوام بكلمة السر لتحفظ الأشياء مأمونة هادئة
وهناك حالات في تاريخ البشر انعكست فيها وظائف الجنسين أو حُوِّرت بوضوح. فمن بين الإسكيمو نشاهد الذكر يقوم في بعض الأحيان بما يتطلبه العمل المنزلي، وهو لذلك سمين مترهل. ويقول أريستوفانس إن نساء أسبرطة كان يمكنهن أن يخنقن ثوراً بأيديهن. ونقرأ في التلمود أن وظائف الجنس تغيرت أثناء عصر واحد من التاريخ العبراني
وبينما تعمل الغدد في إفراز الهرمونات التي تؤثر في التقدم وفي السلوك، يجب علينا أن نذكر أن معظم الاختلافات تكوِّن شيئاً هاماً في السلالة البشرية ويفهم هذا عندما نذكر أن المبيض يزن من جرامين إلى ثلاثة جرامات فقط، على حين أن الخصية تزن من 10 جرامات إلى 14 جراماً. وهذا جزء من التفاوت في الوزن يتمشى مع القاعدة العامة للوزن الأقل لجميع أعضاء الأنثى. والمرأة القوية يحتمل أن يكون لها مبايض أثقل كما يمكن أن يكون لها قلب أكبر. ولكن تأثير الغدد الجنسية واحد لا يقدر ليستا خالصتي الذاتية: هما دائماً أخلاط، فصيلة المراهقين تقدم أخلاطاً موزونة ذات فائدة كبيرة لمصلحة الجنسين. والفرق النوعي الواضح بين الرجل والمرأة هو التركيب المنوي في الذكر والتركيب البيضي في الأنثى وغدد الجنس ليست منابع لما عرفناه بالمزايا العرضية فحسب، وإنما تعتبر الكمية والجوهر لكل ما يمكن أن يذكر فيما نعتبره مبدأ بيولوجيا سليما، أي أن الرجل والمرأة كليهما استجابة بروتيبلازمية للبيئة وما دامت الحالة كذلك يمكننا أن نؤثر بتوسع في الاستجابة بتغيير البيئة. واختلافات الجهاز بين أشكال البروتبلازم الحيوية للذكر والأنثى تافهة وعديمة الأهمية، والاختلافات التي نشاهدها هي في الغالب آثار من صنعنا، وهي تنشأ في الغالب من حالات العقل والعادات. واختلاف التركيب الجنسي لا يمكن أن يعلل بحرية الذكر وبلوغه ما يشتهي، ولا يمكن أن يعلل بالخضوع والعجز في العمل من جهة الأنثى.(580/5)
والسبب في تفوق الذكر ليس في حقيقة جنسه ولكن في المنافع التي يفعلها بقواه، إنه يعيش لا في بيئة (الذكر) ولكن في بيئة من القوى. وإنه لا يستعمل سيكولوجية (الذكر) على الأقل، حيث ينجح، ولكنها سيكولوجية من القوة. . . ليس (البرهان) ذكراً: إنه منطق التحصيل. . . وليست (البداهة) أنثى: إنها عقدة من العبث والكذب والمخادعة. . . وضعف الأنثى ليس سببه الغدد في حد ذاتها، وليس حقيقة أنها أنثى، ولكن السبب يرجع إلى تحول فسيولوجي وسيكولوجي ناتج عن الاستعمال الضيق المحدود لقواها، والفكر الحديث والطب أزالا إلى حد كبير الآثار المكبوتة للحيض والولادة.
وليس الحب هو كل الحياة لفتاة يافعة أو لامرأة ناضجة. فالحب الحقيقي يأتي فقط عندما يفقد المرء حياته، والعاشق هو الشخص الذي يحاول أن ينقذ حياته فيفقد كل حبه وحياته
والمرأة - بالتأكيد - لها دور خاص هو ولادة الطفل، وللرجل دور خاص هو إنتاج الطفل، ولكن هذه الأدوار التي يقوم بها الجنسان بولغ فيها مبالغة لا يتسع لتفصيلها المقام
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو(580/6)
الأدب الإغريقي
في عصر الإسكندرية
للدكتور محمد مندور
رأينا أن شعر الإسكندرية لا يهز النفوس إلا عندما يعود فيتصل بالحياة، ولقد شهدنا ذلك الاتصال في المقطوعات الصغيرة وفي أغاني الريف والرعاة. وبإنعام النظر فيما سقنا من أمثلة يلاحظ القارئ بلا ريب أن ذلك الشعر وإن كان نقياً خالصاً فإنه لم يخل من واقعية، وذلك لا في الأسلوب فحسب، بل وفي نوع الإحساس والتفكير. ولقد استمعنا إلى تيوقريطس ينصت إلى الضفدعة الخضراء، ويتغنى ببمبيكا الباسمة الخفيفة الدم، وقد جن بها عادياً خلفها كما يعدو الذئب وراء النعجة والبجع خلف المحراث، وعنده أن جالاتيه، البيضاء كاللبن المخيض، لاذعة كعنقود العنب الخضر.
وهذه الواقعية لا علاقة لها بالمذهب الأدبي الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر بذلك الاسم، فأدباء ذلك القرن وعلى رأسهم بازك وفلوبير وموباسان إنما كانوا يقصدون بالواقعية الكشف عن الجوانب الوضيعة في النفس البشرية، حتى لقد تطور مذهبهم فانتهى إلى الطبيعية التي نجدها عند زولا حيث لا ترى إلا الغرائز الشاذة والقوى العضوية ومخلفات الوراثة المثقلة تقود أبطال الروايات. واقعية شعراء الإسكندرية لا غوص فيها ولا تحليل ولا التماس للجوانب المظلمة في النفس، وإنما هي تصوير لواقع الحياة الساذجة، ولشعور النفس المفطر بأسلوب مباشر
وإذا كانت هذه الواقعية قد طالعتنا من ثنايا الأغاني، فإنه لم يكن بد من أن تنفرد بنوع بذاته من أنواع الأدب، وهذا النوع هو ما سميناه فصول المحاكاة
فصول المحاكاة
نشأ هذا الفن بصقلية كما نشأت أشعار الرعاة، وإن يكن أقدم منها تاريخاً، إذا يعتبره النقاد عنصراً من العناصر التي مهدت للكوميديا، وأكبر الظن أنه نشأ في القرن الخامس ق. م. على يد سُفُرون وزيناركوس، وإن يكن ما كتبناه قد ضاع. ولهذا لا نستطيع أن نجزم بطريقة بنائهما لتلك الفصول، وإن كان من الراجح أنها كانت على غرار ما وصلنا من(580/7)
اللاحقين لهما، وبخاصة هيرونداس (يسميه البعض هيروداس) الذي نشر له العالم الإنجليزي كنيون سنة 1891 سبعة فصول عن ورقة من أوراق البردي موجودة بالمتحف البريطاني. وكل فصل منها عبارة عن حوار بين شخصين أو ثلاثة أشخاص أحياناً من النساء وأحياناً من الرجال، وهو شديد الشبه بفصل من مسرحية، وإن كانت تلك الفصول لم تعد للتمثيل، بل كتبت للقراءة أو الإلقاء. ولقد كان هيرونداس هذا فيما يبدو معاصراً لتيوقريطس. وأشخاص الحوار من عامة الشعب أو من الطبقة الوسطى. فتجد معلم المدرسة وبائع الرقيق والقوادة والجزمجي الشهير. . . الخ. . . والشاعر يصورهم في حياتهم اليومية، وهو يلتمس لحواره أي سبب كان: لقاء في طريق، أو احتكاكا في زحام، أو مساومة على سلعة. وإذا بنا نشهد ساعة من حياتهم بهمومها الدارجة، ومسراتها المألوفة، وشهواتها الصغيرة، وثرثرتها الأبدية التي نعرفها جميعاً في أفراد الشعب، وما يتخلل حديثهم من أمثال وتحيات محفوظة، وشتائم موروثة ومصطلحات لا نفهم لها وضعاً ولا معنى. من أمثال: (بلا آفية) و (يا سيدي لما إنت)، وما إلى ذلك مما يستطيع أن يسمعه القارئ بكل ركن من أركان الحسينية أو البغالة، فنستمع طوراً بعد طور إلى القوادة ذات الناب الأزرق تنقل إلى فتاة مغريات عربيد كبير، أو بائع الرقيق يقص على المحكمة محنة ويطلب إليها العدل، أو أب يتحدث إلى معلم المدرسة عن ولده (الشيطان الرجيم) ويقص عليه (عفرتته) التي لا تنتهي؛ أو نرى بائع الأحذية الشهير يعرض على (مترو) أحذيته الجيدة ويطري البضاعة
فصول المحاكاة لوحات أخلاقية صغيرة، لوحات لا عمق فيها ولكنها تصوير صادق للحياة، وهي وإن خلت من عنصر الدراما إلا أنها مع ذلك تكوِّن غالباً وحدة لها بدؤها ونهايتها. وموضع الجمال فيها هو سذاجتها رما بها من دقة الملاحظة، ثم بقاؤها في مستوى الشعب، فلن تجد فيها أي تداخل من كاتبها. بإحساسه الخاص أو آراءه ومثله، فكأن الشاعر سلبي بحت يستمع إلى من حوله ويرصد ما يستمع، ومع ذلك كم فيها من دقة وصدق وحسن اختيار للتفاصيل الدالة، وقد تتابعت بها دعارة القول وعفة الحياء، وقاحة بائع الرقيق وسذاجة نساء الحارات، مكر بائع الأحذية وتصنع المستهترات.
في هذه الفصول مجموعة كاملة من المشاعر المتوسطة التي نجدها عند عامة الناس،(580/8)
والشاعر لا يحيد بها إلى التزمت ولا إلى التسامح المسرف، بل يلازم الصدق فهو لا يمتدحها ولا يهجوها بل يصورها كما هي غير متجنب ما فيها من قبح ولا مبالغ فيه. وهو لا يخشى العبارة المسفة ولكنه لا يبحث عنها، كما أنه لا يغدق العطف على ما يجب ولا يصب اللوم على ما يكره. وشخصياته وإن لم تخل من رذائل وقسوة إلا أن تصرفاتهم لا تصل قط إلى حد المآسي الدراميتيكية. وهم بهذا أيضاً يظلون في واقع الحياة. الحياة الحقيقية التي يندر بها الأبطال الخارقون كما يندر كبار المجرمين
ثم إن هذه الفصول وإن كانت تصور نواحي إنسانية عامة إلا أنها تضيف إلى ذلك حقائق تاريخية خاصة بشعب صقلية في ذلك الحين، ذلك الشعب الذي اشتهر منذ القدم بكثرة الحركة وخفة اللسان ومرونة الخلق والنزوع إلى الاستطلاع
ولقد كتب تيوقريطس نفسه كما ذكرنا في نهاية المقال السابق بعضاً من تلك الفصول، ولعل (نساء سيراقوزة) خير مثل يضرب لها. والحوار يجري بمدينة الإسكندرية في يوم من أيام عيد أدونيس وبطلاه امرأتان أتت بهما من سيراقوزة إلى الإسكندرية بعض المهام التجارية فذهبتا إلى العيد حيث لا تنقضي تعليقاتهما على ما يريان، فالحصان الرمادي الضخم يخفيهما وكل منهما تشكو من زوجها وإن كانتا في حقيقة الأمر أميل إلى الطيبة، وهما لا يغنيان ولكنهما يحبان الاستماع إلى الغناء، وبالفعل ينشد أحد المغنيين نشيداً جميلاً لأدونيس وبه ينتهي الفصل. وهانحن بعيدون عن رعاة الجبال وقد انتقلنا إلى المدن حيث تجري الحياة المتواضعة التي لا شعر فيها، ولكننا نجد في صدق التصوير وسذاجته ما يعوض عن الشعر، وإن كان تيوقريطس لم يتمالك من أن يختم فصله بنشيد فيه شذا الشعر الجميل
الشعر العلمي (الأكاديمي)
قلنا من قبل إن الكثير من شعر الإسكندرية كان شعراً مصنوعاً وضعه العلماء بعيداً عن الحياة، ولدينا من هذا النوع الشيء الكثير، فأراتوس يتحدث عن (ظواهر الطبيعة) في كتاب ضخم. وكاليما كوس يقص نسبب الآلهة بمغامراتهم وحوادثهم المعروفة في أسلوب تعليمي في (أناشيده) أو يوضح الأسباب والمسببات في (أصوله) بل ومنهم من أخذ في محاكاة هوميروس فحال أن يضع الملاحم. وأكبر هؤلاء المقلدين هو أبولونيوس الرودسي الذي ألف ملحمة كبيرة يقص فيها رحلة جازون ورفاقه بحثاً عن الجزة الذهبية، ذلك أن(580/9)
جازون هذا كان عمه قد اغتصب من أبيه العرش؛ وعندما حاول استرداده طلب إليه العم أن يأتيه أولاً بالجزة الذهبية، وكانت تلك الجزة ببلاد تراقيا النائية حيث يحرسها تنين ضخم فضلاً عما في تلك الرحلة البعيدة من مخاطر. ولقد استطاع جازون أن يأتي بالجزة، وذلك بفضل ميديه بنت ملك تراقيا التي أحبت البطل وجنبته بنصائحها وذكائها مواضع التهلكة بل وهربت معه. وهذه هي القصة المعروفة بقصة (الأرجونوت) أي بحارة (أرجو) وهو اسم السفينة التي أبحر عليها جازون ورفاقه
وأبولونيوس وإن يكن بلا ريب من الشعراء العلماء، شعراء الصنعة فإنه يعد برغم ذلك شاعراً كبيراً وبخاصة في بعض أجزاء ملحمته التي استرسل فيها مع إحساسه إلى حد ما. ولعل من خير ما كتب وصفه لغرام ميديه: (مدّ الليل ظلاله على الأرض، وفي البحر نام البحارة بسفنهم وهم يتأملون هيليكنيه ونجوم الأريون. وقد هفا المسافرون في الطريق إلى ساعة النوم، كما هفا الحراس على الأبواب. بل والأم الحديثة عهد بموت أبنائها قد لفها خدر نوم عميق. وعواء الكلاب لم يعد يسمع بالمدينة. لم يعد ثمة همس لصوت. لقد تملك الصمت ظلام الليل
ولكن ميديه لم يغزها عذب النوم، لقد أيقظتها آلاف من الهموم، هموم غرامها وكان قلبها يثب في صدرها بلا انقطاع، وكأنه شعاع يثب في غرفة وقد عكسته مياه تصب في قدر. فهو يهتز دائراً في سرعة فيقفر هنا وهناك. على هذا النحو كان يدور قلب الفتاة بصدرها
حدثت نفسها حيناً بأنها ستعطي المادة السحرية الثيران (التي كانت ستفترس جازون) لتهدئها، وحيناً بأنها لن تعطيها. فكرت في أن تموت، ثم في أن لا تموت، وأن لا تعطي المادة السحرية محتملة ألمها دون تفعل شيئاً. وأخيراً جلست وفكرت، ثم قالت: ما أشقاني! لقد تحوطتني المحن. أين المفر؟ بكل سبيل شكوك لنفسي! لا دواء لألمي الذي لا يمسك عن إحراقي. آه! ليت أرتميس (إلهة الصيد) استطاعت أن تقتلني بسهامها قبل أن أراه. كيف أستطيع أن أعد المواد السحرية خفية عن أهلي؟ ماذا أقول؟ أي حيلة أخترع لأداري معونتي؟ هل أحادثه سراً بعيداً عن رفاقه؟ يا للبؤس! إن موته ذاته لن يدع لي أملاً في الشفاء من آلامي. بعد موته سيحتضنني الألم. وداعاً عفافي! وداعاً ضياء حياتي! فلينج على يدي ولينأ من هنا دون جراح. لينأ إلى حيث يهوى فؤاده)(580/10)
ولست أدري ماذا يظن القارئ بهذه الفقرة التي هي بلا ريب من خير ما كتب وإن كنت عن نفسي أحس فيها الصنعة بادية والتكلف واضحاً، ولا أدل على ذلك من أن ننعم النظر في تشبيهه المعقد لقلب الفتاة بالشعاع الذي يثب في غرفة وفي الغرفة قدر وبالقدر يصب الماء، والماء يعكس الشعاع، والشعاع يتطاير شرره في كل ناحية وما إلى ذلك من تفيهق العلماء وصنعتهم المرذولة
ذلك عن فن الملاحم. ولقد سبق أيضاً أن قلنا إن شعراء ذلك العصر قد حاولوا كافة الفنون الأدبية، فهم لم يقفوا عند الملاحم يحاولون بعثها بعد أن كان زمن الفطرة والطبع السليم قد انقضى، بل كتبوا أيضاً التراجيديات. ومن غريب الأمر أنه أكبر شعراء التراجيديات في ذلك العصر وهو ليكوفون لم يرقه ما أحدثه أوربيدس في أسلوب التراجيديا من تطور نحو النثرية. فأراد (كأديب مرهف) أن يعود بها إلى اللغة الشعرية القديمة. فأخذ يحاكي أيسكيلوس وبنداروس، ولكن التكلف أفسد محاولته كما نتوقع، وكان في هذا فشل للتراجيديا لا يقل عن فشل الملاحم
وتخلص من كل ما سبق عن أدب عصر الإسكندرية إلى أن لم يجد إلا عند ما عاد إلى الحياة، لقد جاد في شعر ليونيداس لأنه لامس بؤس الحياة وخبر أسرارها، وجاد في شعر تيوقريطس لأنه هاجر إلى الريف حيث السذاجة الساحرة، وجاد في فصول المحاكاة، لأنه صور واقع الحياة، ولقد صدقت نغماته في شعر الغرام، لأن الحب شعور غلاب، وأما فيما عدا ذلك فقد جاء شعر علم وتكلف وكتب وصالونات
(انتهى)
محمد مندور(580/11)
4 - أحمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لم نستطع أن نهتدي إلى شيء في قصة حب رامي، هذا الحب الذي لمسنا أثره في الكلمة السابقة، والذي تفجر بعد ذلك ألحاناً صافية، فيها كثير من الدموع، وفيها كثير من الألم، وذلك حينما دخلت في حياة الشاعر مطربة الخلود الآنسة أم كلثوم، فوجدتها حياة تضطرب بتلك الآلام التي تختلط فيها ذكريات اليتم والحب. . . اليتم العابس المتجهم ذي المسئوليات، والحب الخائب المنكوب ذي الصبوات، وجدته يقول:
هل زال من دنياي حسن هزني؟ ... أم قر في قلبي لهيب النار؟
حب تضرّم في حنايا أضلعي ... فأصابه يأس بطول قرار
وبكيته حتى مللت بكاءه ... فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ
وهذا كلام سهل لين، لكنه مؤثر، بل مُبكٍ. . . وأي قلب. . . لا يتأثر حينما يسمع رامي في رقته وسمو عاطفته، يهتف بهذا الشعر الجميل السهل اللين، شاكياً باكياً، ذرافاً دموع قلبه، مصعّداً أنات روحه، واقفاً عند الشطر الأخير:
فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ!
وقفة العاشق المكروب أمام هذا الحطام المقدس من بقايا حبه!
لقد أرهفت أم كلثوم سمعها حينما سمعت رامياً يئن ذلك الأنين الموجع وسط جنته الذاوية الذابلة، فوجدته يسائل الأطياف التي تهمهم من حوله:
لمن الغناء أقوله فأصوغه ... من أدمعي ودمي، وطيب سراري
ومن الذي يوحي إليّ من الهوى ... قبس الخيال وصدحة الأوتار
ما أطلق الطيرَ الصدوحَ بشدوه ... مثل ابتسام الزهر والنوار
أو نضرَ الزرع البهيجَ زهورَه ... كالشمس والماء النمير الجاري
أو أرقص البحر الخضم عبابه ... كالبدر يشرق باهر الأنوار
وتلفت رامي فجأة على صوت رخيم رضيٍ يقول له:
(أيها الطائر المنفرد المعذب المهيض الجناح، صُغْ غناءك لي أملأ به الكون، وأجعل لك به دماً جديداً وحياة جديدة. . . صُغه لي أوح إليك من أفانين الهوى ألوانها الزاهرة الباهرة،(580/12)
وأنفض الرماد عن قبس خيالك، والصدأ عن صدحة أوتارك، وأبتسم لك ابتسام الزهر والنوار، وأشرق على عباب بحرك الخضم إشراق البدر باهر الأنوار، وأدفئ جنتك بمثل الشمس التي جَرَتْ في فلكك الدَوَّار وأُرْوِها بمائي النمير الجار، وأترددْ في أنفاسك عطراً، وأتبلجْ في ظلام بأسك فجراً، وأرد عليك شيطانك النافر، وأُذُدْ عنك وسواسك الساهر، واسحر لك بنات غابك، وعرائس عُبابك، فتفرش لك طرقات جنتك بأفواف الزهر، ولآلئ البحر، وتمدك بروائع الفكر، ونفثات السحر. . . و. . . و. . .). وما إلى ذلك مما يغازل الأقلام من الشعر، وهي تكتب عن رامي وأم كلثوم
وانتفض فؤاد رامي لذلك الصوت الرؤوف الرحيم انتفاضة هائلة لم تزل تتردد ملء أضالعه عشرين عاماً، وأحسبها سوف تتردد فيه حتى يشيخ رامي، وحتى يهرم معه أناس آخرون
لقد رأينا كيف عز على رامي أن يصمت هذا الصمت الذي أفزعه وشغل باله، وهو شاعر الإنسانية الحزين الذي يقول:
الحزن أدبني، وهذب خاطري ... وأنالني عُلو الخيال السامي
وأسأل أسراب الدموع فصغتها ... صوغ المعاني في شجيّ نظامي
وأرق إحساسي ومدّ مشاعري ... فوصلت كل الناس في أرحامي
قاسمتهم أحزانهم وحملت من ... أعبائهم شطراً من الآلام
فلما سمع من أم كلثوم هذا النداء الرخيم الندي الرضيّ، خفق قلبه، واستجاب له، وحلت مطربة الخلود عقدة السحر عن لسانه، فأنطلق يصوغ لها أغانيه الخالدة (من أدمعه ودمه وطيب سراره)، وانطلقت هي (توحي إليه من الهوى، قبس الخيال وصدحة الأوتار)
ولقد كان دخول أم كلثوم في حياة رامي ثورة كاملة في تلك الحياة اليتيمة الحزينة الباكية، ولقد استطاعت أم كلثوم أن تلهم رامياً كل هذه الثروة الطائلة من المعاني (البكر!) التي لم يسبقه إليها أحد من الشعراء (فيما نعلم) والتي سجلها في (شعره الجديد) وأغانيه المصرية العذبة التي أنقذت الغناء المصري من الإسفاف الذي تردّى فيه زماناً طويلاً قبل أن يهيئ له الله رامياً، ليجدده، وليهذبه، ولينفي عنه ما كان يشوبه من خيال غث، وتعبيرات رخيصة، وغزل بارد مكشوف؛ مما سنخصص له كلمة مستقلة إن شاء الله(580/13)
واستطاعت أم كلثوم كذلك أن تخفف من برحاء الحزن في نفس رامي، وان تلطف من لَذْع الحُرَق التي كان ينطوي عليها من جراء نكبته في حبه، وقد اعترف هو بذلك في كثير من شعره الذي أخذ يرق ويصفو لدخول أم كلثوم فيه:
صوتك هاج الشجو في مسمعي ... وأرسل المكنون من أدمعي
سمعته فانساب في خاطري ... للشعر عين ثرَّةُ المنبع
ودبّ في نفسي دبيب المنى ... والبرء في نضواَ لجِوى الموجعِ
سلوى من الدنيا تسلي بها ... قلب شديد الخفق في أضلعي
طال به السهد كأن الدجى ... ضل به الفجر فلم يطلع
حتى إذا غنيتِ ذاق الكرى ... ونام نوم الطفل في المضجع
كأنما لفظك في شدوه ... منحدر من دمعي الظَّيّع
فيه صباباتي وفيه الضنى ... يشكو تباريح فؤادي معي
نظمت أشعاري وغنيتها ... منظومة الحبات من مدمعي
أودعتها الشكوى فما رق لي ... من راح بالقلب ولم يرجع
ولو تغنَّيتِ بها عنده ... عاد إلى الود ولم يقطع
أما حديث هذا (الذي راح بالقلب ولم يرجع) فعلمه عند رامي الذي يقول بعد هذا:
يا من شَدَت بنسيبٍ ... ناجيت فيه حبيبي
وردّدت من شكاتي ... ورجّعت من نحيبي
وأودَعَت في الأغاني ... تناوحي ووجيبي
فجرتِ نبعَ خيالي ... من بعد طول النضوب
أنمت حزن فؤادي ... بصوتك المحبوب
وكنتِ مألف حسي ... وظل روحي الغريب
وآنس اليوم قلبي ... نجيّه في القلوب
حتى غنيت بنجوا ... ك عن هوى وحبيب
فنحن إلى الآن تلقاء حالات ثلاث من أحوال رامي. . . أولاها رامي المحب المحزون، وثانيتها رامي الذي يشكر القدر على هذا الصوت الذي أخذ (يدب في نفسه دبيب المنى،(580/14)
والبرء في نضو الجَوى الموجع)، رامي الذي لا يزال يحن إلى إلفه القديم فيقول:
أودعتها الشكوى فما رق لي ... من راح بالقلب ولم يرجع
ولو تغنّيتِ بها عنده ... عاد إلى الود ولم يقطع
أما الحالة الثالثة، فرامي الذي أخذ يتسلى عن هواه القديم، حيث يقول:
أنمتِ حزن فؤادي ... بصوتك المحبوب
وكنتِ مألف حسي ... وظل روحي الغريب
وآنس اليوم قلبي ... نُجيّه في القلوب
حتى غنيت بنجوا ... ك عن هوى وحبيب
وذلك اعتراف صريح من رامي بأن قلبه قد آنس اليوم نجيّه في القلوب، حتى غَنِيَ بنجواه عن كل هوى وكل حبيب
أما تاريخ قلب رامي بعد هذه الأطوار الثلاثة من أطوار حبه فليس من شأننا، ونستطيع أن نقول إنه أصبح قلباً شديد الصلة بأذنيه. . . أي من هذه القلوب التي تعشق بالأذن قبل أن تعشق بالعين أحياناً وإن تك عين رامي من أعشق عيون الشعراء الذين عرفناهم أجمعين. ونستطيع أيضاً أن نلفت النظر إلى حب جديد شب في قلب رامي فجأة، وجعله لأول مرة في حياته يذكر الشك ويردده كثيراً في أشعاره الجديدة وفي أغانيه المصرية البارعة الرائعة:
تقول أسأت الظن بي فكأنما ... تخال محباً لا تسوء ظنونه
وهل قر قلب في هواه ولو غدا ... يساجله فرط الحنان خدينه
إذا لم يكن في الحب شك وحيرة ... فمن أين يحلو للمحب يقينهُ؟
ومن قصيدته (بين الشك واليقين):
قد أحاطت بك العيون فما أس ... طيع ألقي مكان عيني منك
وجرت حولك الأحاديث حتى ... كدت أنسى الذي أحدِّث عنك
وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غَمْرها ولما يُضعك
خبريني أي القلوب تناجي ... ن فقد همت في غيابة شك
ومن قصيدته (كذب الظنون) التي مطلعها:(580/15)
أخاف عليك من نجوى العيون ... وأخشى أنّه القلب الحزين
وأعلم ميل نفسك أن تكوني ... هوى الدنيا ومُنْبَعَثَ الحنين
فأخشى قولة العُذَّال مالت ... لغيرك، وانمحي كذب الظنون
وقفت على هواك مطار فكري ... ومسرى خاطري وهوى فنوني
ووحّدت المعاني فيك حتى ... رأيت الكون خلواً من شجوني
فهل يرضيك ما ألقى فأرضي ... نصيبي فيك من ذل وهون
أم الظن المريب أضل رشدي ... وأرسل ليله يغشى يقيني
وأنت كما عهدتك في غرامي ... نجية قلبّي الراعي الأمين
ومن قصيدته (ظن المحبين):
ساورتني الظنون فيها ولكن ... يَ غالبت سوء ظني حينا
ثم ساءلتها أتحمل عني ... بعض ما ذقت في هواها فنونا
فثنت طرفها وقالت أما تبر ... ح يا ظالمي تسيء الظنونا
وأنا لا أشيم في قلبك السا ... در نوراً ولا أحس يقينا
كلنا سيئ الظنون وما أح ... سب إلا أن الأمانة فينا!
وكما يتردد ذكر الشك في شعر رامي الجديد تتردد الشكوى من كثرة المحبين الذين تتهاوى فراشات قلوبهم في نار حبيبه المقدسة:
يا من أخذت فؤادي ... أخْذ العدو الحبيب
قلبي لديك فقل لي ... ما حاله في القلوب
وما أعذب مطلع قصيدته (هوى الغانيات)
كيف مرت على هواك القلوب ... فتحيرت من يكون الحبيب؟
ومن قصيدته (بين الشك واليقين):
وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غمرها ولما يضعك
خبريني أي القلوب تناج ... ين فقد ضعت في غيابة شك
ثم تكثر في شعر رامي الجديد تلك المقطوعات الرقيقة التي لا نستطيع أن نسميها إلا (خطابات شعرية) كان يرسل بها إلى حبيبه الجديد، يملأها بالشكوى وبالشك والحنين وهو(580/16)
يصرح في معظم هذه (الخطابات المنظومة) بأن حبيبه هذا ذو صوت حنون حلو:
عشقتك للصوت الحنون وللشجي ... وما كنت أدري ما يجر هواك
غناء كشدو الطير في رونق الضحى ... ومعنى تناغي في سماء مناك
وإذا سئل رامي عمن يكون هذا الحبيب أجاب:
أرادوني على أني أبوح ... وهل يتكلم القلب الجريح
إلى أن يقول:
وتزدحم القلوب على هواها ... فتنكرني ولي كبد قريح؟
وبعد. . . فمن الفضول في تاريخ شعرائنا أن نعدو هذا الحد. مَنَّ الله على رامي بنعمة الهدوء في عش حياته العائلي. زوجاً كريماً ووالداً برَّا رحيما.
دريني خشبة(580/17)
على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 4 -
لخصت في مقالاتي السابقة شيئاً من حياة المؤيد داعي الدعاة، وتحدثت عن شيء من نشاطه في الحياة السياسية، ولم أشأ أن أدخل في تفصيلات لا تتحملها الصحف السيارة، والآن أتحدث عن أثر المؤيد في الحياة العلمية والأدبية. فقد كان المؤيد عظيم الأثر في معاصريه، واستطاع أن يسحرهم بفصاحته ويبهرهم بقوة حججه فانقاد له خلق كثير، واستطاع كذلك أن يجعل من تلاميذه مدرسة لها طابعه، تتحدث بآرائه وتبشر بتعاليمه، كما وضع عدة كتب لا تزال إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقر بها إلا شيوخ الدعوة الطيبية في الهند واليمن، (أي طائفة البهرة)، وقد سرد عبد الله بن المجدوع في رسائله أسماء الكتب التي وضعها المؤيد في الدين، وهي تبلغ نحو ثلاثة عشر كتاباً. منها كتاب واحد بالفارسية هو كتاب أساس التأويل، وقال إن المؤيد ترجم الكتاب عن العربية عن كتاب (أساس التأويل) لأبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي. وقدر لي أن أطلع على هذا الكتاب بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن؛ فإذا هو يبحث في تأويل قصص الأنبياء بعد أن قدم في عدة صفحات قليلة بوجوب تأويل القرآن الكريم تأويلاً باطنياً، ووجوب معرفة الظاهر والباطن
ولعل أكبر أثر تركه المؤيد هو كتاب (المجالس المؤيدية)، وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها في مجالس الدعوة، وتجمع كل مذهب الفاطميين. فلم يترك المؤيد شيئاً من مذهبه دون الحديث عنه في هذه المحاضرات التي بلغت الثمانمائة محاضرة، ولا أدري تماماً متى جمعت هذه المحاضرات ومن الذي أطلق عليها هذا الاسم، ولكن الذي لا شك فيه أن الداعي اليمني حاتم بن إبراهيم المتوفى سنة 596 رتب هذه المحاضرات حسب ونشرها باسم (جامع الحقائق) فأدى بذلك خدمة جليلة لمن يبحث في المجالس المؤيدية
قسم حاتم بن إبراهيم المجالس المؤيدية إلى ثمانية عشر باباً، جمع في الباب الأول ما ذكره(580/18)
المؤيد عن التوحيد، وفي الباب الثاني ما اختص بالإبداع والمبدع الأول، وفي الباب الثالث ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباب الرابع عن النبي (ص) وعلي بن أبي طالب، وافرد الباب الخامس لعلي بن أبي طالب، وجمع في الباب السادس ما قيل في إثبات الإمامة في ولد علي، وأن الإمامة تنتقل من والد إلى مولود لا تنقطع إلى يوم القيامة، وفي الباب السابع حديث عن الأشباح الروحانية وفضلهم، وفي الباب الثامن ما قيل في المادة والتأييد والوحي المتصل بالأنبياء، وحديث عن الأنبياء والأوصياء، وفي البابين التاسع والعاشر وجوب أخذ العهد على المستجيبين للدعوة، ووجوب التأويل وصحته، وفي الباب الحادي عشر نجد رد المؤيد على غلاة الشيعة وعلى القائلين بالتناسخ، وفي الباب الثاني عشر رد المؤيد على الفلاسفة والمعطلة والمنجمين، وفي الباب الثالث عشر رسائل المؤيد إلى أبي المعري، ورد المؤيد على المعتزلة وعلماء أهل السنة واليهود ورده على ابن الراوندي صاحب كتاب الزمردة الذي يحتج فيه على الرسل، ويحاول أن يبرهن على إبطال الرسالة، وفي الباب الرابع عشر تحدث المؤيد عن أضداد الأنبياء والأوصياء منذ عهد آدم، وفي الباب الخامس عشر جمع بعض مناجاة المؤيد وخطبه ومواعظه، وجعل في الباب السادس عشر في ذكر فضل المهدي المنتظر، أو بحسب اصطلاحهم (قائم القيامة) والباب السابع عشر عن المعاد والثواب وذكر أهل العذاب، وختم كتابه بالباب الثامن عشر وهو خاص بأهل العذاب
هذه هي الموضوعات التي تحدث عنها المؤيد في مجالسه، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المؤيد كان واسع الاطلاع عالماً بمذهبه وبآراء جميع الفرق الإسلامية الأخرى، وبما نقل إلى العربية من مذاهب الفلاسفة الأقدمين. والمؤيد في كثير من مجالسه كان يأخذ آية من القرآن الكريم، أو قولاً مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد أئمة الفاطميين ويشرحه شرحاً يتفق مع ما كان يدعو إليه. فهي مجالس تأويل إن صح أن نسميها بهذا الاسم، وهنا تتجلى لنا شخصية المؤيد، إذ أن داعي الدعاة الأكبر أو الحجة هو صاحب التأويل في عصره، ولهذا نرى شيئاً من الاختلاف بين الدعاة في تأويل بعض الآيات القرآنية الكريمة. فالتأويل شخصي يختلف باختلاف الدعاة وباختلاف العصور، فتأويل النعمان بن حيون يختلف عن تأويل جعفر بن منصور اليمني صاحب كتاب(580/19)
الكشف، وكتاب سرائر النطقاء، وكتاب أسرار النطقاء، وهما يختلفان عن تأويل المؤيد في مجالسه. وهم جميعاً يختلفون عن تأويل دعاة اليمن، وهذا عجيب من قوم يدعون أن التأويل من عند الله سبحانه وتعالى!
كان المؤيد يبدأ مجالسه بمقدمة يحمد فيها الله ويثني بالصلاة على النبي وعلى وصيه، ثم يخاطب السامعين بقوله: (معشر المؤمنين). . . معلوم أن. . . كما كان يختم كل مجلس بالدعاء لسامعيه، ثم يعقبها بحمد الله والصلاة على النبي والوصي والأئمة. وكان إذا أراد التحدث عن نفسه في مجالسه يقول: وقع في أيدي أحد دعاتنا. . . أو (سئل العالم) (قال العالم)، لأنه كان يستر نفسه موهماً جمهور المستمعين أن هذه المجالس إنما هي صادرة عن الإمام نفسه
وهاكم نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية في موضوع الشرع والعقل بعد حذف المقدمة لطولها (معلوم أن المسلمين يشهدون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام ضرورة من حيث أن القرآن الكريم مشحون بذكرهما وقصصهما. وهم (المسلمون) خصوم أمتيهما اللتين هما اليهود والنصارى، وشهادة الخصم لا يحتاج إلى بينة، وهم ينكرون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بينة للمسلمين غير القرآن الذي لا يقبلونه ويقولون ما هو بلغتنا ولا يلزمنا فيه حكم إعجاز، والأخبار التي يأثرونها في إعجاز النبي (ص) هم يردونها ولا يقبلونها. فكيف الحيلة في إثبات نبوته عليهم، من حيث لا يستطيعون ردها!
المناظر من المسلمين إذا ناظرهم قال إن كان موسى الذي دل عليه نبينا (ص) ونطق به القرآن الذي هو كتابه؛ فقد لزمتكم نبوة صاحبنا كما لزمتنا نبوة صاحبكم، وإلا لم نعرف صاحبكم كما لا تعرفون صاحبنا. وعنده أنه دقق بالمناظرة وأحسن وجّود، ولم يعلم أنه قابل كفراً بكفر؛ فكان كما قال الله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وإنما الطريق عليهم أن يسألوا عن برهان سبقهم وأحدهم وأضاع دينهم من حيث العقل فيوافقوا على كون اليهودية والنصرانية عندهم لفظاً بلا معنى وأن معاني ذلك محصورة في دين الإسلام الذي أتى به محمد (ص) فيتعين على من طلب النجاة منهم؛ فلم يمل ميل الهوى الإيمان به وقول آخر: معلوم أن النبي (ص) مبعوث إلى الكافة كما قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وأن معجزة القرآن الذي هو كلام عربي يختص(580/20)
بلسان العرب، فإنه يستحيل أن يكلف الرومي والهندي والتركي أن يقبلوا القرآن معجزاً ويؤمنوا به وبمن أتى به، فما حجة نبوة محمد (ص) على هذه الأمم كلها إلا أن يقام عليهم من صورهم وتراكيبهم حجج عقلية هي موجودة في معاني القرآن دون ظاهر لفظة عند الراسخين في العلم يقوم منها برهان نبوة النبي (ص) وإلا فلا برهان.
وقول آخر مختصر شاف: أن العقل صنع الله سبحانه في باطن الإنسان يرى به مبصرات الآخرة ككون العين صنعه في ظاهره يرى بها مبصرات الدنيا، وقد يشرك الحيوان الإنسان في العين، ولا يشركه في العقل؛ فما يقال فيمن أعمي عينه بيده فحجب عنها ضياء العالم ونوره؟ وهل يحكم على من فعل ذلك بعين يشركه الحيوان فيها إلا بضعف الرأي وسوء الاختيار؟ أفلا يحكم على من أعمى العين المطموح بها إلى دار القرار بالشقوة والخسار وحلول جهنم دار البوار نعوذ بالله من ذلك. وجملة ما يقال في قضية قولهم إن الشرع غير موضوع على العقل إن ولي أفاقه من قصر أن يكون بجناح البرهان فيها طائر فرأى أنه إن أثبت لكل شيء برهاناً ودليلاً، واقع خطباً طويلاً، وبدل تصحيح جسم رياسته تعليلاً فأبى أن يسلك في هذا القول مضيقاً، وآثر أن يقتصر على نفسه طريقاً، ونفى أن بين الشرع والعقل صحبة أو قربة وسن بقوله هذا سنة أبقت على دين الإسلام سبة. الخ)
هذا نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية بعد حذف الابتداء والانتهاء وهو يدل على مقدار حذق المؤيد وقوة حجته وتهكمه بخصوم مذهبه. ومن الطريف أني قرأت في الأسبوع الماضي مقالاً للأستاذ الجليل عزيز بك خانجي يتحدث فيه عما سمعه من المرحوم الشيخ محمد عبده في تفسير سورة (والتين والزيتون) وأضيف الآن أن المؤيد داعي الدعاة أشار إلى هذه السورة في ديوانه بقوله:
ففكروا في التين والزيتون ... واستكشفوا عن سره المكنون
ولم أتى من ربنا به القسم ... كما أتى بالنون أيضاً والقلم
أما في المجالس المؤيدية فقد أوَّل هذا القسم بنفس التفسير الذي سمعه الأستاذ خانجي من الشيخ محمد عبده. فقال المؤيد: (وقعت الكناية عن آدم بالتين وعن نوح بالزيتون لأن كل ثمرة يتقدمها ورق ونوار، والتين ينشق عنه أعواد الشجر وكل حي يسبقه حبل وولادة، وآدم استخلصه الله من أديم الأرض من غير حبل وولادة فمن أجل ذلك مثله بالتين،(580/21)
وخلاصة الزيتون هي الزيت المأخوذ عنه كأنه الغرض من الزيتون وكمثل ذلك. فخلاصة نوح إبراهيم المستخلص من ذريته حتى كأن الغرض من نوح إبراهيم فهو مضمر في نفس القسم من الله سبحانه. أما معنى (طور سينين) فالرمز لموسى عليه السلام، وطور سينين هو موضوع مناجاته ومكان فضيلته، وفيه إضمار وهو المسيح (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت الدهن وصبغ للآكلين) فالمسيح هو الشجرة الخارجة من طور سيناء النابت من منبعة ملة موسى فشرفه الله ورفعه. وهذا البلد الأمين كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم، هناك قبلة الله الناسخة للقبل، بيتها أو بنيان بني على وجه الأرض، كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) لآخر ساكن من أولي العزم من الرسل قال الله سبحانه وتعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد)
فتوارد الخواطر بين المؤيد والإمام الشيخ محمد عبده في تفسير هذه السورة أوضح من أن يحتاج إلى شرح فإني أشك في أن الإمام الشيخ محمد عبده قد اطلع على تفسير المؤيد، فسايره في تفسيره الذي ورد في المجالس المؤيدية التي اعتبرها من الكنوز التي تركها علماء المذهب الفاطمي، والتي لا غنى عنها لمن يدرس تاريخ وعقائد الدولة الفاطمية.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة(580/22)
حول بعث القديم
منزلة المنفلوطي بين كتابنا
للأستاذ محمد خليفة التونسي
أوردت في مقالي السابق (حول بعث القديم) خمس ملاحظات مما عن لي ملاحظته على مقال الدكتور محمد مندور (بعث القديم) وهأنذا أعود إلى مناقشة رأي الدكتور في المنفلوطي، وانقسام النثر إلى تيارين الآن، كما وعدت في آخر مقالي السابق، وكما أبيت على نفسي هناك أن أقف فيما لاحظت موقفاً سلبياً، فوقفت بعده موقفاً إيجابياً - سأقف هنا ليكون الرأي أوضح والكلام أتم، وسألزم نفسي الإيجاز هنا، كما ألزمتها إياه هناك لضيق المقام
رأي الدكتور أن القصة بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر، على نحو ما نجد في المويلحي (محمد)، ثم شاع الفكر بعدها، ومنها إلى المقالة (على نحو ما نجد عند السيد توفيق البكري الذي جمع في أسلوبه بين الصنعة اللفظية وجمال الصورة الخيالية وصدق الإحساس أو أصالة الرأي). ثم خطا النثر خطوة أخرى في القرن العشرين على يد المنفلوطي، فأصبح كالنثر الأوربي (تعبيراً مباشراً عن فكر غني أو إحساس صادق). ثم قال: (واليوم ننظر في نثرنا فنرى تيارين كبيرين ينطوي في أثناء أحدهما المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات، على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون معاً في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً، ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها. والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر)
ولا تعنيني هنا مناقشة رأي الدكتور في تقدم الجد الفكري في القصة على المقال، فقد خالفته في ذلك ونقضته في المقال السابق، بل يعنيني ما نقلته بعد ذلك، وغنما ذكرته(580/23)
لأحفظ لآراء الدكتور اطرادها وتماسكها، ولأن ما لخصت أساس لما نقلت، ومن أجل هذه لجأت إلى نقل ما أريد مناقشته مع طوله دون التلخيص. وأسأل نفسي هنا سؤالاً يحدد الرأي الذي أريد مناقشته هنا، وسنرى أكان الدكتور موفقاً في الإجابة عنه أم لم يوفق
آلمنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الأول كالمويلحي والبكري والرافعي والزيات، أم ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني كطه حسين الذي ضربه الدكتور مثلاً لرجال هذا التيار؟
يرى الدكتور أن المنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني، بل يوغل فيرى أن التيار الثاني يبتدئ به، ونترك الآن أن هذا التيار ابتدأ به، وحسبنا أن نرى أكان أم لم يكن من رجاله؟
وقبل أن نناقش رأي الدكتور نلاحظ عليه أولاً أنه حدد الخاصية التي يجتمع فيها - كما عبر - رجال التيار الأول وسكت عن الخاصية التي يجتمع فيها رجال التيار الثاني، وقد تكرر هذا السكوت مرات منه حين لجأ إلى التقسيم
وما نظننا في حاجة إلى مقياس جديد غير مقياس الدكتور نطبقه لنرى أي تيار ينطوي فيه المنفلوطي، فعلينا أن نتمسك به وهو وحده كفيل ببيان الحق الذي ننشده، وكفيل ببيان أن الدكتور أخطأ في تطبيق مقياسه وناقض نفسه ولم يصل إلى الغاية التي كان يجب أن ينتهي إليها، فقد استقام على سنن واضح في أول أمره ثم حطم مقياسه فانتهى إلى نهاية لم يتخذ لها بدايتها، ولم تكن البداية التي سلكها لتصل به إليها
أما رجال التيار الأول - كما قال الدكتور - مثل (المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها)
والمقام لا يتسع لإيراد الشواهد من كلام المنفلوطي، وما نظننا بحاجة إلى الوقوف عند(580/24)
شاهد خاص لنتبين أن هذه الخاصية تتحقق في كل ما كتب المنفلوطي كما تتحقق في المويلحي والبكري والرافعي والزيات من رجال التيار الأول، فأي كلام للمنفلوطي صالح لأن يكون شاهداً على قيام هذه الخاصية بأوضح سماتها، ومن أجل هذا ولضيق المقام تركت الاستشهاد، وأترك للدكتور أن يجيل بصره في أي صفحة مما كتب المنفلوطي - وإنه لكثير - سواء ما وضع وما ترجم وأنا واثق أنه سيجد هذه السمات التي رآها رجال التيار الأول القائمة في آثار المنفلوطي، بل سيجدها في آثاره أوضح مما هي في آثارهم، فما أكثر ما لجأ المنفلوطي في سبيل إخضاع الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، وتجويد العبارة إلى إخراج الفكرة مضطربة، والإحساس شائهاً، وأظهر ما تظهر هذه السمات فيما ترجم المنفلوطي فإنه - لجهله الأصل يترجم عنه - لا يقف في تصرفه عند حد حتى ليضل من يقرأ جزءاً من ترجمته العربية حين يحاول أن يتعرف مقابله من الأصل الأجنبي، بل كان يلجأ أحياناً إلى القصة الأجنبية فيجعل مقدماتها أعجازها، ويشيع فيها الهدم علواً وسفلاً، ويقص بعض أطرافها ويزيد في بعضها الآخر، ولا يزال مكباً عليها مسخاً وتشويهاً حتى ليعجز متبعه عن السير معه وحتى ليكاد يخفي الأصل كله عنه لولا أن يهتدي إليه من طريق آخر كالأعلام مثلاً، وما علينا إلا أن نرجع إلى ترجمته لقصة غادة الكاميليا فقد غير حتى عنوانها ثم جعلها قصتين بعنوانين، كما يظهر ذلك من الرجوع إلى مجموعته (العبرات) وهذان العنوانان يظهران حتى في فهرس المجموعة، ولو وازناً بين ترجمة القصة في آخر مجموعته والأصل الفرنسي أو بينها وبين الترجمة العربية للدكتور أحمد زكي بك لرأينا مقدار ما جنى المنفلوطي بجهله الأصل وحريته التي لا تقف عند حد - على هذه القصة الفريدة الخالدة، ولقد كان مسخه يمتد إلى كل ما يترجم حتى العناوين، وما أظن الزيات فيما ترجم - مع حرصه أيضاً على تجويد العبارة - قد اجترح شيئاً من آثام المنفلوطي لأنه يعرف الأصل ولا يترك الاتصال به في أي موضع من المواضع، وإنما اخترت الزيات لأنه باعتراف الدكتور من رجال التيار الأول
ولم يكن المنفلوطي ليكتفي في الترجمة بما تضعه اللغة العربية بألفاظها وخصائصها من عراقيل في طريقه رغم أنفه، مع أن كثيراً من ذلك يستمد معناه من البيئة الصحراوية التي نشأت فيها العربية كما يستمده من الحوادث العربية المحضة، وإنه لعبء أي عبء يحس(580/25)
به من شاء الترجمة الشفافة من أي لغة أجنبية إلى العربية، بل كان المنفلوطي يضيف إلى العراقيل السابقة عراقيله هو من التشبيهات والكنايات والمجازات والاستعارات العربية التي يستمدها من أساليب الأقدمين، وإنها لرواشم توارثها العرب لاحقاً عن سابق، وهي تمت إلى خصائص عربية بدوية وتصبغ الكلام بصبغة عربية بدوية لا تخطر إلا في بال من عاش في هذه البيئة التي نشأت فيها تلك اللغة وتلك الأساليب مما لا يتصوره ذهن غربي ولا يلوكه لسان غربي ولا يوجد في لغة غربية
أما ما كان يضعه المنفلوطي، فقد كان حرصه فيه على جودة التعبير كما يفهمها هو من حيث البلاغة العربية أكثر منه فيما يترجم؛ فقد كانت الترجمة تمده بالفكر والإحساس، فلا يبقى له إلا التعبير، أما ما وضع، فالفكر والإحساس فيه له وحده. وإنه لفكر ركيك وإحساس إما فاتر وإما حار، ولكن المبالغة فيه تبعث الإنسان على السخرية أكثر مما تبعثه على المشاركة فيه والعدوى به
يرى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن الترجمة خير محك للكلام الجميل، فالجميل في لغة جميل في غيرها، والرديء في لغة رديء في غيرها، ونحن مع ذلك نعتقد أن الكلام في نقله من لغة إلى أخرى يفقد كثيراً من جماله، ولكن الأفكار والأحاسيس يستطاع نقلها مع المحافظة على جمالها، وليس يضيع في النقل إلا جمال التعبير
فماذا على الدكتور لو أنه نقل جزءاً مما كتب المنفلوطي إلى لغة أجنبية يعرفها ثم نظر فيه بعد ذلك!
أنا واثق أن الدكتور لن يجد بين يديه شيئاً تافهاً أو لا شيء، لأن جودة التعبير هي أبرز فضائل المنفلوطي، وهي شيء يضيع أثناء النقل، فلا يبقى له إلا الفكرة أو الإحساس، وإنهما لشيئان تافهان - هذا إذا كانت هناك فكرة وكان إحساس
وقد لاحظنا أننا نتكلم عن أسلوب التفكير وأسلوب التعبير، فلنلاحظ أنه كلما كانت الفكرة أو الإحساس أو الصورة أدنى إلى السذاجة كان التعبير عنها أيسر، فإذا كان المنفلوطي أيسر فهماً من الرافعي والزيات وغيرهما؛ فمصدر ذلك أنه لا يتعمق في فكره كما يتعمقون، ولا يرهف إحساسه ويصدق كما يرهفون ويصدقون، ولا يجهد نفسه ليرتقي إلى آفاق الفكر العليا والمثل الإنسانية الرفيعة كما يجهدون ويرتقون(580/26)
والصبي إذا استطاع أن يعبر الجدول قفزاً دون أن يصيبه البلل ليس له أن يفخر على الرجل إذ يعجز عن عبور النهر إلا سباحة فيقاسي ما يقاسي في عبوره من هول الأمواج والتيارات ووحوش الماء، ولا ينال ما يريد إلا بعد أن يأخذ منه النصب كل مأخذ ويلقى من المتاعب ما لا يخطر للصبي على بال، وما على الصبي إذا يشاء للفخر إلا أن يلقي بنفسه في النهر كالرجل وسيعرف أنه ليس الجدول كالنهر
من أجل هذا نرى أن المنفلوطي ليس من رجال التيار الثاني، فلا يجوز بحال أن نرى ما رأى الدكتور من أن التيار الثاني قد ابتدأ به، ومن أجل هذا كان المنفلوطي من رجال التيار الأول، بل إنه لآصل فيه من بعض من يظنهم الدكتور أصلاء فيه، وخاصة الرافعي وعلى وجه أخص الزيات؛ فإن الزيات أدنى منه إلى رجال التيار الثاني وأشبه بهم منه
ولطالما هجم الزيات على أعقد مما اضطرب فيه المنفلوطي من المشاكل الفكرية، ومع محافظته على اطراد آرائه واتزان خطاه وصفاء فكره وخصائص شخصيته - استطاع أن يحتفظ لتعبيره بطلاوته وأناقته وإشراقه على النحو الذي يفهمه من بلاغة أسلوب التعبير في اللغة العربية، كما أبان لنا عنه في مقالاته حين تعرض للدفاع عن البلاغة
وإنه ليبلغ من بلاغة التعبير ما يريد دون أن ينسى أو ينسيك المشكلة التي تعالجها، أو يخدعك بجمال الصياغة عن الموضوع الذي يحدثك به، وما هكذا المنفلوطي؛ فإنه ليبلغ منه الحرص على جودة التعبير أحياناً مبلغاً يخرجه حتى من رجال التيار الأول المحتفظين بجمال الصياغة، مع احتفاظهم بوضوح شخصيتهم وخصائص أمزجتهم والصدق في إحساسهم والجد في تفكيرهم - ويدنيه إلى الفئة الذين كل همهم أن يخدعوك عن ثقافتهم بحلية لفظية زائفة كرجال العصور الإسلامية المتأخرة أمثال الحريري وأبن زيدون والقاضي الفاضل والوطواط وابن نباتة والصفدي وابن حبيب الحلبي والجبرتي والشرقاوي وغيرهم ممن تخلو كتاباتهم الأدبية من كل فكر جاد وإحساس صادق. ونقول يدنيه منهم ولا نقول يضعه فيهم، لأن المنفلوطي - مهما يسف - لن ينحط حتى يكون مثلهم، ولن يتهافت حتى يبلغ مبلغهم من التفاهة والسخافة والفسولة، ولكنه كثيراً ما نزق مثل نزقهم، وإن كان أرفع منهم أفقاً وأقوم فكراً وأصدق حساً. فظهر كالمشعبذ مثلهم، ولو أن شعبذته من صنف أرقى وأدق وأعمق(580/27)
المنفلوطي من رجال التيار الأول، وليس أفضل رجاله، وإن كان من أفضلهم، ونحن نظلمه حين نخرجه عن أشباهه إلى غير أشباهه؛ فلنضعه حيث وضعه الله ووضعته ملكاته ومؤهلاته وتربيته وثقافته، وبهذا نوفيه حقه ونعرف له فضله، وإنه لفضل عظيم. . .
ووداعاً يا سيدي الدكتور إلى أن نلتقي في مقال آخر نجيب به عن هذا السؤال: آلمنفلوطي - كما قلت أنت - الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر؟
وإليك مني خالص تحياتي وتجلاتي
(سمالوط)
محمد خليفة التونسي(580/28)
3 - فساد الطريق
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
سوء فهم
من عجيب عيوب الكتاب سوء فهم صاحبه لنصوص تعرض لها؛ فإن أقل ما ينتظر من أديب متخصص إلا يخطئ معنى نص إن عرض له في بحث؛ فإذا هو أخطأ كما أخطأ صاحب الكتاب كان ذلك دليل نقص في الفهم أو الفكر أو نقص في الإخلاص للحق الذي زعم أنه يبحث عنه. ونحن موردون لهذه الظاهرة في الكتاب أمثلة شتى تختلف في أهميتها وتتفق في دلالتها
وأول ما نذكر من ذلك موقفه من الآية الكريمة: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لأرتاب المبطلون)؛ فقد احتج بها لنفسه على المسيو مرسيه، كما سبق أن أشرنا في بعض ما سبق من الكلمات. المسيو مرسيه ينكر إنكاراً مطلقاً أن يكون في العصر الجاهلي نثر فني أو مؤلفات نثرية، وصاحب الكتاب يزعم أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية. وحجة المسيو مرسيه أنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها، كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم. وحجة زكي مبارك أن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنها كانت موجودة، وأن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي، فيتهم بتلفيق القرآن مما قرأ فيها (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) كما يستشهد صاحب الكتاب
والآية الكريمة لا تدل على شيء مما ذهب إليه زكي مبارك لأن الحجة فيها تصدق بأمية الرسول صلوات الله عليه مع عدم وجود الكتب، كما تصدق بأمية الرسول مع وجود بعض الكتب. ووجود بعض الكتب يصدق بوجود التوراة التي كان معروفاً أنها موجودة، وحاكم الرسول أهل الكتاب إليها في أكثر من حادثة. فاستشهاد صاحب النثر الفني بالآية على وجود كتب دينية وأدبية لعرب الجاهلية تعسف وتصيد للدليل. فهو قد جرى مع الهوى إن كان قد فهم الآية، وهو لم يفهم الآية إن كان لم يجر مع الهوى. وقد كان واجباً عليه إن كان(580/29)
يبحث للحق لا الهوى أن يقارن هذه الآية بأمثالها من القرآن ليفسر بعضها ببعض، ولينظر هل تنصره الآيات الأخرى فيما ذهب إليه؛ ولو فعل لواجهته آيات عدة كلها تشهد ضده: مثل قوله تعالى (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)
وقوله تعالى: (ايتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين)
وقوله تعالى: (أم لكم سلطان مبين. فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين)
وقوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون)
وقوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير)
فهذه كلها آيات تدل على عكس ما فهم زكي مبارك من الآية التي استشهد بها من سورة العنكبوت وأخطأ فذكر أنها من سورة القصص؛ والآيات التي أوردناها تتدرج في تعميم النفي، نفي ما ذهب إليه زكي مبارك حتى لا تدع الآيتان الأخيرتان منها عند المسترشد بالقرآن شكا في أن الجاهليين لم يكن لديهم كتب تدرس في الدين أو في الأدب. وهذا يتفق مع وصف الله إياهم بالأميين في قوله سبحانه من سورة الجمعة: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)؛ كما يتفق مع الحديث الصحيح: نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. فهذه كلها نصوص تشهد على صاحب النثر الفني أنه لم يفهم آية سورة العنكبوت، وتتركه كالسفينة على اليبس ليس له إلى ما يريد من سبيل
هذا مثل من سوء فهم صاحب الكتاب وفساد طريقته، أو من عجزه حين يتطلب منه البحث شيئاً من التحقيق. ومثل آخر هو أعجب من هذا وأقبح، موقفه من آية أخرى، آية سورة هود. فإنه بعد أن أبدأ وأعاد في أن القرآن من جنس كلام العرب وجوهره ومعدنه، لا يمتاز - زعم - بالأسلوب ولكن بقوة المعنى وقوة الروح، أراد أن يفسر لماذا لم يأتوا بشيء من مثله فقال:
(القرآن نفسه فصَل في هذه المسالة حين قال (فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). فلتتأمل جيداً عبارة (إن كنتم صادقين) ففيها الجواب كل الجواب. وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم وزعيمهم وسيدهم محمد بن عبد الله الذي صدقت كلمتهم فيه قبل(580/30)
نبوته حيث لقبوه بالصادق الأمين؟)
وهذا الكلام من صاحب الكتاب فيه أكثر من عجيبة واحدة فإن قوله: (زعيمهم وسيدهم الخ) خلط بين حال النبي بعد فتح مكة وحاله قبل فتحها، قبل الهجرة؛ فإن الآية التي ذكر من سورة هود، وسورة هود مكية أي نزلت قبل الهجرة. ولم يكن عدد المسلمين قبل الهجرة يزيد على بضع مئات إن كان بلغها، فلم يكن للنبي صلى الله عليه زعامة على أهل مكة بله العرب إذ ذاك ولا سيادة. فصاحب الكتاب إما أن يكون على جهل بالآية متى نزلت، وإما أن يكون أراد اتقاء التهمة عند الناس
وفي قوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم الخ) عجيبة أخرى، لأن فيه إشارة خفية أو ظاهرة إلى أن محمداً وصل إلى القرآن من نفسه بصدقه الذي عرفوه فيه قبل نبوته، ولما لم يكونوا مثله في الصدق لم يستطيعوا أن يأتوا بقرآن كقرآنه، ولو كانوا مثله في الصدق لاستطاعوا. وإذا كان العرب جميعاً لم يكونوا على مثل صدق محمد قبل نبوته، فليس من الممتنع عقلاً أن يكون بعضهم كان على مثل صدقه ذلك. فكلام صاحب الكتاب هذا يترك الباب مفتوحاً لإمكان إتيان بعض العرب بمثل القرآن، من غير أن يفسر لماذا لم يأت ذلك البعض بمثله
ولا يتبين ما وراء هذا الكلام لصاحب الكتاب إلا إذا قورن بقوله من مناظرة له في كلية الآداب: (فيكم من قرأ القرآن وفيكم من قرأ التوراة وفيكم من قرأ الإنجيل. . . وهل فيكم من ينكر أن من أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟ ولمن توضع قواعد التشريع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال) وفي قوله: (إذا اطمأن الأنبياء) الدليل كل الدليل إلى رأي صاحب الكتاب في قواعد التشريع في القرآن والتوراة والإنجيل هل هي من وضع الأنبياء أو من عند الله. ومن هنا يتبين ماذا أراد بقوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء) إلى آخر ما قال تفسيراً لعدم استطاعتهم الإتيان بمثل القرآن
على أن همنا الآن ليس هو العودة إلى تبيان رأي صاحب الكتاب في القرآن لمن هو؛ فهذا إنما جاء عرضاً، ولولا ما جاء متعلقاً به في الشاهد الذي أوردناه من كلام صاحب الكتاب ما عرجنا عليه. إنما همنا أن ندل على عجيب سوء فهم صاحب الكتاب للآية التي أورد(580/31)
بعضها من سورة هود. وسوء فهمه يتجلى في حَمله (إن كنتم صادقين) في الآية الكريمة على الصدق الخلقي لا على الصدق الإخباري في قول خاص قد قالوه، كما يتجلى في زعمه أن في هذه الكلمات الثلاث، بهذا المعنى وعلى هذا الوجه، الجواب كل الجواب على سؤال السائل: لماذا لم يأت العرب بمثل القرآن وهو من جنس كلامهم، لا يمتاز عنه بأسلوب، ولكن بقوة المعنى والروح. ونعفي الامتياز في الأسلوب يستلزم طبعاً نفي الامتياز بقوة الروح، كما أن إثبات قوة الروح يستلزم إثبات قوة الأسلوب لو كان صاحب الكتاب يعرف مظهر قوة الروح في الكلام. لكنه مشغول عن كل هذا بظنه أن المسألة مسألة صدق معنوي روحي فحسب، فلو صدق العرب مثل صدق محمد لجاءوا بمثل القرآن. وهذا طبعاً يترك الباب مفتوحاً للإنسانية في مستقبل الزمن وحاضره أن تأتي بمثل القرآن إذا وجد فيها من يبلغ من الصدق المبلغ المطلوب!
ولسنا ندري كيف خفي على الرجل أن الصدق على هذا الوجه يفسد النص الذي ذكره من الآية الكريمة، ويدخل عليه من الخلل والتناقض ما لا يخطر ببال، إذ يصير معنى ما اقتضب من الآية هو: فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كان خلقكم الصدق في القول والعمل! وواضح أن فعل الشرط هو مدار التعجيز لعدم توفره فيهم، ولو توفر لاستطاعوا أن يأتوا بما طلب منهم أن يأتوا به. فيكون المعنى على فهم صاحب الكتاب أنهم لو كانوا على خلق من الصدق، وطبع من محبة الحق والبصر به، لاستطاعوا أن يفتروا عشر سور من مثل القرآن! وما دام الصدق المشروط قد توفر في محمد إلى حد لم يتوفر فيهم، فمحمد استطاع أن يفتري كل القرآن على فهم صاحب الكتاب. ونعوذ بالله من الخذلان!
طبعاً لم يفصل القرآن في الموضوع هذا الفصل المطابق لفهم زكي مبارك أو الموافق لوحي شيطانه. وإن فهماً يخرج المحكم من القول عن إحكامه هذا الإخراج لهو فهم مختل بالغ الاختلال. وإذا قرأت الآية تامة، لا كما ابتسرها لك زكي مبارك لغرض في نفسه وجدت المعنى نيراً واضحاً لا عوج فيه، والحجة مستقيمة ملزمة لا خلل فيها
إن الآية هي: (أم يقولون افتراه، قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). والتلميذ المبتدئ إذا قرأ الآية تامة هكذا يدرك حالاً أن (إن(580/32)
كنتم صادقين) معناها إن كنتم صادقين في قولكم إن محمداً افتراه، لا كما زعم هذا الباحث المتخصص من أن معناها إن كنتم مثل محمد مطبوعين على الصدق مفطورين على محبة الحق
والفرق بين المعنيين هو الفرق بين الحق والباطل، وبين النور والظلمات. ألا ترى أن ظاهر الآية الذي لا يمكن أن يخفى حتى على المبتدئين هو أن صدقهم في دعواهم يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم كاذبون في رميهم النبي بافتراء القرآن على الله؛ في حين أن ما فهمه زكي مبارك الأديب البحاثة مؤداه أن تخلقهم بالصدق يستلزم مقدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم مفطورون على الكذب. كأن خلق الكذب والعجز عن افتراء القرآن متلازمان، كما أن خلق الصدق والقدرة على افترائه متلازمان كذلك! وقد شهد صاحب الكتاب للنبي بالصدق فطرة وسجية، فقد شهد له إذن بالقدرة على مثل القرآن، أو بالأحرى شهد عليه - حاشاه صلى الله عليه - أنه افترى القرآن على الله كما هو لازم منطق الآية في فهم صاحب الكتاب!
لقد جئنا بالآية مثلاً على النقص البالغ في مقدرة صاحب الكتاب على الفهم، فإذا بالتحليل المنطقي لفهم صاحب الكتاب للآية يؤدي إلى أن صدق محمد يقتضي في رأي صاحب الكتاب أن يكون القرآن لمحمد افتراه على الله. وخسئ صاحب الكتاب وخسر أي الوجهين فضل أو أي النتيجتين اختار
هذا عجب من سوء فهم صاحب الكتاب لآيتين من كلام الله، وسترى عجباً من سوء فهمه لبعض كلام الناس
محمد أحمد الغمراوي(580/33)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ بشر فارس
قدمت لك رسالتي في (الإسلام والفنون الجميلة)، وكان جميلاً منك أن عرفت بها قراء المقتطف، ولكن الذي تولى عنك التعريف - في عدد يونيو سنة 944 ص83 - لم يلتزم جانب الصدق في مهمته، بل راح يتهمني في جرأة غريبة بخيانة الأمانة العلمية، فكتبت إليك لترد الحق إلى نصابه وطلبت إليك أن تنشر ردي، كما نشرت من قبل كلمته كما يقضي بذلك العدل والمنطق السليم، ولكنك لم تفعل، فلا نشرت خطابي كما هو، ولا كنت أميناً في تلخيصه كما ينبغي، بل اخترت - أو اختار صاحب الإشارة - منه فقرات لا تصور رأيي على حقيقته، واستباح لنفسه أن يرد على ذلك الذي اختاره من خطابي، واستبحت لنفسك أن تنشر رده لتوهم القراء أنه رأيي وما هو من رأيي في شيء. وبعد، فقد تفضلت مجلة الرسالة - منبر الحق - فأفسحت لي من صدرها مكاناً أنشر فيه خطابي ' إليك الذي أبيت نشره ثم أعقب على الرد الذي ظهر في عدد يوليو سنة 944 من مجلة المقتطف
أما خطابي فنصه:
القاهرة في 21 يونيو سنة 1944
سيدي المحترم الأستاذ بشر فارس
قرأت اليوم في مجلة المقتطف كلمة عن كتيبي (الإسلام والفنون الجميلة) وإنني لأشكر لك عنايتك بتلك الرسالة الصغيرة، ولشد ما كنت أحب أن أقف عند حد هذا الشكر لا أتعداه، لولا أنك يا سيدي لم تكن موفقاً في اختيار الناقد الذي عهدت إليه بنقد تلك الرسالة وتعريف القراء بها، وأغلب الظن أن ناقدك المحترم ليس من الاختصاصيين في موضوع الرسالة بدليل أنه لم يستطع صبراً على قراءتها على صغر حجمها، ولم ينفذ إلى ما تضمنته من آراء حتى يناقشها ليهدمها أو يعدلها أو يؤيدها أو يأتي في الموضوع بجديد، لا سيما والبحث حديث لم يتجاوز الذين كتبوا فيه عدد أصابع اليد الواحد، كما ذكرت في المقدمة
وناقدك المحترم، يا سيدي، كذلك ليس من أهل النظر وأعداء الهوى كما تريد له أن يكون، فلقد أثبت بما كتبه أنه وقف عند الصفحة الثالثة من الرسالة التي تتضمن ثبتاً بالمحتويات(580/34)
ولم يتجاوزها إلا إلى الصور ليلقي عليها نظرة عابرة، وليته قرأ هذه الصفحة الواحدة بإمعان، بل تسرع فأخطأ في نقل بعض ما بها. إذ ذكر في نقده (النقابات المساعدة) وحقيقتها (النقابات الإسلامية)، وهو بعد هذا لم يفطن إلى الصفحات الثمانية التي لخصت فيها البحث باللغة الإنجليزية، فلم يشر إليها ولم تدخل في حسابه الذي توج به نقده إذ ذكر أن صفحات الرسالة 32 (كما هو وارد في الصفحة الثالثة) بينما هي في الحقيقة 40 صفحة، وأما الصور، فإن نظرته السريعة إليها قد دفعته إلى الظن بأنني اكتفيت بتلك الكلمة التي قصدت بها إيضاح الفكرة، فحسب، وجعلته يسارع في اتهامي بما أحرص عليه أشد الحرص، ولو كان حضرته حريصاً على الأمانة العلمية حرصي عليها لقرأ الرسالة كما يقرأ القاضي النزيه أوراق القضية قبل الحكم فيها، وعندئذ يجد أنني ذكرت في الصفحة السابعة والعشرين أسماء الكتب التي نقلت عنها الصور وأسماء مؤلفيها. بقيت مسألة أسف حضرة الناقد، لأنني نقلت إحدى عشرة صورة بحجمها من كتب نشرت قبل الآن، ثم أمنيته في أن أعنى بنشر صور جديدة، وفي الحق إنني لآسف له، راثٍ لحاله إذ كشف عن سطحيته إن صح هذا التعبير، لأنه لو كان قرأ البحث وأدركه حق الإدراك لوجد أنه يدور حول موقف الإسلام من الفنون الجميلة، وبيان هذا الموقف لا يتطلب أكثر من توضيح الفكرة بأي وسيلة إيضاح ميسورة، فمن الإسراف حقاً ألا يستفيد الإنسان من (كليشيهات) أنفقت الدولة على صنع معظمها، طالما أن ذلك لا يؤثر في جوهر الموضوع ويكشف عن الفكرة بجلاء. ولو كان البحث في الفنون الجميلة نفسها لكان الناقد على حق في مطالبته بصور جديدة، لأن المقصود عندئذ يكون ببيان الفن وتنوعه لا بيان الفكرة الكامنة وراءه
وبعد فإنني أعتقد أن من حقي عليك - يا سيدي الأستاذ - ومن حق المكانة العلمية السامية التي تتمتع بها مجلة المقتطف، بل ومن حق الأمانة العلمية التي تشدق بها حضرة ناقدك المحترم ونسيها في تقده أن تنشر هذه الكلمة في نفس الموضوع الذي نشرت فيه نقده في أول عدد يصدر من المجلة لترد الحق إلى نصابه. ولك مني بعد ذلك أطيب التحيات وخالص الاحترام
محمد عبد العزيز مرزوق(580/35)
وأما تعقيبي على الرد الذي نشر في عدد شهر يوليو سنة 944 ص190 من المقتطف فهو أنني ما زلت أعتقد من (صاحب الإشارة) ليس من الاختصاصيين في موضوع الرسالة، ولا يستطيع أن يستر دعواه بقوله إنه (لم ير مجالاً لمناقشة الآراء وإنها على حسن عرضها ليست على خطر ولا جدة). ولو كان حقاً من رجال هذا الموضوع لناقش ولو رأياً واحداً من الآراء الكثيرة التي تضمنتها. على أنني لا أعيب عليه هذا قط ولا أطالبه بأن يكون من الاختصاصيين، وإنما أطالبه بأن يكون أميناً في التعريف بما يتصدى له من كتب وأبحاث، مخلصاً فيما يتولاه من هذا العمل، مدققاً فيما يصدر عنه من أحكام، لا سيما إذا كانت تمس الآخرين. وأما قصة (الكليشيهات) فأظنه قد عز عليه أن يعود، إلى الحق مع أن الرجوع إليه - كما يعلم - من أعظم الفضائل. فعندما وضعت إصبعه على المكان الذي يرى فيه جلياً أنني شديد الحرص على المادة العلمية راح يستر تراجعه بقوله: (بل أريد المصدر تحت الصورة)، ومع أنني فعلت هذا فعلاً عندما نشرت البحث في مجلة الرسالة (راجع العداد 534، 539، 541) إلا أنني لم أشأ أن اشوه جمال الصور في كتابي بذكر مراجعها ووصفها على نفس الورق المصقول تحت الصورة بل آثرت تحقيقاً للذوق الجميل أن أجعل وصف اللوحات ومراجعها في مكان واضح في الكتاب لا يخطئه إلا مهمل أو مغرض، وكلاهما لا يقام لحكمه وزن.
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية
ويل للفلسفة من الناس!
يظهر أن القدماء كانوا على حق حين قال قائلهم: (لا تذيعوا الحكمة بين غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم). وقد كنت إلى حين قريب أجهل قيمة الشطر الأول من هذه الحكمة، حتى ورد إليّ خطاب غريب من أديب لا أعرفه، يتهمني فيه بالكفر والإلحاد (بطبيعة الحال)، ويسفه فيه بعض آرائي (الفاسدة المضلة)! وإنما أعترف لهذا الأديب الفاضل بأني قد أخطأت وأسأت، ولكنني أرجوه أن يعرف أن الكلمة من صاحبها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها. فإذا كانت كلمتي الأخيرة تنطوي على شيء من(580/36)
هذا الذي توهمه أديبنا الفاضل، فلعله مما يشفع لي أن أكون قد أسأت التعبير، أو أن يكون هو قد أساء الفهم! وليطمئن صاحبنا الهمام، فإنه لن تكون لنا رجعة إلى هذا الموضوع بعد اليوم. . .
زكريا إبراهيم
حاشية: كنت قد وعدت الأستاذ الفاضل دريني خشبة بأن
أعرض لنقد ابن تيمية، وأعقب على اعتراضاته في كلمة
أنشرها بالرسالة، ولكن يظهر أن المجال لا يتسع لذلك، فضلا
عن أن الوقت لم يحن بعد للكلام في مثل هذه المسائل عندنا،
فأرجو المعذرة؛ وعسى أن أرسل البحث بأكمله للأستاذ
الفاضل حتى يطلع عليه. . .
(ز. إ.)
إلى الدكتور محمد مندور
ذكرتُ في مقالي (حول بعث القديم) في عدد الرسالة 577 خمس ملاحظات لاحظتها على مقالك (بعث القديم)، ولما تناولت عدد الرسالة الأخير وجدتك قد نشرت رداً لم أفد منه إلا أنك أحياناً تتخلى عما يليق بالعلماء إلى ما لا يليق. فقد بدأت ردك بأنك تظن أني طالب ثم جزمت بأني طالب. ولست أدري أولاً ماذا يعنيك إن كنت طالباً أم لم أكن، ولست أدري ثانياً ماذا حملك على الاتجاه إلى شخصي ولم أتقدم إليك إلا برأيي
لقد واجهتُك بخمس ملاحظات فانظر كيف أجبتَ عنها لقد تركتَ الرد على ثلاث ملاحظات لاحظتها عليك لم تتعرض لها لتوقع في وهم القراء أنك أفحمتني بما أجبت عنه وذلك ما لا أرضاه لك، فلتجب عنها إن كنت تستطيع.
وقد تعرضت لملاحظتين: إحداهما تاريخ الطباعة في مصر في عهد محمد علي، وقد لجأت(580/37)
في تعرضك لها إلى المراوغة والطعن، ثم قلت إن الكتب التي بين يدي كاذبة، ولن تأت ببرهان كعادتك
والملاحظة الثانية قد رجعت فيها إلى رأيي، وهو أن جمعية المعارف ومطبعتها اللتين أسسهما المويلحي ترجعان إلى سنة 1867، لا كما قلت أنت بأسلوب المراوغ المكابر إنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860، وقد اعتمدتُ أنا على ما ورد بنصه في كتاب (الإسلام والتجديد) للدكتور تشارلز آدمس، وقد أشرتُ إليه في هامش ردي، ومع ذلك تزعم أن هذا المصدر مدرسي. ففي أي مدرسة في مصر يدرس هذا الكتاب؟ وإن جورجي زيدان الذي استشهد برأيه يؤيدني ولا يؤيدك
ثم زعمت كذباً عليّ أني أوافقك في أن رفاعة الطهطاوي بعث القديم بحكم ثقافته المستنيرة وأنا لم أقل ذلك، ولكنني قلت اعتماداً على أستاذك وأستاذي أحمد أمين بك وهو يترجمه إن رفاعة كان مقلداً المستشرقين ده ساس وكوزن في بعث القديم، ولقد نسيت أو تناسيت المصادر، وما كان لك أن تنسى المصادر ولا أن تتناساها، وذكرت أسماء بروكلمان وشيخو وزيدان والرافعي، ولم تذكرت ما يؤيدك. فهل تريد أن تقول إنك قرأت ما قالوا في ذلك وكفى. إن يكن ذلك فما تعرضنا لك فيه.
(سمالوط)
محمد خليفة التونسي(580/38)
العدد 581 - بتاريخ: 21 - 08 - 1944(/)
من قراءتهم تعرفونهم
للأستاذ عباس محمود العقاد
بين المطالعة والتدخين مشابهة قريبة في خصلة واحدة، وهي أن المدخن الأصيل في ذوق التدخين يستطيب صنفاً واحداً من التبغ لا يساوي به صنفاً آخر. بل قد يتساوى لديه الإقلاع عن التدخين بتة وتدخين صنف آخر غير الذي تعوده واستراح إليه
وكذلك القارئ المطبوع، يتوشج مزاجه على صنف واحد من القراءة يوائمه ويتصل النسب بينه وبين عقله وخلقه وهواه. فإذا عرفت الكتاب ومؤلفه عرفت القارئ ومزاجه، أو عرفت على الأقل أن إقباله على طراز آخر من المؤلفين بعيد، وأن اعتكافه على نمط آخر من التأليف عجيب
وكل قارئ بينه وبين مؤلفه وكتابه نسب في الذهن وصلة في الموضوع؛ فهو القارئ الذي يقرأ بقلبه ويعيش في صفحات كتابه، وليس بالقارئ الذي يعبر الصفحات والساعات للتسلية وتزجية الفراغ، ثم ينسى ما كان فيه وينتقل منه إلى نمط آخر من التواليف بينه وبين النمط الأول مسافة شاسعة في عالم الفهم أو الشعور
ويصدق هذا المعنى على قراء الشعر والقصة وما إليها من مبدعات الحس والخيال، ولكنه أقل من ذلك صدقاً على سائر الموضوعات
ذكرت هذه الحقيقة حين قرأت في أنباء الغزو في نورمندية أن القائد المعروف في مصر (برنارد مونتغمري) يقضي أوقات فراغه بالميدان في قراءة روايات القصصي الإنجليزي المشهور أنتوني ترولوب
قال المراسل الذي وصف الغزو: (وكان كل يوم ينقضي يزيد التوتر في ديوان القيادة العليا لقوات الحملة المتحالفة. ولكن الجو كان جو سكينة في المقر الشخصي للقواد، وترك مونتي لمرءوسيه الأعمال التفصيلية التي يمقتها، وعكف على مؤلفات أنتوني ترولوب وهو آثر كاتب عنده)
ورسالة كبيرة في ترجمة القائد العبقري لا تنم على أخلاقه ومزاجه وميول نفسه. كما تنم عليه هذه الأسطر القليلة، أو هذه الحقيقة العابرة، وهي ولعه بترولوب وتفضيله إياه على أبناء جيله، ومن خلفهم من القصاص وكتاب الروايات(581/1)
فأنتوني ترولوب قبل كل شيء كاتب القرية (البسيطة)، ولا سيما قرى الريف الأيرلندي حيث قضى (مونتي) أوائل صباه. وهو كذلك كاتب المعيشة الدينية الصادقة، فقلنا تخلو له قصة من ظل الكنيسة ومعيشة الورعين الأتقياء من رجالها واللائذين بجوارها. ويغلب على قصصه كلها جو السلامة الفطرية مع شيء من البداهة ومسحة من الشظف والخشونة. وإذا مس الناحية السياسية فهو يمسها من جانب التعميم، لا من جانب التحيز البغيض والعصبية الممقوتة
ومن خصائصه التي يمتاز بها بين معاصريه حاسة الواجب أو الضمير الصراح، وتشمل هذه الحاسة نساء رواياته، كما تشمل الرجال البارزين فيها. فيوشك أن ينعقد كل زواج في رواياته على الشعور بالواجب والوفاء دون المتعة والهوى، وتقضي المرأة بقية العمر شقية بهذا الواجب في مصارعة الغواية أو دفع الفكر والمصلحة
وتقترن (حاسة الواجب) بالصرامة التي تلازمها في أصحاب هذه الحاسة اليقظى، وإن كانت صرامة يمازجها الذكاء والتصرف والطبع المستجيب
أما أسلوبه في شرح وقائعه ووصف مناظره فهو أسلوب التفصيل الدقيق مع التشويق والإحاطة، وفيه ملكة يصح أن نسميها بالملكة (الطبوغرافية) إذا أردنا أن نقرن بينها وبين الملكة العسكرية
ويشع في رواياته جميعاً بريق من التهكم الطيب الرفيق الذي لا وخز فيه ولا ضغينة، وكثيراً ما يرسل هذا التهكم الخفي على خلائق من صنيع خياله الصادق وديدنهم الجد وصعوبة المراس والغلظة الريفية، ولكنه إذا تخيلهم فإنما يتخيل في وصفهم ذلك التخيل (المضبوط) الذي لا يخرج بهم عن الواقع المحسوس
تلك جملة الحقائق التي عرف بها الكاتب الدؤوب الموهوب؛ وحسبك من صفاته الخلقية - إلى جانب صفاته الأدبية - أنه كان يدأب على التأليف وهو مقيد بأعمال وظيفية في مصلحة البريد، فلا يقصر في التأليف ولا يقصر في تلك الأعمال
وكلا الكاتب والقارئ إذن عنوان صاحبه في جملة هذه الخلائق والطباع. فترولوب هو الكاتب (المنتقى) لمونتغمري، ومونتغمري هو القارئ المنتقى لترولوب
فالقائد الموهوب الدؤوب قد نشأ في بيئة دينية مشهورة بالتقوى والبساطة، وصحب الجنود(581/2)
والضباط فلم تغيره صحبتهم عن هذه الخليقة الموروثة معاً في أبيه وأمه. فجاوز الخمسين وهو لا يدخن ولا يقرب الخمر ولا يحيد عن سنن الدين. وأخذ مرؤوسيه باجتناب الخمر والتدخين من طريق غير طريق الأمر والنهي اللذين لا يفيدان، فكان يكلف جميع رجاله وضباطه بالعدو في كل أسبوع شوطاً يبلغ سبعة أميال. ولا صبر للمدخن ولا لمعاقر الخمر على هذا الشوط ولو مرة في كل أسبوع
وصرامته في خلقه وحاسة الواجب عنده خصلتان من أشهر خصاله بين رؤسائه ومرءوسيه، فهو إذا جد لا يهزل وإذا عزم لا ينثني. ومن أقواله لجنوده في دنكرك: (إذا نفذت ذخيرتكم فمزقوا العود إرباً إرباً بأيديكم) ولم يكن يعني غير ما يقول
ومن مزايا مونتغمري في قيادته أنه عظيم العناية بالأرض ومواقعها قبل تطبيق خطط القتال عليها. ولعله لم ينس هذه العناية العظيمة في إعجابه بكتابة ترولوب. فإن وصف ترولوب لمواقع أرضه ووصفه لخلائق رجاله ونسائه كلاهما وفاق الرغبة من سليقة هذا الجندي الموهوب
ٍفإذا قال القائلون: من كلامهم تعرفونهم، فهم حريون أن يقولوا مثل هذا القول عن القراء وعن الصلة الخلقية بين المؤلفين والقراء المطبوعين. وكان إنسان يعرف الجسد خلقاً وعادة فهو قارئ مطبوع يقرأ بفؤاده وعقله ومزاجه، لأنه يأنف أن يضيع الوقت في تسلية خاوية لا تنفذ منه إلى مكامن الفهم والشعور
ولهذا ينبغي فيما نرى أن تكون مطالعات العظماء باباً من الأبواب الأولى التي لا يغفلها المترجم ودارس الأخلاق، لأنهم سواء قرءوا للجد أو للتسلية ينكشفون للمترجم ودارس الخلاق فيما يقرءون
وهناك حقائق شتى تنكشف من مطالعات العظماء، ولا سيما في ميادين الحرب إبان القتال
فأول ما يخطر على البال حين يقال إن قائداً من قادة الحرب يقرأ في ميدان القتال أنه يقرأ في كتب التعبئة أو الفنون العسكرية أو سير القواد وأخبار الوقائع والغزوات
ويجوز أن يحدث هذا في الحين بعد الحين، ولكنه إذا حدث فهو الاستثناء النادر، وليس بالقاعدة العامة في أكثر الأحيان
لأن القائد لا يتعلم خططه ساعة القتال، ولا يتمم دروسه وهو بين السيوف والنيران، ولكنه(581/3)
يقرأ ما يقرأ في ساحة الحرب كلم فرغ من واجبه وخلا بنفسه وأحب الخروج هنيهة مما هو محيط به ومطبق عليه، وهو في هذه الحالة يختار للقراءة غير ما هو مشغول به مستغرق فيه، ليظفر بما يبتغيه من الترفيه والترويح، ويحتسب القراءة من الرياضات النافعة التي تنسيه جهود العمل ومضنياته إلى حين
ومن قواد هذه الحرب الذين عرفوا بالقراءة في ساحات القتال أو في طريقهم إلى الغزو كل من القائدين ويفل وإيزنهور فكان ويفل يقرأ في طريقه إلى الحبشة مسرحية من مسرحيات شيكسبير، وكان يقضي أوقات فراغه بمطالعة الدواوين الشعرية لمختلف الشعراء، ومن جملة هذه المطالعات جمع تلك النخبة الطريفة من الأشعار التي سماها: (أزهار أناس آخرين) وكتبنا عنها في الرسالة منذ أسابيع
أما إيزنهور فقراءته المحببة إليه روايات التحليل النفسي وحوادث المفاجآت التي تجري في حياة الغرب من القارة الأمريكية، وكلاهما مما يقع في الخاطر أنه محبب إليه وأثير لديه
وخليق بهذه الملاحظات أن تحضر أبداً في إخلاد أولئك الدعاة المتحذلقين الذين يصطنعون الغيرة على الطبقات الفقيرة أو الطبقات العاملة وهم من أجهل الناس بما يصلح لتلك الطبقات
فمن حذلقتهم في هذه الدعوة - أو هذه الدعوى - أنهم يفرضون على الفقير أين يعيش في عالم الخبز والضرورة ساعة العمل وساعة المطالعة وساعة الرياضة النفسية، إن اعترفوا بشيء يسمى الرياضة النفسية
وذلك محض خطأ وضلال عجيب؛ لأن المرء إنما يقرأ للثقافة أو للرياضة والتسرية عن البال، وليس من والتثقيف أن يتحول الكاتب إلى رغيف، وليس من الرياضة أن يحلم المرء بالجهود والضرورات، وهو لا ينشد الرياضة إلا لفرط اشتغاله بتلك الجهود والضرورات
وإنها مع هذا لمهانة وليست بالخطأ وكفى. لأن الذين يطلبون التسوية بين الطبقة الفقيرة وغيرها من الطبقات لا يجمل بهم أن يسجلوا على الطبقة الفقيرة عجزها عم مجاراة غيرها في مذاهب الفهم والتخيل والشعور المهذب والمطامح الآدمية، ولا ينصفون عقول الفقراء(581/4)
حين يمثلونها في صورة المعدات والبطون التي لا تحلم ولا تفكر ولا تقضي العمل والفراغ إلا للطعام وبالطعام
ومن شأن الطبقات التي يصمها الأدعياء بتلك الوصمة أن تنصف سمعتها من أولئك الأدعياء
ولكن الإنسانية - كائناً ما كان رأى الأدعياء والطبقات في هذه الأمور - هي أكرم على نفسها من أن تعيش أبداً في (المطبخ الحاضر) الذي لا ماضي له ولا مستقبل له إلا بين القطن والبرسيم والقمح والشعير، وإحصاء الموازين والمكاييل
عباس محمود العقاد(581/5)
مسائل في وحدة الوجود
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كتب كاتب فاضل من بغداد بتوقيع (صدقي حمدي) في العدد 579 من الرسالة كلمة يعقب بها ببعض المسائل على مقالي في نقض مذهب وحدة الوجود المنشور بالعدد 573. قال: (والذي يلفت النظر لأول وهلة قول الأستاذ في مستهل مقاله إنه اهتدى إلى دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون). ومذهب الواحدية أو وحدة الوجود من أقدم المذاهب الفلسفية في العالم وأشدها إثارة للجدل، ويكفي لإدراك خطره في تاريخ الفلسفة الحديثة أن نذكر الفيلسوف الكبير (سيبنوزا) الذي يعد من أساطين هذا المذهب في العصر الحديث، ومن أعظم الداعين إليه بالقول والعمل) إلى أن قال: (فلا يصح إطلاق القول فيه بغير حجة أو برهان)
وإني ما أنكرت أن يكون لهذا المذهب تاريخ طويل ومعتنقون كثيرون من الفلاسفة والصوفية القدماء والمحدثين، وما أطلقت القول في نقضه بغير حجة أو برهان، وإنما سقت ما اهتديت إليه واعتقدته دليلاً حديثاً كافياً في دحض هذا المذهب، وسواء عليّ بعد ذلك أكان محيي الدين بن عربي وسيبنوزا وهيجل وغيرهم من معتنقيه أم من مخالفيه. فمن شاء فليأخذ هذا الدليل الذي سقته من حقائق الحياة العلمية الحاضرة ويستأنس به في بحث العلاقة بين الله والكون ويرفض على ضوئه مذهب الوحدة، ومن شاء فليتركه على شرط أن يأتي هو بدليل
ومن الواجب أن أذكر أنني كنت أثناء التفكير في مقالاتي عن الإيمان بالإنسان يحوم فكري كثيراً حول مذهب الوحدة، ويكاد يقبل عليه تحت ضغط الإعجاب والتقدير للروح البشري الخالق والجهد العلمي الأخير الذي سلك الإنسان في عداد قوى الخلق والتكوين والإنشاء التي يدير الله بها الكون المادي في الأرض. . . فلم يكن من المستبعد في الوهم حينئذ أن أنزلق بفكري إلى الأخذ بهذا المذهب الذي يجعل الإنسان جزءاً من الخالق الأعظم ومظهراً للوجود الكلي قائماً به
ولكن هذا الدليل قضى في نفسي على بوادر التفكير والتوجه إلى هذا المذهب الذي لا يكاد معتنقه يتماسك أمام نفسه وأمام الكون قلقاً وحيرة حين يختلط في فكره شعوره بأنه جزء من(581/6)
الخالق، وشعوره بأنه مخلوق عاجز، وحين ييأس من أن يرى الله بنفسه مع أنه جزء منه، وحين يظل فكره دائراً حائراً في متاهات السموات والأرض يبحث عن (مصدره الأول) فلا يراه إلا في المظاهر المادية التي كان يراها نفس الرؤية قبل اختلاطه وشعوره بازدواج الشخصية بين خالق ومخلوق وخالد وفانٍ. حينئذ يبتدئ ينشد لنفسه ويغني على هواها باعتبارها جزءاً من الله، كالحلاج وابن عربي. وهنا ابتداء التجديف و (الجنون الديني) والبيان الملتبس الذي تختل فيه مقاييس المنطق الإنساني، لأنه يصير خليطاً من منطق الخالق المتوهَّم والمخلوق الواهِم. . .
ومذهب الحلول ومذهب الاتحاد أو الوحدة غالباً يكون اللجوء إليهما بعد الإعياء في البحث عن الله وابتغاء رؤيته والاقتراب منه والأخذ عنه مباشرة، وما ينبغي لأفكارنا المحدودة العاجزة الرهينة المسجونة في أقفاص الأرض الضئيلة بالنسبة للكون أن تطلب هذا المطلب الأعلى الذي لا تدركه الأبصار والأفكار ولا يعلم قدره غيره. وقد قال محمد سيد الأصفياء: (إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه)
ولعل لنا عودة إلى هذا الموضوع بتفصيل يتناول منشأ الأوهام التي دخلت فكرة البحث عن الله وأفسدتها
2 - لم ير الأستاذ صدقي رأيي القائل: (وبدهي أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة، وأن هناك انفصالاً بين الخالق والمخلوق)
ويلوح لي أنه التبس عليه فهم هذه الجملة، فخلط بين بداهة هدى النظرة الأولى إلى أن الله غير الطبيعة الخ. وبين القضية في ذاتها بعد التفكير العميق فيها. . . فالقضية في ذاتها غير بديهية بعد التفكير العميق وإدارة الرأي والزوية، ولكن النظرة الأولى الفطرية الساذجة ترى انفصال النفس عن الطبيعة وانفصال الله عنها. لأنها أول درجات الفكر في الطبيعة ومصدرها. ثم بعد ذلك يبتدئ الفكر الفلسفي الذي يشك في كل شيء، ويطلب مبدأ كل شيء، يحيل هذا البديهي إلى شيء معقد. فيطلب مصدر الطبيعة: فتارة يقول إنه لا مصدر لها، وتارة يقول إن مصدرها ممتزج بها، وتارة يقول إن مصدرها منفصل عنها. ولذلك أكرر القول إن النظرة الأولى تهدي إلى ذلك. ثم يأتي التأمل الذي لا يقنع بالظاهر الواضح فيطمس هذه النظرة، ويوغل فيما وراء سطح الوجود. ويلتبس عليه كثير من البديهي فلا(581/7)
يرى بداهته، بل يطلب له الأدلة والبراهين.
وحقاً يتحول كل بديهي إلى غير بديهي حين يوغل الفكر فيه ويتعمقه، ألا ترى أن بعض المدارس الفلسفية تزعم أن حقائق الأشياء غير ثابتة، وأن المحسوس لا يجوز اتخاذه أساساً، وأن الموجودات كلها أوهام، وأنه ليس في الكون كله حقيقة ثابتة؟ حتى لقد قال بعضهم (لو وجدت حقيقة ثابتة واحدة لاتخذتها أساساً أبني عليه جميع الحقائق!) ألم تسمع بالنظرية الجديدة التي تبطل السببية، وتقول إن الكون يسير بالاحتمالات التي لا نهاية لها! ألم تسمع بذلك السفسطائي اليوناني الذي أنكر وجود جدار أمامه وقال إنه وهم من الأوهام، فلما تحداه مناظره أن يقوم ويخترقه إن كان زعمه صحيحاً قام وجرى إليه حتى اصطدم به فكانت النتيجة ارتطام جسمه وتمزق أوصاله!؟
إن الفكر البشري كائن عجيب متمرد له قدرة هائلة على الذهاب في أي إتجاه، وخلق عوالم صناعية وخيالية لا وجود لها. وصخرة النجاة أمامه هي الاستمساك بالعيش على سطح الحياة وأخذ الحياة بدون تعمق وتعقيد لما تحت البديهي السطحي حتى يبقى لنا شيء ثابت نرتكز عليه. إنما يباح لنا فقط إدمان التعجب مما نرى وتقلب أفكارنا وأيدينا فيه بقدر ما نستطيع أن نسخره ونستغله ونتغلب عليه حتى لا تتهددنا عوامل الشقاء والفناء
وقد ظل الناس خاضعين لفلسفة الفروض والتجريدات يدورون فيها دوراناً عقيماً حتى أتى دور الفلسفة التجريبية التي نادى بها (فرنسيس بيكون) ودور الفلسفة الإثباتية التي ثبت قواعدها (ديكارت) فكانت النتائج الباهرة في العلوم والمعارف الطبيعية والنفسية التي فتحت على الناس بركات من السماء والأرض، وما تزال تفتح. وقد أقبلت البشرية على هذا الاتجاه العلمي الإثباتي فعاشت به عيشة رحبة زادت ثقتها في نفسها وحياتها، وفتحت عليها كنوز الآمال السعيدة، واستدبرت عالم الفروض الفلسفية والخيالات والشك فيما لا طائل وراء الشك فيه، ولا قدرة على الاستغناء عنه، واتخذت بدهيات الحس والفكر قواعد ارتكاز فثبتت أقدامها على الطريق إلى الله. . . ووجدت وحدة منطقها وجهدها تتحقق في هذا الطريق
3 - استطلع الأستاذ رأيي في هل يجوز أن نتخذ الطريقة الموضوعية في بحث المسائل الدينية؟(581/8)
ورأيي أنه لا يجوز لنا أن نصطنع الطريقة (الذاتية) إلا في (الفن) وحده. أما العلم والدين فلن يسمحا (للذاتية) أن تنطلق في رحابهما
والموضوعية في العلم أمرها واضح. أما موضوعية الدين فتحتاج إلى بيان:
إن مجال العلم هو البحث في الكون المادي فيما يستطيع أن يصل إليه بأدواته المعروفة ليصل من وراء ذلك إلى (القوانين) التي تسير بها الطبيعة ليرضي كفاية (الإثبات) في النفس البشرية. وليستطيع أن (يعتمد) على هذه القوانين كحقائق لا تتبدل ولا تتغير. وليرضى في النفس كفاية (الاختيار والحرية) بين القوى المادية العمياء الجامدة المجبورة والمجال الأصلي للدين هو نفس مجال العلم. هو الكون المادي أيضاً، ولكن لا على الاعتبار السابق؛ ولكن على اعتبار آخر هو استنتاج (صفات) صانع هذا الكون من الكون؛ ليرضى في النفس كفاية (الاعتقاد) وهذه هي الفكرة الأصلية في الدين. فكرة الاعتقاد بصانع لهذا الكون له من العلم والقدرة والإحاطة بكل دقيق وجليل في الكون ما ظهرت آثاره وما وضح في قوانينه من الدقة والإحكام وعدم التناقض
والذي لا شك فيه عند العقول الموزونة التي لم تنحرف ولم تشذ عن الفطرة أن الإحكام والدقة والجلال والجمال والتنويع والتفريع والاطراد وغيرها من صفات الكون توحي وتلزم كل عقل غير مدخول أن وراء هذا الكون عقلاً أعظم منه يدبره ويقوم عليه. له من العلم والقدرة والحكمة والإحاطة والهيمنة والقهر وغيرها من صفات الكمال ما يليق بالقِوامَة والتدبير لهذا الكون الرحب الذي لا تدرك نهايته الأوهام البشرية. هذه هي الفكرة الأولى في الدين. وهي فكرة لا شك (موضوعية) موضوعها الكون كله ليستنتج الناس منه صفات خالقه. وهي صفات لا تختلف باختلاف جمهرة العقول
إن الدين بهذا الوضع (نتيجة) حتمية للعلم وضرورة لازمة للألفة (العقلية) التي لا بد منها في العقل العلمي. ولن يتأتى الكمال في العقل العلمي إلا إذا جمعت فيه كفاية (الإثبات) وكفاية (الاعتقاد) ورجال الدين بهذا الوضع هم رجال العلم الطبيعي وحدهم لا غيرهم من صناع الفروض والأوهام المفتونين بزخرف الكلام يرسلونه فارغاً إلا من نزعات شعرية وبدوات خيالية
ورجل العلم لا يبحث في ذات الله وكنهها، لأن الطريقة العلمية عوّدته أن يتدرج في أبجدية(581/9)
الحقائق، وهو للآن ولما بعد الآن بكثير من الآباد لم يفرغ من إدراك موجودات الطبيعة المحدودة في الأرض الضئيلة ولم يدرك الروح الإنساني ولا أصل الحياة البيولوجية بل لم يدرك المادة، حتى أن (ملكن) أكبر علماء الكهرباء المعاصرين قال: (خبروني ما هي المادة قبل أن تسألوا ما هي الروح؟)
ولذلك قلت ينبغي للمتأملين التجريديين ألا يسرفوا على أنفسهم وعلى الكون كله فيحاولوا إدراك ذات الله قبل أن يدركوا ذات أنفسهم وذوات الأشياء المادية الضئيلة التافهة
إن الإنسانية إن قدر لها أن تدرك شيئاً من ذلك فلن يكون هذا الإدراك إلا عن طريق العلم الذي فتحت أبوابه وأقبلت حقائقه المخبوءة التي سوف تكون المنطق الإنساني الحديث الذي لا يقيم وزناً للتأمل الفلسفي أو الصوفي أو الشعري الشارد الجامح!
4 - خشي الأستاذ من أن يجرنا قياس اتصال الله بالكون على اتصال العقل الإنساني بواسطة اللاسلكي بالآلات وإحاطته بها وإدراكه إياها إلى التورط في التجسيم والتشبيه!
وهذا الدليل الذي سقته لا يستلزم شيئاً من هذا. فليس اتصال الله بنا وبالكون بآلات ورواصد، كما هو الحال في اتصال الإنسان بالآلات والآفاق بواسطة اللاسلكي، وإنما هو اتصال مباشر بالعلم المحيط والقدرة التي لا تحتاج إلى وسائط وأدوات. . . واللاسلكي في معرض هذا الاستدلال ليس إلا مثلاً مضروباً يوضح لتلك العقول التي لم تر لها طريقاً للتصور إلا الإيمان بوحدة الوجود وعدم الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ أن خيالها ضاق عن تصور هذا الانفصال
وخلاصة هذا الدليل أننا إذا كنا نرى العقل البشري العاجز يتصل بمخلوقاته من الآلات بعد أن كونها وأعطاها قوانينها، ويتصرف فيها ويتحكم بها باللاسلكي وهو متحرر منها بعيد عنها غير ممتزج بها؛ فما بالنا لا نرى العقل الأعظم الذي نعرف قدرته يستطيع أن يتصل بنا بعلمه وقدرته بدون حاجة إلى الاتحاد والامتزاج؟!
وما ندري ماذا يأتينا به العلم من وسائط الاتصال؟ لعله يجعلنا نتصل بالأشياء ونؤثر فيها بدون حاجة إلى وسائط اللاسلكي وغير اللاسلكي. لعله يكشف في النفس قوة قادرة على ذلك. وهذا لا شك كمال لنا، وليس بمستحيل فرضه عقلاً. . .
فقبيح بنا أن يضيق تفكيرنا حتى نخضع رب الكون لما نستطيع نحن العجزة الضعفاء أن(581/10)
نتحرر منه ونستغني عنه.
إننا نحس في أنفسنا قدرة على الخلق والتحرر وتنقيح الطبيعة، فلماذا نجعل الله شبه سجين فيها لا يستطيع من قوانينها فكاكاً مع أنه واضع هذه القوانين، إذ لا جائز أن تكون وضعت نفسها؟!
إن أحلام الحرمان التي تطوف برءوس العجزة المحرومين لا يرضيها من القدرة والغنى إلا أن تأمر بالطعام، فيكون الطعام وببساطة الريح فيكون البساط، وبحك (خاتم القدرة) فيحضر المارد القدير، وبالنظرة في (البللورة السحرية) فترى ما استتر واستكن في طوايا السموات والأرض!
فإذا كان هذا هو ما في خيال الناس عن قدرة القادرين من العجزة المخلوقين، فكيف بما في الخيال حين يتصل بالله الذي يمسك السموات ويحبس البحار، ويدير ملايين الملايين من الكواكب في أفلاكها بغير اختلال وصدام، ويؤلف بين القوانين المتضادة في الطبيعة حتى يخرج منها (هرموني) وتناسقاً عجيباً!
إذن فلا تجسيم ولا تشبيه ولا مخابر ولا معامل كيمياء وفيزياء ولا نظارات ولا قارورات ولا اتصال بسيط أو غليظ كما يتوهم الأستاذ. وإنما هي إرادة عالمة قادرة تقول للمعدوم (كن) فيكون!
لقد حكى القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه: رب أرني كيف تحيي الموتى! قال أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصرْهُنَّ إليك (اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم أدْعهُنَّ يأتينك سعياً) وقد فعل إبراهيم فأتته ساعية من غير أن يرى شيئاً يجمعها ويركب أعضاءها ويهندس وضعها!
لقد توهم إبراهيم أن هناك (كيفية) للإحياء، وأن هناك أدوات ووسائل للخلق والتكوين، ولذلك سأل ربه سؤاله. ولكن تبين له بعد أن دعا أشلاء الطير المذبوحة المطروحة في كل أفق، فإذا بها مقبلة حية أن إيجاد الله ليس إلا بتوجيه الإرادة إليها، فإذا هي كائنة
5 - أما الصوفية المادية التي ندعو إليها ويسألنا عنها الأستاذ؛ فقد سبق لنا أحاديث فيها بين تضاعيف مقالاتنا السابقة، وبخاصة المقال الرابع من مقالات (أومن بالإنسان) وقد نشر بالعدد 396 من هذه المجلة، ومقال (الحياة صادقة) الذي نشر بالعدد 206 من الثقافة(581/11)
ولعل لنا إليها عودة بتوضيح آخر. والله يهدينا إلى اليقين ويفتح لنا من رحمته!
والسلام على جيرة بغداد العزيزة!
عبد المنعم خلاف(581/12)
5 - أحمد رامي
(في أغانيه)
للأستاذ دريني خشبة
منذ أن أخذ رامي في نظم أغانيه للمطربة الآنسة أم كلثوم والثورة على أشدها في عالم الغناء المصري، بل عالم الغناء العربي كله. لقد كانت أغاني رامي حرباً بين القديم والجديد. انتهت بفوز الوجهة الجديدة التي وجه رامي أذواقنا إليها، وإن وجد كثيرون من عشاق المذهب القديم لا يزالون يحنون إليه ويؤثرونه على هذا التجديد الذي لا يروقهم
وأغاني رامي - من حيث اللغة نوعان. . . نوع ألتزم فيه اللغة الفصحى، واختار له الديباجة المشرقة الناعمة السهلة، والألفاظ العذبة الموسيقية التي لا تتضمن لفظة واحدة يصعب فهمها على الشخص العادي. . . ونوع التزم فيه العامية المصرية القاهرية الساحرة التي يفهمها العالم العربي كله، ويستعملها لحسن الحظ
وأغانيه - من حيث الكَيْف. . . أو من حيث الروح - نوعان كذلك: نوع نلمس فيه قلب رامي، ونحس فيه داءه القديم، وحزنه الممض المقيم؛ ومعظمه مما نظم للآنسة أم كلثوم. . . ونوع نلحظ فيه بيان رامي، وفنه، ومقدرته الكبيرة المأثورة على التلوين والتظليل والتخطيط، وإن لم نحس فيه نبضة واحدة من نبضات قلبه المحترق، ولا طرقةً مفردة من طرفات جفنه المؤرق، ومعظمه مما نظم لسائر المطربين غير الآنسة أم كلثوم، وسبب ذلك واضح معلوم، فقد كان صوت أم كلثوم الملهم الأكبر الذي أعاد إلى قلب رامي حياته الأولى:
حسبي من الشعر ومن نظمه ... صوتك يسري في مدى مسمعي
سلوى من الدنيا تعزّى بها ... قلب شديد الخفق في أضلعي
سمعته فأنساب في خاطري ... للشعر عين ثرّة المنبع
وما ذروة المجد التي امتد دَرْبها ... على حرّةٍ حَزن ووعر جبل
سوى روحنة الأشعار وشّع سَرْحها ... أفانين أفكاري وزهر خيالي
وأنت بهذا الروض بلبه الذي ... يرجّع في مغناه عذب مقالي
بعثتِ فنون الشعر فيّ فصغتُها ... وغنيتِها لحن الهوى فحلالي!(581/13)
ونستطيع أن نسمي النوع الأول (أغاني الطبع) والنوع الثاني (أغاني الصنعة) ونقول إن معظم ما نظم رامي لأم كلثوم هو من أغاني الطبع، ولا نقول كله لأنه نظم لها كثيراً من (أغاني الصنعة) التي طلب إليه نظمها من أجل أشرطتها السينمائية، وعلى ذكر الأشرطة السينمائية نلاحظ أن رامياً قد عوض حرارة أغانيه فيها بفنه الرفيع، وبيانه الرائع، ومقدرته على التلوين والتظليل والتخطيط كما قدمنا، ثم باستغراقه، في مناسبات بديعة، في تصوير الطبيعة المصرية الفاتنة الساكنة، والتعبير عنها ذلك التعبير الهيّن الليّن الذي تنعكس فيه أروع لوحات تلك الطبيعة الممتازة المليئة بالمفاتن. وليس معنى هذا أنه قصر تصوير تلك اللوحات على غير أغاني أم كلثوم، ولكن معناه أنه خص الكثرة الغالبة من أغاني غيرها بأروع تلك اللوحات، وإن أودع بعض أغانيها شيئاً ثميناً قميناً بالملاحظة من تلك اللوحات
من منا لم يردد في نفسه ألف مرة (لحن الكروان) الذي نظمه رامي لشريط (دموع الحي)؟ والذي مطلعه:
ياللى بتنادي أليفك ... والفؤاد حيران عليه
ومن منا لم تأخذه مقدرة رامي الفنية في تصوير الليالي المصرية المقمرة التي ينسكب فيها تغريد الكروان العاشق فيزيدها بهاء وروعة؟!
كروان حيران ... سابح في نور القمر
والصوت رنَّان ... ملا الفضا وانحدر
والكون نعسان ... حتى الطيور ع الشجر
. . . . . . . . .
هايم ينادي حبيبه ... من غير ما يعرف فين
وإن كان ح يسمع نحيبه ... تحتار تشوفه العين
وتتجلى في هذا اللحن الخالد مقدرة رامي في الانتقال من تصوير الطبيعة إلى بث الهوى وشكوى الهيام
أو هذا اللحن الذي مطلعه:
ما أحلى الحبيب بين الميّه ... وبين الأغصان(581/14)
والذي يقول فيه:
آدي النسيم يشكي غرامه ... والغصن يسمع منه يميل
والطير يغني وكلامه ... يخلي دمع الزهر يسيل
أسمع لُغَى الطير الشادي لما يغني
اسمع حفيف الغصون ... تبكي بدمع الغمام
لما شجاها النسيم ... باحت بسر الغرام
والموج في حضن الموج نايم ... على شط النيل
إن نبهه الطير العايم ... يشبع تقبيل
كل الوجود حب وشجن ... في السر يشكي والعَلَن
تعالي واسي فؤادي ... أسقيك من كاس حناني
وأسمْعك لحن حبي ... ونطير في جو الأماني!!
فهل رأيت هذا التمهيد الطويل من وصف الطبيعة المصرية لينتهي اللحن بهذا الرجاء الجميل في البيتين الأخيرين
وأسمعك لحن حبي ... ونطير في جو الأماني؟!
ثم ذاك اللحن البديع الذي يصف الشاطئ المصري في جنة المصيف:
يا ما أرق النسيم ... لما يداعب خيالي
خلاني وحدي أهيم ... واسبح في وادي آمالي
الجو رايق وصافي ... والبحر موجه يوافي
طال به الحنين للبر ... والبر عنه بعيد
فِضِل يهيم في البحر ... والشوق ف قلبه يزيد
ولما جا الشط الهادي ... ريّح جنبه
ووشوش الرمل النادي ... وشكى غلبه
والشمس عند الأصيل ... راخيه شعور الذهب
تسبي العيون
والغيم بلونه الجميل ... خلاني وحدي أهيم(581/15)
واسبح ف وادي الأماني
وهكذا نجد أن اللحن كله أغنية عذبة تغمغم بها مصر المفتان على شاطئ البحر الأبيض. وإذا صح أن من كلام الشاعر كلمات تدل على شاعريته، فكل كلمة من كلمات تلك الأغنية طابع قوي تشهد لرامي بالشاعرية الفريدة الفذة. . . وحسبك أن تتخيل ذلك الموج الهائم في البحر، حتى إذا وصل إلى الشاطئ:
ريّح جنبه. . . ووشوش الرمل النادي!
ومن الصور القلية البارعة التي ضمنها رامي إحدى أغانيه لأم كلثوم، صورة الليل المصري المقمر في أغنية (أبات أناجي خيالك). . . كما نسمع الطبيعة المصرية بحقولها وأشجارها وأطيارها وأنهارها تنادينا أعذب النداء وأرقه في أغنيات: يا ما نديت. . . و. . . فاكر. . . و. . . بكرة السفر، وفرحة القلب، وليالي القمر، ووداع،. . . ولكنها صور عارضة لا تستغرق الأغاني كلها، كما نلاحظ في الأغاني التي نظمت لغير أم كلثوم
ومن الصور الجيدة في أغاني رامي تلك التي يبرر لنا فيها القلب الإنساني في شتى انفعالاته الغرامية، وفي مواساته هوله، كأنه صديقه الأول. . . من ذلك تلك الصور الرائعة في أغنيات: يا طول عذابي، وما لك يا قلبي، وإن كنت أسامح، وسكت ليه يا لساني. . . ثم في أغنية، عنيّة فيها الدموع:
عنيّه فيها الدموع ... والجو ساكن وصافْي
والقلب بين الضلوع ... حيران على خل وافي
طاير يهفهف جناحه ... عدم في عشه الأمان
لا حد واسى جراحه ... ولا سقاه الحنان
لو كان مهنّى ... لبات يغّني
لكن حزين ... شدوه أنين
ينوح على الأغصان وحده ... ويشتكي لليل وجده
. . . الخ. . .
وأغاني رامي. . . مثل شعره. . . مليئة بالمعاني البكر التي لا نعرف أن أحداً سبقه إليها، وهو مع ذاك يؤديها في عذوبة ورقة متناهيتين. . . من ذلك قوله في أبدع أغانيه (ميعاد):(581/16)
حرمت عيني الليل م النوم ... لأجل النهار ما يطمنّي
صعب عليّ أنام ... أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي
سهرت أستناه ... واسمع كلامي معاه
وأشوف خياله ... قاعد جنبي
من كتر شوقي ... سبقت عمري!!
وشفت بكره ... والوقت بدري!!
وإيه يفيد الزمن ... من اللي عايش في الخيال. . . الخ
والأغنية كلها - على طولها - معان جديدة مبتكرة، وإن لف الشعراء حولها أحياناً وداروا. . .
وأعجب العجب في أغاني رامي أن بينها وبين ملحنها من فنانين الأماثل وشائج تشبه وشائج القربى الروحية. إنهم جميعاً يفرحون بتلحينها لأن الشاعر الرقيق يفسح لهم فيها، ويلونها لهم تلويناً يغازل عبقريتهم الموسيقية. ويتنقل بهم في كل منها من الضرب العروضي الكامل، إلى المشطور البديع المتألق، ومن بحر إلى بحر، ومن أوزان يخترعها اختراعا
وأعجب من هذا كله ذلك التجاوب التام المنتظم بين روح رامي وشعره، وبين الذين يتغنونه من كبار مطربينا. فلقد يخيل للإنسان أن مؤلف شعر رامي وأغانيه ليس رامي وحده، بل هم أولئك المطربون والمطربات والموسيقيون والملحنون جميعاً. إنه مجد كامل يحار الإنسان في تعيين بانيه، ولكن الذي شك فيه أن رامياً هو واضع حجر الأساس في ذلك البنيان المنيف الذي يتألف منه الغناء المصري الحديث.
دريني خشبة(581/17)
على هامش النقد
المعاني والظلال
للأستاذ سيد قطب
هناك فارق حاسم بين لغة العلم ولغة الفن، نستطيع إجماله في أن العلم يعنيه ما في السطور، وأن الفن يعنيه ما بين السطور، وبتعبير آخر إن العلم يعنيه معنى التعبير، والفن يعنيه الظل الذي يلقيه التعبير. ولا يفهم أحد من هذا ما كان مفهوماً عندنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة من أن الفن هو تلك الألاعيب اللفظية، والبرقشات التعبيرية، فبين هذا وبين ما نريده فرق بعيد
إن ما نقوله لا يتنافى مع صدق الإحساس، وصدق التعبير عن الحياة، وهما مفرق الطريق بين ما كان يعنيه الأدب قبل هذا الجيل، وما يعنيه الآن. وبعد تحقق هذه المرحلة نبحث عما في السطور وعما بين السطور أو عن المعاني والظلال في التعبير عن الأحاسيس الصادقة التي هي الخطوة الأولى في كل أدب صحيح
وحين نأمن اللبس من هذه الناحية نتحدث - في حرية - عن أشكال التعبير وعن طرق الأداء التي نفضلها على أشكال وطرق أخرى
لقد أخذنا على الأدب العربي في جملته أن (المعاني) تعنيه، أكثر مما تعنيه (الحالات النفسية) وأن التعبير فيه يعني بهذه المعاني الكلية - الحسية أو الذهنية - قبل أن يعني (بالإنسان) من وراء هذه المعاني والاحساسات
وعذر العرب في هذا واضح. لقد كانوا أمة حس، لا تختزن في نفوسها رصيداً من الأحاسيس الوجدانات إنما تنفقه للحظة في الحركة والعمل، فضلاً على أن طبيعة بلادهم لا تهيئ لهم هذا الرصيد
فما عذرنا نحن - في مصر خاصة - وبيئتها أبعد ما تكون عن بيئة الصحراء في ألا ننتفع بالبيئة المواتية والطبيعة العريقة، في إبداع فن يأخذ من اللغة العربية ألفاظها وعباراتها، ويغير في طريقة الإحساس وطريقة التعبير، لنكون بهذا أمناء لأنفسنا، أمناء لطبيعة بلادنا، أمناء للفن الرفيع في جوهره ومظهره
لقد تحدثت في المقالات الثلاث الماضية بمناسبة كتاب (عرائس وشياطين) عما نعنيه(581/18)
بالجانب الإنساني وعما نعنيه بالحالات النفسية، فاليوم أتحدث عن طريقة الأداء التي نؤثرها، ونبين المزايا الفنية لهذه الطريقة
التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً يخاطب الذهن وحده، والتعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال. وطبيعي أن الطريقة الثانية أقرب إلى طبيعة الفنون، وأن الطريقة الأولى أقرب إلى طبيعة العلوم. والنموذج يوضح هذه القضية أكثر مما يوضحها أي بيان، فالنقد الفني موكل بالمثال أكثر من الإجمال:
لقد اختار القرآن الكريم طريقة التصوير والتخييل، وجعلها قاعدة فيه للتعبير. ومن العجيب أن يكون القرآن هو كتاب العرب الأول، ثم لا يستفيد الأدب العربي من طريقته الأساسية شيئاً بعد نزوله، وتيسيره للذكر في أيديهم. إلا فلتات في ديوان كل شاعر، هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته، لا على طريقة القرآن الرفيعة
ولعل مرد ذلك إلى أن الحاسة الفنية عند أولئك الشعراء كانت أقل من أن تتطلع إلى هذا الأفق الرفيع في ذلك الأوان. فلعلنا أن نكون اليوم أحق بهذا التطلع من جميع من مضوا من شعراء العربية خلال أربعة عشر قرناً
إن تفرد القرآن بطريقته التصويرية في هذا المستوى بين الشعر الجاهلي والشعر العربي بعده يمكن أن يتخذ دليلاً فنياً على تفرد مصدر هذا القرآن، لولا أننا هنا في مقام البحث الفني، لا البحث الديني
والآن نعود إلى نماذج القرآن التصويرية في التعبير، لبيان فضل هذه الطريقة من الناحية الفنية:
1 - معنى النفور الشديد من الدعوة إلى الهدى، يمكن أن يؤدي في صورته التجريدية الذهنية على نحو كهذا: إنهم لينفرون أشد النفرة من الدعوة إلى الإيمان. فيتملى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون
ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة الحية المتحركة: (فما لهم عن التَّذكِرَةِ مُعْرِضِين؛ كأنهم حُمرٌ مُستنفِرة فَرَّتْ من قَسْورة) فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال، ويثور في النفس شعور السخرية وشعور الجمال؛ السخرية من هؤلاء القوم(581/19)
النافرين كالحمر، الوحشية المذعورة من الأسد، والجمال الذي في الصورة المتحركة الطليقة
فللتعبير هنا ظلال حوله تزيد في مساحته النفسية، إذا صح هذا التعبير!
2 - ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب يعبدونها من دون الله، يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردة كأن يقال: إن ما تعبدون من دون الله لأعجز من خلق أحقر الأشياء. فيصل المعنى إلى الذهن مجرداً باهتاً
ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة:
(إنَّ الّذينَ تّعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمَعُوا لَهُ؛ وإنْ يَسْلُبْهُمُ آلذُّبابُ شيْئاً لا يِستَنقُذوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطالِبُ وَالْمَطْلوبُ)
فيحيا هذا المعنى الساكن، ويتحرك في تلك الصور المتحركة المتعاقبة
أرأيت إلى تصوير الضعف المزري، وإلى التدرج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين:
(لن يخلقوا ذباباً) وهذه درجة (ولو اجتمعوا له) وهذه أحرى (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) وهذه أنكى
ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟
كلا! فهذه حقيقة واقعة بسيطة. فهؤلاء الآلهة (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) والذباب صغير حقير، ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل. لأنها معجزة خلق الحياة، يستوي فيها الجسيم والضئيل، وليست المعجزة في صميمها هي خلق الهائل من الأحياء، وإنما هي خلق الذرة الحية المفردة
ولكن البراعة هنا هي في عرض هذه الحقيقة بصورة ترسم العجز عن بلوغ مسألة هينة في ظاهرها، والجمال هنا هو في تلك الظلال التي تلقيها خطوات الصورة من خلال التعبير
3 - والتعبير الذهني المجرد عن هول يوم القيامة يمكن أن يكون نصوصاً كثيرة، كأن يقال (إنه لهول مفزع مروع مذهل. . .) فلا ترتسم في النفس صورته كما يرسمها التعبير القرآني المصور:(581/20)
(إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ ترَونَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٌٍ عَمَّا أرضَعَتْ؛ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرى الناسَ سُكارَى، وَما هُمْ بِسُكارَى ولَكنَّ عّذابَ اللهِ شَديدٌ)
وليس النسق القرآني وحده في النظم هو الذي يرتفع بهذا التعبير إلى مستواه الذي تستشعره النفس عند تلاوته. إنما هي هذه الطريقة التصويرية كذلك، حيث يزدحم الخيال بصور كل مرضعة ذاهلة عما أرضعت، شاخصة تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي، وصور الناس سكارى وما هم بسكارى، في عيونهم ذهول السكر، وفي خطواتهم ترنحه
إن هذا الحشد من الصور الذاهلة هو العمل الفني الضخم في هذا التعبير
وليست هذه الصور فلتات في القرآن إنما تلك طريقة متبعة وخصيصة شاملة، وفي هذا يتفرد القرآن وحده. فالتصوير قد يقع فلتات في الشعر العربي، تكثر في الشعر الجاهلي وتقل في الشعر الإسلامي. ولا يعد قاعدة في هذا الأدب كله. ثم تبقى بعد ذلك درجات السمو في هذا التصوير. ولها مجال غير هذا المجال
طريقة التصوير والتظليل التي نوجه إليها الأنظار، هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال
فأجود ما وقع لامرئ القيس هو من الشعر التصويري مثل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت: له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
فتشخيص الليل هنا ومنحه الحياة، ورسم هذه الصورة المتحركة له، هي موضع الجمال في هذه الأبيات لا مجرد معنى أن الليل قد طال وأنه سئم هذا الطول
وكذلك بيته الآخر في وصف حصانه:
مِكَّرٌ مِفَّرٌ مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وما فيه من تشخيص الصورة والحركة، لا مجرد معنى أنه يكر ويفر ويقبل ويدبر في لحظة واحدة. وأجود ما وقع لزهير أبياته التصويرية كذلك مثل:
إذا ما غَدَوْنا نبتغي الصيدَ مرَّةً ... متى نَرَهُ فإننا لا نُخاتِلُهْ
فَبَيْنا نُبَغِّي الصَّيْدَ جاء غُلامُنا ... يَدِبُّ ويُخْفي شَخْصَهُ ويُضائِلُهْ(581/21)
ففي صورة هذا الغلام الشاخصة هنا وفي حركته المرسومة كأنما على الشاشة جمال فني لا شك فيه
وأجود ما وقع لسويد بن كاهل اليشكري أبياته التي يصور فيها حاسده صوراً شاخصة فيها الملامح الحسية والانفعالات النفسية. وجميعها صور وظلال لا معان مجردة:
رُبَّ من أنضجْتُ غيظاً قلبَهُ ... قد تَمنَّى لي موتاً لم يُطعْ
ويراني كالشجا في حلقه ... عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنتزع
مُزبدٌ يَخطُرُ ما لم يَرَني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهوَ يرْقو مثلما يزقو الضوع)
فتتم الصور المزرية التي يرسمها له بعد أن تترك في النفس ظلالاً واضحة، وفي الحس صوراً شاخصة، فيها كل جمالها الفني الذي يتيحه التصوير والتخييل
ويكثر التصوير في الشعر الجاهلي، ويقل في الشعر الإسلامي، على عكس ما كان منتظراً بعد وجود القرآن بين أيديهم، وتعبيره كله قائم على الطريقة التصويرية، ولكن قاتل الله (المعاني)، لقد أصبحت كل هم الشعراء وغلبت طريقة العلم على طريقة الفن، فتقهقر الأدب العربي من هذه الناحية، بجانب خطواته التي تقدمها في نواح أخرى
فإذا نحن تجاوزنا ابن الرومي - وهو فريد في تاريخ الأدب، العربي كله - لم نعثر إلا على فلتات في ديوان كل شاعر، قام فيها التعبير بمهمة التصوير. فلتات قد تكون مائة وقد تكون ألفاً، ولكنها تبدو ضئيلة جداً بين ملايين الأبيات من الشعر العربي على ممر الأجيال
وإن أجود ما وقع للشعراء هنا كذلك، لهي الأبيات التي عبر عنها بطريقة التصوير والتخييل. مثل بيت مسلم بن الوليد الذي نقلناه في كلمة ماضية:
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وما فيه من تشخيص وخلع الحياة على الرياح
ومثل بيتي كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تخليت مما بيننا وتخلّت
لكا لمرتجى ظل الغمامة، كلما ... تهيأ منها للمقبل استقلت
وما فيها من حركة متخيلة: حركة حسية تقابلها حركة نفسية في تساوق واتفاق. ومثل بيتي(581/22)
المتنبي:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
وفيهما مشهد استعراض متحرك يضاعف جمال المعنى الذهني المجرد
ومثل بيتي المعري الفريدين:
رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين ... في طويل الأزمان والآباد
وما فيهما من سخرية مصورة شاخصة، تتسق مع السخرية النفسية، وتوضح رموزها وتجسمها
ونكتفي بهذه النماذج لتصوير ما نريده من الجمال الفني في الصور والظلال حين يرسمها التعبير. ثم ننبه هنا إلى لبس قد يؤدي إليه سياق المقال:
نحن لا نعني أن طريقة التصوير وحدها تؤدي إلى أن يأتي كل من يتبعها بقرآن أو ما يشبه القرآن، ولا أن يبلغ هذا المدى الذي بلغه مسلم والمتنبي والمعري وكثيّر وغيرهم. فليست طريقة من طرق الأداء عصا سحرية تبلغ بمفردها مدى الإعجاز والعبقرية!
إنما نعني أن هذه الطريقة أنسب للتعبير الفني من الطريقة التجريدية، وأن الشاعر الواحد يبلغ بها في إنتاجه ما لا يبلغه من الجمال الفني لو اتبع الطريقة الذهنية. ثم يبقى بعد ذلك مجال التفاضل في الإحساس لم نمسه، ولم نحاول البحث فيه. فتلك هبة توهب، أما الطريقة فهي خطة يلفت إليها النظر، وإن كان لها من الهبة الَّلدُنَّية نصيب
سيد قطب(581/23)
التحامق في العصر العباسي
للأستاذ صلاح الدين المنجد
في العصر العباسي ظاهرة غريبة تلذ الباحث بطرافتها ولطافتها، هي التحامق وإظهار البلاهة تارة والغفلة مرة
وقد تدهش بادئ ذي بداءة وتعجب؛ فإذا انثنيْتَ على نفسك مفكراً متأملاً معتبراً، أو مقايساً باحثاً، علمتَ أن في هذا التحامق من الصواب ما ينبئ عن حدة ذهن، ودقة فهم، وجودة حدس
فلقد وجد الناس في ذلك ضروباً من الفائدة، فكانوا يلجئون إليه كلما ضاق عليهم الأمر، وعسرت أمامهم المسالك؛ فينالون ما يشتهون، ويحظون بما يحبون. وما كانوا ليتحامقوا بعد علمهم أن أولئك الناس العوام أشدُّ منهم حمقاً، وأقل فطنة، وأكثر غباوة. وما لهم لا يتحامقون في عصر قال العتابيُّ الشاعر عن ناسه إنهم بقر لا يفقهون
فقد ذكروا عن عثمان الوراق أنه رأى العتابي الشاعر يأكل الخبز على الطريق بباب الشام (في بغداد)، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرايت لو كنا في دار بقر كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ قال الوراق: لا. قال فاصبر حتى أعلمكَ أنهم بقر. فقام العتابي، فوعظ وقصَّ ودعا؛ حتى كثُرَ الزحام عليه، ثم قال لهم: (روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار!) فما بقى أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغُها أم لا. . . فلما تفرّقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: (ألم أخبرك أنهم بقر. . .؟!)
وكان أناس يرون في الحمق الرَوْح والراحة، وطيب العيش فسعوا إليه، وتحدّث الشعراء بذلك، فقال أحدهم:
الروح والراحة في الحمق
وفي زوالِ العقلِ والخُرْق
فمن أراد العيش في راحةٍ
فليلزمِ الجهلَ مع الحمقِ
وما ذلك إلا لأن العقل كان عدو الإنسان في ذلك الزمان.(581/24)
يقول الشاعر القُمَّي:
تحامق، تطبْ عيشاً ولا تكُ عاقلاً
فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه
ولأن من يتحامق يربح ويستريح. فقد سُئل مرة زيد بن سعيد العبدي عن تحامقه، فقال: (جَددت فشقيتُ، ثم تحامقتُ فأرحتُ واسترحت)
وكان أناس آخرون يتحامقون لينالوا الغنى. قالوا إنه كان في بغداد رجل عاقل، أديب فَهْمٌ، شاعر، يقال له عامر. وكان مع أدبه محرماً مجازفاً. فلما ضاق صدره، أظهر التحامق والتجانن، فتفقده صاحب له، وجعل يطلبه حتى ظفر به في بعض القرى، وحوله الصبيان، يضحك ويضحكون، فقال له: يا عامر، مذ كم صرت بهذه الحال؟ فقال:
جنَنْتُ نفسي لكي أنال الغنى
فالعقل في ذا الزمان حِرمان
وقد يدرك المتحامق الملوك بتحامقه فتحسن حاله، ويزيد ماله. قالوا إن علياً القصريُّ كان ممن يجيد الشعر؛ وكان محروماً لا يؤبه له. فتحامقَ وأخذ في الهزل، فحسُنت حاله، وراج أمره، حتى أن الملوك والأشراف أولعوا به، فأفاد من هزله وحمقه المال الوافر، والنشبَ الكثير. وذلك لأنه:
إن كنتَ تهوى أن تنال المالا
فالبس من الحمقِ غداً سربالاً
فيسهل ما عسر، وتوسر وتغنى، ... وتقوم بقوت عيالك وأهلك
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذُّ وأحلى
ولقد قلتُ حين أغروا بلوْمي=أيها اللائمون في الحمق مهلا
حمقى قائمٌ بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هزلا
وقد يتحامقون لينجوا من آفة أو بلاء. أُدخِل عُبادةُ المخنث على الواثق، والناسُ يُضربونَ ويُقتلون في الامتحان. (قتال): فقلتُ والله لئن امتحنني قتلني؛ فبدأته، فقلت: أعظم الله أجرك أيها الخليفة. قال فيمن؟ قلتُ في القرآن! قال: ويحك، والقرآن يموت؟ قلت: نعم، كل مخلوق يموت. فإذا مات القرآن في شعبان فبأيش يصلِّي الناس في رمضان؟ قال: أخرجوه(581/25)
فإنه مجنون!
وكثيراً ما كان العلماء يتحامقون أو يتجانّون إذا دُعوا إلى القضاء. وكانوا يرون فيه مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم الله. ويخافون أن يزلّوا فيعاقبوا. دعا المنصور أبا حنيفة وسفياناً الثوري، ومسعراً، وشريكاً، ليوليهم القضاء. قال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم، فأُقال وأتخلص. وأما مسعر فيتجان ويتملص، وأما سفيان فيهرب. وأما شريك فيقع. فدخلوا على المنصور، فتحامق أبو حنيفة، وتجانن الثوري ومسعر، فنجوا
ومثل هذا فعل عبد الله بن وهب لما دعاه الخليفة ليتولى قضاء مصر، فقد تجنن نفسه، فلزم بيته
وقد حفلت كتب الأدب بنوادر رائعة، غير ما ذكرنا، عن التحامق والتجانن في هذا الباب، فمن أطرف ما يروى في ذلك أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء. فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد. فخرجَ على أن يسأل أول من نظر إليه. فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عَظم، وسوّد وجهه، وركب قصبته. فسلَّم عليه الرجل، وقال له: مسألة. فقال المجنون: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك. قال الرجل: فقلت مجنون والله، ثم حدثته أني أصبتُ من النساء بلاء، وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس، وأنت تمام المائة. فقال اعلم أن النساء ثلاث. واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك. فأما التي لك، فشابة طرية لم تمس الرجال؛ فهي إن رأت خيراً حمدت، وإن رأت شراً قالت: كل الرجال على مثل هذا. وأما التي عليك، فامرأة ذات ولد من غيرك، فهي تسلخ الزوج لتجمع لولدها. وأما التي لا لك ولا عليك، فامرأة قد تزوجت قبلك. فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب، وإن رأت شراً، حنت إلى زوجها الأول. فأعجبني كلامه، وملأ نفسي، فسألته ما الذي غير من أمره: قال. رشحت للقضاء، فاخترت ما ترى على القضاء
فهذي طرف تضحك بادئ ذي بدء، فإذا تأملها الإنسان وجد في عمل أصحابها العقل الحسن؛ والتدبير الحازم، والرأي السديد
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(581/26)
الحب عند المتنبي
للأستاذ حسن الأمين
هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الوجد وتباريح الغرام؟ هل استطاعت امرأة أن تخلب لبه وتفتن قلبه، فيشيد بها ويتغنى بجمالها ومحاسنها؟
إذا أردنا أن نتخذ شعر المتنبي دليلاً على ترجيح السلب أو الإيجاب، وإذا أردنا أن نرجع إلى ديوانه لندلي بالجواب؛ فإننا نستطيع أنه نقول بدون تردد إن المتنبي لم يعرف الحب ولم يعانه، فالذي يقول:
وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب
وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب
إن الذي يقول هذا القول لا يمكن أن يكون من أهل الحب بل هو من الهازئين بالحب وأهله المشنعين عليهم الرامين لهم بالضعف، فالحب عنده غرة وطماعة، وليس من رأيه أن القلب يرمي من حيث لا يحتسب، بل من رأيه أن القلب هو الذي يعرض نفسه لهذه الغرة والطماعة فيصاب، ولو شاء هذا القلب ألا يصاب لما أصيب وهذا قلبه فإنه لم يشأ أن يصاب فلم يصب. ولم يسكت المتنبي عند هذا القول، بل ردده في مواضع شتى فقال:
مما أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسن
فالذي يراه المحبون حسناً فتفنى عيونهم به وتذوب نفوسهم ليس إلا الوجوه فقط، وأما النفوس فإنها قبيحة لا خير فيها، ولو أنهم اطلعوا على ما وراء هذا الحسن الخادع لما أضر بهم عشقهم، ولكنهم أحبوا وعشقوا، دون أن يمنعوا في التأمل بحقائق الدنيا، فلم يعرفوا دخائل من أحبوا، ولم يفطنوا إلى ما ينطوي عليه من غدر ومخاتلة وخداع. وهذا الرأي القاتم متأت ولا شك عن نظرة المتنبي للناس عامة ذكوراً وإناثاً، فلا تحسب المرأة أن المتنبي من أعدائها وحدها، فهو ثائر على الكون ناقم على البشر جميعاً، لأنه يرى نفسه مهتضماً مغيظاً لا يبل له أوام ولا يجاب نداء، وهذا الرأي هو صدى لرأيه القائل:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وبعد أن يعلن المتنبي رأيه بالعشق وأهل العشق يلتفت إلى الغانيات المغريات، فيجبههن(581/28)
بأعنف القول وأمر الكلام ويخاطبهن بقسوة وتهكم صارخاً بهن:
تحملوا حملتكم كل ناجية ... فكل بين على اليوم مؤتمن
فلا التهديد بالرحيل ولا الوعيد بالهجر، استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى، بل أعلن بأن البين لن يضيره، وأن النأي لن يزعجه. ولماذا يهتم ببعدهن ويشغل نفسه بهن، ولماذا يحزن لفراقهن ويأسى على رحيلهن ما دامت مهجته وحدها هي التي ستتحمل عبء ذلك كله، وما دام لن يجد لهذه المهجة إذا ذابت شوقاً وتلاشت حنيناً - لن يجد عوضاً عنها في الظعائن وثمناً لها في الهوادج!
ما في هوادجكم عن مهجتي عوض ... إن مت شوقاً ولا فيها لها ثمن
وإن الذي يقول:
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعزة في مفرقي
والذي يقول عن نفسه وعن الناس:
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
إن الذي يقول هذا القول لا يكون غريباً عليه أن يرى مهجته أسمى من أن يذيبها شوق لمخلوق، ونفسه أعظم من أن يقتلها حب لإنسان
وإذا كنا قلنا آنفاً إن المتنبي ناقم على الناس جميعاً وإن ثورته ليست على المرأة وحدها، فهذا لا يعني أن ليس له فيها نظرة خاصة. فقوله:
إذا عذرت حسناء وفت بعدها ... فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد
وقوله:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في مواطنه ظلام
إن هذا القول صراحة في تخصيصه إياها بالشطر الوافي من حملاته على بني الإنسان وصراحة رأيه السيئ بها، بل إن هذا القول يضعه في صف خصومها الألداء وأعدائها الأشداء، على أنه ربما كان أحسن وصفها كل الإحسان وأنصفها كل الإنصاف حين قال:
وإن عشقت كانت أشد صبابة ... وإن فركت فأذهب فما في فركها قصد(581/29)
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضاً ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
ولكن المتنبي صاحب هذه الآراء القاسية في المرأة والغرام لم يستطع أن يجرد شعره من الغزل فقد افتتح كثيراً من قصائده بالغزل وتحدث عن الحب والنساء، وتظاهر بالهوى وشكوى النوى، وشارك العاشقين في بث الوجد وذكر الوصل والصد، حتى أنه أغرق في ذلك أحياناً إغراقاً حاول فيه أن يتسمى بالعاشق كل العاشق:
وما أنا إلا عاشق كل عاشق ... أعق خليليه الصفيين لائمه
وأن يجعل عشقه فوق كل عشق:
وطرف إن سقى العشاق كأساً ... بها نقص سقانيها دهاقا
وأن يكون شاعراً غزلاً:
أحيا وأيسر ما عانيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
فهو يتحدث عن حب قاتل يعجب معه كيف يبقى حياً، ويتحدث عن بين جار عليه فلم ينصف ضعفه. ولا يقتصر على هذا الحديث الإجمالي عن الحب بل يعود فيخاطب حبيبة بعينها فيتضرع لها تضرع الولهان:
بما بجفنيك من سحر صلى دنفاً ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا
ثم يسهب بوصف عواطفه الغامضة في عدة أبيات يصل بعدها إلى ما أراده من مدح أحد الناس وينتهي الأمر. وهكذا يبدو غزله بوجه عام، فهو إما أن يرتفع قليلاً عن هذا المستوى أو ينحط عنه قليلاً أو كثيراً، ومهما ارتفع أو انحط فهو غزل لا طائل تحته، ولا عاطفة تذكيه ولا شعور يوريه ويسف أحياناً كل الإسفاف فيقول:
أوه بديل من قولتي واها ... لمن تأت والبديل ذكراها
أوه لمن لا أرى محاسنها ... واصل واهاً وأوه مرآها
والمتنبي نفسه يعلن رأيه في هذا الغزل الفاشي في بعض قصائده ولا يحجم عن أن يقول إنه سير على سنن غيره من الشعراء، وأن طريقة الشعر قد اقتضت هذا، وأن افتتاح القصائد بالغزل ليس دليلاً على الحب والغرام:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم
وكأن المتنبي صاحب الدعوة ضد الحب والمرأة قد خشي أن يؤخذ عليه غزله وأن يعتبر(581/30)
تناقضاً مع آرائه الصريحة فاعتذر عن هذا الغزل وأعلن حقيقته، وأنه ليس في الواقع الغزل الذي عرفه الناس ونظمه الشعراء، بل هو غزل رمزي يخفي تحته شعوراً غير شعور الغرام، وحباً لغير المرأة، وشغفاً بغير ثناياها الغر وأحداقها النجل، فبعد أن افتتح قصيدة بالغزل المألوف عاد يقول:
محب كني بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني ... خباها أحبائي وأطرافها أسلى
عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلة ... لغير الثنايا الغر والحدق النجل
فما حرمت حسناء بالهجر غبطة ... ولا بلغتها من شكي الهجر بالوصل
وهو في بيته الثالث عنيف متشدد وفي بيته الأخير مستهزئ بلذائذ الوصال مستهتر بالهجر لا يرى أن غضب الحسناء وهجرها يمكن أن يحرم المرء أية غبطة ولا أن وصلها يمكن أن يجلب أية سعادة وهذه أقسى مظهر من مظاهر آرائه الصلبة. على أننا لا نستطيع أن نجرد جميع غزله من العاطفة والشعور فلا شك أن في القليل من بعضه عاطفة جياشة وحساً نابضاً ولكن ليس الحب وليست المرأة هي مصدر ذلك، بل هي ذكريات أيام سوالف وأشواق إلى منازلة نائية وأهل بعيدين كأن يقول:
ما لاح برق أو ترنم طائر ... إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
أو يقول:
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا
فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
أو يقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول
إذا كان شم الروح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضة وقبول
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول
وما أدرانا أن لا يكون وهو يرسل هذا الشعر وأمثاله إنما يذكر تلك العجوز الذي رأينا(581/31)
إشفاقه عليها وشغفه بها في رثائه لها، وأنه يذكر أيام صباه الماضية في بلده بين أهله وقومه:
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيد دونها بيد
ولا بد لنا ونحن في الحديث عن غزله من أن نلم بالأبيات الجميلة التي تغزل فيها بالأعرابيات وعرض بالحضريات:
ما أوجه الحضر المستحسنات بها ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلان ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
ولا شك أن هذا الغزل البدوي، والتظاهر بالشغف بالأعرابيات إنما هو أثر من آثار النقمة على المرأة فقد اتخذ من بساطة البدويات وسيلة للحملة على غادات المدن وانشغالهن بالزينة والتطرية والتجميل فتهكم على أصباغهن ومساحيقهن، وهزأ بمضغهن الكلام وشبههن بالمعزى، وعاب عليهن تمويه الحقائق وجردهن من كل محمدة وحسن، ومع ذلك ومع أنه اتخذ الأعرابيات ترساً بتواري وراءه في الهجوم على الحضريات فإن سجيته أبت إلا أن تتغلب عليه فلم يستطع أن يترك ثناءه على نساء البدو خالصاً لا شائبة فيه، بل عاوده داؤه المزمن في الغضب على الجنس البشري والنقمة على بني الإنسان فغمز من البادية وأهل البادية غمزة قاسية:
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
حسن الأمين(581/32)
إلى الرجال والنساء
الغرام السوقي. . .
للشاعر الأستاذ محمد الأسمر
هذه القصيدة تصف ناحية من النواحي الاجتماعية التي إذا تركت وشأنها انقلبت وباء، وأودت بسعادة الأسر رجالاً ونساء وأطفالا. وهل هناك أشد خطراً على سعادة الأسرة من أن يقع الزوج في حبائل خادعة له تصرفه عن زوجته وأولاده، أو تقع الزوجة في حبائل خادع لها يصرفها عن زوجها وأولادها. إن غراماً ينشأ بين زوج وأخرى غير زوجته، أو بين زوجة وآخر غير زوجها غرام سوقي قائم على الحب الزائف لا على الحب الذي يجلب السعادة للمحبين، خصوصاً إذا كانت بطلة هذا الغرام إحدى بنات الليالي المعروفات بالأرتستات، وقد تناول الشاعر في قصيدته تلك هذه الناحية الاجتماعية وبعض ما يتشعب منها. وجعل إهداءها إلى صديقه الأستاذ كامل الشناوي:
لا يُلهينَّك تغريدُ العصافيرُ ... وناعم الريش عن نَقْر المناقيرِ
وأحذرْ من القطة الملساء إن لها ... أنيابها، ولها خدش الأظافير
ورُبَّ حسناء أمسى بعض ما صنعتْ ... بالناس وهو أحاديث الجماهير
فاحذر غوانيّ إن صدَّتْ وإن وصلت ... فهنَّ أشبه شيءٍ بالمناشير
يُصبِينَ حتى أخا سبعينَ ليس له ... صباً فتسخو يداه بالدنانير
هُنَّ التواجرُ في كل الأمور فما ... يسقطن إلا على القوم المياسير
وهنَّ حولَ الذي يُلقي بلقمته ... شواخص الطرف أشباه السنانير
حتى إذا نَضبتْ يوماً موائده ... بحثن عن غيرها بحث المساعير
فاحذر شوارد منها لا رقيب لها ... ولا تَغُّرَّنك رباتُ المقاصير
كم من قصور حَوَتْ أركانُها دنساً ... تَعجَّبت منه أركان المواخير
تلك الغواني غواني السوق ليس لها ... خِلٌّ ولو كان وهَّابَ القناطير
وما شكرن يداً أسدت لهن يداً ... بل هن في الأخذ أشباه الأعاصير
يبيت في أسرهنَّ المرءُ مبتسماً ... يخدعَنَّهُ فهو وضاح الأسارير
فيا عجيباً تراه وهو مغتبطٌ ... ولو درى لرأى سُخرَ المقادير(581/33)
هذا وكم من رجال أدنياَء لهمْ ... إن صادَفوا غِرَّةً فتكُ المغاوير
وإن أحاطوا بسرٍ ليس يعرفه ... سواهُم أعلنوه بالمزامير
ومنهُم معشرُ أعداءُ أمتهم ... لهم غرام بأعراض المشاهير
مُبالغون، وقد تلقاهم وضعوا ... ما يأفكون به وضع الأساطير
يا ويحَ من أعرضوا عن بحث أنفسهم ... ويبحثون سواهمْ بالمناظير
لو أن كل امرئ يمنى بحالته ... لم يمشِ قومٌ لقومٍ بالأخابير
ومن تأمل يوماً ما صحيفتهُ ... الهاه ذلك عن فحص الأضابير
يا لهف نفسي على (الزوجات) ضيَّعها ... من الرجال بعولُ كالطراطير
تخْفى الحقائق عنهم وهي واضحة ... فينظرون إليها كالسمادير
ولا يثورون بركاناً له حَممٌ ... لكن يثورون أشباه القراقير
كيف اطمأنوا فناموا عن حدائقهم ... : سرى اللصوص فما نوم النواطير؟!
وكل بستان وردٍ نام صاحبه ... عن حفظه فهو منهوب الأزاهير
ولهفَ نفسي على (زوج) تُدَنِّسهُ ... قرينةٌ زوجُها زوجُ الفوازير
من الغوامض، لا رملُ يُبينَّها ... ولا شيوخ قعود بالطوامير
من اللواتي إذا ما ريبةٌ عرضت ... فهُنَّ ما هنَّ في خلق المعاذير!
فيا لها من ظلام غير منكشف ... يلوح كالصبح وضّاح التباشير
الله للناس، عمَّ الشرُّ وامتلأت ... أسواقه بالأباليس المناكير
فاحذر، وحذر، وأصلح ما استطعت ولا ... تبغ الفساد، ورفقاً بالقوارير(581/34)
البريد الأدبي
الرصافي يغضب ويتبرأ
فوجئت بالرد الذي نشره الأستاذ الرصافي وأنا بعيد عن القاهرة. وقد اتهمنا فيه (1) بأننا بدلنا أقواله (2) ولم نكن أمناء في نقلها (3) وبأنه استنتج من ذاك أننا لم نقرأ التعليقات قراءة مستنيرة بل مررنا بها مروراً خاطفاً، (4) وبأن يداً خفية تحركنا (!!) (5) وبأننا حاقدون عليه (6) وبأننا نعرف آداب البحث والنقد والمناقشة لكننا ضربنا صفحاً عنها في تناول تعليقاته لسبب لا يعرفه (7) وبأننا خلطنا بين آراء الفلاسفة اليونانيين في وحدة الوجود، وآراء الزنادقة من متصوفة المشرق (8) وبأن الغيرة الدينية هي التي أعمت بصائرنا عن الحق (9) ثم ذكر أنه ليس متصوفاً، وطلب إلينا أن نسأل الذين يعرفونه ليثبت لنا ذلك (10) وأنه لا يدعو إلى شيء كما هوّلنا نحن بذلك لدى العامة (!) (11) ثم ذكر أننا نتجنى على المتصوفة حين نتهمهم بميلهم إلى اللذائذ الجنسية الخسيسة وتحللهم من الشرائع والقوانين والآداب العامة. . . إلى آخر هذا التخبط ونعود فنقول بأننا الآن بعيدون عن القاهرة. . . فليست أعداد الرسالة التي سفهنا فيها تعليقات الأستاذ الجليل تحت أيدينا لنرى مقدار ما شوهدنا أقواله، ما دام هو لم يجرؤ أن يقدم لنا دليلاً واحداً على هذا التشويه. وليست رسائل التعليقات تحت أيدينا كذلك، فقد أعطيناها لصديقنا الدكتور زكي مبارك ليرى فيها رأيه (وذلك منذ شهر تقريباً). . . ونحن نطمئن الأستاذ الرصافي على سلامة تفكير الجمهور من القراء في مصر وفي العالم العربي. . . لأنه جمهور لا يكتفي بأن يقال له إن كل ما ذكره دريني خشبة عن الأستاذ الجليل معروف الرصافي باطل ملفق ليصدق هذا القول. . . ويسرنا أن نعترف للأستاذ الرصافي بأنه صحيح أن يداً خفية تحركنا للرد عليه. لأنها يد الله التي تمحق الباطل والمبطلين دائماً. الله الذي نتواضع في الإيمان به هذا الإيمان الفطري الساذج الذي لا يوقعنا في لغو اللاغين وتناقض المتناقضين، بعد أن بلونا من مثل ما يبلو أخونا الرصافي الآن ألواناً وألواناً. . .
إلا أنني لا أستطيع أن أسكت، حتى أعود إلى القاهرة بعد شهر أن شاء الله تعالى، دون أن أعرض على العقلاء في العالم الإسلامي كله جانباً من هذا الذي عاد الأستاذ الجليل معروف الرصافي فتحدث إلينا به في رده المتهافت، وذلك بخصوص استواء المتناقضات أمام الله لا(581/35)
أمام الناس:
لما كان الصوفية يقولون: كل ما وقع في هذا الكون فهو حق، وأنه لا باطل إلا المحال كما هو مذكور في رسائل التعليقات، تساوت عندهم المتضادات، فالشر كالخير، والضلال كالهدى، كلاهما حق، لأنه واقع، ولو كان باطلاً لما وقع، لأن الباطل هو المحال الممتنع الوقوع، ولكن هذا التساوي في المتضادات إنما هو بالنسبة إلى الوجود الكلي - أي إلى ذات الله - لا بالنسبة إلينا، فذات الله في رأيهم لا يصدر عنها الباطل، بل كل ما صدر عنها فهو حق، وهم يستدلون على ذلك بآيات من القرآن كما هو مذكور في رسائل التعليقات
. . . . . . . . . ولا بد أن الأستاذ خشبة قد قرأ كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك واطلع على ما نقله عن الجيلي من أن الله هو الهادي وهو المضل، وأن الضال متحقق بصفة الضلال، كما أن المهتدي متحقق بصفة الضلال، وأنهما أمام الله سواء، كما هو مذكور في رسائل التعليقات أيضاً، وهذا صريح في أن تساويهما إنما يكون أمام الله، أي بالنسبة إلى الله، لا بالنسبة إلينا)
فما رأي العقلاء في العالم الإسلامي كله في هذا؟!
لقد فزع الدكتور زكي مبارك (نفسه!) من الأخذ بهذا الضلال، وفزع منه على الأخلاق والقوانين والشرائع، فطمأنه الأستاذ الرصافي بأن التساوي إنما يكون أمام الله لا أمامنا نحن، أي بالنسبة إلى الله لا بالنسبة إلينا. . . لأننا لا وجود لنا، لأن الوجود الكلي المطلق هو الله. . .
إن الأستاذ الرصافي يطلب إلينا تفسير الآيات التي استشهد بها المتخبطون على لغوهم هذا، وهو يطلب إلينا ذلك ظاناً أنه يوقفنا أمام مشكل صوره له اضطرابه. ونحن نطمئنه، لأننا سوف نعود إليه،. . . ثم نسأله هل ينكر أنه ينكر البعث كما يؤمن به المسلمون، وأنه ينكر القرآن كلام الله، بل هو كلام محمد ألقى في روعه أنه يقوله بلسان الله، وأنه لا معنى للعقاب والثواب والحساب إلا على الصور الجنونية التي زخرفها له وسواسه، وأنه ينكر الأدعية، ومنها الصلوات، لأنها لن تغير من قوانين (الوجود الكلي المطلق شيئاً)؟!
وبعد. . . فهل صحيح أن الرصافي لم يدعنا إلى شيء؟! هل نسي ما علق به على ذلك(581/36)
المستشرق الإيطالي الجاهل؟ ألم يطلب إلينا أن نفيق؟! نفيق مم يا ترى؟!
وإلى عود قريب إن شاء الله. . .
دريني خشبة
إلى الأستاذ زكريا إبراهيم
ما هذا يا أخي؟ لماذا قطعت أحاديثك عن وحدة الوجود بعد إذ بدأتها؟ ماذا حدث؟
د. خ
إلى الأستاذ الجليل النشاشيبي
ذكرت أيها الأستاذ الجليل في العدد (576) من الرسالة الغراء ضمن (نقل الأديب) التي لا يفي بمدحها لسان أو بيان قصة ابن يعيش حينما أخذ يسرح قول ذي الرمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا. . . آأنت أم أم سالم
فأطال القول في ذلك، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، ولكن الفقيه الذي كان يقرأ عليه ويسمع منه سأله بعد كل ذلك: إيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فتندر عليه الشيخ قائلاً: تشبهها في ذنبها وقرونها! فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه، ولم يعد إلى المجلس بعد ذلك! هذا ولم تعلق على القصة بشيء. . .
ولكن ما رأي الأستاذ الجليل حينما يعلم - وهو خير من علم ويعلم - أن ما ذكره الشيخ موفق الدين على سبيل التندر والانبساط قد ورد على سبيل الجد والنقد، وأوخذ به ذو الرمة من جارية معاصرة له، وقد أقر الشاعر لها بهذه المؤاخذة، واحتال عليها بالمال كي تكتم هذا العيب؟ ذكر ابن الجوزي في كتابه (الأذكياء) ص 165 القصة التالية:
دخل ذو الرمة الكوفة، فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب دار، فاستحسنها ووقعت بقلبه، فدنا إليها فقال: يا جارية! اسقني ماء! فأخرجت إليه كوزاً فشرب، فأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية! ما أحر ماءك!. فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حرّ مائي وبرده، فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى. قالت:
فأنت الذي شبهت عنزاً بقفرة ... لها ذنب فوق استها أم سالم(581/37)
جعلت لها قرنين فوق جبينها ... وطبيين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يا غيلان مثل المآثم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم؟!
قال: نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي وما عليها ولم تظهري هذا؛ ونزل عن راحلته فدفعها إليها، وذهب ليمضي فدفعتها إليه، وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى!
هذه هي القصة، فما رأي الأستاذ الجليل؟. .
أحمد الشرباصي
خريج كلية اللغة العربية(581/38)
العدد 582 - بتاريخ: 28 - 08 - 1944(/)
العمالية الفكرية
للدكتور محمد مندور
نقصد بالعمالية الفكرية نشوء طبقة اجتماعية جديدة ينزل قيها المشتغلون بالمسائل العقلية منزلة العمال بما لهم من حقوق ومطالب ومشكلات على نحو ما شاهد النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالنسبة للعمال اليدويين، وبخاصة عمال الصناعة؛ وتلك مشكلة ستتمخض عنها الحرب بعد أن مهدت لها الحرب السابقة. ولفهمها لا بد من إلقاء نظرة عابرة على قيمة العمل الإنساني خلال التاريخ، وتطور تلك القيمة إلى يومنا هذا.
في العصور القديمة كان العمل من اختصاص العبيد، وأما المواطنون فكانوا يرون عاراَ أن يزاول أحدهم بنفسه زراعة أو صناعة، ولقد أثقلت هذه النظرة تاريخ الإنسانية، وجاهد المفكرون وطلائع البشر في رفع هذا الثقل قروناً طوالاَ، بالرغم من أن الإنسانية قد اجتمعت كلمتها على إلغاء الرق؛ فأنه لا يزال العمل ينظر إليه إلى اليوم نظرة لا تتفق مع قيمته الحقيقية من حيث أنه منبع الثروة الوحيد. ومن غريب الأمر أن قدماء الإغريق أنفسهم قد فطنوا إلى قيمة العمل، فجسمها أرسطوفانيس المؤلف الكوميدي الشهير في رواية رائعة هي بلوتس - إله الذهب وهذا إله أعمى قالوا إن الآثينيين ضرعوا إلى الإله الطبيب أيسكيلاب أن يشفيه من عماه فيقيم بمدينتهم اعترافاً بالجميل؛ وهذا ما كان. واستوطن الإله بآثينا، وإذا بالسماء تمطر الذهب حتى غصت به الطرق والحارات، وأمسك جميع السكان عن العمل اكتفاء بهذا الذهب الوفير يغرفون منه لقضاء حاجاتهم. ولكنهم لم يلبثوا بعد أيام أن رأوا المنتجات تنفد، وإذا بهم يتضورون جوعاً والذهب تحت أرجلهم. وهال عقلائهم الأمر، فخفوا إلى الإله الطبيب يرجونه أن يسكب في عين إله الذهب ما يذهب ببصره ثانية، حتى يستطيعوا آسفين معتذرين أن يقودوه خارج مدينتهم لترتفع عنهم تلك المحنة القاسية، محنة الذهب، ويعودوا إلى نشاطهم المثمر، يعودوا إلى الكد وعرق الجبين الذي ينتج من الخيرات ما يشبع حاجاتهم الحيوية، هذا ما رآه الإغريق القدماء، أما رآه أحد كبار مفكريهم، ومع ذلك ظل العمل من اختصاص الرقيق، ولم يستطع أن يتمتع بما له من واجب الاحترام، بل التقديس، وهذا أمر بديهي، فأنت تستطيع أن تملأ خزائنك بالمال،(582/1)
وتترك هذا المال بالخزائن طوال السنين، ثم ترى أنه لم تنتج شيئاً، وإنما المنتج كد الرجال
وفي خلال القرون الوسطى لم يتغير الموقف، فكان الرجال ملحقين بالأرض، تنتقل ملكيتهم بانتقالها من يد إلى يد. ولم يتحرر البشر إلى حد ما إلا عندما أخذت المدن تتكون وتنشا بها طبقات اجتماعية جديدة من الصناع والتجار. ومن المعلوم أن نشأة هذه المدن هي التي مهدت السبيل لمناهضة أمراء الإقطاع، والقضاء على نفوذهم القاسي، وقد اعتمد عليها الملوك في انتزاع السلطة من يد المراء وتوحيد الممالك. وفي مقابل ذلك كان الملوك يمنحون تلك المدن وثائق بها كثير من مبادئ التحرر السياسي والاقتصادي. ومع هذا فإن الحريات التي أعطيت للمدن لم يصب العامل منها إلا خيراَ يسيراَ، وذلك لأن رق الإقطاع قد قابله في المدن تكوين اتحادات عمالية كانت لرؤسائها على أفراد العمال حقوق ثقيلة. وفي الحق إنه لم يكن بد لكي يسترد العمل كرامته من أن تظهر الشخصية البشرية أولاً في الهيئة الاجتماعية، ويسلم لها باستقلالها الذاتي لتستطيع بعد ذلك أن تنضم إلى اتحاد أو نقابة راضية مستنيرة. وتحرير الشخصية البشرية من رق المجموع هو الكسب العظيم الذي كسبته الإنسانية في عصر النهضة الذي وضع حداً للقرون الوسطى. فمنذ ذلك العصر نستطيع أن نقول إن فجر الإنسانية قد تنفس
ثم اخذ المفكرون يبحثون في منابع الثروة ووسائل الإنتاج، وعلاقة الإنسان بكل ذلك. ولما كانت الصناعات لم تنشأ بعد، فقد رأى الباحثون في الاقتصاد عندئذ أن الزراعة هي المصدر الوحيد للثروة، وأما الصناعة فما هي إلا تحويل للمواد الأولية التي تنتجها الزراعة، فهي لا تخلق جديداَ، والتجارة ليست إلا نقلاً للمنتجات
وجاء القرن التاسع عشر باختراعاته العظيمة وأخذت الصناعات تنشأ، ففطن المفكرون إلى أن الإنتاج الاقتصادي ليس تكوين شيء من العدم، والعدم لا ينتج شيئاً، وإنما هو خلق لقيم اقتصادية جديدة، ومقدرة على إشباع الحاجات الإنسانية المختلفة؛ فالمادة الأولية بتحويلها تصبح قيماً جديدة وتشبع حاجات جديدة، وأنث كذلك إذا نقلتها من مكان لا يحتاجها فيه أحد إلى مكان تطلب فيه تعطيها قيمة جديدة أيضاً. وهكذا دخلت الصناعة والتجارة في ميدان الإنتاج، وكان في المناقشات التي دارت حول منابع الثروة وإنتاجها ما انتهى بالمفكرين إلى تقدير العمل الإنساني. ولكن التقدير شيء، والتسليم بحقوق هذا العمل شيء آخر؛ ثم إنه(582/2)
كان تقدير المفكرين، وهؤلاء في كل العصور نفر من الخاصة، والأمر لم يكن يوماً لسوء الحظ بيدهم ليستطيعوا تحقيق نظرهم عملاً، فهم طلائع البشر ولكنهم ليسوا قادته الفعليين. ومع ذلك فقد كان في سبقهم إلى تقدير قيمة العمل البشري قيمته الحقة ما أيقظ ضمائر العمال؛ ولهذا عند ما ظل أصحاب رءوس الأموال متخلفين عن مسايرة العقلية الجديدة لم يلبث التصادم أن نشأ بينهم وبين عمالهم. ورأى العامل أنه لا يستطيع أن يقاوم بمفرده فتكونت النقابات، واجتمعت النقابات في اتحادات، واستعرت روح الطبقات واحتدم الكفاح بينها، حتى انتهى الأمر إلى الحركات الاشتراكية والشيوعية المعروفة، وحتى في البلاد التي حافظت على الملكية الفردية كحافز قوي للإنتاج لم تفلت لم نظمها الاقتصادية، من أن تتأثر بالكثير من المبادئ الاشتراكية بحيث يمكن القول بان الديمقراطية ذاتها قد أصبحت في جميع بقاع الأرض ديمقراطية اشتراكية، أو اجتماعية إذا أردت أن تتجنب اللفظ
هذا الجهاد الإنساني الطويل قد انتهى إلى الإقرار بقيمة العمل اليدوي والتسليم لطبقة العمال، وبخاصة في الصناعة، بالكثير من حقوقها، وهي لم تمنح تلك الحقوق بل أخذتها أخذاً، بحيث نستطيع أن نقول إن العمال في معظم بلاد أوربا كانوا قد وصلوا قبل الحرب الحاضرة إلى درجة محمودة من الرخاء لم يصل إليها المشتغلون بالأعمال العقلية. ولقد رأيت في فرنسا قبيل هذه الحرب العامل المتخصص يكسب ما لا يقل عن ثلاثين جنيهاً شهرياً، بينما ُيعطى القاضي الفرنسي ثمانية عشر جنيهاً. ولقد رأيت في جميع أنحاء أوربا أن الطبقة المهضومة لم تعد طبقة العمال، بل طبقة أولئك العقليين، فبينهم تفشت البطالة، وعن حقوقهم سكتت الهيئة الاجتماعية، وذلك لأن إنتاجهم غير ملموس النتائج، وأفرادهم لم ينظموا بعد في نقابات أو اتحادات. هنالك تجد الموظف تحت رحمة الحكومة، والصحفي مستذلا لصاحب الجريدة، والكاتب يتحكم فيه الناشر، والمتعلم يبحث عن عمل فلا يجده. وليس من شك في أن الإنسانية التي لا يمكن أن تفنى لابد ملتمسة علاجاً لهذه الحالة الصارخة. ولقد عدت إلى مصر فوجدت البلوى أعم: نقابة للصحفيين لم أر لتكوينها مثيلاً في العالم، فهي تضم العمال وأصحاب العمل، ومن الطبيعي أن يتحكم هؤلاء في أولئك. والوضع الطبيعي أن ينفصل كل في نقابته، وأن تتفاوض نقابة مع نقابة لا أن يجتمعوا سوياً كقطط وفيران في مصيدة واحدة. ورأيت أثرياء يخشون أن تطالبهم الحكومة بما يجب(582/3)
أن يدفعوه من ضرائب فيصيحون بها أن أمسكي عن إنصاف المظلومين من الموظفين، وقد عضتهم الحياة بأنيابها، مع أن الضرائب في بلادنا قلما تصل إلى أكثر من 12 % بينما هي لا تنحط في أي بلد أوربي أثناء السلم عن 36 % على نسب تصاعدية عادله. ورأيت ناشرين من التجار الجشعين، يتحكمون في عقول الكتاب وأقلامهم، وينزلون بهم إلى حد الدعارة العقلية لتروج البضاعة التي يقبلونها منهم. وأخيراَ كم بين المتعلمين من عاطلين؟! ولقد جاءت تلك الحرب فقلبت أوضاع الحياة الاجتماعية، فإذا بالعزيز ذليل والصعلوك ثري كبير، ونمت روح الدجل والنصب والاحتيال والنفاق حتى لأعتقد مؤمناً أنه لا بد لتستقيم الحياة الاجتماعية من أن يعاد إليها اتزانها بأية وسيلة كانت
ليست هناك هيئة اجتماعية تستحق الاحترام إذا لم يقدس فيها الفكر، وهذا الفكر هو القوة التي نسيطر بها، لا على النفوس فحسب، بل على المادة أيضاً. وهاهي الحرب قد أوشكت أن تنتهي، وأنا على ثقة من أن العمالية الفكرية ستحزم أمرها، وهي التي تقود الرأي العام، فتطالب بحماية حقوقها وتوفير كرامتها وضمان استقلالها المادي حتى لا يستذلها أحد. وإنه لمن غريب الأمر ألا ترى ببلادنا إلى اليوم قانوناً يحمي الملكية الأدبية والفنية، ولا نقابات للعقليين الذين يزاولون النشاط الحر والثقافة غير المهنية، وإذا أريد لتلك النقابات النجاح، فمن الواجب أن تنحى عنها السياسة، وأن يكون تكوينها سليماً.
محمد مندور(582/4)
6 - نقد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لا نحسب أننا فرغنا من محاسن رامي حتى نخلص إلى معايبه. . . إن كانت له معايب تزري بنبله الجم، وشاعريته الرقيقة، وروحه الذي ظل للعالم العربي كله برداً وسلاماً وروحاً ونشوة أكثر من عشرين عاماً مباركاً يسكب في آذاننا شدو قلبه النابض، وغناء وجدانه الفياض، وأنات نفسه الجريحة الدامية
1 - وأول ما يلفت النظر في حياة رامي وإنتاجه الأدبي هو انصرافه العجيب المفاجئ عن قرض الشعر، واقتصاره على توشية أغانيه المصرية الساحرة، وذلك منذ أن دخلت في حياته الآنسة أم كلثوم!. . . لماذا؟ لماذا يا ترى رضى الشاعر الإنساني أن يكون بلبلاً فحسب؟! حقيقة إنه نظم ثلاثين أو أربعين أو خمسين مقطوعة. . . ولا نقول قصيدة. . . لكنها جميعاً من ذلك النوع الذي ذكرنا آنفاً أنه يصح تسميته (خطابات منظومة) كان الشاعر يضمنها بعض بثه إلى المخلوق السعيد الذي أعاد الحياة إلى قلبه، والإيمان إلى روحه، وإن تكن حياة كلها شكوى وشك وغيرة، وإن يكن إيماناً قلقاً مزعزعاً ينضح بالدموع والآلام
لقد ذكر رامي لصديقي الشاعر الذي سفر بيني وبينه تمهيداً لكتابة هذه الفصول أن لديه مجموعة كبيرة من الشعر الذي نظمه في خلال هذه الحقبة الطويلة من عمره ولم ينشره؛ وقد حاولت أن أطلع على هذه المجموعة ولكني لم أشهدها لأن السفر أعجلني عن ذلك. . . ومهما يكن من أمر هذه المجموعة، فرامي مقصر ولا شك، وثروة الشعر العربي لن تفتأ تطالبه بعشرة أجزاء من ديوانيه الخالد الذي كان يصدره بمعدل جزء عن كل عامين؛ ونحن لا نشك في أن إنتاجه الشعري قد أصبح قلة في جانب إنتاجه الغنائي، وإن يكن قد أودع أغانيه كل ما كان يودع شعره من قطع قلبه وروحه ودموعه. . . ويسرنا أن نسجل أن شعر رامي القليل الذي نظمه في الشطر الأخير من عمره المبارك (الطويل إن شاء الله) أحسن ديباجة وأرق نسجاً، وأحفل بالموسيقى الداخلية من جميع شعره القديم الذي شملته دواوينه الثلاثة؛ ونحن نعنى بالموسيقى الداخلية ذلك التوافق الصوتي الجميل الخلاب، الذي اكتسبه رامي بلا شك من طوال اختلاطه بالموسيقيين والملحنين والمطربين. . .(582/5)
ولعل القطعة التالية التي شدا بها فؤاده من أجل ولده، والتي تذكرنا في رامي بشاعر الإنسانية، هي خير ما نقدمه دليلاً على استنتاجنا:
يا بُنيْ! ما أُحَيْلي يا بُنيْ ... أنت ظل مده الله عليّ
نعمة العمر وتذكار الصبى ... والأمانيَّ التي عزَّتْ لديّ
لست أنساك جنيناً خافياً ... في ضمير الغيب أدعوك إليّ
أتمناك لعيني قرة ... حين ألقاك وليداً في يديّ
أرقب اليوم الذي تبسم لي ... وترى آي الرضى في مقلتيّ
فأناجيك بألحان الهوى ... سابقات خاطري في شفتي
كلمات هي لا معنى لها ... غير أن تسمع مني أي شيِّء
فتراعيني ولا تقوى على ... غض أجفانك عني يا بُنيَّ!
وتشبه هذه القطعة في موسيقاها الداخلية قطعة (القمرية) المنشورة بعدها في مجموعة مكتبة النهضة (1942)
إن رامي يستطيع فيما نعتقد أن يعدل في إنتاجه بين أغانيه المصرية وبين شعره هذا الجميل الرائع العذب. . . ولولا أنني أوثر ألا أنزلق إلى الخوض في قضية العربية والعامية الآن، لأشرت على رامي بإيداع معانيه (البكر)، التي لفتت نظر حافظ من قبل، والتي ضمنها أغانيه المصرية، حينما طغت هذه الأغاني على أشعار رامي،. . . لأشرت عليه بإيداعها بعض قصائده، ليكسب بها الشعر العربي ثروة ثمينة خالدة. . . ولكن. . . هل هذا مستطاع
2 - ولن نعرف الرحمة ولا (الذوق!) ونحن نأخذ على رامي جنايته على الغناء المصري، أو الغناء العربي الحديث، بتركه تلك الفرصة الذهبية النادرة التي أتاحها الله له ليجدد لنا غناءنا تجديداً كاملاً شاملاً، ولتوسيع آفاق أغانينا بإدخال الأوبرا والأوبريت، اللتين لا بد أنه يعرفهما معرفة جيدة، ويزن الفائدة الجليلة البعيدة الأثر التي كانت تعود على الموسيقا العربية ـ أقصد المصرية - والغناء المصري، لو أنه استغل هذا (التخت) العظيم الذي عاش أكثر من عشرين عاماً (يجتر) أغانيه ويرددها ويسندها ويبدأ ويعيد فيها. . . لقد أساء رامي استغلال هذا (التخت) العظيم، كما أساء استغلال دخول الآنسة أم كلثوم - في حياته،(582/6)
فلم يوجه فيها أغانينا التوجيه الصالح الواسع الأفق، الذي يخرج بتلك الأغاني من (دنيا التخت) إلى دنيا المسرح، وإلى دنيا الأوركسترا الراقصة الطروب اللعوب. . . وقد يُعترض على هذا بأنه ليس من عمل الشاعر الذي ينظم لحساب غيره. . . ونحن نرد على ذلك بأنه كلام لا يصح أن يعتذر به لرامي المثقف الذي يعرف من فنون الثقافة الشعرية الأوربية أزهى ألوانها وأبدع ضروبها، ويعرف أن الأغنية التي ترسلها أم كلثوم على التخت، غير تلك الأغنية ذاتها إذا أرسلتها وهي تؤدي دورها في مأساة أو ملهاة أو درامة أخلاقية، لأن الأغنية حينئذ يكون لها جمالها الخارجي الذي يضيفه عليها الموضوع، لا جمالها الداخلي الذي تكسبه من ذاتها فحسب. . . ورب معترض يقول إن رامي قد صنع هذا الذي نطالبه به في أغنياته الكثيرة التي نظمها للأشرطة السينمائية الإثني عشر التي طلب إليه نظم أغانيها كلها أو بعضها. . . وأنه مؤلف (وداد ودنانير). . . ونحن نوافق على أن هذا صحيح وجميل، إلا أنه شيء آخر غير الذي نطالب به رامياً. . . إننا محرومون إلى اليوم من الرواية التمثيلية الغنائية الكاملة أو التي يصل أغانيها وكثيراً من حوارها النثر الخفيف، وهذه الرواية التمثيلية الغنائية شيء عظيم بارع في آداب أوربا وموسيقاها وهو غير موجود إطلاقاً في أدبنا أو في موسيقانا. . . فمن من شعرائنا جميعاً - غير رامي - هيأ الله له تلك الفرصة الذهبية النادرة من حيث اتصاله بالموسيقيين والملحنين والمطربين ثم أساء استغلالها كما أساء استغلالها رامي، فلم ينتفع بها في إحداث تلك الثورة التي سوف تظل أغانينا ناقصة معيبة شوهاء ما لم يجرفها تيارها، وما لم تحترق في نارها فتخرج زكية سنية ذات روح وذات لألاء وذات جوهر نقي مُصفى
3 - ولعل غلطة رامي في ذلك - أنه قصر صداقته الفنية على أبطال موسيقي (التخت) - وهم - مع إجلالنا لهم وإعجابنا بهم والإشادة بذكرهم في غير مناسبة، قوم أميون في ثقافتهم الفنية، فهم لا يفهمون ما الأوبرا وما الأوبريت، ومن الخبال أن نطالبهم في ذلك الميدان بشيء هو ضد طبائعهم، وعكس سلائقهم الفنية، التي لا تزيد كثيراً على تكرير الغناء وتسنيده أو التمهيد له - ولذلك فنحن نستحثهم أن ينتفعوا بفرصة معهد الموسيقى والغناء المسرحي، فلا يدعوها تفلت منهم، لأن في إفلاتها القضاء عليهم. . . وهذا موضوع آخر له حينه ومقامه إن شاء الله(582/7)
نريد أن نعيب على رامي عدم انتفاعه بأحد ممن ثقفوا الموسيقى الغربية ومرنوا فيها، بل برزوا في التأليف بها. . . والمؤلم أنه يعرف الكثيرين منهم، وأن الكثيرين منهم يعرفونه. والرجل الذي تضعه المقادير في المكان الذي يهيئ له القيام بثورة إصلاحية ثم ينكص على عقبيه، فلا ينتهز الفرصة التي هيأتها له هذه المقادير هو رجل مقصر بلا ريب، إن لم يكن شيئاً آخر لا نؤثر التعبير به
4 - ويزيد في أسفنا - بهذه المناسبة - إعراض رامي عن التأليف للمسرح في دائرة اختصاص مواهبه الشعرية: ولعل الذين لا يعرفون ماضي رامي المسرحي يسألون: وما بال رامي، وما بال مطالبته بشيء لم يدرسه، أو لم يألفه؟ فعلى هؤلاء أن يعلموا أن رامياً قد خدم الثقافة المسرحية في مصر خدمة طيبة سيذكرها له الذاكرون دائماً؛ فقد أخذ نفسه بترجمة مجموعة كبيرة من أشهر الروايات مثلت جميعاً على المسرح المصري، وخلبت الباب نظارتها بجمال أسلوبها وحسن اختيارها ومرونة ترجمتها حتى تلائم المتوسط العام لجمهور مسرحنا، ومن هذه الروايات هملت ويوليوس قيصر والعاصفة والنسر الصغير، ويهوديت وفي سبيل التاج وجان دارك وشالون كورداي وسميراميس. . . ومجرد ذكر أسماء هذه الروايات يذكرنا بماضيها المسرحي الناجح في المسرح المصري. ولست أدري كيف يبلغ رامي هذه الدرجة من المجد الشعري، وكيف يبذل كل هذا المجهود في دنيا المسرح ولا يفكر مطلقاً في نظم الدرامة المسرحية. . . ماذا نسمي هذا التقصير الذي يحدث هوة سحيقة في مجد رامي؟ وما سبب هذا التقصير يا ترى؟ هل سببه أنه كان يخضع لمقتضيات البيئة الفنية التي كان يعمل لحسابها؟! تلك البيئة التي صرفته - أو أوشكت أن تصرفه - عن قول الشعر، وعن التفكير في نظم الأوبرا أو الأوبريت، لقد حاول رامي مرة أن ينظم الدرامة المسرحية، وكانت محاولته جيدة ناجحة، وذلك حينما نظم (غرام الشعراء) التي نشرها (في الرسالة) (على ما اذكر)، والتي مثلتها إحدى الفرق المصرية ولا تزال محطة الإذاعة الحكومية تعيد إذاعتها بين الفينة والفينة. فماذا وقر في ذهن رامي بعد هذه المحاولة؟
5 - ومما يؤخذ على رامي أنه وقف بتجديده في الأغاني المصرية عند حد الابتعاد بها عن الابتذال القديم، وتوسيع افقها بتضمينها تصوير الطبيعة المصرية والإفاضة في تحليل(582/8)
العواطف الإنسانية مما أشرنا إليه من قبل، ومما شكرناه لرامي الشكر الذي يستحقه؛ وقد كنا نطمع من رامي أن يذهب في التجديد إلى أبعد من هذا الحد، فكان يحاول مثلاً نظم الأغاني القصصية التي ُحرم منها الشعر المصري الحديث ذلك الحرمان المزري المعيب، فعسى أن يتحفنا الشاعر الذي عمر حياتنا بأعذب ألحانه وأرق أغانيه بهذا اللون المفقود في غنائنا المصري. . . القديم والحديث
6 - كان أن رامي موفقاً في معظم أناشيده. . . إلا أنها وا أسفاه جاءت كلها أناشيد غنائية يصعب على الجماعة أداؤها. وليس ذلك لطبيعة تلحينها كما يتبادر إلى الذهن أول الأمر، ولكن لطبيعة تأليفها دخل كبير في ذلك. . . ومن السخف أن نطالب رامي بنشيد قومي. . . ولكن من الواجب أن نطالبه بأناشيد مصرية متنوعة يسجل فيها رامي بأسلوبه الساحر وتصويره الشاعر ونظمه العذب الدقيق: مصر الحديثة الناهضة، مصر الفلاحة العاملة. مصر التي تذهب كل صباح إلى الكتاتيب والمدارس والجامعات. . . مصر المتضامنة التي تأبى أن تتخلف عن قافلة المدنية. . . تلك القافلة التي جد بها المسير
7 - أما لغة رامي، وموسيقى شعره الخارجية. . . أعني أوزانه وبحوره وقوافيه. . . فالنقد الذي يعنى بالناحية الجدية يستحيى أن نقول فيها شيئاً. . . عاش رامي حياة طويلة طيبة، تنبض بالحب في قلب مصر الحديثة، وعاش لمصر والشرق يملأهما شدواً وغناء وتجديداً. . .
دريني خشبة(582/9)
هاهو ذا الإنسان
لحن ثائر وطبيعة منحرفة!
للأستاذ زكريا إبراهيم
شعلة متوهجة تقدح الشرر، ولهب حار تتراقص فيه النيران، وسيل جارف تتدفق منه الأمواه: تلك هي ملحمة نيتشه الفلسفية الرائعة!
إنها شعر دافئ ينبض بالحياة، ولحن ثائر يزخر بالقوة، وموسيقى صاخبة تفيض بالنشوة. . . هي فلسفة حية نبعت من قلب الوجود، وسرت في دماء صاحبها حارة فائرة، ثم تدفقت على لسانه عاصفة هوجاء تهدر وتزفر! ولكنها فلسفة قد شاقها الأفق البعيد، واستهواها النجم القصى، فلما حلقت بجناحيها كالنسر في أجواز الفضاء، وأشرفت على الوجود من قبة السماء، لعبت برأسها نشوة العلو، فتضاءل الوجود في عينيها المشدوهتين، وتصاغر الكل تحت جناحيها المنشورين!
. . . أجل، إن في شعر نيتشه سحراً غريباً يستأثر بالخيال؛ فإن الصور والمشاهد تتابع فيه كالرؤى والأحلام، والنفس تتنقل معه كأنما هي في رحلة رومانتيكية رائعة في بلاد ساحرة فاتنة: تمر بها المشاهد الأليمة المرعبة، بعد المشاهد السارة المبهجة، ويطوف بها الغريب المضحك، بعد الجليل الرائع؛ ولكن الأمر الوحيد الذي يفسد على الإنسان كل ما في نيتشه من الجوانب الوجدانية المستحبة، ويدفعه إلى النفور منه والعزوف عنه، هو تلك الكبرياء المتعالية التي اصطبغت بها فلسفته، وذلك الغرور المتطرف الذي اتسمت به أحكامه. . .
كان نيتشه يعتقد أنه نسيج وَحْدِه، ولذلك فقد اتخذ في كل مؤلفاته موقف فاوست المتمرد ذي النزعة الرومانتيكية، وثار معه على كل قانون، وكل أخلاق، وكل حياة اجتماعية. ولما تضخمت عنده شخصيته، أصبح ينظر إلى ذاته على أنها مركز للعالم كله، لا بل أستغفر الله، على أنها تستوعب العالم كله وتضمه تحتها! فإذا قال نيتشه بفكرة، فقد وجب ألا يكون أحد قد سبقه إلى تلك الفكرة؛ وإذا أصدر نيتشه حكما، فلا بد أن يكون هذا الحكم صحيحاً، ولو أجمعت الإنسانية كلها على أنه غير صحيح!. . . لقد عاشت الإنسانية على قيم فاسدة وشرائع كاذبة، فلابد من أن يأتي نيتشه بلوحة جديدة للقيم يقضي بها على كل تلك الأوهام(582/10)
والخرافات التي ظلت الإنسانية تحرق لها البخور طوال حياتها! أليس نيتشه هو مسيح العصر الحديث الذي اعتقد في نفسه أنه أعظم رجل أنجبه عصره؟ ألم يقل نيتشه إن الثورة الفلسفية التي سوف تحدثها آراؤه، ستكون نقطة البدء لانقلاب هائل يحل بالإنسانية كلها؟ ألم يعتقد نيتشه أنه حطم شريعة المسيحية ووضع حداً لقيمها الكاذبة ومعاييرها الخاطئة؟ إذن فليس من حرج عليه إذا قال بملء شدقيه: (إن الناس تخطيء الحساب، إذ تعتبر بداية التاريخ، ذلك اليوم المشئوم الذي بدأت به المسيحية. أجل، لماذا لا تكون بداية التاريخ هي نهاية المسيحية؟ إذن فلنحسب القرون والأجيال، ابتداءً من اليوم، فإن يومنا هذا هو يوم تحول مطلق للقيم والمعايير كلها)!
هكذا قال صاحب لوحة العهد الجديد، الذي آمن بالأرستقراطية المتطرفة، وانتهى به غروره إلى قمة الجنون الباردة وليس بدْعا أن يعتقد نيتشه في نفسه أنه مسيح العهد الجديد، فقد خيل إليه أن شريعة المسيح قد تهدمت على يديه، وأن عليه هو أن يقدم للإنسانية شرعة جديدة يقيم بها بناء القيم من جديد! وقد قارن نيتشه بين نفسه وبين المسيح، وقدم نفسه في كتابه: (هاهو ذا الإنسان!): باعتبار أنه المسيح الجديد! وحينما كان الجنون قد أخذ يتسلل إليه، نراه يوقع خطابه الأخير إلى (براند يس) بإمضاء (المصلوب)! وليس من عجب أن يعتقد نيتشه ذلك نفسه، فقد توهم أن العمل الذي قام به في عالم الأخلاق والفلسفة، عمل فريد لم ينهض به أحد من قبل. . . وأما مؤلفاته فقد اعتبرها من قبيل ذلك الوحي الذي يجيء به الأنبياء المرسلون، وأن كانت تختلف عنه في أنها وحي صادق لم تموهه الأكاذيب والأساطير! وتبعاً لذلك فقد تحدَّث نيتشة عن كل كتاب من كتبه، باعتباره حدَثاً هاماً بالنسبة إلى العالم كله؛ ووسم واحداً من هذه الكتب باسم (الفجر)، ظناً منه أنه هو فجر اليوم الجديد الذي طلع على العالم بأسره!
وحينما نظر نيتشه إلى عالم القيم ألفي أن النقد السائد فيه نقد زائف بهرج، فأعلن بقوة وحماسة أن الوقت قد حان لتغيير مادة ذلك النقد وصورته معاً. . . أجل، إن الإنسانية قد أخطأت حتى الآن في كل قيم الحياة التي اتخذتها لنفسها، فلابد من أن يأتي مشرع هذا العصر، فيقدم لها صورة صادقة للحياة الوحيدة التي يمكن أن تكون جديرة بأن يتحمل المرء في سبيلها مرارة العيش! وقد نادى نيتشه بقيم الحياة الجديدة، ثم هتف في نشوة(582/11)
وسرور: (إن آلاف الأجيال القادمة لن تقسم إلا باسمي)!
وتضخمت في نفس نيتشه عاطفة الأرستقراطية، فلم يلبث شعوره بنفسه أن تزايد، حتى استحال إلى شعور مريض غير طبيعي. وليس أدل على انحراف نفسيته في هذا الصدد، من أنه كان يعتقد أنه ينتسب إلى سلالة نبيلة من جنس سلافي، كأن السلافيين جنس راق ليس أنبل منه، وكأنما هو سلافي أصيل حقاً! - فهذا الألماني الذي تجري في عروقه دماء جرمانية خالصة، كان يفخر طوال حياته بأنه من أصل بولوني عريق، هو آل على حين أن أخته نفسها قد ذكرت أنه ليس في عروقه قطرة واحدة من الدم البولندي! وهذا الابن الذي أنجبه قسيس ألماني من مقاطعة بروسية، كان يتوهم دائماً أنه ليس بألماني! وقد كوَّن عنده ذلك الأصل البولوني المزعوم فكرة متسلطة سيطرت على نفسه وكان لها تأثير كبير في حياته، حتى لقد أصبح يخضع لها في كل تفكيره وعمله
ولما كان النبيل البولندي - فيما يروى نيتشه - يفصل في الحكم الذي يُصدره مجلس بأكمله، فيحكم عليه بجرة قلم واحدة أنه منقوض أو ملغي، وبذلك ينسخ حكم ذلك المجلس بكلمة واحدة، فقد شاء نيتشه أيضاً أن يقضى على كل ما حكمت به الإنسانية مثل هذا القضاء، ومن ثم فقد تقدم في بطولة وإقدام، وكتب تحت كل ما قضت به الإنسانية حتى الآن: (منقوص)! ونحن نعلم أن كويرنيكوس كان بولونياً؛ وقد غير كويرنيكوس نظام الكون، فلا بد أيضاً من أن يقلب نيتشه نظام الأفكار والمعايير رأساً على عقب، ولا بُدَّ من أن يجعل الإنسانية تدور حول محور مما كانت تحتقره وترذله - وإذا كان شوبان البولندي (وهو في الحقيقة فرنسي أيضاً بحكم أن أباه كان فرنسياً) قد حرَّر الموسيقى من التأثيرات الألمانية، فإن نيتشه لا بد أيضاً أن يحرر الفلسفة من هذه التأثيرات الألمانية! ولكن كل ما فعله نيتشة في الواقع هو أنه عدَّل فلسفة شوبنهور واتجه بها اتجاهاً خاصاً؛ فلم يتجه بإرادة الحياة اتجاهاً تشاؤمياً، ولم يَلْقَ ضروب التغير وما يجيء معها من ألوان الألم المختلفة بكلمة (لا) (كما فعل شوبنهور) بل اتجه بإدارة الحياة اتجاهاً تفاؤلياً، وتقبَّل كل وما يجئ به التغير من ضروب الألم. أما الذي جعله يعتقد أنه قد اتجه بالفلسفة اتجاها جديداً خاصاً، فهو ميله إلى اعتبار نفسه رائد الإنسانية الأول! فإن نيتشة حينما كان ينتج فكرة من الأفكار، كان يتوهم أن أحداً قبله لم يسبقه إلى تصور تلك الفكرة؛ ومن أجل ذلك فإن كل(582/12)
عبارة من عباراته، وكل قول من أقواله، يرن في السمع كأنه كلمة الخالق: (ليكن نور)! أي كأنما هو يستخرج عالماً من العدم!
وعلى الرغم من أن نتيشه قد انتقض على الفلاسفة الألمانيين جميعاً، فإنه قد اعتقد بمثل ما اعتقد به هؤلاء (ابتداء من هيجل حتى شوبنهر) وهو أن ليس في استطاعة أحد غيره أن يفهمه! وفي كتابه (عدو المسيح) نجده يذكر أن اليوم الذي سيكون ملكاً له إنما هو اليوم الذي يتلو الغد. . . (إن هناك أناساً يولدون بعد موتهم؛ وأنا أعرف جيداً ما هي الشروط التي لا بدّ منها، لكي يفهمني الناس: آذان جديدة تستطيع أن تتسمع الموسيقى الجديدة. . . أعين جديدة تستطيع أن تستشف الأشياء البعيدة. شعورٌ جديد يستطيع أن يتقبل الحقائق التي ظلت صامته خرساء حتى الآن. إن من يتهيأ لهم هذا كله، هم وحدهم قرائي، قرائي الحقيقيون، المقدَّرون لي منذ الأزل؛ فماذا يعنيني عن الباقين؟ إن الباقين هم الإنسانية (أو العامة، فالمعنى واحد)؛ ولا بد أن نسمو على الإنسانية في القوة، ورفعة النفس، والقدرة على الاحتقار)!
هذا هو نيتشه كما بدا لنفسه، فقد اعتقد فيلسوفنا أنه ليس ثمة رجل يدانيه بين أهل عصره. وعلى الرغم من أن نظرته إلى نفسه لا تخلو من الصدق في بعض النواحي - لأن شخصية نيتشه في الواقع شخصية فريدة، قلما يعثر المؤرخ على نظير لها - إلا أن في هذه النظرة أيضاً شيئاً غير قليل من الإغراق والتهويل. ومهما يكن من شيء؛ فإن قارئ نيتشه تتوزّعه عاطفتان مختلفتان أثناء مطالعته لكتب فيلسوفنا: عاطفة الإعجاب من ناحية، وعاطفة الشفقة والرثاء من ناحية أخرى (بالرغم من أن نيتشه قد اطرَّح هذه العاطفة الأخيرة واعتبرها إهانة أو مسبَّة) فنحن نجد لدى نيتشه، وفي تضاعيف كثير من الأفكار السامية، شيئاً ينطوي على الانحراف والشذوذ، وهذا الشيء يستوقف أحياناً، ويضيع على القارئ أروع التأثيرات العقلية في أحيان أخرى. وإذا كان نيتشه قد وسم كتاباً من كتبه باسم (مسألة فجنر، مشكلة موسيقية)، أفليس في استطاعتنا نحن أيضاً أن نقول: (مسألة نيتشه، مشكلة مَرَضِيَّة)
زكريا إبراهيم(582/13)
في رمضان. . .
للأستاذ منصور جاب الله
لكل أمة مواسمها وأعيادها، وللمسلمين في رمضان موسم حافل جليل، فأما حفوله فيرجع إلى أن له طابعاً يمتاز به على سائر الشهور، فله مطاعم خاصة ومشارب خاصة لا تلذها الأعين في غير أيامه، ولا تشتهيها الأنفس إلا في صيامه، وهو يعد موسم التجارة ونفاق الأسواق، وزيادة الكسب، وتضاعف المرابح، فكم من تجارة معطلة أو بضاعة مزجاة تجد في غضونه موسمها الرائج، وعصرها الذهبي، وكم من صناعة يحييها رمضان من العدم، وتبقى ما بقيت أيامه، فإذا مضى انقضت بانقضائه، وأمست في قرارة النفس منها ذكرى
فهو ولا غرو شهر تحي فيه النفوس وتستمتع به القلوب والعيون، وإذا كان رجل التقوى والورع يجد فيه متاع نفسه ولذتها، فرجل الفن ولا ريب واجد فيه طلبة روحه وبغيتها، فللحكمة فيه بلاغ، وللتذكرة مساغ، وللفكاهة تطريب، وللعلم ترغيب. وإذا كان المسلم يجد في رمضان متاعاً من جهة الدين والتقى، فغير المسلم واجد متاعه من جهة الفن والملهى وكم شهدنا صدقاناً لنا على غير الإسلام يطوون هذا الشهر المبارك صائمين نهارهم فإذا جنهم الليل عمدوا إلى فطور المسلمين متلذين فرحين، ولقد كان بعضهم يرى في الإمساك عن الطعام مشاطرة لإخوانه المسلمين، وحفاظاً على تقاليد البلد الإسلامي، وتأدباً دون المجاهرة بالإفطار، فرمضان من هذه الناحية قاس على المفطرين، فما يُرى المرء مفطراً يطعم الطعام جهاراً نهاراً إلا أحس منه خروجاً على العرف ومخالفة مشنوعة للتقاليد، قد تتاخم في بعض الحين جريمة الاعتداء على المال أو العرض! ولقد كانت الدولات الإسلامية في ذرورها تعاقب المفطرين من غير عذر، بإقامة الحدود عليهم، هكذا يكون عقاب المستهترين بدين الله وشعائر الدولة والخارجين على نظام الحكومة وتقاليدها، ردعاً لهم وقمعاً لشهوات الناس المطوّحة بهم في سبل من المنكر لا ترضى
وإذا كان قد رفع الحد عن المفطر لما تخاذلت الدولات الإسلامية، وتداخل العنصر غير العربي في إدارة الشئون، فلقد بقى على الأيام الحد الأدبي، فما أفطر بغير عذر إلا طريد مجتمع أو أضحوكة في المجالس
وأما الآخرون من غير المسلمين فيصومون رمضان لا ورعاً ولا تقى، ولكن يصومونه(582/14)
صوماً فنياً بمعنى أنهم لا يشعرون بالأحاسيس الوجدانية والنفحات اللدنية التي يستحسها الصائمون القائمون من المسلمين. وإنما يرون فيه حمية قامعة لا تحتاج إلى استشارة الطبيب، وهم إذا يرون ألوان المطعوم والمشروب يتشهون ما تقع عليه العيون، ويتحلب منهم اللعاب ثم يقبلون على الشراء وإذا هم يذكرون أنهم مأخوذون من تلقاء أنفسهم بالحمية والامتناع من مزاولة الطعام والشراب، فيمضون في الحمية إلى غاية النهار، يروضون النفس على قوة الإرادة. وتلك هي (فنية) الصوم عند الصائمين المشاطرين من غير المسلمين
على أن للصوم حكمة تسمو على (الفن) يستشعرها الصائم صوماً حقيقياً لا أثر فيه للرياء ولا للمكابرة، وتلك هي المقصودة من قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فما يبعث الصوم إلا على التقوى، وما يستثير في النفس غير الورع والرثاء لحال ذوى الخصاصة والمخمصة والفقراء والمساكين، وما تشعر النفس إلا بالحدب على هؤلاء، وإيثارهم بالصدقة، وبرهم بالزكاة
وأن الله جلت قدرته لعليم بما يضار به الصائم وما يلحقه من أذى إذ يترك ـ بأمره تعالى ـ طعامه وشرابه، ويقتسر اقتساراً على هجران كيوفه ولذاذاته، وما كانت تلك منه إلا بمنزلة النفس يتردد، أو القلب يتحرك!
فهذا وهذا يجتمعان على النفس، ويأتلفان على الروح، مما يصعب في قليل أو كثير على الناس، ولكن لا مناص لهم من هجران مطاعمهم وكيوفهم وإذلال نفوسهم، حتى تعرف النفس الناعمة الراضية مقدار ما يعاني أهل المخمصة من ألم الجوع وحرارة العطش وأوصاب المرض وبرحاء الألم
وهذه، ولا ريب حكمة تسمو على كل حكمة، وما تخفي مراميها على أحد سبر كنه الصيام
والصائمون وكثير ما هم، أتراهم يحسبون حكمة في الصيام؟ لعل كثرتهم الكثيرة لا ترى في الصوم إلا أنه ضرب من التسلية والتلهي؛ فلا تشق الشهر الأطول إلا بنهار نؤوم وليل ما جن؛ فإذا جاء العيد انقلبوا فكهين. وعادوا إلى ما كانوا يقارفون من فنون القطر. وكأن هؤلاء ما صاموا ولا طووا النهار عطاشاً جائعين
ولقد تجد فرداَ من الناس اقتعد من الناس مكان الصدارة، وتبوأ كرسي الرياسة، وإذا به(582/15)
يستفتح مجلس اللغو، مرسلاً لسانه يخوض في عرض هذا ويثلم شرف هذا وينحى باللوم الشديد على هذا، حتى إذا وقف لسانه في حلقه من شدة التعب - تعب الكلام وتعب الصيام - ونال من كل الناس مبغاه وقضى من كل ما يريد وطراً. رفع بصره إلى السماء وصاح في ورع متكلف (اللهم إني صائم اللهم إني صائم)، كأن هذه العبارة في عرفة تجب كل ما سبق، وتنسخ سائر ما قبلها، وتفتح له باب السماء، وتكون توبة نصوحا يلقى بها وجه الله راجمة حسناته سيئاته، وما هذه إلا صورة لا تخفى من صور رمضان، وما نرانا في حاجة إلى استيعاب غيرها من الصور؛ فالكلام في رمضان لا يتناهى عند حد، والكلام فيه لا يمل له دفع ولا رد.
ونخلص من هذا إلى القول بأن رمضان في هذه الأيام العصيبة التي أخذ الناس فيها يدركون معنى الإسلام الحقيقي. وتقدمت فيها الصفة الإسلامية للدولة، إلى مقام الصدرة من سائر بلدان الإسلام، نقول إن رمضان قد أصبح في هذا العهد ذا صفة بارزة محسوسة، إن كاد ليكون شيئاً مادياً تلمسه الأيدي وتراه العيون، وإن كاد ليأخذ بتلابيب المفطر ليدله على احترام شعائر الله وأداء فرائضه. وما هذا إلا من بشائر التوفيق ونصرة دين الله.
منصور جاب الله(582/16)
على هامش الغفران
للأستاذ كامل كيلاني
(مقدمة كتاب (على هامش الغفران) الذي يصدر في أول
سبتمبر بمناسبة العيد الألفي لأبي العلاء المعري)
تمهيد
1 - شجر الحور
صور فيلسوفنا (أبو العلاء) فيما صور من روائع أخيلته في (رسالة الغفران) ما لقيه صاحبه في موقف الحشر - قبل أن يؤذن له بدخول الفردوس - وما كابده يومئذ من شدائد وأهوال، يتضاءل بالقياس إليها كل ما قاساه في حياته الأدبية من عناء البحث والدرس. ثم صور ما نعم به - بعد ذلك - في رحاب الفراديس من أطايب ولذائذ مرتقيات، يتضاءل - بالقياس إليها - كل ما يبهج الأديب في أفقه الفكري من متع عقلية، ومعان فلسفية، وصور بيانية. ثم تمثل فيلسوفنا صاحبه وقد رافقه في دار الخلد ملك كريم، فجعل يريه من رياض الجنة عجائب، لا يعرف كنهها إلا الله سبحانه. وثمة قال الملك:
(خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها، فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور)
فيأخذ سفرجلة، أو رمانة، أو تفاحة - أو ما شاء الله من الثمار - فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء، تبرق - لحسنها - حوريات الجنان)
2 - قارئ الغفران
ثم التفت فيلسوفنا إلى قارئ رسالته، وقد خشي أن تحول غرابة بعض ألفاظها بينه وبين دخول فرودسه الأدبي البهيج واجتناء ثمار جنته الفكرية، فقال:
وإنما أفرق (أفزع) من وقوع هذه الرسالة في يد غلام مترعرع ليس - إلى الفهم - بمتسرع، فتستعجم عليه اللفظة (يستبهم معناها ويستغلق فلا يتبينه) فيظل معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل (السرعة) ولا الرُّوَيد (المهل)
3 - ترجمة النصوص(582/17)
وما أجدرنا أن نستشعر - من الإشفاق والحذر - أضعاف ما شعر به فيلسوفنا - قبل مئين عشر من السنين، وأن نزيد، إلى شرحه - أضعاف ما أثبته، وأن نترجم نصوصه إلى الأسلوب العصري، وأن نصنع بها صنيعنا في أجزاء (حديقة أبي العلاء) و (رسالة الهناء)، حتى لا يضجر شبابنا الذكي بما يعترض طريقه إلى هذه الجنات الفكرية - بين خطوة وخطوة - من صخور وهضاب ومتاعب وصعاب، إن كانت تؤمن معها العثرات، فلا مرية أنها - على الأقل - معوقات
4 - في صحبة المعري
ولا أكتم القارئ أني - كلما امتدت بي صحبة هذا الفيلسوف الموهوب، ورأيت إقبال الخاصة على أدبه الصادق وخياله الأصيل - وجدت لذلك في نفسي غبطة لا يعدلها إلا غبطتي بما أكن من حب وتقدير لهذه الشخصية العالمية الفذة التي تفتن الباحث بما انفردت به من الخصائص والمزايا؛ فيؤثرها على غيرها من الشخصيات - في عالم الفكر والبيان - ولا تلبث عبقريتها أن تملك عليه من مذاهب التكريم والإعجاب قدر ما ملكت آثارها الرائعة من مذاهب الجودة والإبداع.
5 - تبسيط الآثار العلائية
وإنه ليطيب لي أن يكون في موالاة الحديث عن (أبي العلاء) تجلية لما بقي في أيدينا من روائعه بين قراء العربية، وإذاعة لخصائص ذلك الفكر النفاذ بألمعيته إلى سرائر الكون ودقائق الحياة، المؤيد بقدرة ساحرة على التصور والتصوير، وتملك شامل لناحية اللغة في الإبانة والتعبير.
ولست أشك في أن تبسيط هذه الكتب العلائية، وترجمة جمهورها إلى الأساليب العصرية، سيخلق من المتأدبين أشياعاً جدد لأبي العلاء، ومريدين عارفين بدقائق مراميه، وغوامض أهدافه ومعانيه، ونصراء لأدبه الرفيع، وصحابة يؤمنون بفنه العالي، فلا يلبث صاحب (الغفران) و (اللزوميات)، و (الفصول الغايات) أن تزف إليه مكانة الصدر التي ينفرد بها بين قادة الفكر العربي غير منازع
6 - جزاء العاملين(582/18)
وقد تضافرت الحوافز البعيدة، والجهود الموفقة الرشيدة، على استثارة هذا الكنز العلائي الذي كان مغيباً في ظلمات الأيام، وكان هذا دليل اليقظة الأدبية الصادقة في هذا العصر، كما أسلفنا القول - منذ عشرين عاماً أو تزيد - في مقدمة اللزوميات، كما كان هذا التقدير خير جزاء للعاملين
7 - صديق وأستاذ
لقد كان من دواعي السعادة التي ظفرنا بها في مستهل حياتنا الفكرية، أن شببنا ونحن شديدو الولوع بهذا الأديب الموهوب، وما زلنا مأخوذين بما نظم ونثر، نديم التفكير في فلسفته العالية التي تمتح من قريحة صافية، مفتونين بنظراته التي تمدها بصيرة كأنما أودعها الله حرارة كوكب آلق لا يفتأ يشع، حرصاء على استنفاد الوسع في نقصي بدائعه. فكان (أبو العلاء) لنا - منذ نشأتنا الأدبية - صديقاً بل أستاذاً لا نريم مجلسه، ولا نمل حديثه، فما نزال نبدي في روائعه ونعيد، حتى لقد أفقدتنا تلك الروائع كراهة الحديث المعاد.
والحق أن الاستماع إلى البيان الساحر كالنظر إلى الجمال الساحر، كلاهما أخاذ يستولي على نقس الرائي والسامع جميعاً، متجدد الفتنة أمام أعينهما أبداً، كأنما عناه (ابن الرومي) حين قال:
(ليت شعري إذا أعاد إليها ... كرة الطرف مبدأ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه ... أم لها - كل ساعة - تجديد
بل هي العيش لا يزال - متى استع ... رض - يملى غرائباً ويفيد)
8 - سحر البيان
ولولا هذا السحر الذي غمر نفوسنا من الأدب العربي، وذلك الولاء الذي طوينا عليه جنوبنا للفن العلائي، لما تيسر لنا أن نظفر بتذليل ما لقيناه من المصاعب في تحقيق النصوص الكاملة لرسالتي الهناء والغفران، وترجمتهما - مع ما ترجمناه من رسائله الأخرى وأشعاره - إلى الأسلوب العصري.
9 - حوافز ومرغبات(582/19)
وكان من الحوافز التي زينت لنفوسنا هذه الفكرة التي ترمي إلى تقريب البيان العلائي، من أذهان الجمهور العربي في عصره العتيد أننا عنينا - من قبل - بترجمة طائفة من روائع كتاب الغرب وشعرائه، وكان لما نقلناه من أدب (شكسبير) حظ من الإقبال والتقدير، بعيد المدى عظيم التأثير، جدير بعبقرية هذا الشاعر العالمي الكبير
10 - ترجمة إنجليزية
ثم يسر الله لنا - من بعد - أن نتعاون مع الأديب الإنجليزي المسترج. براكنبري على إخراج ترجمة إنجليزية لرسالة الغفران مقتبسة من الطبعة الثالثة، وترجمة ثانية مقتبسة من (حديقة أبي العلاء)، وقد ظهرت الأولى؛ فلقيت من أدباء الغرب ومفكريه ما هي خليقة به من الإعجاب والإطراء. وسنتبعها الثانية بعد قريب.
11 - در في أصدافه
وما أحق هذا، بأن يوحي إلينا أن يكون الأدب العلائي قريب الجني، عذب المنهل، لكل وارد عربي، يسمع بالمعري، ويعلم مكانته وعبقرية، ثم تحول الحوائل بينه وبين الاستمتاع بما ترك من روائع الفكر، وخوالد الأثر إذ ألف ذلك العربي أسلوبنا العصري، وتصعب عليه ما سواه من تليد البيان، وبوده أن تتفتح له الأصداف عن غوالي الدرر، تتكشف له الأقنعة عن واضح الغرر
12 - تجلية الغامض
وما أجدر رواد الأدب العربي عامة والأدب العلائي خاصة أن يطيلوا الروية والجلاد والمصابرة ليتسنى لهم الاهتداء إلى حل طلاسم التحريف التي عقدتها أنامل النساخ، وتجلية الغامض من العبارات، وتحقيق المشكل من المفردات، والتعليق على المعاني بما يؤيدها من شعر (أبي العلاء)، حتى يستعين القارئ بذلك كله على استطلاع وجود الرأي في أغراض ذلك المفكر العبقري، واختلاف الصور في شعره وضوحاً وغموضاً، وإجمالاً وتفصيلاً، ولكي يصبح ذلك كله باباً من أبواب البحث الأدبي، وهو لا ينفتح إلا بطول الاستقراء، واستحثاث الملاحظة، وإذكاء الفطنة.
13 - عرائس الخيال(582/20)
وإن ذلك ليستعصي على البحث إذا لم نحبب إليه ملازمة أبي العلاء، فنوضح له من أسراره ودقائقه ووجود آرائه، ما يستغلق على من يكتفي بالنظرة العابرة، والخطرة الذاهبة. ومتى ظفرنا بتحقيق هذه الغاية، أنس القارئ بفيلسوفنا، وأحسن معه الصحبة، فلم يضجر بأسلوبه، ولم ينفر من غرابته، ولم يجد في فردوسه من الثمار إلا ما وجده (ابن القارح) في جنة الحور، فلا يكسر منها ثمرة إلا خرجت منها عروس أخاذة من بنات الأفكار، بارعة الجمال، تبرق (تتحير) - لحسنها - أبكار المعاني وعرائس الخيال.
14 - أغرض الهامش
وقد جعلنا هذا الهامش تبياناً لما أحاط برسالة الغفران من ملابسات، وما بعث عليها من دوافع، حتى يأنس القارئ بجلية خبرها، فيما يطالع من صورها. وعقبنا على ذلك يبسط جمهرة من الأغراض العلائية البعيدة الأغوار، مما لم يتسع له تعليقنا على النص الكامل الذي توخينا في شرحه ما وسعنا من قصد وإيجاز.
وقصارى رجائنا أن تكون فصول هذا الهامش وأجزاؤه عوناً لشبابنا على تفهم ما استسر من مغالق الغفران وخباياها ورائدا يكشف لهم ما دق من غوامضها وخفاياها، وهادياً يؤمنهم مخاوف الطريق، إلى روائع هذا الكنز السحيق، ويقفهم على مرامي هذا الفيلسوف البارع، ويجلو لهم بدائع لفتاته وأمثلته، ومفاتن صوره وأخيلته، ويسلمهم مقاليد فلسفته.
15 - ذهب ونحاس
وقد أضفنا بما ترجمناه وقبسناه وشرحناه - كما أسلفنا القول في (حديقة أبي العلاء) - إلى ما يحتويه المنجم العلائي من حر ذهبه الأصفر، قليلاً من النحاس الأحمر، ليصبح كالعملة الذهبية الحديثة، أقرب تداولاً، وأدنى تناولاً وأيسر جدوى.
كامل كيلاني(582/21)
في مؤتمر المحامين العرب
وزير مصر يمهد للوحدة العربية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
التعارف سبيل التآلف في الميول والرغبات، والتفاهم على المقاصد والغايات، والأخذ بأسباب المودة الوطنية الأكيدة، وإذا قلت التعارف فلست أقصد ما يجري من ذلك على الأوضاع الرسمية والتقاليد الدبلوماسية، وإنما أعني التعارف الذي تتقارب به الأرواح، وتتمازج فيه العواطف، وتتضامن به الفكر والغايات، فيكون كل فرد في دائرته قبلة صاحبه ووجهته، ويكون الجميع في هذه الدائرة حلقة متماسكة لا تنفصل، وقوة متساندة لا تلين، ووجهة واحدة في تحقيق الخير الشامل والصالح العام
هذا التعارف أحوج ما تكون إليه الأمم العربية، وهي في هذا الطور تنشد الوحدة بين أفرادها، والتعاون بين حكوماتها، والتآلف بين أبنائها، والتضامن القوي الجميع في تحقيق الآمال المشتركة والأغراض المتفقة والغايات المنشودة. وإذا كانت تتلك الأقطار ظلت نحو ربع قرن من الزمان وهي تكافح في هذا السبيل، فإن كل أمة بقيت في هذا الكفاح محصورة في ميدانها، ولم يكن يربطها في ذلك إلا زيارة وزير تجري على الوضع الرسمي، أو نقلة كبير يقوم بها عابر سبيل إن صح أن يكون هذا رباطاً بين الأشقاء الخلصاء.
وفي الفترة الأخيرة فطنت الأمة العربية إلى ما يجب عليها في هذا الشأن من توطيد التعارف وتبادل العواطف، ورأت أن خير ما يؤدي إلى هذا السبيل هو عقد المؤتمرات العامة ليلتقي بذلك قادتها وزعماؤها، وليكون مدعاة تقاربها وامتزاجها بما يتم من تبادل الرأي وتضامن الأفكار في تحليل المسائل الهامة وتذليل العقبات الصعبة، والتغلب على ما يقف في سبيل نهوضها. وإننا لنكتب هذه السطور وقلوبنا مفعمة بالغبطة والبهجة لعقد مؤتمر المحامين العرب الذي دعت إليه سوريا، فتم على صورة رائعة موفقة دلت على الصدق والإخلاص في الأخذ بأسباب نهضة شاملة ووحدة جامعة، ويقظة تملأ النفوس والقلوب، وإذا كانت سوريا قد أحسنت في الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر الهام في هدفه وغايته، وإذا كانت قد أحسنت مرة أخرى إذ دعت إليه جهابذة القانون وعلماء التشريع في(582/22)
مصر ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، فنهضوا إلى تلبية دعوتها الكريمة فخورين مبتهلين، فإن مصر قد أحسنت من جانبها كل الإحسان، إذ رأت أن يكون رئيس الوفد المصري في هذه السفارة وزير العدل، ثم أحسنت كذلك مرة أخرى إذ اختارت صاحب المعالي الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا بذاته، ليكون رسول أمته في تبليغ أمانيها وتوضيح غاياتها بين وفود العروبة في هذا المؤتمر، فإنه بعقله وحكمته، وبما حباه الله من سعة الإدراك والمواهب، وبما تم له من شرف السمعة وقوة الخبرة أبلغ ما يكون في تبليغ الرسالة، وأقدر ما يكون لحمل الأمانة، وأوفق ما يجب لتمثيل مصر الزعيمة بين وفود الأقطار الشقيقة
أحسنت مصر كل الإحسان ووفقت حكومتها كل التوفيق في اختيار معالي صبري باشا في هذه المهمة نظراً لما اكتمل بشخصيته من بلاغة الحجة، وبراعة التعبير، ودقة البحث وعمقه في ميدان التشريع، ثم هو في ميدان الدعوة للعربية يمتلئ غيرة وحماسة ويتدفق إيماناً بالحق ويقيناً بالصدق، مما وسع له في المنزلة والمكانة في قلوب أبناء الأقطار الشقيقة؛ فكلهم له أخ وصديق، وهو لهم جميعاً أخ وصديق، لهم في قلبه وفي نفسه ماله في قلوبهم وفي نفوسهم، ولا ريب أنه كان يعبر عن ذات نفسه أصدق تعبير، إذ قال عند سفره: (إنني بانتقالي إلى سوريا أنتقل إلى قطعة من مصر وأهل هم من أبناء مصر)، لأنه هكذا يرى في كل قطر من أقطار العربية وهكذا إحساسه نحو أبناء العروبة.
ولقد كانت لفتة بارعة من هذا الفطن اللبق، إذ تقدم إلى فخامة رئيس الجمهورية السورية بهدية متواضعة في قيمتها ولكنها عظيمة في دلالتها. أجل لقد قدم إلى فخامته مسبحة حجازية، وماذا تكون قيمة المسبحة مهما بلغت، إلا أنها جلب من الحجاز الشقيق، فهي إشارة لها مغزاها ومعناها في الحرص على جمع الشمل، وتوطيد الوحدة الجامعة، وإلا فما كان أهون على الوزير أن يختارها هدية منسوبة إلى مصر، ولكنه يرى أن مصر والحجاز وسوريا وسائر الأقطار الشقيقة كلها وطن العروبة، وكل ما فيها عام للجميع.
بهذا الشعور الفياض الدافق قصد معالي صبري باشا إلى ملاقاة أبناء العروبة في سوريا، وبمثل هذا الشعور اليقظ النابض تلقوه مرحبين مبتهجين يرون في صورته صورة مصر الزعيمة الأمينة، ويلمسون في إحساسه الشريف إحساس مصر الصادقة الغيور؛ فهو ينزل فيهم على الرحب والسعة، ويمشي على الإكرام والتكريم؛ فاستقبله فخامة الرئيس استقبالاً(582/23)
يفيض بالمحبة والمودة، ودعاه الوزراء والكبراء إلى حفلات تكريم هي مظهر الصداقة والأخوة، وصدرت الصحف كلها مزدانة بصورته، تطرى فيه عالماً جليلاً وقائداً مجاهدا ووزيراً مشرعاً ورسولاً كريماً من الكنانة الخالدة إلى شقيقتها المحبة المخلصة؛ فماذا يكون هذا كله وما الغرض منه والدافع إليه إلا أنها عواطف أبناء العروبة، نضجت على الإخاء واستوت على الرخاء، وإلا أنها منزلة كريمة لمصر بين شقيقاتها من الأمم يرفع لواءها زعيم مصر ويؤدي رسالتها وزير مصر
لقد تجلى هذا الشعور كأوضح ما يكون في موقف الوزير في حفلة افتتاح المؤتمر ليؤدي تحية النيل - على حد تعبيره - إلى بردى والفرات وفلسطين ولبنان وشرق الأردن مقرونة بالإعجاب وعرفان الجميل. فلم يقف في أداء هذه التحية عند واجب المجاملة الكلامية، بل ولم يقف عند الحدود المرسومة لمباحث المؤتمر ومداولاته، ولكنه امتد في التحية بما تطمع إليه مصر وما ترجوه لشقيقاتها من الخير وما تتمنى أن يكون من عقد المؤتمرات النافعة المثمرة، إذ قال في خطبته موجهاً الخطاب إلى فخامة رئيس الجمهورية السورية ورجال حكومتها الاماجد وأعضاء المؤتمر:
يا فخامة الرئيس
يجتمع حولك في هذه القاعة ممثلو البلاد العربية، وإن اجتماعهم في هذه الظروف وفي هذه المناسبة لفياض بالمعاني، جياش بالحقائق، هاتف بالرجاء في المستقبل، عازف بألحان الأمل البسام، هابط برسالة المجد والسلام، ناشر لصحيفة من الصحف الأولى، صحف الأولين الخالدين من أبطال التاريخ العربي المجيد
نجتمع هنا في هذه القاعة حاملين إلى فخامتكم، وإلى حكومتكم، وإلى كل أمة ممثلة هنا صورة من الآمال التي تحدونا، وآية من المجد الذي ينادينا، ونوراً من الإصلاح الذي نعمر به نوادينا، نجتمع لا لنستلهم مجداً فردياً. ولا لنستمطر السماء على بلد دون آخر. إن لساننا ليهتف مع الشاعر العربي إذ يقول:
ولو أنى حبيت الخلد فرداً ... لما أحببت بالخلد انفراداً
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
وإن الوحدة التي يبغيها المحامون المجتمعون هنا للتشريع هدفاً وغاية هي صورة مصغرة(582/24)
للوحدة التي تبتغيها الأمم العربية في الحياة مثلاً أعلى وحصناً تحتمي فيه عند كل ملمة، وبقدر ما يصادف هذا المؤتمر من توفيق ونجاح تتفتح أبواب الخير لمشروع الوحدة العربية، وإننا إن شاء الله لواصلون إلى تحقيق هذا المشروع؛ فإن مشروعاً عظيماً كهذا تخفق من حوله قلوب الملايين من أبناء الأمم العربية داعية متهللة وتتولاه أيدي كرام الزعماء الذين وضعوا أيديهم في يد زعيم مصر رفعة مصطفى النحاس باشا بعد أن عاهدوه على العمل لإنقاذه وجعله حقيقة لمشروع مكتوب له التحقيق والتوفيق إن شاء الله
وهذا كلام طيب يملأ كل نفس مخلصة بالغبطة، ولقد كان وقعه في نفوس المؤتمرين جميلاً إذ قابلوه بالتصفيق والهتاف تحية لمصر المجاهدة وتقديراً لوزيرها الصادق الأمين وإكباراً لطموحها الموفق السديد، ولن يسع كل عربي مخلص إلا أن يكبر المعنى المقصود في هذا الكلام وأن يسأل الله تحقيق الأمل فيه.
محمد فهمي عبد اللطيف(582/25)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشا شيبي
592 - إذا المودة أقرب الأنساب
في الأغاني: قال طوق بن مالك للعتابي: أما ترى عشيرتك - يعني بني تغلب - كيف تدل عليّ، وتتمرغ وتستطيل وأنا أصبر عليهم
فقال العتابي: أيها الأمير، إن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن عمك من عمك خيره، وإن قريبك من قرب منك نفعه، وإن أخف الناس عندك أخفهم ثقلاً عليك وأنا الذي أقول:
إني بلوت الناس في حالاتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة وأقرب الأنساب
593 - إذ صار بيدي ساعة واحدة
قال الحسن بن علي بن حسين لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك
فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلن أضيعه إذ صار بيدي ساعة واحدة، وقد صرفته إليك. فأعجبه ذلك منها وأمسكها
594 - دية المسيح
(عيون الأخبار): ولى أعرابي بعض النواحي، فجمع اليهود في عمله وسألهم عن المسيح، فقالوا: قتلناه وصلبناه
قال: فهل أديتم ديته؟
قالوا: لا
قال: فوالله لا تخرجون أو تؤدوها، فلم يبرحوا حتى أدوها
595 - تمثالا تدمر
قال أبو دلف في التمثالين اللذين في تدمر:
ما صورتان بتدمر قد راعتا ... أهل الحجى وجماعة العشاق
غبرا على طول الزمان ومرِّه ... لم يسأما من ألفة وعناق
وقال محمد بن الحاجب يذكرهما:(582/26)
أتدمر، صورتاك هما لقلبي ... غرامٌ ليس يشبهه غرام
أقل من التعجب: أي شيء ... أقامهما فقد طال المقام
يمر الدهر يوماً بعد يوم ... ويمضي عامُه يتلوه عام
ومكثهُما يزيدهما جمالاً ... جمال الدر زّينة النظام!
وقال أبو الحسن العجلي:
أرى بتدمر تمثالين زانهما ... تأنق الصانع المستغرق الفطن
هما اللتان يروق العين حسنهما ... يستعطفان قلوب الخلق بالفتن
596 - فكلفتنا ضيق الضمان
كلم رجل آخر في أن يؤخر شيئاً على غيره، فقال اضمنْ أنت عنه
فقال: أردنا منك سعة المهلة فكلفتنا ضيق الضمان.
597 - تزي النص إلا أنها تتأول
الوزير عون الدين بن هبيرة:
يلذ بهذا العيش من ليس يعقل ... ويزهد فيه الألمعي المحصل
إلى الله أشكو همة دنيوية ... ترى النص إلا أنها تتأول
598 - هذا هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع
نفح الطيب:
لما ورد ابنُ القراء الأخفش على المرية مدح رفيع الدولة ابن المعتصم. فقال له من أراد ضَرّه: يا سيدي، لا تُقرِّب هذا اللعين، فإنه قال في اليهودي:
ولكنَّ عندي للوفاة شريعةً ... تركتُ بها الإسلامَ يبكي على الكفر
فقال رفيع الدولة: هذا (والله) هو الحرُّ الذي ينبغي أن يُصطنع
فلولا وفاؤه ما بكى كافراً بعد موته، وقد وجدنا في أصحابنا
من لا يرعى مسلماً في حياته.(582/27)
مآثر النور. . .
شعر علمي
للأستاذ نقولا الحداد
أما خلق الضياءُ لنا العيونا ... وشقَّ لها عن المُقَل الجفونا
رسولُ النور يستدنى الأقاصي ... وعنها يشرح الخبر اليقينا
جمال الكون لاح بوجنتيه ... وداجي هجره طمس الظنونا
إذا ما غاب لم يفقد ضريرٌ ... بصيرته ويعمى المبصرونا
بدت صُحُفُ الضيا تطوي رسوماً ... بدائعَ ثم تنشرها فنونا
ودَّبجتِ المروجَ الخضرَ لما ... طلت أزهارها لوناً فلونا
فما بين احمرار وازرقاقٍ ... تموَّجت الأزاهرُ يُزْدَهَيْنا
فيالك من شِعاعٍ ناظماتٍ ... قصدَ الروض يسحرنا فتونا
فموسيقى الضياء تريك نقشاً ... وموسيقى الأفانين الأنينا
إِذا هبَّ النسيم وفاض ضوءُ ... تهللت الربى وصفت معينا
وإن غمَر الرياضَ سنا ذكاءٍ ... تفجرتِ الحياةُ بها عيونا
وحيَّتها الطيور مغنياتٍ ... وقد رقصت حدائِقها غصونا
أيا قمراً يريدُ سناك يحوي ... رسالاتِ الهوى للعاشقينا
وعندكِ تلتقي الأبصار تروى ... إذا أصغيتُ عن مهجٍ شجونا
فكم من عاشق ناغاكَ وجداً ... وكم من مدنن ناجى حزينا
ألم يُمْلأْ سجلُّكَ من قضايا ... غرام مسامريك مدى السنينا؟
فما فتواكَ في شيخ تصابى ... وهام بكاعبٍ بكرٍ جنونا
أتأتلف الحمامةُ مع بعيرٍ ... وتألفُ ظبيةً بغلاً حَرُونا
ألا سل جدة الأقمار ماذا ... دهاها حين قاربت العرينا
بدا الضرغام يكبرها ألوفاً ... تهادى نحوها يمشي الهوينا
وداعبها وراودها فعفت ... فعاهدها يكون لها قرينا
فقالت: ويكَ لو زفّوا لَجّدٍ ... حفيدَته وربك يكفرونا(582/28)
وجاذبها إليه فدافعته ... فمزّق عن محياها الجبينا
فصدَّته وقد تَفلت عليهِ ... تُفَال الغيظ سجّيلاً وطينا
وما ركلته حتى فرَّعنها ... وأصبح من تغضُّبها أمينا
وقد بقيت قذائِفُها لديها ... كواكبَ دائراتٍ يُجتلينا(582/29)
البريد الأبي
في سبيل وحدة الوجود
قرأت الكلمة الأخيرة للأستاذ دريني خشبة في الرد على الأستاذ معروف الرصافي، وهي كلمة لا تتسق مع موضوع البحث، لأن الأستاذ دريني سلك فيها مسلك التحدي للأستاذ الرصافي، وذلك مسلك لا أرتضيه في أمثال هذه المساجلات وسبب هذه المعارك القلمية يرجع إلى آرائي عن وحدة الوجود في كتاب التصوف الإسلامي، وكان المنتظر أن أقول كلمة في الفصل بين أولئك المتخاصمين، ولكني سكت عن عمد، لأن تلك المعارك اتجهت وجهة دينية، مع أن نظرية وحدة الوجود نظرية فلسفية، والدين يلاقي الفلسفة في حين ويفترق عنها في أحيان
كنت أستطيع أن أفصل بين أولئك المتخاصمين، لأن كتابي سبب هذه الخصومة، ولأني شغلت نفسي بدرس هذه النظرية عدداً من السنين، ولكني رأيت أن أقف على الحياد، لأن اشتراكي في المناظرة سيزيدها احتداماً إلى احتدام، وسيسوقنا جميعاً إلى متاعب فكرية تزلزل العقول، وتبلبل القلوب
أنا حاضر لخوض هذه المعركة من جديد، ولكن أين الميدان؟
سيتصدَّى للرد على ناس لا يفهمون مرامي كلامي، كالناس الذين زعموا أني أنكرت إعجاز القرآن في كتاب النثر الفني، مع أن آرائي في إعجاز القرآن هي الآراء الباقية، وإن قال بعض الخلق إنها من الكفر الموبق!
لن أعيد القول في نظرية وحدة الوجود إلا يوم أضمن أن ينظر الناس لحرية الرأي، كما كان ينظر المسلمون إلى تلك الحرية في عهد ازدهار المدنية الإسلامية
أما اليوم فأنا يائس من حرية الرأي، فكل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في هذا الوجود
والذي يهمني في هذه الكلمة الوجيزة هو دعوة الباحث المفضال الأستاذ درينى خشبة إلى اجتياز عقبات هذه المساجلة بأسلوب لا يجرح الأستاذ الرصافي، ولا يصور الباحثين المصريين بصورة المتعنتين
وكنت وعدت بالرد على الأستاذ الرصافي، وسأفي بما وعدت ولكن بالتجمل والترفق، فما(582/30)
يجوز أن أجرح رجلاً شغل نفسه بتأليف كتاب يردّ به على كتابين من مؤلفاتي، والأستاذ دريني يعرف أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء
والمودة الوثيقة التي أضمرها للأستاذ درينى توجب عليّ أن أدعوه إلى الاقتصاد في الغض من نظرية وحدة الوجود، فهي نظرية عبقرية، وهي خير ما جادت به قرائح الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس من السهل أن تنهدم بمقالات يؤازره فيها الأستاذ عبد المنعم خلاف، وإن بلغا الغاية في قوة الحجاج
أنا أحترم كل رأي يصدر عن عقيدة، وأن أنكره عقلي، ولا أحتقر غير الآراء التي تصدر عن الرياء
ومن المؤكد عندي أن الأستاذ درينى والأستاذ عبد المنعم يصدران عن عقيدة في الغض من نظرية وحدة الوجود، فأنا أنظر إلى ما يكتبان بعين المحب العطوف
فإن قال قائل: وكيف جاز أن أسكت عن تأييد هذه النظرية والأقلام تنوشها من كل جانب؟ فجوابي أنني قلت فيها كل ما أملك من القول في كتاب التصرف الإسلامي، وأنا أكره الحديث المعاد
وأنا أيضاً نقضت هذه النظرية بعد أن شرحتها في كتابي، لأن طريقتي في التأليف تقوم على أساس الاستقصاء في موازنة الآراء
وهنالك مشكلة سكت عنها الأستاذ درينى وهي تأثير تلك النظرية في الحياة الإسلامية، إن كان قرأ الفصل الخاص بالمدائح النبوية في كتاب التصرف الإسلامي
فما رأيه في هذه المشكلة، وهي من كبريات المشكلات؟
سيدفع الأستاذ درينى ثمن المودة التي أضمرها لروحه اللطيف، والثمن هو دعوته إلى قراءة كتاب التصوف الإسلامي مرة ثانية ليرى كيف أقمت نظرية وحدة الوجود على أمتن أساس
يسرني أن أساجل باحثاً له في نفسي منزلة الصديق الغالي، ويسرني أن ينتصر في المساجلة؛ فما لي غرض غير الوصول إلى الحق، ولو كان دليلي إليه أعدي أعدائي
أنا أعلن أيماني بنظرية وحدة الوجود على نحو ما ذهبت إليه في كتاب التصوف الإسلامي، ولن أرتاب إلا بإقناع، فهل تستطيع إقناعي يا أيها الصديق؟(582/31)
يجب أن تعرف أني سأقهرك على المشي فوق الأشواك، وأني سأصل إلى إقناعك بما لم يقنعك به الأستاذ معروف الرصافي
أنت تهدد بالعودة من المصيف، لتجتاح خصومك
وأنا أهددك بما ادّخرت لعقلي وقلبي من هجير مصر الجديدة فتعال إلى مساجلتي يا أيها الصديق الغالي
وأساس المساجلة أن تترك التفكير في أن نظرية وحدة الوجود تجني على العقيدة الإسلامية
وأنا أعتذر بالنيابة عنك للأستاذ معروف الرصافي، وهو رجل أعفى نفسه في جميع أطوار حياته من الرياء، وسيكون له في تاريخ الشعر والرأي مكان
إنه رجل يعتذر عن الضعف بشيخوخته، فكيف تستطيل عليه بشبابيك؟
سأرى ما تجيب به يا صديقي بعد عودتك من المصيف، إن كان لي سبيل إلى الهرب من مصاولتك، وهي أني أستعد لشرح مسابقة الأدب العربي، فقد بدأتها في الرسالة منذ أعوام ومكانها في مجلة الرسالة وهو مكانها الأول، فإلى اللقاء بعد أسابيع.
زكي مبارك
من الأستاذ خليل مطران إلى الأستاذ عبد الرحمن صدقي
حضرة الأديب الكبير والصديق الكريم الأستاذ عبد الرحمن صدقي
كتبت لأبي نواس ترجمةً وافيةً من طراز جديد، بلغة لا تختلف إلا قليلاً، فُصَحُها في هذا العهد، عما كانت في أزهر عهودها. وقد آثرت لها الأسلوب القصصي البارع في الجانب الذي صّلُح منها لهذا الأسلوب، فبلغت بقوة الخيال وحسن السبك، مع مراعاة الحقيقة التاريخية غاية ما يبلغه الكاتب القصصي المجيد من التشويق. وكم كانت لك جولة متعمقة وموفقة في نواحي تلك النفس المنغمسة في الشهوات، الحائرة الرتابة، المؤمنة في النهاية، التي فعلت فيها البيئة الظرفية أفاعيلها على الولاء
وما من شك في أن ذلك الشاعر المطبوع - الذي لم يدرك ذروته شاعر في العرب بعذوبة اللفظ، وجلاء المعنى، وطرافة الفطن، وبداعة التصوير - قد ظل طوال أيامه، وعلى اختلاف الحوادث التي مرت، وعلى علاتها الجمة صادقاً مع نفسه كل الصدق فيما استقر(582/32)
عليه رأيه الأدبي، أو الاجتماعي، أو معتقده الديني. ولذلك يستحق المعذرة لعبقريته، وإن تصرَّف في سيرته المتهتكة تصرفاً لا يحبه الناس من الرجل العظيم
فأشكر لك هديتك، وأثني عليك بما يحق لك. ولئن عاقني عن التوسع في متابعة دراستك الحلوة ضعفُ جسمي ووهى عزمي، لقد أوجزت لك بكلمة ما جرى به القلم على قدر
بارك الله فيك، ويسّر لك أن تزيد العالم العربي من ثمرات ألمعيتك.
المخلص
خليل مطران
حول الخوارزمي
حجزتنا أشاغيل طرآنية عن التعقيب على كلمة الأستاذ علي محمد حسن في حينها، ونحن إذ نحمد للكاتب يقظته في تتبع السقطات والعثرات في كل مقال أو قصيدة، نحب أن نطمئنه إلى أن (ظلم القرون) الذي تطوع بإزالته عن أبي بكر الخوارزمي، قد فطن إليه المتأخرون من نقدة الأدب العربي، ونحسب أن أحد المستشرقين وضع بحثاً علمياً في المناظرة بين البديع والخوارزمي، كما أن الدكتور عبد الوهاب عزام سلسل في (الرسالة) قبل سنين مقالات ماتعة أزال بها الوهم الذي علق بأذهان المتأدبين فيما يتصل بهذه المناظرة التي وصفها الخوارزمي نفسه بأنها (شعبذة)، وإذا لم تكن شعبذة فليست من الأدب في شيء
كذلك لم تغب عنا المراجع التي نقل عنها الأستاذ أسانيده في نصفة الخوارزمي، ومع احتفاظنا برأينا في أدب الرجلين لا نجزم بصحة المناظرة، ولا بجدّيتها إن صحت، وإنما جرنا إلى ذكرها في مقالنا الأول سياق الكلام لنثبت (رجعية) النظرة إلى الأديب من كلام الصاحب بن عباد الذي نسب إليه أيضاً قوله: (لو أدركت عيسى بن الهمذاني لأمرت بقطع يده) فلما سئل في ذلك قال: (لأنه جمع شذور اللغة فرفع عن المتأدبين عناء البحث) يعني بذلك كتاب (الألفاظ الكتابية) ومعنى هذا أن كل من وضع موسوعة أو صنّف معجماً استحق في دين (الصاحب) قطع يده. . . نسأل الله السلامة!
(الرمل)(582/33)
منصور جاب الله
حول أغلاط أيضاً
في عدد الرسالة الأخير تصويبات لغوية للأستاذ عبد الحميد ناصف المدرس بكلية اللغة العربية، وقد أدهشني أن أرى فيها كثيراً من الأخطاء التي لا يصح إغفالها والسكوت عليها فآثرت أن أنبه على بعضها
1 - يدعى الأستاذ أن الصدفة كلمة لغوية بالرغم مما شاع من عدم لغويتها، فكثير من المعاجم وكتب اللغة كاللسان أوردها، وفي حديث أبي ذر (والبر ما حاك في النفس ولم تلده الصدفة)
ولقد اطلعت على اللسان والقاموس والمختار والمصباح فلم أجد كتاباً أورد لفظ صدفة، على أن الذي حيرني واستوقفني أثار عجبي هذا الحديث الذي ذكره. وليت شعري كيف يسيغ الأستاذ مثل هذا الخلط العجيب الذي لا تصححه رواية، ولا تجيزه دراية ولا يلتئم عليه معنى؟ وهل يستجيز عقل أو يستبيح ذوق أن يكون البر مما يحوك في النفس ويتردد في القلب؟ وأين يقع الإثم إذا؟
لقد ورد هذا الحديث في كتب السنة هكذا (عن النواس ابن سمعان رضى الله عنه) قال: سألت رسول الله (ص) عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. وفي رواية أخرى سأل رجل رسول الله (ص) عن البر. فقال: جئت تسأل عن البر. قال: نعم فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وأن أفتاك الناس أفتوك، وهكذا كل روايات الحديث، وهي موافقة للمعنى المستقيم الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ولم يرد فيها لفظ الصدفة، ولا هي مما تمت إلى معانيه بسبب. فمن أين أدخلت على الأستاذ روايته وكتب السنة بأجمعها دون استثناء ليس فيها كلمة صدفة المقحمة في هذا الحديث
وأعجب شيء أن يستدل بصحة هناء يقول الشاعر:
هناء محا ذاك الغراء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما(582/34)
ومن هذا الشاعر الذي احتج بقوله؟ هو ابن نباته المصري المتوفي سنة 768هـ. قاله في تهنئة الملك الأفضل صاحب حماة، وتعزيته في وفاة والده المؤيد. فهل ابن نباته ممن يحتج بكلامهم في اللغة أم ذلك مذهب جديد في فن الاحتجاج والاستشهاد
2 - وصف الجمع بصفة المفرد لعله لم يرد إلا في كلام المؤلفين وافتراضات المتأخرين؛ فإن ذهبت تلتمس له شاهداً صحيحاً من كلام العرب أعجزك العثور عليه. أما البيت الذي زعم أن جريراً قاله فلا يوجد في ديوانه ولا هو مما يشبه شعره
عبد الحميد المسلوت
ملاحظات ورجاء
اطلعت على القسم الثاني من ملحمة السراب للأستاذ الكبير الدكتور إبراهيم ناجي في العدد 575 من الرسالة الغراء، فأعجبني تصويره أيما إعجاب حيث تجلت فيه عبقرية الشاعر العظيم. وبينما كنت في طريقي أثناء قراءة الملحمة لاحظت عند منتهاها قبل البيت الأخير أن ضلع الشطر الثاني مكسور. وهذا هو البيت:
مرحباً بالهوى الكبير فإن يب ... ق وإن تسلمي يطب لنفسي البقاء
ويمكن الجبر بحذف شيء منه أو بتغيير الشطر، وقد سبق في العدد الماضي من الرسالة 574 أن أبدى الأستاذ علي محمد حسن رأيه في القصيدة المعنونة بالسراب، حيث لا حظ كسراً في ضلع بعض الأبيات. والقصيدتان من بحر الخفيف، فأرجو أن يتفضل الشاعر الألمعي فيجبر الكسر مع قبول عظيم تشكراتي وخالص تحياتي.
مكة المكرمة
يوسف قستي(582/35)
العدد 583 - بتاريخ: 04 - 09 - 1944(/)
زواج الأقارب والأباعد
للأستاذ عباس محمود العقاد
(هل لي أن ألتمس لديكم الرأي في أمر عنّ لي لم أوفق إلى غيركم أطمئن إليه. . . لأعهد إليه في الإجابة الشافية القويمة؟
(والمسألة هي مسألة زواج ذوي القرابة وخصوصاً القرابة (القريبة) بين من يسميهم الإنجليز أبناء العمومة
(فقد زعم بعض من كتب في هذا الموضوع وقرأت لهم أن النسل يأتي هزيلاً معتل البنية والذهن، كلما اقترب الزوجان في النسب، (ولنضرب مثلاً لذلك صاحب كتاب أصول الحضارة في تدعيمه رأيه ببيوتات أوربا المالكة)، كما قرأت أيضاً ما ينفي هذا القول ويثبت نقيضه.
(ثم إنني رأيت أن نبينا محمداً صلوات الله عليه قد ذهب إلى تزويج بنتين من بناته من رجلين من ذوي قرباهما القريبة. فاستنتجت من ذلك ألا غضاضة ولا مضرة في مثل هذا الزواج.
(ومن هنا ترون التضارب والخبط بين علماء أوربا وأدباء العربية القدامى في أمور هي من الأهمية بالمكان الأول، لأنها تتعلق بمستقبل بني الإنسان وما يرجى لهم على هذه الأرض من ارتقاء في بنية الجسوم والعقول والأخلاق.
(وعلى هذا نلتمس بين أيديكم الحجة والصواب في هذه المشكلة من الناحية البيولوجية والعلمية. . . وأما ونحن بصدد الزواج وما يدور حوله فليسمح لي الأستاذ أن أستفتيه في اقتران المصريين من الأوربيات الغربيات من الناحية البيولوجية الحديثة. . .)
(الإسكندرية)
(م. ت)
ومسألة الزواج اليوم - وبعد الحرب الحاضرة على الخصوص - هي إحدى المسائل التي يتجدد البحث فيها، أو يعاد النظر إليها على ضوء من العلم الحديث والتجارب السابقة واللاحقة في المجتمعات المختلفة، حسبما تدين به تلك المجتمعات من العقائد الدينية(583/1)
والسياسية، ولا سيما المجتمعات التي تفرض عليها عقائدها رأياً خاصاً في بناء الأسرة وعلاقات الرجال والنساء.
فالنظر إليها من بعض جوانبها مقدمة لنظرات كثيرة في الواقع سيشغل بها أبناء مصر مختارين أو غير مختارين بعد زمن قصير.
ومن هذه الجوانب التي تستحق النظر أو تستحق إعادة البحث فيها جانب الزواج بين الأقارب والأباعد، وما يقوله عنه المختصون بهذه الشؤون من علماء الاجتماع ومؤرخي طبائع الأجناس.
فالزواج بالأباعد، وهو ما يسميه خبراء هذه الشؤون (إكسو جامي) هو عادة أو شريعة من أقدم الشرائع في المجتمعات الفطرية والمجتمعات التي أخذت بنصيب من الحضارة
ويندر بين هذه المجتمعات من لم يعرف (الإكسوجامي) في صورة من صوره الكثيرة التي تتقلب على جميع الفروض وتتناقض أغرب التناقض في بعض الأحوال.
فمن هذه المجتمعات ما يحرم فيه زواج الأخوين ولا يحرم فيه زواج الأب ببنته، ومنه ما يحرم فيه زواج هؤلاء جميعاً ومعهم أبناء الأعمام، ومنه ما يحرم فيه زواج أبناء القبيلة الواحدة الذين ينتسبون إلى جد واحد، ومنه ما يحرم فيه الحمل ولا تحرم فيه الصلات الجنسية.
والاختلاف في تعليل هذا التحريم بين الباحثين فيه أكبر وأوسع من اختلاف القبائل في هذه العادة، وهذه الشريعة
فمنهم من يعزوها إلى غيرة الأب من ولده، وغيرة الأم من بنتها، ومنهم من يعزوها إلى رغبة الرجال في إظهار القوة باغتصاب الحلائل من القبائل البعيدة، ومنهم من يعزوها إلى (الطوطمية)، أو اتخاذ حيوان من الحيوانات جداً للقبيلة كلها ورباً حارساً لجميع أفرادها، فهم جميعاً في حكم الأسرة الواحدة التي لا يجوز لها أن تأكل من لحمها ودمها). . . ومنهم من يعزوه إلى الأسباب الاقتصادية، لأن الأب يتقاضى مهراً من الزوج الغريب ولا يتقاضاه من ابنه أو ابن عمه، ومنهم من يعزوه إلى ما يكون بين الأقربين من الألفة التي تضعف الرغبة الجنسية وتنشئ بين الأقربين علاقة من الرحم غير علاقة الزواج
وكل أولئك جائز أن يؤدي إلى تقرير هذه الشريعة في الجماعات الأولى، وإن غلب بعضه(583/2)
على جماعة وغلب غيره على جماعة أخرى.
وقد كان اجتناب الأقربين في الزواج مذهباً معروفاً بين العرب، وإن لم يتفقوا عليه، فكان أناس منهم يعتقدون أن الولد يجيء من القريبة ضاوياً (لكثرة الحياء من الزوجين فتقل شهوتهما، ولكنه يجيء على طبع قومه من الكرم)، وفي ذلك يقول أحدهم:
يا ليته ألقحها صبياً ... فحملت فولدت ضاويّا
ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال: (اغتربوا ولا تضووا)، حديث لا نقطع بصحته، لأنه عليه السلام قد زوج بنيته من الأقربين، كما ذكر الأديب صاحب الخطاب
أما الرأي الذي يوشك أن يستقر عليه الخبراء بهذه الشؤون فهو أن الزواج بالأقارب لا ضرر فيه من الوجهة البيولوجية إلا في حالة واحدة، وهي أن يغلب على الأسرة كلها استعداد جسدي لبعض الأمراض، كما يتفق أن يغلب على بعض الأسر الاستعداد لأمراض الصدر، أو اختلال الأعصاب أو سوء الهضم، أو ما شاكل ذلك من دواعي الضعف التي تورث وتنتقل إلى الأبناء. فإن الولد إذا ورث الاستعداد للمرض من أبيه وأمه كانت وقايته منه أصعب من وقاية أبويه، وهذه حالة لا شك في ضررها، سواء كان تشابه البنية في أسرة واحدة أو في أسر غريبة. إذ لا يجوز لرجل مستعد لمرض من الأمراض أن يتزوج بامرأة مستعدة لهذا المرض على التخصيص سواء كانت من أهله أو غير أهله
أما في غير هذه الحالة فزواج الأقارب مأمون من الوجهة البيولوجية على قول الأكثرين من الثقات. وقد روي وستر مارك في كلامه عن أحدث الآراء في موضوع الأكسوجامي مشاهدات بعض المعنيين بتجربة التلاقح بين الحيوانات فإذا بالكثيرين منهم يتفقون على أن هذه الحيوانات سلمت من عوارض الهزال المزعوم وأنجبت ذرية من أحسن أنواعها في صفات القوة والنشاط، ولا سيما الحيوانات التي يعنى بانتخابها وإبعاد الضعيف منها لأسباب فردية لا علاقة لها بالبنية الموروثة
ومع هذا أي قول من أمثال هذه الأقوال يمضي بغير خلاف من النقيض إلى النقيض؟
فمن أعجب التناقض في هذا الصدد أن الكاتب بت رفرس - ينفي الضرر من تزاوج الحيوانات القريبة ويجعل شاهده على ذلك خيول السباق، فإذا بزميل له في هذه البحوث وهو سير جيمس بن بوكوت يناقض هذا الرأي ويتخذ خيول السباق نفسها حجة له على(583/3)
قوله ويهيب بقومه أن يدركوا ذرية الخيول الإنجليزية بدم غريب قبل أن يبلغ بها الضعف مبلغاً لا تجدي فيه المداركة
والقول الفصل في هذا الخلاف غير مستطاع، ولكننا نسيغ بالعقل سبب الضعف الذي ينجم من تزاوج الأقربين وهو اشتراكهم في الاستعداد للأمراض والعوارض الخلقية أو الخلقِية، فإذا انتفى هذا الاشتراك فليس يتضح أمامنا سبب للتحذير من هذا الزواج، وليس فيما شاهدناه من الأمثلة دليل على أن زواج الأقربين أضر بالذرية من زواج الأبعدين
أما زواج المصريين بالأوربيات فلا ضرر من الوجهة الجسدية مع سلامة الزوجين، وفيه إلى جانب هذا مزايا التلقيح بالدم الجديد الذي شوهدت حسناته في كثير من الشعوب والأفراد
ونحن نعتقد أن المسألة هنا ليست مسألة اللحم والدم وصحة الجوارح، ولكنها مسألة (الأعصاب) التي هي خزين الملكات والمواهب الخلقية والعقلية ومناط التفاضل الكبير بين الأقوام والأجناس. فقد تكون المرأة صحيحة الدم واللحم بريئة من عوارض السقم والهزال، ولكنها لا تنفث في أبنائها نشاطاً جديداً ما لم يكن مصدر هذا النشاط ذلك الخزين العصبي الذي تكنزه بعض الأمم بالتجارب النفسية والجسدية في عشرات الألوف من السنين
فهذا الخزين العصبي هو الذي يستفاد من البناء بالأوربيات ولا سيما بنات الشمال
ومن هذه الوجهة لا اعتراض على زواج المصريين بالأوربيات أو من يشابههن في هذه الخصلة، وإنما يأتي الاعتراض على هذا الزواج من الوجهة القومية والوجهة الأخلاقية والوجهة الإنسانية على السواء
فالنساء المصريات اليوم أوفر عدداً من الرجال المصريين، فإذا تركهن أبناء وطنهن ليبنوا بالأجنبيات فعاقبة ذلك عضل مئات الألوف من البنات في سن الزواج، وعاقبة هذا العضل فساد في الأخلاق وبلاء على المجتمع المصري يربيان على كل نفع مرجو من البناء بالأوربيات ولو كن من أفضل النساء
وهكذا يرى الأديب صاحب الخطاب أن شئون الأمم تعالج جملة من جوانب كثيرة ولا يقتصر العلاج فيها على جانب دون جانب. وعندنا أن الأمة التي تكون كل فتاة فيها متزوجة في سنها المعقول أسلم من الأمة التي ينجب فيها عشرة آلاف أو عشرون ألفاً نسلاً(583/4)
متفوقاً وإلى جوارهم ألوف العوانس يبتذلن أنوثتهن فيسري فسادهن إلى البيوت جميعاً ويغرق ذلك النسل المتفوق في لجته التي لا تدفعها شطوط ولا جسور
فنصيحة الفرد أن الزواج ببنات الأمم المتقدمة زواج صالح مطلوب
ونصيحة الأمة أن ترك بناتها معضولات بلاء غير مأمون. فإن تسنى دفع هذا البلاء وتحصيل النفع من البناء بالأوربيات المتقدمات فقد استطيعت خدمة الفرد والأمة على السواء
ولكنه على هذا احتمال بعيد.
عباس محمود العقاد(583/5)
شعراء الشباب
ووجوب عنايتهم بثقافتهم الخاصة
للأستاذ دريني خشبة
ليس الغرض من هذه الكلمة تعبير شعراء الشباب بفقر ثقافتهم، ولكن الغرض منها هو التعاون العام بين من تعنيهم نهضة الشعر العربي، وبين أولئك الشعراء الذين تعتمد عليهم نهضتنا الأدبية كل الاعتماد في الأخذ بيد الشعر، وتجديده، والاتجاه به إلى الوجهات التي ظل الشعر العربي محروماً منها إلى اليوم
ونحن حينما ندعو إلى وجوب إحداث ثورة - أو نهضة - في الشعر العربي، نؤمن بأن الثورة - أو النهضة - ليست عبثاً يستطيع أن ينهض به أولئك المتأدبون الظرفاء الذين عرفوا بعض موازين الشعر. وقواعد العروض، فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي انقلبت في رؤوسهم غروراً ذميماً، وخيلاء لا تعرف التواضع، وأحلاماً تشبه أحلام الصائمين في هذا الزمان بالأطايب والأشربات!
لا يستطيع جاهل أن ينفع جاهل أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته. . . ولا تستطيع جماعة من الجهلاء أن تضطلع بعمل يحتاج القيام به إلى علم وبصيرة وطول تجربة. . . وقد طالبنا شعراء الشباب بإحداث نهضة في الشعر العربي تشمله كله شكلاً وموضوعاً. . . فما راعنا إلا أن يظن أولئك المتأدبون الظرفاء أننا ندعوهم لهذا العمل، ونعتمد عليهم في القيام به. . . فأمطرونا بمئات كثيرة من هذياناتهم التي دعوها شعراً. . . ومع إعجابنا الشديد بعدد كبير مما وصلنا من المنظومات الشائقة من مصر ومن جميع الأقطار العربية إلا أننا لم نستطع منافقة أصحاب الكثرة الغالبة من المنظومات الأخرى التي تضطرنا إلى مصارحة إخواننا الظرفاء هؤلاء بوجوب النصح لهم بالانصراف عن قرض الشعر، ومعاطاة صناعتهم البائرة تلك، التي سوف تجر عليهم عقابيل من الحسرات لا قبل لهم بها. . . وليس في تعبيرنا بذلك الأسلوب قسوة على أحد. . . فالمسألة جد لا لعب. . . إنا مفتقرون إلى شعر جديد يشحذ من همة الأمم العربية، وترى فيه تلك الأمم آمالها ومطامحها، وترى فيه أدباً جديداً حياً سائغاً لا نقلد به العباسيين، ولا نمشي به في آثار الأمويين أو الأندلسيين. . . نريد شعراً تتجلى فيه شخصيتنا قوية مستقلة لها طريقتها(583/6)
الخاصة من الأداء والتفكير. . . لا شعراً مقلداً رثاً تكرثه روح الماضي، وتجثم على صدره قيود الغابرين. . . ونحن حينما هتفنا بشعراء الشباب ليتغنوا آمالنا الجديدة، ولينشدوا لنا أنشودة العالم العربي الحديث، لم نكن نزعم أن هؤلاء الشعراء مبرءون من العيوب، ولكنا كنا نزعم أنهم أقدر على التجديد من الشعراء الشيوخ الإجلاء، الذين نحبهم ونحترمهم. وإن خامرنا الشك في قدرتهم على التجديد، لأنهم عاشوا معظم حياتهم في هذا القديم الذي لم يعرفوا غيره
غير أن الشعراء الشباب - أو أغلبية الشعراء الشباب - المشهورين وغير المشهورين فقراء في ثقافتهم إلى درجة محزنة. . . والشاعر الفقير في ثقافته لا يستطيع أن ينهض بثورة في الشعر وإن حاولها، وأرق في سبيلها عينيه، لأنه مفتقر إلى الأدوات الأولى التي تمكنه من إتقان عمله، وتمهد له سبيله إلى قلوب قرائه. . .
ولسنا ندري إن كان كلامنا هذا سوف يغضب أحداً من هؤلاء الشعراء ما دمنا صادقين فيه، صادقين في إزجاء النصح لكل شاعر يود أن تكون له منزلة سامية في مستقبل هذا الشعر الذي ندعو إلى تجديده وإصلاحه
وشعر الشباب في الأقطار العربية فئتان. فئة تجهل اللغات الأجنبية، وفئة تعرف واحدة أو أكثر من واحدة من تلك اللغات. . . فالفئة التي تجهل اللغات الأجنبية لم تطلع على نماذج الشعر الأجنبي في لغاته الأصلية. وأكبر الظن أنها لا تدري ما الملحمة ولا الدرامة المنظومة ولا ما الشعر المرسل. . . وليس في ذلك ضير قط على شعراء هذه الفئة، وإن كنا نؤثر لهم تعلم إحدى هذه اللغات وإتقانها إلى الدرجة التي تساعدهم على مطالعة أشعارها لما للمحاكاة من أثر بالغ في تجديد شعرنا الذي نصبو إليه، فإن لم يتيسر لهم تعلم إحدى اللغات الأجنبية، فلا أقل من استيعاب كل ما يترجم من ملاحم تلك اللغات ومن دراماتها، ثم تطالب العبقرية العربية بتذكر أن تلك الملاحم وهذه الدرامات كانت شعراً في لغاتها الأصلية، فليس ما يمنع أن ننظم مثلها أو أرقى منها أو ما يدانيها بالشعر العربي. . . وإن لم يرقنا الشعر المرسل الذي دعونا إليه، ولا نزال نؤثره على غيره للملاحم وللدرامة المنظومة، فلنختر لنظم الملحمة أو الدرامة الطريقة العروضية التي تروقنا. إذ لا ينبغي أن يحول الشكل دون الغرض(583/7)
أما الفئة التي تعرف اللغات الأجنبية وتتقنها إلى الدرجة التي تقرأ بها الشعر الأجنبي قراءة مفهومة سائغة، فهي الفئة التي أخرجت لمصر وللشرق العربي أحسن شعرائها، ولسنا نريد أن نثير فتنة بين الفئتين بهذا التفضيل الذي لا يماري في حقيقته أحد، بل نحن - على العكس من ذلك - نريد أن نتهم أغلبية الفئتين بأنها أغلبية فقيرة الثقافة، قليلة الاطلاع، لا تحفل بأن تجاري تيارات الفكر العالمي، ولا بمواكبتها تلك المواكبة التي تنعكس في أشعارنا - أما موافقة وإما معارضة وإما ابتداعاً
إن المكتبة العربية لتحفل بطائفة قيمة من كتب النقد التي تتجلى عبقريات أسلافنا من النقاد العرب، والتي تطلعنا على موازين أدبية لا يقل كثير منها عما يروج اليوم من أساليب النقد الحديث في أوربا. . . فهل اطلع شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - على هذه الكتب، وهل حاولوا الانتفاع بما أورده أصحابها فيها من كرائم اللفتات الأدبية التي تكون للقرائح الفجة، والأذواق الشاردة، كما تكون النار للذهب؟
هل قرأ شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - كتاب العمدة لأبن رشيق، أو كتاب نقد الشعر ونقد النثر لقدامة؟ إنهم لا شك يسمعون عن كتاب الصناعتين للعسكري، فهل فكروا في قراءته والانتفاع بما فيه، أو بما في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، أو كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه؟! ثم كتب البيان والتبيين والكامل ومعاهد التنصيص وغيرها وغيرها من ذخائرنا التي لا تحضرنا الآن أسماؤها والتي لا داعي لحشد أسمائها. . .
إن هذه الكتب وغيرها ثروة ثمينة في المكتبة العربية القديمة لا غنى عنها لشاعر يحترم نفسه. . . شاعر يحس من نفسه بنواحي الضعف فلا يمنعه استعلاء أو غرور عن معالجتها بالإكباب على كتب القدامى من أبطال النقد الأدبي العربي، ثم بما تصل إليه يده من كتب النقد الحديث المؤلفة أو المترجمة، وهي كتب والحمد لله قد أنفق فيها مؤلفوها ومترجموها جهوداً محمودة مشكورة، يجب أن تقابل من طائفة الأدباء عامة، والشعراء بوجه خاص بحسن القراءة والمذاكرة، حتى يكتب الكتاب، وينظم الشعراء على هدى مما تلفتهم إليه تلك الكتب من عيوب الكتابة ومآخذ النظم، وحتى يستطيعوا أن يفهموا روح القوة - أو روح النهضة - التي نطلب إليهم الاضطلاع بأعبائها في الأدب العربي عامة، وفي الشعر(583/8)
العربي خاصة
ولدينا من كتب النقد الحديث طائفة صالحة جداً من إنتاج أشبال الجامعة ورجالها الصناديد، ومن إنتاج كرام كتابنا الذين مهدوا لنا طريق نهضتنا، وحملوا المشاعل الأولى بين أيدي أدبنا الغض المفتقر إلى الإصلاح والتجديد. . . فهل قرأ شعراؤنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب، شيئاً من تلك الكتب، وهل انتفعوا بها في تنظيم إنتاجهم الأدبي؟
إن الشاعر الذي يكتفي بمواهبه في توجيه منظوماته هو شاعر تعس، لا يرجى منه خير كثير. . . والشاعر الذي يبخل على نفسه بشراء عشرة كتب في النقد القديم والحديث هو شاعر فقير في تفكيره، مريض في إنتاجه، غاط في نومه الممتلئ بأحلام النوكي والضعفاء. . . تلك الأحلام المريضة التي لن يصيب منها الأدب العربي، ولن يصيب منها الشعر العربي إلا ما أصاب من الزخارف الباطلة التي سماها أصحابها شعراً، وما هي من الشعر في شيء، لأنها عبث يغثي النفوس، ويكرب الأخيلة، ويزهد الإنسان في إنشاد الشعر
وليس تقصير شعرائنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب في مطالعة كتب النقد هو كل ما نأخذه عليهم، بل يحزننا أن نقرر أن أكثرهم لا يقرءون من الشعر العربي إلا قدراً ضئيلاً لا يُقوّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا يطبع ذوقاً، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى التعابير وفنون الأساليب. . . يبدو ذلك كله في استبعاد طائفة بعينها من التعابير، وطائفة بعينها من المعاني، وطائفة بعينها من الأخيلة لقرائح الكثرة الساحقة من شعراء الشباب. . . وذلك دليل جلي على فقرهم الثقافي، وندرة اضطلاعهم على الشعر العربي الزاخر بأكبر ثروة لفظية يمتلكها شعر أمة من الأمم. . . شعر عاش منذ أكثر من ألفي سنة، ولا يزال يعيش، وسوف يعيش؛ وإن كنا نطلب له عيشاً جديداً وحياة ثائرة مختلفة الأغراض متغايرة المقاصد عما اعتاد الشعر القديم - وكل الشعر العربي أو معظمه، في رأينا قديم
وقد تشترك الفئتان، الذين يعرفون اللغات الأجنبية والذين لا يعرفونها، في ذلك العيب الواضح. . . أي عدم الاطلاع الطويل العميق على كتب النقد، قديمها وحديثها. . . وعلى دواوين الشعر العربي قديمها وحديثها كذلك. إلا أن تقصير شعرائنا، أو معظم شعرائنا، الذين يجيدون لغة أجنبية، في الاضطلاع على شعر تلك اللغة، واستيعاب ما نقل إليها من(583/9)
أشعار اللغات الأخرى، قديمها وحديثها، هو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة، اللهم إلا الغفلة والكسل وتراخي الهمة. . .
ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً ألا يستوعب درامات شيكسبير وبن جونسون ومارلو، وألا يقرأ منظومات برونتج وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت الطويلة الرائعة التي هي بلا شك خير ما نظم البشر وأحسن ما تغنت به الإنسانية. . . ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ ما ترجم إلى هذه اللغة من ملاحم الأقدمين كالإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية مثلاً وهي تلك الملاحم الخالدة في عالم الشعر، والتي لا ندعو دعوتنا إلا ليكون لنا مجد شعري يشبه مجدها أو يدنو منه. . . ولست أدري كيف يطيق من يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ كتب النقد الرائعة التي كتبها هازلت أو أرنولد، ومدلتون ولامبورن، وريتشارد، وسبنجارا، ومن إليهم من أساطين النقد الحديث
وبعد. . . فهذا كلام لا نريد به تعبير أحد من شعراء الشباب الذين نعقد عليهم آمالنا في النهوض بالشعر العربي الحديث، ولكنه كلام تريد به حفز همم شعرائنا الذين يرحبون بالنقد ويتشوَّفون إلى الكمال.
دريني خشبة(583/10)
على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظرة المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 5 -
من الآثار الأدبية التي تركها المؤيد في الدين (داعي الدعاة) رسائله إلى أبي العلاء المعري. وهي الرسائل التي نبهت الجيل الحديث للبحث عن هذا الداعية، بعد أن ظل مجهولاً زهاء عشرة قرون، ويرجع الفضل في نشر هذه الرسائل إلى المرحوم الأستاذ مارجوليوث المستشرق الإنجليزي، الذي نقل هذه الرسائل عن كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، ونشرها لأول مرة بمجلة الجمعية الأسيوية الملكية سنة 1896، ثم أعاد نشرها مرة أخرى بمجلة الجمعية الأسيوية سنة 1902، وقدم لها بمقدمة صغيرة ادعى فيها أن هذه المناظرة كانت سنة 438 هـ ولكني أخالفه في تحديد هذه السنة، وأذهب إلى أن هذه المناظرة إنما كانت سنة 449 هـ، وعندي ما يؤيد ما ذهبت إليه، فقد نقل ياقوت الحموي أنه (لما كانت المناظرة بين أبي العلاء، وبين داعي الدعاة، في ذبح الحيوان، أمر داعي الدعاة بأن يؤتى بأبي العلاء إلى حلب). وفي الرسالة الثالثة والأخيرة من رسائل داعي الدعاة، تصريح بأنه كان في الشام أثناء هذه المناظرة. وهناك نص آخر ورد في (المجالس المؤيدية) على لسان الخليفة المستنصر الفاطمي (حتى توجه من وجهناه من داعينا للقاء التركمانية فأنعقد بينه (أي بين الداعي) وبينه (أي بين المعري) من المناظرة مكاتبة لا مشافهة. فهذه النصوص تثبت أن هذه المناظرة جرت أثناء خروج المؤيد في الدين لحرب طغرلبك، وأن المؤيد كان بالشام وفي حلب، وقد ذكرت في مقالاتي السابقة أن المؤيد في الدين خرج من مصر للقاء التركمانية سنة 448هـ وكان بحلب سنة 449هـ، وتكاد تجمع المصادر على أن رسالة داعي الدعاة الأخيرة وصلت معرة النعمان بعد وفاة أبي العلاء بأيام قليلة، ونحن نعلم أن المعري توفي سنة 449هـ وهناك بعض نصوص أخرى تؤيدان هذه المناظرة التي كانت بين الأدبيين العالمين. حدثت سنة 449هـ. وسبب هذه المناظرة كما حدثنا المؤيد في مجالسه أنه جرى ذكر أبي العلاء المعري في مجلس(583/11)
الناظر بحلب، فهجا الحاضرون أبا العلاء وأغروا الناظر بدمه، وادعوا أن الغيرة على الدين تبيح قتله، ولكن المؤيد في الدين اقترح على الحاضرين أن يجرد لأبي العلاء من يحاجه ويناظره حتى ينكشف عواره وينحط قدره بين معاصريه، ويتخذ الناظر من هذه المناظرة ذريعة للقضاء على هذا الزنديق الخارج عن الدين، ثم نشط المؤيد لمناظرته تلك المناظرة التي كانت من أسباب خلود المتناظرين
ويخيل إليّ أن المؤيد في الدين لم يسرف في الحكم على أبي العلاء إسراف معاصريه، ولم ير في عقيدة أبي العلاء ما كان يراه غيره، فقد رمى المعري بالإلحاد والتعطيل والخروج على دين الجماعة بل لا تزال عقيدة أبي العلاء إلى يومنا هذا موضع نقاش بين الأدباء والعلماء. أما رأي المؤيد داعي الدعاة في أبي العلاء فقد وضحه في مجالسه بقوله: قد انتهى إليكم خبر الضرير الذي نبغ بمعرة النعمان وما كان يعزى إليه من الكفر والطغيان على كون الرجل متقشفاً، وعن كثير من المآكل التي أحل الله له متعتها. فهذا النص إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن المؤيد لم يقبل كلام الناس في أبي العلاء، ولم يذهب مذهبهم في اتهام دينه، بل هذا النص دفاع عن تحريم المعري للحوم تعففاً منه وتقشفاً
ويخيل إليَّ أيضاً أن غرض المؤيد من هذه المناظرة أن يعرف حقيقة مذهب أبي العلاء، وأن يستوضح أسرار فلسفته وأسرار عقيدته فقد يكون أبو العلاء من الذين يتخذون التقية والستر حجاباً لهم، ويوهمون الناس بغير ما يبطنون ولذلك بدأ المؤيد رسالته الأولى بشيء من الظرف والإعجاب بأبي العلاء، ثم نراه في الرسالة الثانية يسخر بأبي العلاء ويتهكم به، وفي الرسالة الثالثة يصرح بأنه لم يجد عند أبي العلاء ما كان يأمله
أما جواب المعري؛ فيظهر منه أن أبا العلاء قد سمع بأمر المؤيد في الدين داعي الدعاة من قبل، وكان يعرف مقدرته وحجته فبالغ في تعظيمه وتفخيمه، إما خشية على نفسه من سطوة المؤيد وإما تأدباً معه في المناظرة لمركز المؤيد في الدعوة الفاطمية والدولة الفاطمية
ومهما يكن من شيء، فالمؤيد في هذه المناظرة ضيق الخناق على أبي العلاء، وكان أبو العلاء يتلمس الطرق للهرب من خصمه فأخذ يحاوره ويحاول الفرار من موضوع المناقشة وداعي الدعاة من ناحيته يجذبه نحو موضوع المناظرة؛ فسؤال داعي الدعاة كان عن الأسباب التي أدت بأبي العلاء إلى تحريم أكل اللحوم والألبان. فكان جواب أبي العلاء في(583/12)
موضوع إرادة الله في الخير والشر، ثم البراءة من أشعار قالها بعض الملحدين. أما سؤال الداعي فلم يجب عليه جواباً شافياً. ولو طالت حياة أبي العلاء لظفر الدب العربي بثروة أدبية فلسفية لها قيمتها
أما ما قيل من أن المؤيد داعي الدعاة أمر بأن يحمل إليه المعري بحلب ليخيره بين الإسلام والموت، وأن المعري خاف على نفسه، فشرب السم؛ فهذا ما لم يقبله أحد من القدماء ولا المحدثين
والآن نتساءل هل كان المعري بدين بمذهب الفاطميين؟ فقد جاء في كتاب (الفلك الدوار في سماء الأئمة الأطهار) أن المعري كان أحد دعاة الحاكم بأمر الله الفاطمي وابنه الظاهر)!
ولا أدري من أين استقى مؤلف هذا الكتاب هذا الخبر إذ لم يقع بين يدي من كتب الدعاة ما يؤيد هذا الزعم، بل لم أجد داعية من دعاة المذهب الفاطمي يشير إلى أن أبا العلاء كان من زمرتهم ولو صح هذا الخبر لوجدت الدعاة على عادتهم يطنطنون بذكر كل نابغة يظهر بينهم، حتى لو فرض أن أبا العلاء اتخذ التقية لنفسه وستر حقيقة مذهبه ومرتبته في الدعوة لما خفي ذلك عن كبير دعاة المذهب وهو المؤيد في الدين، ولما احتاج الداعي الأكبر إلى مناظرة المعري لكشف ستره ومعرفة حقيقة مذهبه، لأن الداعي الأكبر عنده سجل الدعاة، وهو أعرف الناس بهم
حقيقة نجد في لزوميات أبي العلاء بعض العقائد الفاطمية، ولكن هذه الآراء التي ذكرها المعري لا تقوم دليلاً على اعتناقه المعري لهذا المذهب. فقد كانت التيارات الفكرية في عصر المعري تتحدث بهذه الآراء، وكان المعري في وسط يخضع للنفوذ الفاطمي سياسياً ودينياً، وشب المعري وقد امتلأ فكره بعقائد الفاطميين وآرائهم، وحوى منها الشيء الكثير؛ فلما نضج واستطاع أن يميز بين المذاهب المختلفة والآراء المتباينة تخلى عن كثير من عقائده وآرائه السابقة التي كانت تسود بيئته وعصره، وكون لنفسه مذهباً حراً لا يتقيد برأي ولا يتعصب لمذهب دون مذهب. فأغضب معاصريه سواء أكانوا على مذهب الفاطميين أم من جمهور أهل السنة، واتهم في دينه شأنه في ذلك شأن كل المصلحين وزعماء الفكر الحر في جميع أنحاء لعالم
فالمعري لم يكن من دعاة المذهب الفاطمي، بل لم يكن ممن اعتنق هذا المذهب، بل كان(583/13)
أشد الناس حرية للفكر ومن أكبر زعماء المسلمين والعرب دعوة إلى حرية الفكر
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
مدرس بكلية الآداب بالقاهرة(583/14)
على هامش النقد
بقية في المعاني والظلال
للأستاذ سيد قطب
قلت في الكلمة الماضية: إن طريقة التصوير والتظليل هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال
وقلت: إن طريقة التصوير والتخييل هي قاعدة التعبير في القرآن الكريم، وأنه تفرد بطريقة التصوير - في هذا المستوى - بين الشعر الجاهلي قبله، والشعر الإسلامي بعده
وقلت: إن التعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً، يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال، وأن هذه الطريقة أقرب إلى طبيعة الفنون من الطريقة الأخرى التي تعنى بإبراز المعاني في الأساليب الذهنية التجريدية
فلعله يكون من كمال البحث في هذا الموضوع أن نعرض نماذج أخرى من الشرق والغرب ومن القديم والحديث، غير القرآن الكريم - في مستواه الرفيع - وغير الشعر العربي في الجاهلية والإسلام
جاء في (العهد القديم) - التوراة - كلام عن لسان (الجامعة بن داود) قال:
(باطل الأباطيل. الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد. والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب، وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر، لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل، العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال عنه: انظر هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذِكرٌ للأولين. والآخرون أيضاً الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم.
(أنا الجامعة. كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم. ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السموات. هو عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت(583/15)
كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوّم، والنقص لا يمكن أن يجبر. أنا ناجيت قلبي قائلاً: هأنا قد عظُمتُ وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم، وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة، ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة، ولمعرفة الحماقة والجهل. فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً.
هذا كلام قديم، وترجمته ترجمة رديئة من حيث الأسلوب العربي. ولكن هذا لا يفقده طابعه الفني العالي.
هنا إنسان يغمره السأم والملال، ويطويه اليأس والقنوط ولكنه لا يقول: إنه ملول سأمان، ولا أنه يائس قانط، إنما يرسم لك صور الحياة والأشياء في نفسه، ويدعك ترى نفسه في هذه الصور والأشياء:
الكل باطل. وحركة الحياة مكرورة معادة، لا شيء جديد تتفتح له النفس، ويتطلع له القلب، الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. والريح كذلك. تذهب دائرة وإلى مداراتها ترجع. والأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. . . فالطبيعة هنا - من خلال هذه النفس - يغشيها السأم والملال والتكرار العقيم.
ثم ماذا؟
ثم هذا هو الإنسان. تقصر كلماته عن التعبير عما في نفسه، والعين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، فهو عبث كله ما يحاول من الكلام والنظر والسمع، وسائر ما تهم به الجوارح والوجدانات. على أنه ليس هناك جديد تحت الشمس، كل ما يكون فقد كان. ويزيد عبث المحاولة لأي شيء في هذه الدنيا أن ليس ذكر للأولين، وأن ليس ذكر للذين سيكونون، فالكل ينسى ويطوى في تيه النسيان. . .!
الكل باطل، والمحاولة عبث، فالأعوج لا يقوَّم، والنقص لا يُجبر. والحكمة عبث كذلك، فهي مصدر الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً
لا شيء إذن يستحق النظر. لا شيء يستحق المحاولة. وما على المرء إلا أن ينتظر في سأم وملل وضيق، حتى تنتهي هذه الأيام المكتوبة عليه، ثم يجرفه التيار فيمضي كأن لم(583/16)
يكن، ويطوى في زوايا الإهمال كالآخرين!
هنا صورة نفس، تلقي ظلها على الحياة والأشياء، فتطبعها بطابعها؛ يراها الرائي فتؤثر في حسه، وتنطبع في نفسه، لأنها نفس إنسان، لا تركيبة ذهن. وهنا تشترك طريقة الإحساس مع طريقة التعبير، في التصوير والتظليل، وفي إبراز نفس إنسانية من وراء الألفاظ، ومن بين السطور، على الطريقة التي فصلناها في كلمات سابقات
في ظل هذه الصورة نقرأ قطعة لتوماس هاردي الشاعر الإنكليزي الحديث: (ترجمة الأستاذ العقاد في ساعات بين الكتب)
(إذ طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة، جدولاً وحقلاً وقطيعاً وشجراً موحشاً، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إليَّ. وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعاً، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاء: عجباً! عجباً لا انقضاء له أبد الزمان. ما بالنا نحن نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم. خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافاً لما تجيء به الصروف؟ أم تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور؟ أم ترانا بقية من حياة إلهية قديمة تموت، فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها (فرقة الفداء) والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟
(كذلك يسألني من حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة)
ونحن نكتفي هنا بتعليق الأستاذ العقاد على هذه القطعة، ففيه أقصى ما نبلغ أن نقول:
(إننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له (يعني القارئ الذي تهمه المعاني لا الصور النفسية) هزيلة ضامرة لا تساوي بيتاً من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها (حالة نفسية) تحيك بنفسه، فمثلّها لنا أحسن تمثيل. أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطها الجاهل فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف وعبث الحوادث وعبث النواميس،(583/17)
فتولاه الضجر، ونفرت نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم - فيم يحزن الحزين، ويفرح الفرحان، وفيم ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة، ثم لا يزالون ينخدعون بها، وهم يعلمون أنهم مخدوعون؟ في لا شيء!. . . الخ)
وهذا نموذج من التصوير والتظليل، الذي تتراءى من خلاله (حالة نفسية) تشترك في رسمها طريقة الإحساس، وطريقة التعبير
ونرجع إلى (العهد القديم) فنختار مقطوعة من (نشيد الإنشاد) المشهور:
تقول (شولميت) بطلة هذا النشيد:
(كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي، أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمَهُ فوقي محبة. اسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حباً. شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول: ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء
(صوت حبيبي. هو ذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل. هو ذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يوصوص من الشبابيك. أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي. لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرَّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القضب. وصوتُ اليمامةُ سُمع في أرضنا. التينة أخرجت فجها، وقُعال الكروم رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني وجهك، أسمعيني صوتك. لأن صوتك لطيف ووجهك جميل
(خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة للكروم، لأن كرومنا قد أقعلت
(حبيبي لي، وأنا له. الراعي بين السوسن إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال، أرجع وأشبِهْ يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة
ويقول حبيبها الراعي في مقطوعة أخرى من النشيد:
(ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات. قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر، السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين!(583/18)
(أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل. ولنبت في القرى. لِنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي. اللقاح يفوح رائحة، وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي)
فهنا صورة للحب الفطري، كأنما هو قطعة من حب الطبيعة، يتفتح حين تتفتح، ويفوح حين تفوح، الحبيب فتى يقفز من فوق التلال المشعبة كالأيّل، والحبيبة كالنخلة وثدياها كالعناقيد. وهما يبرزان للطبيعة ويتواريان فيها كأنهما من كرومها الفائحة المتفتحة، أو ظبائها وأيائلها الطافرة. أو يمامها في محاجيء الصخر وستر المعاقل. ثم:
(لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي؟ اللقاح يفوح رائحة. وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبتي)
وهذا منتهى الإحساس بحيوية الطبيعة، والاستجابة، كما تستجيب الطبيعة، وفي إبانها المناسب وأوانها المعلوم. وكل هذا من خلال الصورة والظلال التي يرسمها التعبير للطبيعة وللنفس الإنسانية على السواء. وهي أعلى في آفاق الفن من كل دعاء بالغزل على طريقة المعاني الذهنية التي تكاد تكون الوسيلة الوحيدة للتعبير في شعر العذريين وغير العذريين، فيما عدا الفلتات التي لا تكون القاعدة، وإنما تكون الاستثناء القليل
وفي ظل هذه المقطوعات القديمة نتملى قطعة الشاعرة الإنجليزية المعاصرة المرموز لها (لورانس هوب) التي نقلناها في مقالة سابقة تحت عنوان (في غير هذه الليلة) وقد جاء فيها:
لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى
أقبل علي والصباح يرتع في الأنوار
والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء
بين الورود من حمر وبيض
وبقيتها في (عرائس وشياطين) وفي عدد الرسالة (579) وقد قلنا في التعليق عليها هناك:
هذه شاعرة وامرأة، يبدو في مقطوعاتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة
عنينا باستعراض قطعة هاردي في ظل قطعة (الجامعة) وقطعة (لورنس هوب)، في ظل(583/19)
قطعة (شولميت) لغرض خاص، هو بيان مدى تأثر الشعر الأوربي وانتفاعه بكتابهم المقدس، وهو تأثر واضح في هذه القطع جميعاً. في طريقة الإحساس وفي طريقة التعبير على السواء.
ونحن نجد القرآن بين أيدينا، وهو يتبع في التعبير طريقة التصوير الحي، الذي يزيد مساحة المعنى النفسية، ويحيله صورة حية، حتى في الأغراض الدينية البحتة
بين أيدينا هذا الكتاب المقدس يتحدث بأبرع طريقة فنية في الأداء، فلا ننتفع بها، ونرجع إلى اقتباس طرق تعبيرنا إلى الشعر العربي ولا سيما في العصر العباسي، حينما تأثر الشعر بالفلسفة والمنطق، وبرزت فيه المعاني الذهنية بروزاً واضحاً؛ ولولا أصالة الطبع في بضعة شعراء في هذا الوقت، لقضت الطريقة الذهنية في الأداء على الطابع الفني تمام القضاء
إنني أدعو إلى تملي طريقة القرآن في التصوير والتظليل فهي أعلى طريقة فنية للأداء. وإذا كانت وجهة القرآن الدينية، قد جعلت هذه الطريقة خاصة بأغراض الدعوة الإسلامية. فإن نقلها إلى عالم الأدب خليق بأن يرفع هذا الأدب إلى آفاق رفيعة، لم تصل إليها حتى الآن. فهلموا إلى ذلك النبع الأصيل. نبع القرآن.
سيد قطب(583/20)
كتاب المصايد والمطارد
لكشاجم المتوفي سنة 360هـ
للأستاذ سعيد الديوه جي
كنت في صيف السنة المنصرمة قد عثرت على مخطوط قديم في المدرسة الحسينية في الموصل، وتحققت بعد ذلك أن هذا المخطوط هو كتاب (المصايد والمطارد) لكشاجم الشاعر. وفي 14 أغسطس 1943 أطلعني أحد الأفاضل في بغداد على مقال للدكتور الجليل إسرائيل ولفنسون (أبي ذؤيب) نشره في مجلة المجمع العلمي العربي عن كتاب (المصايد والمطارد) وقد كتب الدكتور الجليل بأنه يود أن يتعرف على نسخة غير نسخته فكتبت هذه الكلمة تلبية لطلبه.
بين مخطوطات المدرسة الحسينية في الموصل مخطوط قديم ذكره الدكتور الفاضل داود الجلبي في كتابه مخطوطات الموصل ص 122 تحت الرقم (26) باسم (بازنامة) حجم الكتاب 23 16 سم وعدد صفحاته (190) صفحة في الصفحة الواحدة (17) سطراً. وهو مكتوب على ورق سميك، ويظهر من قواعد كتابته وورقه والحبر الذي كتب به أن الكتاب يرجع إلى القرن السادس الهجري أو ما يقارب ذلك، كما يظهر أن المخطوط قد تمزق على ممر السنين وأعيد تجليده مرة ثانية فأصلح غلافه وزيد في كل من أوله وآخره ثلاث أوراق بيضاء خالية من الكتابة، وهذه الأوراق الستة تختلف عن ورق الكتاب الأصلي فهي: أقل سمكاً وأنصع بياضاً. أما الورق الأصلي فقد أكتسب سمرة تدل على قدمه وخاصة حول الأسطر الكتابية فإن السمرة تزداد. وإن المجلد قد أخطأ في ترتيب أوراق الكتاب، فوضع الورقة 90 منه بعد الورقة 93 اتضح لي هذا من سياق البحث. والنسخة التي بين أيدينا كثيرة الغلط والتحريف فيظهر أن الناسخ كان يجهل قواعد اللغة العربية، فكان يمسخ بعض الكلمات بدلاً من أن ينسخها. ونجد قسما من الكلمات خالية من الإعجام، وأعتقد أن بعض هذا كان من إهمال الناسخ، وأن البعض الآخر كان من تأثير الرطوبة في المخطوط.
الصفحة الأولى من الكتاب كلها نقوش لازوردية ومذهبة، ولكن الرطوبة وطول الأمد وعبث الأيدي أثرت في هذه النقوش فأزالت القسم الكبير منها وشوهت الباقي. في القسم(583/21)
الأعلى من هذه الصفحة دائرة كبيرة ظهر لي في وسطها كتابة باللون الذهبي تأملتها طويلاً؛ فعلمت أنها أسم الكتاب (المصايد والمطارد). أما وسط الصفحة فأعتقد أنها خالية من الكتابة وهي مجرد نقوش. أما أسفل الصفحة ففيها كتابة يظهر أنها كانت مكتوبة باللون الذهبي وسط نقوش لازوردية، ولكن طمست معالم الكتابة، ولم يبق إلا آثار بعض الحروف فصعب قراءتها. ولا نجد على المخطوط ذكراً للمؤلف. فمن يا ترى مؤلف هذا المخطوط؟ ذكر ابن النديم أن (أبا دلف القاسم بن عيسى والفتح ابن خاقان وابن المعتز ومحمد بن عبد الله بن البازيار وأبا الفتح محمود ابن الحسين بن شاهن المعروف بكشاجم) ألفوا في الجوارح والصيد. ومؤلف المخطوط الذي بين أيدينا يستشهد بأبيات لابن المعتز وبأخرى لأبي فراس الحمداني المتوفى سنة 357هـ. ونحن نعلم أن أبا دلف توفى سنة 256هـ. والفتح بن خاقان توفى سنة 247هـ. وابن المعتز توفى سنة 296هـ. فيكون المؤلف قد عاش بعد هؤلاء الثلاثة. أما كشاجم وابن البازيار فإنهما كانا معاصرين لأبي فراس، وكانا من شعراء الدولة الحمدانية في حلب وعاشا في ظلالها، وتوفى كشاجم سنة 350 أو سنة 360هـ. وتوفى ابن البازيار سنة 352هـ. ولكن لدينا من الأدلة ما نؤيد أن المخطوط هو لكشاجم وهي:
1 - اتفق الذين ترجموا لكشاجم أنه كان متضلعاً من علوم عديدة، وكان كاتباً شاعراً وله كتاب (المصايد والمطارد) وذكر صاحب كشف الظنون (جـ 2: ص276) كتاب (المصايد والمطارد) لأبي الفتح محمود بن الحسين المعروف بكشاجم المتوفى سنة 350هـ. كما ذكر جرجي زيدان في كتابه تاريخ أدبيات اللغة العربية (جـ2: ص251) في ترجمة كشاجم وينسب إليه كتاب البزاة في علم الصيد، منه نسخة خطية في مكتبة غوطا. مما لا شك فيه الآن أن لكشاجم كتاباً اسمه (المصايد والمطارد)
2 - وقد ذكر صاحب هذا المخطوط في باب فضل لحم الصيد ما يأتي:
وأهديت إلى بعض إخواني صيداً وكتبت إليه في عقب علة كان فيها بهذه الأبيات:
أزال الله شكواك ... وأهدى لك أقواقا
خرجنا أمس للصيد ... وكنا فيه سُباقا
فسمينا وأرسلنا ... على أسهل إطلاقا(583/22)
فتاح الله بالرزق ... وكان الله رزاقا
فحصلنا من الدرا ... ج ما الرحل به ضاقا
فأطمعت وأهديت إل ... ى المطبخ أو ساقا
وخير اللحم ما أفل ... قه الجارح إقلاقا
وذو العادة للصيد ... إذا أبصره تاقا
فيعدوه بما كان ... إليه الدهر مشتاقا
فكل منه ش ... فاك الله مشوياً وأمراقا
فهذا الحفظ للصحة ... لا تدبير إسحاقا
فرجعت إلى ديوانه المطبوع في بيروت، فوجدت هذه الأبيات في صفحة 129، 130 منه
3 - وذكر مؤلف هذا المخطوط في باب معرفة (أصناف البزاة) قال محمود مؤلف هذا الكتاب في ذلك شعراً:
حسبي من البزاة والزرارق ... سدق (كذا) يصيد صيد الباشق
مؤدب مهذب الخلائق ... أصْيدُ من معشوقة لعاشق
يسبق في السرعة كل سابق ... ليس له عن صيده من عائق
ربيته وكنت غير الواثق ... من طبعه بكرم الخلائق
إن الفرازين ... من البيادق
ونحن نعلم أن اسم كشاجم هو محمود، وهذه الأبيات من نظمه ومذكورة في ديوانه (ص133) فلم يبق شك في أن هذا المخطوط هو لكشاجم
المخطوط الذي بين أيدينا مشوش التبويب. فالناسخ قد سلك في تبويبه طريقة غريبة جداً فإنه بعد المقدمة يشمل على مائة باب وباب واحد (84) منها ذكر معها لفظ باب. فمثلاً (باب ذكر الصيد، باب فضائل الصيد، الخ. . .) وبعضها يذكر (لفظ باب) فقط و (17) لم يذكر معها لفظ باب، وإنما كتب العنوان مجرداً من الباب مثلاً (معرفة أصناف البزاة) أما بعد الصفحة (116) فإنه قسم الكتاب إلى أبواب رئيسية يشمل كل باب منها أبواباً فرعية، فأول هذه الأبواب الرئيسية هو (باب علامات الجص وأدويته) ويشتمل هذا الباب على ثمانية أبواب فرعية، ثم يليه (باب الأكلة) ويشتمل على بابين فرعيين، ثم يلي هذا أدوية(583/23)
النفس ويشمل على ستة أبواب فرعية الخ. . . وهذه الفرعية بعضها له علاقة بالباب الرئيسي وبعضها ليس له علاقة به. ويختم كل باب من الأبواب الرئيسية بقوله مثلاً عند نهاية باب الجص (انقضت أبواب الجص وأدويتها، بحمد الله وعونه يتلوها إن شاء الله أبواب الأكلة المتولدة في جوف الجارح من الجص وغيره وبالله التوفيق)
وفي الباب الأخير الرئيسي الذي ينتهي به المخطوط تكلم المؤلف عن علاجات مختلفة لأمراض الجوارح، ثم تكلم عن الكلب وصيده وخصائصه وإمارات الفراهية فيه وأحكامه وأدويته، وانتقل بعد هذا إلى أدوية الفهود وذكر عنها مقتضباً وهو أدوية الفهود: اعلم أن جرب الفهود يعتريها من بولها فينبغي أن يفرش الرمل تحتها حتى بصفو شعرها ولا يصيبها شيء من بولها إلا يشربه الرمل، ويبدل الرمل من تحته كل قليل فإذا جرب فاسحق له الكبريت الأصفر ورتبه بالزيت، واطل بدنه من الجرب فإنه يبرأ منه بإذن الله تعالى والله أعلم
ولهذا فإني أشك أن يكون هذا الكتاب كاملاً إذ ليس من المعقول أن يتكلم المؤلف عن الفهد في هذه الأسطر المعدودة بينما نجده تكلم عن بقية حيوانات الصيد وجوارحه في أبواب متعددة يستوفي البحث، ومما يزيد في شكي هذا أن الناسخ لم يختم الباب الأخير بالجملة التي يختم بها الأبواب الرئيسية التي بعد ص 116
وفي الكتاب صورتان للباز مرسومتان بالمداد الأحمر، وهما خاليتان من كل زخرف، الأولى رسمت تحت عنوان (باب شرح البزاة وصفتها) والثانية مرسومة بين أسطر (باب علامة صحة الجارح). أهـ
(الموصل)
سعيد الديوه جي(583/24)
4 - فساد الطريقة
في كتاب النثر الفني
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
سوء الفهم أيضاً
ليس الغريب أن يخطئ صاحب الكتاب ذلك الخطأ الشنيع في فهم الواضح من آيات القرآن الكريم كآية سورة هود التي حللنا فهمه إياها في كلمتنا السالفة، فإن خطأه ذلك إن هو إلا نتيجة لرأيه في القرآن، ومصداقاً لقوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) لكن الغريب أن يخطئ في فهم نصوص ذكرها من كلام الناس نذكر لك الآن منه صنوفاً
أراد صاحب الكتاب أن يبين أن صحة المعنى لا تكفي لبلاغة الكلام؛ فزعم أنه (لا يوجد أصدق من قول من قال:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
وتساءل: ولكن من الذي يقيم وزناً لصدق هذا الكلام؟ إن هذا الصدق هو التفاهة بعينها)
والتفاهة ليست في صدق البيت ولكن في الفهم الذي لا يدرك أن سر تفاهته هو في الخلف الذي بين شطريه. ذلك أن البيت في صميمه بيت تشبيه، والتشبيه يتطلب مشبهاً به مغايراً للمشبه، والقارئ يتوقع هذه المغايرة إذا قرأ الشطر الأول؛ فإذا وجد الشطر الثاني قد كذب هذا التوقع بجعله المشبه به عين المشبه بطل التشبيه عنده، وهزئ بالقائل الذي لا يعرف ما هو التشبيه، وبالبيت الذي يكذب شطر منه شطراً
فالبيت من ناحية التشبيه بيت كاذب: يعد القارئ في شطره الأول بشيء يخلفه إياه في شطره الثاني. وهذا الخلف والتضاد بين شطري البيت هو سر تفاهته. فلو حذفت منه حرف التشبيه ووضعت مكانه حرف التوكيد لزال من البيت الخلف الذي هو نوع من الكذب، ولحل محله الصدق، ولارتفعت قيمة البيت ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء، لكن صاحب الكتاب غبى عليه أن التفاهة التي يحسها في البيت راجعة إلى هذا النوع من الكذب فيه، وتصور أن البيت قد بلغ من الصدق الغاية، فدل بذلك على أنه في الحقيقة لم يفهم البيت(583/25)
ونص آخر وقف صاحب الكتاب عنده موقف العاجز عن الفهم. قول للباقلاني في كتابه إعجاز القرآن يحتج به لما يراه من أن ما جاء في القرآن على هيئة السجع ليس بسجع (لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى) وهذا كلام للباقلاني واضح، يحدد السجع في رأيه كما يعرفه في كلام المستكثرين منه، ويرى سجع القرآن يمتاز منه بمخالفة هذا الحد والفصل الذي ذكر؛ فلم يجعله من قبيله، وافقته على ذلك أو خالفته. وقد أراد الباقلاني أن يؤكد احتجاجه لرأيه ذلك فقال كما روي صاحب الكتاب، وهذا هو محل الاستشهاد:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
نقل صاحب الكتاب هذا الكلام، ودل في الهامش على موضعه من كتاب الباقلاني، ومضى يلخص الفكرة فيه من غير أن يلحظ أن الكلام في الأصل، وكما نقله غير مستقيم مع رأي الباقلاني لتداخل وقع فيه عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ، من غير أن يدرك ذلك صاحب الكتاب فيزيل منه التداخل قبل التعليق عليه أو تلخيص الفكرة فيه. والتأمل يبين أن وجه الكلام هو كما يأتي بعد نقل كلمة واحدة مكان كلمة، وجملة واحدة مكان جملة:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره)
وقد تكون الفقرة الأخيرة كما يأتي إذا كان التبادل وقع بين فعلي الشرطيتين لا بين جوابيهما:
(ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى(583/26)
بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
فهذان وجهان للكلام لا بد أن يكون واحد منهما هو ما كتب الباقلاني في كتابه، إذ لا يتضح معناه بغير ذلك. لكن صاحب الكتاب لم يفطن إلى ما في الكلام الذي نقله من تداخل، ولم يحاول أن يناقش حجة الباقلاني التي استغلقت عليه بذلك التداخل، وقصر تلخيصه للفكرة على المعنى المتضح من كلام الباقلاني الذي نقلناه أولا، موهماً أنه قد لخص المعنى في الكلام كله؛ فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه؛ أو على قصوره في الفهم والتفكير
والآن ننتقل إلى مثل ثالث يتعلق لا بسجع القرآن، ولكن بالسجع في القرن الثالث
ذلك أن صاحب الكتاب نقل في صفحة 84 من الجزء الأول من كتابه نصاً من الجزء الأول من كتاب ضحى الإسلام هو: (ونحن نعلم أن هذا العصر - عصر الجاحظ - لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها؛ وإن تكلف فيه سجع ففقرة أو فقرتان. فأما كتاب كله سجع فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر)
وواضح أن الإنكار الذي في هذا النص منصب في صميمه على أن يكون في عصر الجاحظ كتاب كله سجع، لكن صاحب النثر الفني غفل عن هذا أو تغافل عنه في المناسبات الثلاث التي أشار فيها إلى رأي الأستاذ أحمد أمين
ففي المناسبة الأولى وهي التي دعته إلى ذكر ذلك النص لتخطئته استشهد على إمكان وجود كتاب مسجوع لرجل من كتاب القرن الثالث بحرص (ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة) وواضح أن القرن الثالث يمتد بعد عصر الجاحظ بنحو نصف قرن، فلو وجد فيه كتاب مسجوع لما استلزم أن يكون حتماً في عصر الجاحظ. كذلك من الواضح أن عناوين فصول كتاب ليست هي نفس الكتاب، فوجود العناوين كلها مسجوعة ليس معناه أن الكتاب نفسه مسجوع كله. لكن ذلك هو مبلغ فهم صاحب النثر الفني للنص الذي أورده لصاحب ضحى الإسلام ومبلغ تفنيده إياه
وفي المناسبة الثانية يشير صاحب الكتاب إلى رأي الأستاذ أحمد أمين بقوله من صفحة 86: (لا ينبغي أن نستبعد - كما استبعد الأستاذ أحمد أمين - أن توجد مؤلفات مسجوعة في القرن الثالث؛ فان عصرنا الحاضر ينكر السجع على المؤلفين أشد الإنكار ويراه ضرباً(583/27)
من التكلف الممقوت، ومع هذا وجدت في عصرنا مؤلفات مسجوعة، مثل: (صهاريج اللؤلؤ) و (حديث عيسى بن هشام) وأبواب من (ليالي سطيح). وقد وقع صاحب هذا الكلام في نفس الخطأ الذي وقع فيه آنفاً، إذ جعل القرن الثالث هو وعصر الجاحظ سواء، ونسب بذلك إلى أحمد أمين قولاً لم يقله في النص الذي رواه له، وإن كان أكبر الظن أن القرن الثالث لم يشهد بالفعل كتاباً مسجوعاً كله، إن لم يكن هناك على عكس ذلك إلا أدلة صاحب الكتاب. ألا ترى أنه لا يفرق بين عصرنا هذا الذي يستنكر فيه التزام السجع والعصر الذي عاش فيه البكري والمويلحي؟ أفكان السجع يستنكر التزامه قبل نصف قرن حين كتب ذانك ابان، كما يستنكر ذلك الآن حتى يجعل صاحب النثر الفني السطرين واحداً، ويستدل بوجود الكتابين على وجود الضدين في هذا العصر؟ أم كان التزام السجع مستحسناً كل الاستحسان حين كتب ذانك الكتابان فلا يكون لصاحب النثر الفني فيهما إذن دليل أو برهان؟
ويقول صاحب الكتاب في مناسبة ثالثة في صفحة 96: (والقرن الثالث يسميه صديقنا الأستاذ أحمد أمين (عصر الجاحظ) وينفي عنه السجع، مع أن الجاحظ يسجع ولا يخرج من السجع إلا إلى الازدواج). أقرأت هذا ووعيته، وأدركت الفرق بين ما ينسبه صاحب النثر الفني إلى صاحب ضحى الإسلام هنا، وبين النص الذي يرويه له هناك؟ صديقه الأستاذ أحمد أمين يسمي القرن الثالث عصر الجاحظ، وصديقه الأستاذ أحمد أمين ينفي عن القرن الثالث السجع! وهكذا يصح في فهم صاحب الكتاب أن يمتد عصر الجاحظ إلى سنة 300هـ، لأن الجاحظ مات سنة 255هـ.، وأن ينفي مؤرخ السجع عن القرن الثالث لأنه نفى وجود كتاب كله سجع في ذلك القرن، أو في النصف الأول من ذلك القرن!
فقد رأيت الآن ثلاثة أوجه لفهم دكتورنا البحاثة لنص واحد لمؤلف معاصر، ورأيت كيف يحوره ويدوره حتى صيره إلى ما رأيت وما ترى. والأمر إليك الآن في تسمية هذا النوع من التفكير بحثاً أو تسميته عبثاً، وفي تسمية هذه النوع من التصوير تصريفاً أو تحريفاً، ومن النقل مسخاً أو نسخاً، ثم في تسميته هذا كله عجزاً عن الفهم أو اقتداراً عليه، وصلاحاً في الطريقة أو فساداً؛ فإن الأمر جل عن التلاحي، أو قل كما تشاء أن تقول
محمد أحمد الغمراوي(583/28)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
599 - قم فجئني لقده بمثال
في (قلائد العفيان): ساير أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الوزير الأستاذ أبا بكر بن القبطرنة وهو غلام يحار مجتليه، ويغار غصن البان من تثنيه، وقد وضع يمناه في شماله وتضوع عرف آماله، والناس ينظرون هلال شوال؛ فقال:
يا هلال، استنر بوجهك عني ... إن مولاك قابض بشمالي
هبك تحكي سناه خدا بخد ... قم فجئني لقده بمثال
600 - ما ليس عندي من إحدى المصيبات
قال الربيع بن سليمان: قصد الشافعي رجل يطلب منه شيئاً فأعطاه ما أمكنه ثم أنشأ يقول:
يا لهف نفسي على مال أفرقه ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات
601 - الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء
الظرائف واللطائف للمقدسي: قيل لبنت أرسطاطاليس: ما أحسن ما في المرأة؟
قالت: الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء
602 - وضربت للحدثان والحرب
في (الكامل): كانت رُكب الناس قديماً من الخشب فكان الرجل يُضرب رِكابُه فينقطع؛ فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المُهَلَّب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام:
ضربوا الدراهم في إمارتهم ... وضربتَ للحدَثان والحرب
603 - ما أعجب هذه القصة!
(وفيات الأعيان): كان ابو بكر محمد بن السري المعروف بابن السرّاج أحد الأئمة المشاهير المجمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والأدب. وكان يهوى جارية(583/30)
فجفته، واتفق وصول الإمام المكتفي (العباسي) في تلك الأيام من الرقة. فاجتمع الناس لرؤيته، فلما رآه أبو بكر استحسنه، وأنشد أصحابه هذه الأبيات:
ميّزت بين جمالها وفَعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا ألاَّ تخونَ عهودنا ... فكأنما حلفت لنا ألاّ تفي
والله لا كلمتُها ولو أنها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب انشدها أبا العباس بن الفرات وقال: هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس القاسم بن عبيد الله الوزير. فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشده إياها، وقال للمكتفي هي لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر له بألف دينار فوصلت إليه؛ فقال ابن زنجي: ما أعجب هذه القصة! يعمل أبو بكر بن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق إلى عبيد الله بن طاهر(583/31)
مشهد من الفصل الأول من:
قصر الهودج
للأستاذ علي أحمد باكثير
(كان الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مغرماً بحب البدويات
فسمع بجمال فتاة من بادية الصعيد فأرسل إلى أبيها يخطبها
فرد الرسول، فذهب بنفسه متنكراً كأنه رسول آخر من
الخليفة. وطلب من أبيها أن ينفرد بسلمى ليقنعها بقبول الخليفة
فوافق أبوها (الشيخ عمار بن سعد). فلما خلا بها اجتهد بكل
وسيلة أن يجعلها تعدل عن حب ابن عمها (ابن مياح) وتقبل
يد الخليفة الفاطمي ولكن سلمى أصرت على الاعتذار بحب
أبن عمها، وإيثار حياة البادية على حياة القصور. وعندئذ غير
الرسول مهجته وقال لها:
الرسول (الخليفة نفسه):
عِشْتِ يا سلمى طليقَهْ ... لستِ للمُدْنِ صديقهْ
لا تحبِّين مغاني ... ها ولا الدُّورَ الأنيقة
سلمى (يبدو في وجهها السرور):
لطف الله بحالكْ ... قد فهِمتَ الآن قصدي
الرسول:
كيف لا أفهم ذلك ... والذي عندكِ عندي؟
أنا من رأيكِ يا سل ... مى ومَيْلي مثلُ مَيْلِكْ
آهِ لو تسمح لي الأي ... ام يا سلمى بِنَيْلِك!(583/32)
أنتِ لي لستِ لغيري=وأنا لست لغيركِ=إن لي قلباً كقلبِكْ!
سلمى (مدهوشة): عجباً! هل أنت مجنون؟
الرسول:
نعم يا نور عيني ... أنا مجنونٌ بحبّك!
قَسَماً بالدُّرِّ في ثَغْرِ ... ك والوردِ بخدِّكْ
إنني عبدُك يا سل_مى حنانيكِ بعبْدِكْ!
سلمى:
حَسْبك اخْرس! قطع الله لسانك!
الرسول:
يا حياتي حفِظَ الله زمانَكْ!
أتسبّين لساناً يتغنَّى بعبيرِكْ=وجمالِكْ. وشُعاعِكْ؟
سلمى:
بل لساناً كاذباً خنت به عهد أميرك ... باحتيالِك وخداعِك!
الرسول:
الأمير انْسِيه لا تُجرِيه يا سلمى ببالِك=أو خيالِك
أنا خير منه يا سلمى وأولى بجمالِك ... ودلالِك!
سلمى:
آه لو يسمع ما قُلْتَ الملِك=لمحاك السيف من هذا الوجود!
الرسول:
كيف يمحو السيف صبًّا هام بكْ ... حُبُّكِ الخالد أولاهُ الخلود؟
سلمى:
سيف مولانا الخليفة ... سيعافيكَ غداً من جنونِكْ!
الرسول:
ليس بي للقتل خِيفَه ... فلقد ذُقْتُ الرّدَى من عيونك!
(يزحف نحوها ويقترب منها)(583/33)
العيون السود هذِي ... ما لها كُفْوٌ سواي
والجبين الْحُرُّ هذا ... ما له غير هواي!
فَمُك الحلوُ العِقيقيُّ الجميلْ=ما براه اللهُ إلا لفمي!
(تلطمه سلمى بكفها على وجهه)
لطمةٌ منكِ شفاء للعليل ... فأعيديها. . . بروحي ودمي!
(وهنا استغاثت سلمى بأبيها فأراد الوثوب بالرسول فكشف له انه الخليفة فأرتاع الشيخ عمار)
عمار (معتذراً):
ما الذي ضرك لو أخبرتنا ... فاحترمناك أمير المؤمنين؟
الخليفة:
شِئتُ أن أشهد سلمى وأراها ... دون أن تعرف سلمى من أنا
علني أُدرِك من سلمى رِضاها ... فإِذا فُزْتُ به نلتُ المنى!
غير أني خاب فيها أملي ... ولقِيت الهجر منها والصدود
وأشقائي! كل هذي الأرض لي ... غير سلمى لن أفُزْ منها بجود!
سلمى:
لستُ يا مولاي إلا أمتَكْ ... كيف تعصي أمة سيدها؟
إنما كانت تُرجّى رحمتَك ... أنتَ مولاها فهَبْها يدها!
الخليفة: أنا يا سلمى الذي يرجو رِضاك!
سلمى: أنا يا مولاي من ترجو نَداكْ!
الخليفة: أنت يا سلمى التي لا ترحمين!
سلمى: إنما الرحمة حق المالكين!
الخليفة: أنا مِلْكٌ لِغرامِك!
سلمى: أنا مِلْكٌ لِحسامِكْ!
الخليفة: اعلمي غرامي بكِ أمضى من حسامي
لِمَ لا تَغْدين يا مالكتي مِلْك غرامي؟(583/34)
سلمى: لَسْتُ أهلاً لك يا مولاي!
الخليفة: أنا أهلٌ لكِ يا دنيايْ!
سلمى: أنت أهلٌ لي وأملٌ لِسواي!
علي أحمد باكثير(583/35)
البريد الأدبي
عودة إلى وحدة الوجود
رأيت في العدد 581 من مجلة الرسالة الغراء عودة إلى موضوع (وحدة الوجود) بقلم العالم الأستاذ عبد المنعم خلاف. فوددت لو يسمح لي الأستاذ البليغ صاحب الرسالة وحضرات الكتاب فيها وقرائها قول كلمة أخرى في هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان عظيم الشأن
(وحدة الوجود) بالمعنى الذي فهمناه من سياق المناقشات فيها في هذه المجلة هي أن الله متحد في الكون المادي بحيث يكون والكون شيئاً واحداً، وهي بالحقيقة قضية فلسفية مختلفة النظريات باختلاف الفلاسفة الذين بحثوا فيها. وليس هنا محل الكلام فيها
الأديان السماوية الثلاثة ترفض هذه النظرية الفلسفية رفضاً باتاً. وهي مجمعة على أن الله والوجود المادي شيئان مختلفان. ولكل منهما ذاتية قائمة بذاتها منفصلة عن الأخرى، وأن الله الواجب الوجود الذاتي خالق الوجود المادي ومسيّره
هذه النظرية عقيدة دينية مقررة في تعاليم كل من الأديان الثلاثة لا تقبل النقض ولا التنقيح ولا التعديل،
وقد أصبحت تقليداً متحجراً منذ عهد موسى إلى اليوم
لا تمكن زعزعته ولا تليينه بوجه من الوجوه. وإذا رام شخص أو جماعة أو طائفة تعديل هذه العقيدة في مجمع أو في مؤتمر عدَّ أهل الأديان الثلاثة هذا التعديل بدعة وزندقة وكفراً
على أن للفلاسفة من عهد لوسيبيوس وديموقراطس ولوقريطس (قبل المسيح) إلى عهد سقراط وأفلاطون وأريسطو ومن تلاهم بعد المسيح إلى اليوم نظريات مختلفة متباينة في علاقة الله بالوجود المادي بعضها تنزهه عن المادة وبعضها تدمجه فيها. وبين النظريتين درجات متفاوتة ووجوه مختلفة. ولهم في نظرياتهم تعاليل بعضها منطقي معقول كثيراً وقليلاً، وبعضها سخيف لا يقبله عقل ولا يطابق منطقاً
فمن رام أن يبحث في (وحدة الوجود) أو ثنائيته فيما يخرج عن عقيدة الأديان الثلاثة فليعلم أنه يتعرض لتهمة الكفر والإلحاد، ولا يسلم من لسع الألسنة الحداد. لأنه ليس في بيئتنا الفكرية في البلاد العربية محل لحرية الفكر أو القول أو القلم. فأي بحث فلسفي أو علمي(583/36)
يحتمل أن يساق إلى قضاء الامتحان الديني، وتنسب له تهمة المساس بالعقيدة الدينية، ويُحمَل عليه حملة تكافئه. وحينئذ على الباحث أن يدافع عن بحثه لتبرئته من تهمة الكفر والإلحاد، وإلا لسعته الألسنة الحداد.
يستحيل على من يتصدى للمسائل العلمية أو الفلسفية عن الوجود فيما وراء الطبيعة أن يستطيع التوفيق بين فلسفته والعقائد الدينية الراسخة إذا كان بين الفريقين تناقض أو تضاد، ويستحيل أن يسكت عليه الدينيون إلا إذا قاد النظرية الفلسفية أو العلمية إلى الطاعة العمياء للعقيدة الدينية. وحينئذ يكون قد فكر بالفلسفة والعلم
فحذار أيها العلماء من التفلسف بوحدة الوجود، لأن الموضوع وعر خطر.
نقولا الحداد
حول وحدة الوجود
عنت لي ملاحظة يسيرة على نقطة هامة في مقال الأستاذ خلاف المنشور بالعدد 581 من الرسالة الغراء، وهي:
هل توهم الخليل أن هناك أدوات للخلق والتكوين؟
قال الأستاذ ذلك، ولذلك سال (أي الخليل) ربه سؤاله؛ فمن أين للأستاذ الفاضل هذا الفهم، والسؤال بكيف عن الحال، ولو كان كما أراد الأستاذ خلاف أن يفهم لكان السؤال هكذا بأي شيء تحيي الموتى؟ فيؤتى بأي التي هي صالحة لاستعمالها في أنواع المستفهم عنه، على أن الأستاذ الفاضل فسر صرهن بـ (اذبحهن)، وهذا ينافي صريح اللغة وسياق الآية الكريمة، إذ بعد أن يسرد الكشاف القراءات التي وردت في تلك اللفظة الجليلة وكلها يدور حول الضم والجمع ينشد قول الشاعر:
ولكن أطراف الرياح تصورها
وقول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليث قنوان الكروم الدوالح
وبدهي أنه لا معنى أصلاً لأذبحهن إليك، ولكن الضم إليه ليتأملها ويعرف أشكالها وحلاها، هذا من حيث اللغة والمنطق. والأستاذ هو من هو فيهما
وأما من حيث الأخبار الصحيحة الواردة في هذا المقام - والأستاذ الديّن الحصيف - فهو(583/37)
ما رواه البخاري في صحيحه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى؟. . . الخ) وبعد أن علق الشراح بآرائهم على هذا الحديث الشريف اخترت (هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به لأنه ليس بشك إنما هو طلب لمزيد البيان وتقوية لليقين بالمشاهدة بعد العلم). حكى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاء لنفى المعنى عن الشيئين نحو قوله سبحانه: (أهم خير أم قوم تبع)، أي لا خير في الفريقين، وجواب الخليل عليه السلام، ولكن ليطمئن قلبي، يؤيد ذلك، هذا والأستاذ ثنائي وإعجابي
(شبرا بابل)
إبراهيم السعيد عجلان
من غير تعليق:
في عدد الثقافة الأخير قرأت كلمة للأستاذ (ح. ج) تحت عنوان: (سعد وسعوده) جاء فيها: (نريد أن نتكلم عن سعد - الإنسان العادي - لا عن سعد الزعيم المتفرد، ولا عن سعد الخطيب المصقع، ولا عن سعد الخصم الجبار، فإن قصر الحديث في هذه الناحية وحدها من نواحيه المتعددة خليق أن يضرب بينه وبين الناس حجاباً يحول دون انتفاعهم بقدرته، والنسج على منواله في الحياة
وإني لأذكر أن كاتباً من كتابنا النابهين كتب عن شخصية سعد فقال ما معناه: إن الإنسان لينظر إلى سعد فيحس أنه على مقربة من رجل ممتاز في جسمه كما هو ممتاز في عقله. وإن طلعته لتذكر الناظر إليه بطلعة الأسد. وإنه ليس بين الوجوه الآدمية ما هو أشبه في قسماته ومهابته من سعد زغلول
(أذكر أني قرأت هذا الوصف في كتاب كنت أرجو أن ألتمس فيه لنفسي عوناً على الوصول إلى شيء من أسباب العظمة التي سلكت سعداً في سجل العظماء؛ فإن الإنسان ليقرأ سير العظماء ويبتغي أن يقع فيها على سرهم، لعله أن يصيب حظاً مثل حظهم. ولكنني قمت إلى المرآة بعد قراءة هذا الوصف أتفحص قسمات وجهي. فلم أر فيها شيئاً يشبه الأسد من قريب ولا من بعيد. ورأيتني فرد كغيري من الآدميين الكثيرين، فارتددت(583/38)
وفي نفسي شيء من خيبة الأمل على أن الطبيعة سلبتني أول مقومات العظمة التي حبت بها زعيمها الخالد!
(وأنا اليوم لا أريد أن أدفع اليأس في قلب قارئ جديد بالتحدث عن عظمة سعد، ولذلك اخترت أن أتحدث عنه لا بوصف كونه أمة في فرد ولا بوصف كونه الجبار العنيد، ولا على أنه الشجاع الأعزل الذي وقف في وجه الدولة المسلحة
(ولكني أريد أن أكتب عنه باعتباره إنساناً له نواحي ضعفه أحياناً، وله من الصفات الكثيرة ما يشاركه فيه كل إنسان آخر)
ثم تحدث الأستاذ (ح. ج) عن رقة شعور سعد التي جعلته لا يطيق باكياً أمامه ولا يستقبل أم المصريين في جبل طارق على المرسى خوف أن تجيش نفسه. وعن اضطلاعه بالمهام الكبار وهو مريض بجملة أمراض. وعن إثارة الأزمات لحيويته ونفي المرض عنه. ومن فكاهته مع الأزهريين الذين طلبوا إرسالهم في بعثات إلى أوربا. وعن مداعبته لزملاء المنفى في مالطة المتأثرين لما يصيب زوجاتهم من قلق عليهم بأن يخبروهن أنهم تزوجوا غيرهن فيبطل القلق!
والذي يقرأ هذا الكلام بما فيه من تهكم على حكاية وجه الأسد (يخيل إليه أن الكتاب الذي يشير إليه الأستاذ (ح. ج) قد سار كله على النسق الذي عرض الأستاذ به، وأنه أغفل من سعد تلك الجوانب الإنسانية التي فطن إليها كاتب المقال
ولما كنت أذكر ذلك الكتاب الذي يعنيه فقد عدت إليه فوجدت أن (كاتباً من كتابنا النابهين) هذا. هو الذي يقول في كتابه بتطويل وتفصيل نجمله في اختصار شديد:
(إن الذي يحسب سعداً مكافحاً مناضلاً فقط يخطئ في فهمه، وأنه: (لم يكن أصلح منه للعطف والصداقة وحسن المودة والأنس بالناس والارتياح إلى المعاشرة. وقد حفظ قلبه الكبير ما أودعته الفطرة من ذخيرة العطف الزاخر إلى آخر أيام الحياة. فإذا تأثرت نفسه بحالة مفرحة أو محزنة؛ فكثيراً ما تغرورق عيناه أو تنهملان بالدمع الغزير. وكان في مجالسه الخاصة من أقدر الناس على مؤانسة الجلساء بالحديث الشائق والفكاهة الحاضرة والحدب المطبوع، ثم يذكر بالذات حكاية أنه لم يكن يطيق باكياً، وأنه لم يستقبل أم المصريين في جبل طارق، وفكاهته مع الأزهريين ودعابته لزملاء مالطة في هذا(583/39)
الموضع. ويذكر في موضع آخر استجاشة الأزمات لحيويته واضطلاعه بالأعباء مع مرضه. . . وهو كل ما ذكره الأستاذ (ح. ج) ثم يزيد جوانب إنسانية أخرى له في بيته ومع أصدقائه وخصومه، ويكشف عن هذه الجوانب في سعد بكل تفصيل
هذا الكتاب هو كتاب (سعد زغلول. سيرة وتحية)، وهذا (الكاتب من كتابنا النابهين) هو الأستاذ العقاد. . .
أما الأستاذ (ح. ج) فمن رجال القضاء العادلين!
سيد قطب
تصويب
ورد البيت الآتي:
وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يا غيلان مثل (المآثم)
في الكلمة التي وجهها الأستاذ الشرباصي إلى الأستاذ (الجليل) في العدد (581) من الرسالة. والصواب أن تكون (المآثم) المياسم جمع ميسم، وهو المكواة. وبها ننم روعة التشبيه الذي يهدف إليه الشاعر؛ فما يريد سوى تشييد أثر الساقين بأثر الميسم في الجلد.
حسين محمود البشبيشي
مجلة الأنصار
أصدرت مجلة (الأنصار) العربية الإسلامية في غرة شهر رمضان عدداً من أعدادها الممتازة خصصته للكتابة المستفيضة والدراسة التحليلية لموضوع (القصص والأساطير في الشرق). وقد طالعنا هذا العدد فوجدناه حافلاً بالأبحاث العربية الصادقة عن نشأة الأساطير الشرقية. وقد لفت نظرنا بحث واف طريفاً عن كتاب الشرق القصصي (ألف ليلة وليلة)(583/40)
العدد 584 - بتاريخ: 11 - 09 - 1944(/)
التوازن الاجتماعي
للدكتور محمد مندور
هذه أيضاً مشكلة كبيرة لا بد لرجال السياسة والاجتماع من مواجهتها في حزم، وليس من شك في أن عدم العناية بها بعد الحروب الكبيرة والثورات القومية الماضية، قد كان دائماً من الأسباب القوية التي مهدت لحروب وثورات لاحقة، ونحن لا نعرف سياسة أحمق من تلك التي تتناول الأمم طبقات وطوائف دون نظر دقيق إلى ما يجب أن يقوم بين تلك الطبقات والطوائف من توازن يكفل سلامة الأمة وضمان وحدتها.
والطبقات الاجتماعية لم تتكون في التاريخ عفواً، بل قامت دائماً على المقاييس العميقة المتغلغلة في عقلية الشعوب. ففي العصور القديمة عندما نرى أفلاطون يقسم جمهوريته إلى ثلاث طبقات: حكماء يرأسون المدينة، وجند يذودون عنها، وعمال يوفرون لها وسائل الحياة المادية، لا نستطيع أن نسلم في يسر بأنه إنما أخذ هذا التقسيم عن قياسه للهيئة الاجتماعية وطبقاتها بالفرد وملكاته. ولا بد لنا من أن نذهب إلى أبعد مما زعم لنستطيع فهم الأساس الذي أقام عليه هذا التقسيم. نعم إن الحكماء ينزلون من الأمة منزلة الرأس بملكاته العاقلة، والجند منزلة القلب بقوته الغضبية، والعمال منزلة المعدة بنشاطها المادي؛ ولكن، أليس من البين أن هذا التقسيم تنعكس فيه المقاييس العامة للإغريق في ذلك الحين؟ فالعمال، في هيئة اجتماعية كانت تجمع على أن العمل من اختصاص العبيد، لم يكن مفر من أن ينزلوا المنزلة الثالثة. والجند، في بلاد استهدفت لجحافل القرس وردت بشجاعتها عدوانهم بعد أن هددها فناء محقق، كان من الطبيعي أن ينزلوا منزلة تسمو على منزلة العمال وتتمتع باحترام المجموع. وأما رياسة الحكماء للمدينة فذلك حلم رآه أفلاطون، وكان هو أول من تنكر له، إذ لم يلبث أن ترك السياسة بالرغم من وجاهة محتدة وقرب اتصاله بالقادة في ذلك الحين، وهو بعد حلم لا تزال الإنسانية ترتجيه.
وهكذا نستطيع أن نستشف عقلية الشعوب من أسس تقسيمها للهيئة الاجتماعية، وهي عقلية دامغة تسيطر حتى على كبار المفكرين أمثال إفلاطون، مما نظن دائماً أنهم فوق بيئاتهم أو نابين عنها.
وفي القرون الوسطى نعثر على نفس الحقيقة. فعندما يحدثنا التاريخ أن الطبقات الاجتماعية(584/1)
قد انتهت خلال تلك القرون الطويلة إلى التبلور في ثلاثة: نبلاء ورجال كنيسة وطبقة ثالثة، لن نجد مشقة في العثور على أساس هذا التقسيم، فقد كانت تلك الأزمان أزمان العهد الإقطاعي حيث يسيطر كل أمير على مقاطعة تتبعه أراضيها، وما تحمل من بشر يعملون بها؛ وهكذا تكونت طائفة النبلاء، نبلاء الدم والوراثة. والى جانب هذه الطبقة كان من الطبيعي أن تنهض طبقة رجال الدين في عصور سيطرت فيها المسيحية على عقلية الشعب، وساقته إلى ما نعرف من زهد وتصوف، بل وحروب صليبية. وأما العمال والزراع فقد اطرد حمق البشر على إنزالهم دائماً مؤخر السلم
وأخيراً جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، وانتفضت الإنسانية متطلعة إلى فجر جديد. ولقد حطمت تلك الثورة نظام الطبقات الذي تمخضت عنه، كما رأينا، القرون الوسطى؛ ولكن الإنسانية لسوء حظها لم تهتد، برغم ما أراقت تلك الثورة المجيدة من دماء، إلى أساس سليم تقيم عليه تقسيمها الاجتماعي. وفي استطاعتنا أن نفهم سر المأساة إذا ذكرنا أن تلك الثورة قد قامت بالمدن، وأن عصبها كان طائفة الحضريين الذين يُعرفون بالبرجوازية، أي (سكان المدن)، بل سكان باريس بنوع خاص، فهم منبت تلك الثورة وبؤرتها المقدسة. وقيام الحضريين بها لم يكن حدثاُ طارئا في التاريخ. فمنذ قرون كانت المدن العامل الفعال في مناهضة النظم الإقطاعية، وتحطيم سلطة الأمراء، وتمكين الملوك من توحيد الممالك. ولهذا كان من الطبيعي أن تنشأ في مدينة كباريس تلك الثورة العاتية التي أتت على ذلك النظام البائد.
وبنظرنا في المبادئ التي قامت عليها التقسيمات الاجتماعية في العصور القديمة والقرون الوسطى، نستطيع أن نحصي الأسس التي كانت تمكن من الوجاهة الاجتماعية، فهي الحكمة والشجاعة ووراثة الدم والزعامة الروحية. وجاءت الثورة فحطمت كل تلك الأسس، وإن لم تمحها محواً تلماً من عقلية الشعوب، حيث لا تزال تعمل إلى اليوم على تفاوت في النسب؛ وننظر فيما أقام هؤلاء الحضريون على أنقاضها من أسس جديدة، فلا نكاد نتبين غير أساس واحد هو المال، وهذا هو سر المأساة التي أشرنا إليها فيما سبق.
حلول المال محل غيره من المقاييس ظاهرة واضحة التفسير، فالثورة الفرنسية هي وأشباهها من ثورات القرن التاسع عشر قد قامت كما قلنا في المدن على يد الحضريين،(584/2)
وهؤلاء جمهرتهم العظمى من الصناع والتجار؛ وهم بتقويضهم لطبقتي النبلاء ورجال الكنيسة قد استطاعوا أن يحلوا محلهما في الصدارة الاجتماعية. وهكذا انتهت الإنسانية إلى التقسيم الكبير المعروف: حضريون (برجوازية) وعمال، وأصبح المال الأساس العام لتوزيع الهيئة الاجتماعية
قد يقول قائل إن هذا الأساس الجديد خير من بعض الأسس القديمة، فهو يمكن الهيئة الاجتماعية من مرونة لم تكن تملكها عندما كان النبل مثلاً ظاهرة وراثية لا حيلة للبشر فيها. وهذا قول كان من الممكن قبوله لو لم يسد في تاريخ الإنسانية خلال القرن التاسع عشر ذلك الاختلال العجيب الذي لم يكن مفر من أن ينجم عن ظهور ظاهرتين كبيرتين في ذلك القرن، ونعني بهما الحركة الصناعية الكبيرة من جهة، والأخذ بمبادئ الاقتصاد الحر من جهة أخرى. والثورة الفرنسية السابقة على هاتين الظاهرتين لم تعالج طبعاً هذا الاختلال، بل ولا مهدت لعلاجه، ولهذا لحقتها بفرنسا نفسها ثورتان أخريان هما ثورتا سنة 1830، سنة 1848
نمو الصناعة وما تبعه من نمو التجارة أيضاً ساعد على تكوين طبقات عاتية من الرأسماليين؛ وروج علماء الاقتصاد لنظرية: (دع الفرد يعمل، دع التجارة تمر)، وقالوا بترك النشاط الاقتصادي حراً، فمكنوا بذلك أصحاب العمل من دماء العمال وهكذا بعدت الشقة بين طبقتي الأمة مما أثار ما نعرف من حركات ثورية واضطرابات اجتماعية
واتخاذ المال أساساً للتقسيم الاجتماعي مصدر لخطر كبير يتهدد الهيئة الاجتماعية في كيانها. ويزداد هذا الخطر وضوحاً في أثناء الحروب الكبيرة. ومظهر هذا الخطر هو الانحلال الخلقي. لمن شاء أن يصدع آذاني بقوله إن من الناس العصاميين القادرين على جمع الثروات الطائلة بمهارتهم وحسن فهمهم لحاجات الناس وملاقاة تلك الحاجات، فذلك ما لن أقبله. وعندما أنظر حولي فلا أرى إلا صعاليك ليس في عقولهم فكر ولا في قلوبهم ضمير ينثرون المال كل صوب في قحة تنفر منها النفس، لا أستطيع إلا أن أحكم بأنهم لا يملكون من مواهب غير الدجل والنصب والاحتيال
ويزيد في تلك الظاهرة خطورة قيام الحروب الكبيرة، كما قلت، فعندئذ ترى النصابين يستغلون مواطنيهم أقبح استغلال، وترى الأوضاع الاجتماعية وقد انقلبت رأساً على عقب(584/3)
حتى يختل توازن الأمة الاجتماعي أعمق اختلال، ويكثر محدثو النعمة، وتلك طائفة تجمع الإنسانية الرشيدة على احتقارها ورد عدوانها
والآن، وقد استعرضنا المبادئ، التي وزعت الإنسانية على أساسها طبقاتها الاجتماعية، وانتهينا إلى أن الأساس العام القائم اليوم هو المال، ووضحنا ما في هذا الأساس من أخطار يجب أن نبحث عن الوسيلة التي نتعهد بها ذلك التوازن ونرد إليه ما يجب أن يلازمه من سلامة، وباستطاعتك أن تنقلب أوجه النظر كما تريد، فلن تجد غير وسيلة واحدة هي تدخل الدولة والأخذ بمبادئ الاقتصاد الموجَّهه
مبدأ الاقتصاد الموجَّه يقوم على تدخل الدولة في الإنتاج، وذلك عن طريق التشريع وهو ألزم ما يكون في أعقاب الحروب الكبيرة، وأنت عندما تثقل بالضرائب من أثرى بغير وجه مشروع لا تظلمه؛ بل تنتصف للأمة منه، لأنك عند النظر الأخلاقي الصحيح لا تستطيع أن تسميه إلا مختلساً، وأنت عندما تنتصف للعامل من صاحب رأس المال، وللمستهلك من المنتج وللمريض من الصحيح وللجاهل من المتعلم، لا تعتدي على أحد، وإنما ترغم المقصر على أداء واجبه عندما تنعدم قيادة الضمير، ونحن في أمة تصرخ الآلام في صدور أبنائها؛ لقد حان الحين، لكي تحزم الهيئة الاجتماعية أمرها، وتشد من عزم حكامها ليقيموا توازنها الاجتماعي على أساس ترضاه إنسانيتها الجريحة.
محمد مندور(584/4)
وحدة الوجود
وهل هي من الإسلام في شيء
للأستاذ دريني خشبة
قرأت كلمة صديقي الدكتور زكي فراعني انه لم يقرأ كتاب (رسائل التعليقات) بعد، أو أنه قرأه كما قرأته أنا. . . على حد تعبير الأستاذ الرصافي،. . . أي تلك القراءة السريعة المتقطعة، التي تبعد بالقارئ عن معاني المؤلف، وتشط به عن أغراضه. . . وآية ذلك ما أراده الدكتور من مساجلتي حول نظرية (وحدة الوجود). . . وأن يكون أساس المساجلة: أن تترك التفكير في أن هذه النظرية تجني على العقيدة الإسلامية. . . وهذا شرط عجيب. . . ولست أوثر أن أقول إنه شرط خبيث!! ما دام أن الصديق الأعز قد ذكر (أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء!)
ولست أدري كيف يدعوني أخي المبارك إلى مساجلته على هذا الأساس العجيب - ولا أقول الخبيث! - وهو يذكر أنني قلت في كلماتي التي كتبتها عن رسائل التعليقات، إنني ما كتبت تلك الكلمات، ولا وددت أن أكتبها، إلا لأن الأستاذ الرصافي قد ادعى في رسائله أن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إسلامية، بل إنها من ابتداع الرسول الكريم، فخر الكائنات، محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه - أي رسول الله عليه صلوات الله - لم يذكر منها لأصحابه شيئاً، إلا ما لمح به منها لخليله الصديق - عليه رضوان الله -. . . ثم ما ذهب إليه الأستاذ الرصافي بعد ذلك من التخريجات المضحكة التي تعتبر هدماً شاملاً للإسلام، وتزييفاً واسعاً شاسعاً لما يؤمن به المسلمون ويعرفون أنه الحق من ربهم
فلقد أنكر الرصافي أن يكون القرآن كلام الله. . . وردد عبارة (يقول محمد في القرآن) غير مرة في كتابه المذكور. . . وهو يقحم هذا الإنكار في نظرية وحدة الوجود فيعلله بادعائه أن الرسول الكريم كان يفنى في الله - أو في الوجود الكلي - فناء كاملاً، ولذا جاز له أن يقول هذا القرآن، ويزعم أنه يقول الذي يقوله الله، ويفعل الشيء ويؤمن بأن الله هو الذي يفعل. . . وأذكر أنه يستدل على هذا الإفك - ولن ندعوه إلا إفكا - بالآية الكريمة: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى! وهي من الآيات التي طلب إلينا تفسيرها بما ينافي ما قذف به وسواسه في روعه. ناسياً أن الآية قد أنزلت في مناسبة خاصة واردة في مكانها(584/5)
من جميع التفاسير
فهل افترينا على الرصافي في ذلك من شيء يا دكتور زكي؟ وهل تتفق وجهة نظرك في هذه المسألة بالذات ووجهة نظر هذا الرجل الذي رمانا بما رمانا به من تلفيق وتشويه لأقواله؟
أنت عندي أشجع كاتب في مصر. بل في الشرق العربي، وقد تبلغ شجاعتك هذا الحد الذي ذكره آرسطو في كتابه عن الأخلاق، ولا أذكر الآن ماذا سماه. . . ولن أنسى لك أبداً أنك كنت صاحب الفضل الأول في التعريف بالغزالي بمؤلفك القيم في أخلاقه، ذلك المؤلف الذي خضت به جحيم حرية الفكر غير هياب ولا وجل، وأنك كنت في كل كتبك بعد الغزالي شجاعاً كدأبك منذ أخذت نفسك بالتأليف والتصنيف، بالرغم مما في تأليفك وتصنيفك من تلك (البُقع) التي استطاع هذا الكاتب الفاضل أن يغزوهما من ناحيتها
فهل يكفيك هذا الحد في تذكيرك بشجاعتك الأدبية، فتعلن رأيك صريحاً خالصاً فيما ذهب إليه الرصافي من نسبة القرآن إلى محمد، معتذراً له بذلك الاعتذار السخيف!!
أعوذ بالله - وأستغفره - من أن يكون كلامي هذا استدراجا لك أن تقول ما لا تعتقد. . . فأنت عندي أعظم من هذا وأعلى. . . وأعوذ بالله وأستغفره من أن أكون قد قصدت بثنائي عليك (بَلْفَك!) حتى تقف في هذا الصراع الفكري إلى جانبي. . . فأنا أعظم من هذا وأعلى (ولا مؤاخذة!)
أما يأسك من حرية الرأي، لأن كل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في الوجود. . . فهو كلام لا نقبله من زكي مبارك في هذا المجال. . . لأن الأستاذ الغمراوي قال في كتابك العظيم الخالد - النثر الفني - ما قال، ووجه إليك بسببه ما وجه من تهم مثيرة موبقة. ومع ذلك، فأنت لا تزال بخير يا صديقي. . . تمشي في مصر الجديدة حراً مطلقاً، كما تمشي حراً مطلقاً في أحياء الأزهر وسيدنا الحسين والصنادقية وجاردن ستي، لم يجر وراءك المسلمون ليحاسبوك بالطوب والحجارة على ما اتهمك به مناظرك الفاضل، ولم يأخذ بتلابيبك الأزهريون لآرائك في إعجاز القرآن، ولم يُحدث المسلمون في مصر ضجة ليضطروا البرلمان إلى مطالبة الحكومة بجمع كتابك وإحراقه في ميدان الأوبرا أو ميدان السيدة زينب مثلاً!(584/6)
فخلِّ إذن قضية حرية الفكر التي عملت لها ألف حساب في كلمتي الأولى عن رسائل التعليقات، حيث أذكر أنني قلت: (. . . وقبل أن نعرض آراء الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما لم تبلبل أفكارنا، وتعصف بمعتقداتنا، وتهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم أجمعين). . . والتي أذكر أنني قلت بصدد مصادرة حكومة العراق الشقيق لكتاب الرصافي القديم إن أسلوب مصادرة الكتب أسلوب رث، وسلاح لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بمبدأ حرية الفكر. . .
ولست أدري ماذا يراد من حرية الفكر أن تكون بعد الذي كانته في أيامنا هذه من سعة صدر وفسحة مجال؟! أكان ينبغي أن نصمت فلا نكتب كلمة عن كتاب ينكر فيه صاحبه كل الموجودات - إلا الوجود الكلي المطلق الذي يسميه إلهه -؟ أكان ينبغي أن نصمت حينما يقول لنا الرصافي في كتاب ينشره في العالم العربي الإسلامي، وإن محمداً هو مبتدع نظرية وحدة الوجود، وأنه مؤلف القرآن، وأن الأدعية لا داعي لها - ومن الأدعية الصلاة - لأنها لن تغير من القضاء - وهو القوانين الأزلية التي لا تتغير، شيئاً، وأن كل ما يقع في الوجود فهو حق، وأن الباطل هو المحال، ولذلك تساوت المتضادات. فالهدى كالضلال، والتقوى كالفسوق، والخير كالشر. . إلى آخر هذا الهذر الذي يدعى الرصافي أنه تساو أمام الله لا أمام الناس. يريد بذلك استدراك ما أخافك - يا صديقي الدكتور زكي مبارك - من مغبّة ذلك المعتقد على الشرائع والقوانين والأخلاق. ويريد أن يطمئنك، فلا يهلع قلبك، ولا تجزع نفسك. فيقدم بين يديك هذا الدفع المتهافت الذي لا أدري كيف استقام في رأس الأستاذ الرصافي حتى يطلب له أن يستقيم في رؤوس الناس
ما استواء المتضادات أمام الله؟! أموافق أنت على هذا الهوس يا صديقي الأعز؟! أحقاً أن الذي يصيبنا من شر هو من عند الله وليس من عند أنفسنا؟ ما هذا الجبر المطلق يا دكتور زكي؟ والى أين يؤدي بنا هذا المعتقد الباطل لو أخذنا به؟! ثم ما هذا الحلول الفاسد الذي يجعل الله في كل شيء. . . بل كل شيء؟!
ثم يعود الرجل بعد هذا فيثبت أن الإنسان مكلف، لأنه عاقل؟! ثم يربط التكليف بثواب وعقاب، ليسا من جنس الثواب والعقاب اللذين جاءنا بهما ديننا الحنيف. . . ولست أدري(584/7)
أين يكون مناط التكليف مع هذا الجبر المطلق؟! وعقاب الإنسان في رأي الرصافي هو ما يلقاه من تبكيت أمام ضميره. . . أما النار ودركاتها فتخويف فحسب، وردت آياته من باب التمثيل. . وأما الثواب في رأيه، فهو الاتحاد بالوجود الكلي بعد الموت. أي العودة إلى التراب. . . هنا تتم سعادة المرء! وما جاءت آيات الترغيب في جنة الخلد الموصوفة في القرآن إلا من باب التمثيل كذلك. . .
فما شاء الله على هذا الثواب وذاك العقاب! وليهنأ بعد اليوم الذين لا ضمائر لهم فتعاقبهم بالتبكيت على ما يقرفون من أوزار
وما شاء الله على هذا الكفر بالبعث الذي هو أساس متين من أسس العقيدة الإسلامية، ثم ما شاء الله على هذا التناسخ - أو عودة الكائنات بأمثالها لا بأعيانها - الذي يؤمن به الأستاذ الرصافي!
ماذا أبقى الرصافي من الإسلام فلم يبدله ولم يؤوله؟!
لقد تناوله الله - جل وعلا - فقال: إنه هذا العالم الحادث الذي درسناه في الفلك فعرفنا أنه نشأ من هيولي أخضعها الله لقوانينه الخالدة التي انتهت بها إلى هذا النظام المتقن البديع الذي لا يمسكه غير الله بما أبدع له من قوانين!
وقد تناول الرسول فجعله يؤلف القرآن ويموّه على الناس ويخترع وحدة الوجود ويخفى أمرها على الناس، ويدعوهم إلى عبادة كل الموجودات، وقد نهاهم عن عبادة الشمس والقمر والنجوم والأصنام والأشجار!
وتناول المعتقدات الإسلامية فأنكر البعث والحساب والعقاب والثواب والجنة والنار والميزان والصراط وجميع السمعيات لأنها من أنباء الغيب، والعقل لا يؤمن بأنباء الغيب
وتناول العبادات الإسلامية فأنكر الأدعية - ومنها الصلاة - لأنها لا تقدم ولا تؤخر في قضاء الله الذي لا يتبدل ولا يصح له أن يتبدل. فهو كالذين قالوا: يد الله مغلولة! غلت أيديهم!
ونعى على المسلمين في تعليقه على أقوال مستشرقه الإيطالي الجاهل - في آخر الكتاب الذي بيدك - تمسكهم بحرفية القرآن والتعاليم الإسلامية، ونسب تأخرهم وانحطاطهم إلى ذلك التمسك(584/8)
فأين هو ذلك الحجر على حرية الرأي الذي تشكو منه يا صديقي الدكتور، وقد استطاع الأستاذ الرصافي أن يقول ذلك كله وأن ينشره على المسلمين في كتاب. . . فلم يصبه أذى. . . ولم تصبه إلا كلمات من أضعف مخلوق مسلم يتهمه الرصافي بأنه يكتب لغرض. . . وأن يداً خفية تحركه للرد على تلك التخرصات! وأنه نسى آداب المناظرة في الرد عليه!
فهل من حرية الرأي أن يقول الرصافي ذلك كله، فإذا رد عليه مسلم ضعيف مثل أخيك الذي أنت من أعرف الناس به، كانت حرية الرأي مهددة، وكانت في عصرنا الحديث شراً منها في العصور التي عاش فيها الجنيد والحلاج والتلسماني وابن عربي وابن سبعين والقونوي ومن إليهم من مشعبذي التصوف؟
إن ديننا يا صديقي الدكتور هو أول الأديان التي تحض على حرية الفكر ومحاربة الجمود. . . وهل صنع رسولنا الكريم، فخر الكائنات، محمد بن عبد الله شيئاً غير هذا؟!
افتح أية صفحة من كتاب الله تجد فيها حضاً على حرية الفكر، ومحاربة للجمود الذهني، والاستعباد الروحي. . . وقد فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما في البحث عن ذات الله من تهلكة، فأوصانا بالإمساك عن الخوض فيها، والتفكير ما شئنا في المخلوقات جميعاً، في الأرض والسموات وفي أنفسنا. فما الذي يغرينا بنبذ وصاة رسول الله؟!
لقد أحسنت حينما قلت: إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية فلسفية، وأنك قد سكت حينما رأيت معاركنا تتجه وجهة دينية فمن الذي وجهها هذه الوجهة؟ أنا؟ أم الرصافي الذي جعلها من اختراع الرسول الكريم، وذهب يتأول لها الإسلام والقرآن جميعاً؟!
والعجيب أن يزعم الرصافي أنني ادعيت عليه ما لم يقل حينما نسبت إليه معظم هذه الآراء. وهي كلها آراؤه ساقها في معرض الاستشهاد على ما ذهب إليه بعد إذ جهر في أول الكتاب بأنه يؤمن بنظرية وحدة الوجود بكل ما علق عليها وخرجّ منها وأبرز من أسرارها. فلن ينفعه ادعاؤه بأنه إنما كان يستعرض آراء المتصوفة. ولن ينفعه إنكاره أنه متصوف بعد جهره بأنه يؤمن بالنظرية كما عرضها إيماناً لا يرقى إليه الشك
وبعد. . . فهل رأيت أن شرطك في استبعاد العنصر الديني من المساجلة التي أرحب بها، وأعانقك من أجلها عناقاً لا يدري نتيجته بين ذراعي إلا الله. . . هو شرط عجيب. . . ولا(584/9)
أقول: خبيث؟!
من منا الذي سيقهر صاحبه الوفي على المشي فوق الأشواك يا دكتور زكي؟
دريني خشبة(584/10)
السيد رشيد رضا
بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاته
للأستاذ محمود أبو رية
مما يبعث السرور إلى النفس أن نرى من الناس وفاءً للمصلحين واحتفاء بذكرى العاملين، ذلك بأن هذا الوفاء الذي هو أسنى خلال الإنسانية، إنما يدل ولا جرم، على أن العقول والأفكار، قد استعدت لقبول آراء هؤلاء المصلحين وتعاليمهم، وأن النفوس قد استعدت للأخذ بها واتباع ما تدعوا إليه. . .
وإن مما يغتبط له المرء حقاً أن لا تمر الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاة الأستاذ الإمام محمد عبده هذا العام كما مرت من قبل في سكون ونسيان، بل رأينا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. قد هبت كلها للإشادة بها والإفاضة في بيان فضل صاحبها
ومما زاد في اغتباطنا أن سمعنا لأول مرة في حياتنا صوت الأزهر ينبعث في هذه الذكرى الكريمة بعد أن ظل صامتاً طوال أربعين عاماً، واضعاً أصابعه في آذانه، حتى لا يسمع له نصحاً ولا يتبع له رأياً، مما يجعلنا نستبشر بأن هذه البيئة التي تنكرت لمصلحها العظيم في حياته، وازورت عنه بعد وفاته، قد أخذت تدنو من تعاليمه لتدرسها وتنتفع بها، وأن من كان فيها من الشيوخ الجامدين والخرافيين، ومن على شاكلتهم في غيرها من الحشويين والمعوقين، أولئك الذين تخلفوا عن قافلة الحياة بأفكارهم السقيمة وآرائهم العقيمة، وكانوا عقبة في سبيل كل إصلاح قد قضى عليهم ولم يبق لهم ولا لآرائهم بين الناس أثر.
لم يجد الأستاذ الإمام في حياته من التنكر له والمكر به والإعراض عنه مثل ما وجد في الأزهر، ذلك بأنه ما كاد يظهر بما يريد من خير لهذا المعهد الكبير، حتى هب منه في وجهه فئتان تعارضانه وتصدان عن سبيله: الفقهاء الجامدون، والشيوخ الخرافيون وقد درسوا في رؤوسهم تعويذتين لتحفظانهم من (عين) الإصلاح
أولاهما: هذا أمر لم تجربه العادة!
والأخرى: الجمهور على غير ذلك!
أما الفقهاء؛ فإنهم قد أبوا إلا أن يظلوا على ما وجدوا عليه شيوخهم، فلا يدرسون إلا كتبهم، ولا يتبعون إلا أقوالهم، حتى لقد بلغ الأمر بأحد كبارهم أن يجأر في مجلس إدارة الأزهر(584/11)
الذي يجمع أمثاله بهذه الكلمة الأثيمة! (لا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، والواجب أن يؤخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!
ومن إمعانهم في هذا الجمود أن الأستاذ الإمام كان قد رغب إلى الشيخ الإنبابي، وكان شيخاً للأزهر أن يقرر تدريس مقدمة ابن خلدون بعد أن تبين له فضلها؛ فقال له الشيخ: هذا أمر لم تجربه العادة!
ولما طالب رضي الله عنه بإدخال علمي الحساب والهندسة في الأزهر عارض شيوخه في ذلك، وكانت حجتهم التي (تعوذوا) بها (أن الجمهور على أن هذين العلمين يفسدان العقل ويضيعان الاستعداد لفهم علوم الدين وينبغي عدم تدريسهما)!
ولقد كان لدرس الأدب في الأزهر ثورة عنيفة ندع الحديث عنها لصاحب (الرسالة) فهو أحق به منا إذ كان من الذين شهدوا هذه الثورة، ومسهم قرح منها!
وأما الخرافيون. فبحسبك أن تعرف أن كبار شيوخ الأزهر كانوا يحتفلون في كل عام بمولد الإمام الشافعي، وكان لهم فيه عادة اسمها (الكنسة) ذلك أنهم كانوا جميعاً يتولون كنس ضريح دفينة الشافعي، ثم يقسمون هذه (الكناسة) بينهم ليتبركوا بها! ثم ينقلون العمامة الوهمية الموضوعة فوق القبر من رأس شيخ إلى رأس شيخ آخر ليقتبسوا من أسرارها
ولعل قراء (الرسالة) لم ينسوا تلك القصيدة التي رفعها أحد المفتين إلى السيد البدوي يشكو فيها شيخ الأزهر ويطلب من (غوث الورى) أن ينتقم له منه!
وقد ظلت الحرب بين الأزهر وإمامه مستعرة طول حياته. وقد مات رضى الله عنه وهو لا يخشى على الدين أحداً غير شيوخ الأزهر. وفي مرض موته قال أبياتاً جاء فيها
ولست أبالي أن يقال محمد ... أبَلَّ أم اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
هذا ما كان عليه الأزهر من قبل؛ فإذا ارتفعت منه اليوم أصوات تشيد بذكرى الأستاذ الإمام، وتستعلي بفضله بين الأنام، فتلك آية كبرى على أن البيئة الأزهرية قد أصبحت على غير ما كانت فيه بالأمس، وأنها قد خرجت إلى النور بعد أن كانت من قبل في الرمس.
وعلى أننا قد اغتبطنا بهذا المظهر الجديد الذي بدا في الأزهر فإنا قد لاحظنا أن كل الذين(584/12)
احتفوا بذكرى الأستاذ الإمام أهملوا ذكر العلامة المحقق السيد رشيد رضا رحمه الله، أكبر تلاميذ الإمام في حياته، وحامل رسالته وناشر علمه بعد وفاته، وما كان يصح لهم، وقد دفعهم الحق والوفاء إلى الاحتفاء بذكرى الأستاذ الإمام أن يدعوا إلى العناية بذكرى العلامة الجليل ولا أن ينكروا فضله
وإنا أداء لحق هذا الرجل العظيم الذي لقي من عدم وفاء المسلمين له ما لقي، والذي لم يجد أحداً يعنى بتراثه أو يحمل رسالته بعد مماته، ننتهز فرصة انقضاء العام التاسع على وفاته لننشر عنه هذه الكلمة القصيرة، ولعلنا نكون قد أدينا بها هذا الفرض الكفائي الذي يلزم المسلمين جميعاً
على أننا لا نحاول اليوم أن نتحدث عن علمه الواسع وفضله الشامل، ولا نفيض في بيان جهاده حوالي أربعين سنة في سبيل دينه، قائماً وحده بهذا الجهاد لا يفتر ولا بغى، لا تؤيده حكومة ولا يسنده منصب، لأن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه.
وإنا نجتزئ بلمحات تدل على صلته بالأستاذ الإمام ومكانه منه، ونشير إلى بعض ما عمل لتأييد دعوة الحكيمين جمال الدين ومحمد عبده، ونشرها بين أرجاء الأرض. ولكي لا يرمينا أحد بالغلو في القول أو الإسراف في الحديث؛ فقد آثرنا أن نرجع في ذلك إلى قول الأستاذ الإمام نفسه في تلميذه، فنتناول منه قبساً ونروح إلى ما كتب بعض المستشرقين عن دعوة الإمام فننقل عنه ذرواً
فمن قول الأستاذ الإمام لبعض أصحابه، وكانوا يريدون منه أن يُقصي عنه السيد رشيد: (إن الله بعث لي بهذا الشاب ليكون مدداً لحياتي ومزيداً في عمري، إن في نفسي أموراً كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة، وقد ابتليت بما شغلني عنها، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد. . . وقد رأيت في سفري من آثار عمله وتأثير مناره ما لم أكن أظن ولا أحسب، فهو قد أنشأ لي أحزاباً وأوجد لي تلاميذ وأصحاباً. . . الخ.)، وقال للمغفور له الشيخ محمد شاكر عندما أبلغه إرادة الخديو عباس في أن يبعده عنه: (كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري)، وكذلك قال لبطرس غالي باشا
وقال الدكتور تشارلز آدمس في كتابه الإسلام والتجديد: (كان السيد رشيد أكبر تلاميذ الإمام في حياته، ومؤرخ سيرته بعد وفاته، وهو الذي نشر كتبه وفسر تعاليمه، وكان من أشد(584/13)
الناس أخذاً وسيراً على سنتها)
وقال: وإن كتاباته لتنم على أنه أخذ بحظ عظيم في العلوم الإسلامية المعروفة ونجد في نشره لمصنفات أستاذه، وفيما كتبه عليها من الحواشي والتعليقات ما يدل على تمكنه من المواضيع التي يتناولها، وأعظم ما تبدو كفايته في علوم الحديث، وكان لا بد من أن يبرز رشيد في هذا الميدان، وذلك لأن الحركة التي أنشأها الشيخ محمد عبده علقت أهمية كبرى على السنة الصحيحة وحدها لتكون مصدراً أساسياً من مصادر الإسلام في صورته الجديدة)
ثم تحدث عن إنشاء مجلة المنار فقال: (وكانت غاية رشيد من إنشاء المنار مواصلة السير على نهج العروة الوثقى. وكان الغرض الذي رمى إليه المنار هو في الجملة عين ما عملت له صحيفة العروة الوثقى، فقد كان من الأغراض التي تضمنتها غايتهما الكبرى نشر الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وإقامة الحجة على أن الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافر مع الظروف الحاضرة، وأن الشريعة أداة عملية صالحة للحكم، وكان من أغراضهما أيضاً السعي في القضاء على الخرافات والاعتقادات الدخيلة في الإسلام، ومحاربة التعاليم الضالة والتفاسير الباطلة لعقائده. . . وما دخل على العقائد من بدع الاعتقاد في الأولياء، وما تأتيه طرق الصوفية من بدع وضلالات الخ.
وقال الأستاذ جب وهو يتحدث عن دعوة الأستاذ الإمام في كتاب وجهة الإسلام: (. . . ثم واصل تلاميذه ما بدأ من عمل، وهم وإن لم يبلغوا مبلغ شخصيته الباسلة، فقد حملوا مبادئه بكتاباتهم وجهودهم الشخصية إلى جميع أجزاء العالم وأثروا تأثيراً كبيراً، ولا سيما عن طريق مجلتهم المنار)
وقال برج الأستاذ بجامعة ليدن في كتاب وجهة الإسلام: (وكانت مجلة (المنار) في مصر أول مصباح أرسل شعاعاً من هذا التفكير الجديد على جمهور عظيم من المسلمين، ولم يشرق (منار) القاهرة على المصريين وحدهم، ولكنه أشرق على العرب في بلادهم وفي خارجها، وعلى مسلمي أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية أو في مكة وعلى الأندنوسي المنعزل. وقال (وحركة التجديد هذه التي انبعثت من (المنار) وذاعت في مجلات الملايو أثناء العشرين سنة الأخيرة أحدثت حركة عظيمة في أراضي - بادنج الواطئة - وحركة أقل منها في الأراضي المرتفعة الخ)(584/14)
وعاد الأستاذ جب فقال: (فمجلة (المنار) بنزعتها الإصلاحية ذائعة في العالم الإسلامي كله، وتلعب دوراً هاماً في إصلاح الأفكار الدينية كما بينه الأستاذ (برج) حين وصف تأثيرها في أندونسيا)
هذه فذلكة صغيرة من تاريخ العلامة الحجة السيد رشيد رضا ننشرها على الناس إثباتاً واعترافاً بفضله رحمه الله ورحم أستاذه.
(المنصورة)
محمود أبو رية(584/15)
بحث نفسي علمي
2 - الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
يرى بعض علماء النفس أن الأحلام عند الأطفال الصغار غالباً ما تكون منطقية معقولة. لأنه إن لم يكن الطفل شقياً بين أهله وفي بيئته، فإنه لا يملك وقتاً يبني فيه هيكلاً مركباً من الكبت. ومع أن أحلامهم ترمز إلى رغبات عقيمة غير مجدية، إلا أن هذه الرغبات نادراً ما تكون غير مقبولة للعقل الواعي عند الطفل الصغير، فتظهر واضحة غير مستترة. ولكن على قدر ما يكون المراهقون قلقين، تكون رغباتهم العقيمة غير مقبولة للعقل الواعي، ولذلك فهي تظهر في شكل يغاير الحقيقة
وهناك ثلاثة أنواع للأحلام:
1 - أحلام منطقية متَّسقة كأحلام الأطفال. مثال ذلك: والد يرفض أن يأخذ طفله إلى السينما، فيذهب الطفل في حلمه إلى سينما يتخيلها إدراكه العقلي
2 - أحلام تبدو مترابطة ولا يمكنها أن تتناسب مع حياة الحقيقة. مثال ذلك: شخص يحلم بأنه يسير بقرب منزله فيرى أن أخاه يكاد يهاجمه أسد
3 - أحلام تبدو مفككة، غير منسجمة، سخيفة، مشوشة
والنوعان الأخيران يعتبران نموذجاً من أحلام المراهقين
وأحلامنا ولو أنها تبدو غير معقولة وغير مفهومة، إلا أنها تبدو - دائماً - تعبيراً مستتراً لأساليبنا العقلية الكائنة. والأحلام يمكنها أن تحول إلى هذه الصورة، الفكر التي في الوجود. ولكي تفعل هذا فهي تنتفع بالطرق التي يمكن أن تبدو للعقل الواعي مضحكة. وهي مع ذلك تتجاهل المتناقضات الواضحة، وتأتي بفكر مختلفة بوساطة التداعي السطحي
ومصدر الحيرة الظاهرة منها ناتجة عن رقابة العقل الواعي. ومع أن كفايتها العملية تُعزى قلة أهميتها إلى الحقيقة بأننا نكون في سبات، فنمسي غير قادرين على استعمال المراقبة الشعورية، فهي لا تزال تحاول أن تمنع اللاشعور من أن يكون شعوراً
والعقل الواعي يمكن أن يُمهد للأوضاع ولبعض الصور التي تظهر في أحلامنا. فإذا انشغلنا يوماً بمواعيد كثيرة مع أناس، يمكننا أن ندهش إذا أخذت أحلامنا شكلاً مماثلاً. على(584/16)
أن عقلنا الباطن ربما يكون مسئولاً عن التعرف بأناس لم نكن قابلناهم فعلاً في ذلك اليوم، ونشاط حلمنا قد يبدو باطلاً نظراً إلى أننا لا يمكن أن نتحقق أو أن نذكر بتيقظ ما كنا نظنه يأتي في أحلامنا
يستيقظ كثير من الناس في الصباح بهذا التأثير الذي يرجع سببه إلى الرقابة على العقل الواعي. وبعض أجزاء الحلم كثيراً ما يُنسى في حين أن بعضها الآخر يكون محرفاً ومشوهاً في الذاكرة الواعية، ولذا يظل اللاشعور مكبوحاً، وإذا لم يكن هناك سبب ثابت لوجوب امتلاكنا نوعاً من الحلم الذي نكون مندفعين فيه بدون قصد من مكان إلى مكان، يحتمل أن يرجع السبب في ذلك إلى بعض مسائل شخصية نكون قد حاولنا دفعها في أعماق الصورة
وفي ساعات يقظتنا نحاول أن ننسى هذه المسألة في عمل ولهو مستديمين. وحلمنا جهد يحمى النوم لكيلا نستيقظ أو نقلق. والناس الذين يحاولون أن يتجنبوا حكماً خطيراً، أو الذين لا يمكنهم الوصول إلى حكم، عندهم في الغالب هذا النوع من الحلم
والأحلام التي نحاول فيها أن نهرب من بعض الأخطار والتي تكون الحركة فيها صعبة كأن نكون دائسين في وحل لزج أو متعلقين بأغصان أشجار، لها أهمية مماثلة. وهناك بعض المسائل الخطيرة التي نحاول أن ننساها أن نتحاشاها، ولكنها برغم جهودنا تتشكل في صورة غير مقبولة. وأحسن تصرف لنا هو أن نكشف المسألة ونسوِّيها. وحين يقف مثل هذا النوع من الأحلام تكراره عند حده، علينا أن نحاول فهم القليل عن معنى رموزها. ويجب علينا أن نحلل شعورنا واستجاباتنا وعلاقاتها بالأشباح التي تظهر على الدوام في أحلامنا. والأمانة التامة من ألزم اللزوميات، حتى ولو كانت مما لا تسر
ولنأت هنا بمثال للطريقة التي تساعد على الفهم الذاتي:
(فلان) كهل عَزبَ ثرثار، يعيش مع أخته العجوز الأرملة. إنه ينزعج من كل شيء وعلى الأخص صحة أخته. وقد اشتكى من أحلام مزعجة. ففي أوضاع غامضة مختلفة، رأى أخته ممدة ميتة وإما على وشك الموت. ويرى نفسه إما محاولاً إعادتها إلى الحياة وإما مندفعاً للتفتيش عن أشياء. وإنه يقول: (أردت أن أسرع ولكنني لم أستطع، كنت أوقع الأشياء دائماً وأخلط بين قطع الأثاث. وفي كل أحلامي (ا) موجوداً، وكانت توجد أيضاً(584/17)
ممرضة ولكنها كانت تتمثل في صور شتى. ففي بعض الأحيان كانت ابنة عمي السيدة (ب)، وكانت في بعض الأحايين الآنسة (ج) وأحياناً (د). ولم أكن أفهم سبب وجود (ا) هناك. إنه كان معي في الجامعة ولكني لم أكن أحبه كثيراً. وكنت لم أره زهاء العشرين عاماً. وكنت دائماً في حالة مزعجة أستنجد بهم أن يعملوا شيئاً. وفي معظم أحلامي، كان (ا) يخلع ساعة أختي الذهبية من رسغها. وكنت أطلب منه أن يعطينيها إذ كان لي الحق في أن أقرر لمن يجب أن تكون، وكان هو يتمسك يخطفها من يدي. فيبدأ الجميع في جذبها في اتجاهات مختلفة. وفي تلك اللحظة، كانت أختي تنتصب واقفة وتنظر إليّ)
وكان (فلان) يستيقظ من نومه دائماً عند هذه النقطة يائساً، قانطاً يتملكه الشعور بأنه يجب أن يذهب إلى غرفة أخته ليتحقق من أنها بخير
ولو أن هذا يبدو حلماً مزعجاً نموذجياً. فقد كانت هناك بواعث شديدة لا شعورية موجودة فيه. ففي الجامعة كان فلان حيياً خجولاً، ولقد أراد أن يكوِّن لنفسه أصدقاء من بعض النساء ويخص منهن فتاة وكتب قصيدة أهداها إليها، ولكنها وقعت صدفة في يد (ا)، وعرض فلان بعض الوعود، كما يفعل الشعراء، ولم يكن شعره رديئاً ومع ذلك فقد صار أكثر خجلاً وأكثر حساسية
(ا) مثال كريه جداً، حاول أن يهدم إدراك فلان المثالي للنساء، واتجاهه العف نحوهن بترديد حكايات ماجنة
وكانت الآنسة (ج) جارة أعجب بها فلان. وباستثناء أخته كانت ب المرأة الوحيدة التي عرفها معرفة حقيقية، ولقد قال لها ذات مرة أنه يحب (ج) حباً شديداً
(د) كانت نجماً سينمائياً تخصصت في الأدوار التي تمثل المرأة العاقلة الحكيمة
ولقد أراد فلان أن يتزوج، ولكنه كبت هذه الرغبة ووجد حلاً غير مرضي بمعيشته مع أخته التي كان سيصير مركزها إذا تزوج مشكلة صعبة. وكانت في الحقيقة، تتكدر إذا بين لها رغبته في التعرف إلى نساء أخريات. وكانت أحلامه بموتها إيضاحاً لرغبته اللاشعورية التي تحتم موتها حالاً، وبهذا يحل مشكلته هذه. وكان هذا غير مقبول لدى عقله الواعي وضميره اللذين عوضا على الرغبة باهتمام مضطرب قلق لصحة أخته. . .
إنه كان يميل إلى ج كثيراً، ولأن السيدة ب شجعته صارت المرأتان مشتركتين في(584/18)
(اللاشعورية). ورغبته الخائبة للإرضاء الطبيعي البحت كان محققاً بـ د التي أصبحت على هذا النمط مشتركة مع كل من المرأتين، وكان (ا) متبلبلاً في شعوره الشخصي بالضعة، بقدر ما كان قلقاً، وساعة أخته الذهبية كانت هدية منه، وتعبر عن العاطفة التي أراد أن يعطيها لامرأة أخرى. فكانت أحلامه لذلك انعكاساً مستتراً لفشله الشخصي
وبعد. فإن باختبار القارئ لأحلامه بإخلاص، كما فعلنا في هذا المقال، ربما يكون قادراً على شرح ما يبدو له منها غامضاً وفي الوقت ذاته يدرس عن نفسه الشيء الكثير
هل أحلامك إلهامية؟ لقد قال الدكتور الفريد أدلر إنها في بعض الدرجات ربما تكون كذلك. ليس لأي سبب خفي، ولكن لأنها ربما تدل على محاولات تجريبية عند حل المشكلة التي تتأتى
وقال أيضاً إن شخصاً ربما يركن إلى التنعم بأحلام السعادة والنجاح. غير أن هذا لا يتفق الآن للرجل الجريء الذي لا تبعد حقيقته عن خياله، فتكون أحلامه أقل تعبيراً عما يمتجنه وجدانه.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو(584/19)
حول فلسفة نيتشه
رسالة نبي الوثنية!
للأستاذ زكريا إبراهيم
اعتقد نيتشه في نفسه أن عليه رسالة لا بد أن يبلغها للإنسانية، فلم يكن له بد من أن ينتقي لنفسه نبياً يتكلم على لسانه. وقد وضع نيتشه رسالته هذه على لسان نبيه زرادشت، فجاءت وحياً ليس له نظير في عالم الفلسفة. والواقع أن كتاب (هكذا قال زرادشت) هو طُرفة فنية رائعة لا نجد لها مثيلاً في الأدب الألماني الحديث، بل لعلها تكون أروع ما عرفه النثر الأدبي في ألمانيا كلها. ولكن الذي يعنينا من أمر هذا الكتاب هو أن نعرف السبب الذي من أجله اختار نيتشه (زرادشت) لكي يكون المعبر عن آرائه. وقد تكفل نيتشه نفسه بالجواب عن هذه المسألة فقال: (إن أحداً من الناس لم يسائلني - وكان الظن بهم أن يسألوا - عن المعنى الذي أقصده حينما أُجري اسم (زرادشت) على لساني، أنا (اللاأخلاقي) الأول؛ فإن ما كان يميز هذا الفيلسوف من غيره، هو على وجه التحقيق، تعارضه المطلق مع اللاأخلاقي. والواقع أن زرادشت كان أول من وجد في الصراع بين الخير والشر، المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الأشياء، فهو أول من حول الأخلاق إلى مجال الميتافيزيقا، وجعل منها قوة أو علة أو غاية في ذاتها. ولكن هذا عينه هو السبب في اختياري له: فإن زرادشت هو الذي استحدث ذلك الخطأ الجسيم الذي هو (الأخلاق) وإذن فإن من الواجب أن يكون هو أيضاً أول من يفطن إلى ذلك الخطأ؛ لا لأن اختباره للمسألة كان أطول وأعظم من اختبار غيره من المفكرين (فإن التاريخ مُفعم بالأدلة التجريبية والبراهين العملية التي تنقض النظرية المزعومة عن وجود نظام أخلاقي للأشياء بل لأن زرادشت كان أكثر أمانة وتوخياً للصدق من غيره من المفكرين.)
ولكن ما هو هذا الوحي الذي نزل على زرادشت من سماء إلهه نيتشه؟ لقد جاء هذا النبي الجديد بديانة معارضة للمسيحية، مناهضة للأخلاق؛ وهذه الديانة مُودَعة في تضاعيف شعر فني ساحر يرن في السمع كما ترن الآيات القصار. فلم يَصُغْ نيتشه إذن أفكاره في ألفاظ وعبارات، بل صاغها في لمع ولمحات. وهذه الأفكار كثيراً ما يَعذُب وقعها في السمع، بغض النظر عن المعاني التي تنطوي عليها، فهي أفكار لا تنحصر قيمتها في ذاتها، بل في(584/20)
صورتها الشعرية الرائعة التي تنساب سحرها في النفس خفياً لا تكاد تلحق به المعاني! وليس من شك في أن هذه الصورة الشعرية ذات الموسيقى العذبة، كان من شأنها أن تصرف النظر عن التأمل في المعنى الذي تخبئه الألفاظ، ومن هنا فإن أقوال زرادشت كثيراً ما تتخطى الأسماع إلى القلوب، فتعمل في النفس بما لا تعمله الأفكار والمعاني. وهل يمكن للفلسفة أن تؤثر في النفس كما يؤثر الشعر؟
وليس أسلوب نيتشه وحده هو المجازى الرمزي، بل إن فكره أيضاً رمزي كذلك. فلسنا نجد لدى زرادشت تحديدات دقيقة أو براهين ثابتة، بل نجد خليطاً من الآراء والأقوال، يمكن أن نجد فيها لكل شيء جواباً بالسلب وجواباً بالإيجاب، ويمكن أن نجد فيها أيضاً مجالاً للاختيار بين عشرة أو أكثر من التأويلات المختلفة. وهذا كله من شأنه أن يجعل المؤلف في منجى من الاعتراضات التي يمكن أن يوجهها إليه الناقدون، لأن الناقد لن يجد لديه شيئاً ثابتاً يمكن أن يأخذه عليه -. ومثل هذا الأسلوب في الكتابة، أليس هو قبيل التخلي عن الفلسفة الحقيقية، على حساب هوًى ميتافيزيقي خاص، أو نزعة توكيدية شخصية استحالت إلى إيمان ثابت أو عقيدة راسخة؟ إذن فما أصدق نيتشه نفسه إذ يقول على لسان نبيه زرادشت: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يُسألون حين يعملون لماذا؟). وهل كان نيتشه فيلسوفاً يأخذ بالعقل ويخضع للمنطق، حتى يقدّم حجة على ما يقول، أو برهاناً على ما يدعي؟. . . إن زرادشت نبي ملهم، فليس له إلا أن يملي على الناس أحكامه، وليس على هؤلاء الناس إلا أن يرهفوا له السمع!
أما الرسالة الجديدة التي جاء بها هذا النبي الملهم، فهي في جوهرها ردّ فعل عنيف ضدّ الأخلاق المسيحية المغالية، والمذاهب العاطفية المتطرّفة، مما نجده في العصر الحديث لدى أصحاب (ديانة الألم الإنساني) وقد استعان نيتشه في سبيل القضاء على هذه الأخلاق، بكثير من آثار ذلك النقد الألماني العنيف للديانات والفلسفات. ولكن هذا النقد قد اتخذ عنده صورة التجديفات العنيفة واللعنات المتواصلة، فجاءت حملته على الديانات ضرباً من الإنكار الهائج الذي تشيع فيه صورة الجنون. بيد أن هذا الإنكار تعقبه تأكيدات مفعمة بالحماسة والحمية، بقدر ما هي خالية من كل برهنة أو إثبات. وهذه التأكيدات نفسها قد لقيت نجاحاً كبيراً، لهذا السبب عينه وهو انعدام البراهين منها: فإن انعدام البرهنة كان من(584/21)
شأنه أن يخلع على تلك التوكيدات الإنكارية (إن صح هذا التعبير) قوة ووجاهة؛ ومن ثَمَّ فقد سيطرت على الناس وأثرت في عقولهم تأثيراً كبيراً. فهؤلاء الذين يؤخذون بسحر العبارة وموسيقية اللفظ، قد وجدوا في عبارات نيتشه التوكيدية الحاسمة، لذة كبرى لا عهد لهم بها في كتب الفلاسفة. وهؤلاء الذين يولعون بالغريب الشاذ، ويعشقون النادر غير المألوف، قد وجدوا في كتب نيتشه ما لا حصر له من الغرائب التي تستثير الإعجاب وتبعث على الدهشة. ولكن هذا وحده لم يكن السبب الوحيد في إقبال كثير من الناس على قراءة كتب نيتشة (التي أخذت تنتشر ويعاد طبعها) بل إن ثمة سبباً آخر أعمق من ذلك، وهو أن نيتشه قد نادى بمذهب فردي أرستقراطي، أراد به أن يهدم كل أخلاق وكل دين. فالروح الإنكارية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن، قد وجدت في نيتشه تعبيراً قوياً عن الحاجة التي تشعر بها. وهل كانت رسالة زرادشت في الحقيقة، إلا دعوة صريحة مؤدّاها (العودة إلى الوثنية الأرستقراطية): وهل كان نيتشة إلا (بكال الوثنية) كما قال هافلوك إليس بحقّ؟
زكريا إبراهيم(584/22)
مستقبل رومانيا
للأستاذ علي إسماعيل بك
(لماذا دخلت رومانيا الحرب)؟
ذلك هو السؤال الذي ردده طوال السنوات الأخيرة كل فرد من أفراد الديمقراطيات (فلماذا)؟
لقد دخلت ألمانيا الحرب لمطامع أغراها بها النازيون لا أقل من أن نذكر منها سيادة العالم بما سموه النظام الجديد
ودخلت بريطانيا وأمريكا الحرب دفاعاً عن حرية العالم. ودخلت روسيا الحرب دفاعاً عن نفسها. ودخلت إيطاليا الحرب للوهم الذي علق ونما في نفوس الفاشستيين لإحياء الإمبراطورية الرومانية المنقرضة. ودخلت بلغاريا الحرب لحلم دار في خلد الطامحين من ساستها بإعادة الإمبراطورية البلغارية في البلقان على يد حليفتها البطاشة
أما رومانيا، ذلك البلد الغني، المرح، الذي خرج من الحرب العظمى بأقصى ما يمكن أن ينال المنتصر من أسلاب وبأكثر مما كانت تحلم به من أراض غنية ومناطق تزخر بالمناجم وتغص بالصناعات فما بالها تدخل حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل؟
ذلك هو السؤال الذي يحار العقل في الإجابة عنه إجابة منطقية واضحة.
فلنرجع بالقارئ أولاً إلى حالة رومانيا قبل الحرب العظمى نجد أنها ما كانت إلا ولاية من ولايات البلقان الشرقية ترزح تحت أثقال الماضي العثماني وتتذمر من نفوذ عنصريين كبيرين يهددان كيانها على الدوام، وهما العنصر السلافي من الشرق والعنصر الجرماني من الغرب. فكان لها إذن أن تدخل الحرب العالمية، إذ كان لسيف ديموقليس حَدّان مسلولان على رأسها، ولا سبيل إلى التخلص من كابوسه إلا بإلقاء نفسها في أحضان الحلفاء. . .
وكان ذلك هو الطريق الذي اختارت رومانيا لنفسها. فحاربت في صف الديمقراطيات الغربية، وجلست معهم على موائد الصلح في سان جرمان، وخرجت من تلك الموائد ظافرة غانمة غنماً ما كانت لتحلم به. فقد سلخ الحلفاء من روسيا إقليم بسارابيا الغني الخصب في الشرق وقدموه إليها قرباناً، كما قدموا إليها أقاليم الدبروجا في الجنوب، وقد كان من ممتلكات بلغاريا وترانسلفانيا وبوكوفينا، وقد كانتا من ممتلكات الإمبراطورية النمساوية(584/23)
الهنجارية النحلة
تحققت إذن كل رغبات رومانيا الصغيرة بعد الحرب العظمى، وأصبحت بعد ذلك (رومانيا الكبرى) وجلست على عرشها إحدى الملكات التي يسجل لهن التاريخ أجل المواقف. فقد كان لنفوذ الملكة ماري ابنة دوق ادنبرة ابن الملكة فكتوريا العظيمة أشرف الأثر لا على الفرع الكاثوليكي لأسرة هوهنزلرن - سيجمارينجن وحسب، بل على الشعب الروماني أجمع. فقد أخذ ينطبع بالطابع الديمقراطي الذي كانت تتحلى به تلك الملكة الإنجليزية العظيمة، وبدأت تدب في مرافقها روح المدنية الغربية. فأخذت ترفل رومانيا في مطارف السعادة والرخاء. مملكة هذه حالها، ما الذي حدا بها إلى أن تصنع اليوم ضد ما كانت تقبله بالأمس.
عاشت (رومانيا الكبرى) العشرين سنة الأخيرة عيش الفأر الذي لبس جلد الهر ظناً منه بأن في لبس الجلد السلامة والنجاة. وكان الرومانيون يعلمون على بكرة أبيهم علم اليقين بأن الهر الجرماني إنما يتحفز لأنشاب أظفاره فيهم كي يسلخ منهم ترانسيلفانيا وبوكوفينا كما يتحفز لهم الهر الروسي كي يسلخ بسارابيا والهر البلغاري كي يسلخ الدوبروجا. ماذا يصنعون إذن؟ إذا طلبوا معاونة الحلفاء، تلقوا إجابة أفلاطونية لا تقترن بأساطيل ولا تعزز بجيوش. وإذا طلبوا معاونة الروس، فلا أقل من أن تطغى على الأراضي الرومانية أنظمة روسيا الاجتماعية وهو ما لم تكن رومانيا ولا الديمقراطيات لتقبله بأي حال. موقف مربك بلا ريب
لا مناص إذن من إلقاء نفسها في أحضان الهر الجرماني، ولو على غير رغبة منها (فلنحالف الألمان عسى أن يكافئونا على حلفنا) ذلك هو ما كان يدور في خلد الرومانيين، ولكن ما هي تلك المكافأة التي كانت تنتظرها رومانيا؟ إذن فاستمع: وعدت ألمانيا النازية بحل المشكلات المعلقة بين رومانيا وجاراتها بما يرضى الضمير الجرماني بشرط دخول رومانيا الحرب في صفها ضد حلفائها بالأمس فتضع بذلك مناطق الزيت والحبوب تحت تصرف الألمان!
تمخض الوعد عن اجتماع في فينا بين هتلر وساسة رومانيا وهنجاريا، وكانت النتيجة أن نُزعَت ترانسلفانيا من التاج الروماني وقُدِّمت قرباناً إلى نسور هنجاريا! تلك مأساة الثقة(584/24)
بوعد الهر الجرماني
دخلت رومانيا الحرب ووضعت جميع مواردها ومرافقها تحت تصرف الألمان، فما كان من هؤلاء إلا عاملوها معاملة السيد لتابعه، وبدلاً من أن يكافئوها بالاحتفاظ بالولايات كما كان مشروطاً كافأوها بسلخ ترانسلفانيا وبوكوفينا سلخاً لا شفقة فيه ولا شفاعة
ولما أن دار الفلك دورته وأنشبت روسيا أظفارها في قلب الهر الجرماني منتزعة بسارابيا من قبضتها بحد السيف ثاب الرومانيون إلى رشدهم وشعروا - ولكن بعد فوات الوقت - أن لا سلامة الآن لهم إلا بالخضوع والإذعان لمطالب روسيا المشروعة
وقد أذيع اليوم أن بين هذه المطالب - ولا أقل من أن يكون الأمر كذلك - أن تنقلب رومانيا إلى صف الحلفاء وأن تكون حكومة ديموقراطية تحمل السيف في وجه ألمانيا التي لم تجر عليها مخالفتها سوى الخراب والدمار على أنه من الواضح أن الحلفاء سوف يبرون بوعدهم على استرداد ما انتزع الألمان في اجتماع فينا فيضعون بذلك الحق في نصابه ويعيدون إلى قيصر ما لقيصر
علي إسماعيل(584/25)
صفحات مطوية من المصري
الشهاب المنصوري
للأستاذ السيد أحمد خليل
ذلك شاعر آخر من الشعراء المغمورين الذين نشأوا في مصر، وتأثروا بما يجري على أرضها من أحداث، تظهر في أعمالهم الشعرية التي خلفوها خصائص هذه البيئة ومزاياها. ذلك هو الشاعر المعروف بالشهاب المنصوري
ترجمته
يعرف هذا الشاعر بالشهاب المنصوري، وبابن الهائم والمترجمون له يستعملون هاتين الشهرتين. فأما نسبه كاملاً، فهو أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الدائم بن رشيد الدين بن عبد الدائم بن خليفة المعروف بالشهاب المنصوري.
ولد سنة 798هـ ببلدة المنصورة، ونشأ بها، فحفظ القرآن وجوده، وتلقى بعض المبادئ في الفقه والحديث والتفسير والأدب، ثم رحل إلى القاهرة، فعرض كتاب التنبيه على الجمال الأقفهسي المالكي، ثم حفظ الملحة وقد رحل في شبابه مع والده إلى دمشق، ثم عاد إلى القاهرة وعاود البحث في التنبيه على الشرف عيسى الأقفهسي الشافعي، وعرض ألفية ابن مالك على الشمس الجندي وأخذ عنه أشياء من تصانيفه في النحو كالزبدة والفطرة، ولما فرغ من قراءته عليه قال:
ثناؤك شمس الدين قد فاح نشره ... لأنك لم تبرح فتى طيب الأصل
أفاض علينا بحر علمك قطرة ... بها زال عن ألبابنا ظمأ الجهل
وأخذ النحو أيضاً عن البدر حسن القدسي شيخ الشيخونية، وسمع الحديث عن الرشيدي وتنزل في حنابلة الصوفية بالشيخونية وعانى الأدب وطارح الشعراء، وصار بأخرة أوحد شعراء القاهرة حتى كان العز قاضى الحنابلة يقدمه على الكثيرين، وقد حج وامتدح النبي بعدة قصائد، وخمّس البردة ومدح غير واحد من الأعيان، وكان صديقاً للسخاوي، صاحب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، وقد ترجم له ترجمة ضافية، ويقول الشهاب المنصوري يهنئه بمولود له:(584/26)
ليهنك شمس الدين فرعك مشبه ... سجاياك والقطر الشهي من الطخا
وذلك من وجود الإله وفضله ... ففرعك من وجود وأصلك من سخا
ويتفق صاحب شذرات الذهب مع السخاوي في أنه توفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة 887هـ
أخلاقه
يقول السخاوي إنه كان ظريفاً كيسا متواضعاً متقللا قانعاً، ويبدو فيما رأيناه من شعر الشهاب أنه كان ظريف اللسان خفيف الروح يتمثل فيه الخلق المصري الهادئ الوديع مع اليقظة التامة لما يجري حوله من أحداث لا بد أن يشارك فيها جاداً أو مازحاً
شعره
فأما شعره فيصفه صاحب شذرات الذهب بأنه جميعه في غاية الحسن وينقل من ديوان له تلك الأبيات:
شجاك بربع العامرية معهد ... به أنكرت عيناك ما كنت تعهد
ترحل عنه أهله بأهِلة ... بأحداجها غيد من العين خرد
كواكب أتراب حسان كأنها ... برود بأغصان النقي تتأود
كما يقول السخاوي إنه أضحى مشاراً إليه بالشعر في الآفاق، ويحدثنا عن ديوانه أيضاً ويصفه بالكبر، وأنه انتخبه في مجلد وسط قبل أن يموت. والمتتبع لحياة هذا الشاعر يرى أنه قد شارك في جميع ألوان الحياة المصرية في عصره، وأن أداته في ذلك كله كانت الشعر، فهو يهنئ السلاطين بالملك بالشعر ويمدح ويذم ويداعب ويتحسر بالشعر أيضاً، وسننقل في ذلك بعض الحوادث مقرونة بشعره
لما عين مثقال الحبشي الساقي في مشيخة الحرم الشريف، وكان مثقال هذا عشير الناس كثير الانهماك على شرب الراح، فمقته السلطان قايتباي وألبسه مشيخة الحرم الشريف لعله يتوب قال فيه الشهاب المنصوري:
يمم ندا كف مثقال فراحته ... فيها لمن أمه جود وإفضال
واعجب له فرعاه الله من رجل ... فيه قناطير خير وهو مثقال(584/27)
وقال في شاهين غزالي الظاهري الرومي، وكان بارع الجمال افتتن به كثير من النساء والرجال، وافر العقل غزير الأدب منهمكا في ملاذ نفسه وشهواتها
قد صاغك الله من لطف ومن كرم ... وزاد حسنك بالإحسان تزيينا
فاخفض جناح الرضا واصطد طيور دعا ... من جو إخلاصنا إن كنت شاهينا
ويلاحظ أنه مولع بالتورية في شعره، فهو يستعمل الشاهين بمعنى الصقر، ومثقال بمعنى المقدار وهما علمان. وذلك أسلوب من أساليب الشعر في ذلك العصر
كما يصف طاعوناً تفشى خطره في الناس فيقول:
يا نعم عيشة مصر ... وبئس ما قد دهاها
لما فشا الطعن فيها ... حاكي السهام وباها
وهو يحارب الأمراء في جشعهم ليحملهم على أن يخرجوا الغلال التي احتكروها فيقول في الأمير يشبك الدوادار لما فعل ذلك:
وظالم منه أتانا الغلا ... يا ويله في الحشر من ربه
فادعوا وقولوا ربنا اطمس على ... أمواله واشدد على قلبه
وهو يتعصب للعلماء فينصر ابن الفارض على البقاعي، كما يرثي العلماء الذين عاصرهم رثاء مفجعاً يدل على ما يكنه لهم في نفسه من احترام وتقدير، فقد كان في مصر في ذلك الوقت سبعة من الشعراء العلماء يحملون اسم الشهاب فماتوا جميعاً وبقي شاعرنا فرثاهم بقصيدة طويلة ذكر طرفاً منها ابن إياس في كتابه بدائع الزهور ومنها:
خلت سماء المعاني من سنا الشهب ... فالآن أظلم أفق الشعر والأدب
تقطب العيش وجهاً بعد رحلة من ... تجاذبوا بالمعاني مركز القطب
فكاهاته
كان شاعرنا يميل إلى الفكاهة العذبة ويحتال لها في شعره بأنواع من البديع كالجناس ونحوه، ويتبين ذلك في الأبيات التالية التي داعب بها صديقه الشاعر عبد الرحمن بن حسن المعروف بكلب العجم وكان يميل إلى الغلمان:
في ملاح لك شتى ... صيف القلوب وشتا
كم ليال مع مليح ... يا محب الدين بتا(584/28)
خده بستان حسن ... حبذا البستان بستا
أنت بالصبيان صب ... لو رأيت البنت بنتا
وقد عرض له في أواخر حياته فالج ألزمه الفراش فانقطع في داره عن الحركة، ولكنه لا ينسى حظه من المداعبة الجميلة إذ يقول في مرضه:
آه يا درهمي ويا ديناري ... ضعت بين الطبيب والعطار
كنت أنسى في وحدتي وشفائي ... من سقامي وصحتي في انكساري
قد حماني الطبيب عن شهواتي ... فاحم يا رب قلبه بالنار
طال شوقي إلى الفواكه والبطيخ ... والجبن واللِّبَا والخيار
أما حديثنا عن ديوانه فسيكون في مقال آخر إن شاء الله.
(جامعة فاروق بالإسكندرية)
السيد احمد خليل(584/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
604 - تحت كل لم؟ أسد ملحم
ابن الراوندي: ما التصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من التصدي للجواب لمن أمّك بالسؤال.
وتحت كل لِم؟ أسد مُلمّ
605 - إذا استعفى بغمزة حاجبيه
قال أبو نؤاس:
ولست بقائل لنديم صدق ... وقد أخذ الشراب بمقلتيه
تناولها وإلا لم أذقها ... فيأخذها وقد ثقلت عليه
ولكن أدير الكأس عنه ... إذا استعفى بغمزة حاجبيه
606 - أسهل من تلك الخطوة
رفع رجل من الأزد إلى المهلب سيفا له فقال: يا عم، كيف ترى سيفي هذا؟
فقال: إنه لجيد لولا أنه قصير
قال: أطوله يا عم بخطوتي
فقال: والله - يا بن أخي - إن المشي إلى الصين أو إلى أذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة. . .
607 - ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود
سُمع من امرأة من الأعراب ترقص ابناً لها فتقول رزقك الله جَداً يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود
608 - فكيف بالظالم؟
في الكشاف للزمخشري:
صلى الموقف خلف الإمام فقرأ: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار). فغشى عليه،(584/30)
فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟!
609 - فقد طابت منادمة المنايا
القاضي عبد الوهاب:
متى تصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا؟!
ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا؟!
وإن ترفع الوضعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى البلايا!
إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا!(584/31)
أوائل الناجحين
للشاعر الأستاذ محمد الأسمر
(للبيت العلوي الكريم مآثر محمودة في تشجيع العلوم والفنون،
من لدن محمد علي الكبير إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا
الملك فاروق الأول، وإن في تكريم جلالة الفاروق لأوائل
المتخرجين كل عام لمأثرة كبيرة من هذه المآثر المحمودة
المعروفة عن البيت العلوي
وقد كان المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول يمنح أوائل الناجحين في عالمية الأزهر بعض المنح، وكان الأزهريون يحتفلون بتوزيع هذه الجوائز على الأوائل منهم، والقصيدة الآتية أنشدها الشاعر في بعض هذه الحفلات.)
للسابقينَ الأولينَ تحيتي ... شعراً كزهر الروض لما نوَّرا
بَلغَ المُجَلِّى، والمُصَلَّى غايةً ... لهما، وأبطأ عاجزٌ وتأخَّرا
يتنافس المتنافسون فسائرٌ ... خَبَباً، وآخرُ سائرٌ متعثرا
صَرْحُ الحياة ثوى الضعافُ بسفحه ... والأقوياءُ على الذوائبِ والذُّرى
قُلْ للأوائل قد بلغتمْ شأوكْم ... وحمدتُم لَّما بدا الصبحُ السُّرى
لم تأخذوا من لهو أيام الصبا ... إلا مُباحاً نلتموهُ مُقَتَّرا
لستمْ كمن تخذ المقاهيَ دارَهُ ... يلهو ويُنفق مُسرفاً ومبذرا
زمنُ الدراسة للدراسة وحدها ... ما كان متسعاً لشيء آخَرا
خير الجليس به، وخير مسامر ... فيه يراعٌ أو كتابٌ سُطِّرا
والطالب السبَّاق في طلب العلا ... أبداً تراهُ مُنقباً ومُحِبِّرا
ما إن يُرى في الليل خارجَ دارهِ ... وتراه ينهض للدروس مُبكِّرا
يأيها الغُرُّ الأوائلُ حسبُكم ... عطفُ المليك فما أجلَّ وأكبرا
ونصيحةً لكم الغداة نسوقُها ... لتُبينَ ما رُبمَا اختفى وتسترا(584/32)
لا تحسبوا سَبْقَ الدراسة وحدهُ ... يُغنى فيرخى ذيله من شَّمرا
سَبْقُ الدراسة ليس إلا سلّماً ... هو أول الغاياتِ ليس الآخِرا
لا يَقْعُدَنَّ المرءُ بعد نجاحه ... ثملاً ولا يخطرْ به متبخترا
كم أخرِ في الدرس ثابَر بعدهُ ... فسما وظلَّ الأولون على الثرى!
فخذوا بأسباب الحياة وواصلوا ... خطواتكم تجنوا الشهيّ المثمرا
الأزهر المعمور يرعى روضَه ... ملكٌ به رفَّ النجاحُ وأزهرا
ما زال يسقيهِ الرعايةَ عذبةً ... حتى بدا نضر الجوانب أخضرا
وإذا الملوك الصالحون تعقدوا ... غرساً أتى بالصالحات وأثمرا!
يسعى إليه المسلمون جميعهم ... مثل الحجيج سعى إلى أم القرى
وردوا به الوِرْد الشهيّ مذاقه ... وجنوا به المُتَعَهَّد المتَخيَّرا
جمع القديم مع الْجديد كليهما ... أحببْ به مُتَبَدِّياً، متحضِّرا
عَلُم الزعامِة في يديه وحدهُ ... ما كان أحراهُ بذاك وأجدرا
حَمَل اللواء إلى الأمام فما مشى ... يوماً به في الحادثات القهقري
وردتْ مناهِلَهُ البرَّية كلها ... عسلاً مُصفّى لا أجاجاً أكدرا
يمضي على سَنَن الهدى مستنصراً ... بالله، محميَّ الجناب مُظَفّرا
بنت الشريعةُ من قديم حصنها ... فيه، وشيَّدت الفصاحةُ منبرا
وتفضَّل الله العلُّى وزادهُ ... فضلاً، فأيدهُ المليكُ وأزّرا
يأيها الملكُ الرشيدُ تدفَّقتْ ... منك الأيادي فهي تجري كوثرا
تُعطي الجزيلَ من العطاء مشجعاً ... من لم يَعُقْهُ عن السُّرى حُبُّ الكرى
تبني العقولَ وأنتَ أقدرُ من بني ... وأجلُّ من ساس الأمور، ودبَّرا
إن كان كسرى شادَ إيواناً له ... حَجَراً، فأنت تشيدُ أعجب ما يُرى
تبني المعارفَ والفنونَ وهذه ... أبقى على الدنيا وأروعُ منظرا
محمد الأسمر(584/33)
البريد الأدبي
الثقافة والعقاد
في عيد ذكرى من ذكريات سعد الماضية، أصدرت مجلة الثقافة عدداً خاصاً في الزعيم سعد زغلول من أقلام كتابها البارزين
وكتب أحد هؤلاء الكتاب، حكاية زيارة اللورد جورج لويد للمنيا، واستقباله في الأقاليم استقبال أصحاب العروش، وحملة الصحف على اللورد من جراء هذه الزيارات، واشتراك مجلس النواب على اختلاف الأحزاب في هذه الحملة، وحنق اللورد وخلقه أزمة استحضر من جرائها الأسطول إلى الإسكندرية ليزيل ما أصاب هيبته من تلك الحملات التي ظن أن الموعز بها والمحرض عليها هو الزعيم سعد زغلول
ويقول كاتب الثقافة إن المغفور له سعد زغلول قال: إن اللورد جورج يتهمنا بأننا كنا الموعزين بحملة الصحافة وحملة النواب على زياراته للأقاليم، أما أنا فأقول:
(إنها تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه)
أورد كاتب الثقافة الخبر على هذا النحو كأنه من أخباره الخاصة أو من متداول الحديث بين كتاب الثقافة
بعثت آنذاك بكلمة إلى رئيس تحرير الثقافة، أضع الأمر في موضعه الصحيح، وأدل القراء على المصدر الذي استقى منه الكاتب روايته وهو كتاب (سعد زغلول) لمؤلفه الأستاذ عباس العقاد، ولم يشأ صاحب امتياز المجلة نشر كلمتي قطعاً لما قد يعقب نشرها من أخذ ورد
سألت عن كاتب تلك الكلمة، فعرفت أنه لا يقل مكانة عن الكاتب (ح. ج)، ولعله يزامله في التحقيق والعدالة
عندما قرأت مقال الثقافة (سعد وسعود) بقلم (ح. ج) وتعليق الأستاذ سيد قطب عليه تذكرت الماضي وقلت في نفسي (هذه ثقافيات عرفناها في الجامعيين في إنكار الفضل على ذويه)
وبهذه المناسبة أنقل خلاصة حكاية أوردها الأستاذ العقاد في كتابه (سعد زغلول) أهمسها في آذان كتاب الثقافة وحواشيهم ليت يتدبرها الكاتب اللبق (ح. ج)
قال العقاد وقد سأله الزعيم عن رأيه في خطبة العرش، وكان حاضراً كل من فتح الله(584/34)
بركات باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا والأستاذ عبد القادر حمزة
أدلى الأستاذ العقاد برأيه، وقام النقاش بين الرجلين ودام نصف ساعة. فقال زغلول باشا للعقاد
(لماذا تحاسبني أنا في هذا، ولست أنا المسئول عنه)
فأجاب العقاد (لأن دولتك وكيل الأمة والمسئول عن عمل الآخرين)
(فضحك - رحمة الله - طويلاً، ثم قال: لو حاسبني كل فرد من الأمة حسابك يا فلان لعجزت عن أعباء هذه الوكالة)
(قلت وفي نفسي غضب أغالبه: يا باشا، ليس كل فرد في الأمة عباس العقاد)
(فتبسم مؤمناً وقال: ليس كل فرد عباس العقاد. . . صدقت)
حبيب الزخلاوي
1 - وحدة الشهود
تعليقاً على ما دونه الأستاذ البشبيشي في عدد الرسالة 578 أقول: أول من قال بوحدة الوجود في الإسلام هو جهم بن صفوان الذي قتل في آخر عهد الأمويين، وقد تأثر في بدعه ونحله الباطلة بالسمنيين (سمنات) لاختلاطه بهم، وكم فتح هذا الرأي من أبواب للإباحة والزندقة لشرار الخلق
وأما قول الصوفية الأطهار بوحدة الوجود فلم يكن ناشئاً من نظر أو بحث، بل هي عندهم حالة خيالية تطرأ للسالك من شدة إقباله على الله إلى أن يغيب عن الكون فينطق بما يوهم وحدة الوجود، وتسمية هذه الحال (وحدة الشهود) هو الصواب. ومن الصوفية أتقياء أبرار يراعون أدق أوامر الشرع في جميع شؤونهم، كما أن بينهم زنادقة إباحيين. قال العلامة يوسف البحري فيما علقه على (المجموع في المشهود والمسموع): إن الواجب له عز الوجوب والعظمة والكبرياء، فهو منزه عن اللواحق المادية والتعطيلات الإلحادية، وإن الممكن له ذل الإمكان وحقارة الاحتياج إليه محقور مقهور محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه وجميع أطواره، فلا ينقلب الواجب ممكناً ولا الممكن واجباً، بل الواجب خالق قادر عني، والممكن مخلوق عاجز محتاج فلا يكون أحدهما عين الآخر، وهذا بديهي وبه نزلت(584/35)
الكتب السماوية وجاء به الأنبياء. . . انتهى.
وبحث وحدة الوجود بحث خطر متشعب، والموفق من وقاه الله شره. وممن توسع في رد ذلك القاضي عضد الدين في المواقف
2 - في اللغة أيضا
نقلت في عدد (الرسالة) 576 ذرواً من قول الأستاذ النشاشيبي في لفظة (تلاشي) وأورد اليوم بعض كلامه أيضاً:
بنت العربية (الملاشاة والتلاشي) من (لاشيء) في القرن الثالث فقالت: لا شيء يلاشي ملاشاة، وتلاشي يتلاشى تلاشيا. وفي إرشاد الأريب (التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به) وراوي الجملة هو المنشئ العبقري أبو حيان التوحيدي (الذي ربما كان أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق)، وكما يقول العرباني (متز)، وفي العمدة لابن رشيق (وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى)، وجاءت اللفظة في شعر الصنوبري
فالتلاشي مولدة كيسة، وقد تقبلها من تلوت أقوالهم، وسمينا أسماءهم بقبول حسن. ثم طلع علينا الخفاجي في آخر الزمان يقول في شفاء الغليل (التلاشي بمعنى الاضمحلال عامية، لا أصل لها في اللغة). عامية يا شيخ (قدك اتئب، أربيت في الغلواء) خف الله، احترم أولئك الأئمة، قل مولدة، قل محدثه، لقد ظلمتها حين ذممتها واستأصلت أصلها. والنسب مشهور، والناجلان معروفان، وهي (لا) و (شيء)، وقد نشأت في العراق ورحب بها المهيللون والمبسملون والمحمدلون، والأدباء والعلماء والباحثون
وسقط مما نقلته في العدد 576 من كلام الأستاذ بعد أن ذكر قول ابن أبي الحديد: قلت: مقالة ابن أبي الحديد متلاشية، والحق مع القطب الراوندي صاحب شرح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة. . .
أحمد صفوان
إلى ميدان الجهاد
مضت شهور وأنا معتصم بالصمت فلا أكتب حرفاً في مدافعة أخصامي، أو مناصرة(584/36)
أصحابي، وقد طال الصمت ثم طال حتى أشمت الأعداء، وأحزن الأصدقاء
وأنا راجع إلى ميدان الجهاد ومعي سلاحي، فليلقني من توهم أنني ألقيت سيفي وطويت لوائي
كل شيء يجوز، إلا أن أخذل وطني، وهذا الوطن هو اليوم موئل الحرية الفكرية في الشرق
إن خصومي دفعوني إلى ما لم أكن أحب أن أندفع إليه، فما عندي نية لخصومة روحية أو عقلية لأني أبغض الشهرة التي يجلبها التظاهر بحرية الرأي
قراء الرسالة يذكرون أنها نشرت عشرات من الملاحظات على التصوف، وهم أيضاً يذكرون أني سكت عن التعقيب على تلك الملاحظات، فما سبب ذلك السكوت؟
السبب يرجع إلى إيماني بأن التصوف عُقدة نفسية لا تفسرها كلمة وجيزة في صحيفة أسبوعية
ولكنني اليوم أراني مقهوراً على شرح نظرية وحدة الوجود، بعد أن طال فيها الكلام على صفحات الرسالة الغراء بدون إيضاح
وقراء الرسالة يذكرون أن بعض الناس وصفني بالحمق والغباوة والجهل، بسبب آرائي التي دونتها عن إعجاز القرآن في كتاب النثر الفني
وسأشرح تلك الآراء شرحاً ينفي عني وصف التهمة بالحمق والغباوة والجهل، فأنا بفضل الله أعقل وأذكى وأعلم من جميع المتطاولين على مقامي
وإذا كان فلان الفلاني أعلن فرحه بأن الرقابة لن تسمح بنشر دفاعي عن آرائي، فليعرف ذلك الفلان أن دفاعي سيكون أوضح من فلق الصباح، وأنه لن يتعرض لمقاومة الرقابة بأي حال
كنت أنتظر أن ينتصر خصومي عليّ بقوة المنطق لا بقوة الحكومة، فلن أنسى كيف خاصموني في يوم نقدت خطبة العرش في إحدى حكومات الانقلاب
أما بعد فهذا نذيرٌ من النذر الأولى
زكي مبارك
لقد عاذ بمعاذ(584/37)
في أهرام 20 أغسطس سنة 1944 نبأ الجمل الذي أهرب من المجزر، ولجأ إلى قصر عابدين، فأمر جلالة الملك فاروق بشرائه وعدم ذبحه. وقد ذكرنا ذلك بما جاء في كتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي) إن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام جالساً ذات يوم إذ جاء جمل يخبب حتى ضرب بجرانه بين يديه، فقال ويحك: أنظر لمن هذا الجمل، إن له لشأناً. فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه فقال: ما شأن جملك هذا؟ قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: لا تفعل، بِعْنيه، قال: بل هو لك يا رسول الله، قال: فوسمه بميسم الصدقة ثم بعث به.
(ابن المقفع)
داء يستعصي على العلاج
في الميدان الأدبي جريمة خبيثة تستعصي على الضبط، فهي كالداء الذي لا يعرف له دواء؛ هذه الجريمة هي أن يعمد بعض الجاهلين المجهولين إلى اختلاق كلمات أدبية أو اختلاسها، وينسبونها إلى أناس برآء لم يعلموا بها ولم يشتركوا فيها، ثم يرسلونها إلى الصحف والمجلات كي تنشر فتحدث كثيراً من المواقف الحرجة، وتترك من ورائها آثاراً سيئة حينا وتجلّ أحياناً!.
وهذه الجريمة تتكرر يوما بعد يوم؛ فمنذ عشر سنوات أرسل بعض هؤلاء الجهلاء قصيدة في ديوان للأستاذ حسن جاد حسن إلى الأهرام بعد أن وقع عليها باسم الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر، ومنذ سنوات طبع أحدهم قصة نسبها إلى الأستاذ توفيق الحكيم، وفي العام الماضي بعث أحدهم إلى (الثقافة) بقصيدة للمرحوم أبي القاسم الشابي بعد أن وقع عليها باسمي، ومنذ شهور اختلق أحدهم قصيدة متداعية ونسبها في بعض الصحف إلى الأستاذ عبد الجواد رمضان. . . وهاهي ذي الجريمة تتكرر اليوم فيرسل بعضهم إلى (الرسالة) كلمة مزوَّرة بعد أن ينسبها إلى الأستاذ عبد الحميد ناصف. ولا ندري ما يأتي به المستقبل!
فليت شعري! كيف يستطاع القضاء على هذه الجريمة؟ إن رئيس التحرير لا حيلة له في(584/38)
ذلك، فهو لم يعط علم الغيب، والأحقاد الدفينة والخصومات الحقيرة تدفع هؤلاء بين الحين والحين إلى اقتراف تلك الجريمة الشنعاء، فمن لي بمن يطب لهؤلاء؟. . . رحم الله شوقي إذ يقول:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا!
أحمد الشرباصي
خريج كلية اللغة العربية
استدراك
قال الدكتور عبد الوهاب عزام في عدد الرسالة 576 (وقد أثبت صاحب كشف الظنون نحو سبعين تاريخاً للمدن)
أقول: وقد سرد العلامة السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) زهاء 330 (ثلاثين وثلاثمائة) تأريخ للمدن، منها أكثر من 40 في مكة، وأكثر من 20 لمصر، ومثلها أو قريب منها لليمن، وعشرة ونيف لدمشق، ونحوها لكل من بغداد والأندلس والمدينة النبوية، ولو قيس رقي الأمم بوفرة المصنفات ما قارب الأمة المحمدية أمة.
أحمد صفوان(584/39)
العدد 585 - بتاريخ: 18 - 09 - 1944(/)
الحروف اللاتينية
للأستاذ عباس محمود العقاد
علم القراء أن صاحب المعالي الأستاذ العلامة عبد العزيز فهمي باشا قد اقترح على مجمع فؤاد الأول للغة العربية اقتباس الحروف اللاتينية وبعض الحروف المشابهة لها لتيسير الكتابة العربية
وقد خالفه كثيرون، وعاود معاليه الكرة للرد على هؤلاء المخالفين، ومنهم كاتب هذه السطور
وكنت قد خالفت رأي معاليه لأن اقتراحه يترك الصعوبة الأصلية قائمة ويعني بالصعوبة المتفرعة عليها، وهي تابعة لها باقية ببقائها
فلا صعوبة عندنا في كتابة حرف من الحروف مضموماً كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا عرفنا أنه مضموم أو مفتوح أو مكسور، ولا صعوبة كذلك في قراءته مع هذه المعرفة سواء أكان مشكولاً أم غير مشكول
إنما الصعوبة الأصلية أن نعرف ما يضم وما يفتح وما يكسر، ثم نكتبه ونقرأه على صواب
وترجع هذه الصعوبة إلى خواص في بنية اللغة العربية لا وجود لها في اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية، غربية كانت أو شرقية
ومن هذه الخواص الفعل الثلاثي واختلاف أبوابه وارتباط ذلك بالمصادر والمشتقات، ولا وجود لهذا الفعل الثلاثي في غير اللغات السامية، وعلى رأسها لغتنا العربية
ومنها الإعراب، وهو على وجود القليل منه في لغات نادرة، قد اختصت اللغة العربية بأحكام مستفيضة فيه، لا نظير لها في جميع اللغات
ومنها أن حروف الحركة في بعض اللغات الشرقية التي تكتب الآن بالحروف اللاتينية قلما تفيد معنى من المعاني غير إشباع الحركة أو خطفها والإسراع فيها، ولكنها في اللغة العربية تبدل معنى الكلمة أو تبدل قوة المعنى
فقراءة العربية قراءة مضبوطة لا تتأتى بغير تصحيح العلم بهذه القواعد قبل كتابتها وقراءتها، وسبيل ذلك أن نختصر القواعد النحوية والصرفية حتى يحيط أوساط الناس بالقدر الكافي منها لمقاربة الصواب جهد المستطاع(585/1)
ونقول مقاربة الصواب لأن العصمة من الخطأ لن تتيسر في اللغة العربية ولا في غيرها من اللغات، ولن تتيسر أبدأً في عمل يتناوله جميع من خاصة وعامة
أما الكتابة بالحروف اللاتينية فإن صح أنها تضمن للقارئ أن يقرأ ما أمامه على صورة واحدة فهي لا تمنع الكتاب المختلفين أن يكتبوا الكلمة على صور مختلفة كلها خطأ وخروج على القواعد اللغوية، ومن هنا يشيع التبلبل في الألسنة ويتقرر الخطأ بتسجيله في الكتابة والطباعة بدلاً من تركه محتملاً للقراءة على الوجه الصحيح. ولا شك أن الخطأ في النطق أهون ضرراً من الخطأ المكتوب أو المطبوع، لأن كتابة الخطأ تبقى خطأ النطق وتزيد عليه أنها تسجله وتضلل من عسى أن يهتدي إلى الصواب
فقصارى ما نغنمه بهذا التبديل، أننا ننقل التبعة من القارئ إلى الكاتب ولا نمنع الخطأ ولا نضمن الصحة، وهي فائدة لا يبلغ من شأنها أن تبدل معالم اللغة وتفصل ما بين قديمها وحديثها
وكان من أسباب مخالفتي لاقتراح الأستاذ العلامة - وهي كثيرة - أن طريقته ليست بأيسر من طريقتنا التي نجري عليها الآن في كتابة الكلمات العربية مضبوطة بعلامات الشكل المصطلح عليها، في موضع الحاجة إليها
لأن الطريقة اللاتينية المضاف إليها بعض الحروف العربية تعفينا من علامات الشكل، ولكنها تضطرنا إلى زيادة الحروف حتى تبلغ ضعفها أو أكثر من ضعفها في كلمات كثيرة، وتوجب هذه الكلفة على العارفين وهم غنيون عنها.
ثم هي لا تغنينا بتة عن النقط والشكل، لأنها تعود بنا إلى النقط في حروف، وإلى ما يشبه الشكل في بعض الحروف لتمييز الألف والثاء والذال والشين
على أن الأمم الأصيلة في الكتابة اللاتينية لا تستغني بالرسم عن ضبط السماع
فاللغة الإنجليزية التي أستطيع الإتيان بالشواهد منها حافلة بالكلمات التي يختلف نطقها ورسمها، والتي تنطق على وجه وتكتب على وجوه، كما أنها حافلة بالشواذ في صيغة الماضي والمفعول ومشتقات أخرى
ومن أمثلة الصعوبات في الرسم أنهم ينطقون هذه الكلمات نطقاً واحداً وهي مختلفة في الكتابة والمعنى والاشتقاق، وهي وأنهم يكتبون حروف الحركة أحياناً على نمط واحد(585/2)
ويخالفون بين النطق بها في درجة المد وفي مخارج الصوت، كما يفعلون على سبيل التمثيل في أو في أو في أو في
ومن حروف الإنجليزية ما يكتب ولا ينطق به مثل الباء في والكاف في ومنها ما يهمل حيناً وينطق حيناً بخلاف حرفه مثل
إلى غير ذلك مما تدل عليه هذه الأمثلة ولا تحصيه، ويكفي أن نرجع إلى المعجمات التي وضعت لأهل اللغة أنفسهم لنعلم أنهم لا يستغنون عن اتباع كل كلمة بما يضبط نطقها ودرجة امتداد الحركات فيها وموقع النبرة في مقاطعها
وقد رأينا أن نكتفي في مناقشة اقتراح اللاتينية بالأقوى والأظهر من الأسباب دون أن نذهب فيها إلى الاستقصاء والاستيعاب، وإلا فالأسباب التي تحول دون رسم العربية بالحروف اللاتينية أكثر من هذا الذي أجملناه بكثير
وتناول معالي المقترح اعتراضنا فقال بعد تلخيصه: (إنه على كل حال اعتراف خارج عن الموضوع. وما أشبهنا، إزاءه، بالباحثين عن طرفي الحلقة المفرغة تقوم الساعة علينا قبل أن نهتدي إلى المطلوب! إن مسألة البحث في أصول اللغة وتيسير قواعد نحوها وصرفها تلك التي يقول المعترضون إنها هي العلاج الشافي لأدواء العربية هي مسألة أخرى قائمة بذاتها، وهي مطروحة فعلاً على المجمع اللغوي يردد مداخلها ومخارجها، ويحاول ما وسعت قدرته تمهيد ما يقبل منها التمهيد)
ثم قال معاليه إن لائحة المجمع تجب اعتراضنا، ورد معاليه عليه لأن: (نصها صريح في أن عليه البحث في تيسير رسم الكتابة العربية، ووزير المعارف عهد إليه بهذه المهمة بقرار منه خاص، وهو مكلف نظامياً بتنفيذ قرارات الوزير)
وعندنا أن رد معاليه على هذا الاعتراض هو أشبه شيء بالدفوع القضائية منه بالدفوع المنطقية
فالحق أن تيسير القواعد اللغوية مسألة غير مسألة الرسم وكتابة الحروف، ولكن اختلافهما لا يمنع العلاقة الوثيقة بينهما ولا يخرجهما عن حكم القضيتين اللتين لا تنظر إحداهما بمعزل عن الأخرى
وكذلك على المجمع بموجب تكوينه أن يبحث في تيسير رسم الكتابة كما عهد إليه(585/3)
ولكن هذا الوجوب لن يوجب عليه أن يرحب بكل تغيير أو يدين بأن التغيير أسهل من الطريقة التي نحن عليها الآن
فتيسير الرسم العربي واجب لا شك فيه، ورفض الرسم اللاتيني كذلك واجب لا شك فيه للأسباب التي قدمناها، وأولها أنه يبدل معالمنا دون أن يخرجنا من تلك الصعوبة التي تدعونا إلى التبديل
وقد نظر المجمع في عشرات من المقترحات التي تقدم بها أعضاؤه أو تلقاها من الفضلاء المجتهدين في حل هذه المعضلة العسيرة
فإذا قال قائل إن الرسم الحاضر أيسر من جميع هذه المقترحات، لأنه في الواقع أيسر منها. فاللائحة لا تفرض عليه أن يخالف الحقيقة ويقول: بل هي جميعاً أيسر من الرسم الذي نجري عليه.
ولكل لغة صعوباتها التي لا يتساوى الناس في تذليلها ولو زالت صعوبات الرسم والكتابة جمعاء
فلا بد من فارق في اللغة بين المتعلم وغير المتعلم وبين الموهوب وغير الموهوب وبين صاحب السليقة والدخيل عليها
وليست لغتنا العربية بدعاً بين اللغات في هذه الخاصة العامة. . . فمهما نصنع في تيسير رسمها أو قواعدها فلن نسوي بين الناس في كتابتها وقراءتها، ولن نغني الكاتب أو القارئ عن المزيد من الاستيفاء كلما ارتفع درجة أو درجات في مراتب الفهم والشعور والتعبير
ولهذا ينبغي أن نسير كتابتها بتيسير معرفتها وتيسير فهمها مع التسليم طوعاً أو كرهاً بأن هذا التيسير لن يدفع كل عسر، ولن يزيل كل لبس، ولن يعصم من الخطأ كل العصمة، ولن يزال الباب بعده مفتوحا للتفاوت بين قدرة الناس على الصواب واستعدادهم للخطأ من جهل أو سهو أو قصور
وإذا قيل أي العلاجين أدنى إلى تيسير الكتابة؛ فلا شك أن العلم التقريبي بالقواعد التي تقيم النطق خير من الرسم الذي يقرأ على صورة واحدة مع بقاء صور متعددة للكلمة تختلف باختلاف حظوظ الكتاب من القواعد الصرف والنحو والإملاء والهجاء، وهذا إن صح أن الحروف اللاتينية تضمن القراءة على صورة واحدة وهو غير صحيح، لأن جرس(585/4)
الحروف اللاتينية يخالف جرس الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أثناء نطقها، وهو شيء صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء
وأسلم ما يقال في هذا الباب إن الطريقة القائمة لا تزال أسهل وأقرب إلى بنية اللغة من كل مقترح علمنا به، ولا مانع من جديد يستدرك ما عز استدراكه إلى الآن.
عباس محمود العقاد(585/5)
حرية الفكر أيضاً. . .
للأستاذ دريني خشبة
ينصب بعض السادة الكتاب من أنفسهم أبطالا للدفاع عن حرية الفكر، ويعد بعضهم أنفسهم شهداء لهذه الحرية المكبوتة في زعمهم، المضيّق عليها تضييقاً يذهب صديقنا الدكتور زكي مبارك إلى أنه لم يسبق أن حدث مثله في الأمم الإسلامية قط
وندع الآن ما ذهب إليه الصديق الكريم من هذه الدعوى، لنلفت أنظار القراء إلى شيء ظريف جداً يصدر عن أولئك الأبطال الكرام، عن قصد ظريف جداً كذلك
وليس هذا الشيء الظريف الذي نلفت إليه أنظار القراء الآن شيئاً ظريفاً واحداً، ولكنه أشياء ظريفة يأخذ بعضها برقاب بعض. فتكون آخر الأمر موضوع هذا الشيء الظريف
عندما تناولنا موضوع كتاب الأستاذ الرصافي، وقفنا منه إزاء كتاب يتناول ديننا كله، ومعتقداتنا جميعها، فيتأولها تأويلا لا يجوز إلا في عقل مدخول. . . فإلهنا - في زعمه - هو هذا العالم الذي تعرف من العلم الحديث كيف نشأ. . . ونبينا، هو أول مبتدع لهذا الهراء، كما إنه مؤلف القرآن وقائله. ونظرية وحدة الوجود تلك التي ابتدعها محمد هي أرقى ما وصلت إليه الفلسفة الإسلامية، والإيمان بها ينافي الإيمان بما جاء به الرسول الكريم من خلق الله لهذا العالم، والدعوة إلى عبادته ودعائه والإخبات له، وما قال به من نشور وحساب وثواب وعقاب وجنة ونار. . . ثم تساوى الخير والشر والضلال والهدى والتقى والفسوق والأبيض والأسود. . . والسجود بين يدي الله والإكباب على الحليلة. . . أمام الله كما يزعم الرصافي في رده علينا. . . استناداً إلى زعم الجنيد، أنه سبحانه، هو الهادي وهو المضل، وما دام الله كذلك فلا يكون ثمة معنى للحساب والثواب والعقاب والجنة والنار على نحو ما يؤمن بذلك المسلمون كافة. . . ذلك الإيمان الساذج الفطري الذي لا يسيغه عقل. . . لأن العقل لا يسيغ أنباء الغيب ولا يهضمها. . .
ولما كان الرصافي - هداه الله - ينتمي إلى المسلمين، وقد لغا هذا اللغو الذي كان يلغو به من قديم، فقد وقفنا منه وقفتنا التي يحتمها علينا ديننا، لأن دعواه تقلب هذا الدين بجميع عقائده رأساً على عقب. . . وما ظنك بدعوى تنسخ العبادات نسخاً لا يجعل لها ضرورة، لأنها لن تغير مما قضى الله من شيء، ثم ما ظنك بدعوى تجعل الله مأكولا مشروباً(585/6)
منظوراً مشموماً تدركه الحواس كلها. . . لأنه الوجود كله. . . ثم الرصافي يزعم أن هذا هو حقيقة الإسلام، أما ما يؤمن به السذج البسطاء أمثالنا، فهو ظاهر الإسلام، أورده الرسول الكريم على سبيل التمثيل، ومن باب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ثم أخفى عليهم تلك الحقيقة الخائبة فلم يطلع عليها إلا أبا بكر، حتى جاء فلاسفة الإسلام الأعلام - الحلاج والجنيد وابن عربي والجيلاني والتلسماني وابن سبعين ومن لف لفهم، فوقعوا عليها وكشفوا سرها وجلوها للعالمين
فلما نفينا أن يكون هذا إسلاماً، وإسلاماً جاء به فخر الكائنات محمد بن عبد الله، وأثبتنا للأستاذ الرصافي أن اليونانيين عرفوا وحدة الوجود قبل نبينا بألف سنة أو نحوها أو أكثر منها - وإن زعم هو أننا لم نأت بجديد - تفضل بعض مفكرينا المحبوبين من غير المسلمين بالاشتراك في هذا الموضوع، على أنه موضوع عام يحل لكل إنسان أن يشارك فيه برأي. . . ولم يبالوا في سياق كلامهم أن يعلنوا على صفحات الرسالة أنهم لا يؤمنون إلا بالمادة. . . أما ما وراء الطبيعة فلا شأن لهم به. . . فرحبنا بمشاركتهم، ولما آنسنا أنهم لم يفطنوا إلى أن الموضوع يبحث من وجهة نظر إسلامية خالصة، نبهناهم إلى ذلك بأرق عبارات الذوق الذي دعا إليه الأنبياء يا صديقي الدكتور زكي. . . لكنهم كتبوا ما لمحنا في ثناياه أنهم غاضبون أو شبه غاضبين، فلم يشق علينا أن نعلن لهم أسفنا، ولم نناقش الآراء التي أعلنوها لحرصنا على أن يظل الموضوع محصوراً في أفقه الإسلامي، ولأننا كما أعلنا غير مرة، غير قوامين على حرية الفكر في مصر ولا في غيرها من بلاد الله. . . فليعتقد من يشاء ما يشاء، بشرط ألا يجعل عقيدته دعوة يدعو إليها ويجهر في كتب ينشرها بأنها هي الحق، وأن ما نؤمن به هو الباطل. . . وبشرط ألا يفتري على الله وعلى رسوله إفكاً ينزههما المسلمون عنه. . . فإن فعل ذلك، وكان من انتسابه إلى المسلمين ما نعلم، فماذا ينكر منا أفاضل العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمادة حين نقول لهذا القائل إنه ملحد، وإنه زنديق؟! وقد قال هو إن إلهنا هو هذا الوجود المأكول المشروب المنظور المشموم الذي تدركه الحواس كلها، وإن نبينا هو هذا الرجل الذي ألف القرآن. وزعم - غير قاصد شراً! - أن الله هو قائله وموحيه، لأنه كان أول من عرف سر وحدة الوجود؟! فإن لم نسم هذا الرجل ملحداً زنديقاً. . . فماذا يكون يا ترى؟ أيكون سيد العارفين بالله الذي نؤمن به؟(585/7)
وهل من حرية الفكر أن يقول ذلك رجل ينتسب إلى المسلمين، فإن رد عليه رجل من المسلمين وسمي قوله هذا إلحاداً وزندقة، صاح حضرات الأفاضل العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة، وينكرون ما وراءها: لقد خنقت حرية الفكر في مصر وفي الشرق، ثم هتفوا بالعلماء الأحرار في مصر وفي الشرق أن يُقْنُوا وأن يرعووا، وألا يصرحوا بالحق الذي يؤمنون به في هذه البيئة المؤمنة الساذجة المتزمتة، حتى لا يرموا بالإلحاد والزندقة!
هنا واحد من هذه الأشياء الظريفة التي وددت أن ألفت إليها أنظار القراء!
فهؤلاء العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة يريدون أن يثبتوا في أذهانكم يا قراءنا العوام السذج المؤمنين أمثالنا أنهم على حق فيما يذهبون إليه بشأن هذا الوجود، وأننا على باطل. . . لأن الوجود قديم، ولم يخلقه إله قادر مستقل عنه كما يفهم بسطاء المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل كل ملة ممن ليسوا علماء أعلاماً أمثالهم، لأنهم لم يدرسوا فلكاً ولا منطقاً ولا علم طبقات الأرض ولا فيزيقا ولا كيمياء ولا فلسفة، ولا هذا الثبت الطويل من العلوم التي أعشى في دراستها علماء المسلمين الأعلام أبصارهم، ولم تضل مع ذاك بصائرهم
بهذه الطريقة يريد هؤلاء العلماء أن يثبتوا في أذهانكم أنهم على حق، لأنهم ينطقون بلسان العلم الذي لا يضل، أما مناظروهم فينطقون بلسان هذا الحشد الحاشد من الأساطير الدينية، التي هي من أنباء الغيب، فليس لعقل رأي فيها!
أليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً يلفت أنظار القراء إليه؟!
ومما يلحق بهذا الشيء الظريف تصريحهم، ليوهموا القراء كذلك، أننا نظلم الحق، حينما نقحم الدين في الفلسفة. . .
وليفطن قراؤنا العوام السذج إلى المعنى المسموم الذي تحمله هذه العبارة! الحق يظلم إذا أقحم الدين في الفلسفة، لأن الفلسفة وحدها هي التي تعرف الحق وتعرف كيف تصل إليه! أما الدين فلا شأن له بالحق. . . لأن العقل لا يستطيع أن يعلله! ولماذا هذا اللف كله؟ لأن الدين يقول بأن الله هو الذي خلق العالم. . . وهذا قول لسهل هيّن ليّن. . . لم تحسن الفلسفة أن تقول مثله إلى اليوم! لكن الفلسفة مع عجزها أن تقول مثل هذا القول، تزعم أنه قول غير معقول، والمعقول عندها أن يكون العالم قديماً لا خالق له، أو أن يكون الله هو(585/8)
هذا العالم. . . أو الوجود الكلي المطلق! وتحار الفلسفة بعد ذلك كيف يكون هذا العالم إلهاً. وكيف يكون هذا العالم بعجزه وبجره عاقلاً إن كان عاقلاً يا ترى؟! وكيف تم له هذا الإحكام البديع في كل شيء؟ في الأفلاك والسدم والضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيس والغازات. والحياة المعقدة في الحيوان والنبات، وفي الحركة، وفي السكون. والمعقول عند الفلسفة أن يكون كل شيء خاضعاً لقوانين الجبر الصارمة، وإذا كان ذلك كذلك فما معنى أن يرسل الله - الذي هو الوجود الكلي المطلق - رسلاً ويتخذ أنبياء؟ هل تستطيع الرسل تبديل شيء أو تغييره؟ إن أمر الرسل إذن عبث في عبث. والرسل - أضل الله الفلسفة - كذابون أدعياء، أو على الأقل، رجال مخدوعون شُبّه لهم أنهم ينطقون بلسان الله، الذي هو الوجود المطلق الكلي!
هذا هو بعض الهذيان الذي تريد الفلسفة أن تدسه في روع المؤمنين من القراء البسطاء الذين يؤمنون بأن الله خلقهم، فتحاول الفلسفة إيهامهم أن العلم لا يسيغ هذا ولا يهضمه، وإن كان يسيغ الشكوك والوساوس ويهضمها!
أفليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً بلفت أنظار القراء إليه؟!
وشيء ظريف آخر يُستملح (!) لفت الأنظار إليه. . . ذلك أن هؤلاء العلماء الأعلام يلحون على أذهان القراء بتذكيرها دائماً أنهم علماء. فهل يقصدون من وراء ذلك شيئاً، غير أن مناظريهم في موضوع وحدة الوجود هم من الأميين الذين يُحكّمون في موضوع هام كهذا عواطفهم، ولا يحكمون عقولهم، إن كانت لهم عقول! وأن هؤلاء المناظرين قوم متدينون والتدين في هذا العصر شيء عتيق يثير الضحك ويدعو إلى السخرية. وأهل التدين في غالب أمرهم قوم شذاذ الإفهام لم يدرسوا فلسفة ولم ينشدوا علماً. فكيف يا أيها القراء النجب تنخدعون بأقوالهم وتنساقون إلى الأخذ بآرائهم؟ إن خليقاً بكم ألا تصيخوا إلى كاتب يحسب نفسه واعظاً في مسجد أو راعياً في كنيسة، ولا أقصد أن أغمز صديقي الدكتور زكي بإبراد عبارته تلك. . .
أفليس ذلك شيئاً ظريفاً من مناظرينا الأفاضل، أن يقفونا تلقاءهم ذلك الموقف المضحك الذي لن يجوز باطله على أحد!
يتحدثون عن حرية الفكر. فماذا أصابهم من ضروب التضييق يا ترى؟!(585/9)
لينتظروا. فسنحدثهم عن حرية الفكر وما لقي إخوانهم الذين سبقوهم إلى القول بوحدة الوجود من ضروب الهوان
ما أكثر الأشياء الظريفة التي كان ينبغي أن نلفت إليها أنظار القراء لولا ضيق المقام!
(للحديث بقية)
دريني خشبة(585/10)
على هامش النقد
1 - في عالم القصة
بنت الشيطان. . . . . . محمود تيمور
للأستاذ سيد قطب
ليست هذه هي المرة الأولى التي أهم فيها بالكتابة عن (تيمور) ثم أوثر التريث، لأراجعه مرة أخرى
إنه ليصعب عليك - وأنت تتحدث عن القصة - أن تغفل عمل تيمور. ولكن يصعب عليك أيضاً أن نقررمكانه، وأنت مستريح الضمير
رجل كالمويلحي - صاحب حديث عيسى بن هشام - لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (القنطرة) التي تعبر عليها القصة العربية من المقامة اللغوية، إلى القصة الفنية
ورجل كتوفيق الحكيم، لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (الفنان)، الذي يجعل القصة والرواية، فصلاً من فصول الأدب العربي، يقف في صف واحد مع بقية فصوله، التي كانت من قبل مقررة، والتي لم يكن الأدب العربي يعترف بغيرها من الفصول. يتفق الجميع على هذا من ناحية المبدأ، ثم يختلفون في تقويم عمله بعد ذلك كما يشاءون
وقد لا يكون الإنسان - في عالم القصة - قنطرة كالمويلحي، ولا مقرراً لفصل جديد في كتاب الأدب العربي كتوفيق الحكيم؛ ثم يكون له بعد ذلك مكانه المعلوم
فالمازني مثلاً قد اشتغل بالقصة الطويلة كإبراهيم الأول وإبراهيم الثاني، وثلاثة رجال وامرأة، وعود على بدء، وبالقصة القصيرة كقصصه الكثيرة في خيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا وسواهما. ومكانه في هذه القصص وفي سواهما هو مكان (الأديب) الذي يستفيد مما يقرأ أعظم الفائدة، ويتأثر به فيما يكتب كل التأثر. ولكنه يطبع الجميع بطابع خاص متميز
والمازني - بهذه الصفة - يمكن أن يعد قنطرة لنوع من القصة (الواقعية الشاعرية!) قنطرة لأصحاب المواهب الخالقة، يتأثرون طريقته الجيدة، ويبدعون من ذات أنفسهم بلا اعتماد على أصل يلهمهم(585/11)
وهناك شبان يحاولون، لم يتقرر لهم بعد مكان، فبينهم وبين تقرير مذاهبهم في عالم القصة خطوات وتجارب وتعديلات
من كتاب القصة القصيرة الأستاذ (يوسف جوهر) - وهو ينسج على منوال جي دي موباسان - في حرارته وشاعريته، ولكن (جسم القصة) عنده ما يزال بعد ضئيلاً، وما يزال مكرراً، وكثيراً ما يحس القارئ بعد نهاية القصة أن حرارتها البراقة قد خدعته، وأنه لم يخرج منها بشيء كبير، لا من ناحية الموضوع، ولا من ناحية اللمسات الفنية في العرض، ولا من ناحية الرصيد الإنساني الذي هو أثمن ما في العمل الفني
ومنهم الأستاذ (صلاح ذهني) - وهو لا يزال يقبس من طرائق مختلفة، وله توفيقاته في أحيان كثيرة. ولكن ينقصه التركز، كما ينقصه روح الإبداع الذي يرفع القصة من الحادثة اليومية إلى المجال الإنساني. وقصصه في حاجة كذلك إلى الحرارة التي تشعرنا أنه يحس بما يكتب، وليس متفرجاً عابراً يصف الحوادث
ومن كتاب القصة الطويلة الأستاذ (باكثير) وقصصه - لها طلاوتها والحياة واضحة فيها - ولكن لا يزال ينقصها تمكن الروح القصصية، التي تنسي القارئ أن هذه قصة وتخيِّل له أنها قطعة من الحياة تقع الآن. وليس مرد هذا إلى نقص الحياة، ولكن إلى نقص الروح القصصية، فهو ما يفتأ بين حين وحين ينبه القارئ إلى أنه يقص عليه، ولا يدعه يستغرق في القصة وينساه!
ومنهم الأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ عادل كامل، وكلاهما يخطو الخطوات الأولى؛ ولكنها - فيما يبدو - خطوات ثابتة وثيقة. تكفي لإثبات وجودهما في عالم القصة، وإن لم تثبت لهما بعد مذهباً مقرراً ينسج غيرهما على منواله؛ إلا أن هذا لا ينفي أنهما في الطليعة - على تفاوت بينهما - في طليعة كتاب القصة الشبان بلا جدال
وهكذا نجد لكل من يشتغل بالقصة في مصر مكانه المعلوم في هذا العالم. فأين نضع (تيمور) بين هؤلاء؟
لا هو القنطرة بين طور من أطوار القصة وطور كالمويلحي، ولا هو القنطرة بين التأثر والابتداع - مع وضوح الذاتية الشخصية والطابع المميز - كالمازني. ولا هو الناشئ الذي لم يزل أمامه المجال منفسحاً للتمكن والكمال(585/12)
وهذا كله من ناحية الشكل. فأما من ناحية المذهب والطريقة، فالحيرة كذلك واقعة
رجل كالمويلحي قصاص واقعي بالمعنى الضيق للواقعية. وهو مع ذلك قد استطاع أن يرسم عدة شخصيات إنسانية للعصر الذي كتب فيه القصة؛ وأن يصور البيئة التي عاشت فيها هذه الشخصيات المحلية: الباشا، والعمدة، والمحامي، والنائب، والمشايخ، وغيرهم من الشخصيات التي رسمها في حديث عيسى ابن هشام. وهم آدميون لا تشك في آدميتهم، وواقعيون - بالمعنى الضيق - لا ترتاب في واقعيتهم؛ مع شيء من السخرية والدعابة، تحسبان لهذا القصاص في عالم الفنون
ورجل كتوفيق الحكيم، قد تقرر مذهبه - إلى اليوم على الأقل - فهو في التمثيلية (الفنان) الخالق الذي يبدع شخوصه من (ذهنه) ليؤدوا له فكرة فلسفية خاصة. وهم - على هذا الوضع - أشخاص صحاح منطقيون مع طبيعتهم، مستقيمون من أول التمثيلية إلى آخرها مع الفكرة التي خلقوا ليؤدوها. كما في أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون، وسليمان الحكيم. أما في القصة فهو ينحرف عن هذا المذهب إلى شيء من (الواقعية) الممزوجة بالشاعرية، حتى لتقرب من الرومانتيكية في بعض الأحيان. كما في عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وزهرة العمر - وإن ظلت هذه الواقعية موسومة بميسم (الفكر) لأن هذه هي السمة الغالبة على طبيعته - ولكن قصصه ورواياته تستمد دائماً من (التنسيق الفني) والإشعاع الشاعري، ما تعوض به الحياة الحقيقية. وما يتيح لها أن تنشئ مدرسة معروفة السمات
ورجل كالمازني يمثل (الأديب) الذي يفيض على شخوص قصصه حركة حية سريعة، في حماسة شاعرية قوية، كما في إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني قصتيه الأساسيتين، أو يفيض عليها الحركة في دعابة ساخرة كما في القصص القصيرة
ومهما قيل من تأثر المازني لبعض كتاب القصة الغربيين، واقتباسه من طرائقهم وموضوعاتهم كذلك. فالذي يبقى له بعد هذا كله ليس بالقليل. إنه يتأثر ويقتبس في اتجاه واحد، وبطريقة واحدة، يبدو فيها طابع خاص، هو دليل الشخصية الفنية. . .
وقد لا يكون المازني خالقاً ولا مبتدعاً لموضوعاته وطرائقه، ولكن هذا لا ينفي أن له طابعه الشخصي في كل ما يكتبه. هذا الطابع هو الحركة السريعة، والانتباه إلى دقائق(585/13)
الانفعالات النفسية، وإبراز الاستجابات التي يمر عليها الكثيرون غافلين. مع تأثره بكشوف علم النفس الحديث ولا سيما في مجال (التحليل النفسي) هذا التأثر الذي قد يطغي على العمل الفني في بعض الأحيان، كما في (ثلاثة رجال وامرأة)
فما مذهب تيمور تجاه هذه المذاهب أو سواها في القصة؟
يعسر عليك أن تسلكه في الواقعية الضيقة التي يمثلها عيسى ابن هشام. إذ أن فيه قسطاً من الشاعرية والتلوين الفني. ويعسر عليك أن تسلكه في (الواقعية الشاعرية!) التي يمثلها المازني، لأن الحركة في فنه وئيدة، والألوان النفسية باهتة، والشخصية الإنسانية لا تتصرف تصرف الأحياء. ويعسر عليك أن تسلكه في (الفنية الرمزية) التي يمثلها توفيق الحكيم لأن الفكرة الفلسفية والمعاني الرمزية لا تبرزان في أعماله
فتيمور لا هو الذي يرسم شخصيات محلية كالمويلحي، ولا هو الذي يصور نفوساً آدمية كالمازني، ولا هو الذي يخلق شخوصاً فنية كتوفيق الحكيم. ولا هو مع ذلك كله القصصي الناشئ الذي تستطيع أن تدعه إلى التركز والنضوج!
وقد كتب بعضهم يقول: إنه يلتفت إلى (العقل الباطن) في سيرة أبطاله وتصرفاتهم ويستخدم كشوف (التحليل النفسي) كما في قنابل وأبو شوشة والموكب
وكتب بعضهم يقول: إنه يرسم (نماذج بشرية) كما في نداء المجهول وسهاد
وهذا وذلك حق من حيث هو نية وقصد. ولكن ما أثره في العمل الفني. إن قيمة القصة لا تقوم على أساس أن القصاص ينتفع بالمباحث العلمية. فهذا قد يفسدها في بعض الأحيان. ولا على أساس أنه يحاول رسم (نماذج بشرية) فالمهم هو صدق هذه النماذج وحيويتها
وتيمور وفق في بعض الأحيان في هذا الغرض أو ذاك، ولكن هذا التوفيق لم يكن في تلك المواضع التي عينوها
فمن أظهر الالتفاتات إلى (العقل الباطن) السليمة من التكلف والاصطناع والتي لم تؤثر على التنسيق الفني للقصة، التفاتاته في: (زمان الهنا) و (وغانية الحانة) و (انقلاب) في مجموعة (فرعون الصغير). ومن أظهر النماذج البشرية: السائحة الأمريكية في قصة (فرعون الصغير) و (رجل رهيب) في هذه المجموعة أيضاً. ومن الغريب أن تكون هذه المجموعة قد صدرت سنة 1939. بينما المجموعة الأخرى: (بنت الشيطان) وقد صدرت(585/14)
سنة 1944 تتخلف عنها كثيراً في مميزاتها الفنية
ولكن أي تحليل نفسي. وأية نماذج بشرية؟
لطالما خيل إليّ وأنا أجول بين شخوص تيمور أنني في (متحف الشمع) فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل: فلا هي التماثيل الفنية يتصرف فيها الفن كما يشاء ليؤدي فكرة فنية أو ليمثل لمحة نفسية. ولا هي الأجسام الحية التي تجري فيها دماء الحياة، فتتصرف تصرف الأحياء. إنها محاكاة للطبيعة وفيها قسط من الفن في الدقة والتلوين، ولكنها ليست بعد من الأحياء!
وكثيراً ما يعجزك وأنت تتأمل شخوص تيمور وتصرفاتهم وطريقة حديثهم أن تردهم إلى أي جنس من أجناس الآدميين في أي زمان أو مكان. وقد يسير بعضهم في مبدأ الأمر سيرة طبيعية حتى لتكاد تقول: هذا مخلوق حي. ولكن ما تلبث أن يخلف أملك بحركة تكشف لك أن ما أمامك إنما هو تمثال من الشمع، يحركه المؤلف حركة خاصة، لأن توهم - من التحليل النفسي - أن الناس يتحركون هكذا في هذا المجال
ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية - وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فناً إنسانياً وقومياً رفيعاً - ولكنه فيما يخيّل إليّ بعيد كل البعد عن الناس وعن البيئة. فالناس - حيث كانوا - لا يتصرفون هذه التصرفات. والناس في مصر، ليسوا كما يتوهمهم المؤلف، لا في طبيعتهم، ولا في أحاديثهم، ولا في خلجاتهم النفسية، ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم
إنه لا يخطر لهذه الشخوص مرة واحدة أن تنفعل انفعالاً قوياً، كما يقع للآدميين - وحين تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة - وهي غالباً (سهتانة) كما يقول العوّام، حتى في فورات الحب ودفعات الانتقام. والحركة العنيفة ليست مطلباً فنياً في ذاته، ولكنها علامة من علامات الحياة تصدر من البنية الحية في ميعادها، فتدل على الحياة الكامنة فيها
و (بنت الشيطان) مجموعة قصص تبدأ بأسطورة تحمل هذا العنوان. وتحوي غيرها سبع قصص أخرى وتلمح في هذه الأسطورة محاولة فلسفية لإبراز فكرة خاصة، على نحو ما يصنع توفيق الحكيم. ولكن المدى متطاول. إن الحركة القومية السريعة، والبراعة الفنية اللبقة كلتاهما خاصتان من خواص العمل الفني عند توفيق، وكلتاهما تتوارى في هذه(585/15)
المحاولة، فتظل باهتة اللون، وانية الحركة، حتى تنتهي الأقصوصة وفي نفسك منها ظلال خفيفة تنمحي بعد قليل
(بنت الشيطان) طفلة آدمية، اختطفها زعيم الشياطين، لينفذ وصية سلفه العظيم، في أن يصنع شيئاً، يثبت به أن الشيطان قادر على القيام بشيء آخر غير الشر الذي اشتهر به! فهو يحاول أن ينشئها بعيدة عن الشر والألم في قصر مسحور
ولكن أميراً شاباً مغامراً يسمع بخبرها، فيحاول وينجح في الاتصال بها واختطافها ويفتح عينيها على مباهج الحياة الدنيا ويوقظ فيها غرائزها - بعد أن كانت نائمة - فإذا ردها إلى القصر. اشتاقت أن تعود إلى دنيا الشرور الإنسانية، مؤثرة إياها مع ذلك العالم الخير الخالي من الألم والشرور
والفكرة - كما ترى - جيدة وبراقة. ولو تولاها قلم كقلم توفيق الحكيم، لأخرج منها قطعة فنية منسقة. ولو تولاها المازني لأخرج منها قطعة فكاهية ساخرة
ولكنك تقرؤها هنا فتعجبك الفكرة ثم تنقصك الحرارة كما ينقصك التنسيق الذي يقرر الحركة المناسبة في موعدها المناسب، وهناك مواقف بين الشاب والفتاة تتوقع فيها حركة ويرتفع نبضك في انتظارها، ولكنها تمر كما لو كانت في سنة أو لو كنت متفرجاً بغير حماس!
وفي المجموعة سبع قصص أخرى من النوع (الواقعي) خير ما فيها قصة (الترام رقم 2)، وقصة: (الجنتلمان) (وفي الأولى يصور فتاة مشردة تركب الترام بلا أجر؛ فيضيق بها (التذكري) مرة بعد مرة، حتى يزيد ضيقه بها فيدفعها فتسقط، ويكاد يقتلها الترام لولا من يأخذ بيدها في الطريق. وهنا يسمع منها التذكري أنها لم تذق الطعام منذ أمس، بينما ينطلق الترام
منذ ذلك الحين يدب في نفسه عطف على الفتاة، ولكنا نتبين بعد قليل أن هذا العطف ليس خالصاً. لقد تنبهت الغريزة إن هذا التذكري يعيش أعزب منذ أن ماتت زوجه، وتقوم بشئونه خادمة عجوز. فهو منذ اليوم ضيق الصدر بهذه الحياة، وهو مشتاق لأن يعثر على الفتاة. وحين يعثر عليها بعد أيام لا يدفعها من الترام، بل يدس في يدها تذكرة عند صعود المفتش، وحين يقف الترام يشتري لها رغيفاً محشواً بالأدم، ويسألها عن حياتها أسئلة(585/16)
متقطعة
حتى إذا كان الشوط الأخير نزل يقصد داره، وقدمان تتبعانه. . . إلى الدار! لقد أحست الأنثى بغريزتها ما الذي يعطفه عليها، فسارت على خطاه!
وفي الثانية يرى في مطعم اعتاد أن يرتاده. دمية تمثل (الجنتلمان) يمسك بيده قائمة الطعام، فيتخيل هذا الجنتلمان حياً، ويقابله بالتضايق منه والتبرم به، لما في وقفته من تكلف وما في (نفسه!) من تصنع، فيهجر المطعم من أجله. وأخيراً يفلس المطعم ويباع ليهودي في شارع (جامع البنات) ويمر به، فيراه هناك ذليلاً ممسكا بيده عينة البطاقات. فيستريح لذلة الجنتلمان. ثم يزداد تدهوره، حتى يعثر به في شارع الموسكي غارقاً تحت حمل من الملابس القديمة، فيهز يده فينهار!
وهكذا تجد في القصة الأولى ظلالاً إنسانية، وتحليلاً نفسياً، وفي الثانية انفعالات نفسية وسخرية لطيفة. وكلتاهما تنبع من قلب إنسان، ولكنه إنسان يؤثر اللطف والرقة على الانفعال والحيوية: ضحكته ابتسامة باهتة. وغضبته سحابة طارئة. ووثبته خطوة دانية. وإشارته إيماءة خفيفة. ولكنه إنسان
هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض القصص، مع شيء من الشاعرية اللطيفة، وهي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور وهو يتحدث عن القصة، مهما كان في هذا الفن من فتور
أيها القارئ. لقد حيرتك فيما أحسب بهذه الحكام المتناقضة!
إنها صورة من نفسي تجاه فن تيمور.
سيد قطب(585/17)
على هامش ذكر المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 6 -
رأينا المؤيد عالماً من أكبر علماء عصره، ومؤلفاً يبث آراءه وتعاليمه في بطون الكتب، ومجادلا له خطره يخشاه مناظروه ويرهبه أكبر مفكري عصره وهو أبو العلاء المعري. والآن نتحدث عن أثر المؤيد فيمن جاء بعده بعد أن عرفنا مقدار تأثيره في معاصريه، فقد كان للمؤيد تلاميذ استمعوا إليه وأخذوا عنه، منهم الشاعر الفارس المشهور (ناصري خسرو) الذي وفد إلى مصر بدعوة من المؤيد، ووصف مصر في كتابه المشهور (سفر نامه). فقد تحدث هذا الشاعر عن المؤيد ومجالسه في كثير من قصائده. فمن ذلك ما ترجمته:
(إن الله قد فتح عليك باب الحكمة بما تفتح عنه خاطر الأستاذ المؤيد
كل من يراه يوم مجلسه يرى عقلاً مفكراً
أن الأستاذ جعل يعطي يوماً مشرقاً ببراهين منيرة كالشمس
إني نظرت من زاوية عقله فرأيت الفلك دائراً تحتي
فقد أطلعني على العالمين (الظاهر والباطن)
وجعلهما حاضرين وفي مكان واحد من وجودي.
إني رأيت في مكان واحد مالكا ورضوان، واستقر في صدري الفردوس والنيران
وقال لي إنني تلميذه، وأشار عندئذ إلى رضوان)
إلى غير ذلك من أشعار ناصري خسرو الفارسية التي تحدث فيها عن أستاذه المؤيد والتي يطول بنا الحديث لو تتبعنا أثرها.
من ناحية أخرى يعد المؤيد أستاذ الدعوة الفاطمية في اليمن مع أنه لم يرحل إلى هذه البلاد، بل نقل تلاميذه إلى هذه البلاد آراءه وتعاليمه، وأثبت علماء اليمن هذه الآراء والتعاليم فيما تركوه لنا من كتب، بل أستطيع أن أقول إن علماء الدعوة في اليمن هم أكثر(585/18)
الناس حديثاً عن المؤيد، واقتباساً من كلامه واستناداً لحججه، وأشدهم اعتقاداً بأن الحق ما قاله المؤيد دون غيره من الدعاة، ويكفي أن نستدل على ذلك بقول إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557هـ في كتابه كنز الولد: وسيدنا المؤيد أقرب الحدود إلينا، وهو لا يأتي إلا بصحيح ما جاء به الحدود وإلغاء ما كان به شبهة أو فساد، لأن الآخر ينسخ ما جاء به الأول بإيضاح الرموز؛ والمؤيد حجة رابع الأشهاد ذو القوة في العلم والتأييد والحكمة والتسديد المنصوص عليه باسم الحججية، كما قال مولاه المستنصر عنه:
يا حجة مشهورة في الورى ... وطود علم أعجز المرتقى
شيعتنا قد عدموا رشدهم ... في الغرب يا صاح وفي المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا ... وكن لهم كالوالد المشفق
إن كنت في دعوتنا آخرا ... فقد تجاوزت مدى السبق
مثلك لا يوجد فيمن مضى ... من سائر الناس ولا من بقى
فهذه شهادة من لا ترد شهادته، وأمر من لا يرد أمره، وتفويضه له في نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر ولا قصر، لعلمه بما عنده من الحق)
أما الذي نقل آراء المؤيد إلى اليمن فهو تلميذه لمك بن مالك قاضي قضاة اليمن في عهد الصليحي. ولم أجد في الكتب التي تتحدث عن اليمن شيئاً عن لمك هذا، ولكن الحسن بن توح الهندي صاحب كتاب الأزهار ذكر لنا قصة طويلة، ونلخصها في أن الصليحي صاحب اليمن أرسل قاضي قضاته (لمك بن مالك) على رأس وفد إلى مصر للسماح للصليحي في النهوض إلى العراق لامتلاكها باسم الفاطميين. فلما جاء الوفد إلى مصر نزل لمك في دار المؤيد مدة خمس سنوات وانتهز هذه الفرصة؛ فأخذ عن المؤيد أسرار الدعوة الفاطمية، وكان يدون كل ما يسمعه عن المؤيد إلى أن استوعب كل ما عند المؤيد من علم، وكان المستنصر الفاطمي قد حجز وفد اليمن لأسباب لا نعلمها، ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم إلا بعد أن قتل الصليحي، فعاد لمك إلى اليمن وهناك بخل بعلمه، ولم يسمح إلا بالشيء القليل منه للداعي المكرم بن الصليحي وللملكة الحرة أروى وأحمد بن قاسم وغيرهم من الدعاة، بينما خص لمك ابنه يحيى بن لمك بجميع أسرار الدعوة وكل ما عنده من العلم والحكمة وسلمه كل ما دونه عن المؤيد؛ فهيأ بذلك ابنه يحيى ليكون حجة اليمن(585/19)
في عهد الخليفة الآمر الفاطمي، وأصبح يحيى أكبر عالم في اليمن يحج إليه أتباع المذهب الفاطمي للأخذ من علومه التي رواها عن أبيه عن المؤيد
وذكر صاحب كتاب الأزهار جماعة من تلاميذ يحيى منهم الداعي الخطاب بن حسن الشاعر المتوفى سنة 533هـ وذؤيب بن موسى المتوفى سنة 547هـ وغيرهما، وهؤلاء الدعاة انتشروا في اليمن يبشرون بما سمعوا عن يحيى بن لمك وأصبح لهم تلاميذ. فذؤيب مثلاً أستاذ الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، وهذا أستاذ حاتم بن إبراهيم، وهذا أستاذ علي بن حاتم، وهذا أستاذ علي بن محمد بن الوليد. وهكذا نستطيع بسهولة ويسر أن نتتبع علماء الدعوة في اليمن وأن نلمس في هذه المدرسة روح المؤيد وتعاليم المؤيد أخذها دعاة اليمن أحدهم من الآخر. ولو تصفحنا كتب الدعوة في اليمن التي وضعت في القرنين السادس والسابع من الهجرة لا نكاد نجد كتاباً منها يخلو من استشهاد بأقوال المؤيد أو بأشعاره، فصاحب (كنز الولد) ذكر المؤيد في أكثر من ستين موضعاً، واقتبس من المجالس المؤيدية ومناجاته وأشعاره. وصاحب كتاب الأنوار اللطيفة ذكر المؤيد أكثر من أربعين مرة، ونقل صاحب كتاب الأزهار فصولاً بأكملها عن المجالس المؤيدية منها رسائل المؤيد إلى أبي العلاء المعري وهكذا، وكان هؤلاء العلماء يشيرون إلى المؤيد بقولهم: (سيدنا المؤيد) أو (سيدنا) فقط إمعاناً في تعظيمه وتبجيله. وإذن فقد كان المؤيد عظيم الأثر في الدعوة الفاطمية بل لا تزال كتبه إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقربها إلا من بلغ مرتبة عالية من مراتب الدعوة في الهند واليمن (أي بين طائفة البهرة)
هناك ناحية أخرى تتجلى فيها عبقرية المؤيد، تلك هي ناحية الفن الأدبي عند المؤيد، فقد كان المؤيد رجلاً صاحب فن كما كان علماً من أعلام المذهب الفاطمي، وكانت صفته المذهبية تضطره إلى أن يحيط بكل شيء حوله، وإلى أن يلم بالآراء المذهبية وبالتيارات الفلسفية التي ملأت الأقطار الإسلامية في ذلك العصر، فأخذ المؤيد بحظ وافر من نواحي الحياة العقلية المختلفة واضطر إلى أن يجادل مخالفي مذهبه طوراً بالمكاتبة وطوراً بالمناظرة الشفوية فكان ذلك من أقوى الأسباب التي أدت إلى أن يكون المؤيد حريصاً أشد الحرص في أسلوبه وفي لفظه وأن يكون ناقداً مدققاً يفكر ويطيل التفكير وينقد كل لفظ قبل أن يذيعه في الناس فظهر أسلوبه الأدبي أسلوباً رائعاً يبهر السامعين، جمع بين قوة أسلوب(585/20)
العلماء المفكرين، وروعة أسلوب الكتاب الإنشائيين حتى كأني به قد أتخذ أسلوبه سلاحاً ليفحم به خصومه وليجذب به سامعيه. والمؤيد في الوقت نفسه كان أستاذاً من أساتذة (التأويل) وأساس التأويل يعتمد على قوة الملاحظة وخصوبة الخيال، وعلى قدرة خاصة على التغلغل في الموجودات ليتخذها المؤول دليلاً على أسرار الدين فكان لهذه الناحية أثرها في فن المؤيد إذا اتجهت به في شعره اتجاهاً خاصاً لا نكاد نجده عند أي شاعر آخر من شعراء العربية إلا عند أبي العلاء المعري، فأبو العلاء والمؤيد هما الشاعران اللذان استطاعا أن يصفا في شعرهما اختلاف العقائد الدينية، وأن يتحدثا عن الآراء الفلسفية وعن الحياة والموت وعن دقائق الكائنات العلوية والسفلية
انظر إلى المؤيد مثلاً وهو يتحدث في إحدى أراجيزه عن خلاف الناس في موضوع (الرؤية):
ونقضوا قواعد الشريعة ... كل له مقالة شنيعه
من مثبت لرؤية الرحمن ... مستشهد بآية القرآن
ومنكر قد جاء ينفي تلكا ... ودونها الشرك يرى والكفرا
وقال في نفس الموضوع في أرجوزة أخرى:
فقائل قال تراه العين ... وهو لعمري وصمة وشين
من أجل أن رؤية الأبصار ... مختصة بالحسم ذي الأقطار
وقائل قد قال لما دققا ... جداً وفي أفكاره تعمقا
ما ذاك إلا قول ذي تضليل ... نراه لكن رؤية العقول
أمعن حتى ما أتى بشيء ... ولم يبق رشداً من غي
فالعقل للمرء أداة كالبصر ... ذا باطن فيه وهذا قد ظهر
فإن جعلت نحوه سبيلاً ... للعقل لم تجاوز التمثيلا
كلاهما يدرك بالمجانسة ... مقالة صحت بلا ممارسه
وليس من جنس العقول الله ... يا قوم كي تدركه حاشاه
كما تعالى أن يكون كالصور ... مجسماً كيما يلاقيه البصر
فالفرقتان اجتمعا مشبهه ... خباطتا عشواء جهل وعمه(585/21)
ما جاوزت حد صفات البشر ... ونعت أرواحهم والصور
ذلك تشبيه فما التوحيد ... وذاك تجسيد فما التجريد
فهو هنا يتحدث عن موضوع خاض الناس فيه، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً بسببه، حتى لا نجد كتاباً من كتب الفرق إلا وبه فصل عنه، فلم يترك المؤيد هذه الفرصة دون أن يدلي بدلوه مع غيره من العلماء، بل هو هنا يجادلهم بالنظم، كما جادلهم بالنثر، جادل المعتزلة الذين يرون أن الله سبحانه وتعالى يرى رؤية عقلية ويجادل المشبهة الذين قالوا إننا نرى الله رؤية العين، ولكن المؤيد يرفض الرأيين ولا يقبلهما، كما يدلنا نظمه هذا على عقيدة الفاطميين في هذا الموضوع. وإذن فنحن نستطيع أن نأخذ ديوان المؤيد مرجعاً هاماً لدراسة عقائد المذهب الفاطمي. فقد بث المؤيد شيئاً كثيراً جداً من العقائد الفاطمية في أراجيزه وشعره مدح بها خلفاء مذهبه.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
مدرس بكلية الآداب بالقاهرة(585/22)
القضايا الكبرى في الإسلام
قذف عائشة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 8 -
سأتناول بحث حديث الإفك المشهور من ناحيته القضائية، وسأعني في ذلك بتحقيق أمور فيه لم يتناولها الذين بحثوه من ناحيته التاريخية ليكون بحثاً قضائياً ينسجم والبحوث القضائية التي تدخل في موضوعنا، ويتفق في ذلك مسلكه ومسلكها، ويندرج به في مسائل القضاء لا في مسائل التاريخ
وكان حديث الإفك في السنة الخامسة من الهجرة، وقد جرى بعد انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المُصْطَلَق، فلما دنوا من المدينة قافلين من تلك الغزوة أُذِّنَ ليلة بالرحيل، فقامت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها حنى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطع، فرجعت تلتمسه في المحل الذي قضت فيه حاجتها، وقد حبسها التماسه حتى أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لها، فاحتملوا هودجها على بعيرها وهم يحسبون أنها فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لقلة أكلهن، لأن السِّمَنَ وكثرة اللحم تنشأ غالباً عن كثرة الأكل
وقد رجعت عائشة بعد أن وجدت عقدها إلى محل الجيش فوجدتهم قد ارتحلوا، فجلست في مكانها الذي كانت فيه، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون إليها، فبينما هي جالسة في مكانها غلبتها عينها فنامت، وكان صفوان بن المُعَطَّل رضي الله عنه من عادته أن يسير وراء الجيش، يفتقد ضائعه، ويرد ما يجده من ذلك إلى صاحبه، وقيل إنه كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتجل الناس، فلما وصل إلى عائشة عرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فاستيقظت عائشة باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحلة.
وكان عبد الله بن أُبيِّ بن سَلولٍ رئيس المنافقين نازلا مع جماعته مبتعدين عن الناس، فلما(585/23)
مرت عليه عائشة وصفوان قال: من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجر بها ورب الكعبة. وفي رواية: ما برئت منه وما بريء منها. وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها، وقيل إنه كان يُتَحَدَّثُ به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه، أي يستخرجه بالبحث عنه، ولكن الذي ثبت عليه الاشتراك في هذا الإفك أربعة: عبد الله بن أُبَيٍ، ومسْطَحُ بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وعبيد الله بن جحش أخوها. وبعضهم زاد خامساً هو زيد بن رفاعة. وبعضهم زاد سادساً هو حسان بن ثابت
ولا شك أن هذا لا يعد قذفاً في حق عائشة رضي الله عنها، لأن دعوى الزنا تقرر أمرها قبل حديث الإفك بآية النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا امسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً)؛ فلا يثبت الزنا بعد هذه الآية إلا بأربعة من الشهود، ولا يجوز لشخص أن يرمي أحداً بالزنا فيما دون ذلك ولو عاينه معاينة، فكيف بأمر عائشة وقد جرى على أسلوب لا يدل على شيء من الريبة، لأن الذي يقع في الريبة يحاول إخفاؤها، ولا يفعل ما فعل صفوان من الإتيان بعائشة على راحلته، وكان الذي يجب أن يقع لو كان هناك ريبة أن يأتي وحده ويتركها إلى أن يبعثوا في طلبها، أو يقيم قريباً منها إذا خاف أن يتركها وحدها، بحيث لا يراها ولا تراه، ولا يراه أحد من الناس، حتى إذا عثروا عليها سار على عادته في طريق الجيش، وقطع على الناس طريق الكلام في أمرهما
وإذا لم يكن حد القذف قد نزل إلى ذاك الوقت، فإن ما حصل من عبد الله بن أُبَيِّ وإخوانه يستحق التعزير الشديد، لأنه قذف قبيح في حق سيدة شريفة لها منزلتها كزوجة نبي، وكابنة أكبر أصحابه وآثرهم عنده، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم تتوجه نفسه إلى إقامة التعزير عليهم في ذلك القذف، لأنه كان كثيراً ما يغضي عما يحصل من أولئك المنافقين، ويؤثر في ذلك المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لأن عبد الله ابن أبي كان من رؤساء الخَزْرَج، وكان الإسلام لا يزال غضاً طرياً لم يقتلع من النفوس كل آثار العصبية، وهذا إلى أن من الحكمة في مثل ذلك الإفك أن يقضى عليه بالإغضاء، وأن يترك أصحابه حتى يملوه من أنفسهم ويروا أنه لا قيمة لكلامهم(585/24)
فلم يهتم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمعرفة أثر ذلك الإفك في نفوس أصحابه، وقد أخذ يستشيرهم في أمره، فقال له عمر رضي الله عنه: من زوجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى. فقال عمر: أفتظن أن الله دلّس عليك فيها، سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم دعا النبي صلى الله عليه علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد ليستأمرهما في فراقها، فأما أسامة فقال: أهْلَكَ يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف. وفي رواية أنه قال: قد أحل الله لك فطلقها وأنكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني بُرَيرَةَ رضي الله عنها، لأنها كانت تخدم عائشة وتعرف من أمرها ما لا يعرفه غيرها. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أغمِصُهُ أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش. فقالت: يا رسول الله، حاشا سمعي وبصري، ما عملت إلا خيراً، والله ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول
إلا الحق
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من استشاره كبار أصحابه قام في الناس وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي
فقام سعد بن معاذ سيد الأوْس وقيل أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وقد احتملته الحَمِيَّةُ فقال: كذبت لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. وثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يُخَفَّضُهمْ حتى سكتوا، ولم يفعل شيئاً مع ذلك الرجل الذي آذاه في أهله، درءاً لتلك الفتنة، وإيثاراً للصلح بين الحيين اللذين قام على عاتقهما الإسلام
كل هذا وعائشة لا تعلم شيئاً مما يقال في حقها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن(585/25)
يؤذيها به، فكل شيء يهون إلا الشرف، وكل شيء يحتمل إلا ما يخدش العِرْض، وكانت قد مرضت عقب وصلها إلى المدينة، فلم يشأ أن يزيدها آلاماً على آلام المرض، ولكنه كان في نفسه شيء من تصرفها الذي مَكَّنَ ذلك الرجل من ذلك الإفك، وكان عليها عند خروجها لالتماس عقدها أن تترك خبراً بذلك في الجيش، حتى ينتظر رجوعها ولا يسير ويتركها وحدها، فرابها من النبي صلى الله عليه وسلم أنها لم تر منه اللطف الذي كانت تراه منه حين تمرض، وإنما كان يدخل عليها وعندها أمها تُمرِّضها فيسلم ثم يقول: كيف تيكم. لا يزيد على ذلك شيئاً، ثم ينصرف ولا يمكث عندها
ولم يزل هذا حاله معها إلى أن خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة، وهي بنت خالة أبي بكر، وكان أبنها مسطح يتيماً في حجر أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لأنه كان فقيراً، وقد سارتا حتى وصلتا إلى المنْصَعِ، وهو محل متسع كانت النساء يخرجن بالليل للتبرز فيه، فلما فرغتا من شأنهما وأقبلتا عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً! قالت: يا هَنْتَاهُ أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال؟ فأخبرتها بقول أهل الإفك
فخرت عائشة مغشياً عليها حين أخبرتها بذلك، وازدادت مرضاً على مرضها، وأخذتها حُمَّى نافضة، ثم رجعت إلى بيتها ومكثت ليلتها حتى أصبحت، لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، ثم أصبحت تبكي، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقالت له: أتأذن لي أن آتي بيت أبَوَيَّ. وهي تريد بهذا أن تتثبت من ذلك الخبر، فأذن لها في ذلك وأرسل معها غلاماً من الغلمان، وكان قد مضى إذ ذاك بضع وعشرون ليلة على قول أهل الإفك، فقالت لأمها: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، لا تذكرين لي من ذلك شيئا! فقالت لها أمها: هَوَّني عليك الشأن، فوالله لَقَلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كّثَّرْنَ وكَثَّرَ الناس عليها. فقالت عائشة: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا، وعلم به أبي، وعلم به رسول الله. قالت: نعم. فاستعبرت وبكت ومكثت ليلتان لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، وكانت تبكي وأبواها يبكيان، وأهل الدار يبكون، وبينما هم على ذلك دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، ولم يكن قد جلس عندها منذ قيل ما قيل، وقد لبث على ذلك شهراً لا يوحي إليه في شأنها(585/26)
وهنا يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه. قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، مع أنه المطلوب ممن أتى ذنباً لم يُطلع عليه
فقالت عائشة لأبويها: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه. فقالت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم إلا قول أبي يوسف عليهما السلام إذ يقول: فصبر جميل والله المستعان. ثم تحولت فاضطجعت على فراشها
ولا شك أن هذا الذي يذكرونه لا يتفق وما سبق من النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس فخطبهم، وذكر أنه لا يعلم على أهله إلا خيراً، وأن أهل الإفك ذكروا رجلاً لا يعلم عليه إلا خيراً، فكيف يعود بعد هذا إلى الشك في براءة أهله من ذلك الإفك، وقد استشار كبار أصحابه فبرأوا عائشة منه، وذكروا أنه إثم وبهتان عظيم
ولما بلغ الأمر أشده، ولم يعد من السهل أن تعود عائشة إلى بيتها على هذا الحال، نزل الوحي ببراءتها في الآيات الأولى من سورة النور، ونزل فيها حكم القذف: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك فإن الله غفور رحيم).
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم تلك الآيات، وأمر بجلد أصحاب الإفك، وقد اتفقوا على جلد ثلاثة منهم، وهو مسطح وحمنة بنت جحش وأخوها عبيد الله، واختلفوا في جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت، فقيل إن عبد الله جلد أيضاً، وقيل إنه لم يجلد، لأن الحد كفارة وليس من أهلها لنفاقه، أو لأنه لم تقم عليه البينة بذلك، أو لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده، بل على لسان غيره
وأما حسان فقيل إنه كان من أهل الإفك وإنه جلد فيه، وقيل إنه لم يكن منهم ولم يجلد مثلهم، ومما يدل على أنه لم يكن من أهل الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها(585/27)
عائشة رضي الله عنها، ومنها قوله:
مهذبة قد طَيَّبَ الله خيِمها ... وطّهَّرَها من كل سوء وباطل
فإن كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتمُ ... فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي
وكيف وودي ما حييتُ ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافلِ
وقد ذكر الزبير بن بكار أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئاً، ولكنه القائل:
فإن كان ما قد قيل عَنَّي قلتُهُ ... فلا رفعتْ سوطي إليَّ أناملي
عبد المتعال الصعيدي(585/28)
في الأدب الأندلسي الشعبي
ابن قزمان
للأستاذ أحمد مدينة
العربية واللاتينية، هما اللغتان اللتان كانتا سائدتين في إسبانيا الإسلامية، وعنهما تفرعت لغتان عاميتان: اللاتينية الدارجة (الرومنسية أو العجمية) لغة الصبيان والأحداث، وأرباب الصناعات والزوجات الإسبانوليات، والعربية الدارجة، متأثرة بالعجمية والبربرية:
داب نعشق لأليمه نجيمه
من يحبك ويموت فيك
إن قتلت عاد يكون بيك
لو قدر قلبي يخليك
لم يدبّر ذا النُّغيمة
يا مطرنَنِ شِلِباطُ (يا مذهول)
تُن حزين تنِ بناطُ (إنك مكروب)
ترى اليوم وَشْطاطُ (ضائعاً)
لم تذقي فيه غير لقيمة
بهذه اللغة نظم ابن قزمان - أبو نؤاس الأندلسي - أزجاله، فطار صيتها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتأثر بها الشعراء الأوربيون في تأليف الأغاني الشعبية لا سيما شعراء (التروبادور) وعلى رأسهم (الكونت ده بواتيي) البروفنسالي
نشأ الشاعر في قرطبة وتوفي أوائل النصف الثاني من القرن السادس بعد أن تجاوز الثمانين سنة قضاها متنقلاً، بين إشبيلية وجيَّان وبلنسيه
كان طويل القامة أشقر الشعر، أزرق العينين، تزوج، ثم هجر زوجه لما لقيه فيها - وفي بنات جنسها - من المكر والخديعة:
أنا تايب يا لس نقول بزواج
ولا بجلوَ ولا عروس بتاج
لا رياسة غير اللعب بالزجاج(585/29)
والمبيت برَّ والطعام والشراب
النسا، كما علمك، الهروب منهم غنيمة
لس نرى لوحدَ منهم ما بقيت في الدنيا قيمة
وسوى تكن فعيني الجديدَ والقديمة
والبعيدَ والقريبَ والسمينة والدقيقة
عاصر من القواد يوسف بن تاشفين وابنه علي وحفيده تاشفين، ومن الأدباء ابن بسام صاحب (الذخيرة) ومن الفلاسفة ابن باجه وابن رشد
في أزجال ابن قزمان يتقلص ظل التأثير الشرقي في الأدب الأندلسي، فلا أطلال، ولا دمن ولا صحراء ولا جمال نجد لها ذكراً في ديوانه، بل هو نفسه يستنكر احتذاء الأقدمين ويمعن في تعرية أزجاله من الإعراب، موجهاً لومه لأستاذه أخطل ابن غارة لالتزامه له:
(ولما اتسع في طريق الزجل باعي، وانقادت لغريبه طباعي وصارت الأئمة فيه حولي وأتباعي، وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال. وصفيته عن العقد التي تشينه، ومهلته، حتى لان ملمسه، ورق خشينه، وعربته من الإعراب. . . وجعلته قريباً بعيداً، وبلدياً غريباً. ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين ويعظمون أولئك المتقدمين يجعلونهم في السّماك الأعزل ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل، وهم لا يعرفون الطريق، ويذرون القبلة ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعان باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غمز ماردة، والإعراب وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل. ولم أر أسلس طبعاً وأخصب رَبْعاً - ومن حجوا إليه طافوا به سبعاً - أحق برياسة في ذلك والإمارة، من الشيخ أخطل بن غارة. فإنه نهج الطريق، وطرق، فأحسن التطريق. ولو لم يكن له رحمة الله من قوة التخيل وصحة المعارضة إلا. . . كقوله: أنا من أهل البادية، ومعي دارا خالية، ملأ بدم الدالية. . . وليس اللحن في الكلام المعرب القصيد أو الموضح بأقبح من الإعراب في الزجل. ولو عاش ابن غارة، وأحضرنا وإياه سلطان وضمّنا قصر، حتى يسمع الغرائب والأسمار لحار، ولعلم أن لنا قصب السبق ولواء الغلب
سمى ديوانه (إصابة الأغراض في ذكر الأعراض) وفيه يصف أعياد المسلمين(585/30)
والمسيحين، ويفرط في ذكر محاسن الغلمان، وامتدح السكارى والمخمورين، ومجالس الشراب، ولا يخفى تبرمه بالصوم:
تركيب الإنسان مذ كان لطيف
وبالصيام قد صرت نحيل ضعيف
رقيق أنا يابس. أصفر نحيف
يحملني البرطال (العصفور) في شان شاله
ولا سخريته بالفقهاء:
اسمع اش قلَّي الفقي: توب، إن ذا فضول أحمق!
كيف نتوب والروض ضاحك والنسيم كالمسك يعبق!؟
فطعن من أجل ذلك في دينه، وكاد يقتل لولا أن لطف به أحد القضاة من أصحابه
وهو إذ ينظم الزجل، لا يعبر فيه دائماً عن إحساسه الشخصي، وإنما يؤلف الكلام لينشده المغني على لسان ملك، أو تاجر أو عبد مسترق أو امرأة. وقد يكون المغني والمستمعون كلاهما من المتسولين والمشعوذين والمحتالين، بل مما لا غنى عنه أن يتألف منهم (الكورس) لترديد (المركز) كلما كف المنشد عن الغناء، وقلما تحتجب - في مثل هذه المحافل الشعبية - العيدان والمزامير والطبول والمصافق وغيرها من آلات الطرب، مع الاستعانة بالرقص في بعض الأحيان.
الديوان
يرجح أن الذي عثر عليه في العراق هو (روسو) قنصل فرنسا في بغداد، ثم بيع للإسكندر الأول قيصر روسيا سنة 1825 فضم إلى المخطوطات الشرقية في المتحف الأسيوي بسان بترسبورج (لنينجراد) وبقي منسياً فيه إلى سنة 1881 حين كتب عنه (البارون ده روزن)، ثم نشره (البارون ده جونزبرج) بالتصوير الشمسي سنة 1896، وضمنه وعدا بإيراد سيرة الشاعر، وترجمة أزجاله ومقارنة لغتها بلهجات الأندلس وشمالي أفريقية، خلال القرن السادس، ولكن الموت أدركه سنة 1910، دون أن يفي بما وعد. ثم جاء بعده المستعرب الإسباني (ريبرا)، فألقى محاضرة عنه طبعت سنة 1912 وفي عام 1933 طبعه (نيكل) في مجلة الأندلس بحروف لاتينية إلى المقدمة، فإنها بالرسم العربي، وعني بذكره بعد ذلك(585/31)
الأستاذ بلينسيا في كتابه (تاريخ الأدب العربي في أسبانيا) المطبوع سنة 1928
وأخيراً يردد في الدوائر الأدبية أن المسيو لاوي بروفنسال شرع في التأهب لنشره
والديوان المطبوع بالتصوير الشمسي منسوخ بخط شرقي (استكتبه لنفسه الأديب محمد بن أبي بكر القطان بصفد المحروسة استحساناً له وغواية فيه)
أحمد مدينة
ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول(585/32)
بعد عامين. . .
لصاحب العزة عزيز أباظة بك
(كتب لي أديب جليل الخطر من أدباء الأقطار الشقيقة يقول:
(إنها حية في قلبك لا شك في ذلك. فالرأي عندي أن تبذل لها
غزلك، وتحبس عنها رثاءك))
يا زين عهدُك بي - جُعلت فِداك - ... نفسٌ مُندَّبةٌ وطرفٌ باكِ
وجوانح تُطوى على مُستضعف ... حيران ذاق اليُتمَ يوم نواكِ
يا زين والدنيا قرارةُ شِقوةٍ ... أُترلك مُلِّئتِ النعيمَ هُناكِ
إن كانت استعْدت عليك خطوبها ... فلقد بلغتِ من الحياة مُناكِ
خلَّفتِ نفح الورد في أرجائها ... ومضيتِ: أكرمُ سيرة ذكراك
وذهبتِ ضاحكةَ النضارة والصِّبا ... كالروض سامَرَه الربيعُ البَاكي
عبست لكِ الأيامُ حتى لم تجدْ ... هدفاً لعاصف كيدِها إلاّكِ
ألوتْ بأختك بعد أن فَرَست أخاً ... فمضت. وأعجلَ بعدها أخواكِ
ثُقلت رزيئتُهم علىَّ وإنما ... قد كان أفدح ما حملت أساكِ
يا هجعةَ العين الطويل سهادُها ... كم صدَّعت عني الكرى عيناك
يا قبلة الطلِّ الرفيق سرت على ... خدِّ الشقيق فرفَّ واستحياك
يا همسةَ الشاكي - وخير سِفارة - ... بين الهوى والهجرِ همسةُ شاكي
قلبي وعقلي - قد علمت - كلاهما ... خبرَاك فاصطفياك واعتلقاكِ
لم يحل من حضر البلاد وريفها ... للنفس. إلا حيثما تلقاكِ
ويروق في عينيّ ما استحسنتهِ ... ويهون ما يَزْوَرُّ عنه رضاك
ويهون ضاحي العمر إلا ليلةً ... جادت على طول النوى بلقاك
بتنا بها زوجْين نالا مُنية ... كانت تُخال عزيزة الإدراك
قالت وقلت فلو أصاخ لنا الدجي ... لَرثى لشاكية هناك وشاك
عشنا على سَحْرِ النعيم ونحْره ... حتى تورَّدك الردى فطواك(585/33)
نغدو على ورْدِ الوفاق ونوْرِه ... ونبيتُ لم نعتبْ على الأشواك
فإذا رأيتِ الأمرَ لم أرتحْ له ... شفَّعتُ عطفك واستعنتُ حِجاكِ
وإذا اعتركنا مرة عَرَض الهوى ... فمحي بسحر عصاهُ كلَّ عراكِ
وإذا هفت نفسي لغير كريمة ... جرَّدتِ حزمك طبَّةً ونهاك
فكفْفتها في حكمة ولباقة ... وبلغت بالمس الرفيقِِ مُناك
وإذا النفوسُ إلى توائمها اهتدت ... سعدت. وتلك مراتبُ الأملاك
وإذا أهابت بي العلا شيَّعتني ... بصريمة يقْظي وعزمٍ شاك
ودفعتني ثبْتَ الخطي مُستعصماً ... بالله مُهتدياً بنور هداك
جنبتني زللَ الصِّبا وعثارَه ... ومضي يُهذِّب لي الحياةَ صباك
روَّتْني الدنيا ببعض نعيمِها ... فوجدت أكرمه نعيم رضاك
ولقد دخلتُ عليك من وشْيِ الضُّحى ... روضاً تنفس فيه طيبُ شذاك
أسعى إلى مثواك مشبوبَ الهوى ... وأكاد أومنُ أنني سأراك
وأفضت حتى جئت رفرفَ مضجعٍ ... طُهْرٍ كأركانِ البنيَّة زاكِ
وكأنما إنجاب الرَّخامُ عن الثرى ... فأهلَّ من خَلَلِ الرِّجام ضياك
فشهِدتُ في حلْيِ العروس وعطرها ... نفسي التي ودَّعتُ يوم نواكِ
تلك الصباحة والطلاوة والصبا ... أضفى عليهن الجلال كراك
والماء في قسمات وجهِك لامح ... صاف وسحرُك ساكبٌ وسناكِ
وحُلاك واحدةُ الطراز. ألمْ تصَغْ ... من جوهر الخلق الكريم حُلاكِ
فوضعت خدي حيث خدك ماثل ... ومدامعي تَروْى بها خدَّاكِ
وسكبت في أذنيك ألحان الهوى ... ولطالما هشَّت لها أذناك
ونهلتُ من عينيك سحراً لم يزل ... تحت الترابِ تشعُّه عيناك
وجلوت في فوْديْك بدر دُجُنَّةٍ ... وهصرتُ في عطفيك عودِ أراكِ
ويداي في ذهبيِّ شعرك ضلَّتا ... وتُنهنه الشوق الجموح يداك
ويمجُّ مثلَ الشُّهد فوك وكالطِّلا ... أشتارُ شُهدَك أم أعبُّ طِلاك؟
وأقول في صُعداءِ أنفاس الجوى ... رَيَّا السُّلافة تلك أم رَيَّاك(585/34)
وأقول من سلب الزهورَ رحيقَها ... وهفا إليك بصفوها فسقاك
وأقول والأشجان تنهك مهجتي ... والقلب يصهره الأُوارُ الذاكي
لو قد سألت بنا! فزوجك مُوحش ... وبنوك واجمةٌ وُعشُّك باك
بهواك - والدنيا جناح بعوضة - ... عندي إذا قُرنت بطهر هواك
بالضاحك النشوان من عهد الصبا ... في المشرق المأنوس من مغناك
وبكل ضمة مُتعة وهناءة ... أضفى عليَّ نعيمها حِضناك
وبكلِّ عذبِ اللحن من قُبل الهوى ... نضحت بها شفتي المُلَحةُ فاك
قسما فلم تلتذَّ غيركَ أضلعي ... يوماً ولم يصرخ دمي لسواك
فامضي كأغنية الربيع ترقرقت ... ألوانها في نورِه الضحاكِ
وامضي كنيِّرة السماء كريمة ال ... روحات والغدوات والأفلاك
أملاعبَ الصبواب من حرَم الحمى ... هوجُ الخطوبِ أذلن عزَّ حِماك
راش الزمانُ سهامَها وأحدَّها ... فرماك ثم رماكِ ثم رماكِ
كانت رباك خمائلاً وجداولاً ... وشمائلاً. أمن الجنان رباك؟
المسكُ ليُلك سحرُه وعبيرهُ ... ورقائق الذهبِ الصقيل ضُحاك
وتظلُّ أرواح العشيِّ عواطلاً ... من عَرِفها ما لم تمسَّ شذاك
كيف الغدير السمح. ساق لُجينَه ... فسقاك. والوشىَ البهيجَ كساك
هل لم تزل قبلاتُ ضاحِك مائه ... تترى على صفصافه المتباكي
أم بُدِّلت أمواهُه وخريرُه ... عبراتِ نائحةٍ وزفرةَ شاك
والقصر. كيف مشى الردى في ساحه ... مشيَ الوباء العاصفِ الفتاك
قد كان مرتعَ كل ظبيِ لاعبٍ ... أَنِسٍ. وخيسةَ كل ليث شاك
درجت طفولتنا على جنباته ... ونما هوانا في ثراهُ الزاكي
في كل موضع نبتة من روضه ... ذكرى لموقف لوعةٍ وتشاكي
لما التقينا هاج دمعك أدمعي ... أبكانيَ الشجنُ الذي أبكاك
أبصرتِني فرداً فعاودك الأسى ... لله أيَّ جوًى أثار أساكِ
عزفت عن الشدو الطيور وأجهشت ... أيكاتُك العبْري وجفَّ نداك(585/35)
واغبرَّ مُخضر البساط ونكّست ... تيجانها الزهراتُ في الأشواك
ويقول مطلولُ البنفسج للندى ... يا شدَّ ما نلقي! ألستَ كذاكِ
أنكرانَ أني لم أزل من بعدها ... حيَّا. أنا الميت البطيء هلاكي
أملاعب الصبواتِ قد جرت الرحى ... فعفتك. لم ترحم سوى ذكراك
(ع. ا.)(585/36)
البريدُ الأدبي
إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تعجبني مداعباتك الطريفة للدكتور زكي مبارك، ويدهشني حقاً كما يدهش الكثيرين أن يقف الدكتور - وهو الصوال بالمقدام - هذا الوقف السلبي الغريب بازاء نقد أوشك أن يهدم أكبر أثر له طالما اعتز به وفاخر. وما دام قد لاذ بالصمت وآثر عافية غير محمودة، فلا مندوحة لسواه من أن يسد مسده في التعقيب على ما يستحق التعقيب عليه من هذا النقد. وقد وقعت من ذلك على نقطتين في مقالك الرابع عن (فساد الطريقة في كتاب النثر الفني)
الأولى: أنك ذكرت أن سر تفاهة البيت:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
ليس في صدق هذا الكلام ومطابقته للواقع - كما زعم الدكتور في كتابه - وإنما هو في أن المشبه به في الشطر الثاني من البيت هو المشبه عينه الوارد في الشطر الأول مما أبطل التشبيه لعدم المغايرة بين طرفيه، فأصبح البيت من ناحية التشبيه بيتاً كذباً، ولو استبدل بحرف التشبيه حرف التوكيد لصدق البيت وارتفعت قيمته ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء الخ. . .)
وأقول إن البيت - حتى بعد هذا التعديل المقترح - يظل تافهاً، بل غير صحيح من ناحية اللغة، وذلك لأنه يشترط في الخبر أن يفيد فائدة زائدة على المبتدأ، وفي ذلك يقول ابن مالك:
والخبر الجزء المتم الفائده ... كالله بر والأيادي شاهده
ولا معنى للخبر إن لم يكن كذلك. وما ورد فيه الخبر بلفظ المبتدأ لوحظت فيه مع ذلك فائدة زائدة على المبتدأ كما في قول القائل: أنا أبو النجم وشعري شعري. إذ عني بقوله (شعري شعري) أن شعره الحاضر هو من جنس شعره المعهود للمخاطبين من قبل. وعلى تقدير كهذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) في حديث (إنما الأعمال): (وليس في الخبر الوارد في قول القائل: (كأننا والماء. . . الخ.) فائدة زائدة على المبتدأ ولا هو مما يحتمل تقدير شيء من ذلك.(585/37)
الثانية: ذكرت ما أورده الدكتور زكي في كتاب النثر الفني نقلا عن الباقلاني من تعريف الأخير للسجع بأنه: (ما يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع)، وتقريره أن ما ورد في القرآن على هيئة السجع لا يدخل تحت هذا التعريف، (لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى). وأردفت ذلك بذكر عبارة الباقلاني التي أكد بها احتجاجه لرأيه المتقدم، وهي:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ: ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
ثم زعمت أن هذه العبارة لا تستقيم مع رأي الباقلاني المتقدم، وأنه لا بد أن يكون قد وقع فيها تداخل عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ مما لم يفطن إليه الدكتور (فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه أو على قصوره في الفهم والتفكير الخ. . .)
والواقع أنه لا تداخل في العبارة ولا استغلاق في معناها الواضح كل الوضوح، فهي تعني أن الكلام الوارد على هيئة السجع على نوعين: أحدهما كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه. فلا مناص من إيراد اللفظ الوارد على هيئة السجع، لأنه لا بد منه لإفادة هذا المعنى، ولا يمكن أن يحل غيره محله في إفادته، ويصبح المعنى في هذه الحالة مرتبطا بذلك كارتباط معاني غيره من الألفاظ التي لم ترد على هيئة السجع بهذه الألفاظ. فتكون إفادته كإفادتها، أي أنه لا يكون مستجلبا لغرض آخر غير إفادة المعنى. النوع الثاني كلام يكون معناه منتظما بغير اللفظ الوارد فيه على هيئة السجع، فلا يكون هذا المعنى مرتبطا بهذا اللفظ، لأنه يمكن الاستعاضة عنه بلفظ آخر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى ذلك يكون الإتيان في هذه الحالة بخصوص اللفظ الوارد على هيئة السجع قد قصد به إلى غرض آخر غير إفادة المعنى، ألا وهو تجنيس الكلام. والنوع الثاني هو السجع الحقيقي، والنوع الأول - وهو وحده الوارد في القرآن على ما يرى الباقلاني - ليس بسجع حقيقي وإن جاء على هيئته
ومعنى العبارة على الوجه المتقدم هو المستقيم تماماً مع رأي الباقلاني السابق في تعريف(585/38)
النوعين. فالأول - وهو ما ورد على هيئة السجع وليس بسجع حقيقي - يتبع اللفظ فيه المعنى، لأنه إنما أتى باللفظ للتعبير عن ذلك المعنى المقصود بعد التثبت من إفادته التامة له. أما الثاني - وهو السجع الحقيقي - فيتبع المعنى فيه اللفظ الذي لم يؤت به بخصوصه لإفادة المعنى وإنما لغرض آخر هو تجنيس الكلام، أفاد المعنى المقصود بتمامه أو لم يفد. ومن ثم استهجن التزام السجع لأنه إنما يكون على حساب المعنى
هذا وتستطيع بعد الإيضاح المتقدم أن تتبين بأدنى تأمل ما في عبارتك التي أوردتها تصحيحاً لعبارة الباقلاني من مناقضة لحقيقة رأيه ومجانبة للصواب
وأعود فأكرر إعجابي بمجهودك الموفق في نقد كتاب النثر الفني.
إبراهيم زكي الدين بدوي
الأستاذ بدار العلوم العليا ببغداد سابقاً
حول (الحب عند المتنبي)
تساءل الأستاذ حسن الأمين: هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الغرام؟
وأراد في جوابه أن يقول، إنه لم يحب، ولم يحس بلواعج الغرام، واستشهد بشيء من شعر المتنبي. وأريد أن أقول إن حب المتنبي يكاد يكون لغزاً مستعصياً على الحل. ولست الآن بصدد إثباته أو نفيه، غير أني أريد أن أستأذن الأستاذ حسن الأمين في ألا أوافقه في أن ما استشهد به من شعر المتنبي يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها. بل في بعض ما يدل على خلاف رأي الأستاذ. وهاكم البيان
1 - فهم الأستاذ من قول المتنبي:
تحملوا حملتكم كل ناحية ... فكل بين على (اليوم) مؤتمن
فهم أنه (لا التهديد بالرحيل، ولا الوعيد بالهجر استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى)
وكلمة اليوم في البيت التي وضعتها بين قوسين تدل بوضوح على أن المتنبي كان يحب، وأنه يريد بإصرار وقوة أن يتوب من هذا الحب. فيقول. انتهى عهد الحب واليوم أصبح مؤتمنا على لا يؤثر سقماً ولا هما
2 - وإن قال المتنبي (محب كنى بالبيض الخ) إلا أن قوله(585/39)
عدمت فؤاداً لم تبت فيه (فضلة) ... لغير الثنايا الغر والحدق النجل
يدل على أنه يريد أن لا يكون قلبه قاصراً على حب النساء، بل يجب أن يكون فيه (فضله) لغير حب النساء. فظاهر من هذا أن المقام الأول هو لحبهن، والفضلة لغيرهن
3 - قول المتنبي (وما العشق إلا غرة وطماعه) وقوله: (مما أضر بأهل العشق أنهم)، وأمثاله، لا يدل على أنه غير عاشق. بل هو أقرب إلى أن يدل على أنه عاشق برح به العشق وكوى كبده، وذاق حلوه ومره، لكنه رجل غلب عليه العقل وقوة الإرادة، فهو يريد أن يداوي نفسه من عشقه بمثل هذه الأقوال، وكثير ممن جربوا الحب وخابوا فيه أو لم يصلوا إلى نتيجة رجعوا على أنفسهم باللوم وعلى الحب بالتنقيص
4 - وأما الأبيات التي ادعى فيها العشق؛ فأنا أفرض مع الأستاذ أنها لا تدل على العشق، كما يقول المتنبي نفسه (أكل فصيح قال شعراً متيم؟) إلا أنني لا أستطيع أن أمر بأشعاره المشتملة على العاطفة الصحيحة من مثل قوله: (ما لاح برق أو ترنم طائر) إلى آخر ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد. أقول لا أستطيع أن أمر بهذا، دون أن أشعر بأن المتنبي كان محباً صادقاً
5 - الحب عاطفة إنسانية أصيلة لا يحرمها إلا من مسخ قلبه، ولا يكون المتنبي - وهو من هو - كذلك، فهذا وحده كاف للتدليل على أن المتنبي أحب، وأنه أحس بلواعج الوجد، وتباريح الغرام. والآن آن أن أقول إن اللغز في حب المتنبي، ليس هو الحب نفسه، ولكن من هو الشخص الذي أحبه المتنبي. وقد أجاب عن ذلك الأستاذ محمود محمد شاكر. ببحث فيه مجال للبحث.
(اللد - فلسطين)
داود حمدان(585/40)
العدد 586 - بتاريخ: 25 - 09 - 1944(/)
مكافحة الشكلية
للدكتور محمد مندور
لا عجب أن نرى مشكلة التعليم من بين المشاكل الكبرى التي تشغل الرأي العام، لا في بلادنا فحسب، بل في جميع بلاد العالم، والحرب القائمة عمادها الأول مبادئ العلم ومكتشفات العقول، وهي حرب ميكانيكية قبل كل شيء.
ولقد انتهى الأمر ببلادنا إلى الفطنة لوجوب مكافحة الأمية الأبجدية، وهذا خير نحمد الله من أجله، ولكننا نطمع إلى ما هو أبعد من ذلك. فنود لو كافحنا الأمية العقلية، وما نظن مفكرا يزعم أنك قد أصلحت نفسا أو هذبت خلقا أو سددت إدراكا إذا لقنت الفرد مبادئ القراءة والكتابة، فتلك وسائل لا خير فيها إذا عربت عن غايتها، وغايتها بلا ريب هي محو الأمية العقلية، ومن هنا كانت راحة النفس عندما رأينا الحكومة تقيم مكافحتها للأمية على أساسين: تعليم الأبجدية وما يلحق بها، ثم نشر الثقافة الشعبية بإلقاء الدروس المبسطة في مبادئ العمران والحياة المدنية.
وليس من شك في أن مكافحة الأمية العقلية التي هي هدفنا القومي لن نستطيعها إلا إذا أعددنا لمكافحتها طوائف من المثقفين ثقافة جامعية صحيحة، ولقد اتفق لكاتب هذه السطور أن لاحظ على تلك الثقافة الجامعية اتجاها نحو الشكلية قد لا يكون منه مفر في بلاد أخذت تفتح أعينها على العلوم الغربية، فتود لو تلتهمها متعجلة، ثم تنثرها عن يمين وشمال فجة قبل أن تتمثلها تمثل الهضم، وتلك آفة من الآفات الكبيرة التي لابد من محاربتها أعنف الحرب، لأنها خليقة بأن تنشر في نفوس الشباب غرورا كثيفا يحجبها عن الحقائق العميقة. وأخطر ما تكون تلك الآفة في العلوم المعنوية، ونعني بها العلوم التي تتناول الإنسان وظواهره البشرية كفرد وكعضو في هيئة اجتماعية. وسر الخطورة في هذا المجال يأتينا أيضاً عن الغرب، وإن يكن الغرب نفسه قد أخذ يتخلص من تلك الآفة التي مكنت لها اتجاهات العلوم المادية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.
ذلك أن العلوم المادية في تلك الفترة كانت قد خطت خطوات كبيرة نحو اكتشاف كثير من القوانين العامة التي تسيطر على المادة فتمكن الإنسان من استخدامها حتى شاع في كل العقول أن العلم إن لم يكن اكتشاف قوانين فهو ليس بشيء؛ ونظر الباحثون في الإنسان(586/1)
فإذا بهم لا يكادون يتبينون لظواهره قوانين، فتطلع طموحهم الساذج إلى أن يصلوا في معارفهم إلى ما وصل إليه علماء المادة، فقالوا إن الإنسان ما هو إلا ظاهرة من الظواهر العامة، وهو لابد خاضع في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية إلى قوانين لا مفر من سلطانها، ومن هنا اتجهت الأبحاث النفسية والاجتماعية تلك الوجهة الشكلية التي نكتب اليوم عن وجوب مكافحتها إذا أردنا أن نقيم مجد هذا الوطن على إرادة أبنائه، إرادة يجب أن ينتهي كل تعليم صحيح إلى تأييد حريتها التامة وقدرتها على كل شيء
ومكافحة الشكلية ليست بالأمر الهين، فقد اتفق لي أن لاحظت التجربة في نفسي حيث لم أستطع أن أفطن إلى ما أدعو إليه اليوم إلا بعد سنين من إقامتي بأوربا. ولعلي أفدت تلك التجربة من كلمات قاسية سمعتها من شيخ فرنسي أضعاف ما أفدت من أساتذتي ومطالعاتي. وليسمح لي القارئ بأن أقص تلك الذكرى الشخصية، فقد يفيد منها مثلما أفدت.
في أول عهد بباريس كنت أتناول الغداء على مائدة سيدة عجوز مع نفر من الشبان والشيوخ الفرنسيين وبعض الأجانب. وكان من بين الفرنسيين رجل جاوز الخمسين يعمل وكيلا للمحافظة؛ وأكبر ظني إنه ينحدر من أسرة كبيرة من الأسر المحافظة؛ وكان رجلا جافا في جسمه وروحه، أنيقا في لفظه وملبسه. ولقد علمت إنه قد ابتلى الحياة وابتلته بهمومها الثقال فتحملها في بطولة، ولقد خرج من نشأته وملابسات حياته بفلسفة قوية تقوم على مبادئ الخلق الصارمة، كما تقوم على الاعتداد بكرامة الإنسان وقدرته على توجيه الحياة وإخضاعها لإرادته. مع هذا الرجل تعلق حديثي أحد الأيام، ورأيته يبسط مبادئ فلسفته التي ذكرتها في حرارة المؤمن فدهشت، وأخبرته بأن مبادئ الأخلاق التي يتحدث عنها إن هي إلا ظواهر اجتماعية تملى على الأفراد دون أن يكون لهم دخل في بنائها، أو فضل في الإيمان بها، كما أخبرته أن إرادة الإنسان الحرة التي يعتز بها، ليست إلا وهما لأن الفرد لا يملك لنفسه شيئا، وإنما هو مسير بغرائز وقوى دفينة، وما إن سمع مني الرجل هذا الهراء، حتى انتفض كالأسد، واستند بمرفقه الأيسر على المائدة ليلتفت إلي محدقا في غضب، غضب الاستعلاء، وسألني من أي بلد أتيت يا بني؟ قلت من مصر. قال وماذا يصنع أبوك بمصر؟ قلت يزرع الأرض. قال إني أوصيك مخلصا أن تعود إلى بلدك لتحرث الأرض مع أبيك، هذا أجدى عليك وعلى وطنك مما تتعلمه أو تظن أنك تتعلمه هنا(586/2)
من هراء، فتماسكت موهوما وقلت، ولكن هذه يا سيدي هي الآراء التي سمعتها من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس؛ فأجابني: ومن أنبأك أن هؤلاء الأساتذة يفهمون شيئا عن حقائق الإنسان؟ أتظن أن حقائقنا البشرية من اليسر بحيث تصاغ نظريات أو يكشف عنها التفكير المجرد؟ ثم من قال إن التفكير الفرنسي يمثله ذلك النفر من اليهود الذين يزعمون أنهم قد اكتشفوا قوانين الإنسان، عندما زعم كبيرهم دركايم ومن خلفه ليفي بريل وموسى وفوكونيه، ومن تبعهم أن الإنسان حكمه حكم المادة، وأن هناك ما يسميه هؤلاء الحمقى وعيا اجتماعيا تتمخض عنه الحياة العامة كما يتمخض الناتج الكيماوي عن مزيج من العناصر، أحذر يا بني أن تؤمن بما يقولون فليس صحيحا أن الرجل المهذب لا يستطيع أن يصل إلى قيادة شخصية يهتدي بها إلى مواضع الخير والشر والبطولة والخسة بنفسه، كما تهتدي الطيور إلى أوكارها. وليس صحيحا أن قواعد الأخلاق ليست إلا ظواهر اجتماعية لا نستطيع في علاجها شيئا، وكل ما يجب عمله هو أن نرصدها، كما يفعلون لنستخرج منها قوانين عامة. هذا يا بني وهم، بل خداع مبطلين، ثم اذكر أننا في مجال المعرفة بالإنسان، ليس لنا إلا هدف واحد هو أن تصبح خيرا مما نحن. فبالله، هب أن هذا الهراء حق، فأي فائدة ستجني منه الإنسانية؟ أنا أفهم أن نكشف عن قوانين المادة، لنسيطر عليها ونسخرها في مرافق حياتنا، ولكن الإنسان ما شأنه بالقوانين؟ ومن قال إن الإنسان مادة فحسب، وهب أنه كان مادة، وأن الروح لم يكن لها وجود، وأنها تفنى بفناء المادة كما تنعدم النغمات بتحطم الناي، أليس من الخير، بل من الواجب على الإنسانية أن ترفض علما كهذا لن ينتهي إلا بتحطيم حياتنا وشل إرادتنا وتقويض دعائم الهيئة الاجتماعية التي نحيا بينها؟
هذا هو الدرس القاسي، الدرس الصارم النافع الذي تلقيته عن الشيخ في مستهل حياتي، رويته اليوم راجيا أن تتدبره شبيبتنا الناهضة. ولقد تذكرته إذ قرأت في إحدى صحف المساء مقالا لشاب أكبر الظن إنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة، ولقد رأيت شابنا المسكين يتحدث عن (مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فيزعم أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة، وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم، وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعة في مصر،(586/3)
وذلك لما رواه عن دركايم وتلاميذه من أن لكل شعب عقلية تتكيف بتاريخه ونوع نشاطه الاقتصادي وما إلى ذلك مما ينتهي بخلق ما سماه طالبنا نقلا عن هؤلاء العلماء (بالعقل الجمعي)، وهذا هو موضع الداء، فطلابنا يرددون اصطلاحات علمية لا يحسنون فهم مدلولاتها فهم الناقد المستنير، وتبلغ بهم القحة أن يكتبوا للصحف فيما لا يفهمون غير واعين بما قد يكون في هرائهم من تثبيط لهمم أفراد الشعب الذين لم يصيبوا من العلم الزائف مثلما أصابوا. وهأنا ألقي عليه درسا مثل الذي سمعت في أول حياتي:
لا يا بني ليس هناك عقل جماعي كما زعمت أو زعم لك دركايم، وإنما هناك عقل فردي، هناك إرادة حرة، إرادة يجب أن تستيقظ في قلوب أمثالك فتهدم الصخر. لا يا بني ليس هناك جبر تمليه قوانين مزعومة، وإنما هناك نشاط حر، نشاط لا يعرف اليأس. وكم أحزنني من شاب مثلك أن يقول بقيام قوانين تقف دون إرادة هذه الأمة، التي أنت أحد أفرادها، فتردها عن أهدافها القومية. أقلع عن اليأس وبشر بالأمل، وإذا سمعت من حولك من يرمي هذه الأمة بالسوء فرد قوله، وآمن بأنه مهما بلغ بنا الفساد فنحن لابد مقوموه، وأن حافزنا الأول إلى هذا التقويم سيكون العلم الصحيح الذي يؤمن بأن النشاط الإنساني حر، وأن إرادتنا لابد آتية على كافة الصعاب كما أتى مصطفى كمال على صعاب تركيا وستالين على صعاب روسيا، دون أن يقف أمامهما عقل جمعي أو قوانين اجتماعية.
محمد مندور(586/4)
بقية الحديث عن حرية الفكر
للأستاذ دريني خشبة
لم أشك مطلقا في أن الدكتور زكي مبارك كان يمزح حينما شكا من التضييق على حرية الفكر في زمننا هذا. وفي أن تباكيه على حرية الفكر في العصر الذهبي للتصوف الإسلامي كان دعابة ظريفة من دعاباته التي لا تنفد. . . وذلك أن الدكتور زكي رجل قوي الذاكرة. ولا يمكن أن يكون قد نسي ما نقله في كتابه العظيم الخالد عن التصوف، عن كتاب اليواقيت للشعراني، حيث قول: (ج1 ص193)
(ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمساً وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق، وأهل مصر وكذلك ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري، حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك
(وقد نفى أبو زيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها؛ وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيداً مغلولاً. وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة. ورموا سمنون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه إنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة. وأخرجوا سهل بن عبد الله التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلاله، ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم، وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه، وشهدوا على الجنيد بكفره مراراً حين كان يتكلم في التوحيد على رؤوس الأشهاد. فصار يقرره في عقر بيته إلى أن مات
(وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بَلْخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا أن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد، وقلتم هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه، فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! الخ. . .
(وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله، وضربوه(586/5)
ضرباً مبرحاً، وطافوا به على جمل، فأقام ببغداد إلى أن مات!
(وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته، وأدخله أصحابه البيمارستان ليرجع الناس عنه مدة طويلة!
(وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر، فأمر بسلخه منكوساً، فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع، حتى قطع قلوب الناس، وكادوا يفتتنون به!!
ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان
وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر وشهدوا عليه بالزندقة
ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر، وعقدوا له مجلساً في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه
ورموا تاج الدين السبكي بالكفر وشهدوا عليه إنه يقول بإباحة الخمر والفاحشة، وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار وأتوا به مغلولاً مقيداً من الشام إلى مصر. . . الخ. . . الخ)
وبعد. . . فتلك صفحة عجيبة من تاريخ الاضطهاد الفكري نقلها صديقنا الدكتور زكي بقلمه عن كتاب اليواقيت. . . وهو كما قدمنا رجل ألمعي أريب قوي الذاكرة. . . فلا يمكن أبدا أن يكون صادقاً حينما ينعى حرية الفكر في مصر اليوم، ويتباكى على حرية الفكر في العصور الذهبية للتصوف الإسلامي. ولكن الممكن أن يكون مداعباً كدأبه. . . وإلا فماذا حدث في مصر الحديثة لرجال التصوف المنبثين في كل حدب وكل صوب. أو ماذا حدث للذين يعلنون اليوم جهرة أنهم يؤمنون بنظرية وحدة الوجود التي خرجوا منها بأن الله هو هذا العالم - أو هذا الوجود المطلق الكلي - وأن محمداً هو مبتدع تلك النظرية، كما أنه مؤلف القرآن، وأن كل ما جاء به، صلوات الله عليه من أنباء الغيب لا يمكن أن ينهض له العقل. فلا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا ميزان ولا صراط. . . وأنه لا داعي لأن يدعو الإنسان ربه ولا أن يصلي له. . . لأن دعاءه وصلاته لن يغيرا من قوانين الأقدار شيئا. . . وأن المتضادات أمام الله سواء، لأنه هو الهادي وهو المضل، وعليه، يكون الفجور كالتقى، والشر كالخير، والسجود بين يديه مثل إكباب المرء على حليلته. . . إلى آخر هذا الهذيان الذي اجترأ بعض فلاسفة زماننا أن يرددوه مؤمنين به،(586/6)
ومع ذلك فهم يسرحون ويمرحون، لم يعرض لهم أحد بشر، ولم يأخذهم أولو الأمر بذنوبهم، فلم يقيدوهم بالأغلال، ولم يحملوهم على الجمال ولم يسلطوا عليهم البغايا، ولم يسلخوا جلودهم أحياء ولم يرسلوا بهم إلى مستشفيات المجاذيب، ولم يسلطوا عليهم الصبية يرجمونهم بالحجارة. . .
لم يصنعوا بهم شيئاً من هذا، مع أنهم غلوا أضعاف ما غلا أسلافهم. . . ألا ترى يا أخي أنهم اجترأوا فقالوا إن القرآن هو كلام ألفه محمد؟! ألا ترى أنهم أنكروا ما جاء به محمد جملة؟! وهم قد صنعوا ذلك وأثبتوه في كتب طبعت في العراق وأرسلت إلى مصر فدخلتها دون أن يعترضها معترض، كما دخلت جميع الأقطار الإسلامية دون أن يقف في سبيلها شيء. . . ولماذا يقف في سبيلها شيء ما دامت أقلام المسلمين في أيديهم، وما دامت عقولهم في صدورهم - ورؤوسهم - يا دكتور زكي؟! ليقل الزنادقة ما شاءوا، ولينشروا من كتبهم ما أرادوا، آمنين مطمئنين، ما دام هذا الزمان الذي كانت الدولة تسلخ فيه جلودهم وهم على قيد الحياة قد مضى. . . لقد أبصرت الدولة اليوم، ولقد أبصرت الأمة الإسلامية، فهي لم تعد تلجأ مع الزنادقة إلى تلك الوسائل الهمجية من التمثيل والتعذيب، وما نهى عنه الإسلام الصحيح الصادق من ضروب المثلة. . . لكنها تلجأ إلى وسائل أحزم وأوسع مدى في حرية الفكر. . . إنها تلجأ إلى يقظة الضمير الإسلامي في أقلام أبنائها فتزيف الأفكار الفجة، والآراء السقيمة، فلا يكون زيغ، ولا يكون إضلال، ولا يكون إيمان أعمى بنظرية وحدة الوجود بتخريجاتها المضحكة التي انتهى إليها هذا الأستاذ الجليل، الشيخ معروف الرصافي
على أن الذي يغيظني منك يا صديقي الطلعة المفضال هو اشتدادك في البكاء على حرية الفكر، وهذه كتبك القيمة كلها تحمل من الجراءة ومن الأفكار الحرة، بل الأفكار الطليقة السائبة التي لا تحفل بشيء، ما تحمل، وهي تنتشر مع ذاك بين المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية انتشاراً عظيماً، دون أن ينقم منها أحد شيئا، إلا ما استدركه عليها مناظرك الفاضل من ملاحظات يوافقه الناس على بعضها ولا يوافقونه على بعضها الآخر. . . وما أريد أن أدخل بينكما الآن. . . ولكني أردت أن أنفذ من ذلك إلى الاعتذار إليك مما قلته الآن عن بعض أفكارك، والتعبير عنها بأنها طليقة سائبة لا تحفل بشيء. . .(586/7)
هل تذكر يا أخي أن الحلاج مات كافرا - ولو من وجهة النظر الإسلامية - لأنه يزعم للناس إنه الله؟ وهل تذكر أنك كنت الكاتب المسلم الوحيد الذي دافع عن الحلاج، بالرغم من قوله هذا، وأنك لم تكن تبالي بإتباع اسمه كلما ذكرته بهذه العبارة الغالية: رضى الله عنه!
لشد ما تضحكني منك روحك الحلوة المفتونة بالدعاية وخبيث المزاح!
الحلاج رضى الله عنه! أي والله يا دكتور زكي، إنك تحسن استغلال حرية الفكر في مصر، وتحسن استغلال سعة صدور المسلمين!
على انك نسيت، بالرغم من قوة ذاكرتك أنك، وأنت تشكو من التضييق على حرية الفكر في مصر. كنت أول كاتب جريء استطاع أن يدافع عن شيء يعتبر الدفاع عنه شيئاً مضحكاً جدا. . . بل شيئاً مثيرا لعواطف المسلمين. . . جالباً لسخط الله والناس. . . فهل تذكر عم دافعت؟! أنا أذكرك إن كنت قد نسيت. . . لقد دافعت في كتابك القيم - التصوف الإسلامي - عن المعاصي. . . أي والله يا أخي. لقد دافعت عن المعاصي دفاعاً مضحكاً حاراً في أكثر من خمس صفحات كتابك المجيد الذي لا يخلو من تلك (البُقع) المسلية. . . لقد فعلت فعلتك الظريفة هذه بمناسبة ما يقوله الجيلاني عن تساوي العاصي والمطيع أمام الحق. . . أي أمام الله! ولكن لا مندوحة عن تسجيل قطعة من دفاعك ذاك فاسمع:
(. . . وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حرمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفتون؟ كيف كانت تطيب دنيانا لو لم نطع الله بالعصيان؟! كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟ إن أجمل أثر أدبي تركه الأولون هو (سفر أيوب) وإنما كان كذلك لأن ناظمه وقف ربه أمام ساحة الجزاء!
إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود!
إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات!
إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل!
إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كؤوس الغل والحقد والحب والهيام!
إن أعظم العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين!
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العرف والقوانين والتقاليد! إن(586/8)
الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين!
. . . والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود!
وماذا غنمنا من سيادة الشرائع (!!) والقوانين؟!. . غنمنا العدل! وهو كذلك! ولكن أي عدل؟ إنه العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!) الخ
فهل رأيت يا أخي كيف كنت أجرأ مخلوق على وجه الأرض، أوتي من حرية الفكر أن يدافع عن المعاصي والشهوات هذا الدفاع الحماسي المتأجج، دون أن يناله شر، ودون أن يفتك الناس به، ودون أن يطارده القانون!
ولكن لابد من اقتباس الفقرة التالية أو الفقرات التاليات التي تدل على أنك تبلغ أحيانا تلك المرتبة من مراتب (ما وراء الشجاعة):
(وبفضل تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء، صار الشرقيون من المستعبدين! وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته، إلا وهو يرى إنه أقوى الرجال!)
فهل رأيت يا صديقي كيف سولت لك جراءتك أن تقول هذا الكلام العجيب عن محمد بن عبد الله الذي جعلته شهوانيا أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح للمؤمنين، لأنه رجل قوي العضلات؟ وأنت تعلم إنه عاشر السيدة خديجة عليها رضوان الله منذ أن كان فتى حتى توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي بعد ما نيف على الخمسين أو شارفها، لم ينظر إلى امرأة غيرها قط، ولا اشتهى أن يتزوج قط حتى توفيت. فإذا قبضها الله إليه وحدثت هذه الزيجات الكثيرة بعد ذلك. جئت أنت لتقول في جرأتك المعهودة إنها زيجات كان سببها قوة عضلات محمد التي جعلته أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح به للمؤمنين!
هاأنت ذا قد قلت ذلك كله ودافعت عن الحلاج ما دافعت مع علمك بكفره لزعمه إنه الله. . . فماذا حدث لك! ماذا نالك من المطاردة والنفي والحمل على الجمال والسلخ مما نال المتصوفة في العصور الغابرة؟! ماذا تريدون أن تقولوا غير ما قلتم؟ أفتونا في حرية الرأي(586/9)
هذه كيف تكون بعد هذا كله؟ إن الجامعة التي هي جزء مقدس من الدولة التي دينها الرسمي هو الإسلام قد منحتكم إجازة الدكتوراه على الرسالة القيمة التي تقدمتم بها إليها بالرغم مما بها من هذه البقع الكبيرة، وقد منحتكم تلك الإجازة مع مرتبة الشرف تقديسا لحرية الرأي، فأي حرية تريدون بعد هذا؟ أتريدون الشيء الذي يأتي في الترتيب بعد الحرية؟!
أخي الدكتور زكي. . . أرجو ألا يغضبك هذا الحق. . . وأرجو أن يعجبك ما أكتب عن الرصافي، لأني أكتب لغرض أسمى أنت تعرفه.
دريني خشبه(586/10)
القرآن في الإذاعة العالمية
اقتراح عملي جديد
للأستاذ حامد مصطفى
في هذا الميدان العظيم من دعاية صاخبة بين الأمم والجماعات، دعاية تثور وتصخب وتقوى وتشتد حتى تشمل العالم جميعه، وتأخذ بمجامع القلوب، وتفتن الألباب - في هذا العالم المائج المضطرب بالفتنة والحروب. يقف الشرق الإسلامي هادئا متثاقلا كأنه حاشية من جرم المريخ لا وسط من هذه الأرض. هدوء غريب كأنه مركز الإعصار الفارغ من حوله الحركة والهياج والدوران. إن العالم اليوم يقف على منقطع من جادة الحياة، ولابد لكل أمة أن تسير فتجتاز هذا المنقطع، وإن لم تفعل أنت بها الطريق وتعرضت للفناء. وفي هذه الفترة القصيرة من تاريخ البشرية لا تكاد تجد أمة لم تأخذ من الحياة الجديدة بنصيب، أو لم تنتفع من هذه الظروف القائمة الانتفاع الذي لم تحلم بمثله من قبل. والدعاية التي خلقتها عوامل الحرب الناشبة من أهم ما أفاد الأمم وأتاح لها التعريف بنفسها، والتقدم بما تملك من مواهب وثروة، وما تعاني من متاعب ومصاعب، وسوف لا تنتهي هذه الحرب حتى تهتدي كل أمة إلى مكانتها من العالم وقيمتها في الوجود، وتجد أحسن الحلول لمشكلاتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد
إننا نريد من هذا الخلوص إلى موضوع جدير بالعناية والبحث، له من العناصر والظروف الحاضرة ما يوجب الالتفات إليه والاهتمام له. أعني بذلك القرآن من حيث هو كتاب عالمي يكون أساساً للدعاية إلى مبادئ الإسلام، وعرضه على العالم عرضاً يوائم أساليب العصر الحديث. فالإسلام بوصفه ديناً عالمياً، له من قواعده وأخلاقه ما يجعله سهل الفهم والقبول بين الجماعات البشرية في كل زمان ومكان. وذلك ما يسهل إعلانه والدعوة إليه. إن أحوال العصر الحاضرة تتطلب مجاراة العالم والدخول معه لا في ميدان الحرب، ولكن في ميدان السياسة والاجتماع. وإذ كان العالم اليوم يبحث عن أجدى الحلول لمعضلة الإنسانية الحاضرة. فإن الإسلام ليجد من نفسه الكفاية لعرض أنفس المبادئ التي يعتقد أن فيها ما يساعد على شرح الأزمات الإنسانية وعلاجها علاجاً يضمن لها السلامة والشفاء. ولقد جرب العالم نظريات شتى بعضها خاب وبعضها نجح نجاحاً ضعيفاً، ولكن الإسلام(586/11)
يبقى نظرية اجتماعية ثابتة، عرفتها الإنسانية قروناً، وعمل بها البشر أحقاباً طوالاً حتى ثبتت عقيدة وعملاً ومنهاجاً في الحياة، وظهر صلاحها ومواتاتها لحاجات الناس في معاشهم ومعادهم. وحري بالعالم اليوم أن يتعرف بالإسلام، ينشد منه خططاً جديدة إلى جانب ما ينشد من خطط ونظريات. وحري بالمسلمين أن يكونوا هم العاملين على تحقيق هذا القصد. وأن يسلكوا إليه هذه السبيل الممهدة التي عبدتها الحرب القائمة فجعلت منها ميداناً لكل غرض نبيل ورأي جليل. أعني بذلك الإذاعة العالمية التي تتمتع منها العربية والمسلمون بحظ لا يقل شأناً عن حظوظ كثير من الأمم الأخرى
إن على المسلمين اليوم أن يتقدموا إلى الإنسانية بمبادئ الإسلام وعقيدته، وما فيه من قواعد اجتماعية تكفل سلامة الأمم وضمان الحقوق وهناءة المعاش. فالعالم اليوم أحوج ما يكون إلى بسط نظرية الإسلام في تنظيم الكون. وكل تقصير في هذا يقع على عاتق المسلمين، ويعذر من نتائجه سائر الناس. وفي العالم اليوم من يتحرى الوسائل الشافية والعلاجات الناجعة من أي مصدر أتت، ومن أي الوسائل وردت، لا يتعصب لرأي دون رأي، ولا لنظرية دون أخرى. إذ ليس المقام تبشير بدين وإنما هو تعريف لعلاج مجرب، وقواعد مطبقة تعرض كما يعرض سائر النظريات والآراء على ألسنة الخطباء، وأقلام الكتاب في المؤتمرات وفي الصحافة وفي التأليف
والوسيلة الجامعة للتعريف بمبادئ الإسلام، القرآن نفسه، يعرض بأوسع اللغات الحاضرة، أسيرها ذكراً وأعلاها مقاماً. ولا تنافس الإنكليزية في هذا الميدان لغة ثانية. ولا نعني بعرض القرآن باللغة الإنكليزية ترجمته بها الترجمة الحرفية، إذ أن هذه معضلة يظهر أنها لم تذلل بعد. وهي إلى جانب ذلك لا دخل لها في بحثنا هذا. إننا نعني أن يؤدي القرآن بمعناه أداءً مطابقاً بحيث يفهم منه باللغة الأجنبية ما يفهم منه بنصه العربي. وذلك يقتضي اجتماع لجنة من علماء أكفاء ومترجمين مسلمين حاذقين. يجتمعون على معنى القرآن آية بعد آية، وكلما أتموا يسيراً منه فاقروه واتفقوا عليه وجه به إلى الإذاعات التي تذيع القرآن اليوم من غير انتظار إلى الفراغ من الشروع كله. حتى إذا ما تم العمل سهلاً مألوفاً بما قرئ وسمع وتردد بين الناس، وكان له انطباع عام في أذهان العالم يساعد على بسط عناصره وشرح مجمله، فتتولد بذلك النظرية التي يريد الإسلام عرضها على الناس.(586/12)
ومصر وحدها هي الجديرة بهذا العمل الجليل وإليها نتقدم به. من هذه الطريقة يتعرف العالم بالإسلام، ويجد فيه من دون ما عنت، ولا إرهاق الوجوه التي قد تعجبه في علاج الأزمات. والعالم اليوم لا يجد حرجاً في السماع لكل قول والتعرض لكل رأي، يقرأ ذلك في الكتب أو ينصت له في الإذاعات أو يعرض على أنظاره في المشاهد
إن العالم اليوم ليعرف القرآن من طريق الإذاعة، ولكنه لا ينجذب إليه ولا يأبه به، لأنه إنما يطرق الأسماع بنصه العربي. وليست العربية لغة شائعة ولا هي ضرورة من ضرورات الثقافة العالمية. وكل ما يراد من إذاعة القرآن اليوم إنما هو غرض دعاويَّ بحت يقصد منه التحبب إلى المسلمين واجتذابهم بالنغمة الناعمة الساحرة. والعالم الإسلامي لا يجتني أية فائدة من هذه الطريقة التي يذاع بها القرآن، كلا ولا العالم يستفيد شيئاً من القرآن بهذه الإذاعة. وإذا نحن استمررنا على الرضاء بهذه الحصة الفارغة من الإذاعة العالمية فستنقضي الحرب، وتستغني الإذاعات الأجنبية عن القرآن. وبذلك تضيع أمكن فرصة اغتنمتها البشرية لاجتناء أكبر الفوائد وأحسن النتائج، ونضيع على العالم غروضاً قد يستفيد منها ما يؤدي إلى أفضل مما يصل إليه وهو على جهل بهذه العروض
إن في الإسلام يقيناً لعلاجاً لأزمات الإنسانية الحائرة، وإن فيه لأسساً قويمة في الحياة؛ في الدولة والتشريع. وفي الاجتماع والمعاش، وإن فيه لصلة روحية تسمو بالإنسان عن طغيان الشهوات والميول الفاسدة، وتفترض بين الأفراد وحدة عالمية لا غنى عنها لبعض دون بعض، وفي القرآن الشيء الكثير مما يهتدي الباحث المجد. فلنتقدم بالإسلام بين هذه الفروض والأسس التي تقترح لإعادة بناء العالم، والإذاعة العالمية زعيم بإبلاغ القرآن إلى كل قلب بعد أن شغلت به كل أذن. والى مصر نتوجه بهذا الرأي.
(بغداد)
حامد مصطفى
مدرس بكلية الحقوق(586/13)
ذكرى عيد
للأستاذ منصور جاب الله
تجرّمت سنون وسنون عهدت فيها قومي إذا ما أظلهم العيد، فزعوا إلى قبور تملأ الرحب، ويتيه دون حصرها البصر، فطووا هنالك الساعات الطوال يبكون آباءهم وآباء آبائهم، فإذا جنهم الليل ثووا إلى دارهم، وكأنما العيد في أنفسهم أشجان وأوصاب وآلام.
وإذ أنا طفيل لا أميز درجت على محاكاة هذه العادة، حتى أمسيت معيدا لها وتعلقت مني بالطبع، فما دلف عيد إلا وجدتني أهرع إلى المقابر أخط بين شعابها، وما أحسب أن هذه الأجداث كان لها يومئذ وحي في قلبي أو صدى في نفسي
لقد كانت النفس كابية بليدة، والطفل مادي بطبيعته لا يأخذه إلا ما تعلق بالحس ورمز إلى الفم، وكان من لطف الله بي أن جعل طفولتي ماتعة يانعة، وكفل لي في ريق الصبا الهناءة والمسرة، ومن لطفه أن خلى لي والدي وأخوتي، فلم أفجع في أصل من أصولي، ولم أرزأ في فرد من حاشيتي إلا من توفى في المهد، وسمك ستار النسيان بيني وبينه، وتراخى دون ذلك حبل الزمان
وإذ تتصل النفس بهذا، ويمد لها في أسباب المرح، وأغدو في صحبة من لذاتي متهللين مفاريح، لا يكون علي من حرج إذا زعمت أني كنت أرى قبور السابقين من أهلي وعشيرتي بعين لا ترى في الحياة إلا كل سار بهيج، وأنها كانت مني بمنزلة الأرجوحة ومقام الألعوبة، ألهو بألوانها وتزويقاتها كما ألهو بأحماض الحياة الأخرى
ولا احسبني بكيت مرة ولا اعتبرت ولا استعبرت إذ أطالع رقيم قبر تدلى صاحبه إليه لعهد قريب
لقد رأيتني من الموت بمنجاة، فما فكرت فيه، ولا استكنهته، ولا عرفت شيئا عن برزخ الموتى، ولو أني جواب في مدينة الأموات!
بيد أن شيطاني لقد ذهب في غلوائه بعيدا، فحدثني بالخلود حين أجول في مدينة الأموات أرقب صخور مقابرهم تنهشها يد الزمان، وتأتي على حجارتها وطلائها عاديات البلى، فتهدها هداً وتمهدها أجداثاً لقوم آخرين
لكنما كان يتغشاني في بعض الحين خشوع لا يستعلن لي كنهه ولا يستبين أمره، فأوقن في(586/14)
نفسي بأني لا محالة مائت فمنتقل إلى غير هذه الدار، وأني ملاق حسابيه، ولا يتداخلني الشك في ثواء الجنة!
ولعل مرجع هذا إلى العقيدة، وإلى الأوالي من التلقينات الدينية، ورد كل منزع في نفس الإنسان إلى أصله ليس في العلم بكثير
وأيفعت وطر شاربي، وعراني ما يعرو الشباب عادة من اجتراء العقل ومحاولته بسط نفوذه على سائر مشاعر الإنسان ما تعلق منها بالحس، وما تعلق بالروح والمعنى، فأقلعت عن زيارة المقابر في يوم العيد، وعدلت بهذا الدافع عن جهته، وصرفته إلى ما حسبت إنه خير من مشاهدة قبور الموتى المكتئبة الباهتة، ولم تكن في ديدني لتعدو صورة من صور الحياة تغاير ما يقع عليه الحس من ألوان الصور. غير أن الكآبة رانت على قلبي فرأيتني أنزع إلى الاعتكاف في الدار طوال أيام العيد، وكأنما كنت أستحس في ذلك معنى العيد!
وطال عهد الهجر بيني وبين مدينة الأموات وأهلها الثاوين
ثم اكتاد لي الدهر مصطنعاً مع القدر مؤامرته، فأوقع بي الضربة على غرة مني، وتسلل الموت إلى أبي في موهن الليل إذ الناس رقود كأنه خشي أن يختلسه مني على أعين من الناس!
عرفت إذ ذاك معنى الموت، وفهمت إنه لحياة بداية، ولحياة نهاية، وأدركت إنه لابد مخترمي على وجه الأيام، وإن وصلت بالعمر أحقاب وأجيال وأعوام، وما اخضل عود إلا ليختضر، وما طال عمر إلا ليقتصر!
كذلك قضى الله بقضائه الحق، وخرجت يوم العيد أسعى أول ما أسعى إلى جدث والدي أترحم عليه وأقرؤه السلام، وإذ أقف منه على مقربة إذا بالدمع ينبجس ويطفر، وإذا بالصدر يشهق ويزفر، وهذه الأحشاء تغلي وتفور، وهذه الأرض ترتج بين يدي وتمور، والفؤاد مني يتواثب ويصطرع، والكبد تكاد تنشعب وتنصدع. ويا له من يوم عصيب!
ما أقسى العيد على القلب الوجيع!
يا لله لقد تغير المعنى الذي كنت أحس يوم كنت أرى المقابر إلى معنى آخر لا يتعلق به الوصف حين شهدت مقبرة أبي! وفقهت مغزى غير ما عرفت من حكمة زيارة القبور، إنها تعني رسالة الموت إلى الحياة، أو خطبة الأموات في الأحياء واستمداد معنى الحياة من(586/15)
الفناء
وعظتني يا أبي حياً وميتاً، ولقد والله كنت في موتك أبلغ مقالة من منطق الحياة والأحياء، ومن يأس الموت بعثت في قلبي حي الرجاء، فهمت منك في موتك ما كنت أسمعه منك في حياتك، واستوحيت من صمتك ما كنت أعرفه في كلامك، وفقهت من همودك ما ألهمتني حركتك.
كنت في الممات بليغاً مبيناً أن كاد ليقذف في روعي أني أسمع مقال خطيب، أو قصيد شاعر طويل النفس قوي الجنان
وكنت أعيب على من يبني القبور، هذه النصب يقيمونها كالأوثان، فترد الذهن إلى ما كان الأقدمون يسوون لعبادة غير الله، حتى إذا مات أبي رأيت غير ما كنت أرى بعين القلب والعاطفة، لا بعين العقل والتفكير
أقاموا له بين الأجداث قبراً فكأنما هو تذكار لقلبي وأثر لوجداني، وإذا أنا أحس لهذا الحجر القائم حقيقة تقول إنه قائم في قلبي تضمه أضالعي، وكأنه موسيقى الوجدان، أو سطر الحياة في لوحة الزمان.
لقد صار لي بين المقابر بنية، وفي أرض الأجداث سهم، وثوى أبي إلى ربه راضياً، فهو في الأموات ميت، ولكنه في نفسي حي تزجي إليه تحيتي في يوم العيد
(الرمل)
منصور جاب الله(586/16)
هنريك إبسن
الروائي النرويجي
للأستاذ وديع فلسطين
يجد الباحث السيكولوجي في حياة هنريك إبسن أديب نروج الأول، مادة لا تنضب، ومعيناً لا يجف من الدراسات النفسية والانفعالات القوية التي قلما تتوفر في حياة رجل سواه.
ولد هنريك، أظهر شخصية في الأدب المسرحي الحديث، عام 1828 في ميناء سكين الصغير على الساحل الجنوبي لنروج، وهو ميناء وهبته الطبيعة جمالاً، أضفى على جباله زهواً وشموخاً دونه زهو جبال لبنان وشموخها
وفي كنف والده، التاجر الثري، قضى هنريك سني عمره الأولى متمتعاً بصيت أسرة من أعرق الأسر وأشرفها. ولكن الدهر قلب، والحال لا تدوم، والنعمة ليست مقيمة. فما أن بلغ الثامنة من عمره حتى مني أبوه بضياع ثروته كلها في عملية تجارية خاسرة، واضطرت الأسرة إلى الانزواء في مزرعة صغيرة على مشارف القرية. وازدادت أحوال الأسرة سوءاً على سوء، وتتابعت عليها الملمات من كل حدب وصوب، فلجأ إبسن إلى معاقرة الخمر يدفن همومه بين كؤوسها، وينسى محنه بين قرع أقداحها. وإزاء الفاقة القاتلة والحاجة الملحة، وإزاء هجرة الأصدقاء وتنكر الدهر، انكمش هنريك الصبي المرهف الحس إلى داره، وعشق الوحدة، وانطوى على ذاته يبثها همومه ويمعن في دراستها وفحصها. فأخذ يحاول تنمية الرسم والتصوير فيه. ولكن الفقر حال دون تقدمها. فهجر الرسم إلى دراسة الطب. وفي الخامسة عشرة من عمره عمل في صيدلية بمدينة جرمستاد. فكان يعاون صاحبها في مد سكان المدينة الثمانمائة بما يحتاجون إليه من مختلف الأدوية ومتنوع العقاقير، وظل خمس سنوات في تلك المدينة يجرع الحياة بالكد والكدح والعناء، ويقضي أيامه تحت رحى الفقر الساحق والعوز المضني، فنمت فيه روح الثورة الفكرية، وترعرعت بين جنبيه روح الانقلاب على العرف والرغبة في التحرر من قيوده
وكان إبسن خلال هذه السنوات الخمس يدرب نفسه على مراس أنواع الكتابة المختلفة، وخرج من ذلك عام 1849 بمسرحيته الأولى (كاتالين) وهي مسرحية شعرية ثورية طبعت بعدئذ على نفقة صديق له(586/17)
ثم قصد (إبسن) كريستيانا بمدينة أسلو، للالتحاق بإحدى الجامعت، وهنالك تعرف بعدد من الشبان الأوغاد ومن بينهم (بجورنسن) ? الذي بادله صداقة بصداقة ولازمه إلى نهاية عمره، غير أن صداقتهما كانت تتعرض بين الحين والحين إلى الخصام الوقتي والجفاء القصير الأمد
وبما لصديقه أول بل لاعب الكمان الأشهر من نفوذ، عين هنريك إبسن عام 1850 في المسرح الصغير بمدينة برجن، وكان يقوم بدور شاعر المسرح وراويته، ثم عمل في لجنة مطالعة المسرحيات، وفي لجنة كتابتها، ثم عمل مديرا للمسرح، فأصاب من كل هذا اختباراً مهد له سبيل الظهور، وإلماماً بدقائق المسرح وتفصيلاته مكنه من تصميم المناظر في روائع أدبه، كمهندس بارع ومفتن قل من يجاريه أو يدانيه. . .
وفي عام 1858، تزوج إبسن من الآنسة سوزانة تورسن وهي فتاة من برجن ذات شخصية قوية وعقل راجح؛ فكرست حياتها لمساعدة زوجها على تحقيق أمانيه، وتوسيع مدى نشاطه. فكانت له نعم الزوج، ونعم الرفيق. . .
وإذ كانت حرب دانماركة مع بروسيا مشتعلة الأوار عام 1862 غادر هنريك إبسن نروج إلى روما مزوداً بإعانة حكومية قدرها أربعمائة من الجنيهات. وفي تلك الحاضرة الخالدة كعبة الإمبراطورية الرومانية الزائلة، ازدهرت في إبسن ملكة الشعر وتأصلت، وتغير أفق خياله متخذاً لوناً جديداً وأسلوباً جديداً. فكانت أول ثمرة نضجت له في هذا المهجر مسرحيته الشعرية التي امتدحت حال ظهورها، واستقبلت من الجمهور بنهم عجيب. فأخذ إبسن يصعد درجات الشهرة الظافرة والنجاح الأكيد بخطوات حثيثة وقدم لا تلين، إذ سرعان ما أخرج للعالم مسرحيته الشعرية الخيالية التي تعد أجود ما كتب وأفضل قطعة أدبية أخرجها للوجود. وقد اقتبس إبسن مناظر هذه الرواية من مسقط رأسه (سكين) فعرض جماله ونوه بسحره. وجسم هضابه ووديانه
وفي عام 1868، كانت الحوادث تنذر بسوء، وتهدد سلامة إيطاليا. فانتقل كاتب نروج الأول إلى مدينة درسدن التي جعلها مقراً وملاذاً لسنوات طوال، شهدت مولد طائفة من الروايات الاجتماعية، ورأت كيف يشيد إبسن مجده ويوطد مركزه الأدبي الذي انفرد به في عصره(586/18)
والفقر الذي كان يلازم هنريك ملازمة الظل، ويطارده مطاردة الصائد للظبي، خر أمام الشهرة صريعاً مقهوراً، وأقلع عن تتبعه راجعاً عن تعقبه
وفي عام 1891، عاد كاتبنا إلى بلاده بعد سبع وعشرين سنة من النفي الاختياري، واستقر في كريستيانا ما بقي له من العمر. وكانت أمواج الحياة قد سكنت، ولججها قد عاودها السكون. فأخلد إبسن إلى شيخوخة هادئة مطمئنة، وقل ظهوره في المجتمعات إلا في مناسبات تمثيل رواياته، أو حفلات تكريمه، ومات عام 1906 وهو في الثامنة والسبعين
ذلكم هو إبسن، أديب نروج الممتاز. ولسوف تذكره الأجيال القادمة كشاعر ومفتن استطاع أن يخلق أشخاصا أحياء، وأن يكسو أفكاره المسرحية برداء من الجمال لا تبليه الأيام. لقد كان إبسن بحق البناّء الرئيسي للدراما الحديثة.
وديع فلسطين
بجريدة الأهرام - القاهرة(586/19)
وجهة نظر. . .
للأستاذ محمود عزت عرفة
عندما استويت على مقعدي في مرسم المدرسة وعرفت المهمة التي كلفنا بها أستاذنا، أدركت في لحظة أني مغبون مغبون.
كان أمامي نموذج مجسم للفيل علي أن أرسمه كما يتراءى لي وأنا في مجلسي دون ما تصرف ولا تغيير. ولم أكن أشهد لهذا النموذج خرطوماً ولا رأساً ولا قائمتين أماميتين، دعك مما يتصل بكل هذا من صدر وعنق وأذن وعين وناب. . . حتى جفرتا الفيل على انبعاجهما لم تكونا من عيني بمرأى.
وعجبت كيف يكون منظر فيلي بدون هذه الأشياء جميعا. إنه لن يكون أكثر من خطين غليظين بينهما خط قصير دقيق. والتمعت إذ ذاك في ذهني صورة المقصلة التي ينصبها الجزارون في أسواق القرى. لقد كان كل ما ينقصني هو تغيير الموضع لتحسين وجهة النظر؛ ولا أعني بهذا تغيير موضع الفيل، إذ كان أقل عبث به كفيلاً بأن يضع زملائي جميعاً في صفوف المغبونين بعد أن فرغوا من خططهم، وأوغلوا على الورق في تخطيطاتهم.
وبدا لي أن انتقل إلى موضع زميل غائب، فوضح لي منه ما فيه الكفاية مما كان محتجباً عني، ثم بدأت أرسم
تلك تجربة مرت بي في عهد الطلب كما يمر أمثالها بالكثيرين؛ والواقع أن وجهة النظر شيء له قيمته الكبرى في الحياة، وإن التأنق في اختيار هذه الوجهة وانتقاء أحسن أوضاعها لخطوة أساسية ينبغي ألا نغفلها، إذ عليها يتوقف ما نأتيه من الخطأ والصواب جميعاً
وكما يختلف الجسم باختلاف النظرة إليه جمالاً وقبحاً، وضوحاً وإبهاماً، ضخامة وضؤولة؛ كذلك يختلف الرأي باختلاف عمل العقل فيه، وهو يقاس في مبلغ سلامته أو ضعفه، وبلوغه أو عجزه، واستقامته أو عوجه، على مقدار معالجة التفكير لعناصره واستيعابه لجميع جزئيات صوره. وإن الخطأ في التقدير الحسي لأمر من السهل إصلاحه بالرجوع إلى التجارب الحسية السابقة والنظر في المكتنز من نتائجها؛ فمعرفتي بأوضاع الفيل(586/20)
المختلفة هي التي هدتني إلى موضع النقص عند أول نظرة ألقيتها إليه من وراء، وبالتالي هدتني إلى إصلاح هذا النقص بتغيير الذي كنت أتخذه من نموذجه. أما الخطأ في التقدير الذهني فأمر يتعذر إصلاحه إلى حد كبير بالإضافة إلى سابقه، لأن الفكرة الواحدة ليست إلا حلقة مفردة من سلسلة طويلة متصلة من الأفكار. وليس الخطأ الأخير في تقدير أمر ما إلا نتيجة أخطاء متكررة سبقت، أو هو شعبة حديثة من الغلط لأصل عميق غائر الجذور من أغلاط متعددة متباينة، والحنظل لا ينبت إلا الحنظل. . .
وإن مراجعة الفكرة الأخيرة لمما يقتضي مراجعة الأسباب التي أنتجتها؛ وهذه الأسباب ليست إلا خلاصة المبادئ والقوانين العقلية التي ارتضاها الإنسان لنفسه واعتنقها، لا جملة واحدة، ولكن مبدأ مبدأ؛ وكل مبدأ منها كان الأساس لما تلاه والنتيجة المحتومة لما سبقه. أو هي - على الأقل - الخلاصة المصطفاة لوحدة تامة مستقلة من هذه المبادئ والقوانين. . .
لذلك يبدو من المعتذر أن يصلح الإنسان خطأ نفسه بنفسه، إلا أن يكون من غير المتعذر على ناسج الثوب أن يستل الخيط الذي أخطأ في تقدير وضعه، دون أن يخل بأوضاع ما جاوره من الخيوط أو يشوه من ترتيبها. وإنما يهون الأمر علينا كثيرا أن نستعين على إصلاح نتائجنا المغلوطة بوسائل غيرنا الصحيحة. ويكون ذلك بالرغبة الشديدة في الاقتناع، والتهيؤ التام لقبول وجهات النظر وإن اختلفت، ثم التجرد الكامل لها بالفهم والإحاطة والتقدير والتمحيص؛ حتى ينبثق خلالها نور الحق، وتنضرح شوائب الريبة فيها عن محض اليقين. . .
والمثل الجلي لاختلاف الحواس في التقدير - تبعا لقصور الفحص أو قلة التعمق فيه - تبسطه لنا هذه القصة التي ساقها الغزالي في إحيائه عن جماعة من العميان ذهبوا ليتعرفوا كنه الفيل وقد أقدمه الملك إلى بلدهم. . . فلمسوه بأيديهم جميعاً في مواضع من بدنه مختلفات، ثم انصرفوا وقالوا قد عرفناه! ولما استوضحهم إخوانهم حقيقته قال الأول، وكان قد لمس رجله: الفيل كأسطوانة من أساطين المسجد، خشنة الظاهر وفيها بعض اللين. . . وقال الثاني وكان قد عثر بنابه: لعمري إن الفيل لم يبلغ قدر الأسطوانة وإنما هو كعمود صغير، ثم إنه ناعم الملمس غير خشن، وصلب لا لين فيه. وتكلم الثالث فقال: بل هو مثل جلد عريض غليظ خلا من شبه الأسطوانة ومن النعومة والصلابة جميعاً. فخالف زميليه(586/21)
فيما قالاه؟ ولا غرو فقد كان يصف - وحده أذن الفيل
ولو تأملنا قليلا لوجدنا الجميع هنا صادقين في وصف ما عرفوا، ولكنهم مقصرون عن الإحاطة بالحقيقة مبلغ تقصيرهم في وسائل التعرف إليها؛ ولو أنهم عاودوا اللمس المستوعب لأعضاء الفيل، لتسنى لهم إذا أن يعرفوا أقصى ما تهيئه لهم وسائلهم المحدودة من اللمس، وهكذا الشأن في كل حاسة يستخدمها الإنسان في التعرف إلى ما يحيط به من حقائق الأشياء. . .
. . . ونعود إلى النظريات العقلية فنقول إن إصرار الإنسان على الخطأ في فكرة ما، ليس معناه العناد أو المكابرة دائما؛ وإنما قد يصدر ذلك - وهو الأكثر - عن إيمان بالرأي عميق وثقة بصحة التفكير ثابتة. ولا يلام الإنسان على هذا الإصرار إلا بقدر ما يصده ذلك عن قبول النقاش أو يحول بينه وبين فحص أراء الغير بالعقل المجرد.
ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن كل فكرة خاطئة لا تخلو من ناحية صواب - ولو ضئيلة - يستمسك بها صاحبها؛ وهي التعليل الحق لهذا الإصرار الذي نشاهده منه، ما دمنا على ثقة من عقله ومن خلقه جميعاً. وفي الواقع إن الخير المحض أو الشر المحض شيئان منعدمان في هذا الوجود؛ وكذلك الصواب والخطأ. . . لا يخلو أحدهما من شائبة ولو يسيرة تلحقه من الآخر. ولقد يتفق أكثر الأدباء على أن المعري كان من أزهد الناس في الحياة، وأعزفهم عن طلب الشهرة والتماس الجاه والنبالة فيها، ثم يأتي من يخالفهم في ذلك ويقول: بل الذي عندي أن الرجل كان من أكلف الناس بالجاه، وأبعدهم همة في طلب المجد والتماس نباهة الشأن. . . أليس هو الشاعر الذي يقول:
ذَرِ الدنيا إذا لم تحظَ منها ... وكن فيها كثيرا أو قليلا
واصبحْ واحدَ الرجلين: إما ... مليكاً في المعاشر أو أبيلا
ولو جَرَت النباهةُ من طريق الْ ... خمولِ إلىَّ لاخترتُ الخمولا
فها هو ذا قد ترك دنيا الناس لأنه فقد الحظوة فيها، ولكنه ملك دنيا أعظم من الجاه العريض والشهرة المدوية. . . دنيا لم يمتلكها من الناس إلا القليل. ولقد عجز عن أن يكون ملكاً نابه الذكر، فكان أبيلا - أو راهباً - أنبه من سائر الملوك ذكراً، وأخلد منهم على الأيام اسماً. . .(586/22)
إنه اتخذ من الخمول سبيلاً إلى النباهة كما قال، فأين وجه الزهادة في كل هذا؟
تلك حجج تتقارع ولكل منها سنده من دليل وعماده من برهان؛ ولكن التسليم بضرورة التفاهم وتبادل الإقناع والاقتناع أهم من كل هذا، وأعظم جدوى في تعرف الحقائق على اختلافها
ولنعرض هنا نموذجاً طريفاً نرى فيه كيف تلتبس الحقائق الواضحة على بعض العقول الحصيفة، حتى يكشف النقاش عن جوهرها؛ فلا يبقى ثمة إلا التسليم والاقتناع، متى خلصت النية وكان الحق هو الهدف المقصود والغاية المبتغاة
قالوا: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله. فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيه فغسلته. فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب (نقض القرآن) فقال له: أخطأت في غسله! فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه؛ واستشاط أبن هبة الله وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا؟! قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه. فإن كان مثله أو خيراً منه - وحاش لله أن يكون ذلك - فلا يجب أن يفرط في مثله. وإن كان دونه وذلك ما لاشك فيه، فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه أبن هبة الله على الحق وسكت
هذه وجهة نظر سديدة أبداها الوجيه، وقد صحبها اعتراف بالحق أعظم منها سداداً، وأجمل في النفوس موقعاً. لكن أين من يراجع اليوم نفسه مثل هذه المراجعة، ويقيس رأيه برأي غيره في مثل هذه الدقة؛ ثم يقتنع شاكراً إن أخطأ، ويقنع متلطفاً إن أصاب. وهو في كل ذلك يأبى على نفسه اللجاج، ويأنف لها من المكابرة، ويتكره أن يكون كمن أنشد فيه الجاحظ قول الشاعر:
وأخلفُ من بول البعير فانه ... إذا قيل للإقبال أقبلَ، أدبرا!
خلافاً علينا من فَيالةِ رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتُذكرا
(جرجا)
محمود عزت عرفة(586/23)
العباس بن الأحنف
للأستاذ محمود المعروف
في العصر الذي ماج بالعلماء، وزخر بالفلاسفة والشعراء والكتاب، حيث العلم في أزهى أيامه، وحيث (بغداد) قبلة الشرق، فاتحة أبوابها، يؤمها خلق كثير من مختلف بقاع الدنيا، وظل الخلافة ممدود، وتاج بني العباس معقود على جبين (الرشيد) في هذا العصر المشرق؛ لمع نجم شاعرنا، وتألق في سماء الشعر؛ فكان موضع إعجاب معاصريه، وفي مقدمة الشعراء الذين أنجبهم ذلك العصر
قمعت الفتن السياسية، فهدأ جو السياسة والإدارة، وولى الناس وجوههم شطر الملاهي، وانغمسوا في الترف والأنس. ففي (بغداد) الحانات والقيان، وجميع أسباب الملذات والمغريات. ففي مثل هذه البيئة، التي إن لم تكن فاسدة، فإن فيها مجالا لفساد الأخلاق، عاش العباس بن الأحنف، وقدمه (أبو الفرج) في (أغانيه) شاعراً مطبوعاً له مذهب حسن، وديباجة مشرقة، ولشعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف؛ وهذا الوصف قد يغلب على أكثر الشعراء، فهو لم يزدنا علماً بهذا التعريف الذي عرف به الكثيرين من الشعراء
عاش شاعرنا بين قوم يتنافسون في المديح طمعاً بالمال والجاه، ويضرمون نار الفتنة بين العدنانية والقحطانية بفخرهم وهجوهم. ولكنه لم يجاوز الغزل إلى ضرب آخر من ضروب الشعر، وميزته تكاد أن تكون معدومة في ذلك العصر. وأن الباحث ليعجب كيف لم يتأثر هذا الشاعر بما كان حوله من ملذات الحياة وزينتها. وكيف أنه لم ينتم إلى حزب سياسي، أو يشايع أميراً، أو يتملق إلى رجل خطير شأن معاصريه من الشعراء. وفي الحين الذي نرى فيه أن غيره (كأبي نؤاس) و (الخليع) و (صريع الغواني) وغيرهم قد ألقوا بقلوبهم وعواطفهم في نيران الشهوات والملذات، وأسرفوا في المدح والهجاء طمعاً بتأمين رغباتهم وسد احتياجهم. نرى (أبن الأحنف) ينصرف عن كل ذلك إلى الغزل النبيل في حب فتاة واحدة لم ينقلب عليها قلبه، ولم تلتفت عينه إلى واحدة غيرها. فهو في حبه كشعراء (بني عذرة) من حيث الثبات على حب واحد
وقنع من العمر بقصيدة يودعها ما عنده من الآلام، وأبيات من الشعر يشكو فيها ما يلقاه من سهد، ويشرح فيها ما يدور في خلده من خواطر يثيرها الحزن وتبعثها الأشواق(586/25)
ردد في جميع شعره اسم (فوز) وكنى أحيانا بـ (ظلوم) ويستدل من هذا إنه لم يتصنع الحب كعمر بن أبي ربيعة الذي يموج ديوانه بأسماء عشرات الملاح، قد وزع عواطفه عليهن فاعترى أكثرها خمول وفتور. والثبات في الحب أضمن لخلود الشاعر في فراديس الوجدان من التنقل هنا وهناك، فتفنى مشاعره، وتذوب إحساساته، فإن أبدع فإلى أجل معلوم
شغلت (فوز) شاعرنا فلم يندفع في ذلك التيار الجارف الذي اندفع فيه أولئك الشعراء و (فوز) كانت أمنيته الوحيدة في حياته، وشغله الشاغل عن كل ما يحيط به من صور العبث والمجون، فلنستمع إليه يقول:
يقولون لي واصل سواها لعلها ... تغار وإلا كان في ذاك ما يسلى
ووالله ما في القلب مثقال ذرة ... لأخرى سواها إن قلبي لفي شغل
إننا حين نقرأ شعر غيره من معاصريه لا نكاد نخرج من ضجيج سمار إلا ونأتي إلى عزف وقيان، وما نكاد نخرج من خان غص برائديه إلا وجدنا أنفسنا في لجب عصابة تطرق أبواب خمارة بعد هجمة من الليل، وقد فرغت أوانيها من الخمر والشراب
ونقرأ شعره فنجد أنفسنا في جو هادئ من الحب والظرف والجمال. في جو يختلف عن ذلك الجو اختلافاً كبيراً، وفي عالم كله لوعة صادقة وإحساس مرهف، وفي دنيا مترامية الأطراف من الأماني والأحلام. قلنا إنه انصرف عن جميع نواحي الشعر إلى ناحية الغزل، وقلما نجد بين الشعراء في مختلف العصور - والعصر العباسي خاصة - رجلا مثله انصرف عن أمور دنياه بتصوير عواطفه بأبدع الألوان، وتفصيل ما انطوت عليه نفسه الرفيعة في شعر سلس بليغ يستهوي القلوب، ويأخذ بمجامع الألباب، وآثاره تكاد أن تنطق بأنه أحرز سبق المتقدمين والمتأخرين في هذا المضمار. وقد شهد له بذلك أكثر المؤرخين والمفكرين، ومنهم الجاحظ. وقد قال: (لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاماً وخاطراً ما قدر أن يكثر في مذهب واحد من الشعر لا يجاوزه، لأنه لا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعراً لزم فنا واحدا لزومه فأحسن وأجاد. . .)
وقدمه (المبرد) في كتاب (الروضة) على نظرائه، وأطنب في وصفه، ومما قاله: (كان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاجراً، وكان ظاهر النعمة(586/26)
شديد التظرف وذلك بين في شعره، وكان حلواً مقبولاً غزير الفكر واسع الكلام)
وهاهو ذا يستأذن أحبابه بالزيارة فيقول:
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
ويسترسل العباس في ظرفه بعد أن يشيع حبه وشغفه بفوز، وقد مرت به (سائلة) فقال:
ألم تر أن سائلة أتتني ... فقالت وهي في طلس بوالي
ألا صدق عليَّ بحق (فوز) ... فقلت لها خذي روحي ومالي
وتكتب إليه (فتاة) أن يصلها فيقول:
فقلت لها إليك هواك عني ... فأني عن هواك لذو انشغال
ومالي توبة إن خنت فوزا ... ولم تكن الخيانة من خصالي
إذا ذكر النساء بكل حال ... فهنّ لها الفدا في كل حال
وكان بينه وبينها مواعيد ورسائل ولقاء، وقد كانت تحدث بينهما بغضاء أحب إلى النفس من الصفاء، وقد شرح كل ذلك في شعره، فديوانه مرآة تنعكس عليها نفسيته الرفيعة، وأحاسيسه المرهفة فيما يقع بينهما من حوادث ومغامرات، فهو شاعر محزون في حالتي الرضا والجفاء. فلنستمع إلى قوله:
أبكي إذا سخطت حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفاً من الغضب
أنوب من سخطها خوفا إذا سخطت ... فإن سخطتُ تمادت ثم لم تتب
وهو الذي يقول:
سأهجر إلفي وهجراننا ... إذا ما التقينا صدود الخدود
كلانا محبّ ولكننا ... ندافع عن حبنا بالصدود
وابن الأحنف كلف بتسجيل حوادثه في شعره، وإني لأحسب ديوان شعره خير تاريخ له يستمد منه الباحث حياته التي كان يحياها، فمن ذلك ما كان يعترض حبه من مقاومة أهله وأهل (فوز) وفي ذلك يقول:
إلى الله أشكو أن فوزا بخيلة ... تعذبني بالوعد منها وبالمطل
وأني أرى أهلي جميعاً وأهلها ... يسرُّهم لو بأن حبلك من حبلي(586/27)
فيا رب لا تشمت بنا حاسداً لنا ... نراقبه من أهل فوز ولا أهلي
وأما حوادثه مع بعض النسوة اللاتي كن يضايقنه وما لهن غرض غير تعذيبه فكثيرة جدا وظريفة إلى حد بعيد، وربما بلغ به الوجد في بعض الأحايين أن يستعدي عليها أهلها، وما عرفنا شاعراً صنع قبله ذلك ولا قال:
أيا أهل فوز ألا تسمعون ألا ... تنظرون إلى ما لقينا؟!
ألا تعجبون لفوز التي؟! ... تميل وتصغي إلى الكاشحينا
قد عجب الناس من أمرنا ... وأنساهم قصص الأولينا
وصرنا حديثا لمن بعدنا ... يحدث عنه القرون القرونا
وقوله هذا يذكرني ببعض أبيات لشاعر شاب جنّ في هواه فأسموه (مجنون بهية) أذكر منها:
شكتني بالأمس إلى أمها ... ما أعظم الخطب وما أسهله!
يا أمها لا تسمعي قولها ... فحبها للقلب قد زلزله
كوني شفيعي في الهوى عندها ... فأنت لي سيدة مفضله
ولعل هذا الشاب المسكين - وقد قرأت شعره كله - قد ارتبط بما ارتبط به شاعرنا من حوادث وآلام، فإني قد رأيت في شعره صوراً من صور العباس بن الأحنف، ولو كنت ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح لم أشك في أن روح إبن الأحنف قد حلت في هذا الشاب المسكين. أقول هذا لأضرب مثلا على أن الكثيرين من الذين صدقوا في هواهم قد اتصلوا اتصالاً مباشراً بروح شاعرنا الظريفة
دون هذا الشاعر حوادثه في شعره إلى جانب تصوير عواطفه فأصبح ديوانه مجموعة فريدة من أخبار ظريفة محببة إلى النفس وعواطف صادقة لم تشبها شائبة من التكلف والصنعة، فأي لوعة أصدق من هذه اللوعة؟!
أتذهب نفسي لم أقل منك نائلاً ... ولم أتعلل منك يوماً بموعد؟!
فإن جاء مني بعض ما تكرهينه ... فعن خطأ والله لا عن تعمّد
وقوله:
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق(586/28)
وأكثر في شعره شكواه من تأخير كتب (فوز) والرد على رسائله، وله في ذلك مذهب لطيف يفيض رقة وجمالا:
أيا من لا يجيب إذا كتبنا ... ولا هو يبتدينا بالكتاب
أما في حق حرمتنا لديكم ... وحق إخائنا رد الجواب؟!
وقوله في قصيدة ثانية:
وكنت إذا كتبت إليك أشكو ... ظلمت وقلت ليس له جواب!
فعشت أقوت نفسي بالأماني ... أقول لكل جامحة غياب
وأن الود ليس بكاد يبقى ... إذا كثر التجني والعتاب
خفضت لمن يلوذ بكم جناحي ... وتلقوني كأنكم غضاب
وللمؤرخين وسائر أئمة الأدب العربي القديم آراء حسنة في هذا الشاعر المجيد، فقد سئل (الأصمعي) عن أحسن ما يحفظ للمحدثين فقال. قول العباس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي ... أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب
وكان (الواثق) يتمثل بقوله:
عدل من الله أبكاني وأضحكا ... فالحمد لله عدل كل ما صنعا
وقال (احمد بن إبراهيم) رأيت (سلمة بن عاصم) ومعه شعر العباس وقلت: مثلك - أعزك الله - يحمل هذا فقال ألا أحمل شعر الذي يقول:
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم ... والقلب مملوء من اليأس
وقال (الواثق) ذات يوم لجلسائه: أريد أن أصنع شعرا معناه أن الإنسان كائن من كان لا يستطيع الاحتراس من عدوه فهل تعرفون؟ فأنشدوه ضروبا من الشعر فقال: ما جئتم بشيء مثل قول العباس:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال (ابن المعتز): لو قيل لي ما أحسن شيء تعرفه لقلت قول العباس إذ يقول:(586/29)
قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا ... وقسم الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمي بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري إنه صدقا
وكان (الرشيد) يعجب بشعره ويستأنس لحديثه، وصادف مرة أن خرج إلى (خراسان) فأمر بخروج العباس في موكب الخلافة، وطال مقامه في خراسان وشخص منها إلى (أرمينيا) والعباس معه، فهزه الشوق إلى (بغداد) وطن صبواته، فاعترض أمير المؤمنين وأنشده:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
ما أقدر الله أن يدني - على شحط - سكان (دجلة) من سكان (جيحانا)؟!
ليت الذي نتمنى عند خلوتنا ... إذا خلا خلوة يوماً تمنانا؟
فأذن له (الرشيد) بالرجوع
ومات العباس بن الأحنف، وإبراهيم الموصلي، والكسائي في يوم واحد. فرفع ذلك إلى الرشيد فأذن للمأمون أن يصلي عليهم بالناس فبدأ بالصلاة على العباس ولما انتهت مراسيم الدفن تقدم من المأمون أحد رجال حاشيته واستخبره عن سبب ذلك. فقال المأمون:
كيف لا أبدأ بالصلاة عليه وهو الذي يقول:
سمّاك لي قوم وقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
وكانت وفاته سنة (192هـ) وكان له من العمر (60) سنة ودفن في بغداد.
(بغداد)
محمود المعروف(586/30)
الشوامخ. . .
للدكتور محمد صبري
كان المرحوم شوقي يقول: (إن الذين لم يصلوا أعداء للذين وصلوا). والأولون كثيرون في مصر وفي كل بلاد الله. في كل زمان ومكان، وكان البحتري ينافسه عند الخلفاء طائفة من الشعراء المهرجين الذين كانوا يأخذون الجوائز رغما من حقارة شعرهم، وكان البحتري يضج من هذه الحال ويكثر التبرم والشكوى، وهو القائل:
على نحت القوافي من مقاطعها ... وما علي لهم أن تفهم البقر
وكان بعض النقاد الفرنسيين يزعم أن فكتور هيجو ليس شاعراً وأنه ينهق نهيق الحمار، على أن هذا وذاك لم يمنع العبقريات في كل جيل من الثبات والاستقرار كالطود الذي لا يعبأ بطنين الذباب وترهات الأغبياء والدجالين وأنصارهم وصنائعهم
على أن الذي يراقب الحالة من كثب في مصر منذ ثلاثين عاما يجد أن الحركة الأدبية قد دبت إليها في العهد الأخير عين الفوضى التي اجتاحت الميدان السياسي فأصبح كثيرون من أنصاف المتعلمين والمتأدبين يشرفون على الصحف ويزنون الكتاب وكتاباتهم بموازينهم، ويفسحون صدورهم للتهريج ومحاربة الأدب العالي الذي يجهلونه. والذي زاد في طغيان تلك الفئة إقبال الجمهور على ما يكتبون. وسواد الجماهير في كل أمة ميال إلى هذا النوع من الأدب الرخيص
فيجب على أدبائنا أن يعالجوا هذه الحال التي أصبحت كالسيل تجرف الحدود وتقلب المقاييس والأوضاع، وهذا الواجب يقع أولاً على عاتق مجلاتنا الكبرى، فمن نكد الدنيا أن تجاري بعض هذه المجلات التيار العام فتفقد اتزانها وتزور عن أهدافها
أقول ذلك بمناسبة مقال نشرته مجلة (الثقافة) لدكتور تخرج حديثا في كلية الآداب وأراد أن يظهر ذكاءه الخارق وأدبه في مقال عن (الشوامخ). فكان كناطح صخرة، وإني لا يضيرني أن يكتب هذا وذاك فالقافلة تسير، وليس من العسير على أي إنسان أن يتهكم ويقول إن الكتاب الفلاني لا يساوي شيئاً، ولكن العسير أن يرزقكم الله قدرة على الفهم ولا ذنب لي إذا لم تفهموا
وإذا كان جل فحول القدماء لم يفهموا امرأ القيس، وقد سجلنا آراءهم تسجيلا كما سجلنا(586/31)
آراء بعض كتاب العصر، فهل ينتظر من ذلك النفر أن يفهموا ما يكتب عن امرئ القيس، ذلك الغواص المنقب في حدود الطبيعة عن أبدع الصور والمعاني
خير لأولئك أن يثبتوا أولاً أن لهم ذوقا أدبيا أو إدراكا أدبيا قبل أن يتعرضوا لنقد الكتب التي لم تكتب لأمثالهم فلسنا من تجار الأدب الرخيص، ورحم الله الزمن الذي كان يقف فيه كل عند حده، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه
وإني لأسمح لنفسي وأستسمح (الرسالة) في نشر قطعة من كتابي ليقرأها من لم يقرأ الشوامخ، ويحكموا عن بينة:
(وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته في أفق الطبيعة الواسع، وتلك النظرات المترامية بين حباب الماء وكواكب الظلماء. وله في لمعان البرق واختلاجه في السماء آيات لا هي من الوصف الحسي، ولا هي من الوصف الخيالي، وإنما هي تصوير فقط، هي وحي شاعر ملهم عاش وجرب وتأمل في الوجوه فرأى بواسع فطنته وقوة ملاحظته ذلك السبب الدقيق الذي يصل بين اختلاجات النفس البشرية في أبعد أغوارها، وبين كل حركة وسكنة ترتسم على وجوه الرجال وأيديهم. . . ثم أنشأ بين هذه الاختلاجات واختلاجات الطبيعة خيطا من الخيال وصل بينهما وجعل منهما وحدة كبرى، قال:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
وقال:
أعني على براق أراه وميض ... يضيء حبياً في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض
وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض
لمح الشاعر بحسه المرهف في وميض البرق وتبوجه لمعان أكف المقامر الفائز أو الذي يتناول الظفر بين المقامرين. فوفق بين الحقيقة والخيال، وأبدع أيما إبداع في جمعه بين الكون والإنسانية التي تعيش تحت سقفه، الإنسانية التي تلهو وتجد، وتضحك وتبكي، وتقامر وتغامر. . ,. فإذا اتصلت الأرض بالسماء: الأولى بحركات أيدي لاعبيها، والثانية بلوامع بروقها، وظهرت تلك الصلة الدقيقة بينهما في شعر، كان ذلك الشعر ترجمان الحياة، لأنه يلقى من أعلى عليين شعاعاً على أغوارها).(586/32)
هذا مثل من الكتابة (الهينة) التي كتبناها، وقد أراد هذا الكاتب أن يتظرف فقال أننا قرأنا (بعض) شعر أمرئ القيس فإذا كانت كتابته ثمرة من تعليم الجامعة وأساتذتها. فقل على الدنيا السلام. . .
محمد صبري(586/33)
يا قارئ الكف!
للدكتور عزيز فهمي
يا قارئ الكف ماذا أضمر القدرُ؟ ... ولا عليك إذا لم يَصْدُقِ الخَبرُ
وما اهتمامك باسمي؟ هَبْه عنترةً ... وهبة زيداً. . . وَجَدِّي عَمْرو أَو عُمَرُ
عليك بالكَفِّ فاقرأ بين أسْطُرها ... ماذا يَدُلُّ عليه الخَطُّ والأثَرُ
أطالُع اليمن أن الخطَّ مُتَّصِل ... وآيةُ النَّحْس أن الحدّ مُنْبَتِرُ
وما الشِياتُ على جَنْبَيْ ثمانَيةٍ ... تبدو كَوَشْمٍ وتخفى حولهَا غُرِرُ؟
خبِّرْ عن الفألِ لا تَجفَلْ فسانِحةٌ ... عندي كَبارِحَةٍ والشّر يُنْتَظَر
هل أنْسَأ اللهُ في عمري إلى أجلٍ ... يُلِحُّ فيه عليَّ الهَمُّ والكْبَرُ؟
وهل أبَلَّغُ آمالي؟ وأبعدُها ... عندي كأقْربها ناء ومُحْتَضَرُ
هبني ظفرت بآمالي على ظمأ ... إذا ارتَوَيْتُ فماذا يعقب الظّفَرُ؟
وهل أوَسَّدُ حَزْنا وحضيً ... في جَوْفِ هاوِيَةٍ أغْوارُها حَجَرُ
أم هَوْجَلا قَذَفا تنبو براكبها ... لا البيدُ عَبْدَها يوماً ولا الحَضَرُ
قفراء جرداء لم تكلأ حشائشها ... إلا السواقي ولم يعلق بها مَطَرُ
أم تُقدَح النارُ من حولي فَتْطعَمُنِي ... حَيّاً وأشْوى بها أيّانَ تَسْتَعِرُ
أم أنّ في مَسْبَحِ الحيتان مُنْقَلَبي ... يومَ الرحيلِ إذا نادانيَ السفَرُ؟
قل ما بدا لَكَ واهْرِفْ غيرَ مُبْتَدِعٍ ... فالرجْمُ بالغيب - لو تدري - هو الهذَرُ
اللّحْدُ كاللَّحْدِ والأكفانُ واحدةٌ ... ولا خيارَ لميْتٍ حينَ يَدَّثِرُ
والمالُ كالعُدْم لولا أنه أمَلٌ ... إنَّ الغَنِيَّ إلى الأموال مُفْتَقِرُ
والسَّعْدُ حالٌ على الإنسان طارئةٌ ... (وعند صفو الليالي يحدث الكدر)
لولا التشابهُ في الأقدار ما صَدَقَتْ ... عَرّافَةُ الحَيّ، من تُوفَى لها النذُرُ
عزيز فهمي(586/34)
القصص
أين المدفع؟!. . .
للقصصي التركي خالد ضيا
كانت المدافع والبنادق تنطلق وتقذفهم باللهب من كل جهة بين دوي متواصل. وانطلقت من بين الجبال التي قبالتهم قذيفة وطارت في الفضاء تخترقه بسرعة البرق، ثم هوت على الأرض فكان لسقوطها القوي السريع دوي شديد هز الآفاق هزاً عنيفا. ثم قذيفة أخرى فثالثة فرابعة. . . قذائف لا حصر لها ولا آخر تمر من فوق الرؤوس وتتساقط حولهم. تلك السلسة التي لا تنقطع من نذر الموت والهلاك
لم يكن هؤلاء إلا فصيلة من الجند معها مدفع واحد تصعد به في سفح جبل شاهق شديد الانحدار، مخيف المنظر. كانت هذه الفصيلة تقتفي أثر ضباطها وسط ركام متراكب من الضباب، مسترشدة ببريق ظبات السيوف في أيدي الضباط السائرين في المقدمة
كانوا يتسلقون الجبل القائم أمامهم، بكل ما وسعهم من جهد وبلاء. مستعينين على ذلك بأيديهم وأظفارهم بل وأسنانهم - إذا لم تكفهم في التسلق أرجلهم. كانوا - وهم يصعدون في الجبل صخرة صخرة - يؤملون في فتح الطريق إلى الظفر، إلى النصر المبين. استجمعوا كل قواهم، وشدوا الحبال على أعضادهم، وكونوا من أجسامهم المتراصة المتماسكة كتلة واحدة وتقدموا إلى الأمام صاعدين في سفح الجبل القائم أمامهم كأنه سد محكم البناء
كان عثمان في المقدمة. فتلفت حواليه. ورأى هذا المنظر العجيب، ثم شخص ببصره إلى قمة الجبل الذي كانوا لا يزالون يتسلقونه. . . آه. لو وصلنا إلى هذه القمة!. . . لو استطعنا وضع هذا المدفع هنالك!. . .
كان هذا المدفع هو كل شيء لهؤلاء الجنود. كان الأمل الذي تحيا عليه نفوسهم، والجنة التي تحفظ أرواحهم. صرخ عثمان في رجاله: (أسرعوا!. . .) صوتت الحبال على أعضاد الجند، وخطا المدفع خطوة خفيفة إلى الأمام، كأنه العروس ليلة زفافها تمشي الهوينا من الخفر والحياء
كان عثمان في المقدمة. يتبع كل خطوة يخطوها إلى الأمام بصيحة من أعماق قلبه قائلا:(586/35)
(أسرعوا!. . .). والآن كانوا يصعدون إلى قمة الجبل وهم يجرون المدفع، منبطحين على الأرض، ملتصقين بالحجارة، يحفرون التراب بأيديهم وأظافرهم، يزحفون تارة ويقعون أخرى، يتأرجحون في الهواء. قد تقطعت ملابسهم، وتشققت أيديهم، وتقرحت أعضادهم، وتخلعت أظافرهم. ولكنهم سائرون إلى الأمام دائما، لو استطاعوا أن يخطوا عدة خطوات أخرى إلى الأمام لبلغوا قمة الجبل، ولوضعوا المدفع هنالك، وربما كان هذا المدفع إذ ذاك قائد هذه الفرقة الصغيرة من الجند إلى الفوز والظفر!
كان عثمان في المقدمة، وكان يستطيع الآن أن يشرف على المناظر التي أمامه تماما من مكانه المرتفع. هذه الجبال التي قبالته، وجميع تلك الحصون والمعاقل التي للأعداء. كانت هذه الحصون الصخرية التي تقذفه بالنار واللهب ترى قريبة منه جدا، وكان يخيل لعثمان إنه لو مد يديه لاستطاع أن يقبض على هذه الحصون وتلك المعاقل بيديه القويتين ويضعها إلى صدره القوي المتين، فيسحقها سحقا ويذروها في الهواء. كان العدو قد بصر بهم وجعلهم هدفه، وصوب نحوهم أفواه مدافعه وأخذ يمطرهم وابلا من الصواعق والنيران، ليقضي القضاء الأخير على هذه الشرذمة من الجند الباسل. نظر عثمان إلى أصحابه وتأمل منظرهم فرأى منظرا عجباً. رآهم وقد رفعوا رؤوسهم جميعا إليه كأنهم يحيونه التحية العسكرية. كانت عيونهم متجهة إلى السماء شاخصة كأنها تقول: (إلى الأمام!). ومرة أخرى قال: (أسرعوا!)، وخطا المدفع خطوة أخرى. آه. لو خطوا عدة خطوات أخرى مثل هذه الخطوة لبلغوا قمة الجبل. . .
وعلى حين غرة سقطت بينهم إلى جانب المدفع قطعة كبيرة من السحاب، وبعد لحظة انفجرت هذه السحابة وخرج منها بريق خاطف للأبصار، ومضت فترة لم يستطع عثمان أن يتبين شيئا مما حوله، ثم رأى خلال الظلام المخيم عددا من الجند الساقطين على الأرض. في هذه اللحظة أدرك الحقيقة المرة. وعلم أن العدو - بعد أن نجح في إصابتهم ومعرفة موقعهم - لا يلبث أن يدك هذا الموقع دكاً
كان الموقف حرجاً والوقت ضيقاً لا يسمح بإضاعة دقيقة واحدة؛ فصرخ في أصحابه - وهو يلقي على إخوانه المجدلين على الأرض نظرة كلها حزن وألم ورثاء - قائلا: (أسرعوا!)(586/36)
انبطحوا على الأرض وجروا المدفع. ولكن يد عثمان استرخت وشعر فوق عضده بشيء بارد. فالتفت بسرعة وحل الحبل عن عضده المجروح وتمنطق به، ثم صرخ في أصحابه يشجعهم ويستحثهم وبذلوا كل ما كان في طاقتهم أن يبذلوه. وتعلقوا بالأرض وتشبثوا بها. إلا أن عثمان في هذه المرة سقط على الأرض وصك أذنيه صوت يقول: (انقطع الحبل!. . .)
فهب واقفا. ورأى وهو لا يصدق عينيه المدفع يتدحرج على سفح الجبل بعد أن أفلت من الحبال التي كانت تمسكه
كان ذهاب هذا المدفع من أيديهم معناه انقضاء كل شيء بالنسبة إليهم ونذير القضاء عليهم قضاء أخيراً
في هذه اللحظة الحرجة ألقى عثمان نفسه على المدفع الذي كان يتدحرج على الصخور وينحدر إلى أسفل الوادي. وتعلق به ولكنه لم يستطع أن يصده ويحول بينه وبين الانحدار فقد كان المدفع ثقيلاً، وكان ثقل المدفع يدفع بجسمه الضعيف أمامه ويجره إلى الوادي العميق المخيف الذي تحته جراً عنيفاً قوياً. فهو تارة فوق المدفع، وتارة تحته، وفي الحالتين ينحدر إلى أسفل الوادي مضطرباً بين الصخور. يجره المدفع إلى حيث الهلاك والدمار. كان عثمان فاقد الوعي، لا يرى شيئا، ولا يعرف شيئا. إلا إنه وهو ينحدر إلى أسفل الوادي بشكل قوي لا مجال لمقاومته - كان يفكر في شيء واحد: ألا يترك المدفع يفلت من بين يديه. . . كان شاخص البصر يحدق تارة في هذه الغيوم التي تكونت من دخان البارود وتلبدت حتى حجبت وجه السماء عن العيون. وتارة أخرى في منظر هذا الوادي العميق المخيف المحفوف بالأهوال. ومرت فترة وهو كذلك، ثم لم ير شيئاً ولم يسمع شيئاً. فقد سكت كل شيء وانمحى من لوح تفكيره. فلم يعد يشعر بتلك الجبال المشتعلة ناراً ولا يفرق العدو التي كانت تمطره وأصحابه وابلاً من الرصاص. لا شيء. لم يكن يشعر بشيء مما حوله أبداً
أراد أن يتحرك. أراد أن ينفض عن جسمه ونفسه ما استولى عليهما من الاضمحلال والانحلال. أراد أن يمزق هذا الكابوس الجاثم فوق صدره ليتخلص من هذا الضيق. ولكنه لم يستطع الحركة. كان يحس بضيق أنفاسه. ويشعر بأن غمامة سوداء قاتمة تخنقه وتحبس(586/37)
أنفاسه في صدره. أراد يصرخ فلم يتمكن أيضاً
شعر بالوحدة والعدم يستوليان عليه، وأحس كأن نفسه تذوب بين جنبيه. وتفنى وسط هذا العدم اللانهائي الشامل.
ولما أدركه أصحابه وجدوه في شعب ضيق من شعاب الوادي محصورا بين صخرتين قابضا بكلتا يديه على شيء أمامه. فحاولوا فتح يديه. ولكنهما لم تفتحا
وأخيراً استطاع أن يفتح عينيه، فنادوه: (عثمان إنك جريح) فأراد بصره في أصحابه. وكأنه لا يفهم شيئا مما حوله، ثم نطق - وهو شاخص البصر إلى قمة ذلك الجبل الذي حاول تسلقه فقال: (أين المدفع؟)
لم يملك أصحابه حينئذ أنفسهم فتحدرت من عيونهم قطرات الدمع السخينة
إن المدفع كان بين يدي عثمان، وكان لا يزال يقبض عليه بكلتا يديه!
ترجمة
برهان الدين الداغستاني(586/38)
العدد 587 - بتاريخ: 02 - 10 - 1944(/)
نقد عسكري
للأستاذ عباس محمود العقاد
نظر الكاتب العسكري الفاضل الملازم الأول سيد أفندي فرج نظرة مجملة في كتابنا (عبقرية خالد) الذي هو أقرب الكتب في (العبقريات) إلى موضوع الكتابة العسكرية، فأثنى عليه وتناول بالملاحظة والنقد مواضع منه متفرقة يرجع معظمها إلى حواشي الموضوع دون صميمه
والثناء يخصنا فلا محل له من التعقيب بيننا وبين قراء الكتاب أو قراء الرسالة. أما الذي نعقب عليه هنا فهو مواضع النقد والملاحظة التي تحتاج إلى جلاء وتفرقة بين وجهة النظر ووجهة النظر في رأي الجندي الأديب
قال حضرته: (يرى الأستاذ العقاد أن الخليفة الصديق كان يضع الخطط التي ينفذها خالد. . . ولكن النصح شيء ووضع الخطط شيء آخر، والمثال قريب. فإننا نرى في الحرب الحاضرة أن الرئيسين روزفلت وتشرشل - وأيضا فوهرر ألمانيا - يرسمون الخطط العامة، أي يحددون الأهداف ويرسمون مع قادتهم ما يحتاجه الموقف من حشود ومعدات، ثم يبدأ دور القائد العام فينظم قواته ويوزع واجباتها ثم يقوم بتحريكها إلى الساحات المعينة. . . وهي أمور لا يعرفها الرؤساء المدنيون الذين لا تتيح لهم ظروفهم دراسة الميدان وأوضاع العدو وفهم ضرورات الموقف الحربي العام)
والذي يبدو لنا أن الناقد الفاضل قد نسي الشيء الجدير بالذكر في هذا المقام، وهو أن الفرق بين أبي بكر الصديق وخالد إبن الوليد ليس كالفرق بين روزفلت وتشرشل وبين إيزنهاور ومنتغمري وويفل وسائر القواد
فخالد بن الوليد لم ينشأ في مدرسة عسكرية غير المدرسة التي نشأ فيها الصديق وسائر الخلفاء عليهم رضوان الله. وما يفهمه الخليفة من مواقع القتال العربية شبيه بما يفهمه القائد الحاضر في الميدان. فهلا غرابة في سبق الخليفة ببعض الخطط على حسب المعلومات التي اجتمعت لديه، وإن كان هذا لا ينفي أن الشاهد يعلم ما ليس يعلمه الغائب، وأن القائد في تنفيذه يضطلع بالمهمة العملية وينفرد بها دون الخليفة صاحب الخطة أو صاحب النصيحة، وهذا الذي رجحناه حين قلنا: (إن خالدا قد تولى التنفيذ في ترتيب(587/1)
أعماله وتولاه أيضاً في أوائل خططه، ولكنه قد وكل إلى نفسه في الأمور التي يعلمها الشاهد ولا يعلمها الغائب، ومنها موعد المسير وطريقة الهجوم واللقاء)
وإنما حدث هذا في بعض حروب الردة ولم يحدث في حروب خالد جميعها، لأن الخليفة لم يتجاوز النصيحة العامة في حروب العراق والشام
وقال الناقد الأديب: (ذكر الأستاذ العقاد أن تشكيلات جنود العرب للقتال إنما كانت تنظم على النحو الذي تتطلبه أسلحة الخصوم، فقال إنها كانت تحارب مرة بالصفوف ومرة بالكراديس، وهو قول حق، غير أن هناك عوامل أخرى تملي على القوات نوع التشكيل كحالة الأرض والنسبة العددية وأوضاع العدو وخططه، ولنضرب مثلا بحالة الأرض وتأثيرها في التشكيلات، فالأرض المكشوفة التي تتيح الرؤية بسهولة تحتاج إلى تشكيلات مفتوحة أي متباعدة توفيرا للخسائر. أما الأرض الجبلية وذات المسالك المحددة فتناسبها التجمعات. . .)
ونحن نقول: إن تعدد أسباب التشكيلات لا دخل له فيما نحن فيه، وإنما الذي يعنينا هو الذي حدث في الحروب التي أشرنا إليها بين العرب وخصومهم من الفرس والرومان
فالعرب لم يتخذوا نظام الكراديس لاختلاف مواقع الأرض لأنهم حاربوا بالكراديس في وقعة ذي قار وهي بطحاء، وحاربوا بالكراديس في اليمامة وهي جبلية، وحاربوا بالكراديس في اليرموك وهي بين الجبلية والبطحاء، وإنما كانت علة اختيار هذا التشكيل هي ما ذكرناه في الكتاب مستندا إلى الواقع دون سواه. . .
وقال الناقد الأديب: (ليس في الكتاب تصوير للوقائع الحربية، أعني تنقصه المعلومات الخاصة بقوات الفريقين المتحاربين في كل وقعة، وأسلحتها وأوضاعها والظروف المختلفة التي كانت تتحكم في سير القتال، حتى كانت عبقرية خالد الحربية تظهر بأسبابها وتفاصيلها، ولاشك في أن الصعوبات التي نعرفها عن مصادر البحث، وأن الكتاب لا يختص بالناحية الحربية وحدها هي التي حرمتنا تلك الدراسة النافعة)
والعجيب أن هذه الملاحظة كلها تخالف الواقع من الألف إلى الياء. فقد عنينا بإحصاء عدد الجيوش في حروب خالد من مصادر شتى، وأثبتنا التفاوت البعيد بين الروايات المختلفة، ومن ذلك قولنا عن حرب اليمامة (ولا يعلم على التحقيق عدد الجيش الذي معه في(587/2)
عقربان، ولكنه على التقريب يجاوز الثمانية الآلاف ولا يقل عنها، لأن جيشه بالبزاخة نحو خمسة آلاف، يضاف إليها جيش شرجيل بن حسنة الذي سبقه ولبث في إنتظاره، ولا يقل عن ألفين، ويضاف إليهم الردء الذي أرسله الصديق وراءهم بقيادة سليط بن عمرو ليحمي ساقتهم، وغير هؤلاء من تطوع للحرب مع المسلمين من بني تميم وبني حنيفة، فهم في جملتهم يجاوزون الثمانية الآلاف ولا ينقصون عنها إن نقصوا إلا بقليل)
فنحن لم نكتب بالإحصاء المنصوص عليه بل أضفنا إليه الإحصاء الذي يجمع بالمقابلة والاستقصاء، ثم قلنا: (. . . وبلغ عدد القتلى جميعاً في ذلك اليوم بين ساحة القتال وحديقة الموت عشرات الألوف: أقلهم في تقدير المقدرين عشرة آلف من بني حنيفة وستمائة من المسلمين، وأكثرهم في تقدير المقدرين يرتفعون إلى سبعين ألفا أو ثمانين ألفا حنفيين وألفين مسلمين، وهو رقم لا يدل على نبأ صحيح، ولكنه يدل على هول صحيح سرى في الآفاق من أنباء تلك المعركة
ولقد كنا نضيق ذرعاً بهذا التفاوت البعيد في الروايات وفي وصف الحركات فنتركه جانبا عند الحكم الفصل في الأمور ولا نجعل هذا الحكم الفصل معلقا عليه، وقررنا ذلك فقلنا: (إذا كان كل شيء في المعركة يتوقف أحيانا على كذا وكذا من الخطوات في السبق إلى حومة القتال، وكذا أو كذا من الأشياء في طول الرماح، وكذا أو كذا من التفاوت في سرعة القذيفة هنا أو هناك، وكذا أو كذا من الحركات إلى اليمين أو إلى الشمال والى الأمام أو إلى الوراء؛ فتفصيل أسباب النصر في المعارك القديمة على التخصيص ضرب من المستحيل، لأن إثبات الفوارق بين المعسكرين في الأسلحة والمواعيد والعدد والحركة غير ميسور، وأقصى ما نطمع فيه أن نقنع بالإجمال دون التفصيل)
فنحن قد أثبتنا من التقدير والوصف ما هو صالح للثبات، وتعمدنا اجتناب التقديرات المتفاوتة والأوصاف المتناقضة لأنها لا تصلح للتعويل عليها ولا يحسن بالمؤرخ أن يرجع إليها بغير الإشارة والترجيح كما قلنا (الإجمال دون التفصيل)
وقال الناقد الأديب: (لاحظت أن في الكتاب ميلا إلى اتهام خالد بالقسوة. . . وليس يغرب عن البال أن صفات الشدة والصلابة هي سمات الرجل العسكري الذي لا ترضيه أنصاف التدابير، بل يهمه أن يضرب ضربة واحدة تقصر أجل الحرب وتختصر الآلام، وكثيرا ما(587/3)
أملت الظروف على عظماء القادة أن يكونوا غلاظ الأكباد، لا لشيء طبيعي في نفوسهم، ولكن لأن أعمالهم تحتم ذلك، فيكون في الشدة الرادعة ما يشبه الدرس للآخرين، وخصوصا في ظروف حاسمة لا تسمح بالتراخي واللين)
والذي لاحظناه من صرامة خالد هو الذي لاحظه عمر إبن الخطاب رضى الله عنه حين قال: (إن سيف خالد لرهقاً) بل هو الذي بدا من براءة النبي عليه السلام إلى الله مما فعل (خالد بن الوليد) بعد حادث بني جذيمة
على أننا نفينا عنه قسوة الضغينة الشائنة وقلنا: (إن هذا الولع كله بالحرب لم يكن ولعا بالشر والسوء، ولا ولعا بالضغينة والبغضاء، فكانت عداواته كلها عداوات جندي مقاتل، ولم تكن عداوات مضطغن آثم. . . وعلى كثرة من قتل خالد في حروبه لم يكن يقتل أحدا قط وهو يشك في صواب قتله وإن أخطأ وجه الصواب. . . أما إذا شك في صوابه فهو يستكثر المساءة إلى رجل فضلاً عن الجحافل والقبائل، ويسبق إلى الرفق رجلا كأبي عبيدة عرف طول حياته بالرفق والرحمة والأناة. . .)
ونحن بعد هذا لا نستغرب الصلابة في أخلاق رجال الحروب، ولكننا لا نغتفر سفك الدماء لغير ضرورة وبغير حساب، فإن الشجاعة صفة إنسانية عالية، وليس مما يوافق الصفات الإنسانية العالية أن تهون حياة الألوف لغير سبب وبغير حجة، وأن يعمل القائد في الميدان كأنه ليس بإنسان، وما علمنا قط أن الرفق في أخلاق المعسكرين كان عائقا بينهم وبين الظفر والنجاح، فإنهم بهذا الرفق يحسنون صيانة الأرواح في جيوشهم ويكسبون ثقة الأمم ويحاربون بالسمعة المشكورة كما يحاربون بالرهبة والسلاح.
وقال ناقد الأديب: (. . . كان ضرورياً أن يذكر فصل خاص بصفات خالد الحربية، وفصل آخر خاص بفنونه الحربية، وفي الأول نستطيع أن نفاضل بين خالد وغيره من عظماء العسكريين في جميع العصور)
والعجب أيضاً في هذه الملاحظة أن الناقد الأديب يتطلب هذا الفصل وهو معقود في الكتاب، ويتطلب المقابلة بين خالد وغيره من العظماء العسكريين، وقد قابلنا بينه وبينهم في موضع المقابلة.
ففي الكتاب فصل عن عبقريته الحربية يستغرق اثنتي عشرة صفحة، وفي هذا الفصل(587/4)
نقول: (إن المقارنة بينه وبين قواد الطراز الأول في الزمن القديم تقدمه إلى المرتبة الأولى بين أكبر القواد، ومنهم الإسكندر وبلزاريوس اللذان حاربا عدوا كعدوه في ميدان كميدانه. فالإسكندر في وقعة اربل هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بمائة ألف من الفرسان والمشاة، وبلزاريوس في وقائع أرمينية هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بأربعين ألفا أو قرابة الأربعين، والمقارنة بين خالد بن الوليد وهذين القائدين ترجح كفته على كفتيهما معا في هذا الميدان، لأن الإسكندر كان يقود خمسة وأربعين ألفا، وبلزاريوس كان يقود نيفا وعشرين ألفا، وكلا الجيشين مسلح بأمضى الأسلحة في ذلك الزمان)
أما الفن العسكري عند خالد فلو أننا نقلنا ما ذكرناه عنه في الكتاب لضاق به المقام، وحسبنا أن نشير هنا إلى فقرة واحدة تدل على جملة أوصافه حيث نقول: (. . . إنه لم تعوزه قط صفة من صفات القائد الكبير المفطور على النضال، وهي الشجاعة والنشاط والجلد واليقظة وحضور البديهة وسرعة الملاحظة وقوة التأثير، وأنه كان يضع الخطة في موضعها ساعة الحاجة إليها، فكان يحارب بالصفوف كما كان يحارب بالكراديس، وكان يحارب بالكمين والكمينين كما يحارب أحيانا بغير كمين، وكان يستخدم التورية والمباغتة والسرعة على أنماط تختلف باختلاف الدواعي والأحوال. وقد علم أن تمزيق الجيوش أجدى في الحرب من الحصار والاحتلال، وعلم أن الخبر قوة وسلاح، فكان يستطلع أخبار العدو ولا يتيح له أن يستطلع خبرا من أخباره، وأجدى من ذلك كله إنه كان لا يغفل عن القوة الأدبية يعززها ما استطاع في جيشه ويضعفها ما استطاع في جيش عدوه)
وهذا قليل من كثير مما كتبناه عن عبقرية خالد الحربية مجموعاً في الفصل الخاص بها أو موزعاً في سائر أجزاء الكتاب
فلا نريد أن نقول إن الناقد الأديب قد تجاهله عامدا أو قرأه ولم يفطن إليه، ولكننا نقول أنه قرأ جانباً من الكتاب وفاته جانب آخر أو جوانب أخرى، وهو على ذلك مشكور لحسن قصده والتمهيد لهذا البيان في تصحيح ملاحظاته، وتيسير الحكم للقراء فيما قلنا وما قال
عباس محمود العقاد(587/5)
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
سمعت منذ شهرين أن سعادة عبد العزيز فهمي باشا الذي اقترح على مجمع اللغة العربية أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، يطبع كتابا يجيب فيه على المعترضين على رأيه، فقلت لمن أخبرني: جدير بكل ذي رأي أن يدفع عنه حتى يتبين للناس إنه مصيب أو يتبين له هو إنه مخطئ
ثم أرسلت ألي نسخة من الكتاب منذ عشرة أيام فتعجلت النظر فيه آملاً أن أجد جدالاً يمليه الإنصاف، وتحوطه التؤدة والأناة، ويقصد إلى الغاية على طريق مستقيم لا يجور به الهوى، ولا تحيد عنه العصبية، ولا يقطعه الكلام في غير الموضوع على غير وجه
ثم عبرت الكتاب فإذا المؤلف يعدد في القسم الثاني من كتابه ثلاثة وعشرين عنوانا متوالية على العدد، ويحاول بعد كل عنوان أن يذكر اعتراضا ويرده، ولو استقام البحث على هذه الطريقة لاستوعب المؤلف الاعتراضات كلها، وأجاب المعترضين جميعا غير معرج على الأشخاص، ولا هانو عن الجدال في الرأي إلى الاستهزاء بصاحبه والافتراء عليه. ولكن الأستاذ عرض في بعض هذه العنوانات لذكر أشخاص بأوصافهم أو بأسمائهم. وأطال في تجريحهم بأشياء توهمها لا تتصل بموضوع الجدال صلة قريبة أو بعيدة، على حين أوجز في الفصول التي ردّ فيها الاعتراضات غير مبال بالأشخاص. فنم صنعه عن قصده إلى الانتقام من ناس خالفوا رأيه، ودل فعله على أن تجريح هؤلاء ينال من اهتمامه نصيبا أكبر من الاعتراضات التي جادل فيها
وقد قرأت الفصل الخامس عشر الذي تكلم فيه عن كاتب أرسل إليه بالبريد صحيفة فيها مقال يجادله فيه. قرأت هذا الفصل متعجبا مشدوها لا أكاد أصدق أن هذا الهجوم الحاقد والطعن المتدارك خطه قلم الأستاذ الجليل. وحسبت أن الأستاذ ترك الموضوع إلى هذا الطعن والتجريح في أمور لا صلة لها بالموضوع عقابا لرجل يعرف الباشا إنه يستحق ما يرميه به، ويرى ألا يضيع الفرصة للانتقام منه. وحسبت أن الرجل لو لم يكن جديراً بهذا ما رماه به المؤلف. ثم عرفت الرجل المقصود من بعد فإذا هو رجل مجاهد مخلص يعمل دائباً صامتاً لا يماري ولا يفتري. فلبثت حيران لا أدري ما وراء هذا من سر. وللرجل قلم(587/6)
هو أولى الأقلام وأقدرها على الدفاع، فلست محاولاً الدفاع عنه، ولكني أجعل الطعن فيه والبغي عليه مقياساً لما في كلام المؤلف من تثبت وتورع عن ظلم الناس والعدوان عليهم
وكان العنوان: (الحادي والعشرون) نصيبي من رد سعادة الأستاذ
وأنا أقدم قبل مجادلته فيما أدعي، أني كتبت في هذا الموضوع قبل تسع سنين حينما نشرت في مجلة الرسالة مقالاتي عن النهضة التركية الحديثة. وأني عنيت به منذ غير الترك العثمانيون كتابتهم. وحادثت فيه وجادلت في مصر والبلاد العربية وفي تركيا وأوربا قبل أن يختار الأستاذ عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد اخترت موضوع محاضرتي: (الخط العربي. مزاياه وعيوبه) قبل أن ينشر تقرير الأستاذ الذي قدمه إلى المجمع. ونحن نسجل موضوعات المحاضرات العامة أول العام الدراسي ثم نلقيها ولاء في أوقاتها. ولم يكن سعادة الأستاذ يشغلني كثيراً وأنا أكتب محاضرتي وإنما عمدت إلى البحث الصرف غير مبال بالأشخاص لاسيما سعادة الكاتب الذي لم يبتدع هذه البدعة بل تبع فيها دعاة هم أولى بأن يجادلوا فيها
ولكن المؤلف توهم نفسه إماماً في هذه الدعوة، وحسب كل مجادل فيها يعنيه لا يعني غيره، وظن أن كل مخالف عدو، وأن العدو ينبغي أن يحارب، وأن الحرب تبيع كل عدوان
ويعلم الله أني حين قرأت ما كتب الأستاذ عزمت على ألا أجادله يأساً من جدوى الجدال الذي يبتدئ على هذه الطريقة. وقلت كيف أجادل كاتبا حديد الطبع، تحمله الحدة على التسرع، وينسيه التسرع التثبت، ومن نسي التثبت كان حريا أن يسير على غير طريق إلى غير غاية، جديراً أن يقول غير سديد، ويطعن غير مقتصد، ثم أشار علي بعض الإخوان، كما أشار عليه بإجابة المعترضين (بعض المهتمين بهذه المشكلة)
وأبدأ بمجادلة الأستاذ في الخطة التي ارتضاها لنفسه، وأقول غير متردد: إنها خطة جائرة منكرة تكفل لصاحبها ألا يهتدي إلى صواب، ولا يبتعد عن ضلال، خطة تعنى بأصحاب الآراء أكثر مما تعنى بالآراء، ثم لا ينال أصحاب الآراء من هذه العناية إلا الاستهزاء والبغي والافتراء، وسواء على صاحبها أن يقارب الحق أو يباعده، وأن يصف خصمه بصفاته أو بما يناقضها
توهم الأستاذ لي صفتين أحسب أن وصفي بهما لا يكون إلا ميلا مع الهوى، وجورا مع(587/7)
الغضب، ورجما بالأوهام
عرضت لعيوب الكتابة الأدبية، وبينت من شناعتها ما لا تذكر معه عيوب كتابتنا. ثم قلت إن الكتابة الأوربية محمية بالأساطيل والطائرات والفتنة والهيبة اللتين تأخذاننا من كل جانب. وهي كلمة حق تجمل ما نحن فيه من افتتان بكل ما يأتي من أوربا وازدراء لكل ما عندنا. وما قصدت بهذه الكلمة الأستاذ عبد العزيز باشا ولا جماعة في مصر، ولا المصريين وحدهم، ولا البلاد العربية فحسب. بل أردت بها ما يعم أقطار الشرق كلها من هذه الفتنة. فأثارت هذه الكلمة ثائرة الأستاذ، وقد اعترف هو بهذه الفتنة في نفسه حين قال وهو آخذ بمخنق الكاتب الذي أرسل إليه مقالاً بالبريد. قال هو يعرب عن إكباره وإعجابه بالقوانين التي أخذناها عن أوربا:
(اعلم معلماً أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء. وهيأت للناس التلغراف واللاسلكي. كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء - هذه العقول لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه اخوته الآخرون، ولكنك لا تراه لأن نظرك قصير)
وكان يمكن الأستاذ أن يطرد القياس، فيقول: ولهم كتابة هي ولاشك أفضل من كتابتنا، وهي العلاج الوحيد للغتنا. الخ.
أليس قياس القانون على الطائرات ونحوها هي الفتنة التي ذكرتها فغضب الأستاذ. ولا أدري لماذا ثار الأستاذ فقال عني: (هنا خلع العلم ثوبه وارتدى ثوبا سواه، الوطنية اللفظية، ولحمة أناشيد أرباب الحناجر). ومضى يكرر هذا المعنى إلى أن قال: (بل لعلي واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر في حلبة الوطنية اللفظية)
وجوابي أن الله يعلم وأصحابي وتلاميذي يعلمون أني لست من أولى الوطنية اللفظية، ولا ممن ينشدون أناشيدها ويكدون حناجرهم فيها، بل كل صلتي بالوطنية العمل الصامت الدائب الذي لا يبغي من الناس جزاء ولا شكورا، وأن اتهام مثلي بهذا جدير بأن يلقي الشك في كل ما يزعم المتهم وينفي الثقة عن كل كلامه
ثم انتقل الأستاذ في غضبه وانطلاقه مع الغضب غير متئد ولا متثبت، فوصفني وصفا(587/8)
آخر يناقض الوصف الأول في معناه، ويوافقه في إنه باطل مثله. وصفني الأستاذ غير عارف، أو متجاهلاً تجاهل العارف بأني رجل متوفر متزمت. ثم لبث يشرح التزمت ويبين آثاره في خلقة صاحبه وخلقه، وفي الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فكتب صفحتين في هذا كأن مقصده الأول الكلام في التزمت لا الدفاع عن بدعة الحروف اللاتينية، وأنا أعرض على القارئ مقدمة كلام الأستاذ في التزمت ثم أسأله كيف يسمي هذا الكلام، وما ظنه بمن يرمي به وهو يجادل في الحروف اللاتينية، ويلفظه وهو يجادل رجلاً بعيداً كل البعد عن التزمت، قال الأستاذ:
(والتزمت، أجارك الله، متى أخذ بخناق الرجل نكر خلقه إنه يورث اقعنساساً فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين. في الأوج هامته، وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة، فهو على الأقل ضابط صف معلم بأورطة الأساس، يمشي متشامخا مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين. هكذا يفعل التزمت. ثم هو يخرجه من تصرفاته عن التعابير المألوفة بين الناس. يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على الرغم منه قنطاراً. وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالاً، وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو يخرجه من فيه، فيرتد لما فيه فيعجبه) الخ
هذا أيها القارئ مقدمة كلامه في التزمت ووراءه كلام طويل تناول الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن أراد الكاتب أن يضحك باكيا فليقرأ بقية الفصل ويرى كيف تعب المتزمت في كيل الزكاة وخنق دجاج الدار حين جاء يلتقط الحب، ثم طلق امرأته إذ أمرها بإخراج الدجاج الميت فلم تمتثل. وكيف فعل في الصلاة والصوم والحج، ثم ليدلني القارئ على صلة عاقلة أو مجنونة بين هذا وبين الحروف اللاتينية واللغة العربية. . .
وأنا أنشد الأستاذ الله الحق أن يسأل نفسه هادئا إن استطاع: أهذه الأوصاف تنطبق عليّ أو عليه خلقة وخلقا.
ثم أنشده الله الحق: ألا يشعر بشيء من التناقض والتهاتر والتهافت في أن يصف إنسانا في مقال واحد بأنه من أرباب الحناجر وأناشيد الوطنية اللفظية، وبأنه متوقّر متزمت، ثم أنشده الله الحق مرة أخرى: أحسب نفسه صادقا حين وصف بهذه الأوصاف رجلا يعلم الله وكل(587/9)
من يعرفه من الناس إنه من أبعد خلق الله عنها. إن كان قد غبي على الأستاذ وصف إنسان يعاصره ويعايشه في بلد واحد، وخفي عليه سيرة رجل قريب منه يستطيع أن يعرفه باللقاء والمحادثة، ويستطيع أن يسأل عنه أصحابه وتلاميذه، إن كان قد ذهب عنه هذا كله احتقاراً بالناس أو احتقاراً للحق أو ولوعا بالافتراء، وجموحا مع الهوى؛ فهل يثق عاقل بكلامه في الأمور المعنوية المعيبة، الأمور التاريخية والاجتماعية واللغوية الدقيقة، هل يظن عاقل أن من يجري مع الهوى وطلق الجموح، ويساير الباطل هذه المسايرة يكلف نفسه عناء في بحث موضوع أو وزن دليل، ونقد حجة؟ إني لا أنال من سعادة الأستاذ بمثل أن أدعو القارئ إلى قراءة هذا الفصل المضحك المبكي فهو أبلغ شيء في وصف نفسه ووصف كاتبه
وليت شعري أهذا شيء حديث عرض لسعادة الأستاذ أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟
وبعد؛ فقد قرأت في كتاب فارسي هذه القصة:
ذهب رجل إلى طبيب وشكا إليه أنه يحس في صدره عقداً، قال الطبيب ما صناعتك؟ قال شاعر. قال نظمت شعراً منذ قليل؟ قال نعم. قال أنشدته أحداً؟ قال لا. قال فأنشدنيه؛ فأنشده. فاستعاده مرات. ثم سأله كيف تجدك الآن؟ قال أشعر براحة، قال الطبيب هذا شعر كان معقداً في صدرك
لعل سعادة الأستاذ استراح بعد أن أخلى صدره من كلام تعقد فيه زمناً طويلاً، وقد بعد عهده بمجادلته في المجمع التي ضج منها الأعضاء ولا يزالون يضجون ويشكون، وكان في مجادلة المجمع عوضي عن مجادلات ألفها المؤلف طول عمره. فإن كانت عقد صدره قد انحلت بما لفظه علينا من البغي والافتراء، فليحمد الله الذي شرح صدره
وفي المقال الآتي أناقش الأستاذ في الكلمات القليلة، التي كتبها في الموضوع آسفاً على أنه أخرجني عن البحث كارهاً مشمئزاً ولا ذنب للمكره، وللناس والأقلام محن تكره فيها على ما لا تود، وتكلف ما يشق عليها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(587/10)
ثقافة الشاعر وأثرها في شعره
للأستاذ دريني خشبة
ظن بعض إخواننا الشعراء أننا قصدناهم بمقالنا الذي رجونا شعراء الشباب فيه أن يعنوا بثقافتهم الخاصة حتى يستطيعوا أن يحسنوا الاضطلاع بالنهضة التي نطمع أن تتم للشعر العربي الحديث على أيديهم. . . وإخواننا هؤلاء مخطئون، لأنهم الآن في الذروة من ثقافتهم التي أوشكت أن تمهد لهم الزعامة في الشعر المصري الحديث، وإن كانوا في نظرنا مع ذلك لم يؤدوا لهذا الشعر جزءا واحدة من مائة جزء مما نصبو إليه، حتى يكون لنا شعر لا نخجل من المباهاة به وسط أنواع الشعر العالمي
وسخط بعض إخواننا من شعراء الشباب الآخرين، وعدوا الروح التي أملت علينا مقالنا نكوصا عما أخذنا به أنفسنا من الدفاع عن شعراء الشباب، ونسوا أننا لم نك يوما مكابرين حتى نغمض أعيننا عما في كثير من شعرهم من الطراوة والفجاجة والضعف. . . الشعر الذي لا يمكن أن يحدث نهضة طالما أن أصحابه معجبون به. . . يظنون أنه بلغ الدرجة القصوى من الأناقة والتجويد، وأوفى على الغاية من الذوق والحرارة والشاعرية
ورضى فريق ثالث متواضع فاقتنى الكثير من الكتب التي أشرنا إليها وأخذ يستوعب ما فيها، ويصلح به شأنه، وكان في اعترافهم بما لمسناه في بعضهم من قلة الاطلاع على أشعار العرب في مختلف العصور لون من عظمة النفس التي تفتقر إليها نهضتنا الأدبية التي نرجو أن تبلغ أوجها على أيديهم إن شاء الله
غير أن فريقاً رابعاً من أنبه شعرائنا - الشباب والشيوخ - الذين جمعتنا بهم صدفة من أسعد الصدف، لم يوافقنا على ما ندعو إليه من وجوب أن يكون الشاعر مثقفا تلك الثقافة العميقة التي لا تنبغي - فيما ذهبوا إليه - إلا للعلماء والفلاسفة والكتاب. . . وذلك، أن تلك الثقافة العميقة، فيما ذهبوا إليه أيضاً، قد تجني على شاعرية الشاعر فتجعله جاف الأسلوب، نابي العبارة، ملتوي التفكير، معقد الأداء. . . وضربوا لذلك مثلاً. . . أبا الطيب المتنبي، وأبا العلاء المعري. . . فلم يفتني أن أعارضهم بأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي. . .!
وهكذا ننتقل فجأة إلى قضية أدبية طريفة. . . ليست أقل قيمة من تلك القضية الشائكة. . .(587/12)
قضية وحدة الوجود. . . والعياذ بالله!
إن إخواننا هؤلاء يزعمون أنه لا ضرورة مطلقا لأن يتعمق الشاعر في ثقافته، لأن ذلك يؤثر من غير شك في شاعريته، ويجعله يضمن شعره خطرات علمية (باردة!) إذا كانت ثقافته العميقة تلك ثقافة علمية، أو خطرات فلسفية (حائرة!) إذا كان ممن يدمنون النظر في آراء الفلاسفة وتخبطاتهم. . . فإن كانت ثقافته لفظية، من نوع ثقافة العجاج ورؤبة وعقبة وأبي العلاء، ترك هذا في شعره ذلك المرض الأسلوبي المثقل بحوشي الألفاظ وغريب التعابير، مما يصرف القراء عنه؛ ويزهد عشاق الشعر فيه. . . وذكروا حالات غير هذه، وراحوا يضربون لكل حالة منها أمثالا تجعل رأيهم وجيها، وتكسبه قوة خداعة ذات بريق
فهل ما ذهبوا إليه من ذلك كله حق؟ وهل تطبيقاتهم صحيحة؟ لقد ذكروا المتنبي والمعري فيمن ذكروا من الشعراء الذين أتلفت ثقافتهم شاعريتهم. فهل من الحق أن المتنبي والمعري قد أتلفا شعرهما بما كانا يتعمدانه من تضمينه ألوان الثقافات التي كانا يمتازان بها
لقد نشأ المتنبي في بيئة شيعية، وتعلم في إحدى مدارس الشيعيين بالكوفة، وكان لهذا السبب من أوسع الناس إلماما بتاريخ الفرق الإسلامية وأحوالها ومعتقداتها. وذهب بعض مؤرخي الأدب العربي، ومنهم الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين، إلى أن المتنبي لم يكن شيعيا فحسب، بل كان قرمطياً، وقرمطياً متطرفاً. وأن قرمطيته بدت في ألفاظه وتعبيراته وأفكاره. ويحدثنا الدكتور طه عن ذلك حديثا طليا في كتابه (مع المتنبي). وكما بدا التشييع في شعره، بدا التصوف كذلك، فهو يستعمل طرق الأداء عند المتصوفة، ويأتي في شعره وأخيلته بكثير من أوهامهم ومعتقداتهم، ويمدح أئمتهم مدحاً قد لا يسيغه المسلم الحق إلا موجهاً إلى الله سبحانه. ولم يبال المتنبي أن مدح الأوراجي الصوفي الذي كان له في مأساة الحلاج النصيب الأوفى، وأن يمدحه بإحدى روائعه التي مطلعها:
أمن أزديارَكِ في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
ولا يبالي أن يبوح في كثير من قصائده بما لعله كان يؤمن به من الحلول والتناسخ. . . ولست أدري ماذا يقدح ذلك في المتنبي العظيم كشاعر من شعراء الصف الأول بين شعراء العرب؟ ماذا يعيب الشاعر أن يمتلئ ذهنه بلون ما من ألوان الثقافة فيكون له صدى في شعره يصدر عنه عفواً وعن غير عمد؟(587/13)
قد يكون إخواننا الأعزاء على حق يلاحظون على المتنبي تعمده الإتيان في شعره بالغريب الحوشي من الألفاظ، والغريب الشاذ من الجموع والصفات. . . ولكن ما حيلة المتنبي في عصره الذي كان يزخر بعلماء اللغة وفقهائها وشيوخ النحو والصرف والبلاغة؟ لقد كان أكثر هؤلاء العلماء الأعلام يناصبون المتنبي العداء، وينفسون عليه مرتبته الأدبية التي لم يتمتع بها شاعر من قبل، فكانوا يتعقبون شعره، ويقفون له بالمرصاد، عسى أن يسقطوا له على غلطة، أو أن يعدوا عليه زلة، وكان المتنبي يعرف ذلك منهم، فكان يعبث بهم، ويغلو في هذا العبث، وينصب لهم من عربيته الفصحى فخاخاً تمسك بهم كما تمسك الشراك الثعالب
على أن أحدا من هؤلاء العلماء الأعلام لم يكن أرسخ في علوم العربية كعباً من أبي الطيب. ففي (معاهد التنصيص) - جـ1 ص11 - (أن الشيخ أبا علي الفارسي قال (للمتنبي) يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعْلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظرْبى، قال الشيخ أبو علي، فطالعت في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!). وفي خزانة الأدب للبغدادي (جـ1 ص380) أن أبن العميد قرأ على المتنبي كتابا من كتب اللغة
ولعل الذي كان يعيبه هؤلاء العلماء الأعلام على المتنبي لم يكن جميعه، أو لم يكن شيء منه، مما يعاب على سيد شعراء العربية غير مدافع. . فقد كان المتنبي كوفيا، وكان لذلك يخرج في النحو على سنن البصريين وفي الأنصاف (طبع أوربا) تفصيل لكثير مما كان موضع خلاف بين المدرستين بصدد أشعار المتنبي، وقد أجاد الأنباري مؤلف ذلك الكتاب القيم في توضيح ذلك إجادة تامة نافعة تبرئ المتنبي مما أخذه عليه خصومه وما لا يزال خصومه في عصرنا الحديث يأخذونه عليه من مثل ذلك، مما يتوهمونه خطأ
وكما كان للمتنبي خصوم من النحويين وفقهاء اللغة، كذلك كان له خصوم كثيرون من المتكلمين، فكان يداعبهم تارة، ويداعب فقهاء المسلمين تارة أخرى، وقد عنى الدكتور طه بهذه المداعبات في كتابه مع المتنبي عناية كبيرة. . وكانت مداعباته تلك تثير بين أولئك وهؤلاء حربا فكرية طريفة في الزمن الذي كانت تجري فيه. . . فكيف نعدها اليوم من المآخذ التي نحصيها على المتنبي، ونعيب بها شعره؟(587/14)
وكان المتنبي - لتشيعه - أو لقرمطيته - ولتقلبه في بلاد المسلمين من دون العراق الذي كانت غالبية أهله تفتتن بأساليب المتنبي وتشغف بها، لكثرة ما كان ينتشر فيها من الفرق وأصحاب الفلسفات الغالية، يؤثر استعمال الرمز، ولاسيما إذا كان ينشد في مجلس من السنيين، وهو في ذلك تلميذ للمتصوفة، إلا إنه غدا أستاذهم. وبالأحرى أستاذ شعرائهم. وليس للصوفية رمز، أو إشارة، لم يستخدمهما المتنبي، إلا ما نذر. والذي يدمن قراءة أشعار ابن الفارض يشعر من فوره بتأثر شيخ شعراء المتصوفة بأستاذه المتنبي، ولاسيما في استعمال المذهب الرمزي، وفي كثرة استخدام التصغير. . .
ولست أدري ماذا يعاب من ذلك كله على المتنبي، بوصفه شاعراً كان يعيش في ظروف خاصة، وكان يخضع لمقومات بيئة خاصة
على أن الذي تورط فيه إخواننا مما ذهبوا إلى إنه من عيوب ثقافة المتنبي العميقة التي أتلفت شعره، وخرجت به من جنة الشعر إلى جحيم الفلسفة، تلك الحكمة التي نثرها في قصائده، وكان فيها تلميذاً غير موفق لأرسطو!
وذكروا أن الصاحب بن عباد ألف لفخر الدولة رسالة أحصى فيها للمتنبي ثلاثمائة وسبعين بيتاً تجري مجرى الأمثال؛ فجاء الحاتمي وألف رسالته (الحاتمية) في رد حكم المتنبي إلى أصولها من فلسفة آرسطو. . . والرد على زعم السرقة هنا هين لا يكلف الإنسان عناء، وهي لو صحت لما نهضت برهانا على الذي ذهبوا إليه من تشويهها لشعر المتنبي؛ فمما لا مشاحة فيه أن حكم المتنبي لآلئ غالية يزهي بها شعره، ويتفرد بها، لا بين شعراء العربية فحسب، بل بين شعراء العالم كله. . . وليس معنى ذلك أننا استوعبنا أشعار الأمم كلها. . . ولكننا نقول ذلك بعد أن قرأنا معظم ما ألف عن تاريخ آداب العالم؛ فلم نعثر بشاعر يضارع المتنبي أو ينافسه في ميزته تلك. على أنك تقرأ الحكمة من الحكم التي ينسبونها إلى آرسطوا، والتي لا ندري المصدر الذي استندوا إليه في نسبتها إليه، ثم تقرأ بيت المتنبي الذي يحمل هذه الحكمة. فتشعر من فورك بالبون الشاسع بين أداء المتنبي وأداء آرسطو، وبين تفكير هذا وتفكير ذاك
أي فرق شاسع بين قول آرسطو: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والقص اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها(587/15)
وقول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
ومثل ذلك الفرق نلمسه في العشرين والمائة حكمة التي تناولها الحاتمي في رسالته. . .
ذلك ما اتسع له المجال في الدفاع عن المتنبي. . . أما الدفاع عن المعري فموضعه غير هذا الحديث.
دريني خشبة(587/16)
على هامش النقد
2 - في عالم القصة
كفاح طيبة. . . . . . لنجيب محفوظ
للأستاذ سيد قطب
أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهر لها، وفرح جارف بها!. . . هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها:
لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذي نتعلمه في المدارس عن مصر في جميع عصورها، والذي لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هي الوطن الحي الذي يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا في نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه
وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء، التي لا تثير في نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة، لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا؛ وإن هي إلا عبارات صاخبة؛ تخفي ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج
ولم أجد - إلا مرة واحدة - كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية في نفوسنا، شاخصة في أذهاننا. ذلك هو كتاب المرحوم (عبد القادر حمزة): (على هامش التاريخ المصري القديم) ففرحت به مثلما أفرح اليوم بقصة كفاح طيبة، ودعوت وزارة المعارف إلى أن تجعله في يد كل تلميذ وطالب، بدل هذه الكتب الميتة التي في أيديهم. ولكن تغيير الكتب في وزارة المعارف أمر عسير، لأن مصنفيها هم مقرروها في أغلب الأحايين
وكنت أرى الطابع القومي واضحا - بجانب الطابع الإنساني - في آداب كل أمة، ولاسيما في الشعر والقصة - بينما أرى الطابع المصري باهتاً متوارياً في أعمالنا الفنية، مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية
وكنت أعزو هذا اللون الباهت، إلى أن مصر القديمة لا تعيش في نفوسنا، ولا تحيا في تصوراتنا. إلى أننا منقطعون عن هذا الماضي العظيم لا نعرفه إلا ألفاظا جوفاء، ولا نتمثله(587/17)
صورا ووشائج حية. إلى أننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة: من الفن والروح والعواطف والانفعالات. إلى أن بيننا وبين الآثار المصرية، والفنون المصرية، والحياة المصرية، والأحداث المصرية، هوة عميقة من الزمن واللغة، ومن الإهمال والنسيان.
وطالبت بأن تنقل إلى اللغة العربية كل قطعة أدبية كشف عنها في مصر العريقة، وإلى أن ترسم باللغة العربية صور الحياة المصرية بكل ما فيها من ظلال، وإلى أن تعقد بين الشيء وبين الآثار المصرية صلة وثيقة في كل أدوار نشأتهم؛ وإلى أن تنفث الحياة في تلك الآثار والتماثيل والتواريخ، بما يصاغ حولها من القصص والأساطير والملاحم والبيانات.
دعوت إلى أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم في منال كل تلميذ صغير وكل طالب كبير، بل أن تعود أساطير حية للأطفال في المهود، بدل الشاطر حسن وجودر، وحسن البصري، والورد في الأكمام
قلت: إذا كانت مصر القديمة قد احتجبت عنا، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم بلغة غير لغتها، فلننقلها هي إلى لغتنا الحديثة، لنضم إلى ثروتنا الفنية المحدودة بألف وخمسمائة عام (فترة الأدب العربي الذي ندرسه) ثروة أعظم منها وأعرق وأخصب في فترة أخرى طويلة تربو على الخمسة آلاف من الأعوام. فإنه من السفه أن نفرط في هذه الأعمار الطوال!
وكنت أعلم أن القصة والملحمة، هما خير الوسائل إلى تحقيق هذه الصلة التي نشدتها طويلا، وكتبت عنها طويلا. فكلتاهما تردان الحياة إلى ذلك الماضي، وتبعثانه في الضمائر من خلال الألفاظ، وتوقظان الوراثات الكامنة في دمائنا من هذا العهد المجيد، وتصلاننا بحياة أجدادنا على أرض هذا الوادي العريق. فتصبح روافد لنفوس كل جيل، حوافز لمشاعر كل فرد
ولا يعود الغابرون في مسارب الزمن جثثاً هامدة مسجاة في الأكفان مطمورة في الرمال. إنما يعودون ذواتاً حية، وشخوصاً قائمة، يشاركوننا هذه الحياة الحاضرة ويدبرون معنا أمرها، ويزودوننا بتجاربهم ونصائحهم، ويفيضون علينا مشاعرهم وعواطفهم - فيحس الفرد منا أنه فرع حديث لشجرة عريقة عميقة الجذور في الزمن شهدت فجر التاريخ، ووعت حديث الأجيال، وصمدت لأقسى عوامل الفناء.(587/18)
قلت هذا كله في عشرات المقالات، واليوم أتلفت فأجد بين يدي القصة والملحمة، كلتاهما في عمل فني واحد. في (كفاح طيبة). فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة - وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة! - بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها في الشعر إلا الملحمة!
هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد (أحمس) العظيم. قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع. قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
أغار الرعاة (الهكسوس) على مصر من الشمال الشرقي وغلبوا عليها بسبب اختراع (العجلات الحربية) التي لم تكن مصر قد أخذت بها في جيشها، وحكموا مصر السفلى ومصر الوسطى. أما مصر العليا وعاصمتها طيبة، فقد ظل حكامها من الأسرة الفرعونية المصرية، يدارون الرعاة ويقدمون إليهم الهدايا احتفاظاً باستقلالهم الداخلي إلى أن يستطيعوا الاستعداد السري لطرد الغزاة.
ثم تبدأ القصة عند (سيكننرع) حاكم طيبة ووريث العرش الشرعي. فلقد لبث يهيئ الجيوش سراً، ويستكثر من العجلات الحربية حتى بلغ جيشه عشرين ألفاً وعجلاته مائتين؛ ووضع على رأسه التاج، ولم يكن يعد نفسه حاكم طيبة بل ملك الجنوب
ويجيئه رسول (أبو فيس) ملك الرعاة الذي يلقب نفسه (فرعون مصر) ويضع على رأسه التاج المزدوج؛ يجيئه ليتحداه فيطلب إليه خلع التاج، فما هو إلا حاكم، وبناء معبد لست إله الشر بجوار معبد أمون في طيبة، وقتل أفراس النهر المقدسة بها. فيأبى الملك أن يدوس الدين والشرف ليقنع بالسلامة. وأنه ليعلم مدى قوة خصمه ويعلم إنه لم يستكمل بعد استعداده. ولكنه يرفض يؤيده الجميع: أمه توتشيري (الأم المقدسة) التي ترعى الجميع، وتشرف بروحها العظيم على كل عدة الجهاد؛ وابنه، وقائده، ورئيس كهنة أمون، ومستشاره أجمعين.
وتقع الحرب، ويقتل الملك البطل، وتستباح طيبة للعدو العنيف؛ فتصعد الأسرة المالكة في النيل إلى (بلاد النوبة) بتدبير قائد الملك القتيل، لتعد العدة هناك للعودة حينما يشاء الإله!
وبعد عشرة أعوام في الاستعداد وبناء العجلات الحربية، يهبط (أحمس) حفيد الملك(587/19)
(سيكننراع)، وابن الملك (كاموس) إلى أرض مصر في زي التجار، يقدم لحكامها الرعاع الذهب ليحصل على الرجال. الرجال الذين ذاقوا الذل والويل، ولكن نفوسهم ما تزال تغلي بالانتقام من الغزاة، وتفيض بالولاء للأسرة المالكة المشردة
وتتم الحيلة، وتفتح له الحدود فيحصل على الرجال، ويتألف الجيش العتيد، ويهبط أرض الوادي، ويهزم الغزاة، ويطاردهم إلى آخر شبر من الأرض المصرية في هوارتس، وتسترد طيبة عرشها وعرش مصر السفلى، وتعود البلاد حرة من جديد. على يد أحمس بعد استشهاد والده، كما استشهد من قبل جده العظيم. . .
ولكن!
نعم. ولكن. لقد كسب مصر وخسر قلبه! وإنه لكسب ضخم، وإنها لخسارة فادحة
لقد أحب ابنة ملك الرعاة. أحبها منذ الرحلة الأولى، يوم قدم مصر في زي التجار. أحبها وأحبته واختارت يومها عقدا من مجوهراته التي يحملها، وأنقذت حياته حين هم به قائد حربي من الهكسوس كان يريد الاعتداء على حرمة سيدة مصرية - هي أرملة قائد جده - فحماها من الأذى، لأن حميته لم تطلق أن تنتهك حرمة مصرية أمامه، وقد كاد ذلك يفسد عليه خطته العظيمة. . .
أحبها وأحبته، وأخفى كلاهما حبه، ولكنه ظهر في بعض التلميحات. فتعقدت القصة منذ ذلك اليوم. لقد كان أحمس يتهيأ للمهمة الكبرى التي ألقاها الوطن على كاهله، ليطرد الرعاة الغزاة، وينكل بهم كما نكلوا بالمصريين. وهو يحب ابنة عدوه الأكبر، لأن القلب الإنساني يتسع للحب والبغض مجتمعين. وفي كل خطوة يصطدم هذا الحب بهذا البغض، فيدوس قلبه الجريح، ليؤدي واجبه المقدس. وإن كان يضعف بين الحين والحين!
ووقعت الأميرة في الأسر. أسرها (الفلاحون) الذين اتخذ ملك الرعاة من نسائهم وأطفالهم درعاً لحصون طيبة، يتقي بهم سهام قومهم المهاجمين. وفي لحظة رهيبة بعد أن ضحى المصريون بنسائهم وأطفالهم، وأردوهم بسهامهم ليدخلوا طيبة. في لحظة بلغ الألم الإنساني ذروته، جاءوا للملك بهذه الأميرة أسيرة، ونساؤهم وأطفالهم ممزقون بسهامهم على الأسوار. وكان احتفاظهم بها وعدم تمزيقها إربا فوق طاقة الآدميين!
وكان موقفاً من المواقف الكثيرة التي عاناها الملك الشاب بين قلبه وواجبه. لقد استطاع أن(587/20)
يدوس قلبه في سبيل الغرض الأكبر - تحرير الوطن - أما حين يكون الأمر أمر انتقام جزئي فهنا يغلب الحب، فيحفظ حياة الأميرة!
وفي اللحظة الأخيرة - وقد تمت هزيمة الرعاة - يحاول الملك الشاب أن يستأثر بالأسيرة الآسرة. ولكن وا أسفاه: إن أباها يقومها بثلاثين ألفا من الرهائن المصريين. وإن الملك ليحبها، ولكن ثلاثين ألف رأس ثمن كبير. وأنها لتحبه، ولكنها تعلم أن أباها الصحراوي لن يجيبه إلى يدها، وهو عدوه المبين. لقد ذهبت ليبقى الفرعون الظافر يذكرها في يأس وحنين. ويحس إنه خسر المعركة وهو أعظم المنتصرين
ذلك هيكل القصة. ولكن القصص ليست هيكلها العام. فأين العمل الفني فيها؟
إن العمل الفني هو الذي لا يمكن تلخيصه. وقيمته في هذه القصة لا تقل عن قيمتها القومية. وهذا هو المهم. فقد يحاول الكاتب إثارة العواطف القومية وينجح، ولكنه ينسى السمات الفنية، فيحرم عمله الطابع الذي يسلكه في سجل الفنون
إن كل شخصية من الشخصيات في هذه القصة لهي شخصية إنسانية وشخصية مصرية في آن. وإن كل موقف من مواقفها لهو الموقف الطبيعي الذي ينتظر من الآدميين المصريين. وإن السياق الفني لهو السياق الذي يلحظ الدقة الفنية بجانب الهدف القومي، بلا مغالطة ولا ضجة ولا بريق.
لم يحاول المؤلف أن يقلل من شجاعة الرعاة، ولا مميزاتهم النفسية. ولم يحاول كذلك أن يستر مواطن الضعف المصرية
وهي مواطن ضعف إنسانية - لم يجعل أبطال مصر أشخاصا أسطوريين، ولم يجعل المصريين شعباً من الملائكة ولا من الشياطيين، ولكن بعد تهيئة وتمهيد
لهذا كله تسير الحياة سيرة طبيعية في القصة، وتنبعث المشاهد شاخصة. لشد ما شعرت بالحقد الملتهب على الرعاة وحكامهم وقضاتهم، وهم يجلدون المصريين ويحقرونهم ويدعونهم استهزاء الفلاحين (ويبدو أن هذا اللقب هو الذي يتشدق به دائما أولئك الأجانب المغتصبون في جميع العصور، من الرعاة إلى الرومان إلى العرب إلى الترك إلى الأوربيين. وإن كان هؤلاء الفلاحون أشرف وأعرق من الجميع)، لشد ما شعرت بالقلق واللهفة على مصير الجيش المصري في عدده القليل أمام أعدائه المتفوقين. لشد ما خفق(587/21)
قلبي وأحمس المتخفي في زي التجار، يلقى الملك، ويصارع القائد، وينتفض للعزة الجريحة، ويمسك نفسه في جهد شديد. لشد ما عطفت عليه وهو يقع في صراع أشد وأعنف من كل صراع حربي، ويجاهد نفسه بين قلبه وواجبه، فيؤدي الواجب على حساب قلبه الجريح
ولم يكن الشعور القومي وحده هو الذي يصل نبضاتي بنبضات أبطال القصة. بل كان الطابع الإنساني الذي يطبعها، والتنسيق الفني الذي يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسي بصحة ما يجري في القصة، وكأنه يجري في الواقع المشهود، بكل ما في الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسقها المؤلف في مواضعها بريشة متمكنة، ويد ثابتة، تبدو عليها المرانة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين
ولا أحب أن يفهم أحد من هذا أن مؤلف (كفاح طيبة) قد بلغ القمة الفنية. فهذا شيء آخر لم يتهيأ بعد. إنما أنا أنظر إلى المسألة من ناحية خاصة. ناحية تحقيق هدف قومي جدير بعشرات القصص والملاحم. فإذا استطاع فنان أن يحقق هذا الهدف، دون المساس بالطابع الإنساني والطابع الفني، وبلا تزوير في المواقف والعواطف، أو تزوير في وقائع التاريخ، فذلك توفيق يشاد به بكل تأكيد. وفي هذه الحدود أحب أن يعني هذا المقال
وبهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء اليسيرة مثل قول الملك (سكيننرع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة. فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟) فالثابت تاريخيا أن (عجلات الحرب) كانت سلاح الرعاة الجديد الذي هاجموا به مصر، فتغلبوا به على شجاعة المصريين، حتى أخذه المصريون عنهم فانتصروا به وبذوهم فيه
ومثل أن يقول عن اسم (أحمس) إنه مشتق من الحماسة. فأحمس اسم مصري قديم لا علاقة له بمعناه في اللغة العربية، ولعله وجد قبل أن يكون لهذه اللغة وجود معروف!
ومثل أن يقول أحمس: (انه آت من بلاد النوبة) فهذا اسم حديث كذلك. وقد كانت في ذلك الحين تسمى بلاد (بُنت) أي الذهب. . .
ومثل أن يقدر مدة حكم الرعاة بمائتي عام. والراجح أنها تصل إلى حوالي خمسمائة عام
وبعض هنات كهذه وتلك. ولكن ماذا؟ إن الفنان ليستطيع أن يخطئ مائة مرة مثل هذا الخطأ، دون أن يؤثر ذلك في عمله الفني الأصيل(587/22)
قصة (كفاح طيبة) هي قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية، تنبع من صميم قلب مصري، يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين - ونحن لا نطمع أن يحس (المتمصرون) حقيقة هذا العواطف، وهم عنها محجوبون
ولقد قرأتها وأنا أقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون. إنني أعرفهم هكذا بكل تأكيد! هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسي والنهب الاقتصادي، ولكنهم يجنون حين يعتدي عليهم معتد في الأسرة أو الدين. هؤلاء هم يخمدون حتى ليظن بهم الموت، ثم يثورون فيتجاوزون في ثورتهم الحدود، ويجيئون بالمعجزات التي لم تكن تتخيل منهم قبل حين. هؤلاء هم يتفكهون في أقسى ساعات الشدة ويتندرون. هؤلاء هم تفيض نفوسهم بحب الأرض وحب الأهل، فلا يرتحلون عنهما إلا لأمر عظيم، فإذا عادوا إليهما عادوا مشوقين جد مشوقين هؤلاء هم أبدا في انتظار الزعيم، فإذا ما ظهر الزعيم ساروا وراءه إلى الموت راغبين
هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة وعن يقين
لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة؛ ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان؛ ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين!
سيد قطب(587/23)
اللغة القانونية في الأقطار العربية
ووجوب تصفيتها وتوحيدها
للأستاذ عدنان الخطيب
عقد في شهر أغسطس الماضي أول مؤتمر لمحامي البلاد
العربية في مدينة دمشق حاضر فيه علماء حقيقيون من كل
قطر في مواد معينة من القانون، وكان الأستاذ عدنان الخطيب
المحامي ممن حاضروا في مادة (المصطلحات الحقوقية) فنالت
محاضرته إعجاب المؤتمرين ورجال الحكومات، وقد خص
الرسالة بنشر محاضرته قبل نشرها في (كتاب المؤتمر)
المقرر إصداره قريباً.
1 - اللغة وأهميتها
لا ريب في أن اللغة تعتبر من مقومات الأمم في العصر الحاضر، لا بل إنها أهم تلك المقومات التي تميز الأمم والشعوب بعضها من بعض، وهي الركن الأساسي فيما يعرف (بالوعي القومي) لأنها وسيلة التفاهم والتقارب، ولأنها أهم رابطة تصل الحاضر بالماضي، إذا كان ثمة تاريخ يرغب في الاحتفاظ به، ولهذا ترى كل أمة ذات تاريخ مجيد، تعمل دائما على الاحتفاظ بلغتها، وإن باعدت الأرض أو السياسة بين أبنائها، لأن وحدة اللغة أول دليل على حيوية تلك الأمة ولياقتها للبقاء على وجه الأرض كأمة واحدة محترمة.
2 - الأمة العربية ولغتها الخالدة
إن الأمة العربية التي حملت إلى العالم في ماضيها اللامع، أخلد رسالة، رسالة الهداية والعلم والنور، أولى الأمم في وصل ما انقطع من تاريخها والعمل على إعادة ذاك المجد الغابر، وإذا كانت لغتها حية خالدة بفضل من الله، فإن تبعة أبنائها في المحافظة على(587/24)
سلامة لغتهم واستقامة لسانهم تبعة عظيمة توجب على كل عربي أن يقوم بقسط من ذلك يتفق وحدود طاقته ومركزه الاجتماعي.
3 - مزايا اللغة العربية في الناحية القانونية
إذا كانت لهذا المؤتمر العربي (المؤتمر الأول للمحامين العرب) أهداف قومية كثيرة، فلاشك في أن سلامة اللغة القانونية، والعمل على توحيدها هما في أول تلك الأهداف الجليلة
ويجدر بالمؤتمرين أن يقروا، قبل كل شيء بأن اللغة العربية في أول اللغات الحية صلاحية لأن تكون (لغة قانون محكمة) لأنها تتمتع بمزايا عظيمة، يندر أن تمتع لغة غيرها بمثلها، وأهم هذه المزايا من (الناحية القانونية): السعة والدقة، وهاتان المزيتان لا يشك فيهما مطلع على كتب فقه الشريعة من جهة، وفقه اللغة من جهة أخرى.
4 - اللغة (القانونية) في البلاد العربية
ظلت اللغة العربية، لغة التشريع والقضاء والفقه، إلى أن دالت دولة العرب، فأخذت اللغات الأعجمية تتسرب إلى الإدارة والسياسة، وما أن قامت دول المحاربين الأعاجم، حتى أصبحت لغتهم لغة الفضاء، بينما ظلت لغة الفقه عربية مستمدة من أم التشريع الإسلامي العربي المبين، فلما أحبت الدولة العثمانية أن تقتدي بأوربة في التشريع والتقنين، أخذت تترجم القوانين الغربية إلى اللغة التركية، لغة الدولة الرسمية ولغة القضاء فيها، فغدا القانون في البلاد العربية قانونا أجنبيا كتب بلغة أجنبية، ويحكم به في الغالب قاض غير عربي، وقد أحدث هذا التيار فقها قانونيا جديدا في البلاد العثمانية أخذ عن أوربا باللغة التركية، وبه انقطعت الصلة بين فقه القانون وفقه الشريعة العربي، إلا من ناحية الأحوال الشخصية وبعض النواحي المدنية الأخرى
ثم أخذ المشتغلون بالقانون من أبناء العرب بنقل القوانين الجديدة إلى اللغة العربية، فلم يوفق بعضهم في ذلك، فتداول الناس القوانين العثمانية بلغة عربية، ولكنها لغة هزيلة، شاعت فيها الركاكة وامتلأت بالتعابير الضعيفة، وأدخلت على العربية ألفاظاً أعجمية كثيرة، ما زالت تعيش إلى يومنا هذا في بعض الأقطار العربية(587/25)
5 - أثر الوضع الدولي الحديث في اللغة القانونية
عندما انهار الحكم العثماني أخذت الأقطار العربية وضعاً دولياً جديداً، جعل منها دويلات وإمارات متعددة، يخضع كل منها إلى نفوذ أجنبي معين، وكان مركز كل قطر منها كدولة مستقلة. يختلف باختلاف ظروفه الخاصة، ونوع النفوذ الأجنبي المفروض عليه ومقداره، وبذلك اختلفت لغة (القانون) باختلاف المشرعين في كل قطر، وانعدام الصلة بين الفقهاء والمعربين في مختلف الأقطار؛ فتعددت بينهم المصطلحات الحقوقية، وتباينت الألفاظ الدالة على معان واحدة مما يطعن لغتنا المحبوبة في صميمها، وينافي الفكرة القومية، ويقف عثرة في سبيل تحقيق الآمال المنشودة والرغائب المشتركة
6 - اللغة العربية لغة دولية في القانون المقارن
في آخر مؤتمر دولي للقانون المقارن عقد في (لاهاي) قبل أن تندلع نيران هذه الحرب دعي الجامع الأزهر للاشتراك به؛ فقام الأزهر بإرسال بعثة من كبار الفقهاء ورجال القانون المصريين أحسنوا تمثيل مصر ومن ورائها العالمان الإسلامي والعربي تمثيلاً جعل المؤتمر الدولي يجمع على اعتماد القرار الآتي:
(يقرر قسم القوانين الشرقية في الوقت الذي يختتم فيه أعماله أن المسائل التي طرحت للبحث في الشريعة الإسلامية كانت من الأهمية بمكان، ويقدر قيمة وفائدة التقارير التي قدمت فيها، والملاحظات التي أبديت بشأنها، كما يقدر أهمية عدد المؤتمرين الذين اشتركوا في المناقشات، وأهمية هذه المناقشات الراجعة إلى صفات الممثلين ومؤهلاتهم، ونظرا لأن اللغة العربية قد استعملت لأول مرة تبادل الآراء.
لهذا يلفت القسم نظر المجمع الدولي للقانون المقارن إلى ضرورة فسح مكان أوسع للشريعة الإسلامية في برامج المؤتمرات القادمة، كما إنه يبدي رغبته في أن يدعى للمؤتمر القادم ممثلون من جميع البلاد التي تهتم بالدراسات الإسلامية، كما يبدي الرغبة أيضاً في أن تستمر اللغة العربية في المؤتمرات القادمة ضمن اللغات المستعملة لمناقشة المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية)
هذا ما قرره المؤتمر الدولي للقانون المقارن مما يبشر باشتراك الأقطار العربية كلها في(587/26)
المؤتمرات القادمة التي ستعقد بعد أن تضع الحرب أوزارها، ولاشك في أن اللغة العربية ستكون يومئذ اللغة الرسمية لممثلي تلك الأقطار؛ فهل يليق بهذه اللغة أن يختلف أولئك الممثلون في كثير أو قليل على ألفاظ أو كلمات أو جمل لها دلالات قانونية واحدة؟! قد يكون بعض الاختلاف ناجما عن كثرة المرادفات في العربية، ولكن هذا إذا كان مما يفخر به أحيانا فانه عيب في لغة القانون، وإذا كان استعمال المترادفات في النصوص التشريعية وما يتصل بها غير مستحب ولو لم يؤد إلى شيء من الاضطراب فيها، فكيف إذا أدى إليه؟ لا في مؤتمر دولي يضم كبار علماء القانون المقارن، بل بين أفراد الأسرة الواحدة إذا ما اجتمعوا أو تبادلوا نتاجهم الفكري!؟
إن التباين الموجود في لغتنا القانونية ومصطلحاتنا الحقوقية، نحن أبناء الأسرة الواحدة يجب أن يبدأ بالزوال منذ اليوم، وكلنا أمل بأن لا نرى بعد أمد قريب أي اختلاف يتصل باللغة بين رجال القانون المصريين واللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين والأردنيين والسوريين
7 - أمثلة التباين والاختلاف
إني لا أود جمع كل التباين الموجود في اللغة التشريعية أو الفقهية أو في تعريب المصطلحات الحقوقية بين مختلف الأقطار الناطقة بالضاد، لأن لهذا مقاماً غير هذا المقام، وسأكتفي تصويرا للواقع الملموس بإيراد الأمثلة البارزة التالية:
1 - الدستور في مصر وسورية ولبنان هو القانون الأساسي في العراق، والهيئة التشريعية في مصر هي البرلمان المصري، بينما هي في العراق مجلس الأمة العراقي، ومجلس الشيوخ المصري يقابله مجلس الأعيان في العراق
إن هذا التباين في الأسماء لمسميات تكاد تكون واحدة، يبدو لأول وهلة لا قيمة له، والحقيقة أنه إذا ما أضيف إليه الاختلاف العظيم في مسميات أخرى، عجيب بين دول نتكلم بلغة واحدة
2 - إن القرارات والأوامر الصادرة عن هيئات مختلفة تختلف أسماؤها باختلاف تلك الهيئات أو صفاتها، فإذا استعرضنا أنواع القرارات في البلاد العربية وجدنا أن الاتفاق بين جميع الأقطار لم يقع إلا على لفظة واحدة وهي (القانون) الذي هو عبارة عن القرار(587/27)
الصادر عن الهيئة التشريعية الدستورية، وأما أنواع القرارات والأوامر الأخرى، فيكاد يكون لكل اسم في قطر مدلول آخر في القطر الآخر:
(ا) فالمرسوم بقانون في مصر هو المرسوم التشريعي في سورية ولبنان وهو المرسوم فقط في العراق
(ب) اللائحة في مصر هي النظام في العراق، والمرسوم في سورية ولبنان
(ج) المرسوم في مصر وسورية ولبنان هو الإرادة الملكية في العراق
(د) الإرادة الملكية في العراق تسمى أحيانا الأمر الملكي في مصر، وهي مرسوم في لبنان، وفي سورية في الواقع، وقرار بحسب النص العربي للدستور
(هـ) القرارات في سورية ولبنان ومصر هي التعليمات في العراق
(و) مشروع القانون في مصر وسورية ولبنان هو اللائحة القانونية في العراق
(ز) نظام المجلس الداخلي في العراق ولبنان وسورية هو اللائحة الداخلية في مصر
(ح) اللوائح في سورية هي مجرد التقارير واسم يطلق على المرافعات المكتوبة
3 - إذا كانت مهمة رأس الدولة الأعلى في سن التشريع تختلف باختلاف نظم الحكم والدساتير، فإن عمليتي الإصدار والنشر بمفهومهما الفقهي الحديث، تتشابهان كثيراً في النظم السياسية المتقاربة، ومع هذا فإنا نجد سمة نشر القوانين في الأقطار العربية، تختلف اختلافاً واضحاً مبعثه ليس فقط اختلاف نظم الحكم فيها، بل الاختلاف على معاني الألفاظ وترتيبها وهذه من سمات النشر في الأقطار المختلفة
(ا) في مصر
(نحن ملك مصر، قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانوني الآتي نصه، وقد صدقنا عليه وأصدرناه)
(ب) في العراق
(بموافقة مجلسي الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي)
(جـ) في سورية
(أقر المجلس النيابي ونشر رئيس الجمهورية القانون الآتي)
(د) في لبنان(587/28)
(صدق مجلس النواب وينشر رئيس الجمهورية القانون الآتي نصه)
(البقية في العدد القادم)
عدنان الخطيب(587/29)
المعدة
كغدة من الغدد ذات الإفراغ الداخلي
للدكتور حيدر السمان
لقد جلت الدراسات التي قام بها العلماء في مستهل القرن الأخير أهمية العدد الصماء وبينت تأثير مفرغاتها الداخلية على تنظيم وظائف الأعضاء وعلى التوازن المتقابل الموجود بينها كما أنهم ذكروا الأمراض التي تنجم عن فرط أو نقص هذه المفرغات والأدوية الغدية الحديثة التي كانت عجيبة بنتائجها.
فقد ظهر أن لهذه الغدد إفراغات داخلية تصب رأسا في الدم تدعى (هرمونات لها تأثير منشط لوظائف حجرات الأعضاء، وقد قسمت هذه الغدد بالنسبة لإفراغاتها هذه إلى قسمين:
القسم الأول: لها إفراغات داخلية فقط مثل: الغدة النخامية ثم الغدة الدرقية ثم غدة المحفظة فوق الكلية (الكظر والقسم الثاني: لها إفراغان داخلي وخارجي، مثل الكبد: والمبيض والخصية البانقراسي ولن أتعرض في بحثي لهذه الغدد لأن أمرها معروف لدى الجميع ولكني ذكرتها بالمناسبة للعلاقة الصميمة التي تربطها بمقالي. إن الاكتشافات الحديثة قد أضافت لهذه الغدد الصماء عضوا آخر لم نكن ندري بأن له هذه الأهمية الغريزية قبل اليوم، فقد ظهر أن للمعدة إفراغاً داخلياً مستقلاً تمام الاستقلال عن إفراغها الخارجي
لقد كانوا يعتقدون إلى عهد قريب أن لا ضير من الاستغناء عن المعدة استغناء تاما. ولذلك فإنهم يشيدون بمنافع عمليات المعدة التي توصلوا بواسطتها لبتر المعدة وتفميم المري مع الاثنى عشري في بعض حوادث سرطانات المعدة لاعتقادهم بأن إفرازات البانقراسي والمعاء الرقيقة وخاصة إفرازات العضو الأخير كافية لسد النقص الناجم عن فقدان المعدة فقدانا تاما أو قسمياً فتؤثر على المواد الغذائية وتجعلها بحالة ملائمة للامتصاص.
ولكن ظهر للعالم خطل هذا الرأي إذ توصل بتحرياته التي قام بها إلى أن المعدة موضعاً لحفظ الأطعمة فقط حتى يمكن لفن الجراحة أن يستأصل قسماً منها أو يزيلها جملة دون أي عارض ما، بل إن لها إفراغاً داخلياً مستقلاً تمام الاستقلال عن عصارتها الخارجية كالبانقراسي.(587/30)
إن الهرمون المضاد لفقر الدم - أو: هو الإفراغ الداخلي للمعدة الذي يؤثر على خاصة الكبد المولدة للدم فيزيد في عدد الكريات الحمراء ازدياداً كبيراً، فقد وجدوا نقصاً ظاهراً في عصارة المعدة عند من كانوا على عتبة الإصابة بفقر الدم.
لقد بين أن عصارة المعدة عند الأشخاص الاعتياديين تكتسب عقب أكل اللحم قوة فعالة ضد فقر الدم تفوق بفائدتها فائدة تناول (خلاصات الكبد) ففي ناحية الكبد يظهر التأثير الفعال لهذه العصارة الداخلية، وإن أية آفة تصيب المعدة تؤثر تأثيراً سيئاً في الكبد وتكون سبباً إذا طال أمدها للإصابة بفقر الدم، إذ لوحظت حوادث فقر دم خبيثة عقب عمليات بتر المعدة الكاملة أو القسمية وعلى هذا الأساس فقد دخلت المعدة في مداواة فقر الدم
وقد بذلت جهود جبارة لمعرفة ناحية الغشاء المخاطي المعدي الذي يتصف بهذه الخاصة الغريزية إذ أن على هذا التحديد تتوقف نتائج عمليات المعدة، وقد نجحوا في تحديد ذلك المكان وتبين لهم أن الغشاء المخاطي الموجود في جوار البواب له هذه الخاصية الحيوية الهامة
وقد طبقت هذه النظرية في مداواة فقر الدم الناجم عن الأنزفة الدموية الغزيرة وفي مداواة فقر الدم التالي لآفات: السل، الملاريا، التهابات الكلية، التسممات، وفي حالات الضعف العام الناجم عن البؤس والفاقة، حسب طريقة الخاصة وذلك بأن تدخل لمعدة المريض بواسطة أنبوب من المطاط عصارة معدة شخص سليم عقب إطعامه (300) غرام من لحم البقر بساعة واحدة، ولكن بالنظر لصعوبة تطبيق هذه الطريقة في فن الممارسة، فقد استعيض عنها بطرق أخرى أسهل تناولاً، ولكنها أقل تأثيراً، فمنهم من أعطى معدة بعض الحيوانات الغضة، ومنهم من أعطى مسحوقها المجفف بمقدار (30) غراماً مقسمة على ثلاث مرات ممزوجة مع عصير البرتقال أو أي عصير كان قبل الطعام
وقد استحدثت بعض المستحضرات الطبيعية السائلة مثل وكانت نتائجها جيدة جدا
إن هذا الاكتشاف الخطير سيقلب جراحة المعدة رأساً على عقب، وستعود بلا شك عمليات (التفاقم المعدي المعوي - إلى سابق مجدها بعد أن أهملت زمناً ليس باليسير، وأوشك أن يقضي عليها نهائياً بعد تطور عمليات المعدة الأخير، ولكن لابد قبل ذلك من إدخال بعض التحسينات للتخلص من اختلاطات خطيرة وصمت بها كانت تجبر الجراحين على(587/31)
الاستغناء عنها
يجب أن نفكر في النتائج البعيدة التي تسببها الأدوية المعدية قبل أن نطبقها على المرضى المعودين، فالأدوية المنقصة للإفرازات المعدية التي تعطي في بعض أمراض المعدة تؤثر في فعالية الكبد وتلجم خاصته المولدة للدم، فتكون سبباً للإصابة بالضعف العام وفقر الدم، وبالعكس فإن الأدوية المزيدة للإفرازات المعدية لا تنشط عمل المعدة الهضمي تجاه المواد الغذائية فقط، بل إنها تتعدى ذلك وتؤثر على الكبد فتزيد في خاصته المولدة للدم، فتزداد فعالية الجسم ومقاومته تجاه الجراثيم والأمراض
يجب أن تطلق اليد في استعمال الأدوية المعدية، بل يقتضي استعمالها بدقة وانتباه وبمشورة الأطباء الأخصائيين.
(دمشق)
الدكتور
حيدر السمان(587/32)
من وحي الدماء!!
1 - مصرع الجمال!!
(حملت إلينا أنباء المجازر المشئومة: أن الألمان في ميدان
(نورماندي) يستخدمون في قتالهم بعض كتائب من الجنس
اللطيف! وقد نجم عن هذا العمل الوحشي أن ذهب كثير من
هؤلاء البيض الحسان جزر السلاح الأبيض! وهل في الحرب
يا أم ارحميني! فوا حسرتاه! ويا حر قلباه!
رحمتَا للحسان بِتْنَ وقوداً ... لجحيمٍ، وَقُودهُا الأبرياءُ
كم قُدودٍ، لها اهتزاز العوالي ... هَصَرتْها المنيّةُ الهوجاء
وعيونٍ، مِن زُرقة البحر أَصْفَى ... سَلَبتْها سِهامَها الهيجاء
وخدودٍ في صَحْنها الجمرُ والما ... ءُ، خبا جمرُها، وغاض الماء
وثغور، كانتْ منَاهِل راح ... حكمتْ في رَحيقها الأقذاء
وشعورٍ كالتِّبر تُؤْدَم بالمسك (م) ... هي اليوم والحِلاقُ سَواء
وصدور غذَّى ترائبَها الحسن (م) ... ورَوَّتْ ثِمَارَها النّعْماء
نهلت من أَديمها الأبيض (م) ... وعَلّتْ منه الرِّماحُ الظلماء
كيف ذَلّ الجمال! وهوله العزةُ (م) ... - بعد الإله - والكبرياء؟
يا حُماة الوغى، أَما للغواني ... بينكم - تحت نَقعها - رُحماء
حرَّمت شِرعة البطولة أن تُقتل (م) ... - في حومة الجلاد - النساء
دونكم ساحة الهوى وأنا الضا ... من أن تصرع الأسود الظباء(587/33)
2 - الأرض الدنسة
انظر الأرض عَلَّ فيها بقاعاً ... لم يُدَنَّسَ أَديمها بالجرائمْ
كلُّ صُقْعٍ بها جحيم تلظّى ... يصّطلي حرَّها البريء المُسالم
شَقِيَ الناس بالعقول وراحت ... ناعمات - يفقدهنَّ - البَهائم
بتُ في ريبة: أذاك هواءٌ ... - ينشق الناس - أم غبار الملاحم
زعماء الشعوب قادوا إلى النا ... ر شعوبا وراَءهم كالسّوائم
كلُّ إبليس عنه يأخذ (إبليس) (م) ... فنون الأذى، وهتك المحارم
هذه الأرض للشفاء فلا تقرع (م) ... - على فائت بها - سِنَّ نادم
علي الجندي(587/34)
البريد الأدبي
تعقيب ورد
1 - أوافق الأستاذ الجليل نقولا الحداد على قوله في كلمته المنشورة في العدد 583 تعليقاً على مقالي (مسائل في وحدة الوجود): (إن الأديان السماوية الثلاثة ترفض نظرية (وحدة الوجود) رفضاً باتاً وأنها مجمعة على أن الله والوجود المادي منفصلان، وأن الله خالق الوجود المادي ومسيره).
غير أني لا أوافقه فيما ذهب إليه من أن بيئتنا الفكرية في البلاد العربية ليس فيها محل لحرية الفكرية أو القول أو القلم. فإن ذلك حكم قاس على تلك البيئة التي عرفت أنواع الحريات حتى في القرون الوسطى
وليست مناقشة أهل مذهب ديني أو فكري لأهل مذهب آخر دليلا على أن الحرية غير مكفولة، فإن الصراع والنزال في المجال الفكري لانتصار مذهب على مذهب ليس معناه الحجر على الحريات ما دام هذا الصراع لم يتخذ سبيل القوة والإرغام والاضطهاد من جماعة لجماعة.
ولست بحاجة إلى التدليل على أن كثيرا من الآراء والمذاهب في البلاد العربية وفي مصر خاصة لا يتفق مع المقدسات من العقائد. ومع ذلك يحيا أصحابها ويستطيعون أن يدافعوا عن آرائهم وحججهم ولا تمس أشخاصهم بسوء. (ولا يساقون إلى قضاء الامتحان الديني).
نعم لقد تنسب لبعضهم تهمة المساس بالعقيدة الدينية (ويحمل عليه حملة تكافئه). ولكن ليس يتعدى ذلك إلى غير الاتهام وحملة الكلام. . . وهذا بالطبع جائز لكل مناظر يرى رأياً ويقرر حكما في حدود الأدب، وعلى المناظر الآخر أن يدفع التهمة أو يرتضيها لنفسه إن كان ما صدر منه عن عقيدة راسخة يريد أن يدعو الناس إليها
فإن كان الذين يريدون أن يمسوا العقائد الدينية الموروثة معتقدين مخلصين لآرائهم، ويرون إنها الحق الذي يجب أن يدعي إليه فلماذا لا يحملون في سبيلها الاضطهاد والعذاب الذي لاقاه مؤسسو هذه العقائد والأديان، ويلاقيه كل داع إلى الخير؟
والطبيعة البشرية حتى في المجال العلمي الطبيعي تقاوم كل نظرية حديثة وقصة مقاومة العلماء والأطباء لنظريات إخوانهم المكتشفين لحقائق جديدة قصة معروفة حتى في هذا(587/35)
العصر. فليس الأخذ والرد والدفع والجذب في المجال الديني والفلسفي فريداً لا نظير له، وإنما طبيعة الناس المقاومة لكل حديث إما حسداً وإما جحوداً وضيق فكر، وإما عن عقيدة واقتناع. والزمن كفيل بمعاونة الحق على الظهور والنمو والغلبة. وبقاء الأصلح قانون طبيعي (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
فعلى أحرار الفكر الذين يرون آراء حديثة في الحياة أو الاعتقاد أو حياة الاجتماع أن يحملوها حمل آباء الإنسانية الأولين من الأنبياء والحواريين، وان يلاقوا في سبيل تبليغها ما لاقى أولئك من التسفيه والتشريد والتجويع والتقتيل إن كانوا بها مؤمنين، وللإنسانية مخلصين. وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا تهم الكفر والإلحاد التي رمي بها الأنبياء. فلقد رمي كل رسول بتهمة الكفر والإلحاد في العقائد الوثنية والتقاليد والأخلاق الهمجية، ومع ذلك فقد سخروا من الاتهام وتحملوا الآلام حتى انتصروا وانتصرت كلماتهم، وصار العالم الراقي كله يدين لتلك الكلمات! وعلى هؤلاء الأحرار بعد كل ما تقدم أن ينتصروا. . . وأن يحملوا الطبيعة الإنسانية على الاستجابة لآرائهم إن استطاعوا وإلا فعليهم أن يعلموا أن الطبيعة الإنسانية لا تأبى مذاهبهم ولا تستعصي على الاستجابة لها إلا لأنها (نشاز) وشذوذ لا يصلح معه أمر حياة الاجتماع، ولا يأنس إليه الطبع الإنساني العام الذي لا يخضع للعقل وحده، وإنما يخضع لمزيج مبهم من العقل والغريزة والعاطفة. . .
وقديماً فشل العقل اليوناني بفلسفاته أن يوجد أمة صغيرة كاليونان، ويقودها نحو الإيمان بالله الواحد، ويترك الوثنيات التي كانت تنضج بها معابدها. . ولكن الطبع الباكي الضارع الحنيفي الفطري المتمثل في إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والمتعلق بالله الواحد، وبأصول الخير والفضيلة قاد اليونان والرومان ووحدهم. وقاد من بعدهم أمماً عظيمة لا تزال ولن تزال تسيطر على مقدرات الأرض وسياسة الاجتماع
2 - بدت للأستاذ إبراهيم السعيد عجلان ملحوظتان حول أمرين وردا في المقال السالف الذكر
أولهما: تقريري أن إبراهيم عليه السلام توهم أن الله تعالى يخلق بأدوات ووسائل، مع أن إبراهيم سأل: (كيف تحيي الموتى) ولم يسأل (بأي شيء تحيي الموتى).
والذي قلته بالحرف: لقد توهم إبراهيم أن هناك (كيفية) للإحياء، وأنه هناك أدوات ووسائل(587/36)
للخلق والتكوين
فأنا لم أحول (كيف) عن معناها حتى ولا لفظها، بل قدمت معناها، ثم ألحقته بلازمه الذي لابد يخطر بالبال عند إجراء (كيفية) التكوين والخلق. فإن أدوات التكوين والخلق في خيال الناس تلحق (بالكيفية) وصورها
ثانيهما: تفسيري الفعل صار من (صُرْهُنَّ) باذبحهن. . .
وهذا في (رأي الأستاذ عجلان ينافي صريح اللغة وسياق الآية والرد على هذا الاعتراض من وجهين:
1 - في قاموس الفيروزبادي: (صار الشيء يصوره ويصيره: قطعه وفصله) وهذا صريح في معنى الذبح. وأكثر من الذبح وهو التقطيع وتكون (إليك) في الآية ضميمة لتصوير الحال إذ أن الحال في ذبح الطير أن يميل به الذابح ويضمه إلى جانبه ليتمكن من إجراء السكين.
2 - لو كان معنى (صُرْهن) ضمهن وأملهن فقط لكان تفسيرها بالذبح تفسيراً بلازم والأمانة في هذا الموضع الذي يتعين فيه ذلك التفسير ليتناسب ذلك مع (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا)
عبد المنعم خلاف
رأي الأب مرمجي في وحدة الوجود
رداً على كلمة الدكتور زكي مبارك المنشورة في العدد 582 من (الرسالة) الغراء أقول: كنت قد كتبت إلى العلامة الأب مرمجي الدومينيكي أستوضحه رأيه في وحدة الوجود بعد أن قرأت مقال الأستاذ دريني خشبة الأول حول هذا الموضوع: فأجاب حضرته بما يلي:
(الوحدية مذهب فلسفي معاكس في مختلف وجوهه لمذهب ثنائية أو كثرة الوجود أو فبينما تميز فلسفة (كثرة الوجود) تعدد الأشياء تنكر فلسفة (وحدة الوجود) حقيقة التعدد، وتذهب إلى أن ما يعد كثرة ليس إلا ظواهر للموجود الواحد. إذ تميز فلسفة الكثرة بين الجسد والنفس، وبين المادة والروح، وبين الموضوع والفاعل، والمادة والقوة، فالمذهب الجاحد لمثل هذا التمييز والمحمل لأحد حدي التناقض إلى الآخر، أو الخالط الاثنين في(587/37)